كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري

محمد الخضر الشنقيطي

كوثَر المَعَاني الدَّرَارِي في كَشْفِ خَبَايا صَحِيحْ البُخَاري تأليف الإِمَامِ المُحَدِّثِ العَلَّامَةِ الشَّيْخ مُحمَّد الخِضْر الجَكيني الشِّنقيطي (المتوفى سنة 1354هـ) الجُزْء الأوّلُ مؤسسة الرسالة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

كوثَر المَعَاني الدَّرَارِي في كَشْفِ خَبَايا صَحِيحْ البُخَاري

المقدمة

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1415 هـ - 1995 م مؤسسة الرسالة بيروت -شارع سوريا- بناية صَمدي وصالحة هاتف: 603243 - 815112 - ص. ب: 7460 برقيًا: بيُوشرَان

تنبيه

تنبيه: قد اشتمل هذا الكتاب على فنون كثيرة، استقل كل واحد منها بالتأليف عند علماء الحديث على رجال "البخاري"، حيثما جاءت في السند كانت أو في المتن، وأنساب الرجال وبلدانهم. وعلى إيضاح ما فيه من المبهمات، وعلى أصول الحديث بأجمعها، وعلى تعليق المعلقات، وعلى وصل الموقوفات والمرسلات والمقطوعات، وعلى ما في السند من اللطائف والنكت، وعلى تبيين مَنْ أخرج الحديث من الستة، وعلى تعريف الصحابة وطبقاتهم، والتابعين وطبقاتهم، وطبقات المحدثين، وعلى نبذة جليلة من السيرة النبوية، وترجمة الإِمام البخاري، إلى غير ذلك مما لا يحويه كتاب، ولا يستغني عنه راغب في العلم من جميع العلماء والطلاب.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ والصلاةُ والسَّلامُ على النبيِّ الكريم، وعلى آله وصحبه أُولي الفضل العميم. وبعد: أيُّها القارىء الكريمُ، هذا شرحٌ لصحيح الإِمام محمَّد بن إسماعيل بن إبراهيم الجعفي البخاري، جاء فريدًا في أسلوبه، ودِقة أبحاثه، بزَّ ما قبله، رَغْمَ ما أولى علماءُ المسلمين هذا الصحيح من دِراسةٍ، وشرح، وتمحيص، متعدِّدة المناهج والمشارب، والتي قيل: إنها بلغت خمسين ما بَيْن تعليقٍ وشرحٍ. لقد كان المؤلفُ رحمه الله -في دروسه- يُوفي رجالَ السند حقَّهم من تعريفٍ وتجريحٍ وتعديلٍ، ثم يَعْمَدُ إلى شرحِ مفرداتِ الحديثِ، وما فيه من أمور لغوية، ومصطلح الحديث، ثم يبدأ في شرح الحديث، وما أخذه من العلماء، ومَنْ عَمِلَ به مِن علماءِ المذاهب، وذلك ما ستراه في هذا الكتاب (كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري) وما أصعب كشف خباياه لولا ما مَنَّ الله به على صاحبه من سَعَةٍ في العلم ودِقة وجهد وإخلاص. والمؤلفُ أَيها القارىء الكريم: هو محمَّد الخَضِر بن سيد عبد الله بن أحمد الملقب (بما يأبى) لكرمه وسخائه كان لا يرد سائلًا ولا يأبى حتى لُقِّبَ بهذا اللقب (الجكني) نسبة إلى قبيلة من أعظم قبائل شنقيط الجامعة بين العلم والسطوة. (الشنقيطي) نسبةً إلى قطر شنقيط. المعروف اليوم باسم الجمهورية الإِسلامية الموريتانية. أخذ عن والده، وأجلَّة علماء ذلك القطر العربي الإِسلامي، حتى أُنيط به الافتاءُ العام، ثم القاضي الأكبر بلا منازع وكان القضاء في ذلك

الزمان لا يُنال بالتعيين، ولكن ببروزِ العالمِ وتفوقهِ، وإقرار العلماء له بالتفوُّق، فحينئذ يقومُ أمير البلاد باعتماد آرائه وتنفيذِ أحكامه. وكان صاحبَ مدرسةِ علم يَؤُمُّهَا طلبةُ العلم من جميع أنحاء البلاد والبلدان الإفريقية المجاورة. وحينما هاجم الإِفرنسيون تلك البلاد 1321 هـ / 1903 م - دعا للجهادِ، وقال الجيوشَ مع أمير البلاد الأمير عثمان بن بكار بن أسويد أحمد (صهره) في حرب استمرَّت أربعَ سنين، ولما ظهر تغلُّبُ الإِفرنسيين، توجه مع الأمير عثمان إلى المغرب الأقصى يَطلبُ النجدة من سلطانها، وصادفَ أن كانت حربٌ بين السلطان عبد العزيز وأخيه السلطان مولاي عبد الحفيظ الذي استتبَّ له الأمرُ، وبذلك السبب لم يجد عونًا حقيقيًا مفيدًا، فقرَّر البقاء في المغرب ونوى الهجرة، فأقام فيها خمسَ سنين أستاذًا للسلطان عبد الحفيظ. (وهو من أجلِّ العلماء وصاحب تآليف كثيرة) ورئيسًا للعلماء. وحينما أعلنت فرنسا الحماية على المغرب، قرر الاستمرار في الهجرة، ورحل إلى المدينة المنورة سنة 1330 هـ - 1912 م مجاورًا، ومدرسًا بالحرم الشريف النبوي، وعُيِّنَ فيها مفتيًا للمذهب المالكي وفي سنة 1341 هـ - 1922 م ذهب إلى الاردن، حيث عُينَ قاضيًا للقضاة، وأقام بضعَ سنين، ثم رأى التجوال في العالم الإِسلامي، ونشر العلم، فسافر إلى العراق ومصر وتركيا وسوريا وإِمارات الخليج والهند وقد ترك فيها كثيرًا من طلبة العلم، الذين اجتمعوا فيما بعد في أعلى المراكز الدينية، وكان دائم الرجاء من الباري جل شأنه الرجوع إلى المدينة المنورة والموت فيها، وقد تَمَّ له ما طلب فرجع إليها، ومات سنة 1354 هـ - 1936 م تغمَّده الله برحمته، وأسكنه فسيح جناته. كان رحمه الله مالكيَّ المذهب، وأراد المقارنَة بين المذاهب الأَربعة وأدلة كل منهم في كتابه "إيضاح مختصر خليل بمذاهب الأربعة وأصح

الدليل" الذي لم يشأ الله أن يتم. وكان مع سَعة باعه في الحديث، وحفظه عن ظهر غيب لأغلب الكتب الستة، متمسكًا بالعمل بمذهب الإِمام مالك -سمعته يقول: لقد حفظتُ مختصر خليل وشروحه، وحواشيه- كما حفظتُ كتب الصحاح بما فيهم الموطأ، وأعتقد أني قد وصلتُ درجةَ الاجتهاد، ولكن كلما ازددتُ علمًا، ازددتُ تمسكًا بمذهب الإِمام مالك، إذ أني أجد فهمَه وعلمه أمامي في كل درجة أَصِلُ إليها. وترى أيها القارىء أثر ذلك في كتابه "قمع أهل الزيغ والإلحاد عن الطعن في تقليد أئمة الجهاد" وكان رحمه الله جريئًا في الحق لا يُداهن، قويَّ الشكيمة، حاضر البديهة، قوَّام الليل، صائم النهار، مع عدم تركه لدنياه وصلته بالمجتمع من رؤساء ومرؤوسين. كان يُجِلُّ علماءَ الحقيقة في حرصهم على التمسك بأصول الدين القويم، والبعد عن البدع والضلالات، كما كان حاملًا لسور الإِمام الجيلاني، يُجل علماء الباطن، ناقمًا على من نزع عنهم، وشطًّ عن طريقهم المستقيم، وذلك ما تجده في كتابه "تصوف السادة والنجاح. والرد على متصوفة الرقص والصياح" وكتابه "مشتهى الخارف الجاني. في رد زلقات التجاني الجاني" ذلك الكتاب الذي عَمَّ نَفْعُهُ، وهدى الكثيرين إلى صراط الله المستقيم. كان متبحرًا في علوم العربية - شاعرًا بليغًا، قوي الأسلوب، سهل المعاني، نرجو الله أن ييسر طبعَ ديوانه، ومن شعره حينما كان بالأردن وحنَّ إلى الرجوع إلى المدينة المنورة. ألا لَيْتَ شِعرِي هَلْ إلى أُحُدٍ (¬1) عَوْدُ ... وهَلَ لي إلى سَلْعٍ ودَارَاته رَدَّ ¬

_ (¬1) أُحُد: الجبل المعروف بالمدينة المنورة وكذلك سلع وداراته وسوق المناخة أكبر سوق كان بالمدينة المنورة. وقد أصبح اليوم موقفًا للسيارات.

وهَلْ لي إلى سُوقِ المنَاخَةِ نَظْرَةٌ ... بِهَا القلْبُ يُشْفى بَعْدما شَفَّهُ الوَجْدُ إلى غُرفٍ في حَوْش وَرْدَةَ أَثوى ... بَهَا غُرَرٌ عِيْنٌ بأردانها النَّدُّ إلى ذِرْوَة العَلْيَاءِ مِنْ آلِ يوسُفٍ ... سراة بني جاكان يُسترفد الرفدُ ومن شعره أيضًا: كُنَّا زَمَانًا مِثْلَ غُصْنَيْ بانِ ... يَأْتي النَّسيمُ مَعًا فَيهْتَزَّانِ مَيَلانُ هَذَا إنْ يَمِلْ مَيَلَانُ ذا ... لا سَابِقٌ ذَا ذَاكَ بالمَيَلَانِ واليَومَ فَرَّقَنا الزَّمانُ بصَرْفِهِ ... فرَأَى الوُشَاةُ طَرِيقَةَ الشَّنَاَنِ وقد أثنى عليه العلماءُ، والأدباءُ، ومدحوه بقصائد ورسائل تَجِدُ أكثرها مطبوعًا مع تقارير كتاب مشتهى الخارف الجاني. رحمه الله، وتغمده برحمته، وأسبل عليه رضوانه، وجزى الله القائمين بطبع هذا الكتاب خيرَ الجزاء والله ولي التوفيق، وحسبنا الله ونعم الوكيل. محمَّد الأمين بن المؤلف قاضي قضاة، ووزير المعارف بالأردن سابقًا

{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس: 2]. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ والصلاة والسلام على النبي الكريم الحمدُ لله الموحي إلى عبده ما أوحى، من الأياتِ والأحاديثِ الشارحة لها شرحًا، المقيِّض لها جَهَابذَة نقادًا، لا تَعْرَى معهم ولا تَضْحَى، مصونةً بهِمْ عَنْ زَيْغِ مَنْ حَاوَلَ فيَها قدحًا، والصلاة والسَلامُ على مَن اصطفاه الَباري قديمًا لنبوته، فكان نبيًا وإن آدم لَمُجَدَّلٌ في طينته، متقلبًا في الساجدين إلى أن أظهره الله تعالى رحمة لخليقته، متدثِّرًا بأعباء رسالته، قامعًا كلَّ ماردٍ خارجٍ عن طريقته، محمدٍ الذي ما كان الكون إلا لكون حقيقته، وعلى آله الذين سبق لهم من الله تعالى التطهير، فكانوا في جميع العصور قادة لكل خير وخير، وعلى أصحابه المشمِّرين لإِظهار الحق غاية التشمير، حتى أبادوا ودمروا من خالفه أفظع إبادةٍ وشرَّ تدمير، والتابعينَ لهم فيما سلكوا من مناهج التبصير. أما بعد: فقد منَّ الله تعالى على هذا العاجز الحقير الفقير، فضلًا منه ورحمة وإحسانًا على أهل التقصير بخدمة جامع الصحيح للإِمام الحجة أبي عبد الله محمَّد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري الشهير، فجمعت في خدمته ما يَعْجزُ عن تحريره كل عالمٍ نحرير خبير، فجعلت عليه كالشرح قاصدًا به تعريف ما فيه من الرجال سندًا كان، أو مذكورًا في خلال المتن على أي وجه جاء ذكره في الخلال، محيلًا كل ما تكرر من الرجال على الحديث المعرف فيه بالنص لا بالاحتمال، كي لا يتريَّث الناظرُ في طلبه لالتماس المحال، آتيًا بما لهم من الأنساب والبلدان على أكمل حال، موضحًا ما فيه من المبهمات، عازيًا وَصْلَ ما

"كوثر المعاني الدراري، في خبايا صحيح البخاري"

فيه من التعليقات والموقوفات، والمرسلات والمقطوعات إلى من أوصل ذلك من أجلاء علماء الحديث الثقات، ذاكرًا عند كل محلٍّ ما فيه من أصول الحديث، فاحتوى على كل ما ألَّفه فيها العلماء من قديم وحديث، مبينًا عند كل حديث من أخرجه من الستة أهل الاعتماد، موشحًا ذلك بذكر ما فيه من لطائف الإِسناد، فجاء بحمد الله تعالى جامعًا لكل ما يحتاجه القارىء لصحيح البخاري مما انفرد كُلُّ نوع منه بالتآليف السَّنيَّة، فلم يبق من مطالبه سوى إيضاح المعاني اللغوية، وتناولها سهل على كل متعاط للغة العربية، وسميته. " كوثر المعاني الدراري، في خبايا صحيح البخاري" وأسأل الله تعالى الكريم الحنان المنان وأتوسل وأتشفع وأتوجه إليه بسيد ولد عدنان وقحطان، محمَّد الحاوي من الفضائل ما لم يحوه مَلَك ولا إنس ولا جان. أنْ يعينَني ويوفقَني لإتمام هذا الكتاب، ويجعله نافعًا لمن حاول النفعَ به من العلماء والطلاب، مقبولًا عند الله تعالى يومَ الجزاء والحساب، ليس بينه وبينه -يوم تُجزى كلُّ نفس بما لها- حجاب (¬1). هذا ولما كان الصحابةُ والتابعون، عليهم رضوان الله تعالى أجمعين، سببًا في اتصال الشريعة والسند لسائر علماء المسلمين، أردتُ أن أُثبت مقدمةً في حقيقتهم، وما لهم من الطبقات، فتمتاز عند العارف بذلك المرفوعات من المرسلات، ويجني من معرفة حقيقتهم يانعَ الثمرات. ¬

_ (¬1) بعد أن أتم الله تعالى الكتاب على ما بينتُه في نحو ست مجلداتٍ، بدا لي أن أشرح المتن شرحًا، جامعًا لجميع المعاني المتفرقة مما لم يتيسر لأحد قبلي جمعه، ليكون الكتاب مغنيًا لأهل العلم العلماء المدرسين وطلبته عن جميع شراح البخاري، وجميع كتب الرجال والصحابة، وكتب أصول الحديث فيكون إن شاء الله تعالى كما في المثل: "كل الصيد في جوف الفرا، وفي أعين ناظريه أحسن من نار القرى، في عين ابن السرى".

مقدمة في حقيقة الصحابة والتابعين عليهم رضوان الله تعالى

فأقول وعلى الله اعتمادي، وبه توفيقي ورشدي وسدادي: مقدمة في حقيقة الصحابة والتابعين عليهم رضوان الله تعالى وأقتصر في هذا المبحث على ما ذكره فيه "فتح الباري"، سوى زيادات يسيرة من "المواهب" وشرحه للزَّرْقاني والنووي وغير ذلك، وأبدأ في تعريف الصحابي بما عرفه به البخاري. قال البخاري في "صحيحه": الصحابي من صَحِب النبي - صلى الله عليه وسلم - أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه. قال في "الفتح": يعني أن اسم صُحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - مستحق لمن صحبه أقل ما يُطلَق عليه اسم الصحبة لغةً، وإن كان العُرف يُخصُّ ذلك ببعض الملازمة، فالصحابي مشتق من الصحبة، جارٍ على من صحب غيرَه قليلًا كان أو كثيرًا؛ يقال: صحبه شهرًا ويومًا وساعة، وهذا يوجب في حكم اللغة إجراء هذا على من صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو ساعة. وما ذكره البخاري هو الراجح، وسبقه إليه شيخُه علي بن المديني، وهو قول أحمد بن حَنْبل وجمهور المحدثين، وقال النووي: كافة المحدثين. وذهب أكثر أصحاب الفقه والأصول إلى أنه مَنْ طالت صحبته، له - صلى الله عليه وسلم - قائلين: إن عُرف الأمة هو أنهم لا يستعملون لفظ الصحبة إلا فيمن كثرت صحبته، واتصل لقاؤه، ولا يجري ذلك على مَنْ لَقِيَ المرءَ ساعة، ومشى معه خَطَوات، وسمع منه حديثًا، فوجب أن لا يجري في الاستعمال إلا على من هذا حاله. قال النووي: ويُستدل على ترجيح مذهب المحدثين بأنهم نقلوا عن أهل اللغة أن الاسم يتناول صحبة ساعة، وأكثر أهل الحديث قد نقلوا الاستعمال في الشرع والعرف على وفق اللغة، فوجب المصير إليه. وعُلِم من قول البخاري: "أو رآه" أنه يُطلَق على من رآه رؤيةً، ولو

على بعد، وهل يُشتَرط في الرائي أن يكون بحيث يميز ما رآه أو يُكتفى بمجرد حصول الرؤية؟ محل نظر، وعمل من ألَّف في الصحابة يدل على الثاني، فإنهم ذكروا مثل محمد بن أبي بكر الصديق، وإنما وُلد قبل وفاة الرسول، - صلى الله عليه وسلم - بثلاثة أشهر وأيام كما ثبت في الصحيح: "إن أمه أسماء بنت عميس ولدته في حجة الوداع، قبل أن يدخلوا مكة" وذلك في أواخر ذي القعدة سنة عشر من الهجرة، ومع ذلك فأحاديث هذا الضرب مراسيل. والخلاف الجاري بين الجمهور وبين أبي إسحاق الإسفراييني ومَنْ وافقه على رد المراسيل مطلقًا، حتى مراسيل الصحابة لا يجري في أحاديث هؤلاء؛ لأن أحاديثهم لا من قبيل مراسيل الصحابة الذين سمعوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - بل من قبيل مراسيل كبار التابعين. وهذا مما يُلغَز به، فيقال: صحابي حديثه مرسل ولا يقبله من يقبل مراسيل الصحابة، ومنهم -يعني أهل الحديث- من بالغ فكان لا يعد في الصحابة إلا من صَحِب الصحبة العرفية، كما جاء عن عاصم الأحول قال: رأى عبد الله بن سَرْجِسَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - غير أنه لم تكن له صحبة. أخرجه أحمد؛ هذا مع كون عاَصم قد روى عن عبد الله بن سَرْجسَ هذا عدة أحاديث، وهي عند مسلم، وأصحاب السنن، وأكثرها من رواية عاصم عنه، ومن جملتها قوله: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - استغفر له". فهذا رأي عاصم: أن الصحابي من يكون صحب الصحبة العرفية؛ وكذا روي عن سعيد بن المسيِّب: أنه كان لا يعد في الصحابة إلا من أقام مع النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة فصاعدًا، أو غزا معه غزوة فصاعدًا. والعمل على خلاف هذا القول، لأنهم اتفقوا على عَدّ جمع جَمٍّ في الصحابة، لم يجتمعوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا في حجة الوداع، ومن اشترط الصحبة العرفية أخرج مَن له رؤية، أو من اجتمع به، لكن فارقه عن قرب، كما جاء عن أنس أنه قيل له: "هل بقي من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أحد غيرك؟ قال: لا" مع أنه كان في ذلك الوقت عدد كثير ممن لقيه من

الأعراب، ومنهم من يشترط في ذلك أن يكون حين اجتماعه به بالغًا، وهو مردودٌ أيضًا؛ لأنه مخرج، مثل الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما، ونحوه من أحداث الصحابة. وقول البخاري: من المسلمين، قَيْد يخرج به مَنْ صَحِبه أو مَنْ رآه من الكفار، فأما من أسلم منهم بعد موته فإن كان قوله "من المسلمين" حالًا، خرج مَنْ هذا صفته، وهو المعتمد. ويَرِدُ على التعريف من صحبه أو رآه مؤمنًا به ثم ارتد بعد ذلك، ولم يعد إلى الإِسلام، فإنه ليس صحابيًا اتفاقًا، فينبغي أن يُزاد فيه: ومات على ذلك. وقد وقع في مسند أحمد حديث ربيعة بن أمية بن خَلَفٍ الجُمَحِىّ، وهو ممن أسلم في الفتح، وشهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع، وحدَّث عنه بعد موته، ثم لحقه الخِذْلانُ، فلحِق في خلافة عمر بالروم، وتنصَر بسبب شيء أغضبه، وإخراج حديث مثل هذا مشكل، ولعل من أخرجه لم يقف على قصة ارتداده والله تعالى أعلم. فلو ارتد ثم عاد إلى الإِسلام لكن لم يره ثانيًا، بعد عوده؛ فالصحيح أنه معدود في الصحابة، لإطباق المحدثين على عدّ الأشعثِ بن قيس ونحوه ممن وقع له ذلك فيهم، وإخراجهم أحاديثهم في المسانيد. وقال العراقي: إن في ذلك نظرًا كبيرًا، فإن الردة مُحبطة للعمل عند أبي حنيفة، ونص عليه الشافعي في "الأم" وإن كان الرافِعي قد حكى عنه: أنها إنما تَبطُل بشرط اتصالها بالموت، وهو المعتمد عند الشافعية؛ وحينئذ فالظاهر أنها محبطة للصحبة المتقدمة. قلت: يعني على ما في "الأم" لا على ما للرافعي، فتأمل. ثم قال: والجواب عن هذا أنها محبطة لثوابها، لا لعملها الذي هو الصحبة أو الرؤية، فيُعتَدُّ به في عدِّه صحابيًا، وتخريج أحاديثه في المسانيد، كما يُعتد بما فعله المسلم قبل ردته من صلاة وزكاة وصيام

ونحوها، فلا يعيد ذلك إذا ارتد ثم عاد إلى الإِسلام، وإن سقط ثوابه بالردة، وحينئذ فلا نظر. أما من ارتد ثم عاد إلى الإِسلام في حياته - صلى الله عليه وسلم - فهو داخل في الصحبة بدخوله الثاني في الإِسلام اتفاقًا إن رآه -عليه الصلاة والسلام- مرة أخرى بعد العود للإسلام، وعلى الصحيح المعتمد: إن لم يره ثانيًا، والتقييد بالرؤية المراد به عند عدم المانع كالعمى، فإن كان كابن أم مَكْتوم الأعمى فهو صحابي جزمًا، فالأحسن أن يُعبَّر باللقاء بدل الرؤية. قال الحافظ زين الدين العراقي: قولهم: مَنْ رأى النبي- صلى الله عليه وسلم - هل المراد به: من رآه في حال نبوته، أو أعم من ذلك حتى يدخلَ من رآه قبل النبوة ومات قبل النبوة على دين الحنيفة: كزيد بن عمرو بن نُفَيْل، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنه يُبعَثُ أمةً وَحْدَهُ بيني وبين عيسى بن مَريم" رواه البغوي في "الصحابة" من حديث جابر، ورواه أبو أسامة زيادة على رواية البخاري، وأخرجه البزار من طريق جابر أيضًا، والطَّيالِسِيُّ من طريق ابنه سعيد، وقد ذكره في الصحابة أبو عبد الله بن مَنْدَةَ. وكذلك لو رآه قبل النبوة، ثم غاب عنه، وعاش إلى بعد زمن البعثة، وأسلم ثم مات ولم يره، ولم أر من تعرض لذلك. ويدل على أن المراد رآه بعد نبوته أنهم ترجموا في الصحابة لمن وُلِدَ للنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد النبوة، كإبراهيم من مارية، وعبد الله من خديجة، ولم يترجموا لمن ولد له - صلى الله عليه وسلم - قبل النبوة كالقاسم. وأما من رآه وآمن به بعد البعثة وقبل الدعوة، كوَرقَةَ بن نَوْفل، فإنه صحابي، كما جزم به ابن الصلاح. وهل يختص جميع ذلك ببني آدم، أو يَعُمُّ غيرهم من العقلاء؟ محل نظر، أما الجِنُّ فالراجح دخولهم، لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بُعِث إليهم قَطْعًا وهم مكلفون، فيهم العصاة والطائعون؛ فمن عُرف اسمه منهم لا ينبغي التردد في ذكره في الصحابة، وإن كان ابن الأَثير عاب ذلك على أبي

طبقات الصحابة

موسى، ولم يستند في ذلك إلى حجة، فليس ذلك بمعيب. وأما الملائكة فيتوقف عندهم فيهم على ثبوت بعثته إليهم، فإنَّ فيه خلافًا بين الأصوليين، حتى نقل بعضهم الإجماع على ثبوته وعَكس بعضهم. وهذا كله فيمن رآه وهو في قيد الحياة الدنيوية، أما من رآه بعد موته وقبل دفنه فالراجح أنه ليس بصحابي، وإلا لعد من اتفق أن يرى جسده الشريف المكرم وهو في قبره المعظم، ولو في هذه الأعصار، وكذلك من كشف له عنه من الأولياء، فرآه كذلك على طريق الكرامة، إذ حجة من أثبت الصحبة لمن رآه قبل دفنه أنه مستمر الحياة، وهذه الحياة ليست دنيوية، وإنما هي أخروية لا تتعلق بها أحكام الدنيا، فإن الشهداء أحياءٌ، ومع ذلك فإن الأحكام المتعلقة بهم بعد القتل جارية على أحكام غيرهم من الموتى، وكذلك المراد بهذه الرؤية من اتفقت له ممن تقدم شرحه وهو يقظان، أما من رآه في المنام وإن كان قد رآه حقًا فذلك مما يرجِعُ إلى الأمور المعنوية لا الأحكام الدنيوية، فلذلك لا يُعَدُّ صحابيًا، ولا يجب عليه أن يعمل بما أمر به في تلك الحالة. طبقات الصحابة وقد ذكر العلماء للصحابة ترتيبًا على طبقات، وقسمهم أبو عبد الله الحاكم في كتاب "علوم الحديث" إلى اثنتي عشرة طبقة. الأولى: قوم أسلموا بمكة أول المبعث، وهم سُبّاقُ المسلمين، مثل خديجة بنت خُوَيلد والعشرة المبشرين بالجنة. الثانية: أصحاب دار النَّدْوة، بعد إسلام عُمر بن الخطاب حمل عُمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من المسلمين إلى دار الندوة، فأسلم لذلك جماعة من أهل مكة. الثالثة: الذين هاجروا إلى الحبشة، كجعفر بن أبي طالب، وأبي

سَلَمَة بن عبد الأسد، فرارًا بدينهم من أذى المشركين، أهل مكة. الرابعة: أصحاب العقبة الأولى، وهم سُبّاق الأنصار إلى الإِسلام وكانوا ستة، وأصحاب بيعة العقبة الأولى من العام المقبل وكانوا اثني عشر رجلًا، والستة الأُوَلُ كلهم من الخزرج، وهم أبو أُمامة أسْعد بن زُرارة، وعوفُ بن الحارث بن رِفاعة وهو ابن عَفْراء، ورافعُ بن مالك بن العَجْلان، وقُطبة بن عامر بن حديدة، وعُقبة بن عامر بن نابي، وجابر بن عبد الله بن رِئاب لا جابر بن عبد الله بن حَرام، وعد بعض أهل السير فيهم عُبادة بن الصّامتِ بدل جابر بن عبد الله بن رِئاب، وكل هؤلاء من الاثني عشر أهل بيعة العقبة الأولى إلا جابر بن رِئاب، والسبعة الباقية هم: معاذُ ابن الحارث ابن رِفاعة وهو ابن عَفْراءَ أيضًا، وذَكوانُ بن عبد القَيس الزُّرَقِي، وعبادةُ بن الصامت، وأبو عبد الرحمن يزيدُ بن ثعلبةَ البَلَوِيّ، والعباس بن عُبادة بن نَضْلة وهؤلاء من الخَزْرج أيضًا، ومن الأوس: أبو الهَيْثَم بن التيهان من بني عبد الأشهل، وَعُويم بن ساعدة. الخامسة: أصحاب العقبة الثانية، وكانوا سبعين من الأنصار، منهم البراء بن مَعْرور، وسعدُ بن عبادة، وعبد الله بن رَوَاحة، وعبد الله بن حَرَام، وسعدُ بن الرّبيع. السادسة: المهاجرون الذين وصلوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد هجرته، وهو بِقباء، قبل أن يبني المسجد، وينتقل إلى المدينة المنورة. السابعة: أهل بدر الكُبرى، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر في قصة حاطِب بن أبي بَلْتَعَة كما في "البخاري" و "مسلم": "وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ على هذه العصابةِ من أهل بدرٍ فقال: اعْمَلُوا ما شِئْتُم فَقَدْ غَفرْتُ لَكُم" وعند أحمد وأبي داود بالجزمَ، ولفظه: "إن الله اطلَع على أهلِ بدرٍ" إلخ. قال النوويُّ: الرجاء هنا راجع إلى عُمر، لأن وقوع هذا الأمر محققٌ عند الرسول، وقد قال العلماء: الترجي في كلام الله وكلام الرسول للوقوع.

وقال الحافظ: فيه بشارة عظيمة لم تقع لغير أهل بدر، واتفقوا على أن هذه البشارة فيما يتعلق بأحكام الآخرة، لا فيما يتعلق بأحكام الدنيا، من إقامة الحدود وغيرها. الفرقُ بين الترجي بلعل وعسى في كلام الله تعالى. قلت: فرق السُّهَيْلِيُّ بين الترجي في كلام الله تعالى بـ "بلعل" و"عسى"، فقال: إن الترجي بعسى واجب الوقوع وبلعل ليس كذلك، ونصه عند الكلام على آية {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 102] في توبة أبي لُبابة في غزوة بني قُرَيْظة. فإن قيل: إن القرآن نزل بلسان العرب، وليست عسى في كلام العرب بخبر، ولا تقتضي وجوبًا، فكيف تكون واجبةً في القرآن، وليس بخارج عن كلام العرب؟ وأيضًا فإن لعل تعطي معنى الترجي، وليست من الله واجبة، فقد قال: {لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37]، فلم يشكروا وقال: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]، فلم يتذكر ولم يخش، فما الفرق بين لعل وعسى حتى صارت عسى واجبة؟! قلنا: لعل تعطي الترجي، وذلك الترجي مصروف إلى الخلق، وعسى مثلها في الترجي، وتزيد عليها بالمقاربة، ولذلك قال: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79]، ومعنى الترجي مع الخبر بالقرب، كأنه قال: قَرُبَ أن يبعثك ربك، فالترجي مصروف إلى العبد كما في لعل، والخبر عن القرب والمقاربة مصروف إلى الله تعالى، وخبره حق، ووعده حَتْمٌ، فما تضمنته من الخبر فهو الواجب، دون الترجي الذي هو محال على الله تعالى، ومصروف إلى العبد، وليس في لعل من تضمن الخبر مثل ما في عسى، فمِن ثَمَّ كانت عسى واجبةَ الوقوع إذا تكلم بها، ولم تكن لعل كذلك. وهو كلام تُشَدُّ له الرحال، مبين عدم الإطلاق الوارد عن العلماء في كون الترجي في كلام الله تعالى للوقوع، فإنه بين اختصاص ذلك بعسى

دون لعل، وأظهر الفرق الواضح. الثامنة: الذين هاجروا بين بدر والحُدَيْبيَة. التاسعة: أهل بيعة الرضوان الذين بايعوا بالحُدَيْبيَة تحت الشجرة، قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يدخُلُ النارَ إن شاءَ الله تعالى من أصحاب الشجرة أحدٌ". رواه مسلم من حديث أم مبشر، وفي حديث جابر عند مسلم وغيره: "لا يدخلُ النارَ من شَهِدَ بَدرًا والحُدَيْبيَةَ". العاشرة: الذين هاجروا بعد الحُديبية، وقبل الفَتْح كخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، قال الحافظُ العراقي: أما التمثيل بأبي هُرَيْرة كما جاء عن بعضهم فلا يَصِحُّ، لأنه هاجر عقيب خيبر في أواخرها، وذلك كان في المحرم سنة سبع. قلت: هذا سهو شديد فإن خيبر كانت بين الحُديبية والفتح، وهي المغانم التي وعد الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام في سورة الفتح، النازلة بعد الرجوع من الحديبية، فالتمثيل بأبي هُريرة فيمَنْ أسلم بين الحديبية والفتح صحيح. الحادية عشرة: الذين أسلموا يوم الفتح، وهم خلق كثير، فمنهم من أسلم طائعًا، ومنهم من أسلم كرهًا، ثم حسن إسلامه. الثانية عشرة: صبيان أدركوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - ورأوه يوم الفتح، وبعده في حجة الوداع، وغيرهما كالسائب بن يزيد. قلت: هذا تقسيم الحاكم، والعجب منه، كيف أغفل الذين هاجروا إلى المدينة المنورة قبله - صلى الله عليه وسلم - بإذنه، كمصعب بن عُمير وغيره؟ ولعل هذه الطبقة هي المراد في قول ابن الصلاح: ومنهم من زاد على اثنتي عشرة طبقة. وقال ابن سعد: إنهم خمس طبقات: الأولى: البدريون، والثانية: من أسلم قديمًا ممن هاجر عامتهم إلى الحبشة وشهدوا أُحُدًا وما بعدها،

ما قيل في عدة الصحابة رضي الله تعالى عنهم

الثالثة: من شهد الخندق وما بعدها، الرابعة: مسلمة الفتح فما بعدها، الخامسة: الصبيان والأطفال ممن لم يغْزُ. ما قيل في عدَّة الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأما عدة أصحابه عليه الصلاة والسلام فمن رَامَ حصر ذلك رام أمرًا بعيدًا، ولا يعلم حقيقة ذلك إلا الله تعالى، لكثرة من أسلم من أول البعث إلى أن مات. عليه الصلاة والسلام، وتفرقهم في البلدان والبوادي، وقد روى البخاري في حديث كعب بن مالك في تخلفه عن غزوة تَبُوك: "وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثير لا يجمعهم كتاب حافظ، يعني الديوان" لكن قد جاء ضبطهم في بعض مشاهده كتبوك وقد روي أنه سار عام الفتح في عشرة آلاف من المقاتلة، وإلى حنين في اثني عشر ألفًا، وإلى حجة الوداع في تسعين ألفًا، وإلى تبوك في سبعين ألفًا، وقد روي أنه قُبِضَ عن مئة ألف وأربعة وعشرين ألفًا من رجل وامرأة. وجاء عن أبي زُرْعَةَ الرَّازي أنه قيل له: أليس يقال: إن حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعة آلاف حديث؟ فقال ومن قال هذا قلقل الله أنيابه؟ هذا قول الزنادقة، قبض - صلى الله عليه وسلم - عن مئة وأربعة عشر ألفًا من الصحابة ممن روى عنه وسمع منه، وفي رواية ممن رآه وسمع منه، فقيل له: هؤلاء أين كانوا؟ وأين سمعوا منه؟ فقال أهل المدينة، وأهل مكة، ومن بينهما، والأعراب، ومن شهد معه حجة الوداع، كل رآه وسمع منه بعرفة. قال محمَّد بن فَتْحون في "ذيل الاستيعاب": أجاب أبو زرعة سؤال من سأله عن الرواة خاصة فكيف بغيرهم؟ وثبت عن الثَّوْرِيِّ فيما أخرجه الخطيب بسنده الصحيح إليه، قال: من قدّم عليًّا على عثمان فقد أزرى باثني عشر ألفًا، مات النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راض. قال النَّوَوِيُّ: وذلك بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - باثني عشر عامًا بعد أن مات، في خلافة أبي بكر في الردة والفتوح، الكثير ممن لم تضبط أسماؤهم، ثم مات في خلافة عمر في الفتوح، وفي الطاعون العام، وفي

عَمَواس، وغير ذلك من لا يحصى كثرةً. يعني الثوريُّ بالاثني عشر ألفًا الذين اتفقوا على بيعة عثمان دون علي. وعن الشافعي: قُبِضَ - صلى الله عليه وسلم - عن ستين ألفًا ثلاثون بالمدينة، وثلاثون في قبائل العرب وغيرها. وعن أحمد: قُبِضَ وقد صلى خلفه ثلاثون ألف رجل. وكأنه عني بالمدينة فلا يخالف ما فوقه. وفي "المواهب": روي عن مالك؛ أنه قال: مات بالمدينة من الصحابة عشرة آلاف. قال الحافظ: لم يحصل لجميع من جمع أسماء الصحابة العُشر من أساميهم بالنسبة إلى قول أبي زُرْعة السابق؛ فإن جميع ما في "الاستيعاب" ثلاثة آلاف وخمس مئة، وزاد عليه ابن فتحون قريبًا من ذلك. قال الذَّهَبِيُّ: لعل الجميع ثمانية آلاف إن لم يزيدوا لم ينقصوا. وقال أيضًا: إن جميع من في "أُسْد الغابة" سبعة آلاف وخمس مئة وأربعة وخمسون نفسًا، وسبب خفاء أسمائهم أن أكثرهم أعراب، وأكثرهم حضروا حجة الوداع. قلت: التعرض لضبطهم على القول الصحيح أن كل من رآه مؤمنًا صحابي، صبيًّا كان أو امرأة، أو أَمَة، أو عبدًا غير ممكن، بل غير معقول، فإن النفوس في زمانه - صلى الله عليه وسلم - غير محصورة ولا مُدَوَّنة، وأول من جعل الديوان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فمن في المدينة وحدها من النساء والإِماء والصبيان ممن رأوه لا يمكن حصرهم، فضلًا عمن رآه من غيرها ممن لم يعلم أنه رآه، فضلًا عن أن يعلم اسمه، فالتعرض لضبطهم، رضي الله تعالى عنهم أجمعين، محال. واعلم أنه قد أجمع جمهور العلماء من السَّلَف والخَلَف على أنهم

بعض ما قيل في فضل الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين

خير الخلق، وأفضلهم بعد النبيين، وخواصِّ الملائكة المقربين، والأحاديث الواردة في فضلهم كثيرة، وسنأتي إن شاء الله تعالى بالبعض، وكفاهم ثناء الله تعالى عليهم ورضاه، وقد وعدهم الله تعالى مغفرة وأجرًا عظيمًا، ووعد الله حق، وصدق، لا يخلَف. {لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: 115]. بعض ما قيل في فَضل الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين فقد قال سبحانه وتعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] إلى آخر السورة، لما أخبر سبحانه وتعالى أن سيدنا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - رسوله حقًا من غير شكٍّ، ولا رَيْب، قال: محمَّد رسول الله مبتدأ وخبر. وقال البيْضاوي وغيره: جملةٌ مبينة للمشهود به، يعني قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح: 28]، رادَّةٌ على الكفار في منع كتب اسمه، ويجوز أن يكون محمَّد خبر مبتدأ محذوف، صرح باسمه للعلم؛ دفعًا لتوهم غيره من الرسل، أي ذلك الرجل الموصوف "محمَّد رسول الله". ورسول الله بيان أو نعت، وهذه الآية مشتملة على كل وصف جميل، ولا يكون تركيب أجمل منه، ثم ثَنّى بالثناء على أصحابه فقال: {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]. كما قال تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54]. فوصفهم بالشدة والغلظة على الكفار، والرحمة والبر بالأخيار {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} أي: متعاطفون متوادّون بينهم، كالوالد مع الولد، وَصْفٌ لهم بكمالِ الرجولية والحكمة، حيث وضعوا كل شيء موضعه، وفي الحديث: "المُؤْمنون كالجَسَدِ الواحدِ إذا اشْتَكى عضوٌ منهُ تَدَاعى له سائرُ الجَسَدِ بالحُمّى والسَّهَر". وقال عليه الصلاة والسلام: "الرَّاحمونَ يرحَمُهُمُ الرَّحمن، ارْحَمُوا مَنْ في الأرْضِ يَرْحَمْكُم مَنْ في السَّماءِ". رواه أحمد في "مسنده"، وأبو داود، وأبو بكر بن أبي شيبة، والترمذي، وقال:

حديث حسن صحيح، وصححه الحاكم وقال: "لا تُنْزعُ الرحْمَةُ إلَّا مِنْ شَقِيٍّ، ومن الترحم أن تُحِبَّ لكل مسلم ما تُحِبَّ لنفسك، وتكرهَ له ما تكره لنفسك، وتلقاه بوجه طَلْقٍ، مع بَذْل السلام وطيب الكلام، وبذل المعروف. والآية في جميع أصحابه عند الجمهور، وقيل: في أهل الحديبية، وفيها إشارة إلى ما غلب من الصفات في كل واحد من الخلفاء كالمعية مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في أبي بكر، والشدة على الكفار في عمر بن الخطاب وعلي ابن أبي طالب، والرحمة على المؤمنين في عثمان بن عفان، رضي الله عنهم أجمعين. ثم أثنى عليهم بكثرة الأعمال مع الإخلاص التامِّ، فمن نظر إليهم أعجبه سمتهم وهديهم لخلوص نياتهم وحسن أعمالهم. قال مالك: بلغني أن النصارى كانوا إذا رَأَوُا الصحابة الذين فتحوا الشام، يقولون: والله لَهؤلاء خيرٌ من الحواريين فيما بلغنا، وصدقوا، فإن هذه الأمة المحمدية، خصوصًا الصحابة، لم يزل ذكرهم مُعَظَّمًا في الكتب، كما قال تعالى: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} [الفتح: 29]، أي: أفراخه التي تَنْبُتُ حوله؛ {فَآزَرَهُ} شده وقواه، {فَاسْتَغْلَظَ} شَبَّ وطال، واستحكم غِلْظَةً بعد الرقة، {فَاسْتَوَى} قوي واستقام، {عَلَى سُوقِهِ} قصبه، جمع ساق، {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} قوته وغلظه وحسن منظره مثل الصحابة، رضي الله عنهم، في ذلك لأنهم بدؤوا في قلة وضعف، فكثرُوا وقَووا على أحسن الوجوه، فآزروه عليه الصلاة والسلام، وأيدوه ونصروه، فهم معه كالشطء مع الزَّرْعِ، {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ}. ومن هذه الآية انتزع مالك، رحمه الله تعالى، في رواية عنه، تكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة، قال: لأنهم يغيظونهم، ومن غاظه الصحابة فهو كافر، وقد وافقه على ذلك جماعة من العلماء.

بعض الأحاديث الواردة في فضلهم رضي الله عنهم

إفادة العلة الحصر، قلت: وجه انتزاع مالك كفرهم من الآية هو أن العلة عنده تفيد الحصر، فكان المعنى على ذلك لا يُغيظُ بهم إلا الكفار فدخل كل من غاظوه في الكفار، وعلى جعله العلة للحصر بنى مذهبه في تحريم أكل لحوم الخيل والبغال والحمير، لقوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} [النحل: 8]، فجعل منفعتها محصورةً في الركوب، لإفادة العلة الحصرَ عنده، فَحَرُمَ أكلها. وحكى النَّقَّاشُ عن ابن عباس في هذه الآية أنه قال: الزَّرْعُ النبي - صلى الله عليه وسلم - أشْطَأَ بأبي بكر، فآزره عمر، فاستغلظ بعثمان، فاستوى على سوقه بعلي، رضي الله تعالى عنهم. قال في "الجواهر": وهو لين الإسناد والمتن، والله أعلم بصحته. بعض الأحاديث الواردة في فضلهم رضي الله عنهم ومما هو وارد في فضلهم من الأحاديث: ما أخرجه البخاري من حديث عبد الله، أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "خيرُ الناسِ قَرْني ثُمَّ الذينَ يَلُونهُمْ". وأخرج الشيخان عن عِمْران بن حُصَين قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: "خيرُ أُمَّتي قَرْني ثم الّذينَ يَلُونهُم ثم الّذينَ يَلُونهُم". قال عِمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثًا. "ثُمَّ إنَّ بَعْدَهُمْ قومًا يَشْهَدُونَ ولا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ ولا يُؤتَمَنُونَ، ويَنْذُرونَ، ولا يَفُونَ، ويَظْهَرُ فيهم السِّمَنُ". وفي رواية "وَيَحْلِفُونَ وَلا يُسْتَحْلَفونَ". وفي رواية لمسلم عن أبي هريرة: "ثُمَّ يَخْلِفُ قَوْمٌ يُحِبُّونَ السِّمانَةَ". وروى النسائي، وإسناده صحيح، عن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أكرِمُوا أصحابي فإنهُم خِيارُكُم، ثم الّذين يلونَهُم، ثم يَظهَرُ الكَذِب، حتى إن الرَّجُل يَحلِفُ ولا يُسْتَحْلَفُ، ويَشْهَدُ ولا يُسْتَشْهَدُ، ألا مَنْ سَرَّهُ بُحْبُوحَةُ الجنةِ فَلْيَلْزَم الجماعَةَ، فإنَّ الشَّيطانَ مع الفَذِّ وهو من

الاثنين أَبْعَدُ، ولا يَخلوَنَّ رَجُلٌ بامرأةٍ فإنَّ الشَّيطانَ ثالثُهم، وَمَنْ سرَّتْه حَسَنَتُهُ وساءَتْه سيِّئَتُهُ فهو مؤمنٌ". قال في "فتح الباري": القرن أهل زمان واحد متقارب، اشتركوا في أمر من الأمور المقصودة، ويطلق على مدة من الزمن، واختلفوا في تحديدها من عشرة أعوام إلى مئة وعشرين، لكن لم أر من صرح بالتسعين ولا بمئة وعشرة، وما عدا ذلك فقد قال به قائل، وقال صاحب "المحكم": هو القدر المتوسط من أعمار أهل كل زمن، وهذا أعدل الأقوال، المراد بقرن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث السابق الصحابة، وهم المقصودون في حديث بُريْدَةَ عند أحمد: "خيرُ هذهِ الأُمة القرنُ الذين بُعِثْتُ فيهم". وحديث: "بُعِثتْ مِنْ خَيرِ قُرونِ بَني آدمَ". وقد ضبط الأئمة من الحفاظ آخر من مات من الصحابة على الِإطلاق بلا خلاف أبو الطُّفَيْل عامر بن واثِلَةَ الَّلْيثِيُّ كما جَزَمَ به مسلم، وكان موتهُ سنة مئة على الصحيح، وقيل: سنة سبع ومئة، وقيل: سنة عشر ومئة، وهو الذي صححه الذَّهبِيُّ، وهو مطابق لقوله - صلى الله عليه وسلم - قبل وفاته بشهر: "على رأس مئة سنة لا يبقى على وجهِ الأرْض ممَّنْ هُو عليها اليوم أحدٌ". وفي رواية مسلم: "أرأيتكم لَيْلَتَكُم هذه، فإنه ليس من نفسٍ منفوسةٍ تأتي عليها مئة سنة". وأما ما ذكر أن عِكْراشَ بن ذؤيب عاش بعد يوم الجمل مئة سنة، فذلك غير صحيح، كما نص عليه الأئمة. وأما آخر الصحابة موتًا بالِإضافة إلى النواحي: فقد أفردهم ابن مَنْدَةَ. وقوله: "ثمَّ الذينَ يلونُهم" فهم أهل القرن الذين بعدهم، وهم التابعون، "ثم الذين يلونهم" وهم أتباع التابعين، وقرن التابعين إن اعتبر من سنة مئة كان نحو السبعين أو الثمانين، وأما الذين بعدهم فإن اعتبر منها كان نحوًا من خمسين فظهر بهذا أن مدة القرن تختلف باختلاف أعمار أهل كل زمان، والله تعالى أعلم. واتفقوا أن آخر من كان من أتباع التابعين، ممن يقبل قوله، من عاش

إلى حدود العشرين ومئتين. وفي هذا الوقت ظهرت البدع ظهورًا فاشيًا، وأطلقت المعتزلة ألسنتها، ورفعت الفلاسفة رؤوسها، وامتُحِنَ أهل العلم ليقولوا بخلق القرآن، وتغيرت الأحوال تغيرًا شديدًا، ولم يزل الأمر في نقص إلى الآن. وظهر قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ثُمَّ يَفْشُو الكَذِبُ" ظهورًا بيِّنا حتى يَشْمَلَ الأقوال والأفعال والمعتقداتِ. واقتضى هذا الحديث أن تكون الصحابة أفضل من التابعين؛ والتابعون أفضل من أتباع التابعين، ويأتي تحرير هذا قريبًا إن شاء الله تعالى. وأخرج الشيخان، وأحمد، وأبو داود، والترمذي عن أبي سعيد الخُدْري، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَسُبُّوا أصحابي، فَلَوْ أنَّ أحدَكُم أَنْفَقَ مثل أحُدٍ ذهبًا ما بلغ مدَّ أحدِهِم ولا نَصيفَهُ". قال في "الفتح": فيه إشعار بأن المراد بقوله: "أصحابي" أصحاب مخصوصون، وإلا فالخطاب كان للصحابة، وقد قال: "لَوْ أنَّ أحدَكُم أَنْفَقَ" وهذا كقوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ... الآية} [الحديد: 10] ومع ذلك فَنهيُ بعض من أدركَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وخاطبه بذاك عن سب من سَبَقَهُ يقتضي زَجْرَ منَ لم يدرِكِ النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يخاطبه عن سبِّ من سبقه من باب الأولى. وسبب هذا الحديث أنه كان بين خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف شيء، فسبَّه خالدٌ، فذكر الحديث. وقال في "المِرْقاة": وكذا سائر طاعاتهم وعباداتهم وغَزَواتهم وخَدَماتهم. وقال القاضي عِياض: المعنى: لا يَنَالُ أحَدُكُم بإِنفاقِ مثلِ أُحُدٍ ذهبًا من الأجرِ والفضل ما ينال أحدهم بإنفاق مُدِّ طعام أو نصفه، لما يقارنه من مزيد الِإخلاصِ، وصدق النية، وكمالِ النفس. وقال الطِّيْبيُّ: يمكن أن يُقال: إن فضيلتهم بحسب فضيلة

إنفاقهم، وعِظَم موقعه، كما قال تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ... الآية} [الحديد: 10]. وهذا في الإنفاق، فكيفَ بمجاهدتهم وبذل أرواحهم بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟! قال في "الفتح": وذلك أنَّ الإنفاق والقتال كان قبل فتح مكة عظيمًا، لشدة الحاجة إليه، وقلة المعتني به، بخلاف ما وَقَعَ بعد ذلك، لأن المسلمين كَثُروا بعد الفتح، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، فإنه لا يَقَعُ ذلك الموقعَ، والحديث مثل الآية في المعنى. وأخرج عليُّ بن حَرب، وخَيْثَمَة بن سليمان، عن ابن عمر، قال: "لا تسبُّوا أصحَابَ مُحمَّد، فَلمنَامُ أحدِهمْ سَاعةٌ خَير مِنْ عَملِ أحَدِكمْ عُمرَهُ". وأخرج المَحامليُّ، والحاكم والطبراني عن عُويْم بن ساعِدَة مرفوعًا: "إنَّ الله اخْتارَني واختَار لي أَصحابًا، وجَعلَ لي فيهم وُزَراءَ وأَنصارًا وَأَصهارًا، فَمنْ سَبَّهمْ فَعلَيْهِ لَعْنةُ الله والملائكةِ والناسِ أجمعينَ، لا يَقْبَلُ الله منه صرْفًا ولا عَدْلًا، وسيأتي قوم يَسبُّونهُم ويَسْتَنقصُونهم فلا تُجالِسوهم، ولا تُشارِبوهم، ولا تُؤاكِلُوهم، ولا تُنَاكِحُوهم". وروى الترمذي وحسنه، عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَمسُّ النار مسلمًا رآني أو رأى مَنْ رآني". وروى عبد بن حُميْد، عن أبي سعيد الخُدري، وابن عساكر عن واثِلَة: "طُوبَى لِمَنْ رآني، ولِمَنْ رأى من رآني وَلِمَنْ رأى من رأى من رآني". وروى الطبراني، والحاكم عن عبد الله بن بسر: "طُوبى لِمَنْ رآني وآمَنَ بي، وطُوبى لمن رأى من رآني، ولمن رأى من رأى من رآني وآمن بي، طُوبى لهم وحُسْنُ مَآبٍ". وفي "شرح السنة" عن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَثَلُ

الترتيب في فضل الصحابة.

أصحابي في أُمَّتي كَالمِلْحِ في الطَّعامِ، لا يَصْلُحُ الطَّعامُ إلا بِالمِلْحِ". قال الحسن: فقد ذَهبَ مِلْحُنا، فكيف نصلُحُ؟! وروى الترمذي عن عبد الله بن بُرَيْدة، عن أبيه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِنْ أحَدٍ من أصحابي يموتُ بأرضٍ إلا بُعِثَ قائدًا ونورًا لهم يوم القيامة" انتهى. هذا بعضٌ قليلٌ مما قيل في فضل الصحابة جملة. وأما السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، الداخل فيهم العشرة المبشرون بالجنة، فلا يحصي النَّزْرَ من مناقبهم إلا الدَّفاتِرُ الضخامُ، كما هو مسطورٌ فيها عن الجَهَابِذَةِ الأعلام. الترتيبُ في فضلِ الصَّحابةِ. واعلم أن أفضل الصحابة على الإطلاق عند أهل السنة إجماعًا أبو بكر، ثم عمر رضي الله تعالى عنهما، والمشهور عند أهل السنة تقديم عثمان عن علي رضي الله تعالى عنهما، وذهب بعض السلف إلى تقديم علي على عثمان، وممن قال به سُفيان الثَّورِيُّ، ويقال: إِنه رجع عنه، وقال ابن خُزَيْمَةَ وطائفة قبله وبعده، وقيل: لا يَفْضُلُ أحدهما على الآخر، قاله مالك في "المدونة"، وتبعه جماعة منهم يَحيى القطان، وقال ابن مَعِين: من قال: أبو بكر وعُمر وعثمان وعلي، وعرف لعلي سابقته وفضيلته فهو صاحب سنة، ولا شك أن من اقتصر على عثمان ولم يعرف لعلي فضيلته فهو مذموم قاله في "فتح الباري". قلت: قوله إن سفيان الثوري قيل: إنه رجع عن تقديم علي على عثمان هذا هو المتعين إن كان الثوري هو القائل بذلك ليوافق ما مر مما أخرجه الخطيب بسند صحيح أنه قال: "من قدَّم عليًّا على عثمان فقد أزرى باثني عشر ألفًا، مات النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راض". والأظهر عندي أن يكون القائل بذلك سفيان بن عُيَيْنة، لما ذكر عنه ابن عَدِيّ أنه كان فيه شيء من التشيع، والثوري لم يقل أحد

عنه ذلك، وما قاله ابن معين في حق عثمان وعلي قال به قبله مَعْمر في حق الشيخين، فقد نقل عبد الرزاق عن معْمر أنه قال لو أن رجلًا قال: عمر أفضل من أبي بكر ما عنفته، وكذلك لو قال: علي أفضل عندي من أبي بكر وعمر لم أعنفه، إذا عرف فضل الشيخين وأحبهما وأثنى عليهما بما هما أهله، قال عبد الرزاق: فذكرت ذلك لِوَكيع فأعجبه واشتهاه. وحجة الجمهور في تقديم عثمان على علي: ما أخرجه الشيخان عن عبد الله بن عمر، قال: كنا نخير بين الناس في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنخير أبا بكر ثم عمر ثم عثمان رضي الله عنهم. وفي رواية عبيد الله بن عمر، عن نافع: كنا في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا نعدل بأبي بكر أحدًا، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا نفاضل بينهم. رواه البخاري أيضًا. وقوله: لا نَعْدِلُ بأبي بكرٍ أَحدًا، أي: لا نجعل له مثلًا. ولأبي داود من طريق سالم، عن ابن عمر، كنا نقول ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حىٌّ: "أفضلُ أمةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - بعده أبو بكر ثم عمر ثم عثمان" زاد الطَّبَرانيُّ في رواية: "فيسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك فلا يُنْكِرُهُ". وروى خَيْثَمَةُ بن سليمان في "فضائل الصحابة" من طريق سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن ابن عمر: "كنا نقول: إذا ذهب أبو بكر وعمر وعثمان استوى الناس". فيسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك فلا ينكره. وقد ادَّعى ابن عبد البر أن حديث الاقتصار على الثلاثة: أبي بكر وعمر وعثمان، خلاف قول أهل السنة: إن عليًّا أفضل الناس بعد الثلاثة، وتعقب بأنه يلزم من سكوتهم إذ ذاك عن تفضيله عدم تفضيله على الدوام، وبأن الإجماع المذكور إنما حدث بعد الزمن الذي قيده ابن عمر، فيخرج حديثه عن أن يكون غلطًا، وابن عمر قد اعترف بتقديم علي على غيره، فالمقطوع به عند أهل السنة القول بأفضلية أبي بكر ثم عمر، واختلفوا فيمن بعدهما، والجمهور على تقديم عثمان كما مر.

ونقل البَيْهَقِيُّ في "الاعتقاد" بسنده إلى أبي ثور، عن الشافعي أنه قال: أجمع الصحابة وأتباعهم على أفضلية أبي بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي. وقال الإِمام أبو مَنْصور البَغْدادي: أصحابُنا مجمعون، على أن أفضلهم الخلفاء الأربعة، ثم الستة تمام العشرة، والمسألة اجتهادية، ومستندها أن هؤلاء الأربعة اختارهم لخلافة نبيه، وإقامة دينه، فمنزلتهم عنده بحسب ترتيبهم في الخلافة، قاله في "المواهب". قلت: كون المسألة اجتهادية يأباه ما مر من الأحاديث عن ابن عمر: أن النبي عليه الصلاة والسلام يسمع ذلك ولا ينكره، ومعلومٌ أن سكوته عليه الصلاة والسلام من سنته، اللهم إلا أن يكون الاجتهاد تعضيدًا للأحاديث لكونها خبر آحاد قابلة للتعضيد. والعشرة المبشرون بالجنة: هم الخلفاء الأربعة، وطَلْحة، والزُّبير، وسعد، وسعيد، وعبد الرحمن بن عَوْف، وأبو عبيدة عامر بن الجَرّاح. وحديث تبشيرهم جميعًا بالجنة رواه الترمذي عن سعيد بن زَيْد. وروى البخاري عن أبي موسى الأشْعَرِيِّ تبشير أبي بكر وعمر وعثمان بها يوم بئر أَرِيس، حين كان بوابًا على النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث طويل. وجمع ابن حجر العَسْقَلاني شيخ الإِسلام العشرة المبشرين بالجنة في بيت واحد، فقال: لَقَدْ بَشَّرَ الهَادِي منَ الصَّحْبِ زُمْرَةٌ ... بجَنّاتِ عَدنٍ كلُّهُمْ فَضلُهُ اشْتهَرْ سَعيدٌ زُبَيرُ سَعدُ طَلحةُ عَامِرٌ ... أبو بَكْر عُثْمانُ ابنُ عَوْفٍ عَلي عُمَرْ قال في "فتح الباري": وذهب قوم إلى أن أفضل الصحابة من استُشْهد في حياته - صلى الله عليه وسلم - وعين بعضهم منهم جعفر بن أبي طالب، ومنهم من ذهب إلى العباس، وهو قول مرغوب عنه، ليس قائله من أهل السنة، بل ولا من أهل الإيمان، ومنهم من قال: أفضلهم مطلقًا عمر، متمسكًا

بالحديث الصحيح الذي في المنام، إذ فيه في حق أبي بكر "وَفي نَزْعِهِ ضَعْفٌ" وهو تمسك واه. قال في "المواهب": فإن قلت: من اعتقد في الخلفاء الأربعة الأفضلية على الترتيب المعلوم، ولكن محبته لبعضهم تكون أكثر هل يكون آثمًا به أم لا؟ فأجاب شيخ الإِسلام الوَليُّ ابن العراقي: إن المحبة قد تكون لأمر دُنيويٍّ، فالمحبة الدينية لازمة للأفضلية، فمن كان أفضل كانت محبتنا الدينية له كثر، فمتى اعتقدنا في واحد منهم أنه أفضل، ثم أحببنا غيره من جهة الدين أكثر كان تناقضًا، نعم، إن أحببنا غير الأفضل أكثر من محبة الأفضل لأمر دنيوي كقرابة وإحسان فلا تناقض في ذلك، ولا امتناع، فمن اعترف بأن أفضل الأمة بعد نبيها - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر ثم عُمَرَ، ثم عثمان ثم علي لكنه أحب عليًا أكثر من محبة أبي بكر، فإن كانت المحبة المذكورة محبة دينية فلا معنى لذلك، إذ المحبة الدينية لازمة للأفضلية كما قررناه، وهذا لم يعترف بأفضلية أبي بكر إلا بلسانه، وأما بقلبه فهو مفضل لعلي، لكونه أحبه محبة دينية زائدة على محبة أبي بكر، وهذا لا يجوز، وإن كانت المحبة المذكورة محبة دنيوية لكونه من ذرية علي، أو غير ذلك من المعاني، فلا امتناع فيه. وقد روى الطَّبَريُّ في "الرياض"، وعزاه للمَنْلا في سيرته، عن أنس مرفوعًا: "إن الله افْتَرَضَ عليكم حب أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، كما افترض الصلاةَ والزكاةَ والصومَ والحجَّ، فمن أنكر فضلَهم فلا تقبل منه الصلاةُ ولا الزكاةُ ولا الصومُ ولا الحجُّ". وأخرج الحافظ السِّلَفِيُّ في مشيخته من حديث أنس مرفوعًا: "حُبُّ أبي بكر واجب على أمتي". وأخرج الأنْصاريُّ عنه؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا أبا بكر ليت أني لقيت إخواني" فقال أبو بكر: يا رسول الله، نحن إخوانك، قال: "لا،

في فضل أحد من المتأخرين على أحد من الصحابة

أنتم أصحابي، إخواني الذين لم يَروني، وصدَّقوا بي، وَأَجَلُّوني حتى إني لَأحَبُّ إلى أحدهم من ولده ووالده" قالوا: يا رسول الله، أما نحن إخوانك؟ قال: "لا، بل أنتم أصحابي، ألا تحب يا أبا بكر قومًا أحبوك بحبي إياك، قال: فأحبهم ما أحبوك بحبي إياك". ثم اعلم أن الصحابة على ثلاثة أصناف، الأول: المهاجرون، والثاني: الأنصار وهم الأوس والخزرج وحلفاؤهم ومواليهم، والثالث: من أسلم يوم الفتح، قال ابن الأثير في "الجامع": والمهاجرون أفضل من الأنصار، وهذا على سبيل الإِجمال. وأما على سبيل التفصيل: فإن جماعة من سُبّاق الأنصار أفضل من جماعة من متأخري المهاجرين، وإنما سباق المهاجرين أفضل من سُبّاق الأنصار، ثم هم بعد ذلك متفاوتون، فرب متأخر في الإِسلام أفضل من متقدم عليه مثل عمر بن الخطاب وبلال بن حَمامة. في فضل أحد من المتأخرين على أحد من الصحابة وأما ما تقدم من كون الحديث يقتضي أن تكون الصحابة أفضل من التابعين، والتابعون أفضل من أتباع التابعين فهو حق، ولكن هل هذه الأفضلية بالنسبة إلى المجموع أو الأفراد؟ محل بحث. قال في "الفتح": وإلى الثاني نحا الجمهور، والأول قول ابن عبد البر، والذي يظهر أن من قاتل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - أو في زمانه بأمره أو أنفق شيئًا من ماله بسببه لا يعدله في الفضل أحد بعده كائنًا مَنْ كان، وأما من لم يقع له ذلك فهو محل البحث، والأفضل في ذلك قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10]. وقال ابن عبد البر: إنه قد يكون فيمن يأتي بعد الصحابة أفضل ممن كان في جملة الصحابة، وإن قوله عليه الصلاة والسلام: "خَيرُ الناس قَرني" ليس على عمومه، بدليل ما يجمع القرن من الفاضل والمفضول،

وقد جمع قرنه، عليه الصلاة والسلام، جماعة من المنافقين المظهرين للإيمان، وأهل الكبائر الذين أقام عليهم، أو على بعضهم الحدود. واحتج بما رواه أبو أمامة أنه، عليه الصلاة والسلام، قال: "طُوبَى لِمَنْ رآني وآمَن بي، وطُوبى سَبْعَ مَرّاتٍ لِمَنْ لم يَرَني وآمن بي". وبحديث: "مَثَلُ أُمّتي مثلُ المَطر لا يُدْرى أولهُ خيرٌ أم آخرُه". قال في "الفتح": وهو حديث حسن، له طرق قد يرتقي بها إلى الصحة، وأغرب النَّوَوِيُّ فعزاه في "فتاويه" إلى "مسند" أبي يعلى بسند ضعيف، عن أنس، مع أنه عند الترمذي بإسناد أقوى منه من حديث أنس، وصححه ابن حبان من حديث عمار. وقد روى ابن أبي شَيْبَةَ من حديث عبد الرحمن بن جُبَير بن نُفَير -أحد التابعين- بإسناد حسن، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَيُدْرِكَنَّ المَسِيحُ أقوامًا إنهم لَمِثْلُكُم أو خيرٌ ثلاثًا". واحتج أيضًا بحديث عمر في "مسند" أبي داود الطَّيالِسيِّ، قال: كنت جالسًا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أتدرون أيُّ الخلق أفضل إيمانًا؟ " قلنا: الملائكة، قال: "وحُقَّ لهم بل غيرهم" قلنا: الأنبياء، قال: "وحُقَّ لهم بل غَيرهم" ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: "أفضل الخلق إيمانًا قومٌ في أصلاب الرجال، يؤمنون بي ولم يَرَوْني، فهم أفضل الخلق إيمانًا". وإسناده ضعيف فلا يحتج به، لكن روى أحمد، والدارمي، والطَّبرَاني، عن أبي عُبيدة بن الجَرّاح: يا رسول الله أأحدٌ منا؟ أسلَمنا معك وجاهدنا معك؟ قال: "قومٌ يكونُونَ مِنْ بعدكم، يؤمنون بي ولم يَرَوْني". وإسناده حسن، وقد صححه الحاكم. واحتج أيضًا بأن السبب في كون القرن الأول خير القرون أنهم كانوا غُرباء في إيمانهم، لكثرة الكفار حينئذ، وصبرهم على أذاهم، وتمسكهم بدينهم، قال: فكذلك أواخرهم إذا أقاموا الدين، وتمسكوا به، وصبروا على الطاعة حين ظهور المعاصي والفتن. كانوا أيضًا عند

ذلك غُرباء، وزَكَتْ أعمالهم في ذلك الزمان كما زَكَتْ أعمالُ أولئك. ويشهد له ما رواه مسلم عن أبي هريرة مرفوعًا: "بَدَأَ الإِسلامُ غريبًا وسيعودُ غريبًا كما بَدَأَ فطوبى للغرباءِ". واحتج بما روي أيضًا من أن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة كتب إلى سالم بن عبد الله أن اكتب لي بسيرة عمر بن الخطاب لأعمل بها، فكتب إليه سالم: "إن عَمِلْتَ بسيرةِ عُمر فأنتَ أَفْضَلُ من عمر، لأن زمانَكَ ليس كزمانِ عُمر، ولا رِجالَكَ كرجال عُمر". وكتب إلى فقهاء زمانه، فكلهم كتب بمثل قول سالم. قلت: وجه الاحتجاج لكلام سالم ومن معه هو أنهم قالوا له: "لَوْ عَمِلْتَ بعَمَلِ عُمر كنتَ خيرًا منه". فدل على أن العامل بخير من عمل الصحابي أو بمثله يكون خيرًا منه. واحتج بما رواه أبو داود، والترمذي من حديث أبي ثَعْلَبَةَ رفعه: "تَأْتي أيامٌ للعامل فيها أجرُ خمسين". قيل: منهم أو منا يا رسول الله؟ قال: "بل منكم" وهو شاهد لحديث: "مَثَلُ أُمّتي مَثَلُ المطر". هذا ما أورده من الاحتجاج، ثم قال: فهذه الأحاديث تقتضي مع تواتر طرقها وحسنها التسوية بين أول هذه الأمة وآخرها في فضل العمل لا أهل بدر والحُدَيْبِيَة. قال في "الفتح": صرَّحَ ابن عَبد البَرِّ في كلامه باستثناء أهل بدر والحُدَيْبيَة، فليس كلامه على الإطلاق في حقِّ جميع الصحابة، والذي ذهب إلَيه الجمهور أن فضيلة الصحبة لا يَعْدِلُها عمل لمشاهدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأما من اتفق له الذب والسبق إليه بالهجرة أو النصرة وضبط الشرع المُتَلَقَّى عنه، وتبليغه لمن بعده، فإنه لا يعدِلُه أحدٌ ممن يأتي بعده، لأنه ما من خَصْلَةٍ من الخِصال المذكورة إلا وللذي سبق مثل أجر من عمل بها من بعده فظهر فضلهم. ومحصل النزاع يَتَمَحَّضُ فيمن لم يحصل له إلا مجرد المشاهدة كما تقدم، فإن جمع بين مختلف الأحاديث المذكورة كان متجهًا على أن

ما قيل في محبة الصحابة

حديث "للعامِل منهُم أجرُ خمسينَ منكم" لا يَدُلُّ على أفضلية غير الصحابة على الصحابة، لأن مجرد زيادة الأجر لا يستلزم ثبوت الأفضلية المطلقة. وأيضًا فالأجر إنما يقع تفاضله بالنسبة إلى ما يماثِلهُ في ذلك العمل، فأما ما قارَبَهُ ممن شاهد النبي - صلى الله عليه وسلم - من زيادة فضيلة المشاهدة، فلا يَعْدِلُهُ فيها أحدٌ، فبهذه الطريق يمكن تأويل الأحاديث المتقدمة، وأما حديث أبي عُبَيْدة، فلم تَتَّفِق الرواة على لفظه، فقد رواه بعضهم بلفظ الخيرية كما مر، ورواه بعضهم بلفظ: "يا رَسُولَ اللهِ؛ هل من قومٍ أعظمُ مِنّا أجرًا؟ ". الحديث أخرجه الطَّبَرانيُّ، وإسناد هذه الرواية أقوى من إسناد الرواية المتقدمة، وهي توافق حديث أبي ثَعْلَبَة، وقد مر الجواب عنه، انتهى. ما قيل في محبة الصحابة إذا علمت ما ذكر من فضل الصحابة، فاعلم أن محبتهم واجبة على كل مؤمن، وبغضهم وسبهم من أكبر الكبائر إن لم يكن كفرًا، كما يأتي إن شاء الله تعالى قريبًا. وذلك أن محبة من أحبه الرسول عليه الصلاة والسلام كآل بيته وأصحابه، رضي الله تعالى عنهم، علامة على محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما أن محبته عليه الصلاة والسلام علامة على محبة الله تعالى، وكذلك عداوة من عاداهم، وبغض من أَبْغَضَهُم وسبهم، فمن أحب شيئًا أحب من يحب، وأبغض من يبغض، قال الله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22] فحب آل بيته، عليه الصلاة والسلام، وأصحابه، وأولاده، وأزواجه، من الواجبات المتعينات، وبغضهم من الموبقات المهلكات. ومن محبتهم وجوب توقيرهم وبرهم، والقيام بحقوقهم، والاقتداء بهم، بأن يمشي على سننهم وآدابهم وأخلاقهم، والعمل بأقوالهم مما ليس للعقل فيه مجال، وحسن الثناء عليهم، بأن يُذْكروا بأوصافهم الجليلة على قصد التعظيم، فقد أثنى الله تعالى عليهم في كتابه المجيد كما مر في آية: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ...} إلخ. ومن أثنى الله تعالى عليه، فهو واجب الثناء، والاستغفار لهم. قالت عائشة - رضي الله

ما قيل فيمن سب الصحابة

تعالى عنها - كما رواه مسلم وغيره: "أُمِرُوا أن يَسْتَغْفِروا لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَسَبُّوهُم" وفائدة الاستغفار لهم عائد على المستغفر، قال سَهْل بن عبد الله التُّسْتَريُّ: "لم يؤمن بالرسول - صلى الله عليه وسلم - من لم يوقر أصحابه، ولم يعز أصحابه". ما قيل فيمن سَبَّ الصحابةَ وقد مرت الأحاديث الواردة في النهي عن سبهم، والتعرض لهم، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - كما رواه الخِلَعِيُّ: "أيَّها الناس احفَظُوني في أختاني وأصهاري وأصحابي، لا يطالِبَنَّكُمُ الله بمظْلِمة أحد منهم، فإنها ليست مما يُوهب". وقال عليه الصلاة والسلام، كما رواه الترمذي وابن حبان في "صحيحه": "اللهَ اللهَ في أصحابي، لا تَتَّخِذوهم غَرَضًا من بعدي، من أحبَّهُم فقد أحبَّني، ومن أبغضهم فقد أبغضني، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله فيوشكُ أن يأخذه الله". والغرض: الهدف الذي يرمى فيه؛ فهو نهي عن رميهم، مؤكدًا ذلك بتحذيرهم الله منه، وما ذلك إلا لشدة الحرمة. قال العلماء: في هذا الحديث إشارة إلى أن حبهم من الِإيمان، وبغضهم كفر، لأنه إذا كان بغضهم بغضًا له، كان كفرًا بلا نزاع، لحديث: "لَنْ يُؤمنَ أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من نفسهِ". وهذا دالٌّ على كمال قربهم منه، بتنزيلهم منزلة نفسه، حتى كأن أذاهم واقع عليه، وواصل إليه - صلى الله عليه وسلم - وقد قال مالك بن أنس وغيره فيما ذكره القاضي عِياض: "مَنْ أَبْغَضَ الصحابةَ؛ فليس له في فيءِ المسلمينَ حقٌّ" قال: ونزع في آية الحشر: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الحشر: 10]. وقد مر عنه في بحث فضل الصحابة أنه أخذ كفر مبغضي الصحابة من قوله تعالى: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ...} [الفتح: 29]. قال في "المواهب": فسبهم والطعن فيهم، إذا كان مما يخالف الأدلة القطعية كفرٌ، كقذف عائشة، رضي الله تعالى

الإمساك عما شجر بين الصحابة

عنها، وإلا فبدعة وفسق. وقال في "فتح الباري": اختُلِف في سابِّ الصحابي، فقال عياض: ذهب الجمهور إلى أنه يُعَزَّرَ، وعن بعض المالكية يقتل، وخَصَّ بعض الشافعية ذلك بالشيخين والحسنين؛ فحكى القاضي حسين في ذلك وجهين، وقواه السُّبْكيُّ في حق من كَفَّرَ الشيخين، وكذا من كفر من صرح النبي - صلى الله عليه وسلم - بإيمانه أو بتبشيره بالجنة إذا تواتر الخبر بذلك عنه، لما تضمن من تكذيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد شفيت الغليل في الكلام على مبغض الصحابة في كتابي على الخلافة والباغية بما لا مزيد عليه، يسر الله طبعه ليعم به النفع. الِإمساك عما شَجَرَ بين الصحابة ومما هو واجبٌ بإجماع المسلمين في حق الصحابة، رضوان الله عليهم أجمعين، الِإمساك عما شجر بينهم، أي وقع من الاختلاف، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا ذُكِرَ أصحابي فَأمْسِكُوا". فلا يجوز للمسلم أن يصغي بأُذنِهِ إلى أخبار المؤرخين، وجهلة الرواة، وضُلّال الشيعة والمبتدعين القادحة في أحد منهم. وقد أخبر عليه الصلاة والسلام، أن ما وقع بينهم مغفور لهم، فقد أخرج نُعَيْم بن يزيد بن أبي حَبيب مرسلًا، قال - صلى الله عليه وسلم -: "تَكونُ بَيْنَ أَصْحابي فتنة يغفِرُها الله لهم بسابِق صُحبتي لسابقتهم، إن اقتدى بهم قومٌ من بعدِهم كبَّهُمُ اللهُ تعالى في نار جَهَنَّمَ". هكذا لفظ "كنز العمال". ورويته عن شيخي عبد الله بن محمَّد سالم رحمه الله تعالى، وهو أول حديث رويته منه بلفظ: "سَتَكُونُ زَلَّةٌ بَيْنَ أَصْحابي يَغْفِرُها الله لهم بسابق صُحبتي، فيتأسى بهم أقوامٌ من بعدِهم؛ فَيَكبُّهمُ الله على مناخِرهِم في النّار". فبين الروايتين اختلاف قليل في بعض الألفاظ، والمعنىَ مُتحِدٌ. وإذا علمت أن ما وقع بينهم مغفور بنص الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام، لم يبق إلا أن تلتمسَ لهم أحسن التأويل، وتُخرِجَ لهم

أصوب المخارج إذ هم أهل لذلك، كما هو مشهورٌ من مناقِبهم، ومعدودٌ من مآثرهم. وما وقع بينهم من المنازعات والمحاربات، له محاملّ وتأويلاتٌ واضحةٌ، جليّةٌ لِمَنْ لَمْ يُعْمِ الله تعالى بصيرته؛ وها أنا أوضح ذلك لمن يريد الحق، وأراد الله تعالى له الهداية. فأقول: اعلم أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم عُدولٌ مجتهدون، وقد ثبت في الحديث الصحيح: "إن المجتهدَ إذا اجتهدَ وأصاب فله أجرانِ، وإذا اجتهدَ وأخطأَ فلهُ أجرٌ واحدٌ". وسبب الخلاف بينهم هو أن عائشةَ وطلحةَ والزبير، رضي الله تعالى عنهم، قالوا: إن متابعة علي، رضي الله تعالى عنه، وبيعته لا تمكن حتى يُمَكِّنَ ورثةَ عثمان بن عفان، رضي الله تعالى عنه، مِنْ قتَلَتِهِ؛ فيقتصون منهم أو يَعْفون، وقال علي رضي الله تعال عنه: لا يَصِحُّ تمكينُهم منهم حتى يبايعَ الجميعُ، ويترافَعَ إليه ورثةُ المقتولِ والقاتلونَ، ويحكم بينهم بحكم الله تعالى. فأصل النزاع هو هذا. وهذه مسألة اجتهادية، فليس بينهم نزاعٌ في طلب الإمارة، ولا في نزاع علي رضي الله تعالى عنه، ومعاوية رضي الله تعالى عنه، ابن عم عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه ومعه ورثته، وهو طالبٌ بدمه، مريدٌ للقِصاص من القاتلين الذين مع علي، رضي الله تعالى عنه، كما طلبت منه ذلك الجماعة المتقدمة، وليس معاوية طالبًا الِإمارة، ولا منازعًا فيها، ولأجل كون المسألة اجتهادية ولم يتضح حكمها، اعتزل كثير من كبراء الصحابة الفِرْقتين، ولم يَدْخُلوا في القتال، كسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عُمر، ومحمد بن مَسْلمة، ودخل بعض من اعتزل الفرقتين مع علي، رضي الله تعالى عنه، لما مات عمار بن ياسر لكونه ثبت عنده قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يا وَيْحَ عَمّارٍ تَقْتُلُهُ الفئةُ الباغيةُ". واستمر بعضهم على اعتزال الفِتَن إلى أن ماتَ، كالثلاثة المذكورين، لكونهم لم يثبتْ عندهم الحديث، أو غير ذلك، وبهذا الحديث ظهر، وبحديث الخوارج أن عليًّا

فيما تعرف به الصحبة

هو المصيبُ، فلهُ أجران، وأن معاويةَ ومن معهم هم المُخطئون؛ فلهم أجرٌ واحدٌ؛ هذا ما يوضح الصواب لمن أراد الله به الخير والرشاد، وأما المتعنت فلا هداية له إلى يوم المعاد. ثم إني أذكر فروعًا مفيدة تتعلق بالصحابة تتميمًا للفائدة، أشار العراقي في "ألفيته" في أصول الحديث إلى جميعها جملة، وأتيت بما علقه عليه شارحه الشيخ زكريا، وربما زدْت زيادة على ذلك فأقول: فيما تُعْرَفُ به الصُّحبة فروع: الفرع الأول: فيما تعرف به الصحبة: وهي تعرف بأربعة أمور: الأول: باشتهار الصحابي بها اشتهارًا قاصرًا، ويسمى استفاضة على رأي، وذلك كَعُكّاشة بن مِحْصن، وضِمام بن ثَعْلبة. الثاني: تواترها، وذلك كالخلفاء الأربعة. الثالث: إخبار صحابي آخر بها صريحًا، كقوله: فلان له صحبة؛ أو ضمنًا كقوله: كنت أنا وفلان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا عُلم إسلام فلان في تلك الحالة، وكذلك تعرف بقول أحد ثقات التابعين. الرابع: دعوى الصحابي لها بنفسه، وهو عدلٌ، لأن مقامه يمنعه من الكذب، ولكن لا بد أن يكون ما ادعاه مما يقتضيه الظاهر؛ أما لو ادعاه بعد مضي مئة سنة من حين وفاته - صلى الله عليه وسلم - فإنه لا يقبل، وإن ثبتت عدالته قبل ذلك، للخبر الصحيح المار: "أرأيْتُكُمْ لَيْلَتَكُم هذه فإنه على رأس مئة سنة منها، لا يبقى علي وجه الأرض ممن هو اليوم عليها أحدٌ". قاله قبل وفاته بشهر، واشترط الأُصولِيُّون في قَبول ذلك منه معرفة معاصرته للنبي - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: لا يقبل قَوْله بذلك لكونه متهمًا بدعوى رتبة يثبتها لنفسه، وإلى هذا الفرع أشار العراقي مبتدئًا بتعريف الصحابي؛ فقال:

في عدالة الصحابة

رَائي النبيِّ مُسْلِمًا ذُو صُحبة ... وَقيْلَ إِنْ طالَتْ وَلمْ يُثبَّتِ وَقيْلَ مَنْ أَقامَ عامًا أوغَزَا ... معهُ وَذَا لابْنِ المُسيِّبِ عَزا. وَتُعْرَفُ الصُّحْبةُ باشتِهارٍ أَوْ ... تَواتُر أوْ قَوْلِ صَاحبٍ وَلَو قَدِ ادَّعاها وَهْوَ عَدْلٌ قُبِلا في عدالة الصحابة الفرع الثاني: هو أن الصحابة كلهم عدول باتفاق أهل السنة على ما حكاه ابن عبد البر، وإن دخلوا في الفتنة نظرًا إلى ما اشتهر عنهم من المآثر الجميلة، ولقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]، وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ...} [البقرة: 143]، إلى آخر الآية. ولقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تَسُبُّوا أصحابي ... " إلى آخر الحديث السابق، ولقوله -عليه الصلاة والسلام- أيضًا: "الله، الله في أصحابي" إلى آخر الحديث السابق قريبًا. وقيل: لا يُحْكَمُ بعدالة من دخل في فتنة من حين مقتل عثمان، رضي الله تعالى عنه، كالجمل، وصِفّين، إلا بعد البحث عنها، لأن أحد الفريقين مخطئ. وقيل: القول بالعدالة مختص بما اشتهر منهم، ومَنْ عداهم كسائر الناس -والصحيح الأول تحسينًا للظن بهم، وحملًا لمن دَخَلَ في الفتنة على الاجتهاد، ولا التفات إلى ما يذكره أهل السير، فإن أكثره لا يَصِحُّ، وما صح، فله تأويل صحيح. وما أحسن قول عمر بن عبد العزيز، رحمه الله تعالى: تلك دماء طهر الله منها سيوفنا، فلا نخضب بها ألسنتنا. قال ابن الأنباري: وليس المراد بعدالتهم ثبوت عصمتهم، واستحالة المعصية منهم، بل قبول روايتهم من غير بحث عن عدالتهم، وطلب تزكيتهم- وإلى هذا الفرع أشار العراقي بعد الأبيات السابقة بقوله: .......... ... وَهُمْ عُدُولٌ قيلَ لَا مَنْ دَخَلا في فتنةٍ ...............

في المكثرين رواية وفتوى

في المكثرين رواية وفتوى الفرع الثالث: في المكثرين منهم روايةً، وفيمن هو أكثر فتوى منهم، والمكثر من زاد حديثه على ألف، وهم ستة على الصحيح. وأكثرهم رواية أبو هُريرة، لقوله كما في "الصحيحين": قلت: يا رسول الله! إني أسمع منك حديثًا كثيرًا أنساه، قال: "ابسُطْ رداءَكَ" فبسطته، فغرف بيده؛ ثم قال: "ضُمَّهُ"؛ فضممته، فما نسيت شيئًا بعد ذلك. وأكثرهم فتوى عبد الله بن عباس، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا له؛ فقال: "اللهُمَّ عَلِّمْهُ الكتابَ" وفي لفظ: "اللهُمَّ فَقِّهْهُ في الدين وعَلِّمْه التأويل" وفي آخر: "اللهُمَّ علمه الحكمة وتأويل الكتاب". والمكثرون منهم فتوى غير ابن عباس ستة: عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عمر، وزيد بن ثابت، وعائشة، رضي الله تعالى عن الجميع. فقد روى أبو هريرة الذي هو أكثرهم رواية خمسة آلاف حديث وثلاث مئة وأربعة وسبعين حديثًا، ثم يليه ابن عمر، لأنه روى ألفين وست مئة وثلاثين، ثم أنس، لأنه روى ألفين ومئتين وستة وثمانين، ثم عائشة، لأنها روت ألفين ومئتين وعشرًا، ثم ابن عباس، لأنه روى أَلفًا وست مئة وستين، ثم جابر، لأنه روى ألفًا وخمس مئة وأربعين. وزاد العراقي سابعًا، وهو أبو سعيد الخدري، لأنه روى ألفًا ومئة وسبعين وإلى هذا الفرع، أشار العراقي؛ فقال بعد قوله السابق: في فِتْنَةٍ والمُكْثِرونَ سِتَّهْ ... أنَسٌ ابنُ عُمَرَ الصِّدِّيقَهْ البحرُ جابِرٌ، أبو هُرَيْرَهْ ... أكْثَرُهُم وَالبَحْرُ في الحَقيقَهْ أكْثَرُ فتوى .............

فيمن يقال لهم: العبادلة

فِيْمَنْ يقالُ لَهُمُ: العبادلة الفرع الرابع: فيمن يقال لهم: العبادلة؛ فإذا اجتمعوا على شيء، قيل: هذا قول العبادلة، وهم: عبد الله بن عباس، وابن عمر، وابن الزبير، وابن عمرو بن العاص. وجعل بعضهم مكان ابن عمرو بن العاص ابنَ مسعود، وهو غير صحيح، وبعضهم زاد عليهم، وبعضهم نقص منهم، وإلى هذا أشار العراقي؛ فقال بعد قوله: أكثَرُ فَتْوى وهْوَ وابْنُ عُمرَا ... وابنُ الزُّبيْرِ وابنُ عَمْرٍو قدْ جرى علَيهِمُ بالشُّهرَةِ العَبادِلَهْ ... ليْسَ ابنَ مَسْعُودٍ ولاَ مَنْ شاكَلَهْ فيمن لهم أتباع في الفقه الفرع الخامس: فيمن كان من الصحابة لهم أتباع، وأصحاب يقولون برأيه، وهم ثلاثة: ابن مسعود، وزيد بن ثابت، وابن عباس. وإلى هذا أشار العراقي بعد قوله السابق: "ولا مَنْ شاكَلَهْ". فقال: وهْوَ وزَيْدٌ وابنُ عَبّاسٍ لهُمْ ... في الفِقْهِ أَتْباعٌ يَرَوْنَ قَوْلَهُمْ فيمن انتهى إليهم العلمُ من الصَّحابةِ الفرع السادس: فيمن انتهى إليهم العلم من أكابر الصحابة، وهم ستة؛ قال مَسْروق بن الأَجْدع: انتهى علم الصحابة إلى ستة منهم، وهم عمر، وعلي، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وأُبيُّ بن كعب، وأبو الدَّرْداء، وبعضهم نقل عنه أبا موسى الأشعريَّ مكان أبي الدرداء، والناقل لذلك عنه الشَّعْبِيُّ، ثم قال: إن علم الستة انتهى لابن مسعود، وعلي. ولا يَقْدَحُ في انتهاء علم الستة إليهما تأخر وفاة كل من زيد، وأبي موسى عنهما، إذ لا مانع من انتهاء علم شخص إلى آخر مع بقاء الأول، كما أفاده العراقي، ولأن عليًّا وابن مسعود كانا مع مسروق بالكوفة؛ فانتهى العلم بها إليهما، بمعنى أن عمدة أهل الكوفة في معرفة علم الصحابة

في عدد الصحابة وطباقهم

عليهما، وإلى هذا أشار العراقي، بعد قوله السابق: "يَرَوْن قَوْلَهم" - فقال: وقالَ مسْروقُ انْتَهَى العِلْمُ إلى ... سِتَّةِ أصْحابٍ كِبَارٍ نُبَلا زَيْدٍ أَبي الدَّرْدَاءِ مَعْ أُبَىِّ ... عُمَرَ عَبْدِ اللهِ مَعْ عَلِيِّ ثُمَّ انْتَهى لِذَيْنِ وَالبَعْضُ جَعَلْ ... الأَشْعَرِيَّ عَنْ أبي الدَّرْدا بَدَلْ في عدد الصحابة وطِباقِهم الفرع السابع: في عدد الصحابة وطِباقِهم، وقد مَرَّ مستوفى غاية الاستيفاء، وإليه أشار العراقي بعد قوله السابق: "عن أبي الدَّرْدا بَدَلْ" فقال: وَالعَدُّ لا يَحْصُرُهُم فَقَدْ ظَهَر ... سَبْعونَ ألْفًا بتَبُوكَ وَحَضَرْ الحَجَّ أرْبَعُونَ ألْفًا وقُبِضْ ... عَنْ ذَيْن مَعْ أرْبَعِ آلافٍ تَنِضّ وَهُمْ طِباقٌ إنْ يُرَدْ تَعْديدُ ... قيلَ اثنتَا عَشْرَةَ أوْ تَزِيْدُ في ترتيبهم في الفضل الفرع الثامن: في ترتيب الصحابة في الفضل؛ وفي السابقين من هم؟ الأول: قد مر الكلام فيه، في أن أفضلهم الخلفاء الأربعة على ترتيب الخلافة، وقد مر عن مالك أنه توقف في التفضيل بين عثمان وعلي، رضي الله تعالى عنهما، لكن حكى عنه القاضي عِياض أنه رجع عن الوقف إلى تفضيل عثمان، وقال القرطبي: هو الأصح، والمشهور عنه، كما أنه هو المشهور عند الشافعي، وأحمد، والثَّوري وكافة أئمة الحديث، والفقه، وكثير من المتكلمين، وإليه ذهب أبو الحسن الأشْعَرِيّ، والقاضي أبو بكر الباقِلّانِيّ، لكنهما اختلفا في التفضيل بين الصحابة، هل هو قطعي الدَّليل؟ أم ظَنِّيُّهُ؟ فالذي مال إليه الأشعري الأول، والباقِلّانِيُّ الثاني. وتقدم الكلام عن كون المسألة اجتهادية أم لا؟

في أول من أسلم من الصحابة

واختلافهما راجع إلى ذلك. فالستة الباقون من العشرة المشهود لهم بالجنة، وقد مروا، فيليهم في الفضل أهل بدر، ثم أهل أحد، ثم أهل الحديبية وهم أهل بيعة الرضوان، الذين نزل فيهم: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18]. إلخ الآية. وكانوا ألفًا وأربع مئة رجل. وأما السابقون المشهود لهم بالفضل في القرآن الكريم بقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} [التوبة: 100] وبقوله تعالى {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} إلخ، وبقوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} [الحديد:10] الآية فقد قال الشعبي وغيره: هم الذين شهدوا بيعة الرضوان. وقال محمَّد بن كَعْب القُرَظيُّ وغيره: هم أهل بدر. وقال أبو موسى الأشْعَريّ وغيره: هم أهل القِبلَتَيْن الذين صلَّوْا إليهما مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإلى هذا أشار العراقي بعد قوله السابق: " ... أو تزيد" فقال: والأفضَلُ الصِّديقُ ثُم عُمَرُ ... وبَعدَهُ عثْمانُ وهْوَ الأَكثَرُ أو فَعَلِيٌّ قَبْلهُ خُلْفٌ حُكِي ... قُلتُ وقَوْلُ الوَقْفِ جَا عَنْ مالِكِ فالسِّتةُ الباقونَ فالبَدْريَّةُ ... فأُحُدٌ فالبَيْعةُ المَرضِيَّةُ قالَ وفَضْلُ السّابقينَ قد ورَدْ ... فَقِيل هُمْ وقِيْلَ بَدْريٌّ وقَدْ قيلَ بَلْ أهلُ القِبْلَتَيْنِ .. ... ................ في أول من أسلم من الصحابة الفرع التاسع: فيمن هو أول الصحابة إسلامًا. فقال ابن عباس وغيره: أولهم إسلامًا أبو بكر الصديق لقوله، رضي الله تعالى عنه، كما في الترمذي: "كُنْتُ أوَّلَ مَنْ أَسْلَمْ"، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - لِعمرو بن عَبسة لما سأله؛ من معك على هذا الأمر؟ قال: "حُرٌّ وعَبْد". يعني أبا بكر وبلالًا. رواه مسلم.

وقال جابر وغيره: أولهم إسلامًا علي ابن أبي طالب، لما روي مرفوعًا عن سَلْمان الفارسي، أنه قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: "أول هذه الأمةِ ورودًا على الحوض أولُهم إسلامًا علي بن أبي طالب". ولقوله، رضي الله تعالى عنه: "صلَّيتُ مَع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لا يُصَلِّي معه غَيري إلا خديجة". وقال على المنبر: "لَقَدْ صَلَّيْتُ قبلَ أن تُصليَ النّاس سبعًا". قلت: لعل هذا لم يصح عنه، رضي الله تعالى عنه، لأن الصلاة إنما نزلت ليلة الإسراء، ومعلوم أن أبا بكر إذ ذاك مسلم؛ وقد قيل: إنه سمي الصديق لتصديقه بالإسراء؛ فكيف يصدر هذا من علي، رضي الله تعالى عنه؟! وادعى الحاكم الإجماع على أن عليًا هو أول من أسلم، ودعواه مردودة غير مقبولة، قال مَعْمَر عن الزُّهري: أولهم إسلامًا زيد بن حارثِة. وقال قَتادة وأبو إسحاق: أول الناس إسلامًا خديجة، أم المؤمنين. وادّعى الثَّعْلَبيُّ الاتفاق على ذلك؛ فقال: الخلاف إنما هو فيمن أسلم بعدها. قالَ النووي: هذا القول هو الصواب عند جماعة من المحققين. وقال ابن إسحاق: أول من آمن خديجة، ثم علي وهو ابن عشر، ثم زيد، ثم أبو بكر فأظهر إسلامه، ودعا إلى الله سبحانه وتعالى؛ فأسلم بدعائه عثمان، والزبير، وعبد الرحمن بن عَوْف، وسعد بن أبي وَقاص، وطَلْحة بن عبيد الله، فكان هؤلاء النفر الثمانية أسبق الناس إسلامًا. قلت: على هذا القول ذهب الشِّنْقِيْطِيُّ في نظمه حين قال: أولُ الناسِ بِالنَّبي اقْتِداءً ... أُمُّ أبنائِهِ الكرامِ الجُدودِ فعليٌّ ثُمَّ ابنُ حارثةَ الكَلْـ ... بِيُّ زيدٌ مولى النَّبيِّ المجيدِ ثُمَّ إذ آمَن الصِّديقُ دَعا الناسَ ... فَجَاءَت عِصَابَةٌ كالفَريدِ وهْي عثمانُ والزُّبَيرُ ... وابنُ عَوْفٍ وطَلْحَةُ بنُ عُبَيْدِ وقيل: أولهم إسلامًا بلال، لخبر مسلم السابق. قلت: ليس في خبر مسلم دلالة على أسبَقِيَّة بلال في الإِسلام لأبي بكر؛ فإن غاية ما في الحديث أنهما معه، عليه الصلاة والسلام، على الإِسلام، ولم يبين

في آخرهم موتا

أسبَقِيَّةً لأحدهما على الآخر. قال ابن الصَّلاح: للجمع بين الأقوال، والأورع أن يقال: أول من أسلم من الرجال الأحرار، أبو بكر، ومن الصبيان علي، ومن النساء خديجة، ومن الموالي زيد، ومن العبيد بلال. وحكي هذا عن أبي حنيفة، رضي الله تعالى عنه. وفي المسألة أقوال أُخر. وإلى هذا الفرع أشار العراقي بعد قوله السابق: "قيل بل أهل القبلتين ... "، فقال: ............... واخْتَلَفْ ... أيُّهمُ أسْلَمَ قَبْلَ مَنْ سَلَفْ قِيْلَ أبو بَكْرٍ وقيلَ بلْ عَلِي ... ومُدَّعي إجْماعِهِ لَم يُقْبَل وقِيلَ زَيْدٌ وادَّعى وِفَاقًا ... بَعْضٌ عَلى خَدِيجَةَ اتِّفاقا في آخرهم موتًا الفرع العاشر: فيمن مات منهم آخرًا مطلقًا، أو في إحدى النواحي. أما آخرهم موتًا على الِإطلاق؛ فقد مر أنه أبو الطفيل عامر بن وَاثلةَ اللَّيْثِي، مات عام مئة على الصحيح، للحديث السابق وقد روي عنه كما في مسلم، أنه قال: "رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما على وجهِ الأرضِ رجلٌ رآه غيري". وقيل: بالكوفة. وآخرهم موتًا بالمدينة النبوية على ما قال ابن الصلاحِ: السائبُ بن يزيد، أو سَهْل بن سَعْد الساعِديُّ، أو جابر بن عبد الله، وقيل: إن جابرًا مات بمكة، والجمهور على الأول. وقد تأخر عن الثلاثة موتًا بالمدينة محمودُ بن الرَّبيع، مات سنة تسع وتسعين بتقديم التاء فيهما، ومحمود بن لَبيد الأشْهَلِيّ، مات سنة خمس أو ست وتسعين. وآخر من مات بمكة عبد الله بن عُمر، على أن أبا الطفيل لم يمت

فيها. وقد مات السائب سنة ثمانين أو اثنتين أو ست أو ثمان وثمانين أو إحدى وتسعين أقوال. ومات سهل سنة ثمان وثمانين، وقيل: إحدى وتسعين، ومات جابر سنة اثنتين أو ثلاث أو أربع أو سبع أو ثمان أو تسع وسبعين والمشهور خامسها. ومات ابن عمر سنة اثنتين أو ثلاث أو أربع وسبعين والمشهور ثانيها. وآخر من مات بالبَصرة -بفتح الموحدة أشهر من كسرها وضمها- أنس ابن مالك؛ مات سنة تسعين أو إحدى أو اثنتين أو ثلاث وتسعين. ورجح النَّوويُّ وغيره آخرها. وآخر من مات بالكوفة عبد الله بن أبي أوفى الأَسْلَمِيّ؛ مات سنة ست أو سبع أو ثمان وثمانين. وآخرهم موتًا بالشام عبد الله بن بُسْر -بضم الموحدة ثم سين مهملة- المازنىّ. وقيل: أبو أمامة، والصحيح الأول، مات الأول سنة ثمان وثمانين على المشهور أو ست وتسعين أو مئة. ومات الثاني سنة إحدى أو ست وثمانين. وقيل: إن ابن بسر آخر من مات بحمص. وقيل: آخرهم بدمشق واثِلَةُ بن الأَسْقَع؛ مات سنة ثلاث أو خمس أو ست وثمانين، وقيل: مات بالقدس، وقيل: بحمص. وآخرهم موتًا بالقدس أبو أُبَيّ -بالتصغير- عبد الله، ويقال له: ابن أم حرام، واختلف في اسم أبيه؛ فقيل: عمر بن قيس وقيل: أُبيّ، وقيل: كعْب: إنه مات بدمشق. والقدس من مدن فِلَسْطين -بكسر الفاء وفتح اللام وسكون المهملة- وهي ناحية كبيرة وراء الأردن من الشام، فيها عدة مدن كالقُدس والرَّمْلَة وعَسْقَلان، وآخر من مات بالجزيرة التي بين دِجْلة والفُرات، العُرْسُ -بضم العين- ابن عَميرة -بفتحها- الكِنْدِيُّ. وآخرهم موتًا بمصر عبد الله بن جَزْء وهو الزُّبَيْدِي -بالتصغير- مات سنة خمس أو ست أو سبع أو ثمان أو تسع وثمانين والمشهور ثانيها! وقيل: إنه

مات باليمامة، وقيل: مات بِسَفْطِ القدور، وتعرف اليوم بِسَفْطِ أبي تراب بالغَرْبِيَّةِ. وآخرهم موتًا باليمامة الهِرْماس -بكسر الهاء- ابن زياد الباهِلِىّ. وقد روي عن عِكْرمة بن عمار أنه لقيه سنة اثنتين ومئة، فموته إما فيها أو فيما بعدها. فإن صح ذلك أشكل بما مر من أن آخرهم موتًا مطلقًا أبو الطُّفَيْل، وأنه مات سنة مئة على الصحيح. وآخرهم موتًا ببلاد المغرب رُوَيْفع بن ثابت الأنصاري، مات ببرقة، وقيل: بإفريقية، وقيل مات بالشام. وآخرهم موتًا بالبادية سَلَمَةُ بن الأَكْوَع، مات سنة أربع وسبعين، وقيل: سنة أربع وستين وقيل: مات بالمدينة المكرمة، وهو الصحيح. وآخرهم موتًا بخراسان بُرَيْدة بن الحُصَيْب. وآخرهم موتًا بالرُّخَّج -براء مضمومة ثم خاء مشددة مفتوحة، وقيل: ساكنة ثم جيم- وهي من أعمال سجستان، العَداء بن خالد بن هوذة. وبأصبهان النَّابِغَةُ الجَعْدي. وبالطائف عبد الله بن عباس، مات فيه سنة ثمان وستين، وقيل: سنة تسع، وقيل: سنة سبعين، رضي الله عنهم أجمعين. هذا آخر ما لخصته من أحوال الصحابة، ولعلك لا تجده مجموعًا ملخصًا جامعًا بين النثر والنظم في غير هذا الكتاب، فادع الله تعالى لمخلصه بالعافية والغفران والموت بالمدينة المنورة على الإيمان، وتوسل في دعائك بأفضل ولد عدنان، فما صلح أمر ليس واسطة فيه للكريم الحنان المنان، ثم أَشْرَعُ في تبين حقيقة التابعين وما لهم من الأحوال والطبقات.

حقيقة التابعين وطبقاتهم

حقيقة التابعين وطبقاتهم فأقول: التابعي، ويقال: التابع -والأول أكثر استعمالًا- هو من لقي الصحابي ولو كان أعمى، ولو كان غير مميز، واحدًا كان الصحابي أو أكثر، سمع منه اللاقي أم لا. وحده الخطيب: بأنه من صحب الصحابي ولا يكفي اللُّقِيُّ. والأول أصح، وممن صرح بتصحيحه ابن الصَّلاح والنَّوويُّ، قال النَّوَوِيُّ: الخلاف فيه كالخلاف الجاري في الصحابي، والاكتفاء هنا بمجرد اللقاء أولى نظرًا إلى مقتضى اللفظين. ورجح القَسْطَلاني في "المواهب اللدنية" الثاني، ونصه في خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -: ومنها أنه تثبت الصحبة لمن اجتمع به - صلى الله عليه وسلم - لحظة بخلاف التابعي مع الصحابي، فلا تثبت إلا بطول الاجتماع معه على الصحيح عند أهل الأصول، والفرق عِظَمُ مَنْصِب النبوة ونورها بمجرد ما يقع بصره على الأعرابي الجِلْفِ ينطق بالحكمةَ. وهو فرق واضح في غاية الحسن، فينبغي اعتماده. واختلف العلماء في طبقاتهم فعند مسلم في "طبقاته" أنها ثلاثة، وكذلك عند ابن سعد في "طبقاته"، وربما بلغ بها أربعًا، وكونها أربع طبقات هو الذي صرح به الحافظ ابن حَجَر في "تقريب التهذيب" كما يأتي قريبًا، إن شاء الله تعالى. وقال الحاكم: إنهم خمسَ عشرة طبقة. آخرهم من لقي أنس ابن مالك من أهل البصرة، ومن لقي عبد الله بن أبي أَوْفَى من أهل الكوفة، ومن لقي السائب بن يزيد من أهل المدينة، وأولهم من لقي العشرة المبشرين بالجنة، وسمع منهم، ولم يقع هذا الوصف إلا لقيس بن أبي حازم، كما نص عليه ابن حِبّان، وعبد الرحمن بن يوسف ابن خِراش. وقال أَبو داود وغيره: إنه لم يسمع من عبد الرحمن بن عَوْف، وعد الحاكم سعيد بن المسيِّب مع قيس بن أبي حازِم في هذا الوصف، وهو غلط لأن سعيدًا إنما ولد في خلافة عمر بن الخطاب، فكيف يسمع من أبي بكر، مع أنه لم يسمع من بعض بقيتهم، بل قيل: إنه لم يسمع من أحد منهم إلا سعد بن أبي وقاص. هكذا عزا العراقي في "ألفيته"

للحاكم أنهم خمس عشرة طبقة، فقال مبينًا لتعريف التابعي وطبقاته، فقال: والتّابِعُ الّلاقِي لِمَنْ قَدْ صحِبا ... وَلِلْخَطيب حَدُّهُ أنْ يَصْحَبا وَهُمْ طِباقٌ قيلَ خَمْسَ عَشْرة ... أَوَّلُهُمْ رُوَاةُ كُلِّ العَشْرَة وَقَيْسٌ الفَرْدُ بِهذا الوَصْفِ ... وَقِيلَ لَمْ يَسْمَعْ مِن ابنِ عَوْفِ وَقَوْلُ مَنْ عَدَّ سعيدًا فَغَلَط ... بَلْ قيلَ لَمْ يَسْمَعْ سوى سَعْدٍ فَقَطْ ولم أر من فَصَّلَ الطبقات الخمس عشرة المعزوة للحاكم. والذي ذكره ابن حَجَر العَسْقَلاني في "تقريب التهذيب" هو أن عدد طبقات المحدثين جميعًا من عهد الصحابة اثنتا عشرة طبقة. ونصه: وأما الطبقات: فالأولى: الصحابة على اختلاف مراتبهم، وتمييز من ليس له منهم إلا مجرد الرؤية عن غيره. الثانية: طبقة كبار التابعين كابن المُسَيِّب، فإذا كان مُخَضْرَمًا صرحت بذلك، ويأتي، إن شاء الله تعالى، إيضاح المخضرم. الثالثة: الطبقة الوسطى من التابعين كالحسن وابن سيرين. الرابعة: طبقة تليها جلُّ روايتهم عن كبار التابعين كالزُّهري وقتادة. الخامسة: الطبقة الصغرى، منهم الذين رأوا الواحد والاثنين، ولم يثبت لبعضهم السماع من أحد الصحابة كالأعمش. السادسة: طبقة عاصروا الخامسة، لكن لم يثبت لهم لقاء أحد من الصحابة كابن جريج. السابعة: كبار أتباع التابعين، كمالك والثوري.

أفضل التابعين

الثامنة: الطبقة الوسطى منهم، كابن عيينة وابن عُلَيَّة. التاسعة: الطبقة الصغرى من أَتباع التابعين، كيزيد بن هارون، والشافعي، وأبي داود الطَّيَالِسيّ، وعبد الرزاق. العاشرة: كبار الآخذين لمن تبع الأتباع، ممن لم يلق التابعين، كأحمد بن حَنْبل. الحادية عشرة: الطبقة الوسطى من ذلك كالذُّهْلي والبُخاري. الثانية عشرة: صغار الآخذين عن تبع الأتباع كالترمذي، وألحقت بها باقي شيوخ الأئمة الستة الذين تأخرت وفاتهم قليلًا، كبعض شيوخ النسائي. وذكرت وفاة من عرفت سنة وفاته منهم؛ فإن كان من الأولى والثانية فهم قبل المئة، وإن كان من الثالثة إلى آخر الثامنة فهم بعد المئة، وإن كان من التاسعة إلى آخر الطبقات فهم بعد المئتين؛ ومن ندر عن ذلك بَيَّنْتُهُ. هذا حاصل ما ذكره من الطبقات، وهو مستوفى غاية الاستيفاء. فانظر الطبقات الخمس عشرة التي ذكرها الحاكم في التابعين وحدهم كيف تصورها. هذا التقسيم لم يذكر لهم إلا أربع طبقات، وذكر طبقة معاصرة للرابعة من طبقات التابعين، لكن لم يحصل لها لقاء لأحد من الصحابة. أفضل التابعين وقد اختلف العلماء في أفضل التابعين، فعند الإِمام أحمد وابن المَدينيِّ وأهل المدينة أن أفضلهم سعيد بن المُسَيِّب، ورُوي عن أحمد أيضًا أن أفضلهم قَيْس بن أبي حازم، وقيل: أفضلهم أبو عثمان النَّهْدِيّ، ومَسْروق ابن الأَجْدع، وأفضلهم عند أهل البصرة الحسن البصري، وعند أهل الكوفة أُوَيْسٌ القَرَنِيُّ. وهذا التفضيل حكاه ابن الصَّلاح عن أبي عبد الله بن خُفَيْف واستحسنه. لكن قال العراقي: الصحيح، والصواب ما

الفقهاء السبعة

ذهب إليه أهل الكوفة، لحديث مسلم، عن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّ خيْر التابعين رَجُلٌ يُقال له: أُوَيْسٌ وبه بياض، فمروهُ فَلْيَسْتَغْفِرْ لكم" قال: فهذا الحديث قاطع النزاع. وأما تفضيل أحمد لابن المسيِّب وغيره فلعله لم يبلغه الحديث، أو لم يصح عنده، أو أراد بالأفضلية الأفضلية في العلم لا الخيرية عند الله تعالى. هذا حكم ذكورهم. وأما نساؤهم فعند إياس بن معاوية أفضلهن حَفْصة بنت سِيرين وحدها، وعند أبي بكر بن داود حَفْصَة وعَمْرَة بنت عبد الرحمن، وتليهما أم الدَّرْداء الصغرى، واسمها هُجيمة ويقال: جُهيمة لا الكبرى، فتلك صحابية واسمها خيرة. وإلى هذا أشار العراقي بعد قوله السابق "لم يسمع سوى سعد فقط" فقال: لكنهُ الأَفضلُ عنْدَ أحمدا ... وعَنهُ قَيْسٌ وسِواهُ ورَدا وفَضَّلَ الحسنَ أهلُ البَصرَة ... والقَرنِي أوَيْسًا أَهلُ الكُوفَة وفي نِساءِ التّابِعينَ الأبْدا ... حَفْصَةُ مَع عَمْرَةَ أمِّ الدَّرْدا الفقهاء السبعة من كبار التابعين فقهاء المدينة السبعة الذين كانوا يُنْتَهَى إلى قولهم وإفتائهم، فلا يحكي قاض في مسألة حتى يتفقوا على الحكم فيها، وهم "سَعيدُ بن المُسيِّب، وعُروة بن الزُّبير، والقاسم بن محمَّد بن أبي بكر، وخارجةُ بن ثابت الأنصاري، وسليمانُ بن يسار الهِلاليُّ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود". فهذه ستة متفق عليها. واختلف في السابع فقيل: أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وقيل: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عَوْف، وقيل: سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب. وبلغ بهم يحيى بن سعيد اثني عشر فنقص وزاد؛ فقال: فقهاء المدينة اثنا عشر؛ سَعيد بن المُسيِّب، وأبو سَلَمة، والقاسم بن محمَّد، وسالم، وحمزة، وزيد، وعبيد الله، وبلال بن عبد الله بن عمر، وأبانُ بن عثمان بن عفان،

المخضرمون

وقَبيصَةُ بن ذُؤَيْب، وخارجَةُ وإسماعيل ابنا زيد بن ثابت. وإلى السبعة الأَولين أشار العراقي بعد قوله السابق: "أم الدردا"، فقال: وفي الكِبار الفُقَهاءُ السَّبعَةُ ... خارجَةُ القاسِمُ ثُمَّ عُرْوَةُ. ثُمَّ سلَيْمَانُ عُبيْدُ اللهِ ... سعيدُ والسَّابعُ ذو اشتِباه. أما أبُو سَلَمَةٍ أَو سالِمُ ... أو فأَبو بَكْرٍ خِلَافٌ قائِمُ المُخَضْرَمونَ ثم اعلم أن من التابعين مَنْ يُسَمَّوْنَ المخضرمين كما مر. والصحيحُ أن المخضرم هو الذي أدرك الجاهليةَ والإِسلامَ؛ ولم يُرَ في خبر قَطُّ أنهم اجتمعوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ولا رأوه، سواء أسلموا في حياته أو بعد موته، وليسوا أصحابه باتفاق أهل الحديث، وفتح الراء فيهم أشهد من كسرها، وما حكاه الحاكم عن بعض مشايخه في اشتقاقه من أن أهل الجاهلية ممن أسلم، ولم يهاجر، كانوا يُخضرمُون آذان الإبل، أي يقطعونها لتكونَ علامة لإسلامهم إن أُغير عليهم أو حُوربوا؛ مُحتَمَلٌ لهما، فالفتح من أجل أنهم خُضْرموا، أي قُطِعوا عن نُظَرائِهم بما ذُكر، فهم مَفْعولون؛ والكسر من أجل أنهم خَضْرموا آذان الإبل فهم فاعلون. وقال صاحب "المحكم": رجلٌ مخضرَمٌ إذا كان نِصْفُ عُمُرِهِ في الجاهلية ونصفُ عمره في الإِسلام. ورجل مُخضرَمٌ أدرك الجاهلية والإِسلام. وقال ابن حبان: الرَّجُلُ إذا كان له في الكفر ستون سنةً، وفي الإِسلام ستون يُدعى مخضرَمًا. ومقتضى عدم اشتراطهما نفي الصحبة أن حَكيم بن حِزام وشبهه مخضرمٌ، وليس كذلك في الاصطلاح، لأن المخضرم هو المتردد بين الطبقتين لا يُدْرَى من أيتهما هو، وهذا هو مدلول الخَضْرَمَةِ لغة. فقد قال صاحب "المحكم": رجل مخضرَمٌ، ناقص الحسب، وقيل: الدَّعِيُّ، وقيل: مَنْ لا يُعْرَفُ أبواه، وقيل: من أبوه أبيض وهو أسود، وقيل: من ولدته السَّراري. وقال هو أيضًا الجَوْهَرِيُّ: لحم مخضرم؛ لا يدري أمن

ذكر هو أو أنثى؟ فكذلك المخضرمون متردَّدون بين الصحابة والتابعين لعدم اللُّقِيِّ، وهم كثيرون، منهم سُوَيْد بن غَفَلَة -بالتحريك- وأبو عمرو بن جابر، وعُمر بن مَيْمون الأَوْدِيُّ، والأسود بن يزيد النَّخَعِيّ، والأسود بن هلال المُحارِبيّ وقد بلغ بهم مُسلم بن الحجاج عشرين، ومُغُلْطاي مئة، وإلى هذا أشار العراقي بعد قوله السابق: "خلاف قائم" فقال: والمُدْرِكونَ جاهِلِيّةً فسَمْ ... مخَضْرمينَ كَسُوَيدٍ في أُمَمْ الغلط في عَدِّ مَنْ ليس من طبقة فيها ومما يستحق الذكر هنا والتنبيه عليه، ما قد يقع لأهل الطباق من عد التابعي في تابعي التابعين، وعكس ذلك، وهو عد بعض تابع التابعين في التابعين، وكذلك عدّ بعضِهم بعضَ الصحابة في التابعين. وعكس ذلك، وهو عد بعض التابعين في الصحابة. فهذه أربعة أنواع تقع من أهل الطِّباق، وهي فاسدة قطعًا. الأول: الذي هو عد بعض التابعين في تابعيهم، مثل أبي الزِّناد عبد الله ابن ذَكْوان، وهشام بن عُروة، وموسى بن عُقبة؛ فإنهم تابعيون مع أنهم معدودون عند أكثر الناس في أتباع التابعين. والثاني: الذي هو عد بعض تابعي التابعين في التابعين، مثل إبراهيم ابن سُوَيْد النَّخَعِي، وسعيد، وواصل ابني عبد الرحيم البصري. والثالث: وهو عد بعض الصحابة في التابعين يقع لأحد أمرين: إما لأجل الغلط لا غير؛ وإما لكون الصحابي من صغار الصحابة، يقارب التابعين في أن روايته أو جُلَّها عن الصحابة. فالأول: كالنعمان وسويد ابني مُقَرِّنٍ المُزَني؛ فإنهما صحابيان معروفان من جملة المهاجرين، مع أن الحاكم عدهما غلطًا في الإخوة من التابعين. والثاني: مثل يوسف بن عبد الله بن سلام، ومحمود بن لَبيد؛ فقد عدهما مسلم وابن سعد في التابعين.

فائدتان

والرابع: الذي هو عدّ بعض التابعين في الصحابة، كعبد الرحمن بن غَنْم الأشعري؛ فقد عده محمَّد بن الربيع الجيزي في الصحابة مع أنه تابعي، وإلى هذا أشار العراقي، فقال: وَقَدْ يُعَدُّ في الطِّباقِ التّابِعُ ... في تَابِعَيْهِم إذْ يَكُونُ الشّائِعُ الحَمْلَ عَنهمْ كَأَبي الزِّنادِ ... وَالعكْسُ جَاءَ وَهْوَ ذُو فَسَادِ وَقَدْ يُعَدُّ تابِعِيًّا صَاحِبُ ... كَابْنَيْ مُقَرِّنٍ وَمَنْ يُقَارِبُ فائدتان الأولى: قال البُلْقِيني: أول التابعين موتًا أبو زيد مَعْمر بن زيد، مات بخراسان، وقيل: بأذربيجان سنة ثلاثين، وآخرهم موتًا خَلَفُ بن خليفة. مات سنة ثمانين ومئة. الثانية: مما يُلْغَزُ به: تابعي، يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا، وحديثه مسند لا مرسل، ويحتج به من غير خلاف، وذلك مثل التَّنُوخِىّ، رسول هِرَقْل؛ فإنه مع كونه تابعيًّا اتفاقًا محكوم لما سمعه بالاتصال لا بالإِرسال، ولا خلاف في الاحتجاج به؛ فإن محل كون قول التابعي مرسلًا ما لم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو كافر، ثم أسلم بعد موته، أو قبله ولم يره، ثم حدث عنه بما سمع منه، كما وقع للتنوخي هذا، وذلك لأننا إنما رددنا المرسل لجهالة الواسطة، وهي هنا مفقودة. وهذا عكس ما مر في محمَّد بن أبي بكر وأضرابه ممن رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو غير مميز؛ فإنه على القول بأنه صحابي حديثه من قبيل مراسيل كبار التابعين، لا من قبيل مراسيل الصحابة. ويلغز به، فيقال: صحابي حديثه مرسل لا يقبله من يقبل مراسيل الصحابة وهذا قد قدمته في أول بحث الصحابة، ولكن أعدته جمعًا للنظائر تتميمًا للفائدة. وهذا آخر الكلام على ما أردت ذكره في المقدمة، وأشرع في المقصود بعون الصمد الحي الودود، فأقول: لا بد قبل الشروع في

نبذة من السيرة النبوية

المقصود من الإتيان بشيء يسير من السيرة النبوية، وإن كان علماء أهل التآليف فيها، تكفلوا بها، وأتوا في تآليفهم فيها بما لا يقبل الزيادة، وكادت سيرته - صلى الله عليه وسلم - تحصر. نبذة من السيرة النبوية وها أنا أذكر منها نبذة مختصرة، تبركًا بالإتيان بها في أول الكتاب، ولأن بعض العلماء قال: إن ذاته - صلى الله عليه وسلم - الشريفة هي موضوع علم الحديث رواية من حيث إنه نبي، وموضوع الفن لا بد من معرفته وتعريفه، وإن كان هو - صلى الله عليه وسلم - معروفًا عند جميع المسلمين، ولكن أذكر ما أَذْكُرُهُ تيمنًا بسيرة أسعد الخلق - صلى الله عليه وسلم - ثم بعد ما أذكر منها أذكر شيئًا من تعريف البخاري، صاحب هذا التأليف المقصود كشف خباياه، فأقول: اعلم أن أول ما خلق الله من شيء على ما أخرجه عبد الرزاق بسنده عن جابر، رضي الله تعالى عنه نور النبي - صلى الله عليه وسلم -من نوره، فجعل ذلك النور يدور بالقدرة حيث شاء الله تعالى، ولم يكن في ذلك الوقت لوحٌ، ولا قلمٌ، ولا جنةٌ، ولا نارٌ، ولا سماءٌ، ولا أرضٌ، ولا شيءٌ من الأشياء؛ فلما أراد الله أن يخلقَ الخَلْقَ، قسم ذلك النور أربعة أجزاء .. إلخ الحديث الطويل، وقد نقلناه مُسْتَوْفى في كتابنا "الفتوحات الربانية" في الرسالة العاشرة. ثم لما خلق الله آدم، جعل ذلك النور المحمدي في جبينه، وصار من ذلك الوقت كلما حملت زوجة بولد يكون جَدًّا له، عليه الصلاة والسلام، ينتقل ذلك النور إلى جبينها، وإذا وُلِدَ ذلك المولودُ انتقل إلى جبينه إلى أن ولد - صلى الله عليه وسلم - ولأجل هذا أخرج أبو نُعَيْم، والخَرائِطِيُّ وابن عساكر، عن ابن عباس، قال: لما خَرَجَ عبد المطلب بابنه عبد الله ليزوجه، مَرَّ به على كاهنة من قبالة؛ قد قرأت الكتب، يقال لها: فاطمة بنت مر الخَثْعَمِيّة، فرأت نور النبوة في وجه عبد الله؛ فقالت له: لك مثل الِإبل التي نحرت عنك، وقع

علي الآن، لما رأت في وجهه من نور النبوة، ورجت أن تحمل بهذا النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - ثم خرج به حتى أتى به وهب بن عبد مناف بن زُهْرة، وهو يومئذ سيد بني زهرة نسبًا وشرفًا، فزوجه ابنته آمنة، وهي يومئذٍ أفضل امرأة في قريش نسبًا، وموضِعًا، فزعموا أنه دخل عليها حين مَلَكَها مكانه، فوقع عليها يوم الاثنين في شعب أبي طالب، عند الجَمْرة، فحملت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم خرج من عندها، فأتى المرأة التي عرضت عليه ما عَرَضَتْ، فقال لها: ما لك لا تَعْرِضين علي اليوم ما عرضت علي بالأمس؟ فقالت: فارقك النور الذي كان معك بالأمس، فليس لي بك اليوم حاجة، إنما أردت أن يكون النور فيّ، فأبى الله إلا أن يجعله حيث شاء. وفي رواية عن ابن عباس: أن المرأة من بني أسد بن عبد العُزّى، واسمها قَتِيلة أو رَفيقة بنت نَوْفَل، وفي هذه الرواية أنه أجابها بقوله: أَمّا الحَرَامُ فَالمَمَاتُ دُونَهُ ... وَالحِلُّ لا حِلٌّ فَأَسْتَبِينُهُ فَكَيْفَ بِالأَمْرِ الذي تَبْغِينَهُ ... يحْمِي الكَرِيمُ عِرْضَهُ ودِينَهُ ولأجل هذا النور، سجد رئيس فِيَلَةِ أَبْرهة -الذي كان لا يسجُدُ لأبرهة- لعبد المطلب لما نظر في وجهه. وفي النُّطْقِ المفهوم أنه قال له: السلام على النور الذي في ظهرك يا عبد المطلب. وقد اتفق أهل العلم بالأنساب والأخبار، وسائر العلماء بالأمصار، على رفع نسبه إلى عدنان، واختلفوا اختلافًا كثيرًا، فيما بين عدنان وإسماعيل، وفيما بين إبراهيم ونوح، عليهما الصلاة والسلام. وقد جمع في "فتح الباري" أكثر من عشرة أقوال. ولأجل الاضطراب الشديد والخلاف أعْرَضتُ عن سياق النسب بين عدنان وإسماعيل. وقد روي في "مسند الفردوس" أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا انتسب لم يجاوز مَعدِّ ابن عدنان ثم يمسك، ويقول: "كذب النسابون" مرتين أو ثلاثًا، لكن قال السُّهَيْلِيُّ: الأصحُّ في هذا الحديث أنه من قول ابن مسعود. وقال غيره: كان ابن مسعود إذا قرأ قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ

نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ} [إبراهيم: 9]. قال: كذب النسابون يعني أنهم يدَّعون علم الأنساب، والله تعالى نفى علمها عن العباد. وروي عن عمر أنه قال: إنما ينتسب إلى عدنان، وما فوقه لا يُدرى ما هو. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: بينَ عدنان، وإسماعيل ثلاثون أبًا لا يعرفون. وروي عن عروة بن الزبير أنه قال: ما وجدنا أحدًا يعرف بعد عدنان. وسئل مالك عن الرجل يرفع نسبه إلى آدم فكره ذلك، وقال: من أخبره بذلك؟ وروي ذلك عنه في رفع نسب الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام؛ فالذي ينبغي الإعراض عنه. والنسب المتفق عليه هو أنه محمَّد بن عبد الله الذبيح بن عبد المطلب، واسمه شيبة الحمد على الصحيح. قيل: سمي به لأنه ولد وفي رأسه شيبة، وقيل: اسمه عامر، وكنيته أبو الحارث بابن له هو أكبر أولاده. وإنما قيل له: عبد المطلب، لأن أباه هاشمًا قال لأخيه المطلب وهو بمكة حيث أدركته الوفاة: أدرك عبدَك بيثرب؛ فمن ثَم سُمِّيَ عبدَ المطلب. وقيل: إن عمَّه المطلب جاء به إلى مكة رديفه وهو بهيئة بَذَّة؛ فكان يُسأل عنه، فيقول: هو عبدي حياء أن يقول: هو ابن أخي. فلما أدخله وأحسن حاله، أظهر أنه ابن أخيه؛ فلذلك قيل له: عبدُ المطلب. وهو أوَّل من خضب بالسواد من العرب، وعاش مئة وأربعين سنة. وأمه سلمى بنت عمرو بن زيد من بني عدي بن النجار. وعبد المطلب، ابن هاشم، واسمه عمرو، وإنما قيل له: هاشم، لأنه كان يهشِمُ الثريدَ لقومه في الجدب، وفي ذلك قال الشاعر: عَمرو العُلى هَشَم الثَّرِيدَ لِقَوْمِهِ ... ورِجَالُ مَكَّةَ مُسْنِتُونَ عِجَافُ وهاشم بن عبد مناف، واسمه المغيرة، ابن قُصي، بضم القاف تصغير قَصي، أي: بعيد سمي بذلك، لأنه تقصى مع أمه فاطمة بنت سعد من بني عُذرة، ونشأ مع أخواله مِن كلب في باديتهم، واسمه زيد وقيل: يزيد، وكان يُدعى مجمعًا، لأنه جمع القبائل من قريش حين انصرافه إليها. وفيه يقول الشاعر:

أبوكم قُصَيٌّ كان يُدعى مُجمِّعًا ... به جمَّع اللهُ القَبَائِلَ مِن فِهْرِ وذلك حين اشترى قُصي من خاله أبي غبشان -بضم المعجمة وسكون الموحدة- واسمه المحرِّش "باسم الفاعل" ابن حُليل "بالتصغير" ابن عمرو ابن لحي، أخو أم قصي، حُبّى -بضم المهملة وتشديد الموحدة مع الإمالة- إمرة البيت بأذوادٍ من الإبل، وقيل: بِزِقِّ خمر، وكان في عقله شيء فخدعه. وجمع بطون بني فِهر، وحارب خُزاعة حتى أخرجهم من مكة، وغلب على أمر البيت، وشرع لقريش السقاية والرِّفادة؛ فكان يصنع الطعام أيامَ مِنى، والحياض للماء، فيُطعم الحجيج ويسقيهم، وهو الذي عَمَّرَ دار الندوة بمكة، فإذا وقع لقريش شيء، اجتمعوا فيها، وعقدوه بها. وكون اسم أمه حُبّى هو الذي في "الفتح"، وما مَرَّ من تسميتها فاطمة لابن عبد البر، وهو (ابن كلاب) واسمه حكيم، وقيل: عروة. وكلاب إما منقول من المصدر الذي في معنى المكالبة، نحو كالبت العدو مكالبة، وإما من الكلاب جمع كلب، لأنهم يريدون الكثرة كما تَسَمَّوْا بسباع. وسئل أعرابي؛ لمَ تسمون أَبناءَكم بشر الأسماء، نحو كلب وذئبٍ، وعبيدكم بأحسن الأسماء نحو مرزوق ورباح؟ فقال: إنما نسمي أبناءنا لأعدائنا، وعبيدنا لأنفسنا، يريدون أن الأبناء عدةٌ للأعداء، وسهام في نحورهم، فاختاروا لهم هذه الأسماء. وهو (ابن مرة ابن كعب) وهو أول من جمع العروبة، وكانت تجتمع إليه قريش في هذا اليوم، فَيَخْطُبُهم ويذكرهم بمبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - ويُعلمهم بأنه من ولده، ويأمرهم باتباعه، والِإيمانِ به، ويُنشد في ذلك أبياتًا منها: وليتني شَاهِدٌ فَحْوَاء دَعْوَتهِ ... حِينَ العشيرة تَبْغي الحَقّ خِذلانا وهو "ابن لؤي" تصغير اللأي بوزن العصي، وهو الثور الوحشي "بن غالب بن فهر" واسمه قريش وإليه تنسب قريش، فما كان فوقه، فكناني لا قرشي، على الصحيح، ويأتي ما في ذلك من الخلاف. وهو "ابن مالك بن النضر" واسمه قيس "ابن كنانة بن خُزيمة" تصغير "خزمة" بن

مدركة واسمه عمرو "بن إلياس" بكسر الهمزة في قول وبفتحها في قول، ضد الرجاء، واللام فيه للتعريف، والهمزة للوصل قال السهيلي: وهذا أصح. وهو أول من أهدى البُدْنَ إلى البيت الحرام. ويُذْكَرُ أنه كان يسمع في صلبه تلبية النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحج. وهو "ابن مضر" وهو أول من سَنَّ الحُداء للابل، وكان من أحسن الناس صوتًا. وهو بضم الميم وفتح الضاد، يقال: إنه سُمِّي به، لأنه كان مولعًا بشرب اللبن الماضر، أي: الحامض؛ وفيه نظر، لأنه يستدعي أنه كان له اسم غيره قبل أن يتصف بهذه الصفة. نعم، ويمكن أن يكون هذا اشتقاقه، ولا يلزم أن يكون متصفًا به حالة التسمية. وهو "ابن نزار" بكسر النون من النزر وهو القليل. قيل: لأنه لما ولد، ونظر أبوه إلى نور محمَّد - صلى الله عليه وسلم - بين عينيه فرح فرحًا شديدًا، وأطعم، وقال: إن هذا كلَّه نزر في حق هذا المولود، فسمي نزارًا لذلك. وهو "ابن معد بن عدنان". قال ابن دِحْية: أجمع العلماءُ -والِإجماعُ حجة- على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما انتسب إلى عدنان ولم يتجاوره. وروى الطبراني، بإسناد جيد، عن عائشة، قالت: "استقام نسبُ الناس إلى مَعَدِّ بن عدنان". وروى ابن سعد من حديث عمرو بن العاص، بإسناد فيه ضعف، مرفوعًا "أنا محمَّد بن عبد الله" وانتسب حتى بلغ النضر بن كِنانة قال: فمن قال غير ذلك فقد كذب. وروى ابنُ حبيب في "تاريخه" عن ابن عباس، قال: "كان عدنان ومعد وربيعة ومضر، وخزيمة، وأسد، على ملة إبراهيم فلا تذكروهم إلا بخير" وروى الزبير ابن بكار من وجه آخر عن ابن عباس: "لا تسبوا مُضَرَ، فإنه كان قد أسلم". هذا نسبُه - عليه الصلاة والسلام - المتفق عليه من جهة الأب. أما من جهة الأم، فأمه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زُهرة بن كلاب إلى آخر النسب الشريف الزهرية، تزوَّجها عبد الله بن عبد المطلب، وهو ابن ثلاثين سنة. وقيل: كان يومئذ ابن خمس وعشرين سنة.

ما يقال فيمن يقال له: قرشي وعلى اشتقاق التسمية

خرج به أبوه عبد المطلب إلى وهب بن عبد مناف، فزوجه ابنته كما مر، وقيل: كانت آمنة في حِجر عمها وهب بن عبد مناف، فأتاه عبد المطلب، فخطب إليه ابنته هالة لنفسه، وخطب على ابنه عبد الله ابنة أخيه آمنة، فزوجه، وزوج ابنه في مجلس واحد، فولدت آمنة لعبد الله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وولدت هالة لعبد المطلب حمزة. والمشهور عند أهل النسب أن زهرة اسم الرجل، وشذ ابن قتيبة، فزعم أنه اسم امرأته، وأن ولدها غلب عليهم النسب إليها، وهو مردود بقول إمام أهل النسب هشام بن الكَلبي: إن اسم زهرة المغيرة، فإن ثبت قول ابن قتيبة، فالمغيرة اسم الأب، وزهرة اسم امرأته، فنسب أولادهما إلى أمهم، ثم غلب ذلك حتى ظن أن زهرة اسم الأب، فقيل: زهرة بن كلاب، وزُهرة بضم الزاي بلا خلاف، فهو - صلى الله عليه وسلم - قرشي الأب والأم. وفي صحيح البخاري عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم -قال: "لم يكن بطنٌ من قريش إلا وله فيه قرابة". ما يُقال فيمن يقال له: قرشي وعلى اشتقاق التسمية وها أنا أذكر ما قيل فيمن يقال: إنه قرشي، وما ورد من الخلاف في معنى قريش. ففي قريش أربعة أقوال. أحدها: أنهم ولد النضر بن كنانة، وبذلك جزم أبو عبيدة أخرجه ابن سعد، وروي عن هشام بن الكلبي عن أبيه: كان سكان مكة يزعمون أنهم قريش دون سائر بني النضر حتى رحلوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألوه عن قريش فقال: "من ولد النضر بن كنانة". وقيل: إن قريشًا هم ولد فِهر بن مالك بن النضر، وهو قول الأكثر، وبه جزم مصعب، قال: ومن لم يلده فِهر، فليس بقرشي، وإنما هو كناني، يعني مما فوقه.

وقيل: أول من نسب إلى قريش قُصي بن كلاب. فروى ابن سعد: أن عبد الله بن مروان سأل محمَّد بن جبير، متى سميت قريش قريشًا؟ قال: حين اجتمعت إلى الحرم بعد تفرقها، قال: ما سمعت بهذا، ولكن سمعت أن قُصيًا كان يقال له: القرشي، ولم يسمِّ أحد قريشًا قبله. وروى ابن سعد من طريق المقداد: لما فرغ قُصي من نفي خُزاعة من الحرم، تجمعت إليه قريش، فَسُمِّيَتْ يومئذ قريشًا لحال تجمعها. وحكى الزبير ابن بكار عن عمه مصعب: أن أول من تسمَّى قريشًا قريشُ بن بدر بن مخلد ابن النضر بن كِنانة، وكان دليلَ بني كنانة في حروبهم، فكان يُقال: قدمت عير قُريش، فسميت قريش به قريشًا، وأبوه صاحب بدر الموضع المعروف. واختلف في اشتقاق قريش على عشرة أقوال، فقيل: من التقرش وهو التجمع، وذلك إما لتجمعهم على قصي كما مر، أو لأن الجد الأعلى جاء في ثوب واحد متجمعًا فيه فسمي قريشًا. وقيل: لتجمعهم للتجارة؛ فهذه ثلاثة أقوال على أنه من التجمع. وقيل: من التقرش، وهو أخذ الشيء أولًا فأولًا، وقال المُطرزي: سميت قريش بدابة في البحر هي سيدة دواب البحر، وكذلك قريش سادة الناس. قال صاحب "المحكم": قريش دابة في البحر، ما تدع دابة في البحر إلا أكلتها، فجميع الدواب تخافها، قال الشاعر: وقُرَيْشٌ هِيَ الَّتي تَسْكُنُ البَحْـ ... ـرَ بِها سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشَا تَأْكُلُ الغَثَّ والسَّمينَ وَلاَ ... تَتَّرِك فيه لِذي جَنَاحَيْن رِيشَا هكذا في البِلادِ حَيُّ قُرَيشٍ ... يَأْكلُونَ البِلادَ أَكْلًا كَميشا وَلَهُمْ آخِرَ الزَّمَان نبِيٌ ... يُكْثِرُ القتلَ فيهم والخُموشا قال في "الفتح": الذي سمعته من أفواه أهل البحر، القِرش بكسر القاف، وسكون الراء، لكن البيت المذكور شاهد صحيح، فلعله من

تغيير العامة، فإن البيت الأخير من الأبيات المذكورة يدل على أنه من شعر الجاهلية، ثم ظهر لي أنه من مصغر القِرش الذي بكسر القاف. وقد أخرج البيهقي عن ابن عباس، قال: قريش -تصغير قرش- وهي دابة في البحر، لا تمر بشيء من غث أو سمين إلا أكلته. وقيل: سمي قريشًا لأنه كان يقرش عن خَلة الناس وحاجتهم، ويسُدُّها، والتقريش: هو التفتيش. وقيل: سموا بذلك لمعرفتهم بالطعان، والتقريش وقع الأسِنة، وقيل: التقرش: التنزه عن رذائل الأمور. وقيل: هو من أقرشت الشجة، إذا صدعت العظمَ ولم تهشمه. وقيل: أقرش بكذا: إذا سعى به. وقيل: غير ذلك. ولله در القائل: وَنِسْبَةُ عِزٍّ هاشِمٌ مِنْ أُصُولِهَا ... وَمَحتدُهَا المرضيُّ أَكْرَمُ محْتِدِ سَمَتْ رُتْبَةً عَلياءَ أَعْظِمْ بِقَدْرِهَا ... وَلَم تَسْمُ إلا بالنَّبىِّ مُحمَّدِ وعِزُّ قريش إنما هو منه - صلى الله عليه وسلم - كما قال الشاعر: وكَمْ أَبٍ قَدْ عَلا بابنٍ ذُرَى حَسَبٍ ... كَمَا عَلَتْ برسولِ اللهِ عَدْنَانُ وقد أخرج مسلم من حديث واثلة مرفوعًا: "إن الله اصطفى كِنانة من ولد إسماعيل، واصطفى من كنانة قريشًا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم". وروى الترمذي -وقال: حديث حسن- عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الله خلق الخلق فجعلني من خير فرقهم، وخير الفريقين، ثم تخير القبائل، فجعلني في خيرِ قبيلةٍ، ثم تخير البيوت فجعلني في خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفسًا، وخيرهم بيتًا" أي: أصلًا.

وروى الطبراني عن ابن عمر قال: "إن الله اختار خلقه فاختار منهم بني آدم، ثم اختار منهم العرب، ثم اختارني من العرب، فلم أزل خيارًا من خيار ألا من أحب العرب فبحبي أَحَبَّهُم، ومن أبغض العرب فببغضي أبغَضَهُمْ". واعلم أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يزل ينتقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات إلى أن وُلِدَ، فقد روى ابن سعد، وابن عساكر عن هشام بن محمَّد بن السائب الكلبي عن أبيه، قال: كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - خمس مئة أم، فما وجدت فيهن سِفاحًا، ولا شيئًا مما كان في أمر الجاهلية. وروى الطبراني في "الأوسط"، وأبو نعيم، وابن عساكر عن علي بن أبي طالب، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خرجتُ من نكاح ولم أخرج من سِفاح، من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي، لم يصبني من سفاح الجاهلية شيء". وروى أبو نعيم، عن ابن عباس مرفوعًا: "لم يلتق أبواي قطُّ على سفاح؛ لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الطيبة إلى الأرحام الطاهرة، مصفى مهذبًا، حتى لا تتشعب شعبتان إلا كنت في خيرهما". وروى البزار عنه في قوله تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} قال: من نبي إلى نبي حتى أخْرَجْتُك نبيًا. وروى عنه أبو نعيم أيضًا في الآية أنه قال: "ما زال النبي - صلى الله عليه وسلم - يتقلَّبُ في أصلاب الأنبياء حتى ولدته أمه". وعن جعفر بن محمد عن أبيه في قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128] قال: لم يُصبه شيء من ولادة الجاهلية، قال: وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ "خرجت من نِكاح غير سِفاح". وروى ابن مردويه عن أنس قال: قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفَسِكُمْ} بفتح الفاء. وقال: أنا أنفسكم نسبًا وصهرًا وحسبًا، ليس من آبائي من لدن آدم سفاح كلنا نكاح، وفي "الدلائل" لأبي نعيم، وأخرجه الطبراني في

موت والده عبد الله

"الأوسط"، عن عائشة، عنه - صلى الله عليه وسلم - عن جبريل قال: قَلَّبتُ مشارقَ الأرض ومغاربها؛ فلم أر رجلًا أفضل من محمَّد، ولم أر بني أبٍ أفضلَ من بني هاشم. قال الحافظ شيخ الإِسلام ابن حجر: لوائح الصحة ظاهرة على صفحات هذا المتن. وفي البخاري عن أبي هريرة، قال - صلى الله عليه وسلم -: "بُعِثتُ من خير قرون بني آدم قرنًا فقرنًا حتى كنت من القرن الذي كنت فيه". موت والده عبد الله ولما تم مِنْ حمله عليه الصلاة والسلام شهران، توفي أبوه عبد الله، وقيل: توفي وهو في المهد، وقيل: وهو ابن شهرين، وقيل: ابن سبعة، وقيل: ابن ثمانية وعشرين شهرًا، والمشهور الأول. وكان عبد الله قد رجع ضعيفًا مع قريش لما رجعوا من تجارتهم، ومرُّوا بالمدينة فتخلف عند أخواله بني عدي بن النجار، فأقام عندهم مريضًا شهرًا، فلما قَدِم أصحابهُ مكة سألهم عبد المطلب عنه، فقالوا: خلفناه مريضًا، فبعث إليه أخاه الحارث، فوجده قد توفي، ودُفِنَ في دار التبابعة. وقيل: إنه خرج إلى المدينة يمتارُ التمر لأبيه. وقيل: خرج إليها زائرًا لأخواله. وقيل: دفن بالأبواء. ورَثَتْه زوجته آمنة فقالت: عَفا جانِبُ البطحاءِ مِن آل هاشمٍ ... وجاوَرَ لحدًا خارجًا في الغماغم دعته المنايا دعوةً فأجابها ... وما تَرَكَتْ في الناس مثلَ ابن هاشم عَشِيَّةَ راحوا يحملون سريره ... تعاورَه أصحابُه في التزاحم فإن تَكُ غالته المنايا وريبها ... فقد كان مِعطاءً كثيرَ التراحم وقيل لجعفر الصادق: لِمَ يُتِّمَ النبي - صلى الله عليه وسلم - من أبويه؟ قال: لئلا يكون عليه حق لمخلوق، نقله أبو حيان في "البحر". قلت: ولئلا ينسب شيء من أخلاقه السنية إلى أنها من تعليم البشر وتأديبهم.

مدة الحمل به ومحل ولادته صلى الله عليه وسلم

مدة الحمل به ومحل ولادته صلى الله عليه وسلم واختلف في مدة الحمل به، فقيل: تسعة أشهر، وقيل: عشرة، وقيل: ثمانية، وقيل: سبعة، وقيل: ستة. وولد عليه الصلاة والسلام، في الدار التي كانت لمحمد بن يوسف أخي الحجاج، ويقال: بالشعب. عام ولادته صلى الله عليه وسلم واختلف في عام ولادته - صلى الله عليه وسلم - فالأكثرون على أنه عام الفيل، ومن العلماء من حكى الاتفاق عليه، وقال: كل قول يخالفه وَهْمٌ. والمشهور أنه وُلِدَ بعد الفيل بخمسين يومًا، وإليه ذهب السهيلي في جماعة، وقيل: بعدها بخمسة وخمسين يومًا، وإليه ذهب الدمياطي في آخرين، وقيل: بشهر، وقيل: بأربعين يومًا، وقيل: بعد الفيل بعشر سنين، وقيل: قبل الفيل بخمس عشرة سنة، وقيل: غير ذلك. والمشهور أنه بعد الفيل؛ لأن قصة الفيل كانت توطئة لنبوته، وتقدمة لظهوره وبعثته، وإلا أصحاب الفيل كانوا نصارى أهل كتاب، وكان دينهم خيرًا من دين أهل مكة إذ ذاك؛ لأنهم كانوا عُبادَ أوثان، فنصرهم الله تعالى على أهل الكتاب نصرًا لا صنع للبشر فيه، إرهاصًا وتقدمة للنبي الذي خرج من مكة، عليه الصلاة والسلام. قلت: ولأجل كون قضية أصحاب الفيل إرهاصًا له - صلى الله عليه وسلم - سلط الله الحَجاج على الكعبة فخربها، ولم يَحْدُثْ فيه شىء، وذلك لأنّ الإرهاص إنما يحتاج إليه قبلَ ظهوره، عليه الصلاة والسلام؛ وأما بعد أن ظهر، وتأكدت نبوته بالدلائل القطعية، فلا حاجة إلى شىء من ذلك، كما أنه تعالى في آخر الزمان يُسلِّط عليها ذا السويقتين، رجل من الحبشة، ينقضها ويرميها في اليم حجرًا حجرًا، كما في الحديث الصحيح.

الشهر الذي ولد فيه

الشهر الذي وُلِدَ فيه واختلف في الشهر الذي ولد فيه، والمشهور أنه ولد في ربيع الأول وهو قول جمهور العلماء. ونقل ابن الجوزي الاتفاق عليه. وفيه نظر فقد قيل: في صفر، وقيل: في ربيع الآخر، وقيل: في رجب، ولا يصح، وقيل: في رمضان، ونقل عن ابن عمر، بإسناد لا يصح، وهو موافق لمن قال: إن آمنة حملت به في أيام التشريق. وأغرب من قال: ولد في عاشوراء. في أي يوم من الشهر ولد واختلف أيضًا في أي يوم وُلِدَ من الشهر، فقيل: إنه غير معين، إنما ولد يوم الاثنين من ربيع الأول من غير تعيين؛ والجمهورُ على أنه معين منه، فقيل: لليلتين خلتا منه، وقيل: لثمان خلت منه، وهو اختيارُ أكثر أهل الحديث، وأكثر من له معرفة بهذا الشأن، وقيل: لعشر خلت منه، وقيل: لاثنتي عشر، وقيل: لسبع عشرة، وقيل: لثمان عشرة، وقيل: لثمان بقين منه، وهذان القولان الأخيران غير صحيحين عمن حكيا عنه. والمشهور من هذا الخلاف أنهُ ولد ثاني عشر ربيع الأول، وإنما كانت ولادته - صلى الله عليه وسلم - في شهر ربيع الأول، ولم تكن في شيء من الأشهر ذوات الشرف؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يتشرف بالزمان، وإنما يتشرف به الزمان والمكان؛ فلو وُلِدَ في شهر من الشهور المشرفة، كرمضان وذي الحجة والمحرم ورجب، لتوهم أنه تشرَّف بها؛ فجعل الله تعالى مولده، عليه الصلاة والسلام في غيرها ليظهر عنايته به، وكرامته عليه، وإذا كان يوم الجمعة الذي خلق فيه آدم خص بساعة لا يصادفها عبد مسلم، يسأل الله فيها خيرًا إلا أعطاه إياه، فما بالك بالساعة التي ولد فيها سيد المُرسلين عليه الصلاة والسلام.

اليوم الذي ولد فيه

اليوم الذي ولد فيه واختلف في اليوم الذي ولد فيه، والصحيح أنه يوم الاثنين؛ فقد روى مسلم عن أبي قتادة الأنصاري "أنه - صلى الله عليه وسلم - سئل عن صيام يوم الاثنين: فقال: ذلك يَوْم وُلِدْتُ فيه، وأُنْزِلَتْ علَيَّ فيه النُّبوَّة" وهذا يدل على أنه عليه الصلاة والسلام، ولد نهارًا. وفي "المسند" عن ابن عباس قال: ولد - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين، وخرج مهاجرًا من مكة إلى المدينة يوم الاثنين، واستنبىء يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين، ورفع الحجر يوم الاثنين. وكذا فتحُ مكة، ونزول سورة المائدة يوم الاثنين، وقد روي أنه ولد يوم الاثنين، عند طلوع الفجر؛ فقد روى أبو بكر بن أبي شيبة، وأخرجه أبو نعيم في "الدلائل"، بسند فيه ضعف، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: كان بمر الظهران راهب يسمى عيصى من أهل الشام، وكان يقول: يُوشِك أن يُوْلَد فيكم يا أهل مكة مولود تدينُ له العرب، ويملك العجم، هذا زمانهُ، فكان لا يُولد بمكة مولود إلا يسأل عنه، فلما كان صبيحة اليوم الذي ولد فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج عبدُ المطلب حتى أتى عيصى، فناداه فأشرف عليه، فقال له: كن أباه؛ فقد وُلِدَ ذلك المولود الذي كنتُ أحدثكم عنه يوم الاثنين، ويُبعث يوم الاثنين، ويموت يوم الاثنين، قال: وُلِدَ لي الليلة مع الصبح مولود، قال: فما سميته؟ قال: محمدًا، قال: والله لقد كنت أشتهي أن يكون هذا المولودُ فيكم أهلَ هذا البيت بثلاث خصال تعرفه، فقد أتى علي منها طلع نجمه البارحة، وأنه وُلِدَ اليوم، وأن أسمه محمَّد. وقيل: كان مولده عليه الصلاة والسلام، عند الغَفْرِ، وهي ثلاثة أنجم صغار ينزلها القمر، وهو مولد النبيين، ووافق ذلك من الشهور الشمسية نيسان، وهو برج الحمل، وكان لعشرين مضت منه.

على أنه ولد ليلا

ولم يجعل الله تبارك وتعالى في يوم الاثين يوم مولده - صلى الله عليه وسلم - من التكاليف ما جعل في يوم الجمعة المخلوق فيه آدم من الجمعة والخطبة إكرامًا لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بالتخفيف عن أمته عناية بوجوده، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، من جملة ذلك عدم التكليف. على أنه ولد ليلًا وقيل: إنه - صلى الله عليه وسلم - وُلِدَ ليلًا، فروى الحاكم عن عائشة قالت: كان بمكة يهودي يتجر فيها، فلما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يا معشر قريش، هل وُلِدَ فيكم الليلة مولود؟ قالوا: نعم. قال: ولد الليلة نبي هذه الأمة الأخيرة، بين كتفيه علامة فيها شعرات متواتراتٌ، كأنها عَرْفُ فرس؛ فخرجوا باليهودي حتى أدخلوه على أمه، فقالوا: أخرجي لنا ابنك، فأخرجته، وكشفوا عن ظهره، فرأى تلك الشامة، فوقع اليهودي مغشيًا عليه. فلما أفاق قالوا: مالك ويلك، قال: ذهبت والله النبوة من بني إسرائيل. قال بدر الدين الزركشي: الصحيح أن ولادته كانت نهارًا، وأما ما روي من تدلي النجوم، فضعفه ابن دحية لاقتضائه أن الولادة ليلًا، قال: وهذا لا يصلح أن يكون تعليلًا؛ فإن زمان النبوة صالح للخوارق، ويجوز أن تسقط النجوم نهارًا. قلت: لا يحكم ببطلان الأحاديث إلا بدليلٍ قاطع على بطلانها، وتدلي النجوم ليلة ولادته ويكون هو عليه الصلاة والسلام إنما يُولد نهارًا تقدمة على ولادته ممكن غيرُ مُنافٍ لولادته نهارًا على ما هو الصحيح. فضل ليلة المولد على ليلة القدر وعلى القول بأنه - صلى الله عليه وسلم - وُلِدَ ليلًا؛ فهل ليلة ولادته أفضل أم ليلة القدر؟ والجواب: أن ليلة مولده عليه الصلاة والسلام، أفضلُ من ليلة القدر لثلاثة وجوه.

إرضاعه صلي الله تعالى عليه وسلم

الأول: هو أن ليلة المولد ليلة ظهوره، عليه الصلاة والسلام، وليلة القدر معطاة له، وما شرُف بظهور ذات المشرف من أجله أشرفُ مما شرف بسبب ما أُعطيه، ولا نزاع في ذلك؛ فكانت ليلة المولد بهذا الاعتبار أفضل. الثاني: أن ليلة القدر شرفت بنزول الملائكة فيها، وليلة المولد شرفت بظهوره، - صلى الله عليه وسلم - فيها؛ ومن شرفت به ليلة المولد أفضل ممن شرفت بهم ليلة القدر على ما هو المرتضى عند أهل السنة، فتكون ليلةُ المولد أفضل، مع أن ليلة القدر شرفت بنزولهم فيها، وليلة المولد شرفت بوجوده وظهوره فيها، وبين النزول والوجود فرق ظاهر. الثالث: أن ليلة القدر وقع التَّفضُّلُ بها على أمة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وليلة المولد وقع التفضل بها على سائر الموجودات؛ فقد بعثه الله تعالى رحمة للعالمين، فعمت به النعمة على جميع الخلائق؛ فكانت ليلة المولد أعم نفعًا، فكانت أفضل، فرحم الله تعالى من قال: يَقولُ لَنا لِسَانُ الحَالِ مِنْهُ ... وقَوْلُ الحَقِّ يَعْذُبُ للسَّميعِ فوَجْهي والزَّمانُ وشَهرُ وضْعِي ... رَبيعٌ في ربيعٍ في ربيعٍ إرضاعه صلي الله تعالى عليه وسلم ولما ولد، عليه الصلاة والسلام، كان أول من أرضعته ثويبة، أمة أبي لهب، ولما بشرته بولادته، عليه الصلاة والسلام، عتقها. وفي الأحاديث الصحاح أن أبا لهب رؤي في النوم، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: في النار إلا أنه خفف عني كل ليلة اثنين، وأمص من بين أصبعي هاتين ماء، وأشار إلى النُّقرة التي بين الإبهام والسبابة، وذلك بإعتاقي لثويبة، عندما بشرتني بولادة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإرضاعها له. قال ابن الجزري: فإذا كان هذا أبو لهب الكافر الذي نزل القرآن بذمه جوزيَ بفرحه بمولد النبي - صلى الله عليه وسلم - فما حالُ الموحد من أمته الذي يُسَرُّ

رد حليمة له إلى أمه صلى الله عليه وسلم

بمولده، ويبذُلُ ما تصل إليه قدرته في محبته، عليه الصلاة والسلام، لعمري إنما يكون جزاؤه من الله الكريم أن يدخله بفضله جنات النعيم. قلت: ولأجل هذا المعنى ما زال المسلمون يُعظِّمون المولد الشريف، جاعلين له عيدًا أعظم من كل عيد، وهو حقيقٌ بذلك وجدير. وأرضعت ثويبة معه - صلى الله عليه وسلم - حمزة بن عبد المطلب، وأبا سلمة بن عبد الأسد، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُكرمها، وكانت تدخل عليه بعد أن تزوج خديجة، فكانت خديجة تُكرمها، وكان يبعث إليها من المدينة بكسوة وصلة إلى أن ماتت بعد فتح خيبر فبلغته - صلى الله عليه وسلم - وفاتها؛ فسأل عن ولدها مسروح الذي أرضعته بلبنه، فقيل له: قد مات، ثم سأل عن قرابتها، فقيل له: لم يبق منهم أحد. ثم بعد ثويبة كان استرضاعه في بني سعد بن بكر، أرضعته حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية وما رأته حليمة من الخوارق من يوم أرضعته شهير كثير جدًا، من دَرٍّ شارفها، ونطق أتانها، وخِصب غنمها، وكثرة لبنها، وغير ذلك مما لا يُحصى، وكانت تقول في ترقيصها له عليه الصلاة والسلام. يا ربِّ إذ أعطيتَه فأبْقِهِ وأَعْلِهِ إلى العُلى وأَرقِهِ وادْحَضْ أباطيلَ العِدا بِحَقِّه وكانت الشيماء أخته من الرضاعة تقول. هذا أخٌ لي لَمْ تَلِدْه أُمِّي ... ولَيس مِنْ نَسلِ أبي وعمِّي فديته مِنْ مخولٍ مُعِمِّ ... فأَنْمِهِ الَّلهُمَّ فِيما تَنْمي رد حليمة له إلى أمه صلى الله عليه وسلم وأخبار إرضاع حليمة له شهيرة، ثم ردته حليمة إلى أمه بعد خمس سنين ويومين من مولده، وذلك سنة ست من عام الفيل. ولما بلغ ستَّ سنين خرجت به أمه إلى أخواله بني عدي بن النجار بالمدينة تزورهم،

موت أمه آمنة صلى الله تعالى عليه وسلم

ومعه أم أيمن، فنزلت به دار التبابعة، فأقامت عندهم شهرًا، فكان - صلى الله عليه وسلم - يذكر أمورًا كانت في مقامه ذلك، ونظر إلى الدار، فقال: ها هنا نزلت بي أمي، وأحسنتُ العوم في بئر بني عدي بن النجار، وكان قوم من اليهود يختلفون، ينظرون إلي، فقالت أم أيمن: سمعت أحدهم يقول: هو نبي هذه الأمة، وهذه دار هجرته، فوعيت ذلك كله من كلامهم، ثم رجعت به أمه إلى مكة، فلما كانت بالأبواء توفيت. موت أمه آمنة صلى الله تعالى عليه وسلم قالت أسماء بنت رهم عن أمها: شهدت آمنة أمَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - في علتها التي ماتت فيها، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - عند رأسها، وهو ابن خمس سنين، فنظرت إلى وجهه فقالت: بارَكَ ربِّي فيكَ مِن غُلام ... يا ابنَ الذي من حَوْمَةِ الحمام تبايعوا في الملك النعام ... فُودِيَ غَداةَ الضَّربِ بالسِّهامِ بمائةٍ مِن إبلٍ سَوَام ... إن صَحَّ ما أبصرتُ في المَنَامِ فأَنْت مبعوثٌ إلى الأنام ... مِن عند ذي الجلالِ والإكرامِ تُبعَثُ في الحِلِّ وفي الحَرام ... تُبْعَثُ في التحقيق والإِسلام دين أبيكَ البَرِّ إبراهامِ ... فالله أنهاك عن الأَصْنامِ أن لا تواليها مع الأقوامِ ثم قالت: كُلُّ حي ميت، وكُلُّ جديد بال، وكُلُّ كثير يفنى، وأنا ميتة، وذكري باق، وقد تركتُ خيرًا، وولدتُ طهرًا، ثم ماتت، وكنا نسمع نوحَ الجن عليها، فحفظنا من ذلك هذه الأبيات: نَبْكي الفَتاةَ البَرَّةَ الأمينَهْ ... ذاتَ الجَمال العَفَّةَ الرَّزينَهْ زوجَةَ عبدِ الله والقَرينهْ ... أم نبيِّ اللهِ ذي السَّكينهْ وصاحِبِ المنبرِ بالمَدينهْ ... صارت لدى حَضرتها رَهينَهْ

موت جده عبد المطلب

وكونها ماتت بالأبواء، وهو ابنُ ست سنين، هو الصحيح، وقيل: ماتت وهو ابن أربع، وقيل خمس، وقيل: سبع، وقيل: تسع، وقيل: اثنتي عشرة سنة وشهر، أو عشرة أيام، وقيل: ماتت بشعب أبي ذئب بالحَجُون. وفي "القاموس": ودار رائعة بمكة فيها مدفن آمنة أم النبي - صلى الله عليه وسلم - وكانت أمُّ أيمن بَركةُ دايتَه، وحاضِنته بعد موت أمه، وكان عليه الصلاة والسلام يقول لها: أنتِ أُمي بعد أمي. موت جده عبد المطلب ثم لما بلغ ثمان سنين أو ثمانيًا وشهرًا وعشرة أيام، أو تسع سنين، أو عشرًا على الخلاف، مات جده عبد المطلب، وله عشرة ومائة سنة، وقيل: مائة وأربعون سنة. وكفله بعده أبو طالب، واسمه عبد مناف، وكان عبد المطلب قد أوصاه بذلك، لكونه شقيق عبد الله، فصار في حجر عمه أبي طالب، وكان يحبه حتى إذا بلغ خمس عشرة سنة انفرد بنفسه. قصة بحيرى الراهب ولما بلغ - صلى الله عليه وسلم - اثنتي عشرة سنة، أو ثلاث عشرة، خرج في تجارة مع عمه أبي طالب، حتى بلغ بصرى، فرآه بحيرى الراهب -بفتح الموحدة، وكسر الحاء، بعدها ياء، ثم راء وألف مقصورة- واسمه جرجيس، فعرفه بصفته، فقال: وهو آخذ بيده: هذا سيدُ العالمين، هذا يبعثه الله رحمةً للعالمين، فقيل له: فما علمك بذلك؟ قال: إنَّكم حين أشرفتم به من العقبة، لم يبق شجر ولا حجرٌ إلا وخر ساجدًا، ولا يسجدان إلا لنبي، وإني أَعرفُه بخاتم النبوة في أسفَل من غُضرُوف كتفه مثلَ التفاحة، وإنا نجده في كتبنا، وسأل أبا طالب أن يردَّه خوفًا عليه من اليهود. والحديث أخرجه ابن أبي شيبة وفيه: أنه، عليه الصلاة والسلام، أقبل وعليه غمامة تظله، وعند البيهقي، وأبي نعيم: أن بحيرى رآه وهو في صومعته في الركب حين أقبلوا، وغمامة بيضاء تظله من بين القوم، ثم أقبلوا حتى نزلوا بظل شجرة قريبًا منه، فنظر إلى الغمامة حين أظلت

قصة نسطورا الراهب

الشجرة، وتهصرت أغصان الشجرة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى استظل تحتها ..... الحديث. وفيه أن بحيرى قام واحتضنه، وأنه جعل يسأله عن أشياء من حاله، من نومه، وهيئته، وأموره، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخبره، فيوافق ذلك ما عنده من صفته، ورأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التي عنده. وخرج الترمذي وحسنه، والحاكم وصححه: أن في هذه السفرة أقبل سبعة من الروم يقصِدُون قتله - صلى الله عليه وسلم - فاستقبلهم بحيرى؛ فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: إن هذا النبي خارج في هذا الشهر، ولم يبق طريق إلا بعث إليها بأناس، قال: أفرأيتم أمرًا أراد الله أن يقضيه، هل يستطيع أحد من الناس رده؟ قالوا: لا، قال: فبايعوا، وأقاموا معه، وردَّه أبو طالب، وبعث معه أبو بكر بلالا. وضعف الذهبي هذا الحديث، لقوله في آخره: "وبعث معه أبو بكر بلالا، فإن أبا بكر إذ ذاك لم يكن متأهلًا ولا اشترى بلالا. قال ابن حجر في "الإصابة": الحديث رجاله ثقات: وليس فيه ما ينكر سوى هذه اللفظة، فتحمل على أنها مدرجة مقتطعة من حديث آخر، وهمًا من أحد رواته. قصة نسطورا الراهب ثم خرج - صلى الله عليه وسلم -، ومعه ميسرة، غلام خديجة ابنة خويلد بن أسد، في تجارة لها، حتى بلغ سوق بصرى، أو سوق حباشة، وله إذ ذاك خمس وعشرون سنة، لأربع عشرة ليلة، بقيت من ذي الحجة، فنزل تحت ظل شجرة، فقال نسطورا الراهب: ما نزل تحت ظل هذه الشجرة إلا نبي، وفي رواية: بعد عيسى. وكان ميسرة يرى في الهاجرة ملكين يُظلانه من الشمس، ولما رجعوا إلى مكة في ساعة الظهيرة، وخديجة في عِلِّيَةٍ لها، فرأت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على بعيره، وملكان يُظللان عليه. أخرجه أبو نعيم. وتزوج - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك بشهرين وخمسة وعشرين يومًا -وقيل: سنة إحدى وعشرين، وقيل: سنة ثلاثين- خديجة، وكانت تُدعى في الجاهلية

وقت البعثة

بالطاهرة. وقد استوفينا ترجمتها، وتزويجه بها في كتاب بدء الوحي من هذا الكتاب، ثم شهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنيان الكعبة، وتراضت قريش بحكمه في موضع الحجر بعد ذلك بعشر سنين، وذلك سنة ثلاث وثلاثين، وقال محمَّد بن جبير: بنيت الكعبة على رأس خمس وعشرين من عام الفيل، وقيل: بل كان بين بنيان الكعبة، ومبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - خمس سنين. وقت البعثة ولما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعين سنة، وقيل: وأربعين يومًا، وقيل: وعشرة أيام، وقيل: وشهرين، يوم الاثنين، لسبع عشرة، خلت من رمضان، وقيل: لسبع، وقيل: لأربع وعشرين ليلة. وقال ابن عبد البر: يوم الاثنين، لثمان من ربيع الأول، سنة إحدى وأربعين من الفيل. وقيل: في أول ربيع، بعثه الله تعالى رحمة للعالمين، ورسولًا إلى كافة الناس أجمعين، وقولُ بعض العلماء تنبأه الله تعالى، وهو ابن أربعين، المراد به بعثه وإرساله للناس، لا أصل النبوة، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان نبيًا وآدم منجدلٌ في طينته، وولد نبيًا، وقد حررنا ذلك في أول "الفتوحات الربانية". ولما أوحى الله إليه، عليه الصلاة والسلام، أسرَّ أمره ثلاث سنين أو نحوها. ثم أمره عَزَّ وَجَلَّ بإظهار دينه، والدعاء إليه، فأظهره بعد ثلاث سنين من مبعثه. وأخرج ابن عبد البر، وأحمد بن حنبل عن الشعبي قال: أُنزلت عليه النبوة، وهو ابن أربعين سنة، فقرن بنبوته إسرافيل، عليه السلام، فكان يعلمه الكلمة والشيء، ولم ينزل عليه القرآن على لسانه، فلما مضت ثلاث سنين، قرن بنبوته - صلى الله عليه وسلم -، جبريل، عليه الصلاة والسلام، فنزل القرآن على لسانه عشرين سنة. ولما دعا قومه إلى دين الله تعالى لم يبعدوا منه، ولم يردوا عليه حتى ذكر آلهتهم، وعابها، وكان ذلك في سنة أربع، فأجمعوا على خلافه، وعداوته إلا من عصمه الله تعالى منهم بالإِسلام.

وحَدَبَ عليه عَمُّه أبو طالب، ومنعه، وقام دونه، واشتدت العداوةُ، وتذامرت قريش على تعذيب من أسلم، وافتتانه، ومنع الله رسوله بعمه أبي طالب، وبني هاشم، غير أبي لهب، وبني المطلب؛ واجتمعت قريش، وطلبت من أبي طالب أن يسلم لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لهم: حين تروح الإِبل، فإن حنت ناقة على غير فصيلها، دفعته لكم، وقال: واللهِ لَنْ يَصِلوا إليكَ بجَمعهمْ ... حَتى أُوَسَّدَ في التُّراب دَفينَا فاصْدَعْ بأَمرِكَ ما عليكَ غَضاضةً ... وابشرْ وَقَرَّ بذاكَ مِنْكَ عُيونا ودَعَوْتني وزَعَمْتَ أَنك ناصحي ... ولَقد صَدَقْتَ وكُنْتَ ثَمَّ أمينا وعَرَضْتَ دينًا لا مَحَالَة أنَّه ... مِنْ خَيرِ أَديانِ البَرِيَّةِ دِينا وحاصرت قريش النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأهل بيته بني هاشم، ومعهم بنو المطلب في الشعب بعد المبعث لست سنين، فمكثوا في ذلك الحصار ثلاث سنين، وخرجوا منه في أول سنة خمسين من عام الفيل. وتوفي أبو طالب بعد ذلك بستة أشهر، وتوفيت خديجة بعده بثلاثة أيام، وقيل: بسبعة، وقيل: بشهر وخمسة أيام، وتوفي أبو طالب، وهو ابن بضع وثمانين سنة، وتوفيت خديجة وهي بنت خمس وستين سنة؛ فكان مكثُها مع النبي - صلى الله عليه وسلم - خمسًا وعشرين سنة. وتوالت على النبي - صلى الله عليه وسلم - مصيبتان بوفاة عمه، ووفاة خديجة. وقد استوفينا في كتاب الاستسقاء ما قيل في أبي طالب، حيث جاء ذكره هناك وكان أبو طالب قد أسلم ولده عليًا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك أن قريشًا أصابتهم أزمةٌ شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثير، فقال النبي، عليه الصلاة والسلام، لِعمه العباس، وكان من أيسر بني هاشم: يا عباس، إن أخاك أبا طالب كثير العيال، فانطلق بنا، فلنخفف عنه من عياله، فقال: نَعَمْ، فانطلقا حتى أتيا أبا طالب وقالا له: إنا نُريد أن نخفف من عيالك حتَّى يكشِفَ الله عن الناس ما هم فيه، فقال لهما أبو طالب: إذا تركتما لي عقيلًا فاصنعا ما شئتما، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليًا، وضمه إليه، وأخذ العباس جعفرًا وضمه إليه، ولم يزل علي

مخرجه إلى المدينة

مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أن بعثه الله تعالى وآمن به، وإلى أن زوجه ابنته، فاطمة الزهراء، ولم تمت خديجة فيما ذكره ابن إسحاق وغيره إلا بعد الإسراء، وبعد أن صلت الفريضة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولما توفي أبو طالب وخديجة، خَرَجَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف، ومعه زيدُ بن حارثة، يطلب منهم المنَعَةَ، فأقام عندهم شهرًا، ولم يجد فيهم خيرًا، ثم رجع إلى مكة في جوار المطعم بن عدي، وكان ذلك سنة إحدى وخمسين من الفيل. وكان بين الإسراء واليوم الذي هاجر فيه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة سنة وشهران، وكان مكثُه - صلى الله عليه وسلم - بمكة بعد مبعثه صابرًا على أذى قريش، وتكذيبهم له، داعيًا إلى الله تعالى إلى أن أَذِنَ له في الهجرة إلى المدينة، وذلك بعد أن بايعه وجُوْهُ الأوس والخزرج، بالعقبة، على أن يُؤووه وينصروه، حتى يُبَلِّغَ عن الله تعالَى رسالته، ويُقاتِلَ من عانده، وخالفه، فهاجر إلى المدينة، وكانت بيعة العقبة أواسط أيام التشريق في ذي الحجة. مخرجه إلى المدينة وكان مخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة بعد العَقَبَة بشهرين وليال، كما قال ابن إسحاق، وابن عبد البر، وقال الحاكم: بثلاثة أشهر أو قريبًا منها، وخرج لهلال ربيع الأول من مكة، وقدم المدينة لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، قال في "الفتح": وعلى هذا خروجه كان يوم الخميس، وقال الحاكم: إن خروجه كان يوم الاثنين، ودخوله المدينة كان يوم الاثنين. ويجمع بينهما بأن خروجه من مكة كان يوم الخميس، وخروجه من الغار كان ليلة الاثنين، لأنه أقام فيه ثلاث ليال، ليلة الجمعة، وليلة السبت، وليلة الأحد، وخرج أثناء ليلة الاثنين، وأمره جبريل أن يستصحِبَ معه أبا بكر، ولم يرافقه غيره من أصحابه فيها، وكان يخدمهما في ذلك السفر عامرُ بن فهيرة. وحديث هجرتهما أخرجه البخاري وغيره.

مكثه بمكة بعد البعثة

مكثه بمكة بعد البعثة وكان مكثه بمكة بعد أن بعثه الله تعالى ثلاث عشرة سنة، وقيل: عشر سنين، وقيل: خمس عشرة سنة، والأول أشهر قال صرمة: ثَوى في قُريشٍ بِضْعَ عشرة حِجَةً ... يُذَكِّرُ لَو يلْقى صَديقًا مُوافيًا قدومه المدينة وكان عند هجرته ابن ثلاث وخمسين سنة، وقدم المدينة يوم الاثنين على الصحيح قريبًا من نصف النهار في الضحى الأعلى، لاثنتي عشرة ليلة خَلَتْ من ربيع الأول، وكان عامر بن فُهيرة مولى أبي بكر الصديق يرعى عليهما مِنْحَةً مِن غنم، فيُريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء لياليهما في الغار، فيبيتان على رِسْلٍ -وهو لبنٍ- منحتهما، وكان أبو بكر، رضي الله تعالى عنه، استأجر عبد الله بن الأُرَيْقط دليلًا، وهو على دين كفار قريش، ودفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال، فأتاهما براحلتيهما صُبْحَ ثلاث، ولم يُعرف له إسلام، وانطلق معهم الدليل هذا وعامر بن فُهيرة، وكان عبد الله بن أبي بكر يبيت عندهما لياليهما في الغار، ويأتيهما بما تتحدث به كفار قريش، ويُدْلِجُ من عندهما بِسَحَرٍ، ويكون كبائت بمكة، ونزلا عند قدومهما المدينة على أبي قَيْس كُلثوم بن الهِدْم بن امرئ القيس في حديث عمرو بن عوف، فأقاما عنده أربعة أيام، وقيل: بل كان نزوله في بني عمرو بن عوف على أبي خَيْثَمة، والأول أكثر، فأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بني عمرو بن عوف يوم الاثنين، والثلاثاء، والخميس، وأسس مسجدهم، وخرج يوم الجمعة منتقلًا إلى المدينة، حتى مر ببني سالم لوقت الجمعة، فصلاها بهم في بطن الوادي، وهي أول جمعة جمعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، ثم ركب ناقته لا يحركها، ويقول: دعوها فإنها مأمورة، فمشت حتى بركت في موضع مسجده الذي أنزله الله فيه في بني النجار، فنزل عشية الجمعة سنة ثلاث وخمسين من عام الفيل، وأُرِّخَ التاريخ من مَقْدِمه

قيامه بالمدينة

المدينة في زمان عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، آخى بين المهاجرين والأنصار بعد مقدمه بخمسة أشهر، ونزل عند أبي أيوب الأنصاري، ولم يزل عنده حتى بنى مسجده ومساكنه، ثم انتقل عنه، وذلك في السنة الأولى من الهجرة. قيامه بالمدينة وأقام بالمدينة عشر سنين، وبدأ مرضه الذي مات منه يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من صفر سنة إحدى عشرة في بيت مَيْمونة، ثم انتقل حين اشتد وجعُه إلى بيت عائشة، وقُبِضَ عليه الصلاة والسلام يوم الاثنين ضحى، في الوقت الذي دَخَلَ فيهَ المدينة، لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة، ودفن يوم الثلاثاء حين زاغت الشمس، وقيل: بل دُفن ليلة الأربعاء. عدد غزواته وسراياه صلى الله عليه وسلم وكانت غزواته - صلى الله عليه وسلم - مدة إقامته بالمدينة ستًّا وعشرين، وقيل: سبعًا وعشرين، قاتل في تسع منها بنفسه الشريفة. وسراياه وبعوثه سبعة وأربعون. وأول مغازيه - صلى الله عليه وسلم - الأبواء، وقيل: إن ودّان مرادفة لها، وقيل: متغايرتان، وأول بعوثه بعث حمزة بن عبد المطلب بعثه إلى سيف البحر في ثلاثين راكبًا، يعترض عيرًا لقريش، فكان أول من غزا في سبيل الله، وأول من عقدت له راية في الإِسلام. ثم سرية عُبَيْدة بن الحارث كانت قبل سرية حمزة، وقيل إنهما كانتا معه. وِاعتمر - صلى الله عليه وسلم - ثلاث عمر وفي قول من جعله في حجته قارنًا: أربع عمر، وافتُرِض عليه الحج وسائر الفرائض بالمدينة إلا الصلاة، فإنها افترضت عليه ليلة الإسراء، وهو بمكة، ولم يَحُجَّ - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة غير حجته الواحدة، حجة الوداع، وذلك في سنة عشر من الهجرة. وحرم عليه جميع ما حرم بالمدينة المنورة.

سنه عليه الصلاة والسلام

سِنه عليه الصلاة والسلام واختلف في سِنه يوم قُبِضَ، فقيل: ثلاث وستون، وهو الصحيح، وقيل: ستون، وقيل: خمس وستون. أزواجه عليه الصلاة والسلام وتزوج - صلى الله عليه وسلم - عددًا كثيرًا من النساء، وخُص من ذلك دون أمته بجمع أكثر من أربع، وأُحِلَ له منهن ما شاء، والمُجمع عليه من نسائه إحدى عشرة امرأة، جمعها بعض العلماء في بيت مشيرًا بالحرف الأول من كل كلمة إلى الحرف الأول من اسم إحداهن، مُرَتبًا لهن على ترتيب تزويجه عليه الصلاة والسلام بهن فقال: خَليليَّ سَبَى عَقْلي حُلى زَيْنِ هَالَةٍ ... زَهَا جَفْنها رَمْزًا صَحيحًا مُهَذّبا الخاء لخديجة بنت خويلد، والسين لسَوْدة بنت زَمْعة، والعين لعائشة بنت أبي بكر الصديق، والحاء لحَفْصة بنت عمر بن الخطاب، والزاي الأولى لزينب بنت خُزَيْمة، والهاء لهند بنت أبي أمية، والزاي الثانية لزينب بنت جحش، والجيم لجُوَيْرية بنت الحارث المُصْطَلِقيَّة، والراء لرَمْلة بنت أبي سفيان، والصاد لصَفِيّة بنت حُيَيّ بن أخطب، والميم لمَيْمونة بنت الحارث الهِلالية. ولم يمت في حياته - صلى الله عليه وسلم - منهن سوى اثنتين، خديجة بنت خُويلد، وزينب بنت خُزَيْمة، وتُوفي عليه الصلاة والسلام عن تسع نسوة جمعها القائل في قوله: تُوفي رسولُ اللهِ عن تِسْع نِسْوَةٍ .. إليْهنَّ تُعْزى المُكْرماتُ وتُنسَبُ فعائِشةٌ وحَفْصَةٌ ثُمَّ سَوْدَةٌ ... ورَمْلةٌ تتْلوهُنَّ هِنْدٌ وزَينَبُ جُوَيْريَّة مَيْمونَةٌ وصَفِيَّةٌ ... فخُذ هؤلاء نَظْمُهُّنَ مُهَذَّبُ ويأتي إن شاء الله تعالى تعريف كُلِّ واحدة منهن عند ذكرها في

أولاده عليه الصلاة والسلام

صحيح البخاري، ست منهن من قريش، وواحدة من بني إسرائيل من وَلَدِ هارون، عليه الصلاة والسلام، وأربع من سائر العرب. هذه الإِحدى عشرة هي المُجْمَعُ عليها، وأما المختلف فيهن ممن ابْتَنَى بها وفارَقَها، أو عَقَدَ عليها ولم يَدخل بها، أو خَطَبَها ولم يَتِمَّ له العقد عليها، فقد اختلف فيهن، وفي أسباب فراقهن اختلافًا كثيرًا يوجب التوقف عن القطع بالصحة في واحدة منهن، وإذا جاء في البخاري إيماءٌ لواحدة منهن عرفناها إن شاء الله تعالى. أولاده عليه الصلاة والسلام وأما أولاده عليه الصلاة والسلام، فأربع بنات بلا خِلاف، زينب وهي أكبرهن، ورُقَيَّة، وأم كلثوم، وفاطمة الزهراء، ويأتي تعريف كل واحدة منهن إن شاء الله تعالى، عند ذكر البخاري لها ولو بالإِيماء والإشارة. وله - صلى الله عليه وسلم - من الذكور ثلاثة على الصحيح: القاسم وهو أكبرُ ولده، وبه كُنِيَ عليه الصلاة والسلام، وعبد الله ويُلقب بالطيب، والطاهر، لأنه ولد بعد المبعث، والثالث إبراهيم، وقيل: أربعة، القاسم، والطيب، وعبد الله وهو الطاهر، وإبراهيم. وجميع ولده من خديجة إلا إبراهيم، فإنه من مارية القِبْطِيَّة. ونظم بعضُهم أولاده مُرَتبًا لهم على الصحيح في الولادة فقال: فأَوَّلُ وُلْدِ المُصطفى قاسِمُ الرِّضا ... به كُنِّي المُختارُ فافْهَم وحَصِّلا وزَينَبُ تَتلوهُ رُقَيَّةُ بَعدها ... كذا أُمُّ كُلثومٍ تُعَدُّ على الولا وفاطِمَةُ الزَّهراءُ خَتْمُ بناتِهِ ... بالاسلامِ عبْد الله جاء مُكَمِّلا وكُلُّهمُ كانوا لَهُ مِنْ خَديجةٍ ... وقَدْ جاءَ إبراهيمُ في طَيْبَةٍ تَلا مِنَ المَرأةِ الحَسناءِ مارِيةٍ فقُلْ ... علَيْهِم سَلَام اللهِ مِسْكاً ومَنْدَلا

أسماؤه عليه الصلاة والسلام

أسماؤه عليه الصلاة والسلام وكان له - صلى الله عليه وسلم - أسماء وصفات، جاءت عنه في أحاديث شتى، بأسانيد صحاح وحسان. ففي صحيح البخاري عن جُبَيْر بن مُطْعِم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لي خمسة أسماء، أنا محمَّد وأحمد، وأنا الماحِي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشِر الذي يُحشر الناس على قدمي وأنا العاقِب". وفي "فتح الباري" عن ابن دِحية، قال: أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم - عدد أسماء الله الحسنى تسعة وتسعون اسمًا، قال: ولو بحث باحث عنها لبلغت ثلاث مئة اسم. وقال ابن العربي في "شرح الترمذي" عن بعض الصوفية: إن لله ألف اسم، ولرسوله ألف اسم، والذي يظهر في اقتصاره على الخمسة المذكورة في الحديث أنه أراد أن لي خمسة أسماء اختص بها، لم يُسَم بها أحد قبلي، أو معظمة، أو مشهورة في الأمم الماضية، لا أنه أراد الحصر فيها. قال عياض: حمى الله هذه الأسماء أن يُسمى بها أحدٌ قبله، وإنما تسمَّى بعض العرب محمدًا قُربَ ميلاده لما سمعوا من الكهان والأحبار أن نبيًا سيُبعث في ذلك الزمان، يسمى محمدًا، فرجوا أن يكونوا هو، فسموا أبناءهم بذلك، قال: وهم ستة لا سابع لهم، وتعقبه في "فتح الباري" وأوصلهم إلى خمسة عشر نفسًا، فراجعه إن شئت. معنى محمَّد ومحمد اسم مفعول من باب التَّفْعيل، منقول من صفة الحمد، وهو بمعنى محمود، وفيه مبالغة. وأخرج البخاري في "التاريخ الصغير" عن علي بن زيد قال: كان أبو طالب، يقول: وشَقَّ لهُ مِن اسْمِهِ لَيُجِلَّهُ ... فَذُو العرْشِ مَحمودٌ وهذا مُحَمَّدُ

معنى أحمد

والمحمد: الذي حُمِدَ مرة بعد مرة كالممُدّح، قال الأَعشى: إلَيكَ -أَبَيْتَ الَّلعْنَ- كانَ وجِيفُها ... إلى الماجِدِ القوْمِ الجَوَادِ المُحَمَّدِ أي: الذي حُمِدَ مرة بعد مرة أو الذي تكاملت فيه الخِصال المحمودة. قال عِياض: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحمد قبل أن يكون محمدًا، كما وقع في الوجود، لأنّ تسميته أحمد وقعت في الكتب السالفة، وتسميته محمدًا وقعت في القرآن العظيم، وذلك أنه حَمِدَ ربه قبل أن يَحمده الناس، وكذلك في الآخرة يحمد ربه، فَيُشَفِّعُهُ، فيَحْمَدُه الناس، وقد خُصَّ بسورة الحمد، ويلائمه الحمد، وبالمقام المحمود، وشُرعَ له الحمد بعد الأكل، وبعد الشرب، وبعد الدعاء، وبعد القدوم من السفر، وسميت أمته الحمادين، فجمعت له معاني الحمد وأنواعه - صلى الله عليه وسلم -. قلت: قول عِياض: إنه عليه الصلاة والسلام كان أحمد قبل أن يكون محمدًا، غير ظاهر بالنسبة إلى ما في الكتب السالفة والقرآن، لأنّ ما في الجميع كلام الله تعالى، وهو قديم أزلي، فكان من حقه أن يجعل من ذلك بالنسبة إلى الظهور للبشر، لا بالنسبة للمعنى القديم، والله تعالى أعلم. معنى أحمد وأما أحمد، فهو من باب التفضيل، وقيل: سمي أحمد لأنه علم منقول من صفة، وهي أفعل التفضيل، ومعناه: أحمد الحامدين، وسبب ذلك ما ثَبَتَ في "الصحيح" أنه يُفتح عليه في المقام المحمود بمحامد لم يُفْتح بها على أحد قبله، وقيل: الأنبياءُ حمّادون، وهو أحمدهم، أي أكثرهم حمدًا، أو أعظمهم في صفة الحمد. وما مر من كَوْن "وشق له من اسمه ليجله" من قول أبي طالب خلاف ما ذكره في "المواهب اللدنية" من كونه لحسان بن ثابت، وذكر قبله بيتين:

خاتم النبوة

أَغَرُّ عَليِه لِلنُّبُوَّةِ خاتَمٌ ... مِنَ الله مِنْ نُورٍ يَلُوحُ ويَشْهَدُ وضَمَّ الإله اسمَ النَّبِيِّ إلى اسمِهِ ... إذا قال في الخَمْسِ المؤذِّنُ أَشْهَدُ والذي يظهر أنه من شعر حسان، لا من شعرِ أبي طالب، اللهم إلا أن يكون حسان ضمنه في شعره، ولم يظهر ذلك من نَسْجه. خاتَم النُّبُوّة ومن أعلام نبوته خاتم النبوة، ففي صحيح البخاري عن السّائب بن يزيد، قال: ذهبت بي خالتي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله! إن ابن أُختي وَقَعَ، فمسح رأسي، ودعا لي بالبركة، وتَوَضَّأَ، فشربت من وضُوئه، ثم قمت خلفَ ظهره، فنظرت إلى خاتَم النبوة بين كتفيه. قال ابراهيم بن حمزة: مثل زِرِّ الحَجَلة، والصحيح أن المراد بالحَجَلة هنا الشكلة التي تعلق على السرير، ويزين بها للعريس كالبشخانات، والزِّر على هذا حقيقة، لأنها تكون ذات أزرار وعُرى. وقد وردت في صفة خاتَم النبوة أحاديث متقاربة، منها عند مسلم عن جابر بن سَمُرة: كأنه بَيْضَةُ حمامة، وفيه أيضًا: جمع عليه خِيلان كأنها الثآليلُ السود عند نُغْضِ كتفه، ورُوي: غُضروفِ كتفه اليسرى، وفي "صحيح" الحاكم: شعرٌ مجتمع، وفي "البيهقي": مثل السِّلعة. وفي "الشمائل": بَضعة ناشِزة. وفي "الترمذي"، و"دلائل" البيهقي: كالتفاحة. وفي "الرَّوْض" كأنها المِحْجمة القابضة على اللحم. قال في "الفتح": وما ورد من أن الخاتم كان كأثر المِحْجم، أو كالشّامَة السوداء أو الخضراء، مكتوب عليها محمَّد رسول الله، أو سر فإنك المنصور لم يثبُت منه شيء، ولا يُغْتُّر بما وقع من تصحيح ابن حبان لذلك، فإنه غفلةٌ منه. قال القُرْطُبِيُّ: الأحاديث الثابتة دالة على أن خاتم النبوة كان شيئًا بارزًا أحمر، عند كتفه الأيسر إذا قلل قدر بيضة الحمامة، وإذا كبر جمع

الكف، وقال القاضي عياض: وهذه الروايات متقاربة متفرقة متفقة على أنه شاخِص في جسده قدر بَيْضة الحمامة وزِرِّ الحَجَلة. وأما رواية جمع الكف فظاهرها المخالفة، فَتُتَأَوَّل على وفق الروايات الكثيرة، ويكون معناه على هيئة جمع الكف، لكنه أصغر منه في قدر بيضة الحمامة. وهذا الخاتم هو أثر ختم الملكين بين كتفيه لما شقا صدره الشريف، وخاطباه، وعلى هذا يكون وضع بعد ولادته، وهو الصحيح من القولين، ويدل عليه حديث أبي ذَرٍّ عند البَزّار وغيره، قال: قلت: يا رسول الله! كيف علمت أنك نبي .... إلخ، وفيه: "ثم قال أحدهما لصاحبه: خِطْ بطنه فخاط بطني، وجعل الخاتم بين كتفي، كما هو الآن، ووليا عني". وحديث عائشة عند أبي داود الطَّيالِسيّ، والحارث بن أبي أسامة، و"الدلائل" لأبي نُعيم: أن جبريل وميكائيل لما تراءيا له عند المَبْعث، هبط جبريل، فسلقني لحلاوة القَفا، ثم شق عن قلبي فاستخرجه، فغسله في طَسْت من ذهب بماء زَمْزم، ثم أعاده مكانه، ثم لأَمَهُ، ثم ألقاني، وختم في ظهري حتى وجدت مس الخاتم في قلبي، وقال: اقرأ ... الحديث، وقيل وضع عليه عند الولادة؛ فعند أبي نعيم في "الدلائل" أنه - صلى الله عليه وسلم - لما ولد ذكرت أمه أن الملك غمسه في الماء والذي أنبعه ثلاث غمسات، ثم أخرج سرقَة من حرير أبيض، فإذا فيها خاتم، فضرب على كتفه كالبيضة المكنونة تضيء كالزهرة، وقيل: ولد به، نقله أبو الفتح اليَعْمُرِي، والأولى أثبت، قال العلماء: السر في كونه بين الكتفين هو أن القلب في تلك الجهة وقد ورد في خبر مقطوع أخرجه ابن عبد البر، بسند قوي، عن عمر بن عبد العزيز وصاحبه الفائق في "مصنفه" أن رجلًا يسأل ربه أن يريه موضع الشيطان، فرأى الشيطان في صورة ضفدع عند نُغْض كتفه الأيسر، حذاء قلبه، له خرطوم كالبعوضة. وعند أبي يَعْلى، وابن عَدِيّ عن أنس مرفوعًا: "إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم." الحديث، وأورده أبو بكر في كتاب "الشريعة" أن عيسى بن مَرْيم، عليه الصلاة والسلام، سأل ربه أن يريه موضع الشيطان

تنبيه

من ابن آدم، فإذا برأسه مثل الحية، واضع رأسه على ثمرة القلب، فإذا ذكر العبد ربه خَنَس، وإذا غَفَلَ وسوس. واختلف هل خاتم النبوة خاصٌ بنبينا - صلى الله عليه وسلم -؟ أو لكل نبي خاتم؟ فقد أخرج الحاكم في "المستدرك" عن وهب بن مُنَبِّه. قال: لم يبعث الله نبيًا إلا وقد كان عليه شامات النبوة في يده اليمنى إلا أن يكون نبينا - صلى الله عليه وسلم - فإن شامة النبوة كانت بين كتفيه. وعلى هذا يكون وضع الخاتمُ بين كتفيه بإزاء قلبه مما اختص به عن سائر الأنبياء. تنبيه: قد أكثر الناس فيمن أدخله في قبره، وفيمن صلّى عليه، والأصح أن الذي صلّى عليه عليٌّ، والعباس وبنو هاشم، ثم خرجوا، ثم دخل المهاجرون، ثم الأنصار، ثم الناس يصلون عليه أفذاذًا، لا يؤمهم أحد، ثم النساء والغلمان. والأصح أيضًا أن الذي نزل في قبره، عليه الصلاة والسلام، عمه العباس ومعه عليّ وقُثَم والفضل ابنا العباس، ويقال كان أوس بن خَوْلي، وأسامة بن زيد معهم، وكان آخرهم خروجًا من القبر قثم بن العباس، كان آخر الناس عهدًا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن عبد البر: وقد ذُكر عن المُغيرة بن شُعبة في ذلك خبر لا يصح. أنكره أهل العلم، ودفعوه يريد ما روي من أنه أسقط خاتمه في القبر الشريف وطلب أخذه، فدخل وأخذه قاصدًا أن يكون آخر الناس عهدًا به - صلى الله عليه وسلم -، وألحد له عليه الصلاة والسلام، وبني في قبره اللَّبِنَ، يقال: تسع لبنات، وطرح في قبره سمل قطيفه كان يلبسها، فلما فرغوا من وضع اللبن أخرجوها، وهالوا التراب على لحده. وقبره عليه الصلاة والسلام، قيل: مسطح، وقيل: مُسَنَّم، ورش الماء عليه رشًّا. واعلم أن فضائله عليه الصلاة والسلام، وأعلام نبوته قد وضع العلماء فيها، وجمع كل منهم ما انتهت روايته، ومطالعته إليه، وهي أكثر من أن تُحصى، وقد أجرينا من ذكره ها هنا - صلى الله عليه وسلم - لُمَعًا يحسن الوقوف عليها،

تعريف البخاري

والمذاكرة بها تبركًا بذكره في أوائل الكتاب، والله الموفق للصواب، وإليه المرجع والمآب. ولما أنهيت هذه النُّبذة اليسيرة من الشمائل النبوية، أردت أن آتِيَ بشيء من تعريف البخاري، لأنّ الكتاب في تعريف رجال "صحيحه"، وأول ما يبدأ به تعريف صاحب الكتاب فأقول: تعريف البُخاري البُخَارِيُّ: هو أبو عبد الله محمَّد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المُغيرة ابن بَرْدِزْبَهْ -بفتح الباء وسكون الراء وكسر الدال وسكون الزاي وفتح الباء ثم هاء ساكنة- الجُعْفِيُّ ومعناه بالفارسية الزراع، كان بَرْدِزْبَه فارسيًّا على دين قومه، ثم أسلم ولده المغيرة على يد اليمان الجُعْفِي، وأتى بخارى، فنسب إليه نسبة ولاء، عملًا بمذهب من يرى أن من أسلم على يده شخص كان ولاؤه له، وإنما قالوا له: الجعفي لذلك. وأما ولده إبراهيم فلم أقف على شيء من أخباره. ولد البُخاري يوم الجمعة بعد الصلاة لثلاث عشرة ليلة خلت من شوال سنة أربع وتسعين ومئة ببُخارى، ومات أبوه وهو صغير، ونشأ في حِجْر أمه، ثم حجَّ مع أمه وأخيه أحمد، وكان أسن منه، سنة عشر ومئتين، فأقام هو بمكة مجاورًا يطلب العلم، ورجع أخوه أحمد إلى بخارى ومات بها. وروى غُنجار في "تاريخ بُخارى" واللَّالكائيُّ في "شرح السنة" في كرامات الأولياء، أن محمَّد بن إسماعيل ذهبت عيناه في صغره، فرأت والدته الخليل إبراهيم عليه السلام في المنام، فقال لها: يا هذه قد رد الله على ابنك بصره بكثرة دعائك، فأصبح وقد رد الله عليه بصره. وقال محمَّد بن أبي حاتِم، وَرّاق البخاري: سمعت البخاري يقول: ألهمت حفظ الحديث وأنا في الكتاب، قلت: وكم أتى عليك إذ ذاك؟

قال: عشر سنين أو أقل، ثم خرجت من الكتاب فجعلت اختلف إلى الدَّاخِلِيّ، فقال يومًا فيما كان يقرأ للناس: سفيان، عن أبي الزُّبير، عن إبراهيم، فقلت: إن أبا الزُّبير لم يرو عن إبراهيم فانْتَهَرني، فقلت له: ارجع إلى الأصل إن كان عندك، فدَخَلَ، فنظر فيه فَرَجَعَ، فقال: كيف هو يا غلام؟ فقلت: هو الزُّبَيْر، وهو ابن عَدِيّ عن إبراهيم، فأخذ القلم، وأصلح كتابه وقال لي: صدقت، فقال له إنسان: ابن كم كنت حين رَدَدْتَ عليه؟ فقال: ابن إحدى عشرة سنة، قال: ولما طَعنْت في ثاني عشرة صنفت كتاب "قضايا الصحابة والتابعين"، ثم صنفت "التاريخ" في المدينة عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وكنت أكتبه في الليالي المقمرة، قال: وقَلَّ اسم في التاريخ إلا وله عندي قصة، إلا أني لا أريد أن أُطَوِّل الكتاب. وقال محمَّد بن أبي حاتم الورّاق عن البُخاري: كنت في مجلس الفريابي، فقال: حدثنا سفيان، عن أبي عُروة، عن أبي الخَطّاب، عن أبي حَمْزة، فلم يعرف أحد في المجلس مَنْ فوق سفيان، فقلت لهم: أبو عروة هو مَعْمر بن راشد، وأبو خطاب: هو قَتادة بن دعامة، وأبو حمزة: هو أنس بن مالك، قال: وكان الثَّوْريُّ فعولًا لذلك، يعني المشهورين. وقال حاشِد بن إسماعيل: كان البُخاري يختلف معنا إلى مشايخ البصرة، وهو غلامٌ، فلا يكتُبُ حتى أتى على ذلك أيام، فلُمناه بعد ستة عشر يومًا، فقال: قد أكثرتم عليّ فاعرضوا علي ما كَتَبْتُم، فأخرجناه، فزاد على خمسةَ عشر ألف حديث، فقرأها كلَّها عن ظهرِ قلبٍ حتى جَعَلْنَا نُحْكِمُ كتبنا من حفظه. وقال محمَّد بن الأزهر السِّجِسْتاني: كنت في مجلس سُليمان بن حرب، والبخاري معنا، يسمع ولا يكتُب، فقيل لبعضهم: ماله لا يكتب؟ فقال: يرجِع إلى بخارى ويكتب من حفظه.

زهده وحسن سيرته

زهده وحسن سيرته ومن زهده وحسن شمائله وفضائله ما حكاه ورّاقه أنه ورث من أبيه مالًا جليلًا، وكان أبوه يقول: لا أعلم من مالي درهمًا من حرام، ولا درهمًا من شبهة، فكان البخاري يعطيه مقارضة، فقطع غريم له خمسة وعشرين ألفًا، فقيلَ له: استعن بكتاب الوالي، فقال: إن أخذت منهم كتابًا طمِعوا، ولن أبيع ديني بدنياي، ثم صالح غريمه على أن يعطيه كل شهر عشرة دراهم، وذهب ذلك المال كله. وقال غُنجار في "تاريخه": كان حُمِلَ إلى محمَّد بن إسماعيل بضاعة أنفذها إليه أبو حَفْص، فاجتمع بعض التجار إليه بالعشية، وطلبوها منه بربح خمسة آلاف درهم، فقال لهم: انصرفوا الليلة، فجاءه من الغد تجار آخرون، فطلبوا منه البضاعة بربح عشرة آلاف درهم، فردهم، وقال: إنى نويت البارحة أن أدفعها إلى الأولين، فدفعها لهم، وقال: لا أُحب أن أْنقُضَ نيتي. وقال ورَّاقُهُ: سمعته يقول: خرجت إلى آدم بن أبي إياس، فتأخرت نفقتي حتى صرت آكل حشيش الأرض، فلما كان في اليوم الثالث أتاني رجل لا أعرفه، فأعطاني صرة فيها دنانير، قال: وسمعته يقول: كنت أستغل في كل شهر خمس مئة درهم، فأنفقها في طلب العلم، وما عند الله خير وأبقى. وقال عبد الله بن محمَّد الصيّار: كنت عند محمَّد بن إسماعيل في منزله، فجاءته جاريته، وأرادت دخول المنزل، فعثرت على محبرة بين يديه، فقال لها: كيف تمشين؟ فقالت له: إذا لم تكن طريق كيف أمشي؟ فبسط يديه، وقال: اذهبي، فقد أعتقتك، قيل له: يا أبا عبد الله أغضبتك؟ قال: فقد أرضيت نفسي بما فعلت. وقال ورّاقُهُ: سمعته يقول: لا يكون لي خصم يوم القيامة، فقلت: إن بعض الناس ينقِمون عليك "التاريخ" يقولون: فيه اغتياب الناس،

فقال: إنما روينا رواية ولم نَقُلْه من عند أنفسنا، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "بئس أخو العشيرة" قال: وسمعته يقول: ما اغتبت أحدًا قطُّ منذ علمت أن الغيبة حرام، قال: وكان يقول: إني لأرجو أن ألقى الله، ولا يحاسبني أني اغتبت أحدًا. وقال أبو بكر بن المُنير: كان محمَّد بن إسماعيل يومًا يصلي، فلسعه الزُّنبور سبع عشرة مرة، فلما قضى صلاته قال: انظروا أي شيء هذا الذي آذاني في صلاتي، فنظروا فإذا الزنبور قد ورّمه في سبعة عشر موضعًا، ولم يقطع صلاته، وقال: كنت في آية فأحببت أن أُتمَّها. وقال أبو الحسن يوسف بن أبي ذَرّ: كان محمَّد بن إسماعيل قد مرض فعرضوا ماءه على الأطباء، فقالوا: إن هذا الماء يشبه ماء بعض أساقفةِ النَّصارى، فإنهم لا يَأْتَدِمُون، فصدقهم، وقال: لم أئتدم منذ أربعين سنةً، فسألوا عن علاجه، فقالوا: علاجه الأدم، فامتنع حتى ألح عليه المشايخ، وأهل العلم، فأجابهم إلى أن يأكل مع الخبز سكرة. وقال الحاكم: كان محمَّد بن إسماعيل إذا كان أول ليلة من شهر رمضان يجتمع إليه أصحابه فيصلي بهم، ويقرأ في كل ركعة عشرين آية، وكذلك إلى أن يختم القرآن، وكان يقرأ في السحر ما بين النصف إلى الثلث من القرآن، فيختِم عند السحر في كل ثلاث ليال، وكان يختِم بالنهار في كل يوم ختمة، ويكون ختمه عند الإِفطار كل ليلة، ويقول: عند كل ختمة دعوة مستجابة. وقال ورّاقه: كان أبو عبد الله إذا كنت معه في سفر يجمعنا بيت واحد إلا في القَيْظ، فكنت أراه يقوم في الليلة خمس عشرة مرة إلى عشرين، في كل ذلك يأخذ القدّاحة، فيُوري نارًا بيده ويُسرج، ويخرّج أحاديث، فيعلم عليها، ثم يضع رأسه، فقلت له: إنك تحمل على نفسك كل هذا ولا توقِظُني، قال: أنت شاب فلا أحب أن آخذ عليك نومك، وكان يصلي وقت السحر ثلاث عشرة ركعة يوتر منها بواحدة، قال: وكان معه

ثناء أشياخه عليه

شيء من شَعْرِ النبي - صلى الله عليه وسلم - جعله في ملبوسه. وقال محمَّد بن منصور: كنا في مجلس أبي عبد الله البخاري فرفع إنسان قذاة من لحيته، وطرحها على الأرض، فرأيت البخاري ينظر إليها وإلى الناس، فلما غَفَلَ الناس رأيته مد يده، فرفع القَذاة من الأرض فأدخلها في كمه، فلما خرج من المسجد رأيته أخرجها، ووضعها على الأرض، فكأنه صان المسجد عما تُصان عنه لحيته، وأخرج الحاكم في "تاريخه" من شعره قوله: اغْتنمْ في الفراغ فَضْلَ رُكُوعٍ ... فَعسى أنْ يكُونَ مَوتُك بَغتَهْ كَم صحيحٍ رأيْتَ من غَيْرِ سُقْمٍ ... ذَهَبَتْ نفسُهُ الصَّحيحةُ فَلْتهْ ومن العجيب أنه مات بغتة كما يأتي، ولما نعي له عبد الله بن عبد الرحمن الدّارِميُّ الحافظ أنشد: إنْ عِشْتَ تُفجع بالأحِبّةِ كلِّهم ... وفناءُ نَفْسِك لا أبالَكَ أفْجعُ ثناء أشياخه عليه ومن ثناء أشياخه عليه ما رواه ورَّاقُه، قال: سمعت البخاري يقول: كان إسماعيل بن أبي أُوَيس إذا انتخبت من كتابه نسخ تلك الأحاديث لنفسه، وقال: هذه أحاديث انتخبها محمَّد بن إسماعيل من حَديثي، قال: وقال لي ابن أبي أُوَيْس: انظر في كتبي وجميع ما أملك لك، وأنا شاكرٌ لك أبدًا ما دمت حيًا. وقال أبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزُّهْرِيّ: محمَّد بن إسماعيل أفقه عندنا وأبصر بالحديث من أحمد بن حَنْبل، فقال له رجل: جاوزت الحد، فقال له أبو مصعب: لو أدركت مالكًا، ونظرت إلى وجهه ووجه محمَّد بن إسماعيل، لقلت: كلاهما واحد في الحديث والفقه. وقال عبدانُ بن عُثمان المَرْوَزِيُّ: ما رأيت شابًّا أبصر من هذا، وأشار إلى محمَّد بن إسماعيل.

وقال قتيبة بن سعيد: جالست الفقهاء والزهاد والعباد، فما رأيت منذ عَقَلْتُ مثل محمَّد بن إسماعيل، وهو في زمانه كعمر في الصحابة. وقال أيضًا: لو كان محمَّد بن إسماعيل في الصحابة لكان آية، وسأله أيضًا رجل عن محمَّد بن إسماعيل، فقال: يا هؤلاء نظرت في الحديث وفي الرأي، وجالست الفقهاء والزهاد والعباد، فما رأيت منذ عَقلْت مثل محمَّد بن إسماعيل. وسئل يومًا عن طلاق السكران، فدخل البُخاري، فقال: قُتيبة للسائل: هذا أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهَوَيه، وعلي بن المَديني، قد ساقهم الله إليك، وأشار إلى البُخاري. وقال أيضًا: رُحِلَ إليّ من شرق الأرض وغربها، فما رَحَلَ إلي مثل محمَّد بن إسماعيل، ولما حُكي ذلك لمهيار، قال: صدق قُتيبة، أنا رأيته مع يحيى بن مَعين، وهما جميعًا يختلفان إلى محمَّد بن إسماعيل، فرأيت يحيى منقادًا له في المعرفة. وقال أحمد بن حَنْبل: ما أخرجت خراسان مثل محمَّد بن إسماعيل. وسأله عبد الله ابنه عن الحفاظ، فقال: شُبّان من خُراسان، فعده فيهم، وبدأ به. ولما قدم البَصْرة قال مُحمد بن بَشّار: قدم اليوم سيد الفقهاء، وقال أيضًا: ما قدم علينا مثل محمَّد بن إسماعيل، وقال أيضًا: أنا أفتَخِرُ به منذ سنين. وقال عبد الله بن يوسف التِّنيسيّ للبُخاري: يا أبا عبد الله انظر في كتبي وأخبرني بما فيها من السَّقط، فقال: نعم. وقال: دخلت على الحُميدِيّ وأنا ابن ثمان عشرة سنة، أول سنة حج، فإذا بينه وبين آخر اختلاف في حديث، فلما بَصرني، قال: جاء من يفصِلُ بيننا، فعرضا عليّ الخصومة، فقضيت للحُمَيْدي، وكان الحق. وقال البخاري: قال لي مُحمد بن سلام: انظر في كُتبي فما وجدت فيها من خطأ فاضرب عليه، فقال له بعض أصحابه: من هذا الفتى؟ فقال: هذا الذي ليَس له مثله، وكان محمَّد بن سلام يقول: كلما دخل

عليَّ محمَّد بن إسماعيل: تحيرت ولا أزال خائفًا، يخشى أن يخطئ بحضرته، وقال سليم بن مجاهد: كنت عند محمَّد بن سلام فقال لي: لو جئت قبل لرأيت صبيًّا يحفظ سبعين ألف حديث. وقال حاشد بن إسماعيل: رأيت إسحاق بن راهَوَيه جالسًا على المنبر، والبخاري جالس معه، وإسحاق يُحَدِّثُ بحديث، فأنكره محمَّد، فرجع إسحاق إلى قوله، وقال: يا معشر أصحاب الحديث انظروا إلى هذا الشابِّ، واكتُبوا عنه، فإنه لو كان في زمن الحسن بن أبي الحسن البَصْرِيّ لاحتاج إليه، لمعرفته في الحديث وفقهه، وقال البخاري: أخذ إسحاق بن راهَوَيه كتاب "التاريخ" الذي صنفته، فأدخله على عبد الله بن طاهر الأمير، فقال له: أيها الأمير لا أُريك سحرًا. وقال أبو بَكْرٍ المَديني: كُنّا يومًا عند إسحاق بن راهَوَيه، ومحمد بن إسماعيل حاضر، فمر إسحاق بحديث، ودون صحابيه الكنجاراني، فقال إسحاق: يا أبا عبد الله: أيش هي كنجاران؟ فقال قرية باليمن، كان معاوية بعث هذا الرجل الصحابي إلى اليمن، فسمع منه عطاء هذا حديثين، فقال له: يا أبا عبد الله كأنك شهدت القوم، وقال: فَتْح بن نُوح: أتيت على ابن المديني، ومحمد بن إسماعيل جالس عن يمينه، وكان إذا حدث التفت إليه مهابةً له، وقال البخاري: ما استَصْغرت نفسي عند أحد إلا عند علي بن المَديني، وربما كنت أغرب عليه، فبلغ ذلك ابن المديني، فقال: دعوه فما رأى مثل نفسه. وقال البُخاري: ما ذاكرني أصحابي عمرو بن علي الفَلّاس بحديث فقلت: لا أعرفه، فَسرُّوا بذلك، وصاروا إلى عمرو بن علي، وقالوا له: ذاكرنا محمَّد بن إسماعيل بحديث فلم يعرفه، فقال عمرو بن علي: حديث لا يعرفه محمَّد بن إسماعيل ليس بحديث. وقال رجاء بن رجاء الحافظ: فضل محمَّد بن إسماعيل على العلماء

كفضل الرجال على النساء، وقال أيضًا: هو آية من آيات الله تمشي على الأرض. وقال الحُسين بن حُريث: لا أعلم أني رأيت مثل محمَّد بن إسماعيل، كأنه لم يخلق إلا للحديث. وقال أبو بكر بن أبي شَيْبة ومحمد بن نُمير: ما رأينا مثل محمَّد بن إسماعيل، وكان أبو بكر بن أبي شيبة يسميه البازل، يعني الكامل. وقال أبو عيسى التِّرمِذي: كان محمَّد بن إسماعيل عند عبد الله بن مُنير، فقال له لما قام: يا أبا عبد الله! جعلك الله زين هذه الأمة، قال أبو عيسى: فاستجاب الله تعالى فيه، وكان عبد الله بن مُنير يكتب عنده ويقول: أنا من تلامذته وهو من أشياخه الذين روى عنهم في صحيحه. وقال يحيى بن جعفر البِيْكَنْدِيّ: لو قدرت أن أزيد من عمري في عمر محمَّد بن إسماعيل لفعلت، فإن موتي يكون موت رجل واحد، وموت محمَّد بن إسماعيل فيه ذهاب العلم، وكان يقول له: لولا أنت ما استطعت العيش بِبُخارى. وقال علي بن حَجَر: أخرجت خراسان ثلاثة، البخاري، فبدأ به قال: وهو أبصرهم وأعلمهم بالحديث وأفقههم. قال: ولا أعلم أحدًا مثله. وقال: أحمد بن إسحاق السرماري: من أحب أن ينظر إلى فقيه بحقه وصدقه، فلينظر إلى محمَّد بن إسماعيل. وقال حاشد: رأيت عمرو بن زُرارة، ومحمد بن ربيع، عند محمَّد ابن إسماعيل، وهما يسألانه عن عِلل الحديث، فلما قاما قالا لمن حضر المجلس: لا تخدعوا عن أبي عبد الله فإنه أفقه منا وأعلم وأبصر. قال: وكنا يومًا عند إسحاق بن راهَوَيه، وعمر بن زُرارة، وهو يستملي على أبي

ثناء أقرانه وطائفة من أتباعه عليه

عبد الله وأصحاب الحديث يكتُبون عنه، وإسحاق يقول: هو أبصر منا، وكان أبو عبد الله إذ ذاك شابًّا. ثناء أقرانه وطائفة من أتباعه عليه: قال أبو حاتم الرّازِيّ: لم تخرج خراسان قط أحفظ من محمَّد بن إسماعيل، ولا قدم إلى العراق أعلم منه، وقال محمَّد بن حُرَيْث: سألت أبا زُرعة عن ابن لَهيعة، فقال لي: تركه أبو عبد الله يعني البُخاري. وقال الحسين بن مُحمد المعروف بالعِجْلي: ما رأيت مثل محمَّد بن إسماعيل، ومسلم حافظ ولكنه لم يَبْلُغ مبلَغَ محمَّد بن إسماعيل، قال العِجْلي: ورأيت أبا زُرعة وأبا حاتم يستمعان إليه، وكان أمة من الأمم، ديِّنًا، فاضلًا، يحسن كل شيء، وكان أعلم من محمَّد بن يَحْيى الذهلي بكذا وكذا. وقال عبد الله بن عبد الرحمن الدّارمي: قد رأيت العلماء بالحرمين والحجاز والشام والعراق، فما رأيت فيهم أجمع من محمَّد بن إسماعيل، وهو أعلمنا، وأفقهنا، وأكثرنا طلبًا، وسُئل الدّارِمِيُّ عن حديث، وقيل له: إن البخاري صححه، فقال: محمَّد بن إسماعيل أبصر مني وهو أكيس خلق الله، عقل عن الله ما أمر به، ونهى عنه من كتابه، وعلى لسان نبيه، إذا قرأ محمَّد القرآن شَغَلَ قلبه وبصره وسمعه وتفكر في أمثاله وعرف حلاله من حرامه. وقال أبو الطَّيِّب حاتم بن منصور: كان محمَّد بن إسماعيل آية من آيات الله في بصره، ونفاذه في العلم، وقال أبو سَهْل محمود بن النَّضْر: دخلت البصرة والشام والحجاز والكوفة، ورأيت علماءها، فكلما جرى ذكر محمَّد بن إسماعيل فضلوه على أنفسهم، وقال أبو سهل أيضًا: سمعت أكثر من ثلاثين عالمًا من علماء مصر يقولون: حاجتنا في الدنيا النظر إلى محمَّد بن إسماعيل، وقال صالح بن محمَّد جَزَرَة: ما رأيت خراسانيًّا أفهم من محمَّد بن إسماعيل، وقال أيضًا: كان أحفظهم

للحديث، وكنت أستملي له ببغداد فبلغ من حضر المجلس عشرين ألفًا. وسُئِلَ الحافظ أبو العباس الفضل بن العباس المعروف بِفَضْلك الرّازي، أيُّما أحفظ محمَّد بن إسماعيل أو أبو زرعة؟ فقال: لم أكن التقيت مع محمَّد بن إسماعيل، فاستقبلني ما بين حلوان وبغداد، فرجعت معه مرحلة، وجهدت كل الجهد على أن آتي بحديث لا يعرفه، فما أمكنني، وها أنا ذا أُغْرِبُ على أبي زرعة عدد شعر رأسه. وقال محمَّد بن عبد الرحمن الدَّغُولي: كتب أهل بغداد إلى محمَّد بن إسماعيل كتابًا فيه: المسْلِمونَ بِخَيرٍ ما بقيتَ لَهُم ... ولَيْسَ بَعْدَكَ خَيرٌ حينَ تُفْتَقَدُ وقال إمام الأئمة أبو بكر محمَّد بن إسحاق بن خُزَيْمة: ما تحت أديم السماء أعلمُ بالحديث من محمَّد بن إسماعيل. وقال أبو عيسى التِّرمِذِيّ: لم أر أعلم بالعلل والأسانيد من محمَّد بن إسماعيل البخاري. وقال له مسلم: أشهد أنه ليس في الدنيا مثلك. وقال عبد الله بن الأَخْرم: سمعت أبي يقول: رأيت مسلم بن الحجاج بين يدي البخاري، وهو يسأله سؤال الصبيِّ المتعلم، وسئل أبو عبد الله ابن الأخرم عن حديث، فقال: إن البخاري لم يخرجه، فقال له السائل: قد خرجه مسلم، فقال أبو عبد الله: إن البخاري كان أعلم من مسلم ومنك ومني. وقال أحمد بن سَيّار في "تاريخ مرو": محمَّد بن إسماعيل البخاري طلب العلم، وجالس الناس، ورحل في الحديث ومهر فيه وأبصر، وكان حسن المعرفة، حسن الحفظ، وكان يتفقه، وقال أبو أحمد بن عدي: كان يحيى بن محمَّد بن صاعد إذا ذكر البخاري قال: ذلك الكبش النَّطّاح. وقال أبو عمرو الخفاف: حدثنا التقي النقي العالم الذي لم أر مثله محمَّد بن إسماعيل، قال: وهو أعلم بالحديث من أحمد وإسحاق بن

عجيب حفظه

راهَوَيه وغيرهما بعشرين درجة، ومن قال فيه شيئًا فعليه مني ألف لعنة، وقال أيضًا: لو دخل من هذا الباب وأنا أحدث لَمُلِئْتُ منه رعبًا، وقال عبد الله بن حَمّاد الأَيلي: لودِدْت أني كنت شعرة في جسد محمَّد بن إسماعيل. وقال سليم بن مُجاهد: ما رأيت منذ ستين سنة أحدًا أفقه ولا أورع من محمَّد بن إسماعيل. وقال موسى بن هارون الحَمّال: لو أن أهل الإِسلام اجتمعوا على أن يصيبوا آخر مثل محمَّد بن إسماعيل لما قَدَروا عليه، وقال: عبد الله بن محمَّد بن سعيد بن جعفر: سمعت العلماء بمصر يقولون: ما في الدنيا مثل محمَّد بن إسماعيل في المعرفة والصلاح، قال عبد الله بن محمَّد: وأنا أقول قولهم. وقال الحافظ أبو العباس أحمد بن محمَّد بن عُقدة: لو أن رجلًا كتب ثلاثين ألف حديث لما استغنى عن "تاريخ" محمَّد بن إسماعيل، وقال الحاكم أبو أَحْمد في الكُنى: كان أحد الأئمة في معرفة الحديث وجمعه، ولو قلت: إني لم أر تصنيف أحد يشبه تصنيفه في الحسن والمبالغة لفعلت. عجيب حفظه ومن عجيب حفظه ما رواه أبو أحمد بن عدي الحافظ، قال: سمعت عدة من مشايخ بغداد يقولون: إن محمَّد بن إسماعيل البخاري قدم بغداد: فسمع به أصحاب الحديث، فاجتمعوا وأرادوا امتحان حفظه، فعمدوا إلى مئة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها، وجعلوا متن هذا الإِسناد لإِسناد آخر، وإسناد هذا المتن لمتن آخر، ودفعوها إلى عشرة أنفس، لكل رجل عشرة أحاديث، وأمروهم إذا حضروا المجلس أن يُلقوا ذلك على البخاري، وأخذوا عليه الموعد للمجلس، فحضروا، وأحضر جماعة من الغرباء من أهل خراسان وغيرهم ومن البغداديين، فلما اطمأن

المجلس بأهله، انتدب رجل من العشرة فسأله عن حديث من تلك الأحاديث، فقال البخاري: لا أعرفه، فما زال يلقي عليه واحدًا بعد واحد حتى فرغ، والبخاري يقول لا أعرفه، وكان العلماء ممن حضر المجلس يلتفت بعضهم إلى بعض، ويقولون: فهم الرجل، ومن كان لم يدر بعلمه يقضي على البخاري بالعجز والتقصير، وقلة الحفظ، ثم انتدب رجل من العشرة أيضًا، فسأله عن حديث من تلك الأحاديث المقلوبة، فقال: لا أعرفه. ولم يزل يلقي عليه واحدًا بعد واحد حتى فرغ من عشرته، والبخاري يقول: لا أعرفه، ثم انتدب الثالث والرابع إلى إتمام العشرة، حتى فرغوا كلهم من إلقاء تلك الأحاديث المقلوبة، والبخاري لا يزيدهم على: لا أعرفه، فلما علم أنهم قد فرغوا التفت إلى الأول، فقال: أما حديثك الأول فقلت: كذا، وصوابه كذا، وحديثك كذا، وصوابه كذا، والثالث والرابع على الولاء حتى أتى على تمام العشرة، فرد كل متن إلى إسناده وكل إسناد إلى متنه، وفعل بالآخرين مثل ذلك، فأقر الناس له بالحفظ، وأذعنوا له بالفضل، قال ابن حَجَر: وليس العجب من رده للخطأ، فإنه كان حافظًا، بل العجب من حفظه للخطأ على ترتيب ما ألقوه عليه من مرة واحدة، وقد قال أبو بكر الكلْوَاذاني: ما رأيت مثل محمَّد بن إسماعيل، كان يأخذ الكتاب من العلم، فيطلع عليه اطلاعة، فيحفظ عامة أطراف الأحاديث من مرة واحدة. وقال أبو الأَزْهَر: كان بسمرقند أربع مئة محدث، فتجمعوا وأحبوا أن يغالطوا محمَّد بن إسماعيل، فأدخلوا إسناد الشام في إسناد العراق، وإسناد العراق في إسناد الشام، وإسناد الحرم في إسناد اليمن، فما استطاعوا مع ذلك أن يتعلقوا عليه بسقطة. وروى غُنجار في "تاريخه" عن يوسف بن موسى المَرْوَزِي، قال: كنت بالبصرة في جامعها إذ سمعت مناديًا ينادي: يا أهل العلم، لقد قدم محمَّد بن إسماعيل البخاري، فقاموا إليه، وكنت معهم، فرأينا رجلًا شابًّا ليس في لحيته بياض، فصلى خلف الأسطوانة، فلما فَرَغَ أحدقوا

به، وسألوه أن يَعْقِدَ لهم مجلسًا للإملاء، فأجابهم إلى ذلك، فقام المنادي ثانيًا في جامع البصرة، فقال: يا أهل العلم، لقد قدم محمَّد بن إسماعيل، فسألناه أن يَعْقِد مجلس الإملاء، فأجاب بأن يجلس غدًا في موضع كذا، فلما كان الغد حضر المحدثون والحفاظ والفقهاء والنظارة، حتى اجتمع قريب من كذا وكذا ألف نفس، فجلس أبو عبد الله للإملاء، فقال قبل أن يأخذ في الإِملاء: يا أهل البصرة أنا شابٌّ، وقد سألتموني أن أحدثكم، وسأحدثكم بأحاديث عن أهل بلدكم تستفيدونها، يعني ليست عندكم، فتعجب الناس من قوله، فأخذ في الإِملاء، فقال: حدثنا عبد الله بن عُثمان بن جَبَلة بن أبي رَوّاد ببلدكم، قال حدثني أبي، عن شعبة، عن منصور وغيره، عن سالم بن أبي الجعد، عن أنس بن مالك أن أعرابيًا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! الرجل يحب القوم .. الحديث، ثم قال: هذا ليس عندكم عن منصور يعني الذي ساقه هو عنه، إنما هو عندكم عن غير منصور، فأملى عليهم مجلسًا من هذا النسق، يقول في كل حديث: روى فلان هذا الحديث عندكم كذا، فأما من رواية فلان يعني التي يسوقها فليست عندكم. قلت: هذه أعجب من قضية أهل بغداد السابقة لضبطه في هذه الرواية أن مِصْرًا عظيمًا مثل البَصْرة لم يرو أحد من أهله هذه الأحاديث عمن ساقها عنه. وقال سليم بن مجاهد: قال لي محمَّد بن إسماعيل: لا أجيء بحديث عن الصحابة والتابعين إلا عرفت مولد أكثرهم ووفاتهم ومساكنهم، ولست أروي حديثًا من حديث الصحابة والتابعين -يعني من الموقوفات- إلا وله أصل أحفظ ذلك من كتاب الله وسنة رسوله. وقال علي بن الحُسين بن عاصم: قدم علينا محمَّد بن إسماعيل، فقال له رجل من أصحابنا: سمعت إسحاق بن راهَوَيه يقول: كأني انظر إلى سبعين ألف حديث من كتابي، فقال له محمَّد بن إسماعيل: أتعجب

من هذا القول، لعل في هذا الزمان من ينظر إلى مئتي ألف ألف من كتابه وإنما عنى نفسه. وقال محمَّد بن حَمدويه: سمعت البخاري يقول: أحفظ مئة ألف حديث صحيح، وأحفظ مئتي ألف حديث غير صحيح، قال ورّاقه: سمعته يقول: ما نمت البارحة حتى عددت كم أدخلت في تصانيفي من الأحاديث، فإذا هو نحو مئتي ألف حديث، وقال أيضًا: لو قيل لي: تمن لما قمت حتى أروي عشرة آلاف حديث في الصلاة خاصة، وقال أيضًا: قلت له: تحفظ جميع ما أدخلت في مصنفاتك، قال: لا يخفى علي جميع ما فيها، وصنفت جميع كتبي ثلاث مرات، قال: وبلغني أنه شرب البلاذر، فقلت له مرة في خلوة: هل من دواء للحفظ، فقال: لا أعلم، ثم أقبل علي فقال: لا أعلم شيئًا أنفع للحفظ من نهمة الرجل، ومداومة النظر، وقال: أقمت بالمدينة بعد أن حججت سنة جردًا أكتب الحديث، قال: وأقمت بالبصرة خمس سنين معي كتبي، أصنف، وأحج، وأرجع من مكة إلى البصرة، قال: وأنا أرجو أن يبارك الله تعالى للمسلمين في هذه المصنفات، وقال البخاري: تذكرت يومًا أصحاب أنس فحضرني في ساعة واحدة ثلاث مئة نفس، وما قدمت على شيخ إلا كان انتفاعه بي أكثر من انتفاعي به. وقال ورّاقه: أعمل في الهبة كتابًا فيه نحو خمس مئة حديث، وقال: ليس في كتاب وكيع في الهبة إلا حديثان مسندان أو ثلاثة، وفي كتاب ابن المبارك خمسة أو نحوها، وقال أيضًا: ما جلست للتحديث حتى عرفت الصحيح من السقيم، وحتى نظرت في كتب أهل الرأي، وما تركت بالبصرة حديثًا إلا كتبته، قال: وسمعته يقول: لا أعلم شيئًا يحتاج إليه إلا وهو في الكتاب والسنة، قال: فقلت له: يمكن معرفة ذلك، قال: نعم. وقال الحافظ أَحمد بن حَمدون: رأيت البخاري في جِنازة، ومحمد ابن يحيى الذهلي يسأله عن الأسماء والعلل، والبخاري يمر فيه مثل السهم كأنه يقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}.

فضائل الجامع الصحيح

وقال البَيْهَقِيّ في "المدخل" عن أبي حامد الأعمش: سمعت مسلم ابن الحجاج وجاء إلى محمَّد بن إسماعيل فَقَيَّلَ عينيه، وقال: دعني حتى أُقبل رجليك يا أستاذ الأُسْتاذِين، ويا سيد المحدثين، وطبيب الحديث في علله، حدثك محمَّد بن سلام، حدثنا مَخْلد بن يزيد، أخبرني ابن جريج، حدثني موسى بن عُقْبة، عن سُهَيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هُريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: كفارة المجلس أن يقول إذا قام من مجلسه سُبحانك ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت ... الخ، فقال له البخاري: هذا حديث مليح، ولا أعلم بهذا الإِسناد في الدنيا حديثًا غير هذا، إلا أنه معلول، فإن موسى بن عُقْبة لا يذكر له مسند عن سُهيل، ولكن قل: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا وُهَيْب، حدثنا سُهَيْل، عن عَوْن بن عبد الله، قال البُخاري: فهذا أولى. وفي رواية أنه لما قال له: معلول، قال مسلم: لا إله إلا الله، وارتعد، وقال: أخبرني، ثم قال له: لا يبغضك إلا حاسد، وأشهد أنه ليس في الدنيا مثلك. فضائِلُ الجامعِ الصحيح ومن فضائل كتابه "الجامع الصحيح" ما رواه الفِرَبْري، قال: سمعت البُخاري يقول: ما وضعت في كتاب الصحيح حديثًا إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين، وفي رواية البُجَيْري: صنفت كتابي الجامع في المسجد الحرام، وما أدخلت فيه حديثًا حتى استخرت الله تعالى، وصليت ركعتين، وتيقنت صحته، ومعنى كونه صنفه في المسجد الحرام: أنه ابتدأ تصنيفه وترتيبه وأبوابه في المسجد الحرام، ثم كان بعد ذلك يخرج الأحاديث في بلده وغيره، ويدل عليه قوله: صنفت "الجامع" من ست مئة حديث في ست عشرة سنة، وجعلته حجة فيما بيني وبين الله تعالى؛ فإنه لم يجاور بمكة هذه المدة، وروى ابن عَدِيّ عن جماعة من المشايخ أن البخاري حول تراجم "جامعه" بين قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنبره، وكان يصلي لكل ترجمة ركعتين، ولا ينافي هذا ما تقدم، لأنه يحمل على أنه في الأول كتبه

في المسودة، وهنا حوله من المسودة إلى المبيضة كما يدل عليه لفظ التحويل المذكور. وقال محمَّد بن أبي حاتم ورّاقه: رأيت البخاري في المنام خلف النبي - صلى الله عليه وسلم -، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يَمْشي، فكلما رفع - صلى الله عليه وسلم - قدمه وضع البخاري قدمه في ذلك الموضع، وروى الخطيب عن نَجْم بن فُضَيْل، وكان من أهل الفَهْم، قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام خَرَجَ من قبرهِ، والبخاري يمشي خلفه، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خطا خَطْوة يخطو البخاري، ويضع قدمه على خطوة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وروى الخطيب أيضًا أن الفِرَبْرِي قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في النوم، فقال لي: أين تريد؟ قلت: أريد محمَّد بن إسماعيل، فقال: أقرئه مني السلام. وقال أبو زيد المَرْوَزِيّ: كنت نائمًا بين الركن والمقام، فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لي: يا أبا زيد إلى متى تدرس كتاب الشافعي، ولا تدرس كتابي، فقلت: يا رسول الله! وما كتابك؟ فقال: جامع محمَّد بن إسماعيل. وقال أبو جعفر العُقَيْلِيّ لما صنف البخاري كتاب "الصحيح" عرضه على علي بن المديني، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين وغيرهم، فاستحسنوه، وشهدوا له بالصحة إلا أربعة أحاديث، قال العُقَيْلي: والقول فيها قول البخاري، فهي صحيحة. وقال الحاكم: رحم الله محمَّد بن إسماعيل، فإنه هو الذي ألف الأصول وبين للناس، فكل من عمل بعده إنما أخذه من كتابه كمسلم فرق أكثر كتابه في كتابه، وتَجَلَّدَ فيه حق الجَلادة، حيث لم ينسبه إليه. وقال أبو الحسن الدَّارَقُطْنِيُّ الحافظ: لولا البخاري لما راح مسلم ولا جاء، وقال أيضًا: إنما أخذ مسلم كتاب البخاري، فعمل به مستخرجًا وزاد فيه أحاديث.

ما وقع له مع محمد بن يحيى الذهلي

ما وقع له مع محمَّد بن يحيى الذُّهْلِيّ قال الحاكم في "تاريخه": لما قدم البخاري نيسابور سنة خمسين ومئتين، قال محمَّد بن يحيى الذُّهْلِيّ: اذهبوا إلى هذا الرجل الصالح العالم، فاسمعوا منه، فذهب الناس إليه، فأقبلوا على السماع منه حتى ظهر الخلل في مجلس محمَّد بن يحيى، فتكلم فيه بعد ذلك. وقال مسلم: ما رأيت واليًا ولا عالمًا فعل به أهل نَيْسابور ما فعلوا لمحمد بن إسماعيل، استقبلوه من مرحلتين من البلد أو ثلاث، وقال محمَّد بن يحيى الذُّهليّ في مجلسه: من أراد أن يستقبل محمَّد بن إسماعيل غدًا فَلْيستقبله، فإني أستقبله، فاستقبله الذُّهْلِيُّ وجميع علماء نيسابور، وازدحم الناس عليه حتى امتلأت الدار والسطوح، ثم بعد اليوم الثالث قام رجل في المجلس، فقال له: ما تقول في اللفظ بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق، فأعرض عنه، ولم يجبه ثلاث مرات، فألح عليه فقال له: القرآن كلام الله غير مخلوق، وأفعال العباد مخلوقة، والامتحان بدعة، فَشَغَبَ الرجل، وقال: قد قال لفظي بالقرآن مخلوق. وقال أبو عمر، وأحمد بن نَصْر: سمعت البخاري يقول: من زَعَمَ أني قلت: لفظي بالقرآن مخلوق فهو كذاب، فإني لم أقله إلا أني قلت: أفعال العباد مخلوقة. وقال محمَّد بن نُعيم: سألت البخاري لما وقع في شأنه ما وقع عن الِإيمان، فقال: قول وعمل، ويزيد وينقص، والقرآن كلام الله، غير مخلوق، وأفضل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، على هذا حَيِيْتُ، وعليه أموت، وعليه أبعث إن شاء الله تعالى. وقال الحاكم: ولما وقع بين البخاري وبين الذُّهْلِيّ في مسألة اللفظ انقطع الناس عن البُخاري إلا مسلم بن الحجاج، وأحمد بن سَلَمة، فقال الذُّهلي: ألا من قال باللفظ فلا يَحِلُّ له أن يحْضُر مجلسنا، فأخذ

رجوعه إلى بخارى

مسلم رداءه فوق عمامته، وقام على رؤوس الناس، فبعث إلى الذُّهْلِيُّ جميع ما كتبه عنه على ظهر جمال. قال ابن حَجَر: أنصف مسلم، فلم يحدث في كتابه عن هذا ولا عن هذا. ولما قام مُسلم وأحمد بن سَلَمة من مجلس محمَّد بن يحيى الذُّهْلِيّ بسبب البُخاري، قال الذُّهْلِيّ: لا يساكنني هذا الرجل في البلد، فخشي البخاري، وسافر، قال أحمد بن سَلَمة: دخلت على البخاري فقلت له: يا أبا عبد الله: إن هذا رجل مقبولٌ في خُراسان لا سيما في هذه المدينة، وقد لَجَّ في هذا الأمر حتى لا يقدر أحد منا أن يكلمه فيه فما ترى؟ فقبض على لحيته ثم قال: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر: 44]. ثم قال: اللهم إنك تعلم أَني لم أرد المقام بنيسابور أَشرًا ولا بطرًا ولا طلبًا للرياسة، وإنما أبت نفسي الرجوع إلى الوطن لغلبة المخالفين، وقد قصدني هذا الرجل حسدًا لما آتاني الله لا غير، ثم قال لي: يا أحمد إني خارج غدًا لتخلصوا من حديثه لأجلي. رجوعه إلى بخارى فخرج إلى بخارى، ولما رجع لها نصبت له القباب على فرسخٍ من البلد، واستقبله عامة أهل البلد حتى لم يبق مذكور، ونثر عليه الدنانير والدراهم، فبقي مدة ثم وقع بينه وبين أمير بخارى خالد بن أحمد الذُّهْلِيّ ما وقع، فأمر بخروجه، وذلك أن الأمير بعث إليه أن احمل إليَّ "الجامع" و"التاريخ" لأسمع منك، فقال البخاري لرسوله: قل له: إني لا أذل العلم، ولا أحمله إلى أبواب السلاطين، فإن كانت له حاجة إلى شيء منه فليحضر في مسجدي، أو في داري، فإن لم يُعْجِبْك هذا فأنت سلطان، فامنعني من المجلس ليكون لي عذر عند الله يوم القيامة، فإني لا أكتم العلم، فكان هذا سبب الوَحْشة بينهما؛ فاستعان عليه الأمير بحُرَيْث بن أبي وَرْقاء وغيره من أهل بُخارى حتى تكلموا في مذهبه، فنفاه عن البلد، فدعا عليهم، فقال: اللهم أرِهِم ما قصدوني به في أنفسهم،

وأولادهم، وأهاليهم. أما خالد فلم يأت عليه إلا أَقَلُّ من شهر حتى ورد أمر الظاهرية بأن يُنادى عليه، فنودِيَ عليه، وهو على أتان، وأشْخصَ على إكافٍ، ثم صار عاقبة أمره إلى العَزل والحبس، وأما حُرَيَثْ فابتُلى في أهله، فرأى فيها ما يَجِلُّ عن الوصف، وأما فلان فإنه ابتُلي في أولاده، فأراه الله فيهم البلايا. قال عبد القُدوس بن عبد الجبار: فخرج البخاري إلى خَرْتَنْك -بفتح الخاء والتاء بينهما راء ساكنة، وبعد التاء نون ساكنة- قرية من قرى سَمَرْقَنْد، وكان له فيها أقرباء، فنزل عندهم، قال: فسمعته ليلة من الليالي، وقد فَرَغَ من صلاة الليل، يقول في دعائه: اللهم قد ضاقت علي الأرض بما رحبت، فاقبضني إليك، فما تَمَّ الشهر حتى قبضه الله تعالى، قال غالب بن جِبْريل الذي نزل عنده البخاري بخَرْتَنْك: إنه أقام أيامًا فمرض حتى وُجِّهَ إليه رسول من أهل سَمَرْقَنْد يلتمِسون فيه الخروج إليهم، فأجاب وتَهيَّأَ للركوب، ولبس خُفَّيْهِ وتَعَمَّمَ، فلما مشى قدر عشرين خطوة إلى الدابة ليركبها، قال: أرسلوني، فقد ضَعُفْت؛ فأرسلناه، فدعا بدعوات، ثم اضطجع، فقبض، فسال منه عرقٌ كثير، وكان قد قال لنا: كفنوني في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص ولا عِمامة ففعلنا، فلما أدرجناه في أكفانه وصلينا عليه، ووضعناه في قبره، فاح من تراب قبره رائحة طيبة كالمسك، ودامت أيامًا، وجعل الناس يختلفون إلى القبر أيامًا، يأخذون من ترابه حتى جعلنا عليه خشبًا مُشبكًا، قال عبد الواحد بن آدم الطَّوَاوِيْسِيُّ: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في النوم، ومعه جماعة من أصحابه وهو واقف في موضع، فسلمت عليه، فرد علي السلام، فقلت له: ما وقوفك هنا يا رسول الله؟ قال: أنتظر محمَّد بن إسماعيل، قال: فلما كان بعد أيام بلغني موته، فنظرت فإذا هو قد مات في الساعة التي رأيت فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان ذلك ليلة السبت، ليلة عيد الفطر، سنة ست وخمسين ومئتين، وكانت مدة عمره اثنتين وستين سنة إلا ثلاثة عشر يومًا، تغمده الله برحمته. ومن روى عنه البخاري يَجِلُّ عن العد، ويكفي

ما في "صحيحه" لمن نظره، وكذلك من روى عن البخاري، فقد ذكر الفِرَبْري أن "الجامع الصحيح" سمعه منه تسعون ألفًا، وقد روى عنه من أشياخه خلق، ومن أقرانه خلق، وتصانيفه عدد كثير، نحو عشرين مصنفًا، كلها مفيد جدًا، انتفع به المسلمون في أقطار الأرض، وهذا القدر كاف من ترجمته، منبه على ما لم يُذكر منها، وهو كرشفة من البحر. ولما كانت لـ"البخاري" شروح كثيرة، لا بد من الإحالة عليها، والعزو إليها، أردت أن أذكر جملة من شروحه، وها أنا أذكر منها ما ذكره القَسْطَلّاني في أوائل "شرحه". شرحه الإِمام أبو سليمان حمد بن محمَّد بن إبراهيم الخَطّابي بشرح لطيف، فيه نكت لطيفة، ولطائف شريفة، واعتنى الإِمام محمَّد التَّيْمِيّ بشرح ما لم يذكره الخطابي مع التنبيه على أوهامه. وشرحه المهلب بن أبي صُفرة، وهو ممن اختصر "الصحيح". وممن شرحه أبو الزِّناد سراج، واختصر "شرح المهلب" تلميذه أبو عبد الله محمَّد ابن خَلَف بن المُرابط، وزاد عليه فوائد، وهو ممن نقل عنه ابن رشيد. وشرحه أيضًا الإمام أبو الحسن علي بن خَلَف المالكِيّ الهِندي المشهور بابن بَطّال، وغالبه في فقه الإِمام مالك من غير تَعَرُّض لموضوع الكتاب غالبًا. وشرحه أبو جعفر أحمد بن سعيد الداوودي، وهو ممن ينقل عنه ابن التِّين -بفوقية بعدها تحتانية ثم نون- السَّفَاقُسي. وشرحه الزين بن المنير في نحو عشر مجلدات. وشرحه أبو الأَصْبَعْ عيسى بن سهل بن عبد الله الأسدي، وكذا الإِمام قُطب الدين عبد الكريم الحَلَبِيّ الحَنَفِيّ، وكذا الإِمام مُغْلُطاوي التركي، قال صاحب الكَواكب: وشرحه بِتَتْميم الأطراف أشبه، وبصحف تصحيح

التعليقات أمثل، وكأنه من إخلائه عن مقاصد الكتاب على ضمان، ومن شرح ألفاظه، وتوضيح معانيه على أمان واختصره الجلال التباني. وشرحه العلامة شمس الدين محمَّد بن يوسف بن علي بن محمَّد بن سعيد الكِرْماني، فشرحه بشرح مفيد، جامع لفرائد الفوائد، وزوائد العوائد، وسماه "الكواكب الدراري" لكن قال الحافظ ابن حَجَر في "الدرر الكامنة": وهو شرح مفيد، على أوهام فيه في النقل، لأنه لم يأخذه إلا من الصحف. وكذا شرحه ولده التّقِيّ يحيى، مستمدًا من شرح أبيه، وشرحه ابن المُلقِّن، وأضاف إليه من "شرح الزَّرْكَشيّ" وغيره من الكتب وما سنح له من حواشي الدِّمْياطي "وفتح الباري" "والبدر العِتابي" وسماه "مجمع البحرين، وجواهر الجدين" وهو في ثمانية أجزاء كبار، وكذا شرحه العلامة السراج بن المُلَقِّن، وكذا شرحه العلامة شمس الدين البرْماوِي في أربعة أجزاء، أخذه من شرح الكِرماني وغيره، كما قال في أوله. ومن أصوله أيضًا مقدمة "فتح الباري" وسماه "اللامع الصبيح"، ولم يُبيَّضْ إلا بعد موته، وكذا شرحه الشيخ برهان الدين الحلبي، وسماه "التلقيح لفهم قارئى الصحيح"، وهو بخطه في مجلدين، وبخط غيره في أربعة، وفيه فوائد حسنة، وقد التقط منه الحافظ ابن حَجَر، حيث كان جَلَبَ ما ظن أنه ليس عنده، لكونه لم يكن عنده إلا كراريس يسيرة من "الفتح"، وشرحه أيضًا شيخ الإِسلام الحافظ أبو الفضل ابن حَجَر، وسماه "فتح الباري" وهو في عشرة أجزاء، ومقدمته في جزء، وشهرته وانفراده بما اشتمل عليه من الفوائد الحديثية، والنكات الأدبية، والمهمات الفقهية تغني عن وصفه، لا سيما وقد امتاز بجمع طرق الحديث التي ربما يتبين من بعضها ترجيحُ أحد الاحتمالات شرحًا وإعرابًا، وطريقته في الأحاديث المكررة أنه يشرح في كل موضع ما يتعلق بقصد البخاري بذكره فيه، ويحيل بباقي شرحه على المكان المشروح فيه، قال الشيخ زَكَرِيا الأنصاري: وكثيرًا ما كان رحمه الله تعالى يقول: أود لو تتبعت الحوالاَت

التي تقع لي فيه، فإن لم يكن المحال به مذكورًا، أو ذكر في مكان آخر غير المحال عليه ليقع إصلاحه فما فعل ذلك، وكذلك ربما يقع لترجيح أحد الأوجه في الِإعراب أو غيره من الاحتمالات أو الأقوال في موضع، ثم يرجح في موضع آخر غيره إلى غير ذلك مما لا طَعْن عليه بسببه، بل هذا أمر لا ينفك عنه كثير من الأئمة المعتمدين، وكان ابتداء تأليفه في أوائل سنة سبع عشرة وثمان مئة على طريق الِإملاء، ثم صار يكتب بخطه شيئًا فشيئًا، فيكتب الكُرّاس، ثم يكتب جماعة من الأئمة المعتبرين، ويعارض بالأصل مع المباحثة في يوم من الأسبوع، وذلك بقراءة العلامة ابن خَضِر، فصار السِّفْرُ لا يكمل منه شيء إلا وقد قوبل وحرر، إلى أن انتهى. قلت: لعل هذا الصنيع الواقع في التأليف هو السبب في تغيير الِإحالات المذكورة. وكان انتهاؤه في أول يوم من رجب سنة اثنتين وأربعين وثمان مئة سوى ما ألحق فيه بعد ذلك، فلم ينته إلا قبيل وفاة المؤلف بيسير، ولما تم عمل مصنفه وليمة بالمكان المسمى بالتاج والسبع وجوه، وكانت في يوم السبت ثاني شعبان سنة اثنتين وأربعين، وقرىء المجلس الأخير هناك بحضرة الأئمة كالقاياتي، والونائي، والسعد الدُّرِّي، ولم يتخلف عنها من وجوه المسلمين إلا النادر، وكان المصروف على تلك الوليمة نحو خمس مئة دينار، أكمل الله تعالى بمنه وكرمه شرحنا، وأقدرنا على وليمة مثلها أو أزيد، وكملت مقدمته وهي في مجلد فخم في سنة ثلاث عشرة وثمان مئة. وقد اختصر "فتح الباري" الشيخ أبو الفتح محمَّد بن الشيخ وفي الدين ابن الحسين المَرَاغِيّ. وشرحه العلامة بدر الدين العَيْنِيّ الحنفي في عشرة أجزاء وأزيد، وسماه "عمدة القارىء"، وشرع في تأليفه في أواخر رجب سنة إحدى وعشرين وثمان مئة، وفرغ في آخر الثلث الأول من ليلة السبت خامس

جمادى الأولى سنة سبع وأربعين وثمان مئة واستمد فيه من "فتح الباري". كان فيما قيل يستعيره من البرهان بن خضر بإذن مؤلفه له، وتعقبه في مواضع مطولة بما تعمد الحافظ ابن حجر في "الفتح" تركه من سياق الحديث بتمامه، وإفراد كل من تراجم الرواة بالكلام، وبيان الأنساب، واللغات، والإعراب، والمعاني، والبيان، واستنباط الفوائد من الحديث، والأسئلة والأجوبة، وغير ذلك. قلت: جميع ما ذكر لم يترك منه في "الفتح" إلا ما يستغنى عنه، ومن تابع العَيْنيِّ وجده فيما يذكر من الأحاديث كالتخريج على "الفتح"، وقد حكي أن بعض الفضلاء ذكر لابن حَجَر ترجيح "شرح العيني" بما اشتمل عليه من البديع وغيره، فقال بديهة: هذا شيء نقله من شرح لركن الدين، وكنت وقفت عليه قبله، ولكن تركت النقل منه لكونه لم يتم، إنما كتب منه قطعة، وخشيت من تعبي بعد فراغها في الاسترسال في هذا النهج، ولذا لم يتكلم العيني بعد تلك القطعة بشيء من ذلك، قلت: يظهر هذا بديهة لمطالعه بعد الأجزاء الأول، وبالجملة هو شرح حافل كامل، ولكن "فتح الباري" فتح الباري. وكذا شرح مواضع من البخاري الشيخ بدر الدين الزَّرْكَشِيّ في "التنقيح"، وللحافظ ابن حجر نكت عليه لم تكمل، وكذا شرحه العلامة بدر الدين الدَّمامِيني، وسماه "مصابيح الجامع"، وشرحه الحافظ الجلال السُّيوطِيّ في تعليق لطيف قريب من "تنقيح" الزركشي، سماه "التوشيح على الجامع الصحيح"، وكذا شرح شيخ الإِسلام أبو زكرياء يحيى النَّوَوي قطعة من أوله، إلى آخر كتاب الإيمان، قلت: قد طبعت وطالعتها، وكذا شرح الحافظ ابن كثير قطعة من أوله، والزين ابن رجب الدمشقي، والعلامة السراج البُلْقِيني، والبدر الزَّرْكَشِي في غير "التنقيح" مطولًا، وشرحه المَجْد الشِّيرازِيّ اللغوي مؤلف "القاموس"، سماه "منح الباري بالسيح الفسيح المجاري في شرح البخاري"، كمل ربع العبادات منه في عشرين مجلدًا، وقدر تمامه في أربعين مجلدًا، قال التقي الفاسِيّ:

لكنه قد ملأه بغرائب المنقولات، لا سِيّما لما اشتهر باليمن مقالة ابن عربي، وغلب ذلك على علماء تلك البلاد، وصار يدخل من "فتوحاته" الكثير ما كان سببًا لشين شرحه عند الطاعِنين فيه، وقال الحافظ ابن حجر: إنه رأى القطعة التي كملت في حياة مؤلفه قد أكلتها الأرضة بكمالها، بحيث لا يقدر على قراءة شيء منها. ويقال: إن الِإمام أبا الفضل النُّوَيْرِيّ، خطيب مكة، شرح مواضع منه، وكذا العلامة محمَّد بن أحمد ابن مرزوق شارح بردة البُوصِيْرِيّ، وسماه "المتجر الربيح والمسعى الرجيح في شرح الجامع الصحيح"، وشرح العارف القدوة، عبد الله بن أبي جمْرة، ما اختصر منه وسماه "بهجة النفوس"، وشرحه البُرهان النُّعْماني إلى أثناء الصلاة، ولم يف بما التزمه، وشرحه شيخ الإِسلام، أبو يحيى زكريا الأنصاري السنيكي، وشرحه الشمس الكُوراني مؤدب السلطان المظفر أبي الفتح محمَّد بن عثمان، فاتح القُسْطَنْطِينِيّة، سماه "الكوثر الجاري إلى رياض صحيح البخاري"، وهو في مجلدين، وللعلامة شيخ الإِسلام جلال الدين البُلْقيني "بيان ما فيه من الايهام"، وهو في مجلد، وشرحه أبو البقاء الأحمدي، وأظنه لم يكمل، وشرحه فقيه مذهب الشافعية الجلال البَكْرِي، ولم يكمل، وكتب الشيخ شمس الدين الدَّلْجي قطعة لطيفة من شرحه، ولابن عبد البَرّ "الأجوبة على المسائل المُستغربة من البخاري"؛ سأله عنها المهلب بن أبي صفرة، وكذا لأبي محمَّد بن حَزْم عدة أجوبة عليه، ولابن المنير حواش على ابن بَطّال، وله أيضًا كلام على التراجم، سماه "المتواري"، وكذلك لأبي عبد الله بن رشيد "ترجمان التراجم"، وللفقيه أبي عبد الله محمَّد بن منصور بن حَمامة المَغراوي السلجماسي "حل أغراض البخاري المبهمة في الجمع بين الحديث والترجمة"، وهي مئة ترجمة. ولشيخ الإِسلام الحافظ ابن حَجَر "انتقاض الاعتراض" يجيب فيه عما اعترضه العيني عليه في شرحه، لكنه لم يُجِبْ عن أكثرها، ولعله كان يكتب الاعتراضات ويُبَيِّضُ لها، يجيب عنها، فاخترمته المنية، وله أيضًا

"الاستنصار على الطاعن المختار"، وهو صورة فتيا عما وقع في خطبة شرح البخاري للعلامة العيني، وله أيضًا أحوال الرِّجال المذكورين في البخاري زيادة على ما في "تهذيب الكمال"، وسماه "الإِعلام بمن ذكر في البخاري من الأعلام"، وله أيضًا "تغليق التعليق"، ذكر فيه تعاليق أحاديث الجامع المرفوعة، وآثاره الموقوفة، والمتابعات، ومن وصلها بإسناده إلى الموضع المعلق، وهو كتاب حافل عظيم في بابه، لم يسبقه إليه أحد فيما عُلِمَ، وقد نظمه العلامة اللغوي المَجْد صاحب "القاموس"، ولخصه في مقدمة "الفتح"، فحذف الأسانيد، ذاكرًا من خرجه موصولًا، وكذا شرح البخاري العلامة المتفنن الأوحد الزَّيْنِيُّ عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن أحمد العباسي الشافعي شرحًا رتبه على ترتيب عجيب، وأسلوب غريب، فوضعه كما قال في ديباجته على منوال مصنف ابن الأثير، وبناه على مثال جامعه المنير، وجرده من الأسانيد، راقمًا على هامشه بإزاء كل حديث حرفًا أو حروفًا يُعْلم بها من وافق البخاري على إخراج ذلك الحديث من أصحاب الكتب الخمسة جاعلًا إثر كل كتاب جامعٍ منه بابًا لشرح غريبه، واضعًا الكلمات الغريبة بهيئتها على هامش الكتاب موازيًا لشرحها، ليكون أسرع في الكشف، وأقرب إلى التناول، وقَرَّظَه شيخ الإِسلام البرهان بن أبي شريف، والزين عبد البر ابن الشِّحْنة، والعلامة الرَّضيّ الغزي. ومن أجود شروحه وأقربها تناولًا، وأحلاها مذاقًا وأحسنها اختصارًا مع كثرة الفائدة، "إرشاد الساري" شرح العلامة أحمد بن محمَّد بن أبي بكر ابن عبد الملك بن أحمد بن محمَّد بن محمَّد بن الحسين بن علي القَسْطَلّاني القاهِري الشافعي، ولد في اثنتين وعشرين ذي القعدة، سنة إحدى وخمسين وثمان مئة بمصر، وتوفي يوم الخميس مُسْتَهَل المحرم افتتاح سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة، وكان يوم موته يوم دخول السلطان سليم مصر، وتعذر الخروجُ به في ذلك اليوم إلى الصحراء.

مبادئ علم الحديث

وقد نظم شيخ الإِسلام البُلقيني مناسبات ترتيب تراجم البخاري بقصيدة طويلة أولها: أَتَى في البُخارِي حكمة في التَّرَاجِمِ ... مناسبة في الكتبِ مِثل البَراجِمِ ذكرها القَسْطَلّاني بأجمعها. وممن شرحه شيخ أشياخي ووالدهم الشيخ محمَّد سالم المَجْلِسي في أربعة عشر مجلدًا ضخامًا وسماه "النهر الجاري". هذا ما وقفت عليه من شروحه، مما كَمَل، ومما لم يَكْمُل، ومما اقتصر على التراجم، والجميع يقرب من نحو الخمسين. مبادئ علم الحديث والآن أُقَدِّمُ قبل الشروع في تقرير المتن كلامًا مختصرًا على مبادئ علم الحديث رواية ودِراية، لأنهما مجموعان في هذا الكتاب باعتبار المتن والشرح، فقد قال العلماء: إن كل من قصد فنًّا من الفنون يلزمه قبل الشروع فيه معرفة مبادئه العشرة، ليكون الطالب على بصيرة في طلبه، لاستحالة توجيه النفس نحو المجهول المطلق، لأنّ الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وقد يقال: الحكم على الشيء ردًّا وقبولا فرع عن كونه معقولا. والمبادىء العشرة قسمان: قسم تجب معرفته وجوبًا صناعيًّا، وهو ثلاثة: الحد، والموضوع، والغاية، وقسم تندب معرفته كذلك، وهو ما عدا ذلك. وقد مر لك أن علم الحديث رواية ودراية، والحديث يرادفه الخبر على الصحيح، وهو ما أضيف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل: أو إلى صحابي، أو إلى مَنْ دونه من قول، أو فعل، أو تقرير، أو صفة، وهذا هو المعبر عنه بعلم الحديث رواية ويحد: بأنه علم يشتمل على نقل ذلك.

وموضوعه كما قال الشيخ زكريا وغيره: ذات النبي - صلى الله عليه وسلم - من حيث إنه نبي، وقال المُناوِي في: "شرح نخبة الفكر": إن هذا باطل؛ لأنّ ما قاله موضوع علم الطب لا الحديث. قلت: أما قوله: إنه باطل فهو ظاهر عندي ولكن لا من الوجه الذي قاله. فقوله: إن هذا موضوع علم الطب غير صحيح؛ فإنه سها عن آخر الحد من قوله، من حيث إنه نبي، فموضوع علم الطب الذات الشريفة من حيث الجسمية لا من حيث النبوة، لكن الحد مردود من حيث القصور، فإن موضوع كل فن ما يُبحث في ذلك الفن عن عوارضه الذاتية، فالحديث يُبحث فيه عن ذاته عليه الصلاة والسلام من حيث إنه نبي، وعن ذات الله تعالى وصفاته، وعن جميع الحلال والحرام، وكل الشريعة المحمدية؛ فتبين بهذا قصور الحد. وغايته الفوز بسعادة الدارين. وأما استمداده فهو من الوحي المنزل عليه - صلى الله عليه وسلم -. ومسائله الأفراد المستفادة من الأحاديث. واسمه علم الحديث روايةً. وواضعه في الحقيقة هو الله تعالى، وبالواسطة هو النبي عليه الصلاة والسلام. ونسبته إلى علوم الشريعة غير التفسير كلي، وإلى التفسير نسبةُ تساوٍ، هذا ما ظهر لي، والله تعالى أعلم. وحكم الوجوب كفائي، إذ فرض العين تمكن معرفته من الفقه، وهو مؤلف فيه. وفضله لا يعلمه إلا الله تعالى، لأنّ فضل كل علم بنسبة ما عُلِم منه، وعلم الحديث معلومة منه الشريعة بأسرها.

وأما علم الحديث دِراية، وهو المراد بعلم الحديث عند الإِطلاق؛ فهو علم يقصد به حال الراوي، والمروي، من حيث القَبُول والرد، وما يتعلق بذلك من معرفة اصطلاح أهله. وموضوعه: الراوي والمروي من حيث ذلك. وغايته: معرفة ما يُقْبَلُ وما يُرَدُّ من ذلك. ومسائله: ما يذكر في كتبه من المقاصد. وقيل: موضوعه: السند والمتن، وغايته: تمييز الصحيح. وقيل: موضوعه: طرق الحديث، لأنّ المحدث يبحث عما يعرِض لذلك من الاتصال، وأحوال الرجال. وواضعه الذي هو أول ما اخترعه وصنف فيه القاضي أبو محمَّد الحسن بن عبد الرحمن الرّامَهُرْمُزي -بفتح الراء والميم، وضم الهاء والميم الثانية، وسكون الراء آخره زاي- نسبة إلى رَامَهُرْمُز: كورة من كور الأهواز، من بلاد خُوزِستان، ثم صنف فيه بعده كثير من العلماء. واسمه: علم الحديث دراية. وفضله: بما استفيد منه من تصحيح السنة. وصونها عن التلاعب بها، وأعظم به من فضل. وحكم الوجوب: الكفائي. وأتيت في تقدير ألفاظ المتن بعبارات مختصرة ملتقطًا لها غالبًا من "فتح الباري"، وطورًا من "عمدة القاري"، و"إرشاد الساري" محتوية على زبدة ما في الكتب الثلاثه مع زيادات من غيرها، ملتزمًا عند الحديث الأول من البخاري جميع ما تفرق في "الفتح" في غير ذلك من المواضع، حتى تمكن الإحالة عليه في جميع المواضع في الغالب، وإنما يحصل غير الغالب حين يكون الحديث الأول معلقًا أو مختصرًا.

سند المؤلف المتصل بالبخاري

سند المؤلف المتصل بالبخاري وحيث إن الأسانيد أنساب الكتب كما قالوا، لا بد لي من سند إلى البخاري ليصح الانتساب إليه، وأكتفي في سندي إليه بالاتصال بابن حجر العسقلاني، وتبيين طرقه المتصلة بالبخاري، فسندي إلى ابن حَجَر عن شيخي أحمد بن محمَّد عينين اللَّمْتوني الشِّنْقِيطي، سماعًا منه لكثير من العلوم المتفرقة، عن شيخه الشيخ محمد محمود بن حبيب الله ابن القاضي، عن شيخه سيدي عبد الله بن الحاج بن إبراهيم العَلَوِيّ، عن شيخه الشيخ محمَّد بن الحسن البُناني صاحب الثَّبت الشهير، عن شيخه سيدي محمَّد بن عبد السلام البُناني، عن شيخه أبي الفضل سيدي أحمد ابن العربي بن الحاج، وعن سيدي محمَّد بن عبد القادر الفاسِيّ كلاهما عن تاج الأمة سيدي عبد القادر بن علي بن يوسف الفاسي، والد الثاني، عن عم أبيه أبي زيد سيدي عبد الرحمن بن محمَّد الفاسي، عن العلامة النظار أبي عبد الله محمَّد بن القاسم القصار القَيْسيّ، عن الولي سيدي رضوان بن عبد الله الجندي، عن الولي سيدي عبد الرحمن بن علي المعروف بسُقَّين -بضم السين المهملة، وفتح القاف المشددة- السُّفياني، عن شيخ الإِسلام، قاضي القضاة زكريا الأنصاري الشافعي، عن شيخ الإِسلام الحافظ شهاب الدين أحمد بن علي بن محمَّد بن محمَّد ابن حجر العسقلاني، المولود سنة ثلاث وسبعين وسبع مئة، المتوفى سنة اثنتين وخمسين وثمان مئة. وقد اتصل لابن حجر من أربعة طرق، عن أبي عبد الله بن يوسف بن مطر بن صالح بن بشر الفِرَبْرِيّ، توفي سنة عشرين وثلاث مئة، وكان سماعه للصحيح مرتين، مرة بفِرَبْر سنة ثمان وأربعين، ومرة ببخارى سنة اثنتين وخمسين ومئتين، وعن إبراهيم بن معقل بن الحجاج النَّسَفِيّ، وكان من الحفاظ، وله تصانيف. توفي سنة أربع وتسعين ومئتين، وقد فاتته من الجامع أوراق، رواها بالإِجازة، وعن حماد ابن شاكر النَّسَوِيّ، مات في حدود التسعين، وله فيه فوت أيضًا، وعن أبي طلحة منصور بن محمَّد بن علي بن قرينة -بقاف ونون بوزن كريمة-

البَزْدَوِيّ -بفتح الموحدة، وسكون الزاي- توفي سنة تسع وعشرين وثلاث مئة، وهو آخر من حدث عن البخاري بصحيحه، كما قال ابن ماكولا وغيره، وقد عاش بعده ممن سمع من البخاري القاضي الحسين بن إسماعيل المَحامِليّ ببغداد، ولكن لم يكن عنده الجامع الصحيح، وإنما سمع منه مجالس أملاها ببغداد في آخر قدمة قدمها البخاري، وقد غلط غلطًا فاحشًا من روى "الصحيح" عن المحاملي المذكور، والذي انتشرت رواية الصحيح عنه من الأربعة المذكورين، هو الفِرَبْري، فقد رواه عنه تسعة: الحافظ أبو علي سعيد بن عثمان بن سعيد بن السَّكَن -بفتح السين والكاف-، والحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد المُسْتَمْلي، وأبو نصر أحمد بن محمَّد بن أحمد الأَخسيكثي، والفقيه أبو زيد محمَّد بن أحمد المَرْوَزِيّ، وأبو علي محمَّد بن عمر بن شبويه، وأبو أحمد محمَّد بن محمَّد الجُرجانيّ -بجيمين- وأبو محمَّد عبد الله بن أحمد السَّرَخْسيّ، وأبو الهيثم محمَّد بن مكي الكُشْمِيْهَنِيّ، وأبو علي إسماعيل بن محمَّد ابن أحمد بن حاجب الكُشّاني، وهو آخر من حدث الصحيح عن الفِرَبْري. فأما رواية ابن السَّكَنِ فرواها عنه عبد الله بن محمَّد بن أسد الجُهَنِيّ، ورواها الحافظ ابن حجر عن الجُهَنِيّ، عن شيخه أبي علي محمَّد بن أحمد بن علي بن عبد العزيز عن يحيى بن محمد بن سعد، عن جعفر بن علي الهَمْدانيّ، عن عبد الله بن عبد الرحمن الدِّيباجِيّ -بالجيم- عن عبد الله بن محمَّد بن محمد بن علي الباهِلِيّ، عن أبي علي الحسين بن محمَّد الجَيّاني -بفتح الجيم، وتشديد المثناة التحتية وبالنون- عن القاضي أبي عمر أحمد بن محمَّد بن يحيى بن الحَذّاء قراءة عليه، وعن أبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمَّد بن عبد البر الحافظ إجازة، قالا: حدثنا أبو محمَّد الجُهَنِيّ وكان ثقةً ضابطًا، عن أبي السَّكَنِ، عن الفِرَبْري. وأما رواية المُسْتَملي فرواها عنه الحافظ أبو ذر عبد الله بن أحمد الهَرَوِيّ -بفتح الهاء والراء- وعبد الرحمن بن عبد الله الهَمْدانِيّ، وقد روى

أبو ذر أيضًا عن السرخسيّ، والكُشْمِيهَنيّ. وقد روى ابن حَجَر رواية أبي ذَرّ عن شيوخه الثلاثة، عن أبي محمَّد عبد الله بن محمَّد بن محمَّد بن سليمان المَكِّي، عن إمام المقام أبي أحمد إبراهيم بن محمَّد بن أبي بكر الطَّبَريّ، عن أبي القاسم عبد الرحمن بن أبي حَرَمي المكي، عن أبي الحسين علي بن حُميد بن عمار الطَّرَابُلُسيّ، عن أبي مَكْتوم عيسى بن الحافظ أبي ذَرّ عبد الله أحمد، عن أبيه، عن شيوخه الثلاثة الفربري. وأما رواية عبد الرحمن الهَمْدانيّ، عن شيخه المستملي؛ فرواها ابن حَجَر عن أبي حيان محمَّد بن حيان بن العلامة أبي حيان، عن جده، عن أبي علي بن أبي الأَحْوَصِيّ، عن أبي القاسم بن بَقِيّ، عن شريح ابن علي بن أحمد بن سعيد، عن عبد الرحمن الهَمْدانيّ، عن المُسْتَمْلي، عن الفِرَبْرِيّ. وأما رواية الأخسيكثي؛ فرواها عنه إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل الصَّفّار الزّاهد، وقد روى ابن حَجَر رواية إسماعيل المذكور بهذا السند المار إلى أبي حيّان، عن أبي جعفر أحمد بن يوسف الطحالي، ويوسف ابن إبراهيم بن أبي رَيْحانة المالِقي، كلاهما عن القاضي أبي عبد الله محمَّد بن أحمد بن محمَّد الأنصاري ابن الهيثم، عن القاضي أبي سليمان داود بن الحسن الخَالدي، عن إسماعيل المَذْكور، عن الأخسيكثي، عن الفِرَبْرِيّ. وأما رواية الفقيه أبي زيد المَرْوَزِيّ؛ فقد رواها عنه الحافظ أبو نُعيم الأَصْبَهاني، والحافظ أبو محمَّد عبد الله بن إبراهيم الأَصِيليّ، نسبة إلى أَصِيلا من بلاد العُدْوة، نشأ بها، وسكنها، ومات بها لإِحدى عشرةَ ليلة بقيت من ذي الحجة سنة اثنتين وتسعين وثلاث مئة، والحافظ أبو الحسن علي بن محمَّد القابِسي -بالقاف، والموحدة، والمهملة-. فأما رواية أبي نُعيم فرواها ابن حَجَر عن علي بن محمَّد بن محمَّد الدِّمَشْقي، عن سليمان بن حَمْزة بن أبي عمر، عن محمَّد بن عبد الهادي المَقْدِسي، عن

الحافظ أبي موسى محمَّد بن أبي بكر الدملي، عن أبي علي الحسن بن أحمد بن الحسن الحداد، عن أبي نُعيم، عن شيخه أبي زيد المَرْوَزِيّ، عن الفِرَبْري. وأما رواية الأَصِيلِيّ، والقابِسي عن أبي زيد المَرْوَزِيّ؛ فرواها ابن حَجَر بالإِسناد المتقدم في رواية الجُهَنيّ، عن ابن السَّكَنِ إلى أبي عليٍّ الجيّلخي، عن أبي شاكر عبد الواحد بن محمَّد بن وَهْب، عن الأصِيلِيّ وحاتم بن محمَّد الطَّرابُلُسيّ، عن القابِسِيّ، وبالإِسناد المذكور إلى جعفر بن علي كتب إلى الحافظ أبي القَاسم خَلَف بن بَشْكُوال، أنبأنا عبد الرحمن بن محمَّد بن غياث، عن حاتم، عن القابِسِيّ، عن أبي زيد المَرْوَزِيّ، عن الفِرَبْريّ. وأما رواية أبي علي الشَّبُّوي، فرواها عنه سعيد بن أحمد بن محمَّد الصَّيرَفِيّ العَيّار، وعبد الرحمن بن عبد الله الهَمْداني؛ فروى ابن حَجَر رواية سعيد العَيّار، عن محمَّد بن علي بن محمَّد الدِّمَشْقي، عن محمَّد ابن يوسف بن الهَتّان، عن العلامة تَقِيّ الدين أبى عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشَّهْرُزورِيّ المعروف بابن الصّلاح، عن منصور بن عبد المنعم بن عبد الله بن محمَّد بن الفَضْل الرّازيّ، عن محمَّد بن إسماعيل الفارِسيّ، عن سعيدٍ العَيّار، عن أبي علي محمَّد بن عمر الشَّبُّويّ، عن الفِرَبْريّ، ورواية عبد الرحمن الهَمْداني قد مر سندها في روايته عن المُسْتَمْلِيّ. وأما رواية أبي أحمد الجُرجانيّ، فقد رواها عنه أبو نُعيم، والقابِسي أيضًا، وقد مر سند ابن حَجَر فيهما في روايتهما عن أبي زيد المَرْوَزِيّ. وأما رواية أبي محمَّد السرْخسيّ -بفتح السين المهملة والراء وسكون الخاء المعجمة، وسكون الراء وفتح المعجمة- فقد رواها عنه أبو ذَرّ، وقد مر السند إليه في روايته عن المُسْتَمْلي، وأبو الحسن عبد الرحمن بن

محمَّد بن المظفر الداوودي البُوشَنْجِيّ -بضم الموحدة، وسكون الواو، وفتح المعجمة، وسكون النون، وبكسر الجيم- نسبة إلى بلدةٍ بقرب هَراة خراسان المتوفى سنة سبع وستين وأربع مئة، وقد روى ابن حَجَر رواية الداوودي، وهي أعلى رواية له، عن أبي محمَّد عبد الرحيم بن عبد الكريم بن عبد الوَهّاب بن حَمُّوَيْه -بفتح المهملة، وتشديد الميم المضمومة، وسكون الواو، وفتح الياء التحتية-، وأبي علي محمَّد بن محمَّد بن علي الجِيْزِيّ، وأبي إسحاق إبراهيم بن أحمد بن علي بن عبد الواحد بن عبد المؤمن البَعْلِيّ -بالموحدة المفتوحة، والعين الساكنة- وأبي الحسن علي بن محمَّد بن محمَّد الجَوْزِيّ. أخبر الأولان عن أبي العباس أحمد بن أبي طالب بن أبي النعم، نعمة بن الحسن بن علي بن بيان الصّالحِيّ، وعن ست الوزراء، وزيرة بنت محمَّد بن عمر بن أسعد بن المُنَجّا التَّنُوخِيّة، وأخبر الثالث أبو إسحاق، عن أحمد بن أبي طالب بن نِعْمة، وقال الرابع علي بن محمَّد، قرىء على ست الوزراء، وأنا أسمع، روى الجميع عن أبي عبد الله الحُسين بن المبارك بن محمَّد بن يَحْيى الزُّبَيْدِيّ، وقالوا -سوى المرأة- كتب إلينا أبو الحسن محمَّد بن أحمد بن عُمر القَطِيعِيّ، وأبو الحسن علي بن أبي بكر بن رُوزبه القَلانسي، وثابت بن محمَّد الخُجَنْدي، أخبر الجميع عن أبي الوقت عبد الأول بن عيسى بن شُعيب السِّجْزِيّ -بكسر المهملة، وسكون الجيم، وكسر الزاي- الهَرَوِيّ الصوفي، ولد في ذي القعدة سنة ثمان وخمسين وأربع مئة، ومات في ذي القعدة، ليلة الأحد، سنة ثلاث وخمسين وخمس مئة، عن أبي الحسن الدَّاوودي عن السرخَسيّ، عن الفِرَبْرِيّ. وأما رواية الكُشْمِيهَنيّ فقد رواها عنه أبو ذَر، وقد سند ابن حَجَر إليه في روايته عن المُسْتَمْلي، ورواها عنه أبو سهل محمَّد بن أحمد الحَفْصي، وكريمة بنت أحمد المَرْوَزِيّة، وقد روى ابن حَجَر رواية الحَفْصي بالإسناد الماضي في رواية سعيد العَيّار، عن أبي علي الشَّبُّوي

إلى منصور بن عبد المُنعم، عن أبي بكر وجيه بن طاهر، وعبد الوهاب ابن شاه الشّاذِياخِيّ وجد أبي محمَّد بن الفضل الصاعِديّ عن الحَفْصِيّ عن الكُشْمِيهَنيّ عن الفِرَبْرِيّ، وروى رواية كريمة عن الحافظ أبي الفضل عبد الرحيم بن الحسين العِراقي، عن أبي علي عبد الرحيم بن عبد الله الأَنْصَارِيّ عن المُعين أحمد بن علي بن يوسف الدِّمَشْقي، وإسماعيل بن عبد القَويّ بن عَزُّون -بفتح العين المهملة، وضم الزاي المشددة، وبالواو، والنون- المِصْري، وأبو عمرو عثمان بن رَشِيق -بفتح الراء، وكسر المعجمة- المالكي، سماعًا وإجازةً لما فات، أخبر الجميع عن أبي القاسم هبة الله بن علي بن مسعود البُوصِيْرِيّ، عن أبي عبد الله محمَّد ابن بركات النَّحْوِيّ السَّعْدِيّ، عن كريمة، عن الكُشْمِيْهَنيّ، عن الفِرَبْرِيّ. وأما رواية أبي علي إسماعيل الكُشَاني، فرواها عنه أبو العباس جعفر ابن محمَّد المُسْتَغْفِري، وقد روى ابن حَجَر رواية المُسْتَغْفِري بالإِسناد الماضي في رواية أبي نُعيم الأصبهاني عن أبي زيد إلى موسى محمَّد بن أبي بكر الدملي، قال: أنبأنا أبي، عن الحسن بن أحمد، عن المُسْتَغْفِرِيّ، عن الكُشانيّ عن الفِرَبْرِيّ، فهذه أسانيد ابن حَجَر المتصلة بالتسعة الذين رووا عن الفِرَبْرِيّ، بذلت الجهد في ترتيبها ترتيبًا يسهل تناولها به، لم يفعله صاحب الأصل ابن حَجَر. وأما الثلاثة الباقية من الأربعة الراوين عن البخاري صحيحه، فإبراهيم بن مَعْقِل، روى ابن حَجَر روايته بالإِسناد الماضي في رواية الجُهَنيّ عن ابن السَّكَنِ، إلى أبي علي الجَيّاني، قال: أنبأنا الحكم بن محمَّد، عن أبي الفضَل عيسى بن أبي عِمران الهَرَوِيّ، سماعًا لبعضه، وإجازة لباقيه، عن أبي صالح خَلَف بن محمَّد بن إسماعيل البخاري، عن إبراهيم بن مَعْقِل البُخاري. وأما حَمّاد بن شاكر، فروى ابن حَجَر روايته عن أحمد بن أبي بكر

ابن عبد الحميد، عن أبي الرَّبيع بن أبي طاهر بن قُدامة، عن الحسن بن السيد العَلَوِيّ، عن أبي الفضل بن ناصر الحافظ، عن أبي بكر أحمد بن خَلَف، عن الحاكِم أبي عبد الله محمَّد بن عبد الله الحافِظ، عن أحمد بن محمَّد بن رُمَيْح النَّسَوِيّ، عن حَمَّاد بن شاكِر، عن البُخاري. وأما أبو طلحة البَزْدَوِيّ، فقد روى ابن حَجَر روايته بالسند الماضي إلى المُسْتَغْفِرِيّ، قال: أنبأنا أحمد بن عبد العزيز، عن أبي طلحة البَزْدَوِيّ، عن البُخاري. هذا سندي إلى البُخاري المبتدأ بالسماع من علماء الغرب، ولي فيه عدة أسانيد من علماء بالمشرق بالإِجازة منها: إني أجازني فيه الشيخ محمَّد عابد بن حسين، مفتي المالكية، بمكة المكرمة، المتوفى بها، عن شيخه العلامة السيد أحمد بن زيني دحلان المالِكِيّ، مفتي الشافعية بمكة، المتوفى بالمدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، عن شيخه العلامة الشيخ عُثمان بن حسن الدِّمْياطي المِصْري ثم المَكِّي مهاجرًا، المتوفى بها، عن شيخه العلامة الشهير الشيخ محمَّد بن محمَّد الأمير الكبير المَكِّيّ، صاحب الثبت الشهير، وهو يرويه عن شيخه السَّقّاط، عن شيخه الشيخ أحمد المكي، عن الشيخ محمَّد بن علاء الدين البَابِلِيّ المَكِّيَ، عن الشيخ سالم السَّنْهُورِيّ المالِكِي، عن النَّجْمِ القِبْطِي، عن شيخ الإِسلام ابن حَجَر بأسانيده التي فصلناها غاية التفصيل فيما مر إلى كل من روى عن البُخاري، ورواه البابِليّ سماعًا، وإجازة، عن شهاب الدين الرَّمْلِيّ، عن ابن حَجَر، فيكون أعلى من الأول بدرجتين، ولي عدة أسانيد يطول جَلْبها، وفي هذا حصول الغرض الذي أردته من التوصيل الذي أوردته، فَلْيَقَعِ الشروع مقتصرًا في المتن على الرواية التي قال في "الفتح": إنها هي أتقن الروايات، وهي رواية أبي ذر عبد الله بن أحمد الهَرَوِيّ، عن مشايخه الثلاثة أبي إسحاق إبراهيم بن أحمد المُسْتَمْلي، وأبي محمَّد عبد الله بن أحمد السرخسيّ -بفتح السين المهملة والراء وسكون الخاء، وسكون الراء وفتح المعجمة- وأبي الهيثم محمَّد بن مكي الكُشْمِيهَنِيّ

-بكاف مضمومة، وشين معجمة ساكنة، وميم مفتوحة، وياء ساكنة، وهاء مفتوحة، وقد تكسر، وقد تبدل الياء ألفًا، وقد تمال الألف -وهو نسبة إلى قرية بمَرو، وإنما كانت أتقن لضبطه لها، وتمييزه لاختلاف سياقِها، وفيها نبه على ما يحتاج إليه مما يخالفها، فأقول: قال الشيخ الإِمام الحافظ أبو عبد الله محمَّد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المُغيرة بن بَرْدِزْبه -بفتح الموحدة، وسكون الراء، وكسر الدال المهملتين، وسكون الزاي المعجمة، وفتح الموحدة، بعدها هاء ساكنة- ومعناه الزراع بالفارسية البخاري رحمه الله تعالى آمين وقد مر تعريفه مستوفى، قال رحمه الله تعالى:

كتاب بدء الوحي

1 - كتاب بدء الوحي باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الكلام على البسملة طويل، وليس هذا المختصر محلًّا للكلام فيها، وجزى الله تعالى الإِمام أبا العباس سيدي أحمد بن عبد العزيز الهِلالي سحائبَ الرُّضوان، فقد تكفل بجميع مباحثها في شرحه لخطبة "مختصر خليل". وقد قال العلماء: إنه ينبغي لكل مؤلف أن يتكلم عليها من جهة الفن الذي هو فيه، ومن المناسب هنا الحديث المشهور الذي أخرجه الحافظ عبد القادر في "أربعينه"، والخطيب في "الجامع"؛ أنه- صلى الله عليه وسلم - قال: "كلُّ أمرٍ ذي بال لا يُبْدأ فيه بذكر الله تعالى، وببسم الله الرحمن الرحيمِ فهو أقطع" أي: قليل البركة، واختلف القدماء فيما إذا كان الكتاب كله شعرًا، فجاء عن الشعبي منع ذلك، وعن الزُّهري، قال: مضت السنة أن لا يكتب في الشعر بسم الله الرحمن الرحيم، وعن سعيد بن جُبَيْر جواز ذلك، وتابعه على ذلك الجمهور، وقال الخطيب: هو المختار واستقر عمل الأئمة المصنفين على افتتاح كتب العلم بها، وكذا معظم كتب الرسائل، واعترض على المصنف بكونه لم يفتتح الكتاب بخطبة تنبىء عن مقصوده، مفتتحة بالحمد والشهادة امتثالًا لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كلُّ أمرٍ ذي بالٍ لا يُبدأ فيه بحمد اللهِ، فهو أقطعُ". وفي رواية "أجذمُ". أخرجه أبو داود، والنسائي وابن ماجة، وابن حبان، وأبو عوانة في "صحيحيهما". وقال ابن الصّلاح: هذا حديث حسن بل صحيح، ولقوله عليه الصلاة والسلام: "كُلُّ خُطْبَةٍ ليس فيها شهادةٌ فهي كاليد الجَذْماء" أخرجه أبو داود وغيره من حديث أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه، وقوله: أجذم لا خير فيه كالمجذوم. وأجيب عن عدم الإِتيان بالخطبة بأن الخطبة الغرض منها الافتتاح بما

يدُلُّ على المقصود، وقد صدر الكتاب بترجمة بدء الوحي، وبالحديث الدال على مقصوده المشتمل على أن العمل دائر مع النية، فكأنه يقول: قصدت جمع وحي السنة المتلقى من خير البرية على وجه سيظهر حسن عملي فيه من قصدي؛ وإنما لكل امرئ ما نوى، فأكتفي بالتلويح عن التصريح، وأجيب عن عدم الإِتيان بالحمد والشهادة بأن الحديثين ليسا على شرطه، وإن سلمنا صلاحيتهما للحجة، فليس فيهما أن ذلك يتعين بالنطق والكتابة معًا، فلعله حمد وتشهد نطقًا عند وضع الكتاب، ولم يكتب ذلك اقتصارًا على البسملة، لأنّ القدر الذي يجمع الأمور الثلاثة ذكر الله، وقد حصل بها؛ ويؤيده أن أول شيء نزل من القرآن {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} فطريق التأسي به الافتتاح بالبسملة، والاقتصار عليها، لا سيما وحكاية ذلك من جملة ما تضمنه هذا الباب الأول، بل هو المقصود بالذات من أحاديثه. وصنيع البخاري هو صنيع شيوخه، وشيوخ شيوخه، وأهل عصره، كمالك في "الموطأ"، وعبد الرزاق في "المصنف"، وأحمد في "المسند"، وأبو داود في "السنن"، إلى ما لا يحصى ممن لم يقدم في ابتداء تصنيفه، ولم يزد على التسمية، وهم الأكثر، والقليل منهم من افتتح كتابه بخطبة، فيحمل ذلك من صنيعهم على أنهم حمدوا لفظًا، ويؤيده ما رواه الخطيب في "الجامع" عن أحمد أنه كان يتلفظ بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كتب الحديث ولا يكتبها، والحامل له على ذلك إسراع أو غيره، أو يحمل على أنهم رأوا ذلك مختصًا بالخطب دون الكتب، ولهذا من افتتح كتابه منهم بخطبة، حمد وتشهد كما صنع مسلم، ويؤيده أيضًا وقوع كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الملوك، وكتبه في القضايا مفتتحة بالتسمية دون حمدلة وغيرها، كما يأتي في حديث أبي سُفيان في قصة هِرَقْل في هذا الباب، وكما يأتي في حديث البَراء في قصة سهيل بن عمرو في صلح الحُدَيْبِيَة، وغير ذلك من الأحاديث، فهذا يشعر بأن لفظ الحمد والشهادة، إنمَا يُحتاج إليه في الخطب دون الرسائل والوثائق،

فكأن المصنف لما لم يفتتح كتابه بخطبة أجراه مجرى الرسائل إلى أهل العلم، لينتفعوا بما فيه تعلمًا وتعليمًا. وأما الجواب عنه بأنه تعارض عنده الابتداء بالتسمية والحمدلة، فلو ابتدأ بالحمدلة لخالف العادة، أو التسمية لم يعد مبتدئًا بالحمدلة، فاكتفى بالتسمية، فهو مُتَعَقَّبٌ بأنه لو جمع بينهما لكان مبتدئًا بالحمدلة بالنسبة إلى ما بعد التسمية، وهذه هي النكتة في حذف واو العطف بينهما، فيكون أولى لموافقته الكتاب العزيز، فإن الصحابة كتبوا المصحف بالتسمية والحمدلة وتلوها، وتبعهم جمع من كتاب المصحف بعدهم في جميع الأمصار من يقول: أن البسملة آية من القرآن، ومن لا يقول ذلك. وقد سقط في رواية أبي ذَرٍّ، والأَصِيلِيّ لفظة باب، وثبت في رواية غيرهما، فَحَكى فيه عياض ومن تبعه التنوين، وتركه بالإضافة إلى كيف، وقال الكِرْماني: يجوز فيه الإسكان على سبيل التعداد للأبواب، فلا يكون له إعراب. والباب لغة: فُرجة يتوصل بها من داخل إلى خارج وبالعكس، حقيقة في الأجسام، كباب الدار، ومجاز في المعاني، كباب الصيام مثلًا. واصطلاحًا: اسم لطائفة من مسائل العلم مشتركة في الفن، مشتملة على فصول غالبًا عند مصنفي الفقهاء، وقد قال في "الفتح": إن البخاري إذا ذكر الباب بدون ترجمة، يكون بمنزلة الفصل مما قبله مع تعلقه به، كصنيع مصنفي الفقهاء. و"باب" على التنوين وعدمه خبر مبتدأ محذوف، تقديره هذا باب، وإضافته لكيف من باب الإِضافة إلى الجمل على حد قول الشاعر: وأَجَبْتُ قائِلَ كَيْفَ أَنْتَ؟ بِصالِحٍ ... حتّى مَلِلْتُ ومَلَّني عُوَّادِي والجملة إذا أريدَ لفظُها تكون في حكم المفرد، يضاف إليها كل

اسم يَقْبلُ الإِضافة، وقول ابن هشام: إن الذي يضاف إلى الجملة ثمانية أسماء، محله في الجملة التي لا يراد بها لفظها. و"كيف": اسم يُستفهم به في الغالب عن الخبر أو الحال، وهي هنا خبرٌ لكان، إن كانت ناقصة، وحالٌ من فاعلها إن كانت تامةً، ولا بد من تقدير مضاف قبلها، أي: باب جواب كيف كان بدء الوحي، لأنّ المذكور في هذا الباب هو جواب كيف كان بدء الوحي؟ لا السؤال بكيف عن بدء الوحي؟ وجملة كان ومعمولها في محل جر بالإِضافة على إضافة باب لكيف، ولا تخرج كيف بذلك عن الصَّدرِيّة، لأنّ المراد من كون الاستفهام له الصدر، أن يكون في صدر الجملة التي هو فيها، وكيف على هذا الإِعراب كذلك، وعلى عدم الإِضافة، كيف منصوبة على الحال. وقوله: "بدء الوحي". قال عياض: روي بالهمز مع سكون الدال من الابتداء، وبغير همز مع ضم الدال وتشديد الواو من الظهور، قال في "الفتح": وقع في بعض الروايات كيف كان ابتداء الوحي، وهذا يرجح الأول. والوحي لغة: الإعلام في خفاء، وشرعًا: إعلام الله تعالى أنبياءه الشيء إما بكتاب، أو برسالة ملك، أو منام، أو إلهام، وقد يجيء بمعنى الأمر نحو: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي} [المائدة: 111]. وبمعنى التسخير {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل: 68]، أي: سَخَّرَها لهذا الفعل، وقد يعبر عن ذلك بالإِلهام، لكن المراد به هدايتها لذلك، وإلا فالإِلهام حقيقة إنما يكون لعاقل. والإِشارة نحو {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 11]، وقد يُطلق على المُوحى كالقرآن والسنة من إطلاق المصدر على المفعول، قال الله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4]، ثم قال: وقول الله جل ذكره: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ

مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163]، ولأبوي ذَرٍّ والوقت: "وقوله عَزَّ وَجَلَّ"، ولابن عساكر: "وقول الله سبحانه"، "وقول": مجرور عطفًا على الجملة المضاف لها باب، أي: باب كيف كان بدء الوحي، ومعنى قول الله كذا، أو الاحتجاج بقول الله كذا، وبالرفع على حذف الباب عطفًا على الجملة لأنها في محل رفع، وكذا على تنوين باب، وهو في حال الرفع محذوف الخبر، أي وقول الله كذا مما يتعلق بهذا الباب، وإنما لم يقدروا باب: كيف قول الله، لأنّ قول الله لا يكيف، وأجيب بأنه يصح على تقدير مضاف، أي كيف نزول قول الله، أو كيف فهم معنى قول الله، أو أن يراد بكلام الله المنزل المتلو لا مدلوله، وهو الصفة القائمة بذات الباري تعالى، والآية نزلت جوابًا لأهل الكتاب في اقتراحهم أن ينزل عليهم كتابًا من السماء، واحتجاجًا عليهم بأن أمره في الوحي كسائر الأنبياء، وآثر صيغة التعظيم تعظيمًا للوحي والموحى إليه، ومناسبتهما للترجمة واضحة من جهة أن صفة الوحي إلى نبينا - صلى الله عليه وسلم - توافق صفة الوحي إلى من تقدمه من النبيين، ومن جهة أن أول أحوال النبيين في الوحي بالرؤيا، كما رواه أبو نُعيم في "الدلائل" بإِسناد حسن، عن عَلْقَمَةَ بن قيس، صاحب ابن مسعود، قال: إن أول ما يؤتى به الأنبياء في المنام، حتى تهْدَأَ قلوبهم، ثم ينزل الوحي بعدُ في اليقظة، وإنما خَصَّ نوحًا بالذكر فيها مع أن قبله آدم، وشيْث، وإِدْرِيس، لأنه هو الأب الثاني، وجميع أهل الأرض من أولاده الثلاثة، سام، ويافث، وحام، لقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} والذين ركبوا معه في السفينة لما خرجوا منها ماتوا كلهم ما عدا نوحًا وبنيه الثلاثة، ثم مات نوح، وبقي بنوه الثلاثة، فهو أول نبي موجود بعد الطُّوْفان، فتخصيصه لهذا المعنى، وعطف عليه سائر الأنبياء. وأما الجواب بأنه أول مشرع، أو أول نبي عُوقِبَ قومهُ، فمتعقَّب بأن أول مشرع آدم عليه السلام، فإنه أول نبي أرسل إلى بنيه، وشرع لهم الشرائع، وبأن شِيْث هو أول من عذب قومه بالقتل، كما في "تاريخ"

الحديث الأول

الفِرَبْريّ من أنه عليه السلام سار إلى أخيه قَابيْل، فقاتله بوصية أبيه له بذلكَ، وأخذه أسيرًا، وسلسله، ولم يزل كَذلك إلى أن مات كافرًا، أعاذنا الله تعالى من ذلك، وهو أول من تقلد السيف، وقيل: إنما خُصَّ بالذكر لأنه أول رسول آذاه قومه، فكانوا يحصِبونه بالحجارة حتى يقعَ على الأرض، كما وقع مثله لنبينا عليهما الصلاة والسلام، وقيل: لأنه أول أولي العزم، وعَطَفَ عليه النبيين من بعده. الحديث الأول 1 - حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - عَلَى الْمِنْبَرِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ». [الحديث 1 - أطرافه في 54، 2529، 3898، 5070، 6689، 6953]. قال في "الفتح": إن المصنف ابتدأ كتابه بالرواية عن الحُميدي امتثالا لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "قَدِّموا قريشًا" وهو أفقه قرشي أخذ عنه، وله مناسبة أخرى وهو أنه مكي كشيخه، فناسب أن يذكر في أول ترجمة بدء الوحي، لأنّ ابتداءه كان بمكة، ومن ثم ثنى بالرواية عن مالك، لأنه شيخ أهل المدينة، وهي تالية لمكة في نزول الوحي، وفي جميع الفضل على قول، وأفضل على مذهب مالك، ومالك وابن عُيَيْنة قرينان. قال الشافِعِيّ: لولاهما لذهب العلم بالحجاز. ووجه إدخال الحديث في ترجمة بدء الوحي، هو أن الكتاب لما كان موضوعًا لجميع وحي السنة، صدَّرَه ببدء الوحي، ولما كان الوحي لبيان الأعمال الشرعية صدَّرَه بحديث الأعمال، وأبدى بعض العلماء نكتة عجيبة في بدء البخاري بهذا الحديث، فقال: إن البخاري ابتدأ كتابه

بحديث: "إنما الأعمال بالنيات" وختمه بحديث "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن" وفي كل واحد منهما غرابة، إشارة منه إلى حديث "بدأ الإِسلام غريبًا، وسيعودُ كما بدأ غريبًا .... الخ" وهذه نكتة عجيبة، قل أن تقف عليها في كتاب. وقال ابن بَطّال: نقلًا عن أبي عبد الله بن النَّجّار: التبويب متعلق بالآية والحديث معًا، لأنّ الله تعالى أوحى إلى الأنبياء، ثم إلى محمَّد عليه الصلاة والسلام، أن الأعمال بالنيات لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] وقال أبو العالية في قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى: 13] قال: وصاهم بالإِخلاص في عبادته، وعن أبي عبد الملك البُوني مناسبة الحديث للترجمة: هي أن بدء الوحي كان بالنية، لأنّ الله تعالى فطر محمدًا - صلى الله عليه وسلم - على التوحيد، وبغَّضَ إليه الأوثان، ووهب له أول أسباب النبوة، وهي الرؤيا الصالحة، فلما رأى ذلك أخلص إلى الله تعالى في ذلك، فكان يتعبد بغار حراء، فقبل الله تعالى عمله، وأتمَّ له النعمة. وقال المُهَلَّب: قصد البخاري الإِخبار عن النبي عليه الصلاة والسلام في حال منشئه، وأن الله تعالى بغض إليه الأوثان، وحبب إليه خِصال الخير، ولزوم الوحدة، فرارًا من قُرناء السوء، فلما لزم ذلك أعطاه الله تعالى على قدر نيته، ووهب له النبوة، كما يقال: الفواتح عنوان الخواتم. وقال ابن المنير في أول التراجم: كان مقدمة النبوة في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - الهجرة إلى الله تعالى بالخلوة في غار حراء، فناسب الافتتاح بحديث الهِجرة، وقيل: إنه أراد أن يقيمه مقام الخُطبة للكتاب، وتعقب هذا بأنه لو كان أراد ذلك لكان سياقه قبل الترجمة، وحكى المهلب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب به حين قدم المدينة مهاجرًا، فناسب إيراده في بدء الوحي، لأنّ الأحوال التي كانت قبل الهجرة كانت كالمقدمة لها، لأنّ بالهجرة افتُتح الإِذن في قتال المشركين، ويعقبُهُ النصر والظفر والفتح. قال في "الفتح": وهذا وجهٌ حسن إلا أنني لم أر ما ذكره من كونه - صلى الله عليه وسلم - خطب به أول ما هاجر منقولًا، وقد وقع في باب ترك الحيل بلفظ:

سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يا أيُّها النّاسُ، إنّما الأعمال بالنيةِ" ففي هذا إيماء إلى أنه كان في حال الخطبة، أما كونه كان في ابتداء قدومه إلى المدينة، فلم أر ما يدل عليه. فيما ذكر من المناسبات تعلم سقوط اعتراض من اعترض على المصنف إدخال حديث الأعمال هذا في ترجمة بدء الوحي قائلًا: إنه لا تعلق له بها أصلًا، بحيث إن الخَطّابي في "شرحه" والإسماعيلي في "مستخرجه" أخرجاه قبل الترجمة، لاعتقادهما أنه إنما أورده للتبرك به فقط، واستصوب أبو القاسم بن مندة صنيع الإسماعيلي في ذلك، وقال ابن رشيد: لم يقصد البخاري بإيراده سوى بيان حسن نيته في هذا التأليف. ثم اعلم أن هذا الحديث تواتر النقل عن الأئمة في تعظيم قدره، قال أبو عبد الله: ليس في أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء أجمع وأغنى، وأكثر فائدة من هذا الحديث، وقال ابن مَهْدي: يدخل في ثلاثين بابًا من العلم، وقال الشافعي: يدخل في سبعين بابًا، ويحتمل أن يريد بهذا العدد المبالغة، وقال عبد الرحمن بن مَهْدي أيضًا: يَنْبَغي أن يجعل هذا الحديث رأس كل باب، واتفق الشافعي، وأحمد، وابن المَدِيْني، وابن مَهْدي، على أنه ثلث الإِسلام، ووجه ذلك بأن كسب العبد يقع بقلبه، ولسانه، وجوارحه، فالنية أحد أقسامه الثلاثة، وهي أرجحها، لأنها قد تكون عبادة مستقلة، وغيرها يحتاج إليها، ومن ثَمَّ ورد: "نيةُ المؤمنِ خيرٌ من عملهِ" وفي رواية "أبلغُ". رواه البَيْهَقِيُّ في الشعب عن أنس مرفوعًا، وقال: إسناده ضعيف، ورواه العَسْكَرِيُّ والقُضاعيُّ. وإذا نظرت إليها كانت خير الأمرين، وبيان ذلك هو أن تخليد الله العبد في الجنة ليس بعمله، وإنما هو لنيته، لأنه لو كان لعمله لكان خلوده فيها بقدر مدة عمله أو أضعافه، إلا أنه جازاه بنيته، لأنه كان ناويًا أن يطيعَ الله تعالى لو بقي أبدًا، فلما اخترمته مَنِيَّتُهُ دون نيته جزاه الله عليها، وكذا الكافر، لأنه لو كان يجازى بعمله لم يستحقَّ التخليد في النار إلا بقدر مدة كفره، غير أنه نوى أن يقيم

على كفره أبدًا لو بقي، فجزاه على نيته، ويحتمل أن يكون المراد منه أن النية خير من عمل بلا نية، إذ لو كان المراد "خير من العمل مع النية" للزم أن يكون الشيء خيرًا من نفسه مع غيره، أو المراد الجزاء الذي هو للنية، خير من الجزاء الذي هو للعمل، لاستحالة دخول الرياء فيها، أو أن النية خير من جملة الخيرات الواقعة بعمله، لأنّ النية فعل القلب، وفعل الأشرف أشرف، أو أن المقصود من الطاعات تنوير القلب، وتنوير القلب بها أكثر، لأنها صفته، أو أن نية المؤمن خير من عمل الكافر، لما قيل: ورد ذلك حين نوى مسلم بناء قَنْطرة، فسبق كافرٌ إليه. وعن الشافعيِّ أيضًا: أنه يدخل فيه نصف العلم، ووجه بأن للدين ظاهرًا وباطنًا، والنية متعلقة بالباطن، والعمل هو الظاهر، وأيضًا فالنية عبودية القلب، والعمل عبودية الجوارح، وقيل: إنه رُبُعُهُ، قال أبو داود: يكفي الإِنسان لدينه أربعة أحاديث: "الأَعْمالُ بالنِّيَّةَ". و"مِنْ حُسْنِ إسلامِ المَرْءِ تركُهُ ما لا يَعْنيهِ". و"لا يكون المؤمن مؤمنًا حتى يَرْضى لأخيه ما يَرْضى لنفسِه". و"الحلالُ بَيِّنٌ والحرامُ بَيِّنٌ". وقال غيره غيرها. وقوله: "على المنبر، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنما الأعمال بالنياتِ .... الخ". المِنبر بكسر الميم من النَّبرة وهي الارتفاع، وأل فيه للعهد أي المِنْبر النبوي المدني، وفي رواية حَمَّاد بن زَيْد عن يحيى في ترك الحيل: سمعت عمر يخطُب. وقوله: "قال: سمعت رسول الله .... الخ" على حذف أي سمعت كلامه، لأنّ الذات لا تسمع، ويقول: حال من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مبينة للمحذوف المقدر، لأنّ سمعت لا يتعدى إلى مفعولين، وقال الأَخْفَشُ: إنها إذا عُلِّقَتْ بغير مسموعٍ تتعدى لمفعولين. وقوله: "إنّما الأعمالُ .... الخ" إنما تفيد الحصر، واختلف هل إفادتها له بالمنطوق أو المفهوم، وهل تفيده بالوضع أو بالعرف؟ أو تفيده بالحقيقة أو المجاز؟ والصحيح أنها تفيد الحصر المشتمل على نفي

الحكم عن غير المذكور نحو: إنما قائم زيد لا عمرو، أو نفي غير الحكم عن المذكور، نحو: إنما زيد قائم أي لا قاعد بالمنطوق وضعًا حقيقيًا، والدليل استعمالها موضع النفي، والاستثناء كقوله تعالى: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التحريم: 7] وقوله: {وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الصافات: 39] وقوله: {أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [المائدة: 92] وقوله: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ} [المائدة: 99] ومن الدليل الواضح حديث: "إنما الماءُ من الماءِ". فإن الصحابة الذين ذهبوا إليه لم يُعارضْهم الجمهور في فهم الحصر منه، وإنما عارضهم في الحكم من أدلةَ أخرى كحديث: "إذاَ التَقَى الخِتانانِ". ومن شواهده قول الأعْشى: ولَسْتُ بالأَكْثَرِ مِنْهُم حَصَى ... وإنّما العِزَّةُ لِلْكَاثِرِ يعني ما ثبتت العزة إلا لمن كان أكثر حصى، واختلفوا هل هي بسيطة أو مركبة، فرجَّحوا الأول، وقد يُرجَّح الثاني، ويجاب عما أورد عليه من قولهم: إنَّ "إنَّ" للإِثبات، و"ما" للنفي، فيستلزم اجتماع المتضادين على صدد واحد بأن يقال مثلا: أصلهما كان للإِثبات والنفي، لكنهما بعد التركيب لم يبقيا على أصلهما بل أفادا شيئًا آخر، أفاده الكِرْماني، قال: وأما قول من قال: إفادة هذا السياق للحصر من جهة أن فيه تأكيدًا بعد تأكيد، فهو المستفاد من "إنما" ومن الجمع، فَمُتَعَقَّبٌ بأنه من باب إيهام العكس، لأنّ قائله لما رأى أن الحصر فيه تأكيد على تأكيد، ظن أن كل ما وقع كذلك يفيدُ الحصر. وقال ابن دَقيقِ العيدِ: استُدِلَّ على إفادة "إنما" للحصر، بأن ابن عباس استدل على أن الربا لا يكون إلا في النَّسيئَةِ، بحديث: "إنما الربا في النَّسيئَةِ"، وعارضه جماعة من الصحابة في الحُكْم، ولم يخالفوه في فَهْمه، فكان كالاتفاق منهم على أنها تفيد الحصر، وتعقب باحتمال أن يكونوا تركوا المعارضة بذلك تَنَزُّلًا. وأما من قال: يحتمل أن يكون اعتمادهم على قوله: "لا ربا إلا في النَّسيئةِ" لورود ذلك في بعض طرق

الحديث المذكور، فلا يفيد ذلك في رد إفادة الحصر، بل يقويه، ويشعر بأن مفاد الصيغتين واحد، وإلا لما استعملوا هذه موضع هذه، وقد مر ما قرر في حديث: "إنما الماءُ من الماءِ" وقال ابن عطية: "إنما" لفظة لا تفارقه المبالغة والتأكيد حيثُ وَقَعَ، ويصلُحُ مع ذلك للحصر إن دخل في قصة ساعدت عليه، فجعل وروده للحصر مجازًا يحتاج إلى قرينة، وكلام غيره على العكس من ذلك، وكون أصل ورودها للحصر لا ينافي أنها قد تكون في شيء مخصوص لسبب كقوله تعالى: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء: 171] فإنه سيق باعتبار منكري الوحدانية، وإِلا فلله سبحانه صفات أخرى كالعلم، والقدرة، وكقوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} [الرعد: 7] فإنه سيق باعتبار منكري الرسالة، وإلا فله - صلى الله عليه وسلم - صفات أخرى، كالبشارة إلى غير ذلك من الأمثلة. والأعمال جمع عمل، وهو حركة البدن بكله أو بعضه، فالعمل إحداث أمر قولًا كان أو فعلًا بالجارحةِ، فالمراد بها في الحديث: الأعمال البدنية أقوالها وأفعالها، فرضها ونفلها، قليلها وكثيرها، الصادرة من المكلفين المؤمنين. والتقييد بالمكلفين المؤمنين يخرج أعمال الكفار، لأنّ المراد بالأعمال أعمال العبادة، وهي لا تصِحُّ من الكافر، وإن كان مخاطبًا بها، معاقبًا على تركها، قال ابن دَقِيقِ العيد: أخرج بعضهم الأقوال، وهو بعيد، ولا تردد عندي في أن الحديث يتناولها، وقد تعقب على من يسمي القول عملًا، لكونه عمل اللسان بأنَّ من حَلَفَ لا يعمل عملًا، فقال قولًا لا يحنث، وأجيب بأن مرجع اليمين إلى العرف، والقول لا يسمى عملا في العرف، ولهذا يعطف عليه، والتحقيق أن القول لا يدخل في العمل حقيقة، ويدخل مجازًا، وكذا الفعل لقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 112] بعد قوله {زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112] وفي اللفظ خمس روايات: "إنما الأعمالُ بالنياتِ، الأعمالُ بالنيةِ، العمل بالنيةِ، إنما الأعمالُ بالنيةِ، الأعمالُ بالنياتِ" بحذف إنما وجمع الأعمال والنيات، والرواية الأولى

والأخيرة فيهما مقابلة الجمع بالجمع، أي كل عمل بنية، كأنه أشار بذلك إلى أن النية تَتَنَوَّعُ كما تَتَنَوَّعُ الأفعال، كمن قَصَدَ بعمله وجه الله تعالى، أو تحصيل موعوده، أو الاتّقاء لوعيده، وفي معظم الروايات النية بالإِفراد على الأصل، لأنّ المصدر لا يجمع إلا باعتبار تنوعه، وإفرادها لاتِّحاد محلها، وهو القلب، كما أن مرجعها واحدٌ، وهو الإِخلاصُ، لا يجمع للواحد الذي لا شريك له، فناسب إفرادها بخلاف الأعمال، فإنها متعلقة بالظواهر، وهي متعددة فناسب جمعها. والنيات جمع نِيَّة بكسر النون، وتشديد التحتانية، وحُكي تخفيفها، من نَوَى يَنْوي، من باب ضرب، وهي لغةً القصد، وقيل: هي النَّوَى، بمعنى البعد، فكأن الناوي للشيء يطلب بقصده وعزمه ما لم يصل إليه بجوارحه وحركاته الظاهرة لبعده عنه، فجعلت النية وسيلة إلى بلوغه. وشرعا قصد الشيء مقترنًا بفعله، فإن تراخى عنه كان عَزْما، أو يقال: قصدًا لفعل ابتغاء وجه الله وامتثالا لأمره، وهي هنا محمولة على المعنى اللغوي ليطابق ما بعده من التقسيم. وقال البيْضاوي: النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقا لغرض من جلب نفع، أو دفع ضر، حالًا أو مآلًا، والشرع خصصه بالإِراده المتوجهة نحو الفعل لابتغاء رضا الله تعالى، وامتثال حكمه. ومعنى الجملة تركيبًا أن الأعمال البدنية ... الخ لا تكون صحيحة أو مجزئة إلا بالنيات، فالباء متعلق بمقدور وهو: صحيحةٌ أو مجزئةٌ؛ كما قدرنا؛ وقَدَّرَهُ الحَنَفِيَّةُ: كاملةً، والأول أولى؛ لأنّ الصحيحة أكثر لزومًا للحقيقة من الكمال؛ فالحمل عليها أولى، لأنّ ما كان ألزم للشيء كان أقرب خطورًا بالبال عند إطلاق اللفظ؛ وتقديرهم بكامله يوهم أنهم لا يشترطون النية في العبادات كلها، وليس كذلك، فإنهم لا يشترطونها في الوسائل خاصة. وأما المقاصد فلا خلاف في اشتراط النية فيها، ومن ثم خالف الحنفية في اشتراطها في الوضوء، وخالف الأوْزَاعِيُّ في اشتراطها

في التيمم. نعم بين العلماء اختلاف في اقتران النية بأول العمل، كما هو معروف في كتب الفقه، والظاهر أن الألف واللام في النيات معاقبة للضمير، والتقدير الأعمال بنياتها، وعلى هذا فيدل على اعتبار نية العمل من كونه مثلًا صلاة أو غيرها، ومن كونها فرضًا أو نفلًا، ظهرًا مثلًا أو عصرًا، مقصورة أوغير مقصورة، وهل يحتاج مثل هذا إلى تعيين العدد؟ فيه بحث، والراجح الاكتفاء بتعين العبادة التي لا تَنْفَكُّ عن العدد المعين، كالمسافر مثلًا ليس له أن يقصر إلا بنية القصر، لكن لا يحتاج إلى نية ركعتين، لأنّ ذلك هو مقتضى القصر، وقيل: لا حاجة إلى إضمار شيء من الصحة أو الكمال إذ الإضمار خلاف الأصل، وإنما المراد حقيقة العمل الشرعي، فلا يحتاج حينئذ إلى إضمار وإنما احتيج إلى التقدير، لأنّ الجار لا بد له من متعلق محذوف هنا، هو الخبر على الأصح، فينبغي أن يجعل المقدر في ضمن الخبر، فيستغنى عن إضمار شيء في أول الكلام، لئلا يصير في الكلام حذفان، حذف المبتدأ أولًا، وحذف الخبر ثانيًا والتقدير إنما صحة الأعمال كائنة بالنيات، لكن قال البرْماوِيّ: إن هذين الحذفين أولى من الحذف الواحد، لأنّ الحذف الواحد كون خاص، وحذف الكون الخاص غير مَقِيس، بل ممتنع إن لم يدُلَّ عليه دليل، وحذف الكون المطلق مَقيس، وحذف المضاف كثيرٌ، وارتكاب حَذْفَين بكثرة وقياس أولى من حذف واحدٍ بقلةٍ وشذوذ، وما قاله هو الوجه المَرْضي، ويشهد له ما قرروه في حذف خبر المبتدأ بعد لولا من الكون العام دون الخاص. والباء في "بالنيات" تحتمل المصاحبة والسببية، أي ثابت ثوابها بسبب النيات بمعنى أنها مُقوِّمة للعمل، فكأنها سبب في إيجاده، وعلى الأول فهي من نفس العمل، فيشترط أن لا تتخلف عن أوله، ويظهر أثر ذلك في أن النية شرط أو ركن والأشبه عند الغَزاليّ أنها شرط، لأنّ النية في الصلاة مثلًا تتعلق بها، فتكون خارجة عنها، وإلا لكانت متعلقة بنفسها، وافتقرت إلى نية أخرى، والأظهر عند الأكثرين أنها من

الأركان، والسببية صادقة مع الشرطية، وهو واضح لتوقف المشروط على الشرط، ومع الركنية، لأنّ بترك جزء من الماهية تنتفي الماهيّة، والحق أن إيجادها في أول الفعل ركن، واستصحابها حكمًا بأن تعرى عن المنافي شرط كإسلام الناوي، وتمييزه وعلمه بالمَنْوِيّ، وليس المراد بنفي الأعمال إلا بالنية نفي ذات العمل، لأنه حاصل بدون نية، وإنما المراد نفي صحته، أو كماله، على اختلاف التقديرين كما مر، وإنما عدل في الحديث عن لفظ الأفعال إلى الأعمال، لأنّ الفعل هو الذي يكون زمانه يسيرًا، ولم يتكرر، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1] وتبين كيف فعلنا بهم، حيث كان إهلاكهم في زمان يسير، لم يتكرر، بخلاف العمل، فإنه الذي يوجد من الفاعل في زمان مديد بالاستمرار والتكرار، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البروج: 11] طلب منهم العمل الذي يدوم ويستمر ويتجدد كل مرة بعد مرة، لا نفس الفعل، قال الله تعالى: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات: 61] ولم يقل: يفعل الفاعلون، فالعمل أخص، فلأجل هذا قال: الأعمال، ولم يقل: الأفعال، لأنّ ما ينذُرُ من الإِنسان، لا يكون بنية؛ وأما الذي يدوم ويتكرر فهو الذي تُعتبر فيه النية. ولا بد في النية من معرفة خمسة أشياء: حكمها، ومحلها، وفائدتها، ووقتها، وشرطها. أما حكمها فهو الوجوب. وأما محلها، فهو القلب. ولا يكفي النطق مع الغفلة، وعند المالكية يكره النطق إلا في حق الموسوس وعند الشافعية يستحب ليساعد اللسان القلب، وفائدتها تمييز العبادة عن العادة، وتمييز رتبتها. ووقتها أول الفرض، كغسل أول جزء من الوجه في الوضوء، وإنما لم يوجبوا المقارنة في الصوم لعسر مراقبة الفجر.

وشرطها الجزم، فلو توضأ شاكًّا في حدثه، قائلًا في قلبه إن كنت أحدثت فله، وإلا فتجديد، لم يجزِهِ ذلك الوضوء سواء تبين حدثه أو لم يتبين عند المالكية، وعند الشافعية يجزِئُهُ إذا لم يتبين حدثه. ولا تحتاج إزالة النجاسة إلى نية لأنها من قبيل التروك، والتروك لا تحتاج إلى نية، نعم تفتقر للنية لحصول الثواب كتارك الزنى، إنما يثاب بقصد تركه امتثالًا للشرع، وكذا الواجب الذي لا يحتاج في فعله إلى نية كالنفقة على الزوجات والأقارب، ورد الغصوب لا ثواب فيه إلا بقصد الامتثال، قال في "مراقي السعود": وَليْسَ في الوَاجِب مِن نَوَال ... عِندَ انْتِفاءِ قَصْدِ الامْتِثالِ فِيْما لَهُ النِّيّةُ لا تُشْتَرَطُ ... وغَيْرُ ما ذَكَرْتُهُ فَغَلَطُ ومِثْلهُ التركُ لِمَا يحَرَّمُ ... مِنْ غَيرِ قَصْدِ ذا نَعَمْ مُسَلَّمُ وكذلك نحو القراءة والذكر والأذان لا يحتاج إلى فيه لصراحتها، إلا لقصد الإِثابة، وكذا النية لأنها لو توقفت على نية أخرى لحصل التسلسل أو الدَّوْر، وهما محالان، وكذا معرفة الله تعالى لأنها لو توقفت على النية، مع أن النية قصد المَنْوِيّ بالقلب لزم أن يكون عارفا بالله تعالى قبل معرفته، وهو محال، وتعقبه البُلْقِيْني بما حاصله إن كان المراد بالمعرفة مطلق الشعور فمسلم، وإن كان المراد النظر في الدليل فلا، لأنّ كل ذي عقل يشعر مثلًا بأن له من يُدَبِّرُهُ، فإذا أخذ في النظر في الدليل عليه ليتحققه، لم تكن النية حينئذ محالًا. وقد نظم سيدي عبد الله العَلَوِيُّ الشَّنقيْطيُّ تفاصيل النية فقال: وَالنِّيِّةُ القَصْدُ لِأنْ تَمِيلا ... لِصَوْب حُكْمِهِ عَلا مَفْعُولا حِكْمَتُهَا التَّمْييزُ والتَّقَرُّبُ ... فِيما إلى التَّعَبدُّاتِ يُنْسَبُ وَغَيرهُ التَّمْيِيزُ مِثْل الاشْتَرا ... لِبَعْض أَيتامٍ عَلَيْهِمْ حَجَرًا فَمَا نُهي عَنْهُ وَمَا لَا يُطْلَبُ ... لَا نِيّةٌ فيهِ اتّفاقًا تجبُ كَمَا تَمَحَّضَ مِنَ الأمْرِ لِمَا ... لَيْس عِبادَةً كَإِعْطا الغُرَمَا

كقربةٍ تَعَيَّنَتْ للرَّبِّ ... كَنِيَّةِ ذِكْرٍ وفِعْل القَلْبِ وَأوْجِبنَّها لغَيْر ما ذُكِرْ ... إمَّا اتِّفاقًا أو عَلى الّذي شُهرْ وقوله: "وَإنما لِكُلِّ امرىءٍ ما نَوَى" وكذا لكل امرأة، لأنّ النساء شقائق الرجال، وفي "القاموس": والمرء مثلثه الميم الإِنسان أو الرجل، وعلى الأول يكون متناولًا للنساء، وفيه لغتان، حالة التذكير والتأنيث، بهمز الوصل وحذفها، امرء وامرأة ومرء ومرأة، وفي المذكر الذي فيه همز الوصل غريبة، وهي أن عينه تابع للامه في حركات الإِعراب الثلاث، فهو معرب من مكانين، و"ما" في قوله "ما نوى" يحتمل أن تكون موصولة، و"نوى" صلتها، والعائد محذوف أي الذي نواه، أو مصدرية ولا حذف أي لكل امرئ نيته. وفي هذه الجملة نوعان من الحصر: قصر المسند على المسند إليه، لأنّ المقصور عليه في "إنما" دائمًا المؤخر، وتقديم الخبر على المبتدأ، وهو يفيد الحصر، واستشكل الإِتيان بهذه الجملة بعد السابقة، لاتحاد الجملتين، وأجيب بأن الثانية في حصول الثواب، فالأولى: نَبَّهتْ على أن الأعمال لا تفسير معتبرة إلا بالنية، والثانية: على أن العامل يكون له ثواب العمل على مقدار نيته، ولهذا أخرت عن الأولى لترتيبها عليها، وَتُعُقّبَ بأن الأعمال حاصلة بثوابها للعامل لا لغيره، فهي عين معنى الجملة الأولى. قلت: ويظهر لي مما تقدم من أن الأعمال المشترطة فيها النية يحصُل فيها الثواب، وإن لم يُقْصَدِ الامتثال، والتي لا تشترط فيها النية لا يحصل فيها الثواب إلا بنية الامتثال جواب حسن، فتكون هذه الجملة الثانية مفيدة للعموم، في أن كل عمل لا بد فيه من النية، إما شرطًا في صحته، وإما لتحصيل الثواب فيه، وتكون الأولى خاصة بالأعمال التي لا تَصِحُّ إلا بالنية بدليل تقديرهم صحيحة أو مجزئة، فأفاد الحديث الأمرين السابقين، وهذا عندي أنه أحسن ما يجاب به عن هذا الإشكال، والله تعالى أعلم.

والجواب الثاني: غير ما أبديناه هو أن الثانية تفيد تعيين اشتراط المنوي، فلا يكفي في الصلاة نيتها من غير تعيين، بل لا بد من كونها ظهرًا مثلًا، وقيل: إن الثانية لإِفادة منع الاستنابة في النية، لأنّ الجملة الأولى لا تقتصر منعها بخلاف الثانية، ولا يعترض هذا بنية ولي الصبي عنه في الحج، وحج الإِنسان عن غيره، والتوكيل في تفرقة الزكاة، لأنّ الأصل المطرد لا ينخرِمُ بخروج ما نَدَرَ منه، وذهب القُرْطُبِيُّ إلى أن الجملة اللاحقة مؤكدة للسابقة، فيكون ذَكَرَ الحكم بالأولى، وأكده بالثانية تنبيهًا على سر الإِخلاص، وتحذيرًا من الرياء المانع من الخلاص، وقد علم أن الطاعات في أصل صحتها وتضامنها مرتبطة بالنيات، وبها ترفع إلى خالق البريّات، وقال ابن دَقيقِ العيدِ: الجملة الثانية تقتضي أن من نوى شيئًا يحصُل له، يعني إذا عمله بشرائطه، أو حال دون عمله له ما يُعْذَرُ شرعًا بعدم عمله، وكل ما لم ينوه لم يحصُل. ومراده بقوله: ما لم ينوه، أي: لا خصوصًا ولا عمومًا، أما إذا لم ينو شيئًا مخصوصًا، لكن كانت هناك نية عامة تشمله، فهذا مما اختلف فيه أنظار العلماء، ويتخرج عليه من المسائل ما لا يحصى، وقد يحصل غير المنوي لمدرك آخر، كمن دخل المسجد فصلى الفرض، أو الرابتة، قبل أن يقعُدَ، فإنه تحصل له تحية المسجد، نواها أو لم ينوها، لأنّ القصد بالتحية شغل البقعة، وقد حَصَلَ، وهذا بخلاف من اغتسل يوم الجمعة، فإنه لا يحصل له غسل الجمعة على الراجح، لأنّ غسل الجمعة ينظر فيه إلى التعبد، لا إلى محضِ التنظيف، فلا بد فيه من القصد إليه بخلاف تحية المسجد. قلت: مذهب مالك إذا نوى بالغسل الجنابة والجمعة معًا، أو قصد نيابة الجنابة عن الجمعة حصلا. وقال: النَّوَوِيُّ: أفادت الجملة الثانية اشتراط تعيين المنوي، كمن عليه صلاة فائتة، لا يكفيه أن ينوي الفائتة فقط، حتى يعينها ظهرًا مثلا أو عصرًا، ولا يخفى أن محله ما إذا لم تَنْحَصِر الفائتة، وقال ابن السَّمْعاني: أفادت أن الأعمال الخارجة عن العبادة لا تفيد الثواب إلا إذا

نوى بها فاعلها القربة، كالأكل إذا نوى به القوة على الطاعة، وقال ابن عبد السلام: الجملة الأولى: لبيان ما يُعْتَبَرُ من الأعمال، والثانية: لبيان ما يترتب عليها، وقد مر أن نحو القرآن والذكر لا يحتاج إلى نية لصراحتها إلا لقصد الإِثابة، ومن ثَمَّ قال الغَزَّالي: حركة اللسان بالذكر مع الغفلة عنه تحصِّلُ الثواب، لأنه خير من حركة اللسان بالغيبة، بل هو خير من السكوت مطلقًا، أي: المجرد عن التفكر، قال: وإنما هو ناقص بالنسبة إلى عمل القلب، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام: "في بضْع أحَدِكُمْ صَدَقَةُ" ثم قال في الجواب عن قولهم: "أَيأْتي أَحَدُنا شَهْوَتَهُ ويُؤْجَرُ؟ ": "أَرَأَيْتَ لَوْ وَضَعَها في حَرامٍ؟ " وأورد على إطلاق الغَزّالي أنه يلزم منه أن المرء يثاب على فعل مباح، لأنه خير من فعل الحرام، وليس ذلك مراده، وخُصَّ من عموم الحديث ما يقصد حصوله في الجملة، فإنه لا يحتاج إلى نية تخصه كتحية المسجد كما مر، وكمن مات زوجها فلم يبلغها الخبر إلا بعد مدة العدة، فإن عدتها تنقضي، لأنّ المقصود حصول براءة الرحم، وقد وجدت. وقوله: "فَمَنْ كانَتْ هِجْرتُهُ إَلى دُنْيا يُصيبُها .. الخ" وقع في جميع نسخ "البخاري" حذف أحد وجهي التقسيم، وهو قوله: "فَمَنْ كانت هِجرته إلى الله ورسولهِ الخ" وقد أخرجه تامًّا في آخر الإِيمان من رواية مالك في باب ما جاء أن الأعمال بالنية، وقد روي عن شيخه الحُمَيْدي تامًّا في "صحيح" أبي عَوانة، "ومستخرج" أبي نُعيم، فلا عذر له في سقوطه، وأجيب عنه بأنه لعله قَصَدَ أن يجعل لكتابه صدرًا يستفتح به على ما ذهب إليه كثير من الناس، من استفتاح كتبهم بالخطب المتضمنة لمعاني ما ذهبوا إليه من التأليف، فكأنه ابتدأ كتابه بنية رد علمها إلى الله، فإن علم منه أنه أراد الدنيا، أو عرض إلى شيء من معانيها فسيجزيه بنيته، ونكب عن أحد وجهي التقسيم مجانبة للتزكية التي لا يتناسب ذكرها في هذا المقام، وحاصله أن الجملة المحذوفة تشعر بالقربة المحضة، والجملة المبقاة تحتمل التردد بين أن يكون ما قصده يحصّلُ القربة أو لا، فلما كان

المصنف كالمخبر عن حال نفسه في تصنيفه هذا، بعبارة هذا الحديث، حذف الجملة المشعرة بالقربة المحضة، فرارًا من التزكية، وأبقى الجملة المترددة المحتملة تفويضًا للأمر إلى ربه المطلع على سريرته، المجازي له بمقتضى نيته. ولما كانت عادة المصنفين أن يضمنوا الخطب اصطلاحهم في مذاهبهم واختياراتهم، وكان من رأي المصنف جواز اختصار الحديث والرواية بالمعنى، والتدقيق في الاستنباط، وإيثار الأغمض على الأجلى، وترجيح الإسناد الوارد بالصيغ المصرحة بالسماع على غيره، استعمل جميع ذلك في هذا الموضع، بعبارة هذا الحديث متنًا وإسنادًا. وقد وقع في رواية حمّاد بن زيد في باب الهجرة تأخر قوله: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله" عن قوله: "فمن كانت هجرته إلى دنيا يُصيبُها" فيحتمل أن تكون رواية الحُميدي وقعت كذلك عند البُخاري، فتكون الجملة المحذوفة هي الأخيرة، كما جرت به عادة من يقتصر على بعض الحديث، وعلى تقدير أن لا تكون كذلك فهو مصير من البخاري إلى جواز الاختصار في الحديث ولو من أثنائه وهذا هو الراجح. وقال الكِرماني: إن كان الحديث عند البخاري تامًّا، لم خَرَمَهُ في صدر الكتاب؟ مع أن الخَرْمَ مختلف في جوازه، والجواب أنه لا جزم بالخرم، لأنّ المقامات مختلفة، فلعله في مقام بيان أن الإِيمان بالنية، واعتقاد القلب، سمع الحديث تامًّا وفي مقام أن الشروع في الأعمال إنما يصح بالنية، سمع ذلك القدر الذي روى، ثم الخرم يحتمل أن يكون من بعض شيوخ البخاري لا منه، ثم إن كان منه فخرمه ثَمَّ لأن المقصود يتم بذلك المقدار. فإن قيل كان المناسب أن يذكر عند الخرم الشق الذي يتعلق بمقصوده، وهو أن النية ينبغي أن تكون لله ورسوله أجيب عنه بما مر قريبًا من أنه ترك ذلك مجانبة للتزكية، وبأنه أيضًا نظر إلى ما هو الغالب الكثير بين الناس، وذكر ابن العَرَبيّ عن قوم أنه لعله استملاه من حفظ

الحُمِيديّ، فحدثه هكذا، فحدث عنه كما سمع، أو حدث به تامًّا فسقط من حفظ البخاري، قال: وهو مستبعد جدًّا عند من اطلع على أحوال القوم، وقال الكِرماني أيضًا: إن إيراد الحديث تامًّا تارة، وغير تام تارة، إنما هو من اختلاف الرواة، فكل منهم قد روى ما سمعه، فلا خَرْم من أحد، ولكن البخاري يذكرها في المواضع التي تناسب كلًّا منها، بحسب الباب الذي يضعه ترجمة له. قال في "الفتح": وكأنه لم يطلع على حديث أخرجه البخاري بسند واحد من أوله إلى آخره، فساقه في موضع تامًّا، وفي موضع مقتصرًا على بعضه، وهو كثير جدًّا في "الجامع الصحيح"، فلا يرتاب من يكون الحديث صناعته أن ذلك من تصرفه، لأنه عرف بالاستقراء من صنيعه أنه لا يذكر الحديث الواحد في موضعين على وجه واحد، بل إن كان له أكثر من سند على شرطه، ذكره في الموضع الثاني بالسند الثاني، وهكذا ما بعده، وما لم يكن على شرطه يعلقه في الموضع الآخر، تارة بالجزم إن كان صحيحًا، وتارة بغيره إن كان فيه شيء، وما ليس له إلا سند واحد، يتصرف في متنه بالاقتصارعلى بعضه بحسب ما يتفق، ولا يوجد فيه حديث واحد مذكور بتمامه سندًا ومتنًا في موضعين أو أكثر إلا نادرًا، فقد عني بعض من لقيته بتتبع ذلك، فحصل منه نحو عشرين موضعًا. والهجرة بكسر الهاء لغة: الترك والانتقال إلى الشيء عن غيره. وشرعًا مفارقة دار الكفر إلى دار الإسلام خوف الفتنة، وطلب إقامة الدين. وفي الحقيقة هي مفارقة ما يكرهه الله تعالى إلى ما يحبه، وفي الحديث: "المهاجر من هَجَرَ ما نهى الله عنه"، وقد وقعت في الإِسلام على وجهين؛ الأول: الانتقال من دار الخوف إلى دار الأمن، كما في هجرتَيْ الحبشة وابتداء الهجرة من مكة إلى المدينة، الثاني: الهجرة من دار الكفر إلى دار الإِسلام، وذلك بعد أن استقر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، وهاجر إليه مَنْ أمكنه ذلك من المسلمين، وكانت الهجرة -إذا ذاك تختص بالانتقال إلى المدينة- شرطًا في صحة الإِسلام، إلى أن فُتِحَت مكة، فانقطع الاختصاص،

وبقي عموم الانتقال من دار الكفر -لمن قدِرَ عليه باقيًا إلى يوم القيامة على جهة الوجوب- ليس شرطًا في الإِسلام. وقوله: "دنيا" بضم الدال، مقصور غير منون، للتأنيث والعلمية، وقد تنون، وفي القاموس: الدنيا نقيض الآخرة، وجمعها دُنَى، واستدلوا له بقوله: إنّي مُقِسِّمُ مَا مَلَكْتُ فَجَاعِلٌ ... جُزءًا لِآخِرَتي ودُنيًا تَنْفَعُ فإن ابن الأعْرابي أنشده منونا، وليس بضرورة كما لا يخفى، وهي فعلى، من الدنو، تأنيث الأدنى، أي الأقرب، سميت بذلك لسبقها للأخرى، وقيل: سميت به لدنوها إلى الزوال. واختلف في حقيقتها، فقيل: ما على الأرض من الهواء والجو مما قبل قيام الساعة، وقيل: كل المخلوقات من الجواهر والأعراض، والأول أولى، ويطلق على كل جزء منها مجازًا، وإنما أنثت "دنيا" مع أنها أفعل تفضيل، وأفعل التفضيل إذا جرد من أل والإِضافة، يجب تذكيره، لأنها لكثرة استعمالها خُلِعتْ عنها الوصفية، واستعملت استعمال الأسماء، فجاز فيها ذلك. ومثلها الجلَّى في قول الشاعر: وإنْ دَعَوْتِ إلى جُلَّى ومَكْرُمَةٍ ... يَوْمًا سَرَاةَ كرام النّاسِ فادْعِيْنا وقوله: "يُصيبُها" الإِصابة: الحصول، والوجدان، والإرادة، وتجيء هذه المعاني كلها ها هنا. والتنصيص على المرأة بعد الدنيا، من عطف الخاص على العام، والأصل في أن يكون بالواو خاصة، وجاء هنا بـ "أو" على خلاف الأصل، وقول من قال إن النكرة لا تَعُمُّ في الإِثبات مردود، لأنها تَعُمُّ إذا كانت في سياق الشرط كما هنا، ونكتة الاهتمام الزيادة في التحذير، لأنّ الافتتان بها أشد، لحديث أسامة بن زيد عند الشيخين: "ما تَرَكْتُ بعدي فتنةً أَضرَّ على الرجال من النساء" وما أخرجه أبو نُعيم في "الحلية" عن عبد الرحمن بن عابِس، قال: الشبابُ شعبةٌ من الجنونِ، والنساءُ حِبالةُ الشيطان، مع ما اشتهر من أن سبب هذا الحديث قصة

مُهاجر أم قيس، وحديثها أخرجه الطَّبَراني بإسناد صحيح على شرط الشيخين، عن ابن مسعود قال: كان فينا رجل خطب امرأة، يقال لها: أم قيس، فأبت أن تتزوجه حتى يُهاجر، فهاجر، فتزوجها، فكنا نسميه مهاجر أم قيس. وأخرجه سعيد بن منصور من وجه آخر، عن ابن مسعود أيضًا بلفظ: "مَنْ هاجَرَ يبتغي شيئًا، فإنما له ذلك. هاجر رجلٌ ليتزوجَ امرأة يقال لها: أم قيس، فكان يقال له: مهاجر أم قيس". والرجل لم يسم. والمرأة قال ابن دحية: إن اسمها قَيْلة -بقاف مفتوحة، ثم تحتانية ساكنة- وحكى ابن بَطّال، عن ابن السَّرّاج: أن السبب في تخصيص المرأة بالذكر أن العرب كانوا لا يزوجون المولى العربية، ويراعون الكفاءة في النسب، فلما جاء الإِسلام سوى بين المسلمين في مناكحتهم، فهاجر كثير من الناس إلى المدينة ليتزوج بها مَنْ كان لا يصل إليها قبل الإِسلام ويحتاج إلى نقل ثابت أن هذا المهاجر كان مولى، وكانت المرأة عربية، وليس ما نفاه عن العرب على إطلاقه، بل قد زوج خلق كثير منهم جماعة من مواليهم، وحلفائهم قبل الإِسلام، وإطلاقه أن الإِسلام أبطل الكفاءة في مقام المنع. واعلم أن الأصل تغاير الشرط والجزاء، فلا يقال: من أطاع أطاع، وإنما يقال: من أطاع نجا، وقد وقعا في هذا الحديث متحدين. والجواب عن هذا من وجوه: الأول: أن التغاير مقدر، أي فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله قصدًا ونية، فهجرته إلى الله ورسوله، حكمًا وشرعًا ونحو هذا في التقدير قوله: "فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها" واعتراض بعضهم على هذا الجواب بأن فيه حذف الحال المبينة، وحذفها بلا دليل ممنوع مردود، بما قاله الدَّمامِيني من أن ظاهر نصوصهم جواز الحذف. قال: ويؤيده أن الحال خبر في المعنى أو صفة، وكلاهما يسوغ حذفه بلا دليل، فلا مانع في الحال أن تكون كذلك.

الثاني: هو أن التغاير يقع تارة باللفظ، وهو أكثر، وتارة بالمعنى، ويفهم ذلك من السياق، كقوله تعالى: {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان: 71]، أي مرضيًّا عند الله، ماحيًا للعقاب محصلًا للثواب، فهو مؤول على إرادة المعهود المستقر في النفس، كقوله: أنت أنت أي الصديق الخالص، وقوله: أنا أبو النجم وشعري شعري. الثالث: أنه قد يقصد بالخبر الفرد، وبالجزاء بيان الشهرة وعدم التغير، فيتحد الخبر بالمبتدأ لفظًا، والجزاء بالشرط كذلك. قال الشاعر: خَلِيْلِي خَلِيْلِي دُونَ رَيْبٍ وَرُبّما ... ألانَ امْرُؤٌ قَوْلًا فُظُنَّ خَليلا وكقولهم في الجزاء: من قَصَدَني، فقد قَصَدَني، أي قصد من عرف بإنجاح قاصده. الرابع: هو أنه إذا اتحد لفظ المبتدأ والخبر، والشرط والجزاء علم منهما المبالغة إما في التعظيم، كقوله: "فَمنْ كانتْ هجرتهُ إلى الله ورسولهِ" وإما في التحقير، كقوله: "فَمنْ كانت هجرتهُ إلى دنيا يُصيبها" وقال الكِرماني: قوله: "إلى" يتعلق بالهجرة إن كانت، "كان" تامة، وخبر لـ "كان" إن كانت ناقصة، وقال: إن لفظ كان إن كان للأمر الماضي لا يعلم ما الحكم بعد صدور القول في ذلك؟ ثم قال: الظاهر أنه يجوز أن يراد بلفظ كان الوجود المطلق من غير تقييد بزمان، أو يقاس المستقبل على الماضي، أو من جهة أن حكم المكلفين سواء، وإنما أبرز الضمير في الجملة الأولى، وهي المحذوفة، فقال: "فهجرتهُ إلى الله ورسوله" لقصد الالتذاذ بذكر الله ورسوله، وعظم شأنهما قال الشاعر: أعِدْ ذِكْرَ نُعْمانٍ لنا إنَّ ذِكْرَهُ ... هو المِسْكُ ما كَرَّرْتَهُ يَتَضَوَّعُ بخلاف الدنيا والمرأة، فإن السياق يشعر بالحث على الإِعراض عنهما، فلذلك كُني عنهما إظهارًا لعدم الاحتفال بأمرهما.

وقيل: الخبر في الثاني محذوف، والتقدير فهجرته إلى ما هاجر إليه -من الدنيا والمرأة- قبيحة غير صحيحة أو غير مقبولة، ولا نصيب له في الآخرة. واعترض هذا بأنه يقتضي أن تكون الهجرة مذمومة مطلقًا، وليس كذلك؛ فإن من نوى بهجرته مفارقة دار الكفر وتزويج المرأة معًا لا تكون قبيحة، ولا غير صحيحة، بل ناقصة بالنسبة إلى من كانت هجرته خالصة، وإنما أشعر السياق بذم من فعل ذلك وهو مباح، والمباح لا مدح فيه ولا ذم، لكون فاعله أبطن خلاف ما أظهر، إذ خروجه في الظاهر ليس لطلب الدنيا، لأنه إنما خرج في صورة طلب فضيلة الهجرة، ولو طلبها مضمومة إلى الهجرة فإنه يُثاب على قصده الهجرة، لكن دون ثواب من أخلص، وكذا من طلب التزويج فقط، لا على صورة الهِجْرة إلى الله تعالى، لأنه من الأمر المباح الذي يثاب فاعله إذا قصد به القربة كالإعفاف، ومن أمثلة ذلك ما وقع في قصة إسلام أبي طلحة فيما رواه النسائي، عن أنس، قال: تزوج أبو طَلْحَةَ أم سليم، فكان صَدَاقُ ما بينهما الإِسلام، أسلمت أم سليم قبل أبي طلحة، فخطبها فقالت: إني قد أسلمت، فإن أسلمت تزوجتك، فأسلم فتزوجته، وهو محمول على أنه رغب في الإِسلام، ودخله من وجهه، وضم إلى ذلك إرادة التزويج المباح، فصار كمن نوى بصومه العبادة والحمية، أو بطوافه العبادة، وملازمة الغريم، واختار الغزالي فيما يتعلق بالثواب أنه إن كان القصد الدنيوي هو الأغلب لم يكن فيه أجر، أو الديني أجر بقدره، وإن تساويا فتردد القصد بين الشيئين فلا أجر، وأما إذا نوى العبادة، وخالطها شيء مما يغاير الإخلاص؛ فقد نقل أبو جعفر بن جرير الطَّبَرِيّ، عن جمهور السلف: أن الاعتبار بالابتداء، فإن كان في ابتداء خالصًا لله، لم يَضِرَّه ما عرض له بعد ذلك من إعجاب وغيره، والله تعالى أعلم. واستدل بهذا الحديث: على أنه لا يجوز الإِقدام على العمل قبل معرفة الحكم، لأنّ فيه أن

العمل يكون منتفيًا إذا خلا عن النية، ولا تصح نية فعل الشيء إِلا بعد معرفة حكمه. وعلى أن الغافل لا تكليف عليه، لأنّ القصد يستلزم العلم بالمقصود، والغافل غير قاصد. وعلى أن من صام تطوعًا بنية قبل الزوال -عند من يجيز ذلك- لا يُحسب له إلا من وقت النية، وهو مقتضى الحديث، لكن تَمَسَّكَ مَنْ قال بانعطافها بدليل آخر، ونظيره حديث: "من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها"، أي أدرك فضيلة الجماعة أو الوقت، وذلك بالانعطاف الذي اقتضاه فضل الله تعالى. وعلى أن الواحد الثقة إذا كان في مجلس جماعة، ثم ذكر عن ذلك المجلس شيئًا لا تمكن غفلتهم عنه، ولم يذكُرْه غيره إن ذلك لا يقدح في صدقه، خلافًا لمن أعلَّ بذلك، لأنّ عَلْقَمَةَ ذكر أن عمر خطب به على المنبر، ثم لم يصحَّ من جهة أحد عنه غير علقمة. واستدل بمفهومه: على أن ما ليس بعمل لا تشترط فيه النية، ومن أمثلة ذلك جمع التقديم، فإن الراجح من حيث النظر أنه لا تشترط فيه النية، بخلاف ما رجحه كثير من الشافعية، وخالفهم شيخ الإِسلام البُلْقيني، وقال: الجمع ليس بعمل، وإنما العمل الصلاة، ويقوي ذلك أنه عليه الصلاة والسلام جمع في غزوة تَبوك ولم يذكر ذلك للمأمومين الذين معه، ولو كان شرطًا لأعلمهم به قلت: مذهب مالك أنه ليس بشرط. واستُدِلَّ به: على أن العمل إذا كان مضافًا إلى سبب، ويجمع متعدده جنس، أن نية الجنس تكفي، كمن أعتق عن كفارة، ولم يعين كونها عن ظهار أو غيره، لأنّ معنى الحديث أن الأعمال بنياتها، والعمل هنا القيام بالذي يخرج عن الكفارة اللازمة، وهو غير محوج إلى تعيين

تنبيه

سبب، وعلى هذا لو كانت عليه كفارة، وشك في سببها أجزأه إخراجها بغير تعيين. وفيه زيادة النص على السبب، لأنّ الحديث سيق في قصة المهاجر لتزوج المرأة، فذِكْرُ الدنيا مع القصة زيادة في التحذير والتَّنْفير. وقال شيخ الإِسلام: فيه إطلاق العام، وإن كان سببه خاصًا، فَيُسْتَنْبَطُ منه الإِشارة إلى أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصُوص السبب، ويأتي ذكر كثير من فوائد هذا الحديث في كتاب الإِيمان، حيث قال في الترجمة: فدخل فيه العبادات والأحكام. تنبيه: قد مر لك أن الهِجرة بمعنى الانتقال من دار الكفر إلى دار الإِسلام، وجوبها باقٍ إلى يوم القيامة، وذلك لما رواه أبو داود، والنَّسائِيّ من حديث مُعاوية - رضي الله تعالى عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا تَنْقَطِعُ الهجرةُ حتى تَنْقَطِعَ التوبةُ، ولا تنقطع التوبةُ حتى تَطْلُعَ الشمسُ من مغرِبِها" وروى أحمد من حديث ابن السعدي مرفوعًا: "لا تَنْقَطِعُ الهجرةُ ما دام العدوُّ يقاتِلُ". وروى أحمد أيضًا من حديث جُنادة بن أبي أمية مرفوعًا: "إن الهِجْرةَ لا تَنْقَطِعُ ما كان الجِهادُ"، وروى أحمد في "مسنده" من حديث معاوية، وعبد الرحمن بن عَوْف، وعبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله تعالى عنهم، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الهِجْرةُ خَصْلتان: إحداهما تهجُرُ السيئات، والأخرى تهاجرُ إلى الله ورسوله، ولا تَنْقَطِعُ الهجرةُ ما تُقُبَّلَتِ التوبةُ، ولا تزالُ التوبةُ مقبولةً حتى تَطْلُعَ الشمسُ من المغرب، فإذا طَلَعَت، طُبعَ على كلِّ قلبٍ بما فيه، وكُفِيَ الناسُ العمل". وما روي من الأحاديث معارض بما أخرجه الشيخان عن ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا هجرةَ بعد الفتحِ، ولكن جهادٌ ونيةٌ، وإن استُنْفِرْتُم فانفِرُوا".

وروى البخاري أيضًا أن عبيد بن عُمير سأل عائشة، رضي الله تعالى عنها، عن الهِجْرة، فقالت: لا هجرة اليوم، كان المؤمنون يَفِرُّ أحدُهم بدينه إلى اللهِ ورسولهِ مَخَافَةَ أن يُفْتَنَ عليه، فأما اليوم، فقد أظهرَ الله الإِسلام، والمؤمن يعبُدُ ربَّه حيثُ شاءَ، ولكن جهادٌ ونيةٌ. وروى البخاري ومسلم عن مُجاشِع بن مسعود، قال: انطلقت بأبي مَعْبد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليبايعه على الهجرة، قال: انقضت الهِجْرة لأهلها، فبايَعَهُ على الإِسلام والجهادِ. وروى أحمد من حديث أبي سعيد الخُدري، ورافع بن خديج، وزيد بن ثابت، رضي الله تعالى عنهم: "لا هِجْرَةَ بعد الفتح، ولكن جهادٌ ونية". وروى أحمد أيضًا من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: جاء رجل أعرابي، فقال: يا رسول الله! أين الهِجرة؟ إليك حيث كنت؟ أم إلى أرض؟ أم لقوم خاصة؟ أم إذا مت انقطعت؟ فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساعة، ثم قال: "أين السائل عن الهجرة؟ " قال: ها أنا يا رسول الله، قال: "إذا أَقَمْتَ الصلاة، وأتيت الزكاة فأنت مهاجرٌ وإن مُتَّ بالحَضرمَةِ" قال: يعني أرضًا باليمامة. وفي رواية له: "الهجرة أن تهجُرَ الفواحش ما ظهر منها وما بَطَنَ، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، ثم أنتَ مهاجرٌ وإن مت بالحضرمةِ". فهذه الأحاديث متعارضة، والتوفيق بينها هو أن الهجرة قبل فتح مكة إلى المدينة المنورة كانت شرطًا في الإِسلام، لا يصِحُّ إيمان إلا بها، وبعد فتح مكة انقطعت تلك الهجرة، وبقيت الهجرة من دار الكفر إلى دار الإِسلام، أو من بلد المعاصي إلى غيره واجبة لا تنقطع، قاله الوانْشَريْسيّ في "معياره" و"لباب التأويل"، وذكره في الفتح غير مصرح بأن الأولى كانت شرطًا في الإِسلام، وكون الأولى شرطًا في الإِسلام مروي عن السُّدِّيّ، قال ابن عَطِيّة: والذي يجري مع الأصول أن من مات بمكة مؤمنًا

إنما هو عاص بترك الهجرة، ومأواه جهنم على جهة العِصيان دون الخلود، ومن مات فيها مرتدًّا، فهو كافر، ومأواه جهنم على جهة الخلود، ووفق الخَطّابِيّ بين الأحاديث بأن الهجرة كانت في أول الإِسلام فرضًا، ثم صارت بعد فتح مكة مندوبًا إليها غير مفروضة، قال: فالمنقطعة منها هي الفرض، والباقية منها هي الندب. قلت: ظاهر كلامه تخصيص التفرقة بالهجرة إلى المدينة خاصة، فقبل فتح مكة فرض إليها، وبعده مندبة إليها، والذي يَظْهَر أن المراد عنده في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يتعرض للهجرة إلى غيرها من بلاد الكفر، أو المعاصي. وما فسرت به كلامه يدل عليه ما قاله ابن الأثير، فإنه قال الهجرة هجرتان، إحداهما التي وعد الله عليها بالجنة، كان الرجل يأتي النبي -صلى الله عليه وسلم، ويدع أهله وماله، لا يرجِعُ في شيء منه، فلما فُتِحَت مكة انقطعت هذه الهجرة، والثانية من هاجر من الأعراب غزا مع المسلمين، ولم يفعل كما فعل أصحاب الهجرة، وهو المراد بقوله: "لا تنقطع الهجرةُ حتى تنقطعَ التوبة" فكلامه هذا موافق في المعنى لكلام الخَطّابِيّ. وقال في "الفتح": قال الخَطّابيّ وغيره: كانت الهجرة فرضًا في أول الإِسلام على من أسلم لقلة المسلمين بالمدينة، وحاجتهم إلى الاجتماع، فلما فتح الله مكة دخل الناس في دين الله أفواجًا، فسقط فرض الهجرة إلى المدينة، وبقي فرضُ الجهادِ والنية على من قام به أو نزل به عدو. قال ابن حَجَر: وكانت الحكمة أيضًا في وجوب الهجرة على من أسلم لِيَسْلَمَ من أذى ذويه من الكفار، فإنهم كانوا يعذِّبون من أسلم منهم إلى أن يرجع عن دينه، وفيهم نزلت: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ ...} الخ [النساء: 97]، وقد أكد الله ذلك في عدة آيات حتى قطع الموالاة بين من هاجَر، ومن لم يهاجِر، فقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72].

قال في "الفتح": وهذه الهجرة يعني المذكورة في آية: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ... إلخ} [النساء: 97] باقية الحكم في حق من أسلم في دار الكفر وقَدِرَ على الخروج منها. وقد روى النَّسائي من طريق بَهْزِ بن حكيم بن معاوية، عن أبيه، عن جده، مرفوعًا: "لا يَقْبَلُ اللهُ من مشركٍ عملًا بعدما أسلم أو يفارقَ المشركين" ولأبي داود من حديث سَمُرة مرفوعًا: "أنا بريء من كلِّ مسلمٍ يُقيمُ بينَ أَظْهُرِ المشركين"، قال: وهذا محمولٌ على من لَمْ يَأْمَنْ على دينه؛ وتأتي قريبًا تفرقة في ذلك؛ قال: وقد أطلق ابن التِّينِ أن الهِجْرة من مكة إلى المدينة كانت واجبة، وأن من أقام بمكة بعدما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم -، إلى المدينة بغير عذر كان كافرًا، وهو إطلاق مردود. قلت: ما قاله ابن التِّين موافق لما مر عن الوَنْشرِيْسِيّ في "معياره" و"لباب التأويل"، ثم قال عند حديث عائشة المار: "لا هجرةَ اليومَ ... الخ" أشارت عائشة إلى بيان مشروعية الهجرة، وأن سببها خوف الفتنة، والحكم يدور مع علته، فمقتضاه أن من قدر على عبادة الله في أي موضع اتفق، لم تجِب عليه الهجرة منه، وإلا وجبت. ومن ثم قال الماوَرْدِيُّ: إذا قَدِرَ على إظهار الدين في بلد من بلاد الكفر؛ فقد صارت البلدة به دار إسلام؛ فالإِقامة فيها أفضل من الرِّحْلة منها، لما يُتَرَجّى من دخول غيره في الإِسلام. قال: وقال البغوي في "شرح السنة": يحتمل الجمع بينها بأن قوله: "لا هجرة بعد الفتح" أي من مكة إلى المدينة، وقوله: "لا تنقطعُ" أي من دار الكفر في حق من أسلم إلى دار الإِسلام. قال: وقد أفصح ابن عُمر بالمراد فيما أخرجه الإِسماعيليُّ بلفظ: "انْقَطَعَتِ الهجرة بعد الفتح إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا تنقطعُ الهجرةُ ما قوتلَ الكفارُ". أي ما دام في الدنيا دار كفر؛ فالهجرة منها واجبة على من أسلم، وخشي أن يُفتَنَ عن دينهِ. ومفهومه أنه لو قُدِّرَ على أن لا يبقى في الدنيا دار كفر، فإن الهجرة تنقطع لانقطاع موجبها، والله أعلم. قلت: تبقى الهجرة من بلد تكثر فيه المعاصي أو البدع إلى بلد أخف منه في ذلك، كما مر في حديث معاوية، وعبد الرحمن بن عوف عند

وأما رجاله فستة

أحمد، ثم قال عند حديث ابن عباس السابق: "لا هجرة بعد الفتح" أي فتح مكة، أو المراد ما هو أعم من ذلك إشارة إلى أن حكم غير مكة في ذلك حكمها، فلا تجب الهجرة من بلد قد فتحه المسلمون. أما قبل فتح البلد فمن به من المسلمين أحد ثلاثة: الأول: قادرٌ على الهجرةِ منها لا يُمكنه إظهار دينه بها، ولا أداء واجباته؛ فالهجرة منه واجبةٌ. الثاني: قادر لكنه يمكنه إظهار دينه، وأداء واجباته، فمستحبة لتكثير المسلمين، ومعونتهم، وجهاد الكفار، والأمن من غدرهم، والراحة من رؤية المنكر بينهم. الثالث: عاجز بعذر، من أسر، أو من سن، أو غيره، فتجوز له الإِقامة. فإن حَمَلَ على نفسه، وتَكَلَّفَ الخروج منها أُجِرَ. وقد أطلت في بحث الهجرة لمسيس الحاجة به في هذا الزمان إن وجد بلد يُهاجَر إليه. انتهى الكلام على متن الحديث. وأما رجاله فستة: الأول: الحُمَيْدِيّ عبد الله بن الزُّبَيْر بن عيسى بن عُبيد الله بن أسامة ابن عبد الله بن الزُّبَيْر بن عبيد الله بن حُمَيْد بن نصر بن الحارث بن أسد بن عبد العُزى بن قُصَيّ أبو بكر الحُمَيْديّ المكيّ القرشي، يجتمع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في قُصَيّ، ومع أمنا خديجة في أَسد، صحب الشافعيَّ، وتفقه به. قال أحمد: الحميدي عندنا إمام. وقال أبو حاتم: هو أثبت الناس في ابن عُيينة، وهو رئيس. وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا الحميدي، وما لقيت أنصح للإِسلام وأهله منه. وقال محمَّد بن عبد الرحمن الهَرَوِيّ: قدمت مكة عقب وفاة ابن عُيينة، فسألت عن أحد أصحابه، فقالوا: الحُمَيْديّ. وقال ابن سَعْد: كان ثقة، كثير الحديث. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: صاحب سنة وفضل ودين. وقال ابن عَدِي: ذهب مع

الشافعي إلى مصر، وكان من خيار الناس. وقال الحاكم: ثقة مأمون، ومحمد بن إسماعيل إذا وجد الحديث عنه لا يخرجه عن غيره من الثقة به. وفي "الزهرة" روى عنه البخاري خمسة وسبعين حديثًا. روى عن ابن عيينة، وإبراهيم بن سعد ومحمد بن إدريس الشافِعِيّ، والوليد بن مسلم، ووكيع، ومروان بن معاوية، وعبد العزيز بن أبي حازم. وروى عنه البخاري. وروى له مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة في التفسير بواسطة سلمة بن شَبيب. وروى عنه أبو زُرعة، وأبو حاتم، ويعقوب ابن شَيْبة، ويعقوب بن سُفيان، ومحمد بن إدريس، وورّاق الحُمَيْدِيّ، وآخرون. مات بمكة سنة تسع عشرة ومئتين، وهو منسوب إلى جده حميد المذكور. قال السمعاني: نسبة إلى حميْد، بطن من أسد بن عبد العُزّى. وقيل: منسوب إلى الحُمَيْدات، قبيلة، وقد يشتبه بالحُمَيْدي المتأخر، صاحب "الجمع بين الصحيحين"، العلامة أبي عبد الله محمد بن أبي نصر فتُّوح بن عبد الله بن فتوح بن حميد بن يِصِل -بكسر الياء التحتية، والصاد المهملة، ثم لام بعد ذلك- الأندلسي، الإِمام ذي التصانيف في فنون. سمع الخطيب وطبقته، وسمع بالأندلس ابن حَزْم وغيره. وروى عنه ابن ماكولا، وخلق كثير. ثقة، متقن مات ببغداد سنة ثمان وثمانين وأربع مئة. ويشتبه أيضًا بالحَمِيْدي -بفتح الحاء، وكسر الميم- نسبة لإِسحاق بن تكنيك الحميدي مولى الأمير الحميد الساماني. وعبد الله بن الزبير في السنة ثلاثة: المذكور هنا، وابن الزبير الصحابي، والثالث بصري. روى له ابن ماجة، والترمذي في الشمائل.

وفي الصحابة عبد الله بن الزبير بن المطلب بن هاشم. الثاني: سفيان بن عُيَيْنة بن أبي عِمران ميمون الهِلالي، أبو محمد الكُوفي الأَعْور، مولى الضَّحّاك بن مزاحم. وقيل: مولى امرأة من بني هِلال. وقيل: مولى بني هاشم. وجدُّه أبو عمران، من عمال خالد بن عبد الله القَسري، ولما عُزِلَ خالد بن عبد الله عن العراق؛ ووُلِّي عليه يوسف الثقفي؛ طلب عمال خالد، فهرب أبو عمران إلى مكة، فنزلها وهو من أهل الكوفة، وبها ولد سفيان، وسفيان مثلث السين، والضم أرجح. والأرجح في عُيينة: أيضًا لضم وفيها الكسر أي للعين، وهو أحد أئمة الإِسلام في الحديث والفقه والفتوى. قال ابن عيينة: أول من أسندني إلى الأسطوانة مِسْعَر، فقلت إني حَدَثٌ، فقال: إن عندك الزُّهري، وعمرو بن دينار. وقال أيضًا: دخلت الكوفة ولم يتم لي عشرون سنة، فقال أبو حنيفة لأصحابه ولأهل الكوفة: جاءكم حافظ علمِ عمرِو بن دينار، فجاء الناس يسألونني عن عمرو بن دينار، فأول من صَيَّرَني محدثًا أبو حنيفة؛ فذاكرته، فقال: يا بني ما سمعت من عمرو إلا ثلاثة أحاديث، يَضْطَرِبُ في حِفظها. وقال ابن المَدِينيّ: ما في أصحاب الزُّهْرِيّ أتقى من ابن عيينة. وقال العِجْلِيُّ: كوفي، ثقة، ثبت في الحديث، وكان حسن الحديث، يُعَدُّ من حكماء أصحاب الحديث. وقال الشافعيُّ: لولا مالك وسفيان لذهب علم الحجاز. وقال: ما رأيت أحدًا فيه من آلة الفتيا ما في سفيان، وما رأيت أحدًا أكفَّ منه عن الفتيا. وقال ابن وَهْب: ما رأيت أعلم بكتاب الله من ابن عُيينة. وقال ابن المَدِينيّ أيضًا: قال لي يحيى بن سعيد: ما بقي من معلميَّ أحدٌ غير ابن عُيينة، فقلت: يا أبا سعيد! سفيان إمام في الحديث؟ قال: سفيان إمام منذ أربعين سنة، وقال عبد الرحمن بن مَهْدي: كنت أسمع الحديث من ابن عُيينة، فأقوم، فأسمع شعبة يُحدِّثُ به، فلا أكتُبُه. وقال بِشر بن المُفَضَّل: ما بقي على وجه الأرض أحد يشبه

ابن عيينة. وقال: الدّارِميّ: سألت ابن مَعين؛ سفيان بن عيينة أحب إليك في عمرو بن دينار أو الثَّوْرِيّ؟ قال: ابن عيينة أعلم به، فقلت: حمّاد بن زيد، قال: ابن عيينة أعلم به. قلت: فَشُعْبة، قال: وأيش روى عنه؟ وقال أحمد بن حَنْبل: ما رأيت أحدًا من الفقهاء أعلم بالقرآن والسنن منه. وقال ابن سَعْد: كان ثقة، كثير الحديث، حجة. وقال يَحْيى بن سعيد: هو أحب إليّ في الزُّهْرِيّ من مَعْمر. وقال: ابن مَهْدي: كان أعلم الناس بحديث أهل الحجاز. وقال أبو حاتم: الحجة على المسلمين، مالك، وشعبة، والثوري، وابن عيينة. وقال: ابن عُيينة إمام؛ وأثبت أصحاب الزُّهري مالك وابن عُيينة. وقال أبو معاوية؛ قال ابن عُيينة: قال لي زُهير الجُعْفِيُّ: أخرج كتابك؛ فقلت: أنا أحفظ من كتابي. وقال التِّرمِذِيّ: سمعت محمدًا، يقول: هو أحفظ من حماد بن زيد. وقال ابن حِبّان في "الثقات": كان من الحفاظ المتقنين، وأهل الورع والدين. وقال اللالَكائِيّ: هو مستغنٍ عن التزكية، لإِتقانه وتثبته، وأجمع الحفاظ على أنه أثبت الناس في عمرو بن دينار. وقال ابن سعد: أخبرني الحسن بن عِمران بن عُيينة أن سفيان قال له بجمع آخر حجة حجها: قد وافيت هذا الموضع سبعين مرة أقول في كل سنة، اللهم لا تجعله آخر العهد من هذا المكان، وإني قد استَحْييْت من الله من كثرة ما سألته ذلك. ويقال: إنه خرج يومًا إلى من جاءه يسمع منه، وهو ضجِر، فقال: أليس من الشقاء أن أكون جالست ضَمرة بن سعيد، وجالس هو أبا سعيد الخدري، وجالست عمرو بن دينار، وجالس هو ابن عمر، رضي الله عنهما، وجالست الزهري، وجالس هو أنس بن مالك، حتى عد جماعة، ثم أنا أجالسكم؟ فقال له حَدَثٌ في المجلس: انتصف يا أبا محمَّد، فقال: إن شاء الله تعالى، فقال: والله لشقاء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بك أشد من شقائك بنا، فأطرق وأنشد قول أبي نواس: خَلِّ جَنْبَيْكَ لرَامِ ... وَامْضِ عَنْهُ بِسَلامِ مُتْ بِداءِ الصَّمْتِ خَيْـ ... ـر لك مِنْ دَاءِ الكَلَامِ

إَّنما السَّالِمُ مَنْ ألْـ ... جَمَ فاه بِلِجامِ فتفرق الناس، وهم يتعجبون من رجاجة الحدث، وهو يَحيى بن أَكثمَ، وقال سفيان: هذا الغلام يَصْلُحُ لصحبة هؤلاء، يعني السلاطين. ونسبه ابن عَدِيّ إلى شيء من التشيع، فقال في ترجمة عبد الرزاق: ذكر ابن عُيينة حديثًا، فقيل له: هل فيه ذكر عثمان؟ فقال نعم، ولكني سكت، لأني غلام كوفي. وقال ابن عمار: سمعت يحيى بن سعيد القَطَّان يقول: أشهد أن سفيان بن عيينة اختُلِطَ سنة سبع وتسعين ومئة، فمَنْ سمع منه في هذه السنة وبعدها، فسماعُهُ لا شيء، واستبعد الذَّهَبِيُّ هذا القول، ووجده غلطًا من ابن عمار، لأن القطان مات سنة ثمان وتسعين عند رجوع الحجاج، وتحدثهم بأخبار الحجاز، فمتى يمكن من سماع سفيان هذا؟ حتى يتهيأ له أن يشهد به، أي اختلاط سفيان، ثم قال: فلعله بلغه ذلك في وسَطِ السنة. قال في "تهذيب التهذيب": وهذا الذي لا يتجه غيره، لأن ابن عمار من الأثبات المتقنين، وما المانع أن يكون يحيى بن سعيد سمعه من جماعة ممن حج في تلك السنة، واعتمد قولهم، وكانوا كثيرًا فشهد على استفاضتهم، وقد وجدت عن يحيى بن سعيد شيئًا يصلح أن يكون سببًا لما نقله عنه ابن عمار في حق ابن عُيينة: وذلك ما أورده السمعاني عن عبد الرحمن بن بِشْر بن الحكم، قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: قلت لابن عُيينة: كنت تكتب الحديث وتحدث اليوم، وتزيد وتنقص في إسناده، فقال: عليك بالسماع الأول، فإني قد سمعت. وروى هارون ابن معروف أن ابن عُيينة تغير أمره بآخره. وقال سليمان بن حرب: إن ابن عيينة أخطأ في عامة حديثه عن أيوب. روى عن عبد الملك بن عُمَيْر، وأبي إسحاق السَّبِيْعِيّ، وزياد بن علَّاقة، والأسود بن قَيْس، وإسرائيل أبي موسى، وإسماعيل بن خالد، وأيوب بن أبي تَميمة السَّخْتياني، وحميْد الطويل، وعاصم الأحول،

وسليمان الأحول، وضمْرة بن سعيد، وعَمرو بن دينار، وأبي الزِّناد، وخلق كثير. وروي عنه الأعمش، وابن جُريج، وشُعبة، والثوري، ومِسْعر، وهو من شيوخه، وحمَّاد بن زيد، وابن المُبارك، ووكيع، ومُعْتَمِر بن سُليمان، ويحيى بن أبي زَائدة، وهم من أقرانه، وماتوا قبله، ومحمد إدريس الشافعي، وعبد الله بن وهْب، ويحيى القطّان، وخلق كثيرٌ. مات غرة رجب سنة ثمان وتسعين ومئة بمكة، ودفن بالحَجُون، جبل بأعلى مكة فيه مدافن أهلها. وسفيان في الرواة كثير جدًا. الثالث: يحيى بن سعيد الأَنصاري. هو يحيى بن سعيد بن قَيْس بن عَمْرو بن سَهْل بن ثَعْلَبة بن الحارث بن زَيد بن ثَعْلبة بن غنم بن مالك بن النجار الأنصاري الخَزْرجِيّ البخاري، أبو سعيد المدني القاضي. قال ابن سعد: كان ثقة، ثبتًا، حجة، كثير الحديث. وقال جَرير ابن عبد الحميد: لم أر أَنْبَلَ منه. وقال أبو حاتم: يوازي الزُّهرِيَّ في الكثرة. وقال العِجلي: مدني، تابعي، ثقة، له فقه، وكان رجلًا صالحًا، وكان قاضيًا على الحيرة، وثَّم لقيه يزيد بن هارون. وقال حماد ابن زيد: قدم أيوب من المدينة، فقال: ما تركت بها أحد أفقه من يحيى ابن سعيد، وقال يحيى بن سعيد بن عبد الرحمن الحجبيّ: ما رأيت أقرب شبهًا بالزُّهري من يحيى بن سعيد، ولولاهما لذهب كثير من السنن. وقال ابن المديني: لم يكن بالمدينة بعد كبار التابعين أعلم من ابن شِهاب، ويحيى بن سعيد، وأبي الزَّناد، وبُكَيْر بن الأَشجّ. وقال الثَّوري: كان أجل عند أهل المدينة من الزُّهري. وقال اللَّيْثُ: لم يكن بدون أفاضل العلماء في زمانه. وقال أيضًا: إن أول ما أتى يحيى بن سعيد بكتب علمه، فعرضت عليه، استنكر كثرة علمه لأنه لم يكن له كتاب، فكان يجحده حتى قيل له: نعرض عليك، فما عرفت أجزته، وما لم تعرف

رددته، قال: فعرف كله، وعده الثَّوري في الحفاظ، وابن عُيَيْنة في محدثي أهل الحجاز الذين يجيئون بالحديث على وجهه، وابن المدِيني في أصحاب صحة الحديث وإتقانه ممن ليس في النفس من حديثهم شيء، وابن عمار في موازين أصحاب الحديث. وقال ابن مَهْدي: حدثني وُهَيْب وكان من أبصر أصحابه في الحديث والرجال أنه قدم المدينة، قال: لم أر أحدًا إلا وأنت تعرف وتنكر ما عدا مالكًا ويحيى بن سعيد، وقال مالك: ما خرج منا أحد إلى العراق إلا تغير غير يحيى بن سعيد. وقال حماد بن زيد: قيل لهشام بن عُروة: سمعت أباك يقول كذا وكذا؟ قال: لا، ولكن حدثني العدل الرّضا الأمين، عدل نفسي عندي، يحيى بن سعيد. وقال: عثمان الدّارِمِي: قلت ليحيى: الزُّهري في سعيد بن المُسَيِّب أحب إليك أو قَتَادة؟ قال: كلاهما، قلت: فهما أحب إليك أو يحيى بن سعيد؟ قال: كان ثقة، ولي قضاء المدينة. وقال النًّسائِيّ: ثقة مأمون، وقال في موضع آخر: ثقة ثبت. وقال: أحمد بن حَنْبل، ويحيى بن معين، وأبو حاتم وأبو زُرعة ثقة. وقال أحمد مرة: يحيى بن سعيد أثبت الناس. وقال ابن المَدِيني: لا يَصِحُّ له عن ابن المُسَيِّبِ، عن أبي هُريرة حديث مسند. وقال الدِّمْياطّي: يقال إنه كان يدلس، وكأنه تلقاه من قول يحيى بن سعيد لما سئل عنه، وعن محمد ابن عمرو بن عَلْقمة، فقال: أما محمد بن عمرو فَرَجل صالح، ليس بأحفظ للحديث؛ وأما يحيى بن سعيد فكان يحفظ ويدلس. روى عن أنس بن مالك، وعبد الله بن عامر بن رَبِيعة، ومحمد بن أبي أُمامة بن سهل بن حَنيف، وواقِد بن عمرو بن سعَد بن مُعاذ، وأبي سَلَمة بن عبد الرحمن، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وخلق كثير. وروى عنه الزُّهِريّ، ومالِك، ويزيد بن الهاد، والأَوْزَاعيّ، وَطَلْحة ابن مُصَرِّف، وشعبة، والسفيانان، واللَّيْث بن سَعْد، ووُهَيْب، ويزيد ابن هارون، وخلق كثير.

أقدمه المنصور العراق، وولاه القضاء بالهاشمية، ومات بها سنة أربع وأربعين ومئة، وقيل: سنة ست وأربعين. وجملة من اسمه يحيى بن سعيد في الرواة ستة عشر، وفي "الصحيح" جماعة، هذا ويحيى بن سعيد بن أبان الأُمَوِيّ الحافظ، ويحيى بن سعيد بن حَيّان التَّيْمِيّ، ويحيى بن سعيد بن العاص الأُموِيّ التابعي، ويحيى بن سعيد بن فَرُّوخ القَطان التَّميْميّ الحافظ أحد الأعلام. الرابع: محمَّد بن إبراهيم التَّيْمِيّ. هو محمَّد بن إبراهيم بن الحارث ابن خالد بن صَخْر بن عامر بن كعب بن سعيد بن تَيْم بن مرة القُرشيّ التَّيْمِيّ، أبو عبد الله المدني. كان جده الحارث من المهاجرين الأولين. قال ابن معين، وأبو حاتم، والنسائي، وابن خِراش: ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث. وقال يعقوب بن شَيْبة: كان ثقة. وقال أحمد: يروي أحاديث مناكير، أو منكرة. قال ابن حَجَر: أطلق أحمد بن حَنْبل وجماعة المنكر على الحديث الفرد الذي لا متابع له، فيحمل هذا على ذلك، وقد احْتَجَّ به الجماعة. رأى سَعْد بن أبي وقاص. وروى عن أبي سعيد الخُدري، وعُمَيْر مولى أبي اللَّحْم، وجابر بن عبد الله، وأنسَ بن مالِك، وقيس بن عَمرو الأَنصاريّ، ومحمود بن لبيد، وعائِشة، وعَلْقَمَة بن وَقّاص، وبُسْر بن سعيد، وعروة بن الزُّبَيْر، وعطاء ابن يسار، وخلق. وروى عنه ابنه موسى، ويحيى وعبدُ رَبَّه، وسعد بنو سعيد الأنصاري، ومحمد بن عَمْرو بن عَلْقمة، وهشام بن عُروة، والأَوْزَاعيّ، وأسامة بن زيد اللَّيْثي، وغيرهم. كان عريف قومه، مات سنة عشرين ومئة.

الخامس: علقمة بن وَقّاص -بتشديد القاف- بن مِحْصَن بن كَلَدة بن عبدياليل بن طريف بن عُتوارة بن عامر بن مالك بن ليث بن بكر بن عبد مَناة بن كِنانة الليثي العُتْواريّ المدني، أبو يَحيْي. قال النسائي: ثقة. وقال ابن سَعْد: كان قليل الحديث ذكره مسلم في طبقة الذين وُلدوا في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكذا قال ابن عبد البَرّ في "الاستيعاب": إنه ولد على عهده. وذكره ابن مَندة في الصحابة. وذكره القاضي أبو أحمد النسائي في التابعين. وساق ابن منْدة عن طريق محمد بن عمرو بن عَلْقمة، عن أبيه، عن جده، قال: شهدت الخندق، وكنت في الوفد الذين وَفَدوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهذا إسناد حسن، وظاهره يقتضي صحبة علقمة، فليحرر ذلك. وقد ذكره ابن حِبّان في ثقات التابعين، وقال: إنه توفي بالمدينة، وله بها عقب في خلافة عبد الملك بن مَرْوان. وكذا قال ابن سعد. روى عن عمر، وابن عمر، وبلال بن الحارث، ومعاوية، وعَمرو ابن العاص، وعائشة. وروى عنه ابناه، عبد الله، وعمرو، والزُّهري، ومحمد بن إبراهيم ابن الحارث التَّيْمِيّ، ويحيى بن النَّضْر الأنصاري، وابن أبي مُلَيْكة، وليس في الكتب من اسمه عَلْقَمة بن وقاص سواه. السادس: عمر بن الخَطّاب - رضي الله عنه -. هو عمر بن الخطاب بن نُفَيْل بن عبد العُزّى بن رِيَاح -بكسر الراء، وفتح الياء آخر الحروف- ابن عبد الله بن قرْط بن رَزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب القُرشي العَدَوِيّ، أبو حَفْص، الفاروق، أمير المؤمنين، يجتمع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في كعب الأب الثامن. أمه حَنْتَمَة بنت هاشِم بن المُغيرة بن عبد الله بن عُمر

ابن مخزوم، وقيل: حَنْتَمة بنت هِشام أخي هاشم فتكون أخت أبي جَهل. والأول أصح. لُقِّبَ بالفاروق، لأن الله تعالى فرق بين الحق والباطل بإسلامه، فكناه النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك. وهو أول من سمي أمير المؤمنين بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد سمي عبد الله ابن جَحْش بها في حياته، واختلف في سبب تسميته بذلك. قيل: إنه لما تولى الخِلافة قال: كان أبو بكر يقال له: خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكيف يقال لي خليفة خليفة؟ يطول ذلك؟ فقال له المُغيرة بن شُعبة: أنت أميرنا، ونحن المؤمنين، فأنت أمير المؤمنين. قال. فذاك إذن. وقيل: سببه هو أن عُمر أرسل إلى عامل العراق أن ابعث إليَّ رجلين جَلْدين نبيلين، أسألهما عن العراق وأهله، فبعث إليه لبيد بن رَبيعة، وعَدِيّ بن حاتم، فلما قدما المدينة أناخا راحلتيهما بباب المسجد، ثم دخلا، فقالا لعَمرو ابن العاص: استأذن لنا على أمير المؤمنين، فقال عَمرو: وأنتما والله أصبتما اسمه، نحن المؤمنون وهو أميرنا، فدخل على عُمر وقال له: السلام عليك يا أمير المؤمنين فقال له عُمر: ما بدا لك بهذا الاسم، يعلم الله لتخرجن مما قلت أو لأفعلن، قال: إن لبيد بن ربيعة، وعدي بن حاتم قدما، ودخلا، وقالا لي: استأذن لنا أمير المؤمنين، فهما والله قد أصابا اسمك، أنت الأمير، ونحن المؤمنون، فجرى الكتاب من يومئذ. ولد بعد الفيل بثلاث عشرة سنة، كان من أشراف قريش، وإليه كانت السفارة في الجاهلية. وذلك أن قريشًا كانت إذا وقعت بينهم حرب، بعثوه سفيرًا، وإذا نافرهم منافر، أو فاخرهم مفاخر بعثوه منافرًا أو مفاخرًا، ورضوا به. أسلم بعد أربعين رجلًا وإحدى عشرة امرأة، وكان إسلامه عزًّا، ظهر به الإِسلام بدعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - شهدا بدرًا والمشاهد كلها، وولي الخلافة بعد أبي بكر, وبويع له يوم مات أبو بكر، فسار أحسن سيرة، وفتح الله الفتوح

على يديه بالشام والعراق ومصر، ودوَّن الدواوين، وأرَّخ التاريخ, وكان نقش خاتمه -كفى بالموت واعظًا- وكان أصلع أعسر طُوالًا، آدم، شديد الأدمة. وقال أبو رجاء العُطارِدِيّ: كان أبيض شديد حُمرة العينين، وزعم الواقدي أن سمرته إنما كانت من أكل الزيت، عام الرَّمادة، وقال ابن عبد البَرّ: أصح ما في هذا الباب حديث الثَّوْري، عن زِرّ بن حُبَيْش، قال: رأيت عمر شديد الأدمة، وقال أنس: كان أبو بكر يَخْضِبُ بالحِنّاء والكَتَم، وكان عمر يخضب بالحناء بحتًا. وقد روي عن مُجاهد، إن صَحَّ أن عمر كان لا يغير شَيْبَهُ وروى شُعبة عن هِلال بن عبد الله: رأيت عمر بن الخطاب آدم ضخمًا، كأنه من رجال سَدوس في رجليه روح كان لا يخاف في الله لومة لائم، وهو أول من نور شهر الصوم بصلاة الأشفاع فيه، وأول من اتخذ الدِّرّة. ومن حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضرب صدر عمر - رضي الله عنه - لما أسلم ثلاث مرات، وهو يقول: "اللهُمَّ أَخْرِجْ ما في قَلْبَهُ من غِلٍّ، وأَبْدِلْهُ إيمانًا". يقولها ثلاثًا. ونزل القرآن بموافقته في أُسارى بدر، وفي الحجاب، وفي تحريم الخمر وغير ذلك. وقد أوصل بعضهم موافقته أي التي نزل فيها القرآن على وفق ما قال وما أراد، إلى أكثر من عشرين. وقد أفردها بعضهم بالتأليف. وقد قال علي - رضي الله عنه -: إن في القرآن لقرآنًا من رأي عمر وما قال الناس بشيء وقال عمر؛ إلا نزل القرآن على نحو ما قال عمر، وقال ابن عمر: ما نزل بالناس أمرٌ، فقال الناس، وقال عمر؛ إلا نزل القرآن على نحو ما قال عمر. ومن حديث ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الله جَعَلَ الحقَّ على لسان عُمر وقلبه". ومن حديث عُقْبة بن عامر؛ وأبي هُريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ أنه قال: "لَوْ بَعْدي نَبِيٌّ لكان عُمر".

وعن عائشة أنه قال: "قَدْ كان في الأممِ قَبلكُم محدِّثون، فإن يكن في هذه الأمة أحد فعُمر بن الخطاب". وفي "الصحيح" من حديث ابن عمر: "بَيْنا أنا نائِمٌ أُتيتُ بقَدَحِ لبنٍ، فشربتُ حتى رأيتُ الرِّيَّ يخرجُ من أظفاري، ثم أعطيتُ فضلي عُمر" قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال:"العلم". وفيه أيضًا عن أبي هُريرة: "بينا أنا نائِمٌ، والناسُ يُعرضونَ عليَّ وعليهم قُمُصٌ، منها ما يبلغُ إلى الثَّدْي، ومنها ما دون ذلك، وعُرضَ علي عُمر بن الخطاب، وعليه قميصٌ، يجرُّهُ"، قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: "الدين". وفيه أيضًا عن جابر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "دخلتُ الجنةَ، فرأيتُ فيها دارًا أو قال: قصرًا، وسمعتُ فيه ضَوْضاء، فقلت: لِمَنْ هذا؟ فقالوا: لرجل من قُريش، فظننتُ أني أنا هو، فقلت: من هو؟ فقالوا: عمر بن الخَطّاب، فلولا غَيْرَتُكَ يا أبا حفص لدخلتهُ" فبكى عُمر، وقال: أعليكَ يُغار، أو أَغارُ يا رسول الله. وعن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، قال: خير الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكرٍ، ثم عمر - رضي الله عنهما - وما كنا نبعد أن السكينة تنطِقُ على لسان عُمر. وقال ابن مسعود: ما زلنا أعزةً منذ أسلم عُمر. وقال: لو وُضع علم أحياء العرب في كِفّة ميزان، ووضع علم عمر في كفة، لرَجَحَ علم عمر، ولقد كانوا يرون أنه لو ذهب بتسعة أعشار العلم، ولَمجلس كنت أجلسه مع عمر أوثق في نفسي من عمل سنة. وقال حُذَيْفة: كأنَّ علم الناس كلهم قد درس في حجر عمر مع عمر. ومن حديث الأَعْمش عن مالكِ الدار، قال: أصاب الناس قحط في زمان عمر، فجاء رجل إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله! استسق

لأمتك فإنهم قد هلكوا، قال: فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام، وقال: ائت عمر، فمره أن يستسقيَ للناس، فإنهم يُسقون، وقيل له: عليك الكيس الكيس، فأتى الرجل عُمر، فأخبره، قال: فبكى عمر، وقال: يا رب ما آلو إلا ما عجَزْت عنه، يا رب! ما آلو إلا ما عَجَزت عنه. وعن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى على عمر قميصًا أبيض، فقال: "أجديدٌ قميصك أم غَسيل؟ " قال: غسيل قال: "البَسْ جديدًا، وعِشْ حميدًا، ومُتْ شهيدًا، ويرزقُكَ الله قرة عين في الدنيا والآخرة". قال: وإياك يا رسول الله. وروي عن عَوْف بن مالك الأَشْجَعيّ أنه رأى في المنام كأن الناس جمعوا، فإذا فيهم رجل فرعهم، فهو فوقهم بثلاثة أذرع فقلت: من هذا؟ فقالوا: عمر، قلت: لم؟ قالوا: لأن فيه ثلاث خِصال: إنه لا يخاف في الله لومة لائم، وإنه خليفة مُستخلف وشهيد مُستشهد، فأتى إلى أبي بكر فقَصَّها عليه، فأرسل إلى عمر، فدعاه لِيُبَشرهُ، فجاء عمر، قال: فقال لي أبو بكر: اقصص رُؤياك، قال: فلما بَلَغْتُ خليفة مستخلف زَبَرنَي عُمر، وانتهَرَني، وقال: اسكت، تقول هذا، وأبو بكر حَيّ، قال: فلما ولي عمر مررت بالمسجد وهو على المِنبر، فدعاني، وقال اقصص رؤياك، فقصصتها، فلما قلت: إنه لا يخاف في الله لومة لائم، قال: إني لأرجو أن يجعلني الله منهم، قال: فلما قلت: خليفة مستخلف، قال: قد استخلفني الله، فأسأله أن يعينني على ما أولاني، فلما أن ذكرت شهيد مستشهد، قال: أنى لي بالشهادة، وأنا بين أظهركم تَغْزون ولا أغزو، ثم قال: بلى يأتي الله بها أنّى شاء. قال عبد الرزاق: وعن مَعْمر: "لو أنَّ رجلًا قال: عمر أفضل من أبي بكر ما عَنَّفْتُهُ" وكذلك: "لو قال: علي أفضل عندي من أبي بكر وعمر، لم أعنفه إذا ذَكَرَ فضل الشيخين، وأحبَّهُما، وأثنى عليهما بما هما أهله" فذكرت ذلك لوكيع، فأعجبه، واشتهاه.

قال ابن عبد البَرَّ: يدل على أن أبا بكر - رضي الله عنه - أفضل من عمر - رضي الله عنه - سبقهُ له إلى الإِسلام. وما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: رأيت في المنام كأني وُزِنْتُ بأمتي، فَرَجَحْتُ، ثم وُزن أبو بكر فرجَح، ثم وُزن عمر فرجَح، ففي هذا بيان فضله على عمر، وقد قال عمر - رضي الله عنه - ما سابقت أبا بكر إلى خير إلا سبقني إليه، ولوَدِدْتُ أني شعرةٌ من صدر أبي بكر. وعن إبراهيم النَّخَعِيّ أنه قال: أول من ولي شيئًا من أمور المسلمين عمر بن الخطاب، ولاه أبو بكر القضاء، فكان أول قاضٍ في الإِسلام، وقال له: اقض بين المسلمين، فإني في شُغُل، وأمر ابن مسعود بعَسَسِ المدينة. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - لما أسلم عمر - رضي الله تعالى عنه - نزل جبريل على النبي- صلى الله عليه وسلم -، وقال له: يا محمَّد استبشر أهل السماء بإسلام عمر. وأخرج أبو يَعْلى من حديث ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اللهم أعز الإِسلام بأحب الرجلين إليك، بعُمر بن الخطاب، أو بأبي جهل بن هشام" وكان أحبهما إلى الله عُمر بن الخطاب. وعن ابن عباس أيضًا أنه قال: "اللهم أَعِزَّ الإِسلام بأبي جهل بن هشام، أو بعُمر بن الخطاب، فأصبح عمر فغدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -". وأخرج ابن سعد عن سعيد بن المُسَيِّب: "كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رأى عمر أو أبا جَهْل، قال: "اللهم اشدُدْ دينك بأَحبِّهما إليك". وأخرجه الدّارَقُطْنِيّ عن أنس رفعه: "اللهم أعزَّ الإِسلام بعُمر أو بِعَمْرو بن هِشام". ورواه المَسْعُودي عن ابن مسعود رفعه: "اللهم أيَّد الإِسلام بعُمر". وفي "الخلعيات" من حديث ابن عَبّاس كذلك، ولم يذكر أبا جهل. وفي "كامل" ابن عَدِيَ أن عائشة مثله. وفي "فوائد" عبد العزيز بن الجَرْمي، عن عمر أنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللهم اشدد الدين بعمر، اللهم اشدد الدين بعمر، اللهم اشدد الدين بعمر".

وعن شريْح بن عُبَيْد، قال: قال عمر: خرجت أتعرض لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوجدته سبقني إلى المسجد، فقمت خلفه، واستفتح سورة الحاقة، فجعلت أتعجب منِ تأليف القرآن، فقلت: هذا والله شاعر كما قالت قريش، قال: فقرأ {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة: 40 - 41] فقلت: كاهن, فقال: {وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ..} [الحاقة: 42] حتى ختم السورة، قال: فوقع الإِسلام في قلبي كل موقع. وعن ابن عباس أنه سأل عمر عن إسلامه، فذكر قصة بطولها، وفيها أنه خرج ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين حمزة. وأصحابه الذين كانوا اختفوا في دار الأرقم، فعلمت قريش أنه امتنع، فلم تُصِبْهم كآبة مثل ذلك اليوم، قال فسماني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ الفاروق. ووقع في سبب إسلامه غير هذا مما هو مذكور في ترجمة أخته فاطمة. وفي "الواقدي" أنه كان يأخذ أذنه اليسرى بيده اليمنى، ويجمع جَراميزه، ويَثِبُ على فرسه، فكأنما خلق على ظهره. والجَراميز: بدن الإِنسان، يقال: جمع جراميزه: إذا تقبض ليثبت. له خمس مئة وتسعة وثلاثون حديثًا. اتفقا على عشرة، وانفرد البخاري بتسعة، ومسلم بخمسة عشر. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكر، وأُبَيّ بن كعب. وروى عنه أولاده عبد الله، وعاصم، وحَفْصة، وروى عنه عثمان، وعلي، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الرحمن بن عَوْف، وابن مسعود، وشَيْبة بن عثمان، وغيرهم من الصحابة، وروى عنه من التابعين: سعيدُ بن المُسَيِّب، وعمرو بن مَيْمون الأَوْدِيّ، وشُريْح القاضي، وسُوَيْد بن غفلة، وعَلْقَمة بن وقّاص، وغيرهم. مكث في الخلافة عشر سنين وستة أشهر، وقُتل رضي الله تعالى عنه

سنة ثلاث وعشرين، لثلاث بقين من ذي الحجة، وقيل: لأربع بقين منه. واختلف في سنه يوم مات فقيل: ابن ثلاث وستين سنة، كسن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر يوم ماتا، وقيل: ابن ستين، وقيل: ابن اثنين وخمسين، وقيل: ابن أربع وخمسين، وقيل: ابن خمس وخمسين. وفي "تهذيب التهذيب" وفي "أخبار البصرة" لعمر بن شَبَّة، قال: قال لنا أبو عاصم إلى أن قال: قال ابن عمر: قال لي عمر قبل أن يموت بعام: أنا ابن سبع وخمسين سنة، أو ثمان وخمسين، وإنما أتاني الشيب من قبل أخوالي بني المغيرة، فعلى هذا يكون يوم مات ابن ثمان وخمسين، أو تسع وخمسين، وهذا يُرَجَّحُ على غيره, لأنه من عمر بنفسه، وهو أعرف من غيره بنفسه، والمخبر من آل بيته، وآل الرجل أتقن لأمره من غيرهم. والقاتل له عدو الله أبو لؤلؤة، غلام المُغيرة بن شُعبة، وكان نصرانيًا. وسبب قتله ما روي عن عبد الله بن الزُّبير، قال: غدوت مع عمر بن الخطاب إلى السوق، وهو متكئٌ على يدي، فلقيه أبو لؤلؤة، غلام المُغيرة، فقال له: كَلِّم مولاي ليضع عني من خراجي، قال: كم خراجك؟ قال: دينار، قال: ما أرى أن أفعل، إنك لرجل محسن، وما هذا بكثير، ثم قال له عمر: ألا تعمل لي رحىً؟ قال: بلى, فلما ولّى، قال أبو لؤلؤة: لأعملَنَّ لك رحىً يتحدث الناس عنها ما بين المشرق والمغرب، قال: فوقع في نفسي قوله، فلما كان من الغد في النداء لصلاة الصبح. خرج عمر إلى الناس يؤذنهم بالصلاة، وأنا في مصلاي، وقد اضطجع له عدو الله أبو لؤلؤة، فضربه بالسكين ست طَعَنات، إحداهن من تحت سرته، هي قتلته، فصاح عمر، أين عبد الرحمن بن عوف؟ فقال: هو ذا يا أمير المؤمنين، قال: تقدم فصلِّ بالناس، فتقدم عبد الرحمن بن عوف، وصلى بالناس، وقرأ في الركعتين بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكفرون:1] {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] واحتملوا عمر، فأدخلوه منزله، فقال لابنه عبد الله: اخرج فانظر من قتلني، فخرج عبد الله، فقال: من قتل أمير المؤمنين؟ فقالوا: أبو لؤلؤة،

غلام المُغيرة بن شُعبة، فرجع، فأخبر عمر، فقال: الحمد لله الذي لم يجعل قتلي بيد رجل يحاجني بـ "لا إله إلا الله" وكان قتله له قبل أن تستوي الصفوف، ولما ضربه، قال: دونكم الكلب، فإنه قد قتلني، فهاج الناس، وأسرعوا إليه، وضرب معه حينئذ اثني عشر، أو ثلاثة عشر رجلًا، مات منهم ستة، فرمى عليه رجل من العراق بُرْنُسًا، ثم بَرَكَ عليه، فلما رأى أنه لا يستطيع أن يتحرك، وجأ نفسه، أي ضربها فقتلها. ولما جاء عمر إلى بيته قال: ادعوا لي الطبيب، فدعي الطبيب، فقال: أي الشراب أحب إليك، قال: النبيذ، فسقي نبيذًا، فخرج من بعض طعناته، فقال الناس هذا دمٌ، هذا صديد، فقال اسقوني لبنًا، فسقي لبنًا، فخرج من الطعنة، فقال الطبيب: لا أرى أن تمسي، فما كنت فاعلًا، فافعله، فوقعت قصة الشورى المشهورة، وأوصى أن يصلي عليه صُهيب، وقال لما فعل ما فعل من مسألة الشورى: إن وَلَّوْها الرجل الأَجْلَحَ سلك بهم الطريق المستقيم، يعني عليًا، والأجلح من الناس الذي انحسر الشعر عن جانبي رأسه، فقال له ولده عبد الله: ما يمنعك أن تُقَدِّمَ عليًّا؟ فقال أكره أن أحملها حيًّا وميتًا، ويقال: إنه لما احتضر ورأسه في حِجْر ولده عبد الله، قال: ظلومٌ لِنَفْسِي غَيرَ أَنّي مُسْلمٌ ... أُصَلّي الصَّلَاةَ كُلَّها وأَصُومُ وروي عنه أنه قال في انصرافه من حَجَّته التي لم يَحُجَّ بعدها: الحمد لله، ولا إله إلا الله، يعطي من يشاء ما يشاء، لقد كنت بهذا الوادي -يعني ضَجَنان- أرعى إبلًا للخطاب، وكان فظًّا غليظًا، يُتعبني إذا عملت، ويضرِبني إذا قصرت، وقد أصبحت وأمسيت، وليس بيني وبين الله أحد أخشاه، ثم تمثل فقال: لا شيءَ مِمّا تَرى تَبْقَى بَشَاشَتُهُ ... يَبْقَى الإِلهُ ويَفْنى المالُ والولدُ لم تُغْنِ عَن هُرْمُزٍ يومًا خزائِنُهُ ... والخلْدَ قَد حاوَلَتْ عَادٌ فَما خَلَدوا ولاَ سُلَيْمانَ إذ تَجْرِي الرِّياحُ لَهُ ... والجِنُّ والإِنْسُ فِيما بَيْنَها تَرِدُ أَيْن المُلوكُ الّتي كانَتْ لِعِزِّتِها ... مِنْ كُلِّ أَوْبٍ إِلَيْها وافِدٌ يَفِدُ

حَوْضٌ هُنالِكَ مَوْرُود بِلا كَذِبٍ ... لا بُدَّ مِنْ وِرْدِهِ يَوْمًا كَمَا وَرَدُوا وروى عروة عن عائشة أنها قالت: ناحت العين على عمر قبل أن يُقْتَلَ بثلاث، فقالت: أبعد قتيل بالمدينة أظلمت .... الخ. وروي عن أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق، أن عائشة حدثتها أن عمر - رضي الله عنه - أذن لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في آخر حجة حجها، قالت: فلما ارتحل من الحصبة، أقبل رجل متلثم، فقال وأنا أسمع: أين كان منزل أمير المؤمنين؟ فقال قائل وأنا أسمع: هذا منزله كان، فأناخ في منزل عمر ثم رفع عقيرته يتغنى: أَبعْدَ قَتيلٍ بالمدينة أَظلَمَتْ ... لهُ الأَرضُ تَهْتزُّ العِضَاهُ بأَسْوقِ جَزى الله خَيْرًا من إمامٍ وباركَتْ ... يدُ اللهِ في ذاك الأَديمِ المُمَزَّقِ فمَنْ يَسْعَ أو يَرْكبْ جَناحَيْ نَعامةٍ ... لِيُدْركَ ما قَدَّمتَ بالأَمْس يُسْبَقِ قَضَيْتَ أُمورًا ثم غادرتَ بعدها ... بَوائِقَ في أَكْمامِها لم تُفَتَّق فما كُنتُ أَخشى أَنْ تَكونَ وفاتُهُ ... بِكَفَّيْ سَبَنْتى أزرَق العَينِ مُطرقِ قالت عائشة: فقُلْتُ لبعض أهلي: أعلموني من هذا الرجل؟ فذهبوا فلم يجدوا في مناخه أحدًا، قالت عائشة: فوالله إني لأحسبه من الجنّ، فلما قتل عمر نَحَلَ الناس هذه الأبيات للشَّمّاخ بن ضرار، أو لأخيه مزرد، والسَّبَنْتى الجريء، والنمر، والمطرق الحنق، ورواية أم كلثوم ليس فيها البيت الأول والبيت الأخير. وليس في الصحابة من اسمه عُمر بن الخطاب غيره- وفيهم من اسمه عُمر كثيرون، قيل: إنهم ثلاثة وعشرون نفسًا، على خلاف بعضهم. وفي الرواة عمر بن الخطاب غيره ستة: الأول: كوفي روى عنه خالد بن عبد الله الواسِطي. والثاني: رَاسِبِيّ، روى عنه سُويد أبو حاتم. والثالث: إسكنْدَريّ، روى عن ضمام بن إسماعيل.

والرابع: عَنْبرِيّ، روى عن أبيه عن يحيى بن سعيد الأنصاري. والخامس: سِجِسْتَانيّ، روى عن محمَّد بن يوسف الفِرْيابي. والسادس: بَصْري، روى عن مُعتمر بن سليمان. والأنصاري في نسب يحيى بن سعيد نسبة إلى الأنصار، وأحدهم نصير كشريف وأشراف، وقيل: ناصر كصاحب وأصحاب، وهو اسم إسلامي، سمَّى به النبي - صلى الله عليه وسلم - الأوس والخزرج لنصرتهم له عليه الصلاة والسلام. وقيل سماهم به الله تعالى في قوله: {وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ} [الأنفال: 74] والأوس والخزرج هم الذين يقال لهم: بنو قَيْلة -بفتح القاف -وهو اسم أمهم، وهي بنت كاهِل بن عُذرة، وأبوهم هو حارثة بن ثَعْلبة العَنقاء، لطول عنقه، ابن عمرو مُزَيْقِيا بن عامر ماء السماء بن حارثة، الغِطْريف بن امرىء القيس البطريق بن ثعلبة بن مازن، وهو جماع غسان بن الأزد، واسمه دَرّاء على وزن فعال ابن الغوث ابن نبت بن يَعْرُب بن يقطن، وهو قحطان، وإلى قحطان جماع اليمن، وهو أبو اليمن كلهم. ومنهم من ينسبه إلى إسماعيل، فيقول: قحطان بن الهُمَيْسِع ابن تَيْم بن نبت بن إسماعيل، هذا قول ابن الكَلْبيّ، والزبير ابن بكار، ومنهم من ينسبه إلى غيره، فيقول: قحطان بن فالج بن عابر ابن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام، وقيل: إن قحطان من ولد هود عليه السلام. وقيل: هود نفسه. وقيل: ابن أخيه. فعلى الأول تكون العرب كلها من ولد إسماعيل، وعلى غيره تكون من ولد إسماعيل وقحطان، ويقال: إن قحطان أول من تكلم بالعربية، وهو والد العرب العاربة، وأن إسماعيل والد العرب المستعربة. وهذا على أن قحطان ليس من ولد إسماعيل. وأما العرب العاربة فكانوا قبل ذلك كعاد، وثمود، وطسم، وجديس، وأميم، وعبيل، ودبار، وعمليق، وقيل: إن قحطان أول من قيل له: أبيت اللعن، وعم صباحًا، وقد قال حسان بن ثابت: إمَّا سَأَلْتِ فإنّا مَعْشَرٌ نُجُبُ ... الأَزْد نِسْبَتُنا والمَاءُ غَسّانُ

وغسان ماء كان شربًا لولد مازن بن الأزد، واختار ابن حَجَر في "الفتح" أن قحطان من ولد إسماعيل، لما في حديث أبي هريرة عند البخاري في قصة هاجر، حيث قال عليه الصلاة والسلام، وهو يخاطب الأنصار، فتلك أمكم يا بني ماء السماء، قال: ولأن عدد الآباء بين المشهورين من الصحابة وغيرهم وبين قحطان متقارب من عدد الآباء بين المشهورين من الصحابة وغيرهم وبين عدنان، فلو كان قحطان هو هودًا، أو ابن أخيه، أو قريبًا من عصره، لكان في عداد عاشر جد لعدنان على المشهور أن بين عدنان وبين إسماعيل أربعة آباء، أو خمسة. وأما على القول بأن بين عدنان وإسماعيل نحو أربعين أبًا، فذلك أبعد. والنجّاري في نسبه نسبة إلى النجار جد بطن من الخزرج، وهو تيم الله بن ثعلبة بن عمر، سمي النجار بذلك، لأنه ضرب رجلًا فنجره، فقيل له: النجار. وفي كل من الأوس والخزرج عدة بطون ليس هذا محل تتبعها. والقُرَشِيّ في نسب الحُمَيْدِي، وعمر بن الخطاب نسبة إلى قُريش وهم ولد النَّضْر بن كِنانة، وبذلك جزم أبو عُبيدة أخرجه ابن سعد عن أبي بكر بن الجَهْمِيّ. ورُوي عن هشام بن الكَلْبِيّ، عن أبيه: كان سكان مكة يزعمون أنهم قريش دون سائر بني النَّضْرَ حتى رحلوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - , فسألوه مَنْ قُريش، فقال: من ولد النَّضْر بن كِنانة، وقيل: هم ولد فِهْر بن مالك بن النَّضْر، وهذا قول الأكثر، وبه جزم مُصْعب. قال: ومن لم يلده فِهْر فليس قرشيًّا، وذكر الرَّافِعِيّ وجهين غريبين، قال: ومنهم من قال: هم ولد إلياس بن مُضر. ومنهم من قال: هم ولد مُضر بن نزار، وقيل: أول من نسب إلى قريش قُصَيّ بن كِلاب، فروى ابن سعد أن عبد الملك بن مَروان سأل مُحمد بن جُبير: متى سُميت قريش قريشًا؟ قال: حين اجتمعت إلى الحرم بعد تفرقها، فقال: ما سمعت بهذا, ولكن سمعت أن قصيًّا كان يقال له: القُرَشِيّ، ولم يُسَمَّ أحد قرشيًا قبله. وروى ابن سعد من طريق المِقْداد: لما فرغ قُصَيّ من نفي خُزاعة من الحرم، تجمعت

إليه قريش، فسميت يومئذ قريشًا لحال تجمعها، والتَّقَرُّشُ: التجمع، وقيل: لتلبسهم بالتجارة، وقيل: لأن الجد الأعلى، وهو النضر، جاء في ثوب واحد متجمعًا فيه، فسمي قريشًا، وقيل: إنه جاء إلى قومه، فقالوا: كأنه جمل قَرِيش أي شديد. وحكى الزبير بن بَكّار عن عمه مصعب أن أول من تسمى قريشًا قُريش بن بدر بن مَخْلد بن النَّضر بن كِنانة، وكان دليل بني كنانة في حروبهم، فكان يقال: قدمت عير قريش، فسميت قريش به قريشًا، وأبوه بدر، صاحب بدر الموضع المعروف، وقال المُطرزي: سميت قريش بدابة في البحر هي سيدة الدواب البحرية، وكذلك قريش سادة الناس قال الشاعر: وقُرَيْشٌ هِيَ الَّتي تَسْكُنُ البَحْـ ... ـرَ بِها سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشَا تَأُكُلُ الغَثَّ والسَّمينَ وَلاَ ... تَتَّرِكْ فيه لِذي جَنَاحَيْنِ رِيشَا هكذا في البلادِ حَتّى قُرَيْش ... يَأْكُلُونَ البِلادَ أَكْلًا كَميشا وَلَهُمْ آخِر الزَّمَان نَبِيٌّ ... يَكْثِرُ القتَلَ فيهم والخُموشا وقال صاحب المحكم: قريش دابة في البحر، لا تَدَعُ دابة في البحر إلا أكلتها، فجميع الدواب تخافها، وهي القِرْش -بكسر القاف- وقريش تصغيرها، فقد أخرج البيهقي من طريق ابن عَبّاس، قال: قريش تصغير قِرْش وهي دابة في البحر، لا تمر بشيء من غث ولا سمين إلا أكلته، وقيل: سميت قريشًا لأنهم كانوا يَقْرُشُونَ أي يفتشون عن خَلة الناس وحاجتهم، فيسدونها. والتقريش: هو التفتيش، وقيل سمُّوا بذلك لمعرفتهم بالطعان. والتقريش وقع الأسِنة، وقيل: التقرش: التنزه عن رذائل الأمور، وقيل: هو من أقرشت الشَّجَّةُ، إذا صَدَّعت العظم، ولم تُهَشِّمْهُ. وقيل: أقرش بكذا: إذا سعى فيه فوقع له، وقال الزُّهري: إنما نبزت فهرًا أمه بقريش كما يسمى الصبي غرارة وشملة وأشباه ذلك، وقيل غير هذا في سبب تسميتها قريشًا. وقد أكثر ابن دِحية من نقل الخلاف في سبب تسميتها بذلك. وهذا عمدة ما ذكروه.

وبطون قريش اثنا عشر بطنًا؛ بنو عبد مناف، وبنو تيم، وبنو عدي، وبنو أسد، وبنو عبد الدار، وبنو مخزوم، وبنو سهم، وبنو جمح. وسَهْمٌ وجُمح ابنا هصيص. وبنو زهرة، وبنو الحارث، وبنو محارب، وبنو عامر، وهذه البطون كلها خارجة من كعب بن لؤي، ما عدا الثلاثة الأخيرة، وبنو كعب هم الذين يقال لهم: قُريش البطاح، ويقال لمن سواهم: قريش الظّواهر. هذا ملخص الكلام في قريش. والعَدَوِيُّ في نسب عمر بن الخطاب نسبة إلى جده المذكور في نسبه عدي بن كعب بن لؤي. والتَّيْمِيّ في نسب محمَّد بن إبراهيم نسبة إلى جده تيم بن مرة الذي ينسب إليه أبو بكر الصِّديق، وهو جد أحد البطون القرشية المتقدم ذكرها قريبًا. واللَّيثِيّ في نسب علقمة بن وقّاص نسبة إلى جده ليث بن بكر المذكور في نسبه. لطائف إسناده: منها: أن رجال إسناده ما بين مكي ومدني، فالأولان مكيان، والباقون مدنيون. وفيه رواية تابعي عن تابعي، وهما يحيى ومحمد التيمي، وهذا كثير. وإن شئت قلت: فيه ثلاثة تابعيون بزيادة علقمة على قول الجمهور كما قلنا: إنه تابعي لا صحابي. وفيه رواية صحابي عن صحابي، على قول من عده صحابيًا. وألطف من هذا أنه تقع رواية أربعة من التابعين بعضهم عن بعض، ورواية أربعة من الصحابة بعضهم عن بعض. وقد أفرد الحافظ أبو موسى الأصبهاني جزءًا لرباعي الصحابة وخماسيهم. رواية ستة من التابعين أو سبعة بعضهم عن بعض: ومن الغريب العزيز رواية ستة من التابعين بعضهم عن بعض، وقد أفرده الخطيب

أنواع الرواية

البغدادي بجزء جَمَعَ اختلاف طرقه، وهو حديث منصور بن المُعتمر، عن هِلال بن يِساف، عن الربيع بن خُثَيْم، عن عمرو بن ميمون الأَوْدِيّ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن امرأة من الأنصار، عن أبي أيوب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: في أن {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تعدِل ثلث القرآن. قال يعقوب بن شيْبة، وهو أطول إسناد رُوي، قال الخطيب: وقد روي هذا الحديث أيضًا من طريق سبعة من التابعين، ثم ساقه من حديث أبي إسحاق الشَّيْبانيّ، عن عمرو بن مُرة، عن هِلال، عن الرَّبيع، عن عَمْرو، عن عبد الرحمن ... الخ فذكره. أنواع الرواية: ومنها أن فيه أنواع الرواية، فأتى بحدثنا الحُمَيْدِيّ، ثم بعن في قوله عن يحيى، ثم بلفظ أخبرني محمَّد، ثم سمعت عمر - رضي الله عنه - يقول، فكأنه يقول: هذه الألفاظ كلها تُفيد السماع والاتصال، كما سيأتي عنه في باب العلم عن الحُميدي، عن ابن عُيَيْنة، أنه قال: حدثنا، وأخبرنا، وأنبأنا، وسمعت واحد؛ والجمهور قالوا: أعلى الدرجات لهذه الثلاثة؛ سمعت ثم حدثنا، ثم أخبرنا. واعلم أنه إنما وقع عن سُفيان في رواية أبي ذَرّ، وفي رواية غيره، حدثنا يحيى. وقد اعترض على البخاري في قوله: عن سفيان، عن يحيى، بأن جماعة قالوا: الإسناد المعنعن يُصَيِّرُ الحديثَ مرسلًا، ولا سيما إذا كان من مدلس، وسفيان مدلس. وأجيب بأن ما وقع في "الصحيحين" محمول على السماع من وجه آخر، والجمهور على أن المعنعن من غير المدلس محمول على الاتصال بشرط اللقي عند البخاري. وحكى الحاكم الإِجماع على ذلك، ولم يشترط مسلم في الحكم باتصاله اللقاء، بل اكتفى بالمعاصرة، وادعى أن شرط الاجتماع قول مختَرع لم يُسبق إليه قائله. وفيما قاله نظر, لأنهم كثيرًا ما يرسلون عمن

عاصروه، ولم يَلْقَوْه، فاشترط لقيهما لحمل العنعنة على السماع، قاله ابن الصلاح. وقال السمعاني: يشترط طول الصحبة بينهما، واشترط أبو عمرو الداني معرفة الراوي المعنعن بالأخذ عمن عنعن عنه. وهذا الشرط موجود في حديث البخاري هذا، لأن سفيان مشهور بصحبة يحيى بن سعيد، والأخذ عنه كما مر في تعريفه. وقيل: إن السند المعنعن منقطع مطلقًا، وإن لم يكن راويه مدلسًا حتى يظهر الوصل بمجيئه من طريق آخر مصرحًا فيها بالسماع، قال: لأن "عن" لا تشعر بشيء من أنواع التحمل، وقال النَّوَوِيّ: إن هذا القول مردود بإجماع السلف، وقد أشار العراقي في "ألفيته" إلى هذا بقوله: وصَحّحُوا وَصْلَ مُعَنْعَنٍ سَلِمْ ... مِنْ دَلْسَةٍ رَاويهِ وَالِّلقا عُلِمْ وبَعْضُهُم حَكَى بِذا إجْماعا ... وَمُسْلِمٌ لمْ يَشْرُطِ اجْتماعا لكِنْ تَعَاصُرًا وقِيْلَ يُشْتَرَطْ ... طُولُ صَحَابةٍ وبَعْضُهُم شَرَطْ مَعْرِفَةَ الرّاوِي بالآخذِ عَنْهُ ... وَقِيْلَ كُلُّ ما أَتانا مِنْهُ مُنْقَطِعٌ حَتى يَبِيْنَ الوَصْلُ حكم "أنَّ" حُكم "عن": واعلم أن حكم "أنَّ" بالفتح والتشديد نحو أنَّ فلانًا قال: كذا، حكم "عن" على الصحيح، فيحمل على الاتصال بشرطه المتقدم، كما نقله ابن عبد البَر في "تمهيده" قائلا: لا اعتبار بالحروف والألفاظ، بل باللقاء والمجالسة والسماع مع السلامة من التدليس. وذهب أبو بكر البَرْدِيجي -بفتح الباء أكثر من كسرها- إلى أنه منقطع، وكذلك يعقوب بن شَيْبة، فإنه حكم على رواية أبي الزبير، عن محمَّد بن الحنفية، عن عمار، قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو يصلي، فسلمت عليه، فرد علي السلام بالاتصال، وحكم على رواية قيس بن سعد عن عطاء بن أبي رباح، عن محمَّد بن الحنفية أن عمارًا مر بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو يصلي، بالإرسال، لكونه

قال: إن عمارًا، ولم يقل: عن عمار، واعتراض ابن الصلاح التفرقة بينهما من مجرد اللفظ، قائلا: إن الحكم على الرواية الثانية بالإِرسال ليس من جهة تعبير ابن الحنفية بـ "أن"، بل من جهة أنه لم يسند الحكاية فيها إلى عمار بل إلى نفسه، مع أنه لم يدرك مروره بخلافه في الأولى، فإنه أسنده فيها إليه، فكانت متصلة. وقال العراقي: الصواب أن من أدرك ما رواه من قصة، وإن لم يعلم أنه شاهدها، يُحكم له بالوصل، بشرط السلامة من التدليس، سواء قال في روايته: قال، أو عن، أو أن، صحابيًا كان راويه أو تابعيًا، وإن لم يدرك ذلك، فهو مرسل صحابي، أو تابعي، أو منقطع، إن لم يسنده إلى من رواه عنه، وإلا فمتصل، وما حكي عن الإِمام أحمد بن حنبل من أن قول عُروة إن عائشة - رضي الله عنها - قالت: يا رسول الله! وقوله: عن عائشة كذا ليسا سواء يحمل على هذا، فيقال: إن عروة في اللفظ الأول لم يسند ذلك إلى عائشة، ولا أدرك القصة فكانت مرسلة. وفي الثاني أسنده إليها بالعنعنة؛ فكانت متصلة، ومرجِلُّ قول يَعْقوب ابن شَيْبة عليه. وإلى هذا أشار العراقي بقوله متصلًا بقوله المار: مُنْقَطِعٌ حَتّى يَبيْنَ الوَصْلُ ... وَحُكْم "أنّ" حُكمُ "عَنْ" فالجُلُّ سَوَّوْا وَلِلقَطعِ نَحا البَرْديجي ... حَتّى يَبينَ الوَصْلُ في التَّخْريجِ قالَ: ومثلُهُ رأى ابنُ شَيْ ... كَذا لهُ ولَمْ يُصَوِّبْ صَوْبَهْ قُلتُ الصَّوابُ أنَّ مَنْ أَدرَكَ ما ... رَوَاه بِالشَّرطِ الّذي تَقَدّما يُحْكَمْ له بالوَصْلِ كَيْفَما رَوَى ... بِقَال ياو عَنْ أو بِأَنَّ فَسَوا ومَا حُكِي عَنْ أَحْمَدَ بنِ حَنبل ... وَقَوْلَ يعقوب على ذا نَزِّل استعمال "عن" في الإِجازة: قال ابن الصلاح: وقد كثر في زمنه بعد الخمس مئة بين المحدثين استعمال "عن" فيما روي بالإِجازة فإذا قال الراوي: قرأت على فلان، عن فلان، حُمل على أنه رواه بالإِجازة، ومع ذلك فيه نوع من الاتصال،

الألفاظ التي يؤدي بها السماع من لفظ الشيخ

وجزم الشيخ زكريا الأنصاري بأنه في زمنه محمول على الإِجازة قطعًا، وإلى ذلك أشار العراقِيُّ بقوله متصلًا بما مر: وكَثُرَ اسْتِعْمالُ "عَنْ" في ذَا الزَّمَنْ ... إجازَةً وهوَ بِوَصْل ما قَمَنْ وقد مر أن التحمل أعلى ألفاظه: سمعت إلخ. الألفاظ التي يؤدي بها السماع من لفظ الشيخ وحاصل ما في ذلك هو أن أقسام التحمل ثمانية: أولها: سماع لفظ الشيخ من كتابه أو حفظه، إملاء أو غير إملاء، لكنه في الإِملاء أعلى، لما فيه من شدة تحرز الشيخ والراوي، إذ الشيخ مستقل بالتحديث والراوي بالكتابة عنه، فهما أبعد عن الغفلة، وأقرب إلى التحقيق مع جَرَيان العادة بالمقابلة بعده. ويقول الراوي في حالة الأداء لما سمعه من الشيخ: حدثنا، أو سمعت، أو أخبرنا، أو أنبأنا، أو قال لنا، أو ذكر لنا فلان، فيجوز ذلك اتفاقًا، كما حكاه القاضي عِياض، وجواز جميعه اتفاقًا لا ينافي ما يأتي وما مر من أرفعية بعضه على بعض. قال ابن الصلاح: وينبغي فيما شاع استعماله من هذه الألفاظ فيما سُمِعَ من غير لفظ الشيخ أن لا يُطْلَقَ فيما سمع من لفظه لما فيه من الإِيهام والإِلباس، قال العراقي: ما قاله القاضي متجه، إذ لا يجب على السامع أن يبين، هل كان السماع من لفظ الشيخ أو عرضًا؟ نعم، ينبغي عدم الإِطلاق في أنبأنا بعد اشتهار استعمالها في الإِجازة, لأنه يؤدي إلى إسقاط المروي بها عند من لا يَحْتَجُّ بالإِجازة. وما قاله متجه لكن إن أدى إطلاق غير أنبأنا إلى ما أدى إليه إطلاقها من إسقاط المروي، كان الحكم كذلك. وبالجملة هذه الألفاظ متفاوتة، وإلى جواز الأداء بها وتفاوتها أشار العراقي بقوله: أَعْلَى وُجُوهِ الأَخْذِ عِنْدَ المُعْظَمِ ... وهْيَ ثمانٍ لَفْظُ شَيْخٍ فَاعْلَمِ كِتَابًا أَوْ حِفْظًا وَقُلْ حَدَّثَنا ... سَمِعْتُ أو أَخْبَرَنا أَنْبَأَنا

أقسام التدليس

وقَدِّمَ الخَطِيبُ أَنْ يَقُولا: .... "سَمِعْتُ" إذ لا تَقْبَلُ التَّأْويلا وبَعْدَها حَدَّثَنا حَدَّثَني ... وبَعْدَ ذَا أَخْبرَنَا أَخْبَرَني وهْوَ كَثِيْرٌ ويَزِيْدُ اسْتَعْمَلَهْ ... وغَيْرُ واحِدٍ لما قَدْ حَمَلَهْ مِنْ لَفْظِ شَيخِهِ وبَعْدَهُ تَلا ... أَنْبَأَنا نَبَّأَنا وقَلَّلا وقَوْلُهُ قَالَ لنا ونَحوها ... كقَوْلهِ حَدَّثَنَا لكِنَّها الغالبُ اسْتِعْمالُها مُذَاكَرَهْ ... ودُونهَا قالَ بلا مُجاوَرَه وهْيَ عَلى السَّماعِ إنْ يُدْرَ اللُّقِيّ ... لا سِيّما مَنْ عَرَفُوهُ في المُضِيّ أَنْ لا يَقُولَ ذا لِغَيْرِ ما سَمعَ ... مِنْه كَحَجّاجٍ ولكِنْ يَمْتَنِعْ عُمُومُهُ عِنْدَ الخَطيبِ وَقَصَرْ ... ذاكَ عَلى الذّي بِذا الوَصْفِ اشْتَهَرْ أقسام التدليس تنبيه: لما ذكر أن سفيان مدلس، وبين حكم روايته بالعنعنة، احتيج إلى معرفة التدليس، ومعناه في الأصل كتم العيب ونحوه في المبيع، وهو مشتق من الدَّلس بالتحريك، وهو الظُّلمة، كأنه لتغطيته على الواقف على الحديث أو غيره أظلم أمره وهو ثلاثة أقسام: أولها: تدليس الإِسناد: وهو أن يروي عمن سمع منه ما لم يسمعه منه موهمًا أنه سمعه، وذلك بأن يسقط مَنْ حدثه من الثقات لصغره، أو من الضعفاء، ولو عند غيره فقط، ويرتقي لشيخ شيخه ففوقه ممن عرف له منه سماع، وإن اقتضى كلام ابن الصلاح أنه ليس بشرط، وتحصل التأدية "بعن" أو "أن" أو "قال" ونحوها مما لا يقتضي اتصالا لئلا يكون كذبا، وهو يخالف الإِرسال الخفي، فإنه وإن شارك التدليس في الانقطاع، يختصُّ بمن روى عمن عاصره، ولم يسمع منه، واختلف في حديث أهله، فقيل: يرد مطلقًا, لأن التدليس جرح لما فيه من التهمة والغش، وقيل: يقبل مطلقًا كالمرسل عند من يحتج به، وقيل: إن لم يدلس إلا عن الثقات كسفيان بن عُيْينة قُبل وإلا فلا؛ وقيل: من ندر تدليسه قبل وإلا فلا. والأكثر من المحدثين على قَبول ما صرح ثقاتهم بوصله كسمعت وحدثنا، لأن التدليس ليس كذبًا، وإنما هو تحسين لظاهر الإِسناد، وضرب من

والثاني من الأقسام: تدليس الشيخ

الإِيهام، فإذا صرح بوصله قُبلَ، وصحح هذا القول الخطيب، وابن الصلاح. وذَمَّهُ شُعبة بن الحجاج قائلا: التدليس أخو الكذب، ولأن أزني أحب إلى من أن أدلس. وإلى هذا القسم أشار العراقي بقوله: تَدْليسُ الاسنادِ كَمَنْ يُسْقِطُ مَنْ ... حَدَّثَهُ وَيَرْتَقي بعَنْ وَأَن وقَالَ يُوهِمُ اتِّصالًا واخْتُلِفْ ... في أَهْلِهِ فَالرَّدُّ مُطْلَقًا ثُقِفْ والأكْثَرونَ قَبِلُوا مَا صَرَّحا ... ثِقَاتُهُم بوَصْلِهِ وَصُحِّحا وفي الصّحيح عدة كَالأَعْمَشِ ... وَكَهُشَيمٍ بَعْدَهُ وَفَتِّشِ وَذَمَّهُ شَعْبَةُ ذُو الرُّسُوخِ ومنه أن يُسقط الراوي أداة الرواية مقتصرًا على اسم الشيخ، ويفعله أهل الحديث كثيرًا. مثاله ما قال ابن خشرم: كنا عند ابن عُيينة، فقال: الزُّهري، فقيل له: حدثك الزهري، فسكت، ثم قال: الزهري، فقيل له: سمعته من الزهري، فقال: لا، لم أسمعه منه ولا ممن سمعه منه، حدثني عبد الرزاق، عن معمر، عن الزُّهري. وسماه ابن حَجَر تدليس القطع، لكنه مثله بما رواه ابن عدي وغيره عن عمرو بن عبيد الله الطَّنافِسي أنه كان يقول: حدثنا، ثم يسكت، وينوي القطع، ثم يقول: هشام بن عُروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها. ومنه تدليس العَطْف: وهو أن يصرح بالتحديث عن شيخ له، ويعطف عليه شيخًا آخر له، ولا يكون سمع ذلك المروي عنه، مثاله ما رواه الحاكم في "علومه"، قال: اجتمع أصحاب هُشَيْم، فقالوا: لا نكتب عنه اليوم شيئًا مما يدلسه، ففطن لذلك، فلما جلس قال: حدثنا حُصين، ومُغيرة، عن إبراهيم وساق عدة أحاديث، فلما فرغ، قال: هل دلست لكم شيئًا؟ قالوا لا، قال: بلى، كل ما حدثتكم عن حُصين فهو سماعي، ولم أسمع من مُغيرة من ذلك شيئًا، ومع ذلك فهو محمول على أنه نوى القطع، ثم قال: وفلان أي وحدث فلان. والثاني من الأقسام: تدليس الشيخ، وهو أن يصف المدلس الشيخ

الثالث: تدليس التسوية المعبر عنه عند القدماء بالتجويد

الذي سمع ذلك الحديث منه بما لا يشتهر به من اسم، أو كنية، أو لقب، أو نسبة إلى قبيلة، أو بلدة، أو صنعة، أو نحوها كي يوعر على السامع منه معرفة الطريق، ومثال ذلك قول أبي بكر بن مُجاهد المُقْرِىء: حدثنا عبد الله بن أبي عبد الله يريد به الحافظ عبد الله بن أبي داود السِّجِسْتانِيّ، قال ابن الصَّلاح: وفيه تضييع للمروي عنه، قال العراقي: وللمروي أيضًا بأن لا ينتبه له. فيصير بعض رواته مجهولًا، وحكمه يختلف باختلاف المقصد الحامل لفاعله عليه، فإذا كان الحامل لفاعله ضعف المروي عنه فذلك شَرُّهُ لتضمنه الخيانة والغش. وحكم من عُرِف به عدم قبول خبره، وهو حرام وإما أن يكون الحامل له عليه استصغار المروي عنه بأن يكون أصغر من المدلس سنًّا، أو أكبر لكن بيسير أو بكثير، وتأخرت وفاته حتى شاركه في الأخذ عنه من هو دونه. وإما لكونه يوهم استكثارًا من الشيوخ بأن يروي عن شيخ واحد في مواضع، فيصفه في موضع بصفة، وفي آخر بأخرى، يوهم أنه غير كما كان الخطيب يفعل. والأصح أن هذا ليس بجرح وهو مكروه. وأثبت الإِمام الشافعي تدليس الإِسناد بمرة واحدة قائلًا: من عرف بالتدليس مرة لا يقبل منه ما يقبل من أهل النصيحة في الصدق، حتى يقول: حدثني، أو سمعت، وذلك أنه بثبوت تدليسه مرة صار ذلك ظاهر حاله في معنعناته، كما أنه بثبوت اللقاء مرة صار ظاهر حاله السماع، وإلى هذا القسم أشار العراقي بقوله عقب قوله: وَذمَّه شُعْبَةُ ذُو الرُّسوخِ ... وَدُونه التَّدْليسُ لِلشيوخِ أَن يَصِفَ الشَّيْخَ بما لا يُعْرفُ ... به وَذَا بِمَقْصِدٍ يَخْتَلِفُ فَشَرُّهُ للضَّعْفِ واسْتِصْغارا ... وَكَالخطِيبِ يُوهِمُ استِكْثارا والشَّافِعِي أَثْبَتَهُ بِمَرَّةِ الثالث: تدليس التسوية المعبر عنه عند القدماء بالتجويد، حيث قالوا: جود فلان، يريدون ذكر من فيه من الأجواد، وحذف الأدنياء، وهو شر أقسام التدليس، كان يروي حديثًا عن ثقتين لقي أحدهما الآخر،

رواية الأقران

وبينهما ضعيف، فيسقط الضعيف ويروي الحديث عن شيخه الثقة عن الثقة الثاني بلفظ محتمل، فيستوي الإِسناد كله عن ثقات، وإنما كان هذا شر الأقسام، لأن الثقة الأول قد لا يكون معروفًا بالتَّدْليس، ويجده الواقف على السند بعد التسوية قد رواه عن ثقة آخر، فيحكم له بالصحة، وفيه غرور شديد، وقال ابن حَجَر: إن هذا الثالث نوع من تدليس الإِسناد، فالتدليس نوعان: تدليس إسناد، وتدليس شيوخ. وإلى هذا الثالث أشار العراقي بقوله متصلًا بلفظه المار: والشَّافِعِيْ أَثْبَتَهُ بِمَرَّةِ ... قُلتُ وَشَرُّها أَخُو التَّسْوِيَةِ رواية الأقران وقد مر أن في الحديث رواية التابعي عن التابعي، ويسمى ذلك برواية الأقران، وهو نوعان: مُدَبَّج وغيره. أشار لهما العراقي بقوله: والقُرَنَا مَنِ اسْتَوَوْا في السَّنَدِ ... والسِّنِّ غالبًا وقِسْمَيْنِ اعْدُد مُدَبَّجٌ وهْوَ إذا كُلُّ أَخَذْ ... عَنْ آخَرٍ وغَيرهُ انفرادُ فَذّ سمي المدبج بذلك أخذًا من ديباجتي الوجه، وهما الخدان، لتساويهما وتقابلهما، أو من التدبيج بمعنى التزيين، يقال: دَبَجَ الأرض المطرُ إذا أصابها، وسواء كان المدبج بواسطة أو بدونها، كأن يروي الليث عن يزيد بن الهادي عن مالك، ويروي مالك عن يزيد عن الليث. ومثاله بدونها رواية كل من أبي هُريرة وعائشة عن الآخر. ومثال غير المُدَّبجِ رواية الأَعْمش عن التَّيْمِيّ، فإنه روى عن التيمي، وهما قرينان، وقد يجتمع جماعة من الأقران في سلسلة، كرواية أحمد عن أبي خَيْثمة زهير ابن حَرْب، عن ابن معين، عن علي بن المَدِينيّ، عن عُبيد الله بن مُعاذ لحديث أبي سلمة عن عائِشة: كان أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يأخذن من شعورهن حتى تكون كالوفرة، فالخمسة أقران.

إبدال الرسول بالنبي وعكسه

إبدال الرسول بالنبي وعكسه: بقي من لطائف السند أن البخاري، رحمه الله تعالى، ذكر في بعض رواياته لهذا الحديث: "سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام" وفي بعضها: "سمعت النبي عليه الصلاة والسلام، ويتعلق بذلك مسألة، وهي هل يجوز تغيير قال النبي إلى قال الرسول أو العكس؟ والظاهر الجواز، وإن كان الأفضل اتباع اللفظ؛ وإنما جاز لأنه لا يختلف به المعنى خلافًا لابن الصلاح القائل: الظاهر أنه لا يجوز، وإن جازت الرواية بالمعنى، لأن شرطه أن لا يختلف المعنى، وهو هنا مختلف، قال ابن حَجَر في "الفتح": وفيه نظر لأن الذات المخبر عنها في الرواية واحدة، فبأي وصف يعينها علم المقصود، ولو تباينت معاني الصفات، كإبدال اسم بكنيته والعكس، فلا فرق بين قول الراوي مثلًا عن أبي عبد الله البخاري، وعن محمَّد بن إسماعيل البخاري. ولا يَقْدَح في جواز الإِبدال المذكور ما رواه البراء بن عازِب - رضي الله عنه - في حديث الدعاء عند النوم، حيث قال: "وبرسولك الذي أرسلته" قال عليه الصلاة والسلام: "لا ونبيك الذي أرسلته" لأن عدم التغيير في ألفاظ الدعاء والأذكار هو الطريق, لأنها توقيفية في تعيين اللفظ، وتقدير الثواب، وربما كان في اللفظ، سر لا يحصل بغيره ولو رادفه في الظاهر. قال ابن حجر: أو لعله أوحي إليه بهذا اللفظ فرأى أن يقف عنده، أو ذكره احترازًا ممن أرسل بغير نبوة، كجِبْريل وغيره من الملائكة، فلعله أراد تخليص الكلام من اللَّبْس وإلى الراجح في المسألة أشار في طلعة الأنوار بقوله: وأَبْدِلِ الرَّسُولَ بالنَّبيِّ ... أَو اعْكِسَنْ في المَذْهَبِ السَّنِّي وما رَوَى ابنُ عازِبٍ لا يَطْعَنُ ... لأَنَّ ذَاكَ في الدُّعاءِ السّنَنُ ونظم العراقي ما مال إليه ابن الصلاح بقوله: وَإِنْ رَسولَ بنَبيٍّ أُبْدِلا ... فالظاهِرُ المَنْعُ كَعَكْسٍ فُعِلا وقَدْ رَجَا جوازَهُ ابنُ حَنْبَلِ ... والنَّوَوِي صَوَّبَهُ وهْوَ جَلِيّ

ومن لطائف هذا الحديث أنه فرد غريب باعتبار، مشهور باعتبار، وليس بمتواتر كما زعم بعضهم، لأن الصحيح أنه لم يروه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا عمر، ولم يروه عن عمر إلا علقمة، ولم يروه عن علقمة إلا محمَّد بن إبراهيم، ولم يروه عن محمَّد بن إبراهيم إلا يحيى بن سعيد، ومنه انتشر، فقيل: رواه عنه أكثر من مئتي راوٍ، وقيل: سبع مئة من أعيانهم مالك، والثَّوْرِيّ، والأَوْزَاعي، وابن المُبارك، وحمّاد بن زيد، واللَّيث ابن سعد، وابن عُيينة، فهو مشهور بالنسبة إلى آخره، غريب بالنسبة إلى أوله، وأطلق الخَطَّابِيّ نفي الخلاف بين أهل الحديث في أنه لا يعرف إلا بهذا الإِسناد، وهو كما قال، لكن بقيدين، أحدهما الصحة, لأنه ورد من طرق معلولة، ذكرها الدارقطني، وابن مَنْدة وغيرهما. ثانيهما السياق، لأنه ورد في معناه عدة أحاديث صحت في مطلق النية، كحديث عائشة، وأم سلمة عند مسلم: "يُبْعَثونَ على نِيّاتِهم" وحديث ابن عباس: "وَلكِن جهادٌ ونِيّة" وحديث أبي موسى: "مَنْ قاتَلَ لتكون كلمةُ اللهِ هي العليا فهو في سبيل الله" متفق عليهما، وحديث ابن مسعود: "رُبَّ قتيلٍ بينَ الصَّفَّيْن اللهُ أَعلمُ بِنيتهِ" أخرجه أحمد. وحَديث عُبادة: "مَنْ غَزا وهو لا يَنْوي إلاَ عِقالًا فله مَا نَوى" أخرجه النسائي. إلى غير هذا مما يتعسر حصره. قال في "الفتح": وأنا استبعد صحة رواية هذا العدد له، فقد تَتَبَّعْتُ طرقه من الروايات المشهورة، والأجزاء المَنْثورة مُنْذُ طلبتُ الحديث إلى وقتي هذا، فما قدرت على تكميل المئة وقد تتبعت طرق غيره فزادت على ما نقل عمن تقدم، كما سيأتي مثال لذلك إن شاء الله تعالى في الكلام على حديث ابن عمر في غُسْلِ الجُمُعة. والمشهور ملحق بالمتواتر عند المحدثين، غير أنه يفيد العلم النظري، إذا كانت طرقه مُتباينة، سالمة من ضَعْف الرواة، ومن التعليل. والمتواتر يفيد العلم الضروري، ولا تشترط فيه عدالة ناقلة، وبذلك افترقا، يأتي قريبًا إن شاء الله بيان كل منهما، وقد شَذَّ من قال: إن هذا

الحديث شاذٌّ، فإنه في أعلى مراتب الصحة، وهو أصل من أصول الدين، والقائل لهذا القول تبع الخليل أبا يعلى الخَليل بن عبد الله بن أحمد بن إبراهيم بن الخليل القَزْوِينيّ في تعريفه للشاذّ: بأنه ما انفرد به راو ثقة كان أو غير ثقة، خالف غيره أو لم يخالف، فما انفرد به ثقة يتوقف فيه، ولا يُحْتَجُّ به، لكنه يصلح لأن يكون شاهدًا، وما انفرد به غير الثقة متروك. وعرفه الحاكم: بأنه ما انفرد به الثقة، وليس له أصل متابع لذلك الثقة، فقيد بالثقة دون المخالفة، وفرق بينه وبين المعلل بأن المعلل وقف على علته الدالة على جهة الوهم فيه، والشاذ لم يوقف فيه على علة كذلك، ورد ابن الصلاح فيه كلًّا من التعريفين، وعرفه بما عرفه به الشافعي، فقال: الشاذ ما خالف فيه الثقة مَنْ هو أحفظ منه أو أكثر عددًا، وأما نفس التفرد فلا يكون شذوذًا, لأن العدد ليس بشرط للصحيح على المعتمد، فقد قال مسلم في باب الأيمان والنذور من "صحيحه": روى الزُّهْرِيّ تسعين فردًا كلها قوي وفي "الصحيحين" الأفراد الصحيحة كحديث النهي عن بيع الوَلاء وهبته، فإنه لم يصِحَّ إلا من رواية عبد الله ابن دينار عن ابن عمر. ويقع الشذوذ في السند والمتن، فمثاله في السند ما رواه الترمذي وغيره من طريق ابن عُيينة، عن عمرو بن دينار، عن شيخه عَوْسَجَة، عن ابن عباس أن رجلًا توفي على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يَدَع وارثًا إلا مولى هو أعتقه .. ... الحديث، فإن حماد بن زيد رواه عن عمرو، عن عَوسجة، ولم يذكر ابن عباس، لكن تابع ابن عُيَيْنة على وصله ابن جُرَيْج وغيره، قال أبو حاتم: المحفوظ حديث ابن عُيينة، فحماد مع كونه من أهل العدالة والضبط، رَجَّح أبو حاتم رواية من هم أكثر عددًا منه، ومثاله في المتن زيادة يوم عرفة في حديث "أَيّامُ التَّشْريق أيامُ أكلٍ وشُربٍ" فإنه من جميع طرقه بدونها، وإنما جاء بها موسى بن علي بن رباح عن أبيه، عن عُقبة بن عامر. فحديث موسى شاذّ لكنه صححه ابن حِبّان والحاكم، وقال: إنه على شرط مسلم، وقال الترمذي: إنه حسن صحيح. واختار ابن الصلاح فيما لم

الغريب

يخالف فيه الثقة غيره، وإنما أتى فيه بشيء انفرد به أنه إن بلغ الضبط التام كان فرده صحيحًا كحديث النهي عن بيع الولاء المتقدم، وإن قرب من الضبط التام كان فرده حسنًا كحديث إسرائيل عن يوسف عن أبي بُردة عن أبيه عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج من الخلاء قال: غفرانك، فقد قال الترمذي فيه: حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث إسرائيل عن يوسف عن أبي بُردة، وإن بَعُدَ من الضبط كان من الشاذِّ فيجب طرحُهُ. وإلى الشاذِّ أشار العراقي فقال: وذُو الشُّذوذِ ما يُخالِفُ الثِّقَه ... فيهِ المَلَا فالشافعيُّ حَقَّقهْ والحاكمُ الخلافَ فيه ما اشْترَطْ ... ولِلْخلِيليِ مُفْرَدُ الرّاوي فَقَطْ ورَدَّ مَا قالا بفَرْدِ الثِّقةِ ... كالنهي عَنْ بَيْعٍ الوَلاَ والهِبَة وقَولُ مُسلِمٍ رَوَى الزُّهرِيُّ ... تِسْعينَ فَردًا كُلُّها قَوِيُّ واخْتَارَ فِيما لم يُخالِفْ أنَّ مَنْ ... يَقْرُبُ مِنْ ضَبْطٍ فَفَرْدُهُ حَسَنْ أَوْ بَلَغَ الضَّبْطَ فَصَحِّحْ أَوْ بَعُدْ ... مِنْهُ فَمِمّا شَذَّ فَاطْرَحْهُ وَرُدّ الغريب وأما الغريب الذي هذا الحديث من أنواعه، فهو ما انفرد به راو عن كل أحد سواء انفرد به عن إمام من شأنه أن يجمع حديثه لجلالته، وإن لم يجمع كالزُّهْرِيّ وقَتادة أولًا. والانفراد إما بجميع المتن كحديث النهي عن بيع الوَلاء وهبتهِ، فإنه لم يصِحَّ إلا من حديث عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، أو ببعضه، كحديث زكاة الفطر حيث قيل: إن مالكًا انفرد عن سائر رواته بقوله: من المسلمين، أو ببعض السند، كحديث أم زَرْع، إذ المحفوظ فيه رواية عيسى بن يونس وغيره، عن هشام بن عُروة، عن أخيه عبد الله، عن أبيهما، عن عائشة - رضي الله عنها -. ورواه الطَّبرَانيّ من حديث الدّراوردي وغيره عن هشام بدون واسطة أخيه. سمي غريبًا لانفراد راويه عن غيره كالغريب الذي شأنه الانفراد عن وطنه. وحدّه ابن منْدة أبو عبد الله: بأنه ما انفرد به الراوي عن كل أحد عن إمام من شأنه أن يُجمع حديثه.

العزيز

العزيز وأما العزيز فهو ما لا يرويه أقل من اثنين، سمي بهذا الاسم إما لقلة وجوده من عَزَّ يَعِزُّ بكسر العين في المضارع، عَزًّا وعَزازة بفتحها إذا قَلَّ بحيث لا يكاد يوجد، وإما لكونه عز أي قوي بمجيئه من طريق أخرى من عَزَّ يعِزُّ بفتح العين في المضارع إذا اشتد وقوي، ومنه: {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} أي: قوينا، وجمع العزيز عِزاز ككريم وكرام. بِيْضُ الوُجُوهِ أَلِبَّةٌ وَمَعاقِلُ ... في كُلِّ نائِبَةٍ عِزَازُ الأَنْفُسِ وظاهر كلام ابن حَجَر يقتضي أنه لا بد أن يكون في كل طبقاته اثنان عن اثنين، وظاهر كلام العراقي في "ألفيته" كما يأتي، وكما قاله السخاوي الاكتفاء بوجود ذلك في طبقة واحدة، بحيث لا يمتنع أن يكون في غيرها من طبقاته غريبًا، بأن ينفرد به راو آخر عن شيخه، بل ولا أن يكون مشهورًا كاجتماع ثلاثة فأكثر على روايته في بعض طباقه، والأوجه كما صار إليه السخاوي إنما كانت العزة فيه بالنسبة إلى راو انفرد راويان عنه، يقال فيه: عزيز من حديث فلان، وأما عند الاطلاق فينصرف لما أكثر طباقه كذلك، لأن وجود سند على وتيرة واحدة برواية اثنين عن اثنين، ادعى ابن حِبّان أنها لا توجد أصلًا، وقال ابن حَجَر: إن أراد رواية اثنين عن اثنين فقط فَمُسَلَّمٌ؛ وأما صورة العزيز التي جوزوها بأن لا يرويه أقل من اثنين عن أقل من اثنين فموجودة. المشهور وأما المشهور فهو ما رواه أكثر من اثنين مما لم يبلغ حد التواتر سمي بذلك لشهرته، ووضوح أمره، ويسمى المستفيض لانتشاره وشيوعه في الناس، وبعضهم غاير بينهما بأن المستفيض يكون من ابتدائه إلى انتهائه سواء، والمشهور أعم من ذلك حيث يشمل ما أوله منقول عن الواحد. وقد يكون الحديث مشهورًا عزيزًا كحديث: "نَحْنُ الآخِرونَ السّابِقُونَ

يومَ القيامةِ" فهو عزيز عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، رواه عنه حذيفة وأبو هريرة. ومشهور عن أبي هريرة رواه عنه سبعة، أبو سلمة بن عبد الرحمن، وأبو حازم، وطاووس، والأَعْرَج، وهُمام، وأبو صالح، وعبد الرحمن مولى أم برثن، وكلٌّ من الثلاثة لا ينافي الصحيح والضعيف، فيحصُلُ فيها الصحيح والضعيف، ولكن الضعيف في الغريب أكثر، ولهذا كره جمع من الأئمة تَتَبُّعَ الغريب. والغريب يكون غريبًا متنًا وإسنادًا كحديثٍ انفرد بروايته راوٍ واحد، وإسنادًا فقط كأن يكون متنه معروفًا برواية جماعة من الصحابة، فينفرد به راوٍ من حديث صحابي آخر، فهو من جهته غريب مع أن متنه غير غريب، قال ابن الصلاح: وهذا الذي يقول فيه الترمِذِيّ: غريب من هذا الوجه، قال: ولا أدري هذا النوع، أعني غريب الإِسناد ينعكس إلا إذا اشتهر الحديث المفرد عمن انفرد به، فرواه عنه عدد كثير، فإنه يصير غريبًا مشهورًا، وغريبًا متنًا لا إسنادًا، لكن بالنظر إلى أحد طرفي الإِسناد، فإن إسناده غريب في طرفه الأول، مشهور في طرفه الأخير كحديث: "إنّما الأَعْمالُ بِالنِّيّات" لأن الشهرة إنما طرأت له من عند يحيى بن سعيد، وما ذكره من أن غريب الإِسناد لا ينعكس هو بالنظر إلى الوجود، وإلا فالقسمة العقلية تقتضي العكس، ومن ثم قال أبو الفتح اليَعْمُرِيّ فيما شرحه من الترمذي: الغريب أقسام: غريبٌ سندًا ومتنًا، أو متنًا لا سندًا، أو سندًا لا متنًا، أو غريب بعض السند، أو بعض المتن، ولم يمثل للثاني لعدم وجوده. والمشهور أيضًا منقسم إلى مشهور شهرةً مطلقةً بين المحدثين وغيرهم كحديث: "المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسلمونَ من لسانه ويدهِ" وإلى مشهور مقصور على المحدثين كحديث أنس: "من أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَنَتَ بعد الرُّكوعِ شهرًا يَدعو على رِعْل وَذَكْوان" فقد رواه عن أنس جمع، ثم عن التابعين جمع منهم سليمان التَّيْمِيّ، عن أبي مجلز، ثم عن التَّيْمِيّ جمع بحيث اشتهر بين المحدثين. أما غيرهم فقد يستغربونه لكونه الغالب على رواية التيمي عن

المتواتر

أنس كونها بلا واسطة، وهذا الحديث بواسطة أبي مجلز، وينقسم أيضًا باعتبار آخر إلى متواتر وغيره، فكل متواتر مشهور ولا عكس، وإن غلب المشهور في غير المتواتر. المتواتر والمتواتر هو ما وقع في جميع طبقاته رواية جمع له عن جمع غير محصورين في عدد معين ولا صفة مخصوصة، بل بحيث يبلغون حدًّا تُحيل العادة معه تواطؤهم على الكذب، ومنهم من عينه في الأربعة، وقيل: في الخمسة، وقيل: في السبعة، وقيل: في العشرة، وقيل: في الاثني عشر، وقيل: في العشرين، وقيل: في الأربعين، وقيل: في السبعين، وتمسك كل قائل بدليل جاء فيه ذكر ذلك العدد أفاد العلم اليقيني، وليس بلازم أن يَطَّرِدَ في غيره لاحتمال الاختصاص, ومثاله حديث: "مَنْ كَذَبَ عليَّ متعمدًا فَلْيَتَبَوَّأ مقْعَدَهُ من النارِ" فقد رواه أزيد من ستين صحابيًّا فيهم العشرة، وخصه ابن الصّلاح بهذين الأمرين عن غيره من الأحاديث، وجعل العراقي حديث المسح على الخفين مثله في رواية أزيد من ستين له فيهم العشرة، وجعل ابن مَنْدة حديث رفع اليدين مثله أيضًا من رواية العشرة. وإلى الغريب والعزيز والمشهور والمتواتر أشار العراقي بقوله: وما بهِ مُطلَقًا الرّاوي انفَرَدْ ... فهوَ الغَريبُ وابنُ مَنْدَةٍ فحَدّ بالانفِرادِ عن إِمامٍ يُجمَعُ ... حَديثُه فإِنْ عليهِ يُتْبَعُ مِن واحدٍ واثنينِ فالعزيزُ أو ... فوقُ فمَشهورٌ وكلٌ قد رَأَوا منهُ الصحيحَ والضعيفَ ثمَّ قدْ ... يُغْرِبُ مُطلَقَاً أَو اسْنادًا فقدْ كذلكَ المشهورُ أيضًا قَسَّموا ... بشهرةٍ مُطلقَةٍ كالمُسْلِمُ مَن سَلِمَ الحديثَ والمَقصورِ ... على المُحدِّثينَ مِن مشهور قُنوتهِ بعدَ الرُّكوعِ شَهرًا ... ومنهُ ذو تَوَاتُرٍ مُسْتَقْرا في طَبَقاتهِ كمَتنِ مَن كَذَبْ ... ففَوقَ ستِّينَ رَوَوْهُ والعَجبْ بأَنَّ مِن رُواتهِ للعَشرَه ... وخُصَّ بالأَمرَين فيما ذَكرَهْ

الفرد

الشَّيخُ عن بَعضِهُمُ قُلتُ بَلى ... مَسْحُ الخِفافِ وابنُ مَنْدةَ إلى عَشرَتهِم رَفْعَ اليدَينِ نَسَبا ... ونَيفوا عن مئة مَن كَذَبا ولما كان الفرد داخلًا في الغرابة، وقد قيل بترادفهما، احتيج إلى معرفة الفرد لتتم الفائدة، فأقول: الفرد الفرد قسمان: مطلق، ونسبي. فالمطلق: هو ما انفرد بروايته عن الصحابي تابعي واحد، سواء استمر التفرد بعد ذلك أولًا، بأن رواه عنه جماعة كحديث النهي عن بيع الولاء وهبته، تفرد به عبد الله بن دينار، عن ابن عمر كما مر. والنسبي: ما قيد بثقة، أو بلد، أو براو معين كلهم يروونه عن فلان إلا فلان، كحديث أصحاب السنن الأربعة من طريق سفيان بن عُيينة، عن وائل بن داود، عن ابنه بكر بن وائل، عن الزُّهْريّ، عن أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أولم على صفية بِسَوِيق وتمر، لم يروه عن بكر إلا أبوه وائل، ولم يروه عن وائل إلا ابن عيينة، ولا يلزم من تفرد وائل به عن ابنه بكر تفرده به مطلقًا؛ فقد ذكر الدارقطني في "علله" أنه رواه محمَّد بن الصَّلت التَّوزيّ، عن ابن عُيَيْنة، عن زياد بن سَعْد، عن الزُّهْرِي، قال: ولم يتابَع عليه. والمحفوظ عن ابن عُيينة، عن وائل، عن ابنه. ورواه جماعة عن ابن عُيينة، عن الزُّهْرِيّ بلا واسطة، ومثال المقيد بالثقة: قول القائل في حديث قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأضحى والفطر بقاف واقتربت: لم يروه ثقة إلا ضَمْرَة بن سعيد المازِنِيّ، فقد انفرد به عن عبد الله بن عُبيد الله بن أبي واقِد اللَّيْثِي، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - رواه مسلم وغيره. وإنما قُيِّدَ بالثقة لرواية الدّارَقُطني له من رواية ابن لَهيعة، وقد ضَعَّفَهُ الجمهور عن خالد بن يزيد، عن الزُّهْرِيّ، عن عُروة، عن عائشة. ومثال المقيد ببلد: قول القائل في حديثَ أبي داود، عن أبي الوليد الطَّيالِسِيّ، عن همَّام، عن قَتادة، عن أبي نَضْرة، عن أبي سعيد الخدْري، قال: أمرنا رسول الله

- صلى الله عليه وسلم - أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر: لم يرو هذا الحديث غير أهل البصرة؛ فقد قال الحاكم: إنهم تفردوا بذلك الأمر فيه من أول الإِسناد إلى آخره، وكذا قال في حديث عبد الله بن زَيْد في صفة وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن قوله: "ومسَحَ رأسهُ بماءٍ غير فضل يدهِ" سنة غريبة، تفرد بها أهل البصرة، فإن نسب القائل الحديث لأهل البصرة مريدًا واحدًا منهم، كان ذلك الإِطلاق تجوزًا، وهو داخل في القسم الأول ومنه حديث: "كُلوا البلحَ بالتَّمْر" قال الحاكم: هو من أفراد البصريين عن المدنيين. تفرد به أبو زكريا عن هِشام بن عُروة، فجعله من أفراد البصريين، وأراد واحدًا منهم، وليس في الأفراد النسبية تضعيف لها من حيثية التفرد، لكن إذا قيد القائل التفرد بالثقة كله يرويه ثقة إلا فلان، كان حكمه قريبًا من القسم الأول، لأن رواية غير الثقة كَلَا رواية؛ فينظر فيه هل بلغ مرتبة من يعتبر بحديثه أو لا؟ وفي المتفرد بالحديث، هل بلغ رتبة من يحتج بتفرده أو لا؟ فعلم أن من أنواع القسم الثاني ما يشارك الأول، كإطلاق تفرد أهل بلد بما يكون راويه منها واحدًا، وتفرد ثقة بما يشاركه، في روايته ضعيف، قال ابن دَقيق العيدِ: إذا قيل في حديث تفرد به فلان عن فلان، احتمل أن يكون تفردًا مطلقًا، وأن يكون تفرد به عن هذا المُعَيَّن خاصة، ويكون مرويًا عن غير ذلك المعين فلينتبه لذلك. وقال ابن حَجَر: إن الغريب والفرد مترادفان لغة واصطلاحًا، إلا أن أهل الحديث غايروا بينهما من جهة كثرة الاستعمال وقلته؛ فالفرد أكثر ما يطلقونه على الفرد المطلق، والغريب أكثر ما يطلقونه على الفرد النسبي، وهذا من حيث إطلاق الاسم عليهما. أما من حيث استعمالهم الفعل المشتق فلا يفرقون، فيقولون في الفرد النسبي والمطلق: تفرد به فلان، أو أغرب فلان. اعترض الكمال بن أبي شريف كونهما مترادفين لغة بما هو واضح، ثم قال: لما كان الغريب والفرد مترادفين اصطلاحًا، قصد أهل الاصطلاح الإِشعار بالفرق بين الفرد المطلق، والفرد النسبي، وغايروا

بينهما من جهة الاستعمال، فكان أكثر استعمالهم الفرد في المطلق، والغريب في النسبي لذلك. وقال ابن الصلاح: وليس كل ما يُعَدُّ من أنواع الأفراد معدودًا من أنواع الغريب، كما في الأفراد المضافة إلى البلاد، كأهل البصرة. وإلى قسمي الفرد أشار العراقي بقوله: الفَرْدُ قسمانِ، ففَرْدٌ مُطلَقا ... وحُكمُهُ عندَ الشُّذوذِ سَبَقَا والفَردُ بالنِّسبةِ ما قَيَّدتهُ ... بثقَة أو بَلَدٍ ذَكَرْتهُ أو عن فُلانٍ نحوُ قَول القائل ... لم يَرْوِهِ عن بَكرٍ إلا وائلْ لم يَروِه ثِقَةٌ إلا ضَمْرَه ... لم يَروِ هذا غَيرُ أَهلِ البَصرَه فإنْ يُريدُوا واحِدًا مِن أَهلِها ... تَجَوُّزًا فاجعلهُ مِن أَوَّلها ولَيسَ في أفرَادهِ النِّسبيةِ ... ضَعفٌ لها مِن هذه الحَيْثِيَّةِ لكن إذا قُيِّد ذاك بالثِّقَة ... فحُكمُهُ يَقْرُبُ مما أَطلقَهْ وهذا الحديث أخرجه البخاري في ستة مواضع أخرى من "صحيحه" عن ستة شيوخ آخرين أيضًا: في الإِيمان عن عبد الله بن مَسْلَمة. وفي العِتْق عن محمَّد بن كثير في باب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مُسَدَّد. وفي النكاح عن يحيى بن قَزَعة. وفي الأَيمان والنذور عن قُتيبة بن سعيد. وفي باب ترك الحيل عن ابن النُّعمان. وأخرجه مسلم في آخر كتاب الجهاد عن عبد الله بن مَسْلمة وجماعة. وأبو داود في الطلاق عن محمَّد بن كثير. والترمِذيّ في الحدود عن ابن المُثَنى. والنسائي عن يحيى بن حبيب وجماعة في الإِيمان، والطلاق، والطهارة، والعتاق. ورواه ابن ماجة في الزهد من "سننه" عن أبي بكر، وأحمد في "مسنده"، و"الدارقطني"، وابنْ حبان، والبيهقي، قال العَيْنِيّ: ولم يَبْقَ

الحديث الثاني

من أصحاب الكتب المعتمدة من لم يخرجه سوى مالك، فإنه لم يخرجه في "موطئه" ووهم ابن دِحْية، فقال الحافظ في إملائه على هذا الحديث: أخرجه مالك في "الموطأ"، ورواه الشافعي عنه، وهذا عجيب منه. قلت: وافق ابن حَجَر في كون الإِمام مالك لم يخرجه في الموطأ، وذلك سهو منهما، فقد أخرجه محمَّد بن الحسن في "موطئه" عنه. الحديث الثاني 2 - باب * حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ - رضى الله عنها -، أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ - رضى الله عنه - سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ - وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ - فَيُفْصَمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِيَ الْمَلَكُ رَجُلاً، فَيُكَلِّمُنِي، فَأَعِي مَا يَقُولُ». قَالَتْ عَائِشَةُ - رضى الله عنها -: وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا. [الحديث 2 - طرفه في 3215]. قوله: "أم المؤمنين أن الحارث بن هشام - رضي الله تعالى عنه - سأل .. الخ" إنما قيل للواحدة منهن: أم المؤمنين للتغليب، وإلا فلا مانع من أن يقال لها: أم المؤمنات: وسيأتي في تعريف عائشة استيفاء الكلام على هذا المنزع. وقولها: "سأل" يحتمل أن تكون عائشة حضرت ذلك، فيكون من مسندها، ويحتمل أن يكون الحارث أخبرها بذلك، فيكون من مرسل الصحابة، ويأتي الكلام عليه في آخر الكلام على هذا الحديث. وقوله: "كَيْفَ يأتيكَ الوحيُ" يحتمل أن يكون المسؤول عنه صفة الوحي نفسه، ويحتمل أن يكون صفة حامله، أو ما هو أعم من ذلك.

وعلى كل حال فإسناد الإِتيان إلى الوحي مجاز عقلي، لأن الإِتيان حقيقة من وصف حامله، ومناسبة الحديث للترجمة هي أن أحاديث الباب تتعلق بلفظ الترجمة، وبما اشتملت عليه، ولما كان في الآية أن الوحي إليه نظير الوحي إلى الأنبياء قبله، ناسب تقديم ما يتعلق بها، وهو صفة الوحي وصفة عامله, إشارة إلى أن الوحي إلى الأنبياء لا تباين فيه، فحسن إيراد هذا الحديث عقب حديث الأعمال الذي تقدم التقدير بأن تعلقه بالآية الكريمة أقوى تعلق. وقله: "أحْيانًا يأتيني" جمع حين, وهو يطلق على أكثر الوقت وقليله. والمراد به هنا مجرد الوقت, فكأنه قال أوقاتًا يأتيني, وانتصب على الظرفية, وعامله يأتيني, مؤخر عنه. وقوله: "مثلَ صلصلةِ الجرس": "مثل" يحتمل أن يكون مصدرًا أي إتيانًا مثل, ويحتمل أن يكون حالًا أي مشابهًا صوته صوت الجرس, والصَّلْصَلَة -بمهملتين مفتوحتين, بينهما لام ساكنة-:صوت وقوع الحديد بعضه على بعض, ثم أطلق على كل صوت له طنين. وقيل: هو صوت متدارك لا يدرك من أول وهلة. والجرس -بإسكان الراء- وهو الحس؛ والصلصلة المذكورة صوت الملك بالوحي, وقيل: صوت حَفِيْف أجنحة الملك, والحكمة في تقدمه أن يَقْرَعَ سمعه الوحي, فلا يبقى فيه متسع لغيره. وقوله:"وهو أشده علي" يفهم منه أن الوحي كله شديد, ولكن هذه الصفة أشدها، وهو وضح لأن الفهم من كلام مثل الصلصلة أشكل من الفهم من كلام الرجل بالتخاطب, وفائدة هذه الشدة ما يترتب على المشقة من زيادة الزُّلفى, ورفع الدرجات. وقوله: "فَيَفْصِمُ عني" أي الملك أو الوحي، ويَفْصِم -بفتح المثناة التحتية- من باب ضرب أي يُقْلِعُ ويَنْجَلي عني ما يغشاني. ويُروى بضم أوله

من الرباعي، وبضم أوله مبنيًا للمجهول. والفصم. القطع، ومنه قوله تعالى: {لَا انْفِصَامَ لَهَا} [البقرة: 256] وقيل: القصم بالقاف القطع بإبانة، والفصم -بالفاء- القطع بلا إبانة. فذكر الفصم إشارة إلى أن الملك فارقه ليعود، والجامع بينهما بقاء العلاقة. وقوله: "وَقَدْ وَعَيْتُ عنهُ ما قالَ" أي: القول الذي قاله، فالعائد محذوف، وكل من الضميرين المجرور والمرفوع عائد على المَلَك المفهوم مما تقدم، ولا معارضة بينه وبين قوله تعالى حكاية عمن قال من الكفار: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر: 25] لأنهم كانوا يُنكرون الوحي، وينكرون مجيء الملَك به. والجواب عن استشكال التشبيه بصوت الجرس -مع أنه مذموم لصحة النهي عنه، لأنه مزمار الشيطان، كما في مسلم، وأبي داود، وغيرهما، فكيف يشبه به ما يفعله الملَك به مع أن الملائكة تنفر عنه- هو أنه لا يلزم من التشبيه تساوي المشبه بالمشبه به في الصفات كلها، بل يكفي اشتراكهما في صفة ما، والمقصود هنا بيان الجنس، فذكر ما ألِفَ السامعون سماعه تقريبًا لإِفهامهم. والحاصل أن الصوت له جهتان؛ جهة قوة وجهة طنين فمن حيث القوة وقع التشبيه به، ومن حيث الطنين وقع التنفير منه، ويحتمل أن يكون التشبيه وقع قبل النهي عنه، وقال الإِمام فضل الله التُّوْرِبِشْتيّ -بضم الفوقية، وسكون الواو، وبعدها راء فموحدة مكسورتان، ثم شين معجمة ساكنه، ففوقية مكسورة- لما سئل عليه الصلاة والسلام عن الوحي، وكان من المسائل العويصة التي لا يُماط نقاب التعزز عن وجهها لكل أحد، ضرب لها في الشاهد مثلا بالصوت المتدارك الذي يسمع، ولا يفهم منه شيء، تنبيهًا على أن إتيانها يرد على القلب في هَيبة الجلال , وأُبَّهة الكبرياء، فتأخذ هيبة الخطاب حين ورودها بمجامع القلب، ويلاقي من ثقل القول ما لا علم له به بالقول مع وجود ذلك، فإذا سُرِّيَ عنه، وجد القول المنزل بينًا ملقى في الروع واقعًا موقع المسموع، هذا معنى "فَيَفْصِمُ عني وَقَد وَعَيْتُ". وإنما كان هذا الضرب من الوحي أشد على النبي - صلى الله عليه وسلم - من غيره،

لأنه كان يُرَدُّ فيه من الطبائع البشرية إلى الأوضاع الملكية، فيوحى إليه كما يوحى إلى الملائكة، كما ذكر في حديث أبي هُريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا قضى الله في السماء أمرًا ضربت الملائكة بأجنحتها خُضْعانًا لقوله: "كأنها سلسلة على صَفْوان، {إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 23] بخلاف الآخر الآتي لأنه أوحى إليه، وهو باق على بشريته. وأخرج الطَّبَرانِيّ، وابن أبي عاصم، عن النُّوَاس بن سَمْعان مرفوعًا: "إذا تكلم الله بالوحي أخذت السماء رَجْفةٌ، أو رعْدة شديدة من خوف الله تعالى، فإذا سمع أهل السماء صَعِقُوا وخَرّوا سُجَّدًا، فيكون أولهم يَرْفَعُ رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، فينتهي به إلى الملائكة، كلما مرّ بسماء سأله أهلها: ماذا قال ربنا؟ قال: الحق، فينتهي به حيث أمره الله من السماء والأرض. وأخرج ابن مَرْدُويه عن ابن مسعود مرفوعًا: "إذا تَكَلَّمَ الله بالوحي يسمعُ أهلُ السماءِ صلصلةً كصلصلةِ السلسلةِ على الصَّفْوانِ فَيَفْزَعونَ" وعند ابن أبي حاتم عن ابن عباس، وقَتادة أنهما فسرا آية {إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} [سبأ: 23] بابتداء إيحاء الله إلى محمَّد - صلى الله عليه وسلم - بعد الفترة التي كانت بينه وبين عيسى. ولأبي الشيخ في كتاب "العظمة" عن وُهَيْب ابن الوَرْد، قال: بلغني أن أقرب الخلق من الله تعالى إسرافيل؛ العرش على كاهله، فإذا نزل الوحي ولّى لوح من تحت العرش، فيقرع جبهة إسرافيل، فينظر فيه، فيدعو جبريل، فيرسله، فإذا كان يوم القيامة، أتي به ترعد فرائصه، فيقال: ما صنعت فيما أدى إليك اللوح؟ فيقول: بلغت جبريل، فيدعى جبريل ترعد فرائصه، فيقال: ما صنعت فيما بلغك إسرافيل؟ فيقول: بلغت الرسل الأثر ... الخ. واعلم أن العلم بكيفية الوحي سر من الأسرار التي لا يدركها العقل، وسماع الملك وغيره من الله تعالى ليس بحرف أو صوت، بل يخلق الله تعالى للسامع علمًا ضروريًا بثلاثة أمور؛ بالمتكلم، وبأن ما سمعه كلامه، وبمراده من كلامه، فكما أن كلامه تعالى ليس من جنس كلام

البشر، فسماعه الذي يخلقه لعبده ليس من جنس سماع الأصوات، ولذلك عسر علينا فهم كيفية سماع موسى عليه السلام لكلامه تعالى الذي ليس بحرف ولا صوت، كما يعسر على الأَكْمَهِ كيفية إدراك البصر للألوان، وقد جعل الله تعالى لأنبيائه عليهم السلام الانسلاخ من البشرية إلى حالة المَلَكِيّة في حالة الوحي، فطرة فطرهم عليها، ونزههم عن عوائق البدن، ما داموا متلبسين بها، لما ركب في غرائزهم من العصمة والاستقامة، فإذا انسلخوا عن بشريتهم، وتلقوا في ذلك ما يتلقونه، عاجوا على المدارك البشرية لحكمة التبليغ للعبادة، فتارة يكون الوحي كسماع دوي، كأنه رمز من الكلام يأخذ منه المعنى الذي ألقي إليه، فلا ينقضي الدوي إلا وقد وعاه وفهمه، وتارة يتمثل له الملك الذي يلقي إليه رجلًا، فيكلمه ويعي ما يقوله، والتلقي مع الملك والرجوع إلى البشرية وفهمه ما ألقي عليه كله كأنه في لحظة واحدة بل أقرب من لمح البصر، ولذا سمي وحيًا، لأن الوحي في اللغة الإِسراع كما مر. وفي التعبير عن الوحي في الأولى بصيغة الماضي، وفي الثانية بالمضارع لطيفة من البلاغة وهي أن الكلام جاء مجيء التمثيل لحالتي الوحي، فتمثلت حالته الأولى بالدوري الذي هو غير كلامه، وأخبر أن الفهم والوعي يتبعه عقب انقضائه عند تصوير انفصال العبارة عن الوحي بالماضي المطابق للانقضاء والانقطاع، وتمثل الملك في الحالة الثانية برجل يخاطبه ويتكلم مناسب للتعبير بالمضارع المقتضي للتجدد، وفي حالتي الوحي على الجبلة صعوبة وشدة، ولذا كان يحدث عنه في تلك الحالة من الغيبة والغطيط ما هو معروف، لأن الوحي مفارقة البشرية إلى الملكية، فيحدث شدة من المفارقة الذات ذاتها، وقد يفضي بالتدريج شيئًا فشيئًا إلى بعض السهولة بالنظر إلى ما قبله، ولذا كانت تنزل نجوم القرآن وسوره وآياته حين كان بمكة أقصر منها وهو بالمدينة. والتعبير عن الوحي في هذا الحديث بمثل صلصلة الجرس لا ينافيه ما أخرجه أبو داود عن عمر - رضي الله تعالى عنه - قال: كنا نسمع عنده

مثل دوي النحل, لأن الأول بالنسبة إليه - صلى الله عليه وسلم - والثاني بالنسبة إلى الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - والحكمة في هذا أن العادة جرت بالمناسبة بين القائل والسامع، وهي هنا إما باتصاف السامع بوصف القائل بغلبة الروحانية، وهو النوع الأول. وإما باتصاف القائل بوصف السامع وهو البشرية وهو النوع الثاني، والأول أشد بلا شك. وقوله: "وَأَحْيانًا يتمثلُ لي المَلَكُ رجلًا" فاللام في "لي" تعليلية، أي لأجلي، والتمثل مشتق من المثل أي يتصور، واللام في الملك للعهد، وهو جبريل، والملك مشتق من الأَلوكةِ وهي الرسالة، يقال: ألكني أي: أرسلني، ومنه سمي الملك, لأنه رسول من الله تعالى، والملائكة جمع ملأك على وزن مَفْعل، و"رجلًا" منصوب على المصدرية أي: تمَثُّلَ رجلٍ، أو التمييز على حد قولهم: امتلأ الإِناء ماءً، أو الحال والتقدير: على هيئة رجل، وفي الحديث دليل على أن الملك يتشكل بشكل البشر. وقد قال المتكلمون: الملائكة أجسام لطيفة علوية تتشكل أي شكل أرادوا من الأشكال الطيبة لا الخبيثة، وزعم بعض الفلاسفة أنهم جواهر روحانية، والحق أن تمثل الملك رجلًا ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلًا بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسًا لمن يخاطب، والظاهر أن القدر الزائد لا يفنى بل يخفى على الرائي فقط، ويمكن أن يكون أتى على شكله الأصلي، لكنه انضم فصار على هيئة الرجل، وإذا ترك ذلك عاد إلى هيئته، ومثال على ذلك: القطن إذا جمع بعد أن كان منتفشًا، فإنه بالنفش تحصل له صورة كبيرة، وذاته لم تتغير ... وقوله: "فَيُكَلِّمُني فَأَعي ما يَقُولُ": "ما" موصولة، والعائد محذوف، وفي "صحيح" أبي عَوانة: "وهو أهونه علي"، وقد وقع التغاير بين قوله: "وقد وعيت" بلفظ الماضي و"فأعي" بلفظ المضارع, لأن الوعي في الأول حصل قبل الفصم، ولا يتصور بعده، وفي الثاني في حالة المكالمة , ولا يتصور قبلها، أو أنه في الأول قد تلبس بالصفات الملكية، فإذا عاد إلى حالته

الجِبِلِّيّة كان حافظًا لما قيل له، فأخبر كما الماضي بخلاف الثاني، فإنه على حالته المعهودة. وليس المراد حصر الوحي في هاتين بل الغالب مجيئه عليهما, وأقسام الوحي الرؤيا الصادقة, ونزول إسرافيل أول البعثة كما ثبت في الطريق الصحاح أنه عليه الصلاة والسلام وُكلَ به إسرافيل, فكان يتراءى له ثلاث سنين, ويأتيه بالكلمة من الوحي والشيء, ثم وُكلَ به جبريل, وكان يأتيه في صورة رجل, وفي صورة دِحْيةّ, وفي صورته التي خلق عليها مرتين, وفي صورة رجل شديد بياض الثياب, شديد سواد الشعر, وفي مثل صلصلة الجرس, والوحي إليه فوق السماوات, من فرض الصلاة وغيرها بلا واسطة, وإلقاء الملك في رُوعه من غير أن يراه, والرُّوع -بالضم- القلب, أو موضع الفزع منه، أو سواده، أو الذهن والعقل واجتهاده، وهو قريب من السابق, إلا أن هذا مسبب عن النظر والاجتهاد , ولكن يعكر على هذا أن الأصوليين جعلوا الاجتهاد والوحي قسمين, ومجيء ملك الجبال مبلغًا له عن الله تعالى أنه أمره أن يطيعه, وحديث: "إنَّ رُوحَ القُدُسِ نَفَثَ في رُوعي" أخرجه ابن أبي الدُّنيا, وصححه الحاكم من طريق ابن مسعود. وفي تفسير ابن عادل أن جبريل نزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعة وعشرين ألف مرة, وعلى آدم اثنتي عشرة مرة, وعلى إدريس أربعًا, وعلى نوح خمسين, وعلى إبراهيم اثنتين وأربعين مرة, وعلى موسى أربع مئه, وعلى عيسى عشرًا, كذا قال, والعهدة عليه. قال القَسْطَلّاني: ثم قال: "قالت عائشة؛ - رضي الله تعالى عنها - الخ" وقولها هذا هو بالإِسناد الأول, وإن كان بغير حرف العطف كما يستعمل المؤلف وغيره كثيرًا, وحيث يريد التعليق يأتي بحرف العطف , ونكتة هذا الفصل هنا اختلاف التحمل, لأنها في الأول أخبرت عن مسألة الحارث, وفي الثاني أخبرت عما شاهدت تأييدًا للخبر الأول. وقولها: "في اليوم الشديد البرد" الشديد صفة جرت على غير من هي

وأما رجاله فستة

له, لأنه صفة البرد لا اليوم. وقولها: "فَيُصْمُ" فيه ما في الذي قبله من الروايات. وقولها: "لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا" بالفاء وتشديد المهملة. مأخوذ من الفَصْد، وهو قطع العرق لإِسالة الدم، شبه جبينه بالعرق المفصود مبالغة في كثرة العرق، والعرق رَشْحُ الجلد، وإنما حصل له من كثرة معاناة التعب والكَرْب عند نزول الوحي، إذ أنه أمر طارىء زائد على الطباع البشرية، وإنما كان ذلك كذلك ليبلو صبره فيرتاض لما كلفه من أعباء النبوة، والجبين غير الجبهة، وهو فوق الصَّدْغ، والصدغ ما بين العين والأذن، فللإِنسان جبينان يكتنفان الجبهة، والمراد أن جبينيه معًا يتفصدان، وإنما أفرده لأن الإِفراد يجوز أن يعاقب التثنية في كل اثنين يغني أحدهما عن الآخر، كالعينين والأذنين، تقول عينه حسنة، وأنت تريد أنَّ عينيه معًا حسنتان. وأما رجاله فستة: الأول: عبد الله بن يوسف التِّنِّيسيِّ الأصل، الدِّمَشْقيّ المنزل، أبو محمَّد الكَلاعِيّ أكثر عنه البخاري في "صحيحه"، وقال: كان من أثبت الشّاميّين، قال: لقيته بمصر سنة سبع عشرة ومئتين، وسمع منه "موطأ" مالك. وفي "الزهرة" أنه روى عنه مئتين وستًّا وثلاثين حديثًا، وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال الخَلِيْليّ: ثقة، متفق عليه. وقال ابن مَعين: أوثق الناس في "الموطأ" القَعْنَبِيّ، ثم عبد الله بن يوسف. وقال مرة: ما بقي على أديم الأرض أحد أوثق في "الموطأ" من عبد الله بن يوسف. وقال أبو حاتم: هو أوثق من مروان الطاطري، وهو ثقة. وقال إبراهيم بن يعقوب الجُوزْجاني: سمعت عبد الله بن يوسف الثقة المقنع. وقال ابن عدي: صدوق لا بأس به، ومحمد بن إسماعيل مع شدة استقصائه اعتمد عليه في مالك. وقال ابن يونس: كان ثقة، حسن الحديث، عنده "الموطأ" ومسائل عن مالك غير "الموطأ". قال ابن عبد الحكم: كان يحيى بن بُكيْر يقول: متى سمع عبد الله

ابن يوسف من مالك؟ فخرجت أنا فلقيت أبا مُسْهِر سنة ثمان عشرة ومئتين، فقال لي: سمع عبد الله بن يوسف الموطأ معي سنة ست وستين ومئة، فقلت ذلك ليحيى بن بُكير، فلم يقل شيئًا. وروى عن مالك، والليث، ويحيى بن حمْزة الحَضْرميّ، وسعيد بن عبد العزيز، والوليد بن مسلم، وابن وَهْب، وغيرهم. وروى عنه البُخَارِيّ , وروى عنه أبو داود، والتِّرمِذِيّ، والنسائي بواسطة محمَّد بن إسحاق الصَّغَانيّ، وروى عنه يحيى بن مَعين، وحَرْملة بن يحيى، وأبو حاتم، ويعقوب بن سُفيان، وبكر بن سهل الدِّمْياطِيّ. مات بمصر سنة ثمان عشرة ومئتين. وليس في الكتب الستة من اسمه عبد الله بن يوسف سواه. وتِنِّيس -بكسر التاء المثناة من فوق، وكسر النون المشددة بعدها تحتانية ثِم سين مهملة- بلدة قرب دِمياط، بساحل البحر اليوم خَراب، سميت بِتَنّيس بن حام بن نوح عليه السلام. وفي يوسف ست لغات؛ الهمزة، وتركها مع تثليث السين، والصحيح أنه اسم عِبْرانيّ، ومعناه جميل الوجه، ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة، وقيل: إنه عربي، وإنه مشتق من الأسف الذي هو الحزن، أو الأسيف الذي هو العبد، وقد اجتمعا في يوسف الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا بعيد لأن يعقوب، عليه الصلاة والسلام، لما سماه بذلك، لم يلاحظ هذا المعنى. الثاني: مالك بن أنس بن مالك بن أنس، ويُكنى هذا بأبي عامر بن الحارث بن غيمان -بغين معجمة- وقيل: عثمان بن خثيل -بخاء معجمة- وقيل: جثيل -بجيم- ابن عمرو بن الحارث، وهو ذو أصبح الأصبحي الحِمْيَرِيّ، أبو عبد الله المَدَني، أحد أعلام الإِسلام، إمام الأئمة، وإمام دار الهجرة.

أخذ عنه الشافِعِيّ العلم الغزير، وقال فيه: مالك حجة الله تعالى على خلقه بعد التابعين، وقال: مالك معلمي، وعنه أخذنا العلم، وقال: إذا جاءك الحديث عن مالك فَشُدَّ به يدك، وإذا جاء الأثر فمالكٌ النَّجْم، وقال ابن عُيَيْنة في حديث أبي هُريرة: "يوشك أن يضرِب الناس أكباد الإِبل يطلبون العلم، فلا يجدون أحدًا أعلم من عالم المدينة" هو مالك، وكذا قال عبد الرزاق، وقال ابن عُيينة أيضًا: إنا كنا نتبع آثار مالك، وننظر إلى الشيخ إن كتب عنه، وإلا تركناه، وما مَثَلي ومثل مالك إلا كما قال الشاعر: وابْنُ اللَّبونِ إذا مَا لُزَّ في قَرَنٍ ... لمْ يَسْتَطعْ صَوْلةَ البُزْلِ القَناعيسِ وقال النسائي: ما عندي بعد التابعين أنبل من مالك، ولا أجل منه، ولا أوثق، ولا أمكن على الحديث منه، ولا أقل رواية عن الضعفاء؛ ما علمناه حدث عن متروك إلا عبد الكريم، يعني أبا أمية، وقال ابن حِبان في "الثقات": كان مالك أول من انتقى الرجال من الفقهاء بالمدينة، وأعرض عمن ليس بثقة في الحديث، ولم يُوْرِد إلا ما صَحَّ، ولا يحدث إلا عن ثقة مع الفقه والدين والفضل والنُسكِ، وبه تخرج الشافعي، وقال ابن مَهْدي: مما رأيت أحدًا أتم عقلًا ولا أشد تقوى من مالك، وقال البخاري: أصح الأسانيد مالك عن نافع عن عبد الله بن عُمر، وقال ابن عُيينة أيضًا: ما كان أشد انتقاد مالك للرجال، وأعلمه بشأنهم، وقيل لسفيان: أيما أحفظ سمي أو سالم أبو النضر؟ فقال: قد يروي مالك عنهما، قال علي عن بشر بن عمر الزَّهْرَاني: سألت مالكًا عن رجل، فقال: رأيته في كتبي؟ قلت: لا، قال: لو كان ثقة لرأيته في كتبي، قال: لا أعلم مالكًا ترك إنسانًا إلا إنسانًا في حديثه شيء. وقال ابن لَهيعة: قدم علينا أبو الأسود محمَّد بن عبد الرحمن سنة ست وثلاثين، فقلنا له: من يفتي بالمدينة؟ قال: ما رأيت ثَمَّ مثل فتى من ذي أَصْبح يقال له: مالك. وقال حسين بن عروة عن مالك: قدم علينا الزُّهْرِي، فحدثنا نيفًا وأربعين حديثًا، فقال ربيعة: ها هنا من يرد عليك ما حدثت به أمس، قال: من هو؟ قال: ابن أبي عامر، قال: هات، فحدثته منها بأربعين، فقال: ما

كنت أظن أنه بقي من يحفظ هذا غيري، وقال بعض المحدثين: قرأ علينا وكيع، فجعل يقول: حدثني الثَّبْت، حدثني الثَّبْت، فقلنا: من هو؟ قال: مالك. وقال حرب: قلت لأحمد؛ مالك أحسن حديثًا عن الزُّهري، أو ابن عُيينة؟ قال: مالك، قلت: فمَعْمر، فقدم مالكًا إلا أن معمرًا أكبر سنًّا منه. وقال وُهيب ليحيى بن حسان: ما بين شرقها وغربها أحد آمن عندنا على العلم من مالك، والعرض على مالك أحب إلي من السماع من غيره، وقال عبد الله بن أحمد: قلت لأبي من أثبت أصحاب الزُّهْري؟ قال: مالك أثبت في كل شيء، وقال ابن سعد: كان مالك ثقة، مأمونًا، ثبتًا، ورعًا، فقيهًا، عالمًا، حجة. وقال أبو مُصعب عن مالك: ما أفتيت حتى شهد لي سبعون محنكًا أني أهل لذلك. وقال ابن أبي خَيْثمة: حدثنا إبراهيم بن المُنْذر، سمعت ابن عُيينة، يقول: أخذ مالك ومَعْمر عن الزُّهري عَرْضًا، وأخذت سماعًا، قال: فقال يحيى بن معين: لو أخذا كتابًا كانا أثبت منه. وقال ابن وَهْب: سمعت مناديًا ينادي بالمدينة: ألا لا يفتي الناس إلا مالك بن أنس، وابن أبي ذِئْب. وقال الشافعي: قال لي محمد بن الحسن: أيما أعلم صاحبنا أم صاحبكم، يعني أبا حنيفة ومالكًا, قلت له: على الإِنصاف؟ قال: نعم، قلت ناشدتك الله، من أعلم بالسنة: صاحبنا أم صاحبكم؟ قال: اللهم صاحبكم، قال: قلت: ناشدتك الله من أعلم بأقاويل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتقدمين صاحبنا أم صاحبكم؟ قال: اللهم صاحبكم، قال الشافعي: فلم يبق إلا القياس، وهو لا يكون إلا على هذه الأشياء، فعلى أي شيء نقيس؟ وكان مالك إذا أراد أن يحدث توضأ، وجلس على صدر فراشه، وسرح لحيته، وتمكن في جلوسه بوقار وهَيبة، ثم حدث، فقيل له في ذلك، فقال: أحب أن أعظم حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان لا يركب في المدينة مع ضَعْفه وكِبر سنه، ويقول: لا أركب في مدينة فيها جُثَّةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مدفونة، وقال الواقِدِيُّ: كان مالك يأتي المسجد، ويشهد الصلوات والجُمُعة والجنائز ويَعُود المرضى، ويقضي الحقوق، ويجلس في

المسجد، ويجتمع إليه أصحابه، ثم ترك الجلوس في المسجد، فكان يصلي وينصرف إلى مجلسه، وترك حضور الجنائز، فكان يأتي أهلها فيعزيهم، ثم ترك ذلك كله، فلم يكن يصلي الصلوات في المسجد، ولا الجمعة، ولا يأتي أحدًا يعزيه، ولا يقضي له حقًا، واحتمل الناس له ذلك حتى مات عليه، وكان ربما قيل له في ذلك، فيقول: ليس كل الناس يقدر أن يَتَكَلَّم بعذرهِ، وسعي به إلى جَعْفر بن سُليمان بن علي بن عبد الله بن العباس، رضي الله عنهما، وهو عم أبي جَعْفَر المنصور، وقال له: إنه لا يرى أيمان بيعتكم هذه بشيء، فغضب جعفر، ودعابه، وجرده من ثيابه، وضربه بالسياط، ومُدَّت يده حتى انخلعت كتفه، وارتُكِبَ منه أمرًا عظيمًا، فلم يَزَل بعد ذلك الضرب في علو رفعة، فكأنما كانت تلك السياط حُليًا له. وقال القَعْنبيُّ: دخلت على مالك بن أنس في مرضه الذي مات فيه، فسلمت عليه، ثم جلست، فرأيته يبكي، فقلت: أبا عبد الله! ما الذي يبكيك؟ فقال لي يا ابنَ قَعْنَب! وما لي لا أبكي، ومن أحق بالبكاء مني، والله لوددت أني ضربت بكل مسألة أفتيت فيها برأيي بسوط سوط، وقد كانت لي السعة فيما قد سبقت إليه، وليتني لم أُفت بالرأي، أو كما قال، وقال: معن بن عيسى: سمعت مالكًا يقول: إنما أنا بشر أخطىء وأصيب، فانظروا ما في رأيي، فما وافق السنة فخذوا به، وقال الدَّوْلَقِيُّ: أخذ مالك عن تسع مئة شيخ، ثلاث مئة من التابعين، وست مئة من تابعيهم، ممن اختاره وارتضاه لدينه وفهمه، وقيامه بحق الرواية, وشروطها، وسكنت النفس إليه، وترك الرواية عن أهل دين وصلاح لا يعرفون الرواية. ومن الأعلام الذين روى عنهم: نافع مولى ابن عُمر، وزيد بن أسلم، والزُّهْرِيّ، وأبو الزِّناد، وعبد الرحمن بن القاسم بن أبي بكر الصديق، وأيوب السَّختياني وثور بن يزيد الدِّيلِيّ، وإبراهيم بن أبي عَبْلة المَقْدِسيّ، وحُميد الطويل، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وهشام بن

عُروة، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وعائشة بنت سعد بن أبي وَقّاص، وخلق. وروى عنه كثير من شيوخه: كالزُّهري، ويحيى بن سعيد الأنصاري، بل قيل: إن مالكًا ما روى عن أحد إلا روى عنه ذلك الشيخ بعد ذلك، إِلا نافع بن أبي نُعيم المقرئ. ومن الأعلام الذين رووا عنه، وماتوا قبله: سُفْيان الثَّوري، وشُعبة بن الحَجّاج، وأبو عاصم النَّبيل، وعبد الله بن المُبارك، وعبد الرحمن الأوزاعي، وأبو حنيفة. قال السُّيوطِيّ: ألف الدارقطني جزءًا في مرويات أبي حنيفة عنه. وروى عنه: عبد الله بن مَسْلمة القَعْنَبِيّ، وعبد الله بن جُريج، وأبو نُعيم الفضل بن دُكَيْن، وقُتيبة بن سعيد، واللَّيث بن سعد، وهو من أقرانه، والشافِعيّ، وخلق كثير. وأما الذين رووا عنه "الموطأ" والذين رووا "مسائل الآي" فأكثر من أن يُحْصَوْا، قد بلغ فيهم أبو الحسن علي بن عمر الدارقُطْنيّ في كتاب جمعه في ذلك نحو ألف رجل. وممن أخذه منه محمَّد بن الحسن الشَّيْباني، وقال: أقمت عند مالك ابن أنس ثلاث سنين وكسرًا، وسمعت منه لفظًا أكثر من سبع مئة حديث، وكان إذا حدث عن مالك امتلأ منزله، وكثر الناس عليه، حتى يضيقَ بهمُ الموضع، وإذا حدث عن غير مالك لم يجئه أحد، وأفردت العلماء التآليف العديدة في مناقبه، كان شديد البياض إِلى الشقرة طويلًا، عظيم الهامة، أصلع، يلبس الثياب العدنية الجياد، ويكره حلق الشارب، ويعيبه، ويراه مثلة، ولا يغير شيبة، ولد سنة خمس وتسعين، وحمل به ثلاث سنين، وفيها ولد الليث بن سَعْد، وتوفي في ربيع الأول سنة تسع وسبعين ومئة، وعاش أربعًا وثمانين سنة، وقال الواقِدِيّ: عاش تسعين سنة. دفن بالبقيع، وقبته به مشهورة تزار، ورثاه أبو محمد جعفر بن أحمد ابن الحسين السّرّاج:

سَقى جَدَثًا ضَمَّ البَقيعُ لمالِكٍ ... مِنَ المُزنِ مَرعاهُ السحائبُ مِبراقُ إمامٌ مُوَطاه الذي طَبَّقتْ به ... أَقاليمُ في الدنيا فِساحٌ وآفاقُ أَقامَ به شَرعَ النَّبيِّ مُحمدٍ ... له حَذرٌ مِن أن يُضامَ وإِشفاقُ له سَنَدٌ عالٍ صحيح وهَيبةٌ ... فلِلْكُلِّ مِنهُ حينَ يَرويهِ إِطراق وأَصحابُ صدقٍ كلُّهُمْ فَسَلْ ... بهِم إِنهُم إن أَنت ساءَلْتَ حُذّاقُ ولو لم يكن إلَّا ابن إِدريسَ وحْده ... كَفاهُ ألا إن السَّعادة أرزاقُ والأصبحيُّ في نسبة نسبه إلى ذي أَصْبحِ -بفتح الهمزة، وسكون الصاد- واسمه الحارث بن مالك بن زيد بن غَوْث بن سعد بن عَوْف بن عَدِيّ بن مالك بن زَيْد بن سَهْل، بن عمرو بن قَيْس بن مُعاوية بن جشم ابن عبد شمس بن وائل بن الغَوْث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن هميسع بن حمير بن سبأ بن يَشْجُب بن يَعْرُب بن قَحْطان، وذو كذا عند حمير لقب للملك، ويجمع جمع تكسير، فيقال لهم: الأذواء، وجمع سلامة فيقال لهم: الذوين، قال الشاعر: فلا أَعني بذلك أَرذَلِيكُم ... ولكني أُريدُ به الذَّويْنَ وليس في الرواة مالك بن أنس غيره سوى مالك بن أنس الكوفي، رُوي عنه حديث واحد عن هانئ بن حرام، وغلط من أدخل حديثه في حديثه الإِمام، نبه عليه الخطيب في كتابه "المتفق والمفترق". والإِمام مالك أحد أهل المذاهب الستة المدونة مذاهبهم. وثانيهم النعمان أبو حنيفة، مات ببغداد سنة خمسين ومئة عن سبعين سنة. والثالث الإِمام الشافعي، مات بمصر عن أربع وخمسين سنة، سنة أربع ومئتين، والرابع: أحمد بن حَنْبل، مات ببغداد سنة إحدى وأربعين ومئتين، عن ثمانين سنة، والخامس سفيان الثوري، مات بالبصرة سنة إحدى وستين ومئة، عن أربع وستين سنة، والسادس: داوود بن علي الأَصْبهاني، إمام الظاهرية، مات ببغداد سنة تسعين ومئتين، عن ثمان وثمانين سنة، وقد جمع الإِمام أبو الفضل يحيى بن سلامة الحَصْكَفِيّ

الخطيب الشافعي أسماءهم في بيت، كما جمع أسماء القراء فى بيت أيضًا فقال: جَمَعتُ لكَ القُراء لما أَرَدتَهُمْ ... ببيتٍ تَراهُ للأَئِمةِ جامعًا أبو عَمروٍ وعبد اللهِ حمزَةُ عاصِمٌ ... عليٌّ ولا تَنسْ المدِينيّ نافعًا وإن شئْتَ أَركانَ الشريعةِ فاستَمع ... لتَعرفَهُمْ فاحفَظ إِذا كُنتَ سامِعًا محَمدُ والنُّعمانُ مالكُ أَحمدٌ ... وسفيانُ واذكُر بَعْدُ داوودَ تابِعًا الثالث: هشام بن عُروة بن الزُّبير بن العَوّام الأَسَدِيّ القُرَشِيّ أبو المُنْذِر، وقيل: أبو عبد الله، أحد تابعي المدينة المشهورين المكثرين في الحديث، المعدودين من أكابر العلماء، وجِلّة التابعين، ولد هو وعمر بن عبد العزيز، والزُّهْري، وقَتَادة، والأَعْمَش، ليالي قتل الحسين ابن علي، رضي الله تعالى عنهما، وكان قتله يوم عاشوراء، سنة إحدى وستين، وقدم بغداد على المنصور، وهو معدود في الطبقة الرابعة من أهل المدينة، وقد قال له المنصور يومًا: يا أبا المنذر! أتذكر يوم دخلت عليك أنا وأبي وإخوتي الخَلائف، وأنت تشرب سَويقًا بقصبة يَرَاع، فلما خرجنا من عندك، قال لنا أبونا: اعرفوا لهذا الشيخ حقه، فإنه لا يزال في قومكم بقيةٌ ما بقي، قال: لا أذكر ذلك يا أمير المؤمنين، فلما خرج هشام، قيل له: يُذَكِّرُكَ أمير المؤمنين ما تَمُتُّ به إليه، فتقول: لا أذكره؟ فقال: لم أكن أذكر ذلك، ولم يُعَوِّدُني الله في الصدق إلا خيرًا. وروي أنه دخل على المنصور، وقال له: يا أمير المؤمنين! اقضِ عَنّي ديني، فقال وكم دَينك؟ قال: مئة ألف، قال: وأنت في فقهك وفضلك تأخذ دين مئة ألف ليس عندك قضاؤها؟ فقال: يا أمير المؤمنين! شب فتيان من فتياننا، فأحببت أن أُبَوِّئَهُم، وخشيت أن يُنشر علي من أمرهم ما أكره، فبوأتهم، واتخذت لهم منازل، وأولمت عنهم ثقة بالله وبأمير المؤمنين، فردد عليه مئة ألف استعظامًا لها، ثم قال: قد أمرنا لك بعشرة آلاف، فقال: يا أمير المؤمنين! أعطني ما أعطيتُ، وأنت طيب النفس، فإني سمعت أبي يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من أعطى

عطية، وهو بها طيب النفس، بورك فيها للمعطي والمعطى له، قال: فإني طيب النفس بها، وأهوى إلى يد المنصور يقبلها فمنعه، وقال: يا ابن عُروة إنا نكرمك عنها، ونكرمها عن غيرك". وقال: عثمان الدَّاريّ: قلت لابن مَعين: هشام أحب إليك من أبيه، أو الزُّهْري؟ قال: كلاهما, ولم يفضل. وقال ابن المَدِيْنِيّ: قال: يحيى ابن سعيد: رأيت مالك بن أنس في النوم، وسألته، عن هشام بن عُروة، فقال: أما ما حدث به، وهو عندنا، فهو كأنه يصححه، وأما ما حدث به ما خرج من عندنا، فكأنه يوهنه، وقال العِجْلي: وابن سعد كان ثقة، زاد ابن سعد: ثبتًا كثير الحديث حجة. وقال أبو حاتم: ثقة إمام في الحديث، وقالَ يعقوب بن شَيْبة: ثقة، ثبت، لم يذكر عليه شيء إلا بعد ما صار إلى العراق، فإنه انبسط في الرواية عن أبيه، فأنكر ذلك عليه أهل بلده، والذي نرى أن هشامًا تَسَهَّلَ في العراق، فإنه كان لا يحدث عن أبيه إلا بما سمعه، فكان تسهله أنه أرسل عن أبيه ما كان يسمعه من غير أبيه عن أبيه. وقال ابن خِراش: بلغني أن مالكًا نقم عليه حديثه لأهل العراق، قدم الكوفة ثلاث مرات قدمة كان يقول: حدثني أبي، قال: سمعت عائشة، وقدم الثانية، فكان يقول: أخبرني أبي عن عائشة، وقدم الثالثة فكان يقول: أبي عن عائشة، وقال وَهْب: قدم علينا هشام بن عُروة، وكان فينا مثل الحسن، وابن سِيرين؛ وذكره ابن حِبّان في "الثقات"؛ وقال: كان متقنًا، ورعًا، فاضلًا، حافظًا، وقال: ابن حَجَر: قول ابن خِراش كان مالك لا يرضاه، قد حكى عن مالك فيه شيء أشد من هذا ولكنه محمول على ما قال؛ وقد احتج بهشام جميع الأئمة. رأى ابن عمر؛ ومسح رأسه؛ ودعا له؛ وسهل بن سعد، وجابرًا، وأنسًا. روى عن أبيه؛ وعمه عبد الله، وابنه يحيى بن عبد الله، وابن عمه عباد ابن حمزة بن عبد الله بن الزُّبير، وامرأته فاطمة بنت المنذر بن الزبير بن

العوام، وابن المنكدر، ووهب بن كيسان، وصالح بن أبي صالح السَّمَّان، وغيرهم. وروى عنه أيوب السَّخْتِياني، ومات قبله، وعُبيد بن عمر، ومَعْمر، وابن جُرَيْج، وابن إسحاق ومالك بن أنس، والسُّفيانان، والحَمَّادان، وزُهير بن معاوية، والنَّضْر بن شُمَيْل، ويحيى بن سعيد القَطّان، وخلق كثير. مات ببغداد سنة خمس وأربعين ومئة، ودفن بمقبرة الخيزران بالجانب الغربي، خارج السوق، نحو باب قطر وراء الخندق، على مقابر باب حرب، وهو ظاهر هناك معروف، وعليه لوح منقوش أنه قبر هشام بن عُروة، ومن قال إنه بالجانب الشرقي، قال: إن القبر الذي بالجانب الغربي هو قبر هشام بن عروة المَرْوَزِيّ، صاحب عبد الله بن المبارك. الرابع: عُروة بن الزُّبير بن العوَّام بن خُوَيْلد بن أَسَد بن عبد العُزى بن قُصَيّ بن كلاب، أبو عبد الله المَدَنِيّ الأَسَدِيّ القرشي التابعي، الجليل، المجمع على جلالته، وإمامته، وكثرة علمه، وبراعته، أحد فقهاء المدينة السبعة الذين جمعهم القائل بقوله: ألا كلُّ مَن لا يَقتدي بأَئمةٍ ... فَقِسمَتهُ ضِيْزَى عن الحق خارِجهْ فخُذهُم عُبيد اللهِ عُروةُ قاسمٌ ... سعيدٌ أبو بَكرٍ سُليمانُ خارجهْ وسعيد المراد به ابن المُسَيِّب، وعبيد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود، والقاسم بن محمَّد بن أبي بكر الصديق، وسليمان بن يَسار، وخارجة بن زيد بن ثابت، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هِشام، وقيل: مكانه أبو سلمة بن عبد الرحمن، وقيل: سالِم بن عبد الله ابن عمر، وخصت الفقهاء السبعة بهذا الاسم؛ لأن الفتيا بعد الصحابة، رضوان الله عليهم، صارت إليهم، وشُهِروا بها، وهم في عصر واحد، وعنهم انتشر العلم، والفتيا، وكان في عصرهم جماعة من العلماء

التابعين، مثل سالم بن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهم، وأمثاله، ولكن الفتوى لم تكن إلا لهؤلاء السبعة، وأم عروة أسماء بنت أبي بكر الصديق، ذات النطاقين، وإحدى عجائز الجنة، وهو شقيق عبد الله، بخلاف مصعب، فليس شقيقًا لهما، فقد جمع الشرف من وجوه، فرسول الله صلى الله عليه وسلم صهره، وأبو بكر جده، والزبير والده، وأسماء أمه، وعائشة خالته. ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من أهل المدينة، وقال: كان ثقة، كثير الحديث، فقيهًا، عالمًا ثبتًا، مأمونًا. وقال العِجْلِيّ: مدني، تابعي ثقة، وكان رجلًا صالحًا، لم يدخل في شيء من الفتن. وقال ابن شهاب: كان إذا حدثني عروة ثم حدثتني عَمْرة، صَدَّقَ عندي حديث عمرةَ حديث عروةَ، فلما بَحَرْتُهما إذا عروة بحر لا يُنْزَف. وقال هشام بن عروة: كان أبي يقول: إنا كنا أصاغر قوم، ونحن اليوم كبار، وإنكم اليوم أصاغر، وستكونون كبارًا، فتعلموا العلم تسودوا به، ويحتاج لكم؛ فوالله ما سألني الناس حتى نسيت. وقال ابن عُيينة، عن الزُّهري: كان عروة يتألف الناس لحديثه، وقال قَبيصةُ بنُ ذُؤَيْب: كان عروة يغلِبنا بدخوله على عائشة، وكانت عائشة أعلم الناس، قال ابن عُيَيْنَةَ: كان أعلم الناس بحديث عائشة عروة، وعَمرة، والقاسم. وقال هشام عن أبيه: قد رأيتني قبل موت عائشة بأربع حِجج، أو خمس حِجج، وأنا أقول: لو ماتت اليوم ما ندمت على حديث عندها، إلا وقد وعيته. وقال حُميد بن عبد الرحمن بن عَوْف: لقد رأيت الأكابر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنهم ليسألونه عن قصة ذكرها، وقال ابن أبي الزِّناد، وقال عروة: كنا نقول: لا نتخذ كتابًا مع كتاب الله، فمحوت كتبي، فوالله لوددت أن كتبي عندي، وأن كتاب الله قد استمرت مريرته. وقال هشام: إن أباه كان حرق كتبًا فيها فقه، ثم قال بعد ذلك: لوددت أني فديتها بأهلي، ومالي، وقال أيضًا عن أبيه: إذا رأيت الرجل يعمل السيئة، فاعلم أن لها عنده أخوات، وإذا رأيته يعمل الحسنة فاعلم أن لها عنده أخوات، وقال هشام: ما سمعت أبي قط يقول في شيء برأيه. وقال ابن حِبان في "الثقات" كان من أفاضل أهل المدينة، وعقلائهم،

وقال ابن يونُس في "تاريخ الغرباء": قدم مصر وتزوج بها امرأة من بني وَعْلة، وأقام بها سبع سنين، وكان فقيهًا فاضلًا، وقال ابن شَوْذَب: كان يقرأ كل ليلة ربع القرآن، ويقرأه كل نهار ناظرًا في المصحف، وجمع المسجد الحرام بينه وبين أخويه، عبد الله، ومصعب، وعبد الملك بن مروان. أيام تألفهم بعهد معاوية بن أبي سفيان، فقال بعضهم: هَلُمَّ فَلْنَتَمَنَّ، فقال عبد الله بن الزبير: مُنيتي أن أملك الحرمين، وأنال الخلافة. وقال مُصعب: منيتي أن أملك العِراقين، وأجمع بين عَقِيلتَي قريش، سُكَيْنه بنت الحسين بن علي، وعائشة بنت طلحة بن عبيد الله. وقال عبد الملك بن مَرْوان: منيتي أن أملك الأرض كلها، وأخلف معاوية. فقال عروة: لست في شيءٍ مما أنتم فيه، منيتي الزهد في الدنيا، والفوز بالجنة في الآخرة، وأن أكون ممن يُروى عنه هذا العلم؛ فصرف الدهر من صرفه إلى أن بلغ كل واحد منهم غرضه، فكان عبد الملك لهذا يقول: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى عروة بن الزبير. وقدم على الوليد بن عبد الملك، ومعه ولده محمَّد، فدخل ولده إسطبل دواب عبد الملك، فضربته دابة، فخر ميتًا، ووقعت في رجله الأَكلَةُ كقُرحة، فقال له الوليد: اقطعها وإِلا أفسَدَتْ عليك جسدك، فقطعها بالمنشار، وهو شيخ كبير، ولم يمسكه أحد، وكان في مجلس الوليد، والوليد مشغول عنه بمن يحدثه، ولم يَتَحرَّك، ولم يشعر الوليد بأنها قطعت حتى كُويت، وشم رائحة الكي، ولم يترك ورده تلك الليلة -وقال ابن شَوْذَب: إنه تركه تلك الليلة- وما زاد حالة قطعها على التكبير والتهليل ولما قطعت أغلي له الزيت في مغارف الحديد، فحسم به، فغشي عليه، فأفاق وهو يمسح العرق عن وجهه، ولما رأى القدم بأيديهم دعى بها، فقلبها في يده، ثم قال: والذي حملني عليك إنه ليعلم أني ما مشيت بك إلى حرام، وقال: اللهم إنه كان لي أطراف أربعة، فأخذت واحدًا، وأبقيت لي ثلاثة، فلك الحمد، وايم الله، لئن أخذت لقد أبقيت، ولئن ابتليت لطالما عافيت، ولم يُسمع منه شيء حتى قدم

المدينة، فقال: {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف: 62] وكان أحسن من عزاه إبراهيم بن محمَّد بن طَلْحة، فقال: والله ما بك حاجة إلى المشي، ولا أَربٌ إلى السعي، وقد تقدمك عضو من أعضائك، وابن من أبنائك إلى الجنة، والكل تبع للبعض، إن شاء الله تعالى، وقد أبقى الله منك ما كنا إليه فقراء، وعنه غير أغنياء من علمك، ورأيك؛ نفعك الله وإيانا به؛ والله ولي ثوابك، والضمين لحسابك. وروي أنه قدم تلك السنة قوم من بني عبس، فيهم رجل ضرير، فسأله الوليد عن عَيْنَيْه، فقال: يا أمير المؤمنين! بت ليلة في بطن واد، ولا أعلم عبسيًّا يزيد ماله على مالي، فطرقنا سيل، فذهب بما كان لي من أهل، ومال، وولد، غير بعير، وصبي مولود، وكان البعير صعبًا فند، فوضعت الصبي، واتبعت البعير، فلم أجاوز إلا قليلًا حتى سمعت صيحة ابني، ورأسه في فم الذئب يأكله، فلحقت البعير لأحبسه، فنفحني برجله على وجهي، فَحَطَمَهُ، وذهب بعينى، فأصبحت لا مال لي، ولا أهل، ولا ولد، ولا بصر، فقال الوليد: انطلقوا به إلى عروة ليعلم أن في الناس من هو أعظم منه بلاءً، وكان عروة إذا جاءت أيام الرطب يَثْلُمُ حائطه، فيدخل الناس، فيأكلون ويحتملون، وكان إذا دخله رَدَّدَ هذه الآية: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} [الكهف: 39] حتى يخرج، ولما قتل أخوه عبد الله، قدم على عبد الملك، وقال له يومًا: أريد أن تعطيني سيف أخي عبد الله، فقال له: هو بين السيوف، ولا أميزه من بينها، فقال عروة: إذا حضرت السيوف عرفته، فأمر عبد الملك بإحضارها، فلما حضرت، أخذ منها سيفًا مفللا، فقال هذا سيف أخي، فقال له: كنت تعرفه قبل الآن؟ فقال: لا، فقال: كيف عرفته؟ قال: قال النابغة: ولا عيْبَ فيهِمْ غيرَ أَن سيوفَهُمْ ... بهِنَّ فلولٌ مِن قراعِ الكتائِبِ وهو الذي احتفر بئر عروة الذي بالمدينة، وهي منسوبة إليه، وليس بالمدينة بئر أعذب منها.

وروى عن: أبيه، وأخيه عبد الله، وأمه أسماء، وخالته عائشة، وعلي بن أبي طالب، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نُفَيْل، وحَكيم بن حزام، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن جعفر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله ابن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وخلق كثير. وروى عنه: أولاده عبد الله، وعثمان، وهشام، ومحمد، ويحيى، وابن ابنه عمر بن عبد الله بن عُروة، وابن أخيه محمَّد بن جعفر بن الزُّبير، وأبو الأسود، ومحمد بن عبد الرحمن بن نَوْفل -يتيم عروة- وأبو سَلَمة بن عبد الرحمن، وأبو بُردة بن أبي موسى، وعبيد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود، وهم من أقرانه، وتَميم بن سَلمة، وصالح بن كَيْسان، والزُّهري، وأبو الزِّناد، وابن أبي مليكة، وعِراك بن مالك وعطاء بن أبي ربَاح، وعمر بن عبد العزيز، وعَمْرو بن دينار، وغيرهم. ولد في آخر خلافة عمر بن الخطاب، سنة ثلاث وعشرين، وأما ما رواه يعقوب بن سفيان من طريق الزُّهري، عن عُروة، أنه قال: كنت غلامًا، لي ذُؤابتان، فقمت أركع ركعتين بعد العَصْر، فَبَصُرَ بي عمر بن الخطاب، ومعه الدِّرة، فلما رأيته فررت منه، فأحضر في طلبي حتى تعلق بذؤابتي، فنهاني، فقلت: يا أمير المؤمنين! لا أعود، فهو وهم، ولعل ذلك جرى لأخيه عبد الله بن الزبير، وسقط اسمه على بعض الرواة، مات وهو صائم، سنة اثنتين وتسعين، وقيل: ثلاث، وقيل: أربع، وقيل: خمس، ودفن في قرية له بقرب المدينة يقال لها: فُرْع -بضم الفاء وسكون الراء- وهي بناحية الرَّبَذَة، بينها وبين المدينة أربع ليال، وهي ذات نخيل، ومياه وسنة موته سنة موت الفقهاء. الخامس: عائشة -أم المؤمنين- بنت أبي بكر الصديق، رضي الله تعالى عنهما، الفقيهة، الربانية، حبيبة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبنت حبيبه كناها النبي - صلى الله عليه وسلم - أم عبد الله، بابن أختها عبد الله بن الزُّبير، وقيل: بِسِقْط لها، وليس صحيح. وأمها أم رُومان -بضم الراء، وفتحها- زينب بنت عامر بن عويمر بن عبد شمس بن عتاب الكِنانية، وهي أم عبد الرحمن أيضًا.

كانت رضي الله عنها، من أكبر فقهاء الصحابة، وأحد الستة المكثرين في الحديث، تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة قبل الهجرة بسنتين، وقيل: بثلاث، وهي بنت ست سنين، وقيل: بنت سبع، قال ابن حَجَر: ويجمع بينهما بأنها كانت أكملت السادسة، ودخلت في السابعة، ودخل بها وهي بنت تسع، قال ابن عبد البَرّ: لا أعلمهم اختلفوا في ذلك، وكانت تذكر لجُبَيْر بن مُطْعم، وتسمى له، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رآها في المنام في سَرَقَة من حرير، فتوفيت خديجة، فقال: إن يكن هذا من عند الله يُمْضِهِ، فتزوجها بعد موت خديجة، رضي الله عنها بثلاث سنين، وكان موت خديجة، رضي الله عنها، قبل الهجرة بثلاث سنين، وهذا أولى ما قيل في ذلك وأصحه، وقيل في موت خديجة: إنه كان قبل الهجرة بثلاث, وقيل: بأربع. وروى يونس عن ابن شهاب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوج عائشة، رضي الله عنها، في شوال سنة عشر من النبوة، قبل الهجرة بثلاث سنين، وأعْرَسَ بها في شوال في المدينة المنورة، على رأس ثمانية عشر شهرًا من مُهاجَرِه إلى المدينة. وفي ابن عبد البر: كانت تحب أن تدخل النساء من أهلها وأحبتها على أزواجهن في شوال وتقول: هل في أزواجه أحظى مني، وقد نكحني وابتنى بي في شوال؟. وكان مُكثها معه تسع سنين، وقيل: ثمانية أعوام وخمسة أشهر. وفي "الصحيح" عن عائشة أنها قالت: تزوجني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا بنت ست، وبنى بي وأنا بنت تسع، وقُبِض وأنا بنت ثمان عشرة سنة. وأخرج ابن أبي عاصم عنها؛ أنها قالت: لما توفيت خديجة، قالت خولة بنت حكيم بن الأَوْقَصِيّ، امرأة عثمان بن مَظْعون، وذلك بمكة: أي رسول الله: ألا تتزوج قال: "من؟ " قالت: إن شئت بكرًا، وإن شئت ثيبًا، قال: "فمن البكر؟ " قالت: بنت أحب خلق الله إِليك، عائشة بنت أبي بكر، قال: "ومن الثيب؟ " قالت: سَوْدة بنت زَمْعة، آمنت بك واتَّبَعَتْكَ، قال: اذهبي، فاذكريهما علي، فجاءت، فدخلت بيت أبي

بكر، فوجدت أم رُومان، فقالت: ما أدخل الله عليكم من الخير والبركة، قالت: وما ذاك؟ قالت: أرسلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخطب عليه عائشة، قالت: وددت، انتظري أبا بكر، فجاء أبو بكر، فذكرت له، فقال: وهل تصلح له، وهي بنت أخيه؟ فرجعت، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: قولي له: أنت أخي في الإِسلام، وابنتك تَحلُّ لي، فجاء، فأنكحه، وهي يومئذ بنت ست سنين. وفي "الصحيح" أنه لم ينكح بكرًا غيرها، وهو متفق عليه بين أهل النقل. وروي عنها من طريق ابن سعد: أعطيت خِلالًا ما أعطيتها امرأة منكن، ملكني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنا بنت سبع، وأتاه الملك بصورتي في كفه لينظر إليها، وبنى بي لتسع، ورأيت جبرائيل، وكنت أحبَّ نسائه إليه، وَمَرَّضْتُهُ فقُبِضَ ولم يشهده غيري والملائكة، وورد من وجه آخر أنها قالت: فَضُلْتُ بعشر، فذكرت مجيء جبريل بصورتها، قالت: ولم ينكح بكرًا غيري، ولا امرأة أبواها مهاجران غيري، وأنزل الله براءتي من السماء، وكان ينزل عليه الوحي، وهو معي، وكنت أَغتسل أنا وهو من إناء واحد، وكان يصلي وأنا معترضة بين يديه، وقبض بين سَحْري ونحري في بيتي وفي ليلتي، ودفن في بيتي. وفي "الصحيح" من طريق هشام بن عُروة، عن أبيه، قال: كان الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، قالت: فاجتمع صواحبي إلى أم سلمة، فذكر الحديث، وفيه فقال في الثالثة: "لا تُؤذيني في عائشة، فإنه والله ما نزل علي وحيٌ وأنا في لحاف امرأةٍ منكن غيرها" وفي "الصحيح" عن أبي موسى مرفوعًا: "فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام". ومن طريق أبي محمَّد مولى الغِفارِيّين أن عائشة قالت: يا رسول الله! من أزواجك في الجنة؟ قال: "أنت منهن". وأخرج الترمذي من طريق الثوري أن رجلًا قال عند عمار: من عائشة؟

فقال: اغرُب؟ مقبوحًا، أتؤذي محبوبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ وأخرجه ابن سعد من وجه آخر، قال: مقبوحًا، منبوحًا، وزاد؛ إنها لَزوجته في الجنة، ومن مُرسل مسلم بن البُطَيْن، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عائِشة زوجَتي في الجنةِ". وزاد عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، عائشة على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال: إنها حبيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وروي عن عمرو بن العاص أنه قال: قلت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الناس أحب إليك؟ قال: "عائشة"، قلت فمن الرجال؟ قال: "أبوها". وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَيَّتُكُنَّ صاحبة الجمل الأدببِ يُقتل حولها قتلى كثيرة، وتنجو بعد ما كادت؟ " وهذا من أعلام نبوته - صلى الله عليه وسلم -. وكان مسروق إذا حدث عن عائشة يقول: حدثتني الصادقة بنت الصديق البريئة المبرأة بكذا. وقال: رأيت مشيخة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأكابر يسألونها عن الفرائض. وقال عطاء بن أبي رباح: كانت عائشة أفقه الناس، وأحسن الناس وأعلم الناس رأيًا في العامة. وقال عروة: ما رأيت أحدًا أعلم بفقه، ولا بطب، ولا بشعر من عائشة. وقال أبو موسى الأشعري: ما أشكل علينا أمر فسألنا عنه عائشة إلا وجدنا عندها فيه علمًا. وقال أبو الزِّناد: ما رأيت أحدًا أروى للشعر من عروة، فقيل له: ما أرواك يا عبد الله، قال: وما روايتي من رواية عائشة، ما كان ينزل بها شيء إلا أنشدت فيه شعرًا؟ وقال: الزهري: لو جمع علم عائشة إلى علم جميع أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلم جميع النساء، لكان علم عائشة أفضل. وأخرج ابن سعد من طريق أم ذَرَّة، قالت: أتيت عائشة بمئة ألف ففرقتها، وهي يومئذ صائمة، فقلت لها: أما استطعت فيما فرقت أن

تشتري بدرهم لحمًا تُفْطِرينَ عليه، فقالت: لو كنت ذكرتيني لفعلت. وفيها يقول حسان بن ثابت: حَصَانٌ رَزَانٌ ما تُزَنُّ بريبةٍ ... وتُصبِحُ غَرْثى من لُحوم الغَوافِلِ عَقِيلةُ أَصْل مِن لؤَي بن غالبٍ ... كرامِ المساعي مجدهم غيرُ زائلِ مُهَذَّبةٌ قد طَيَّبَ الله حِيْمَها ... وطَهَّرها مِن كُل بَغْي وباطلِ فإن كان ما قد قيل عني قُلتهُ ... فلا رفعتْ سَوطي إليَّ أَناملي وإن الذي قد قيل ليس بِلائِط ... بها الدهر بل قول امرىء متماحل فكيف وَوُدّي ما حَيِيْتُ ونصرتي ... لآل رسول الله زَيْن المحافل رَأيتك وليغفر لك الله حُرة ... من المحصنات غير ذات الغوائل وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالذين رَمَوْا عائشة بالإِفْكِ، حين نزل القرآن ببراءتها، فجُلدوا الحد ثمانين، وحسان بن ثابت لم يُجلد معهم ولا خاض في الإِفك، ويزعمون أنه هو القائل: لقد ذاق عبد الله ما كان أهلهُ ... وحَمْنَةُ إذ قالوا هَجِيْرًا ومسْطحُ وعبد الله وهو ابن أُبَيّ، وقيل: إن حسانًا جُلد، وإنه من جملة أهل الإِفك في عائشة، وأنشد ابن اسحاق هذا البيت في جملة أبيات، وقال: لقَدْ ذاق حسان الذي كَانَ أهلهُ ... الخ. قال ابن عبد البر: وهذا أصح، لأن عبد الله بن أُبي لم يكن ممن يُستر جلده عن الجميع لو جُلِدَ؛ وقد روي أن حسان بن ثابت استأذن على عائشة بعد ما كُفَّ بصره، فأذنت له، فدخل عليها، فأكرمته، فلما خرج من عندها، قيل لها: أهذا من القوم؟! قالت: أليس الذي يقول: فإنَّ أَبي ووالده وعِرضي ... لِعِرض محمَّد منكم وقاءُ هذا البيت يغْفِرُ له كل ذنب، واختلف: هل هي أفضل من خديجة؟ أو خديجة أفضل؟ كما اختلف هل هي أفضل أو فاطمة الزهراء؟ والأصح أنها هي أفضل هكذا قال العَيْنِي، والذي في "فتح الباري" في أحاديث الأنبياء عند ذكر مريم بنت عمران أن أفضل نساء هذه الأمة خديجة، وذكر

في مناقب الصحابة في فضل خديجة أن خديجة أفضل نسائه على الراجح، وذكر في فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام أن أفضليتها مقيدة بنساء النبي، عليه الصلاة والسلام، جمعًا بين هذا الحديث، وحديث، "أفضل نساء أهل الجنة خديجةُ وفاطمةُ الزهراء". وسبب تسمية أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أمهات المؤمنين قوله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] أي في وجوب احترامهن وبِرِّهن , وتحريم نكاحهن لا في جواز الخلوة والمسافرة، وتحريم بناتهن, وكذا النظر في الأصح، وهل يقال لأخواتهن وإخوتهن أخوال وخالات المؤمنين؟ ولبناتهن أخوات المؤمنين؟ فيه خلاف بين العلماء, والأصح المنع لعدم التوقيف, وهل يقال فيهن أيضًا أمهات المؤمنات؟ فيه خلاف , وروي عن عائشة, رضي الله عنها, أنها قالت: أنا أم رجالكم لا أم نسائكم. وهل يقال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أبو المؤمنين؟ فيه خلاف, والأصح الجواز. روي لها ألفا حديث ومئتا حديث وعشرة أحاديث. اتفق البخاري ومسلم على مئة وأربعة وسبعين, وانفرد البخاري بأربعة وخمسين, ومسلم بثمانية وخمسين. روت عن: أبيها, وعن عمر, وفاطمة, وسعد بن أبي وقّاص, وأُسيد بن حُضَيْر, وجدامة بنت وهْب, وحفصة بنت عمر. وروى عنها من الصحابة: عمر, وابنه عبد الله, وأبو هريرة, وأبو موسى, وزيد بن خالد, وابن عباس, والسائب بن يزيد, وغيرهم, ومن آل بيتها أختها أم كلثوم , وأخوها من الرضاعة عوف بن الحارث, وابنا أختها عبد الله وعروة ابنا الزبير. وروى عنها من كبار التابعين سعيد بن المُسَيِّب, وعمرو بن ميمون, وعلقمة بن قيس, ومسروق, والأسود بن يزيد, وخلق كثير. توفيت سنة سبع وخمسين, وقيل سنة ثمان وخمسين, ليلة الثلاثاء

لسبع عشرة خلت من رمضان، وأَمَرَتْ أن تدفن ليلًا، فدفنت بعد الوتر في البقيع، وصلى عليها أبو هريرة، ونزل قبرها خمسة، عبد الله، وعروة ابنا الزبير، والقاسم بن محمَّد، وعبد الله بن محمَّد بن أبي بكر، وعبد الله بن أبي بكر، وسنها يوم ماتت خمس وستون سنة. وليس في "الصحيحين" من اسمه عائشة من الصحابة غير الصديقة. وفيهما عائشة بنت طلحة بن عبيد الله عن خالتها عائشة، أصدقها مصعب ألف ألف، وكانت بديعة جدًا. وفي "البخاري" عائشة بنت سعد بن أبي وقاص تروي عن أبيها. وفي "ابن ماجة"، عائشة بنت مسعود بن العَجْماء العَدَوية تروي عن أبيها، وعنها ابن أخيها محمَّد بن طلحة. وجملة من في الصحابة اسمه عائشة عشرة: هذه، وبنت سعد بن أبي وقاص، وبنت جرير الأنصارية، وبنت الحارث القرشية، وبنت أبي سفيان الأَشْهَليَّة، وبنت عبد الرحمن بن عتيك، زوجة ابن رفاعة، وبنت عُمَيْر الأنصارية، وبنت مُعاوية بن المغيرة أم عبد الملك بن مروان، وبنت قُدامة بن مَظْعون. السادس: الحارث بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عُمر بن مخزوم أخو أبي جهل لأبويه، وابن عم الوليد بن المغيرة، وأمه فاطمة بنت الوليد ابن المغيرة, يكنى أبا عبد الرحمن، شهد بدرًا مع المشركين، وكان فيمن انهزم، فعيره حسان بن ثابت فقال: إن كُنْتِ كاذبةَ الذي حدثتِنِي ... فنَجوْتِ منجى الحارث بن هشامِ تَركَ الأَحِبَّةَ أَن يُقاتِلَ دُونهم ... ونجى بِرأْس طِمِرَّة ولِجامِ فأجابه الحارث بقوله: اللهُ يعلمُ ما تَركتُ قتالهمْ ... حتى رَمَوا فرسي بأشْقَرَ مُزْبِدِ فعلمتُ أَني إِنْ أُقاتلْ واحدًا ... أُقتلْ ولا يبكي عدوّي مَشْهدِي ففررتُ عنهمْ والأَحبةُ فيهمُ ... طمعًا لهمْ بعقابِ يومٍ مُرْصَدِ وقال الأصمعي: هذه الأبيات أحسن ما قيل في الاعتذار من الفرار،

ثم شهد أُحدًا مشركًا، وأسلم يوم الفتح، وحسن إسلامه، وأعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم حُنين مئة من الإِبل في المؤلفة قلوبهم، وكان من فضلاء الصحابة وخيارهم. وروي أن أم هانئ بنت أبي طالب استأمنت له النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأمنه يوم الفتح، وكانت إذ أمنته قد أراد علي قتله، وأراد أن يغلبها عليه، فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - منزلها ذلك الوقت، فقالت: يا رسول الله! ألا ترى إلى ابن أمي يريد قتل رجل أَجَرْتُهُ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قد أجرنا من أجرت، وأَمَّنا من أَمَّنت فأمنه، وقيل: إن الذي أجارته بعض بني زوجها هُبيرة، وكان يُضرب به المثل في السُّؤْدد حتى قال الشاعر: أَحَسِبْتَ أَنَّ أَباك يوم نسبتني ... في المَجْد كان الحارثَ بن هشامِ أَوْلى قُريشٍ بالمكارمِ والنَّدى ... في الجاهليةِ كان والإِسلامِ وذكر ابن إسحاق في قصة السقيفة، قال: فقال الحارث بن هشام، وهو يومئذ سيد بني مَخْزوم، ليس أحد يُعْدَلُ به إلا أهل السوابق مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: والله لولا قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "الأَئِمَةُ مِنْ قريش" ما أبعدنا منها الأنصار، ولكانوا لها أهلًا, ولكنه قول لا شك فيه، فوالله لو لم يبق من قريش كلها إلا رجل واحد لَصَيَّرَ الله هذا الأمر فيه، وكان الحارث يَحْمِلُ في قتال الكفار ويرتجز: إِني بِرَبي والنَّبي مُؤمن ... والبَعْثِ مِنْ بعد الممات مُوْقِن أَقْبِحْ بِشَخْص للحياة مُوطِنُ روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذَكر الحارث بن هشام وفعله في الجاهلية في قِرى الأضياف، وإطعام الطعام، فقال: "إن الحارث لَسرِيّ، وإن أباه لسري، ولوددت أن الله هداه للإِسلام". وروي عنه أنه قال: يا رسول الله! مُرني بأمرٍ أعتصم به، فقال: "املك عليك هذا"، وأشار إلى لسانه، قال: فرأيت أن ذلك شيء يسير، وكنت رجلًا قليل الكلام، ولم أفطن له، فلما رُمته فإذا لا شيء أشد منه. وروي عن أبي نوفل بن أبي عقرب قال: خرج الحارث بن هشام، فجزعَ أهل مكة جزعًا شديدًا، فلم يبق أحد يطعم إلا خرج معه يُشيِّعُهُ،

حتى إذا كان بالبطحاء، أو حيث شاء الله من ذلك وقف، ووقف الناس حوله يبكون، فلما رأى جزع الناس، قال: يا أيها الناس! إني والله ما خرجت رغبةً بنفسي عنكم، ولا اختيار بلد عن بلدكم، ولكن كان هذا الأمر، فخَرَجَت فيه رجال من قريش، والله ما كانوا من ذوي أسنانها، ولا في بيوتها، فأصبحنا والله لو أن جبال مكة ذهبًا أنفقناها في سبيل الله، ما أدركنا يومًا من أيامهم، ووالله لئن فاتونا به في الدنيا لَنَلْتَمِسُ أن نشاركهم في الآخرة، فاتَّقَى الله امرؤٌ فَعَلَ، فتوجه إلى الشام، فلم يزل مجاهدًا بالشام حتى ختم الله له بخير، ولم يتركِ الحارث إلا ابنه عبد الرحمن، فأتي به وبناجية بنت عُتْبة بن سَهْل بن عمرو إلى عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فقال: زَوِّجوا الشريدة بالشريد عسى الله أن يَنْشُر منهما، فنشر الله منهما ولدًا كثيرًا، فولد له اثنان وثلاثون ولدًا منهم أبو بكر بن عبد الرحمن ابن الحارث، أحد الفقهاء على قول، كما مر. وليس في الصحابة الحارث بن هشام إلا هذا، وإلا الحارث بن هشام الجُهَني، روى عنه المصريون، ذكره ابن عبد البر، وابن حَجَر، يُكنىَ بأبي عبد الرحمن، وهو مشهور بكنيته، وليس للحارث صاحب الترجمة في "الصحيحين" رواية سوى هذا الحديث، وله رواية في "سنن" ابن ماجة؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج أم سلمة في شوال. وليس في "الصحيحين" من اسمه الحارث غير الحارث بن رِبْعِيّ بن قَتادة، على أحد الأقوال في اسمه، وغير الحارث بن عَوْف أبي واقِد اللَّيْثِيّ، وهما بكُنْيَتِهما أشهر، وأما خارج "الصحيحين" فجماعات كثيرون فوق المئة والخمسين، والحارث يكتب بلا ألف تخفيفًا. مات الحارث بن هشام في طاعون عَمَواس، وقيل: استشهد يوم اليرموك. وأما ما رواه ابن لهَيعة بسنده؛ أن الحارث كاتب عبدًا له فذكر قصة فيها، فارتفعوا إلى عثمان، فهذا ظاهره أن الحارث عاش إلى خلافة عثمان، لكن ابن لهَيعة ضعيف، ويحتمل أن تكون المحاكمة تأخرت بعد وفاة الحارث.

لطائف إسناده: منها أن رجاله كلهم مدنيون ما عدا شيخ البخاري، عبد الله بن يوسف، وفيه تابعي عن تابعي، أعني هشامًا وأباه، وهو من رواية الأبناء عن الآباء. أما رواية التابعي عن التابعي فقد تقدمت في الحديث الذي قبله. وأما رواية الأبناء عن الآباء فهي كثيرة، وعكسها أيضًا واقع، فقد صنف الخطيب في رواية الآباء عن الأبناء كرواية العباس، عم النبي - صلى الله عليه وسلم - لحديث الجمع بين الصلاتين بمزدلفة، عن ابنه الفضل، وكروايته أيضًا عن ابنه عبد الله، فقد قال ابن الجَوْزِيّ: إنه روى عنه حديثًا. وكرواية وائل عن ابنه بكر ثمانية أحاديث منها في "السنن" الأربعة، و"صحيح" ابن حبان، ما رواه بكر ابنه، عن الزُّهري، عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أولم على صفية بسويق وتمر. وكرواية سليمان بن طَرْخان التَّيْمِيّ عن ابنه مُعْتَمِر حديثين، وقد روى الخطيب من رواية مُعتمر، قال: حدثني أبي، قال: حدثتني أنت عني، عن أيوب، عن الحسن، أنه قال: "ويحٌ" كلمة رحمة، قال ابن الصلاح: وهذا ظريف يجمع أنواعًا أي رواية الآباء عن الأبناء والعكس، والأكابر عن الأصاغر، والمُدَبَّج، والتحديث بعد النسيان، وغيرها، وكرواية قوم آخرين، رووا عن أبنائهم كأنس بن مالك روى عن ابنه غير مسمى، حديثًا، وزَكريّا ابن أبي زائدة روى عن ابنه يحيى حديثًا، ويونس بن أبي إسحاق، روى عن ابنه إسرائيل حديثًا، قال ابن الصلاح: وأكثر ما رويناه لأب عن ابنه ما رويناه في كتاب الخطيب، عن أبي عمر حَفْص بن عمر الدُّوري المقرئ، عن ابنه أبي جعفر محمَّد ابن حَفْص ستة عشر حديثًا أو نحو ذلك. وأما أبو بكر الذي روى عن الحُمَيْراء عائشة، أم المؤمنين حديث الحبّة السوداء شفاء من كل داء "فهو" ابن عتيق محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، واسمه عبد الله، وعائشة عمةَ أبيه، لا أبو بكر الصديق،

وغلط من قال: إنه هو، مع أن ابن الجوزي ذكر أن أباها، أبا بكر الصديق، روى عنها حديثين، وروت عنها أمها أم رومان حديثين، وأما العكس الذي هذا الحديث منه، وهو رواية الأبناء عن الآباء، فقد صنف فيه الحافظ أبو نصر عبيد الله الوائِلِيّ، وهو مَعال أي مفاخر لولد الابن الناقل رواية أبيه عن جده كما قال ابن الصلاح: حدثني أبو المظفر السمعاني عن أبي النَّضر عبد الرحمن بن عبد الجبار الفامِيّ, سمعت أبا القاسم منصور ابن محمد العَلَوي يقول: الإِسناد بعضه عَوالٍ وبعضه معالٍ, وقول الرجل: حدثني أبي عن جدي من المعالي. ومن أهم هذا النوع ما إذا أبهم الابن أو الجد, وهو بحسب هذا الإِبهام قسمان: أحدهما: ما تكون الرواية فيه عن أب فقط , كرواية أبي العُشرَاء عن أبيه, عن النبي - صلى الله عليه وسلم - , فأبو أبي العُشرَاء لم يسم في طرق الحديث, واسمهما على المشهور أسامة بن مالك بن قهطم بهاء, وقيل بحاء مهملة بدلها, وهو بكسر القاف والطاء, وبفتحهما, وبفتح الأول, وكسر الثاني, وعكسه, وقيل اسمهما عُطارد بن بَرْز -براء ساكنة أو مفتوحة- وقيل بلام بدلها ثم زاي, وقيل يسار بن بلز بن مسعود, وقيل: غير ذلك. والقسم الثاني: هو أن يزيد الراوي في السند بعد الأب أباه يكون جدًا للراوي, أو يزيد جدًّا لأبيه, فالأول: كبُهْز بن حكيم, والثاني كعمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص. ولعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده نسختان كبيرة وصغيرة, وقد اختلف في الاحتجاج بكل منهما، فالأكثر من المحدثين احتجوا بحديثه حملًا لجده في الإِطلاق على جده الأكبر الذي هو عبد الله بن عمرو بن العاص دون ابنه محمَّد، لما ظهر لهم من إطلاق ذلك، فقد قال البخاري: رأيت أحمد بن حنبل وعلي بن المَديْنِيّ، وإسحاق بن راهويه، وعامة أصحابنا يحتجون بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ما تركه أحد من المسلمين، وقال مرة: اجتمع عَلي، ويحيى بن مَعين، وأحمد، وأبو

خَيْثمة، وشيوخ من أهل العلم يتذاكرون حديث عمرو بن شُعيب، فثبتوه وذكروا أنه حجة، وخالف آخرون، فضعفه بعضهم مطلقًا وبعضهم في روايته عن أبيه عن جده دون ما إذا أفصح بجده، فقال: عن جده عبد الله، وبعضهم فصل بين أن يستوعب ذكر آباء آبائه، كأن يقول الراوي: عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن محمَّد بن عبد الله بن عمرو عن أبيه فهو حجة، وإن يقتصر على قوله: عن أبيه عن جده فلا، وعمرو ثقة في نفسه، وإنما ضعف من قبل أن حديثه منقطع, لأن شعيبًا لم يسمع عبد الله، أو مرسل لأن جده محمدًا، لا صحبة له، ولكن قد صح سماعه من عبد الله، ثم هذا النوع قد تَقِلُّ فيه الآباء، وقد تكثُر، وسلسل أبو الفرج عبد الوهاب بن عبد العزيز بن الحارث بن أسد بن اللَّيث ابن سُليمان بن الأسود بن سفيان بن يزيد بن أكينة بن عبد الله التميمي الحَنْبَلِيّ، فعد من جملة ما رواه روايته عن تسعة، كل منهم روى عن أبيه، فقد روى الخطيب، قال: حدثنا عبد الوهاب من لفظه: سمعت أبا الحسن عبد العزيز يقول: سمعت أبي أبا بكر، يقول: سمعت أبي الأسود يقول: سمعت أبي سفيان، يقول سمعت أبي يزيد، يقول: سمعت أبي أكينة، يقول: سمعت علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وقد سئل عن الحَنّان المنان، فقال: الحنان هو الذي يُقبِلُ على من أعرض عنه، والمنان الذي يبدأ بالنَّوال قبل السؤال، قال العراقي: اقتصر ابن الصلاح على هذا العدد، وقد ورد فوقه إلى اثني عشر وأربعة عشر، فمثال الأول ما رواه رزق الله بن عبد الوهاب التَّميميّ، عن أبيه عبد العزيز بسنده السابق إلى أكينة، عن أبيه الهيثم، عن أبيه عبد الله، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما اجْتَمَعَ قومٌ على ذِكرٍ إلا حَفَّتهُم الملائِكةُ وغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ". ومثال الثاني ما رواه الحسن بن علي بن أبي طالب ببَلْخ، عن أبيه علي، عن أبيه أبي طالب، عن أبيه الحسن، عن أبيه عبيد الله، عن أبيه محمَّد، عن أبيه عبيد الله، عن أبيه علي، عن أبيه الحسن، عن أبيه الحسين، عن أبيه جعفر، عن أبيه عبد الله، عن أبيه الحسن، عن أبيه علي، عن أبيه الحسين، عن أبيه علي بن

أبي طالب، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليْس الخَبر كالمعاينة" وقد يلتحق برواية الرجل عن أبيه عن جده رواية المرأة عن أمها عن جدتها، ومنها ما رواه أبو داود، عن بُنْدار، عن عبد الحميد، عن عبد الواحد، عن أم جَنوب، عن بنت تميلة، عن أمها سُويدة بنت جابر، عن أمها عَقيلة بنت أسمر بن مُضرس، عن أبيها أسمر قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فبايعته، فقال: "مَن سَبَقَ إلى ماء لم يَسْبِق إليه مسلمٌ فَهْو له". وأشار العراقي إلى هذا البحث بقوله: وصَنَّفوا فيما عن ابن أخذا ... أَبٌ كَعباس عن الفضلِ كذَا وائلٌ عَن بَكر ابنِه والتَّيميّ ... عن ابنه مُعْتَمرٍ في قَوْمِ أَما أَبو بَكرٍ عن الحَمْراءِ ... عائِشةٍ في الحَبَّةِ السَّوداءِ فإنه لابن أبي عَتيقِ ... وغُلِّطَ الواصفُ بالصديق وعكسه صَنَّف فيه الوائِلي ... وهو مَعالٍ للحفيدِ النّاقلِ ومن أَهمِّه إذا ما أُبهما ... الأبُ أَوْ جَدٌّ وذاكَ قُسِّما قسمَيْنِ عن أَبٍ فقط نَحْو أبي ... العُشرَا عن أَبه عن النبي واسمهما على الشهيرِ فاعْلمِ ... أُسامةُ بن مالكِ بن قِهْطِمِ والثاني أَنْ يَزيد فيه بعدهُ ... كبَهْزٍ أو عَمرٍو أبًا أو جَدهُ والأَكثرُ احتجوا بِعَمْرٍو حَملا ... لهُ على الجَدِّ الكبير الأَعلى وسَلْسَل الآبا التَميميُّ فَعَدّ ... عن تِسْعةٍ قُلْتُ وفوق ذا وردْ ومن لطائفه: أن هذا الحديث يحتمل أن تكون عائشة حضرته، فيكون من مسندها، وأن يكون الحارث أخبرها به، فيكون من مراسيل الصحابة، وهي في حكم الموصول، قال ابن الصلاح: ما رواه ابن عباس، رضي الله عنهما، وغيره من أحداث الصحابة، مما لم يحضروه، أو لم يدركوه في حكم الموصول المسند, لأن روايتهم إما عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو عن الصحابة في الغالب، وجهالة الصحابي غير قادحة, لأن الصحابة كلهم عدول، فيُحْتَجُ به عند الجمهور خلافًا لأبي إسحاق الإِسْفَرايِينيّ القائل: لا يُحْتَجُّ به إلا أن يقول: إنه لا يروي إلا عن

صحابي، والصواب الأول, لأنه مذهب الشافعي والجمهور، وقلنا: في الغالب, لأن بعض الصحابة قد يروي عن بعض التابعين، كرواية العبادلة عن كعب الأحبار، وإذا قلنا: إن الغالب رواية الصحابي عن الصحابي؛ فإنما سمي ما رواه الصحابي على الوجه المذكور مرسلًا بناء على القول: بأن المرسل ما سقط منه راوٍ فأكثر من أي موضع كان، وإن اعتبرت النادر، كان تسميته مرسلًا جارية على الاصطلاح المشهور، لأن رافِعَهُ حينئذ تابعي، ولما ذكر مرسل الصحابي وجب التعرض للمرسل، وتبيين حقيقته، فأقول: المرسل بصيغة اسم المفعول، ويجمع على مراسيل، مأخوذ من الإرسال، وهو الإِطلاق كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ} [مريم: 83] فكأن المرسل أطلق الإِسناد، ولم يقيده بجميع رواته، وهو في اصطلاح الأصوليين قول غير الصحابي تابعيًا أو من بعده، قال - صلى الله عليه وسلم - كذا أو فعله، مُسْقِطًا الواسطة بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما في اصطلاح المحدثين: هو ما رفعه التابعي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - صريحًا كان أو كناية على المشهور، وقيده ابن عُمر بما لم يسمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - ليخرج من لقيه كافرًا فسمع منه، ثم أسلم بعد موته - صلى الله عليه وسلم -، وحدث بما سمعه منه كالتَّنُوخِيّ، رسول هِرقل، فإنه، مع كونه تابعيًّا، محكوم لما سمعه بالاتصال لا بالإِرسال، وخرج مرسل الصحابي، وقد مر ما فيه، وقيل: المرسل ما رفعه التابعي الكبير، فما رفعه الصغير يسمى منقطعًا لا مرسلًا، والكبير هو ما كان أكثر رواياته عن الصحابة، والصغير أكثر رواياته عن التابعين، وقيل: ما سقط من سنده راوٍ واحد كان أو أكثر، من أوله أو آخره أو بينهما، فيشمل المنقطع والمُعْضَل، والمُعَلَّق، ولذا قال النووي: المرسل عند الفقهاء والأصوليين، والخطيب، وجماعة من المحدثين ما انقطع إسناده على أي وجه كان، ففيه ثلاثة أقوال؛ أضيقها الثاني، وأوسعها الثالث، والأول هو المشهور في استعمال أهل الحديث.

واحتج به مالك، وأبو حنيفة، ومن تبعهم، ورده جماهير النقاد من المحدثين، وحكموا بضعفه للجهل بالساقط في الإِسناد، فإنه يُحتمل أن يكون تابعيًّا، ثم يحتمل أن يكون ذلك التابعي ضعيفًا، وهكذا إلى الصحابي، وإن اتفق أن الذي أرسله كان لا يروي إلا عن ثقة، إذ التوثيق في المبهم غير كاف. ونقل ابن عبد البر، ومسلم في "مقدمته" رد الاحتجاج به، لكن عند بعض المحدثين، وخصوصًا الشافعي، إذا صح اتصال المرسل بمسند غيره، يجيء من وجه آخر، صحيح، أو حسن، أو ضعيف، يعتضد به، أو عضده مرسل، أخرجه من ليس يروي عن رجال المسند الأول قُبِلَ، ولم يفصل ابن الصلاح في المرسل المعتضد بين كبار التابعين وصغارهم، وقيد الإِمام الشافعي المعتضد بكونه من كبار التابعين، وبكونه لا يروي إلا عن الثقات أبدًا، بحيث إذا سمَّى من أبْهمَ لم يُسمِّ مجهولًا, ولا مرغوبًا عن روايته، ولا يكفي قوله: لم آخذ إلا عن الثقات، ولا فرق في ذلك عنده بين مرسل سعيد بن المُسَيِّب وغيره، وقيده أيضًا بكون من أرسله إذا شارك أهل الحفظ، يُوافقهم إلا في نقص لفظ من ألفاظهم لا يختل به المعنى، ولا ينحصر اعتضاده بما ذكر، بل يعتضِدُ بغيره، كقياس، وفعل صحابي، وعمل أهل العصر، ولا يُحْتَّجُّ بما لم يَعْتَضِد، لكن قال السبكي: إن دل على محظور ولم يُوجد غيره، فالأظهر وجوب الانكفاف احتياطًا. فإن قيل: إذا اعتضد المرسل بمسند كان الاعتماد في الاحتجاج عليه لا على المرسل، فالجواب أنهما دليلان، فالمسند دليل برأسه، يحتج به منفردًا، والمرسل بالمسند يعتضد، ويصير دليلًا آخر، فيرجح بهما عند معارضة حديثٍ واحد، وخَصَّ الرّازيّ الكلام بمسند لا يحتَجُّ به منفردًا، وعليه فيكون اعتضاده به كاعتضاده بمرسل آخر، فيكون كل منهما معتضدًا بالآخر، وحجة به، وإذا وجد في السند عن رجل، أو

شيخ، أو نحوه، مما هو مبهم، سمي عند جماعة من المحدثين منقطعًا، وفي "البرهان" لإِمام الحرمين تسميته مرسلًا. قال العراقي: وكل من هذين القولين خلاف ما عليه الأكثر فإن الأكثر على أن هذا متصل في إسناده مبهم، لكنه مقيد بما إذا لم يسم المبهم في رواية أخرى، وإلا فلا يكون مجهولًا، ومقيد أيضًا بما صرح من أبهم بالتحديث ونحوه، وإلا فلا يكون حديثه متصلًا، لاحتمال أن يكون مرسلًا، وهذا كله إذا كان الراوي عنه غير تابعي، أو تابعيًّا , ولم يصفه بالصحبة، وإلا فالحديث صحيح, لأن الصحابة كلهم عدول، ووقع في كلام البيهقي تسميته أيضًا مرسلًا، ومراده مجرد التسمية، وإلا فهو حجة، كما صرح به في موضع كالبخاري، لكن قيده أبو بكر الصَّيْرَفيّ من الشافعية، بأن يصرح التابعي بالتحديث ونحوه، فإن عَنْعَنَ فمرسل، لاحتمال أنه روى عن تابعي، واستحسن العراقي كلامه، وكلام من أطلق محمول عليه، وتوقف فيه ابن حَجَر قائلًا: إن التابعي إذا كان سالمًا من التدليس تحمل عنعنته على السماع. وأشار العراقي إلى المرسل بقوله: مرفوعُ تابعٍ على المَشهورِ ... مُرْسلٌ أو قَيِّدْهُ بالكبيرِ أو سقطُ راوٍ منهُ ذو أقوال ... والأولُ الأكثرُ في استعمالِ واحتجَّ مالكٌ كذا النُّعمان ... وتابعوهُما بهِ ودَانُوا ورَدَّهُ جَمَاهِرُ النُّقّادِ ... للجَهْلِ بالسّاقِط في الإِسنادِ وصاحبُ التَّمهيدِ عنهم نَقَلَه ... ومسلمٌ صَدْرَ الكتاب أصَّلهْ لكنْ إِذا صحَّ لنا مَخرجُهُ ... بمُسنَدٍ أو مُرسلٍ يُخَرجُهُ مَنْ ليسَ يروي عن رجالِ الأوَّلِ ... نقبلْهُ قلتُ الشيخُ لم يفصِّل والشافعيُّ بالكبارِ قيَّدا ... ومَنْ روى عن الثقاتِ أبدا ومَن إذا شاركَ أهلَ الحفظِ ... وافقهمْ إلا بنَقصِ لفظِ فإن يُقَلْ فالمُسندُ المُعْتمدُ ... فقُلْ دليلانِ به يَعتضدُ

الحديث الثالث

ورَسَموا مُنقطعًا عن رجلِ ... وفي الأُصولِ نَعْتُهُ بالمرسلِ أما الذي أَرسلهُ الصحابي ... فحُكمهُ الوَصْلُ على الصوابِ وقال في "طلعة الأَنوار": ومُرْسلُ الأصحابِ قُلْ مُتصِلُ ... إذ غالبًا من الصَّحابي يحصلُ وهذا الحديث أخرجه البخاري هنا، وفي بدء الخلق عن فَرْوة، ومسلم في الفضائل عن أبي بكر بن أبي شَيْبة: الحديث الثالث 3 - باب *: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ -أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ- أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِى النَّوْمِ، فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلاَّ جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاَءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ، فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ -وَهُوَ التَّعَبُّدُ- اللَّيَالِىَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ، فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِى غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ، فَقَالَ: اقْرَأْ، قَلتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، قَالَ: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} [العلق: 1 - 3]. فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ، فَقَالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ: لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي، فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلاَّ وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ. فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى -ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ- وَكَانَ امْرَأً قد تَنَصَّرَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ،

وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا ابْنَ عَمِّ! اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي! مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَبَرَ مَا رَأَى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلاَّ عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا، ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ وَفَتَرَ الْوَحْيُ. [الحديث 3 - أطرافه في: 3392، 4953، 4955، 4956، 4957، 6982] قولها: "أولُ ما بُدِىء" -بضم الموحدة وكسر الدال- وهذا الحديث يحتمل أن يكون من مراسيل الصحابة، فإن عائشة لم تدرك هذه القصة، لكن الظاهر أنها سمعت ذلك منه - صلى الله عليه وسلم - لقولها: "قال: فأَخَذَني، فغَطَّني" فيكون قولها: "أولُ ما بُدِىءَ به" حكايته ما تلفظ به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحينئذ لا يكون من المراسيل. وقولها: "من الوَحْي" يحتمل أن تكون تَبْعيْضيَّةً، أي من أقسام الوحي، وأن تكون لبيان الجنس، والرؤيا الصالحة هي التي ليس فيها ضِغْثٌ، ووقع في التفسير "الصادقة". وقوله: "في النوم" لزيادة الإِيضاح، لأن الرؤيا خاصة بالنوم، أو ليخرج رؤيا العين في اليقظة، لجواز إطلاقها عليها مجازًا، قلت: وقد قيل: إن الرؤيا حقيقة في رؤية العين أيضًا، وعليه تكون في النوم للتقييد لا للإِيضاح، لقول الشاعر يصف صيادًا: وكَبَّرَ للرُّؤيا وهَشَّ فُؤادُهُ ... وبَشَّرَ قَلْبًا كانَ جَمًّا بَلابِلُهْ وقوله: "مثل فَلَقِ الصُّبح" بنصب مثل، على الحال، أي مشبهة ضياء الصبح، أو صفة لمصدر محذوف، أي جاءت مجيئًا مثل فلق

الصبح، والمراد بفلق الصبح ضياؤه، وخُصَّ بالتشبيه لظهوره الواضح الذي لا شك فيه، وقيل: عبر به لأن شمس النبوة قد كانت مبادئ أنوارها الرؤيا إلى أن ظهرت أشعتها، وتم نورها، وإنما بدىء بالرؤيا ليكون ذلك تمهيدًا وتوطئة لليَقَظَة، ثم مهد له في اليقظة أيضًا رؤية الضوء، وسماع الصوت، وسلام الحجر عليه، وذلك كله لئلا يَفْجَأَهُ الملك، ويأتيه بصريح النبوة بغتة، فلا تحتمل القوى البشرية ذلك، فبُدىءَ بأوائِل خِصال النبوة، وكانت مدة الرؤيا ستة أشهر، فيما حكاه البَيْهَقِيّ، وحينئذ يكون ابتداء النبوة بالرؤيا حَصَلَ في شهر ربيع، شهر مولده، عليه الصلاة والسلام، واختلف هل أُوحي إليه من القرآن في النوم أم لا؟ والأشبه أن القرآن كله في اليَقَظَة. وقوله: "ثم حُبِّبَ إليه الخلاءُ" بالبناء، لم يُسمَّ فاعِلهُ، لعدم تحقق الباعث على ذلك، وإن كان كل من عند الله، أو لينبه على أنه لم يكن من باعث البشر. والخلاء بالمد الخلوة؛ وإنما حببت إليه الخلوة, لأن معها فراغ القلب، والانقطاع عن الخَلْق ليجدَ الوحي منه متمكنًا كما قيل: فصَادَفَ قَلبًا خالِيًا فتَمَكَّنا وخلوته، عليه الصلاة والسلام، إنما كانت لأجل التقرب، لا على أن النبوة مكتسبة. وقوله: "وكانَ يَخْلو بغارِ حِراء" -بكسر الحاء المهملة، وتخفيف الراء والمد، وبفتح الحاء، ويقصر- وهو مصروف إن أُريد المكان، وممنوع إن أُريد البقعة، فهي أربعة، التذكير، والتأنيث، والمد، والقصر، وكذا حكم قُباء، وقد نظم بعضهم أحكامهما، فقال: حِرا وقُبا ذَكِّر وأَنِّثْهُما مَعًا ... ومُدَّ واقْصُر واصْرِفَنْ وامْنَعِ الصَّرفا وهو جبل بينه وبين مكة نحو ثلاثة أميال، على يسار الذاهب إلى مِنى، والغار نقب فيه، وإنما خصه بالتعبد فيه دون غيره لمزيد

فضله على غيره, لأنه مُنْزَوٍ مجموع لتحنثه، وينظر منه الكعبة المعظمة, ونظرها عبادة، فكان له، عليه الصلاة والسلام، فيه ثلاث عبادات؛ الخلوة والتَّحَنُّث، والنظر إلى الكعبة، وقيل: إنه هو الذي نادى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حين قال له ثَبِير: اهبط عني، فإني أخاف أن تقتل على ظهري، فاعذرني يا رسول الله. وقوله: "فيَتَحَنَّث فيه" بالحاء المهملة وآخره مثلثة. وهو من الأفعال التي معناها السلب، أي اجتناب فاعلها لمصدرها، أي يتجنب الحِنْث، أي الإِثم، مثل تأثم وتَحَوَّب، إذا اجتنب الإِثم والحُوب، أو هي بمعنى يَتَحَنَّف -بالفاء- أي يتبع الحنفية، دين إبراهيم، والفاء قد تبدل تاء. وقوله: "وهو التَّعَبُّدُ" الضمير راجع إلى مصدر يَتَحَنَّثُ، أي والتحنث التعبد على حد قوله تعالى: {عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] أي العدل، وهذا التفسير للزُّهري مُدرج في الحديث. وقوله: "الليالي ذوات العدد" الليالي متعلق، بـ "يتحنث" منصوب على الظرفية، وذوات منصوب بالكسرة، صفة لليالي، والمراد الليالي مع أيامهن، واقتُصر عليهن للتغليب, لأنهن أنسب للخَلوة، ووصف الليالي بذوات العدد لإِرادة التقليل، كقوله تعالى: {دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20] أو للكثرة لاحتياجها إلى العدد، وهو المناسب للمقام، وأبهم العدد لاختلافه بالنسبة إلى المدد التي يتخللها مجيئه إلى أهله، وأقل الخلوة ثلاثة أيام، ثم سبعة، ثم شهر، لما عند المؤلف، ومسلم: "جاوَرْتُ بِحِراء شَهْرًا"، وعند ابن إِسحاق: "أَنّهُ شَهرُ رَمَضان" ولم يصِحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - أكثر منه، وقوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} [الأعراف: 142] حجة للشهر، والزيادة إنما كانت إتماما للشهر، حيث استاك، أو أكل فيه، كسجود السهو، فقوي تقييدها بالشهر، وأنها سنة، ولم يأت التصريح بصفة تعبده، عليه الصلاة والسلام، فيحتمل أن عائشة أطلقت على الخلوة بمجردها تعبدًا، فإن

الاعتزال عن الناس، ولا سيما من كان على باطل من جملة العبادة، وقيل: كان يتعبد بالتفكر. ودل الحديث على أن خلوته حكم مرتب على الوحي, لأن كلمة "ثم" للترتيب، فالخلوة مرتبة على الرؤيا الصالحة، التي هي من الوحي، وأيضًا لو لم تكن من الدين، لَنُهي عنها، بل هي ذريعة لمجيء الحق، وظهوره مباركًا عليه، وعلى أمته، تأسيسًا وسلامة من المناكير وضررها؛ وللخَلوة شروط مذكورة في كتب القوم، واختلف هل كان - صلى الله عليه وسلم -، قبل البعث متعبدًا على شريعة أحد أم لا؟ والثاني هو قول الجمهور، وعلى الأول اختلف فيه على ثمانية أقوال، قيل: آدم، وقيل: نوح، وقيل: إبراهيم، وقيل: موسى، وقيل: عيسى، وقيل: بشريعة من قبله من غير تعيين، وقيل جميع الشرائع شَرْعٌ له، وهذا عندي قريب من الذي قبله، ثامنها: الوقف. وقوله: "قبل أن يَنْزِعَ إلى أهله" نَزَعَ كرَجَع زنةً ومعنىً. وقوله: "ويَتَزَوَّد لذلك" بالرفع عطفًا على يتحنث، والتزود استصحاب الزاد. وقوله: "ثم يرجِعُ إلى خديجة فيَتَزَوَّد لمثلها" وتخصيص خديجة بالذكر بعد أن عبر بالأهل يحتمل أنه تفسير بعد الإِبهام، أو إشارة إلى اختصاص التزود بكونه من عندها دون غيرها. وفيه أن الانقطاع الدائم عن الأهل ليس من السنة، لأنه عليه الصلاة والسلام لم ينقطع في الغار بالكلية، بل كان يرجع إلى أهله لضروراتهم، ثم يَخْرُجُ لِتَحَنُّثِهِ. وخديجة يأتي تعريفها. وقوله: "حتى جاءه الحق وهُو في غار حراء" والحق المراد به الوحي. وقوله: "فجاءه المَلك" الفاء تفسيرية كهي في قوله تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] لأن مجيء الملك تفصيل

للمجمل الذي هو مجيء الحق، والملك هو جبريل، فقد جاءه يوم الاثنين، لسبع عشرة خلت من رمضان، والنبي ابن أربعين سنة، قاله ابن سعد. وقوله: "فقال: اقرأ" يحتمل أن يكون هذا الأمر لمجرد التنبيه والتَّيَقُّظ، لما سيُلقى إليه، وأن يكون على بابه من الطلب، فيُسْتَدلُّ به على تكليف ما لا يُطاق في الحال، وإن قدر عليه بعد. وقوله: "قال: ما أنا بقارىء" أي ثلاثًا، و"ما" نافية، واسمها "أنا"، وخبرها "بقارىء"، والباء زائدة لتأكيد النفي، أي ما أحسن القراءة، وضعف كونها استفهامية بدخول الباء في خبرها، وهي لا تدخل على ما الاستفهامية، وقيل: إنها استفهامية بدليل رواية أبي الأسود في "مغازيه" عن عُروة أنه قال: كيف أقرأ؟ ورواية عُبيد بن عُمر: ماذا أقرأ؟ ودخول الباء على الخبر المثبت جائز عند الأخْفَش. وقوله: "فأخَذَني فغَطَّني حتى بَلَغَ مني الجَهْد" غطني بغين معجمة وطاء، وفي رواية الطَّبري، بتاء مثناة من فوق، يعني: ضَمَّني، وعَصَرني، والغَطُّ: حبس النفس، ومنه غَطَّهُ في الماء، أو أراد غمني، ومنه الخنق. والجَهْد روي بالنصب وفتح الجيم، أي بلغ الغط مني غاية وسعي، ففاعل بلغ على هذا ضمير الغط المفهوم من الفعل السابق؛ وروي بالرفع وضم الجيم، أي بلغ مني الجهد مبلغه، ورجع بعضهم على رواية النصب ضمير فاعل "بلغ" على جبريل، فيكون جبريل بلغ غاية وسعه، وأُورِدَ على هذا أن البنية البشرية لا تتحمل استنفاذ القوة الملكية، وأُجيب بأن جبريل في حالة الغط لم يكن على صورته الحقيقية، فيكون استفراغ جهده بحسب الصورة التي تجلى بها في حالة الغط، وحينئذ يضمحل الإِيراد. وقوله: "فأَرْسَلَني" أي: أطلقني، وهذا الغط ليفرغه عن النظر إلى أمور الدنيا، ويقبل بكليته إلى ما يلقى إليه، وكرره للمبالغة، واستدل به

على أن المُؤدِّبَ لا يضرِب صبيًّا أكثر من ثلاث ضَرَبات، وقيل: الغطة الأولى ليتخلى عن الدنيا، والثانية ليتفرغ لما يوحى إليه، والثالثة للمؤانسة، ولم يذكر هنا في الثالثة الجهد، وذكره في التفسير، وعد بعضهم هذا من خصائصه، عليه الصلاة والسلام، إذ لم يُنْقَل عن أحد من الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، أنه جرى له عند ابتداء الوحي إليه مثله. وقوله: فقال {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} هذا أمر بإيجاد القراءة مطلقًا، وهو لا يختص بمقروء عن مقروء، وقوله: {بِاسْمِ رَبِّكَ} حال أي اقرأ مفتتحًا باسم ربك، وهو عند القَسْطَلاني: فيه دليل على أن البسملة مأمور بها في ابتداء كل قراءة، وما قاله غير ظاهر، فإن البسملة لا ذكر لها، والمذكور اسم ربك، وهو يصدق بذكر أي اسم من أسمائه تعالى، كبسم الله، أو الرحمن، أو غير ذلك. وقوله: {رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} وصف مناسب مشعر بعلية الحكم بالقراءة والإِطلاق في قوله: {خَلَقَ} أولًا على منوال يعطي ويمنع، وجعله توطئة لقوله: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} أي الزائد في الكرم على كل كريم. وفيه دليل للجمهور على أنه أول ما نزل. وروى أبو عمرو الدّاني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أول شيء نزل من القرآن خمس آيات إلى {مَا لَمْ يَعْلَمْ} وقال: {مِنْ عَلَقٍ}، فجمع ولم يقل من علقة، لأن الإِنسان في معنى الجمع، وخُصَّ الإِنسان بالذكر من بين ما يتناوله الخلق لشرفه، وقال السُّهَيلي: لما قال: ما أنا بقارىء ثلاثًا، قيل له: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} أي: لا تقرأه بقوتك، ولا بمعرفتك، لكن بحَوْل ربك وإعانته، فهو يعلمك كما خلقك، وكما نَزَع عنك علق الدم، ومضمر الشيطان في الصغر، وعلم أمتك حتى صارت نكتب بالقلم بعد أن كانت أمية. وقوله:"فرجَعَ بها" أي: بالآيات أو بالقصة.

وقوله: "يرجُفُ فؤادهُ" بضم جيم "يرجفُ"، أي يخفِق ويَضْطَرِبُ، والفؤاد القلب، أو باطنه أو غشاؤه، لما فَجَأَهُ من الأمر المخالف للعادة، والمألوف، فنفر طبعه البشري، وهاله ذلك، ولم يتمكن من التأمل في تلك الحالة؛ لأن النبوة لا تزيل طباع البشرية كلها. وقوله: "زَمِّلوني، زَمِّلوني" بكسر الميم مع التكرار مرتين من التزميل، وهو التلفيف، وقال ذلك لشدة ما لحقه من هول الأمر، والعادة جارية بسكون الرِّعدة بالتلفف. وقوله: "فزَمَّلوهُ حتى ذَهَبَ عنه الرَّوع" بفتح ميم زملوه، والروع -بفتح الراء- الفزع. وقوله: "لقد خشيت على نفسي" وهذه الخشية اختلف العلماء فيها، فقيل: خشي الموت من شدة الرعب، أو المرض، أو أنه لا يطيق حمل أعباء الوحي لما لقيه أولًا عند لقاء الملك، وليس معناه الشك في أن ما أتى من الله، أو العجز عن النظر إلى الملك من الرعب، أو عدم الصبر على أذى قومه، أو تكذيبهم إياه، أو أن يقتلوه، أو تعييرهم إياه، أو مفارقة الوطن، وأُكِّدَ باللام وقد، تنبيهًا على تمكن الخشية من قلبه المقدس، وخوفه على نفسه الشريفة. وقوله: "كلّا واللهِ لا يُخْزيكَ الله أبدًا" كلا معناها النفي والإِبعاد، أي لا تقل ذلك، أو لا خوف عليك، ويُخْزيك -بضم أوله وسكون الخاء المعجمة، وزاي مكسورة بعدها مثناة تحتية- من الخِزْي، أي لا يفضحك الله، وروي بالحاء المهملة من الحزن، والزاي مضمومة من الثلاثي، أو بضم أوله من الرباعي، يقال: حُزْنُهُ وأحزانه، ثم استدلت على ما أقسمت عليه من نفي ذلك أبدًا بأمر استقرائي، فقالت: "إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ، وتَكْسِبُ المعدوم، وتَقْري الضيف، وتُعين على نوائب الحق". وإنك بكسر الهمزة، لوقوعها في الابتداء، لأنها جواب لسؤال مقدر، كأنها لما قالت ما قالت: قيل لها: وما السبب

فيما أقسمت عليه؟ قالت: إنك ... الخ. والرَّحِمْ: القرابة من قبل الأب والأم، والكَلُّ -بفتح الكاف، وتشديد اللام- هو الذي لا يستقل بأمره، قال الله تعالى: {وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ} [النحل: 76]. وتَكسِبُ المعدوم -بفتح أوله- أي تُعطي غيرك المعدومَ الذي لا يجده عندك، بحذف أحد المفعولين، يقول: كسبت الرجل مالًا وأكسبته بمعنى، وروي بضم أوله من الرباعي، وأُورِدَ على هذه أن الذي يكسب هو المعدم لا المعدوم فإنه لا يكسب، وأجيب بأن المعدم يطلق عليه معدوم، يقال رجل عديم لا عقل له، ورجل معدوم لا مال له، كأنهم نزلوا وجود من لا مال له منزلة العدم، وقيا: معناه تكسب المال المعدوم، وتُصيب منه ما لا يُصيب غيرك، وكانت العرب تتمادَحُ بكَسْبِ المال ولا سيما قريشٍ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة محظوظًا في التجارة، ولا بدَّ في هذا المعنى من أن يَنْضَمَّ إليه ما يليقُ به من كونه كان مع إفادته للمال ينفِقُهُ في الوجوه التي ذكرت من المكارم، وقد قال أعرابي يمدَحُ إنسانًا: كان أَكسَبَهُم لمعدومٍ وأعطاهم لمحرومٍ. وتَقْري الضَّيْف -بفتح أوله بلا هَمْز من الثلاثي، وسمع ضمه من الرباعي- أي تُهيِّئ له طعامه ونزله. ونوائب الحق: حوادثه، وهذه الكلمة جامعة لأفراد ما تقدم، ولما لم يتقدم، وإنما قالت: نوائب الحق، لأنها تكون في الحق والباطل قال لبيد: نوائِبُ مِنْ خَيرٍ وشَرٍ كِلاهُما ... فلا الخَير مَمدودٌ ولا الشَّرُّ لازِبُ وفي بعض الروايات "وتَصْدُقُ الحديث" وهي من أشرف الخصال، وفي بعضها "وتُؤدي الأمانة" وفيما وصفته به، عليه الصلاة والسلام، جميع أصول مكارم الأخلاق، لأن الإِحسان إما إلى الأقارب أو الأجانب، وإما بالبدن أو بالمال، وإما على من لا يستَقِلُّ بأمره، أو من يستَقِلُّ، وذلك كله مجموع فيما وصفته به، وإنما أجابته بكلام فيه قسم وتأكيد، بـ "أن" و"اللام" لتزيل حيرته ودهشته، وفيما قالت دليل على أن من طُبِعَ على أفعال الخير لا يُصيبه ضَيْر. وفي القصة استحباب تأنيس من

نزل به أمر بذكر تيسيره عليه، وتهوينه لديه، وأن من نزل به أمر استحب له أن يُطْلِعَ عليه من يَثِقُ بنصحهِ، وصحة رأيه. وقوله: "فانطلقت به خَديجة حتى أتت به ورقةَ بن نَوْفَلٍ ... الخ" انطلقت به أي مضت معه، فالباء للمصاحبة، لأنها تكون مع الفعل اللازم المعدى بالباء، بخلاف المعدى بالهمزة كأذهبته، وورقة بفتح الراء. وقوله: "ابن عم خديجة" بنصب ابن، ويكتب بالألف وهو بدل من ورقة، أو صفة أو بيان، ولا يجوز جره، لأنه يصير صفة لعبدِ العُزّى، وليس كذلك، ولا كَتْبُهُ بغير ألف, لأنه لم يقع بين علمين. وقوله: "وكان امرأً قد تَنَصَّر في الجاهلية" وفي بعض الروايات إسقاط "قد"، أي صار نصرانيًا، وكان قد خرج هو وزيد بن عمرو بن نُفيل لما كرها عبادة الأوثان إلى الشام وغيرها، يسألون عن الدين؛ فأما ورقة فأعجبه دين النصرانية فتنصر، كان لقي من بقي من الرهبان على دين عيسى ابن مَرْيم، لم يُبَدَّل، ولذلك أخبر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والبشارة به إلى غير ذلك مما أفسده أهل التبديل، وسيأتي تعريفه قريبا. وأما زيد بن عَمرو فسيأتي خبره في المناقب، ويأتي تعريفه هناك. والجاهلية هي ما قبل الإِسلام من أمور الكفر. وقوله: "فكان يكتب بالكتابِ العبرانيِّ" -أي الكتابة العبرانية- "فيكتُبُ من الإِنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب" أي: يكتبه بحذف العائد. وفي رواية يُونُس ومَعْمر: "ويكتُبُ من الإِنجيل بالعربية" ولمسلم: "فكان يكتُبُ الكتاب العربيَّ" والجميع صحيح, لأن ورقة تعلم اللسان العبراني، والكتابة العبرانية، فكان يكتب بالعبرانية، كما كان يكتب بالعربية، لتمكنه من الكتابتين واللسانين، وإنما وصفته بكتابة الإنجيل دون حفظه، لأن حفظ التوراة والإِنجيل لم يكن متيسرًا كتيسر حفظ القرآن الذي خُصَّت به هذه الأمة، ولهذا جاء في صفتها: "أناجيلُها

صدورُها". والعِبْرانية بكسر العين نسبة إلى العِبْر -بكسر العين، وسكون الموحدة- وزيدت الألف والنون في النسبة على غير قياس، قيل: سُميت بذلك لأن الخليل، عليه الصلاة والسلام، تكلم بها لما عبر الفرات فارًّا من نمروذ، وقيل: إن التوراة عبرانية، والإِنجيل سرياني. وعن سُفيان: ما نزل من السماء وحيٌ إلا بالعربية، وكانت الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، تترجمه لقومها. وقوله: "يا ابنَ عَمِّ" هذا النداء على حقيقته، ووقع في مُسلم: "يا عَمّ" وهو وهم، لأنه وإن كان صحيحًا لجواز إرادة التوقير، لكن القصة لم تتعدد، ومخرجها متحد، فلا يُحمل على أنها قالت ذلك مرتين، فيتعين الحمل على الحقيقة. وإنما جوز ذلك فيما مضى من العبراني والعربي, لأنه من كلام الراوي في وصف ورقة، واختلفت المخارج، فأمكن التعداد. وقولها: "من ابنِ اخيكَ" تعني به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلك لأن الأب الثالث لورقة هو الأخ للأب الرابع للنبي - صلى الله عليه وسلم -، أي فيكون أبوه عبد الله وورقة في عدد النسب إلى قُصَيّ بن كِلاب الذي يجتمعان فيه سواء، فكان من هذه الحيثية في درجة أخوته، أو قالته على سبيل التوقير لسنه. وفي الحديث إرشاد إلى أن صاحب الحاجة يقدم بين يديه مَنْ يعرف قدره، ممن يكون أقرب منه للمسؤول، وذلك مستفاد من قول خديجة: "اسمع من ابن أخيك" أرادت بذلك أن يتأهب لكلامه، عليه الصلاة والسلام، وذلك أبلغ في التعليم. وقوله: "يا ابن أخي: ماذا ترى؟ " فيه حذف تقديره فأتت به ورقةَ ابن عمها، فأخبرته بالذي رأى، فقال: يا ابن أخي .. الخ. ذكره أبو نعيم في "دلائل النبوة". وقوله: "هذا الناموس الذي نزل على موسى" هذا إشارة إلى الملك المذكور في خبره، عليه الصلاة والسلام، ونَزَّلَهُ منزلة القريب بقرب

ذكره، والمراد به جبريل، وكانوا يسمونه الناموس الأكبر، والناموس صاحب السر مطلقًا، كما جزم به المؤلف في أحاديث الأنبياء، وقيل: هو صاحب سر الخير، والجاسوس صاحب سر الشر، والأول هو الصحيح "ونَزَّلَ" بتشديد الزاي، وهو يستعمل فيما نُزِّلَ نجومًا. وفي رواية الكُشْمِيْهَنيّ: "أنزل الله"، وهو يستعمل فيما نُزِّلَ جملةً. وفي التفسير: أنزل بالبناء للمفعول، فإن قلت: لم قال: على موسى؟ ولم يقل: على عيسى؟ مع أنه كان نصرانيًا؟ أجيب بأن كتاب موسى مشتمل على أكثر الأحكام، وكذلك القرآن بخلاف كتاب عيسى، فإنه أمثال ومواعظ، أو لأن موسى بُعث بالنقمة على فرعون ومن معه، بخلاف عيسى، وكذلك وقعت النقمة على يد النبي - صلى الله عليه وسلم - بفرعون هذه الأمة، أبي جَهل ومن معه ببدر، أو قاله تحقيقًا للرسالة، لأن نزول جبريل على موسى متفق عليه بين أهل الكتابين بخلاف عيسى، فإن كثيرًا من اليهود ينكرون نبوته. وقوله: "ياليتني فيها جَذعًا" ضمير "فيها" لمدة النبوة، أو الدعوة، وقيل: إن المنادى محذوف تقديره يا محمَّد، ليتني. وحيث يكون المنادى وحده ليس معه أحد ينادى، كقول مريم: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ} [مريم: 23] يقدر أنه جرد شخصًا لنفسه، وخاطبه و"جَذعًا" روي بالرفع على الأصل، وروي بالنصب فقيل: إنه على لغة من ينصب الجزأين بـ "ليت" وأخواتها كما قال الشاعر: إذا اسْوَدَّ جُنْحُ الليلِ فَلتَأْتِ ولتكن ... خُطاك خفافًا إِنَّ حراسَنا أُسْدًا أو منصوب بكان مقدرة، أو بفعل محذوف جعلت، أو على الحال. والجَذَع -بفتح الجيم والذال- الصغير من البهائم، واستعير للإِنسان، كأنه تمنى أن يكون عند ظهور الدعاء إلى الإِسلام شابًا حتى يقوى على المبالغة في نُصرته، وبهذا يتبين سر وصفه بأنه كان كبيرًا أعمى. وفي هذا دليل على جواز تمني المستحيل إذا كان في فعل الخير، لأن ورقة تمنى أن يعود شابًا، وهو محال عادة، والظاهر أن التمني ليس مقصودًا

على بابه، بل المراد من هذا التنبيه على صحة ما أخبره به، والتنويه بقوة تصديقه فيما يجيء به. وقوله: "إذْ يُخْرِجُكَ قومُكَ" فيه استعمال "إذ" في المستقبل كإذا، على حد قوله تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ} [مريم: 39] قاله ابن مالك وغيره، وتعقبه البُلْقِينيّ بأنهم منعوا وروده، يعني وروده ورودًا محمولًا على حقيقة الحال لا على تأويل الاستقبال، وأولوا ما ظاهره ذلك بأن فيه استعمال الصيغة الدالة على المضي لتحقق وقوعه، فأنزلوه منزلته، ويقوي ذلك هنا أن في رواية البُخاري: "حينَ يُخْرِجُكَ قومُكَ" والتحقيق أن في كل من الأمرين ارتكاب مجاز، والمجاز الأخير أولى لما ينبني عليه من إيقاع المستقبل في صورة المضي تحقيقًا، أو استحضارًا للصورة الآتية في هذه دون تلك. وقوله: "أو مُخْرجيَّ هُمْ؟! " -بفتح الواو وتشديد الياء وفتحها- جمع مخرج، فهم مبتدأ مؤخر، ومخرجي خبر مقدم، ولا يجوز العكس، لما فيه من الأخبار بالمعرفة عن النكرة، لأن إضافة مُخرجي غير مَحْضة، بل هي لفظية, لأن اسم الفاعل بمعنى الاستقبال. وأصل "مخرجي" مخرجوي، حذفت نون الجمع للإِضافة إلى ياء المتكلم، فاجتمعت الياء والواو، وسُبِقَ أحدهما بالسكون، فأبدلت الواو ياءً، وأُدغمت، لقول ابن مالك: إِنْ يَسكن السابقُ مِنْ واوٍ وَيا ... واتَّصلا ومن عَروضٍ عَريا فياءً الواوَ اقلبنَّ مدِغمًا والهمزة للاستفهام الإِنكاري، إنه استبعد إخراجه عن الوطن، لا سيما حرم الله وبلد أبيه إسماعيل من غير سبب يقتضي ذلك؛ فإنه عليه الصلاة والسلام، كان جامعًا لأنواع المحاسن المقتضية لإِكرامه، وإنزاله منهم محل الروح من الجسد، والجملة عطف على قول ورقة: "إذ يُخْرجُكَ قومُك" وعطف الإنشاء على الخبر جائز عند النحاة. وأهل البيان

يقدرون في مثل هذا التركيب جملة بين الهمزة والواو وهي المعطوف عليها، كما قدره الزَّمَخْشري هنا: أمعادِيَّ هم، ومخرجي هم؟ وعلى ما قالوه تكون الهمزة في محلها الأصلي، وعلى كلام النحاة تكون الهمزة مقدمة عن محلها بعد العاطف خُصَّتْ بهذا التقديم على العاطف مع أنه لا يتقدم عليه جزء مما عطف تنبيهًا على أصالتها في أدوات الاستفهام، وهو له الصدر. نحو {أَوَلَمْ يَسِيرُوا} [الروم: 9] {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا} [الأعراف: 185] {أَفَلَمْ يَسِيرُوا} [يوسف: 109] وقد جاء الاستفهام بغيرها متأخرًا عن العاطف في قوله تعالى {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [يونس: 34] {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} [التكوير: 26]. وقيل: جملة الاستفهام عطف على جملة التمني في قوله: "ليتني أكون حيًا إذ يخرجك قومك" فيكون المعطوف عليه أول الجملة لا آخرها، وهو من عطف الإِنشاء على الإِنشاء. وأما عطف جملة على جملة في كلام الغير فهو سائغ وارد في القرآن العظيم. قال الله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ ... -إلى قوله- قَالَ ومِنْ ذْرَيتي} [البقرة: 124]. وقوله: "لم يأتِ رجلٌ قَطُّ" فقط ظرف مستغرق للزمن الماضي، منقول من القَطِّ بمعنى القطع، فإذا قلت: ما رأيتهُ قطُّ فمعناه فيما انقطع من عمري، وبنيت على حركة لأن لها أصلًا في التمكن, لأن أصلها القط، وكانت ضمة، تشبيهًا لها بقبل لدلالتها على ما تقدم من الزمان مثله، والغالب أنها لا تأت إلا بعد النفي، وجاءت نادرًا بعد موجب في قول عمر: قَصَرْنا الصلاةَ معَ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أكثَرَ ما كُنّا قَطُّ. ومنه قول الزبَيْر: "وكان عبد الله أحسنُ رجلٍ رُئِي في قريشٍ قَطُّ". وفيها لغات: قط -بفتح القاف وتشديد الطاء مضمومة، وبفتحها وتشديد الطاء مكسورة، وبفتحها وسكون الطاء، وبفتحها وضم الطاء مخففًا، وبضمها وتشديد الطاء مضمومة- وجمعها ابن بون بقوله: وقد يُقالُ قَطُّ قُطُّ قَطِّ قَطْ قَطُ ... قَطُ وما تَثليثُ عَوْضٍ بالغَلَط وعَوْض بتثليث الضاد بعكس قط فهي لاستغراق الزمن المستقبل.

وقوله: "إلَّا عُودي" في رواية، في التفسير "إلا أوذي"، فذكر ورقة أن العلة في ذلك مجيئه لهم بالانتقال عن مألوفاتهم، ولأنه علم من الكتب أن لا يجيبونه لذلك، وأنه يلزمه حينئذٍ منابذتهم ومعاداتهم، فتنشأ العداوة من ثم. وفيه دليل على أن المجيب يقيم الدليل على ما يُجيب به إذا اقتضاه المقام. وقوله: "وإِنْ يُدرِكني يومُك" بجزم "يدركني" بـ "أنْ" الشرطية، وفي رواية زيادة: "حيًّا"، وفي رواية: "إن أدركتُ ذلك اليوم"، يعني يوم الإِخراج، ولما كان ورقة سابقًا، واليوم متأخرًا أسند الإِدراك إلى اليوم، لأن المتأخر هو الذي يدرك السابق. وقوله: "أَنْصركَ نصرًا مُؤزرًا" أي قويًا، مأخوذٌ من الأَزْر، وهو القوة، يحتمل أن يكون من الإِزار، إشارة بذلك إلى تشميره في ضرته، قال الأخطل: قومٌ إذا حارَبوا شَدَّوا مَآزِرَهُم ... دونَ النساءِ ولو باتت بأطهارِ وقوله: "ثم لم يَنْشَب ورقة أن تُوفّي، وفَتَرَ الوحي" أي لم يلبَث، فهو كلَبِثَ زنةً ومعنى. وأصل النُّشوب التعلق، أي لم يتعلق بشيء من الأمور حتى مات، وهذا يخالف ما في السيرة لابن اسحاق من أن ورقة كان يَمُرُّ ببلال يُعَذَّبُ، وهذا يقتضي أنه تأخر إلى زمن الدعوة؛ ويمكن الجمع بأن يقال: الواو في قوله: "وفتر الوحي" ليست للترتيب، فلعل الراوي لم يحفظ لورقة ذكرًا بعد ذلك في أمر من الأمور، فجعل هذه القصة انتهاء أمره بالنسبة إلى علمه، لا إلى ما هو الواقع، ويأتي في تعريفه قريبًا جميع ما قيل في شأنه. وفتور الوحي عبارة عن تأخره مدة من الزمان، وكان ذلك ليذهب ما كان - صلى الله عليه وسلم - وجده من الرَّوعْ، وليحصُلَ له التشوق إلى العود، فقد روى المؤلف في التعبير ما يدُلُّ على ذلك، وكانت مدة فترة الوحي ثلاث سنين على ما جَزَم به ابن إسحاق، ورواه أحمد في "تاريخه" عن الشَّعْبِيّ، وفي بعض الأحاديث أنها قدر سنتين ونصف،

وأما رجاله فستة

وليس المراد بفترة الوحي المدة المذكورة عدم مجيء جِبريل إليه، بل تأخر نزول القرآن فقط. وفي البخاري في التعبير زيادة "حتى حَزنَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حزنًا غدا منه مرارًا يَتَردّى من رؤوس شواهقِ الجبال" ولكن هذه الزيادات من بلاغات الزهري، فهي ضعيفة. وأما رجاله فستة، وفيه ذكر خديجة، وورقة. الأول: يَحيى بن عبد الله بن بُكَيْر القُرشيّ المَخْزوميّ مولاهم، أبو زكرياء المِصري، الحافظ، وقد ينسب إلى جده. قال أبو حاتم: يكتب حديثه، ولا يُحتجُّ به، وكان يفهم هذا الشأن. وقال النسائي: ضعيف، وقال في موضع آخر: ليس بثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وأصاب؛ فقد احتج به مسلم والبخاري، وكان غزير العلم عارفًا بالأثر من كبار حفاظ المصريين. قال ابن عَدِيّ: كان جار اللَّيث بن سعد، وهو أثبت الناس فيه، وعنده من الليث ما ليس عند أحد. وقال السّاجِيّ: صدوق، روى عن الليث فأكثر. وقال أبو داود: سمعت يحيى بن مَعين يقول: أبو صالح أكثر كتبًا، ويحيى بن بُكَيْر أحفظ منه. وقال ابن مَعين أيضًا: سمع يحيى بن بُكَير "الموطأ" بعرض حبيب، كاتب الليث، وكان شَرَّ عرض، كان يقرأ على مالك خطوط الناس، ويصحف ورقتين وثلاثة، وقال ابن مَعين أيضًا: سألني عنه أهل مصر، فقلت: ليس بشيء، وقال مَسْلَمة بن قاسم: تكلم فيه, لأن سماعه عن مالك إنما كان بعرض حبيبه، وقال الخَلِيليّ: كان ثقة، وتفرد عن مالك بأحاديث، وقال ابن قانِع: مصري، ثقة. روى عن مالك، والليث، وبكْر بن مُضَر، وحَمّاد بن زيد، وعبد الله بن سُوَيْد المِصْري، وحمزة بن ربيعة، ومُغيرة بن عبد الرحمن الحِزامي، وجماعة. روى البخاري عنه في مواضع، وروى عن محمَّد بن عبد الله الذي هو الذُّهلي عنه في مواضع، تارة يقول: حدثنا محمَّد ولا يزيد، وتارة

يقول: حدثنا محمَّد بن عبد الله يعني بن خالد بن فارس بن ذُؤيب الذُّهلي، وتارة ينسبه إلى جده، فيقول: حدثنا محمَّد بن خالد بن فارس. وروى ابن ماجة ومسلم له بواسطة محمَّد بن عبد الله الذُّهلي، وروى عن حَرملة ابن يحيى، وأبو زُرعة الرّازي، وأبو عبيد القاسم بن سلام، ومات قبله، وابنه عبد الملك، ويحيى ابن مَعين، ويونُس بن عبد الأعلى، وآخرون، ولم يُخَرِّج مسلم له عن مالك، ولعله لقول الباجِيّ: وقد تكلم أهل الحديث في سماعه "الموطأ" عن مالك، مع أن جماعة قالوا: آخر من روى "الموطأ" عن مالك. ولد سنة أربع وقيل: خمس وخمسين ومئة، ومات سنة إحدى وثلاثين ومئتين. الثاني: الليث بن سَعْد بن عبد الرحمن الفَهْمي -بفتح الفاء وسكون الهاء- أبو الحارث، الإِمام المصري. قال يَحْيى بن بُكْير: سعد أبو الليث، مولى قريش، وإنما افترضوا في فَهْم فنُسب إليهم، وأصلهم من أصبهان، وأهل بيته يقولون: نحن من الفرس من أصبهان. قال ابن يونُس: وليس لما قالوا من ذلك عندنا صحة؛ فالصحيح أنه فَهْمِيّ، مولى عبد الرحمن بن خالد بن مُسافر؛ وأما كونهم من أصبهان فهو حَقٌّ لقول اللَّيث: نحن من أهل أصبهان فاستوصوا بهم خيرًا، وفَهْم من قَيْس عَيْلان، ونقل غيرواحد عن الَّليْث أنه قال: دخلت على نافع مولى ابن عمر، فقال: من أين أنت؟ قلت: من أهل مصر، قال: ممن؟ قلت من قيس، قال: ابن كم؟ قلت: ابن عشرين، قال: أما لحيتك فلحية ابن أربعين. ولد بقَلْقَشَنْدَة، وهي قرية على أربعة فراسخ من مصر، سنة أربع وتسعين. قال ابن سعد: كان قد اشتغل بالفتوى في زمان، وكان ثقة، كثير الحديث، صحيحه، وكان سريًّا من الرجال، نبيلا، سخيًا، من

سخائه ما ذكره أبو صالح، كاتب الليث عن مالك، قال: كنا على باب مالك بن أنس فامتنع علينا، أي احتجب، فقلنا: ليس هذا يشبه صاحبنا، قال: فسمع مالك كلامنا، فأمر بإدخالنا عليه, وقال لنا: من صاحبكم؟ قلنا: الليث بن سعد، قال: تشبهوني برجل كُتِبَ له في قليل عُصْفُرٍ نَصْبُغُ به ثياب صبياننا، فأنفذ إلينا منه ما صبغنا به ثياب صبياننا، وثياب جيراننا، وبعنا الفضل بألف دينار. وقال قُتيبة بن سعيد: قفلنا مع الليث بن سعد من الإِسكندرية، وكان معه ثلاث سفائن، سفينة فيها مطبخه، وسفينة فيها عياله، وسفينة فيها أضيافه. وقال عبد الله بن صالح: صحبت الليث عشرين سنة، وكان لا يتغذى وحده، ولا يتعشى وحده إلا مع الناس. ومن طريق منصور بن عمار، قال: كنت عند الليث جالسًا فأتته امرأة، ومعها قدح، وقالت له: يا أبا الحارث! إن زوجي يَشتكي، وقد نُعِتَ لنا العسل، فقال: اذهبي إلى الوكيل فقولي له يعطيك مطرًا، والمطر عشرون ومئة رطل؛ فجاء الوكيل يُسارِره بشيء، فقال له الليث: اذهب فأعطِها مطرًا، إنها سألت بقدرها، وأعطيناها بقدرنا. وعن منصور قال: دخلت على الليث، وعلى رأسه خادم، فغَمَزَه، فخرج فضرب بيده إلى مصلاه، فاستخرج منه كيسًا: فرمى بها إلي، وقال لي: يا أبا السري لا تعلم به ابني فتهون عليه، فإذا فيه ألف دينار. وقال أبو حاتم ابن حِبّان: كان الليث لا يتردد إليه أحد إلا أدخله في جملة عياله، ما دام يتردد إليه، وإذا أراد الخروج، زوده بالبغلة إلى وطنه. وقال الترمذي: سمعت قُتيبة، يقول: كان الليث في كل صلاة يتصدق على ثلاث مئة مسكين. وقال الأشهب: كان الليث لا يرد سائلًا. وقال محمَّد بن رُمْح: كان دخلُ الليث في كل سنة ثمانين ألف دينار، ما أوجب الله عليه درهمًا قط بزكاة. وتال ابن وَهْب: كان الليث يصل مالكًا كل سنة بمئة دينار، وكتب مرة أن عليّ دينًا، فبعث إليه بخمس مئة دينار. وقال يحيى بن بُكيْر: وصل الليث ابن لَهيعة لما احترقت داره بألف دينار، وحج فأهدى إليه مالك طبقًا فيه رطب، فرد إليه على الطبق ألف دينار، هكذا قال ابن حَجَر، والذي في ابن خلكان هو أن مالكًا أهدى إليه

صينية، فيها تمر فأعادها مملوءة ذهبًا، وكان يتخذ لأصحابه الفالوذَج، ويعمل فيه الدنانير، ليحصل كل من أكل كثيرًا أكثر من صاحبه. وقال الحارث بن مِسكين: اشترى قوم من الليث تمره بمال، ثم إنهم ندموا، فاستقالوه، فأقالهم، ثم استدعاهم، فأعطاهم خمسين دينارًا، وقال: إنهم أمَلُوا أملًا، فأحببت أن أعوضَهم. ومن ثنائه عليه في الفقه ما قال حَرْمَلة بن يحيى: سمعت الشافعي يقول: الليث أنفع للأثر من مالك. وقال أحمد بن عبد الرحمن بن وَهْب: سمعت الشافعي يقول: الليث أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقُوموا به، وفي رواية: ضيعه قومه، وفي أخرى ضيعه أصحابه، ومعنى تضييع أصحابه له، هو أنهم لم يُدَوِّنوا فقهه كما دون فقه مالك. وقال يحيى بن بُكيْر: الليث أفقه من مالك، ولكن كانت الحظوة لمالك. وقال سعيد بن أيوب: لو أن مالكًا والليث اجتمعا، كان مالك عند الليث أبكم، ولباع الليث مالكًا فيما يريد. وقال سعيد بن أبي مَرْيم: ما رأيت أحدًا من خلق الله تعالى أفضل من الليث، وما كانت خَصْلةٌ يُتقَرَّبُ بها إلى الله تعالى، إلا كانت في الليث. وقال أبو يَعلى: كان إمام وقته بلا مُدافعة، وكان ابن وَهْب يومًا يقرأ عليه "مسائل" الليث، فمرت به مسألة، فقال رجل من الغرباء: أحسن والله الليث، كأنه كان يسمع مالكًا يجيب فيجيب، فقال ابن وَهْب للرجل: بل كان مالك يسمع الليث يجيب فيجيب هو، والله الذي لا إله إلا هو، ما رأينا أحدًا أفقه من الليث. وقال هارون بن سعيد: سمعت ابن وَهْب، وذكر اختلاف الأحاديث والناس، فقال: لولا أني لقيت مالكًا والليث لضللت. وقال شُرَحبيل بن جَميل: أدركت الناس زمن هشام بن عبد الملك، والناس إذ ذاك متوافرون، وكان بمصر يزيد بن أبي حبيب، وغيره، والليث إذ ذاك شاب، وإنهم ليعرفون له فضله، وورعه, ويقدمونه. وقال ابن بُكير: ورأيتُ من رأيتُ فلم أر مثل الليث، وفي رواية: ما رأيت أكمل من الليث، كان فقيه البدن، عربيَّ اللسان،

يُحسِنُ القرآن، والنحو، ويحفظ الحديث، والشعر، حسن المذاكرة، لم أر مثله. وقال شُعَيب بن الليث: قيل لليث: إنا نسمع منك الحديث ليس في كتبك، فقال: أو كلما في صدري في كتبي؟ لو كتب ما في صدري ما وسعه هذا المركب. وقال يحيى بن بُكير: قال الليث: كنت بالمدينة، فذكر قصته، قال: فقال لي يحيى بن سعيد الأنصاري: إنك إمام منظور إليك. وقال عبد الله بن صالح: إن مالكًا كتب إلى الليث، فقال في رسالة: وأنت في إمامتك، وفضلك، ومنزلتك، وحاجة من قبلك إليك، وذكر باقي الرسالة. وقال الشافعي أيضًا: ما فاتني أحد فأسفت عليه، ما أسفت على الَّليث. وابن أبي ذئب. وقال ابن وَهْب: كل ما كان في كتب مالك، وأخبرني من أرضى من أهل العلم، فهو الليث. وقال ابن حِبّان في "الثقات": كان من سادات أهل زمانه، فقهًا، وورعًا، وعلمًا، وفضلًا، وسخاءً، وقال الدَّرَاوَرْدِيّ: رأيت الليث عند ربيعة، يناظرهم في المسائل، وقد فاق أهل الحلقة. وقال أيضًا: رأيت الليث عند يحيى ابن سعيد، وربيعة وإنهما ليزحزحان له، ويعظمانه. وقال عثمان الدّارِمِيّ: قلت لابن مَعين: فالليث أحب إليك أو يحيى بن أيوب؟ قال الليث أحب إليَّ، ويحيى ثقة، قلت: فإبراهيم بن سعد أو الليث؟ قال: ثقتان، قلت: فالليث كيف حديثه عن نافع؟ قال: صالح، ثقة، وقال ابن المَدِيْنِيّ: الليث ثقة، ثبت. وقال العِجْلي: مصري، ثقة. وقال النسائي: ثقة. وقال عبد الله بن أحمد عن أنس (*): أصح الناس حديثًا عن المَقْبريّ الليث، كان يفصلُ ما روى عن أبي هريرة، وما روى عن أبيه عن أَبي هريرة. وقال عثمان بن صالح السَّهْمِيّ: كان أهل مصر ينتقصون عثمان حتى نشأ فيهم الليث، فحدثهم بفضائل عثمان، فكفوا، وكان أهل حمص ينتقِصون عليًا حتى نشأ فيهم إسماعيل بن عَيَّاش، فحدثهم بفضائل علي فكفوا عن ذلك. وقال أبو داود: ليس ينزل أحد نزوله، كان يكتب الحديث على وجهه. _______ (*) قال معد الكتاب للشاملة: كذا في المطبوعة، ولعل صوابها: أبيه، والله أعلم.

ومن عجيب أمره ما حَدَّث به عنه لؤلؤ، خادم الرشيد، قال: جرى بين هارون الرشيد، وبنت عمه زُبَيْدَة بنت جَعْفر كلام، فقال هارون: أنت طالق إن لم أكن من أهل الجنة، ثم ندم فجمع الفقهاء، فاختلفوا، فكتب إلى البلدان فأحضر علماءها، فلما اجتمعوا جلس لهم، فاختلفوا، فسألهم فاختلفوا، وبقي شيخ لم يتكلم، وكان في آخر المجلس، وهو اللَّيث بن سعد، قال: فسأله، قال: إذا أخلى أمير المؤمنين مجلسه كلمته، فصرفهم، فقال: يدنيني أمير المؤمنين فأدناه، فقال: أتكلم على الأمان، قال: نعم، فأمر بإحضار مصحف، فأحضره، قال تصفحه يا أمير المؤمنين حتى تصل إلى سورة الرحمن، فاقرأها، ففعل، فلما انتهى إلى قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] قال: أمسك يا أمير المؤمنين! قل: والله إني أخاف مقام ربي، قال: فاشتد ذلك على هارون الرشيد، فقال: يا أمير المؤمنين! العهد أملك، فحلف هارون الرشيد، فقال له: يا أمير المؤمنين! هما جنتان وليستا بجنة واحدة، قال: فسمعنا التصفيق من وراء الحجاب، والفرح، فقال له الرشيد: أحسنت وأمر له بالجوائز، والخِلع، وأمر له بإقطاع الجيزة، ولا ينصرف أحد بمصر إلا بأمره، وصرفه مكرمًا. وعن عبد الله بن صالح قال: سمعت اللَّيث بن سعد يقول: لما قدمت على هارون الرشيد، قال: يا ليث! ما صلاح بلدكم؟ قلت يا أمير المؤمنين! صلاح بلدنا إجراء الليل، وصلاح أميرها، ومن رأس العين يأتي الكَدَرُ، فإذا صفا رأس العين صفت العين، قال: صدقت يا ليث. قال ابن حَجَر: تتبعت كتب الخلاف كثيرًا، فلم أطلع فيها على مسألة واحدة انفرد فيها الليث عن الأئمة، من الصحابة والتابعين، إلا في مسألة واحدة، وهي أنه كان يرى تحريم أكل الجراد المَيِّت، وقد نُقل ذلك عن بعض المالكيين، قلت: مشهور مذهبنا أعني معاشر المالكية أن لا تُؤْكَلَ ميتته، ولا بد له من ذكاة، ولكن ذكاته بما يموت به، ولو لم يُعَجَّل موته، كقطع الجناح، وقد ألف ابن حَجَر العَسقَلاني رسالة،

سماها "الرحمة الغيثية بالترجمة الليثية"، أدرك الليث نيفًا وخمسين رجلًا من التابعين. روى عن: نافع، وابن أبي مُلَيْكة، ويزيد بن أبي حبيب، ويحيى ابن سعيد الأنصاري، وأخيه عبد ربه بن سعيد، وابن عَجْلان، وهشام ابن عُروة، وعطاء بن أبي رباح، وبُكَير بن الأشَجّ، وسعيد المَقْبري، وأبي الزِّناد، وعبد الرحمن بن القاسم. وحج الليث سنة ثلاث عشرة فسمع من ابن شهاب بمكة، وروي عنه أنه قال: كتبت عن علم ابن شهاب الزُّهْري علمًا كثيرًا، وطلبت ركوب البريد إليه إلى الرُّصافة، فخفت أن لا يكون ذلك لله تعالى، فتركه هو وعبد الرحمن بن القاسم، وقتادة، وجعفر بن ربيعة، وخلق كثير. وروى عنه: شعيب، ومحمد بن عَجْلان، وهشام بن سعد، وهما من شيوخه، وابن لهيعة، وهُشَيم بن بَشير، وقَيْس بن الرَّبيع، وعطاف ابن خالد، وهم من أقرانه، وابن المُبارك، وابن وَهْب، ومروان بن محمَّد، وأبو النَّضر، وأبو الوليد بن مُسلم، وسعيد بن كَثير بن غُفَير، وخلق كثير. مات يوم الجمعة، نصف شعبان، سنة خمس وسبعين ومئة، وقبره في قَرافة مصر، مشهور يزار. وليس في الكتب الستة من اسمه الليث بن سعد سواه، نعم من الرواة ثلاثة غيره، أحدهم: ابن أخي سعيد بن أبي مريم شيخ لأحمد بن يحيى بن خالد الشَّرقي، شيخ الطَّبراني، مات سنة تسع وثلاثين ومئتين. والثاني: ابن أبي خالد بن نجيح، يروي عن خالد، وابن وَهْب، ذكرهما ابن يونُس في، "تاريخ مصر"، وهما متأخران عن طبقة أصحاب الليث، والثالث: متأخر عنهم، واسم جده سليمان بن إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل بن محمَّد بن سعد، يكنى أبا عمر النَّسَفِيّ وثقه الخطيب.

الثالث: عُقَيل -بضم العين- بن خالد بن عَقيل، مكبرًا، أبو خالد الأموي مولى عثمان، وثقه أحمد، وابن سعد، والنسائي، وقال أبو زُرعة: صدوق، ثقة. وقال ابن مَعين: أثبت من روى عن الزُّهري مالك، ثم معمر، ثم عُقَيل، وفي رواية عنه: أثبت الناس. في الزُّهري مالك، ومَعْمر، ويونُس، وعُقَيل، وشُعيب، وسفيان. وقال ابن راهوية: عُقَيل حافظ، ويونس صاحب كتاب. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي؛ عُقَيل أحب إليك أم يونُس؟ فقال عُقيل أحب إلى، لا بأس به، وسئل أبي أيما أثبت عُقَيل، أو مَعْمر؟ فقال: عُقِيل أثبت، كان صاحب كتاب. وقال عبد الله بن أحمد: ذُكر عند أبي أن يحيى بن سعيد قال: عُقيل، وإبراهيم بن سعد كأنه يضعفهما، فقال: وأي شيء هو؟ هؤلاء ثقات، لم يَخْبُرْهم. وقال ابن عُيينة عن زياد بن سعد: كان عُقيل يحفظ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال العُقيلي: صدوق، تفرد عن الزهري بأحاديث، وكان الزُّهري يكون بِأَيْلَة، وله بها ضَيْعة، وكان يكتب عنده هناك الماجَشُون، وكان عُقيل شرطيًا بالمدينة. روي عن: أبيه، وعمه زياد، ونافع مولى ابن عُمر، وعِكْرمة، والحسن، وسعيد بن أبي سعيد الخدري، والزُّهري، وغيرهم. وروى عنه: ابنه إبراهيم، وابن أخيه سلامة بن رَوْح، والمُفَضَّل بن فَضَالة، والليث بن سعد، وابن لَهيعة، وجابر بن إسماعيل. وحدث عنه يونُس بن يزيد، وهو من أقرانه، وغيرهم. مات بمصر فجأة، سنة واحد وأربعين ومئة، وقيل سنة أربع، وليس في الكتب الستة من اسمه عُقَيل بالضم سواه، إلا يحيى بن عُقَيل الخُزاعي البَصْري، روى له مسلم، وإلا بنو عُقَيل القبيلة لها ذكر في مسلم، وما عدا الثلاثة فبفتح العين، وكسر القاف، كعَقيل بن أبي طالب، له ذكر في "الصحيحين"، قال العراقي: عُقَيلٌ القَبِيلُ وابنُ خالدِ ... كذا أبو يَحْيى وقَافُ وَاقِدِ

وقال سيدي عبد الله في "غر الصباح": واضْمُم عُقَيْلَ اللَّذْ أَبوهُ خالدٌ ... وفَتْحُ ما سِواهُ طُرًّا وارِدُ وإنما أطلق في فتح ما سواه، لأن القبيلة، وأبا يحيى ليس لهما رواية في الكتب. والأَيْلِيّ نسبة إلى أيْلَةَ قرية بين يَنْبُع ومصر، وعقبتها معروفة، وينسب إليها هارون بن سعيد الأَيْلِيّ، ويونس بن يزيد الأَيْلِيّ. وهؤلاء يشتبهون بالأُبُليّ بضم الهمزة والموحدة، وتشديد اللام نسبة إلىِ أُبُلَّة بلدة بقرب البصرة، قال ابن الصلاح: لم يُنسب لها إلا شَيْبان بن فَرُّوخ من شيوخ مسلم، فهو أُبُليّ، وإلى ذلك أشار العراقي بقوله بعد قوله: "وقاف واقد": لَهُم كذا الأَيْليّ لا الأُبُليّ ... قالَ سِوى شَيْبانَ والرّا فاجْعَلِ وهذا النوع يسمى عند المُحدثينَ بالمُؤتَلِف والمُختلف وهو أن تتفق الأسماء أو الألقاب أو الأنساب خطًا لا لفظًا، سواء كان مرجع الاختلاف النقط أو الشكل، وهو من مهمات فن الحديث، حتى قال ابن المَدِيني: أشد التصحيف ما يقع في الأسماء، ووجهوه بأنه شيء لا يدخله القياس، ولا قبله شيء دال عليه، ولا بعده، والتصانيف فيه كثيرة، وأكملها بالنسبة لما قبله، كتاب "الإِكمال" للأمير أبي نَصْر بن ماكُولا، وهو قسمان: أحدهما: وهو الأكثر، ما لا ضابط له يُرجع إليه لكثرته، وإنما يعرف بالنقل والحفظ، كأَسِيْد وأُسَيْد، وحِبّان وحَبَّان وحَبَّان. وثانيهما: ما ينضبط لقلة المتشابهين، ثم تارة يراد به التعميم، بأن يقال: ليس لهم فلان إلا كذا، وتارة به التخصيص بـ "الصحيحين" و"الموطأ" بأن يقال: ليس في كتب الثلاثة إلا كذا، وإلى تعريف المؤتلف والمختلف أشار العراقي بقوله: واعْنَ بِما صُوْرَتُهُ مُؤْتَلِفُ ... خَطًا ولكِنْ لَفظُهُ مُخْتَلفُ نَحوُ سَلامٍ كُلّهُ فَثَقَلِ

وهو فصل طويل ونشير إن شاء الله لكل ما جاء منه في محله. الرابع: محمَّد بن مسلم بن عُبيد الله بن عبد الله بن شِهاب بن عبد الله ابن الحارث بن زُهْرة بن كِلاب بن مُرّة القُرشي الزُّهري الفقيه، أبو بكر الحافظ المدني، أحد الأئمة الأعلام، وعالم الحجاز والشام. قال البخاري عن علي بن المَدِينيّ: له نحو ألفي حديث. وقال الآجُرّي عن أبي داود: جميع حديث الزُّهري كله ألفا حديث ومئتا حديث، النصف منها مسندة، وقدر مئتين عن غير الثقات، وأما ما اختلفوا فيه فلا يكون خمسين حديثًا، والاختلاف عندنا ما تفرد به قوم على شيء. قال معمر: سمع الزُّهري من ابن عمر حديثين. وقال العِجْلي: روى عن ابن عمر نحوًا من ثلاثة أحاديث. وقال ابن سعد: كان الزُّهري ثقة، كثير الحديث، والعلم والرواية، فقيهًا، جامعًا. وقال أبو الزِّناد: كنا نكتب الحلال والحرام، وكان ابن شهاب يكتب كل ما سمع، فلما احتيج إليه علمت أنه أعلم الناس. وقال ابن وَهْب عن الليث: كان ابن شهاب يقول: ما استودعت قلبي شيئًا قَطُّ فنسيه. وقال ابن مَهْدي: سمعت مالكًا يقول، قال الزُّهري: ما استفهمت عالمًا قط، ولا زدت على عالم شيئًا قط. وقال الليث: ما رأيت عالمًا قط أجمع من ابن شهاب، ولا أكثر علمًا منه، ولو سمعته يحدث في الترغيب لقلت لا يَحْسُنُ إلا هذا، وإن حدث عن الأنساب قلت لا يَعْرِف إلا هذا، وإن حدث عن القرآن والسنة كان حديثه نوعًا جامعًا. وروى عنه الليث أنه قال: ما نشر أحد العلم نشري، ولا بَذَلهُ بَذْلي. وقال أيوب: ما رأيت أعلم من الزُّهري، فقال له صَخْر بن جُويْرية: ولا الحسن، فقال: ما رأيت أعلم من الزُّهري، وروي عن عَمْرو بن دينار أنه قال: أي شيء عند ابن شهاب، أنا لقيت ابن عُمر ولم يلقه، ولقيت ابن عباس ولم يلقَه؛ فقدم الزُّهري مكة، فقال عمرو: احملوني إليه، وكان قد أُقعِد فحملوه إليه، فلم يأت أصحابه إلا بعدَ لَيْل، فقالوا له: كيف رأيت؟ فقال: والله ما رأيت مثل هذا القرشي قَطُّ. وقيل لمكحول: من أَعْلَم من رأيت؟ قال:

ابن شهاب، قيل له: ثم من؟ قال: ابن شهاب ثلاث مرات وروى سعيد ابن عبد العزيز عن مكحول أيضًا أنه قال: ما بقي على ظهرها أعلم بسنة ماضية من الزُّهري. وقال النسائي: أحسن أسانيد تروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعة، الزهري عن علي بن الحسين عن أبيه عن جده، والزُّهري عن عُبيد الله عن ابن عباس، وأيوب عن محمَّد عن عبيدة عن علي، ومنصور عن إبراهيم عن عَلْقمة. وقال ابن عُيينة عن عمرو بن دينار: ما رأيت أنص للحديث من الزُّهري. وقال جَعفر بن ربيعة: قلت لعِراك ابن مالك: من أفقه أهل المدينة؟ فذكر سعيد بن المُسيِّب، وعُروة، وعُبيد الله بن عبد الله، قال عراك: وأعلمهم عندي جميعًا ابن شهاب، لأنهم جمع علمهم إلى علمه. وقال مَعْمر: قال عمر بن عبد العزيز لجلسائه: لم يبق أعلم بسنة ماضية منه. قال معمر: وإن الحسن وضُرباءَهُ لأحياء يومئذ، وكتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إلى الآفاق: عليكم بابن شِهاب، فإنكم لا تجدون أحدًا أعلم بسنة ماضية منه. وقال إبراهيم ابن سعد بن إبراهيم: قلت لأبي: بم فاقكم الزهري؟ قال: كان يأتي المجالس من صدورها، ولا يلقى في المجلس كهلًا إلا سأله, ولا شابًا إلا سأله، ثم يأتي الدار من دور الأنصار، فلا يلقى فيها شابًا إلا سأله، ولا كهلًا ولا عجوزًا ولا كهلة إلا سألها, حتى يحاول ربات الحِجال. قال معمر بن صالح بن كَيْسان: كنت أطلب العلم أنا والزهري، فقال: تعال نكتب السنة، فكتبنا ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -, ثم قال: تعال نكتب ما جاء عن الصحابة، قال: فكتب، ولم نكتب، فأنَجَحَ، وضَيَّعْتُ. وقال سعيد بن عبد العزيز. سأل هشام بن عبد الملك الزُّهري أن يملي على بعض ولده، فدعا بكاتب، فأملى عليه أربع مئة حديث، ثم إن هشامًا قال له: إن ذلك الكتاب قد ضاع، فدعا الكاتب فأملاها عليه، ثم قابله هشام بالكتاب الأول، فما غادر حرفًا. وقال معمر: ما رأيت مثل الزُّهري في الفن الذي هو فيه. وقال مالك: كان من أسخى الناس، وكان سخيًّا ما له في الناس نظير.

وحضر الزهري يومًا مجلس هشام بن عبد الملك وعنده أبو الزِّناد، عبد الله بن ذَكْوان، فقال هشام: أي شهر كان يخرج العطاء فيه لأهل المدينة؟ فقال الزُّهري: لا أدري، فسأل أبو الزِّناد، فقال: من المحرم، فقال هشام للزهري: يا أبا بكر! هذا علم استفدته اليوم، فقال: مجلس أمير المؤمنين أهل أن يستفاد منه العلم. وكان إذا جلس في بيته وضع حوله كتبه، فيشتغل بها عن كل شيء في أمور الدنيا، فقالت امرأته يومًا: إن كتبك هذه أشد علي من ثلاث ضرائر. وكان أبو جده، عبد الله بن شهاب، يوم بدر، مع المشركين، وكان أحد النفر الذين تعاقدوا يوم أحد، لَئِن رأوا النبي - صلى الله عليه وسلم - ليقتلونه، أو ليقتلُن دونه، وروي أنه قيل للزهري: شهد جدك بدرًا؟ فقال: نعم، ولكن من ذلك الجانب، يعني أنه كان في صَفِّ المشركين، وكان أبوه مُسلم مع مُصعَب بن الزُّبير، ولم يزل الزهري مع عبد الملك، ثم ابنه هشام، وكان يزيد بن عبد الملك قد استقضاه. روى عن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن جَعْفر، وربيعة بن عباد، والمِسْوَر بن مَخْرَمَة، وعبد الرحمن بن أزْهر، وسهل بن سعد، وأنس، وجابر، وأبي الطُّفَيْل، والسّائِب بن يزيد، ومحمود بن الرَّبِيع، ومحمد ابن لَبيد، وثَعْلَبة بن أبي مالك، وأبي أُمامة بن سَهْل بن حَنيف، ومالك ابن أوس بن الحَدثان، وخلق كثير. وروى عنه عطاء بن أبي رَباح، وأبو الزُّبير المكي، وعمر بن عبد العزيز، وعمرو بن دينار، وصالح بن كَيْسان، وأَبَان بن صالح، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وأيوب السَّخْتِياني، والأَوْزَاعيّ، وابن جُرَيْج، والليث، ومالك، وسفيان بن عُيينة، ومحمد بن المُنْكَدِر، ومنصور بن المُعْتَمِر، وخلق كثير. مات بالشام سنة أربع وعشرين ومئة، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة،

وأوصى أن يدفن على الطريق بقرية، يقال لها: شغبى ويَدا -بفتح الشين، وإسكان الغين المعجمة، ثم باء موحدة والقصر وبدا بفتح الباء الموحدة والدال المهملة بعدها ألف- وقيل: شغب وبدًّا: واديان وهُو الذي يدل عليه قول كُثَيِّر عَزّة: وأَنْتِ الّتي حَبَّبْتِ شغبى إلى بَدَاً ... إليَّ وأَوْطَانِي بِلادٌ سِوَاهُما إذا ذَرَفَتْ عَيْنَايَ أعْتَلُّ بالقَذَى ... وعَزَّةُ لَوْ يَدْرِي الطَّبيْبُ قَذَاهُما وَحَلَّتْ بِهذا حَلَّةً ثُمَّ أَصْبَحَتْ ... بِهذا فَطَابَ الوَادِيانِ كِلَاهُما وقيل: إنه دُفن في ضيعة له، اسمها أَدَامى بفتح الهمزة والدال والميم وبعد الدال ألف وبعد الميم ألف مقصورة، وهي خلف شَغْبٍ وبَدَا، وقيل: مات ببيته بنَغَفٍ، وهي قرية عند القرى المذكورة. والزُّهْرِيّ في نسبه نسبة إلى زهرة بن كِلاب بن مُرّة، أحد بطون قريش السابعة، وهو بطن آباء آمنة بنت وَهَب بن عبد مناف بن زُهرة، والمشهور عند جميع أهل النسب أن زُهرة اسم الرجل وشذّ ابن قُتيبة فجعله اسم امرأته، وأن ولدها غلب عليهم النسب إليها، وهو مردود بقول إمام أهل النسب، هشام بن الكَلْبِيّ: إن اسم زُهرة المغيرة، فإن ثبت قول ابن قُتيبة، فالمغيرة اسم الأب (وزُهرة اسم امرأته) فنسب أولادها إلى أمهم، ثم غلب ذلك حتى ظن أن زهرة اسم الأب، فقيل: زُهرة بن كلاب، وزُهرة بضم الزاي بلا خلاف "من فتح الباري". الخامس: عروة بن الزبير. والسادس: عائشة أم المؤمنين، رضي الله عنها، وتقدما في الحديث الذي قبل هذا. وأما خديجة: فهي أم المؤمنين، خديجة بنت خُويلد بن أسد بن عبد العُزى بن قُصَيّ بن كِلاب القرشية الأسَدِيّة، زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأول من صدقت ببعثه مطلقًا، قال الزُّبَيْر بن بَكّار: كانت تدعى قبل الإِسلام

الطاهرة، وأمها فاطمة بنت زائدة، قرشية من بني عامر بن لُؤَي، وكانت عند أبي هَالّة بن زُرارة بن النباش بن عدي التميمي أولًا فولدت له هندًا، ثم خلف عليها بعد أبي هالة عتيق بن عابد بن عبد الله بن عُمر بن مَخْزوم، ثم خلف عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعن قتادة عكس هذا أن أول أزواجها عتيق، ثم أبو هالة، ووافقه ابن إسحاق في رواية ابن بُكَير عنه، وصحح ابن عبد البَرّ الأول، والذي زوجها للنبي - صلى الله عليه وسلم - عمها عَمْرو بن أسد بن عبد العُزّى بن قُصَيّ، لأن أباها مات في الجاهلية، وقال عَمْرو بن أسد: محمَّد بن عبد الله يَخْطُبُ خديجة هو الفَحْل لا يُقْدَع أنفه، وكانت إذ تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنت أربعين سنة، فأقامت معه - صلى الله عليه وسلم - أربعًا وعشرين سنة، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ تزوجها ابن إحدى وعشرين سنة، وقيل: ابن خمس وعشرين، وهو الأكثر، وقيل: ابن ثلاثين، ولم يختلفوا أنه وُلِدَ له منها ولدُهُ كلهم حاشا إبراهيم، وأجمعوا أنها ولدت أربع بنات كلهن أدركن الإِسلام وهاجرن، وهن زينب، وفاطمة، ورقية، وأم كلثوم، وأجمعوا أنها ولدت له ابنًا يسمى القاسم، وبه كان يكنى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكانت قابِلَتُها سلمى مولاة صَفِيّة، وكانت تسترضع، وتعد ذلك قبل أن تلد، وأكبر أولاده القاسم، الذي كُنِي به، ثم زينب، ثم عبد الله، وكان يقال له: الطيب والطاهر ولد بعد النبوة، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة، ثم رُقَيّة، ثم مات القاسم بمكة، وهو أول ميت مات من ولده، ثم مات عبد الله أيضًا بمكة، وقيل: إن زينب أكبر من القاسم، وصححه ابن عبد البَرّ، ولم يتزوج في الجاهلية غيرها، ولا تزوج عليها من نسائه حتى ماتت، ولم تلد له من المهاري غيرها؛ وهي أول من آمن به من الرجال والنساء مطلقًا، فقد روي عن أبي رافع قال: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين، وصلت خديجة آخره. وعن أبي نُعيم في "الدلائل" بسند ضعيف، عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان جالسًا معها إذ رأى شخصًا بين السماء والأرض، فقالت له خديجة: ادن مني، فدنا منها، فقالت: تراه؟ قال: "نعم"، قالت: أدخل

رأسك تحت درعي ففعل، فقالت: تراه؟ قال: "لا"، قالت: أبشر، هذا ملك إذ لو كان شيطانًا لما استحيا، ثم رآه بأجياد، فنزل إليه، وبسط له بساطًا، وبَحَثَ في الأرض، فَنَبَعَ الماء، فعلمه جبريل كيف يتوضأ، فتوضأ وصلى ركعتين نحو الكعبة، وبشره بنبوته وعلمه {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} , ثم انصرف، فلم يمر على شجر ولا حجر إلا قال: سلام عليك يا رسول الله! فجاء إلى خديجة فأخبرها، فقالت: أرني كيف أراك؟ فأراها، فتوضأت كما توضأ، ثم صلت معه، وقالت: أشهد أنك رسول الله. قال ابن إسحاق: كانت خديجة أول من آمن بالله ورسوله، وصدقت بما جاء به، فخفف الله بذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان لا يسمع شيئًا يكرهه من الرد عليه، فيرجع إلا ثبتته، وتهون عليه أمر الناس، وذكرت عائشة في حديث بدء الوحي، ما صنعته من نقوية قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - لتلقي ما أنزل الله عليه، فقال لها: "لقد خشيت على نفسي" فقالت: كلا والله لا يخزيك الله أبدًا، وذكرت خصاله الحميدة، وتوجهت إلى وَرَقَة بن نَوْفَل وهو في "الصحيح". وفي ابن عبد البر أن خديجة قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أتستطيع أن تخبرني بصاحبك إذا جاءك تعني جبريل عليه السلام، فلما جاءه، قال: "يا خديجة هذا جبريل قد جاءني" فقالت: قُم يا ابن عم، فاقعُد على فخذِي اليمنى، ففعل، فقالت: هل تراه؟ قال: "نعم"، قالت: فتَحَوَّلْ إلى اليسرى، ففعل، فقالت: هل تراه؟ قال: "نعم"، قالت: فاجلس في حِجْري، ففعل، فقالت: هل تراه؟ قال: "نعم"، فألقت خمارَها، وحسرت عن صدرها، فقالت هل تراه؟ قال: "لا"، قالت: أبشر فإنه والله ملك، وليس بشيطان. وكانت خديجة ذات جمال وشرف، وكانت موسرة، وكان سبب رغبتها بالرسول - صلى الله عليه وسلم - ما حكاه لها غلامها ميسرة بما شاهده من علامات النبوة

قبل البعثة، ومما سمعته من بَحيرا الراهب في حقه، لما سافر معه ميسرة في تجارة خديجة، وأسند الواقِدِّي قصة تزويجه بها عن نَفِيسَة بنت مُنْيَة، أخت يَعْلى ابن مُنْيَة، قالت: كانت خديجة امرأة، جلدة، شريفة، كثيرة المال، ولما تأيمت كان كل شريف من قريش يتمنى أن يتزوجها، فلما أن سافر النبي - صلى الله عليه وسلم - في تجارتها ورجع بربح وافر، رغبت فيه، فأرسلتني رسيسًا إليه، فقلت له: ما يمنعك أن تتزوج؟ فقال: ما في يدي شيء، فقلت: فإن كُفيت، ودُعيت إلى المال, والجمال، والكفاءة، قال: ومن؟ قلت: خديجة، فأجاب. وروى ابن المدائِنِيّ بسند له عن ابن عباس "أن نساء أهل مكة اجتمعن في عيدٍ لَهُنَّ في الجاهلية، فتمثل لهن رجل، فلما قرب منهن نادى بأعلى صوته، يا نساء مكة إنه سيكون في بلدكن نبي، يقال له أحمد، فمن استطاع منكن أن يكون زوجًا له فَلْتَفْعَل، فحَصَبْنَهُ إلَّا خديجة فإنها عَضَّت على قوله ولم تُعَرِّض له. وقد أثنى النبي - صلى الله عليه وسلم - على خديجة ما لم يثن على غيرها، وذلك في حديث عائشة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة، فيحسن الثناء عليها، فذكرها يومًا من الأيام، فأخذتني الغَيْرة، فقلت: هل كانت إلا عجوزًا من العرب قد أبدلك الله خيرًا منها؟، فغضب، وقال: لا والله ما أبدلني خيرًا منها، آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني فيها الله الولد دون غيرها من النساء، قالت عائشة: فقلت في نفسي: لا أذكرها بعدها بسبة أبدًا. وعن عائشة أيضًا أنها قالت: ما غِرْت على امرأة ما غِرْت على خديجة، وما بي أن أكون قد أدركتها, ولكن ذلك لكثرة ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياها، وإنه كان ليذبح الشاة فيتتبع بذلك صدائق خديجة, يهديها لهن. وفي "الصحيح" عن عائشة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ذبح الشاة يقول:

"أرسلوا إلى أصدقاء خديجة"، قال: فذكرت له يومًا، فقال "إني لأحب حبيبها". وفي "الصحيحين" عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشر خديجة ببيت في الجنة من قصب، لا صَخَب فيه، ولا نَصَب. وعند مسلم من حديث أبي زرعة سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أتاني جبريل، فقال: يا رسول الله هذه خديجة، أتتك، ومعها إناء فيه طعام وشراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها من ربها السلام ومني" وأخرجه النسائي من حديث أنس جاء جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن الله يقرأ على خديجة السلام، فقالت: إن الله هو السلام، وعلى جبريل السلام، وعليك السلام ورحمته تعالى وبركاته. وعن أبي هُريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خيرُ نساءِ العالمينَ أربعٌ، مريمُ بنتُ عِمْران، وابنةُ مُزاحم امرأة فِرْعون، وخديجةُ بنتُ خُوَيْلد، وفاطمةُ بنتُ محمَّد - صلى الله عليه وسلم -". وفي "الصحيحين" عن علي رفعه: "خير نسائها مريم، وخير نسائها خَديجة بنتُ خُويلد"، ويفسر المراد به ما أخرجه ابن عبد البر في ترجمة فاطمة، عن عِمران بن حُصَيْن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عاد فاطمة، وهي وجِعَة، فقال: "كيف تجدينك يا بنية؟ " قالت: إني لوجعة وإنه لَيزيد ما بيَ، ما لي طعام آكله، فقال: "يا بنية أما ترضَيْن أنكِ سيدة نساءِ العالمينَ" قالت: يا أبتِ فأين مريم بنت عمران؟ قال: "تلك سيدة نساء عالمها" فعلى هذا مريم خير نساء الأمة الماضية، وخديجة خير نساء الأمة الكائنة، وتحمل قصة فاطمة، إن ثبتت على أحد أمرين: إما التفرقة بين الخيرية والسيادة، وإما أن يكون ذلك بالنسبة إلى من وجد من النساء حين ذكر قصة فاطمة. وأخرج ابن السُنِّي بسند له عن خديجة أنها خرجت تلتمس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأعلى مكة ومعها غذاؤه، فلقيها جبريل في صورة رجل، فسألها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فهابته، وخشيت أن يكون بعض من يريد أن يغتاله، فلما ذكرت

ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: "هو جبريلُ، وقد أمَرَني أن أقرأ عليك السلام" وبشرها ببيت في الجنة، لا صخب فيه ولا نصب. ومن مزاياها أنها ما زالت تعظم النبي - صلى الله عليه وسلم - وتصدق حديثه قبل البعثة وبعدها، وقالت له لما أرادت أن يتوجه في تجارتها: إنه دعاني إلى البعث إليك ما بَلَغَني من صدق حديثك، وعظم أمانتك؛ وكرم أخلاقك، وقالت له لما خطبها: إني قد رغِبْت فيك لحسن خُلقك، وصدق حديثك، ومن طواعيتها له قبل البعثة أنها رأت ميله إلى زيد بن حارثة، بعد أن صار في ملكها، فوهبته له - صلى الله عليه وسلم - فكانت هي السبب فيما امتاز به زيد من السَّبْق إلى الإِسلام، حتى قيل: إنه أول من أسلم مطلقًا. وفي كتاب الزُّبَيْر بن بَكّار عن عبد الرحمن بن زيد، قال آدم عليه الصلاة والسلام: مما فَضَّلَ الله ابني عليَّ أن زوجتهُ خديجة كانت عونًا له على تبليغ أمرِ الله عَزَّ وَجَلَّ، وأن زوجتي كانت عَوْنًا على المعصية. وتقدم في ترجمة عائشة الخلاف، هل هي أفضل أم عائشة؟ وأن الصحيح أفضليتها. كانت وفاة خديجة، وأبي طالب في عام واحد، ويقال: إنها تأخرت بعده بثلاث ليال، وكانت وفاتها قبل الهجرة بثلاث سنين على الصحيح، وقيل: بأربع، وقيل: بخمس، وقالت عائشة: ماتت قبل أن تُفْرض الصلاة، يعني قبل أن يُعْرَج بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ويقال: كان موتها في رَمضان، لعشرٍ خَلَوْن منه، ودفنت بالحَجُون، ونزل النبي - صلى الله عليه وسلم - في قبرها, ولم تكن الصلاة على الجنائز شرعت حينئذٍ، وروي عن يحيى بن عبد الرحمن، قال: جاءت خَوْلة بنت حَكيم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله! كأني أراك قد دخلتك خَلّة لفقد خديجة، قال: أجل كانت أم العيال، وربة البيت، وروي عن عبد الله بن عمير، قال: وَجَدَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على خديجة حتى خُشِيَ عليه، حتى تزوج عائشة.

وأما ورقة، فهو ورقة -بفتح الراء- بن نَوْفل بن أسد بن عبد العُزَّى بن قُصَيّ القرشي الأسدي. قال الكِرْماني: لا شك أنه كان مؤمنًا بعيسى عليه الصلاة والسلام، وأما الإِيمان بنبينا - صلى الله عليه وسلم -، فلم يعلم أن دين عيسى قد نُسخ، ولئن ثبت أنه كان منسوخًا في ذلك الوقت، فالأصح أنه آمن, لأن الإِيمان التصديق، وهو صدق، ولم يذكر ما ينافي ذلك، وقال ابن مَنْدة: اختلف في إسلام ورقة، وظاهر قوله في الحديث: يا ليتني فيها جذعًا، وما بعده يَدُلُّ على إسلامه، وذكر ابن إسحاق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أخبره، قال له ورقة: والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة، وفي "مستدرك" الحاكم وصححه قائلًا: إنه على شرط الشيخين من حديث عائشة: أن النبي، عليه الصلاة والسلام قال: رأيت الفتى، يعني ورقة بن نوفل، وعليه ثياب من حريرٍ، لأنه أول من آمن بي وصَدَّقَني، وأخرج ابن عَدِيّ في "الكامل" عن جابر ابن عبد الله، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "رأيت ورقةَ في بطنان الجنة، عليه السُّنْدُسُ، وقال الزُّبَيْر: كان ورقة قد كرِهَ عبادة الأوثان، وطلب الدين في الآفاق، وقرأ الكتب، وكانت خديجة تَسأله عن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقول لها: ما أراه إلا نبي هذه الأمة الذي بَشَّرَ به موسى، وعيسى". وأخرج الزُّبَيْر بن بَكّار عن عُروة بن الزُّبَيْر، قال: كان بلال لجارية من بني جُمَح، وكانوا يعذبونه برمضاءِ مكة، يُلْصِقون ظهره بالرَّمضاء، لكي يُشْرِكَ، فيقول: أحدٌ أحدٌ، فيمُرُّ به ورقة، فيقول: أحد أحد يا بلال! والله! لئن قتلتموه لأتخذنه حنانًا، وهذا يدُلُّ على أن ورقة عاش إلى أن دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الإِسلام، حتى أسلم بلال، والجمع بين هذا وحديث عائشة أن يُحمل قوله: ثم لم يَنْشَب ورقة أن توفي، أي قبل أن يشتهر الإِسلام، ويؤمر النبي بالجهاد، ويُعَكِّر على هذا حديث عكرمة، عن ابن عباس، بنحو حديث عائشة، وفي آخره: لَئِنْ كان هُو، ثم أظهرَ اللهُ دينهُ، وأنا حيٌّ، لأُبْلِيَنَّ الله من نفسي في طاعة رسوله، وحسن مؤازرتهِ، فمات ورقة على نصرانيتهِ، لكن فيه عُثمان بن عَطاء، وهو ضعيفٌ،

وأخرج ابن السَّكَنِ بلفظ: رأيتُ ورقةَ على نهرٍ من أنهارِ الجنةِ, لأنه كان يقول: ديني دين زيد، وإلهي إله زيد، وقد قال لما كانت خديجة تذكر له أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هذي خَدِيْجَةُ تَأْتيني لأُخبِرَها ... وَمَا لَنَا بخَفيِّ الغيبِ من خَبَرِ بأنَّ أحمَدَ يَأْتيهِ فيخْبِرُهُ ... جبريلُ إنَّكَ مَبْعُوثٌ إلى البَشَرِ فَقُلْتُ عَلَّ الّذي تَرْجِينَ يُنْجزُهُ ... لَهُ الإِلهُ فَرَجِّي الخَيْرَ وَانْتَظِرِي ومن شعره أيضًا: فَإنْ يَكُ حَقًّا يَا خَدِيْجَةُ فاعْلَمي ... حَدِيثَك إيّانا فَأَحْمَدُ مُرْسَلُ وَجِبْرِيلُ يأتِيهِ ومِيْكالُ مَعْهُما ... مِنَ اللهِ وَحْيٌ يَشْرَحُ الصَّدْرَ مُنْزَلُ وكان يذكر الله في شعره في الجاهلين، ويسبحه فمن ذلك قوله: لَقَدْ نَصَحْتُ لأَقْوام وقُلْتُ لَهُم ... أَنا النَّذيرُ فلا يَغْرُرْكُمُ أَحَدُ لا تَعْبُدُنَّ إلهًا غيرَ خَالِقِكم ... فَإنْ دَعَوْكُمْ فَقولوا بَيْنَنَا جَدَدُ سُبْحَانَ ذِيْ العَرْشِ سُبْحانًا نَعُوذُ بِهِ ... وَقَبْلَنَا سَبَّحَ الجُودِيُّ والجمد مُسَخَّرٌ كُلُّ ما تَحْتَ السَّماءِ لَهُ ... لا يَنْبَغي أَنْ يُناوي مُلْكَهُ أَحَدُ لا شَيْءَ مِما تَرَى تَبْقَى بَشَاشَتُهُ ... يَبْقَى الإِله وَيَفْنَى المَالُ والوَلَدُ لَم تُغنِ عن هُرْمزٍ يومًا خَزائِنُهُ ... والخُلدَ قَد حاوَلتْ عادٌ فَما خَلدوا ولا سُليمانَ إذ تَجري الرِّياحُ لهُ ... والإِنسُ والجِنُّ فيما بينَها تَردُ أينَ الملوكُ التي كانت لِعزَّتها ... من كلِّ أوبٍ إليها وافدٌ يَفدُ حَوضٌ هنالِك مورُودٌ بلا كدَرٍ ... لا بُدَّ من وِردهِ يَومًا كما ورَدُوا لطائف إسنادِه فيه أن هذا الإِسناد على شرطِ الستة ما عدا يحيى، فإنَّه على شرط الشيخين، ورواته ما بين مصريٍّ ومدني، وفيه روايتُه تابعيٍّ عن تابعي، وهما الزُّهريُّ وعروةُ، وهو من مراسيل الصحابة لأنَّ عائشةَ لم تُدرك هذه القصةَ فتكونُ سَمِعتها من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو من صحابيٍّ، وقَد مَرَّ الكلامُ على مرسلِ الصحابي في الذي قبلَه. وهذا الحديثُ أخْرجهُ البخاري هنا، وفي التفسير والتعبير عن عبدِ الله

الحديث الرابع

ابن محمدٍ، وفي التفسير عن سعيدٍ بن مروان، وفي الإِيمان عن ابن رافع، ومسلمٌ في الإِيمان, والتِّرمذيُّ والنسائي في التفسير. الحديث الرابع 4 - قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِىَّ قَالَ -وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْي- فَقَالَ فِي حَدِيثِهِ «بَيْنَا أَنَا أَمْشِي، إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بَصَرِي، فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَرُعِبْتُ مِنْهُ، فَرَجَعْتُ، فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ -إِلَى قَوْلِهِ- {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 1 - 5]. فَحَمِيَ الْوَحْيُ وَتَتَابَعَ». تَابَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ وَأَبُو صَالِحٍ، وَتَابَعَهُ هِلاَلُ بْنُ رَدَّادٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَقَالَ يُونُسُ وَمَعْمَرٌ «بَوَادِرُهُ». [الحديث 4 - أطرافه في: 3238، 4922، 4923، 4924، 4925، 4926، 4954، 6214]. إنَّما أتى بحرفِ العطفِ لِيُعْلَم أنَّه معطوفٌ على ما سَبق كأنه قال: أخبرني عروةُ بكذا، وأخبرني أبو سَلَمَة بكذا، فثُبوتُ الواوِ العاطفةِ دالٌّ على تَقَدُّم شيءٍ عَطَفتهُ. وقوله: "بَينا أنا أمشي إذ سمعتُ صوتًا". بينا: أصلُهُ بين أُشبعَتْ فتحةُ النون بالألف وهي ظرفُ زمانٍ، وقد تُزادُ فيها الميمُ فيُقالُ: بينما ويُضافانِ غالبًا إلى الجملةِ، والتقديرُ بِحَسَبِ الأصلِ بينَ أوقاتٍ وقَدْ يُؤتى في جوابهما بإذ وإذا الفجائِيَّتين، الأولى كما في هذا الحديث: "إذ سمعتُ صوتًا من السماءِ". والثانيةُ كقول الشاعر: فَبَينا نَسوسُ النّاسَ والأمرُ أمرُنا ... إذا نحنُ فيهم سُوقةٌ ليسَ نُنصَفُ والأكثرُ حذفُ إذ وإذا من جوابِهما كقول الشاعر: فَبَيناهُ يَشري رَحْلَه قالَ قائلٌ: ... لِمنْ جَملٌ رَخوُ المِلاط نَجيبُ؟ وقولُهُ: "فإذا المَلَكُ الذي جاءني بحراءَ جالسٌ على كرسيٍّ". الفاء

في "فإذا" فجائيةٌ، وجالسٌ خبرٌ عن المَلَكِ، والذي صفتُهُ نحوُ: خرجتُ فإذا الأسدُ بالبابِ، ويجوزُ نصب جالسٍ على الحال، ويكونُ الخبرُ مقدرًا، أي: فإذا الملَكُ حاضرٌ حالَ كونِه جالسًا، وكرسيُّ بضَمِّ الكافِ وقد تُكْسر، وقوله: "بين السماءِ والأرضِ" ظرفٌ في محلِّ جرٍّ صفةٌ لكرسي. وقوله: "فَرُعِبْتُ مِنْهُ" بضم الراءِ وكسر العين المهملةِ بالبناءِ لما لم يُسمَّ فاعِلُه، وفي رواية بفتح الراء وضمِّ العين، أي فَزِعتُ. وقوله: "فَرَجَعْتُ"، أي: إلى أهلي بسبب الرعب. وقولهُ: "زَمِّلُوني زَمِّلُوني" بالتكرار مرتين لأَبَوَيْ ذرٍّ والوقت، وللمؤلف في التفسير ومسلم: "دَثِّروني" وهو أنسبُ لقولِه تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} ولأبوي ذرٍّ والوقتِ والأصيلي: عَزَّ وجلَّ، بدلَ قولِه: تعالى، والتدثيرُ والتزميلُ بمعنى، ونداؤه بهذا إيناسٌ له وتلطفٌ، والمعنى يا أيُّها المدثرُ بثيابِه، وعن عكرمةَ أي: المدثرُ بالنبوِة وأعبائِها. وقوله: {قُمْ فَأَنْذِرْ} أي: حَذِّرْ من العذابِ مَنْ لم يُؤمن بك، وفيه دلالةٌ على أنه أمرٌ بالإِنذارِ عَقِبَ نزولِ الوحي للإِتيانِ بفاء التعقيبِ، واقْتَصَرَ على الإِنذارِ لأن التبشيرَ إنما يكونُ لِمَنْ دَخَلَ في الإِسلامِ، ولم يكن إذ ذاك مَنْ دَخَلَ فيه، وقولهُ: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} أي: عَظِّمْ، {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} أي: من النَّجاساتِ، وقيلَ: الثيابُ: النفسُ كما قال الشاعرُ: فَشككْتُ بالرُّمح الطويلِ ثيابهُ ... ليسَ الكريمُ على القَنى بِمُحَرَّمِ وتطهيرُها اجتنابُ النقائضِ، والرُّجْزُ هُنا الأوثانُ، وأصلُهُ العذابُ في اللغةِ، وسَمى الأوثانَ هُنا رِجزًا لأنّها سَبَبُهُ. وقوله: "فَحَمِيَ الوحيُ" أي: جاءَ كثيرًا، وفيه مطابقة لتعبيرِهِ عن تأخُّرِهِ بالفُتور، إذ لم يَنْتَهِ إلى انقطاعٍ كليٍّ فَيُوصَفَ بالضدِّ وهُو البردُ. وقوله: "وتَتَابَعَ" تأكيدٌ معنويٌّ، ويحتَمَلُ أن يُرادَ بحميَ قوِيَ، وتتابَعَ تَكاثَرَ، وفي روايةٍ: وتَواتَرَ بدلَ "وتتابَعَ"، والتواتُرُ مجيءُ الشيءِ يَتْلو بعضُهُ

رجاله ثلاثة

بعضًا من غير تخَلُّلٍ، وإنما لم يَكْتَفِ بِحَمِيَ لأنه لا يَسْتَلْزمُ الاستمرارَ والدوائم والتواتر. رجالُهُ ثلاثةٌ: الأولُ: ابن شهابٍ الزُّهري وقد مرّ في الذي قبله. الثاني: أبو سلمة بنُ عبد الرحمنِ بن عوف الزُّهري المدني، قيل: اسمُهُ عبدُ الله، وقيل: إسماعيلُ، وقيل: اسمه كنيتُه، ذكره ابن سعد في الطبقةِ الثانيةِ من المدنيّين وقال: كان ثقةً فقيهًا كثيرَ الحديث وأمه تُماضرُ بنتُ الأَصْبَغ الكلبيةِ، يُقال: إنها أدركتِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - من أهل دُومةِ الجَنْدَلِ، لم يُولد منها سواهُ، وقال مالكٌ: عندنا رجالٌ من أهلِ العلمِ اسمُ أحدِهم كنيتُهُ منهم أبو سلمةَ بنُ عبد الرحمن. وقال مَعْمرٌ عن الزُّهريِّ أربعةٌ من قريشٍ وجَدْتُهم بُحورًا: ابنُ المُسَيِّب، وعروةُ، وعُبيدُ الله بن عبد الله بن عُتبة بنِ مسعود، وأبو سلمةَ بنُ عبدِ الرحمن، قال: وكانَ أبو سلمةَ كثيرًا ما يُخالِفُ ابنَ عبّاسٍ فحُرِمَ لذلك من ابن عبّاسٍ علمًا كثيرًا. وقالَ الزُّهريُّ: قالَ لي إبراهيمُ بنُ عبدِ اللهِ بن قارِظٍ وأنا بمصرَ: لقد تَركْتُ رجلينِ من قومِكَ لا أعلم أحدًا أكثرَ حديثًا منهما: عروةُ بنُ الزبيرِ، وأبو سلمةَ بنُ عبدِ الرحمن. وقالَ أبو زُرعة: ثقةٌ إمامٌ. وقالَ ابنُ حِبّان: كانَ من ساداتِ قريشٍ، ورُوِيَ عن الشعبيِّ قال: قَدِمَ علينا أبو سلمةَ فَمَشى بيني وبينَ أبي بُردة، فَقُلت له: مَنْ أفقهُ مَنْ خَلَّفْتَ ببلادِكَ، فقالَ: رجلٌ بينَكما. وهو أحدُ الفقهاءِ السبعةِ على أحدِ الأقوالِ المارّةِ. روى عن أبيهِ، وعثمانَ بنِ عفّانَ، وطلحةَ، وعبادةَ بنِ الصامتِ، وقيل: لم يَسْمَعْ منهما، وأبي الدَّرداءِ، وأبي قَتادَةَ، وعائشة، وأمِّ سلمةَ، وعبدِ الله بن سلامٍ، وأبي هريرةَ، وابن عباسٍ، وابن عُمَرَ، وابن عمرو بن العاص، وأبي سعيدٍ الخُدري، وأنَسٍ، وجابرٍ، وزينبَ بنتِ أمِّ سلمةَ، وخلقٍ.

وروى عنهُ ابنُه عمرُ، وأولادُ إخوتِهِ سعدُ بنُ إبراهيمَ بنِ عبد الرحمن بن عوف، وعبد المجيد بن سهيل بن عبد الرحمن، وزرارة ابن مصعب بن عبد الرحمن، والأعرجُ، وعروةُ بنُ الزبيرِ، والزُّهريُّ، ويحيى بنُ أبي كثيرٍ، وسليمانُ الأحولُ، والشَّعبيُّ ويحيى بنُ سعيدٍ الأنصاريُّ، وعمرُو بنُ دينارٍ، وخلقٌ كثيرٌ. مات بالمدينة سنةَ أربع وتسعين وهو ابنُ اثنين وسبعين في خلافة الوليد. الثالث: جابر بنُ عبد الله بن عمرو بنِ حرامِ بن كعبِ بنِ غنم بن كعبِ بن سلمةَ الأنصاري السلميَ يُكنى أبا عبدِ الله، أَو أبا عبدِ الرحمن، أو أبا محمَّد، أقوالٌ. قال ابن عبد البر: وأصَحُّ ما قيل: أبو عبد الله، أُمُّهُ نسيبةُ بنتُ عقبةَ بن عدي بن سنان بن نابي بن زيد بن حرام بنِ كعب بنِ غنمٍ أحدُ المكثرين عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، شَهد العقَبَةَ الثانيةً مع أبيه وهو صغيرٌ، ولم يشهد الأولى، ذكره بعضُهم في البدريين، ولا يَصِحُّ لأنه قد رُوي عنه من طريق مسلمٍ أنه قال: غَزَوْتُ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - تسعَ عشرةَ غزوةً لم أشْهَدْ بدرًا ولا أُحُدًا مَنَعَني أبي، فلما قُتِلَ لم أتَخَلَّف. وروى البخاريُّ في تاريخه عنه أنَّه قال: كنتُ أَمْنَحُ أصحابي الماءَ يومَ بدرٍ، وأنكر الواقدي هذا لما مرَّ عن مسلم، ورُوي عنه قال: اسْتَغْفَرَ لي النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - خمسًا وعشرينَ مرَّةً، وشهد صفين مع عليٍّ رضي الله عنه، وكانت له حَلْقَةٌ في مسجدِ النبي - صلى الله عليه وسلم - يُؤْخَذُ عنه العلمُ، وكان يَمَسُّ رأسَه ولحيتَه بصُفرةٍ، له ألف وخمس مئة حديثٍ وأربعون حديثًا، اتَّفَقَا على ثمانيةٍ وخمسين، وانفردَ البخاريُّ بستةٍ وعشرين، ومسلمٌ بمئةٍ وستة وعشرين. روى عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وعن أبي بكرٍ، وعمرَ، وعليٍّ، وطلحةَ، ومعاذِ ابن جبل، وعمارِ بن ياسر، وأبي هريرةَ، وأبي حُمَيْدٍ الساعدي، وغيرهم.

وروى عنه أولادُهِ عبدُ الرحمن وعقيلٌ ومحمد وسعيدُ بن المسيِّبِ، وعمرو بن دينار، وأبو جعفر الباقرُ، ومحمدُ بن المُنْكَدِرِ، وخلقٌ كثيرٌ. مات بالمدينةِ بعد أن عَمِيَ سنة ثلاثٍ وسبعينَ، وقيل: سنة سبعٍ وسبعين وهُو ابن أربعٍ وتسعين، صلى عليه الحجاجُ، وفي تاريخ البخاري أنه حَضَرَ جنازته، وقال البغويُّ: آخر من ماتَ بالمدينة من الصحابة سهلُ بن سعد. والسَّلَميُّ في نَسَبِهِ نسبةٌ إلى سَلِمة بكسر اللام وهو بفتح السين واللام، وحُكِيَ كسرُ اللام عن المحدثين، وهذا ضابطٌ لما في الأنصارِ خاصةً وإلا فلهم في غيرهم جماعةٌ بالفتح أيضًا، قال العراقي: والسَّلميُّ افتَح في الأنصارِ وَمنْ ... يَكْسر لامَهُ كأصلِهِ لَحنْ وَيَشْتَبهُ بالسُّلَميِّ بضمِّ السين وفتح اللام نِسبةً إلى بني سُلَيم كعباسِ ابن مرداسٍ السُّلميِّ وبالسلميِّ بفتح السين وسكون اللام نسبةً إلى بعض أجدادِ المُنْتَسِبِ. وجابرُ بنُ عبد الله في الصحابة ثلاثةٌ: هذا، وجابرُ بن عبد الله بن رئاب، وجابرُ بن عبد الله الراسبيُّ نزيلُ البصرةِ. وأما جابرٌ في الصحابة فأربعةٌ وعشرون نَفَرًا. وجابرُ بنُ عبد الله في غير الصحابة عشرةٌ: الأول: سُلَمي يروي عن أبيه عن كعب الأحبار، والثاني: مُحاربيٌّ روى عن الأوزاعي، والثالثُ: غطفاني روى عن عبد الله بن الحسن العَلَويّ، الرابعُ: مصري يروي عنه يونُس بن عبد الأعلى، والخامسُ: يروي عن الحسن البصري وكان كذابًا، والسادسُ: جابرُ بن سيلان إلى آخرهم. ويشتبهُ جابرٌ بجاثرٍ بالثاء المثلثة موضعَ الباء الموحدة، وبخاتر بالخاء المعجمة ثم ألف ثم تاء مثناة من فوق ثم راء، الأول: أبو القبيلة التي بُعِثَ منها صالحٌ عليه الصلاة والسلام وهُو ثمودُ بن جاثرِ بنِ إرم بن سام بن

نوح عليه الصلاة والسلام، وأخوه جد يس بن جاثر، والثاني: مغنٍ له أخبارٌ وحكاياتٌ مشهورةٌ. وجابرُ بن عبد الله هذا وما وافقه في الاسم فقط، أو في الاسم واسم الأب يُسَمّى عند المحدثين (بالمتفق والمفترِق) وهو ما اتَّفَقَ لفظُهُ وخطُّهُ وتَعَدَّدتْ مسمياتُهُ، وهو فنٌّ مهمٌّ وفائدتهُ الأمن من اللَّبْس، فربما يُظَنُّ المتعددُ واحدًا، وربّما يكونُ أحد المُتَّفِقَيْن ثِقةً والآخَرُ ضعَيفًا فيُضَعَّفُ ما هو صحيحٌ أو يُعْكَسُ، وهو من قَبِيلِ المشتَرَكِ اللفظي، والمهِمُّ منهُ من يَشْتَبهُ أمرُهُ لتعاصرٍ واشتراكٍ في شيوخٍ أو رُواةٍ وهُو ثمانيةُ أقسامٍ: أحدُها: أن تَتَّفِق أسماؤُهم وأسماءُ آبائِهم كالخليلِ بن أحمدَ فإنه ستّةٌ، وثانيها: أن تَتَّفِق أسماؤهُم وأسماء آبائهم وأجدادِهم كأحمد بن جعفر بن حمدان وهم أربعة، وثالثها: أن تَتَّفِق الكُنيةُ والنِّسْبةُ وذلك اثنان: أبو عمرانَ الجوني بفتح الجيم واسمه عبدُ الملك بن حبيب تابعيٌّ مشهورٌ والآخر: بغداديٌّ واسمه موسى بن سَهل بنِ عبدِ الحميد، ورابعها: أن يَتَّفِقَ الاسم واسم الأب والنسبةُ وذلك في اثنين محمَّد بن عبد الله اثنان من الأنصار، أحدُهُما: القاضي أبو عبد الله محمَّد بن عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاري البصري والثاني: أبو سلمة محمدُ بنُ عبد الله بن أنس بن زيادٍ الأنصاريُّ البصريُّ ضعيفٌ وقد اشتركا في الرواية عن حُمَيْدٍ الطويلِ، وخامسها: أن تَتَّفِقَ كُناهُم وأسماءُ آبائِهم وذلك في ثلاثةٍ: أبو بكر بن عياش الأسديُّ الكوفيُّ، والثاني: أبو بكرِ بنُ عياشٍ الحمصيُّ، والثالثُ: أبو بكر بنُ عياشٍ السلميُّ، وسادسها: أن تَتَّفِقَ أسماؤُهم وكُنى آبائِهم عكسُ الخامسِ وذلك في أربعةٍ: صالحُ بنُ أبي صالحٍ، الأول: أبو محمدٍ صالحُ بنُ أبي صالح المدنيُّ مولى التَوْأمةِ بنتِ أميةَ بنِ خلفٍ الجمحيّ يروي عن أبي هريرةَ، والثاني: صالح بنُ أبي صالحٍ ذكوانُ السمّانُ يروي عن أنس، والثالثُ: صالحُ بنُ أبي صالح السَّدوسيُّ يروي عن علي، والرابع: صالح بنُ أبي صالح مِهرانُ المخزوميُّ الكوفيُّ يروي عن أبي هريرةَ، وسابعها: أن تَتَّفِقَ أسماؤهم أو كُناهم أو نِسْبَتُهُم وذلك

كحمادٍ إذا أُهمِلَ ولم يُمَيَّزْ بشيءٍ فإن أَطْلَقَهُ سليمانُ بنُ حربٍ أو عارِمٌ محمدُ بن الفضل فالمرادُ به حماد بن زيدٍ، وإن أَطْلَقَهُ التَّبُوْذَكيُّ أو عَفّانُ ابنُ مسلمٍ أو حجاجُ بنُ منهالٍ فالمرادُ به حمادُ بن سَلَمَةَ، وثامنها: أن يَتَّفِقا في النسبة لفظًا مع اختلافها في المعنى، وذلك كالحنفيِّ منسوبٌ إلى القبيلة وهم بنو حنيفةَ منهم أبو بكرٍ عبدُ الكبير وأبو علي عبيدُ الله ابنا عبد الحميد الحنفي، روى لهما الشيخان أو الحنفيِّ المنسوب إلى الإِمام أبي حنيفةَ، والمنسوبُ إلى هذا كثيرٌ وأنت مُخَيَّرٌ فيه بين أن تقولَ حَنَفِيٌّ بلا ياءٍ قبل الفاء أو حنيفيٌّ بالياء قبلَ الفاء تمييزًا له عن المنسوب إلى القبيلة وإلى المُتَّفِقِ والمُفْتَرِقِ أشار العراقي بقوله: ولهمُ المتفقُ المُفتَرقُ ... ما لفظهُ وخطهُ مُتَّفِقُ لكن مُسمياتهُ لعدهْ ... نحو ابنِ أحمدَ الخليلِ سِته وأحمدُ بن جعفر وجدُّه ... حمدانُ هم أربعة تعدُّه ولهمُ الجوني أبو عمرانا ... اثنان والآخرُ من بغدانا كذا محمدُ بنُ عبد الله ... هما من الأنصار ذُو اشتباهِ ثم أبو بكر بنُ عياشٍ لهم ... ثلاثةٌ قد بينوا محلهُم ومنهُ ما في اسمٍ فقط ويُشكل ... كنحوِ حمادٍ إذا ما يُهمَل فإن يكُ ابن حربٍ أو عارمُ قد ... أَطلقهُ فهُو ابن زيدٍ أو ورد عن التَّبُوذكي أو عفانِ ... أو ابن منهالٍ فذاك الثاني ومنهُ ما في نسبٍ كالحنفِي ... قبيلًا أو مذهبًا او بالياصف وهذا الحديث ذكره البخاريُّ بصورة التعليق لأنه قال: قال ابن شهاب، وأخبرني أبو سلمة فيُحتمل أن يكون مُسندًا بالإِسناد المُتقدِّم كأنه قال: حدثنا يحيى بن بُكيْرٍ، حدثنا الليث، عن عقيلٍ أنه قال: قال ابنُ شهاب إلخ. ويُحتمل أن يكون تعليقًا، والتَّعليقُ: هو ما حُذف فيه أوَّل السندِ واحدًا كان أو أكثر، بل ولو حُذف الإِسناد من أوَّلهِ إلى آخره بأن اقتصر على الرَّسولِ في المرفوعِ وعلى الصحابيِّ في الموقوف، مأخوذٌ من تعليق

الجدار وتعليق الطلاق ونحوه بجامعِ قطْعِ الاتِّصال، وأما ما وقَعَ الحذفُ من آخره أو أثنائه فليس تعليقًا لاختصاصه بألقابٍ أُخر كالعَضْلِ والقَطْعِ والإِرسالِ وهو كثيرٌ في البخاري قليلٌ في مسلمٍ حتى قال العراقيُّ: ليس عندَهُ بعد مقدمةِ الكتابِ حديثٌ لم يُوصِلْهُ سوى موضعٍ واحدٍ في التيممِ وهُو حديثُ أبي جُهيمِ بنِ الحارثِ بن الصِّمةِ: أقبل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من نحوِ بئرِ جَملٍ الحديثُ. قال فيه مسلم: وروى الليثُ بنُ سعدٍ ولم يُوصِلْ إسنادَه إلى ابن سعد، وقد أسندهُ البخاري عن يحيى بنِ بُكيرٍ، عن الليث. وما جاء في "الصحيحين" منه فإن كان بصيغةِ الجزم كقال وذَكَرَ وروى فلانٌ فهو صحيحٌ عمَّن عَلَّقهُ عنه فإنَّ مُعلِّقَهُ لا يستَجيزُ إطَلاقهُ إلا وقَدْ صحَّ عندهُ عنه، وإن وَقعَ بصيغةِ التَّمريْض، كيُذْكرُ ويُروى، ويُقال ورُوِي، وذُكِر، وقيل فلا تُصحِّحْهُ عملًا بظاهرِ الصيغة، ولأنَّ استعمالها في الضعيف أكثرُ منه في الصحيح، وحمل ابنُ الصّلاح: ما أَدْخَلتُ في كتابي الجامعِ إلا ما صحَّ، وقول الأئمةِ ما فيه محكومٌ بصحتِهِ، على أنَّ المراد مقاصدُ الكتاب وموضوعهُ ومتون الأبوابِ دون التَّراجمِ ونحوِها، ولكنَّ إيراد المعلقِ لذلك في أثناء صحيحهِ مُشْعِرٌ بصحةِ الأصل له إشعارًا يُؤْنسُ به ويُرْكنُ إليه. أما الذي عزاهُ المصنفُ لشيخهِ بِقال فحُكْمُهُ حكمُ العنْعَنَةِ فيكونُ متّصلًا من البخاري ونحوه لثبوتِ اللِّقاءَ والسلامةِ إذ شرطُ الاتصال ثبوتُ ذلك كما مرَّ في الحديثِ الأول فلا يكونُ تعليقًا وقيل: تعليقٌ وعليه جرى الحُميْديُّ وتوسَّطَ بعضُ علماء المغاربة فسمّى ذلك بالتعليق المتصل من حيثُ الظاهرُ، المنفصل من حيثُ المعنى، لكنه أدْرجَ معه "قال لي" ونحوها مما هو متصلٌ جزمًا وقال العراقي: إن حكم "قال" في الشيوخ مثلُ غيرها من التعاليق المجزومة وأمثلة ذلك كثيرةٌ، فمنها خبرُ المعازف أي آلات الملاهي حيثُ قال البخاري في باب الأشربة: قال هشامُ بنُ عمار، حدثنا صدقةُ بن خالد، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، قال: حدثنا

عطية بن قيس، قال: حدثني عبد الرحمن بن غنم، قال: حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "ليَكُوننَّ من أُمَّتي أقوامٌ يستحِلُّونَ الحِرَ والحرير والخمر والمعازفَ" فهذا حكمُ الاتصال أو التعليق على ما مرَّ لأنَّ هشامًا من شيوخ البخاري، وقد عزاه إليه بـ "قال" وأما ما ذهب إليه ابنُ حزمٍ الحافظُ أبو محمدٍ عليُّ بن أحمد بن سعيد بن حزم من أنه منقطعٌ جُمودًا منه على الظاهر، فغيرُ صحيحٍ، ولأجل اعتماده على ما قال صرَّح بتقريرِ إباحة الملاهي قائلًا: إنَّ جميع ما فيها موضوعٌ. قال ابن الصلاح: ولا التِفات إليه في ذلك بل أخطأ فيه من وجوهٍ والحديثُ صحيحٌ معروفُ الاتصال بشرط الصحيح، قال: والبخاري قد يفعل ذلك لكون الحديث معروفًا من جهة الثقات عن الراوي الذي علَّقَهُ عنه أو لكونه ذكره في موضعٍ آخر من كتابه متصلًا أو غيرِ ذلك من الأسباب التي لا يصحَبها خللُ الانقطاعِ وإلى التعليق أشار العراقي بقوله: .............. ... وفي الصحيح بعضُ شيء قدْ رُوي مضعفًا ذالهما بلا سند ... أشيا فإن يجزم فصحح أو ورد ممرّضا فلا ولكن يشعر ... بصحة الأصل له كيُذكرُ وإن يكُن أوَّلُ الاسنَادِ حُذِفْ ... مع صيغة الجزمِ فتَعليقًا عُرفْ ولوْ إلى آخرهِ أمّا الذي ... لِشيخِهِ عزى بقالَ فَكذى عَنْعَنةٍ كخبرِ المعازفِ ... لا تُصْغِ لابنِ حزْمِ المُخالفِ لطائف إسناده منها أنَّ رواتهُ كلهم مدنِيّون، وفيه روايةَ تابعيٍّ عن تابعي أخرجه البخاريُّ هنا وفي الأدب والتفسير بأتمَّ من هذا، وأخرجهُ مسلم. ثم قال المؤلف: تابعه عبد الله بن يوسف وأبو صالح وتابعه هلال بن رداد عن الزهري وقال يونس ومعمر بوادره فقد جاء البخاري هنا بأن عبد الله بن يوسف وأبا صالح تابَعا يحيى بن بُكَيْرٍ في الرواية عن الليثِ للحديث الأول المروي

عن عائشة، وأن هلال بن رداد تابعَ عقيل بن خالد في روايةِ له عن الزُّهري فضميرُ "تابِعِهِ" في الأول ليحيى بن بكير، وفي الثاني لعقيل بن خالد، وأنَّ يونس ومعمرًا رويا هذا الحديث عن الزُّهريِّ، فوافقا عقيلًا، إلا أنهما قالا: ترْجُفُ بوادِرُهُ بدلَ قولهِ هو فيه: يَرْجُفُ فؤادُهُ، والبوادرُ جمع بادرةٍ وهي اللَّحْمةُ بين المنْكِبَيْنِ والعُنُقِ تضْطَرِبُ عند الفزعِ. أما متابعةُ عبدِ اللهِ بن يوسف ليحيى بن بُكَيْرٍ فقد أخرجها البخاري في قصة موسى وفي التفسير والأدب، وأخرجه مسلمٌ في الإِيمان عن محمَّد ابن رافع الترمذي، وفي التفسير عن عبد الله بن حميدٍ، وقال حسنٌ صحيحٌ، والنسائيُّ فيه أيضًا عن محمود بن خالدٍ. وأما رواية أبي صالح عن الليث فأخرجها يعقوبُ بن سفيان في تاريخه عنه مقرونًا بيحيى بن بُكير وأما هلالُ بن ردّاد فحديثُهُ في الزهريات للذهلي. وهذا أول موضع جاء فيه ذكر المتابعة وسنُبيِّنُها إن شاء الله قريبًا بعد ذكر الرجال. ورجال المتابعات ستةٌ: الأوَّلُ: عبد الله بن يوسف وقد مرَّ في الثاني، ومرَّ الزُّهريُّ في الثالث. والثالث أبو صالح عبد الله بن صالح بن محمَّد بن مسلم الجُهَنِيُّ ولاءً المصريُّ كاتب الليث وقد أكثر البخاريُّ عنه من المعلقات، وعلق عن الليث جملة كثيرةً من أفراد أبي صالح عنه، وَوَهِمَ من زَعَمَ كالدِّمياطي أنه أبو صالح عبد الغفار بن داود الحرّاني فإنه لم يذكر من أسنده عن عبد الغفّار وقد وُجِدَ في مسنده عن كاتب الليث وقد كان أبو الأسود النَّضْر بنُ عبد الجبار وسعيدُ بن غُفَيْرٍ يُثْنيان عليه، وقالَ عبدُ الملك بنُ شُعَيْبٍ بنِ الليث: أبو صالحٍ ثقةٌ مأمونٌ قد سمع من جَدّي حديثَهُ وكان أبي يَحُضُّهُ على التحديث، وكان يُحَدِّثُ بحضرةِ أبي. وقالَ عبدُ العزيز بنُ عمران بن مقلاص: كنا نَحْضُرُ شعيبَ بن الليث، وأبو صالح يَعْرِضُ عليه حديث

الليث فإذا فَرَغَ قلنا: يا أبا صالح نحدث بهذا عنك؟ قال: نعم. وقال الفضل بن محمَّد الشعراني: ما رأيت أبا صالح إلا وهو يحدث أو يسبح. وقيل لأبي زُرعة أبو صالح كاتب الليث؟ فضحك، وقال: حسن الحديث. قلنا: فإن أحمد كان يحمل عليه، قال: وشيء آخر. وقال ابن عبد الحكم: سمعت أبي وقد قيل له: إن يحيى بن بُكير يقول في أبي صالح فقال: قُل له: هل جئنا الليث قطُّ إلا وأبو صالح عنده، رجلٌ كان يخرج معه إلى أسفاره، وهو كاتبه، فَيُنْكِرُ أن يكون سمع منه ما ليس عند غيره؟ وقال الذُّهلي: شغلني حسن حديثه عن الاستكثار من سعيد بن غِفَير. وقال يعقوب بن سفيان: حدثني الرجل الصالح. وقال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عنه، فقال: كان بأوَّل متماسكًا، ثم فَسَدَ بأخَرَة. وقال أيضًا: ذكرته لأبي فكرهه. وقال: إنه روى عن ابن أبي ذئب وأنكر أن يكون الليث سمع من ابن أبي ذِئب. وقال ابن معين: أقل أحوال أبي صالح أنه قرأ هذه الكتب على الليث، ويمكن أن يكون ابن أبي ذِئب. كتب إلى الليث بهذا الدَّرج. وقال صالح جَزَرة: كان ابن معين يوثقه، وعندي أنه يكذِب في الحديث. وقال علي بن المديني: ضَرَبْتُ على حديثه. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال أبو حاتم الأحاديث التي أخرجها أبو صالح في آخر عمره فأنكروها عليه أرى أنها مما افتعل خالدُ بن نُجَيح,. وكان أبو صالح يُعْجِبه، وكان سليمَ الناحية، وكان خالد يَضَعُ الحديث في كتب الناس، ولم يكن أبو صالح يرى الكذب، بل كان رجلًا يَضَعُ الحديث في كتب الناس، ولم يكن أبو صالح يرى الكذب، بل كان رجلًا صالحًا. وقال ابن حِبَّان: كان صدوقًا في نفسه، وروى أحاديث مناكير، وقعت في حديثه من جارٍ له كان يضع الحديث، ويكْتُبُ بخطٍّ يشبه خطَّ عبد الله ويرميه في داره، فيتوهم عبد الله أنه خطه، فيحدث به. وقال ابن عدي: كان مستقيم الحديث إلا أنه يقع في أسانيده ومتونه غلطٌ، ولا يَعْتمِدُ الكذب. قال ابن حجر: ظاهر كلام هؤلاء الأئمة أن حديثَه في الأول مستقيمٌ

ثم طرأ عليه فيه تخليطٌ فمقتضى ذلك أن ما يجيء من روايته عن أهلِ الحِذق كيحيى بن معين، والبخاري، وأبي حاتم، وأبي زرعة فهو من صحيح حديثه، وما يجيء من رواية الشيوخ عنه فيُتَوَقَّفُ فيه والأحاديث التي رواها البخاري عنه في الصحيح بصيغة "حدثنا"، أو "قال لي"، أو "قال" المجردة قليلة، وساق منها تسعةً، ثم قال: وأما التعليق عن الليث من رواية عبد الله بن صالح عنه فكثير جدًّا، وقد عاب ذلك الإِسماعيلي على البخاري، وتعجب منه كيف يحتج بأحاديثه حيث يُعَلِّقُها؟ فقال: هذا عجب يحتَجُّ به إذا كان منقطعًا ولا يحتج به إذا كان متصلًا. وجواب ذلك أن البخاري إنما صنع ذلك لما قررناه أن الذي يورده من أحاديثه صحيحٌ عنده، قد انتقاه من حديثه، لكنه لا يكون على شرطه الذي هو أعلى شروط الصحة، فلهذا لا يسوقه مساقَ أصل الكتاب، وهذا اصطلاح له قد عُرِفَ بالاستقراء من صنيعه ولا مشاحة فيه. روى عن الليث، ومعاوية بن صالح، وموسى بن عُلَيٍّ -بضم العين وفتح اللام- ويحيى بن أيوب، وغيرهم. وروى عنه يحيى بن معين، والبخاري، والترمذي في القراءة خلف الإِمام، مات سنة ثلاث وعشرين ومئة. وأما أبو صالح الآخر الذي حمله بعض الشُرّاح عليه عبد الغفار بن داود ابن مهران بن زياد بن داود بن ربيعة بن سليمان بن عُمير البكريُّ الحراني، قال أبو حاتم: لا بأس به، صدوق، وذكر ابن حبان في الثقات، وقال ابن يونس: كان فقيهًا على مذهب أبي حنيفة، وكان ثقة ثبتًا حسن الحديث، وكان يجالس المأمون لَمّا قَدِمَ مصر، وله معه أخبار، وقال ابن عدي: كان كاتب ابن لهيعة وفي الزهرة أنه له في البخاري ثلاثة أحاديث، ولد بإفْرِيقِيَّةَ سنة أربعين ومئة، وخرج به أبوه وهو طفل إلى البصرة، وكانت أمه من أهلها فنشأ بها، وتفقه وسمع من حماد بن سَلَمة، ثم رجع إلى مصر مع أبيه، وسمع من الليث بن سعد، وابن لهيعة، وغيرهما، وسمع

بالشام إسماعيل بن هشام، وبالجزيرة موسى بن أعْيَن، واسْتَوْطَنَ مصر، وحدث بها، وكان يَكْرَهُ أن يُقال له: الحَرّاني، وإنما قيل له: الحراني لأن أخويه عبدَ الله وعبدَ الرحمن ولدا بها, ولم يزالا بها، وحَرّانُ مدينة بالجزيرة من ديار بكر، واليوم خرابٌ، سميت بحَرّانَ بن آزَرَ بن إبراهيم عليه الصلاة والسلام. وروى عنه يحيى بن معين، وحَرْمَلَةُ بن يحيى، وأبو زُرعة، والبخاري، وأبو داود عن رجلٍ، عنه، وخرج له النَّسائي، وابن ماجة، مات بمصر سنة أربع وعشرين ومئتين. وروى التِّرمذي في مسند علي عن عبد الغفار بن الحكم الأموي ولاءً أبو سعيد الحراني، روى عن فُضَيْلِ بن غَزْوان، وروى عنه محمدُ بن يحيى، مات سنة سبع عشرة ومئتين، وفي غير الستة عبد الغفار بن داود شيخ لأبي غياث السَّمَرْقَندي. وأبو صالح في الرواة في الكتب الستة أربعة عشر كلُّهم تابعيون ما عدا ابن زُنْبُور، وكاتب الليث المتقدم. وفي غير الستة جماعة فوق العشرة. الثالث: هلالُ بن رَدّادٍ كشَدّادٍ الطائي الحمصي. قال الزُّهري: كان كاتِبًا لهشامٍ، وكان أَسْوَقَ كتبته للحديث باختصاصه، روى له البخاري هنا متابعةً، وليس له ذكر فيه بعد هذا الموضع، ولم يخرج له من باقي الستة إلَّا الترمذي. روى عن الزُّهري، وروى عنه ابنه حَمّاد، ولم يَذْكُرْهُ البخاري في "تاريخه"، ولا ابن أبي حاتم في كتابه، بل قال فيه: هلال بن رَدّاد مجهولٌ، وإنما ذكر ابن أبي حاتم ولدَه محمدًا، وليس له ذكر في الستة، وفي الرواة هلال اثنان وثلاثون، ثلاثة منها في غير الستة. الرابع: يونُسُ بن يزيد بن مِشْكان بن أبي النِّجاد بكسر النون أبو يزيد الأيليُّ القُرشيُّ الأموي مولى معاوية بن أبي سفيان، قال ابن المديني وابن مهدي: كان ابن المبارك يقول: كتابه صحيحٌ، وكذا أقول. وقال عَبْدانُ

عن ابن المبارك: إني إذا نظرت في حديث معمر ويونس يُعْجبُني كأنهما خرجا من مِشْكَاةٍ واحدةٍ، وقال عبد الرزاق عنه أيضًا: ما رأيتَ أحدًا أروى للزُّهري من معمر إلا أن يونس أحفظ للمسند، وفي رواية: إلا يونس فإنه كتب على الوجه، وقال أحمد بن حَنْبل: ما أعلم أحدًا أحفظَ لحديث الزُّهري من معمرٍ إلَّا ما كان من يونس فإنه كتب كل شيء هناك، وقيل له: فإبراهيم بن سعدٍ؟ قال: وأي شيء روى إبراهيم عن الزهري؟ إلا أنه في قلة روايته أقلُّ خطأً من يونس. قال الأثرمُ: ورأيته يَحْمِلُ على يونس، وأنكر عليه، وقال: كان يجيء عن سعيد بأشياءَ ليست من حديثه، وضَعَّفَ أمرَهُ، وقال: لم يَكُن يَعْرِفُ الحديث، وكان فيما أرى يَكْتُبُ أول الكلام فَيَنْقَطِعُ الكلامُ، فيكون أوله عن سعيد، وبعضه عن الزُّهري، فيشتبه عليه، وعَقيلٌ أقلُّ خطأً منه، وقال ابن معين: أثبت الناس في الزُّهري مالكٌ ومعمرٌ ويونسُ وعقيلٌ وشعيبٌ. وقال أحمد بن صالح: نحن لا نُقدِّمُ على يونسَ في الزُّهري أحدًا، وقال الدارمي: سمعتُ أحمد بن حنبل يقول: سمعتُ أحاديثَ يونسَ عن الزُّهري فوجدت الحديثَ الواحد ربما سمعه مرارًا، وكان الزُّهري إذا قدم أيْلَة نزل عليه، وقال أحمد: كان وكيعٌ يقول: سيِّىءُ الحفظ، وقال الميموني: سُئل أحمد: مَن أثبتُ في الزُّهري؟ فقال: مَعْمر، قيل له: فيونس؟ قال: روى أحاديث منكرةً عنه، وقال ابن سعد: كان كثيرَ الحديث، وليس بحجة، وربما جاء بالشيء المنكر، قال ابن حَجَر في "مقدمته": وثقة الجمهور مطلقًا، وإنما وضعوا بعض روايته حيث يخالف أقرانه، ويحدث مِن حفظه، وإذا حدَّث من كتابه فهو حجة. قال ابن البَرْقي: سمعت ابن المديني يقول: أثبت الناس في الزُّهري مالكٌ، وابنُ عُيينةَ، ومَعْمر، وزياد بن سعد، ويونسُ من كتابه، ووثقه ابن معين، وأحمد، والعِجْليُّ، والنسائي، ويعقوب بن شَيْبَةَ، والجمهور مطلقًا، واحتج به الجماعة. روى عن خلق من التابعين منهم القاسم، وعكرمة، وسالم،

ونافع، والزُّهري، وغيرهم. وروى عنه الليث بن سعد، والأَوزاعي، وجَرير بن حازم، وعمرو ابن الحارث، وغيرهم. مات سنة تسع وخمسين ومئة بمصر. وفي يونس ستُّ لغات كيوسفَ، وفي الرواة يونس كثير نحو أربع وعشرين. الخامس: مَعْمر بن راشد الأسَدِيُّ ولاءً الحرّاني، مولى عبد السلام ابن عبد القدوس أبو عُروة البصري، ثم اليماني، عالمُ اليمن، أحد الأعلام، ذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: كان فقيهًا حافظًا متقنًا ورعًا، وقال عبد الرزاق: سمعت منه عشرة آلاف حديث، وقال أيضًا: سمعت معمرًا يقول: جلست إلى قَتادة وأنا ابن أربع عشرة سنة، فما سمعت منه حديثًا إلا كأنه يُنْقَشُ في صدري، وقال العجلي: ثقة صالح، وقال النسائي: ثقة مأمون، وضعَّفه ابن معين في روايته عن ثابت فقط، وعده ابن المديني وأبو حاتم فيمن دَار عليهم الإِسنادُ وقال أحمد: ما انضم أحد إلى مَعْمر إلا وجدت معمرًا يتقدمه في الطلب، كان من أطلب أهل زمانه للعلم، وقال ابن معين: أثبت الناس في الزُّهري مالك ومعمر، ثم عدَّ جماعة، وقال عثمان الدّارمي: قلت لابن معين: معمر أحب إليك في الزُّهري أو ابن عيينة أو صالح بن كيسان أو يونس؟ فقال في ذلك كله: معمر وقال عمرو بن علي: كان من أصدق الناس، وقال العِجليُّ: بصري سكن اليمن، ثقة، رجل صالح، قال: ولما دخل صَنْعاءَ كرهوا أن يخرج من بين أَظْهُرِهم، فقال لهم رجل: قَيِّدوه فزوِّجوه، وقال ابن جُريج: عليكم بهذا الرجل فإنه لم يَبْق أحدٌ من أهل زمانه أعلم منه يعني معمرًا- وقال ابن معين مرة: إذا حَدَّثَكَ معمر عن العراقيين فخالِفْه إلا عن الزُّهري وابن طاووس فإن حديثه عنهما مستقيمٌ، فأما أهل الكوفة وأهل البصرة فلا، وما عمل في حديث الأعمش شيئًا، وقال ابن سعد في الطبقة الثالثة

من أهل اليمن: كان معمرٌ رجلًا له قَدْرٌ ونُبْلٌ في نفسه، ولمَّا خرج إلى اليمن شَيَّعه أيوب، شهد جنازة الحسن البصري. وسمع خلقًا من التابعين منهم عمرو بن دينار، وقتادة، وأيوب، وخلق كثير. وروى عنه أيوب -من شيوخه- وعمرو بن دينار، والثَّوري -من أقرانه- وأبو إسحاق السَّبيعي، وابن المبارك ويحيى بن أبي كثير، مات باليمن سنة أربع أو ثلاث أو اثنتين وخمسين ومئة عن ثمان وخمسين سنة، وأما ما رُوي من أنه هو وسَلْم بن أبي الذَّيَّال فُقِدا ولم يُرَ لهما أثرٌ، فليس بصحيح، لقول ابن عُيينة يَسْأَلُ عَبْد الرزاق أخبرني عما يقول الناس في معمر: إنه فقد، ما عندكم فيه؟ فقال: مات معمر عندنا، وحضرنا موته، وخَلَّفَ على امرأته قاضينا مُطَرِّف بن مازن. وليس في الصحيحين معمر بن راشد غيره، بل ليس فيهما معمر غير معمر بن يحيى بن سام الضبِّي روى له البخاريٍ حديثًا في الغُسل، وغير معمر بن أبي حَبيبة، وقيل: حُيَيَّة بياءين مُصَغَّرٌ، وفي الرواة في الكتب الأربعة معمر ستة، ومعمر في الصحابة ثلاثة عشر. ولما انتهى الكلامُ على رجال المتابعات آن الشروع في تبيين المتابعة وحقيقتها، فأقول: قد مرَّ أن عبد الله بن يوسف وأبا صالح متابعان ليحيى ابن بُكَير شيخ المؤلف، وهلال بن ردَّاد متابعٌ لعَقيل بن خالد عن الزُّهري، فمتابعة الأوَّلَين تامةٌ ومتابعة هلال ناقصةٌ وذلك أن المتابعة قسمان: فإذا كان المتابِعُ -بالكسر- رفيقًا للمتابَعِ -بفتح الباء- من أول الإِسناد إلى آخره، كمتابعة الأولين كانت متابعة "تامة"، وإذا كان رفيقًا لا من أول السند، كمتابعة الأخير سميت متابعة "ناقصة"، ثم النوعان ربما لا يُسَمّى المتابَعُ عنه فيهما، وربما سُمِّي، ففي الأولى لم يُسَمَّ المتابَع عنه الذي هو الليثُ، وفي الثانية سُمِّي المتابَع عنه وهو الزُّهري،

ففي الحديث جميع أنواع المتابعة التامة والناقصة، والتي سُمي فيها المتابَع عنه، والتي لم يُسَمَّ فيها. واعلم أنَّ المتابعة متفرعةٌ عن الاعتبار، فالاعتبار هو اختيارُك للحديث الذي تجده بأن تنظر طرقه لتَعْرِفَ: هل شارك راويَهُ الذي يُظَنُّ تَفَرُّدُهُ به راوٍ غيره فيما حَمَلَ من ذلك الحديث عن شيخه سواءٌ اتفقا في روايته بلفظه عنه أم لا؟ فإن شارك راويَ الحديث راوٍ معتبر به بأن يصلُح أن يخرجَ حديثه للاعتبار والاستشهاد -كما يأتي بيانه قريبًا إن شاء الله-، فحديث من شارك تابعٌ حقيقةً، وهذه متابعة تامةٌ إن اتفقا في رجال السند كلهم، وإن شُورِكَ شيخُه في روايته له عن شيخه فما فوق شيخه إلى آخر السند واحدًا بعدَ واحد حتى الصحابي، فهو تابع أيضًا، لكنه قاصرٌ عن مشاركته هو وكلَّما بَعُد فيه المتابَع، كان أقصَر، وقد يسمى كلٌّ من المتابع لشيخه فَمن فوقَه شاهدًا أيضًا. وإذا فُقِدَ التابعُ فإن وجد متن في الباب بمعناه كان عن ذلك الصحابي أو غيره، فهو الشاهد فالتابع على هذا مختص بما كان باللفظ كان من رواية ذلك الصحابي، أم لا؟ والشاهد مختص بما كان بالمعنى كذلك، وقد يطلق على المتابعة القاصرة، لكن الذي عليه الجمهور وهو الذي رجحه ابن حجر، هو أنه لا اختصاصَ فيهما بذلك وأن افتراقهما بالصحابي فقط، فكل ما جاءَ عن ذلك الصحابي تابِع، أو عن غيره فشاهدٌ، وقد يطلق كل منهما على الآخر، والأمر فيه سهل، وما خلا عن الشاهد والتابع يسمى فردًا، وقد مر الكلام عليه في الحديث الأول. ومَثَّل العراقي لما وُجد له تابعٌ وشاهدٌ بحديث مُسلم المرويِّ من طريق سفيان بن عُيَيْنَة عن عمرو بن دينار، عن عطاء بن أبي رَباح، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ بشاةٍ مطروحة أُعْطِيَتْها مولاةُ ميمونة من الصدقة، فقال: "لو أخَذوا إهابَها فَدَبَغُوه فانْتَفَعوا به". فلفظة الدِّباغ انفرد بها ابنُ عُيينة، عن عَمرو بن دينار، ولم يُتابع

عليها، وقد توبع شيخُه عمرو، عن عطاء، عليها، فقد رواه الدَّارقُطني والبَيْهقي عن ابن وَهْب عن أُسامة بن زيد اللَّيْثي، عن عطاء، عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأهل شاة ماتت: "ألا نَزَعْتُم إهابها فَدَبَغْتُموه فانْتفَعْتُمْ به" قال البيهقيُّ: وهكذا رواه الليثُ بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عطاء، وكذا رواه يحيى بنُ سعيد، عن ابن جُريج، عن عطاء، فهذه متابعات لابن عُيينة في شيخ شيخه فاعْتَضد بها. وفي مسلم وغيره من رواية عبد الرحمن بن وَعْلَة عن ابن عباس: "أَيُّما إهابٍ دُبِغَ فقد طَهُر". وهو بمعنى حديث ابن عُيينة فكان شاهدًا في الباب عند من لا يَقْصرُه على ما جاء عن صحابيٍّ آخر، أما مَنْ يقصُرُه عليه وهم الجمهور كما مرَّ فعِندهم رواية ابن وعْلَةَ هذه متابعة لعطاء، ولهذا عَدَل ابن حجر إلى التمثيل بحديث فيه المتابعة التامة والقاصرة، والشاهد باللفظ والشاهد بالمعنى، وهو ما رواه الشافِعيُّ، عن مالك، عن عبد الله ابن دينار، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الشُّهْر تسعٌ وعشرونَ فلا تَصوموا حَتَّى تَرَوُا الهلالَ، ولا تُفطِروا حتى تَرَوْه، فإنْ غُمَّ عليكم فأكملوا العِدَّةَ ثلاثين" رواه عدة من أصحاب مالك بلفظ: "فَاقْدِروا له" فأشار البَيْهقيُّ إلى أن الشّافعي تفرد بقوله: "فَأَكملوا العدَّة ثلاثين" فنظرنا فوجدنا البخاريَّ رواه بلفظ الشافعي، قال: حدثنا عبد الله بن مَسْلَمة القَعْنَبي، حدثنا مالك، إلى آخره. فهذه متابعة تامة لما رواه الشافعي ودلَّ هذا على أن مالكًا رواه عن عبد الله بن دينار باللفظين، وقد توبع فيه عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، حيث رواه مسلم من طريق أبي أسامة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر بلفظ "فَاقْدُرُوا ثلاثين"، ورواه ابن خُزَيمة من طريق عاصم ابن محمَّد بن زَيْد، عن أبيه، عن جَدِّه ابن عمر بلفظ: "فكَمِّلُوا ثلاثين" فهذه متابعة قاصرة. وله شاهدان، أحدُهما: ما جاء من حديث أبي هريرة رواه البخاري

عن آدم، عن شُعبة، عن محمَّد بن زياد، عن أبي هُريرة بلفظ: "فأكْملُوا عِدَّة شعبانَ ثلاثينَ" وثانيهما: مِن حديث ابن عباس، رواه النَّسائي، من طريق عمرو بن دينار، عن محمَّد بن حُنَين، عن ابن عباس بلفظِ حديث ابن دينار، عن ابن عمر سواء، وهذا باللفظ وما قبله بالمعنى. وإلى الاعتبار والمتابعات والشواهد أشار العراقي بقوله: الاعتِبارُ سَبركَ الحديث هَلْ ... شَارَكَ راوٍ غَيْرَه فيما حَمَلْ عن شَيْخِهِ فإن يكنْ شورِكَ مِنْ ... مُعْتَبَر به فَتابعٌ وإنْ شُوركَ شيخه فَفَوْقُ فَكذا ... وقَدْ يُسَمّى شاهدًا ثم إذا مَتْنٌ بمعناهُ أتى فالشاهِدُ ... وما خَلا عن كُلِّ ذا مَفَارِدُ مثالهُ لو أَخَذُوا إهابَها ... فَلَفْظَةُ الدِّباغِ ما أتى بها عن عمروٍ إلَّا ابن عُيَيْنَةَ وَقَدْ ... توبِعَ عمروٌ في الدِّباغِ فاعْتَضَدْ ثمَّ وَجَدْنا: "أيُّما إهَابِ" ... فكان فيه شاهدٌ في الباب ولَمَّا كانت المتابعةُ شرطُها أن يكون المتابِع ممن يُعتبر بحديثه، احتيج إلى معرفة من يُعتبر بحديثه، ولا يحتَّجُ به، وهو ما بعد المراتب الأربعة من مراتب التجريح التي أشار لها العراقي بقوله: وَأَسْوأُ التَّجْريح كذّابٌ يضعْ ... يكذِبُ، وضّاعٌ ودَجّالٌ، وضع وبَعْدها مُتَّهم بالكذب ... وساقِطٌ وهالِكٌ فاجْتَنِب وَذاهبٌ متروكٌ أو فيه نَظَرْ ... وسَكَتوا عنهُ به لا يُعتبر وليسَ بالثِّقةِ ثُمَّ رُدَّا ... حديثُهُ كذا ضعيفٌ جدًّا واهٍ بمرةٍ همُ قَدْ طَرَحوا ... حديثَهُ وارْم به مُطَّرحُ لَيْسَ بشيءٍ لا يُساوي شيْئًا ... ثمَّ ضعيفٌ وكذَا إن جيئا بِمُنكرِ الحَديث أو مُضطربِهْ ... واهٍ وضعَّفوه لا يُحْتَجُّ به وبَعْدَها فيه مَقالٌ ضُعِّفا ... وفيه ضعفٌ تُنْكِرَنْ وتَعْرفا ولَيسَ بالمتينِ بالقويِّ ... بعُمدَة أو لَيْسَ بالمرضيِّ للضعف ما هو فيه خلف طعنوا ... فيه كذا سيِّىء حفظ لين تكَلَّموا فيهِ وكلُّ من ذُكِرْ ... مِن بَعْدُ شيئًا بِحَديثِهِ اعْتَبر

تنبيه

تنبيه: قال العَيْني: قال النَّووي: مما يحتاج إليه المُعتني بصحيح البخاري فائدةٌ يُنَبَّهُ عليها وهي أنه تارةً يقول: تابعه مالك عن أيوب، وتارةً يقول: تابعه مالكٌ ولا يزيد، فإذا قال: مالك عن أيوب فهذا ظاهر، وأما إذا اقتصر على: تابعه مالك، فلا يُعرف عَمَّن المتابعة إلا مَن يعرف طبقات الرواة ومراتِبهم، قال الكِرماني: فعلى هذا لا يُعلم أن عبد الله يروي عن الليث أو غيره. قلت الطريقة في هذا أن تَنْظُرَ طبقة المتابِعَ بكسر الباء فتجعلُه متابعًا لمن هو في طبقته، بحيث يكون صالحًا لذلك، ألا ترى كيف لم يسمِّ البخاريُّ المتابَعَ عليه في المتابعة الأولى وسماه في الثانية! الحديث الخامس 4 - باب * 5 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ قَالَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ أَبِي عَائِشَةَ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِى قَوْلِهِ تَعَالَى {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً، وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَأَنَا أُحَرِّكُهُمَا لَكُمْ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُحَرِّكُهُمَا. وَقَالَ سَعِيدٌ أَنَا أُحَرِّكُهُمَا كَمَا رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يُحَرِّكُهُمَا -فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ- فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} قَالَ جَمْعُهُ لَهُ فِى صَدْرِكَ وَتَقْرَأَهُ {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} قَالَ فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ تَقْرَأَهُ. فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ اسْتَمَعَ، فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - كَمَا قَرَأَهُ. [الحديث 5 - أطرافه في: 4927، 4928، 4929، 5044، 7524]. قوله: "من التَّنزيل": أي القرآني، أو مطلقًا لثقله عليه، وقوله: "شِدَّةً"، بالنصب: مفعول يعالج، والجملة في محل نصب خبر كانَ، وقوله: "وكان مِمّا يُحَرِّكُ شفتيه" وفي رواية زيادة: "به"، والمعالجة: محاولةُ الشيء بمشقَّة، والمعنى: كان كثيرًا يفعل ذلك، ووجهه أن مِن إذا دخلت

عليها "ما" كانت بمعنى ربَّ وهي تُطلق على القليل والكثير قال الشاعر: وإنَّا لمِمَّا نَضْرِبُ الكبْشَ ضَرْبةً ... على رأْسِه تُلْقي اللِّسانَ مِنَ الفّمِ ومن هذا المعنى حديثُ البَراء: "كُنَّا إذا صلَّيْنا خلفَ النبيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم مِمَّا نُحِبُّ أن نكون عن يمينه"، وحديث سَمُرةَ: كان صلى الله تعالى عليه وسلم إذا صلى الصبح مما يقول لأصحابه: "مَنْ رأى منْكُمْ رؤيا؟ ". ويؤيد هذا المعنى روايةُ البخاري في التفسير: إذا نَزَلَ جبريلُ بالوحي فكان مما يحرك به لسانه وشفتيه، فأتى بهذا اللفظ مجردًا عن تقدم العِلاج الذي قدره الكِرماني قائلًا: إن المعنى أي: كان العلاج ناشئًا من تحريك شفتين أي: مبدأ العلاج منه، وتُعُقِّبَ هذا بأن الشدةَ حاصلةٌ قَبْلَ التحريكِ، وأجيب بأن الشدةَ وإن كانت حاصلةً قبله إلا أنها لم تظهر إلا بتحريك الشفتين، إذ هي أمرٌ باطني لا يدركه الرائي إلا به. وقيل: إن "ما" بمعنى "مَن" الموصولة، وأُطلقت على من يعقِل مجازًا، أي: وكان ممن يُحرِّك شفتيه، وكان يُكثر مِن هذا الفعلِ حتى لا ينسى أوله قبل أن يَفْرَغَ منه، أو لحلاوة الوحي في لسانه ومحبته إياه، ولا تنافي بين محبته إياه، والشدة التي تلحقه في ذلك. وقوله: "فقال ابن عباس: فأنا أحركهما" إلى قوله: "فأنزل اللهُ": جملة معترضة بالفاء، وفائدتها زيادة البيان في الوصف على القول، وعَبَّر في الأول بقوله: كان يحركهما، وفي الثاني برأيت, لأن ابن عباس لم ير النبيَّ صلى الله تعالى عليه وسلم في تلك الحالة لأن سورة القيامة مكيةٌ باتفاق، والظاهر أن نزولها كان في بدء الأمر كما يدلُّ عليه صنيعُ البخاري، من إيراده هذا الحديث في بدء الوحي، وابنُ عباس لم يكن وُلِدَ إذ ذاك، لأنه وُلد قبل الهجرة بثلاث سنين، لكن يجوزُ أن يكون أخبره النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك بعدُ، كما ثبت صريحًا في مسند أبي داود الطَّيالِسي، ولفظهُ: قال ابنُ عباس: فأنا أحرك لك شفتيَّ كما كان

رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم يحركهما، وأما سعيد بن جُبَيْر فرأى ذلك من ابن عباس بلا نزاع، وقوله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ} أي: بالقرآن، {لِسَانَكَ} قبل أن يَتِمَّ وحيُه {لِتَعْجَلَ بِهِ} أي: لتأخُذهُ على عجلةٍ مخافةَ أن يَنْفَلِتَ منك، ولا تنافيَ بين قوله: يحرك شفتيه، وبين قوله في الآية: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} , لأن تحريك الشفتين بالكلام المشتمل على الحروف التي لا يَنْطِق بها إلا اللسان يَلْزَم منه تحريكُ اللسان، أو اكتفي بالشفتين وحذف اللسان لوضوحه، لأنه الأصل في النُّطقِ، فيكون حذفه من باب الاكتفاء على حَدِّ {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} أي: والبرد، وللمؤلف في التفسير وابن جَرير في تفسيره: ويحرك به لسانه وشفتيه , فجمع بينهما. وقوله: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة: 17] أي: قراءتَه، فهو مصدر مضاف لمفعوله، والفاعل محذوف تقديره: قراءتك إياه. وقوله: قال: جَمَعَه لك صدرُك، القائل هو ابن عباس في تفسيره، وجَمَعَه بفتح الجيم والميم فعلُ ماضٍ، ولك: اللام فيها للتعليل أي: لأجلك أو للتبيين، وصدرك فاعل، وفيه إسناد الجمع إلى الصدر مجازًا، لأن الجامعَ هو الله أي: جَمَعَهُ اللهُ في صدرك، فهو على حد: أنبت الربيعُ البقلَ، أي: أنبتَ اللهُ في الربيع البقلَ، وفي رواية لأبوي ذَرٍّ والوقتِ: "جَمْعَهُ لَك صَدْرُك" بإسكان الميم مصدر، وصدرك بالرفع فاعله، وفي رواية "جَمْعَهُ لك في صدرِك" وهي توضح الأولى، وفي رواية: "جَمْعَه له" بإسكان الميم أي: جمع اللهُ تعالى للقرآنِ في صدرك، الضمير الأول لله تعالى، والثاني للقرآن، وفي رواية: "جَمْعَه له في صدرك"، بزيادة "في". وقوله: "وتقرأه": قاله ابن عباس في تفسيره، وقال البيضاوى: إثبات قرآنه في لسانك وهو تعليل للنهي. وقوله: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18]؟ أي: إذا قرأناه بلسان

جبريل عليك، وقوله: "فاستمع له وأَنْصِت"، قاله ابنُ عباس في تفسير قوله تعالى {فَاتَّبِعْ}، والاستماع من باب الافْتِعال المقتضي للسعي في ذلك، أي: لا تكون قراءَتُك مع قراءته، بل تكون تابعةً لها متأخرةً عنها، وقوله: "وأنصِت" -بهمزة قطع- مِن الإِنصات، وفيه نَصَت ينصُت نَصْتًا، ومعناه: سكت واستمع للحديث، أي تكون حال قراءته ساكتًا، والاستماع أخصُّ من الإِنصات, لأنَّ الاستماعَ الإِصغاءُ، والإِنصاتَ السكوتُ، ولا يلزم من السكوت الإِصغاء. وقوله: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19] فَسَّرهُ ابن عباس بقوله: ثم إن علينا أنْ نقرأه، وفَسَّره غيرُه ببيان ما أشكل عليك من معانيه، وفيها دليلٌ على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب، لا عن وقت الحاجة، لما تقتضيه، ثُمَّ مِنَ التَّراخي، ولكنَّ هذا لا يَتِمُّ إلا على تأويل البيان بتبيين المعنى، وإلا فإذا حُمل على أن المراد استمرار حفظه له بظهوره على لسانه فلا، والبيانُ: الإِظهار، يقال: بانَ الكوكبُ إذا ظهرَ، ويؤيدُ هذا أن المرادَ بيانُ جميعِ القرآنِ والمُجمل إنما هو بعضه، ولا اختصاص لبعضه بالأمر المذكور دون بعض، وقال أبو الحسين البَصْري: يجوز أن يُراد البيان التفصيليُّ، ولا يلزم منه جواز تأخير البيان الإِجمالي، فلا يتمُّ الاستدلال، وتُعُقِّب باحتمال إرادة المعنيين: الإِظهار والتفصيل، وغير ذلك, لأنَّ قوله: بيانه، جنس مضافٌ، فيعم جميعَ أصنافه من إظهاره، وتبيين أحكامه، وما يتعلق بها من تخصيص وتقييد ونسخ وغير ذلك، وهذه الآية كقوله تعالى في سورة طه: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [الآية: 114] فنهاه فيها عن الاستعجال في تلقي الوحي من المَلَك، ومسابقته في القرآن حتى يَتِمَّ وحيُه. وقوله: "فكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا أتاه جبريلُ اسْتَمَع، فإذا انطلق جبريل قَرَأَهُ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كما قرأ". وفي رواية: "كما قرأه"، بضمير المفعول أي: القرآن، والفاعل ضميرُ جبريل، وفي رواية: "كما كان قَرَأ"، والحاصل أن الحالةَ الأولى

وأما رجاله فخمسة

جمعهُ في صدره، والثانيةُ تلاوتُه، والثالثة تفسيرُه وإيضاحهُ. وجبريلُ هو ملَكُ الوحي المُفَضَّلُ به على جميع الملائكة، وهو الموكل بإنزال العذاب والزلازل والدمادِم، ومعناه: عبد الله بالسِّريانية. لأن "جبر" عبد و "إيل" اسم من أسماء الله تعالى، فقيل: الله، وقيل: الرحمن، وقيل: الرزاق، كما روي عن عكرمة وابن عكرمة وابن عباس، وقيل: إن الإِضافة في هذه الأسماء مقلوبةٌ فإيل هو العبد، وأوله اسم من أسماء الله تعالى: ومعنى الجبر عند العجم موافق لمعناه في العربية: وهو إصلاح ما فسد، وجبر ما وَهَى من الدين، وفيه تسعُ لغات جَبرئيل بفتح الجيم وسكون الباء بوزن سَلسبيل، وجَبْرَئِل بحذف الياء كجَحِمْرِش، وجَبريل بحذف الهمزة مفتوح الجيم كشمويل، وبوزن قِنديل، وجِبرالّ بلام مشددة، وجِبرائيل بوزن جِبراعيل، وبوزن جِبراعِل بحذف الياء، وجَبْرين بفتح الجيم وبالنون بدل اللام، وجِبرين بكسر الجيم وبالنون أيضًا، وقد قُرىء بأربع منها في المتواترة قرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحفص: جِبريل كقنديل، وقرأ ابن كثير: جَبريل كشَمْويل، وقرأ حمزة والكسائي: جَبْرَئيل كسَلْسَبيل، وقرأ عاصم: جَبْرَئِل كجَحَمُرش، وقُرِىءَ بالبواقي في الشواذ. وأما رجاله فخمسة: الأول: موسى بن إسماعيل المِنْقري مولاهم أبو سَلَمة التَّبُوذَكي البَصْري، قال عباسٌ الدُّوري، عن ابن معين: ما جلستُ إلى شيخ إلا هابني وعَرَف لي، ما خلا هذا التَّبُوذَكي، وقال: عددتُ ليحيى بن معينَ ما كتبنا عنه خمسًا وثلاثين ألف حديث، وقال الحسين بن الحسن الرّازي، عن ابن معين: ثقة مأمون، وقال أبو حاتم: سمعتُ ابنَ معين وأثنى على أبي سلمة، وقال: كان كَيِّسًا، وكان الحجاجُ بن مِنْهال رجلًا صالحًا، وأبو سَلَمة أتقنُهما، وقال أبو الوليد الطَّيالِسيُّ: موسى بن إسماعيل ثقة صدوق، وقال ابنُ المَديني: من لا يكتُب عن أبي سلمة

كتب عن رجل عنه، وقال ابن أبي حاتم: سألتُ أبي عنه فقال: ثقة، كان أيقظ من الحجَّاج، ولا أعلم أحدًا مِمَّن أدركناه أحسنَ منه حديثًا، وقال ابنُ سَعْد: كان ثقةً كثير الحديثِ، وذكره ابنُ حِبَّان في "الثقات"، وقال: كان من المتقِنين، ويُروى أن ابن معين قال له في حديث: وجدته على ظهر كتابك، لم أجده في صدره، فاحلِف لي أنك سمعتَهُ، فَخَلَفَ له، وقال بعد ذلك: واللهِ لا كَلَّمتُك أبدًا، وقال العِجْلي: بصريٌّ ثقة، وقال ابن خراش تكلم الناس فيه وهو صدوق. روى عن: جرير بن حازم، وهَمَّام بن يحيى، ووُهَيب بن خالد، وحمّاد بن سَلَمة، وعبد العزيز الماجِشون، ومُعْتَمِر بن سُليمان، وعبد الواحد بن زياد، وخلق. وروى عنه البخاري، وأبو داود، وروى الباقون عنه بواسطة الحسن ابن علي الخَلَّال، والذي رواه مسلم عنه حديث أم زرع وحدَه، وروى عنه الذُّهلي، وعبيد الله بن فَضَالة ويحيى بن معين، وأبو زُرْعة، وأبو حاتم. وآخر من حدث عنه أبو خليفة الفَضْل بن الحُباب، وروى عنه خَلقٌ كثيرٌ. مات بالبصرة ليلة الثلاثاء لثلاثَ عَشرة خلت من رجب، ودُفن يوم الثلاثاء سنة ثلاث وعشرين ومئتين. والمِنْقَري في نسبه: بكسر الميم وسكون النون وفتح القاف نسبة إلى مِنْقَر بن عبيد بن مُقاعِس، واسم مقاعس: الحارث بن عمرو بن كعب ابن سعيد بن زيد مناة بن تميم، قال ابنُ دُريد: مِن نَقَرْتُ عن الشيءِ: كشفتُ عنه. والتَّبُوذَكي بفتح التاء المثناة من فوق، وضم الباء المُوَحَّدة، ثم واو ساكنة ثم ذال معجمة مفتوحة: نسبة إلى تَبُوذَك: بلدة نُسب إليها, لأنه نزل

دار قوم من أهلها، أو لأن قومًا من أهلها نزلوا في داره، وقيل: لأنه اشترى دارًا بِتَبُوذك، وقال السمعانيُّ: نسبة إلى بيع السَّماد -بفتح السين المهملة- وهو السِّرجين يوضع في الأرض ليَجُود نَباتها، وقال ابن ناصر: نسبة إلى بيع ما في بطون الدجاج من الكبد والقلب والقانصة. الثاني: الوَضّاحُ بن عبد الله اليَشْكُري، مولى يزيد بن عطاء، أبو عَوانة الواسطي البزار، كان من سبي جُرجان، قال هشام بن عبيد الله الرّازي: سألتُ ابن المبارك: مَن أروى الناسِ أو أحسنُ الناس حديثًا عن مُغيرة؟ قال: أبو عَوانة، وقال ابن مهدي: كتاب أبي عَوانة أثبت من حفظ هُشَيم، وقال يحيى القَطَّان: ما أشْبهَ حديثه بحديثهما، يَعني أبا عَوانة وشعبةَ وسفيان، وقال عفان: كان أبو عَوانة صحيحَ الكتاب كثيرَ العَجْم والنَّقْط، وكان ثَبْتًا، وأبو عَوانة في جميع أحواله أصحُّ حديثًا عندنا من هُشَيم. وقال أحمد: إذا حَدَّث أبو عوانة من كتابه فهو أثبت، وإذا حَدَّث من غير كتابه ربما وَهِمَ، وقال ابنُ مَعين: أبو عَوانة جائزُ الحديث، وحديثُ يزيدَ بنِ عطاء ضعيفٌ، ثَبَّتَ حديثَ أبي عوانة، وأسْقَط مولاه يزيد بن عطاء, وقال أبو زُرعة: ثقة إذا حدث من كتابه، وقال أبو حاتم: كتبه صحيحة، وإذا حدث من حفظه غلط كثيرًا، وهو صدوق ثقة، وهو أحَّبُّ إليَّ من أبي الأَحْوصِ، ومن جَرير، وهو أحفظ مِن حَمّاد بن سلمة، وقال أحمد: ما أشبهَ حديثَ أبي عَوانة بحديث شُعبة والثَّوْري، قال: وكان أمينًا ثقةً، وكان مع أمانته وثقته يَفْزَع من شعبة، فأخطأ شُعبة في اسم خالد بن عَلْقمة، فقال: مالك بن عُرْفُطة، فتابعه أبو عَوانة على خَطئه بعد أنْ كان رواه على الصواب، وقال ابنُ مهدي: أبو عَوانة وهُشيم كهَّمام وسعيد، إذا كان الكتاب فكتاب أبي عوانة وهمام وإذا كان الحفظ فحفظ هشيم وسعيد، وقال ابنُ سعد: كان ثقةً صدوقًا، ووُهَيب أحفظُ منه، وقال تَمْتَامٌ عن ابن معين: كان أبو عَوانة يقرأ ولا يكتُب، وقال الدُّوري: سمعتُ ابنَ معين، وذكر أبا عوانة وزهيرَ بن معاوية، فَقَدَّم أبا عَوانة. وقال موسى بن إسماعيل: قال أبو عوانة: كل شيء قد حدثتُك به

فقد سمعت، وقال العِجْلي: أبو عَوانة بصريٌّ ثقةٌ، وقال ابنُ شاهين في "الثقات": قال شعبة إذا حدثكم أبو عَوانة عن أبي هُريرة فصدقوه، وقال ابن المديني: كان أبو عَوانة في قتادة ضعيفًا, لأنه كان قد ذهب كتابهُ، وكان أحفظَ من سعيد، وقد أَغْرب في أحاديثَ، وقال يعقوبُ بن شيبة: ثبتٌ، صالح الحفظ، صحيحُ الكتاب، وقال ابن خِراش:. صدوقٌ في الحديث، وقال ابنُ عبدِ البَرِّ: أجمعوا على أنه ثقة ثبتٌ حجةٌ فيما حدث به من كتابه، وإذا حدث من حفظه ربما غَلِطَ. واختلف في سبب عِتقه على أوجه، فقال ابن عَدِيٍّ: كان مولاه قد فَوَّض له في التجارة فجاء سائلٌ، فقال له: أعطني درهمين لأنفعك، فأعطاه فدار السائل على رؤساء البصرة، فقال: بَكِّروا على يزيد بن عطاء، فقد أعتق أبا عَوانة، فاجتمع إليه الناسُ فأَنِفَ من أن ينكر حديثه، وأعتقه حقيقةً، وحكى ابنُ حِبَّان قصةَ عِتقِه، فقال: كان يزيدُ بن عطاء حجَّ ومعه أبو عَوانة، فجاء سائل إلى يزيدَ فسأله فلم يعطهِ شيئًا، فلحقه أبو عَوانة، فأعطاه دينارًا، فلما أصبحوا وأرادوا الدفعَ من المُزْدَلِفَةِ، وقف السائلُ على طريق الناس فكلما رأى رِفقة قال: أيها الناس اشكُروا يزيد ابن عطاء، فإنه تقرب إلى الله تعالى اليوم بِعِتق أبي عَوانة، فجعل الناسُ يمرون فوجًا بعد فوج إلى يزيد يشكرون له ذلك، وهو ينكر، فلما كثروا عليه قال: من يستطيع ردَّ هؤلاء؟ اذهب فأنت حرٌّ، وحكاها أَسْلمُ بن سَهْل على صفة أخرى، وهي أن أبا عَوانة كان له صديق قاصٌّ، وكان يحسن إليه، فأراد أن يكافِئَهُ، فكان لا يجلِسُ مجلسًا إلا قال: ادعوا الله تعالى ليزيد بن عطاء فإنه قد أَعتق أبا عَوانة. رأى الحسنَ، وابن سيرين، وسمع من معاوية بن قُرَّة حديثًا واحدًا. وروى عن الأَشْعث بن أبي الشَّعْثاء، والأسودِ بن يزيد، وقَتادة، والأَعْمش، والحكم بن عُتَيْبة، ومنصور بن المُعْتَمر، وسعيد بن مَسْروق، وسِمَاك بن حرب، وخلق كثير.

وروى عنه شعبة، ومات قبله، وابن عُليَّة، وأبو داود، وأبو الوليد الطَّيالسي، والفضل بن مُساوِرٍ صِهرُهُ، وعبد الرحمن بن مَهْدي، وحجاج ابن مِنْهال، وخلقٌ كثير. مات في ربيع الأول سنة ست وسبعين ومئة. والواسطيُّ في نسبه نسبة إلى واسطٍ: مدينة اخْتَطَّها الحجاج بن يوسف بين الكوفة والبصرة في أرض كسكر، وهي نصفان على شاطىء دِجلة، وبينهما جِسرٌ من سفن، وسميت واسطًا لأن منها إلى البصرة خمسين فرسخًا، ومنها إلى الكوفة خمسين أيضًا، وإلى الأهواز كذلك، وإلى بغداد كذلك. واليَشْكُرِيُّ في نسبهِ نِسبةً إلى يَشْكُر أبو قبيلتين عظيمتين في ربيعة، يَشْكُرُ بن علي بن بكر بن وائل بن قاسِط بن هنب بن أفصى بن دعمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة، وفي الأَزْدِيَشْكر بن مبشر بن صعب. الثالث: موسى بن أبي عائشة المخزومِيُّ الهَمْدانيُّ -بإسكان الميم- أبو الحسن الكوفي، مولى آل جَعْدة بن هُبَيْرة. قال يحيى بن سعيد: كان سفيان الثوري يحسن الثناء عليه، وقال ابن عُيينة: حدثنا موسى بن أبي عائشة، وكان من الثقات، وقال ابن مَعين: ثقة، وقال جَرير: كنت إذا رأيت موسى ذكرت الله تعالى لرؤيته، وذكره ابن حِبّان في "الثقات"، وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: تُريبُني -بفتح التاء ثلاثي مجرد- روايةُ موسى بن أبي عائشة حديثَ عبيد الله بن عبد الله في مرض النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال ابن حَجَر: عني أبو حاتم أنه اضْطَرَبَ فيه، وهذا من تَعَنُّتِهِ، وإلا فهو حديث صحيح، وقال يَعْقوب بن سفيان: كوفي ثقة. روي عن عبد الله بن الهاد بن شَدَّاد، وسليمان بن صُرَد، ويقال: مرسل، وسعيد بن جُبَيْر، وعبيد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود،

وعَمْرو بن شُعيب، وغيلان بن جَرير، وغيرهم. وروى عن شعبة، والسفيانان، وأبو عَوانة، وإسرائيل، وزائدةُ، وآخرون، وأبو عائشة لا يعرف اسمه. والهَمْداني في نسبه نسبة إلى هَمْدان بفتح فسكون، وبالدال المهملة: قبيلةٌ باليمن من حِمْيَر، واسمه أَوْسَلَةُ بنُ مالك بن زيد بن أَوْسَلَة ابن ربيعة بن الخيار بن مالك بن زيد بن كَهْلان بن سبأ، والنسبة هَمْداني على لفظه. وأما الهَمَذاني بفتح الهاء والميم والذال المعجمة، فهو نسبة إلى هَمَذان محركة، بلدة من كُور الجبل، بينها وبين الدِّينَوَرِ أربع مراحل، بناها الهَمَذان بن الفلوج بن سام بن نوح عليه السلام، فتحها المغيرةُ بن شعبة سنة أربع وعشرين على رأس ستة أشهر من مقتل عمر بن الخطاب في جُمادى الأولى، وهي أحسن البلاد هواءً، وأطيبها وأنزهها، وما زال محلًّا للملوك، ومعدِنًا لأهل الدين والفضلِ لولا شتاؤه المفرِط، بحيث قد أُفْرِدَت فيه كتب، وذُكر في الشعر والخطب، قال كاتب بكر: هَمَذَانُ مُتْلِفَةُ النُّفوسِ وَبَرْدُها ... الزَّمْهَريرُ وَحَرُّها مأمونُ غَلَبَ الشِّتاءُ مَصيفَها ورَبيعَها ... فَكَأَنَّما تَمُّوزها كانُونُ وسأل عمر بن الخطاب رجلًا: من أين أنت؟ فقال: من هَمَذان. فقال: أما إنها مدينةُ همٍّ وأذىً يجمُدُ قلوبُ أهلِها كما يجمُدُ ماؤها، والنسبة إلى القبيلة في المتقدمين أكثر، وإلى المدينة في المتأخرين أكثر، ولا يُمكن استيعاب هؤلاء ولا هؤلاء، وممن خرج من الغالب وسُكِّنَ من المتأخرين أبو العبّاس أحمد بن محمد بن سعيد بن عُقْدة، وأبو الفضل محمد بن محمد بن عطاف، وجعفر بن علي، وعلي بن عبد الصمد السَّخاوي، وعبد الحكم بن حاتم. قال العراقي: ........................ وفي النَّسَبْ ... هَمْدانُ وهو مطلقًا قِدْمًا غَلَبْ

وممن هو بفتح الميم والذال المعجمة أحمد بن المراد بن حمويه الهمذاني، قيل: إن البخاري حدث عنه في الشروط. الرابع: سعيدُ بن جُبَيْر بن هشام الأسَدِيّ الوَالبيّ مولاهم أبو عبد الله أو أبو محمد الكوفي، قال مَيْمون بنُ مِهْران: مات سعيدٌ وما على ظهر الأرض أحدٌ إلا وهو يحتاج إلى علمه، وكان يقال له: جهبذ العلماء، وقال جعفر بن أبي المغيرة: كان ابن عباس إذا أتاه أهل الكوفة يستفتونه، يقول: أليس فيكم ابنُ أم الدَّهْماء؟ -يعني سعيد بن جُبير- وقد قال له ابن عباس: حدث. فقال له: أحدث وأنت ها هنا؟! فقال: أليس من نعمة الله أن تحدث وأنا شاهد؟ فإن أصبت فذاك، وإن أخطأت علمتك، وكان لا يستطيع أن يُكْتَبَ مع ابن عباس في الفُتيا، فلما عَمِيَ كُتب، فبلغه ذلك، فغضِب، وقال ابن إياس: قال لي سعيد بن جبير: أمسك علي القرآن، فما قام مِن مجلس حتى ختمه. وقال خُصيف: كان من أعلم التّابعين بالطلاق سعيد بن المسيِّب، وبالحج عطاء، وبالحلال والحرام طاووس، وبالتفسير مُجاهد بن جَبْر، وأجمعَهم لذلك كلِّه سعيد بن جُبير وقال أَصْبَغُ بن زايد الواسِطيُّ: كان له ديك يقوم من الليل لصياحه، فلم يَصِح ليلة حتى أصبح، فلم يستيقِظْ سعيد، فَشَقَّ عليه ذلك، فقال: ماله قَطَعَ الله صوته؟ فما سُمع له صوتٌ بعد ذلك، فقالت له أمه: لا تدعُ علي شيء بعدها. وذكره ابن حِبَّان في "الثقات" وقال: كان فقيهًا عالمًا عابدًا ورعًا فاضلًا، وقال أبو القاسم الطَّبري: هو ثقة إمام حجة على المسلمين، وقال يحيى بن سعيد: مرْسَلاتُ سعيد أحبُّ إليَّ من مرسلات عطاء ومُجاهد، وكان سفيان يُقَدِّم سعيدًا على إبراهيم في العلم، وكان أعلم من مجاهد وطاووس، ورأى عبد الملك بن مروان كأنه بال في المحراب أربع مرات، فوجه إلى سعيد بن جبير من يسأله, فقال: يَمْلِكُ من ولده لصُلبه أربعة، فكان كما قال، فإنه وَلِيَ من ولده لصُلبه الوليدُ، وسُليمان، ويزيدُ، وهشامُ، وقيل للحسن البصريّ: إن الحجاج قتل سعيد بن جبير، فقال: اللهم أئت على فاسق ثقيفٍ، فوالله لو أن مَنْ بين

المشرق والمغرب اشتركوا في قتله لكبهم الله عز وجل في النار، كان يختم القرآن في كل ليلتين. وقال عثمان بن بوذويه: كنت مع وَهْب بن مُنَبِّه، وسعيد بن جُبير يوم عرفة، فقال وهب لسعيد: يا أبا عبد الله كم لك منذ خفت من الحجاج؟ قال: خرجتُ عن امرأتي وهي حاملٌ فجاءني الذي في بطنها وَقَدْ جُرِح وجههُ. كان يكتب لعبد الله بن عُتبة بن مسعود، حيث كان على قضاء الكوفة، ثم كتب لأبي برده بن أبي موسى، ثم خرج مع ابن الأشعث في جملة القراء، فلما هُزِم ابن الأشعث هرب سعيدُ بن جُبير إلى مكة، فأخذه خالد بن عبد الله القسري وكان واليًا على مكة يومئذ، وبعث به إلى الحجاج بن يوسف مع إسماعيل بن واسطٍ البَجَلي فقال له الحجّاج: ما اسمُك؟ قال: سعيدُ بن جُبير. قال: بل أنت شقي بن كُسَير. قال: بل كانت أمي أعلَمَ باسمي منك. قال: شَقِيَتْ أمك وشَقِيت أنت. قال يعلَم الغيبَ غيرُك. قال: لأبَدِّلَنَّكَ بالدنيا نارًا تلظى. قال: لو علمت أنَّ ذلك بيدك لاتّخذتك إلهًا. قال: فما قولك في محمد؟ قال: نبي الرحمة وإمام الهدى. قال: فما قولك في علي أهو في الجنة أو في النار؟ قال: لو دخلتُها وعَرَفت من فيها عَرَفت أهلها. قال: فما قولُك في الخلفاء؟ قال: لستُ عليهم بوكيل. قال: فأيُّهم أعجب إليك؟ قال: أرضاهم لخالقي. قال: فأيُّهم أرضى له؟ قال: علمُ ذلك عند الله، يعلم سرهم ونجواهم. قال: أبيت أن تَصْدُقَني. قال: إني لم أُحبَّ أن أكذبك. قال: فما بالك لم تضحك؟ قال: وكيف يَضْحَك مخلوق خُلق من طين، والطين تأكله النار؟ قال: فما بالُنا نضحك؟ قال: لم تستو القلوب. ثم أمر الحجاج باللؤلؤ والزَّبَرْجَدِ والياقوت، فجمعه بينَ يديه، فقال سعيد: إن كنت جمعت هذا لِتَتَّقيَ به فزعَ يوم القيامة فصالحٌ، وإلا فَفَزْعَةٌ واحدة تُذْهِلُ كُلَّ مرضعةٍ عما أرضعت، ولا خير في شيءٍ جُمع للدنيا إلا ما طاب وَركا، ثم دعا الحجاج بالعُود والنَّاي، فلما ضُرب بالعود ونُفخ في الناي، بكى سعيدٌ، فقال: ما يُبكيك هو اللعب؟ قال: هو الحزن، فأما النفخ فذكرني يومًا عظيمًا يوم

يُنْفخ في الصور، وأما العود فشجرة قُطِعت في غير حق، وأما الأَوْتار فمن الشّاء نُبْعَثُ معها يوم القيامة. قال الحجاج: ويلَكَ يا سعيد. قال: لا ويلَ لمن زُحْزحَ عن النار وأدخل الجنة. قال الحجاج: اختر يا سعيد أَيَّ قتلة أقتُلُك. قال: اختر لنفسك يا حجاج فوالله لا تقتُلني قتلة إلا قتلك الله بها يومَ القيامة. قال: أفتريد أن أعفو عنك؟ قال: إن كان العفو، فمن الله، وأما أنت، فلا براءة لك ولا عُذر. قال الحجاج: اذهَبوا به فاقتُلوه، فلما خرج ضَحِكَ، فأخبر الحجاج بذلك فَرَدَّهُ، وقال: ما أضحكك؟ قال: عجبت من جراءتك على الله وحِلم الله عليك، فَأَمَرَ بالنِّطع فبُسطَ، وقاَل: اقتُلوه. قال سعيد: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 79] قال: وجِّهوا به لغير القبلة. قال سعيد: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] قال: كُبُّوه لوجهه. قال سعيد: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55] قال الحجاج: اذبَحُوه. قال سعيد: أما إنّي أشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له وأن محمدًا عبدُه ورسوله، خُذها مني حتى تلقاني بها يوم القيامة، ثم دعا سعيد فقال: اللهم لا تُسلِّطْهُ على أحد يقتله بعدي، وكان قَتْلُه في شعبان سنة خمس وتسعين للهجرة بواسطٍ، ومات الحجاج بعده في شهر رمضان من السنة المذكورة، ولم يُسَلِّطْه الله عز وجل على أحد يقتُلُه بعده إلى أن مات. وكان سعيد يقول يوم أُخِذَ: وَشَى بي واشٍ في بلد الله الحرام: أكله إلى الله تعالى: يعني خالد بن عبد الله القَسْرِيّ. وقيل: إن الحجاج قال له لما أُحضر إليه: أما قَدِمْتَ الكوفة وليس بها إلَّا عربي فجعلتك إمامًا؟ فقال: بلى، قال: أما وليتك القضاء فضَجَّ أهل الكوفة، وقالوا: لا يَصْلُح للقضاء إلا عربي، فاستقضيت أبا بُردة بن أبي موسى الأشعري، وأمرته أن لا يقطع أمرًا دونك؟ قال: بلى، قال: أما جعلتك في سُمّاري وكلُّهم رؤوس العرب؟ قال: بلى. قال: أما أعطيتك مئة ألف درهم، تفرقها في أهل الحاجة في أول ما رأيتك، ثم لم أسأَلْك

عن شيءٍ؟ قال: بلى. قال: فما أخرجك علي؟ قال: بَيْعةٌ كانت في عُنُقي لابن الأشعث. فغضب الحجاج، ثم قال: أما كانت بيعة أمير المؤمنين عبد الملك في عنقك من قبل؟ والله لأَقْتُلَنَّك، يا حارس اضرب عنقه، فضرب عنقه، ولما قتله سال منه دم كثير فاستدعى الحجاج الأطباء، وسألهم عنه، وعمن كان قتله قبله فإنه كان يسيل منه دم قليل، فقالوا له: هذا قتلته ونفسُهُ معه، والدم تَبَع للنفس، ومن كنت تقتله قبله كانت نفسه تذهب من الخوف، فلذلك قل دمهم، فلما حضرت الحجاج الوفاة، كان يغيب ثم يفيق ويقول: مالي ولسعيد بن جبير؟ وقيل: إنه في مدة مرضه كان إذا نام رأى سعيد بن جبير آخذًا بمجامع ثوبه، ويقول له: ياعدو الله فيم قتلتني؟ فيستيقظ مذعورًا، ويقول: مالي ولسعيد بن جبير؟ ويقال: إن الحجاج رُئِيَ في المنام بعد موته، فقيل له: ما فعل الله بك، فقال: قتلني بكل قتيل قَتَلْتُهُ قتلةً، وقتلني بسعيد بن جبير سبعين قتلةً. وروى محمد بن حبيب أن سعيد بن جبير كان بأصبهان يسألونه عن الحديث فلا يحدث، فلما رجع إلى الكوفة حدث، فقيل: يا أبا محمد كنت بأصبهان لا تحدث، وأنت بالكوفة تحدث، فقال: انشُرْ بَزَّكَ حَيْثُ يُعرف. أكثر رواياته عن عبد الله بن عباس، أخذ منه القراءة عَرْضًا، وسمع منه التفسير، وروى عن ابن الزبير، وابن عمر، وابن مَعْقِل، وعَدي بن حاتم، وأبي مسعود الأنصاري، وأبي سعيد الخُدري، وأبي هُريرة، وأبي موسى الأشعري، وأنس، وعمر، وابن ميمون، وعائشة، وغيرهم. وروى عنه: ابناه عبد الملك وعبد الله، ويعلي بن حكيم، ويَعلي بن مسلم، وأبو إسحاق السَّبيعي، وأبو الزُّبير، والأعمش، ومنصور بن المُعْتَمِر، والمغيرة بن النعَمان، ووَبَرة بن عبد الرحمن، وخلق كثير. والوالبيُّ في نسبه: نسبة إلى والبة بن الحارث بن ثعلبة بن دودان بن

أسد بن خُزيمة بطن من أسد، وإليه ينتسب أيضًا مسلم بن معبد شاعر إسلامي، وفي الأسْد -بسكون السين-: والبة بن الدُّؤَل بن سعد مَناة، وفي بَجيلة: والبة بن مالك بن سعد، وقال عمر بن سعيد بن أبي حسين: دعا سعيد بن جبير ابنه حين دُعِيَ ليقتل، فجعل ابنه يبكي، فقال له: ما يبكيك؟ ما بقاء أبيك بعد سبع وخمسين سنة؟. الخامس: عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مَناف ابن قُصي أبو العباس الهاشمي ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمه أم الفضل لُبابة الكبرى بنت الحارث أخت مَيْمونة أم المؤمنين، كان يقال له "البحر" لِكثرة علمه، و"الحبر" و"حبر هذه الأمة" و"فقيهها" و"ترجمان القرآن"، وهو والد الخلفاء، وأحدُ العبادلة الأربعة باتفاق. وهم هو، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمرو ابن العاص، وقيل: بدل ابن العاص عبد الله بن مسعود وهو ضعيف. وهو أيضًا أحد الستة المكثرين في الحديث من الصحابة. وأكثرهم في الحقيقة فتوى ابن عباس, لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا له بقوله: "اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الكتابَ" وفي رواية: "اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ في الدينِ وَعَلِّمْهُ التَّأويل" وفي رواية: "اللَّهُمَّ علمه الحكمة وتأويل الكتاب" وفي رواية: "اللَّهُمَّ بارِك فيه، وانْشُر منه، واجعَلْه من عبادِك الصالحين" وفي رواية "اللَّهُمَّ زِدْه علمًا، وفِقهًا". وهو معدود من الصحابة الذين لهم أتباع في الفقه يَرَوْن علمهم وفتياهم، ومعه عبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت، والمكثرون أكثرهم أبو هريرة لأنه روى خمسة آلاف حديث وثلاث مئة وأربعة وسبعين حديثًا، ثم ابن عمر لأنه روى ألفين وست مئة وثلاثين، ثم أَنَس لأنه روى ألفين ومئتين وستة وثمانين، ثم عائشة لأنها روت ألفين ومئتين وعشرة، ثم ابن عباس لأنه روى ألفًا وست مئة وستين، ثم جابر لأنه روى ألفًا وخمس مئة

وأربعين، وزاد العراقي سابعًا وهو أبو سعيد الخُدري لأنه روى ألفًا ومئة وسبعين وإلى هذا أشار العراقي بقوله: ............................. وهُمْ ... عُدُولٌ قيلَ لا مَن دَخلا في فِتيةٍ والمُكْثِرونَ سِتَّهْ ... هم أنَسُ ابنُ عمر الصِّدِّيقَهْ والبَحْرُ جَابِرٌ أبو هُرَيْرَهْ ... أكْثَرُهُمْ وَالبَحْرُ في الحَقِيقَهْ أكثَرُهم فتوى وهْوَ ابنُ عُمرا ... وابنُ الزُّبيرِ وابنُ عمرو قَدْ جَرَي بينَهُم بالشُّهْرَة العَبَادِلَهْ ... لَيْسَ ابن مَسْعُودٍ ولا مَنْ شاكَلَهْ وهْوَ وَزَيْدٌ وابنُ عَبَّاسٍ لَهُمْ ... في الفِقْه أتْباعٌ يَرَوْنَ قَوْلَهُمْ ولد عبد الله بن عباس رضي الله عنه وبنو هاشم في الشعب قبل الهجرة بثلاث، وقيل بخمس، وهو يقارب ما في الصحيحين عنه: "أقْبَلْتُ وأنا راكب على حمار أتان، وأنا يومئذ قد ناهَزْتُ سن الاحتلام، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي بمنى إلى غير جدار" الحديث، وفي الصحيح عن ابن عباس: "قُبِض النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأنا خَتين". وفي رواية: "مختون" وفي رواية: "وكانوا لا يختِنون الرجل حتى يُدرك". كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحبه، ويدنيه، ويقربه، ويشاوره مع جِلَّةِ الصحابة، وروى الزُّهري أن المهاجرين قالوا لعمر: ألا تدعو أبناءنا كما تدعو ابن عباس؟ فقال: ذاكم فتى الكهول، له لسان سُؤول، وقلب عَقول. وروى زيد بن أسلم أنه كان يُقَرِّبُ ابن عباس، ويقول: إني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعاك، فمسح رأسك، وتَفَلَ في فيك، وقال: "اللَّهُم فَقِّهْهُ في الدين، وعلمه التأويل". وفي الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضمه إليه وقال: "اللَّهْمَّ علمه الحكمة". وفي مسند أحمد من طريق كُرَيْب أن ابن عباس أخبره قال: صليتُ خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخذ بيدي فجرني حتى جعلني حِذَاءَهُ، فلما أقبل على صلاته خَنَسْتُ، فلما انصرف قال لي: ما شأنك؟ قلت: يا رسول

الله أو ينبغي لأحد أن يُصَلِّي حذاءك، وأنت رسول الله، فدعا لي أن يزيدني الله علمًا وفهمًا. وروى ابن سعد من طريق طارق، عن ابن عباس: دعا لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمسح على ناصِيَتي، وقال: "اللهم علمه الحكمة، وتأويل الكتاب". وأخرج ابن سعد أيضًا من طريق عكرمة، قال: أرسل العباس عبدَ الله إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فانطلق ثم جاء، فقال: رأيت عنده رجلًا لا أدري مَنْ هو؟ فجاء العباس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأخبره بالذي قال عبد الله، فدعاه، فأجلسه في حِجْره، ومسح رأسه، ودعا له بالعلم. وأخرج الزُّبير بن بَكّار، عن محمد بن أبي كَعْب، عن أبيه أنه سمعه يقول: كان عنده ابن عباس، فقام، فقال: هذا يكون حبر هذه الأمة، أَوْفى عقلًا وحَشْمًا ودعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يفقهه في الدين. وأخرج ابن سعد أيضًا بسند صحيح، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، لما مات زيد بن ثابت قال أبو هريرة: مات حبر هذه الأمة، ولعل الله أن يجعل في ابن عباس خَلَفًا. وفي تاريخ عباس الدُّوري، عن ابن أبي نَجِيح: ما رأيت مثل ابن عباس قطُّ، ولقد مات يوم مات وإنه لحبر هذه الأمة. وكان يقال له: حبر العرب، ورُوي أن الذي لقبه بذلك جَرْجِير ملك الغرب , وكان قد غزا مع عبدالله بن أبي سَرْح إفْريقِيَّةَ, فتكلم مع جَرجير, فقال: ينبغي إلا أن تكون حبر العرب. ومن طريق أبي أمامة، عن مجاهد، قال: ابن عباس يسمّى البحر لكثرة علمه. وفي "الجَعْدِيّات" عن شعبة بن عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد: سألت البحر عن لحوم الحمر، وكان ابن عباس يُسمى البحر الحديث،

وأصله في البخاري، وكان عمر يستشيره ويقول: غَوّاصٌ. وقال سعيد بن المُسَيِّب: ما رأيت أَحْضَرَ فهمًا، ولا أَلَبَّ لُبًّا ولا أكثر علمًا، ولا أوسع حِلمًا من ابن عباس، ولقد رأيت عمر يدعوه للمُعْضلات. وقال عِكْرمة: كان ابن عباس إذا مر بالطريق قالت الناس: أَمَرَّ المِسْكُ أو ابن عباس؟. وقال مسروق: كنت إذا رأيت ابن عباس قلت: أجمل الناس، وإذا نطق قلت: أفصح الناس، وإذا حدث قلت: أعلم الناس. وقال عطاء: ما رأيت قَطُّ أكرمَ من مجلس ابن عباس, أكثر فقهًا, وأعظم خشية؛ إن أصحاب الفقه عنده، وأصحاب القرآن عنده، وأصحاب الشعر عنده يَصْدُرهم كلهم من واد واسع. وقال طاووس: رأيتُ سبعينَ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا تدارؤوا في أمر صاروا إلى قول ابن عباس. وعن أبي وائل قال: قرأ ابن عباس سورة النور، فجعل يفسرها، فقال رجل: لو سَمِعَتْ هذا الدَّيْلَمُ لأسلمت. وفي رواية: لو سمعته فارس والروم لأسلمت. وقال أبو وائل: قال رجل: والله إني لأشتهي أن أقبِّلَ رأسه من حلاوة كلامه. وقال سعيد بن جُبَير: كنت أسمع الحديث من ابن عباس، فلو يأذن لي لقبلت رأسه. وقال مَيْمون بنُ مِهران: لو أتيت ابن عباس بصحيفة فيها ستون. حديثًا لرجعت ولم تسأله عنها، ورأيتَ الناس يسألونه فَيَكْفُونك. وسُئِل ابن عمر عن شيءٍ، فقال للسائل: سل ابن عباس فإنه أعلم من بقي بما أنزل على محمد. وعن عبد الله بن دينار، أن رجلًا سأل

عبد الله بن عمر عن قوله تعالى: {كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء: 30] فقال: اذهب إلى ذلك الشيخ، فاسأله, ثم تعال فأخبرني، فذهب إلى ابن عباس، فسأله, فقال: كانت السماء رَتْقاء لا تُمْطر، والأرض رتقاء لا تُنبت، ففتق هذه بالمطر، وهذه بالنبات، فرجَع الرجل، فأخبر ابن عمر، فقال: لقد أُوتي ابن عباس علمًا صدقًا، هكذا، لقد كنت أقول ما يعجبني جرأة ابن عباس على تفسير القرآن، فالآن قد علمت أنه أوتي علمًا. وروى عكرمة عنه أنه قال: لما قُبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قلت لِرجل من الأنصار: هَلُمَّ فنسأل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنهم اليوم كثير، فقال: واعجبًا لك، أفَتَرى الناس يفتقرون إليك؟ قال: فترك ذلك وأقبلت أسأل، فإن كان لَيبلُغُني الحديث عن رجل، فآتي بابه وهُو قائِلٌ فأتوسد روائي على بابه يسفي الريح علي من التراب، فيَخْرُج فيراني، فيقول: يا ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هلّا أرسلت إلي فآتِيَكَ. فأقول لا أنا أحق أنْ آتيك، فأسأُلُه عن الحديث، فعاش الرجل الأنصاري حتى رآني وقد اجتمع الناس حولي يسألونني، فقال: هذا الفتى كان أعقل مني. وروى عنه أبو سَلَمَة أنه قال: وجدت علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند هذا الحي من الأنصار، إن كنت لأقيلُ عند باب أحدهم، ولو شئت أن يُؤذن عليه لأذِن لكن أبتغي بذلك طيب نفسه. ورُوي عن الشعبي قال: ركب زيد بن ثابت، فأخذ ابن عباس بركابه، فقال: لا تَفْعَلْ يا ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: هكذا أُمِرْنا أن نَفْعَلَ بعلمائنا، فقبل زيد بن ثابت رأسه، وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا. وعن ابن مسعود أنه قال: نِعْمَ تَرْجُمانُ القرآن ابنُ عباس، لو أدرك أسناننا ما عَشِره منا رجل.

وقال مجاهد: ما سمعت فتيا أحسن من فتيا ابن عباس، إلَّا أنْ يقول قائل: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وعند الدارمي وابن سعد بسند صحيح عن عبد الله بن أبي يزيد: كان ابن عباس إذا سُئِل فإن كان القرآن أخبر به، فإن لم يكن وكان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبر به، فإن لم يكن وكان عن أبي بكر وعمر أخبر به، فإن لم يكن قال برأيه. وفي رواية ابن سعد: اجتهدَ رأيَهُ. وفي البَيْهَقيِّ عن عبد الله بن بُرَيْدة، قال: شتم رجل ابن عباس، فقال: إنك لتَشْتِمُني وَفِيَّ ثلاث: إني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يعدِل في حكمه، فأحبه، ولعلي لا أقضي عليه أبدًا، وإني لأسمع بالغيث يُصيبُ البلد من بلدان المسلمين، فأفرح به، وما لي بها سائمة ولا راعية، وإني لآتي على آية من كتاب الله تعالى فودِدْت أن المسلمين كلهم يعلمون منها مثل ما أعلم. وعن يزيد بن الأَصَمِّ: خرج معاوية حاجًّا، ومعه ابن عباس، فكان لمعاوية موكب، ولابن عباس موكب ممن يطلُب العلم. وقال عمرو بن دينار: ما رأيت مجلسًا أجمع لكل خير من مجلس ابن عباس الحلالِ، والحرامِ، والعربيةِ، والأنسابِ، وأحسبه قال: والشعر. وعن عُبيد الله بن عبد الله قال: ما رأيت أحدًا كان أعلم بالسنة، ولا أجَلَّ رأيًا، ولا أثقب نظرًا من ابن عباس. وقال القاسم بن محمَّد: ما رأيت في مجلس ابن عباس باطلًا قطُّ، وما سمعت فتوى أشبه بالسنة من فتواه. ويُروى أن معاوية نظر إلى ابن عباس يومًا يتكلم، فَأَتْبَعَهُ بَصَرَهُ، وقال متمثلًا: إذا قَالَ لَمْ يَتْركْ مَقالًا لِقائلٍ ... مُصيبٌ وَلَمْ يَثْن اللِّسانَ على هُجْرِ

يُصَرِّفُ بالقَوْل اللِّسانَ إذا انْتَحى ... ويَنْظُرُ في أعطافِهِ نَظَرَ الصَّقْرِ وقال عطاء: كان الناس يأتون ابن عباس في الشعر والأنساب، وناس يأتونه لأيام العرب ووقائعها، وناس يأتون للعلم والفقه ما منهم إلا يُقْبِل عليهم بما شاؤوا. وروى أبو الحسن المدائني، عن أبي بَكْرة، قال: قدم علينا ابن عباس البصرة، وما في العرب مثله حَشْمًا، وعِلمًا، وثيابًا، وجمالًا، وكمالًا. وأخرج الطبراني من طريق أبي الزِّنَادِ أن حسانَ بن ثابت، قال: كانت لنا عند عثمان أو غيره من الأمراء حاجة فطلبناها إليه بجماعة من الصحابة منهم عبدُ الله بن عباس، وكانت حاجةً صعبة شديدة، فاعتل علينا، فراجعوه إلى أن عَذَروه وقاموا، إلا ابنَ عباس، فلم يزل يُراجِعُه بكلام جامع، حتى سَدَّ عليه حاجته، فلم يَرَ بُدًّا من أن يقضيَ حاجتنا، فخرجنا من عنده وأنا آخذٌ بيد ابن عباس، فمررنا على أولئك الذين كانوا عَذَرُوا وضَعُفوا، فقلت: كان عبد الله بن عباس أولاكم به، قالوا: أجل، فقلت أمدحه: إذا ما ابن عَبّاسٍ بَدَا لَكَ وَجْهُهُ ... رَأَيْتَ لَهُ في كُلِّ أحوالِهِ فَضْلًا كَفَى وشَفَى ما في النُّفُوسِ وَلَمْ يَدَعْ ... لِذِي أَرَبٍ في القولِ جدًّا ولا هزْلا سَمَوْتَ إلى العَلْيا بِغَيرِ مَشَقَّةٍ ... فَنِلْتَ ذُراها لَا دَنِيًّا وَلاَ وَغْلا خُلِقْتَ حليفًا لِلْمُروءَةِ والنَّدى ... بليجًا وَلَمْ تُخْلَق كهامًا وَلاَ خبلا وذكر خليفةُ أن عليًّا ولّاه البصرة، وكان على الميسرة يوم صفين، واستخلف أبا الأسود على الصلاة، وزيادًا على الخراج، وكان استكتبه، فلم يزل ابن عباس على البصرة حتى قُتِلَ علي، فاستَخْلف عبد الله بن الحارث، ومضى إلى الحجاز. وأخرج الزبير بسند له أن ابن عباس كان يُفتي الناس في رمضان وهو أمير البصرة، فما ينقضي الشهر حتى يفقههم.

وقال محمود بن سلام سعى ساعٍ إلى ابن عباس برجل، فقال: إن شئت نظرنا، فإن كنت كاذبًا عَاقَبْناك، وإن كنت صادقًا نَفَيْناك، وإن شئت أَقَلْتُك. قال: هذه. وفي كتاب "الجليس" للمعافى نظر الحطيئة إلى ابن عباس في مجلس عمر، وقد بَرَعَ بكلامه، فقال: مَنْ هذا الذي نزل عن القوم في سِنِّه، وعلاهم في قوله؟ قالوا: هذا ابن عباس. فأنشأ يقول: إنّي وَجَدْتُ بَيَانَ المَرْءِ نَافِلَةً ... تهدي له، وَوَجَدْتُ العِيِّ كالصَّمَمِ المَرْءُ يَبْلى وَتَبْقى الكَلْمُ سائِرَةً ... وَقَدْ يُلام الفتى يوماً وَلَمْ يَلُمِ وفي "تاريخ" يعقوب بن سُفيان، من طريق يزيد بن الأَصَمِّ، عن ابن عباس، قال: قدم على عمر رجل، فسأله عن الناس، فقال: قرأ منهم القرآن كذا وكذا. فقال ابن عباس: ما أُحب أن يُسأل عن آي الاقرآن. قال: فَزَبَرَني عمر، فانطلقت إلى منزلي، فقلت: ما أراني إلا قد سقطت من نفسه، فبينا أنا كذلك إذ جاءني رجل، فقال: أجب، فأخذ بيدي، فخلا بي، فقال ما كرِهْت مما قال الرجل؟ فقلت: يا أمير المؤمنين إن كنت أسأت فاستغفر الله. قال: لَتُحَدِّثَني. قلت: إنهم متى تنازعوا اختلفوا، ومتى اختلفوا اقتتلوا، قال: لله أبوك، لقد كنت أكتمها النّاسَ. وأخرج أحمد، عن عكرمة أن ابن عباس بلغه أن عليًّا حَرَّق أُناسًا، فقال: لم أكن لِأحُرِّقَهم ... الحديث، فبلغ عليًّا قوله، فقال: ويح ابن أم الفضل إنه لغواص على الهَنَات. وفي "المجالسة" من طريق المدائني، قال علي في ابن عباس: إنَّك لَتَنْظُر إلى الغيب من سِتر رقيق لعقله وفطنته. وأخرج يعقوب بن سفيان من طريق عبد الله بن شَبيب قال: قالت عائشة: هُو أعلم الناس بالحج. وفي "فوائد" المقرئ من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عُتبة بن

مسعود، أن عمر كان يأخذ بقول ابن عباس في العُضَلِ، وعُمَرُ عُمَرُ. وعن هشام بن عُروة: سألت أبي عن ابن عباس، فقال: ما رأيت مثل ابن عباس قطُّ. ورُوي أن عبد الله بن صَفْوان بن أُمَيَّةَ مَرَّ يومًا بدار عبد الله بن عباس بمكة، فرأى فيها جماعة من طالبي الفقه، ومرَّ بدار عُبيد الله بن عباس فوجد فيها جماعة ينتابونها للطعام، فدخل على ابن الزبير، وقال: أصبحتَ والله كما قال الشاعر: فَإِنْ تُصِبْكَ من الأيّام قارِعةٌ ... لَمْ نَبْكِ منكَ على دُنيا ولا دينِ قال: وما ذاك يا أعرج، قال: هذان ابنا عباس أحدهما يفقه الناس، والآخر يطعم الناس، فما أبقيا لك مَكْرُمة، فدعا عبدَ الله بن مُطيع، وقال انطلق إلى ابني عباس، وقل لهما: يقول لكما أمير المؤمنين: اخرجا عني أنتما ومن انضوى إليكما من أهل العراق، وإلا فعلت وفعلت، فقال عبد الله ابن عباس لابن الزبير: والله ما يأتينا من الناس إلا رجلان، رجل يطلُبُ فقهًا، ورجل يطلب فضلًا، فأيَّ هذين تمنع؟ وكان بالحضرة أبو الطفيل عامر بن وَاثلة الكناني، فجعل يقول: لا دَّر دُّر الَّليالي كيف تُضحِكُنا ... مِنها خطوبٌ أعاجيبٌ وَتُبْكينا ومِثلُ ما تُحدثُ الأيّامُ مِن غِيَرٍ ... في ابن الزُّبير عن الدُّنيا يُسَلّينا كُنّا نَجيءُ ابن عبّاسٍ فَيُسمعُنا ... فِقْهًا ويُكسِبُنا أجرًا ويَهْدينا ولا يزالُ عُبيدُ اللهِ مُتْرعةً ... جِفَانُهُ مُطعِمًا ضيفًا ومِسْكينا فَالبِرُّ والدينُ والدُّنيا بدارهمُ ... نَنالُ منها الّذي نَبْغي إذا شينا إنَّ النّبيُّ هو النُّور الذي كُشطتْ ... به عَماياتُ ماضِينا وبَاقينا ورَهطُه عِصمَةٌ في ديننا لهُمُ ... فَضلٌ علَينا وَحَقٌّ واجِبٌ فينا فَفيم تَمنَعُنا مِنهُم وتَمنعُهُم ... مِنّا وتُؤذيهم فِينا وَتُؤذينا ولَستَ فَاعْلَم بأَولاهُم بهِ رَحِمًا ... يا ابنَ الزُّبيرِ ولا أولى به دِينا لَنْ يُؤِتيَ الله إنسانًا بِبُغضِهِمُ ... في الدّينِ عِزًّا ولَا في الأرضِ تَمكينا

وكان رضي الله عنه قد عمي في آخر عمره، ورُوي عنه أنه رأى رجُلًا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يَعْرِفْهُ، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَرأَيتَهُ" قال: نعم. قال: "ذلك جِبْريلُ، أما إنَّك سَتفقدُ بَصَركَ" فعمي في آخر عمره وهو القائل: إن يأْخُذ الله من عَينيَّ نُورهُما ... ففي لِساني وقَلْبي مِنهُما نورُ قَلْبي ذَكِيٌ وعَقلي غَيرُ ذي دَخَلٍ ... وفي فَمي صارِمٌ كالسَّيْفِ مَشْهُورُ وروى مجاهدٌ عنه أنه قال: رأيت جبريل عند النبي - صلى الله عليه وسلم - مرتين. له ألف وست مائة حديث وستون حديثًا، اتفقا على خمسة وتسعين، وانفرد البخاري بمئة وعشرين، ومسلم بتسعة وأربعين. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعن أبيه، وأمِّه أم الفَضْل، وأخيه الفضل، وخالته مَيْمونة، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعبد الرحمن بن عَوف، ومُعاذ بن جَبل، وأبي ذرٍّ، وأُبيِّ بن كَعب، وخالد بن الوليد وهو ابن خالته، وأبي هُريرة، وأسامة بن زَيد، وخلق. وروى عنه ابناه علي ومحمد، وابن أخيه محمَّد بن علي، وأخوه كَثير ابن العباس، وابن أخيه عبد الله بن عبيد الله بن عباس، وابن أخيه الآخر عبد الله بن مَعيد بن عباس، ومن الصحابة عبد الله بن عمر بن الخطاب، وثَعْلبةُ بن الحكم اللَّيثي، وأبو الطُّفَيل، وغيرهم من الصحابة، ومن التابعين أبو أُمامة بن سَهْل بن حَنيف، وسعيد بن المسَيِّب، وسعيد بن جُبير، وأبو سَلَمةَ بن عبد الرحمن، وعطاء، وطاووس وكُرَيْب، ومُجاهد، وعَمرو بن دينار، وابن خالته عبد الله بن شَداد بن الهاد، وابن خالته الأخرى يزيد بن الاصم، وخلق كثير. مات رضي الله عنه بالطائف سنة ثمان وستين، وقيل: سنة تسع، وقيل: سنة سبعين، وصلى عليه محمد بن الحَنَفِيَّة، ولما سُوِّي عليه التراب، قال: مات والله اليوم حبر هذه الأمة، وفي رواية: رَبّانِيُّ هذه الأمة.

الحديث السادس

وروي عن سعيد بن جُبير أنه قال: مات ابن عباس وأنا بالطائف، فشهدت جنازته، فجاء طائر أبيض لم يُرَ على خِلقَتِه مثله، فدخل في نَعْشه، ولم نره خارجًا منه، فلما دُفِن تليت هذه الآية: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} [الفجر:27 - 28] إلى آخر السورة، فكانوا يرون أنه عِلْمُه، وقيل: إنه بصره، وضرب محمَّد فُسطاطًا على قبره، واختلف في سِنِّه يوم مات، فقيل: ابن إحدى وسبعين، وقيل: ابن اثنتين، وقيل: أربع، والأول هو الأقوى، وليس في الكتب الستة مَنْ اسمه عبد الله بن عباس سواه. فائدة: رُوي عن غُنْدَر أن ابن عباس لم يسمع من النَبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلا تسعة أحاديث، وعن يحيى القَطّان عشرة، وقال الغزالي في "المستصفى": أربعة. وفيه نظر، ففى الصحيحين عن ابن عباس مما صرح فيه بسماعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر من عشرة، وفيهما مما يشهد فعله نحو ذلك، وفيهما ما له حكم الرفع نحو ذلك، فضلًا عما ليس في الصحيحين، قاله في: "تهذيب التهذيب". لطائف إسناده منها: أنه كله على شرط الستة، ورواته ما بين مكيٍّ وبَصْري وواسِطي، وكلهم من الأفراد، لا أعلم من شاركهم في أسمائهم وأسماء آبائهم. وفي رواية تابعي عن تابعي، وهما موسى بن أبي عائشة، وسعيد بن جُبير. أخرجه البخاري هُنا، وفي التفسير، وفي فضائل القرآن عن قُتَيْبَةَ. ومسلم في الصلاة عن إسحاق بن إبراهيم، وقُتيبة، وغيرهما. والتِّرمذي من حديث سفيان بن عيينة، وقال: حسن صحيح. الحديث السادس 5 - باب * 6 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ (ح) وَحَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا يُونُسُ وَمَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ نَحْوَهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ

قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِى رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ. [الحديث 6 - أطرافه في: 1902، 3220، 3554، 4997]. قوله: "كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أجود الناس" أجود منصوب لأنه خبر كان، وقدم ابن عباس هذه الجملة على غيرها، وإن كانت لا تتعلق بالقرآن، على سبيل الاحتراس من مفهوم ما بعدها، ومعنى أجود الناس: أكثرهم جودًا على الإِطلاق، والجود: الكرم، وهو من الصفات المحمودة، وقد أخرج التِّرمذي من حديث سَعْد رفعه: "إن الله جوادٌ يُحِبُّ الجود" الحديث، وله من حديث أنس رفعه: "أنا أجودُ وَلَدِ آدم، وأجودهم بعدي رجلٌ عَلِمَ عِلمًا فَنَشَر علمه، ورجلٌ جادَ بنفسه في الله" وفي سنده مقال، وفي "الصحيح" عن أنس كما يأتي: كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أشجع الناس، وأجود الناس الحديث. وقوله: "وكان أجود ما يكون في رمضان" وأجود بالرفع في أكثر الروايات، وخبرها محذوف سد الحال الذي هو في رمضان مسده، وتقديره: حاصل، على حد قولهم: أخطب ما يكون الأمير يوم الجمعة، أو هو مبتدأ مضاف إلى المصدر وهو: "ما يكون"، وخبره "في رمضان"، والتقدير: أجود أكوان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في رمضان، وعلى هذا تكون كان زائدة، ويرجح هذا الوجه وروده بدون كان عند المؤلف في الصوم، وفي رواية: أجود بالنصب على أنه خبر كان، واسمها ضمير النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، والتقدير: كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مدة كونه في رمضان أجودَ منه في غيره. وذكر النَّوَوِيّ أنه سأل ابن مالك عن هذا اللفظ، فخرج فيه الرفع من ثلاثة أوجه، والنصب من وجهين، وذكر ابن الحاجب في أماليه للرفع خمسة أوجه، تَوَارَدَ مع ابن مالك في وجهين منها، ولم يُعَرِّج على النصب.

وقوله: "حينَ يَلْقاه جِبريلُ" أي: لأن في ملاقاته زيادة ترقيه في المقامات، وزيادة اطِّلاعه على علوم الله تعالى، ولا سيما مع مدارسة القرآن. وقوله: "وكانَ يَلْقاه" الضمير المستتر في كان لجبريل عليه السلام، والبارز في يَلْقاه للنبي عليه الصلاة والسلام، وجوز الكِرْماني العكس، ورجَّحَ الأول بقرينة: "حين يلقاه جبريل" فهو أقرب في الذكر. وقوله: "فيدارسُهُ القرآنَ" الفاء فيه عاطفة له على يلقاه، والقرآن مفعول ثان على حد: جاذَبْتُهُ الثَّوْبَ، والحكمة في أن مدارسة القرآن تجدد له العهد بمزيد غنى النفس، والغنى سبب الجود، والجود في الشرع إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي، وهو أعم من الصدقة، وأيضًا فرمضان موسم الخيرات، لأن نِعَم الله فيه على عباده زائدة على غيره، فكان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يؤثر متابعة سنة الله تعالى في عباده، فبمجموع ما ذُكر من الوقت، والمنزول به، والنازل، والمذاكرة، حصل المزيد في الجود. قال الطِّيبيُّ: فيه تخصيص بعد تخصيص، على سبيل الترقي، فَضَّلَ أولًا جوده مطلقًا على جود الناس كلهم، ثم فضل ثانيًا جوده في رمضان على جوده في غيره، ثم فضل ثالثًا جوده في ليالي رمضان عند لقاء جبريل له على جوده في غيرها من رمضان، وإنما دارسه القرآن لكي يتقرر عنده، ويرسخ أتَمَّ رسوخ، فلا ينساه أبدًا، وهذا إنجاز، كما وعد به رسوله عليه الصلاة والسلام حيث قال له: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} [الأعلى: 6]. وقوله: "فَلَرَسُول اللهِ أجودُ بالخيرِ من الرِّيحِ المُرسلة" الفاء للسببية، واللام في المبتدأ للتأكيد أو جواب قسم مقدر، يعني أنه في الإِسراع بالجود أسرع من الريح، وعَبَّر بالمرسلة، أي: المطلقة، إشارة إلى دوام هبوبها بالرحمة، وإلى عموم النفع بجوده، كما تَعُمُّ الريح المرسلة جميعَ ما تَهُبُّ عليه.

ووقع عند أحمد في آخر هذا الحديث: "لَا يسْأَلُ شَيْئًا إلَّا أعْطَاهُ" وثبتت هذه الزيادة في الصحيح من حديث جابر: "ما سُئِلَ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم شَيْئًا، فقال: لا" وفي تقديم معمول أجود على المفضل عليه نكتةٌ لطيفة، وهي أنه لو أخره لَظُنَّ تعلقه بالمرسلة، وهذا وإن كان لا يتغير به المعنى المراد من الوصف بالأجودية، إلا أنه تَفُوت به المبالغة، لأن المراد وصفه بزيادة الأجودية على الريح مطلقًا. قلت: عندي في هذا نظر، لأن أجوديته عليه الصلاة والسلام إنما تكون بالخير خاصة، وأجوديته إنما تحصل على الريح المرسلة بالخير خاصة لا على غيرها، فلا تظهر هذه النكتة المشار لها. وفيه جواز المبالغة في التشبيه، وجواز تشبيه المعنوي بالمحسوس ليُقَرَّبَ لِفَهْم سامِعِهِ، وذلك أنه أثبت له أولًا وصف الأجودية، ثم أراد أن يصفه بأزيد من ذلك، فشبه جوده بالريح المرسلة، بل جعله أبلغ منها في ذلك لأن الريح قد تسكن. وفيه استعمال أفعل التفضيل في الإِسناد الحقيقي والمجازي، لأن الجود منه صلى الله تعالى عليه وسلم حقيقي، ومن الريح مجاز، فكأنه استعار للريح جودًا باعتبار مجيئها بالخير، فَأَنْزَلَها منزلةَ من جاد. وفيه فوائد منها: الحث على الجود مطلقًا والزيادة في رمضان، وعند الاجتماع بأهل الصلاح، وزيارة الصلحاء وأهل الخير، وتكرار ذلك إذا كان المزور لا يكره ذلك، واستحباب الِإكثار من القرآن في رمضان، وكونه أفضل من سائر الأذكار، إذ لو كان الذكر أفضل أو مساويًا لَفَعَلاه، فإن قيل: المقصود تجويد الحفظ، قلنا: الحفظ كان حاصلًا، والزيادة فيه تَحْصُل ببعض المجالس، وإنه يجوز أن يقال: رمضان من غير إضافة، وفيه إشارة إلى أن ابتداء نزول القرآن كان في رمضان، لأن نزوله إلى السماء الدنيا جملة واحدة كان في رمضان، كما ثبت من حديث ابن عباس، فكان جبريل يَتَعاهده في كل سنة، فيُعارِضه بما نزل عليه من

رجاله ثمانية

رمضان إلى رمضان، فلما كان العام الذي توفي فيه عارَضَهُ به مرتين، كما ثبت في الصحيح من حديث فاطِمَةَ رضي الله تعالى عنها، وبهذا يُجاب من سأل عن مناسبة إيراد الحديث في هذا الباب، ثم نزل بعد نزوله جُملة على حسب الأسباب في عشرين سنة، وقيل نزلت صُحُف إبراهيم عليه السلام أول ليلة منه، و"التوراة" لِسِتٍّ، و"الِإنجيل" لثلاث عشرة، و"القرآن" لأربع وعشرين، وفهم منه أن جبريل عليه الصلاة والسلام كان ينزل على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في كل ليلة من رمضان، وهذا يعارض ظاهر ما رُوي في صحيح مسلم: "في كل سنة في رمضان حتى يَنْسلِخَ" وأجيب بأن المحفوظ في مسلم أيضًا مثل ما في البخاري، ولئن سلمنا صحة الرواية المذكورة فلا تَعَارُضَ، لأن معناه بمعنى الأول، لأن قوله: "حتى يَنْسَلخَ" بمعنى كل ليلة، وخُص رمضان بالمدارسة لأن عبادة فيه أفضل من العبادة في غيره، ولذلك قال الزُّهري: "تَسْبيحةٌ في رمضان خير من سبعين في غيره. وقد جاء في الحديث أنه يُعْتَقُ في كل ليلة منه ألف ألف عتيق من النار. رجاله ثمانية: الأول: عَبْدان، وهو لقب عبد الله بن عثمان بن جَبَلة -بفتح الجيم والباء الموحدة- ابن أبي رَوّاد ميمون، وقيل: أيمن الأزدِيُّ العَتَكي مولاهم، أبو عبد الرحمن المَرْوَزِيّ الحافظ، مولى المُهَلَّب بن أبي صُفرة. قال ابن حبان في "الثقات": قال أحمد بن حَنْبل: ما بقي الرِّحْلة إلا إلى عَبْدان بخراسان. قال أحمد بن عَبْدة: تصدق عَبْدان في حياته بألف ألف درهم، وكَتَبَ كُتُبَ ابن المبارك بقلم واحد. وقال ابن عدي في "شيوخ البخاري": حدث عن شعبة أحاديث تفرد بها. وقال أبو رَجَاء محمد بن حَمْدويه: رأيته يَخْضِبُ، وهو ثقة مأمون. وقال الحاكم: كان إمام أهل الحديث ببلده، ولاه عبد الله بن طاهر قضاء الجُوزجان فاحتال حتى اعتفى، وفي "الزهرة" روى عنه البخاري مئة حديث وعشرة أحاديث، قيل: إنه لقب عبدان لكون أول اسمه عبد، وأول كنيته عبد، فاجتمع من

اسمه وكنيته عبدان، وقيل: إن ذلك من تغيير العامة للأسامي وكسرهم لها في زمن صِغَرِ المُسَمّى كقولهم في علي: عليان، وفي أحمد بن يوسف وغيره: حمدان، وفي وَهْب بن بَقِيّة الواسِطي: وهبان. روى عن أبيه، وأبي حمزة السكري، ويزيد بن رُزَيْع، وابن المُبارك، وجَرير بن عبد الحميد، وشُعبة، وحَمّاد بن زيد، وغيرهم. وروى عنه البخاري، وروى الباقون له بواسطة محمد بن يحيى اليَشْكُري سوى ابن ماجة، وروى عنه الذُّهلي، ويعقوب بن سفيان، ومحمد بن عبد العزيز بن أبي رِزمة، وغيرهم. مات سنة إحدى وعشرين ومئتين وهو ابن ست وسبعين. والعَتَكِيُّ في نسبه بالتحريك نسبة إلى عَتيك كأمير أبو بَطْن من الأَزْد، وهو عَتيك بن الأسد بن عمران بن عمرو مِزِيقِيا بن ماء السماء، ومن ولده أسد بن الحارث بن عَتيك، وأخوه وائل بن الحارث بن العَتيك، إليه ينسب المُهَلَّب بن أبي صُفرة، وإليه يرجع المُهَلَّبِيّون عشيرة أبي الحسن المهلبي شيخ اللغة بمصر. والأزْدِيّ بسكون الزاي في نسبه نسبة إلى الأَزْد بن الغوث بن نبت ابن مالك بن كهلان بن سَبأ وهو أَسْد بالسين أفصح، وبالزاي أبو حي من اليمن، ومن أولاده: الأنصار كلهم، قيل: اسمه دِرْء بكسر فسكون، وقيل: دِرَاء ككتاب، وهو الصحيح، والأَزْد لقبه، قيل: معنى الأَزْد والأَسْد والعَسْد: القُبُل، وقيل الأَزْد أيضًا بمعنى العَزْد، وهو النكاح، وافترقت الأَزد فيما ذكره أبو عبيدة وغيره من علماء النسب على نحو سبع وعشرين قبيلة، ويقال أَزْدِ شَنُوءة، وإِزْدِ عُمان -كغراب- بلدة على شاطئ البحر بين البصرة وعَدَن، وأَزْدِ السُّراة أعظم جبال العرب، ويُقال لبعض آخر: أَزْد غَسّان، وهو اسم ماء فمن شرب منه منهم سُمِّي أَزْد غسان وهم أربع قبائل، ومن لم يشرب منه لم يُقَل له ذلك، وإليه يشير قول حسان بن ثابت:

إمَّا سَأَلْت فإنَّا مَعْشَرٌ نُجُبٌ ... الأَزْدُ نِسْبَتُها وَالماءُ غَسّانُ وهو ماءٌ بين رِمَع وزَبيد لواديين باليمن، وقيل: بِسَدِّ مأْرِب، وقيل: بالمُشلَّلِ قرب الجُحْفَة، وقيل: اسم دابة وقعت في هذا الماء فَسُمي الماء بها، وحُكِيَ فيه الصرف والمنع على زيادة النون وأصالتها. وغسان اسم مازِن بن الَأزْد بن الغَوْث، منهم ملوك غسان الذين منهم جَفْنَةُ بنُ عمرو، والحارثُ المُحَرِّقَّ، وثَعْلَبَةُ العَنْقاءُ، والحارثُ الأكبر المعروف بابن مارية، وأولادهُ النعمان، والمنذر، وجَبَلَة، وأبو شمر، ملوك كلهم، فمن ولد جَبَلة هذا جَبَلَة بن الأيْهم وفي وَلَدِ أبي شَمِر الحارثُ الأَعْرج بن أبي شَمِر، قيل: إن أَزْدَ غسان كان عاهد أَزْدَ شَنُوءة، وأَزْدَ عُمان أن لا يَحُولا عليه، فثبتت أَزْدَ شَنُوءَة على عهده دون أَزْد عُمان، فقال: وَكُنْتُ كَذي رِجْلَيْنِ رِجْلٍ صَحيحةٍ ... وَرِجْلٍ بها رَيْبٌ مِنَ الحَدَثَانِ فَأَمَّا الّتي صَحَّتْ فَأَزْدُ شَنُوءَةٍ ... وأمَّا التي شَلَّتْ فَأَزْدُ عُمانِ وقد فَصل السُّهْلِيُّ في "الروض الأُنُف" غسان تفصيلًا جيدًا. والمَرْوَزِيّ -بفتح الميم، وسكون الراء، وفتح الواو، بعدها زاي معجمة- في نَسَبه نسبةً إلى مروِ الشَّاهْجان، هي إحدى كراسي خُراسان، وكراسي خُراسان أربع مدن: هذه، ونَيْسابور، وهَرَاة، وبَلْخ، وإنما قيل لها: مَرْوُ الشّاهْجان لتتميز عن مَرْوِ الرُّوذ -بفتح الميم، وسكون الراء، وفتح الواو، وتشديد الراء المهملة المضمومة وبعد الواو ذال معجمة- والشَّاهْجان لفظ عجمي تفسيره روح الملك، فالشاه: الملك، والجان: روح، ومن عادتهم أن يقدموا ذكر المضاف إليه على المضاف، ومرو هذه بناها الِإسكندر ذو القرنين، وهي سرير الملك بخراسان، وزادوا في النسبة إليها زايًا، كما قالوا في النسبة إلى الري: رازي، وإلى إصْطَخْر: إصْطَخْرَزِي على أحد النسبتين، إلا أن هذه الزيادة تختص ببني آدم عند أكثر أهل العلم بالنسب، وما عدا ذلك لا يزاد فيه الزاي، فيقال: فلان المروزي، والثوب وغيره من المَتَاع مَرْوي -بسكون الراء- وقيل: إنه يقال في الجميع بزيادة الزاي، ولا فرق بينهما، وهو من تغيير النسب، ومَرْوُ

الرُّوذ المتقدم ذكرها: مدينة مبنية على نهر، وهو المسمى بالرُّوذ على اللغة العجمية في تسمية النهر بذلك، وهي أشهر مدن خراسان، بينها وبين مَرْوِ الشَّاهْجان أربعون فرسخًا، وهاتان المدينتان هما المروان، أُضيفت إحداهما إلى الشّاهْجان وهي العظمى، والنسبة إليها مَرْوَزِي، والثانية إلى النهر المذكور، والنسبة إليها مَرْو الرُّوذِيّ ليحصل الفرق بينهما، وقيل مَرْوَزي. وعبدان لقب جماعة، هذا أكبرهم، وعبد الله بن عثمان في الكتب الستة ثمانية. الثاني: عبد الله بن المبارك بن وَاضح الحَنْظَلِيّ التَّميميّ مولاهم أبو عبد الرحمن المَرْوَزِي، أحد الأئمة، كان قد جمع بين العلم والزُّهد، وكان كثّير الانقطاع، مُحبًّا للخَلْوة، شديد التَّوَرُّع، وكان أبوه تُركيًّا مملوكًا لرجل من همدان، وأمه خُوارَزْمِيّة، وكان كثير المشايخ، رُوي عنه أنه قال: كتبت عن أربعة آلاف شيخ، فرويت عن ألف. قال سفيان بن عُيَيْنة: ابن المبارك عالم المشرق والمغرب وما بينهما، وقال شُعبة: ما قدم علينا مثلُه، وقال أبو إسحاق الغَزَاري: ابن المبارك إمام المسلمين، وقال ابن مَهْدي: الأئمة أربعة الثَّوْري، ومالك، وحَمّاد بن زيد، وابن المُبارك، وقال لما سئل عن سفيان وابن المبارك: لو جَهَدَ سفيان جَهْدَهُ على أن يكون يومًا مثل عبد الله لم يقدِر، وقال شُعيب بن حرب: إني لأَشْتَهي من عُمُري كُلِّه أن أكون سنة واحدة مثل ابن المبارك فما أقدر ولا ثلاثة أيام، وقال شُعيب: ما لَقِي ابنُ المبارك رجلًا إلا وابن المبارك أفضل منه، وقال أبو أسامة: ما رأيت أطلب للعلم منه، وقال أحمد بن حَنْبلِ: لم يكن في زمانه أطلب للعلم منه، جمع أمرًا عظيمًا، ما كان أحدٌ أقلَّ سقَطًا منه، كان رجلًا صاحبَ حديث حافظًا، وكان يحدث من كتاب، وقال ابن عُيينة: نظرت في أمر الصحابة فما رأيت لهم فضلًا على ابن المبارك إلا بصحبتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - وغزوهم معه، ولما نُعِي

إليه ابن المبارك، قال: كان فقيهًا عالمًا عابدًا زاهدًا شيخًا شجاعًا شاعرًا، وقال فُضَيْل بن عِياض: أما إنه لم يُخَلِّفْ أحدًا بعده مثله، وقال سَلام بن أبي مُطيع: ما خلف بالمشرق مثله، وقال ابن مَهْدي أيضًا: ما رأت عيناي مثل أربعة: ما رأيت أحفظ للحديث من الثَّوْري، ولا أشد تقشفًا من شعبة، ولا أعقل من مالك، ولا أنصحَ للأمة من ابن المبارك، وقال ابن مَعِين: كان كيِّسًا متثبتًا ثقة، وكان عالمًا صحيح الحديث والفقه، وكانت كتبه التي حدث بها عشرين ألفًا أو أحدًا وعشرين ألفًا، وقال إسماعيل بن عَيّاش: ما على وجه الأرض مثل ابن المبارك، ولا أعلم أن الله تعالى خلق خَصْلة من خِصال الخير إلا وقد جعلها فيه، وقال الحسن ابن علي بن شَفِيق: بلغنا أنه قال الفُضَيل بن عِياض: لولا أنت وأصحابُك ما اتجرْتُ. قال: وكان يُنْفقِ على الفقراء في كل سنة مئة ألف درهم، وقال الحاكم: هو إمام عصره في الآفاق، وأَوْلاهم بذلك علمًا وزهدًا وشجاعةً وسخاءً، وقيل لابن معين: أيُّهما أثبتُ عبد الله بن المبارك أو عبد الرزاق؟ فقال: كان عبد الله خيرًا من عبد الرزاق، ومن أهل قريته، عبد الله سيدٌ من سادات المسلمين. وقال ابن جُرَيْج: ما رأيت عراقيًا أفصح منه، وقال الحسن بن عيسى: كان مجاب الدعوة، وقال أبو وهب: مرَّ عبد الله برجل أعمى، فقال: أسألك أن تدعو لي، فدعا له، فرد الله عليه بصره وأنا انظر. وقال الخَلِيليُّ: ابن المبارك الإِمام المتفق عليه، له من الكرامات ما لا يُحصى، يقال إنه من الأبدال، وحكى الحسن بن علي عنه من دقيق الورع أنه استعار قلمًا من رجل بالشّام، وحمله إلى خراسان ناسيًا، فلما وجده معه بها رَجَع إلى الشام حتى أعطاه لصاحبه. وقال الأسود بن سالم: إذا رأيت الرجل يَغْمِزُ ابن المبارك فاتَّهِمْه على الإِسلام، وقال النسائي: لا نعلم في عصر ابن المبارك أجلَّ منه ولا أعلى منه ولا أجمع لكل خصلة محمودة، وقال العِجْلِيُّ: ثقة ثبت في الحديث، رجل صالح، وكان جامعًا للعلم.

وقال ابن حبان في "الثقات": كان فيه خِصال لم تجتمع في واحد من أهل العلم في زمانه في الأرض كلها. وقال يَحْيى بن يَحْيى الأنْدَلُسِيُّ: كنا في مجلس مالك، فاستُؤذن لابن المبارك، فَأُذِن، فرأينا مالكًا تزحزح له في مجلسه، ثم أقعده بِلِصْقِهِ ولم أره تزحزح لأحد في مجلسه غيره، فكان القارىء يقرأ على مالك، فربما مرَّ بشيءٍ فيسأله مالك: ما عندكم في هذا؟ فكان عبد اللهَ يُجيبُهُ بالخفاء، ثم قام، فخرج، فَأُعْجِبَ مالك بأدبه، ثم قال لنا: هذا ابن المبارك، فقيه خراسان. وقال الحسن بن عيسى: اجتمع جماعة من أصحاب ابن المبارك مثل الفضل بن موسى، ومخْلَد بن حسين، وغيرهما، فقالوا: تعالَوْا حتى نَعُدَّ خِصال ابن المبارك من أبواب الخير، فقالوا: جمع العلم، والفقه، والأدب، والنحو، واللغة، والشعر، والفصاحة، والزهد، والورع، والإِنصات، وقيام الليل، والعبادة، والحج، والغزو، والفُروسية، والشَّجاعة، والشدة في بدنه، وترك الكلام فيما لا يَعْنيه، وقلة الخلاف على أصحابه. وقال العباس بن مُصْعَب: جمع الحديث، والفقه، والعربية، والشجاعة، والتجارة، والسخاء، والمحبة عند الفراق. وقال ابن سَعْد: طلب، وروى روايةً كثيرةً، وصنف كتبًا كثيرة في أبواب العلم، وكان ثقة مأمونًا حجة كثير الحديث. ورُوي عن أشْعَثَ بن شُعبة المِصِّيصي أنه قال: قدم هارون الرَّقَّةَ، فانجفل الناس خلف عبد الله بن المبارك، وانقطعت النِّعال، وارتفع الغُبار، فأشرفت أم ولد أمير المؤمنين من قصر الخشب، فلما رأت الناس قالت: ما هذا؟ قالوا: عالم خراسان قدم الرَّقّة، يقال له: عبد الله بن المُبارك، فقالت: هذا والله المُلْكُ لا مُلك هارون الذي لا يَجْمع الناس إِلا بشُرطٍ وأعوان.

وكان لعبد الله شعر، فمن شعره: قَد يَفتحُ المرءُ حَانُوتًا لمتجَرهِ ... وَقَدْ فتحت لَك الحَانُوتَ بالدِّين بَينَ الأسَاطينِ حَانوتٌ بلَا غَلَقٍ ... تَبتَاعُ بالدِّين أموالَ المساكينِ صَيَّرت دِينكَ شَاهينًا تَصيدُ به ... ولَيسَ يُفلحُ أصحابُ الشَّواهينِ ومن كلامه: تعلمنا العلم للدنيا، فدلنا على ترك الدنيا، وسئل ابن المبارك: أيُّما أفضل معاوية بن أبي سفيان أو عمر بن عبد العزيز؟ فقال: والله إن الغبار الذي دخل في أنف معاوية مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضل من عمر بألف مرة، صلى معاوية خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: سَمعَ الله لمن حمده، فقال معاوية: ربنا ولك الحمد، فما بعد هذا؟. ويقال: إنَّ عبد الله نمت عليه بركة أبيه، فإنه كان في غاية الورع، وقد حُكي عن أبيه أنه كان يعمل في بستان لمولاه، وأقام فيه زمانًا، ثم إن مولاه جاءه يومًا، وقال له: أريد رُمّانًا حُلوًا، فمضى إلى بعض الشجر وأحضر منها رمانًا، فكسره فوجده حامِضًا، فَحَرَدَ عليه، وقال: أَطْلُبُ الحلوَ فتُحضر لي الحامِض؟ هات حلوًا، فمضى، وقطع من شجرة أخرى، فلما كسره وجده أيضًا حامضًا، فاشتد حَرَدُهُ عليه، وفعل ذلك دفعة ثالثة، فقال له بعد ذلك: أنت ما تعرف الحلو من الحامض؟ فقال: لا. فقال له: كيف ذلك؟ فقال: لأني ما أكلت منه حتى أعرف الحلو من الحامض. فقال: ولمَ لم تأكل؟ فقال: لأنك ما أَذنت لي. فكشف عن ذلك فوجده حقًا، فَعَظُم في عينه، فزوجه ابنته، فرزقه منها الله عبد الله، فنمت عليه بركة أبيه. وقيل: إن هذه القصة منسوبة إلى إبراهيم بن أَدْهَم، وذكرها الطُّرْطُوشيُّ في أول "سراج الملوك" منسوبةً له. روى عبد الله عن: سليمان التَّيْمي، وحُميد الطويل، وإسماعيل بن أبي خالد، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وعِكْرمة بن عمار، والأَعْمش، وهشام بن عُروة، والثَّوري، وشُعبة، والأوْزاعي، وابن

جُريج، ومالك، والليث، وابن أبي ذِئْب، وموسى بن عُقْبَة، وإبراهيم ابن عُقبة، وخلق كثير. وروى عنه الثَّوْري، ومَعْمر بن راشد، وأبو إسحاق الفَزَاري، وبَقِيَّة ابن الوليد، وابن عُيَيْنة، وأبو الأَحْوص، وفُضَيْل بن عياض، ومُعْتَمَر بن سُليمان، والوليد بن مُسلم، وغيرهم من شيوخه وأقرانه، وأبو سلمة التَّبُوذَكيّ، ونُعَيْم بن حَمّاد، وابن مَهْدي، والقَطَّان، وخلق كثير. قال الخطيب: حدث عن معمر بن راشد، والحسن بن داود البَلْخِيّ، وبين وفاتيهما مئة واثنتان وثلاثون سنة، وقيل: مئة وثلاثون سنة، وقيل: مئة وتسع وعشرون سنة. ولد سنة ثماني عشرة ومئة، ومات في رمضان سنة إحدى وثمانين ومئة بهِيتْ بكسر الهاء في آخره تاء منصرفًا من الغزو، وهي قرية على شاطىء الفُرات، فوق الأنْبار، من أَعمال العراق، لكنها في بر الشام، والأَنْبار في بر بغداد، والفُرات يفصل بينهما، ودِجْلة تفصل بين الأنبار وبغداد، وقبره بها ظاهر يزار. وقد جمع ابن خَلَّكان في أخباره جزأين، وليس في الكتب الستة من اسمه عبد الله بن المبارك سواه، فهو من أفرادها، لكن في رواة غيرها خمسةٌ: أحدهم بغدادي حدث عن هَمّام، والثاني: خُراساني وليس بالمعروف، والثالث: شيخ روى عنه الأثْرم، والرابع: جوهري روى عن أبي الوليد الطَّيالِسِي، والخامس: بَزّار روى عنه سَهْلٌ البُخَاري. والتَّميميُّ في نَسَبه نسبةً إلى تميم كأمير بن أُدّ بن طانِجةَ أبو قبيلة من مُضَر مشهورة، والحَنْظَلِيُّ نسبة إلى حَنْظَلَة بطن من تميم، والمَرْوَزِي تقدم الكلام عليه في الذي قبله. فائدة: ذكر الشيخ زَكَرِيّا في آخر فصل "المتَّفِق والمفترق" عن ابن الصلاح أنه حكى عن سَلَمَة بن سليمان أنه قال: إذا قيل في السند:

عبد الله بمكة فهو ابن الزبير، أو بالمدينة: فابن عمر، أو بالكوفة: فابن مسعود، أو بالبصرة: فابن عباس، أبو بخراسان: فابن المبارك. وقال ابن حَجَر: إذا أطلق بمصر: فابن عمرو بن العاص. الثالث: بشر بن محمَّد أبو محمَّد المَرْوَزِي السِّخْتِياني. روى عن ابن المُبارك، والفَضْل بن موسى، وأبي ثُمَيْلة. وروى عنه البخاريُّ، وأحمد بن سَيّار، وإسحاق بن الفَيْض الأَصْبهاني وكناه، وجعفر الفِرْياني. ذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: كان مُرْجِئًا. وذكر ابن أبي حاتم بشر بن محمَّد الكِنْدِيّ، عن عبد العزيز بن أبي رِزْمة. وعنه علي بن خشرم، ذكره مفردًا عن السِّخْتِياني، ويحتمل أن يكونا واحدًا. مات السِّخْتِياني سنة أربع وعشرين ومئتين. وانفرد البخاري به عن باقي الستة، روى عنه هنا، وفي التوحيد، والصلاة، وغيرها. وكل ما جاء مِن بِشْر فهو بكسر الباء وسكون الشين المعجمة إلا أربعة، فبضم الباء وسكون السين المهملة، وهم بُسْر والد عبد الله بن بُسْر الصّحابي المَازِني ولم يذكره ابن الصلاح لأنه لا ذكر له فيٍ شيء من الكتب الثلاثة أعني: "البخاري" و"مسلمًا" و"الموطأ". وإن رَقَّمَ له المِزِّيُّ علامة مسلمٍ، وبُسْر بن سعيد، وبُسْر بن عبيد الله الحَضْرَمِيّ، وبُسْر بنَ مِحْجَن الدِّيْلي، وحديثه في "الموطأ" دون "الصحيحين"، وفيه خُلْفٌ، فقال الجمهور: إنه بالمهملة، وقال غيرهم: بالمعجمة، وقد تشبه هذه الترجمة بأبي اليسر كَعْب بن عمر، وهو بتحتية ثم مهملة مفتوحتين، وحديثه في صحيح مسلم، لكنه ملازم لأداة التعريف غالبًا بخلاف القسمين الأولين ونظم العراقي الأربعة فقال:

وابنُ سَعيدٍ بُسْر مِثْلُ المازِنِ ... وابنُ عُبَيْدِ اللهِ وابنُ مِحْجَن وَفيهِ خلْفٌ وَيَشِيرٌ أَعْجَمُ ... .................. الرابع: عُبيد الله -بالتصغير- ابن عبد الله بن عُتْبة بن مسعود الهُذَلي، أبو عبد الله. قال الواقِدِيّ: كان عالمًا، وكان ثقة، فقيهًا، كثير الحديث والعلم، شاعرًا، وقد عَمِيَ. وقال العِجْلِيّ: كان أَعمى، وكان أحد فقهاء المدينة السبعة، تابعي ثقة، رجل صالح جامع للعلم، وهو معلم عمر بن عبد العزيز. وقال أبو زُرْعَة: ثقة مأمون إمام. وقال مَعْمر، عن الزُّهْري: كان أبو سَلَمَة يسأل ابن عباس، وكان يَخْزُن عنه، وكان عبيد الله يلطفه، فكان يُعِزُّهُ عِزًّا. وعن الزُّهري قال: ما جالست أحدًا من العلماء إلا وأرى أني قد انتهيت على ما عنده، وقد كنت اختلفت إلى عروة حتى ما كنت أسمع منه إلا معُادًا ما خلا عُبَيْد الله بن عُتْبة فإني لم آته إلا وجدت عنده طريفًا، وقال الزُّهري أيضًا: أدركت أربعة بحورٍ فذكر فيهم عُبَيْد الله، وقال: سمعت من العلم شيئًا كثيرًا فظننت أني قد اكتفيت حتى لَقِيتُ عبيد الله، فإذا كأني ليس في يدي شيء. وقال عمر بن عبد العزيز: لأن يكون لي مجلس من عُبَيْد الله أحب إلى من الدنيا وما فيها، وقال: والله إني لأشتري ليلة من ليالي عبيد الله بألف دينار من بيت المال، فقالوا: يا أمير المؤمنين، تقول هذا مع تَحَرِّيكَ وشدةِ تحفُّظِكَ، قال: أين يُذْهَبُ بكم؟ والله إني لأعود برأيه ونصيحته وبهدايته على بيت المال بألوف وألوف، إن في المحادثة تلقيحًا للعقل، وترويحًا للقلب، وتسريحًا للهم، وتنقيحًا للأدب. وقال أبو جَعْفر الطَّبري: كان مقدمًا في العلم والمعرفة بالأحكام

والحلال والحرام، وكان مع ذلك شاعرًا مُجيدًا. وقال ابن عَبْد البَرّ: كان أحد الفقهاء العشرة، ثم السبعة، الذين يدور عليهم الفتوى، وكان فاضِلًا مقدّمًا في الفقه، تقيًّا شاعرًا محسنًا لم يكن بعد الصحابة إلى يومنا هذا فيما علمت فقيه أشعر منه، ولا شاعر أفقه منه. وقال عمر بن عبد العزيز: لو كان عبيد الله حيًا ما صدرت إلا عن رأيه. وروي عن عُبيد الله أنه قال: ما سمعت حديثًا قطُّ ما شاء الله أن أعيه إلا وعيته. وقيل لابن معين: أيُّما أحب إليك عكرمة أو عُبَيْد الله؟ قال: كلاهما ولم يُخَيِّر. ومن شعره: شَقَقْتِ القَلْبَ ثُمَّ ذَرَرْتِ فيه ... هَواكِ فليم فَالْتَأَمَ الفُطُورُ تَغَلْغَلَ حُبُّ عُثْمَةَ في فُؤَادي ... فباديه مَعَ الخافي يَسِيْرُ تَغَلْغَلَ حَيْثُ لَمْ يَبْلُغْ شَرَابٌ ... وَلاَ حُزْنٌ وَلَمْ يَبْلُغْ سُرورُ ولما قال هذا الشعر قيل له: أتقول مثل هذا؟ قال: إن في الِّلدودِ راحةَ المفؤود، وهو القائل: لا بُدَّ لِلْمَصْدُورِ من أَنْ يَنْفُثَ. روى عن أبيه، وأرسل عن عمه عبد الله بن مسعود، وروى عن عمار، وعمر، وعن أبي هريرة، وعائشة، وابن عباس، وابن عمر، وعثمان بن حُنَيْف، وسَهْل بن حُنَيْف، وأبي سعيد الخُدري، وأبي طَلْحة الأنصاري، وجماعة. وروى عنه: أخوه عَوْنٌ، والزُّهري، وسَعْدُ بن إبراهيم، وأبو الزِّناد، وصالح بن كَيْسان، وعراك بن مالك، وموسى بن أبي عائشة، وغيرهم. مات قبل علي بن الحسين سنة أربع أو خمس وتسعين، وقيل: سنة تسعين، وقيل: سنة ثمانين، وقيل: سنة تسع وتسعين، وعُبَيْد الله في الكتب الستة غيره أحد عشر.

والهُذَليّ بضم الهاء وفتح الذال المعجمة في نسبه نسبةً إلى جده هُذَيْل بن مُدْرِكةَ بن إلياس، والنسبة إليه هُذَلي على غير قياس، وهُذَيْلي على القياس، والنادر فيه أكثر على ألسنتهم، وهي قبيلة كبيرة، وهم أكثر أهل وادي نَخْلَةَ المجاور لمكة حرسها الله تعالى وأَعْرَقَتْ هذه القبيلة في الشعر. والأربعة الباقية: ابن عباس مرَّ في الخامس، والزُّهْري في الثالث، ويونُس ومَعْمر في المتابعة بعد الرابع. وهذا الحديث أخرجه البخاري في خمسة مواضع هنا كما ترى، وفي صفة النبي عليه الصلاة والسلام عن عَبْدان، وفي الصوم عن موسى بن إبراهيم، وفي فضائل القرآن عن يحيى بن قَزَعة، وفي بدء الخلق عن ابن مُقَاتل، ومسلم في فضائل النبي عليه الصلاة والسلام عن ابن أبي مُزَاحم وغيره. لطائف إسناده: منها أنه اجتمع فيه عدة مَراوِزَة بن المُبارك، وراوياه. ومنها أن البخاري حدث هذا الحديث عن شيخين عَبْدان وبِشْر كليهما عن عبد الله بن المُبارك، والشيخ الأول ذكر لعبد الله شيخًا واحدًا وهو يونس، والثاني ذكر له شيخين يونُس ومَعْمَرًا، أشار إليه بقوله: ومعمر نحوه، أي نحو حديث يونس باللفظ، وعن معمر بالمعنى، ولأجل هذا زاد فيه لفظ "نحوه"، ومنها زيادة الواوٍ في قوله: وحَدَّثنا بشْر، وهذا يسمى واو التحويل من إسناد إلى آخر، ويُعَبَّر عنها غالبًا بصورة "ح" مهمله مفردة وهكذا وقع في بعض النسخ، قال النووي: وهذه الحاء كثيرة في صحيح مسلم قليلة في صحيح البخاري. وعادة المحدثين أنه إذا كان للحديث إسنادان أو أكثر كتبوا عند الانتقال من إسناد إلى إسناد ح مهملة مُفردة، واختلفوا هل هي مأخوذة من الحائل، أو من الحديث، أو من التحويل، أو من صح؟ وهل يُنْطَق بها حاء، أو بما رُمِزَ بها له عند المرور بها في القراءة أو لا؟ فاختار الحافظ أبو

الحديث السابع

محمَّد عبد القادر بن عبد الله الرهاوي -بضم الراء- الحَنْبَلي أنها من حائل تَحُول بين الشيئين لأنها حالت بين الإِسنادَيْن، وأنها لا تُقْرأ، واختار ابن الصَّلاح أن المارَّ بها يَنْطِقُ بها كما كُتِبَتْ، واختار بعضُ علماء الغَرْب أنها من الحديث وأن المارَّ بها يقول مكانها الحديث، واختار النوويَ أنها من التحويل من سند إلى آخر، وقال ابن الصَّلاح: إنها مختصرة من صح لأنها كتبت مكانها، فهي رمز، قال: وحسن إثبات صح هنا لئلا يُتَوَهَّمَ أن حديث هذا الإِسناد سَقَطَ، ولئلا يُرَكَّبَ الإِسناد الثاني على الأول فَيُجْعَلا إسنادًا واحدًا، وقيل: لا يُرْمَزُ عند، المرور بها بشيىء، وزَعَمَ بعضهم أنها معجمة أي: إسناد آخر، وإلى هذا أشار العراقي بقوله: وَكَتَبُوا عِنْدَ انْتِقالٍ من سَنَدْ ... لِغَيْرِهِ (ح) وانْطِقَنْ بها وَقَدْ رَأَى الرُّهَاوِيُّ بِأَنْ لَا تُقْرآ ... وَأَنَّها مِنْ حَائِلٍ وَقَدْ رَأَى بَعْضُ أُولي الغَرْب بِأَنْ يَقُولا ... مَكَانَها الحَدِيثَ قطّ وَقِيْلَ بَلْ حَاءُ تَحْويِلٍ وَقَاَلَ قَدْ كُتِبْ ... مَكَانَها صَحَّ فَحا مِنْها انْتُخِبْ الحَديث السابع 6 - باب * 7 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانُوا تُجَّارًا بِالشَّأْمِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَادَّ فِيهَا أَبَا سُفْيَانَ وَكُفَّارَ قُرَيْشٍ، فَأَتَوْهُ وَهُمْ بِإِيلِيَاءَ، فَدَعَاهُمْ فِي مَجْلِسِهِ وَحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ، ثُمَّ دَعَاهُمْ وَدَعَا بِتَرْجُمَانِهِ فَقَالَ: أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَقُلْتُ أَنَا أَقْرَبُهُمْ نَسَبًا. فَقَالَ: أَدْنُوهُ مِنِّي، وَقَرِّبُوا أَصْحَابَهُ فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ. ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُمْ إِنِّي سَائِلٌ هَذَا الرَّجُلِ، فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ. فَوَاللَّهِ لَوْلاَ الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَيَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ. ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَنْ قَالَ: كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ؟ قُلْتُ هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ. قَالَ فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ؟ قُلْتُ: لاَ قَالَ فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ قُلْتُ: لاَ. قَالَ: فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَقُلْتُ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ. قَالَ:

أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ قُلْتُ: بَلْ يَزِيدُونَ. قَالَ: فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ قُلْتُ: لاَ. قَالَ: فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قُلْتُ: لاَ. قَالَ فَهَلْ يَغْدِرُ؟ قُلْتُ: لاَ وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ لاَ نَدْرِي مَا هُوَ فَاعِلٌ فِيهَا. قَالَ وَلَمْ تُمْكِنِّي كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ. قَالَ: فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ؟ قُلْتُ الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالٌ، يَنَالُ مِنَّا وَنَنَالُ مِنْهُ. قَالَ: مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ قُلْتُ: يَقُولُ اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ. وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلاَةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَةِ. فَقَالَ لِلتَّرْجُمَانِ: قُلْ لَهُ سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ، فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِى نَسَبِ قَوْمِهَا. وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ، فَقُلْتُ لَوْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ لَقُلْتُ رَجُلٌ يَأْتَسِي بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ. وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ، قُلْتُ فَلَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ قُلْتُ رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ. وَسَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ، فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ. وَسَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمُ اتَّبَعُوهُ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ. وَسَأَلْتُكَ أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ أَمْرُ الإِيمَانِ حَتَّى يَتِمَّ وَسَأَلْتُكَ أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ، فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ، وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ. وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لاَ تَغْدِرُ. وَسَأَلْتُكَ بِمَا يَأْمُرُكُمْ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلاَةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ، فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ. وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ، فَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمِهِ. ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الَّذِي بَعَثَ بِهِ دِحْيَةُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى، فَدَفَعَهُ إِلَى هِرَقْلَ، فَقَرَأَهُ، فَإِذَا فِيهِ:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ. سَلاَمٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى. أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلاَمِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ. فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ وَ {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64]. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَلَمَّا قَالَ مَا قَالَ، وَفَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ، كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ، وَارْتَفَعَتِ الأَصْوَاتُ وَأُخْرِجْنَا. فَقُلْتُ لأَصْحَابِي حِينَ أُخْرِجْنَا: لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ، إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الأَصْفَرِ، فَمَا زِلْتُ مُوقِنًا أَنَّهُ سَيَظْهَرُ، حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيَّ الإِسْلاَمَ. وَكَانَ ابْنُ النَّاطُورِ -صَاحِبُ إِيلِيَاءَ وَهِرَقْلَ- سُقُفًّا عَلَى نَصَارَى الشَّأْمِ يُحَدِّثُ أَنَّ هِرَقْلَ حِينَ قَدِمَ إِيلِيَاءَ أَصْبَحَ يَوْمًا خَبِيثَ النَّفْسِ، فَقَالَ بَعْضُ بَطَارِقَتِهِ: قَدِ اسْتَنْكَرْنَا هَيْئَتَكَ. قَالَ ابْنُ النَّاطُورِ: وَكَانَ هِرَقْلُ حَزَّاءً يَنْظُرُ فِى النُّجُومِ، فَقَالَ لَهُمْ حِينَ سَأَلُوهُ: إِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ حِينَ نَظَرْتُ فِى النُّجُومِ مَلِكَ الْخِتَانِ قَدْ ظَهَرَ، فَمَنْ يَخْتَتِنُ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ؟ قَالُوا: لَيْسَ يَخْتَتِنُ إِلاَّ الْيَهُودُ، فَلاَ يُهِمَّنَّكَ شَأْنُهُمْ، وَاكْتُبْ إِلَى مَدَائِنِ مُلْكِكَ فَيَقْتُلُوا مَنْ فِيهِمْ مِنَ الْيَهُودِ. فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى أَمْرِهِمْ أُتِيَ هِرَقْلُ بِرَجُلٍ أَرْسَلَ بِهِ مَلِكُ غَسَّانَ يُخْبِرُ عَنْ خَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. فَلَمَّا اسْتَخْبَرَهُ هِرَقْلُ قَالَ: اذْهَبُوا فَانْظُرُوا أَمُخْتَتِنٌ هُوَ أَمْ لاَ؟ فَنَظَرُوا إِلَيْهِ، فَحَدَّثُوا أَنَّهُ مُخْتَتِنٌ، وَسَأَلَهُ عَنِ الْعَرَبِ فَقَالَ: هُمْ يَخْتَتِنُونَ. فَقَالَ هِرَقْلُ: هَذَا مُلكُ هَذِهِ الأُمَّةِ قَدْ ظَهَرَ. ثُمَّ كَتَبَ هِرَقْلُ إِلَى صَاحِبٍ لَهُ بِرُومِيَةَ، وَكَانَ نَظِيرَهُ فِى الْعِلْمِ. وَسَارَ هِرَقْلُ إِلَى حِمْصَ، فَلَمْ يَرِمْ حِمْصَ حَتَّى أَتَاهُ كِتَابٌ مِنْ صَاحِبِهِ يُوَافِقُ رَأْيَ هِرَقْلَ عَلَى خُرُوجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَّهُ نَبِيٌّ. فَأَذِنَ هِرَقْلُ لِعُظَمَاءِ الرُّومِ فِى دَسْكَرَةٍ لَهُ بِحِمْصَ، ثُمَّ أَمَرَ بِأَبْوَابِهَا فَغُلِّقَتْ، ثُمَّ اطَّلَعَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الرُّومِ، هَلْ لَكُمْ فِى الْفَلاَحِ وَالرُّشْدِ وَأَنْ يَثْبُتَ مُلْكُكُمْ فَتُبَايِعُوا هَذَا النَّبِيَّ؟ فَحَاصُوا

حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ إِلَى الأَبْوَابِ فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلِّقَتْ، فَلَمَّا رَأَى هِرَقْلُ نَفْرَتَهُمْ وَأَيِسَ مِنَ الإِيمَانِ قَالَ: رُدُّوهُمْ عَلَيَّ. وَقَالَ إِنِّي قُلْتُ مَقَالَتِي آنِفًا أَخْتَبِرُ بِهَا شِدَّتَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، فَقَدْ رَأَيْتُ. فَسَجَدُوا لَهُ وَرَضُوا عَنْهُ، فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ شَأْنِ هِرَقْلَ. رَوَاهُ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ وَيُونُسُ وَمَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِىِّ. [الحديث 7 - أطرافه في: 51، 2681، 2804، 2941، 2978، 3174، 4553، 5980، 6260، 7196، 7541] هِرَقْل هو بكسر الهاء وفتح الراء كدمشق، وهو غير منصرف للعلمية والعجمة، وحُكِيَ فيه هِرْقِل بكسر الهاء والقاف وسكون الراء كخِنْدِف، قال دِعْبِل الخُزَاعي: أَوْلى الأُمور بَضَيْعَةٍ وَهَوَانِ ... أَمْرٌ يُدَبِّرُهُ أبو عَبّادِ وَكَأنَّهُ مِنْ دير هِرْقِلَ مُفْلتٌ ... حَرِدٌ يَجُرُّ سَلاسِلَ الأَقْيادِ وقيل: إنه ضرورة، وأبو عبّاد وزير المأمون، ولقبه قَيْصَر، كما يلقب ملك الفرس كسرى، مَلَكَ الروم إحدى وثلاثين سنة، وفي ملكه توفي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو أول من ضَرَبَ الدنانير، وأحدث البيعة، ومعنى قيصر: التَّبْقيْر، والقاف على لغتهم غير صافية، وذلك أن أمه لما أتاها الطَّلْقُ به ماتت فَبُقِر بطنها عنه، فخرج حيًّا، وكان يَفْتَخِرُ بذلك لأنه لم يخرج من فَرْج، واسم قيصر في لغتهم مشتق من القطع، لأن أحشاء أمه قطعت حتى أُخْرِج منها حيًّا، وكان شجاعًا جَبّارًا مِقْدامًا في الحروب، وكل من ملك التُّرْكَ يقال له: خَاقَان، والحبشة: النَّجاشي، والقِبْط: فرعون، ومصر: العزيز، وحِمْيَر: تُبَّع، والهند: بهمن، والصين: فنفور، والزَّنْج: غانة، واليونان: بَطْليموس، واليَهود: قيطون أو ماتح، والبَرْبر: جَالُوت، والصَّابئَة: نمرود، واليمن: تبع، وفرغانة: إخشيد، والعرب من قبل العجم: النُّعمان، وإفريقيَّة: جرجير، وخُلاط: شَهْرمان، والسِّنْد: فور، والخزر: تبيل، والنّوبة: كابل، والصَّقالبة: ماجدًا، والأَرْمَن: تقفور، والاجات: خدواندكار، واشروشنة: افشين، وخوارزم: خوارزم شاه، وجرجان: صول، وأذربيجان: اصبهبند،

وطبرستان: سالار، ونيابة ملك الروم: مشتق، وإسكندرية: ملك مقوقس. فإن قلت: ما معنى الحديث: "إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده"؟ قلت: معناه لا قيصر بعده بالشام ولا كسرى بعده بالعراق، قاله الشافعي في المختصر، وسبب الحديث أن قريشًا كانت تأتي الشام والعراق كثيرًا للتجارة في الجاهلية، فلما أسلموا خافوا انقطاع سفرهم إليهما لمخالفتهم أهل الشام والعراق بالإِسلام، فقال عليه الصلاة والسلام: لا قيصر ولا كسرى أي بعدهما في هذين الإِقليمين، ولا ضرر عليكم، فلم يكن قيصر بعده بالشام، ولا كسرى بعده بالعراق، ولا يكون. وقوله: "أرسل إليه" أي: إلى أبي سُفيان في ركب من قُرَيْش، أي حال كونه في ركب، وإنما خصه بالذكر لأنه كان رئيسهم، والرَّكْبُ جمع راكب كصَحْب وصاحب، وهم أولو الإِبل العشرة فما فوقها، "ومن قريش" صفة لركب، وحرف الجر لبيان الجنس أو للتبعيض، وكان عدد الركب ثلالين رجلًا، كما عند الحاكم في "الإِكليل" وعن ابن السَّكَنْ: نحو من عشرين، وعند ابن أبي شَيْبَة بإسناد صحيح إلى سعيد بن المُسَيِّب أن المغيرة بن شُعبة منهم، واعترضه البَلْقِيني بسبق إسلام المغيرة، فإنه أسلم عام الخندق فيبعد أن يكون حاضرًا ويسكت مع كونه مسلمًا. قلت: لا بعد في هذا فإن الحديث لم يقع فيه ما يحتاج إلى الكلام، مع أن هِرَقْل لم يأذن بالكلام إلا لمن سأله، ووجه السؤال إلى أبي سفيان خاصَّة، وقد مر في أنساب الحديث الأول الكلام على قريش مستوفىً. وقوله: "كانوا تُجّارًا بالشام" جملة حالية، وتُجارًا بضم التاء وتشديد الجيم، وبكسر التاء وتخفيف الجيم وزن كلاب، جمع تاجر، والشام بالهمز وتركها، وهو متعلق بتجارًا أو بكانوا، قيل: سمي بذلك لشامات هناك حمر وسود، وقيل: سمي بذلك لكثرة قراه وتداني بعضها ببعض

فشبهت بالشامات، وقيل: مأخوذ من الشُّؤمَى وهي اليُسرى، لأنه عبارة عن يسار الكعبة، وحَدُّه طولًا من العريش إلى الفرات، وقيل: إلى بالِس، وحدُّه عرضًا فمن جبل طَيِّىءْ من نحو القبلة إلى بحر الروم، وما يسامت ذلك من البلاد. وقوله: "في المدة التي كانَ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مادّ فيها أبا سفيانَ وكفار قريش" مادَّ بتشديد الدال، أصله، مادد، فأدغم الأول في الثاني من المثلين، وهي مدة صُلح الحِّدَيْبِية سنة ست، وكفار بالنصب مفعول معه، أو عطف على المفعول به وهو: أبا سفيان، ومدة الهُدنة عشر سنين كما عند أبي داود من حديث ابن عمر، وقيل: أربع سنين كما عند أبي نُعَيْم، والحاكم في "المستدرك". وقوله: "فأتوه" الفاء فصيحة، تقدير المحذوف: أرسل إليهم في طلب إتيان الركب، فجاء الرسول يطلب إتيانهم، فأتوه، كقوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ} أي: فضرب، فانفجرت، وفي "الدلاَئل" لأبي نُعَيْم تعيين الموضع، وهو غَزَّة، وكانت وجه متجرهم. وقوله: "وهم بإيْلِيَاءَ" يعني: هِرَقْل وجماعته، وفي رواية: "وهو بإيْلِيَاء" الباء بمعنى في، وإيْلياء -بكسر الهمزة، وياء ساكنة، ثم لام مكسورة، وياء مفتوحة ممدودة- بوزن كِبْرياء، وهو بيت المقدس، وإيْلِيَا بالقصر، وإلْيَاء بحذف الياء الأولى وسكون اللام بوزن إعطاء، وإيْلاء مثله لكن بتقديم الياء على اللام، وإيْلِيّا بتشديد الياء الثانية والقصر، والإِيْلِياء، وقيل: في معناه: بيت الله، وسبب كونه بإيلياء هو ما رواه الطَّبري، وابن عبد الحَكَمْ أن كسرى أَغْزى جيشَه بلاد هرقل، فخربوا كثيرًا من بلاده، ثم استبطأ كِسرى أميره، فأراد قتله وتولية غيره، فاطَّلَعَ أميره على ذلك، فباطن هِرَقْل، واصطلح معه على كسرى، وانهزم عنه بجنود فارس، فمشى هِرَقْل إلى بيت المقدس شكرًا لله على ذلك، وكانت تُبْسَطُ له البُسْطُ، وتوضع عليها الرَّياحين، فيمشي عليها.

وقوله: "فَدَعاهُم في مجلسه" أي: في حال كونه في مجلسه، وللمؤلف في الجهاد: "فَدَخَلْنا عليه فإذا هو جالس في مجلس ملكه، وعليه التَّاج. وقوله: "وحوله" بالنصب ظرف مكان، وحول الشيء: المحيط به من جوانبه، وفيه أربع لغات: حول كما هنا، وحَوَالي كحديث "اللهم حوالينا" وأحْوال كقوله: وأَنْتَ تَرَى السُّمَّار أَحْوالي. وحَوالَ كقوله: أَهَدَموا بَيْتَكَ لا أبَا لَكَا ... وأَنا أَمْشِي الدَّأَلَى حَوالَكا وقوله: "عظماء الروم" جمع عظيم، وفي رواية وعنده بطارِقَتهُ، والقِسِّيسون والرُّهْبان، والروم من ولد عِيْص بن إسحاق بن إبراهيم عليهما السلام، ودخل فيهم قبائل من العرب من تَنوخ وبهراء وشليخ وغيرهم من غَسَّان، كانوا سُكّانًا بالشام، فلما أجلاهم المسلمون عنها دخلوا بلاد الروم، فاستوطنوها، فاختلطت أنسابهم. وقوله: "ثم دعاهم" عطف على قوله: "فدعاهم" وليس بتكرار، فالمعنى: إن أمر بإحضارهم، فلما أُحْضروا وقعت مهلة، ثم اسْتَدناهم كما أشعر بذلك الأداة الدالة عليه. وقوله: "ودعا تَرْجُمانه" بالنصب على المفعولية، وفي رواية: "بِتَرْجُمانه"، وفي رواية: "بالتَّرْجُمان" وفيه لغات بضم التاء والجيم، وبفتحهما، وبفتح التاء وضم الجيم، وبالعكس، وهو المفسر لغة بلغة، يعني: أرسل إليه رسولًا أحضره بصحبته، أو كان حاضرًا واقفًا في المجلس كما جرت به عادة ملوك الأعاجم، ثم أمره بالجلوس إلى جَنْبِ أبي سفيان ليعبر عنه بما أراد، ولم يسم هذا الترجمان. وقوله: "فقال: أَيُّكُم أَقْرَبُ نَسَبًا بهذا الرجل" قال: أي الترجمان على

لسان هِرَقْل، زاد ابن السَّكَن: "الذي خرج في أرض العرب يَزْعُم أنه نبي"، وعَدَّى أقرب بالباء لأنه ضمنه معنى أقعد، وفي رواية للمؤلف في آل عمران، ومسلم: "مِنْ هذا الرَّجُل" على الأصل، وفي رواية للمؤلف في الجهاد: "إلى هذا الرجل" فإن أقرب تتعدى بإلى كقوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ} والمفضل عليه محذوف، أي: من غيره. وقوله: "الذي يَزْعُمُ" عند ابن إسحاق: "الذي يَدَّعي" والزعم بمعنى القول كما قال الجَوْهَريُّ. وقوله: "فقال أبو سُفْيان: قلت: أنا أقربُهم نَسَبًا" وفي رواية: "أنا أقربُهم به نسبًا" وأقربية أبي سفيان لكونه من بني عبد مَناف، وهو الأبُ الرابع للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ولأبي سفيان، وخَصَّ هِرَقْلُ الأقرب، لكونه أحْرى بالاطِّلاع على ظاهره وباطنه، أكثر من غيره، ولأن الأِبعد لا يُؤمَنُ أن يقْدَحَ في نسبه بخلاف القريب، وما يُقال من أنَّ القريب مُتَّهمٌ في الإِخبار عن نسب قريبه بما يَقْتضي شرفًا وفخرًا ولو كان عدوًّا لدخوله في شرف النسب الجامع لهما غير وارد، لأن عداوة الكفر تمنع ذلك، ولحضور جماعته معه. وقوله: "فقال: أدْنُوهُ منّي" قال، أي هِرَقْل، وأدنوه بهمزة قطع، وإنما أمر بإدناء أبي سفيان لِيُمْعِنَ في السؤال، ويَشْفِيَ غليله. وقوله: "وقَرِّبُوا أصحابه واجعلوهُمْ من وراء ظهره" أي: لئلا يَسْتَحْيُوا أن يواجهوه بالتكذيب إن كذب، كما في رواية الواقِدِيِّ تصريحًا. وقوله: "ثم قالَ التَرْجُمان: قُل لهم إني سائلٌ هذا" يعني أبا سفيان "عن هذا الرَّجل " يعني النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وأشار إليه إشارة القرب لقرب العهد بذكره، أو لأنه معهودٌ في أذهانهم. وقوله: "فإن كَذَبَنِي" بتخفيف الذال أي: نقل إلى الكذب. وقوله: "فكذَّبوه" بتشديد الذال، وكذب بالتخفيف يتعدى إلى

مفعولين كصدق، ويقال: كذبته الحديث، وصدقته الحديث، وبالتشديد يتعدى إلى مفعول واحد، وهما من الغرائب، لأن الغالب أن الزيادة تناسب الزيادة، والأمر هنا بالعكس. وقوله: "قال: فواللهِ لولا الحياءُ من أن يَأْثُروا عليَّ كذبًا لكذبت عنه" قال، أي: أبو سفيان، والحياء لغة تغير وانكسار يَعْتَري الإِنسان من خوف ما يُعاب به ويُذَمّ، ويَأْثُروا بضم المثلثة وكسرها أي يَنْقُلوا أو يرووا، وعلي بمعنى عني، والكذب هو عدم موافقة الخبر للواقع، أي: الخارج، هو ما في نفس الأمر، والصدق هو موافقة الخبر للواقع هذا هو الصحيح في تعريفهما. وقوله: "لكَذَبْت عنه"، أي أخبرت عن حاله بكذب لبُغْضي إياه، وفي رواية: "لكذبت عليه" وإنما قال: أن يَأْثُروا، دون أن يقول: يكذبوني لأنه كان واثقًا بأنهم لا يكذبونه لو كذب لاشتراكهم معه في عداوة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، لكنه ترك ذلك استحياء وأنَفَةً من أن يَتَحَدَّثوا بذلك بعد أن يَرْجِعوا فيصير عند سامعي ذلك كِذّابًا، وفي "ابن إسحاق" التصريح لذلك، قال أبو سفيان: فوالله ما رأيت من رجل قَطُّ كان أدهى من ذلك الأقلف، أي هِرقْلَ. وقوله: "ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيفَ نسبُهُ فيكم؟ " أول بالنصب خبر كان، واسمها ضمير الشأن، "وأن قال" بدل من قوله: "ما سألني ويجوز أن يكون أن قال اسم كان، وخبرها أول ما سألني، والتقدير ثم كان قوله كيف نسبه فيكم أول ما سألني عنه؟ ويجوز رفعه اسمًا لكان، وذكر العَيْني وروده رواية، وقال في الفتح: جاءت الرواية بالنصب، ويجوز رفعه على الاسمية، لكن قال الدّمامِيْني: إن جواز النصب والرفع لا يَصِحُّ على إطلاقه، والصواب التفصيل، فإن جعلنا ما نكرة بمعنى شيء تعين نصبه على الخبرية، وذلك لأن أن قال مؤول بمصدر معرفة، بل قال ابن هشام: إنهم حكموا له بحكم الضمير، فتعين إذًا أن يكون هو اسم كان، وأول ما سألني هو الخبر ضرورة لأنه متى اختلف الاسمان

تعريفًا وتنكيرًا فالمعرف الاسم، والمنكر الخبر، ولا يعكس إلا في الضرورة، وإن جعلناها موصولة جاز الأمران لكن المختار جعل "أن قال" هو الاسم لكونه أعرف، وقوله: "كيف نسبه فيكم" أي: ما حال نسبه فيكم، أهو من أشرافكم أم لا؟. وقوله: "قلت: هُو فينا ذُو نسب" أي صاحب نسب عظيم، فالتنوين للتعظيم على حد قوله تعالى: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279]. وقوله: "قال: فهل قال هذا القول منكم أحدٌ قطُّ؟ " قال، أي: هِرَقْل، وقَطُّ: ظرف مستغرق لماضي الزمان، وقد مر ما فيه من اللغات في الحديث الثالث، ومر هناك أنها لا تستعمل غالبًا إلا بعد النفي، وهنا جاءت بعد الاستفهام، وله حكم النفي، فكأنه قال: هل قال هذا القول أحد منكم أم لم يقله أحد قط؟ وقوله: "منكم" أي من قومه، يعني: قُرَيْشًا أو العرب، ويستفاد منه أن الشفاهي يعم لأنه لم يرد المخاطبين فقط، وكذا قوله: فهل قاتلتموه؟ وقوله: بماذا يأمركم؟. وقوله: "قبلة" بالنصب على الظرفية، وفي رواية: "مثله" بدل قوله: قبله، وحينئذ يكون بدلًا من قوله: "هذا القول". وقوله: "فهل كان من آبائه من ملك؟ " بزيادة من الجارة، وفي رواية: "ملك" بحذفها، وفي رواية: "مَنْ مَلَكَ" بفتح ميم من موصولة، وملك فعل ماض، والمعنى في الثلاثة واحد. وقوله: "قال: فأشراف الناس اتَّبَعوهُ أم ضعفاؤهم؟. قلت: بل ضعفاؤهم" فيه إسقاط همزة الاستفهام من قوله: "فأشراف الناس" وهو قليل، وقد ثبتت للمصنف في التفسير، ولفظه "أيَتَّبِعُه أشراف الناس" والشرف علو الحَسَبِ، والمجد، والمكان العالي، وقد شَرُف بالضم فهو شريف، وقومٌ شرفاءُ وأشراف. قلت: أجاب أبو سفيان هنا بأن الذين اتّبعوا النبي صلى الله تعالى

عليه وسلم ضعفاء قريش، وما أجاب به خلاف الواقع، لأن أول من تَبِعَ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من قريش العشرة المبشرون بالجنة، وخديجة بنت خُوَيْلد، والجميع أشراف، لأن الشرف إما بالنسب والحسب، أو بالمال، وكلهم ذو نسب وحسب، ومنهم من هو من أهل المال، كخديجة وأبي بكر، وعثمان، ولكن الله تعالى أنطق أبا سفيان بخلاف الواقع لنبينا عليه الصلاة والسلام دَسِيسَةً منه كالآتية، أو من غير قصد ليوافق ما هو العادة الجارية في بني إسرائيل المقررة عند هِرَقْل، فيستدل بذلك على نبوته لموافقته لما هو الواقع لأنبيائه، فلا يُنْكِرُ نبوته، ونبينا عليه الصلاة والسلام أعطاه الله خلاف ما أعطى لأنبياء بني إسرائيل من اتِّباع الأشراف له، ولما رأى ابن حَجَر هذا الإِيراد الواقع على أبي سفيان، قال: المراد بالأشراف هنا أهل النَّخْوة والتَّكَبُّر منهم، لا كل شريف، حتى لا يرد مثل أبي بكر وعمر وأمثالهما ممن أسلم قبل ذلك، وما قاله مُعْتَرَض من وجهين: أحدهما رواية ابن اسحاق عن أبي سفيان: "تبعه منا الضعفاء والمساكين، فأما ذوو الأنساب والشرف فما تبعه منهم أحد" فإنه صرح في هذه الرواية بالمراد عنده بالضعفاء والأشراف، وهو خلاف الواقع. والثاني هو أن من أسلموا فيهم أهل النخوة والتكبر كالعمرين، وحمزة، وعثمان، وأبو سفيان في رواية ابن إسحاق نفى أن يكون أحد من الأشراف تبعه عليه الصلاة والسلام، وقول صاحب "الفتح" إن ذلك محمول على الغالب غير مستقيم، لأن الغالب في الذين أسلموا الأشراف أهل النسب والنخوة، فلا يصح في الجواب إلا ما ذكرته، ولعلك لا تجده في غير هذا المحل. وقوله: "قالَ: أيزيدون أم يَنْقُصُونَ" بثبوت همزة الاستفهام، وروى بإسقاطها في آل عمران، وجزم ابن مالك بجوازه مطلقًا، وخصه بعض بالشعر. وقوله: "فَهَلْ يَرْتَدُّ أحدٌ منهم سَخْطةً لدينه" سخطة بفتح السين وضمها مفعول لأجله أو حال، أي ساخطًا أي كراهة له وعدم الرضا، والسّخط

بلا تاء يجوز فيه الضم مع ضم الخاء وسكونه، والفتح مع تحريك الخاء، وهو أحد الأسماء العشرة التي يجوز فيها الفعل بضم الفاء وسكون العين، وبالتحريك، ونظمها بعض أصدقائنا، فقال: عشرَةُ أسما عَن الإِعراب جيءَ على ... وزنَينِ في ضَبطِهنَّ الفُعل والفَعلِ العُربُ والعُجمُ مع سُخطٍ ومعْ حَزَن ... رُشدٌ فَلَا تك عَن ذا الضَّبط في شُغُلِ بالوُلد مع سقمٍ فربَّما شَغلا ... واشدُد عليه يَدي ذي العُدمِ والبخلِ وقوله: "بعد أن يَدْخُلَ فيه" أخرج بهذا من ارتد مكرهًا، أو ارتد لا سَخَطًا لدين الإِسلام، بل لرغبة في غيره لحظٍّ نفساني، كما وقع لعبيد الله ابن جحش، فإن قيل: لِمَ لَمْ يكتف هِرَقْل بقوله: هل يزيدون؟ عن قوله: هل يرتد أحد منهم إلخ؟ أجيب بأنه لا ملازمة بين الازدياد والنقص، فقد يرتد بعضهم، ولا يظهر فيهم النقص لكثرة من يدخل، وقلة من يرتد، وإنما سأله عن الارتداد لأن من دخل على بصيرة في أمر محقق لا يرجع عنه، بخلاف من دخل في أباطيل. وقوله: "فهل كنتم تَتَهِّمونه بالكذب؟ " إلخ إنما عدل عن السؤال عن نفس الكذب إلى السؤال عن التُّهمة تقريرًا لهم على صدقه، لأن التُّهمة إذا انتفت انتفى الكذب بالأوْلى، ولذا عَقَّبَهُ بالسؤال عن الغدر وهو نقض العهد. وقوله: "ونحن منه في مدة" أي: مدة صلح الحديبية، أو غيبة، أو انقطاع أخباره عنا. وقوله: "لا ندري ما هو فاعلٌ فيها" فيه إشارةٌ إلى عدم الجزم بغدره. وقوله: "ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئًا غير هذه الكلمة" قال في "الفتح": التنقيص هنا أمر نسبي، لأن من يُقْطَع بعدم عذره أرفع رتبة ممن يجوز وقوع ذلك منه في الجملة، وقد كان عليه الصلاة والسلام معروفًا

بالاستقراء، من عادته أنه لا يَغْدِر، ولكن لما كان الأمر مغيَّبًا لأنه مستقبل، أمن أبو سفيان من أن يُنْسَبَ في ذلك إلى الكذب، ولهذا أورده على التردد، ومن ثمَّ لم يُعَرِّجْ هِرَقْل على هذا القدر منه، وقد صرح بذلك في رواية ابن إسحاق عنه، فقال: "والله ما التَفَتَ إليها مني" و"غير" يحتمل فيها الرفع نعتًا لكلمة، والنصب نعتًا لشيء، وإنما ساغ نعتها للنكرة مع أنها مضافة إلى المعرفة، لأنها لا تتعرف بالإضافة، لتوغلها في الإِبهام، إلَّا إذا كانت بين متغايرين بالتضاد، ونحوه، كقوله: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] وليس "غير" هنا كذلك. وقوله: "فَهَلْ قاتَلْتُموه؟ " نَسَبَ ابتداء القتال إليهم، ولم ينسِبهُ إليه عليه الصلاة والسلام، لما اطلع عليه من أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لا يبدأ قومه بالقتال. وقوله: "فكيفَ كان قِتَالُكُم إياه" فيه فصل ثاني الضميرين، وهو جائز الفصل والوصل كما قال ابن مالك: وَصِلْ أو افْصِل هاء سَلنيهِ وما ... أشبهه ............ إلخ وقوله: "الحرب بيننا وبينه سِجال" بكسر السين، أي نُوَبٌ. أي: نوبة لنا، ونوبة له، والسَّجْلُ: الدلو، شبه المحاربَين بالمستَقِيَيْن إذا كان بينهما دلو يستقي أحدهما دلوًا والآخر دلوًا، والحرب اسم جنس مبتدأ، خبره سِجال، وهو اسم جمع أو جمع، ويجوز أن يكون مصدرًا بمعنى مُسَاجَلَة، وفي هذا القول تشبيه بليغٌ، شبه الحرب بالسجال، مع حذف أداة التشبيه، لقصد المبالغة، كقولك: زيد أسد إذا أردت المبالغة في شجاعته، فكأنه صار عين الأسد. وقوله: "يَنَالُ منا، وننال منه" جملة مفسرة لقوله: "سِجال"، والمفسرة لا محل لها من الإِعراب، وقيل محلها محل المفسر، وهو هنا الخبر، فيقدر لها حينئذ رابط يربطها بالمبتدأ، أي: ينال منا فيها، وننال منه فيها.

وقوله: "قال: ماذا يأمُرُكُم"؟ فيه حذف العائد، وفي بعض النسخ: "بما" وفي بعضها "فما" وفي اللفظ دلالة على أن الرسول من شأنه أن يأمر قومه. وقوله: "يقول: اعبدُوا اللهَ وَحْدَهُ ولا تُشْرِكوا به شيئًا" الجملة الأخيرة عطف على اعبدوا الله، وهو من عطف المنفي على المثبت، وعطف العام على الخاص، على حد: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ} [القدر: 4] فإن عبادته تعالى أعم من عدم الإِشراك به، وفي رواية إسقاط الواو من "ولا تشركوا" وعليه يكون تأكيدًا لقوله: "وحده"، وفي الحديث دلالة على أن للأمر صيغة معروفة، لأنه أتى بقوله: اعبدوا الله في جواب ما يأمركم، وهو من أحسن الأدلة في هذه المسألة لأن أبا سفيان من أهل اللسان، وكذلك الراوي عن ابن عباس، بل هو من أفصحهم، وقد رواه عنه مقرًّا له. وقوله: "واتْرُكوا ما يَقُول آباؤُكم" يعني من عبادة الأوثان، وغيرها مما كانوا عليه في الجاهلية، وإنما ذكر الآباء تنبيهًا على عُذْرهم في مخالفتهم له، لأن الآباء قدوة عند الفريقين، عبدة الأوثان، والنصارى. وقوله: "ويأمُرُنا بالصَّلاة" يعني: المعهودة، المفتتحة بالتكبير، المختتمة بالتسليم، وفي رواية بزيادة: "والزكاة". وقوله: "والصدق" قد مر أنه مطابقة للخبر الواقع، وفي رواية: "والصدقة" بدل الصدق، ورجحها البلقيني، ويقويها رواية المؤلف في التفسير والزكاة، واعتياد اقتران الزكاة بالصلاة في الشرع، وما مر من كونهم كانوا يستقبحون الكذب، فَذِكْرُ ما لم يألفوه أولى، ولكن لا يَبْعُد أمره لهم بما هو من مألوفات كما في أمره لهم بوفاء العهد والأمانة، وقد كان من مألوفات عقلائهم، وقد ثبت في رواية اللفظان: الصدق والصدقة، وفي قوله: يأمرنا، بعد قوله: يقول: اعبدوا الله، إشارة إلى المغايرة بين الأمرين، لما يترتب على مخالفهما، إذ مخالف الأول كافر،

ومخالف الثاني ممن قبل الأول عاص. وقوله: "والعَفَاف" هو بفتح العين، ومعناه الكف عن المحارم وخَوَارم المروءة. وقوله: "والصلة" يعني للأرحام، وهي كل ذي رحم لا تَحِلُّ مناكَحَتُهُ، لو فرضت الأنوثة مع الذكورة، أو كل ذي قرابة، والصحيح عمومُهُ في كل ما أمر الله أن يوصل، كالصَدقة، والبر، والإِنعام. قال في "التوضيح" من تأمل ما استقرأه هِرَقْل من هذه الأوصاف، تبين له حسن ما استوصف من أمره، واستبرأ من حاله، ولله دره من رجل ما كان أعقله من رجل لو ساعدته المقادير بالاتِّباع وتخليد ملكه. وقوله: "وكذلك الرسل تُبْعث في نسب قومها" رُوي بالواو في "وكذلك" والفاء، وإنما جزم هِرَقْل بذلك لتقرره عنده من الكتب السالفة. وقوله: "لَقُلْتُ: رَجُلٌ يَأَتسي بقَوْلٍ قيلَ قَبْلَهُ" ويَأْتَسي: أي يقتدي، ويَتَّبِع، وفيه روايتان بالياء المثناة من تحت ثم مثناة فوقية ثم همزة مفتوحة وسين مهملة، وبالياء المثناة من تحت وهمزة ساكنة، وإنما قال في هذه والتي بعدها: "فقلت" لأن هذين المُقَامَيْن مُقَامَا فكرٍ ونظرٍ، بخلاف غيرهما من الأسئلة، فإنها مقام نقل. وقوله: "رجلٌ يطلُبُ مُلْكَ أبيه" أفرد الأب في هذه الرواية ليكون أعذر في طلب الملك، بخلاف ما لو قال: "آبائه" أو المراد بالأب ما هو أعم من حقيقته ومجازه، ويدل على هذا روايته في آل عمران: "آبائه" بالجمع. وقوله: "إنَّه لَمْ يَكُن لِيَذَرَ الكذب على الناس إلخ": اللام فيه لام الجحود لملازمتها النفي، وفائدتها تأكيد النفي، نحو {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} [النساء: 168] أي: لم يكن ليدع. وقوله: "وهُم أتباعُ الرُّسُلِ" يعني غالبًا، لأنهم أهل الاستكانة،

بخلاف أهل الاستكبار المُصِرِّين على الشِّقاق بَغْيًا وحسدًا، كأبي جَهْل وأشباهه، إلى أن أهْلَكَهم الله تعالى، وأَنْقَذَ بعد حين من أراد سعادته منهم، ويُسْتَشْهَدُ لما قاله بقوله تعالى: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} [الشعراء: 111]، المفسر بأنهم الضعفاء على الصحيح. وقوله: "وكذلك الإِيمان حتى يَتِمَّ" أي: أمر الإِيمان، لأنه يظهر نورًا، ثم لا يزال في زيادة حتى يتم بالأمور المعتبرة فيه، من صلاة وزكاة وصوم، ولهذا نزلت في آخر سِنيّ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] ومنه: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} التوبة: 32] وكذلك جرى لأتباع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، لم يزالوا في زيادة حتى كَمَل بهم ما أراد الله من إظهار دينه، وتمام نعمته. وقوله: "يُخَالِطُ بشاشَة القلوبَ" بإضافة بشاشة للقلوب منصوب على المفعولية، وفي رواية بشاشته بالرفع على الفاعلية، والقلوب منصوب على المفعولية، وتخالط بالتاء الفوقية، وبشاشَةُ القلوب هي انْشِراح الصدور، والفرح، والسرور بالإِيمان. وقوله: "وكذلك الرُّسُل لا تَعْذِر" أي: لأنها لا تَطْلُبُ حَظَّ الدنيا الذي لا يبالي طالبه بالغدر، بخلاف من طلب الآخرة، ولم يُعَرِّجْ هِرَقْل على الدَّسِيسة التي دسها أبو سفيان، وسقط من هذه الرواية إيراد تقرير السؤال العاشر، والذي بعده، وجوابه، وقد ثَبَتَ الجميعُ في رواية المؤلف التي في الجهاد، ويأتي الكلام عليه ثَمَّ إنْ شاء الله تعالى قاله في "الفتح". قلت: لم أَرَ في الرواية الآتية زيادة تقرير إلا في كيفية القتال، فإنه قال هناك: وسألتك هل قاتلتموه وقاتلكم؟ فزعمت أن قد فعل وأن حربكم وحربه يكون دُوَلًا يُدال عليكم المرة وتُدالون عليه الأخرى، وكذلك الرسل تُبْتَلى وتَكُون لهم العاقبة. وقوله: "وَسَأَلْتُكَ بما يأمُركُم" فيه إثبات الألف بعد ما الاستفهامية،

وهو قليل، وأجيب عنه بأن ما موصولة، والباء بمعنى عن متعلق بسألت، نحو: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان:59] والعائد محذوف، ويقدر حينئذ منصوبًا لا مجرورًا، لئلا يلزم على ذلك حذف العائد المجرور بغير ما جر به الموصول، أي: معنى، لأن الباء الأولى معناها عن، وذلك ممنوع فيقدر يأمركم إياه أو يأمركموه، وحذف حرف الجر من مفعول أمر الثاني، نحو: أمرتك الخير، جائز. وقوله: "فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تُشرْكوا به شيئًا، وينهاكم عن عبادة الأوثان" جمع وثن وهو الصنم. وقوله: "ذَكَرْتَ أنه يأمركم" قاله هِرَقْل بالاقتضاء، لأنه ليس في كلام أبي سفيان ذكر الأمر، بل صيغة، وذكره النهي عن عبادة الأوثان مستفاد من قوله: "اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا واترُكوا ما يقولُ آباؤكم" لأنه مقولهم الأمر بعبادة الأوثان، وقد قال ابن بَطّالٍ: إن هذه الأشياء التي سأل عنها هِرَقْل ليست قاطعة على النبوة، إلا أنه يُحْتَمل أنه كانت عنده علامات على هذا النبي بعينه، لأنه قال بعدَ ذلك: "قَدْ كُنْت أعلم أنه خارجٌ وَلَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أنه منكم". وقوله: "فإن كان ما تقول حقًّا" أي: صدقًا، لأنه خبر، وهو يحتمل الصدق والكذب. وقوله: "مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هاتين" يريد به أرض بيت المَقْدس، أو أرض ملكه جميعًا. وقوله: "كُنْتُ أعلم أنه خارجٌ" وفي رواية: "فإنه نبي" وفي رواية: "وهذه صفةُ نبي" وإنما قال ما قال لما عنده من علامات نبوته عليه الصلاة والسلام، الثابتة في الكتب القديمة. وفي "أمالي" المَحَامِليّ عن أبي سفيان أن صاحب بُصْرى أخذه هو وناسًا معه في تجارة، فقال له: أخبرني هل تعرف صورته إذا رأيتها، قلت: نعم،

قال: فَأُدْخِلْتُ كنيسةً لهم فيها الصور، فلم أره، ثم أُدْخلت أخرى، فإذا أنا بصورة محمَّد وأبي بكر. وقوله: "فَلَوْ أني أعلم أني أَخْلُصُ إليه" في رواية إسقاط "أني" الأولى، وأَخْلُصُ بضم اللام، أي: أصل إليه. وقوله: "لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ" بالجيم والشين المعجمة، أي: تكلفته على ما فيه من المشقة، قال ابن بَطّال: وهذا التَّجَشُّمُ هو الهجرة، لأنها كانت فرضًا على كل مسلم قبل الفتح. وفي مُرْسَل ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم أن هِرَقْل قال: ويْحكَ، واللهِ إني لأعلم أنه نبي مرسل، ولكني أخاف الروم على نفسي، ولولا ذلك لاتبعته، ونحوه عند الطبراني بسند ضعيف فقد خاف على نفسه، ولو تَفَطَّن لقوله عليه الصلاة والسلام في الكتاب الذي أرسله إليه: "أَسْلِمْ تَسْلَم" وحمل الجزاء على عمومه في الدنيا والآخرة، لسلم لو أسلم من كل ما يخافه، ولكن التوفيق بيد الله تعالى. وقوله: "لَغَسَلْتُ عن قدميه" وفي رواية قدمه بالإِفراد، ضَمَّن غسل معنى زال، أي لأَزَلْت عن قدميه ما لعله يكون عليهما، مبالغةً في خدمته، وهذا كقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] ضَمَّنَ يخالفون معنى يصدون، وفي رواية عن عبد الله بن شَدّاد: "لو عَلِمْتُ أنه هو لمَشَيْتُ إليه حتى أقبل رأسه وأغْسِل قدميه" وفي آخرها: "ولَقَدْ رأيت جبهته تَتَحادَرُ عَرَقًا من كَرْبِ الصَّحيفة لما قرىء عليه كتاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم" وفي اقتصاره على ذكر غسل القدمين إشارة إلى أنه إذا وصل إليه سالمًا لا يطلب منه ولاية ولا منصبًا، وإنما يطلب منه ما يحصل له من بركته. وقوله: "ثُمَّ دعا بكتابِ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم" أي: دعا مَنْ وكله بالكتاب، فمفعول دعا محذوف، ولهذا عُدِّيَ إلى الكتاب بالباء.

وقوله: "بَعَثَ به دِحْية" بالرفع على الفاعلية، وهو بفتح الدال وكسرها، ويأتي تعريفه في تعريف رجال الحديث، وفي رواية: "بعث به مع دِحْية" أي: بعثه عليه الصلاة والسلام مع دِحْية، وكان ذلك سنة ست بعد رجوعه من الحديبية. وقوله: "إلى عظيم بُصرى" بضم الباء مقصور، مدينة حَوْرَان، أي: أميرها، وهُو الحارِثُ بنُ أبي شَمّر الغَسّاني. وقوله: "فَدَفَعَهُ إلى هِرَقْل" فيه مجاز، لأنه أرسل به إليه صحبة عَدِيّ بن حاتِم، وكان إذ ذاك نصرانيًا، فوصل به هو ودِحْية معًا إلى هِرَقْل، كما في رواية ابن السَّكَن في الصحابة، وكان وصوله إليه سنة سبع على الصحيح. وقوله: "فَقَرَأَهُ" يحتمل أنه قرأه بنفسه، ويحتمل أن الترجمان قرأه بأمره، وهذا الأخير هو الذي في رواية الواقِديّ، فإنه قال: دعا الترجمان الذي يقرأ بالعربية، فقرأه. وقوله: "فإذا فيه بِسمِ اللهِ الرّحْمن الرحيم" فيه استحباب تصدير الكتاب بالبسملة، وإن كان المبعوث إليه كافرًا، ولا يرد على هذا قوله تعالى: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 30] فإن المبتدأ به البسملة، ومن سليمان عنوان الكتاب، فعرفت بِلْقِيس كونه من سليمان بقراءة عنوانه، فلذلك قالت: إنه من سليمان فالتقديم واقعٌ في حكايته الحال. وقوله: "من محمَّد عبد الله ورسوله" وصف نفسه الشريفة بالعبودية تعريضًا ببطلان قول النصارى في المسيح: إنه ابن الله، لأن الرسل مستوون في أنهم عباد الله، وفي رواية: "محمَّد بن عبد الله ورسول الله" وفي الحديث أن السنة أن يبدأ الكاتب بنفسه، وهو قول الجمهور. وقوله: "إلى هِرَقْل عظيم الروم"، بجر عظيم بدل من سابقه، ويجوز الرفع على القطع، والنصب على الاختصاص، أي: المعظم عندهم،

فعدل عن ذكره بالملك أو الإِمرة لأنه معزولٌ بحكم الإِسلام، لكنه لم يخلِهِ من إكرام لمصلحة التألف، وذكر المَدَائِنيُّ أن القارىء لما قرأ من محمد رسول الله غضب أخو هرقل، واجتذب الكتاب، فقال له هِرَقْل: مالك؟ فقال: لأنه بَدَأ بنفسه، وسمّاك صاحب الروم، قال: إنك لضعيف الرّأي، أتريد أن أرمي بكتاب قبل أن أعلم ما فيه، لئن كان رسول الله إنَّه لأحق أن يبدأ بنفسه، ولقًد صدق أنا صاحب الروم، والله مالكي ومالكه. وقوله: "سلامٌ على مَنِ اتَّبَعَ الهُدى" سلامٌ بالتنكير، وعند المؤلف في الاستئذان بالتعريف، والهدى: الرشاد، وهذا كقول موسى وهارون لفرعون {وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه: 47] والظاهر أنه من جملة ما أُمر به، أي: يقولاه، وليس فيه ابتداء الكافر بالسلام، لأن معناه سلم من عذاب الله من أسلم، وهو لم يسلم، فليس ممن اتَّبع الهُدى، فاللفظ ليس مرادًا به التحية إلَّا على من اتَّبع الهُدى، فهو خارج منه. وقوله: "أما بَعْدُ" مبني على الضم لقطعه عن الإِضافة المنوية، وأما فيها معنى الشرط، وتستعمل لتفصيل ما يذكر بعدها غالبًا، وتأتي مستأنفة لا لتفصيل كما هنا، وللتفصيل والتقرير، وهي هنا للفصل بين كلامين، واختلف في أول من قالها، فقيل: داود، وإنها هي المراد بقوله: {وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص: 20] وقيل: يَعْرُب بن قَحْطان، وقيل: كَعْب بن لُؤَيّ، وقيل: قُسُّ بن سَاعِدَة، وقيل: سحبان، وفي غرائب الدَّارَقُطني لمالك: إن أول من قالها يعقوب عليه السلام، فإن ثبت، وقلنا: إن قَحْطان من ذرية إسماعيل فيَعْقُوب أول من قالها مطلقًا، وإن قُلنا: إن قحطان قبلَ إبراهيم فَيَعْرب أول من قالها. وقوله: "فإني أدْعُوك بِدِعايةِ الإِسلام" بكسر الدال، ولمسلم والمؤلف في الجهاد: "بداعية الإِسلام" أي: بالكلمة الداعية إلى الإِسلام، وهي: الشهادتان، والباء بمعنى إلى.

وقوله: "أسلِم تَسْلَم" الأول فعل أمر من الإِسلام، والثاني بفتح اللام مُضارع من السلامة، مجزوم، جواب للأمر، وفيه غاية الاختصار والبلاغة، مع ما فيه من البديع وهو الجناس الاشتِقاقي، وهو أن يرجِعَ اللفظان في الاشتقاق إلى أصل واحد. وقوله: "يُؤْتِكَ الله أَجرَكَ مرتين" هو بحذف حرف العلة، مجزوم جواب ثان، وإعطاء الأجر مرتين لكونه آمن بنبيه، ثم آمن بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم، أو من جهة أن إسلامه يكون سببًا لإسلام أتباعه، وللمؤلف في الجهاد: "أسلم تَسلَم وأسلِم يُؤْتِكَ الله" بتكرار أسلم مع زيادة الواو قبل الثانية، فيحتمل التأكيد، ويحتمل أن يكون الأمر الأول للدخول في الإِسلام، والثاني للدوام عليه، نحو: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء: 136] والحديث موافق لقوله تعالى: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} [القصص: 54] واستنبط منه أن كل من دان بدين أهل الكتاب يكون في حكمهم في المناكحة والذبائح، لأن هِرَقْل وقومه ليسوا من بني إِسرائيل، وهم ممن دخل في النَّصرانية بعد التبديل، وقد قال له ولقومه: يا أهل الكتاب، فدل على أن لهم حكم أهل الكتاب، خلافًا لمن خَصَّ ذلك بالإِسرائيليين، أو بمَنْ علم أن سَلَفَه ممن دخل في اليهودية أو النَّصرانية قبل التبديل. وقوله: "فإن تَوَلَّيت" أي: أعرضت عن الإِجابة في الدخول في الإِسلام، وحقيقة التولي إنما هو بالوجه، ثم استُعْمل مجازًا في الإِعراض عن الشيء، وهي استعارة تبعية. وقوله: "إثم الأرِيسيين" فيه أربع روايات بهمزة أوله مفتوحة جمع أريس ككريم، وبالياء بدل الهمزة، وبالهمزة والياء أيضًا مع زيادة ياء مشددة مكسورة بعد السين ممدودة بأخرى، والأريسون: الأكّارُون أي: الفلاحون الزراعون، أي: عليك إثم رعاياك، أي الذين يَتَّبِعونك ويَنْقادون لأَمْرك، أي وإذا كان عليه إثم الأتباع بسبب اتّباعهم له على استمرار الكفر فَلَأنْ

يكونَ عليه إثم نفسه أولى، ونبه بالأَريسينَ على جميع الرعايا لأنهم الأغلب في رعاياه، وأسرع انقيادًا فإذا أسلم أسلموا، وإذا امتنع امتنعوا، وقال أبو عُبيدة: المراد بالفلاحين أهل مملكته، لأن كل من كان يزرع فهو عند العرب فلاح، سواء كان يلي ذلك بنفسه أم بغيره، وقيل: هم الأجراء، وقيل: الخدم والخَوَل لصده إياهم عن الدين، كما قال تعالى: {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا} الآية [الأحزاب: 67] وقيل: العَشّارون، يعني: أَهْل المَكْس، وقيل: كان أهل السواد أهل فِلاحة، وكانوا مجوسًا، وكان الروم أهل صناعة، فَأُعلموا بأنهم وإن كانوا أهل كتاب، فإن عليهم من الإِثم إن لم يؤمنوا مثل إثم المجوس الذين لا كتاب لهم، وكونه عليه إثم أتباعه لا يُعارض قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] لأن الفاعل المتسبب والمتلبس بالسيِّئات يتحمل من جهتين، جهة فعله، وجهة تسببه، كما قال تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: 25]. وقوله: و {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} في أكثر النسخ إثبات الواو، وفي بعضها كما قال عِيَاض: إسقاطها، فعلى الإِسقاط يكون بيانًا لقوله: "دعاية الإِسلام"، وعلى الإِثبات تكون الواو عاطفة على قوله: "أدعُوك" أي: أدعوك "بدعاية الإِسلام"، وأدعوك بقوله تعالى، أو أتلو عليك، أو أقرأ عليك: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} [آل عمران: 64] وعلى هذا لا تكون الواو زائدة في التلاوة، لأنها إنما دخلت على محذوف، ولا محذور في ذلك، وحذف المعطوف مع بقاء معموله جائز، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ} [الحشر:9] أي: وأخلصوا الإِيمان، أو ألفوه وقول الشاعر: وَزَجَّجْنَ الحَوَاجِبَ والعُيونا أي: وكَحَّلْنَ، وقيل: إنه عليه الصلاة والسلام كتب ذلك قبل نزول الآية، فوافق لفظه لفظها لمّا نزَلت، لأنها نزلت في وفد نَجْران سنة الوُفود سنة تسع، وقصة أبي سفيان قبل ذلك سنة ست، وقيل: نزلت في

اليهود، وقيل: نزلت مرتين، وقد قيل: إن في هذه القصة دليلًا على جواز قراءة الجُنُب للآية والآيتين، وإرسال بعض القرآن إلى أرض العدو، والمأخذ صحيح إذا وقع احتياج إلى ذلك كالإِبلاغ والإِنذار كما في هذه القصة، أو الاستدلال، أو التعوذ، وأما الجواز مطلقًا حيث لا ضرورة فلا يتجه، وقد اشتملت هذه الجمل القليلة التي تضمنها هذا الكتاب على الأمر بقوله: "أَسْلِمْ" والترغيب بقوله: "تَسْلَمْ" "وَيُؤتِك" والزجر بقوله "فإن توليت" والترهيب بقوله: "فإنَّ عليك" والدلالة بقوله: "يا أهل الكتاب" وفي هذا من البلاغة ما لا يخفى، وكيف لا وهو كلام من أُوتي جوامع الكلم؟. وقد ذكر السُّهَيْلِي أنه بلغه أن هِرَقْل وضع الكتاب في قصبةٍ من ذهب تعظيمًا له، وأنهم لم يزالوا يتوارثونه حتى كان عند ملك الفرنج الذي تغلب على طُلَيْطُلَة، ثم كان عند سبطه، وكان عبد الملك بن سعد أحد قواد المسلمين، اجتمع بذلك الملك، فأخرج له الكتاب، فلما رآه استعبر، وسأله أن يمكِّنَهُ من تقبيله، فامتنع، وحُكِي أن ملك الفرنج في دولة الملك المنصور قلاوون الصالحي أخرج لسيف الدين قِلجْ صندوقا مصفّحا بالذهب، واستخرج منه مقلمة من ذهب، فأخرج منها كتابًا زالت أكثر حروفه، وقد التصقت عليه قطعة حرير، فقال: هذا كتاب نبيكم إلى جدي قيصر، ما زلنا نتوارثه إلى الآن، وأوصانا آباؤنا أنه ما دام هذا الكتاب عندنا لا يزال الملك فينا، فنحن نحفظه غايةَ الحفظ، ونُعَظِّمه ونكتمُه عن النصارى ليدوم الملك فينا. ويؤيد هذا ما في المسند من حديث سعيد بن أبي راشد التَّنُوخي رسول هِرَقْل، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عرض عليه الإِسلام فامتنع، فقال له: يا أخا تَنُوخ، إني كتبت إلى ملككم بصحيفة، فأمسِكْهَا، فلن يزال الناس يجدون منه بأسًا ما دام في العيش خير، وكذا ما أخرجه أبو عبيد، عن عُمَير بن إسحاق، قال: كتب النبيُّ صلى الله تعالى عليه وسلم إلى كسرى وقيصر، أما كسرى فلما قرأ الكتاب مزقه، وأما قيصر فلما قرأ الكتاب طواه، ثم رفعه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما هؤلاء فَيُمَزَّقُون، وأما هؤلاء

فستكون لهم بقية. وقوله: "فَلَما قالَ ما قال" أي الذي قاله، يحتمل أن يُشيرَ بذلك إلى الأسئلة والأجوبة، ويُحتمل أن يشير بذلك إلى القصة التي ذكرها ابن النَّاطور بعدُ، والضّمائر كلُّها تعود على هِرَقْل. وقوله "كثر عنده الصَّخَب" هو بالصاد المهملة، والخاء المعجمة مفتوحتين أي: اللَّغَطُ، وهو اختلاط الأصوات في المخاصمة، زاد في الجهاد: "فلا أدري ما قالوا". وقوله: "فَقُلْتُ لأصحابي زاد في الجهاد": "حِينَ خَلَوْتُ بهم". وقوله: "لقد أَمِرَ" بفتح الهمزة وكسر الميم، أي كبُر وعظُم. وقوله: "أَمْر ابن أبي كَبْشة" هو بسكون الميم أي شأنه، وكَبْشة بفتح الكاف، وسكون الباء اسم مُرْتَجَل ليس مؤنث الكبش، لأن مؤنثه من غير لفظه، يريد به النبي - صلى الله عليه وسلم -، قيل إنه كنية جد جده وَهَب، لأن أمه آمنة بنت وَهَب، وأم جد وَهَب قيلة بنت أبي كَبْشة، وعادة العرب إذا تَنَقَّصَت نسبت إلى جد غامض، وقيل: هو أبوه من الرَّضاعة، واسمه الحارث بن عبد العُزَّى، وعند ابن بُكَيْر أنه أسلم، وكانت له بنتٌ تسمى كَبْشَة، يُكْنَى بها، وقيل: هو رجل من خُزاعة اسمه وَخْز بن عامِر بن غالِب -بفتح الواو وسكون الخاء-، خالف قريشًا في عبادة الأوثان، فنسبوه إليه للاشتراك في مطلق المخالفة، وذكر ابن حبيب في "المُجْتَبى" جماعة من أجداده عليه الصلاة والسلام من قِبَلِ أبيه، ومن قِبَل أمه كل واحد منهم يُكنى أبا كبشة. وقوله: "إنه يَخَافُه" بكسر الهمزة استئنافٌ تعليليٌّ، وجوز العَيْنِيُّ فتحها على ضعف على أنه مفعول لأجله، أي عظم أمره عليه الصلاة والسلام لأجل أنه. وقوله: "يخافُه ملك بني الأصفر"، وهم الروم، لأن جدهم رُوم بن عيْصى بن إسحاق تزوج بنت ملك الحبشة، فجاء ولده بين البياض

والسواد، فقيل له: الأصفر. أو لأن جدته سارة حلته بالذهب: وقيل غير ذلك. وقوله: "وكان ابن النّاطور" بالمهملة، وفي رواية: "ابن ناطورا" بزيادة ألف في آخره، والناطور حافظ البستان لفظ أعجمي تكلمت به العرب، وفي رواية الناظور بالمعجمة، والواو عاطفة، فالقصة الآتية موصولة إلى ابن الناطور مروية عن الزُّهريَ، والزُّهري رواها منه، لأنه لقيه بالشام في زمن عبد الملك بن مروان، وتحمل ذلك منه بعد أن أسلم، والتقدير عن الزُّهريَ أخبرني عبيد الله، وذكر الحديث، ثم قال الزُّهريُّ: وكان ابن الناطور يحدث فذكر هذه القصة، ووهِم من زعم أنها معلقة أو مروية بالسند المذكور عن أبي سفيان. وقوله: "صاحب إيلياء" أي أميرها، وصاحب منصوب على الاختصاص أو الحال لا خبر كان، لأن خبرها إما أسْقُفًا، أو يحدث، وجوزه الدَّماميني على أنه من تعدد الخبر، وفي رواية: "صاحب" بالرفع نعت لابن الناطور، واسم الفاعل إذا أريد تعريفه لم يعمل في محل المجرور به نصبًا، بل نقدره كأنه جامد. وقوله: "وهِرَقْلَ" بفتح اللام عطف على إيلياء، أي صاحب إيلياء، وصاحب هِرَقْل، وأطلقت عليه الصحبة إما بمعنى التَّبع، وإما بمعنى الصداقة، فوقع استعمال صاحب في المجاز بالنسبة لإِمرة إيلياء، وفي الحقيقة بالنسبة إلى هرقل. وقوله: "أُسْقفَ" مبني للمجهول من الرباعي ورُوي "سُقفَ" مبنيًا للمجهول أيضًا من التسقيف، ورُوي "سُقِفَ" مبنيا للمفعول بالتخفيف ثلاثيًا، وروي "أُسْقُفًا" منصوبا بضم الهمزة وسكون السين، وضم القاف، وتخفيف الفاء، وروي: "أُسْقُفًّا" كذلك إلا أنه بتشديد الفاء، وهذا هو الأشهر من الروايات، ولا نظير له في وزنه إلا الأُسْهُبّ وهو الرصاص، والأُسْكُفّ وهو الصانع، وأما الأُتْرُجّ فهو جمع، والكلام إنما

هو في المفرد، وفي رواية: "سُقفًّا" بضم السين والقاف وتشديد الفاء، والأُسْقُف والسُّقُفّ لفظ أعجمي، ومعناه رئيس دين النّصارى، أو عالمهم، أو قيّم شريعتهم، وهو دون القاضي، أو فوق القِسِّيس ودون المُطران، وقيل: عربي ومعناه الطويل في انحناء، وقيل ذلك للرئيس لأنه يتخاشع في مشيته، جمعه أساقِفة وأساقِف. وقوله: "على نصارى الشام" متعلق بـ "أُسْقُفًا". وقوله: "يحدث" هو خبر كان كما مر، أو خبرها "أسقفًا" وهو حال منه. وقوله "حين قدم إيلياء" يعني عندما غلبت جنوده جنود فارس، وأخرجوهم كما مر، وكان ذلك في سنة عمرته - صلى الله عليه وسلم - في الحديبية، وبلغ المسلمين نصرة الروم على فارس، وفرحوا، وسبب فرحهم أنه لما غلبت فارس الروم فرح المشركون بمكة، وقالوا للمسلمين: ظَهَر إخواننا، ونحن سنظهر عليكم إن قاتلتمونا، فأنزل الله تعالى: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 1 - 4] ففرح المَسلمون، وكثر التشاجر بينهم، وبين المشركين، حتى راهن أبو بكر أُبيَّ بن خلف على مئة قَلُوص إن لم يَغْلِبِ الروم فارس في تسع سنين، فلما دخلت السنة السابعة من الالتقاء الأول غلبت الروم، وجاء الخبر بذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، وكان أبيّ قُتِلَ بأحد، فأخذ أبو بكر القَلائِص من ورثته، وكان ذلك قبل تحريم القمار، لأن آية الميسر في "المائدة" وهي من آخر القرآن نزولًا. وقوله: "أصبح خبيث النفس" أي: رديئها، غير طيبها، أي مهموما، وقد تستعمل في كسل النفس، وعبر بالنفس عن جملة الإِنسان روحه وجسده، اتساعًا، لغلبة أوصاف الروح على الجسد، وفي "الصحيح": "لَا يَقُلْ أحَدُكُم خَبُثَثْ نفسي" كأنه كره اللفظ، والخطاب للمسلمين، وأما هِرَقْل فغير ممتنع في حقه.

وقوله: "بعض بَطارقته" هو بفتح الباء جمع بِطريق بكسرها، أي: قواده، وخواص دولته، وأهل الرأي والشورى منهم. وقوله: "هَيْئَتُك" أي: سمتك وحالتك التي أنت عليها، لكونها مخالفة لسائر الأيام. وقوله: "قال ابن النّاطور: وكان هِرَقْل حَزَّاءً" هو بفتح المهملة، وتشديد الزاي، آخره همزة منونة، أي: كاهن، يقال: حَزَا بالتخفيف يَحْزُو حَزْوًا إذا تكهن. وقوله: "ينظُر في النجوم" خبر ثان لكان إن قلنا إنه ينظر في الأمرين، أو تفسير لحزّاء لأن الكَهَانة تُؤخذ تارة من إلقاء الشياطين، وتارة من أحكام النُّجوم، وكان كل من الأمرين في الجاهلية شائعًا ذائعًا، إلى أن أظهر الله الإِسلام، فانكسرت شوكتهم، وأنكر الشرع الاعتماد عليهم، وقيل إن الحزّاء هو الذي ينظر في الأعضاء، وفي خيلان الوجه، فيحكم على صاحبها بطريق الفراسة، وهذا إن ثبت لا يلزم حَصره في ذلك، بل اللائق في حق هرقل ما تقدم، وكان ما اطلع عليه هِرَقْل من ذلك بمقتضى حساب المنجمين أنهم زعموا أن المولد النبوي كان بقرانِ العُلويَّين ببرج العقرب، وهما يقترنان في كل عشرين سنة مرة، إلى أن تستوفي المثلثة بروجها في ستين سنة، وكان ابتداء العشرين الأولى المولد النبوي في القران المذكور، وعند تمام العشرين الثانية مجيء جِبريل بالوحي، وعند تمام الثالثة فتح خيبر، وعُمرة القضية التي جرَّت فتح مكة وظهور الإِسلام، وفي تلك الأيام رأى هِرَقل ما رأى، ومن جملة ما ذكروه أيضًا أن برج العَقْرب مائي، وهو دليل ملك القوم الذين يختَتِنون، وكان ذلك دليلًا على انتقال الملك إلى العرب، وأما اليهود فليسوا مُرادًا هنا، لأن هذا لمن يُنْقَل إليه الملك، لا لمن انقضى ملكه. وليس المراد بذكر البخاري لهذا قصد الاعتماد على المنجمين، بل قصده أن يبين أن الإِشارات بالنبي - صلى الله عليه وسلم - جاءت من كل طريق، وعلى لسان كل فريق، من كاهن، أو منجم مُحِقٍّ

أو مبطل، إنْسيٍّ أو جِني، وهذا من أبدع ما يشير إليه عالم، أو يَجْنَح إليه محتَجّ. ومن قوله: "وقال ابن النّاطور" معترض بين سؤال بعض البَطارِقَة، وجواب هِرَقل لهم، بقوله: "إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم ملك الخِتان قد ظهر" وملك فيه ضم الميم وسكون اللام، وفتح الميم وكسر اللام، وظَهَرَ: غَلَبَ، وهو كما قال، لأن في تلك الأيام كان ابتداء صلح الحديبية، وأنزل الله تعالى عليه: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1] وفتح مكة كان سببه نقض قريش العهد الذي وقع في الحُدَيبِية، ومقدمة الظهور ظُهور. وقوله: "من هذه الأمة" أي من أهل هذا العصر، وإطلاق الأمة على أهل العصر كلهم تَجَوُّزٌ، وفي رواية "فمن يَخْتَتِنُ من هذه الأُمم". وقوله: "ليس يَخْتَتِنُ إلا اليهود" أجابوا فيه بمقتضى علمهم، لأن اليهود كانوا ببيت المقدس كثيرين تحت الذِّلة، بخلاف العرب فإنهم وإن كان منهم من هو تحت طاعة ملك الروم كآل غسان، لكنهم كانوا ملوكًا برأسهم. وقوله: "فلا يُهِمَّنَّكَ" بضم أوله من أَهَمَّ الرباعي، أي أثار الهم. وقوله: "شأنهم" أي أمرهم. وقوله: "مدائن" جمع مدينة، فمن جعله فعيلة من قولك: مَدَنَ بالمكان أي أقام به هَمَزَهُ كقبائل، لزيادة المد، ومن جعله مفعلة من قولك: دان، أي مَلَكَ، لم يهمِزْ كمعايش لعدم زيادة المد، وقد أشار ابن مالك إلى هذه القاعدة بمنطوقه ومفهومه في قوله: والمَدُّ زِيدَ ثَالثًا في الواحِدِ ... هَمْزا يُرَى في مِثْلِ كَالقَلَائِدِ وقوله: "فبينما هم على أمرهم" وفي رواية "بيناهم" بحذف الميم، وهي كما مر ظرف زمان للماضي، أشبعت فيها الفتحة بألف، وهم مبتدأ

خبره: "على أمرهم". وقوله: "أُتِيَ هِرَقْل برجل أرسله ملك غسان" لم يذكر من أحضره، وملك غسان هو صاحب بُصْرى كما مر، والرجل لم يسم أيضًا، وغسان اسم ماء نزل عليه قوم من الأزد فنسبوا إليه، أو ماء بالمشلل. وقوله: "يُخبر عن خبر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم" فسر ابن إسحاق الخبر الذي أخبر به، فقال إنه قال: خرج بين أظْهُرِنَا رجل يزعُم أنه نبيٌّ، فقد اتبعه ناس، وخالفه ناس، فكانت بينهم ملاحم في مواطن، فتركتهم وهم على ذلك. فَبَيَّن ما أجمل في حديث الباب. وقوله: "أمختَتِنٌ هُو" بهمزة الاستفهام، وفتح التاء الأولى، وكسر الثانية. وقوله: "هم يَخْتَتِنُون" في رواية "مختتنون" بالميم. وقوله: "فقال هرقل: هذا ملك هذه الأمة قد ظهر" أكثر الرواة بضم الميم ثم السكون، وللقابِسِّي بفتح الميم وكسر اللام، وللكُشْمِيْهَنِيِّ وحده: يَمْلِك فعل مضارع، وللسرخسىِّ بملك بباء موحدة، فعلى الأولى معنى هذا، أي الذي نضرته في النجوم، وعلى الثانية هذا إشارة للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وهذا في كلا الحالين مبتدأ خبره مُلْكُ أو مَلِكُ، "وقد ظهر" حال، وعلى الثالثة: هذا مبتدأ، ويملك خبره، أو يملِك نعت أي: هذا رجل يملك هذه الأمة، وقد ظهر حال، وعلى الرابعة الإِشارة بهذا إلى ما ذكره من نظره في حكم النجوم، والباء متعلقة بظَهَرَ، أي: هذا الحكم ظَهَرَ بملك هذه الأمة التي تختتن. وقوله: "إلى صاحب له" وذلك الصاحب يسمى ضغاطر الأُسْقُف. وقوله: "بِروُمِيَةَ" أي فيها، وهي بتخفيف الياء، مدينة معروفة للروم، قيل: إن دَوْرَ سورها أربعة وعشرون ميلًا.

وقوله: "وكان نظيرَه" في رواية: "وكان هِرَقْل نظيره". وقوله: "وسار هِرَقل إلى حمص" أي: لأنها دار مملكته، وهي ممنوعة من الصرف للعلمية والتأنيث، وجوز بعضهم فيها الصرف وعدمه كَهِنْد وغيره من الثلاثي الساكن الوسط. وقوله: "وأنه نبي" هو بفتح الهمزة عطف على خروج، وهذا يدُلُّ على أن هِرَقل وصاحبه أقَرَّا بنبوة النبي - صلى الله عليه وسلم -، لكن هِرَقل لم يستمر على ذلك، ولم يعمل بمُقْتضاه، بل شحَّ بملكه، ورَغِبَ في الرياسة، فآثَرَهما على الإِسلام، بخلاف صاحبه ضغاطر، فإنه أظهر إسلامه، وألْقَى ثيابه التي كانت عليه، ولبس ثيابًا بيضًا، وخرج على الروم، فدعاهم إلى الإِسلام، وشهد شهادة الحق، فقاموا إليه، فضربوه حتى قتلوه. وقوله: "فآذن هِرَقل" فيه القصر من الإِذن، وفيه المد، أي: الإِعلام. وقوله: "في دَسْكَرَةٍ له بحمص" بدال مفتوحة، وسين ساكنة مهملتين، وكاف وراء مفتوحتين، وهي القصر الذي حوله بيوت، وكأنه دخل القصر ثم أغلقه، وفتح أبواب البيوت التي حوله، وأذِنَ للروم في دخولها، ثم أغلَقها، ثم اطَّلع عليهم، فخاطبهم، وإنما فعل ذلك خَشْية أن يَثِبُوا به كما وَثَبوا بضغاطر، وكانت حمص في زمانه أعظم من دمشق، وهي دار ملكه، وكان فتحها على يد أبي عُبَيْدة بن الجرّاح سنة ستَّ عشرة بعد هذه القصة بعشر سنين. وقوله: "والرُّشْد" بضم فسكون، أو بفتحتين، وهو ضد الغَيِّ. وقوله: "وأن يَثْبُتَ" بفتح همزة أن مصدرية، عطفًا على قوله: "في الفلاح" أي: وهل لكم في ثبوت؟ وقوله: "فتُبايعوا" بمثناة فوقية مضمومة، ثم موحدة، وبعد الألف مثناة تحتية، منصوب بأن مقدرة في جواب الاستفهام، وفي نسخة: "فبَايعُوا"

بإسقاط التاء قبل الموحدة، وفي نسخة: "نُبايِع" بنون الجمع، وفي أخرى: "نتابع" بنون الجمع ثم مثناة فوقية، وفي أخرى: "فَتُتابعوا" بمثناتين فوقيتين، وبعد الألف موحدة، فالثلاثة الأُوَل من البيعة، والتي بعدها من الاتِّباع كما في نسخة: "فَنَتَّبِعَ". وقوله: "هذا النبي" وفي رواية: "لهذا النبي" وإنما قال هذا لِمَا عرفه من الكتب السالفة، أي: التمادي على الكفر سببٌ لذهاب الملك. ونُقِلَ أن في "التوراة": "ونبيًّا مثلك أرسِلُه، أيُّ إنسان لم يقبل كلامي الذي يؤديه عني، فإني أُهْلِكه". وقوله: "فحاصُوا حَيْصَةَ الحُمُر" حاصوا بمهملتين أي: نَفَروا، وشبه نَفْرَتَهم وجَفَلَهم مما قال لهم من اتّباع الرسول عليه الصلاة والسلام بنفرة حُمُر الوحش، لأنها أشدُّ نَفْرَةً من سائر الحيوانات. وقوله: "قد غُلِّقَت" بضم الغين المعجمة وكسر اللام مشددة. وقوله: "وأَيِسَ" جملة حالية، بتقدير قد، وهي بهمزة ثم مثناة تحتية، وفي روايَة "يَئِس" بتقديم الياء على الهمزة، وهما بمعنى، والأول مقلوب من الثاني، أي: قَنِط. وقوله: "من الإِيمان" أي: من إيمانهم لما أظهروه، ومن إيمانه لكونه شح بملكه، وكان يحب أن يطيعوه، فيستمر ملكه، فَيُسْلم ويُسلمون. وقوله: "إني قلت مقالتي آنِفًا" بالمد مع كسر النون، وبالقصر ككتف، أي: الساعة، أو مبتدئًا منصوب على الظرف أو الحال من الضمير في قال، أي: مقالتي هذه الساعة، أو مُبْتَدئًا أي: مؤتَنِفًا ما قلته لكم، والمستعمل من فعله ائْتَنَفْتُ. وقوله: "شِدّتكم" أي: رسوخكم. وقوله: "فقد رأيت" أي: شدتكم، فحذف المفعول للعلم به، وللمؤلف في التفسير: "فقد رأيت منكم الذي أحببت".

وقوله: "فسجدوا له إما حقيقة على عادتهم لملوكهم، أو قبلوا الأرض بين يديه، لأن ذلك ربما كان كهيئة السجود. وقوله: "فكان ذلك آخر شَأن هِرَقل" بنصب آخر خبر كان، وكون هذا آخر شأنه، يريد: فيما يتعلق بهذه القصة المتعلقة بدعائه إلى الإِيمان خاصة، أو أنه أطلق الآخِرِيَّة بالنسبة إلى ما في علمه، وهذا أوجه، لأن هِرَقْل وقعت له قصص بعد ذلك، من تجهيزه الجيوش إلى مُؤْتَةَ وتجهيزه الجيوش إلى تَبُوكَ، ومكاتبة النبي - صلى الله عليه وسلم - ثانيًا، وإرساله إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بذهب فقسمه بين أصحابه. وروى ابن إسحاق أن هِرَقل لما أراد الخروج من الشام إلى القُسْطَنْطِينيَّة عَرَضَ على الروم أمورًا: إما الإِسلام، وإما الجِزْية، وإما أن يصالح النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ويبْقي لهم ما دون الدَّرْب، فانطلق حتى إذا أشرف على الدَّرْب، استقبل أرْض الشّام، ثم قال: السلام عليك أرضَ سورية، -يعني: الشام- تسليم المودِّع ثم ركض، حتى دخل القُسْطَنطينيّة. واختلف الأخْباريون هل هو الذي حاربه المسلمون في زمن أبي بكر وعُمر أو ابنه؟ والأظهر أنه هو، وهذا كله يَدُلُّ ظاهره على استمراره على الكفر، لكن يُحْتَمَل مع ذلك أنه كان يُضْمِر الإِيمان، ويفعل هذه المعاصي مراعاة لمملكته، وخوفًا من أن يقتله قومه، إلا أن في مسند أحمد أنه كتب من تبوك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: إني مُسْلمٌ فقال عليه الصلاة والسلام: "بَلْ هوَ على نَصْرَانِيَّتِه". ولما كان أمر هِرَقل في شأن الإِيمان فيه إبهام، ختم البخاري هذا الباب الذي استفتحه بحديث الأعمال بالنيات بحديثه، كأنه قال: إن صدقت نيته انتفع بها في الجملة، وإلا فقد خاب وخسر، فظهرت مناسبة إيراد قصة ابن النَّاطور في بدء الوحي، لمناسبتها لحديث الأعمال المُصَدَّر الباب به، وفي آخر لفظ من هذه القصة براعة الاختتام. ومناسبة حديث أبي سفيان في قصة هِرَقل لبدء الوحي هي أنها

تضمنت كيفية حال الناس مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك الابتداء، ولأن الآية المكتوبة إلى هِرَقل للدعاء إلى الإِسلام ملتئمة مع الآية التي في الترجمة، وهو قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} [النساء:163] الآية، وقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} الآية [الشورى: 13] فَبَان أنه أوحى إليهم كلهم أَن أقيموا الدين، وهو معنى قوله تعالى: {سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}. وفي الحديث أن السنة في المكاتبات أن يبدأ بنفسه، فيقول: من فلان إلى فلان، وهو قول الأكثرين، وكذا في العنوان أيضًا يكتب كذلك، واحتجوا بهذا الحديث، وبما أخرجه أبو داوود، عن العلاء بن الحَضْرَمي، وكان عامل النبي - صلى الله عليه وسلم - على البَحْرَيْن، وكان إذا كتب إليه بَدَأ بنفسه، وفي لفظ: بدأ باسمه. وقال حَمّاد بن زَيْد: كان الناس يكتبون من فلان بن فلان إلى فلان بن فلان، أما بعد. قال بعضهم: وهو إجماع الصحابة. وقال أبو جَعْفَرِ النَّحّاس: وهذا هو الصحيح، وقال غيره: وكره جماعة من السَّلف خلافَه، وهو أن يكتب أولًا باسم المكتوب إليه، ورخص فيه بعضُهم، وقال: يبدأ باسم المكتوب إليه. رُوِي أن زيد بن ثابت كتب إلى معاوية، فبدأ باسم معاوية، وعن محمد بن الحَنَفِيَّة، وأيوب السَّخْتِيَانِي أنهما قالا: لا بأس بذلك، وقيل: يقدم الأب، ولا يبدأ ولد باسمه على والده، والكبير السن كذلك، وهذا يَرُدُّهُ حديث العلاء لكتابته إلى أفْضَلِ البشر، وحقه أعظم من حق الوالد، وغيره. وفيه التَّوقّي في المكاتبة، واستعمال عدم الإِفراط. وفيه دَليل لمن قال بجواز معاملة الكفّار بالدراهم المنقوش فيها اسم الله تعالى للضّرورة، وإن كان عن مالك الكراهة، لأن ما في هذا الكتاب أكثر مما في هذا المنقوش من ذكر الله تعالى. وفيه الوجوب بالعمل بخبر الواحد، وإلا لم يكن لبعثه مع دِحْيَةَ فائدة مع غيره من الأحاديث الدالة عليه.

وفيه حُجّة لمن مَنَعَ ابتداء الكافر بالسلام، ويأتي استيفاء الكلام عليه في باب: إطعام الطعام. وفيه استحباب: "أمّا بعد" وقد مر الكلام عليها، وعلى أول من نَطَقَ بها. وفيه أن من أدرك من أهل الكتاب نبينا عليه الصلاة والسلام فآمن به فله أجران. وفيه أن النَّهي عن المُسافَرة بالقرآن إلى أرض العدو إنما هو في حمل المصحف والسور الكثيرة، دون الآية والآيتين، وقال ابن بَطّال: إنما فَعَلَه عليه الصلاة والسلام لأنه كان في أول الإِسلام، ولم يكن بُدٌّ من الدعوة العامة، وقد نهى عليه الصلاة والسلام، وقال: "لا تُسَافِروا بِالقُرآنِ إلى أرْضِ العَدُوِّ" والحديث محمول على ما إذا خيف وقوعه في أيدي الكفار. وفيه دعاء الكفار إلى الإِسلام قبل قتالهم، وهو واجب، والقتال قبله حرام إن لم تكن بلغتهم الدعوة، وإن كانت بلغتهم فالدعاء مستحب، هذا مذهب الشّافعيَ، والثاني: يجب الإِنذار مطلقًا قاله مالك، حكاه المازَرِيُّ وعِيَاضٌ، والثالث: لا يجب مطلقًا، والرابع: يجب إن لم تَبْلُغهم الدعوة، وإن بلغتهم فيُستحب، وبه قال نَافِعٌ، والحسن، والثَّوريُّ واللَّيْثُ، والشّافِعي وابن المُنذر، قال النَّوَوِيُّ: وهو قول أكثر العلماء، وهو الصحيح، ومذهب أبي حَنِيفة أنه يُسْتَحب أن يدعو الإِمام من بلغته مبالَغَة في الإنذار، ولا يجب ذلك كمذهب الجمهور. وفيه دليل على أن ذا الحسب أولى بالتقديم في أمور المسلمين، ومهمات الدين والدنيا، ولذلك كانت الخلفاء من قريش، لأنّه أحوط من أن يُدَنِّسوا أحلامهم. وفيه دليل لجمهور الأصوليين أن للأمر صيغة معروفة، لأنّه أتى بقوله: "اعبُدوا الله" في جواب: "ما يأمركم"؟ وهو من أحسن الأدلة، لأن أبا

سفيان من أصحاب أهل اللسان، وكذلك الراوي عنه ابن عباس، بل هو من أفصحهم، وقد رواه عنه مقرًّا له ومذهب بعض الشافعية أنه مشترك بين القول والفعل بالاشتراك اللفظي، وقال آخرون بالاشتراك المعنوي، وهو التَّواطؤ بأن يكون القدر المشترك بينهما على ما عرف في الأصول. واستدل به بعض العلماء على مَسِّ المحدِث والكافر كتابًا فيه آية أو آيات يسيرة من القرآن مع غير القرآن، وقال صاحب "الهداية": قوله عليه الصلاة والسلام: "ولا يَقْرَأُ الحائِضُ والجُنُبُ شَيئًا من القرآن" بإطلاقِهِ يَتَنَاوَلُ ما دون الآية، أراد أنه لا يجوز للحائض والنُفَساء والجُنب قراءة ما دون الآية خلافًا للطّحاوي، وخلافا لمالك في الحائض مطلقًا، وفي الجُنُب في اليسير كآية التعوذ ونحوه، قال: وليس لهم مسُّ المصحف إلَّا بغلافه، ولا أخذ درهم فيه سورة من القرآن، ولا يَمسُّ المحدث المصحف إلَّا بغلافه، ويكره مسه بالكم، وهو الصحيح، بخلاف الكتب الشرعية حيث يرخص في مسها بالكم لأن فيه ضرورة، ولا بأس بدفع المصحف إلى الصبيان لأن في المنع تضييع حِفْظ القرآن، وفي الأمر بالتطهير حَرَجا لهم. هذا هو الصحيح. وفيه أن الكذب مهجور، وعَيْب في كل مِلّة. وفيه أن العدو يجب الاحتراز منه إذ لا يُؤمن أن يكذب على عدوه. وفيه البيان الواضح على أن صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلاماته كان معلومًا لأهل الكتاب علمًا قطعيًا، وإنما تَرَكَ الإِيمان من تركه منهم عِنادًا، أو حَسدًا، أو خوفًا على فوات مناصبهم في الدنيا. رجاله ستة: وفيه ذِكْرُ دِحْيَةَ الكلبي، وملك غسان، وهرقل. الأول: أبو اليمان الحكم بن نافع القُضاعي الحمصي البَهْرَانيُّ مولاهم، مولى امرأة من بَهْراء يقال لها: أم سَلَمة. قال العِجْلِيُّ: لا بأس به، وقال الخَليليُّ: نسخة شُعَيب رواها الأئمة، وتابع أبا اليَمان عليّ بن

الحمصي، وهو ثقة. وتكلم بعضُهم في سماعه من شُعيب، فقيل: إنها مناولة. وقيل: إنه مُجَرَّدُ إذن. وقد قال المُفَضّل بن غسان: سمعت يحيى ابن معين يقول: سألت أبا اليَمان عن حديث شعيب فقال: ليس هو مناولة، المناولة لم أخرجها لأحد، وبالغ أبو زرعة الرازي فقال لم يسمع أبو اليمان من شعيب إلَّا حديثًا واحدًا، والباقي إجازة. قال ابن حَجَر: إن صح ذلك فهو حجة في صحة الرواية بالإِجازة، إلا أنه كان يقول في جميع ذلك: أجرنا، ولا مُشَاحّة في ذلك إن كان اصطلاحًا. وقال الأثْرَم: قال أبو عبد الله: كان أمْرُ شُعيب في الحديث عسرًا جدًّا، وكان علي بن عيّاش سمع منه، وذكر قصة لأهل حمص، أُراها أنهم سألوه أن يأذن لهم أن يرووا عنه، فقال لهم: لا، ثم كَلّموه وحضر ذلك أبو اليمان، فقال لهم: ارووا عني تلك الأحاديث، فقلت لأبي عبد الله: مناولةً؟ قال: لو كان مناولة كان أعطاهم شيئًا، وهو لم يُعطهم كتبًا ولا شيئًا إنما سمع هذا فقط فكان ابن شُعيب يقول: إن أبا اليمان جاءني، فأخذ كتب شُعيب مني بعد موته، وهو يقول: أخبرنا. وقال إبراهيم بن الحسين: سمعت الحَكَم ابن نافع، يقول: قال لي أحمد بن حَنْبل: كيف سمعت الكتب من شعيب؟ قلت: قرأت عليه بعضه، وبعضه قَرَأ عليّ، وبعضه أجازني، وبعضه مناولة. فقال: قُل في كلها: أخبرنا شعيب. وقال أبو زُرْعة الدِّمشقي، عن أبي اليَمان: كان شُعيب عسرًا في الحديث، فدخلنا عليه حين حضرته الوفاة، فقال: هذه كتبي، وقد صححتها، فمن أراد أن يأخذها مني فَلْيَأخُذْها، ومن أراد أن يَعْرِض فَلْيعرِض، ومن أراد أن يسمعها من ابني فإنه قد سمعها مني. قال أبو بكر محمَّد بن عيسى الطَّرَسُوسِيُّ: سمعت أبا اليمان يقول: سِرت إلى مالك، فرأيت ثم من الحُجّاب والفُرُش شيئًا عجيبًا، فقلت: ليس هذا من أخلاق العلماء، فَمَضَيت وتركته، ثم ندمت بعد، وقال الأثْرم: سُئل أبو عبد الله عن أبي اليمان، فقال: أما حديثه عن صَفْوان وحَريز فصحيح، قال: وهو يقول: أخبرنا شعيب. اسْتَمَلّ ذلك بأمر

عجيب، قال أبو عبد الله: كان أمر شُعيب في الحديث عسرًا جدًّا .. الخ. ما مرّ قريبًا، وقال أبو حاتم: نبيل ثقة صدوق. وقال ابن عَمّار: ثقة، وقال البَرْدعِيُّ: قلت لمحمد بن يحيى في حديث أنس عن أم حبيبة يعني حديث "أرأيت ما تلقى أمتي بعدي" الحديث: حدثكم به أبو اليمان؟ فقال: نعم، حدثنا به من أصله، عن شُعيب، عن ابن أبي حُسين، فقلت: حدثنا به غيرُ واحدٍ، عن أبي اليمان، فقالوا: عن الزّهري، قال: لَقَّنوه عن الزُّهري، قلت: رواه يحيى بن مَعين، فقال: يحيى بن مَعِين لَقِيه بعدي. وقال أبو زُرْعة الدِّمَشْقيُّ، عن أحمد، بعد أن رواه عن أبي اليمان عن شعيب، عن ابن أبي حُسين: ليس لهذا أصل عن الزُّهري وكان كتاب شُعيب عن ابن أبي حُسين ملصقًا بكتاب الزُّهري، كأنه يذهب إلى أنه اختلط بكتاب الزُّهْري، فكان يَعْذُرُ أبا اليمان، ولا يَحْمِلُ عليه فيه. قال أبو زُرْعة: وقد سألت عنه أحمد بن صالح، فقال لي مثل قول أحمد بن حَنْبل، وقال إبراهيم بن هانىء النَّيْسابُوريُّ: قال لنا أبو اليمان: الحديث حديث الزُّهري، والذي حدثتكم عن ابن أبي حسين غلطت فيه بورقة قلبتها. وكذا قال يحيى بن معين عنه. وروى عن: شعيب بن أبي حمزة، وحَرِيز بن عُثمان، وعَطّاف بن خالد، وسَعيد بن عبد العزيز، وصَفْوان بن عمرو، وغيرهم. وروى عنه: البخاريُّ نسخة، وروى له الباقون بواسطة إبراهيم بن سعيد الجوهري، وروى عنه الذُّهليُّ، وأحمد بن حَنْبل، وابن مَعين، ومحمد بن عَوْف الطّائي، وأبو مسعود الرّازيّ، وغيرهم، وليس له في ابن ماجة إلا حديث واحد في خِطْبة علي بنت أبي جهل. ولد سنة ثمان وثلاثين ومئة، ومات في ذي الحجة بحمص سنة إحدى أو اثنتين وعشرين ومئتين. وليس في الكتب الستة من اسمه الحكم بن نافع سواه، وفي الرواة الحكم بن نافع آخر روى عنه الطَّبراني، وهو قاضي القُلْزُم، وأما من اسمه

الحكم فهو نحو ثلاثة وثلاثين. والقُضَاعِيُّ في نسبه نسبةً إلى قُضاعة وهو عمرو بن مالك بن مُرّة بن زيد بن مالك بن حِمْير بن سَبأ أبو حيٍّ باليمن، وتزعم نُسّاب مُضَر أن قُضاعة بن معد بن عدنان، والصواب هو الأول كما في "العُباب" وقال ابن ماكولا: هو الأكثر والأصح، وفي "المقدمة الفاضِلية": وأكثر العلماء على أنه قُضاعة بن معد بن عدنان، وأن مالك بن مُرّة زوج أمه، فنسب إلى زوج أمه عادة معروفة عند العرب بينهم. وقال أبو جعفر بن حبيب النَّسّابَة: لم تزل قُضاعة في الجاهلية والإِسلام تُعْرَفُ بِمَعد حتى كانت الفتنة بالشّام بين كَلب وقَيْس عَيْلان أيام مروان بن الحكم، فمال كلب يومئذ إلى اليمن، وانتمت إلى حِمْير استظهارًا منهم بهم على قَيس. وذكر ابن الأثير في "الأنساب" هذا الاختلاف، ثم قال: ولهذا قال محمَّد بن سلام البَصْري النّسابة لما سئل: أنِزار أكثر أم اليمن؟ فقال: إن تَمَعْدَدَت قُضاعة، فنزار أكثر، وإن تيمنت فاليمن. والقضاعة لغة الفهد، وبه لقب عمرو بن مالك، وقيل: لقب به لانقطاعه عن قومه مع أمه من القضع بمعنى القطع، وقيل: من قَضَعَه بمعنى قهره، وإلى قُضاعة يُنسب القاضي أبو عبد الله محمد بن سَلامة ابن جَعْفر القُضاعِيُّ صاحب كتاب "الشهاب" وسميه أبو عبد الله محمد بن يوسف بن عبد السلام القضاعي صاحب "المختار في الخُطط والآثار" توفي سنة أربع مئة وأربعة وخمسين، فقُضاعة إحدى القبائل الأربعة المُتَذَبْذِبة بين عدنان وقحطان التي أشار لها ناظم أنساب العرب الشَّنْقِيطِي حيث قال: قُضاعةٌ مَذَبذبٌ بَينهُمَا ... فَلِمعدٍّ عِند قَومٍ انْتَمى وَهْوَ وَبلْه ما يَقول المُزْدَري ... قُضَاعةُ بن مالِكِ بن حِمْيرِ وأُمُّه عُكْبَرة على حَبَلْ ... مِن مالِكٍ اتَّخَذتْ منهُ بَدَل خُزَاعَةٌ كذاكَ ذُو تَذَبْذُب ... مَا بَيْن قَمْعَةٍ وأزْدِ يَثْرب

وهكذا بجَيلةٌ الخُلَفَا ... وخَثْعَمُ الكِرَام قَد تَوَقَّفَا مَا بَين أنْمارِ نِزَارٍ السَّنِي ... وبَيْنَ أنْمارِ أرَاشِ اليَمَنِ والبَهْراني في نسبه نسبةً إلى بَهْراء بن عمرو بن الحاف بن قُضاعةَ أبو بطن من قُضاعة، يُمد وقد يُقصر، قال ابن سِيْدَهَ: لا أعْلم أحدًا حكى فيه القصر إلَّا كراع، وإنما المعروف فيه المد، أنشد فيه ثَعْلب: وَقَد عَلِمت بَهْراءُ أنَّ سُيوفَنا ... سُيُوفُ النَّصارى لا يَليقُ بها الدَّمُ والنسبة إليه بَهْراني، مثل بَحْراني، على غير قياس، النون فيه بدل من الهمزة، وبهراوي على القِياس، قال ابن جِنّيّ: من حُذّاق أصحابنا من يَذْهب إلى أن النون في بَهْراني إنما هي بدلٌ من الواو التي تُبْدَل من همزة التأنيث في النسب، وأن الأصل بَهْراويّ، وأن النون هناك بدلٌ من هذه الواو، كما أُبْدِلت الواو من النون في قولك: من وافد، وإن وقفتَ وقفتُ، ونحوه، وكيف تَصَرَّفَتِ الحال، فالنون بدل من الهمزة، قال: وإنما ذهب إلى هذا لأنه لم ير النون أبدلت من الهمزة في غير هذا، وكان يحتج في قولهم: إن نون فعلان بدل من همزة فعلاء، وليس غرضهم هنا البدل الذي هو نحو قولهم في ذئب: ذيب، وفي جؤنة: جونة، إنما يريدون أن النون تُعاقِبُ في هذا المحل الهمزة، كما تعاقب لام المعرفة التَّنوين، أي: لا تجتمع معه، ولما لم تجامِعْه، قيل: إنها بدل منه، وكذلك النون والهمزة، قال: وهذا مذهب ليس بقصد. والحِمْصيُّ في نسبهِ نسبةً إلى حمص بكسر الحاء وسكون الميم كُورة بالشام، أهلها يمانون، تذكر وتؤنث، وهي من أوسع مدن الشام، بها نهر عظيم، ولها رَسَاتِيق، سُميت بحِمص بن صِهْر بن حَمِيص بن صَاب ابن مكنف من بني عَمْلِيق، وقيل: حِمْص بن المهر بن حَاف، كما سميت حلب بحلب بن المهر، وقيل: سميت برجل من عامِلة هو أول من نزلها، وكانت حمص في قديم الزمان أشهر من دمشق. قال ابن حَوْقل هي أصح بلاد الشام تربةً، وليس فيها عقارب وحيات، افتتحها أبو عبيدة بن الجَرّاح سنة ست عشرة، ثم نافت، ثم صولحت، بها قبر سيدنا خالد

ابن الوليد، قال الثعْلَبي: دخلها تسع مئة رجل من الصحابة، ولا يجوز فيها الصرف كما يجوز في "هند" لأنه اسم أعجمى، وقال ابن التّين: يجوز الصرف وعدمه لقلة حروفه، وسكون وسطه. قال العَيْنِيّ: إذا أنثته منعته من الصرف لأن فيه حينئذ ثلاث علل التأنيث والعجمة والعلمية، فإذا كان سكون وسطه يقاوم أحد السببين يبقى سببان، وبها يمنع من الصرف كما في ماه. الثاني: شُعَيب بن أبي حَمْزة، واسمه دِينار الأُموي مولاهم أبو بشر الحِمْصي. قال أبو زُرعة الدِّمشقي، عن أحمد: رأيت كتب شُعيب بن أبي حمزة، فرأيتها مقيدة مضبوطة، ورفع من ذكره، قلت: فأين هو من الزُّبيدي؟ قال: مثله. وقال الأثْرم، عن أحمد نحو ذلك، وقال محمد بن علي الجُوزجاني، عن أحمد: ثبت، صالح الحديث. وقال عُثمان الدَّارِمِيُّ، عن ابن مَعِين: ثقة، مثل يونس وعقيل في الزُّهْري، وكتب عن الزُّهري إملاءً للسلطان، وقال ابن الجُنَيد، عن ابن مَعِين: شعيب من أثبت الناس في الزُّهري، كان كاتبًا له، وقال العِجليُّ، ويعقوب بن شَيبَة، وأبو حاتم، والنَّسائي: ثقة. وقال علي بن عياش: كان من كبار الناس، وكان ضنينًا بالحديث، وكان من صنف آخر في العبادة، وكان من كُتّاب هشام، وقال أبو اليمان: كان عسرًا في الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال ابن أبي حاتم: سألت أبا زُرْعة عن شُعيب وابن أبي الزِّناد، فقال: شُعيب: أشبه حديثًا وأصح من ابن أبي الزِّناد. وقال العِجليُّ: ثقة ثبت، وقال الخلِيليُّ: كان كاتب الزُّهري، وهو ثقة، متفق عليه، حافظ، أثنى عليه الأئمة، وقال أبو داود كان أصح حديثًا عن الزُّهري بعد الزَّبيدي. روى عن: الزُّهري، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حُسين، وأبي الزِّناد، وابن المُنْكَدِر، ونافع، وهشام بن عروة وغيرهم. وروى عنه ابنه بِشْر وبقية بن الوليد، والوليد بن مُسلم، ومِسكين بن

بُكَير، وأبو اليمان وعلي بن عيّاش، والحِمصيّ، وعدة. قال الفضل الغَلابي: عنده من الزُّهري ألف وست مئة، ثقة حافظ متقن. مات سنة اثنتين وستين ومئة، وقيل سنة ثلاث، جاوز السبعين، وليس في الكتب الستة من اسم شُعيب بن أبي حمزة سواه، وشعيب في الكتب الستة نحو ثمانية عشر. والأمَويُّ في نسبه نسبةً إلى أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وهو بضم الهَمْزَة على القياس، وبفتحها على غير قياس، كما في "المصباح" وقال ابن دُرَيد: مَنْ فَتَحَهَا فقد أخطأ، وأُمَيّة تصغير أَمَة بفتح الهمزة، والأمة محذوفة اللام، وهي واو، وأصلها أَمْوة، ولهذا ترد في التَّصغير، وكان الأصل أن يقال: أُمَيّيي بأربع ياءات، لكن حُذفت الياء الزائدة للاستثقال، كما تحذف من سليم ونحوها عند النسبة، وقلبت الياء الأولى ناسًا كراهية اجتماع الياءات مع الكسرتين، وحكى سيبويه عن يونس أن ناسًا من العرب يقولون أُمَيّي، ولا يغيرون. وأميَّة أيضًا بطن في الأنصار، وهو أمية بن زيد بن مالك، وفي قُضاعة وهو أمية بن عصبة، وفي طيِّىء وهو أمية بن عدي بن كِنانة. الثالث: صَخر بن حَرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف أبو سفيان القرشيُّ الأمويُّ مشهور باسمه وكنيته، وكان يكنى أبا حَنْظَلة، وأمُّه صَفِيّة بنت حَزْن الهِلالية عمة ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان أسَنَّ من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بعشر سنين، وقيل غير ذلك، وهو والد مُعاوية، أسلم عام الفتح في قصة شهيرة، وشهد الطائف وحُنينًا، وأعطاه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: من غنائم حُنين مئة من الإِبِل، وأربعين أوقية كسائر المؤلفة قلوبهم، وأعطى ابنيه يزيد ومعاوية، فقال له أبو سُفيان: والله إنك لكريم، فداك أبي وأمي، لقد حاربتك فنعم المحارب كنت، ولقد سالمتك فلنعم المسالمُ أنت، جزاك الله خيرًا.

قال يونُس بن عُبيد: كان عُتْبة بن ربيعة، وأخوه شيبَة، وأبو جَهْل، وأبو سُفيان لا يَسْقط لهم رأي في الجاهلية، فلمّا جاء الإِسلام لم يكن لهم رأي، وتبين عليهم السُّقوط، والهَلاك، والضَّعْف في الرّأي. وتزوج النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ابنته أم حَبيبة قَبل أن يُسلم، وكانت أسلمت قديمًا، وهاجرت مع زوجها إلى الحبشةَ، فمات هُنالك. وروى الزُّبير بن بَكّار أن أبا سُفيان كان يُمازِحُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في دار بنته أم حبيبة، ويقول: والله إن هو إلا أن تركتُك وتركتك العَرَبُ إن انتطحت فيك جَمَّاء ولا ذاتُ قرن، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضحك ويقول: "أنت تَقُول ذلك يا أبا حَنْظَلة" وعن ثابت البُنَانيُّ: إنما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من دخل دار أبي سُفيان فهو آمن، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوذي بمكة دخل دار أبي سفيان، ورُوي عن عِكْرِمة أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أهدى إلى أبي سُفيان بن حَرْب تمر عَجْوة، وكتَب إليه يَستهدِيه أدَمًا مع عمرو بن أمية، فنزل عمرو على إحدى زوجتي أبي سفيان، فقامت دونه، وقبل الهدية، وأهدى أدمًا. فُقِئت عينه الواحدة يوم الطائف، والأخرى يوم اليرموك تحت راية ابنه يزيد، فقد روى الزُّبير من طريق سَعيد بن عبيد الثَّقَفي، قال: رميت أبا سفيان يوم الطائف، فأصبت عينه، فأتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: هذه عيني أصيبت في سبيل الله، قال: "إن شئت دعوت فردت عليك، وإن شئت فالجنة"، قال: الجنة. وعن سعيد بن المُسَيِّب، عن أبيه، قال: فُقِدت الأصوات يوم اليرموك إلَّا صوت رجلٍ يقول: يا نصر الله اقترب، فنظرت، فإذا هُو أبو سفيان تحت راية ابنه يزيد، وفُقِئت عينه حينئذ، ويقال: إن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - استعمله على نَجْران، ومات النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو والٍ عليها، ورجع إلى مكة، وسكنها بُرْهَةً، ثم رجع إلى المدينة، ومات بها. قال الوَاقِديُّ: أصحابنا يُنْكرون ولاية أبي سُفيان على نَجْران في حين وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويقولون: كان أبو سفيان بمكة حين وفاة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وكان عامله

على نَجران حينئذ عمرو بن حَزْم. وذكر ابن إسحاق أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وجَّهَه إلى مَنَاة، فهدمها. وروى ابن سعد من طريق أبي السَّفَرِ قال: لما رأى أبو سفيان الناس يطؤون عقب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حسده، فقال: لو عاودت الجمع لهذا الرجل، فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - في صدره، ثم قال: "إذا يُخْزيكَ الله" فقال: أستغفر الله وأتوب إليه، والله ما تَفَوَّهت به إلا شيء حدثت به نفسي. ومن طريق أبي إسحاق السَّبِيعي نحوه، وقال: ما أيقنت أنك رسول الله حتى الساعة. ومن طريق عبد الله بن أبي بكر بن حَزْم، قال: قال أبو سفيان في نفسه: ما أدري بم غلبني محمَّد، فضرب في ظهره، وقال: بالله نَغْلِبُك. فقال: أشهد أنك رسول الله. وعن ابن إسحاق من حديث ابن الزُّبَير قال: كنتُ مع أبي عام اليَرموك فلما تَعَبّى المسلمون للقتال، لبس الزُّبير لأمَتَهُ، ثم جلس على فرسه، وتركني، فنظرت إلى ناس وقوف على تلٍّ يقاتلون مع الناس، فأخذت فرسًا ثم ذهبت فكنت معهم، فإذا أبو سفيان في مشيخة من قريش، فجعلوا إذا مال المسلمون يقولون: أيده ببني الأصفر، وإذا مالت الروم قالوا: يا ويح بني الأصفر، فحدث به ابن الزبير أباه لما فتح الله على الإِسلام، فقال: قاتله الله يَأبَى إلا نِفاقًا، أو لسنا خيرًا له من بني الأصفر، قال ابن حَجَر: وهذا يبعده ما قبله، والذي قبله أصح. وعن عَلْقَمَة بن نَضْلَة أن أبا سفيان بن حَرْب قام على رَدْم المرأتين، ثم ضرب برجله، فقال: سَنام الأرض إنَّ له سَنامًا، يزعم ابن فَرْقد أني لا أعرف حَقّي من حقّه، لي بياض المَرْوة وله سوادها، فبلغ ذلك عمر، فقال: إن أبا سفيان لقديم الظلم، ليس لأحد حق إلا ما أحاطت عليه جدرانه. وذكر ابن المُبارك من طريق ابن أبْجَر: لما بوِيع لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، جاء أبو سفيان إلى علي رضي الله عنه، فقال: أغلبكم على هذا الأمر أقل بيت في قريش؟ أما والله لأَملأَنَّها خيلًا ورجالًا إن

شئت، فقال علي: ما زلت عدوًّا للإِسلام وأهله، فما ضر ذلك الإِسلام وأهله أنّا رأينا أبا بكر أهلًا، وهذا الخبر رواه عبد الرزاق، عن ابن المبارك، عن الحسن، قال: إن أبا سفيان دخل على عثمان حين صارت الخلافة إليه، فقال: صارت إليك بعد تَيْم وعَدِيّ، فأدرها كالكُرة، واجعل أوتادها بني أمية، فإنما هو المُلْك، ولا أدري ما جنة ولا نار؟ فصاح به عثمان: قم، فعل الله بك وفعل. وفي حديث ابن عباس، عن أبيه، لما أتى به العَبّاس وقد أردفه خلفه يوم الفتح إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسأله أن يُؤمِّنَهُ، فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: يا أبا سفيان، ويحك، أما آن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟ فقال: بأبي أنت وأُمّي ما أوصلك وأحلمك وأكرمك، والله لقد ظننت أنه لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني شيئًا، فقال: ويحك يا أبا سُفيان، ألم يَأنِ لك أن تعلم أني رسول الله؟ فقال: بأبي أنت وأمي ما أوصلك وأحلمك وأكرمك، أما هذه ففي النفس منها شيء، فقال له: ويلك، اشهد شهادة الحق قبل أن تُضْرَبَ عنقك، فشهد وأسلم، ثم سأل له العباس النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُؤمِّنَ من دخل داره، وقال: إنه رجل يحب الفخر والذكر، فأسعفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، وقال: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل الكعبة فهو آمن، ومن ألقى السِّلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه على نفسه فهو آمن. قال ابن عبد البَرّ: وله أخبار كثيرة رديئة، ذكرها أهل الأخبار لم أذكُرها، وحديثُ ابن المُسَيِّب المتقدم يَدُلُّ على صحة إسلامه، ورُوِي أنه كان يقف على الكَراديس يوم اليَرموك، فيقول للناس: الله الله فإنكم ذَادّة العرب، وأنصار الإِسلام، وإنهم ذادّة الروم، وأنصار المشركين، اللهم إن هذا يوم من أيامك، اللهم أنْزِل نصرك على عبادك. فالحاصل كما قال ابن عَبْد البَرّ، هو: أن الناس فيه طائفتان، طائفة تروي أنه لما أسلم حَسُنَ إسلامه، وطائفة تروي أنه كان كَهْفًا للمنافقين مُنذ أسلم، وكان في الجاهلية يُنْسَب إلى الزَّنْدَقة، وكان من أشراف قُرَيش

في الجاهلية، وكان تاجرًا يجهز التُجار بماله، وأموال قريش إلى الشام وغيرها من بلاد العَجَم، وكان يخرُجُ أحيانًا بنفسه، فكانت إليه راية الرُّؤساء المعروفة بالعُقَاب، وكان لا يَحبِسها إلا رئيس، فإذا حميت الحرب اجتمعت قريش، فوضعت الرّاية في يد الرئيس، وكان أبو سفيان صديق العباس ونديمه في الجاهلية، له أحاديث روى عنه ابن عباس حديث هِرَقل، وقَيْس بن أبي حازم، وابنه مُعَاوية. مات سنة ثلاث وثلاثين في خلافة عثمان، وقيل: اثنتين، وقيل: أربع، وصلى عليه ابنه مُعاوية، وقيل: بل صَلّى عليه عثمان بموضع الجَنَائز، ودُفن بالبقيع وهو ابن ثمان وثمانين سنة، وقيل: ابن بِضْع وتسعين سنة، وكان رَبْعَةً، دَحْداحًا، ذا هامةٍ عظيمةٍ. وأبو سُفيان في الصحابة جماعة، لكن أبو سُفيان بن حَرْب من الأفراد، وصَخْر في الكتب الستة تسعة. وأما دِحْية بكسر الدال ويفتح فهو ابن خَليفة بن فَروة بن فَضَالة بن زَيد ابن امرىء القيس بن الخَزْرج، وهو زيد مَنَاة بن عامر بن بكر بن عامر الأكبر بن عَوف بن عُذْرَة القُضَاعي، صحابيٍّ مشهور، أول مشاهده الخندق، وقيل: أحد، ولم يشهد بدرًا، وكان يُضربُ به المثل في حسن الصورة، وكان جبريل ينزل على صورته، فقد أخرج النَّسائيُّ من حديث ابن عُمر رضي الله تعالى عنهما، كان جِبْريل يأتي النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في صورة دِحْيَةَ الكَلْبِيِّ. وعن أنس أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "كانَ جِبريلُ يَأتِينِي على صورة دِحْية الكلبيّ" وكان دِحية رجلًا جميلًا. وروى العِجْلِيُّ في "تاريخه"، عن عوانة بن الحكم، قال: أجمل الناس من كان جِبريل يأتي على صورته. ورُوي عن ابن عباس أنه قال: كان دِحية إذا قدم المدينة لم تبق مُعْصر إلَّا خرجت تَنْظُر إليه، والمراد بالمعصر العاتق، وهو رسول النبيّ - صلى الله عليه وسلم - إلى قَيصر، فَلَقِيه بحمص أول سنة سبع، أو آخر سنة ست، ومن المنكر ما أخرجه ابن عَسَاكر في "تاريخه" عن ابن عباس، أن دِحْية أسلم في خلافة

أبي بكر الصديق، وقد رده ابن عَسَاكر، وروى التِّرْمِذِي، من حديث المُغِيرة، أن دِحية أهدى إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - خُفَّيْنِ فَلبسهمَا وعند أبي داود من طريق خالد بن يزيد بن مُعاوية، عن دِحية، قال: أُهْدِي للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَبَاطي، فأعطاني منها قِبْطِيّة. وروى أحمد من طريق الشَّعْبي، عن دِحْية، قال: قلت: يا رسول الله، أأحْملُ لك حمارًا على فرس فيُنْتِج لك بَغْلًا فتركبَهَا، قال: قال: "إنّما يَفْعلُ ذلك الذين لا يَعلمون". وأخرج ابن سعد من حديث مُجاهد، قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دِحْية سَرِّيةً وحده، وقد شهد دحية اليرموك، وكان على كَرْدُوس، وقد نزل دِمشق، وسكن المِزَّة، وعاش إلى خلافة معاوية. قال ابن البَرْقِيّ: له حديثان عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن حَجَر: اجتمع لنا عنه نحو السِّتّة. روى عنه: خالد بن يزيد بن مُعاوية، ومَنصور بن سَعيد بن الأصْبَغ، وعبد الله بن شَدّاد بن الهاد، ومحمد بن كَعْب القُرَظِيُّ، والشَّعبيّ. والقُضاعيّ في نسبه نسبةً إلى قُضاعة، ومرَّ الكلام عليه أول السند عند أبي اليمان، والمِزَّة -بكسر الميم وتشديد الزاي- قرية قرب دمشق، وليس في الصحابة من اسمه دِحْية سواه. وملك غسان المُراد به الحارث بن أبي شمر، أراد حرب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وخرج إليهم في غزوة، ولم أر له إسلامًا. وأما هِرَقل بكسر الهاء وفتح الراء على المشهور، فهو عَلَم لملك الروم، ولقبه قَيْصر، ويلقب به كل ملك للروم، كما أن كل من ملك الفُرس يقال له: كسرى، وكل من ملك التُّرْك يقال له: خاقان. ملك إحدى وثلاثين سنة، وفي ملكه مات النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو أول من ضَرَب الدنانير، وأحدث البيعة والصحيح أنه لم يُسْلم، ومات على نَصْرانيَّتِه.

لطائف إسناده: منها أن فيه رواية حِمْصيّ عن حمصي عن شاميّ عن مَدَني. ومنها أنه قال أولا: حدثنا، وثانيا أخبرنا، وثالثا بكلمة عن، ورابعًا بلفظ أخبرني محافظة على الفرق الذي بين العبارات، أو حكايةً عن ألفاظ الرواة بأعْيانها، مع قَطْع النظر عن الفرق، أو تعليما لجواز استعمال الكل إذا قُلْنا بعدم الفرق بينها. ومنها أنه ليس في "البخاري" مثل هذا الإِسناد أعني عن أبي سفيان، لأنه ليس في الصحيحين، وسنن أبي داود، والتِّرمذي، والنَّسائي حديث غيره، ولم يرو عنه إلا ابن عَبّاس رضي الله تعالى عنهم. ومنها: أن رواية البخاري لهذا الحديث عن أبي اليَمان من الرواية عن النُّسخة، لأنَّ أبا اليَمان كما مرّ روى عن شُعيب نسخة، والنسخة هي رواية متون بإسناد واحد، كرواية هَمّام بن مُنَبّه، عن أبي هُريرة، رواها عبد الرزاق عن مَعْمَر، عنه واختلف العلماء في إفراد حديث من نسخة، هل يساق بإسنادها ولو لم يكن مُبْتَدأً به أولا؟ فالجمهور على الجواز، ومنهم البُخاري، وهو بمثابة تقطيع المتن الواحد في أبواب بإسناده المذكور في أوله، والأقل كالأستاذ أبي إسحاق الإِسْفَرايني منع من ذلك لإِيهامه أنه سمع ذلك، وقيل: يبدأ أبدًا بأول الحديث، ويذكر بعده ما أراد، وتوسط مسلم، فأتَى بلفظٍ يُشْعِر بأن المُفرد من جملة النسخة، فيقول مثلًا: حدثنا محمَّد بن رَافع، حدثنا عبد الرزاق، أخبره مَعْمر، عن هَمّام قال: هذا ما حدثنا به أبو هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذكر أحاديث منها. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ أدنى مَقْعَد أحدِكُم أن يقال له: تَمَنَّ الحديث" وبعضهم يعيد سند الكتاب، أو الجزء في آخره، وذلك لا يرفع الخلاف الوارد في أفراد كل حديث بالسند، ولكنه احتياطٌ لما فيه من التأكيد، وأشار العِراقيُّ إلى الكلام عليها بقوله: والنُّسَخُ الّتي بإسنادٍ قَطُ ... تَجْديدُه في كلِّ مَتنٍ أحوَطُ

الرجال أربعة

وَالأغْلبُ البَدءُ بهِ ويُذكرُ ... مَا بَعدَهُ مَع وبهِ والأكثَرُ جَوازُ أنْ يُفرِدَ بَعْضًا بالسَّنَد ... لَا خُذْ كذَا والإِفْصاحُ أسَدّ وَمَنْ يُعيدُ سَنَدَ الكِتاب مَعْ ... آخِرِه احْتاطَ وخُلْفًا ما رَفَعْ أخرج البخاري حديث هِرَقل في أربعةَ عشر موضعًا هنا كما ترى، وفي الجهاد عن إبراهيم بن حمزة، وفي التفسير عن إبراهيم بن موسى، وفيه أيضا عن عبد الله بن محمد، وفي الشهادة عن إبراهيم بن حَمزة أيضا مختصرًا، وفي الجزية أيضا عن يحيى بن بُكَير، وفي الأدب عن أبي بُكَير، وفيه أيضا عن محمد بن مُقاتل، وفي الإِيمان، وفي العلم، وفي الأحكام، وفي المغازي، وفي خبر الواحد، وفي الاستئذان. وأخرجه مسلم في المغازي عن خمسة من شيوخه، منهم إسحاق بن إبراهيم، وأبو داود في الأدب، والتِّرمذي في الاستئذان، والنَّسائي في التفسير، ولم يخرجه ابن ماجة. ثم قال البخاري: رواه صَالِح بن كَيْسان، ويونُس، ومَعْمر عن الزُّهري. وهذه الأحاديث الثلاثة رواها المصنف عن غير أبي اليَمَان، والزُّهْري، إنما رواها لأصحابه بسند واحد، عن شيخ واحد، وهو عُبَيد الله بن عبد الله، فرواية صالح عن الزُّهري أخرجها البخاري بتمامها في الحج، من طريق إبراهيم بن سَعْد، عنه، وأخرجه مسلم أيضا عن إبراهيم المذكور، ورواية يونس أخرجها البخاري في الجهاد، والاستئذان مختصرة، من طريق ابن المُبَارك، عن يُونُس، ورواية مَعْمر أخرجها البخاري في التفسير بتمامها. والرجال أربعة: مر بن شهاب في الثالث. ومر يونس ومعمر في المتابعة التي بعد الرابع.

والرابع: صالح بن كَيْسان المَدَني أبو محمد أو أبو الحارِث الغِفَارِيّ، مؤدب أولاد عمر بن عبد العزيز. قال مصعب الزُّبيري: كان جامعًا بين الحديث والفقه والمروءة، وقال حرب: سئل عنه أحمد فقال: بَخ بَخ، وقال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: صالح أكبر من الزُّهري، وقال ابن المَدِيني: صالح أسن من الزُّهري، وقد رأى ابن عمر، وابن الزُّبير، وقال ابن مَعين: معمر أحب إلي، وصالح ثقة، وقال أيضًا: ليس في أصحاب الزُّهري أثبت من مالك، وقال ابن حِبّان في "الثقات": كان من فقهاء المدينة الجامعين للحديث والفقه، من ذوي المروءات، وقد قيل: إنه سمع من ابن عمر، وما أراه محفوظًا، وقال الخَلِيليُّ: كان حافظًا إمامًا، روى عنه من هو أقدم منه عمرو بن دينار، وكان موسى بن عقبة يحكي عنه وهو من أقرانه. وقال ابن عبد البرّ: كان كثير الحديث، ثقة، حجة فيما حمل، وقال يعقوب: صالح ثقة ثبت، وقال أبو حاتم: صالح أحب إلي من عَقِيل لأنه حِجازيٌّ، وهو أسن، رأى ابن عمر، وهو ثقة يُعَدُّ في التابعين، وقال النّسائي وأبو خِراش ثقة، وقال الواقِدِي: كان ثقة كثير الحديث، رأى ابن عمر، وابن الزبير، وقال ابن مَعِين: إنه سمع منهما. روى عن: سليمان بن أبي خَيْثَمَة، وسَالم بن عبد الله بن عمر، وعُبيد الله بن عبد الله، وعُروة بن الزبير، والزُّهري، وأبي الزِّناد، ونافع مولى ابن عُمر، وغيرهم. وروى عنه مالك، وابن إسحاق، وابن جُرَيج، ومَعْمَر، وحَمّاد بن زَيد، وابن عُيينة، وغيرهم. قال الوَاقِديّ: مات بعد الأربعين ومئة. وقيل: مَخْرَجَ محمَّد بن عبد الله بن حسن. وقال الحاكم: مات صالح بن كَيْسان وهو ابن مئة ونيف وستين سنة، وكان قد لَقِي جماعة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم بعد ذلك تَلَمَّذَ

للزُّهري، وتَلَقَّن عنه العلم، وهو ابن سبعين سنة، ابتدأ بالتعليم وهو ابن سبعين سنة، قال ابن حَجَر: هذه مجازفة قبيحة مقتضاها أن يكون صالح ابن كَيْسان ولد قبل بِعْثة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وما أدري من أين وقع ذلك للحاكم؟ ولو كان طلب العلم كما حدده الحاكم، لكان قد أخذ عن سعد بن أبي وقّاص، وعائِشة، وقرأت بخط الذَّهَبي: الذي يظهر لي أنه ما أكمل التِّسعين، ووقع في صحيح البخاري في كتاب الزكاة: صالح أكبر من الزُّهري، أدرك ابن عُمر وليس في الكتب الستة صالح بن كَيْسان سواه، وأما صالح فنحو خمسة وخمسين. ورواية صالح عن الزُّهري من رواية الأكابر عن الأصاغر، لأن صالحًا أكبر من الزُّهري سنًّا كما مر، وهو نوع لطيف، وفائدته الأمن من ظن الانقلاب، وتنزيل أهل العلم منازِلهم، والأصل فيه رواية النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطبته خبر الجَسّاسة عن تَميم الدّاريّ كما في مسلم، وفي أبي داود من حديث عائشة رضي الله عنها: "أنْزِلُوا الناس منازِلَهم" وهو على أضْرُب: أن يكون الشيخ أصغر سنًّا وطبَقةً، وهما متلازمان غالبًا كرواية كل من الزُّهري ويحيى بن سَعيد الأنصاري عن تلميذهما الإِمام مالك بن أنس، وكرواية أبي القاسم عُبيد الله بن أحمد الأزْهَرِي عن تلميذه الحافظ أبي بكر الخطيب، وكان إذ ذاك شابًّا. والضَّرْب الثاني: أن يكون أصغر منه في القَدْر دون السن، كرواية مالك وابن أبي ذِئْب عن شيخهما عبد الله بن دينار وأضرابه. والثالث: أن يكون أصغر منه فيهما، كرواية كثير من الحفاظ والعلماء عن تلامذتهم، كعبد الغَني بن سعيد، عن محمد بن عَلي الصُّوريِّ، ومن الضرب الثالث رواية الصحابة عن التابعين، كرواية عدة منهم العبادلة الأربعة، وعمر، وعلي، وأنس، ومُعاوية عن كعب الأحبار. وإلى هذه الأنواع أشار العراقيُّ بقوله:

وقَدْ رَوَى الكبيرُ عنْ ذي الصِّغَرِ ... طبقةً وسنًّا أوْ في القَدَرِ أوْ فِيهما ومِنه أخْذُ الصَّحْبِ ... عن تابعٍ كَعِدَّةٍ عَن كَعْبِ والغِفَاريُّ في نسبه نسبةً إلى بني غِفار ككِتاب قبيلة من كِنانة، وهم بنو غِفار بن مُلَيل بن ضَمْرة بن بَكر بن عبدِ مَناة رَهْط سيدنا أبي ذرٍّ الغِفاري رضي الله عنه، ومنهم إيماء بن رخصة، وأبو بصرة الغفاري اسمه جميل وبنته عَزَّة صاحبة كُثَيِّر، وابن أبي اللحم، وأبو رَهْم، وغيرهم، خاتمة أحاديثه ستة أو سبعة باعتبار عَدِّ حديث جابر حديثًا مستقلًا. قلت: وهذا أيضا على عدم اعتبار المتابعات والروايات، وإلا فهي أكثر من سبعة.

كتاب الإيمان

2 - كتاب الإِيمان لما كان باب "كيف كان بدء الوحي" كالمقدمة في أول الجامع، لم يذكره بالكتاب، بل ذكره بالباب، ثم شرع يذكر الكتب على طريقة أبواب الفقه، وقدم كتاب "الإِيمان" لأنه ملاك الأمر كله، إذ الباقي مبنيٌّ عليه، مشروطٌ به، وبه النجاة في الدارَين، ثم أعقبه بكتاب "العلم" لأن مدار الكتب التي تأتي بعده كلها عليه، وبه تعلم، وتميز، وتفصل، وإنما آخره عن "الإِيمان" لأن الإِيمان أول واجب على المكلف، ولأنه أفضل الأمور وأشرفها على الإِطلاق، وكيف لا وهو مبدأ كل خير علمًا وعملًا، ومنشأ كل كمال دِقًّا وجِلًّا، وقدم باب "الوحي" عليه لأن باب الوحي كالمقدمة في أول الجامع، ومن شأنها أن تكون إمام المقصود، ولأن الإِيمان وجميع ما يتعلق به يتوقف عليه، وشأن الموقوف عليه التقديم، أو لأن الوحي أول خير نزل من السماء لهذه الأمة، ثم ذكر بعد ذلك كتاب "الصلاة" لأنها تالية الإِيمان، وثانيته في الكتاب والسنة، ثم أعقبها بـ "الزكاة" لأنها ثالثة الإِيمان، وثانية الصلاة فيهما ثم أعقبها "بالحج" لأن العبادة إما بدنية محضة، أو مالية محضة، أو مركبة منهما، فرتبها على هذا الترتيب، والمفرد مقدم على المركب طبعًا، فقدمه أيضا وضعًا ليوافق الوضعُ الطبعَ، ثم أعقب الحج بـ "الصوم" لكونه مذكورًا في الحديث المشهور مع الأربعة المذكورة، وفي وضع الفقهاء الصوم مقدم على الحج نظرًا إلى كثرة دورانه بالنسبة إلى الحج، وفي بعض النسخ يوجد كتاب "الصوم" مقدمًا على كتاب "الحج" كأوضاع الفقهاء. واختلفت الروايات في تقديم البسملة على كتاب أو تأخيرها، ولكل وجه، والأول ظاهر، ووجه الثاني وعليه أكثر الروايات أن جعل الترجمة قائمة مقام تسمية السورة، والأحاديث المذكورة بعد البسملة كالآية مستفتحة بالبسملة. و"كتاب" خبر مبتدأ محذوف أي: هذا كتاب الإِيمان، ويجوز نصبه

على هاك كتاب الإِيمان، أو خذ، وكتاب في الأصل مصدر، يقال: كَتَب يَكتُب كتابةً وكتبًا، ويجوز أن يكون بمعنى المكتوب كالحساب بمعنى المحسوب، ومادة كتب في جميع تصرفاتها دالة على الجمع والضم، ومنها الكَتِيبة وهي الجيش لاجتماعِ الفرسان فيها، وكتبتُ القربة: إذا خَرَزْتها، وكتبتُ البغلة: إذا جمعت بين شَفْريها بحلقةٍ أو سير، قال الشاعر: لا تأمَنَنَّ فَزَاريًا خَلَوْتَ بهِ ... عَلَى قُلُوصكَ واكْتُبها بِأسْيارِ وكتّبتُ الناقة تكتيبًا: إذا صررتها، واستعملوا الكتابَ فيما يجمع أشياء من الأبواب والفصول الجامعة للمسائل، والضم فيه بالنسبة إلى المكتوب من الحروف حقيقة، وبالنسبة إلى المعاني المرادة منه مجاز. و"الإِيمان" بكسر الهمزة، وهو لغةً: التصديق، وشرعًا: تصديق الرسول عليه الصلاة والسلام في كل ما عُلِمَ مجيئُه به بالضرورة، تصديقًا جازمًا مطلقًا، وهو مشتق من الأمن، كأنَّ حقيقة آمن به: أمِنَه التكذيبَ والمخالفة، يتعدى باللام، كما في قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف: 17] أي: مصدق لنا، ويتعدى بالباء كما في قوله عليه الصلاة والسلام: "الإِيمان أن تُؤمِنَ بالله" الحديث وحقيقة التصديق: الإِذعان لحكم المخبر، وقَبُوله، وجعله صادقًا، فليس حقيقته أن يقع في القلب نسبة التصديق إلى الخبر أو المخبر من غير إذعان وقَبُول، بل هو إذعان وقَبول لذلك، بحيث يقع عليه اسم التسليم، وإلا لم يكن تصديقًا، لأن بعض الكفّار كانوا عالمين برسالة النبي - صلى الله عليه وسلم -، لقوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146] وفِرْعَون كان عالمًا برسالة موسى عليه السلام، لقوله تعالى إخبارًا عن مخاطبته عليه السلام له: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الإسراء: 102] ومع هذا العلم والتصديق، لم يكونوا مؤمنين، وقولهم في الحد: بالضرورة، التقييدُ به لإِخراج ما لا يُعْلَمُ بالضرورة أن الرسول عليه الصلاة والسلام جاء به، كالاجتهاديّات، كالتصديق بأنّ الله تعالى

1 - باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - "بني الإسلام على خمس"

عالم بالعلم، أو عالم بذاته، والتصديق بكونه مرئيًّا أو غير مرئي، فإن هذين التصديقين وأمثالهما غير داخلة في مسمى الإِيمان، فلهذا لا يَكْفُرُ منكر الاجتهاديات بالإِجماع، والتقييد بالجازم لإِخراج التصديق الظنيّ فإنه غير كافٍ في حصول الإِيمان، وقولهم فيه: مطلقًا أي: سواء كان لدليل أم لا، وقُيِّدَ بالإطلاق لدفع وَهْم خروج اعتقاد المقلد، فإن إيمانه صحيحٌ عند الأكثرين، وهو الصحيح، وتعبيرهم بمجرد التصديق، إشارة إلى أنه لا يُعتبر فيه كونه مقرونًا بعمل الجوارِح، ويأتي ما في ذلك من الخلاف قريبًا إن شاء الله تعالى، واقتصاره عليه الصلاة والسلام في حديث جبريل الآتي على الإِيمان بالله وملائكته إلخ، ولم يَزِد الإِيمان بكل ما جاء به الرسول، إنما هو لاشتمال الإِيمان بالكتب عليه، لأن من جملتها القرآن، وفيه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] فدل على وجوب اعتقاد كل ما جاء به، والعمل به. ثم قال: 1 - باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - "بني الإِسلام على خمس" وسقط لفظ باب من رواية الأصِيلِيّ، وقد وصل الحديث بعدُ تامًا، والإِسلام لغة الانقياد والخضوع، ولا يتحقق ذلك إلا بقَبُول الأحكام، والإذعان، وذلك حقيقة التصديق كما مر، قال الله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات: 35 - 36] فالإيمان لا ينفك عن الإِسلام حكمًا، فهما مُتَّحدان في التصديق، وإن تغايرا بحسب المفهوم، إذ مفهوم الإِيمان تصديق القلب، ومفهوم الإِسلام أعمال الجوارح، فلا يَصِحُّ في الشرع أن يُحْكَمَ على أحد بأنه مؤمن وليس بمسلم، أو مسلم وليس بمؤمن، ولا نعني بوحدتهما سوى هذا، ومن أثبت التغاير فقد يقال له: ما حكم من آمن ولم يُسلم، أو أسلم ولم يؤمن؟ فإن أثبت لأحدهما حكمًا ليس بثابت للآخر، فقد ظهر بطلان قوله، فإن قيل: قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] صريح في تحقيق الإِسلام بدون الإِيمان، فالجواب: إن المراد أنهم انقادوا في الظّاهر دون

الباطن، فكانوا كمن تَلَفَّظَ بالشهادتين، ولم يُصدِّق بقلبه فإنه تجري عليه الأحكام في الظاهر، ثم قال المصنف: "وهو قولٌ وفِعلٌ. ويَزيدُ ويَنقُصُ"، وهو أي: الإِيمان، وفي رواية الكُشْميهَنيّ "قول وعمل"، وهو اللفظ الوارد عن السلف الذين اطلقوا ذلك. والكلام هنا في مُقامين، أحدهما: كونه قولًا وعملًا، والثاني: كونه يزيد وينقُص، فأما القول، فالمراد به النُّطْق بالشهادتين، وأما العمل، فالمراد به ما هو أعم من عمل القلب والجوارح، ليدخل الاعتقاد والعبادات، ومراد من أدخل ذلك في تعريف الإِيمان، ومن نفاه إنما هو بالنظر إلى ما عند الله تعالى، فالسلف قالوا: هو اعتقادٌ بالقلب ونطقٌ باللسان، وعملٌ بالأركان، وأرادوا بذلك أن الأعمال شرط في كماله، ومن نشأ لهم القول بالزيادة والنُّقصان، كما يأتي، والمُرْجِئة قالوا: هو اعتقاد ونطق فقط، والكرّاميَّةُ قالوا: هو نُطق فقط، وذهبت الخوارج وكثير من المعتزلة إلى أنه العمل والنطق والاعتقاد، والفارق بينهم وبين السلف أنهم جعلوا الأعمال شرطًا في صحته، والسلف جعلوها شرطًا في كماله، وهذا كله بالنظر إلى ما عند الله تعالى، كما قلنا، أما بالنظر إلى ما عندنا، فالإِيمان هو الإِقرار فقط، فَمَن أقَرَّ أُجْريت عليه الأحكام في الدنيا، ولم يُحْكم عليه بكفر، إلا إذا اقترن به فِعلٌ يدل على كفره، كالسجود للصنم، فإن كان الفعل لا يدلُّ على الكفر، كالفسق، فمن أطلق عليه الإِيمان، فبالنظر إلى إقراره، ومن نَفَى عنه الإِيمان، فبالنظر إلى كماله، ومن أطلق عليه الكُفر فبالنظر إلى أنه فعل فعل الكافر، ومن نفاه عنه فبالنظر إلى حقيقته. وأثبت المُعتزلة الواسطة، فقالوا: الفاسق لا مؤمن ولا كافر. وقال النَّوَوِيُّ: اتفق أهل السنة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين أن المؤمن الذي يُحْكَم بأنه من أهل القِبلة، ولا يُخَلَّد في النار، لا يكون إلا من اعتقد بقلبه دين الإِسلام اعتقادًا جازمًا خاليًا من الشكوك، ونطق مع ذلك بالشهادتين، فإن اقتصر على أحدهما لم يكن من أهل القِبلة

أصلًا، بل يخلد في النار، إلا أن يعجِز عن النطق لخلل في لسانه، أو لعدم التمكن منه لمعالجة المنِيَّة، أو غير ذلك، فإنه حينئذ يكون مؤمنًا بالاعتقاد من غير لفظ، وقد مر أن الإِيمان هو تصديق الرسول إلخ .. ، وهو الذي قال به جمهِور المحققين من المتأخرين، ومنهم الأشعرية وأكثر الأئمة كالقاضي مُحْتَجِّين بقوله تعالى: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} وقوله عليه الصلاة والسلام: "اللهمَّ ثَبِّتْ قلبي على دينِكَ" فالإِيمان إنما هو التصديق بالقلب، والإِقرار شرطٌ لإِجراء الأحكام في الدنيا، كما أن التصديق بالقلب أمر باطن لا بد له من علامة، ولذا قال النَّويُّ ما مر عنه. وأما المُقام الثاني فذهب السلف إلى أن الإِيمان يزيد ويَنْقُص، وأنكر ذلك أكثر المتكلمين، وقالوا متى قَبِلَ ذلك كان شكًّا، قال الشيخ محيي الدِّين: والأظهر المُختار أن التصديق يزيد وينقص بكثرة النظر، ووضوح الأدلة، ولهذا كان إيمان أبي بكر أقوى من إيمان غيره، بحيث لا تعتريه شبهة، ويؤيده أن كل أحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل، حتى إنه يكون في بعض الأحيان أعظم يقينًا وإخلاصًا وتوكلًا منه في بعضها، وكذلك في التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها، ولا شَكَّ أن حق اليقين أقوى من عين اليقين، وعين اليقين أقوى من علم اليقين، وقد قال علي: لو كُشِفَ الغطاء ما زادني يقينًا، وجه الدلالة منه هو أن نفي الشيء فرع ثبوته، وما نُقل عن السلف صرح به عبد الرزاق في "مصنفه" عن سفيان الثَّورِيّ، ومالِك، والأوْزَاعي، وابن جُرَيج، ومَعْمر، وهؤلاء فقهاء الأمصار في عصرهم، ونَقله أبو القاسم اللّالَكَائيّ في كتاب "السنة" عن الشافعي، وأحمد، وإسحاق بن رَاهَوَيه، وروى بسندِه الصحيح عن البُخَاريّ، قال: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار، فما رأيت أحدا منهم يختلفُ في أن الإِيمان قول وعمل، ويزيد وينقُص، وأطْنَبَ ابن أبي حاتم والّلالَكَائيّ في نقل ذلك بالأسانيد عن جمع كثير من الصّحابة والتابعين، وكل من يدور عليه الإِجماع منهم، وأخرج الخلال

في كتاب "السنة" أن الشافعي وأحمد استدلّا على أن الأعمال تدخل في الإِيمان بآية: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} إلى قوله: {دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] قال الشّافعي: ليس عليهم أحج من هذه الآية، وأخرج الحاكم، في "مناقب الشافعي" عن الرَّبيع قال: سمعت الشَّافعي يقول: الإِيمان قول وعمل، ويزيد وينقص. وأخرجه أبو نعيم في ترجمة الشّافِعِي من "الحِلْية" من وجه آخر عن الربيع، وزاد: يزيد بالطّاعة، وينقُص بالمعصية، ثم تلا: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر: 31] وكونه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، لم يخالف فيه أحد، وما رُوِي عن مالك من أنه توقف عن القول بنقصانه، إنما هو خشية أن يتأول عليه موافقة الخوارج، ثم استدل المصنف على زيادة الإِيمان بثماني آيات من القرآن العظيم، مُصَرِّحة بالزيادة، وبثبوتها يثبت المقابل، فإن كل قابل للزيادة قابل للنقصان ضرورة. قال الله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4] وفي رواية: "وقال" بالواو، وهذه الآية في سورة الفتح، وقال تعالى في سورة الكهف: {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13] أي: بالتوفيق والتثبيت، وهذه الآية ساقطة في بعض الروايات. وقال: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم: 76] وفي رواية "يزيد الله" بإسقاط الواو، هدى أي: بتوفيقه، وهذه الآية في مريم. وقال: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17] أي: بين لهم ما يتقون، أو أعانهم على تَقْواهم، أو أعطاهم جزاءَها، وهذه الآية في القتال. {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر: 31] أي: بتصديقهم بأصحاب النار المذكورين في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً} وهذه الآية في المدثر. وقوله: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا}

[التوبة: 124] أي: بزيادة العلم الحاصل من تدبرها، وبانضمام الإِيمان بها، وبما فيها إلى إيمانهم، وهذه في سورة براءة. وقولُه جلّ ذكرُه: {فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} [آل عمران: 173] أي لعدم التفاتهم إلى من ثَبَّطَهم عن قتال المشركين، بل ثبت يقينهم بالله، وازداد إيمانهم، قال البيضَاوي: وهو دليل على أن الإِيمان يزيد وينقص، وهذه في آل عمران. وقوله تعالى: {وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22] أي لما رأوا الخطب أو البلاء في قصة الأحزاب، لم يزدهم ذلك إلا إيمانا بالله ومواعيده، وتسليمًا لأوامره ومقاديره. ثم استدل المؤلف أيضًا على قَبُول الزيادة بقوله: "والحُبُّ في الله والبُغض في الله مِنَ الإِيمان" الحب مبتدأ خبره من الإِيمان، وجه الاستدلال به هو أن الحب والبغض يتفاوتان، وهما من الإِيمان، فتكون الزيادة والنقص في الإِيمان، وهذا التعليق لفظُ حديث أخرجه أبو داود من حديث أبي ذَرٍّ وأبي أُمَامة، ولفظ أبي ذَرٍّ: "أفضَلُ الأعمالِ الحُبُّ في الله والبُغض في الله" ولفظ أبي أُمامة: "مَنْ أحَبَّ لله وأبغَضَ لله وأعطى لله ومَنَعَ لله فَقَدِ استكمَلَ الإِيمانَ" وللتِّرمِذي من حديث مُعاذ بن أنَس نحو حديث أبي أُمامة، وزاد أحمد فيه: "ونَصَحَ لله" وزاد في أخرى "ويَعْمَل لِسانُهُ في ذكر الله" وله عن عمرو بن الجَمُوح: "لَا يَجدُ العبد صَريحَ الإِيمانِ حتّى يُحِبّ لله ويُبْغِض لله" ولفظ البراء عند ابن أبي شَيبَة "أوْثَقُ عُرى الإِيمان الحُبّ في الله والبُغضُ في الله" وقوله: "الحُبّ في الله" كلمة في أصلها للظرفية، ولكنها هنا للسببية، أي: بسبب طاعة الله تعالى، ومعصيته، كقوله تعالى: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} [يوسف: 32] وقوله: {لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ} [النور: 14] وقوله عليه الصلاة والسلام: "دَخَلتِ امرأة النَّار في هِرَّة" أي: بسبب هرة.

ثم ذكر المؤلف ستة آثار معلقة كلها بصيغة الجزم الدالة على صحتها. الأول: وكتبَ عمر بن عبد العزيز إلى عَدِيّ بن عَدِيّ: إنَّ للإِيمان فَرائضَ وشرائعَ وحُدودًا وسُنَنًا، فمَنِ استكملها استكمَل الإِيمان، ومَنْ لم يستكملها لم يَسْتَكْمِل الإِيمان" فإن أعِش فسأُبينها لكم حتى تعملوا بها، وإن أمُت فما أنا على صُحْبَتِكم بحريص. وقوله: "إن للإِيمان" كذا ثبت في معظم الروايات باللام، و"فرائض" بالنصب على انها اسم إن، وفي رواية ابن عساكر: "فإن الإِيمانَ فرائضُ" على أن الإِيمان اسم إن، وفرائض خبرها. وقوله: "وشرائع" أي عقائد دينية. وقوله: "وحُدودًا" أي منهيات ممنوعة. وقوله: "وسُنَنًا" أي مندوبات. وقوله: "فإن أعِش فَسَأبيِّنُها لكُم" أي: أبين تفاريعها لا أصولها، لأن أصولها كانت معلومة لهم، مجملة، وليس في هذا تأخير البيان عن وقت الحاجة، لأن الحاجة هنا لم تتحقق، والغَرَض من هذا الأثر أن عمر بن عبد العزيز كان ممن يقول: إن الإِيمان يزيد وينقص، حيث قال: استكمل ولم يستكمل، فالمراد هنا أنها من المكمِّلات، لأن الشارع أطلق على مكملات الإِيمان إيمانا. والتعليق المذكور وصله أحمد بن حَنْبل، وأبو بَكر ابن أبي شَيْبة في كتاب الإِيمان لهما، من طريق عيسى بن عَاصم، وأخرج أبو الحسن عبد الرحمن بن عُمر بن يزيد رُسْتَه في كتاب الإِيمان تأليفه بإسناد صحيح. ورجاله اثنان: الأول: عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن

أميّة بن عبد شمس الأُمَوي القُرَشي المدني ثم الدِّمَشقي، أمير المؤمنين، الإِمام العادل، أحد الفقهاء الرّاشدين، أمه أم عاصم حفصةُ بنت عاصم ابن عُمر بن الخطاب. قال ابن سعد: ولد سنة ثلاث وستين، وكان ثقة مأمونا، له فقه وعلم وورع، وروى حديثًا كثيرًا، وكان إمام عَدْلٍ. وقال عبد الله بن داود: ولد مَقْتَل الحُسين سنة إحدى وستين. وذكر سَعيد بن عُفير أنه كان أسمر دقيق الوجه، نحيف الجسم، حسن اللحية، بجبهته أثر نَفْحَة دابَّةٍ، قد وَخَطَه الشيب، وقال ضَمْرَةُ بن رَبِيعة: حدثنا أبو علي ثَرْوان مولى عمر بن عبد العزيز أنه دخل اصْطَبْل دوَابِّ أبيه وهو غلامٌ فضربه فرسٌ فَشَجّه، فجعل أبوه يمسح عنه الدم، ويقول: إن كنت أشَجّ بني أمية إنك لسعيد. ورُوِي عن الضّحاك بن عثمان، أن عبد العزيز بن مروان ضم ابنه عُمر إلى صالح بن كَيْسان، فلما حجّ أتاه، فسأله عنه، فقال: ما خَبَرْتُ أحدًا الله أعظم في صدره من هذا الغلام. وقال داود بن أبي هِنْد: دخل علينا عُمر بن عبد العزيز من هذا الباب، فقال رجل من القوم: بَعَثَ إلينا الفاسقُ بابنه هذا يتعلم الفرائض والسُّنن، ويزعم أنه لن يموت حتى يكون خليفةً، ويسير سيرة عمر بن الخطاب، قال داود: فوالله ما مات حتى رأينا ذلك فيه. وقال مَالِك بن أنَس: كان سعيد بن المُسِّيب لا يأتي أحدًا من الأمراء غيره. وقال مجاهد: أتيناه نُعَلِّمُه فما بَرحْنا حتى تعلَّمنا منه. وقال مَيْمون ابن مِهران: ما كانت العلماء عند عُمر بن عبد العزيز إلا تلامذةً. وقال ايوب: لا نعلمُ أحدًا ممن أدْرَكنا كان آخَذَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه، وقال أنس: ما رأيت أحدا أشبه صلاةً برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من هذا الفتى، وقال محمد بن علي بن الحسين: لكل قوم نَجِيبةٌ ونجيبةُ بني أمية عمر بن عبد العزيز، وإنه يُبْعث يوم القيامة وحده، وروي عن رَباح بن عُبيدة،

قال: خرج عمر بن عبد العزيز إلى الصلاة، وشيخ يتوكأ على يده، فسألته، فقال: رأيتَهُ؟ قلت: نعم، قال: ما أحسِبُك إلَّا رَجُلًا صالحًا، ذلك أخي الخَضِر، أتاني فأعلمني أني سألي أمر هذه الأمة، وأني سأُساعَدُ فيها، وقال ابن عَوْن: لما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة قام على المنبر، فقال: أيها الناس، إن كرهتموني لم أقُم عليكم، فقالوا: رضينا، فقال ابن عون: الآن قد طاب الأمر، ولما ولي الخلافة سُمِع صوت لا يُدْرى قائله يقول: مِن الآن قَد طابَتْ وقَرَّ قَرَارُها ... عَلَى عُمَر المَهدِيِّ قَامَ عَمُودُها وهو أول من اتَّخَذ دار الضيافة، وفرض لابن السبيل، وأزال ما كانت بنو أمية تذكر به عليًّا على المنابر، وجعل مكانه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90] الآية، وكتب إلى عماله أن لا يُقَيِّدوا مسجونًا بقيدٍ فإنه يَمْنعُ من الصلاة، وكتب إليهم: إذا دعتكم قدرتكم على الناس إلى ظلمهم، فتذكروا قدرة الله تعالى عليكم، ونَفَاد ما تأتون إليه، وبقاء ما يأتي إليكم من العذاب بسببهم، وكتب إلى عامله عَدِيِّ بن أرطأة بالبَصْرة: عليك بأربع من السنة فإن الله تعالى يُفْرِغُ فيها الرحمة إفراغا: أول ليلةٍ من رِجب، وليلة النصف من شعبان، وليلتا العيد. ولما امتنع من الخِلافة، وخطب على الناس بذلك، ولم يرضَوا سواه، خطبهم كلى المِنبر، فقال: أيُها الناس، إني لا أعطي أحدًا باطلًا، ولا أمنع أحدًا حقًا، أيها الناس، من أطاع الله وجَبَت طاعته، ومن عصى الله وجَبَت معصيتُهُ، أطيعوني ما أطعت الله، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم، ثم نزل دار الخلافة، وهتك السُّتور، وأمر ببيعها، وجعل ثمنها في بيت المال، ثم ذهب لِيَقِيل، فقال له ولده عبد الملك: يا أبت ما تريد أن تصنع؟ قال: أي بُنَيّ، أقيل. قال: تَقِيلُ ولا تَرُدُّ مظالم المسلمين؟ قال: بنيَّ إني سهرت البارحة في أمر عمك سليمان، فإذا صليت الظهر رددت المظالم، فقال: يا أمير المؤمنين، من أين لك أن تعيشَ إلى الظهر؟ قال: ادنُ مني، فدنا منه، فقبله، وقال: الحمدُ لله

الذي أخرج مني من يُعينُني على ديني، فخرج وأمر مناديًا ينادي: من له مظلمة فَلْيرفعها، فأتاه ذِمِّيٌّ من أهل حمص، وقال: يا أمير المؤمنين، أسألك كتاب الله، قال له: وما ذاك؟ قال له: إن العبّاس بن الوَليد اغتَصَبنِي أرضي، وكان العبّاس حاضرًا، فقال له: ما تقول يا عباس؟ قال له: إن الوليد أمير المؤمنين اقتطعها لي، وهذا كتابه، فقال للذِمّي: ما تقول؟ قال: أسألك كتاب الله؟ فقال: كتاب الله أحق أن يُتَبَع من كتاب الوليد، فردها عليه، ثم جعل لا يَدَع شيئًا مما كان بأيدي أهل بيته من المظالم إلَّا رَدّه مظلمةً مظلمةً، ولما استُخْلِف قُوِّمَت ثيابه وما يتعلق به من الملبوس فعدل اثني عشر درهمًا. وحدث سليمان بن دَاود أن عَبدَة بن أبي لُبابة بعث معه بدراهم ليفرِّقها في فقراء الأمصار، قال: فأتيتُ الماجشُون، فسألته، فقال: ما أعلم أن فيهم اليوم محتاجا، أغناهُم عمرُ بن عبد العزيز. وقال البُخاريُّ: قال مالك، وابن عيينة: عمر بن عبد العزيز إمام. ورُوِي عن فاطمة بنت عبد الملك أنها قالت: ما اغتسل عُمر رضي الله تعالى عنه منذ وَلِي الخلافة لا من حُلُم ولا من جَنَابة، نهارُه في أشغال الناس وردِّ المظالم، وليله في عبادة ربه، وكان كثيرًا ما يتمثل بهذه الأبيات: نَهارُكَ يا مَغْرُورُ سَهْوٌ وغَفْلةٌ ... ولَيلُك نَوْمٌ والرَّدى لَكَ لازمُ يَغُرُّكَ مَا يَفْنَى وتَفْرَحُ بالمُنى ... كَمَا غَرَّ بالَّلذات في النَّومِ حَالِمُ وشُغلُكَ فيما سَوْفَ تَكْرَهُ غِبَّهُ ... كذلك في الدُّنيا تَعِيش البَهائمُ ولما وُضِعَ في قبره هَبَّت ريح شديدة، فسقطت منها صحيفة مكتوبة بأحسن خطٍّ فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، براءة من الله العزيز الجبار لعمر بن عبد العزيز من النار، فأخذوها ووضعوها في أكفانه، وقيل: سبب البراءة هو أنه وقع في زمانه غلاءٌ عظيمٌ، فقدم عليه وفد من العرب، فاختاروا رجلًا منهم لِخِطابِه، فتقدم إليه، وقال: يا أمير المؤمنين، إنا وفدنا إليك

من ضرورة عظيمةٍ في بيت المال، ومالُه لا يخلو إما أن يكون لله، أو لِعباده، أو لك، فإن كان لله فهو غنيٌّ عنه، وان كان لعباده فآتِهم إياه، وإن كان لك فتصدَّق به علينا، إن الله يُجْزي المتصدقين، فتغرغرت عينا عمر وقال: هو كما أمرت، وأمر بقضاء حوائجهم، فقُضِيت، وهَمَّ الأعرابيُّ بالانصراف، فقال له عمر: أيها الرجل، كما أوصلت حوائج عباد الله إليّ، فأوصل حاجتي وارفع فاقتي إلى الله تعالى، فقال الأعرابي: إلهي اصنع بعُمَر بن عبد العزيز كصنيعه في عبادك، فما استَتَمَّ كلامه حتى ارتفع غيمٌ عظيمٌ، وأمطرت السماء مطرًا كثيرًا، فجاء في المطر بَرَدَةٌ كبيرةٌ، فوقعت على جرّة، فانكسرت، فخرج منها كغدٌ مكتوبٌ فيه: هذه براءةٌ من الله العزيز الجبار لعمر بن عبد العزيز من النار. يقال: إنه شدد على أقاربه، وانتزع كثيرًا مما في أيديهم، فتبرَّموا به، وسمّوه، ويروى أنه دعا بخادمه الذي سمه، وقال له: وَيْحَك ما حملك على أن سقيتني السُّم؟ قال: ألف دينار أُعطِيتها، قال: هاتِها، فجاء بها، فوضعها في بيت المال، وقال لخادمه: اخرُج بحيث لا يراك أحدٌ. وكان لا يأخذ من بيت المال شيئًا، وقيل له: إن عمر بن الخطاب كان يأخذ درهمين، فقال: إن عمر لم يكن له مال، وأنا مالي يُغنيني. واشتَرَى قبره بدَيْر سمعان من صاحبه بأربعين درهمًا، وكان مرضه تسعة أيام، ومات بدَيْر سمعان يوم الجمعة لخمس ليال بقين من رجب سنة إحدى ومئة. تولى الخلافة سنة تسع وتسعين، ومدة خلافته سنتان وخمسة أشهر كخلافة أبي بكر الصّديق رضي الله عنه، وأوصى أن يُدْفَن معه شيء كان عنده من شعر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأظفاره، وقال: إذا مُتُّ فاجعلوه في كفني، ففعلوا ذلك، ودَيْر سمعان هو المعروف بدَير النَّقيرة من عمل مَعَرَّة النُّعمان، فقبره هو هذا المشهور هُناك، ولما جاء نعُيه قال الحسن

البصري: مات خير الناس. روى عن: أنَس، والسّائب بن يزيد، وعبد الله بن جَعفر، ويوسف ابن عبد الله بن سلّام، وخولة بنت حَكِيم. مرسل، واستوهب من سَهْل ابن سعد قدحًا شرب فيه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وروي عن عُروة بن الزُّبير، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، والربيع بن سَبْرَة الجُهَنِيِّ، وعدة. وروى عنه: أبو سَلَمَة بن عبد الرحمن وهو من شيوخه، وابناه عبد الله وعبد العزيز، وأخوه زَبّان بن عبد العزيز، وابن عمه مَسْلَمَةُ بن عبد الملك ابن مروان، والزُّهْريُّ، وأبو بكر محمَّد بن عُمر بن حَزْم، وأيوب السَّخْتِياني، وعَنْبَسةُ بن سعيد بن العاص، وآخرون. والأُمَويُّ في نسبه نسبةً إلى أُمَيَّةَ، ومر الكلام عليه في تعريف شُعيب ابن أبي حمزة، وليس له في البُخاري سوى حديث واحد رواه في الاستقراض من حديث أبي هُريرة في الفلس. وفي الرواة عمر بن عبد العزيز بن عِمْران بن مِقْلاص روى له النَّسائي، وفيهم في غير الستة عمر بن عبد العزيز الأنصاري مولى زيد بن ثابت، روى عنه أبو داود في المراسيل، وفيهم عمر بن عبد العزيز مولى بني هاشم، روى له الخطيب، وأما عمر فكثير لا يُحصى. تنبيه: قال الإِمام أحمد بن حنبل يُروى في الحديث "إن الله يبعثُ على رأس كل مئة عام مَن يُصَحِّح لهذه الأمة دينَها" فنظرنا في المئة الأولى. فإذا هو عمر بن عبد العزيز. قال النووي: في "تهذيب الأسماء" حمله العلماء في المئة الأولى على أنه عمر، وفي الثانية على أنه الشافعي، وفي الثالثة على ابن شُرَيح، وقال الحافظ ابن عساكر: هو أبو الحسن الأشعري، وفي الرابعة على ابن أبي سَهْلٍ الصُّعْلُوكيّ، وقيل: القاضي الباقِلّاني، وقيل: أبو حامد الإِسْفَراييني، وفي الخامسة على الغزّالي.

قال الكِرْماني: لا مطمح لليقين فيه فللحنفِيّة أن يقولوا: هو الحسن ابن زياد. في الثانية، والطَّحاوي في الثالثة، وأمثالهما، وللمالكية: إنه أشهب في الثانية، وهلم جرا، وللحنابلة: إنه الخلّال في الثالثة، والزاغوني في الخامسة، إلى غير ذلك، وللمحدثين إنه يحيى بن مَعِين في الثانية، والنّسائي في الثالثة، ونحوهما، ولأولي الأمر: إنه المأمون، والمُقتدر، والقادر، وللزُّهَاد: إنه معروفٌ الكَرْخِيُّ في الثانية والشِّبْليُّ في الثالثة، ونحوهما، وإن تصحيح الدين متناول لجميع أنواعه، مع أن لفظة "من" تحتمل التعدد في المصحح، وقد كان قبيل كل مئة مَنْ يصحح ويقوم بأمر الدين، وإنما المراد من انقضت وهو حيٌّ عالم مُشار إليه. الثاني: عديُّ بن عَدِي -بفتح العين فيهما- ابن عَمِيرة -بفتح العين- ابن فَرْوة بن زُرَارة بن الأرْقَم بن النُّعمان بن عَمرو بن وَهْب بن رَبيعة بن الحارِث بن عَدِيّ بن رَبيعة بن مُعَاوية الكِنْدِيُّ أبو فَرْوَةَ الجَزَرِيُّ التابعيُّ. قال البخاري: عَدِي بن عَدِي سيد أهل الجزيرة، وقال ابن سعد: كان ناسكًا فقيها، وهو صاحب عمر بن عبد العزيز، وولي الجزيرة وأرْمِينيةَ وأذْربيجان لسليمان، وكان ثقةٌ إن شاء الله. وقال عبد الله بن أحمد: لا يُسألُ عن مثله، وقال ابن معِين، والعِجليُّ، وأبو حاتم: ثقة. وعن مَسلَمَة بن عبد الملك قال: إن في كِندةَ لثلاثة إنَّ الله لَيُنَزِّلُ بهمُ الغيثَ وينصرُ بهم على الأعداء: رَجاءُ بن حَيْوة، وعُبَادة بن نُسَي، وعَدِيُّ بن عَدِي. وقال عبد الله بن أحمد، عن أحمد: لا يُسأل عن مثله. وقال ابن سعد: كان على قضاء الجزيرة أيام عمر بن عبد العزيز. وقد فَرَّق غيرُ واحد، منهم ابن حبان، بين عَدِيّ بن عدي الكِندي الذي روى عنه أبو الزُّبير، وبين صاحب هذه الترجمة، والله تعالى أعلم. روى عن: أبيه، وعمه العُرس بن عَميرة وهما صحابيان، وأبي عبد الله الصُّنابِحي، ورجاء بن حَيْوة، والضّحاك بن عبد الرحمن بن عَرْزَب.

وروى عنه: أيوب، وجَرير بن حازِم، وأبو الزُّبير، وإبراهيم بن أبي عَبْلة، ومَيْمُون بن مهْران الجزَريّ وغيرهم. روى له: أبو داود، والنَّسائي، وابن ماجة، وليس في "الصحيحين" و"الترمذي" شيء له. مات سنة عشرين ومئة. والكِندِيُّ في نسبه نسبةً إلي كِندة بكسر الكاف على المشهور، قال في "تاج العروس": قال شيخنا: ورأيتُ من ضَبَطَه بالفتح أيضًا في كتب "الأنساب" قال: وسمعت أهل عُمان والبَحْرين الكِنْدِيّين، يقولون كُنْدة بالضم، وهو لقب ثَوْر بن عُقَير بن عَدِيّ بن الحارث بن مرة بن أُدَد أبو حيّ من اليمن، وقال الهَمْداني: هو ثَوْر بن مُرْتع بن معاوية، وقيل: ثَوْر ابن عُبَيد الحارث بن مُرَّة، ونقل عن العباب: ثور بن عَنْبس بن عَدِيّ، وفي "روض" السُّهَيْلي: إن كِندة بنو ثَوْر بن مُرْتَع بن أُدَد بن زَيْد، ويقال: إنهم بنو مُرْتَع بن ثَوْر، وقد قيل: إن مُرْتعًا هُو ثور، وكندةُ أبوه. وقال ابن خلكان: إن مُرْتعًا كمُحْدث هو والد ثَوْر، وإن ثَوْر بن مُرْتع هو كِندة، وفي "الصحاح" هو كندة بن ثَوْر، قال شيخنا: والذي جزم به أكثر شراح "الحماسة" و"ديوان امرئ القيس" أن ثورًا ولد كندة لا لقبه، قال ابن دُرَيد: سمي به لأنه كَنَدَ أباه النعمة، ولحق بأخواله. قيل: أصله من قولهم أرض كنود، أي: لا تنبت شيئًا، وقيل: لكونه كان بخيلًا، وقيل: لأنه كَنَدَ أباه أي: عَقَّه. والجَزَري في نسبه نسبةً إلى الجزيرة واحدة جزائر البحر، سميت بذلك لانقطاعها عن معظم الأرض، والجزيرة أرض بالبصرة ذات نخيل، بينها وبين الأُبُلَّةِ وجزيرة قُور -بضم القاف- وهو ما بين دجلة والفرات، وبها مدن كبار، ولها "تاريخ" ألّفَهُ الإِمام أبو عَرُوبة الحَرّاني، وإذا أطلقت الجزيرة ولم تُضف إلى العرب فإنما يُراد بها هذه.

وهذا الأثر مع كونه معلقًا يسمى مقطوعًا، فالمعلق مر الكلام عليه في الرابع، والمقطوع هو قول التابعي وفعله إذا خلا عن قرينة الرَّفْع والوَقْف، ومثل التابعي من دونه، يُجْمع على مقاطيع ومقاطع، والشافعيُّ يعبر بالمقطوع عن المُنْقَطِع، وهو ما لم يتصل إسناده كما يأتي قريبًا إن شاء الله، والمقطوع من مباحث المتن، والمنقطع من مباحث الإِسناد، وعكس الحافظ أبو بكر أحمد بن هارون البَرْدَعي ما قال الشافعي فجعل المنقطع هو قول التابعي. والبَرْدَعيُّ نسبة إلى بَرْدَعة بفتح الباء والدال المهملة، بلدة من أقصى بلاد أذْرَبيجان، مُعَرّب برده دان، لأن مَلِكًا منهم سبَا سَبْيًا وأنزلهم هنالك، وإلى المقطوع أشار العِرَاقيُّ، فقال: وَسَمَّ بالمَقْطُوع قَوْلَ التّابِعِي ... وفِعْلَه وقد رَأى للشّافِعِيّ تعبِيرَهُ بِهِ عَنِ المُنقَطَعِ ... قُلْتُ وعَكْسُهُ اصْطِلاَحُ البَرْدَعي وإذا علمت الصحيح في المقطوع، ومغايرته للمنقطع، فلا بدَّ من معرفة المنقطع للتمييز بينهما، وينشأ من ذِكره ذكر المُعْضَل. فالمُنقَطِع هو ما سَقَط من سنده راوٍ واحد غير الصحابي، وإن تَعَدَّدَ سقوطُه في مواضع بحيث لا يَزيد السّاقِط منها على واحدٍ، فيكون منقطعًا في مواضع، فخرج بالواحد المُعضل، مع أن الحاكم يسميه أيضًا منقطعًا، وخرج بغير الصحابي المُرْسَل كما مر تعريفه. وقيل: المُنقَطِع ما لم يَتَّصِل سنده، ولو سقط منه أكثر من واحد، فَيَدْخُل فيه المرسل، والمُعْضَل، والمُعَلّق. قال ابن الصلاح: إن هذا هو الأقرب معنى لا استعمالًا، لأن الانقطاع ضد الاتصال، فيصدق بالواحد وبالجميع وبما بينهما، وقد صار إليه طوائف من الفقهاء وغيرهم، ولكن أكثر استعمالهم القول الأول، فأكثر ما يُسْتَعْمَل فيه المُنقطِع ما رواه مَنْ دون التابعي عن الصحابي، كمالك عن ابن عمر، وأكثر ما يُستعمَل فيه المُرسَل ما رواه التابعي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.

والمُعْضَل بفتح الضاد ما سقط منه اثنان متواليان من أي موضع كان، وإن تعددت المواضع، كان الساقط الصحابي والتابعي أو غيرهما، فيدخل فيه قول المصنفين: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -. كما قيل بمثله في المُرْسَل، والمُنْقَطِع، والمُعْضَل اسم مفعول من أعْضَلَه فلان، أي: أعياه، فهو مُعْضَل، فكان المحدث الذي حدث به أعضله وأعياه فلم ينتفع به من يرويه عنه، ويقال: المعضِل للمشكل أيضًا، وهو حينئذ بكسر الضاد وبفتحها، على أنه مشترك، ومن المُعْضَل حذف النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابي، ووقف المتن. على التابعي، كقول الأعمش، عن الشعبي: يُقال للرجل يوم القيامة: عملت كذا وكذا؟ فيقول: ما عَمِلته، فيُخْتَم على فيه، فتنطِقُ جوارحُه ولسانه، فيقول لجوارحه: أبْعَدَكُنَّ الله ما خاصَمْت إلا فيكن، رواه الحاكم، وقال عُقْبَة: أعْضَلَهُ الأعمش، وهو عند الشَّعبيّ متصل مسند، رواه مسلم من حديث فُضَيل بن عُمر، عن الشَّعبِيّ، عن أنَس، قال: كنا عند النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فضَحِكَ، فقال: "هَلْ تَدرونَ مِمَّ ضَحِكْتُ؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: "مِنْ مُخاطَبَة العبدِ ربَّهُ يوم القيامة، يَقُول: يا ربِّ ألَم تُجِرْني من الظّلم؟ فيقول بلى، فقال: فإني لا أُجِيزُ اليومَ على نفسي شاهدًا إلا مني، فيقول: كفى بنفسِك اليوم عليك شهيدًا، وبالكرام الكاتِبين اليوم عليك شهودًا، فيُخْتَم على فيه، ثم يقال لأركانه: "انطِقِي". الحديث، قال ابن الصَّلاح، وجَعْل هذا القسم من المعضل جيدٌ حسنٌ، لأن هذا الانقطاع بواحدٍ مضمومًا إلى الوَقْف يَشتَمِل على الانقطاع باثنين، الصحابيّ ورسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك باستحقاق اسم الإِعضال أولي، وأشار العراقيُّ إلى المُنقَطِع والمُعْضَل بقوله: وَسَمِّ بالمنْقَطِع الّذي سَقَطْ ... قَبْلَ الصَّحابِيِّ بهِ راوٍ فَقَطْ وقِيل ما لَمْ يَتَّصِل، وقَالَا ... بأنَّهُ أقْرَبُها اسَتِعْمالا والمُعْضَلُ السّاقِطُ منه اثْنانِ ... فَصَاعِدًا ومِنْهُ قسمٌ ثانِ حَذْفُ النَّبيّ والصَّحابيِّ معا ... وَوَقفُ مَتْنِهِ على مَنْ تَبعَا ثم ذكر البخاري بعد هذا الأثر: وقال إبراهيم {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}

أي: ليزداد بصيرة وسُكونًا بمُضامَّةِ العيان إلى الوحي والاستدلال، فإن عَيْن اليقين فيه طُمَأنينة ليست في علم اليقين، ففيه دِلالة على قَبُول التصديق اليقيني للزيادة، وعند ابن جَرير بسند صحيح إلى سعيد بن جُبَير أي: يزداد يقيني، وعن مُجَاهد: لأزداد إيمانا إلى إيماني، وإذا ثبت ذلك عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع أن نبينا عليه الصلاة والسلام قد أُمِر باتّباع مِلّتِه كان كأنه ثبت عن نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم، وإنما فصل المصنف بين هذه الآية وبين الآيات التي قبلها لأن الدليل يؤخذ من تلك بالنص، ومن هذه بالإِشارة، وإبراهيم أحد أولي العزم، ومنه جميع الأنبياء ما عدا ثمانية، يجمعهم قولُ القائل: وعَنْه حاد آدمٌ شيثُ الوَصي ... إدريسُ نوحٌ هودُ يونُسٌ يَصِي لُوطٌ وصَالِحٌ فذي ثمانُ ... حَادُوا عن الخَلِيلِ واسْتَبَانوا وهو ابن آزَرَ، وآزَرُ هو تارح بفتح الراء المهملة، وفي آخره حاء مهملة، فآزَرُ اسم، وتارَح لقبٌ له، وقيل: عكسه، قال ابن هشام: هو إبراهيم بن تارَح وهو آزرُ بن ناحُور بن أسْرَع بن أرْغُو بن فَالح بن شَالخْ بن أرْفَخَشْد بن سام بن نوح بن لامك بن متوشلخ بن أحنج بن يرد بن مهلاييل ابن قاني بن فانوش بن شِيْت بن آدم عليه السلام، ولا خلاف عندهم في عدد هذه الأسماء وسردها على ما ذكرنا، وإن اختلفوا في ضبْطها، وإبراهيم اسم عِبْرانيّ، معناه: أبٌ رَحيم، وكان آزَرُ من أهل حَرّان، ووَلَدَ إبراهيم بكوثا من أرض العراق، وكان يَتَّجِرُ في البَزِّ، وهاجر من أرض العراق إلى الشام، وبلغ عمره مئة وخمسًا وسبعين سنة، وقيل مئتي سنة، ودُفن بالأرض المقدسة، وقبرُه معروفٌ بقرية حَبْرون بالحاء المهملة، وهي التي تسمى اليوم ببلدة الخليل. الأَثر الثاني: وقال مُعاذ: اجْلِس بِنا نْؤمِن ساعةً. أي نزداد إيمانا بذكر الله، لأن معاذًا كان مؤمنًا، أيَّ مُؤمن. وقال النَّووي معناه: نتذاكر الخير، وأحكام الآخرة، وأمور الدين، فإن ذلك إيمان. وقال أبو بكر بن العَرَبي: لا تَعَلُّق فيه للزيادة، لأن معاذًا

إنما أراد تجديد الإِيمان، لأن العبد يؤمن في أول مرة فرضًا، ثم يكون أبدًا مجددًا كلما نَظَر أو فكر. قال في "الفتح": وما نَفَاه أوّلا، أثبته آخرًا، لأن تجديد الإِيمان إيمان، أي: فيكون زيادةً في الإِيمان الأصلي. وفي الأثر إبهام المأمور بالجلوس، وهو الأسْوَدُ بن هِلال كما يأتي قريبًا، وهُو المُحَاربي الكُوفي أبو سلام، ذكره البارودي وجماعة ممن ألف في الصحابة لإِدراكه، وقال ابن سعد عن الأسود: هاجرت زَمَنَ عُمر فذكر قصة ذكرها ابن حِبّان، وقال أحمد: ما علمت إلَّا خيرًا، وقال ابن مَعِين والنَّسائي: ثقة، وقال العِجْلِيّ: كان جاهليًّا، وكان رجلًا من أصحاب عبد الله. روى عن معاذ بن جَبَل، وعمر وابن مسعود، وغيرهم. وروى عنه أشْعَثُ بن أبي الشَّعْثَاء، وأبو إسحاق السَّبِيعيُّ، وإبراهيم النَّخَعِيُّ، وغيرهم. مات زمن الحجّاج بعد الجَمَاجِم، قيل: سنة أربع وثمانين. وهذا التعليق وصله أحمد، وأبو بكر أيضًا بسند صحيح إلى الأسود ابن هِلال، قال: قال لي معاذٌ .. الخ. ومعاذ: هو مُعَاذ بن جَبَل بن عَمرو بن أوْس بن عائِد بن عَدِيّ بن كَعب ابن عمرو بن أدي بن علي بن أسد بن ساردة بن يزيد بن جُشَم بن عَدِيّ ابن بابي بن تميم بن كعب بن سَلَمَة، أبو عبد الرحمن الأنصاري الخَزْرَجي، الإِمام المقدم في علم الحلال والحرام. قال الواقِديّ وغيره: كان معاذ بن جبل طُوَالًا، حسن الشَّعر أكحل العينين، أبيض، بَرَّاقَ الثَّنايا لم يولد له قَطُّ، وقيل: إنه وُلد له ولدٌ يُسَمى عبد الرحمن، وإنه قاتل معه يوم اليَرْموك، وبه كان يُكْنى أبا عبد الرحمن، وهو أحد السبعين الذين شَهِدوا العقبة من الأنصار، وآخى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين عبد الله بن مَسْعود، وقيل آخى بينه وبين جَعْفر بن أبي طالب، شَهِد العقبة، وبدرًا، والمشاهد كلَّها. وبعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاضيًا إلى الجَنَد من اليمن، يُعَلِّم الناس شرائع الإِسلام، ويقضي، وجعل إليه قبض الصدقات من العمال الذين

باليمن، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قسم اليمن على خمسة رجال: خالد بن سَعيد على صَنْعاء، والمهاجر بن أبي أميّة على كِندة، وزياد بن لَبيد على حَضْرَمُوت، ومعاذ بن جَبَل عَلى الجَنَد، وأبي موسى الأشْعَري على زَبِيد وزَمْعَة وعَدَن والساحل، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل حين وجهه إلى اليمن: "بِمَ تقضي؟ " قال: بما في كتاب الله، قال: "فإن لَمْ تجِد؟ " قال: بما في سنة رسول الله، قال: "فإن لم تجد؟ " قال أجتهد رأيي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الحمد لله الذي وفَّق رسولَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لما يُحِبُّ رسولُ الله". قال ابن إسحاق: والذين كَسَروا آلهة بني سَلَمَة معاذُ بن جبل، وعبد الله بن أُنيس، وثَعْلبة بن غنمة. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أعلَمُهم بالحلالِ والحرامِ معاذُ بن جَبَل" وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يأتي معاذُ بن جَبَلٍ يوم القيامة إِمامَ العلماءِ". وروي عن خالد بن مَعْدان، قال: كان عبد الله بن عُمر، يقول: حدِّثونا عن العاقِليْن العالميْن، قيل: من هما؟ قال: هما معاذُ بن جَبَل وأبو الدَّرْدَاء. وروى الشعبيُّ عن فَرْوة الأشجعِيّ، قال: كنت جالسًا مع ابن مسعود، فقال: إن معاذًا كان أمة قانتًا لله حنيفًا ولم يَكُ من المشركين. فقلت: يا أبا عبد الرحمن إنما قال الله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا} [النحل: 120] فأعاد قوله: إن معاذًا ... فلما رأيته أعاد عرفت أنه تَعَمَّد الأمر فسكت، فقال: أتدري ما الأمة؟ ومن القانت؟ قلت: الله أعلم، قال: الأمة الذي يعلَم الخيرَ ويُؤتَمُّ به ويُقتدى، والقانِتُ: المطيعُ لله تعالى، وكان مُعاذ بن جَبَل معلمًا للخير مطيعًا لله تعالى ولرسوله. وَوَرَدَ: يأتي معاذٌ يومَ القيامة أمام الناس برَتْوَة، أي: بمهلة، وهي بفتح الراء، وسكون التاء، وواو مفتوحة، وعَدَّه أنَس بن مالك من الذين جمعوا القرآن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو في "الصحيح". وفيه عن عبد الله بن عَمرو: "اقْرَؤوا القرآن مِن أرْبَعَة"، فذكره فيهم.

وكتب النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وحين بعَثه إلى أهل اليمن: "بَعَثْتُ لكم خَيْرَ أهْلي" وقال له - صلى الله عليه وسلم - حين بعثه إليه: "إنىِ قد عَرَفتُ بلاءك في الدِّين، والذي قد رَكِبَك في الدَّيْن، وقد طيبت لك الهدية، فإن أُهْدي لك شيءٌ فاقْبَل"، فرَجَع حين رَجَعَ بثلاثين رأسًا أُهْديت له، وقال له لما ودعه: "حفِظَك الله من بين يديك، ومن خلفِك، وعن يمينِك، وعن شِمالِك، ومن فوقِك، ومن تحتِك، ودَرَأ عنك شرور الإِنْسِ والجِنِّ". ورُوي عن كَعب بن مالك، قال: كان معاذ بن جَبل رَجُلًا شابًّا جميلًا، من أفضل شباب قومه، سَمْحا لا يُمسك. فلم يزل يدان حتى أغلق ماله كله من الدين، فأتى النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فطلب إليه أن يسأل غرماءه أن يضعوا له، فأبوا، ولو تركوا لأحد من أجل أحد لتركوا لمعاذ من أجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماله كله في دينه، حتى قام معاذ بغير شيءٍ، حتى إذا كان عام فتح مكة بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى طائفة من أهل اليمن لِيَجْبُرَهُ فمكث معاذ باليمن أميرا، وكان أول من اتَّجَر في مال الله هو، فمكث حتى أصاب وحتى قُبِض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما قدم قال عُمر لأبي بكر: أرسل إلى هذا الرجل، فدع له ما يُعِيشُهُ وخذ منه سائره، فقال له أبو بكر: إنما بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - ليَجْبُرَه ولست بَآخذ منه شيئًا إلا أن يُعطيني، فانطلق إليه عُمر إذ لم يطعه أبو بكر، فذكر ذلك لمُعاذ، فقال له معاذ: إنما أرسلني إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - لِيَجْبُرَني، ولست بفاعل، ثم أتى معاذٌ عمرَ، وقال: قد أطَعْتُك، وأنا فاعل ما أمرتني به، فإني رأيت في المنام أني في حَوْمَة ماء قد خشيت الغرق، فخلصتني منه يا عمر، فأتى معاذٌ أبا بكر، فذكر ذلك كله له، وحلف أنه لا يكتُمُه شيئًا، فقال أبو بكر: لا آخذ منك شيئًا، قد وهَبْته لك، فقال عمر: هذا حين حَلَّ وطاب، فخرج معاذٌ عند ذلك إلى الشام. وفي "سنن" أبي داود عنه، قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إني لأُحِبُّكَ" الحديث، في القول دُبُرَ كل صلاة.

وقال أبو نُعَيم في "الحِلية" إمام الفقهاء، وكنز العلماء، وكان من أفضل شباب الأنصار حِلمًا وحياءً وسَخاءً، وكان وسيمًا جميلًا. وعن الزُّهريِّ قال: أصاب الناسَ طاعون في الجابية، فقام عمرو بن العاص، فقال: تَفَرَّقوا عنه فإنما هو بمنزلة نار، فقام مُعاذ بن جَبَل، فقال: لقد كنت فينا وأنت أضلُّ من حمار أهلك، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "هُو رَحْمَةٌ لهذِه الأُمَّة" اللهم اذكر معاذًا، وآل معاذٍ فيمن تذكره بهذه الرحمة. وقال عمر: عَجَزَتِ النِّساء أن يلِدْن مثل معاذٍ، ولولا معاذٌ لَهَلَك عمر. له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مئة وسبعة وخمسون حديثًا، اتفقا على حديثين منها، وانفرد البخاري بثلاثة، ومسلم بواحد. روى عنه ابن عبّاس، وأبو قَتادة، وجَابرٌ، وأنس، وابن عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي أوْفَى، وأبو أُمَامة الباهِليُّ، وأبو ثَعلبة الخُشَني، وعبد الرحمن بن سَمُرة العَبْشَمِيّ، وجابر بن سَمُرة السُّوائي. وروى عنه: جمع من كبار التابعين، استعمله عمر على الشام حين مات أبو عبيدة، فمات من عامه ذلك بالطاعون، فاستعمل موضعه عَمرو بن العاص، والطاعون الذي مات به هو طاعون عَمْواس بفتح العين المهملة وسكون الميم، موضع بين الرملة وبيت المقدس، وكان سنة ثماني عشرة، وقيل: سبع عشرة، وعمره ثلاث وثلاثون سنة. وفي سنة سبع عشرة رجع عمر بن الخطاب من سرغ بجيش المسلمين ليلًا يقدمهم على الطاعون، ثم عاد في العام المقبل سنة ثمانين عشرة حتى أتى الجابية، فاجتمع إليه المسلمون، فَجَنَّدَ الأجْناد، ومَصَّرَ الأمْصار، وفرضَ الأُعْطِية والأرزاق ثم قَفَل إلى المدينة. وليس في الصحابة معاذُ بن جَبَل سواه، وأما معاذ فكثيرٌ نحو أحد

وعشرين، وفي الرواة أيضًا كثير. وهذا الأثر المعلق يسمى عند أهل المصطلح بالموقوف، وهو ما وقف على الصحابي، ولم يُتَجاوَز به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قولًا وفعلًا مع خُلُوِّه من قرينة الرَّفْع، وسواء اتصل السند بالصحابي أو انقطع، وبعض أهل الفقه من الشافعية يسمون الموقوف أثرًا، والمرفوع خبرًا، وأما المحدثون، فقد قال النَّوَوِيُّ: إنهم يطلقونه على المَرْفُوع والمَوْقُوف، وإن وُقِفَ الأثر على غير الصحابي من تابعي أو من دونه، فقَيِّدْه بمن وَقف عليه، بأن تقول: موقوفٌ على فلان، أو وقفه فلان على فلان، وأشار إليه العراقي بقوله: وسَمِّ بالمَوْقُوفِ ما قَصَرْتَهُ ... بصَاحِبٍ وَصَلْتَ أوْ قَطَعْتَهُ وبَعْضُ أهْلِ الفِقهِ سَمّاهُ الأثَرْ ... وإِنْ تَقِفْ بغيرِهِ قَيِّدْ تَبَرْ الأثر الثالث: وقال ابنُ مسعود: اليقينُ الإِيمانُ كلَّه. أكده بكل لدِلالتها كأجْمَع على التبعيض للإِيمان، إذ لا يؤكد بهما إلا ذو أجزاء يَصِحُّ افتراقهما حِسًّا أو حكمًا، وتعلق بهذا الأثر من يقول: إن الإِيمان هو مجرد التصديق، وأجيب بأن مراد ابن مسعود أن اليقين هو أصل الإِيمان، فإذا أيقن القلب انبعثت الجوارح كلها للقاء الله تعالى بالأعمال الصالحة، حتى قال سفيان الثوري: لو أن اليقين وَقَعَ في القلب كما يَنْبغي، لطار اشتياقًا إلى الجنة هربًا من النار، وهذا التعليق طرف من أثر وصله الطَّبَرَانيٌّ بسند صحيح، وبقيته: والصَّبْرُ نصف الإِيمان. وأخرجه أبو نُعَيم في "الحلية" والبَيْهَقيّ في "الزهد" من حديثه مرفوعًا، ولا يَثْبُت رفعه. وعبد الله بن مسعود هو: ابن مسعود بن غَافِل بالغين المعجمة والفاء ابن حَبيب بن شمخ بن مَخزوم ويقال ابن شمخ بن فار بن مخزوم بن صاهلة بن كاهِل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هُذَيل بن خُزَيمة بن مُدْرِكة بن الياس بن مُضَر أبو عبد الرحمن الهذَلِيّ حليف بني زُهْرَة، كان أبوه مسعود بن غافِل قد حالف في الجاهلية عبد الله بن الحارث بن زُهْرة،

وأم عبد الله بن مسعود أم عبد بنت عبد وُدِّ بن سَواء بن قديم بن صَاهِلة بن كاهِل من بني هُذَيل أيضًا. كان إسلامه قديمًا في أول الإِسلام، حين أسلم سعيد بن زَيْد وزوجته فاطمة بنت الخطاب، قبل إسلام عمر بزمانٍ، وسبب إسلامه ما رواه زِرُّ ابن حُبَيش، عن ابن مسعود، قال: كنت أرعى غنمًا لِعُقْبَة بن أبي مُعَيط، فمر بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال لي: "يا غلامُ، هل من لبن؟ " فقلت: نعم، ولكني مؤتمنٌ، فقال: "هل من شاة حائل لم يَنْزُ عليها الفحل؟ " فأتيته بشاة، فمسح ضَرْعَها، فنزل لبن، فحلبه في إناء، فشرب وسقى أبا بكر، ثم قال للضَّرع: "اقلِص" فقَلَص، ثم أتيته بعد هذا، فقلت: يا رسول الله علِّمني من هذا القول، فمسح برأسي، وقال: يرحمك الله فإنك غُلَيم مُعَلَّم. وهو أحد العبادلة الأربعة على قولٍ كما مر، وأحد الذين لهم أتباع في الفقه كما مر في ترجمة ابن عباس. قال ابن عبد البرّ: ثم صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان يَلجُ عليه ويُلبِسُه نعليه، وإذا جلس أدخلهما في ذِراعه، ويمشي أمامه، ويَسْتُرُه إذا اغتسل، ويوقظه إذا نام، وقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذْنك على أن تَرْفَعَ الحجابَ وتَسْمَعَ سوادي، حتى أنْهاك" وكان يُعْرف في الصحابة بصاحب السِّواد والسِّواك، قال علقمة: قال لي أبو الدرداء: أليس فيكم صاحبُ النعلين والسِّواك والوِساد، شهد بدرًا والحُديبيَّة، وهاجر الهجرتين، وصلى إلى القبلتين. وشهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجنة في حديث العشرة كما رُوي بإسناد حسن جيد، عن سعيد بن زيد، قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حراء، فذكر عشرة في الجنة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحةُ، والزُّبير، وعبد الرحمن بن عَوْف، وسَعد بن مالك، وسعيد بن زيد، وعبد الله بن مسعود.

رُوي عنه أنه قال: رأيتني سادس ستة وما على وجه الأرض مسلم غيرنا. آخى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين الزُّبير قبل الهجرة، وبعدها بينه وبين سَعْد ابن مُعاذ، وقيل: أنس، وهو أول من جَهَرَ بالقرآن بمكة. ورُوِي عن علي يرفعه: "لو كنتُ مؤمرًا أحدًا" وفي رواية: "مُستخلفًا من غيرِ مشورةٍ لأَمَّرْتُ ابن أمِّ عبد" وفي رواية: "لاسْتخلَفْت" وقال فيه - صلى الله عليه وسلم -: "من سَرَّهُ أن يقرَأ القرآن كما أُنْزِل فلْيقْرأ على قراءة ابن أمِّ عبد" ورُوي عن زِرٍّ عن عبد الله بن مسعود، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى بين أبي بكر وعمر، وعبد الله بن مسعود يُصلي، فافتتح بالنِّساء، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَن أحَبَّ أن يقرأ القرآنَ غَضًّا كماْ أُنْزِل فلْيَقْرأ على قراءةِ ابنِ أمِّ عبد" ثم قعد يسأل، فجعل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "سَلْ تُعْطَهْ" وقال فيما سأل: اللهُمَّ إني أسألُك إيمانًا لا يَرْتَدُّ، ونَعيمًا لا يَنفدُ، ومُرافَقَة نَبيِّكَ - صلى الله عليه وسلم - في أعلى جنة الخُلْد، فأتى عمرُ عبد الله يُبَشِّرُهُ، فوجد أبا بكر خارجًا قد سبقه، فقال: إن فَعَلْتَ لقد كُنت سبّاقًا للخير. وقال فيه أيضًا: "رَضِيتُ لأُمَّتِي ما رَضِي لها ابنُ أُمِّ عبد وسَخِطْتُ لأُمَّتي ما سَخِط لها ابنُ أمِّ عبد" وقال أيضًا: "اهْدُوا هَدْي عمّار، وتمَسَّكُوا بهَدْي ابنِ أُمِّ عبد" ورُوي عن علي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يَصْعَد شجرة، فيأتيه بشيءٍ منها، فنظر أصحابه إلى حموشة ساقَيْه، فضَحِكوا، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "ما يُضْحِككُم؟ لَرِجْلاهُ عند الله أثقل في الميزان من أُحُد". وعن أبي موسى، قال: قدمت أنا وأخي المدينة، وما نرى ابن مسعود إلا أنه رجلٌ من أهل البيت، لما نَرَى من دُخوِله ودُخول أمّه على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وبعثه عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الكوفة مع عمار بن ياسر، وكتب إليهم: إنيّ قد بعثت اليكم بعمارٍ أميرًا، وعبد الله معلمًا ووزيرًا، وهما من نُجباء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من أهل بدر، فاقتدوا بهما، واسمعوا من قولهما، وقد آثرتكم بعبد الله بن مسعود على نفسي. وقال فيه

عمر: كَنِيفٌ مُلىءَ علمًا. وعن أبي وائل قال: لما أمَرَ عثمانُ في المصاحف بما أمَرَ، قام عبد الله بن مسعود خطيبًا، فقال: أيأمُرُني أن أقرأ القرآن على قراءة زيد بن ثابت؟ والذي نفسي بيده لقد أخَذْتُ مِن في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعين سورةً، وإن زيدَ بن ثابت لَذُو ذُؤابَةٍ يلعبُ به الغِلمان، والله ما نزل من القرآن شيءٌ إلا وأنا أعلم في أيِّ شيءٍ نَزَلَ، وما أحدٌ أعلم بكتاب الله منّي، ولو أعلم أحدًا تُبَلِّغنِيه الإِبِلُ أعلم بكتاب الله مني لأتَيْتُه، ثم استحيا مما قال، فقال: وما أنا بخيرِكم، وفي الخَلْق أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فما أنكر أحد عليه ذلك، وَلا رَدَّ ما قال. ومن طريق الأعْمَشِ، قال: قال زَيْد بن وَهْب: لما بَعَثَ عثمان إلى ابن مسعود يأمره بالقدوم إلى المدينة، اجتمع الناس إليه، وقالوا: أقِم، ونحن نَمْنَعُك أن يصل إليك شيءٌ تكرهُه، فقال: إنه له عليَّ حق الطاعة، وإنها ستكون أمور وفِتَنٌ لا أحِبُّ أن أكون أولَ مَن فَتَحَها، فَرُدَّ الناس، وخرج إليه. وعن أبي وائل أن ابن مسعود رأى رجلًا قد أسْبَلَ إزاره، فقال: ارفع إزارَكَ، فقال: وأنت يا ابن مسعود فَارْفَع إزارك، فقال: إني لست مثلَكَ إن بساقيَّ حموشة، وأنا آدم الناس، فبلغ ذلك عمر، فضرب الرجل، وقال له: أتَرُدُّ على ابن مسعود؟! كان رضي الله عنه رجلًا قصيرًا نحيفًا، يكاد طُوال الرِّجال توازيه جلوسًا وهو قائم، وكانت له شعرةٌ تبلُغُ أذُنيه، وكان لا يُغَيِّرُ شيبَه. وقال حُذَيفة: لقد عَلِمَ المحفُوظُون من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن عبد الله بن مسعود كان من أقربهم وسيلةً، وأعْلَمِهم بكتاب الله. وروى عليُّ ابن المَدِينيّ أنه حَلَفَ بالله مَا أعلم أحدًا أشبه دَلًّا وهَدْيًا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حين يخرجُ من بيته إلى أن يرجِعَ إليه من عبد الله بن مسعود، ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمَّد - صلى الله عليه وسلم - أنه من أقربهم وسيلةً إلى الله يومَ

القيامة، وفي رواية: من حين يخرجُ إلى أن يرجِعَ لا أدري ما يَصْنعُ في بيته. وفي رواية: حتى يواريه جدارُ بيته. وروى وَكِيعٌ من طريق أبي طَبْيان، قال: قال لي عبد الله بن عبّاس: أيَّ القراءتين تقرَأُ؟ قلت: القراءة الأولى. قراءة ابن أُمِّ عَبْد، فقال: أجَلْ، هي الآخِرَةُ، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يَعْرضُ القرآن على جِبرائيل في كلِّ عام مرةً، فلما كان العام الذي قُبِض فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَرَضَه عليه مرَّتيْن، فَحَضَر ذلك عبد الله، فعلم ما نُسِخ من ذلك وما بُدِّل. وعن عَلْقَمةَ قال: جاء رجلٌ إلى عُمر وهو بعرفاتٍ، فقال: جئتُك من الكوفة، وتركت بها رجلًا يحكي المصحف عن ظهرِ قلبه، فَغَضِبَ عمر غضبًا شديدًا، فقال: ويْحَك، ومن هو؟ قال: عبد الله بن مسعود، قال: فسكن عنه ذلك الغضب، وعاد إلى حاله، وقال: والله ما أعلم أحدًا من الناس أحقَّ بذلك منه. وسئل علي رضي الله عنه عن قوم من الصحابة منهم عبد الله بن مسعود، فقال: أما ابن مسعود فَقَرَأ القرآن، وعَلِمَ السنة، وكفى بذلك. وعن عبد الله بن عمر، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: خُذُوا القرآن من أربعة: من ابن أمِّ عبد فبدأ به، ومعاذ بن جَبَل، وأُبَيِّ بن كعب، وسالم مولى أبي حُذَيفة. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "مَن أحَبَّ أنْ يَسْمَع القرآنَ غضًّا فلْيسمَعْهُ من ابن أمِّ عَبْد". وعن تميم بن حَرام: جالسْتُ أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فما رأيت أزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة ولا أحبَّ إليَّ أن أكون في صلاحه من ابن مَسْعود. وقال فيه أبو الدَّرْداء لما بلغه نَعْيُه: ما ترك مثله، وهو من الستة الذين قال مسروق: إنهم انتهى إليهم العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونظمها العِراقيُّ بقوله: وقَالَ مَسرُوقُ انْتَهى العِلْمُ إلى ... سِتَّةِ أصحابٍ كِبارٍ نُبَلا زَيْدٍ أبي الدَّرْداء مَعْ أُبَيِّ ... عُمَرَ عبد الله مَعْ عَليّ ثُمَّ انتَهَى لِذَيْن والبَعْضُ جَعَلْ .... الأشْعَرِيّ عن أبي الدَّرْدَا بَدَلْ

رُوي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمان مئة حديث وثمانية وأربعون، اتّفقا على أربعة وستين، وانفرد البخاري بأحدٍ وعشرين، ومسلم بخمسة وثلاثين. وروى عن: عمر، وسعد بن معاذ. وروى عنه: ابناه عبد الرحمن، وأبو عبيدة، وابن أخيه عبد الله بن عُتْبَة، وامرأته زَيْنب الثَّقفِيَّة، والعبادِلَةُ، وأبو موسى، وأبو رافع، وأبو شُرَيح، وجابر، وأنس، وأبو جُحَيْفَة، وغيرهم، وروى عنه من التابعين: عَلْقَمَة، وأبو الأسود، ومسروقٌ، والرّبيع بن خَيْثَم، وشُرَيْح القاضي، وأبو وائل، وأبو عثمان النَّهْدِيّ، وزِرُّ بن حُبَيش، وعمرو بن مَيْمون، وخَلْقٌ كثيرٌ. مات بالمدينة قبل قَتْل عُثمان سنة اثنتين وثلاثين، ودُفن بالبقيع، وقيل: بالكوفة، والأول أصح، وصلى عليه عثمان، وقيل: صلى عليه الزُّبير، ودفنه ليلًا بإيصائه إليه بذلك، ولم يَعْلم عثمان بدفنه، فعاتب الزُّبير على ذلك، وكان يوم توفي ابنَ بضعٍ وستين سنة. قال بعض أصحابه: ما سمعت عبد الله بن مسعود يقول سُبَّةً في عثمان، وسمعته يقول: لَئِن قَتَلُوه لا يسْتَخْلِفُون مثله بعده. وفي الصحابة عبد الله بن مسعود غيره اثنان، أحدُهُما ثَقَفِيٌّ أخو أبي عُبَيد، والثاني غِفَاريٌّ. وأما عبد الله فلا يُحصى. وعبد الله هُو الذي قتل أبا جَهْل على قول، فرُوي عنه أنه قال: أتَيْتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت له: إني قَتَلْتُ أبا جهل. فقال: "الله الذي لا إله غيره لَأنْتَ قَتَلْتَه" فقلت: نعم، فاستَخَفَّه الفرح، ثم قال: انطلق بنا إليه" قال: "فانطلقت معه حتى قُمْتُ به على رأسه، فقال: "الحمدُ لله الذي أخْزاكَ، هذا فِرْعون هذه الأمّة، جُرُّوه إلى القَليب" قال: وكنتُ ضربتُهُ بسيفي فَلَم

يعْمل فيه، فأخذتُ سيفَه فضربتُهُ به حتى قَتَلْتُهُ، فَنَفَّلَني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيفه. الأثر الرابع: وقال ابنُ عُمر: لا يَبْلُغُ العَبْدُ حقيقةَ التَّقوى حتى يَدَعَ ما حاكَ في الصَّدر. والمراد بالتقوى: وقاية النفس عن الشرك. والأعمال السيئة، والمواظبة على الأعمال الصالحة، وسُئِل عليٌّ رضي الله تعالى عنه عن التَّقوى، فقال: هي الخوفُ من الجَليل، والعملُ بما في التنزيل، والاستعدادُ ليوم الرَّحيل. وقوله: "يدع" أي يترك، وقد أماتوا ماضي يَدَعُ ويَذَرُ، ولكن جاء في قراءة: "مَا وَدَعَكَ ربك" بالتخفيف. وقوله: "حَاك" بالمهملة والكاف الخفيفة، أي: تَرَدَّدَ، واضطرب، ولم ينشرِح له الصدر، وخاف الإِثم فيه، وفي بعض النسخ ما حَكَّ بتشديد الكاف، وفي بعضها ما حاك بالألف والتشديد من المحاكّة. وفي أثر ابن عُمر إشارة إلى أن بعض المؤمنين بَلَغَ كُنْهَ الإِيمان، وبعضهم لم يَبْلُغه، فتجوز الزيادة والنقصان، وقد أخرج ابن أبي الدُّنيا عن أبي الدَّرْداء، قال: تمام التقوى أن تَتَّقي الله حتى تَتْرُك ما يُرى أنه حلالٌ خشيةَ أن يكون حرامًا. قال في "الفتح" لم أر أثر ابن عمر هذا موصولًا إلى الآن، وقد ورد معناه عند مسلم من حديث النَّوَّاس مرفوعًا، وعند أحمد من حديث وابصة، وليس فيها شيءٌ على شرط البخاري، فلذلك اقتصرعلى أثر ابن عمر. وابن عمر: هو عبد الله بن عمر بن الخطاب القُرَشيُّ العَدَوِيُّ، ونسبه في نسب أبيه المتقدم في الحديث الأول، أبو عبد الرحمن، أمه زَيْنَب بنت مَظْعُون الجُمَحِيَّة، وهو شقيقُ أم المؤمنين حَفْصة، ولد سنة ثلاث من المَبْعَث النبويِّ، وهاجر وهو ابن عشر سنين، وقيل: ابن إحدى عشرة ونصف، أسلم مع أبيه، وهاجر معه، وقول من قال: إنه أسلم قبلَ أبيه،

وهاجر قبله، لا يُعْبأُ به، عُرِضَ يوم بدرٍ وأُحُد فاستُصْغِر، وأُجيز في الخَنْدَقِ، وهو ابن خَمْسَ عشرةَ سنة، كما ثَبَتَ في "الصحيح"، وشهد الحُدَيْبيةَ، وقال بعض أهل السِّيَر: إنه أول من بايع يومئذ، ولا يَصِحُّ، والصحيح أن أول من بايَعَ تحت الشجرة بَيْعَة الرُّضوان أبو سِنان الأسَدِيّ، وهو أحد الستة المكثرين في الحديث كما مر في ترجمة عبد الله بن عبّاس، وأحد العبادلة الأربعة كما مر هُناك أيضًا. قال ابن عبد البَرِّ: كان لا يَتَخَلَّف عن السَّرايا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم كان بعد مؤتة مُولعًا بالحجّ قبل الفِتْنَة، وفي الفتنة إلى أن مات، ويقولون: إنه من أعلم الصحابة بمناسِكِ الحجّ، كان رضي الله عنه شديد الوَرَع، وكان كثير الاتّباع لأثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، شديدَ التَّحَرّي والاحتياط والتَّوَقِّي في فَتْوَاه. وكلِّ ما يأخذ به نفسه. قال جابر: ما مِنّا أحدٌ أدرك الدنيا إلا مالت به ومال بها، ما خلا عُمر وابنه عبد الله. وقال مَيْمون بن مِهران: ما رأيت أوْرَعَ من ابن عمر، ولا أعلم من ابن عباس. وفي "الصحيح" عنه: كان مَنْ رأى رُؤيا في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - قصَّها عليه، فتمنيت أن أرى رؤيا، وكنت غلامًا عَزَبًا أنام في المسجد، فرأيت في المنام كأن ملَكَين أتياني، فذهبا بي .. الحديث، وفي آخره فقَصَصْتُها على حَفْصة، فَقَصَّتها حفصة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "نِعْمَ الرَّجل عبد الله لو كان يُصلي من الليل" فكان بعد ذلك لا ينام من الليل إلا القليل، وقال - صلى الله عليه وسلم - لأخته حَفْصة حين قَصَّت عليه رؤياه التي في "الصحيح" أيضًا من أنه قال: إني رأيت في يديَّ سرَقَةً من حرير، فما أهوي بها إلى مكانٍ من الجنة إلا طارَت بي إليه: "إنَّ أخاكِ" أو "إن عبد الله رجلٌ صالحٌ". وقال عبد الله بن مسعود: لقد رأيتنا ونحن متوافرونَ فما بينَنا شابٌّ أمْلَكَ لنفسه من عبد الله بن عُمر. وعن السُّديّ: رأيت نفرًا من الصّحابة كانوا يَرَوْن أنه ليس أحدٌ فيهم على الحالةِ التي فارق عليها النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إلا ابن عمر.

وعن سَعِيد بن المُسَيِّب: لو شهدت لأحد أنه من أهل الجنة لشهدت لعبد الله بن عمر. وكان ابن عمر حين مات خير من بقي، وما لَعَن ابن عمر خادمًا قطُّ إلا واحدًا فأعْتَقَه، كما رُوي عن الزُّهري. ورُوي عنه أنه قال: أراد ابن عمر أن يَلْعَنَ خادمًا، فقال: اللَهُمَّ العَ، فلم يُتِمَّها، وقال: إنها كلمة ما أحب أن أقولها. وعن نافع أن ابن عمر اشتكى، فاشتُري له عُنقودٌ بدِرهم، فأتاه سائل، فقال: أعطوه إياه، فخالف إنسان آخر فاشتراه منه بدِرهم، ثم أراد أن يرجِع، فمُنِع، ولو علم ابن عمر بذلك ما أكله. وعن حَمْزة بن عبد الله بن عُمر، قال: لو أن طعامًا كثيرًا كان لابن عمر: لما شَبِع منه بعد أن يجد له آكلًا. وعن زَيْد بن أسلم، قال: جعل رجلٌ يَسُبُّ عبد الله بن عُمر، وهو ساكتٌ، فلما بَلَغَ باب داره التَفَتَ إليه، فقال: أنا وأخي عاصم لا نَسُبُّ الناس، وعن أبي الدّارِع: قلت لابن عمر: لا يزالُ الناس بخير ما أبقاك الله لهم، فغَضِبَ، وقال: إني لأحسِبُك عراقيًّا، وما يُدريك علامَ أُغْلِق بابي؟ وعن مالك: أقام ابن عمر بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ستين سنة، يقدم عليه وفود الناس، ولم يَخْفَ عليه شيء من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه، وهو من أئمة الدين. وعنه أيضًا: كان إمام الناس عندنا بعدَ عمر زيد بن ثابت، وكان إمام الناس عندنا بعد زيد بن عمر. وعن يَحْيى ابن يَحْيى: قلت لمالِك: سمعت المشايخ يَقُولون: من أخَذَ بقول ابن عمر لَم يَدَع من الاستقصاءِ شيئًا، قال: نعم. وعن أبي سَلمة بن عبد الرحمن: كان عُمر في زمانه له نُظَراء، وكان ابن عُمر في زمانه ليس له نظيرٌ. وعن عُقْبَة بن مُسلم أن ابن عمر سُئل عن شيء فقال: لا أدري، أتُريدون أن تَجْعلوا ظُهورنا جُسورًا في جَهَنَّم، تقولون: أفْتانا بهذا ابن عُمر؟ وأخرج البَغَويُّ، عن سعيد، قال: ما رأيت أحدًا أشدَّ اتقاء للحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ابن عُمر. ورُوي عن مُجاهد: صَحِبت ابن عمر إلى المدينة، فما رأيتُه يًحَدِّث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثًا واحدًا. وعن مَيْمون بن مِهران، قال: مر أصحاب نَجْدَةَ الحَرُورِيِّ بإبِلٍ لابن عمر، فاسْتاقُوها، فجاءَه الرّاعي، وقال: يا أبا عبد الرحمن، احتسب

الإِبل، وأخبره الخبر، فقال: كيف تَرَكُوك؟ قال: انْفلَتُّ منهم لأنك أحب إلي منهم، فاسْتَحْلَفَه، فحَلَف، فقال: إني احْتسَبْتُك معها، فأعتقه، فقيل له بعد ذلك: هل لك في ناقتك الفلانية تُباع في السوق؟ فأرَاد أن يَذْهب إليها، ثم قال: كنت احْتَسَبْتُ الإِبل، فلأيِّ معنًى أطلب الناقة؟ وعن عبد الله بن أبي عُثمان أعْتَقَ عبد الله بن عُمر جاريةً له، يقال لها: رفثة، كان يُحِبُّها، وقال: سمعت الله تعالى يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] وعن نافع كانت لابن عمر جارية معجبة، فاشتد عجبُهُ بها، فأعتقها، وزوجها مولى له، فأتَتْ منه بولدٍ، فكان ابن عمر يأخُذُ الصبيَّ، فيقبِّلُه، ويقول: واهًا لريح فلانة. وفي "البَيْهَقِيّ": أعطى عبد الله بن جَعْفر في نافع لعبد الله بن عُمر عشرة آلاف درهم وألف دينار، فقيل له ماذا تَنْظُر؟ قال: فهَلَّا ما هو خيرٌ من ذلك، هو حرٌّ. وعن زَيْد بن أسْلَم: مرّ ابن عمر براع، فقال: هل من جَزَرَة؟ قال: ليس ها هنا ربها، قال: تقول له: أكلها الذِّيبُ، قال: فاتَّقِ الله، فاشترى ابن عُمر الراعي والغنَم وأعْتَقَه، ووهَبَها له. قال ابن خَلِّكان: كان ابن عُمر إذا اشتد عجبهُ بشيء من ماله قَرَّبه إلى ربه عز وجل، قال نافع: كان رقيقُه قد عَرَفوا ذلك منه، فرُبَّما شَمَّرَ أحدهم، فيلزم المسجد، فإذا رآه ابنُ عُمر على تلك الحالة الحسنة، أعْتَقَه، فيقول له أصحابه: يا أبا عبد الرحمن والله ما بِهم إلا أن يَخْدَعُوك، فيقول: ما خَدَعَنا أحدٌ في الله إلا انْخَدَعنا له. قال نافعٌ: ما ماتَ ابن عُمر حتى أعْتَقَ ألف إنسان أو ما زاد، ونشر نافعٌ مولاه عنه علمًا جمًّا. ورُوِي أن مروان بن الحكم دخل عليه في نفرٍ بعد قتل عُثمان رضي الله عنه، فعرضوا عليه أن يُبايعوا له، قال: وكيفَ لي بالنّاس؟ قال: تُقاتِلُهم ونُقاتِلُهم معك. قال: والله لو اجْتَمَعَ أهل الأرض عليَّ إلا أهل فَدَك ما قاتَلْتُهم، فخرجوا من عنده وهو يقول: والمُلْكُ بَعْدَ أبي لَيْلى لِمَنْ غَلَبَا

وذكر مَيْمون أن ابن عُمر دخل عليه رجل، فسأله عن تلك المشاهدِ، فقال: كَفَفْتُ يدي، فلم أُقْدِم، والمقاتِلُ على الحقِّ أفْضَل. كان رضِي الله عنه لوَرَعِهِ أشْكَلَت عليه حروبُ عليٍّ عليه السلام، فَقَعَد عنهُ، ثمَّ ندم على ذلك حين حضرته الوفاة، فقد روى حَبيبُ بن أبي ثابتٍ عنه أنه قال حين حَضَرَتْهُ الوفاة: ما أجِدُ في نفسي من أمر الدنيا شيئًا إلّا أنّي لم أُقاتل الفئةَ الباغية مع عليِّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - وفي رواية: ما آسى على شيءٍ إلَّا أني لم أُقاتل معَ عليٍّ الفئةَ الباغية. وفي "البَيْهَقيِّ" ما ذَكَر ابنُ عمر رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - إلَّا بَكَى، ولا مَرَّ بِرَبعِهم إلا غَمَّض عينيه. وعن نافع: كان ابن عُمر إذا قرأ: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16] بَكى حتى يَغْلِبه البكاء. كان رضي الله عنه له مِهْراسٌ فيه ماء، فيُصَلي ما قُدِّر له، ثم يصيرُ إلى فراشِه، فيُغْفِي إغفاء الطائرِ ثم يَقُوم، فيتوضأ فَيُصَلّي، ثم يرجِعُ إلى فراشهِ، فيُغْفِي إغفاء الطائر، يفعلُ ذلك في الليل أربع مرات أو خمسًا. وقيل لنافع: ما كان ابنُ عمر يَصْنَع في منزله، قال: الوُضوء لكلِّ صلاة، والمُصحف فيما بَيْنَهما. وعنه أيضًا أنه كان إذا فاتَتْه صلاةُ العشاء في الجماعة أحْيى بَقيَّة ليله. وعنه أيضًا: كان ابن عُمر يُحيي الليلَ صلاةً، ثم يقول: يا نافعُ اسْحَرْنا؟ فيقول: لا، فيعاودُ فإذا قال: أسحرْنا، قعد يستغفر الله حتى يصبح، وعنه أيضًا: كان ابن عُمر لا يَصُوم في السفر، ولا يكاد يُفْطِر في الحَضَر. وفي "البَيْهَقِيِّ" كان إذا فاتته صلاة في جماعةٍ صلى إلى الصلاة الأخرى. وقال الزُّبَيْر بن بَكّار: كان ابن عُمر يَحْفَظُ ما سَمِعَ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويَسْألُ من حَضَر إذا غابَ عن قوله وفعله، وكان يَتَّبِعُ آثار النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في كل مسجدٍ صلى فيه، وكان يَعْتَرِضُ براحلته في طريقٍ رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَرَضَ ناقته فيه، وكان لا يَتْرُكُ الحجَّ، وكان إذا وقف بعَرَفَةَ وقف في الموقف الذي وَقَفَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان أوصى أن يُدْفن في الحِلِّ، فلم يُقْدَر على ذلك من أجل الحَجّاج، ودُفِن بذي طُوى، بمَقَابر المُهاجرين.

وكان الحجاج قد أمر رجلًا فَسَمَّ زُجَّ رمح وزَحَمَه في الطريق، ووضع الزُّجَّ على ظَهْر قدمه، وذلك أن الحَجّاج خَطَبَ يومًا، وأخَّرَ الصلاة، فقال له ابن عمر: إن الشَّمْسَ لا تَنْتَظرُك، فقال له الحَجّاج: لقد هَمَمْتُ أن أضرب الذي فيه عيناك، قال: إن تَفْعَل فإنك سفيهٌ مُسَلَّطٌ. وقيل: إنه أخفى قوله ذلك عن الحجّاج، ولم يُسْمِعْه، وإنما كان يَتَقَدَّمه في المواقف بعَرَفة وغيرها إلى المواضع التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يَقِفُ فيها، وكان ذلك يَعِزُّ علي الحجّاج، فأمر الحجّاجُ رَجلًا معه حَرْبة، يقال: إنها كانت مسمومةً، فلما دَفَعَ الناس من عَرَفَة، لصِق به ذلك الرجل، فأمَرَّ الحربةَ على قدمه، وهي في غَرْزِ راحِلَتِه، فمرِض منها أيّامًا، فدخل الحجّاج يعوده، فقال له: من فَعَلَ هذا بك يا أبا عبد الرحمن؟ فقال: وما تَصْنَعُ به، قال: قتلني الله إن لم أقْتُلْه، قال: ما أراك فاعلًا، أنت الذي أمَرْتَ الذي نَخَسني بالحربة، فقال: لا تَفعل يا أبا عبد الرحمن، وخَرَج عنه. ورُوي أنَّه قال للحجّاج حين قال له: من فعل بك؟ أنت أمرت بإدخال السِّلاح في الحرم، فلَبِث أيّامًا، ثم مات، وصلى عليه الحَجّاج، ودُفِن بذي طُوى كما مَرَّ، وَقيل: دفن بِفَخٍّ موضع قرب مكة، وقيل: بِسَرِفَ، وقيل: بالمُحَصَّبِ سنةَ اثنتين، وقيل: ثلاث، وقيل: أربع وسبعين، بعد قتل ابن الزُّبير بثلاثة أشهر، عاش أربعًا وثمانين، وقيل سبعًا وقيل ستًّا. رُوِي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألفا حديث وست مئة وثلاثون حديثا، اتَّفَقا على مئة وسبعين، وانفرد البُخاريُّ بأحدٍ وثمانين، ومسلم بأحد وثلاثين. روى عن: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وأبي ذَرٍّ، ومُعاذ، وعائشة، وغيرهم. وروى عنه من الصحابة: جَابر، وابن عبّاس، وغيرهما، وروى عنه بنوه سالمٌ، وعبد الله، وحَمْزة، وبِلال، وزيد، وعبد الله، وابن أخيه حفص بن عامِر، ومن كبار التابعين: سَعيد بن المُسيِّب، وأسلَم مولى عُمر، وعَلْقَمة بن وقّاص، ومَسْروق، وجُبَير بن نُفير، وعبد الرحمن بن

أبي ليلى، وممن بعدهم: مواليهم عبد الله بن دِينار، ونافِع، وزيد بن أسلم، وخالد، ومن غيرهم مُصعَب بن سَعد، وموسى بن طَلْحة، وعُروة ابن الزبيَر، وعطاء، وطارق، ومجاهِد، وابن سِيرين، والحسَن، وصَفْوان ابن مُحْرِز، وغيرهم. وفي الصحابة أيضًا عبد الله بن عمر حرمي، يقال: إنه له صحبة، يُروى عنه حديث في الوضوء. الأثر الخامس: وقال مُجاهِدٌ {شَرَعَ لَكُمْ ...}: أوصَيناك يا مُحمد وإيّاهُ دِينًا واحِدًا. والمراد من هذا التعليق أن الذي تظاهرت عليه الأدِلة من الكتاب والسنة هو شرع الأنبياء كلهم، وإنما خَصَّ نوحًا عليه السلام، لما قيل: إنه الذي جاء بتحريم الحرام، وتحليل الحلال، وأول من جاء بتحريم الأمهات والبنات والأخوات، ولا يقال: إن إياه تصحيف وقع في أصل البخاري في هذا الأثر، وإن الصواب وأنبياءه كما عند عَبْد بن حُميد، وغيره، كما يأتي، وكيف يُفرد مجاهد الضمير لِنوح وحده مع أن في السياق ذكر جماعة؟ لأنه أجيب بأن نوحًا عليه الصلاة والسلام أُفرد في الآية، وبقية الأنبياء عليهم السلام عَطْفٌ عليهم، وهم داخلون فيما وصّى به نوحًا، وكُلُّهُم مشتركون في ذلك، فذِكْرُ واحدٍ منهم يُغْنِي عن الكُلِّ. على أن نوحًا أقرب مذكور في الآية، وهو أولى بعَوْد الضمير إليه في تفسير مجاهد، فتفسيرُه صحيح. وهذا التعليق وصله عَبْد بن حُميد في تفسيره، والطَّبَريُّ والفِرْيابيُّ، وابن المُنْذر في تفاسيرهم ولكن لفظهم: يا محمَّد وأنبياءه. ومجاهِد هو مجاهد بن جَبْر -بفتح الجيم- المكِّيُّ أبو الحجّاج المخْزُوميُّ المقرىء مولى السَّائبِ بن أبي السّائب. وقال الفَضْل بن مَيْمون: سمعت مجاهدًا يَقُول: عَرَضْتُ القُرآن على ابن عَبّاس ثلاثين مرَّةً، وقال يحيى القطَّان: مُرسلات مجاهدٍ أحبُّ إليَّ من مرسلات عَطاء، وقال الأعْمش، عن مجاهد: لو كُنت قرأتُ على

قراءة ابن مسعود، لم أحْتَج أن أسأل ابن عَبّاس عن كثير من القرآن. وعن مُجاهد، قال: قرأتُ القرآن على ابن عبّاس ثلاث عَرْضاتٍ، أقِفُ عند كل آية أسأله: فيم نزلت؟ وكيف كانت؟ وقال إبراهيم بن مُهاجر، عن مجاهد، قال: ربما آخُذُ لابن عُمر بالرِّكاب. وقال قَتَادة: أعْلَم من بَقِيَ بالتفسير مجاهد. وقال أبو بكر بن عَيّاش: قُلت للأعمش مالهم يقُولون تفسير مُجاهد؟ قال: كانوا يَرَوْن أنه يسأل أهل الكتاب. وقال ابن مَعِين وأبو زُرْعة: ثقة. وقال سَلَمَة بن كُهَيل: ما رأيتُ أحدًا أراد بهذا العلم وجه الله تعالى إلا عطاءً، وطاووسًا، ومجاهدًا. وقال ابن سعد: كان ثقةً فقيهًا عالمًا كثير الحديث. وقال ابن حِبّان: كان فقيهًا وَرِعًا عابدًا مُتْقِنًا. وقال أبو جعفَر الطَّبَريُّ: كان قارئًا عالمًا. وقال العِجْلِيُّ: مكيٌّ تابعيٌّ ثقة. وقال الذَّهبيُّ: أجمعت الأمة على إمامة مجاهد، والاحتجاج به وقال الذَّهبيُّ أيضًا: قرأ عليه عبد الله بن كثير، وقال التِّرمِذِيُّ: مجاهدٌ معلوم التَّدليس، فعَنْعَنَتُهُ لا تفيد الوصلَ، ووقوع الواسطة بينه وبين ابن عَبّاس. روى عن: عليّ، وسعد بن أبي وَقّاص، والعبادلة الأربعة، ورافع بن خُديْج، وأُسَيْد بن ظَهير، وأبي سعيد الخُدري، وعائشة، وأم سَلَمَة، وجُوَيْرِيَةَ بنت الحارث، وأبي هُريرة، وجابر بن عبد الله، وسُراقة بن مالك، وعبد الرحمن بن صَفْوان بن قُدامة، وخلقٍ كثيرٍ. وروى عنه: أيوب السَّختياني، وعطاء، وعِكْرمة، وابن عَوْن، وعَمْرو بن دينار، وأبو إسحاق السَّبيعي، وأبو الزُّبير المكي، وقتادة، وسليمان الأحْول، والأعْمش، وخلقٌ كثيرٌ. وأنكر شُعبة وابن أبي حاتم سماعَه من عائشة، وكذا ابن معين، لكن حديثه عنها في "الصحيحين". وقال مجاهد: قال لي ابن عمر: ودِدْت أن نافعًا يحفظ كحفظك. مات بمكة وهو ساجدٌ سنة مئة، وقيل: إحدى، وقيل: اثنتين، وقيل: أربع ومئة، وهو ابن ثلاث وثمانين سنة، وولد سنة إحدى وعشرين في خلافة عُمر بن الخطاب.

ومجاهد بن جبر ليس في الرواة غيره، ومُجاهد في الستة سواه ثلاثة. الأثر السادس: وقال ابنُ عبّاس {شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}: سَبيلًا وسُنَّة تفسير لمنهاجًا، أي: طريقًا واضحًا، وسُنَّةً، يقال: شَرَعَ يَشرع شرعًا، أي: سَنَّ فهو تفسيرٌ لشرْعة، فيكون من باب اللَّفِّ والنَّشر الغير المرتب، وسقطت الواو من: "وقال" لابن عَسَاكر. وهذا التعليق وصله عبد الرَّزّاق في تفسيره بسندٍ صحيح، وابن عباس مَرَّ تعريفه في الخامس من بدء الوحي.

2 - باب دعاؤكم إيمانكم.

2 - باب دعاؤكم إيمانكم. وقوله: دُعاؤكم إيمانكم. لقوله تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} ومعنى الدعاء في اللغة الإِيمان، هو من قول ابن عباس، فسمى الدعاء إيمانًا، والدعاءُ عمل فاحتُجَّ به على أن الإِيمان عملٌ، وعطفه على ما قَبْلَه كعادته في حذف أداة العطف، حيث يَنْقُل التفسير، وقد وَصَلَه ابن جَرير من قول ابن عباس، قال في قوله تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} قال: يقول: لولا إيمانكم، أخبر الله الكفار أَنه لا يعبأ بهم، ولولا إيمان المؤمنين لم يَعْبأ بهم أيضًا، وقال غيرُ ابن عباس: الدعاء هنا مصدرٌ مضاف إلى المفعول، والمرادُ دُعاء الرسل الخلق إلى الإِيمان، فالمعنى: ليس عند الله عُذْرٌ إلا أن يَدعُوَكُم الرسول، فيُؤمن من آمن، ويكفر من كفر، فقد كذبتم أنتم، فسوف يكون العذاب لازمًا لكم، وقيل: معنى الدعاء هُنا الطاعة، ويؤيده حديث النُّعْمان بن بَشير أن الدُّعاء هُو العبادة، أخرجه أصحاب "السنن" بسندٍ جيِّد. الحديث الأول 8 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى قَالَ: أَخْبَرَنَا حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ». [الحديث 8 - طرفه في 4515]. قوله: "بُنِي الإِسلامُ" البناء: وضع شيءٍ على شيءٍ، والإِسلام: الانْقياد، وقد مر الكلام عليه في أول الكتاب. وقوله: "خَمْس" أي: دعائم، كما صرح به عبد الرزاق، وفي روايةٍ لمسلم: "على خمسة" أي: أركان.

وقوله: "شهادة أن لا إله إلا الله" وما بعدها مخفوض على البدل من خمس، ويجوز الرفع على حذف الخبر، والتقدير: منها شهادة أن لا إله إلا الله، أو على حذف المبتدأ، والتقدير: أحَدُها شهادة أن لا إله إلا الله، وإنما لم يذكر الإِيمان بالأنبياء والملائكة وغير ذلك مما تضمنه سؤال جبريل عليه السلام، لأن المراد بالشهادة تصديق الرسول فيما جاء به، فيستلزم جميع ما ذكر من المُعْتَقَدات، وقال الإسماعيليُّ ما محصله: هُو من باب تسمية الشيء ببعضه، كما تقول: قرأتُ الحمدَ، وتريد جميعَ الفاتحة، وكذا تقول: شهدت برسالة محمدٍ، وتريد جميع ما ذكر. واشترط البَاقِلَّانيُّ في صحة الإِسلام تقدم الإِقرار بالتوحيد على الرسالة، ولم يُتابع مع أنه إذا دُقِّق بَانَ وجهُهُ، ويزداد اتجاهًا إذا فرقهما. و"لا" في قوله: لا إله، هي النافية للجنس، و"إله" اسمها مركبٌ معها تركيب مزج كأحدَ عشر، وفتحته فتحة بناء، وعند الزَّجاج فتحة إعراب، لأنه عنده منصوب بها لفظًا، وخبرها محذوفٌ تقديره موجودٌ، و"إلا" حرف استثناء، والاسم الكريم مرفوعٌ على البدل من الضمير المستتر في الخبر، وقيل: مرفوع على الخبرية لقوله: "لا" وعليه جماعةٌ، وهذا التركيب عند علماء المعاني والأصول يفيد القَصْر، وهو من باب قصر الصفة على الموصوف لا العكس، فإن إله في معنى الوصف، واختلف البيانيون والأصوليون في المنطوق والمفهوم في هذا التركيب، فعند البيانيين المنطوق هو إثبات الإِلهية لله تعالى، والمفهوم نفيها عن غيره، وعند الأصوليين المنطوق هو نفيُها، والمفهوم هو إثباتها، وعلى مذهبهم قالوا: كيف يُقال في لا إله إلا الله: إنَّ دِلالتها على إثبات الألوهية لله تعالى بالمَفْهوم؟ وأجاب زَكَرِيَّا: بأنه لا بُعد فيه، لأن القصد أولًا وبالذات ردُّ ما خالَفَنا فيه المشركونَ، لا إثبات ما وافَقُونا عليه، فكان المناسب للأول المنطوق، وللثاني المفهوم، وإنما قُدِّم النفي على الإِثبات، فقيل: لا إله إلا الله، ولم يقل: الله لا إله إلا هو، لأنه إذا نفى أَن يكون ثَمَّ إله غير الله، فقد فَرَّغَ قلبَه مما سوى الله بلسانه، ليُواطِىءَ القلب وليس مشغولًا

بشيء سوى الله تعالى، فيكون نفي الشَّريك عن الله تعالى بالجوارح الظاهرة والباطنة. وقوله: "وإقامِ الصلاةِ" معنى إقامة الصلاة: إما تَعْديل أركانها وحفظها من أن يقع فيها زَيْغ في فرائضها وسُننها وآدابها من أقَامَ العُودَ إذا قَوَّمَه، وإما المداومة عليها من قامَتِ السُّوق إذا نَفَقَت، وإما التَّجَلُّد والتَّشَمُّرُ في أدائها من قامتِ الحرب على ساقِها، وإما أداؤها تعبيرًا عن الأداء بالإِقامة، لأن القيام بعضُ أركانها، والصلاة فَعْلَةٌ من صَلّى، كالزكاة من زكّى، وهي مُشتَقَّة من الصَّلَوين، وهما عِرقان يكتنفان الظَّهر، سُمِّيَتْ بذلك لكثرة تحركهما فيها، وقيل: من الصلاة، بمعنى الدّعاء، قال الشاعر: وقَابَلَها الرِّيحُ في دَنِّها ... وَصَلّى عَلَى دَنِّها وارْتَسَمْ أو من صَلَّيْت العصا بالنار إذا ليَّنْتَها وقَوَّمْتها، فالمصلي كأنه يسعى في تعديلها وتقويمها، أو لأن الصلاة تُقَوِّمُ صاحبها وتعدِّله، أو من المُصَلّي وهو ثاني حَلَبة السباق، فالأول المُجَلّي، والثاني المُصَلّي، وسميت بذلك لأنها ثانية دعائم الإِسلام، وهي شرعًا قُربة فعلية ذات إحرام وسلام، أو سجود فقط وقوله: "فعلية" أخرج القُرَبَ التَّرْكية كعبادة الأصنام، والصيام، لأنه تَرْك، وقوله: "ذات" أخرج الزكاة، وقوله: "وسلام" أخرج الحج، لأنه فيه إحرام ولا سلام فيه، وقوله: "أو سُجود" فقط هو بالرفع، وقيد به لإِدخال سجود القراءة. وقوله: "وإيتاء الزكاة" أي: إعطائها من آتاه إيتاءً، وأما أتَيْتُه إتيانًا، فمعناه جئته، والزكاة لغة الطهارة والنَّماء واللِّياقة والتَّنعُّم، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14] أي: تطهر، ويقال: زكا الزَّرعُ زكاءً بالمدِّ إذا نما، وهذا الأمر لا يزكو بفلان، أي: لا يليق به، وزَكَا الرجل يزكو إذا تنعم وكان في خِصب، وسميت بذلك لأن المال يَطْهر بها، أو لأنها تُطَهِّرُ صاحبها، قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] أو لأنها سبب نماء المال وزيادته، ولها خمسة

أسماء في القرآن: الزكاة، والصدقة، والماعون: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 7] والحق: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] والنفقة: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] هي شرعًا عبارة عن إعطاء جزء من المال على وجهٍ مخصوص. وقوله: "والحج" هو لغةً القَصْد، وأصله من قولك: حَجَجْتُ فُلانًا أحُجُّهُ حَجًّا إذا عدت إليه مرةً بعد أخرى، قال الشاعر: وَأشْهَدُ من عَوْفٍ حُلُولًا كَثيرةً ... يَحُجُّون سِبَّ الزِّبْرِقانِ المُزَعْفَرا أي: يأتونه مرةً بعد أخرى، والسِّبُّ بكسر السين، وتشديد الباء، شقة كِتّان، والمراد به هنا العِمَامة، والحَجُّ تأتيه الناس في كل سنة، وتُعورف استعمال الحَجِّ في القصد إلى مَكَّةَ -حرسها الله تعالى-، وهو شرعًا قَصْدٌ مخصوصٌ في وقتٍ مخصوصٍ إلى مكان مخصوص. وقوله: "وصَوْم رَمَضان" الصوم لغةً: الإِمساك عن الكلام وغيره، قال تعالى: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم: 26] وصام الفَرَسُ إذا قام على غير علفٍ، قال النابِغَةُ: خَيْلٌ صِيَامٌ وخَيْلٌ غيرُ صائِمَةٍ ... تَحْتَ العَجَاج وأُخْرى تَعْلُكُ اللُّجُمَا وصَام النهار صومًا إذا قام قائم الظَّهيرة واعتدل، والصَّوم ركود الريح، والصوم: ذَرْق النَّعام، قال الشاعر: صَوْم النَّعَام زَرَافاتٍ زَرافاتِ والصَّوم شجرٌ بعينه، قال الشاعر: مُوَكَّلٌ بِشُدُوفِ الصَّوم يَنْظُرها ... مِنَ المَخارِمِ مَخْطُوفُ الحَشَى زَرِمُ وفيَ الشرع: الإِمساك عن شَهْوَتَي الفم والفَرْج، وما يقُوم مقامهما، مخالفةً للهوى في طاعة المولى. ووجه الحصر في هذه الخمسة هو أن العبادة إما قولية أو غيرها،

الأولى: الشهادتان، والثانية: إما ترْكية أو فِعلية. الأولى: الصوم، والثانية: إما بَدَنِيَّة أو مالية. الأولى: الصَّلاة، والثانية: الزكاة، أو مركبة منهما وهي الحَجَّ، وقد ذكره مقدمًا على الصوم، وعليه بني المصنف ترتيب جامعه هذا، لكن عند مسلم من رواية سَعْد بن عُبيدة، عن ابن عُمر تأخير الصَّوم عن الحَجّ، فقال رجل، وهُو يزيد بن بِشْرٍ السَّكْسَكِيُّ: "والحَجُّ، وصَوْمُ رَمَضان" فقال ابن عُمر: لا، "صيامُ رَمَضان، والحَجّ" هكذا سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيُحْتَمَل أن يكون حنظَلَةُ رواه بالمعنى، لكونه لم يَسْمع ردَّ ابن عمر على يَزِيد، أو سمِعَه ونَسيَه، وفي روايةٍ لمسلم من طريق حَنْظَلة بتقديم الصَّوم على الحجِّ، ولأبي عَوَانَة عنه بتقديم الصوم، فتنْوِيعه هذا دالٌّ على أنه رُوي بالمعنى، ويُؤيِّدُه ما وَقَع في البُخاري في التفسير، من تقديم الصيام على الزكاة، ورواه مُسلم عن ابن عُمر من أربع طُرق تارةً بالتَّقديم، وتارةً بالتَّأخير. ولم يذكر البُخاريُّ الجهادَ لأنه فرض كفاية، ولا يتعين إلا في بعض الأحوال، ومن زَعَم أن الحديث كان أول الإِسلام قبل فرض الجهاد فَقَد أخطأ، لأن فرض الجهاد كان قبل فرض الزَّكاة والحجِّ. فإن قيل: الأربعة المذكورة مبنية على الشهادة، إذ لا يَصِحُّ شيءٌ منها إلا بعد وُجودِها، فكَيف يُضَمُّ مبنيٌّ إلى مبنيٍّ عليه في مسمّىً واحد؟ فالجواب هو أنه يَجُوزُ ابْتِناء أمر على أمر، يَنْبَني على الأمرين أمرٌ آخر، فإن قيل: المَبْنيُّ لا بد أن يكون غير المبني عليه، أُجيب بأن المجموع غيرٌ من حَيْث الانفراد عينٌ من حيث الجمع، ومثاله البيت من الشعر يُجْعَل على خمسة أعمدة، أحدها أوسط، والبقية أركان، فما دام الأوسط قائمًا فمُسَمّى البيت موجودٌ، ولو سَقَط ما سَقط من الأركان، وإذا سَقط الأوسط سقط مُسمى البيت، فالبيت بالنَّظر إلى مجموعة شيء واحد، وبالنظر إلى أفراده أشياء، وأيضًا فبالنظر إلى أُسِّه وأركانه الأُسُّ أصل، والأركان تَبَعٌ وتكملةٌ. وفي قوله: "بُنِيَ الإِسلام ... " إلخ. استعارة تبعية، بأن يقدر

رجاله أربعة

الاستعارة في بُنِي والقرينة في الإِسلام، شَبَّه ثبات الإِسلام واستقامَتَه على هذه الأركان الخمسة ببناء الخِباء على هذه الأعمدة الخمسة، ثم سَرَت الاستعارة من المصدر إلى الفعل، ويجوز أن تكون استعارة بالكِناية، بأن يكون شَبَّه الإِسلام بمبنى له دعائم، فذكر المُشَبَّه، وطَوَى ذكر المُشَبَّه به، وذكر ما هو من خَواصِّ المشبه به، وهو البناء، ويسمى هذا استعارة تَرْشِيحية. رجاله أربعة: الأول: عُبَيد الله بن موسى بن أبي المُختار، واسمه باذَام العَبسيُّ مولاهم الكوفِيُّ أبو محمَّد الحافظ، وباذام -بالباء الموحدة والذال المعجمة- لفظٌ فارسيٌّ، ومعناه اللَّوز. قال ابن أبي خَيْثَمة عن ابن مَعين: ثقة. وقال مُعاوية بن صالح: سألت ابن مَعين عنه، فقال: اكتب عنه. وقال أبو حَاتم: صدوق ثقة حسن الحديث، وأبو نعيم أتْقن منه، وعُبيد الله أثْبَتَهم في إسرائيل، كان يأتيه فيقرأ عليه القرآن. وقال العِجْلِيُّ: ثقة، وكان عالمًا بالقرآن، رأسًا فيه. وقال أيضًا: ما رأيته رافعًا رأسه. وما رُئيَ ضاحكًا قطُّ. وقال أبو داود: كان مُحترفًا سَميعا، جاز حِفظه. وقال ابنَ عَدِيّ: ثقة. وقال ابنِ سَعْد: قرأ على عيسى بن عُمر، وعلى عليِّ بن صالح، وكان ثقةً صدوقًا إن شاء الله تعالى، كثير الحديث، حسن الهيئة، وكان يتشيع، ويروي أحاديث منكرة، وضُعِّفَ بذلك عند كثير من الناس، وكان صاحب قرآن، وذكره ابن حِبّان في "الثقات" وقال: كان يَتَشَيَّع. وقال ابن شَاهِين في "الثقات" قال عُثمان بن أبي شَيْبة: صدوق ثقة، وكان يضطرب في حديث سُفيان اضطرابًا قبيحًا. وقال عُثمان الدَّارميُّ عن ابن مَعين: ثقة ما أقربه من يَحيى ابن يَمان، ويَحْيى بنُ يَمان أرجو أن يكون صدوقًا، وليس حديثه بالقويّ. وقال ابن قَانِع: كوفيٌّ صالح يتشيع. وقال السّاجِيُّ: صدوق كان يُفرطُ في التشيع. وقال المَيْمُونيُّ: ذكر عند أحمد، فرأيته كالمنكر له، وقال: كان

صاحب تخليطٍ، وحدَّث بأحاديث سَوْء، قيل له: فابن فُضَيل؟ قال: كان أسْتَرَ منه، وأما هو فأخرج تلك الأحاديث الرديئة. وقال يعقوب بن سُفيان: شيعي، وإن قال قائِل: رافِضيّ لم أُنْكر عليه، وهُو مُنكر الحديث. وقال الجُوزجَانيُّ: وعُبيد الله بن موسى أغلى وأسوأ مذهبًا وأرْوى للعجائب. وقال أبو مُسلم البَغْدادِيُّ: عبيد الله بن موسى من المتروكين، تركه أحمد لتشيعه، وقد عوتب أحمد على روايته عن عبد الرزاق، فذكر أن عبد الرزاق رَجَع. وقال أحمد أيضًا: رَوَى مناكير، وقد رأيته بمكةَ فأعْرَضْت عنه، وقد سمعت منه قديمًا سنة خمس وثمانين، وبعد ذلك عتبوا عليه ترك الجمعة مع إدمانه على الحجِّ. رَوَى عن: إسماعيل بن أبي خالد، وهشام بن عُروة، والأعمش، والأوزاعي، وابن جُرَيج، وحَنْظَلة بن أبي سُفيان، وهارون بن سُليمان الفَرّاء، وزَكريّا ابن أبي زائدة، وغيرهم. وروى عنه: البُخاريُّ، وروى هو والباقون له بواسطة أحمد بن أبي سُريْج الرّازي، وروى عنه أبو بكر بن أبي شَيبَة، ومحمد بن يحيى الذُّهْلِيُ، ومحمود بن غَيْلان، وعُبيد، والقاسم بن زَكريّا بن دينار، وعبد الله بن محمَّد المُسْنَدي، وخلق كثير. وليس في الكتب الستة عُبيد الله بن موسى سواه، وفي الرُّواة عُبيد الله ابن موسى الرُّويانيّ يُكنى أبا تراب، ذكره الخطيب، روى عنه عليُّ بن أحمد بن نَصْر خبرًا واحدًا. والعَبْسِيُّ في نسبه نسبةً إلى عبْس -بسكون الباء- ابن بغيض بن رَيْث ابن غَطَفان بن سعد بن قيس عَيْلان أبو قبيلة مشهورة وعَقِبُهُ المشهور من قُطَيْعة وَوَرَقَة. ولما كان عُبيد الله بن موسى شيعيًّا -وهذا أول ذكر للمُبْتدعة- لزم ذكر ما قيل في الرواية عنهم.

قال النَّوَوِيُّ: وقع في "الصحيحين" وغيرهما من كتب أئمة الحديث الاحتجاج بكثير من المبتدعة غير الدعاة إلى بدعتهم، ولم يزل الخَلَفُ والسَّلَفُ على قَبول الرواية عنهم، وما قاله أحد أقوال أربعة، وهو المعتمد، بل نقل ابن حِبّان الاتفاق عليه حيث قال: الداعية إلى البدعة لا يجوز الاحتجاج به عند أئمة الحديث قاطبة، لا أعلم بينهم فيه اختلافًا، لكن استغرب ابن حَجَر حكاية الاتفاق عليه. وقيل: يُرَدُّ مطلقًا سواء الداعية وغيره، لأنه فاسقٌ ببدعته، وإن كان متأولا فالتحق بالفاسق غير المتأول، كما التحق الكافر المتأول بغير المتأول، وهذا يروى عن مالك وغيره، ونقله الآمِدِيُّ عن الأكثرين، وجزم به ابن الحاجب، وأنكره ابن الصَّلاح، وقال: إنه بعيدٌ مُباعِدٌ للشّائع عن أئمة الحديث، فإن كتبهم طافحة بالرواية عن المبتدعة غير الدعاة، كخالد بن مَخلد، وعُبيد الله بن موسى العَبْسي، وعبد الرَّزّاق بن همام، وعمرو بن دينار. وقيل: يُرد إذا استحل الكذب نصرةً لمذهبه سواء دعا إلى مذهبه أم لا، وهو قول الشّافعيّ، فإنه قال أقبل شهادةَ أهل الأهواء إلا الخَطّابِيّة من الرّافضة، لأنهم يرون الشهادة بالزُّور لموافِقيهم، بخلاف ما إذا لم يَسْتَحِلَّ ذلك لأن اعتقاده حُرمة الكذب يمنعه منه، فيصدق. والرابع: قول أبي الفَتْح القُشَيْريِّ وهو: إن وافَقَه أحدٌ لم يُلْتَفَت إليه إخمادًا لبدعته، وإطفاءً لنارِه، وإن لم يُوافِقه أحد، ولم يوجد ذلك الحديث إلا عنده مع ما وَصَفْنا من صدقهِ، وتحرُّزه عن الكذب، واشتهاره بالدين، وعدم تعلق ذلك الحديث ببدعته، فَيَنْبَغي أن تقدم مصلحة تحصيل ذلك الحديث، ونشر تلك السنة على مصلحة إهانته وإطفاء بدعته، وإلى الأقوال الثلاثة الأُوَل أشار العراقيُّ بقوله: والخُلْفُ في مُبْتدعٍ ما كُفِّرا ... قِيلَ: يُرَدُ مُطلقًا واسْتُنكِرا وقيلَ: بَلْ إذا استَحَلَّ الكَذِبَا ... نُصْرَة مَذْهَب لَهُ ونُسِبا

للشَّافِعِيِّ إذ يقُول أقْبَلُ ... مِنْ غَيْرِ خَطّابِيّةٍ ما نَقَلُوا والأكْثَرُونَ وأرَاهُ الأعْدَلا ... رَدُّوا دُعاتَهم فَقَط ونَقَلا فيه ابنُ حِبّانَ اتّفاقًا وَرَوَوْا ... عنْ أهْلِ بِدَعٍ في الصَّحِيح ما دَعَوْا الثاني: حَنْظَلَةُ بن أبي سُفيان بن عبد الرحمن بن صَفْوان بن أُمَيَّة الجُمَحيُّ المَكِّيُّ، قيل: اسم أبي سُفيان الأسود، وهو الذي يروي عنه محمَّد بن فُضَيْل، ويقول: حدثنا حَنْظَل بن الأسود. قال أحمد: كان وَكِيع إذا أتى على حديثه، قال: حدثنا حَنْظلَة بن أبي سُفيان، وكان ثقةً ثقة. وكذا قال الجُوزْجانيُّ، عن أحمد: إنه ثقةٌ ثقة. وقال ابن أبي مَرْيم، عن ابن مَعين: إنه ثقة حجة. وقال عبد الله بن شُعيب عنه: حَنْظَلَةٌ وأخُوه ثِقَتان. وقال أبو زُرْعة، وأبو داود، والنَّسائيُّ: ثقة. زاد أبو داود: وعثمان بن الأسْود يُقَدَّمُ عليه. وقال ابن المَدينيّ: سألت عنه يَحْيىَ بن سعيد، فقال: كان عنده كتاب، ولم يكن عندي مثلُ سيفٍ، وقال ابن عَدِيّ: عامة ما روى حَنْظَلة مستقيم، وإذا حدّث عنه ثقة فهو مستقيم. وقال يَعْقُوب بنُ شَيْبَة: هو ثقةٌ، وهو دون المتَثَبِّتين. وقال أيضًا: قيل لعلي بن المَديني: كيف رواية حَنْظلة عن سَالِم؟ قال: روايته عن سالم وَاد، ورواية موسى بن عُقبة عن سالم واد آخر، ورواية الزُّهْري عن سالم كأنها أحاديث نافع. فقيل لِعَليّ: هذا يَدُلُّ على أن سالمًا كثير الحديث، قال: أجل. وقال ابن سَعْد كان ثقة، وله أحاديث. وقال ابن المَدِيني: لا بأس به، وذكره ابن حِبّان في "الثقات" وقال: اسم أبي سُفيان الأسود .. إلخ. ما مرَّ قريبًا. وذكره ابن عَدِيٍّ في الكامل وأورد له حديثًا استنكره، لعل العلة فيه من غيره. روى عن سَالم بن عبد الله بن عُمر، وسعيد بن مِيناء، وطاووس، وعِكْرمة بن خالد، والقاسم بن محمَّد، ونافِع مولى ابن عُمر، وعَطاء بن أبي رَباح، ومُجاهد، وأخويه عبد الرحمن وعَمرو، وجماعة. وروى عنه: الثَّوريُّ، وحمّاد بن عيسى الجُهَنِيُّ، وابن المُبارك،

وابن نُمير، وابن وَهْب، ووكيع، والقطّان، وعُبيد الله بن موسى، ومَكِّي ابن إبراهيم، وجماعة. مات سنة إحدى وخمسين ومئة. والجُمَحِيُّ في نسبه نسبةً إلى بني جُمَح من قريش، وهم بنو جُمح ابن عَمرو بن هُصَيْص بن كَعب بن لُؤي، وسَهْم أخو جُمح جد بني سَهمٍ، وزعم الزُّبير بن بكار أن اسم جُمِح تَيْم، واسم سَهْم زَيْد، وأن زيدًا سابَقَ أخاه إلى غابة فَجَمَحَ عنها تَيمٌ، فسُمي جُمَح، ووقف عليها زَيْد، فقيل: قد سَهَمَ زيد فسمي سَهْمًا. وليس في الرواة حَنظلة بن أبي سُفيان سواه، وحنظلة في الستة غيره عشرة. الثالث: عِكْرمة بن خالد بن العَاص بن هِشام بن المُغيرة بن عبد الله ابن عَمرو بن مَخزوم القُرَشيُّ المَخْزوميُّ. قال ابن مَعين، وأبو زُرْعة، والنسائي: ثقة. وذكره ابن حِبّان في "الثقات" وقال ابن سَعْد: كان ثقة، وله أحاديث، ووثقه البُخاري كما قال أبو الحسن بن القطان، وقال آدم: سمعت البخاري يقول: منكر الحديث. روى عن: أبيه، وأبي هُريرة، وابن عبّاس، وابن عُمر، وأبي الطُّفَيل، ومالِك بن أوْس بن الحَدَثان، وسعيد بن جُبَير، وجَعْفر بن عبد المطَّلب، وغير واحد. روى عنه: أيوب، وابن جُرَيج، وعبد الله بن طَاوُوس، وحَنْظلة بن أبي سفيان، وقَتَادة، وحمّاد بن سَلَمة، وعَطاء بن عَجْلان، وآخرون. وقال أحمد بن حَنْبل: لم يسمع من ابن عَبّاس، وقال أيضًا: لم يَسمع من عُمر، وسمع من ابنه.

وليس في الستة عِكْرمة بن خالد سواه، وفي الرُّواة عِكرمة بن خالد قريب الذي قبله، ذكره العُقَيليُّ في كتابه، وعِكرمة في الستة سواه خمسة. والمَخْزُوميُّ في نسبه نسبةً إلى مَخزوم أبو حيٍّ من قُريش، وهو ابن يقظة بن مُرة بن كَعب بن لُؤي بن غالِب، وفي عَبْس أيضًا مخزوم أبو قبيلة منهم، وهو ابن مالِك بن غالِب بن قَطيعة بن عَبْس، منهم خالد بن سِنان ابن غيث بن مريطة بن مخزوم، وقيل: إنه نبيٌّ صلى الله تعالى عليه وسلم، وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام. الرابع: عبد الله بن عُمر، مر قريبًا في الأثر الرابع من كتاب الإِيمان. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعَنْعنة والإِخبار، ورواته كلهم مكِّيون إلا عُبيد الله فإنه كوفي، وكله على شرط الستة إلا عِكرمة بن خالد فإن ابن ماجة لم يُخرج له، وهو من رُباعيات البُخاري، ومن خُماسيات مسلم، فَعَلا البخاريُّ برجلٍ. أخرجه البخاريُّ هُنا، وفي التفسير، ومسلم في الإِيمان عن محمَّد ابن عبد الله بن نمير وغيره. ثم قال المؤلف:

3 - باب أمور الإيمان

3 - باب أمور الإِيمان بالإِضافة البيانية، أي: بيان الأمور التي هي الإِيمان، لأن الأعمال عند المؤلف هي الإِيمان، أو بمعنى اللام، أي: باب الأمور الثابتة للإِيمان في تحقيق حقيقته، وتكميل ذاته، وفي رواية أبي ذَرٍّ: "أمْر الإِيمان" بالإِفراد على إرادة الجنس، ثم قال: "وقول الله تعالى" بالجر عطف على أمور، وفي رواية: "عَزَّ وَجَلَّ" بدل قوله: "تعالى". وقوله: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [البقرة: 177] البرُّ قُرىء بالنصب على أنه خبر مقدم، وأن تولوا هو الاسم، وقُرىء بالرفع على أنه اسم وأن تُولوا خبر، والبِرُّ اسم جامعٌ لكل خير وفعل مَرْضِيّ. وقوله: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ} بتخفيف لكن، والبرُّ مبتدأ، وخبره من آمن بالله، وقُرىء لكن بالتشديد، ونصب البر على الاسمية. وقوله: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [البقرة: 177] على حذف مضاف، أي. برُّ من آمن، أو يؤول البر بالبارّ باسم الفاعل، قيل: الخطاب لأهل الكتاب، لأن اليهود تُصلي قِبَل المغرب إلى بيت المَقدس، والنّصارى قِبَل المشرق، وذلك أنهم أكْثَر والخَوْض في أمر القبلة حين تَحَوَّل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الكعبة، وزعم كل واحد من الفريقين أن البر التوجه إلى قبلته، فرد عليهم، وقوله: {وَالْكِتَابِ} جنس كتاب الله أو القرآن، وقوله: {عَلَى حُبِّهِ} قيل: الضمير للمال، أي: على حبِّ المال والشح به كما قال عليه الصلاة والسلام لما سئل أيُّ الصَّدقةِ أفْضَلُ؟ قال: "أنْ تَتَصَدَّق وأنْتَ صَحيحٌ شَحيحٌ تأْملُ الغِنَى وتَخْشَى الفقر ولا تمهل حتّى إذا بَلَغَتِ الحُلْقُوم قُلتَ لِفُلان كذا ولِفلانٍ كذا، ألا وَقَد كَانَ لِفُلان كذا" أخرجه الشيخان وغيرهما. أو الضمير للإِيتاء المفهوم من: {وَآتَى الْمَالَ} وعلى فيهما

بمعنى مع، أو الضمير لله تعالى، وعلى أجلية، كقوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185]. وقوله: {ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى} أي: القرابة، واليَتَامى المحاويج منهما، ولم يُقَيِّد لعدم الإِلباس، لأن إيتاء الأغنياء هِبة لا صدقة، وقدم ذوي القُربى لأن إيتاءهم أفضل، لقَوْله عليه الصلاة والسلام كما في أحمد والتِّرْمِذيّ: "الصَّدَقَة عَلَى المِسْكِين صَدَقَةٌ، وعلى ذِي الرَّحِم صَدَقَةٌ وصلةٌ". وقوله: {وَالْمَسَاكِينَ} جمع مسكين، وهو الدائم السكون لما أن الحاجة أسْكَنَتْهُ بحيث لا حراك به، أو دائم السكون والالتجاء إلى الناس كالمِسْكير الدائم السكر. وقوله: {وَابْنَ السَّبِيلِ} المراد به المسافر المُنْقطع، وجُعِلَ ابنًا للسبيل لملازمته له، كمَا يُقال للصِّ القاطع: ابن الطريق، وقيل: هو الضيف، لأن السبيل يُعرف به. {وَالسَّائِلِينَ} أي: الذين ألجأتهُمُ الحاجة إلى السؤال، قال عليه الصلاة والسلام كما أخرجه أحمد وأبو داود وابن أبي حاتم: "لِلسَّائِلِ حَقٌّ وإن جَاءَ عَلَى فرسٍ" وقيل: المساكين السابق ذكرهم، الذين لا يَسْألون وتُعْرَف حاجتهم بحالهم، وإن كان ظاهرهم الغنى، وأراد بالسّائلين المساكين الذين يَسْألون، فتُعرف حالهم بسؤالهم. وقوله: {وَفِي الرِّقَابِ} أي في تخليصها، عامٌّ في إعانة المُكاتَبِين، وفكِّ الأُسارى، وابتياع الرِّقاب للعِتْق قُربةً، والرَّقَبَة مجازٌ عن الشخص. وقوله: {وَأَقَامَ الصَّلَاةَ} عطف على صلة من، والمراد المفروضة، كالزكاة في قوله: {وَآتَى الزَّكَاةَ} والمراد بما مر من إيتاء المال نوافلُ الصدقات، أو حقوق كانت في المال غير مقدرة سوى الزكاة، واختُلف هل هي باقيةٌ أو نُسِخَت؟ والصحيحُ بقاؤها، لقوله: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ

لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 19]. وقوله: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ} عَطف على من آمن. {إِذَا عَاهَدُوا} أي: الله أو الناس. وقوله: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} منصوب على المَدْح، بتقدير أخُصُّ أو أمدح، ولم يعطِف لبَيانِ فضلِ الصَّبر على سائرِ الأعمال، والبَأساءُ شِدَّةُ الفقر لأن البأساءَ في الأموال، والضَّرّاء في الأبْدان. وقوله: {وَحِينَ الْبَأْسِ} أي: وقت شدة القتال في سبيل الله، وهذا من باب الترقي في الصبر من الشديد إلى الأشد، لأن الصبر على المرض فوق الصبر على الفقر، والصبر على القتال فوق الصبر على المرض، وعدّى الصبر إلى الأوَّلَيْن بفي لأنه لا يعد الإِنسان من الممدوحين إذا صَبَرَ علي شيء من ذلك إلا إذا صار الفقر والمرض كالظرف له، وأما إذا أصاباه وقتًا ما، وصَبَرَ، فليس فيه مدحٌ كثيرٌ إذ أكثر الناس كذلك، وأتى بحين في الأخير لأن القتال حالة لا تكاد تدوم في أغلب الأوقات. وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا} أي: أولئك الموصوفون بما ذَكَرَهم الذين صدقوا في إيمانهم وادعاء البر واتباع الحق. وقوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} عذاب الله بتجنب معاصيه، وامتثال أوامره، وأتى بخبر أولئك الأول موصولًا بفعل ماض إيذانا بتحقق اتصافهم به، وأن ذلك قد وقع منهم، وغاير في خبر الثانية ليدل على أن ذلك ليس بمتجدد، بل صار كالسَّجِيّة لهم، وهذه الآية جامعة للكمالات الإِنسانية بأسرها، إذ هي تنحصر في ثلاثة أشياء، صحة الاعتقاد، وحسن المعاشرة للخلق، وتهذيب النفس في المعاملة مع الله، وقد أشير إلى الأول بقوله: {مَنْ آمَنَ} إلى {وَالنَّبِيِّينَ}، وإلى الثاني بقوله: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} إلى {وَفِي الرِّقَابِ}، وإلى الثالث بقوله: {وَأَقَامَ الصَّلَاةَ} إلى آخرها، ولذلك وُصِف المسْتَجْمِع لها بالصدق، نظرًا إلى

إيمانه واعتقاده، وبالتقوى اعتبارًا لمعاشرته للخلق ومعاملته مع الحق. ووجه استدلال المؤلف بهذه الآية ومناسبتها لحديث الباب، يظهر من الحديث الذي رواه عبد الرزاق وغيره أن أبا ذَرٍّ سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإِيمان، فتلا عليه {لَيْسَ الْبِرَّ ....} إلخ. ورجاله ثقات، ولم يسقه المؤلف لأنه ليس على شرطه، وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: من عمل بهذه الآية فقد استكمل الإِيمان، ووجه الاستدلال هو أن الآية حصرت التقوى على أصحاب هذه الصفات، والمراد المتقون من الشرك والأعمال السيئة، فإذا فعلوا وتركوا فهم المؤمنون الكاملون، والجامع بين الآية والحديث هو أن الأعمال مع انضمامها إلى التصديق داخلة في مسمى البر كما هي داخلة في مسمى الإِيمان، فإن قيل ليس في المتن ذكر التصديق، أجيب بأنه ثابت في أصل هذا الحديث عند مسلم وغيره، والمصنف يكثر الاستدلال بما اشتمل عليه المتن الذي يذكر أصله، ولم يسقه تمامًا. من فتح الباري. ثم استدل المؤلف لذلك أيضًا بآية أخرى فقال: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} الآية بلا أداة عطف، والحذف جائز، والتقدير وقول الله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] وثبت المحذوف في رواية الأصيلي، ويُحتمل أن يكون ذكر ذلك تفسيرًا لقوله: {الْمُتَّقُونَ}، أي المتقون هم الموصوفون بقوله: {قَدْ أَفْلَحَ} إلى آخرها، وكان المؤلف أشار إلى إمكان عد الشعب من هاتين الآيتين وشبههما. ومن ثم ذكر ابن حِبّان أنه عد كل طاعة عدها الله تعالى في كتابه من الإِيمان، وكل طاعة عدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الإِيمان، وحذف المكرر فبلغت تسعًا وتسعين، وقوله: الآية، يجوز فيها النصب بتقدير اقرأ، والرفع مبتدأ حذف خبره أي والآية دليل. وقوله: {قَدْ أَفْلَحَ} قد لتحقيق ما يحصل في المستقبل وتنزيله منزلة الواقع، فإنها تثبت المتوقع كما أن لما تنفيه، و {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}، أي:

فاز المؤمنون، ظفروا بمقصودهم، ونَجَوْا من كل مكروه، قال تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185] والمؤمنون جمع مؤمن، وهو المصدق بالله وملائكته ورسله وكتبه واليوم الآخر والقدر خيره وشره وحلوه ومره، وكان المؤمنون يتوقعون نوع البشارة منه تعالى، فصَدَّر السورة بما دَلَّ على ثبوت متوقعهم على أبلغ وجه، بأن أدخل قد على المضارع البارز في صورة الماضي الدالِّ على التحقيق، فكأنه قال: قد تحقق أن المؤمنين من أهل الفلاح بالإِيمان، ويجوز أن يكون جواب قسم محذوف فيزداد تأكيدًا على تأكيد. وقوله: {خَاشِعُونَ} ظاهرًا وباطنًا، فالخشوع الظاهري التمسك بآداب الصلاة كقصر الأبصار في مواضع السجود، لأن الخشوع فعل قلب يظهر أثره في الجوارح، لحديث: "لَوْ خَشَعَ قَلبُ هذا لَخَشعتْ جوارحُه" والباطني استحضار عظمة الله تعالى، ومنه أن لا يحدث نفسه بأمر لا يتعلق بالصَّلاة، وأن يتدبر ما يجري على لسانه من القراءة والذكر، وأن لا يلتفت، لحديث: "لَا يَزَال الله مقبلًا على العَبْد ما لم يَلْتَفِت، فإذا التفتَ أعْرَضَ عنه" قال في "الجواهر": قد نَصَّ أئمتنا على وجوب الخُشوع في الصلاة، قال الغَزّالي: كل ما يَشغَلُك عن معاني قراءتك فهو وسواسٌ، ثم أتبع وصفهم بالخشوع وصفهم بالإِعراض عن اللغو، جمعًا لهم بين فعل ما ينبغي وترك ما لا ينبغي، بقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:3] والمراد باللغو كل ما لا يَعُودُ على الشخص منه فائدة في الدين أو الدنيا، قولًا كان أو فعلًا أو مكروهًا أو مباحًا، كالهَزْل واللَّعب، وضياع الأوقات فيما لا يعني، والتوغل في الشهوات، وغير ذلك مما نهى الله تعالى عنه، فبالجملة ينبغي للإِنسان أن يُرى ساعيًا في حسنةٍ لمعادِهِ، أو دِرهم لمعاشِه، ومن حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، وهذا كالتتمة للصلاة، فلذا فَصَّلَ به بينها وبين الزكاة التي هي أختها، وفيه مبالغات بجعل الجملة اسمية، وبناء الحكم على الضمير، والتعبير عنه بالاسم، وتقديم الصلة عليه، وأقَامَ الإِعراض مقام الترك

ليدل على بعدهم عنه رأسًا مباشرة، وتسببًا وميلًا وحضورًا، فإن أصله أن يكون في عرض غير عرضه. وقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون:4] الزكاة الواجبة أو كل عمل صالح، وفاعلون مؤدون عبر عن المزكي بالفاعل تحاشيًا عن التكرار، والزكاة تقع على المعنى والعين، والمراد الأول لأن الفاعل يفعل الحدث لا المحل الذي هو موقعه، أو الثاني على تقدير مضافٍ، وإنما وصفهم بأدائها بعد الوصف بالخشوع ليدل على أنهم بلغوا الغاية في القيام. وقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5]، أي: مانعون لها عن كل ما لا يَحِلُّ وطؤَه بوجه من الوجوه. وقوله: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ} [المؤمنون: 6] على هنا بمعنى من أي مانعون لها إلا من أزواجهم، أو المعنى حافظون لها على أزواجهم لا يبذُلونها إلا على أزواجهم، فعلى هذا "على" صلة لحافظون، من حفِظْت المال على اليتيم، وأحْفَظُ على عِنَان فرسي، أي حافظون فروجهم. على الأزواج لا تَتَعدّاهُنَّ ولا يبذُلونها إلا عليهن، فهو تأكيدٌ. وقوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] أي السَّراري، عبر بما دون من وإن كان المقام يقتضي من لأن الإِناث ناقصات، ولا سيما الأرقاء ففيهن شبه بالبهائم في حل البيع والشراء، والسراري جمع سرية بالضم، وهي في الأصل الأمَة التيِ بُوِّئَتْ ببيت، مأخوذة من السر وهو الجماع أو الإِخفاء لأن الإِنسان كثيرًا ما يُسِرُّها ويَسْتُرُها عن حرَّتِهِ، أو من السرور لأنها تَسُرُّ مالِكَها. وقوله: {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} فإنهم أي الحافظون غير ملومين في إتيانهن، وفيه إشارة إلى أنه مباح لا ثواب فيه ولا عِقاب، وهذا ما لم يُقْصَد به التعفف عن الحرام، وإن قصد فندبٌ يثاب عليه، وربما وجب في بعض الأحوال لما في "البخاري" أنهم قالوا: يا رسول الله أيأْتي أحدنا

الحديث الثاني

شهوتَهُ ويكون له فيها أجرٌ. قال: "نَعَم أرَأيْتُم لَوْ وَضَعها في حَرام كان لَهُ وزرٌ" الحديث والاستمتاع بالمملوك خاصٌّ بالرجال، فلا يجوز للمرأة الاستمتاع بفَرْجِ مَمْلُوكِها. الحديث الثاني 9 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ». قوله: "الإِيمان" مبتدأ، خبره بضع، وهو بكسر الباء، وحُكِيَ الفتحُ لغةً، وهو عدد مبهم مقيد بما بين الثلاث إلى التسع، كما جزم به القَزَّازُ، وقيل: إلى العشر، وقيل: من واحد إلى تسع، وقيل: من اثنين إلى عشرة، وقيل: من أربعة إلى تسعة، ويرجح ما قاله القَزَّاز ما اتفق عليه المفسرون في قوله تعالى: {فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} من أن لبث يوسف عليه السلام في السجن سبع سنين، وما رواه الترمذي بسند صحيح أن قريشًا قالوا ذلك لأبي بكر، وكذا رواه الطَّبَري مرفوعًا وقال الفَرّاء: هو خاصٌّ بالعشرات إلى التسعين، ولا يقال: بضع ومئة ولا بضع وألف، وفي بعض الروايات بضعة بتاء التأنيث، وتحتاج إلى تأويل، وهو أن تُؤوَّلَ الشعبة بالنوع إذا فسرت بالطائفة من الشيء وبالخلق إذا فسرت بالخَصْلة والخلَّة. وقوله: "وستّون" هو الذي في طرق أبي عامر، وفي رواية عند أبي عَوانة بضع وستون، أو بضع وسبعُون، وفي رواية لمسلم كذلك، ورواه أصحاب السنن بضع وسَبْعون من غير شكٍّ، ورُجِّحَت رواية بضع وستون لأنه المتيقن، وترجيح عِياضٍ والحَلِيمِيِّ رواية بضع وسبعين بكونها زيادة ثقة مردودٌ بأن الذي زادها لم يستمر على الجزم بها، لا سيما مع اتحاد المخرج، وهل المراد حقيقة العدد أو المبالغة. قال الطِّيبِيُّ: الأظهر معنى

التكثير، ويكون ذكر البضع للتَّرَقّي، يعني أن شعب الإِيمان أعداد مبهمة، ولا نهاية لها، ولو أراد التحديد لم يُبْهم، وقال آخرون: المراد حقيقة العدد، ويكون النص وقع أولًا على البِضْع والستين، لكونه الواقع، ثم تجددت العشر الزائدة، فنص عليها. وقوله: "شُعبة" بضم الشين، أي قطعة، والمراد الخَصْلة، أو الجزء، قال القاضي عِياض: تكلف جماعة حَصر هذه الشعب بطريق الاجتهاد، وفي الحكم يكون ذلك هو المراد صعوبةٌ، ولا يقدح عدم معرفة حصر ذلك على التفصيل في الإِيمان، وقد لَخَّصَ في "الفتح" ما أورده، فقال: إن هذه الشعب تتفرع من أعمال القلب، وأعمال اللسان، وأعمال البدن، فأعمال القلب المعتقدات والنيّات، وتشتمل على أربع وعشرين خصلة، وأعمال اللسان تشتمل على سبع خِصال، وأعمال البدن تشتمل على ثلاث وثلاثين خَصْلة. فالأربع والعشرون المشتملة على أعمال القلب هي الإِيمان بالله، ويدخل فيه الإِيمان بذاته، وصفاته، وتوحيده بأنه ليس كمثله شيءٌ، واعتقادُ حدوث ما دونه، والإِيمان بالملائكة وكتبه ورسله والقدر خيره وشره، والإِيمان باليوم الآخر، ويدخل فيه المسألة في القبر والبعث والنشور، والحساب، والصراط، والجنة، والنار، ومحبة الله، والحب والبغض فيه، ومحبة النبي - صلى الله عليه وسلم -، واعتقاد تعظيمه، ويدخل فيه الصلاة عليه، واتباع سنته، والإِخلاص، ويدخل فيه ترك الرياء، والنفاق، والتوبة، والخوف، والرجاء، والشكر، والوفاء، والصبر، والرضا بالقضاء، والتوكل، والرحمة، والتواضع، ويدخل فيه توقير الكبير، ورحمة الصغير، وترك الكبر، والعجب، وترك الحسد، وترك الحقد، وترك الغضب. وأعمال اللسان المشتملة على سبع خصال هي: التلفظ بالتوحيد، وتلاوة القرآن، وتعلم العلم، وتعليمه، والدعاء، والذكر، ويدخل فيه الاستغفار، واجتناب اللغو.

وأعمال البدن المشتملة على ثمان وثلاثين خصلة منها ما يختص بالأعيان وهي خمس عشرة خصلة: التطهير حسًّا وحكمًا، ويدخل فيه اجتناب النجاسات، وستر العورة، والصلاة فرضًا ونفلًا، والزكاة كذلك، وفك الرقاب، والجود، ويدخل فيه إطعام الطعام، وإكرام الضيف، والصيام فرضًا ونفلًا، والحج، والعمرة كذلك، والطواف، والاعتكاف، والتماس ليلة القدر، والفرار بالدين، ويدخل فيه الهجرة من دار الشرك، والتحري في الإِيمان، وأداء الكفارات، ومنها ما يتعلق بالاتباع وهي ست خِصال: التعفف بالنكاح، والقيام بحقوق العيال، وبر الوالدين، وفيه اجتناب العقوق، وتربية الأولاد، وصلة الرحم، وطاعة السادة، والرفق بالعبيد، ومنها ما يتعلق بالعامّة وهو سبع عشرة خصلة: القيام بالإِمرة مع العَدل، ومتابعة الجماعة، وطاعة أولي الأمر، والإِصلاح بين الناس، ويدخل فيه قتال الخوارج والبغاة، والمعاونة على البر، ويدخل فيه الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود، والجهاد، ومنه المرابطة، وأداء الأمانة، ومنه أداء الخمس، والقرض مع وفائه، وإكرام الجار، وحسن المعاملة، وفيه جمع المال من حله، وإنفاق المال في حقه، ومنه ترك التبذير والإِسراف، ورد السلام، وتشميت العاطس، وكف الأذى عن الناس، واجتناب اللهو، وإماطة الأذى عن الطريق، فهذه تسع وستون خصلةً، ويمكن عدها تسعًا وسبعين خصلة باعتبار إفراد ما ضُمَّ بعضه إلى بعض مما ذكر. وفي رواية مسلم زيادة: "أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق" وتمسك بها القائلون بأن الإِيمان فعل الطاعات بأسرها. والقائلون بأنه مركب من التصديق والإِقرار والعمل جميعًا، وأجيب بأن المراد شعب الإِيمان قطعًا لا نفس الإِيمان، فإن إماطة الأذى عن الطريق ليس داخلًا في أصل الإِيمان حتى يكون فاقده غير مؤمن، فلا بُدَّ في الحديث من تقدير مضاف، أي فروع الإِيمان. وقوله: "والحياءُ شُعبة من الإِيمان" مبتدأ وخبره، ومن الإِيمان نعت

لشعبة، وهو بالمد، وفي اللغة هو تغير وانكسار يعتري الإنسان من خَوْف ما يعاب به، وقد يُطلَقُ على مجرد ترك الشيء بسبب، والترك إنما هو من لوازمه. وفي الشرع خُلُق يبعث على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق، ولهذا جاء في الحديث الآخر: "الحياءُ خيرٌ كلُّه". وقال الرّاغب: الحياء انقباض النفس عن القبيح، وهو من خصائص الإنسان ليرتدع عن ارتكاب كل ما يشتهي، فلا يكون كالبهيمة، وهو مركب من جُبْن وعِفَّة، فلذلك لا يكون المستَحي فاسقًا، وقَلَّما يكون الشجاع مستحيًا، وقد يكون لمطلق الانقباض كما في بعض الصبيان. وقال غيره: هو انقباض النفس خَشْية ما يكره أعم من أن يكون شرعيًّا أو عقليًّا أو عرفيًّا، ومقابل الأول فاسق، والثاني مجنون، والثالث أبله، وقال الحَلِيميُّ: حقيقة الحياء خوف الذم بنسبة الشرِّ إليه، وقال غيره: إن كان في مُحَرَّم فهو واجبٌ، وفي مكروهٍ فهو مندوبٌ، وفي مباحٍ فهو العُرفيُّ، وهو المراد بقوله: "الحياء لا يأتي إلا بخير" ويجمع كل ذلك أن المباح إنما هو ما يقعُ على وِفْقِ الشرع إثباتًا ونفيًا. وحُكِي عن بعض السلف: رأيتُ المعاصي مَذَلَّةً، فتركتها مروءةً، فصارت ديانةً. وقد يتولد الحياء من الله تعالى من التقلب في نعمه، فيستحي العاقل أن يستعين بها على معصيته، وقد قال بعض السلف: خَفِ الله على قَدْرِ قُدْرَتِه عليك، واستحي منه على قدر قربه منك. وإنما خصه هنا بالذكر لأنه كالداعي إلى باقي الشعب، لأنه يبعث على الخوف من فضيحة الدنيا والآخرة، فَيَأتَمِر ويَنْزَجِرُ، ومن تَأمَّل معنى الحياء، ونظر فيما أخرجه التِّرمِذيُّ من قوله عليه الصلاة والسلام: "اسْتَحيُوا من الله حقَّ الحَيَاءِ". قالوا: إنا لَنَسْتَحيي من الله يا رسول الله، والحمد لله. قال: "لَيْس ذلك، ولكن الاستحياءُ من الله حق الحياء أن يُحْفَظَ الرَّأسُ ومَا وَعَى، والبَطْن وما حَوَى، ويُذْكر الموتُ والبلا، ومن أراد الآخرة تَرَكَ زينة الدنيا، وآثَرَ الآخرةَ على الأولى، فمن يَعْمَل ذلك فقد استحيى من الله حقَّ الحياء، ورأى العجب العجاب" ومن مُنح الفضل

الإلهي ورزق الطبع السليم ذاق معنى إفراد الحياء بالذكر بعد دخوله في الشعب، كأنه يقول هذه شعبة واحدة من شعبه، فهل تحصى وتعد شعبها؟ هيهات! واعلم أنه لا يقال: إن الحياء من الغرائز، فكيف جُعِل شعبَةً من الإِيمان؟ لأنا نقول: إنه قد يكون غريزة، وقد يكون تَخَلُّقًا، ولكن استعماله على وِفق الشرْعِ يحتاج إلى اكتساب وعلم ونية، فلهذا كان من الإِيمان، ولكونه باعثًا على فعل الطاعة وحاجزًا عن فعل المعصية، ولا يُقال: رُبَّ حياءٍ يمنع عن قول الحق، أو فعل الخير، لأنا نقول: إن ذلك ليس بحياء شرعيٍّ وإنما هو خَجَلٌ، وهو انقباض النفس عن الفعل مطلقًا. وفي هذا الحديث دلالة على قبول الإِيمان الزيادة والنقصان، لأن معناه كما قال الخَطَّابي: إن الإِيمان الشرعيَّ اسم لمعنى ذي أجزاء، له أعلى وأدنى، والاسم يتعلق ببعض تلك الأجزاء، كما يتعلق بكلها. وفيه أيضًا تشبيه الإِيمان بشجرة ذات أغصان وشعب، ومبناه على المجاز لأن الإِيمان كما مر في اللغة التصديق، وفي عرف الشَّرع تصديق القلب واللسان، وتمامه وكماله بالطاعات، فحينئذ الإِخبار عن الإِيمان بأنه بضع وستون يكون من إطلاق الأصل على الفَرع لأن الإِيمان هو الأصل، والأعمال فروعٌ منه، وإطلاق الإِيمان على الأعمال مجازٌ، لأنها تكون عن الإِيمان. وهذا مبنيٌّ على القول بقَبُول الإِيمان الزيادة والنقصان. أما على القول بعدم قبوله لهما، فليست الأعمال داخلة في الإِيمان، واستدل لذلك بأن حقيقة الإِيمان التصديق، وبأنه قد وَرَدَ في الكتاب والسنة عطف الأعمال على الإِيمان، كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة: 277] مع أن العطف يقتضي المغايرة، وعدم دخول المعطوف في المعطوف عليه، وقد ورد أيضًا جعلُ الإِيمان شرطًا لصحة الأعمال كقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَات

رجاله ستة

وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [طه: 112] مع القطع بأن المشروط لا يدخل في الشرط، لامتناع اشتراط الشيء لنفسه، وورد أيضًا إثبات الإِيمان لمن ترك بعض الأعمال، كقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9] مع القطع بأنه لا يتحقق الشيء بدون رُكنه، ولكن هذه الوجوه إنما تقوم حجة على من يجعل الطاعاتِ ركنًا من الإِيمان، بحيث إن تاركها لا يكون مؤمنًا كما مر عن الخوارج والمعتزلة، لا على من ذَهَبَ إلى أنها ركن من الإِيمان الكامل، بحيث لا يَخْرُجُ تاركها عن حقيقة الإِيمان، كما مر عن السلف. رجاله ستة: الأول: عبد الله بن محمَّد بن عبد الله بن جَعْفر بن اليمان بن أخْنَس ابن خُنَيس أبو جعفر الجُعْفيّ البُخاريّ الحافظ المعروف بالمُسْنِدِيّ سُمي بذلك لأنه كان يطلب المسندات، ويرغب عن المرسلات والمنقطعات. وقال الحاكم: لأنه أول من جمع مسند الصحابة فيما وراء النهر، وهو إمام الحديث في عصره هنالك بلا مدافعة. وقال الخَلِيليُّ: ثقة متقن. وقال البُخاريُّ: قال لي الحَسن بن شُجاع: من أين يفوتك الحديث وقد وقعت على هذا الكنز؟ وقال أبو حاتم: صدوق. وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: كان متقنًا. وقال أحمد بن سَيّار: من المعروفين بالعدالة والصدق، صاحب سنة، عرف بالإِتقان، وقد رأيته بواسط حسن القامة، أبيض الرأس واللحية، ورجع إلى بخارى، ومات بها. وفي "الزهرة" روى له البخاري أربعة وأربعين حديثًا، وجدُّه اليَمَان هو مولى أحد أجداد البخاري ولاءَ إسلام. روى عن: ابن عُيَينة، وعبد الرزاق، وحَرَميّ بن عُمارة، وإسحاق الأزرق، ومُعْتَمر بن سليمان، وجماعة. وروى عنه: البُخاريّ، وروى الترمذي عن البخاري عنه، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وأحمد بن سَيّار، والذُّهْليّ، وعبيد الله بن واصل البُخاري، وغيرهم.

مات ببخارى في ذي القعدة سنة تسع وعشرين ومئتين. وعبد الله بن محمَّد في الستة ثلاثون. والجُعْفِيّ في نسبه نسبةً إلى جُعفي ككرسي، وهو ابن سعد العشيرة ابن مذحج أبو حي من اليمن، والنسبة إليه جُعْفِي كما في الصحاح، وأنشد للبيد: قَبَائلُ جُعْفِيِّ بن سَعْدٍ كأنَّما ... سَقَى جَمْعَهُم ماءً الزُّعافِ مُنيمُ فإذا نسبت إليهَ قدَّرت حذف الياء المشددة، وإلحاق ياء النسب مكانها، فالاسم والمنسوب إليه واحد كما عرفت، غير أنه يجمع جمع رومي، فقيل: جُعْفٌ، وللشاعر: جُعْفٌ بِنجرانَ تَجُرٌّ القَنَا وأعقب جعفي من ولديه مروان وصَرِيم، فمن وَلَدِ مروان جابر بن زيد الفقيه، ومن صَرِيم عبيد الله بن الحذّاء، والفاتِك، وغيرهما. والبُخاريُّ في نسبه نسبةً إلى بُخارى -بضم الباء- يمد ويقصر، والقصر أرجح وأشهر، وهي بلدة من أعظم مدن ما وارء النهر، بينها وبين سمرقند ثمانية أيام أو سبعة، خرج منها جماعة من العلماء في كل فَنٍّ، وعلى بُخارى وقُراها ومزارعها سور واحد، نحو اثني عشر فرسخًا في مثلها. قال ابن حَوْقَل: رَسَاتِيق بُخارى تزيد على خمسة عشر رُسْتاقًا، جميعها داخل الحائط المبني على بلادها، ولها خارج الحائط أيضًا عدة مدن، منها فِرَبر وغيرها، ولها تاريخ عجيب. الثاني: عبد الملك بن عمرو بن قَيْس القَيْسيّ أبو عامر العَقَدي -بالتحريك- البصري. قال سليمان بن داود القَزَّاز: قلت لأحمد: أريد البصرة، عمن أكتب؟

قال: عن أبي عامر العَقَديّ، ووهيب بن جَرير. قال عثمان الدَّارِميُّ، عن ابن مَعين: صدوق. وقال أبو حاتم: صدوق. وقال النَّسائي: ثقة مأمون. وقال ابن مَهْدي: كتبت حديث ابن أبي ذِئبٍ عن أوثق شيخ، أبي عامر العَقَديّ. قال أبو زَكريّا الأعْرج النَّيْسابورِيّ: كان إسحاق إذا حدثنا عن أبي عامر، قال: حدثنا أَبو عامر الثقة الأمين. وقال ابن سَعْد: كان ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال عُثمان الدّارميّ: أبو عامر ثقة عاقل، روى عن أيمن بن نابِل، وعِكْرمة بن عَمّار، وقُرَّة بن خالد، وفُلَيْح بن سُليمان، والثَّوريّ، وشُعبة، وسليمان بن بلال، ومالك، وابن أبي ذئب، وهشام الدَّسْتُوائي، وغيرهم. وروى عنه: أحمد، وإسحاق، وعلي، ويحيى، والمُسْندي، وأبو خَيْثَمة، والذُّهْلِيّ، وأبو قِلابة، وأبو قُدامة السَّرْخَسِيّ، وحَجّاج بن الشاعر، وأبو بكر بن نافع، وغيرهم. مات سنة أربع ومئتين. والعَقَديُّ في نسبه نسبةً إلى العَقَد بالتحريك، وهم قوم من قيس، وهم صِنْف من الأزْد، وقيل: العَقَد بطن من بَجِيلة. وقيل: من قَيْس عَيْلان بالولاء، قال أبو الشيخ: إنما سُمّوا عَقَدًا لأنهم كانوا لئامًا. وقيل: العَقَد مولى الحارث بن عبّاد بن ضبيعة بن قَيس بن ثَعْلبة. وقيل: قبيلة من اليمن من بني عَبْد شمس بن سعد. وفي "القاموس" العقد بالتحريك قبيلة من بَجيلة أو اليمن، منها بشر بن معاذ، وأبو عامر عبد الملك بن عمرو. الثالث: سُليمان بن بِلال التَّيْمي القُرَشيّ مولاهم مولى آل الصديق أبو محمَّد، ويقال: أبو أيوب المَدَنيّ. قال أحمد: لا بأس به، ثقة. وقال ابن مَعين: ثقة صالح. وقال عُثمان الدارِمِيّ: قلت لابن مَعين سليمان أحب إليك أو الدَّراوَرْديّ؟ فقال: سليمان، وكلاهما ثقة. وقال ابن سَعْد: كان بَرْبَريًّا جميلًا عاقلًا حسن الهيئة، وكان يُفتي بالبلد، وولي خراج المدينة، وكان ثقة كثير

الحديث. وقال الذُّهْلِيُّ: ما ظننت أن عند سليمان بن بلال من الحديث ما عنده، حتى نظرت في كتاب ابن أبي أُوَيْس، فإذا هو قد تَبَحَّر في حديث المدنيين. وقال ابن مَهْدي: ندمت على أن لا أكون أكثرت عنه. وقال أبو زُرْعة: سليمان بن بلال أحب إلي من هشام بن سَعْد. وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال الخَليليّ: ثقة ليس بمكثر، لقي الزُّهْريّ، ولكنه يروي كثير حديثه عن قدماء أصحابه، وأثنى عليه مالك، وآخر من حدث عنه لُوَيْن. وقال ابن الجُنَيْد، عن ابن مَعِين: إنما وضعه عند أهل المدينة أنه كان على السوق، وكان أروى الناس عن يحيى بن سعيد. قال عثمان بن أبي شَيْبة: لا بأس به، وليس ممن يُعتمد على حديثه. وقال ابن حَجَر: قال ابن عَدِيّ: رأيت رواية مالك عنه في كتاب "مكة" للفاكِهانيّ. روى عن زيد بن أسْلم، وعبد الله بن دينار، وصالح بن كَيْسان، وحُمَيْد الطويل، وهشام بن عُروة، وموسى بن عُقبة، ويحيى بن سعيد، وجَعْفر الصادق، وخلق. وروى عنه: أبو عامر العَقَديّ، وعبد الله بن المُبارك، ومُعَلَّى بن منصور الرّازي، وأبو سلمة الخُزاعيّ، ويحيى بن يحيى النَّيْسابُوري، وإسماعيل بن أبي أُوَيْس، والقَعْنَبِيُّ، ومحمد بن سُليمان لُوَيْن، ومرّ أنه آخر من روى عنه. مات بالمدينة سنة سبع وسبعين ومئة، وقيل: سنة اثنتين وسبعين. وليس في الكتب الستة من اسمه سُليمان بن بلال سواه، وأما سليمان فكثير. والتَّيْميُّ في نسبه نسبةً إلى تَيْم بن مُرة جد أبي بكر الصديق رضي الله عنه. والتيمي في قبائل من العرب، ففي قريش تَيْم بن مرة هذا، وفي الرَّباب تيم بن عبد مَناة بن أُدَ بن طابِخة، قال مَعْمر بن المُثَنى: تَيْم الرَّباب: عَدِيّ وثور وعُكْل، ومُزَيْنة، وضَبَّة بنو عبد مناة، وقيل: سُمّوا بذلك لأنهم غمسوا أيديهم في رُبٍّ وتحالفوا عليه، وقيل: سموا به لأنهم

تَربَّبوا، أي: تحالفوا مع تميم علي بني سعد بن زيد مَناة، والرُّبُّ بضم الراء، وتشديد الباء الموحدة، الطلاء الخاثِر، وفي النَّمِر بن قاسِط تَيْم الله بن النَّمِر بن قاسِط، وفي شَيْبان تَيْم بن شيبان، وفي ربيعة بن نزار تيم الله بن ثَعْلبة، وفي قُضاعة تيم الله بن رُفَيدة، وفي ضَبَّة تيم بن ذُهْل. الرابع: عبد الله بن دينار العَدَويُّ، أبو عبد الرحمن المدني مولى ابن عمر. قال صالح بن أحمد، عن أبيه: ثقة مستقيم الحديث. وقال أبو زُرْعة، وأبو حاتم، وابن مَعين، ومحمد بن سَعْد، والنَّسائي: ثقة. زاد ابن سَعْد: كثير الحديث. وقال العِجْليّ: ثقة. وقال ابن عُيينة: لم يكن بذاك، ثم صار. وقال اللَّيْث، عن ربيعة: حدثني عبد الله بن دينار، وكان من صالحي التابعين، صدوقًا دينًا، وذكره ابن حِبان في "الثقات". وقال السَّاجِيُّ: سئل أحمد عنه، فقال: نافع أكبر منه، وهو ثبت في نفسه، ولكن نافع أقوى منه. وفي "العلل" للخَلّال: أن أحمد سئل عن عبد الله ابن دينار الذي روى عنه موسى بن عُبيدة النهي عن بَيْع الكالىء بالكالِىء، فقال: ما هو الذي روى عنه الثَّوْرِيُّ. قيل: فمن هو؟ قال: لا أدري. وجزم العُقَيْليُّ بأنه هو، فقال في ترجمته: روى عنه موسى بن عُبيدة ونظراؤه أحاديث مناكير العمل فيها عليهم، وروى عنه الأثبات حديثه عن ابن عمر في النهي عن بيع الوَلاء وعن هِبَته، ومما انفرد به حديث شُعب الإِيمان. رواه عنه ابنه، وسُهَيل، وابن عَجْلان، وابن الهاد، ولم يروه شُعبة ولا الثوري ولا غيرهما من الأثبات. روى عن ابن عمر، وأنس، وسليمان بن يسار، ونافع مولى ابن عمر، وأبي صالح السمان، وغيرهم. وأما قول ابن الحذّاء في رجال الموطأ: قيل: لا نعلم له رواية عن أحد إلا ابن عمر، فهو قصور شديد ممن قاله. وروى عنه ابنه عبد الرحمن، ومالك، وسليمان بن بلال، وشُعبة،

والسفيانان، وعبيد الله بن عُمر، وموسى بن عُقبة، ووَرْقاء بن عُمر، ويحيى بن سعيد، وغيرهم. مات سنة سبع وعشرين ومئة. وفي الستة عبد الله بن دينار البَهْراني، وأما عبد الله فأكثر من أن يُحصى. والعَدَويُّ في نسبه نسبةً إلي عَدِيّ بن كَعْب وهو في قُريش، وفي الرَّباب عَدِيّ بن عبد مَناة، وفي خُزاعة عَدِيّ بن عمرو، وفي الأنصار عَديّ بطن من بني النجار، وفي طيِّىء عدي بن أخرم، وفي قُضاعة عدي ابن خَبّاب. الخامس: ذَكْوان السَّمّان الزَّيات أبو صالح المَدَنِي مولى جُويرية بنت الأحْمَس الغَطَفَاني، وقيل: مولى جُوَيرية بنت الحارث امرأة من قيس. قال أحمد بن حَنْبل: ثقة ثقة من أجلِّ الناس وأوثقهم، سمع منه الأعمش ألف حديث. وقال الأعمش: كان أبو صالح مؤذنًا، فأبطأ الإِمام، فأمَّنا، فكان لا يكاد يُجيزها من الرقة والبكاء. وقال ابن مَعين: ثقة. وقال أبو حاتم: ثقة صالح الحديث، يحتج بحديثه. وقال أبو زُرْعَة: ثقة مستقيم الحديث. وقال ابن سَعْد: كان ثقة كثير الحديث. وقال أبو داود: سألت ابن مَعين من أثبت الناس في أبي هُريرة؟ قال: ابن المُسَيِّب، وأبو صالح، وابن سِيرين، والمَقْبُريّ، والأعْرج، وأبو رافع. وقال السَّاجيُّ: ثقة صدوق. وقال الحرْبي: كان من الثقات. وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال العِجْليّ: ثقة، كان يَقْدم الكوفة يجلِب الزيت، فينزل في بني أسد، شهد الدار زمن عثمان، وسأل سعد بن أبي وَقَّاص مسألة في الزكاة، وروى عنه، وعن أبي هريرة، وأبي الدَّرداء، وأبي سعيد الخُدْريّ، وعقيل بن أبي طالب، وجابر، وابن عمر، وابن عبّاس، ومُعاوية، وعائِشة، وأم حَبيبة، وأم سَلَمَة، وغيرهم. وقال أبو زُرْعة: لم يلق أبا ذرّ.

روى عنه: أولاده: سهيل وصالح وعبد الله، وروى عنه عطاء بن أبي رَباح، وعبد الله بن دينار، وسُميٌّ مولى أبي بكر بن عبد الرحمن، والحكم بن عُتيبة، وعاصم بن بَهْدلة، وعمرو بن دينار، والزُّهريّ، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وآخرون. مات سنة مئة وواحد. وذكوان في الستة سواه اثنان، ذكوان أبو عمرو المَدَني مولى عائشة، روى عنها، وذكوان بن كَيْسان اليَماني الحِمْيَري. والغَطَفاني في نسبه -بمعجمة ومهملة مفتوحتين وبغاء- نسبةً إلى غَطَفان بن سعد بن قَيس عَيْلان حي من قيس عظيم. السادس: أبو هُرَيرة الدَّوْسي، صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو ابن عامر ابن ذي الشَّرى بن طَريف بن عَتّاب بن أبي صَعْب بن مُنَبِّه بن سعد بن ثعلبة ابن سُليم بن فهم بن غنم بن دَوْس بن عُدثان بن عبد الله بن زهران أو أزهر ابن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد بن الغوث. قال النَّوويّ في مواضع من كتبه: اسم أبي هُريرة عبد الرحمن بن صَخْر على الأصح من ثلاثين قولًا. وقال القُطْب الحَلَبيُّ: اجتمع في اسمه واسم أبيه أربعة وأربعون قولًا مذكورة في "الكنى" للحاكم. وسبب تكنيته أبا هريرة هو ما أخرجه التِّرمذي بسند حسن عن عُبيد الله ابن أبي رافع، قال: قلت لأبي هريرة: لم كُنِيت بأبي هُريرة؟ قال: كنت أرعى غنم أهلي، وكانت لي هرة صغيرة، فكنت أضعها في الليل في شجرة، وإذا كان النهار ذهبت بها معي، فلعبت بها، فكَنَوْني أبا هريرة. وعن ابن إسحاق، قال حدثني بعض أصحابي عن أبي هُريرة، قال: كان اسمي في الجاهلية عَبْد شمس، فسُمّيت في الإِسلام عبد الرحمن، وإنما كُنيت بأبي هريرة لأني وجدت هرة، فحملتها في كمي، فقيل لي:

ما هذه؟ قلت: هرة، قيل: فأنت أبو هُريرة. وأخرج البَغَويّ بسند حسن عن الوليد بن رباح، عن أبي هُريرة، قال: كان يقول لا تكنُوني أبا هُريرة، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كَناني أبا هِرّ، والذكر خيرٌ من الأنثى. قال ابن حَجَر: كان إسلامه بين الحُديبية وخَيْبر، قدم المدينة مهاجرًا، وسكن الصُّفَّة. وقال ابن عَبد البَرّ: أسلم أبو هريرة عام خَيبر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم لزمه وواظَبَ عليه رغبةً في العلم راضيًا بِشبَع بطنه، فكانت يده مع يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان يدور معه حيث دار، وكان من أحفظ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان يحضُر ما لا يحضُر سائر المهاجرين والأنصار، لاشتغال المهاجرين بالتجارة، والأنصار بحَوائِطِهم، وقد شهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنه حريصٌ على العلم والحديث، وقال له: يا رسول الله إني أسمع منك حديثًا كثيرًا، وأنا أخشى أن أنسى، فقال: "ابسُط رداءك" قال: فَبَسَطته، فغَرَف بيده فيه، ثم قال: "ضُمّه" فضممته، فما نسيت شيئًا بعدُ. وفي الصّحيح عن الأعرج قال: قال أبو هُريرة: إنكم تزعُمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والله الموعد إني كنت امرأً مسكينًا أصحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ملء بطني، وكان المهاجرون يَشْغَلهم الصَّفق في الأسواق، وكانت الأنصار يَشْغَلهم القيام على أموالهم، فحضرت من النبي - صلى الله عليه وسلم - مجلسًا، فقال: "من يَبْسُط رداءه حتى أقضِيَ مقالتي، ثم يقبضُه إليه، فلن يَنْسى شيئًا سمعه مني" فبسطت بُردةً عليّ حتى قضى حديثه، ثم قبضتها إلي، فوالذي نفسي بيده ما نسيت شيئًا سمعته منه بعد. وأخرج أبو نُعيم من طريق سعيد بن أبي هِند، عن أبي هُريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ألا تسألني من هذه الغنائم؟ " قلت: يا رسول الله أسألك أن تُعلمني مما علَّمَكَ الله، قال: فَنَزَع نَمِرةً على ظهري وَوَسَّطَها بيني وبينه، فحدثني حتى استوعبت حديثه، قال: اجمَعْها فصُرها إليك" فأصبحت لا

أُسْقط حرفًا مما حدثني. وله طرق أخرى عن الحسن، عن أبي هُريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "مَن يأخُذ مني كلمة أو كلمتين أو ثلاثًا فيَصُرهن في ثوبه فيتعلَّمهن ويُعلِّمهن" قال: فنشرت ثوبي وهو يحدث، ثم ضممته، فأرجو أن لا أكون نسيت حديثًا. قال ابن حَجَر: ووقع لي بيان ما كان حدث به النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه القصة، فقد أخرج أبو يعلى من طريق أبي سَلَمة، جاء أبو هريرة، فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - في شكواه يَعُوده، فأُذِن له، فدَخَل، فسَلَّم وهو قائم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - مُتَسانِدٌ إلى صدر علي، ويده على صدره ضامّة إليه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - باسط رجليه، فقال: "ادن يا أبا هريرة" فدنا ثم قال: "ادنُ يا أبا هريرة" فدنا حتى مسَّت أطراف أصابع أبي هُريرة أصابع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال له: "اجلِس" فجلس، فقال له: "أدْنِ مني طرف ثوبك" فمد أبو هريرة ثوبه، فأمسك بيده، ففتحه وأدناه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أوصيك يا أبا هُريرة بثلاثٍ لا تَدَعْهُن ما بَقيتَ" قال: أوصني ما شئت، فقال له: "عليك بالغُسل يوم الجمعة، والبُكُور إليها، ولا تَلْغُ ولا تَلْهُ، وأوصيك بصيام ثلاثة أيام من كل شهر فإنه صيام الدهر كله، وأوصيك بركعتي الفجر لا تدعهما وإن صليت الليل كله فإن فيهما الرغائب" قالها ثلاثًا، ثم قال "ضُمَّ إليك ثوبك" فضم ثوبه إلى صدره، فقال: يا رسول الله بأبي وأمي، أسرُّ هذا أو أعلنه؟ قال: "بل أعلنه يا أبا هُريرة" قالها ثلاثًا. وأخرج النسائي بسند جيد أن رجلًا جاء إلى زيد بن ثابت، فسأله، فقال له زيد: عليك بأبي هُريرة، فإني بينما أنا وأبو هريرة وفلان في المسجد ندعو الله تعالى ونذكره، إذ خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى جلس إلينا، فقال: "عُودوا لِلذي كنتم فيه" قال زيد: فدعوت أنا وصاحبي، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُؤمِّنُ على دعائِنا، ودعا أبو هريرة، فقال: اللهم إني أسألك ما سألَك صاحباك، واسألك علمًا لا يُنسى،

فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "آمين" فقُلنا: يا رسول الله، ونحن نسأَلُك علمًا لا يُنسى، فقال: "سَبَقكم بها الغُلام الدَّوْسي". وقال طَلْحة بن عبيد الله: لا أشُكُّ أن أبا هُريرة سمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لم نسمع. وقال ابن عُمر: أبو هُريرة خيرٌ مني، وأعلم بما يُحدث. وأخرج الترمذي عن عمر أنه قال لأبي هريرة: أنت كنت ألزمنا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحفظنا لحديثه وأخرج البخاري في "الصحيح" عن أَبي هريرة، قلت: يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك، قال: "لقد ظننت أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث". وأخرج أحمد من حديث أبي بن كعب أن أبا هريرة كان جريئا على أن يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أشياء لا يسأله عنها غيره. وقال أبو نعيم كان أحفظ الصحابة لأخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ودعا له بأن يحببه إلى المؤمنين. وأخرج أحمد من حديث أبي هريرة أنه قال: أما والله ما خلق الله مؤمنا يسمع بي ولا يراني إلا أحبني، قيل له: وما علمك بذلك يا أبا هريرة، قال: إن أمي كانت مشركة، وإني كنت أدعوها إلى الإِسلام، وكانت تأبى علي، فدعوتها يومًا، فأسْمَعَتْني في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أكره، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي، فذكرت له، فقال: "اللهم اهْدِ أمَّ أبي هريرة" فخرجت عدوًا فإذا الباب مجافٍ، وسمعت خضخضة الماء، ثم فتحت الباب، فقالت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فرجعت وأنا أبكي من الفرح، فقلت يا رسول الله ادع الله أن يحببني وأمي إلى المؤمنين، فدعا. وأخرج ابن سَعْد من طريق قُرة بن خالد، قلت لمحمد بن سيرين: أكان أبو هريرة مُخْشَوْشِنًا؟ قال: لا كان لينًا، قلت: فما كان لونه؟ قال: أبيض، وكان يخضِب، وكان يَلبسُ ثوبين مُمَشَّقين، وتمخط يومًا،

فقال: بخ بخ أبو هريرة يتمخط في الكتان. وقال عبد الرحمن بن الُّلتبيَّة: أتيت أبا هُريرة وهو آدم، بعيد ما بين المَنْكبين، ذو ضَفرتين، أفرق الثَّنِيَّتين. وروى محمَّد بن سيرين، عن أبي هريرة، قال: لقد رأيتني وأنا أُصرع بين منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحُجرة عائشة، فيقال: مجنون وما بي جنون، وما بي إلا الجوع، ولهذا الحديث طرق في "الصحيح" وغيره. وفيها سؤال أبي هريرة لأبي بكر وعمر عن آية، وقال: لعل أن يُشبِعني فيفتح علي الآية ولا يفعل. وقال داود بن عبد الله، عن حُميد الحِميَري: صحبت رجلًا صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربع سنين كما صحبه أبو هريرة. وعن قيس بن أبي حازم، قال: قدم علينا أبو هريرة بالكوفة، واجتمعت إليه أحْمس، فجاؤوا ليسلموا عليه، فقال: مرحبًا صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث سنين لم أكن أحرِص على أن أعي الحديث مني فيهن. وفي البُخاري عن أبي هريرة، قال: والله الذي لا إله إلا هو، إن كنت لأعتمد على الأرض بكبدي من الجوع، وأشد الحجر على بطني، فذكر قصة القَدَح واللبن. وعن أبي نَضْرة، عن رجل من الطفاوة، قال: نزلت على أبي هريرة ولم أدرك رجلًا من الصحابة أشد تشميرًا ولا أقوم على ضيف منه. وأخرج ابن سعد عن سالم مولى بني نَضْر: سمعت أبا هُريرة يقول: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع العلاء بن الحَضْرَمي، فأوصاه بي خيرًا، فقال لي: ما تحب، قلت: أُؤَذن لك ولا تسبقُني بآمين. وأخرج البُخاري عن أبي هريرة أنه قال: حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

وعاءين، فأما أحدهما فبَثَثته، وأما الآخر فلو بثَثْته لقُطِع هذا البلعوم. وعند أحمد عن أبي هريرة، وقيل له: أكثرت، فقال: لو حدثتكم بما سمعت لرميتموني بالقشع، أي الجلود. وفي "الصحيح" عن نافع، قيل لابن عمر: حديث أبي هُريرة أن من اتبع جنازة فصلى عليها فله قيراط .. الحديث. فقال: أكثر علينا أبو هريرة، فسأل عائشة، فصدقته، فقال: لقد فَرَّطنا في قراريط كثيرة. وأخرج البَغَويُّ بسند جيد عن ابن عمر أنه قال لأبي هريرة: أنت كنت ألزَمَنا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأعلمنا بحديثه. وأخرج ابن سعد بسند جيد عن سعيد بن عَمرو بن سعيد بن العاص، قال: قالت عائشة لأبي هريرة: إنك لَتُحَدِّثُ بشيءٍ ما سمعته، قال: يا أُمَّه طلقتها، وشغلك بها المكحلة والمرآة، وما كان يشغلني فيها شيء والأخبار في ذلك كثيرة. وأخرج البَيْهَقيّ عن عبد الله بن أبي رافع، عن أبي هريرة، قال: لقي كعبًا فجعل يحدثه ويسأله، فقال كعب: ما رأيت رجلًا لم يقرأ التوراة أعلم بما في التوراة من أبي هُريرة. وأخرج أحمد من طريق عاصم بن كُليب، عن أبيه، سمعت أبا هُريرة يبتدىء حديثه بأن يقول: قال رسول الله الصادق المصدوق أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم -: "من كَذَب عليَّ متعمِّدًا فلْيتبوَّأ مَقعدَهُ من النَّار". وأخرج مُسدّد في "مسنده" عن أبي هريرة، قال: بلغ عمر حديثي، فقال: كنت معنا يوم كنا في بيت فلان؟ قال: نعم. قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يومئذ: "مَن كذب عليَّ متعمدًا .. " إلخ قال: فاذهب الآن فحدث. وأخرج مُسدد، قال: كان ابن عمر إذا سمع أبا هُريرة يتكلم، قال: إنا نَعْرفُ ما تقول، ولكنا نَجبُن وتَجْتَرىء. وخرج الدارقطني عن أبي هريرة رفعه: "إذا صلى أحدكم ركعتي

الفجر فلْيضَّجع على يمينه" فقال مروان: أما يكفي أحدنا ممشاه إلى المسجد حتى يضطجع، قال: لا فبلغ ذلك ابن عمر، فقال: أكثر أبو هريرة. فقيل لابن عُمر: هل تُنكر شيئًا ممّا يقول؟ قال: لا، لكنه أجرأ وجَبُنّا، فبلغ ذلك أبا هُريرة، فقال: ما ذنبي إن كنت حَفِظتُ ونَسوا. وأخرج ابن سعد من طريق الوليد بن رَباح، سمعت أبا هُريرة يقول لمروان حين أرادوا أن يَدْفِنوا الحسن مع جده: تدخل فيما لا يعنيك -وكان الأمير يومئذ غيره- ولكنك تريد رضا الغائب، فغضب مروان، وقال: إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة وإنما قَدِم قبل وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيسير، فقال أبو هُريرة: قدمت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخَيْبَر، وأنا يومئذ قد زِدْت على الثلاثين، فأقَمْتُ معه حتى مات، وأدور معه في بيوت نسائه، وأخدمه، وأغزو معه، وأحج، فكنت أعلم الناس بحديثه، وقد والله سَبَقني قوم بصحبته، فكانوا يعرِفون لزومي له، فيسألونني عن حديثه، منهم عمر، وعثمان، وعلي، وطَلْحة، والزُّبير، ولا والله لا يخفى علي كل حديث كان بالمدينة، وكل من كانت له من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منزلة، ومن أخرجه من المدينة أن يساكِنه، قال: فوالله ما زال مروان بعد ذلك كافًّا عنه. وأخرج ابن أبي خَيْثَمة من طريق ابن إسحاق، عن عُروة، عن أبيه، قال: قال أبي أدْنِنِي من هذا اليَماني -يعني أبا هُريرة- فإنه يُكثر، فأدْنيته، فجعل يُحدِّث، والزُّبير يقول: صدق، كذب. فقلت: ما هذا؟ قال: صدق أنه سَمِعَ هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن منها ما وضَعَه في غير موضعه. قال البخاريّ: روى عنه نحو الثمان مئة من أهل العلم، وكان أحفظ من روى الحديث في عصره، وقال وَكيع في نسخته: حدثنا الأعْمش، عن أبي صالح، قال: كان أبو هُريرة أحفظ أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -. وأخرجه البَغَويّ بلفظ: ما كان أفضلهم، ولكن كان أحفظ. وأخرج ابن أبي خَيْثَمة من طريق سعيد بن أبي الحسن، قال: لم يكن

أحد من الصحابة أكثر حديثًا من أبي هُريرة. وقال الشّافِعيّ: أبو هُريرة أحفظ من روى الحديث في دَهْره. وقال أبو الزُّعَيْزِعَة كاتب مروان: أرسل مروان إلى أبي هريرة، فجعل يحدثه، وكان أجلسني خلف السرير أكتب ما يحدث به، حتى إذا كان في رأس الحَوْل أرسل إليه، فسأله، وأمرني أن أنظُر، فما غير حرفًا عن حرفٍ. وفي "صحيح" البخاري عن أبي هريرة، قال: لم يَكُن من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر حديثًا مني إلا ما كان من عبد الله بن عَمرو، فإنه كان يكتُبُ ولا أكتب. وقال الحاكم أبو أحمد: كان من أحفظ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وألزمهم له صحبةً على شِبَع بطنه، فكانت يده مع يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يدور معه حيثُ دار إلى أن مات، ولذلك كثُر حديثه. وفي "الحلية" بسند صحيح عن مُضارب بن جزء: كنت أسير من الليل فإذا رجل يكبر، فلحقتُه، فقلت: ما هذا؟ قال: أُكثِر شكرًا لله على أن كنت أجيرًا لبُسرة بنت غَزْوان لنفقة رحلي وطعام بَطْني، فإذا ركبوا سبقتُ بهم، وإذا نزلُوا خدمتهم، فَزَوَّجَنِيها الله، فأنا أركب، وإذا نزلت خُدمتُ، وكانت إذا أتت على مكان سهل نزلت، فقالت: لا أرِيم حتى تُجعل لي عَصيدة، فها أنا إذا أتيتُ على نحوٍ من مكانها قلت: لا أريم حتى تُجْعل لي عَصيدة، وكان يقول: نشأتُ يتيمًا، وهاجَرْت مسكينًا، وكنت أجيرًا لبُسرة بنت غَزْوان خادمًا لها، فَزوَّجَنِيها الله تعالى، فالحمد لله الذي جعل الدين قوَاما، وجعل أبا هريرة إماما. وأخرج أحمد في الزهد بسند صحيح عن أبي عثمان النَّهْدِي، قال: تَضَيَّفتُ أبا هُريرة سبعًا، فكان هو وامرأته وخادمه يقتسمون الليل أثلاثا، يصلّي هذا ثم يُوقظ هذا. وأخرج ابن سعد بسند صحيح عن عِكرمة أن أبا هريرة كان يُسبِّح كلَّ يوم اثنتي عشرة ألف تسبيحة، يقول: أسَبِّحُ بقدر ذنبي.

وعن ابن سِيرين أن عمر استعمل أبا هريرة على البحرين، فقَدِم بعشرة آلاف، فقال له عمر: استَأثَرْتَ بهذه الأموال فمِنْ أين لك؟ قال: خيل نُتِجت، وعَطِيَّةٌ تتابعت، وخراجُ رقيقٍ لي، فنظر، فوجدها كما قال، ثم دعاه ليستعمله، فأبى، فقال: لقد طلب العمل من كان خيرًا منك، فقال: إنه يوسُف نبي الله بن نبي الله، وأنا أبو هُريرة بن أُمَيمة، وأخشى ثلاثًا: أن أقول بغير علم، أو أقضي بغير حُكم ويُضرَبَ ظهري ويُشْتَمَ عرضي ويُنْزَعَ مالي. وأخرج الزُّبير بن بكّار في كتاب المزاح عن سعيد عن أبي هريرة أن رجلًا قال له: إني أصبحت، فجئت أبى، فوجدت عنده خبزًا ولحمًا، فأكلت حتى شبعت، ونسيت أني صائم، فقال أبو هُريرة: الله أطعمك، قال: فخرجت حتى أتيت فلانًا، فوجدت عنده لِقحة تحلب، فشربت من لبنها حتى رويت، قال: الله سقاك، قال: ثم رجعت إلى أهلي، فقِلْت، فلما استيقظتُ دعوت بماء، فشربته، فقال له: يا ابن أخي أنت لم تَعَوَّد الصيام. وأخرج ابن أبي الدنيا بسند صحيح عن أبي سَلَمة بن عبد الرحمن، قال: دخلت على أبي هريرة، وهو شديد الوجع، فاحتضنته، قلت: اللهم اشفِ أبا هريرة، فقال: اللهم لا تُرجِعْها، قالها مرتين، ثم قال: إن استطعت أن تَمُوتَ فمُتْ، والله الذي نفس أبي هُريرة بيده لَيَأْتيَنَّ على الناس زمانٌ يَمُرُّ الرجل على قبر أخيه، فيتمنى أنه صاحبه. وروى هذا الحديث عُمَير بن هانئ. قال أبو هريرة: تَشَبَّثوا بصُدغَي معاوية، اللهم لا تُدركني سنة ستين. ورُوي عن أبي داود أنه قال: كنت أجمع مسند أبي هريرة، فرأيته في النوم وأنا بأصْبَهان، فقال لي: أنا أول صاحب حدّث في الدنيا. وأخرج البَغَويّ عن أبي هُريرة أنه لما حضرته الوفاة بكى، فسُئِلَ فقال: من قلة الزاد، وشدة المفَازَة.

وأخرج أحمد والنَّسائي بسند صحيح، عن أبي هُريرة أنه قال حين حضره الموت: لا تضرِبُوا علي فُسطاطًا، ولا تَتْبَعُوني بمجْمَرة، وأسرعوا بي. وعن أبي سَلَمة، عن أبي هُريرة قال: إذا مُتُّ فلا تَنُوحوا علي، ولا تَتْبَعُوني بمِجْمَرة، وأسرعوا بي. وأخرج ابن أبي الدنيا من طريق مالك، عن سعيد المَقْبُري، قال: دخل مروان بن الحَكم على أبي هريرة في شكواه التي مات فيها، فقال: شفاك الله، فقال أبو هريرة: اللهم إني أُحِبُّ لقاءك فأحْبِب لقائي، فما بلغ مروان وسط السوق حتى مات. وصلى عليه الوليد بن عتبة بن أبي سُفيان، وفي القوم ابن عُمر وأبو سعيد الخُدْريّ، وكتب إلى معاوية يُخبره بموته، فكتب إليه: انظر مَنْ ترك، فادفع إلى ورثته عشرة آلاف درهم، وأحْسِن جوارهم، فإنه كان ممن نصر عثمان يوم الدار. مات سنة سبع وخمسين على الصحيح في قصره بالعَقِيق، وحُمِل إلى المدينة، وقيل: مات سنة ثمان، وقيل: سنة تسع، وصلى على عائشة في رمضان سنة ثمان. له خمسة آلاف حديث وثلاث مئة وأربعة وسبعون حديثًا، اتَّفَقا على ثلاث مئة وخمسة وعشرين، وانفرد البخاري بتسعة وسبعين، ومسلم بثلاثة وتسعين -بتقديم التاء-. روى عن: أبي بكر، وعُمر، والفَضْل بن عباس، وأُبَيّ بن كعب، وأسامة بن زَيْد، وعائشة. وروى عنه: ولده المُحَرَّر بمهملات، ومن الصحابة: ابن عُمر، وابن عباس، وجابر، وأنس، وواثِلة بن الأسْقَع، ومن كبار التابعين: مروان ابن الحَكَم، وقَبيصَة بن ذُؤَيب، وسعيد بن المُسيِّب، وعُروة بن الزُّبير، وأبو سعيد المَقْبُري، وعِرَاك بن مالِك، وسالم بن عبد الله بن عُمر،

وغيرهم ممن لا يُحصى كثرةً ومرَّ قول البُخاري: إنه روى عنه نحو الثمان مئة من أهل العلم. وليس في الصحابة من اكتنى بهذه الكُنية سواه. وفي الرواة واحد اكْتَنَى بهذه الكنية، يروي عن مَكْحول، وعنه أبو المَلِيح الرَّقِّي، لا يعرف. وآخر اسمه محمَّد بن فِراس الصَّيرفي روى له التِّرمذي، وابن ماجة، مات سنة خمس وأربعين ومئتين. وفي الشافعية آخر اكْتَنَى بهذه الكُنية واسمه ثابت بن شِبْل، قال عبد الغَفّار في حقه: شيخ فاضل مناظر. والدَّوْسيُّ في نسبه نسبةً إلى دَوْس بن عُدنان -بضم العين- المتقدم في نسبه أبو قبيلة من الأزد، ودَوْس أيضًا قبيلة من قَيْس وهم بنو قَيْس بن عَدْوان بن عَمْرو بن قَيْس عَيْلان. لطائف إسناده: رجالُ الإِسناد كلهم مدنيون إلا العَقَديّ فإنه بَصْريّ، وإلا المُسنديّ فإنه بُخاريّ، وكلهم على شرط الستة إلا المُسْندي، وفيه رواية تابعي عن تابعي وهو عبد الله بن دينار عن أبي صالح. أخرجه البخاري هنا، ومسلم عن عُبيد الله بن سَعيد وغيره، وأبو داوود في السنة عن موسى بن إسماعيل، والتِّرمذي في الإِيمان عن أبي كُريب، وقال: صحيح حسن، والنّسائي في الإِيمان أيضًا عن محمَّد بن عبد الله المُخَرِّمي، وابن ماجة في السنة عن علي بن محمَّد الطنافسي وغيره.

4 - باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده

4 - باب المُسلم مَنْ سَلم المسلمون من لِسانِهِ ويده وفي رواية الأصِيليّ إسقاطها، وهو منون وتجوز فيه الإِضافة إلى جملة الحديث، لكن لم تأت به الرواية المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده وهذه الترجمة هي لفظ الحديث يأتي الكلام عليه قريبًا. الحديث الثالث 10 - حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ وَإِسْمَاعِيلَ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رضي الله عنهما - عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ». [الحديث 10 - طرفه في: 6484]. قوله: "المسلمُ" قيل: الألف واللام فيه للكمال، نحو زيد الرجل، أي: الكامل في الرجولية فإن إثبات اسم الشيء على معنى إثبات الكمال له مستفيض في كلامهم، ولا يلزم من هذا أنَّ من اتَّصف بهذا خاصة يكون كاملًا، لأن المراد بذلك مع مراعاة باقي الأركان، قال الخَطّابي: المراد أفضل المسلمين من جمع إلى أداء حقوق الله أداء حقوق المسلمين، ويحتمل أن يريد بذلك تبيين علاقة المسلم التي يُسْتَدلّ بها على إسلامه، وهي سلامة المسلمين من لسانه ويده، كما ذكر مثله في المنافق، ويحتمل أن يكون أراد بذلك الإِشارة إلى الحث على حسن معاملة العبد مع ربه، لأنه إذا أحسن معاملة إخوانه فأولى أن يحسن معاملة ربه، من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، وخرجَ لفظُ المسلمين مَخْرَجَ الغالب، ويدخُل في ذلك الذِّمِّي، لأنه يجب الكف عنه، وجمع التذكير للتغليب، فإن المسلمات يَدْخُلْن في ذلك. وقوله: "من لسانِه ويده" هو من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام، وعبر باللسان دون القول ليَدْخُل في ذلك مَنْ أخرج لسانه استهزاء

رجاله ستة

بصاحبه، وقدمه على اليد لأن إيذاءه أكثر وقوعًا وأشد نكاية، ولله دَرُّ القائل: جِرَاحَاتُ السِّنانِ لها الْتئامٌ ... ولا يَلْتَامُ ما جَرَحَ الَّلسانُ لكن يمكن أن تشاركه في ذلك اليد بالكتابة، وإن أثرها في ذلك لعظيم، وخص اليد مع أن الفعل قد يحْصُل بغيرها لأن سلطنة الأفعال إنما تظْهر بها، لأن بها البطش والقطع، ومن ثمَّ غُلِّبت، فقيل: هذا مما عملت أيديهم، وإن كان متعذر الوقوع بها، وتدخُل فيها اليد المعنوية كالاستيلاء على حق الغير من غير حق، ويستثنى من ذلك شرعًا تعاطي الضرب باليد في إقامة الحدود والتعازير على المسلم المستحق لذلك. وقوله: "والمهاجرُ من هَجَرَ ما نهى الله عنه" أي: المهاجر حقيقة من تَرَكَ ما نهى الله عنه، وهو بمعنى الهاجِر، وإن كان لفظ المُفِاعِل يقتضي وقوع فعل من اثنين، لكنه هنا للواحد، كالمسافر، ويُحْتَمل أن يكون على بابه، لأن من لازِم كونه هاجرًا وطنه مثلًا أنه مهجور من وطنه، وهذه الهجرة ضربان ظاهرة وباطنة، فالباطنة ما تدعو إليه النفس الأمارة بالسوء، والشيطان، والظاهرة الفِرار بالدّين من الفتن، كأن المهاجرين خُوطبوا بذلك لئلا يَتَّكِلوا على مجرد الانتقال من دارهم، حتى يمتثلوا أوامر الشرع ونواهيَه، أو قيل: هذا بعد انقطاع الهجرة لَمّا فُتِحت مكة تطييبًا لقلوب من لم يُهاجر، فقيل له: حقيقة الهجرة تحصُلُ لمن هَجَر ما نهى الله عنه، فاشتملت هاتان الجملتان على جوامع من معاني الحكم والأحكام، وزاد ابن حِبّان والحاكم في "المستدرك" هنا: "والمُؤمنُ من أمِنَهُ النّاس" وكأنه اختصر هنا لتضمنه معناه. رجاله ستة: الأول: آدم بن أبي إياس واسمه عبد الرحمن بن محمَّد، وقيل: اسمه ناهِية بن شُعَيب الخُرَاسَاني أبو الحسن العَسْقَلاني، نشأ ببَغداد، وارتحل في الحديث فاستوطن عَسْقلان إلى أن مات.

قال أبو داوود: ثقة. وقال أحمد: كان مكينًا عند شُعبة. وقال أحمد: كان من الستة أو السبعة الذين يضبطون الحديث عند شُعبة. وقال ابن مَعين: ثقة، ربما حدث عن قَوْم ضُعفاء. وقال أبو حاتم: ثقة مأمون متعبد من خيار عباد الله تعالى. وقال النَّسائي: لا بأس به. وقال ابن سَعْد: سمع من شُعبة سماعًا كثيرًا. وقال العِجْلِيّ: ثقة. وذكره ابن حِبّان في "الثقات" وفي كتاب ابن أبي حاتم عن أبيه، عن آدم، قال: كنت أكتب عند شُعبة، وكنت سريع الخَطِّ، وكان الناس يأخذون من عندي. روى عن ابن أبي ذئب، وشعبة، وشَيْبان النَّحْوي، وحَمّاد بن سلمة، واللَّيْث، ووَرْقاء، وجماعة. وروى عنه: البُخاريّ، والدّارِميّ، وابنه عُبيد بن آدم، وأبو حَاتِم، وأبو زُرعة الدِّمَشْقي، وإسحاق بن إسماعيل نزيل أصبهان، وهو آخر من روى عنه. مات في خلافة أبي إسحاق سنة عشرين ومئتين، وقيل سنة إحدى وعشرين، بلغ عمره نيفًا وتسعين سنة. وليس في الرواة آدَم بن أبي إياس سواه، وآدم غيره في الستة اثنان: آدم بن سُليمان القُرشيّ روى عنه مسلم، والترمذي، والنَّسائي. والثاني آدم بن علي العِجْلِيّ، ويقال: الشَّيْبَاني. روى عنه البُخاري، والنَّسائي. والخُراساني في نسبه نسبةً إلى خُراسان -بضم الخاء- بلدة مشهورة بالعجم، والنسبة إليه خُرَاسانِيّ، وخُراسِنيّ بحذف الألف الثانية مع كسر السين، وخُرْسِنيّ بحذف الألفين، وخُرْسِيّ بحذف الألفين والنون، وخُرَاسي بحذف الألف الثانية والنون، والأول من النِّسَب الخمس أجود. والعَسْقلاني في نسبه أيضًا نسبة إلى عَسْقَلان، وهي بلدة بساحل بحر الشام، له سوق يَحُجُّهُ النّصارى في كل سنة، وانشد ثعلب: كأنَّ الوُحُوشَ به عَسْقَلا ... نُ صَادَفَ في قرْنِ حَجٍّ دِيَافَا

شبه ذلك المكان لكثرة الوحوش بسوق غسْقلان، وقال الأزْهَريّ: عسقلانُ من أجناد الشام، وقال الجوهرِيُّ: وهي عروس الشام، وقال ابن الأثير: هي من فلسطين، وبها كان دار إبراهيم عليه السلام، وقد خَرَجَ منها خلق كثير من أهل العلم، وفي القرن الخامس استولى عليها الإِفرنج -لعنهم الله تعالى- ثم فتحها السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب رحمه الله تعالى. وأَخْرَبَ قلعتها خوفًا من سَطْوة الكفرة، فاستولى عليها الخراب إلى زماننا هذا، وأما الآن فلم يَبْقَ بها إلا الرسوم، فسبحان الحي القيوم، وعسقلان أيضًا بلدة بِبَلخ أو مَحلّة، والأخير أرجح، منها أبو يحيى عيسى ابن أحمد بن عيسى بن وردان العَسْقَلاني البَلْخي ثقة عن عبد الله بن وَهْب، وبَقِيّة بن الوليد، وعنه النَّسائي أيضًا وأبو حاتم. الثاني: شعبة بن الحَجّاج بن الوَرْد العَتَكيّ الأزْدِيّ مولاهم أبو بِسطام الواسِطِيّ ثم البَصْريّ. قال أبو طالب عن أحمد: شعبة أثبت في الحكم من الأعمش، وأعلم بحديث الحكم، ولولا شُعبة ذهب حديث الحكم، وشعبة أحسن حديثا من الثَّورِي لم يكن في زمن شعبة مثله في الحديث، ولا أحسن حديثًا منه، قُسِم له من هذا حظ، وروى: عن ثلاثين رجلًا من أهل الكوفة، لم يَرْو عنهم سُفيان، وقال محمَّد بن العباس النَّسائي: سألت أبا عبد الله: من أثبت شعبة أو سفيان؟ فقال: كان سفيان رجلًا حافظًا، وكان رجلًا صالحًا، وكان شعبة أثبت منه، وأتْقى وجلا، وسمع من الحكم قبل سفيان بعشر سنين. وقال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: كان شعبة أمة وحده في هذا الشأن، يعني في الرجال، وبصره بالحديث، وتثبته، وتنقيته للرجال، وقال مَعْمر: كان قتادة يسأل شعبة عن حديثه، وقال حمّاد بن زَيْد: قال لنا أيوب: الآن يطْلُعُ عليكم رجل من أهل واسِطٍ هو فارس في الحديث، فخُذُوا عنه. وقال أبو الوليد الطَّيَالِسيُّ: قال لي حماد بن سَلَمة: إذا أردت الحديث فالزَم شعبة، وقال حمّاد بن زَيْد: ما أُبالي من خَالَفني إذا وَافقني شُعبة، فإذا خالفني شُعبة في شيء تركته.

وقال ابن مَهدي: كان الثَّوري يقول: شعبة أمير المؤمنين، وقال: مات الحديث بموت شعبة، وقال لِسَلْم بن قُتيبة: ما فعل أستاذنا شعبة؟ وقال أبو حَنيفة: نعم حشو المصر هو. وقال الشّافِعِيّ: لولا شُعبة ما عُرف الحديث بالعراق. وقال أبو زَيْد الهَرَويّ: قال شُعبة: لَأن انْقطع أحب إليّ من أن أقول لما لم أسمع: سمعت. وقال يَزيد بن زُرَيْع: كان شعبة من أصدق الناس في الحديث. وقال أبُو بَحْر البَكْرَاويّ؟ ما رأيت أعبد لله من شُعبة، لقد عبد الله حتى جفَّ جلده على ظهره. وقال مسلم بن إبراهيم: ما دخلت على شُعبة في وقت صلاة قَطُّ إلا وجدته قائمًا يصلّي. وقال النَّضْر ابن شُمَيل ما رأيت أرحم بمسكين منه. وقال ابن مَعِين: إمام المتقين. وقال الحَكَم: شعبة إمام الأئمة في معرفة الحديث بالبَصْرة. وقال ابن سَعْد: كان ثقة، مأمونًا، حُجّة، ثبتًا، صاحب حديث. وقال العِجلِيّ: ثقة، ثَبْت في الحديث، وكان يُخطىء في أسماء الرجال قليلًا. وقال صالح جَزَرة: أول من تكلم في الرجال شُعبة، ثم تبعه القَطّان، ثم أحمد ويحيى. وقال ابن حِبّان في "الثقات": كان من سادات أهل زمانه حفظًا وإتقانًا وورعًا وفضلًا، وهو أول من فَتَّش بالعراق عن أمر المحدثين وجانب الضعفاء والمتروكين، وصار علمًا يقتدى به، وتبعه عليه بَعْده أهل العراق، وقال قراد أبو نوح: رَأى عليَّ شُعبة قميصًا، فقال: بكم أخذت هذا؟ قلت: بثمانية دراهم. فقال لي. ويْحَك، أما تَتَّقي الله، تَلْبَسُ قميصًا بثمانية، ألا اشتريت قميصًا بأربعة وتصدقت بأربعة؟ قلت: إنّا مع قوم نَتَجَمّل لهم. قال: أيْشٍ تَتَجمّل لهم؟ وقال وكيع: أني لأرجو أن يرفع الله لشعبة في الجنة درجات لِذَبِّه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال يَحيى القَطّان: ما رأيت أحدًا قَطُّ أحسن حديثًا من شعبة. وقال إدريس: ما جَعَلتَ بينك وبين الرجال مثلَ شعبة وسفيان. وقال ابن المَدِينيّ: سألت يحيى بن سعيد. أيُّهما كان أحفظ للأحاديث الطوال شعبة أو سفيان؟ فقال: كان شُعبة أمّرَّ فيها، قال: وسمعت يحيى يقول: كان شعبة أعلم بالرجال فلان عن فلان، وكان سفيان صاحب أبواب. وقال أبو داوود: لما مات شُعبة،

قال سُفيان: مات الحديث، قيل لأبي داوود: هو أحسن حديثًا من سفيان. قال: ليس في الدنيا أحسن حديثًا من شُعبة ومالك على قلته، والزُّهري أحسن الناس حديثًا، وشعبة يخطىء فيما لا يَضُرُّه ولا يُعاب عليه في الأسماء. وقال الدَّارَقُطنِيّ: كان شعبة يُخطىء في أسماء الرجال كثيرًا لتشاغله بحفظ المتون. وقال ابن إدريس: شعبة قَبَّان المحدثين، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما لَزِمْتُ غيره، والقَبّان كَشَدّاد: القِسْطاس والأمين. وقال أبو قَطَن: ما رأيت شعبة ركع إلا ظننت أنه قد نسي. وقال ابن أبي خَيْثَمة: قال شُعبة: ما رويت عن رجلٍ حديثًا إلا أتيته أكثر من مرة، والذي رويت عنه عشرة أتيته أكثر من عشر مرات. وقيل لابن عَوْف: مالَكَ لا تُحدِّث عن فلان؟ قال: لأني رأيت أبا بِسطام تركه. وقال الأصمعِيُّ: لم نر أحدًا أعلم بالشعر منه. وقال بَدَل بن المحبر: سمعت شعبة يقول تعلموا العربية فإنها تزيد في العقل. وقال صالح بن سليمان: كان لشعبة أخوان يعالجان الصرف، وكان يقول لأصحاب الحديث وَيلَكُم الزموا السوق، فإنما أنا عِيال على إخوتي. وقال ابن مَعين: كان شعبة صاحب نحو وشعر، ورأى اليزيدي شعبة بن الحَجّاج، ومِسْعَر بن كِدام في النوم بعد موتهما، فقال لشعبة: ما فعل الله بك، فقال يابني احفظ ما أقول: حَبَاني إلهي في الجِنَانِ بقُبَّةٍ ... لَهَا ألْفُ بَابٍ مِن لُجَينٍ وجوْهَرَا وقال لِي الجَبّار يا شُعبَةُ الّذي ... تَبَحَّرَ في جَمْعِ العُلُوم وأكثَرا تَمَتَّعْ بِقُرْبي إنَّني عَنْكَ ذُو رضًا ... وعَنْ عبديَ القوَّام بالَّليْلِ مِسْعَرا كَفَى مِسْعَرًا عِزًّا بأنْ سَيزُورُني ... وأكشف عن وجهي ويدنو لينظُرا وهذا جزائي بالذين تنسَّكوا ... ولَمْ يأْلَفوا في سَائِرِ الدَّهْرِ مُنْكَرًا رأى شعبة أنس بن مالك، وعمرو بن سلمة الصحابيين، وسمع من أربع مئة من التابعين. روى عن: أبَان بن تَغْلب، وإبراهيم بن محمَّد بن المُنتشر، وإسماعيل بن رجاء، وإسماعيل بن سَمِيع، وإسماعيل بن عبد الرحمن

السُّدِّي، وإسماعيل بن علية وهو أصغر منه، والأسود بن قيس، وأشعث ابن سِوار، وأشعث بن عبد الله بن جابر، وأيوب بن أبي تميمة، وخلق لا يُحصى. وروى عنه: أيوب، والأعمش، وسعد بن إبراهيم، ومحمد بن إسحاق، وهم من شيوخه، وجَرير بن حازم، والثَّوري، والحسن بن صالح، وغيرهم من أقرانه، ويَحيى القَطّان، وابن مَهْدي، ووكيع، وابن إدريس، وابن المُبارك، ويزيد بن زُرَيع، وأبو داود، وأبو الوليد الطَّيَالسيّان، وابن علية، والنَّضْر بن شُمَيل، وآدم بن أبي إياس، وخلق لا يحصى. مات بالبصرة سنة ستين ومئة وله سبع وسبعون سنة. والواسِطيُّ في نسبه تقدم في أبي عَوانة. والعَتَكِيُّ والأسَدِيُّ تقدما في عَبْدان. وأما البَصْريّ فهو نسبة إلى البَصْرة بفتح الباء في اللغة الفصحى، ويُكسر ويُضم ويُحرك، وبكسر الصّاد وليس في النسب إلا الفتح أو الكسر، والفتح أفصح كما مر بلدة معروفة بناها عُتْبة بن غَزْوان في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة سبع عشرة من الهجرة، وسكنها الناس سنة ثماني عشرة، ولم يُعْبد الصنم قط على ظهر أرضها، وكانت تسمى قُبة الإِسلام وخِزانة العرب، وكانت تسمى في القديم تَدْمُر، والمُؤْتَفِكة لأنها ائْتَفَكَت، أي: انقلبت بأهلها في أول الدهر، قيل: سميت بالبَصرِ مثلثًا، وهو الكذَّان ككَتّان كان بها عند اختطاطها، والكَذَّان حجارة رخوة كالمَدَر، ورُبما كانت نَخِرة، قال الكُمَيت يصف الرياح: تَرَامى بكَذَّانِ الإِكَامِ ومَرْوِها ... تَرَاميَ وُلْدانِ الأصَارِمِ بِالخَشْلِ وقيلَ: إنها مُعرب بس راه، أي: كثير الطرق، فمعنى بس كثير، ومعنى راه طريق. والبصرة بلدة بالمغرب الأقصى قُرب السُّوس، سميت

بِمَنْ نَزَلَها واختَطَّها من أهل البصرة عند فتوح تلك البلاد، وقد خربت بعد الأربع مئة من الهجرة ولا تكاد تُعرف. وليس في الكتب الستة من اسمه شُعبة بن الحَجّاج سواه. وفي "النّسائي" شعبة بن دينار الكُوفي صدوق، روى عن عكرمة، وروى عنه السفيانان. وفي "أبي داوود" شعبة بن دينار الهاشِمِيّ روى عن مولاه ابن العَبّاس، ليس بالقوي وفي الضعفاء شعبة بن عمرو يروي عن أنس، قال البخاري: أحاديثه مناكير، وفي الصحابة شُعبة العَنْبَريّ. الثالث: عبد الله بن أبي السَّفَر بتحريك الفاء، واسم أبي السَّفَر سعيد ابن يَحْمد، ويقال: أحمد الهَمْداني الثَّوْرِيّ الكوفي. روى عن: أبيه، وأبي بُردة بن أبي موسى، وعامر الشَّعْبِيّ، ومصعب ابن شَيْبة. وروى عنه: شُعبة، وعمر بن أبي زَائِدة، ويونُس بن أبي إسحاق، وعيسى بن يونُس، والثَّوْريّ، وشرَيْك، وغيرهم. قال أحمد وابن مَعين والنَّسائي: ثقة. وذكره ابن حِبّان في "الثقات" وقال ابن سَعْد: كان ثقة، وليس بكثير الحديث. وقال العِجْلِيّ: كوفي ثقة، مات في خلافة مروان بن محمَّد. والسَّفْر كله بإسكان الفاء في الاسم، وتحريكه في الكنية، ومنهم من سكن الفاء في عبد الله المذكور. والهَمْداني في نسبه تقدم في موسى بن أبي عائشة. والثَّوْرِيّ نسبة إلى ثور أبي قبيلة من مُضر، وهو ثَوْر بن عبد مناة بن أُدّ بن طابِخة بن إلياس بن مُضر، منهم الإِمام سُفيان الثَّوريّ. والكوفي في نسبه نسبةً إلى الكوفة، وهي مدينة العراق الكُبرى، وقُبّة الإِسلام، ودار هِجرة المسلمين، قيل: قدرها ستة عشر ميلًا وثُلْثَا ميل،

وفيها خمسون ألف دار للعرب من رَبيعة ومُضَر، وأربعة وعشرون ألف دار لسائر العرب، وستة وثلاثون ألف دار لليمن، قيل: مَصَّرَها سعد بن أبي وَقَّاص، وكانت قبل ذلك منزل نُوح عليه السلام، وبنى مسجدها الأعْظم، واختلف في سبب تسميتها، قيل: سميت بذلك لاستدارتها، وقيل: بسبب اجتماع الناس فيها، وقيل: لكونها كانت رملة حمراء أو لاختلاط ترابها بالحصى، ويقال لها: كُوفان -بالضم ويفتح- ويقال لها أيضًا: كوفة الجند لأنها اختطت فيها خطط العرب أيام عُثمان أو أيام عمر، خططها السَّائب بن الأقرع الثَّقَفِيّ، قال الشاعر: ذَهَبَتْ بِنَا كُوفَانُ مَذْهَبَها ... وعَدِمْتُ عَنْ طُرَفائِها خَيْري وقال الأخر: إنَّ الّتي ضَرَبتْ بَيْتًا مُهاجِرةً ... بِكُوفَةِ الجُنْدِ غَالَتْ وُدَّها غولُ وقيل: سميت بكُوفان، وهو جبيل صغير فسهلوه، واختطوا عليه، أو مشتقة من الكيف وهو القطع لأن أبرويز أقطعه لبَهْرام، أو لأنها قطعة من البلاد، والأصل كُيْفَة فلما سكنت الياء وانضم ما قبلها جعلت واوًا، أو من قولهم: هم في كوفان بالضم ويفتح، وكَوَّفان محركة مشددة الواو في عِزٍّ ومَنَعَة، أو لأن جبل ساتِيذما محيطٌ بها كالكاف، أو لأن سعدًا لما ارتاد هذه المنزلة للمسلمين قال لهم: تَكَوَّفُوا في هذا المكان، أي: اجتمعوا، أو لأنه قال: كَوِّفوا هذه الرملة أي: نَحُّوها، وانزلوا، ولما بَنَى عبيد الله بن زياد مسجد الكوفة صعد المنبر، وقال: يا أهل الكوفة، إني قد بنيت لكم مسجدًا لم يبق على وجه الأرض مثله، وقد أنفقت على كل أسطوانة منه سبع عشرة مئة، ولا يهدِمه إلا باغٍ أو حاسد، والمسافة بينها وبين المدينة نحو عشرين مرحلة، ولا تخلو الحسناء من ذَامٍّ، وقد قال فيها النَّجَاشِي يهجو أهلها: إذَا سَقى الله قَوْمًا صَوْبَ غاديَةٍ ... فَلَا سَقَى الله أهْلَ الكُوفَةِ المَطَرَا التَّارِكِين على طُهْرٍ نِسَاءَهُمُ ... والنَّاكِحِينَ بِجَنْبَي دِجلةَ البَقَرا

والسَّارِقِين إذا ما جُنَّ لَيْلُهُمُ ... والدَّارسينَ إذَا ما أصْبَحُوا السُّوَرا الرابع: إسماعيل بن أبي خالد الأحمس مولاهم. قال الثَّوريّ: حفاظ الناس ثلاثة إسماعيل وعبد الملك بن أبي سُفيان ويحيى بن سعيد الأنصاري يعني إسماعيل أعلم الناس في الشَّعْبي وأثبتهم فيه. وقال مروان بن مُعاوية: كان إسماعيل يسمى الميدان. وقال علي: قلت ليحيى بن سعيد: ما حملت عن إسماعيل عن الشَّعْبي صحاح؟ قال: نعم. وقال البُخاري، عن علي: له نحو ثلاث مئة حديث. وقال أحمد: أصح الناس حديثًا عن الشَّعْبي ابن أبي خالد. وقال ابن مَهْدي، وابن مَعين، والنَّسائي: ثقة. وقال ابن عمَّار المَوْصِلي: حجة. وقال العِجْلِيّ: كوفي ثقة تابعي، وكان طَحّانًا. وقال يعقوب بن أبي شَيْبة: كان ثقة ثَبْتًا. وقال أبو حاتم: لا أُقَدِّمُ عليه أحدًا من أصحاب الشَّعبي، وهو ثقة. وقال ابن حِبّان في "الثقات" كان شيخًا صالحًا. وقال ابن عُيينة: كان أقدم طلبًا وأحفظ للحديث من الأعمش. وقال العِجْلِيّ: كان ثَبْتًا في الحديث، وربما أرسل الشيء عن الشَّعْبي، وإذا وقف أخبر، وكان صاحب سنة، وكان حديثه نحو خمس مئة حديث، وكان لا يروي إلا عن الثقة. وحكى ابن أبي خَيْثَمة عن يحيى بن سعيد أنه قال: مرسلات ابن أبي خالد ليست بشيء. وقال يعقوب بن سُفيان: كان أمِّيًّا حافظًا ثقةً. وقال هُشَيم: كان إسماعيل فحش اللحن، كان يقول: حدثني فلان عن أبوه. قال أبو نُعيم: أدرك إسماعيل اثني عشر نفسًا من الصحابة، منهم من سمع منه، ومنهم من رآه رؤية. روى عن: أبيه، وأبي جُحَيْفَة، وعبد الله بن أبي أوْفى، وعمرو بن حُرَيث، وأبي كاهِل من الصحابة، وعن زَيْد بن وَهْب، ومحمد بن سَعْد، وأبي بكر بن عِمارة بن رُوَيْبة، وقيس بن أبي حازم، والشَّعبي وغيرهم من كبار التابعين. وروى عنه: شُعبة والسُّفيانان، ويحيى القطان، ويزيد بن هارون، وعُبيد الله بن موسى، وهو آخر ثقة حدث عنه.

مات سنة خمس أو ست وأربعين ومئة. وليس في الستة إسماعيل بن أبي خالد سواه، وأما إسماعيل فهو كثير. والأحْمَس في نسبه نسبة إلى أحْمَس بطن من بَجيلة وهو الغَوْث بن أنْمار. الخامس: عامر بن شَراحيل بن عبد، وقيل: عامر بن عبد الله بن شَراحيل الشَّعْبي الحِمْيَري -بفتح الشين- أبو عمرو الكُوفي من شِعْب هَمْدان، وشراحيل -بفتح الشين والراء الممدودة ثم حاء مكسورة ممدودة أيضًا- قال منصور الفداني عن الشعبي: أدركت خمس مئة من الصحابة. وقال أشعث بن سوار: لقى الحسن الشعبي، فقال: كان والله كثير العلم، عظيم الحلم، قديم السلم، من الإِسلام بمكان. وقال عبد الملك بن عُمَير: مرَّ ابن عُمر على الشَّعْبيّ وهو يحدث بالمَغَازي، فقال: لقد شَهِدتُ القومَ، لهو أحفظ لها وأعلم مني. وقال الزُّهري: العلماء أربعة: ابن المُسَيِّب بالمدينة، والشَّعْبيّ بالكوفة، والحسن البصري بالبصرة، ومَكْحول بالشام. وقال مَكْحُول: ما رأيت أفقه منه. وقال أبو مجلز: ما رأيت فيهم أفقه منه. وقال ابن عُيينة: كانت الناس تقول بعد الصحابة: ابن عباس في زمانه، والشعبي في زمانه، والثوري في زمانه. وقال ابن شُبْرُمَة: سمعت الشعبي يقول: ما كتبت سوداء في بيضاء، ولا حدثني رجل بحديث إلا حفظته، ولا حدثني رجل بحديث فأحببت أن يُعيدَه عليَّ. وقال ابن مَعين: إذا حدث عن رجل فسماه فهو ثقة، يُحتج بحديثه. وقال ابن مَعين وأبو زُرعة: الشَّعبي ثقة. وقال ابن حِبّان في ثقات التابعين: كان فقيهًا شاعرًا على دُعابة فيه. وقال أبو جعفَر الطَّبَرِيّ: كان ذا أدب وفقه، وكان يقول: ما حللت صَبْوتي إلى شيء مما ينظر الناس إليه، ولا ضربت مملوكًا لي قَطّ، وما مات ذو قرابة لي وعليه دين إلا قضيته عنه. وقال أبو حْصَين: ما رأيت أعلم من الشَّعبي، فقال له أبو بكر

عَيّاش: ولا شُرَيح؟ قال له: تريدني أكذب؟ ما رأيت أعلم من الشَّعبي. وقال أبو إسحاق الحبّال كان واحد زمانه في فنون العلم. قال ابن أبي حاتم: سُئِل أبي عن الفرائِض التي رواها الشَّعْبي عن علي، فقال: هذا عندي ما قاسه الشعبي على قول علي، ولا أرى علِيًّا يتفرغ لهذا. وقال ابن مَعين: قضى الشَّعبي لعُمر بن عبد العزيز. وحكى الشعبي قال: أنْفَذَني عبد الملك بن مروان إلى ملك الروم، فلما وصلت إليه جعل لا يسألني عن شيء إلا أجبته فيه، وكانت الرسل لا تطيل الإِقامة عنده، فحبسني أيامًا كثيرة حتى استحْثَثْتُ خُروجي، فلما أردت الانصراف، قال لي: من أهل بيت المملكة أنت؟ فقلت: لا ولكني رجل من العرب في الجملة، فَهَمَسَ بشيء، فدفع إليّ ورقة، وقال: إذا أديت الرسائل إلى صاحبك، فأوصل إليه هذه الرُّقْعة، قال: فأدَّيتُ الرسائَل عند وصولي إلى عبد الملك ونسيت الرقعة، فلما صِرْت في بعض الدار أريد الخروج، تذكرتها، فرجعت فأوصلتها إليه، فلما قرَأهَا، قال لي: أقال لك شيئًا قبل أن يدفعَها إليك؟ قلت: نعم، قال لي: من أهل بيت المملكة أنت؟ قلت: لا ولكني رجلٌ من العرب في الجملة، ثم خرجتُ من عنده، فلما بلغتُ الباب رُدِدْت، فلما مَثُلْتُ بين يديه، قال لي: أتدري ما في الرقعة؟ قلت: لا. قال: اقرأها، فقرأتها، فإذا فيها: عَجِبْتُ من قومٍ فيهم مثلُ هذا كيف يُوَلّون غيره؟ فقلت: والله لو علمت ما فيها ما حملتُها، وإنما قال هذا لأنه لم يَرَك. قال: أتدري لم كتبها؟ قلت: لا. قال: حَسَدَني عليك، وأراد أن يُغْرِيَني بقتلك، قال: فَتَأدّى ذلك إلى ملك الروم، فقال: والله ما أردت إلا ما قال. وكلم الشَّعْبي عَمرو بن هُبَيرة الفَزَاريّ أمير العراق في قوم حَبَسَهم ليُطلقهم، فأبى، فقال له: أيها الأمير، إن حبستهم بالباطل فالحق يخرجهم، وإن حَبَسْتهم بالحق فالعفوُ يَسَعُهم، فأطلقهم، وكان كثيرًا ما يَتَمَثَّلُ بقول سُكَيْن الدّارِميّ:

لَيْسَت الأحلامُ في حالِ الرِّضا ... إنَّما الأحْلامُ في حَالِ الغَضَب ويُقال: إن الحجاج بن يوسف قال له يومًا: كم عطاءَكَ في السنة؟ فقال له: ألفين، فقال له: وَيْحك كم عطاؤُك؟ فقال له: ألفان، قال له، كيف لَحَنْتَ أوَّلًا؟ قال: لحن الأمير فلحنتُ، فلما أعرب أعربت، وما أمكن أن يَلْحَنَ الأمير وأُعْرِب أنا فاستحسن ذلك منه وأجازه. وكان مزّاحًا، يحكى أن رجلًا دخل عليه وهو مع امرأته في البيت، فقال: أيُّكُما هو الشَّعبي، فقال له: هذه. وكان ضئيلًا نحيفًا، قيل له يومًا: ما لنا نراك ضئيلًا، فقال: زوحِمْت في الرَّحِم، وكان قد وُلد هو وأخ آخر في بطن، وأقام في البطن سنتين. قال الحاكم في "علومه": لم يسمع من عائشة، ولا من ابن مَسْعود، ولا من أسامة بن زَيْد، ولا من علي، إنما رآه رؤية، ولا من معاذ بن جَبَل، ولا من زَيد بن ثابت. وقال ابن المَدينيّ: لم يسمع من زَيد بن ثابت، ولم يَلْقَ أبا سعيد الخدْري، ولا أم سلمة. وقال التِّرْمذي في "العلل": قال محمَّد: لا أعرف للشعبي سماعًا من أم هانىء. وقال الدَّارَقطْنيّ في "العلل" لم يسمع من علي إلا حرفًا واحدًا ما سمع غيره، كأنه عنى ما أخرجه البخاري في الرجم، عنه، عن علي حين رَجَم المرأة، فقال: رجمتُها بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -. روى عن: سعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زَيْد، وقيس بن سعد بن عُبادة، وعليّ، وزيد بن ثابت، خلاف ما مرّ، وعُبادة بن الصَّامِت، وأبي موسى الأشْعري، وأبي هُريرة، والمغيرة بن شعبة، والعبادلة الأربعة، وخلق كثير، وأرسل عن عَمر وابن مسعود. وروى عنه: أبو إسحاق السَّبِيعيّ، وأشعث بن سِوار، وإسماعيل بن أبي خالد، والأعْمَش، ومنصور، ومُغيرة، وسِماك بن حَرْب، وعاصم الأحْوَل، وأبو الزِّناد، وعبد الله بن أبي السَّفَر، وابن عَوْن.

قال قتادة: ولد الشَّعبي لأربع سنين بقين من خلافة عمر رضي الله عنه. وقال خَليفة بن خيّاط: ولد الشَّعبيّ والحسن البَصْري في سنة إحدى وعشرين. وقال الأصْمعِي: في سنة سبع عشرة بالكوفة. وقيل: لست سنين خَلَوْن من خلافة عثمان رضي الله عنه. وقيل: سنة عِشرين للهِجرة. وقيل: إحدى وثلاثين. ورُوِي عنه أنه قال: ولدت سنة جَلولاء، وهي سنة تسع عشرة، وتوفي بالكوفة سنة أربع، وقيل: ثلاث، وقيل: ست، وقيل: سبع، وقيل: خمس ومئة، وكانت وفاته فجأة، وكانت أمه من سَبْي جَلُولاء. والشَّعْبي في نسبه نسبة إلى شعْب بوزن فَلْس، وهو بطن من هَمْدان، وقال الجَوْهَريّ: هذه النسبة إلى جبل باليمن، نزله حسّان بن عَمرو الحِميريّ هو وولده، ودفن فيه، وهو ذو شُعبتين، فمن كان بالكوفة منهم قيل لهم: شَعْبيّون، ومن كان منهم بمصر والمغرب قيل لهم: الأشعوب، ومن كان منهم بالشام قيل لهم: شَعْبانيون، ومن كان منهم باليمن قيل لهم: آل ذي شُعْبَتَين وقال ابن دُرُسْتَوَيْه: نسبة إلى شعبا حي من اليمن، لأنهم انقطعوا عن حيهم. السادس: عبد الله بن عَمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعد بن سَهْم بن عمرو بن هُصَيْص بن كَعْب بن لُؤَي القُرَشيّ السَّهْميّ يكنى أبا محمَّد عند الأكثر، وقيل: أبو عبد الرحمن، وقيل: أبو نصر وهو غريب، وأمه رَيْطة بنت مُنَبِّه بن الحَجّاج السَّهْميّة، ولد لعمرو وهو ابن اثنتي عشرة سنة، فلم يفته أبوه في السنن إلا باثنتي عَشْرة سنة، وجزم ابن يُونس بأن بينهما عشرين سنة، ويقال: كان اسمه العاص فغيره النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، ففي "تاريخ" أبي زُرعة الدِّمشقي عن عبد الله بن الحارث بن جزء، قال: توفي صاحب لنا غريب بالمدينة، وكنا على قبره، فقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما اسمك؟ " فقلت: العاص، وقال لابن عمر: "ما اسمك؟ " فقال: العاص، وقال لابن عمرو: "ما اسمك؟ " قال: العاص، فقال: انزلوا فاقبروه فأنتم عبيد الله. قال: فَقَبَرْنا أخانا، فخرجنا وقد غُيِّرت أسماؤنا. وهو

أحد العبادلة الأربعة كما مر في ترجمة ابن عباس. قال ابن عبد البرّ: أسلم قبل أبيه، وكان فاضلًا حافظًا عالمًا، قرأ الكتاب، واستأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أن يكتُبَ حديثه، فأذِن له، قال له: يا رسول الله أأكتب كل ما أسمع منك في الرِّضا والغَضَب؟ قال: نعم، فإني لا أقول إلَّا حَقًّا. قال أبو هُريرة: ما كان أحد أحفظ لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مني إلا عبد الله بن عَمْرو، فإنه كان يعي بقلبه وأعي بقلبي، وكان يكتُب وأنا لا أكتُب، استأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك فأذن له. وأخرج البَغَوِيّ عن عبد الله بن عَمرو أنه قال: رأيت فيما يرى النائم كأن في إحدى يدي عَسَلًا وفي الأُخرى سمنًا، وأنا ألْعَقُهُمَا، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: تقرأ الكتابين التوراة والقرآن، وكان يقرؤهما. كان يسرُدُ الصوم، ولا ينام الليل، فشكاه أبوه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ لِعَيْنيكَ عليك حقًّا، وإنَّ لأهلك عليك حقًّا، وإن لربك عليك حقًّا، قُم ونَم وصُم وأفطِر، صم ثلاثة أيام من كل شهر، فذلك صيام الدهر" فقال إني أطيق كثر من ذلك، فلم يَزَل يراجِعه في الصيام حتى قال له: "لا صوم أفضل من صيام داوود"، وكان يصوم يومًا ويُفطر يومًا، فوقف عبد الله عند ذلك وتمادى عليه. وفي "الصحيحين" قصة عبد الله بن عمرو مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في مواظبته هذه، وأمره له بقراءة القرآن في كل ثلاث، وهو مشهور، وفي بعض طرقه أنه لما كبِر كان يقول: يا ليتني كنت قَبِلْتُ رخصة النبي - صلى الله عليه وسلم -، واعتذر رحمه الله من شُهوده صِفِّين وأقسم أنه لم يرم فيها برمح ولا سهم، وأنه إنما شهدها لعَزْمة أبيه في ذلك، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: "أطع أباك" وروى ابن أبي مُلَيكة عنه أنه كان يقول: مالي ولِصفِّين، مالي ولقتال المسلمين، والله لودِدت أني مُتُّ قبل هذا بعشر سنين، ثم يقول: أما والله ما ضربت فيها بسيف، ولا طَعَنْتُ فيها برُمح، ولا رَمَيْت بسهم، ولودِدْت

أني لم أحْضُر شيئًا منها، وأستغفر الله عَزَّ وَجَلَّ من ذلك، وأتوب، إلا أنه ذكر أنه كانت بيده الراية يومئذ، فندمَ ندامةً شديدة على قتاله مع معاوية، وجعل يستغفرُ الله ويتوب إليه، وكان يلوم أباه على القتال في الفتنة بأدب وتُؤدَة، وكان رضي الله عنه طُوالًا أحمر عظيم الساقين أبيض الرأس واللحية، وعَمِي في آخر عمره. ومع ما مرّ عن أبي هُريرة ما روي له قليل بالنسبة لما روي له، فقد رُوي له سبع مئة حديث، اتفقا على سبعة عشر، وانفرد البخاري بثمانية، ومسلم بعشرين. روى عن عُمر، وأبي الدَّرداء، ومُعاذ، وابن عَوْف، وعن والده عمرو. وروى عنه من الصحابة ابن عُمر وأبو أُمامة، والمِسْوَر بن مَخْرمة، والسّائب بن يزيد، وأبو الطُّفَيْل، وعدد كثير من التابعين منهم سعيد بن المُسَيِّب، وعُروة، وطاووس، وعطاء بن يَسار، وعِكْرمة، ويوسف بن ماهَك، وعامر الشَّعْبي، ومسْروق بن الأجْدَع، وغيرهم. مات بالشام سنة خمس وستين، وهو يومئذ ابن اثنتين وسبعين، وقيل: مات بمكة، وقيل: بالطائف، وقيل: بمصر، ودفن في داره، وقيل: مات بأرضه بالسبع من فلسطين. والسَّهْمِيّ في نسبه نسبة إلى جده سَهْم المذكور في أجداده. وعبد الله في الصحابة وفي الرواة أكثر من الحصر. لطائف إسناده: منها أن هذا الإِسناد كله على شرط الستة ما عدا آدم فإنه ليس من شرط مسلم، وأبي داوود، ومنها أن شُعبة فيه يروي عن اثنين: أحدهما عبد الله بن أبي السَّفَر، والثاني إسماعيل بن أبي خالد، وكلاهما يرويانه عن الشَّعبيّ، ولهذا إسماعيل بفتح اللام عطفًا على عبد الله، وهو مجرور ولكن جر ما لا ينصرف بالفتحة، وفيه التحديث

والعَنْعنة، وهذا الحديث انفرد به البُخاري بجملته عن مسلم، أخرجه هُنا، وفي الرقاق عن أبي نُعيم، وأخرج مُسلم بعضه في صحيحه عن جابر مرفوعًا، وأخرجه أبو داوود والنَّسائي بتغيير لفظ عند النسائي. قال أبو عبد الله وقال أبو معاوية: حدثنا داود عن عامر قال سمعت عبد الله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال عبد الأعلى عن داود عن عامر عن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأراد بالتعليق الأول بيان سماع الشعبي له من الصحابيّ، والنكتة فيه رواية وُهَيْب بن خالد له عن داود، عن الشَّعْبي، عن رجل، عن عبد الله ابن عمرو، حكاه ابن مَنْدة فعلى هذا لعل الشعبي سمعه أولًا من غير عبد الله، ثم لَقِيهُ بعد ذلك، فسمعه منه، ونبه بالتعليق الآخر على أن عبد الله الذي أُهْمل في روايته هو عبد الله بن عَمرو الذي بُيِّن في رواية رفيقه. وتعليقٌ أبي مُعاوية وصله إسحاق بن رَاهويه في "مسنده" عنه، وأخرجه ابن حِبّان في "صحيحه" عنه، ولفظه: سمعت عبد الله بن عمرو يقول: ورب هذه البنية لسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "المُهاجرُ من هَجَر السيئاتِ والمسلمُ من سَلِم الناسُ من لسانِه ويده" فعُلِم أنه ما أراد إلا أصل الحديث، والمراد بالناس هُنا المسلمون، كما في الحديث الموصول، فهم الناس حقيقةً عند الإِطلاق، لأن الإِطلاق يُحْمَل على الكامل في غير المسلمين، ويمكن حَمْله على عُمومه على إرادة شرط وهو: إلَّا بِحق، مع أن إرادة هذا الشرط متعينة على كُلِّ حال، لما مر من استثناء إقامة الحدود على المسلم، واعتراض العَيْنيّ على التأويل الأول بأن الناس يكون من الإِنس الجن ساقط غاية السقوط، فإن إطلاق الناس على الكامل في الإِنسانية دون غيره وارد في الحديث، ففيه: من محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى ورثة الأنبياء، وإلى الناس، وإلى أشباه الناس، لا تَحْلِفوا بالطلاق، ولا بالعِتاق، فإنهما من أيمان الفُسّاق، والناس في الحديث المراد بهم أهل

ورجال التعليقين خمسة

المدن، وأشباههم المراد بهم أهل البادية، وقال الشاعر: هُمُ القَوْمُ كُلُّ القَوْم يَا أُمَّ مَالِكِ والكفار لا يطلق عليهم بانفرادهم إلا الدواب والأنعام، ويكفي في سقوطه ما قاله في "الفتح": لأن الإِطلاق يحمل الخ .. والتعليق الثاني لم أر من وصله إلا أن إتيان المؤلف فيه بصيغة الجزم دالٌّ على صحته كما هي قاعدة "الصحيحين" وأبو عبد الله المراد به البُخاريّ. ورجال التعليقين خمسة: الأول: أبو معاوية محمَّد بن خَازِم -بمعجمتين- التَّمِيميّ السَّعْديّ الضَّرير الكُوفي، عَمِيَ وهو ابن ثمان سنين أو أربع. قال العِجّلِيّ والنَّسائي: ثقة. وقال ابن خِراش: صدوق، وهو في الأعمش ثقة، وفي غيره فيه اضطراب. وقال يعقوب بن شَيْبة: كان من الثقات، ربما دَلَّسَ، وكان يرى الإِرجاء، وذكره ابن حِبّان في "الثقات" وقال: كان حافظًا متقنًا، ولكنه كان مُرجئًا خبيثًا، وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث يدلس وكان مرجئًا. وقال وكِيع: ما أدركنا أحدًا كان أعلم بأحاديث الأعمش من أبي مُعاوية. وقال ابن مَعين: قال لنا وَكيع: من تَلْزَمُون؟ قلنا: أبا مُعاوية، قال: أما إنه كان يَعُدُّ علينا في حياة الأعمش ألفًا وسبع مئة. وقال الدُّورِيّ: قلت لابن مَعين: كان أبو مُعاوية أحسنهم حديثًا عن الأعمش؟ قال: كانت الأحاديث الكبار العالية عنده. وقال مُعاوية بن صالح: سألت ابن مَعين: من أثبت أصحاب الأعمش؟ قال: أبو مُعاوية بعد شُعبة وسفيان. وقال الدَّارميُّ: قلتُ لابن معين: أبو معاوية أحبُّ إليك في الأعْمش أو وَكيع؟ فقال: أبو مُعاوية أعلم به. وقال ابن المَدِينيّ: كتبنا عن أبي مُعاوية ألفًا وخمسمائة حديث، وكان عند الأعمش ما لم يكن عند أبي مُعاوية أربع مئة ونيف وخمسون حديثًا. وقال شبابة بن سوار: كنا عند شعبة، فجاء أبو مُعاوية، فقال شُعبة: هذا صاحب الأعمش فاعرفوه.

وقال الحُسين بن إدريس: قلت لابن عمار: علي بن مُسهر أكبر أَم أبو معاوية في الأعمش، قال: أبو معاوية. قال ابن عمار: سمعته يقول: كل حديث قلت فيه: حدثنا، فهو ما حفظته من في المحدث، وكل حديث قلت فيه: وذكر فلان، فهو مما قُرىءَ من كتاب. وقال أبو حاتم: أثبت الناس في الأعمش سُفيان، ثم أبو معاوية، ومُعتمر بن سُليمان أحب إلي من أبي معاوية في غير حديث الأعمش. وقال أحمد: أحاديثه عن هِشام ابن عُروة فيها اضطِراب. وقال ابن حَجَر: لم يَحْتَجَّ به البُخاري إلا في الأعمش، وله عنده عن هشام بن عُروة عدة أحاديث تُوبع عليها, وله عنده عن بُرَيْد بن أبي بُردة حديث واحد، تابعه عليه أبو أسامة عند التِّرْمِذِي، واحتج به الباقون. روى عن: عاصم الأحْول، وأبي مالك الأشْجَعِيّ، وسعد، ويحيى ابني سعيد الأنْصَاريّ، والأعْمَش، وهشام بن عُروة، ومالك بن مِغْوَل، وحجاج بن أرْطاة، وسُهيل بن أبي صالح، وخلق كثير. وروى عنه: إبراهيم، وابن جُرَيج وهو أكبر منه، ويحيى القطّان، وهو من أقرانه، وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهُويه، وأبو الوليد الطَّيالِسِيّ، وأبو بكر، وعثمان بن أبي شَيْبة، ومُسَدَّد، ومحمد بن سلام البِيكَنْديّ، وأبو كُريب، وخلق كثير. مات سنة خمس وتسعين ومئة، وله اثنتان وثمانون سنة. وفي الرواة أيضًا أبو معاوية عُمر, وأبو معاوية شَيْبان. والكوفي في نسبه مر الكلام عليها في عبد الله بن أبي السَّفَر. ومرّ الكلام على التَّمِيميّ في عبد الله بن المُبارك. وأما السَّعْديّ فهو نسبة إلى سعد أبو بطن من تميم، وهو سعد بن زيد مَناة بن تَميم، وفي العرب سعود كثيرة سَعْد تميم هذا، وسَعْد بكر وهو سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبَة بن عكابة وهم الذين عَنَى طَرَفَةُ بقوله:

رأيْتُ سُعُودًا مِنْ شُعُوبٍ كثيرَةٍ ... فَلَمْ تَرَ عَيْني مثلَ سَعْدِ بنِ مَالِكِ ومنهم سعد بن قَيْس عَيْلان، وسعد بن ذُبْيان بن بغيض، وسعد بن عَدِيّ بن فَزارة، وسعد بن بَكْر بن هَوَازِن، وهم الذين أرضعوا النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي بني أسَد سَعْد بن ثعلبة بن دودان، وسعد بن الحارث بن سعد بن مالك بن ثعلبة بن دودان، قال ثابت: كان بنو سَعْد بن مالك لا يُرى مثلُهم في برِّهم ووفائهم، وفي قُضَاعة سعد هذيم، ولما تحول الأضْبَط بن قُريع السَّعْديّ عن قومه وهم بنو سعد بن زيد مناة بن تميم المتقدم ذكرهم، وانتقل في القبائل، فلما لم يجدهم رجَعَ إلى قومه، وقال بكل واد بنو سعد. الثاني: داوود بن أبي هند، واسمه دينار بن عُذَافِر -بضم مهملة وذال مخففة- ويقال: طهمان القُشَيريّ مولاهم أبو بكر، ويقال: أبو محمَّد البَصْريّ. قال ابن عُيينة عن أبيه: كان يُفتي في زمان الحَسن، وقال ابن المُبارك عن الثَّوْريّ: هو من حفاظ البَصْريين. وقال عبد الله بن أحمد بن حَنبل عن أبيه: ثقة ثقة، قال: وسئل عنه مرة أخرى، فقال: مثلُ داود يُسألُ عنه؟ وقال ابن مَعين: ثقة، وهو أحب إليّ من خالد الحَذّاء. وقال العِجلي: بصري ثقة جيد الإِسناد، رفيع، كان صالحًا، وكان خياطًا. وقال أبو حاتم والنَّسائي: ثقة، وقال يعقوب بن شَيْبة: ثقة ثبت. وقال ابن حِبّان: روى عن أنس أحاديث خمسة لم يسمعها منه، وكان من خِيار أهل البصْرة من المُتقنين في الروايات إلا أنه كان يَهِمُ إذا حدث من حفظه. وقال ابن سَعْد: كان ثقة كثير الحديث. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن داود وعَوْف وقُرّة، فقال: داود أحب إلى، وهو أحب إلي من خالد الحذّاء وعاصم. وقال ابن خِراش: ثقة. وقال الأثْرَم عن أحمد: كان كثير الاضطراب والخلاف. رأى أنس بن مالك وروى عن: عِكْرِمة، والشَّعْبيّ، وزُرارة بن أبي

أوفى، وأبي العالية، وسعيد بن المُسَيِّب، وسِماك بن حَرْب، وعاصم الأحْول، وغيرهم. قال الحاكم: لم يَصِحَّ سماعُه من أنس. وروى عنه: شعبةُ والثوري، وابن جُريج، والحمّادان، وعبد الوارث بن سَعيد، وعبد الأعلي بن عبد الأعلى، ويحيى القطان، ويزيد ابن زُرَيع، ويزيد بن هارون، وغيرهم. مات سنة تسع وثلاثين ومئة، وقيل: سنة أربعين. وليس في الستة داود بن أبي هند سواه، وأما داود فكثير جدًّا، وليس في صحيح البخاري ذكر له إلا هذا الاستشهاد هنا. والقُشَيْريّ في نسبه نسبة إلى قُشير كزُبَير أبو قبيلة من هَوَازِن، وهو قُشَير بن كَعب بن رَبيعة بن عامِر بن صَعْصَعة بن مُعاوية بن بكر بن هوازِن منهم الإِمام أبو القاسم القُشيريّ صاحب "الرسالة" وغيره، وقُشير وأخوه جَعدة أمهما رَيْطة بنت قُنفذ من بني سليم. والبَصْريّ: تقدم الكلام عليه في شُعبة. الثالث: عبد الأعلي بن عبد الأعلي بن محمَّد، وقيل: ابن شَراحيل البَصْريّ السّاميّ -بالمهملة- من بني سَامة بن لُؤي أبو محمَّد ويلقب أبا همام، وكان يغضب منه. قال ابن مَعين وأبو زُرعة: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال النَّسائي: لا بأس به. وذكره ابن حِبّان في "الثقات" وقال: كان متقنًا في الحديث قَدَرِيًّا غير داعية إليه. وقال العِجْليّ: بصري ثقة. وقال ابن خلفون: يقال: إنه سمع من سعيد بن أبي عَروبة قبل الاختلاط، وهو ثقة. وقال أحمد: كان يرى القَدَرَ. وقال ابن سَعْد: لم يكن بالقَويّ. وقال ابن أبي خَيْثَمة: حدثنا عبيد الله بن عمر، حدثنا عبد الأعلى، قال: فَرَغْتُ من حاجتي من سعيد بن أبي عَروبة قبل الطّاعون، يعني أنه سمع منه قبل الاختلاط.

روى عن حُميد الطّويل، ويحيى بن أبي إسحاق الحَضْرَميّ، وعبيد الله بن عُمر، وداود بن أبي هِند، وخالد الحَذّاء، وسعيد بن أبي عَروبة، وابن إسحاق، ومَعمر، وهشام الدَّسْتُوائِيّ، وغيرهم. وروى عنه: إسحاق بن راهُويه، وأبو بكر بن أبي شَيْبة، وعلي بن المَدِينيّ، وأبو غسّان المَسْمَعيّ، وبُندار، وغيرهم. مات، في شعبان سنة ثمان وتسعين ومئة. وليس في الستة عبد الأعلي بن عبد الأعلى سواه، وأما عبد الأعلى فأحد عشر في "الصحيحين" ثلاثة بهذا. والسّامِيّ في نسبه نسبة إلى سامة بن لؤي بن غالب أخو كعب الجد السادس للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد اختلف فيه، فقال أبو الفَرَج الأصبهاني: إن قريشًا تدفع بني سَامة وتنسِبهم إلى أمهم نَاجِية، وروى بسنده إلى عَلِيّ رضي الله عنه أنه قال: ما أعقب عمّى سامة. قال: الهَمْداني: يقول الناس: بنو سامة، ولم يُعقِب ذكرًا، إنما هم أولاد بنته، وكذلك قال عُمر وعلي، ولم يَفْرِضا لهم، وهم ممن حرم. قال ابن الكَلْبيّ والزُّبير بن بَكّار: فولد سامةُ بن لؤي الحارثَ وغالبًا، وإليهم ينسب إبراهيم بن الحَجّاج السَّامِيّ، روى عن الحَمّادين، وأبَان بن يزيد، وروى عنه أبو يَعْلى، وخلق، ومنهم محمَّد بن يونس بن موسى الكريمي، وعمه عُمر ابن موسى، وأبو فِراس محمَّد بن فِراس السّاميّ النّسابة، أخذ عن هشام ابن الكَلْبيّ، وصنف كتاب نسب بني سامة، روى عن ابن أخيه أحمد بن الهَيْثم بن فِراس، ومنهم خلق كثير، وسامة أيضًا محلة بالبصرة، وقريتان باليمن، والنسبة إلى الجمْع سَامِيّ. الرابع الشَّعْبيّ، والخامس عبد الله بن عَمرو تَقَدَّما قريبًا في الإِسناد المتصل قبل هذا، ومر في الحديث الرابع من بدء الوحي الكلام على التعليق.

5 - باب أي الإسلام أفضل؟

5 - باب أي الإِسلام أفضل؟ باب بالتنوين وفيه ما في الذي قبله، والترجمة من لفظ الحديث. الحديث الرابع 11 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقِّرَشِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بُرْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى - رضي الله عنه - قَالَ: قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الإِسْلاَمِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ». قوله: "قال: قالوا يا رسول الله" وعن مسلم: "قلنا" وعند ابن مَنْدة "قلت" فتعين أن السائل أبو موسى، ولا تَخَالُف بين الروايات، لأنه في الأخيرة صرح، وفي رواية مسلم أراد نفسه ومن معه من الصحابة، إذ الراضي بالسؤال في حكم السائل، وفي رواية البُخاري أبْهَمَ، وإياهم أراد. قوله: "أي الإِسلام أفضل؟ " شرط أي أن تدخل على متعدد, وهو هنا محذوفٌ تقديره: أي ذوي الإِسلام أفضل، ويؤيده رواية مسلم: أي المسلمين أفضل، ومعمول أفضل محذوف، أي: من غيره، وتقديره "ذوي" أولى من تقدير "أي خصال الإِسلام"، لأن التقدير الأول يحصُلُ الجوابُ فيه بعين ما سُئِلَ عنه، والتقدير الثاني يحصُلُ الجواب فيه بصاحب الخَصْلة لا بالخَصْلة، فيحتاج إلى تأويل، وباقي الحديث مرّ الكلام عليه في الذي قبله. رجاله خمسة: الأول: سَعيد بن يَحْيى بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاص بن أمية أبو عثمان الأُمَوِيّ البغْدادي. قال علي بن المَدِيني: هو أثبت من أبيه. وقال يعقوب بن سفيان: هما

ثَبْتان الأب والابن. وقال النَّسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق. وقال صالح بن محمَّد: صدوق إلا أنه كان يَغْلَطُ وذكره ابن حِبّان في "الثقات" وقال: ربما أخطأ. روى عن: أبيه، وعمه محمَّد، وعيسى بن يُونس، ووَكيع، وابن المُبارك، وعبد الله بن إدْريس، وجماعة. وروى عنه: الجماعة سوى ابن ماجة، وروى النسائي في "مسند مالك" عن محمَّد بن عيسى بن شَيْبة عنه أيضا، وروى عنه أبو حاتم وأبو زُرعة وأبو يَعْلى المَوْصِلىّ، وأبو بَكر البَزّار، والمحَامِلِيّ، وهو آخر من حَدَّث عنه، وغيرهم. مات للنصف من ذي القعدة سنة تسع وأربعين ومئتين. وسعيد بن يَحْيى في الستة سواه ثلاثة: أبو عُثمان الواسِطِيّ، وأبو يحيى اللَّخْميّ الكوفي المعروف بسَعْدان، وأبو سفيان الحِمْيَريّ الحذّاء الواسِطِيّ، وأما سعيد فكثير. والأُمَويّ مرَّ الكلام عليه في شُعيب بن أبي حَمْزة. وأما البَغْداديّ فهو نسبة إلى بغداد المدينة المشهورة، وأول من اختطها أبو جعفر المنصور سنة أربعين ومئة، وتسمى مدينة السلام ودار السلام، وأنشد الخَفَاجِيّ: وفي بَغْدَادَ سَادَاتٌ كِرَامٌ ... ولَكنْ بالسَّلَامِ بِلَا طَعَامِ فمَا زَادُوا الصَّديقَ عَلَى سَلاَمٍ ... لِذلِكَ سُمِّيَتْ دَاَرَ السَّلاَمِ ويُقال الذي بغداد: بغداذ بمُهملتين، ومعجمتين، وتقديم كل منهما، فهذه أربع لغات، واختار بعضهم بَغْدان بالنون، وبَغْذان، وبَغْدين، وبَغدام بالميم في آخره وهو اسم عجمي عربته العرب، قيل: بغ اسم صنم، وداد بستان، فتأويلها: بستان صنم. وقيل: تفسير بستان رجل، فبغ رجل، وداد بستان. وقيل: بغ اسم صنم لبعض الفُرس كان يعبده،

وداد رجل، وكان الأصْمَعِيُّ ينهى عن ذلك، ويقول: مدينة السلام. وتَبَغْدَدَ الرجل: انتسب إليها، أو تشبه بأهلها على قياس وتَمَضَّر وتَقَيَّسَ وتَنَزَّر وتَعَرَّبَ. الثاني: أبوه يحيى بن سعيد إلخ .. ما مر، أبو أيوب الأُموي الكُوفي الحافظ، نزل بغداد، لقبه: جمل. قال الأثْرم عن أحمد: ما كنت أظن عنده الحديث الكثير، وقد كتبنا عنه، وكان له أخ له قَدْر وعلم، يقال له: عبد الله، ولم يُبَين أمر يحيى، كأن يقول: كان يصدق، وليس بصاحب حديث. وقال المَرْوَذِيّ عن أحمد لم تكن له حركة في الحديث. وقال أبو داوود عن أحمد: ليس به بأس، عنده عن الأعمش غرائب. وقال أبو داوود: ليس به بأس، ثقة. وقال يزيد ابن الهَيْثم عن ابن مَعين: هو من أهل الصدق، ليس به بأس. وقال الدُّورِيُّ وغيره عن ابن مَعين: ثقة. وقال النَّسائي: ليس به بأس. وذكره ابن حِبّان في "الثقات". أورده العُقَيْليّ في "الضعفاء" واستنكر له عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله: لا يَزَالُ المَسْرُوقُ مُتَغَيِّظًا حتّى يكونَ أعْظمَ إثْمًا من السَّارِقِ. وقال ابن سَعْد: كان ثقة، قليل الحديث. روى عن: أبيه، ويحيى بن سَعيد، وسعيد بن سعيد الأنْصاريّ، وهِشام بن عُروة، والأعْمش، ومِسْعَر، وأبي بُرْدة، وعثمان بن حَكيم، وغيرهم. وروى عنه: ابنه سعيد، وأحمد، وإسحاق، والحكم بن هِشام الثَّقفيّ وهو من أقرانه، وحُميد بن الرَّبيع، وآخرون. مات سنة أربع وتسعين ومئة في النصف من شوال، وبلغ ثمانين سنة. ومر في ترجمة يحيى بن سعيد الأنْصاري أول حديث عدد مَنْ في الرواة من يحيى بن سعيد، وفي الستة أربعة مرّ ذكرهم هناك.

الثالث: بُرَيْد بن عبد الله بن أبي بُردة بن أبي موسى الأشْعَريّ أبو بُردة. قال ابن مَعين والعِجْليّ: ثقة. وقال أبو حاتم: ليس بالمتين، يُكْتَب حديثه. وقال عَمرو بن علي: لم أسمع يحيى ولا عبد الرحمن يُحَدِّثان عن سفيان عنه بشيء قط. وقال النَّسائي: ليس به بأس. وقال ابن عَدِيّ: روى عنه الأئمة، ولم يرو عنه أحد أكثر من أبي أسامة، وأحاديثه عندي مستقيمة، وهو صدوق وأنْكَرُ ما روى حديث: "إذا أراد الله بأمة خيرًا قَبَضَ نبيها قبلَها". قال: وهذا طريق حسن، رواته ثِقات، وقد أدخله قوم في صحاحهم، وأرجو أن لا يكون به بأس، وقد قال النَّسائي في "الضعفاء" ليس بذلك القوي. وقال أحمد بن حَنْبل: يروي مناكير، وطلحة بن يَحْيى أحب إلي منه. وقال التِّرمِذيّ في "جامعه": وبُريد كوفي ثقة في الحديث، روى عنه شُعبة، وقال الآجُرِّيّ عن أبي داود: ثقة. وقال ابن حِبّان في "الثقات" يخطىء. وقال ابن عَدِيّ: سمعت ابن حَمّاد يَقُول: بريد بن عبد الله ليس بذلك القوي، أظنه ذكره البخاري. قال ابن حَجَر احتج به الأئمة كلهم، وأحمد وغيره يطلقون المناكير على الأفراد المطلقة. روى عن: جده، والحسن البَصْريّ، وعطاء، وأبي أيّوب صاحب أنس. وروى عنه السفيانان، وحَفْص بن غياث، وأبو معاوية، ويحيى بن سعيد الأُمَويّ، وابن إدريس، وابن المُبارك، وأبو أسامة، وغيرهم. مات سنة أربع وأربعين ومئة. وللنَّسائي في "مسند علي" بريد بن أخْرَم روى عن عَليّ مُتَكلَّمٌ فيه، وفي الستة بُرَيْد بن أبي مَريم مالك بن رَبيعة السَّلُولِيّ البَصريّ، ويشتبه بُريد بالتصغير بِبَريد بفتح الباء جد عَلِيّ بن هاشِم وحديثه في "مسلم" قال العراقي:

جَدُّ عَلي بن هاشِمٍ بَرِيدُ ... وابْنُ حَفيدِ الأشعَرِي بُرَيْدُ الرابع: أبو بُردة بن أبي موسى الأشْعريّ الفقيه، اسمه الحارث، وقيل: عامر، وقيل: اسمه كنيته. قال ابن سَعْد: كان ثقة كثير الحديث. وقال العِجْلِيّ: كوفي تابعي ثقة. وقال ابن خِراش: صدوق. وقال مُرّة: ثقة. وذكره ابن حِبّان في "الثقات". ولي قضاء الكوفة بعد القاضي شُرَيح، وله مكارم ومآثر مشهورة، وكان أبو موسى تزوج في عمله على البَصرة طنية بنت دمون، وكان أبوها رجلًا من أهل الطائف، فولدت له أبا بُردة، فاسترضع له في بني فقيم في أهل الفرق وسماه أبو موسى عامرًا، فلما شبَّ كساه أبو شيخ بن الفرق بُرْدَتَين وغدا به على أبيه، فكَنَاه أبا بُردة، فذهب اسمه، وكان ولده بلال قاضيًا على البَصرة، وهم الذين يقال في حقهم: ثلاثة قضاة في نسق، فإن أبا موسى قضى لعمر رضي الله عنهما بالبصرة، ثم قضى بالكوفة في زمن عثمان رضي الله عنه. وبلال المذكور هو ممدوح ذي الرُّمة، وله فيه غُزَرُ المدائح، وفيه يقول مخاطبًا لناقته: إذا ابنُ أبي مُوسى بِلاَلٌ بَلَغْتِهِ ... فَقَامَ بِفَاسٍ بَيْنَ وَصْلَيكِ جَازِرُ وفيه يقول: سَمِعْتُ النَّاسَ يَنتَجِعُون غَيْثًا ... فقُلْتُ لِصَيدَحَ انْتجِعِيِ بِلَالا صيدح اسم ناقته، وكان بلال أحد نواب خالد بن عبد الله القَسْري، فلما عُزِل وولي موضعه يوسف بن عُمر الثَّقفي على العِراقين حاسب خالدًا ونوابه وعذبهم، فمات خالد من عذابه وبلال، وجَلَس أبو بُردة يومًا يفتخر بأبيه، ويذكر فضائله وصحبته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان في مجلس عام وفيه الفَرَزْدَق الشاعر، فلما أطال القول في ذلك أراد الفَرَزدق أن يَغُضَّ منه، فقال: لو لم يكن لأبي موسى مَنْقَبَة إلا أنه حَجَم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكفاه، فامتعض أبو بُردة من ذلك، ثم قال: صدقت، ولكنه ما حجم أحدًا قبله

ولا بعده، فقال الفرزدق: كان أبو موسى والله أفضل من أن يُجَرِّبَ الحِجَامة في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسَكَت أبو بُردة على غَيْظ. وحُكِيَ أن أبا صفْوان خالد بن صفوان التَّمِيميّ الشاعر المشهور بالبلاغة، كان يدخل على بلال بن أبي بُردة المذكور، فيحدثه فَيَلْحن في كلامه، فلما كَثُر ذلك على بلال، قال له: يا خالد، تحدثني أحاديث الخلفاء، وتلْحَن لَحْن السقاءات يعني النساء اللواتي يسقين الماء للناس، فصار خالد بعد ذلك يأتي المسجد، ويتعلم الإِعراب، فكُفَّ بَصَرُه، فكان إذا مَرَّ به موكب بلال يقول: من هذا؟ فيقال: الأمير، فيقول خالد: سَحَابةُ صَيفٍ عَنْ قَلِيلٍ تَقْشَعُ فقيل ذلك لبلال، فقال: والله لا تَقْشَع حتى يصيبَك منها شُؤبوب، وأمر به، فضُرب مئتي سوط، وكان خالد كثير الهَفَوات لا يتأمل ما يقول ولا يفكر فيه وهو من ذرية عَمْرو بن الأهْتَم التَّمِيميّ الصحابي رضي الله عنه. روى أبو بردة عن أبيه، وعلي، وحُذيفة، وعبد الله بن سَلَام، والأغَرَّ المُزَنِي، والمُغيرة، وعائشة، ومُحمد بن سَلَمة، وابن عُمر، وابن عَمرو، وعن عُروة بن الزُّبير وهو من أقرانه. وروى عنه: أولاده سعيد وبلال، وحفيده أبو بُردة، والشَّعبيّ وهو من أقرانه، وعاصم بن كُلَيب، وجامع بن شَدّاد، وثابت البُناني، وأبو إسحاق الشَّيْباني، وحميد بن هِلال، وآخرون. مات سنة أربع ومئة، وقيل: سنة ست، وقيل: سنة سبع، وقال ابن سعْد: مات هو والشَّعْبيّ سنة ثلاث ومئة في جُمُعَةٍ واحدة رحمهما الله تعالى. وأبو بُردة في الستة سواه ثلاثة، حفيده المار قريبًا، وابن نِيَار البَلَويّ

الصحابي، والثالث عمر بن يزيد الكوفي روى عن عَلْقَمة بن مَرْثَد، وأبو بُرْدة في الصحابة سبعة. الخامس: عبد الله بن قَيْس بن سليم بن حَضّار -بفتح الحاء المهملة وتشديد الضاد المعجمة- وقيل بكسر الحاء وتخفيف الضاد بن حَرْب بن عامر بن غنم بن بكر بن عامر بن وائل بن ناجية بن الجماهر بن الأشْعر أبو موسى الأشْعَريّ مشهور باسمه وكنيته معا، والأشْعَر هذا المراد به الأشعر ابن أُدَد بن زيد بن كَهْلان، وقيل: المراد به الأشْعَر بن سبأ أخو حِمْير بن سبأ، وأمه ظبية بنت وهَبْ من عُكّ، أسلمت وماتت بالمدينة. وكان هو سكن الرَّمْلة وحالف سعيد بن العاص، ثم أسلم وهاجر إلى الحبشة، وقيل: بل رَجَع إلى بلاد قومه، ولم يُهاجر إلى الحبشة، وهذا قول الأكثر، فأقام في أرض قومه حتى قدم مع وفد من الأشْعَرِيِّين نحو خمسين رجلًا في سفينة، فألقتهم الريح إلى أرض الحبشة، فوافَقوا خروج جَعْفر وأصحابه منها، فأتوا معهم، وقدمت السفينتان سفينة الأشْعَرِيّين وسفينة جَعْفر وأصحابه على النبي - صلى الله عليه وسلم - في حين فتح خَيْبر، وقد قيل: إن الأشعريين لما رمتهم الريح إلى النَّجاشيّ أقاموا بها مدة، ثم خَرَجوا في حين خروج جَعْفر، فلهذا ذكره ابن إسحاق فيمن هاجر إلى أرض الحبشة. ولاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مخالِيف اليمن زَبِيد وعَدَن وأعمالهما إلى الساحل، وولاه عمر البصرة في حين عَزَل المغيرة عنها فلم يَزَل عليها إلى صدر من خلافة عثمان، فعَزَلهُ عثمان عنها، وولاها عبد الله بن عامر بن كُرَيْز، فنزل أبو موسى حينئذٍ بالكوفة، وسكن بها، فلما دفع أهل الكوفة سعيد بن العاص ولَّوْا أبا موسى، وكتبوا إلى عُثمان يسألونه أن يوليه عليهم، فأقره عثمان على الكوفة إلى أن مات، فعزله علي بن أبي طالِب - رضي الله عنه - عنها، فلم يزل واجدًا منها على علي حتى جاء منه ما قال حذيفة: قال ابن عبد البَرِّ: رُوِي فيه لحُذيفة كلام كَرهت ذكره، وغلب أهل

اليمن عليًّا في إرساله في التحكيم، ثم كان من أَمره يوم التحكيم ما كان، وهو الذي افتتح في زمن عمر الأهْواز ثم أصْبهان. وأخرج الطَّبَريّ من طريق عبد الله بن بُريدة أنه وصف أبا موسى، فقال: كان خفيفَ الجسم، قصيرًا ثَطًّا، أي: خفيف شعر اللحية والحاجبين، ويقال لثقيل البطن أيضًا. وأخرج البَغَويّ عن أنس كان لأبي موسى سَراويل يَلْبَسُها بالليل مخافة أن ينكشِف، وقال مجاهد عن الشَّعبيّ: كتب عمر في وصيته: لا يُقَرُّ لي عامل أكثر من سنة، وأقروا الأشعري أربع سنين، كان حسن الصوت بالقرآن، ففي الصحيح مرفوعًا لقد أوتي مزمارًا من مزامير آل داود. وقال أبو عثمان النَّهديّ: ما سمعت صوت صَنْجٍ بالفتح ولا بَرْبطٍ كجعفر، أحسن من صوت أبي موسى بالقرآن، والصَّنج والبَرْبَط آلتان من آلات اللهو، وكان عُمر إذا رآه قال له: ذكرنا ربنا يا أبا موسى، وفي رواية شَوِّقْنا إلى ربنا، فيقرأُ عنده. وكان أبو موسى هو الذي فَقَّه أهل البصرة وأقْرَأهم. وقال الشَّعْبيّ: انتهى العلم إلى ستة فذكره فيهم، خلاف قول مسروق، وتقدم الكلام عليهم في ترجمة عبد الله بن مسعود، وقال ابن المَدِينيّ: قضاة الأمة أربعة: عمر وعلي وأبو موسى وزَيْد بن ثابت. وأخرج البخاري من طريق أبي التَّيّاح، عن الحسن، قال: ما أتاها -يعني البصرة- راكب خيرٌ لأهلها منه، قدم المدينة في اليمن لما مات النبي - صلى الله عليه وسلم -، وشهد فتوح الشام، ووفاة أبي عُبيدة بالأُرْدُنّ، وخُطبة عُمر بالجابية، وقدم على معاوية بدمشق. له ثلاث مئة وستون حديثًا اتفقا على خمسين منها، وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بخمسة عشر. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، والخلفاء الأربعة، ومعاذ، وابن مسعود، وأُبيّ

ابن كعب، وعمار. وروى عنه أولاده موسى، وإبراهيم، وأبو بكر، وامرأته أم عبد الله، وروى عنه من الصحابة أنس، وأبو سعيد، وطارق بن شِهاب، وخلق من التابعين منهم زيد بن وَهْب، وسعيد بن المُسَيِّب، وأبو عُثمان النَّهْديّ، وزِرّ بن حُبَيش، وغير ذلك. مات بمكة أو بالكوفة سنة خمس أو إحدى أو أربع وأربعين عن ثلاث وستين سنة. وأبو موسى في الصحابة سواه ثلاثة الأنْصاريّ، والحَكَمِيّ، والغَافِقيّ مالك بن عُبادة، وقيل: ابن عبد الله، وأبو موسى في الستة أحد عشر بالأشْعريّ هذا إسرائيل، والحَذّاءان، والعَنَزِيّ، ومالك بن الحارث، وعمرو بن عُبيد، والهِلاليّ، وعَليّ بن رَباح اللَّخمي، والذي روى عن ابن أبي مريم عن أبي هُريرة في السلام، وشيخ يماني. والأشْعَريّ في نسبه نسبة إلى جده المار في نسبه، واسمه نَبْت بن أدد على الصحيح، أبو قبيلة: من اليمن، لُقِّب بذلك لأن أمه ولدته وعليه شعر، وإليه ينسب مسجد الأشاعرة بمدينة زَبِيد، ومنهم أبو الحَسن الأشعَرِيّ المتكلم صاحب التصانيف، وقد نسبَ إلى طريقته خلق من الفُضَلاء، ويُجمعُ الأشْعريّ بتخفيف ياء النسبة، كما يقال: قوم يمانون، فيقال: جاءتك الأشعرون بحذف ياء النسب. لطائف إسناده: منها أن رجال سنده كلهم كُوفيون، وفيه التحديث والعنعنة فقط، وفيه راويان متَّفِقان في الكُنية أحدهما أبو بُرْدة بُريد، والآخر أبو بُردة عامر أو الحارث كما مر، وهو شيخ الأول، وجده، وقد مرّ في الحديث الثاني من بدء الوحي رواية الآباء عن الأبناء والعكس.

أخرج هذا الحديث من هذا الوجه مسلم بلفظه، وأخرجه أيضًا عن إبراهيم بن سعيد الجَوْهَرِيّ، وأخرجه في الإِيمان, والنَّسائي فيه أيضًا، والتِّرْمِذيّ في الزهد.

6 - باب إطعام الطعام من الإسلام

6 - باب إطعام الطعام من الإسلام باب منون، وفيه ما في الذي قبله، وترجم هنا بقوله: إطعام الطعام، ولم يَقُل: أيُّ الإِسلام خير كما في الذي قبله إشعارًا باختلاف المقامين، وتعدد السؤالين كما سنقرره، والمؤلف لما استدل على زيادة الإِيمان ونقصانه بحديث الشُّعَب تتبع ما ورد في القرآن والسنن الصحيحة من بيانها فأورده في هذه الأبواب تصريحًا وتلويحًا. الحديث الخامس 12 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رضى الله عنهما - أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَيُّ الإِسْلاَمِ خَيْرٌ؟ قَالَ «تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ». [الحديث 12 - طرفاه في: 28، 6236]. وقوله: "أن رجلًا" قال في "الفتح": لم أعرف اسمه، قال: وفي "ابن حبان" أن هانىء بن مَرْثَد والد شُريح سأل عن معنى ذلك فأُجيب بنحو ذلك. وقوله: "أيُّ الإِسلام خَير؟ " فيه ما في الذي قبله من السؤال والتقدير، ويقدر هنا: أي خِصال الإِسلام لموافقة الجواب الذي هو تطعم الطعام لهذا المقدر، ولأن تنويع التقدير يتضمن جواب من سأل، فقال: السؤالان بمعنى واحد، والجواب مختلف، فيقال له: إذا لاحظت هذين التقديرين بان لك الفرق، ويمكن التوفيق بأنهما متلازِمان، إذ الإِطعام مستلزم لسلامة اليد، والسلام لسلامة اللسان في الغالب، ويحتمل أن يكون الجواب اختلف لاختلاف السؤال عن الأفضلية إن لوحظ بين لفظ أفضل ولفظ خير فرق فإنَّ الفضل بمعنى كثرة الثواب في مقابلة القلة، والخير بمعنى النفع في مقابلة الشَّر، فالأول من الكمية، والثاني من

الكيفية، فافترقا، وعلى تقدير اتِّحاد السؤالين، فالجواب هو العمل على اختلاف حال السائلين أو السامعين، فيمكن أن يُراد في الجواب الأول تحذير من خُشِيَ منه الإِيذاء بيدٍ أو لسان، فأُرْشِد إلى الكفِّ، وفي الثاني ترغيب من رُجِي منه النفع العام بالفعل والقول، فأرشد إلى ذلك، وخَصَّ هاتين الخصلتين بالذكر لمسيس الحاجة لهما في ذلك الوقت لما كانوا فيه من الجَهْد، ولمصلحة التألف، ويدُلُّ على ذلك أنه عليه الصلاة والسلام حَثَّ عليهما أول ما دخل المدينة، كما رواه التِّرمِذيّ وغيره مصححًا عن عبد الله بن سَلام، قال: أول ما دَخَل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة انْجَفَل الناس إليه، فكنت ممن جاءه، فلما تأملت وجهه واشتبهته علمت أن وجهه ليس بوجه كذاب، وكان أول ما سمعت من كلامه أن قال: "أيُّها الناس، أفشوا السَّلام، وأطْعموا الطّعام، وصلُّوا بالليل والناس نِيام، تدخُلوا الجنّة بسلام". وقوله: "تطعم الطعام" في محل الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف بتقدير أنْ، أي: هو أن تُطعم الطعام، فأن مصدرية، والتقدير هو إطعام الطعام على حد: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، وإنما قال: تطعم، ولم يقل: تُؤْكِل ونحوه لأن لفظ الإِطعام يتناول الأكل والشُّرب والذَّوق، قال الشاعر: وإنْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النِّساء سِواكُمُ ... وإنْ شِئتِ لَم أطْعم نُقَاخًا ولاَ بَرْدا والنُقاخ بضم النون وبالخاء المعجمة الماء العذب، والبَرْد: النَّوم، وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ} أي: لم يذُقه، وبعمومه يتناول الضيافة، وسائر الولائم، وإطعام الفقراء، وغيرهم. وقوله: "وتَقرأ السّلام على مَن عَرَفْت ومَن لم تَعْرِف" تَقرأ بفتح التاء، وضم الهمزة، مضارع قرأ، ولم يقل: وتُسَلِّم ليتناول سلام الباعث بالكتاب المتضمن للسلام، تقول: اقرأ عليه السلام، ولا تقول: أقْرِئْه السلام، فإذا كان مكتوبًا، قلت: أقرئْه السلام، أي: اجعله يقرأه.

رجاله خمسة

وقوله: "ومَن لَم تَعْرِف" أي: لا تخص به أحدًا تكبُّرًا أو تَصنُّعًا كما يفعله الجبابرة, لأن المؤمنين كلهم إخوة متساوون في مراعاة الأُخوَّة، والعموم مخصوص بالمسلمين، فلا يُسَلَّم ابتداءً على كافر، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَبْدؤُوا اليَهود ولا النّصارى بالسلام، فإذَا لَقِيتم أحَدَهُم في الطّريق فاضْطَّروه إلى أضْيَقِهِ" أخرجه مسلم والبخاري في "الأدب المفرد". وكذلك خُصَّ منه الفاسق بدليل آخر، وأما من يُشَكُّ فيه، فالأصل فيه البناء على العموم، حتى يثبت الخصوص، ويأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى في كتاب الاستئذان، وقد استوفيت الكلام عليه غاية الاستيفاء في كتاب "متشابه الصفات". وفي قوله: "عرفت" ومن لم تعرف حذف العائد للعلم به، أي عرفته، ومن لم تعرفه، وفي هاتين الخصلتين الجمع بين نوعي المكارم المالية والبدنية، إطعام الطعام، وإفشاء السلام. رجاله خمسة: الأول: عمرو بن خالد بن فرُّوخ بن سعيد بن عبد الرحمن بن واقد بن ليث بن واقد بن عبد الله التَّميميّ الحَنْظليّ، ويقال: الخزاعي أبو الحسن الحَرّاني الجَزَريّ نزيل مصر. قال أبو حاتم: صدوق. وقال العِجليّ: مِصري ثبت ثقة. وقال الدَّارَقُطني: ثقة حجة. وقال مَسْلمة: ثقة. وذكره ابن حِبّان في "الثقات" وفي "الزهرة". روى عنه: البخاري ثلاثة وعشرين حديثًا. روى عن: زهير بن مُعاوية، واللَّيث، وابن لَهيعة، وحمّاد بن سَلَمة، ومحمد بن سَلَمة الحَرّانيّ، وعبيد الله بن عُمر، وموسى بن أعْيَن، ويعقُوب بن عبد الرحمن وغيرهم.

وروى عنه: البخاري، وروى ابن ماجة عن الذُّهليّ عنه، وابناه أبو علاثة: محمَّد، وأبو خيثمة علي، وعبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم، ويونُس بن عبد الأعْلى، وأبو حاتم، وأبو زُرعة، وأبو الأحْوص، وأبو الزّنباع رَوْح بن الفرج، وغيرهم. مات بمصر سنة تسع وعشرين ومئتين. ومر الكلام على التَّميميّ والحَنْظليّ في عبد الله بن المُبارك، وعلي الجزريّ في عدي بن عَدِيّ. والحَرّانيّ في نسبه نسبة إلى حرّان كَشدّاد مدينة عظيمة من ديار مصر، واليوم خراب، وقيل: من ديار بكر، وقيل: من ديار الشام، وقيل: سميت بهاران أبي لُوط وأخي إبراهيم عليهما السلام، والنسبة إليها على الأفصح حَرْنانيّ على غير قياس، كما قالوا: مناني بالنسبة إلى ماني والقياس مَانوي، ولا تقل: حرّاني، وإن كان قياسًا على ما عليه العامة. والخُزاعيّ في نسبه نسبةً إلى خُزاعة بلا لام، حي من الأزْد ولد حارثة ابن عَمرو مُزَيْقِيا ابن عامر وهم ماء السماء ربيعة وهو لحي وأقصى وعديا وكعبًا وهم خُزاعة، وأمُّهم بنت أُدّ بن طابِخة بن الياس بن مُضَر، فولد ربيعة عَمْرًا وهو الذي بَحَر البَحيرة، وسَيَّب السائبة، ووَصل الوصيلة، وحمى الحامي، ودعا العرب إلى عبادة الأوثان، وهو خُزاعة، وأمه فُهَيْرة بنت عامر بن الحارث بن مصاص الجُرْهُميّ ومنه تفرقت خُزاعة، وإنما صارت الحِجابة إلى عمرو بن ربيعة من قبل فُهَيْرة الجُرْهُميّة، وكان أبوها آخر من حَجب من جُرْهُم، وقد حَجَب عمر، وسموا خزاعة لأنهم لما ساروا مع قومهم من مأرِب فانتهوا إلى مكة، تخَزّعوا عن قومهم، وأقاموا بمكة، وسار الآخرون إلى الشام، وقيل: إن الأزد لما خرجت من مكة لتتفرق في البلاد تخلفت عنهم خُزاعة وأقامت بها، وفي ذلك يقول حسان: فلَمّا هَبَطنَا بَطْنَ مُرٍّ تَخَزّعت ... خُزَاعةُ عَنّا في حُلُولِ كَراكِرِ وقيل: إنه لعدن بن أيوب الأنصاري.

الثاني: الليث بن سعد، وقد مر في الثالث من بدء الوحي. الثالث: يزيد بن أبي حبيب، واسمه سُويد الأزديّ مولاهم، أبو رجاء المِصري، وقيل غير ذلك في ولائه. قال ابن سعد: كان مُفتي أهل مصر في زمانه، وكان حليمًا عاقلًا، وكان أول من أظهر العلم بمصر، والكلام في الحلال والحرام، وكانوا قبل ذلك يتحدثون بالملاحم والفتن، وكان أحد الثلاثة الذين جعل فيهم عمر ابن عبد العزيز رضي الله عنه الفتيا بمصر، وقال: كان يزيد من أهل دُنْقُلة فابتاعه شريك بن الطُّفَيُل العامِرِيّ، فأعتقه. وقال ابن سعد أيضًا: كان ثقة، كثير الحديث. وذكره ابن حِبّان في "الثقات" وقال يونُس: روى عنه الأكابر من مصر. وقال يحيى بن بُكَير: اسمه خليفة، وسُئِل موسى الجُهَنيّ: أيُّهُما أحبُّ إليك؟ فقال يزيد قال: وسئل أبو زُرعة عن يزيد، فقال مصري ثقة، وقال العجليّ: مصري تابعي ثقة، وقال اللّيث: حدثنا يزيد بن أبي حبيب، وعبد الله بن جعفر، وهما جَوْهَريّا البلد، وقال ابن وَهْب لو جُعلا في ميزان ما رَجَح أحدهما على الآخر. روى عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزُّبَيديّ، وأبي الطُّفَيل، وأسلم ابن يزيد أبي عِمْران، وإبراهيم بن عبد الله بن حُنَين، وخَيْر بن نُعَيم بن الحَضْرَميّ، وعطاء بن أبي رَباح، وخلق كثير. وروى عنه: سليمان التَّيْميّ، ومحمد بن إسحاق، وزيد بن أبي أُنَيْسة، وعمرو بن الحارث، والليث بن سعد، وحياة بن شُرَيْح، وآخرون. مات سنة ثمان وعشرين ومئة، وبَلَغَ زيادة على خمس وسبعين سنة. ومرّ الكلام على الأزْديّ في السادس من بَدْء الوحي. وليس في الستة يزيد بن أبي حَبيب سواه، وأما يزيد فكثير جدًّا. الرابع: مَرْثَد بن عبد الله اليَزَنيّ أبو الخير المِصْري الفقيه.

قال بان يُونس: كان مفتي أهل مصر في زمانه، وكان عبد العزيز بن مَرْوان يُحضِرُه فيُجلِسُهُ في مجلسه للفتيا، وذكره ابن حِبّان في "الثقات" وقال العِجْليّ: مصري تابعي ثقة. وقال ابْن سعد: كان ثقة وله فضلٌ وعبادة. وقال ابن شاهين في "الثقات": قال ابن معين: كان عند أهل مصر مثل عَلْقمة عند أهل الكوفة، وكان رجل صدق، ووثَّقه يعقوب بن سُفيان. روى عن: عُقبة بن عامر الجُهنِيّ، وكان لا يفارقه، وعمرو بن العاص، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي أيوب الأنصاري، وأبي بَصْرة الغفاري، وزيد بن ثابت، وغيرهم. وروى عنه يزيد بن أبي حبيب، وجَعْفر بن ربيعة، وكعب بن عَلْقمة، وعبد الرحمن بن شِماسَة، وعبيد الله بن أبي جَعْفر، وغيرهم. مات سنة تسعين. ومَرْثَد في الستة غيره أربعة: مرثَد بن عبد الله الزِّمّاني -بكسر الزاي وتشديد الميم- روى عن أبي ذَرٍّ، وعنه ابنه مالك. ومَرْثَد بن أبي مَرثد الغَنَويّ -بفتح المعجمة والنون- شهد بدرًا، وأحدًا، وقتل يوم الرَّجيع، روى حديثه عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده. ومَرْثَد بن وَداعة الحِمصِيّ أبو قُتيلة -بضم القاف- روى عن عبد الله بن حَوالة، وعنه خالد ابن مَعْدان. قال البُخاريّ: له صحبة، وقال أبو حاتم: لا صحبة له، وذكره ابن حِبّان في ثقات التابعين. ومَرْثد بن عبد الله المَرْوَزِيّ. واليَزَنيّ: بفتح الياء آخر الحروف، بعدها زاي معجمة، بعدها نون في نسبه نسبة إلى ذي يَزَن، وهو عامر بن أسلم بن غَوْث بن سَعد بن عَوْف ابن عَدِيّ بن مالك بن زيد بن سدد بن زرعة بن سبأ الأصْغر، وابنه شَرَاحيل، ويلقب سيفًا لشجاعته، مشهور ومن ولده زُرعة بن عامر بن سَيْف بن النُّعمان بن عُفير الأوسط بن زُرعة بن عُفَير الأكبر بن الحارث بن النُّعمان بن قيس بن عبد بن سيف بن ذي يَزَن، كتب إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وابنُه عُفَير من مهاجرة الشام، وإلى ذي يَزَن تنسب الأسِنَّة اليَزَنيّة، وهو

7 - باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه

أول من عمل سنان الحديد، وكان أسِنَّتهم صياصي البقر، ويزن أصله وادٍ حماه الملك، فلذلك قيل له: ذو يزن، كما قالوا: ذو رعين وذو وجدن وهما قصران باليمن. الخامس: عبد الله بن عَمرو بن العاص، ومر قريبًا في الثالث من كتاب الإِيمان هذا. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة ليس إلا، ورواته كلهم مِصريون، وهذا من الغرائب، لأنه في غاية القِلَّة، ورواته كلهم أئمة أجلاء. أخرجه البخاري هنا، وأخرجه بعد هذا بأبواب عن قُتيبة بن سعيد، وفي الاستئذان أيضًا عن أبي يوسف، ومسلم في الإِيمان عن قُتيبة بن سعيد، والنَّسائي في الإِيمان, وأبو داود في الادب، وجميعًا عن قُتيبة، وابن ماجة في الأطعمة عن محمَّد بن رمح. 7 - باب من الإِيمان أن يُحبَّ لأخيه ما يُحبَّ لنفسهِ باب بالتنوين، أي هذا باب، أو بالوقف، وقدم في هذه الترجمة لفظ الإِيمان بخلاف أخواتها، حيث قال: إطعام الطعام من الإِيمان، إما للاهتمام بذكره، أو للحصر، كأنه قال: المحبة المذكورة ليست إلا من الإِيمان، وهو توجيه حسن إلا أنه يَرِدُ عليه أن الذي بعده أليق بالاهتمام والحصر معًا، وهو قوله: باب حب الرسول من الإِيمان، فالظاهر أنه أراد التنويع في العبارة أو يقال: بأنه اهتم بحب الرسول، فقدمه، والترجمة من لفظ الحديث يأتي الكلام عليها. الحديث السادس 13 - حَدَّثَنَا مُسَدَّد، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ - رضيَ الله عنه -، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وَعَنْ حُسَيْنٍ الْمُعَلِّمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ».

أورد هذا الحديث بطريقين، عاطفًا إحداهما على الأخرى، وهي: وعن حسين المعلم، فإنه معطوف على شعبة، والتقدير عن شعبة وحسين، كلاهما، عن قتادة، وإنما لم يجمعهما لأن شيخه أفردهما، فأورده المصنف معطوفًا اختصارًا، ولأن شعبة قال: عن قتادة، وقال حسين: حدثنا قتادة، وغلط من زعم أن رواية حسين معلقة، فإن أبا نُعَيم في "المستخرج" وصلها عن مُسَدَّد، وصرح أحمد والنَّسائي في روايتهما بسماع قتادة له من أنس، فانتَفَت تهمة تدليسه. وقوله: "لا يُؤْمِنُ أحدُكُم" وللأصِيْلِيّ "أحدٌ" ولابن عَساكر "عبدٌ" وكذا لمسلم، والمنفي كمال الإِيمان، ونفي اسم الشيء على معنى نفي الكمال عنه مستفيض في كلامهم، كقولهم: فلان ليس بإنسان، ولا يلزم على هذا أنَّ من اتصف بهذه الخصلة يكون مؤمنًا كاملًا، وإن لم يأت ببقية الأركان, لأن هذا ورد مورد المبالغة، أو يستفاد من قوله: لأخيه المسلم ملاحظة بقية صفات المسلم، وقد صرح ابن حِبّان عن حُسين المعلم بالمراد، ولفظه: "لَا يَبْلُغُ عبدٌ حقيقةَ الإِيمان" ومعنى الحقيقة هُنا الكمال ضرورة أنَّ لم يَتَّصِف بهذه الصفة لا يكون كافرًا، وبهذا يَتِمُّ الاستدلال للمصنف على أنه يتفاوت، وأن هذه الخصلة من شُعَبِ الإِيمان، وهي داخلة في التواضع على ما نقرره قريبًا. وقوله: "حتى يُحبَّ" بالنصب، لأن حتى جارّة، وأَنْ بعدها مضمرة، ولا يجوز الرفع فتكون حتى عاطفة، فلا يصحُّ المعنى، لأن عدم الإِيمان ليس سببًا في المحبة. وقوله: "ما يُحبُّ لنفسه" جملة محلها النصب مفعول به، أي: من الخير، وهو مصَّرحٌ، به في رواية الإِسماعيلي الآتية، وغيره، والخير كلمة جامعة تَعمُّ الطاعات والمباحات الدنيوية والأخروية، وتخرج المنهيات لأن اسم الخير لا يتناولها، والمحبة إرادة ما يعتقده خيرًا. قال النَّوويّ: المحبة: الميل إلى ما يُوافق المحب، وقد تكون

بحواسه كحسن الصورة، أو بفعله، إما لذاته كالفضل والكمال، وإما لإِحسانه كجلب نفع ودفع ضُرٍّ، والمراد بالميل هُنا الاختياري دون الطّبيعيّ والقَسْريّ، والمُراد أيضًا أن يُحِبّ أن يَحْصُل لأخيه نظير ما يحصُلُ له، سواء كان في الأمور المحسوسة أو المعنوية، وليس المراد أن يَحْصُلَ لأخيه ما حصل له، لا مع سلبه عنه، ولا مع بقائه بعينه له، إذ قيام الجوهر أو العَرَض بمحلين مُحال. وقال أبو الزِّناد بن السَّرّاج: ظاهر هذا الحديث طلب المساواة، وحقيقته تستلزم التفضيل، لأن كل أحد يُحِبُّ أن يكون أفضل من غيره، فإذا أحب لأخيه مثله، فقد دخل في جملة المفضولين. وقال في "الفتح": في هذا نظر، لأن المراد الزَّجر عن هذه الإِرادة، إذ المقصود الحث على التواضع، فلا يُحِبُّ أن يكون أفضل من غيره، فهو مستلزم للمساواة، ويستفاد ذلك من قوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا} [القصص: 83] ولا يَتِمُّ ذلك إلا بترك الحسد والغِلِّ والَغِشِّ والحقد، وكلها خِصال مذمومة، ومن الإِيمان أيضًا أن يُبْغِض لأخيه ما يُبْغِض لنفسه من الشر، ولم يذكره لأن حب الشيء مستلزم لبغض نقيضه، فترك التنصيص عليه اكتفاء، ويحتمل أن يكون قوله: "أخيه" شاملًا للذِّمِّي أيضًا، بأن يحب له الإِسلام مثلًا، ويؤيده حديث أبي هُريرة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: "مَنْ يأخُذُ عني هؤلاء الكلماتِ فَيَعملَ بِهِنَّ، أو يُعَلِّمَ من يعملُ بهن" فقال أبو هريرة، قلت: أنا يا رسول الله، فأخذ بيدي، فعد خمسًا، قال: "اتَّقِ المحارِمَ تكن أعبدَ النّاس، وارضَ بما قَسَمَ الله لك تَكُن أغنى الناس، وأحْسِنْ إلى جارِك تكن مؤمنًا، وأحِبَّ للناس ما تُحِبُّ لنفسك تكن مسلمًا" الحديث. رواه التِّرمذي وغيره من رواية الحسن، عن أبي هُريرة، لكن الحسن قال عن الترمذيِّ: إنه لم يَسْمعَ من أبي هُريرة، ورواه البَزّار والبَيْهَقيُّ بنحوه في الزُّهد عن مَكْحول

ورجال الطريقين ستة

عن واثِلة عنه، وقد سمع مكحول من واثِلة، لكن قال التِّرْمِذيُّ وغيره: إن بقية إسناده فيه ضَعْف، ووجه الاستدلال به هو قوله: "وأحِبّ للناس، فإن الناس تَشْمَل الكفار, فَيُراد منهم الذِّمّي, لأنه هو الذي له معاملة مع المسلمين، اللهم إلا أن يقال: إن الناس المراد بهم المسلمون خاصة، كما مر عند حديث "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده". تنبيه: المتن الذي ساقه البُخاري هُنا هو لفظ شُعبة، وأما لفظ حسين من رواية شعبة التي ذكرها فهي: "لا يؤمن عبدٌ حتى يُحِبَّ لأخيه ولجاره" وللإِسماعيلي عن حُسين: "حتى يُحِبَّ لأخيه المسلم ما يُحِبُّ لنفسه من الخيرِ" فبين المراد بالأخوة، وعين جهة الحب، وزاد مسلم في أوله: "والذي نفسي بيده". ورجال الطريقين ستة: الأول: مُسَدَّد بن مُسَرْهَد بن مُسَرْبل بن مُغَربل بن مُرَعبل بن أرَنْدل بن سَرَنْدل بن عَرَنْدل بن ماسِك بن مُستورد البَصْريّ الأسدي أبو الحسن الحافظ، قيل: اسمه عبد الملك بن عبد العزيز. قال يَحيى بن سعيد القطان: لو أتيت مسدّدًا فحدثته في بيته لكان يَستاهل، وما أبالي كتبي كانت عندي أو عند مُسَدّد. وقال البخاري: هو مُسَدّد كاسمه، وقال أبو زُرعة: قال لي أحمد بن حَنْبل: مسدد صدوق فيما كتبت عنه، فلا تعده. وقال المَيْمُوني: سألت أبا عبد الله الكتاب إلى مُسَدّد، فكتب لي إليه، وقال: نعم الشيخ، عافاه الله. وقال جعفر بن أبي عُثمان: قلت لابن مَعين: عَمَّن أكتب بالبصرة، فقال: اكتب عن مُسَدّد، فإنه ثقة ثقة. وقال مُحمد بن هارون الفَلّاس عن ابن مَعين: صدوق. وقال النّسائي: ثقة. وقال العِجْليّ: مُسَدَّد بن مُسَرْهد بن مُسَربل بن مستورد الأسَديّ البَصْريّ ثقة، كان يُملي علي حتى أضْجَر، قال: يا أبا الحسن اكتب، فيُملي علي بعد ضَجَري خمسين حديثًا. قال: فأتيت في الرحلة الثانية، فأصبت عليه زِحاما، فقلت: قد أخَذْتُ بحظّي منك،

قال: وكان أبو نُعيم يسألني عن نَسَبِه، فأخبره، فيقول لي: يا أحمد، هذه رُقْيَةُ العقرب. وقال ابن أبي حاتم، عن أبيه: ثقة. وقال أبو حاتم الرّازِيّ في حديث مُسَدّد، عن يَحْيى بن سعيد، عن عُقبة، عن نافع، عن ابن عمر: الدنانير، ثم قال: كأنك سمعتها من في النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وقال ابن قانِع: كان ثقة. وقال ابن عَديّ: يقال: إنه أول من صَنَّفَ المسند بالبصرة. وذكره ابن حِبّان في "الثقات". فالخمسة الأولى على لفظ صيغة اسم المفعول وهي عربية، فمُسَدّد من التسديد، ومُسَرْهد من سَرْهَدْتُه: أحسنت غِذاءه، وسمنته، ومُسَرْبل من سَرْبلْتُه، أي: ألبسته القميص، ومُغَرْبل من غربلته، أي: نقيته، ومُرَعْبل من رَعْبَلتُه: أي: مزقته وقطعته، والثلاثة التي تليها عجميات. روى عن عبد الله بن يَحيى بن أبي كثير، وهُشَيم، ويزيد بن زُرَيع، وفُضَيل بن عِياض، وجُوَيرة بن أسماء، وعبد الواحد بن زياد، وعبد الوارث، ومُعتمر بن سليمان، ووكيع، والقطّان، وابن علية، وخلق. وروى عنه: البُخاري، وأبو داود، وروى له أبو داود أيضًا، والترمذي، والنسائي، بواسطة محمَّد بن محمَّد بن خلاد الباهِلِيّ، وأبو زُرعة وأبو حاتم الرّازِيّان، ومحمد بن يحيى الذُّهْليّ، ويعقوب بن سُفيان، ويعقوب بن شَيبَة، وأبو خليفة وغيرهم. وليس في الستة من اسمه مُسَدّد سواه، مات سنة ثمان وعشرين ومئتين. والبَصْريّ في نسبه مر الكلام عليه في ترجمة شُعبة بن الحَجّاج، والأسَديّ في نسبه نسبة إلى أسد بالتحريك، وهو اثنان: أسد بن خُزَيْمة بن مُدْرِكة بن إلياس بن مُضَر أبو قبيلة عظيمة من مُضر، وأسد بن رَبيعة بن نِزار بن مَعد بن عدنان أبو قبيلة أخرى. الثاني: يحيى بن سعيد بن فَرُّوخ -بفتح الفاء وتشديد الراء المضمومة

وفي آخره خاء معجمة غير منصرف للعلمية والعجمةَ- القطان التَّميْميّ ولاءً أبو سعيد البصري الأحول، الحافظ الإِمام الحجة، أحد أئمة الجرح والتعديل المتفق على جلالته وتوثيقه وتميزه في هذا الشأن. قال ابن حِبان في "الثقات": كان من سادات أهل زمانه حفظًا وورعًا وفَهمًا وفَضْلًا ودينًا وعلمًا، وهو الذي مَهَّد لأهل الحديث رسم الحديث، وأمعن في البحث عن الثقات، وترك الضعفاء، ومنه تعلم أحمد ويحيى وعلي وسائر أئمتنا، وكان إذا قيل له في علته: عافاك الله تعالى، قال: أحبه إليّ أحبه إلى الله تعالى. وقال الخَليليُّ: هو إمام بلا مدافعة، وهو أجل أصحاب مالك بالبصرة، وكان الثَّوْريّ يتعجب من حفظه، واحتج به الأئمة كلهم، وقالوا: "من تركه يحيى تركناه. وقال محمَّد بن بشّار: حدثنا يحيى بن سعيد إمام زمانه، وقال فيه ابن مَعين: أقام يحيى بن سعيد عشرين سنة يَخْتِمُ القرآن في كل يوم وليلة، ولم يَفُتْه الزوال أربعين سنة في المسجد، ورأى له زُهير بن نُعيم البَابيّ في المنام أن عليه قميصًا، وبين كتفيه مكتوب: بسم الله الرحمن الرحيم، كتاب من الله العزيز الحكيم، براءة ليحيى بن سعيد القطان من النار. وقال إسحاق بن إبراهيم بن أبي حبيب الشهيد: كنت أرى يحيى القطان يصلي العصر، ثم يستند إلى أصل منارة مسجده، فيقف بين يديه عَليّ بن المَدِينيّ، والشّاذَكُونِيّ، وعَمرو بن علِيّ، وأحمد بن حَنبل، ويحيى بن مَعين، وغيرهم يسألونه عن الحديث وهم قِيام على أرجلهم إلى أن تحين صلاة المغرب، ولا يقول لأحد منهم: اجلس، ولا يجلِسون هيبةً له. وقال ابن عمّار: كنت إذا نظرت إلى يحيى القطان، قلت: لا يحسن شيئًا، وإذا تكلم أنصت الفقهاء له. وقال بُنْدار: اختلفت إلى يحيى بن سعيد عشرين سنة، فما أظن أنه عصى الله تعالى قطُّ. وقال حفيدُه: لم يكن جَدّي يمزَحُ ولا يضحك إلا تبسمًا، وما دخل حمامًا قطُّ. وقال ابن سعد: كان ثقة مأمونًا رفيعًا حُجّة. وقال العِجْليّ: بصري ثقة في الحديث كان لا يحدّث إلَّا

عن ثقة. وقال أبو زُرعة: كان من الثقات الحفاظ، وقال أبو حاتم: حجة حافظ. وقال النّسائي: ثقة ثبت مَرْضِيّ. قال علي بن المديني: سمعت يحيى بن سعيد يقول: اختلفت إلى شعبة عشرين سنة، وقال عبد الرحمن بن مَهْدي: اختلفوا يومًا مع شُعبة، فقالوا: اجعل بيننا وبينك حكمًا، فقال: قد رضيتُ بالأحول، يعني: يحيى بن سعيد القَطّان. وقال خالد بن الحارث: غلبنا يحيى بن سعيد بسفيان الثَّوريّ، وقال يحيى بن سَعيد: كنت إذا أخطأت قال لي الثَّوريّ: أخطأت يا يحيى، فحدث يومًا عن عُبيد الله، عن نافع، عن ابن عُمر بحديث الشُّرْب في آنية الذهب والفضة، فقلت: أخطأت يا أبا عبد الله، هذا أهون عليك، إنما حَدّثَنا عبيد الله، عن نافع، عن يزيد بن عَبد الله، عن عبد الله بن عبد الرحمن، عن أم سَلَمة، فقال لي: صدقت. وقال عَمرو بن عَليّ، عن يحيى بن سعيد: ما اجتمعت أنا وخالد بن الحارث ومعاذ بن معاذ إلا قَدَّماني. وقال ابن مَهْدي: ما رأيت أحسن أخذًا للحديث ولا أحسن طلبًا له من يَحيى القطّان أو سفيان بن حَبيب. وقال ابن المَدِينيّ: لم يكن ممن طلب، وعُنِي بالحديث، وأقام عليه، ولم يَزَل به إلا ثلاثة: القطان، وسفيان بن حَبيب، ويزيد بن زُرَيع. وقال ابن عَمّار: حدّث عبد الرحمن بن مَهدي عن يحيى بن سعيد بألفي حديث، وهو حي. وقال السّاجيّ: حدثت عن علي بن المَدِيني، قال: ما رأيت أعلم بالرِّجال من يَحيى القَطّان، ولا أعلم بصواب الحديث والخطأ من ابن مَهْدي، فإذا اجتمعا على ترك رجل تركته؛ وإذا أخَذَ عنه أحدهما حدثت عنه. وقال إبراهيم بن محمَّد التَّيْمِيّ: ما رأيت أعلم بالرجال من يحيى القطّان. وقال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي يقول: حدَّثَني يحيى القطان، وما رأت عيناي مثله، قال: فقلت لأبي: من أعلم من رأيت في هذا الشأن؟ قال: ما رأيت مثل يحيى القطان، قلت: فهُشَيْم؟ قال: هشيم شيخ، قلت: فعبد الرحمن بن مَهْدي؟ قال: لم يكن مثل يحيى. وقال أحمد أيضًا: كان إليه المنتهى في التثبت بالبَصْرة، وقال الفضل بن زياد: سمعت أحمد يقول: لا والله ما أدركنا مثله، ثم قال: سمعت ابن مَهْدي وذكره، فقال: لا والله لا

ترى عيناك مثله. وقال الأثرم: سمعت أحمد يقول: رحم الله تعالى يحيى القطان، ما كان أضبطه، وأشد ثقته، كان محدثًا وأثنى عليه، وأحسن الثناء عليه. وقال أبو داود عن أحمد: ما رأيت له كتابًا، كان يحدثنا من حفظه. وقال حَنْبل عن أحمد: ما رأيت أقل خطأ من يحيى، ولقد أخطأ في أحاديث، ثم قال: ومَنْ يَعرى من الخطأ والتصحيف؟ وقال صالح بن أحمد عن أبيه: يحيى بن سعيد أثبت من هؤلاء يعني ابن مَهْدي، ووكيعًا، وغيرهما، وقد روى عن خمسين شَيخًا ممن روى عنه سفيان، قيل له: كان يكتُب عند سُفيان، قال: إنما كان يتسمع ما لم يكُن سمعه، فيكتبه. وقال أبو بكر بن خلّاد: سمعت ابن مَهْدي يقول: لو كنت لقيت ابن أبي خالد لكتبت عن يحيى القطان، عنه، لأعرف صحيحها من سقيمها. قال أبو بكر: وسمعت يحيى يقول: جَهَدَ الثَّوريّ أن يدلس عليَّ رجلًا ضعيفًا فما أمكنه، قال مرة: حدثنا أبو سهل، عن الشَّعْبيّ، فقلت له: أبو سهل محمد بن سالم، فقال: يا يحيى، ما رأيت مثلك، لا يذهَب عليك شيء. وقال أبو زُرعة الدِّمَشْقي: قلت لابن مَعين: يحيى القطّان فوق ابن مَهْدي؟ قال: نعم. روى عن: سليمان التَّيميّ، وحُميد الطّويل، وإسماعيل بن أبي خالد، وهشام بن عُروة، وعِكْرمة بن عَمّار، وابن جُرَيج، والأوْزاعيّ، ومالك، وشعبة، والثَّوريّ، وابن أبي عَروبة، وقُرّة بن خالد، وفُضيل بن غَزْوان، وخلق. وروى عنه ابنه محمَّد، وحفيده أحمد بن مُحمد، وأحمد، وإسحاق، وابن المَدِينيّ، ويَحيى بن مَعين، وعمرو بن عليّ الفَلّاس، ويعقوب الدَّوْرقيّ، وخلق كثير آخرهم موتًا أبو يَعْلى بن شَدّاد المِسْمَعيّ، وحدث عنه من شيوخه شُعبة والسُّفيانان، ومن أقرانه مُعْتَمر بن سُليمان، وعبد الرّحمن بن مَهْدي. ولد سنة عشرين ومئة، ومات في صفر سنة ثمان وتسعين ومائة.

ويحيى بن سعيد في الستة سواه أربعة، ومر الكلام عليهم أول حديث، ومر الكلام على التَّميْميّ في عبد الله بن المُبارك، وعلى البَصْرِي في ترجمة شعبة. الثالث: شُعبة، وقد مر تعريفه في الثالث من كتاب الإِيمان هذا. الرابع: قتادة بن دِعامة -بكسر الدال المهملة وتخفيف العين المهملة- بن قَتَادة بن عَزيز بن عَمْرو بن رَبيعة بن عُمر بن الحارث بن سَدُوس أبو الخطّاب السَّدوسِيّ البَصْرِيّ. ولد أكمه. قال الزَّمَخْشَرِيّ: لم يكن في هذه الأمة أكمه: أي ممسوح العين غير قَتادة. روى مَعْمر عن قَتَادة أنه أقام عند سعيد بنِ المُسَيِّب ثمانية أيام، فقال له في اليوم الثالث: ارتَحِل يا أعمى فقد أنْزَفْتَني. وقال عَمرو ابن عبد الله: لما قَدِمَ قتادة على سعيد بن المُسَيِّب، فجعل يسأله أيامًا وأكثر، فقال له سعيد: أكُلُّ ما سألتني عنه تحفظُه؟ قال: نعم، سألتك عن كذا، فقلت فيه كذا، وسألتك عن كذا فقلت فيه كذا، وقال فيه الحَسن كذا، حتى ردَّد عليه حديثًا كثيرًا، قال: فقال سعيد: ما كنت أظن أن الله خلق مثلك. وقال سعيد بن المُسيِّب: ما أتاني أحسن من قتادة. وقال بُكَير بن عبد الله المُزَنيّ: ما رأيت الذي هو أحفظ منه، ولا أجْدَرُ أن يؤدي الحديث كما سمعه. وقال ابن سِيرين: قتادة هو أحفظ الناس. وقال مَطَرٌ الورّاق: كان قتادة إذا سمع الحديث أخذه العويل والزَّويل حتى يَحْفَظَهُ، أي: القلق والانزعاج، بحيث لا يَسْتَقرُّ على مكان. وقال مَعْمر: قال قَتادة لسعيد بن أبي عَروبة: خذ المُصْحَف، فَعَرضَ عليه سورة البَقَرَة، فلم يُخْطِىء فيها حرفًا واحدًا، فقال له: يا أبا النَّضْر أحْكَمْتُ؟ قال: نعم، قال: لأنا لصحيفة جابر أحفظ مني لسورة البقرة، وكانت قُرئَت عليه. وقال مَطَر الوَرّاق: ما زال قَتَادة متعلمًا حتى مات. وقال رجلٌ لأبي قِلابة: من أسأل؟ أسأل قتادة؟ قال: نعم. وقال شعبة: حدثت سُفيان بحديث عن قتادة، فقال لي: وما كان في الدنيا مثل قَتادة.

وقال مَعمر: قلت للزُّهرِيّ: قتادة أعلم عندك أم مَكْحول؟ قال: لا بل قتادة. وقال ابن مَهْدي: قَتادة أحفظ من خمسين مثل حُميد الطّويل. قال أبو حاتم: صَدَق ابنُ مَهْدي. وقال مَعْمر، عن قتادة: ما قُلتُ لمحدثٍ قطُّ أعِد عليَّ، وما سمعت أذناي شيئًا قطُّ إلا وعاه قلبي. وقال أبو حاتم: سمعت أحمد ابن حَنْبل، وذُكِرَ قتادة، فأطْنَبَ في ذكره، فجعل ينشُر من علمه وفقهه ومعرفته بالاختلاف والتفسير، ووصفه بالحفظ والفقه، وقال: قلما تجد من يتقدمه، أما المِثْل فلَعَلَّ. وقال الأثْرم: سمعت أحمد يقول: كان قتادة أحفظ من أهل البصرة، لم يَسْمعَ شيئًا إلا حفظه، وقُرِىء عليه صحيفة جابر مرة واحدة فحفظها، وكان سليمان التَّيْميُّ وأيوب يحتاجون إلى حفظه ويسألونه، وقال ابن حِبان: كان من علماء الناس بالقرآن والفقه، ومن حفاظ أهل زمانه. وقال ابن مَعين: ثقة. وقال أبو زُرعة: قتادة من أعلم أصحاب الحَسَن. وقال أبو حاتم: أثبت أصحاب أنس الزُّهريّ، ثم قتادة، قال: وهو أحب إلي من أيوب ويزيد الرّشك إذا ذَكَرَ الخبر، يعني: إذا صرح بالسماع. وقال ابن سعد: كان ثقة، مأمونًا، حجّةً في الحديث، وكان يقول بشيءٍ من القدر. وقال همام: لم يكن يَلْحَن. وقال أبو عُبيدة: ما كنا نَفْقِد راكبًا من ناحية بني أمية يُنيخُ على باب قَتَادة فيسأله عن خبر أو نسب أو شعر. وقال مَعْمر: سألت أبا عمرو بن العلاء عن قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف: 13]، فلم يُجبْني، فقلت: إني سمعت قتادة يقول: مُطيقين، فسكت، فقلت له: ما تقول يا أبا عَمْرو؟ فقال: حسبُك قَتادة، فلولا كلامُهُ في القدر، وقد قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا ذُكر القدر فأمسكوا"، لما عدلت به أحدًا من أهل دهره. وكان قتادة من أنسب الناس، وقد أدْرَكَ دَغْفَلًا -بفتح الدال- النسابة، وكان يَدُور البصرة أعلاها وأسفلها بغير قائد، ودخل يومًا مسجد البصرة، فإذا بعمرو بن عُبيد ونفر معه قد اعْتَزَلوا حَلْقة الحسن البَصْريّ، وحَلَّقوا، وارتفعت أصواتهم، فأمَّهم، وهو يظُن أنها حلقة الحسن، فلما صار معهم عرف أنها ليس هي، فقال: إنما هؤلاء المعتزلة، ثم قام

عنهم، فمذ يومئذٍ سُمّوا المعتزلة. وقال حَنْظَلة بن أبي سُفيان: كان طاووس يَفرُّ من قَتادة، وكان قتادة يُرْمَى بالقدر. وقال علي بن المَدِيني: قلت ليحَيى بن سعيد: إن عبد الرحمن يقول: اترك كل من كان رأسًا في بدعة يدعو إليها، قال: كيف تصنع بقتادة، وابن أبي روّاد، وعمر بن ذَرّ؟ وذكر قومًا ثم قال يحيى: إن تركت هذا الضرب تركت ناسًا كثيرًا. وقال أبو عَمْرو بن العّلاء: كان قتادة وعمرو بن شُعيب لا يَغِثُّ عليهما شيء يأخذان عن كل أحد، وقال الشَّعبيّ: قتادة حاطِب ليل. وقال شُعبة: كان قَتادة إذا جاء ما سمع، قال: حدثنا, وإذا جاء ما لم يَسْمَع, قال: قال فلان. وقال شُعبة أيضًا: لم يَسمع قتادةُ من أبي العالية إلا ثلاثة أشياء، قول علي: القضاة ثلاثة، وحديث يونس بن مَتّى، وحديث: لا صلاة بعد العصر. وقال وَكيع عن شُعبة: كان قتادةُ يَغْضبُ إذا أوقفته على الإِسناد، فحدثته يومًا بحديث، فأعجبه، فقال: من حَدَّثك ذا؟ فقلت: فلان عن فلان، فكان بعد ذلك. روى عن: أنس بن مالك، وعبد الله بن سَرجِس، وأبي الطُّّفَيْل، وصَفيّة بنت شَيْبة، وأرسل عن سفينة، وأبي سعيد الخُدري، وعِمران بن حُصَين، وروى عن سعيد بن المُسيِّب، وعِكرمة، وأبي الشَّعثاء جابر بن زَيْد، وحُمَيد بن عبد الرحمن بن عَوْف، والحسن البَصْريّ، وعطاء بن أبي رَباح، والنَّضْر، وأبي بكر ابني أنس بن مالك، وأبي بُردة بن أبي موسى, وحَفصة بنت سيرين، وغيرهم. وروى عنه: أيوب السَّخْتياني، وسليمان التَّيمي، وشُعبة، ومِسْعر، وشَيْبان النَّحْوِي، وسعيد بن أبي عَروبة، وحَمّاد بن سَلَمة، والأوْزاعيّ، وقُرّة بن خالد، وأبو عَوانة، وغيرهم. مات بواسطٍ في الطاعون سنة سبع عشرة ومئة، بعد الحسن البصري بسبع سنين، وهو ابن ست أو سبع وخمسين سنة. وفي الستة قَتادة غيره ثلاثة: ابن الفُضيل بن قَتادة الحَرَشي أبو حُمَيْد

روى عن سليمان الأعمش وغيره. وابن مِلْحان القَيْسيّ الجَريريّ صحابي. وابن النُّعمان بن زَيْد بن عامر الأنْصارِيّ، شهد بدرًا، وسقطت عينه يوم أُحُد فأتى بها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فردها، وكانت من أحسن عينيه، أخوه لأمه أبو سعيد الخُدْريّ. والسَّدُوسي في نسبه نسبة إلى سَدوس بن شَيبْان، وقيل: ابن ثعلبة بن عكابة بن صعب قبيلة كثيرة، كثيرة العلماء، وفي تَميم أيضًا سَدُوس بن دارم بن مالك بن حَنْظلة، قيل: كل سَدُوس في العرب مفتوح السين إلا سدوس طيّء وهو سدوس بن أجمع بن أبي عُبيد بن رَبيعة بن نَضْر بن سَعْد بن نَبْهان ومما هو بالفتح: الحارث بن سَدوس كان له واحد وعشرون ولدًا ذكرًا قال الشاعر: فإنْ شَاءَ رَبّي كَانَ أيْرُ أبِيكُمُ ... طويلًا كأيْرِ الحارِثِ بن سَدُوسِ الخامس: حسين بن ذَكْوان المعلم العَوْذيّ -بفتح فسكون- البَصْريّ المكتب. قال يحيى بن مَعين، وأبو حاتم، والنَّسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: سألت ابن المديني: من أثبت أصحاب يحيى بن أبي كثير؟ قال: هشام الدَّسْتُوائي ثم الأوْزَاعيّ، وحُسين المُعَلِّم. وقال أبو زُرعة: ليس به بأس. وقال الدَّارَقُطنيّ: من الثقات. وذكره ابن حِبّان في "الثقات" وقال ابن سَعْد والعِجليّ وأبو بكر البَزّار: بَصريّ ثقة. وقال ابن المَدِينيّ: لم يرو الحسين المعلم عن ابن بُريدة إلا حرفًا واحدًا، وكلها من رِجال آخرين. وقال العُقَيليّ: ضعيف مضطرب الحديث. روى عن عَطاء، ونافع، وعبد الله بن بُريدة، ويحيى بن أبي كثير، وعمرو بن سعيد، وسليمان الأحْول، وعدة. وروى عنه: إبراهيم بن طَهْمان، وشُعبة، وابن المُبارك، وعبد الوارث بن سَعيد، والقَطّان، وغُندر، ويزيد بن زُرَيع، ويزيد بن هارون.

مات سنة خمس وأربعين ومئة. وليس في الكتب الستة حسين بن ذكوان سواه، وأما حسين فكثير. والعَوْذيُّ في نسبه نسبةً إلى عَوذ بطن من الأزْد، وهو عَوْذ بن سود بن الحجر بن عمران بن عمرو مُزَيقيا، منهم أبو عبد الله هَمّام بن يحيى بن دينارالأزْديّ العَوْذيّ مولاهم. السادس: أنس بن مالك بن النَّضر -بفتح فسكون- بن ضَمْضَم كجعفر حملًا على ما في القاموس بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار أبو حَمْزة الأنْصاري الخزرجي خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأحد المكثرين من الصحابة عنه كما مر، وأمه أم سُلَيْم بنت مِلْحان. صح عنه أنه: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة وهو ابن عشر سنين، وأن أمه أم سُلَيم أتت به النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قَدِمَ، فقالت له: هذا أنس غلام يخدِمك، فقَبِلهُ، وأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كَنَاه أبا حَمْزة ببقلة كان يَجْتنيها، ومازحه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقاَل له: يا ذا الأُذُنَيْن. خرج أنس مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بدر، وهو غُلام يخدِمه، وسأله مولى له، فقال له: أشهدت بدرًا، قال: وأين أغيب عن بدر لا أمَّ لك؟ قال ابن حَجَر: وإنما لم يَذْكروه في البدريين لأنه لم يَكُن في سِنِّ من يُقاتل. وعن أبي العالية قال: خدم أنس النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين، ودعا له النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان له بستانٌ يحمل الفاكهة في السنة مرتين، وكان فيه رَيْحان، ويجيءُ منه ريح المِسْك، وكانت إقامته بعد النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، ثم شهد الفُتوح، ثم قَطَن بالبصرة إلى أن مات بها. وفي "الطَّبَرانيّ" عن أنس، قال: قالت أم سُلَيم يا رسول الله، خُوَيْدِمُكَ أنس، فادعُ الله له، فقال: "اللَّهم أكثر ماله وولده، وأطِل عُمُرَه، وبارك له، واغفر له ذنبه" وفي رواية: "وأدْخِلْه الجنة" فقال: لقد

دفنت من صُلْبي سوى ولد ولدي مئة وخمسة وعشرين، وإن أرضي لَتُثْمِر في السنة مرتين، وفيها رَيْحان يجيء منه ريح المسك، ولقد بقيت حتى سئمت من الحياة، وأنا أرجو الرابعة. وعن ثابت البُناني، قال: كنت عند أنس بن مالِك، فجاء قَهرُمانُه، فقال: يا أبا حمزة، عطِشت أرضُنا، فقام أنس وتوضأ، وخرج إلى البرية، فصلى ركعتين، ثم دعا، فرأيت السحاب تلتئم، ثم مَطَرت حتى ملأت كل شيء، فلما سكن المطر بعث أنس بعض أهله، فقال: انظر أين بلغت السماء؟ فنظر، فلم تَعْدُ أرضه إلا يسيرًا، وذلك في الصيف. وعن ثابت أيضًا، قال: قال أبو هريرة: ما رأيت أحدًا أشبه صلاة بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ابن أم سُلَيم. وفي "الأوسط" للطَّبَراني عن أبي هُريرة، قال: أخبرني أنس بن مالك، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يُشير في الصلاة. قال عُبَيْد بن عَمْرو الأصْبَحيّ: لا نعلم روى أبو هُريرة عن أنس غير هذا الحديث. وعن موسى بن أنس أن أبا بكر لما استُخْلِف بعث إلى أنس ليوجهه إلى البحرين على السِّعاية، فدخل عليه عُمر، فاستشاره، فقال: ابعثه فإنه لبيب كاتب، فبعثه. وفي البُخاري أن إسحاق بن عُثمان سأل موسى بن أنس كَمْ غَزَا أنس مع النبيّ - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: ثماني غزوات. وعن ثابت البُناني، قال: قال لي أنس: هذه شعرة من شعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فضعها تحت لِساني، قال: فوضعتها تحت لسانه، فدفن وهي تحت لسانه. وقال مَعْمر، عن أبيه: سمعت أنس بن مالِك يقول: لم يَبْق أحدٌ صلى إلى القِبلتين غيري.

وعن إسحاق بن يزيد، قال: رأيت أنس بن مالِك مختومًا في عُنُقِهِ ختم الحجَّاج، أراد أن يُذِلّه بذلك. رُوِي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألفا حديث ومئتان وستة وثمانون حديثًا، اتفقا على مائة وثمانية وستين منها، وانفرد البخاري بثلاثة وثمانين، ومسلم بأحد وتسعين. روى عن: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعبد الله بن رَوَاحة، وفاطمة الزهراء، وثابت بن قَيْس بن شَمّاس، وعبد الرحمن بن عَوْف، وابن مسعود، وأبي ذَرّ، وأبي بن كعب، وعُبادة بن الصّامِت، ومُعاذ بن جَبَل، وأمه أم سُلَيم، وخالته أم حرام، وجماعة. وروى عنه: الحسن، وسليمان التَّيمي، وأبو قِلابة، وأبو مجلز، وثابت البُناني، وقَتَادة، وحُمَيْد الطّويل، ومحمد بن سيرين، وأخوه أنس، وأبو أُمامة بن سَهْل بن حُنَيف، وخلائق من الآفاق. مات في قصره بالطَّفِّ على فرسخين من البصرة سنة إحدى وتسعين، ودفن هنالك، وعمره مئة سنة إلا سنة. وقيل: مئة وسنة، وقيل: وثلاث، وقيل: وسبع، وهو آخر الصحابة موتًا بالبصرة. وفي الصحابة أنس بن مالك الكَعْبيّ القُشَيْرِيّ أبو أُمَيَّة أو أُمَيْمة، نزل البصرة. وأنس في الصحابة جماعة، وليس في الستة أنس بن مالك غيره سوى الكَعْبيّ هذا. وفي الستة أنس سواه ستة. ولنذكر نظم العراقي هنا في آخر الصحابة موتًا في كل البلدان تتميمًا للفائدة، فقال: آخِرُهُم موتًا بدُون مِرْيَه ... أبُو الطّفَيْل ماتَ عامَ مايه وقَبْلَهُ السّائبُ بَالمدينَةِ ... أوْ سَهلٌ أو جابِرٌ أو بِمَكّةِ وقِيلَ آخِرُهم ابنُ عُمَرَا ... ان لا أبو الطُّفَيْل فِيهَا قُبِرَا وأنَسُ بنُ مَالِكٍ بالبَصرَةِ ... وابنُ أبي أوْفَى قَضَى بالكُوفَةِ

8 - باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان

والشّام فابنُ بُسْرٍ أو ذو بَاهِله ... خُلْفٌ وقيلَ بدِمشقَ واثِلَهْ وإنَّ في حِمْصَ ابنُ بُسر قُبضَا ... وإنَّ بالجزيرَةِ العُرْسُ قَضَى وبفِلسْطِين أبو أُبَيِّ ... ومِصرَ فابْنُ الحارث بن جُزَيِّي وقُبِضَ الهرماسُ باليَمامَةِ ... وقَبْلَهُ رُوَيْفعٌ ببَرْقهْ وقِيل أَفْريقيّةٍ وسَلَمَه ... بادِيًا أو بِطَيْبةَ المُكرّمهْ لطائف إسناده: منها أن رواته كلهم بَصْرِيُّونَ، فوقع له من الغرائب أن إسناد هذا كلهم بصريون، وإسناد الباب الذي قبله كلهم مِصريّون، والذي قبله كلُّهُم كوفيون، فوقع له التسلسل في الأبواب الثلاثة على الوَلاء، وفيه التحديث والعَنْعنة، وفيه إسنادان موصولان: أحدهما: عن مُسَدَّد، عن يَحيى، عن شُعبة، عن قَتَادة، عن أنَس، والآخر: عن مُسَدَّد، عن يحيى، عن حُسين، عن قَتَادة، عن أنَس. فقوله: عن حُسين عطف على شُعبة، والتقدير عن شُعبة وحسين كلاهما عن قَتادة، وقال حسين: حدثنا قتادة. وقول البعض: إن طريق حسين مُعَلّقة غير صحيح، والمتن الذي سيق هُنا متن شُعبة، وأما متن حُسين على ما رواه أبو نُعيم، عن إبراهيم الحَرْبي، عن مُسَدّد ... الخ، فهو: "لا يُؤْمِنُ عبدٌ حتى يُحِبَّ لأخيهِ ولجارهِ" فإن قيل: قتادةُ مُدلِّس، ولم يصرِّح بالسماع عن أنس في رواية شعبة، فالجواب: إنه قد صرح أحمد بن حنبل والنَّسائي في روايتهما بسماع قَتادة عن أنس، فانتفت تهمة تدليسه، وقد مر في الحديث الأول أن كل ما في "الصحيحين" عَن المُدَلِّسين، إذا لم يكن مُصَرَّحًا فيه بالسماع فيهما، لا بد أن يكون مصرحًا فيه بالسماع في محل آخر. وهذا الحديث أخرجه البخاري هنا، ومسلم في الإِيمان، عن المُثَنّى وابن بَشّار، وغيرهما والتِّرمذِيّ، والنَّسائي أيضًا ثم قال المصنف: 8 - باب حُبُّ الرسول صلى الله عليه وسلم من الإِيمان باب فيه الرفع مع التنوين على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هذا باب، وترك التنوين والإِضافة إلى الجملة بعده، واللام في الرسول

الحديث السابع

للعهد، والمراد به سيدنا محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، بقرينة قوله: "حتى أكون أحبَّ" وإن كانت محبة جميع الرسل من الإِيمان" لكن الأحَبّيِة مختصة بسيدنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. الحديث السابع 14 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ». قوله: "والذي نفسي بيده" وفي رواية "فوالذي نفسي بيده" أي: بقدرته، أو هو من المتشابه المفوض علمه إلى الله تعالى، وقال أبو حنيفة: يلزَمُ من تأويلها بالقدرة عين التعطيل، فالسبيل فيه كأمثاله الإِيمان به على ما أراد، ونَكُفُّ عن الخوض في تأويله، فنقول: له يد على ما أراد، لا كَيَدِ المخلوق، وقد استوفيت الكلام على هذه المسألة في كتاب "متشابه الصفات" ويؤخذ منه جواز القسم على الأمر المهم للتأكيد، وإن لم يكن هناك مستحلِف، والمقسم عليه قوله: "لا يُؤْمِنُ أحدكم" أي إيمانا كاملًا. وقوله:"حتى أكون أحب إليه" أفعل التفضيل هنا بمعنى المفعول، وهو كثير غير مقيس، منصوب خبر لأكون، وفصل بينه وبين معموله بقوله: "إليه" لأن الظرف يتوسع فيه ما لا يتوسع في غيره. وقوله: "من والده" أبيه وأمه، أو اكتفى به عنها. وقوله: "وولده" أي ذكرًا وأنثى، وقدم الوالد للأكثرية لأنّ كل أحد له والد من غير عكس، أو نظرًا إلى جانب التعظيم، أو لسبقه في الزمان، وعند النَّسائي تقديم الولد لمزيد الشفقة، وخصهما بالذكر لأنهما أعز على الإنسان غالبًا من غيرهما، وربما كانا أعز على ذي اللُّبِّ من نفسه فالثالثة محبة رحمة وشفقة، والثانية محبة إجلال، والأولى وهي محبة الرسول

صلى الله تعالى عليه وسلم محبة إحسان، وقد ينتهي المحب في المحبة إلى أن يؤثر هوى المحبوب على هوى نفسه، فضلًا عن ولده، بل يحب أعداء نفسه لمشابهتهم محبوبه، قال: أشْبَهْتَ أعْدائي فَصِرْتُ أُحِبُّهُم ... إذْ صَارَ حظّي مِنك حَظّي مِنهُمُ والمراد بالحب هنا حب الاختيار المستند إلى الإِيمان، لا حُب الطبع، فمعناه: لا يؤمن حتى يؤثر رضايَ على رضى الوالدين, وإن كان فيه هلاكهما. وقال النَّوَويّ: فيه تلميح إلى قضية النفس الأمارة والمطمئنة، فمن رَجَّحَ جانب المطمئنة كان حبه للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم راجحًا، ومن رَجَّحَ جَانب الأمارة كان حكمه بالعكس، وإنما وَجَبَ أن يكون عليه الصلاة والسلام أحبَّ إلى الإِنسان من غيره, لأن محبوب الإِنسان إما نفسه وإما غيره، أما نَفْسه فهو أن يريدَ دوام بقائها سالمة من الآفات، هذا هو حقيقة المطلوب، وأما غيره، فإذا حقق الأمر فيه فإنما هو بسبب تحصيل نفع ما على وجوهه المختلفة حالًا ومآلًا، فإذا تأمَّل النَّفْعَ الحاصل له من جهة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الذي أخرجه من ظلمات الكفر إلى نور الإِيمان، إما بالمباشرة وإما بالسبب، علم أنه سبب بقاء نفعه البقاء الأبدي في النعيم السَّرمدي، وعلم أن نفعه بذلك أعظم من جميع وجوه الانتفاعات، فاستحق لذلك أن يكون حظه من محبته أوفر من غيره، لأن النفع المثير للمحبة حاصل منه أكثر من غيره، ولكن الناس يتفاوتون في ذلك بحسب استحضار ذلك والغفلة عنه، ولا شك أن حظ الصحابة رضي الله تعالى عنهم من هذا المعنى أتم, لأن هذا ثمرة المعرفة، وهم بقدره ومنزلته أعلم. وقال القُرْطُبِيّ: كل من آمن بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم إيمانًا صحيحًا لا يخلو عن وجدانه شيء من تلك المحبة الراجحة، غير أنهم

متفاوتون، فمنهم من أخذ تلك المرتبة بالحظ الأوفى، ومنهم من أخذ منها بالحظ الأدنى، كمن كان مستغرقًا في الشهوات، محجوبًا في الغَفَلات في أكثر الأوقات، لكن الكثير منهم إذا ذُكِر النبيُّ صلى الله تعالى عليه وسلم اشتاق إلى رؤيته، بحيثُ يؤثِرُها على أهله وولدِهِ ووالدهِ ومالِه ويبذُل نفسه في الأمور الخطيرة، ويجدُ مخبر ذلك من نفسه وُجدانًا لا تردد فيه، وقد شوهد من هذا الجنس من يؤثر زيارة قبره الشريف ورؤية مواضع آثاره على جميع ما ذكر لما وَقَر في قلوبهم من محبته، غير أن ذلك سريع الزوال بتوالي الغَفَلات، وأيضًا المحبة، إما اعتقاد النفع أو ميل يتبع ذلك أو صفة مخصصة لأحد الطرفين بالوقوع، ثم الميل قد يكون لما يَسْتَلِذُّه بحواسه كحسن الصورة، ولما يستلذه بعقله كحب الفضل والجمال، وقد يكون لإِحسانه إليه، ودفع المَضارِّ عنه، ولا يَخْفى أن المعاني الثلاثة كلها موجودة في رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لما جمع من جمال الظاهر والباطن، وكمال أنواع الفضائل، وإحسانه إلى جميع المسلمين بهدايتهم إلى الصراط المستقيم، ودوام النعيم، ولا شَكَّ أن الثلاثة فيه أكمل مما في الوالدين لو كانت فيهما، فيجب كونه أحب منهما، لأن المحبة ثابتة لذلك، حاصلة بحسبها، كاملة بكمالها، ومحبته عليه الصلاة والسلام هي إرادة طاعته، وترك مخالفته، وهي من واجبات الإِسلام. وجعل القاضي عِياض معنى المحبة: التعظيم والإِجلال، فجعلها شرطًا في صحة الإِيمان، وتَعَقَّبَه القُرطبيّ قائلًا: إن ذلك ليس مرادًا هنا، لأن اعتقاد الأعظمية ليس مستلزمًا للمحبة التي هي الميل على ما مر، إذ قد يجد الإِنسان إعظام شيءٍ مع خلوه من محبته، قال: فَعَلى هذا من لم يجد من نفسه ذلك الميل لم يَكْمُل إيمانه، وإلى هذا يُومىءُ قول عمر الذي رواه البخاري في الأيْمان والنذور عن عبد الله بن هشام، أن عُمر رضي الله تعالى عنه قال للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم: لَأنْتَ يا رسولَ الله أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال: "لا، والّذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك" فقال له عمر: فإنك والله الآن أحب إلي من نفسي، فقال: "الآن يا عمر".

رجاله خمسة

فهذه المحبة ليست باعتقاد الأعظمية فقط، فإنها كانت حاصلة لعُمر قبل ذلك، وإنما قدم عمر حب نفسه أولًا لأن حب الإِنسان نفسه طبع وحب غيره اختيار بتوسط الأسباب، وإنما أراد عليه الصلاة والسلام منه حب الاختيار إذ لا سبيل إلى قلب الطباع عما جُبِلَتْ عليه، فجواب عُمر أولًا كان بحسب الطبع، ثم لما تأمل عرف بالاستدلال أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أحب إليه من نفسه لكونه السبب في نجاتها من الهَلَكات في الدنيا والآخرة، فأخبر بما اقتضاه الاختيار، فلذلك حصل الجواب بقوله: "الآن يا عُمر" أي: الآن عرفت، فنطقت بما يَجِبُ، ومن علامة الحب المذكور أن يعرض على المرء أن لو خُيِّرَ بين فقد غرض من أغراضه، وفقد رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لو كانت ممكنة يكون فقدها أشد عليه من فقد شيءٍ من أغراضه، فمن كان بهذه الصفة كان متصفًا بالأحَبِّيّة المذكورة، ومن لا فلا، ومن علامتها أيضًا نصرة سنته، والذب عن شريعته، وقمع مخالفيها، ويدخل فيه باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي الحديث إيماء إلى فضيلة التفكر، فإن الأحَبّيَّة المذكورة تعرف به. رجاله خمسة: الأول: أبو اليَمان الحكم بن نافع. والثاني: شُعيب بن أبي حَمْزة، وقد مرّا في الحديث السابع من بدء الوحي. الثالث: عبد الله بن ذَكْوان القُرَشِيّ أبو عبد الرحمن المَدَني المعروف بأبي الزِّناد، مولى رملة، وقيل: عائشة بنت شَيْبة بن ربيعة، وقيل: عائشة بنت عثمان، وقيل: مولى آل عثمان، وقيل: إن أباه كان أخا أبي لُؤلؤة، قاتِل عمر. وقال ابن عُيَيْنة: كان يغضب من أبي الزِّناد. وقال ابن المَدِيني: لم يكن بالمدينة بعد كبار التابعين أعلم منه ومن ابن شِهاب، ويحيى بن

سعيد، وبُكَير بن الأشجّ. وقال أحمد: ثقة، وكان سفيان يُسَمِّيه أمير المؤمنين في الحديث. قال: وهو فوق العلاء بن عبد الرحمن، وسُهَيل بن أبي صالح، ومحمد بن عَمرو، وقال أحمد أيضًا: أبو الزناد أعلم من ربيعة. وقال ابن مَعين: ثقة حجة. وقال العِجْلِيّ: مدني تابعي ثقة، سمع من أنس. وقال أبو حاتم: ثقة فقيه، صالح الحديث، صاحب سنة، وهو ممن تقوم به الحجة إذا روى عن الثقات. وقال البخاري: أصح أسانيد أبي هُريرة أبو الزِّناد عن الأَعْرج عن أبي هُريرة. وقال عبد رَبّه بن سعيد: رأيت أبا الزناد دخل مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومعه من الأَتْباع مثل ما مع السلطان. وقال أبو حَنيفة: دخلت المدينة، فأتيت أبا الزِّناد، ورأيت ربيعة، فهذا الناس على ربيعة، وأبو الزِّناد أفقه الرجلين، فقلت له: أنت أفقه والعمل على ربيعة، فقال: ويحك كفٌّ من حُظوة خيرٌ من جراب من علم. وقال ابن سَعْد: كان ثقة كثير الحديث فصيحًا بصيرًا بالعربية عالمًا عاقلًا. وقال ابن حِبّان في "الثقات" كان فقيهًا، صاحب كتاب. وقال ابن عَديّ: أحاديثه مستقيمة كلها. وقال النَّسائي والسَّاجيُّ والطَّبريّ: كان ثقة. وقال اللَّيْث: رأيت أبا الزِّناد وخلفه ثلاث مئة تابع من طالب علم وفقه وشِعر وصنوف كثيرة، ثم لم يَلبَث أن بقي وحده وأقبلوا على ربيعة. روى عن أنس، وعائشة بنت سعد، وأبي أُمامة بن سَهْل بن حُنيف، وقال أبو حاتم: روى عن أنس مرسلًا، وعن ابن عمر، ولم يره، وروى عن سعيد بن المُسَيِّب وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وأبان بن عُثمان بن عفان، وعُروة بن الزُّبير، والأعْرج وهو راويته، وعُبيد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود، وغيرهم. وروي عنه: ابناه عبد الرحمن وأبو القاسم، وصالح بن كيسان، وابن أبي مُلَيْكَة، وهما أكبر منه، والأعمش، وهشام بن عروة، وشعيب بن أبي حمزة، ومالك والسفيانان، وغيرهم. مات في رمضان فجأة في مغتسله سنة ثلاثين ومئة، وقيل: سنة إحدى وثلاثين، وقيل: اثنتين وهو ابن ست وستين سنة.

الرابع: عبد الرحمن بن هُرْمُز أبو داود، وقيل: أبو حازِم، وقيل: أبو أحمد المَدَني مولى ربيعة بن الحارث بن عبد المُطَّلب. وقال ابن سَعْد: كان ثقة كثير الحديث، وقال المُقَدَّميّ: سُئل ابن المديني عن أعلى أصحاب أبي هريرة فبدأ بابن المسيِّب، وذكر جماعةً. قيل له: فالأعرج؟ قال: دون هؤلاء، وهو ثقة. وقال العِجْليّ: مدني تابعي ثقة. وقال أبو زُرعة وابن خِراش: ثقة. وقال أبو إسحاق: قال أبو صالح والأعْرج: ليس أحد يُحدِّث عن أبي هُريرة إلا علِمنا أصَادقٌ هُو أم كاذب. وقال أبو النَّضْر: كان الأعْرج عالمًا بالأنساب والعربية. وقال الدّاني: روى عنه نافع بن أبي نُعيم القراءة عرضًا. روى عن: أبي هُريرة، وأبي سعيد، وابن عباس، ومحمد بن مَسْلمة الأنصاري، ومعاوية بن أبي سفيان، ومُعاوية بن عبد الله بن جَعفر، وعبد الله بن كَعب بن مالك، وعُمير مولى ابن عباس، وغيرهم. وروى عنه: زيد بن أسلم، وصالح بن كَيْسان، والزُّهْريّ، وأبو الزُّبير، ويحيى بن سعيد، وأبو الزِّناد، وربيعة، وموسى بن عُقبة، وجعفر بن ربيعة، وسعد بن إبراهيم، ومحمد بن إسحاق، وابن لَهِيعة، وغيرهم. مات بالإِسكندرية سنة سبع عشرة ومئة. وليس في الرواة عبد الرحمن بن هُرمز سواه، وفيهم عبد الله بن يزيد ابن هُرمز روى عنه مالك، وأخذ عنه الفقه، وهو عالم من علماء المدينة، قليل الرواية, وحيث يَذْكر مالكٌ ابن هُرمز راويًا عنه فإنما يريد هذا الفقيه لا عبد الرحمن بن هُرمز، فإن مالكًا لم يرو عنه إلا بواسطة، توفي الفقيه هذا سنة ثمان وأربعين ومئة. الخامس: أبو هُريرة، وقد مرّ في الثاني من هذا الكتاب. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعَنعنة، وفي بعض النسخ:

الحديث الثامن

أخبرنا شُعيب، فيكون فيه على هذا الإِخبار أيضًا، وإسناده مشتمل على حِمْصيين ومَدنيين، وقد وقع في "غرائب مالك" للدارقُطني إدخال أبي سلمة بن عبد الرحمن بن الأعْرج وأبي هُريرة في هذا الحديث، وهي زيادة شاذّة. أخرج البخاري هذا الحديث هنا، وأخرجه مسلم في الإِيمان عن ابن المثنى وغيره، والنّسائي أيضًا. الحديث الثامن 15 - حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -.ح. وَحَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ». ذكر هذا الحديث بإسنادين عاطفًا الثاني على الأول قبل أن يسوق المتن، وذلك يوهم استواءهما فيه، وليس الأمر كذلك، فاللفظ المذكور عنده لفظ قَتادة، واقتصر عليه لموافقته لسياق حديث أبي هُريرة المار، إلَّا أن فيه زيادة: "والناس أجمعين" ورواية قَتادة هذه مأمونة من تدليسه, لأن الراوي عنه شعبة، وهو لا يروي عنه إلا ما صرح فيه بالسماع، وقد وقع التصريح به في هذا الحديث في رواية النّسائي. ولفظ عبد العزيز رواه ابن خُزَيْمة ومسلم مثله، إلا أن فيه: "من أهله وماله" بدل من "ولده ووالده" وفيه: "لا يُؤمن الرجل" فبين الروايتين تغاير، وصنيع البخاري يُوهم اتحادهما، ويجاب عن هذا بأن البخاري يصنع مثل هذا نظرًا إلى أصل الحديث لا إلى خصوص ألفاظه، ولفظ: "لا يؤمن الرجل" أشمل من جهة، "وأحدكم" أشمل من جهة، وأشمل منهما رواية الأصِيلِيّ: "لا يؤمن أحد" كذا قال في "الفتح" ولم يبين وجه الأشملية، قال: وذكر الولد والوالد أدخل في المعنى لأنهما أعز على العاقل من الأهل والمال، بل ربما يكونان أعز من نفسه، ولهذا لم يذكر النفس أيضًا.

رجال الإسنادين سبعة

وقوله: "والناس أجمعين" من عطف العام على الخاص، وهل تدخل النفس في عموم قوله: "والناس أجمعين"؟ الظاهر دخوله، وقيل: إضافة المحبة إليه تقتضي خروجه منهم، فإنك إذا قلت: جميع الناس أحب إلى زيد من غلامه يُفْهم منه خروج زيد، وأجيب بأن اللفظ عام، وما ذكر ليس من المخصصات، وحينئذٍ فلا يخرُجُ، وقد وقع التنصيص بذكر النفس في حديث عبد الله بن هِشام المار في الحديث الذي قبل هذا. رجال الإِسناديْن سبعة: الأول: يعقوب بن إبراهيم بن كَثير بن زَيْد بن أفْلح بن منصور بن مُزاحم العَبْديّ مولى عبد القيس أبو يوسف الدَّوْرَقيّ الحافظ البغْدادي. قال أبو حاتم: صدوق. وقال النّسائي: ثقة. وذكره ابن حِبّان في "الثقات" وقال الخطيب: كان ثقة متقنًا، صنف المسند. وقال مَسْلمة: كان كثير الحديث ثقة، رأى الليث. وروى عن: الدَّرَاوَرْديّ، وابن أبي حَازِم، وأبي مُعاوية، وحَفْص بن غِياث، وهُشَيْم، ويحيى القَطّان، وابن علية، وابن مَهْدي، ومُعتمِر بن سُليمان، ويزيد بن هارون، ورَوْح بن عُبادة، وغيرهم. وروى عنه: الجماعة، وروى النّسائي أيضًا عن أبي بكر بن علي المَرْوَزِيّ، وأبو زُرعة، وأبو حاتم، ومحمد بن هارون، وابن أبي رَوّاد، والبَغَوِيّ، وابن صاعِد، والمَحَامِلِيّ، وابن مَخْلد، وهو آخر من روى عنه في آخرين. ولد سنة ستة وستين ومئة، ومات سنة اثنتين وخمسين ومئتين. والعَبْديّ في نسبه نسبة إلى عبد القيس بن أَفصى بن دعمي ينسب إليه عَبْدي على القياس، وعَبْقَسِيّ على غير القياس، والعَبْديّ في قُريش نسبة إلى عبد بن قُصَي بن كِلاب بن مُرة وفي تميم أيضًا ينسب إلى عبد الله بن دارِم، وقد يقال عَبْدَليّ على غير القياس، وفي خَوْلان ينسب إلى

عبد الله بن الخيار، وفي هَمْدان ينسب إلى عبد بن عليان بن أرحب. والدَّوْرَقيّ في نسبه نسبة إلى دَوْرَق -بفتح الدال وسكون الواو وفتح الراء- قَلانِس كانوا يلبسونها فنُسِبوا إليها. وفي المطالع دورق أراه في بلاد فارس، وقيل: بل لصنعة قلانِس تُعرف بالدَّوْرَقَة، نسبت إلى ذلك، وقيل: دورق من كور الأهواز، قيل: كور الأهواز رامَ هُرْمُز، وإيذج، وعسكر مكرم، وتُستَر، وسوس, وسُرَّق الأهواز إلى دورق في الماء ثمانية عشر فرسخًا، وعلى الظاهر أربعة وعشرون، ومر الكلام على البغدادي في الرابع من هذا الكتاب. الثاني: إسماعيل بن إبراهيم بن مِقْسَم الأَسَدي مولاهم، أبو بشر البصري المعروف بابن عُلَيّة. قال شعبة: إسماعيل بن عُليّة رَيحانَةُ الفقهاء، وفي رواية عنه: ابن علية سيد المحدثين، وقال أحمد: إليه المنتهى في التثبُّت بالبصرة، وقال أيضًا: فاتني مالك فأخلف الله عليّ سفيان، وفاتني حماد بن زيد فأخلف الله عليّ إسماعيل، وقال أيضًا: كان حماد لا يعبَأ إذا خالفه الشَّعْبي ووُهَيْب، وكان يَفْرَق من إسماعيل بن عُليَّة إذا خالفه، وقال غُنْدَر: نشأت في الحديث يومَ نشأت، وليس أحد يقدم على إسماعيل بن عُلَيَّة، وقال ابن مَعين: كان ثقةً، مأمونًا، وَرِعًا، تقيًّا، صدوقًا، مسلمًا. وقال عَمرو بن زُرارة: صحبت ابن عُلَيّة أربع عشرة سنة، فما رأيته ضحك، وقال ابن المَدِيني: ما أقول إن أحدا أثبت في الحديث من ابن عُلَيَّة، وقال أيضًا: بتُّ عنده ليلة، فقرأ ثلث القرآن، ما رأيته ضحِكَ قط. وقال قُتيبة بن سَعيد: كانوا يقولون الحفاظ أربعة: إسماعيل بن عُلَيّة، وعبد الوارث، ويزيد بن زُرَيْع، ووُهَيب. وقال ابن مَهْدي: ابن عُليّة أثبت من هُشيم. وقال القَطّان: ابن عُليّة أثبت من وُهيب. وقال حمّاد بن سَلَمة: كنا نشبهه بيونس بن عُبيد. وقال عفّان: كنا عند حمّاد بن سَلمة، فأخطأ في حديث، وكان لا يرجع إلى قول أحد، فقيل له: قد خُولفت فيه، قال: من؟ قالوا: حماد بن زيد، فلم يلتفت، فقال له إنسان: إن ابن عُلية

يُخالِفك فيه، فقام، فدخل ثم خرج، فقال: القول ما قال إسماعيل. وقال الهَيْثم بن خالد: اجتمع حفاظ أهل البَصْرة وأهل الكوفة، فقال أهل الكوفة لأهل البَصْرة: نَحُّوا عَنّا إسماعيل، وهاتوا من شئتم. وقال زياد بن أيّوب: ما رأيت لابن عُلَيّة كتابًا قطُّ، وكان يقال: ابنُ علَيّة يَعُدُّ الحروف. وقال أبو داود السِّجسْتانيّ: ما أحد من المحدثين إلا قد أخطأ إلا إسماعيل ابن عُلَيّة، وبِشْر بن المُفَضَّل. وقال النَّسائي: ثقة ثبت. وقال ابن سَعْد: كان ثقة ثبتًا في الحديث حُجّة، وقد ولي صدقات البصْرة، وولي ببغداد المظالم. وقال أحمد بن سعيد الدّارِمِيّ: لا يعرف لابن عُليّة غلط إلا في حديث جابر في المُدَبَّر، جعل اسم الغلام اسم المولى، واسم المولى اسم الغلام. وقال ابن وَضّاح: سألت أبا جعفر البُسْتِيّ عنه، فقال: بَصْريّ ثقة، وهو أحفظ من الثَّّقفي. وقال عُثمان بن أبي شَيْبة: ابن عُليّة أثبت من الحمّادَيْن، ولا أقدم عليه أحدًا من البصريين، لا يحيى ولا ابن مَهْدي، ولا بِشْر بن المُفضل. وقال الحمّادان: إن ابن المُبارك كان يَتَّجِر ويقول: لولا خمسة ما اتَّجَرت؛ السفيانان، وفُضَيل، وابن السماك، وابن عُليّة، فيصلهم، فقَدِم سنة، فقيل له: قد ولي ابن عُليّة القضاء، فلم يأته، ولم يصِله، فركب ابن عُليّة إليه، فلم يرفع به رأسًا، فانصرف، فلما كان من الغد كتب إليه رقعة يقول: قد كنت منتظرًا لبِرِّك، وجئتك فلم تكلمني، فما رأيته مني؟ فقال ابن المُبارك: يأبى هذا الرجل إلا أن تُقْشَر له العصِيّ، ثم كتب إليه: يا جَاعِلَ العِلمِ لَهُ بازِيًا ... يَصْطادُ أمْوَالَ المَسَاكِينِ احْتَلْتَ للدُّنْيا ولَذّاتها ... بحِيْلَةٍ تذْهَبُ بِالدّينِ فَصِرْتَ مَجْنُونًا بِها بَعْدما ... كُنْتَ دَوَاءً لِلمَجَانِينِ أيْنَ رِوَاياتُكَ فِيمَا مَضى ... عن ابن عَوْنٍ وابنِ سِيرينِ أيْنَ رِوَاياتُكَ في سَرْدِها ... في تَرْك أَبْوابِ السَّلَاطِينِ إنْ قُلتَ أُكْرهْتُ فَذَا بَاطِلٌ ... زَلَّ حِمَارُ العِلمِ في الطِّينِ

فلما وقَفَ على هذه الأبيات، قام من مجلس القضاء، فوطِىءَ بساط الرشيد، وقال له: الله الله، ارحم شيبتي، فإني لا أصبر على القضاء، قال: لعل هذا المجنون أغراك، ثم أعفاه، فوجه إليه ابن المبارك بالصُّرّةِ وقيل: إن ابن المُبارك إنما كتب إليه بهذه الأبيات لما وَلِيَ صدقاتِ البصرة، وهو الصحيح. وقال إبراهيم الحَربِيّ: دخل إسماعيل بن عُليّة على الأمين فروى حديث: "تجيء البقرة وآل عمران كأنهما غَمامتان تُحاجّان عن صاحِبهما" فقيل له: ألهما لسانان؟ قال: نعم، فكيف تكلم، فشَنّعوا عليه أن يقول: القرآن مخلوق، وهو لم يقله، وإنما غلط. فقال للأمين: أنا تائب لله. وقال علي بن خَشْرم: قلت لوكيع: رأيت ابن عُلَيَّة يشرب النبيذ حتى يُحْمَل على الحمار، يحتاج من يرده، فقال وكيع: إذا رأيت البَصْري يشرب النبيذ فاتَّهِمْه، وإذا رأيت الكوفي يشربه فلا تتهمه، قلت: وكيف ذلك؟ قال: الكوفي يشربه تدينًا، والبصري يتركه تدينًا. وقال المفضل بن زِياد: سألت أحمد بن حَنْبَل عن وُهيْب وابن عُليّة، قال: وُهَيب أحب إلي، وما زال ابن عُليّة وضيعًا من الكلام الذي تكلم به إلى أن مات. قلت: أليس قد رَجَعَ وتاب على رؤوس الناس؟ قال: بلى إلى أن قال: وكان لا ينصف بحديث بالشفاعات. وكان منصور بن سلمة الخُزَاعيّ يحدث مرة فسبقه لسانه، فقال: حدثنا إسماعيل بن عُليّة، ثم قال: لا, ولا كرامة، بل أردت زُهيرًا، ثم قال: ليس من قارف الذَّنْبَ كمن لم يُقَارِفْه، أنا والله اسْتَتَبْتُ ابن عُليّة. قال الذَّهَبيّ: هذا من الجرح المردود، وقال عبد الصمد بن يزيد مَرْدوَيه: سمعت ابن عُليّة، يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق، وذكره ابن حبان في "الثقات". وعلية أمه وكانت امرأة عاقلة نبيلة، وكان صالح المِزِّي وغيره من وجوه أهل البصرة وفقهائها يدخلون عليها، فَتَبْرُزُ لهم، وتحادثهم، وتسألهم،

وكان يكره النسبة إليها، فقد روى أن الإِمام أحمد نهى ابن مَعين أن يقول: حدثنا إسماعيل بن عُلَيّة، حيث قال: قل: إسماعيل بن إبراهيم فإنه بلغني أنه كان يكره أن يُنْسب إلى أمه، فلم يخالِفْه، وقال: قبلناه منك يا مُعَلِّم الخير، وأمه عُليّة هذه مولاة لبني أسد بن خُزَيمْة. روى عن: عبد العزيز بن صُهَيب، وسليمان التَّيْميّ، وعاصم الأحول، وأيوب، وابن عَوْن، وأبي رَيْحانة، وعَوْف الأعْرابي، ويونُس ابن عُبيد، وأبي التَّيّاح حديثًا واحدًا، وخلق كثير. وروى عنه: شعبة، وابن جُرَيج، وهما من شيوخه، وبَقِيّة، وحَمّاد بن زيد، وهما من أقرانه وإبراهيم بن طَهْمان وهو أكبر منه، وابن وَهْب، والشّافعِيّ، وأحمد بن حَنْبل، ويحيى، وعلي، وإسحاق، والفلّاس، وخلق آخرهم أبو عِمران موسى بن سهل بن كَثير الوَشّاء -بتشديد المعجمة-. مات ببغداد، وصلى عليه ابنه إبراهيم، ودفن في مقابر عبد الله بن مالك سنة أربع أو ثلاث وتسعين ومئة، وولد سنة عشر ومئة. وليس في الستة إسماعيل بن عُليّة سواه، وأما إسماعيل بن إبراهيم فنحو ثلاثة عشر. والأسَديّ في نسبه قال العيني نسبة إلى أسد خُزاعة، وقال في "الخلاصة" إنه قُرشي، فيكون نسبة إلى أسد قريش. وقد مرّ قريبًا أن ابن عُلَيّة كان يكره النسبة إلى أمه، وبيان حكم ذلك هو أن العلماء جَوّزوا ذكر مشتهر بشيء به من لقب كغُنْدَر، أو وصفِ نَقْصٍ كالأحْول لعاصم، والأشَلّ لمنصور، والأعْرج لابن هُرْمُز، أو نسب لأم كابن أم مَكْتُوم، وابن بُحَيْنة لقوله - صلى الله عليه وسلم - لما سلَّم من ركعتين من صلاة الظهر "أكَمَا يقول ذو اليَدَيْن" ولأنه يذكر للبيان والتمييز، وهذا ما لم يكن يكرهه، فإن كرهه كابن عُليّة والأصَمّ حَرُم حينئذ لقوله تعالى: {وَلَا تَنَابَزُوا

بِالْأَلْقَابِ} [الحجرات: 11] ولما مَرّ قريبًا عن الإِمام أحمد وابن مَعين، قال الشيخ زكريا: قال الناظم: والظاهر أنما قاله أحمد على طريق الأدب لا اللزوم، لكن ابن الصلاح أقرّ التحريم، ومحل هذا فيمن يُعرف بغير ذلك، وإلا فلا تحريم ولا كراهة كما صرح بذلك الإِمام أحمد، قلت: الظاهر حمل النهي على الأدب لقول البخاري هنا: ابن عُليّة، وهو الذي نهى عنه الإِمام أحمد ابن مَعين بنفسه، وقد مرّ قريبًا أن أحمد مصرح بأنه إذا كان لا يُعرف بغيره جائز من غير كَراهة، فيعلم من نهيه أن ابن عُليّة معروف باسم أبيه الذي هو إبراهيم، وإلا لما نَهى، وهذا جواب عما لعله يقال من أن ابن عُليّة من القِسْم الذي لا يُعرف بغيره، فلذلك أتى به البخاري منسوبًا إلى أمه، وأشار العِراقي إلى هذا البحث بقوله: وذِكرُ مَعروفٍ بشيءٍ مِن لقَبْ ... كغُندَرٍ أو وَصفِ نقصٍ أو نسَبْ لأُمه فجائزٌ ما لمْ يكُنْ ... يكْرههُ كابنِ علَيَّةٍ فَصُنْ الثالث: عبد العزيز بن صُهيب البُناني مولاهم البَصْري الأعمى. قال شعبة: عبد العزيز أثبت من قتادة، وهو أحب إلي منه. وقال أحمد: ثقة ثقة، وهو أوثق من يحيى بن أبي إسحاق، وأخطأ فيه مَعْمر فقال: عبد العزيز مولى أنَس، وإنما هو مولى لبُنانة. وقال ابن مَعين: ثقة، وذكره ابن حِبان في "الثقات" وقال: أجاز إياس بن معاوية شهادته وحده، وقال ابن سَعْد: كان ثقة. وقال النّسائي والعِجْلِيّ: ثقة. روى عن: أنس بن مالِك، وأبي نضْرة العَبْديّ، ومحمد بن زِياد الجُمَحيّ، وغيرهم. وروى عنه: إبراهيم بن طَهْمان، وشُعبة، ووُهَيْب، وعبد الوارث، وسعيد بن زَيْد، وحَمّاد بن زَيْد، وهُشَيم، وأبو عَوانة، وغيرهم. مات سنة ثلاثين ومئة. والبُناني -بضم الموحدة ونونين بينهما ألف- في نسبه نسبة إلى بُنانة

9 - باب حلاوة الإيمان

ابن سعد بن لؤي بن غالب، وقيل: بُنانة زوجة سعد بن لؤي، نسب إليها بنوها، وقيل: كانت أمة له، حضنت بنيه. وقيل: كانت حاضنة لبنيه فقط. وقال الحازِمِيّ: إنه ليس منسوبًا إلى القبيلة، وإنما قيل له: البُنانيّ, لأنه كان ينزل بنانة، وهي محلة بالبصرة من المحال القديمة. ومرّ آدم بن أبي إياس، وشعبة في الثالث من هذا الكتاب. ومرّ قتادة وأنس في السادس من قبل هذا بحديث واحد. لطائف إسناده: منها: أن هنا إسنادين عُطف أحدهما على الآخر قبل سَوْق الأول، وذلك يقتضي استواءهما، أي: المَتْنَيْن، وليس كذلك، فإن اللفظ هنا لِقَتادة، فإن قيل: إذا كان لفظ عبد العزيز مغايرًا للفظ قتادة فلما ساق البخاري كلامه بما يوهم اتحادهما في اللفظ، فالجواب أن البخاري كثيرًا ما يَفْعل ذلك نظرًا إلى أصل الحديث لا إلى خصوص ألفاظه، فإن قلت: لم اقتصر على لفظ قتادة، وما المرجح له في ذلك؟ فالجواب هو أن لفظ قتادة موافق للفظ أبي هُريرة في الحديث السابق، فإن قلت: قتادة مُدَلِّس، ولم يُصَرِّح بالسماع، فالجواب هو أن رواية شُعبة عنه دليل على السماع، لأنه لا يروي عنه إلا ما سمعه وهذا قد مرّ جميعًا، على أنه قد وقع التصريح بالسماع في هذا الحديث في رواية النّسائي، وقد مر في الحديث الأول أن ما في الصحيحين من عنعنة المدلسين محمول على السماع من وجه آخر، وفيه التحويل، وقد مر الكلام عليه في السادس من بدء الوحي. 9 - باب حلاوة الإِيمان باب خبر مبتدأ محذوف أي: هذا وهو مضاف إلى حلاوة، ومقصود المصنف أن الحلاوة من ثمرات الإِيمان، ولما قدم أن محبة الرسول من الإِيمان أردفه بما يوجد حلاوة ذلك، وسقط باب في رواية الأصِيلِيّ.

الحديث التاسع

الحديث التاسع 16 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ». [الحديث 16 - أطرافه في: 21، 6041، 6941] وقوله: "ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فيه" ثلاث مبتدأ، خبره بالجملة، وساغ الابتداء بالنكرة, لأن التنوين عوض عن المضاف إليه، أي: ثلاث خصال، ويحتمل في إعرابه غير ذلك، وقوله: "كُنَّ" أي: حصلن، فهي تامة. وقوله: "وجد" أي أصاب، ولذلك عَدّاه بمفعول واحد، وهو قوله: "حلاوة الإِيمان" ومعنى حلاوة الإِيمان استلذاذ الطاعات، وتحمل المشاق في الدين، وإيثار ذلك على أعراض الدنيا، وإنما عبر بالحلاوة لأن الله شبه الإِيمان بالشجرة في قوله تعالى: {مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} [إبراهيم: 24] فالكلمة هي كلمة الإِخلاص، والشجرة أصل الإِيمان، وأغصانها اتباع الأمر واجتناب النهي، وورقها ما يَهْتَمُّ به المؤمن من الخير، وثمرها عمل الطاعات، وحلاوة الثمر جني الثمرة، وغاية كماله تناهي نضج الثمرة، وبه تظهر حلاوتها، وهل هذه الحلاوة حسية أو معنوية، وعلى الثاني فهو على سبيل المجاز. وفي قوله: "حلاوة الإِيمان" استعارة تخييلية، واستعارة بالكناية، وذلك أنه شبه رغبة المؤمن في الإِيمان بالعسل، ونحوه، ثم أثبت له لازم ذلك، وهو الحلاوة، وأضافه إليه، فالتشبيه المضمر استعارة بالكناية، وإثبات اللازم استعارة تخييلية،

وفيه تلميح إلى قصة المريض والصحيح, لأن المريض الصَّفراوِيَّ يجد طعم العسل مُرًّا، والصحيح يَذُوق حلاوته على ما هي عليه، وكلما نقصت الصحة شيئًا ما نقص ذَوْقُه بقدر ذلك، فكانت هذه الاستعارة من أوضح ما يُقَوّي استدلال المصنف على زيادة الإِيمان ونقصانه. وقوله: "أحب إليه" منصوب خبر يكون، قال البيضاوي المراد بالحب هنا الحب العَقْلي، الذي هو إيثار ما يقتضي العقل السليم رجحانه، وإن كان على خلاف هوى النفس، كالمريض يَعاف الدواء بطبعه، فينفِر عنه، ويميل إليه بمقتضى عقله، فيهوى تناوله. قلت: وهذا هو المعبر عنه فيما مرّ بالحب الاختياري، ثم قال: فإذا تأمل المرء أن الشارع لا يأمر ولا يَنْهى إلا بما فيه صلاح عاجل، أو خلاص آجل، والعقل يَقْتضي رجحان ذلك، تمرن على الائتمار بأمره، بحيث يصير هواه تبعًا له، ويلتذ بذلك التذاذًا عقليًّا، إذ الالتذاذ العقلي إدراك ما هو كمال وخير من حيث هو كذلك، وعبر الشارع عن هذه الحالة بالحلاوة، لأنها أظهر اللذائذ المحسوسة، قال: وإنما جعل هذه الأمور عنوانًا لكمال الإِيمان , لأن المرء إذا تأمل أن المنعم بالذات هو الله تعالى، وأن لا مانح ولا مانِع في الحقيقة سواه، وأنَّ ما عداه وسائط، وأن الرسول هو الذي يبين له مراد ربه، اقتضى ذلك أن يتوجه بكليته نحوه، فلا يحبُّ إلا ما يُحِبّ، ولا يحب من يحب إلا من أجله، وأن يتيقن أن جملة ما وعدوا وعد حق يقينًا ويخيل إليه الموعود كالواقع، فيحسب أن مجالس الذكر رياض الجنة، وأن العَوْد إلى الكفر إلقاء في النار، وشاهد الحديث من القرآن قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} إلى أن قال: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 24] ثم هدد على ذلك وتوعد بقوله: {فَتَرَبَّصُوا} [التوبة: 24] ومحبة العبد لله تعالى تحصل بفعل طاعته، وترك مخالفته، وكذلك الرسول، وكل من المحبتين على قسمين: فرض وندب، وهما متلازمتان، لا تحصُلُ إحداهما دون الأخرى، فالغرض فيهما هو المحبة التي تَبْعث على امتثال الأوامر،

واجتناب المعاصي، والرضى بما قدره الله تعالى، فمن وَقَعَ في معصية من فعل محرم أو ترك واجب فلتقصيره في المحبتين، حيث قَدَّمَ هوى نفسه، والتقصير يكون مع الاسترسال في المباحات، والاستكثار منها، فيورث الغفلة المقتضية للتوسع في الرجاء، فيقدم على المعصية، أو تستمر الغفلة فيقع، وهذا الثاني يُسْرِع إلى الإِقلاع مع الندم، وإلى الثاني يشير حديث: "لا يَزْني الزْاني حينَ يَزْني وهُو مؤمن" والندب أن يواظب على النوافل، ويتجنب الوقوع في الشبهات، والمتصف بذلك نادر، ويزاد في محبة الرسول عليه الصلاة والسلام أن لا يَتَلَقّى شيئًا من المأمورات والمنهيات إلا من مشكاته، ولا يَسْلُك إلا طريقه، ويرضى بما شرعه، حتى لا يَجِدَ في نفسه حرجًا مما قضاه، ويتخلق بأخلاقه في الجود والإِيثار والحلم والتواضع وغيرهما، فمن جاهد نفسه على ذلك وجد حلاوة الإِيمان، وتتفاوت مراتب المؤمنين بحسب ذلك. وقوله: "مما سواهما" إنما قال: مما, ولم يقل: ممن لِيَعُمَّ من يعقل ومن لا يعقل، وفيه دليل على أن لا بأس بهذه التثنية، وأما قوله للذي خطب حيث قال: ومن يعصِهما فقد غوى: "بئس الخطيب أنت" فليس من هذا لأن المراد في الخطب الإِيضاح، وأما هُنا فالمراد الإِيجاز في اللفظ لِيُحْفَظَ، ويَدُلُّ عليه ما في سنن أبي داود من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في موضع آخر: "ومن يعصِهما فلا يَضُرُّ إلا نفسه" واعترض هذا الجواب بأن هذا الحديث إنما ورد في خطبة النكاح، وأجيب بأن المقصود في خطبة النكاح أيضًا الإِيجاز، فلا نقض، ومن محاسن الأجوبة في الجمع بين حديث الباب وقصة الخطيب أنَّ تثنية الضمير هنا للإِيماء إلى أن المعتبر هو المجموع المركب من المحبتين، لا كل واحدة منهما، فإنها وحدها لاغية إذا لم ترتبط بالأخرى، فمن يدعي حب الله مثلا ولا يُحِبُّ رسوله لا ينفعه ذلك، ويشير إليه قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] فأوقع متابعة مكتنفة بين قطري محبة العباد ومحبة الله تعالى للعباد، وأما أمر الخطيب بالإِفراد فلأن كل واحد

من العصيانين مستقل باستلزام الغِواية إذ العطفُ في تقدير التكرير، والأصل استقلال كل من المعطوفين في الحكم، ويشير إليه قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] فأعاد أطيعوا في الرسول ولم يُعده في أولي الأمر, لأنهم لا استقلال لهم في الطاعة، كاستقلال الرسول. قلت: عندي في هذه التفرقة نظر, لأن طاعة الرسول لا استقلال لها أيضًا دون طاعة الله تعالى، الَّلهم إلا أن يقال: إن طاعته طاعة لله تعالى، لقوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] ولا كذلك طاعة أولي الأمر، فقد لا تكون طاعة للرسول عليه الصلاة والسلام، لعدم عصمتهم، ولكن على هذا أيضًا لا توجد مستقلة، فتأمل، ومن الأجوبة أيضًا أن الجمع من خصائصه عليه الصلاة والسلام، فيمتنع من غيره، لأن غيره إذا اجَمَع أوهَم التسوية، بخلافه هو عليه الصلاة والسلام، فإن مَنْصِبه لا يتطرق إليه إيهام ذلك، ومنها أجوبة أخرى. قوله: "وأن يُحِبَّ المَرْءَ لا يُحِبُّه إلا لله" حقيقة الحب في الله أن لا يزيد بالبر، ولا ينقُص بالجفاء، كما قاله يحيى بن مُعاذ. وقوله: "وأن يكره أن يعودَ في الكُفْر" زاد أبو نُعيم في "المستخرج" بعد: "إذْ أنْقَذَهُ الله مِنه" وكذا هو في طريق أخرى للمصنف، والإنقاذ أعم من أن يكون بالعصمة منه ابتداء بأن يولد على الإِسلام ويستمر، أو بالإخراج من ظلمة الكفر إلى نور الإِيمان, كما وقع للصحابة، وعلى الأول يحمل قوله: "يعود" على معنى الصيرورة كما في قوله تعالى: {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الأعراف: 88] بخلاف الثاني، فإن العود فيه على ظاهره، وإنما عَدّى العَوْد بفي ولم يُعَدِّه بإلى لأنه ضمنه معنى الاستقرار، فكأنه قال: يستقر فيه، على حد قوله تعالى: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا} [الأعراف: 89].

رجاله خمسة

وأخرجه في "الأدب المفرد" من هذا الوجه بلفظ: "وحتى أن يُقذف في النار أحبّ إليه من أن يرجِع في الكفر بعدَ إذ أنقذه الله منه" وهي أبلغ من لفظ حديث الباب، لأنه سوى فيه بين الأمرين، وهُنا جعل الوقوع في نار الدنيا أولى من الكفر الذي أنقذه الله بالخروج منه من نار الأخرى. قلت: وهذا هو الواجب على كل عاقل, لأن عذاب نار الدنيا غير مستمر، منقطع بالموت، وحَرّ نار الدنيا جزء من مئة جزء من نار الآخرة كما في الحديث الصحيح، وصرح النّسائي والإسماعيلي في روايتيهما لهذا الحديث بسماع قَتادة له من أنس، فانتفت تهمة تدليسه، واستدل به على فضل من أكره على الكفر، فترك البتّة إلى أن قُتِل. قال الشيخ مُحي الدين: هذا حديث عظيم، أصل من أصول الدين. قال في "الفتح" فيه إشارة إلى التَّحَلّي بالفضائل، والتخلي عن الرَّذائل، فالأول من الأول، والأخير من الثاني، وفي الثاني حث على التحابب في الله. رجاله خمسة: الأول: محمَّد بن المُثَنّى بلفظ المفعول من التثنية بالمثلثة ابن عُبيد ابن قَيْس بن دِينار أبو موسى البَصْريّ الحافظ المعروف بالزَّمِن. قال الخطيب: كان ثقة ثبتًا احتج سائر الأئمة بحديثه. وقال محمَّد بن يَحْيى: حجة. وقال أبو حاتم: صالح الحديث، صدوق. وقال النَّسائي: لا بأس به. وقال ابن مَعين: ثقة. وقال أبو سعيد الهَرَوِيّ: سألت الذُّهليّ عنه، فقال: حجة. وقال صالح بن مُحمد: صدوق اللهجة، وكان في عَقله شيء، وكنت أقدمه على بُندار. وقال أبو عَروبة: ما رأيت بالبصرة أثبت من أبي موسى ويَحْيى بن حَكيم. وقال أبو الحسن السِّمناني: كان أهل البصرة يقدمون أبا موسى على بُندار، والغرباء يقدمون بُنْدارًا. وقال ابن خِراش: حدثنا محمَّد بن المُثنى وكان من الأثبات. وذكره ابن حبان

في "الثقات" وقال: كان صاحب كتاب، لا يقرأ إلا من كتابه. وقال الدَّارَقُطني: كان أحد الأثبات، وقدمه على بُندار، قال: وقد سئل عمرو ابن علي عنهما، فقال: ثقتان، يُقْبَل منهما كل شي إلا ما تَكَلَّم فيه أحدهما في الآخر، قال: وكان في أبي موسى سلامة، وقال مسلمة: ثقة مشهور من الحفاظ. روى عنه البخاري مئة حديث وثلاثة أحاديث، ومسلم سبع مئة حديث واثنين وسبعين حديثًا. روى عن: عبد الله بن إدريس، وأبي مُعاوية، ويزيد بن زُرَيْع، ومُعْتَمر، وحَفْص بن غياث، وحَمّاد بن سَهْل، والقَطّان، وغُنْدَر، ورَوْح ابن عُبادة، ومعاذ بن معاذ، ومعاذ بن هشام، وعبد الوهاب الثَّقَفيّ، وخلق. وروى عنه: الجماعة، وروى النّسائي أيضًا عن زكريا السِّجْزِيّ، عنه. وأبو زُرعة، وأبو حاتم، والذُّهليّ، وبَقِيّ بن مَخْلد، وأبو يَعْلى، وجعفر الفِرْيابي، وأبو عَروبة، والحسين بن إسماعيل المَحَامِلِيّ، وغيرهم. ولد سنة سبع وستين ومئة، ومات سنة اثنتين وخمسين ومئتين في ذي القعدة. والعَنَزِيّ في نسبه نسبة إلى عَنَزة بالتحريك بن أسد بن ربيعة بن نزار ابن معد بن عدنان أبو حي من ربيعة، وقيل: ابن عمرو بن عوف بن عدي ابن عمرو بن مازن بن الأزد أبو حي من الأزد، وفي خُزاعة عَنَزَة بن عمرو ابن أفصى بن حارثة الخُزَاعِيّ والبَصْريّ، مر الكلام عليه. وفي الستة محمَّد بن المُثنى اثنان: هذا، ومحمد بن المثنى الذي هُو محمَّد بن إبراهيم بن مُسلم بن مِهران بن المُثَنّى، ويقال: محمَّد بن مُسلم بن مِهران بن المُثَنّى، ويقال له: ابن أبي المُثنى، وأبو المُثَنى كنية

جده مسلم، ويقال: كنية مِهْران القُرشي مولاهم أبو جعفر. الثاني: عبد الوهاب بن عبد المجيد بن الصَّلْت بن أبي عُبيد بن الحكم بن أبي العاص الثَّقَفي أبو محمَّد البَصْريّ. قال وَهْب: لما مات عبد المجيد قال لنا أيوب: الزموا هذا الفتى عبد الوهاب. وعده ابن مَهْدي فيمن كان يحدث من كتب الناس ولا يحفظ ذلك. وقال أحمد: الثَّقَفيّ أثبت من عبد الأعلى السامي. وقال عثمان: سألت ابن مَعين، فقلت: ما حالُ وُهَيْب في أيوب؟ فقال: ثقة، قلت: هو أحب إليك أو عبد الوهاب؟ قال: ثقة وثقة. وقال التِّرمذي: سمعت قُتيبة يقول: ما رأيت مثل هؤلاء الأربعة: مالك، والليث، وعبد الوهاب الثَّقفيّ، وعبّاد بن عبّاد. وقال ابن المَدِيني: ليس في الدنيا كتاب عن يحيى بن سعيد الأنصاري أصح من كتاب عبد الوهاب، وكل كتاب عن يحيى فهو عليه كَلٌّ. وقال ابن سَعْد: كان ثقة وفيه ضَعْف. وقال ابن مَعين: اختلط بآخِرِه، وقال عُقبة بن مُكْرَم: اختلط قبل موته بثلاث سنين أو أربع. وقال العِجّليّ: بصري ثقة، وقال عمرو بن عَلي: اختلط حتى كان لا يعقِل، وسمعته وهو مختلط، يقول: حدثنا محمَّد بن عبد الرحمن بن ثَوْبان باختلاط شديد. روى عن: حُميد الطّويل، وأيوب السَّخْتِياني، وابن عَوْن، وخالد الحذّاء, وداود بن أبي هِند، وعوف الأعرابي، وابن جُرَبْج، وغيرهم. وروى عنه: أحمد، والشَّافعيّ، وعلي، ويحيى، وإسحاق، وابنا أبي شَيْبه، وأبو خَيْثمة، وبُندار، ومُسدّد، وقُتيبة بن سعيد، وإبراهيم بن محمَّد بن عَرْعَرة، وسويد بن سعيد، والحسن بن عَرَفة، وآخرون. ولد سنة عشر ومئة، ومات سنة أربع وتسعين ومئة. وليس في الستة عبد الوهاب بن عبد المجيد سواه، وفيهم عبد الوهاب نحو اثني عشر. والثَّقَفيّ في نسبه بالتحريك نسبة إلى ثَقيف كأمير أبو قبيلة من

هوازِن، واسمه قيس بن مُنَبِّه بن بكر بن هوازِن بن منصور بن عِكرمة بن حفصة بن قيس عَيْلان وقد يكون ثقيف اسمًا للقبيلة، والأول أكثر، قال سيبَويه: أما قولهم: هذه ثَقيف، فعلى إرادة الجماعة، وإنما قال ذلك لغلبة التذكير عليه، وهو مما لا يقال فيه من بني فُلان، ومن استعماله في القبيلة: قول الشاعر: تؤمل أن تلاقي أم وهب ... محلّفة إذا اجتمعت ثقيف ومرّ قريبا أن عبد الوهاب من المختلطين، والاختلاط هو فساد العقل بأن لم تَنْتَظِم أقواله وأفعاله، وحكم روايته هو أن ما رواه المختلط في حال اختلاطه، أو اشْتُبِه فلم يُدْرَ أحدَّث بالحديث قبل اختلاطه أو بعده يكون مردودًا إذا كان مما اعتمد فيه على حفظه، بخلاف ما اعتمد فيه على كتاب، وما حدث به قبل اختلاطه، وإن حدث به ثانيًا بعد اختلاطه فلا يكون مردودًا، ويتميز ذلك بالراوي عنه فإنه قد يكون سمع منه قبله فقط، أو بعده فقط، أو فيهما مع التمييز كما هو مبين في المُطوّلات ونَظَم العراقيُّ المختلطين بقوله: وفي الثِّقات مَنْ أخيرًا اخْتَلط ... فما رَوَى فيه أو أُبْهِمَ سَقَط نَحوُ عطاءٍ وَهْوَ ابْنُ السّائِبِ ... وكَالْجريْريّ سَعِيدٍ وأَبي إسحَاقَ ثُمَّ ابن أبي عَرُوبةِ ... ثُمَّ الرَّقَاشِيِّ أبي قِلَابِةِ كَذَا حُصَيْنُ السُّلَميُّ الكُوفِي ... وعَارِمٌ محمّدٌ والثَّقَفِيّ كذا ابنُ هَمّام لِصَنعَا إذْ عَمِي ... والرَّأَيُ فيما زَعَموا وَالتَّوأمِي وابنُ عُيَيْنَةَ مَع المَسْعُودي ... وآخرًا حَكَوْهُ في الحَفِيدِ ابن خُزَيْمَةَ مَعَ الغِطْرِيفِي ... معَ القَطِيعِي أحْمَدَ المعْروفِ والمراد بقوله: الثقفي عبد الوهاب هذا، والرّأي المرادُ به ربيعة الرّأي، والتَّوْأميّ المراد به صالح بن نَبْهان المعروف بمولى التَّوْأمَة. الثالث: أيوب بن أبي تَميمة كَيْسان السَّخْتِياني أبو بكر البَصْريّ مولى عَنَزَة، ويقال: مولى جُهَينْة.

قال علي بن المَدِيني: له نحو ثمان مئة حديث، وأما ابن عُليّة، فكان يقول: حديثه ألفا حديث، فما أقل ما ذهب علي منها. وقال مَيْمون، عن الحسن وقد رأى أيوب: هذا سيد الفتيان، وفي رواية عنه: سيد شباب أهل البصرة. وقال شُعبة: حدثنا أيوب، وكان والله سيد الفقهاء، وسأله يومًا عن حديث فقال له: أشك فيه، قال: شَكُّكَ أحب إلي من يقين غيرك. وقال حَمّاد بن زَيْد: أيوب أفضل منْ جالسته، وأشده اتّباعًا للسنة. وقال ابن عُيَيْنة: ما لقيت مثله في التابعين. وقال ابن سَعْد: كان ثقة، ثبتًا، حجة، جامعًا، كثير العلم، عدلًا. وقال النَّسائي: ثقة ثبت. وقال هِشام بن عُروة: ما رأيت بالبَصْرة مثله. وقال مالك: كان من العلماء العاملين الخاشِعين وقال أيضًا: كتبت عنه لما رأيت من إجلاله للنّبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال أيضًا: كان من عُبّاد الناس وخيارهم. وقال ابن مَهْدي: أيوب حجة أهل البصرة. وقال الدَّارَقُطْنيّ: أيوب من الحفاظ الأثبات، وقال نافع: اشترى لي هذا الطَّيلَسان خير مَشْرقِيّ أيوب. وسُئل ابن المَديني: من أثبت أصحاب نافع؟ قال: أيوب وفَضْلُه، ومالك وإتقانُه، وعبيد الله وحِفْظُه. وقال أيضًا أيوب في ابن سيرين أثبت من خالد الحذّاء، وقال أبو حاتم: هو أحب إلي في كل شيء من خالد الحذّاء، وهو ثقة لا يُسأل عن مثله، وهو أكبر من سُليمان. وقيل لابن مَعين: أيوب عن نافع أحب إليك أو عبيد الله؟ قال كلاهما. ولم يُفَضِّل. وقال ابن خَيْثمة عنه: ثقة، وهو أثبت من ابن عَوْن. وقيل لأحمد: تقدم أيوب على مالك؟ فقال: نعم وقال صَاعِقة: سمعت عليًّا يقول: أثبت الناس في نافع أيوب، وعبيد الله، زاد غير صاعَقة عنه: ومالك، وقال وَهْب: قلت لمالك: ليس أحدٌ أحفظ عن نافع من أيوب، فتبسم، وقال يحيى القَطّان: أصحاب نافع أيوب، وعُبيد الله، ومالِك، وليس ابن جُريج بدونهم فيما سمع من نافع. ورأى أنس بن مالك ولم يَسْمع منه، وقيل: سمع منه، ولم يَصِحَّ. وروى عن: عَمرو بن سلمة الجَرْميّ، وحُميد بن هِلال، وأبي

قِلابة، والقاسم بن محمَّد، وعبد الرحمن بن القاسم، وعِكرمة، وعَطاء، والأعرج، وعمرو بن دينار، وحَفْصة بنت سيرين، وغيرهم. وروى عنه: الأعمش من أقرانه، وقَتادة وهو من شيوخه، والحَمّادان، والسُّفيانان، وشعبة، وعبد الوارِث، ومالك، وسعيد بن أبي عَروبة، وابن عُليّة، وخلق كثير. ولد سنة ست وستين، ومات بالبصرة سنة إحدى وثلاثين ومئة. والسَّخْتِياني -بفتح السين المهملة على الصحيح، وحكي كسرها، ثم خاء معجمة ساكنة، ثم تاء مفتوحة أو مكسورة- في نسبه نسبة إلى عمل السَّخْتِيان وبيعه، وهو جُلود الضَّأن، وقيل: جلد الماعز إذا دُبِغ، نسب إلى ذلك لعمله فيها وبيعها. وهو فارسي مُعرب، وفي الفارسية السَّخْت -بفتح الأول- يأتي لمعان، منها: الخشن، والصعب، والفرس يراعون المناسبة في تسمية الأشياء، فسَمَّوا الجلد المدبوغ سَخْتيانًا لصعوبة دبغ الجلد الرطب، فهو فارسي جذبته العرب إلى طرف الاستعمال بينهم، وإليه يُنْسب أبو إسحاق عِمران بن موسى السَّخْتياني محدث جُرجان ثقة، روى عن أبي الربيع الزَّهراني، ويُنسب إليه أيضًا أحمد بن عبد الله السَّخْتِياني روى عن السُّرِّي بن يحيى، وروى عنه أبو طاهِر. وليس في الستة أيوب بن أبي تَميمة سواه، وأما أيوب فكثير. الرابع: أبو قِلابة -بكسر القاف- عبد الله بن زَيْد بن عمرو، ويقال: ابن عامر بن نابِل بن مالك بن عبيد بن عَلقمة بن سَعد الجَرْميّ البَصْريّ أحد الأعلام. ذكره ابن سَعْد في الطبقة الثانية من أهل البصرة، وكان ثقة كثير الحديث، وكان ديوانه بالشام. وقال عَلِيّ بن أبي حملة: قلنا لمُسلم بن يسار: لو كان بالعراق أفضل منك لجاءنا الله به، قال: كيف لو رأيتم أبا قِلابة؟ وقال مسلم أيضًا: لو كان أبو قلابة من العجم لكان موبذ موبذان،

يعني: قاضي القضاة. وقال ابن سيرين: ذلك أخي حقًّا، وقال ابن عَوْن ذكر أيوب لمحمد حديثًا عن أبي قلابة، فقال: أبو قلابة إن شاء الله ثقة، رجل صالح، ولكن عَمَّن ذكره أبو قلابة؟ وقال أيوب: كان والله من الفقهاء ذوي الألباب، ما أدركت بهذا المصر رجلًا كان أعلم بالقضاء من أبي قِلابة، ما أدري ما محمَّد؟ وقال العِجليّ: بصري تابعي ثقة، وكان يَحْمِلُ على علي ولم يَرْوِ عنه شيئًا. وقال عُمَر بن عبد العزيز: لن تزالوا بخير يا أهل الشام ما دام فيكم هذا. وقال ابن خِراش: ثقة. وقال القابِسي فيما حكاه عنه ابن التين شارح "البخاري" في الكلام على القسامة بعد أن نقل قصة أبي قِلابة مع عمر بن عبد العزيز: العجب من عمر بن عبد العزيز على مكانه في العلم كيف لم يعارض أبا قِلابة في قوله، وليس أبو قِلابة من فقهاء التابعين وهو عند الناس معدود في البله. وقال ابن مَعين: أرادوه للقضاء فهرب إلى الشام، فمات بها. روى عن: ثابت بن الضَّحاك الأنصاري، وسَمُرة بن جُندب، وأبي زيد بن عمرو بن أخطب، وعمرو بن سَلِمة الجَرْميّ، وأنس بن مالك، وابن عباس، وابن عُمر، وقيل: لم يسمع منهما، ومعاوية، وهشام، وغيرهم، وروى أيضًا عن التابعين كأبي المُهلب الجَرْميّ عمه، وزَهْدَم بن مُضِّرس وعبد الله بن يزيد رضيع عائشة. وروى عنه: أيوب، وخالد الحذّاء، وأبو رجاء سلمان مولى أبي قِلابة، ويحيى بن أبي كَثير، وأشعث بن عبد الرحمن الجَرْمي، وعاصم الأحول، وغيرهم. مات بالشام سنة سبع أو ست ومئة. وفي الستة عبد الله بن زيد سواه خمسة، وليس فيهم من يكنى بأبي قلابة. والجَرْمي في نسبه -بفتح الجيم- نسبة إلى جَرْم أبو بطن من طيء،

10 - باب علامة الإيمان حب الأنصار

وهو ثعلبة بن عمرو بن الغوث بن جلهمة وهو طيء، مساكنهم صعيد مصر، ومنهم بقية في نواحي غزة، ومنهم حيان بن ثعلبة، وإليه ينسب أبو عبد الله محمَّد بن مالك النَّحوي المِصْري، وعَمرو بن سلمة الجَرْمي له صحبة، وأبو عُمر صالح بن إسحاق الجَرْمي لغوي مشهور أخذ عن الأخفش، وأبي عُبيدة، وأبي ذَرّ، والأصمعي، وفي قُضاعة جَرْم بن زَبّان ابن حُلوان بن عِمران بن الحافي بن قُضاعة منهم شهاب بن المَجْنون صحابي، وأخوه عامر مدرج الريح شاعر، وهوذة بن عمر، وله وفادة، وفي بجيلة جَرْم بن علقمة بن عَبْقر، وفي عاملة جَرْم بن شعَل بن معاوية. الخامس: أنس بن مالك، وقد مر في السادس من هذا الكتاب. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة، ورواته كلهم بَصْريون، وهم أئمة أجلاء، أخرجه البُخاريّ هنا، وفي هذا الكتاب بعد ثلاثة أبواب من طريق شُعبة، وفي الأدب، ومسلم عن محمَّد بن المُثَنّى وأخرجه الترمذي والنّسائي. 10 - باب علامة الإِيمان حب الأنصار وبابٌ بالتنوين، وسقط عند الأصيلي، فتجر حينئذ علامة بالإِضافة، ولما ذكر في الحديث السابق أنه لا يحب إلا لله، عَقَّبه بما يشير إليه من أن حب الأنصار كذلك, لأن محبة من يحبهم من حيث هذا الوصف وهو النصرة إنما هو لله تعالى، فهم وإن دخلوا في عموم قوله: "لا يحبه إلا لله" لكن في التنصيص بالتخصيص دليل العناية، وقال ابن المُنير: علامة الشيء لا يخفى أنها غير داخلة في حقيقته، فكيف تفيد هذه الترجمة مقصوده من أن الأعمال داخلة في مسمى الإِيمان, وجوابه أن المستفاد منها كون مجرد التصديق بالقلب لا يكفي حتى تنصب عليه علامة من الأعمال الظاهرة التي هي مؤازرة الأنصار وموادتهم.

الحديث العاشر

الحديث العاشر 17 - حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَبْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا - رضي الله عنه - عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «آيَةُ الإِيمَانِ حُبُّ الأَنْصَارِ وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الأَنْصَارِ». [الحديث 17 - طرفه في: 3784] قوله: "آية الإِيمان" بالهمزة الممدودة والمثناة المفتوحة، أي: علامة الإِيمان الكامل. وقوله: "حب الأنصار" وهم الأوس والخزرج، وهو جمع قلة على وزن أفعال، جمع نصير، كشريف وأشراف، أو جمع ناصر كصاحب وأصحاب، واستشكل هذا الجمع بأنه لا يكون لما فوق العشرة، وهم ألوف، وأجيب بأن القلة والكثرة إنما يعتبران في نكرات الجُموع، وأما المعارف فلا فرق بينهما، وقد مر الكلام مستوفىً على الأنصار في الحديث الأول: "إنما الأعمال بالنيات". وقوله: "وآية النفاق بغض الأنصار" النفاق هو إظهار الإِيمان وإبطان الكفر، وظاهر اللفظ أن بغُضْهم نفاق، وإن صَدَق وأقَرَّ، لكنه غير مراد، فيحمل على تقييد البغض بالجهة، فمن أبغضهم من جهة هذه الصفة، وهي كونهم نَصَروا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، أثَّر ذلك في تصديقه، فيصِحُّ أنه منافق، لأنه لا يجتمع مع التصديق، ويقرب هذا العمل زيادة أبي نُعيم في "المستخرج" من حديث البراء بن عازِب: "من أحبَّ الأنصار فبحبي أحبهم، ومن أبغض الأنصار فببغضي أبغضهم" وأخرج مسلم من حديث أبي سعيد رفعه: "لا يُبْغِضُ الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر" ولأحمد: "حبُّ الأنصار إيمان، وبغضُهم نفاقٌ" وإنما خُصّوا بهذه المنقبة العظيمة، والمنحة الجسيمة، لما فازوا به من نصره

رجاله أربعة

عليه الصلاة والسلام، والسعي في إظهاره وإيوائه وأصحابه ومواساتهم بأنفسهم وأموالهم وقيامهم بحقهم حق القيام مع معاداتهم جميع من وجد من قبائل العرب والعجم، فمن ثَمَّ كان حبهم علامة الإِيمان، وبغضهم علامة النفاق، مجازاة لهم علي عملهم، وتنويهًا بعظيم فضلهم، وإن كان من شاركهم في ذلك مشاركًا لهم في الفضل المذكور، وكلٌّ بقسطه، وقد ثبت في مسلم عن علي أن النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم قال له: "لا يُحِبُّكَ إلا مؤمن، ولا يُبْغِضُك إلا منافق" وهذا جارٍ باطِّراد في أعيان الصحابة، لتحقق مشترك الإِكرام لما لهم من حسن العناء في الدين. قال صاحب "المفهم": "وأما الحروب الواقعة بينهم، فإن وقع من بعضهم بغض لبعض فذلك من غير هذه الجهة، بل للأمر الطارىء الذي اقتضى المخالفة، ولذلك لم يحكم بعضهم على بعض بالنفاق، وإنما كان حالهم في ذلك حال المجتهدين في الأحكام، للمُصيب أجران، وللمُخطىء أجر واحد، وإنما عدل عن لفظ الكفر إلى لفظ النفاق، لأن الكلام فيمن ظاهره الإِيمان وباطنه الكفر، فميزهم عن ذوي الإِيمانُ الحقيقي، فلم يقُل وآية الكفر كذا، إذ هو ليس بكافر ظاهرًا، وأما من يظهر الكفر فلا يخاطب بهذا الترهيب, لأنه مرتكب ما هو أشد من ذلك. رجاله أربعة: الأول: هشام بن عبد الملك الباهِلِي مولاهم أبو الوليد الطَّيالِسِيّ البَصْري الحافظ الإِمام الحجة. قال أحمد بن حَنْبل: متقن، وهو اليوم شيخ الإِسلام، وما أُقَدِّم عليه أحدًا من المحدثين، وهو أسن من عبد الرحمن بن مَهدي بثلاث سنين. وقال ابن دارة: قلت لأحمد: أبو الوليد أحب إليك في شعبة أو أبو النَّضْر؟ فقال: إن كان أبو الوليد يكتب عند شعبة فأبو الوليد. قلت له: فإني سمعته يقول: بينا أنا أكتب عند شعبة إذ بَصُرَ بي، فقال: وتكتب؟ فوضعت الألواح. وقال أبو حاتم: كان إمامًا فقيهًا عاملًا ثقة حافظًا ما رأيت في يده

كتابًا قطُّ، وهو إمام حجة حافظ. وقال أبو زُرعة: أدرك أبو الوليد نصف الإِسلام، وكان إماما في زمانه جليلًا عند الناس، وقال أحمد بن عبد الله: هو ثقة في الحديث، يروي عن سبعين امرأة، وكانت إليه الرحلة بعد أبي داود الطَّيالِسِيّ. وقال ابن دارة: قال لي أبو نُعيم: لولا أبو الوليد ما أشرت عليك أن تَدْخُل البَصْرة. وقال أحمد بن سنان: حدثنا أبو الوليد أمير المحدثين، وقال ابن أبي حاتِم: سُئِل أبي عن أبي الوليد وحَجّاج بن منهال، فقال: أبو الوليد عند الناس أكبر، كان يقال: سماعه من حَمّاد ابن سَلَمة فيه شيء، سمع منه بآخِرِه، وكان حماد ساء حفظه في آخر عمره. وقال ابن دارة: قال لي علي بن المديني: اكتب عن أبي الوليد الأصول. وقال ابن دارة أيضًا: حدثني أبو الوليد وما أرى أني أدركت مثله. وقال العِجْليّ: بصري ثقة ثبت في الحديث، وكانت الرحلة إليه بعد أبي داود، وقال أبو حاتم أيضًا: ما رأيت أصح من كتاب أبي الوليد. وقال معاوية بن عبد الكريم الرَّمادي: أدركت الناس وهم يقولون: ما بالبصرة أعقل من أبي الوليد، وبعده أبو بكر بن خَلّاد. وقال ابن سَعْد: كان ثقة ثبتًا في الحديث. وذكره ابن حِبّان في "الثقات" وقال: كان من عقلاء الناس. وقال ابن قانع: ثقة مأمون ثبت. وفي "الزهرة"، روى عنه البخاري مئة وسبعة أحاديث. روى عن عِكرمة بن عمار، وجَرير بن حازِم، ومهدي بن مَيْمون، وشُعبة، وهَمّام، ومالك، والليث، وحماد بن سَلَمة، وزُهير بن معاوية، وجماعة. وروى عنه أبو داود، والبخاري، وروى أبو داود أيضًا، والباقون عنه بواسطة إسحاق بن راهَوَيه. وروى عنه أيضًا هشام بن عُبيد الله الرّازِيّ , وأبو حاتم، وأبو زُرعة، وابن دارة، ويعقوب بن شَيْبة، ويعقوب بن سفيان، وخلق كثير. ولد سنة ثلاث وثلاثين ومئة، ومات سنة سبع وعشرين ومئتين.

وفي الستة هشام بن عبد الملك بن عمران أبو تقي الحمصي، مات سنة إحدى وخمسين ومئتين. والطَّيالِسِي في نسبه نسبة إلى بيع الطيالسة، وهو جمع طَيْلسان بتثليث اللامَ، وأنكر بعضهم كسر اللام، وهو ضرب من الألبسة فارسي معرب، أصله تالسان بالمهملة والمعجمة، والهاء في الجمع للعجمة، ويقال في الشتم: يا ابن الطيلسان، أي: إنك أعجمي، لأن العجم هم الذين يَتَطَيْلسُون. والباهِلِيّ في نسبه نسبة إلى باهلة، قبيلة من قَيس عَيْلان، وهي في الأصل اسم امرأة من هَمْدان كانت تحت معن بن أعصر بن سعد بن قيس عيلان، فنسب ولده إليها وقولهم: باهلة بن أعصر، إنما هو كقولهم: تميم بن مر، فالتذكير للحَيِّ، والتأنيث للقبيلة، سواء كان الاسم في الأصل لرجل أو امرأة. الثاني: عبد الله بن عبد الله بن جَبْر -بالفتح - وقيل: ابن جابر بن عَتيك الأنصاري المدني، وقيل: إنهما اثنان. قال ابن مَعين: ثقة. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه، فقال: ثقة. قلت له: عبد الله أحب إليك أم موسى الجُهَنيّ؟ قال: عبد الله أحب إلي. وقال النسائي: ثقة. وذكره ابن حِبّان في "الثقات" وقال الدَّارَقُطنيّ: لم يتابع مالكًا أحد على قوله: جابر بن عَتيك. وهو مما يعتمد عليه. قال ابن حَجَر: والراجح أنهما اثنان. روى عن عبد الله بن عمر، وأنس، وجده لأمه عَتيك بن الحارث، وعن أبيه عبد الله بن جَبْر إن كان محفوظًا. وروى عنه: مالك، وشعبة، ومِسْعر، وأبو العُمَيْس المسعودي، وعبد الله بن عيسى بن أبي لَيْلى، وغيرهم. روى له: البخاري، ومسلم والترمذي.

11 - باب

وفي الستة عبد الله بن عبد الله سواه أحد عشر. والمدني في نسبه نسبة إلى مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، كما يقال في النسبة إلى ربيعة: رَبَعيّ، وجَذِيمة: جَذَميّ. قيل: أصلها من مَدَنَ بالمكان: أقام، فهي فعيلة، وقيل: من دِنْت، أي: ملكت، فهي مفعلة. قال ابن بري: لو كانت الميم في مدينة زائدة لم يجز جمعها على مدن. وسئل أبو علي الفَسَويّ عن همزة مدائن، فقال: فيه قولان، من جعله فعيلة همزه، ومن جعله مفعلة لم يهمِزه، ويقال في النسبة إليها: مديني أيضًا على غير القياس، وقيل: إن الياء للذي أقام بها ولم يفارقها، وحذفها للذي تحول عنها، وكان فيها، وقد تقع هذه النسبة إلى غيرها من المدن، وقال الرُّشاطِي: يقال في الرجل والثوب مَدَني وفي الطير ونحوه: مديني. وقال الجَوْهَريّ: إذا نسبت إلى مدينة الرسول عليه السلام، قلت: مَدَني، وإلى مدينة المنصور، وأصفهان، وغيرهما، قلت: مَديني، وإلى مدائن كسرى، قلت: مدائِني للفرق بين النسب، لَئِلا تختلط. والمدينة ستة عشر بلدًا يسمى كل واحد منها بذلك. والثالث والرابع: شعبة وأنس وقد مر شُعبة في الثالث وأنس في السادس من هذا الكتاب. لطائف إسناده: منها أن هذا الإِسناد من رباعيات البخاري، فوقع له عاليًا، ووقع لمسلم خماسيًّا نازلًا، وفيه التحديث والإِخبار بصيغة الجمع، والإِفراد، والسماع، وفيه راو وافق اسمه اسم أبيه، أخرجه البخاري هنا، ومسلم في فضائل الأنصار عن مسلم بن إبراهيم، وغيره. وأخرجه النسائي أيضًا. 11 - باب كذا هو في رواية بلا ترجمة، وسقط من رواية الأصيلي أصلًا،

الحديث الحادي عشر

فحديثه عنده هو من جملة الترجمة التي قبله، وعلى إثباتها فهو متعلق بها أيضًا, لأن الباب إذا لم تذكر له ترجمة خاصة يكون بمنزلة الفصل مما قبله، مع تعلقه به كصنيع مصنفي الفقهاء، ووجه التعلق أنه لما ذكر الأنصار في الحديث الأول أشار في هذا إلى ابتداء السبب في تلقيبهم بالأنصار، لأن أول ذلك كان ليلة العقبة، لما توافقوا مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عند عقبة مني في الموسم، وبايعوه على إعلاء توحيد الله تعالى وشريعته، فسماهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الأنصار لذلك، وقد كانوا قبل ذلك يُسَمَّوْن بني قَيْلة -بقاف مفتوحة وياء ساكنة- وهي الأم التي تجمع القبيلتين، ثم إن في متن الحديث المذكور ما يتعلق بمباحث الإِيمان من وجهين آخرين، أحدهما: أن اجتناب المناهي من الإِيمان، كامتثال الأوامر، وثانيهما: أنه تضمن الرد على من يقول: إن مرتكب الكبيرة كافرٌ أو مخلدٌ في النار، كما يأتي تقريره إن شاء الله تعالى. الحديث الحادي عشر 18 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو إِدْرِيسَ عَائِذُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ - رضي الله عنه -وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا، وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: «بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلاَ تَسْرِقُوا، وَلاَ تَزْنُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ، وَلاَ تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلاَ تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ، فَهُوَ إِلَى اللَّهِ: إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ، وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ». فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ. [الحديث 18 - أطرافه في: 3892، 3893، 3999، 4894، 6784، 6801، 6873، 7055، 7199، 7213، 7468].

قوله: "وكان شهد بدرًا" يعني حضر الوقعة الكائنة بالمكان المعروف ببدر، وهي أول وقعة قاتل فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - المشركين، وتأتي في المغازي، يحتمل أن يكون قائل ذلك أبو إدريس، فيكون متصلًا، إذا حُمل على أنه سمع ذلك من عُبادة، أو الزُّهري فيكون منقطعًا. وكذا قوله: "وهو أحد النقباء" جمع نقيب، وهو الناظر على القوم وضمينهم وعريفهم، وكانوا اثني عشر رجلًا. وقوله: "ليلة العَقبة" أي: بِمنى، والعقبة الموضع المرتفع العالي من الجبل، والواو في قوله: "وهو"، وقوله: "وكان" هي الواو الداخلة على الجملة الموصوف بها لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف، وإفادة أن اتصافه بها أمر ثابت، ولا ريب أن كون شهود عُبادة بدرًا وكونه من النقباء صفتان من صفاته، ولا يجوز أن تكون الواو للحال ولا للعطف كما في قوله تعالى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} [الحجر: 4] فإنها جملة واقعة صفة لقرية، والقياس أنه لا يتوسط الواو بينهما، كما في قوله تعالى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ} [الشعراء: 208] وإنما توسطت الواو لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف، كما يقال في الحال: جاءني زيد عليه ثوب، وجاءني وعليه ثوب، قاله الزَّمَخْشَريّ، وتعقبه ابن مالك بأن ما قاله من توسط الواو بين الصفة والموصوف فاسدٌ، لم يقله أحد من النحاة، وأن ما علله به غير مناسب، لأن الواو تَدُلُّ على الجمع بين ما قبلها وما بعدها، وذلك مستلزم لتغايرهما، وهو ضد لما يراد من التأكيد، فلا يَصِحُّ أن يقال للعاطف مؤكد، وأيضًا لو صلحت الواو لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف لكان أولى المواضع بها موضعًا لا يصلُح للحال، نحو: إن رجلًا رأيُهُ سديدٌ لسعيدٌ، فرأيه سديد جملة نعت بها، ولا يصحُّ اقترانها بالواو لعدم صلاحيتها للحال، بخلاف، ولها كتاب معلوم فإنها جملة يصلُح في موضعها الحال، لأنها بعد نفي، وأجيب عن الزَّمَخْشرِيّ بأن المراد من الالتصاق عنده ليس الالتصاق اللفظي بل المراد عنده الالتصاق المعنوي، والواو تؤكد الثاني دون الأول.

وقوله: "إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال" محكية لقال ساقطة بعد قوله: "إن عبادة بن الصامت"، والساقطة هي خبر إن, لأن قوله: "وكان" وما بعدها معترض بين إن وخبرها الساقط من أصل الرواية هنا, ولعلها سقطت من ناسخ بعده، واستمر بدليل ثبوتها عند المصنف في باب من شهد بدرًا، والتقدير: أن عُبادة بن الصامت قال: إن رسول الله .. الخ، وقد جرت عادة كثير من أهل الحديث بحذف "قال" خطًّا لكن حيث يتكرر في مثل: قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا بد عندهم مع ذلك من النطق بها, ولأحمد عن أبي اليمان بهذا الإِسناد: أن عُبادة حدثه. وقوله: "وحوله عِصابة من أصحابه" حول الشيء ما أحاط به، وقد تقدم في حديث هِرَقْل ما فيه من اللغات، وهو ظرف خبر مقدم لعصابة، ومن أصحابه صفة لعصابة، والعِصابة بكسر العين الجماعة من العَشَرة إلى الأربعين، ولا واحدَ له من لفظه، وقد جمعت على عَصائب وعُصُب، وأشار بهذا إلى المبالغة في ضبط الحديث، وأنه عن تحقيق وإتقان. وقوله: "بايعوني" زاد في باب وفود الأنصار: "تعالَوا بايِعُوني" والمبايعة على الإِسلام عبارة عن المعاقدة والمعاهدة عليه، سميت بذلك تشبيهًا بالمعاوضة المالية، كأن كل واحد منهما يبيع ما عنده من صاحبه، فمن طرف النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وعد الثواب، ومن طرفهم التزام الطاعة، نحو قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111] وقد تُعرف بأنها عقد الإِمام العهد بما يأمر الناس به. وقوله: "على أن لا تُشركوا بالله شيئًا" أي على ترك الإِشراك، وهو عام لأنه نكرة في سياق النهي، وهو كالنفي، وقَدَّمه على ما بعده لأنه الأصل.

وقوله: "ولا تسرِقوا" فيه حذف المفعول ليدُلَّ على العموم. وقوله: "ولا تقتُلوا أولادَكم" خصهم بالذكر لأنهم كانوا في الغالب يقتلونهم خشية الإِملاق، أو لأنه قَتْلٌ وقطيعة رحم، فالعناية بالنهي عنه آكد وأكثر، وقد كان شائعًا فيهم، وهو وأد البنات، وقتل البنين خشية الإِملاق، أو خصهم بالذكر لأنهم بصدد أن لا يدفعوا عن أنفسهم. وقوله: "ولا تأتوا" بحذف النون، ولغير الأربعة "ولا تأتون". وقوله: "ببُهتانٍ" هو بضم الباء، وهو الكذب الذي يَبْهَت سامعَه أي: يدهشه لفظاعته، كالرمي بالزنى مثلًا. وقوله: "تفترونه" من الافتراء، أي: الاختلاق. وقوله: "بين أيديكم وأرجلكم" أي من قِبَل أنفسكم، فَكَنّى باليد والرجل عن الذات, لأن معظم الأفعال بهما، إذ كانت هي العوامل والحوامل للمباشرة والسعي، وكذا يسمون الصنائع الأيادي، وقد يعاقب الرجل بجناية قولية، فيقال له: هذا بما كسبت يداك، والمعنى حينئذٍ لا تأتوا ببهتان من قِبَل أنفسكم، وقيل: المراد بما بين الأيدي والأرجل القلب لأنه هو الذي يُترجم اللسان عنه، فلذلك نسب إليه الافتراء، كأنَّ المعنى: لا ترموا أحدًا بكذب تزورونه في أنفسكم، ثم تَبْهتون صاحبه بألسنتكم، أو المراد: لا تَبْهتوا الناس كفاحا، وبعضُكم يشاهد بعضًا، كما يقال: قلت كذا بين يَدَي فلان، وعلى هذا فذكر الأرجل إنما هو تأكيد، ويُحتمل أن يكون قوله: "بين أيديكم" أي في الحال، وقوله: "وأرجلكم" في المستقبل، لأن السعي من أفعال الأرجل، وقيل: أصل هذا كان في بيعة النساء، وكَنّى بذلك عن نسبة المرأةِ الولدَ الذي تزني به أو تلتقطه إلى زوجها، ثم لما استعمل هذا اللفظ في بيعة الرجال احتيج إلى حمله على غير ما ورد فيه أولًا. وقوله: "ولا تعصوا" في رواية الإِسماعيلي في وفود الأنصار: "ولا

تعصوني" وهو موافق للآية. وقوله: "في معروف" المعروف هو ما عُرِف من الشارع حسنُه نهيًا وأمرًا، والتقييد بالمعروف مع أن الرسول لا يأمر إلا به للتنبيه على أنه لا تجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق، وقيل: قُيِّد به تطييبًا لخاطرهم، لأنه عليه الصلاة والسلام لا يأمر إلا به، وقال النَّوَوِيّ: يحتمل أن يكون المعنى: ولا تعصوني ولا أحَدًا ولي الأمر عليكم في معروف، فيكون التقييد بالمعروف متعلقًا بشيء بعده، وخُصَّ ما ذكر من المناهي بالذكر دون غيره للاهتمام به، وإذا قيل: لِمَ اقتصر على المنهيات ولم يذكر المأمورات؟ فالجواب أنه لم يُهملها، بل ذكرها على طريق الإِجمال في قوله: "ولا تعصوا" إذ العصيانُ مخالفة الأمر، والحكمة في التنصيص على كثير من المنهيات دون المأمورات أن الكف أيسر من إنشاء الفعل، ولأن اجتناب المفاسد مقدَّمٌ على اجتلاب المصالح، والتخلّي عن الرذائل قبل التحلي بالفضائل. وقوله: "فمن وَفَّى منكم" بالتخفيف والتشديد وهما بمعنى، أي: ثبت على العهد. وقوله: "فأجره على الله" أي: فضلًا ووعدًا أطلق هذا على سبيل التفخيم، لأنه لما ذكر المبايعة المقتضية لوجود العوضين أثبت ذكر الأجر في موضع أحدهما وفي رواية الصُّنابِحِيّ في "الصحيحين" الإِفصاح بتعيين العوض، فيقال: "بالجنة" وعبر هنا بلفظ على للمبالغة في تحقيق وقوعه كالواجبات، ويتعين حمله على غير ظاهره للأدلة القائمة على أنه لا يجب على الله شيء، وسيأتي في حديث معاذ تفسير حق العباد على الله إذا أطاعوه بأنه لا يُعذِّبهم، والمراد بالحق في الحديث المذكور: المتحقق الثابت الذي لا يجوز عليه الكذب، ولا الخلف في الوعد، فإنه سبحانه وتعالى لا يجب عليه شيء بحكم الأمر، إذ لا آمر فوقه، ولا حكم للعقل، لأنه كاشف لا موجب، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق القول في هذا البحث.

وقوله: "ومن أصاب من ذلك شيئًا" بنصب شيئًا مفعول أصاب الذي هو صلة من الموصول المتضمن معنى الشرط. وقوله: "فَعُوقِب" أي: به، كما رواه أحمد، أي: بسببه. وقوله: "في الدنيا" أي: بأن أقيم عليه الحد. وقوله: "فهو" أي: العقاب المفهوم من عوقب. وقوله: "كفارة له" فلا يُعاقب عليه في الآخرة. وفي رواية الأربعة حذف له، وعموم هذا الحديث مخصوص بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] فالمرتد إذا قُتِل علي ارتدادِهِ لا يكون القتل كفارة له، وهذا بناء على أن قوله مِن ذلك شيئًا يتناول جميع ما ذكر، وهو ظاهر، وقيل: يحتمل أن يُراد ما بعد الشرك، بقرينة أن المخاطب بذلك المسلمون، فلا يدخل حتى يُحتاج إلى إخراجه ويؤيده رواية مسلم عن عُبادة في هذا الحديث: "ومَنْ أتى منكم حَدًّا" إذ القتل على الشرك لا يُسمى حدًّا، لكن يُعَكِّرُ على هذا أن الفاء في قوله: "فمن" لتُرَتِّب ما بعدها على ما قبلها، وخطاب المسلمين بذلك لا يمنع التحذير من الإِشراك، وما ذكر في الحد عرفي حادث، فالصواب الأول، وكون المراد بالشرك الشرك الأصغر الذي هُو الرياء لا يَصِحُّ لأن عرف الشارع إذا أطلق الشرك إنما يريد به ما يقابل التوحيد، ولأنه عقب الإِصابة بالعقوبة في الدنيا، والرياء لا عقوبة فيه، فوضح أن المراد الشرك، وأنه مخصوص، وكون الحدود كفارة لأهلها هُو الذي ذهب إليه أكثر العلماء لهذا الحديث، ولما رواه التِّرمذي وصححه الحاكم عن علي بن أبي طالب من ذلك، ففيه: "مَنْ أصابَ ذنبًا فعُوقِب عليه في الدنيا، فالله أكرم من أن يُثَنِّي العقوبة على عبده في الآخرة" وهو عند الطَّبراني بإسناد حسن من حديث أبي تَميمة الهُجَيْميّ، وله أيضًا عن ابن عمر مرفوعًا: "ما عُوقب رجلٌ على ذنبٍ إلا جعله الله كفارةً لما أصاب من ذلك الذنب" ولأحمد من حديث خُزَيْمة بن ثابت: "من أصاب ذنبًا أقيم عليه ذلك الذنب فهو كفارة

له" وذهب بعض العلماء إلى الوقف لحديث أبي هُريرة: أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: "لا أدري الحدود كفارة لأهلها أم لا" أخرجه الحاكم في "المستدرك" والبزار من رواية مَعْمر، وهو صحيح على شرط الشيخين. وأخرجه أحمد عن عبد الرزاق عن مَعْمر، وقال الدَّارقُطنيّ: إن عبد الرزاق تفرد بوصله عن مَعمر. قال في "الفتح" وصله آدم بن أبي إياس عن مَعمر فهو صحيح، وعلى ذلك يُجمع بينه وبين حديث الباب وما معه، بأن حديث أبي هُريرة ورد أولًا قبل أن يُعَلِّمَهُ الله، ثم أعلمه، وما عورض به هذا الجمع من تأخر إسلام أبي هُريرة وتقدم حديث الباب إذ كان ليلة العقبة الأولى، مردود بما حرره في "الفتح" من أن حديث أبي هُريرة سابق على حديث الباب، وأن المبايعة المذكورة لم تكن ليلة العقبة، وإنما هي بعد فتح مكة، وآية الممتحنة كما هو مصرح به في الأحاديث، فقد أخرج البخاري في كتاب الحدود عن الزُّهري في حديث عُبادة أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لما بايَعَهم قرأ الآية كلها، وعنده في تفسير الممتحنة من هذا الوجه قال: قرأ النساء، ولمسلم عن الزهري قال: فتلا علينا آية النساء، قال: {أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} [الممتحنة: 12] وللنسائي عن الزهري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ألا تبايعوني على ما بايع عليه النساء، أن لا تشركوا بالله شيئًا الحديث. وللطَّبراني عن الزُّهري بهذا السند أيضًا: "بايَعَنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما بايَعَ عليه النساء يَوْم فتح مكة" ولمسلم عن عُبادة في هذا الحديث "أخذ علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما أخذ على النساء" فهذه أدلة ظاهرة في أن هذه البيعة إنما صدرت بعد نزول الآية، وبعد فتح مكة، وبعد صُدور بيعة النساء، وذلك بعد إسلام أبي هُريرة بمدة، ويؤيد هذا ما رواه ابن أبي خَيْثمة في "تاريخه" عن أيوب، عن عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: "أُبَايِعُكُم على أن لا تُشركوا بالله شيئًا" فذكر نحو حديث عُبادة، ورجاله ثقات، وقد قال إسحاق بن رَاهَوية: إذا صح الإِسناد إلى عمرو بن شعيب

فهو كأيوب، عن نافع، عن ابن عُمر، وإذا كان عبد الله بن عَمرو الذي هو جد عَمرو بن شعيب أحد من حضر البيعة، وليس هو من الأنصار، ولا ممن حضر بيعتهم، وإنما كان إسلامه قرب إسلام أبي هُريرة، وضح تغاير البيعتين بيعة الأنصار ليلة العقبة، وهي قبل الهجرة إلى المدينة، وبيعة أخرى وقعت بعد فتح مكة، شهِدَها عبد الله بن عمرو، وكان إسلامه بعد الهجرة بمدة طويلة، ومثل ذلك ما رواه الطبراني عن جَرير، قال: "بايَعَنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على مثل ما بايَعَ عليه النساء" وكان إسلام جَرير متأخرًا عن إسلام أبي هُريرة على الصواب، وإنما حصل التباس من جهة أن عبادة بن الصامت حضر البيعتين معًا، وكانت بيعة العقبة مما يَتَمَدَّحُ به، فكان يذكرها إذا حَدّث تنويهًا بسابقيَّته، فلما ذكر هذه البيعة التي صدرت على مثل بيعة النساء، عقب ذلك توهم من لم يقف على حقيقة الحال أن البيعة الأولى وقعت على ذلك، والحق أنها لم تقع على ذلك، ونَصُّ ما وقعت عليه على ما رواه ابن إسحاق وغيره من أهل المغازي، أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال لمن حضر من الأنصار: "أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم" فبايعوه على ذلك، وعلى أن يرحل إليهم هو وأصحابه، وفي كتاب الفتن عن عُبادة بن الصامت أيضًا، قال: "بايَعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره" الحديث، وأصرح من ذلك في هذا المراد ما أخرجه أحمد والطبراني عن عُبادة أنه جرت له قصة مع أبي هُريرة عند معاوية بالشام، فقال: يا أبا هُريرة إنك لم تكن معنا إذ بايعنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن نقول بالحق، ولا نخاف بالله لومة لائم، وعلى أن ننصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قدم علينا يثرب، فنمنعه مما نمنع منه أنفسنا وأزواجنا وأبناءنا ولنا الجنة، فهذه بيعة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم التي بايعناه عليها، فذكر بقية الحديث، وقد ذكرت في المقدمة عدد العقبات،

وعدد أهلها، فبان من هذا أن الذي وقع في بيعة العقبة ليس هو الواقع في البيعة المذكورة في هذا الحديث، ونظير ما وقع في هذا الحديث ما أخرجه أحمد عن محمَّد بن إسحاق عن عُبادة بن الوليد بن عُبادة بن الصامت، عن أبيه الوليد، عن جده عبادة بن الصامت، قال: وكان أحد النقباء، قال: "بايعنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بيعة الحرب، وكان عُبادة من الاثني عشر الذين بايعوا في العقبة الأولى على بيعة النساء وعلى السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا" الحديث، فإنه ظاهر في اتحاد البيعتين، ولكن الحديث في "الصحيحين" كما يأتي في الأحكام ليس فيه هذه الزيادة، والصواب أن بيعة الحرب بعد بيعة العقبة, لأن الحرب إنما شُرع بعد الهجرة، ويمكن تأويل رواية ابن إسحاق وردها إلى ما تقدم، وقد اشتملت روايته على ثلاث بيعات، بيعة العقبة وقد صرح بأنها كانت قبل أن يُفْرَضَ الحرب في رواية الصُّنابِحِيّ عن عُبادة عند أحمد، والثانية: بيعة الحرب ويأتي في الجهاد أنها كانت على عدم الفرار، والثالثة: بيعة النساء أي التي وقعت على نظير بيعة النساء، والراجح أن التصريح بذلك وهم من بعض الرواة، ويعكر على ذلك التصريح في رواية ابن إسحاق عن الصُّنابِحيّ عن عبادة أن بيعة ليلة العقبة كانت على مثل بيعة النساء، واتفق وقوع ذلك قبل أن تنزل الآية، وإنما أضيفت إلى النساء لضبطها بالقرآن، ونظيره ما وقع في "الصحيحين" أيضًا عن الصُنابحي عن عُبادة قال: إني من النقباء الذين بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: بايعناه على أن لا نشرك باللهِ شيئًا الحديث، فظاهر هذا اتحاد البيعتين، ولكن المراد ما قررته أن قوله: إني من النقباء الذين بايعوا أي ليلة العقبة على الإِيواء والنصر وما يتعلق بذلك ثم قال بايعناه إلى آخره أي في وقت آخر، ويشير إلى هذا الإِتيان بالواو العاطفة في قوله: وقال بايعناه. وعليك برد ما أتى من الروايات موهمًا أن هذه البيعة كانت ليلة العقبة إلى هذا التأويل الذي نهجت إليه فيرتفع الإِشكال بذلك، ولا يبقى بين

حديثي أبي هُريرة وعبادة تعارض، ولا وجه بعد ذلك للتوقف في كون الحدود كفارة، هذا حاصل ما لخّصه في "الفتح" قائلًا: إنما أطلت في هذا الموضع لأني لم أر من أزال اللبس فيه على الوجه المرضي. وقوله: "فعوقب به" أعم من أن تكون العقوبة حدًّا أو تعزيرًا، ورُوي عن القاضي إسماعيل وغيره أن قتل القاتل إنما هو رادع لغيره، وأما في الآخرة فالطلب للمقتول قائم، لأنه لم يصل إليه حق، قال في "الفتح": بل وصل إليه حق، وأي حق، فإن المقتول ظلمًا تكفر عنه ذنوبه بالقتل كما ورد في الخبر الذي صححه ابن حِبّان وغيره أن السيف مَحّاءٌ للخطايا. وعن ابن مسعود قال: إذا جاء القتل محا كلَّ شيء. رواه الطَّبراني، وله عن الحسن بن علي نحوه، وعن عائشة مرفوعًا: لا يمر القتل بذنب إلا محاه، قال: فلولا القتل ما كفرت ذنوبه، وأي حق يصل إليه أعظم من هذا, ولو كان حد القتل إنما شرع للردع فقط لم يشرع العفو عن القاتل. قلت: جميع ما استدل به لا دليل فيه إلا الجملة الأخيرة التي هي: "ولو كان إلخ"، وأما تكفير ذنوب المقتول بقتله ظلمًا فليس فيه وصول حق له من القاتل، إنما فيه أن الله يكفر عنه ذنوبه بما حصل له من الظلم، سواء عوقب القاتل أو لم يعاقب، وهل تدخل في العقوبة المذكورة المصائب الدنيوية من الآلام والأسقام فيه نظر، ويدل للمنع قوله الآتي: "ومن أصاب من ذلك شيئًا ثم ستره الله" فإن هذه المصائب لا تنافي الستر، لكن بَيَّنَت الأحاديث الكثيرة أن المصائب تكفر الذنوب، فيحتمل أن يراد أنها تكفر ما لا حد فيه، ويستفاد من الحديث أن إقامة الحد كفارة للذنب، ولو لم يتب المحدود، وهو قول الجمهور، وقيل: لا بد من التوبة، وهو قول المعتزلة، ووافقهم ابن حَزْم والبَغَويّ من المفسرين وطائفة يسيرة، واستدلوا باستثناء من تاب في قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] وأجيب بأن هذا في عقوبة الدنيا بدليل التقييد بالقدرة عليه.

رجاله خمسة

وقوله: "ثم ستره الله" فيه حذف عليه، وفي رواية كريمة ذكرها، والحكمة في عطف الجملة المتضمنة للعقوبة على ما قبلها بالفاء والمتضمنة للستر بثم هي احتمال أن ذلك للتنفير عن مُواقَعَة المعصية، فإن السامع إذا علم أن العقوبة مفاجأة لإِصابة المعصية غير متراخية عنها، وأن الستر متراخ بعثه ذلك على اجتناب المعصية وتوقيها. وقوله: "فهو إلى الله" أي أمره مفوض إلى الله تعالى، وفي هذا رد على الخوارج الذي يكفرون بالذنوب، ورد على المعتزلة الذي يوجبون تعذيب الفاسق إذا مات بلا توبة، لأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أخبر بأنه تحت المشيئة، ولم يقل: إنه لا بد أن يعذبه، وفيه إشارة إلى الكف عن الشهادة بالنار على أحد، أو بالجنة لأحد، إلا من ورد النص فيه بعينه. قال في "الفتح": أما الشق الأول فواضح، وأما الثاني فالإِشارة إليه إنما تستفاد من الحمل على غير ظاهر الحديث، وهو متعين. وقوله: "إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه" هذا يتناول من تاب ومن لم يتب، وإنه لم يتحتم دخوله النار، بل هو إلى مشيئة الله، وقال الجمهور: إن التوبة ترفع المؤاخذة، نعم لا يأمن من مكر الله لأنه لا اطّلاع له على قبول توبته، وقيل بالتفرقة بين ما يجب فيه الحد وما لا يجب، واختلف فيمن أتى ما يوجب الحد، فقيل: يجوز أن يتوب سرًّا ويكفيه ذلك، وقيل: الأفضل له أن يأتي الإِمام ويعترف به، ويسأله أن يقيم عليه الحد، كما وقع لماعِز والغامِدية، وفصل بعض العلماء بين أن يكون معلنًا بالفجور، فيُستحب أن يعلن توبته، وإلا فلا. رجاله خمسة: الأول: أبو اليمان، والثاني: شعيب، وقد مرا في السابع من بدء الوحي.

والثالث: ابن شِهاب، وقد مر أيضًا في الثالث منه. والرابع: عائذ الله بن عبد الله بن عمرو، ويقال عبد الله بن إدريس ابن عائذ بن عبد الله بن عتبة بن غَيْلان أبو إدريس الخَوْلاني العَوْذِيّ والعَيْذي. قال مكحول: ما رأيت أعلم منه. وقال الزُّهري: كان قاضي أهل الشام، وقاضيهم في خلافة عبد الملك. وقال سعيد بن عبد العزيز: كان أبو إدريس عالم الشام من بعد أبي الدَّرداء. وقال أبو زُرعة الدِّمشقي: أحسن أهل الشام لقيا لأجلة أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جُبَير بن نُفَيْر، وأبو إدريس، وقد قلت لدُحيم: من المقدم منهم؟ قال: أبو إدريس. قال أبو زُرعة: وأبو إدريس أروى عن التابعين من جُبَير بن نُفير، فأما معاذ بن جَبَل فلم يَصِحَّ له منه سماع، وإذا حدث أبو إدريس عن معاذ أسند ذلك إلى يزيد بن عَميرة، وروى مالك عن أبي حازم، عن أبي إدريس، قال: دخلت مسجد دمشق فإذا أنا بفتى براق الثنايا، فسألت عنه , فقالوا: معاذ، فلما كان من الغد هَجَّرْت، فوجدته يصلي، فلما انصرف سلمت عليه، فقلت: والله إني لأحبك الحديث. وقال العِجليّ: بصري تابعي دمشقي ثقة. وقال أبو حاتم والنّسائي وابن سَعد: ثقة. وذكره الطَّبريّ في "طبقات الفقهاء" في نفر أهل فقه في الدين وعلم بالأحكام والحلال والحرام. وقال ابن حِبّان في "الثقات": ولاه عبد الملك القضاء بعد عزل بلال بن أبي الدَّرداء، وكان من عباد أهل الشام وقرائهم، ولم يسمع من معاذ، وقد سُئل الوليد بن مسلم، وكان عالمًا بأيام أهل الشام، هل لَقِي أبو إدريس معاذ بن جبل؟ قال: نعم، أدرك معاذًا وأبا عُبيدة، وهو وابن عشر سنين، وُلد يوم حُنين. روى عن عمر بن الخطاب، وأبي الدرداء، ومعاذ بن جبل، وأبي ذر، وبلال، وحُذيفة، وعبادة بن الصامْت، والمغيرة، ومعاوية، وواثِلة ابن الأسْقع، وغيرهم.

وروى عنه: الزّهري، وربيعة بن يزيد، والقاسم بن محمَّد، ومكحول، وشَهر بن حَوْشَب، وأبو حازم سلمة بن دينار، والوليد بن عبد الرحمن بن أبي مالك، وغيرهم. مات سنة ثمانين. وفي الستة عائذ الله سواه واحد أبو معاذ المُجاشِعِي، روى له ابن ماجه، وقال البخاري: لا يَصِحُّ حديثه، ووثقه ابن حبّان. والخَوْلاني في نسبه نسبة إلى خَوْلان بن عمرو بن الحارث بن مُرة بنِ أُدَد، ومنهم أبو مسلم الخَوْلاني، واسمه عبد الرحمن بن مشكم، وخَوْلان في قبائل من العرب هذه، وخولان بن عمرو بن الحافي بن قُضاعة، وخَوْلان بن سعد بن مذحج، وخَوْلان حضور، وخَوْلان ردع هو ابن قَحْطان. والعَوْذيّ في نسبه -بفتح المهملة وسكون الواو- نسبة إلى عَوْذ، وهما اثنان: عَوْذ بن غالب بن قَطيعة بن عَبْس، وعَوْذ بن سود بن الحجر بن عِمران بن عَمْرو بن مُزَيْقِيا قبيلتان، من الأولى سعد بن سَهْم بن عَوْذ، وحبيب بن قرفة العَوْذي، ومن الثانية أبو عبد الله هَمّام بن يحيى بن دينار الأزْدِيّ العَوْذيّ مولاهم. الخامس: عُبادة -بضم العين- بن الصامت بن قيس بن أصرم بن فِهْر ابن ثعلبة بن غُنم بن سالم بن عَوْف بن عمرو بن عَوْف بن الخزرج الأنصاري السّالميّ، يُكنى أبا الوليد، وأمه قرة العين بنت عُبادة بن نَضْلة ابن مالك بن العَجْلان، وكان عبادة نقيبًا، وشهد العقبة الأولى والثانية والثالثة، وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين أبي مَرْثَد الغَنَويّ، وشهد بدرًا والمشاهد كلها. قال ابن يُونس: شهد فتح مصر، وكان أمير ربع المدد. وفي "الصحيحين" عن الصُّنابحيّ، عن عُبادة قال: أنا من النقباء الذين بايعوا

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة العقبة، الحديث. وهو أول من وَلي قضاء فلسطين، ومن مناقبه ما قال ابن اسحاق في "مغازيه" عن عُبادة بن الصامت، قال: لما حارب بنو قَيْنُقَاع بسبب ما أمرهم عبد الله بن أبي، وكانوا حلفاء، فمشى عُبادة بن الصامت، وكان له من الحلف مثل الذي لعبد الله بن أُبي، فخلعهم، وِتبرأ إلى الله ورسوله من حلفهم، فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى ..} الخ. وذكر خليفة أن أبا عُبيدة ولاه إمرة حمص، ثم صرفه وولى عبد الله بن قُرْظ. وروى ابن سعد من طريق محمَّد بن كعب القُرظِيّ أنه ممن جمع القرآن في عهد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وزاد أن يزيد بن أبي سفيان كتب إلى عمر: قد احتاج أهل الشام إلى من يعلمهم القرآن، ويفقههم، فأرسل معاذًا وعُبادة وأبا الدّرداء، فأقام عُبادة بفلسطين. وروى مجاهد عن جنادة، قال: دخلت على عُبادة، وكان قد تفقه في دين الله. وعن يعلي بن شَدّاد، قال: ذكر معاوية الفرار من الطاعون، فذكر قصة له مع عُبادة، فقام معاوية عند المنبر بعد صلاة العصر، فقال: الحديث كما حدثني عُبادة، فاقتبِسوا منه، فإنه أفقه مني. ولعبادة قصص متعددة مع معاوية، وإنكاره عليه أشياء، وفي بعضها رجوع معاوية له، وفي بعضها شكواه إلى عثمان منه تَدُلُّ على قوته في دين الله، وقيامه بالأمر بالمعروف، وروى الأوْزَاعيّ أن عُبادة خالف معاوية في شيء أنكره عليه في الصرف، فأغلظ له معاوية في القول، فقال له عُبادة: لا أساكنك في أرض واحدة أبدًا، ورحل إلى المدينة، فقال له عمر: ما أقدمك؟ فأخبره، فقال له: ارجع إلى مكانك، فقبح الله أرضًا لست فيها ولا أمثالك، وكتب إلى معاوية: لا إمرة لك على عُبادة. وروى ابن سعد أنه كان جميلا جسيمًا طويلًا.

12 - باب من الدين الفرار من الفتن

له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مئة وواحد وثمانون حديثًا، اتفقا على ستة منها، وانفرد البخاري باثنين، ومسلم باثنين أيضًا. روى عنه: أبو أمامة، وأنس، وجابر، وأبو أُبَيّ بن أم حرام، وفُضالة ابن عبيد من الصحابة، وروى عنه من كبار التابعين أبو إدريس الخَوْلاني، وأبو مسلم الخَوْلاني، وعبد الرحمن بن عُسَيلة الصُّنابِحيّ، وأبو الأشْعَث الصّنعاني، وجُبير بن نُفير، وبنوه الوليد وعبد الله ودَاود وآخرون. مات بفلسطين سنة أربع وثلاثين، ودفن ببيت المقدس، وقبره بها معروف إلى اليوم، وقيل: مات بالمدينة، والأول أشهر، وأورد ابن عساكر أخبارًا له مع معاوية تدل على أنه عاش بعد ولاية معاوية الخلافة، وقيل: إنه عاش إلى سنة خمس وأربعين. وعُبادة بن الصامت في الصحابة فرد، وبدون الصامت ثلاثة عشر. لطائف إسناده: منها أن السند كله شاميون، وفيه التحديث والإِخبار والعنعنة، وفيه رواية قاضٍ عن قاضٍ، وهما أبو إدريس وعُبادة بن الصامت، وفيه رواية من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصحابي لأن أبا إدريس من حيث الرواية كبير، وقد ذكر في الصحابة لأن له رؤية، وأبوه عبد الله بن عَمرو الخَوْلاني صحابي، وهذا الحديث أخرجه البخاري في خمسة مواضع هنا، وفي المغازي والأحكام عن أبي اليَمان، وفي وُفود الأنصار عن إسحاق بن منصور وغيره، وفي الحدود عن ابن يوسف عن مَعْمر، ومسلم في الحدود عن يحيى بن يحيى، والتِّرمذي مثل إحدى روايات البخاري، وأخرجه النسائي بلفظ آخر. 12 - باب من الدّين الفِرار مِنَ الفتن بتنوين باب، وإنما عدل المصنف عن الترجمة بالإِيمان مع أنه ترجم لأبواب الإِيمان مراعاةً للفظ الحديث، ولما كان الإِيمان والإِسلام مترادفين في عرف الشرع، وقد قال الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل

عمران: 19] صح إطلاق الدين في موضع الإِيمان، ولم يرد الحقيقة لأن الفرار ليس بدين، فالتقدير الفرار من الفتن شعبة من شعب الإِيمان، كما دل عليه أداة التبعيض. بعونه تعالى وتوفيقه، تم الجزء الأول من "كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري" ويليه الجزء الثاني وأوله الحديث الثاني عشر

كَوثَر المَعَاني الدَّرارِي في كَشْفِ خَبَايا صَحِيحِ البُخَاري تأليف الإمَامِ المُحَدِّثِ العَلَّامَةِ الشَّيْخ مُحَمَّد الخِضْر الجَكيني الشِّنْقِطيْ (المتوفى سنة 1354 هـ) الجزءُ الثَّاني مؤسسة الرسالة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

كَوثَر المَعَاني الدَّرارِي في كَشْفِ خَبَايا صَحِيحِ البُخَاري

حقوق الطبع محفوظة الطبعَة الأولى 1415هـ - 1995 م مؤَسَّسَة الرّسَالة للطباعَة والنشر والتوزيع مؤَسَّسَة الرّسَالة بَيرْوت -شارع سوريَا- بنَاية صَمَدي وَصَالحَة هَاتف: 603243 - 815112 - صَ. بَ: 7460 - بَرقيًا: بيُوشرَان

الحديث الثاني عشر

الحديث الثاني عشر 19 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى صَعْصَعَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتَّبعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ». قوله: "يوشِك" بكسر الشين المعجمة أي يُسرع وزنًا ومعنى، ويجوز فتح الشين في لغة رديئة. وقوله: "أن يكون خير مال المسلم" يجوز في خير الرفع والنصب، فإن كان غنم بالرفع فالنصب، وإلا فالرفع، ويجوز رفعهما على الابتداء والخبر، ويقدر في يكون ضمير الشأن، لكن لم تجىء به الرواية، والأشهر في الرواية غنم بالرفع. وقوله: "شَعَفَ الجبال" بفتح المعجمة، والعين المهملة، جمع شَعَفة كأكَمة وأكَم، وهي رؤوس الجبال، ووقع عند بعض رواة الموطأ شُعَب بضم أوله وفتح ثانيه جمع شعبة، وهي ما انفرج بين جبلين، ويجوز في يتبع تشديد التاء وإسكانها. وقوله: "مواقعَ القَطْر" بكسر قاف مواقع كمواضع وزنًا ومعنى، عطف على شَعَف، والقطر المطر، والمواقع هي بطون الأودية، وخصهما بالذكر لأنهما مظان المرعى.

وقوله: "يفرُّ بدينه" جملة حالية، وذو الحال إما الضمير المستتر في يتبع، أو المسلم لوجود شرط جواز الحال من المضاف إليه وهو شدة الملابسة، فكأنه جزء منه، ويجوز أن تكون استئنافية، والباء في بدينه سببية، أو بمعنى مع، أي يفر بسبب دينه، أو معه. وقوله: "من الفتن" أي طلبًا لسلامة لا لقصد دنيوي، ومن ابتدائية. قال النّووي في الاستدلال بهذا الحديث: للترجمة نظر، لأنه لا يلزم من لفظ الحديث عد الفرار دينًا وإنما هو صيانة للدين. قال: فلعله لما رآه صيانة للدين أطلق عليه اسم الدين، وقال غيره: إن أريد بمن كونها جنسية أو تبعيضية فالنظر متجه، وإن أريد كونها ابتدائية أي: الفرار من الفتنة منشؤه الدين فلا يتجه النظر. وفي معنى هذا الحديث ما أخرجه البخاري في الرقاق عن أبي سعيد أيضًا، قال: جاء أعرابي فقال: يا رسول الله، أي الناس خير؟ قال: "رجلٌ جاهد بنفسه وماله، ورجل في شِعْب من الشِّعاب، يعبدُ ربه ويدعُ الناس من شره". والحديثان دالّان على فضل العُزلة لمن خاف على دينه، وقد اختلف السلف في أصل العُزلة، فالعزلة عند الفتنة ممدوحةٌ إلا لقادر على إزالتها، فتجب الخلطة عينًا أو كفاية بحسب الحال والإِمكان، واختلف فيها عند عدم الفتنة، فقال الجمهور بتفضيل الصحبة لتعلمه، وتعليمه، وعبادته، وأدبه، وتحسين خُلُقه بحلم واحتمال وتواضع ومعرفة أحكام لازمة، وتكثير سواد المسلمين، وعيادة مريضهم، وتشييع جنازتهم، وحضور الجُمَع والجماعات، واختار آخرون العزلة لتحقق السلامة، وليعمل بما علم، ويأنس بدوام ذكره، فبالصحبة والعزلة كمال المرء. وقال الجُنَيْد نفعنا الله ببركته: مكابدة العزلة أيسر من مداراة الخلطة. وقال الخطّابي: لو لم يكن في العزلة إلا السلامة من الغِيبة ورؤية المنكر الذي لا يقدِرُ على إزالته لكان في ذلك خير كثير. وقال البُخاري: العزلة راحة

من خِلاط السوء. ورواه ابن أبي شَيْبة عن عُمر، وقد تجب العزلة لفقيه لا يسلم دينه بالصحبة، وتجب الصحبة لمن عرف الحق فاتبعه والباطل فاجتنبه، وتجب على من جهل ذلك ليعلمه. وقال النووي: المختار تفضيل المخالطة لمن لا يغلِبُ على ظنه أنه يقع في معصية، فإن أشكل الأمر فالعزلة أولى. وقال غيره: يختلف باختلاف الأشخاص، فمنهم من يتحتم عليه أحد الأمرين، ومنهم من يترجح, وليس الكلام فيه، بل إذا تساويا فيختلف باختلاف الأحوال، فإن تعارضا اختلف باختلاف الأوقات، فممن تتحتم عليه المخالطة من كانت له قدرة على إزالة المنكر، فيجب عليه إما عينًا وإما كفاية بحسب الحال والإِمكان، وممن يترجح من يغلِبُ على ظنه أنه يسلم في نفسه إذا قام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وممن يستوي من يأمن على نفسه ولكنه يتحقق أنه لا يُطاع، وهذا حيث لا يكون هناك فتنة عامة، فإن وقعت الفتنة ترجحت العُزلة لما ينشأ فيها غالبًا من الوقوع في المحذور، وقد تقع العقوبة بأصحاب الفتنة فتعم من ليس من أهلها كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25]. وفي حديث أبي سعيد هذا عند البخاري في الرقاق: "يأتي على الناس زمانٌ خير مال المسلم الخ" قال في "الفتح": ولفظه هنا صريح في أن المراد بخيرية العُزلة أن تقع في آخر الزمان، وأما زمنه عليه الصلاة والسلام فكان الجهاد فيه مطلوبًا حتى كان يجب على الأعيان إذا خرج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم غازيًا أن يخرج معه إلا من كان معذورًا، وأما من بعده فيَخْتَلِف ذلك باختلاف الأحوال. وقال الخَطّابي: إن العزلة والاختلاط يختلفان باختلاف متعلقاتهما، فتحمل الأدلة الواردة في الحض على الاجتماع على ما يتعلق بطاعة الأئمة وأمور الدين، وعكسها في عكسه، وأما الاجتماع والافتراق بالأبدان فَمَن عرف الاكتفاء بنفسه في حق معاشه ومحافظة دينه فالأولى له الانكفاف عن مخالطة الناس بشرط أن يحافظ على الجماعة والسلام والرد وحقوق المسلمين من العيادة وشهود

رجاله خمسة

الجنازة ونحو ذلك، والمطلوب إنما هو ترك فضول الصحبة لما في ذلك من شغل البال، وتضييع الوقت عن المهمات، وبجعل الاجتماع بمنزلة الغداء والعشاء، فيقتصر منه على ما لا بد له منه، فهو أروح للبدن والقلب. وقال القُشَيْريّ في "الرسالة": طريق من آثر العزلة أن يعتقد سلامة الناس من شر لا العكس، فإن الأول ينتجه استصغاره نفسه وهي صفة المتواضع، والثاني شهوده مَزِيّةً له على غيره وهذه صفة المتكبر، وقد وقع لبعض الصحابة الاعتزال كسَلَمَة بن الأكْوَع لما قتل عثمان ووقعت الفتن اعتزل عنها، وسكن الرَّبَذَة، وتأهل بها, ولم يلابِس شيئًا من تلك الحروب كما في "البخاري". قال في "الفتح": والحق حمل عمل كل أحد من الصحابة على السداد، فمن لابس القتال اتضح له الدليل لثبوت الأمر بقتال الفئة الباغية، وكانت له قدرة على ذلك، ومن قعد لم يتضح له أي الفئتين هي الباغية، أو لم تكن له قدرة على القتال، وقد وقع لخُزَيْمة بن ثابت أنه كان مع علي، وكان مع ذلك لا يقاتل حتى قُتِلَ عمّار فقاتل حينئذٍ، وحدّثَ بحديث: "تَقْتُلُ عمّارًا الفئة الباغية" أخرجه أحمد وغيره، وقد لخصت هنا جميع ما قيل في العزلة والاختلاط لشدة الحاجة إليهما في هذا الزمان. رجاله خمسة: الأول: عبد الله بن مَسْلَمة بن قَعْنَب القَعْنَبيّ الحارِثي أبو عبد الرحمن المَدَني نزيل البصرة، كان يسمى الراهب لعبادته وفضله. وقال عبد الله بن أحمد بن الهَيثم: سمعت جدي يقول: كنا إذا أتينا عبد الله بن مسلمة القَعْنَبي خرج إلينا كأنه مشرف على جهنم نعوذ بالله منها. وقال عبد الله بن داود الخُرَيْبِيّ: حدثني القَعْنبي عن مالك، وهو والله عندي خير من مالك. وقال العِجليّ: بصري ثقة، رجل صالح، قرأ مالك عليه نصف "الموطأ" وقرأ هو على مالك النصف الباقي. وقال أبو حاتم: حجة ثقة، لم أر أخشع منه. وقال أبو زُرعة: ما كتبت عن أحد أجلّ في

عيني منه. وقال عَمرو بن علي: كان مجاب الدعوة. وقال ابن سعد: كان عالمًا فاضلًا، واعلم مالك بقدومه، فقال: قوموا بنا إلى خير أهل الأرض. وقال ابن أبي حاتم: قلت لأبي: القَعْنَبِيّ أحب إليك في "الموطأ" أو ابن أبي أُوَيْس؟ قال: القعنبي أحب إلي، لم أر أخشع منه. وقال عبد الصمد بن المُفَضَّل البَلْخيّ: ما رأت عيناي مثل أربعة، رجلين بالعراق: قُبيصة والقَعْنَبِيّ ورجلين بِبَلْخ: خَلَف وشَدّاد. وقال ابن مَعين: ما رأيت رجلًا يحدث لله تعالى إلا وكيعًا والقَعْنَبيّ. وقال ابن حِبّان في "الثقات": كان من المتقشفة الخشن، وكان لا يحدث إلا بالليل، وربما خرج وعليه بارِيّة اتَّشَح بها، وكان من المتقنين في الحديث، وكان يحيى ابن مَعين لا يُقدِّم عليه أحدًا في مالك. وقال النسائي: القَعْنَبِيّ فوق عبد الله ابن يوسف في "الموطأ". وقال الحاكم: سُئل ابن المَديني عنه، فقال: لا أقدم من رواة "الموطأ" أحدًا على القَعْنَبيّ. وقال بن قانِع: بصري ثقة، وفي الزهرة: روى عنه البخاري مئة وثلاثة وعشرين حديثًا، ومسلم سبعين حديثًا. روى عن: أبيه، وأفْلَح بن حُمَيد، وسَلَمة بن وَرْدان، ومالك، واللَّيث، وداود بن قَيْس، وسليمان بن بلال، وزيد بن أسلم، وشُعبة، وفُضَيل بن عِياض، وغيرهم. وروى عنه: البخاري، ومسلم، وأبو داود، وأخرج له مسلم أيضًا والتِّرمذي والنسائي بواسطة أحمد بن الحسن الترمذي، وروى عنه أبو زُرعة، وأبو حاتم، والذُّهلي، ويعقوب بن سُفيان، وحدث عبد الله بن داود الخُرَيْبيّ وهو أكبر منه، وخلق كثير. مات بطريق مكة، وقيل: بالبصرة، سنة إحدى وعشرين ومئتين وقيل: بمكة بالمحرم سنة إحدى إلخ ... والقَعْنَبيّ في نسبه نسبة إلى جده المتقدم قَعْنب كجَعْفَر، والقَعْنَب في

اللغة الشديد، ومنه يقال للأسد القَعْنَب، وللثعلب الذكر، وليس في الستة عبد الله بن مَسْلمة سواه. الثاني: الإِمام مالك، وقد مر في الثاني من بدء الوحي. والثالث: عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صَعْصَعَة الأنصاري المازِني ومنهم من يُسقط عبد الرحمن من نسبه، ومنهم من ينسبه إلى جده، فيقول: عبد الرحمن بن أبي صَعْصعة. قال الدّارَقطني: لم يختلف على مالك في تسميته عبد الرحمن بن عبد الله، واسم جده أبي صَعْصَعة عمرو بن زيد بن عَوْف بن مندُول بن غُنْم بن مازِن بن النجّار بن ثعلبة بن عَمرو بن الخَزْرج. ذكره ابن حبان في "الثقات". وقال أبو حاتم، والنسائي، وابن عبد البر في "التمهيد": ثقة. روى عن: أبيه، وعطاء بن يسار، والزُّهْري، وعُمر بن عبد العزيز والحارث بن عبد الله بن كعْب بن مالك. وروى عنه: يحيى بن سعيد الأنصاري، ومالك، ويزيد بن الهاد، وابن عُيَيْنة، وعبد العزيز بن أبي سليمان المَاجشُون. روى له: البخاري، والنسائي، وابن ماجه. مات سنة تسع وثلاثين ومئة والمازني في نسبه نسبة إلى مازن بن النَّجار المار في نسبه، ومازن في قبائل في قيس عيلان، مازن بن منصور بن عِكْرمة بن خصفة بن قيس عيلان، وفي قيس عيلان أيضًا مازن بن صَعْصَعَة، وفي فَزَارة مازن بن فَزَارة، وفي ضُبّة مازن بن كعب، وفي مذحج مازن بن ربيعة، وفي تميم مازن بن مالك، وفي شَيْبان بن ذهل مازن بن شَيْبان، وفي هُذَيْل مازن ابن معاوية، وفي الأزْد مازن بن الأزْد. الرابع: أبوه عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري، شهد جده أُحُدًا،

وقتل يوم اليمامة مع خالد بن الوليد شهيدًا، وأبوه عُمِّرَ ومات في الجاهلية، قتله بردع بن زيد بن عامر بن سواد بن ظفر بن الأوس ثم أسلم بردع، وشهد أحدًا، وثقه النسائي، وابن حِبّان. روى عن: أبيه، وعن أبي سعيد الخُدري. وروى عنه: ابنه عبد الرحمن، ومالك. روى له: البُخاري، وأبو داود. الخامس: أبو سعيد الخُدْريّ، سعد بن مالك بن سِنان بن عُبيد، وقيل عبد بن ثَعْلبة بن عُبيد بن الأَبْجَر، وهو حُذرة بن عوف بن الحارث ابن الخزرَج مشهور بكنيته، استصغر يوم أحد، واستشهد أبوه بها، وغزا هو ما بعدها. قال حَنْظلة بن أبي سفيان: كان من أفقه أحداث الصحابة. وروى الهَيثم في "مسنده" قال سَهْل بن سَعد: بايعت النبي - صلى الله عليه وسلم - أنا، وأبو ذَرٍّ، وعُبادة بن الصّامت، ومحمد بن مَسْلمة، وأبو سَعيد الخُدْريّ، وسادس على أن لا تأخذنا في الله لومة لائم، فاستقال السادس، فأقاله. وعن عبد الله بن الشِّخِّير: خرج أبو سعيد يوم الحَرّة، فدخل غارًا، فدخل عليه شامي، فقال: اخرج، فقال: لا أخرج، وإن تدخل علي أقتلك، فدخل عليه، فَوَضَع أبو سعيد السيف، وقال: بُؤْ بِإِثْمِكَ. قال: أنت أبو سعيد الخُدْرِيّ؟ قال: نعم. قال: فاستغفر لي. وعن عطية عن أبي سعيد: قتل أبي يوم أحد شهيدًا، وتركنا بغير مال، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسأله, فحين رآني قال: "من اسْتَغنى أَغناه الله، ومن يَسْتَعْفِف يُعِفَّهُ الله" فرجعت، ولفظه في "الصحيحين": "من يَسْتَغْنِ يُغْنِه الله، ومن يَستعْفِف يُعِفَّهُ الله، ومن يَتَصبَّر يُصبِّرهُ الله". وعن أبي نصْرة، عن أبي سَعيد الخُدريّ رفعه: "لا يَمْنَعَنَّ أحدكم مخافة النّاس أن يتكلم بالحق إذا رآه، أو علمه" قال أبو سعيد: فحملني ذلك على أن ركبت إلى معاوية، فملأت أذنيه، ثم

رجعت. وعن هِنْد بنة سعيد بن أبي سَعيد الخُدْريّ، عن عمها، جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عائدًا إلى أبي سَعيد، فقَدَّمنا إليه ذراع شاةٍ. وعن العَلاء ابن المُسيَّبِ، عن أبيه، عن أبي سعيد الخُدْرِيّ. قلنا له: هنيئًا لك برؤية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحبته، قال: إنك لا تدري ما أحدثنا بعده. وروى أبو نُصْرة عن أبي سعيد أنه قال: تحدثوا فإن الحديث يَهيجُ الحديث. له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألف حديث ومئة وسبعون حديثًا، اتفقا منها على ستة وأربعين، وانفرد البخاري بستة عشر، ومسلم باثنين وخمسين. روى عن جماعة من الصحابة منهم الخلفاء الأربعة، ووالده مالك، وأخيه لأمه قَتادة بن النُّعمان، وزَيْد بن ثابت. وروى عنه جماعة من الصحابة منهم ابن عُمر، وابن عَبّاس، وجابر، ومحمود بن لَبيد، وخلق من التابعين كابن المُسيِّب، وأبي عُثمان النَّهْدِيّ، وطارق بن شِهاب، وخلق كثير. مات بالمدينة سنة أربع وستين، وقيل: أربع وسبعين، وقيل: سنة ثلاث وستين، وقيل: خمس وستين. وأمه أُنَيْسة بنت أبي حارثة من بني عَدي بن النجَّار. والخُدريُّ في نسبه -بضم الخاء وسكون الدال المهملة- نسبة إلى خُدرة أحد أجداده كما مر، فخُدرة وخُدارة أخوان بطنان من الأنصار، فأبو مسعود الأنصاري البَدْريّ من خُدارة، وأبو سعيد من خُدرة، وهما ابنا عَوْف بن الحارث إلى آخر ما مر. وكان يقال لسنان جد أبي سعيد الخُدْري: الشهيد. وقَتادة بن النُّعمان أخو أبي سعيد الخُدْرِي لأمه، وضبط الدَّارَقُطنيّ خُدارة بالجيم المكسورة، وصوبه الرشالمي، وفي "تاج العروس" أنه بضم الجيم، وإن الصحيح أنه بالخاء لا بالجيم، ذكره في فصل جَدَرَ بالجيم. ويشتبه الخُدْرِيّ بالضم بالخِدْريّ بالكسر نسبة إلى خِدرة بطن من ذُهْل

باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - أنا أعلمكم بالله وأن المعرفة فعل القلب لقول الله تعالى: {ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم}

ابن شيبان، وبالخَدَريّ بالتحريك وهو محمَّد بن حسن متأخر، روى عن أبي حاتم وبالجَدَرِيّ بالجيم والدال مفتوحتين، وهو عُمير بن سالم، وبكسر الجيم وسكون الدال نسبة إلى جِدْرة بطن من كعب. لطائف إسناده: منها أن هذا السند كله مدنيون، وفيه فرد تحديث، والباقي عنعنة وفيه صحابي ابن صحابي. وهذا الحديث من أفراد البخاري عن مسلم، أخرجه هنا، وفي الفتن عن ابن يوسف، وفي إسناد الكتاب عن إسماعيل، وفي الرقاق، وعلامات النبوة عن أبي نُعيْم، وهو من أحاديث مالك في "الموطأ" وأخرجه أبو داود والنسائي أيضًا. باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - أنا أعلمكم بالله وأن المعرفة فعل القلب لقول الله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} باب هنا مضاف بلا تردد، وسقط في رواية الأصيلي. "وأنا أعلمكم بالله" هو مقول القول، وفي رواية الأصيليّ: "أعرفكم" بدل أعلمكم، وإنما كان كذلك لأن الرجل كلما كان أقوى في دينه كان أعلم بربه. وقوله: "وأن المعرفة" بفتح أن عطف على قول النبي، والتقدير: وباب بيان أن المعرفة، وورد بكسرها فهي استئنافية، والفرق بين المعرفة والعلم هو أن المعرفة عبارة عن الإِدراك الجُزْئِيّ، والعلم عن الإِدراك الكلي، وقيل: العلم إدراك المركبات، والمعرفة إدراك البسائط، وهذا مناسب لتعدي العلم إلى مفعولين، والمعرفة إلى مفعول واحد. وقوله: "لقول الله تعالى .. إلخ" مراده الاستدلال بهذه الآية على أن الإِيمان بالقول وحده لا يتم إلا بانضمام الاعتقاد إليه، والاعتقاد فعل القلب، وقوله: "بما كَسَبَت قلوبُكُم" أي بما استقرَّ فيها.

والآية وإن وردت في الأيمان -بالفتح- فالاستدلال بها في الإِيمان -بالكسر- واضح، للاشتراك في المعنى، إذ مدار الحقيقة فيهما على عمل القلب، وكان المصنف لمح بتفسير زَيْد بن أسْلَم، فإنه قال في قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89] قال: هو كقول الرجل: إن فعلت كذا فأنا كافر، قال: لا يؤاخذه الله بذلك حتى يعقِدَ به قلبه، فظهرت المناسبة بين الآية والحديث. وظهر وجه دخولهما في مباحث الإِيمان، فإن فيه دليلًا على بُطلان قول الكَرّامِيّةِ: إن الإِيمان قول فقط، ودليلًا على زيادة الإِيمان ونقصانه، لأن قوله عليه الصلاة والسلام: "أنا أعلمكم بالله" ظاهر في أن العلم بالله درجات، وأن بعض الناس فيه أفضل من بعض، وأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم منه في أعلى الدرجات، والعلم بالله يتناول ما بصفاته وما بأحكامه وما يتعلق بذلك، فهذا هو الإِيمان حقًّا. وقال إمام الحرمين: أجمع العلماء على وجوب معرفة الله تعالى، واختلفوا في أول واجب، فقيل: المعرفة، وقيل: النظر، وقال المقترح: لا اختلاف، فإن أول واجب خطابًا ومقصودًا المعرفة، وأول واجب اشتغالًا وأداءً القصد إلى النظر، وفي نقل الإِجماع منازعة طويلة، حتى نقل جماعة الإِجماع في نقيضه، واستدلوا بإطباق أهل العصر الأول على قبول الإِسلام ممن دخل فيه من غير تَنْقيب، والآثار في ذلك كثيرة جدًّا، وأجاب الأولون عن ذلك بأن الكفار كانوا يَذُبُّون عن دينهم ويقاتلون عليه، فرجوعهم عنه دليل على ظهور الحق لهم، ومقتضى هذا أن المعرفة المذكورة يُكْتَفَى فيها بأدنى نظر، بخلاف ما قرروه، ومع ذلك فقول الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] وحديث كل مولود يولد على الفطرة، ظاهر في دفع هذه المسألة من أصلها، وفي هذا المقصد طول، وقد أشبعنا الكلام عليه في كتاب متشابه الصفات، ويأتي مزيد الكلام عليه في كتاب التوحيد, لأنه هو مَحَلُّه الحقيقي. وقد قال النووي: في هذه الآية دليل على المذهب

الصحيح أن أفعال القلوب يؤاخَذُ بها إن استقرت، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تجاوز عن أُمّتي ماحَدَّثَت به أنفسها ما لم تَتَكَلَّم به أو تعمل" فمحمول على ما إذا لم يستقر، ويمكن أن يُستدلَّ لذلك من عموم قوله: "أو تعمل" لأن الاعتقاد هو عمل القلب. والكلام على هذه المسألة طويل، ومحله عند قول المصنف في الرقاق باب من هَمَّ بحسنة أو بسيئة. وها أنا أريد أن أتكلم عليها هنا قبل وصول ذلك المحل، مخافة الموت قبل وصوله. فأقول ملخصًا ما جمعه في "الفتح": أخرج البخاري في الباب المذكور عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما، عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فيما يرويه عن ربّه عَزَّ وَجَلَّ، قال: "إن الله عَزَّ وَجَلَّ كتب الحسنات وكتب السيئات، ثم بين ذلك، فمن هَمَّ بحسنة فلم يعملْها كتبها الله عنده حسنة كاملة، فإن همَّ بها وعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبع مئة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها كتبها له سيئة واحدة" والهم بالحسنة قيل: المراد به العزم لا مطلق الهم والإِرادة، لما أخرجه أحمد وصححه ابن حِبّان والحاكم من حديث خُرَيْم بن فاتِك رفعه: "ومَنْ هم بحسنة يعلم الله أنه قد أشعر بها قلبه وحَرَص عليها" وقد تَمَسَّك به ابن حِبّان، فقال بعد إيراد حديث الباب في "صحيحه": المراد بالهم هنا العَزْم، ويحتمل أن الله يكتب الحسنة بمجرد الهم بها، وإن لم يعزم عليها، زيادة في الفضل. وقال الطوفي: إنما كتبت الحسنة بمجرد الإِرادة، لأن إرادة الخير سبب إلى العمل، وإرادة الخير خير، لأن إرادة الخير من عمل القلب، واستشكل بأنه إذا كان كذلك فكيف لا تُضاعف لعموم قوله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] وأجيب يحمل الآية على عمل الجوارح، والحديث على مجرد الهم، لاقتضاء قوله: {مَنْ جَاءَ} على اختصاص التَّضْعيف بالمجيء، واستشكل أيضًا بأن عمل القلب إذا اعتبر في حصول الحسنة فكيف لا يُعتَبرُ في حصول

السيئة؟ وأجيب بأن ترك عمل السيئة التي وقع الهم بها يكفرها، لأنه قد نسخ قصده السيئة، وخالف هواه، ثم ظاهر الحديث حصول الحسنة مع مجرد الترك، سواء كان ذلك لمانع أم لا، ويتجه أن يقال: يتفاوت عظم الحسنة بحسب المانع، فإن كان خارجيًّا مع بقاء قصد الهم بفعل الحسنة فهي عظيمة القدر، ولا سيما إن قارنها ندم على تفويتها، واستمرت النية على فعلها عند القدرة، وإن كان الترك من الذي هَمَّ من قِبَل نفسه فهي دون ذلك إلا إن قارنَهَا قصد الإِعراض عنها جملة، والرغبة عن فعلها، ولا سيما إن وَقَع العمل في عكسها، كان يريد أن يتصدق بدرهم مثلًا فصرفه بعينه في معصية، فالذي يظهر في الأخير أنه لا تكتب له حسنة أصلًا، وأما ما قبله فعلى الاحتمال. قال النّووي: أشار بقوله: "عنده" إلى مزيد الاعتناء والشرف، وبقوله: "كاملة" إلى تعظيم الحسنة، وتأكيد أمرها، وعكس في السيئة فلم يصفها بكاملة، بل أكدها بقوله: "واحدة" إشارة إلى تخفيفها، مبالغة في الفضل والإِحسان، ومعنى قوله: "كتبها الله" أمر الحفظة بكتابتها، بدليل حديث أبي هُريرة المذكور في التوحيد: "إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتُبوها عليه حتّى يَعْمَلَها" وفيه دليل على أن المَلَكَ يطَّلِعُ على ما في قلب الآدمي، إما بإطلاع الله إياه، أو بأن يخلُق له علمًا يُدْرِكُ به ذلك، ويؤيد الأول ما أخرجه ابن أبي الدُّنيا عن أبي عِمْران الجَوْني قال: يُنادي المَلَكُ اكتب لفلان كذا وكذا، فيقول: يا ربِّ لم يعملْه، فيقول: إنه قد نواه. وقيل: بل يجد المَلَك للهَمِّ بالسيئة رائحة خبيثة، وبالحسنة رائحة طيبة. وأخرج ذلك الطبري عن أبي مَعْشَرٍ المَدَني، وجاء مثله عن سفيان بن عُيينة، وفي شرح مُغْلُطاي أنه ورد مرفوعًا. وقوله: "إلى أضعاف كثيرة" في حديث أبي ذر عند مسلم رفعه: "مَنْ عمل حسنةً فله عشرة أمثالها وأزيد" وهذا يدُلُّ على أن تضعيف حسنة العمل إلى عشرة مجزوم به، وما زاد عليها جائز وقوعه بحسب الزيادة في الإِخلاص وصدق العزم وحضور القلب وتعدي النفع، كالصدقة

الجارية، والعلم النافع، والسنة الحسنة، وشرف العمل، ونحوه، وقد قيل: إن العمل الذي يضاعف إلى سبعمائة ضعف خاص بالنفقة في سبيل الله، وتمسك قائل ذلك بما في حديث خُرَيمْ بن فاتِك المشار إليه قريبًا، ففيه: "ومن عمل حسنةً كانت له بعشر أمثالها، ومن أَنْفق نفقةً في سبيل الله كانت له بسبع مئة ضعف، وتعقب بأنه صريح في أن النفقة في سبيل الله تضاعف إلى سبع مئة ضعف وليس فيه نفي ذلك عن غيرها، ويدل على التعميم حديث أبي هُريرة المذكور في الصوم: "كل عمل ابن آدم يُضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف" واختلف في قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} هل المراد المضاعفة إلى سبع مئة فقط، أو زيادة على ذلك، فالأول هو المحقق من سياق الآية، والثاني محتمل ويؤيد الجواز سعة الفضل، وكون من هم بسيئة ولم يعملها تكتب له حسنة كاملة، ظاهر الحديث كتبها بمجرد الترك، لكن في حديث أبي هُريرة في التوحيد: "إذا أراد عبدي أن يعملَ سيئةً فلا تكتبوها عليه حتى يعملَها، فإن عملَها فاكتبوها له بمثلها، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة" وفي رواية عند مسلم: "إنما تركها من جرّائي". ونقل عِياض أن بعض العلماء حمل حديث ابن عَبّاس على عمومه، ثم صوب حمل مطلقه على ما قُيّدَ في حديث أبي هُريرة، ويحتمل أن تكون حسنة من ترك بغير استحضار ما قيد به دون حسنة الآخر، لما مر أن ترك المعصية كفٌّ عن الشر، والكف عن الشر خير، ويحتمل أن تكتب لمن هم بالمعصية ثم تركها حسنة مجردة، فإن تركها من مخافة ربه تعالى كتبت حسنة مضاعفة، وقال الخطّابيّ: محل كتابة الحسنة على الترك أن يكون التارك قد قدر على الفعل ثم تركه لأن الإِنسان لا يسمى تاركًا إلا مع القدرة، ويدخل فيه من حال بينه وبين حرصه على الفعل مانع، كأن يمشي إلى امرأة ليزني بها مثلًا فيجد الباب مغلقًا، ويتعسر فتحه، ومثله من تمكن من الزنى مثلًا فلم ينتشر أو طرقه ما يخاف من أذاه عاجلًا، ووقع في حديث أبي كَبْشة الأنْماريّ ما قد يعارض ظاهر حديث الباب، وهو ما

أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه بلفظ: "إنّما الدُّنيا لأربعة" فذكر الحديث وفيه: "وعَبْدٌ رزقه الله مالًا ولم يرزقه علمًا، فهو يعمل في ماله بغير علم لا يتقي فيه ربه، ولا يَصِلُ فيه رَحِمَه، ولا يرى لله فيه حقا، فهذا بأخبث المنازل، ورجل لم يرزُقهُ الله مالًا ولا علمًا، فهو يقول: لو أنّ لي مالًا لعملت فيه بعمل فلان، فهما في الوزر سواء" فقيل: الجمع بين الحديثين بالتنزيل على حالتين، فتحمل الحالة الأولى على من هم بالمعصية هما مجردًا من غير تصميم، والحالة الثانية على من صمم على ذلك وأصَرَّ عليه، وهو موافِق لما ذهب إليه البَاقِلّاني وغيره. قال المازَرِيّ: ذهب ابن الباقلّاني ومن تبعه إلى أن من عَزَمَ على المعصية بقلبه ووَطَّن عليها نفسه أنه يأثم, وحمل الأحاديث الواردة في العفو عمن هم بسيئة على الخاطر الذي يمرُّ بالقلب، ولا يستقرُّ. قال المازَرِيّ: وخالفه كثير من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين، ونُقِل ذلك عن نَصِّ الشافعِيّ. ويؤيده ما أخرجه مسلم عن أبي هُريرة بلفظ: "فأنا أغفرها له ما لم يعملها" فإن الظاهر أن المراد بالعمل هنا عمل الجوارح بالمعصية المهموم بها، وتعقبه عِياض بأن عامة السلف وأهل العلم على ما قال ابن الباقِلّانيّ لاتفاقهم على المؤاخذة بأفعال القلوب، لكنهم قالوا: إن العزم على السيئة يكتب سيئة مجردة لا السيئة التي هم أن يعملها، كمن يأمر بتحصيل معصية ثم لا يفعلها بعد حصولها فإّنه يأثم بالأمر المذكور لا بالمعصية، ويدل على ذلك حديث: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار" الخ. فإنه يعاقب على عزمه بمقدار ما يستحقه، ولا يُعاقب عقاب من باشر بالقتل حِسًّا، ويأتي الكلام مستوفىً على هذا الحديث قريبًا. وهنا قسم آخر، وهو من فعل المعصية ولم يَتُب منها، ثم هَمَّ أن يعود إليها، فإنه يُعاقب على الإِصرار كما جَزَمَ به ابن المبارك وغيره في تفسير قوله تعالى: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا} [آل عمران: 135] ويؤيده أن الإِصرار معصية اتفاقًا، فَمن عزم على المعصية وصمم عليها كتبت عليه سيئة، فإذا عملها كتبت معصية ثانية، قال النَّوَويّ: وهذا ظاهر حسن لا

مزيد عليه، وقد تظاهرت نصوص الشريعة بالمؤاخذة على عزم القلب المستقر، كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} [النور: 19] وقوله: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} [الحجرات: 12] وقوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] وغير ذلك. وقال ابن الجَوْزيّ: إذا حدث نفسه بالمعصية لم يؤاخذ، فإن عزم وصمم زاد على حديث النفس، وهو من عمل القلب، قال: والدليل على التفريق بين الهَمِّ والعزم أن من كان في الصلاة فوقع في خاطره أن يقطعها لم تنقطع، فإن صَمَّم على قطعها بَطَلت وأجيب عن القول الأول بأن المؤاخذة على أعمال القلوب المستقلة بالمعصية لا تستلزم المؤاخذة على عمل القلب بقصد معصية الجارحة إذا لم يعمل المقصود، للفرق بين ما هو بالقصد وما هو بالوسيلة، وقسم بعضهم ما يقع في النفس أقساما، أضعفها أن يَخْطُر له ثم يذهبَ في الحال، وهذا من الوسوسة، وهو مَعْفُوٌّ عنه، وهو دون التردد، وفوقه أن يتردد فيه، فيهتم به، ثم ينفر عنه فيتركه، ثم يَهِمُّ به ثم يترك كذلك ولا يستمر على قصده، وهذا هو التردد، فيعفى عنه أيضًا، وفوقه أن يميل إليه ولا ينفر عنه، لكن لا يصمم على فعله، وهذا هو الهم فيعفى عنه أيضًا، وفوقه أن يميل إليه ولا ينفر منه، بل يصمم على فعله، وهذا هو العزم، وهو منتهى الهم، وهو على قسمين: القسم الأول أن يكون من أعمال القلوب صِرْفًا، كالشك في الوحدانية أو النبوة أو البعث، فهذا كفر، ودونه المعصية التي لا تصل إلى الكفر كمن يحب ما يبغض الله، ويبغض ما يحب الله، ويحب للمسلم الأذى بغير موجب لذلك، فهذا يأثم ويلتحق به الكِبْر والعجب والبغي والمكر والحسد، وفي بعض هذا خلاف، فعن الحسن البصري: إن سوء الظن بالمسلم وحسده معفو عنه، وحَمَلَه على ما يقع في النفس مما لا يُقْدَرُ على دفعه، لكن من يقع له ذلك مأمور بمجاهدة النفس على تركه، والقسم الثاني أن يكون من أعمال الجوارح كالزنى والسرقة، فهو الذي وقع

فيه النزاع، فذهبت طائفة إلى عدم المؤاخذة بذلك أصلًا، ونقل عن نص الشافعي، ويؤيده ما وقع في حديث خُرَيْم بن فاتِك المنبه عليه قبل، فإنه حيث ذكر الهم بالحسنة قال: "يعلم الله أنه قد أشعرها قلبه، وحرص عليها" وحيث ذكر الهم بالسيئة لم يقيد بشيء بل قال فيه: "ومن هم بالسيئة لم تكتب عليه" والمقام مقام الفضل، فلا يَليق التحجير فيه، وذهب كثير من العلماء إلى المؤاخذة بالعزم المصمم، وسأل ابن المبارك سفيان الثوري: أيؤاخذ العبد بما يَهتُم به؟ قال: إذا جزم بذلك، واستدل كثير منهم بقوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] وحملوا حديث أبي هُريرة الصحيح المرفوع: "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تتكلم" على الخطرات كما مرَّ، ثم افترق هؤلاء، فقالت طائفة: يعاقب عليه صاحبه في الدنيا خاصة بنحو الهم والغم، وقالت طائفة: يعاقب عليه في الآخرة لكن بالعتاب، واستدلوا بحديث النجوى، وقال السُّبكي الكبير: والعزم وهو قوة ذلك القصد أو الجزم ورفع التردد. قال المحققون: يؤاخذ به، وقال بعضهم: لا، واحتج بقول أهل اللغة: هَمَّ بالشيء عزم عليه، وهذا لا يكفي، قال: ومن أدلة الأول إذا التقى المسلمان بسيفيهما ففيه: "إنه كان حريصًا على قتل صاحبه" فَعَلَّلَ بالحرص، واحتج بعضهم بأعمال القلوب، ولا حجة معه, لأنها على قسمين: أحدهما لا يتعلق بفعل خارجي وليس البحث فيه، والثاني يتعلق بالملتقيين عزم كل منهما على قتل صاحبه واقترن بعزمه فعل بعض ما عزم عليه، وهو شهر السلاح، وإشارته به إلى الآخر، فهذا الفعل يؤاخذ به، سواء حصل القتل أو لم يحصُل. واستثنى جماعة ممن ذهب إلى عدم مؤاخذة من وقع منه الهم بالمعصية ما وقع في الحرم المكي ولو لم يصمم، لقوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] ذكره السُّدّي في "تفسيره" عن ابن مسعود، وأخرجه أحمد من طريقه مرفوعًا، ومنهم من رجحه موقوفًا، ويؤيد ذلك أن الحرم يجب اعتقاد تعظيمه، فمن هم

بالمعصية فيه خالف الواجب بانتهاك حرمته، وتعقب هذا بأن تعظيم الله آكد من تعظيم الحرم، ومع ذلك من هم بمعصية لا يؤاخذه، فكيف يؤاخذ بما دونه؟ وأجيب عن هذا بأن انتهاك حرمة الحرم بالمعصية مستلزم انتهاك حرمة الله تعالى، لأن تعظيم الحرم من تعظيم الله تعالى، فصارت المعصية في الحرم أشد من المعصية في غيره، وإن اشترك الجميع في ترك تعظيم الله تعالى، نعم من هم بالمعصية قاصدًا الاستخفاف بالحرم عصى، ومن هم بمعصية الله قاصدًا الاستخفاف بالله كفر، وإنما المعفو عنه من هم بمعصية ذاهلًا عن قصد الاستخفاف، وقوله في حسنة ترك المعصية: "حسنة كاملة"، المراد بالكمال فيها عظم القدر لا التضعيف، لأنه خاص بحسنة العمل بالجوارح كما مر، وقوله في الحديث المار: "كتبها الله سيئة واحدة" زاد مسلم عن أبي ذَرّ: "فجزاؤه بمثلها، أو أغفر" وفي حديث ابن عباس عنده: "أو يمحوها" والمعنى أن الله يمحوها بالفضل أو بالتوبة أو بالاستغفار أو بعمل الحسنة التي تكفرها، والأول أشبه لظاهر حديث أبي ذر، ويستفاد من التأكيد بقوله: "واحدة" أن السيئة لا تضاعف كما تضاعف الحسنة، وهو على وفق قوله تعالى: {فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} [الأنعام: 160] وذكر ابن عبد السلام في "أماليه" أن فائدة التأكيد دفع توهم من يظن أنه إذا عمل السيئة كتب عليه سيئة العمل، وأضيفت إليها سيئة الهم، وليس كذلك، إنما يكتب عليه سيئة واحدة، واستثنى بعض العلماء وقوع المعصية في الحرم المكي، قال إسحاق بن منصور: قلت لأحمد: هل ورد في شيء من الحديث أن السيئة تكتب بأكثر من واحدة؟ قال: لا ما سمعت إلا بمكة لتعظيم البلد، والجمهور على التعميم في الأزمنة والأمكنة، لكن قد يتفاوت بالعظم، ولا يرد على ذلك قوله تعالى: {مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30] لأن ذلك ورد تعظيمًا لحق النبي - صلى الله عليه وسلم - , لأن وقوع ذلك من نسائه يقتضي أمرًا زائدًا على الفاحشة، وهو أذى النبي - صلى الله عليه وسلم -. هذا ملخص ما قيل في هذه المسألة.

الحديث الثالث عشر

الحديث الثالث عشر 20 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ البيكَنْديّ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَمَرَهُمْ أَمَرَهُمْ مِنَ الأَعْمَالِ بِمَا يُطِيقُونَ قَالُوا: إِنَّا لَسْنَا كَهَيْئَتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ. فَيَغْضَبُ حَتَّى يُعْرَفَ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ ثُمَّ يَقُولُ: «إِنَّ أَتْقَاكُمْ وَأَعْلَمَكُمْ بِاللَّهِ أَنَا». وقوله: "إذا أمرهم أمرهم من الأعمال بما يُطيقون" في معظم الروايات تكرير أمرهم، والمعنى حينئذٍ كان إذا أمرهم بعمل من الأعمال أمرهم بما يطيقون الدوام عليه، فأمرهم الثانية جواب الشرط، وقالوا: جواب ثانٍ، وفي بعض الروايات أمرهم مرة واحدة، والمعنى كان إذا أمرهم بما يَسْهُلُ عليهم دون ما يَشُقُ، خشية أن يعجِزوا عن الدوام عليه، وعمل هو بنظير ما أمرهم به من التخفيف، طلبوا منه التكليف بما يَشُقُّ لاعتقادهم احتياجهم إلى المبالغة في العمل لرفع الدرجات دونه، فيقولون: لسنا كهيئتك، فيغضب من جهة أن حصول الدرجات لا يوجب التقصير في العمل بل يوجب الازدياد شكرًا للمنعم الوهاب، كما قال في الحديث: "أفَلا أكُونُ عبدًا شكورًا" وإنما أمرهم بما يسهل عليهم ليداوموا عليه، كما قال في الحديث الآخر: "أحب العمل إلى الله أدومُهُ". وقوله: "لسنا كهيئتك" الهَيئة -بفتح الهاء- الحالة والصورة، أي ليس حالنا كحالك، فَحُذِف الحال، وأقيم المضاف إليه مقامه، فاتصل الفعل بالضمير، فقيل: لسنا كهيئتك. وقوله: "إن الله قد غَفَر لك ما تقَدَّم من ذنبك وما تأخر" أي: حال بينك

وبين الذنوب فلا تأتيها، لأن الغفر الستر، وهو إما بين الذنب والعبد، وإما بين الذنب وعقوبته، واللائق بالأنبياء الأول، وبأممهم الثاني، قيل: المراد ترك الأولى والأفضل بالعدول إلى الفاضل، وترك الأفضل كأنه ذنب لجلالة قدر الأنبياء، وهذا من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين، وقيل: المتقدم ما قبل النبوة، والمتأخر العصمة، وقيل: ما وقع عن سهو أو تأويل، وقيل: المتقدم ذنب آدم، والمتأخر ذنب أمته، وقيل: المعنى أنه مغفور له غير مؤاخذ لو وقع منه. وقوله: "ثم يقول إنَّ أتقاكم وأعلمكم بالله أنا" يقول بالرفع عطف على يغضب، وأتقاكم اسم إن، وتاليه عطف عليه، وأنا خبره، كأنهم قالوا: أنت مغفور لك لا تحتاج إلى عمل، ومع ذلك تواظب على العمل، فكيف بنا مع كثرة ذنوبنا؟ فرد عليهم بقوله: أنا أولى بالعمل لأني أتقاكم وأعلمكم بالله، فجمع بين القوة العملية والقوة العلمية، أشار بالأول إلى كماله عليه الصلاة والسلام في القوة العملية، وبالثاني إلى القوة العلمية، ووقع عند أبي نُعَيْم: "وأعلمكم بالله لأنا" بزيادة لام التأكيد، وفي رواية الإِسماعيلي: "والله إن أبركم وأتقاكم أنا" ويستفاد منه إقامة الضمير المنفصل مقام المتصل، وهو ممنوع عند أكثر النحاة إلا لضرورة، وأوَّلوا قول الشاعر: وإنّما يُدَافِعُ عَنْ أحْسابهم أنا أوْ مِثْلي بأن الاستثناء مقدر، أي: وما يدافع عن أحسابهم إلا أنا. قال بعض الشراح: والذي وقع في هذا الحديث يشهد للجواز بلا ضرورة، فإن قيل: السياق يقتضي تفضيله على المخاطبين فيما ذكر، وليس هو منهم قطعًا، وشرط أفعل التفضيل إذا كان منويًّا في إضافته معنى من أن يكون جزءًا مما أضيف إليه، والأمر هنا ليس كذلك، وأجيب بأنه إنما قصد التفضيل على من سواه مطلقًا لا على المضاف إليه وحده، والإِضافة لمجرد التوضيح، فما ذكر من الشرط هنا لاغ، إذ يجوز في هذا

وفي هذا الحديث فوائد

المعنى أن تضيفه إلى جماعة هو أحدهم نحو: نبينا عليه الصلاة والسلام أفضل قريش، وأن تضيفه إلى جماعة من جنسه ليس داخلًا فيهم، نحو يوسف أحسن إخوته، وأن تضيفه إلى غير جماعة نحو فلان أعلم بغداد، أي: أعلم ممن سواه، وهو مختص ببغداد، لأنها مسكنه ومنشؤه. وفي هذا الحديث فوائد: الأولى: أن الأعمال الصالحة تُرقّي صاحبها إلى المراتب السنية، من رفع الدرجات، ومحو الخطيئات، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر عليهم استدلالهم ولا تعليلهم من هذه الجهة، بل من جهة أخرى. الثانية: أن العبد إذا بَلَغَ الغاية في العبادة وثمراتها، كان ذلك أدعى له إلى المواظبة عليها استبقاء للنعمة واستزادةً لها بالشكر عليها. الثالثة: الوقوف عند ما حدّ الشارع من عزيمةٍ ورخصةٍ، واعتقاد أن الأخذِ بالأرفق الموافق للشرع أولى من الأشق المخالف له. الرابعة: أن الأولى من العبادة القصد والملازمة لا المبالغة المُفْضية إلى الترك، كما جاء في الحديث الآخر: "المُنْبَتُّ -أي المجد في السير- لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى". الخامسة: التنبيه على شدة رغبة الصحابة في العبادة، وطلبهم الازدياد من الخير. السادسة: مشروعية الغضب عن مخالفة الأمر الشرعي والإِنكار على الحاذق المتأهل لفهم المعنى إذا قصر في الفهم تحريضًا له على التيقظ. السابعة: جواز تحدث المرء بما فيه من فضل بحسب الحاجة لذلك عند الأمن من المباهاة والتعاظم. الثامنة: بيان أن لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم رتبة الكمال الإِنساني، لأنه منحصر في الحكمتين العلمية والعملية، وقد أشار إلى

رجاله خمسة

الأولى بقوله: "أعلمكم" وإلى الثانية بقوله "أتقاكم". رجاله خمسة: الأول: محمَّد بن سَلَام بن الفَرَج السُّلَمي مولاهم البُخاري أبو عبد الله البِيكَنْدِيّ الكبير، محدث ما وراء النهر. قال يحيى بن يحيى: بخراسان كنزان، كنز عند محمَّد بن سَلَام، وكنز عند إسحاق بن راهوية. وقال سهل بن المتوكل: سمعت محمَّد بن سَلَام يقول: أنفقت في طلب العلم أربعين ألفًا، ومثلها في نشره، وانكسر قلمه يومًا في مجلس شيخه، فأمر أن يُنادى قلم بدينار، فتطايرت إليه الأقلام. وقال سهل بن المتوكل كان محمَّد بن سَلام من كبار المحدثين، وكان بينه وبين أبي حَفْص أحمد بن حفص مودة مع المخالفة في المذهب. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال علي بن الحسن: جاء شيخ إلى ابن سلام، فقال: يا أبا عبد الله، أنا رسول ملك الجنِّ إليك، يقرأ عليك السلام، ويقول لك: لا يكون لك مجلس يجتمع إليك الناس وإن كَثُرُوا، إلا يكون منا في مجلسك أكثر من مثلهم. قال محمَّد بن يعقوب: هذه الحكاية عندنا مستفيضة. وعن سهل بن المتوكل قال: قلت لأحمد بن حنبل: حدثني، فقال: من أين أنت؟ قلت: من بخارى، فقال: ألم تسمع من محمَّد بن سَلَام ما يكفيك؟ وعن علي بن الحسن قال: سمعت محمَّد بن سلام يقول: أدركت مالك بن أنس، فإذا الناس يقرؤون عليه، فلذلك لم أسمع منه شيئًا، وكان أحمد يعظمه. وروى عنه عُبيد بن شُرَيْح أنه قال: أحفظ نحو خمس آلاف حديث، وله حديث كثير ورحلة ومصنفات في كل أبواب العلم. وقال أبو حاتم: ثقة صدوق. وقال ابن ماكولا: كان ثقة. روى عن: أبي إسحاق الفَزارِيّ، ومالك، وعبد الله بن إدريس وهُشَيم، ومروان بن معاوية، وابن المبارك، وعبد الأعلى بن عبد الأعلى، وإسماعيل بن عُليّة، وأخيه ربعيّ بن عُليّة، ومُعْتَمِر بن

سليمان، ووكيع، وغيرهم. وروى عنه: البخاريُّ، وابنه إبراهيم بن محمَّد بن سَلام، ومحمد بن نَهْشَل المؤدب، وعبد الله بن عبد الرحمن الدّارِمِيّ، ومحمد بن علي بن حَمْزة، وغيرهم. ولد محمَّد بن سَلَام في السنة التي مات فيها الثَّوْريّ، ومات في صفر سنة سبع وعشرين ومئتين وله خمس وستون سنه. وانفرد البخاري به عن الستة. وفي غير الستة محمَّد بن سَلَام بن السَّكن البيكنْدِيّ الصغير, روى عن أبي العلاء الحَسَنُ بن سَوّار، وعلي بن الجَعْد. وروى عنه عُبيد الله ابن واصِل البِيكَنْديّ، مات بمصر. وفي غير الستة أيضًا محمَّد بن سلام شيخ، روى عن إبراهيم بن بشار الرَّمادِيّ، وروى عنه أبو العبّاس السّرّاج في "تاريخه" وقال صدوق. واعلم أن سلامًا والد محمَّد بن سلام المذكور بالتخفيف على الصواب، وبه قطع المحققون، وذكره غُنْجار في "تاريخ بُخارى" وهو أعلم ببلده، وروى عنه سَهْل بن المتوكل أنه قال: أنا محمَّد بن سَلام بالتخفيف وليس بالتشديد، وذكر بعض الحفاظ أن تشديده لَحْن، وأما قول صاحب "المطالع": أن التشديد رواية الأكثر، فلعله أراد أكثر شيوخ بلده، قال النووي: لا يُوافق على هذه الدّعوى، فإنها مخالفة للمشهور، وأشار العراقي إلى جميع المخفف اللام من سلام بقوله: نحو سلام كله فَثَقِّلِ ... لا ابن سلام الحبر والمعتزلي أبا علي فهو خِفُّ الجد ... وهو الأصح في أبي البيكنْدِيّ وابن أبي الحقيق وابن مِشْكم ... والأشهر التشديد فيه فاعلم وابن محمد بن ناهض فخِفّ ... أو زده هاء فكذا فيه اختُلِفْ قلت وللحبر ابن أخت خفف ... كذاك جد السيدي والنسفي

واعترض ابن حَجَر تشهير العراقي التشديد في سَلام بن مشْكم -بتثليث الميم وفتح الكاف- بأن الوارد في الشعر الذي هو ديوان العرب تخفيضه، وكونه للضرورة خلاف الأصل، لا سيما مع تكرره، والمراد بالمعتزلي أبو علي الجُبّائيّ الذي هو محمَّد بن عبد الوهاب بن سلام، والمراد بالسيد سعد بن جعفر بن سلام، والمراد بالنَّسفِيّ أبو نصر محمَّد ابن يعقوب بن إسحاق بن محمَّد بن موسى بن سلام. والسُّلَميّ في نسبه بضم السين، وفتح اللام نسبة إلى سُلَيم كزبير، وهو أبو قبيلة من قَيْس عَيلان، سُليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة، والثاني في الأزد سُليم بن بهم بن غنم بن دَوْس، ومر في الحديث الرابع من بدء الوحي الكلام على السَّلَميّ بفتح السين وضمها. والبِيكَنْديّ في نسبه -بكسر الباء الموحدة ثم ياء آخر الحروف ساكنة ثم كاف مفتوحة ثم نون ساكنة- نسبة إلى بيكَنْد بلدة من بلاد بُخارى، على مرحلة منها، خربت، ويقال: الباكِنْديّ أيضًا، ويقال: الفاكِنديّ ينسب إليها ثلاثة أنفس، انفرد بهم البخاري، أحدهم: محمَّد بن سلام هذا، والثاني: محمَّد بن يُوسف، والثالث: يحيى بن جَعفر الكِلَابي منسوب إلى كلاب بن ربيعة بن عامر بن صَعْصعة بن قَيس عَيْلان. الثاني: عَبدة -بسكون الباء- ابن سُليمان بن حاجِب بن زُرارة بن عبد الرحمن بن صُرَد بن سمير بن مليل بن عبد الله بن أبي بكر بن كلاب أبو محمَّد الكِلابِيّ الكُوفي، وقيل: اسمه عبد الرحمن، وعَبدة لقبه، أدرك صُرَد الإِسلام وأسلم. قال العِجليّ: ثقة، رجل صالح، صاحب قرآن. وقال أحمد: ثقة ثقة وزيادة، مع صلاح في بدنه، وكان شديد الفقر. وقال عثمان الدّارميّ: قلت لابن مَعين: أبو أسامة أحب إليك أو عَبْدة بن سُليمان؟ قال: ما منهما إلا ثقة. وقال ابن سَعد: كان ثقة، وذكره ابن حِبّان في "الثقات"، وقال: مستقيم الحديث جدًّا. وقال ابن أبي حاتم: سُئل

أبي وأبو زُرْعَة عن عَبْدة ويونس بن بُكَيْر وسلمة بن الفَضْل: أيُّهم أحب إليك في ابن إسحاق؟ قالا: عَبْدة بن سُليمان. وقال عُثمان بن أبي شَيْبة: ثقةٌ مسلمٌ صدوق. وقال الدَّارَقُطني: ثقة. روى عن إسماعيل بن أبي خالد، ويحيى بن سعيد الأَنْصارِيّ، وعاصم الأَحْول، وهشام بن عُروة، والأَعْمش، والثَّوْريّ، وأبي إسحاق، وطلحة بن يحيى بن طلحة، وسعيد بن أبي عَروبة، وغيرهم. وروى عنه: أحمد، وإسحاق، وابنا أبي شَيبْة، وإبراهيم بن موسى الرّازيّ، ومحمد بن سَلام البيْكَنْديّ، وأبو كُرَيْب محمَّد بن العَلاء، وأبو سعيد الأَشَجّ، وهنّاد بن السَّرِيّ، وغيرهم. مات بالكوفة في رجب، وقيل: في جُمادى الثانية سنة ثمان وثمانين ومئة، وقيل: سنة سبع. وفي الستة عَبْدة بن سُليمان المَرْوَزِيّ أبو محمَّد صاحب ابن المُبارك المصّيصِيّ مات سنة تسع وثلاثين ومئتين. وفي غير الستة: عَبدة بن سليمان بن بكر البصْريّ أبو سهل، مات بمصر سنة ثلاث وسبعين ومئتين، وأما عبدة فنحو سبعة. والكِلابِي في نسبه نسبة إلى كِلاب بن رَبيعة بن عامر بن صَعْصعة من قَيْس عيلان، وفيه المثل: ثَوْرُ كلابٍ في الرِّهان أقْعَد، وفي قُريش كلاب ابن مُرة. والثالث: هِشام بن عُروة. والرابع: أبو عُروة. والخامس: أم المؤمنين عائشة، وقد مروا في الثاني من بدء الوحي. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والإِخبار والعنعنة، والإِخبار في

باب من كره أن يعود في الكفر كما يكره أن يلقى في النار من الإيمان

قوله: أخبرنا سليمان، وفي رواية الأصيلي: حدثنا، وسنده مشتمل على بُخَاريّ، ومَدَني، وكوفي، ورواته أئمّة أجلّاء. وهذا الحديث من أفراد البُخارِيّ عن مسلم، وهو من غرائب الصحيح، لم يُعرف إلا من هذا الوجه، وهو مشهورٌ عن هشام، فرد مطلق من حديثه عن أبيه، عن عائشة. باب من كره أن يعود في الكفر كما يكره أن يُلقى في النار من الإِيمان سقط لفظ باب عند الأصيليّ، ويجوز فيه التنوين والإِضافة إلى تاليه، وعلى كل حال فمَن مبتدأ، ومن الإِيمان خبره، وأن في الموضعين مصدرية، وكذا ما ومَن موصولة. وجرى المصنف على عادته في التبويب على ما يُستفاد من المَتْن مع مُغايرة الإِسناد هُنا إلى أنس، وبمغايرة السند وألفاظ من المتن سأبينها، يعلم أنه لا تكرير في سياقه له هنا.

الحديث الرابع عشر

الحديث الرابع عشر 21 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ، مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَمَنْ أَحَبَّ عَبْدًا لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ، وَمَنْ يَكْرَهُ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ». وقوله: "من أحب عبدًا" في الرواية السابقة في باب حلاوة الإِيمان: "أن يُحبَّ المرء". وقوله: "كما يكره أن يُلقى في النار" في الرواية السابقة: "وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار" ومَن في المواضع الثلاثة موصولة، بخلاف التي بعد ثلاث فإنها شرطية. ومرّ عند الحديث السابق أن هذه الحلاوة هل هي محسوسة أو معنوية، ويشهد للأول قول بلال: أحد أحد حين عُذِّب في الله إكراهًا على الكفر، فمزج مرارة العذاب بحلاوة الإِيمان، وعند موته كان أهله يقولون: واكرباه، وهو يقول: واطرباه، غدًا ألقى الأحبة محمدًا وصحبه، فمزج مرارة الموت بحلاوة اللقاء، وهي حلاوة الإِيمان، فالقلب السليم من أمراض الغفلة والهوى يذوق طعم الإِيمان، ويتنعم به، كما يذوق الفم طعم العسل وغيره من الملذوذات ويتنعم بها، وقد مرّ الكلام على هذا الحديث في باب حلاوة الإِيمان مستوفى، فلا حاجة إلى إعادته هنا. رجاله أربعة: الأول: سليمان بن حَرْب بن نَجِيل كأمير، أبو أيوب الأزْدِيّ الواشِحِيّ سكن مكة، وكان قاضيها.

قال أبو حاتم: إمام من الأئمة، لا يُدَلِّس، ويتكلم في الرجال والفقه، وليس بدون عفان، ولعله أكبر منه، وظهر من حديثه نحو عشرة آلاف حديث، ما رأيت في يده كتابًا قط، وهو إلي أحب من أبي سَلَمة في حماد بن سلمة، وفي كل شيء، ولقد حضرت مجلسه ببغداد فحزروا من حَضَر مجلسه فوجدوه أربعين ألف رجل، فأتينا عفان، فقال: ما حدثكم أبو أيوب؟ فإذا هو يعظِّمُهُ. وقال النَّسائي: ثقة مأمون. وقال أبو حاتم: كان سُليمان بن حَرْب قَلَّ من يرضى من المشايخ، فإذا رأيته روى عن شيخ فاعلم أنه ثقة. وقال يَعْقوب بن سفيان: سمعت سُليمان بن حَرْب يقول: طلبت الحديث سنة سبع وخمسين. ولزمت حَمَّاد بن زيد تسع عشرة سنة، وسمعته يقول: أعقِل موتَ ابن عَوْف. وقال يحيى بن أكْثَم: قال لي المأمون: من تركت بالبصرة؟ فوصفت له مشايخ منهم سليمان بن حَرْب، وقلت: هو ثقة حافظ للحديث، عاقل في نهاية الستر والصيانة، فأمرني بحمله إليه، فكتبت إليه في ذلك، فقدم، وولاه قضاء مكة، فخرج إليها، وكان عليها، فلم يزل كذلك إلى أن عُزِل بعد خمس سنين. وقال أحمد: كتبنا عن سُليمان بن حَرْب وابن عُيَيْنَة حي. وقال يَعْقوب بن شَيْبة: حدثنا سُليمان بن حَرْب، وكان ثقة ثبتًا صاحب حفظ. وقال ابن خِراش: كان ثقة. وقال ابن سَعْد: كان ثقة كثير الحديث. وذكره ابن حِبّان في "الثقات" وقال ابن قانع: ثقة مأمون. وقال أبو داود: كان سُليمان بن حَرْب يُحدث بالحديث، ثم يُحدث به كأنه ليس بذلك. وقال الخطيب: كان يروي على المعنى، فيغير ألفاظه. وقال ابن عَدِي: كان يغسل الموتى، وكان خيِّرًا فاضلًا، روى عنه البخاري مئة وسبعة وعشرين حديثًا. روى عن: شُعبة، ومحمد بن طَلحة بن مُصَرِّف، ووُهَيب بن خالد، والحمادَيْن، وجرير بن حازم، وسلام بن أبي مُطيع، ومبارك بن فُضالة، وغيرهم. وروى عنه: البُخاري، وأبو داود، وروى الباقون له بواسطة أبي بكر

باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال

ابن أبي شَيْبة، وأبي داود سليمان بن مَعْبَد السِّنْجيّ. وروى عنه: إسحاق بن راهوية، وعَمرو بن علي الفَلّاس، وهارون الحَمّال، ويحيى القَطّان، وهو أكبر منه، والحُميْديّ ومات قبله، وأبو زُرعة، وأبو حاتم، وأبو مسلم الكُجّيّ، وغيرهم. رجع إلى البصرة بعد أن عُزل عن قضاء مكة، ولم يزل بها حتى مات لأربع ليال بقين من شهر ربيع الآخر سنة أربع وعشرين ومئتين. وليس في الستة سليمان بن حرب سواه، وأما سُليمان فكثير. والواشِحِيّ في نسبه نسبة إلى واشِح بطن من الأزْد من اليمن، نزلوا البصرة، وهم بنو واشِح بن الحارِث. ومرّ الكلام على الأزْدي في الثالث من بدء الوحي. الثاني: شعبة. والثالث: قتادة. والرابع: أنس بن مالك وقد مرُّوا في السادس من هذا الكتاب، إلا شعبة فقد مرّ في الثالث منه. لطائف إسناده: منها أنهم كلهم بصريون، وهو أحد ضروب علو الرواية، ومرّ الكلام على محل إخراجه في التاسع من هذا الكتاب. باب تفاضل أهل الإِيمان في الأعمال لما ذكر الحديث المتضمن للخصال الثلاث، والناس متفاوتون فيها، وبالتفاوت يحصُلُ التفاضل في الأعمال شَرَعَ يذْكُرُ تفاضلَ الأعمال، ولفظ باب ساقط عن الأصِيليّ، وفي ظرفية، ويحتمل أن تكون سببية، أي التفاضل بسبب الأعمال.

الحديث الخامس عشر

الحديث الخامس عشر 22 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَخْرِجُوا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَيُخْرَجُونَ مِنْهَا قَدِ اسْوَدُّوا فَيُلْقَوْنَ فِى نَهَرِ الْحَيَاء -أَوِ الْحَيَاةِ شَكَّ مَالِكٌ- فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي جَانِبِ السَّيْلِ أَلَمْ تَرَ أَنَّهَا تَخْرُجُ صَفْرَاءَ مُلْتَوِيَةً». وهذا الحديث وافق إسماعيل على روايته عبد الله بن وَهب ومعنُ بن عيسى عن مالك، وأخرجه المؤلف أيضًا عن غيره، فانجبر اللين الذي في إسماعيل. وقوله: "يدخل أهل الجنة الجنة" عبر فيه بالمضارع العاري عن سين الاستقبال، المتمحض للحال، لتحقق وقوع الإِدخال، وفي رواية الدَّارَقُطنيّ: "يُدْخِلُ الله" وفي رواية له وللاسماعيليّ: "يُدخِلُ من يشاء برحمته". وقوله: "أخرِجوا" بهمزة قطع من الإِخراج، وفي رواية زيادة: "من النار". وقوله: "مثقال حَبة" بفتح الحاء، وهو إشارة إلى ما لا أقلَّ منه. قال الخَطّابي: هو مَثَلٌ، ليكون عيارًا في المعرفة لا في الوزن، لأن ما يُشْكِل في المعقول يُرَدُّ إلى المحسوس ليُفهم. وقال إمام الحرمين: إن الوزن للصحف المشتملة على الأعمال، ويقع وزنها على قدر أجور الأعمال.

وقال غيره: يجوز أن تُجسّد الأعراض فتوزن، وما ثبت من أمور الآخرة بالشرع لا دخل للعقل فيه، والمراد بحبة الخردل هُنا ما زاد من الأعمال على أصل التوحيد، لقوله في الرواية الأُخرى: "أخرجوا من قال: لا إله إلا الله، وعمل من الخير ما يَزِنُ ذرَّةً". وقوله: "من خَرْدل من إيمان" أي: بالتنكير ليفيد التقليل, وفي رواية من الإِيمان بالتعريف، وقد استنبط الغَزّالي من قوله: "أخرِجوا من النار من كان في قلبه" إلخ، نجاة من أيقن بالإِيمان، وحال بينه وبين النطق به الموت، قال: وأما مَنْ قَدَرَ على النُّطْق، ولم يفعل حتى مات مع إيقانه بالإِيمان بقلبه، فيحتمل أن يكون امتناعه منه بمنزلة امتناعه عن الصلاة، فلا يُخَلَّدُ في النار، ويحتمل خلافه، ورَجَّحَ غيرُه الثاني فيحتاج إلى تأويل قوله: "في قلبه" فيقدر فيه محذوف تقديره منضمًا إلى النُّطق به مع القدرة عليه، ومنشأ الاحتمالين الخلاف في أن النطق بالإِيمان شطرٌ، فلا يتم الإِيمان إلا به، وهو مذهب جماعة من العلماء، واختاره الإِمام شمس الدين وفخر الإِسلام، أو شرطٌ لإِجراء الأحكام الدنيوية فقط، وهو مذهب جمهور المحققين، وهو اختيار الشيخ أبي منصور، والنصوص معاضِدةٌ لذلك، ونظم صاحب المراصد ما قيل في هذه المسألة بقوله: فإنْ يَكُن ذُو النُّطقِ مِنهُ ما اتَّفَق ... فَإنْ يَكُن عَجْزًا يَكُن كَمن نَطَقْ وإنْ يَكُن ذلك عَنْ إبَاءِ ... فحُكْمُهُ الكُفر بِلَا امْترَاء وإنْ يَكُن عَن غَفلةٍ فَكَالإِبا ... وذَا الّذي حَكَى عِياضٌ مَذْهَبَا وقيلَ كالنُّطقِ ولِلجمهُورِ ... نُسبَ والشَّيخ أبي مَنصُورِ وذَيَّلها شيخنا أحمد بن مُحمد بن محمَّد سالم بقوله: وذلك التَّفصيلُ قطعًا عُهدَا ... تَخْصيصُه بِمنْ بكُفرٍ وُلِدا أمّا الّذي وُلِد في الإِسلام ... فهُوَ مُؤمِنٌ لَدَى الأعْلامِ وُجُوبُ نُطقهِ وجوبُ الفَرْع ... يعْصِي بِتركهِ فقط في الشَّرْع

وقوله: "قد اسودّوا" أي صاروا سودًا كالحمم من تأثير النار. وقوله: "فيُلْقون" -بضم الياء- مبني للمفعول. وقوله: "في نهر الحيا" رُوي بالقصر وهو المطر، وروي بالمد ولا معنى له، والمعنى على الأولى لأن المراد كل ما تحصُل به الحياة، وبالمطر تحصُل حياة الزرع، فهو ألْيق بمعنى الحياة من الحياء الممدود الذي معناه تغير وانكسار .. الخ ما مرّ، فإنه بعيد من المعنى المراد هنا. وقوله: "والحياة" بالمثناة الفوقية آخره، وهو النهر الذي مَن غُمِسَ فيه حَيِيَ. وقوله: "شكَّ مالك" في رواية: "يَشُكُّ" بالمثناة التحتية أوله، أي يشك في أيهما الرواية. وقوله: "فينبُتون كما تنبُتُ الحِبّةُ" أي بكسر المهملة وتشديد الموحِدة بَزْر العُشب الذي لا يُقتات، فاللام فيه للجنس، وتجمع على حِبَب بكسر الحاء كقِربة وقِرب، والحِبّة بالكسر جمع حَبَة بالفتح، والحبُّ القمح والشعير واحدته حبة بالفتح أيضًا، وإنما افترقا في الجمع، ويُحتمل أن تكون اللام للعهد، ويراد به حِبّة بقلة الحمقاء، لأن شأنه أن ينبُت سريعًا على جانب السيل فيُتلفَه السيل، ثم ينبُت فيتلِفه السبل، ولهذا سميت الحمقاء, لأنه لا تمييز لها في اختيار المنبَت، وتسمى الرِّجْلة -بكسر الراء وبالجيم- بقلة الحمقاء، لأنها لا تنبُت إلا في المسيل. وقوله: "في جانب السَّيْل" في رواية في حَميل السيل، وهو ما يحمِلُه السيل من طين ونحوه، فإذا اتفقت فيه الحِبّة، واستقرت على شَطِّ مجرى السيل، تنبُت في يوم وليلة، هي أسرع نابتة نباتًا. وقوله: "ألم تر" خطاب لكل من تتأتّى منه الرؤية، على حد قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ}.

رجاله خمسة

وقوله: "صفراء ملتوية" الصفرة تزيد في حسن النظر، وتسر الناظر, كما قال الله تعالى: {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} وملتوية أي منعطفة متثنية، وهذا مما يزيد الرياحين حسنًا باهتزازه وتميله، فالتشبيه من حيث الإِسراع والحسن، والمعنى مَنْ كان في قلبه مثقال حبة من الإِيمان يخرجُ من ذلك الماء نضِرًا متبخترًا كخروج هذه الرّيْحانة من جانب السيل صفراء متمايلة، وحينئذ فيتعين كون "ال" في الحِبّة للجنس، ووجه مطابقة هذا الحديث للترجمة ظاهر، وأراد بإيراده الرد على المُرجئة لما فيه من بيان ضرر المعاصي مع الإِيمان، وعلى المعتزلة في أن المعاصي موجبة للخلود في النّار، وسيأتي إن شاء الله تعالى مزيد في هذا الحديث، حيث أخرجه المؤلف في باب فضل السجود في صفة الصلاة. رجاله خمسة: الأول: إسماعيل بن عبد الله بن أبي أُوَيس بن مالك بن أبي عامر الأصْبَحيّ أبو عبد الله بن أبي أُوَيْس ابن أخت الإِمام مالك ونَسيبه، فأبو أويس عم الإِمام مالك بن أنس، فإن أنسًا، وأبا أُوَيْس، والربيع، وأبا سهيل نافعًا، أولاد مالك بن أبي عامر. قال أبو حاتم: محله الصدق وكان مغفلًا، وقال أحمد: لا بأس به وقال ابن مَعين: هو ووالده ضعيفان. وعنه: يسرقان الحديث. وعنه: ضعيف العقل. ليس بذلك، يعني أنه لا يحسن الحديث، ولا يعرف أن يؤديه أو يقرأ في غير كتابه. وعنه: مختلط يكذب، ليس بشيء. وعنه: يساوي فلسين. وعنه: لا بأس به. وقال النّسائي: ضعيف. وقال في موضع آخر: غير ثقة. وقال أبو القاسم اللّالَكَائِي: بالغ النسائي في الكلام عليه بما يؤدي إلى تركه، ولعله بان له ما لم يَبِن لغيره، لأن كلام هؤلاء كلهم يؤول إلى أنه ضعيف. وقال عبد الله بن عُبيد الله العبّاسي صاحب اليمن: إن إسماعيل ارْتَشَى من تاجر عشرين دينارًا، حتى باع له على الأمير ثوبًا يُساوي خمسين بمئة. وقال الدَّارَقُطنيّ: لا أختاره في الصحيح.

وقال الخليلي: إن أبا حاتم قال: كان ثبتًا في حاله، وفي "الكمال": إن أبا حاتم قال: كان من الثقات، وقال ابن عَدِيّ: روى عن خاله أحاديث غرائب لا يتابعه عليها أحد، وقد حدث عنه الناس، وأثنى عليه ابن مَعين، وأحمد، والبُخاري يحدث عنه الكثير، وهو خير من أبي أُويس. وقال سلمة بن شَبيب: سمعت إسماعيل بن أبي أُويس يقول: ربما كنت أضع الحديث لأهل المدينة إذا اختلفوا في شيء فيما بينهم. قال ابن حَجَر: ولعل هذا هو الذي بان للنسائي حتى ترك التحديث عنه، وأطلق القول فيه بأنه ليس بثقة، ولعل هذا كان من إسماعيل في شبيبته ثم صَلُح بعد ذلك، وأما الشيخان فلا يظن بهما أنهما أخرجا عنه إلا الصحيح من حديثه الذي شارك فيه الثقات، فاللين الذي فيه يُجبر إذًا. روى عن: أبيه وخاله فأكثر، وعن سَلمة بن وَردان، وابن أبي الزِّناد، وعبد العزيز الماجَشُون، وإسماعيل بن إبراهيم بن عُقبة، وغيرهم. وروى عنه: البخاري، ومسلم، وروى هما والباقون بواسطة، وروى عنه إسماعيل بن إسحاق القاضي، وأبو حاتم، وقُتيبة، ونَصر بن علي الجُهَنيّ، وخلق. مات في رجب سنة سبع وعشرين ومئتين. وليس في الستة إسماعيل بن أبي أويس سواه، وأما إسماعيل فكثير. الثاني: مالك بن أنس، وقد مرّ في الثاني من بدء الوحي. الثالث: عمرو بن يحيى بن عُمارة بن أبي حسن الأنْصاريّ المازني المدني، واسم أبي حسن تميم بن عمرو فيما قيل، وعمرو ابن بنت عبد الله بن زيد بن عاصم. وقال ابن عبد البر: كونه ابن بنت عبد الله بن زيد غَلط، وسببه ما في رواية مالك عن عمرو بن يحيى عن أبيه أن رجلًا سأل عبد الله بن زيد، وهو جد عمرو بن يحيى، فظنوا أن الضمير يعود على عبد الله، وليس كذلك، بل إنما يعود على الرجل، وهو عمرو بن أبي

حسن عم يحيى، وقيل له: جد عمرو بن يحيى تجوزًا, لأن العم صنو الأب، وأما عمرو بن يحيى فأُمه فيما ذكر ابن سَعْد في "الطبقات" حَميدة بنت محمَّد بن إياس بن البُكَير. وقال غيره أمه أم النعمان بنت أبي حَنّة -بالنون- ابن عَمرو بن عُزَيّة بن عمرو بن عَطية بن خنساء بن مندول ابن عَمرو بن غانم بن مازن بن النجار. وثقه أبو حاتم، والنّسائي، والعِجليّ، وابن نُمير، وذكره ابن حِبّان في "الثقات" وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث. وقال ابن مَعين: ثقة إلا أنه اختُلِف عليه في حديثين: "الأرض كلها مسجد"، و"كان يسلم عن يمينه". روى عن: أبيه، وعَبّاد بن تَميم، ومحمد بن يَحيى بن حِبّان، وعباس بن سَهل، ومحمد بن عَمرو بن عطاء، وغيرهم. وروى عنه: يحيى بن أبي كثير، ويحيى بن سَعيد الأنصاري -وهما من أقرانه- ومالك، وأيوب، وابن جُريج، ووَهْب بن خالد، والحَمّادان، والسُّفيانان، وغيرهم. مات سنة أربعين ومئة. والمازنِيّ في نسبه نسبة إلى مازن بن النجّار، وقد مر الكلام على مازن في الثاني عشر من هذا الكتاب. وفي الستة عَمْرو بن يحيى سواه اثنان الأُمَوِيّ السَّعِيدِيّ أبو أمية المكي، والثاني الحمصي الزَّنْجارِيّ. الرابع: يحيى بن عُمارة بن أبي حسن المازِني المدني. قال ابن إسحاق: كان ثقة. وقال النَّسائي، وابن خِراش: ثقة. وذكره ابن حِبّان في "الثقات".

روى عن عبد الله بن زَيْد بن عاصم، وأنَس بن مالك، وأبي سعيد الخُدرْي. وروى عنه: ابنه عمرو، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي صَعْصَعة، وعُمارة بن غَزِيّة، والزُّهريّ، وأبو طُوالة. وفي الستة يحيى بن عُمارة سواه واحد، وهو كوفي، روى عن ابن عَباس قصة موت أبي طالب، وروى عنه الأعْمش وقيل: إنه ابن عَبّاد أو عُبادة. الخامس: أبو سعيد الخُدْرِيّ، وقد مرّ في الثاني عشر من هذا الكتاب. لطائف إسناده: فيه التحديث بالإِفراد والجمع والعنعنة، والقول، ورواته كلهم مدنيّون، وفيه رواية الرجل عن خاله، ورواية الابن عن أبيه، وقد مر الكلام على ذلك في الثاني من بدْء الوحي. أخرجه البخاري هُنا وفي صفة الجنة والنار، عن وُهيب بن خالد، ومسلم في الإِيمان عن هارون، ووقع عاليًا للبخاري عن مسلم برجل، وأخرجه النَّسائي، وهو قطعة من حديث طويل يأتي إن شاء الله تعالى، وليس في "الموطأ"، وقال الدَّارَقُطني: هو غريب صحيح اهـ ثم قال البخاري: قال وُهيب: حدثنا عمر: "والحياة" وقال: "خَرْدل مِن خَيْر الحياة" بالخفض على الحكاية، أتى به هنا معلقًا، ومراده أن وُهيبًا وافق مالكًا في روايته لهذا الحديث عن عمرو بن يَحيى، وجزم بقوله "في نَهر الحياة" ولم يَشُكَّ كما شك مالك. وقوله: "وقال مِنْ خَرْدل" هو على الحكاية أيضًا، أي: وقال وُهيب في رواية: "مثقال حبةٍ من خردل من خير": فخالف مالكًا أيضًا في هذه

الكلمة، وهذه الرواية أخرجها عنه أبو بكر بن أبي شَيْبة في "مسنده" بهذا اللفظ، كما علقه المصنف، فهذا مراده لا لفظ موسى بن إسماعيل، فإن البُخاري أخرجه مسندًا في كتاب الرقاق، عن موسى بن إسماعيل، عن وُهَيْب إلخ، ولفظه "من خَرْدل من خير" كما عنده هنا، والتعليق مر الكلام عليه في الرابع من بدء الوحي. وأما وُهَيب: فهو بالتصغير ابن خالد بن عَجْلان الباهِلِيّ مولاهم أبو بكر البَصْريّ صاحب الكرابِيس. قال ابن سَعْد: كان قد سُجن فذهب بصره، وكان ثقة كثير الحديث، حجة، وكان يُملي من حفظه، وهو أحفظ من أبي عَوانة. وقال أبو داود: حدثنا وُهيب، وكان ثقة. وقال العِجليّ: ثقة ثبت. وقال أبو حاتم: ما أنقى حديثه، لا تكاد تجده يحدث عن الضعفاء، وهو الرابع من حفاظ البصرة، وهو ثقة، ويقال: إنه لم يكن بعد شُعبة أعلم بالرجال منه، وكان يقال: إنه يَخلُفُ حَمَّاد بن سَلَمة. وقال البُخاري: كان متقنًا. وقال الفَضْل بن زياد: قلت: سألت أحمد عن وهَيب وابن عُليّة إذا اختلفا، قال: كان عبد الرحمن يختار وُهَيبًا. قلت: في حفظه؟ قال: في كل شيء، وإسماعيل ثبت. وقال معاوية بن صالح: قلت لابن مَعين: من أثبت شيوخ البَصريين؟ قال: وُهيب، وذكر جماعة. وقال ابن المَدِيني عن ابن مَهدي: كان من أبصر أصحابه بالحديث والرجال. وقال عَمرو بن علي: سمعت يحيى بن سَعيد ذكره، فأحسن الثناء عليه. وقال الآجُرّي عن أبي داود: تغير وُهَيب بن خالد، وكان ثقة. وقال ابن المَديني: قال يحيى بن سعيد: إسماعيل أثبت من وُهيب. روى عن حُميد الطّويل، وخالد الحذاء، وداود بن أبي هِند، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، وهشام بن عُروة، وابن شُبْرُمة، وعبد العزيز ابن صُهيب، ومنصور بن المُعتمر، وجماعة.

وروى عنه إسماعيل بن عُليّة، وابن المُبارك، وابن مَهدي، والقَطّان، وأبو داود وأبو الوليد الطّيالِسِيّان، وسُليمان بن حَرْب، وسُفيان ابن فَرُّوخ، وآخرون. مات سنة خمس وستين ومئة. وقيل سنة تسع، وهو ابن ثمان وخمسين سنة. ووُهَيب في الستة سواه اثنان، وُهَيب بن عمرو بن عُثمان النَّمَريّ أبو عثمان البَصْري، روى عنه أبيه، وهارون النَّحْوي، والثاني وُهيب بن الوَرْد بن أبي الوَرْد أبو عُثمان أو أبو أمية القُرَشيّ، مولى بني مَخْزوم، روى عن عطاء بن أبي رَباح، وغيره، وروى عنه ابن المُبارك، وغيره، كان يتكلم ودموعه تَقْطُر، وكان متجردًا عن الدنيا، تاركًا لها. والباهِلِيّ في نسبه مر الكلام عليه في العاشر من هذا الكتاب.

الحديث السادس عشر

الحديث السادس عشر 23 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ النَّاسَ يُعْرَضُونَ عَلَيَّ وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ مِنْهَا مَا يَبْلُغُ الثُّدِيَّ، وَمِنْهَا مَا دُونَ ذَلِكَ. وَعُرِضَ عَلَيَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ يَجُرُّهُ» قَالُوا. فَمَا أَوَّلْتَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «الدِّينَ». قوله: "بينا أنا نائم" أصل بينا بين، ثم أُشْبعت الفتحة، وفيه استعمال بينا بدون إذا، وبدون إذ وهو فصيح عند الأصمعي، وإن كان الأكثر على خلافه، ففي هذا الحديث حجة. وقوله: "رأيتُ الناس" من الرؤيا الحُلُمية على الأظهر، أو العلمية، وحينئذ تطلب مفعولين، وهما: الناس، ويُعرضون علي أي يظهرون لي، وقيل: من الرؤية البصرية، فتطلب مفعولًا واحدًا، وهو الناس، وحينئذٍ يكون يعرضون جملة حالية. وقوله: "وعليهم قُمُصٌ" بضم الأوَّلَين جمع قميص، والجملة حالية. وقوله: "منها ما يبلُغُ الثُّدِيّ" ما موصول مبتدأ خبره منها، والثدي مفعول به، وهو بضم الثاء وكسر الدال وتشديد المثناة التحتية جمع ثَدْي بفتح الثاء وسكون الدال، يذكر ويؤنث للمرأة والرجل والحديث يرد على من خصه بها, ولعل قائل هذا يَدَّعي أنه أُطْلق في الحديث مجازًا.

رجاله ستة

وقوله: "ومنها ما دُون ذلك" أي: لم يصل للثدي لقصره. وقوله: "وعُرِض علي عُمر" مبني للمفعول، وعُمر نائبه. وقوله: "قالوا: فما أولت" أي: الصحابة، وفي رواية: قال: أي عمر، أو غيره، أو السائل أبو بكر الصديق كما يأتي إن شاء الله تعالى في التعبير. وقوله: قال "الدين" بالنصب، مفعول أوَّلْتُ مقدر. ولا يلزم منه أفضلية الفاروق على الصديق، إذ القسمة غير حاصرة، إذ يجوز رابع، وعلى تقدير الحصر فلم يَخُصَّ الفاروق بالثالث، ولم يقصُرْه عليه، ولئن سَلَّمنا التخصيص به فهو معارَض بالأحاديث الكثيرة البالغة درجة التواتر المعنوي الدالة على أفضلية الصديق، فلا تعارضها الآحاد، ولئن سَلَّمنا التَّساوي بين الدليلين، لكن إجماع أهل السنة والجماعة على أفضليته وهو قطعي، فلا يُعارضه ظني. وفي هذا الحديث التشبيه البليغ، وهو تشبيه الدين بالقميص, لأنه يستُر عورة الإِنسان، وكذلك الدين يستُره من النار ومن الفضائح الدنيوية. وفيه الدِّلالة على التفاضل في الإِيمان كما هو مفهوم تأويل القميص بالدين، مع ما ذكره من أن اللابِسين يتفاضلون في لُبْسه. رجاله ستة: الأول: محمَّد بن عُبيد الله بن محمَّد بن زَيْد بن أبي زَيد الأُمَوي مولى عثمان أبو ثابت المَدَني. قال أبو حاتم: صدوق. وذكره ابن حِبّان في "الثقات" وقال الدّارقُطنيّ: ثقة حافظ. وفي "الزهرة": روى عنه البُخاريّ ثلاثة عشر حديثًا.

روى عن: مالك، وإبراهيم بن سَعْد، وابن أبي حازِم، وأسامة بن حَفْص، وحاتم بن إسماعيل، والدَّرَاوَدِيّ، وغيرهم. وروى عنه: البخاري، وروى النسائي عن أبي زُرعة عنه، وروى عنه أبو حاتم، وموسى بن سَهل، والعباس بن الفَضْل الأسْفاطِيّ، وإسماعيل بن إسحاق القاضي، وغيرهم. وفي الستة محمَّد بن عُبيد الله بن محمَّد سواه واحد، روى عن أبيه، وروى عنه النّسائي في "مسند علي"، ومحمد بن عُبيد الله بدون محمَّد ستة سواه. ومرّ الكلام على الأُمَوي. الثاني: إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عَوْف الزُّهْرِيّ أبو إسحاق المدني، نزيل بغداد. قال أحمد وأبو حاتم ويحيى وأبو زُرعة: ثقة. وقال أبو زُرعة: كثير الحديث، وربما أخطأ في أحاديث، قدم بغداد فأقام بها، وكان قاضيًا بها، وولي بيت المال بها لهارون الرشيد، وأبوه سعد ولي قضاء المدينة. وقال ابن عُيَيْنة: كنت عند ابن شِهاب، فجاء إبراهيم بن سعد، فأكرمه ورفعه، وقال: إن سعدًا أوصاني بابنه، وسعْدٌ سعد. وقال ابن عَدِيّ: هو من ثقات المسلمين، حدث عن جماعة من الأئمة، ولم يختلف أحد في الكتابة عنه، وقول من تكلم فيه تحامل، وله أحاديث صالحة مستقيمة عن الزُّهريّ وغيره، وقال ابن مَعين: حجة ثقة. وقال أيضًا: إبراهيم أحب إلي في الزُّهريّ من ابن أبي ذئب. وقال أيضًا: إبراهيم أثبت من الوليد بن كثير ومن ابن إسحاق. وقال الدُّوريّ: قلت ليحيى: إبراهيم أحب إليك في الزُّهريّ أو الليث؟ فقال: كلاهما ثقة. وقال علي بن الجَعْد: سألت شعبة عن حديث لسعد بن إبراهيم، فقال لي: فأين أنت من ابنه؟ قلت: فأين ذا؟ قال: نازلٌ على عُمارة بن حمزة، فأتيته، فحدثني. وقال إبراهيم بن

حَمزة: كان عند إبراهيم بن سَعْد عن ابن إسحاق نحو من سبعة عشر ألف حديث في الأحكام سوى المَغازي، وإبراهيم بن سعد من أكثر أهل المدينة حديثًا في زمانه. وقال ابن مَعين في حديث جمع القرآن: ليس أحد حدث به أحسن من إبراهيم بن سَعْد، وقد حدث مالك بطرف منه. وقال أبو داود: سمعت أحمد يقول: كان وكيع كَفَّ عن حديث إبراهيم بن سعد، ثم حدث عنه بعدُ. قلت: لِم؟ قال: لا أدري إبراهيم ثقة. وقال عبد الرحمن بن أحمد: سمعت أبي يقول: ذكر عند يحيى بن سعيد عقيل وإبراهيم بن سعد، فجعل كأنه يضعفهما، يقول: عقيل وإبراهيم، ثم قال أبي: أيش ينفع؟ هؤلاء ثقات لم يخبرهما يحيى. وذكر الخطيب أن إبراهيم كان يجيز الغناء بالعود، وأنه ولي قضاء المدينة. وقال ابن خِراش: ثقة. وقال صالح جزرة: حديثه عن الزُّهريّ ليس بذلك، لأنه كان صغيرًا حين سمع من الزُّهرِي. روى عن: أبيه، وصالح بن كَيْسان، والزُّهريّ، وهشام بن عُروة، وصفوان بن سُليم، وشعبة، وخلق. وروى عنه: الليث، وقَيْس بن الربيع -وهما أكبر منه- ويزيد بن الهاد، وشُعبة -وهما من شيوخه- وأبو داود، وأبو الوليد الطّيالِسِيّان. قال الخطيب: حدث عنه يزيد بن الهاد، والحسين بن سَيّار وبين وفاتيْهِما مئة واثنتا عشرة سنة. ولد سنة ثمان ومئة، ومات ببغداد سنة اثنتين أو ثلاث وثمانين ومئة وهو ابن خمس وسبعين سنة. وفي الستة إبراهيم بن سَعْد بن أبي وقّاص الزُّهْرِيّ المدني روى عن أبيه، وأسامة بن زيد. قال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، ذكره البخاري في الطب والمناقب. الثالث: صالح بن كَيْسان مرّ في السابع من بدء الوحي. ومرّ ابن

شِهاب في الثالث منه أيضًا. ومرّ أبو سَعيد الخُدريّ في الثاني عشر من هذا الكتاب. وفيه عُمر وقد مرّ في الأول من الوحي. والسادس: أبو أُمامة أسعد بن سَهْل بن حُنيف -بالتصغير- أمه حبيبة بنت أبي أمامة أسعد بن زُرارة، وكان أسعد بن زُرارة أوصى ببناته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حبيبة من سَهْل بن حُنيف، فولدت له أسعد هذا، سماه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكناه باسم جده لأمه وكنيته، وبرَّك عليه. قال أبو مَعشر: رأيته شيخًا كبيرًا يخضِب بالصُّفرة. وقال ابن سَعْد: كان ثقةً كثير الحديث. وقال يونُس عن ابن شِهاب أخبرني أبو أُمامة بن سهْل، وكان من أكابر الأنصار وعلمائهم. وقال ابن أبي حاتِم: سمعت أبي قيل له: هو ثقة؟ فقال: لا يُسأل عن مثله، هو أجل من ذلك. وقال أبو منصور الباوَرْدِيّ: مختلَف في صحبته، إلا أنه وُلِد في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو ممن يُعَدُّ في الصحابة الذين روى عنهم الزُّهْرِيّ. وسئل الدارقُطني: هل أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم، وأخرج حديثه في المسند. وقال البخاري: أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يسمع منه. وقال الزُّهري: حدثني أبو أُمامة، وكان قد أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - وسماه وحَنّكه. ونقل ابن مَنْدة عن أبي داود أنه قال: صحب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وبايعه. قال ابن مَنْدة: وقول البخاري أصح. روى عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مرسلًا، وعن عُمر، وعثمان، وأبيه سَهْل، وعمه عثمان، وابن عباس، وأبي هُريرة، وزيد بن ثابت، وعائشة، وغيرهم. وروى عنه: ابناه سَهل ومحمد، وابنا عمه عثمان وحكيم ابنا حكيم ابن عَبّاد بن حُنَيْف، والزُّهْري، ويحيى بن سعيد، وعبد الله بن سعيد بن أبي هند، وغيرهم. مات سنة مئة، وهو ابن نيف وتسعين سنة. وقال ابن الكَلْبيّ: تراضى الناس أن يصلي بهم وعثمان محصور.

باب: الحياء من الإيمان

والأوْسِيُّ في نسبه نسبة إلى الأوس أخي الخزرج ابني حارثة بن ثعلبة العنقاء بن عمرو مُزَيْقيا الخارج من اليمن أيام سيل العرم ابن عامر ماء السماء بن حارثة الغطريف ابن امرئ القيس البطريق بن ثعلبة بن مازن، وهو جماع غسان بن الأزد بن الغَوْث ابن بنت بن مالك بن زيد بن كهلان أخي حِمْيَر. لطائف إسناده: منها أنه كالذي قبله في أن رجاله مدنيون، وهذا في غاية الاستطراف، إذ اقتران إسنادين مدنيين قليل جدًّا، ومنها أن فيه التحديث والعنعنة والتصريح بالسماع، وفيه رواية ثلاثة من التابعين، أو تابِعيّين وصحابِيَّيْن، وقد مر في حديث "إنما الأعمال بالنيات" أعلى ما يكون من رواية تابعي عن تابعي أو صحابي عن صحابي. أخرجه البخاري هنا، وفي التفسير عن علي عن يعقوب، وفي فَضل عمر عن يحيى بن بُكير، وفي التعمير عن سعيد بن عُفَير. ومسلم في الفضائل عن منصور وغيره، والترمذي والنّسائي. بابٌ: الحياء من الإِيمان بالتنوين، والحياء مبتدأ، خبره: من الإِيمان، ووجه كون الحياء من الإِيمان تقدم مع بقية مباحثه في باب أمور الإِيمان، وفائدة إعادته هنا أنه ذُكِرَ هناك بالتبعية، وهنا بالقصد مع فائدة مغايرة الطريق.

الحديث السابع عشر

الحديث السابع عشر 24 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الإِيمَانِ». قوله: "مرّ على رجل" في رواية لمسلم: "مرّ برجل" ومرّ بمعنى اجتاز، يُعَدّى بعلى وبالباء. قال في "الفتح" لم أعرف اسم هذين الرجلين الواعظ وأخيه. وقوله: "يَعِظُ أخاه" أي: ينصح، أو يخوف، أو يذكر، والأوْلى أن يُفَسَّر بما جاء عند المصنف في الأدب عن ابن شِهاب، ولفظه: "يعاتِبُ أخاه في الحياء، يقول: إنك لَتَسْتَحي حتى كأنه يقول: أضَرَّ بك" ويحتمل أن يكون جمع له العتاب والوعظ، فذكر بعض الرواة ما لم يذكره الآخر، لكن المخرج متحد، فالظاهر أنه من تصرف الراوي بحسب ما اعتقد أن كل لفظ منهما يقوم مقام الآخر. وتعقبه العيني قائلًا: إن معنى الوعظ الزَّجْر، ومعنى العتب الوَجْد، يقال: عَتَبَ عليه إذا وَجَد، مع أن الروايتين تَدُلّان على معنيين جَلِيّين ليس في واحد منهما خفاء، حتى يفسر أحدهما بالآخر، وغايته أنه وعظ أخاه في استعمال الحياء، وعاتبه عليه، والراوي حكى في إحدى روايتيه بلفظ الوعظ، وفي الأخرى بلفظ المعاتبة. وما اعترض به هو ما ذكره ابن حَجَر أولًا احتمالًا، لكن منعه من الاعتماد عليه اتحاد المخرج، فاحتاج إلى ما ذكر، والسبب في وعظه له

رجاله خمسة

هو أنَّ الرجل كان في الحياء، فكان ذلك يمنعه من استيفاء حقوقه، فعاتبه أخوه على ذلك، فقال له النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: اتركه على هذا الخلق السَّنِيّ ثم زاده في ذلك ترغيبًا لحكمه بأنه من الإِيمان، وإذا كان الحياء يمنع صاحبه من استيفاء حق نفسه، جرَّ له ذلك تحصيل أجر ذلك الحق، لا سيما إذا كان المتروك له مستحقًا. وقوله: "فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: دعه فإن الحياء من الإِيمان" قال ابن قُتَيبْة: معناه أن الحياء يمنع صاحبه من ارتكاب المعاصي، كما يمنع الإِيمان فسُمِّي إيمانًا كما يسمى الشيء باسم ما قام مقامه، وحاصله أن إطلاق كونه من الإِيمان مجاز، ومن تبعيضية، كقوله في الحديث السابق: "الحياء شعبة من الإِيمان" ولا يقال: إذا كان الحياء بعض الإِيمان فينتفي الإِيمان بانتفائه، لأن الحياء من مكملات الإِيمان، ونفي الكمال لا يستلزم نفي الحقيقة، والظاهر أن الواعظ كان شاكًّا، بل كان منكرًا، ولذلك وقع التأكيد بإنَّ، ويجوز أن يكون من جهة أن القصة في نفسها مما يجب أن يهتم به ويؤكد، وإنْ لم يكن ثَمَّ إنكارٌ أو شكٌ. وقد مرّت مباحث الحياء في باب أمور الإِيمان. رجاله خمسة: الأول: عبد الله بن يوسُف. والثاني: الإِمام مالك بن أنس، وقد مرّا في الثاني من بدء الوحي. والثالث: ابن شِهاب ومرّ في الثالث منه أيضًا، ومر عبد الله بن عُمر في الأثر الرابع أول كتاب الإِيمان قبل ذكر حديث منه. الرابع من السند: سالِم بن عبد الله بن عُمر بن الخطاب العَدَويّ أبو عُمر، ويقال: أبو عبد الله المدني الفقيه، أحد الفقهاء السبعة على أحد الأقوال المتقدمة في ترجمة عُروة بن الزُّبير في الثالث من بدء الوحي. قال علي بن الحسن العَسْقلاني، عن ابن المُبارك: كان فقهاء أهل المدينة، فذكره فيهم. قال: وكانوا إذا جاءتهم المسألة دَخَلوا فيها

جميعًا، فنظروا فيها, ولا يَقْضي القاضي حتى يرفع إليهم، فينظرون، فيُصدرون. وقال ابن المُسَيِّب: كان عبد الله أشبه أولاد عمر به، وكان سالم أشبه ولد عبد الله به. وقال مالك: لم يكن في زمان سالم أشبه بمن مضى من الصالحين في الزهد والفضل والعيش منه، كان يلبس الثوب بدرهمين. وقال: كان ابن عُمر يخرُج إلى السوق فيشتري، وكان سالم دَهْرَه يشتري في الأسواق، وكان من أفضل أهل زمانه. وقال أبو الزِّناد: كان أهل المدينة يكرهون اتِّخاذ أمهات الأولاد حتى نشأ فيهم القُراء السادة: علي بن الحُسَيْن، والقاسم بن محمَّد، وسالم بن عبد الله، ففاقوا أهل المدينة علمًا وتقىً وعبادةً وورعًا، فرغب الناس حينئذٍ في السَّراري. وقال ابن راهويه: أصح الأسانيد كلها: الزُّهريّ عن سالم، عن أبيه. وكان أبوه يُلام في إفراط حب سالم، ويقول: يَلُومونَني في سالمٍ وألُومُهُم ... وجِلْدةُ بين العين والأنْفِ سالمُ وكان يقبله، ويقول: ألا تعجبون من شيخ يقبل شَيخًا. وقال ابن سَعد: كان ثقة كثير الحديث عاليًا من الرجال. وقال ابن مَعين: سالم والقاسم حديثهما قريب من السَّواء، وسعيد بن المُسَيِّب قريب منهما، وإبراهيم أعجب إليّ مرسلًا منهم. وقال العِجليّ: مدني تابعي ثقة. وكتب عُمر بن عَبْد العزيز إلى سالم بن عبد الله أن اكتب لي بشيء من رسائل عُمر بن الخطاب، فكتب إليه: يا عمر اذكر الملوك الذين تَفَقَّأت أعينهم التي كانت لا تَنْقضي لذتهم بها، وانفقأت بطونهم التي كانوا لا يشبعون بها، وصاروا جِيَفًا في الأرض آكامها, لو كانت بجنب مساكن لنا لتَأذَّيْنا بريحهم. ودخل سليمان بن عبد الملك الكعبة فوجد فيها سالمًا، فقال له: سلني حوائجَكَ. فقال: والله ما سألتُ في بيت الله غير الله تعالى. ودخل سالم يومًا على الوليد بن عبد الملك: فقال له: ما أحسن

جسمك: فما طعامك؟ قلت: الكعك والزيت. قال: وتشتهيه؟ قلت: أدعه حتى أشتهيه، وآكله. وكان يقول إياكم ومداومة اللحم، فإن له ضراوة كضراوة الشراب. وقال ابن إسحاق: رأيت سالم بن عبد الله يلبس الصوف، وكان عَلِجَ الخلق يعالج بيديه ويعمل. وقال ابن حِبّان في "الثقات" كان يُشبه أباه في السَّمْت والهُدى، وأمه من بنات يَزْدَجرد لما قدم سَبْيُ فارس على عمر بن الخطاب كانت فيه بنات يَزْدَجرد، فَقُوِّمْنَ فأخذهن علي بن أبي طالب، فأعطى واحدة لابن عمر فولدت له سالمًا، وأعطى أختها لولده الحسين فولدت له عليًّا، وأعطى أختها لمحمد بن أبي بكر فولدت له القاسم. روى عن: أبيه، وأبي هُريرة، وأبي رافع، وأبي أيوب، وزيد بن الخطاب. وأبي لُبابة على خلاف فيه، وغيرهم. وروى عنه: ابنه أبو بكر، وأبو بكر بن محمَّد بن عَمرو بن حَزْم، والزُّهريّ، وصالح بن كَيْسان، وحَنْظلة بن أبي سُفيان، وحُميد الطّويل، وعُمر بن حمزة بن عبد الله بن عُمر، وعَمرو بن دينار، وغيرهم. له إخوة: عبد الله، وعاصم، وحمزة، وبلال، وواقد، وزيد، وكان عبد الله وصي أبيهم فيهم، وروى عنه منهم: عبد الله وحمزة وبلال. مات بالمدينة سنة ست ومئة، وقيل: سنة خمس، وقيل: ثمان، وهشام بن عبد الملك يومئذ بالمدينة، وكان قد حجّ بالناس تلك السنة، فقدم المدينة، فوافق موت سالم، فصلى عليه بالبقيع لكثرة الناس، فلما رأى كَثْرة الناس، قال لإِبراهيم بن هِشام المخزوميّ: اضرب على الناس بعث أربعة آلاف، فَسُمِّي عام أربعة آلاف. وفي الستة سالم بن عبد الله سواه ثلاثة: أبو عبد الله النَّصريّ مولى شدّاد بن الهاد، روى عن عُثمان، وأبي هُريرة، وعائشة، وغيرهم. والثاني الخَيّاط البَصْريّ مولى عُكّاشة، روى عن الحسن، وابن أبي

باب فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم

مُلَيْكة، وعطاء، وغيرهم. والثالث: الجَزَريّ أبو المُهاجر الرَقِّي مولى بني كِلاب، روى عن مَيْمون بن مِهران، ومكْحُول، وغيرهما. وأما سالم فكثيرٌ جدًّا. لطائف إسناده: منها أن رجاله كلهم مدنيون ما خلا عبد الله بن يوسُف، وفيه التحديث والعنعنة والإِخبار، وفي رواية الأكثرين: أخبرنا مالك، وفي رواية الأصيلي: حدثنا مالك، وهو أحد الأسانيد التي قيل فيها: أصح الأسانيد كذا. والحديث أخرجه البخاري هنا، وفي البر والصلة عن أحمد بن يونُس، ومسلم هنا أيضًا عن النّاقِدِيّ وغيره، وأبو داود، والتِّرمذي، والنَّسائي، ومالك في "الموطأ". باب فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم باب منون في الرواية، والتقدير هذا باب في تفسير قوله تعالى: {فإنْ تَابُوا} وتجوز الإِضافة، أي: باب تفسير قوله، وإنما جعل الحديث مفسرًا للآية لأن المراد بالتوبة في الآية الرجوع عن الكفر إلى التوحيد، ففسره قوله - صلى الله عليه وسلم -: "حتى يشهدوا أن لا إله إلَّا الله وأن محمدًا رسول الله" وبين الآية والحديث مناسبة أخرى، لأن التخلية في الآية والعصمة في الحديث بمعنى واحد، ومناسبة الحديث لأبواب الإِيمان من جهة أخرى، وهي الرد على المُرْجئة حيث زعموا أن الإِيمان لا يحتاج إلى الأعمال.

الحديث الثامن عشر

الحديث الثامن عشر 25 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو رَوْحٍ الْحَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ: قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ وَاقِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّ الإِسْلاَمِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ». قوله: "أمرت" أي: أمرني الله، لأنه لا آمر لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلا الله، وقياسه في الصحابي إذا قال: أمرت، فالمعنى أمرني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا يُحتَمَلُ أن يريد: أمرني صحابي آخر، لأنهم من حيث أنهم مجتهدون لا يَحْتَجّون بأمر مجتهد آخر، وإذا قاله التابعي احتمل والحاصل أن من اشتهر بطاعة رئيس إذا قال ذلك فُهم منه أن الآمر له هو ذلك الرئيس. وقوله: "أن أُقاتل" أي: بأن أقاتل، وحذف الجار من أن كثير. وقوله: "النّاس" أي: بمقاتلة الناس، وهو من العام الذي أُريد به الخاص، فالمراد بالناس المشركون غير المعاهدين منهم، دون أهل الكتاب, لأن أهل الكتاب يُكْتفى منهم بأحد الأمرين: الجزية أو الإِسلام، ويَدُلُّ على هذا الخصوص رواية النّسائي: "أُمِرْتُ أن أقاتل المشركين" والمعاهَدُ لا يُقاتل مدة المهادنة، والممتنع في ترك المقاتلة رفعُها لا تأخيرُها مدةً كما في المهادنة، أو يقال: إن المراد بالناس عموم الكفار، ووقع النسخ بأن يكون الإِذن بأخذ الجزية والمعاهَدة متأخرًا عن هذه الأحاديث، بدليل أنه متأخر عن قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}

[التوبة: 5] أو يكون هذا من العام الذي خُصَّ منه البعض, لأن المقصود من الأمر حصول المطلوب، فإذا تخلف البعض لدليل لم يُقْدح في العموم، أو يكون المراد بما ذُكر من الشهادة وغيرها التعبير عن إعلاء كلمة الله تعالى، وإذعان المخالفين، فيحصُلُ في بعض بالقتل، وفي بعض بالجِزْية، وفي بعض بالمُعاهدة، أو يكون المراد بالقتال هو أو ما يقوم مقامَه من جزية وغيرها، أو يقال: الغرض من ضَرْب الجزية اضطرارهم إلى الإِسلام، وسبب السبب سببٌ، فكأنه قال: حتى يُسْلموا أو يَلتَزِموا ما يؤدّيهم إلى الإِسلام، وهذا أحسن. وقوله: "حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ... الخ" جعلت غاية المقاتلة وجود ما ذكر، وهذا يقتضي أن من حصل منه ما ذُكِر يعْصِمُ دمه ولو جَحَدَ باقي الأحكام، والجواب أن الشهادة بالرسالة تتضمن التصديق بكل ما جاء به، مع أن نص الحديث، وهو قوله: "إلا بحقِّ الإِسلام" يدخل فيه جميع ما ذُكر، فإن قيل: لِمَ لم يكتف به، ونص على الصلاة والزكاة؟ فالجواب أن ذلك لِعظَمِهما والاهتمام بأمرهما، لأنهما أُمّا العبادات البدنية والمالية، وفي حديث أبي هُريرة في الجهاد الاقتصار على قول: لا إله إلا الله، فقال الطَّبَريّ: إنه عليه الصلاة والسلام قاله في وقت قتاله للمشركين أهل الأوثان، الذين لا يُقرُّون بالتوحيد، وأما حديث الباب ففي أهل الكتاب المُقِرّين بالتوحيد الجاحدين لنبوته عمومًا وخصوصًا وغيرهم، وأما حديث أنس في أبواب أهل القبلة: "صَلَّوْا صلاتنا، واستقبَلُوا قبلَتنا، وذبَحَوا ذبيحَتَنا" ففي من دخل الإِسلام ولم يعمل الصالحات، كترك الجُمُعة والجماعة، فيقاتَلُ حتى يُذْعِن لذلك. ومرّ في حديث "بُني الإِسلام" الكلام على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فراجعه. وقوله: "فإذا فعلوا ذلك" فيه إطلاق الفعل على القول، لأنه من فعل اللسان، أو هو من باب تغليب الاثنين على الواحد. وقوله: "عَصَموا مني دماءَهم" أي منعوها، وأصل العصمة من

العِصام، وهو الخيط الذي يُشَدُّ به فم القِربة ليمنع سيلان الماء. أي: فلا تُهدر دماؤهم ولا تُستباح أموالهم بعد عصمتهم بالإِسلام بسبب من الأسباب إلا بقوله: "إلا بحق الإِسلام" أي: من قتل نفس، أو حدٍّ، أو غرامةٍ بمتلف، أو ترك صلاة. وقوله: "وحسابهم على الله" أي: في أمر سرائرهم، وأما نحن فإنما نحكم بالظاهر، فنعاملهم بمقتضى ظواهر أقوالهم وأفعالهم، والمعنى هذا القتال وهذه العصمة إنما هُما باعتبار أحكام الدنيا المتعلقة بنا، وأما أمور الآخرة من الجنة والنار، والثواب والعقاب، فمفوضٌ إلى الله تعالى، ولفظةُ على مشعرةٌ بالإِيجاب، وظاهرها غير مراد، فإما أن يكون المراد: فحسابهم إلى الله أو لله، فعلى بمعنى إلى أو اللام، أو على سبيل التشبيه، أي: هو كالواجب على الله في تحقق الوقوع، لا إنه تعالى يَجِبُ عليه شيء، خلافًا للمعتزلة القائلين بوجوب الحساب عقلًا. وفيه دليل على قَبول الأعمال الظاهرة، والحكم بما يقتضيه الظاهر، والاكتفاء في قَبول الإِيمان بالاعتقاد الجازم، خلافًا لمن أوجب تعلم الأدلة، وقد مرّ في باب "وإن المعرفة فعل القلب" بعض الكلام عليه. ويُؤخذ منه ترك تكفير أهل البدع المُقِرّين بالتوحيد الملتزمين للشرائع، وقَبول توبة الكافر من كفره من غير تفصيل بين كفر ظاهر أو باطن، ويأتي ما في هذا قريبًا إن شاء الله تعالى. واستدل به النّووي على أن من ترك الصلاة عمدًا يُقتل، وفي هذا الاستدلال نظرٌ، للفرق بين صيغة "أقاتل" و"أقتُل" وقد أطْنب ابن دقيق العيد في الإِنكار على من استدل بهذا الحديث على ذلك، قائلا: إنه لا يلزم من إباحة القتال إباحة القتل, لأن باب المُفاعلة يستلزم وقوع الفعل من الجانبين، ولا كذلك القتل، وحاصل ما قيل في حكم تارك الصلاة عمدًا مقرًّا بوجوبها هو: أن مذهب مالك تأخيره حتى يبقى قَدْر ركعة بسجدتيها من الضروري، ويُقتل حدًّا لا كفرًا بالسيف. وكذلك الشافعية

يُقتل عندهم بالسيف حدًا لا كُفرًا، واختلف أصحاب الشافعي هل يُقتل على الفور أو يُمهل ثلاثة أيام؟ الأصح الأول، والصحيح أنه يُقتل بترك صلاة واحدة إذا خرج وقت الضرورة لها. وقال أحمد في رواية أكثر أصحابه عنه: إنه يُقتل كُفرًا، فلا يُغَسَّل، ولا يُصلى عليه، وتَبِين منه امرأته. وبه قال ابن حَبيب من المالكية، وبعض الشافعية. وقال أبو حنيفة والمُزَني: يُحبس إلى أن يُحدث توبة، ولا يُقتل. قلت: الظاهر أن محل الخلاف عند العلماء إنما هو في الذي ترك الصلاة ويصلي، وأما التارك لها رأسًا بتاتًا فهذا لا خلاف في كفره، وعليه يتنزل الحديث الصحيح: "بينَ العبدِ والكفرِ ترك الصلاة". وسُئل الكِرْماني عن حكم تارك الزكاة فأجاب بأن حكمهما واحدٌ لاشتراكهما في الغاية، وكأنه أراد في المقاتلة، أما في القتل فلا، والفرق أن الممتنع من إيتاء الزكاة يمكن أن تُؤْخَذ منه قهرًا بخلاف الصلاة، فإن انتهى إلى نصب القتال ليمنَع الزكاة قوتل، وبهذه الصورة قاتل الصديق مانعي الزكاة، ولم يُنْقل أنه قتل أحدًا صبرًا، ولو ترك صوم رمضان حُبِس ومُنِع الطعام والشراب نهارًا، لأن الظاهر أنه ينويه معتقدًا, لأنه معتقد لوجوبه. وقال النَّوَوي: يُستدل به على وجوب قتال مانعي الصلاة والزكاة وغيرهما من واجبات الإِسلام قليلًا أو كثيرًا، ولذا قال محمَّد بن الحسن: إذا أجمع أهل بلدة أو قرية على ترك الأذان فإن الإِمام يقاتلهم، وكذا كل شيء من شعائر الإِسلام، وما قاله محمَّد بن الحسن مصرحٌ به عند المالكية، وأما الزِّنْديق، وهو الذي يُظهر الإِسلام ويبطن الكفر، فمذهب مالك أنه يُقْتَل إذا اطُّلع عليه، ولا تُقبل توبته، لكنه إن كان صادقًا في توبته نفعه ذلك عند الله تعالى، والصحيح عند الشافعية قَبول توبته، وعن أبي حنيفة روايتان كالوجهين، وقيل: إن كان من الدعاة إلى الضلال لم تُقبل توبته، وتقبل توبة عوامهم. وقيل: إن أُخذ ليقتل فتاب لم تُقبل، وإن

جاء تائبًا ابتداءً وظهرت مخائل الصدق عليه قُبلت، وحُكي هذا القول عن مالك، وهو الذي عليه الفتوى في مذهبه، وقيل: إن تاب مرة قبلت منه، وإن تكررت منه التوبة لم تقبل، ويأتي قريبًا في مبحث السَّنَد ما في هذا الحديث من الغرابة، ولذلك استبعد قوم صحته قائلين: إنه لو كان عند ابن عُمر لما ترك أباه يُنازع أبا بكر في قتال مانعي الزكاة، ولو كانوا يعرِفونه لما كان أبو بكر يُقِرُّ عمر على الاستدلال بقوله عليه الصلاة والسلام: "أُمِرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" وينتقل عن الاستدلال بهذا النص إلى القياس، إذ قال: "لأُقَاتِلَنَّ من فَرَّق بين الصلاة والزكاة، لأنها قرينتها في كتاب الله" والجواب أنه لا يلزم من كون الحديث المذكور عند ابن عُمر أن يكون استحضره في تلك الحالة، ولو كان مستحضرًا له فقد يُحتمل أن لا يكون حَضَر المناظرة المذكورة، ولا يمنع أن يكون ذَكَرَه لهما بعدُ، ولم يستدِلَّ أبو بكر في قتال مانعي الزكاة بالقياس فقط، بل أخذه أيضًا من قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه: "إلا بحقِّ الإِسلام" قال أبو بكر: والزكاة حق الإِسلام، ولم ينفرد ابن عُمر بالحديث المذكور، بل رواه أبو هُريرة بزيادة الصلاة والزكاة فيه كما يأتي في الزكاة. وتُؤخذ الزكاة مِمَّن وجبت عليه، فإن كان الممتنع من أدائها ذا شوكة قوتل، وإلا فإن أمكن تعزيره على الامتناع عُزِّرَ بما يليق به، وقد ورد في تعزيره بالمال حديث ابن حَكيم عن أبيه عن جده مرفوعًا، أخرجه أبو داود والنَّسائي وصححه ابن خُزيْمة والحاكم، ولفظه: "ومَن مَنعهَا -يعني الزكاة- فإنّا آخذُوها وشَطْرَ ماله، عَزْمةٌ من عَزَماتِ ربِّنا" وقال ابن حِبَّان في ترجمة بَهْز بن حكيم: لولا هذا الحديث لأدخلته في كتاب "الثقات" وأجاب من صححه ولم يعمل به بأن الحكم الذي دَلَّ عليه منسوخٌ وأن الأمر كان أولًا كذلك ثم نسخ، وضعف النّووي هذا الجواب من جهة أن العقوبة بالمال لا تعرف أولًا حتى تَتِمَّ دعوى النسخ، ولأن النسخ لا يثبت إلا بشرطه لمعرفة التاريخ, ولا يعرف ذلك، واعتمد الثّوري ما أشار إليه ابن حبّان من تضعيف بَهْز، وليس بجيد, لأنه مُوَثَّق عند الجمهور،

رجاله ستة

محتجٌّ به عند أجلاء العلماء، لكن أجيب عن هذا الحديث بأن إطباق علماء الأمصار على ترك العمل به يَدُلُّ على أن له معارضًا راجحًا، وقولُ مَنْ قال بمقتضاه يُعَدُّ في ندرة للمخالف. والذي يتولى قبض الزكاة هو الإِمام أو نائبه، وأطبق الفقهاء على أن لأرباب الأموال الباطنة مباشرة الإِخراج، وشذ من قال بوجوب الدفع إلى الإِمام، وهو رواية عن مالك وللشافعي في القديم نحوه على تفصيل عنهما فيه. وفي القصة دليل على أن السنة قد تَخْفى على بعض أكابر الصحابة، ويطلع عليها آحادهم، وكما خفي عليهم حديث جزية المجوس، وحديث الطاعون. ولهذا لا يلتفت إلى الآراء ولو قويت مع وجود سنة تخالفها, ولا يقال: كيف خَفِي ذا على فلان؟. رجاله ستة: الأول: عبد الله بن محمَّد المُسْنِدِي وقد مر في الثاني من كتاب الإِيمان هذا. والثاني: أبو رَوْح حَرَميّ بن عُمارة بن أبي حَفصة نابت -بالنون ثم الباء الموحدة- وقيل: ثابت بالمثلثة العَتَكيّ مولاهم البَصْري، فاسمه بلفظ النسبة تُثْبت فيه الألف والسلام وتُحذف كما في مَكّي بن إبراهيم، وقيل: اسمه عُبيد، قال يَحيى بن معين: صدوق، وقال أبو حاتِم: ليس هو في عداد يَحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مَهْدي، وغُنْدَر، هو مع وَهْب بن جَرير, وعبد الصمد، وأمثالهما، وذكره العُقَيْلِيّ في "الضعفاء". وقال أحمد: صدوق، وكانت فيه غَفلة، وأنكر حديثين من حديثه عن شُعبة، أحدهما: حديث جارية بن وَهْب وقد صححه الشيخان، والآخر: حديث أنس: "مَنْ كَذَبَ عَليّ". روى عن: أبي خَلْدة، وقُرّة بن خالد، وشُعبة، وزِرّ بن أبي يحيى، وأبي طَلْحة الرّاسِبيّ، وعدة.

وروى عنه: عبد الله بن محمَّد المُسْنِديّ، وعلي بن المَديني، وبُنْدار، وهارون الحَمّال، والفَلّاس، ويحيى بن حكيم المُقَوِّم، وغيرهم. مات سنة إحدى ومئتين، وغلط الكِرْماني فيه فجعل الحَرَميّ نسبةً، وليس هو بمنسوب إلى الحرمين أصلًا لأنه بصريّ المولد والمسكن والوفاة. وفي الستة حَرَميّ سواه واحد ابن حَفْص بن عمر العَتَكِيّ أبو علي البَصْرِي، روى عن أبان العطار، وحماد بن سَلَمة، وعبد الواحد بن زباد، وغيرهم. روى له البخاري وأبو داود والنّسائي. وفي الرواة حَرَميّ ابن يونُس المُؤدِّب. والعَتَكيّ في نسبه نسبة إلى عَتِيك -كأمير- وقد مر الكلام عليه في السادس من بدء الوحي. الثالث: شعبة وقد مرّ في الثالث من كتاب الإِيمان هذا. الرابع: واقد بن محمَّد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب العَدَويّ المَدَني. ذكره ابن حِبّان في "الثقات". وقال أحمد وابن معين وأبو داود: ثقة. وقال ابن مَعين مرة أخرى: صالح الحديث. وقال أبو حاتم: لا بأس به، ثقة. يحتج بحديثه. روى عن: أبيه، وسعيد بن مَرْجانة، وابن أبي مُلَيكة، ونافع مولى ابن عمر، وابن المُنْكَدر. وروى عنه: أخوه عاصم، وابنه عثمان بن واقد، وشعبة. وإخوته: أبو بكر، وعمر، وزيد، وعاصم، وكلهم رَوَوْا عن أبيهم محمَّد، وهو روى عن أبيه. وواقد سواه في الستة خمسة، وليس فيهم وافد بالفاء.

الخامس: أبوه محمَّد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب القُرشِيّ العَدويّ المَدَني. روى عن: العبادلة الأربعة، وسعيد بن زَيْد بن عمرو. وروى عنه: بنوه الخمسة كما مرّ قريبًا، والأعْمش، وسُويد بن أبي نُجيح أبو قطبة، وبشار بن كدان. قال أبو زُرعة: ثقة. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: ثقة. قلت: يحتج بحديثه؟ قال: نعم. وكان البخاري جعل محمَّد بن زَيْد الذي روى عن ابن عباس وروى عنه الأعمش غير ابن عُمر هذا، فغيره أبي، وقال: هما واحد. وذكره ابن حِبان في "الثقات". وفي الستة محمَّد بن زَيدْ سواه أربعة، الكِنْدِيّ قاضي مرو روى عن ابن المُسيِّب وابن جُبَيْر، والتَّيميّ المدني رأى ابن عمر، والعَبْديّ روى عن شَهر بن حَوْشب، ومحمد بن زَيد الذي روى عن حِبّان الأعرج، وروى عنه مغيرة الأزْديّ. السادس: عبد الله بن عُمر وقد مر في الأثر الرابع من كتاب الإِيمان هذا. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة والسماع، وفيه رواية الأبناء عن الآباء، وهو كثير لكن رواية الشخص عن أبيه عن جده أقل، وواقد هنا روى عن أبيه عن جد أبيه، وفيه أن إسناده غريب تفرد به شُعبة عن واقد، وهو عن شُعبة عزيز تفرد بروايته عنه الحرمي المذكور، وعبد الملك بن الصبّاح، وهو عزيز عن الحَرَميّ تفرد به عنه المُسنِدِي، وإبراهيم بن عَرعرة، ومن جهة إبراهيم أخرجه أبو عوانة، وابن حِبّان، والإِسماعيلي، وغيرهم. وهو غريب عن عبد الملك تفرد به عنه أبو غسان مالك بن عبد الواحد شيخ مسلم، فاتفق الشيخان على الحكم بصحته مع غرابته، وليس هو في "مسند" أحمد مع سعته.

باب

أخرجه البُخاري هنا، وفي الإِيمان أيضًا عن أبي هُريرة، وفي الصلاة من حديث أنس، ومسلم من حديث جابر ثم قال المؤلف. باب من قال أن الإِيمان هو العمل لقول الله تعالى. {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72] وقال عدة من أهل العلم في قوله تعالى {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} عن لا إله إلا الله وقال {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ}. باب مضاف حتمًا، مطابقة الآية والحديث لما ترجم له بالاستدلال بالمجموع على المجموع, لأن كل واحد منها دال بمفرده على بعض الدعوى، فقوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} عام في الأعمال، وقد نقل جماعة من المفسرين أنَ قوله تعالى: {تَعْمَلُونَ} معناه تؤمنون فيكون خاصًا. وقوله: {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 93] خاص بعمل اللسان على ما نقل المؤلف، وقوله: {فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات: 61] عام أيضًا. وقوله في الحديث: "إيمان بالله" في جواب: أي العمل أفضل؟ دال على أن الاعتقاد والنُّطق من جملة الأعمال، فإن قيل: الحديث يدل على أن الجهاد والحج ليسا من الإِيمان لما تقتضيه ثَمَّ من المغايرة والترتيب، فالجواب: أن المراد بالإِيمان هنا التصديق، هذه حقيقته، والإِيمان يُطْلق على الأعمال البدنية لأنها من مكملاته. وقوله: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا} أي: صُيِّرت لكم إرثًا، فأطلق الإِرْث مجازًا على الإِعطاء لتحقق الاستحقاق، أو الموروث الكافر، وكان له نصيب منها, ولكن كفره منعه، فانتقل منه إلى المؤمن. وقال البيضَاوي: شبه جزاء العمل بالميراث، لأنه يَخْلُفُه عليه العامل، والإِشارة إلى الجنة المذكورة في قوله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [الزخرف: 70] وتلك مبتدأ خبره الجنة. وقوله: {الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا} صفة الجنة، أو الجنة صفة للمبتدأ الذي

هو تلك، والتي أُورثتُموها صفة أخرى، والخبر قوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: تؤمنون، وما مصدرية، أي: بعملكم، أو موصولة محذوفة العائد، أي: بالذي كنتم تعملونه، والباء للملابسة، أي: أورثتموها ملابسةً لأعمالكم، أي: لثواب أعمالكم، أو للمقابلة، وهي التي تدخل على الأعواض كاشتريت بألف. ولا تنافي بين الآية وحديث: "لن يدخلَ أحدٌ الجنةَ بعمله" المخرج في "الصحيحين" لأن المثبت في الآية الدخول بالعمل المقبول، والمُنتفي في الحديث دخولها بالعمل المجرد عنه، والقَبول إنما هو من رحمة الله تعالى، فآل ذلك إلى أنه لم يقع الدخول إلا برحمته. وقال ابن بَطّال في الجمع بين الآية والحديث ما محصله: أنْ تُحمل الآية على أن الجنة تُنال المنازل فيها بالأعمال، فإن درجات الجنة متفاوتة بحسب تفاوت الأعمال، وأن يُحْمل الحديث على دخول الجنة والخلود فيها، ثم أورد على هذا الجواب قوله تعالى: {سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32] فصرح بأن دخول الجنة أيضًا بالأعمال، ومثل الآية في الإِيراد ما رواه الدَّارَقُطْنيّ عن أبي أُمامة أنه عليه الصلاة والسلام قال: "نعم الرَّجُلُ أنا لشرارِ أمتي" فقالوا: فكيف أنت لخيارها؟ فقال: "أما خيارُها فيدخلون الجنة بأعمالهم, وأما شِرارها فيدخلون الجنة بشفاعتي" وأجاب عن الآية بما هو جواب عن الحديث أيضًا، بأنه لفظٌ مجمل بينه الحديث، والتقدير: ادخلوا منازل الجنة وقصورها بما كنتم تعملون، وليس المراد بذلك أصل الدخول، ثم قال: ويجُوز أن يكون الحديث مفسرًا للآية والتقدير: ادخُلوها بما كنتم تعملون مع رحمة الله وتفَضُّلِه عليكم, لأن اقتسام منازل الجنة برحمة الله، وكذا أصل دخول الجنة هو برحمته، حيث ألهم العاملين ما نالوا به ذلك، ولا يخلو شيء من مجازاته لعباده من رحمته وفضله, وقد تفضل عليهم ابتداءً بإيجادهم، ثم برزقهم، ثم بتعليمهم.

وقال عِياض: طريق الجمع أن الحديث فَسّر ما أُجْمل في الآية، فذكر نحوًا من كلام ابن بَطّال الأخير، وأن من رحمة الله توفيقه للعمل وهدايته للطاعة، وكل ذلك لم يستحقه العامل بعمله، وإنما هو بفضل الله ورحمته. وقال ابن الجَوْزيَ. يتحصل عن ذلك أربعة أجوبة: الأول أن التوفيق للعمل عن رحمة الله، ولولا رحمة الله السابقة ما حصل الإِيمان ولا الطاعة التي يحصُلُ بها النجاة، الثاني: أن منافع العبد لسيده، فعمله مستحق لمولاه، فمهما أنعم عليه من الجزاء فهو من فضله. الثالث: جاء في بعض الأحاديث أن نفس دخول الجنة برحمة الله، واقتسام الدرجات بالأعمال. الرابع: أن أعمال الطاعات كانت في زمن يسير، والثواب لا يَنْفَد، فالإِنعام الذي لا يَنْفد في جزاء ما يَنْفَد بالفضل لا بمقابلة الأعمال. وجزم ابن هشام في "المغني" بأن الباء ترد للمقابلة، وهي الداخلة على الأعواض، كاشتريته بألف، ومنه ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون، وإنما لم تقدر هنا للسببية كما قالت المعتزلة، وكما قال الجميع في "لَن يدخل أحدُكُم الجنة بعملِه" لأن المُعطى بعوضٍ قد يُعطى مجانًا، بخلاف المسبب، فلا يوجد بدون السبب، قال: وعلى ذلك ينتفي التعارض بين الآية والحديث. وجزم النّووي بأن ظاهر الآية أن دخول الجنة بسبب الأعمال، والجمع بينها وبين الحديث بأن التوفيق للأعمال والهداية للإِخلاص فيها وقبولها إنما هو برحمة الله وفضله، فيصح أنه لم يدخل بمجرد العمل، وهو مراد الحديث، ويصح أنه دخل بسبب العمل وهو من رحمة الله تعالى، ورد الكِرماني الأخير بأنه خلاف صريح الحديث. قال المازَرِيّ: ذهب أهل السنة إلى أن إثابة الله تعالى مَنْ أطاعه بفضل منه، وكذلك انتقامه ممن عصاه بعدلٍ منه، ولا يثبُتُ واحد منهما إلا بالسمع، وله سبحانه وتعالى أن يُعَذِّب الطائع ويُنَعِّم العاصي، ولكنه

أخبر أنه لا يفعل ذلك، وخبره صدق لا خلاف فيه، وهذا الحديث يُقوّي مذهبهم، ويرد على المعتزلة حيث أثبتوا بعقولهم أعواض الأعمال، ولهم في ذلك خَبْط كثير. وقال بعض العلماء: لا تنافيَ بين ما في الآية والحديث، لأن الباء التي أثبَتَتِ الدخول هي باء السبب التي تقتضي سببية ما دخلت عليه لغيره، وإن لم يكن مستقلًا بحصوله، والباء التي نفت الدخول هي باء المعاوضة التي يكون فيها أحد العوضين مقابلًا للآخر، نحو اشتريت منه بكذا، فأخبر أن دخول الجنة ليس في مقابلة عمل أحد، وأنه لولا رحمة الله لعبده لما أدخله الجنة، لأن العمل بمجرده ولو تناهى لا يوجب بمجرده دخول الجنة، ولا يكون عوضًا لها، لأنه لو وقع على الوجه الذي يحبه الله لا يقاوم نعمةَ الله، بل جميع العمل لا يوازي نعمة واحدة، فلو طالبه بحقه لبقيت عليه من التشكر على تلك النعمة بقية لم يَقُم بها، فلذلك لو عذب أهل سماواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرًا من أعمالهم كما في حديث أُبيّ بن كَعْب عند أبي داود وابن ماجه، وهذا فصلُ الخطاب مع الجبرية النفاة للحكمة والتعليل، القائلين: إن القيام للعبادة ليس إلا لمجرد الأمر، من غير أن يكون سببًا للسعادة في معاشٍ ولا معاد ولا للنجاة، المعتقدين أن النار ليست سببًا للإِحراق، وأن الماء ليس سببا للإِرواء ولا التبريد، والقدرية الذين ينفون نوعًا من الحكمة والتعليل، القائلين: إن العبادات شُرِعت أثمانًا لما يناله العبد من الثواب والنعيم، وإنما هو بمنزلة استيفاء الأجير أجرته، مُحْتَجِّين بأن الله تعالى جعلها عوضًا عن العمل، كما في قوله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وبقوله عليه الصلاة والسلام مخبرًا عن ربه تعالى: "يا عبادي إنما هي أعمالكم، أُحصيها لكم، ثم أفيكم إياها" وهؤلاء الطائفتان متقابلتان أشد التقابل، وبينهما أعظم التباين، فالجبرية لم تجعل للأعمال ارتباطًا بالجزاء البتَّة، والقدرية جعلت ذلك بمحض الأعمال ثمنًا لها، والطائفتان جائرتان منحرفتان عن الصراط المستقيم

الذي فطر الله عليه عباده، وجاءت به رسله، ونزلت به كتبه، وهو أن الأعمال أسبابٌ موصلةٌ إلى الثواب والعقاب مقتضياتٌ لهما كاقتضاء سائر الأسباب لمسبباتها، وأن الأعمال الصالحة من توفيق الله تعالى ومنته وصدقته على عبده أن أعانه عليها ووفقه لها وخلق فيه إرادتها والقدرة عليها، وحببها إليه وزينها في قلبه، وكره إليه أضدادها، ومع هذا فليست ثمنًا لجزائه وثوابه، بل غايتها أن تكون شكرًا له أن قبلها سبحانه منه، ولهذا نفى عليه الصلاة والسلام دخول الجنة بالعمل ردًّا على القدرية القائلين: إن الجزاء بمحض الأعمال وثمنًا لها، وأثبت سبحانه وتعالى دخول الجنة بالعمل ردًّا على الجبرية الذين لم يجعلوا للأعمال ارتباطًا بالجزاء، فتبين أن لا تنافي بينهما، إذ تواردُ النفي والإِثبات ليس على معنى واحد، فالمنفي استحقاقها بمجرد الأعمال وكون الأعمال ثمنًا لها وعوضًا ردًّا على القدرية، والمثبت الدخول بسبب العمل ردًّا على الجبرية، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، فالتعارض إنما هو من جهة أنه كثيرًا ما تجيء السنة ببيان الحقيقة، ويأتي القرآن بإضافة الفعل إلى سببه ومكتسبه، والحاصل أنه كلّما نُفِيَ في الكتاب أو السنة الحكم عن السبب، فالمراد من ذلك النفي الرد على القدرية الملزمين وجود الثواب والعقاب به، وكُلّما ورد فيهما إثبات الحكم للسبب. فالمراد من ذلك الإِثبات الرد على الجبرية الذين لم يجعلوا بين الأسباب والمتسببات ارتباطًا البتة، وهذه فائدة عظيمة لأهل السنة، ويأتي إن شاء الله تعالى استيفاء الكلام على هذا الحديث عند ذكره في كتاب الرقاق في باب القصد والمداومة على العمل. وقوله: "وقال عِدَّةٌ من أهل العلم" أي -بكسر العين وتشديد الدال- أي: عدة من أهل العلم كأنس بن مالك فيما رواه الترمذي مرفوعًا بإسناد فيه ضَعْف وابن عُمر فيما رواه الطّبري في "تفسيره" والطبراني في "الدعاء" له، ومجاهد فيما رواه عبد الرزاق في "تفسيره"، وعبد الله بن عمر ومجاهد مرّا في الآثار المذكورة قبل ذكر حديث من هذا الكتاب، وأنس في السادس منه.

وقوله: "في قوله تعالى" في رواية الأصيلي وأبي الوقت: "عَزَّ وَجَلَّ". وقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ} [الحجر: 92] أي: المقتسمين جواب القسم مؤكد باللام. وقوله: {أَجْمَعِينَ} تأكيد للضمير في لَنَسألَنَّهم مع الشمول في أفراد مخصوصين. وقوله: {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} عن لا إله إلا الله، في رواية عن قول لا إله إلا الله. قال النووي: المعنى: لنسألنهم عن أعمالهم كلها التي يتعلق بها التكليف، فقول من خَصَّ بلفظ التوحيد دعوى تخصيص بلا دليل فلا تقبل. قال في "الفتح" لتخصيصهم وجه من جهة التعميم في قوله: {أَجْمَعِينَ} بعدم تقدم ذكر الكفار والمؤمنين في قوله: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 88] فيدخل المسلم والكافر في العموم، لكن الكافر مخاطب بالتوحيد بلا خلاف، بخلاف باقي الأعمال ففيها الخلاف، فمن قال: إنهم مخاطبون، يقول: إنهم مسؤولون عن الأعمال كلها، ومن قال: إنهم غير مخاطبين، يقول: إنما يُسألون عن التوحيد فقط، فالسؤال عن التوحيد متفق عليه، وحمل الآية على المتفق عليه أولى من حملها على ما فيه اختلاف، فهذا هو دليل التخصيص، وقول العيني: إن التعميم ليس في قوله: {أَجْمَعِينَ} بل التعميم في قوله: {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فتخصيص ذلك بالتوحيد تحكم غير ظاهر، فإن قوله: {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 93] راجع لقوله: {أَجْمَعِينَ} فعمومه عموم له، فتأمل. ولا تنافي بين هذه الآية وبين قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} لأن في القيامة مواقف مختلفة، وأزمنة متطاولة، ففي موقف وزمان يُسألون، وفي آخر لا يُسألون، أو لا يسألون سؤال استخبار بل سؤال توبيخ لمستحقه.

وقوله: "وقال" أي الله تعالى، وفي رواية سقوط وقال. وقوله: {لِمِثْلِ هَذَا} [الصافات: 61] أي الفوز العظيم. وقوله: {فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات: 61] أي في الدنيا، والظاهر أن المصنف تأولها بما تأول به الآيتين المتقدمتين، أي: فليؤمن المؤمنون لذلك الفوز العظيم، لا للحظوظ الدنيوية المشوبة بالآلام السريعة الانصرام، أو يُحمل العمل على عمومه، لأن من آمن لا بد أن يقبل، ومن قبل فمن حقه أن يعمل، ومن عمل لا بد أن ينال، فإذا وصل "قال لمثل هذا فليعمل العاملون" والقائل يحتمل أن يكون المؤمن الذي رأى قرينه، ويحتمل أن يكون كلامه انقضى عند قوله: {الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الصافات: 60] والذي بعده ابتداءٌ من قول الله تعالى أو بعض الملائكة لا حكاية عن قول المؤمن، والاحتمالات مذكورة في التفسير، ولعل هذا هو السِّرُّ في إبهام المصنف القائل، فإن كان غرض البخاري من هذا الباب وغيره إثبات أن العمل من أجزاء الإِيمان ردًّا على من قال: إن العمل لا دخل له في ماهية الإِيمان، فهذا الغرض غير تام إذ لا يَخْفى أن العمل ليس من نفس الإِيمان، وإن كان مراده جواز إطلاق العمل على الإِيمان فلا نزاع فيه، لأن الإِيمان عمل القلب، وهو التصديق، وقد مرّ الكلام عليه مستوفى.

الحديث التاسع عشر

الحديث التاسع عشر 26 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ وَمُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالاَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ ابْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» قِيلَ ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: «الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ» قِيلَ، ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: «حَجٌّ مَبْرُورٌ». قوله: "سُئل" أبهم السائل وهو أبو ذر الغِفاري، وحديثه في العتق، ويأتي تعريفه في الثالث والعشرين من الإِيمان هذا عند التصريح به هناك. وقوله: "قال الجهاد" وقع في "مسند" الحارث بن أبي أسامة عن إبراهيم بن سَعْد "ثم جهاد" فوافى بين الثلاثة في التنكير بخلاف ما عند المصنف، وأُجيب عن هذا بأن الإِيمان والحج لا يتكرران، والجهاد يتكرر، فالتنوين فيهما للإِفراد الشخصي، والتعريف فيه للكمال، إذ الجهادُ لو أتى به مرة مع الاحتياج إلى تكراره لما كان أفضل، وتعقِّب بأن التنكير من جملة وجوهه التعظيم، وهو يعطي الكمال، والتعريف من جملة وجوهه العهد وهو يعطي الإِفراد الشخصي، فيبطل الفرق، والظاهر كما تدل عليه رواية الحارث المارة أن التنكير والتعريف من تصرف الرواة، لأن مَخْرَجَهُ واحد فلا حاجة في طلب الفرق. وقوله: "حجٌّ مبرور" أي: مقبول، ومنه: بَرَّ حَجُّك، وقيل: هو الذي لا يخالطه إثم، أي: لم يُعْصَ الله به ولا فيه ولا معه. وقيل هو الذي لا رياء فيه، وعلامة القَبول أن يكون حاله بعد الرجوع خيرًا مما قبله.

رجاله ستة

وقد وقع هنا ذكر الجهاد بعد الإِيمان، وفي حديث أبي ذرٍّ لم يذكر الحج وذكر العِتْق، وفي حديث ابن مسعود بدأ بالصلاة ثم البِرّ ثم الجهاد، وفي الحديث المتقدم ذكر السلامة من اللسان واليد. قال العلماء: اختلاف الأجوبة في ذلك باختلاف الأحوال، واحتياج المخاطبين، وذكر ما لم يعلَمْه السائل والسامعون، وترك ما علموه، ويمكن أن يقال: إن لفظة "من" مرادةٌ، يعني في "أفضل" المقدرة، كما يقال: فلان أعقل الناس، والمراد: من أعقلهم، ومنه حديث: "خيرُكم خيرُكم لأهله" ومن المعلوم أنه لا يصير بذلك خير الناس، فإن قيل: لم قدم الجهاد وليس بركن على الحج وهو ركن، فالجواب أن نَفْعَ الحج قاصرٌ غالبًا، ونفع الجهاد متعدٍّ غالبًا، أو كان ذلك حيث كان الجهاد فرض عين، ووقوعُهُ فرض عين إذ ذاك متكررٌ، فكان أهم منه، فقُدِّم. رجاله ستة: الأول: أحمد بن عبد الله بن يونُس بن عبد الله بن قَيْس التَّمِيميّ اليَرْبُوعيّ الكوفي، وقد ينسب إلى جده. قال أحمد بن حنبل لرجل: اخرج إلى أحمد بن يونُس، فإنه شيخ الإِسلام. قال أبو حاتم: كان ثقة متقنًا، آخر من روى عن الثَّوريّ. وقيل: آخر من روى عنه عَليُّ بن الجَعْد. وقال النّسائي: ثقة. وقال عُثمان بن أبي شَيْبة: كان ثقة، وليس بحجة. وقال ابن سَعْد: كان ثقة صدوقًا صاحب سنة وجماعة. وقال العِجليّ: ثقة صاحب سنة. وقال أبو حاتم: كان من صالحي أهل الكوفة وسُنِّيّيها. وذكره ابن حِبّان في "الثقات". وقال ابن قانع: كان ثقة ثبتًا مأمونًا. وقال ابن يونس: أتَيْت حماد بن زَيْد، فسألته أن يملي علي شيئًا من فضائل عثمان - رضي الله عنه - فقال: من أين أنت، فقلت: من أهل الكوفة، فقال: كوفيٌّ يطلب فضائل عثمان؟! فوالله لا أمليتها عليك إلا أنا قائم وأنت جالس. وقال أبو داود: هو أنبل من

ابن أبي فْدَيْك. وقال أبو عُبيد الآجُرّيّ عن أبي داود: سمعته يقول: مات الأعْمش وأنا ابن أربع عشرة سنة، ورأيت أبا حنيفة ومِسْعرًا وابن أبي لَيلى يقضي خارج المسجد من أجل الحُيَّض. روى عن: الثَّوري، وابن عُيَينة، وزائدة، وعاصم بن محمَّد، وابن أبي الزِّناد، وإسرائيل، واللَّيث، ومالك، وخلق. وروى عنه: البخاري، ومسلم، وأبو داود، والباقون بواسطة، وأبو زُرعة، وأبو حاتم، وصاعِقة، والحارث بن أبي أسامة، وإسحاق الحَرْبيّ، وإسماعيل سَمّوَيْه، وخلق. مات في ربيع الآخر بالكوفة ليلة الجمعة لخمس بقين من الشهر، وهو ابن أربع وتسعين سنة. وأحمد بن عبد الله في الستة سواه عشرة. واليَرْبُوعيّ في نسبه نسبة إلى يَرْبوع بن حَنْظلة بن مالك بن عَمرو بن تميم أبو حي من تميم، منهم مُتَمِّم بن نُوَيرة اليَرْبُوعي الصحابي وأخوه مالك. الثاني: موسى بن إسماعيل المِنْقَريّ وقد مر في الخامس من بدء الوحي. الثالث: إبراهيم بن سَعْد، وقد مرّ أيضًا في السادس عشر من كتاب الإِيمان هذا، ومرّ ابن شِهاب الزُّهريّ في الثالث من بدء الوحي. الخامس: سعيد بن المُسيِّب بن حَزْن بن أبي وَهْب بن عَمرو بن عائذ ابن عِمران بن مخزوم القُرَشيّ المخزُومي أبو محمَّد الأعور، رأس التابعين وفردهم وفاضلهم وفقيههم، أبوه وجده صحابيان أسلما يوم الفتح، ولد سعيد لسنتين مضتا من خلافة عُمر رضي الله عنه، وقيل: لأربع، وهو زوج بنت أبي هُريرة، وأعلم الناس بحديثه، دخل على أزواج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وأخذ عنهن.

وقال عبد الله بن عُمر - رضي الله عنهما - لرجل سأله عن مسألة: ائت ذاك فاسأله -يعني سعيدًا- ثم ارجع إليّ فأخبرني، ففعل، فقال: ألم أخبركم أنه أحد العلماء؟ وقال أيضًا في حقه لأصحابه: لو رأى هذا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لسَرَّه. وقال نافع عن ابن عُمر: هو والله أحد المتقنين. وسُئل مَكْحول والزُّهريّ: من أفقه من أدركتما؟ فقالا: سعيد بن المسيِّب. وقال عَمرو بن ميمون عن أبيه: قدمت المدينة، فسألت عن أعلم أهل المدينة، فدُفِعت إلى سعيد بن المُسيِّب. وقال ابن شِهاب: قال عبد الله بن ثَعْلبة: إن كنت تريد الفقه فعليك بهذا الشيخ سعيد بن المُسيَّب. وقال قَتادة: ما رأيت أحدًا أعلم بالحلال والحرام منه. وقال مكحول أيضًا: طُفت الأرض كلها في طلب العلم، فما لقيت أعلم منه. وقال ابن المديني: لا أعلم في التابعين أوسع علمًا من سعيد بن المُسيِّب، قال: وإذا قال سعيد بن المسيب: مَضَتِ السُّنَّة، فحسبك به. قال: هو عندي أجل التابعين. وقال أبو حاتم: ليس في التابعين أنبلُ منه، وهو أثبتهم في أبي هُريرة. وقال الشافعي: إرسال ابن المُسيِّب عندنا حسنُ. وقال أحمد: مرسلاتُ سعيد صحاح لا نرى أصحّ منها. وقال أيضًا: أفضل التابعين لسعيد بن المُسيِّب، وقيل له: سعيد بن المُسيِّب؟ فقال: ومَنْ مثل سعيد ثقةً من أهل الخير؟ قيل له: سعيدٌ عن عمر حجة؟ فقال: هو عندنا حجة، قد رأى عمر وسمع منه، وإذا لم يُقْبل سعيد عن عمر، فمن يقبل؟ قال النووي في "تهذيب الأسماء": قولهم: إنه أفضل التابعين، مرادهم أفضلهم في علم الشرع، وإلا ففي "صحيح" مسلم عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّ خير التابعين رجلٌ يقال له: أُوَيْس، وبه بياضٌ، فمروه فلْيَستغفر لكم". وهو أحد الفقهاء السبعة باتفاق، ورُوي عنه أنه قال: ما فاتتني التكبيرة الأولى منذ خمسين سنة، وما نظرت في قفا رجل غير الإِمام منذ خمسين سنة لمحافظتي على الصف الأول، وقيل: إنه صلى الصبح بوضوء العشاء خمسين سنة.

وقال ابن حِبّان في "الثقات": كان من سادات التابعين فقهًا ودينًا وورعًا وعبادةً وفضلًا، وكان أفقه أهل الحجاز، وأعْبَر الناس للرؤيا، ما نُودي بالصلاة من أربعين سنة إلا وسعيد بالمسجد، فلما بايع عبد الملك للوليد وسُليمان وأبَى سعيدٌ ذلك، ضربه هشام بن إسماعيل المَخْزومي ثلاثين سوطًا، وألبسه ثيابًا من شَعْر، وأمر به فطيف به، وسجن بأمر عبد الملك بن مروان لما كُتب له أن أهل المدينة قد أطبقوا على البيعة للوليد وسليمان إلا ابن المسيِّب، فكتب إليه أن اعرضه على السَّيْف، فإن مضى فاجلِده خمسين جلدةً، وطُف به أسواق المدينة، فلما قدم الكتاب على الوالي دخل سليمان بن يَسار وعُروة بن الزُّبير وسالم بن عبد الله على سعيد بن المُسيِّب، وقالوا له: جئناك في أمر، قد قدم كتاب من أمير المؤمنين إن لم تُبايع ضُرِبت عُنُقُك ونحن نعرض عليك خصالًا ثلاثًا، فأعطنا واحدة منهن، فإن الوالي قد قبل أن يقرأ عليك الكتاب، فلا تقل لا ولا نعم، قال: يقول الناس: بايع سعيد ابن المُسيِّب، ما أنا بفاعل، وكان إذا قال لا، لم يستطيعوا أن يقولوا نعم. قالوا: فتجلس في بيتك ولا تخرُجُ إلى الصلاة أيامًا، فإنه يقبل منك إذا طلبك من مجلِسِك فلم يجِدْك. قال: فأنا أسمع الأذان فوق أُذُني "حيَّ على الصلاة حيَّ على الفلاح"، ما أنا بفاعل. قالوا: فانتَقل من مجلِسِك إلى غيره فإنه يرسل من مجلسك، فإن لم يَجِدْك أمْسَكَ عنك. قال أفرقًا من مخلوقٍ؟ ما أنا بمتقدم شبرًا ولا متأخرٍ، فخرجوا وخرج إلى صلاة الظهر، فجلس في مجلسه الذي كان يجلس فيه، فلما صلى الوالي بعث إليه، فأتي به، فقال: إن أمير المؤمنين كتب يأمرنا إن لم تُبايع ضَرَبنا عُنُقَكَ قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيعتين. فلما رآه لم يُجب أُخْرِجَ إلى السُّدّة، فَمُدَّت عنقه، وسُلَّت السيوف، فلما رآه قد مضى أمر به، فجُرّد، فإذا عليه ثياب شعر، فقال: لو علمت بهذا ما اشتهرت بهذا الشأن، فضربه خمسين سوطًا، ثم طاف به أسواق المدينة، فلما ردوه والناس منصرفون من صلاة العصر، قال: إنَّ هذه لَوجوهٌ ما نظرت إليها منذ أربعين سنة،

ومنعوا الناس من مجالسته، وكان من ورعه إذا جاء إليه أحد يقول: قُم من عندي كراهيةَ أن يُضرب بسببه. وقال مالك - رضي الله عنه - بلغني أن سعيد بن المُسيِّب كان يلزم مكانًا من المسجد لا يصلي ذهب غيره من المسجد، وأنه لياليَ صنع به عبد الملك ما صنع، قيل له أن يَترُكَ الصلاة فيه، فأبى إلا أن يصلي فيه، وكان يقول: ما أعزت العباد نفسها بمثل طاعة الله، ولا أهانت نفسها بمثل معصية الله، وكان قد حَجّ أربعين حجة لا يأخذ العطاء، وكان له بضاعة أربع مئة دينار يَتَّجِرُ بها في الزيت، ودعي إلى نَيِّفٍ وثلاثين ألفًا ليأخذها، فقال: لا حاجة لي فيها، ولا في بني مروان حتى ألقى الله تعالى فيحكم بيني وبينهم. وقيل له وقد نزل الماء في عينيه: ألا تقدح عينيك؟ قال: فيم أفتحها؟ وكان يقول: لا تملؤوا أعينكم من أعوان الظلمة إلا بإنكار قلوبكم، لكي لا تحبطَ أعمالكم. وكان جابر بن الأسود على المدينة، فدعا سعيدًا إلى البيعة لابن الزُّبير، فأبى، فضربه ستين سوطًا، وطاف به المدينة. وخطب عنده عبد الملك ابنته لابنه الوليد حين ولاه العهد، فأبى أن يزوجه، فلم يزل عبد الملك يحتال على سعيد حتى ضربه في يوم باردٍ وصبَّ عليه الماء، وكان أبو وداعة يجالس سعيد بن المسيِّب ففقده أيامًا، قال: فلما جئته، قال: أين كنت؟ قلت: توفيت زوجة لي فاشتغلت بها. فقال: ألا ما أخبرتنا فشهدناها، ثم قال: ثم أردت أن أقوم، فقال: هل تزوجت امرأة غيرها؟ فقلت: يرحمك الله، ومن يزوجني وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة؟ فقال: إن أنا فعلت تفعل؟ قلت: نعم. ثم حمد الله، وصلى على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وزوجني على دِرهمين أو قال: ثلاثة. قال: فقمت وما أدري ما أصنع من الفرح والسرور، فسرت إلى منزلي، وجعلت أتفكر ممن آخذ، وصليت المغرب، وكنت صائمًا فقدمت عشاي لأفطر، وكان

خبزًا وزيتًا، وإذا بالباب يقرع، فقلت: من هذا؟ فقال: سعيد. ففكرت في نفسي في كل إنسان اسمه سعيد، إلا سعيد بن المُسيِّب؛ لأنه لم يُرَ منذ أربعين سنة إلا بين بيته والمسجد، فقمت، وخرجت، وإذا بسعيد ابن المُسيِّب، فظننت أنه قد بدا له، فقلت له: يا أبا محمَّد هَلَّا أرسلت إلي فآتيك، قال: لا أنت أحق أن تؤتى، قلت: فماذا تأمرني؟ قال: رأيتك رجلًا عَزَبًا قد تزوجت، فكرهت أن تبيت الليلة وحدك، وهذه زوجتك، فإذا هي قائمة خلفه في طوله، ثم دفعها في الباب ورَدَّ الباب، فسقطت المرأة من الحياء، فاستوْثَقْت من الباب، ثم صعدت إلى السطح، فناديت الجيران، فجاؤوني، وقالوا: ما شأنك؟ قلت: زوجني سعيد بن المُسيِّب اليوم ابنته، وقد جاء بها على غَفْلة، وها هي في الدار، فنزلوا إليها، وبلغ أمي الخبر، فجاءت وقالت: وجهي من وجهك حرام إن مَسَسْتها قبل أن أصلحها ثلاثة أيام، فمكثت ثلاثًا، ثم دخلتُ بها، فإذا هي من أجمل الناس، وأحفظهم لكتاب الله تعالى، وأعلمهم بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأعرفهم بحق الزوج. قال: فمكثت شهرًا لا يأتيني ولا آتيه، ثم أتيته بعد شهر وهو في حَلْقته، فسلمت عليه، فرد علي ولم يكَلِّمني حتى انفضَّ مَنْ في المسجد، فلما لم يبق غيري، قال: ما حال ذاك الإنسان؟ قلت: هو على ما يُحِبُّ الصديق ويكره العدو. قال: إن رابك منها شيء فالعصا، فانصرفت إلى منزلي. وقال الليث عن يحيى بن سعيد: كان سعيد يُسمّى راوية عمر، كان أحفظ الناس لأحكامه وأقضيته. وقال إبراهيم بن سعد عن أبيه عن سعيد: ما بقي أعلم بكل قضاء قضاهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكل قضاء قضاه أبو بكر، وكل قضاء قضاه عُمر، وكل قضاء قضاه عثمان مني. وقال مالك: بلغني أن ابن عُمر كان يُرسل إلى ابن المُسيِّب يسأله عن بعض شأن عمر وأمره. قال مالك: لم يَسْمع من عُمر، ولكنه أكب على المسألة في شأنه وأمره حتى كأنه روى منه. وقال قَتادة: كان الحسن إذا أشكل عليه شيء كتب إلى سعيد بن المُسيِّب. وقال أبو زُرْعة: مدني قُرشيٌّ إمام ثقة. وقال يزيد

ابن أبي مالك: كنت عند سعيد بن المُسيِّب، فحدثني بحديث، فقلت له: من حدثك يا أبا محمَّد بهذا؟ فقال: يا أخا أهل الشام، خذ ولا تسأل، فإنا لا نأخذ إلا عن الثقات. وقال إياس بن مُعاوية: قال لي سعيد ابن المُسيّب: ممن أنت؟ قلت: من مُزَيْنة. قال: إني لأعقل يوم نَعَى عمر ابن الخطاب النعمان بن مُقَرِّن على المِنْبر. وروى عِمران بن عبد الله الخُزَاعيّ عنه أنه قال: أنا أصلحت بين عليّ وعُثمان رضي الله تعالى عنهما. وأنكر ابن مَعين هذا الحديث، وقال: قد رأى عُمر وكان صغيرًا. وقال الواقِديّ: لم أرَ أهلَ العلم يصححون سماعه من عمر، وإن كانوا قد رووه. قال ابن حَجَر: قد وقع لي حديث بإسناد صحيح لا مَطْعَن فيه، فيه التصريح بسماعه من عُمر من طريق داود بن أبي هِند، عن سعيد بن المُسيِّب، قال: سمعت عُمر بن الخطاب على هذا المنبر يقول: عسى أن يكون بعدي أقوام يُكذِّبون بالرَّجم، يقولون لا نجدُهُ في كتاب الله، لولا أن أزيد في كتاب الله ما ليس منه لكتبت: إنه حقٌّ، قد رجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورجم أبو بكر، ورجمت أنا. وانظر إسناده إلى داود بن أبي هند في "تهذيب التهذيب" إن شئت. روى عن أبي بكر مُرسلًا، وعن عُمر، وعن عثمان، وعلي، وسعد ابن أبي وقّاص، وحَكيم بن حِزام، والعبَادلة ما عدا ابن الزُّبير، وأبيه المُسيِّب، وأبي الدَّرداء، وأبي ذَرّ، وحسان بن ثابت، وزيد بن ثابت، وعائشة، وأسماء بنت عُمَيْس، وأم سُلَيْم، وخلق كثير. وروى عنه: ابنه محمَّد، وسالم بن عبد الله بن عُمر، والزُّهريّ، وقَتادة، وداود بن أبي هِند، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، وأبو جَعفر الباقِر، وابن المُنْكَدر، وعبد المجيد بن سُهيل، وهاشم بن هاشم بن عُتبة، وخلق كثير. مات سنة أربع وتسعين في خلافة الوليد وهو ابن خمس وسبعين سنة. قال ابن حَجَر: وعلى تقدير ما ذَكروا عنه أن مولده لسنتين مضتا من خلافة

عُمر، والإِسناد إليه صحيح، يكون مبلغ عمره ثمانين سنة إلا سنة، لا كما قال الواقِدِيّ، ويؤيده ما ذكره ابن أبي شَيْبة عنه أنه قال: قد بلغت ثمانين سنة وإن أخوفَ ما يكون علي النساء. وأبوه المسيِّب -بضم الميم وفتح الياء على المشهور عند المحدثين، وفي "القاموس": وكمحدث والد سعيد ويفتح- وقال بعض المحدثين: أهل العراق يفتحونه، وأهل المدينة يكسرونه، ويُحكى أن سعيدًا كان يكره فتح الياء ويقول: سَيَّب الله من سَيَّب أبي، والكسر حكاه عِياض، وابن المديني. والمُسيَّب غير والد سعيد بالفتح من غير خِلاف، كالمسَيَّب بن رافع، ابنه العلاء بن المُسَيَّب. وفي نسب سعيد هذا يتفاضل النّسابون، لأن في بني مخزوم عابدًا بالدال المهملة والباء الموحدة، وعايذًا بالمثناة آخر الحروف والذال المعجمة، فالأول: هو عابد بن عبد الله بن عُمر بن مَخزوم، ومن ولده السائب والمُسيَّب ابنا أبي السائب، واسم أبي السائب صَيْفي بن عابد بن عبد الله، وولده عبد الله بن السائب شريك النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي قال فيه: "نعم الشريك" وقيل: الشريك أبوه السائب، وعتِيق بن عابد بن عبد الله كان على أُمِّنا خديجة رضي الله عنها قبل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأما عائِذ فهو ابن عِمران ابن مَخْزوم، ومن ولده: سعيد، وأبوه، وفاطمة أم عبد الله والد النبي - صلى الله عليه وسلم - بنت عُمر بن عائذ بن عِمران، وهُبيرة بن أبي وُهَيب بن عَمْرِو بن عائذ بن عمران، وهُبيرة هذا هو زوج أم هانىء بنت أبي طالب، فَرَّ عن الإِسلام يوم فتح مكة، ومات كافرًا بنجران، والله تعالى أعلم. وعن ابن قُتَيْبة قال: أتى جَدُّه حزنٌ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال له: ما اسمك؟ قال له: حزن. قال له: أنت سَهْل. قال: بل أنا حزن، ثلاثًا. قال سعيد: فما زِلنا نعرف تلك الحُزُونة فينا، ففي ولده سوءُ خلق. السادس: أبو هُريرة وقد مر في الثاني من كتاب الإِيمان.

باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة وكان على الاستسلام أو الخوف من القتل لقوله تعالى: {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا} فإذا كان على الحقيقة فهو على قوله جل ذكره: {إن الدين عند الله الإسلام} ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه.

لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة، وفيه شيخان للبخاري وهما أحمد بن يونُس وموسى بن إسماعيل، وفيه أربعة كلهم مدنيون، أخرجه البخاري هنا، ومسلم في كتاب الإِيمان، والنّسائي نحوه، والترمذي بلفظ غير المذكور هنا ثم قال المؤلف. باب إذا لم يكن الإِسلام على الحقيقة وكان على الاستسلام أو الخوف من القتل لقوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} فإذا كان على الحقيقة فهو على قوله جل ذكره: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} ومن يبتغ غير الإِسلام دينًا فلن يقبل منه. باب بالتنوين، وقوله: "إذا" متضمن معنى الشرط، وجوابه محذوف، أي: إذا كان الإِسلام على ما ذُكر لا يُنتفَع به في الآخرة. ومحصل ما ذكره أن الإِسلام يُطلق وتراد به الحقيقة الشرعية، وهو الذي يرادف الإِيمان، وينفع عند الله، وعليه قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19] ويُطلق وُيراد به الحقيقة اللغوية، وهو مجرد الانقياد والاستسلام، فالحقيقة في كلام المصنف هنا هي الشرعية، ومناسبة الحديث للترجمة ظاهرة من حيث أن المسلم يُطلق على من أظهر الإِسلام وإن لم يُعْلَم باطنه، فلا يكون مؤمنًا لأنه ممن لم تَصْدُق عليه الحقيقة الشرعية، وأما اللغوية فحاصلة. فقوله: "وكان على الاستسلام" أي: الانقياد والظاهر. وقوله: "لقوله تعالى" في رواية: "عَزَّ وَجَلَّ " بدل تعالى. وقوله: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ} [الحجرات: 14] المراد بهم أهل البدو، ولا واحد له من لفظه، ومقول قولهم قوله: {آمَنَّا} [الحجرات: 14] نزلت في نفر من بني أسلم قدموا المدينة في سنة جَدْب، وأظهروا الشهادتين، وكانوا يقولون لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أتيناك بالأثقال والعِيال، ولم نقاتِلك كما قاتلك بنو فلان، يريدون الصدقة ويَمُنّون،

فقال الله تعالى لرسوله: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} [الحجرات: 14] إذ الإِيمان تصديق مع ثقة وطمأنينة قلب {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] فإن الإِسلام انقياد، ودخول في السِّلْم، وإظهار للشهادة لا بالحقيقة، ومن ثمّ قال تعالى: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} لأن كل ما يكون بالإِقرار باللسان من غير مواطأة القلب فهو إسلام، وما واطأ فيه القلبُ اللسان فهو إيمان، وكان نظم الكلام أن يقول: لا تقولوا آمنا، ولكن قولوا أسلمنا، إذ لم تؤمنوا، ولكن أسلمتم، فعدل عنه إلى هذا النظم ليُفيد تكذيبَ دعواهم. وفي هذه الآية حُجّة على الكَرّامية ومن وافقهم من المُرجئة في قولهم: إن الإِيمان إقرار باللسان فقط، ومثل هذه الآية في الرد عليهم قوله تعالى: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} [المجادلة: 22] إذ لم يَقُل كَتَب في ألسنتهم، ومِن أقوى ما يُرَدُّ عليهم به الإِجماع على كفر المنافقين مع إظهارهم الشهادتين. وقوله: "فإذا كان على الحقيقة" أي: الشرعية، وهو الذي يُرادف الإِيمان، وينفع عند الله تعالى. وقولى: "فهو على قوله جل ذكره: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} جواب "فإذا كان"، أي: لا دينَ مرضيٌّ عنده تعالى سواه. وفتح الكِسائيُّ همزة "إنَّ" على أنه بدل الكل من الكل إن فُسِّرَ الإِسلام بالإِيمان، أو بدل اشتمال إن فُسِّر بالشريعة. وقد استدل المؤلف بهذه الآية على أن الإِسلام الحقيقي هو الدين، وعلى أن الإِيمان والإِسلام مترادفان، وهو قول جماعة من المحدثين، وجمهور المعتزلة والمتكلمين، واستدلوا أيضًا بقوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات: 35] فاستثنى المسلمين من المؤمنين، والأصل في الاستثناء كون المستثنى من جنس المستثنى منه، فيكون الإِسلام هو الإِيمان، ورُدَّ

بقوله تعالى: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] فلو كانا شيئًا واحدًا لزم إثبات شيء ونفيه في آن واحد، وهو محال، وأُجيب بأن الإِسلام المعتبر في الشرع لا يوجد بدون الإِيمان، وهو في الآية بمعنى انقياد الظاهر من غير انقياد الباطن كما مر قريبًا. وقوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا} [آل عمران: 85] أي: غير التوحيد والانقياد لحكم الله. وقوله: {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} جواب الشرط، ووجه استدلال المصنف به على مذهبه الذي هو ترادفهما هو أن الإِيمان لو كان غير الإِسلام لما كان مقبولًا، فتعين أن يكون عينه، لأن الإِيمان هو الدين، والدين هو الإِسلام لقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} فينتج أن الإِيمان هو الإِسلام، وسقط للكُشْمِيهنِي والحَمَويّ قوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ ... الخ}.

الحديث العشرون

الحديث العشرون 27 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ سَعْدٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَعْطَى رَهْطًا -وَسَعْدٌ جَالِسٌ- فَتَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلاً هُوَ أَعْجَبُهُمْ إِلَيَّ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَالَكَ عَنْ فُلاَنٍ؟ فَوَاللَّهِ إِنِّي لأَرَاهُ مُؤْمِنًا، فَقَالَ: أَوْ مُسْلِمًا. فَسَكَتُّ قَلِيلاً. ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ مِنْهُ فَعُدْتُ لِمَقَالَتِي فَقُلْتُ: مَا لَكَ عَنْ فُلاَنٍ؟ فَوَاللَّهِ إِنِّي لأَرَاهُ مُؤْمِنًا فَقَالَ: أَوْ مُسْلِمًا. فسكت قليلًا ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ مِنْهُ فَعُدْتُ لِمَقَالَتِي وَعَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ قَالَ: «يَا سَعْدُ إِنِّي لأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ خَشْيَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ فِي النَّارِ». قوله: "أعطى رَهْطًا" الرهط العدد من الرجال لا امرأة فيهم، من ثلاثة إلى عشرة، وربما جاوز ذلك قليلًا، ولا واحد له من لفظه، وجمعه: أرهُط وأراهِط وأراهِيط وأرْهاط، ورهط الرجل بنو أبيه الأدنى، وقيل: قبيلته، وعند الإِسماعيلي أنه "جاءهُ رهْطٌ، فسألوه، فأعطاهم وترك رجلًا، وإنّما أعطاهم لِيَتألَّفَهم لضَعْف إيمانهم". وقوله: "وسعدٌ جالسٌ" جملة اسمية حالية، ولم يقل: وأنا جالس كما هو الأصل، بل جرَّد من نفسه شخصًا، وأخبر عنه بالجلوس، أو هو من باب التعبير بخلاف مُقتضى الظاهر، إذ المَقام مقام التكلم، وعدل عنه إلى الغَيْبة، ويسميه صاحب "المفتاح" التفاتًا، ولفظه في

الزكاة: "أعطى رجلًا وأنا جالسٌ" فساقه بلا تجريد ولا التفات، وزاد فيه: "فقُمتُ إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فسارَرْتُه" وغَفَل بعضهم، فعزا هذه الزيادة إلى مسلم فقط. وقوله: "فتركَ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم رجلًا" أي: سأله أيضًا مع كونه أحبَّ إليه ممن أعطى، وهو جُعَيْل، ويأتي تعريفه في آخر السند. وقوله: "هو أعجبهم إلي" أي: أفضلهم وأصلحهم في اعتقادي، والجملة في محل نصب صفة لرجلًا، وفي قوله: "إليّ" التفات من الغَيْبة إلى التكلم. وقوله: "مالَكَ عن فلانٍ؟ " أي: أي سبب لعُدولِك عنه إلى غيره، ولفظ فلان كناية عن اسم أُبْهم بعد أن ذُكر. وقوله: "فوالله" فيه القسم في الإِخبار على سبيل التأكيد. وقوله: "لأراه مؤمنًا" فيه فتح الهمزة ومعناه أعلم، وضم الهمزة ومعناه أظنه. وجَزَم القُرْطُبيّ بالضم قائلا: إنه هو الرواية. ومنعه النّوويّ محتجًّا بقوله الآتي: "ثم غلبني ما أعلم منه" ولأنه راجع النبي - صلى الله عليه وسلم - مرارًا، فلو لم يكن جازمًا باعتقاده لما كرر المراجعة، وتُعُقِّب بأنه لا دلالة فيه على تَعَيُّن الفتح لجواز إطلاق العلم على الظن الغالب نحو قوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10] أي: العلم الذي يمكنكم تحصيله، وهو الظن الغالب بظهور الأمارات، وإنما سمي علمًا إيذانًا بأنه كالعلم في وجوب العمل. وقال العَيْني: إن قسم سعد وتأكيد كلامه بأن واللام ومراجعته للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وتكرار نسبة العلم إليه يدُلُّ على أنه كان جازمًا باعتقاده، وإنما كانت همزة أراه بمعنى الظن، مضمومة وبمعنى العلم مفتوحة لغلبة استعمال التي بالضم في معنى الظن، فلم ينطِقوا في أرأيت بمعنى أظننت، وفي مضارعها بالمبني

للفاعل كما لم ينطقوا بأظَنَنت التي أُريتَ بمعناها، وأصل أُرى يريني الله، فعُمِل فيه العمل المشهور من ضم أوله وفتح ما قبل آخره وحذف الفاعل، وزيد على ذلك هنا إبدال الياء همزة للاحتياج إلى ذلك، لأنه لما حذف الفاعل وأنيب المفعول به لزم إسناد الفعل إلى ضمير المتكلم، ولا يسند له إلا المبدوء بالهمزة، فحذفت الياء، وأُتي بالهمزة عوضَها. وقوله: "فقال: أو مسلمًا" أي: بسكون الواو فقط، فقيل: هي للتنويع، وقيل: للتشريك، وإنه أمره أن يقولهما معًا لأنه أحوط، ويَرُدُّ هَذا رواية ابن الأعْرابي في "معجمه" في هذا الحديث فقال: "لا تَقُل: مؤمنٌ بل مسلمٌ" فوضح أنها للإِضراب، وليس معناه إنكار أن الرجل مؤمنٌ، بل معناه النهي عن القطع بإيمان من لم يُخْتَبَر حاله الخبرة الباطنة، لأن الباطن لا يَطَّلع عليه إلا الله، فالأولى التعبير بالإِسلام الظاهر، بل في الحديث إشارة إلى إيمان المذكور، وهي قوله: "لأعطي الرجل وغيرُهُ أحبَّ إليّ منه" وقوله: "ثمَّ غلبني ما أعلم منه، فعُدت لمقالتي، وعاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" وليس في رواية الكُشْمِيهَنِيّ إعادة السؤال ثانيًا، ولا الجواب عنه. وقوله: "إني لأُعطي الرجل وغيرُهُ أحب إلي منه" أي: أعجب إليّ منه، وهو جملة حالية "خشية أن يَكُبَّه الله في النار" لكفره إما بارتداده إن لم يُعْطَ، أو لكونه يَنْسُبُ النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى البخل، وأما من قوي إيمانه فهو أحب إليّ فأكلُهُ إلى إيمانه، ولا أخشى عليه رجوعًا عن دينه، ولا سوءًا في اعتقاده. وقوله: "يَكُبّه الله" هو بفتح أوله وضم الكاف، يقال: أكَبَّ الرجل إذا أطرق، وكَبَّه غيره إذا قلبه، وهذا على خلاف القياس، لأن الفعل اللازم يتعدى بالهمزة، وهذا زيدت فيه الهمزة فَقَصُر، وجاء نظير هذا في أحرف يسيرة منها: أنْسَلَ ريشُ الطائر ونَسَلْتُه، وأنْزفَتِ البئرُ ونَزَفتها، وأمْرَت الناقةُ: درت، ومَرَيْتُها، وأشْبق البعير: رفع رأسه، وشَبَقته،

وأقشع الغيمُ، وقَشَعَتْه الريح، وفي هذا اللفظ كناية، فإن الكَبَّ في النار لازم الكفر، فأُطلق اللازم واريد الملزوم الذي هو الكفر. ومحصل القصة أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يُوسع العطاء لمَن أظهر الإِسلام تألفًا، فلما أعطى الرّهْط وهم من المُؤلَّفَة، وترك جُعَيْلًا وهو من المهاجرين، مع أن الجميع سألوه، خاطبه سعد في أمره لأنه كان يرى أن جعيلًا أحق منهم لما اختبره منه دونهم، ولهذا راجع أكثر من مرة، فأرشده النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلى أمرين: أحدهما: إعلامه بالحكمة في إعطاء أولئك وحرمان جُعَيل، مع كونه أحب إليه ممن أعطى، لأنه لو ترك إعطاء المؤلف لم يُؤمن ارتداده فيكون من أهل النار. ثانيهما: إِرشاده إلى التوقف عن الثناء بالأمر الباطن دون الثناء بالأمر الظاهر، فَوَضحَ بهذا فائدة رَدِّ الرسول عليه الصلاة والسلام على سعد، وأنه لا يستلزم محض الإِنكار عليه، بل كان أحد الجوابين على طريق المشورة بالأوْلى أي: الإشارة، والآخر على طريق الاعتذار. فإن قيل: كيف لم تُقْبل شهادة سعد لجُعيل بالإِيمان، ولو شَهِد له بالعدالة لقُبل منه وهي تستلزم الإِيمان؟ فالجواب أن كلام سعد لم يَخْرُج مخرج الشهادة، وإنما خرج مخرج المدح له، والتوسل في الطلب لأجله، فلهذا نوقِشَ في لفظه، حتى ولو كان بلفظ الشهادة لما استلزمت المشورة عليه بالأمر الأوْلى رد شهادته، بل السياق يرشِدُ إلى أنه قَبِل قوله فيه، بدليل أنه اعتذر إليه، ويأتي في تعريفه قريبًا حديث أبي ذَرٍّ المصرح فيه بفضله. وفي حديث الباب من الفوائد التفرقة بين حقيقتي الإِيمان والإِسلام، وترك القطع بالإِيمان الكامل لمن لم يُنَصَّ عليه، وأما منع القطع بالجنة فلا يؤخذ من هذا صريحًا، وإن تعرض له بعض الشارحين، نعم هو كذلك فيمن لم يَثْبُت فيه النص كالعشرة، وفيه الرد على غُلاة المرجئة في اكتفائهم في الإِيمان بِنُطْق اللسان، وفيه جواز تصرف الإِمام في مال

رجاله خمسة

المصالح وتقديم الأهم فالأهم، وإن خَفِي وجه ذلك على بعض الرعية، وفيه جواز الشفاعة عند الإِمام فيما يعتقد الشافع جوازه، وتنبيه الصغير للكبير على ما يظن أنه ذَهِلَ عنه، ومراجعة المشفوع إليه في الأمر إذا لم يؤدِّ إلى مفسدة، وأن الإِسرار بالنصيحة أولى من الإِعلان كما مرت الإِشارة إليه في قوله: "فقُمْتُ فسارَرته" وقد يتعين إذا جرّ الإِعلان إلى مفسدة، وفيه أن من أُشير عليه بما يعتقده المُشير مصلحةً لا يُنْكر عليه بل يبين له وجه الصواب، وفيه الاعتذار إلى الشافع إذا كانت المصلحة في ترك إجابته، وأن لا عَيبَ على الشافع إذا رُدَّت شفاعته لذلك، وفيه استحباب ترك الالحاح في السؤال كما استنبطه المؤلف منه في الزكاة، واستنباطه له منه هو من قول سعد الآتي في الزكاة: "فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده فجمع بين عُنُقي وكَتِفي، ثم قال: أقْبِل، أي سعد، إني لأُعطي الرجل" أمر من الإِقبال أو القَبول، وعند مسلم "إقبالا" مصدر، أي: أتُقابلني إقبالًا بهذه المعارضة، وسياقه يُشعر بأنه - صلى الله عليه وسلم - كره منه إلحاحه عليه في المسألة، ويُحتمل أن يكون استنباطه من جهة أن المشفوع له ترك السؤال فَمُدِح. رجاله خمسة: الأول: أبو اليَمان، والثاني: شُعيب بن أبي حَمْزة وقد مرّا في السابع من بدء الوحي. ومرّ ابن شِهاب في الثالث منه. الرابع: عامر بن سَعْد بن أبي وقّاص الزُّهريّ المدني. قال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث. وذكره ابن حِبّان في "الثقات". وقال العِجْليّ: مدني تابعي ثقة. وذكر البخاري فيمن قال: "لا طلاق قبل النكاح" عامر بن سعد. قال ابن حَجَر: ولا أدري أراد هذا أو عامر ابن سعد البَجَليّ.

روى عن: أبيه، وعثمان، والعباس بن عبد المطلب، وأبي أيوب الأنصاري، وأسامة بن زيد، وأبي هُريرة، وابن عُمر، وعائشة، وخلق. وروى عنه: ابنه داود، وابنا إخوته إسماعيل بن محمَّد، وأشعث ابن إسحاق، وبجاد بن موسى، وابن أخته سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عَوْف، وسعيد بن المُسَيِّب، وهو من أقرانه، ومُجاهد، والزُّهريّ، وعطاء بن يسار، وعمرو بن دينار، وأبو طُوالة، وعثمان بن حَكيم، وغيرهم. مات بالمدينة سنة أربع ومئة في خلافة الوليد، وقيل: في وفاته غير ذلك. وفي الستة: عامر بن سَعْد سواه واحد، وهو البَجَلي الكوفي، روى عن أبي هُريرة، وأبي قَتادة، وغيرهما، له في البخاري حديث واحد. الخامس: سعد بن أبي وقّاص -بتشديد القاف- واسم أبي وقّاص مالك بن أُهَيب -ويقال له: وهيب- ابن عبد مناف بن زُهرة بن كلاب القُرشيّ الزُّهريّ أبو إسحاق، أحد العشرة وآخرهم موتًا، وأمه حِمْنة بنت سفيان بن أمية بنت عم أبي سفيان بن حرب. رُوي عنه أنه قال: أسلمت وأنا ابن تسع عشرة سنة، وأنه قال: كنت السابع في الإِسلام بعد ستة، وأنه قال: أسلمت قبل أن تُفرض الصلاة. شهد بدرًا والحُديبية وسائر المشاهد كلها، وهو أحد الستة الذين جعل فيهم عُمر الشُّورى لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تُوفي وهو عنهم راض. وقال عُمر: إن أصابت الإِمرة سعدًا فذاك، وإلا فلْيستعن به الوالي، فإني لم أعزله عن عَجْز ولا خِيانة. وقيل: أسلم بعد ثلاثه. وفي "صحيح" البخاري عنه أنه قال: لقد مكثت سبعة أيام وإني لثالث الإِسلام، وهو أول من أراق دمًا في سبيل الله، فقد قال ابن إسحاق في المغازي: "كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة يَسْتخفون بصلاتهم،

فبينا سعد في شعْب من شِعاب مكة في نفر من أصحابه، إذ ظهر عليهم المشركون، فنافروهم وعابوا عليهم دينهم حتى قاتلوهم، فضرب سعد رجلًا من المشركين بِلَحْي جمل فشجه، فكان أول دم أريق في سبيل الله. وهو أيضًا أول من رمى بسهم في سبيل الله، وكان يقال له: فارس الإِسلام، وكان رميه ذلك في جيش عُبَيْدة بن الحارث حين بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - يلقَى عير قريش فترامَوْا بالنَّبْل وفي ذلك يقول سعد: ألا هل أتى رسولَ الله أنّي ... حَمَيْتُ صحَابتي بصُدُور نَبْلي أذُود بهَا عَدُوَّهُم ذِيادا ... بِكُلِّ حُزونةٍ وبكلِّ سَهْلِ فَمَا يَعتَدُّ رامٍ من مَعَدٍّ ... بَسَهم في سبيل الله قَبْلي وجمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له وللزبير أبويه، فقال لكل واحدٍ منهما فيما روي عنه: "ارمِ فداكَ أبي وأمّي" ولم يقل ذلك لأحد غيرهما فيما يقولون. وروى التِّرمذي من حديث جابر: أقبل سعدٌ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هذا خالي فَلْيُرِني امرؤٌ خاله". وروى الشيخان من حديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قدم المدينة أرِق ليلة، فقال: "ليت رجلًا صالحًا من أصحابي يحرُسُني" إذ سمعنا صوت السلاح، فقال: "مَن هذا؟ " قال: أنا سعد. فقام، وفي رواية فدعا له. وفي الزُّبَير بن بكار من حديث عامر بن سعد، عن أبيه قال: كان رجلٌ من المشركين قد أحرق المسلمين، فنزعت له سهمًا، فأصبت جبهته، فوقع وانكشفت عورته، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وسماه الواقِدِيّ حِبّان بن العرقة، وزاد أنه رمى بسهم، فأصاب ذيل أم أيْمن، وكانت جاءت تسقي الجرحى، فضحك منها، فدفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سهمًا لسعد، فوقع السهم في نحر حِبّان، فوقع مستلقيًا، وبدت عورته، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: "استعاذ لها".

وهو الذي فتح مدائن كسرى في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفتح القادسية وغيرها، وهو الذي تولى قتال فارس ففتح الله على يديه أكثر فارس، وهو الذي بني الكوفة، وولاه عمر العراق، وأرسل إليه وهو أمير العراق أن قاتل الفرس، فمضى إليهم، وحالت بينهما دِجلة وهي كالبحر لا تُعْبر إلا بالسفن، فقال للجند الذين معه: ماذا تَرَوْن؟ فقالوا له: ما تأمر، عزم الله لنا ولك الرشد، فلما سمع كلامهم اقتحم الوادي بفرسه، وتبعه المسلمون، فقطعوا دِجلة خيلًا ورجالًا ودَوابٌ حتى لا يُرى وجه الماء من الشاطىء إلى الشاطىء، وسعد يقول في أثناء القطع: حسبُنا الله ونعم الوكيل، والله لينصرن الله وليّه -يعني عمر- وليظهرن الله دينه، وليهزمن عدوه إن لم يكن في الجيش ذنوب، وكان الفارس إذا أحسّ بالإِعياء أبان الله له رابيةً في جَوْف الماء يقف عليها حتى يرجع إليه نشاطُهُ ثم يقوم براكبه، وخرجت تلك الخيل تَنْفُضُ أعرافها، وجميع الخلق والدواب سالمة، ولم يَضِع لأحد شيء إلا رجل سقط له قَدَح، فعيَّرَه صاحبه، فقال له: أصابَهُ القدر فطاح. وقال: ما كان الله لِيَسْلُبني قدحي من بين العسكر، فضربته الريح والأمواج حتى أخرجته إلى الشاطىء، فقال للذي عَيّره: ألم أقل لك ما كان الله لِيَسْلبني قدحي من دون غيري؟ وكان ذلك لما في الكتب القديمة من أن هذه الأمة تخوض البحر إلى أعدائها. وفي "تاريخ" أبي العباس السَّرّاج أن جرير بن عبد الله مرّ بعُمر، فسأله عن سعد بن أبي وقاص، فقال: تركته في ولايته أكرمَ الناس وأقلّهم قسوة، هو لهم كالأم البَرّة، يجمع لهم كما تجمع ذَرّة، أشدّ الناس عند الباس، وأحبّ قريش إلى الناس. وكان مجاب الدعوة، مشهورًا بذلك، تُخاف دعوته لاشتهار إجابتها عندهم، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اللهُمَّ سدَّد سهمه، وأجِب دعوته" ومما شوهد من إجابة دعوته، هو أن أهل الكوفة شَكَوْه إلى عُمَر بن الخطاب - رضي الله عنه - حتى قالوا: إنه لا يُحسن الصلاة، فقال - رضي

الله عنه -: أما أنا فكنت أصلي بهم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أرْكُدُ في الأوليين، وأخفف في الأخريين، ثم بعث عمر عدلين من الصحابة يسألان عن ذلك، فكلما مرّا بنادٍ من أهل الكوفة يُثني عليه، حتى مرّا بأبي سَعدة الأسَديّ. فقال: أمّا إذ نَشَدْتُماني، فإن سعدًا كان لا يَسري بالسرية، ولا يَقْسم بالسوية، ولا يعدِل في القضية. فقال سعد: اللهم إن كنت تعلم أنه كاذبٌ، فأطل عمره، وأكثر عياله، وعرضه للفتن، فكان يتعرض للإِماء في الطريق ويَغْمِزُهن، فيقلن: ما هذا؟ فيقول: شيخ أصابته دعوة سعد، نسأل الله العافية. وفي "مجابي الدعوة" لابن أبي الدُّنيا من طريق جرير عن مغيرة عن أبيه، قال: كانت امرأة قامتها قامة صبي، فقالوا: هذه ابنة سعد، غمست يدها في طَهوره، فقال: قطع الله يديك، فما نشِبت بعدُ. ولما استعمله عُمر على جيش الفرس، قال له: لا يَغُرَّنَّك أنك خال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ففتح الله على يديه القوادس، واستأصل فارس. وكان تزوج امرأة المثنى بن حارثة الشيباني بعد أن استشهد من جراحات أصابته يوم جسر أبي عُبيد، وجلس معها ذات يوم على مكان عال ينظران قتال المسلمين، وكان بسعد جراحات شديدة منعته من القتال، فقالت امرأة المثنى: وامثناه -تندب زوجها الأول، وكان من الشجعان والفرسان- فلطمها سعد رضي الله عنه، وقال لها: ما المثنى إلا رجل من المسلمين يقاتل في سبيل الله. وفي تخلفه عن القتال يقول الشاعر: نُقاتِل حتّى أنْزَل الله نصرَهُ ... وسعدٌ بباب القادسيةِ مُعْصَمُ فَرِحْنا وقد آمت نساءٌ كثيرةٌ ... ونسوة سعدٍ ليسَ فيهن أيِّمُ وقال الأُبِّي: إن قائل البيتين قالهما معرضًا بسعد في تركه للقتال،

وإن سعدًا دعا عليه، فقال: اللهم اكفف لسانه ويده، فيبست يده وخرس لسانه. ورُوي عنه أنه قال: كنا نغزو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما لنا طعام إلا ورق الشجر، حتى إن أحدنا ليضع كما تضع الشاة أو البعير ماله خَلْط، ثم أصبحت بنو أسد تُعَزِّرُني على الإِسلام، لقد خِبْت إذًا وضلَّ عملي. وروي أنه في حصار الشِّعْب بينما هو يمشي إذ وطىءَ على شيء، قال: فأخذته، فإذا هو رَطْبٌ، فابتلعته، فوالله ما أدري ما هو إلى الآن. وقال: كنت ليلة أبول. فسمعت صلصلةً أو قعقعة تحت البول، فإذا هو قطعة من جلد بعير، فأخذتها، وغسلتها، ثم أحرقتها، ثم رضضتها وسففتها وقويت بها ثلاثًا. ولما قتل عثمان رضي الله عنه اعتزل الفتن، ولزم بيته، وأمر أهله ألا يخبروه من أخبار الناس بشيء حتى تتفق الأمة على رجل واحد، وجاءه ابن أخيه هاشم بن عُتبة، وقال له: ها هنا مئة ألف سيف يرون أنك أحق بهذا الأمر، فقال له: أبغي منها سيفًا واحدًا، إذا ضربت به المؤمن لم يصنع شيئًا، وإذا ضربت به الكافر قطع. ورُوي عن أبي إسحاق أنه قال: أشد أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعة، عُمر وعلي والزبير وسعد. ورُوي عن عامر بن سعد أن أباه حين رأى اختلاف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتفرقهم اشترى أرضًا ميتة، ثم خرج واعتزل فيها بأهله. وكان سعد من أحد الناس بصرًا، ورأى يومًا شيئًا يزول، فقال لمن معه: ترون شيئًا؟ قالوا: نرى شيئًا كالطائر. قال: أرى راكبًا على بعير، ثم جاء بعد قليل عم سعد على بُخْتيّ، فقال سعد: اللهم إنا نعوذ بك من شر ما جاء به. وطمع معاوية فيه وفي عبد الله بن عُمر ومُحمّد بن مَسْلمة، فكتب

إليهم يدعوهم إلى عونه على الطلب بدم عثمان، ويقول: إنهم لا يكفِّرون من قتله وخذلانه إلا بذلك، ويقول: إن قاتله وخاذله سواء في نثر ونظم كتب لهم به، فأجابه كل واحد منهم يرد عليه ما جاء به من ذلك، ويُنكِر عليه مقالته، ويعرفه أنه ليس أهلا لما يطلبه، وفي جواب سعد له: معاويَ داؤك الدّاءُ العياءُ ... وليسَ لما تجيءُ به دواءُ أيَدْعوني أبو حَسنٍ عليٌّ ... فَلَم أرْدُدْ عليه ما يشاءُ وقُلتُ له ابْغِني سَيفًا بصيرًا ... تُمازُ به العداوة والولاءُ فإن الشّرّ أصغرُهُ كثيرٌ ... وإنَّ الظّهر تُثقلُهُ الدّماءُ أتَطمعُ في الذي أعطى عليًّا ... على ما قَد طِمِعْتَ به العَفاءُ لَيَوم منهُ خيرٌ منك حيًّا ... ومَيْتًا أنت للمرء الفِداءُ فأمّا أمرُ عثمان فدَعْهُ ... فإنَّ الرّأي أذْهَبَه البَلاءُ وقد سئل علي - رضي الله عنه - عن الذين قعدوا عن نصرته وبيعته، فقال: أولئك قوم خذلوا الحق ولم ينصُروا الباطل. رُوي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مئتا حديث وسبعون حديثًا، اتفقا على خمسة عشر منها، وانفرد البخاري بخمسة، ومسلم بثمانية عشر. روى له الجماعة. وروى عنه: بنوه إبراهيم، وعامر، ومصعب، وعمر، وعائشة، وروى عنه من الصحابة: ابن عباس، وابن عُمر، وعائشة، وجابر بن سَمُرة، ومن كبار التابعين: سعيد بن المُسيِّب، وأبو عثمان النَّهْديّ، وقيس بن أبي حازم، وعلْقمة، والأحْنف بن قَيس، وآخرون. مات رضي الله عنه بقصوه بالعقيق على عشرة أميال من المدينة سنة سبع وخمسين، وقيل: خمس، وهو ابن بضع وسبعين سنة، وحمل إلى المدينة على أعناق الرجال، وصلى عليه مروان بن الحكم وهو يومئذٍ

والي المدينة ودفن بالبقيع في جُبة صوف لقي المشركين فيها يوم بدر، أوصى أن يُكَفّن فيها، وهو آخر العشرة موتًا. وفي الحديث لفظ فلان مبهم، والمراد به جُعَيْل بن سُراقة الضّمْريّ. روى ابن إسحاق في "المغازي" قيل: يا رسول الله أعطيت عُيينة ابن حِصن، والأقرع بن حابس مئة مئة وتركت جُعيلًا، فقال: "والذي نفسي بيده لَجُعيل بن سُراقةَ خير من طِلَاع الأرض مثل عُيينة والأقرع، ولكني أتألفهما وأكل جعيلًا إلى إيمانه" وهذا مرسل حسن. وروى الرُّوياني في "مسنده" وابن عبد الحكم في "فتوح مصر" عن أبي ذرٍّ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: "كيف ترى جُعيلًا؟ " قلت: مسكينًا كشكله من الناس. قال: "وكيف ترى فلانًا؟ " قلت: سيدًا من السادات، قال: "لجعيلٌ خير من ملء الأرض مثل هذا؟ " قال: قلت يا رسول الله: ففلان هكذا وتصنع به ما تصنع؟ قال: "إنه رأس قومه، فأتألفهم" وإسناده صحيح. وروى ابن منْده أن جعيلًا أُصيبت عينه في بني قريظة، وجُعيلٌ هذا قيل: أنه هو جعال بن سراقة مصغر، وقيل: إنهما اثنان أخوان. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة والإِخبار، وفيه ثلاثة زُهريين مدنيين، وفيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض باعتبار الرواية الآتية: وهم: ابن شِهاب، وعامر، وصالح. وصالح أكبر من ابن شهاب لأنه أدرك ابن عُمر رضي الله عنهما، وفيه رواية الأكابر عن الأصاغر، ومنها أن قوله: عن سَعد أن رسول الله هكذا هو هنا، ووقع في رواية الإِسماعيلي عن سعد هو ابن أبي وقّاص. أخرجه البخاري هنا، وفي الزكاة عن محمَّد بن عزيز وغيره، وأبو داود عن طريق مَعْمر، واعتُرض على مسلم في بعض طرق هذا الحديث في عدم جعله لمعمر بين سفيان والزُّهري، والمحفوظ هو كونه عن سفيان

عن معمر عن الزُّهري، ذكره الدارقُطني في الاستدراكات على مسلم، وفي جواب النووي عنه باحتمال كون سُفيان رواه مرة عن الزّهري مباشرة، ومرة بواسطة مَعمر نظرٌ، لأن الروايات قد تظاهرت عن ابن عُيينة بإثبات مَعمر ولم يوجد إسقاطه إلا عن مُسلم. ثم قال البخاري ورواه يونُس وصالح ومَعمر وابن أخي الزّهري عن الزُّهريّ. فهذه متابعة من هؤلاء الأربعة، أما رواية يونُس فحديثه موصولٌ في كتاب الإِيمان لعبد الرحمن بن عُمر الزُّهريّ الملقب رُسْتَه -بضم الراء وإسكان السين المهملتين وقبل الهاء مثناة من فوق مفتوحة- وأما رواية صالح فحديثه موصول عند المؤلف في كتاب الزكاة، وفيه اللطائف المتقدمة، وأما رواية مَعْمر فحديثه عن أحمد بن حَنْبل والحُميْديّ وغيرهما عن عبد الرزاق عنه، ومر تعريف الثلاثة، أما يونس ومعمر فقد مرّا في متابعة بعد الرابع من بدء الوحي، وأما صالح بن كَيْسان فقد مر في السابع منه أيضًا، وأما رواية ابن أخي الزُّهري فهي موصولة عند مسلم، وفي روايته لطيفة وهي رواية أربعة من بني زُهرة هو وعمه وعامر وأبوه على الولاء. وابن أخي الزُّهريّ: هو محمَّد بن عبد الله بن مُسلم بن عُبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زُهرة الزُّهري أبو عبد الله المدني. قال أحمد: لا بأس به. وقال مرة: صالح الحديث. وقال ابن عَديّ: لم أر بحديثه بأسًا، ولا رأيت له حديثًا منكرًا، فاذكره إذا روى عنه ثقة. وقال أبو داود: ثقة، سمعت أحمد يُثني عليه، وأخبرني عباس عن يحيى بالثناء عليه. وقال الواقِدي: كان كثير الحديث صالحًا. وقال ابن حِبّان: كان رديء الحفظ كثير الوهم، ويقال: إنه انفرد عن عمه بحديث "كلُّ أمتي مُعافى إلا المجاهرون" وبحديث: "كان - صلى الله عليه وسلم - يأكُلُ بكفِّه كلِّها"، وقول أبي هُريرة في خُطبته: "كل ما هو آت قريبٌ" وقال ابن مَعين مرة:

ضعيف لا يحتج به. ومرة قال: ابن أخي الزُّهري أحب إلي من ابن إسحاق في الزُّهري. وجعله محمَّد بن يحيى من الطبقة الثانية من أصحاب الزُّهري مع أسامة بن زيد، وابن إسحاق، وابن أُويس، وفُليح. قال: وهؤلاء كلهم في حال الضعف والاضطراب. قال: وإذا اختلف أصحاب الطبقة الثانية. فالمَفْزع إلى أصحاب الطبقة الأولى. وقال السّاجيّ: صدوق، تفرد عن عمه بأحاديث لم يتابَع عليها، يعني: الثلاثة المتقدمة، وقال ابن مَعين مرة: ليس بالقوي. وقال مرة: ابن أخي الزُّهري أحب إلي من أبي أُوَيس. وقال الحاكم أبو عبد الله ابن البيع في كتاب "المدخل": ومما عِيب على البخاري ومسلم إخراجهما حديث ابن أخي الزُّهري، أخرج البخاري له في الأصول، ومسلم في الشواهد. وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، يُكتب حديثه. وقال الآجُرِّي: سُئل أبو داود عن ابن أخي الزُّهري، فقال: لم أسمع أحدًا يقول فيه بشيء، إلا أن أحمد بن صالح حكى عن ابن أبي أُويس قال أبو داود: طوبى لابن أبي أُويس أن يقاربه. قال ابن حَجر: محمَّد بن يحيى الذُّهليّ أعرف بحديث الزُّهري، وقد بين ما أنكر عليه، فالظاهر أن تضعيف من ضعفه إنما كان بسبب تلك الأحاديث التي أخطأ فيها، ولم أر له في البخاري إلا أحاديث قليلة، أحدها في الأضاحي عن عمه، عن سالم، عن أبيه في النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث، وهذا قد تابعه عليه مَعمر عند مسلم وغيره، والثاني في وفود الأنصار عن عمه، عن أبي إدريس، عن عُبادة بن الصامت في المتابعة، وهو عنده بمتابعة شُعيب وغيره عن الزُّهري. والثالث في المغازي في قصة الحديبية عن عمه، عن عُروة، عن المُسَوِّر ومروان بن الحكم بمتابعة سفيان بن عُيينة ومعمر وغيرهما، وله عنده غير هذا مما توبع عليه موصولًا ومعلقًا، وروى له الباقون. روى عن: أبيه، وعمه، وصالح بن عبد الله بن أبي فَروة، وعدة. وروى عنه: محمَّد بن إسحاق وهو أكبر منه، وعبد الرحمن بن

باب السلام من الإسلام

إسحاق المَدني ومات قبله، وإبراهيم بن سَعْد، وأبو أُوَيْس المدني، وأمية بن خالد الأزْدي، والقَعْنَبيّ، وغيرهم. قتله غلمانه بأمر ابنه لأمواله بناحية شغب وبَدَا، وكان ابنه سفيهًا شاطرًا قتله للميراث، وذلك في آخر خلافة أبي جعفر سنة اثنتين وخمسين ومئة. وقيل: سنة سبع. ومات أبو جعفر سنة ثمان وخمسين ومئة ثم وثب غلمانه على ابنه بعد سنتين وقتلوه ثم قال المصنف: باب السلام من الإِسلام باب منون، أي: هذا باب. وقوله: "السلام من الإِسلام" في رواية كريمة: "إفشاء السلام" وهو نشره سرًّا أو جهرًا، وهو مطابق للمرفوع في قوله: "من عرفت ومن لم تعرف". ثم قال المصنف وقال عمار: ثلاث من جمعهن فقد جمع الإِيمان: الإِنصاف من نفسك وبذل السلام للعالم والإِنفاق من الإِقتار. وقوله: "ثلاث" خصال، وإعرابه نظير ما مر في قوله: "ثلاث من كن فيه". وقوله: "فقد جمع الإِيمان" أي: حاز كماله، والعالم -بفتح اللام- جميع الناس، والإِقتار القلة، وقيل: الافتقار. وعلى الثاني فمن في قوله: "من الإِقتار" بمعنى مع أو عند، وإنما كان من جمع الثلاث مستكملًا للإِيمان لأن مداره عليها، لأن العبد إذا اتصف بالإِنصاف لم يترك لمولاه حقًا واجبًا عليه إلا أدّاه، ولم يترك شيئًا مما نهاه عنه إلا اجتنبه، وهذا يجمع أركان الإِيمان، وبذل السلام يتضمن مكارم الأخلاق والتواضع وعدم الاحتقار، ويحصُلُ به التآلف والتحابب، والإِنفاق من الإِقتار يتضمن غاية الكرم، لأنه إذا أنفق من الاحتياج كان مع التوسع أكثر إنفاقًا، والنفقة أعم من أن تكون على العيال واجبة أو مندوبة، أو على الضيف والزائر، وكونه من الإِقتار يستلزم الوثوق بالله، والزهد في

الدنيا، وقصر الأمل، وغير ذلك من مهمات الآخرة. وهذا التقرير يُقَوّي أن يكون هذا الحديث مرفوعًا، لأنه يشبه أن يكون كلام من أوتي جوامع الكلم. وقد أخرجه البزار في "مسنده" عن عبد الرزاق بأخرةٍ مرفوعًا، وابن أبي حاتم في "العلل" وابن الأعرابي في "معجمه" كذلك. واستغربه البزار، وقال أبو زرعة: خطأ، لأن عبد الرزاق تغير بأخَرَة. وسماع هؤلاء الذين سمعوه منه في حال تغيره، إلا أن مثله لا يقال بالرأي، فهو في حكم المرفوع. وأخرجه الطبراني في "الكبير" مرفوعًا بإسناد فيه ضعف، وله شواهد أخرى. ورواه موقوفًا أحمد بن حَنْبل في كتاب الإِيمان من طريق سفيان الثَّوريّ، ورواه يعقوب بن شَيْبة في "مسنده" من طريق شعبة، وزُهير بن معاوية وغيرهما، ورواه أبو القاسم اللالَكائي بسند صحيح عن علي بن أحمد، ورواه رُسْته عن سفيان، وتقدم الكلام على التعليق في الرابع من بدء الوحي. وأما عمار: فهو ابن ياسر بن عامر بن مالك بن كِنانة بن قَيْس بن الحُصَين بن الوديم بن ثعلبة بن عوف بن حارثة بن عامر الأكبر بن يام بن عَنْس بالنون الساكنة وهو زيد بن مالك بن أدد بن شَشْجُب بن غريب بن زيد بن كَهلان بن سَبَأ بن يَشْجُب بن يَعْرب بن قحطان كنيته أبو اليقظان حليف بني مخزوم، وأمه سُميّة -بالتصغير- من السمو بنت خياط، مولاة، كان أبوه ياسر قدم من اليمن إلى مكة، فحالف أبا حذيفة بن المغيرة، وزوجه أمته سمية، فولدت له عمارًا، فأعتقها أبو حُذيفة. أسلمت هي وياسر مع عمار قديمًا، ولم يكن في المهاجرين من أسلم مع أبويه إلا عمار وأبو بكر رضي الله عنهما، وقتل أبو جهل سُمية، وكانت أول شهيد في الإِسلام، وكانت مع ياسر وعمار رضي الله عنهم يُعَذَّبون بمكة في الله تعالى، فيمُر بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيقول لهم:

"صبرًا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة" وكانوا من المُستضْعفين لأنهم قوم لا عشائر لهم بمكة ولا مَنَعَة ولا قوة، كانت قريش تُعذبهم في الرّمضاء، فكان عمار رضي الله عنه يُعذَّبُ حتى لا يدري ما يقول، وكذلك صُهَيْب، وفكيهة، وبلال، وعامر بن فُهيرة، وفيهم نزل قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا} [النحل: 110] ومن قرأ فَتنوا بالفتح، هو ابن عامر، فالمعنى: فتنوا: كفروا وعذبوا المسلمين، كالحضرمِيّ، أكره مولاه جبرًا حتى ارتد، ثم أسلما وهاجرا، وسُهيل عذب ابنه أبا جَنْدل، ثم أسلم بعد. وعن عمرو بن مَيْمون: أحرق المشركون عمار بن ياسر بالنار، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يَمُرُّ به ويمر بيده على رأسه، فيقول: "يا نار كوني بردًا على عمار كما كنت على إبراهيم، تقتُلُك الفئة الباغية". وعن ابن ابنه قال: أخذ المشركون عمارًا، فلم يتركوه حتى نال من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذكر آلهتهم بخير، فلما أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال له: "ما وراءك؟ " قال: شر يا رسول الله، ما تُرِكتُ حتى نِلْت منك، وذكرت آلهتهم بخير، قال: "فكيف تجد قلبك؟ " قال مطمئنًّا بالإيمان. قال: "فإن عادوا فَعُد" وفيه نزل: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]. قال الكرماني: رُهِن ياسر في القمار، وولده، فقَمَروهم، فصاروا بذلك عبيدًا للقامر، فأعزهم الله بالإِسلام. ولأجل الحلف والولاء اللذين بين بني مخزوم وبين عمار وأبيه ياسر كان اجتماع بني مخزوم إلى عثمان حين نال غِلْمانه من عمار ما نالوا من الضرب حتى انفتق له فَتْق في بطنه، ورَغَمُوا وكسروا ضِلْعًا من أضلاعه، فاجتمعت بنو مخزوم، وقالوا: والله لئن مات لا قتلنا به أحدًا إلا عثمان. هاجر الهِجرتَيْن، وصلى القِبلتين، وكان من السابقين الأولين في الإِسلام، ومن المهاجرين الأولين، شهد بدرًا والمشاهد كلها، وأبلى

ببدر بلاءً حسنًا، ثم شهد اليمامة فأبلى فيها أيضًا، ويومئذٍ قُطِعَت أذُنه، وعن عبد الله بن عُمر قال: رأيت عمار بن ياسر يوم اليمامة على صخرة وقد أشرف يصيح: يا معشر المسلمين، أمن الجنة تفِرُّون؟ أنا عمار بن ياسر، هَلُمّوا إلي، وأنا أنظر إلى أذنه قد قُطعت فهي تذبذب وهو يقاتل أشد القتال، وكان طويلًا أشهل، بعيد ما بين المِنكبين كما قال الواقدي، وهو أول من بني مسجدًا لله، بني مسجد قُباء، وكان إسلامه بعد بضعة وثلاثين رجلًا هو وصُهَيْب. وأخرج البخاري عين هَمّام، عن عمار قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما معه إلا خمسة أعبد وامرأتان وأبو بكر. وقال عاصم، عن زِر، عن عبد الله: إن أول من أظهر إسلامه سبعة فذكر منهم عمارًا. أخرجه ابن ماجه. وقال إبراهيم بن سعد: بلغنا أن عمار بن ياسر قال: كنت تِرْبًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سنه، لم يكن أحدٌ أقرب به سنًّا مني. ورُوي عن ابن عباس في قوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} [الأنعام: 122] قال: عمار بن ياسر، {كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122] قال: أبو جهل بن هشام. ورُوي عن عائشة أنها قالت: ما من أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشاء أن أقول فيه إلا قلت، إلا عمار بن ياسر، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مُلىءَ عمارٌ إيمانًا إلى أخمص قدميه". وفي رواية: "حُشي ما بين أخمص قدميه إلى شحمة أُذُنيْه إيمانًا" وفي رواية "مُلىءَ إيمانًا إلى مُشاشِه". ومن حديث خالد بن الوليد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أبغض عمارًا أبغضه الله تعالى" قال خالد: فمازلت أحبه من يومئذٍ.

ورُوي من حديث أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "اشتاقت الجنة إلى علي وعمار وسلمان وبلال رضي الله عنهم". ومن حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "جاء عمارٌ يستأذن على النبي - صلى الله عليه وسلم - يومًا، فعرف صوته، فقال: "مرحبًا بالطيب المُطَيَّب، إيذَنوا له". وأخرج الترمذي عن خالد بن الوليد، قال: كان بيني وبين عمار كلامٌ، فأغلظت له، فشكاني إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجاء خالد، فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه، فقال: "مَنْ عادى عمارًا عاداه الله، ومن أبغض عمارًا أبغضه الله". وفي التِّرمذي عن عائشة مرفوعًا: "ما خُيِّر عمارٌ بين أمرين إلا اختار أيسَرَهما". وأخرج الترمذي، وابن ماجه عن حُذيفة مرفوعًا: "اقْتَدوا بالذين من بعدي، أبي بكر وعمر، واهتدوا بِهَدي عمار". واستعمله عمر على الكوفة، وكتب إليهم: إني بعثت إليكم عمارًا أميرًا، وابن مسعود معلمًا ووزيرًا، وهما من النُّجباء من أصحاب محمَّد. وقال أبو مسعود وطائفة لحذيفة بن اليمان حين احْتُضر وقد ذكر الفتنة: إذا اختلف الناس بمن تأمرنا؟ قال: عليكم بابن سُمية، فإنه لن يفارق الحق حتى يموت. أو قال: فإنه يدور مع الحق حيث دار. وبعضهم يرفعه عن حُذيفة. وقال عبد الرحمن بن أبْزى: شهدنا مع علي رضي الله عنه صِفّين في ثمان مئة ممن بايع بيعة الرُّضوان، قُتل منهم ثلاثة وستون منهم عمار ابن ياسر. وتواترت الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن عمارًا تقتُلُه الفئة الباغية،

وأجمعوا على أنه قُتِل مع علي رضي الله عنه بصفين، وهذا من إخباره بالغيب وأعلام نبوته - صلى الله عليه وسلم -. وقال أبو عبد الرحمن السُّلَميّ: رأيت عمار بن ياسر يومًا لا يأخُذُ في ناحية ولا واد من أودية صفين إلا رأيت أصحاب محمَّد - صلى الله عليه وسلم - يَتَّبِعونه كأنه علمٌ لهم، وسمعت عمارًا يومئذٍ يقول لهاشم بن عُتبة: يا هاشم تقدّم، الجنة تحت الأبارِقة، اليوم ألقى الأحبة، محمدًا وحِزْبه، والله لو هزمونا حتى بَلَغوا بنا سَعَفات هَجَرٍ لعلِمنا أنّا على الحق وهم على الباطل، ثم قال: نَحْنُ ضَربناكُم على تنزيلِهِ ... فاليَوْم نضرِبُكُم على تأويلهِ ضربًا يُزيل الهامَ عن مَقيلِهِ ... ويُذهل الخليل عن خَليلهِ أو يَرجِعَ الحقُّ إلى سَبيلهِ قال: فلم أر أصحاب محمَّد - صلى الله عليه وسلم - قُتلوا في موطن ما قُتلوا يومئذٍ. وقال عبد الله بن سَلَمة: لَكَأني انظر إلى عمار يوم صِفين، واستسْقى، فأُتي بشربة من لبن، فشرب، وقال: اليوم ألقى الأحبة، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَهِد إليّ أن آخر شربة تَشْربها من الدنيا شَربة لبن، ثم استسقى، فأتته امرأة طويلة اليدين بإناء فيه صَبوحٌ من لبن، فقال عمار حين شربه: الحمد لله، الجنة تحت الأسنة. ثم قال: والله لو هزمونا ... إلى آخر ما مر. ثم قاتل حتى قتل. وروى الأعمش عن الأحْنف بن قيس في خبر صِفين، قال: ثم حَمَل عمار، فحمل عليه ابن جُزء السَّكْسَكيّ، وأبو العادِية الفَزَاريّ، فأما أبو العادية فطعنه، وأما ابن جُزء فاجتزَّ رأسه اهـ. وإنما قال عمر فيما مر عن عمار وابن مسعود: إنهما من النُّجباء من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لحديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنه لم يَكُن نبيٌّ إلا أُعطي سبعة نُجباء وزراء

ورفقاء، وإني أعطيت أربعة عشر: حمزةُ، وجعفر، وأبو بكر، وعُمر، وعلي، والحسن، والحسين، وعبد الله بن مسعود، وسلمان، وعمار، وأبو ذَر، وحُذيفة، والمِقداد، وبلال". له اثنان وستون حديثًا، اتفقا على اثنين منها، وانفرد البخاري بثلاثة، ومسلم بواحد. روى عن: النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعن حُذيفة بن اليمان. وروى عنه: ابنه محمَّد، وابن ابنه سَلَمة بن محمَّد على خلاف فيه، وابن عباس، وأبو موسى الأشعري، وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وأبو الطفيل، وأبو لاس الخُزاعي، وجماعة من التابعين منهم: أبو وائل، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، وناجِية بن كعب، وغيرهم. وكانت صِفّين في صفر سنة سبع وثلاثين، ومات وهو ابن ثلاث وتسعين أو أربع، ودفن هناك بصِفين، دفنه علي رضي الله عنه بثيابه حَسْبما أوصاه بذلك، ولم يُغَسِّله. وقال في "الاستيعاب" روى أهل الكوفة أنه صلى عليه، وهو مذهبهم في الشهداء أنهم لا يُغسَّلون ولكن يصلى عليهم. وروى العَوّام ابن حَوْشب، عن إبراهيم بن عبد الرحمن السّكسَكيّ، عن أبي وائل قال: رأى أبو مَيْسرة عمرو بن شُرحبيل، وكان من أفاضل أصحاب عبد الله في المنام أنه دخل الجنة، فإذا هو بقِباب مضروبة، قال: فقلت لمن هذه؟ قالوا: لذي الكَلاع وحَوْشب، وكانا قُتلا مع معاوية. قال: فأين عمار وأصحابه؟ قالوا: أمامك، قال: وقد قتل بعضهم بعضًا؟ قالوا: نعم، لقوا الله فوجدوه واسعَ المغفرة. قال: فما فعل أهل النَهْروان؟ قال: لقوا مَرَحًا. وليس في الصحابة عمار بن ياسر سواه، وفيهم عمار نحو ثمانية على اختلاف في بعض أسمائهم.

الحديث الحادي والعشرون

الحديث الحادي والعشرون 28 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، أَيُّ الإِسْلاَمِ خَيْرٌ؟ قَالَ: «تُطْعِمُ الطَّعَامَ وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ». هذا الحديث تقدم في باب إطعام الطعام، ومرّ الكلام عليه هناك مستوفى، وأعاده المؤلف هنا كعادته في غيره لما اشتمل عليه، وغاير بين شيخيه اللذين حدثاه عن الليث مراعاةً للإِتيان بالفائدة الإِسنادية، وهي تكثير الطرق حيث يحتاج إلى إعادة المتن، فإنه لا يعيد الحديث الواحد في موضعين على صورة واحدة، فإن قيل: كان يمكنه أن يجمع الحكمين في ترجمة واحدة ويخرج الحديث عن شيخيه معًا، فالجواب أن البخاري يقصِد تعديد شُعب الإِيمان كما مر، فخص كل شعبة بباب تنويهًا بذكرها، وقصد التنويه يحتاج إلى التأكيد، فلذلك غاير بين الترجمتين. رجاله خمسة: الأول: قُتيبة بن سَعيد بن جَميل بن طَريف بن عبد الله الثّقفيّ أبو رجاء البَغْلاني. وقال ابن عَدي: اسمه يحيى، وقتيبة لقب له، وهو تصغير قِتبة -بالكسر- واحد الأقتاب -وهي الأمعاء- وقال ابن منْدة: اسمه علي، قيل: إن جده كان مولى للحجّاج بن يوسف. وقال أحمد بن سيّار المَرْوزيّ: كان ثبتًا فيما رُوي، صاحب سنة

وجماعة، وكتب الحديث عن ثلاث طبقات. وقال الفرهياني: قتيبة صدوق، ليس أحد من الكبار إلَّا وقد روى عنه بالعراق، قال: وسمعت عَمرو بن علي يقول: مررت بِمنى على قُتيبة، فجُزْتُه ولم أروِ عنه، ثم نَدِمت على ذلك. وقال الأثرم عن أحمد: إنه ذكر قُتيبة فأثنى عليه، وقال: هو آخر من سمع من ابن لَهيعة. وقال أبو حاتم وابن مَعين والنّسائي: ثقة، زاد النسائي: صدوق. وقال أحمد بن محمَّد بن زياد الكَرْميني: قال لي قُتيبة بن سَعيد: ما رأيتَ في كتابي من علامة الحُمرة فهو علامة أحمد، ومن علامة الخُضرة فهو علامة يحيى بن مَعين. وقال النّسائي أيضًا: كان كثير المال، كما كان كثير الحديث. وقال الحاكم: قتيبة ثقة مأمون، والحديث الذي رواه عن اللّيث، عن يزيد بن أبي حَبيب، عن أبي الطُّفيل، عن معاذ بن جَبَل في الجمع بين الصلاتين موضوعٌ. ثم روى بإسناده إلى البخاري، قال: قلت لقُتيبة: مع من كتبت عن الليث بن سعد حديث يزيد بن أبي حبيب؟ قال: مع خالد المدائِني: قال محمَّد بن إسماعيل: وكان خالد المدائني هذا يُدخل الأحاديث على الشيوخ. وقال أبو سَعيد بن يونُس: لم يحدث به إلا قُتيبة، ويقال: إنه غَلِطَ، والصواب عن أبي الزُّبير. وقال الخطيب: هو منكرٌ جدًّا من حديثه. وقال ابن حَجَر: ما اعتمده الحاكم من الحكم على ذلك بأنه موضوع ليس بشيء، فإن مقتضى ما استأنس من الحكاية عن البخاري أن خالدًا أدخل هذا الحديث عن الليث، ففيه نسبة الليث مع إمامته وجلالته إلى الغفلة حتى يُدخِلَ عليه خالدٌ ما ليس من حديثه، والصواب ما قاله أبو سعيد بن يونُس إن يزيد بن حَبيب غَلِط من قتيبة، وإن الصواب عن أبي الزُّبير، وكذا رواه مالك وسُفيان عن أبي الزُّبير عن أبي الطفيل، لكن في متن الحديث الذي رواه قُتيبة التصريح بجمع التقديم في وقت الأُولى، وليس ذلك في حديث مالك، وإذا جاز أن يَغْلَطَ في رجل من الإِسناد فجائزٌ أن يغلطَ في لفظةٍ من المتن والحكم عليه بالوضع مع ذلك بعيدٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

روى عن: مالك، والليث بن سعد، وسفيان بن عُيينة، وجَرير بن عبد الحميد، وفُضَيْل بن عِياض، وعبد الوهاب الثّقفي، وحمّاد بن زَيْد، ومعاوية بن عمار الدُّهْنيّ، وحفص بن غياث، وهُشيم، وأبي عَوانة، وخلق. وروى عنه: الجماعة سوى ابن ماجه، وروى الترمذي وابن ماجه عنه بواسطة أحمد بن حَنْبل، وروى عنه أيضًا علي بن المَديني، ونُعيم ابن حَمّاد، وأبو بكر الحُميدي، ومحمد بن عبد الله بن نُمير، ويَحيى ابن مَعين، وماتوا قبله، وأبو حاتم، وأبو زُرعة، ويعقوب بن شَيبة، وأبو العباس محمَّد بن إسحاق السّرّاج وهو آخر من حدث عنه، وخلق كثير. وفي الزهرة: روى له البخاري ثلاث مئة وثمانية أحاديث، ومسلم ست مئة وثمانية وستين. مات يوم الأربعاء مستهل شعبان سنة أربعين ومئتين، وقيل: سنة إحدى وأربعين، وقيل: سنة ثمان وأربعين، والأول أصح. وقال علي ابن محمَّد السِّمْسار: سمعته يقول: ولدت ببلخ يوم الجمعة حين تعالى النهار لسِتٍّ مضت من رجب سنة ثمان وأربعين ومئة. وليس في الستة قتيبة سواه. وفي الرواة قتيبة بن سعيد السَّمَرْقَنْديّ روى عن سفيان بن عُيينة، روى عنه ابنه محمَّد. والبَغْلاني في نسبه نسبة إلى بَغْلان -كسَكران- قرية من قرى بَلْخ، وبَلْخ بلدة عظيمة بالعراق، وبها نهر جَيْحُون، وهي أشهر بلاد خراسان، وأكثرها خيرًا وأهلًا. الثاني: الليث بن سعد وقد مر في الثالث من بدء الوحي. ومرّ يزيد ابن أبي حَبيب وأبو الخير مَرْثَد في الخامس من كتاب الإِيمان هذا، ومر عبد الله بن عمرو بن العاص في الثالث منه أيضًا.

باب كفران العشير وكفر دون كفر فيه أبو سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -

لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة، ورواته كلهم مصريون ما خلا قُتيبة فإنه بَلْخيّ كما مر، ورواته كلهم أئمة أجلاء وقد مر في الخامس من الإِيمان مواضع إخراجه. باب كُفران العشير وكفر دون كفر فيه أبو سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ابن العربي: مراد المصنف أن يبين أن الطاعات كما تسمى إيمانًا، كذلك المعاصي تسمى كفرًا، لكن حيث يُطلق عليها الكُفر، لا يُراد به الكفر المخرج منِ الملة، والكُفْران -بالضم- من الكَفر -بالفتح- وهو السّتر، ومن ثَمَّ سمي ضد الإِيمان كُفرًا لأنه سترٌ على الحق وهو التوحيد، وأُطلق أيضًا على جَحْد النعم، لكن الأكثرون على تسمية ما يقابل الإِيمان كفرًا، وعلى جَحْد النعم: كفرانًا، والعشير هو الزوج، قيل له: عشير، بمعنى معاشر، مثل: أكيل، بمعنى مُؤاكل، فـ "ال" فيه للعهد، أو العشير بمعنى المعاشر، أي: المخالط مطلقًا، فتكون "ال" للجنس، وخُصَّ كفران العشير -على أنه الزوج- من بين أنواع الذنوب لدقيقة بديعة، وهي قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْ أمَرت أحدًا أن يَسجُد لأحدٍ لأمرتُ المرأة أن تسجُد لزوجها" فقرن حق الزوج على الزوجة بحق الله تعالى، فإذا كفرت المرأة حق زوجها وقد بلغ من حقه عليها هذه الغاية، كان ذلك دليلًا على تهاونها بحق الله، فلذلك يطلق عليها الكفر، ولكنه كُفر لا يخرج من الملة. وقد قال ابن بَطّال: كفر نعمة الزوج هو كفر نعمة الله، لأنها من الله أجراها على يده، وأما قول المصنف: وكفر دون كفر، فأشار إلى أثرٍ رواه أحمد في كتاب الإِيمان، من طريق عطاء بن أبي رباح، والمراد منه أن الكفر يتفاوت، فبعضه أقرب من بعض. فأخذ أموال الناس بالباطل دون قتل النفس بغير حق، وفي بعض الأصول: "وكفر بعد كفر" ومعناه كالأول، والجمهور على جر "وكفر" عطفًا على "كفران" المجرور، ولأبَوي ذر والوقت كفر بالرفع على القطع.

وقوله: "فيه أبو سعيد" أي: يدخل في الباب حديث رواه أبو سعيد، وفي رواية كريمة، فيه عن أبي سعيد، أي: مروي عن أبي سعيد، وفائدة هذا الإِشارة إلى أن للحديث طريقًا غير الطريق المساقة، فيزداد قوة بتكثير الطرق، وهذا المعنى كثير في الترمذي، فيقول في الباب: عن فلان وفلان، وقد قالوا: إن لهذا فوائد أحداها: هذه المارة. الثانية: أن تعلم رواته ليتتبع رواياتهم ومسانيدهم من يرغب في شيء من جمع الطرق أو غيره لمعرفة متابعة أو استشهاد أو غيرهما. الثالثة: ليعرف أن هؤلاء المذكورين رووه، فقد يتوهم مَن لا خبرة له أنه لم يروه غير ذلك المذكور في الإِسناد، فربما رآه في كتاب آخر عن غيره، فيتوهمه غلطًا، وزعم أن الحديث إنما هو من جهة فلان، فإذا قيل في الباب: عن فلان وفلان زال الوهم المذكور. الرابعة: الوفاء بشرطه صريحًا إذ شرطه على ما قيل أن يكون لكل حديث راويان فأكثر. الخامسة: أن يصير الحديث مستفيضًا، فيكون حجة عند المجتهدين الذين اشترطوا كون الحديث مشهورًا في تخصيص القرآن ونحوه، والمشهور أي: المستفيض، ما زاد نقلته على الثلاث كما مر، وحديث أبي سعيد المذكور أخرجه المؤلف في الحيض، وغيره من طريق عِياض بن عبد الله عنه، وفيه قوله - صلى الله عليه وسلم - للنساء: "تَصدَّقن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار" فقلن: ولم يا رسول الله؟ قال: "تُكثرن اللعن، وتكْفُرن العشير" الحديث. ويُحتمل أن يريد بذلك حديث أبي سعيد لا يَشْكُر الله من لا يشكر الناس، والأول أظهر، وأجري على مألوف المصنف، ويعضُده إيراده لحديث ابن عباس بلفظ: "وتكفُرن العشير". وقد مر أبو سعيد في الثاني عشر من كتاب الإِيمان هذا.

الحديث الثاني والعشرون

الحديث الثاني والعشرون 29 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ ابْنِ يَسَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أُرِيتُ النَّارَ فَإِذَا أَكْثَرُ أَهْلِهَا النِّسَاءُ يَكْفُرْنَ» قِيلَ: أَيَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ قَالَ: «يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ وَيَكْفُرْنَ الإِحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ». قوله: "أُريت النار" بضم الهمزة مبنيًّا للمفعول، والتاء هو النائب، والنار المفعول الثاني، أي: أراني الله النار، وفي رواية تأتي في الكسوف: "ورأيت النار" بالواو، وفي رواية: "فرأيت" بالفاء. وقوله: "فإذا أكثر أهلها النساء" برفع أكثر مبتدأ خبره النساء، وفي رواية: "رأيت النار فرأيت أكثر أهلها النساء" بنصب أكثر والنساء مفعولي رأيت، وفي رواية: "أريتُ النار أكثر أهلها النساء" بحذف فرأيت، وحينئذ فقوله: "أريت" بمعنى أُعلمت، والتاء والنار والنساء مفاعيله الثلاثة، وأكثر بدل من النار وفي رواية: "رأيت النار" بالنصب "أكثرُ" بالرفع. لم يذكر المصنف في هذه الرواية هنا رؤيته عليه الصلاة والسلام الجنة، وذكرها في الرواية الآتية في الكسوف، فقال فيها: "إني رأيت الجنة، فتناولت منها عُنقودًا، ولو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، ورأيت النار ... إلخ". قال في "الفتح" ظاهره أنها رؤية عين، فمنهم من حمله على أن الحُجُب كُشفت له دونها، فرآها على حقيقتها، وطُويت المسافة بينهما حتى أمكنه أن يتناول منها، وهذا أشبه بظاهر هذا الخبر، ويؤيده حديث

أسماء في أوائل صفة الصلاة بلفظ: "دنت مني الجنة حتى لو اجترأت عليها لجئتكم بقِطْف من قِطافها" ومنهم من حمله على أنها مُثِّلت له في الحائط كما تنطبع الصورة في المرآة، فرأى جميع ما فيها، ويؤيده حديث أنس الآتي في التوحيد: "لقد عُرضت علي الجنةُ والنار آنفًا في عرض هذا الحائط وأنا أصلي". وفي رواية: "لقد مُثِّلت" ولمسلم: "لقد صُوِّرت" ولا يرد على هذا أن الانطباع إنما هو في الأجسام الصَّقيلة، لأنا نقول هو شرط عادي، فيجوز أن تنخرق العادة خصوصًا للنبي - صلى الله عليه وسلم -، لكن هذه قصة أخرى وقعت في صلاة الظهر، ولا مانع من أن يرى الجنة والنار مرتين بل مرارًا على صور مختلفة، وأبْعَد من قال: إن المراد بالرؤية رؤية العلم، فإنه كان عالمًا علمًا تامًا بهما قبل هذا الوقت. قال القُرطبيّ: لا إِحالة في إبقاء هذه الأمور على ظواهرها، سيما على مذهب أهل السنة في أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان، فيرجع إلى أن الله تعالى خلق لنبيه عليه الصلاة والسلام إدراكًا خاصًا به أدرك به الجنة والنار على حقيقتهما. وقوله: "ولو أصَبْته" في رواية مسلم: "ولو أخذته" واستشكل مع قوله: "تناولت" وأجيب يحمل التناول على تكلف الأخذ لا حقيقة الأخذ، أو بأن الإِرادة مُقَدَّرة، أي: أردت أن أتناول، ثم لم أفعل، ويؤيده حديث جابر عند مسلم: "ولقد مَدَدتُ يدي وأنا أريد أن أتناول من ثمرها لتنظروا إليه، ثم بدا لي أن لا أفعل" ومثله للمصنف في آخر الصلاة عن عائشة بلفظ: "حتى لقد رأيْتُني أريد أن آخذ قِطفًا من الجنة حين رأيتُموني جَعَلت أتقدم" ولعبد الرزاق من طريق مُرسلة: "أردتُ أن آخذ منها قِطفًا لأُريكُموه، فلم يُقدَّر" ولأحمد من حديث جابر: "فحِيل بيني وبينه" وقيل: المراد تناولت لنفسي، ولو أخذته لكم، وليس بجيد. وقيل: المراد بقوله: "تناولت" أي: وضعت يدي عليه، بحيث كنت قادرًا على تناوله، لكن لم يقدر لي قطفُه، "ولو أصبته" أي: لو تمكنت من قطفه، ويدل عليه قوله في حديث عقبة بن عامر عند ابن خُزيمة: "أهوى بيده ليتناول شيئًا"

وللمصنف في أوائل الصلاة عن أسماء: "حتى لو اجترأت عليها" وكأنه لم يؤذن له في ذلك، فلم يجترىء عليه. قال ابن بَطّال: لم يأخذ العنقود لأنه من طعام الجنة، وهو لا يفنى، والدنيا فانية لا يجوز أن يؤكل فيها ما لا يَفنى. وقيل: إنه لو رآه الناس لكان من إيمانهم بالشهادة لا بالغيب، فيُخشى أن يقع رفع التوبة، فلا ينفع نفسًا إيمانها. وقيل: لأن الجنة جزاء الأعمال، والجزاء بها لا يقع إلا في الآخرة، وأما قول ابن العربي عن بعض شيوخه: إن معنى قوله: "لأكلتم منه" أن يخلق في نفس الآكل مثل الذي أكل دائمًا، بحيث لا يغيب عن ذوقه، فهو باطلٌ، لأنه رأي فلسفيٌّ مبنيٌّ على أن دار الآخرة لا حقيقة لها، وإنما هي أمثال، والحق أن ثمار الجنة لا مقطوعة ولا ممنوعة، وإذا قطعت خلقت في الحال، فلا مانع أن يخلق الله مثل ذلك في الدنيا إذا شاء، فالفرق بين الدارين في وجوب الدوام وجوازه. قوله: "ورأيتُ النار" وقع في رواية عبد الرزاق أن رؤيته النار كانت قبل رؤيته الجنة، وذلك أنه قال فيه: عرضت على النبي - صلى الله عليه وسلم - النار، فتأخر عن مصلاه، حتى إن الناس ليركب بعضهم بعضًا، وإذا رجع عُرضت عليه الجنة، فذهب يمشي حتى وقف في مُصلاه. ولمسلم من حديث جابر: "لقد جيء بالنار حين رأيتموني تأخرت مخافة أن يصيبني من لفحها" وفيه: "ثم جيء بالجنة وذلك حين رأيتموني تقدمت، حتى قمت في مقامي" وزاد فيه: "ما من شيء توعدونه إلا قد رأيتُهُ في صلاتي هذه" وفي حديث سَمُرة عند ابن خُزيمة: "لقد رأيتُ منذ قُمت أصلي ما أنتم لاقون في دُنياكم وآخرتكم". وقوله: "يكفُرن" بياء المضارعة، جملة مستأنفة تدل على السؤال، كأنه جواب سؤال سائل سأل: يا رسول الله لم؟ قال: "يكفرن"، وفي رواية "بكفرهن" أي: بسبب كفرهن. وقوله: "يكفُرن العشير" أي: الزّوج، أو المعاشر مطلقًا كما مر قريبًا. قال الكِرْماني: لم يُعدِّ كفر العشير بالباء كما عدى الكفر بالله، لأن كفر

العشير لا يتضمن معنى الاعتراف. وقوله: "ويكفُرن الإِحسان" كأنه بيان لقوله: "يكفرن العشير" لأن المقصود كفر إحسان العشير لا كفر ذاته، والمراد بكفر الإِحسان تغطيتُه أو جَحْده، كما يدل عليه آخر الحديث. قال النووي: تَوَعُّدُه على كفران العشير وكفران الإِحسان بالنار يدل على أنهما من الكبائر. وقوله: "لو أحسنتَ إلى إحداهن الدَّهر كله" بيان للتغطية المذكورة، والدهر منصوب على الظرفية، والمراد منه مدة عمر الرجل، أو الزمان كله مبالغة في كُفرانهن، وليس المراد بقوله: "أحسنت" مخاطبة رجل بعينه، بل كل من يتأتى منه أن يكون مخاطبًا، فهو خاصٌّ لفظًا، عام معنىً، فهو على سبيل المجاز، لأن الأصل في الخطاب أن يكون خاصًّا، لكنه جاء على نحو {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ} [السجدة: 12] ولو هنا شرطية لا امتناعية من قبيل: نعم العبدُ صهيب لو لم يخف الله لم يعصه، فالحكم ثابت على النقيضين، والطرف المسكوت عنه أولى من المذكور. وقوله: "ثم رأت منك شيئًا" التنوين فيه للتقليل، أي: شيئًا قليلًا لا يُوافق غرضها من أي نوع كان، أو شيئًا حقيرًا لا يعجبها. وقوله: "قالت ما رأيت منك خيرًا قطُّ" أي: بفتح القاف، وتشديد الطاء مضمومة على الأشهر ظرف زمان لاستغراق ما مضى، وقد مضى ما فيها من اللغات في حديث: "أول ما بُدىء به رسول الله ... إلخ" في بدء الوحي. ووقع في حديث جابر ما يدل على أن المرئي في النار من النساء من اتصف بصفات ذميمةٍ ذُكرت، ولفظه: "وأكثر من رأيت فيها من النساء اللّاتي إن اؤتِمِنَّ أفْشين، وإن سُئلن بَخِلن، وإن سألْن ألْحفن، وإن أُعطينَ لم يَشكُرن" .. الحديث. وفي هذا الحديث من الفوائد وعظ الرئيس المرؤوس وتحريضه على

الطاعة، ومراجعته المتعلم العالم والتابع المتبوع فيما قاله إذا لم يظهر له معناه، وجواز إطلاق الكفر على كفر النعمة وجَحْد الحق، وإن المعاصي تُنقص الإِيمان، لأنه جعله كفرًا، ولا يخرج إلى الكفر الموجب للخلود في النار، وإن إيمانهن يزيد بشكر نعمة العشير، فثبت أن الأعمال من الإِيمان، وفيه معجزةٌ ظاهرةٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وما كان عليه من نُصح أمته وتعليمهم ما ينفعهم وتحذيرهم مما يَضرُّهم، وفيه أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان، وجواز العمل في الصلاة إذا لم يَكثُر. وحديث ابن عبّاس هذا طرفٌ من حديث طويل أورده المصنف في باب صلاة الكسوف، ونبه هنا على فائدتين: إحداهما: أن البخاري يذهبُ إلى جواز تقطيع الحديث إذا كان ما يفصله منه لا يتعلق بما قبله ولا بما بعده تعلقًا يُفضي إلى فساد المعنى كما هو أحد الأقوال الأربعة الآتية في الاقتصار على بعض الحديث، فصنيعه ذلك يوهم من لا يحفظ الحديث أن المختصر غير التام، لا سيما إذا كان ابتداء المختصر من أثناء التام، كما وقع في هذا الحديث، فإن أوله هنا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أُريت النار" إلى آخر ما ذكر منه، وأول التام عن ابن عباس قال: خَسَفَت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر صفة صلاة الكسوف، ثم خُطبة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيها القَدْر المذكور هنا، فمن أراد عد الأحاديث التي اشتمل عليها الكتاب يظن أن هذا الحديث حديثان أو أكثر لاختلاف الابتداء، وقد وقع في ذلك من حكى أن عدته بغير تكرار أربعة آلاف ونحوها، كابن الصلاح، والشيخ محي الدين النووي، ومن بعدهما، والحق أن عدته على التحرير ألفا حديث وخمس مئة حديث وثلاثة عشر حديثًا كما يأتي إن شاء الله تحريره في خاتمة هذا الكتاب. الفائدة الثانية تقرر أن البخاري لا يُعيد الحديث إلا لفائدة، لكن تارة تكون في المتن، وتارة تكون في الإِسناد، وتارة فيهما، وحيث تكون في المتن خاصة لا يُعيده بصورته، بل يتصرف فيه، فإن كثرت طرقه أورد لكل باب طريقًا، وإن قلت اختصر المتن أو الإِسناد، وقد صنع

رجاله خمسة

ذلك في هذا الحديث، فإنه أورده هنا، وأورده في مواضع يأتي ذكرها بعد الإِسناد، طورًا يقتصر على موضع الحاجة، وطورًا يورده تامًّا، وعلى هذه الطريقة يُحمل جميع تصرفه، فلا يُوجد في كتابه حديث على صورة واحدة في موضعين فصاعدًا. رجاله خمسة: الأول: عبد الله بن مَسلمة القَعْنبي، وقد مرّ في الثاني عشر من كتاب الإِيمان هذا. ومرّ الإِمام مالك في الثاني من بدء الوحي. والثالث: زيد بن أسلم القُرَشي العَدوي أبو أسامة، ويقال: أبو عبد الله المدني الفقيه مولى عُمر بن الخطاب. وثقه أحمد، وأبو حاتم، والنّسائي، وقال ابن سَعد: كان ثقة كثير الحديث. قال مالك: كان زيد يحدث من تِلقاء نفسه، فإذا قام لم يجترىء عليه أحد. وكان مالك يقول: ما هِبْت أحدًا قطُّ هيبتي زيد بن أسلم. وكان زيد يقول لابن عجلان: اذهب فتعلم كيف يُسأل؟ ثم تعال. وقال العطّاف بن خالد: حدث زيد بن أسلم بحديث، فقال له رجل: يا أبا أسامة عمّن هذا؟ فقال: يا ابن أخي ما كُنا نجالس السفهاء. وكان علي بن الحسين يجلِس إلى زيد بن أسلم، ويَتخطّى مجالس قومه، فقال له نافع بن جُبير بن مُطْعم: تتخطى مجالس قومك إلى عبد عمر بن الخطاب، فقال علي: إنما يجلس الرجل إلى من ينفعه في دينه. وقال مالك كانت لزيد بن أسلم حلقة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال عبد الرحمن بن زيد: قال لي أبو حازم: لقد رأيتنا في مجلس أبيك أربعين حَبْرًا فقيهًا، أدنى خَصْلة بنا التَّواسي بما في أيدينا، فما رؤي منا متماريان ولا متنازعان في حديث لا ينفعهما قط. وقال أيضًا: كان أبي له جلساء، فربما أرسلني إلى الرجل منهم، قال: فيقبل رأسي ويمسحه، ويقول: والله لَأبوك أحب إلي من ولدي وأهلي، ووالله لو خيرني الله أن يذهبَ

به أو بهم لأحببت بهم ويبقى لي زيد، وقال يعقوب بن شَيْبة: ثقة من أهل العلم والفقه، وكان عالمًا بتفسير القرآن. قال. عُبيد الله بن عمر: لا أعلم به بأسًا، إلا أنه يفسر القرآن برأيه ويكثر منه. وقال ابن عُيينة: كان رجلًا صالحًا، وكان في حفظه شيء. وذكره ابن حِبّان في "الثقات". روى عن: أبيه، وابن عُمر، وأبي هريرة، وعائشة، وجابر، وربيعة ابن عبّاد الدِّيلي، وسَلمة بن الأكوع، وأنس، وأبي صالح السمّان، والأعْرج، وعلي بن الحسين، وغيرهم. وروى عنه: أولاده الثلاثة أسامة وعبد الله وعبد الرحمن، ومالك، وابن عجلان، وابن جُرَيْج، والسُّفيانان، وسليمان بن بلال، وجَرير بن حازم، ومَعمر، وغيرهم. مات في العشر الأُول من ذي الحجة سنة ست وثلاثين ومئة. وليس في الستة زيد بن أسلم سواه، وأما زيدٌ فكثير. الرابع: عطاء بن يَسار الهِلالي المدني أو محمد القاصّ مولى ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو أخو سليمان وعبد الملك وعبد الله بني يسار أحد الأعلام. قال ابن مَعين، وأبو زُرعة، والنّسائي: ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث. وذكره ابن حِبّان في "الثقات" وقال: قدم الشام، فكان أهل الشام يُكَنّون بأبي عبد الله، وقدم مصر فكان أهلها يُكنّونه بأبي يسار، وكان صاحب قصص وعبادة وفضل. روى عن: مولاته ميمونة، ومعاذ بن جَبَل -وفي سماعه منه نظر- وعن أبي ذَر، وأبي الدّرداء، وزيد بن ثابت، وأبي هُريرة، وعائشة، وعبد الله بن عمر، وابن عباس، وغيرهم. وروى عنه: أبو سلمة بن عبد الرحمن -وهو من أقرانه- ومحمد بن عمر بن عطاء، وهِلال بن علي، وزيد بن أسلم، وصَفْوان بن سُليم، وعمرو بن دينار، وآخرون.

مات بالاسكندرية سنة ثلاث أو أربع ومئة وهو ابن أربع وثمانين سنة. والهلالي في نسبه نسبة إلى بني هلال بالولاء، حي من هوازن، وهم بنو هلال بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هَوازن، منهم ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين، وهو مولاها كما مر، ومنهم حُميد بن ثَوْر الشاعر الصحابي، ومنهم أبو زيد الهِلالي المشهور في الشجاعة والكرم، ولهم بقية في ريف مصر. الخامس: عبد الله بن عباس، وقد مرّ في الخامس من بدء الوحي. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة، ورواته كلهم مدنيون إلا ابن عباس، وهو أيضًا أقام بالمدينة، وكلهم أئمة أجلاء كبار. وهذا الحديث أخرجه البخاري، وهو طرف من حديث طويل أورده في صلاة الكسوف بهذا الإِسناد تامًّا، وفي الصلاة في باب من صلى وقُدّامُهُ نارٌ بهذا الإِسناد بعينه، وفي بدء الخلق في ذكر الشمس والقمر عن غير القَعْنبيّ مقتصرًا على محل الحاجة منه، وفي عِشرة النساء عن شيخ غيرهما، وفي كتاب العلم عن سُليمان بن حَرب. ومسلم في العيدين عن أبي بكر، وغيره عن سفيان. وقد مرّ قريبًا أن هذا الحديث طرف من حديث طويل مختصر، والاقتصار على بعض الحديث في غير التأليف والأبواب في أربعة أقوال. قيل: يمنع مطلقًا تعلق المحذوف بالمثبت تعلقًا يُخِلُّ حذفه بالمعنى أم لا، لأن رواية الحديث ناقصًا تقطعه وتغيره عن وجهه. وقيل: يجوز إن انتفى التعلق المذكور، وإلا فلا يجوز بلا خلاف. وقيل: يجوز إن اَتَمَ إيراد الحديث منه أو من غيره مرة أخرى ليؤمن بذلك من تفويت حكم أو نحوه، وإلا فلا، وإن جوّز قائله الرواية بالمعنى. وقيل يجوز للعالم العارف -وإن لم تَجُز الرواية بالمعنى- لا لغيره.

باب المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك

قال ابن حَجَر ينبغي أن لا يكون هذا الرابع قولًا برأسه، بل يجعل شرطًا لمن أجاز، فإن منع غير العالم من ذا الفعل لا يُخالف فيه أحد. وهذا القول الرابع هو الذي عليه الجمهور، ويوصف بالصحيح دون غيره من بقية الأقوال بشرط أن يكون ما اختصره من المتن غير متعلق بالذي ذكره تعلقًا يُخلُّ حذفه بالمعنى، لأن ذلك بمنزلة خبرين منفصلين، أما إذا تعلق به المذكور كالاستثناء والغاية والحال كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُباع الذّهب بالذهب إلا سواء بسواء" فلا يجوز حذفه بلا خلاف، وهذا الخلاف محله إذا وقع الاقتصار على بعض الحديث في الرواية، أما إذا قُطِع الحديث المشتمل على أحكام في الأبواب بحسب الاحتجاج به على مسألة فهو بعيد من المنع، وقد فعله من الأئمة مالك وأحمد والبخاري والنّسائي وغيرهم. وحُكي الخلاف عن أحمد أنه ينبغي أن لا يفعل. قال ابن الصلاح: ولا يخلو من كراهية. ومحل الخلاف أيضًا إذا كان الفاعل غير متهم، وأما إذا كان متهمًا فلا يجوز له أن يفعله سواء رواه ابتداءً ناقصًا أم تامًّا، لأنه إن رواه تامًّا بعد أن رواه ناقصًا اتُّهم بزيادة ما لم يسمعه، أو بالعكس اتُّهم بنسيانه لقلة حفظه، فيجب عليه أن يرويه تامًّا لِيَنفي هذه المَظنّة عن نفسه، فإن خالف ورواه ناقصًا جاز له عدم تكميله بعد ذلك، وكَتْم تلك الزيادة خوفَ اتِّهام الزيادة اهـ ثم قال المصنف: وقوله: "ولا يُكفَّر" بتشديد الفاء المفتوحة، وفي رواية أبي الوقت، بفتح أوله وإسكان الكاف. وقوله: "إلا بالشّرك" أي: أن كل معصية تُؤخذ من ترك واجبٍ أو فعل محرم فهي من أخلاق الجاهلية، والشرك أكبر المعاصي، ولا يُنسب أحد إِلى الكفر بارتكاب معصية إلا بارتكاب الشرك. بابٌ المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنك امرؤ فيك جاهلية" وقول الله تعالى:

{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}. باب بالتنوين، وسقط عند الأصيلي، والمعاصي مبتدأ، خبره من الجاهلية، والجاهلية زمان الفترة قبل الإِسلام، وسُمي بذلك لكثرة الجهالات فيه، وقد يُطلق في شخص معين أي في حال جاهليته. ومحصل الترجمة أنه لما قَدَّم أن المعاصي يطلق عليها الكفر مجازًا على إرادة كفر النعمة لا كفر الجَحْد، أراد أن يُبّين أنه كفر لا يُخرج من الملة، خلافًا للخوارج الذين يكفرون بالذنوب، وللمعتزلة القائلين بأنه لا مؤمن ولا كافر، واحتَرَز بالارتكاب عن الاعتقاد، فلو اعتقد حِلَّ حرام معلوم من الدين بالضرورة كفر قطعًا، واستدل المصنف على ما ذكر بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنك امرؤٌ فيك جاهلية" وبآية: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48]، أما الاستدلال بالآية فظاهر، فإنه صيَّر ما دون الشِّرك تحت إمكان المغفرة، فمن مات على التوحيد غيرُ مخلد في النار وإن ارتكب من الكبائر غير الشرك ما عساه أن يرتكب، والمراد بالشِّرك في هذه الآية الكفر، لأن من جحد نبوة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - مثلًا كان كافرًا ولو لم يَجْعل مع الله إلهًا آخر، والمغفرة منتفية عنه بلا خلاف، وقد يَردُ الشرك ويراد به ما هو أخص من الكفر، كما في قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} وأما قصة أبي ذرٍّ فإنما ذكرت ليُستدَلَّ بها على أن من بقيت فيه خَصْلة من خِصال الجاهلية سوى الشرك لا يخرُجُ عن الإِيمان بها سواء كانت من الكبائر أم الصغائر. وقوله: "إنك امرؤ فيك جاهلية" أي: إنك في تعييره بأمه على خُلُقٍ من أخلاق الجاهلية، ولست جاهليًا محضًا، مع أن منزلة أبي ذر من الإِيمان في الذِّروة العالية، وإنما وبّخه بذلك على عظيم منزلته عنده تحذيرًا له عن معاودة مثل ذلك، لأنه وإن كان معذورًا بوجه من وجوه العُذر، لكنّ وقوع ذلك من مثله يُستعظم أكثر ممن هو دونه.

الحديث الثالث والعشرون

الحديث الثالث والعشرون 30 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ وَاصِلٍ عَنِ الْمَعْرُورِ قَالَ: لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ وَعَلَى غُلاَمِهِ حُلَّةٌ فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنِّي سَابَبْتُ رَجُلًا فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ فَقَالَ لِيَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «يَا أَبَا ذَرٍّ أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ؟ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ. إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ». قوله: "وعليه حُلّة وعلى غلامه حُلّة" هكذا رواه أكثر أصحاب شعبة عنه، والحلة -بضم الحاء- لا تكون إلا من ثوبين غير لَفِقَيْن رداء وإزار، سميت بذلك لأن كل واحد منهما يَحُلُّ على الآخر، وروي عن بعض أهل اللغة أن الحُلة لا تكون إلا من ثوبين جديدين يَحُلُّهما من طيِّهما، فأفاد أصل تسمية الحلة، وهو غير ما مر، والجملة حالية، وفي رواية الإِسماعيلي عن شُعبة: أتيت أبا ذرٍّ، فإذا حلّة عليه منها ثوب وعلى عبده منها ثوب. وهذا يوافق ما في اللغة من أن الحُلّة ثوبان من جنس واحد، ويؤيده ما في رواية الأعمش عند المؤلف في الأدب بلفظ: رأيت عليه بُردًا وعلى غلامه بُردًا، فقلت: لو أخذت هذا فلبِستهُ كانت حلة. ويجمع بين الروايتين بأنه كان عليه بردٌ جيد تحته ثوب خلِق من جنسه. وعلى غلامه كذلك، وكأنه قيل له: لو أخذت البرد الجيد فأضفته إلى البرد الذي عليك، وأعطيت الغلام البرد الخَلق بدله، لكانت حلة جيدة، فتلتئمُ بذلك الروايتان. ويحمل قوله في حديث الأعمش: كانت

حلة، أي: كاملة الجَوْدة، فالتنوين للتعظيم، وغلام أبي ذَرٍّ المذكور لم يُسَمَّ، ويحتمل أن يكون أبا مُرَاوح، ويأتي تعريفه في الثالث من العِتق عند روايته هناك. وقوله: "فسألته عن ذلك" أي: عن السبب في إلباسه غلامه نظير لبسه لأنه على خلاف المألوف، فأجابه بحكاية القصة التي كانت سببًا لذلك، وسبب السؤال أن العادة جاريةٌ بأن ثياب الغلام دون ثياب سيده. وقوله: "إني ساببتُ رجلًا" في رواية الإسماعيلي: "شاتمت" وللمؤلف في "الأدب المفرد" "كان بيني وبين رجل كلام" وزاد مسلم: "من إخواني" ومعنى ساببت: وقع بيني وبينه سِباب بالتخفيف، وهو من السبِّ بالتشديد، وهو القطع، وقيل: مأخوذ من السبَّة بالفتح، وهي حلقة الدبر، سمي الفاحش من القول بالفاحش من الجسد، فعلى الأول المراد قطع المسبوب، وعلى الثاني المراد كشف عورته، لأن من شأن السباب إبداء عورة المسبوب. وقوله: "فعيَّرته بأمه" أي: نسبته إلى العار، زاد في الأدب: "وكانت أمه أعجمية، فنِلت منها، وقلت له: يا ابن السوداء" والأعجمي من لا يفصح باللسان العربي، سواء أكان عربيًا أو عجميًا، والفاء في "فعيرته" قيل: هي تفسيرية، كأنه بين أن التعيير هو السبب على حد قوله تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] فإن قتل الأنفس هو عين التوبة، والظاهر أنه وقع بينهما سِباب وزاد عليه التعيير، فتكون عاطفة، ويدل عليه رواية مسلم: قال: "أعيرته بأمه؟ فقلت: من سَبَّ الرجال سبوا أباه وأمه". وقوله: "أعيرته بأمه؟ " بالاستفهام على وجه الإِنكار التَّوْبيخي. وقوله: "إنك امرؤ فيك جاهلية" امرؤ بالرفع خبر إن، وعين كلمته تابعة للامها في أحوالها الثلاث كما مر في حديث: "إنما الأعمال" وفيك

جاهلية مبتدأ قُدِّم خبره، أي: فيك خصلة من خصال الجاهلية، ولعل هذا كان من أبي ذرٍّ قبل أن يعرف تحريمه، فكانت تلك الخصلة من خِصال الجاهلية باقية فيه، فلهذا قال كما عند المصنف في الأدب: "قلت: على ساعتي هذه من كبر السن؟ قال: نعم" كأنه تعجب من خفاء ذلك عليه مع كبر سنه، فبين له كون هذه الخصلة مذمومة شرعًا، وكان بعد ذلك يساوي غلامه في الملبوس وغيره أخذًا بالأحوط، وإن كان لفظ الحديث يقتضي اشتراط المواساة لا المساواة. وقد جاء في سبب إلباس أبي ذَرٍّ غلامه مثل لبسه أثر مرفوع أصرح من هذا وأخص، أخرجه الطبراني عن أبي أمامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى أبا ذرٍّ غلامًا، فقال: "أطعمه مما تأكل وألبسه مما تلبس"، وكان لأبي ذر ثوب، فشقه نصفين، فأعطى الغلام نصفه، فرآه النبي- صلى الله عليه وسلم - فسأله، فقال: قلت يا رسول الله: "أطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون" قال: "نعم" وفي السياق دِلالة على جواز تعدية عيرته بالباء، وأنكره ابن قُتيبة قائلًا: إنما يُقال: عيرتُهُ أُمَّه، وتبعه بعضهم، وقال آخرون: إنها لغة، وكفى بالحديث دليلًا. وقول الشاعر: أيُّها الشّامتُ المعَيرِّ بالدّهرِ والرجل الذي عيره هو بلالٌ المؤذن مولى أبي بكر الصديق، روى ذلك الوليد بن مُسلم منقطعًا. وروى البرماذي أنه لما شكاه بلال إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال له: "شتمتَ بلالًا وعيرتَه بسواد أمه؟ " قال: نعم. قال: "حَسبتُ أنه بقي فيك شيءٌ من كِبْرِ الجاهلية" فألقى أبو ذرٍّ خده على الأرض، ثم قال: لا أرفع خدي حتى يطأ بلالٌ خدي بقدمه. زاد ابن المُلَقِّن: فوطِىء خده. ويأتي تعريف بلال في التاسع والثلاثين من الإِيمان حيث ذُكر هناك. وقوله: "إخوانكم" يعني من جهة أن الكل أولاد آدم، فهو على سبيل

المجاز، أو من جهة الإِسلام، والمماليك الكفرة إما أن نجعلهم في هذا الحكم تابعين للماليك المؤمنة، أو نخصص هذا الحكم بالمؤمنة. وقوله: "خَوَلكم" بالتحريك مبتدأ خبره إخوانكم، وقدم الخبر للاهتمام بشأن الأخوة، ويجوز أن يكونا خبرين حُذف من كلٍّ مبتدؤه، أي: هم إخوانكم هم خولكم، وأعربه الزَّركشيّ بالنصب، أي: احفظوا. قال أبو البقاء: هو أجود، لكن رواه البخاري في كتاب حسن الخلق: "هم إخوانكم" وهو يُرجح تقدير الرفع، والخَوَل -بفتح المعجمة والواو- هم الخدم، سُمّوا بذلك لأنهم يَتَخوّلون الأمور، أي: يصلحونها. ومنه الخُوليّ لمن يقوم بإصلاح البستان، ويقال: الخول: جمع خائل، وهو الراعي، وقيل: التخويل: التمليك، يقال: خَوّلك الله كذا، أي: ملكك إياه. وقوله: "تحت أيديكم" مجاز عن القدرة أو الملك، أي: وأنتم مالكون إياهم. وقوله: "فليُطعِمه مما يأكُل وليُلبسه مما يلبس" أي من جنس ما يأكل، ومن جنس ما يلبس، والمثناة التحتية في فليطعمه وليلبسه مضمومة، ومن يلبس مفتوحة، والفاء في فمن عاطفة على مقدر، أي: وأنتم مالكون، ويجوز أن تكون سببية على حد قوله: فتُصبح الأرض مخضرة، ومن للتبعيض، فإذا أطعم عبده مما يقتاته كان قد أطعمه مما يأكله، ولا يلزمه أن يُطعمه من كل مأكوله على العموم من الأُدْم وطيبات العيش كما يدل عليه حديث أبي هريرة الآتي في العِتق: "فإن لم يُجْلسه معه، فليناوله لقمةً أو لقمتين، أو أكلة أو أكلتين، فإنه قد ولي علاجه" فالمراد: المواساة لا المساواة، لكن من أخذ بالأكمل كأبي ذرٍّ فعل المساواة وهو الأفضل، فلا يستأثر المرء على عياله من ذلك وإن كان جائزًا. وفي "الموطأ" و"مسلم" عن أبي هريرة مرفوعًا: "للمَمْلوك طعامه

رجاله خمسة

وكِسْوته من المعروف، ولا يُكلَّف من العمل ما لا يُطيق" وهي يقتضي الرد في ذلك إلى العُرف، فمن زاد عليه كان متطوعًا، وأما ما حكاه ابن بَطّال عن مالك أنه سُئل عن حديث أبي ذر، فقال: كانوا يومئذٍ ليس لهم هذا القوت واستحسنه ففيه نظر لا يَخْفى، لأن ذلك لا يمنع حمل الأمر على عمومه في حق كل أحد بحَسَبِه. قاله في "الفتح". قلت: في نظره نظر، لأن ما نظر فيه هو عين ما مر قريبًا من أن الأمر في ذلك موكول إلى العُرف، فكلام مالك جمعٌ بين الحديثين بيّن فيه أن حديث أبي ذر في زمن ليس لهم فيه هذا القوت المتفاوت المُحتاج فيه إلى حمل الأمر على العُرف. قوله: "ولا تُكلِّفوهُم ما يغلبهم" أي: تعجِز قدرتهم عنه لعظمه أو لصعوبته، والنهي فيه للتحريم، والتكليف: تحميل النفس شيئًا فيه كِلفة، وقيل: هو الأمر بما يَشُقُّ. وقوله: "فإن كلَّفتموهم فأعينُوهُم" أي: كلفتموهم ما يغلِبهم، وحُذف للعلم به، والمراد أن يُكلِّف العبد جنس ما يقدر عليه، فإن كان يستطيعه وحدَه، وإلا فلْيعِنه بغيره، ويُلحق بالعبد الأجير والخادم والضيف والدّابة. وفي الحديث: النهي عن سب العبيد ومن في معناهم وتعييرهم بمن وَلَدهم، والحث على الإِحسان إليهم والرفق بهم، وعدم الترفع على المسلم والاحتقار له، وفيه المحافظة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإطلاق الأخ على الرقيق، وأن التفاضل الحقيقي بين المسلمين إنما هو في التقوى فلا يُفيد الشريف النسب نسبه إذا لم يكن من أهل التقوى، ويستفيد الوضيع النسب بالتقوى، قال الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]. رجاله خمسة: الأول: سليمان بن حرب وقد مرّ في الرابع عشر من كتاب الإِيمان.

ومرّ شعبة بن الحجاج في الثالث منه أيضًا. الثالث: واصل بن حيّان -بتشديد الياء آخر الحروف- الأحْدب الأسديّ الكوفي بيّاع السّابَرِي. قال أبو داود والنّسائي والعجليّ وابن مَعين: ثقة. وقال ابن معين في رواية أخرى: ثبت. وقال أبو حاتم: صدوق صالح الحديث. وذكره ابن حِبّان في "الثقات". روى عن: أبي وائل، وشريح القاضي، والمعرور بن سويد، وإبراهيم النخعي، وغيرهم. وروى عنه: أبو إسحاق الشّيباني، وعبد الملك بن سعيد بن أبْجر، وشعبة، والثّوري، وجرير بن حازم. مات سنة عشرين ومئة، وقيل سنة تسع وعشرين. وقال خليفة: مات في خلافة مَرْوان بن محمَّد. وحَيّان إن أخذ من الحين ينصرف، وإن أخذ من الحياة لا ينصرف، وكل ما في الكتب الستة فهو حيان بالياء المشددة بعد الحاء سُمًا أو كُنية ما عدا: حِبّان -بكسر الحاء وبالباء الموحدة- جد أحمد بن سنان بن حِبّان القطان، وحبّان بن موسى المَروزيّ ويأتي قبل عبد الله بن المبارك غير منسوب، روى عنه الشيخان في "صحيحيهما"، وحِبّان بن عَطية وله ذكر في "البخاري" في قصة حاطب بن أبي بلتعة، وحِبّان بن العَرِقة -لعنه الله تعالى- قاتل سعد بن معاذ له ذكر في "الصحيحين" في حديث عائشة رضي الله عنها: أن سعد بن معاذ رماه رجلٌ من قريش يقال له: حبّان بن العَرِقة -بكسر الراء- وقيل: بفتحها، لقب أمه، لُقِّبت بذلك لطيب ريحها، واسمها قِلابة بنت سُعيد -بضم السين- ابن سهم وأما اسم أبيه فقَيْس، أو أبو قيس، وما عدا ثلاثة أيضًا بفتح الحاء: حَبان ابن مُنقذ -بكسر القاف وضم الميم وبالذال المعجمة- له ذكر في "الموطأ" وحفيده حَبّان بن واسع بن حبّان بن مُنقذ وحديثه في "الموطأ" والشيخين، وابن أخي واسع محمَّد بن يحيى بن حَبّان، حديثه في الثلاثة أيضًا،

وأما واسع بن حَبّان فحديثه في مسلم، وأشار إلى هذا سيدي عبد الله في "غرة الصباح" بقوله: حبّان جدُّ أحمد القطّانُ ... ونَجلُ موسى عندهُم حِبّان وابنُ عطيَّة ونجلُ العَرِقه ... وافْتح لوالدٍ لواسعِ الثِّقه وابنِ هلالٍ، غيرهُم بالياءِ ... سُمًا وكُنيةً بلا استثناءِ وابن هلال هو حبان الباهلي وحديثه في الصحيحين، وقال العراقي: كَذَاك حَبّان بنُ مُنقذٍ وَمَنْ ... ولَدَه وابنُ هلالٍ واكْسِرَنْ ابنَ عطيّةٍ مع ابن مُوسى ... ومَن رمى سعْدًا فنالَ بُوسَى قلت: الفتح تحقيقه أنه في ثلاثة: حَبّان بن مُنقذ الصحبي، وحفيده حَبّان بن واسع، وحَبّان بن هلال لا غير، وأما واسع وابن أخيه، فحبانهما هو ابن مُنقذ. وقلت أيضًا: اقتصار من اقتصر في المكسورِ على أربعة قصورٌ، ففي الرواة سبعة بالكسر زيادة على الأربعة المتقدمة، ذكرهم صاحب "الخلاصة"، و"تهذيب التهذيب"، وغيرهما من كتب الرجال، وهم: ابن أبي جَبَلة القُرشيّ روى عن عَمرو بن العاص، وابنه عبد الله، وابن جُزء روى عن أبيه وأبي هريرة، وابن زَيْد الشرعبي أبو خِداش روى عن عبد الله بن عَمرو، وحِبّان بن عاصم العَنبريّ البَصْري روى عن جده لأمه حَرْمَلة التَّميمي، وابن علي العَنَزي روى عن ليث بن أبي سُلَيم، وابن موسى الكِلابيّ، والذي مرّ ذكره في الأربعة هو ابن موسى السُّلميّ المَرْوزيّ، وابن يسار الكلابي أبو رُويحة روى عن محمَّد بن واسع. والسَّابِرِي الذي واصل بياع له ثوب رقيق جيد وكل رقيق سابرِيّ. قال ذو الرُّمة: فجاءَتْ بِنسج العنكبوت كأنَّهُ ... على عَصَوبْها سَابِرِيٌّ مُشَبرَقُ

ومنه المثل: "عرضٌ سابِرِي" لأنه يرغب فيه بأدنى عرض، يقوله من يُعرضُ عليه الشيء عرضًا لا يُبالغ فيه، وفي حديث حبيب بن أبي ثابت: رأيت على ابن عباس ثوبًا سابَربًّا استشف ما وراءه. وواصل في الستة سواه خمسة. الرابع: المعرور بن سُويد أبو أمية الكوفي. قال ابن مَعين وأبو حاتم: ثقة. وقال العِجلي: تابعي ثقة من أصحاب عبد الله. وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من أهل الكوفة، وقال شُعبة عن واصل: كان المَعْرور يقول لنا: تعلموا مني يا بني أخي. وكان كثير الحديث. روى عن: عُمر، وأبي ذر، وابن مسعود، وأم سَلَمة. وروى عنه: واصل الأحْدب، وسالم بن أبي الجَعْد، والأعْمش، والمُغيرة بن عبد الله اليَشْكُريّ، وعاصم بن بَهدلة، وغيرهم. قال الأعمش: رأيته وهو ابن عشرين ومئة سنة، أسود الرأس واللحية. وليس في الستة معرورٌ سواه. الخامس: أبو ذرٍّ الغفاري الزاهد المشهور الصادق اللهجة مختلف في اسمه واسم أبيه كثيرًا، والمشهور أنه جُنْدُب بن جُنادة بن سَكْن، وقيل: ابن عبد الله، وقيل: اسمه بَرير، وقيل: بالتصغير، وقيل: اسم أبيه عبد الله، وقيل: عِشرقةُ، وقيل غير ذلك. والسَّكْن بن جُنادة بن قيس بن بَيَاض بن عَمرو بن مُلَيْل -بلامين مصغرًا- ابن صُعير -بمهملتين مصغرًا- ابن حَرام -بمهملتين- ابن غِفار. وقيل: اسم جده سُفيان بن عَبيد بن حَرَام بن غِفار.

واسم أمه رَمْلةُ بنتُ الوقيعة غِفاريةٌ أيضًا. ويقال: إنه أخو عمرو بن عنبسة لأمه. ووقع في رواية لابن ماجه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي ذرّ لما مر عليه مضطجعًا على بطنه وَرَكضَه برجله: "يا جُنيدب -أي: بالتصغير- إنما هذه الضَّجعة ضَجْعَة أهل النار". كان من كبار الصحابة قديم الإِسلام يقال: أسلم بعد أربعة، فكان خامسًا، ثم انصرف إلى بلاد قومه، فأقام بها حتى قَدِم على النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة عام الحُديبية. لم تتهيأ له الهجرة إلا ذلك العام، فصَحِب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أن مات. ثم خرج بعد وفاة أبي بكر إلى الشام، فلم يزل بها حتى وَلِي عليه معاويةُ من قبل عُثمان. وكان أبو ذر غالبًا عليه الزُّهد والتَّعبُّد، فكان يعتقد أن جميع ما يَفضُل عن الحاجة كنزٌ فإمساكه حرام، فوقع بينه وبين معاوية نزاعٌ في قوله تعالى {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34] الآية فشكاه إلى عثمان فأقْدَمَه عُثمان المدينة فَزَهد فيما بأيديهم، واستأذن عثمان في سُكناه الرَّبَذَةَ. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذن له في البَدو، فأقام بها في موضع منقطع حتى مات بها. ويأتي إن شاء الله تعالى شأن موته وقصة إسلامه في "الصحيحين" على صفتين بينهما اختلافٌ ظاهرٌ. فعند البخاريّ من طريق أبي حَمْزة عن ابن عَبّاس قال: لما بلغ أبا ذَرٍّ مَبْعثُ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي، فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يَزْعم أنه نبيّ يأتيه الخبر من السماء، واسْمع من قوله ثم ائتِني. فانطلق الأخ حتى قدِم وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبي ذر فقال

له: رأيتُه يأمُر بمكارم الأخلاق، ويقول كلامًا ما هو بالشعر، فقال: ما شَفَيْتني، فَتَزَوَّد، وحمل شَنَّةً فيها ماءٌ حتى قَدِم مكة، فأتى المسجد فالتَمَس النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وهو لا يعرفه، وكره أن يَسأل عنه حتى أدركه الليل فاضطجع فرآه عليٌّ فَعَرف أنه غريب فقال له: انطلق معي إلى المنزل، فانطلق معه لا يسألُ واحدٌ منهما صاحبه عن شيء حتى أصبح، ثم احْتمل قربَتَه وزادهُ إلى المسجد، وظل ذلك اليوم ولا يرى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حتى أمْسَى، فعاد إلى مَضْجعه، فمر به عليٌّ فقال: أما آن للرجل أن يعرف مَنزله؟ فأقامه، فذهب به معه لا يسأل أحدٌ منهما صاحِبَه عن شيء حتى إذا كان. اليوم الثالث فعل مثل ذلك، فأقامه فقال: ألا تُحدِّثني ما الذي أقْدَمك: قال: إنْ أعطيتني عهدًا وميثاقًا أن تُرشدني فَعَلتُ، ففعل فأخبره، فقال: إنه حق وإنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا أصبحتَ فاتَّبِعني إن رأيت شيئًا أخافُهُ عليك قمتُ كأنى هَريق الماء فإن مضيت فاتَّبِعني حتى تدخل مَدْخَلي، ففعل فانطلق يَقْفُوه حتى دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - ودخل معه وسمع من قوله فأسلم مكانه، فقال له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ارجع إلى قومك فأخْبرهم حتى يأتيك أمري، فقال: والذي نفسي بيده لأصْرخَنَّ بها بين ظَهرانِيهم، فخرج حتى أتى المسجد فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسولُه. فقام القوم إليه فضربوه حتى أضْجعُوه، وأتى العباس فأكَبَّ عليه وقال: ويلكم، ألستم تعلمون أنه من غِفار وأنه طريق تجارتكم إلى الشّام، فأنْقذه مِنهُم ثمَّ عاد من الغد لمثْلها، فضربوه وثاروا عليه، فأكَبَّ العباس عليه أيضًا، حتى أنْقذهُ منهم. هذه إحدى الطريقتين، وعند مسلم من طريق عبد الله بن الصامت عن أبي ذرٍّ في قصة إسلامه، وفي أوَّله: صَلَّيْت قبل أنْ يُبعَث النبي - صلى الله عليه وسلم - بثلاث سنِين لله تعالى، أتوجَّه حيثُ وجّهني ربّي أصلي عشاء حتى إذا كان من آخر الليل، أُلقيتُ كأني خفاء حتى تعلو في الشمس والخفاء كالكِساء زنَةً ومعنىً. قال وكنا نزلنا مع أُمنا على خال لنا، فأتاه رجل، فقال له: إن أُنيسًا

يخلفك في أهلك. فبلغ ذلك أخي، فقلنا: والله لا نُساكنُه بعد هذا، فارتحلنا، فانطلق أخي فأتى مكة، ثم قال لي: أتيتُ مكة فرأيتُ رجلًا بمكةَ على دينِك يزعم أن الله تعالى أرسله. قلت: فما يقول النّاس؟ قال: يقولون شاعرٌ كاهنٌ ساحرٌ. وكان أُنيسٌ شاعرًا. قال أُنيْس: لقد سمعتُ قولَ الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعتُ قولَه على أمراء الشعراء فما يلْتَئمُ على لسان أحدٍ بعهدي أنه شعر. والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون. قال أبو ذَرّ: قلت: فاكْفني حتى أذهب فأنْظُر. قال: فأتيتُ مكة فَتَضَعَّفتُ رجلًا منهم، فقلت له: أين هذا الذي تدعونَه الصّابىء؟ فأشار إليّ فقال: الصابىء؟ فمال علي أهل الوادي بكل مَدَرة وعَظم حتى خَرَرتُ مغشيًّا عليّ، قال: فارتفعتُ حين ارتفعتُ كأني نُصُب أحْمر، فأتيت زمزَمَ فغسلت عني الدماء، وشربتُ من مائها. ولقد لبثْت ثلاثين بين ليلة ويوم مختبئًا بين الكعبة وأستارها ما كان لي طعامٌ إلا ماء زمزم، فَسَمنْتُ حتى تكسرتْ عُكَنُ بطني، وما وجدتُ على كبدي سَخْفَةَ جوعٍ. قال فبينا أهل مكة في ليلة قمراء إِضْحيان، إذ ضُرب على أسمخَتهم، فما يطُوف بالبيت أحدٌ، وامرأتان منهم تدعوان أُسافًا ونائلة. فأتتا علي في طوافهما، فقلت: أنكحا إحداهما الأُخرى فما تناهَتَا عن قولهما، ثم أتتا عليّ فقلت: هَنٌ مثل الخشبة غير أني لا أُكْني، فانطلقتا تُولولان وتقولان: لو كان ها هنا أحدٌ من أنفارنا، فاستقبلهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وهما هابطان. قال: مالكما؟ قالت: الصابىءُ بين الكعبة وأستارها، قال: ما قال لكما؟ قالتا: إنه قال كلمة تملأ الفم. وجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى استلم الحجر وطاف بالبيت هو وصاحبه، ثم صلى، فلما قضى صلاته كنتُ أنا أوّل من حيّاه بتحيةِ الإِسلام، فقلت: السلامُ عليك يا رسول الله، فقال: وعليكَ السلام ورحمةُ الله، ثم قال: من أنت؟ قلتُ: من غِفار. فأهوى بيده، فوضع يده على

جبهتي، فقلتُ في نفسي كَرِه أنْ انْتَميتُ إلى غِفار، فذهبتُ آخُذ بيده، فَقَدَعَني صاحبُه، وكان أعلم به مني، ثم رفع، ثم قال: متى كنت ها هُنا؟ فقلت: قد كنت ها هنا من ثلاثين بين يوم وليلة. قال: فمن كان يُطعمك؟ قلت: ما كان لي طعامٌ إلا ماء زمزم، فسَمنت حتى تكسرت عُكنُ بطني، وما أجد على كبدي سَخْفَة جوع. فقال: إنها مباركة، إنها طعام طُعْم. قال أبو بكر: يا رسول الله، ائْذن لي في طعامه الليلة، فانطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر، وانطلقتُ معهما ففتح أبو بكر بابًا، فجعل يَقْبض لنا من زبيب الطائف، فكان ذلك أول طعام أكلته بها، ثم غبَرْتُ ما غَبَرْتُ، ثم أتيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إنه قد وجهت لي أرضٌ ذاتُ نخيل لا أراها إلا يثرب، فهل أنت مبلغٌ عني قَومَك عسى الله أن ينفعهم بك، ويأجُرَك فيهم؟ فأتَيتُ أُنَيسًا، فقال: ما صنعت؟ قلت: إني قد أسلمت وصَدَّقتُ، قال: ما بي رغبة عن دينك، إني قد أسلمت وصدقتُ. فأتينا أُمّنا فقالت: ما بي رغبة عن دينكما، إني قد أسلمت وصدقتُ. فاحتملنا حتى أتينا قومنا غِفارًا فأسلم نصفُهم، وكان يؤُمُّهم إيماء بن رَخْصة الغِفاريّ، وكان سيدهم. وقال نصفهم إذا قَدِم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، فأسلم النصفُ الباقي فجاءتْ أسْلَمُ وقالوا: يا رسول الله، إخوتنا نُسْلم على الذي أسلموا عليه، فأسلموا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: غفارٌ غفر الله لها، أسْلَم سالَمَها الله اهـ. وقال الأبيُّ: بين المتنين اختلافٌ يَبْعُد معه الجمع بينهما. وكل من المتنين صحيح، فالله أعلم أي المتنين هو الكائن. وروى عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: أبو ذر في أمتي شَبيهُ عيسى ابن مريم في زهدهْ وبعضهم يرويه من سَرَّهُ أن ينظر إلى تواضع عيسى ابن مريم فَلْيَنْظُرْ

إلى أبي ذَرٍ. ورُوي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ما أظلتِ الخضراءُ ولا أقلتِ الغَبراء أصدَق لهجةً من أبي ذَر. وأخرج أبو داود بسنَد جيد عن علي - رضي الله عنه -، أبو ذر وعاء ملىء علمًا، ثم أوكيَ. وأخرج الطّبراني من حديث أبي الدّرداء: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبتدىء أبا ذر إذا حضر، ويَتفقَّدهُ إذا غاب. وأخرج أحمد من طريق عِراكٍ بن مالك، قال أبو ذر: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن أقربكم مني مجلسًا يوم القيامة من خرج من الدنيا كهيئة يوم تَركْتُهُ فيها، وإنه، والله، ما منكم من أحد إلا وقد نَشِب فيها بشيء غيري. ولابن إسحاق عن ابن مسعود: كان لا يزال يَتَخلَّف الرجل في تبوك، فيقولون: يا رسول الله: تَخَلَّف فلان. فيقول: دعوه فإن يَكُن فيه خير فسَيُلْحقُهُ الله بكم، وإن يكن غير ذلك فقد أراحَكم الله منه. فَتَلوّم أبو ذر على بعيره، فأبْطأ عليه، فأخذ متاعهُ على ظهره، ثم خرج ماشيًا، فنظر ناظرٌ من المسلمين فقال: إن هذا الرجل يمشي. فقال رسول - صلى الله عليه وسلم -: كن أبا ذَر. فلما تأمّلَت القوم قالوا: يا رسول الله، هو، والله، أبو ذر فقال: يرحَمُ الله أبا ذر، يعيشُ وحده، ويموتُ وحده، ويُبعثُ وحده. وكان أبو ذر - رضي الله عنه - طويلًا أسمَرَ اللون نحيفًا. وقال أبو قُلابة عن رَجلٍ من بني عامر: دخلتُ مَسجِد مِنًى، فإذا شيخ مَعْروقٌ آدمُ، عليه حُلّةُ قَطَريّ، فعرفت أنه أبو ذر بالنّعت. وقال فيه أبو داود: كان يوازي عبد الله بن مسعودٍ في العلم، ولم يَشهد بدرًا ولكن عمر ألحقه بهم. وقال أبو ذر: لقد تركنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما يحركُ طائرٌ جناحَيْه في السماء إلا ذَكَرنا مِنه عِلْمًا.

ورُوي عنه أنه قال: كان قوتي على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاعًا من تمر، فلستُ بزائد عليه حتى ألقى الله تعالى. ورُوي عن عبد الرحمن بن غَنْم أنه قال: كنتُ عند أبي الدّرداء إذ دخل رجلٌ من أهل المدينة، فسأله، فقال: أين تركت أبا ذر؟ قال: بالرّبَذَةِ، فقال أبو الدرداء: إنا لله وإنا إليه راجعون، لو أن أبا ذر قطع مني عُضوًا ما هِجتُه لِما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول فيه. له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مئتا حديث وأحد وثمانون اتفقا على اثني عشر منها، وانفرد البُخاري بحديثين، ومسلمٌ بسبعة عشر. روى عنه من الصحابة أنسٌ وابن عباس، وخلق كثير من التابعين منهم أبو إدريس الخَوْلاني وزيدُ بن وَهْب الجُهنيّ والأحنف بنُ قيس وجُبير ابن نُفَيْر وسعيد بن المُسيّب وعبد الله بن الصّامت وعطاء بن يَسَار وغيرهم. ومرّ أنه مات بالرّبَذة، وكان موته بها سنة اثنين وثلاثين، وصلى عليه عبد الله بن مسعود، صادفه وهو مقبلٌ من الكوفة مع نفرٍ من فُضلاء أصحابه. وقيل: مقبلٌ من المدينة إلى الكوفة، فدُعِي إلى الصلاة عليه وحضوره، فقال ابن مسعود: من هذا؟ قيل: أبو ذر، فبكى طويلًا وقال: أخي وخليلي، عاش وحده، ومات وحده، ويبعث وحده، طوبى له. فَشَهِد موته وغَمّضوا عينيه، وغسلوه وكفنوه. ومن حديث أم ذر زوجة أبي ذر قالت: لما حضرت أبا ذرّ الوفاة، بكيتُ، فقال لي. وما يُبكيك؟ فقلت: وما لي لا أبكي وأنت تموت بِفَلاةٍ من الأرض، وليس عندي ثوبٌ يَسَعُك كفنًا لي ولا لك، ولا يَدَ لي بالقيام بِجهازِك؟ قال: فأبشري ولا تبكي فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يموتَنَّ بين امرأين مسلمين ولدان أو ثلاثة فيصبران ويَحْتسبان فَيَريان النار أبدًا. وقد مات لنا ثلاثةٌ من الولد. وإني سمعت النبيّ عليه الصلاة والسلام يقول لنفرٍ أنا فيهم: ليموتن رجلٌ منكم بفلاةٍ من الأرض يشهده عِصابة من المؤمنين، وليس من أولئك النفر أحد إلا وقد مات في قرية وجماعة.

فأنا ذلك الرجلُ، والله ما كَذَبتُ ولا كُذِبْتُ، فأبصري الطريق. قلت أنّى وقد ذهب الحاجُّ وتقَطّعت الطريق. قال: اذهبي فَتَبصَّري. قالت: فكنتُ اشْتدُّ إلى الكثيب فانظر ثم أرجع إليه فأُمَرِّضُه. فبينما هو وأنا كذلك، إذ أنا برجالٍ على رواحلهم كأنهم الرّخم تَحُثُّ بهم رواحِلهم، فأسرعوا إليّ حتى وقفوا عليّ فقالوا: يا أمَةَ الله، مالك؟ قلت: امرؤ من المسلمين يموت تُكفنونه؟ قالوا: ومن هو؟ قلتُ: أبو ذَرّ. قالوا: صاحبُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قلت: نعم. ففَدوْه بآبائهم وأمهاتهم، وأسرعوا إليه حتى دخلوا عليه، فقال: أبشروا فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لِنَفرٍ أنا فيهم: ليموتَنَّ رجلٌ منكم بفلاةٍ من الأرض يشهَدُهُ عِصابة من المؤمنين، وليس من أولئك النفرُ أحدٌ إلَّا وقد مات في قرية وجماعة، والله ما كَذَبْتُ ولا كُذِبْتُ، ولو كان عندي ثوبٌ يَسَعُني كفنًا لي أو لامرأتي، لم أكَفِّن إلا في ثوبٍ هو لي أولها، وإني أنشُدُكُم الله أن لا يكفِّنَنِي رجلٌ منكم كان أميرًا أو عريفًا أو بريدًا أو نقيبًا. وليس من أولئك النفر أحدٌ إلا وقد قارَفَ بعض ما قال، إلا فتى من الأنصار، فقال: يا عمّ أنا أكفنك في ردائي هذا، وفي ثَوبين في عَيْبَتي من غَزْل أمِّي. قال: أنتَ تكفنني. فكَفَّنَه الأنصاري وغسله في النفر الذين حضروه، وقاموا عليه ودفنوه في نفرٍ كلهم يمانٍ. وقال المدائِنِيّ: إن ابن مسعود بعد صلاته عليه قَدِم المدينة، ومات بعده بقليل. وليس في الصحابة أبو ذرٍ سواه إلا واحد له عند تقي الدين بن مُخْلد حديثٌ، وقيل: هذا هو أبو ذَرّةَ بن مَعَاذ بن زُرَارَة الأنصاري، وليس في الستة أبو ذر سواه. والغفاريُّ في نسبه نسبةً إلى جده غِفار بن مُليْل بن ضَمْرة بن كِنَانة ابن خزيمة بن مُدركة بن إلياس بن مُضر بن نِزار. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة والسّؤال، وفيه بَصْريّ

باب {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما} [الحجرات: 9] فسماهم المؤمنين

وواسطي وكوفيان، وفيه بيانُ الراوي مكان لَقِيه الصحابيّ وسؤاله له الداعي إلى تحديث الصحابي - رضي الله عنه -، له. أخرجه البخاري هنا، وفي العِتْق عن آدم، وفي الأدَب عن عَمرو ابن حَفْص بن غياث، ومسلم في كتاب الأيْمان والنُّذُور عن أبي بكر بن أبي شَيْبة وغيره، وأبو داود برواية غير هذه، والتِّرمِذِيّ برواية أخرى أيضًا. ثم قال المصنِّف: باب {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] فسماهم المؤمنين باب بالتنوين، ففي رواية الأصيلي، وغيره، فصلَ هذه الآية والحديثَ التالي لها بباب كما ترى، وأما رواية أبي ذر عن مشائِخِه، فأدْخل ذلك في الباب السابق بعد قوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] ولكن سَقَط حديثُ أبي بَكْرَة من رواية المُسْتَملي. والطائفة: القطعةُ من الشيء، ويطلقُ على الواحد فما فوقه عند الجمهور. وأما اشتراط حضور أربعة في رَجْم الزاني مع قوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] فالآية واردة في الجَلْد ولا اشتراط فيه. والاشتراط في الرّجم بدليل آخر. وأما اشتراط ثلاثة في صلاة الخوف مع قوله تعالى: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء: 102] فذاك لقوله تعالى {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] فذكره بلفظ الجمع، وأقلُّه ثلاثة على الصحيح. كذا قال في الفتح. قلت: ما قاله جار على مذهبه، وأما مذهبُ مالك، فالمُشْترط عنده حضور اثنين. وقال ابن العَرَبيّ: الصحيح سقوط العدد واعتبار الجماعة التي يقع بها التّشْديد والتشهير من غير حَدّ. ومذهبه أيضًا في صلاة الخوف إمكانُ التركِ لبعضٍ وقتالِ بعض.

فلو كان العَدوُّ واحد والمسلمون ثلاثة أمْكن القَسم بأن يصلي الإِمام بواحد ويَدَع واحدًا مواجهًا للعدو. ومذهبه أنَّ أقلّ الجمع اثنان لقوله تعالى {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} [طه: 130] ولقوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] وكون الطائفة تطلق على الواحد فما فوقه هو مذهب الجمهور كما مر، وهو منقولٌ عن ابن عباس والنَّخْعيّ ومُجاهد. وعن عطاء وعِكرمة وابن زَيْد أربعة. وعن ابن عباس أيضًا من أربعة إلى أربعين. وعن الزّهري ثلاثة. وعن الحَسن عشرة، وعن مالك أقلُ الطائفة أربعة. كذا أطلق ابن التين ومالك إنما قاله فيمن يحضر رَجْم الزاني، قاله في الفتح، وقد مر بك قريبا مذهب مالك في ذلك. وعن رَبِيعة خمسة. وقال الرّاغب لفظُ طائفة يراد بها الجمع، والواحدُ طائفٌ. ويراد بها الواحد، فيصح أن يكون كراوِية وعَلّامَة، ويَصِحّ أن يُراد به الجمع، وأطلق على الواحد. وقال عطاء: الطائفة اثنان فصاعدا، وقَوّاه أبو إسحاق بأنَّ لفظ طائفة يُشعر بالجماعة، وأقلُّها اثنان، وتعقب بأنَّ الطائفة في اللغة القطعةُ من الشيء فلا يتَعَّين فيه العدد. وقوله تعالى {اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9] أي: تقاتلوا. والجمع باعتبار. المعنى، فإن كل طائفةٍ جمع. وقوله: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] أي: بالنصح والدعاء إلى حكم الله تعالى. وقوله: "فسمّاهم المُؤمنين". هذا استدلال من المصنف على أن المؤمن إذا ارتكب معصية لا يَكفُر، لأنه تعالى أبقى عليه اسم المؤمن مع القتال. فقال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الحجرات: 9] ثم قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10].

الحديث الرابع والعشر ون

الحديث الرابع والعشر ون 31 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُبَارَكِ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ وَيُونُسُ عَنِ الْحَسَنِ عَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: ذَهَبْتُ لأَنْصُرَ هَذَا الرَّجُلَ فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرَةَ فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قُلْتُ: أَنْصُرُ هَذَا الرَّجُلَ، قَالَ: ارْجِعْ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ» فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: «إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ». قوله: "ذهبت لأنصر هذا الرجل" أي: لأجل، والرجل هو علي بن أبي طالب كما في مسلم من هذا الوجه، وأشار إليه المصنف في الفتن بلفظ: "أريد نصرة ابن عم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم" وكان ذلك يوم الجمل، وعلي يأتي تعريفه في السابع والأربعين من كتاب العلم عند أول ذكر المؤلف له. قوله: "فقال: أين تريد؟ قلت: أنصر هذا الرجل" أي: أريد مكانًا، لأن السؤال عن المكان، والجواب بالفعل، فيؤول بذلك، وأنصر، أي: لكي أنصر. وقوله: "فالقاتل والمقتول في النار" معناه أنهما يستحقان الكون في النار، ولكن أمرهما إلى الله تعالى إن شاء عاقبهما ثم أخرجهما من النار كسائر الموحدين، وإن شاء عفا عنهما فلم يعاقبهما أصلًا. وقيل: هو محمول على من استحل ذلك، ولا حجة فيه للخوارج ومن قال من المعتزلة بأن أهل المعاصي مخلّدون في النار، إذ لا يلزم

من قوله: "فهما في النار" استمرار بقائهما فيها، كما لا يلزم من كون القاتل والمقتول في النار أن يكونا في مرتبة واحدة، فالقاتل يعذب على القتال والقتل، والمقتول يعذب على القتال فقط، واحتج به من لم ير القتال في الفتنة، وهم كل من ترك القتال مع علي في حروبه، كسعد ابن أبي وقّاص وعبد الله بن عُمر، ومحمد بن مَسْلمة، وأبي بَكْرة، وغيرهم، وقالوا: يجب الكف والجلوس في البيوت حتى لو أراد أحدٌ قتله لم يدفعه عن نفسه، ومنهم من قال: يلزم التحول عن بلد الفتن أصلًا، ومنهم من قال: لا يدخل في الفتنة، فإن أراد أحدٌ قتله دفع عن نفسه، وكذا عن ماله وأهله، وهو معذور إن قَتَل أو قُتل، وفصَّل آخرون فقالوا: كل قتال وقع بين طائفتين من المسلمين حيث لا إمام للجماعة فالقتال حينئذٍ ممنوع، وتنزل الأحاديث التي في هذا الباب وغيره على ذلك وهو قول الأوْزاعيّ. قلت: وحديث حُذَيفة الآتي في الفتن صريح في هذا وهو قوله: قلت: فإن لم يكن لهم جماعةٌ ولا إمامٌ قال: فاعتزل الفرقَ كلها ولو أن تَعَضَّ بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك. قال الطّبريّ: والصواب أن يقال أن الفتنة أصلها الابتلاء، وإنكار المنكر واجب على كل من قَدَر عليه، فمن أعان المحق أصاب، ومن أعان المخطىء أخطأ، وإن أشكل الأمر فهي الحالة التي ورد النهي عن القتال فيها. وذهب آخرون إلى أن الأحاديث وردت في حق ناس مخصوصين، وأن النهي مخصوص بمن خُوطب بذلك، وقيل: إن أحاديث النهي مخصوصة بآخر الزمان، حيث يحصُلُ التحقق أن المقاتلة إنما هي في طلب المُلك، وقد وقع في حديث ابن مسعود: قلت: يا رسول الله ومتى ذلك؟ قال: "أيام الهَرْج" قلت: ومتى؟ قال: "حين لا يَأمَنُ الرجل جليسه" وحديث ابن مسعود المذكور هو ما أخرجه أحمد في ذكر الفتن، قلت:

يا رسول الله فما تأمرني إن أدركت ذلك؟ قال: "كُفَّ يدك ولسانك وادخل دارك" قلت يا رسول الله: أرأيت إن دخل رجلٌ على داري؟ قال: "فأدخل بيتك" قال: قلت: أرأيت إن دخل علي بيتي؟ قال: "فادخل مسجدك" وقَبَض بيمينه على الكوع "وقل ربيَّ الله حتى تموت على ذلك". وعند الطبراني من حديث جُنْدُب: "ادخُلوا بيوتكم، وأخملُوا ذكركم. قال: أرأيت إن دُخل على أحدنا بيته؟ قال: "ليمسكْ بيده، وليكن عبد الله المقتول لا القاتل". ولأحمد وأبي يَعْلى من حديث خَرَشَة بن الحرُّ: "فمن أتت عليه فليمْشِ بسيفه إلى صفاةٍ، فلْيضربه بها حتى ينكسر، ثم ليضطجعْ لها حتى تَنْجلي" وفي حديث أبي بَكرة عند مسلم، قال رجل: يا رسول الله، أرأيت إن أُكرهت حتى ينطلق بي إلى أحد الصفين، فجاء سهمٌ، أو ضربني رجل بسيفه؟ قال: "يبوءُ بإثمه وإثمك .. الحديث". وذهب جمهور الصحابة والتابعين إلى وجوب نصر الحق وقتال الباغين وحمل هؤلاء الأحاديث الواردة في ذلك على من ضَعُف عن القتال أو قَصُرَ نَظره عن مَعْرفة صاحب الحق. واتفق أهل السنة على وجوب منع الطعن على أحد من الصحابة بسبب ما وقع لهم من ذلك. ولو عُرف المُحقّ منهم، لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن اجتهاد، وقد عفا الله عن المخطىء في الاجتهاد، بل ثبت أنّه يُؤجر أجرًا واحدًا، وأنَّ المصيب يؤجر أجرين، كما أخرجه البخاري في كتاب الأحكام. وحَمَلَ هؤلاء الأحاديث على من قاتل بغير تأويل سائغ، بل بِمُجرد طلب المُلْك. ولا يُرَدُّ على ذلك منعُ أبي بَكرة الأحْنَف من القتال مع عليّ، لأن ذلك كان عن اجتهاد منه أدّاهُ إلى الامتناع والمنع، احتياطًا لنفسه ولمن نصحه. وقد رجع الأحنف عن رأي أبي بَكرَة، وشهد مع عليّ باقي حروبه.

قال الطّبريّ: لو كان الواجب في كل اختلاف يقع بين المسلمين الهَرَبُ منه بنزول المنازِلِ وكَسْر السيوف لما أُقيم حدُّ ولا أُبْطل باطل، ولَوَجَد أهْلُ الفسوق سبيلا إلى ارتكاب المُحرّمات من أخْذ الأموال، وسفكِ الدّماء وسَبْي الحريم، بأنْ يحاربوهم ويكفّ المسلمون أيديهم عنهم، بأن يقولوا: هذه فتنة وقد نُهينا عن القتال فيها. وهذا مخالف للأمر بالأخذ على أيدي السُّفهاء. وقد أخرج البَزّار في حديث القاتل والمقتول في النار زيادة تُبيّن المراد، وهي "إذا اقْتتلتُم على الدُّنيا فالقاتلُ والمقتول في النار" ويؤيِّده ما أخرجه مسلم بلفظ "لا تَذْهبُ الدنيا حتى يأتي على الناس زَمانٌ لا يدري القاتلُ فيم قَتَل ولا المقتول فِيم قُتِل، فقيل: كيف يكون ذلك؟ قال: الهرج القاتل والمقتول في النار". قال القُرطُبيّ: فبين هذا الحديث أن القتال إذا كان على جَهْل من طلب الدنيا أو اتباع هوى فهو الذي أريد بقوله: القاتل والمقتول في النار. قال في "الفتح" ومن ثَمَّ كان الذين توقَّفُوا عن القتال في الجَمل وصِفِّين أقلَّ عددًا من الذين قاتلوا، وكلُّهم متأوِّلٌ مأجورٌ إن شاء الله تعالى، بخلاف من جاء بعدهم ممن قاتل على طلب الدنيا. قلت: قوله أقلُّ عددًا، الظاهر لي أنه إنما يصح إذا حُمِل على مطلق الصحابة. وأما كبارُ الصحابة الأقدمون فأكثرهم هو الذي توقّف عن القتال. ويؤيده ما مر ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة، رَفَعَه، "من كان تحتَ رايةٍ عُمّيّة يغْضَبُ لعَصَبة أو يدعو إلى عَصَبَة أو يَنْصُر عصبة فقُتِل فقِتلَتُهُ جاهلية" والعمّية بضم العين وكسرها وتشديد الميم فيهما: الكِبْرُ أو الضلال، وكَغَنيَّة أيضًا، وبِضم العين: الغِواية واللّجاج. وقد ورد في اعتزال الأحنف القتال في وقعة الجمل سببٌ آخر، فأخرج الطّبرِيُّ بسند صحيح عن حُصين بن عبد الرحمن عن عَمرو بن جاوان

قال: قلت: أرأيت اعتزال الأحنف ما كان؟ قال: سمعت الأحنف قال: حججنا فإذا الناس مجتمعون في وسط المسجد النبوي وفيهم عليٌّ وطَلحة والزُّبير وسَعْد إذ جاء عثمانُ فذكر قصة منا شدته لهم في ذكر مناقبه، قال الأحنف: فلقيت طلبة والزبير، فقلت: إني لا أرى هذا الرجل -يعني عثمان- إلا مقتولا فمن تأمُرانِّي به؟ قالا: علي، فقدمنا مكّة، فلقيت عائشة وقد بَلَغَنا قتلُ عثمان، فقلت لها: من تأمريني به؟ قالت: عليّ، قال: فرجعنا إلى المدينة، فبايعتُ عليًا، ورجعت إلى البصرة فبينما نحن كذلك، إذ أتاني آت فقال: هذه عائشة وطلحة والزبير، نزلوا بجانب الخُرَيْبة يَسْتنصرون بك، فأتيتُ عائشة فذكرتها بما قالت لي، ثم أتيت طلحة والزبير فذكرتهما، فذكرا القصة، وفيها فقلت: والله لا أقاتلكم وفيكم أُم المؤمنين وحواري رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا أقاتل رجلًا أمرتموني ببَيْعته، فاعتزل القتال مع الفريقين. ويمكن الجمع بأنه هَمَّ بالترك ثم بدا له في القتال مع علي ثم ثَبَّطه عن ذلك أبو بَكْرة، أو هَمَّ بالقتال مع علي فثبطه أبو بَكْرة، وصادف مراسلة عائشة له، فرجح عنده التَّرْك. وأخرج الطّبريُّ أيضًا عن قَتَادة قال: نزل عليُّ بالزاوية فأرسل إليه الأحنف: إن شئت أتيتك، وإن شئت كففت عنك أربعة آلاف سيف، فأرسل إليه كفّ من قدرتَ على كفه. قوله: قلت وفي رواية، فقلت. وقوله هذا القاتل، أي يستحق النار لكونه كان ظالمًا. وقوله: "إنه كان حريصًا على قتل صاحبه" استدَلَّ به من ذهب إلى المؤاخذة بالعزم، وإنْ لم يقع الفعل، وأجاب من لم يقل بذلك بأن فيه فعلا وهو المواجهة بالسلاح ووقوع القتال، ومرّ الكلام مستوفىً غايَةَ الاستيفاء على هذه المسألة في باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - "أنا أعلمكم بالله" اهـ.

رجاله سبعة

رجاله سبعة: الأول: عبد الرحمن بن المُبارك بن عبد الله العيْشي الطُّفاوي ويقال: السّدوسي أبو بكر، ويقال: أبو محمَّد البَصْريّ الخُلْقاني. قال أبو حاتم: ثقة. ووثقه العِجليّ، وأبو بكر البزار في "مسنده" وذكره ابن حِبّان في "الثقات" وفي "الزهرة" روى عنه البخاري عشرة أحاديث. روى عن: وُهيْب بن خالد، وأبي عَوانة، وفُضيل بن سليمان، وحمّاد بن زيد، ويحيى بن سعيد القطّان، وغيرهم. وروى عنه: البُخاري، وأبو داود، والنّسائي بواسطة، وأبو زُرعة، وأبو حاتم، ويعقوب بن سُفيان، ومعاذ بن المُثنى، وأحمد بن إبراهيم الدّوْرقيّ، وغيرهم. مات سنة ثمان أو تسع وعشرين ومئتين. وليس في الستة عبد الرحمن بن المبارك سواه. والطُّفاوي في نسبه نسبة إلى طُفاوة -بضم الطاء- حي من قيس عَيْلان، وهي طُفاوة بنت جرم بن ربان أم ثعلبة، ومعاوية وعامر أولاد أعصر بن سعد بن قيس عَيْلان ولا خلاف أنهم نُسبوا إلى أمهم، وأنهم من أولاد أعصر، وإن اختلفوا في أسماء أولادها. وقيل: إن طُفاوة اسمه الحارث بن أعْصُر، إليه ينسب كل طُفاوي، وحكي أن راسبا وطفاوة اختصموا إلى هَبَنَّقَة الذي يُضرب به المثل في الحمق كل منهما يدعي رجلًا أنه منهم، فقال: القوه في نهر البصرة فإن طفا فطُفاويّ، وإن رسب فراسِبيّ: فقال الرجل: لا حاجة لي بالحيين وانصرف يعدو. والخُلقاني في نسبه بالضم والسكون نسبة إلى بيع خُلقان الثياب بالضم. والعَيْشي في نسبه بفتحِ العين وسكون الياء آخر الحروف، وبالشين المعجمة نسبة

لعائشة بنت تيْم الله. وقد يؤتى بذلك نسبة إلى عائشة بنت طلحة أحَدِ العَشرَة كعُبَيد الله بن محمَّد بن جَعْفر. هذا الذي قاله الشيخ زكريا في شرح ألْفيَّة العراقيّ. وقال النّوويّ: إنه نسبة إلى عائش بالتذكير بن مالك بن تيم الله بن ثَعْلبة. وكان الأصل فيه العائِشِيّ، ولكنهم خففوه. ووافقه في تاج العروس على أن اسمه عائش بالتذكير، فقال: وبنو عائش بن مالك بن تيم الله إليه ينسب الصّعق بن حَزْن العائشيّ وغيره من العائشيِّين، لكنه لم يجعل النسبة إليه عَيْشيّ كما فعل النوويّ. وقال بعد ذلك: وبنو عائشة بطن، والنسبة إليهم عائِشِيّ، ولا تقل العَيْشيّ، ثم قال بعد ذلك: وعُبيد الله بن محمَّد بن حَفْص العَيْشيّ نسبة إلى جدّته عائشة، سمع حمّاد بن سَلَمَة. قلت: فتحصل من كلامه أنه موافق في أن النسبة لعائشة بنت طلحة عَيْشيّ، ومخالف في النسبة إلى عائش بن مالك، فإنه جعله مذكرًا لا مؤنثًا، كما قال الشيخ زكريا. والغالب أن هذه النسبة خاصة بالبصريين كما أن الغالب في الشاميين العَنْسيّ بفتح العين وسكون النون نسبة إلى عَنْس حيٍ من اليمن، لَقَب زيد بن مالك بن أُدد، منهم عَمرو بن هانىء العَنْسي، تابعيٌ. والغالب في الكوفيين العَبْسيّ، بفتح العين وسكون الباء الموحدة، نسبة إلى عَبْس بن بَغِيض بن رَيْت، أبو قبيلة من غَطَفان، منهم عُبيد الله بن موسى العَبْسي وإلى هذا أشار العراقي في "ألفيته" بقوله: في الشام عَنْسيٌّ بنونٍ وَبِيا ... في كوفةٍ، والشينُ واليا غَلَبا والسّدوسي في نسبه مرّ الكلام عليه في قتادة بن دُعامة اهـ.

الثاني: حماد بن زيد بن دِرهم أبو إسماعيل الأزرق الأزْديّ البَصريّ الجَهْضميّ، مولى جَرير بن حازم. قال ابن مَهديّ: ما رأيت أحفظ منه ولا أعلم بالسنة، ولا أفقه بالبصرة، وقال أيضًا: أئمة الناس في زمانهم أربعة: سُفيان الثَّوريّ بالكوفة، ومالك بالحجاز، والأوزاعيّ بالشام، وحمّاد بن زيد بالبصرة. وقال أيضًا: ما رأيت أعلم من هؤلاء، فذكرهم، سوى الأوزاعي، وقال أحمد حمّاد بن زيد، إمام من أئمة المسلمين من أهل الدين والإِسلام: وهو أحب إليّ من حمّاد بن سَلَمة وعبد الوارث. وقال ابن سعد: كان حماد بن زيد ثقة ثبتًا حجة كثير الحديث عثمانيا وأنشد فيه ابن المبارك: أيُّها الطّالبُ علمًا .... إيْتِ حمّادَ بنَ زَيدِ فَخُذ العِلمَ بحلْمٍ ... ثُمَّ قَيِّدهُ بِقيدِ وَدَع البِدْعَة من آ .... ثار عَمرو بن عُبيد وقال قطر بن حَمَّاد: دخلت على مالك فلم يسألني عن أحد من أهل البصرة إلَّا عن حمّاد بن زيد. وقال يزيد بن زُريع، وقد سئِل: ما تقول في حمّاد بن زَيْد، وحمّاد ابن سَلَمة أيهما أثبت؟ قال: حمّاد بن زَيْد. وكان الآخر رجلًا صالحًا. وقال وكيع، وقد قيل له أيهما أحفظ؟ حماد بن زيد. ما كنا نُشَبهه إلا بمِسعَر. وقال يحيى بن يحيى النَّيْسابوريّ: حماد بن زيد ما رأيت أحفظَ منه. وقال يحيى بن معين: حماد بن زيد أثبت من عبد الوارث، وابن عَليّة والثَّقفيّ وابن عُيينة، وقال أيضًا؛ ليس أحدٌ أثبتَ في أيّوب منه. وقال أيضًا: من الناس جميعًا. فالقول قوله في أيوب. وقال أبو زرعة حماد بن زيد أثبت من حماد بن سَلَمة بكثير، وأصح

حديثًا، وأتقنُ، وقال أبو عاصم: مات حماد بن زيد يَوم مات ولا أعلم له في الإِسلام نظيرًا في هيئته ودَلِّه. وقال خالد بن خِداش: كان من عُقلاء الناس، وذوي الألباب، وقال يزيدُ بن زُريع يوم مات: اليوم ماتَ سيد المسلمين. وقال أبو الوليد: ترون حماد بن زيد دون شُعبة في الحديث. وقال عبد الله بن مُعاوية الجُمَحيّ: حدثنا حماد بن زيد بن دِرهم وحمادُ بن سَلَمة بن دينار وفَضْل ابن سَلَمة على ابن زيد كفضل الدينار على الدرهم. وقال ابن حِبّان في الثقات، وقد وَهِم من زعم أن بينهما كما بين الدينار والدرهم إلا أن يكون القائل أراد فضل ما بينهما مثل الدينار والدرهم في الفضل والدين لأن حماد بن سلمة كان أفْضل وأدْيَنَ وأورع من حماد ابن زيد. وقال يعقوب بن شَيْبة: حماد بن زيد أثْبتُ من ابن سَلَمة، وكلٌ ثقة، غير أن ابن زَيْد معروف بأنه يُقصِّر في الأسانيد، ويُوقفُ المرفوع، كثير الشك بِتوقِّيه، وكان جليلا لم يكن له كتاب يُرجع إليه، فكان أحيانا يذكر فيرفع الحديث، وأحيانا يهاب الحديث ولا يرفعه، وكان يُعَدُّ من المُتَثَبِّتين في أيّوب خاصةً. حدثني الحارث بن مِسكين عن ابن عُيَيْنة قال: لربما رأيت الثَّوريّ جاثيًا بين يدي حماد بن زيد. وقال ابن أبي خَيْثمة: سأل إنسانٌ عُبيد الله بن عُمر: كان حمّادٌ أُمِّيًّا؟ قال: أنا رأيته وأتيته يوم مطر وهو يكتب ثم ينفخ فيه ليجف. قال: وسمعت يحيى يقول: لم يكن أحد يكتب عند أيّوب إلَّا حماد بن زيد. وقال الخليليّ: ثقة متفق عليه رضيت به الأئمة والمعتمدُ في حديث يرويه حماد ويخالفه غيره، عليه، والمرفوع إليه. قال ابن مَنْجَوَيه وابن

حبّان: كان ضريرًا، ولكن ما مر قريبا من أنه يكتب، يدل على أن العمى طرأ عليه. روى عن: ثابت البَنَانيّ وأنس بن سِيرين وعبد العزيز بن صَهيب وعاصم الأحْول وأبي حازم سَلَمة بن دينار وعَمرو بن دينار وصالح بن كَيْسان وهِشام بن عُروة وعُبيد الله بن عَمرو وغيرهم من التابعين فمن بعدهم. وروى عنه: ابن المُبارك وابن مَهديّ وابن وَهْب والقطّان وابن عُيينة، وهو من أقرانه، والثَّوريّ، وهو أكبر منه، إبراهيم بن أبي عَبْلة، وهو في عِداد شُيُوخه، ومُسَدِّد وسُليمان بن حَرب وعفّان وعليّ بن المَدينيّ، وقُتيبة وخلق آخرهم الهَيْثم بن سَهل التَّسْتُريّ مع ضعفه. ولد سنة ثمان وتسعين، ومات في رمضان سنة تسع وسبعين ومئة. وليس في الستة حماد بن زيد سواه. وأما حماد فكثير، والأزْديّ مرّ الكلام عليه في السادس من بدء الوحي، ومر الكلام على البصري في الثالث من كتاب الإِيْمان، والجَهْضميّ في نسبه نسبةً إلى جَهضَم كجعْفَر، وهو ابن عَوْف بن مالك بن فَهْم بن غَنم بن دَوْس بن عَدْنان. وقيل: جَهْضم بن جُذَيمة الأبرش بن مالك، وإليه ينسب الجَهْضَميُّون، والجهاضِم أيضًا محلّة بالبصرة، نُسبت إليهم، وهم اثنا عشر فخذًا: مَعن وسُليمة وهَناءة وجَهْضَم وشَبابَة وفَرْهُود وجُرْموز ومَسْلمة وعمرو وظالِم والحارِث. ونَصْرُ بن علي الجهضميّ نسب إلى هذه المَحَلّة: أحد شيوخ البخاريّ ومسلم. وأبو جهضم موسى بن سالم مولى بني هاشم، روى عن الباقِر، وروى عنه حماد بن زيد ويحيى بن آدم. قلت: يحتمل عندي أن يكون حماد بن زيد أيضًا منسوبًا إلى هذه

المحلة، لأنه بَصْريّ والمحلة بالبصرة أيضًا، وإن كان جَهْضَم بطنًا من الأزْد، وقد مر أنه أزْديّ، ومر الكلام على المُتَّفق والمُفْترق في الرابع من بدء الوحي مُستوفى. ونعيد هنا الكلام على قسم منه لتعلقه بحماد وهو ما يقع الاتفاق فيه في اسم فقط أو كنية أو نسبة فيقع في السند واحد منهم باسمه أو كنيته أو نسبته فقط، مهملا عن ذكر أبيه، أو غيره مما يتميز به عن المشارك له فيما يرويه، فيُشكِل الأمر فيه ويلْتَبس. وللخطيب فيه كتاب مفيد سماه المُكْمل في بَيان المُهْمل. نحو: حماد إذا أُهمل مما يتميز به فإن يكن المطلق له ابن حَرب أو عارِم فالمراد به حماد بن زيد هذا، وإن أطلقه التَّبوذكيّ أو عفّان أو حجّاج بن مُنهال، فالمراد به حمّاد بن سَلَمة، وأشار العراقيّ إلى ذلك بقوله: ومنه ما في اسمٍ فقَطْ ويُشْكِل ... كنحْوِ حمّاد إذا ما يُهملُ فإن يَكُ ابنَ حربٍ أو عارِمٍ قد ... أطلقه فهو ابن زيد أوْ وَرد عن التَّبُوذكيّ أو عَفّانِ ... أو ابن مُنهالٍ فذاك الثاني الثالث: أيّوب السّخْتيانيّ، وقد مر في التاسع من كتاب الإِيْمان. الرابع: يونُس بن عُبيد بن دينار العَبديّ، مولاهم أبو عُبيد البَصريّ. رأى أنسًا. قال هشام بن حسّان ما رأيت أحدًا يطلب وجه الله تعالى إلا يونُس ابن عبيد. وقال ابن سعدٍ: كان ثقة كثير الحديث، قال: ما كتبت شيئًا قط. ولما مات حمله بنو العبّاس على أعناقهم، وقال سُفيان بن حَسَن: حدّثني الثقة يونُس بن عُبيد. وقال ابن حِبان في الثقات: كان من سادات أهل زمانه علمًا وفضلًا وحفظًا وإتقانًا وسنّة وبُغضا لأهل البدع مع التَّقشُّف الشديد، والفقه في الدين، والحفظ الكثير.

وقال خوُيلٌ خَتَنُ شُعبة: سمعتُ يونُس بن عُبيد يقول لابنه: أنهاك عن الرِّياء والسَّرقة وشُرْب الخمر، ولأنْ تلقى الله تعالى بهنّ أحب إلي من أن تلقاه برأي عَمرو بن عُبيد وأصحابه. وقال ابن شَوْذب: اجتمع يونس بن عبيد وابن عَوْن، فتذَاكرا الحلال والحرام، فكلاهما قال: ما أعلم في مالي درهمًا حلالًا. وقال ابن عائشة عن شيخ له التقى يونُس وأيوبَ، فلمّا وَلى يونس قال أيوب: قَبّح الله العيشَ بعدك. وقال حمّاد بن زَيْد: كان يونُس بن عبيد يحدثنا ثم يستغفر الله ثلاثًا. وقال مُؤمَّل بنُ إسماعيل: جاءَ رَجُلٌ شاميُّ إلى سوق الخَزَّازين فقال: عندك مطرفٌ بأربع مئة؟ فقال يونس: عندنا بمئتين، ثم قام إلى الصلاة ورجع، فوجد ابن أخيه باع المِطرف من الشاميّ بأربع مئة، فقال يونس يا عَبد الله: هذا المطرف الذي قد عَرضتُ عليك بمائتين، فإن شئت خذه وخذ مئتين، وإن شِئت فدعه، قال: من أنت؟ قال: أنا يونس بن عبيد. قال: فوالله إنا كنا في نحو العدُوّ، فإذا اشتد علينا الأمر قلنا: اللهمَّ رب يونس فَرِّج عنا، فيفرج عنا، فقال سبحان الله سبحان الله. وقال سعيد بن عامر: قال يُونُس: هانَ علي أن آخذ ناقصًا وغلبني أن أُعطى راجحًا، وقال ابن أبي مطيع: ما كان يونس بأكثرهم صلاةً ولا صوما ولكن لا والله ما حُضِرَ حق من حقوق الله تعالى، إلا وهو متهىِّء له. وقال النَّضر بن شُميل: غلا الخَزُّ في موضع، وكان يونس خَزّازًا فعلم بذلك، واشترى متاعا بثلاثين ألفًا، ثم قال لصاحبه: هل كنت علمت أن المتاع غلا هناك؟ قال: لا، ولو علمت لم أبع، فقال هلُمَّ إلى مالي، وخذ مالك، فرَدَّهُ عليه. وقال بِشر بن المُفضَّل: جاءت امرأة بمِطرف خزٍّ إلى يونس بن عبيد، فألقته إليه تعرضه عليه في السوق، فنظر إليها، فقال لها: بكم؟ فقالت: بستين درهمًا، فألقاه إلى جار له فقال: كيف تراه؟ قال: بعشرين ومئة.

قال: إلى ذلك ثمنه. فقال لها: أتسْتأمِرِي أهلَكِ في بَيْعه بخمس وعشرين ومئة. وقال إسحاق بن إبراهيم: نظر يونُس بن عُبيد إلى قدميه عند موته، فبكى، فقيل له، فقال: قدماي لم تَغْبرّا في سبيل الله تعالى. وقال سُليمان بن عبد الملك جاره: ما رأيتُ رجلًا قط كان أشد استغفارًا من يونس. وقال حماد بن زيد: سمعته يقول: عمدنا إلى ما فيه صلاح الناس فكتبناه وعمدْنا إلى ما يُصْلحنا فتركناه، وقال أبو جعفر حسن. قلت ليونس بن عبيد: مررت بقومٍ يختصمون في القَدَر، فقال: لو هَمَّتْهُم ذنوبهم ما اختصموا في القَدَر، وقال خُوَيْل بن واقِد الصّفَّار: سمعتُ رجلًا سأل يونس بن عبيد: فقال جارٌ لي معتزلي مريض أَعودُه؟ فقال: أما لحِسبةٍ فلا، وقال يزيد بن رُزَيْع، ما منعني أن أحمل عن يونُس أكثر مما حملَتُ عنه إلا أني لم أكتب عنه إلا ما قال: سمعت أو سألت أو حدثنا الحسن. وقال أحمد وابن معِين والنّسائي: ثقة. وقال عثمان الدارمِيّ: قلت لابن مَعين: يونُس أحب إليك في الحَسَن أو حُمَيْد؟ فقال: كلاهما. وقال ابن المَدينيّ: يونُس بن عُبيدٍ أثبت في الحسن من ابن عَوْن، وقال أبو زُرعة يونس أحب إلي في الحسن من قتادة لأن يونس من أصحاب الحسن وقَتَادة ليس من أقران يونُس، ويونس أحب إلي من هشام بن حَسّان. وكذا قال أبو حاتم وزاد: هو ثقة أكبر من سليمان التَّيْميّ، ولا يبلغ التيمي منزلة يونس. وقال سَلَمة بن عَلْقمة: جالست يونس بن عُبيد، فما استطعت أن آخذ عليه كلمة. روى عن إبراهيم التّيمي وثابت البَنَانيّ والحَسَن البَصْريّ، ومحمد ابن سيرين، وعبد الرحمن بن أبي بَكْرة، ونافع مولى ابن عُمر، وعطاء ابن أبي رَباح، وعطاء بن فرّوخ، وجماعة.

وروى عنه: ابنه عبد الله، وشُعبة، والثَّوريّ، ووُهيب، والحمّادان، ويزيد، وابن عُليّة، وبِشْر بن المُفضّل، وعبد الأعلى بن عبد الأعلى، وآخرون. ولد قبل الحارث. ومات سنة تسع وثلاثين ومئة، وقيل سنة أربعين. وفي الستة يونس بن عُبيد سواه، واحدٌ، الثَّقفي مولى محمَّد بن القاسم. روى عن البَراء بن عازِب. وفي الرواة يونُس بن عُبيد الثقفي أيضًا. وهو الذي خاصم معاوية في زياد لأن زيادًا كان ينتمي إلى عُبيد قبل استلحاق معاوية له، وأما يونس بن عبيد العُمريّ فالصحيح أن اسم أبيه عبد الله. الخامس: الحسن بن أبي الحسن أبو سَعيد الأنصاريّ البصريّ مولى زيد بن ثابت. ويقال مولى أبي اليُسْر الأنصاريّ، وقيل: مولى جابر بن عبد الله، واسم أبيه أبي الحسن يَسَار، وأُمه خَيْرَةُ بالخاء المعجمة والياء الساكنة آخر الحروف، مولاة أم سَلَمة زوج النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وكانت تقصُّ للنساء، دخل عليها يوما وفي يدها كُرّاثةٌ تأكلها، فقال لها: يا أمّاه، ألقِ هذه البقلة الخبيثة من يدك، فقالت له: يا بُني، إنك شيخ قد كبرت وخرفت، قال: يا أماه أيُنا أكبر؟. وأكثر كلامه حِكَمٌ وبلاغة، وهو أحد أئمة الهُدى والسنة، قال ابن سَعْد: ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر - رضي الله عنه -، نشأ بوادي القُرَى وكان فصيحًا، وقيل إن أمه كانت تغيب عنه فيبكي فتعطيه أم سَلَمة ثديها تُعَلِّلُه به إلى أن تجيء أمه فيَدِر ثديها فيشربه، وكانوا يروْن أن تلك الفصاحة والحكمة من بركتها. قال ابن سعد أيضًا: كان الحسن جامعًا عالمًا رفيعًا فقيهًا ثقةً مأمونًا عابدًا ناسكًا كثير العلم، فصيحًا جميلًا وسيمًا. وكل ما أسند من حديثه، وروى عمن سمع فهو حجة وما أرْسَل فليس بحجة.

وقال أنس بن مالك: سلوا الحسن فإنه حَفِظ ونَسِينا، وقال سليمان التَّيْمي: الحَسَن شيخ أهل البصرة. وقال مَطَر الورّاق: كان جابر رجل أهل البصرة، فلما ظهر الحسن جاء رجل كأنما كان في الآخرة، فهو يُخبر عمّا رأى وعاين. وقال عاصم الأحول: قلت للشَّعبيّ: لك حاجة؟ قال: نعم، إذا أتيت إلى البصرة فاقرأ الحسن مني السلام. قلت: ما أعرفه. قال: إذا دخلت البصرة فانظر إلى أجمل رجل تراه في عينك وأهيبه في صدرك، فاقرأه مني السلام: قال: فما عَدّى أن دَخَل المسجد فرأى الحسن والناس حوله جلوس، فأتاه فسلم عليه. وقال قتادة ما جالست فقيهًا قَطّ إلا رأيت فضل الحسن عليه. وقال أيّوب: ما رأت عيناي رجلًا قط كان أفقه من الحسن. وقال بَكر المُزَنيّ: من سرّه أن ينظر إلى أعلم عالم أدركناه في زمانه فلينظر إلى الحسن فما أدركنا الذي هو أعلم منه. وقال يونس بن عبيد: إن كان الرجل ليرى الحسن لا يسمع كلامه ولا يرى علمه فينتفع به. وقال هو أيضًا وحُميد الطّويل: رأينا الفقهاء فما رأينا أحدًا أكمل مروءة من الحسن. وقال الحَجّاج بن أرطَأة: سألت عطاء ابن أبي رَبَاح فقال لي: عليك بالحسن ذاك، إمام ضخم يُقتدى به. وقال الربيع بن أنس: اختلفت إلى الحسن عَشْر سنين أو ما شاء الله، فليس من يوم إلا وأسمع منه ما لم أسمع قبل ذلك. وقال الأعمش ما زال الحسن يعي الحكمة حتى نطق بها وكان إذا ذُكر عند الباقر قال: ذاك الذي يشبه كلامه كلام الأنبياء. وقال يونس بن عُبيد: ما رأيت رجلًا أصدق بما يقول منه ولا أطول حُزْنًا وقال ابن عَوْن؛ كنت أشبّهُ لهجة الحسن بلهجة رُؤْبَة في الفصاحة. وقال العِجليّ: تابعيّ ثقة، رجل صالح، صاحب سنّة، قدِم مكة

فأجلسوه واجتمع الناس إليه، وفيهم طاوُوس ومُجاهد وعطاء وعَمرو بن شُعيب، فحدّثهم، فقالوا، أو قال بعضهم: لم نر مثل هذا قط. وقال أبو عَمرو بن العلاء: ما رأيت أفصح من الحسن البصري، والحجاج بن يوسف الثقفي. فقيل له: فأيهما كان أفصح؟ قال: الحسن. وكان من أجمل أهل البصرة حتى سقط عن دابته، فحدث بأنفه ما حدث. ومن كلامه: ما رأيت يقينًا لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت. ولما وَلِي عُمر بن هُبيرة الفَزاريّ العراق وأضيفت إليه خراسان، وذلك في أيام يزيد بن عبد الملك، استدعى الحسن البصري ومحمد بن سِيرين والشّعبيّ، وذلك في سنة ثلاث ومئة، فقال لهم: إن يزيد خليفة الله استخلفه على عباده، وأخذ عليهم الميثاق بطاعته، وأخذ عهدنا بالسمع والطاعة، وقد ولّاني ما ترون، فيَكتُب إليّ بالأمر من أمره فأُقَلِّده ما تَقَلّده من ذلك الأمر، فما ترون؟ فقال ابن سيرين والشعبيّ قولًا فيه تقية، فقال ابن هُبيرة: ما تقول يا حسن؟ فقال: يا ابن هُبيرة، خفِ الله في يزيد، ولا تخف يزيد في الله. إن الله يمنعك من يزيد وإن يزيد لا يمنعك من الله. وأوشك أن يبعث إليك ملكا فيُزيلك عن سريرك، ويُخرجك من سَعَة قَصْر إلى ضِيقِ قبر، ثم لا يُنجيك إلا عملك، يا ابن هُبيرة، إنْ تَعْص الله فإنما جعل الله هذا السلطان ناصرًا لدينه وعباده، فلا تَرْكبَنَّ دين الله وعباده بسلطان الله، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. فأجازهم ابن هُبيرة وأضْعَف جائزة الحسن، فقال الشعبيُّ لابن سيرين: سَفْسَفْنا له فَسَفْسفَ لنا. ورأى الحسن يومًا رجلًا وسيمًا حسن الهيئة، فقيل له: إنه يَسخَرُ للملوك ويحبونه، فقال: لله أبوه، ما رأيت أحدا طلب الدنيا بما يشبهها إلا هذا.

ويقال إنه أغمي عليه عند موته، ثم أفاق، فقال: لقد نبَّهتُموني من جَنّات وعيون ومقام كريم. وقيل قبل موت الحسن لابن سيرين: رأيت كأنّ طائرًا أخذ أحسن حصاة بالمسجد، فقال: إن صَدَقت رُؤياك مات الحسن. فلم يكن إلا قليل حتى مات الحسن. وقال ابن حِبّان في الثقات، احْتَلَم سنة سبع وثلاثين، وأدرك بعض صفّين، ورأى مئة وعشرين صحابيًا، وكان يُدلِّس. وكان من أفصح أهل البصرة وأجملهم وأعبدهم وأفقههم. وقال ابن المدينيّ: مُرْسلات يحيى بن أبي كثير شبه الريح، ومرسلات الحسن البصري التي رواها عنه الثقات صحاح ما أقل ما يسقط منها. قال أبو زُرعة: كل شيء قال الحسن فيه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجدتُ له أصلًا ثابتا ما عدا أربعة أحاديث. وقال يونس بن عُبيد: قلت للحسن: يا أبا سعيد، إنك تقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنت لم تدركه، فقال: يا ابن أخي لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك، ولولا منزلتك مني ما أخبرتك به، إني في زمان كما ترى، وكان في عمل الحجاج، كل شيء سمعتني أقول فيه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو عن عليّ، غير أني لا أستطيع أن أذكر عليا. وقال الدّارقطني: مراسيله فيها ضَعْف، وقال الذّهبي: كان الحسن كثير التدليس، فإذا قيل في حديث: عن فلان، ضَعَّف احتجاجه، ولا سيما عمن قيل إنه لم يسمع منه كأبي هريرة ونحوه. وروى قتادة عنه: الخيرُ ليس بقَدَر، والشر ليس بقدر. قال أيّوب: فناظرته في هذه الكلمة، فقال: لا أعود.

وقال حُميد الطويل: سمعته يقول: خلق الله الشياطين وخلق الخير وخلق الشر. وقال حُميد أيضًا: قرأت القرآن على الحسن ففسره على إثبات القدر. وقال ابن عَوْف: سمعت الحسن يقول: من كَذّب بالقدر فقد كفر. ولم يحج الحسن إلا حجتين. كان رضي الله عنه شجاعًا من أشجع أهل زمانه، وكان عرضُ زنده شبرًا. وقال: غزونا خُراسان ومعنا ثلاث مئة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال الفُضَيل بن عِياض: سألت هشام بن حسّان كم أدرك الحسن من الصحابة؟ فقال: مئة وثلاثين. قال: وابن سيرين؟ قال: ثلاثين. قيل: إنما سمع من ابن عمر حديثًا واحدًا ولم يسمع من ابن عباس ولا من عائشة رضي الله عنهما، ولا من جابر بن عبد الله. وقال أبو زُرعة: لم يسمع الحسن من أبي هريرة ولا رآه. ومن قال في الحديث عن الحسن حدثنا أبو هريرة فقد أخطأ. وسُئِل: أَلَقِي الحسن أحدًا من البدريين؟ قال: رآهم رؤية، رأى عثمان وعليا. قيل له: سمع منهما؟ قال: لا، كان الحسن يوم بويع علي - رضي الله عنه -، ابن أربع عشرة سنة، رأى عليًا بالمدينة، ثم رجع علي إلى الكوفة والبصرة، ولم يلقه الحسن بعد ذلك. وقال أبو رَجَاء: قلت للحسن: متى خرجت من المدينة؟ قال: عام صفّين، قلت: متى احتلمت؟ قال: عام صفين. وقال ابن مَعين: إنه لم يسمع من أبي بَكْرة، وكذلك قال الدارقطني. وقال إن بينه معه الأحنف، واحتج بما رواه البخاريّ هنا، وذهب غيرهما إلى صحة سماعه منه واستُدل بما أخرجه البخاري أيضًا في الفتن، في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن ابني هذا سيدٌ. ففي هذا الحديث قال الحسن: ولقد سمعتُ أبا بَكرة يقول: بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب، قال البخاري: قال ابن المدِينيّ: إنما صح عندنا سماع الحسن من أبي بكرة بهذا الحديث.

قال الباجيّ: الحسن المذكور في هذا الحديث الذي قال فيه سمعت أبا بكرة إنما هو الحسن بن علي - رضي الله عنهما -، وليس بالحسن البصري، وما قاله غير صحيح. رأى عليًا وطَلْحة وعائشة، وكتب للربيع بن زياد والي خُراسان في زمن معاوية. روى عن: أُبيّ بن كعب وسعد بن عُبادة وعمر بن الخطاب، ولم يدركهم، وروى عن: ثَوْبان وعمّار بن ياسر وعثمان بن أبي العاص، ومعاوية ومَعْقل بن يسار، وأنس وجابر، وخلق كثير من الصحابة والتابعين. وروى عنه: حُميد الطّويل، ويزيد بن أبي مريم، وأيوب وقَتادة، وعَوْف الأعرابيّ، وجرير بن حازم، وشَيْبان النَّحْويّ، وابن عون، وخالد الحذّاء، ويونس بن عبيد، ومَعْبَد بن هلال، وآخرون من آخرهم يزيد ابن إبراهيم التّستريّ، ومعاوية بن عبد الكريم الثَّقفيّ المعروف بالضّال. مات رضي الله عنه مَسْتَهلّ رجب سنة عشر ومئة، وكانت جنازته مشهورة. قال حُميد الطويل: توفي عشية الخميس، وأصبحنا يوم الجمعة ففرغنا من أمره وحملناه بعد صلاة الجمعة، ودفنّاه فتبع الناس كلهم جنازته واشتغلوا به، فلم تقم صلاة العصر بالجامع ولا أعلم أنها تُركت منذ كان الإِسلام إلا يومئذ، لأنهم تبعوا الجنازة كلهم، حتى إنه لم يبقَ في المسجد من يصلي العصر. وليس في الستة الحسن بن أبي الحسن سواه، وأما الحسن فكثير، والبصري في نسبه مر الكلام عليه في الثالث من كتاب الإِيْمان. السادس: الأحْنف بن قَيْس بن معاوية بن حُصَيْن بن عُبادة بن النّزّال ابن مُرّة بن عُبيد بن الحارث بن عَمرو بن كَعْب بن سَعْد بن زَيْد منَاة بن تميم التّميميّ أبو بحر، واسمه الضحاك. وقيل: صخر. وقيل الحارث

المعروف بالأحنف الذي يضرب به المثل في الحِلْم. ولد رضي الله عنه أحْنَف، والأحنف الأعوج من الحَنَف، وهو الاعوجاج في الرِّجل، وهو أن يَنْفَتل إحدى الإِبهامين من إحدى الرِّجْلين على الأخرى. وقيل: هو الذي يمشي على وَحْشيِّ رِجْله، أي: ظهرها. ولد ملتصق الألْيتين حتى شُق ما بينهما، وكان أعور ذهبت عينه في فتح سَمَرْقند، وقيل: ذهبت بالجُدريّ، وكان متراكب الأسنان، صغير الرأس، مائل الذَّقن. وكان أطلس أي لا شعر في وجهه، وهو أحد الطُّلس الأربعة، والآخرون: شُريح القاضي، وعبد الله بن الزُّبير، وقيس ابن سَعد بن عبادة. كُنّي بابنه بحر. وكان مَصعُوفًا أي: فيه رِعْدة، وقد قيل له: لم لم تتأدب بأخلاق أبيك؟ قال: من الكسل. ومات وانقطع عَقِبُه. كان الأحنف - رضي الله عنه -، من سادات التابعين، أدرك زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يسْلم، وقيل: أسلم على عهده ولم يره. ويُروى بسند فيه لِين: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعى له. وروى ابن قُتيبة لما أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بني تميم يدعوهم إلى الإِسلام، كان الأحنف فيهم، ولم يجيبوا إلى اتباعه، فقال لهم الأحنف: إنه ليدعوكم إلى مكارم الأخلاق، وينهاكم عن ملَائمِها، فأسْلموا وأسلم الأحنف. والصحيح أنه لم يفِد على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ووفد على عمر - رضي الله عنه -. وهو الذي افتتح مَرْو الرُّوذ، وكان في جيشه الإِمامان الحَسن وابن سيرين. ذكره ابن سَعْد في الطبقة الأولى من أهل البصرة، وقال: كان ثقة مأمونًا قليل الحديث. وقال الحسن: ما رأيت شريف قومٍ أفضل من

الأحنف. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال مُصعب بن الزُّبير يوم موته: ذهب اليوم الحزم والرأي. وروى أحمد في الزهد: أن الأحنف بلّغه رجلان دعاء النبيّ - صلى الله عليه وسلم - له، فسجد. كان سيد قومه، موصوفًا بالدهاء والحلم والعلم، قال فيه الثَّوريّ: ما وُزِن عقل الأحنف بعقل إلا وَزَنه. شهد صفين مع علي - رضي الله عنه -. ولم يشهد وقعة الجمل مع أحد من الفريقين. ولما استقر الأمر لمعاوية دخل عليه يوما فقال له معاوية: والله يا أحنف ما أذكر يوم صفين إلا كانت حَزَازة في قلبي إلى يوم القيامة، فقال له: والله يا معاوية إن القلوب التي أبغضناك بها لفي صدورنا وإن السيوف التي قاتلناك بها لفي أغمادها وإن تَدْن من الحرب فترًا نَدْنُ منه شبرا، وإن تمش إليها نُهَرول إليها، ثم قام وخرج. وكانت أخت معاوية من وراء الحجاب تسمع كلامه، فقالت: يا أمير المؤمنين، من هذا الذي يتهدد ويتوعد؟ فقال: هذا الذي إذا غضب غضب لغضبه مئة ألف لا يدرون فيم غضب. وسُئل عن الحِلم ما هو فقال: الذلّ مع الصبر. وكان يقول إذا عجب النَّاس من حلمه: إني لأجد ما تجدون، ولكني صبور. ومن طريق الحسن عن الأحنف قال: لستُ بحليم، ولكني مُتحالمٌ، وكان يقول: وجدتُ الحِلم أنْصر لي من الرجال. وكان يقول: ما تعلمت الحِلم إلا من قيس بن عاصم المِنْقريّ، لأنه قَتَل ابن أخ له بَعْض بنيه فأُتي بالقاتل يقاد إليه مكتوفًا. فقال: ذَعَرْتُم الفتى ثم أقبل على الفتى وقال له: يا بُنيّ، بئس ما فعلت، نقَصت عَدْوَك، وأوهنت عَضُدك، وأشْمتَّ عدوَّك، وأسأت بقومك، خلّوا سبيله، واحملوا إلى أم المقتول ديته، فإنها غريبة. ثم انصرف القاتل وما حَلّ قَيْس حَبْوته، ولا تغيّر وجهه.

ومن كلامه: جَنّبوا مجلسنا ذكر الطّعام والنّساء فإني لأُبْغض الرجل يكون وصّافا لفرجه وبطنه، وإن من المروءة أن يترك الرجل الطعام وهو يشتهيه. ومن كلامه: ما دخلتُ بين اثنين قَطُّ حتى يُدخلاني بينهما، ولا أتيت باب أحد من الملوك إلا أن يكون داعيا لي، وما حَلَلتُ حَبْوتي إلى ما يقوم الناس إليه. ومن كلامه: ما خان شريف، ولا كذب عاقل، ولا اغتاب مؤمن، وقال: ما ادَخَرَت الآباء للأبناء ولا أبقت الموتي للأحياء أفضل من اصطناع المعروف عند ذوي الأحساب والآداب. وقال: كثرة الضحك تُذْهب الهَيْبة، وكثرة المِزاح تُذْهب المروءة، ومن لَزِم شيئًا عُرف به. وسمع رجلًا يقول: لا أبالي أمدِحْتُ أم ذُمِمت. فقال له: لقد استرحت من حيث تعب الكرام. ومن كلامه: ألا أدلكم على المَحْمَدَة بلا مرْزية؟ الخُلُق السّجِيع، والكف عن القبيح. ألا أُخبركم بأدواء الأدواء؟ الخُلُق الدنيء واللسان البذيء. وروي أن معاوية - رضي الله عنه -، لما نَصَّب ولده يزيد لولاية العهد، أقعده في قبة حمراء فجعل الناس يسلّمون على معاوية، ثم يميلون إلى يزيد، حتى جاء رجل ففعل ذلك ثم رجع إلى معاوية. فقال: يا أمير المؤمنين، اعلم أنك إن لم تُوَلّ هذا لأمور المؤمنين أضعتها، والأحنف ابن قيس جالس، فقال له معاوية: ما بالك لا تقول يا أبا بحْر؟ فقال: أخاف الله إن كذبتُ، وأخافكم إن صدقت، فقال له معاوية: جزاك عن الطاعة خيرًا، وأمر له بألوف. فلما خرج لقيه ذلك الرجل بالباب، وقال: يا أبا بحر، إني لأعلم أن شَرّ من خلق الله تعالى هذا وابنه، ولكنهم قد استوثقوا من هذه الأموال بالأبواب والأقفال، فلا يُطمع في استخراجها إلا بما سمعت، فقال له الأحْنف: أمْسك عليك، فإن ذا الوجهين خليقٌ أن لا يكون عند الله وجيها.

وكان زياد بن أبيه مدة توليته على العراق كثير الرعاية للأحْنف، ولما تولّى ولده عُبيد الله بعده تغيرت منزلته عنده، وصار يُقدِّم عليه من لا يساويه، ثم إن عبيد الله جمع أعيان العراق وفيهم الأحنف، وتوجه بهم إلى الشام للسلام على معاوية، فلما وصلوا دخل عبيد الله على معاوية، وأعلمه بوصول رؤساء العراق، فقال أدخلهم إليّ أوّلًا فأولًا على قدر مراتبهم عندك، فخرج إليهم وأدخلهم على الترتيب، وكان آخر من دخل الأحنف، فلما رآه معاوية، وكان يعرف منزلته، ويبالغ في إكرامه لتقدمه وسيادته، قال له: إليّ يا أبا بحر، وأجلسه معه على سريره، وأقبل عليه يسأله عن حاله ويحدثه، وأعرض عن غيره، ثم إن أهل العراق أخذوا في الثناء على عبيد الله والأحْنف ساكت، فقال له معاوية: لم لا تتكلم يا أبا بَحْر؟ فقال: إن تكلمت خالفتهم، فقال: اشهدوا عليّ أني قد عزلت عنكم عبيد الله، وقوموا وانظروا في أمير أوَلِّيه عليكم، وترجعون إليّ بعد ثلاثة أيّام. فلما خرجوا من عنده كان فيهم جماعة يطلبون الإِمارة لأنفسهم، وفيهم من عيّن الإِمارة لغيره، وسعوا في السر مع خواص معاوية أن يفعل لهم ذلك، ثم اجتمعوا بعد ثلاثة أيّام فدخلوا عليه، فأجلسهم على ترتيبهم في المجلس الأول، وأخذ الأحنف إليه كما فعل أوّلا، وحادَثَه ساعة، ثم قال: ما فعلتم فيما انفصلتم عليه؟ فجعل كل واحد يذكر شخصًا، وطال حديثهم في ذلك، وأفضى إلى منازعة وجدال، والأحْنف ساكت، ولم يكن في الأيام الثلاثة تحدث مع أحد في شيء، فقال له معاوية: لم لا تتكلم يا أبا بَحْر؟ فقال: إن ولّيت أحدًا من أهل بيتك لم نجد من يَعْدِل عبيد الله، ولا يسد مَسَدّه، وإن وليت من غيرهم، فذلك إلى رأيك، ولم يكن في الحاضرين الذين بالغوا في المجلس الأول في الثناء على عبيد الله من ذكره في هذا المجلس، ولا سأل عَوْدهُ إليهم، فلما سمع معاوية مقالة الأحْنف قال: اشهدوا عليّ أني قد أعدتُ عليكم عبيد الله. فكلٌّ منهم ندم على عدم تعيينه، وعلم معاوية أن شكرهم لعُبيد الله لم يكن لرغبتهم فيه، بل كما جرت العادة في حق

المولى، فلما انفصلت الجماعة من مجلس معاوية خلا بعبيد الله، وقال: كيف ضيّعت مثل هذا الرجل؟ يعني الأحْنف. فإنه عَزَلَك وأعَادك وهو ساكت. وهؤلاء الذين قدمتهم عليه واعتمدت عليهم لم ينفعوك ولا عرّجوا عليك لمّا فوضْتُ الأمر إليهم، فمِثل الأحْنف من يتخذه الإِنسان عونًا وذُخرًا، فلما عادوا إلى العراق أقبل عليه عبيد الله وجعله بطانَتَه، وصاحب سرِّه. وبقي الأحْنف إلى زمن مُصْعب بن الزُّبير - رضي الله عنهما -. فخرج معه إلى الكوفة، ومات بها سنة سبع وستين على الصحيح، وقيل سنة إحدى وسبعين، وقيل سبع وسبعين، وقيل ثمان وستين، وكان قد كبر جدًّا ودفن بالثُّوَيَّة موضع بظاهر الكوفة، فيه قبور جماعة من الصحابة، وغيرهم. وحكى عبد الرحمن بن عِمارة بن عُقْبة بن أبي مُعَيْط قال: حضرت جنازة الأحْنف بالكوفة فكنت ممن نزل قبره، فلما سويته وجدته قد فُسِح له في قبره مد بصري، فأخبرت أصحابي بذلك، فلم يروا ما رأيت. روى عن: عمر وعثمان وعلي وسَعد وابن مسعود وأبي ذر وغيرهم. وروى عنه: الحسن البصريّ وأبو العلاء ابن الشِّخِّيْر وطَلْق بن حَبِيب وغيرهم. وليس في الستة الأحْنف سواه. السابع: أبو بَكرة: واسمه نُفَيع بن مَسْروح على الصحيح، لما رُوي أنه قال: أنا من إخوانكم في الدين، وأنا مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن أبى الناس إلَّا أن ينسبوني فأنا نُفَيع بن مَسْرُوح. ونفيع بالتصغير وهو مولى الحارث بن كَلَدَة بفتحات، طبيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: إنه ابن الحارث بن كَلَدَة، وكلدة بن عُمر بن عِلَاج بن أبي سَلَمة بن عبد العُزّى بن غِيَرَة، بكسر الغين وفتح الياء آخر الحروف، ابن عوف بن قَسِيّ، بفتح القاف وكسر السين المهملة، وهو ثَقيفُ بن

مُنبِّه وأمُّه سُميّة أمَة للحارث بن كَلَدة، وهو أخو زياد لأُمِّه، ولما استلحقه معاوية، ورضي بذلك، آلى أبو بكرة يمينا أنْ لا يكلمه أبدًا، وقال: هذا زَنّى أمَّه، وانتفى من أبيه، لا والله ما علمت سُمَيّة رأت أبا سُفيان قط، وَيْله ما يصنع بأم حَبِيبة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ أيريد أن يراها، فإن حجبته فضحته وإن رآها فيا لها مصيبة يهتِك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حُرْمةً عظيمة. وحج زياد في زمن معاوية، ودخل المدينة فأراد الدخول على أم حبيبة، ثم ذكر قول أبي بكرة فانصرف عن ذلك، وقيل: إنها حجبته ولم تأذن له في الدخول عليها. وقيل: إنه حج ولم يزُر من أجل قول أبي بكرة، وقال: جزى الله أبا بكرة خيرًا فما يَدَعُ النصيحة على حال. وأبو بكرة ممن نزل يوم الطائف إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حصن الطائف في بَكْرة، فكُنّي من أجل ذلك بأبي بَكْرة، وأعتقه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو معدود في مواليه، وكان من فضلاء الصحابة وصالحيهم. كان مثل النَّصْل من العبادة حتى مات. وقال الحسن البَصْريّ: لم يترك البصرة من الصحابة ممن سكنها أفضل من عِمران بت حُصَين وأبي بَكرة، وكان أولاده أشرافًا بالبصرة بالولايات والعلم، وله عَقيبٌ كثير. كان قد شهد على المُغيرة في ثلاثة، ونَكَلَ زياد، والثلاثة هم: هو ونافع بن الحارث وشِبل بن مَعْبد وحَدَّهم عمر - رضي الله عنه - إذ لم تتم شهادتهم، ولم يجلد زيادًا لأنه نكل، ثم استتابهُم، فتاب الاثنان، فجازت شهادتهما، وأبى أبو بَكرة أن يَتوب، وقال لعمر، لما قال له: تُبْ لتقبل شهادتك: إنما تَسْلبُني لتقبل شهادتي؟ قال: أجل، قال: لا جَرَم، لا أشهد بين اثنين ابدًا ما بقيت في الدنيا. قال سعيد بن المُسيِّب: وكان أفضل القوم، وقال العجليّ: كان من خيار الصحابة وعن الحسن البصري قال: مرّ أنس بن مالك وقد بعثه زياد

إلى أبي بكرة يعاتبه، فانطلقتُ معه، فدخلنا على الشيخ وهو مريض، فأبلغه عنه فقال: إنه يقول: ألم أستعمل عُبيد الله على فارس وروادا على دار الرزق وعبد الرحمن على الديوان؟ فقال أبو بكرة: هل زاد على أن أدخلهم النار؟ فقال له أنس؛ إني لا أعلمه إلا مجتهدًا، فقال الشيخ: أقعدوني، إني لا أعلمه إلا مجتهدًا، وأهل حَرَوْرَاء قد اجتهدوا فأصابوا أو أخطأوا. قال أنس: فرجعنا مخصومين. له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مئة واثنان وثلاثون حديثًا، اتفقا على ثمانية، وانفرد البخاريّ بخمسة، ومسلم بحديث واحد. وروى عنه: أولاده عُبيد الله وعبد الرحمن ومُسلم وعبد العزيز، والحسن البصريّ، وأبو عثمان النّهْديّ، ورِبعيّ ابن خِراش والأحْنف بن قيس وابن سيرين وأشْعثُ بن تَرْمُلة وغيرهم. مات بالبصرة في ولاية زياد سنة خمسين. يقال مات هو والحسن بن علي في سنة واحدة. وقيل مات بعد الحسن سنة إحدى وخمسين، وصلى عليه أبو بَرْزة الأسْلميّ، وكان أوصى بذلك. وقال أبو نُعيم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - آخى بينهما. وليس في الستة ولا في الصحابة أبو بَكرة سواه. وفي الستة نُفَيع سواه ثلاثة. نُفَيع بن الحارث أبو داود الأعمى الهَمْداني الدّارميّ، روى عن عِمران بن حُصين. ونُفَيْع بن رافع الصائغ أبو رافع المَدَنيّ نزيل البصرة، مولى ابنة عمر، وقيل مولى ابنة العجْماء، أدرك الجاهلية، روى عن الخلفاء الأربعة وغيرهم. ونُفيع مُكاتب أمِّ سَلَمَة، روى عن عثمان بن عفان وزيد بن ثابت. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة والسماع، ورُوَاته كلهم

باب ظلم دون ظلم

بصريون، وفيهم ثلاثة من التابعين، يروي بعضهم عن بعض، وهم أيوب والحسن والأحْنف، أخرجه البخاريّ هنا. وفي الفتن عن عبد الله ابن عبد الوهاب ومسلم بِطُرُق غير هذه، ولفظ آخر، وأبو داود والنّسائي. ثم قال المُصنِّف: باب ظلم دون ظلم باب بالتنوين، ودون يحتمل أن تكون بمعنى غير، أي: أنواع الظلم متغايرة، أو بمعنى الأدْنى، بعضها أخف من بعض. وهو أظهر في مقصود المؤلف. وهذه الجملة لفظُ حديثٍ رواه أحمد في كتاب الإِيمان من حديث عطاء، فاستعمله المؤلف ترجمةً، واستدل له بالحديث المرفوع. ووجه الدلالة منه أن الصحابة فهموا من قوله بظلم، عموم أنواع المعاصي، ولم ينكر عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك، وإنما بين لهم أنّ المراد أعظم أنواع الظلم، وهو الشرك، فدل على أن للظلم مراتبَ متفاوتةً، ومناسبة إيراد هذا عقب ما تقدم من أن المعاصي غير الشرك، لا ينسب صاحبها إلى الكفر المخرج عن المِلّة، على هذا التقرير، ظاهرة.

الحديث الخامس والعشرون

الحديث الخامس والعشرون 32 - حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ. ح. قَالَ: وَحَدَّثَنِي بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: لَمَّا نَزَلَت: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نفسه؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] قوله: "لما نزلت" في رواية شعبة، هذه دلالة على أن السؤال هو سبب نزول الآية الأخرى التي في لقمان لكن رواه البخاري ومسلم من طريق أخرى عن سليمان المذكور في حديث الباب: أيُّنا لم يَلْبس إيمانه بظلم؟ فقال: "ليس بذاك، ألا تسمعون إلى قول لقمان"، وفي رواية "ليس كما تظنُّون" وفي رواية: "إنما هو الشرك، ألم تسمعوا إلى ما قال لقمان؟ " وظاهر هذا أن الآية التي في لقمان كانت معلومة عندهم، ولذلك نبههم عليها، ويُحتمل أن يكون نزولها وقع في الحال، فتلاها عليهم ثم نبههم، فتلتئم الروايتان. وقوله: {وَلَمْ يَلْبِسُوا} [الأنعام: 82] أي: لم يخلِطوا، تقول: لَبست الأمر -بالتخفيف- ألبِسه -بالفتح في الماضي، والكسر في المستقبل- أي: خلطته، وتقول: لبِست الثوب ألبَسه -بالكسر في الماضي والفتح في المستقبل-. وقال محمَّد بن إسماعيل التّيْمي في "شرحه": خلْط الإِيمان بالشرك

لا يتصور، فالمراد أنهم لم تحصُل لهم الصفتان كفر متأخر عن إيمان متقدم، أي: لم يرتدوا، ويُحْتمل أن يراد أنهم لم يجمعوا بينهما ظاهرًا وباطنًا، أي: لم ينافِقوا، وهذا أوجه، ولهذا عَقَّبه المؤلف بباب علامات المنافق، وهذا من بديع ترتيبه. وقوله: "أيُّنا لم يظلِم؟ " قال الخطّابي: كان الشرك عند أصحابه أكبر من أن يلقَّب بالظلم، فحملوا الظلم في الآية على ما عداه من المعاصي، فسألوا عن ذلك، فنزلت هذه الآية، قال في "الفتح": الذي يظهر لي: أنهم حملوا الظلم على عمومه الشّرك فما دونه، وهو الذي يقتضيه صنيع المؤلف، وإنما حملوا الظلم على العموم لأن قوله: {بِظُلْمٍ} نكرة في سياق النفي، لكن عمومها هنا بحسب الظاهر. قال المحققون: إن دخل على النكرة في سياق النفي ما يؤكد العموم ويقويه، نحو من في قوله: ما جاءني من رجل، أفاد تنصيص العموم، وإلا فالعموم مستفاد بحسب الظاهر، كما فهمه الصحابة من هذه الآية، وبيّن لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ظاهرها غير مراد، بل هو من العام الذي أُريد به الخاص، فالمراد بالظلم أعلى أنواعه وهو الشرك، وإنما فهم الصحابة حصر الأمْن والاهتداء فيمن لم يلبِس إيمانه بظلم، حتى شقَّ عليهم ذلك، والسياق إنما يقتضي أن مَنْ لم يوجد منه الظلم فهو آمن ومهتد من مفهوم الصفة، أو من الاختصاص المستفاد من تقديم لهم على الأمن، أي: لهم الأمن لا لغيرهم، كما في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] وقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون: 100] أي: قائلها هو لا غيره، وقوله: {بِظُلْمٍ} التنوين فيه للتعظيم، وقد بين ذلك استدلال الشارع بالآية الثانية، فالتقدير لم يلبِسوا إيمانهم بظلم عظيم، أي: بشرك إذ لا ظلم أعظم منه، وقد وَرَد ذلك صريحًا في قصة الخليل عليه السلام، من طريق حَفْص بن غِياث عن الأعْمش ولفظه، قلنا: يا رسول الله أيُّنا لم يظلم نفسه؟ قال: "ليس كما تقولون، بل لم يلبسوا إيمانهم بظلم

رجاله ثمانية

بشرك، ألم تسمعوا إلى قول لقمان" فذكر الآية الآتية، واستنبط منه المازريّ جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ونازعه القاضي عِياض، فقال: ليس في هذه القصة تكليف عمل، بل تكليف اعتقاد بتصديق الخبر، واعتقاد التصديق لازم لأول وروده، فما هي الحاجة؟ ويمكن أن يقال: المعتقدات أيضًا تحتاج إلى البيان، فلما أجمل الظلم حتى تناول إطلاقه جميع المعاصي، شقَّ عليهم حتى ورد البيان، فما انتفت الحاجة، والحق أن في القصة تأخير البيان عن وقت الخطاب لأنهم حيث احتاجوا إليه لم يتأخر. وفي المتن من الفوائد العمل على العموم حتى يرد دليل الخصوص، وأن النكرة في سياق النفي تعُم، وأن الخاص يقضي على العام، والمبيّن على المُجمل، وأن اللفظ يُحْمل على خلاف ظاهره لمصلحة دفْع التعارض، وأن درجات الظلم تتفاوت كما ترجم له، وأن المعاصي لا تسمّى شِركًا، وأن من لم يشرك باللهِ شيئًا فله الأمن وهو مهتد، فإن قيل: فالعاصي قد يعذب، فما هو الأمْن والاهتداء الذي حصل له؟ فالجواب: إنه آمن من التخليد في النار، مهتد إلى طريق الجنة. رجاله ثمانية: الأول: أبو الوليد هشام بن عبد الملك، مرّ في العاشر من كتاب "الإِيمان" هذا. والثاني: شُعبة وقد مرّ في الثالث منه أيضًا. الثالث: بِشْرُ بن خالد العَسكريّ أبو محمَّد الفرائِضِي نزيل البصرة. قال أبو حاتم: شيخٌ، وقال النَّسائي: ثقة. وذكره ابن حِبّان في "الثقات". يُغربُ عن شُعبة عن الأعْمش بأشياء. روى عن: غُندَر، وأبي أُسامة حسين الجُعْفيّ، وشبابة بن سوّار،

ويحيى بن آدم، ويزيد، وغيرهم. روى عنه: البُخاري، ومسلم، وأبو داود، والنّسائي، وابن خُزَيْمة، وأبو عَروبة، وعَبْدان الأهْوازيّ، ومحمد بن يحيى بن مَنْده، وغيرهم. مات سنة ثلاث وخمسين ومئتين، وقيل سنة خمس وخمسين. ومرّ في الحديث السادس من بدء الوحي بحث بِشْر وبُسُر -بضم الباء والسين المهملة-. وليس في الستة بِشْر بن خالد سواه، وأما بِشر فكثير. الرابع: محمَّد بن جعفر الهُذَلي مولاهم أبو عبد الله البَصْري المعروف بغُنْدَر صاحب الكرابيس، وغُندَر -بضم الغين المعجمة، وفتح الدال المهملة- وحكى الجَوْهريّ ضمها، لقّبه به ابن جُرَيْج لما قَدِم البصرة، كان يكثِر عليه الشَّغَب، وحَدّث عن الحسن البَصريّ بحديث فأنكره عليه، وجعل يكثر عليه التشغيب، فقال له: اسكت يا غُندَر، وأهل الحجاز يسمون المُشَغِّب غُندَرًا. وزعم أبو جعفر النحاس أنه من الغدر، وأن نونه زائدة. كان محمَّد بن جعفر ربيب شُعبة، وقال: إنه جالسه عشرين سنة لم يكتب عن أحد غيره شيئًا، وكان شُعبة زوج أُمه، وكان إذا كتب عنه شيئًا عرضه عليه، قال أحمد: أحسبه من بَلادته. قال يحيى بن مَعين: كان من أصح الناس كتابًا، وأراد بعضهم أن يُخَطِّئه فلم يقدِر. وقال أبو حاتم: صدوق. وهو في شعبة ثقة، صام خمسين سنة يصوم يومًا ويُفطر يومًا. وقال ابن المدِيني: هو أحَبُّ إلي من عبد الرحمن في شُعبة، وقال ابن مَهْدي: كنّا نستفيد من كتب غُندَر في حياة شعبة، وقال غُندَرُ أثبت في شُعبة مني. وكان وكيع يسميه: الصحيح الكتاب. وقال ابن المُبارك: إذا اختلف الناس في حديث شُعبة فكتاب غُندَر حَكَمٌ بينهم. وذكره ابن

حِبّان في "الثّقات" وقال: كان من خيار عباد الله، ومن أصحهم كتابًا على غفلة فيه. وقال ابن مَعين: اشترى غُندَر سمكًا، وقال لأهله: أصلحوه، ونَام فأكلوا السمك، ولطخوا يده، فلما انتبه قال: هاتوا السمك: فقالوا: قد أكلتَ، قال: لا. قالوا: شُمَّ يدك؟ ففعل، فقال: صَدقتُم، ولكَني ما شبِعتُ، ورُوي عنه أنه أنكر حكاية السمكة، وقال: أما كان بطني يدُلني؟ وروي عن ابن معين أنه قال: قدِمْنا على غُندَر، فقال: لا أُحدِّثكم حتى تمشوا خلفي، فيراكم أهل السوق، فيكرموني، وقال العِجلي: بصريٌّ ثقة، وكان من أثبت الناس في حديث شُعبة. وقال عَمرو بن العبّاس: كتبت حديثه كله إلا حديثه عن سعيد بن أبي عَروبة فإني لم أكتبه عنه لأن عبد الرحمن نهاني أن أكتب عنه حديثه، قال: إنه سمع منه بعد الاختلاط. قال ابن حَجَر: أخرج له البخاري عن شُعبة كثيرًا، وأخرج له حديثًا عن مَعْمر، وآخر عن سعيد بن أبي هند توبع فيهما، وروى له الباقون. وقال المُسْتَملي محمَّد بن جعفر: غُندَر كنيته أبو بكر، بصري ثقة. وقال محمَّد بن يزيد: كان فقيه البدن، وكان ينظر في فقه زُفَر. وقال ابن المديني: كنت إذا ذكرت غُندَر ليحيى بن سعيد عَوَج فمه كأنّه يضعِّفه. روى عن: شعبة فأكثر، وعبد الله بن سعيد بن أبي هند، وعَوْف الأعرابي، ومَعْمر بن راشد، وسعيد بن أبي عَروبة، وابن جُرَيْج، والثَّوريّ، وابن عُيينة، وغيرهم. وروى عنه: أحمد بن حَنْبل، ويحيى بن مَعين، وإسحاق بن رَاهَوَيْه، وعلي بن المديني، وأبو بكر، وعثمان ابنا أبي شَيْبة، وقُتيبة، وبِشْر بن خالد، وعقبة بن مُكْرَم، وخلق. مات في ذي القعدة سنة ثلاث وتسعين ومئة. وقيل: سنة أربع،

وقيل: سنة اثنتين، وقدّمنا قريبًا سبب تلقيبه بغُندَر وقد قال العراقيُّ: وربما كان لبعضٍ سَبَبُ: كغُندَرٍ محمدِ بن جَعْفَرِ ... وصالِحٍ جزَرَةِ المُشْتَهِرِ لقِّب صالح جزرة لكونه حكى عن نفسه أنه صَحَّف خَرَزة -بمعجمة ثم راء ثم زاي- في حديث عبد الله بن بُسْرة: أنه كان يُرقي بخرزة. إذ سُئِل بعد الفراغ من السماع على عَمرو بن زُرارة: من أين سمعت؟ فقال: من حديث الجَزَرة، -بالجيم والزاي والراء مفتوحات- وكان في حداثته، قال: فَبقِيت عليّ، وقد مر الكلام على الألقاب مستوفىً في الثامن من كتاب الإِيمان. عند ذكر ابن عُليّة. والمُلقب بغُندَر غيره عشرة، وأما محمَّد بن جعفر في الستة سواه فسبعة. والهُذليّ في نسبه مرّ الكلام عليه في السادس من بدء الوحي. الخامس: سُليمان بن مِهران الأسديّ الكاهليّ مولاهم، أبو محمَّد الكُوفي الأعْمش. يقال: أصله من طبرِستان، وولد بالكوفة، وقيل: إن أصله من رُستاق من قرية يقال لها: دُنباوَنْد -بدال مضمومة، ونون ساكنة، ثم موحدة مفتوحة، ثم ألف، ثم واو مفتوحة، ثم نون ساكنة، بعدها دال مهملة- قدِم عليها أبوه وامرأته حامل بالأعْمش، فولدته بها، ويقال: إن أباه جاء به حميلًا إلى الكوفة، فاشتراه رجل من بني أسد، فأعتقه وعند الترمذي في "جامعه" في باب الاستشارة عند الحاجة عن الأعمش، أنه قال: كان أبي حميلًا، فورثه مسروق، فالحميل على هذا أبوه، والحميل الذي يحمل من بلده صغيرًا، ولم يولد في الإِسلام. قال ابن المديني: حفظ العلم على أمة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - ستة: عمرو بن

دينار بمكة، والزُّهريّ بالمدينة، وأبو إسحاق السّبيعيّ والأعْمش بالكوفة، وقَتادة ويحيى بن أبي كَثير بالبصرة، وقال أبو بكر بن عَيّاش، عن مُغيرة: لما مات إبراهيم اختلفنا إلى الأعْمش في الفرائض. وقال هُشَيْم: ما رأيت بالكوفة أحدًا أقرأ لكتاب الله منه. وقال ابن عُيَيْنة: سبق الأعمشُ أصحابه بأربع: كان أقرأهم للقرآن، وأحفظهم للحديث، وأعلمهم بالفرائض، وذكر خَصْلة أخرى. وقال ابن مَعين: كان جرير إذا حدّث عن الأعْمش، قال: هذا الديباج الخُسْرَواني. وحكى الحاكم عن ابن مَعين أنه قال: أجود الأسانيد: الأعْمش، عن إبراهيم، عن عَلْقمة، عن عبد الله. فقال له إنسان: الأعْمش مثل الزُّهري، فقال برِئتُ من الأعْمش أن يكون مثل الزُّهريّ، الزُّهريّ يرى العرضَ والإِجازة ويعمل لبني أُميّة، والأعمش فقيرٌ صبور مجانبٌ ورع عالم بالقرآن. وقال عيسى بن يوسُف: لم نَر مثل الأعمش، ولا رأيت الأغْنياء والسّلاطين عند أحدٍ أحقر منهم عند الأعْمش مع فَقْره وحاجته. وقال يحيى بن سعيد القطّان: كان من النُّساك، وهو علامة الإِسلام. وقال وكيع: اختلفت إليه قريبًا من ستين سنة، ما رأيته يقضي ركعة، وكان قريبًا من سبعين سنة، لم تفته التكبيرة الأولى. وقال الخُرَيْبيّ: مات يوم مات وما خلف أحدًا من الناس أعبد منه، وكان صاحب سنة. وقال شُعبة ما شفاني أحد في الحديث ما شفاني الأعْمش، وكان شعبة إذا ذكر الأعمش قال: المصحف المصحف. وقال عمرو بن علي: كان الأعمش يُسَمّى المصحف لصدقه. وقال ابن عمار: ليس في المحدثين أثبت من الأعمش، ومنصور ثبت أيضًا إلا أن الأعمش أعرف بالمسند منه. وقال العِجليّ: كان ثقة ثبتًا في الحديث، وكان محدّث أهل الكوفة في زمانه، ولم يكن له كتاب، وكان رأسًا في القرآن عَسِرًا سيء الخُلُق، عالمًا بالفرائض، وكان لا يلْحن حرفًا، وكان فيه تشيُّع، وقال ابن مَعين؛ ثقة. والنّسائي: ثقة ثبت، وقال ابن المُنادي: قد رأى أنس بن مالك إلَّا أنه لم يسمع منه، ورأى أبا بَكْرة الثَّقفيّ، وأخذ له بركابه، فقال له: يا بني إنما أكرمت ربك. وقال وَكيع

عن الأعْمش: رأيتَ أنس بن مالك، وما منعني أن أسمع منه إلا استغنائي بأصحابي. وقال الكُدَيْميّ: حدثنا عُبيد الله عن الأعْمش، قال: ما سمعت من أنس إلا حديثًا واحدًا، سمعته يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "طلبُ العلم فريضة على كل مُسلم" لكن الكُدَيْمي ضعيف. وقال أحمد ابن عبد الجبار العُطارِديّ عن ابن فُضَيْل عن الأعْمش قال: رأيتُ أنسًا بال فغسل ذكره غسلًا شديدًا، ثم مسح على خُفَّيه، وصلّى بنا، وحدثنا في بيته، ولكن العُطارديّ مضعف. وقال الخلِيلِيّ: رأى أنسًا، ولم يُرْزق السماع منه، وما يرويه عن أنس ففيه إرسال، وقول ابن المُنادي الذي سلف: أن الأعْمش أخذ برِكاب أبي بَكرة الثّقفي غلط فاحش، لأن الأعْمش وُلد سنة إحدى وستين، أو سنة تسع وخمسين على الخُلْف في ذلك، وأبو بكرة مات سنة إحدى أو اثنتين وخمسين، فكيف يتهيّأ أن يأخذ بركاب من مات قبل مولده بعشر سنين أو نحوها؟! وكأنه كان والله تعالى أعلم أخذ بركاب ابن أبي بَكْرة، فسقط ابن، وثبت الباقي، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين، وقد رأى أنسًا بمكة وواسط، وروى عنه شبيهًا بخمسين حديثًا، ولم يسمع منه إلا أحرفًا معدودة، وكان مدلسًا أخرجناه في التابعين لأن له حفظًا ويقينًا، وإن لم يصح له سماع المسند من أنس. وقال أبو بكر البزار: لم يسمع من أبي سُفيان شيئًا، وقد روى عنه نحو مئة حديث، وإنما هي صحيفة عرفت، وذكر الخطيب عن بعض الحُفاظ أنه يُدلس عن غير الثقة بخلاف سُفيان، فإنه إنما يدلس عن الثقة. كان رضي الله عنه لطيف الخلق مزّاحًا، جاءه يومًا بعض أصحاب الحديث ليسمعوا منه، فخرج إليهم، وقال: لولا أن بالبيت من هو أبغض إليّ منكم ما خرجت إليكم، وجرى بينه وبين زوجته يومًا كلام، فدعا رجلًا ليصلح بينهما، فقال لها الرجل: لا تنظري إلى عَمَش عينيه وحُموشة ساقيه، فإنه إمام له قدر، فقال له: أخزاك الله، ما أردت إلا أن تُعرِّفها عيوبي.

وقال له داود بن عُمر الحائِك: ما تقول في الصلاة خلف الحائك؟ فقال: لا بأس بها على غير وضوء. فقال: ما تقول في شهادة الحائك؟ فقال: تُقبل مع عدْلين. ويقال أن الإِمام أبا حنيفة - رضي الله عنه - عادهُ يومًا في مرضه، وطوَّل القعود عنده، فلما عزَم على الانصراف، قال له: ما كأني إلَّا ثَقُلت عليك، فقال: والله إنك لثقيل عليّ وأنت في بيتك. وعاده أيضًا جماعةٌ فأطالوا الجلوس عنده، فضَجر منهم، فأخذ وسادته، وقام وقال: شفى الله مريضكم بالعافية. وقيل عنده يومًا: قال - صلى الله عليه وسلم -: "من نامَ عن قيام الليل بال الشيطان في أُذنه" فقال: ما عَمِشت عيني إلا من بول الشيطان في أُذُني، وكانت له نوادر كثيرة. وبعث إليه هشام بن عبد الملك، أن اكتب لي مناقب عثمان، ومساوىء علي، فأخذ القِرطاس وأدخله في فم شاة حتى لاكته، وقال لرسوله: قل له هذا جوابك، فقال له الرسول: إنه قد آلى أن يقتلني إن لم آته بجوابك، وتحمل عليه بإخوانه، فقالوا له: يا أبا محمَّد نجِّه من القتل، فلما ألحّوا عليه كَتَب له بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد: يا أمير المؤمنين، فلو كانت لعثمان - رضي الله عنه - مناقب أهل الأرض ما نَفَعتك، ولو كانت لعلي - رضي الله عنه - مساوىء أهل الأرض ما ضرَّتْك، فعليك بخويصة نفسك والسلام. وقال زائدة بن قُدامة: تبعت الأعْمش يومًا، فأتى المقابر، ودخل في قبر محفور، فاضطجع فيه، ثم خرج ينفُض التراب عن رأسه، ويقول: واضيقَ مسكناه. روى عن: أنس بن مالك ولم يثبُت له منه سماع كما مر، وعبد الله ابن أبي أوفى يقال: إنه مرسل، وزيد بن وهب، وأبي وائل، وأبي عمرو الشّيْباني، وعامر الشعبي، وإبراهيم النّخعي، وعديّ بن ثابت، وعُمارة ابن عُمير، وخلق كثير.

وروى عنه: الحكم بن عُتيبة، وزُبيد اليامي، وأبو إسحاق السّبيعي -وهو من شيوخه- وسُهيل بن أبي صالح، وهو من أقرانه، ومحمد بن واسع، والسُّفيانان، وإبراهيم بن طَهُمان، وفُضيل بن عِياض، وخلائق من آخرهم أبو نُعيم وعُبيد الله بن موسى. ولد قبل مقتل الحسين، ومات في ربيع الأول سنة ثمان وأربعين ومئة وهو ابن ثمان وثمانين سنة. وقيل مات سنة خمس وأربعين. وقيل: سنة سبع وأربعين. وقيل: إنه ولد يوم قتل الحسين يوم عاشوراء سنة إحدى وستين. وليس في الستة سليمان بن مِهْران سواه، وأما سليمان في الستة فكثير. والكاهلي في نسبه نسبة إلى كاهِل أبو قبيلة من أسَد، وهو كاهِل ابن أسد بن خُزَيْمة بن مُدركة بن الياس وهم قتلة أبي امرىء القيس، وفيها يقول: يَا لَهْفَ هِنْدٍ إذْ خَطِئن كاهلًا ... القاتِلينَ المَلِك الحُلاحلا السادس: إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسْود بن عَمرو بن ربيعة ابن حارثة بن سعد بن مالك بن النّخع أبو عمران وأبو عمار الفقيه الكوفي النّخعي، فقيه أهل الكوفة، وأمه مُلَيْكة بنت يزيد بن قَيْس النّخعيّة أخت الأسود وعبد الرحمن ابني يزيد. قال العَجليّ: رأى عائشة - رضي الله عنها - رؤيا وكان مفتي أهل الكوفة في زمانه، وكان رجلًا صالحًا فقيهًا مُتوقِّيًا قليل التكلف. وكان يُرسل كثيرًا عن عَلْقمة، ومات وهو مُختفٍ من الحجّاج، وقال ابن مَعين: مراسيل إبراهيم أحب إليّ من مراسيل الشَّعْبيّ. وقال الشعبي: ما ترك إبراهيم بعده أعلم منه. قال أبو بكر بن شُعيب: ولا الحسن وابن

سيرين؟ قال: ولا الحسن وابن سيرين ولا من أهل البصرة ولا من أهل الكوفة ولا من أهل الحجاز. وفي رواية: ولا بالشام. وكان لا يتكلم إلا إذا سُئل، قال مُغيرة: كنا نهاب إبراهيم كما يُهاب الأمير، وقال الأعْمش: كان إبراهيم يتوقّى الشُّهرة، ولا يجلس إلى الأُسطوانة. وقال: كان إبراهيم صيرفيّ الحديث، وفي رواية: كان خبيرًا في الحديث. وقال الأعمش أيضًا: قلت لإِبراهيم: أسند لي عن ابن مسعود، فقال إبراهيم: إذا حدثتكم عن رجل عن عبد الله فهو الذي سمعت، وإذا قلت: قال عبد الله، فهو عن غير واحد عن عبد الله. ولما حضرته الوفاة جزع جزعًا شديدًا، فقيل له في ذلك، فقال: وأيّ خطر أعظم مما أنا فيه؟ إنما أتوقع رسولًا يرد عليّ من ربي إما بالجنة وإما بالنار، والله لوددت أنها تتلجلج في حلقي إلى يوم القيامة. قال ابن المَدِيني: لم يلق النّخعيّ أحدًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت له: فعائشة؟ قال: هذا لم يروه غير سعيد بن أبي عَروبة عن أبي معشر عن إبراهيم وهو ضعيف. وقد رأى أبا جُحَيْفة وزَيْد بن أرْقم وابن أبي أوْفى، ولم يسمع من ابن عباس. ورواية سعيد عن أبي مَعْشر ذكرها ابن حِبان بسَنَد صحيح إلى سعيد عن أبي مَعْشر أن إبراهيم حدثهم أنه دخل على عائشة - رضي الله عنها -، فرأى عليها ثوبًا أحمر. وقال ابن مَعين: أُدخل على عائشة - رضي الله عنها - وهو صغير، وقال أبو حاتم: لم يلق أحدا من الصحابة إلا عائشة ولم يسمع منها، وأدرك أنسًا ولم يسمع منه. روى عن: خاليه الأسْود وعبد الرحمن ابني يَزيد، ومَسروق وعَلْقمة وأبي مَعمر وهمّام بن الحارث وجماعة، وروى عنه الأعْمش ومنصور وابن عَوْن وزبيد الياميّ، وحمّاد بن سُليمان، ومُغيرة بن مُقسِّم الصَّنِّبيّ وخلق. مات وهو مختف من الحجّاج، ولم يحضر جنازته إلا سبعة أنفس،

سنة ست وتسعين، وهو ابن تسع وقيل ابن ثمان وخمسين. والنَّخعيّ في نسبه نسبة إلى النَّخَع، بفتح النون والخاء المعجمة والعين المهملة، قبيلة كبيرة من مَذْحج باليمن. والنَّخع اسمه جَسْر بن عَمرو بن وَعْلة بن خالد بن مالك بن أُدد. سمي بذلك لأنه انتخع من قومه، أي بَعُد منهم، وخرج منه خلق كثير .. وإبراهيم بن يزيد في الستة سواه ثلاثة. اين يزيد بن شريك التَّيميّ تَيْم الرِّباب أبو أسماء، كان من العباد. روى عن أنس وغَيره. وابن يزيد بن مردانبة أو يزدانبة القُرَشي المخزومي مولى عمرو بن حُرَيْث. وابن يزيد الخُوزيّ الأُمويّ أبو إسماعيل المكّي مولى عمر بن عبد العزيز، روى عن طاووس وغيره وفي الرواة غير الستة أربعة. السابع: عَلْقَمة بن قيس بن عبد الله بن مالك بن علقمَة بن سَلَامان ابن كَهْل، ويقال: ابن كُهَيْل بن بَكْر بن عَوْف، ويقال: ابن المُنتشر بن النَّخع أبو شِبْل، الكوفي. ولد في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عم الأسود وعبد الرحمن ابني يزيد خَالَيْ إبراهيم بن يزيد كما مر قريبًا. أحد الأعلام، مُخَضْرم. اتُّفق على جلالته وتوثيقه. قال أحمد: ثقة من أهل الخير، وقال عثمان بن سعيد: قلت لابن مَعين: علقمة أحب إليك أم عُبيدة؟ فلم يخيرّ. قال عثمان: كلاهما ثقة، وعلقمة أعلم بعبد الله. وقال ابن المَديني: أعلم الناس بعبد الله علقمة والأسود وعُبيدة والحارثُ. وقال أبو المثنى رِياح: إذا رأيت علقمة فلا يضرك أن لا ترى عبد الله، علقمةُ شبيه الناس به سمتا وهَدْيا، وإذا رأيت إبراهيم فلا يضرك أن لا ترى علقمة. وقال الأعْمش: عن عِمارة بن عُمير قال لنا أبو مَعْمر: قوموا بنا

إلى أشبه الناس هَديا سمتًا ودلًا بابن مسعود، فقمنا معه حتى جلس إلى علقمة. وقال داود بن أبي هِند: قلتُ لشعبة: أخبرني عن أصحاب عبد الله، قال: كان علقمة أنظر القوم به. وقال ابن سيرين: أدركت الناس بالكوفة وهم يقدمون خمسة، من بدأ بالحارث ثنى بعبيدة، ومن بدأ بعبيدة ثنى بالحارث ثم علقمة الثالث، لا شك فيه، وقال منصور عن إبراهيم: كان أصحاب عبد الله الذين يقرئون الناس ويعلِّمونهُم السنة. ويَصْدُر الناس عن رأيهم ستة: علقمة والأسْود، وذكر الباقين، وقال غالب أبو هُذَيْل: قلت لإِبراهيم: أعلقمة كان أفضل أو الأسود؟ فقال: علقمة. وقد شهد صفين، وقال مُرّة الهَمْدانيّ: كان علقمة من الربانيين. وقال إبراهيم عن علقمة: كنت رجلًا قد أعطاني الله تعالى حُسْن الصوت بالقرآن، وكان ابن مسعود يرسل إليّ فأقرأ عليه، فإذا فرغت من قراءتي قال: زدنا فداك أبي وأمي، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن حُسْن الصوت زينة القرآن. وقال عبد الرحمن بن يزيد: قال عبد الله: ما أقرأ شيئًا ولا أعلمه إلا علقمة يقرؤه ويعلمه. وقال أبو ظَبْيَان: أدركت ناسًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسألون علقمة ويستفتونه. وقال أبو قَيْس: رأيت إبراهيم آخذًا بركاب علقمة، وقال إبراهيم: قرأ علقمة القرآن في ليلة. روى عن عمر وعثمان وعلي وسعد وحُذَيْفة وأبي الدّرداء وابن مسعود وأبي مسعود وأبي موسى وعائشة وخلق. وروى عنه ابن أخيه عبد الرحمن بن قيس، وابن أخته إبراهيم بن يزيد النَّخعيّ وعامر الشعبيّ، وأبو الرّقّاد النخعي، وأبو وائِل شَقيق بن سَلَمة وأبو إسحاق السّبيعيّ. وقيل: لم يسمع منه. وأبو الضحى وجماعة. مات علقمة بالكوفة سنة اثنتين وستين، ولم يولد له، وكان قد غزا خراسان، وأقام بخُوَارزم سنتين، ودخل مَرْوَ، فأقام بها مدة، وقيل مات

سنة اثنتين وسبعين وقيل سنة ثلاث وسبعين، وله تسعون سنة. وكان ولدا أخيه عبد الرحمن والأسود ابنا يزيد بن قيس أسَنّ منه. وليس في الستة علقمة بن قيس سواه، وأما علقمة فكثير. ومر قريبًا أن علقمة مخضرم. وهذا أول ذكر المخضرمين فلا بد من تعريفهم. فالمخضرم على الصحيح هو الذي أدرك الجاهلية والإِسلام، ولم يُرَ في خبر قط أنهم اجتمعوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا رأوه، سواء أسلموا في حياته أم لا. وهم ليسوا صَحَابة باتفاق أهل العلم بالحديث. وقال صاحب المُحْكم: رجل مُخَضْرم: إذا كان نصف عمره في الجاهلية ونصفه في الإِسلام. وشاعر مخضرم أدرك الجاهلية. وقال ابن حبّان: الرجل إذا كان له في الكفر ستون سنة وفي الإِسلام ستون سنة يدعى مخضرمًا. ومقتضى عدم اشتراطهما نفي "الصحبة"، أن حَكِيم بن حزام وشبهه مخضرم، وليس كذلك في الاصطلاح، لأن المخضرم هو المتردد بين الطبقتين لا يدري من أيتهما هو. وهذا مدلول الخَضْرمة لُغَةً. فقد قال صاحب المحكم: مخضرم ناقص الحَسَب، وقيل: الدّعِيّ، وقيل: من لا يُعرف أبواه، وقيل: من أبوه أبيض وهو أسود. وقيل: من ولدته السّراري. وقال هو والجَوْهريّ: لحم مخضرم: لا يُدرى أمن ذكر هو أم من أُنثى، فكذلك المخضرمون مترددون بين الصحابة والتابعين لعدم اللّقْي. وما حكاه الحاكم عن بعض مشايخه، من اشتقاقه من أهل الجاهلية ممن أسلم ولم يهاجر، كانوا يخضرمون آذان الإِبل، أي يقطعونها لتكون علامة لإِسلامهم إن أُغِير عليهم أو حُوربوا، محتملٌ لاسم الفاعل والمفعول، فالفتح من أجل أنهم خضرموا أي قُطِعوا عن نُظرائهم بما ذكر، فيكون مخضرم اسم مفعول. والكسر من أجل أنهم خَضْرَموا آذان إبلهم فهو اسم فاعل. وأشار العراقي إلى الصحيح في المخضرمين بقوله: والمُدركونَ جاهِلِيّةً فَسَمّ ... مُخَضْرمِين كَسُوَيْد في أمَمْ

باب علامات المنافق

وسُوَيد هو ابن غَفِلة بالتحريك، وكأبي عمرو وسعد بن إياس الشَّيباني، وشُرَيْح بن هانىء، وبشير أو أسِير بن عمرو بن جابر، وعمرو ابن مَيْمون الأوْديّ، والأسود بن يزيد النّخعي، والأسود بن هلال المحاربي، وقد بلغ بهم مسلم بن الحجاج عشرين، ومغَلْطاي أزيد من مئة. انتهى من الشيخ زكرياء بحروفه إلا اليسير من الإِصابة لابن حَجَر. الثامن: عبد الله بن مسعود وقد مرّ في الأثر الثالث من كتاب الإِيمان قبل ذكر حديث منه. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع والإِفراد والعنعنة، وفيه ثلاثة من التابعين الكوفيين، يروي بعضهم عن بعض: الأعْمش وإبراهيم وعلقمة. وهو أحد الأسانيد التي قيل فيها إنها أصحّ الأسانيد. ورُواته كلهم أئمة حُفّاظ أجِلّاء. ومنها أن في بعض النسخ قبل قوله: حدثني بِشْر صورة "ح" إشارة إلى التحويل وقد مرّ الكلام عليه مُستوفى في السادس من بدء الوحي. وفيه الأعمش وهو من المُدلّسين، وروايته بالعنعنة، والمدلّس روايته بالعنعنة لا تُحمل على السماع، ولكن ما في الصحيحين من ذلك محمول على السماع، وقد مر الكلام على ذلك مستوفىً في الأول من بدء الوحي. أخرجه البخاري هنا وذهب أحاديث الأنبياء عن أبي الوليد وغيره، وفي التفسير عن بُنْدار وغيره، وفي استتابة المرتدين عن قُتيبة ومُسلم، وفي الإِيمان عن أبي بكر وغيره والتِّرمذي أيضًا. ثم قال المصنف: باب علامات المنافق جمع علامة، وهو ما يُسْتدل به على الشيء، ومنه سمي الجَبَل علامة وعَلَمًا وعُدِل عن التعبير بآيات المنافق المناسب للحديث المَسُوق هنا إلى العلامات موافقة لما ورد في صحيح أبي عوَانة بلفظ علامات المنافق، فيكون مُنبِّها بالترجمة على حديث غير المذكور فيها، والجمع

في العلامات رواية الأربعة، ومناسبة الترجمة لما قبلها هي أنه لما قَدّم أنّ مراتب الكفر متفاوتة، وكذلك الظلم، أتْبَعه بأن النفاق كذلك. وقيل: مناسبة هذا الباب لكتاب الإِيمان هي أن النفاق علامة عدم الإِيمان، أو ليُعلم منه أن بعض النفاق كفر دون بعض، فإن النفاق لغةً: مخالفة الباطن للظاهر، فإن كان في اعتقاد الإِيمان فهو نفاق الكفر، وإلّا فهو نفاق العمل. ويدخل فيه الفعل والترك وتتفاوت أفراده وفي الاصطلاح هو الذي يُظهر الإِسلام ويُبطن الكفر، أو هو الدخول في الإِسلام من وجه، والخروج عنه من وجه آخر. قيل: إنه مشتق من نافِقاء اليُربوع، فإن إحدى جُحْريه يقال له النافقاء، وهو موضع يُرقِّقُه بحيث إذا ضَرَب رأسه عليه ينشَقّ، وهو يكتمه ويُظْهر غيره. وإذا أتى الصائد إليه من قبل القاصعَاء، وهو جُحره الظاهر الذي يَقْصع فيه، أي: يدخل، ضَرَب النافقاء برأسه فانتفق، أي: خرج، فكما أن اليربوع يكتم النافقاء ويظهر القاصعاء، فكذلك المنافق يكتم الكفر ويظهر الإِيمان، أو يدخل في الإِيمان من باب ويخرج من آخر. ويناسبه وجه آخر. وهو أن النافقاء ظاهرهُ، يُرى كالأرض، وباطنه الحفرة فيها، فكذا المُنافق. وقيل: المنافق مشتق من النَّفق وهو السّرَب تحت الأرض، يراد أنه يستتر بالإِسلام كما يستتر صاحب النفق به. والمنافق من المفاعلة، وأصلها أن تكون بين اثنين، ولكنّها هنا من باب خادَعَ وراوَغَ. أو يقال: لأنه يقابل بقَبُول الإِسلام منه، فإن عُلِم أنه منافق، فقد صار الفعل من اثنين، وسمي الثاني باسم الأول مجازًا للازدواج. كقوله تعالى {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194].

الحديث السادس والعشرون

الحديث السادس والعشرون 33 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ أَبُو الرَّبِيعِ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ: حَدَّثَنَا نَافِعُ ابْنُ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ أَبُو سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ». قوله آية المنافق: أي علامته، مبتدأ. والقياس جمعه ليطابق الخبر الذي هو ثلاث. وأجِيبَ بأن ثلاثا اسم جمع لفظه مفرد. أو يقال: إن آية مضاف إلى معرفة فيعم، كأنه قال: آياته. وقال في الفتح: الإِفراد على إرادة الجنس، أو أن العلامة إنما تحصل باجتماع الثلاث. قال: والأول أليق بصنيع المؤلف، ولهذا ترجم بالجمع، وتعقبه العَيْنيّ بأن التاء تمنع الجنس، كالتاء في تَمْرة. فالآية والآي كالتّمرة والتمر. قال: وقوله: إنما يحصل باجتماع الثلاث: مُشْعرٌ بأنه إذا وجدت فيه واحدة من الثلاث لا يطلق عليه منافق، وليس كذلك. بل يطلق عليه اسم منافق غير أنه إذا وجدت فيه الثلاث كلها كان منافقًا كاملًا. قلت: اعتراضه الأول ظاهر، وأما الثاني فغير ظاهر، لأنّ ابن حجر إنما قال ما قال احتمالا. ولم يأت العَيْنيّ بنص يرفع ذلك الاحتمال. وإنما قال ما قال من أنه إذا وجدت فيه واحدة كان منافقا، غير أنه لم يكن كاملا من نفسه، والحديث الآتي بعد هذا فيه الاستئناس لما قاله ابن حجر، فإن فيه أنَّ الخالِصَ من كانت فيه الخصال الأربع. ومن كانت فيه خصلة منهُنَّ كانت فيه خصلة من النفاق إلخ ... فلم يقل كان منافقا

غير كامل، بل عبر بأن فيه خصلة، ووجود خصلة فيه لا يستلزم تسميته منافقا، فتأمل. ثم بيَّن الثلاث فقال: إذا حَدَّث كَذَب، أي أخْبر عنه بخلاف ما هو به، قاصدًا الكذب، وقد حكى ابن التين عن مالك أنه سُئل عمن جُرِّب عليه الكذب، فقال: أي نوع من الكذب؟ لعله حدّث عن عيش له سلف، فبالغ في وصفه، فهذا لا يضر، وإنما يضر من حدّث عن الأشياء بخلاف ما هي عليه قاصدًا الكذب. وقوله: وإذا وعد أخلف أي: لم يَف بوعده. قال في المُحْكم: يقال وَعَدْتُه خيرًا، ووعدته شرًا، فإذا أسقطوا المفعول، قالوا في الخير: وَعَدته، وفي الشر: أوْعَدْتُه. وحكى ابن الأعرابي: أوعدته خيرًا بالهمز، والمراد بالوعد في الحديث الوعد بالخير، وأما الشر فيُستحب إخلافه، وقد يجب. وهو من عطف الخاص على العام، لأن الوعد نوعٌ من التحديث، وكان داخلًا في قوله وإذا حدّث، ولكنه أفرده بالذِّكر معطوفًا تنبيهًا على زيادة قُبْحه. فإن قلت الخاص إذا عطف على العام لا يخرج من تحت العام، وحينئذ تكون اثنتين لا ثلاثًا، أُجيب بأنه لازم الوعد الذي هو الإِخلاف الذي قد يكون فعلا، ولازم التحديث الذي هو الكذب لا يكون فعلا، متغايران، فبهذا الاعتبار كان الملزومان متغايرين، وإخلاف الوعد لا يقدح إلا إذا كان العزمُ عليه مُقارِنا للوعد، أما لو كان عازمًا ثم عَرَض له مانع، أو بدا له رأي، فهذا لم توجد منه صورة النفاق، قاله الغزاليّ. وفي الطبرانيّ من حديث سَلْمان، ما يشهد له: إذا وعد وهو يحدث نفسه أنّه يُخلف، وكذا في باقي الخِصال. وإسناده لا بأس به. وهو عند أبي داود والتِّرمذيّ من حديث زيد بن أرْقم بلفظ "إذا وَعَد الرجل أخاه ومن نيَّتِه أن يفي له فلم يَفِ فلا إثم عليه"، وقوله: وإذا ائتمن خان، أي: بأن يتصرف فيها على خلاف الشرع.

ووجه الاقتصار على هذه الثلاثة هو أنها مُنبِّهة على ما عداها إذ أصل عمل الديانة منحصر في ثلاث: القول والفعل والنية. فنبه على فساد القول بالكذب، وعلى فساد الفعل بالخيانة، وعلى فساد النية بالخُلْف، لأن خُلْف الوعد لا يقدح إلا إذا كان العزم عليه مُقارنًا للوعد كما مر قريبًا. وقد قيل إن ظاهر هذا الحديث الحَصْر في ثلاث، فكيف جاء في الحديث الذي يليه "أربعٌ من كنَّ فيه" وأجيب باحتماله، أنه استجد له - صلى الله عليه وسلم - من العلم بخصالهم ما لم يكن عنده، أو يُجاب بأنه لا تعارض بينهما، لأنه لا يلزم من عد الخصلة المذمومة الدالة على كمال النفاق كونها علامة على النفاق، لاحتمال أن تكون العلامات دالة على أصل النفاق، والخصلة الزائدة إذا أضيفت إلى ذلك كَمُل بها خلوص النفاق. على أن في رواية مسلم ما يدل على إرادة عدم الحصر، ففيه لفظة "من علامة المنافق ثلاث" وكذا أخرجه الطَّبرانيّ في الأوسط عن أبي سعيد. وإذا حمل اللفظ الأول على هذا لم يرد السؤال، فيكون قد أخبر ببعض العلامات في وقت، وببعضها في وقت آخر وهذا غير مفيد لأنه تبقى أربعة لكن يأتي ردها إلى ثلاث. أو يجاب بأنَّ إذا عاهد غَدَر، التي هي إحدى الأربع في معنى قوله: وإذا ائتمن خان، لأن الغدر خيانة. وعد بعضهم هذا الحديث مُشْكلا من حيثُ أن هذه الخصال قد توجد في المسلم المُجْمع على عدم كفره، وأجيب عن هذا بأن هذه خصال نفاق لا نفاق، فهو على سبيل المجاز، أو المراد نفاق العمل لا نفاق الكفر، وارتضى هذا القُرطبيّ، ويؤيده قول عُمَر لحُذَيْفة: هل تعلم فيّ شيئًا من النفاق؟ فإنه لم يُرِد بذلك نفاق الكُفْر، وإنما أراد نفاق العمل. أو المراد من اتصف بذلك وكانت له دَيْدنا وعادة. ويدل عليه التعبير بإذا المفيد لتكرار الفعل، وأيضًا حذف المفعول من حدث ووعد يدل على العموم، أي إذا حدّث في كل شيء كذب، أو يجعل قاصرًا أي: إذا وَجَد ماهيّة التحديث كذب. أو هو محمول على من غلبت عليه هذه

رجاله خمسة

الخصال، وتهاون بها واستخف بأمرها. فإن من كان كذلك كان فاسد الاعتقاد غالبا، أو المراد الإِنذار والتحذير عن ارتكاب هذه الخصال وأن الظاهر غير مراد، أو الحديث واردٌ في رجل معين كان منافقا، ولم يصرح عليه الصلاة والسلام به، على عادته الشريفة، من كونه لا يواجههم بصريح القول، بل يشير إشارة كقوله: "ما بال أقوامٍ" ونحوه. أو المراد المنافقون الذين كانوا في الزّمن النبويّ، وهذا قول ابن عبّاس وسَعيد بن جُبير وعطاء ابن أبي رباح، ويروى أنَّ رجلًا قال لعطاء: سمعت الحَسن يقول من كان فيه ثلاث خصال لم أتحرّج أن أقول إنه منافق، مَن إذا حدّث كَذَب، وإذا وَعَد أخلف، وإذا ائتمن خان. فقال عطاء: إذا رجعت إلى الحسن فقل له: إن عطاء يُقْرئك السلام ويقول لك: اذكر إخوة يوسف عليه السلام. رجاله خمسة: الأول: سُليمان بن داود أبو الرّبيع العَتكيّ الزَّهْرانيّ الحافظ، سكن بغداد. قال ابن مَعين وأبو زُرعة وأبو حاتم: ثقة. وقال الآجُريّ: سألت أبا داود عن أبي الربيع والحَجْبيّ أيهما أثبت في حماد بن زيد؟ فقال: أبو الربيع أشهرهما، والحجبي ثقة. وقال ابن خِراش: تكلم الناس فيه وهو صدوق، وقال ابن قانع: ثقة صدوق. وقال عبد القُدّوس بن محمَّد: قال لي عبد الله بن داود الخُريْبيّ: اقرأ على أبي الربيع، فإنه موضع يُقرأ عليه. وقال مَسْلمة بن قاسم: بصْريّ ثقة. وذكره ابن حِبّان في الثقات. وقال لا أعلم أحدا تكلم فيه بخلاف ما زعم ابن خِراش. روى عن: مالك حديثًا واحدًا وحمّاد بن زيد وإسماعيل بن جَعْفر وجَرِير بن حازم وفُلَيْح بن ليمان ويزيد بن زُرَيع وجَرير بن عبد الحميد وابن المُبارك وغيرهم.

وروى عنه: البُخاريّ ومسلم وأبو داود، وروى له النّسائي بواسطة عليّ بن سعيد بن جرير. وحدّث عنه أحمد بن حَنْبل وإسحاق بن رَاهَوَيه وأبو زُرعة وأبو حاتم والذُّهليّ، وموسى بن هارون ويعقوب بن شَيْبة وزكرياء وأبو يَعلى الموصِلِيّ، وأبو القاسم البَغَويّ وغيرهم. مات في رمضان سنة أربع وثلاثين ومئتين بالبصرة. وفي الستة سليمان ابن داود سواه سبعة، وفيهم اثنان كل منهما يُكنى أبا الربيع، أحدهما ابن داود بن حمّاد بن سعد المَهَريّ أبو الربيع، والثاني ابن داود بن رَشِيد البغداديّ، أبو الربيع الخَتْليّ الأحْول، والعَتَكيّ في نسبه مر الكلام عليه في السادس من بدء الوحي، والزّهرانيّ نسبة إلى زهران، وهو أبو قبيلة من الأزْد بن كَعْب بن عبد الله بن مالك بن نَصر بن الأزد. منهم جُنْدب ابن أبي أُمية من الصحابة. الثاني: إسماعيل بن جعْفر بن أبي كثير الأنصاريّ الزرقيّ مولاهم، أبو إسحاق، قارىء أهل المدينة أخو محمَّد ويحيى وكَثير ويعقوب بني جعفر. قال أحمد وأبو زرْعة والنَّسائي: ثقة. وقال ابن مَعين: ثقة. وهو أثبت من ابن أبي حازم والدّراوَرْديّ وأبي ضَمْرة. وقال ابن معين أيضًا فيما حكاه عنه ابن أبي خَيْثمة: ثقة مأمون قليلُ الخطأ صدوق. وقال ابن سعد: ثقة، وهو من أهل المدينة، قَدِم بغداد فلم يزل بها حتى مات، وهو صاحب الخمسمائة حديث، التي سمعها منه الناس. وقال ابن خراش: صدوق، وقال ابن المَدينيّ: ثقة، وقال الخليلي في الإِرشاد: كان ثقة، شارك مالكا في أكثر شيوخه، وكذا قال الحاكم. وذكره ابن حِبان في الثقات. روى عن أبي طُوالة وعبد الله بن دينار، وربيعَة وجَعْفر الصادق وحُميد الطويل، ومالك بن أنس، وإسرائيل بن يونس، وأبي سُهَيْل نافع بن مالك بن أبي عامر، ويزيد بن خُصَيْفة وغيرهم.

وروى عنه: محمَّد بن جَهْضم ويحيى بن يحيى النَّيْسابوريّ وأبو الربيع الزّهرانيّ، ويحيى بن أيّوب المقابِريّ وأبو مَعْمر الهُذَليّ وعلي بن حَجَر وغيرهم. مات ببغداد سنة ثمانين ومئة والزُّرقيّ في نسبه بضم الزاي وفتح الراء نسبة إلى أبي بطن من الأنصار، وهو زُريق بن عامر بن زُرَيق بن عبد حارِثة بن مالك بن غَضَب بن جُشَم بن الخَزْرج، وفي طيء أيضًا زُريق، ابن الغَوْث بن طيء جذيمة بن زُهير بن ثَعلبة بن سَلامان بن ثَقل بن عمرو بن الغَوْث ابن طيء. الثالث: نافع بن مالك بن أبي عامر الأصْبحيّ أبو سُهَيل التَّيميّ المدنيّ، حليف بني تَيْم. قال أحمد: من الثقات. وقال أبو حاتم والنّسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الواقِدِيّ: كان تؤخذ عنه القراءة بالمدينة، هَلَك في إمارة أبي العبّاس. وقال ابن خِراش: كان صَدُوقًا. روى عن: أبيه وابن عَمْر وسَهل بن سَعد وأنس وسعيد بن المُسيِّب والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وغيرهم. وروى عنه: الزُّهريّ، وهو من أقرانه، وابن أخيه مالك بن أنس ومحمد وإسماعيل ابنا جعفر بن أبي كَثير وعبد العزيز الدراوَرْديّ وآخرون. والتّيميُّ في نسبه نسبةً إلى تَيْم بن مُرّة. ومرّ الكلام عليه في الثاني من كتاب الإِيمان. ومر الكلام على الأصْبحيّ في الثاني من بدء الوحي، وعلى المَدني في العاشر من كتاب الإِيمان. الرابع: مالك بن أبي عامر الأصْبحيّ أبو أنس، ويقال: أبو محمَّد جد الإِمام مالك والد أنس، والربيع ونافع وأُويْس حليف عُثمان بن عُبيد الله أخي طلحة التَّيْميّ وذكره ابن سَعْد في الطبقه الثانية. وقال: كان ثقة وله أحاديث صالحة، وفرض له عثمان - رضي الله عنه -.

وقال النّسائي: ثقة. وذكره ابن حبّان في الثقات. روى عن: عُمر وعثمان وطلحة وعقِيل بن أبي طالب وأبي هُريرة وعائشة ورَبِيعة وكَعْب الأحْبار. فقد صَحَّ عنه، قال: شَهِدتُ عمر - رضي الله عنه - عند الجَمْرة وأصابه حَجَر فَدمّاه. وفي حديثه: فلمّا كان من قابل أُصيب عُمر. وروى عنه: أبناؤه أنس والربيع ونافع وسُليمان بن يَسار، وسالم أبو النّضْر، ومحمد بن إبراهيم التَّيميّ. والصحيح في موته ما قاله ابنه الرَّبيع: مات أبي حين اجتمع الناس على عبد الملك، يعني سنة أربع وسبعين. وذكره البُخاريّ فيمن مات ما بين السبعين إلى الثمانين. وأما كونه مات سنة اثنتي عشرة ومئة، وهو ابن سبعين أو تسعين، فغير صحيح. لأن الأول يُبْطله بثُبُوت روايته عن طَلْحة بن عُبيد الله، وقد مات طلحة سنة ست وثلاثين، فتكون سنُّه عند موت طلحة أربع سنين، فلا يمكن سماعه منه. ويُبْطل الثاني سماعه من عمر. الخامس: أبو هريرة، وقد مر في الثاني من كتاب الإِيمان. لطائف إسناده: منها أن فيه التَّحديث والعَنْعنة ورُواته كلهم مدنيون ما عدا أبا الربيع. وفيه رواية تابعي عن تابعي. ورواية الابن عن أبيه. وقد مر الكلام على الجميع في الأول والثالث من بدء الوحي، أخرجه البُخاريّ هنا. وفي الوصايا عن أبي الربيع، وفي الشهادات عن قُتيْبة، وفي الأدب عن ابن سَلَام، ومُسْلم في الإِيمان عن قُتيبة وغيره، والتِّرمذيّ والنّسائي.

الحديث السابع والعشرون

الحديث السابع والعشرون 34 - حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا، إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ». قوله: كان منافقًا خالصًا، أيْ في هذه الخصال فقط لا في غيرها، أو شديد الشبه بالمنافقين. ووصفه بالخُلُوص يؤيد قولَ من قال: إن المراد بالنفاق العَمليّ لا الإِيمانيّ، أو النفاق العُرفيّ لا الشّرْعِيّ لأن الخلوص بهذين المعنيين لا يستلزم الكفر المُلقي في الدَّرك الأسفل من النار. وقوله: "إذا عاهد غدر" أي: تَرَك الوفاء لما عاهد عليه. وقوله: "وإذا خاصم فجر" أي في خصومته، والفجور الميل عن الحق والاحتيال في رده وقد تَحَصّل من الحديثين خَمسُ خصال: الثلاثة السابقة في الأول، والغدر في المعاهدة، والفجور في الخصومة في الثاني. فهي مُتغَايرة باعتبار تَغَايُر الأوصاف واللوازم ووجه الحصر فيها أن إظهار خلاف ما في الباطن إمّا في الماليات وهو ما إذا ائتمن وإما في غيرها. وهو إما في حالة الكُدورة، فهو إذا خاصم، وإما في حالة الصَّفاء، فهو إما مُؤكد باليمين، فهو إذا عاهد أم لا، فهو إما بالنّظر إلى المستقبل، فهو إذا وعد، وإما بالنظر إلى الحال، فهو إذا حدّث. لكنّ هذه الخمسة في الحقيقة ترجع إلى الثلاث لأنّ الغَدْر في العهد مُنْطوٍ تحت الخيانة في الأمانة. والفُجُور في الخصومة داخلٌ تحت الكذب في الحديث.

رجاله ستة

رجاله ستة: الأول: قَبِيصةُ، مكبّرًا، ابن عُقْبة بن محمَّد بن سُفيان بن عُقبة بن رَبيعة بن جُنْدب بن رِئاب بن حَبيب بن سُواءة بن عامر بن صَعْصعة السّوائي، أبو عامر الكُوفي. قال أبو زرعة الدمشقيّ عن أحمد بن أبي الحوّاري، قلت للفريابيّ: رأيت قَبِيصة عند سفيان؟ قال: نعم رأيته صغيرًا. قال أبو زرعة: فذكرته لابن نُمير فقال: لو حدثنا قَبيصة عن النّخعيّ لقَبِلْنا منه. وقال ابن أبي حاتم: سُئل أبو زرعة عن قَبيصة وأبي نُعيم، فقال: كان قَبيصة أفضل الرجلين، وأبو نعيم أتقن الرجلين. وقال أيضًا: سألتُ أبي عن قبيصة وأبي حُذَيْفة، فقال: قَبيصةُ أحلى عندي، وهو صدوق ولم أرَ من المُحدّثين من يحفظ يأتي بالحديث على لفظ واحد لا يُغيِّره، سوى قَبيصة وأبي نُعيم في حديث الثَّوريّ ويحيى الحمّاني في حديث شَريك وعلي بن الجَعْد في حديثه. وقال أبو داود: وكان قَبيصةُ وأبو عامر وأبو حُذيفة لا يحفظون ثم حفظوا بعد. وقال إسحاق بن سَيّار: ما رأيتُ أحفظ منه من الشيوخ. وقال ابن خِراش: صدوق وقال صالح بن محمَّد: كان رجلا تكلموا في سماعه من سفيان، وقال الفَضْل ابن سَهل الأعرج: كان قَبيصة يُحدِّث بحديث الثَّوريّ على الولاء درسًا درسًا حِفظًا. وقال النّسائي: ليس به بأس، وذكره ابن حِبان في الثقات، وقال ابن سعد: كان ثقة صَدوقًا كثير الحديث، وقال أحمد بن سَلَمة: كان هَنّاد إذا ذكره قال: الرجُلُ الصالح. وقال هارون الحَمّال: سمعتُ قَبيصة يقول: جالست الثَّوريّ وأنا ابن ست عشرة سنة ثلاث سنين. وقال حَنْبل: قال أبو عبد الله: كان يحيى بن آدم عندنا أصغر من سمع من سُفيان. قال: وقال يحيى: قَبيصة أصْغر مني بسنتين. قلت: فما قِصّة قَبيصة في سُفيان؟ قال أبو عبد الله: كان كثير الغَلط. فقلت: فغير سُفيان؟ قال:

كان قبيصة رجلًا صالحا ثقة لا بأس به، وأي شيء لم يَكُن عنده يذكر أنه كثير الحديث. وقال أبو طالب: ذكر قَبيصةُ ابن مهدي وأبا نعيم، فكان أحمد لا يعبأ به. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: قبيصة أثبت منه جدًّا. يعني من أبي حُذيفة. قال: وقد كتبت عنهما جميعًا، وقال ابن أبي خَيْثمة عن ابن مَعين: قَبيصة ثقةٌ في كل شيء إلَّا في حديث سُفيان، فإنه سمع منه وهو صغير. وقال يعقوب بن سُفيان: قال يحيى بن يَعْمُر: قبيصة أكبر من يحيى بن آدم بشهرين: قال: وسمعت قبيصة يقول: شهدت عند شَريك فامتحنني في شهادتي، فذكرتُ ذلك لسُفيان فأنكر على شَريك، قال: وصليتُ بسُفيان الفريضة. روى عن الثَّوريّ وشُعبة ومَطر بن خَليفة وإسرائيل بن يونس وحَمّاد ابن سَلَمة وورقاء بن عُمر وأبي رَجَاء ويحيى بن سَلَمة بن كُهَيْل وغيرهم. وروى عنه: البُخاريّ، وروى الباقون له بواسطة ابنه عُقبة. وروى عنه أبو بكر بن أبي شَيْبة وهنّاد بن السّريّ ومحمود بن غَيْلان ومحمد بن يونس النّسائي وأحمد بن حَنْبل، وحَنبل بن إسحاق وإسحاق بن سَيّار النّصيبِيّ وغيرهم. مات سنة خمس عشرة ومئتين، وقيل سنة ثلاث عشرة. وليس في الستة قبيصة بن عُقبة سواه. وفيهم قبيصة سواه تسعة. والسُّوائي في نسبه بضم السين وفتح الواو مخففة، نسبة إلى جده سُواءة بن عامر المارّ. قال في القاموس: سُواءَة كخُرافة اسم. قال شارحه: بنو سُواءة بن عامر بن صعصعة بطن من هوازن، وله وَلَدان: حَبيب وخُرثان، قلت: وحبيب هو جد قَبيصة كما مر، ومنهم أبو جُحَيْفة وَهْبُ بن عبد الله الملقب بالخير السُّوائيّ - رضي الله عنه -. الثاني: سُفيان بن سَعيد بن مَسروق الثَّورِيّ أبو عبد الله الكوفي أحد

أصحاب المذاهب الستة المتبوعة، المتفق على جلالته وقدره، وكثرة علومه وزهده، وصلابته في دينه، وتوثيقه وأمانته. قال شُعْبة وابن عُيينة وأبو عاصم وابن مَعين وغير واحد من العلماء: سفيان أمير المؤمنين في الحديث. وقال ابن المبارك: كتبتُ عن ألف ومئة شيخ، ما كتبتُ عن أفضل من سُفيان، فقال له رجل: يا أبا عبد الله، رأيت سعيد بن جُبير وغيره يقول هذا، قال هو: ما أقول: ما رأيت أفضل من سُفيان. وقال وَكِيع عن سَعيد: سُفيان أحفظ منّي. وقال ابن مَهْديّ: كان وَهْبٌ يقدِّم سفيان في الحفظ على مالك. وقال يحيى القطّان: ليس أحدٌ أحَبّ إليّ من شُعبة، ولا يَعدِله أحدٌ عندي، وإذا خالفه سُفيان أخذتُ بقول سُفيان. وقال الدُّورِيّ: رأيتُ يحيى بن مَعين لا يقدم على سفيان في زمانه أحدا في الفقه والحديث والزهد وكلِّ شيء. وقال أبو داود: ليس يختلف سفيان وشعبة في شيء إلا يظفر سفيان وقال أبو داود أيضًا: بَلَغني عن ابن مَعين قال: ما خالف أحدٌ سُفيان في شيء إلّا كان القولُ قولَ سُفيان. وقال العجليّ: أحسن أسناد الكوفة سُفيان عن مَنصور عن إبراهيم عن عَلقمة عن عبد الله. وقال العجليّ أيضًا: كان لا يسمع شيئًا إلا حفظه. وقال الخطيب: كان إماما من أئمة المسلمين وعَلَمًا من أعلام الدين، مُجْمَعًا على إِمامته بحيث يُستغنى عن تزكيته، مع الاتقان والحفظ والمعرفة والضبط والوَرَع والزهد. وكان يقول: إذا رأيتَ القارىء مُحبَبًّا إلى جيرانه، فاعلم أنه مداهِنٌ. وقال عليّ بن الفُضيل: رأيتُ سُفيان ساجدًا حول البيت فقطعتُ سبعة أشواط قبل أن يرفع رأسه. وقال فيه ابن عُيَينة: ما رأيتُ رجلًا أعلَمَ بالحلال والحرام من سفيان الثَّوري. وكان يقال: عمر بن الخطاب في زمنه رأسُ الناس، وبعده عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -، وبعده الشّعبيّ، وبعده سُفيان الثَّوريّ.

وقال أبو صالح لشُعَيْب بن حَرب المدائِنِيّ، وكان أحد السادة الأئمة الأكابر في الحفظ والدين. إني لأحْسب أنه يُجاء بسُفيان الثَّوريّ يوم القيامة حجةً من الله تعالى على خلقه، يقال لهم: لم تدركوا نَبيَّكم عليه الصلاة والسلام، ولقد أدركتم سُفيان الثّوريّ. ألا اقْتديتُم به؟ وعن قَبيصة قال: رأيتُ سُفيان الثَّوريّ في المنام فقلت له: ما فعل الله بك؟ فقال: نظرت إلى ربي عِيانًا وقال لي: هَنيئًا رضائي عنكَ يا ابنَ سعيد لقد كنتَ قوَّاما إذ الليلُ قد دَجى ... بِعبْرة مُشْتاق وقَلْب عَمِيد فَدُونَكَ فاخْتر أيَّ قَصْرٍ تُريدهُ ... وَزُرني فإني عنك غيرُ بعيدِ وقال ابن المدينيّ: لا أعلم سفيان صَحَّف في شيء قط إلا في اسم امرأة أبي عُبيد، كان يقول حَفِينة، يعني بالحاء المهملة، والصواب جَفينة بالجيم. وقال عبد الله بن داود: ما رأيت أفقه من سُفيان وقال أبو قَطَن: قال لي شُعبة: إن سُفيان سادَ الناس بالوَرَع والعِلم. وقال عبد الرزاق: بعثَ أبو جعفر الخَشّابين إلى مكة فقال: إنْ رأيتم سفيان فاصلبوه، قال: فجاء النجّارون ونَصبوا الخشب، ونودي لسفيان وإذا رأسُه في حِجْر الفُضيل بن عِياض، ورجلاه في حِجر ابن عُيينة. فقالوا: يا أبا عبد الله، اتَّق الله، ولا تُشْمت بنا الأعداء. قال: فتقدم إلى الأستار فأخذها، ثم قال: برئتْ منه إن دخلها أبو جعفر قال: فمات قبل أن يدخل مكة. وقال ابن سعد: كان ثقة مأمونًا، وكان عابدًا ثبتًا. وقال النَّسائي: هو أجَلّ من أن يقال فيه ثقة. وهو أحد الأئمة الذين أرجو أن يكون ممن جعله الله إماما للمتقين. وقال ابن أبي ذِيب: ما رأيت أشبه بالتابعين من سُفيان. وقال زائِدة: كان أعلم الناس في أنفسنا. وقال ابن حِبان: كان من سادات الناس فقهًا وورعًا وإتقانًا. وقال الوليد بن مُسْلم: رأيته بمكة ولما يَخُطّ وَجهه بعد.

وقال أبو حاتم وأبو زُرعة وابن مَعين: هو أحفظ من شُعبة. وقال ابن المَدينيّ: قلتُ ليحيى بن سعيد: أيُّهما أحبُّ إليك؟ رأيُ سفيان أو رأي مالك؟ قال: سفيان، لا شك. فحق هذا سفيان فوق مالك في كل شيء. وقال صالح بن محمَّد: سفيان ليس يَقدُمُه أحد عندي في الدنيا، وهو أحفظ وأكثر حديثًا من شُعبة، يبلغ حديثه ثلاثين ألفا، وقال مالك: كانت العراق تَجيشُ علينا بالدّراهم والثّياب، ثم صارت تَجيش علينا بالعلم مُنذ جاء سُفيان. وقال أبو إسحاق الفَزّاريّ: لو خُيّرتُ لهذه الأُمّة لما اخترت لها إلا سفيان. وقال ابن معين: مُرسَلاتُه شِبه الريح، وكذا قال أبو داود، قال: ولو كان عنده شيء لصاح به. وقال ابن المبارك: حدث سفيان بحديثٍ فجئْتُه وهو يُدلِّسه، فلما رآني استحيى وقال: نرويه عنك. وروى المَسْعوديّ عن القَعْقاع بن حَكيم أنه قال: كنت عند المَهديّ وأتى سُفيان الثَّوريّ، فلما دخل عليه سلّم تسليم العامة، ولم يسلِّم بالخلافة، والرَّبيع قائم على رأسه، متكىءٌ على سيفه يرقب أمره، فأقبل عليه المَهْديّ بوجه طَلْق، وقال له: يا سفيان تَفِرُّ منا ها هنا وها هنا، وتظن أننا إن أردناك بسوء لم نقدر عليك، فقد قدرنا عليك الآن، أفما تخشى أن نحكم فيك بهوانا؟ فقال له سفيان: إن تحكم فيّ يحكم فيك ملكٌ قادر يفرّق بين الحق والباطل. فقال له الربيع: يا أمير المؤمنين، ألهذا الجاهل أنْ يستقبلك بمثل هذا؟ ائذنْ لي أنا أضرب عنقه، فقال له المَهديّ: ويلك! رهل يريد هذا وأمثاله إلا أن نقتلهم فنشقى بسعادتهم؟ اكتبوا عهده على قضاء الكوفة على أن لا يعترض عليه أحد في حكم. فكُتب عهدُه ودُفع إليه فأخذه وخرج، ورمى به في دَجْلة، وهرب فطُلِب في كل بلد، فلم يوجد. ولمّا امتنع من قضاء الكوفة وتولاه شَريك بن عبد الله النَّخعيّ قال الشاعر:

تَحَرّز سُفيان وفَرّ بدينه ... وأمسى شَريكٌ مَرصَدًا للدّراهم قال أحمد: لم يسمع من سَلَمة بن كُهيل حديث السّائبة، أي: العبْد المُعْتق، سائبَةٌ ولا يكون ولاؤُهُ لِمُعتقِه، ولا وارثَ له، يضع ماله حيثُ يشاء. ولم يسمع من خالد بن سَلَمة، إلا حديثًا واحدًا، ولا من ابن عَوْن إلا حديثًا واحدًا. وقال البَغَويّ: لم يسمع من يزيد الرَّقَّاشي. روى عن: أبيه وأبي إسحاق الشّيباني وأبي إسحاق السّبيعيّ، وعبد الملك بن عُمَيْر والأسود بن قَيس، والأعمش ومنصور وصالح بن صالح ابن حَيّ، ومُحارب بن دِثار، ومالك الأشْجعيّ، وزياد بن عَلاقة، وعاصم الأحْول، وحُميد الطويل، وزَيْد بن أسْلم، وعَمرو بن دينار، وخلقٌ كثير. وروى عنه: جَعْفرُ بن بَرْقان، وخُصيف بن عبد الرحمن وابن إسحاق، وغيرهم من شيوخه، وشُعبة وزائِدَة ومالك والأوْزاعيّ وزُهير بن معاوية ومِسْعر وغيرهم من أقرانه، وعبد الرحمن بن مَهْدي، ويحيى بن سعيد القطّان وابن المُبارك، ووكِيع ويزيد بن زُرَيع، وخلق كثير. قيل: روى عنه عشرون ألفًا. وآخر من حدث عنه من الثقات علي بن الجَعْد. مات سنة ستين ومئة بالبَصْرة متواريًا من سلطانها. وقيل: سنة إحدى وستين وقيل اثنتين وستين، ودفن عِشاء، ولم يُعَقِّب. والثَّوريّ في نسبه نسبة إلى ثَوْر بن عَبد مناة على الصحيح، وقيل: نسبة إلى ثَوْر هَمْدان ومر الكلام على ثَوْر في الثالث من كتاب الإِيمان. وليس في الستة سفيان بن سعيد سواه وأما سفيان فكثير نحو ثلاثة وعشرين. الثالث: سليمان بن مَهْران، وقد مَرّ في الخامس والعشرين من كتاب الإِيمان.

الرابع: عبد الله بن مُرّة، بضم الميم، الهَمْدانيّ الخارِفيّ الكوفيّ. قال ابن معين وأبو زرعة والنّسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن سعد: كان ثقة وله أحاديث صالحةٌ وقال العجليّ: تابعي ثقة. روى عن: ابن عُمَر والبَرَاء وأبي الأحْوص ومَسروق وغيرهم. وروى عنه الأعْمش ومنصور. مات في خلافة عمر بن عبد العزيز. وقال عمرو بن عليّ: مات سنة مئة. وفي الستة عبد الله بن مُرّة الزُّرقيّ الأنصاري، روى عن أبي سعيد الأنصاري. وفيهم عبد الله بن أبي مُرّة، شهد فتح مصر. والخارِفيّ في نسبه نسبة إلى خارِف، وهو مالك بن عبد الله بن كثير ابن مالك بن جُشَم خَيْواز بن نوْف بن هَمْدان. وفي تاج العروس: خارف ويام قبيلتان، وقد نسب إليهما المِخْلاف باليمن. وقد مرّ الكلام على الهَمداني في الخامس من بدء الوحي. الخامس: مَسْروق بن الأجْدع بن مالك بن أمية بن عبد الله بن مُرّ ابن سَلامان بن مَعْمر بن الحارث بن سَعد بن عبد الله بن وَداعة الهَمْدانيّ، الوَدَاعيّ الكوفيّ العابد، أبو عائشة الفقيه. قال أبو داود: كان عمرو بن مَعدِ يكَرِب خالَه، وكان أبوه أفرس فارس باليمن. وقال الأعْمش عن مسروق: قال لي عُمر: ما اسمك؟ قلت: مسروق بن الأجْدع، قال: الأجدع شيطان. أنت مسروق بن عبد الرحمن. وقال مالك بن مغول: سمعتُ أبا السّفر غير مرة يقول: ما ولدت هَمْدانية مثل مسروق. وقال الشّعبيّ: ما رأيت أطلب للعلم منه. وذكره منصور عن إبراهيم في أصحاب ابن مسعود الذين كانوا يعلمون الناس السنة. وقال الشعبيّ أيضًا: كان مسروق أعلم بالفتوى من شُرَيح، وكان شُريح أعلم بالقضاء.

وقال أبو إسحاق: حجّ مسروق فلم ينم إلا ساجدًا على وجهه. وقال أنس ابن سيرين عن امرأة مسروق: كان يصلي حتى تورّم قدماه. وقال ابن عُيينة: لا أُفضل عليه أحدًا بعد علقمة. وقال ابن المدينِي: ما أُقدّم على مسروق من أصحاب عبد الله أحدًا. صلى خلف أبي بكر، ولقي عمر وعليًا، ولم يروِ عن عثمان شيئًا. وقال إسحاق بن منصور: لا يُسأل عن مثله. وقال عثمان الدّارميّ: قلت لابن مَعين: مسروق عن عائشة أحب إليك أو عُروة؟ فلم يُخيِّر. وقال العجليّ: كوفيٌّ تابعيّ ثقة. وكان أحد أصحاب عبد الله الذين يقرأون ويفتون وقال ابن سعد: كان ثقة. وله أحاديث صالحة وذكره ابن حبان في الثقات. وقال: كان من عُبّاد أهل الكوفة ولّاه زياد على السِّلْسلة، ومات بها. وقال أبو الضُّحى: سُئل مسروق عن بيت شعر فقال: إني أكره أن أرى في صحيفتي شعرًا. وقال الكلبيّ: شُلّت يد مسروق يوم القادسية، وأصابته أمَة. وقال أبو الضُّحى عن مسروق: كان يقول ما أُحب أنها -يعني الأمَة- ليست لي، لعلها لو لم تكن لي كنت في بعض هذه الفتن. قال وكيع: لم يتخلف مسروق عن حروب عَلي. روى عن: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، ومُعاذ بن جَبَل، وابن مسعود، وخَبّاب بن الأرَتّ، وابن عُمر، وابن عَمرو، وعائشة، وأم سلمة، وجماعة. وروى عنه: ابن أخيه محمَّد بن المُنْتشر بن الأجْدع، وأبو وائل وأبو الضحى، وأبو إسحاق السّبيعيّ، والشّعبي، وإبراهيم النّخعيّ، وعبد الله بن مرة الخارِفيّ ومَكحُول، وامرأته قُمير بنت عَمرو، وغيرهم. مات سنة اثنتين أو ثلاث وستين، وله ثلاث وستون سنة. وهو من المُخضرمين. وقد مر الكلام عليهم في الخامس والعشرين من كتاب الإِيمان هذا، وفي الستة مسروق سواه اثنان: ابن أوس التَّميمي الحنْظَليّ

باب قيام ليلة القدر من الإيمان

اليَرْبُوعيّ، غَزَا في خلافة عمر، وروى عن أبي موسى الأشْعري. والثاني ابن المَرْزُبان الكِنديّ، أبو سعيد بن أبي النعمان، الكوفي. والوَدَاعيّ في نسبه نسبة إلى جدّه ودَاعَة، أبو قبيلة من هَمْدان، وهو وداعة بن عمرو بن عامر بن ناسِج بن رافع بن مالك بن ذي بارق بن مالك بن جُشَم بن حاشِد بن جُشَم بن حَزّان بن نَوْف بن هَمدان. وقيل: اسمه وادِعة، بتقديم الألف كما في جمهرة النسب لابن الكلبي، قال في تاج العروس: وهو المشهور عند أهل النسب والمعروف عندنا. السادس: عبد الله بن عَمرو بن العاص، وقد مر في الثالث من كتاب الإِيمان هذا. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة، وفيه رواية ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض. ورواته كلهم كوفيون إلا الصحابيّ، وقد دخلها أيضًا. أخرجه البخاريّ هنا وفي الجِزْية عن قُتيبة ومُسلم في الإِيمان عن أبي بكر وغيره، وأخرجه بقية الجماعة. ثم قال البخاري تابعه شعبة عن الأعمش. وقد أوصل البخاريّ هذه المتابعة في كتاب المظالم، وقد مر الكلام على المتابعة في الرابع من بَدء الوحي، ومرّ شعبة في الثالث من كتاب الإِيمان، ومرّ الأعمش في الخامس والعشرين منه ثم قال المصنف: بابٌ قيام ليلة القدر من الإِيمان باب بالتنوين لما بين علامات النفاق وقبحها رجع إلى ذكر علامات الإِيمان وحسنها، لأن الكلام على متعلقات الإِيمان هو المقصود بالأصالة، وإنما يذكر متعلقات غيره استطرادًا، ثم رجع فذكر أنَّ قيام ليلة القدر، وصيام رمضان، وقيام رمضان من الإِيمان.

الحديث الثامن والعشرون

الحديث الثامن والعشرون 35 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ يَقُمْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ». قوله: يقم ليلة القدر، اختُلف في المراد بالقَدر الذي أُضيفت إليه الليلة. فقيل: المراد به التعظيم. كقوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 91] والمعنى أنها ذات قَدر لنزول القرآن فيها، أو لما يقع فيها من تنزل الملائكة، أو لما ينزل فيها من البركة والرحمة والمغفرة، أو أن الذي يحييها يصير ذا قدر. وقيل: القدر هنا التّضْييق، كقوله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق:7] ومعنى التضييق فيها إخفاؤها عن العِلم بتعيينها، أو لأن الأرض تضيق فيها عن الملائكة، وقيل: القدر هنا بمعنى القَدَر بفتح الدال، الذي هو مؤاخي القضاء. والمعنى أنه يُقدّر فيها أحكام تلك السنة، لقوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4] وبه صَدَّر النوويُّ كلامه. ورواه عبد الرزاق وغيره من المفسرين بأسانيد صحيحة، عن مُجاهد وعِكرمَة وقَتادة وغيرهم. وقال التّوْربُشْتيّ: إنما جاء القدْر بسكون الدال. وإن كان الشائع في القدَر الذي هو مؤاخي القضاء فتح الدال، ليُعلم أنه لم يرد به ذلك، وإنما أُريد به تفصيل ما جرى به القضاء وإظهاره وتحديده في تلك السنة، لتحصيل ما يُلقى إليهم فيها مُقدّرًا بمقدار. وقوله: "إيمانا" أي: تصديقًا بأنه حق وطاعة، وقوله: "احتسابا" أي لوجهه تعالى. طلبا لثوابه لا للرياء ونحوه.

وقال الخطّابي: احتسابا: أي عزيمة، وهو أن يفعله على معنى الرغبة في ثوابه، طيبة نفسُه بذلك، غير مستثقل له. ونُصبا على المفعول له. وجَوّز أن يكونا على الحال مصدرًا بمعنى الوصف، أي مؤمنًا محتسِبًا، وقوله: "غُفر له" ما تقدم من ذنبه يعني غير الحقوق الآدمية، لأن الإجماع قائم على أنها لا تسقط إلا برضاهم. ولفظة من إما متعلقة بغفر أي غفر من ذنبه ما تقدم، فهو منصوب المحل، أو هي مبينة لما تقدم، وهو مفعول لما لم يُسَمّ فاعله فيكون مرفوع المَحلّ، ولفظة ذنبه اسم جنس مضاف، فيتناول جميع الذنوب الصغائر والكبائر وبه جزم ابن المُنذر. وقال النّوويّ: المعروف أنه يختص بالصغائر، وبه جَزم إمام الحرمين، وعزاه عِياض لأهل السُّنة. قال بعضهم: ويجوز أن يخفف من الكبائر إذا لم يصادف صغيرة. ومن ليس له صغائر ولا كبائر يُزاد في حَسناته بنظير ذلك. وهذا الحديث نَظيره ما في البُخاريّ عن عثمان بن عفان في صفة الوُضوء إلى أن قال: من توضأ نَحْو وُضوئي هذا، ثم صلّى ركعتين لا يُحدّث فيهما نفسه، غُفر له ما تقدم من ذنبه، ونظيره أيضًا ما في البخاريّ في مواقيت الصلاة عن أبي هريرة، ففيه "فذلك مِثْل الصلوات الخمس يمحو الله به الخطايا" فحمل العلماء في المشهور عنهم هذه الأحاديث على الصغائر دون الكبائر لوجود التَّقييد بالصّغائر فيما أخرجه مسلم من حديث العلاء عن أبيه عن أبي هُريرة مرفوعًا: "الصلوات الخمس كفّارةٌ لما بينها ما اجْتُنِبت الكبائر". فحملوا على هذا المُقيّد ما أُطلق في غيره. وقد قال ابن بُزَيْزَة: يتوجه على حديث العلاء إشكال يصعب التخلص منه، وذلك أن الصغائر مكفَّرَةٌ باجتناب الكبائر بنص القرآن الكريم، فما الذي تكفره الصلوات الخمس؟ وأجاب البَلقَيْنيّ بأنَّ السؤال غير وارد، لأن مراد الآية إن تجتنبوا في جميع العمر، ومعناه المُوافاة على هذه الحالة

من وقت الإِيمان أو التكليف إلى الموت، والذي في الحديث أن الصلوات الخمس تكفر ما بينها، أي في يومها إذا اجْتُنبت الكبائر في ذلك اليوم، فلا تَعارُض بين الآية والحديث. قلت: في هذا الجواب نظر. لأنه إن أراد أن الآية لا تصدُق إلا على من اجتنب في جميع عمره، ومن عداه لا ينتفع بذلك الاجتناب سواء الآتي بالخمس وغيره، فهذا تضْييق بعيد يحتاج إلى نصّ، والحديث الصحيح يكذبه. وإن كان مراده أنها متناولة لجميع العمر، فاليوم داخل فيه تكفر فيه الصغائر باجتناب الكبائر. ثم قال: وعلى تقدير ورود السؤال، فالتخلص منه بأنه لا يتم اجتناب الكبائر إلا بفعل الصلوات الخمس، فمن لم يفعلها لم يعد مُجتنبًا للكبائر، لأن تركها من الكبائر، فوقف التكفير على فعلها. وقد فصل البَلْقَينيّ أحوال الإِنسان -يعني المؤدي للخمس- بالنسبة إلى ما يصدر منه من صغيرة وكبيرة، فقال: تنحصر في خمسة: أحدها أن لا يصدر منه شيء البتة، فهذا يُعاوض برفع الدرجات. ثانيها: يأتي بصغائر بلا إصرار، فهذا تكفر عنه جَزْما. ثالثها: مثله لكن مع الإِصرار فلا تُكفّر إذا قلنا إن الإِصرار على الصغائر كبيرة. رابعها: أن يأتي بكبيرة واحدة وصغائر. خامسها: أن يأتي بكبائر وصغائر وهذا فيه نظر يحتمل إذا لم يَجْتنب الكبائر أن لا تكفّر الكبائر بل تُكفّر الصغائر ويحتمل أن لا تكفر شيئًا أصلًا. والثاني أرجح، لأن مفهوم المخالفة إذا لم تتعين جهته لا يُعمل به، فهنا لا تكفِّر شيئًا إما لاختلاط الكبائر والصغائر، أو لِتمحُّض الكبائر، أو تكفر الصغائر فلم تتعين جهة مفهوم المخالفة لدورانه بين الفصلين، فلا يُعمل به، ويؤيّده أن مقتضى ما اجْتُنبت الكبائر أنْ لا كبائر فيُصانُ الحديث عنه. وفي حديث الباب زيادة وما تأخّر بعد قوله: "ما تقدم من ذنبه"

أخرج تلك الزيادة أحمد والنّسائي وأبو بكر بن المُقرىء في فوائده، وأبو عبد الله الجُرْجانيّ في أماليه عن ابن وهب عن مالك، فما رُوي عن ابن عبد البرّ من استنكارها غير مُعوّل عليه. وقد استشْكلت هذه الزيادة من حيث أن المغفرة تستدعي سَبْق شيء يغفر، والمتأخر من الذنوب لم يأت، فكيف يغفر؟ والجواب أنه قيل: إنه كناية عن حفظهم من الكبائر، فلا تقع منهم كبيرة بعد ذلك، وقيل: إن معناه أن ذنوبهم تقع مغفورة، وبهذا أجاب جماعةٌ منهم الماوَرْديّ في الكلام على حديث صيام عَرَفة، وأنه يُكفّر سنتين سنةً ماضية وسنة آتية. وقد أخرج البخاري هذا الحديث عن أبي هريرة وحَديثَيْ قيام رمضان وصيامه من الإِيمان الآتيين قريبًا. وعبر في حديث ليلة القدر بالمضارع في الشرط وبالماضي في جوابه بخلاف الآخرين فبالماضي فيهما قال الكَرَمانيّ: النكتة في ذلك هي أن قيام رمضان محقق الوقوع، وكذا صيامه، بخلاف قيام ليلة القدر، فإنه غير مُتيَقَّن، فلهذا ذكره بلفظ المستقبل. وقال غيره: استعمل لفظ الماضي في الجزاء إشارة إلى تحقق وقوعه، فهو نظير قوله {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1]. وفي استعمال الشرط مضارعًا والجزاء ماضيًا نزاعٌ بين النحاة، فمنعه الأكثر، وأجازه آخرون بقلّة، واستَدَلّوا بقوله تعالى: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ} [الشعراء: 4] لأن قوله فظلت بلفظ الماضي، وهو تابع للجواب وتابع الجواب جواب، واستدلوا أيضًا بهذا الحديث، وفي الاستدلال به نظرٌ كما قال في الفَتح، لأن الظن عنده أنه من تصرُّف الرواة، لأن الروايات فيه مشهورة عن أبي هريرة بلفظ المضارع في الشرط والجزاء. ورواه النَّسائي عن أبي اليَمان شيخ البُخاريّ فيه، فلم يُغاير بينهما فيه، بل قال: "من يقم ليلة القدر يغفر له". ورواه أبو نعيم في المُسْتخرج عن أبي اليمان، ولفظه زائد على الروايتين، فقال: "لا يقوم أحدكم ليلة القدر فيوافقها إيمانًا واحتسابًا إلا غُفر له ما تقدم من ذنبه".

رجاله خمسة

وقوله فيوافقها زيادة بيان، وإلا فالجزاء مُترَتِّب على قيام ليلة القدر. ولا يصدق قيامها إلا على من وافقها. والحَصْر المُستفاد من النَّفْي والإثبات مستفاد من الشرط والجزاء. فوضح أن ذلك من تَصرُّف الرواة بالمعنى، لأن مُخرِّج الحديث واحد. وقوله يَقُم بفتح الياء وضم القاف، من قام يقوم وقع هنا متعديا. ويدل له حديث الشيخين مرفوعًا "مَن قامه إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدّم من ذنبه" وليلة نصب مفعول به لا فيه، وفي الحديث دلالة على جعل الأعمال إيمانًا لأنه جعل القيام إيمانًا. رجاله خمسة: الأول: أبو اليمان والثاني شُعيب بن أبي حمزة، وقد مرّا في السابع من بدء الوحي ومرّ أبو الزّناد والأعرج في السابع من كتاب الإِيمان ومرّ أبو هريرة في الثاني منه. لطائف إسناده: منها أن فيه التَّحديث والعنعنة، ورجاله ما بين حُمصيّ ومَدنيّ، أخرجه البخاريّ هنا، وفي الصيام مطولًا. وأخرجه مسلم بغير هذا اللفظ، وأبو داود والتِّرمذيّ والنّسائي والموطأ بلفظ آخر. ثم قال المصنف: باب الجهاد من الإِيمان أي شُعبة من شُعبه. وباب بالتنوين. أورد هذا الباب بين قيام ليلة القدر وبين قيام رمضان وصيامه. فأما مناسبة إيراده معها في الجملة فواضح لاشتراكها في كونها من خصال الإِيمان، وأما إيراده بين هذين البابين مع أن تعلُّق أحدهما بالآخر ظاهر، فلِنُكتةٍ، وهي أن التماس ليلة القدر يستدعي محافظة زائدة، ومجاهدة تامة، ومع ذلك، فقد يوافقها أو لا، وكذلك المجاهد يلتمس الشهادة، ويقصد إعلاء كلمة الله تعالى، وقد

يحصل ذلك أو لا يحصل، فتناسبا في أن كلّا منهما مجاهدة، وفي أن كلّا منهما قد يحصل المقصود الأصلي أو لا. فالقائم لالتماس ليلة القدر مأجور فإنْ وافقها كان أعظم أجرًا، والمجاهد لالتماس الشهادة مأجور، فإن وافقها كان أعظم، فلهذا ناسب أن يُعقّب المؤلف الباب السابق بباب فضل الجهاد استطرادًا. والجهاد، بكسر الجيم، لغة: المَشقَّة. يقال: جَهِدت جهادًا: بلغْتُ المشقة. وشرعًا: بذل الجَهْد في قتال الكفار، ويطلق أيضًا على مجاهدة النفس والشيطان والفُسّاق. فأمّا مُجاهدة النفس فعلى تعلُّم أُمور الدين، ثم على العمل بها، ثم على تعليمها. وأما مجاهدة الشيطان فعلى دفع ما يأتي به من الشُّبهات، وما يُزَيِّنه من الشّهوات. وأما مجاهدة الكفار فتقع باليد والمال واللسان والقلب، وأما مجاهدة الفاسق فباليد ثم اللسان ثم القلب.

الحديث التاسع والعشرون

الحديث التاسع والعشرون 36 - حَدَّثَنَا حَرَمِيُّ بْنُ حَفْصٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ: حَدَّثَنَا عُمَارَةُ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ بْنُ عَمْرِو قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «انْتَدَبَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ لاَ يُخْرِجُهُ إِلَّا إِيمَانٌ بِي وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي أَنْ أُرْجِعَهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ أَوْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ وَلَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي مَا قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيَّةٍ وَلَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ». قوله انتدب الله، بالنون، أي: سارع في ثوابه وحسن جزائه. وقيل: بمعنى أجاب إلى المراد. وفي القاموس: نَدَبه إلى الأمر: دعاه وحَثَّه. وفي رواية ابن عساكر: ائتدب، بياء تحتانية مهموزة بدل النون، من المأدُبة، وهو تصحيف. وقد وجهوه بتكلُّّف، لكن إطباق الرواة على خلافه مع اتحاد المُخرِّج كاف في تخطئته. ويأتي للمؤلف في الجهاد رواية "تكفّل الله" ورواية "توكَّل الله" وفي رواية لمسلم "تضمن الله" قال في الفتح: وقوله "تضمَّن الله" و"تكفل الله" و"انتدب الله" بمعنى واحد. ومُحصِّله تحقيق الوعد المذكور في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111] وذلك التحقيق على وجه الفضل منه تعالى. وقد عبّر - صلى الله عليه وسلم - عن الله سبحانه وتعالى بتفضيله بالثواب بلفظ الضّمان ونحوه، مما جرت به عادة المخاطبين فيما تطمئن به نفوسهم. وقوله لا يخرجه إلا إيمان بي بالرفع فاعل يخرج. والاستثناء مُفرغ. وفي قوله بي عدول من ضمير الغيبية إلى ضمير المتكلم، فهو الْتفَاتٌ. وقال ابن

مالك: الأصل إيمان به، ولكنه على تقدير اسم فاعل من القول منصوبٍ على الحال، أي: انتدب الله قائلا: لا يخرجه إلا إيمان بي، ولا يخرجه مقول القول، لأن صاحب الحال على هذا التقدير هو الله تعالى، والاكتفاء بالمقول سائغ شائع، سواء كان حالًا أو غير حال. فمن شواهد الحال قوله تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ} [غافر: 7] أي: قائلين ربنا. وقوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} [البقرة: 127] أي: قائلين ربنا. وقوله تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} [الرعد: 23] أي: قائلين. فاعتراض ابن المُرحّل على ابن مالك بأن حذف الحال لا يجوز، ساقطٌ. وقد جاء من غير التفات في رواية عند المُصَنِّف في الجهاد والخمس. بلفظ "لا يُخْرجه من بيته إلا جهاد في سبيله وتصديق كلمته". وأخرجه الدّارميّ بلفظ "لا يخرجه إلا الجهاد في سبيل الله وتصديق كلماته". وأخرجه أحمد والنّسائي عن ابن عمر مُصرِّحًا بأنه من الأحاديث الإِلهية، ولفظه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيما يَحْكي عن ربه "أيُّما عَبدٍ من عِبادي خَرَج مُجاهدًا في سبيلي ابتغاء مَرْضاتي" الحديث. وفي رواية لمسلم والإِسماعيليّ "إلا إيمانًا" بالنصب. قال النّووي: هو مفعول له وتقديره لا يخرجه المُخرج إلا الإِيمان والتصديق. قوله: "وتصديقٌ برسلي" مرفوعٌ عطف على إيمان. وذكر الكَرَمانيّ "أو تصديق" بلفظ أو، واستشكله لأنه لا بد من الأمرين: الإِيمان بالله، والتصديق برسله. وأجاب بما معناه أن أو بمعنى الواو، وأن الإِيمان بالله مُستلزم لتصديق رُسُله وتصديق رسله مستلزم للإِيمان بالله. وتعقَّبه ابن حَجَر بأنه لم يثبت في شيء من الروايات بلفظ "أو" فلا يحتاج إلى جواب. وقال القَسْطلانيّ: إنها في أصل فرع اليُونَينيّة، وإنها في نسخة كريمة. وقوله: أن أرجعه، بفتح الهمزة، من رجع، وأن مصدرية والأصل:

بأن أرجعه، أي برجعِهِ إلى بلده وفي نسخة: أُرْجعه بضم الهمزة. وقوله: "بما نال من أجر" عبّر بالماضي في نال موضع المضارع لتحقُّق وعده تعالى، أي: بالذي أصابه من النَّيْل، وهو العطاء من أجر خالص، إن لم يغنم شيئًا أو من غنيمة خالصة معها أجر، وكأنه سكت عن الأجر الثاني الذي مع الغنيمة لنقصه بالنسبة إلى الأجر الذي بلا غنيمة. والحامل على هذا التأويل هو أن ظاهر الحديث أنه إذا غنم لا يحصل له أجر، وليس ذلك مرادا، بل المراد أو غنيمة معها أجر أنْقَصُ من أجرِ من لم يغنم، لأن القواعد تقتضي أنه عند عدم الغنيمة أفضل منه وأتم أجرا عند وجودها، فالحديث صريح في نفي الحرمان، وليس صريحًا في نفي الجمع. قال الكرمانيّ: معنى الحديث أن المجاهد إما أن يستشهد أو لا. والثاني: لا ينفكُّ من أجر أو غنيمة مع امكان اجتماعهما، فهي قضية مانعة الخُلوّ لا الجمع، فعلى هذا الذي يغنم يرجع بأجر لكنه أنقص من أجر من لم يغنم، فتكون الغنيمة في مقابلة جزاء من أجر الغزو، فإذا قوبل أجر الغانم بما حصل له من الدنيا وتمتعه به، بأجر من لم يغنم مع اشتراكهما في التعب والمشقة كان أجر من غنم دون أجر من لم يغنم. وهذا موافق لقول خَبّاب في الحديث الصحيح الآتي عند المؤلف "فمنّا من مات ولم يأكل من أجره شيئًا". ويؤيد هذا التأويل ما أخرجه مُسلم عن عبد الله بن عَمرو بن العاص، مرفوعًا: "ما مِن غازية تغزو في سبيل الله فيُصيبون الغنيمة إلا تعجَّلُوا ثلثي أجرهم من الآخرة، ويبقى لهم الثلث فإن لم يصيبوا غنيمة تمّ لهم أجرهم". وذكر بعض العلماء للتعبير بثلثي الأجر في هذا الحديث لطيفة بالغة، ؤلك أن الله أعد للمجاهدين ثلاث كرامات دُنْيويَّتان وأُخْرويَّة. فالدنيويتان: السلامة والغنيمة. والأُخروية: دخول الجنة. فإذا رجع سالمًا

غانمًا فقد حصل له ثلثا ما أعد الله له وبقي له عند الله الثلث، وإن رجع بغير غنيمة، عوَّضه الله عن ذلك ثوابا في مقابلة ما فاته، وكأن معنى الحديث أن يُقال للمجاهد إذا فات عليك شيء من أمر الدنيا عوضتك عنه ثوابا. وأما الثّواب المختصّ بالجهاد، فهو حاصل للفريقين معًا، قال: وغاية ما فيه عد ما يتعلق بالنعمتين الدنيويتين أجرًا بطريق المجاز، وقد استشكل بعضهم نقص ثواب المجاهد بأخذه الغنيمة، لأنه مخالف لما يدل عليه أكثر الأحاديث. وقد اشتهر تمدُّح النبي - صلى الله عليه وسلم - بحِل الغنيمة وجعلها من فضائل أمته، فلو كانت تنقص الأجر ما وقع التمدح بها، وأيضًا فإن ذلك يستلزم أن يكون أجر أهل بدر أنقص من أجر أهل أحد مع أن أهل بدر أفضل بالاتفاق، وسبق إلى هذا الإِشكال ابنُ عبد البرّ، وحكاه عِياضٌ، وذكر أن بعضهم أجاب عنه: بأنه ضَعَّف حديث عبد الله بن عمرو لأنه من رواية حُميد بن هانىء، وليس بمشهور، وهذا مردود، لأنه ثقة يحتج به عند مسلم، وقد وثَّقه النّسائي وابن يونس، ولا يعرف فيه تجريح لأحد. وقال ابن دَقيق العِيد: لا تعارُضَ بين الحديثين، بل الحكم فيهما جارٍ على القياس، لأن الأجور تتفاوت بحسب زيادة المشقة، فيما كان أجره بحسب مشقته، إذ للمشقة دخولٌ في الأجر، وإنما المشكل العمل المتصل بأخذ الغنائم، فلو كانت تنقص الأجر لما كان السلف الصالح يثابرون عليها، فيمكن أن يجاب بأن أخذها من جهة تقديم بعض المصالح الجزئية على بعض، لأن أخذ الغنائم أول ما شُرع كان عونا على الدين وقوة لضُعفاء المسلمين، وهي مصلحة عظمى يُغتفر لها بعض النقص في الأجر، من حيث هو. وأما الجواب عمّن استشكل ذلك بأهل بدر، فالذي ينبغي أن يكون، التقابُل بين كمال الأجر ونقصانه لمن يغزو باعتبار نفسه إذا لم يغز لم يغنم، أو يغزو فيغنم، فغايته أن حال أهل بدر مثلًا عند عدم الغنيمة

أفضل منه عند وجودها، ولا ينفي ذلك أن يكون حالهم أفضل من حال غيرهم من جهة أخرى. ولم يرد فيهم نص أنهم لو لم يغنموا كان أجرهم بحاله من غير زيادة. ولا يلزم من كونهم مغفورًا لهم، وأنهم أفضل المجاهدين أن لا يكون وراءهم مرتبة أخرى. وأما الاعتراض بحل الغنائم فغير وارد، إذ لا يلزم من الحِل ثبوت وفاء الأجر لكل غازٍ. والمُباح في الأصل لا يستلزم الثّواب بنفسه، لكن ثبت أن أخذ الغنيمة واستيلاءها من الكفار يحصل الثواب، ومع ذلك، فمع صحة ثبوب الفضل في أخذ الغنيمة وصحة التمدح بأخذها، لا يلزم من ذلك أن كل غاز يحصُل له من أجر غَزَاته نظير من لم يغنم شيئًا البتة. قال في الفتح: والذي مثّل بأهل بدر أراد التهويل، وإلا فالأمر على ما تقرر آخرًا، بأنه لا يلزم من كونهم مع أخذ الغنيمة أنقص أجرًا مما لو لم تحصل لهم الغنيمة، أن يكونوا في حال أخذهم الغنيمة مفضولين بالنسبة إلى من بَعْدهم، كمن شَهِد أُحُدًا لكونهم لم يغنموا شيئًا، بل أجر البَدْري في الأصل أضعاف أجر من بعده، مثال ذلك أن يقول: لو فُرض أن أجر البَدْريّ بغير غنيمة ست مئة، وأجر الأحديّ مثلا بغير غنيمة مئة، فإذا نسبنا ذلك باعتبار حديث عبد الله بن عَمرو، كان للبدري، لكونه أخذ الغنيمة مئتان وهي ثلث الست مئة، فيكون أكثر أجرًا من الأحدي. وإنما امتاز أهل بدر بذلك لكونها أول غزوة شهدها النبي - صلى الله عليه وسلم - في قتال الكفار، وكان مَبدأ اشتهار الإِسلام، وقوة أهله، فكان لمن شهدها مثل أجر من شهد المغازي التي بعدها جميعًا، فصارت لا يوازيها شيء في الفضل. هذا ما يتعلق بهذا الجواب. وقد قيل في الجواب عن الإِشكال الوارد في حديث الباب أن "أو" بمعنى الواو وبه جزم ابن عبد البر والقُرطبي، ورجّحها التوربشتيّ، والتقدير: بأجر وغنيمة. وقد وقع كذلك في رواية لمسلم. ووقع عند النّسائي وأبي داود بالواو أيضًا. قال في الفتح: فإن كانت هذه الروايات محفوظة، تعين القول بأن "أو" في هذا الحديث بمعنى الواو، كما هو

مذهب نحاة الكوفيين. لكن فيه إشكالٌ صعب، لأنه يقتضي من حيث المعنى أن يكون الضمان وقع بمجموع الأمرين لكل من رجع، وقد لا يتفق ذلك، فإن كثيرًا من الغزاة يرجع بغير غنيمة، فما فَرَّ منه الذي ادعى أن "أو" بمعنى الواو وقع في نظيره، لأنه كما يلزم على ظاهرها من أن من رجع بغنيمة رجع بغير أجر يلزم على أنها بمعنى الواو أن كل غاز يجمع له بين الغنيمة والأجر معًا اهـ. وهنا أجوبة أخرى أعرضتُ عنها لظهور فسادها. وقوله: أو أدخله الجنة، أي: عند دخول المقربين بلا حساب ولا مؤاخذة بذنوب إذْ تُكفِّرها الشهادة، أو عند موته لقوله: {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] وكما ورد في الحديث أن أرواح الشهداء تَسْرح في الجنة، وبهذا التقرير يندفع إيراد من قال: ظاهر الحديث التسوية بين الشهيد والراجع سالمًا، لأن حصول الأجر يستلزم دخول الجنة. ومحصل الجواب أن المراد بدخول الجنة دخول خاص. وقوله: ولولا أن أشُقّ على أمتي ما قعدت خلف سرية، أي بعدها. وهي منصوبة على الظرفية. والمعنى: بل كنت أخرج مع كل سرية بنفسي لعِظم أجرها. ولولا امتناعية وأن مصدرية في موضع رفع بالابتداء. وما قعدت، جواب لولا. وأصلها لما، فحُذفت اللام. والمعنى امتنع عدم القعود، وهو السفر، لوجود المشقة. وفُسّر المراد بالمشقة برواية أبي هريرة المذكورة في الجهاد وهي لولا أن رجالًا من المؤمنين لا تطيب نفوسُهم بأن يتخلفوا عني، يعني ولا يقدرون على التأهُّب لعجزهم عن آلة السفر من مركوب أو غيره، ولا أجد ما أحملهم عليه، وذلك يشق عليّ وعليهم. وقوله "ولَوَددتُ أني أُقتل في سبيل الله الخ"، اللام: لام القسم وليست بجواب لولا بدليل رواية الجهاد "والذي نفسي بيده لوددت" فهي جملة مستأنفة. وفهم بعض الشُّرّاح أن قوله: "لوددت" معطوف على قوله:

"ما قعدت" فقال: يجوز حذف اللام وإثباتها من جواب لولا، وجعل الودادة ممتنعة خشية وجود المشقة لو وُجِدت. وتقدير الكلام عنده "لولا أن أشق على أمتي لوددت أني أُقتل" ثم شرع يتكلَّف استشكال ذلك. والجواب عنه: ورواية الجهاد المتقدمة بَيَّنتُ أنها جملة استئنافيّة، ووددت من الوَدادة، وهي إرادة وُقوع الشيء على وجه مخصوص يراد. وقال الراغب: الودّ محبة الشيء وتمني حصوله. فمن الأول: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] ومن الثاني {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ} [آل عمران: 69] والنكتة في إيراد هذه الجملة عقب تلك إرادة تسلية الخارجين في الجهاد عن مرافقته لهم، وكأنّه قال: الوجه الذي يسيرون له، فيه من الفضل ما أتمنى لأجله أني أقتل مرّات، فمهما فاتكم من مرافقتي والقعود معي من الفضل يحصل لكم مثله، وفوقه من فضل الجهاد. فراعى خَواطِر الجميع. وقد خرج النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في بعض المغازي، وتخلّف عنه المُشار إليهم، وكان ذلك حيثُ رجّحت مصلحة خروجه على مراعاة حالهم. وقوله: "أني أُقتل في سبيل الله" استشكل بعض الشُّراح صدور هذا التمني منه عليه الصلاة والسلام، مع علمه بأنه لا يقتل. والذي يظهر في جوابه أنَّ تمني الفضل والخير لا يستلزم الوقوع، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "ودِدت لو أنّ موسى صَبَر" فكأنّه عليه الصلاة والسلام أراد المبالغة في فضل الجهاد، وتحريض المسلمين عليه. ولفْظُ الحديث "أُقْتل وأُحيا" بضم الهمزة فيهما، وهي خمسة ألفاظ. ورواية الأصيليّ "أن أُقتل" بدل أني. ولأبي ذرٍّ "فأُقتل ثم أُحيا فأُقتل" وختم بقوله "أُقتل". والقرار إنما هو على حالة الحياة، لأن المراد الشهادة. فختم الحال عليها أو الإِحياء للجزاء معلوم، فلا حاجة إلى ودادته، لأنه ضروريّ الوقوع، وثمَّ للتّراخي في الرُّتبة، أحسن من حملها على تراخي

رجاله خمسة

الزمان، لأن المتمنى حصول مرتبة بعد مرتبة إلى الانتهاء إلى الفردوْس الأعلى، فإن قيل: تمنيه عليه الصلاة والسلام أن يُقتل يقتضي تمني وقوع زيادة الكفر لغيره، وهو ممنوع للقواعد. أجيب بأنّ مراده عليه الصلاة والسلام حصول ثواب الشهادة، لا تمني المعصية للقاتل. وفي الحديث الحضُّ على حُسن النية، وبيان شدة شفقته صلى الله تعالى عليه وسلم، ورأفته بهم واستحباب طلب القتل في سبيل الله، وجواز قول وَددتُ حصول كذا من الخير، وإن عَلِم أنه لا يحصل، وفيه تَرْك بعض المصالح لمصلحة راجحة أو أرجح، أو دفع مفسدة. وفيه جواز تمني ما يَمْتنع في العادة، والسعي في إزالة المكروه عن المسلمين. وفيه أن الأعمال الصالحة لا تستلزم الثواب لأعيانها، وإنما تحصل بالنية الخالصة إجمالًا وتفصيلًا. رجاله خمسة: الأول: حَرَمي بن حَفْص بن عُمر العَتكيّ القَسْمليّ أبو علي البصريّ، قال أبو حاتم أدركته بمصر وهو مريض، ولم أكتب عنه. وذكره ابن حِبان في الثقات، وابن قانع. روى عن أبَان العَطّار وحمّاد بن سَلَمة وعبد الواحد بن زياد ووُهَيْب بن خالد وعُبيد بن مَهْران وعبد العزيز بن مُسلم وغيرهم. وروى عنه البخاريّ، وروى له أبو داود والنّسائي بواسطة وعمرو بن عليّ الفَلّاس والذُّهليّ والدَّوْريّ وإسماعيل القاضي وسمويه وغيرهم. مات سنة ثلاث وعشرين ومئتين، وقيل سنة ست وعشرين. والعَتَكيّ في نسبه مر الكلام عليه في السادس من بدء الوحي، والقَسْمليّ فيه نسبة إلى قَسْملة، لقب مُعاوية بن عَمرو بن مالك بن فَهْم بن غَنم بن دَوْس الأزْديّ أخي جُذَيْمة الأبْرش، وهَناءَة ونَواء وفَراهيم بني مالك بن فهم بن دَوْس. لقب قسملة لجماله. وقال ابن الأثير: القَسامِلَة بطن من الأزد نزلوا البصرة، فنُسبت إليهم المحلة. منهم أبو علي بن حِرْميّ بن حَفْص

العَتَكيّ ومن المحلة أبو شَيْبَان عيسى بن سِنان وقيل: إن اللام في قَسْملة زائدة فهي من قَسَمات الوجه، أي أعاليه. وحَرمي في الستة هذا، والثاني حَرَميّ بن عِمارة وقد مر. الثاني: عبد الواحد بن زِياد العَبْديّ، مولاهم، أبو بِشْر. وقيل: أبو عُبيدة البصريّ أحد الأعلام. قال ابن عبد البَرّ: أجمعوا لا خلاف بينهم أن عبد الواحد بن زياد ثقة ثَبتٌ. وقال الدارقطني: ثقة مأمون. وذكره ابن حبان في الثّقات. وقال العِجليّ: بصري ثقة حَسَنُ الحديث. وقال ابن سعد: كان يُعْرف بالثقفي. وهو مولى لعَبْد القَيْس. وكان ثقة كثير الحديث وقال أبو زرعة وأبو حاتم ثقة. وقال النّسائي: ليس به بأس. وقال أبو داود: ثقة عمد إلى أحاديث كان يُرْسلها الأعمش، فَوَصلها. وقال محمَّد بن عَبد الملك: قلت ليحيى بن مَعين: من أثبتُ أصحاب الأعمش، قال: بعد شُعبة وسُفيان أبو معاوية، وبعده عبد الواحد. وقال عُثمان الدّارميّ: قلت ليحيى: عبد الواحد أحبُّ إليك أو أبو عُوانة؟ قال: أبو عوانة، وعبد الواحد ثقة. وقال ابن المدينيّ: سمعت يحيى بن سعيد يقول: ما رأيتُ عبد الواحد بن زياد يَطلب حديثا قَطّ بالبصرة، ولا بالكوفة، وكنا نَجّلِس على بابه يوم الجُمُعة بعد الصلاة، إذا كره حديث الأعمش فلا يعرف منه حرفًا. قال ابن حجر: وهذا غير قادح، لأنه كان صاحب كتاب، وقد احتجَّ به الجماعة. وقال ابن القَطّان الفاسيّ: ثقة لم يُعْتلّ عليه بقادح. روى عن أبي إسحاق الشَّيبانيّ وعاصم الأحْول والأعمش وأبي مالك الأشْجعيّ وعُمارة بن القَعْقاع وعمرو بن مَيْمون بن مَهْران وصالح بن صالح ابن حَيّ وغيرهم. وروى عنه ابن مَهْديّ وعفّان وعارِم ومُعلّى بن أسَد وقَيْس بن حَفص وحَرَمي بن حَفص ويحيى بن يحيى النَّيْسابوريّ وقُتيْبة بن سَعيد والحَسنُ ابن الرّبيع وغيرهم.

مات سنة ست وسبعين ومئة، وقيل: سنة سبع وسبعين ومئة، وليس في الستة عبد الواحد بن زياد سواه، وأما عبد الواحد فنحو عشرة والعَبْديّ في نسبه مر الكلام عليه في الثامن من كتاب الإِيمان. الثالث: عُمارة بن القَعْقاع بن شُبْرُمة، بضم الشين المعجمة والراء، بينهما موحدة ساكنة، الضَّبّيّ الكُوفيّ ابن أخي عبد الله بن شُبْرُمة. وكان أكبر من عمه. قال البخاري عن علي: له نحو ثلاثين حديثًا. وقال ابن مَعين والنّسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وذكره ابن حبان في الثقات وَوَثَّقهُ ابن سعد، ويعقوب بن سفيان. وقال ابن عيينة: عُمارة بن القعقاع ابن أخي عبد الله بن شُبْرُمة، وعبد الله بن عيسى ابن أخي محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، كانوا يقولون: هما أفضل من عَمَّيْهما. وقال ابن أبي حاتم في "المراسيل" عن أبيه: عُمارة بن القعقاع، عن ابن مسعود، ليس بمتصل، بينهما رجل. روى عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير، وعبد الرحمن بن أبي نُعْمٍ البَجليّ، والحارث العُكليّ، والأخْنس بن خليفة الضَّبّي. وروى عنه: الحارث العُكليّ شيخه، وابنه القعقاع، والأعمش، وفضيل بن غَزْوان، وابنه محمَّد بن فُضيل، والسفيانان، وعبد الواحد بن زياد، وشَريك، وغيرهم. وليس في الستة عُمارة بن القعقاع سواه. وأما عُمارة فكثير نحو ثلاثة وعشرين، والضَّبِّي -بفتح الضاد والباء الموحدة المشددة- في نسبه نسبة إلى ضَبَّة بن أُد، عمّ تميم بن مر بن أُد بن طابخة بن إلياس بن مُضَر، وأبناء ضَبّة ثلاثة: سعد، وسُعَيْد -مصغر-، وباسل الأخير أبو الدَّيْلم، والذي قبله لا عَقِب له، فانحصر

جماع ضَبّة في سعد بن ضبة، وهم جَمْرة من جَمَرات العرب، ومنهم الرباب. وفي قريش: ضَبَّة بن الحارث بن فهر، وفي هذيل: ضَبّة بن عمرو ابن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل. الرابع: أبو زُرعة بن عمرو بن جرير بن عبد الله البَجَلي، اختُلف في اسمه، وأشهرها: هرم، وقيل: جرير، وقيل: عبد الرحمن، وقيل: عبد الله، وقيل: عمرو، وقيل: اسمه كنيته، كان من علماء التابعين. قال عثمان الدّارمي، عن ابن معين: ثقة، وقال ابن خِراش، صدوق ثقة، وقال عُمارة بن القعقاع: قال لي إبراهيم: إذا حدثتني فحدثني عن أبي زُرعة، فإني سألته عن حديث، ثم سألته عنه بعد ذلك بسنة أو سنتين فما أخرم منه حرفًا. قال ابن عساكر: فَرَّق ابنُ المَديني بين أبي زُرعة بن عمرو بن جرير، وبين هرم أبي زُرعة صاحب أبي قيس. وذكر ابن حبان في "الثقات" أبا زُرعة بن عمرو بن جرير فيمن اسمه هرم: رأى عليًّا، وروى عن جده، وأبي هريرة، ومعاوية، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وثابت بن قيس النَّخعيّ، وأرسل عن عمر بن الخطاب وأبي ذر. وروى عنه عمه إبراهيم بن جرير وحفيداه جرير ويحيى ابنا أيوب ابن أبي زُرعة وابن عمه جرير بن يزيد وإبراهيم النّخعي وطلق بن معاوية وعبد الله بن شُبرمة الضبي وأبو حيّان التّيمي وأبو فروة الهَمْداني وغيرهم. وليس في الستة أبو زرعة بن عمرو سواه، وأما أبو زرعة سواه فخمسة، أبو زرعة الضحاك، والدمشقي، والرازي، والشيباني، والخولاني. والبجليّ في نسبه نسبة إلى بَجِيلة كسَفينة، واختُلف في بجيلة، فقيل: حي من اليمن وهو المشهور وهم ولد عمرو بن الغَوْث ابن نبت بن مالك بن زَيْد بن كَهلان فولد إراشا، فولد إراش أغارًا، فولد

باب تطوع قيام رمضان من الإيمان

أنمار أفتل وهو خثعم وأمه هند بنت مالك بن الغافق بن الشاهد بن عكّ وعبقرًا والغوث وصهيبة وخُزَيمة، دخل في الأزْد وادعة بطن مع بني عمرو بن يَشْكُر وأشهل وشهلاء وطريفًا وسنية رجل والحارث وخدعة وأمهم بجيلة بنت صعب بن سعد العشيرة بها يُعرفون. وقيل: هم من نزار بن مَعد. قاله مُصعب بن الزُّبير اهـ. الخامس: أبو هريرة وقد مرّ في الثاني من كتاب الإِيمان. لطائف إسناده: منها أنه خال من العنعنة وليس فيه إلا التحديث والسماع وهو أعظم أنواع الرواية ورواته ما بين بَصْريّ وكوفي وفيه اسم على صورة النسبة، وربما يظنه من لا إلمام له بالحديث أنه نسبة. أخرجه البخاري في الجهاد أيضًا عن أبي هريرة، ومسلم في الجهاد أيضًا عن زهير بن حرب وأخرجه النّسائي أيضًا نحو رواية البخاري، ثم قال المصنف: باب تطوع قيام رمضان من الإِيمان بتنوين باب، وتطوع: مبتدأ خبره من الإِيمان أي شعبة، وفي رواية إضافة باب إلى تطوع، وفي رواية قيام شهر رمضان. والتطوع تفعُّل ومعناه التكلف بالطاعة، والمراد هنا التنفل، ورمضان ممنوع من الصرف للعلمية والألف والنون ورمضان في الأصل مصدر رمض إذا احترق من الرمضاء ثم جعل علمًا لهذا الشهر ولما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر.

الحديث الثلاثون

الحديث الثلاثون 37 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدِ ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ». هذا الحديث تقدم الكلام عليه مستوفى في حديث من يقم ليلة القدر فراجعه. رجاله خمسة: الأول: إسماعيل بن أبي أُوَيْس وقد مرّ في الخامس عشر من كتاب الإِيمان ومرّ أبو هريرة في الثاني منه ومرّ الإِمام مالك في الثاني من بدء الوحي، ومرّ ابن شِهاب في الثالث منه أيضًا. الرابع من السند: حُميد بن عبد الرحمن بن عَوْف أبو إبراهيم وقيل: أبو عبد الرحمن، وقيل: أبو عثمان القرشيّ الزُّهريّ المَدني وأمُّه: أم كلثوم بنت عُقبة بن أبي مُعيْط أخت عثمان بن عفان من أمه، أول المهاجرات من مكة إلى المدينة. قال العجليّ وأبو زرعة وأبو خِراش ثقة. وقال ابن سعد: روى مالك عن الزُّهري عن حميد أن عمر وعثمان كانا يصليان المغرب في رمضان ثم يفطران، ورواه يزيد بن هارون عن ابن أبي ذئب عن الزُّهري عن حميد قال: رأيت عمر وعثمان، قال الواقِدي وأثبتهما حديث مالك عندنا، فإن حميدًا لم يرَ عمر ولم يسمعْ منه شيئًا وسنُّه وموتُه يدلّان على ذلك، ولعله قد سمع من عُثمان لأنه كان خاله، وكان ثقة كثير الحديث.

روى عن: أبيه وأمه وعثمان وسعيد بن زَيْد وأبي هُريرة وابن عباس وابن عُمر والنعمان بن بشير ومُعاوية وأم سَلَمة وغيرهم. وقال ابن مَعين روايته عن عُمر منقطعة وكذا عن عثمان وأبيه، وقال أبو زُرْعة حديثه عن أبي بكر وعلي رضي الله عنهما مُرسل. وروى عنه ابن أخيه سعد بن إبراهيم وابنه عبد الرحمن وابن أبي مُلَيْكة والزُّهري وقَتادة وصفوان بن سُلَيم وغيرهم. مات سنة خمس وتسعين وهو ابن ثلاث وسبعين سنة، وأما كونه مات سنة خمس ومئة فغلط. وفي الستة حُميد بن عبد الرحمن سواه اثنان. الرُّؤاسيّ والحِمْيريّ وهذا الحِمْيَري يَروي عن أبي هريرة وابن عباس كالزُّهريّ وجَزَم الكلاباذيّ والمَزِّي في تهذيبه بأن البُخاري أخرج لهذا الحِمْيَري. وقال الحاكم والحُمَيْدي صاحب الجمع، وعبد الغني وغيرهم: إنه لم يخرج له شيئًا. وإن الكلاباذيّ غالط، وإن مسلمًا لم يخرج له إلا حديث أفضل الصيام بعد رمضان .. الحديث، وما عدا ذلك فهو من رواية ابن عَوْف. وقال العَيْنيّ: إن مسلمًا روى له في ثلاثة مواضع غير هذا، أحدها أول الكتاب في حديث ابن عمر في القدر عن يحيى بن يَعْمُر وحُميد بن عبد الرحمن قالا: لقينا ابن عُمر .. الحديث. والثاني: في الوصايا، عن عَمرو بن سعيد عن حُميد الحِمْيَريّ عن ثلاثة من وَلَد سعد أنَّ سعدًا .. فذكره. والثالث فيها: عن محمَّد بن سِيرين عن عبد الرحمن ابن أبي بَكْرة، وعن رجل آخر هو في نفسي أفضل من عبد الرحمن بن أبي بَكْرة، ثم ساقه من حديث قُرَّة، قال: وسمى الرجل حُميد بن عبد الرحمن عن أبي بكرة: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر فقال: "أي يوم هذا؟ ". لطائف إسناده: منها أن فيه التَّحديث بصيغة الجمع والإِفراد والعنعنة، ورواته كلهم مَدَنيُّون وهم أئمة أجلّاء، أخرجه البخاري هنا، وفي الصيام. والتِّرمذيّ ومُسلم وأبو داود والنّسائي وابن ماجه والمُوطَّأ وآخرون. ثم قال المصنف:

باب صوم رمضان احتسابا من الإيمان

باب صوم رمضان احتسابًا من الإِيمان لم يقل إيمانًا للاختصار، أو لاستلزام الاحتساب الإِيمان

الحديث الحادي والثلاثون

الحديث الحادي والثلاثون 38 - حَدَّثَنَا ابْنُ سَلاَمٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى ابْنُ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ». قوله: "إيمانًا واحتسابًا" إيمانًا اعتقادًا بحق فرضية صومه، واحتسابًا أي: عزيمة وهو أن يصومه على معنى الرغبة في ثوابه طيبة نفسه بذلك غير مستثقل لصيامه، ولا مستطيل لأيامه وهذا الحديث مثل الذي قبله تقدم استيفاء الكلام عليه في المحل المذكور لأن معنى الجميع واحد. رجاله خمسة: الأول: محمَّد بن سلام البيكنديّ وقد مرّ في الثالث عشر من كتاب الإِيمان، ومرّ أبو هريرة في الثاني منه، ومرّ يحيى بن سعيد الأنْصاري في الأول من بدء الوحي ومرّ أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عَوف في الرابع منه أيضًا. والثاني من السند: محمَّد بن فُضيل -بالتصغير- ابن غزوان بن جرير الضبّي مولاهم أبو عبد الرحمن الكوفي، قال أحمد: كان يتشيع، وكان حسن الحديث، وقال ابن معين: ثقة. وقال أبو زرعة: صدوق، من أهل العلم. وقال أبو حاتم: شيخ. وقال النّسائي: ليس به بأس. وقال أبو داود: كان شيعيًا محترفًا، وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: كان يغلو في التشيع، صنف مصنفات في العلم وقرأ القراءات على حمزة الزيّات. وقال ابن سعد: كان ثقة صدوقًا كثير الحديث، ويعضهم لا يحتج به، وقال العجليّ: كوفي ثقة شيعي وكان أبوه ثقة وكان عثمانيًا، وقال علي بن المديني كان ثقة ثبتًا في الحديث، وقال الدّارقطنيّ كان

باب الدين يسر

ثبتًا في الحديث إلا أنه كان منحرفًا عن عثمان، وقال يعقوب بن سفيان ثقة شيعي، وقال ابن حَجَر: قال أحمد بن علي الأبّار حدثنا أبو هاشم سمعت محمد بن فضيل يقول رحم الله عُثمان ولا رحم من لا يترّحمُ عليه. قال: وسمعته يحلف بالله أنه صاحب سنة ورأيت عليه آثار أهل السنة، رأيت على خفه أثر المسح وصليت خلفه ما لا يحصى فلم أسمعه يجهرُ يعني بالبسملة، قال ابن حَجر: وإنما توقف من توقف فيه لأجل التشيع، وهذا ينفيه، وقد احتجّ به الجماعة قلت: وقد مرّ الكلام على المُبتدعة في الأول من كتاب الإِيمان. روى عن أبيه، وإسماعيل بن أبي خالد، وعاصم الأحول، وهشام بن عروة، وأبي إسحاق الشَيباني. ويحيى بن سعيد الأنصاريّ والأعمش وعُمارة بن القعقاع وغيرهم. وروى عنه الثَّوريّ، وهو أكبر منه، وأحمد بن حَنْبل وإسحاق بن راهَويه، وأحمد بن إشْكاب الصَّفّار، وعَمرو بن علي الفَلّاس، وقُتيْبة ومحمد بن سَلَام البَيْكنديّ وغيرهم. مات سنة أربع أو خمس وتسعين ومئتين. وليس في الستة محمَّد بن فُضيل سواه، وأما محمَّد فأكثر من الحصر. والضَّبّيِّ في نسبه مر الكلام عليه، في الذي قبل هذا بحديث. ومر الكلام أيضًا على الكوفيّ ثم قال البخاري: بابٌ الدينُ يُسْرٌ بتنوين باب، وسقط لفظ "باب" عند الأصيليّ، أي دين الإِسلام ذو يُسر، أو سُمِّي الدين يُسرًا مبالغةً بالنسبة إلى الأديان قبله، لأن الله تعالى رفع عن هذه الأمّة الإِصر الذي كان على من قبلهم، ومن أوضح الأمثلة له: أن توْبَتَهم كانت بقَتْل أنفسهم، كما قال تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] وتوبة هذه الأمة بالإِقلاع والعَزْم والنَّدم. ثم قال: وقول النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "أحبُّ الدين إلى الله الحَنِيفيّةُ السَّمْحة"

بجرِ قول. وفي رواية "وقولُ" بالرفع على القطع، وقوله: "أحب الدين" أي: خصال الدين المعهود الذي هو دين الإِسلام، لأن خصال الدين كلها محبوبة، لكن ما كان منها سمحًا، أي سهلًا، فهو أحبُّ إلى الله تعالى، ويدل عليه ما أخرجه أحمد بسند صحيح من حديث أعرابي لم يُسمِّه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "خَيرُ دِينكم أيسَرُه" أو: الدين جنس، أي: أحب الأديان إلى الله تعالى الحنيفية، والمراد بالأديان الشرائع الماضية، قبل أن تُبدَّل وتُنْسخ. والحَنيفيّة مِلَّة إبراهيم، والحَنيفيّ من كان على ملة إبراهيم، وسمي إبراهيم حَنِيفًا لميله عن الباطل إلى الحق، لأن أصل الحَنَف الميل. والسَّمْحة: السهلة أي أنها مَبنيّة على السهولة، عارية عمّا يتَكلَّفُه رُهْبان بني إسرائيل من الشدائد، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] وأحب: مبتدأ، وإنما أخبر عنه. وهو مذكر بمؤنث، وهو الحنيفية، لغلبة الاسمية عليها، لأنها عَلَم على الدِّين أو لأن أفعل التفضيل المضاف لقصد الزيادة على ما أُضيف إليه، يجوزُ فيه الإِفراد والمطابقة لمن هو له. وهذا الحديث المُعلّق لم يُسنده المؤلف في هذا الكتاب، لأنه ليس على شرطه، فاستعمله في الترجمة، وقوّاه بما دلّ على معناه، لتناسب السهولة واليُسر. وأخرجه موصولًا في كتاب الأدب المُفْرد، وأخرجه أحمد ابن حَنْبَل، وغيره، موصولًا من طريق محمد بن إسحاق. وإسناده حسن، وأخرجه الطَّبرانيّ من حديث عثمان بن أبي عاتِكة، وأخرجه ابن أبي شَيْبة في مُسنده، وطرق هذا عن سبعة من الصحابة.

الحديث الثاني والثلاثون

الحديث الثاني والثلاثون 39 - حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلاَمِ بْنُ مُطَهَّرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ مَعْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْغِفَارِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ هذا الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا، وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ». قوله: "إن الدّين يُسْرٌ" مرّ قريبًا، أن في تفسيره تأويلين، واستدل القائل بأن المعنى أنَّه نفسُ اليُسر، بما قاله بعضهم في النبي - صلى الله عليه وسلم - "إنَّه عَيْن الرحمة" مُسْتدلًا بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] كأنه، لكثرة الرحمة المودعة فيه، صار نَفْسها. والتأكيد فيه بإن، فيه رد على مُنْكر يُسْر هذا الدين، فإما أن يكون المُخاطب مُنْكرا، أو على تقدير تنزيله مَنْزِلَته، أو على تقدير المنكرين غير المخاطبين، أو لكون القصة مما يُهتم بها. وقوله: ولَنْ يُشَادَّ الدينَ إلا غلبه. هكذا في بعض الروايات بإضمار الفاعل، للعلم به وفي أكثر الروايات "ولن يُشادَّ الدِّينَ أحدٌ إلّا غلبه" وفي بعضها هذا الدّين بنصب الدِّين فيهما على المفعولية. وحكى صاحب المَطَالع أن أكثر الروايات برفع الدِّين على أن يُشادَّ مبنيٌّ لما لم يُسَمَّ فاعله، وتَعقَّبَهُ النّوويّ بأن أكثر الروايات بالنصب، وجمع الحافظُ بينهما بأنه بالنسبة إلى روايات المشارقة والمغاربة. ويؤيد النصبَ حديثُ بُريْدة عند أحمد أنه من شادَّ هذا الدّين يغلِبُه، والمُشادَّة بالتشديد المُغَالبة. يقال: شادّه يُشادُّه مُشادَّةً، إذا قاوَاه. والمعنى لا يَتَعَمَّقُ أحدٌ في الأعمال الدّينية ويترك الرِّفق إلا عَجِز وانقطع، وليس المراد منع طلب الأكمل في العبادة، فإنه من الأمور

المحمودة، بل منع الإِفراط المؤدي إلى الملَال والمُبالغة في التطوّع المُفْضي إلى ترك الأفضل، أو إخراج الفَرْض عن وقته كمن يُصلي الليل كله، ويغالبُ النوم إلى أن غَلبته عيناه في آخر الليل، فنام عن صلاة الصبح في الجماعة، أو إلى أن خرج الوقت المختار، أو إلى أن طلعت الشمس فخرج وقت الفريضة. قال ابن المُنير: في هذا الحديث عَلَمٌ من أعلام النُّبُوَّة، فقد رأينا، ورأى الناس قبلنا، أن كل متنطع في الدين ينقطع. وفي حديث مِحْجن ابن الأدرع عند أحمد: "إنكم لن تنالوا هذا الأمر بالمغالبة، وخَيْر دينكم اليُسْرة". وقد يستفاد من هذا الإِشارة إلى الأخْذ بالرُّخصة الشرعية، فإن الأخذ بالعزيمة في موضع الرخصة تنطعٌ كمن يترك التيمم عند العجز عن استعمال الماء، فيُفْضي به استعماله إلى حصول الضرر. وقوله: فسَدِّدوا -بالمُهملة- من السَّداد، وهو التَّوسُّط في العمل. أي: الْزموا السَّداد، وهو الصواب من غير إفراط ولا تفريط. وقوله: وقارِبوا: أي في العبادة، بالموحدة، أي: إن لم تستطيعوا الأخذ بالأكمل، فاعملوا بما يُقرِّب منه. وقوله: وأبشروا، بقطع الهمزة، من الإِبشار. وفي لغة، بضم الشين، من البُشرى، بمعنى الإِبشار، أي: بالثواب على العمل الدائم، وإن قلّ. والمراد تبشير من عَجز عن العمل الأكمل بأنَّ العجز إذا لم يكن من صنيعه لا يستلزم نقص أجره. وأبهم المُبشِّر به تعظيمًا له وتفخيمًا. وقوله: واستعينوا بالغَدْوة والرَّوْحة، بفتح أولهما وسكون الثاني. وفي العَيْنيّ، تبعًا لابن الأثير أنّ الغُدْوة بضم الغين. والغَدْوة سَيْر أوّل النهار. وقيل: ما بين صلاة الغَداة وطلوع الشمس. والرَّوْحة: السَّيْر بعد الزوال، وقوله: وشيءٍ من الدُّلْجة، أي: واستعينوا بشيء من الدُّلجة. والدُّلجة، بضم أوله وفتحه، وإسكان اللام: سير آخر الليل. وقيل: سيرُ الليل كلِّه، ولهذا عبَّر فيه بالتبْعيض، ولأن عمل الليل أشقُّ من عمل النهار. وهذه

رجاله خمسة

الأوقات أطيب أوقات المسافر، وكأنه عليه الصلاة والسلام، خاطب مسافرًا إلى مقصده، فنبهه على أوقات نشاطه، لأن المسافر إذا سافر الليل والنهارَ جميعًا، عجز وانقطع. وإذا تحرَّى السير في هذه الأوقات المنشطة، أمْكَنَتْه المُداومة من غير مشقة. وحُسْن هذه الاستعارة أن الدنيا في الحقيقة دار نَقْلةٍ إلى الآخرة، وأن هذه الأوقات بخصوصها أروح ما يكون فيها البَدَن، ومناسبة إيراد المُصنِّف لهذا الحديث عقب الأحاديث التي قبله ظاهرةٌ من حيث أنها تَضَمَّنت الترغيب في القيام والصيام والجهاد، فأراد أن يُبيِّن أن الأوْلى للعامل بذلك أن لا يُجْهد نفسه بحيث يعجز وينقطع، بل يعمل بتلطف وتدريج، ليدوم عمله ولا ينقطع. وهذا الحديث من رواية عُمر بن عليّ، وهو ثقة مُدلِّس، كما يأتي قريبًا في تعريفه. ورواه هنا عنه بالعنعنة لتصريحه فيه بالسماع في صحيح ابن حبان من طريق أخرى، وله شواهد. رجاله خمسة: الأول: عبدُ السلام بن مُطَهَّر، باسم المفعول ابن مصك بن ظالم ابن شَيْطان أبو ظُفر، بالتحريك، الأزْدي البَصْريّ، قال في الزهرة: روى عنه البخاريّ أربعة أحاديث، وذكره ابن حِبان في الثقات. وقال أبو حاتم: صدوق. روى عن جَرير بن حازم وشُعْبة وحَفْص بن غِياث ومُبارك ابن فَضالَة وموسى بن خَلف العَمِّي، وغيرهم. وروى عنه البخاريّ وأبو داود وإبراهيم الحربيّ وسَلَمة بن شَبيب والذُّهليّ وأبو خَليفة وأبو موسى محمد بن المُثنى وغيرهم. مات في رجب سنة أربع وعشرين ومئتين وليس في الستة عبد السلام ابن مطَهَّر سواه وأما عبد السلام فستة عشر. الثاني: عمر بن علي بن عَطاء بن مُقَدَّم، بصيغة اسم المفعول،

أبو حَفْص أو أبو جعفر المقَدَّميّ البَصْريّ، مولى ثقيف. قال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي ذكره فأثنى عليه خيرًا. وقال: كان يُدلِّس. وقال ابن مَعين: كان يُدلِّس، وما كان به بأس، حسن الهيئة. وأصله واسطيٌّ نزل البصرة. لم أكتب عنه شيئًا. وقال ابن سعد: كان ثقة، وكان يُدلّس تدليسًا شديدًا. يقول: سمعت وحدثنا، ثم يسكت، فيقول: هشام بن عروة والأعمش. وقال: كان رجلًا صالحًا، ولم يكونوا يَنْقِمون عليه غَير التدليس، وأما غير ذلك فلا. ولم أكن أقبل منه حتى يقول: حدثنا. وقال أبو حاتم: محله الصّدق، ولولا تدليسه لحكمنا له إذا جاء بزيادة، غير أنّا نخاف أن يكون أخذه عن غير ثقة. وقال ابن عديّ: أرجو أنه لا بأس به، وقال أبو زيد عمر بن شَبَّة: كان مدلِّسًا، وكان مع تدليسه أنبل الناس. وفي الميزان عن أحمد: عمر ابن عليّ صالحٌ عفيفٌ مسْلمٌ عاقلٌ، كان به من العقل أمرًا عجيبًا جدًا، جاء إلى مُعاذ بن مُعاذ، فأدّى إليه مئتي ألف، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال السّاجىِ: صَدوق كان يدلس، ونقل ابن خَلْفون توثيقه عن العجليّ. قال ابن حَجَر: ولم أر له في الصحيح إلا ما توبع عليه، روى عن إسماعيل بن أبي خالد، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، وهِشام بن عُروة، وحجّاج بن أرْطأةٍ، وخالد الحذّاء، ومَعْن بن مُحمّد الغِفاري، ونافع بن عمر الجُمَحيّ، وإبراهيم بن عُقبة وغيرهم. وروى عنه ابنه محمد وابن أخيه محمد بن أبي بكر بن علي، وأحمد ابن حنبل، ويحيى بن يحيى النَّيْسابوريّ، وعفّان بن مُسلم، وقُتَيْبة بن سعيد، وأبو الأشعث أحمد بن المِقدام العجليّ، وأبو بكر بن أبي شَيْبة، وآخرون. مات سنة تسعين ومئة. وقيل سنة اثنين وتسعين.

وفي الستة عمر بن علي اثنان: أحدهما: ابن علي بن أبي طالب الهاشمي الأكبر، أمُّه الصَّهباء بنت رَبيعة من بني تَغْلب، روى عن أبيه وغيره. والثاني: عمر بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب الهاشمي الأصغر، المدَنِيّ، روى عن أبيه وغيره. والمُقَدَّميّ في نسبه نِسبةً إلى جده مُقَدَّم كمعظم. الثالث: مَعْن، بفتح الميم، ابن محمد بن مَعْن بن نَضْلَة بن عمرو الغِفاريّ، أبو محمد، حِجازيّ. ذكره ابن حبان في الثقات روى عن سعيد المقبريّ وحنظلة بن علي الأسلمي، وروى عنه ابنه محمد وابن جُريج وعبد الله بن عبد الله الأشْعريّ وعمر بن علي المُقَدَّميّ، وليس في الستة معن بن محمد سواه، وأما معن سواه فخمسة. الرابع: سعيد بن أبي سعيد، واسمه كَيْسان المَقْبريّ، أبو سَعد المَدنيّ، وكان أبوه مُكاتبًا لامرأة من بني ليْث. قال ابن المَدينيِّ والعجْليُّ وأبو زُرعة والنّسائيّ: ثقة. وقال ابن خِراش: ثقة جليل، أثبت الناسُ فيه الليث بن سعد. وقال أبو حاتم صَدوق. وقال ابن سَعْد: كان ثقة كثير الحديث، ولكنه كَبر واختلط قبل موته. وقال يعقوب بن شَيْبة: قد كَبِر واختلط قبل موته بأربع سنين. وكان شُعبة يقول: حدثنا سعيد بعد ما كَبِر. وقال الواقِدِيّ: اختلط قبل موته بأربع سنين. وقال ابن عَديّ: إنما ذكرته لقول شعبة هذا، وأرجو أن يكون من أهل الصِّدق، وما تكلم فيه أحد إلا بخير. وقال ابن عساكر: قَدِم الشام مُرابطًا، ومات بساحل بَيْروت. وقال ابن مَعين: أثبت الناس في سعيد بن أبي ذيب، قال ابن حجر: أكثر ما أخرج البخاريّ له من حديث اللَّيْث وابن أبي ذيب الثابتين فيه، وأخرج أيضًا من حديث مالك وإسماعيل بن أُميّة وعُبيد الله بن عمر العُمريّ وغيرهم من الكبار.

وروى له الباقون، لكنهم لم يُخرِّجوا عنه من حديث شُعبة شيئًا لقوله المتقدم قريبًا. روى عن سعد وأبي هريرة وأبي سعيد وعائشة وأُمِّ سَلَمة، وقيل: لم يسمع منهما، ومعاوية بن أبي سُفيان وأنس وجابر بن عبد الله وابن عُمر وعن أبيه أبي سعيد، ويزيد بن هُرْمُز وأخيه عباد بن أبي سعيد، وأبي سَلَمة بن عبد الرحمن، وشَرِيك بن عبد الله بن أبي نَمِر وغيرهم. وروى عنه مالك وابن إسحاق ويحيى بن سعيد الأنصاري، وابن أبي ذيب، وعبيد الله بن عُمر، وابن عَجْلان والوليد بن كثير ومعن بن محمد الغِفاريّ وابنه عبد الله واللّيث بن سعد وجماعة. مات في آخر خلافة هِشام سنة ثلاث وعشرين ومئة، وقيل: مات سنة خمس وعشرين، وقيل: سنة ست. وفي الستة سعيد بن أبي سعيد سواه اثنان: الأنصاريّ المدنيّ مولى أبي بكر بن محمد بن عَمرو بن حَزْم، والثاني: الزَّبيديّ، وهو ابن عبد الجبّار. وسعيد بن أبي سعيد في الرُّواة أربعة عشر رجلا ذكرهم الخطيب في المُتَّفِق والمُفْترق. والمَقْبُريّ في نسبه نسبةً إلى المَقْبرة، بتثليث الباء، فقيل إن أباه أبا سعيد كان ينزل المقابر فقيل له المقبريّ، وقيل إن عمر ابن الخطاب جعله على حفر القبور، فقيل له المَقْبريّ، كما جعل نُعَيْما على أجمار المسجد فقيل له نعيم المُجَمِّر، ويحتمل أنه اجتمع فيه ذلك فكان على حفرها، وكان نازلًا عندها. الخامس: أبو هريرة، وقد مرّ في الثاني من كتاب الإِيمان هذا. لطائف إسناده: منها أنّ فيه التَّحديث والعَنْعنة، ورُواته ما بين مدنيّ وبَصريّ. وفيه رواية مُدلِّس شديد التدليس بعن، ومر ما فيه أول حديث وهذا الحديث من أفراد البخاريّ عن مُسلم، أخرجه هنا، وأخرج طَرَفًا منه في الرِّقاق عن آدم، وأخرج النَّسائي مثل حديث الباب، وله شاهد عند أحمد بإسناد حسن. ثم قال المؤلف:

باب الصلاة من الإيمان

باب الصلاة من الإِيمان باب بالتنوين، وتَرْكه بالإِضافة إلى الجملة، والصلاة مبتدأ خبره من الإِيمان، أي من شُعَبه، ووجه المناسبة بين هذا الباب والذي قبله من حيث أن من جملة المذكور في حديث الباب السابق الاستعانة بالأوقات الثلاثة في إقامة الطاعات، وأفضل الطاعات البدنية التي تُقام في هذه الأوقات الصلوات الخمس، فوقتُ صلاة الصبح في الغَدوة، ووقت صلاة الظهر والعصر في الرَّوْحة، ووقت صلاة العشاءين في جزء الدُّلجة عند من يقول أنها سير الليل كله، فناسب تعقيب هذا الباب للذي قبله لأنه في الصلاة. ثم قال المُصنِّف: وقول الله عَزَّ وَجَلَّ {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] يعني صلاتكم عند البيت. لفظة قول يجوز فيه الرفع عطفا على لفظة الصلاة والجر عطفًا على مَحلّ المضاف إليه، الذي هو الصلاة، على ترك التنوين في باب وإضافته إلى الصّلاة. وقوله: "ليضيع" اللام فيه لتأكيد النفي، وقوله إيمانكم بالخطاب، وكان المقام يقتضي الغَيْبة، لكنه قصد تعميم الحُكْم للأُمة الأحياء والأموات، فذكر الأحياء المخاطَبين تغليبًا لهم على غيرهم. وقوله: "صلاتكم عند البيت" قال في الفتح: وقع التنصيص على هذا التفسير من الوجه الذي أخرج منه المؤلف حديث الباب عند النّسائي والطّيالسِيّ بلفظ "إيمانكم صلاتكم إلى بيْت المقدس" قال: فقول المصنف "عند البيت" مُشْكل مع أنه ثابت عنه في جميع الروايات، ولا اختصاص بذلك، لكونه عند البيت. وقد قيل: إنه تصحيف وإن الصواب يعني "صلاتكم لغير البيت". قال الحافظ: وعندي أنه صواب ولا تصحيف فيه، ومقاصد البخاريّ دقيقة، وبيان ذلك أن العلماء اختلفوا في الجهة التي كان - صلى الله عليه وسلم - يتوجه إليها في الصلاة، وهو بمكة، فقال: ابن عباس وغيره: كان يصلي إلى بيت المَقْدس، لكنه لا يَسْتدبرُ القِبْلة. بل يجعلها بينه وبين بيت المقدس،

وأطلق آخرون أنه كان يصلي إلى بيت المقدس، وقال آخرون: إنه كان يصلي إلى الكعبة، فلما تحوّل إلى المدينة، استقبل بيت المقدس، وهذا ضعيف، ويلزم منه دعوى النَّسخ مرتين، والأول أصح، لأنه يجمع بين القولين. وقد صححه الحاكم وغيره من حديث ابن عباس، وكأن البخاري أراد الإِشارة إلى الجزم بالأصح، من أن الصلاة لما كانت عند البيت، كانت إلى بيت المقدس. واقتصر على ذلك اكتفاء بالأوْلويّة. لأن صلاتهم إلى غير جهة البيت، وهم عند البيت، إذا كانت لا تضيع، فأحرى أن لا تضيع إذا بعدوا منه، فتقدير الكلام، يعني صلاتكم، التي صليتموها عند البيت إلى بيت المقدس. فانظر هذا الجواب ما أحْسَنَه وما أدقَّه، وانظر تحامُل العيْنيّ على ابن حَجَر من أنه كان من حقه أن يرد على من قال إن اللفظ فيه تصحيف. ويقول هذا لا يسمى تصحيفا، ثم قال: ومن لم يعرف معنى التصحيف كيف يجيب عنه بالتحريف وما قاله في غاية التَّحامل الباطل، الذي لا يناسب، فإن القائل بأنه تصحيف قال: إن البخاريّ جعل لفظة "عند البيت" مكان "لغير البيت" وأي تصحيف بعد هذا؟ وهو قد فسر التصحيف فقال: هو أن يتصحف لفظ بلفظ. وما فسره به منطبق على هذا الواقع غاية الانطباق.

الحديث الثالث والثلاثون

الحديث الثالث والثلاثون 40 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ أَوَّلَ مَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ نَزَلَ عَلَى أَجْدَادِهِ -أَوْ قَالَ أَخْوَالِهِ- مِنَ الأَنْصَارِ، وَأَنَّهُ صَلَّى قِبَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ الْبَيْتِ، وَأَنَّهُ صَلَّى أَوَّلَ صَلاَةٍ صَلاَّهَا صَلاَةَ الْعَصْرِ، وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ صَلَّى مَعَهُ فَمَرَّ عَلَى أَهْلِ مَسْجِدٍ وَهُمْ رَاكِعُونَ فَقَالَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قِبَلَ مَكَّةَ، فَدَارُوا -كَمَا هُمْ- قِبَلَ الْبَيْتِ. وَكَانَتِ الْيَهُودُ قَدْ أَعْجَبَهُمْ إِذْ كَانَ يُصَلِّى قِبَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ، فَلَمَّا وَلَّى وَجْهَهُ قِبَلَ الْبَيْتِ أَنْكَرُوا ذَلِكَ. قوله: "أول ما قدم" منصوب على الظرفية، أي في أوّل زمن قدومه، وما مصدرية، لا خبر كان، كما توهمه بعضهم، فإن خبرها نزل، وقوله المدينة يعني طيبَة في هجرته من مكة، وقد مر في حديث هرقل في بدء الوحي الكلامُ على اشتقاقها. وقوله نزل على أجداده، أو قال أخواله من الأنصار، وفي كليهما مجاز، لأن الأنصار أقاربه من جهة الأمومة، لأن أم جده عبد المطلب سَلْمى بنت عَمرو منهم من بني عَديّ بن النَّجّار، وإنما نزل النبيُّ عليه الصلاة والسلام بالمدينة على إخوتهم بني مالك بن النجار، ففيه على هذا مجاز آخر. وقوله: "قِبَل بيت المقدس" بكسر القاف وفتح الموحدة، والمقْدس مصدر ميمي كالمَرْجع، أي حال كونه متوجهًا إليه. وقوله "ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر" وقع هنا وفي الصلاة وعند التِّرمذي بالشك. ورواه مسلم وأبو عُوانة في صحيحه والنّسائي ستة عشر "بغير شك". ورواه البَزَّار والطَّبراني سبعة عشر "بغير شك" والجمع

بين الروايتين سهل، بأن يكون من جَزَمَ بستة عشر لفّق بين شهر القدوم وشهر التحويل شهرًا، وألغى الزائد. ومن جزم بسبعة عشر عدهما معا. ومن شك تردد في ذلك، وذلك أن القدوم كان في شهر ربيع الأول بلا خلاف، وكان التحويل في نصف شهر رجب من السنة الثانية على الصحيح، وبه جزم الجمهور. ورواه الحاكم بَسَند صحيح عن ابن عباس، وقال ابن حِبان: سبعة عشر شهرًا وثلاثة أيام، وهو مبني على أن القدوم كان في ثاني عشر ربيع الأول. وقال ابن حبيب: كان التحويل في نصف شعبان، وهو الذي ذَكره النّوويّ في الروضة، وأقره مع كونه رجَّح في شرح مسلم رواية ستة عشر شهرًا لكونها مجزومًا بها عند مُسلم، ولا يستقيم أن يكون ذلك في شعبان إلا إن أُلغي شهرا القدوم والتحويل. وقوله: "وأنه صلّى أول صلاة صلّاها صلاة العصر" وأنه بفتح الهمزة عطفًا على أنه الأولى. وأول بالنصب لأنه مفعول صلى، وصلاة العصر كذلك، على البدلية. وأعربه ابن مالك بالرفع، وفي الكلام مُقدَّر لم يُذْكر لوضوحه، أي أول صلاة صلاها متوجهًا إلى الكعبة صلاة العصر. وعند ابن سَعْد حُوّلت القبلة في صلاة الظهر أو العصر على التردد. والتحقيق أن أول صلاة صلاها في بني سلمة لما مات بِشْر بن البَرَاء بن مَعْرُور الظُّهْر. وأول صلاة صلاها بالمسجد النبوي العصر، وأما الصبح فهو من حديث ابن عمر، في قُبَاء. وقوله: فخرج رجلٌ ممن صلّى .. إلخ، الرجل هو عبّاد بن بِشْر بن قَيْظيّ. كما رواه ابن مَنْده من حديث طَويلة بنت أسْلم، وقيل: هو عبّاد بن نَهِيك بفتح النون، وقد عرفناهما في الحديث السابع من أبواب القبلة. وأهل المسجد الذين مرّ بهم. قيل: هم بنُو حَارِثة. ويُجمع بين حديث البَراء هذا وحديث ابن عمر الآتي في أبواب استقبال القبلة، حيث قال فيه: بينا الناس بقُبَاء في صلاة الصُّبح إذ جاءهم آتٍ .. الخ،

بأن الخبر وصل وقت العصر إلى من هو داخل المدينة، وهم بنو حارثة وهذا هو الذي في حديث البَراء، والآتي إليهم بذلك عبّاد بن بِشر أو عبّاد بن نَهِيك كما مر، ووصل الخبر وقت الصبح إلى من هو خارج عن المدينة، وهم بنو عَمْرو بن عَوْف أهل قُباء، وذلك في حديث ابن عُمر، ولم يُسَمِّ الآتي بذلك إليهم. وقد نقل ابن ظاهر وغيره أنه عَبّاد بن بِشر، فإن كان ما نقلوه محفوظًا، فيحتمل أن يكون عباد أتى بني حارثة أولًا في وقت العصر، ثم توجه إلى أهل قُباء فأعلمهم بذلك في وقت الصبح. وقوله: وهم راكعون، أي حقيقة، أو من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل. وقوله "أشهد لقد صلّيت إلخ"، الّلام للتأكيد، وقد للتحقيق، وجملة أشهد اعتراض بين القول ومَقُوله. وقوله: فَدَاروا، أي: سمعوا كلامه فدَاَروا. وقوله: كما هم قِبل البيت، أي الحرام، ولم يَقطعوا الصلاة، بل أتموها إلى جهة الكعبة، فصلوا صلاة واحدة إلى جهتين بدليلين شرعيين. والكاف في "كما هم" للمبادرة، وقيل للمقارنة، وما كافة، وهم مبتدأ حُذِف خبره، أي: عليه. وقيل: ما موصولة، والعائد عليه المحذوف، لكن يلزم عليه حذف العائد المجرور مع تخلّف شرطه، ووقع كيفية التَّحوُّل عند ابن أبي حاتم في حديث ثُويْلة بنت أسْلَم، قالت فيه: فَتَحوَّل النّساء مكان الرجال، والرِّجالُ مكان النّساء فصلينا السجدتين الباقيتين إلى البيت الحرام. قال في الفتح: وتصويره أن الإِمام تحوّل من مكانه في مقدم المسجد إلى مؤخر المسجد، لأن من استقبل الكعبة استدبر بيت المقدس، وهو لو دار كما هو في مكانه لم يكن خلفه مكان يسع الصفوف. ولمّا تحوّل الإِمام تحولت الرجال، حتى صاروا خلفه، وتحولت النساء حتى صِرْن خلف الرجال، وهذا يستدعي عملًا كثيرًا في الصلاة. فيحتمل أن يكون ذلك وقع قبل تحريم العمل الكثير، كما كان قبل تحريم الكلام. ويحتمل أن يكون العمل المذكور من أجل المصلحة المذكورة أو لم تتوال الخطا عند التحول، بل وقعت مُفرَّقة.

وقوله: "وقد أعجبهم" أي النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو منصوب على المفعولية، وقوله: "قِبَل بيت المقدس" أي حال كونه متوجهًا إليه. وقوله: "وأهلُ الكتاب" بالرفع، عطفًا على اليهود، وهو من عطف العام على الخاص، أو المراد النصارى فقط. وردُّ هذا بأنّ النصارى لا يصلون إلى بيت المقدس فكيف يعجبهم؟ وأجيب بأن إعجابهم بطريق التَّبعيّة لليهود، وفيه بُعدٌ، لأنهم أشد الناس عداوة لليهود، ويحتمل أن يكون بالنصب، والواو بمعنى مع، أي؛ يصلي مع أهل الكتاب إلى بيت المقدس. وعلى هذا، المراد بأهل الكتاب اليهود خاصة. وقوله "أنكروا ذلك" يعني اليهود، فنزلت {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ} [البقرة: 142]. وقد صرح المصنف بذلك في روايته من طريق إسرائيل. واختُلف في صلاته عليه الصلاة والسلام إلى بيت المَقْدس وهو بمكة، فقال قوم: لم يزل يستقبل الكعبة بمكة، فلما قدم المدينة استقبل بيت المقدس، ثم نسخ. وعلى هذا يلزم النسخ مرتين. وقال البَيْضاويّ في تفسير قوله: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} [البقرة: 143] أي: الجهة التي كنت عليها وهي الكعبة، فإنه كان - صلى الله عليه وسلم - يُصلّي إليها بمكة، ثم لما هاجر أمر بالصلاة إلى الصَّخرة تألُّفًا لليهود، ثم نُسِخ. وقال قومٌ: كان لبيت المقدس، فروى ابنُ ماجه حديث "صلينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحو بيت المَقْدس ثمانية عشر شهرًا وصرفت القبلة إلى الكعبة بعد دخول المدينة بشهرين" وظاهره أنه كان يصلي إلى بيت المقدس محضًا، ويؤيد حمله على ظاهره خبرُ إمامة جبريل، ففي بعض طرقه أن ذلك كان عند باب البيت. وعن ابن عبّاس: كانت قبلته بمكة بيت المقدس، إلا أنّه كان يجعل الكعبة بينه وبينه، فكان يصلي بين الرُّكْنَين اليمانيَّين. قال البَيْضاويّ: فالمخبر به في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ} [البقرة: 143] على الأول، الجَعْل النّاسخ، وعلى الثاني الجعلُ المنسوخ. والمعنى: أن أصل أمرك أن تستقبل الكعبة، وما جعلنا قِبلتك بيتَ المقدس.

وفي هذا الحديث أن حُكْم الناسخ لا يثبت في حق المُكَلَّف حتى يبلُغَه، لأن أهل قُباء لم يؤمروا بالإعادة مع كون الأمر باستقبال القبلة قد وقع قبل صلاتهم تلك الصلوات، واستنْبط الطَّحاوِيّ منه أن من لم تَبلُغْه الدعوة ولم يمكنه استعلام ذلك، فالفرض غير لازم له وفيه جواز الاجتهاد في زمنه عليه الصلاة والسلام، لأنهم لما تَمادَوْا في الصلاة ولم يقطعوها، دل على أنه رَجَح عندهم التمادي والتحول على القطع، والاستئناف. ولا يكون ذلك إلا عن اجتهاد. قيل: وفيه نظر، لاحتمال أن يكون عندهم في ذلك نصٌّ سابق، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان مُترقِّبًا التحوُّل المذكور، فلا مانع من أن يعلمهم ما صنعوا من التمادي والتحول. قلتُ: هذا فيه بُعدٌ، لأنه وإن كان مترقبا للتحول لا يكون مُطَّلعًا على أن أهل مسجد يُخبَرُونَ به في أثناء الصلاة، وما رأينا أنه عليه الصلاة والسلام علَّم الناس حُكْم شيء لم يُسأل عنه قبل وقوعه، فتأمل. وفيه قبول خبر الواحد ووجوب العمل به، ونسخ ما تقرر بطريق العلم به، لأن صلاتهم إلى بيت المقدس كان عندهم بطريق القطع، لمشاهدتهم صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى جهة، ووقع تحولهم عنها إلى جهة الكعبة بخبر هذا الواحد. وأجيب بأنّ الخبر المذكور احْتفَّت به قرائنُ ومُقدِّمات أفادت القطع عندهم بصدق ذلك المُخْبر، فلم يُنسخ عندهم ما يفيد العلم إلا بما يفيد العلم. قلت: هذا الجواب واهٍ، فأين هذه القرائن غير أنه صحابيّ عَدلٌ لا حامل له على الكذب؟. وقيل: كان النَّسخُ بخبر الواحد جائزًا في زمنه عليه الصلاة والسلام مطلقا، وإنما مُنِع بعده، وهذا يحتاج إلى دليل. وفيه جواز تعليم مَنْ ليس في الصلاة من هو فيها، وأن استماع المصلي أم من ليس فيها لا يُفْسد صلاته. وفيه الرد على المُرْجئة في إنكارهم تسمية أعمال الدين إيمانا وفيه أن تَمَنِّي تغيير بعض الأحكام جائزٌ إذا ظهرت المصلحة في ذلك. وفيه بَيَان شَرَفِه - صلى الله عليه وسلم -، وكرامته على ربه، لإِعطائه له ما أحبّ من غير تصريح بالسؤال. وفيه بيانُ ما كان في الصحابة من الحرص على دينهم والشفقة على إخوانهم.

رجاله أربعة

رجاله أربعة: الأول: عُمر بن خالد بن فرُّوخ بفتح الفاء وتشديد الراء المضمومة، ابن سعيد بن عبد الرحمن بن واقد بن ليث بن واقِد بن عبد الله أبو الحسن الحَنْظليّ، ويقال الخُزاعيّ الجَزَرِيّ الحَرّانيّ، سكن مصر. قال أبو حاتم: صدوق. وقال العجليّ: مِصريّ ثبت ثِقة. وقال الدَّارقُطنيّ: ثقة حُجّة. وذكره ابن حِبّان في الثِّقات، وفي الزّهرة: روى عنه البُخاريّ ثلاثة وعشرين حديثًا، روى عن زُهير بن مُعاوية واللّيث وابن لَهيعة وحمّاد بن سَلَمة وضمام بن إسماعيل، وموسى بن أعْيَن، ويَعْقوب ابن عبد الرحمن وغيرهم. وروى عنه البخاريّ وروى ابن ماجه عن رجل عنه، وابناه أبو عُلاَثة محمد، وأبو خَيْثمة عليّ ويونس بن عبد الأعلى وأبو حاتم وأبو زرعة، وأبو الأحوص محمد بن الهَيْثم، وأحمد بن إبراهيم بن مِلحان وغيرهم. مات بمِصر سنة تسع وعشرين ومئتين. وفي الستة عمرو بن خالد سواه واحد. وهو عَمرو بن خالد أبو خالد القُرشيّ مولى بني هاشم، أصله من الكوفة، ثم انتقل إلى واسط. وفي الرّواة عمرو بن خالد أبو حفص الأعْشى الكوفي. والحَنْظليّ في نسبه مرّ الكلام عليه في السادس من بدء الوحي. ومر الكلام أيضًا على الجَزْري في الأثر الأول من كتاب الإِيمان. الثاني: زُهير بن مُعاوية بن حُدَيْج، بالحاء المهملة والتصغير، ابن الرُّحَيْل بن زهير بن خَيْثمة، أبو خَيْثمة .. الكوفيّ، سكن الجزيرة. قال معاذ بن معاذ: والله ما كان سُفيان بأثبت من زهير، فإذا سمعتُ الحديث من زُهير فلا أبالي أن لا أسمعه من سُفيان. وقال ابن حِبان في الثقات: كان حافظًا مُتقنًا، وكان أهل العراق يقولون في أيام الثَّوريّ: إذا مات الثوري ففي زهير خَلَفٌ. وكانوا يُقدِّمونه في الإِتقان على غيره، وعاب

عليه بعضهم أنه كان ممن يَحْرس خَشَبة زيد بن علي لما صُلِب. وقال ابن سعد: كان ثِقة، ثبتًا، مأمونًا، كثير الحديث. وقال شُعيْب بن حَرْب: كان زهير أحفظ من عشرين مثل شُعبة. وقال بِشْر بن عُمر الزَّهرانيّ عن ابن عُيَيْنة: عليك بزهير بن معاوية، فما بالكوفة مثلُه. وقال أحمد: كان من معادِن الصِّدق. وقال أيضًا: زهير فيما روى عن المشائخ ثبتٌ بَخٍ بَخٍ، وفي حديثه عن أبي إسحاق لِينٌ. سمع منه بآخره. وقال ابن مَعين، وقال أبو زرعة: ثقةٌ إلا أنه سمع من أبي إسحاق بعد الاختلاط وقال أبو حاتم: زهير أحبّ إلينا من إسرائيل في كل شيء إلا في حديث أبي إسحاق. فقيل له: فزائِدةُ وزُهير؟ قال: زهير أتقن من زائدة، وهو أحفظ من أبي عُوانة، وما أشبه حديثه بحديث زيد بن أبي أُنَيْسة، وزُهير ثقةٌ مُتْقن صاحبُ سنّة. وهو أحبّ إليّ من جَرير وخالد الواسطيّ. وقال العجليّ: ثقة مأمون. وقال النّسائي: ثقة ثَبْتٌ. وقال ابن مَنْجَوَيْه: كان حافظًا متقنًا، وكان أهل العراق يقدِّمونه في الإِتقان على أقرانه. حدَّث عنه ابن جُرَيْج وعبد السلام بن عبد الحميد الحَرّانيّ، وبين وفاتيْهما بضعٌ وتسعون سنة. روى عن أبي إسحاق السّبيعيّ، وسُليمان التَّيْميّ، وعاصم الأحْول، والأعمش، وسِماك بن حَرْب، وزَبيد الياميّ وموسى بن عُقْبة، وهشام بن عُروة، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وخلق كثير. وروى عنه ابن مَهْديّ والقطّان وأبو داود الطّيالسِيّ وأبو النصر هاشم ابن القاسم، ويحيى بن آدم، وعليّ بن الجَعْد، وعبد السلام بن عبد الحميد الحرّانيّ، وهو آخر من حدّث عنه، وجماعة. مات سنة ثلاث أو أربع وسبعين ومئة، في رجب، وولد سنة مئة. وليس في الستة زهير ابن معاوية سواه. وأما زهير فثلاثة عشر والجُعفيّ في نسبه مر الكلام عليه في الثاني من كتاب الإِيمان، ومر الكلام على الكوفيّ في الثالث منه أيضًا.

الثالث: عَمرو بن عبد الله بن عُبيد، ويقال عليّ، ويقال ابن أبي شَعِيرةٍ، أبو إسحاق السّبيعيّ الكوفيّ. وُلد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان. قال أبو داود الطّيالِسِيّ: قال رجل لِشُعبة: سمع أبو إسحاق من مُجاهِد؟ قال: ما كان يصنع بمجاهد؟ هو والله أحسن حديثًا من مجاهد، ومن الحسن وابن سيرين. وقال أبو حاتم: ثقة، وهو أحفظ من أبي إسحاق الشَّيْبانيّ، وشِبْه الزُّهريّ في كثرة الرّواية واتساعه في الرجال، وقال العجْليّ: كوفيٌ تابعيٌ ثقة، والشَّعبيّ أكبر منه بسنتين، ولم يسمع أبو إسحاق من عَلْقَمة. ولم يسمع من حارثٍ الأعْور إلا أربعة أحاديث، والباقي كتاب. وقال عبد الله بن أحمد: قلت لأبي: أيّما أحب إليك أبو إسحاق أو السدّيّ؟ فقال: أبو إسحاق ثقة، ولكن هؤلاء الذين حَمَلوا عنه بأخْرَة. وقال ابن مَعين والنّسائي: ثقة. وقال ابن المَدينيّ: أحصينا مَشْيَختَه نحوًا من ثلاث مئة شيخ، وقال مرة أربع مئة. وقد روى عن سبعين أو ثمانين لم يرو عنهم غيره. وعن الأعمش قال: كان أصحاب عبد الله إذا رأوا أبا إسحاق قالوا: هذا عَمرو القارىء. وقال عَوْن بن عبد الله: ما بقي منك؟ قال: أُصَلّي البقرة في ركعة. قال: ذهب شرُّك وبقي خيرُك. وعن أبي بكر ابن أبي عيّاش قال: قال أبو إسحاق: ذهبت الصلاة منّي وضَعُفْت، فما أقدر أن أصلّي إلا بالبقرة وآل عمران. وقال العَلاء بن سالم: كان الأعمش يتعجب من حِفظ أبي إسحاق لرجاله الذين يروي عنهم. وقال الأعمش: كنت إذا خَلَوْت بأبي إسحاق، جئنا بحديث عبد الله غَضّا. وقال ابن حبان في الثقات: كان من المُدلِّسين. وقال شُعبة: كان أبو إسحاق إذا أخبرني عن رجل قلت له: هذا أكبر منك، فإن قال: نعم، علمتُ أنه لقي، وإن قال: أنا أكبر منه، تركته. وقال أبو إسحاق الجَوْزجَانيّ: كان قومٌ من أهل الكوفة لا تُحْمد مذاهبهم، يعني التشيع، هم رؤوس مُحدِّثي الكوفة، مثل أبي إسحاق والأعمش ومنصور بن زَبيد وغيرهم من أقرانهم. احتملهم الناس

على صدق ألسنتهم في الحديث، ووقفوا عندما أرسلوا لما خافوا أن لا يكون مخارِجُها صحيحة. فأما أبو إسحاق فروى عن قوم لا يعرفون ولم ينتشر عنهم عند أهل العلم إلا ما حكى أبو إسحاق عنهم، فإذا روى تلك الأشياء عنهم، كان التوقيف في ذلك عند الصواب. وقال معن: أفسد حديثَ أهل الكوفة الأعمش وأبو إسحاق؛ يعني للتدليس. قال ابن مَعين: سمع منه ابن عُيينة بعدما تغير. وفي تاريخ المُظفَّريّ، أن يوسف لما ولي الكوفة أخرج بنو أبي إسحاق أبا إسحاق على بِرْذَوْن ليأخذ صِلة يوسف، فأُخِذت وهو راكب، فرجعوا به. قال ابن حَجَر: لم أر في البخاريّ من الرواية عنه إلا عن القدماء من أصحابه، كالثَّوريّ وشُعبة، لا عن المتأخرين كابن عُيَينة وغيره. قلت: كيف يصح هذا مع أنّ الراوي عنه لهذا الحديث زهير بن معاوية، الذي قيل إنه لم يسمع منه، إلا بعد الاختلاط؟ فالكمال لله. روى عن علي بن أبي طالب والمُغيرة بن شُعبة. وقيل: لم يَسْمع منهما، وقد رآهما. وعن سليمان بن صُرَدٍ، وزيد بن أرْقم، والبَراء بن عازِب، وجابر ابن سَمُرَة، وذي الجَوْشَن وعَدِيّ بن حاتم، وصِلة بن زُفَر، ومَسْروق بن الأجْدَع، وعَلْقمة وخلق كثير. وعنه ابنه يونُس وابن ابنه إسرائيل بن يونس، وابن ابنه الآخر يوسف ابن إسحاق، وقَتادة والأعْمش، وإسماعيل بن أبي خالد، وشُعبة ومِسْعر والثَّوريّ، وهو أثبت الناس فيه، وزهير بن معاوية، ومالك بن مغول، وسفيان بن عُيَيْنة، ومِطْرَف بن طريف وآخرون. مات يوم دخول الضّحّاك الخارجيّ الكوفة، سنة ست وعشرين ومئة، وقيل: سنة ثمان، وقيل: تسع. وعمرو بن عبد الله في الستة سواه تسعة. والسّبيعيّ في نسبه نسبة إلى سَبيع، كأمير، أبي بطن من هَمْدان، وهو سَبيع بن سَبُع بن صَعْب بن مُعاوية بن كُرْز بن مالك بن جُشَم بن حاشِد

ابن جُشَم بن خَيْران بن نَوْف بن همدان. منهم أبو إسحاق هذا، ومنهم أبو محمد الحسن بن أحمد السَّبيعيّ الحافظ، كان في حدود السبعين وثلاث مئة بحلب، وإليهم تُنْسب مَحَلَّةٌ بالكوفة. ومرّ الكلام على المختلطين في التاسع من كتاب الإِيمان. الرابع: البَرَاء، بالمد والتخفيف، وقيل بالقَصْر، ابن عازب بن الحارث بن عَدِيّ بن جُشَم بن مَجْدَعة بن حارِثة بن الخَزْرج بن عَمرو ابن مالك بن أوْس الأنصاريّ الأوسيّ أبو عُمارة، وقيل: أبو عَمرو، وقيل: أبو الطُّفيل. له ولأبيه صحبةٌ. روى أحمد بسنده عنه "استصغرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر، أنا وابن عمر، فردَّنا، فلم نَشْهَدها"، وزاد عبد الرحمن ابن عَوْسَجة: "وشَهدْتُ أحدًا" وذكر الواقديّ أن أول غزوة شهدها ابن عمر والبراء بن عازب وأبو سعيد وزيد بن أرقم -الخَندقُ. وذكر أنه - صلى الله عليه وسلم -، استصغر معه يوم بدر ابن عمر ورافع بن خَدِيج وأُسيد بن ظَهير وزيدَ بن ثابت وعُمَير بن أبي وقّاص، ثم أجاز عُميرًا فقط يومئذٍ. وقال أبو عمرو الشيبانيّ: افتتح البراء بن عازب الرّيّ سنة أربع وعشرين صُلحا، وقيل: عُنْوة. وقال أبو عُبيدة: افتتحها حُذَيْفة سنة اثنتين وعشرين. وقال حاتم ابن مُسْلم: افتتحها قَرَظَة بن كَعب الأنصاريّ. وقال المدائنيّ: افتتح بعضها أبو موسى، وبعضها قَرَظة، وشهد مع علي رضي الله عنه مشاهدَه كلَّها. وروي عنه أنه قال: شهدت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - أربع عشرة غزوة، وفي رواية خمس عشرة. رُوي عنه أنه قال: ما كلُّ ما حَدَّثْنا كُموه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمعناه منه، حدَّثَنَاهُ أصحابه، وكان يَشْغلُنا رَعْيُ الإِبل. وقيل: هو الذي أرسله النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسَّهم إلى قَليب الحُديْبيّة، فجاش بالرِّيّ، والمشهور أنّ ذلك ناجِيَةُ. وكان يلقب ذا الغُرّة، كذا قيل. وقيل: إن ذا الغُرة آخر. روي له ثلاث مئة حديث وخمسة أحاديث، اتفقا على اثنين وعشرين

منها، وانفرد البخاريّ بخمسة عشر ومسلم بستة. روى عن أبي بكر وعمر وعليّ وأبي أيّوب وبِلال وغيرهم. وروى عنه عبد الله بن زيد الخَطَفي وأبو جُحَيْفة، ولهما صُحْبة، وعُبيد والرّبيع ويزيد ولُوط أولاد البَراء، وابن أبي ليلى، وأبو بكر وأبو بُرْدة ابنا أبي موسى، وخلق. مات بالكوفة أيام مُصْعب بن الزبير سنة اثنتين وسبعين، روى له الجماعة، وليس في الصحابة البراء بن عازب سواه، وفيهم البراء ستة. وفي الستة البراء سواه أربعة. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة، وهو من رباعيات البخاريّ. ورُواته كلُهم أئمة أجلّاء. فإن قيل إنه معلول بعلتين: إحداهما أن زهيرًا لم يسمع من أبي إسحاق إلا بعد الاختلاط. والثانية أن أبا إسحاق مُدَلس، ولم يصرِّح بالسماع! فالجواب عن الأولى هو أنه لو لم يثبت عند البخاري سماع زهير بن حَرْب منه قبل الاختلاط ما أودعه في صحيحه، مع أنه تابعه عليه عند البخاريّ إسرائيل بن يونس حفيده، وغيره. وعن الثانية: أن البخاري في التفسير روى من طريق الثّوريّ عن أبي إسحاق "سمعتُ البَراء" فحصل الأمْن من ذلك. وهذا الحديث أخرجه البخاريُّ في التفسير أيضًا عن أبي نَعيم، وفي الصلاة عن عبد الله بن رَجاء، وفي خَبر الواحد عن يحيى ومُسلم في الصلاة عن محمد بن المُثنّى وغيره، والنّسائي في الصلاة، والتفسير، عن محمد بن بشّار ومحمد بن حاتم والتَرمذي فيهما أيضًا، عن هَناد. وقال: حسن صحيح. قلتُ: مرّ قريبًا أن الحديث معلولٌ بعلتين، فلا بد إذن من معرفة المعلول، وهو عند أهل الحديث يقال له معلول وبه عبّر ابن حَجَر وقال: إنه الأولى، لأنه وقع في عبارات أهل الفن مع ثبوته في اللغة. وقال النّوويّ: إنه لَحَن. ويقال له مُعَلَّل، واختاره العراقي في منظومته، ويقال مُعَلّ، من أعَلّه، يقال: لا أعَلَّك الله، أي: لا أصابك

بعلّة. وقال العراقيّ أيضًا: إنه الأجود. وقال ابن الصّلاح: معرفة عِلَل الحديث من أجل علومه وأدقها وأشرفها، وإنما يقطع بذلك أهل الحفظ والخِبْرة والفَهْم الثاقب. والمُعلَّلُ في الاصطلاح هو حديثٌ ظاهره السّلامة، اطُّلع فيه بعد التفتيش على قادحٍ، والقادح هو العِلة، والعِلة عبارة عن أسباب ظهرت للناقد، وتلك الأسباب فيها غموضٌ وخَفَاء. مثاله حديث ابن جُرَيْج؛ في التّرْمذيّ وغيره، عن موسى بن عُقبة عن سُهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعًا "مَن جَلس مَجْلِسًا فكَثُر فيه لَغَطُه، فقال قبل أن يقوم: سبحانك الَّلهُمَّ وبحمدك .. " الحديث. فإن موسى بن إسماعيل المَنْقريّ رواه عن وُهَيْب بن خالد الباهِليّ عن سُهيل المذكور، عن عَون بن عبد الله، وبهذا عَلَّهُ البخاريّ، فقال: هو مرويٌّ عن موسى بن إسماعيل، وأما موسى ابن عُقبة فلا نعرف له سماعا من سهيل. وتعرف تلك العلة بمخالفة راوي الحديث لغيره ممن هو أحفظ منه أو أضبط أو أكثر عددًا وبِتفَرُّدِه به، بأن لم يتابَع عليه مع قرائِن تُضَمّ لذلك، يهتدي بمجموع ذلك الحاذق في الفن إلى تصويب الإِرسال لما قد وُصِل، أو وَقْف ما قد رُفع أو تصويب فَصْل متنٍ من غيره مُدْرجًا فيه، أوغير ذلك، فيُمضي ما ظنّه من عدم قبول ذلك الحديث، أو يتوقَّفُ فيه. وتجيء العلةُ القادحة في السَّند كثيرًا وفي المتن قليلًا، وإذا وقعت في السند كانت قادحة في المتن، وذلك كقطع مُسْندٍ مُتَّصل، أو وَقْف مَرْفوع، أو غير ذلك من موانع القبول، وإنما يقع القدح في المتن بعلة السند حيث لم يتعدد السند أو لم يَقْوَ الاتصال أو الرفع مثلا، على القطع أو الوقف، أو يقع الاختلاف في تعيين واحد من ثقتين، وإلا فلا قدح. وذلك كحديث البَيِّعان بالخيار، فقد رواه يعلي بن عُبيد الطَّنافِسِيّ عن سُفيان الثَّوريّ عن عمرو بن دينار، وشذّ بذلك عن سائر أصحاب الثَّوريّ، فكلُّهم قالوا عبد الله بن دينار. وتوبع الثوريّ عليه، فرواه كثيرون عن

عبد الله. قال ابن الصَّلاح: وكلاهما أي: عمرو وعبد الله ثقة فلم يَقْدح الخلاف فيهما في المتن. وأما علة المتن القادحة فيه، فهي كحديث أنس المروي عنه في نفي البسملة، إذ ظنَّ راوٍ من رُواته حين سمع قول أنس، رضي الله عنه: صلّيت خلف النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان، فكانوا يفتتحون بالحمد لله رب العالمين، نفي البَسْملة، فروى الحديث مُصرِّحًا بما ظنّه، فقال عقب ذلك: فلم يكونوا يفتتحون القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم. وفي رواية: لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة، ولا في آخرها، فصار بذلك حديثًا مرفوعًا، والراوي له مخْطيء في ظنه، ومن ثَمّ قال الشافعيُّ وأصحابه: المعنى أنهم يبدأون بقراءة أُم القرآن قبل ما يقرأونه بعدها، أنهم يتركون البسملة. وقد روى الحديث عن أنس جماعة منهم حُميد وقَتادة. والمُعلِّل رواية حُميد ورفعها، وهم من الوليد ابن مسلم عن مالك عنه، فإن سائر الرواة عن مالك لم يذكروا فيها "خلف النبي - صلى الله عليه وسلم -" فليس عندهم إلا الوقف. وأما رواية قتادة، فلم يتفق أصحابه عنه على ذكر النفي المذكور، بل أكثرهم لم يذكروه. وجماعة منهم ذكروه بلفظ، فلم يكونوا يَجْهرون ببسم الله الرحمن الرحيم. وجماعة منهم بلفظ، فلم يكونوا يفتتحون القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم وجماعة بلفظ، فلم أسمع أحدا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم. قال ابن حَجر: والجمع بين هذه الروايات ممكن بحمل نفي القراءة على نفي السماع، ونفي السماع على الجهر. ويدل على معلولية الحديث بخطأ النافي ما صرّح به الدّارقطني وغيره، من أن أنسًا، رضي الله عنه، لما سأله أبو مَسْلمة سعيد بن يزيد: أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يستفتح بالحمد لله، أو ببسم الله الرحمن الرحيم؟ قال: لا أحفظ شيئًا فيه. وقد مرّ أن العلة القادحة تكون خفيّة، وقد تكون أيضًا ظاهرة،

كالتعليل بالإِرسال الظاهر للموصول، والوَقْف الظاهر أيضًا للمرفوع، إذا قَوِي الإِرسال أو الوقف بسبب كَوْن راويه أضْبط، وأكثر عددا. وقد يطلِقون التعليل أيضًا على كل قادح من فِسْق وغَفْلة ونوع جَرْح. وقد يطلقون اسم العلة أيضًا على غير قادح، كوصل ضابط ثقةٍ لما أرْسل، كحديث مالك في الموطأ أنه قال: بَلَغَنا أن أبا هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: للمملوك طعامه وكسْوَته، فقد وصله مالك في غير الموطأ بمحمد بن عَجْلان عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه، فقد صار الحديث بتبين الإِسناد صحيحًا يعتمد عليه. وهذا الإِطلاق لأبي يعلى الخليليّ، فإنه قال في إرشاده: الحديث أقسام: معلول صحيح، وصحيح متفق عليه، وصحيح مُختلفٌ فيه. ومثَّل للصحيح المعلول بحديث الموطأ هذا. وعند الخليليّ ومن وافقه كالحاكم كما يُطلق المعلول على الصحيح، يطلق عليه الشذوذ أيضًا. فيُقال فيه: صحيح شاذٌّ. فالشذوذ عندهما قادح في الاحتجاج لا في التسمية. وسمّى التِّرمذيّ النَّسْخ علة، فإن أراد أنه علة في العمل بالمنسوخ، فذلك صحيح. وإن أراد أنه علة في صحته أو صحة نقله، فلا، لأن في كتب الصحيح أحاديث كثيرة صحيحة ومنسوخة، وقد صحح التِّرمذيّ نفسه منه جملة، فمراده الأول. وقد أشار العراقيّ إلى المُعلّل بقوله: وسَمِّ ما بعلّة مشمولُ ... مُعَلَّلًا ولا تقُل معلُولُ وهي عبارةٌ عن أسباب طَرَتْ ... فيها غُموضٌ وخَفاء أُثِرتْ تُدْرك بالخِلافُ والتفَرُّدِ ... مَعْ قرائنَ تُضمُّ يَهْتدي جَهْبذُها إلى اطِّلاعه على ... تَصْويب إرسال لما قد وَصَلا أوْ وَقْف ما يُرفع أو مَتْنٍ دخلْ ... في غيره أو وهْمِ واهمٍ حَصَل ظنّ فأهْدى أو وَقَف فأحْجَما ... مع كونه ظاهِرُه أن سَلِما وهي تجيءُ غالبًا في السِّندِ ... تَقْدحَ في المَتْن بقطعِ مُسْندِ

أو وَقْف مرفوع، وقد لا تَقْدحُ ... كالبَيِّعان بالخِيار صَرَّحوا بوَهم يعلى بن عُبيد أبْدَلا ... عَمْرًا بعبد الله حين نَقَلا وعلةُ المَتْنِ كنَفْي البَسْملهْ ... إذْ ظنَّ راوٍ نفْيَها فَنَقَلهْ وصَحَّ إنَ أنْسًا يقول: لا ... أحفظ شيئًا فيه حين سُئِلَا وكَثُر التعليل بالإِرسال ... للوَصْل إنْ يَقْوَ على اتِّصال وقد يَعلوه بكُلِّ قَدْحِ ... فِسْقٌ وغَفْلةٌ ونوعُ جَرْحِ ومنهُمُ من يُطلِق اسْم العِلِّةِ ... لغَير قادحِ كوَصْل ثِقةِ يقولُ: معلولٌ صحيحٌ كالذي ... يقولُ: صَحَّ مَعْ شذُوِذٍ احتذِي والنسخُ سَمّى التِّرمذيّ عِلّهْ ... فإنْ يردْ في عَملٍ فاجنحْ لهْ ثم قال المصنف: قال زهير: حدثنا أبو إسحاق عن البَراء في حديثه هذا أنه مات على القبلة قبل أن تحول رجال وقتلوا فلم ندرِ ما نقول فيهم فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143]. وقوله: أنه مات على القبلة، أي قبلة بيتِ المقدس قبل التحويل إلى الكعبة. قوله: وقُتِلوا، هو بضمّ أوّله وكسر ثانيه، وفائدةُ ذكر القتل بيانُ كيفيته، إشعارًا بشَرفِهِم، واستبعادا لضياع طاعتهم. أو أن الواو بمعنى أو فيكون شكا. لكن قال في الفتح: ذكْرُ القتل لم أره إلا في رواية زُهير، وباقي الروايات إنما فيها ذكرُ الموت فقط. وكذلك روى أبو داود والتِّرمذيّ وابن حِبّان والحاكم، صحيحا، عن ابن عباس. ثم قال: لكن لا يَلْزم من عدم الذِّكر عدم الوقوع، فإن كانت هذه اللفظة محفوظة فتُحمل على أن بعض المسلمين، ممن لم يشتهر، قُتِل في تلك المدة في غير الجهاد، ولم يُضْبط اسمه لعدم الاعتناء بالتاريخ إذ ذاك. ثم وجدت في المغازي ذكر رجل اختلف في إسلامه وهو سُوَيْد بن الصّامت، فقد ذكر ابن إسحاق أنه لقي النبي - صلى الله عليه وسلم -، قبل أن تلقاه الأنصار في العقبة، فعرض عليه الإِسلام فقال: إن هذا القول حَسَنٌ، وانصرف إلى المدينة وقُتِل بها في وقعة بُعَاث بين الأنصار. وكانت قبل الهجرة، فكان قومه

يقولون لقد قُتِل وهو مسلم، فيحتمل أن يكون هو المراد، قال: وذكر لي بعض الفضلاء أنه يجوز أن يراد من قتل بمكة من المستضعفين، كأبوي عمّار، ولكن هذا يحتاج إلى ثبوت أن قتلهما كان بعد الإِسراء، يعني ليكونا قُتِلا بعد فرض الصلاة. وقوله: فأنزل الله تعالى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143]، أي: بالقِبلة المنسوخة، أو صَلاِتكم إليها. ووقع لهم نظير هذه المسألة لما نزل تحريم الخمر، كما صح من حديث البراء أيضًا، فنزل: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93]، إلى قوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:134]. وقوله تعالى: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف: 30]. والذين ماتوا قبل تحويل القبلة من المسلمين عشرة أنفس، فبمكة من قريش: عبد الله بن شِهاب، والمُطَّلب بن أزهر الزُّهْريّان، والسَّكْران ابن عَمرو العامِريّ. وبأرض الحبشة منهم: حَظَّان، بمُهملة، ابن الحارث الجُمَحيّ، وعمرو بن أُميّة الأسَدِيّ، وعبد الله بن الحارث السّهمْيّ، وعُرْوة بن عبد العُزّى، وعَديّ بن نَضْلة العَدَويّان. ومن الأنصار بالمدينة: البَراء بن مَعْرُور، بمهملات، وأسعد بن زُرارة. فهؤلاء العشرة متفق عليهم. ومات في المدة أيضًا: إياس بن معاذ الأشْهليّ، لكنه مُختلفٌ في إسلامه. والمقتولون ثلاثة: أحدهم لم يثبت إسلامه: أبوا عمّار، وهما ياسر وسمية الصحابيان إجماعا، والثالث سُوَيد بن الصّامت. فالجميع أربعة عشر. وهذه الأربعة عشر عُرفت منها سُميّة والدة عمّار بن ياسر في الثالث عشر من "فضائل الصحابة" وعرف البراء بن معرور في تعليق بعد الحادي والأربعين من المَبْعث النبويّ، وأسعد بن زُرارة في السادس والخمسين منه، وها أنا أذكر تعريف الباقين على هذا الترتيب المذكور فوق.

الأول: عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن زُهرة بن كِلاب الزُّهريّ، وهو جدُّ الزُّهريّ من قبل أُمّه، وكان من السابقين. ذكره الزُّهريّ والزُّبير وغيرهما فيمن هاجر إلى الحبشة. ومات بمكة قبل هجرة المدينة. وكذا قال الطَّبريّ. وقال ابن سَعد والزُّبير: كان اسمه عبد الجانّ، فسماه النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، عبد الله. زاد ابن سعد: وليس له حديث. وزَعَم السهَيْليّ أنه مات بمكة بعد الفتح. ولعل مستَنَدَه ما ذكره الوَقّاصيّ من أن عبد الله بن شِهاب قدم مع جعفر في السفينة، لكن الوقّاصيّ ضعيف. وذكر البخاريّ في تاريخه الأوسط أن أبا بكر بن عبد الرحمن، وسعيد بن المُسيّب وعُروة قالوا: وممّن أقام بالحبشة عبد الله بن شهاب. الثاني: المُطَّلب بن أزْهر بن عَبدِ عَوْف الزُّهريّ، ابن عم عبد الرحمن ابن عوف بن عبد عوف. ذكره ابن إسحاق فيمن هاجَر إلى الحبشة، ومات بها، وورثه ابنه عبد الله. ويقال: إنه أول من وُرِث في الإِسلام. وقال الواقِديّ: هاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية، فوُلد له بها عبد الله. وقال ابن الكلبيّ: هاجر مع ولده عبد الله فماتا جميعًا بأرض الحبشة، وكانت مع المُطَّلب امرأته رَمْلةُ بنت أبي عَوْف بن صُبَيْرة بن سَعيد بن سَعد السّهميّ. الثالث: السّكران بن عَمرو بن عَبدِ شَمْس بن عَبْد وُدٍّ بن مالك بن نَصْر بن حِسْل بن عامر بن لُؤَيْ القُرشيّ العامِرِيّ، أخو سُهيل بن عمرو. ذكره موسى بن عُقبة في مُهاجرة الحبشة، وكذا قال ابن إسحاق، وزاد: أنه رجع إلى مكة، فمات بها، وتزوج النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بعده زوجته سَوْدة بنت زَمْعة، زَوَّجَه إياها أخوها حاطب. وزعم أبو عُبَيْدة أنه رجع إلى الحبشة فتَنصّر بها ومات. وقال البَلاذَرِيّ: الأول أصح، ويقال: إنه مات بالحبشة. الرابع: حطّان، بمهملة، ابن الحارث بن يَعْمُر بن حَبيب بن وَهْب

ابن حذافَة بن جُمَحٍ القَرشِيّ الجُمَحيّ، ذكره موسى بن عُقبة في مُهاجرَة الحَبَشة. وابن إسحاق والطَّبريّ في الذيل. الخامس: عمرو بن أُميّة بن الحارث بن أسَد بن عبد العُزّى بن قُصَيّ الأسَديّ. قال الطبريُّ في الذَّيل: كان قديمَ الإِسلام. وذكره الواقديّ والطبريّ فيمن هاجر إلى أرض الحبشة ومات بها. السادس: عبد الله بن الحارث بن قَيْس بن عَديّ بن سَعِيد بن سَعْد ابن سَهْم القُرشيّ السّهمْيّ: ذكره ابن إسحاق وغيره فيمن هاجر إلى الحبشة. وذكر ابن الكَلْبيّ له شعرًا يُحرّض المسلمين على الهجرة إلى الحبشة، ويذكر ما لقوا فيها من الأمن فمنه: يا راكبًا بلِّغَن عني مُغلْغَلةً ... مَن كان يرجو لقاءَ الله والدِّينِ أنّا وجَدْنا بلاد الله واسعةً ... تُنْجي من الذُّلِّ والمَخْزاة والهُونِ فلا تُقيموا على ذُلِّ الحياة ولا ... خِزْي المَمات، وعيبٍ غير مأمونِ إنا تَبِعنا رسول الله واطَّرحُوا ... قولَ النبي وعالُوا في الموازينِ وفي كتاب البلاذَرِيّ وذيل الطَّبريّ: أنه مات بالحبشة. وذكر ابن إسحاق والزُّبير بن بَكّار أنه مات بالطّائف. وذكر ابن سَعْد والمَرْزُبانيّ أنّه قُتل باليمامة. وقال المَرْزُبانيّ: كان يُلَقب المُبْرق لقوله: إذا أنا لم أُبْرق فلا يَسَعَنَّنِي ... من الأرض برٌّ ذو فضاء ولا بَحْرُ السابع: عُرْوة بن عبد العُزّى بن حُرْمان بن عَوْف بن عَبيد بن عُويج ابن عدِيّ بن كعْب القُرشيّ العَدويّ: ذُكر فيمن هاجر إلى الحبشة ومات بها. الثامن: عديّ بن نَضْلة أو نُضَيْلة، بالتصغير، ابن عبد العُزّى بن حَرثان بن عوف بن عَبِيد بن عُويْج بن عَدِيّ بن كَعْب القُرشيّ العَدويّ.

ويقال: عديّ بن أسَدَ. ذكره ابن إسحاق في مُهاجرة الحبشة. وقال موسى ابن عُقبة: عديّ بن أسد العدويّ، مات بالحبشة، وهو أول موروث وُرِث في الإِسلام، ورثه ابنه النُّعمان، فخالف ابن إسحاق في نَسبه، وفي أوَّليته. فإن ابن إسحاق قال: إن أول موروث في الإِسلام المُطَّلب ابن أزْهر كما مر. ووافق موسى الزُّبير بن بكّار. قال في الإِصابة: ويمكن الجمع بأن تكون أولية المطلب بالحجاز وأولية عدي بالحبشة. قلت: قد مر بك أن المُطّلب ورث بالحبشة أيضًا، لا بالحجاز، فلا يمكن الجمع المذكور. التاسع: إياس بن مُعاذ الأنصاريّ الأشهليّ. قال ابن السَّكْن وابن حِبّان: له صُحْبة. وذكره البُخاريّ في الأوسط فيمن مات على عهد النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم -، من المهاجرين الأولين والأنصار. وقال مُصْعَب الزُّبيْريّ: قدِم إياس مكةَ وهو غلام قبل الهجرة، فرجع ومات قبل هجرة النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم -. وذكر قومه أنه مات مسلمًا. وروى ابن إسحاق في المغازي عن محمود بن لَبِيد قال: لما قَدِم أبو الحيسر أنس بن رافع مكة، ومعه فِتْيةٌ من بني عبد الأشهل، فيهم إياس ابن مُعاذ، يلتمسون الحِلْف من قريش على قومهم من الخَزْرج، سمع بهم النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم، فأتاهم، فجلس إليهم، فقال لهم: هلْ لكم إلى خيرٍ ممّا جئتُم له؟ قالوا: وما ذاك؟ قال: أنا رسول الله بعَثَني إلى العباد أدعوهم إلى أن يَعْبُدوه، ولا يُشركوا به شيئا، ثم ذكر لهم الإِسلام وتلا عليهم القرآن، فقال إياس بن مُعاذ: يا قوم، هذا، والله، خيرٌ مما جئْتُم له. فأخذ أبو الحيسر حَفْنَة من البطْحاء، فضرب وجهه بها، وقال: دَعْنا منك، فَلَعمْري لقد جئنا لغير هذا، فسكت وقام وانصرفوا، فكانت وقعة بُعاث بين الأوس والخَزْرج، ثم لم يَلْبثْ إياس ابن مُعاذ أن مات. قال محمود ابن لبيد: فأخبرني من حضره من قومه أنهم لم يزالوا يسمعونه يُهَلِّل الله ويُكبّره ويُحَمِّده ويُسبِّحه، فكانوا لا يشكون أنه مات مسلمًا. وهذا من صحيح حديث ابن إسحاق.

العاشر: سُوَيد بن الصَّامِت بن حارِثَةَ بن عَديّ بن قَيسِ بن زَيْد بن مالك بن ثَعْلبةَ بن كعْب بن الخَزْرَج الأنصاريّ. قال ابن سَعْد والطَّبريّ: شَهد أُحدًا وأنشد له دِعْبل بن عليّ في طبقات الشعراء، وكان قد أدان دَيْنا وطولب، فاستغاث بقومه فَقَصَّروا عنه، فقال: وأصْبحتُ قد أنْكَرتُ قومي كأنّني ... جَنيْتُ لهم بالدَّين أخزى الفضائحِ أدين وما دَيْني عليهم بِمَغْرمٍ ... ولكنْ على الحزر الجِلادِ القرادحِ أدين على أثمارها وأصولها ... لمولى قريبٍ أو لآخَرَ نازحِ هذا ما قال في الإِصابة من أنه شهد أُحدًا. وهو مخالف لما مر عنه في الفتح، من أنه مات في بُعاث، فلعله التَبَس عليه هو وإياس بن مُعاذ، لأنه هو الذي مات بُبعاث كما مر. الحادي عشر: ياسر العَنْسِي بالنون، حَليف آل مَخْزوم، قَدِم من اليمن فحالَف أبا حُذيْفَة بن المُغيرة، فزوَّجه أمَةً له يقال لها سُمَية، فولدت له عمارًا فأعتقه أبو حُذيفة. ثم كان عمّار وأبوه ممن سَبق إلى الإِسلام فقد أخرج أبو أحمد الحاكم عن عبد الله بن جَعْفر قال: مر رسول الله، صلى الله تعالى عليه وسلم، بياسر وعمّار وأمِّ عمار سُميَّةَ، وهم يُؤذَوْن في الله، فقال لهم: صَبْرًا يا آل ياسر، صبرًا يا آل ياسر، فإن موعدَكم الجنة. ورواه ابن الكَلْبيّ في التفسير عن ابن عبّاس نحوه، وزاد وعبد الله ابن ياسر، وزاد فطعن أبو جَهل سُمَيّة في قُبُلها فماتت، ومات ياسر في العذاب، ورُميَ عبد الله فسقط. قلت: وإذا كانت رواية ابن الكلبيّ هذه صحيحة يكون عبد الله بن ياسر معدودًا في المقتولين. ورجاله الثلاثة مرّوا في أول الرواية لهذا الحديث. وَوَهِم من قال إنه مُعَلَّق، وقد ساقه المُصَنف في التفسير مع جملة الحديث عن أبي نُعيم عن زُهير سِياقًا واحدًا، وأخرجه أبو داود والتِّرمِذيّ من حديث ابن عباس. ثم قال المصنف:

باب حسن إسلام المرء

باب حسن إسلام المرء والباب هنا مضافٌ قطعًا. ووجه المناسبة بين البابين أن المذكور في الباب الأول أن الصلاةَ من الإِيمان، وهذا الباب فيه حُسنُ إسلام المرء، ولا يَحسُن إسلام المرء إلا بإقامة الصلاة.

الحديث الرابع والثلاثون

الحديث الرابع والثلاثون 41 - قَالَ مَالِكٌ أَخْبَرَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إِذَا أَسْلَمَ الْعَبْدُ فَحَسُنَ إِسْلاَمُهُ يُكَفِّرُ اللَّهُ عَنْهُ كُلَّ سَيِّئَةٍ كَانَ زَلَفَهَا، وَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ الْقِصَاصُ، الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا إِلاَّ أَنْ يَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهَا». قوله: "إذا أسلم العبد" هذا الحكم يشترك فيه الرجال والنساء، وذكره بلفظ المذكر تغليبًا. وقوله: "فحسن إسلامه" أي: صار إسلامه حسنًا باعتقاده وإخلاصه، ودخوله فيه بالباطن، والظاهر، وأن يستحضر عند عمله قرب ربه منه، وإطلاعه عليه، كما دل عليه تفسير الإِحسان في حديث سؤال جبريل كما سيأتي. وقوله: "يكفر الله عنه كل سيئة" هو بضم الراء، لأن إذا وإن كانت من أدوات الشرط لكنها لا تجزم إلا في الضرورة، واستعمل الجواب مضارعًا وإن كان الشرط بلفظ الماضي لكنه بمعنى المستقبل، وفي رواية البزار: "كفر الله" فواخى بينهما، واعتراض العيني على صاحب "الفتح" بأن إذا تجزم، واستشهاده ببيت الشاعر غلط، فإن جزمها مقيد بالشعر، وهذا النثر. قوله: "كان زلفها" رويت بالتشديد والتخفيف وأزلفها بالهمزة، وكلها بمعنى واحد، أي: أسلف وقدم، كما قاله الخطابي، وقال في "المحكم": أزلف الشيء قربه، وزلفه مخففًا ومثقلًا قدمه، والزُّلفة تكون في الخير والشر، وأما القُربة فلا تكون إلا في الخير، وفي "المشارق": زلف بالتخفيف أي: جمع وكسب، وهذا يشمل الأمرين.

وروى الدارقطني هذا الحديث عن مالك بلفظ: ما من عبد يسلم فيحسن إسلامه إلا كتب الله له كل حسنة زلفها، ومحا عنه كل خطيئة زلفها بالتخفيف فيهما، وللنسائي نحوه، لكن قال: أزلفها. وقوله في هذا الحديث: "كتب الله" أي: أمر أن يكتب، ورواه الدارقطني عن مالك بلفظ: "يقول الله للملائكة: اكتبوا". وكتابة الحسنات المتقدمة قبل الإِسلام الساقطة من رواية البخاري ثابتة في جميع الروايات، وقد قيل: إن البخاري أسقطها عمدًا لأنها مشكلة على القواعد، وقال المارزي: الكافر لا يصح منه التقرب، فلا يثاب على العمل الصالح الصادر منه في شركه، لأن من شرط المتقرب أن يكون عارفًا لمن يتقرب إليه، والكافر ليس كذلك، ووافقه القاضي عياض على هذا الإِشكال، واستضعف النووي ذلك، وقال: الذي عليه المحققون، بل نقل بعضهم فيه الإجماع، أن الكافر إذا فعل أفعالًا جميلة كالصدقة وصلة الرحم، ثم أسلم ومات على الإِسلام فإن ثواب ذلك يكتب له، وأما دعوى أن ذلك مخالف للقواعد، فغير مسلم، لأنه قد يعتد ببعض أفعال الكافر في الدنيا، ككفارة الظهار، فإنه لا تلزمه إعادتها إذا أسلم، وتجزئه، وقد جزم بما جزم به النووي إبراهيم الحربي، وابن بطّال، وغيرهما من القدماء، والقرطبي وابن المنير من المتأخرين. قال ابن المنير: المخالف للقواعد دعوى أن يكتب له ذلك في حال كفره، وأما أن الله يضيف إلى حسناته في الإِسلام ثواب ما كان صدر منه مما كان يظنه خيرًا فلا مانع منه، كما لو تفضل عليه ابتداء من غير عمل، وكما يتفضل على العاجز بثواب ما كان يعمل، وهو قادر، فهذا جاز أن يكتب له ثواب ما لم يعمل البتة، جاز أن يكتب له ثواب ما عمله غير موفى الشروط. وقال ابن بطال: لله أن يتفضل على عباده بما شاء، ولا اعتراض لأحد عليه.

واستدل غيره بأن من آمن من أهل الكتاب يؤتى أجره مرتين، كما دل عليه القرآن والحديث الصحيح، وهو لو مات على إيمانه الأول لم ينفعه شيء من عمله الصالح، بل يكون هباءً منثورًا، فدل على أن ثواب عمله الأول يكتب له مضافًا إلى عمله الثاني، وبقوله صلى الله تعالى عليه وسلم لما سألته عائشة عن ابن جُدْعان وما كان يصنعه من الخير هل ينفعه؟ فقال: "إنه لم يقُل يومًا ربِّ اغفر لي خطيئتي يوم الدين" فدل على أنه لو قالها بعد أن أسلم نفعه ما عمله في الكفر. قلت: ما قاله النووي ومن وافقه هو صريح ما أخرجه البخاري في كتاب الأدب والزكاة والعتق، عن حكيم بن حِزام، ولفظه أنه قال: يا رسول الله أرأيت أمورًا كنت أتَحنَّثُ بها في الجاهلية من صلة وعتاقة وصدقة، هل كان لي فيها من أجر؟ قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: "أسلمتَ على ما سلفَ من خيرٍ". والذين قالوا: إن الكافر لا يثاب، حملوا هذا الحديث على وجوه أخرى، منها أن يكون المعنى: أنك بفعلك ذلك اكتسبت طباعًا جميلة، فانتفعت بتلك الطباع في الإِسلام، وتكون تلك العادة قد مَهَّدت لك معونةً على فعل الخير، أو أنك اكتسبت بذلك ثناءً جميلًا، فهو باق لك في الإِسلام، أو أنك ببركة فعل الخير هُديت إلى الإِسلام، لأن المبادىء عنوان الغايات، أو أنك بتلك الأفعال رُزقت الرزق الواسع، قال ابن الجوزي: قيل: إن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ورّى عن جوابه، فإنه سأل: هل لي فيها من أجر؟ فقال: "أسلمت على ما سَلفَ من خير" والعتق فعل الخير، وكأنه أراد: إنك فعلت الخير، والخير يُمدح فاعله، ويُجازى عليه في الدنيا، فقد روى مسلم عن أنس مرفوعًا: "إن الكافر يُثاب في الدنيا بالرِّزقِ على ما يفعله من حسنةٍ" وفيما أخرجه في العتق عن هشام. إن حكيمًا أعتق في الجاهلية مئة رقبة، وحمل على مئة بعير، وقال: فوالله لا أدع شيئًا صنعته في الجاهلية إلا فعلت في الإِسلام مثله. قال في "الفتح": والحق أنه لا يلزم من كتابة الثواب للمسلم في

حال إسلامه تفضلًا من الله تعالى وإحسانًا أن يكون ذلك لكون عمله الصادر منه في الكفر مقبولًا، والحديث إنما تضمن كتابة الثواب، ولم يتعرض للقبول، ويحتمل أن يكون القبول يصير معلقًا على إسلامه فيُقبل ويُثاب إن أسلم، وإلا فلا، وهذا أقوى. والتكفير هو التغطية، وهو في المعاصي كالإِحباط في الطاعات. وقال الزَّمَخْشَرِيّ: التكفير إماطة المستحق من العقاب بثواب زائد. وقوله: "وكان بعد ذلك القصاص" أي: بعد حسن الإِسلام، والقصاص بالرفع اسم كان على أنها ناقصة، أو فاعل على أنها تامة، وعبر بالماضي وإن كان السياق يقتضي المضارع، لتحقق الوقوع، كما في نحو قوله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} والقصاص هو كتابة المجازاة في الدنيا. وقوله: (الحَسَنَةُ بعَشْرِ أَمْثَالِهَا) الحسنة مبتدأ والخبر بعشر، والجملة استئنافية. وقوله: "إلى سبع مئة ضِعْف" متعلق بمقدر، أي: منتهية، والضعف -بكسر الضاد- المثل إلى ما زاد، ويقال: لك ضعفه يريدون مثليه، أو ثلاثة أمثاله، لأنه زيادة غير مخصوصة، وقد حكى الماوردي أن بعض العلماء أخذ بظاهر هذه الغاية، فقال: إن التضعيف لا يتجاوز سبع مئة، ورد بقوله تعالى: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 261] والآية محتملة للأمرين، فتحتمل أن يكون المراد أنه يُضاعف تلك المضاعفة بأن يجعلَها سبع مئة، ويحتمل أنه يضاعف السبع مئة بأن يزيد عليها، والمصرح بالرد عليه حديث ابن عباس المخرج عند المصنف في الرقاق، ولفظه: "كتبَ اللهُ له عشرَ حسناتٍ إلى سبع مئة ضعفٍ إلى أضعاف كثيرةٍ"، وقد ذكرت هذا الحديث في باب: أنا أعلمكم بالله، وذكرت جميع مباحثه هناك مستوفاة. وقوله "إلا أن يتجاوزَ الله عنها" زاد سمّويه في "فوائده": "إلا أن

رجاله أربعة

يغفرَ الله وهو الغفورُ" وفيه دليل على الخوارج وغيرهم من المكفرين بالذنوب، والموجبين لخلود المذنبين في النار، فأول الحديث يرد على من أنكر الزيادة والنقص في الإِيمان، لأن الحسن تتفاوت درجاته، وآخره يرد على الخوارج والمعتزلة. رجاله أربعة: الأول: مالك بن أنس الإِمام مر في الثاني من بدء الوحي. ومر زيد بن أسلم، وعطاء بن يسار في الثاني والعشرين من كتاب الإِيمان هذا. ومر أبو سعيد الخُدْريّ في الثاني عشر منه أيضا. وهذا الحديث أورده البخاري معلقًا بصيغة الجزم، وقد مر الكلام على التعليق وأحكامه في الرابع من بدء الوحي، ولم يوصله البخاري في موضع آخر من هذا الكتاب، وقد وصله أبو ذَرٍّ الهَرَويّ في روايته "للصحيح"، فقال عقِبهُ: أخبرنا النَّضْروِيّ هو العباس بن الفضل، حدثه الحسن بن إدريس، حدثه هشام بن خالد، حدثه الوليد بن مسلم، عن مالك به. وكذا وصله النّسائي من رواية الوليد بن مسلم، حدثه مالك، ووصله الحسن بن سفيان من طريق عبد الله بن نافع، والبزار من طريق إسحاق الغزويّ، والإِسماعيلي من طريق عبد الله بن وَهْب، والبيْهَقيّ في "الشعب" من طريق إسماعيل بن أبي أويس، كلهم عن مالك، وأخرجه الدارقطني من طريق أخرى، عن مالك، وذكر أنَّ مَعْن بن عيسى رواه عن مالك، فقال: عن أبي هُريرة بدل أبي سعيد، وروايته شاذة، وقال الخطيب: هو حديث ثابت. وذكر البزار أن مالكًا تفرد بوصله. لطائف إسناده: منها أن رواته كلهم أئمة أجلاء مشهورون، ومنها أنه مسلسل بلفظ الإِخبار على سبيل الانفراد، وهو القراءة على الشيخ إذا

كان القارىء وحده عند من فرَّق بين التحديث والإِخبار، وبين أن يكون معه غيره أو لا يكون، وقد مر الكلام عليه في الحديث الأول، ويأتي مستوفى إن شاء الله في كتاب العلم، ومنها أن فيه التصريح بسماع الصحابي من النّبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو يدفع احتمال سماعه من صحابي آخر.

الحديث الخامس والثلاثون

الحديث الخامس والثلاثون حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- "إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلاَمَهُ، فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِمِثْلِهَا". قوله: "إذا أحسن أحدكم إسلامه" كذا له، ولمسلم ولإِسحاق بن راهُوَيه في "مسنده": "إذا حسُنَ إسلامُ أحدكم" وكأنه رواه بالمعنى، لأنه من لازمه، والخطاب بأحدكم بحسب اللفظ للحاضرين، لكن الحكم عام لهم ولغيرهم باتفاق، لأن حكمه عليه الصلاة والسلام على الواحد حكم على الجماعة، ويدخل فيه النساء والعبيد، لكن النزاع في كيفية التناول أهي بالحقيقة اللغوية أو الشرعية أو العرفية أو المجاز. وقوله: "فكل حسنة" مبتدأ خبره تكتب، وهذا اللفظ ينبىء أن اللام في قوله ذهب الحديث السابق: "الحسنة بعشر أمثالها" للاستغراق. وقوله: "تكتبُ له بمثلِها" الباء فيها للمقابلة، وزاد مسلم وإسحاق والإِسماعيلي: "حتى يَلْقى الله عَزَّ وَجَلَّ" وقيد الحسنة والسيئة هنا بالعمل، وأطلق في السابق، فيُحمل المطلق على المقيد، وهذا الحديث استوفيت مباحثه في الذي قبله. رجاله خمسة: الأول: إسحاق بن منصور بن بَهْرام الكَوْسج أبو يعقوب التَّميمي المَرْوَزي نزيل نَيْسابور. قال مسلم: ثقة مأمون، أحد الأئمة من أصحاب الحديث وقال

النَّسائي: ثقة ثبت. وقال أبو حاتم: صدوق. وقال الحاكم: هو أحد الأئمة من أصحاب الحديث، من الزهاد المتمسكين بالسنة. وقال الخطيب: كان فقيهًا عالمًا. وقال عثمان بن أبي شيبة: صدوق ثقة، وكان غيره أثبت منه. روى عن: ابن عُيينة، وابن نُمير، وعبد الرزاق، وأبي داود الطَّيالسيّ، وابن مَهْدي، والقطان، وخلق كثير، وتَلْمَذَ لأحمد بن حَنبل، وإسحاق ابن راهُويْه، ويحيى بن معين، وله عنهم مسائل. وروى عنه الجماعة سوى أبي داود، وأبو حاتم، وأبو زُرعة، وإبراهيم الحربي، وأبو بكر محمد بن علي ابن أخت مسلم بن الحجّاج، وغيرهم. مات بنيسابور يوم الاثنين، ودفن يوم الثلاثاء لعشر خَلَون من جُمادى الأولى سنة إحدى وخمسين ومئتين. وفي الستة إسحاق بن منصور سواه اثنان، أبو عبد الرحمن السَّلُولي مولاهم، روى عن زهير بن معاوية وغيره. والثاني: السُّلَميّ روى له أبو داود. والكَوْسج -بفتح الكاف، وقد يضم- وهو الذي لا شَعْر على عارضيه، وهو الأثَطّ، والكَوْسج أيضًا ناقص الأسنان، ويقال من طالت لحيته تَكَوْسجَ عقله. وحكي أن امرأة قالت لزوجها: أنت كَوْسج. فقال لها: إن كنتُ كوسجًا فأنتِ طالقٌ، فسئل عن ذلك الإِمام أبو حنيفةَ، فقال: عدّوا أسنانه، فإن كانت ثمانيةً وعشرين فهو كَوْسج، وتطلق عليه امرأته، وإن كانت اثنتين وثلاثين فلا، ولا تطلق، فعُدّت، فوجدت اثنتين وثلاثين. الثاني: عبد الرزاق بن هَمّام بن نافع الحِمْيرِيّ مولاهم أبو بكر الصَّنْعاني.

قال أبو سعد السَّمعاني: ما رحل الناس بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثل ما رحلوا إليه. وقال عبد الوهاب بن هَمّام: كنت عند مَعْمر، فقال: يختلف إلينا أربعة: رباح بن زيْد، ومحمد بن ثور، وهشام بن يوسف، وعبد الرزاق، فأما رباح فخليق أن تغلِبَ عليه العبادة، وأما هشام فخليقٌ أن يغلِبَ عليه السلطان، وأما ابن ثور فكثير النِّسيان، وأما عبد الرزاق فإن عاش فخليقٌ أن تُضرب إليه أكباد الإِبل. قال ابن أبي السُّرّي: فوالله لقد أتعبها. وقال ابن أبي خَيْثمة عن ابن مَعين: وأما عبد الرزاق، والفِرْيابيّ، وأبو أحمد الزبيري، وعُبيد بن موسى، وأبو عاصم، وقَبِيصة، وطبقتهم فهم كلهم في سفيان قريب بعضُهم من بعض، وهم دون يحيى بن سعيد وابن مَهْدي ووكيع وابن المُبارك وأبي نُعيم. وقال أحمد بن صالح المِصْري: قلت لأحمد بن حَنبل: رأيت أحسن حديثًا من عبد الرزاق؟ قال: لا. وقال أبو زُرعة الدِّمَشقي: عبد الرزاق أحد من ثبت حديثه. وقال أحمد: حديث عبد الرزاق أحب إلي من حديث هؤلاء البصريين، كان يتعاهد كتبه، وينظر فيها باليمن، وكان يحدثهم حفظًا بالبصرة يعني معمرًا. وقال أبو زُرعة: قلت لأحمد: من أثبت في ابن جُريج عبد الرزاق أو البرساني؟ قال: عبد الرزاق. وقال ابن معين: كان عبد الرزاق أثبت في حديث معمر عن هشام بن يوسف، وكان هشام في ابن جُريج أقرأ للكتب. وقال ابن المديني: قال لي هشام بن يوسف: كان عبد الرزاق أعلمنا وأحفظنا. وقال الذُّهْليّ: كان عبد الرزاق أيقظهم في الحديث، وكان يحفظ، وهو أحد الحفاظ الأثبات صاحب التصانيف، وقال إبراهيم بن عَبّاد الدبري: كان عبد الرزاق يحفظ نحوًا من سبع عشرة ألف حديث. وقال ابن عَدِي: ولعبد الرزاق أصناف وحديث كثير، وقد رحل إليه ثقات المسلمين وأئمتهم، وكتبوا عنه، إلا أنهم نسبوه إلى التشيع، وقد روى أحاديث في فضائل أهل البيت ومثالب غيرهم، لم يوافقه أحدٌ من الثقات عليها، فهذا أعظم ما ذموه من روايته لهذه الأحاديث، وأما في باب الصدق فأرجو أنه لا بأس عليه. وذكره ابن حِبّان في "الثقات" وقال: كان ممن

يُخطىء إذا حدث من حفظه على تشيع فيه، وكان ممن جمع وصنف وحفظ وذاكر، وقال أبو داود: الفِريابيّ، أحب إلينا منه، وعبد الرزاق ثقة. وقال علي بن هشام عن عبد الرزاق: كتبت عن ثلاثة لا أُبالي أن لا أكتب عن غيرهم، كتبت عن ابن الشاذكوني، وهو من أحفظ الناس، وكتبت عن يحيى بن مَعين وهو من أعرف الناس بالرجال، وكتبت عن أحمد بن حَنْبل وهو من أثبت الناس. وقال ابن مَعين: سمعت من عبد الرزاق كلامًا استدللتُ به على ما ذُكر عنه من المذهب، فقلت له: إن أساتيذك الذين أخذت عنهم ثقات، كلهم أصحاب سنة، معمر ومالك وابن جُريج والثَّوري والأوْزاعي فعمّن أخذت هذا المذهب؟ قال: قدم علينا جَعْفر بن سُليمان، فرأيته فاضلًا حسن الهَدْي، فأخذت هذا عنه. وقال محمد بن أبي بَكْر المُقدَّمي: وجدت عبد الرزاق ما أفسد جعفرًا غيرُهُ يعني في التشيع. وقال ابن مَعين: وقد قيل له: قال أحمد: إن عبيد الله بن موسى يرُدُّ حديثه للتشيع، فقال: كان عبد الرزاق والله الذي لا إله إلا هو أغلى في ذلك منه مئة ضعف، ولقد سمعت من عبد الرزاق أضعاف ما سمعت من عبيد الله. وقال عبد الله بن أحمد: سألت أبي: هل كان عبد الرزاق يتشيع ويُفرط في التشيع؟ فقال: أما أنا فلم أسمع منه في هذا شيئًا. وقال عبد الله بن أحمد: سمعت سلَمة بن شَبيب يقول: سمعت عبد الرزاق يقول: والله ما انشرَحَ صدري قطُّ أن أفضل عليًا على أبي بكرٍ وعمر، رحم الله أبا بكر وعمر وعثمان، من لم يحبَّهم فما هو مؤمنٌ، وقال: أوثق أعمالي حبي إيّاهم، وقال أبو الأزهر: سمعت عبد الرزاق يقول: أفضِّلُ الشيخين بتفضيل عليٍّ إياهما على نفسه، ولو لم يفضِّلْهما ما فضلتهما، كفى بي ازدراءً أن أُحبَّ عليًا ثم أخالف قوله. وقال الحسن بن علي الحلواني: سمعت عبد الرزاق، وسُئل: أتزعم

أن عليًا كان على الهدى في حروبه؟ قال: لاها الله إذ يزعم عليٌّ أنها فتنة، وأتقلدها له هذا. وقال أبو داود: كان عبد الرزاق يُعرِّض بمعاوية. وقال محمد بن إسماعيل الفَزَاريّ: بلغني ونحن بصنعاء أن أحمد ويحيى تركا حديث عبد الرزاق، فدخلنا غمٌّ شديد، فوافيت ابن مَعين في الموسم، فذكرت له، فقال: يا أبا صالح، لو ارتد عبد الرزاق ما تركنا حديثه. ورُوي عن عبد الرزاق أنه قال: حججت، فمكثت ثلاثة أيام لا يجيئني أصحاب الحديث، فتعلقت بالكعبة، وقلت: يا رب، أكذابٌ أنا؟ أمدلسٌ أنا؟ فرجعت إلى البيت، فجاؤوني. وقال العِجْلي: ثقة يتشيع. وقال العبّاس العَنْبريّ لما قدم صنعاء: لقد تجشمت إلى عبد الرزاق، وإنه لكذاب، والواقدي أصدق منه. وقال الذّهبي: هذا شيء ما وافق العباسَ عليه مسلم. قال في "تهذيب التهذيب": وافقه على ذلك زيد بن المبارك، فقد قال: كان عبد الرزاق كذابًا يسرق الحديث، وقال: لم يخرج أحدٌ من هؤلاء الكبار من هاهنا إلا وهو مجمعٌ أن لا يحدث عنه. ولكن هذا الكلام مردودٌ، ولأجل هذا كله قال النَّسائي في كتاب "الضعفاء" عبد الرزاق بن همّام فيه نظر لمن كتب عنه بأخرة، كتبوا عنه أحاديث مناكير. وقال الأثرمُ عن أحمد: من يسمع منه بعدما عمي فليس بشيء، وما كان في كتبه فهو صحيح، وما ليس في كتبه فإنه كان يُلَقَّن فيتلقن. قال ابن حجر في مقدمته: احتج به الشيخان في جملة من حديث من سمع منه قبل الاختلاط، وضابط ذلك من سمع منه قبل المئتين، فأما بعدهما فكان قد تغير، وفيها سمع منه أحمد بن شبُّويه فيما حكى الأثرم عن أحمد وإسحاق الدَّيْريّ، وطائفة من شيوخ أبي عَوانة والطبراني ممّن تأخر إلى قرب الثمانين ومئتين. وكان رضي الله عنه يقول: من يصحب الزمان يرى الهوان، وكان ينشد: فَذاكَ زمانٌ لعِبنا بهِ ... وهذا زمانٌ بنا يَلْعبُ

روى عن: ابن جُريج، وهشام بن حسان، ونور بن يزيد، ومَعْمر، ومالك والسفيانين، والأوزاعي، وزكريّاء بن إسحاق المكي، وإسرائيل، وإسماعيل، وخلق كثير. وروى عنه: ابن عُيينة، ومعتمر بن سليمان، -وهما من شيوخه- ووكيع، وأبو أسامة -وهما من أقرانه- وأحمد، وإسحاق، وعلي، ويحيى، وأبو خَيْثمة، وأحمد بن صالح، وعمروٌ الناقد، وسلمة بن شَبيب، وعبد الله ابن محمد المُسْنِدي، وإسحاق بن منصور الكوْسَج، ومحمد بن مِهْران الجمّال، وإسحاق بن إبراهيم الدَّيْري، وغيرهم. ولد سنة ست وعشرين ومئة، ومات في شوال سنة إحدى عشرة ومئتين عن خمس وثمانين سنة. وفي الستة عبد الرزاق سواه واحد، وهو ابن عمر بن مسلم الدِّمشقي العابد. وفي غير الستة اثنان ابن عُمر الثَّقفي أبو بكر الدِّمشقي الكبير. روى عن الزهري وغيره. والثاني: ابن عمر أيضًا ابن يزيد البَزِيْعيّ البيروتي، روى عن ابن المُبارك، ويحيى بن أبي زائدة. والصَّنْعاني في نسبه نسبة إلى صنعاء مدينة باليمن من أشهر مدنه، كثيرة الأشجار والمياه، تشبه دمشق بالشام، وزادوا النون في النسبة إليها، وهي نسبة شاذة كما قالوا في بَهْراء: بَهْراني، والقياس أن يقال: صنعاوِيّ، ومن العرب من يقوله، فأبدلوا في الهمزة النون؛ لأن الألف والنون تشبهان ألفي التأنيث، وصنعاء أيضًا قريةٌ، من قرى الشام. الثالث: مَعْمر بن راشد، وقد مر في متابعة الرابع من بدء الوحي. الرابع: همّام بن منبِّه -باسم الفاعل من التنبيه- ابن كامل بن سَيْج -بفتح السين المهملة، وقيل: بكسرها، وسكون الياء آخر الحروف، وفي آخره جيم- أبو عُقبة اليماني الصنعاني الأبناويّ، أخو وهب، وهو أكبر منه، ومعْقِل وعمرو.

قال ابن مَعين: ثقة. وذكره ابن حِبّان في "الثقات". وقال العِجْلي: يماني تابعي ثقة. وقال أحمد: كان يغزو كان يشتري الكتب لأخيه وَهْب، فجالس أبا هُريرة، فسمع منه أحاديث، وهو نحو من أربعين ومئة حديث بإسناد واحد، وأدركه مَعْمر، وقد كبر وسقط حاجباه على عينيه، فقرأ عليه همام، حتى إذا ملَّ أخذ مَعْمر، فقرأ الباقي، وكان عبد الرزاق لا يعرف ما قُرىء عليه بما قرَأ هو. روى عن أبي هُريرة، ومعاوية، وابن عباس، وابن عُمر، وابن الزُّبير. وروى عنه: أخوه وَهْب بن مُنبِّه، وابن أخيه عقيل بن مَعْقل بن مُنَبِّه، ومعمر بن راشد، وعلي بن الحسن بن اتش. مات بصنعاء سنة اثنتين وثلاثين ومئة، وقيل: سنة إحدى وثلاثين. وفي الستة همّام سواه ثلاثة: النَّخَعيّ الكوفي العابد. والثاني. ابن نافع الحِمْيَري مولاهم اليماني الصنعاني. والثالث: ابن يحيى بن دينار الأزْديّ العوذِيّ. والصنعاني في نسبه مرّ في الذي قبله. واليماني فيه نسبة إلى اليمن بزيادة الألف، قال الجَوْهري: اليمن بلاد العرب، والنسبة إليها يمني ويمان مخففة، والألف عوضٌ عن ياء النسبة، فلا تجتمعان. قال سيبويه: وبعضهم يقول: يمانيّ بالتشديد، قال الشاعر: يَمانيًّا يَظلُّ يَشدُّ كِيرًا ... ويَنفُخُ دائِبًا لهَبَ الشَّواظِ واليمن في الأصل ما كان عن يمين القبلة من بلاد الغور، قال الشرقي: إنما سميت اليمن لتيامنهم إليها، قال ياقوت: وفيه نظر، لأن الكعبة مربعة فلا يمين لها ولا يسار، فإذا كانت اليمن عن يمين قوم، كانت عن يسار آخرين، وكذلك الجهات الأربع، إلا أن يريد بذلك من يستقبل الركن اليماني، فإنه أجلها، فإذن يصح، والله تعالى أعلم.

قلت: فيما قاله ياقوت نظر، فإن من كان مستقبلًا للقبلة من القفا عند المقام المالكي يكون اليمن إذن له على يمين القبلة بهذا الاعتبار، وفي "المراصد": إن اليمن ثلاث ولايات، الجند ومخاليفها، وصنعاء ومخاليفها، وحضرموت ومخاليفها، وقال قطرب: سُمي اليمن ليمنه، والشّام لشؤمه، وأما حد اليمن فمن وراء تثليث وما ساقها، إلى صنعاء وما قاربها، إلى حضرموت والشحر وعمان، إلى عدن أبيه وما يلي ذلك، إلى التهائم والنجود، واليمن يجمع ذلك كله، يقال: قوم يمانية ويمانون مثل ثمانية وثمانون، وامرأة يمانية أيضًا، وتيمن انتسب إلى اليمن، والتَّيْمني أفق اليمن. والذَّماري في نسبه نسبة إلى ذَمار كسَحاب أو قِطام، قرية باليمن على مرحلتين من صنعاء على طريق المتوجه من زبيد إليها، وهي الآن مدينة عامرة كبيرة ذات قصور وأبنية فاخرة ومدارس علم، وخرج منها فقهاء ومحدثون، سميت بقيلٍ من أقيال اليمن، يقال: إنه شمر بن الأملوك الذي بني سَمَرْقند، وقيل: إن ذمارًا اسم صنعاء، وإن معنى صنعاء كلمة حبشية معناه: وثيق حصن، ويشهد له ما في اللسان وغيره: كشفت الريح عن منبر هود عليه الصلاة والسلام، وهو من الذهب، مرصع بالدر والياقوت وعن يمينه من الجزع الأحمر مكتوب بالمسند، وعبارة "اللسان": هدمتها قريش في الجاهلية، فوجد في أساسها حجر مكتوب فيه بالمسند: لمن ملك ذَمار لِحمير الأخيار؟ لمن ملك ذَمار للحبشة الأشرار؟ لمن ملك ذَمار لفارس الأحرار؟ لمن ملك ذَمار لقُريش التجار؟ وذموران ودالان قريتان بقربها، يقال: ليس بأرض اليمن أحسن وجوهًا من نسائها. قال في "تاج العروس": والأمر كما ذكر، ويضاهيها في الجمال وادي الحصيب، الذي هو وادي زبيد، حرسها الله تعالى. والأبناويّ في نسبه أيضًا بتقديم الباء الموحدة على النون نسبة إلى الأبناء، قوم من العجم، سكنوا اليمن، وهم الذين أرسلهم كسرى مع سيف بن ذي يَزَن لما جاء يستنجده على الحبشة، فنصروه وملكوا اليمن

باب أحب الدين إلى الله أدومه

وتَدَيَّروها وتزوجوا في العرب، فقيل لأولادهم: الأبناء، وغلب عليهم الأنباء لأن أمهاتهم من غير جنس آبائهم، والنسبة إليهم أبناويّ في لغة بني سعد، وبعض العرب يقول فيه: بَنَويّ محركة ردًّا له إلى الواحد، ويقال: إنهم ينتسبون إلى هُرْمز الفارسي الذي أرسله كسرى مع سيف بن ذي يزن، فاستوطن اليمن، وأولد ثلاثة بَهْلوان ودادَوان وبانيان، فأعقب بَهْلوان بهلول، والدادوِيّون بسعوان، ومنهم بنو المتَمَيِّر بصنعاء، وصعدة وجراف الطاهر ونحر البون، وإلدادويُّون خوارج، ومنهم: غزاكراذَمار، وهم خلق كثير. الخامس: أبو هُريرة، وقد مر في الثاني من كتاب الإيمان هذا. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والإخبار والعنعنة، ومنها أن هذا الإسناد إسناد حديث من نسخة همّام المشهورة المروية بإسناد واحد عن عبد الرزاق عن معمر عنه، وقد مر الكلام على النسخة في السابع من بدء الوحي. وهذا الحديث أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق. باب أحب الدين إلى الله أدْوَمُهُ مراد المصنف الاستدلال على أن الإيمان يطلق على الأعمال، لأن المراد بالدين هنا العمل، والدين الحقيقي هو الإِسلام، والإِسلام الحقيقي مرادف للإيمان، فيصح بهذا مقصوده، ومناسبته لما قبله من قوله: "عليكم بما تُطيقون" لأنه لما قدَّم أن الإِسلام يحسُنُ بالأعمال الصالحة، أراد أن ينبه على أن جهاد النفس في ذلك إلى حد المغالبة غير مطلوب، وقد مر هذا المعنى في باب الدين يسر، وفي هذا ما ليس في ذلك على ما سيظهر. وقوله: "أدومه" أفعل تفضيل من الدوام، والمراد به هنا الدوام العُرفي، وهو قابل للكثرة والقلة.

الحديث السادس والثلاثون

الحديث السادس والثلاثون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ قَالَ أَخْبَرَنِى أَبِى عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا امْرَأَةٌ قَالَ "مَنْ هَذِهِ". قَالَتْ فُلاَنَةُ. تَذْكُرُ مِنْ صَلاَتِهَا. قَالَ "مَهْ، عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ، فَوَاللَّهِ لاَ يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا". وَكَانَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيْهِ مَا دَامَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ قوله: "وعندها امرأةٌ" فقال: الواو للحال، والفاء في فقال للعطف على دخل السابق، وللأصيلي قال: بحذفها، فتكون جملة استئنافية جواب سؤال مقدر، كان قائلًا قال: ماذ! قال حين دخل؟ قالت: قال من هذه. وقوله: "قالت؟ فلانة" هذا اللفظ كناية عن كل علم مؤنث، فلا ينصرف لذلك. وقوله: "تذكُرُ من صلاتِها" بفتح التاء الفوقانية، والفاعل عائشة، ورُوي بضم الياء التحتانية على البناء، لما يسمَّ فاعله وتاليه نائب عنه أي يذكرون أن صلاتها كثيرة، ولأحمد عن يحيى القطان: "لا تنامُ تُصلّي" وللمصنف في صلاة الليل معلقًا عن القَعْنَبيّ: "لا تنامُ بالليل" وهذه المرأة يأتي قريبًا تعريفها في الرجال، ووقع في حديث الباب حديث هشام هذا: "دخل عليها وعندها"، وفي رواية الزُّهري: "أن الحولاءَ مرَّتْ بها" فظاهره التغاير، فيحتمل أن تكون المرأة المارة امرأة غيرها من بني أسد أيضًا، وأن قصتها تعددت، والجواب أن القصة واحدة، ويبين ذلك ما أخرجه محمد بن نصر في كتاب قيام الليل له، عن هشام في هذا الحديث، ولفظه: "مرت برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الحولاء بنت تُوَيتْ" فيحمل على أنها كانت أولًا عند عائشة، فلما دخل صلى الله تعالى عليه

وسلم على عائشة قامت المرأة، كما في رواية حمَّاد بن سَلَمة الآتية. "فلما قامت لِتخرجَ مرت به في خلال ذهابها، فسأل عنها" وبهذا تجتمع الروايات، قال ابن التّين: لعل عائشة أمنَتْ عليها الفتنة، فلذلك مدحتها في وجهها. قال في "الفتح": لكن في "مسند" الحسن بن سفيان: كانت عندي امرأة، فلما قامت، قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: "من هذه يا عائشة؟ قالت: يا رسول الله هذه فلانة، وهي أعبدُ أهل المدينة" فظاهر هذه الرواية أن مدحها كان في غيبتها. وقوله: "مهْ" بسكون الهاء، وينوّن في الوصل، ومعناه: اكفف، يقال: مَهْمَهْتُهُ إذا زجرتُه، وأصل هذه الكلمة: ما هذا؟ كالإنكار، فطرحوا بعض اللفظة، فقالوا: مه، فصيروا الكلمتين كلمة، وهذا الزجر يحتمل أن يكون لعائشة، والمراد نهيُها عن مدح المرأة بما ذكرت، ويحتمل أن يكون المراد النهي عن ذلك الفعل، وقد أخذ بذلك جماعة من الأئمة، فقالوا: تكره صلاة جميع الليل كما سيأتي في محله إن شاء الله تعالى. وقوله: "عليكُم بما تُطيقون" أي اشتغلوا بالذي تستطيعون المداومة عليه من الأعمال، وحذف العائد للعلم به، فمنطوقُهُ يقتضي الأمر بالاقتصار على ما يطاق من العبادة، ومفهومه يقتضي النهي عن تكلف ما لا يطاق، وسبب وروده خاص بالصلاة، ولكن اللفظ عام، وهو المعتبر، وقد عبر بقوله: "عليكم" مع أن المخاطب النساء طلبًا لتعميم الحكم، فغلّب الذكور على الإناث في الذكر. قوله: "فوالله" فيه جواز الحلف من غير استحلاف، وقد يستحب إذا كان في تفخيم أمر من أمور الدين، أو حث عليه، أو تنفير من محذور. قوله: "لا يَمَلُّ الله حتى تملُّوا" هو بفتح الميم في الموضعين، والمَلال استثقال الشيء، ونفور النفس منه بعد محبته، وهو محال على الله تعالى باتفاق، لأنه من صفات المخلوقين. قال المحققون: إن هذا الإطلاق من باب المشاكلة والازدواج، وهو أن تكون إحدى اللفظتين

موافقة للأخرى لفظًا، مخالفة لها معنى، كقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} قال القرطبي: وجه مجازه أنه تعالى لما كان يقطع ثوابه عمن يقطع العمل ملالًا، عبر عن ذلك بالملال من باب تسمية الشيء باسم سببه. وقال الهَرَويّ: لا يقطع عنكم فضله حتى تمَلُّوا سؤاله، فتزهدوا في الرغبة إليه. وقال غيره: معناه: لا يتناهى حقه عليكم في الطاعة حتى يتناهى جهدكم، وهذا كله بناء على أن حتى على بابها في انتهاء الغاية واعتبار مفهومها، وقيل بتاويلها، فقيل: إن معناها: إذا، أي: لا يمل الله إذا مللتم، وهو مستعمل في كلام العرب، كقولهم في البليغ: لا ينقطِعُ حتى تنقطع خصومه؛ لأنه لو انقطع حين ينقطعون لم تكن له عليهم مزَيّة، فالمعنى حينئذٍ أنه لا يمَلُّ. وقال المارَزِيّ: إن حتى هنا بمعنى الواو، فيكون المعنى: لا يمل وتَملون، فنفى عنه الملل، وأثبته إليهم. وقيل: حتى بمعنى حين، وكونه من باب المقابلة اللفظية أليق وأجرى على القواعد، ويؤيده ما وقع في بعض طرق حديث عائشة بلفظ: "اكلَفوا من العملِ ما تُطيقون، فإن الله لا يمَلُّ من الثواب، حتى تملوا من العمل" لكن في سنده موسى بن عبيدة، وهو ضعيف. وقال ابن حِبان في "صحيحه": هذا من ألفاظ التعارف التي لا يتهيأ للمخاطب أن يعرف القصد مما يخاطب به إلا بها، وهذا رأيه في جميع المتشابه. وقوله: "أحبُّ" قال القاضي أبو بكر بن العربي: المحبة من الله تعلق الإرادة بالثواب، أي أكثر الأعمال ثوابًا. أدومُها. وقوله: "إليه" أي إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وصرح به المصنف في الرقاق، وفي رواية المُسْتَمْلي عند المصنف ورواية مسلم وإسحاق بن راهُوية: "إلى الله" وهذه موافقة لترجمة الباب، وليس بين الروايتين تخالف، لأن ما كان أحب إلى الله كان أحب إلى رسوله. وقوله: "ما داوَمَ عليه صاحبُه" أي: وإن قل كما في رواية للمصنف ومسلم. قال النووي: بدوام القليل تتم الطاعة بالذكر والمراقبة والإخلاص

رجاله خمسة

والإقبال على الله تعالى، بخلاف الكثير الشاق حتى ينمو القليل الدائم بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافًا كثيرة. قال ابن الجوزيّ: إنما أحب الدائم لمعنيين، أحدهما: أن التارك للعمل بعد الدخول فيه كالمعرض بعد الوصل، فهو متعرض للذم، ولهذا ورد الوعيد في حق من حفظ آية ثم نسيها، وإن كان قبل حفظها لا يتعين عليه. ثانيهما: أن مداوم الخير ملازم للخدمة، وليس من لازم الباب كل يوم ووقت، كمن لازم يومًا كاملًا ثم انقطع، وهذا الحديث فيه من مزيد شفقته عليه الصلاة والسلام ورأفته بأمته، حيث أرشدهم إلى ما يصلحهم، وهو ما يمكنهم الدوام عليه من غير مشقة، جزاه الله عنا ما هو أهله، والتعبير بأحب هنا يقتضي أن ما لم يداوم عليه صاحبه من الدين محبوبٌ، ولا يكون هذا إلا في العمل ضرورة لأن ترك الإيمان كفر، وفي الحديث الدلالة على استعمال المجاز، وفضيلة المداومة على العمل. رجاله خمسة: الأول محمد بن المثنى وقد مر في التاسع من كتاب الإيمان هذا. والثاني يحيى بن سعيد القطان، وقد مر في السادس منه أيضًا، ومر هشام بن عروة، وأبوه عروة، وعائشة أم المؤمنين في الثاني من بدء الوحي. وفي الحديث قلت فلانة ولم يسمها البخاري، وسماها مالك في "الموطأ"، ومسلم، وهي الحولاء بنت تُوَيْت بن حبيب بن أسد بن عبد العُزّى، وتُوَيْت -بضم التاء- مصغر، وكانت امرأة صالحة عابدة مهاجرة، وهي من وهي أمنا خديجة رضي الله عنها. وهذا الحديث أخرجه مالك في "الموطأ"، ومسلم، والنسائي في الإيمان عن شعيب بن يوسف. باب زيادة الإِيمان ونقصانه، وقول الله تعالى: {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} وقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فإذا ترك شيئًا من الكمال فهو ناقص.

باب بالإضافة لتاليه قطعًا، وقد تقدم له قبل هذا بأبواب عديدة باب تفاضل أهل الإِيمان في الأعمال، وأورد فيه حديث أبي سعيد الخُدْري بمعنى حديث أنس الذي أورده هنا، فتعقب عليه بأنه تكرار، وأجيب عنه بأن الحديث لما كانت الزيادة والنقصان فيه باعتبار الأعمال، أو باعتبار التصديق، ترجم لكل مني الاحتمالين، وخص حديث أبي سعيد بالأعمال لأن سياقه ليس فيه تفاوت في المَوْزُونات، بخلاف حديث أنس الآتي، ففيه التفاوت في الإيمان القائم بالقلب من وزن الشعيرة والبُرّة والذَّرّة. قوله: "وقول الله تعالى: {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} وإنما أعاد المصنف الآيتين المذكورتين في هذا الباب، وقد مرتا في أول كتاب الإيمان ليوطىء بهما معنى الكمال المذكور في الآية الثالثة، لأن الاستدلال بهما نصٌّ في الزيادة، وهو يستلزم النقص، وأما الكمال فليس نصًّا في الزيادة، بل هو مستلزم للنقص فقط، واستلزامه للنقص يستدعي قبوله الزيادة، ومن ثم قال المصنف: "فإذا تركَ شيئًا من الكمال فهو ناقص" ولهذه النكتة عدل في التعبير بالآية الثالثة عن أسلوب الآيتين، حيث قال أولًا: "وقول الله" وقال ثانيًا: "وقال"، وبهذا التقرير يندفع اعتراض من اعترض عليه بأن آية: {أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينُكُمْ} لا دليل فيها على مراده، لأن الإكمال إن كان بمعنى إظهار الحجة على المخالفين، أو بمعنى إظهار أهل الدين على المشركين، فلا حجة للمصنف فيه، وإن كان بمعنى إكمال الفرائض لزم عليه أنه كان قبل ذلك ناقصًا، وأن من مات من الصحابة قبل نزول الآية كان إيمانه ناقصًا، وليس الأمر كذلك؛ لأن الإيمان لم يزل تامًّا، ويوضح دفع هذا الاعتراض جواب أبي بكر بن العربي بأن النقص أمر نسبيّ، لكن منه ما يترتب عليه الذم، ومنه ما لا يترتب، فالأول ما نقصه بالاختيار، كمن علم وظائف الدين ثم تركها عمدًا، والثاني ما نقصه بغير اختيار، كمن لم يعلم أو لم يكلف، فهذا لا يُذم، بل يُحمد من جهة أنه كان قلبه مطمئنًا، بأنه لو زيد لقبِلَ، ولو كُلِّف لعَملَ، وهذا شأن الصحابة الذين ماتوا قبل نزول الفرائض، ومحصله

أن النقص بالنسبة إليهم صوريٌّ نسبيٌّ، ولهم فيه رتبة الكمال من حيث المعنى، وهذا نظير قول من يقول: إن شرع محمد أكمل من شرع موسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام، لاشتماله على ما لم يقع في الكتب التي قبله من الأحكام، ومع هذا فشرع موسى في زمانه كان كاملًا، وتجدد في شرع عيسى بعده ما تجدد، فالأكمليةُ أمر نسبي كما تقرر، وقد وقع الاستدلال بهذه الآية لسفيان بن عُيينة بنظير ما أشار إليه البخاري، أخرجه أبو نُعَيْم في "الحلية" في ترجمته عن عمرو بن عُثمان الرَّقّي، قال: قيل لابن عُيينةَ: إن قومًا يقولون: الإيمان كلامٌ، فقال: كان هذا قبل أن تنزل الأحكام، فأُمر الناس أن يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا دماءَهم وأموالهم، فلما علم الله صدقهم أمرهم بالصلاة، ففعلوا، ولو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار، فذكر الأركان إلى أن قال: فلما علم الله ما تتابَع عليهم من الفرائضِ، وقبولهم، قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}، فمن ترك شيئًا من ذلكَ كسلًا أو مُجونًا أدّبناه عليه، وكان ناقص الإيمان، ومن تركها جاحدًا كان كافرًا. وتبعه أبو عُبيد في كتاب "الإيمان" له، وزاد: إن بعض المخالفين لما أُلزم بذلك أجاب بأن الإيمان ليس هو مجموع الدين، إنما الدين ثلاثة أجزاء، الإيمان جزء، والأعمال جزءان لأنها فرائض ونوافل، وتعقبه بأنه خلاف ظاهر القرآن، وقد قال الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} والإِسلام حيث أطلق مفردًا دخل فيه الإيمان كما مر تقريره.

الحديث السابع والثلاثون

الحديث السابع والثلاثون حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ "يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَفِى قَلْبِهِ وَزْنُ شَعِيرَةٍ مِنْ خَيْرٍ، وَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَفِى قَلْبِهِ وَزْنُ بُرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ، وَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَفِى قَلْبِهِ وَزْنُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ". قوله: "يخرجُ من النارِ" بفتح أوله وضم الراء، ورُوي بالبناء للمجهول، ويؤيد هذه الرواية قوله في الرواية الأخرى: "أخْرِجوا". وقوله: "من قال" في محل رفع على الوجهين، فعلى الأول على الفاعلية، وعلى الثاني على النيابة عن الفاعل، ومن موصولة، ولاحقها جملة صلتها. قوله: "لا إله إلا الله" هو مقول القول، يعني مع قول: محمد رسول الله، فالجزء الأول علم على المجموع كـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} علم على السورة كلها، فتقول قرأت {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تريد جميع السورة، وفيه دليل على اشتراط النطق بالتوحيد، أو المراد بالقول النفسي، فالمعنى: من أقر بالتوحيد وصدق، فالإقرار لابد منه، وقد مر استيفاء الكلام على هذا في باب تفاضل أهل الإيمان. وقوله: "وفي قلبه وزنُ شَعيرةٍ من خير" المراد بالخير الإيمان، كما في رواية أبان الآتية قريبًا، والمراد به الإيمان، بجميع ما جاء به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كما مر مستوفى، والجملة في موضع الحال، والتنوين في خير للتقليل المرغب في تحصيله، لأنه إذا حصل الخروجُ بأقلِّ ما ينطلق عليه اسم الإيمان، فبالكثير منه أولى، وإنما عبر فيه بالوزن،

وهو إنما يُتصور في الأجسام دون المعاني لأنه شبه الِإيمان بالجسم، وأضافَ إليه ما هو من لوازمه وهو الوزن. وقوله: "وزن بُرَّةٍ" بضم الموحدة وتشديد الراء المفتوحة، أي: القمحة، ومقتضاه أن وزن البُرة دون وزن الشعيرة، لأنه قدم الشعيرة، ثم تلاها بالبرة، ثم الذَّرة، وهو كذلك في بعض البلاد، وإن قيل: السياق بالواو، وهو لا ترتيب فيه، فالجواب أن رواية مسلم من هذا الوجه بلفظ "ثم" وهي للترتيب. وقوله: "وزن ذَرَّة من خير" هي بفتح المعجمة وتشديد الراء المفتوحة، وصحَّفَها شعبة كما في مسلم، فقال: ذرة -بضم المعجمة وتخفيف الراء- وكأنه حمله على ذلك مناسبتها للشعيرة والبرة لكونها من الحبوب، والذَّرة، قيل: هي واحدة الذّر، وهو كما في "القاموس" صغار النمل، ومئة منها زنة حبة من شعير، ولغيره: إن أربع ذرات وزن خَرْدَلة، أو هو الهباء الذي يظهر في شعاع الشمس مثل رؤوس الإبر، أو هو الساقط من التراب بعد وضع كفك فيه ونفضها. ورُوي عن ابن عباس أنه قال: إذا وضعتَ كفَّك في التراب، ثم نفضتها، فالساقط هو الذَّر. وقيل: هي أقل الأشياء الموزونة، وللمصنف في أواخر التوحيد: أدخل الجنة من كان في قلبه خردلة، ثم من كان في قلبه أدنى شيء، وهذا معنى الذرة، فوزن الذَّرة هو التصديق الذي لا يجوز أن يدخله النقص، وما في البُرة والشعيرة من الزيادة على الذَّر فإنما هو من زيادة الأعمال التي يكمُلُ التصديق بها، وليست زيادة في نفس التصديق، قاله المهلب، وقال في "الكواكب": وإنما أضاف هذه الأجزاء التي في الشعيرة والبرة الزائدة على الذرة إلى القلب، لأنه لما كان الإيمان التام إنما هو قول وعمل، والعمل لا يكون إلا بينة وإخلاص في القلب، فلذا جاز أن ينسب العمل إلى القلب، إذ تمامُه بتصديق القلب. وقال ابن بَطّال: التفاوت في التصديق على قدر العلم والجهل، فمن قلَّ علمُه كان تصديقه مثلًا بمقدار ذَرة، والذي فوقه في العلم تصديقه بمقدار بُرة أو شعيرة، إلا أن التصديق

رجاله أربعة

الحاصل في قلب كل واحد منهم لا يجوز عليه النقصان، وتجوز عليه الزيادة بزيادة العلم والمعاينة، وبالجملة فحقيقة التصديق واحدة لا تقبل الزيادة والنقصان، فليس المراد من هذه المقادير الإيمان الذي يُعبر به عن التصديق والإقرار، بل المراد به ما يوجد في قلوب المؤمنين من ثمرة الإيمان، وهو على وجهين: أحدهما: ازدياد اليقين وطمأنينة النفس؛ لأن تضافر الأدلة أقوى للمدلول عليه وأثبت لعدمه، والثاني: أن يرادَ العمل، وأن الإيمان يزيد وينقص بالعمل، وينصر هذا الوجه قوله في حديث أبي سعيد: "لم يعمَلُوا خيرًا قطُّ" فإن قيل: التصديق القلبيُّ كافٍ في الخروج، إذ المؤمن لا يَخْلُدُ في النار، وأما قوله لا إله إلا الله فلإجراء أحكام الدنيا عليه، فما وجه الجمع بينهما؟ أُجيب بأن المسألة مختَلَفٌ فيها، فقال جماعة: لا يكفي مجرد التصديق، بل لابد من القول والعمل أيضًا، وعليه البُخاري، أو المراد بالخروج هو بحسب حكمنا به، أي الحكم بالخروج لمن كان في قلبه إيمان ضامًّا إليه عنوانه الذي يدُلُّ عليه، إذ الكلمة هي شِعار الإيمان في الدنيا، وعليه مدار الأحكام، فلابد منهما حتى يَصِحَّ الحكم بالخروج. وما ذكره في الحديث من ذكر الشَّعيرة والبُرة والذَّرة هو من باب الترقي في الحكم، وإن كان من باب التنزل. ومرت مباحث الحديث في باب تفاضل أهل الإيمان، وستأتي إن شاء الله تعالى زيادة لذلك عند حديث الشفاعة الطويل في الرقاق. رجاله أربعة: الأول: مسلم بن إبراهيم أبو عَمْرو البَصْرِيّ الأزْدِي مولاهم الفراهيدي. قال ابن مَعين: ثقة صدوق. وقال ابن سَعْد: كان ثقةً كثير الحديث. وقال ابن حِبّان في "الثقات": كان من المتقنين. وقال ابن قاء: بصريّ صالح. وكان أتى عليه نيّف وثمانون سنة. وقال العِجْليّ: كان ثقةً عمي

بأخرة. وقال أبو زُرعة: سمعت مسلم بن إبراهيم يقول: ما أتيتُ حلالًا ولا حرامًا قطُّ. قال أبو حاتم: وكان لا يحتاج إليه. وقال أبو حاتم: ثقة صدوق. وقال نصر بن علي: سمعت مسلم بن إبراهيم يقول: قعدت مرة أُذاكر شعبة عن خالد بن قيس، فقال: كِدت تلقى أبا هُريرة. وقال الفَضْلُ بن سَهْل: سمعت ابن مَعين يقدم مُسلم بن براهيم على مُعاذ بن هشام، ويقول: لا أجعلُ رجلًا لم يَرْوِ إلا عن أبيه كرجلٍ روى عن الناس. وقال أبو داود: روى مسلم بن إبراهيم عن قريبٍ من ألف شيخ، وقد قال: كتبت عن ثمان مئة شيخ، ما جزت الجسر. وقال أبو داود أيضًا: كان يحفظ حديث قُرَّة وهشام وأبان العطار يهذُّه هذًّا، وهو أحب إلينا من ابن كثير، كان ابن كثير لا يحفظ، وكانت فيه سَلاقة. روى عن: عبد السلام بن شَدّاد، وجَرير بن حازِم، وأبان بن يَزيد، وشعبة، وصالح المُرِّي، وقرة بن خالد، وهمّام بن يحيى، وهشام الدَّسْتُوَائي، وجماعة. وروى عنه البخاري، وأبو داود. وروى أبو داود أيضًا والباقون له بواسطة رجل، وروى عنه يحيى بن مَعين، وبُندار، وأبو زُرعة، وأبو حاتم، ومحمد بن إسحاق الصَّنْعاني، وعمرو بن منصور النَّسائي، وغيرهم. مات بالبصرة في صفر سنة اثنتين وعشرين ومئتين. وليس في الستة مسلم بن إبراهيم سواه، وأما مسلم فكثير. والفَراهِيدي في نسبه نسبة إلى فَرْهُود أبو بطن من الأزد، منهم الخليل بن أحمد العَرُوضِي النَّحْوِيّ، وهو فرْهودِي وفَراهِيدي. رُوي عن الأصْمعي أنه قال: سألت الخليل بن أحمد: ممن هو؟ فقال من أزدِ عُمان، من فراهيد. قلت: وما فَراهيد؟ قال: جرو الأسد بلغة عمان، قال الرُّشَاطِي: في الأزد الفَراهِيد بن شَبّابة بن مالك بن فَهْم بن غُنْم بن دَوْس. وقال ابن دُريد: فَرْهود بن شَبّابة. وفي "البغية" هو

فراهيد بن مالك بن فَهْم بن عبد الله بن مالك بن نَضْر بن الأزْد، والفرهودُ لغةً الغليظ الناعم، وولد الأسد، وولد الوعل، والفراهيد صغار الغَنَم كأنه جمع فرهود. والأزْدِيُّ في نسبه مر الكلام عليه في السادس من بدء الوحي. الثاني: هشام بن أبي عبد الله الدَّسْتَوائي أبو بكر البَصْريّ الرَّبَعي، واسم أبيه سَنْبَر -بفتح المهملة والباء الموحدة بينهما نون ساكنة-. قال أبو داود الطَيالسيّ: هشام الدَّسْتَوائي أمير المؤمنين في الحديث، وقال يزيد بن زُريع: كان أيوب قبل الطاعون يأمُرنا بهشام والأخذ عنه. وقال شُعبة: ما من الناس أحد أقول إنه طَلَب الحديث يريد به وجه الله تعالى إلا هشام، وكان يقول: ليتنا ننجو منه كفافًا. قال شعبة: فإذا كان هشام يقولُ هذا فكيف نحن؟ وقال أيضًا: كان أحفظ مني عن قتادة، وفي روايةٍ كان أعلم مني بحديث قتادة. وذكره ابن عَليَّة في حفاظ البصرة. وقال وكيع: حدثنا هشام، وكان ثبتًا. وقال ابن مَعين: كان يحيى بن سَعيد إذا سمع الحديثَ عن هشامٍ لا يُبالي أن لا يسمعه من غيره. وقال أبو حاتِم: حدثنا أبو نُعيم، حدثنا هشام الدَّسْتُوائي، وأثنى عليه خيرًا، قال: وما رأيتُ أبا نُعيم يحثُّ على أحدٍ إلا على هشام. وقال أبو حاتم أيضًا: سألت أحمد بن حَنْبل عن الأوْزاعِي والدَّستَوائي: أيُّهما أثبت في يحيى بن أبي كَثير؟ قال: الدَّسْتَوائي لا تسال عنه أحدًا، ما أرى الناس يروون عن أحد أثبت منه، أما مثله فعسى، وأما أثبت منه فلا. وقال أبو حاتم أيضًا: سألت ابن المديني: من أثبت أصحاب ابن أبي كثير؟ قال: هشام، قلت: ثم أيّ؟ قال: ثم الأوزاعيّ، وسمى غيره، قال: فإذا سمعتَ الحديث عن هشامٍ عن يحيى فلا تردْ به بدلًا. وقال صالح بن أحمد بن حَنْبل: قال أبي: هشام الدَّستَوائي أكثر في يحيى بن أبي كَثير من أهل البصرة، وفي رواية هو أرفعُ من شَيْبان. وقال ابن البَراء عن ابن المديني: ثبث. وقال ابن أبي حاتِم: سألت أبي وأبا زُرْعة: من أحب إليكما من

أصحاب يحيى بن أبي كثير؟ قالا: هشام، قالا: والأوزاعيُّ بعده، زاد عن أبي زُرعة، لأن الأوزاعي ذهبت كتبه. قال: وأثبت أصحاب قتادة هشام وسعيد. قال: وسئل أبي عن هشام وهَمّام أيُّهما أحفظ؟ فقال: هشام. وقال العِجْليّ: بصريٌّ ثقة ثبت في الحديث حجة، إلا أنه يرى القدر. وقال البزّار: الدَّسْتَوائي أحفظ من أبي هِلال. وقال أبو إسحاق الجُوزْجاني: كان ممن تكلم في القدر، وكان من أثبت الناس. روى عن: قتادة، ويونس الإسْكاف، ويحيى بن أبي كثير، وعامر بن عبد الواحد الأحْول، ومطر الوَرّاق، وأبي الزبير، والقاسم بن عَوْف وحمّاد بن أبي سُليمان، وابن أبي نُجَيْح، وغيرهم. وروى عنه: ابناه عبد الله ومعاذ، وشعبة هو من أقرانه، وابن المبارك، وابن مهدي، ويحيى القطان، وإسماعيل ابن عُلَيّة، والنَّضْر بن شُميْل، وأبو داود، وأبو الوليد الطّيالسيّان، ومُعاذ بن فَضَالة، وأبو نُعيم، ومُسلم ابن إبراهيم، وآخرون. كان بينه وبين قَتَادة في المولد سبع سنين، ومات سنة اثنتين وخمسين ومئة عن ثمان وسبعين سنة، وقيل: سنة أربع أو ثلاث، وليس في الستة ابن أبي عبيد الله ولا ابن سَنْبر سواه، وأما هشام فكثير. والرَّبَعيّ في نسبه محركة نسبة إلى ربيعة بن مَعْد بن عدنان أبو قبيلة عظيمة ذات قبائل وعمائر ويطون وأفخاذ، ويقال لهم: ربيعةُ الفَرَس، وإنما قيل لهم ذلك لأن ربيعة أعْطِي من ميراث أبيه الخيل، وأعطي أخوه مُضر الذهب، فسُمِّي مُضر الحمراء، وأعطي أخوهما أنمار الغنم، فسُمي أنمار الشاء، وفي عقيل ربيعتان، ربيعة بن عقيل أبو الخُلَعاء، أُمهم أُم أُناس بنت أبي بكر بن كلاب، كانوا لا يعطون الطاعة لأحد، والخُلَعاء الذين هم أولاد ربيعة هذا خمسة: رباح، وعمرو، وعامر، وعُوَيْمر، وكعب. قال الشاعر: فلو كُنت من رَهْطِ الأصمِّ بن مالكٍ ... أو الخُلَعاءِ أو زُهيرٍ بَني عبسِ

اذا لزمت قيس وراء لي بالحصى ... وما أسلم الجاني لما جر بالأمس والثاني: ربيعة بن عامِر بن عقيل وهو أبو الأَبْرص، وقحافة، وعرعرة، وقرة، وفي تميم ربيعتان الكبرى وهي ربيعة بن مالِك بن زَيْد مَناة بن تَميم وتدعى ربيعة الجوع، والصغرى وهي ربيعة بن حَنْظَلة بن مالِك بن زَيْد مناة بن تميم، وفي هوازِن ربيعة بن عامر بن صَعْصَعة وهم بنو مجد، ومجدٌ أمهم وهي مجد بنت تميم بن غالب بن فِهْر. والدستوائي في نسبه بفتح الدال والتاء بينهما سين ساكنة مهملة نِسبة إلى دَسْتَواء كُورة من كور الأهواز، كان يبيع الثياب التي تجلب منها، فنُسبَ إليها، وقيل: الدَّاستَواني -بالقصر والنون- مثل بَحْراني، والمشهور الأول، وضبطه السمعاني بضم التاء المثناة من فوق. الثالث: قَتادة بن دِعامة، والرابع أنس بن مالِك، وقد مرّا في السادس من كتاب الإيمان هذا. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة، ورواته كلهم بصريون، وكلهم أئمة أجِلاء، وهذا الحديث أخرجه المؤلف هنا وفي التوحيد عن مُعاذ بن فَضالة، ومسلم في الإيمان عن محمد بن المِنْهال، وغيره، والتِّرمِذي في صفة جهنم عن محمود بن غَيْلان، وقال: حسن صحيح اهـ. قال أبو عبد الله. قال أبان: حدثنا قَتادة: حدثنا أنس، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من إيمانٍ مكان خير. وفائدة إيراد المصنف لهذا التعليق من جهتين، إحداهما: تصريح قتادة فيه بالتحديث عن أنس، لأن قَتادة مُدَلِّس لا يُحتجُّ بعنعنته إلا إذا ثبت سماعه للذي عنعن عنه، ثانيتهما: تعبيره في المتن بقوله: "من إيمان" بدل قوله: "من خير" فبين أن المراد بالخير هنا الإيمان، فإن قيل على الأولى لم لم يكتفِ بطريق أبان السالمة من التدليس ويسوقها

موصولة؟ فالجواب أن أبان وإن كان مقبولًا، لكن هشامًا أتقن منه وأضبط، فجمع المصنف بين المصلحتين. والمراد بأبي عبد الله البُخاري نفسه، وهو من تعليقات البخاري، وقد وصله الحاكم في كتاب "الأربعين" من طريق أبي سلمة موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا أبان بن يزيد .. إلخ. وأبان هو ابن يزيد العطار أبو يزيد البَصْرِيّ. قال أحمد: ثبتٌ في كل المشايخ. وقال ابن مَعين: ثقة. وكان القطان يروي عنه، وكان أحب إليه من هَمّام، وهَمّام أحب إلي منه. وقال النسائي ثقة. وقال أبو حاتم: هو أحب إليّ من همّام في يحيى بن أبي كَثير. وقال أيضًا: هو أحب إلي من شَيْبان. وقال ابن المديني: كان عندنا ثقة. وقال العِجْليّ: بصري ثقة، وكان يرى القدر ولا يتكلم فيه. وقال أحمد: هو أثبت من عِمران القطان. وذكره ابن عَدي في "الكامل"، وأورد له حديثًا فردًا، ثم قال: له روايات، وهو حسن الحديث متماسك، يُكتب حديثه، وله أحاديث صالحة عن قَتادة وغيره، وعامتها مُستقيمة، وأرجو أنه من أهل الصدق. وذكره ابن حِبّان في "الثقات"، وذكره ابن الجَوْزِيّ في "الضعفاء"، وحكى من طريق الكُدَيْميّ، عن ابن المديني، عن القطان قال: أنا لا أروي عنه ولم يذكر مَنْ وثقه، وهذا من عيوب كتابه، يذكر من طَعنَ في الراويّ، ولا يذكر من وثقه، والكُدَيْمي ليس بمعتمد، وقد أسلفنا قول ابن مَعين أن القطان كان يروي عنه فهو المعتمد. قال ابن حجر: لم يذكره أحد ممن صنف في رجال البخاري من القدماء، ولم أر له عنده إلا أحاديث معلقة في "الصحيح" سوى موضع واحد في المزارعة، فقال فيه البخاري: قال لنا مسلم بن إبراهيم: حدثنا أبان، فذكر حديثًا، فإن كان هذا موصولاً فكان ينبغي للمِزِّي أن يُرقِّم لحماد بن سلمة رقم البُخاري في الوصل لا في التعليق، فإن البخاري قال في الرقاق: قال لنا أبو الوليد: حدثنا حمّاد بن سَلَمة، فذكر حديثًا.

روى عن يَحيى بن سعيد الأنْصاري، وهشام ابن عُروة، وعمرو بن دينار، وقتادة، ويحيى بن أبي كَثير، وعاصِم بن بَهْدلة، وغيرهم. وروى عنه ابن المُبارك، والقطان، ومسلم بن إبراهيم، وموسى بن إسماعيل، ويزيد بن هارون، وأبو الوليد، وغيرهم. وأبان وزنه فَعَال كغزال، فعلى هذا يكون منصرفًا، والهمزة فاء الكلمة أصلية، والألف زائدة وهو الصحيح، حتى قال بعضهم: لا يمنع صرفَ أبان إلا أتان، وقال ابن مالك: أبان لا ينصرف لأنه على وزن أفعل منقول من أبان يُبين، ولو لم يكن منقولًا لوجب أن يقال فيه: أبْيَن بالتصحيح. مات بعد بضع وستين ومئة، وليس في الستة أبان بن يزيد سواه، وأما أبان بدون يزيد فهو تسعة.

الحديث الثامن والثلاثون

الحديث الثامن والثلاثون حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ سَمِعَ جَعْفَرَ بْنَ عَوْنٍ حَدَّثَنَا أَبُو الْعُمَيْسِ أَخْبَرَنَا قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- أَنَّ رَجُلاً مِنَ الْيَهُودِ قَالَ لَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ آيَةٌ فِى كِتَابِكُمْ تَقْرَءُونَهَا لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ نَزَلَتْ لاَتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا. قَالَ أَىُّ آيَةٍ قَالَ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا}. قَالَ عُمَرُ قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ وَالْمَكَانَ الَّذِى نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ. وقوله: "أن رجلًا من اليهود" هذا الرجال هو كعب الأحبار قبل أن يُسلم كما قاله الطبراني في "الأوسط" ومُسَدَّد في "مسنده"، والطبري في "تفسيره"، كلهم من طريق رجاء بن أبي سلمة، عن عُبادة بن نُسَيّ بضم النون وفتح المهملة عنه؛ وللمصنف في المغازي من طريق الثَّوري: "أن ناسًا من اليهود"، وله في التفسير من هذا الوجه بلفظ: "قالت اليهود" فيُحمل على أنهم كانوا حين سؤال كعب عن ذلك جماعة، وتكلم كعب على لسانهم، وكعب عرفناه في الحديث الخامس والعشرين والأربع مئه من المغازي. وقوله: "آيةٌ في كتابكم" مبتدأ سَوَّغَ الابتداء به وصفه بما بعده، أو بالتعظيم المستفاد من التنوين، أي: آية عظيمة. وقوله: "لو علينا" هو الخبر، أي: لو نزلت علينا، كقوله: {لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ} أي: لو تملكون أنتم؛ لأن لولا تدخل إلا على الفعل، فحذف الفعل لدلالة الفعل المذكور.

وقوله: "معشر اليهود" بالنصب على الاختصاص بأَعني ونحوه، والمعشر الجماعة شأنهم واحد. وقوله: "لاتَّخذنا ذلك اليوم عيدًا" أي: لعظمناه وجعلناه عيدًا لنا في كل سنة، لعظم ما حَصَل فيه من كمال الدين، والعيد فعْلٌ من العَوْد، وإنما سمي به لأنه يعود في كل عام. وقوله: "أيُّ آية" أي: هي، فالخبر محذوف، ولم يقل: ما تلك الآية؟ لأن السؤال بأي عن تعيين المشارك، والمطلوب تعيين تلك الآية، وما يُسأل بها عن الحقيقة، وليست مرادة هنا. وقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} أي: بالنصر والإظهار على الأديان كلها، أو بالتنصيص على قواعد العقائد والتوقيف على أصول الشرائع وقوانين الاجتهاد. وقوله: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} أي: بالهداية والتوفيق، أو بإكمال الدين، أو بفتح مكة وهدم منارات الجاهلية. وقوله: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} أي: اخترته لكم من بين الأديان، وهو الدين عند الله. وقوله: "قال عُمر" أي: رضي الله عنه، وفي رواية: "فقال عُمر". وقوله: "الذي نزلت فيه على النبي" وفي رواية الأصيلي: "أُنزلت" وفي رواية: "على رسول الله". وقوله: "وهو قائمٌ بعرفة" أي: والحال أنه قائم، وعرفة غير مصروف للعلمية والتأنيث، وفي رواية لمسلم زيادة: "والساعة التي نزلت فيها" وفي رواية أبوي ذرٍّ والوقت: "يوم الجمعة" بالتعريف، وإنما لم يمنع من الصرف على الأولى كما في عرفة لأن الجُمعة صفة أو غير صفة، وليس علمًا، ولوكانت علمًا لامتنع صرفها، وهي بضم الميم وفتحها وإسكانها،

فالمتحرك بمعنى الفاعل كضحَكة بمعنى كثير الضحك، والمسكن بمعنى المفعول كضُحكَة أي: مضحوك عليه، فالمعنى إما جامع للناس، أو مجموع له، وهذه قاعدة كلية، قال الناظم: ورَجُلٌ ضُحكَةٌ كثيرُهُ ... وضُحْكةٌ يَضْحكُ منه غيرُهُ وإنما لم يقل عمر: جعلناه عيدًا ليوافق جوابه السؤال، وإنما أجاب بمعرفة الوقت والمكان لما ثبت في "الصحيح" من أن النزول كان بعد العصر، ولا يتحقق العيد إلا من أول النهار، وقد قالوا: إن رؤية الهلال بعد الزوال للقابلة. وفي "الفتح": وعندي أن هذه الرواية اكتفى فيها بالإشارة، وإلا فرواية إسحاق عن قَبيصة نصَّت على المراد، ولفظه: "نزلت يومَ جُمعة، يومَ عرفة، وكلاهما بحمد الله لنا عيد" لفظ الطبري والطبراني: "وهما لنا عيدان" وكذا عند الترمذي عن ابن عباس أن يهوديًّا سأله عن ذلك، فقال: نزلت في يوم عيدين، يوم جمعة. ويوم عرفة. فظهر أن الجواب تضمن أنهم اتخذوا ذلك اليوم عيدًا، وهو يوم الجمعة، واتخذوا يوم عرفة عيدًا لأنه ليلة العيد، وهكذا جاء في الحديث الآتي في الصيام: "شهرا عيدٍ لا ينقصان رمضان وذو الحجة" فسمى رمضان عيدًا لأنه يعقُبُه العيد. وقال النووي: فقد اجتمع في ذلك اليوم فضيلتان وشرفان، ومعلوم تعظيمنا لكل منهما، فإذا اجتمعا زاد التعظيم، فقد اتخذنا ذلك اليوم عيدًا فعظمناه، وعظمنا مكان نزول الآية. فإن قيل: كيف دلت هذه القصة على ترجمة الباب وهي الزيادة والنقصان في الإيمان؟ فالجواب من جهة أنها بينت أن نزولها كان بعرفة، وكان ذلك في حجة الوداع التي هي آخر عهد البعثة حين تمت الشريعة وأركانها، وقد جزم السُّدِّيّ بأنه لم ينزل بعد هذه الآية شيء من الحلال والحرام.

رجاله ستة

رجاله ستة: الأول: الحسن بن الصَبّاح -بتشديد الموحدة- ابن محمد البزّار أبو علي الواسطيّ البَغْدادي. قال أحمد: اكتب عَنه ثقة صاحب سنة. وقال الخلال: قال أحمد: ما يأتي يوم على البزار إلا وهو يعمل فيه خيرًا. وقال أبو حاتم: صدوق، وكانت له جلالة عجيبة ببغداد، كان أحمد يرفع من قدره ويجِلُّه. وقال أبو قُريش محمد بن جُمعة: حدثنا الحسن بن الصبّاح، وكان أحد الصالحين. وقال النَّسائي في "أسماء شيوخه": بغدادي صالح. وقال في "الكنى": ليس بالقوي. وذكره ابن حِبان في "الثقات". وقال السراج: كان من خيار الناس، وكان لا يخضِب. قال ابن حَجر: قول النّسائي في "الكنى" تليين خفيف. وقد روى عنه البخاري وأصحاب السنن إلا ابن ماجه، ولم يكثر عنه البخاري. روى عن ابن عُيينة، وأبي النَّضْر، ووكيع، والوليد بن مُسْلم، وزيد بن الحباب، وأحمد بن حَنْبل، وعلي بن المديني، وروْح بن عُبادة، وغيرهم. وروى عنه البخاري، وأبو داود، والترمذي، وأبو بكر البزّار، وأبو بكر ابن أبي عاصم، وإبراهيم الحربي، والبغَوي، وابن صاعِد، والمحامِلِي خاتمة أصحابه، وجماعة. مات سنة تسع وأربعين ومئتين. وليس في الستة الحسن بن الصبّاح سواه، وأما الحسن فكثير. والواسِطِي في نسبه مر الكلام عليه في الخامس من بدء الوحي، والبغداديُّ الذي فيه أيضًا مر في الرابع من كتاب الإيمان.

الثاني: جعفر بن عَوْن بن جعفر بن عَوْن بن حُريْث أبو عَوْن المَخْزومي الكوفي. قال أحمد: رجل صالح ليس به بأس. وقال أبو أحمد، الفرّاء: قال لي أحمد: عليك بجعفر بن عَوْن. وقال ابن مَعين: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق، وذكره ابن حِبّان وابن شاهين في "الثقات". وقال ابن قانع في "الوفيات": كان ثقة. روى عن إسماعيل بن أبي خالد، والأعمش، وهشام بن عُروة، ويحيى بن سعيد المَسعودي، وجماعة. وروى عنه أحمد بن حَنْبل والحسن بن علي الحُلواني، وإسحاق بن راهُويه، وبُنْدار، وهارون الحمال، وابنا أبي شَيْبة، ومحمد بن أحمد بن أبي المثنى الموْصِلِي خاتمة أصحابه. مات سنة ست ومئة وهو ابن سبع وثمانين سنة. وليس في الستة جعفر بن عَوْن سواه، وأما جعفر فكثير. والمَخْزومِي في نسبه مر الكلام عليه في الأول من كتاب الإيمان، ومر الكلام على الكوفي أيضًا في الثالث منه. الثالث: عُتبة بن عبد الله بن عُتبة بن عبد الله بن مسعود أبو العُمَيْس -مصغر- الهُذَلي المَسْعوديّ الكوفي. قال أحمد وابن مَعين: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وذكره ابن حِبّان في "الثقات". وقال ابن سعد: كان ثقة. وقال علي بن المديني: له نحو أربعين حديثًا. روى عن: أبيه، وعَوْن بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود، وإياس بن سَلَمة بن الأكوع، وعامر بن عبد الله بن الزُّبير، وسعيد بن أبي بُردة، وطائفة.

وروى عنه ابن إسحاق وهو من أقرانه، وشُعبة، ووكيع، وعبد الواحد بن زياد، وجعفر بن عَوْن، وأبو نُعيم، وحَفْص بن غِياث، وغيرهم. مات سنة عشرين ومئة. وفي الستة عتبة بن عبد الله سواه اثنان، أحدهما: ابن عبد الله بن عتبة اليُحْمَدي -بضم المثناة التحتية- أبو عبد الله الأزْدِيّ. روى عن مالك وابن المبارك، وروى عنه النسائي ووثقه. والثاني: ابن عبد الله حِجَازي، وقيل: إنه ابن عُبيد الله، روى عن أسماء بنت عُميس حديثًا في الاستمشاء بالسنا، روى له الترمذي. الرابع: قيس بن مُسلِم الجدَليّ العَدْواني أبو عَمْرو الكوفي. قال علي عن يحيى: كان مُرجئيًّا، وهو أثبت من أبي قيس. وقال أحمد بن حَنْبل: ثقة في الحديث. وقال أحمد عن سفيان: كانوا يقولون ما رفع رأسه إلى السماء منذ كذا وكذا تعظيمًا لله تعالى. وقال ابن مَعين وأبو حاتم: ثقة. وقال أبو داود: كان مرجئيًا. وقال النَّسائي: ثقة، وكان يرى الإرجاء. وعن أبي داود، عن شعبة أنه ذكره فجعل يُلَيِّنه. وذكره ابن حِبان في "الثقات". وقال ابن سَعْد: كان ثقة ثبتًا له حديث صالح. وقال العجليّ: كوفي ثقة. وقال يعقوب بن سُفيان: ثقة ثقة، وكان مرجيئًّا. روى عن طارق بن شِهاب، ومجاهد، والحسن بن محمد ابن الحنفية، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وسعيد بن جُبيْر، وغيرهم. وروى عنه: الأعمش، وشعبة، والثوريّ، ومِسْعَر، ومالك بن مِغْوَل، وأبو العُمَيسْ، وإبراهيم بن محمد بن المُنتَشِر، والربيع بن لوط، وعُتبة ابن يَقْظان، وآخرون. مات سنة عشرين ومئة. وفي الستة قَيْس بن مسلم سواه واحد، وهو المَذْحِجيّ شامي روى

عن عُبادة بن الصامت، وروى عنه إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر، وأما قيس فكثير. والجَدَليّ في نسبه محركة نسبة إلى جَديلة بطن من قيس عَيْلان، وهم فَهْم وعدوان ابنا عمرو بن قيس عيلان، والجَدَليّ بطن أيضًا في الأزدْ، وهم بنو جَديلة بن معاوية بن عمرو بن عديّ بن عمرو بن مازن ابن الأزْد، وفي طيء أيضًا، وهم بنو جَديلة بنت سُبَيْع بن عمرو بن حُمَيْر أم جُنْدَب وحور ابني خارجة بن سعد بن فطرة بن طيء. الخامس: طارق بن شِهاب بن عبد شَمْس بن سلمة بن هِلال بن عوف بن جُشَم بن زُفَر بن عمرو بن لُؤي بن رهم بن معاوية بن أحمس أبو عبد الله الأحْمسي البَجلِيّ صحابي رأى النبي -صلى الله عليه وسلم-، أدرك الجاهلية. روى عنه قيس بن مسلم أنه قال: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم-، وغزوت في خلافة أبي بكر بإسناد حسن، وبه قال: قدم وقد بجيلة على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ابدؤوا بالأحْمَسيّين" ودعا لهم. قال يحيى بن معين: ثقة. وقال العِجْلي: طارق بن شِهاب الأحْمَسي من أصحاب عبد الله، وهو ثقة. روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرسلًا، وعن الخلفاء الأربعة، وبلال، وحُذيفة، وخالد بن الوليد، وابن مسعود، وأبي موسى، وكعب بن عُجْرة، وغيرهم. وروى عنه إسماعيل بن أبي خالد، وقيس بن مُسلم، ومُخارق الأحْمَسيّ، وعلقمة بن مَرْثد، وسِماك بن حَرْب، وجماعة. مات سنة اثنتين وثمانين، وقيل: سنة ثلاث، وقيل: أربع، وغلط من قال: سنة ثلاث وعشرين ومئة. وليس في الستة طارق بن شِهاب سواه، وأما طارق فهو عشرة. والأحْمَسيّ في نسبه مر الكلام عليه في الثالث من كتاب الإيمان،

باب الزكاة من الإسلام وقوله {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة}.

ومرّ الكلام على البَجَليّ في التاسع والعشرين من كتاب الإيمان. السادس: عمر بن الخطاب، وقد مر في الأول من بدء الوحي. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة. والإِخبار، وفيه رواية صحابي عن صحابي، وسنده ثلاثة منهم كوفيون. أخرجه البخاري هنا، وفي المغازي عن محمد بن يوسف، وفي التفسير عن بُنْدار، وفي الاعتصام عن الحُميْدي، ومسلم في آخر الكتاب عن زُهير بن حرب، ومحمد بن المثنى، وغيرهما، والترمذي في التفسير عن ابن أبي عُمر، وقال: حسن صحيح، والنسائي في الحج عن إسحاق بن إبراهيم. باب الزكاة من الإِسلام وقوله {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}. باب بالتنوين، وتجوز إضافته للاحقه. وقوله: "من الإِسلام" أي: من شعبه مبتدأ وخبر، وإنما خص الزكاة بالترجمة لأن باقي ما ذكر في الآية والحديث قد أفرده بتراجم أخرى. وقوله {وَمَا أُمِرُوا} أي: لأبي ذر ولغيره. وقول الله: {وَمَا أُمِرُوا} وهو بالرفع والجر، أي: ما أمر أهل الكتاب في التوراة والإنجيل. وقوله: {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} حال، أي لا يشركون به شيئًا، فما أريد به وجه الله فقط إخلاص ما لم يَشُبْه ركونٌ أوحظٌّ كتطهره لله تعالى مع نية تبرده، وصومه لله تعالى بنية الحِمْية، ونحوها، أو يعتكف لله بمسجدٍ ويدفع مؤنة مسكنه، وهذه النية لا تحبطه لصحة حجه لله تعالى مع نية تجارة إجماعًا، فالإخلاص ما صفا عن الكدر وخلص من الشوائب،

والرياء آفة عظيمة تقلب الطاعة معصية، فالإخلاص رأس جميع العبادات. وقوله: {حُنَفَاءَ} حال ثانية، وهو جمع حَنيف، والحَنفُ في الأصل الميل مطلقًا، ثم استعمل في الميل إلى الخير، وأما الميل إلى الشر فيسمى إلحادًا، والحَنيف المطلق هو الذي يكون متبرئًا عن أصول الملل الخمسة اليهود والنصارى والصابئين والمجوس والمشركين، وعن فروعها من جميع الاعتقادات الباطلة وتوابع ذلك، وهو مقام المتقين، فإذا ترقى العبد منه إلى ترك الشبهات خوفَ الوقوع في المحرمات فهو مَقام الورعين، فإذا زاد حتى ترك بعض المباحات خوفَ الوقوع في الشبهات فهو مقام الأوْرع والزاهد، فالآية جامعة لذلك كله. وقوله: {وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} عطف على يعبدوا، وهو من عطف الخاص على العام، وخصهما بالذكر من بين العبادات لشرفهما، ولأنهما أعظم أركان الإِسلام، وقد مر عند الحديث الأول من كتاب الإيمان الكلام على معنى إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وعلى معنى الصلاة والزكاة مستوفى. وقوله: {دِينُ الْقَيِّمَةِ} أي: دين الملة القيمة، وهو دين الإِسلام، والقيمة المستقيمة، وقد جاء قام بمعنى استقام في قوله تعالى: {أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} [آل عمران: 113]، أي: مستقيمة، فالقيِّمة صفة للجملة المقدرة.

الحديث التاسع والثلاثون

الحديث التاسع والثلاثون حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِى مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ عَمِّهِ أَبِى سُهَيْلِ ابْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ يَقُولُ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ثَائِرُ الرَّأْسِ يُسْمَعُ دَوِىُّ صَوْتِهِ وَلاَ نفْقَهُ مَا يَقُولُ حَتَّى دَنَا فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الإِسْلاَمِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- "خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِى الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ". فَقَالَ هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا قَالَ "لاَ إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ". قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- "وَصِيَامُ رَمَضَانَ". قَالَ هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ قَالَ "لاَ، إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ". قَالَ وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الزَّكَاةَ. قَالَ هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا قَالَ "لاَ، إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ". قَالَ فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ وَاللَّهِ لاَ أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلاَ أَنْقُصُ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- "أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ". قوله: "جاءَ رجل" هذا الرجل قيل: هو ضِمام بن ثعلبة، وقيل: غيره، ولم يسم، وضِمام يأتي تعريفه في الحديث الخامس من العلم. وقوله: "ثائر الرأس" مرفوع، صفة لرجل، أو منصوب على الحال، ولا تضر إضافته لأنها لفظية، أي: متفرق شعر الرأس من عدم الرفاهية لقرب عهده بالوفادة، فحذف المضاف الذي هو الشعر للقرينة العقلية، أو أطلق اسم الرأَس على الشعر، إما لكونه نبت منه، كما يطلق اسم السماء على المطر، وإما مبالغة بجعل الرأس كأنها المُنتفشة على حد: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم: 4] ونَجْد بفتح النون وسكون الجيم ما ارتفع من تِهامة إلى أرض العراق، وهو ما بين جُرَش وسواد الكوفة، وحدُّه من الغرب الحجاز. وقوله: "نسمعُ دويَّ صوته ولا نفقه ما يقول" بالنون في نسمع ونفقه، ونصب دوي وما الموصولة على المفعولية، وروي يسمع ويفقه بالياء

التحتانية مبنيّان لما لم يُسمَّ فاعله، ودويّ وما نائبان، والدوي بفتح الدال وكسر الواو وتشديد الياء هو شدة الصوت وبعدُه في الهواء، فلا يُفهم منه شيء، وحكي فيه ضم الدال، والصواب الفتح. وقوله: "فإذا هو يسأل عن الإِسلام" أي: عن شرائعه، ويحتمل أنه سأل عن حقيقة الإِسلام، وإنما لم يذكر له الشهادة لأنه علم أنه يعلمها، أو علم أنه إنما يسأل عن الشرائع الفعلية، أو ذكرها ولم ينقلها الراوي لشهرتها، وإنما لم يذكر الحج لأنه لم يكن فرض بعد، أو الراوي اختصره، ويؤيد هذا الثاني ما أخرجه المصنف في كتاب الصيام من طريق إسماعيل بن جعفر في هذا الحديث، قال: فأخبره رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بشرائع الإِسلام، فدخَّل فيه باقي المفروضات بل والمندوبات. وقوله: "خمس صلوات في اليوم والليلة" خمس بالرفع خبر مبتدأ محذوف، أي: هو خمس، أو منصوب بخُذْ مقدر، ويجوز الجر بدلًا من الإِسلام، وفي رواية إسماعيل بن جعفر المذكورة أنه قال في سؤاله: أخْبِرْني ماذا فرض الله علي من الصلاة؟ فقال: "الصلوات الخمس"، فتبين بهذا مطابقة الجواب للسؤال، ويستفاد من سياق مالك أنه لا يجب شيء من الصلوات في كل يوم وليلة غير الخمس، خلافًا لمن أوجب الوتر، أو ركعتي الفجر، أو صلاة الضحى، أو صلاة العيد، أو الركعتين بعد المغرب. وقوله: "هل على غيرها؟ " مبتدأ مؤخر وخبر مقدم، وقوله قال: "لا إلاَّ أن تَطَّوَّعَ" تطوع بتشديد الطاء والواو، أصله تتطوع بتاءين، فأدغمت إحداهما، ويجوز تخفيف الطاء على حذف إحداهما، واستدل بهذا على أن الشروع في التطوع يوجب إتمامه تمسكًا بالأصل من أن الاستثناء متصل، وبه قالت المالكية والحنفية، وقرر القرطبي من المالكية وجه الاتصال بأنه في الحديث نفي وجوب شيء آخر إلا ما تُطُوعَ به، والاستثناء من النفي إثبات، ولا قائل بوجوب التطوع، فتعين أن يكون المراد إلا أن

تَشْرع في تطوع، فيلزمك إتمامه، واستدلوا من خارج بقوله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} وبأنهم اتفقوا على أن حج التطوع يلزم بالشروع، وبما أخرجه أحمد في "مسنده" من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: أصبحتُ أنا وحفصةُ صائمتين، فأُهديت لنا شاةٌ، فأكلنا فدخل علينا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فأخبرناه، فقال: "صوما يومًا مكانه" والأمر للوجوب، فدل على أن الشروع ملزم، وبما رواه الدّارقطني عن أم سَلَمة أنها صامت يومًا تطوعًا، فأفطرت، فأمرها النبيُّ صلى الله تعالى عليه وسلم أن تقضي يومًا مكانه. وقالت الشافعية: إن التطوع لا يجب بالدخول فيه، لكن يستحب إتمامه، وجعلوا الاستثناء في هذا الحديث منقطعًا، قائلين: إن الاستثناء فيه من غير الجنس؛ لأن التطوع لا يقال فيه عليك، فكأنه قال: لا يجب عليك شيءٍ، لكن إن أردت أن تطَّوّع فذلك لك، واستدلوا على انقطاعه بما رواه النَّسائي أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان أحيانًا ينوي صومَ التطوع، ثم يُفطر. وفي "البخاري" أنه أمر جُوَيرية بنت الحارث أن تفطر يوم الجمعة بعد أن شَرعَت فيه. قالوا: فدل على أن الشروع في العبادة لا يَسْتلزم الإتمام إذا كانت نافلة بهذا النص في الصوم، وبالقياس في الباقي، وأجابوا عن وجوب الحج بالشروع فيه بأنه امتاز عن غيره بلزوم المُضِيِّ في فاسده، فكيف في صحيحه؟! وكذلك امتاز بلزوم الكفارة في نفله كفرضه. وأجاب الأوَّلون عن حديث النسائي بأنه لا يدُلُّ على أنه عليه الصلاة والسلام ترك القضاء بعد الإفطار، وإفطاره قد يكون لعذرٍ، وعن حديث جُويرية بأنها صامت تطوعًا بغير إذن الزوج، والزوج له إفطار الزوجة إذا صامت صوم تطوع بغير إذنه، أو صوم قضاء مع سَعَة الزمان، ولكن استدلال الحنفية باتصال الاستثناء في هذا الحديث فيه نظر، لأنهم لا يقولون بفرضية الإتمام بل بوجوبه، واستثناء الواجب من الفرض منقطعٌ لتباينهما عندهم، ولأن الاستثناء من النفي عندهم ليس للإثبات، بل

مسكوتٌ عنه، والواجب من النفل بالشروع عند المالكية محصورٌ في قول القائل: صلاةٌ وصومٌ ثم حجٌّ وعمرةٌ ... طوافٌ عُكوفٌ بالدُّخول تَحتَّما وفي غيرِها كالوَقْف والطُّهْر خَيِّرنْ ... فمَنْ شاءَ فَلْيقْطَعْ ومن شاء تمّما قوله: "وذكرَ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الزكاة" في رواية إسماعيل بن جَعْفر: "قال: أخبرني بما فرض الله علي من الزكاة، قال: فأخبره رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بشرائع الإِسلام" فتضمنت هذه الرواية أن في القصة أشياء أُجملت منها بيان نُصُب الزكاة، فإنها لم تُفَسر في الروايتين، وكذا أسماء الصلوات، وكأن السبب فيه شهرة ذلك عندهم، أو القصد بيان أن المتمسك بالفرائض ناجٍ وإن لم يفعل النوافل. وقوله: "والله" في رواية إسماعيل بن جعفر: "فقال: والذي أكرَمَك". وقوله: "لا أزيدُ على هذا ولا أنْقُص" قيل: معناه: قبلت كلامك قبولًا لا مزيد عليه من جهة السؤال، ولا نقصان فيه من طريق القبول، أو: لا أزيد على ما سمعت ولا أنْقُصُ منه عند الإبلاغ؛ لأنه كان وافد قومه ليتعلم ويعلمهم، لكن يُعكر عليهما رواية إسماعيل بن جعفر حيث قال: "لا أتطوعُ شيئًا ولا أنقُصُ ممّا فرض الله على شيئًا" أو المراد لا أغير صفة الفرض، كمن ينْقُص الظهر مثلًا ركعة، أو يزيد المغرب. وقوله: "أفلح إن صدقَ" في رواية إسماعيل بن جعفر عند مسلم: "أفلح وأبيه إن صدق أو دخل الجنة وأبيه إن صدق"، ولأبي داود مثله، لكن بحذف أو، فإن قيل: ما الجامع بين هذا وبين النهي عن الحلف بالآباء؟ أجيب بأن ذلك كان قبل النهي، أو بأنها كلمة جارية على اللسان، لا يقصد بها الحلف كما جرى على لسانهم: عَقْرَى حَلْقَى وما أشبه ذلك، وهذان هما أقوى الأجوبة. وقيل: فيه إضمار اسم الرب، كأنه

رجاله خمسة

قال: وربِّ أبيه. وقيل: هو خاص، ويحتاج هذا إلى دليل، وحكى السُّهيْلي أنه تصحيفٌ والله، فقَصُرتِ اللامان، وأنكره القرطبي، وقال: إنه يَخرُمُ الثقة بالروايات الصحيحة. وغَفَلَ القَرافِي فادّعى أن الرواية بلفظ وأبيه لم تصح؛ لأنها ليست في "الموطأ". وكأنه لم يرتض الجواب، فعدل إلى ردِّ الخبر، وهو صحيح لا مرية فيه. وقال ابن بَطّال: دل قوله: "أفْلَحَ إن صدق" على أنه إن لم يصدُق فيما التزم لا يُفْلح، وهذا يرد على المرجئة، أفلح أي: فاز أو ظفِرَ، واستشكل كونه أثبت له الفلاح بمجرد ما ذكر، وهو لم يذكر له جميع الواجبات ولا المنهيات ولا المندوبات، وأجيب بأن ذلك كله داخلٌ في عموم قوله: "فأخبره بشرائع الإِسلام" المشار إليه سابقًا، الآتي للمصنف في الصيام. فإن قيل: أما فلاحه بأنه لا ينْقُص فواضح، وأَما بأن لا يزيد فكيف يصِحُّ؟ أجاب النووي بأنه أثبت له الفلاح لأنه أتى بما عليه، وليس فيه أنه إذا أتى بزائد على ذلك لا يكون مفلحًا، لأنه إذا أفلح بالواجب ففلاحه بالمندوب مع الواجب أولى، فإن قيل: فكيف أقرَّه على حَلفه وقد ورد النكير على من حلف أن لا يفعل خيرا؟ أجيب بأن ذلك مختلف باختلاف الأحوال والاشخاص، وهذا جار على الأصل من أنه لا إثم على غير تارك الفرض، فهو مفلح وإن كان غيره أفلح منه. وفي الحديث أن السفر والارتحال لتعلم العلم مشروعٌ، وجواز الحلف من غير استحلافٍ ولا ضرورة اهـ. رجاله خمسة: الأول إسماعيل بن أبي أُويس، وقد مر في الخامس عشر من كتاب الإيمان. ومر الإِمام مالك في الثاني من بدء الوحي، ومر أبو سُهيل وأبوه مالك في السادس والعشرين من كتاب الإيمان.

الخامس: طلبة بن عُبَيْد الله بن عُثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تَيم بن مرة بن كعب بن لُؤي بن غالب أبو محمد القُرَشيّ التَّيْميّ، وأمه الصَّعْبة بنت الحَضْرميّ امرأة من اليمن، وهي أخت العلاء بن الحضرميّ، واسم الحضرمي عبد الله بن عماد بن ربيعة. وهو أحد العشرة، وأحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإِسلام، وأحد الستة أصحاب الشورى، وأحد الخمسة الذين أسلموا على يد أبي بكر، وقد نظم الناظم الذين أسلموا أولًا فقال: أولُ الناسِ بالنبيِّ اقتداءً ... أمُّ أبنائه الكرامِ الجدودِ فعَليُّ ثم ابنُ حارثةَ الكلْـ ... ـبيُّ زيدُ مولى النبيُّ الرشيدِ ثمَّ إذا آمن العتيقُ دعا النا ... سَ فجاءت عصابةٌ كالفريدِ وهي عثمانُ والزبيرُ وسعدٌ ... وابن عوفٍ وطلحةُ بن عُبيْدِ يجتمع مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في الجد السابع مثل أبي بكر. وسبب إسلامه فيما رُوي عنه قال: حضرت سوق بُصرى فإذا راهبٌ في صومعته، يقول: سلوا أهل هذا الموسم أفيهم أحدٌ من أهل الحرم؟ قال طلحة: نعم أنا. قال: هل ظهر أحمد؟ قلت: ومَنْ أحمد؟ قال: ابن عبد الله بن عبد المطلب، هذا شهره الذي يخرُجُ فيه، وهو آخر الأنبياء، ومخرجه من الحرم، ومُهاجَرُه إلى نخلٍ وحَرَّة وسِباخٍ، فإياك أن تُسبق إليه، فوقع في قلبي، فخرجت سريعًا حتى قدمت مكة، فقلت: هل كان من حدث؟ قالوا: نعم محمد الأمين قد تنبّأ وتبعه ابن أبي قُحافة، فخرجت حتى أتيت أبا بكر، فخرج بي إليه، فأسلمت، فأخبرته بخبر الراهب. كان رضي الله عنه أبيض يضربُ إلى العمرة، مربوعًا إلى القصر أقْرَبَ، رحب الصدر، بعيد ما بين المنْكِبيْن، ضخم القدمين، إذا التفت التفت جميعا، كثير الشعر ليس بالجَعْد ولا بالسَّبْط، حسن الوجه، دقيق العِرْنين، إذا مشى أسرع، وكان لا يغير شيبه.

شهد المشاهد كلها مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ما عدا بدرًا كسعيد بن زيد، وقد ضرب له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسهمه وأجره فيها، وسبب تخلفه عنها أنه كان في تجارة بالشام، وقدم بعد رجوع النبي -صلى الله عليه وسلم- من بدر، وقيل: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعثه هو وسعيد بن زيد إلى طريق الشام يتجسسان الأخبار قبل أن يخرج من المدينة إلى بدر، ثم قدما على المدينة يوم بدر، وقد وهم البخاري في قوله: إن سعيد بن زيد ممن حضر بدرًا، وهو من العصابة الذين بايعوا النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد على الموت حين انهزم المسلمون، فصبروا وبذلوا نفوسهم دونه حتى قُتل من قتل منهم، وكان فيمن بايع على ذلك أبو بكر وعمر وطلحة والزبير وسعد وسَهْل بن حُنَيْف وأبو دُجانة، ولما رمى مالك بن زهير النبي -صلى الله عليه وسلم- وقاه طلحة بيده من الضربة التي قُصد بها وجهُهُ الكريم، فأصابت خِنصِره، فقال حين أصابته: حَسْ حَسْ أو صَرْ صَرْ، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لو قال بسمِ الله لدخل الجنةَ والناس ينظرون". وفي رواية: "لرأيت بناءَك الذي بني اللهُ لك في الجنة وأنتَ في الدنيا" قيل: جُرح في ذلك اليوم خمسًا وسبعين جراحة، وكان الصّديق رضي الله عنه إذا ذَكر أحدًا قال: ذلك يوم كُلُّه لطلحة، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد نهض إلى صخرة من الجبل ليعلوها، وكان قد ظاهر بين دِرْعين، فلما ذهب لينهض لم يستطع، فجلس تحته طلحة، فنهض حتى استوى، فقال: "أوجبَ طلحةُ" ويقال كما لابن السَّكَن: إنه تزوج أربع نسوة، كل واحدة منهن عند النبي -صلى الله عليه وسلم- أختها: أم كُلثوم بنت أبي بكر الصديق أخت عائشة رضي الله عنهما، وحَمْنَة بنت جَحْش أخت زينب، والنّازِعة بنت أبي سُفْيان أخت أم حبيبة، ورُقَيّة بنت أبي أمية أخت أم سَلَمة. وعن قَبيصة بن جابر أنه قال: صحبتُ طلحة، فما رأيت رجلًا أعطى لجزيل ماله من غير مسألة منه. وسمع علي رضي الله عنه رجلًا ينشد: فتىً كانَ يُدنيهِ الغنى من صديقِه ... إذا ما هُو اسْتغْنى ويُبْعِده الفقرُ

فقال: ذلك أبو محمد طَلحة بن عُبيد الله رحمه الله. ومر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة ذي قَرَد على ماء يقال له: بيسانٌ مالحٌ، فقال: هو نعمانٌ طيبٌ، فغير اسمه، وغير الله صفته، فاشتراه طلحة وتصدق به، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما أنتَ يا طلحةُ إلا فياضٌ" فلذلك قيل له: طلحة الفياض، ويقال له: طلحة الخير، وطلحة الجواد. ولما آخى النبي -صلى الله عليه وسلم- بين أصحابه قبل الهجرة آخى بينه وبين الزُّبير، ولما آخى بين المهاجرين والأنصار آخى بينه وبين أبي أيوب، وقيل: آخى بينه وبين كعب بن مالك، وروي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نظر إليه، فقال: "من أرادَ أن ينظرَ إلى شهيدٍ يمشي على وجه الأرض، فَلْينظر إلى طلحة". وروى أبو بُردة عن مسعود بن خِراش، قال: بينا أنا أطوف بين الصفا والمروة، فإذا أناس كثير يتبعون أناسًا، فنظرت، فإذا شابٌّ موثق يده إلى عنقه، فقلت: ما شأن هؤلاء، فقالوا: هذا طلحة بن عُبيد الله قد صَبَأ. شهد الجمل محاربًا لعليّ. وروى صالح بن كَيْسان أن عليًّا رضي الله عنه قال في خطبته حين نهوضه إلى الجمل: إن الله عَزَّ وَجَلَّ فرض الجهاد، وجعلني نصرته وناصره، وما صلحت دنيا ولا دين إلا به، وإني مُنيتُ بأربعة أدهى الناس وأسخاهُم طلحة، وأشجع الناس الزُّبير، وأطوع الناس في الناس عائشة، وأسرع الناس إلى فتنة يَعْلى بن مُنْية، والله ما أنكروا عليَّ شيئاً منكرًا، وما استأثرت بمال، وما مِلْت بهوىً، وإنهم ليطلبون حقًا تركوه، ودمًا سفكوه، ولقد وُلّوه دوني وإن كنت شريكهم في الإنكار لما أنكروه، وما تَبعةُ عثمان إلا عندهم، وإنهم لهم الفئة الباغية، بايعوني ونكثوا بيعتي، وما استبانوا فيَّ حتى يعرِفوا جَوْري من عدلي، وإني لراضٍ بحجة الله عليهم، وعلمه فيهم، وإني مع هذا لداعيهم ومعذر، فإن قبلوا فالتوبة مقبولة والحق أولى ما انصرف إليه، وإن أبَوْ أعطيتهم حد السيف، وكفى

به شافيًا من باطل، وناصرًا للحق، والله إن طلحة والزبير وعائشة ليعلمون أني على الحق، وهم مبطلون. ورُوي عن علي أيضًا أنه قال: والله لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير ممن قال الله تعالى فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47]. وروي عن أبي حَبيبةَ مولى طلحة، قال: قدمت على علي بعدما فَرَغ من أصحاب الجمل مع عِمران بن طلحة، فرحب به، وأدناه، وقال: إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك من الذين قال الله تعالى فيهم {ونزعنا ... إلخ}. وزعم بعض أهل العلم أن عليًّا دعاه، فذكره أشياء من سوابقه وفضله، فرجع عن قتاله على نحو ما فعل الزُّبير، واعتزل في بعض الصفوف، فرماه مروان بن الحكم بسهم فأصاب ركبته، فجعل الدم يسيلُ، فإذا أمسكوه أمسك، وإذا تركوه سال، وكانوا إذا أمسكوا فم الجرح انتفخت ركبته، فقال: دعوه، فإنما هو سهم أرسله الله تعالى، فمات منه. وعن قيس بن أبي حازِم قال: كان مروان مع طلحة والزبير يوم الجمل، فلما شبَّ الحرب، قال: لا أطلب بثأري بعد اليوم، فرماه، ولما أصابه التفت إلى أبان بن عُثمان، وقال له: قد كفيناك بعض قتلةِ أبيك، وذلك أن طلحة فيما زعموا كان مِمّن حاصر عثمان واشتد عليه. ولم يختلف العلماء الثقات أن مروان بن الحكم هو الذي قتل طلحة، وكان في حزبه. روى ابن سعد عن أبي جَنَاب الكَلْبيّ قال: حدثني شيخٌ من كلب، قال: سمعت عبد الملك بن مروان يقول: لولا أن أمير المؤمنين مروان أخبرني أنه قتل طلحة، ما تركت أحدًا من ولد طلحة إلا قتلته بعثمان. وعن عبد الملك بن أبي مَرْوان، قال: دخل موسى بن طلحة على

الوليد، فقال له الوليد: ما دخلت عليَّ قطٌّ إلا هممت بقتلك، لولا أن أبي أخبرني أن مروان قتل طلحة. ورُوي أن طلحة يوم الجمل قال: ندِمتُ ندامةَ الكُسَعيِّ لَمّا ... شَرَيْتُ رضى بني جَرْم بِرَغْمي اللهم خذ مني لعثمان حتى يرضى. روي له ثمانية وثلاثون حديثًا، اتفقا على حديثين منها، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بثلاثة. روى عن: أبي بكر، وعمر. وروى عنه أولاده محمد وموسى وعيسى ويحيى وعمران وإسحاق، وعائشة، وابن أخيه عبد الرحمن بن عثمان، وجابر بن عبد الله الأنصاري، وقيس بن أبي حازِم، والسّائب بن يزيد، ومالك بن أوس بن الحَدَثَان، وعبد الله بن شدَّاد بن الهاد، وأبو سَلمة بن عبد الرحمن، وقيل: لم يسمع منه، وغيرهم. وكانت وقعة الجمل التي مات فيها لعشر خلون من جمادى الأولى سنة ست وثلاثين عن أربع وستين سنة، وقيل: اثنتين وستين، وقيل: ثمان وخمسين. وقبره بالبصره. قال ابن قُتيبة: دفن بقنطرة قرة، فرأته ابنته في المنام بعد ثلاثين سنة يشكو إليها النَّداوة، وقيل: الذي رآه مولىً له رآه ثلاث ليال كأنه يشكو له البرد، فنُبش، فوجدوا ما يلي الأرض من جسده مخضرًّا، وقد تحاصَّ شعره، فاشتروا له دارًا من دور أبي بَكْرة، بعشرة آلاف درهم، فدفنوه بها، وتسمى تلك الدار دار الهجرتين بالبصرة، وقبره مشهور يزار، خلَّف من الدراهم ألف ألف، ومن الذهب ألفي ألف ومئتي ألف دينار. وقال ابن

باب اتباع الجنائز من الإيمان

عُيينة كانت غلة طلحة ألفي وافٍ كل يوم، والواقي وزنه وزن الدينار، وعلى وزن دراهم فارس التي تعرف بالبغلية اهـ. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث بالجمع والإفراد والسماع والعنعنة، ورجاله كلهم مدنيون، وهو مسلسل بالأقارب لأن إسماعيل يروي عن خاله عن عمه عن أبيه عن حليفه طلحة بن عُبيد الله فهو مسلسل بالأقارب والبلد، وكون مالك بن أبي عامر لم يرو عن طلحة غير صحيح لا يُلتفت إليه لثبوت سماعه منه ومن غيره كعثمان بن عفان اهـ. أخرجه البخاري هنا وفي الشهادات عن إسماعيل بن أبي أُوَيْس بهذا الإسناد، وفي الصوم، وفي ترك الحيل عن قُتيبة، ومسلم في الإيمان عن قُتيبة أيضًا، وأبو داود في الصلاة عن القَعْنَبِيّ، والنسائي فيها أيضًا عن قُتيبة، وفي الصوم عن علي بن حجر، وفي الإيمان عن محمد بن سلمة اهـ. باب اتِّباعُ الجنائز من الإِيمان باب بالتنوين. وقوله: "من الإِيمان" أي شعبة من شعبه، ختم المصنف معظم التراجم التي وقعت له من شعب الإيمان بهذه الترجمة، لأن ذلك آخر أحوال الدنيا، وآخر ترجمة أداء الخمس من الإيمان لمعنى سيذكر هناك، والجنائز جمع جَنازة -بفتح الجيم وكسرها- الميت، أو بالفتح للميت وبالكسر للنعش، أو عكسه، أو بالكسر النعش وعليه الميت اهـ.

الحديث الأربعون

الحديث الأربعون حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ الْمَنْجُوفِىُّ، قَالَ حَدَّثَنَا رَوْحٌ قَالَ حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنِ الْحَسَنِ وَمُحَمَّدٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ "مَنِ اتَّبَعَ جَنَازَةَ مُسْلِمٍ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا وَكَانَ مَعَهُ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا أو يَفْرُغَ مِنْ دَفْنِهَا فَإِنَّهُ يَرْجِعُ مِنَ الأَجْرِ بِقِيرَاطَيْنِ كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ تُدْفَنَ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيرَاطٍ". قوله: "من اتّبع" هو بالتشديد، وفي رواية الأصيلي تَبعَ بحذف الألف وكسر الموحدة، وقد تمسك بهذا اللفظ من قال إن المشي خلفها أفضل، وهو قول الأوْزاعيّ وأبي حنيفة ومن تبعهما، ولا حجة لهما فيه لأنه يقال: تبعه إذا مشى خلفه، أو إذا مر به فمشى معه، وكذلك اتّبعه بالتشديد وهو افتعل منه، فهو مقول بالاشتراك، وأما أتْبَعهُ بالإسكان فهو بمعنى لحقه إذا كان سبقه، ولم تأت به الرواية هنا، وتمسكوا أيضًا بما رواه سعيد بن منصور وغيره عن علي رضي الله تعالى عنه، قال: المشي خلفها أفضل من المشي أمامها، كفضل صلاة الجماعة على صلاة الفَذّ، وإسناده حسن، وهو موقوف له حكم الرفع، لكن حكى الأثْرم أن أحمد تكلم في إسناده، والجمهور على أن المشي أمامها أفضل، لأن مشيعها شفيع، والشفيع إنما يكون إمام المشفوع. وأخرج أصحاب "السنن" من حديث ابن عُمر أنه يكون أمامها، ورجاله رجال الصحيح، إلا أنه اختُلف في وصله وإرساله، وصححه ابن حِبّان، لكن الشافعية لم يفرقوا بين أن يكون المشيع ماشيًا أو راكبًا، وفصلت المالكية فقالوا: إن الراكب يتأخر عنها لانحطاطه بسبب الركوب عن رتبة الماشي، والماشي يتقدمها لما أخرجه أصحاب "السنن"،

وصححه ابن حِبّان والحاكم من حديث المُغيرة بن شُعبة مرفوعًا: "الراكبُ خلف الجنازة، والماشي حيثُ شاء منها" فأخذوا بالأول في كون الماشي أمامها، وبالثاني في كون الراكب خلفها، وقال النَّخَعيّ: إن كان في الجنازة نساء مشى أمامها وإلا مشى خلفها. وقال أنس بن مالك كما في "البخاري" تعليقًا: أنتم مشيِّعون، فامشِ بين يديها وخلفها، وعن يمينها وعن شمالها، وظاهره قرب منها أو بعد، ووافقه عبد الرحمن بن قُرْط -بضم القاف وسكون الراء ثم طاء مهملة- الصحابي، لكنه قيد ذلك بالقرب من الجنازة، وظاهر صنيع البخاري اختياره لهذا المذهب الذي هو التخيير في المشي مع الجنازة، وهو قول الثوري، وبه قال ابن حَزْم، لكن قيده بالماشي اتباعًا لما مر قريبًا عن المُغيرة بن شعبة. وقوله: "إيمانًا واحتسابًا" أي مؤمنًا محتسبًا، لا مكافأة أو مخافة، وقد مر معناهما. قوله: "وكان معه" أي: المسلمُ وللكشميهني: "معها" أي: الجنازة. وقوله: "حتى يصلى عليها" بكسر اللام وروي بفتحها، فعلى الأول لا يحصُل الموعود به إلا لمن توجد منه الصلاة، وعلى الثاني قد يقال يحصُل له ذلك ولو لم يصل، لكن المعتمد حمل رواية الفتح على رواية الكسر، لأن حصول القيراط متوقف على وجود الصلاة من الذي يحصُل له، اللهم إلا إذا قصد الصلاة، وحال دونه مانع، فالظاهر حصول الثواب له مطلقًا. وقوله: "ويُفرَغُ من دفنها" بضم أوله وفتح الراء، وروي بالعكس، وعلى الأول من دفنها نائب عن الفاعل، وعلى الثاني في محل المفعول به، والفراغ من الدفن بتسوية التراب عليها على المعتمد، وقيل: بمجرد الوضع في القبر، وقيل: عند انتهاء الدفن بعد نصب اللبن عليه قبل إهالة التراب عليه، وقد وردت الأخبار بكل ذلك، لكن على الأول جُلُّ الروايات كرواية البخاري هنا: "حتى يفرغ من دفنها" وعند مسلم في إحدى

الروايتين عن مَعْمر: "حتى يفرغ منها" وفي الأخرى: "حتى تُوضع في اللحد" وكذا عنده في رواية أبي حازِم بلفظ: "حتى تُوضع في القبر" وفي رواية أبي مُزاحم عند أحمد: "حتى يُقضى قضاؤها" وفي رواية أبي سلمة عند التِّرمِذِي: "حتى يُقضى دفنها" وفي رواية ابن عِياض عند أبي عَوانة: "حتى يُسوّى عليها التراب" وهذه هي أصرح الروايات في ذلك، ويُحتمل حصول القيراط بكلٍّ من ذلك، لكن يتفاوت القيراط كما سيأتي من تفاوت القراريط. وقوله: "من الأجر بقيراطين" تثنية قيراط بكسر القاف، وأصله قرّاط بتشديد الراء، لأن جمعه قراريط، فأُبدل من أحد حرفي تضعيفه ياءً. قال الجوهري: وهو نصف دانق، والدانق سدس الدرهم، فعلى هذا يكون القيراط جزءًا من اثني عشر جزءًا من الدرهم. وأما صاحب "النهاية" فقال: القيراط جزء من أجزاء الدينار، وهو نصف عشره في أكثرِ البلاد، وفي الشام جزء من أربعة عشر جزءًا. ونقل ابن الجوزي عن ابن عقيل أنه كان يقول: القيراط نصف سدس درهم، أو نصف عُشْر دينار، والإشارة بهذا المقدار إلى الأجر المتعلق بالميت في تجهيزه وغسله وجميع ما يتعلق به، فللمصلي عليه قيراط من ذلك، ولمن شهد الدفن قيراط، وذكر القيراط تقريبًا للفهم لمّا كان الإنسان يعرف القيراط ويعمل العمل في مقابلته، وعد من جنس ما يعرف، وضرب له المثل بما يعلم. وقال ابن العربي القاضي: الذرة جزء من ألف وأربعة وعشرين جزءًا من حبة، والحبة ثلث القيراط، فإذا كانت الذرة تخرج من النار فكيف بالقيراط؟ قال: وهذا قدر قيراط الحسنات، فأما قيراط السيئات فلا. وقد ورد لفظ القيراط في عدة أحاديث، فمنها ما يُحمل على القيراط المتعارف، ومنها ما يُحمل على الجزء في الجملة وإن لم تُعرف النسبة، فمن الأول حديث كعب بن مالك مرفوعًا: "إنكم ستَفْتحون بلدًا يُذكر فيها القيراط" وحديث أبي هُريرة مرفوعًا: "كُنت أرعى غنمًا لأهلِ مكةَ بالقراريط" قال ابن ماجه عن بعض شيوخه: يعني: كل شاة بقيراط، قال

غيره: قراريط جبلٍ بمكة، ومن المحتمل حديث ابن عمر في الذين أوتوا التوراة أعطوا قيراطًا قيراطًا، وحديث الباب فقد ذهب الأكثر إلى أن المراد بالقيراط فيه جزء من أجزاء معلومة عند الله تعالى، وقد قرّبها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم للفهم بتمثيله القيراط بأُحد، ومن المحتمل حديث أبي هُريرة مرفوعًا: "من اقتنى كلبًا نقَصَ من عمله كلَّ يوم قيراطٌ" قال النووي وغيره: لا يلزم من ذكر القيراط في الحديثين تساويهما؛ لأن عادة الشارع تعظيم الحسنات وتخفيف مقابلها. وقال غيره: القيراط في اقتناء الكلب جزء من أجزاء عمل المقتني له في ذلك اليوم. وقوله: "كل قيراطٍ مثل أحد" قال الطيبي: قوله: "مثل أُحد" تفسير للمقصود من الكلام لا للفظ القيراط، والمراد منه أنه يرجع بنصيب كبير من الأجر، وذلك لأن لفظ القيراط مبهم من وجهين، فبين الموزون بقوله: "من الأجر"، وبين المقدار المراد منه بقوله: "مثل أحد" وقال الزين بن المنير: أراد تعظيم الثواب، فمثله للعيان بأعظم الجبال خلقًا، وأكثرها إلى النفوس المؤمنة حبًّا، لأنه الذي قال في حقه: "إنه جبلٌ يُحبُّنا ونحبه" ولأنه أيضًا قريبٌ من المخاطبين، يشترك أكثرهم في معرفته، وخُصَّ القيراط بالذكر لأنه كان أقل ما تقع به الإجارة في ذلك الوقت، أو جرى ذلك مجرى العادة من تقليل الأجر بتقليل العمل اهـ. قلت: والأخير أولى لما مر قريبًا في حديث: "ستفتحونَ بلدًا يُذكر فيها القيراط" فإنه دالٌّ على أن القيراط لم يكن مذكورًا في ذلك الزمان، وأُحُد بضمتين الجبل المعروف بالمدينة، سُمي به لتوحده وانقطاعه عن جبال أخرى هناك. وقوله: "ومنْ صلى عليها ثم رجعَ قبل أن تُدفن فإنه يرجِعُ بقيراط" أي: من الأجر، فلو صلى وذهب إلى القبر وحده، ثم حضر الدفن لم يحصل له القيراط الثاني، وكذا لو حضر الدفن ولم يصلِّ، أو تبعها ولم يصل، فليس في الحديث حصول القيراط له، إنما القيراط لمن تبعها بعد الصلاة، لكن له أجر في الجملة، قاله النووي.

وروى عن أشهب من المالكية كراهة ما إذا تبعها ولم يصلِّ ولم يحضر الدفن، وقد أثبتت رواية الباب أن القيراطين إنما يحصُلان بمجموع الصلاة والدفن، وأن الصلاة دون الدفن يحصُل بها قيراط واحد، وهو المعتمد خلافًا لمن تمسك بظاهر رواية الأعرج عن أبي هُريرة الآتية في الجنائز بلفظ: "من شهدَ الجنازة حتى يصلي فله قيراط، ومن شهدها حتى تُدفن كان له قيراطان" فقال: إن له بالمجموع ثلاثة قراريط، وعزى ابن التين هذا القول للقاضي أبي الوليد، لكن رواية ابن سِيرين في الباب صريحة، في أن الحاصل من الصلاة والدفن قيراطان، وكذلك رواية خباب عند مسلم بلفظ: "من خرجَ مع جنازة من بيتها، ثم تبعها حتى تُدفن، كان له قيراطان من أجرٍ، كل قيراط مثل أحد، ومن صلى عليها ثم رَجعَ كان له قيراط" وكذلك رواية الشعبي عن أبي هُريرة عند النّسائي بمعناه. قال النووي: رواية ابن سيرين صريحة في أن المجموع قيراطان، ومعنى رواية الأعرج على هذا كان له قيراطان، أي بالأول مثل حديث من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله، أي: بانضمام صلاة العشاء، ورواية خباب المارة عند مسلم، ورواية أحمد عن أبي سعيد الخُدْري: "فمشى معها من أهلها" يقتضيان أن القيراط يختصُّ بمن حضر من أول الأمر إلى انقضاء الصلاة، وبذلك صرح المحب الطبريّ وغيره، والذي يظهر أن القيراط يحصُل أيضًا لمن صلى فقط، لأن كل ما قبل الصلاة وسيلة إليها، لكن يكون قيراط من صلى فقط دون قيراط من شَيَّع مثلًا وصلى، ورواية مسلم عن أبي هريرة بلفظ: "أصغرهما مثل أحُد" يدل على أن القراريط تتفاوت، وفي هذه الرواية عند مسلم: "من صلى على جنازة ولم يتْبَعْها فله قيراطٌ" وعند أحمد عن أبي هُريرة أيضًا: "من صلى ولم يتبع فله قيراطٌ" فدل على أن الصلاة تحصِّل القيراط وإن لم يكن اتباع، ويمكن أن يُحمل الاتباع هنا على ما بعد الصلاة، وجاء في حديث البزّار عن أبي هُريرة مرفوعًا ما هو صريح في حصول القيراط بالصلاة فقط، ولفظه: "من أتى

رجاله ستة

جنازة في أهلها فله قيراطٌ، فإن تبعها فله قيراطٌ، فإن صلّى عليها فله قيراط، فإن انتظرها حتى تدفنَ فله قيراطٌ" فهذا يدل على أن لكل عمل من أعمال الجنازة قيراطًا، وإن اختلفت مقادير القراريط، ولاسيّما بالنسبة إلى مشقة ذلك العمل وسهولته، وعلى هذا فيقال: "إنما خُص قيراطَيْ الصّلاة والدفن بالذّكر لكونهما المقصودين بخلاف باقي أحوال الميت، فإنها وسائل، لكن هذا يخالف ظاهر سياق حديث الباب، فإن فيه أن لمن تبعها حتى يصلّى عليها ويُفرغ من دفنها قيراطين فقط، ويجاب عن هذا بأن القيراطين المذكورين لمن شهد، والذي في حديث البزّار لمن باشر الأعمال التي يحتاج إليها الميت فافترقا، فإن كان مع الجنازة جمع كثير فتقدم إنسان أو جماعة في أول الناس أو تأخروا، فإن كانوا بحيثُ ينسبون إلى الجنازة، ويعدّون من مشيعيها حصل لهم القيراط الثاني، وإلا فلا اهـ. وفي الحديث الترغيب في شهود الميت، والقيام بأمره، والحض على الاجتماع له، والتنبيه على عظيم فضل الله تعالى وتكريمه للمسلم في تكثير الثواب لمن يتولى أمره بعده، وفيه تقدير الأعمال بنسبة الأوزان، إما تقريبًا للأفهام، وإما على حقيقته اهـ. رجاله ستة: الأول: أحمد بن عبد الله بن علي بن سُويد بن منْجوف على وزن اسم المفعول أبو بكر السَّدوسُي البَصْري، وقد ينسب إلى جده. ذكره ابن حبان في "الثقات". وقال النسائي: صالح. وقال ابن إسحاق الحبّال: بصري ثقة. روى عن أبي داود الطّيالسِي، ورَوْح بن عُبادة، والأصمعي، وغيرهم. وروى عنه: البُخاري، وأبو داود، والنّسائي، وأبو عروبة، وابن خُزيمة، وابن صاعد، وابن أبي داود، وغيرهم.

مات سنة اثنتين وخمسين ومئتين. والسَّدوسي في نسبه مر الكلام عليه في السادس من كتاب الإيمان، ومر الكلام على البصري في الثالث منه. وفي الستة أحمد بن عبد الله سواه ثمانية. الثاني: رَوحْ بن عُبادة بن العلاء بن حسان بن مرثد أبو محمد القيسي البصري. قال ابن المديني: نظرت لروح بن عبادة في أكثر من مئة الف حديث، كتبت منها عشرة آلاف. وقال يعقوب بن شيبة: كان أحد من يتحمل الحمالات، وكان سريًّا مريًّا كثير الحديث جدًا صدوقًا، سمعت علي بن عبد الله يقول: من المحدثين قوم لم يزالوا في الحديث لم يشتغلوا عنه، نشؤوا فطلبوا، ثم صنفوا، ثم حدثوا، منهم روح بن عبادة. قال: وحدثني محمد بن عمر قال: سألت ابن مَعين عن روح فقال: ليس به بأس صدوق، حديثه يدل على صدقه. قال: قلت ليحيى: زعموا أن يحيى القطان كان يتكلم فيه، فقال: باطل ما تكلم فيه بشيء يحيى القطان، هو صدوق. قال يعقوب. وسمعت علي بن المديني يذكر هذه القصة، فلم أضبطها عنه، فحدثني عبد الرحمن بن محمد عنه قال: كانوا يقولون: إن يحيى بن سعيد كان يتكلم في روح بن عُبادة قال علي: فإني لعند يحيى ابن سعيد يومًا إذ جاءه روح بن عُبادة، فسأله عن شيء من حديث أشعث، فلما قام قلت ليحيى: تعرفه؟ قال: لا. قلت: هذا رَوحْ بن عُبادة. قال: ما زلت أعرفه بطلب الحديث وبكتبه. قال علي: ولقد كان عبد الرحمن يطعن عليه في أحاديث ابن أبي ذئب عن الزُّهري مسائل كانت عنده، قال علي: فقدمت على معن بن عيسى، فسألته عنها، فقال: هي عند بصري لكم. قال علي: فأتيت ابن مهدي، فأخبرته، فأحسبه قال: استحله لي. وقال الخطيب: كان كثير الحديث، وصنف الكتب في السنن والأحكام، وجمع التفسير، وكان ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة إن شاء

الله. وقال ابن أبي خَيْثمة عن يحيى: صدوق ثقة. وذكره أبو عاصم فأثنى عليه، وقال: كان ابن جُريْج يخصه كل يوم بشيء من الحديث. وقال روح: سمعت عن سعيد قبل الاختلاط، ثم غبت وقدمت، فقيل لي: إنه اختلط. وقال الدارِمي عن ابن مَعين: ليس به بأس. وقال أبو بكر البزار في "مسنده": ثقة مأمون. قال يعقوب بن شيْبة: قال محمد بن عمر: قال ابن مَعين القَواريريّ: يحدث عن عشرين شيخًا من الكذابين، ثم يقول: لا أحدث عن روح بن عبادة. قال يعقوب: وكان عفان لا يرضى أمر روح ابن عُبادة، قال: فحدثني محمد بن عمر قال: سمعت عفّان يقول: هو عندي أحسن حديثًا من خالد بن الحارث، وأحسن حديثًا من يزيد بن زُريعْ، فلم تركناه؟ يعني: كان يطعن عليه. فقال له أبو خَيْثمة: ليس هذا بحجة، كل من تركته أنت ينبغي أن يترك، أما روح فقد جاز حديث الشأن في مَن بقي. قال يعقوب: وأحسب أن عفان لو كان عنده حجة مما يُسقط بها رَوْح بن عُبادة لاحتج بها في ذلك الوقت. وقال أبو داود: كان القواريريّ لا يُحدث عن رَوْح، وأكثر ما أنكر عليه تسع مئة حديث، حدث بها عن مالك سماعًا، وقال: وسمعت الحلواني يقول: أول من أظهر كتابه رَوْح بن عُبادة، وأبو أسامة، يريد أنهما رويا ما خُولفا فيه، فأظهرا كتبهما حجة لهما. وقال أبو مسعود الرازي: طَعَن على رَوْح بن عُبادة ثلاثة عشر أو اثني عشر، فلم ينفذ قولهم فيه. وقال أبو داود عن أحمد: لم يكن به بأس، ولم يكن متهمًا بشيء، وكان قد جرى ذكر روح وأبي عاصم فقال: كان رَوْح يخرج الكتاب. وقال الخليل: ثقة أكثر عن مالك، وروى عنه الأئمة. وقال أبو خَيْثمة: لم أسمع في رَوْح شيئًا أشد عندي من شيء دفع إلى محمد بن إسماعيل صاحبنا كتابًا بخطه، فكان فيه: حدثنا عفان، حدثنا كلام من أصحاب الحديث يقال له: عمارة الصَّيْرفي أنه كان يكتب

عن رَوْح بن عبادة، وعلي بن المديني، فحدثهم بشيء عن شعبة، عن منصور، عن إبراهيم، فقال له: هذا عن الحكم، فقال رَوح لعلي: ما تقول؟ فقال: صدق هو عن الحكم. قال: فأخذ القلم، فمحى منصورًا، وكتب الحكم. قال عفان: فسألت عليًّا عن حكاية عمارة، فصدقه. وقال أبو زيد الهَرَويّ: كنا عند شعبة، فسأله رجل عن حديث، وكان في الرجل عجلة، فقال شعبة: لا والله حتى تلزمني كما لزمني هذا لروح وهو بين يديه. وقال محمد بن يحيى: قرأ روح على مالك، فبين السماع من القراءة. وقال الغلابي: سمعت خالد بن الحارث ذكره بجميل. قال ابن حجر في مقدمته: أما مسألة محوه للاسم ففيها دلالة على إنصافه، وقد احتج به الأئمة كلهم. روى عن: أيمن بن نابل، ومالك، والأوزاعي، وابن جُريْج، وابن أبي ذئب، وابن أبي عروبة، وشعبة، والسفيانين، وعوف، وغيرهم. وروى عنه: أبو خَيْثمة، وأبو قُدامة، وأحمد، وبُندار، وإسحاق بن راهويه، وأبو مُوسى، والكُديْمي، وخلق كثير. مات سنة سبع ومئتين كما قال الكُديْمي، وهو ابن امرأته فيكون أدرى به. وقيل: مات سنة خمس ومئتين. وليس في الستة رَوْح بن عبادة سواه، وأما روح فكثير. والقَيْسيّ في نسبه نسبة إلى قيس، وهو في قبائل قيس عيلان، وهو أبو قبيلة، واسمه الناس بن مضر أخو الياس، وقيل: بتشديد السين. وكون قيس مضافًا إلى عَيْلان هو أحد أقوال النسابين، واختلف فقيل: إن عيلان حاضن حضن قيسًا، وإنه غلام لأبيه. وقيل: عيلان فرس لقيس مشهور في خيل العرب، وكان قيس سابق عليه، وكان رجل من بجيلة يقال له: قيس كبة، لفرس يقال له: كبة مشهور، وكانا متجاورين في دار واحدة قبل أن تلحق بجيلة بأرض اليمن، فكان الرجل إذا سأل عن قيس

قيل له: أقيس عيلان تريد، أم قيس كبة؟، وقيل: إنه سُمي بكلب كان له يقال له عيلان، وقيل: باسم قوس له، ويكون قيس على هذا ولدًا لمضر، والذي اعتمده النسابون ذووا الإتقان هو أن قيسًا ولدٌ لعيلان، وأن عيلان اسمه الناس أخو الياس، الذي هو خندف، وكلاهما ولد مضر لصلبه، ويدل لذلك قول زهير بن أبي سلمى: إذا ابتَدَرَتْ قيسُ بنُ عَيْلانَ غايةً ... من المجدِ مَنْ يسبِقْ إليها يَسْبق وأم عيلان وأخيه هي الخنفاء ابنة إياد المعدية، والقيسان من طيء، قيس بن عناب بالنون ابن أبي حارثة بن جدي بن نذول بن بحذ بن عتود. والثاني: ابن أخيه قيس بن هذمة بن عناب المذكور، وعبد القيس بن أقصى بن دعمى بن جديلة أبو قبيلة من أسد بن ربيعة، والنسبة إليه عَبْقَسِيّ وإن شئت عبدي اهـ. الثالث: عوف بن أبي جَميلة -بفتح الجيم- العبدي الهَجَري أبو سهل البَصْري المعروف بالأعرابي، واسم أبي جميلة بَنْدُويه -بفتح الباء الموحدة، وضم الدال المهملة، بينهما نون ساكنة، ثم ياء مفتوحة- وقيل: بندويه اسم أمه، واسم أبيه رزينة. قال ابن مَعين: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق صالح. وقال النّسائي: ثقة ثبت. وقال مَرْوان بن مُعاوية: كان يسمى الصدوق. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، قال: وقال بعضهم: يرفع أمره أنه ليجيء عن الحسن بشيء ما يجيء به أحد، قال: وكان يتشيع، وقال عن محمد بن عبد الله الأنصاري: كان أثبتهم جميعًا. وذكره ابن حِبّان في "الثقات". وقال الأنصاري: رأيت داود بن أبي هند يضرب عوفًا ويقول: ويلك يا قدري. وقال في "الميزان": قال بُندار وهو يقرأ لهم حديث عوف: لقد كان قدريًا رافضيًّا شيطانًا. وقال مسلم في مقدمة "صحيحه": وإذا وازنت بين الأقران، كابن عون وأيوب مع عوف وأشعث الحُمْراني وهما صاحبا الحسن وابن سيرين، كما أن ابن عون وأيوب صاحباهما، وجدت البَوْن

بينهما وبين هذين بعيدًا في كمال الفضل وصحة النقل، وإن كان عوف وأشعث غير مدفوعين عن صدق وأمانة. وقال خالد بن الحارث: حدثنا عوف قال: حدثني شيخ من مُزَيْنة أدرك وفاة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، قال: إني أذكر نسوة منا لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم يسودن ثيابهنَّ عليه اهـ. روى عن أبي رجاء العُطارِديّ، وأبي عُثمان النَّهدي، وأبي العَالية، وأبي المِنْهال سيّار بن سَلامة، وخِلاس الهَجَريّ، وأنس ومحمد ابني سيرين، وعَلْقمة بن وائل، وخالد الأشَجّ، وغيرهم. وروى عنه: شعبة، والثوري، وابن المُبارك، والقطّان، وهُشَيْم، ورَوْح بن عُبادة، وغُنْدَر، ومروان بن مُعاوية، ويزيد بن زُرَيْع، ومعاذ بن معاذ العَنْبَريّ، وأبو زيد الأنصاري، وهَوْذَة بن خليفة، وآخرون. كان مولده سنة تسع وخمسين، ومات سنة ست وأربعين ومئة. والعَبْدي في نسبه مر الكلام عليه في الثامن من كتاب الإيمان. والأعرابي نسبة إلى الأعراب، وهم سكان البادية من العرب، لا واحد له، ويجمع على أعاريب، وليس هو عربيًا، وإنما قيل له ذلك لفصاحته اهـ. والهَجَري في نسبه نسبة إلى هجر، ولم أدر لأي هجرات هو، فهَجَر بالتحريك بلدة باليمن بينه وبين عثر يوم وليلة من جهة اليمين، مذكر مصروف، وقد يذكر ويمنع، والنسبة إليه هجري على القياس، وهاجري على غير قياس، قال الشاعر: وريث غارة أوضعت فيها ... كسحِّ الهاجِريّ جريم تمرِ وهجر أيضًا اسم لجميع أرض البحرين، وقيل: اسم لبلد معروف بالبحرين، وقيل: قصبة بلاد البحرين منه إلى بلاد يبرين سبعة أيام، ومنه المثل: "كمُبْضِع تمرٍ إلى هَجَر" ومنه قول عمر رضي الله عنه: عجبت لتاجر هجر، كأنه أراد لكثرة وبائه، أو لركوب البحر.

وهجر أيضًا قرية كانت قرب المدينة، إليها تنسب القِلال الهَجَرية، وقد جاء ذكرها في حديث المعراج. وقيل: إنها منسوبة إلى هجر اليمن. وهجر أيضًا حصنة من مخلاف ماذن. والهجران أيضًا قريتان متقابلتان في رأس جبل حصين قرب حضر موت، يقال لإحداهما: خيدون، وللأخرى: دَمون، وساكن خيدون الصدف، وساكن دمون بنو الحارث بن عمرو المقصور بن حجر آكل المراد، وفيها يقول الشاعر: كأني لَمْ ألْهُ بدمونَ مرةً ... ولم أشهد الغارات يومًا بعندل وكان رجل من هاتين القريتين مطل على قلعته، ولهم غيل يصب من سفح الجبل يشربونه، وزروع هذه القرى النخل والذرة والبر، وفيها يقول المتمثل: الهجران كفة بكفه، بها الدبر محتفة، والدبر عندهم الزرع اهـ. الرابع: الحسن البصري، وقد مر في الرابع والعشرين من كتاب الإِيمان. الخامس: محمد بن سيرين أبو بكر الأنصاري، مولاهم البصري، وكنية سيرين أبو عمرة. كان أبو سيرين عبدًا لأنس بن مالك رضي الله عنه، فكاتبه على أربعين ألف درهم، وقيل: عشرين ألفًا، وأدى الكتابة، وكان من مَيْسان -بفتح الميم- بُلَيدة بأسفل أرض البصرة. ويقال: إنه من سبي عين التمر، وإن سيرين كان يعمل قدور النحاس، فجاء إلى عين التمر يعمل بها، فسباه خالد بن الوليد في أربعين غلامًا مجنبين فأنكرهم، فقالوا: إنا كنا أهل مملكة، ففرقهم في الناس. وأمه صفية مولاة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، طيبها ثلاث من أزواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ودعون لها، وحضر أملاكها ثمانية عشر بدريًّا، فيهم أُبيّ بن كعب يدعو وهم يؤمنون.

وله إخوة: أنس، ومعبد، وحفصة، وكريمة، وذكر بعضهم خالدًا بدل كريمة، وأكبرهم معبد، وأصغرهم حفصة، وكلهم تابعون. وزاد بعضهم في أولاد سيرين عمرة وسودة، وأمهما أم ولد، وزاد بعضهم أيضًا أشعث، وإذا أُطلِق ابن سيرين فالمراد به محمد هذا اهـ. قال ابن سعد: كان ثقة مأمونًا عاليًا رفيعًا فقيهًا إمامًا كثير العلم ورعًا، وكان به صمم. وقال ابن المديني: أصحاب أبي هُريرة ستة: ابن المسيِّب، وأبو سلمة، والأعْرج، وأبو صالح، وابن سِيرين، وطاووس. وكان همام بن منبه حدثه حديثهم إلا أحرفًا. وقال عاصم الأحول: سمعت مورقًا يقول: ما رأيت رجلًا أفقه في ورعه، ولا أورع في فقهه من محمد بن سيرين. وقال ابن حِبّان: كان محمد بن سيرين من أورع أهل البصرة، وكان فقيهًا فاضلًا متقنًا، يعبر الرؤيا. وقال أبو قِلابة: اصرفوه حيث شئتم، فَلَتَجِدُنَّهُ أشدكم ورعًا، وأملككم لنفسه. وقال ابن عَوْن: كان من أرجى الناس لهذه الأمة، وأشدهم إزراءً على نفسه. وقال أيضًا: لم أر في الدنيا مثل ثلاثة: محمد بن سيرين بالعراق، والقاسم بن محمد بالحجاز، ورجاء بن حَيْوة بالشام، ويما يكن في هؤلاء مثل محمد. وقال أيضًا: كان ابن سيرين يحدث بالحديث على حروفه. وقال هشام بن حسان: حدثني أصدق من أدركته من البشر محمد بن سيرين. وقال أحمد: من الثقات. وقال ابن معين: ثقة. وقال العجلي: بصري تابعي ثقة، وهو من أروى الناس عن شُريح وعُبيدة، وإنما تأدب بالكوفيين أصحاب عبد الله. وقال شُعيب بن الحَبْحاب: كان الشعبي يقول لنا: عليكم بذاك الأصم. وقال عثمان التيمي: لم يكن بالبصرة أحد أعلم بالقضاء منه. وقال أبو عوانة: رأيت ابن سيرين في السوق، فما رآه أحد إلا ذكر الله تعالى. وقال بكر المزنيّ: والله ما أدركنا من هو أورع منه. وروي أنه اشترى بيتًا، فأشرف فيه على ثمانين ألف دينار، فعرض في قلبه منه شيء، فتركه.

ورُوي أنه كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، وكان الأصمعي يقول: الحسن البصري سيد سَمْح، وإذا حدث الأصم بشيء -يعني: ابن سيرين- فاشدد يدك عليه، وقتادة حاطب ليل. وأوصى أنس بن مالك أنه يغسله ويصلي عليه، وكان ابن سيرين محبوسًا، فأتَوُا الأمير -وهو رجل من بني أسد- فأذن له، فخرج، فغسله وكفنه وصلى عليه في قصر أنس بالطف، ودخل كما هو إلى السجن، ولم يذهب لأهله. وقيل: إن الذي غسل أنس بن مالك هو قطن بن مدرك الكِلابي والي البصرة. وقد اختلف في السبب الذي لأجله حُبس، فقد روَى محمد بن عبد الله الأنصاري أنه كان اشترى طعامًا بأربعين ألفًا، فأُخبر عن أصله بشيء كرهه، فتصدق به، وبقي المال عليه، فحُبس، حبسته امرأة. وعن ثابت البُناني قال: قال لي محمد بن سيرين: كنت أمتنع من مجالستكم مخافة الشهرة، فلم بي البلاء حتى أخذ بلحيتي، وأقمت على المصطبة، وقيل: هذا محمد بن سيرين آكل أموال الناس. ويروى في سبب حبسه غير ذلك. ولما مات كان عليه ثلاثون ألف درهم دينًا، فقضاها ولده عبد الله، وما مات عبد الله حتى قوم ماله بثلاث مئة ألف درهم. وكان ابن سيرين صاحب الحسن البصري ثم تهاجرا في آخر الأمر، فلما مات الحسن لم يشهد ابن سيرين جنازته. ولد له ثلانون ولدًا، وإحدى عشر بنتًا من امرأة، ولم يبق منهم غير عبد الله الذي قضى دينه. روى عن: مولاه أنس بن مالك، وزيد بن ثابت، والحسن بن علي بن أبي طالب، وحذيفة بن اليمان، ورافع بن خُدَيْج، وسمُرة بن جُنْدب، وابن عمر، وابن عباس، ومعاوية، وأبي الدَّرداء، وعائشة أم المؤمنين. وقال ابن المديني وابن معين: لم يسمع من ابن عباس شيئًا. وقال

لطائف إسناده

أبو حاتم: أدرك أبا الدرداء، ولا أظنه سمع منه، ذلك بالشام وهذا بالبصرة. وقال أيضًا: لم يسمع من عائشة، ولم يلق أبا ذر، ولا أدرك أبا بكر الصديق. وقال الدّارَقُطني: لم يسمع من عِمْران بن حُصين. روى عنه: الشعبي، وخالد الحذاء، وداود بن أبي هند، وابن عون، ويونس بن عُبيد، وعاصم الأحول، وعوف الأعرابي، وقُرة بن خالد، ومالك بن دينار، والأوزاعي، وهشام بن حسان، ويحيى بن عتيق، ويزيد بن طَهمان، وغيرهم. ولد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان، ومات لتسع مضين من شوال سنة عشر ومئة بالبصرة بعد الحسن البصري بمئة يوم. وليس في الستة محمد بن سيرين سواه، وأما محمد فكثير. والبصري في نسبه مر الكلام عليه في الثالث من كتاب الإيمان اهـ. السادس: أبو هُريرة، وقد مر في الثاني من كتاب الإيمان. لطائف إسناده: منها: أن فيه التحديث والعنعنة، ورواته كلهم بصريون ما خلا أبا هريرة. ومنها أن البخاري رحمه الله قرن فيه بين ابن سيرين والحسن لما صح من أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة عند الجمهور، فقرنه بابن سيرين لأنه سمع منه، فالاعتماد عليه، وعلى قول من يقول: إن الحسن سمع منه، فلا يخلو من أن يكونا سمعا منه هذا الحديث مجتمعين، أو يكونا سمعاه منه مفترقين، وإنما أورده البخاري كما سمع. وقد وقع له نظير هذا في قصة موسى عليه السلام، فإنه أخرج فيها حديثًا من طريق روح بن عُبادة بهذا الإسناد، وأخرج أيضًا في بدء الخلق حديثًا آخر عنهما عن أبي هريرة، واعتماده في ذلك على ابن سيرين،

لأن الحسن وإن صح سماعه من أبي هُريرة، فإنه كثير الإرسال، فلا تحمل عنعنته على السماع. قال الكِرْماني: قالوا: لم يصح سماع الحسن عن أبي هُريرة، وعلى ذلك يكون لفظ عن أبي هريرة متعلقًا بمحمد فقط، أو يكون مرسلًا. قال العَيْني: إن أراد أن الحديث مرسلًا فلا يصح، وإن أراد به الإرسال من جهة الحسن فله وجه على تقدير عدم سماعه منه. وهذا الحديث أخرجه البخاري هنا، والنسائي في الإِيمان عن عبد الرحمن بن محمد بن سلام، وفي الجنائز عن محمد بن بشار اهـ. ثم قال البخاري تابعه عثمان المؤذن، قال: حدثنا عَوْف، عن مُحمد، عن أبي هُريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- نحوه. أي: تابع عثماق المؤذن روحَ بن عبادة المار، وعثمان شيخ المصنف، فإن كان سمع هذا الحديث منه فهو له أعلى بدرجة، لكنه ذكر الموصول عن رَوْح لكونه أشد إتقانًا منه، ونبه برواية عثمان على أن الاعتماد في هذا السند على محمد بن سيرين فقط، لأنه لم يذكر الحسن، فكان عونًا ربما ذكره وربما حذفه، وقد حدث به المنجوفي شيخ البخاري مرة بإسقاط الحسن، أخرجه أبو نُعيم في "المستخرج" من طريقه. ولفظ رواية عثمان موافق لرواية رَوْح إلا في قوله: "وكان معها" فإنه قال بدلها: "فلزمها"، وفي قوله: "ويفرغ من دفنها" فإنه قال بدلها: "وتدفن". وقال في آخرها: "فله قيراط" بدل قوله: "فإنه يرجع بقيراط" والباقي سواء. ولهذا الاختلاف في اللفظ قال المصنف: نحوه، وهو بفتح الواو يعني: بمعناه لا بلفظه، وهذه المتابعة وصلها أبو نُعيم في "المستخرج"،

باب: خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر

وقد مر الكلام على المتابعة في الحديث الرابع من بدء الوحي. وأما عثمان فهو عثمان بن الهيثم بن جهم بن عيسى بن حسان بن المنذر، وهو الأشَجّ العصري العبدي أبو عمرو البصري، مؤذن الجامع. قال أبو حاتم: كان صدوقًا، غير أنه بأَخَرَةٍ كان يتلقن ما يلقن. وذكره ابن حِبان في "الثقات"، وقال الساجى: صدوق، ذكر عند أحمد بن حنبل فأومأ إلى أنه ليس بثبت، ولم يحدث عنه، وهو من الأصاغر الذين حدثوا عن ابن جُريج وعوف، وقال الدّارقطني: صدوق كثير الخطأ، وفي الزهرة روى عنه البخاري أربعة عشر حديثًا، وروى عن واحد عنه. وقال ابن حجر: له في البخاري حديث أبي هُريرة في فضل آية الكرسي، ذكره في مواضع مطولًا ومختصرًا. وروى عنه آخر عن محمد غير منسوب، وهو محمد بن يحيى الذُّهْلي، وآخر في العلم صرح بسماعه منه وهو متابعة. روى عن أبيه، وعوف الأعرابي، وابن جُريج، ومبارك بن فضاله، ورؤبة بن الحجاج، وهشام بن حسان، وغيرهم. وروى عنه البخاري، وعلق عنه، وروى عنه عن محمد غير منسوب عنه، وروى النسائي في "اليوم والليلة" عن إبراهيم الجوزجاني عنه، وأبو حاتم الرازي، والذهلي، ومحمد بن عبد الرحيم البزار، وأُسيد بن عاصم، ويعقوب بن سفيان، والكُدَيْميّ، وآخرون. مات في رجب سنة عشرين ومئتين. وليس في الستة عثمان بن الهيثم سواه اهـ. ثم قال البخاري: باب: خوف المؤمن من أن يحبطَ عملُه وهو لا يشعر. هذا الباب معقود للرد على المرجئة خاصة، وإن كان أكثر ما مضى

من الأبواب قد تضمن الرد عليهم، لكن قد يشركهم غيرهم من أهل البدع في شيء منها، بخلاف هذا. والمُرْجِئة -بضم الميم، وكسر الجيم، بعدها ياء مهموزة، ويجوز تشديدها بلا همز- نسبوا إلى الإرجاء، وهو التأخير، لأنهم أخروا الأعمال عن الإيمان، فقالوا: الإيمان هو التصديق بالقلب فقط، ولم يشترط جمهورهم النطق، وجعلوا للعصاة اسم الإيمان على الكمال، وقالوا: لا يضر مع الإيمان ذنب أصلًا، ومقالاتهم مشهورة في كتب الأصول. ومناسبة إيراد هذه الترجمة عقب التي قبلها من جهة أن اتباع الجنازة مظنةٌ لأن يقصد بها مراعاة أهلها، أو مجموع الأمرين، وسياق الحديث يقتضي أن الأجر الموعود به إنما يحصل لمن صنع ذلك احتسابًا، أي: خالصًا، فعقبه بما يشير إلى أنه قد يعرِضُ للمرء ما يعكر على قصده الخالص، فيُحرم به الثواب الموعود وهو لا يشعر. وقوله: "من أن يحبط عمله"، حبط من باب علم يعلم، أي: من حبط عمله وهو ثوابه الموعود به؛ لأنه لا يُثاب إلاَّ على ما أخلص فيه. ولفظة "من" ساقطة من رواية ابن عساكر، وهي مقدرة، لأن المعنى عليها. وقوله: "وهو لا يشعر" جملة اسمية حالية، لا يقال: إنما قاله المؤلف يقوي مذهب الإِحباطية الذين قالوا: إن السيئات يبطلن الحسنات، وحكموا على العاصي بحكم الكافر، وهم معظم القدرية، لأن مراد المؤلف إحباط ثواب ذلك العمل فقط، لأنه لا يُثاب إلا على ما أخلص فيه، لا إحباط جميع الأعمال، كما يقع بالكفر. قال النوويّ: المراد بالحبط نقصان الإيمان وإبطال بعض العبادات لا الكفر، وقال أبو بكر بن العربي في الرد على الإحباطية: القول الفصل في هذا أن الإحباط إحباطان، أحدهما: إبطال الشيء للشيء وإذهابه جملة، كإحباط الإيمان للكفر، والكفر للإيمان، وذلك في الجهتين إذهاب حقيقي. ثانيهما: إحباط الموازلة إذا جُعلت الحسنات في كفة

والسيئات في كفة، فمن رجحت حسناته نجا، ومن رجحت سيئاته وقف في المشيئة، إما أن يُغفر له، وإما أن يُعذب، فالتوقيف إبطال ما، لأن توقيف المنفعة في وقت الحاجة إليها إبطال لها، والتعذيب إبطال أشد منه إلى حين الخروج من النار، ففي كل منهما إبطال نسبي أطلق عليه اسم الإحباط مجازًا، وليس هو إحباطًا حقيقة، لأنه إذا أخرج من النار وأدخل الجنة عاد إليه ثواب عمله، وهذا بخلاف قول الإحباطية الذين سووا بين الإحباطين، وحكموا على العاصي بحكم الكفر اهـ. ثم ذكر المؤلف ثلاثة تعاليق: الأول: (وقال إبراهيم التيمي، ما عرضت قولي على عملي إلا خشيتُ أن أكون مكذبًا) قوله: "مكذبًا" روي بفتح الذال أي خشيت أن يكذبني من رأى عملي مخالفًا لقولي، فيقول: لو كنت صادقًا ما فعلت خلاف ما تقول، وإنما قال ذلك لأنه كان يعظ الناس. وروي بكسر الذال، وهي رواية الأكثر، ومعناه أنه مع وعظه الناس لم يبلغ غاية العمل، فخشي أن يكون مكذبًا أي: مشابهًا للمكذبين، وقد ذم الله تعالى من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر وقصر في العمل، فقال: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}. وقال البيضاوي في آية {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ} إنها ناعية على من يعظ غيره ولا يعظ نفسه سوء صنيعه وخبث نفسه، وإن فعله فعل الجاهل بالشرع، أو الأحمق الخالي عن العقل فإن الجامع بينهما تأبى عنه شكيمته، والمراد بها حث الواعظ على تزكية النفس والإقبال عليها بالتكميل ليقوم فيقيم، لا منع الفاسق من الوعظ، فإن الإخلال بأحد الأمرين المأمور بهما لا يوجب الإخلال بالآخر اهـ. الثاني: (وقال ابن أبي مُليكة: أدركتُ ثلاثين من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل).

والصحابة الذين أدركهم ابن أبي مُليكة من أجلهم عائشة، وأختها أسماء، وأم سلمة، والعبادلة الأربعة، وأبو هريرة، وعُقبة بن الحارث، والمِسور بن مَخْرمة، فهؤلاء سمع منهم، وقد أدرك بالسن جماعة أجل من هؤلاء، منهم علي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص. وقد مر تعريف عائشة، وأبي هريرة، والعبادلة ما عدا عبد الله بن الزبير، وسعد بن أبي وقاص، ويأتي تعريف كل من الباقين في محله. وقد جزم بأنهم كانوا يخافون النفاق في الأعمال، ولم ينقل عن غيرهم خلاف ذلك، فكأنه إجماع، وذلك لأن المؤمن قد يعرض عليه في عمله ما يشوبه مما يخالف الإخلاص، ولا يلزم من خوفهم من ذلك وقوعه منهم، بل ذلك منهم على سبيل المبالغة في الورع والتقوى رضي الله تعالى عنهم. وقال ابن بطّال: إنما خافوا لأنهم طالت أعمارهم، حتى رأوا من التغير ما لم يعهدوه ولم يقدروا على إنكاره، فخافوا أن يكونوا داهنوا بالسكوت. وقوله: "ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل" أي: لا يجزم أحد منهم بعدم عروض النفاق له، كما يجزم بذلك في إيمان جبريل وميكائيل، لأنهما معصومان لا يطرأ عليهما ما يطرأ على غيرهما من البشر. وفي هذا إشارة إلى أن المذكورين كانوا قائلين بتفاوت درجات المؤمنين في الإيمان، خلافًا للمرجئة القائلين بأن إيمان الصديقين وغيرهم بمنزلة واحدة. الثالث: (ويذكر عن الحسن: ما خافه إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق). قد استشكل ترك البخاري الجزم به مع صحته عن الحسن، وفعله هذا لقاعدة عنده، وهي أنه لا يخص صيغة التمريض بضعف الإِسناد،

بل إذا ذكر المتن بالمعنى أو اختصره أتى بها أيضًا، لما علم من الخلاف في ذلك، فهنا كذلك، ولأجل اختصاره له، وقع الخلاف في فهمه، فجعل النووي الضمير في خافه وأمنه لله تعالى، قال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} وقال: {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} وهذا وإن كان صحيحًا في نفسه، لكنه ليس مرادًا للمصنف، بل مراده رجوع الضمير في الفعلين للنفاق، كما هو جمبين عند الفِرْيابيّ عن المعلّى بن زياد قال: سمعت الحسن يحلِف في هذا المسجد بالله الذي لا إله إلا هو، ما مضى مؤمن قطٌّ وما بقي إلا وهو من النفاق مشفق، وما مضى منافق قط ولا بقي إلا وهو من النفاق آمن. وهو عند أحمد بلفظ: والله ما مضى مؤمن ولا بقي إلا وهو يخاف النفاق، ولا أمنه إلا منافق اهـ. والتعاليق الثلاثة: الأول منها: رواه أبو القاسم اللالَكائي في "سننه" بسند جيد، ورواه البخاري في "تاريخه" عن أبي نُعيم، وأحمد بن حَنبل في "الزهد" كلاهما عن سفيان الثوري، عن أبي حيان التيمي، عن إبراهيم التيمي المذكور. والثاني أخرجه ابن أبي خَيْثمة موصولًا من غير بيان العدد، وأخرجه محمد بن نصر المروزي في كتاب الإيمان له مطولًا. وقد رُوِي بمعناه حديث مرفوع عن عائشة، رواه الطبراني في "الأوسط" لكن سنده ضعيف. والثالث وصله جعفر الفِرْيابي في كتاب "صفة المنافق" من طرق متعددة بألفاظ مختلفة اهـ. ورجال التعاليق ثلاثة: الأول: إبراهيم بن يزيد بن شَريك التَّيْمي تيم الرباب، أبو أسماء الكوفي، كان من العباد. قال الأعمش: كان إبراهيم إذا سجد تجيء العصافير تنقر على ظهره.

وقال لي: ما أكلت منذ أربعين ليلة إلا حبة عنب. وقال ابن حِبّان في "الثقات": كان عابدًا، صابرًا على الجوع الدائم. وقال ابن مَعين: ثقة. وقال أبو زُرعة: ثقة مرجىء، قتله الحجاج بن يوسف. وقيل: مات في سجنه، لما طلب إبراهيم النَّخَعي وقع الرسول في إبراهيم التَّيْمِي، فأخذه وحبسه، فقيل له: ليس إياك أراد. فقال: أكره أن أدفع عن نفسي، وأكون سببًا لحبس رجل مسلم بريء الساحة، فصبر في السجن حتى مات. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. روى عن أنس، وأبيه، والحارث بن سُوَيْد، وعَمرو بن مَيْمون، وأرسل عن عائشة. قال الدّارقُطني: لم يسمع من عائشة ولا من حَفْصة، ولا أدرك زمانهما. وقال أحمد: لم يلق أبا ذر. وقال ابن المدِيني: لم يسمع من علي، ولا من ابن عباس. وروى عنه: بَيان بن بِشْر، والحَكَم بن عُتيبة، وزُبَيْد بن الحارث، ومسلم البَطِين، وجماعة. مات سنة اثنتين وتسعين. وقيل أربع وتسعين. وقال أبو داود: مات ولم يبلغ أربعين سنة. وفي الستة إبراهيم بن يزيد سواه ثلاثة: النَّخَعِيّ، والمَخْزُوميّ والخُوزي الأُمَويّ، وفي الرواة غير الستة ثلاثة أيضًا: الكوفي أبو إسحاق، والبَصْريّ، والشَاميّ. والتَّيْمِيّ في نسبه مر الكلام عليه في الثاني من كتاب الإيمان اهـ. الثاني: ابن أبي مُلَيْكة، وهو عبد الله بنُ عبيد الله -بتكبير الابن وتصغير الأب- ابن أبي مُلَيْكة. واسم أبي مُلَيْكة -بضم الميم- زهير بن عبد الله بن جَدْعان بن عمرو بن كعب بن تَيْم بن مُرة أبو بكر، ويقال: أبو محمد التيميّ المكيّ، كان قاضيًا لابن الزبير ومؤذنًا له.

قال ابن سعد: ولاه ابن الزبير قضاء الطائف، وكان ثقة كثير الحديث. وقال العِجْليّ: مكي تابعي ثقة. وقال أبو حاتم وأبو زُرعة: ثقة. وقال ابن حِبّان في "الثقات": رأى ثمانين من الصحابة. وقال البخاري: قال ابن أبي مُليكة: أدركت ثلاثين من الصحابة. روى عن العبادلة الأربعة، وعائشة، وأختها أسماء، وأم سلمة، وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وطلحة بن عُبيد الله، وقيل: لم يسمع منه، وعثمان بن عفان، وذكوان مولى عائشة، وحُميد بن عبد الرحمن بن عوف، والقاسم بن محمد، وعُروة بن الزبير، وغيرهم. وروى عنه: ابنه يحيى، وابن أخته عبد الرحمن بن أبي بكر، وعطاء ابن أبي وباح وهو من أقرانه -وحُميد الطويل، وعمرو بن دينار، وابن جُرَيْج، وأبو العُمَيْس المسعودي، وعبد الواحد بن أيمن، وغيرهم. مات سنة سبع عشرة ومئة. وفي الستة عبد الله بن عبيد الله سواه ثلاثة: ابن أبي رافع، وابن عبيد الله بن عباس، وابن عبيد الله بن عمر بن الخطاب، وليس فيهم ابن أبي مُلَيكة سواه اهـ. الثالث: الحسن البصري، وقد مر في الرابع والعشرين من كتاب الإيمان هذا. ثم قال المصنف: (وما يُحْذَر من الإصرار على التقاتلِ والعصيانِ من غير توبةٍ لقولِ الله تعالى: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}). وهذا من تمام الترجمة، عطف على قوله: "خوف المؤمن، أي: باب خوف المؤمن، وما يحذر .. إلخ". و"ما": مصدرية، و"يُحذر" بضم الياء، وفتح الذال مخففة أو مشددة كما في "الفتح"، والظاهر عندي أنها في هذه الحالة بكسر الذال، كما

يدل عليه المعنى، وإنما فصل بين الترجمتين بالأثار التي ذكرها لتعلقها بالأولى فقط، وأما الحديثان فالأول منهما متعلق بالثانية، والثاني متعلق بالأولى، ففيه لف ونشر غير مرتب، على حد قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ .. الآية}. وقوله: "على التقاتل" كذا في أكثر الروايات، وهو المناسب لحديث الباب، لقوله فيه: "وقتاله كفر" وفي رواية: "على النفاق". قال في "الفتح": معناه صحيح وإن لم تثبت به الرواية. قال القَسْطَلاني: بل ثبتت به الرواية عن أبي ذَرٍّ، ونسخة السُّمَيْساطي. وقوله: "لقول الله تعالى"، وفي رواية: "عز وجل"، وفي رواية: "لقوله عز وجل". وقوله: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا} أي: لم يقيموا على ذنوبهم غير مستغفرين، لأن من أصر على نفاق المعصية خُشِيَ عليه أن يفضي به إلى نفاق الكفر، وقد روى الترمذي من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه: "ما أصرَّ من استغفر وإن عادَ في اليومِ سبعينَ مرةً". وقوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} حال من يُصروا، أي: لم يصروا على قبيح فعلهم عالمين به، فقد روى أحمد من حديث ابن عُمر مرفوعًا: "ويلٌ للمصّرينَ الذينَ يصرّونَ على ما فعلوا وهم يعلمون" أي: يعلمون أن من تاب تاب الله عليه، ثم لا يستغفرون. قاله مجاهد وغيره. ومراد المصنف الرد على المرجئة، حيث قالوا: لا حذر من المعاصي مع حصول الإيمان، ومفهوم الآية التي ذكرها يرد عليهم، لأنه تعالى مدح من استغفر لذنبه ولم يقم عليه، فمفهومه ذم من لم يفعل ذلك، وأدل على المراد من هذه الآية قوله تعالى: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} اهـ.

الحديث الحادي والأربعون

الحديث الحادي والأربعون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ زُبَيْدٍ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا وَائِلٍ عَنِ الْمُرْجِئَةِ، فَقَالَ حَدَّثَنِى عَبْدُ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ "سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ". قوله: "سألت أبا وائل عن المرجئة" أي: عن مقالتهم أو معتقدهم، وقد مر الكلام على حقيقتهم في الكلام على الترجمة. وقوله: "سبابُ المسلم" هو بكسر السين، وبتخفيف الموحدة، مصدر مضاف للمفعول، أي: شتمه والتكلم في عرضه بما يَعيبُهُ ويؤلمه. وقيل: السباب أشد من السب، وهو أن يقول في الرجل ما فيه وما ليس فيه، يريد بذلك عَيْبته. وقيل: السباب هنا مثل القتال، فيقتضي المفاعلة، أي تشاتمهما، وقد مر بعض الكلام على السباب في باب المعاصي من أمر الجاهلية، وهذا السؤال فيه دلالة على أن بدعة الإرجاء قديمة. وقوله: "فسوق" أي: فجور وخروج عن الحق، والفسق في اللغة الخروج، وفي الشرع الخروج عن طاعة الله ورسوله، وهو في عرف الشرع أشد من العصيان، قال الله تعالى: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ}، ففي الحديث تعظيم حق المسلم، والحكم على من سبه بغير حق بالفسق، ومقتضاه الرد على المرجئة، وعرف من هذا مطابقة جواب أبي وائل للسؤال عنهم، كأنه قال: كيف تكون مقالتهم حقًّا والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقول هذا. وقوله: "وقتاله كفر" أي: فكيف يحكم بتصويب قولهم: إن مرتكب الكبيرة غير فاسق. مع حكم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على من سب المسلم بالفسق، ومن قاتله بالكفر.

وليس المراد هنا بالكفر حقيقته التي هي الخروج عن الملة، وإنما أطلق عليه الكفر مبالغة في التحذير، معتمدًا على ما تقرر من القواعد على عدم كفره بمثل ذلك، مثل حديث الشفاعة، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}، وقد مضى بعض الكلام على هذا في باب المعاصي من أمر الجاهلية، أو أُطلق عليه الكفر لشبهه به؛ لأن قتال المؤمن من شأن الكافر، أو المراد الكفر اللغوي وهو التغطية، لأن حق المسلم على المسلم أن يعينه وينصره ويكف عنه أذاه، فلما قاتله كان كأنه غطى على هذا الحق، والأوَّلان أليق بمراد المصنف، وأولى بالمقصود من التحذير من ذلك والزجر عنه، بخلاف الثالث. وقيل: المراد بقوله: كفر، أي: قد يؤول هذا الفعل بشؤمه إلى الكفر، وهذا بعيد، وأبعد منه حمله على المُسْتَحِلِّ لذلك؛ لأنه لا يطابق الترجمة، ولو كان مرادًا لم يحصل التفريق بين السباب والقتال، فإن مستحل لعن المسلم بغير تأويل يكفر أيضًا كما يأتي مبوبًا له في كتاب المحاربين إن شاء الله تعالى. فإن قيل: هذا وإن تضمن الرد على المرجئة، لكن ظاهره يقوي مذهب الخوارج الذين يكفِّرون بالمعاصي، فالجواب: إن المبالغة في الرد على المبتدع اقتضت ذلك، ولا متمسك للخوارج فيه، لأن ظاهره غير مراد، لكن لما كان القتال أشد من السباب لأنه مفضٍ إلى إزهاق الروح، عبر عنه بلفظ أشد من لفظ الفسق وهو الكفر، ولم يرد حقيقة الكفر التي هي الخروج عن الملة .. إلخ ما مر قريبًا. ومثل هذا الحديث قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: "لا ترجِعُوا بعدي كفارًا يضربُ بعضكم رقابَ بعضٍ" ففيه هذه الأجوبة، وسيأتي إن شاء الله تعالى في كتاب الفتن. ونظيره قوله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} بعد قوله: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ} الآية، فدل على أن بعض الأعمال يطلق عليه الكفر تغليظًا.

رجاله خمسة

وأما قوله صلى الله تعالى عليه وسلم فيما رواه مسلم: "لعن المسلم كقتله" فلا يخالف هذا الحديث، لأن المشبه به فوق المشبه، والقدر الذي اشتركا فيه بلوغ الغاية في التأثير، هذا في العرض، وهذا في النفس، وقد ورد لهذا المتن سبب أخرجه البَغَوي والطبراني عن عمرو بن النعمان ابن مُقَرِّن المُزَني، قال: انتهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى مجلس من مجالس الأنصار، ورجل من الأنصار كان عُرِفَ بالبذاء ومشاتمة الناس، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: "سبابُ المسلم فسوقٌ، وقتاله كفر" زاد البَغَوي في روايته: "فقال ذلك الرجل: والله لا أسابُّ رجلًا" اهـ. رجاله خمسة: الأول: محمد بن عَرْعَرة -بالعينين المهملتين- ابن البِرِنْد -بكسر الباء الموحدة والراء، ويقال: بفتحهما، وسكون النون- وكأنه فارس بن النعمان أبو عبد الله، أو أبو عمرو الساميّ -بمهملة- البصري الناجي -بالنون-. قال أبو حاتم: ثقة صدوق. وقال النّسائي: ليس به بأس. وذكره ابن حِبان في "الثقات". وقال الحاكم وابن قانع: ثقة. وفي الزهرة روى عنه البخاري عشرين حديثًا. روى عن: جرير بن حازم، وأبي الأشهب العُطاردِيّ، وشعبة، وابن عَون، وعمر بن أبي زائدة، والقاسم بن الفضل الحُدَّاني، وغيرهم. وروى عنه: البخاري، وروى مسلم وأبو داود عنه بواسطة، ومحمد ابن عبد الرحيم البزار، وأحمد بن الحسن الترمذي، وابن دارة، ويعقوب ابن سفيان، وغيرهم. مات سنة ثلاث عشرة ومئتين عن ست وسبعين، وقيل: خمس وسبعين.

وليس في الستة محمد بن عَرْعَرة سواه. والسامِيّ في نسبه مر الكلام عليه في التعليق الذي بعد الثالث من كتاب الإيمان. والناجِيّ في نسبه نسبة إلى ناجية، محلة بالبصرةِ مسماة باسم القبيلة. وقال السَّكوني: منزل لأهل البصرة على طريق المدينة بعد أثال، والقبيلة التي سميت بها المحلة هم بنو ناجية بن لؤي. قال ابن حجر: وكل من كان من أهل البصرة من المتقدمين فهو بالنون، وفي المتأخرين من يخشى لبسه عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الغني الناجي البغدادي سمع ابن كارة، وكان بعد الثلاثين وست مئة، ومن المحدثين المتقدمين أبو الصديق بكر بن عمرو الناجي، روى عن عائشة، وروى عنه قتادة وعاصم الأحول، مات سنة ثمان ومئة. ومنهم أيضًا أبو عبيدة الراوي عن الحسن البصري. ومنهم أيضًا أبو المتوكل الناجي روى عن عائشة وابن عباس اهـ. والبِرِنْد يشتبه ببَريد مكبرًا، وهو جد علي بن هاشم، وحديثه في مسلم. ويشتبه أيضًا ببُرَيْد مصغرًا حفيد أبي موسى الأشعري، وهو بُريد بن عبد الله بن أبي بُردة بن أبي موسى الأشعري، وحديثه في "الصحيحين" قال العراقي: جَدُّ عَلِي بنِ هاشم بُرَيْدُ ... وابنُ حفيدِ الأشْعرِي بَريدُ ولهُما محمدُ بن عَرْعَره ... ابنُ البِرِنْدِ فالأميرُ كَسَرَه وما عدا الثلاثة مما في الكتب الثلاثة فهو يزيد -بفتح التحتية، وزاي مكسورة- كيزيد بن هارون أهـ. الثاني: شُعبة بن الحجّاج، وقد مر في الثالث من كتاب الإيمان. الثالث: زُبَيدْ -بالزاي والباء الموحدة مصغر- ابن الحارث بن عبد الكريم بن عمرو بن كعب أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو عبد الله اليامِيّ، ويقال: الإِيامي الكوفي.

قال القطان: ثبت. وقال ابن مَعين وأبو حاتم والنّسائي: ثقة. وقال مُجاهد: أعجب أهل الكوفة الي أربعة فيهم زبيد. وقال ابن شبرمة: كان يصلي الليل كله. وقال يعقوب بن سُفيان: ثقة ثقة خيار، إلا أنه كان يميل إلى التشيع. وقال ابن سعد: كان ثقة، وله أحاديث، وهو في عداد الشيوخ، وليس بكثير الحديث. وقال العِجْلي: ثقة ثبت في الحديث، وكان علويًّا. وقال شعبة: ما رأيت بالكوفة شيخًا خيرًا من زُبيد. وقال سعيد ابن جُبَيْر لو خُيِّرتُ عبدًا ألقى الله في مسلاخه اخترت زُبيدًا الياميّ. وقال عمرو بن مرة: كان زُبيد صدوقًا. وقال ابن حِبّان في "الثقات": كان من العباد الخُشن مع الفقه في الدين، ولزوم الورع الشديد. وقال محمد بن طلحة بن مصرّف: ما كان بالكوفة ابن أب وأخ أشد مجانبًا من طلحة بن مصرّف وزُبيد الياميّ، كان طلحة عثمانيًّا وزبيد علويًّا. روى عن: مرة بن شُراحيل، وسعيد بن عُبيدة، وذَرِّ بن عبد الله، وسعيد بن عبد الرحمن بن أبْزى، وإبراهيم النَّخَعِي، وإبراهيم التَّيْمِيّ، ومجاهد، وجماعة. وروى عنه: ابناه عبد الله وعبد الرحمن، وجرير بن حازم، وشعبة، والثوري، ومالك بن مِغْوَل، ومِسْعَر، ومنصور، ومُغيرة، والأعْمش -وهم من أقرانه- وغيرهم. مات سنة اثنتين أو ثلاث أو أربع وعشرين ومئة. وليس في الستة زُبيد سواه، ويوجد زُبَيْد بياءين تصغير زيد، وهو ابن الصَّلْت، وحديثه في "الموطأ" وليس له ذكر في "الصحيحين" ويجوز كسر زايه، قال العراقي: زُبَيْدُ بنُ الصلتِ واضمُم واكسرِ ... وفي ابن حيّانَ سليمٌ كبِّرِ وفي الستة أبو زُبيد الكوفي، واسمه عَبْثَر، روى له الجماعة. والياميّ في نسبه نسبة إلى يام بن أهبى، قبيلة باليمن من هَمْدان،

والنسبة إليهم يامي، وربما زيد في أوله همزة مكسورة، فيقولون: الإياميّ، ويام بن نوح غرق في الطوفان. الرابع: أبو وائل -بالهمزة بعد الألف- شَقيق بن سَلَمة الأسَدي الكوفي، أدرك النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يره. قال عاصم بن بَهْدلة عنه: أدركت سبع سنين من سني الجاهلية. وقال الأعمش: قال لي أبو وائل: يا سلمان، لو رأيتني ونحن هراب من خالد بن الوليد، فوقعت عن البعير، فكادت عنقي تندق، فلو مت يومئذ كانت النار، قال: وكنت يومئذٍ ابن إحدى عشرة سنة. وقال مغيرة عنه: أتانا مصدقُ النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأتيته بكبش لي، فقلت: خذ صدقة هذا، فقال: ليس في هذا صدقة. وقال يزيد بن أبي زياد: قلت لأبي وائل: أيما أكبر أنت أو مسروق؟ قال: أنا. وقال الثَّوْرِيّ عن أبيه: سمعت أبا وائل، وسئل: أنت أكبر أو الربيع بن خَيْثَم؟ قال: أنا أكبر منه سنًّا، وهو أكبر مني عقلًا. وقال عاصم بن بَهْدلة: قيل لأبي وائل: أيهما أحب إليك علي أو عثمان؟ قال: كان علي أحب إلى، ثم صار عثمان. وقال عمرو بن مرة: قلت لأبي عُبيدة: من أعلم أهل الكوفة بحديث عبد الله؟ قال: أبو وائل. وقال إبراهيم عليك بشَقيقٍ، فإني أدركت الناس وهم متوافرون، وإنهم ليعدونه من خيارهم. وقال ابن مَعين: ثقة لا يسأل عن مثله. وقال وكيع: كان ثقة. وقال ابن سَعد: كان ثقة كثير الحديث. وقال ابن حِبّان في "الثقات": سكن الكوفة، وكان من عبادها، وليست له صحبة. وقال العِجْليّ: رجل صالح جاهلي من أصحاب عبد الله. وقال ابن عبد البر: أجمعوا على أنه ثقة. روى عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ومعاذ بن جَبل، وسعد بن أبي وقاص، وحذيفة وأبي موسى الأشعري، وأبي هُريرة، وعائشة، وأم سلمة، وأسامة بن زيد، والأشعث بن قيس، وخلق من الصحابة والتابعين. وقال أبو زُرعة: أبو وائل عن أبي بكر مرسل، وسئل هل سمع

عائشة؟ قال: لا أدري، ربما أدخل بينه وبينها مسروقًا. وروى عنه: الأعمش، ومنصور، وزُبيد الياميّ، وعاصم بن بَهْدلة، وعمرو بن مرة، ومُغيرة بن مِقْسَم، وحمّاد بن أبي سُليمان، وجماعة. تعلم القرآن في سنتين. وقال عاصم بن بَهْدلة: ما سمعته سب إنسانًا قط، وكان ابن مسعود يثني عليه كثيرًا. وقال أبو سعيد بن صالح: كان أبو وائل يؤم جنائزنا وهو ابن مئة وخمسين سنة. مات سنة اثنتين وثمانين على المحفوظ، وقيل: إنه مات بعد الجماجم، وقيل: مات في خلافة عمر بن عبد العزيز. وفي الستة شَقيق سواه خمسة، وليس فيهم من يكنى بأبي وائل. والأسَديّ في نسبه مر الكلام عليه في السادس من كتاب الإيمان، وهو من المخضرمين، وقد مر الكلام عليهم في الخامس والعشرين من كتاب الإيمان. الخامس: عبد الله بن مسعود، وقد مر في الأثر الثالث من كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع والإفراد، والسؤال والعنعنة، ورجاله ما بين بصري وواسطي وكوفي، وكلهم أئمة أجلاء. أخرجه البخاري هنا وفي الأدب عن سُليمان بن حرب، ومسلم في الإيمان عن محمد بن بَكّار بن الريّان وغيره، والترمذي في البر عن محمود ابن غَيْلان، وقال: حسن صحيح، والنسائي في المحاربة عن محمود بن غَيْلان أيضًا اهـ.

الحديث الثاني والأربعون

الحديث الثاني والأربعون أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ أَخْبَرَنِى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- خَرَجَ يُخْبِرُ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ فَتَلاَحَى رَجُلاَنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: "إِنِّى خَرَجْتُ لأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَإِنَّهُ تَلاَحَى فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ فَرُفِعَتْ وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمُ الْتَمِسُوهَا فِى السَّبْعِ وَالتِّسْعِ وَالْخَمْسِ". قوله: "خرج يخبر" أي: من حجرته، ويخبر إما استئناف أو حال مقدرة لأن الخبر وقع بعد الخروج، على حد: {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} أي: مقدرين الخلود. وقوله: "بليلة القدر" أي: بتعيينها، وقد مر الكلام على القدر مستوفى في باب قيام ليلة القدر من الإيمان. وقوله: "فتلاحى رجلان من المسلمين" -بفتح الحاء- من تلاحى، وهو من التلاحي -بكسرها-، وهو التنازع والمخاصمة، والرجلان عبد الله بن أبي حَدْرد، وكعب بن مالك، وقد عرف الثاني في السادس والأربعين من استقبال القبلة، والأول في الستين منه. وقوله: "لأخبرَكم" بنصب الراء بأن المقدرة بعد لام التعليل، والضمير مفعول أخبر الأول. وقوله: "بليلة القدر" سد مسد الثاني والثالث، أي: لأخبركم بأن ليلة القدر هي ليلة كذا. وقوله: "فرُفِعت" أي: رُفع بيانها أو علمها من قلبي، بمعنى نسيتها، لا أنها رفعت أصلًا، لقوله الآتي: "التمسوها" فلو كان المرافى رفع وجودها لم يأمرهم بطلبها.

ويبين المراد بالرفع حديث مسلم عن أبي سعيد، قال: "فجاء رجلان يحتقّان" بتشديد القاف، أي: يدعي كل منهما أنه المحق "معهما الشيطان" فدل على أن المخاصمة مذمومة، وأنها سبب في العقوبة المعنوية، أي: الحرمان، وأن المكان الذي يحضره الشيطان ترفع منه البركة والخير، وإنما كانت المخاصمة في طلب الحق مذمومة لوقوعها في المسجد، وهو محل الذكر لا اللغو، وفي الوقت المخصوص بالذكر لا اللغو وهو شهر رمضان، فالذم لما عرض فيها لا لذاتها، ثم إنها مستلزمة لرفع الصوت، ورفعه بحضرته عليه الصلاة والسلام منهي عنه، لقوله تعالى: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ... وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}. ومن هنا تتضح مناسبة هذا الحديث للترجمة ومطابقتها له، وقد خفيت على كثير من العلماء، فإن قيل: {وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} يقتضي المؤاخذة بالعمل الذي لا قصد فيه، فالجواب: إن المراد وأنتم لا تشعرون بالإحباط، لاعتقادكم صغر الذنب، فقد يعلم المرء الذنب، ولكن لا يعلم أنه كبيرة، كما قيل في قوله: "إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير" أي: عندهما، ثم قال: "وإنه لكبيرٌ" أي: في نفس الأمر. وأجاب أبو بكر بن العربي بأن المؤاخذة تحصلُ بما لم يُقصد في الثاني إذا قصد في الأول، لأن مراعاة القصد إنما هي في الأول، ثم يسترسل حكم النية الأولى على مؤتنف العمل، وإن عزب القصد خيرًا كان أو شرًا. وقوله: "وعسى أن يكون خيرًا" أي: وإن كان عدم الرفع أزيدُ خيرًا وأولى منه، لأنه متحقق فيه، لكن في الرفع خير مرجو، لاستلزامه مزيد الثواب، لكونه سببًا لزيادة الاجتهاد في التماسها، وإنما حصل ذلك ببركة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. وقوله: "في السبع والتسع .. إلخ" في أكثر الروايات بتقديم السبع التي أولها السين، وفيها إشارة إلى أن رجاءها في السبع أقوى للاهتمام

بتقديمها، وفي رواية أبي نُعَيْم بتقديم التسع على ترتيب التدلّي. واختلف في المراد بالتسع وغيرها، فقيل: لتسع بقين من الشهر، فتكون ليلة إحدى أو اثنتين وعشرين بحسب تمام الشهر ونقصانه. وقيل: لتسع يمضين من العشر الأواخر، فتكون ليلة تسع وعشرين، وعليه: فقدله: في تسع، أي: وعشرين، وسبع وعشرين، وخمس وعشرين. وفي رواية لأحمد: "في تاسعة تبقى" وهذه ترجح الوجه الأول. وأخرج البخاري عن ابن عباس في الاعتكاف هي في العشر الأواخر في تسع يمضين أو في سبع بقين بتأخير السين في الأول وتقديمها في الثاني، وبلفظ المضي في الأول والبقاء في الثاني، وبلفظ المضي فيهما. ولأبي داود من حديثه بلفظ: "تاسعة تبقى، سابعة تبقى، خامسة تبقى" قال مالك في "المدونة": تاسعة تبقى ليلة إحدى وعشرين ... إلخ. وقد وقع سبب آخر لنسيانها فيما أخرجه مسلم عن أبي هُريرة، أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: "أريتُ ليلة القدرِ، ثم أيقظني بعضُ أهلي فنسيتها" فإما أن يُحمل على التعدد، بأن تكون الرؤيا في حديث أبي هريرة منامًا فيكون سبب النسيان الإيقاظ، وتكون الرؤية في حديث غيره في اليقظة، فيكون سبب النسيان ما ذُكر من المخاصمة، أو يحمل على اتحاد القصة، ويكون النسيان وقع مرتين عن سببين، ويحتمل أن يكون المعنى: أيقظني بعض أهلي، فسمعت تلاحي الرجلين، فقمت لأحجز بينهما، فنسيتها للاشتغال بهما. وقد روى عبد الرزاق من مرسل سعيد بن المسيِّب أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال: "ألا أخبرُكُم بليلةِ القدر" قالوا: بلى. فسكت ساعة ثم قال: "لقد قلت لكم وأنا أعلمها، ثم أنسيتها" فلم يذكر سبب النسيان، وهو مما يقوي الحمل على التعدد اهـ.

رجاله خمسة

وإذا تقرر أن الذي ارتفع علمُ تعيينها تلك السنة، فهل أُعلم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بعد ذلك بتعيينها، فيه احتمال، فقد قال ابن عُيينة فيما علقه البخاري، ووصله محمد بن يحيى بن أبي عمرو في كتاب "الإيمان" له: كل شيء في القرآن فيه {وَمَا أَدْرَاكَ} فقد أخبره به، وكل شيء فيه {وَمَا يُدْرِيكَ} فلم يخبره به، ومقصوده أنه عليه الصلاة والسلام كان يعرف ليلة القدر، لقوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} وهذا الحصر متعقب بقوله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} فإنها نزلت في ابن أم مكتوم، وقد علم صلى الله تعالى عليه وسلم بحاله، وأنه ممن تزكى ونفعته الذكرى اهـ. قلت: يحتمل عندي أن يجاب عن هذا التعقيب بأن المراد من التزكي في هذه الآية التطهير من الذنوب لا الإِسلام، لأنه كان مسلمًا قبل ذلك، والتطهير من الذنوب لا يُعلم علم يقين إلا بالغفران يوم القيامة، أو بالوحي عليه عليه الصلاة والسلام، ويدل على هذا الجواب قوله عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه البخاري وغيره للأنصارية لما قالت لعثمان بن مظعون بعد موته: لقد أكرمك الله: "وما يدريكِ أنَّ اللهَ أكرمه" إلخ، ولم يُرِدْ عليه الصلاة والسلام إلاَّ علمها بأن الإكرام مغيب، متوقف على النجاة في يوم القيامة، هذا ما ظهر لي، والله تعالى أعلم. وروى محمد بن نصر، عن واهب المَعَافِريّ أنه سأل زينب بنت أم سلمة: هل كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يعلم ليلة القدر؟ فقالت: لا، لو علمها لما قام الناس غيرها. وهذا قالته احتمالًا، وليس بلازم، لاحتمال أن يكون التعبد وقع بذلك أيضًا، فيحصل الاجتهاد في جميع العشر، وسيأتي إن شاء الله تعالى بسط الكلام على ليلة القدر في كتاب الاعتكاف اهـ. رجاله خمسة: الأول قُتيْبة بن سعيد، وقد مر في الحادي والعشرين من كتاب الإيمان.

والثاني: إسماعيل بن جَعْفر، وقد مر في السادس والعشرين منه أيضًا. والثالث: حُمَيْد بن أبي حُميد الطويل، أبو عُبيدة الخُزاعي مولاهم، وقيل غير ذلك البصري، واسم أبي حُميد تِيْر -بكسر التاء المثناه من فوق، وسكون الياء، وفي آخره راء- وقيل: اسمه تيرويه، وقيل: زاذويه، وقيل: داور، وقيل: طرخان، وقيل: مهران، وقيل: عبد الرحمن، وقيل: مَخْلد، وقيل غير ذلك إلى عشرة أقوال، وهو مشهور بحميد الطويل قيل: كان قصيرًا طويل اليدين، فقيل له ذلك، وكان يقف عند الميت فتصل إحدى يديه إلى رأسه، والأخرى إلى رجليه. وقال الأصمعي: رأيته، ولم يكن بذاك الطويل، بل كان في جيرانه رجل يقال له: حُميد القصير، فقيل له: الطويل للتمييز بينهما. قال ابن مَعين: ثقة. وقال الدارِميّ: قلت لابن مَعين: يونس بن عُبيد أحب إليك في الحسن أو حميد؟ فقال: كلاهما. قال الدارِميّ: يونس أكبر من حميد بكثير. وقال العجلي: بصري ثقة. وقال أبو حاتم: ثقة لا بأس به، وأكبر أصحاب الحسن حميد وعبادة. وقال ابن خِراش: ثقة صدوق. وقال مرة: في حديثه شيء، يقال: إن عامة حديثه عن أنس، إنما سمعه من ثابت. وقال حماد بن سلمة: أخذ حُميد كتب الحسن فنسخها، ثم ردها عليه. وقال حماد: لم يدع حميد لثابت علمًا إلا وعاه وسمعه منه، وقال أيضًا: عامة ما يروي حميد عن أنس سمعه من ثابت. وقال شعبة: لم يسمع حُميد من أنس إلا أربعة وعشرين حديثًا، والباقي سمعها من ثابت، أو ثبته فيها ثابت. وقال أبو داود: سمعت شعبة يقول: سمعت حبيب بن الشهيد يقول لحميد وهو يحدثني: انظر ما تحدث به شعبة، فإنه يرويه عنك، ثمٍ يقول هو: إن حميدًا رجل نسي، فانظر ما يحدثك به. وقال شعبة أيضًا كما رواه عنه أبو داود الطَّيَالِسيّ: كل شيء سمع حميد من أنس خمسة أحاديث. قال ابن حجر: والراوي لهذا عن أبي داود غير معتمد. وقال علي بن المديني عن يحيى بن سعيد: كان حميد الطويل إذا ذهب توقفه على بعض حديث أنس يشك فيه. وقال

الحُميدي عن سفيان: كان عندنا شوَيْب بصري يقال له: درست، فقال لي: إن حميدًا قد اختلط عليه ما سمع من أنس، ومن ثابت وقتادة عن أنس إلا شيئًا يسيرًا، فكنت أقول له: أخبرني بما شئت من غير أنس، فأسأل حُميدًا عنها، فيقول: سمعت أنسًا. وقال ابن عدي: له أحاديث كثيرة مستقيمة، وقد حدث عنه الأئمة، وأما ما ذكر عنه أنه لم يسمع من أنس إلا ما ذكر، وسمع الباقي من ثابت عنه، فأكثر ما في بابه أن بعض ما رواه عن أنس يدلسه، وقد سمعه من ثابت. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، إلا أنه ربما دلس عن أنس. وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: وهو الذي يقال له حُميد بن أبي داود، وكان يدلس، سمع من أنس ثمانية عشر حديثًا، وسمع من ثابت البناني، فدلس عنه. وقال أبو بكر البَرْديجيّ: وأما حديث حميد فلا يحتج منه إلا بما قال: حدثنا أنس: وقال يحيى بن يعلى المحارِبيّ طرح زائدة حديث حميد الطويل. وقال الحافظ أبو سعيد العلائيّ فعلى تقدير أن تكون أحاديث حميد مدلسة، فقد تبين الواسطة فيها، وهو ثقة صحيح. قال ابن حجر: الرواية المتقدمة من أن حميدًا إنما سمع من أنس خمسة أحاديث قول باطل، فقد صرح حميد بسماعه من أنس بشيء كثير، وفي "صحيح" البخاري من ذلك جملة، والذي روى عن أبي داود الراوي عن شعبة، عيسى بن عامر، وأنا ما عرفته، وحكاية سفيان عن درست ليست بشيء، فإن درست هالك، وإنما ترك زائدة حديثه فذلك لأمر آخر لدخوله في شيء من أمور الخلفاء، وقد بين ذلك مكي بن إبراهيم، وقد اعتنى البخاري في تخريجه لأحاديث حميد بالطرق التي فيها تصريحه بالسماع، فذكرها متابعة وتعليقًا. وقال يحيى القطان: مات حُميد الطويل وهو قائم يصلي. روى عن: أنس بن مالك، وثابت البُنَاني، وموسى بن أنس، وبُكَيْر بن عبد الله المزنى، وإسحاق بن عبد الله بن الحارث، وابن أبي مُلَيْكة، وابن المتوكل الناجي، وغيرهم. وروى عنه: ابن أخته حماد بن سلمة، ويحيى بن سعيد الأنصاري

-وهو من أقرانه- وحماد بن زيد، والسفيانان، وشعبة، ومالك، ووُهَيْب ابن خالد، والقطان، وزائدة، وزهير، وسليمان بن بلال، ويزيد بن هارون، وغيرهم. مات سنة اثنتين وأربعين ومئة، وقيل: سنة ثلاث وهو ابن خمس وسبعين سنة. وليس في الستة حُميد بن أبي حُميد سواه، وأما حميد فكثير. والخُزَاعيّ في نسبه نسبة إلى خُزاعة حي من الأزد. قال ابن الكلبي: ولد حارثة بن عمرو -مُزَيْقِياء- ابن عامر -وهو ماء السماء- ربيعة -وهو لُحَيّ- وأفصى، وعديًا، وكعبًا وهم خزاعة، وأمهم بنت أد بن طانجة بن إلياس بن مضر، فولد ربيعة عَمْرًا وهو الذي بحر البحيرة، وسيب السائبة، ووصل الوصيلة، وحمى الحامي، ودعا العرب إلى عبادة الأوثان، وهو خزاعة، وأمه فُهَيْرة بنت عامر بن الحارث بن مضاض الجُرْهمي، ومنه تفرقت خزاعة، وإنما صارت الحجابة، إلى عمرو بن ربيعة من قبل فهيرة الجُرْهمية، وكان أبوها آخر من حجب من جُرهم، وقد حجب عمرو، وما مر لـ "تاج العروس". والصحيح أن خزاعة بنو عمرو بن لحي، وأن عمرًا من عدنان، وهو ابن لحي بن قَمَعَة -بالتحريك- ابن الياس، ففي "صحيح" مسلم في أحاديث النار: رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف أخا بني كعب هؤلاء يجر قصبة في النار. وقد سميت خُزاعة بهذا الاسم لأنهم لما ساروا مع قومهم من مأرب، فانتهوا إلى مكة، تخزعوا عنهم، وأقاموا بمكة، وسار الآخرون إلى الشام، قال الشاعر: فلمّا هَبَطْنا بطنَ مرٍّ تَخَزَّعتْ ... خزاعةُ عنا في حلولٍ كراكرِ والبيت قيل: إنه لحسان. وقيل: إنه لعدن بن أيوب الأنصاري، وهو الصحيح.

لطائف إسناده

ومر الكلام على البصري في الثالث من كتاب الإيمان. الرابع: أنس بن مالك، وقد مر في السادس من كتاب الإيمان. ومر عبادة بن الصامت في الحادي عشر منه. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والإخبار بالإفراد والعنعنة، وفي رواية الأصيلي حدثنا أنس، وعلى روايته يؤمن من تدليس حميد، وفيه رواية صحابي عن صحابي، ورواته ما بين بلخي وبصري ومدني. وهذا الحديث أخرجه البخاري هنا وفي الصوم عن محمد بن المثنى، وفي الأدب عن مُسَدَّد، والنسائي في الاعتكاف عن محمد بن المثنى أيضًا وغيره. ثم قال المصنف: باب سؤال جبريل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإيمان والإِسلام والإحسان وعلم الساعة وبيان النبي -صلى الله عليه وسلم- له ثم قال جاء جبريل عليه السلام يعلمكم دينكم فجعل ذلك كله دينًا وما بين النبي -صلى الله عليه وسلم- لوفد عبد القيس من الإيمان وقوله تعالى ومن يبتغ غير الإِسلام دينًا فلن يقبل منه. "باب" بلا تنوين، مضاف إلى سؤال، وسؤال مضاف إلى جبريل من إضافة المصدر للفاعل، والنبي مفعول به للمصدر ووجه المناسبة بين البابين من حيث أن المذكور في الباب الأول هو المؤمن الذي يخاف أن يحبط عمله، وفي هذا الباب يذكر بماذا يكون الرجل مؤمنًا، ومن المؤمن في الشريعة، وقد مرّ أن المصنف يرى أن الإيمان والإِسلام عبارة عن معنى واحد، فلما كان ظاهر سؤال جبريل عن الإيمان والإِسلام، وجوابه يقتضي تغايرهما، وأن الإيمان تصديق بأمور مخصوصة، والإِسلام إظهار أعمال مخصوصة، أراد أن يرد ذلك بالتأويل إلى طريقته. وقوله: "وعلم الساعة" أي علم وقت الساعة، فلابد من تقدير هذا

المضاف، لأن السؤال لم يقع عن نفس الساعة، وإنما هو عن وقتها، كما يدل عليه قوله بعد "متى الساعة"، لأن متى إنما يسأل بها عن الزمان، والمراد بالساعة القيامة، سميت بذلك لوقوعها بغتة، أو لسرعة حسابها، أو على العكس لطولها، فهو تمليح كما يقال في الأسود: كافورًا، ولأنها عند الله تعالى على طولها كساعة من الساعات عند الخلق. وقوله: "وبيان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم له" بجر بيان عطفًا على سؤال جبريل. وقوله: "له" أي تلك المسائل المذكورة، والبيان المراد به بيان أكثر المسؤول عنه، فأطلقه لأن حكم معظم الشيء حكم كله، أو جعل الحكم في علم الساعة بأنه لا يعلمه إلا الله بيانًا له. وقوله: "ثم قال" عطف على سؤال جبريل النبي، وغير فيه الأسلوب، حيث عطف الجملة الفعلية على الاسم، لأن الأسلوب يتغير بتغير المقصود، لأن مقصوده من الكلام الأول الترجمة، ومن الثاني كيفية الاستدلال، فلتغايرهما تغاير الأسلوبان. وقوله: "فجعل ذلك كله دينًا" يدخل فيه اعتقاد وجود الساعة، وعدم العلم بوقتها لغير الله تعالى، لأنهما من الدين. وقوله: "وما بيَّن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لوفد عبد القيس من الإيمان" الواو في "وما بين"، وفي قوله بعده: "وقوله تعالى" بمعنى مع، والمعنى حينئذ، فجعل ذلك كله دينًا، مع ما بينه عليه الصلاة والسلام للوفد من أن الإيمان هو الإِسلام، حيث فسره في قصتهِم الآتية بما فسر به الإِسلام هنا، ومع ما دل عليه قوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} من أن الإِسلام هو الدين، إذ لو كان غيره لم يقبل، فاقتضى ذلك أن الإيمان والإِسلام شيء واحد، وقد مر في أول كتاب الإيمان الكلام على هذا البحث، ويأتي مزيد له عند آخر الحديث. وقوله: "لوفد عبد القيس" الوفد الجماعة المختارة من القوم ليتقدموهم للقاء العظماء، واحدهم وافد، وعبد القيس قبيلة يأتي الكلام عليها عند الكلام على حديثهم قريبًا إن شاء الله تعالى.

الحديث الثالث والأربعون

الحديث الثالث والأربعون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا أَبُو حَيَّانَ التَّيْمِىُّ عَنْ أَبِى زُرْعَةَ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بَارِزًا يَوْمًا لِلنَّاسِ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ مَا الإِيمَانُ قَالَ: "الإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَبِلِقَائِهِ وَرُسُلِهِ، وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ". قَالَ مَا الإِسْلاَمُ قَالَ: "الإِسْلاَمُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكَ بِهِ، وَتُقِيمَ الصَّلاَةَ، وَتُؤَدِّىَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ". قَالَ مَا الإِحْسَانُ قَالَ: "أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ". قَالَ مَتَى السَّاعَةُ قَالَ: "مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ، وَسَأُخْبِرُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا إِذَا وَلَدَتِ الأَمَةُ رَبَّهَا، وَإِذَا تَطَاوَلَ رُعَاةُ الإِبِلِ الْبُهْمُ فِى الْبُنْيَانِ، فِى خَمْسٍ لاَ يَعْلَمُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ". ثُمَّ تَلاَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} الآيَةَ. ثُمَّ أَدْبَرَ فَقَالَ "رُدُّوهُ". فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا. فَقَالَ "هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَ يُعَلِّمُ النَّاسَ دِينَهُمْ". قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ جَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنَ الإِيمَانِ. قوله "بارزًا يومًا للناس" أي: ظاهرًا لهم غير محتجب عنهم ولا متلبس بغيره، والبروز الظهور، قال تعالى: {وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} أي: ظاهرة، ليس لها مستظل ولا متقىً. وقد وقع في رواية أبي فروة عند أبي داود والنسائي عن أبي هُريرة وأبي ذرٍّ بيان ذلك، فإن أولها: "كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يجلس بين أصحابه، فيجيء الغريب فلا يدري أيُّهم هو، فطلبنا إليه أن نجعل له مجلسًا يعرفه الغريب إذا أتاه، قال: فبنينا له دكانًا من طين كان يجلس عليه". واستنبط القُرْطُبي منه استحباب جلوس العالم بمكان يختص به ويكون مرتفعًا إذا احتاج لذلك لضرورة تعليم ونحوه. وقوله: "فأتاه رجل" أي: ملك في صورة رجل، وفي التفسير

للمصنف: "إذ أتاه رجلٌ يمشي" وفي رواية أبي فروة المارة: "فإنا لجلوس عنده إذ أقبل رجل أحسن الناس وجهًا، وأطيب الناس ريحًا، كان ثيابه لم يمسها دنس" ولمسلم من طريق كَهْمَس في حديث عمر: "بينما نحن ذات يوم عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر. وفي رواية ابن حِبّان: "سواد اللحية، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه". وفي رواية سليمان التَّيمي في "صحيح" ابن خُزيمة: "ليس عليه سحناء السفر، وليس من البلد، فتخطى حتى برك بين يدي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كما يجلس أحدنا في الصلاة، ثم وضع يده على ركبتي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم". "والسَّحْناءَ" -بفتح السين وسكون الحاء وبالنون والمد- الهيئة، وكذلك السَّحنة -بالتحريك- وفي رواية أحمد عن ابن عباس وأبي عامر الأشعري: "ثم وضع يده على ركبتي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم" فبينت هذه الروايات أن الضمير في رواية ابن حِبّان السابقة في قوله على فخذيه يعود على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وبه جزم البغوي، وإسماعيل التيمي لهذه الروايات، ورجحه الطِّيْبيّ بحثًا لأنه نسق الكلام، خلافًا لما جزم به النووي، ووافقه الثُّورِبشْتِي -بضم الفوقية، وسكون الواو، بعدها راء فموحدة مكسورتان، ثم شين معجمة ساكنة، ففوقية مكسورة- لأنه حمله على أنه جلس كهيئة المتعلم بين يدي من يتعلم منه، وهذا وإن كان ظاهرًا من السياق، لكن وضعه يديه على فخذي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم صنيع منبه للإصغاء إليه. وفيه إشارة لما ينبغي للمسؤول من التواضع والصفح عما يبدو من جفاء السائل، والظاهر أنه أراد بذلك المبالغة في تعمية أمره، ليقوى الظن أنه من جفاة الأعراب، ولهذا تخطى الناس حتى انتهى إليه صلى الله

تعالى عليه وسلم، ولهذا استغرب الصحابة صنيعه، ولأنه ليس من أهل البلد، وجاء ماشيًا ليس عليه أثر السفر. وقول عمر السابق: "لا يعرفه منا أحد" يحتمل أن يكون استند في ذلك إلى ظنه أو إلى صريح قول الحاضرين، وهذا أولى لما في رواية عثمان بن غياث عند أحمد في "مسنده" عن ابن عمر، عن عمر: "فنظر القوم بعضهم إلى بعض، فقالوا: ما نعرفه" وأفاد مسلم سبب ورود هذا الحديث، فعنده في أوله قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: "سلوني، فهابوا أن يسألوه، فجاء رجل ... إلخ" ووقع في رواية ابن منده عن كَهْمَس: "بينا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يخطب، إذ جاءه رجل" فكان أمره لهم بسؤاله وقع في خطبته، وظاهره أن مجيء الرجل كان في حال الخطبة، فإما أن يكون وافق انقضاءها، أو كان ذكر ذلك القدر جالسًا، وعبر عنه الراوي بالخطبة. قوله: "فقال: ما الإيمان؟ " زاد المصنف في التفسير: "يا رسول الله: ما الإيمان؟ " والجواب عما قيل: كيف بدأ بالسؤال قبل السلام؟ هو أنه يحتمل أن يكون ذلك مبالغة في التعمية لأمره، أو ليبين أن ذلك غير واجب، أو سلم فلم ينقله الراوي، وهذا الثالث هو المعتمد، فقد ثبت في رواية أبي فَرْوة الماضية بعد قوله: "كأن ثيابه لم يمسها دنس، حتى سلم من طرف البساط، فقال: السلام عليك يا محمد، فرد عليه السلام، قال: أدنو يا محمد؟ قال: ادنُ. فما زال يقول: أدنو؟ مرارًا. ويقول له: ادن". ونحوه في رواية عطاء عن ابن عمر عند الطبراني، لكن قال: "السلام عليك يا رسول الله". وفي رواية مطر الوراق عند أبي عوانة في "صحيحه" فقال: "يا رسول الله: أدنو منك؟ قال: ادن" ولم يذكر السلام. فاختلفت الروايات: هل قال له: يا محمد أو يا رسول الله؟ وهل سلم أولًا؟ فأما السلام فمن ذكره مقدم على من سكت عنه. قال القرطبي -بناء على أنه لم يسلم، وقال: يا محمد-: إنه أراد بذلك التعمية، فصنع صنيع الأعراب.

قال في "الفتح" من يجمع بين الروايتين، بأنه بدأ أولًا بندائه باسمه لهذا المعنى، ثم خاطبه بقوله: يا رسول الله، ووقع عند القرطبي أنه قال: السلام عليكم يا محمد، فاستنبط منه أنه يستحب للداخل أن يعمم بالسلام، ثم يخصض من يريد تخصيصه. قال في "الفتح": وما وقفت عليه من الروايات ما فيه إلا الإفراد، وهو: السلام عليك يا محمد. وقوله: "ما الإيمان" قيل: قدم السؤال عن الإيمان لأنه الأصل، وثنى بالإِسلام لأنه يظهر مصداق الدعوى، وثلث بالإحسان لأنه متعلق بهما. وفي رواية عمارة بن القعقاع عند مسلم بدأ بالإسلام لأنه بالأمر الظاهر، وثنى بالإيمان لأنه بالأمر الباطن، ورجح هذا الطيبي لما فيه من الترقي، والحق أن الواقع أمر واحد، والتقديم والتأخير وقع من الرواة، لأن القصة واحدة، اختلف الرواة في تأديتها، وليس في السياق ترتيب، ويدل عليه رواية مَطَر الورّاق فإنه بدأ بالِإسلام، وثنى بالإحسان، وثلث بالإيمان. وقوله: "قال: الإيمان أن تؤمنَ باللهِ" دل الجواب على أنه عليه الصلاة والسلام علم أنه سأله عن متعلقاته لا عن حقيقته، وإلا لكان الجواب: الإيمان: التصديق، وإنما فسر الإيمان بذلك لأن المراد من المحدود الذي في السؤال الإيمان الشرعي، ومن الحد الذي هو التفسير اللغوي، فليس فيه تفسير الشيء بنفسه، يعني أن قوله: "أن تؤمن" ينحل منه الإيمان، فكأنه قال: الإيمان الشرعي تصديق مخصوص، والذي يظهر أنه إنما أعاد لفظ الإيمان للاعتناء بشأنه تفخيمًا لأمره، ومنه قوله تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} في جواب من يحيي العظام وهي رميم. وقال الطّيبي: هذا يوهم التكرار، وليس كذلك، فإن قوله "أن تؤمن بالله" مضمن معنى أن تعترف، ولهذا عداه بالباء، أي أن تصدق معترفًا بكذا.

قال في "الفتح" والتصديق أيضًا يتعدى بالباء، فلا يحتاج إلى دعوى التضمين، يعني أن الاحتجاج على التضمين بالتعدية بالباء غير مستقيم، لأن التصديق يتعدى بها أيضًا، وبهذا يظهر لك بطلان اعتراض العيني عليه. والإِيمان بالله هو التصديق بوِجوده، وأنه متصف بصفات الكمال، منزه عن صفات النقص، وحمله الأُبَيّ على الحقيقة، معللًا بأن السؤال بما إنما يكون عن الحقيقة لا عن الحكم، وعلى هذا فقوله: أن تؤمن ... إلخ من حيث أنه جواب السؤال المذكور، يتعين أن يكون حدًّا، لأن المقول في جوابه إنما هو الحد، فإن قلت: لو كان حدًّا لم يقل جبريل عليه السلام في جوابه صدقت كما في مسلم، لأن الحد لا يقبل التصديق، أجيب بأنه: إذا قيل في الإنسان: إنه حيوان ناطق، وقصد به التعريف، فلا يقبل التصديق كما ذكرت، وإن قصد أنه الذات المحكوم عليها بالحيوانية والناطقية، فهو دعوى وخبر، فيقبل التصديق، فلعل جبريل عليه الصلاة والسلام راعى هذا المعنى، فلذلك قال: صدقت. أو يكون قوله: صدقت تسليمًا، والحد يقبل التسليم، ولا يقبل المنع، لأن المنع طلب الدليل، والدليل إنما يتوجه للخبر، والحد تفسير لا خبر. قلت: هذا الإيراد والجواب إنما يتمشيان على معرفة أن جبريل عليه السلام ملتزم لمصطلح أهل المنطق في الحدود، يثبت ما أثبتوه، ويمنع ما منعوه، ومن أين لنا بهذا الالتزام، فإن مصطلح المناطقة لم يقل به كثير من علماء المسلمين، ولم يعترف به، فكيف يحكم به على جبريل عليه السلام، ويقع به عليه الإيراد والجواب في كلامه، فهذا ساقط غاية السقوط، بل كان الأولى أن يستدل بمراجعة جبريل والنبي عليهما الصلاة والسلام على بطلان مصطلح المناطقة اهـ. وقوله: "وملائكته" أي: الإيمان بملائكته، وهو التصديق بوجودهم، وأنهم كما وصفهم الله تعالى: {عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} وهم أجساد علوية

نورانية، متشكلة بما شاءت من الأشكال الطيبة لا الخسيسة، ليسوا بذكور ولا إناث، وحاشاهم من أن يكونوا خُناثى، والملائكة: جمع ملك، وأصله مأْلُك مَفْعُل من الألوكة بمعنى الرسالة، زيدت فيه التاء لتأكيد معنى الجمع أو لتأنيث الجمع، ومر بعض الكلام عليهم في الثالث أو الرابع من بدء الوحي. وقدم الملائكة على الكتب والرسل نظرًا للترتيب الواقع، لأنه سبحانه وتعالى أرسل الملك بالكتاب إلى الرسول، وليس فيه متمسك لمن فضل الملك على الرسول. وقوله: "وكتبه" هذه في رواية الأصيلي هنا، واتفق الرواة على ذكرها في التفسير، والإيمان بكتب الله التصديق بأنها كلام الله، وأن ما تضمنته حق. وقوله: "وبلقائه" وقعت هنا بين الكتب والرسل، وكذا لمسلم من طريقين، ولم تقع في بقية الروايات، وقد قيل: إنها مكررة، لأنها داخلة في الإيمان بالبعث، والحق أنها غير مكررة، فقيل: المراد بالبعث القيام من القبور، والمراد باللقاء ما بعد ذلك. وقيل: اللقاء يحصُلُ بالانتقال من دار الدنيا، والبعث بعد ذلك. ويدل على هذا رواية مَطَر الورّاق السابقة، فإن فيها: "وبالموت وبالبعث بعد الموت" وكذا في حديث أنس عند البزار والبخاري في "خلق أفعال العباد"، وحديث ابن عباس في "مسند" أحمد. وقال الرّاغب: اللقاء مقابلة الشيء ومصادفته، لقِيَهُ يَلْقاهُ. ويقال أيضًا في الإدراك بالحس وبالبصيرة، ومنه: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ} وملاقاة الله يعبر بها عن الموت وعن يوم القيامة، وقيل ليوم القيامة: يوم التلاق لالتقاء الأولين والآخرين فيه. قلت: قول عائشة فيما أخرجه مسلم والنسائي: "والموت دون لقاء الله" صريح في أن لقاء الله غير الموت، وأنه بعدها، ولكن الموت معترض

دون الغرض المطلوب، فيجب أن يصبر عليه، ويتحمل مشاقه، حتى يصير إلى الفوز باللقاء. وفي "الفتح" عند حديث عائشة في الرقاق: "من أحبَّ لقاءَ الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه ... إلخ" ما نصه: اللقاء يقع على أوجه: منها المعاينة، ومنها البعث كقوله تعالى: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ} ومنها الموت: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} وقوله: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ}. وقال ابن الأثير في "النهاية": المراد بلقاء الله هنا، يعني: في حديث عائشة المار، المصير إلى الدار الآخرة، وطلب ما عند الله تعالى، وليس الغرض به الموت، لأن كلًا يكرهه، فمن ترك الدنيا وأبغضها أحب لقاء الله، ومن آثرها وركن إليها كره لقاء الله، لأنه إنما يصل إليه بالموت. وقول عائشة: "والموت دون لقاء الله" يبين أن الموت غير اللقاء ... إلخ ما مر قريبًا. ومما يبين ما قاله ابن الأثير أن الله تعالى عاب قومًا بحب الحياة، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا} وقال الطيبي: يريد أن قول عائشة: إنا لنكره الموت، يوهم أن المراد بلقاء الله في الحديث الموت، وليس كذلك، لأن لقاء الله غير الموت، بدليل قوله في الرواية الأخرى: والموت دون لقاء الله، لكن لما كان الموت وسيلة إلى لقاء الله، عبر عنه بلقاء الله. وقال الخطابي: معنى محبة العبد للقاء الله تعالى إيثاره الآخرة على الدنيا، فلا يحب استمرار الإقامة فيها، بل يستعد للارتحال عنها، والكراهة بضد ذلك. وقال النّووي: معنى الحديث: أن المحبة والكراهة التي تُعتبر شرعًا هي التي تقع عند النزع في الحالة التي لا تقبل فيها التوبة، حيث ينكشف الحال للمُستحضَرِ، ويظهر له ما هو صائر إليه.

وقيل: المراد باللقاء رؤية الله تعالى، قاله الخطابي، وتعقبه النووي بأن أحدًا لا يقطع لنفسه برؤية الله، فإنها مختصة بمن مات مؤمنًا، والمرء لا يدري بم يختم له، فكيف يكون ذلك من شروط الإيمان. وأُجبيب بأن المراد الإيمان بأن ذلك حق في نفس الأمر، واقع للمؤمنين جملة، لا أن كل أحد يقطع بأنه سيحصل له كما زعمه النووي، وهذا من أقوى الأدلة لأهل السنة في إثبات رؤية الله تعالى في الدار الآخرة، إذ جُعِلَتْ من قواعد الإيمان على هذا التفسير، وسيأتي استيفاء الكلام على الرؤية إن شاء الله تعالى عند ذكرها في كتاب التوحيد، وقد استوفينا الكلام عليها في كتابنا على متشابه الصفات. وقوله: "ورسله بإسقاط الباء" وللأصيلي: "وبرسله" بإثباتها، ووقع في حديث أنس وابن عباس المار ذكرهما: "والملائكة، والكتاب، والنبيين" وكل من السياقين في القرآن في البقرة، الأول في قوله الله تعالى: {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} والثاني في قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} والتعبير بالنبيين يشمل الرسل من غير عكس، والإيمان بالرسل: التصديق بأنهم صادقون فيما أخبروا به عن الله تعالى، ودلَّ الإِجمال في الملائكة والكتب والرسل على الاكتفاء بذلك في الإيمان بهم، من غير تفصيل، إلا مَن ثبتت تسميته، فيجب الإيمان به على التعيين. ومناسبة الترتيب المذكور، وإن كانت الواو لا تفيد الترتيب، هي أن المراد من التقديم أن الخير والرحمة من الله، ومن أعظم رحمته أن أنزل كتبه إلى عباده، والمتلقي لذلك منهم الأنبياء، والواسطة بين الله ويينهم الملائكة. وقوله: "وتؤمن بالبعث" زاد في التفسير: "الآخر"، ولمسلم في حديث عمر: "واليوم الآخر" فأما البعث الآخر فقيل: ذكر الآخر تأكيدًا، كقولهم أمس الدابر أو الذاهب. وقيل: لأن البعث وقع مرتين، الأولى: الإخراج من العدم إلى الوجود، أو من بطون الأمهات بعد النطفة والعلقة إلى الحياة

الدنيا، والثانية: البعث من بطون القبور إلى محل الاستقرار، وهذا نظير قوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} وأما اليوم الآخر، فقيل له ذلك لأنه آخر أيام الدنيا، أو آخر الأزمنة المحدودة، والمراد بالإيمان به التصديق بما يقع فيه من الحساب والميزان والجنة والنار، كما وقع التصريح بها في رواية سليمان التيمي، وحديث ابن عباس المشار إِليهما فيما مر، وإنما أعاد لفظ وتؤمن عند ذكر البعث، للإشارة إِلى أنه نوع آخر مما يؤمن به، لأن البعث سيوجد بعد، وما ذكر قبله موجود الآن، وللتنويه بذكره لكثرة من كان ينكره من الكفار، ولهذا كثر تكراره في القرآن. وزاد الإسماعيلي في "مستخرجه" هنا: "وتؤمن بالقدر" وهي في رواية أبي فَرْوة المشار لها سابقًا، وكذا لمسلم من رواية عمارة بن القعقاع، وفي رواية كَهْمس عنده أيضًا، ورواية سليمان التيمي المشار لها: "وتؤمن بالقدر خيره وشره"، وفي رواية عطاء عن ابن عمر المشار لها أيضًا بزيادة: "وحلوه ومره من الله" وفيه إعادة لفظ وتؤمن أيضًا كلاهما البعث، إشارة إِلى ما يقَع فيه من الاختلاف، فحصل الاهتمام بشأنه بإعادة تؤمن، ثم قرره بالإبدال بقوله: "خيره وشؤ وحلوه ومره"، ثم زاد تأكيدًا بقوله في الرواية الأخيرة: "من الله". والقدر مصدر، تقول: قدرت الشيء بتخفيف الدال وفتحها أقدره -بالكسر والفتح- قَدْرًا وقَدَرًا -بالتحريك والسكون- إذا أحطت بمقداره، والمراد أن الله تعالى علم مقادير الأشياء وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد ما سبق في علمه أنه يوجد، فكل محدث صادر عن علمه وقدرته وإرادته هذا هو المعلوم من الدين بالبراهين القطعية، وعليه كان السلف من الصحابة وخيار التابعين، إلى أن حدثت بدعة القدر في أواخر زمن الصحابة. وقد روى مسلم القصة في ذلك عن يحيى بن يَعْمر، قال: كان أول من قال في القدر بالبصرة مَعْبد الجُهَنِيّ، قال: فانطلقت أنا وحُميد

الحِمْيَرِي، فذكر اجتماعهما بعبد الله بن عمر، وأنه سأله عن ذلك، فأخبره بأنه بريء ممن يقول ذلك، وأن الله لا يقبل ممن لم يؤمن بالقدر عملًا. وقد حكى المصنفون في المقالات عن طوائف من القدرية إنكار كون البارىء عالمًا بشيء من أعمال العباد قبل وقوعها منهم، وإنما يعلمها بعد كونها، قال القرطبي وغيره: قد انقرض هذا المذهب، ولا نعرف أحدًا يُنسب إليه من المتأخرين، قال: والقدرية اليوم مطبقون على أن الله عالم بأفعال العباد قبل وقوعها، وإنما خالفوا السلف في زعمهم بأن أفعال العباد مقدورة لهم وواقعة منهم على جهة الاستقلال، وهو مع كونه مذهبًا باطلًا أخف من المذهب الأول، وأما المتأخرون منهم فأنكروا تعلق الإرادة بأفعال العباد فرارًا من تعلق القديم بالمحدث، وهم مخصومون بما قال الشافعي: إن سَلَّمَ القدريُّ العلمَ خُصِمَ. يعني: يقال له: أيجوز أن يقع في الوجود خلاف ما تضمنه العلم؟ فإن منع وافق قول أهل السنة، وإن أجاز لزمه نسبة الجهل لله تعالى، تعالى الله عن ذلك اهـ. وظاهر السياق يقتضي أن الإيمان لا يطلق إلا على من صدق بجميع ما ذكر، وقد اكتفى الفقهاء بإطلاق الإيمان على من آمن بالله ورسوله، ولا اختلاف، لأن الإيمان برسول الله المراد به الإيمان بوجوده وبما جاء به عن ربه، فيدخل جميع ما ذكر تحت ذلك، وقد مر هذا في أول كتاب الإيمان. وقوله: "أن تعبدَ اللهَ" العبادة: طاعة الله تعالى، مع تذلل وخضوع. قال النووي: يحتمل أن يكون المراد بالعبادة معرفة الله، فيكون عطف الصلاة وغيرها عليها لإدخالها في الإِسلام، ويحتمل أن يكون المراد بالعبادة الطاعة مطلقًا، فيدخل فيه جميع الوظائف، وعلى هذا يكون عطف الصلاة وغيرها من عطف الخاص على العام. قال في "الفتح": أما الاحتمال الأول فبعيد، لأن المعرفة من متعلقات الإيمان، وأما الإِسلام فهو أعمال قولية وبدنية، وقد عبر في حديث عمر

عند مسلم بقوله:"أن تشهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله" فدل على أن المراد بالعبادة في حديث الباب النطق بالشهادتين، وبهذا تبين دفع الاحتمال الثاني، ولما عبر الراوي بالعبادة احتاج إلى أن يوضحها بقوله: "ولا تشرك به شيئًا" ولم يحتج إليها في رواية عمر، لاستلزامها ذلك، وإنما عبر بأن والفعل دون المصدر، لأن: "أن تفعل" تدل على الاستقبال، والمصدر لا يدل على زمان، فكان التعبير بما يدل على الاستقبال أولى. وفي رواية عثمان بن غياث عند أحمد في "مسنده" التعبير بالمصدر، فقال: "شهادة أن لا إله إلا الله" ولا يقال: إن السؤال عام، لأنه سأل عن ماهية الإِسلام، والجواب خاص، لقوله: أن تعبد، أو تشهد، وأن تؤمن، وفي الإحسان: أن تعبد، لأنا نقول: ليس المراد بمخاطبته بالإفراد اختصاصه بذلك، بل المراد تعليم السامعين الحكم في حقهم وحق من أشبههم من المكلفين، وقد تبين ذلك بقوله في آخره: "يعلّمُ الناس دينهم" وقوله: "ولا تشرك به" بالفتح، وفي نسخة كريمة بالضم، وفي رواية مسلم: "لا تشرك به شيئًا" وقد مرَّ أنها على ما قال في "الفتح" ذكرت للإيضاح. وعلى ما قال النووي في تفسير العبادة، قال: إنما ذكر بعد العبادة لأن الكفار كانوا يأتون بصورة عبادة الله تعالى في بعض الأشياء، ويعبدون الأوثان وغيرها، يزعمون أنهم شركاء، فنفى هذا. وقوله: "وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة المفروضة" قد مر في الحديث الأول من الإيمان الكلام على معنى إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وعلى حقيقة الصلاة والزكاة، وعلى معنى الصوم والحج مستوفى. وفي رواية مسلم: "الصلاة المكتوبة"، وهذا نظير قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} وقد اشتهرت تسميتها مكتوية في الأحاديث "الصحيحة" كقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا أُقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوية"، "وخمس صلوات كتبهنَّ الله" و"أفضلُ الصلاة بعد المكتوبة .. " فيحتمل التقييد بذلك الاحتراز من النافلة، لأنها وإن كانت من وظائف الإِسلام فليست من أركانه، ويحتمل أن يكون المراد

مراعاة الأدب مع ألفاظ القرآن الكريم، وكان صلى الله تعالى عليه وسلم يلازم هذا الأدب كما اشتهر في الأحاديث الصحيحة كقوله عليه الصلاة والسلام: "آت محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته" فنكر مقامًا، وإن كان المراد مقامًا معينًا، مراعاة للأدب المذكور، قال الله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} وأمثال هذا كثيرة، وأما تقييد الزكاة بالمفروضة، فقيل: احتراز من الزكاة المعجلة قبل الحول، لأنها زكاة وليست مفروضة الآن، والصحيح أنه احتراز من صدقة التطوع، فإنها زكاة لغة، وإنما فرق بين الصلاة والزكاة في التقييد كراهية تكريم اللفظ الواحد، وللتفنُّن في العبارة. وقوله: "وتصوم رمضان" استدل به على جواز قول رمضان من غير إضافة شهر إليه، وهو الذي عليه الجمهور، واستدل له البخاري في كتاب الصوم بعدة أحاديث، ونقل عن أصحاب مالك الكراهية، وعن ابن الباقِلاّني منهم، وكثير من الشافعية أنه إن كان هناك قرينة تصرفه إلى الشهر فلا يكره، ولم يذكر الحج إما ذهولًا أو نسيانًا، ويدل له مجيئه في رواية كَهْمَس عند مسلم: "وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا" وقيل: لأنه لم يكن فرض، ويرده ما في رواية ابن مَنْده بسند على شرط مسلم أن الرجل جاء في آخر عمره صلى الله تعالى عليه وسلم، فيُحتمل أن يكون بعد حجة الوداع، فإنها آخر سفراته، ثم بعد قدومه بقليل دون ثلاثة أشهر مات، وكأنه إنما جاء بعد إنزال جميع الأحكام لتقرير أمور الدين التي بلغها مفترقة في مجلس واحد لتنضبط، ويدل على أن عدم ذكره إنما هو من اختلاف الرواة أن الصوم لم يذكر في رواية عطاء الخُراساني عند أبي نُعيم في "الحلية" وفي حديث أبي عامر عند أحمد ذكر الصلاة والزكاة فحسب، ولم يذكر في حديث ابن عباس عند أحمد أيضًا مزيدًا على الشهادتين، وذكر سليمان التَّيْمي في روايته عند ابن خُزيمة في "صحيحه" الجميع، وزاد بعد قوله: "وتحج وتعتمر، وتغتسل من الجنابة، وتتم الوضوء" وقال مَطَر الورّاق في روايته عند أبي عوانة في "صحيحه":

"وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة" قال: فذكر عرى الإِسلام، فتبين مما ذكر أن بعض الرواة ضبط ما لم يضبطه غيره. وقوله: "ما الإحسان" مبتدأ وخبر، وال فيه للعهد، أي: ما الإحسان المتكرر في القرآن، المترتب عليه الثواب، كقوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} وقوله: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ ..} إلى غير هذا، وهو مصدر، لُقول: أحسن يحسن إحسانًا، ويتعدى بنفسه وبغيره، تقول: أحسنت كذا إذا أتقنته، وأحسنت إلى فلان إذا أوصلت إليه النفع، والأول هو المراد، لأن المقصود إتقان العبادة، وقد يلحظ الثاني بأن المخلص مثلًا محسن بإخلاصه إلى نفسه، وإحسان العبادة الإخلاص فيها، والخشوع، وفراغ البال حال التلبس بها، ومراقبة المعبود. وقوله: "أن تعبدَ اللهَ كأنّك تراه، فإن لم تكن تراهُ فإنه يراكَ" أشار بهذا الجواب إلى مقامين، مقام المشاهدة، ومقام المراقبة، وأرفعهما الأول، وهو أن تغلب عليه مشاهدة الحق بقلبه، حتى كأنه يراه بعينه، وهو قوله: "كأنك تراه" أي: وهو يراك، والثاني: أن يستحضر أن الحق مطلع عليه، يرى كل ما يعمل، وهو قوله: "فإنه يراك" وهاتان الحالتان يثمرهُما معرفةُ الله وخشيته. وقد عبر في رواية عمارة بن القعقاع عند مسلم بقوله: "أن تخشى الله كأنك تراه" وكذا في حديث أنس عند البزار والبخاري في "خلق أفعال العباد" وقال النووي: معناه: أنك إنما تراعي الآداب المذكورة إذا كنت تراه ويراك، لكونه يراك لا لكونك تراه، فهو دائمًا يراك، فأحسن عبادته وان لم تره، فتقدير الحديث: فإن لم تكن تراه فاستمر على إحسان العبادة فإنه يراك. قال القَسْطلاني تبعًا للشيخ زكرياء: ويتضح لك ذلك بأن تعرف أن للعبد في عبادته ثلاث مقامات:

الأول: أن يفعلها على الوجه الذي تسقط معه وظيفة التكليف، باستيفاء الشرائط والأركان. الثاني: أن يفعلها كذلك، وقد استغرق في بحار المكاشفة، حتى كأنه يرى الله تعالى، وهذا مقامه صلى الله تعالى عليه وسلم كما قال: "وجُعِلَتْ قرة عيني في الصلاة" لحصول الاستلذاذ بالطاعة، والراحة بالعبادة، وانسداد مسالك الالتفات إلى الغير باستيلاء أنوار الكشف عليه، وهو ثمرة امتلاء زوايا القلب من المحبوب، واشتغال السرّ به، ونتيجته نسيان الأحوال من المعلوم، واضمحلال الرسوم. الثالث: أن يفعلها وقد غلب عليه أن الله تعالى يشاهده، وهذا مقام المراقبة، فقوله: "فإن لم تكُن تراهُ" نزول عن مقام المكاشفة إلى مقام المراقبة، أي: إن لم تعبده وأنت من أهل الرؤية المعنوية، فاعبده وأنت بحيث أنه يراك. وكل من المقامات الثلاث إحسان، إلا أن الإحسان الذي هو شرط في صحة العبادة إنما هو الأول، لأن الإحسان بالآخَرَيْن من صفة الخواص، ويتعذر من كثيرين، وإنما أخر السؤال عن الإحسان لأنه صفة الفعل. أو شرط في صحته، والصفة بعد الموصوف، وبيان الشرط متأخر عن المشروط. قلت: الإحسان المذكور في الحديث ليس شرطًا في صحة الفعل كما مر قريبًا، فالصواب الاقتصار على المعنى الأول، أو يقال: إنه تكملة للأولين ليس داخلًا في حقيقتهما، فناسب ذلك تأخيره عنهما، وقال النووي تبعًا لعياض في أصل المعنى: وهذا القدر من الحديث أصل عظيم من أصول الدين، وقاعدة مهمة من قواعد المسلمين، وهو عمدة الصديقين، وبغية السالكين، وكنز العارفين، ودأب الصالحين، وهو من جوامع الكَلِم التي أوتيها صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد ندب أهل التحقيق إلى مجالسة الصالحين، ليكون ذلك مانعًا من التلبس بشيء من

النقائص، احترامًا لهم، واستحياءً منهم، فكيف بمن لا يزال الله مطلعًا عليه في سره وعلانيته، وهو المحرك لجوارحه حين العلم. زاد مسلم في رواية عمارة بن القعقاع قول السائل: "صدقت" عقب كل جواب من الأجوبة الثلاثة، وزاد أبو فَرْوة في روايته عند أبي داود والنسائي: "فلما سمعنا قول الرجل: صدقت، أنكرناه" وفي رواية كَهْمَس عند مسلم "فعجبنا له، يسأله ويصدقه" وفي رواية مَطَر الورّاق عند أبي عَوانة في "صحيحه": "انظُروا إليه كيف يسألُه، وانظُروا إليه كيف يصدقه" وفي حديث أنس عن البزار والبخاري في "خلق أفعال العباد": "انظروا وهو يسأله ويصدقه، كأنه أعلم منه" وفي رواية سُليمان بن بُريدة عن أحمد: "قال القوم: ما رأينا رجلًا مثلَ هذا، كأنه يعلِّم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، يقول له: صدقت صدقت". قال القُرطبي: إنما عجبوا من ذلك، لأن ما جاء به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لا يُعرف إلا من جهته، وليس هذا السائل ممن عرف بلقائه عليه الصلاة والسلام، ولا بالسماع منه، ثم هو يسأل سؤال عارف بما يسأل عنه، لأنه يخبره بأنه صادق فيه، فتعجبوا من ذلك تعجب المستبعد لذلك. وقد دل سياق الحديث على أن رؤية الله في الدنيا بالأبصار غير واقعة، وقد صرح بذلك أبو أُمامة فيما رواه مسلم عنه، من أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال: "اعلموا أنكم لن تَرَوْا ربَّكم حتى تموتوا" وأما رؤية النبي صلى الله تعالى عليه وسلم له فذلك لدليل آخر، وقد يقال: رؤيته عليه الصلاة والسلام له تعالى لم تكن في دار الدنيا، بل كانت في الملكوت الأعلى، والدنيا لا تطلق عليه. وأقدم بعض غلاة الصوفية على تأويل الحديث بغير علم، فقال: فيه إشارة إلى مقام المحو والفناء، وتقديره: فإن لم تكن أي: فإن لم تصر شيئًا، وفنيت عن نفسك، حتى كأنك لست بموجود، فإنك حينئذ تراه،

وغفل قائل هذا للجهل بالعربية عن أنه لو كان المراد ما زعم، لكان قوله: "تراه" محذوف الألف، لأنه يصير مجزومًا، لكونه على زعمه جواب الشرط، ولم يرد في شيء من طرق هذا الحديث حذف الألف، ولا ضرورة هنا تدعو إلى إثباته في الفعل المجزوم، وأيضًا لو كان ما ادعاه صحيحًا لكان قوله: "فإنه يراك" ضائعًا، لأنه لا ارتباط له بما قبله، ومما يفسد تأويله رواية كهمس عند مسلم، فإن لفظها: "فإنّك إنْ لا تراهُ، فإنه يراكَ" وكذلك رواية سليمان التيمي عند ابن خُزيمة، وفي رواية أبي فَروة المشار لها سابقًا: "فإن لم تره فإنه يراك"، ونحوه في حديث أنس وابن عباس المشار إليهما، فسلط النفي على الرؤية في كل هذه الروايات، لا على الكون الذي حُمل على ارتكاب التأويل المذكور. قال العَيْني: هذه الروايات هي القاطعة لشغبهم، وأما الجواب المتقدم من جهة الصناعة فلا يقطعه، لأن لهم أن يقولوا: الجواب جملة حذف صدرها، تقديره: فأنت تراه، والجزم في الجملة لا يظهر، والمقدر كالملفوظ. وقوله: "ما المسؤول عنها" ما نافية، وزاد في رواية أبي فَرْوة: "فنكس، فلم يجبه، ثم أعاد، قلم يُجِبْه ثلاثًا، ثم رفع رأسه، فقال: ما المسؤول". وقوله: "بأعلم" الباء زائدة لتأكيد النفي، وهذا وإن كان مشعرًا بالتساوي في العلم، لكن المراد التساوي في العلم بأن الله تعالى استأثر بعلمها، لقوله بعد: "خمس لا يعلمهن إلا الله" وهذا نظير التركيب في رواية أبي فَرْوة: "والذي بعث محمدًا بالحق، ما كنت لأعلم به من رجل منكم، وإنه لجبريل". قال القُرطبي: مقصود هذا السؤال كف السامعين عن السؤال عن وقت الساعة؛ لأنهم كانوا قد أكثروا السؤال عنها، كما ورد في الآيات والأحاديث، كقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} فلما

حصل الجواب بما ذكر، حصل اليأس من معرفتها، فانكفوا بخلاف الأسئلة الماضية، فإن المراد بها استخراج الأجوبة، ليتعلمها السامعون، ويعملوا بها. ونبه بهذه الأسئلة على تفصيل ما تمكن معرفته مما لا تمكن. وقوله: "من السائل" عدل به عن قوله: لست بأعلم بها منك إلى لفظ يشعر بالتعميم، تعريضًا للسامعين، أي: إن كل مسؤول وكل سائل فهو كذلك، ووقع هذا السؤال والجواب بين عيسى بن مريم وجبريل، لكن كان عيسى سائلًا وجبريل مسؤولًا كما في نوادر الحُمَيْدي بسنده عن الشعبي، قال: "سأل عيسى بن مريم جبريل عن الساعة، قال: فانتفض بأجنحته، وقال: ما المسؤول عنه باعلم من السائل". قال النووي: يستنبط منه أن العالم إذا سُئِل عما لا يعلم يصرح بأنه لا يعلمه، ولا يكون في ذلك نقص في مرتبته، بل يكون ذلك دليلًا على مزيد ورعه، ولله در القائل: ومَنْ كانَ يهوى أن يُرى متصدِّرًا ... ويكرهُ لا أدري أُصيبت مقاتِلُهْ وقد سئل مالك رحمه الله تعالى كما في "التمهيد" لابن عبد البر عن ثمان وأربعين مسألة، فقال في اثنتين وثلاثين منها لا أدري. وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى في ثمان لا أدري ما الدهر، ومحل أطفال المسلمين، ووقت الختان، وإذا بال الخُنثى من الفرجين، والملائكة أفضل أم الأنبياء، ومتى يصير الكلب معلمًا، وسؤر الحمار، ومتى يطيب لحم الجلالة. وسئل الشافعي رحمه الله تعالى عن المتعة أفيها طلاق أم ميراث أم نفقة تجب، فقال: والله ما أدري. وكان أحمد رحمه الله تعالى يكثر من لا أدري. وهذا لا ينافي ما هو مشهور في كتب الأصول، من حد الفقه بأنه

العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية، واللام في الأحكام للاستغراق، فيكون الفقيه هو العالم بجميع الأحكام، لأن العلم فيه بمعنى الصلاحية، والتهيء لذلك بأن تكون له ملكة يقتدر بها على إدراك جزئيات الأحكام، وإطلاق العلم على هذه الملكة مشتهر. وقوله: "وساخبركَ عن أشراطها" وفي رواية أبي فَرْوة: "ولكن لها علاماتٌ تُعْرَفُ بها" وفي رواية كَهْمس قال: "فأخبرني عن أماراتها، فأخبره بها، فترددنا هل ابتدأه بذكر الإمارات، أو السائل سأله عن الإمارات" ويجمع بينهما بأنه ابتدأ بقوله: "سأخبرك"، فقال له السائل: "فأخبرني"، ويدل على ذلك رواية سليمان التَّيمي، ولفظها: "ولكن إن شئتَ نبأتُك عن أشراطها" قال: نعم. والأشراط جمع شرط، كقلم وأقلام، وهي العلامات، ولم يذكر المؤلف هنا إلا علامتين، وقد عبر بالجمع، وأقله على الصحيح ثلاثة، وقد أجيب عن هذا بأنه جار على أن أقل الجمع اثنان كما هو مذهب مالك، مستدلًا بقوله تعالى: {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} وليس له إلا طرفان. أو يجاب بأن المذكور من الأشراط ثلاثة، وإنما بعض الرواة اقتصر على اثنين منها، لأنه هنا ذكر الولادة والتطاول، وفي التفسير ذكر الولادة وتراؤس الحفاة. وأخرج ابن خُزيمة والِإسماعيلي في "مستخرجه" وسليمان التيمي ذكر الثلاثة، والمراد هنا العلامات السابقة على مضايقة الساعة، لأن علامات الساعة على قسمين: ما يكون من نوع المعتاد، وهو المذكور هنا، وما يكون من غير المعتاد، كطلوع الشمس من مغربها، وهو المضايق للساعة قريب منها، وهي عشر كما أخرجه مسلم عن حُذيفة بن أسِيْد -بفتح أوله- قال: اطَّلَعَ علينا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ونحن نتذاكر، فقال: "ما تتذاكرون؟ " قالوا: نذكر الساعة. قال: "إنها لن تقوم حتى ترَوْا قبلَها عشر آيات، فذكر الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع

الشمس من مغربها، ونزول عيسى بن مريم، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن، فتطرد الناس إلى محشرهم" وهذا بظاهره يعارض حديث أنس المخرج عند البخاري، فإن فيه أن أول أشراط الساعة نار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، وفي هذا أنها آخر الأشراط، ويجمع بينهما بأن آخريتها باعتبار ما ذكر معها من الآيات، وأوليتها باعتبار أنها أول الآيات التي لا شيء بعدها من أمور الدنيا أصلًا، بل يقع بانتهائها النفخ في الصور، بخلاف ما ذكر معها، فإنه يبقى بعد كل آية منها أشياء من أمور الدنيا. قال في "الفتح" في كتاب الرقاق: والذي يترجح من مجموع الأخبار أن خروج الدجال أول الآيات العظام المؤذنة بتغير الأحوال العامة في مطلق الأرض، وينتهي ذلك بموت عيسى بن مريم، وأن طلوع الشمس من المغرب هو أول الآيات العظام المؤذنة بتغير أحوال العالم العلوي، وينتهي ذلك بقيام الساعة. وأخرج مسلم عن عبد الله بن عمرو رفعه: "أول الآيات طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضحى، فأيهما خرجت قبل الأخرى فالأخرى منها قريب". قال في "الفتح": ولعل الحكمة في تقارنهما أن عند طلوع الشمس من مغربها يغلق باب التوبة كما في حديث أبي هُريرة عند البخاري وغيره مرفوعًا: "لا تقومُ الساعةُ حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت فرآها الناس آمنوا أجمعون، فذلك {حِيْنَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} الآية، ثم تخرج الدابة في ذلك اليوم أو قريب منه، فتميز المؤمن من الكافر، تكميلًا للمقصود من إغلاق باب التوبة". وروى الطبراني عن عبد الله بن عَمرو رفعه: "إذا طلع الشمس من مغربها خرَّ إبليسُ ساجدًا ينادي إلهي مُرني أن أسجد لمن شئت".

ووردت أحاديث في تتابع هذه العلامات، منها ما أخرجه أحمد ونُعيم بن حَمَّاد عن عبد الله بن عمرو رفعه: "الأياتُ خرَزَاتٌ منْظوماتٌ في سلك، فإذا انقطع السلك تبع بعضها بعضًا" وعن ابن عساكر من حديث حذيفة بن أَسيد الغِفاري رفعه: "بين يدي الساعة عشر آيات كالنظم في الخيط، إذا سقط منها واحدة توالت". وعن أبي العالية: "بين أول الآيات وآخرها ستة أشهر يتتابعن كتتابع الخرزات في النظام" وما ورد عن عبد الله ابن عمرو موقوفًا على الصحيح أنه قال: "تبقى الناس بعد طلوع الشمس من مغربها عشرين ومئة سنة" يمكن الجمع بينه وبين ما ذكر من الأحاديث بأن المدة ولو كانت كما قال عشرين ومئة سنة، لكنها تمر مرورًا سريعًا، كمقدار مرور عشرين ومئة شهر من قبل ذلك، أو دون ذلك كما ثبت في "صحيح" مسلم عن أبي هريرة رفعه:"لا تقومُ الساعة حتى تكون السنة كالشهر .. الحديث" وفيه: "واليوم كاحتراق السَّعَفَة". قلت: حديث عبد الله بن عَمرو وإن كان موقوفًا كما أخرجه عَبْد بن حُمَيد في "تفسيره" عنه بسند جيد، فله حكم الرفع، إذ لا مجال فيه للرأي، وعليه بني القُرطبي ما قال في "التذكرة" من قوله: فتوبة من شاهد ذلك، أو كان كالمشاهد له مردودة، لأن هذا من الإيمان بالمعاينة، لا من الإيمان بالغيب، كالإيمان عند الغرغرة، وهو لا ينفع، فلو امتدت أيام الدنيا بعد ذلك إلى أن يُنسى هذا الأمر، أو ينقطع تواتره، ويصير الخبر عنه آحادًا، فمن أسلم حينئذٍ أو تاب قُبِل منه. وأيد ذلك بأنه روي أن الشمس والقمر يكسيان الضوء بعد ذلك، ويطلعان من المشرق، ويغربان من المغرب كما كانا قبل ذلك. وأما ما ذكره أبو الليث السمرقندي في تفسيره عن عِمْران بن حُصَيْن أنه قال: إنما لا يُقبل الإيمان والتوبة وقت الطلوع لأنه يكون حينئذٍ صيحة، فيهلك بها كثير من الناس، فمن أسلم أو تاب في ذلك الوقت لم تقبل توبته، ومن تاب بعد ذلك قبلت توبته، فقد قال في "الفتح": لا أصل له، وقد وردت آثار كثيرة يشد بعضها بعضًا متفقة على أن الشمس إذا

طلعت من المغرب أُغلق باب التوبة، ولم يفتح بعد ذلك، وأن ذلك لا يختص بيوم الطلوع، بل يمتد إلى يوم القيامة. وما مر من كون الأشراط عشرة إنما هو باعتبار ذكرها مسرودة في حديث واحد، وإلا فقد وردت علامات كثيرة في أحاديث كثيرة متفرقة: منها ما أخرجه الطبراني عن ابن مسعود: "لا تقومُ الساعة حتى يكون الولد غيظًا، والمطرُ قيظًا، وتفيض الأيام فيضًا". وأخرج عن أم الغراب مثله، وزاد: "ويجترىء الصغير على الكبير، واللئيم على الكريم، ويخرب عمران الدنيا، ويعمر خرابها". ومنها ما أخرجه أحمد، وأبو يَعْلى، والبزّار بسند جيد عن أنس: "إن أمام الدجال سنون خداعات، يكذب فيها الصادق، ويصدق فيها الكاذب، ويخون فيها الأمين، ويؤتمن فيها الخائن، ويتكلم فيها الرُّوَيْبِضَة". ومثله لابن ماجه عن أبي هُريرة، وفيه: "قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه رتكلم في أمر العامة". ومنها ما أخرجه أحمد والطَّبَراني في حديث طويل عن سَمُرة: "لا تقومُ الساعة حتى تروا أمورًا عظامًا لم تحدثوا بها أنفسكم" وفي لفظ: "يتفاقَم شأنُها في أنفسكم، وتسألون: هل كان نبيكم ذكر لكم منها ذكرًا .. الحديث" وفيه: "وحتى تَرَوْا الجبال تزول عن أماكنها". ومنها ما أخرجه البزار والطبراني وصححه ابن حِبّان والحاكم عن عبد الله بن عمرو: "لا تقومُ الساعة حتى يُتسافدَ في الطريق تسافد الحمر". ولأبي يَعْلى عن أبي هُريرة: "لا تَفنى هذه الأمة حتى يقوم الرجل إلى المرأة، فيفترشها في الطريق، فيكون خيارهم يومئذ من يقول: لو واريناها وراء هذا الحائط". وللطبراني في "الأوسط" عن أبي هُريرة نحوه. وفيه: "يقول أمثلُهم: لو اعتزلتم الطريق". وفي حديث أبي أُمامة عند الطبراني: "وحتى تمر المرأة بالقوم، فيقوم إليها أحدهم، فيرفع بذيلها كما يرفع ذنب

النعجة، فيقول بعضهم: ألا واريتها وراء الحائط، فهو يومئذ فيهم مثل أبي بكر وعمر فيكم". ومنها ما أخرجه ابن ماجه عن حُذيفة بن اليمان: "يَدْرُسُ الإِسلامُ كما يدْرسُ وشيُ الثوب، حتى لا يُدرى ما صيام، ولا صلاة، ولا نسك، ولا صدقة، وتبقى طوائف من الناس: الشيخ الكبير، والعجوز الكبيرة، ويقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة: لا إله إلا الله، فنحن نقولها". ومنها ما أخرجه أحمد بسند قوي عن أنس: "لا تقوم الساعة حتى لا يقالَ في الأرض: لا إله إلا الله"، وهو عند مسلم بلفظ: "الله الله"، وله من حديث ابن مسعود: "لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس". ومنها ما أخرجه أحمد بسند جيد عن عبد الله بن عمر: "لا تقوم الساعة حتى يأخذ الله شريطته من أهل الأرض، فيبقى عجاج لا يعرفون معروفًا، ولا ينكرون منكرًا". ومنها ما أخرجه الطّيالِسِيّ عن أبي هريرة: "لا تقوم الساعة حتى يرجع ناس من أمتي إلى الأوثان، يعبدونها من دون الله". ولمسلم من حديث ثَوْبان: "لا تقوم الساعة حتى تلتحق قبائلُ من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد قبائلُ من أمتي الأوثان". ولمسلم أيضًا عن عائشة: "لا تذهب الأيام والليالي حتى تُعْبَدَ اللاتُ والعزى من دون الله .. " الحديث، وفيه: "يبعث الله ريحًا طيبة، فيتوفى بها كل مؤمن في قلبه مثقال حبَّة من إيمان، فيبقى من لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم". وفي حديث حُذيفة بن أَسيد أن ذلك بعد موت عيسى بن مَرْيم. وقد استشكلوا على ما ورد في هذا الحديث حديث: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، حتى يأتي أمر الله" فإن ظاهر هذا الأول أنه لا يبقى أحد من المؤمنين فضلاً عن القائم بالحق. وظاهر الثاني البقاء، ويمكن أن يكون المراد بقوله: أمر الله هبوب تلك الريح، فيكون الظهور

قبل هبويها، فبهذا الجمع يزول الإشكال، وأما بعد هبويها فلا يبقى إلا الشرار، وليس فيهم مؤمن، وعليهم تقوم الساعة، وتكون الساعة حينئذٍ كالحامل المتمِّ، لا يدري أهلها متى تضع من ليل أو نهار كما رُوي عن عيسى عليه السلام، أخرجه أحمد، وابن ماجه، وصححه الحاكم عن ابن مسعود، ولفظه: قال: "لما كان ليلة أسري برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، لقي إبراهيم وموسى وعيسى، فتذاكروا الساعة، فبدؤوا بإبراهيم فسألوه عنها، فلم يكن عنده منها علم، ثم سألوا موسى، فلم يكن عنده منها علم، فرد الحديث إلى عيسى فقال: قد عهد إلى فيما دون وجبتها، فأما وجبتها فلا يعلمها إلا الله، فذكر خروج الدجال، قال: فأنزل إليه فأقتله، ثم ذكر خروج يأجوج ومأجوج، ثم دعاءه بموتهم، ثم بإرسال المطر، فيُلْقي جيفَهم في البحر، ثم تُنسف الجبال، وتُمدُّ الأرض مد الأديم، فعُهِدَ إليَّ إذا كان ذلك، كانت الساعة كالحامل المتم، لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولادتها، ليلًا كان أو نهارًا. هذا ما أردت إيراده هنا، وإذا أحياني الله تعالى إلى وصول الرقاق أو الفتن، كملت الكلام على بعض ما أجمل هنا، ولنرجع إلى تفسير الحديث، فأقول: قوله: "إذا وَلَدَتِ الأمة ربها" عبر بإذا لإشعاره بتحقق الوقوع، لدلالة إذا على الجزم، ولم يعبر بإن لدلالتها على الشك، فلا يصح أن يقال: إن قامت القيامة كان كذا، بل يرتكب قائله محذورًا لأنه يشعر بالشك فيه، وقد ألغز الزَّمَخْشرِيّ في هذا المعنى فقال: سَلِّمْ على شيخ النُّحاةِ وقُلْ لهُ ... عندي سؤالٌ من يُجِبْهُ يعظَّمِ أنا إنْ شكَكْتُ وَجَدْتني به جازمًا ... وإذا جَزَمْتُ فإنّني لم أجْزِمِ ولم أطّلع على من أجابه، وأجبته مبينًا علة الجزم وعدمه مني فقلت: إنْ كنتَ في المعنى المؤدَّى حائرًا ... بـ"إنِ" الّتي للشكِّ صرِّخْ واجزِمِ وإذا تكونُ بما يؤدّى جازمًا ... بـ"إذا" تؤدّيه وما إن تجزمِ

فالشكُّ يجبرُ وصمُهُ إعمالَها ... وإذا بذاكَ الوصمِ لم تَتَثلَّمِ ووقعت هذه الجملة بيانًا للاشتراط، نظرًا إلى المعنى والتقدير: ولادة الأمة، وتطاول الرعاة. وفي التفسير: "ربتها" بتاء التأنيث على معنى النسمة، فيشمل الذكر والأنثى. وفي رواية عثمان بن غِياث: "الإماء أربابَهُنَّ" بلفظ الجمع، والمراد بالرب المالك أو السيد، وقد اختلف العلماء في معنى هذه الكلمة اختلافًا كثيرًا، ملخصه أربعة أقوال: الأول: وهو قول الأكثرين: إن معناه اتساع الإِسلام، واستيلاء أهله على بلاد الشرك، وسبي ذراريهم فهذا ملك الرجل الجارية واستولدها، كان الولد منها بمنزلة ربها، لأنه ولد سيدها، وهذا يرد عليه أن استيلاء الإماء كان موجودًا حين المقالة، والاستيلاء على بلاد الشرك وسبي ذراريهم واتخاذهم سراري وقع أكثره في صدر الإِسلام، وسياق الكلام يقتضي الإشارة إلى وقوع ما لم يقع مما سيقع قرب قيام الساعة، ووجه هذا القول بأن الإماء تلدن الملوك، فتصير الأم من جملة الرعية، والملك سيد رعيته، وقرب هذا التوجيه بأن الرؤساء في الصدر الأول كانوا يستنكفون غالبًا عن وطء الإماء، ويتنافسون في الحرائر، ثم انعكسر الأمر، ولاسيما في أثناء دولة بني العباس، ورواية: "ربتها" لتأويلها بالنسمة لا تنافي ذلك، وقال البعض: إن إطلاق ربها على ولدها مجاز، لأنه لما كان سببًا في عتقها بموت أبيه، أطلق عليه ذلك، وفسره بعضهم بأن النبي إذا كثر، فقد يُسبى الولد أولًا وهو صغير، ثم يعتق ويكبر ويصير رئيسًا بل ملكًا، ثم تُسبى أمه فيما بعد، فيشتريها وهو لا يشعر أنها أمه، فيستخدمها أو يتخذها موطوءة، أو يعتقها ويتزوجها، وقد جاء في بعض الروايات عند مسلم: "أن تلد الأمة بعلَها" فتحمل على هذه الصورة إن فسر البعل بالزوج، وقد يفسر بالرب كما عليه ابن عباس وغيره من المفسرين في قوله تعالى: {أَتَدْعُونَ بَعْلًا} أي: ربًّا، وقيل علم على صنم معين، وتفسيره بالرب أولى ليوافق الروايات. القول الثاني: أن تبيع السادة أمهات أولادهم، ويكثر ذلك، فيتداول

الملاك المستولدة، حتى يشتريها ولدها ولا يشعر بذلك، وعلى هذا فالذي يكون من الأشراط غلبة الجهل بتحزيم بيع أمهات الأولاد، أو الاستهانة بالأحكام الشرعية، وهذا إنما يحصل إذا حُمِلَ البيع على صورة اتفاقية، كبيعها في حال حملها، فإنه حرام بالإجماع، وأما بيعها في غير هذه الصورة فلا يحصل فيه ما ذكر، لأنه مختلف فيه، والفاعل له معتقدًا الجواز لا يُنسب للجهل ولا الاستهانة بالشرع. الثالث: وهو من نمط الذي قبله، أن شراء الولد أمه لا يختص بامهات الأولاد، بل يتصور في غيرهن، بأن تلد الأمة حرًّا من غير سيدها بوطء شبهة، أو رقيقًا بنكاح أو زنى، ثم تباع الأمة في الصورتين بيعًا صحيحًا، وتدور في الأيدي حتى يشتريها ابنها أو بنتها، ولا يرد على هذا تفسير محمد بن بِشْر بأن المراد بالإماء السراري، لأنه تخصيص بغير دليل. الرابع: أن يكثر العقوق في الأولاد، فيعامل الولد أمه معاملة السيد أمته من الإهانة بالسب والضرب والاستخدام، فأطلق عليه ربها مجازًا لذلك، أو المراد بالرب المربي، فيكون حقيقة، وأورد على هذا أنه لا وجه لتخصيص ذلك بولد الأمة إلا أن يُقال: إنه أقرب إلى العقوق. قال في "الفتح": وهذا أوجه الأوجه عندي لعمومه، ولأن المقام يدل على أن المراد حالة تكون مع كونها تدل على فساد الأحوال، مستغربة، ومحصلة الإشارة إلى أن الساعة يقرب قيامها عند انعكاس الأمور، بحيث يصير المربَّى مربيًا، والسافل عاليًا، وهو مناسب لقوله في العلامة الأخرى: "أن تصير الحفاة العراة ملوك الأرض". قال النووي: ليس فيه دليل على تحريم بيع أمهات الأولاد ولا على جوازه، وقد غلط من استدل به لكل من الأمرين، لأن الشيء إذا جعل علامة على شيء آخر لا يدل على حظر ولا إباحة، وقد استدل به إمامان كبيران، أحدهما على الإباحة، والآخر على المنع، وذلك عجيب منهما، وقد أُنكر ذلك عليهما، وهو موضع الإنكار.

اعلم أنه جاء في هذا الحديث إطلاق الرب على السيد المالك في قوله: "ربها" وهو معارض لما أخرجه الشيخان من قوله عليه الصلاة والسلام: "لا يقُل أحدُكم: أطعم ربَّك، وضِّىء ربَّك، اسق ربك، وليقل: سيدي ومولاي" والجواب عن هذا أن الذي يختص بالله تعالى إطلاق الرب بلا إضافة، أما مع الإضافة فيجوز إطلاقه، كما في قوله تعالى إخبارًا عن يوسف عليه السلام: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} وقوله: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} وقوله عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث: "ربها" فدل على أن النهي في ذلك محمول على الإطلاق، ويحتمل أن يكون النهي للتنزيه، وما ورد من ذلك فلبيان الجواز، وقيل: هو مخصوص بغير النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا يرد ما في القرآن، أو المراد النهي عن الإِكثار من ذلك، واتخاذ استعمال هذه اللفظة عادة، وليس المراد النهي عن ذكرها في الجملة. قلت: الأحسن من الأجوية هو الأخير، وفي حديث النهي دلالة على ذلك؛ لأن قوله: "أطعم ربك، اسق ربك، وضىء ربك" يدل على أنه أراد النهي عن استعمال ذلك في كل الخطاب، ولو لم يرد هذا المعنى لكان يكفي أن يقول: لا يقل ربك أو ربي، والجواب يحمل النهي على التنزيه لا بأس به أيضًا، وأما الأول فغير صحيح لتصريح الحديث بالنهي عما فيه الإضافة، فكيف يجعل هو محل الجواز قطعًا. وقوله: "وإذا تطاول" أي: تفاخروا في تطويل البنيان، وتكاثروا فيه. وقوله: "رعاة الإبل البُهْم في البنيان" الرعاة -بضم الراء- جمع راع كقضاة وقاض، والبُهْم -بضم الموحدة وسكون الهاء- جمع أبْهم، يجوز فيه الرفع نعتًا للرعاة، والكسر نعتًا للإبل. وعلى الأول: وصف الرعاة بذلك إما لأنهم مجهولو الأنساب، ومنه: أُبْهِمَ الأمر فهو مبهم إذا لم تعرف حقيقته، أو لأنهم سود الألوان، لأن الأدمة غالب ألوانهم، وقيل: معناه لا شيء لهم، كقوله عليه الصلاة والسلام: "يحشرُ الناس حفاةً عراةً بهمًا"

ولا يرد على هذا إضافة الإبل لهم، لأنها إضافة اختصاص لا ملك على هذا، والغالب أن الراعي يرعى لغيره بالأجرة، وأما المالك فقَلَّ أن يباشر الرعي بنفسه. وعلى الثاني: فوصف الِإبل بالبهم، أي: السود، لأنها شر الألوان عندهم، وخيرها الحمر التي ضرب بها المثل، فقيل: خير من حمر النعم. وفي رواية مسلم: "رعاء البَهْم" -بفتح الباء- وهي صغار الغنم من الضَّأْن والمعز، وفي رواية للأصيلي كذلك، لكنها لا تتجه مع ذكر الإِبل، وإنما تتجه مع ذكر الشياه، أو مع عدم الإضافة كما في مسلم. وقوله في التفسير: "وإذا كانت الحفاة العراة رؤوس الناس" زاد الإسماعيلي: "الصم البكم"، وقيل لهم ذلك مبالغة في وصفهم بالجهل، أي: لم يستعملوا أسماعهم ولا أبصارهم في شيء من أمر دينهم، وإن كانت حواسهم سليمة. وقوله: "رؤوس الناس" أي: ملوك الأرض، كما صرح به الإسماعيلي، والمراد بهم البادية، كما صرح به سليمان التَّيْمي، قال: ما الحفاة العراة؟ قال: العُرَيْب: وهو بالعين المهملة على التصغير. وفي الطبراني عن ابن عباس مرفوعًا: "من انغلاب الدين تفصُّحُ النَّبَط، واتخاذهم القصور في الأمصار". قال القرطبي: المقصود الإخبار عن تبدل الحال، بأن يستولي أهل البادية على الأمر، ويتملكوا البلاد بالقهر، فتكثر أموالهم، وتنصرف هممهم إلى تشييد البنيان والتفاخر به. قال: وقد شاهدنا ذلك في هذا الزمان. ولو حضر زماننا هذا لرأى ما هو أفظع من ذلك، وهذا كله عبارة عن ارتفاع الأسافل كالعبيد ورعاة الإبل، وما أحسن قول القائل: إذا التَحَقَ الأسافلُ بالأعالي ... فقَدْ طابَتْ منادمةُ المنايا

وقال البيضاوي: بلوغ الغاية منذر بالتراجع المؤذن بأن القيامة ستقوم كما قيل: وعند التّناهي يقصُرُ المتطاولُ ومن هذا المعنى الحديث الآخر: "لا تقوم الساعة حتى يكون أسعدَ الناس بالدنيا لكعُ ابن لكع" ومنه: "إذا وسِّدَ الأمر -أي أُسند- إلى غير أهله، فانتظر الساعة" وكلاهما في "الصحيح". وقوله: "في خمس" الجار متعلق بمقدر: وهو داخل، أي: علم وقت الساعة داخل في جملة خمس، كما في قوله: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ} أي: اذهب إلى فرعون بهذه الآية في تسع آيات، فالمحذوف: اذهب، وفي رواية عطاء الخُراساني عند أبي نُعَيم في "الحلية": "قال: فمتى الساعة؟ قال: هي في خمس لا يعلمها إلا الله". قال القرطبي: لا مطمع لأحد في علم شيء من هذه الأمور الخمس لهذا الحديث، وقد فسر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قول الله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} بهذه الخمس، وهو في "الصحيح" قال: فمن ادعى علم شيء منها غير مسنده إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان كاذبًا في دعواه. قال: وأما ظن الغيب فقد يجوز من المنجم وغيره إذا كان عن أمر عادي، وليس ذلك بعلم. وقد نقل ابن عبد البر الإجماع على تحريم أخذ الأجرة والجعل وإعطائها في ذلك. وأخرج حَميد بن زَنْجويه عن بعض الصحابة أنه ذكر العلم بوقت الكسوف قبل ظهوره، فأنكر عليه، فقال: إنما الغيب خمس، وتلا هذه الآية، وما عدا ذلك غيب يعلمه قوم ويجهله قوم. وفي "شرح المناوي الكبير": خمس لا يعلمهن إلا الله، أي: على

وجه الإحاطة والشمول كليًّا وجزئيًّا، فلا ينافيه إطلاع الله تعالى بعض خواصه على بعض المغيبات، حتى من هذه الخمس، لا على وجه الإحاطة والشمول، بل على وجه الإجمال. وقوله: "ثم تلا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} الآية" أي: تلاها إلى آخر السورة، إلى قوله: {خَبِيرٌ}، وأما ما وقع عند المؤلف في التفسير، من قوله: "إلى الأرحام" فهو تقصير من بعض الرواة، والسياق يرشد إلى أنه تلا الآية كلها، وقد تضمن هذا الجواب زيادة على السؤال، للاهتمام بذلك، إرشادًا للأمة، لما يترتب على معرفة ذلك من المصلحة. فإن قيل: ليس في الآية أداة حصر كما في الحديث، أجاب الطيبي بأن الفعل إذا كان عظيم الخطر، وما ينبني عليه الفعل رفيع الشأن، فُهِم منه الحصر على سبيل الكناية، ولاسيما إذا لوحظ ما ذكر في أسباب النزول من أن العرب كانوا يدعون علم نزول الغيث، فيشعر بأن المراد من الآية نفي علمهم بذلك، واختصاصه بالله سبحانه وتعالى. وسبب نزول هذه الآية ما أخرجه ابن المنذر والبَغَوي والواحدي والثَّعْلَبي عن عكرمة، أن رجلًا يقال له: الحارث بن عَمرو، جاء إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال: يا محمد: متى قيام الساعة؟ وقد أجدبت بلادُنا فمتى تخصُب؟ وقد تركت امرأتي حُبلى فما تلد؟ وقد علمت ما كسبتُ اليوم فماذا أكسب غدًا؟ وقد علمت بأي أرض ولدت فبأي أرض أموت؟ فنزلت هذه الآية. والنكتة في العدول عن الإثبات إلى النفي في قوله تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} وكذا التعبير بالدراية دون العلم للمبالغة والتعميم، إذ الدراية اكتساب علم الشيء بحيلة، فإذا انتفى ذلك عن كلل نفس مع كونه من مختصاتها، ولم تقع منه على علم، كان عدم اطلاعه على علم غير ذلك من باب أولى.

وقد قال القسطلاّني: إن الله عَزَّ وَجَلَّ إِذا أمر بالغيث وسَوْقه إِلى ما شاء من الأماكن، علمته الملائكة الموكلون به، ومن شاء سبحانه من خلقه عَزَّ وَجَلَّ، وكذا إذا أراد تبارك وتعالى خلق شخص في رحم، يعلِّمُ سبحانه الملك الموكل بالرحم بما يريد جل وعلا، كما يدل عليه ما أخرجه البخاري، عن أنس، عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: "إن الله تعالى وكَّلَ بالرحمِ ملكًا، يقول: يا رب نطفة، يا رب علقة، يا رب مضغة، فإذا أراد الله تعالى أن يقضي خلقه، قال: أذكر أم أنثى، شقي أم سعيد، فما الرزق والأجل، فيكتب في بطن أمه، فحينئذ يعلم ذلك الملك، ومن شاء تعالى من خلقه" وهذا لا ينافي الاختصاص والاستئثار بعلم المذكورات، لأن المراد بالعلم الذي استأثر به سبحانه العلم الكامل بأحوال كل على التفصيل كما مر، وما يعلم به الملك، ويطلع عليه بعض الخواص دون ذلك العلم الكامل. قلت: ومن هذا القبيل ما رُوي عن أبي بكر في مرض موته، من قوله لعائشة رضي الله تعالى عنهما: وإنما هما أخواك وأختاك، ولم تكن عائشة عالمة حينئذ إِلا بأخت واحدة، وهي أسماء، وكانت بنت خارجة زوجة أبي بكر رضي الله تعالى عنه حاملًا بأم كلثوم، فلما ولدت علمت مراد أبي بكر رضي الله تعالى عنه بقوله: أختاك، ولما قالت له: ما هي إلا أسماء فمن الأخرى؟! قال لها: ذو بطن بنت خارجة، ما أظنها إلا أنثى. فكان كذلك، وبنت خارجة اسمها حبيبة، وهذا الأثر أخرجه في "الموطأ" بقصته في باب ما لا يجوز من النحل في الأقضية. وقوله: "ثم أدبر، فقال: ردوه، فلم يروا شيئًا" وفي التفسير: "فأخذوا ليردوه، فلم يروا شيئًا" ففيه أن الملك يجوز أن يتمثل لغير النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فيراه، ويتكلم بحضرته، وهو يسمع، وقد ثبت عن عِمران بن حُصَين أنه كان يسمع كلام الملائكة. وقوله: "جاء يعلِّمُ الناسَ دينَهم" في التفسير: "ليعلم"،

وللإسماعيلي: "أراد أن تعلموا إذ لم تسألوا"، وفي رواية أبي فَرْوَة فيما مر: "والذي بعث محمدًا بالحق، ما كنت بأعلم به من رجل منكم، وإنه لجبريل" وفي حديث أبي عامر عند أحمد: "ثم ولى، فلم نر طريقه، قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: سبحان الله، هذا جبريل، جاء يعلم الناس دينهم، والذي نفسُ محمد بيده، ما جاءني قطُّ إلا وأنا أعرفه، إلا أن تكون هذه المرة"، وفي رواية سليمان التَّيْمِي: "ثم نهض، فولى، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: علي بالرجل، فطلبناه كل مطلب، فلم نقدر عليه، فقال: هل تدرون من هذا؟ هذا جبريل أتاكم ليعلمكم دينكم، خذوا عنه، فوالذي نفسي بيده ما شُبِّهَ عليَّ منذ أتاني قبل مرتي هذه، وما عرفته حتى ولّى". وقول ابن حِبّان: إن سليمان التيمي تفرد بقوله: "خذوا عنه" فيه أنه إنما تفرد بالتصريح، لأن قوله عليه الصلاة والسلام في الروايات الآخر: "جاء يعلم الناس دينهم" فيه إشارة إلى هذه الزيادة، وفي هذه الروايات أنه عليه الصلاة والسلام ما عرف أنه جبريل إلا في آخر الحال، وأن جبريل أتاه في صورة رجل حسن الهيئة، غير معروف لديهم، فما وقع في رواية النسائي من قوله: "وإنه لجبريل نزل في صورة دِحْيَة الكَلْبي" وهم وغلط، لأن دحية معروف عندهم، وقد قال عمر فيما مر: "ما يعرفُهُ منّا أحد" واتفقت هذه الروايات أيضًا على أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أخبر الصحابة بشأنه بعد أن التمسوه فلم يجدوه، فما وقع عند مسلم وغيره من حديث عمر في رواية كَهْمس: "ثم انطلق، قال عمر: فلبثت مليًّا، ثم قال: يا عمر: أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه جبريل" وفي رواية النسائي والترمذي: "فلبثت ثلاثًا" وفي رواية أبي عوانة: "فلبثنا ليالي، فلقيني رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد ثلاث" ولابن حبان: "بعد ثالثة"، ولابن مَنْده: "بعد ثلاثة أيام" فقد جمع النووي بين الأحاديث المذكورة، بأن عمر لم يحضر قول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في المجلس، بل كان ممن قام إمّا مع الذين

توجهوا في طلب الرجل، أولشغل آخر، ولم يرجع مع من رجع لعارض عرض له، فأخبر عليه الصلاة والسلام الحاضرين في الحال، ولم يتفق الإخبار لعمر إلا بعد ثلاثة أيام، ويدل عليه قوله: "فلقيني"، وقوله: "فقال لي: يا عمر"، فوجه الخطاب له وحده، بخلاف إخباره الأول، وهو جمع حسن. وفي قوله: "يعلمكم دينكم" دلالة على أن السؤال الحسن يسمى علمًا وتعليمًا، لأن جبريل لم يصدر منه سوى السؤال، ومع ذلك فقد سماه معلمًا، وقد اشتهر قولهم: حسنُ السؤال نصف العلم، ويمكن أن يؤخذ من هذا الحديث، لأن الفائدة فيه انبنت على السؤال والجواب معًا. وقال القُرطبي: هذا الحديث يصلح أن يقال له: أم السنة، لما تضمنه من جمل علم السنة. وقال الطيبي: لهذه النكتة استفتح به البغوي كتابيه "المصابيح" و"شرح السنة" اقتداء بالقرآن في افتتاحه بالفاتحة، لأنها تضمنت علوم القرآن إجمالًا. وقال القاضي عِياض: اشتمل هذا الحديث على جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة من عقود الإيمان ابتداء وحالًا ومآلًا، ومن أعمال الجوارح، ومن إخلاص السرائر، والتحفظ من آفات الأعمال، حتى إن علوم الشريعة كلها راجعة إليه، ومتشعبة منه. وقوله: "قال أبو عبد الله" جعل ذلك كله من الإيمان، وأبو عبد الله المراد به البخاري نفسه، وقد قال في أول الباب: "فجعل ذلك كله دينًا"، أما جعله دينًا فظاهر من قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث: "جاء يعلم الناس دينهم"، وأما جعله إيمانًا، فكلمة "من" إمّا تَبْعيضيّة، والمراد بالإيمان هو الإيمان الكامل المعتبر عند الله تعالى، وعند الناس، فلا شك أن الإِسلام والإحسان داخلان فيه، وإما ابتدائية، ولا يخفى أن مبدأ

الإحسان والإِسلام هو الإيمان بالله، إذ لولا الإيمان به لم تتصور له العبادة. وقوله: "فجعل ذلك كله دينًا" لا يدل على اتحاد الإِيمان والإِسلام، بل يدل على أن الدين اسم لمجموع هذه الثلاثة، وقوله الأخير: "جعل ذلك كله من الإيمان" دال على اتحادهما، وهذه مسألة اختلف العلماء فيها، وقد ذكرت طرفًا من الكلام فيها في أول كتاب الإيمان، وها أنا أذكر هنا حاصل ما ذكره في "الفتح". فقد نقل أبو عُوانة الإسفراييني في "صحيحه" عن المُزَني صاحب الشافعي الجزم بأنهما عبارة عن معنى واحد، وأنه سمع ذلك منه، وعن الإِمام أحمد الجزم بتغايرهما، ولكل من القولين أدلة متعارضة. وقال الخطابي: صنف في المسألة إمامان كبيران، وأكثرا من الأدلة للقولين، وتباينا في ذلك، والحق أن بينهما عمومًا وخصوصًا، يعني: مطلقًا، فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنًا. قال في "الفتح": ومقتضاه أن الإِسلام لا يطلق على الاعتقاد والعمل معًا، بخلاف الإيمان، فإنه يطلق عليهما معًا، ويرد عليه قوله تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} فإن الإِسلام هنا يتناول العمل والاعتقاد معًا، لأن العامل غير المعتقد ليس بذي دين مرضي، وبهذا استدل المزني، وأبو محمد البغوي، فقال في الكلام على حديث جبريل هذا: جعل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الإِسلام هنا اسمًا لما ظهر من الأعمال، والإيمان اسمًا لما بطن من الاعتقاد، وليس ذاك لأن الأعمال ليست من الإيمان، ولا لأن التصديق ليس من الإِسلام، بل ذاك تفصيل لجملة اسمها شيء، وجماعها الدين، ولهذا قال صلى الله تعالى عليه وسلم: "أتاكُم يعلمكم دينكم" وقال تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} وقال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} ولا يكون الدين في محل الرضى والقبول إلا بانضمام التصديق.

رجاله خمسة

والذي يظهر من مجموع الأدلة أن لكل منهما حقيقة شرعية، كما أن لكل منهما حقيقة لغوية، لكِنْ كل منهما مستلزم للآخر بمعنى التكميل له، فكما أن العامل لا يكون مسلمًا كاملًا إلا إذا اعتقد، فكذلك المعتقد لا يكون مؤمنًا كاملًا إلا إذا عمل، وحيث يطلق الإيمان في موضع الإِسلام أو العكس، أو يطلق أحدهما على إرادتهما معًا، فهو على سبيل المجاز، ويتبين المراد بالسياق، فإن وردا معًا في مقام السؤال حُمِلا على الحقيقة، وإن لم يردا معًا، أو لم يكن في مقام سؤال، أمكن العمل على الحقيقة أو المجاز بحسب ما يظهر من القرائن، وقد حكى ذلك الإِسماعيلي عن أهل السنة والجماعة، قالوا: إنهما تختلف دلالتهما بالاقتران، فإن أُفرد أحدهما دخل الآخر فيه، وعلى ذلك يحمل ما حكاه محمَّد بن نصر، وتبعه ابن عبد البر عن الأكثر أنهم سوَّوْا بينهما على ما في حديث عبد القيس، وما حكاه اللالَكائي وابن السَّمعاني عن أهل السنة أنهم فرقوا بينهما على ما في حديث جبريل. قلت: والحق أنهما متحدان مقصدًا مختلفان مفهومًا، ولأجل ما في هذا الحديث من الفوائد الشرعية أشبعت الكلام فيه، وما ذكرته فيه قليل بالنسبة لما تضمنه. رجاله خمسة: الأول مسدّد وقد مر في السادس من كتاب الإيمان هذا. ومر إسماعيل بن علية في الثامن أيضا. ومر أبو زُرعة هرِم في التاسع والعشرين منه. ومر أبو هُريرة في الثاني منه أيضًا. والثالث: من السند يحيى بن سعيد بن حيان أبو حيان التَّيْمي الكوفي العابد من تَيْم الرَّباب. قال الخُرَيْبيّ: كان سفيان الثوري يعظمه ويوثقه. وقال محمَّد بن فُضَيْل: حدثنا أبو حيان التيمي، وكان صدوقا. وقال ابن معين: ثقة.

لطائف إسناده

وقال العِجْليّ: ثقة صالح مبرز صاحب سنة. وقال أبو حاتم: صالح. وذكره ابن حِبّان في "الثقات"، وقال: كان من المتهجدين. وقال مسلم: كوفي من خيار الناس. وقال النَّسائي: ثقة ثبت وقال الفلّاس: ثقة. وقال يعقوب بن سفيان: ثقة مأمون. روى عن أبيه، وعمه يزيد بن حَيّان، وأبي زُرعة بن عمرو بن جرير، والشعبي، والضحاك، وغيرهم. وروى عنه: أيوب السُّخْتِياني ومات قبله، والأعمش -وهو من أقرانه-، والثوري، وشعبة، ووُهَيْب بن خالد، وابن عُلية، وهُشيم، وابن المبارك، ويحيى القطان، وآخرون. مات سنة خمس وأربعين ومئة. ويحيى بن سعيد في الستة سواه أربعة، وفي الرواة غير ما في الستة ثلاثة. والتَّيْميّ في نسبه مر الكلام عليه في الثاني من كتاب الإيمان. ومر الكلام أيضًا على حِبّان وحَيّان في الثالث والعشرين من كتاب الإيمان، وحيَان إما مشتق من الحياة فلا ينصرف، أو من الحين فينصرف أهـ. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة. ومنها أن إسماعيل بن إبراهيم ذكره البخاري في باب حب الرسول من الإيمان منسوبًا إلى أمه وذكره هنا منسوبًا إلى أبيه، وهذا دليل على كمال ضبط البخاري وأمانته، حيث نقل لفظ الشيوخ بعينه، فأداه كما سمعه. ومنها أن فيه أبا حيان وهو غير تابعي، وروى عنه تابعيان كبيران، أيوب والأعمش.

وهذا الحديث أخرجه البخاري هنا وفي التفسير عن إسحاق بن إبراهيم، وفي الزكاة مختصرًا عن عبد الرحيم، ومسلم في الإيمان عن أبي بكر بن أبي شيبة وغيره، وابن ماجه في السنة بتمامه، وفي الفتن ببعضه عن أبي بكر بن أبي شيبة، وأبو داود في السنة عن عثمان، عن جرير، والنسائي في الإيمان عن محمد بن قُدامة، وفي العلم عن إسحاق بن إبراهيم مختصرًا من غير ذكر سؤال السائل، ومسلم من حديث عمر بن الخطاب ولم يخرجه البخاري لاختلاف فيه على بعض رواته، وأبو داود عنه في السنة يزيد وينقص، والترمذي في الإيمان، وقال: حسن صحيح. ثم قال المصنف: "باب" كذا هو بلا ترجمة في رواية كريمة وأبي الوقت، وسقط لفظ باب من لفظ أبي ذرٍّ والأصيلي، ورجح النووي الأول، قائلًا: إن الترجمة -يعني سؤال جبريل عن الإيمان- لا يتعلق بها هذا الحديث، فلا يصح إدخاله فيه. قال في "الفتح": نفي التعلق لا يتم هنا على الحالتين، لأنه إن ثبت لفظ باب بلا ترجمة فهو بمنزلة الفصل من الباب الذي قبله، فلا بد له من تعلق به، وإن لم يثبت فتعلقه به متعين، لكنه يتعلق بقوله في الترجمة: "جعل ذلك كله دينًا" ووجه التعلق أنه سمى الدين إيمانًا في حديث هرقل المذكرر في الباب هنا، فيتم مراد المؤلف يكون الدين هو الإيمان. قلت: الحديث الأول فيه أن الدين يطلق على الثلاثة، وحديث هرقل دل على أن الإيمان يطلق على الدين، لقوله فيه: "وكذلك الإيمان" بعد قوله: "سخطة لدينه" فلم يتحد المراد من الحديثين، فإن قيل: لا حجة فيه لأنه منقول عن هرقل، وهو غير مؤمن، فالجواب: إنه لم يقله من قِبَل رأيه، وإنما رواه عن الكتب السالفة من كيتب الأنبياء، وفي شرعهم كان الإيمان دينًا، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ، وأيضًا فهرقل قاله بلسانه الرومي، وأبو سفيان عبر عنه بلسانه العربي، وألقاه إلى ابن عباس، وهو من علماء اللسان، فرواه عنه، ولم ينكره، وتداولته العلماء، فدل على أنه صحيح لفظا ومعنى.

الحديث الرابع والأربعون

الحديث الرابع والأربعون حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ قَالَ أَخْبَرَنِى أَبُو سُفْيَانَ أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لَهُ سَأَلْتُكَ هَلْ يَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ، فَزَعَمْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حَتَّى يَتِمَّ. وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ، فَزَعَمْتَ أَنْ لاَ، وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ، لاَ يَسْخَطُهُ أَحَدٌ. اعلم أن هذا الحديث قد استوفينا الكلام عليه في بدء الوحي، إلا أنه هنا فيه بعض اختلاف في الألفاظ أشير إليها. قوله: "هل يزيدون أم ينقصون"، في الرواية السابقة: "أيزيدونَ" بالاستفهام بالهمزة، وهو القياس، لأن أم المتصلة مستلزمة للهمزة، وأجيب بأن أم هنا منقطعة، أي: بل أينقصون، فيكون إضرابًا عن سؤال الزيادة، واستفهامًا عن النقصان، على أن الزَّمَخْشري أطلق أنها لا تقع إلا بعد الاستفهام، وهو أعم من الهمزة. وقوله: "فزعمت"، وفي السابقة: "فذكرت". وقوله: "وكذلك الإيمان حتى يتم" وفي السابقة: "وكذلك أمر الإيمان". وقوله: "وسألتك هل يرتد"، وفي السابقة: "أيرتد" بالهمزة. وقوله: "لا يَسخَطه أحد" بفتح المثناه التحتية، والخاء المعجمة، ولم يذكر هذين اللفظين في الرواية السابقة.

رجاله سبعة

هذا ما ظهر لي من تغيرات الألفاظ، واقتصر هنا على هذه القطعة من جملة الرواية السابقة، لتعلقها بغرضه هنا، وهي تسمية الدين إيمانًا، ونحو هذا الحذف يسمونه خَرْمًا، وقد مر الكلام على الاقتصار على بعض الحديث مستوفى في الثاني والعشرين من كتاب الإيمان، هذا والظاهر أن الخرم وقع من الزُّهري أو غيره لا من البخاري، لاختلاف شيوخ الإسنادين بالنسبة إلى المؤلف، ولعل شيخه ابن حمزة لم يذكر في الاستدلال على كون الإيمان دينًا إلا هذا القدر، وإنما يقع الخرم لاختلاف المقامات والسياقات، ففيما مرَّ بيان كيفية الوحي، وذلك يقتضي ذكر الكل، ومقام الاستدلال يقتضي الاختصار. رجاله سبعة: الأول: إبراهيم بن حمزة بن محمَّد بن حمزة بن مُصْعَب بن عبد الله ابن الزبير بن العوّام أبو إسحاق القُرَشيّ الأسَديّ المدني. قال ابن سعد: ثقة صدوق، كان يأتي الرَّبَذة كثيرًا، فيقيم بها ويتجر ويشهد العيدين بالمدينة. قال أبو حاتم: صدوق. وقال النّسائي: ليس به بأس. وسُئِل أبو حاتم عنه وعن إبراهيم بن المُنْذِر فقال: كانا متقاربين، ولم يكن لهما تلك المعرفة بالحديث. وذكره ابن حِبّان في "الثقات". قال ابن سعد: لم يجالس مالك بن أنس. قال ابن حَجَر: لكن حديثه عنه في الرواة عن مالك للخطيب. روى عن إبراهيم بن سعد، وابن أبي حازم، والدَّراوَرْدي وأبي ضَمْرة، وغيرهم. وروى عنه البُخاري، وروى هو والنسائي عنه بواسطة، والذُّهلي، وأبو زُرْعة، وأبو حاتم، وأبو إسماعيل التِّرمذي، وإسماعيل القاضي، وغيرهم.

لطائف إسناده

مات بالمدينة سنة ثلاثين ومئتين. وفي الستة إبراهيم بن حمزة سواه واحد، وهو ابن حمزة بن سليمان أبو إسحاق، روى عن زيد بن أبي الزرقاء. الثاني: إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وقد مر في السادس عشر من كتاب الإيمان هذا. والثالث: صالح بن كَيْسان، وقد مر في السابع من بدء الوحي. ومر ابن شهاب الزُّهري في الثالث منه أيضًا. ومر عُبيد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود في السادس من بدء الوحي أيضًا. ومر ابن عباس وأبو سفيان بن حرب في الخامس منه أيضًا. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والإخبار والعنعنة ورواته كلهم مدنيون، وفيه ثلاثة من التابعين. ومنها أن فيه بين البخاري والزُّهري ثلاثة أنفس، وفي الحديث المتقدم بينهما شيخان أبو اليمان، وشُعَيْب بن أبي حَمْزة. ومرّ ذكر من أخرجه في السابع من بدء الوحي. ثم قال المصنف: باب فضل من استبرأ لدينه أي: هذا باب فضل، فباب خبر مبتدأ محذوف، مضاف لفضل، أي: فضل الذي طلب البراءة لأجل دينه من الذم الشرعي، أو من الإثم، فاللام في لدينه أجلية، ويحتمل عندي وهو الظاهر أن تكون للتعدية، أي طلب براءة دينه من الذمّ والإثم، والمراد بالدين هنا ما في حديث أبي

هريرة السابق من أنه الإيمان والإِسلام والإحسان، واكتفى بالدين عن أن يقول لعرضه ودينه لأن الاستبراء للدين لازم للاستبراء للعرض. ووجه المناسبة بين البابين من حيث أن المذكرر في الباب الأول بيان الإيمان والإِسلام والإحسان، وأن ذلك كله دين، والمذكور هاهنا الاستبراء للدين الذي يشمل الثلاثة، ولا شك أن الاستبراء للدين من الدين.

الحديث الخامس والأربعون

الحديث الخامس والأربعون حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا عَنْ عَامِرٍ قَالَ سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "الْحَلاَلُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِيِنِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِى الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ. أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلاَ إِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ، أَلاَ وَإِنَّ فِى الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلاَ وَهِىَ الْقَلْبُ". قد ادّعى أبو عمرو الداني أن هذا الحديث لم يروه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم غير النعمان بن بشير، فإن أراد من وجه صحيح فمُسَلَّم، وإلا فقد رواه الطبراني في "الأوسط" عن ابن عمر وعمار، وفي "الكبير" له عن ابن عباس، وفي "الترغيب" للأصبهاني من حديث واثلة، وفي أسانيدها مقال. وادعى أيضًا أنه لم يروه عن النعمان غير الشعبي، وليس كما قال، فقد رواه عن النعمان أيضًا خَيْثَمة بن عبد الرحمن عند أحمد، وغيره، وعبد الملك بن عُمير عند أبي عَوانة وغيره، وسِماك بن حَرْب عند الطّبراني، لكنه مشهور عن الشعبي، رواه عنه جم غفير من الكوفيين، وعبد الله بن عَوْن من البصريين. قوله: "الحلال بينٌ، والحرام بينٌ" أي: في عينهما ووصفهما، يعني: أنهما ظاهران بالنظر إلى ما دل عليهما بلا شبهة. وقوله: "وبينهما مُشَبَّهات" أي: أمور مشبهات -بتشديد الموحدة

المفتوحة- أي: شبهت بغيرها مما لم يتبين به حكمها على التعيين، وفي رواية الأصيلي: "مشتَبِهات" -بتاء مفتوحة وموحدة مكسورة- أي: اكتسبت الشبهة من وجهين متعارضين، وفي رواية الدارِميّ: "متشابهات" وفي رواية الطَّبرَيّ: "متَشَبِّهات" -بفتح المثناه الفوقية والشين المعجمة وتشديد الموحدة المكسورة- وفي رواية "مُشْبِهات" بضم الميم وسكون الشين المعجمة وكسر الموحدة الخفيفة. قال العيني: والكل من اشتبه الأمر إذا لم يتضح، ويقال: اشتُبه إذا أشكل، ومنه {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} وقوله: "لا يَعْلَمُها كثير من النَّاسِ" أي: لا يعلم حكمها أمن الحلال هي أم من الحرام كثير من الناس، وجاء واضحًا في رواية الترمذي: "لا يدري كثير من الناس أمن الحلال هي أم من الحرام"، ومفهوم قوله: "كثير" أن معرفة حكمها ممكن للقليل من الناس، وهم المجتهدون إما بنص أو قياس أو استصحاب أو غير ذلك، فإذا تردد الشيء بين الحل والحرمة، ولم يكن نص ولا إجماع اجتهد فيه المجتهد وألحقه بأحدهما بالدليل الشرعي، فالمشبهات على هذا في حق غيرهم، وقد يقع لهم، حيث لا يظهر ترجيح لأحد الدليلين. واختلف في حكم الشُّبُهات، فقيل: التحريم، وهو مردود، وقيل: الكراهة، وقيل: الوقف، وهو كالخلاف في الأشياء قبل ورود الشرع، والأصح عدم الحكم بشيء؛ لأن التكليف عند أهل الحق لا يثبت إلا بالشرع، وقيل: الحل والإباحة، وقيل: المنع، وقيل: الوقف. وحاصل ما فسر به العلماء الشبهات أربعة أشياء: الأول: تعارض الأدلة. ثانيها: اختلاف العلماء وهي منتزعة من الأولى. قلت: الفرق بينهما أن الأول تعارضت الأدلة وتكافأت. والثاني ما فيه خلاف من غير نظر إلى تكافىء الأدلة. ثالثها: أن المراد بها مسمى المكروه، لأنه يَجْتَنِبُه جانبا الفعل والترك.

رابعها: المباح الذي هو من قسم خلاف الأولى، بأن يكون متساوي الطرفين باعتبار ذاته، راجح الفعل أو الترك باعتبار أمر خارج. قال في "الفتح": والذي يظهر لي رجحان الوجه الأول، لما أخرجه المصنف في البيوع عن الشعبي في هذا الحديث: "فمن تركَ ما شبه عليه من الإثم كانَ لما استبانَ له أَترَك، ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم، أو شك أن يواقع ما استبان" ثم قال: ولا يبعد أن يكون كل من الأوجه مرادًا، ويختلف ذلك باختلاف الناس، فالعالم الفطن لا يخفى عليه تمييز الحكم، فلا يقع له ذلك إلا في الاستكثار من المباح أو المكروه كما يأتي قريبًا، ودونه تقع له الشبهة في جميع ما ذكر بحسب اختلاف الأحوال، ولا يخفى أن المستكثر من المكروه تصير فيه جرأة على ارتكاب المنهي في الجملة، أو يحمله اعتياده ارتكاب المنهي غير المحرم على ارتكاب المنهي المحرم إذا كان من جنسه، أو يكون ذلك لشبهة فيه، وهو أن من تعاطى ما نهي عنه يصير مظلم القلب لفقدان نور الورع، فيقع في الحرام، ولو لم يختر الوقوع فيه. وقوله: "فمن اتّقى المشبّهات" أي: حذر منها، والاختلاف في لفظها بين الرواة نظير التي قبلها، لكن عند مسلم والإسماعيلي: "الشُّبُهات" بالضم، جمع شبهة. وقوله: "أستبرأ لدينه وعرضه" استبرأ بالهمزة بوزن استفعل من البراءة، أي برَّأَ دينه من النقص، وعرضه من الطعن فيه، لأن من لم يعرف باجتناب الشبهات، لم يسلم من قول من يطعن فيه. وللأصيلي: "لعرضه ودينه". وفي الحديث دليل على أن من لم يتوق الشبهة في كسبه ومعاشه فقد عرض نفسه للطعن فيه، وفي هذا إشارة إلى المحافظة على أمور الدين، ومراعاة المروءة. قلت: المحافظة على الدين والعرض وغيرهما من تمام الكليات الست التي هي: النفس، والعمل والنسب، والمال واجبة في كل ملة

من ملل الرسل المتقدمين، وهي مترتبة في آكدية الوجوب، فآكدها حفظ الدين، ولهذا وجب قتل من ارتد عن الدين، ويليه حفظ النفس ولذا أوجب الله القصاص حفظًا لدماء المسلمين، كما قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} ويلي ذلك حفظ العقل، ولذلك أوجب الله الحد على شارب الخمر، ويلي ذلك حفظ النسب ولذلك أوجب الله الحد على الزاني، ويلي ذلك حفظ المال، ولذلك أوجب الله القطع في السرقة وفي المحاربة أو القتل أو الصلب، والعرض والمال في مرتبة واحدة، ولأجل وجوب حفظ العرض أوجب الله حد القذف على من رمى مسلمًا بالغًا عفيفًا بالزِّنى أو نفاه عن أبيه أو جده، ونظم في مراقي السعود الأمور الستة مشيرًا إلى ترتيبها بقوله: دينٌ ونفسٌ ثم عقلٌ نَسَبُ ... مالٌ إلى ضرورةٍ تنتسبُ فرتِّبَنْ ولْتعطِفَنْ مساويا ... عِرْضًا على المالِ تكُنْ مُوافِيا فحِفظُها حتمٌ على الإنسانِ ... في كلِّ شِرْعَةٍ منَ الأديانِ والعِرْض -بكسر العين-: النفس وجانب الرجل الذي يصونه من نفسه وحَسَبه أن يُنتقص ويُثلب، أو سواء كان في نفسه أو سلفه أو من يلزمه أمره أَو موضع المدح والذم، أو ما يُفْتَخَر به من حسب وشرف، وقد يُراد به الآباء والأجداد والخليقة المحمودة إلى غيره. وبفتح العين عرض الأعمال يوم القيامة، وضد الطول، ومفرد العروض. وبالضم الجانب والناحية، يقال في عُرض هذا الحائط، أي: في جانبه وناحيته. ونظم بعضهم هذه المعاني فقال: العَرضُ ضدُّ الطولِ والعَرضُ غدا ... ومفردُ العَروض فتحُهُ بدا والعِرْضُ بالكسرِ بمعنى النفسِ ... والضم للجانبِ دونَ لَبْسِ وقوله: "ومن وقع في الشبهات" فيه أيضًا ما تقدم من اختلاف الرواة. وقوله: "كراع يرعى حول الحمى" وقع في جميع نسخ البخاري هكذا

محذوف جواب الشرط إن أعربت مَنْ شرطية، وقد ثبت المحذوف في رواية الدارمِيّ عن أبي نُعَيْم شيخ البخاري فيه، فقال: "ومَنْ وقع في الشُّبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى". ويمكن إعراب مَنْ في سياق البخاري موصولة، فلا يكون فيه حذف، إذ التقدير: والذي وقع في الشبهات مثل راعٍ يرعى، والأول أولى لثبوت المحذوف في "صحيح" مسلم وغيره من طريق زكريّاء التي أخرجه المؤلف منها، وعلى هذا فقوله: "كراع يرعى" جملة مستأنفة وردت على سبيل التمثيل، للتنبيه بالشاهد على الغائب. والحمى: المَحْمِى، أطلق المصدر على اسم المفعول. وفي اختصاص التمثيل بذلك نكتة، وهي أن ملوك العرب كانوا يحمون لمراعي مواشيهم أماكن مختصة كانوا يستعوون كلبًا على موضع عال، وحيث انتهى صوته يحمونه لمواشيهم، ويتوعدون من يرعى فيه بغير إذنهم بالعقوبة الشديدة، فمثل لهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بما هو مشهور عندهم، فالخائف من العقوية المراقب لرضى الملك يبعد عن ذلك الحمى خشية أن تقع مواشيه في شيء منه، فبعدُهُ أسلمُ له ولو اشتد حذره، وغير الخائف المراقب يقرب منه، ويرعى من جوانبه، فلا يأمن من أن تنفرد الفاذَّةُ فتقع فيه بغير أختياره، أو يُمْحِل المكان الذي هو فيه، ويقع الخصب في الحمى، فلا يملك نفسه أن يقع فيه. ولما جاء الإِسلام، بطل ما كان يفعله رؤساء العرب من الحمى، وقال صلى الله تعالى عليه وسلم كما أخرجه البخاري في المساقاة: "لا حمى إلا لله في رسوله" وصار الحمى خاصًّا بالخلفاء، قيل: والولاة، وهو أن يحمي الخليفة موضعًا لرعي مواشي الصدقة ومواشي فقراء المسلمين، وقد حمى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم النقيع -بالنون- وهو على عشرين فرسخًا من المدينة، وقدره ميل في ثمانية أميال، وحمى عمر رضي الله تعالى عنه الرَّبَذَة -بالتحريك- وهو موضع معروف بين مكة والمدينة، واستعمل عليه مولاه هنيّ، أخرجه في "الموطأ" بطوله آخر

الكتاب، وأخرجه البخاري في الجهاد كذلك بطوله، ولم أر هل حمى أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أو لم يحم. وقد ادّعى أبو عَمرو الدّاني أن التمثيل من كلام الشعبي، وأنه مدرج في الحديث، ولعل مستنده ما في رواية ابن الجارود والإسماعيلي عن ابن عَوْن أنه قال في آخر هذا الحديث: لا أدري المثل من قول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو من قول الشعبي. وتردُّدُ ابن عون في رفعه لا يستلزم كونه مدرجًا، لأن الأثبات قد جزموا باتصاله ورفعه، فلا يقدح شك بعضهم فيه، وكذلك سقوط المثل من رواية بعض الرواة كأبي فَرْوة عن الشعبي لا يقدح فيمن أثبته لأنّهم حفاظ، ولعل هذا هو السر في حذف البخاري للجواب ليصير ما قبل المثل مرتبطًا به، فيسلم من دعوى الإدراج. ومما يقوي عدم الإِدراج رواية ابن حِبّان الآتية قريبًا، فإن فيها التصريح برفع الجميع، وكذا ثبوت المثل مرفوعًا في رواية ابن عباس، وعمار بن ياسر، وقوله: "يوشِكُ أن يُواقعه" بضم الياء وكسر الشين، أي: يسرع ويقرب من أن يقع فيه، ماضيه أوْشك. وعند ابن حِبّان من الزيادة: "اجعلوا بينَكُم وبين الحرام سترةً من الحلال، من فعل ذلك استبرأ لعرضه ودينه، ومن أرتع فيه كان كالمرتع إلى جنب الحمى يوشك أن يقع فيه". ومن هذا المعنى انتزع القباري شيخ ابن المنير قوله: المكروه عقبة بين العبد والحرام، فمن استكثر من المكروه تطرق إلى الحرام، والمباح عقبة بينه وبين المكروه، فمن استكثر منه تطرق إلى المكروه، وهذا منزِعٌ حسن، والمعنى: إن الحلال حيث يُخشى أن يؤول فعله مطلقًا إلى مكروه أو محرم، ينبغي اجتنابه كالإكثار مثلًا من الطيبات، فإنه يحوج إلى كثرة الاكتساب الموقع في أخذ ما لا يستحق، أو يفضي إلى بطر النفس، وأقل ما فيه الاشتغال عن مواقف العبودية، وهذا معلوم بالعادة، مشاهد بالعيان، فمن تعاطى ما نُهِي عنه أظلم قلبه لفقدان الورع، وأعلى الورع ترك الحلال مخافة الحرام، كترك ابن أدْهَم أجرته لشكه في وفاء عمله، وطوى على جوع شديد، قاله القَسْطَلّاني.

وقوله: إن هذا هو أعلى الورع مخالف لما فسر به العلماء الورِع والأوْرع، فإنهم قالوا: الورع هو الذي يتقي الشبهات خوف الوقوع في المحرمات، والأورع هو الذي يتقي بعض المباحات خوف الوقوع في الشبهات، ويمكن أن يكون فعل ابن أدهم من هذا المعنى الأخير. وقد قال البخاري في كتاب البيوع في باب تفسير الشبهات: قال حسان بن أبي سنان: ما رأيت شيئًا أهون من الورع، دع ما يَريبُك إلى ما لا يريبُك. ومن الورع ما حكاه العَيْني عن أبي حنيفة وسُفيان الثوري أنهما قالا: لأنْ أخِرَّ من السماء أهونُ عليَّ من أن أُفتي بتحريمِ قليل النبيذِ، وما شربته قط، ولا أشربه. فعملا بالترجيح في الفتيا، وتورعا عنه في أنفسهما. وقال بعض المحققين: من حكم الحكيم أن يوسع على المسلمين في الأحكام، ويضيق على نفسه، يعني به هذا المعنى. قلت: أدركت والدي رحمه الله تعالى جاريًا على هذا السَّنن في عباداته، آخذًا على نفسه بالتضييق، لا يترخص في شيء منها، بل يعمل دائمًا بالأشق الأحْمَز، ويفتي الناس دائمًا بما فيه لهم رخصة، مخافة أن يتكاسلوا عن العمل بالأشق، فيتركوا العمل رأسًا. ثم قال: ومنشأ هذا الورع الالتفات إلى إمكان اعتبار الشرع ذلك المرجوح، وهذا الالتفات ينشأ من القول بان المُصيب واحد، وهو مشهور مذهب مالك، ومنه ثار القول في مذهبه بمراعاة الخلاف، وكذلك كان الشافعي رحمه الله تعالى أيضًا يراعي الخلاف، حيث لا تفوت به سنة في مذهبهم. قلت: هذا القيد شرط في مراعاته عندنا معاشر المالكية، ويشترط عندنا أن لا تؤدي مراعاته إلى ارتكاب مكروه.

ومن الورع ما في القَسْطَلّاني من أن أخت بشر الحافي قالت لأحمد ابن حنبل: إنا نغزِل على سطوحنا، فيمر بنا مشاعل الظاهرية، ويقع الشعاع علينا، أفيجوز لنا الغزل في شعاعها. قال: من أنت عافاك الله؟ قالت: أخت بشر الحافي، فبكى، وقال: من بيتكم يخرج الورع الصادق، لا تغزِلي في شعاعها. قال: ومكث مالك بن دينار بالبصرة أربعين سنة لم يأكل من ثمارها حتى مات. قال: وأقامت السيدة بديعة الإيجيّة من أهل عصرنا بمكة أكثر من ثلاثين سنة، لم تأكل من اللحوم والثمار وغيرها المجلوبة من بجيْلة، لما قيل: إنهم لا يورِّثون البنات، وامتنع أبوها نور الدين من تناول ثمر المدينة لما ذُكر أنهم لا يزكون. قلت: لعل امتناع مالك بن دينار السابق من أكل تمر البصرة من أجل هذا المعنى، وبالله تعالى التوفيق. وقوله: "ألا وإنَّ لكلِّ ملكٍ حمىً" ألا بفتح الهمزة وتخفيف اللام حرف تنبيه تدل على تحقق ما بعدها، وتدخل على الجملتين، نحو: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ}، {أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ} وإفادتها التحقيق من أجل تركيبها من الهمزة ولا، وهمزة الاستفهام إذا دخلت على النفي أفادت التحقيق، نحو: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى}. قال الزّمخشريّ: ولكونها بهذا المنصب من التحقيق لا تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بنحو ما يتلقى به القسم، نحو: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ}. والواو في "وإن لكل" عطف علي مقدر، أي: ألا إن الأمر كما تقدم، وإن لكل ملك حمى. قوله: "ألا إنَّ حِمَى اللهِ محارمُه" وفي رواية أبي ذر: "وإنَّ" بالواو، وفي رواية غير المستملي زيادة: "في أرضه" والمراد بالمحارم فعل المنهي المحرم، أو ترك المأمور به الواجب، ولذا وقع في رواية أبي فَرْوة التعبير بالمعاصي بدل المحارم، وهذا من باب التمثيل

والتشبيه للشاهد بالغائب، فشبه المكلف بالراعي، والنفس البهيمية بالأنعام، والمشبهات بما حول الحمى، والمحارم بالحمى، وتناول المشبهات بالرتع حول الحمى، ووجه التشبيه حصول العقاب بعدم الاحتراز عن ذلك، كما أن الراعي إذا جره رعيه حول الحمى إلى وقوعه في الحمى استحق العقاب بسبب ذلك، فكذلك من أكثر من الشبهات، وتعرض لمقدماتها وقع في الحرام، فاستحق العقاب بسبب ذلك. ووجه ذكر الواو وتركها هنا، وذكرها في قوله الآتي "ألا وإن في الجسد" هو أن وجه حذفها هنا كمال الانقطاع بين حمى الملوك وحمى الله تعالى، لبعد المناسبة بينهما، وأما وجه ذكرها فبالنظر إلى وجود التناسب بين الجملتين، من حيث ذكر الحمى فيهما، فكان بينهما كمال الاتحاد، وأما وجه ذكرها في الأخير فبالنظر إلى وجود المناسبة بين الجملتين، نظرًا إلى أن الأصل في الاتقاء والوقوع هو ما كان بالقلب، لأنه عماد الأمر وملاكه، وبه قوامه ونظامه، وعليه تنبني فروعه، وبه تتم أصوله. وقوله: "ألا وإنَّ في الجسد مضغة، ... إلخ" هذه الزيادة لم تذكر إلا في رواية الشعبي، ولا هي في أكثر الروايات عنه، بل تفرد بها زكرياء المذكور عنه في "الصحيحين"، وتابعه مجاهد عند أحمد، ومغيرة وغيره عند الطبراني، وعبر في بعض رواياته عن الصلاح والفساد بالصحة والسقم. وقوله: "مضغة" أي: قدر ما يُمْضَغُ، وعبر بها عن مقدار القلب في الرؤية، وسُمي القلبُ قلبًا لتقلبه في الأمور، وكان صلى الله تعالى عليه وسلم كثيرًا ما يقول: "لا ومُقَلِّب القلوب"، وكان يقول في دعائه: "يا مقلبَ القلوب ثبتْ قلبي على دينك". وقال القائل: ما سُمّيَ القلبُ إلّا من تقلُّبِهِ ... فاحذَرْ على القلبِ من قلبٍ وتحويلٍ وقيل: لأنه خالص ما في البدن، وخالص كل شيء قلبه. ويقال: إنه أول

نقطة تكون من النطفة. وقيل: سمي بذلك لأنه وضع في الجسد مقلوبًا. وقوله: "إذا صلَحت وإذا فسدَت" بفتح عينهما، وتضم في المضارعٍ، وبضم عين صلح في الماضي أيضًا، والتعبير بإذا لتحقق الوقوع غالبًا، وقد تأتي بمعنى إن كما هنا، وخص القلب بذلك لأنه أمير البدن، ويصلاح الأمير تصلح الرعية، وبفساده تفسد، ولذا ورد في الحديث الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام رأى رجلًا يكثر الحركة في صلاته، فقال: "لو خَشَعَ قلب هذا لخشعت جوارحه" ومنه تظهر القُوى، وتنبعث الأرواح، وينشأ الإدراك، ويبتدىء التعقل. واستدل به على أن العقل في القلب، وهو قول الجمهور، ويدل عليه قوله تعالى: {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} قال المفسرون: أي: عقل، وعُبِّر عنه بالقلب لأنه محل استقراره. وقال أبو حنيفة: في الدماغ، ووافقته الأطباء محتجين بأنه إذا فسد الدماغ فسد العقل، ورد هذا بان الدماغ آلة عندهم، وفساد الألة يقتضي فساده. وفي الحديث تنبيه على تعظيم قدر القلب، والحث على صلاحه، والإشارة إلى أن لطيب الكسب أثرًا فيه، والمراد المعنى المتعلق به من الفهم الذي ركبه الله فيه، وقد عظم العلماء موقع هذا الحديث وعدوه من الأحاديث الأربعة التي عليها مدار الإِسلام المنظومة في قول القائل: عُمدةُ الدين عندَنا كلماتٌ ... مسنداتٌ مِن قولِ خير البريّهْ اتَّقِ المُشْبهاَتِ وازْهَدْ ودَعْ ما ... ليسَ يعنيكَ واعمَلَّنْ بنيّه وقد تكلمنا على هذا في أول الكلام على حديث: "إنما الأعمال بالنيات" وذكرنا هناك أن أبا داود أبدل حديث الزهد بحديث: "لا يكون المؤمن مؤمنًا حتى يرضى لأخيه ما يرضى لنفسه". وقال في "الفتح" هنا: إنه أبدله بحديث: "ما نهيتكم عنه

رجاله أربعة

فاجتنبوه ... الحديث"، وأشار ابن العربي إلى أنه يمكن أن يُنتزع منه وحده جميع الأحكام. قال القُرْطُبي: لأنه اشتمل على التفصيل بين الحلال وغيره، وعلى تعلق جميع الأعمال بالقلب، فمن هُنا يمكن أن يرد جميع الأحكام إليه، والله الكريم المستعان. رجاله أربعة: الأول: أبو نُعيم الفضل بن دُكَيْن ودُكَيْن لقب واسمه عمرو بن حمّاد ابن زهير بن درهم التَّيْمي مولى آل طلحة المُلائي الكُوفي الأحول. قال حنبل بن إسحاق: قال أبو نُعيم: كتبت عن نيف ومئة شيخ ممن كتب عنه سفيان. وقال أيضًا: شاركت سفيان الثوري في ثلاثة عشر ومئة شيخ. وقال أيضًا: قال لي سُفيان مرة، وسألته عن شيء: أنت لا تبصر النجوم بالنهار، فقلت: وأنت لا تبصرها كلّها بالليل، فضحك. وقال صالح بن أحمد: قلت لأبي: وكيع، وعبد الرحمن بن مَهْدي، ويزيد بن هارون، أين يقع أبو نعيم من هؤلاء؟ قال: على النصف، إلا أنه كيس يتحرى الصدق. قلت: فأبو نعيم أثبت أو وكيع؟ قال: أبو نُعيم أقل خطأً. قلت: فأيّما أحب إليك أبو نعيم أو ابن مهدي؟ قال: ما فيهما إلا ثبت، إلا أن عبد الرحمن كان له فهم. وقال أحمد أيضًا: أبو نعيم بالشيوخ وأنسابهم وبالرجال، ووكيع أفقه. وقال يعقوب بن شَيْبة: أبو نعيم ثقة ثبت صدوق، سمعت أحمد يقول: أبو نُعيم يزاحم به ابن عُيينة، فقال رجل: وأي شيء عند أبي نُعيم من الحديث، ووكيع أكثر روايةً. فقال: هو على قلة روايته أثبت من وكيع. وقال الفضل بن زياد: قلت لأحمد: يجري عندك ابن فُضَيْل مجرى عبيد الله بن موسى؟ قال: لا، كان ابن فُضَيْل أثبت. قلت: وأبو نُعَيم يجري مجراهما؟ قال: لا، أبو نُعَيْم يقظانُ في الحديث، وقام في الأمر، يعني: الامتحان.

وقال أحمد أيضًا: إنما رفع الله عفان وأبا نعيم بالصدق حتى نوه بذكرهما. وقال مُهَنأً: سألت أحمد عن عفان وأبي نُعيم، فقال: هما العقدة. وفي رواية: ذهبا محمودَيْن. وقال عبد الصمد بن سُليمان البَلْخِيّ: سمعت أحمد يقول: ما رأيت أحفظ من وكيع، وكفاك بعبد الرحمن إتقانًا، وما رأيت أشد ثبتًا في الرجال من يَحْيى، وأبو نُعَيْم أقل الأربعة خطأً. قلت: يا أبا عبد الله يعطي فيأخذ. فقال: أبو نُعيم صدوق ثقة موضع للحجة في الحديث. وقال الميموني عن أحمد: ثقة، كان يقظان في الحديث، عارفًا به، ثم قام في أمر الامتحان ما لم يقم غيره، عافاه الله وأثنى عليه. وقال أيضًا: إذا مات أبو نُعَيْم صار كتابه إمامًا إذا اختلف الناس في شيء فزعوا إليه. وقال أيضًا: كان يُعرف في حديثه الصدق. وسُئِلَ ابن معين: أي أصحاب الثوري أثبت؟ قال: خمسة يحيى، وعبد الرحمن، ووكيع، وابن المبارك، وأبو نُعَيْم. وقال أيضًا: ما رأيت أثبت من رجلين: أبي نُعيم، وعفان. وقال أحمد بن صالح: ما رأيت أصدق من أبي نُعيم. وقيل لابن المديني: من أوثق أصحاب الثوري؟ قال يحيى، وعبد الرحمن، ووكيع، وأبو نعيم، وأبو نعيم من الثقات. وقال ابن عمّار: أبو نعيم متفنن حافظ، إذا روى الحديث عن الثقات فحديثه أرجح ما يكون. وقال عثمان بن أبي شَيْبة: حدثنا الأسد، فقيل له: ومن الأسد؟ قال: الفضل بن دُكَيْن. وقال الآجُرّي: قلت لأبي داود: كان أبو نُعيم حافظًا؟ قال: جدًا. وقال العِجْليّ: أبو نُعيم الأحول كوفي ثبت في الحديث. وقال يعقوب بن سفيان: أجمع أصحابُنا على أن أبا نعيم كان غاية في الإِتقان. وسئل أبو زُرعة عن أبي نُعيم وقَبِيصة، فقال: أبو نعيم أتقن الرجلين. وقال أبو حاتم: ثقة، كان يحفظ حديث الثوري ومسعر حفظًا، كان يحزر حديث الثوري ثلاثة آلاف وخمس مئة حديث، وحديث مسعر نحو

خمس مئة حديث، كان يأتي بحديث الثوري على لفظ واحد لا يغيره، وكان لا يلقن، وكان حافظًا متقنًا. وقال أبو حاتم أيضًا: لم أر من المحدثين من يحفظ يأتي بالحديث على لفظ واحد لا يغيره سوى قَبيصة وأبي نعيم في حديث الثوري، ويحيى الحِمّاني في حديث شَريك، وعليّ بن الجَعْد في حديثه. وقال أحمد بن عبد الله الحداد: سمعت أبا نُعيم يقول: نظر ابن المبارك في كتبي، فقال: ما رأيت أصح منها. وقال أحمد بن منصور الرَّمادِيّ: خرجت مع أحمد ويحيى إلى عبد الرزاق أخدمهما، فلما عدنا إلى الكوفة قال يحيى لأحمد: أريد أن أختبر أبا نُعيم. قال له أحمد: لا تزيد الرجل إلا ثقة. فقال يحيى: لابد لي، فأخذ ورقة، وكتب فيها ثلاثين حديثًا من حديث أبي نُعيم، وجعل على رأس كل عشرة منها حديثًا ليس من حديثه، ثم جاؤوا إلى أبي نُعيم، فخرج وجلس على دكان، فأخرج يحيى الطبق، فقرأ عليه عشرة أحاديث، ثم قرأ الحادي عشر، فقال أبو نعيم: ليس من حديثي اضرب عليه، ثم قرأ العشر الثاني وأبو نعيم ساكت، فقرأ الحديث الثاني، فقال: ليس من حديثي اضرب عليه، ثم قرأ العشر الثالث، وقرأ الحديث الثالث، فانقلبت عيناه، وأقبل على يحيى، فقال: أما هذا -وذراع أحمد في يده- فأورع من أن يعمل هذا، وأما هذا يريدني فأقل من أن يعمل هذا، ولكن هذا من فعلك يا فاعل، ثم أخرج رجله، فرفسه، فرمى به، وقام، ودخل داره، فقال أحمد ليحى: ألم أقل لك إنه ثبت؟ قال: والله لرفسته أحب إلى من سفرتي. وقال حنبل بن إسحاق: سمعت أبا عبد الله يقول: شيخان كان الناس يتكلمون فيهما ويذكرونهما، وكنا نلقى من الناس في أمرهما ما الله به عليم، قاما لله بأمر لم يقم به أحد أو كبير أحد مثل ما قاما به، عفان وأبو نُعيم، يعني بالكلام فيهما، لأنهما كانا يأخذان الأجرة على التحديث،

وبقيامهما بعدم الإجابة في المحنة. وقال محمَّد بن إسحاق الثَّقَفيّ: سمعت الكُدَيْميّ يقول: لما أدخل أبو نُعيم على الوالي ليمتحنه، وثم أحمد بن يونس وأبو غسان وغيرهما، فأول من امتحن فلان، فأجاب، ثم عطف على أبي نُعَيْم، فقال: قد أجاب هذا، ما تقول؟ فقال: والله ما زلت أتَّهم جده بالزندقة، ولقد أدركت الكوفة وبها سبع مئة شيخ، كلهم يقولون: إن القرآن كلام الله، وعُنقي أهون علي من زرّي هذا، وفي رواية: إنه أخذ زره فقطعه، ثم قال: رأسي أهون علي من زِرّي هذا. فقام إليه أحمد بنِ يونس، فقبل رأسه، وكان بينهما شحناء، وقال: جزاك الله من شيخ خيرًا. وقال علي بن خَشْرَم: سمعت أبا نُعيم يقول: يلومونني على أخذ الأجر وفي بيتي ثلاثة عشر، وما في بيتي رغيف. وقال ابن سعد: كان ثقة مأمونًا كثير الحديث حجة. وقال أحمد بن صالح: ما رأيت محدثًا أصدق من أبي نُعيم، وكان يدلس أحاديث مناكير. وقال النسائي: أبو نُعيم ثقة مأمون. وقال أبو أحمد الفَرّاء: سمعتهم يقولون بالكوفة: قال أمير المؤمنين، وإنما يعنون الفضل بن دُكَيْن، كان يُتَكَلّم فيه بالتشيع. وقال يوسف بن حسان: قال أبو نُعيم: ما كتَبَتْ عليَّ الحفظة أني سببت معاوية. وقال وكيع: إذا وافقني هذا الأحول ما باليت من خالفني. وقال علي بن المدينىّ: كان أبو نُعيم عالمًا بأنساب العرب، أعلم بذلك من يحيى بن سَعيد القطّان. وقال الخطيب: كان أبو نُعيم مزّاحًا ذا دعابة، مع تدينه وثقته وأمانته. وقال ابن مَعين: كان مزّاحا، ذكر له حديث عن زكريّاء بن عدي، فقال: ما له وللحديث، ذاك بالتوراة أعلم، يعني: أن أباه كان يهوديًّا فأسلم. وقال له رجل خُراسانىّ: يا أبا نُعيم: إني أريد الخروج، فأخبرني باسمك، فقال: دعاك فمضى. قال: ورأيته مرة ضرب بيده على الأرض، فقال: أنا أبو العجائز. روى عن الأعمش، وسَلَمة بن وَرْدان، ومالك بن أنس، ومالك بن مِغْول، وهشام الدَّسْتُوائي، وهمّام بن يحيى، وابن أبي ذئب، وزكريّاء بن أبي زائدة، وشَيْبان النحوي، وخلق كثير.

وروى عنه: البخاري فأكثر، وروى هو والباقون عنه بواسطة، وروى عنه إسحاق بن راهُويه، وأبو سعيد الأشَجّ، ويحيى بن مَعين، وأحمد بن حَنْبل، وعلي بن خَشْرم، وأبو حاتم، وأبو زُرعة، وعثمان بن أبي شَيْبة، وخلق كثير. قال عبدوس بن كامل: كنا عند أبي نُعيم في ربيع الأول سنة سبع عشرة، فذكر رؤيا رآها، فأولها أنه يعيش بعد ذلك يومًا ونصفًا، أو شهرين ونصفًا، أو سنتين ونصفًا، فعاش بعد الرؤيا ثلاثين شهرًا، ومات لانسلاخ شعبان سنة تسع عشرة ومئتين، وكان مولده سنة ثلاثين ومئة. قال إبراهيم الحربي: كان بين وكيع وأبي نُعيم سنة، وفات أبو نعيم في تلك السنة الخلق. وليس في الستة الفَضْل بن دُكين وأما الفضل فكثير. والمُلائيّ في نسبه نسبة إلى المُلاء -بضم الميم والمد- جمع مُلاءة -بضمها أيضًا- كان يبيع المُلاء، فنسب إليها، والمُلاءة الملحفة. الثاني: زكريّاء بن أبي زائدة خالد بن ميمون بن فيروز أبو يحيى الهَمْداني الوادِعيّ الكوفي أخو عمر بن أبي زائدة مولى عمرو بن عبد الله الوَادِعي، ويقال: مولى محمد بن المُنْتَشِر. قال القطان: ليس به بأس، وليس عندي مثل إسماعيل بن أبي خالد. وقال صالح بن أحمد عن أبيه: إذا اختلف زكرياء وإسرائيل، فإن زكرياء أحب إلى في أبي إسحاق، ثم قال: ما أقربهما، وحديثهما عن أبي إسحاق ليّن، سمعا منه بأخرة. وقال عبد الله عن أبيه: حلو الحديث، ما أقربه من إسماعيل بن أبي خالد. وقال ابن مَعين: صالح. وقال مرة: زكرياء أحب إلى في كل شيء، وابن أبي لَيْلى ضعيف. وقال العِجْلي: كان ثقة، إلا أن سماعه من أبي إسحاق بأخَرة، ويقال: إن شَريكًا أقدم سماعًا منه. وقال أبو زُرعة: صوَيْلح يدلس كثيرًا عن الشعبي. وقال أبو حاتم: لين الحديث، كان يدلس، وإسرائيل أحب إلى منه، ويقال: إن

المسائل التي كان يرويها عن الشعبي لم يسمعها منه، إنما أخذها عن أبي حَرِيز. وقال ابن سَعْد: ثقة كثير الحديث. وقال ابن قانِع: كان قاضيًا بالكوفة. وقال أبو داود: زكرياء أرفع من أجْلح مئة درجة. وقال: زكرياء ثقة، إلا أنه يدلس. قال يحيى بن زكرياء: لو شئت سميت لك من بين أبي وبين الشعبي. وقال النسائي: ثقة. وقال يعقوب بن سفيان، وأبو بكر البزّار: ثقة. روى عن: أبي إسحاق السَّبيعيّ، والأعمش، وسِماك بن حَرْب، وعبد الملك بن عُمير، وخالد بن سَلَمة، وغيرهم. وروى عنه: ابنه يَحْيى، والثَّوريّ، وشُعبة، وابن المُبارك، والقطّان، ووكيع، وأبو أُسامة، وأبو نُعيم، وغيرهم. مات سنة سبع أو تسع وأربعين ومئة. وليس في الستة زكرياء بن أبي زائدة سواه، وأما زكرياء فثلاثة عشر. والوادِعِيّ في نسبه مر الكلام عليه في السابع والعشرين من كتاب الإيمان. ومر الكلام على الهَمْداني في الخامس من بدء الوحي. الثالث: الشَّعْبِيّ، وقد مر في الثالث من كتاب الإيمان. الرابع: النعمان بن بَشير -مكبرًا- ابن سعد بن ثعلبة بن خَلّاس -بفتح الخاء وتشديد اللام- أبو عبد الله الأنصارىِ الخَزْرَجىّ، وأمه عَمْرة بنت رَواحة اخت عبد الله بن رَواحة، له ولأبيه ولأمه صحبة، وهو أول مولود ولد للأنصار بعد الهجرة. ولد قبل وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بثمان سنين، وقيل: بست، والأول: أصح، والأكثرون يقولون: إنه ولد هو وعبد الله بن الزُّبير عام اثنين من الهجرة في ربيع الآخر على رأس أربعة عشر شهرًا من مقدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

وروى الطبَّراني عن أبي الأسود قال: ذكر النعمان عند ابن الزبير عبد الله، فقال: هو أسن مني بستة أشهر، قال أبو الأسود: ولد عبد الله ابن الزبير على رأس عشرين شهرًا، وولد النعمان على رأس أربعة عشر شهرًا من مهاجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. روى عبد الملك بن عُمير، قال: أتى بشيرُ بن سعد بالنعمان إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله: ادع الله له، فقال: "أما تَرْضى أن يبلغ ما بلغتَ، ثم يأتي الشام، فيقتله منافق من أهل الشام". وروى اليَحْصِبِيّ عن النعمان بن بشير أنه قال: أُهدي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنب من الطائف، فقال: "خذ هذا العنقود، فأبلغه لأمك" قال: فأكلته قبل أن أبلغه إياها، فلما كان بعد ليال، قال: "ما فعل العنقودُ، هل بلغته؟ " قلت: لا، فسماني غدر. وفي حديث بقية: فأخذ بأُذني، وقال لي: "يا غدر"، وفي حديثه أيضًا أنه أعطاني قِطْفَيْن من عنب، فقال لي: "كل هذا، وبلِّغ هذا إلى أمك"، فأكلتهما، ثم سأل أمه، وذكر الحديث بمعنى ما ذكر. كان جوادًا كريمًا شاعرًا، يُروى أن أعشى هَمْدان تعرض ليزيد بن معاوية، فحرمه، فمر بالنعمان وهو على حمص، فقال: ما عندي ما أُعطيك، ولكن معي عشرون ألفًا من أهل اليمن، فإن شئت سألتهم لك؟ فقال: قد شئت. فصعد النعمان المنبر، واجتمع إليه أصحابه، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم ذكر أعشى هَمْدان، وقال: إن أخاكم أعشى هَمْدان قد أصابته حاجة، ونزلت به جائحة، وقد عَمَدَ إليكم، فماذا تَرَوْن؟ قالوا: دينار دينار، فقال: لا، ولكن بين اثنين دينار. فقالوا: قد رضينا. فقال: إن شئتُم عَجَّلْتُها له من بيت المال من عطائكم، وقاصصتكم إذا خرجت عطاياكم. قالوا: نعم، فأعطاه النعمان عشرة آلاف دينار من عطياتهم، فقبضها الأعشى وأنشأ يقول: ولَمْ أرَ للحاجاتِ عندَ التماسها ... كنعمانَ نعمانِ النّدى ابنِ بَشيرِ

إذا قالَ أوْفى بالمقالِ ولَمْ يكُنْ ... كمدلٍ إلى الأقوام حبلَ الغرورِ فلولا أخُو الأنصارِ كنتُ كنازلٍ ... ثَوى حُفرةٍ لَمْ يَنْقَلِبْ بنَقيرِ متى أكفُرِ النعمانَ لمْ أكُ شاكرًا ... ولا خيرَ فيمَنْ لمْ يكُن بِشَكورِ وهو القائل: وإنّي لأعطي المالَ مَن ليس سائلًا ... وأدركُ للمولى المعاندِ بالظلمِ وإنّي متى ما يَلْقَني صارَ مالَه ... فما بينَنا عندَ الشدائدِ من صرْمِ فلا تعددِ المولى شريكَكَ في الغِنى ... ولكنّما المَوْلى شريكُكَ في العُدْمِ إذا متَّ ذُو القُربى إليكَ برحمهِ ... وغشَّكَ واستَغْنى فليسَ بذي رحمِ ولكنَّ ذا القربى الذي يستَخِفُّهُ ... أذاكَ ومَنْ يرمي العدوَّ الذي ترمي قال سِماك بن حرب: كان قاضي دمشق بعد فَضالة بن عُبيد، واستعمله معاوية على الكوفة، وكان من أخطب من سمعت. وقال الهَيْثم: نقله معاوية من إمرة الكوفة إلى إمرة حمص، وضم الكوفة إلى عُبيد الله ابن زياد، وكان بالشام لما مات معاوية. ولما استخلف يزيد ومات عن قرب، دعا النعمان إلى ابن الزبير ممالئًا للضّحاك بن قَيْس، فلما بلغه وقعة راهط، وهزيمة الزُّبَيْرِيّة وقتل الضحاك فيها، خرج عن حمص هاربًا فسار ليلة متحيرًا لا يدري أَين يأخذ، فأتبعه خالد بن عدي الكِلابي فيمن طلبه معه من أهل حمص، فلحقه وقتله واحتزَّ رأسه، وبعث به إلى مروان بن الحكم، فقالت امرأته الكلبية: ألقوا رأسه في حجري فأنا أحق به، وكانت قبله عند معاوية بن أبي سفيان، فقال لامرأته ميسون أم يزيد: اذهبي فانظري إليها، فأتتها، فنظرت ثم رجعت، فقالت: ما رأيت مثلها. ثم قالت: لقد رأيت خالًا تحت سُرّتها، ليوضعن رأس زوجها في حجرها، ثم طلقها، فتزوجها حبيب ابن مَسْلمة، ثم طلقها فتزوجها النعمان بن بشير، فلما قُتل وضعوا رأسه في حجرها. رُوي له مئة حديث وأربعة عشر حديثًا، روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وروى عن عمر، وعائشة، وخاله عبد الله بن رَواحة.

لطائف إسناده

وروى عنه: ابنه محمد، ومولاه حبيب بن سالم، والشّعْبيّ، وعبيد الله ابن عُتبه بن مسعود، وعُروة بن الزبير، وحُميد بن عبد الرحمن بن عَوْف، وأبو قِلابة الجُرْمِيّ، وإسحاق السَّبيعيّ، وآخرون. مات سنة خمس أو أربع وستين، قيل: إنه قتل بقرية من قرى حمص يقال لها: بيران. وليس في الستة ولا في الصحابة من اسمه النعمان بن بشير، فهو فرد باعتبار الأب. وأما النعمان فجماعة كثيرة، ففي الستة اثنا عشر، وفي الصحابة نحو أربعين. وبَشير في الرواة كله مكبر -بفتح الباء الموحدة- إلا اثنين فبِضَمِّ الباء مصغران، وهما بُشَيْر بن كعب العَدَويّ حديثه في "الصحيحين" دون "الموطأ"، وبُشَيْر بن يسار حديثه في "الصحيحين" و"الموطأ". وأما مُقاتل بن بُشَيْر فهو وإن كان مثلهما فلم يخرج له أصحاب هذه الكتب الثلاثة، وإن زعم صاحب "الكمال" أن مسلمًا أخرج له فهو وهم من عبد الغني المقدسي. وإلا ثالثًا وهو يُسَيْر بن عمر على قول الأكثر، أو ابن جابر، فهو بضم المثناه التحتية وفتح السين المهملة، ويقال فيه: أُسَيْر بالهمزة. وإلا رابعًا وهو قطن ابن نُسَيْر فبضم النون، وفتح السين المهملة، وحديثه في مسلم. قال العراقي في "ألفيته": وفيهِ خلفٌ وبُشَيْرًا أعجمِ ... في ابن يسارٍ وابن كعبٍ واضمُمِ يُسَيْرَ بن عمرو أو أسيرْ ... والنَونُ في أبي قَطَن نُسَيْرْ لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة، ورجاله كلهم كوفيون ما عدا النعمان ابن بشير، وقد دخل الكوفة.

باب أداء الخمس من الإيمان

ومنها أنه وقع هنا للبخاري رباعي الإسناد، ووقع له من غير جهة أبي نُعيم خماسيًّا، ووقع لمسلم في أعلى طرقه خماسيًّا. وفيه التصريح بسماع النعمان من النبي -صلى الله عليه وسلم-، ففيه رد على من زعم أن النعمان لم يسمع منه عليه الصلاة والسلام. وأما كون زكرياء من أهل التدليس، وقد عنعن هنا، فالجواب عنه هو أن في "فوائد" أبي الهيثم تصريحه بالسماع من الشعبي، فيحصُل الأمن من تدليسه، مع أنه قد مر كثيرًا أن ما في "الصحيحين" من رواية المدلسين محمول على اتصال السماع. وهذا الحديث أخرجه البخاري هنا، وأخرجه في البيوع عن علي بن عبد الله وغيره، ومسلم في البيوع عن محمد بن عبد الله بن نُمير وغيره، وأبو داود في البيوع عن إبراهيم بن موسى، والترمذي فيها أيضًا عن هَنّاد، وقال: حسن صحيح، والنسائي فيها أيضًا عن محمَّد بن عبد الأعلى، وفي الأشربة عن حُميد بن مَسْعَدة، وابن ماجه في الفتن عن عمرو بن رافع. ثم قال المصنف: باب أداء الخمس من الإِيمان باب: خبر مبتدأ محذوف، أي: هذا باب، وهو مضاف إلى ما بعده، ويمكن تنوينه وقطعه عن الإضافة. والخُمُسُ بضم الخاء المعجمة، وهو المراد بقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} وقيل: إنه روي هنا بفتح الخاء، والمراد قواعد الإِسلام الخمس المذكورة في حديث "بني الإِسلام على خمس"، وفيه بعد؛ لأن الحج لم يُذكر هنا، ولأن غيره من القواعد قد تقدم، ولم يذكر هنا إلا خمس الغنيمة، فأفرده بالذكر. وقوله: "من الإيمان" أي: من شعبه، ووجه كونه من الإيمان هو أنهم

سألوا عن الأعمال التي يدخلون بها الجنة كما يأتي، وأُجيبوا بأشياء منها أداء الخمس، والأعمال التي تُدخل الجنة هي أعمال الإيمان، فيكون أداء الخمس من الإيمان بهذا التقرير. قلت: قد واعد في "الفتح" عند ترجمة باب اتباع الجنائز من الإيمان أنه سيذكر المعنى الذي أخر له البخاري ترجمة أداء الخمس من الإيمان عن صواحبها التي هي في معناها، وتبعته في ذلك الوعد، ولما جاء هنا لم يف بوعده، فقلت من نفسي: لعل النكتة في تأخيرها عما هو بمعناها هو ما وقع من الاختلاف الآتي فيِ قوله: "وأن تعطوا من المغنمِ الخمسَ" هل هو داخل في الأربع التي فَسَّر بها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الإيمان، أو غير داخل فيها، فلأجل هذا المعنى لم يتابعها مع ما هو من جنسها لعدم تحقق دخول أداء الخمس في الإيمان، وإن كنا قد قدمنا وجه دخوله فيه.

الحديث السادس والاربعون

الحديث السادس والاربعون حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِى جَمْرَةَ قَالَ كُنْتُ أَقْعُدُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ، يُجْلِسُنِى عَلَى سَرِيرِهِ فَقَالَ أَقِمْ عِنْدِى حَتَّى أَجْعَلَ لَكَ سَهْمًا مِنْ مَالِى، فَأَقَمْتُ مَعَهُ شَهْرَيْنِ، ثُمَّ قَالَ إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا أَتَوُا النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنِ الْقَوْمُ أَوْ مَنِ الْوَفْدُ؟. قَالُوا: رَبِيعَةُ. قَالَ: "مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ -أَوْ بِالْوَفْدِ- غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ نَدَامَى". فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لاَ نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيَكَ إِلاَّ فِى شَهْرِ الْحَرَامِ، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هَذَا الْحَىُّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ، فَمُرْنَا بِأَمْرٍ فَصْلٍ نُخْبِرْ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا وَنَدْخُلْ بِهِ الْجَنَّةَ. وَسَأَلُوهُ عَنِ الأَشْرِبَةِ. فَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ، وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ، أَمَرَهُمْ بِالإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ. قَالَ: "أَتَدْرُونَ مَا الإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ". قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصِيَامُ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُعْطُوا مِنَ الْمَغْنَمِ الْخُمُسَ". وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ عَنِ الْحَنْتَمِ وَالدُّبَّاءِ وَالنَّقِيرِ وَالْمُزَفَّتِ. وَرُبَّمَا قَالَ الْمُقَيَّرِ. وَقَالَ: "احْفَظُوهُنَّ وَأَخْبِرُوا بِهِنَّ مَنْ وَرَاءَكُمْ". قوله: "كنت أقعدُ مع ابن عباس" بلفظ المضارع، حكاية عن الحال الماضية، استحضارًا لتلك الصورة للحاضرين. قوله: "مع ابن عباس" رضي الله تعالى عنهما، أي: عنده في زمن ولايته البصرة من قبل علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه. وقوله: "يُجلِسُني" بضم أوله من غير فاء من أجلس، وفي رواية أبوي ذرٍّ والوقت: "فيُجلسُني" بالفاء، أي: يرفعني على سريره بعد أن أقعد، فهو عطف على أقعد بالفاء، لأن الجلوس على السرير قد يكون بعد القعود وغيره، هكذا قال القسطلّاني تبعًا لشيخه الشيخ زكرياء، والظاهر

عندي أن هذا التقدير غير محتاج له، وأن قوله: "يجلسني" جملة تفسيرية لقوله: "أقعد"، ولا يمنع ذلك وجود الفاء في بعض الروايات، لأن الفاء تكون تفسيرية. والسرير جمعه أسرَّة وسُرر -بضمتين، وحكي فتح الراء- سمي بذلك لأنه مجلس السرور. وقد بين المصنف في العلم السبب في إكرام ابن عباس له، ولفظه: "كنت أُترجم بين ابن عبّاس وبين الناس". قال ابن الصلاح: أصل الترجمة التعبير بلغة عن لغة، وهو عندي هُنا أعم من ذلك، وإنه كان يبلغ كلام ابن عباس إلى من خفى عليه، ويبلغه كلامهم، إما لزحام، أو لقصور فهم. قال في "الفتح": الثاني أظهر، لأنه كان جالسًا معه على سريره، فلا فرق في الزحام بينهما، إلا أن يحمل على أن ابن عباس كان في صدر السرير، وكان أبو جَمْرة في طرفه الذي يلي مَن يترجم عنهم، وقيل: إن أبا جَمْرة كان يعرف الفارسية، فكان يترجم لابن عباس بها. قال القُرطبي: فيه دليل على أن ابن عباس كان يكتفي في الترجمة بواحد، وقد بوب عليه البخاري في أواخر كتاب الأحكام. وقوله: "فقال: أقِمْ عندي" أي: لتساعدني بتبليغ كلامي إلى من خفي عليه من السائلين، أو بالترجمة عن الأعجمي، لما مر أنه كان يعرف الفارسية ويترجم بها لابن عباس. وقوله: "حتى أجعلَ لك سهمًا من مالي" أي: نصيبًا، واستنبط منه ابن التين جواز أخذ الأجرة على التعليم، لقوله: "حتى أجعلَ لك سهمًا من مالي". قال في "الفتح": وفيه نظر، لاحتمال أن يكون إعطاؤه ذلك كان بسبب الرؤيا التي رآها في العمرة قبل الحج كما سيأتي عند المصنف

صريحًا في الحج، فإن في الرواية المذكورة في الحج: "ثم قال لي: أقم عندي، وأجعل لك سهمًا من مالي، قال شُعبة: فقلت: ولم؟ فقال: للرؤيا التي رأيت" فهذا صريح في أن الإعطاء كان إكرامًا له على الرؤيا التي رآها، وهي أن أبا جمرة كما في هذا الحديث قال: "تمتعت، فنهاني ناس، فسألت ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فأمرني، فرأيت في المنام كأن رجلًا يقول لي: حج مبرور. وعمرة متقبلة، فأخبرت ابن عباس، فقال: سنة أبي القاسم" ويؤخذ من هذا الحديث إكرام من أخبر المرء بما يسره، وفرح العالم بموافقته للحق، والاستئناس بالرؤيا لموافقة الدليل الشرعي، وعرض الرؤيا على العالم، والتكبير عند المسرة، والعمل بالأدلة الظاهرة، والتنبيه على اختلاف أهل العلم ليُعمل بالراجح منه الموافق للدليل. وقوله: "فأقمت معه شهرين"، أي: عنده، وإنما عبر بمع المشعرة بالمصاحبة دون عند المقتضية لمطابقة "أقم عندي" لأجل المبالغة. وقوله: "ثم قال: إن وقد عبد القيس" وهو ابن أفْصى بوزن أعْمى ابن دُعْميّ -بضم الدال وسكون العَيْن المهملة وبياء النسبة- ابن جَديلة -وزن كبيرة- ابن أسد بن ربيعة قبيلة كبيرة كانوا يسكنون البحرين، والوفد الجماعة المختارة للتقدم في لقي العظماء، واحدهم وافد. وقوله: "لما أتَوْا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم" كان سبب مجيئهم إسلام منقذ بن حبان، وتعلمه الفاتحة وسورة اقرأ، وكتابته عليه الصلاة والسلام لجماعة عبد القيس كتابًا، فلما رحل إلى قومه كتمه أيامًا، وكان يصلي، فقالت زوجته لأبيها المنذر بن عائذ -وهو الأشَجّ-: إني أنكرت فعل بعلي منذ قدم من يثرب، إنه ليغسل أطرافه، ثم يستقبل الجهة -تعني: الكعبة- فيحني ظهره مرة، ويقع أخرى، فاجتمعا، فتحادثا ذلك، فوقع الإِسلام في قلبه، وقرأ عليهم الكتاب، وأسلموا، وأجمعوا المسير إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.

وقوله: "قال: منِ القومُ، أو: من الوفد" شك شعبة أو أبو جَمْرة، والضمير في "قال" له عليه الصلاة والسلام. وقوله: "قالوا: ربيعةُ" أي: نحن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان، وإنما قالوا ربيعة لأن عبد القيس من أولاده كما مر، وعُبِّر عن البعض بالكل، لأنهم بعض ربيعة، ويدل عليه ما عند المصنف في الصلاة: "فقالوا: إنًا هذا الحي من ربيعة" والحي: منصوب على الاختصاص، أي إنا هذا الحي حيٌّ من ربيعة، والحي اسم لمنزل القبيلة، ثم سميت القبيلة به، لأن بعضهم يحيى ببعض. وقوله: "مرحبًا بالقوم أو بالوفد" مرحبًا منصوب بفعل مضمر، أي: صادفت رُحبًا -بضم الراء- أي: سعة، أو يكون مرحبًا اسم مكان، أي: صادفت مكانًا رحبًا، أي: واسعًا، والرَّحب -بالفتح- الشيء الواسع، وقد يزيدون معها أهلًا، أي: وجدت أهلًا فاستأنس ولا تستوحش، وأول من قال مرحبًا سيف بن ذي يزن، وفيه دليل على استحباب تأنيس القادم، وقد تكرر ذلك من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ففي حديث أم هانىء عند البخاري: "مرحبًا بأم هانىء" وفي قصة عكرمة بن أبي جَهل: "مرحبًا بالراكب المهاجر"، وفي قصة فاطمة: "مرحبًا بابنتي" وكلها صحيحة. وأخرج النسائي عن عاصم بن بشير الحارثي، عن أبيه أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال له لما دخل فسلم عليه: "مرحبًا، وعليك السلام". قلت: ما وقع في حديث الإسراء من ترحيب الرسل والملائكة بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، يدل على أن القادم لا يقال له شيء أفضل من هذه الكلمة، إذ لو كان شيء أفضل منها لقالته الملائكة والرسل له عليه الصلاة والسلام.

وقوله: "غير خزايا" بنصب غير على الحال، وروي بالكسر على الصفة، وأنكره الأُبيّ قائلًا: إنه يلزم منه وصف المعرفة بالنكرة، إلا أن تُجعل الأداة في القوم للجنس، كقوله: وَلَقَدْ أمرُّ على اللئيمِ يسبُّني وعلى رواية الكسر فالأولى أن تعرب بالبدل، ويؤيد الأول رواية المصنف في "الأدب المفرد" عن أبيِ جَمْرة: "مرحبًا بالوفد الذين جاؤوا غيرَ خزايا ولا ندامى"، وخزايا جمع خزْيان على القياس، وهو الذي أصابه خِزْي، والمعنى: أنهم جاؤوا غير أذلاء، أو غير مستحيين لقدومهم مبادرين دون حرب أو سبي يخزيهم ويفضحهم فيوجب استحياءهم. وقوله: "ولا ندامى"، قال الخطابي: أصله نادمون جمع نادم؛ لأن ندامى إنما هو جمع ندمان، أي: المنادم في اللهو، قال الشاعر: فإنْ كُنْتَ نَدْماني فبِالأكْبرِ اسقِني لكنه خرج على الإتباع، كما قالوا: العشايا والغدايا، وغداة جمعها الغدوات، لكنه أتبع، والتحقيق عند أهل اللغة أنه يقال: نادم وندمان في الندامة بمعنى، وعليه يكون جمعه على الأصل، ولا إتباع، وفي رواية النسائي والطَّبراني: "مرحبًا بالوفد ليس الخزايا ولا النادمين" قال ابن أبي جمرة: بشرهم بالخير عاجلًا وآجلًا، لأن الندامة إنما تكون في العاقبة، فإذا انتفت ثبت ضدها، وفيه دليل على جواز الثناء على الإنسان في وجهه إذا أُمن عليه الفتنة. وقد بين مسلم السبب في تحديث ابن عباس لأبي جمرة بهذا الحديث، فقال بعد قوله المار: "وبين الناس، فاتته امرأة تسأله عن نبيذ الجرِّ، فنهى عنه، فقلت يا ابن عباس: إنّي أنتبذُ في جرة خضراء نبيذًا حلوًا، فاشرب منه، فتقرقر بطني، قال: لا تشرب منه، وإن كان أحلى من العسل".

وللمصنف في آخر المغازي عن أبي جمرة قال: "قلت لابن عباس: إن لي جرة أنتبذُ فيها فأشربه حلوًا، إن أكثرت منه فجالست القوم فأطلت الجلوس خشيت أن أفتضح، فقال: قدم وفد عبد القيس ... الخ". قال في "الفتح": ولما كان أبو جمرة من عبد القيس، وكان حديثه يشتمل على النهي عن الانتباذ في الجرار، ناسب أن يذكره له. قلت: يأتي في تعريف أبي جمرة الاعتراض عليه في جعله أبا جمرة من عبد القيس. ثم قال: وفي هذا دليل على أن ابن عباس لم يبلغة نسخ تحريم الانتباذ في الجرار، وهو ثابت من حديث بُرَيْدة بن الحُصَيْب عند مسلم وغيره. قلت: يأتي إن شاء الله تعالى تحرير القول في ذلك عند انتهاء الحديث. ثم قال: قال القُرطبي: فيه دليل على أن للمفتي أن يذكر الدليل مستغنيًا به عن التنصيص على جواب الفتيا إذا كان السائل بصيرًا بموضع الحجة. وقوله: "فقالوا: يا رسول الله" فيه دلالة على أنهم حين المقابلة كانوا مسلمين، وكذا في قولهم: "كفار مضر"، وفي قولهم: "الله ورسوله أعلم". وقوله: "إلاَّ في الشهر الحرام" أي: لحرمة القتال فيه عندهم، والمراد به الجنس، فيشمل الأربعة الحرم، ويؤيد هذا رواية المصنف في المغازي بلفظ: "إلا في أشهر الحرم" وروايته في المناقب بلفظ: "إلاَّ في كل شهرٍ حرام" وقيل: اللام للعهد، والمراد شهر رجب، وفي رواية البَيْهقي التصريح به. وكانت مضر تبالغ في تعظيم شهر رجب، فلهذا أضيف إليهم في

حديث أبي بكرة، حيث قال: "رجب مضر" كما سيأتي، والظاهر أنهم كانوا يخصونه بمزيد التعظيم، مع تحريمهم القتال في الأشهر الثلاثة الأخرى، إلا أنهم ربما أنسوها بخلافه. وللأصيليّ وكريمة: "إلاَّ في شهر الحرام" وهي رواية مسلم، وفيها إضافة الموصوف إلى الصفة، كصلاة الأولى، ومسجد الجامع، والبصريون يمنعون ذلك، ويؤولونه على حذف مضاف، أي: صلاة الساعة الأولى، وشهر الوقت الحرام، ومسجد المكان الجامع. وقوله: "وبيننا وبينك هذا الحي من كفار مُضَر" وهو بضم الميم وفتح الضاد غير منصرف للعلمية والعدل، أو للعلمية والتأنيث، باعتبار أنه صار علمًا على القبيلة وهي مؤنثة، وهو ابن نزار بن معد بن عدنان أخو ربيعة، وكانت منازل عبد القيس بالبحرين وما والاها من أطراف العراق، ولهذا قالوا كما عند المؤلف في العلم: "وإنا نأتيكَ من شُقّةٍ بعيدة" والشُّقة: السفر، وقال الزّجّاج: الغاية التي تقصد. ووفد عبد القيس المذكورون كانوا ثلاثة عشر راكبًا، كبيرهم الأشجّ، ففي "المعرفة" لابن مَنْده عن هود العَصَريّ -بعين وصاد مهملتين مفتوحتين، نسبة إلى عَصَر، بطن من عبد القيس- عن جده لأمه فريدة العَصَريّ قال: بينما النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يحدث أصحابه إذ قال لهم: "سيطلُع عليكُم من هاهنا ركبٌ هم خير أهل المشرق" فقام عمر، فتوجه نحوهم، فلقي ثلاثة عشر راكبًا، فبشرهم بقول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ثم مشى معهم، حتى أتوا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فرموا بأنفسهم عن ركائبهم، فأخذوا يده فقبلوها، وتأخر الأشَجُّ في الركاب حتى أناخها وجمع متاعهم، وجاء يمشي، فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم "إن فيك خصلتين يحبهما الله، الأناة والحلم". وأخرجه البَيْهقي، وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" مطولًا من وجه آخر عن رجل من وفد عبد القيس لم يسمه، وفي هذا الحديث أن

الأشج جمع رحالهم، وعقل ناقته، ولبس ثيابًا جددًا، ثم أقبل على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وأجلسه إلى جانبه، ثم إن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال لهم: "تبايعوني على أنفسكم وقومكم؟ " فقال القوم: نعم، وقال الأشَجّ: يا رسول الله، إنك لن تزايل الرجل عن شيء أشد عليه من دينه، نبايعك على أنفسنا، وترسل معنا من يدعوهم، فمن اتبع كان منا، ومن أبى قاتلناه. قال: "صدقت، إن فيك لخصلتين يحبُّهما الله، الحلم والأناة" وفي "مسند" أبي يعلى الموصلي أنه قال: أكانا فيَّ أم حدثا؟ قال: "بل قديم" قال: الحمد لله الذي جعلني على خلقين يحبُّهما الله. والأناة على وزن قناة الثاني والانتظار، وقال النووي: إن الوفد كانوا أربعة عشر، قال في "الفتح": لم يذكر له دليلًا، ويمكن أن يجمع بينه وبين ما في الحديث السابق بأن أحد المذكررين كان غير راكب، أو كان مرتدفًا. وروى الدُّولابي وابن منده عن أبي خَيْرة -بفتح الخاء المعجمة وسكون المثناة التحتية وبعد الراء هاء- الصُّباحِي -بضم الصاد المهملة، بعدها موحدة مخففة، وبعد الألف حاء مهملة- نسبة إلى صُباح بطن من عبد القيس، قال: كنت في الوفد الذين أتوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من عبد القيس، وكنا أربعين رجلًا، فنهانا عن الدُّبَّاء والنقير ... الحديث. قال في "الفتح": ويمكن أن يجمع بينه وبين الرواية السابقة بأن الثلاثة عشر كانوا رؤوس الوفد، ولهذا كانوا ركبانًا، وكان الباقون أتباعًا. قال في "الفتح": والذي تبين لي أنه كان لعبد القيس وفادتان، إحداهما قبل الفتح، ولهذا قالوا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم: "وبيننا وبيَنك هذا الحي من كفار مضر" وكان ذلك قديمًا، إما في سنة خمس أو قبلها، ويدل على سبق إسلامهم ما رواه المصنف في الجمعة والمغازي

عن ابن عباس قال: "أول جمعة جمعت بعد جمعة جُمعت في مسجد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في مسجد عبد القيس بجُؤاثَى من البحرين" -وهي بضم الجيم، وبعد الألف مثلثة مفتوحة- وهي قرية شهيرة لهم، وإنما جمعوا بعد رجوع وفدهم إليهم، فدل على أنهمٍ سبقوا جميع القرى إلى الإِسلام، وكان عدد الوفد الأول ثلاثة عشر راكبًا، وفيها سألوا عن الإيمان وعن الأشربة، وكان فيهم الأشجّ، وقال له النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ما قال ثانيتهما: كانت في سنة الوفود، وكان عددهم حينئذ أربعين رجلًا كما مر في حديث أبي خيرة، وفيهم الجارود العَبْدي، ويؤيد التعدد ما أخرجه أبو يَعْلى، وصححه ابن حِبّان من حديث الأشَجّ العَصَري أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال لهم: "ما لي أرى وجوهَكُم قد تغيرت" قالوا: نحن بأرض وخمة، وكنا نتخذ من هذه الأنبذة ما يقطع اللحمان في بطوننا، فلما نهيتنا عن الظروف، فذلك الذي ترى في وجوهنا. فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: "إن الظروف لا تُحِلُّ ولا تحرم، ولكن كل مسكر حرام" وهذا الحديث صريح في تعدد الوفادة. وها أنا أسرد أسماء من سماهم في "الفتح" من الوفد المذكور، تاركًا العزو إلى من عزى له التسمية فهم: المنذر بن عائذ، وهو الأشجّ المذكرر، ومُنْقِذ بن حِبّان، ومَزِيدة بن مالك، وعَمْرو بن مَرْحوم، والحارث ابن شُعيب، وعُبيدة بن همّام، والحارث بن جُنْدَب، وصُحار بن العبّاس -بصاد مضمومة وحاء مهملتين- وعُقبة بن جروه، وقيس بن النعمان العَبْدي، والجَهْم بن قُثَم، والرّستم العبدي، وجويرية العبدي، والزارع ابن عامر العبدي، وأخوه مطر، وابن أخته ولم يسم، ومشمرج السعدي، وجابر بن الحارث، وخزيمة بن عبد بن عمرو، وهمّام بن ربيعة، وجارية ابن جابر، وأبو خيرة الصُّباحي، ونوح بن مَخْلد جد أبي جَمْرة، وقد مر أنني سأذكر الاعتراض عليه في جعله أبا جمرة من عبد القيس في تعريف أبي جَمْرة قريبًا، هذا ما ذكره في "الفتح" وهو ثلاثة وعشرون، وذكر العيني

زيادة على أربعين، وأعرضت عن ذكر ما ذكره العيني، لأني لم أر في حديث زيادة الوفد على أربعين. وقوله: "فمرنا بأمر فصل" بالصاد المهملة وبالتنوين فيهما على الوصف لا بالإضافة، والفصل بمعنى الفاصل، كالعدل بمعنى العادل، أي: بفصل بين الحق والباطل، أو بمعنى المُفَصِّل أي: المبين المكشوف، وقيل: الفصل البين، وقيل: المحكم، والأمر واحد الأوامر، أي: مرنا بعمل بواسطة افعلوا، ولهذا قال الراوي: "أمرهم" وفي رواية للمؤلف: "آمركم" وفي رواية له بصيغة افعلوا. وأصل مرنا: أؤمرنا بهمزتين، إحداهما للوصل من أمر يأمر، فحذفت الأصلية للاستثقال، فصار أمرنا، فاستُغني عن همزة الوصل، فحذفت، فبقي مُرْ على وزن عُلْ، لأن المحذوف فاء الفعل. وقوله: "نخبر به من وراءنا وندخل به الجنة" برفع نخبر على الصفة لأمر، وكذا قوله: "ندخل"، لأنه عطف، ويُروى بالجزم فيهما على أنه جواب الأمر، وسقطت الواو في بعض الروايات من "وندخل"، فيرفع نخبر على الصفة، ويجزم ندخل على الجواب. وقوله: "من وراءنا" يشمل من جاؤوا من عندهم باعتبار المكان، ويشمل من يحدث لهم من الأولاد وغيرهم، وهذا باعتبار الزمان، فيحتمل إعمالها في المعنيين حقيقة ومجازًا. وقوله: "وسألوه عن الأشربة" يحتمل عن ظروفها، ويكون الجواب الآتي من قوله: "ونهاهم عن أربع، عن الحنتم .. الخ" موافقا للسؤال، ويحتمل أن يكون المعنى سألوه عن الأشربة التي تكون في الأواني المختلفة، ويحتاج الجواب الآتي إلى تأويل كما سأذكره إن شاء الله تعالى هناك، وعلى التقدير الأول يكون المحذوف المضاف، وعلى الثاني الصفة.

وقوله: "فأمرهم بأربع" أي خِصال أو جمل لقولهم فيما رواه المؤلف في المغازي: حدثنا بجمل من الأمر، واستشكل قوله: "أمرهم بأربع" مع أن المذكورات خمس. وأجاب القرطبي بان أول الأربع المأمور بها إقام الصلاة، وإنما ذكر الشهادتين تبركًا بهما، كما قيل في قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} ونحى الطيبي إلى هذا، فقال: عادة البلغاء أن الكلام إذا كان مسوقًا لغرض جعلوا سياقه له، وطرحوا ما عداه، وهنا لم يكن الغرض في الإيراد ذكر الشهادتين، لأن القوم كانوا مؤمنين مقرين بكلمتي الشهادة، ولكن ربما كانوا يظنون أن الإيمان مقصور عليهما كما كان الأمر في صدر الإِسلام، فلهذا لم يعد الشهادتين في الأوامر. وعورض هذا بما وقع في رواية حماد بن زيد عن أبي جَمْرة عند المصنف في المغازي: "آمركم بأربع الإيمان بالله شهادة أن لا إله إلاَّ الله" وعقد واحدة وهو يدل على أن الشهادة إحدى الأربع. وعنده في أوائل المواقيت في رواية عباد بن عباد: "آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع، الإيمان بالله" ثم فسرها لهم شهادة أن لا إله إلاَّ الله، وأن محمدًا رسول الله، وهذا أيضًا يدل على أنه عد الشهادتين من الأربع، لأنه أعاد الضمير في قوله: ثم فسرها مؤنثًا، فيعود على الأربع، ولو أراد تفسير الإيمان لأعاده مذكرًا. وأجاب القاضي عياض تبعًا لابن بطّال بأن الأربع ما عدا أداء الخمس، قال: كأنه أراد إعلامهم بقواعد الإيمان، وفروض الأعيان، ثم أعلمهم بما يلزمهم إخراجه إذا وقع منهم جهاد، لأنهم كانوا بصدد محاربة كفار مضر، ولم يقصد ذكرها بعينها، لأنها مسببة عن الجهاد، ولم يكن الجهاد إذ ذاك فرض عين. وأجاب ابن الصلاح وغيره بأن قوله: "وأن تُعطوا" معطوف على قوله:

"بأربع"، أي: آمركم بأربع، وبأن تُعطوا، ويدل عليه العدول عن سياق الأربع، والإتيان بأن والفعل مع توجه الخطاب لهم. قال الأبىّ: وهذا أتم جواب في المسألة، لأن به تتفق الطريقان، ويرتفع الإشكال. قال ابن التين موجهًا له: لا تمتنع الزيادة إذا حصل الوفاء بوعد الأربعة، لكن يرد على هذا الجواب أن المصنف ترجم بأن أداء الخمس من الإيمان، وذلك يقتضي إدخاله مع باقي الخصال في تفسير الإيمان، والتقرير المذكور يخالفه. وأجيب عن هذا بما مر في الترجمة، من أن المطابقة حاصلة من جهة أخرى، وهي أتهم سألوا عن الأعمال ... إلخ ما مر قريبًا. وأجيب أيضًا بأنه عد الصلاة والزكاة واحدة، لأنها قرينتها في كتاب الله تعالى، وتكون الرابعة أداء الخمس، أو أنه لم يعد أداء الخمس لأنه داخل في عموم الزكاة، والجامع بينهما أنهما إخراج مال معين في حال دون حال. وقال البيضاوي: إن الأمور الخمسة المذكورة هنا تفسير للإيمان، وهو أحد الأربعة الموعود بذكرها، والثلاثة الآخر حذفها الراوي اختصارًا أو نسيانًا. قال في "الفتح": وهذا غير ظاهر، والظاهر من السياق أن الشهادة أحد الأربع، لقوله فيما مر: وعقد واحدة. قال: وكان القاضي أراد أن يرفع الإشكال من كون الإيمان واحدًا، والموعود بذكره أربعًا، وأجيب عن ذلك بأنه باعتبار أجزائه المفصلة أربع، وهو في حد ذاته واحد، والمعنى أنه اسم جامع للخصال الأربع التي ذكر أنه يأمرهم بها، ثم فسرها، فهو واحد بالنوع، متعدد بحسب وظائفه، كما أن المنهي عنه وهو الانتباذ فيما يسرع إليه الإسكار واحد بالنوع، متعدد بحسب أوعيته، والحكمة في الإجمال بالعدد قبل التفسير أن تتشوف النفس إلى التفصيل،

ثم تسكن إليه، وأن يحصل حفظها للسامع، فإذا نسي شيئًا من تفاصيلها، طلب نفسه بالعدد، فإذا لم يستوف العدد الذي في حفظه، علم أنه قد فاته بعض ما سمع. قلت: قوله: قال: "أتدرون ما الإيمان بالله وحده .. الخ" يفهم منه صريحًا أن الإيمان بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم داخل في الإيمان بالله وحده، ليس شيئًا زائدًا على الإيمان به تعالى، وهذا فيه من غاية تعظيمه عليه الصلاة والسلام ما يُدهش العقول، حيث إن الله تعالى جعل الإيمان به عليه الصلاة والسلام إيمانًا به تعالى وحده، لا مزيد فيه من جهته صلى الله تعالى عليه وسلم، وهذا فيه من التنويه ما ليس في قوله: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} وقد مر في حديث: "بُني الإِسلام على خمس" أول الكتاب الكلام مستوفى على معنى الإيمان والشهادة، ومعنى إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان. ولم يذكر الحج في الحديث، واختلف في سبب عدم ذكره، فقيل: لأنه لم يكن فوض، وهذا هو المعتمد بناء على تقدم اسلامهم، فإن فوض الحج كان في سنة ست على الأصح وجعل القاضي عياض فوضه سنة تسع، وقدوم الوفد سنة ثمان قبل فوضه، وقيل: إنما لم يذكره لهم لكونهم سألوه أن يخبرهم بما يدخلون بفعله الجنة، فاقتصر لهم على ما يمكنهم فعله في الحال، ولم يقصد اعلامهم بجميع الأحكام التي تجب عليهم فعلًا وتركًا، ويدل على هذا اقتصاره في المناهي على الانتباذ في الأوعية، مع أن في المناهي ما هو أشد في التحريم من الانتباذ، لكن اقتصر عليها لكثرة تعاطيهم لها، وأما قول من قال: إنه ترك ذكره لكونه على التراخي، فليس بجيد، لأن كونه على التراخي لا يمنع من الأمر به، وكذا قول من قال: إنه تركه لشهرته عندهم ليس بقوي، لأنه عند غيرهم ممن ذكره لهم أشهر منه عندهم، وكذا قول من قال: انه ترك ذكره لأنهم لم يكن لهم سبيل إليه من أجل كفار مضر ليس بمستقيم، لأنه لا يلزم من عدم الاستطاعة في الحال ترك الإخبار به ليُعمل به عند الإمكان كما في الآية،

بل دعوى أنهم كانوا لا سبيل لهم إلى الحج ممنوعة، لأن الحج يقع في الأشهر الحرم، وقد ذكروا أنهم كانوا يأمنون فيها. ووقع في كتاب الصيام من "السنن الكبرى" للبيهقي من طريق أبي قلابة الرَّقاشىِ، عن أبي زيد الهَرَوي، عن قُرّة في هذا الحديث زيادة ذكر الحج، ولفظه: "وتحجوا البيت الحرام" وهذه رواية شاذة، وقد أخرجه الشيخان، ومن استخرج عليهما، والنسائي، وابن خُزَيْمة، وابن حبّان من طريق قُرة، لم يذكر أحد منهم الحج، وأبو قِلابة تغير حفظه في آخر عمره، فلعل هذا مما حدث به في التغير، وعلى تقدير أن يكون ذكر الحج فيه محفوظًا، فالجواب عنه أن يقال: المراد بالأربع ما عدا الشهادتين وأداء الخمس، واعلم أن عدم ذكر الحج إنما هو بالنسبة لرواية أبي جمرة، وإلا فقد ورد ذكره في "مسند" الإِمام من رواية أبان العطار، عن سعيد ابن المُسَيِّب، وعن عكرمة عن ابن عباس في قصة وقد عبد القيس. وقوله: "ونهاهم عن أربع عن الحنتم ... الخ" إن كان المراد بقوله أولًا: وسألوه عن الأشربة، أي: عن ظروفها، فالجواب مطابق للسؤال، وإن كان المراد عن الأشربة نفسها، فالجواب هنا من إطلاق المحل وإرادة الحال، أي: ما في الحَنْتَم ليوافق السؤال، وصرح بالمراد في رواية النسائي، فقال: "وأنهاكم عن أربع: ما ينتبذ في الحنتم ... الحديث". والحَنْتَم: -بفتح المهملة، وسكون النون، وفتح المثناه الفوقية- هي الجرة مطلقًا، وتجمع على جرار، ككلبة وكلاب، أو الحنتم: الجرار الخضراء، أو هي جرار كانت تعمل من طين وشعر ودم، أو الحنتم ما طلبي من الفخار بالحنتم المعمول بالزجاج وغيره. وقوله: وعن الدُّبَّاء -هو بضم المهملة، وتشديد الموحدة، وبالمد- اليقطين، كان أهل الطائف يأخذون القرع، فيخرطون فيه العنب، ثم يدفنونه حتى يهدر، ثم يموت.

وقوله: "والنَّقِير" هو بفتح النون وكسر القاف، أصل النخلة ينقر فيتخذ منه وعاء، كان أهل اليمامة ينقرون أصل النخلة، ثم ينبذون الرطب والبسر، ثم يدعونه حتى يهدر، ثم يموت. وقوله: "والمُزَفَّت" بالزاي والفاء ما طُلي بالزفت. وقوله: "وربما قال: والمُقَيَّر" وهو بالقاف والياء الأخير ما طلبي بالقار، ويقال له: القير، وهو نبت يحرق إذا يبس تطلى به السفن وغيرها كما تطلى بالزفت. وقوله: "وأخبروا بهنَّ من وراءكم" مرَّ في قوله السابق: "من وراءنا" المراد به فراجعه. ومعنى النهي عن الانتباذ في هذه الأوعية بخصوصها لأنه يسرع إليه فيها الإسكار، فربما شرب منها من لم يشعر بذلك، ثم ثبتت الرخصة في الانتباذ في كل وعاء، مع النهي عن شرب كل مسكر. ففي "صحيح" مسلم عن بُريدة: "كنت نهيتُكم عن الانتباذ إلا في الأسقية، فانتبذوا في كل وعاء، ولا تشربوا مسكرًا". وحاصل المسألة أن بعض العلماء أخذ بالرخصة العامة، فقال بالإباحة مطلقًا لحديث بُريدة هذا، وحديث الأشَجّ العَصَريّ السابق: "إن الظروف لا تُحِلُّ ولا تحرم، ولكن كل مسكر حرام". قال الخطابي: ذهب الجمهور إلى أن النهي إنما كان أولًا، ثم نسخ، وعلى هذا سائر الكوفيين، وعن أحمد روايتان. وقال ابن بطّال: النهي عن الأوعية إنما كان قطعًا للذريعة، فلما قالوا: لا نجد بدًّا من الانتباذ في الأوعية، قال: انتبذوا وكل مسكر حرام، وهكذا الحكم في كل شيء نهى عنه بمعنى النظر إلى غيره، فإنه يسقط للضرورة، كالنهي عن الجلوس في الطرقات، فلما قالوا: لابد لنا منها، قال: "فأعطوا الطريق حقَّها".

رجاله أربعة

والقائلون بالإباحة المطلقة قالوا: إن المعنى في النهي أن العهد بإباحة الخمر كان قريبًا، فلما اشتهر التحريم أُبيح لهم الانتباذ في كل وعاء، بشرط ترك شرب المسكر، وذهب مالك إلى كراهة الانتباذ في الدُّباء والمزفَّت كراهة تنزيه، وإباحة ما سواهما، هذا مشهور مذهبه، واستدل بما أخرجه في "الموطأ" عن عبد الله بن عمر "نهى أن يُنبذ في الدُّبّاء والمزَفّت" وعن أبي هُريرة مثله، وحملوا النهي على التنزيه للأحاديث الواردة في الترخيص مطلقًا، جمعًا بين الأدلة. وجمع القائلون بالإباحة المطلقة بأنه لما وقع النهي عامًّا، شكوا إليه الحاجه، فرخص لهم في ظروف الأدم، ثم شكوا إليه أن كلهم لا يجد ذلك، فرخص دهم في الظروف كلها. وقال الشافعي والثوري وابن حبيب من المالكية: يكره ذلك ولا يحرم. وذهب جماعة إلى أن النهي عن الانتباذ في هذه الأوعية باق، منهم: ابن عمر، وابن عباس، وروي عن ابن عباس أنه قال: "لا يُشرب نبيذ الجر ولو كان أحلى من العسل" كما مر، وأسند النهي عن جماعة من الصحابة. قلت: لعل عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه منهم، لما أخرجه الطبري عنه من قوله: لأن أشرب من قمقم محمي، فيحرق ما أَحْرَق، ويُبقي ما أبقَى، أحب إلى عن أن أشرب نبيذ الجر. قال الخطابي: وكأن من ذهب إلى استمرار النهي لم يبلغه الناسخ، هذا حاصل ما قيل في الانتباذ في الأوعية. رجاله أربعة: الأول: عليّ بن الجَعْد بن عُبيد أبو الحسن الجَوْهَري البغدادي مولى بني هاشم. قال موسى بن أبي داود: ما رأيت أحفظ من علي بن الجعد، كنا عند ابن أبي ذئب، فأملى علينا عشرين حديثًا، فحفظها وأملاها علينا.

وقال خلف بن سالم: سرت أنا، وأحمد، ويحيى إلى علي بن الجعد، فأخرج إلينا كتبه، وألقاها بين أيدينا، وذهب، فلما نجد فيها إلاَّ خطأً واحدًا، فلما فرغنا من الطعام، قال: هاتوا، فحدث بكل شيءٍ كتبناه حفظًا. وقال الحسين بن فهم: سمعت ابن مَعين في جنازة علي بن الجعد يقول: ما رَوَى عن شُعبة من البغداديين أثبت من هذا، فقال رجل: ولا أبو النَّضْر؟! قال: ولا أبو النَّضر. قال: ولا شبابة؟ قال: خرب الله بيت أمه إن كان مثل شبابة. قال ابن فَهْم: فعجبنا منه. وقال ابن مَعين: كان علي بن الجعد رباني العلم. وقال أبو زُرعة: كان صدوقًا في الحديث. وقال أبو حاتم: كان متقنًا صدوقًا، ولم أر من المحدثين من يحفظ ويأتي بالحديث على لفظ واحد لا يغيره سوى قَبيصة وأبي نُعيم في حديث الثوري، ويحيى الحِمّاني في حديث شَريك، وعليّ بن الجَعْد في حديثه. وقال صالح بن محمَّد: ثقة. وقال النسائي: صدوق. وقال إسحاق ابن إسرائيل في جنازة علي بن الجعد: أخبرني أنه منذ ستين سنة يصوم يومًا ويُفطر يومًا. وقال ابن قانِع: ثقة ثبت. وقال مطيّن: ثقة. وقال ابن عدي: ما أرى بحديثه بأسًا، ولم أر في رواياته إذا حدث عن ثقة حديثًا منكرًا، والبخاري مع شدة استقصائه يروي عنه في "صحيحه". وفي هامش "الزهرة" بخط ابن الطاهر: روى عنه البخاري ثلاثة عشر حديثًا، وقال عبدوس: ما أعلم أني لقيت أحفظ منه، قال المحاملي: فقلت له: كان يتهم بالجَهْم. قال: قد قيل هذا، ولم يكن كما قالوا، الا أن ابنه الحسن كان على قضاء بغداد، وكان يقول: يقول جَهْم، وكان عند علي نحو من ألف ومئة حديث عن شعبة، وكان قد لقي المشايخ. وقال النُّفَيْلي: لا ينبغي أن يكتب عنه قليل ولا كثير. وقال الجوزجاني: متشبث بغير بدعة، زائغ عن الحق. وقال أحمد بن إبراهيم الدَّوْرَقي: قلت لعلي ابن الجعد: بلغني أنك قلت: ابن عمر ذاك الصبي. قال: لم أقل، ولكن معاوية ما أكره أن يعذبه الله. وقال أبو داود: عمرو بن مرزوق أعلى من علي بن الجعد ويُتّهم بمتَّهم سوء، قال: ما يسوؤني أن يعذب الله

معاوية. وقال هارون بن سفيان: كنت عند علي بن الجعد فذكر عثمان، فقال: أخذ من بيت المال مئة ألف درهم بغير حق. وقال العُقَيْلي: قلت لعبد الله بن أحمد: لم لم تكتب عن علي بن الجعد؟ قال: نهاني أبي، وكان يبلغه أنه يتناول من الصحابة. وقال زياد ابن أيوب: كنت عند علي بن الجعد، فسألوه عن القرآن، فقال: القرآن كلام الله، ومن قال مخلوق لم أعنفه. قال: فذكرت ذلك لأحمد، فقال: ما بلغني عنه أشد من هذا. وقال زياد بن أيوب أيضًا: سأل رجل أحمد عن علي بن الجعد، فقال الهيثم: ومثله يسأل عنه؟ فقال أحمد: أمسك، قال: فذكره رجل بشر، فقال أحمد: ويقع في الصحابة. وقال أبو زُرعة: كان أحمد لا يرى الكتابة عنه، ورأيته مضروبًا عليه في كتابه، وكان أحمد لا يرى الكتابة عن جميع من أجاب في المحنة. وحكى العُقيلي عن ابن المديني ما يقتضي وهنه عنده، فقال عنه: وممن تُرك حديثه عن شعبة علي بن الجعد، وعدد جماعة، فقالوا: وعلي ابن الجعد ماله؟ قال: رأيت ألفاظه عن شعبة تختلف. قال ابن حَجر: فإن ثبت هذا فلعله كان في أول الحال لم يثبت فضبط، كما قال أبو حاتم فيما تقدم. وقال صالح بن محمَّد الأسدي: كان علي بن الجعد يحدث بثلاثة أحاديث لكل إنسان عن شعبة، وكان عنده عن مالك ثلاثة أحاديث، كان يقول: إنه سمعها من مالك، وثلاثة أعوام كان يقول فيها: أخبرنا مالك، كان مالك حدثه. قال ابن حجر: روى البخاري من حديثه عن شعبة أحاديث يسيرة. روى عن: حَريز بن عثمان، وشعبة، والثَّوري، ومالك، وابن أبي ذئب، وشيبان بن عبد الرحمن، وقيس بن الربيع، ووَرْقاء بن عمر، ويزيد ابن إبراهيم، ومحمد بن راشد، والمبارك بن فضالة، وغيرهم.

وروى عنه أبو داود، وأحمد، ويحيى بن مَعين، وأبو بكر بن أبي شَيْبة، والزَّعْفَراني، وأبو زُرعة، وأبو حاتِم، وموسى بن هارون، ويَعْقوب ابن شَيْبة، وزياد بن أيوب، وغيرهم. ولد سنة ست وثلاثين ومئة، ومات سنة ثلاثين ومئتين. والجوهري في نسبه نسبة إلى بيع الجوهر، وهو كل حجر يستخرج منه شيء ينتفع به. والبغدادي في نسبه مر الكلام عليه في الرابع من كتاب الإيمان. الثاني: شعبة بن الحجّاج، وقد مر في الثالث من كتاب الإيمان. الثالث: أبو جمرة -بالجيم- واسمه نصر بن عمران بن عصام، وقيل: ابن عاصم بن واسع الضُّبَعي البصري، وقيل: هو نصر بن عمران بن نوح ابن مَخْلد الضُّبعي البصري .. الخٍ. قال ابن سعد: كان ثقة مأمونًا. وقال ابن عبد البر: أجمعوا على أنه ثقة. وقال أحمد: ثقة. وكذا قال ابن أبي خيْثمة عن ابن مَعين. وذكره ابن حبان في "الثقات". قال أبو داود: روى أبو عوانة عن أبي جَمرة القصاب ستين حديثًا، وروى عن أبي جمرة الضُّبَعي حديثًا واحدًا. وقال مسلم بن الحجاج: كان مقيمًا بنيسابور، ثم خرج إلى مرو، ثم إلى سرخس، فمات بها. روى عن أبيه، وابن عباس، وابن عمر، وأنس بن مالك، وزَهْدَم الجَرْميّ، وعائذ بن عمر، والمزني، وغيرهم. وروى عنه: علقمة، وأبو التّيّاح، ومرة بن خالد، وشعبة، وعبّاد بن عباد المُهَلَّبي، ويحيى بن همّام، وأبو عَوانة، وغيرهم. مات قبل أبي التّياح بقليل، ومات أبوالتّيّاح سنة ثمان وعشرين ومئة. وقال الترمذي: إنه ما ماتا في يوم واحد، وقيل: مات في ولاية يوسف بن عمر على العراق، وكان عزله عنه سنة أربع وعشرين.

وفي الستة نصر سواه ستة عشر، وليس في الستة ولا في "الموطأ" من يكنى بهذه الكنية، ولا من اسمه جَمْرة بالجيم. وفي كتاب الجيّاني أنه وقع في نسخة أبي ذر عن أبي الهيثم حَمْزة -بالحاء المهملة والزاي- وهو وهم، وما عداه فهو أبو حمزة بالحاء المهملة والزاي. وليس في البخاري من يشتبه به ممن هو بالحاء المهملة من الكنى إلا أبو حَمْزة الأنصاري الراوي عن زيد بن أرْقم، وإلا أبو حمزة السُّكري المَرْوزي وأما الأسماء دون الكنى فجماعة، وأما ما وقع في المغازي من طريق شعبة عن أبي جَمْرة عن عائذ بن عمرو فالجمهور على أنه بالجيم والراء، ووقع لأبي ذر الهَرَويّ عن الكُشْمِيْهنيّ -بالحاء المهملة والزاي- قال سيدي عبد الله في غرة الصباح: وَجَمرةُ كنيةُ نصرِ الضُّبَعيّ ... وغيرهُ بالحاءِ حيثُما وُعي وفي أبي حَمْزةَ في المغازي ... عن عائذٍ بدا اختلافُ نازِي وقد روى مسلم عن أبي حمزة -بالحاء المهملة- عن أبي عطاء القصاب حديثًا واحدًا فيه ذكر معاوية، وإرسال النبي صلى الله عليه وسلم ابن عباس خلفه. وقال بعض الحفاظ: إن شعبة يروي عن سبعة يروون عن ابن عباس، كلهم أبو حمزة -بالحاء المهملة والزاي- إلا هذا، ويعرف هذا من غيره بأنه إذا أطلق أبو جمرة عن ابن عباس فهو هذا، وإذا أرادوا غيره ممن هو بالحاء المهملة قيدوه بالاسم والنسب والوصف، كأبي حمزة القصّاب. والضُّبعي في نسبه نسبة إلى ضُبَيْعة -كجهينة- بطن من عبد القيس كما جزم به الرشاطي، وفي العرب قبائل تُنسب إلى ضُبيعة، وهي: ضُبيعة ابن ربيعة بن نزار، وهو المعروف بالأضخم، ومعناه المعوج الفم، وضبيعة ابن أسد بن ربيعة، وضبيعة بن قيس بن عكابة بن صعب بن بكر بن وائل وهو أبو رقاش أم مالك وزيد مناة ابني شيبان، وهم رهط الأعشى

ميمون بن قيس وهو من بني سعد بن ضبيعة، ومنهم المرقش الأكبر أيضًا، وضبيعة بن عجل بن لُجَيْم بن صعب بن بكر بن وائل، وهم رهط الوصاف قال الشاعر: قَتَلْتَ به خيرَ الضُّبَيْعاتِ كلِّها ... ضُبيعةَ قيسٍ لا ضُبيعةَ أضْخَمِ وضُبيعة بن فريد بطن من الأوس من بني عوف بن عمر بن عوف، وضُبيعة ابن الحارث العَبْسي صاحب الأغر اسم فرس له، وفي عشائر الصموت ضُبيعة الأعرابي عبد الله بن الصموت بن عبد الله بن كلاب، وضُبيعة محلة بالبصرة. قال في "تاج العروس": وأبو جَمْرة الضُّبَعي نسبة إلى ضُبيعة بن قيس ابن ثعلبة، الذين نزلوا البصرة، وقيل: إلى المحلة التي سكنها هؤلاء بالبصرة. قال العيني: ووهم من نسب أبا جَمْرة الضبعي من شراح البخاري إلى ضبيعة بكر بن وائل. لما روى الطبراني وابن مَنْده في ترجمة نوح بن مخلد جد أبي جمرة أنه قدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال له: "ممن أنت؟ " قال: من ضُبيعة ربيعة. فقال: "خير ربيعة عبد القيس، ثم الحي الذي أنت منهم" ووافقه ابن حجر على هذا الاعتراض. قلت: وفي طعنهما نظر ظاهر، لأن ربيعة شاملة لعبد القيس وبكر ابن وائل، إذ جميع بطون ربيعة متشعبة منهما، وهما من ولد أسد بن ربيعة، قال الشنقيطيّ في نظم أنساب العرب: ولِربيعةَ عديدُ الطيسِ ... من نسلِ قاسطٍ وعبدِ القَيْسِ كلاهُما من أسدِ ابنه ومِنْ ... نمرِ بنِ قاسطٍ صُهيبٌ المُبَنْ بصفةِ المسجدِ في أضيافِ ... نبيِّنا وعنهُ لا يُجافي فإذا علمت أن ربيعة شاملة لعبد القيس وبكر بن وائل، لأن وائلًا ابن قاسط، علمت أن الطعن علي من نسبه إلى ضبيعة بكر بن وائل بالحديث غير صحيح بل الذي يدل عليه الحديث صريحًا أنه ليس من عبد القيس،

لطائف إسناده

بل من ضُبيعة الذين ليسوا منهم، لقوله في الحديث: "خيرُ ربيعة عبد القيس، ثم الحي الذي أنت منهم" فإنه يعلم منه بديهة أن الحي الذي هو منهم ليس من عبد القيس، فكيف يصح مع الحديث نسبته إلى ضُبيعة عبد القيس، فالحق مع الذي نسبه إلى ضبيعة بكر بن وائل أو غيره من غير ضُبيعة عبد القيس، فتأمله منصفًا. الرابع: عبد الله بن عبّاس وقد مر في الخامس من بدء الوحي. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة والإخبار في أخبرنا شعبة، وفي كثير من النسخ حدثنا شعبة، ورجاله ما بين بغدادي وواسطي وبصري، وفيه من هو من الأفراد وهو أبو جَمْرة، وكذا علي بن الجعد. انفرد به البخاري وأبو داود عن بقية الستة. وهذا الحديث أخرجه البخاري في عشرة مواضع هنا كما رأيت، وفي الخمس عن أبي النعمان، وفي خبر الواحد عن علي بن الجعد. وعن إسحاق، وفي كتاب العلم عن بُندار، وفي الصلاة عن قُتيبة، وفي الزكاة عن حجّاج بن المنهال، وفي مناقب قريش عن حماد ومسدد، وفي المغازي عن سليمان بن حَرْب وعن إسحاق بن أبي عامر، وفي الأدب عن عِمران بن مَيْسرة، وفي التوحيد عن عمرو بن علي. ومسلم في الإيمان عن أبي بكر بن أبي شَيْبة وغيره، وفي الأشربة عن خلف بن هِشام، وأبو داود في الأشربة عن سُليمان بن حَرْب وغيره، وفي السنة عن أحمد بن حَنْبل، والترمذي في السِّيَر عن قُتيبة مختصرًا، وفي الإيمان عن قُتيبة بطوله، وقال: حسن صحيح، والنسائي في العلم عن بُندار، وفي الإيمان عن قُتيبة، وفي الأشربة عن أبي داود الحرّاني، وفي الصلاة عن محمد ابن عبد الأعلى. ولم يذكر البخاري في طرقه قصة الأشج، وذكرها مسلم. ثم قال المصنف: باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة ولكل امرىء ما نوى فدخل فيه

الإيمان والوضوء والصلاة والزكاة والحج والصوم والأحكام وقال {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} على نيته ونفقة الرجل على اهله يحتسبها صدقة وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- ولكن جهاد ونية. أي: هذا باب بيان ما ورد دالًا على أن الأعمال الشرعية معتبرة بالنية والحسبة، والمراد بالحسبة: طلب الثواب والإخلاص في العمل، وإنما استدل بحديث عمر على أن الأعمال بالنية، وبحديث أبي مسعود على أن الأعمال بالحسبة، وقوله: "ولكل امرىء ما نوى" بعض حديث الأعمال بالنية، وإنما أدخل قوله: "والحسبة" بين الجملتين، للإشارة إلى أن الثانية تفيد ما لا تفيده الأولى، وللتنبيه على أن التبويب شامل لثلاث تراجم: الأعمال بالنية، والحسبة، ولكل امرىء ما نوى. قوله: "فدخل فيه الإيمان" هو من مقول المصنف، وليس فيه بقية مما ورد، وقد أفصح ابن عساكر في روايته بذلك، فقال: قال أبو عبد الله، يعني: المصنف، والضمير في "فيه" يعود على الكلام المتقدم، وتوجيه دخول النية في الإيمان على طريقة المصنف أن الإيمان عمل كما مر، وأما الإيمان بمعنى التصديق فلا يحتاج إلى نية كسائر أعمال القلوب من خشية الله، وعظمته، ومحبته، والتقرب إليه، وقد مر في حديث إنّما الأعمال بالنية الكلام على فائدتها. وقوله: "والوضوء" أي: وكذا الوضوء، خلافًا للأوْزاعيّ وأبي حنيفة وغيرهما، محتجين بأنه وسيلة إلى العبادة لا عبادة مستقلة، وبأنه عليه الصلاة والسلام علم الأعرابي الجاهل الوضوء، ولم يعلمه النية، ولو كانت فريضة لعلمه، ونوقضوا بالتيمم، فإنه وسيلة وشرطوا فيه النية، وأجابوا بأنه طهارة ضعيفة، فيحتاج لتقويتها، وبأن قياسه على التيمم غير مستقيمٍ، لأن الماء خلق مطهراً، قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} والتراب ليس كذلك، وكان التطهير به تعبدًا محضًا، فاحتاج إلى النية، إذ التيمم ينبىءُ لغة عن القصد، فلا يتحقق دونه، بخلاف الوضوء، ففسد قياسه على التيمم.

واستدل الجمهور على اشتراط النية في الوضوء بالأدلة الصحيحة المصرحة بوعد الثواب عليه، فلابد من قصد يميزه عن غيره، ليحصل الثواب الموعود به. وقوله: "والصلاة" أي: وكذا الصلاة، من غير خلاف أنها لا تصح إلا بالنية، نعم نازع ابن القيّم في استحباب التلفظ بها، وكذا المالكية، بل التلفظ بها عندهم خلاف الأولى إلا في حق الموسوس، فيندب له، محتجين بأنه لم يرد أنه صلى الله تعالى عليه وسلم تلفظ بها، ولا عن أحد من أصحابه. وأجيب بأنه عون على استحضار النية القلبية، وعبادة اللسان، وقاسه بعضهم على ما في "الصحيح" من حديث أنس أنه سمع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يلبي بالحج والعمرة جميعًا، يقول: "لبيك حجّاً وعمرة"، وهذا تصريح باللفظ، والحكم كما يثبت باللفظ يثبت بالقياس، وتجب مقارنة النية لتكبيرة الإحرام، لأنها أول الأركان، وذلك بأن يأتي بها عند أولها، ويستمر ذاكرًا لها ... إلخ. واختار النووي تبعًا للغزالي الاكتفاء بالمقارنة العرفية عند العوام، بحيث يعد مستحضرًا للصلاة. وقال ابن الرفعة: إنه الحق، وصوبه السُّبكي، ولو عزبت النية قبل تمام التكبيرة لم تصح الصلاة، لأن النية معتبرة في الانعقاد، والانعقاد لا يحصل إلا بتمام التكبيرة. ولو نوى الخروج من الصلاة، أو تردد في أن يخرج أو يستمر بطلت، بخلاف الصوم والحج والوضوء والاعتكاف، لأنها أضيق بابًا من الأربعة، فكان تأثيرها باختلاف النية أشد. ولو علق الخروج من الصلاة بحضور شيء بطلت في الحال، ولو لم يقطع بحصوله، كتعليقه بدخول شخص، كما لو علق به الخروج من الإِسلام، فإنه يكفر في الحال قطعًا، قاله القسطلّاني، ونظم بعض المالكية حاصل ما قيل في رفض العبادة بقوله:

الرَّفضُ للطهرِ إذا ما وَقَعا ... بعدَ التمام لغوُهُ قد سُمِعا أما إذا وَقَع في الأثناءِ ... فَشَهّروا فيه بلا امتراءِ ضررهُ ومثلُهُ التيممُ ... كذاكَ الاعتكافُ فيما يُعلمُ والرفضُ للصلاةِ والصيامِ ... يُبطلُ عندَ الحلة الأعلامِ إن كانَ في الأثناءِ أما إن يكُن ... بعدَهُما ففيه خلفٌ قد زَكن قولانِ بالصحةِ والبطلان ... قد ذكروهُما مرجّحانِ والرفضُ للعمرةِ والحجِّ انتفى ... ضررُهُ ولو في الأثناءِ وَفَى وقوله: "والزكاة" أي: وكذا الزكاة تجب فيها النية، وإنما سقطت بأخذ السلطان، ولو لم ينو صاحب المال، لأن السلطان قائم مقامه. وقوله: "والحج" أي: وكذا الحج تجب فيه النية، وإنما ينصرف إلى فرض من حج عن غيره لدليل خاص، وهو حديث ابن عباس في قصة شبْرُمة، أخرجه أبو داود وابن ماجه والبيهقي، وهذا عند الشافعية، وعندنا معاشرَ المالكية أن الحج لا ينتقل لغير من وقع له. وقوله: "والصوم" أي: وكذا الصوم، خلافًا لمذهب عطاء ومجاهد وزُفَر أن الصحيح المقيم في رمضان لا يحتاج إلى نية، لأنه لا يصح النفل في رمضان، وعند الأربعة تلزم النية، لكن تعيين الرمضانية لا يشترط عند الحنفية. وقوله: "والأحكام" أي: وكذا الأحكام من المناكحات والمعاملات والجراحات، إذ يشترط فيه كلها القصد، فلو سبق لسانه إلى بعت أو وهبت أو نكحت أو طلقت لغى لانتفاء القصد إليه، ولا يصدق ظاهرًا إلا بقرينة، كأن دعى زوجته بعد طهرها من الحيض إلى فراشه، وأراد أن يقول: أنت طاهر، فسبق لسانه، وقال: أنت الآن طالق. وكل صورة لم تشترط فيها النية فذاك لدليل خاص، وقد ذكر ابن المُنير ضابطًا لما تشترط فيه النية مما لا تشترط، فقال: كل عمل لا تظهر له فائدة عاجلة، بل المقصود به طلب الثواب، فالنية مشترطة فيه، وكل

عمل ظهرت فائدته ناجزة، وتعاطته الطبيعة قبل الشريعة لملائمة بينهما، فلا تشترط النية فيه إلا لمن قصد بفعله معنى آخر يترتب عليه الثواب. قال: وإنما اختلفت العلماء في بعض الصور من جهة تحقيق مناط التفرقة، قال: وأما ما كان من المعاني المحضة كالخوف والرجاء، فهذا لا يقال باشتراط النية فيه، لأنه لا يمكن أن يقع إلا منويًّا، ومتى فرضت النية مفقودة فيه استحالت حقيقته، فالنية فيه شرط عقلي، ولذا لا تشترط النية للنية فرارًا من التسلسل، وأما الأقوال فتحتاج إلى النية في ثلاثة مواطن: أحدها التقرب إلى الله تعالى فرارًا من الرياء. والثاني: التمييز بين الألفاظ المحتملة لغير المقصود. والثالث: قصد الإنشاء ليخرج سبق اللسان. وقوله: "وقال الله" الظاهر أنها جملة حالية لا عطف، أي: والحال أن الله قال، ويحتمل أن تكون للمصاحبة، أي: مع أن الله قال. وقوله: "على نيته" تفسير منه لقوله: {عَلَى شَاكِلَتِهِ} بحذف أداة التفسير، وتفسير الشاكلة بالنية صح عن الحسن البصري ومعاوية بن قُرة المزني، وقتادة. أخرجه عبد بن حُميد والطبري عنهم. وعن مجاهد، قال: الشاكلة الطريقة أو الناحية، وهذا قول الأكثر، وقيل: الدين، وكلها متقاربة. وقوله: "ونفقة الرجل على أهله يحتسبها صدقة" أي: حال كونه مريدًا بها وجه الله تعالى، فيحتسبها حالٌ متوسط بين المبتدأ والخبر الذي هو صدقة، وفي نسخة إسقاط الواو. وفي رواية أبوي ذرِّ والوقت والأصيلي إسقاط هذه الجملة كلها. وقوله: "ولكن جهاد ونية" هذا طرف من حديث ابن عباس، أوله: "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهادٌ ونية، وإن استُنْفِرْتُم فانفِروا".

أخرجه المؤلف هنا معلقًا، وأخرجه مسندًا في الحج عن عثمان بن أبي شَيْبة، وفي الجزية مسندًا أيضًا عن علي بن عبد الله، وفي الجهاد أيضًا مسندًا عن آدم وغيره. وأخرجه مسلم في الجهاد عن يحيى بن يحيى، وفيه وفي الحج عن إسحاق بن إبراهيم، وفي الجهاد أيضًا عن أبي بكر وأبي كُرَيْب وأبو داود في الجهاد والحج عن عثمان معلقًا والترمذي في السير عن أحمد بن عَبْدة، وقال: حسن صحيح. والنسائي فيه وفي البيعة عن إسحاق بن منصور، وفي الحج عن محمَّد بن قُدامة وغيره. وقد تكلمت عليه وعلى غيره من أحاديث الهجرة في آخر الكلام على حديث "إنما الأعمال بالنيات".

الحديث السابع والأربعون

الحديث السابع والأربعون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ عَنْ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَلِكُلِّ امْرِىءٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ". قوله: "قال: الأعمال بالنية" أورده هنا من رواية مالك بإفراد النية وحذف إنما، ورواه مسلم عن القَعْنَبيّ بإثباتها، واتفق المحققون على إفادة الحصر من هذه الصيغة كالمصدرة بإنما، وهو من حصر المبتدأ في الخبر، وقد ذكر في رواية مالك هنا الشطر الأول المحذوف في رواية الحُميدي المذكورة في أول حديث من الكتاب، وهي قوله: "فمن كانت هجرتُه إلى الله ورسولِه فهجرته إلى الله ورسوله" ومرّ هناك بيان نكتة حذفه لها، ومر الكلام مستوفى على جميع مباحث الحديث، ولذلك لا أحتاج إلى إعادته هنا. رجاله ستة: الأول: عبد الله بن مَسلمة القَعْنبي وقد مر في الثاني عشر من كتاب الإيمان هذا. والثاني: الإِمام مالك، وقد مر في الثاني من بدء الوحي. ومر يحيى ابن سعيد، ومحمد بن إبراهيم، وعلقمة بن وقاص، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه في الأول من بدء الوحي، وتقدم هناك ذكر المواضع التي أخرج فيها وما يتعلق به فانظره.

الحديث الثامن والأربعون

الحديث الثامن والأربعون حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِى عَدِىُّ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ عَنْ أَبِى مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ يَحْتَسِبُهَا فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ". قوله: "إذا أنفق الرجل" أي: نفقة من دراهم وغيرها، صغيرة كانت أو كبيرة، لما أفاده حذف المفعول من العموم. وقوله: "على أهله" يحتمل أن يشمل الزوجة والأقارب، ويحتمل أن يختص بالزوجة، ويلحق به من عداها بطريق الأوْلى، لأن الثواب إذا ثبت فيما هو واجب، فثبوته فيما ليس بواجب أولى. وقوله: "يحتسبها" جملة حالية، أي: يريد بها وجه الله تعالى، فالاحتساب القصد إلى طلب الأجر، وهذا اللفظ مقيد لمطلق ما جاء أن الإنفاق على الأهل صدقة كما في بعض روايات حديث سعد الآتي في النفقات بلفظ: "ومهما أنفقت فهو لك صدقة". وقوله: "فهو" أي الإِنفاق المفهوم من قوله: "أنفق" على حد قوله تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} أي: العدل. ولغير الأربعة: "فهي" أي: النفقة. وقوله: "له صدقة" أي: كالصدقة في الثواب، وإطلاق الصدقة على النفقة مجاز، وقرينته الصارفة له عن الحقيقة الإجماع على وجوب الإنفاق على الهاشمية مثلًا التي حرمت عليها الصدقة، وهو من مجاز التشبيه، وهو واقع على أصل الثواب، لا في كميته، ولا كيفيته. وقال الطبري: الإنفاق على الأهل واجب، والذي يعطيه يؤجر على

رجاله خمسة

ذلك بحسب قصده، ولا منافاة بين كونها واجبة وبين تسميتها صدقة، بل هي أفضل من صدقة التطوع. وقال المهلّب: النفقة على الأهل واجبة، وإنما سماها الشارع صدقة خشية أن يظنوا أن قيامهم بالواجب لا أجر لهم فيه، وقد عرفوا ما في الصدقة من الأجر، فعرفهم أنها لهم صدقة، حتى لا يخرجوها إلى غير الأهل إلا بعد أن يكفوهم ترغيبًا لهم في تقديم الصدقة الواجبة قبل صدقة التطوع. وقال ابن المنير: تسمية النفقة صدقة من جنس تسمية الصداق نِحْلة، فلما كان احتياج المرأة إلى الرجل كاحتياجه إليها في اللذة والتأنيس والتحصين وطلب الولد، كان الأصل أن لا يجب لها شيء عليه، إلا أن الله خص الرجل بالفضل على المرأة بالقيام عليها ورفعه عليها بذلك درجة، فمن ثمَّ جاز إطلاق النِّحلة على الصداق، والصدقة على النفقة. قال القُرطبيّ: أفاد منطوقه أن الأجر في الإنفاق إنما يحصل بقصد القربة، سواء كانت واجبة أو مباحة، وأفاد مفهومه أن من لم يقصد القربة لم يؤجر، لكن تبرأ ذمته من النفقة الواجبة، لأنها معقولة المعنى، وفي هذا الحديث الرد على المرجئة، حيث قالوا: إن الإيمان إقرار باللسان فقط. رجاله خمسة: الأول: حجّاج بن المِنْهال -بكسر الميم- أبو محمد الأنْماطيّ السُّلمي وقيل البُرْساني -بضم الموحدة- مولاهم. قال أحمد: ثقة، ما أرى به بأسًا. وقال أبو حاتم: ثقة فاضل. وقال العِجْليّ ثقة، رجل صالح. وقال النّسائي: ثقة. وقال خَلَف بن محمد كردوس: كان صاحب سنة يظهرها. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث. وقال ابن قانِع: ثقة مأمون. وقال: ما رأيت مثله فضلًا ودينًا.

وقال أبو داود إذا اختلفا فعثمان وحجاج أفضل الرجلين. وقال أبو حاتم: كان من خيار الناس. وذكره ابن حِبّان في "الثقات". كان رجلًا صالحًا، وكان سمسارًا يأخذ من كل دينار حبة، فجاءه خراساني موسر من أصحاب الحديث، فاشترى له أنماطًا، وأعطاه ثلاثين دينارًا. فقال له: خذ هذه سمسرتك. فقال له: دنانيرك أهون علي من هذه التراب، هات من كل دينار حبة، وخذ ذلك. وقال أحمد بن عبد الله: بصريّ ثقة. روى عن: جرير بن حازم، والحمادين، وشعبة، وعبد العزيز الماجَشون، وهمّام، ويزيد بن إبراهيم، وغيرهم. وروى عنه: البخاري، وروى الباقون له بواسطة، وبندار، وأبو موسى، وصاعقة، والخلّال، والذُّهلي، وابن دارة، ويعقوب بن شَيبة، ويعقوب بن سفيان، وعلي بن عبد العزيز، وغيرهم. مات في شوال سنة ستة أو سبعة عشر ومئتين. وليس في الستة حجّاج بن مِنهال سواه، وأما حجاج فكثير. والإنماطي في نسبه نسبة إلى بيع الأنماط جمع نَمَط -بالتحريك- مثل سَبَب وأسباب، والنسبة إليه أنماطيّ كأنصاري، ونَمَطِيّ إلى الواحد على القياس، والنمط البسط التي تفرش، أو ضرب من البسط، وقيل: ضرب من الثياب المصبغة، ولا يكادون يقولون نمط إلا لما كان ذا ألوان من حمرة أو خضرة أو صفرة، وأما البياض فلا يقال له نمط، وإليه ينسب كثير من العلماء، كابن الأنماطي إسماعيل بن عبد الله بن عبد المحسن المصري الفقيه الشافعي الأشعريّ، وأبو الحسن محمد بن طاهر الأنماطي، وأبو القاسم الحسن بن المبارك الأنماطي البغدادي، وغيرهم. الثاني: شعبة بن الحجّاج وقد مر في الثالث من كتاب الإيمان. الثالث: عدي بن ثابت الأنصاري الكوفي.

قال أحمد: ثقة. ووثقه أيضًا النسائي والعِجْلي. وقال الدارقطني: ثقة، إلا أنه كان غاليًا في التشيع. وكذا قال ابن مَعين. وقال أبو حاتم: صدوق، وكان إمام مسجد الشيعة وقاصهم. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال الجُوزجاني: مائل عن القصد. وقال الطّبري: عدي بن ثابت ممن يَجبُ التثبت في نقله. وقال شعبة: كان من الربّاعين. وقال الدّارقطني: ثقة. وقال أحمد بن حَنْبل: كان يتشيع. وقال ابن حَجَر: احتج به الجماعة، وما أخرج له في "الصحيح" شيئًا مما يقوي بدعته. روى عن أبيه، وجده لأمه عبد الله بن يزيد الخَطْمي، والبراء بن عازب، وسليمان بن صُرَد، وعبد الله بن أبي أوفى، وزيد بن وَهْب، وأبي بُردة بن أبي موسى، وزيد بن حُبَيْش، وسعيد بن جُبَيْر، وغيرهم. وروى عنه: أبو إسحاق السَّبيعي، وأبو إسحاق الشّيباني، ويحيى ابن سعيد الأنصاري، والأعمش، وأشعث بن سوار، وشعبة، ومسعر، وفضيل بن مرزوق، وآخرون. مات في خلافة خالد على العراق سنة ست عشرة ومئة. وليس في الستة عدي بن ثابت سواه، وأما عدي فكثير. الرابع: عبد الله بن يزيد بن زيد بن حُصين بن عمرو بن الحارث ابن خَطْمة -واسمه عبد الله- بن جُشَم بن مالك الأوسي الأنصاري أبو موسى الخَطْميّ. شهد الحديبية وهو صغير، قيل: ابن سبع عشرة سنة، وشهد الجمل وصفين مع علي، وكان أميرًا على الكوفة، كان من أفاضل الصحابة، وكان أكثر الناس صلاة، وكان لا يصوم إلا يوم عاشوراء. وقال ابن حِبّان في كتاب "الصحابة": كان أميرًا على الكوفة أيام ابن الزُّبير وكان الشعبي كاتبه، وولي إمرة مكة من عبد الله بن الزبير يسيرًا، واستمر مقيمًا بها.

وقال الأثْرم: قلت لأحمد: لعبد الله بن يزيد صحبة صحيحة؟ قال: أما صحيحة فلا، ذلك شيء يرويه أبو بكر بن عياش، عن أبي حُصين، عن أبي بُردة، عن عبد الله بن يزيد، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول. وأخرج ابن البُرْقي بسند قوي عن عدي بن ثابت، أن عبد الله بن يزيد كان قد شهد بيعة الرضوان وما بعدها، وهو رسول القوم يوم جسر أبي عبيدة. وقال الآجري: قلت لأبي داود: عبد الله بن يزيد له صحبة. قال: يقولون له رؤية، سمعت ابن مَعين يقول ذلك. وقال أبو حاتم: روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان صغيرًا على عهده، فإن صحت روايته فذاك له سبعة وعشرون حديثًا، أخرج البخاري منها حديثين، أحدهما في الاستسقاء موقوف، وفي المظالم حديث النهي عن النُّهبى والمُثْلة، ومسلم أحدهما، وأخرجا له عن البراء، وأبي مسعود، وزيد بن ثابت، وأبي أيوب، وحذيفة، وقيس بن سعد رضي الله عنهم. وروى عنه: ابنه موسى، وسبطه عدي بن ثابت، والشعبيّ، وأبو إسحاق، وابن سيرين، وآخرون. وأخرج له البغوي حديث "إن عذاب هذه الأمة في دنياها" وفيه قصة له مع زياد، سكن الكوفة، وابتنى بها دارًا، ومات زمن ابن الزبير. وفي الصحابة عبد الله بن يزيد جماعة، هذا أحدهم، والثاني عبد الله ابن يزيد القارىء له ذكر في الحديث عن عائشة رضي الله عنها أنه عليه الصلاة والسلام سمع قراءته. والثالث عبد الله بن يزيد النَّخَعي. والرابع: عبد الله بن يزيد البَجَليّ وله حديث: "إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه" والخامس عبد الله بن يزيد الخَثْعَمي. وفي الستة عبد الله بن يزيد ثلاثة عشر. والخَطْميّ -بفتح الخاء المعجمة وسكون الطاء المهملة- في نسبه نسبة إلى جده خَطْمة المار في نسبه، وإنما سمي خَطْمة لأنه ضرب رجلًا

على خطمه أي أنفه، والخطم من كل طائر منقاره، ومن كل دابة مقدم أنفها وفيها، والمخاطم الأنوف واحدها مخْطِم -بكسر الطاء- ورجل أخطم: طويل الأنف. الخامس: أبو مسعود عقبة بن عمرو بن ثعلبة بن أسيرة -مكبر، وقيل: مصغر، وقيل: يُسيرة بضم أوله ابن عَسيرة -مكبر- ابن عطية بن جِدارة -بكسر الجيم، وقال ابن عبد البر: بضم الخاء المعجمة- ابن عوف بن الخزرج الأنصاري البدري. شهد العقبة مع السبعين، وكان أصغرهم سنًّا، وشهد أحدًا، والجمهور على أنه لم يشهد بدرًا، فنسب إليها، وقال حَمْدون بن شهاب الزُّهري، وابن إسحاق صاحب المغازي، والبخاري في "صحيحه": شهدها، وقال الطبري: أهل الكوفة يقولون: شهدها، ولم يذكره أهل المدينة فيهم. وقال الحاكم وغيره من أهل الكوفة: شهدها، وأهل المدينة أعلم بذلك. له مئة حديث وحديثان، اتفقا على تسعة، وانفرد البخاري بحديث واحد، ومسلم بسبعة. روى عنه: عبد الله بن يزيد الخَطْمي، وابنه بشير، وأبو وائل، وعلقمة، وقيس بن أبي حازم، وعبد الرحمن بن يزيد النَّخَعي، وأبو عمرو الشيباني، وغيرهم. سكن الكوفة. ومات بها، وقيل: بالمدينة، قبل الأربعين، قيل: سنة إحدى وثلاثين، وقيل: سنة إحدى أو اثنتين وأربعين. روى له الجماعة وفي الصحابة أبو مسعود هذا، وأبو مسعود الغِفاريّ. والبدريّ في نسبه نسبة إلى بدر، الموضع الذي لقي النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه المشركين فأعز الله الإِسلام، بين مكة والمدينة، وهو إلى المدينة أقرب،

لطائف إسناده

يقال: هو منها على ثمانية وعشرين فرسخًا، وبينه وبين الجار وهو ساحل البحر ليلة، معرفةٌ ويُذَكَّر. أو اسم بئر هناك، حفرها رجل من غفار، اسمه بدر بن يَخْلَد بن النَّضْر بن كِنانة، وقيل: إنه بدر بن قريش بن يَخْلد بن النَّضْر بن كنانة، وقيل: بدر رجل من بني ضَمْرة، سكن ذلك الموضع، فنسب إليه، ثم غلب اسمه عليه. ويقال له: بدر القتال، وبدر الموعد، وبدر الأولى والثانية، وقيل: إنما سميت بدرًا لاستدارتها أو لصفاء مائها، وأنكر الواقدي ذلك عن شيوخ غفار، وقالوا: ماؤنا ومنازلنا ولم يملكها أحد، وإنما بدر علم عليها كغيرها من البلاد. وقال الشعبي: كانت بدر بئرًا لرجل من جُهينة، فسميت به. وبدر أيضًا مخلاف باليمن، وجبل لباهلة بن أعْصر، وجبل آخر قرب الواردة عن يسار طريق مكة وأنت قاصدها، وموضع باليمامة، قال الشاعر: فقلت وقد جعلت براق بدر ... يمينًا والغباية عن شمالي وجبل ببلاد معاوية بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والسماع والإخبار والعنعنة، ورجاله ما بين بصري وواسطي وكوفي، وفيه رواية صحابي أنصاري عن صحابي كذلك، ووقع للبخاري غالبًا خماسيًّا، ولمسلم من جميع طرقه سداسيًّا. وهذا الحديث أخرجه البخاري هنا، وفي المغازي عن مسلم، وفي النفقات عن آدم، ومسلم في الزكاة عن ابن معاذ وغيره، والنسائي في الزكاة عن ابن بَشَّار، وفي عشرة النساء عن إسماعيل بن مسعود، والترمذي في البر، وقال: حسن صحيح.

الحديث التاسع والأربعون

الحديث التاسع والأربعون حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ حَدَّثَنِى عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِى بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلاَّ أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِى فَمْ امْرَأَتِكَ". قوله: "إنك لن تنفق نفقة" يعني: قليلة أو كثيرة، والخطاب لسعد، والمراد هو ومن يصح منه الإنفاق. وقوله: "تبتغي" أي: تطلب وتقصد. وقوله: "وجه الله" أي: ما عند الله تعالى من الثواب، ولفظ الوجه من المتشابه، وفيه مذهبان: التفويض: وهو مذهب السلف، ومعناه أن تفوض معرفة معناه إلى الله تعالى بعد تنزيهه عما لا يليق به من ظاهره. والتأويل: وهو مذهب الخلف، ومعناه أن تحمله على أقرب المعاني الواردة في كلام العرب المنزهة له تعالى عما لا يليق به من صفات المخلوقين، كحمل اليد على القدرة، وحمل المعية في نحو قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} على المعيشة بالعلم والنصر. وحمل الوجه على الذات أو الإخلاص، وقد ألفنا تأليفًا في متشابه الصفات، تتبعنا فيه ما ورد منها في الآيات والأحاديث، واستوفينا الكلام على ذلك غاية الاستيفاء، ولعله يُطبع قريبًا إن شاء الله تعالى. وقوله: "إلا أجرْتَ عليها" وهذا يحتاج إلى تقدير، لأن الفعل لا يقع استثناء، وقدره العيني، فقال: إلا نفقة أجرت عليها، فيكون أجرت عليها

صفة للمستثنى الذي هو نفقة، والمعنى: إن النفقة المأجور عليها هي التي تكون ابتغاءً لوجه الله تعالى، لأنها لو لم تكن لوجه الله لما كانت ماجورًا فيها، والاستثناء متصل، لأنه من الجنس. قلت: كون الفعل لا يقع استثناء قاله في "الفتح"، ووافقه على ذلك العيني، فاحتاج إلى ما مر من التقدير، والذي في كتب النحو أن الفعل المضارع يجوز استثناؤه بدون شرط لمشابهته للاسم، نحو ما زيد إلا يقوم، والفعل الماضي يجوز استثناؤه إذا كان بعد فعل منفي، أو بعد حرف قد، فالأول نحو قوله تعالى: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} وقوله تعالى: {وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا} وفي الحديث الصحيح: "لا يَبْقى أحدٌ منكم إلا لُدَّ غير العباس" وقوله: "ما من شيء لم أكن أريته إلا رأيته في مقامي هذا" والواقع بعد قد كقول الشاعر: ما المجدُ إلاَّ قَدْ تبيَّنَ أنَّهُ ... بندى وحلْمٍ لا يزالُ مَؤثّلا ولهذه المسألة أشار المختار بن بَوْن في "احمراره" بقوله: وبَعْدَ نفيٍ أولها المضارِعا ... والماضي بعد الفعلِ أو قدْ وقَعَا فعلى ما قاله النحويون لا يحتاج إلى التقدير الذي قدره العيني، والمعنى مستقيم غير محتاج إليه، لأن المعنى حينئذ كلما أنفقت نفقة تبتغي بها وجه الله كنت مؤجراً عليها. قال السُّيوطي في "همع الهوامع": وإنما ساغ وقوع الماضي بتقديم الفعل؛ لأنه مع النفي يجعل الكلام بمعنى كلما كان كذا كان كذا، فكان فيه فعلان كما كان مع كلما. وقوله: "حتى ما تجعل" أي: الذي تجعله، والموصول في محل نصب عطفًا على نفقة، ويجوز الرفع على أنه مبتدأ، والخبر تجعل، وجعل العيني الخبر مقدرًا، أي: فأنت مأجور فيه.

وقوله: "في فم امرأتك"، وللكُشْمِيْهني: "في في امرأتك" وهي رواية الأكثر. قال القاضي عياض: وهي الأصوب، لأن الأصل حذف الميم بدليل جمعه على أفواه، وتصغيره على فويه. قال: وإنما يحسن إثبات الميم عند الأفراد، وأما عند الأضافة فلا إلا في لغة قليلة. واستنبط منه النووي أن الحظ إذا وافق الحق لا يقدح في ثوابه، لأن وضع اللقمة في في الزوجة يقع غالبًا في حالة المداعبة ولشهوة النفس في ذلك مدخل ظاهر، ومع ذلك إذا وجه القصد في تلك الحالة إلى ابتغاء الثواب حصل له بفضل الله، وقد وقع ما هو أصرح في هذا المراد من وضع اللقمة، وهو ما أخرجه مسلم عن أبي ذر فذكر حديثًا فيه: "وفي بضع أحدِكم صدقة" قالوا: يا رسول الله: أيأتي أحدنا شهوته ويؤجر؟ قال: "نعم، أرأيتم لو وضعها في حرام .. الحديث". قال: وإذا كان هذا في هذا المحل مع ما فيه من حظ النفس، فما الظن بغيره مما لا حظ للنفس فيه. قال: وتمثيله عليه الصلاة والسلام باللقمة مبالغة في تحقيق هذه القاعدة، لأنه إذا ثبت الأجر في لقمة واحدة لزوجة غير مضطرة، فما الظن بمن أطعم لقمًا لمحتاج، أو عمل من الطاعات ما مشقته فوق مشقة ثمن اللقمة الذي هو من الحقارة بالمحل الأعلى. وبيان هذا أن يقال: وإذا كان هذا في حق الزوجة مع مشاركة الزوج لها في النفع بما يطعمها، لأن ذلك يؤثر في حسن بدنها، وهو ينتفع منها بذلك، وأيضًا فالأغلب أن الإنفاق على الزوجة يقع بداعية النفس، بخلاف غيرها، فإنه يحتاج إلى مجاهدتها. وفهم من قوله: "تبتغي بها وجه الله تعالى" أن المرائي بفعل الواجب غير مثاب، وإن سقط عقابه بفعله، كما قاله الكِرماني، قال العيني: سقوط العقاب مطلقًا غير صحيح، بل الصحيح التفصيل فيه، وهو أن العقاب الذي يترتب على ترك الواجب يسقط، لأنه أتى بعين الواجب، ولكنه كان

رجاله خمسة

مأمورًا أن يأتي بما عليه بالإِخلاص وترك الرياء، فينبغي أن يعاقب على ترك الإخلاص، لأنه مأمور به، وتارك المأمور به يعاقب، وأسهل من هذا أن يقول: إن الرياء معصية، فيعاقب عليها. والحاصل: أن النية الصالحة إكسير يقلب العادة عبادة، والقبيح جميلًا، فالعاقل لا يتحرك حركة إلا لله، فينوي بمكثه في المسجد زيارة ربه في انتظار الصلاة، واعتكافه على طاعته، وبدخوله الأسواق ذكر الله، وليس الجهر شرطًا، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وينوي عقب فريضة انتظار أخرى، فأنفاسه إذًا نفائس، ونيته خير من عمله، وهذا الحديث طرف من حديث سعد بن أبي وقاص في مرضه بمكة، وعيادة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم له، ويأتي قريبًا ذكر المواضع التي أخرجه البخاري فيها، ووقع الكلام عليه هنا من جهة النية التي أورده البخاري فيها، ويأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى في كل موضع بحسب الغرض الذي سيق لأجله. رجاله خمسة: الأول: أبو اليمان، والثاني شُعيب بن أبي حمزه، وقد مرّا في السابع من بدء الوحي، ومر ابن شهاب في الثالث منه، ومر عامر بن سعد وأبوه سعد ابن أبي وقّاص في العشرين من كتاب الإِيمان، ومر هذا الإسناد بعينه هناك فانظر لطائفه. وهذا الحديث قطعة من حديث طويل مشهور أخرجه البخاري هنا، وفي المغازي عن محمد بن يونس، وفي الدعوات عن موسى بن إسماعيل، وفي الهجرة عن يحيى بن قَزَعَة، وفي الجنائز عن عبد الله بن يوسف، وفي الطب عن موسى بن إسماعيل، وفي الفرائض عن أبي اليمان. ومسلم في الوصايا عن يحيى بن يحيى، وأبو داود في الوصايا أيضًا عن عثمان بن أبي شَيْبة، والترمذي فيها أيضًا عن محمد بن يحيى بن

باب قول النبى -صلى الله عليه وسلم- الدين النصيحة لله ولرسوله

أبي عمر، وقال: حسن صحيح، والنسائي فيها أيضًا عن عمرو بن عثمان، وفي عشرة النساء عن إسحاق بن إبراهيم، وفي "اليوم والليلة" عن محمد ابن سَلَمة، وابن ماجه في الوصايا أيضًا عن هشام بن عمار، وغيره. ثم قال المصنف: باب قول النبى -صلى الله عليه وسلم- الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم وقوله تعالى: إذا نصحوا لله ورسوله الترجمة هنا لفظ حديث لم يخرجه المؤلف لما سيأتي قريبًا، وما أورده من الآية وحديث جرير يشتمل على ما تضمنه. وقوله: "باب" خبر لمبتدأ محذوف، أي: هذا باب، وهو مضاف إلى "قول". وقوله: "الدين النصيحة" مبتدأ وخبر في محل المفعول به لقول السابق، وهذا التركيب يفيد الحصر، لأن المبتدأ والخبر إذا كانا معرفتين يستفاد ذلك منهما، والمراد بالدين هنا على ما يظهر الدين الشامل للإيمان والإِسلام والإحسان المذكور في قوله عليه الصلاة والسلام السابق: "جاءكم يعلمكم دينكم" إشارة إلى الثلاثة المذكورة، وللدين إطلاقات أُخر: يطلق على طاعة الملك كما قال زهير: لئِنْ حَللْتَ بوادٍ في بني أسَدٍ ... في دين عمرو وحالَتْ بينَنَا فَدَكُ وعلى الجزاء كقوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} وقوله: {إِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} وقوله: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ}، وقول لبيد: حصادُكَ يومًا ما دَرَسْتَ وإنّما ... يُدانُ الفَتى يومًا بما هو دائن وعلى التوحيد: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} وعلى الحساب: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}، وعلى الملة: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا} وعلى العادة كقول امرىء القيس: كدينِكَ من أُمِّ الحُوَيْرِثِ قبلَها

والتركيب المذكور المفيد للحصر يحتمل أن يحمل على المبالغة، أي: عماد الدين وقوامه النصيحة، كما قيل في حديث "الحج عرفة" أي: عماده ومعظمه، ويحتمل أن يحمل على ظاهره، لأن كل عمل لم يرد به عامله الإخلاص فليس من الدين. والنصيحة مشتقة من نصحت العسل إذا صفيته من الشمع، ويقال: نصح الشيء إذا خلص، ونصح له القول إذا أخلصه له، شبهوا تخليص القول من الغش بتخليص العسل من الخلط، وقيل: مشتقة من النصح وهو الخياطة بالمِنْصَحة، وهي الإبرة، والمعنى: أنه يلم شعث أخيه بالنصح كما تلم المِنْصَحة شعثَ الثوب، ومنه: التوبة النصوح، كأن الذنب يمزق الدين، والتوية تخيطه. قال الخطابي: النصيحة كلمة جامعة، معناها حيازة الحظ للمنصوح له، وهي من وجيز الكلام، بل ليس في كلام الغرب كلمة مفردة تُستوفى بها العبارة عن معنى هذه الكلمة، كما قالوا في الفلاح: ليس في كلام العرب كلمة أجمع لخيري الدنيا والآخرة منه. وهذا الحديث من الأحاديث التي قيل: انها أحد أرباع الدين، وقال النووي: بل هو وحده محصل لغرض الدين كله، لأنه منحصر في الأمور التي ذكرها كما يظهر لك من تفسيرها: فالنصيحة لله تعالى منصرف معناها إلى الإيمان به تعالى، ونفي الشريك عنه، وترك الإلحاد في صفاته، ووصفه بما هو له أهل، والخضوع له ظاهرًا وباطنًا، والرغبة في محابه بفعل طاعته، والرهبة من مساخطه بترك معصيته، والجهاد في رد العاصين إليه، والحب فيه، والبغض فيه، وموالاة من والاه، ومعاداة من عصاه، والاعتراف بنعمه التي لا تُحصى، وشكره عليها، والإِخلاص له في جميع الأمور، والدعاء إلى جميع هذه الأوصاف، وحث الناس عليها، وحقيقة هذه الإضافة راجعة إلى العبد في نصحه نفسه، فالله تعالى غني عن نصح الناصح وعن العالمين.

وروى الثَّوْري عن أبي ثُمامة صاحب علي رضي الله تعالى عنه قال: قال الحواريون لعيسى عليه السلام: يا روحَ الله: من الناصح لله؟ قال: الذي يقدم حق الله على حق الناس. والنصيحة لكتابه تعالى الإيمان بأنه كلامه تعالى وتنزيله، لا يشبهه شيء من كلام الخلق، ولا يقدر الإنس والجن لو اجتمعوا على الإتيان بسورة مثله، وتعلمه، وتعليمه، وتعظيمه، وتلاوته حق تلاوته، وتحسينها، والخشوع عندها، وإقامة حروفه في التلاوة، وتحريرها في الكتابة، وتفهم معانيه، وحفظ حدوده، والذب عنه لتاويل الملحدين وتحريف المحرفين وتعريض الطاغين، والتصديق بما فيه، والوقوف مع أحكامه، والاعتبار بمواعظه، والتفكر في عجائبه، والعمل بمحكمه، والإيمان بمتشابهه، والبحث عن عمومه وخصوصه، وناسخه ومنسوخه، والعمل بما اقتضى منه عملًا، ودوام تدبره. والنصيحة لرسوله صلى الله تعالى عليه وسلم هي الإيمان به، وبجميع ما جاء به، وطاعته في أمره ونهيه، ونصرته حيًّا وميتًا، ومعاداة من عاداه، وموالاة من والاه، وإعظام حقه، وتوقيره، وإحياء سنته بتعلمها وتعليمها، والاقتداء به في أقواله وأفعاله، وبث دعوته، ونشر شريعته، ونفي التهمة عنها، واستنارة علومها، والتفقه في معانيها، والدعاء إليها وإعظامها، وإجلالها، والتأدب عند قراءتها، والإمساك عن الكلام فيها بغير علم، وإجلال أهلها لانتسابهم إليها، والتخلق بأخلاقه، والتأدب بآدابه، ومحبة أهل بيته وأصحابه. وكل من اتبعه، ومجانبة من ابتدع في سنته أو تعرض لأحد من أصحابه. والنصيحة لأئمة المسلمين إعانتهم على ما حملوا القيام به، وطاعتهم في الحق، وأمرهم به، وتنبيههم وتذكيرهم برفق ولطف، وسدّ خلتهم عند الهفوة، وإعلامهم بما غفلوا عنه، ولم يبلغهم من أمور المسلمين، وترك الخروج عليهم، ورد القلوب النافرة إليهم، وتألف قلوب الناس لطاعتهم،

ودفعهم عن الظلم بالتي هي أحسن، والصلاة خلفهم، والجهاد معهم، وأداء الصدقات إليهم، وترك الخروج عليهم بالسيف إذا ظهر منهم حيف أو سوء عشرة، وأن لا يفروا بالثناء الكاذب عليهم، وأن يُدعى لهم بالصلاح. ومن جملة أئمة المسلمين أئمة الاجتهاد، وتقع النصيحة لهم ببث علومهم، ونشر مناقبهم، وتحسين الظن بهم، وقبول ما رووه، وتقليدهم في الأحكام. والنصيحة لعامة المسلمين الشفقة عليهم، والسعي فيما يعود نفعه عليهم، وتعليمهم ما ينفعهم، وكف وجوه الأذى عنهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، ويعلمهم ما جهلوه من دينهم، ويعينهم عليه بالفعل والقول، وستر عوراتهم، وسد خلاتهم، ودفع المضار عنهم، وجلب المنافع لهم، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر برفق وإخلاص، وتوقير كبيرهم، ورحمة صغيرهم، وتخولهم بالموعظة الحسنة، وترك غشهم وحسدهم، والذب عن أموالهم وأعراضهم وغير ذلك من أحوالهم بالقول والفعل، وحثهم على التخلق بجميع ما ذكرناه، وتنشيط هممهم إلى الطاعات، وقد كان في السلف رضي الله تعالى عنهم من تبلغ به النصيحة إلى الإِضرار في دنياه. والنصيحة فرض كفاية، يُجزى من قام به، ويسقط عن الباقين، وهي لازمة على قدر الطاقة إذا علم الناصح أنه يقبل نصحه، ويطاع أمره، وأمن على نفسه المكروه، فإن خشي على نفسه أذى فهو في سعة، ففيها شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المشار إليها بقول القائل: معرفةُ المنكر والمعروفِ ... والظنُّ في إفادةٍ الموصوفِ والأمنُ فيه من أشَدِّ النُّكر ... كقتلِ شخصٍ بقيام الخمرِ وأن يكون المنكر متفقًا عليه، أو يضعف مدرك القول بالجواز، وأن يكون ظاهرًا لا تجسس فيه، وما روي عن عمر رضي الله تعالى عنه في صدر

خلافة اجتهاد منه، لا يجب تقليده فيه، وصح أنه رجع عنه. وفي هذا الحديث من الفوائد زيادة على ما مر أن الدين يُطلق على العمل، لكونه سمى النصيحة دينًا، وعلى هذا المعنى بني المصنف أكثر كتاب الإيمان، ومنها جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب من قوله: "قلنا؟ لمن؟ ". واعلم أن البخاري ذكر هذا الحديث ولم يخرجه مسندًا في "صحيحه"، لأن راوي الحديث تميم الداري، وأشهر طرقه فيه سهيل بن أبي صالح وليس من شرطه، لأنه لم يخرج له في "صحيحه"، وأخرج له مسلم والأربعة، ولما لم يكن من شرطه لم يأت فيه بصيغة الجزم، ولا في معرض الاستدلال، بل أدخله في التبويب، ولم يترك ذكره، وهو عنده من الواهي ليفهم أنه اطلع عليه، وعلى أن فيه علة منعته من إسناده، وله من ذلك في كتابه كثير يقف عليه من له تمييز. وأخرجه مسلم في باب الإيمان عن محمد بن عباد المكي، وأبو داود في الأدب عن أحمد بن يونس، والنسائي في البيعة عن يعقوب بن إبراهيم، وإمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خُزيمة في كتاب "السياسة" له عن عبد الجبار بن العلاء المكي. وقولي: إن البخاري لم يخرج عنه في "صحيحه" تبعت فيه العيني، ويرده ما قاله ابن حجر من أن له في البخاري حديثًا في الجهاد مقرونًا بيحيى بن سعيد الأنصاري عن النُّعمان بن أبي عيّاش، وله حديثان آخران متابعة في الدعوات. ولنذكر تعريف سهيل وتميم الداري تتميمًا للفائدة: الأول: سهيل بن أبي صالح، واسمه ذَكْوان السّمان أبو يزيد المَدَني. قال ابن سعد: كان سهيل ثقة كثير الحديث. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يخطىء. قال ابن عُيينة: كنا نعد سهيلًا ثبتا في الحديث. وقال حرب عن أحمد: ما أصلح حديثه. وقال أبو طالب:

سألت أحمد عن سُهيل ومحمد بن عَمْرو، فقال: قال القطان: محمد بن عمرو أحب إلينا وما صنع شيئًا سهيل أثبت عندهم. وقال ابن مَعين: سهيل بن أبي صالح، والعلاء بن عبد الرحمن حديثهما قريب من السواء، وليس حديثهما بحجة. وقال أبو زُرعة: سهيل أشبه وأشهر من العلاء. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به، وهو أحب إلى من العلاء. وقال النّسائي: ليس به بأس. وقال ابن عديّ: لسهيل شيخ، وقد روى عنه الأئمة، وحدث عن أبيه، وعن جماعة عن أبيه، وهذا يدل على تمييزه، لكونه ميز ما سمع من أبيه وما سمع من غير أبيه، وهو عندي ثبت لا بأس به مقبول الأخبار، روى له البخاري مقرونًا بغيره، وعاب عليه النسائي ذلك. وقال السُّلَمي: سألت الدّارقُطني: لم ترك البخاري حديث سهيل في "صحيحه"؟ فقال: لا أعرف له فيه عذرًا، فقد كان النسائي إذا مر بحديث سهيل قال: سهيل والله خير من أبي اليمان، ويحيى بن بكير، وغيرهما. وقال البخاري في "تاريخه": كان لسهيل أخ، فمات، فوجد عليه، فنسي كثيرًا من الحديث. وقال ابن أبي خيْثمة عن يحيى: لم يزل أهل الحديث يتقون حديثه. وذكر العقيلي عنه أنه قال: هو صويلح، وفيه لين. وقال الحاكم في باب من عيب على مسلم إخراج حديثه: سهيل أحد أركان الحديث، وقد أكثر مسلم الرواية عنه في الأصول والشواهد، إلا أن غالبها في الشواهد مقرون في أكثر رواياته بحافظ لا يُدافع، فيسلم من نسبته إلى سوء الحفظ، وقد روى عنه مالك، وهو الحكم في شيوخ أهل المدينة الناقد لهم، ثم قيل في حديثه بالعراق: إنه نسي الكثير منه، وساء حفظه في آخر عمره. وقال أبو الفتح الأزْدي: صدوق، إلا أنه أصابه برسام في آخر عمره، فذهب بعض حديثه. روى عن: أبيه، وسعيد بن المسيِّب، والحارث بن مَخْلد الأنصاري، وعبد الله بن دينار، وعطاء بن يزيد الليثي، والأعمش، وربيعة، وغير واحد من أقرانه.

وروى عنه: الأعمش، وربيعة، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وموسى ابن عُقبة، وزُهير بن معاوية، وابن جُرَيْج، والسفيانان، وابن أبي حازم، ووهيب، وسليمان بن بلال، وجماعة. مات في ولاية أبي جعفر، وقال ابن قانع: مات سنة ثمان وثلانين ومئة، وليس في الستة سهيل بن أبي صالح سواه، وأما سهيل فخمسة. الثاني: تميم بن أوس بن خارجة بن سود بن جديمة بن وداع -ويقال: ذراع- ابن عدي بن الدار بن هانىء بن تماره بن لخم أبو رُقَيّة -بالتصغير- الداريّ. انتقل إلى الشام بعد قتل عثمان، ونزل بيت المقدس، وكان إسلامه سنة تسع، كان نصرانيًّا، وقدم المدينة، فأسلم، وذكر للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم قصة الجساسة والدجال، فحدث عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك على المنبر، وعد ذلك من مناقبه، له ولأخيه نُعيم صحبة. قال ابن إسحاق: قدم المدينة، وغزا مع النبي -صلى الله عليه وسلم-. وقال أبو نُعيم: كان راهب أهل عصره، وعابد أهل فلسطين، وهو أول من أسرج السراج في المسجد، رواه الطبراني من حديث أي هُريرة، وهو أول من قص في عهد عمر، رواه ابن أبي شَيْبة، وإسحاق بن راهويه، أقطعه النبي -صلى الله عليه وسلم- قرية عينون بفلسطين. قال قتادة: كان من علماء أهل الكتابين. وقال ابن سيرين: كان يختم في ركعة. وقال مسروق: قال لي رجل من أهل مكة: هذا مقام أخيك تميم، قام ليلة بآية حتى أصبح، وهي: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ ...} رواه النسائي. وله قصة مع عمر فيها كرامة له واضحة وتعظيم كثير من عمر له، فقد روى البغوي، عن أبي العلاء، عن معاوية بن حَرْمل، قال: قدمت على عمر بن الخطاب، فقلت: يا أمير المؤمنين: تائب من قبل أن يُقدر علي؟ فقال: من أنت؟ فقلت: معاوية بن حَرْمل ختن مُسيلمةَ. قال: اذهب فانزل على خير أهل المدينة. قال: فنزلت على تميم الداريّ، فبينا نحن

نتحدث إذ خرجت نار بالحرة، فجاء عمر إلى تميم، فقال: يا تميم اخرج. فقال: ما أنا وما تخشى أن يبلُغ من أمري، فصغر نفسه، ثم قام فحاشها حتى أدخلها الباب الذي خرجت منه، ثم اقتحم في أثرها، ثم خرج فلم تضره. قال في الإصابة: ذهب الذهبي في "التجريد" إلى أن صاحب الجام الذي نزل فيه وفي صاحبه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ .. الآية} غير تميم الداري، وعزى ذلك لمقاتل بن حيّان، وليس بجيد، لأن في التِّرمذي وغيره عن ابن عباس في قصة الجام أنه تميم الداري. له ثمانية عشر حديثًا، انفرد له مسلم بحديث. روى عنه سيد البشر -صلى الله عليه وسلم- حديث الجساسة في البخاري ومسلم، وناهيك بهذه المنقبة الشريفة. روى عنه: ابن عمر، وابن عباس، وأنس، وأبو هريرة، ورَوْح بن زنباع، وعطاء بن يزيد الليثي، وزُرارة بن أوفى. مات بالشام، ولا عقب له، وقبره ببيت جبرين من بلاد فلسطين. وقال البخاري: أبو هند الداريّ أخوه، وتُعُقِّب، ولكن قال ابن حبان: هو أخوه لأمه. والدّاري في نسبه نسبة إلى جده المار الدار بن هانىء أبي بطن من لخم، واليهم ينسب أبو هند بُرَيْر -كزبير- الصحابي أخو تميم لأمه كما مر. وقوله تعالى: {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} أي: بالإيمان والطاعة في السر والعلانية، أو بما قدروا عليه قولًا أو فعلًا، يعود على الإِسلام والمسلمين بالصلاح.

الحديث الخمسون

الحديث الخمسون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنِى قَيْسُ بْنُ أَبِى حَازِمٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى إِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ. قوله "بايعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم" أي: عاقدته، وقد مر معنى المبايعة في حديث عبادة: "بايعوني على أن لا تُشركوا بالله شيئًا" ووقعت عند المصنف في البيوع زيادة: "السمع والطاعة" وله في الأحكام، ولمسلم عن جرير قال: "بايعت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على السمع والطاعة، فلقنني فيما استطعت، والنصح لكل مسلم". وروى ابن حِبّان عن أبي زُرعة بن عمرو بن جرير: كان جرير إذا اشترى شيئًا أو باع شيئًا يقول لصاحبه: اعلم أن ما أخذناه منك أحب إلينا مما أعطيناكه، فاختر. ويأتي في ترجمته ما رواه الطبراني من قصة غلامه. قال عياض: اقتصر على الصلاة والزكاة لشهرتهما، ولم يذكر الصوم وغيره لدخول ذلك في السمع والطاعة. قال القُرطبي: كانت مبايعة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لأصحابه بحسب ما يحتاج إليه من تجديد عهد أو توكيد أمر، فلذلك اختلفت ألفاظهم. وقوله: "فيما استطعتَ" روي بفتح التاء خطابًا لجرير، وبضمها تلقينًا له بأن يقول هذا اللفظ، والمقصود بهذا التنبيه على أن اللازم من الأمور المبايع عليه هو ما يطاق كما هو المشترط في أصل التكليف، ويشعر

رجاله خمسة

الأمر بقول ذلك اللفظ حال المبايعة بالعفو عن الهفوة، وما يقع من خطأ وسهو، ويتناول النصح لكل مسلم النصح لنفسه بامتثال الأوامر، واجتناب المناهي، وفي هذا التلقين دلالة على كمال شفقته صلى الله تعالى عليه وسلم على أمته. رجاله خمسة: الأول مسدَّد بن مُسَرْهد، والثاني يحيى بن سعيد القطان وقد مرّا في السادس من كتاب الإِيمان، وقد مر إسماعيل بن أبي خالد البَجَليّ في الثالث منه أيضًا. والرابع: قيس بن أبي حازم -بالزاي- واسمه عبد عوف، وقيل: عوف بن عبد الحارث بن عوف البَجَليّ الأحمسي أبو عبد الله الكوفي. أدرك الجاهلية، ورحل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ليبايعه، فقُبض وهو في الطريق، وأبوه له صحبة، وقيل: إن لقيس رؤية، ولم يثبت، ومن حديثه قال: جئت لأبايع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فوجدته قد قُبض، وأبو بكر قائم على المنبر في مقامه، فأطاب الثناء، وأكثر البكاء. وهذا يرد على من زعم أن له رؤية، وأبوه صحابي. ومن حديثه أيضًا: دخلنا على أبي بكر رضي الله عنه في مرضه، وأسماء بنت عُمَيْس عند رأسه تروح عنه. قال ابن عُيينة: ما كان بالكوفة أحد أروى عن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قيس. وقال أبو داود: أجود التابعين إسنادًا قيس بن أبي حازم، روى عن تسعة من العشرة، ولم يرو عن عبد الرحمن بن عوف. وقال يعقوب ابن شَيْبة: قيس من قدماء التابعين، روى عن أبي بكر فمن دونه، وأدركه وهو رجل كامل، ويقال: إنه ليس أحد من التابعين جمع أن روى عن العشرة مثله إلا عبد الرحمن بن عوف، فإنا لا نعلمه قد روى عنه شيئًا، ثم روى بعد العشرة عن جماعة من الصحابة وكبرائهم، وهو متقن الرواية، وقد تكلم أصحابنا فيه، فمنهم من رفع قدره، وعظمه

وجعل الحديث عنه من أصح الإِسناد، ومنهم من حمل عليه، وقال: له أحاديث مناكير، والذين أطروه حملوا هذه الأحاديث على أنها عندهم غير مناكير، وقالوا: هي غرائب، ومنهم من حمل عليه في مذهبه، وقالوا: كان يحمل على علي، والمشهور عنه أنه كان يقدم عثمان، ولذلك تجنب كثير من قدماء الكوفيين الرواية عنه. وقال الذّهبي: أجمعوا على الاحتجاج به، ومن تكلم فيه فقد آذى نفسه. وقال ابن خِراش: كوفي جليل، وليس في التابعين أحد روى عن العشرة إلا قيس بن أبي حازم. وقال ابن مَعين: هو أوثق من الزُّهري. وقال مرة: ثقة. وقال أبو سعيد الأشجّ: سمعت أبا خالد الأحمر يقول لعبد الله بن نُمير: يا أبا هاشم، أما تذكر إسماعيل بن أبي خالد وهو يقول: حدثنا قبس .. هذه الأسطوانه. يعني: في الثقة. وقال يحيى بن أبي غنية: حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، قال: كبر قيس حتى جاز المئة بسنين كثيرة، حتى خرف وذهب عقله. وقال ابن المديني: قال يحيى بن سعيد: قيس بن أبي حازم منكر الحديث، ثم ذكر له يحيى أحاديث مناكير، منها حديث كلاب الحواب. قالت في "تهذيب التهذيب": ومراد القطان بالمنكر الفرد المطلق، وقال ابن حجر في "مقدمته": والقول المبين فيه المفصل فيه هو ما مر عن يعقوب بن شيبة. وأخرج أبو نُعيم من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال: دخلت المسجد مع أبي، فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب، فلما خرجت قال لي أبي: هذا رسول الله يا قيس، وكنت ابن سبع أو ثمان سنين. قال في "الإصابة": لو ثبت هذا لكان قيس من الصحابة، والمشهور عند الجمهور أنه لم ير النبي -صلى الله عليه وسلم-. وقد أخرجه الخطيب من هذا الوجه، وقال: لا يثبت.

روى عن: أبيه، والعشرة إلا عبد الرحمن، قيل: سمع منه، وقيل: لم يسمع منه، وبلال، ومعاذ، وخالد بن الوليد، وابن مسعود، وحذيفة، وجرير بن عبد الله، وأبي موسى الأشعري، وغيرهم. وروى عنه إسماعيل بن أبي خالد، وبيان بن بِشْر، والمُغيرة بن شُبَيْل، والأعمش، وأبو حُرَيْز عبد الله بن الحسين قاضي سِجِسْتان، وغيرهم. مات سنة أربع وثمانين، أو أربع وتسعين، أو ست وثمانين عن مئة ونيف، وقيل: عن مئة وستين سنة، وليس في الستة قيس بن أبي حازم سواه. الخامس: جرير بن عبد الله بن جابر، وهو السليل -بسين مهملة- ابن مالك بن نَضْر بن ثعلبة بن جُشَم بن عُوَيْف بن جُذيمة بن عديّ بن مالك بن سعد بن نذير بن نسر -وهو مالك- بن عبقر بن أنمار بن أراش ابن عمرو بن الغوث أبو عمرو أو أبو عبد الله البَجَليّ القَسْري اليماني. اختلف في وقت إسلامه، ففي الطَّبراني في "الأوسط" عنه أنه قال: لما بُعث النبي -صلى الله عليه وسلم- أتيته، فقال: ما جاء بك؟ فقلت: جئت لأسلم فألقى إليّ كساءه، وقال: "إذا أتاكُم كريمُ قومٍ فأكرموه" وهذا الحديث ضعيف، ولو صح حمل على المجاز، أي: لما بلغنا خبر مبعثه -صلى الله عليه وسلم-. وقيل: أسلم قبل وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بأربعين يومًا، وهو غلط لما في "الصحيحين" من أنه -صلى الله عليه وسلم- قال له: "استنصت الناس" في حجة الوداع، وجزم الواقدي بأنه وفد على النبي -صلى الله عليه وسلم- في شهر رمضان سنة عشر، وأن بعثه إلى ذي الخلصة كان بعد ذلك، وأنه وافى مع النبي حجة الوداع من عامه، وفيه نظر، لأن الطبرانيّ أخرج عن جرير أنه قال: قال لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن أخاكم النّجاشيَّ قد مات" وهذا يدل على أن إسلام جرير كان قبل سنة عشر، لأن النجاشي مات قبل ذلك. وكان جرير جميلًا، وقد قال عمر فيه: يوسف هذه الأمة. وروى

البغوي من طريق قيس بن أبي حازم عن جرير أنه قال: رآني عمر متجردًا، فقال: ما أرى أحدًا من الناس صور بصورة هذا إلاَّ ما ذُكر عن يوسف. وكان طوله ستة أذرع. وروى الطبراني من حديث علي مرفوعًا: "جرير منا أهلَ البيت"، وفي "الصحيح" عنه أنه قال: ما حجبني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منذ أسلمت، ولا رآني إلا تَبَسَّم. وقال فيه حين أقبل وافدًا عليه: "يطلُع عليكم خيرُ ذي يمن، كأن على وجهه مسبحة ملك"، فطلع جرير. وبعثه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى ذي كَلاَع، وذي رُعَيْن باليمن. وفي "الصحيح" عنه أنه قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ألا تُريحنا من ذي الخلصة؟ " فقلت: يا رسول الله: إني رجل لا أثبت على الخيل. فصك في صدري، وقال: "اللهم ثبِّتْهُ، واجعله هاديًا مهديًّا" فخرجت في خمسين من قومي، فأتيناها، فأحرقناها، وهو الذي قال فيه الشاعر: لَولا جريرٌ هَلَكَتْ بَجيلةُ ... نعمَ الفَتى وِبئْسَتِ القبيلةُ فقال عمر رضي الله عنه: ما مُدح من هُجي قومه. وهو الذي قال لعمر حين وجد رائحة من بعض جلسائه، فقال: عزمت على صاحب هذه الرائحة إلا قام فتوضأ. فقال جرير: علينا كلنا يا أمير المؤمنين فاعزم. قال: عليكم كلكم عزمتُ. ثم قال: يا جريرُ: ما زلت سيدًا في الجاهلية والإِسلام. وروى الطبراني في ترجمته أن غلامه اشترى له فرسًا بثلاث مئة، فلما رآه جاء إلى صاحبه، وقال: إن فرسك خير من ثلاث مئة، فلم يزل يزيده حتى أعطاه ثمان مئة. وقال: بايعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على النصح لكل مسلم. وقدم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه من عند سعد بن أبي وقَّاصٍ، فقال له: كيف تركت سعدًا في ولايته؟ فقال له: تركته أكرم الناس

مقدرة، وأحسنهم معذرة، وهو لهم كالأم البرة، تجمع لهم كلما تجمع ذَرَّة، مع أنه ميمون الأثر، مرزوق الظفر. أشد الناس عند البأس، وأحب قريش إلى الناس. قال: فأخبرني عن حال الناس. قال: هم كسهام الجعبة، منها القائم الرائش، ومنها العُصْل الطائش، وابن أبي وقّاص ثِقافها، يغمز عصلها ويقيم ميلها، والله أعلم بالسرائر يا عمر. والعُصْل -بالضم- المعوج من السهام، والثقاف ككتاب ما تقوم به الرماح. قال: أخبرني عن إسلامهم. قال: يقيمون الصلاة لأوقاتها، ويؤتون الطاعة ولاءها. قال عمر رضي الله عنه: الحمد لله إذا كانت الصلاة أوتيت الزكاة، وإذا كانت الطاعة كانت الجماعة. وهو القائل: الخرس خيرٌ من الخِلابة، والبَكَم خير من البذاء. قدمه في حروب العراق على جَميع بَجيله، وكان لهم أثر في فتح القادسية، وكان رسول علي إلى معاوية، فحبسه مدة طويلة، ثم رده برَق مطبوع غير مكتوب، وبعث معه من يخبر بمنابذته له في خبر طويل. له مئة حديث، اتفقا على ثمانية منها، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بستة. وقال النووي: له مئتا حديث، انفرد البخاري بحديث، وقيل: بستة، ولعل صوابه: ومسلم بستة، بدل وقيل: بستة. روى عن: النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعمر، ومعاوية، وأنس بن مالك، فقد أخرج الشيخان عنه: كان جرير يخدمني وهو أكبر مني. روى عنه: بنوه عبد الله والمنذر وإبراهيم، وابن ابنه أبو زُرعة، وقيس ابن أبي حازم، وهمّام بن الحارث، والشعبيّ. نزل الكوفة وسكنها، وكان له بها دار، ثم إلى قَرْقِيسيناء، ومات بها سنة أربع وخمسين، وقيل: إحدى وخمسين، وقيل: مات بالسراة في ولاية الضّحاك بن قَيْس على الكوفة لمعاوية. وليس في الستة جرير بن عبد الله البَجَلي إلاَّ هذا، وفيهم جرير بن

لطائف إسناده

عبد الله الحِمْيَريّ، وقيل: ابن عبد الحميد، وفيهم جرير بن الأرقط، وجرير ابن أوس الطائيّ، وقيل: جريم، وأبو جرير، يروي حديثًا عن أبي ليلى، عنه. وليس في الستة جرير بن عبد الله سواه، وفيها جرير بدون عبد الله ثمانية. والبَجَليّ في نسبه مر الكلام عليه في التاسع والعشرين من كتاب الإيمان، ومر الكلام على الأحمسي في الثالث منه أيضًا. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع والإفراد والعنعنة، ورواته كلهم كوفيون ما عدا مسددًا، وثلاثة مكنون بأبي عبد الله، وهم: إسماعيل، وقيس، وجرير، وهؤلاء الثلاثة كلهم بجليون. ومنها أن اثنين من الثلاثة تابعيان، وهما: إسماعيل، وقيس. وهذا الحديث أخرجه البخاري هنا، وفي الصلاة عن أبي موسى، وفي الزكاة عن محمد بن عبد الله، وفي البيوع عن علي عن سفيان، وفي الشروط عن مسدَّد أيضًا، ومسلم في الإيمان عن أبي بكر بن أبي شَيبة وغيره، والترمذي في البيعة عن محمد بن بَشَّار.

الحديث الحادي والخمسون

الحديث الحادي والخمسون حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلاَقَةَ قَالَ سَمِعْتُ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ يَوْمَ مَاتَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ قَامَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ عَلَيْكُمْ بِاتِّقَاءِ اللَّهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَالْوَقَارِ وَالسَّكِينَةِ حَتَّى يَأْتِيَكُمْ أَمِيرٌ، فَإِنَّمَا يَأْتِيكُمُ الآنَ، ثُمَّ قَالَ اسْتَعْفُوا لأَمِيرِكُمْ، فَإِنَّهُ كَانَ يُحِبُّ الْعَفْوَ. ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّى أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قُلْتُ يَا رَسُولَ الله أُبَايِعُكَ عَلَى الإِسْلاَمِ. فَشَرَطَ عَلَيَّ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ. فَبَايَعْتُهُ عَلَى هَذَا، وَرَبِّ هَذَا الْمَسْجِدِ إِنِّى لَنَاصِحٌ لَكُمْ. ثُمَّ اسْتَغْفَرَ وَنَزَلَ. قوله: "سمعت جرير بن عبد الله يقول" أي: سمعت كلامه، فالمسموع هو الصوت والحروف، فلما حذف هذا وقع ما بعده تفسيرًا له، وهو قوله: "يقول". قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى: {إنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ} أوقع الفعل على المسمع وحذف المسموع لدلالة وصفه عليه، وفيه مبالغة ليست في إيقاعه على نفس المسموع. وقوله: "يوم مات المُغيرة بن شُعبة" ويوم بالنصب على الظرفية، أضيف إلى قوله مات، وكان المغيرة واليًا على الكوفة في خلافة معاوية، واستناب عند موته ولده عروة، وقيل: استناب جريرًا، ولذا خطب الخطبة المذكورة. وقوله: "قام فحمد الله" أي: أثنى عليه بالجميل عقب قيامه. لأن الحمد لغة هو الوصف بالجميل على الجميل الاختياري أو القديم، سواء كان من باب الإحسان أو من باب الكمال، والحمد عرفًا هو الثناء باللسان

أو القلب أو غيرهما من الأركان في مقابلة نعمة، وجملة قام لا محمل لها من الإعراب لأنها استئنافية. وقوله، "وأثنى عليه" أي: ذكره بالخير مطلقًا، أو الأول وصف بالتحلي بالكمال، والثاني وصف بالتخلي عن النقائص، وحينئذ فالأولى إشارة إلى الصفات الوجودية، والثانية إلى الصفات العدمية، أي: التنزيهيات. وقوله: "عليكم باتقاء الله وحده" أي: الزموه وحده، أي: حال كونه منفردًا بالاتقاء لا شريك له في ذلك، والاتقاء أفتعال من التقوى، والتقوى مشتقة من الوقاية بمعنى الصيانة، لأنها تصون صاحبها من إرتكاب الرذائل في الدنيا، أو من العذاب في الآخرة، وقد سئل علي رضي الله تعالى عنه عن التقوى، فقال: هي العمل بما في التنزيل، والاستعداد ليوم الرحيل، والخوف من الجليل. وبعض العلماء قسم التقوى إلى ثلاث مراتب: الأولى: التقوى بالتبرّي عن الشرك الموجب للخلود في النار، وعليه قوله تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى}. والثانية: التجنب عن كل ما فيه إثم من فعل أو ترك، حتى الصغائر عند قوم، وهو المعنى بقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا}. والثالثة: أن يتنزه عن كل ما يشغل سره عن الحق، وهذا هو المطلوب بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} وفسر بعضهم حق التقاة بأن يطاع فلا يُعصى، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى، وهذا مقام الأنبياء المرسلين، ويكون لخواص عباد الله الذين على قدم الأنبياء، ولهذا قال بعض العارفين: ولَو خَطَرَتْ لي في سواكَ إرادةٌ ... على خاطِرِي يومًا حكمتُ بردَّتي وليس معنى هذا أنه يصير كافرًا يستحق الخلود في النار، بل هذا لسان محب عاشق، وردته نقصه عن مرتبة حبه إلى مرتبة أدنى منها في الحب، ونظم المختار بن بون هذه المراتب الثلاث في "وسيلته" مقدمًا في النظم

الرتبة الثانية ثم الثالثة ثم الأولى، فقال: والأتْقِيا مَنْ لا ينونَ لَهُمُ ... تنزةٌ عَنْ كلِّ ما يُؤثِّمُ أعلى مراتب الثُّقى التَّنَزُّهُ ... عن شاغلٍ عن الذي الأمرُ لهُ وربَّما أُطَلق في التَّبَرّي ... عن جعلِ للهِ شريكٍ فادْرِي وفي "تفسير" ابن جُزي درجات التقوى خمس: أن يتقي العبد الكفر وذلك مقام الإِسلام، وأن يتقي المعاصي وهو مقام التوبة، وأن يتقي الشبهات وهو مقام الورع، وأن يتقي المباحات وهو مقام الزهد، وأن يتقي خطور غير الله تعالى على قلبه وهو مقام المشاهدة. وفي "ضياء التأويل" عند قوله تعالى: {إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا} إن في المواضع الثلاثة إشارة إلى مراتب التقوى، الأولى: اتقاء المحارم تقوى العوام، والثانية: اتقاء الشبهات تقوى الخواص، والثالثة: اتقاء غير الله تعالى، وهو ربط سره على الله، وهو تقوى خواص الخواص، فهذه مراتب المبدأ والوسط والمنتهى. وقيل: في الآية غير هذا، فقيل: الأول: اتقوا المحرمات خوف الوقوع في الكفر. والثاني: الشبهات خوف الوقوع في المحرمات. والثالث: بعض المباحات خوف الوقوع في الشبهات. وقيل: الأول تقوى العبد بينه وبين ربه، والثاني: تقوى العبد بينه وبين نفسه، والثالث: تقوى العبد بينه وبين الناس. لأن العبد لا يكمل إلا إذا كان طائعًا فيما بينه وبين ربه، مجاهدًا فيما بينه وبين نفسه، محافظًا على حقوق العباد، وقد أشبعنا الكلام على التقوى في كتابنا على التصوف المسمى بـ"تصوف السعادة والنجاح". وقوله: "والوَقار والسكينة" بالجر عطف على اتقاء، أي: وعليكم بالوَقار، وهو بفتح الواو الرزانة، والسكينة السكون، والصحيح في تفسيرهما ما نظمه شيخنا عبد القادر بقوله:

وخفْضُ صوتٍ ثمَّ غضُّ البصرِ ... هُو الوَقارُ عندَهُم في الأشهرِ أما السكينةُ فبالتَّأني ... وعدمِ الفعلِ لما لا يَعْني وإنما أمرهم بما ذكر مقدمًا لتقوى الله تعالى، لأن الغالب أن وفاة الأمراء تؤدي إلى الاضطراب والفتنة، ولاسيما ما كان عليه أهل الكوفة، إذ ذاك من مخالفة ولاة الأمور. وقوله: "حتى يأتيكم أمير" أي: بدل أميركم المغيرة المتوفى، ومفهوم الغاية هنا من حتى، وهو أن المأمور به وهو الاتقاء ينتهي بمجيء الأمير ليس مرادًا، بل يلزم ذلك بعد مجيء الأمير بطريق الأولى، وشرط اعتبار مفهوم المخالفة أن لا يعارضه مفهوم الموافقة. قلت: القاعدة النحوية أن حتى وإلى متى دلت قرينته على دخول الغاية في حكم ما قبلهما، أو على عدم دخولها، عُمل بتلك القرينة، وإلا فثالثها تدخل مع حتى دون إلى وهو الأصح، والقرينة هنا دالة على دخول الغاية، لأن الطاعة مطلولة شرعًا طلبًا مطلقًا، وطلبها مع وجود الأمير آكد، فلا يحتاج إلى الجواب السابق مع القاعدة النحوية. وقوله: "فإنما يأتيكم الآن" الآن منصوب على الظرفية، وهو ظرف للوقت الحاضر جميعه، كوقت فعل الإنسان حال النطق به، أو الحاضر بعضه نحو قوله تعالى: {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ} ويحتمل أن تكون هنا على حقيقتها، فيكون الأمير جريرًا بنفسه لما رُوي أن المغيرة استخلف جريرًا على الكوفة عند موته، ويحتمل أن يراد بها الزمن القريب من الحاضر، وهو كذلك، لما رُوي أن معاوية لما بلغه موت المغيرة كتب إلى نائبه على البصرة زياد أن يسير إلى الكوفة أميرًا عليها. وقوله: "ثم قال: استَعْفُوا لأميركم" بالعين المهملة، أي اطلبوا له العفو من الله تعالى، وفي رواية ابن عساكر: "استغفرُوا" بغين معجمة وراء.

وقوله: "فإنه كان يحبُّ العفوّ" يعني عن ذنوب الناس، وفيه إشارة إلى أن الجزاء يقع من جنس العمل. وقوله: "ثم قال: أما بعد" ببناء بعد على الضم، ظرف زمان حذف منه المضاف إليه، ونُوي معناه، وكلمة أما بمعنى الشرط، أي: مهما يك من شيء فقد كان كذا، وتلزم الفاء في تالي تاليها، والتقدبر: أما بعد كلامي هذا فإني .. إلخ، وقد قيل: إن فصل الخطاب الذي أُعطيه داود عليه السلام هو أما بعد، وقيل: إنه هو أول من تكلم بها، وهو أقرب الأقوال، رواه الطبرانيُّ مرفوعًا عن أبي موسى، وفي إسناده ضعف. وقيل: يعقوب عليه السلام. وقيل: يَعْرُب -كينصر- ابن قحْطان. وفي "غرائب مالك" للدَّارَقُطني أن يعقوب عليه السلام أول من قالها، فإن ثبت وقلنا: إن قحطان من ذرية إسماعيل. فيعقوب أول من قالها مطلقًا، وإن قلنا: إن قحطان قبل إبراهيم فيعْرُب أول من قالها، وقيل: كعب بن لؤي، أخرجه القاضي أبو أحمد الغَسَّاني بسند ضعيف، وقيل: قس بن ساعدة الإياديّ، وقيل سَحْبان وائل، وقيل: أيوب عليه السلام، ونظم الأقوال السبعة بعضهم فقال: جَرَى الخُلْفُ أما بعدُ مَنْ كانَ بادئا ... بها سبعُ أقوالٍ وداودُ أقربُ لفصلِ خطابٍ ثمَّ يعقوبُ قسُّهُم ... فسَحْبانُ أيوبٌ فكعبٌ فيَعْرُبُ وقد روى أربعون صحابيًّا أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقول: أما بعد في خطبه ورسائله، وقد تقدمت أما بعد في حديث هرقل، وتكلمت عليها هناك، ولكن الكلام عليها في هذا المحل اوسع. وقوله: "قلت: يا رسول الله" لم يأت بأداة العطف، لأنه بدل اشتمال من أتيت، أو استئناف. وفي رواية أبي الوقت: "فقلت له". قوله: "فشرط علي والنصح لكل مسلم" والنصح بالخفض عطفًا على الإِسلام، ويجوز نصبه عطفا على مقدر أي: شرط على الإِسلام والنصح، والتقييد بالمسلم للأغلب، وإلا فالنصح للكافر الذمي معتبر بأن يدعى

إلى الإِسلام، ويشار عليه بالصواب إذا استشار، واختلف العلماء في البيع على بيعه ونحو ذلك، فجزم أحمد أن ذلك يختص بالمسلمين، واحتج بهذا الحديث. وقوله: "ورب هذا المسجد" أي: مسجد الكوفة، فإن كلامه هذا مشعر بأن خطبته كانت في المسجد، ويجوز أن يكون إشارة إلى جهة المسجد الحرام، ويدل عليه رواية الطبراني بلفظ: "ورب الكعبة" وذكر ذلك للتنبه على شرف المقسم به، ليكون أدعى للقبول. وقوله: "إني لكُم لناصحٌ" فيه إشارة إلى أنه وفي بما بايع عليه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وأن كلامه عارٍ عن الأغراض الفاسدة، والجملة جواب القسم مؤكد بإن، والسلام والجملة الاسمية. وقوله: "ثم استغْفر ونزل" مشعر بأنه خطب على المنبر، أو المراد قعد؛ لأنه في مقابلة قوله: "قام فحمد الله تعالى". وقد ختم كتاب الإيمان بباب النصيحة، مشيرًا إلى أنه عمل بمقتضاه في الإرشاد إلى العمل بالحديث الصحيح دون السقيم، ثم ختمه بخطبة جرير المتضمنة لشرح حاله في تصنيفه، فأومأ بقوله: "فإنما يأتيكم الآن" إلى وجوب التمسك بالشرائع حتى يأتي من يقيمها، إذ لا تزال طائفة منصورة، وهم فقهاء أصحاب الحديث. وبقوله: "استعفُوا لأميركم" إلى طلب الدعاء له لعمله الفاضل، ثم ختم بقوله: "استَغْفَر ونزل" فأشعر بختم الباب، ثم عقبه بكتاب العلم لما دل عليه حديث النصيحة أن معظمها يقع بالتعلم والتعليم، هكذا قال في "الفتح"، وفي كون البخاري قصد هذا كله تكلف لا يخفى. رجاله أربعة وفيه ذكر المغيرة بن شعبة. الأول: محمد بن الفضل أبو النعمان السَّدوسيّ البَصْري المعروف بعارِم. قال الذُّهليّ: حدثنا محمد بن الفضل عارِم وكان بعيدًا من العرامة،

صحيح الكتاب، وكان ثقة. وقال العجلي: بصري ثقة، رجل صالح، ليس يعرف إلا بعارِم. وقال أبو داود: سمعت عارمًا يقول: سماني أبي عارمًا، وسميت نفسي محمدًا. وقال ابن الصلاح في كتابه "معرفة علوم الحديث": كان عارِم عبدًا صالحًا بعيدًا من العَرامة، والعارم: الشرير الأذيّ المفسِد. وقال ابن دارة: حدثنا عارم بن الفضل الصدوق المأمون. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: إذا حدثك عارم فاختم عليه، عارم لا يتأخر عن عفّان. وكان سليمان بن حرب يقدم عارمًا على نفسه إذا خالفه عارم رجع إليه وهو أثبت أصحاب حماد بن زيد بعد ابن مَهدي، قال: وسئل أبي عن عارم وأبي سلمة، قال: عارم أحب إلى. قال: وسئل أبي عنه، فقال: ثقة. وقال سليمان بن حرب: إذا ذكرت أبا النعمان فاذكر ابن عَوْن وأيّوب. وقال أيضًا: إذا وافقني أبو النعمان، فلا أبالي من خالفني. وقال العُقيلي: قال لنا جدي: ما رأيت بالبصرة أحسن صلاة منه، وكان أخشع من رأيت. وقال النّسائي: كان أحد الثقات قبل أن يختلط. وقال أبو حاتم: اختلط عارم في آخر عمره، وزال عقله، فمن سمع من قبل الاختلاط فسماعه صحيح، وكتبت عنه قبل الاختلاط سنة أربع عشرة، ولم يسمع منه بعد ما اختلط، فمن سمع منه سنة عشرين فسماعه جيد، وأبو زرعة لقيه سنة اثنتين وعشرين. وقال البخاري: تغير في آخر عمره. وقال أبو داود: كنت عند عارِم، فحدث عن حماد عن هشام عن أبيه أن ماعزًا الأسلمي سأل عن الصوم في السفر، فقلت له: حمزة الأسلمي، يعني أن عارمًا قال هذا وقد زال عقله. وقال أيضًا: بلغنا أنه أنكر سنة ثلاث عشرة، ثم راجعه عقله، ثم استحكم به الاختلاط سنة ست عشرة. وقال ابن حِبّان اختُلط في آخر عمره، وتغير حتى كان لا يدري ما يحدث به، فوقع في حديثه المناكير الكثيرة، فيجب التنكب عن حديثه فيما رواه المتأخرون، فإن لم يُعلم هذا من هذا تُرك الكل، ولا يحتج بشيء منها. وقال الدّارقطني: تغير بآخره، وما ظهر له بعد اختلاطه حديث منكر، وهو

ثقة. وقال الذّهيي: لم يقدر ابن حِبّان أن يسوق له حديثًا منكرًا، والقول فيه ما قال الدّارقطني. وقال ابن حجر: انما سمع منه البخاري سنة ثلاث عشرة قبل اختلاطه بمدة، وقد اعتمده في عدة أحاديث، وفي "الزهرة" روى عنه البخاري أكثر من مئة حديث. روى عن: جرير بن حازم، ومهدي بن مَيْمون، ووُهيب بن خالد، والحمادين، ومعتمر بن سليمان، وأبي عَوانة، وعبد بن زياد، وغيرهم. وروى عنه: البخاري، وروى هو والباقون بواسطة عبد الله بن محمد المُسْنِديّ، وروى عنه محمد بن يحيى الذُّهلي، وهارون الحمال، وعبد ابن حميد، والحسن بن علي الخَلاّل، وأحمد بن حنبل، وأبو حاتم، وأبو زُرعة، وغيرهم. مات بالبصرة سنة أربع وعشرين ومئتين. وفي الستة محمد بن الفضل سواه واحد، وهو ابن الفضل بن عَطِيّة العبسيّ مولاهم. والسَّدوسيّ في نسبه مر الكلام عليه في السادس من كتاب الإيمان. الثاني: أبو عَوانة وقد مر في الخامس من بدء الوحي. الثالث: زياد بن عِلاقة -بكسر العين- ابن مالك أبو مالك الثعلبي الكوفي ابن أخي قُطبة. قال ابن مَعين والنسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق الحديث. وذكره ابن حِبّان في "الثقات". وقال العِجْلي: كان ثقة، وكان في عداد الشيوخ. وقال يعقوب بن سفيان: كوفي ثقة. وقال ليث بن أبي سُليم: حدثنا زياد رجل قد أدرك ابن مسعود. قال ابن حجر: لا يلتئم أن يكون هو مع جزمه بأن روايته عن سعد مرسلة، لأنه أي: سعدًا عاش بعد ابن مسعود طويلًا، بل عاش بعد المغيرة مدة. وقال الأزديّ: سيىء المذهب، كان منحرفًا عن أهل البيت. وقال هشام بن الكلبيّ: إن زياد بن علاقة أدرك الجاهلية. وقال ابن حجر: وهذا غلط.

روى عن: عمه، وأسامة بن شَريك، وجرير بن عبد الله، والمغيرة ابن شُعبة، وجابر بن سَمُرة، وعمرو بن ميمون، وأرسل عن سعد بن أبي وقاص. وروى عنه: السفيانان، والأعمش، وسِماك بن حرب، وشعبة ومسعر، وزُهير بن مُعاوية، وأبو عوانة، وشيبان، وأبو الأحوص وجماعة. مات سنة خمس وثلاثين ومئة وقد قارب المئة. وليس في الستة زياد ابن عِلاقة سواه، وأما زياد فعدد. والثَّعْلَبيّ في نسبه نسبة إلى ثعلبة بن سعد بن ذُبيان بن بغيض بن ريث بن غَطَفان، وثعلبة في قبائل في أسد بن خزيمة ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة، وفي تميم، وفي ربيعة، وفي قيس، والثعلبان قبيلتان من طيّء، وهما: ثعلبة بن جذماء بن ذهل بن رومان بن جندب بن خارجة ابن سعد بن قطرة بن طيّء والثانية: ثعلبة بن رومان بن جُندب المذكور، وأم جندب جَديلة بنت سبيع بن عمرو بن حِمْيَر، وإليها ينسبون. وقال أبو عبيد: الثعالب في طيء يقال لهم، مصابيح الظلام، كالربائع في تميم، قال الشاعر: يا أوْسُ لو نالتكَ أرماحُنا ... كنتَ كمَنْ، تهوي بهِ الهاوِيَة يأتي لها الثُّعلبانُ الذي ... قال خباجُ الأمةِ الراعية وفي القبائل بغير هاء ثعلب بن عمرو من بني شَيْبان حليف في بني عبد قيس شاعر، والنحوي صاحب الفصيح هو أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب، وثعلبة اثنان وعشرون صحابيًا، أو ينيفون على أربعين. الرابع: جرير بن عبد الله، وقد مر في الحديث الذي قبل هذا. الخامس: المغيرة بن شُعبة بن أبي عامر بن مسعود بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن قيس، وهو ثقيف الثَّقَفي أبو محمد أو أبو عيسى أو أبو عبد الله، قيل: إن الذي كناه بهذا عمر بن الخطاب.

روى البغوي عن زيد بن أسلم أن المغيرة استأذن على عمر، فقال: أبو عيسى. فقال عمر: من أبو عيسى. قال: المغيرة بن شعبة. قال: فهل لعيسى من أب، فشهد له بعض الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكنيه بهذا، فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد غُفِر له، وأنا لا أدري ما يُفعل بي، وكناه أبا عبد الله. أسلم عام الخندق، وقدم مهاجرًا، وقيل: إن أول مشاهده الحديبية، وأمه امرأة من بني نصر بن معاوية، كان رجلًا طُوالا مصاب العين، أصيبت عينه يوم اليرموك، ضخم القامة، عَبْل الذراعين، بعيد ما بين المنكِبَيْن، أصهب الشعر جَعْده، وكان لا يفرقه، كان يقال له: مغيرة الرأي. شهد اليمامة، وفتوح الشام والعراق، وكان من دهاة العرب. قال قَبيصة بن جابر: صحبت المغيرة، فلو أن مدينة لها ثمانية أبواب لا يخرج من باب منها إلا بالمكر لخرج المغيرة من أبوابها كلها. وقال الطبري: كان لا يقعُ في أمر إلاَّ وجد له مخرجًا، ولا يلتبس عليه أمران إلا ظهر له الرأي في أحدهما، ومن أحسن دهائه أنه لما وُضِع النبي صلى الله عليه وسلم في قبره طرح خاتمه فيه، وقال: خاتمي وقع مني، فدخل فأخذه، ليكون آخر الناس عهدًا برسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن دهائه ما رواه زيد بن أسلم عن أبيه أنه استعمله عمر على البحرين، فكرهوه وشكوا منه، فعزله، وخافوا أن يعيده عليهم، فجمعوا مئة ألف، وأحضرها الدِّهْقان إلى عمر، وقال له: إن المغيرة اختان هذه وأودعها عندي، فدعاه، فسأله فقال: كذب إنما كانت مئتي ألف، فقال له عمر: وما حملك على ذلك؟ قال: كثرة العيال. فسُقِطَ في يد الدِّهْقان، فحلف وأكد الأيمان أنه لم يودع عنده قليلًا ولا كثيرًا. فقال عمر للمُغيرة: ما حملك على هذا؟ قال: إنه افترى عليَّ، فأردت أن أخزيه. وروي عنه أنه قال: أنا أول من رشا في الإِسلام، كنت جئت إلى

يرفأ حاجب عمر بن الخطاب، وكنت أجالسه، فقلت له يومًا: خذ هذه العمامة فالبسها، فإن عندي أختها، فكان يأنس بي، ويأذن لي أن أجلس من داخل الباب، فكنت آتي فأجلس في القائلة، فيمر المار فيقول: إن للمغيرة عند عمر منزلة، إنه ليدخل عليه في وقت لا يدخل عليه فيه أحد. وقد قال الشعبي: دهاة العرب أربعة: معاوية بن أبي سُفبان، وعمرو ابن العاص، والمغيرة بن شعبة، وزياد. فاما معاوية فللأناة والحلم، واما عمرو فللمعضلات، وأما المغيرة فللمبادهة، وأما زياد فللصغير والكبير. قال ابن عبد البر: ويقولون: إن قيس بن سعد بن عُبادة لم يكن في الدهاء بدون هؤلاء مع كرم كان فيه وفضل. ولما قتل عثمان وبايع الناس عليًّا دخل عليه، وقال له: يا أمير المؤمنين، إن لك عندي نصيحة، قال: وما هي؟ قال: إن أردت أن يستقيم لك الأمر فاستعمل طلحة بن عُبيد الله على الكوفة، والزُّبير بن العوام على البصرة، وابعث معاوية على الشام حتى تلزمه طاعتك، فإذا استقرت لك الخلافة فأدركها كيف شئت برأيك. فقال له علي: أما طلحة والزبير فسأرى رأبي فيهما وأما معاوية فلا والله لا يراني الله مستعملًا له ولا مستعينًا به ما دام على حاله، ولكني أدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه المسلمون، فإن أبى حاكمته إلى الله تعالى، فانصرف عنه المغيرة مُغْضَبًا لما لم يقبل منه نصيحته، فلما كان الغد أتاه، فقال: يا أمير المؤمنين: نظرت فيما قلت بالأمس وما جاوبتني فيه، فرأيت أنك وُفِّقت للخير، ثم خرج عنه، فلقيه الحسن وهو خارج، فقال لأبيه: ما قال لك الأعور؟ فقال: أتاني بالأمس، وقال لي كذا، وأتاني اليوم بكذا، فقال له: نصحك والله أمس، وخدعك الوم. فقال له علي: إن أقررت معاوية على ما بيده كنت متخذًا المُضِلّين عضدًا. وقال المغيرة في ذلك: نصحتُ عليًّا في ابنِ هندٍ نصيحةً ... فردَّ فلَمْ أنصَحْ لهُ الدهرَ ثانيَهْ فقلتُ لهُ أرسلْ إليهِ بعهدهِ ... على الشامِ حتّى يستقرَّ معاويَهْ

ويعلمَ أهلُ الشام أنْ قد ملكتَهُ ... فأمُّ ابن هندٍ بعدَ ذلك هاوِيَهْ فلَمْ يقبلِ النُّصْحَ الذي جئتهُ بهِ ... وكانَتْ لهُ تلكَ النصيحةُ كافيَهْ ويقال: إن المغيرة أحصن ألف امرأة في الإِسلام، وقيل ثلاث مئة، ووقف على قبره مِصْقَلة بن هُبيرة الشيباني وقال: إنَّ تحتَ الأحجار حَزْمًا وجَودًا ... وخصيمًا ألدَّ ذا مغلاقِ حية في الوجارَ أربدُ لا ينـ ... ـفعُ السليمَ منه نفْثُ راقِ ثم قال: أما والله لقد كنت شديد العداوة لمن عاديت، شديد الأخوة لمن آخيت، كان رضي الله تعالى عنه أول من وضع ديوان البصرة، وهو أول من سلم عليه بالإمرة، وولاه عمر البصرة، ففتح مَيْسان وهَمْدان وعدة بلاد إلى أن عزله لما شهد عليه أبو بَكْرة ومن معه، ثم ولاه الكوفة، وأمّره عثمان ثم عزله، فلما قتل عثمان اعتزل القتال إلى أن حضر مع الحكمين، ثم بايع معاوية بعد أن اجتمع الناس عليه، ثم ولاه بعد ذلك الكوفة، فاستمر على إمرتها إلى أن مات، واستخلف عليها عند موته ابنه عروة، وقيل: استخلف جريرًا، فولى معاوية حينئذ الكوفة زيادًا مع البصرة، وجمع له العراقين. روي له مئة وستة وثلاثون حديثًا، اتفقا على تسعة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم باثنين. روى عنه أولاده عروة وعقار وحمزة، ومولاه ورّاد، وابن عم أبيه جُبيرة ابن حية، والمِسْور بن مَخْرمة من الصحابة، وقيس بن أبي حازم، وقَبيصة ابن ذُؤيب، ونافع بن جُبير، وبكر بن عبد الله المُزَني، والأسْود بن هلال، وزياد بن عِلاقة، وآخرون. مات بالكوفة سنة خمسين عند الأكثر، وقيل: قبلها بسنة، وقيل: بعدها بسنة.

لطائف إسناده

وليس في الصحابة المغيرة بن شعبة سواه، وأما المغيرة فيهم فستة، وليس في الستة أيضًا المغيرة بن شعبة سواه، والمغيرة كثير. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة والسماع، ومنها أن رواته ما بين كوفي وبصري وواسطي، وهو من رباعيات البخاري. أخرجه البخاري هنا، وفي الشروط عن أبي نُعيم، ومسلم في الإيمان عن أبى بكر بن أبى شيْبة وغيره، والنسائي في البيعة والسير عن محمد ابن عبد الله المَقْبُري، وفي الشروط عن محمد بن عبد الأعلى.

خاتمة

خَاتِمَة اشتمل كتاب الإيمان ومقدمته من بدء الوحي من الأحاديث المرفوعة على أحد وثمانين حديثًا بالمكرر منها. في بدء الوحي خمسة عشر، وفي الإيمان ستة وستون، المكرر منها ثلاثة وثلاثون، منها في المتابعات بصيغة المتابعة أو التعليق اثنان وعشرون، في بدء الوحي ثمانية، وفي الإيمان أربعة عشر، ومن الموصول المكرر ثمانية، ومن التعليق الذي لم يوصل في مكان آخر ثلاثة، وبقية ذلك وهو ثمانية وأربعون حديثًا موصولة بغير تكرير. وقد وافقه مسلم على تخريجها إلا سبعة، وير: الشعبي عن عبد الله ابن عمرو في "المسلم والمهاجر". والأعرج عن أبي هُريرة في "حب الرسول -صلى الله عليه وسلم-"، وابن أبي صعْصَعة عن أبي سعيد في "الفرار من الفتن"، وأنس عن عبادة "في ليلة القدر"، وسعيد عن أبي هُريرة في "الدين يسر" والأحنف عن أبي بكرة في "القاتل والمقتول"، وهشام عن أبيه عن عائشة في "أنا أعلمكم بالله". وجميع ما فيه من الموقوفات على الصحابة والتابعين ثلاثة عشرِ أثرًا معلقة غير أثر ابن الناطور فهو موصول، وكذا خطبة جرير التي ختم بها كتاب الإيمان، والله تعالى أعلم والهادي إلى الصراط المستقيم. تم الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث إن شاء الله تعالى

كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري تأليف الامام المحدث العلامة الشيخ محمد الخضر الجكينى الشنقيطي (المتوفى سنة 1354هـ) الجزء الثالث مؤسسة الرسالة

بسم الله الرحمن الرحيم

كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1415هـ - 1995م مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع مؤسسة الرسالة بيروت - شارع سوريا - بناية صمدي وصالحة هاتف: 603243 - 815112 - ص. ب: 7460 - برقيًا: بيوشران

كتاب العلم

كتاب العلم باب فضل العلم، وقول الله تعالى {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11] وقوله عز وجل {رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]. أخَّر البَسْملة هنا في رواية كريمة والأصيليّ عن كتاب العلم، وقدمها في رواية أبي ذَرٍ، وقد قدَّمنا توجيه ذلك في كتاب الإيمان، وسقط لفظ كتاب في بعض الروايات، وقدّم كتاب العلم على لاحقه لما مر في أول كتاب الإيمان من أن مدار الكتب التي تأتي بعده كلها عليه، وبه تُعْلم وتميَّز والعلَم مصدر عَلِمتُ أعْلم علمًا. قال القاضي ابن العَرَبِي: بدأ المصنّف بالنظر في فضل العلم قبل النظر في حقيقته، وذلك لاعتقاده أنه في نهاية الوضوح، فلا يحتاج إلى تعريف، أو لأنّ النظر في حقائق الأشياء ليس من فن الكتاب. وكل من القَدَرَين ظاهر، لأن البخاري لم يضع كتابه لحدود الحقائق وتصورها، بل هو جار على أساليب العرب القديمة، فإنهم يبدؤون بفضيلة المطلوب للتشويق إليه إذا كانت حقيقته مكشوفة معلومة. وقد أنكر ابن العربي على من تصدى لتعريف العلم وقال: هو أبْيَن من أن يُبيَّن، وهذه طريقة الغزاليّ قائلًا: إنه لا يُحَدُّ لوضوحه، وقال الإِمام فخر الدين: لا يحد لأنه ضروريّ، إذ لو لم يكن ضروريًا لزم الدَّوْر. وبيان ذلك هو أنه لو لم يكن ضروريًا كان نظريًّا، إذ لا واسطة بينهما، وإذا كان نظريًا لابد أن يعلم بغير العلم، وغير العلم لا يعلم إلا بالعلم، أو يعلم بالعلم فتتوقف معرفته على نفسه، وهذا هو عين الدَّوْر.

وقال امام الحرمين: لا يحد لعسره، والصحيح في حدّه أنه حُكْم الذهن الجازم المطابق الذي لا يقبل التغير لموجب، يعني من حِسٍّ أو عقل أو عادة، فخرج بالجازم الظن والشك والوهم، وخرج بباقي القيود الاعتقاد، طابق الواقع أم لا، لأنه يقبل التغير، ولم يكن لموجب. وقوله: باب فضل العلم ليس في رواية المُسْتملي لفظ باب، ولم يذكر لهذه الترِجمة حديثًا. وذلك إما أن يكون اكتفى بالآيتين المذكورتين فيها، وإما بَيَّضَ له ليُلْحق فيه ما يناسبه، فلم يتيسَّر، أو اخترمته المنية قبل أن يُلحق بالباب حديثًا يناسبه، لأنه كتب الأبواب والتراجم، ثم كان يُلْحق فيها ما يناسبها من الحديث على شرطه، فلم يقع له شيء من ذلك، أو أنه تعمد عدم إيراد الحديث إشارة إلى أنه لم يثبت فيه شيء عنده على شرطه، ولكن محل هذا حيث لا يورد فيه آية أو أثرًا، فهو إشارة منه إلى ما ورد في تفسير تلك الآية، وأنه لم يثبت فيه شيء على شرطه. وما دلت عليه الآية كافٍ في الباب، وإلى أن الأثر الوارد في ذلك يقوى به طريق المرفوع، وإن لم يصل في القوة إلى شرطه أو أنه أورد فيه حديث ابن عمر الآتى بعد باب "رفع العلم"، في باب "فضل العلم" وهو "بينا أنا نائم أُتيتُ بقدح لبن ... الخ" ويكون وضعه هناك من تصرّف بعض الرواة، وسيأتي ما فيه. وقوله "وقول الله عَزَّ وَجَلَّ" بالجر عطفا على المضاف إليه في قوله "باب فضل العلم" على رواية من أثبت الباب، أو على العلم في قوله: "كتاب العلم" على رواية من حذفه. وقال في "الفتح": ضبطناه في الأُصول بالرفع عطفًا على كتاب، أو على الاستئناف، وتعقَّب العَيْنيُّ الوجهين بما لا طائل تحته؛ فإن الوجهين صحيحان. فالعطف على "كتاب العلم" لا مانع فيه: لأن كتاب خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، أي: هذا كتاب العلم، وقوله تعالي. وكذلك رَفعه على الاستئناف، أي الابتداء، ويكون خبره محذوفًا تقديره "مما يتعلق بذلك"، نظير ما مر في قوله في بدء الوحي، وقول الله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [النساء: 163] وقرينة أنّ المحذوف: "مما يتعلق بذلك" هي سوقه في معرض العلم.

وقوله {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] يرفع بكسر العين، لالتقاء الساكنين، وروي بالرفع، قيل في تفسيرها: يرفع الله المؤمن العالم على المؤمن غير العالم درجات. ورفعة الدرجات تدل على الفضل، إذ المراد به كثرة الثواب. وبها ترتفع الدرجات، ورِفْعَتُها تشمل المعنوية في الدنيا بعلوّ المنزلة وحسن الصيت، والحسية في الأخرة بعلو المنزلة في الجنة. قال ابن عباس: درجات العلماء فوق المؤمنين بسبعمائة درجة، ما بين الدرجتين خمسمئة عام. وفي "صحيح مسلم" عن ناِفع بن عبد الحارث الخزاعيّ -وكان عاملَ عمر على مكة- أنه لقيهُ بِعُسْفَان، فقال له: من استخلفت؟ فقال: استخلفتُ ابنَ أبْزَى، مولىً لنا، فقال عمر: استخلفت مولى؟ قال: إنه قارىء لكتاب الله، عالم بالفرائض. فقال عمر: أما إنَّ نبيكم قد قال: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين". وعن زيد بن أسْلَمَ في قوله تعالى {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [الأنعام: 83] قال: بالعلم. وقوله {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} تهديدٌ لمن لم يُمْتَثِل الأمر، أو استكرهه. وقوله: وقوله عَزَّ وَجَلَّ {رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] واضح الدلالة في فضل العلم؛ لأن الله تعالى لم يأمر نبيه، صلى الله تعالى عليه وسلم، بطلب الازدياد من شيء إلا من العلم. واكتفى المصنف في بيان فضيلة العلم بهاتين الآيتين؛ لأن القرآن العظيم أعظم الأدلة، ولو لم يكن من فصيلة العلم إلا آية {شَهِدَ اللَّهُ} [آل عمران: 18] فبدأ الله تعالى بنفسه، وثّنى بملائكته، وثلّث بأهل العلم، وناهيك بهذا شرفًا، والعلماء وَرَثَة الأنبياء كما ثبت في الحديث، وإذا كان لا رتبة فوق النبوة، فلا شرف فوق شرف الوراثة لتلك الرتبة.

وغاية العلم العمل لأنه ثمرته، وفائدة العمر، وزاد الآخرة، فمن ظفر به سَعِد، ومن فاته خسر. فإذًا العلمُ أفضل من العمل به؛ لأن شرفه بشرف معلومه، والعمل بلا علم لا يُسمّى عملا، بل هو رد وباطل. والمراد بالعلم العلم الشرعيّ الظاهر، وهو الذي يفيد معرفة ما يجب على المكلف من أمر دينه وعباداته ومعاملاته، والعلم بالله وصفاته وما يجب له من القيام بأمره وتنزيهه عن النقائص. ومدار ذلك على التفسير والحديث والفقه. وقد ضرب هذا الجامع الصحيح في كل من الأنواع الثلاثة بنصيب وافر، فرضي الله تعالى عن مُصَنِّفه، وأعاننا على ما تصدَّينا إليه من توضيحه بمنِّه وكرمه. ومن العلم الشرعيّ علم الباطن، وهو نوعان: الأول، علم المعاملة، وهو فرض عين في فتوى علماء الآخرة، فالمُعْرض عنه هالك بسطوة مالك الملوك في الآخرة. كما أن المعرض عن الأعمال الظاهرة هالك بسيف سلاطين الدنيا، بحكم فتوى علماء الدنيا. وحقيقته النظر في تصفية القلب وتهذيب النفس، باتِّقاء الأخلاق الذميمة التي ذمّها الشارع، كالرّياء والعُجْب والغِش، وحب العُلُوِّ والثناء والفخر والطمع ليتصف بالأخلاق الحميدة المحمدية، كالإخلاص والشكر والصبر والزهد والتقوى والقناعة، ليصلح عند إحكامه ذلك لعمله بعلمه، ليرث ما لم يعلم، فعلمه بلا عمل وسيلة بلا غاية، وعكسه جناية، واتقانهما بلا ورع كلفة بلا أجرة، فأهم الأمور زهد واستقامةٌ، لينتفع بعلمه وعمله. والنوع الثاني علم المكاشفة، وهو نور يظهر في القلب عند تزكيته، فتظهر به المعاني المُجمَلة، فتحصل له المعرفة بالله تعالى وأسمائه وصفاته وكتبه ورسله، وتنكشف له الأستار عن مخبآت الأسرار، فافهمْ وسلّمْ تسلمْ، ولا تكن من المنكرين تهلك مع الهالكين.

باب من سئل علما وهو مشتغل في حديثه فأتم الحديث ثم أجاب السائل

قال بعض المحققين: مَنْ لم يكن له من هذا العلم شيء أخشى عليه سوء الخاتمة. أعاذنا الله تعالى منه، وأدنى النصيب منه التصديق به، وتسليمه لأهله، والله تعالى أعلم. ومن العلم الشرعيّ ما هو آلة له، كعلم النحو واللغة والبيان، وغريب الكتاب والسنة وأصول الفقه. ولكنّ هذا فرض كفاية لا عَيْن. والأحاديث الواردة في فضل العلم كثيرة، منها ما أخرجه أبو داود والتِّرمِذِي وابن ماجه وابن حبّان في صحيحه عن أبي الدرداء، رضي الله تعالى عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: "من سلك طريقا يلتمس فيه علمًا سهل الله له طريقا إلى الجنة وإن الملائكة لَتَضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما صنع، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء. وفضل العالِم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يُوَرُثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما وَرَّثُوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر". وأخرج مسلم أوله إلى "إلى الجنة". وأخرج البخاريُّ طرفا منه. وسيأتي إن شاء الله تعالى، الكلامُ عليه في محله. وقد جلينا كثيرًا من أحاديث فضل العلم في كتابنا "مُشْتَهى الخارِف"، فلينظرها من أراد الوقوف على ذلك. ثم قال المصنف: باب من سئل علمًا وهو مشتغل في حديثه فأتم الحديث ثم أجاب السائل باب خبرُ مبتدأٍ محذوف، أي: هذا باب وهو مضاف إلى من الموصولة. ويأتي عند آخر الحديث انكلام على مُحَصَّل ما في هذا الباب.

الحديث الأول

الحديث الأول حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ وَحَدَّثَنِى إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ قَالَ حَدَّثَنِى أَبِى قَالَ حَدَّثَنِى هِلاَلُ بْنُ عَلِىٍّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ بَيْنَمَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فِى مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ جَاءَهُ أَعْرَابِىٌّ فَقَالَ مَتَى السَّاعَةُ فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُحَدِّثُ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ سَمِعَ مَا قَالَ، فَكَرِهَ مَا قَالَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ لَمْ يَسْمَعْ، حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ قَالَ: "أَيْنَ -أُرَاهُ- السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ". قَالَ هَا أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "فَإِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ". قَالَ كَيْفَ إِضَاعَتُهَا قَالَ: "إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ". قوله بينما النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في مجلس: بينما بزيادة ما أو زيادة الألف، ظرفا زمان ملازمان الِإضافة إلى الجملة الإسمية، غالبًا، أو الفعلية قليلًا، وقد تضاف بينا إلى المصدر قليلًا. قال: بينا تَعانُقهِ الكماةَ وَرَوْغِهِ ومعناهما: بينا أوقات كذا وقع كذا، وقد مرّ الكلام عليهما في الرابع من بَدْء الوحي بأوسع من هذا. وقوله "يحدث" هو خبر المبتدأ الذي هو النبي، وحذف مفعوله الثاني لدلالة السياق عليه، أي الحديث الذي كان فيه. والقومُ: الرجال، وقد يُدْخَل فيه النساء تبعًا. وقوله: "جاءه أعرابيّ" الأعراب سكان البادية، لا واحد له من لفظه، ولم يعرف اسمه نعم سماه أبو العالية، فيما نقله عنه البرمايّ رفيعا. وقوله: "فقال متى الساعة" أي: القيامة، وقد مرّ الكلام عليها في حديث سؤال جبريل. وقوله: "فمضى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يحدث" أي استمرّ يحدِّث الحديث

الذي هو فيه. وفي رواية الحَمَويّ والمُسْتَملي "يحدثه" بزيادة هاء. والمعنى: يحدث القوم الحديث الذي كان فيه. وليس الضمير المنصوب عائدًا على الأعرابيّ. وقوله: "فكره ما قال" أي: الذي قاله، فحذف العائد. وقال بعضهم: بل لم يسمع أي قوله، وبل حرف إِضراب وَلِيَهُ هنا جملة، وهي: لم يسمع. فيكون بمعنى الإبطال لا العطف، والجملة اعتراض بين "فمضى" وبين قوله "حتى إِذا قضى حديثه" فحتى إِذا يتعلق بقوله "فمضى يحدّث" لا بقوله "لم يسمع" وإنما حصل لهم التردد في ذلك لما ظهر من عدم التفات النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إِلى سؤاله وإصغائه نحوه، ولكونه كان يكره السؤال عن هذه المسألة بخصوصها. وقد تبيّن عدمُ انحصار تَرْك الجواب في الأمرين المذكورين، بل احتمل أن يكون أخَّره ليُكمل الحديث الذي هو فيه، أو أخّر جوابه ليوحى إِليه به. وقوله: "قال أين أراه السائل عن الساعة"؟ أي: عن زمانها. والشك من محمد بن فُليح. وفي رواية اين السائلْ بالجزم، وهو في الروايتين بالرفع على الابتداء. وخبره "اين" المتقدم. وهو سؤال عن المكان بُني لتضمُّنه معنى حرف الاستفهام. وأُراه بضم الهمزة، ومعناه: أظن. وقد مرّ الكلام عليه مستوفىً في باب "إِذا لم يكن الإِسلام على الحقيقة" عند قول سعد إِني لأُراه مؤمنًا. وقوله: "قال ها أنا يا رسول الله"؛ أي: السائل فالسائل المقدّر خبر المبتدأ الذي هو"أنا"، وها حرف تنبيه، وقد قال في "تاج العروس" عند قول صاحب القاموس في خطبته: "وها أنا أقول ما نصه المعروفُ بين أهل العربية أن "ها" الموضوعة للتنبيه لا تدخل على ضمير الرفع المنفصل الواقع مبتدأً إِلا إِذا أُخبر عنه باسم الإشارة، نحو: "ها أنتم أولاءِ"، "ها أنتم هؤلاء" فأما إِذا كان الخبر غير إِشارة، فلا". وقد ارتكبه المصنف هنا غافلاً عن شرطه. والعجب أنه اشترط ذلك في آخر كتابه لما تكلّم على "ها"،

وارتكبه هاهنا، وكأنه قلّد في ذلك شيخه العلامة جمال الدين بن هشام، فإنه في "مغني اللبيب" ذكرها ومعانيها واستعمالها على ما حققه النحويون، وعدل عن ذلك فاستعملها في الخطبة مثل المصنّف، فقال: وها أنا بائح بما أسررته. قلت: ما ذكره النحويون واللغويون من اشتراط للإخبار عن الضمير في هذه الحالة باسم الإشارة، مردود بما أقر عليه النبي، صلى الله تعالى عليه وسلم، هذا الأعرابيّ السائل -وهو أفصح من نطق بالضاد، والأعراب الذين هم سكان البادية، هم أفصح العرب- من النطق بها دون الإخبار باسم الإشارة، فلا يُلْتفت بعد هذا إلى كلام النحاة. وقوله: "إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله": وسّد أي: أسند، كما هو صريح الرواية الآتية في الرقاق. وأصله من الوسادة. وكان من شأن الأمير عندهم إذا جلس، أن تثنى تحته وسادة. فقوله: وسِّد، أي: جُعل له غير أهله وسادًا، فتكون إلى بمعنى اللام، وأتى بها ليدل على تضمين معنى أُسند. والمراد من الأمر جنس الأمور التي تتعلق بالدين كالخلافة والامارة والقضاء والإفتاء وغير ذلك. وقوله: "فانتظر الساعة": الفاء للتفريع، أو جواب شرط محذوف، أي: إذا كان الأمر كذلك، فانتظر الساعة. قال ابن بَطَّال: معنى إسناد الأمر إلى غير أهله، أن الأئمة قد ائتمنهم الله على عباده وفرض عليهم النصح لهم، فينبغي لهم تولية أهل الدين، فإذا قلدوا غير أهل الدين، فقد ضيّعوا الأمانة التي قلدهم الله تعالى إياها. ومناسبة هذا المتن لكتاب العلم، أن إسناد الأمر إلى غيره، إنما يكون عند غلبة الجهل ورفع العلم، وذلك من جملة الأشراط، ومقتضاه أن العلم ما دام قائمًا ففي الأمر فسحة. وكان المصنف أشار إلى أن العلم إنما يؤخذ عن الأكابر تلميحًا لما

رُوِي عن أبي أُمية الجُمَحِيّ: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، قال: من "أشراط الساعة أن يُلْتمس العلم عند الأصاغر". وحاصل ما في هذا الحديث التنبيهُ على أدب العالِم والمتعلّم. أما العالم فَلِما تضمنه من ترك زجر السائل، بِل أدَّبه بالِإعراض عنه أولًا، حتى استوفى ما كان فيه، ثمّ رجع إلى جوابه، فرفق به لأنه من الأعراب، وهم جُفاة. وفيه العناية بجواب سؤال السائل، ولو لم يكن السؤال متعينا، ولا الجواب. وأما المتعلم، فلِما تضمنه من أدب السائل، أنْ لا يسأل العالم وهو مشتغل بغيره، لأن حق الأول مقدم. ويؤخذ منه أخذ الدروس على السَّبْق، وكذلك الفتاوى والحكومات ونحوها. وفيه مراجعة العالم إذا لم يفهم ما يجيب به، حتى يتضح لقوله: "كيف إضاعتها" وبوّب عليه ابن حِبان. وفيه إشارة إلى أن العلم سؤال وجواب. ومِنْ ثَمّ قيل: حُسن السؤال نصف العلم. وقد أَخَذ بظاهر هذه القصة مالك وأحمد وغيرهما في الخطبة، فقالوا: لا نقطع الخطبة لسؤال سائل، بل إذا فرغ يجيبه. وفصل الجمهور بين أن يقع ذلك في أثناء واجباتها، فيؤخر الجواب، أو في غير الواجبات، فيجيب. والأولى حينئذ التفصيل، فإن كان مما يهتم به في أمر الدين، ولاسيما إن اختص بالسائل، فتُستحب إجابته، ثم يتم الخطبة وكذا بين الخطبة والصلاة. وإن كان بخلاف ذلك. فيؤخَّر وكذا قد يقع في أثناء الواجب ما يقتضي تقديم الجواب، لكنْ إذا أجاب استأنف على الأصح، فإن كان السؤال من الأمور التي ليست معرفتها على الفور مهمة، فيؤخر كما في هذا الحديث، ولاسيما ان كان ترك السؤال عن ذلك أوْلى. وقد وقع نظيره في الذي سأل عن الساعة وأقيمتْ الصلاة، فلما فرغ من الصلاة، قال: "أين السائل"، فأجابه. أخرجاه. وإن كان السائل به ضرورة ناجزة، فتُقَدّمُ إجابته، كما في حديث أبي رفاعة عند مُسْلم أنه قال للنبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم رجلٌ غريبٌ لا يدري دينه، جاء يسأل عن دينه، فترك خطبته، وأتى بكرسيٍّ فقعد عليه،

رجاله ثمانية

فجعل يعلّمه، ثم أتى خطبته فأتم آخرها. وكما في حديث سَمُرة عند أحمد، أن أعرابيًّا سأل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن الضَّب. وكما في الصحيحين عن جابر أن رجلًا دخل المسجد، والشعبي صلى الله تعالى عليه وسلم، يخطب، فقال له: أصلّيت ركعتين؟ الحديث. وفي حديث أنس: كانت الصلاة تقام، فيعرضُ الرجل، فيحدث النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، حتى ربما نَعس بعض القوم، ثم يدخل في الصلاة. وفي بعض طرقه وقوع ذلك بين الخطبة والصلاة، وفيه أن الساعة لا تقوم حتى يؤتمن الخائن، وهذا إنما يكون إذا غلب الجهّال، وضعف أهل الحق عن القيام به ونصرته. رجاله ثمانية: الأول محمد بن سنان بنونين. أبو بكر الباهليّ البصريّ المعروف بالعَوَقي. قال ابن معِين: ثقة. وقال أبو حاتم: صَدُوق. وقال ابن أبي الثَّلْج: ما رأيت عفّان يثني على أحد إلا على محمد بن سِنان، لما بلغه أنه حدّث، قال: عن مثله فاكتبوا. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن قانِع: كان صالحًا. وقال الدارقطنِيّ: ثقة حُجة. وقال مَسْلمة: ثقة. وفي الزّهْرَة روى عنه البخاريّ تسعة وعشرين حديثا. روى عن إبراهيم بن طَهْمان وفُلَيح بن سُلَيمان، ونافع بن عمر الجُمَحيّ وهمّام بن يحيى، وجَرير بن حازم، وهشُيَمْ وغيرهم. وروى عنه البخاري وأبو داود، وروى له أبو داود أيضًا، والتِّرمِذِيّ وابن ماجةَ بواسطة البخاريّ والذُّهُليِ. وروى عنه أبو قُلابَة الرَّقَّاشِيّ، وأبو مسعود الرازيّ، وأبو حاتم الرازيّ، وأبو الأحوص قاضي عكبراء وغيرهم. مات سنة ثلاث وعشرين ومئتين، وليس في الستة محمد بن سنان سواه. وفي الرواة محمد بن سنان القَزَّاز البَصريّ، نزيل بغداد، أبو بكر مولى عثمان، كذَّبه أبو داود وابن خراش، وقال الدارَقطني: لا بأس به.

والباهليّ في نسبه مر الكلام عليه في العاشر من كتاب الإيمان والعوقِى بالتحريك، نسبة إلى العَوِقَة، بطنٌ من عبد القَيْس، وهم بنو عَوفْ ابن الديد بن وَدِيعةَ بن لَكيْز بن أَفْصى بن عبد القيس. ووقع في بعض كتب الحديث أنهم حيٌّ من الأزد، وهو خطأ. منهم المنذِر بن مالك بن قُطْنة العبْدِيّ من أهل البصرة، روى عن ابن عمر، وكان من فصحاء الناس، فُلِجَ في آخر عمره. روى عنه قتادةُ وغيره، وأوصى أن يصلي عليه الحسن البصريّ، فصلَّى عليه. وقيل: إن محمد بن سِنان هذا ليس من العوقَة، وإنما نزل فيهم، كانت لهم محلة بالبصرة، فنزل عندهم فنسب إليهم. الثاني فُليح بن سليمان ابن أبي المُغيرة، واسمه رافع، ويقال نافع بن جُبير أبو يحيى الخُزَاعِيّ، ويقال: الأَسْلَمِيّ المَدنّي، مولى آل زيد بن الخطاب، وفليح لقب غلب عليه، واسم عبد الملك. قال ابن مُعين: ضعيف ما أقْرَبَهُ من ابن أبي أويْس. وقال مُرَّة: ليس بالقوي، ولا يحتج بحديثه، وهو دون الدراوردِيّ. وقال أبو حاتم: ليس بالقوي. وقال البَرْقي عن ابن معين: ضعيف، وهم يكتبون حديثه ويشتهونه. وقال السّاجي: هو من أهل الصدق ويهم. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الحاكم أبو عبد الله: اتفاق الشيخين عليه يقوّي أمره. وقال ابن عَدِي: لِفُلَيْح أحاديث صالحة. يروي عن الشيوخ من أهل المدينة أحاديث مستقيمة وغرائب. وقد اعتمده البخاريّ في صحيحه وروى عنه الكثير، وهو عندي لا بأس به. وقال الحاكم أبو أحمد: ليس بالمتين عندهم. وقال الدارقطنيّ: يختلفون فيه، وليس به بأس. وقال ابن أبي شَيْبَةَ: قال عليُّ ابن المِدينيّ: كان فليح وأخوه عبد الحميد ضعيفين، وقال النَّسَائي: ضعيف، وقال مُرَّة: ليس بالقوي، وقال الآجُرِيّ: قلت لأبي داود: أُبَلَغك أن يحيى بن سعيد كان يقشعر من أحاديث فُلَيح؟ قال: بلغني عن يحيى

ابن معين قال: كان أبو كامل مُظَفَّر بن مُدْرِك يتكلم في فليح. قال أبو كامل: كانوا يرون أنه يتناول رجالَ الزُّهْريّ. قال أبو داود: وهذا خطأ عندي؛ يتناول رجال مالك. وقال الآجُرِيّ؛ أيضًا: قلت لأبي داود: قال ابن معين: عاصم بن عُبَيَد الله وابن عَقِيل وفُلَيْح بن سِنان لا يحتج بحديثهم. قال: صدق. وقال الطبريّ: ولاّه المنصور على الصدقات، لأنه كان أشار عليهم بحَبْس بني حسن لما طَلَب محمد بن عبد الله بن الحسن. وقال ابن القَطّان: أَصعب ما رُمي به ما رُوي عن يحيى بن معين عن أبي كامل، قال: كنا نتهمه لأنه كان يتناول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومثل ما نقل ابن القطّان للباجيّ في رجال البخاري، وهو غير صواب، والصواب عن الآجُرِيَّ. روى عن أبي طُوَالة ونافع مولى ابن عمر والزهريّ وهشام بن عروة، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وزيد بن أسلم، وصالح بن عَجْلان، وسَهْل ابن أبي صالح، وآخرين. وروى عنه زياد بن سَعْد وهو أكبر منه، وزيد بن أبي أُنَيْسة ومات قبله، وابنه محمد بن فُلَيح وابن المبارك وابن وَهْب وأبوعامر العَقْدِيّ، ويونس بن عُبَيْد وزيد بن الحُبَاب، ويحيى، وغيرهم. مات سنة ثمان وستين ومئة. قال ابن حَجَرْ لم يعتمد عليه البخاريّ اعتماده على مالك وابن عُييَنة، وأضرابهما ممن هم في طبقته، وإنما أخرج له أحاديث أكثرها في المناقب، وبعضها في الرِّقاق. وليس في الستة فُليَح سواه. والخُزاعيّ في نسبه مرّ الكلام عليه في الثاني والأربعين من كتاب الإيمان، والأسْلَمي في نسبه نسبة إلى أسْلَم خُزاعة، وهو أسْلَم بن أفْصَى، من ولده جماعة من الصحابة، منهم سَلَمة ابن الأكْوَع، وابن أبي أوْفى وأبو نزيرة وغيرهم. وعطاء بن مَرْوان الأسْلَمي نسبة إلى أسلَم بن جُمَحٍ، وأما أسلُم بن الحاف بن قُضاعَةَ، وأسْلُم بن

العَبَاية في عَكَّ، وأسلُم بن تَدُول في بني عُذْرَة، فهؤلاء الثلاثة بضم اللام، ومن عداهم فبفتحها. الثالث إبراهيم بن المنذر ابن عبد الله بن خالد بن حِزام بن خُوَيلد بن أسَد الأسَدِيّ الحِزَامِيّ، أبو إسحاق المَدِنيّ. قال الدارقطنّي: ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن وضّاح: لقيته بالمدينة، وهو ثقة. وقال الزّبير بن بكَّار: كان له علم بالحديث ومروءة وقَدْر، قال عثمان الدَّارمِيّ: رأيت ابن معين كتب عن إبراهيم بن المنذر أحاديث ابن وَهْب، ظننتها المغازي. وقال النّسائي: ليس به بأس. وقال صالح بن محمد: صدوق. وقال أبو حاتم: صَدوق. وقال أيضًا: أعْرَف بالحديث من إبراهيم بن حَمزْة، إلا أنه خلط في القرآن، فلم يردّ عليه أحمد السلامَ. وقال السّاجِيّ: بلغني أن أحمد كان يتكلم فيه ويذمه، وكان قدم إلى ابن أبي داود قاصدًا من المدينة، عنده مناكيرُ. قال الخَطيب: أما المناكير فقلما توجد في حديثه إلا أن تكون عن المجهولين، ومع هذ فإن يحيى بن مُعين وغيره من الحفاظ، كانوا يَرضونه ويُوثِّقونه. روى عن مالك وابن عُيَنْية وابن أبي فُدَيْك والوليد بن مُسْلم وابن وهَبْ ومطْرِف وغيرهم، وروى عنه البخارِيّ وابن ماجه. وروى له التِّرْمِذيّ والنَّسَائِي بواسطة، والدارميّ وأحمد بن إبراهيم وصاعِقَةُ وأبو زَرْعة وأبو حاتم وأبو بكر بن أبي خَيْثَمَة، ويعقوب بن سُفيان وغيرهم. قال ابن حجر: اعتمده البخاريّ وانتقى حديثه. مات بالمدينة صادرًا من الحج سنة ست وقيل سنة خمس وثلاثين ومئتين. والحِزامي في نسبه بكسر الحاء، نسبة إلى جده حِزام بن خُويلد المار. ويوجد الحِزامي أيضًا في فَزَارَةَ، وهو حزام بن سعَدْ بن عَدِي بن فَزَارة. الرابع محمد بن فليح ابن سْليمان الأسْلَمِيّ ويقال: الخُزاعيّ المدني. قال ابن معين:

فليح ليس بثقة، ولا ابنه. وقال أبو حاتم: كان ابن معين يحمل على محمد، قال ابن أبي حاتم: قلت لأبي: فما قولك أنت فيه؟ قال: ما به بأس، ليس بذلك القوي. وذكره ابن حِبان في الثقات. وقال الدارقطني: ثقة، وقد روى عنه عبد الله بن وهَبْ مع تقدمه، لكنه قال: عن محمد بن أبي يحيى عن أبيه، فذكر حديثًا أخرجه البخاري، عن إبراهيم بن المُنذر عن محمد بسنده فهو هو. قال ابن حَجَر: أخرج له البُخاري نسخته عن أبيه عن هلال بن علي عن عطاء بن يَسار عن أبي هريرة، وبعضها عن هلال عن أنس بن مالك، توبع على أكثرها عنده وله نسخة أخرى عنده بهذا الإسناد، لكن عند عبد الرحمن بن أبي عَمْرَة عن عطاء بن يسار، وقد توبع فيها أيضًا. وهي ثمانية أحاديث. روى عن أبيه وموسى بن عُقْبَةَ وهِشامَ بن عُرْوَة، ويونُس بن يزيد، وعاصم بن عُمَر العُمَرِيّ، وجَعْفر الصادق، وعمرو بن يحيى بن عُمَارَة، وابن أبي ذيب وغيرهم. وروى عنه ابن أخيه عِمران بن موسى بن فُلَيح ومحمد بن الحسن بن زُبَالة ومحمد بن يعقوب الزُّبَيْريّ ومحمد بن إسحاق المُسَيَّبيّ وغيرهم. مات سنة سبع وتسعين ومئة. وليس في الستة محمد بن فليح سواه. ومر الكلام على نسبه في نسل أبيه. السادس هلال بن علي ابن أسامة، ويقال: هلال بن أبي مَيْمُونة، وهلال بن أبي هلال، وهلال بن أسامة، نسبة إلى جده. وقد يُظَنُّ أربعة والكل واحد، العامري مولاهم، المدني. قال أبو حاتم: شيخ يُكتب حديثه. وقال النسائي: ليس به بأس. وذكره ابن حبان في الثِّقات وقال الدارقطنيّ: هلال بن علي ثقة. وقال مَسْلَمَة: ثقة قديم، وهو من صغار التابعين.

لطائف إسناده

روى عن أنَس بن مالك وعبد الرحمن بن أبي عَمْرَة وأبي سَلَمَة بن عبد الرحمن وعطاء بن يَسار وأبي مَيْمُونة المَدَني. وروى عنه يحيى بن أبي كثير، ومالك وفُلَيح وزياد بن سعد، وسعيد ابن أبي هلاَل وغيرهم. وذكر صاحب الكمال في الرواة عنه محمد بن حُمْران، وهو خطأ فإنه لم يدركه، وإنما ذلك هلال بن أبي زَيْنَب، قاله الواقِدِيّ. قال ابن حَجَر: قد مرَّ في ترجمة هلال بن أبي زَيْنَبَ، أن ابن عَوْن تفرَّد بالرواية عنه، وأما محمد بن حُمران، فقد ذكره أبو حاتم فيمن روى عن هلال بن عليّ، فظهر الصواب مع صاحب الكمال لا مع الواقِديّ. مات في آخر خلافة هشام بن عبد الملك. وليس في الستة هلال بن عليّ سواه، وفي الرواة هلال بن أُسَامة الفِهْرِيّ، مَدَنِيّ روى عن ابن عُمَر، وروى عنه أُسامة بن زيد اللَّيْثيّ. والعامريّ في نسبِه نِسْبَةَ إلى عامر، أبو بطن من قُريش، وهو عامر بن لؤيِّ بن غالب بن فِهْرٍ بن مالك ... الخ. ومرّ عطاء بن يَسَار في الثاني والعشرين من كَتاب الإيمان. ومرّ أبو هريرة في الثاني منه أيضًا. لطائف إسناده: منها: أن فيه التحديث بصيغة الجمع والإفراد، وفيه العنعنة. وفيه إسنادان أحدهما عن محمد بن سِنان والثاني عن إبراهيم بن المنذر، وهذا أَنْزَلُ من الأول. وفيه التحويل، وقد مر الكلام عليه في السادس من بدء الوحي. ومنها أن رجال الإسناد الأخير كلهم مدنيُّون. وهذا الحديث أخرجه البخاريّ هنا، وفي الرقاق مختصرًا عن محمد بن سِنان أيضًا، ولم يخرجه من أصحاب الستة غيره. ثم قال المصنف:

باب من رفع صوته بالعلم

باب من رفع صوته بالعلم باب: خبر مبتدأٍ محذوف، أي: هذا باب. وهو مضاف إلى مَنْ الموصولة وقوله "بالعلم" أي: بكلام يدل على العلم. فهو من باب إطلاق اسم المدلول على الدالّ، إنّ العلم صفة معنوية، لا يتصور رفع الصوت به. قلت: يصح بقاء اللفظ على ظاهره بأن يكون العلم هنا مرادًا به القواعد والمسائل، كما هو أحد أطلاقاته الثلاثة، فيصح رفع الصوت به، فإن العلم يطلق على ثلاثة معانٍ: الأول على المَلَكة، وهي سجية راسخة في النفس، تحصل للمدرك بعد إدراك مسائل الفن وممارستها، يقتدر بها على إدراك الجزئيات. ويطلق على نفس المسائل والقواعد ويطلق على نفس الإدراك. قال السَّيِّد في حواشيه: والتحقيق أن المعنى الحقيقي للفظ العلم هو الإدراك، ولهذا الإدراك متعلق، هو المعلوم وله تابع في الحصول، يكون ذلك التابع وسيلة إليه في البقاء، هو الملَكَة. وقد أطلق لفظ العلم على كل منها إما حقيقة عُرْفية أو اصطلاحية أو مجازًا مشهورًا.

الحديث الثاني

الحديث الثاني حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ عَارِمُ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِى بِشْرٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ تَخَلَّفَ عَنَّا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فِى سَفْرَةٍ سَافَرْنَاهَا، فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ أَرْهَقَتْنَا الصَّلاَةُ وَنَحْنُ نَتَوَضَّأُ، فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ "وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ". مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا. قوله: "تخلّف" أي: تأخر خلفنا وفي رواية "تخلّف عنا" وقوله: "في سفْرة سافرناها" أي: من مكة إلى المدينة كما في مُسْلم. وقوله: "فأدَرَكَنا" بفتح الكاف، أي: لحق بنا. وقوله: "وقد أرهقتنا الصلاة" بتأنيث الفعل، أي: غَشيتنا، والصلاة بالرفع على الفاعلية، وهي صلاة العصر. كما في مُسْلم عن عبد الله بن عمر "ورجعنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من مكة إلى المدينة حتى إذا كنا في الطريق تعجّل قوم عند العصر فتوضؤوا وهم عِجال، فانتهينا إليهم، وأعقابُهم تلوح لم يمسها الماء، فقال النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم: "ويل للأعقاب من النار، أَسْبِغوا الوُضُوء". وفي رواية "أرهقنا" بلا تاء، مع رفع الصلاة، لأن تأنيثها غير حقيقيّ. وفي رواية "أرهقنْا الصلاة" بسكون القاف، ونصب الصلاة على المفعولية، أي: أَخرناها. وحينئذ؛ فـ"نا" ضمير رفع، وفي الرواية الأولى ضمير نصب. وقوله: و"نحن نتوضأ" جملة اسمية حالية. وقوله: "فجعلنا نمسح" جعل من أفعال المقاربة، أيْ: كدنا، ونمسح أي: نغسل غسلًا خفيفًا مبقعًا، حتى يرى كأنه مسح وقوله: "على أرجلنا" عبَّر فيه بأرجلنا، وإن كان القياس رجلينا، إذْ لكل واحد رجلان، لأن الغرض مقابلة الجمع بالجمع،

فيفيد توزيع الأرجل على الرجال، لا يقال فعليه يكون لكل رَجُل رِجْل لأنا نقول: جنس الرَّجل يتناول الواحد والاثنين، والعقل يبين المقصود، سيما فيما هو محسوس. وقوله: "ويلٌ للأعقاب من النار" ويل: كلمةُ عذابٍ تقابل وَيْح، فإنها تقال لمن وقع فيما لا يستحقه، ترحمًا عليه. وهو مبتدأ، وَسَوّغ الابتداء به مع كونه نكرة كوْنُه دعاء، كقوله تعالى: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ} [الزمر: 73]. واظهر ما قيل في معناها ما رواه ابن حِبان في صحيحه من حديث أبي سعيد مرفوعاً "ويلٌ: وادٍ في جَهَنَّمَ لو أُرْسِلت فيه الجبال لماعَتْ من حرِّه" وقيل: ويل: صديد أهل النار، وهو من المصادر التي لا أفعال لها وقوله للأعقاب، جمع عَقِب، كلَبد، وهو مؤخَّر القدم الذي يمسك شِراك النَّعل، واللاّم في للأعقاب للعهد، أي: المرئية إذ ذاك، ويلتحق بها ما يشاركها في ذلك قيل: معناه: ويلٌ لأصحاب الأعقاب المقصرين في غسلها. وقيل: أراد أن العَقب مختص بالعقاب إذا قُصّر في غسله. ولام الجر في "للأعقاب" وإن كانت في الأصل للاختصاص النافع، وعلى الشر نحو {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]. لكنها استعملت هنا للاختصاص الضار، كما في قوله {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] وقوله {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 36]. وقوله "من النار"، من بيانية على حد قوله {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30]، أو بمعنى في نحو قوله {مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9]. وقوله: "مرتين أو ثلاثا" شكٌ من عبد الله بن عمر. واستدل المصنف على جواز رفع الصوت بالعلم بقوله. "فنادى بأعلى صوته". وإنما يتم الاستدلال بذلك حيث تدعو الحاجة إليه، لبعد أو كثرة جمع أو غير ذلك. ويلحق بذلك ما إذا كان في موعظة، كما ثبت ذلك في حديث جابر: "كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، إذا خطب، وذكر الساعة، اشتد غضبه وعلا صوته ... " الحديث. أخرجه مسلم. ولأحمد

رجاله خمسة

من حديث النعمان في معناه، وزاد "حتى لو أن رجلًا بالسوق لسمعه". وفي الحديث التغليظ في الإنكار والتكرار للمبالغة، ورفع الصوت في المناظرة بالعلم، ودليل على وجوب غسل الرجلين وهو الإسباغ لا المسّ بالماء. وأما قوله تعالى {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] وإن كان ظاهره على قراءة الجر عطفَه على الرؤوس، فيجب تأويله بالعطف على المجاورة، نحو قولهم: هذا حُجْرُ ضبٍ خَرِبٍ، بجر خرِبٍ. ويجوزعطف قراءة الجر على الرؤوس. ويحمل المسحُ على مسح الخف، أو على الغسل الخفيف الذي تسميه العرب مسحًا. وعبر به في الأرجل طلبا للاقتصاد، لأنها مَظَنَّة الإسراف، لغسلها بالصَّبِّ عليها. والحامل على ذلك الجمعُ بين القراءتين. قال ابن خُزَيمة: لو كان الماسح مؤديًا للفرض لما تُوُعِّد بالنار. وأشار بذلك إلى ما في كتب الخلاف عن الشيعة: أن الواجب المسح أخذًا بظاهر قراءة {وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] بالخفض. وقد تواترت الأخبار عن النبي، صلى الله تعالى عليه وسلم، في صفة وضوئه، أنه غسل رجليه، وهو المبيّن لأمر الله. وقد قال في حديث عَمرو ابن عَنَبْسَة الذي رواه ابن خُزيمة وغيره مطولًا، في فضل الوضوء: "ثم يغسل قدميه، كما أمره الله تعالى" ولم يثبت عن أحد من الصحابة خلاف ذلك إلا عن علي وابن عباس وأنس. وقد ثبت عنهم الرجوع عن ذلك. قال عبد الرحمن بن أبي ليلى: أجمع أصحاب رسول الله، صلى الله تعالى عليه وسلم، على غسل القدمين. رواه سعيد بن منصور. وقال الطَّحاوِيُّ وابن حزم: إن المسح منسوخ. رجاله خمسة: الأول: أبو النُّعمان، وقد مر في الأخير من كتاب الإيمان، ومر عبد الله بن عمر في الثالث منه أيضًا، ومر أبو عوانة في الرابع من بَدء الوحي. الرابع جعفر بن إياس: وهو ابن أبي وَحْشِيَّةَ أبو بِشْرِ، اليَشْكُريُّ الواسطيُّ بصريُّ الأصل. قال

ابن مُعين وأبو زَرعة وأبو حاتم والعَجْلِيّ والنَّسَائي ثقة. وقال البَرْدِيجِيّ: كان ثقة، وهو من أثبت الناس في سعيد بن جبير. وقال علي بن المَدِيني: سمعت يحيى بن سعيد يقول: كان شُعْبَةُ يُضَعِّفُ أحاديث أبي بشر عن حبيب بن سالم، وقال أحمد: أبو بِشْر أحبُّ إليّ من المُنْهال. قلت: مِنَ المُنهال؟ قال: نعم شديدا أبو بشر أوثق. قال أحمد: وكان شُعْبَةُ يقول: لم يَسمع أبو بِشر من حَبِيب بن سالم. وقال أيضًا: كان شُعبة يُضَعِّف حديث أبي بشر عن مُجَاهِد. قال: لم يسمع منه شيئًا. وقال ابن عَدِيّ: أرجو أنه لا بأس به. وقال ابنُ سعد: كان ثقة كثيرَ الحديث. قال ابن حَجَر: لم يُخَرّج له الشيخان من حديثه عن مجاهد، ولا عن حبيب بن سالم شيئًا. وقال في الخلاصة: حديثه عن مجاهد في البخاري ومسلم في الجمع. روى عن عَبّاد بن شرَحْبيل اليَشْكُريّ، وله صحبة، وسعيد بن جُبَيْر، وعطاء وعِكْرمَة، ومجاهد، ويوسف بن ماهَك، وعبد الرحمن بن أبي بَكْرَة، وأبي نَضْرة العَبْدِيّ وجماعة، وروى عنه الأعمش وأيّوب، وهما من أقرانه، وداود بن أبي هند، وشُعْبَةُ وغَيْلانَ بن جامع، وأبو عُوانة، وهشيْم. وخالد بن عبد الله الواسِطِيّ، وعدة. مات ساجدًا خلف المقام سنة ثلاث وعشرين ومئة، وقيل: سنة ست وعشرين، وليس في الستة جَعْفَرُ بن إيَاس سواه. وأما جعفر، فجمَاعة، واليَشْكُرِيّ في نسبه نسبة إلى يَشْكُر، ويشكر اثنان: يَشْكُرُبن عليّ بن بَكر ابن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصي بن دُعْمِيّ بن جَدِيْلَة بن أَسَد بن رِبِيعة، ويَشْكُر بن مُبشِّر بن صَعْب في الأزْد. الخامس: يوسف بن ماهك بن بِهزْاد، بضم الباء الموحدة. وقيل بكِسرها، الفارسيّ المكِيّ، مولى قريش. والصحيح أنه غير يوسف بن مَهْران. قال ابن مُعين والنَّسائي: ثقة. وقال ابن خراش. ثقة عَدْل. وذكره ابن حبان في

الثقات. وقال ابن سعد: كان ثقةً قليلَ الحديث، روى عن أبيه وأبي مُسَيْكةَ، وأبي هريرة، وعبد الله بن عمر، وعائشة، وحكيم بن حِزام، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن صَفْوان، وحفصة بنت عبد الرحمن ابن أبي بكر، وأرسل عن أُبَيّ بن كَعْب، وروى عنه عطاء بن أبي رباح، وهو من أقرانه، وأيوب وأبو بشِر وحُمَيْد الطويل وابن جُريْج وإبراهيم بن مُهاجر، ويعلي بن حكيم، وجعفر بن سليمان الضَّبعِيّ وآخرون. مات سنة عشرة ومئة، وقيل: سنة ثلاث عشرة أو أربع عشرة، وقيل: سنة ثلاث ومئة. وليس في الستة يوسف بن ماهك سواه. وماهك، غير منصرف للعلمية والعُجمة. وفي رواية الأصيلي: منصرف. ولعله لاحظ فيه الوصف لأن ماهك معناه القُمير. قال العيني: والتحقيق فيه أن من يُمنع فيه الصرف يلاحظ فيه العلمية والعجمة. أما العلمية فظاهرة، وأما المعجمة فإن ماهك بالفارسية تصغير ماه، وهو القمر بالعربية، وقاعدتهم أنهم إذا صغروا الاسم أدخلوا في آخره الكاف. وأما من يصرفه، فإنه يلاحظ فيه معنى الصفة، لأن التصغير من الصفات، والصفة لا تجامع العلمية؛ لأن بينهما تضادٌ، فيبقى الاسم بعلة واحدة، فلا يُمنع من الصرف. ولو جُوِّز الكسر في الهاء كان عربيًا صرفًا، فلا يُمنع من الصرف أصلًا؛ لأنه حينئذ، اسم فاعل من مَهكتُ الشيء أمْهَكهُ مهْكًا، إذا بالغتُ في سحقه، أو يكون من مُهْكة الشباب، بالضم، وهو امتلاؤه وارتواؤه ونماؤه. ويمكن أن يقال: إنه عربيّ مع كون الهاء مفتوحة، بأن يكون علمًا منقولًا من ماهَكَ، وهو فعل ماضٍ من المُماهكة، وهو الجهد في الجماع من الزوجين، فعلى هذا لا يجوز صرفه أصلًا للعلمية ووزن الفعل. وقال الدارقطنّي: ماهك اسم أمه، والأكثر على أنه اسم أبيه، واسم أمه مُسَيْكة، فعلى قول الدارقطنيّ يمنع من الصرف أصلًا للعلمية والتأنيث.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة، ورواته ما بين بصري وواسطيّ ومكيّ، وفي رواية كريمة عن المستملي: حدثنا أبو النعمان عارم بن الفَضْل، واقتصر غيره على أبي النعمان. أخرجه هاهنا وفي العلم أيضًا عن مسدد وفي الطهارة عن موسى بن إسماعيل، ومسلم في الطهارة عن شيبان بن فَرُّوخ وغيره، والنَّسائِيّ عن أبي داود الحرَّاني. ثم قال المصنف: باب قول المحدث حدثنا واخبرنا وانبأنا يعني هل بينهما فرق؟ أو الكل واحد؟ وثَبَّتَ الجميع في رواية أبي ذرّ وفي رواية كريمة إسقاط "أنبأنا" وفي رواية الأصيليّ إسقاط "أخبرنا". والمراد بالمحدّث اللُّغوي، وهو الذي يحدث غيره، لا الاصطلاحي الذي هو أحد مراتب أهل الحديث الستة: الأول: الطالب، ويقال له الرَّاغب والمبتدىء، وهو المشتغل في طلب الحديث، ولم يصل إلى رتبة الشيخ. الثاني: المحدِّث، ويرادفه الشيخ والإمام، وهو من كَمُل في الحديث بحيث يصح أن يقتدى به، ولم يصل إلى درجة الحافظ. الثالث: الحافظ، وهو من حفظ مئة ألف حديث، عالمًا بجميع أحوال رواتها، من تعديل وتجريح ووفاة. الرابع: الحجة، وهو من حفظ ثلاث مئة ألف حديث مع شرط ما ذكر. الخامس: الحاكم، وهو من أحاط علمه بكل ما روي عن النبي، صلى الله تعالى عليه وسلم، من صحيح وحسن وضعيف وموضوع، وليس وراءه وراء، ولا بعده مرمى.

السادس: الناقل، وهو من ينقل الحديث بالإسناد، وهو فوق الطالب، ودون المُحَدِّث، وإلى المراتب أشار سيدي عبد الله في "غُرَّة الصباح" بقوله: وراغبٌ مبتدىءٌ ذو الطَّلب ... والشيخُ كالإمام في المُهَذَّب كذا المحدِّث الذي قد كمُلا ... من كل أُستاذ لدى مَنْ عقلاَ ومن حوى مئة ألفٍ مطلقا ... عليه لفظُ حافِظٍ قد أُطلقا والحجُةَّ الذي بما قد سلفا ... وزيْدَ مِثْلَيْه يُرى مُتَّصفا الجَرْحُ والتاريخ والتَّعديل ... فيمن روى يلتزمٌ النَّبيلُ ومنْ أحاطَ علمهُ بكلِّ ما ... روى يُسَمّى حاكمًا فلتَعْلمَا وناقلُ الحديثِ بالإِسنادِ ... يدعونه الرَّاوي بلا انتقادِ ثم قال المصنف: وقال الحميديّ: كان عند ابن عُيينة "حدثنا وأخبرنا وأنبأنا. وسمعت واحدًا". وللأصيلي وكريمة، وقال لنا الحميديّ، وكذا ذكره أبو نُعيم في "المُسْتَخْرَج" فهو متصلٌ. وأفاد جعفر بن حمدان النَّيْسابُوريّ أن كل ما في البخاريّ من "قال لي" فهو عَرَضٌ أو مناولة. والحمُيديّ وسُفيان بن عُيينة قد مرا في الحديث الأول من الكتاب. وتقرير البخاري ما نقله عن الحُميديّ مع ما يأتي من التعاليق الثلاثة الآتية في كلامه يدل على اختياره له. قال الخطيب: الأرفع "سمعتُ" ثم "حدثني" ثم "أخبرني" ثم "أنبأني". وقد بينتُ هذا وبسطتهُ عند حديث "إنما الأعمال بالنيات". ولكنْ لابد أن أذكر هنا جملة مختصرة، وهي أنه لا خلاف عند أهل العلم في اتحاد الجميعِ بالنسبة إلى اللغة. ومن أصرح الادلة فيه قوله تعالى {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة: 4] وقوله تعالى {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14].

وأما بالنسبة إلى الاصطلاح، ففيه الخلاف، فمنهم من استمر على أصل اللغة، وهذا رأي الزُّهريّ ومالك وابن عُيينة ويحيى القَطَّان وأكثر الحجازيين والكوفيين. وعليه استمر عمل المغاربة، ورجَّحه ابن الحاجب في مُخْتَصره. ونُقِل عن الحاكم أنه مذهب الأئمة الأربعة، ومنهم من رأى إطلاق ذلك حيث يقرأ الشيخ من لفظه وتقييده، حيثُ يقرأ عليه، وهو مذهب إسحاق بن رَاهَويْه والنَّسائِيّ وابن حِبان وابن مَنْده وغيرهم. ومنهم من رأى التفرقة بين الصيغ بحسب افتراق التَّحَمُّل، فيخصون التحديث بما يَلْفُظ به الشيخ، والإخبار بما يقرأ عليه، وهذا مذهب ابن جُريج والأوزاعيّ والشافعيّ، وابن وَهْب وجمهور أهل المشرق. ثم أحدث اتباعهم تفصيلًا آخر، فمن سمع وحده من لفظ الشيخ أفرد فقال: حدثني ومن سمع مع غيره جمع، ومن قرأ بنفسه على الشيخ أفرد فقال: أخبرني. ومن سمع بقراءة غيره جمع، وكذا خصصوا الإنباء بالإجازة التي يشافه بها الشيخ من يجيزه. وكل هذا مستحسن وليس بواجب عندهم، وإنما أرادوا التمييز بين أحوال التحمل، وظن بعضهم أن ذلك على سبيل الوجوب، فتكلفوا في الاحتجاج له وعليه بما لا طائل تحته. نعم يحتاج المتأخرون إلى مراعاة الاصطلاح المذكور لئلا يختلط، لأنه صار حقيقة عرفية عندهم، فمن تجوّز عنها احتاج إلى الإِتيان بقرينة تدل على مراده، وإلا فلا يؤمَنُ اختلاط المسموع بالمجاز، بعد تقرير الاصطلاح، فيحمل ما يرد من ألفاظ المتقدمين على محمل واحد بخلاف المتأخرين. ويأتي -إن شاء الله تعالى- في باب القراءة والعرض على المحدث، إتمام الكلام على هذا البحث بطول. ثم ذكر المصنف ثلاثة تعاليق مؤيدًا بها مذهبه من التسوية بين الصيغ الأربع فقال: وقال ابن مسعودٍ حَدَّثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق وقال شقيق عن عبد الله سمعت للنبي صلى الله عليه وسلم كلمة

وقال حذيفة حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين. وقوله: "الصادق المصدوق" يحتمل أن تكون الجملة حالية، وأن تكون اعتراضية، وهو أولى، لتعُمّ الأحوال كلها، وإن ذلك من دأبه وعادته. والصادق معناه المُخْبر بالقول الحق. ويطلق على الفعل، يقال: صِدْق القتال، وهو صادق فيه. والمصدوق معناه: الذي يُصَدَّق له في القول، يقال: صَدَقْتُه الحديث، إذا أخبرته به إخبارًا جازما، وهذا بالنسبة لإخبار جبريل له، أو معناه: الذي صدَقَهُ الله وعَدَهُ، أو الذي صدَّقه الناس فيما أخبرهم به. وقال الكرمانيّ: لما كان مضمون الخبر الذي هو تكوين الجنين، وتطويره إلى أطوار أمرًا مخالفًا لما عليه الأطباء، أشار بذلك إلى بُطلان ما ادَّعَوه. ويحتمل أنه قال ذلك تَلَذُّذًا به وتبركًا وافتخارًا، ويؤيده وقوع هذا اللفظ بعينه في حديث أنس، وليس فيه إشارة إلى بُطلان شيء يخالف ما ذكر، وهو ما أخرجه أبو داود من حديث المُغيرة بن شُعْبَة: سَمعتُ الصادق المصدوق يقول: "لا تُنْزَعُ الرحمة إلا من شقيٍّ" ويأتى في علامات النبوة من حديث أبي هريرة: سمعت الصادق المصدوق يقول: "هلاك أُمَّتي على يدي أُغَيْلِمةٍ من قريش" وابن مسعود المراد به عبد الله، وقد مر في الأثر الثالث من كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه، وهذا التعليق طرف من الحديث المشهور في خلق الجنين، وقد أوصله البخاريّ في كتاب القَدَر. وأما شقيق فقد مرّ أيضًا في الحادي والأربعين من كتاب الإيمان، وتعليقه أوصله البخاريّ في الجنائز. وتعليق حُذَيْفَة أوصله البُخاريّ في كتاب الرِّقاق، وساق التعاليق الثلاثة تنبيها على أن الصحابي تارةً يقول: "حدثنا"، وتارة يقول: "سمعت" فدل على عدم الفرق بينهما.

أما حديفة: فهو ابن اليمان حِسْل، بكسر الحاء وسكون السين المهملة، ويقال: حُسيل بالتصغير، ابن جابر بن عَمْرو بن ربيعة بن جِروة، بكسر الجيم، ابن الحارث بن مازِن بن قُطيْعةَ بن عَبس بن بَغيض، بفتح الموحدة، بن رَيْث، بفتح الراء، ابن غطفان بن سعد بن قَيْس عَيْلان بن مُضر بن نِزار ابن مَعدّ بن عدَنان، أبو عبد الله العبسي القُطيْعى، حليف بني عبد الأشهل من الأنصار. وأمه الرّباب بنت كعْب بن عَدِيّ بن عبد الأشهل من الأوس، وإنما قيل له اليمان، لأن أباه أصاب دمًا في قومه، فهرب إلى المدينة، فحالف بني عبد الأشهْل، فسماه قومه اليمان، لأنه حالف اليمانيَّة. أسلم هو وأبوه وشهدا أحدَّا، ومعهما عمه صَفوان، وقُتل أبوه يومئذ، قتله المسلمون يحسبونه من المشركين، فوهب لهم خذَيْفَةُ دمه. وأسلمت أم حُذيفة وهاجرت، وكانا قد أرادا شُهود بَدْرِ، فاستحلفهما المشركون أن لايشهدا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فحلفا لهم، ثم سألا النبي، صلىِ الله عليه وسلم فقال، صلى الله عليه وسلم، "نَفي لهم بعَهْدِهِم، ونَسْتعِينُ بالله عليهم". وكان صاحب سرّ النبي، صلى الله عليه وسلم، في المنافقين يعلَمُهُم وَحْدَه. وسأله عمر رضي الله عنه، هل في عماله أحد منهم؟ قال: نعم واحد. قال: من هو؟ قال: لا أذكره، فَعَزَ له عمر رضي الله عنه، كأنّما دل عليه. وكان عمر، رضي الله عنه، إذا مات الميت، فإن حضر الصلاة عليه حذُيفة، صلى عليه عمر، وإلا فلا. وكان حذيفة يقول: خَيَّرنِي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بين الهجرة والنُّصْرة، فاخترت النّصرة. وأرسله رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ليلة الأحزاب، ليأتيه بخبر الكفار، فجاءه بخبر رحيلهم بعد أن قال النبي، صلى الله عليه وسلم: "من يأتنا بخبرهم

يكن رفيقنا غدًا ويأمن منهم" فلم يقم إليه غيره، لشدة البرد والجوع والخوف، إلى آخر الخبر. وفي مُسلم عن حُذيفة أنه قال: لقد حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما كان وما يكون حتى تقومَ الساعةُ" وفي الصحيحين: أن أبا الدَّرداء قال لعلقمة: أليس فيكم صاحب السر الذي لا يعلمه غيره؟ يعني حُذيفة. وسئل حُذيفة: أي الفتن أشد؟ فقال: أن يُعْرَض عليك الخَير والشر فلا تدري أيهما تركب. وروى زيد بن أسْلَم عن أبيه أن عمر رضي الله عنه، قال لأصحابه: "تمنَّوا، فَتَمَنَّوْا ملء البيت الذي كانوا فيه مالاً وجواهر، ينفقونها في سبيل الله، فقال عمر: لكنّي أتمنى رجالًا مثل أبي عبيدة ومُعاذ بن جبل وحُذيفة بن اليمان، فأستعملهم في طاعة الله عَزَّ وَجَلَّ". ثم بعث بمال إلى أبي عبيدة، وقال للرسول: "انظر ماذا يصنع"، فقسمه. ثم بعث بمالٍ إلى حُذيفة، وقال "انظر ماذا يصنع"، فقسمه. فقال عمر: "قد قلت لكم". وكان حذيفة، رضي الله عنه، كثير السؤال لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن الفتن والشر ليجتنبهما. وكان عمر، رضي الله عنه، إذا استعمل عاملا، كتب عهده "وقد بعثتُ فلانًا وأمرته بكذا"، فلما استعمل حذيفة على المدائن، كتب في عهده "أنْ اسمعوا له وأطيعوا وأعطُوه ما سألكم"، فلما قدِم المدائن، استقبله الدَّهاقين، فلما قرأ عهده، قالوا: سلنا ما شئت، قال: أسألكم طعاماً آكله، وعلف حماري ما دمتُ فيكم. ثم أقام فيهم، ثم كتب إليه عمر ليَقْدُمَ عليه، فلما بلعْ عُمَرَ قدومُه، كَمُنَ له في الطريق، فلما رآه عمر على الحال التي خرج من عنده عليها، أتاه فألتزمه، وقال: أنت أخي، وأنا أخوك. شهد حذيفة حرب نَهاوَنْد، فلما قُتِل النعمانُ بنُ مُقْرن أميرُ ذلك الجيش، أخذ الراية، وكان فتح هُمذَانَ والزَّيِّ والدِّيْنَوَر على يده، وشهد

فتحٍ الجزيرة، ونزل نَصِيبين، وتزوج فيها. وقُتِل ابناه صَفوانُ وسعيدُ بصفين، وكانا قد بايعا عليًا بوصية أبيهما بذلك إياهما. ولما نزل به الموت جزع جزعًا شديدًا، وبكى بكاء كثيرًا، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: لا أبكي أَسفا على الدنيا، بل الموت أحبّ إلى، ولكني لا أدري على ما أقْدم: على رضا أو سَخَط. وقيل: لما حضره الموت، قال: هذه آخر ساعة من الدنيا، اللهُمَّ إنك تعلم أني أحبك، فبارك لي في لقائك، ثم مات. ومن كراماته الباهرة الحاصلة بعد موته، ما ثبت عندنا بالتواتر، من أن أهل بغداد، لما خافوا من وصول ماء دجْلة لقبره، أخرجوه منه، ووجدوه كأنه يوم قبضت روحه الشريفة، لم يتغير كفنه بتغير ما، فضلًا عن جسده الشريف. وكان هذا في أوائل ذي الحجة سنة خمسين وثلاث مئة وألف. له مئة حديث، وأحاديث، اتفقا على اثني عشر وانفرد البخاريُّ بثمانية ومسلم بسبعة عشر. قاله في الخُلاصة: -وهو يعيد من قول الكرمانّي في شرحه- "له عشرون حديثًا" فلعله أسقط عددًا، إما منه أو من الناسخ. روى عن النبي، صلى الله عليه وسلم وعمر، وروى عنه جابر بن عبد الله وجُنْدُب ابن عبد الله البَجْليّ، وعبد الله بن يَزيد الخطْميّ، وأبو الطُّفَيل وغيرهم من الصحابة، وحُصَين بن جُنْدُب أبو ظَبْيَان ورَبَعِيّ بن خِراش، وَزرْ بن حُبيش وزيْد بن وَهْب، وأبو وائل وُصْلَة بن زُفير، وأبو ادريس الخَوْلاّني وغيرهم. مات، رضي الله عنه، بالمدائن سنة ست وثلاثين، بعد قتل عثمان بأربعين ليلة، ولم يدرك الجَمَل، وليس في الصحابة حذيفة بن اليمان سواه إلا ابن اليمان الأَزْدِيّ. وفيهم حُذيفة ثلاثة: حذيفة بن أَسَيْد، بفتح الهمزة، وابن أَوْس وابن مُحْصن الغَلْفَانيّ، وفي الستة حذيفة سواه ثلاثة. ثم ذكر المصنف ثلاثة تعاليق أُخر فقال: وقال أبو العالية عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما

يروي عن ربه وقال أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربه عز وجل وقال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربكم عز وجل. أراد المصنف بذكر هذه التعاليق التنبيه على العنعنة، وأن حكمها الوصلُ عند ثبوت اللَّقْي. وقد استوفينا الكلام عليها وعلى "إن" في الحديث الأول "إنما الأعمال بالنيات"، وقال ابن رَشِيد: أشار بذكرها إلى أن رواية النبي، صلى الله تعالى عليه وسلم، إنما هي عن ربه، سواءًا صرح الصحابيّ بذلك أم لا، ويدل عليه حديث عبد الله بن عباس المذكور، فإنه لم يقل فيه، في بعض المواضع عن ربه، ولكنه اختصار، فيحتاج إلى التقدير. قال في "الفتح": ويستفاد من الحكم بصحة ما كان ذلك سبيله صحة الاحتجاج بمراسيل الصحابة، لأن الواسطة بين النبي، صلى الله تعالى عليه وسلم، وبين ربه فيما لم يكلِّمه به، مثلا ليلة الإسراء، جبريل، وهو مقبول قطعًا، والواسطة بين النبي، صلى الله تعالى عليه وسلم، وبين الصحايىّ صحابيٌ آخر، وهو مقبول اتفاقًا. وهذا في أحاديث الأحكام دون غيرها. فإن بعض الصحابة ربما حملها عن بعض التابعين مثل كعب الأحْبار. التعليق الأول وصله البخاريّ في التوحيد. وأما أبو العالية، فاختلف في المراد به، فقال العينيّ: المراد به البرّاء، بالراء المشددة، البصريّ، مولى قريش. اسمه، زياد بن فَيْروُز، وقيل: زياد بن أُذَيْنَة، وقيل: اسمه أذينة. وقيل: أذينة لقب له، واسمه كُلْثوم. قال أبو زُرعة: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال العَجْليّ: بصريّ تابعيّ ثقة. وقال ابن سَعْد: كان قليل الحديث. وقال ابن عبد البرّ: زياد بن فَيْروز أكثر ما قيل فيه وهو ثقة عندهم.

روى عن ابن عباس وابن عمر وابن الزُّبير وانس وطَلقْ بن حَبيب وعبد الله بن الصَّامت، وغيرهم. وروى عنه أيُّوب وبُديلَ بن ميسرة ومطرُ الورّاق والحسن بن أبي الحسناء وعُبيدُ بن يونس وغيرهم. مات في شوال سنة تسعين. وليس في الستة أبو العالية سواه هو وأبو العالية رفيع الآتي قريبا، إن شاء الله. وإنما قيل له البرّاء لأنّه كان يَبْريِ النَّبْل أو العود. ومثله أبو مَعْشر البرّاء، واسمه يوسُف. ومن عداهما البَراء، بالمد والتخفيف. قال العراقي في ألفيته: ذو كُنْيَةٍ بمَعْشَرٍ والعالية ... بَرّاءُ اشْدُد .... الخ. وقال سيّدي عبد الله في "غرة الصباح" ناظمًا للمخفف عكس ما فعل العراقي: وما سوى ابن عازِبٍ البَّراء ... مشددٌ بالوِفْق فيه الرّاء كذاك بالتخفيف، نجلُ مَعْرُور ... الخزرجيُ العُقبيُ المشهور قلت: لا أدري ما معنى ذكره للاثنين. وفي الستة أربعة سواهما، كلهم بتخفيف الراء. وهم: ابن زيد البصري ابن بنت أنس بن مالك، وابن عبد الله بن يزيد الغَنَوي البصري القاضي. وابن ناجية الكاهليّ الكوفيّ، ويقال: المحارِبيّ والسَّليطيّ، بفتح السين، وقال الكرمانيّ: وقواه ابن حجر أن المراد بأبي العالية هنا رفيع بن مهران، بكسر الميم الرَّيَّاحِيّ، مولاهم، البصريّ. أدرك الجاهلية، وأسلم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين. ودخل على أبي بكر، وصلى خلف عمر. قال ابن معين وأبو زرعة وأبو حاتم: ثقة. وقال اللاَلِكائِيّ: مجْمَعٌ على ثقته. وقال العجلي: تابعي ثقة من كبار التابعين. وقال قتادة عنه: قرأ القرآن بعد وفاة نبيكم بعشر سنين. وقال أبو داود: ذهب عِلْم أبي العالية لم يكن له رواة، وقال ابن أبي

داود: ليس أحد بعد الصحابة أعلم بالقراءة من أبي العالية، وبعده سعيد ابن جُبَير، وبعده السَّدِّي، وبعده الثَّوْريّ. وقال ابن عديّ: له أحاديث صالحة، وأكثر ما نقم عليه حديث الضحك في الصلاة، وكل من رواه غيره فإنما مدارُهم ورجوعهم إلى أبي العالية، والحديث له وبه يعرف، ومن أجله تكلموا فيه. وسائر أحاديثه مستقيمة صالحة، وأما قول الشافعيّ: حديث الرَّيَّاحِيّ رياحٌ، فإنما يعني حديثه هذا في القهقهة. روى عن علي وابن مسعود وأبي موسى وأبي أيوب وأبي بن كعب وابن عباس، وثوبان وابن عُمر وعائشة وأنس ورافع بن خَدِيج وأبي هُرَيرة وأبي سعيد وأبي ذرٍ. وقيل: لم يسمع من علي ولا أبي أيّوب. وروى عنه خالد الحذّاء، وداود بن أبي هند، ومحمد بن سيرين، واخته حفصة، والربيع ابن أنس، وثابت البَنَّانيّ، وحُميدَ بن هلال، وقتادة ومنصور بن زاذان، وجماعة. مات سنة تسعين، وقيل: سنة ثلاث وتسعين. وقيل: سنة ست ومئة. وقيل: سنة إحدى عشرة ومئة. والرَّيَّاحيّ في نسبه نسبة إلى ريَّاح بن يَرْيُوع بن حَنْظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، أبو قبيلة من تميم، منهم مَعْقِل بن قيس الرَّيَّاحي، أحد أبطال الكوفة وشجعانها. ونسب إليها أبو العالية لأنه أعتقته امرأة من بني رَيَّاح. وليس في الستة رفيع سواه، إلا رفيع والد عبد العزيز. جرى ذكره في أثر علَّقه البخاري في أواخر كتاب الطلاق عن ابن عباس. والتعليق الثاني: أخرجه البخاريّ أيضًا في التوحيد، وأنس، مرّ في السادس من كتاب الإيمان. والتعليق الثالث: أخرجه البخاريّ أيضًا في التوحيد، وأبو هريرة مرّ أيضًا في الثاني من كتاب الإيمان.

الحديث الثالث

الحديث الثالث حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- "إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لاَ يَسْقُطُ وَرَقُهَا وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ فَحَدِّثُونِى مَا هِىَ". فَوَقَعَ النَّاسُ فِى شَجَرِ الْبَوَادِى. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ وَوَقَعَ فِى نَفْسِى أَنَّهَا النَّخْلَةُ، فَاسْتَحْيَيْتُ ثُمَّ قَالُوا حَدِّثْنَا مَا هِىَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "هِىَ النَّخْلَةُ". وجه مناسبة حديث ابن عمر هذا للترجمة، مع أن محصل الترجمة التسوية بين صيغ الأداء الصريحة، وليس ذلك بظاهر في الحديث المذكور هو أن ذلك مستفاد من اختلاف ألفاظ الحديث المذكور، ويظهر ذلك إذا اجتمعت طرقه، فإن لفظ رواية ابن دينار المذكورة في الباب "فحدثوني ما هي" ورواية نافع عند المؤلف في التفسير "أخبروني" وفي رواية عند الإسماعيليّ "أنبؤني" وفي رواية مالك عند المصنف في باب الحياء في العلم "حدثوني ما هي" وقال فيها: فقالوا: أخبرنا بها فدل على أن التحديث والإخبار والإنباء عندهم سواء، وهذا لا خلاف فيه عند أهل العلم بالنسبة إلى اللغة ... الخ، ما مر عند قوله وقال الحميدي وقوله: "إن من الشجر شجرة" أي: من جنسه شجرة، بالنصب، اسم إن، وخبرها الجار والمجرور. ومن للتبعيض. زاد في رواية مجاهد عند المصنف في باب الفهم في العلم، قال: صحبت ابن عمر إلى المدينة. فقال: كنا عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فأتى بجُمّار، فقال: "إن من الشجر" وله عنه في البيوع: "كنت عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو يأكل جُمّارًا" وقوله: "لا يسقط ورقها" في محل نصب صفة لشجرة، وهي صفة سلبية تبيّن أن موصوفها مختص

بها دون غيرها، وقوله "وإنها مثل المؤمن" بكسر الهمزة في إن، عطفا على إن الأولى. ومثل بكسر الميم، وسكون المثلثة، في رواية أبي ذر، وبفتحهما في رواية الأصيليّ وكريمة، وهما بمعنى، ومعناهما التسوية كشِبْه وشبَه زنة ومعنى. والمثل، بالتحريك أيضًا، ما يضرب من الأمثال، وهو المثل السائر الذي شبه مضربه بمورده، ولا يقع ذلك إلا لقول فيه غرابة، والمورد الصورة التي ورد فيها ذلك القول، والمضرب هو الصورة التي شبهت بها. والنخلة هي المشبهة بالمؤمن، كما هو صريح الحديث خلافا لما في العيني، وتبعه القسطلاني من العكس، والمعنى مَثَلُ النخلة العجيب الشأن كحال المؤمن في ذلك، لكن في بعض الأحاديث كما يأتي تشبيه المؤمن بالنخلة، فيكون كل منهما قد وقع. ويستقيم كلام العيني بالنظر لغير حديث الباب. وقوله: "فحدِّثوني" فعل أمر، أي: إن عرفتموها فحدثوني، وقوله: ما هي؟ جملة من مبتدأ وخبر سدت مسد مفعوليْ التحديث، وقوله:"فوقع الناس في شجر البوادي" أي: ذهبت أفكارهم في أشجار البادية فجعل كلّ منهم يفسرها بنوع من الأنواع، وذُهلوا عن النخلة، يقال: وقع الطائر على الشجرة إذا نزل عليها. ووجه الشبه بين النخلة والمسلم إما من جهة عدم سقوط ورقة لها، وعدم سقوط دعوة له، لما رواه الحارث بن أبي أسامة عن ابن عمر، قال: كنا عند رسول الله، صلى الله تعالى عليه وسلم، ذات يوم، فقال: "إن مثل المؤمن كمثل شجرة لا يسقط لها أبلُحَة، أتدرون ماهي؟ قالوا: لا، قال: هي النخلة لا تسقط لها أبْلُحة، ولا تسقط لمؤمن دعوة". أو من جهة بركة كل منهما، لما أخرجه المصنف في الأطعمة عن ابن عمر، قال: بينا نحن عند النبي، صلى الله تعالى عليه وسلم، إذ أتى بجُمار، فقال: إن من الشجر لَمَا بركَتُه كبركة المُسْلم". وهذا أعم من الذي قبله، وبركة النخلة

موجودة في جميع أجزائها، مستمرة في جميع أحوالها. فمن حين تُطْلع إلى أن تيبس تؤكل أنواعا، ثم بعد ذلك، ينتفع بجميع أجزائها حتى النوى في علف الدواب، والليف في الحبال، وغير ذلك، مما لا يخفى. وكذلك بركة المسلم عامة في جميع الأحوال، ونفعه مستمر له، ولغيره حتى بعد موته. قلت: انظر، هل يمكن أحدًا من أهل الزَّيغ أن يقول: إن النخلة لا يُنتفع بها بعد موتها؟ وإذا كان لا يمكنه ذلك، كيف يقول: إن الميت المؤمن لا ينتفع به بعد موته مع ورود تشبيهها به أو تشبيهه بها صريحًا في الأحاديث المذكورة، أو يجعل سيد البلغاء غير عارف بالتشبيه فيما قال؟ أو يجعل التشبيه مقيدًا بدون دليل منه صلى الله تعالى عليه وسلم؟ فالمؤمن المهتدي يعلم من هذا الحديث أن المؤمن لا ينقطع نفعه بالموت قطعًا، ووقع عند ابن حبان عن ابن عمر أن النبيّ، صلى الله تعالى عليه وسلم، قال: "من يخبر عن شجرة مثلها مِثْل المؤمن، أصلها ثابت وفرعُها في السماء؟ ". قال القرطُبي: فوقع التشبيه بينهما من جهة أن أصل دين المسلم ثابت، وأن ما يصدر عنه من العلوم والخير قوت للأرواح مستطاب، وأنه لا يزال مستورًا بدينه وأنه ينتفع بكل ما يصدر عنه حيًا وميتًا. وقال غيره: المراد يكون فرع المؤمن في السماء رفع عمله وقبوله. وروى البزَّار عن ابن عمر أيضًا، قال: قال رسول الله، صلى الله تعالى عليه وسلم: "مثَلُ المؤمن مثَلُ النخلة ما أتاك منها نفعك". هكذا أورده مختصرًا، وإسناده صحيح. وقد أفصح بالمقصو بأوجز عبارة، ووقع في التفسير عند المصنف عن ابن عمر، قال: كنا عند النبي صلي الله تعالى عليه وسلم، فقال: "أخبروني بشجرة كالرجل المسلم لا يتحاتُّ ورقُها ولا ولا ولا" فذكر النفي ثلاث مرات على سبيل الاكتفاء، فقيل في تفسيره: ولا ينقطع ثمرها، ولا يعدم فيُؤها، ولا يبطل نفعها. قلت: انظر هذا النفي الصريح في أنها لا يبطل نفعها، وهي مشبهة بالرجل المسلم -تعلم أن قول

من قال: إن المؤمن الميت ينقطع نفعه بالموت زيغ وبهتان وافتراء. وأما من زعم أن موقع التشبيه بين المسلم والنخلة من جهة كون النخلة إذا قطع رأسها ماتت، أو لأنها لا تحمل حتى تلقح، أو لأنها تموت إذا غرقت، أو لأن لطِلْعها رائحة منْي الآدمي، أو لأنها تعشق، أو لأنها تشرب من أعلاها، فكلها أوجه ضعيفة، لأن جميع ذلك من المشابهات مشترك في الآدميين، لا يختص به المسلم. وأضعف من ذلك قول من زعم أن ذلك لكونها خُلقت من فَضْلة طين آدم، فإن الحديث في ذلك لم يثبت، ولأنه، أيضًا، لا يختص بالمسلم. وقوله: لا تحمل حتى تلقْح، الصواب أن يقول، لا يصلح ثمرها حتى تَلْقح، لأن تلقيحها لا يكون إلا بعد ولادتها. وقوله: قال عبد الله "ووقع في نفسي أنها النخلة: عبد الله هو ابن عمر، والنخلة، بالرفع، خبر أن، بفتح الهمزة، لأنها فاعل وقع. بيَّن أبو عُوانة في صحيحه عن ابن عمر وجه ذلك الوقوع، قال: فظننت أنها النخلةُ من أجل الجُمَّار الذي أتى به وفيه إشارة إلى أن المُلْغَز له ينبغي أن يتفطن لقرائن الأحوال الواقعة عند السؤال، وأن المُلْغِز ينبغي له أن لا يبالغ في التعمية، بحيث لا يجعل للمُلْغِزله بابا يدخل منه، بل كلما قربه كان أوقع في نفس سامعه. وقوله: "فاستحييتُ" زاد في رواية مجاهِد في باب اللهم في العلم "فأردتُ أن أقول هي النخلة، فإذا أنا أصغر القوم" وله في الأطعمة "فإذا أنا عاشر عشرة، أنا أحْدَثُهم". وفي رواية نافع "ورأيتُ أبا بكر وعمر لا يتكلمان فكرهتُ أن أتكلم فلما قمنا قلت لعمر: يا أبتاه" وفي رواية مالك عند المؤلف في باب الحياء في العلم قال عبد الله: "فحدثتُ أبي بما وقع في نفسي، فقال: لأن تكونَ قلتها أَحب إلى من أن يكون لي كذا وكذا". زاد ابن حبان في صحيحه: أحسبه قال: حُمر النَّعَم. وفي رواية البزَّار عن ابن عمر قال: قرأ رسول الله صلى الله تعالى عليه

وسلم، فذكر هذه الآية، فقال: "أتدرون ما هي؟ " قال ابن عمر: لم يَخْفَ عليَّ أنها النخلة، فمنعني أنْ أتكلم مكانُ سني. فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: "هي النخلة". ويجمع بين هذا وبين ما تقدم، أنه صلى الله تعالى عليه وسلم، أتى بالجُمَّار، فشرع في أكله تالياً للآية، قائلا: "إن من الشجر شجرة" إلى آخره. وفي هذا الحديث من الفوائد، غير ما تقدم، امتحانُ العالم أذهان الطلبة بما يخفى مع بيانه لهم، إن لم يفهموه. وأما ما رواه أبو داود من حديث معاوية عن النبي، صلى الله تعالى عليه وسلم، "أنه نهى عن الأُغلوطات"، قال الأوزاعي، أحد رواته: هي صعابُ المسائل. فإن ذلك محمول على ما لا نفع فيه، أو ما خرج على سبيل تعنت المسؤول، أو تعجيزه. وفيه التحريض على الفهم في العلم. وقد بوب له المؤلف باب الفهم في العلم. وفيه استحباب الحياء ما لم يؤد إلى تفويت مصلحة، ولهذا تمنى عمر أن يكون ابنه لم يسكت، وقد بوّب عليه المؤلف في العلم والأدب. وفيه دليل على بركة النخلة، وما تثمره وقد بوّب عليه المصنف أيضًا. وفيه دليل على أن بيع الجُمّار جائز، لأن كل ما جاز أكله جاز بيعه، ولهذا بوّب عليه المؤلف في البيوع، وتعقبه ابن بَطّال لكونه من المُجْمع عليه، وأجيب بان ذلك لا يمنع من التنبيه عليه، لأنه أورده عقب حديث النهي عن بيع الثمار، حتى يبدو صلاحها فكأنه يقول: لعل متخيلًا يتخيل أن هذا من ذاك، وليس كذلك. وفيه دليل على جواز تجمير النخل، وقد بوّب عليه في الأطعمة لئلا يظن أن ذلك من باب إضاعة المال، وأورده في تفسير قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً} [إبراهيم: 24]. إشارة منه إلى أن المراد بالشجرة النخلة.

رجاله أربعة

وفيه ضرب الأمثال والأشباه لزيادة الإفهام، وتصوير المعاني لترسخ في الذهن، ولتحديد الفكر في النظر في حكم الحادثة. وفيه إشارة إلى أن تشبيه الشيء بالشيء لا يلزم أن يكون نظيره من جميع وجوهه، فإن المؤمن لا يماثله شيء من الجمادات، ولا يعادله. وفيه توقير الكبير، وتقديم الصغير أباه في القول، وأن لا يبادره بما فهمه، وإن ظن أنه الصواب. وفيه أن العالم الكبير قد يخفى عليه بعض ما يدركه من هو دونه، لأن العلم مواهب، والله يؤتي فضله من يشاء. واستدل به مالك على أن الخواطر التي تقع في القلب من محبة الثناء على أعمال الخير لا يقدح فيها إذا كان أصلها لله، وذلك مستفادٌ من تمني عمر المذكور. ووجه تمني عمر، رضي الله تعالى عنه، ما طُبع الإنسان عليه من محبة الخير لنفسه ولولده، ولتظهر فضيلة الولد في الفهم من صغره، وليزداد من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، حظوة ولعله كان يرجو أن يدعو له إذ ذاك بالزيادة في الفهم. وفيه الإشارة إلى حقارة الدنيا في عين عمر، لأنه قابل فهم ابنه لمسألة واحدة بحُمْر النَّعَم، مع عظم مقدارها وغلاء ثمنها. وقد قال البزّار في مسده: لم يرْوِ هذا الحديث عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، بهذا السياق إلاَّ ابن عمر وحده، وقد رواه عبد بن حُميد في تفسيره عن أبي هُريرة مختصرًا. ورواه التِّرْمِذِيّ والنَّسائِيّ من حديث أنس فيستفاد من مجموع ما ذكرنا أن العشرة التي قال ابن عمر أنه كان عاشرهم منهم أبو بكر وعمر وابن عمر وأبو هريرة وأنس إذا كان الاخيران سمعا ما روياه من هذا الحديث في ذلك المجلس. رجاله أربعة الأول: قُتَيْبَةُ بن سعيد، وقد مر في الحادي والعشرين من كتاب الإيمان ومر

باب طرح الإمام المسألة على أصحابه ليختبر ما عندهم من العلم

إسماعيل بن جعفر في السادس والعشرين منه أيضًا، ومر عبد الله بن دينار في الثاني منه أيضًا، ومر عبد الله بن عمر في الأثر الرابع من كتاب الإيمان أيضًا، قبل ذكر حديث منه. وهذا الحديث أخرجه البخاريَّ في ثلاثة مواضع من كتاب العلم هذا: عن قُتَيبة، وعن خالد بن مُخْلِد، وعن عليّ عن سفيان، وعن إسماعيل عن مالك. وفي البيوع في باب بيع الجمار وأكله عن أبي عُوانة. وفي الأطعصة عن عمر بن حَفْص. وفي الأدب في باب "لا يستحي من الحق" عن آدم ومسلم في تلو كتاب التوبة عن محمد بن عُبَيد وغيره. ثم قال المصنف: باب طرح الإِمام المسألة على أصحابه ليختبر ما عندهم من العلم أورد في هذا الباب حديث ابن عمر المذكور قبله، بلفظ قريب من لفظه. وفائدة إعادته له اختلاف السند المؤْذِنِ بتعداد مشائخه، واتساع روايته، مع استفادة الحكم المترتب عليه، المقتضي لدقة نظره في تصرفه في تراجم أبوابه. وأما دعوى الكرمانيّ أنه لمراعاة صنيع مشائخه في تراجم مصنفاتهم وأن رواية قتيبة كانت في بيان معنى التحديث والإخبار، ورواية خالد كانت في بيان طرح الإِمام المسألة، فذكر الحديث في كل موضع عن شيخه الذي روى له الحديث لذلك الأمر -فإنها غير مقبولة، ولم يُحْكَ عن أحد ممن عرف حال البخاريّ، وسعة علمه، وجودة تصرفه، أنه كان يقلَّد في التراجم ولو كان كذلك لم تكن له مزية على غيره، وقد توارد النقل عن كثير من الأئمة، أن من جملة ما امتاز به كتاب البخاريّ: دقة نظره في تصرفه في تراجم أبوابه. والذي ادعاه الكرمانَّي يقتضي أنه لا مزية له في ذلك، لأنه مقلد فيه لمشائخه، ووراء ذلك أنَّ كلاًّ من قُتيبة وخالد بن مَخْلَد لم يُذكر لواحد منهما عمن صنف في بيان حالهما، أن له تصنيفا على الأبواب، فضلا عن التدقيق في التراجم.

الحديث الرابع

الحديث الرابع حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ" "إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لاَ يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ، حَدِّثُونِى مَا هِيَ". قَالَ فَوَقَعَ النَّاسُ فِى شَجَرِ الْبَوَادِي. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَوَقَعَ فِى نَفْسِى أَنَّهَا النَّخْلَةُ، ثُمَّ قَالُوا حَدِّثْنَا مَا هِىَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "هِىَ النَّخْلَةُ". قال في "الفتح": لم أجد هذا الحديث من رواية سُليمان بن بلال إلا عند البخاريّ، ولم يقع لأحد ممن استخرج عليه، حتى إن أبا نعيم إنما أورده في "المستَخْرَج" من طريق الفربري عن البخاري نفسه. وقد أخرجه أبو عُوانة في صحيحه من رواية خالد بن مَخلَد الراوي له هنا، لكنه قال عن مالك بدل سليمان بن بلال، فإن كان محفوظا فلخالد فيه شيخان، وقد وقع التصريح بسماع عبد الله بن دينار له، من عبد الله بن عمر عند مسلم وغيره، وقد مرت أبحاثه مستوفاة غاية الاستيفاء في الذي قبله. رجاله أربعة أيضا، اثنان منهما من رجال الأول، وهما عبد الله بن دينار وعبد الله بن عمر، ومر فيه ذكر محلهما. والثالث: خالد بن مَخْلَد، بفتح الميم، أبو الهَيْثَم القَطَوانّي البَجْلِي، مولاهم، الكوفّي. قال أحمد بن حنبل: له أحاديث مناكير. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه. وقال أبو داود: صدوق، ولكنه يتشيَّع، وقال ابن مُعين: ما به بأس. وقال ابن عدِيّ: هو من المكثرين، وهو عندي إن شاء الله لا بأس به، وقال، بعد أن ساق له أحاديث: لم أجد في حديثه أنكر مما ذكرته، ولعلها توهُّمٌ منه، أو حملا على حفظه.

وقال ابن سعد: كان متشيعا، مَنْكر الحديث في التشيع، مفرطا، وكتبوا عنه للضرورة. وقال العَجليّ: ثقة فيه قليل تشيع، وكان كثير الحديث. وقال صالح جَرْزَة: ثقة في الحديث، إلا أنه كان مُتّهمًا بالغُلوّ. وقال الجَوْزْجَانِيّ: كان شئاما معلنا لسوء مذهبه، وقال الأعْين: قلت له: أعندك أحاديث من مناقب الصحابة؟ قال: قل في المثالب أو المثاقب يعني بالمثلثة، لا بالنون. وقال أبو حاتم: لخالد بن مَخْلَد أحاديث مناكير، ويكتب حديثه. وقال أبو أحمد: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال الأزْدِيّ: في حديثه بعض مناكير، وهو عندنا في عداد أهل الصدق. وقال ابن شاهين في "الثقات" عن ابن أبي شَيْبَة: هو ثقة صدوق. وذكره السّاجي والعقيليّ في الضعفاء. وذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال: كان يكره أن يقال له القَطَواني. وفي تاريخ البخاري، كان يغضب من القَطَواني، قال ابن حجر: التشيُّع لا يضره إذا كان ثَبْتَ الأخْذ، لاسيما إذا لم يكن داعية إلى رأيه، وأما المناكير، فقد تتبعها أبو أحمد بن عَدِيّ من حديثه، وأوردها في كامله، وليس فيها شيء مما أخرجه له البخاريّ بل لم أر له عنده من أفراده سوى حديث أبي هريرة، وهو "من عادى لي وليًا". وهو من كبار شيوخ البخاري، روى عن سليمان بن بلال، وعبد الله ابن عمر العُمَرِيّ، ومالك ومحمد بن جَعْفَر بن أبي كثير، وعبد الرحمن بن أبي الموّال، ونافع بن أبي نُعيم القارِىء، والثّوريّ وغيرهم. وروى عنه البخاري، وروى له مسلم، وأبو داود في مسند مالك، والباقون بواسطة، وأبو بكر بن أبي شَيْبَة. وحدّث عنه عُبَيْد الله بن موسى، وهو أكبر منه، وأبو أُمَية الطَّرْسُوسي، وإسحاق بن راهويه، وعثمان بن أبي شَيْبَة، ويوسف بن موسى القَطَّان، وصالح بن محمد بن يحيى بن سعيد القَطّان، وسُفيان بن وَكِيع بن الجَرَّاح، وخلق. وآخر من حدّث عنه أبو يَعْلى محمد بن شَدَّاد المسمَعِيّ.

مات سنة ثلاث عشرة ومئتين، وقيل: سنة أربع عشرة، وليس في الستة خالد بن مَخْلَد سواه، وأما خالد، فكثير، والقَطَواني، بالتحريك، في نسبه نسبة إلى قَطوان، موضع بالكوفة، منه الأكسية القَطوانِيّة. ومنه الحديث: "فسلّم عليُّ وعليه عباءَةٌ قطوانِية"، وهي عباءة بيضاء قصيرة الخمل، قال أبو الوليد الباجيّ: قال لي أهل الكوفة: قطوان قريه بباب الكوفة. ومرّ الكلام على البجليّ في التاسع والعشرين من كتاب الإيمان، وعلى الكوفي في الثالث منه أيضا. الرابع: سليمان بن بلال التَّيْمِيّ القرشيّ، مولاهم، أبو محمد. ويقال: أبو أيوب المدنيّ. قال أحمد: لا بأس به، ثقة. وقال الدُّوْرِيّ في ابن مُعين: ثقة صالح. وقال عثمان الدارميّ: قلت لابن مُعين: سُليمان أحب إليك أو الدَّراورديّ؟ قال: سليمان، وكلاهما ثقة. وقال ابن سعد: كان بربريًا عاقلًا حسن الهيئة، وكان يفتي بالبلد وولي خراج المدينة، وكان ثقة، كثير الحديث. وقال الذُّهْلِيّ: ما ظننت أنَّ عند سليمان بن بلال من الحديث ما عنده، حتى نظرت في كتاب ابن أبي أُوَيس، فإذا هو قد تبحر في حديث المدنيين. وقال أبو زَرعة: سليمان بن بلال أحب إليّ من هشام ابن سعد. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الخليلي: ثقة ليس بمكثر، لقي الزُّهْري، ولكنه يروي كثير حديثه عن قدماء أصحابه. وأثنى عليه مالك، وآخر من حدّث عنه لُوَين. وقال ابن معين أيضًا: إنما وضعه عند أهل المدينة، أنه كان على السوق. وكان أروى الناس عن يحيى بن سعيد، وقال عبد الرحمن بن مهديّ: ندمت أن لا أكون أكثرت عنه. وقال عثمان بن أبي شَيْبة: لا بأس به، وليس ممن يعتمد على حديثه. وقال ابن عديّ: ثقة. وروى عنه مالك في كتاب "مكة" للفاكهانيّ. روى عن زيد بن أسْلَم، وعبدالله بن دينار، وصالح بن كيْسان، وحُميد الطويل، وربيعة وعمرو بن أبي عمرو مولى المُطَّلب، وموسى بن عقبة،

باب ما جاء في العلم وقول الله تعالى وقل رب زدني علما

وهشام بن عُروة، ويحيى بن سعيد، وجعفر الصادق وخلق. وروى عنه أبو عامر العقديّ وابن المبارك وأبو سلمة الخُزَاعي، وعبد الله بن وهَبْ ويحيى بن يحيى النَّيْسابورِيّ، وإسماعيل بن أبي أويس، وأخوه أبو بكر بن أويس، ومحمد بن سليمان لوين. مات سنة سبع وسبعين ومئة، وليس في الستة سليمان بن بلال سواه، وأما سليمان فكثير، والتيميّ في نسبه مرّ الكلام عليه في الثاني من كتاب الإيمان. ثم قال المصنف: باب ما جاء في العلم وقول الله تعالى وقل رب زدني علمًا هذا الباب ساقط في رواية أبي ذر والوقت وابن عساكر والاصيلي ولم يذكر فيه حديثا لما قدمناه أول كتاب العلم عند قوله باب فضل العلم ومرّ هناك الكلام على الآية اهـ ثم قال: باب القراءة والعرض على المحدث هذا الباب ساقط أيضًا عند الأصيليّ وأبي ذَرٍّ وابن عساكر. وقد غاير بين القراءة والعَرْض بالعطف، لما بينهما من العموم والخصوص، على قول. ولنذكر هنا حكم العرض مبسوطا، لأنه من مصطلح الحديث، فأقول: العَرْض والقراءة على الشيخ اختُلف فيهما، فقيل: مترادفان. وهو الصحيح، وقيل: القراءة أعم من العَرَض، فالعرض عبارة عما يعارض به الطالب أصل شيخه، معه أو مع غيره، بحضرته. والقراءة على الشيخ تعم ما إذا كان الشيخ مُمْسِكًا للأصل. ولما إذا كان الطالب قارئًا من حفظه من غير كتاب. وقيل: إن العرض أعم باعتبار أن فيه عرض قراءة وعرض مناولة، كما يأتي إن شاء الله تعالى في بابه قريبا. والتحمل بالقراءة على الشيخ جائز، سواء قرأت الأحاديث على الشيخ من حفظك، أو من كتاب لك، أو له، أو لغيركما، أو سمعت قراءة غيرك عليه مطلقا أيضًا، وسواء الشيخ في حال القراءة عليه حافظًا لما عرضت

عليه، أو غير حافظ له، ولكنه ممسك لأصله بنفسه أو مُمْسِكٌ له ثقة غيره، وكأصله ما قوبل عليه، وكذلك يجوز إذا كان معك حال الاستماع ثقة حافظ للمقروء مستمع له غير غافل عنه. وقد أجمع العلماء على صحة الأخذ بالعرض، وردّوا الخلاف الوارد فيه، وما اعتدُّوا به. وكان مالك ينكر على المخالف، ويقول: كيف لا يجزؤه هذا في الحديث ويجزؤه في القرآن وهو أعظم؟. واختلف العلماء هل هي مساوية للسماع من لفظ الشيخ، أو دونه، أو فوقه؟ فَنُقل عن مالك وأصحابه وجُلّ أهل الكوفة والحجاز والبخاريّ: أنهما سِيّان. ونُقِل عن ابن أبي ذيب وأبي حنيفة ترجيح العَرْض على السماع، قائلين: إن الشيخ لو سها لم يتهيأ للطالب الرد عليه، إما لجهله أو لهيبة الشيخ أو لغير ذلك بخلاف الطالب والأصح ترجيح السماع من الشيخ على العرض، وهو الذي عليه جلّ أهل المشرق وخُراسان. وقد يعرض ما يصير العرض أولى، كأن يكون الطالب أعلم أو أضبط، أو الشيخ في حال القراءة عليه أوعى منه في حال قراءته، وإذا أراد الطالب أداء ما رواه عرضا، فالأجود فيه أن يقول: قرأت على فلان، إذا كان العرض بقراءة نفسه، أو: قرىء على فلان وأنا أسمع، إذا كان بقراءة غيره، ثم يلي ذلك عبارات السماع مُقَيَّدة بالقراءة، فيقول: حدثنا فلان بقراءتي عليه، أو قراءةً عليه، وأنا أسمع، أو: أخبرنا فلان بقراءتي، أو قراءة عليه وأنا اسمع، أو أنبأنا، أو قال لنا بقراءتي عليه، أوقراءة عليه وأنا أسمع، إلاَّ لفظ السماع، فإنهم لم يجوّزوه في العرض لصراحته في السماع من لفظ الشيخ. وأجازه السُّفيانان ومالك. وأما الأداء بلفظ التحديث أو الأخبار، من غير تقييد القراءة المار، فقد منعه إحمد بن حنبل، ويحيى بن يحيى التَّمِيْميّ، وابن المبارك. وأجازه مالك والزُّهْرِيّ ويحيى بن سعيد القطّان، وسفيان بن عُيَيْنة، والبخاريّ، وجُلُّ أهل الكوفة والحجاز. وذهب ابن جُرَيج والأوزاعي، وعبد الله بن وهب، والإمام الشافعي، ومسلم، وجل أهل الشرق والنسائي، إلى جواز

"أخبرنا" دون "حدثنا" قائلين: إن التحديث مشعر بالنطق والمشافهة دون الإخبار. وبعض القائلين بالفرق، وهو أبو حاتم محمد بن يعقوب الهَرَويّ، أعاد قراءة صحيح البخاري بعد قراءته له على بعض رواة الفربريّ، حتى رجع إلى كل متن قال فيه "حدثك الفربري" فقال فيه: أخبرك الفربريّ، مكان "حدثك" الأولى. وقال للراوي: تسمعني أقول: حدثكم الفربريّ، ولا تنكر عليّ مع علمك بأنك إنما سمعته منه قراءة عليه؟. قال العراقي: وهذا رأي المشترطين إعادة الإسناد في كل متن، ولو مع اتحاد السند، كما مر في الكلام على النسخة، وهو جور، والصحيح خلافه، وأشار العراقي إلى هذا الفصل بقوله: ثُمّ القراءةُ التي نَعْتُها ... معظمهم عَرْضا سَوّا قَرأتُها من حِفْظٍ أو كِتابٍ أو سَمِعْتُ ... والشيخ حافظٌ لما عَرَضتُ أوْ لا، ولكنْ أصله يُمْسكُه ... بنفسه، أو ثِقَةٌ مُمْسكه قلتُ كذا إن ثقةٌ ممن سمع ... يحفظه مع استماعٍ فاقْتنَع وأجْمَعوا أخذًا بها وردُّوا ... نَقْلَ الخلافَ، وبه ما اعتدُّوا والخُلْفُ فيها: هل تساوي الأولَ ... أو دونه أو فوقه، ونَقلا عن مالك، وصحبه ومُعظمِ ... كوُفةٍ والحجازِ أهل الحرمِ مع البخاريِّ هما سِيّان ... وابن أبي ذيب مع النُّعمانِ قد رجّحا العَرْض وعكْسُه أصحّ ... وجلُّ أهل الشرق نحوه جَنَحْ وجوّزوا فيه قرأتُ أو قَرَا ... مع "وأنا أسمع" ثم عَبّرَ بما مضى في أول مُقيّدًا ... قراءة عليه حتى منشدًا أنشدنا، قراءة عليه، لا ... سمعتُ، لكنْ بعضهُم قد حَلَّلا ومُطْلَق التحديث والإخبار ... منعه أحمد ذو المقدار والنسائي والتَّميْمي يحيى ... وابن المبارك الحُميد سعيًا وذهب الزهريُّ والقَطَّان ... ومالك، وبعده سُفيان

ومعظمُ الكوفة والحجاز ... مع البخاريّ إلى الجوازِ وابن جُرَيج، وكذا الأوزاعي ... مع ابن وهب والإمام الشافعي ومسلمٌ، وجُلّ أهل الشَّرْقِ ... قد جوّزوا "أخبرنا" للفَرْقِ وقد عزاه صاحب الإِنصاف ... للنَّسائي من غير ما خلاف والأكثرين، وهو الذي اشْتُهرَ ... مصطلحًا لأهله أي الأثر وبعض من قال بذا أعادا ... قراءة الصحيح، حتى عادا في كل متن قائلا "أخبرك" ... إذ كان قال أولًا "حدَّثَك" قلت: وذا رأيُ الذين اشترطوا ... إعادة الإسناد وهو شطَطُ ولنذكر هنا تفريعات سبعة تذكر في كتب الأصول بعد هذا الفصل تتميمًا للفائدة: أولها: فيما إذا لم يحفظ الشيخ ما عُرِض عليه، وأمسك الأصل عَدْلُ رِضًا، فقد أجاز جل المحدثين أو كلهم الاعتماد على ذلك، والرواية به. ومنعه إمام الحرمين من أهل الأصول. وأما إذا لم يكن الممسك عدلا فلا اعتداد بذلك اتفاقًا. ثانيها: فيما إذا سكت الشيخ بعد قول الطالب له "أخبرك فلان" ونحوه، ولم يقُرَّة بلفظ "كنعم" أو إشارة مع فهمه لما قاله الطالب، ولم ينكر عليه، وغلب على ظن الطالب أن سكوته إجابة له فالذي عليه المعظم من العلماء، وهو الصحيح، أن ذلك كافٍ في صحة السماع، إذ سكوته على الوجه المذكور كإقراره لفظًا ولأنه لا يليق بذي دين إقرارٌ على خطأ في مثل ذلك، وحينئذ فتؤدّي بألفاظ العرض كلها. ووافق على هذا من الشافعية أبو الفتح سليم الرازيّ، وأبو إسحاق الشيرازيّ، وأبو نصر بن الصّباغ، ولكنّ هذا الأخير قال: لا تجوز تأديته إلا بألفاظ العرض المتفق عليها، وهي "قرأت عليه"، أو "قرىء عليه وأنا اسمع" لا جميعها، فلا تقل: حدثني، ولا أخبرني، ولا سمعت. ومنع بعض أهلِ الظاهر

والحديث الاكتفاءَ بسكوته، فاشترطوا اقراره بذلك لفظًا، بل قال صاحب المحصول: إن الشيخ لو أشار برأسه أو أصبعه للإقرار به، ولم يتلفظ، لم يُقبل ذلك. وفيما قاله نظر، والمعتَمد ما مر من الجواز، إن لم يشر. والغاية أنه فات المستحبّ، وهو الإقرار به لفظًا. ثالثها: في افتراق الحال بين صيغة المنفرد وصيغة من في الجماعة، فاختار الحاكم، وعليه أكثر الشيوخ، أن يقول في حال الأداء: حدثني، إذا كان منفردًا حال السماع عن غيره، وأن يقول: حدثنا، إذا كان وقت السماع معه غيره، وأن يقول فيما تحمله عن شيخه عَرْضًا: أخبرنا بالجمع، إذا سمع منه بقراءة غيره عليه، وأن يقول: أخبرني، إذا كان هو القارىء بنفسه على الشيخ. واستحسنه ابن وهب والتِّرمِذِيّ، وليس بواجب، ومحل هذا إذا علم صورة حال الأخذ عن الشيخ، أما إذا شك في الأخذ عنه، أكان وحده أو مع غيره، فالأوْلى الوحدة، لأن الأصل عدم غيره، وكذا لوْ شَكّ في أخذه عنه عرضًا، أكان من قبيل "أخبرنا" لكونه مع غيره، أو "أخبرني" لكونه وحده. والأصل عدم غيره، لكن حكى الخطيب عن البرقانيّ أنه كان يقول في هذا: "قرأنا"، لأن سماع نفسه متحقق، وقراءته شاكٌّ فيها، والأصل عدمها. ولأن إفراد الضمير يقتضي قراءته بنفسه، وجمعه يمكن حمله على قراءة بعض السماع، بل لو تحقق أن الذي قرأ غيره، فلا بأس أن يقول: "قرأنا". وقال يحيى بن سعيد القطَان في مسألة تشبه هذه: إنه يقول فيها "حدثنا" بصيغة الجمع، وهي ما إذا شك الإنسان في لفظ شيخه، أقال: "حدثنا" أو"حدثني". قال ابن الصلاح ومقتضاه الجمع في الأُولى أيضًا. قال: وهو عندي يتوجه بأنّ "حدثني" أكمل مرتبة، فيقتصر في حالة الشيخ على الناقص لأن الأصل عدم الزائد، وهذا تدقيق لطيف. واختار البَيْهَقيّ الإفراد في صورة القَطّان، معللًا بأنه لا يشك في واحد، وإنما الشك في

الزائد، فيطرح الشك، ويبقي على اليقين. رابعها: -في التقييد بلفظ الشيخ، فقد قال الإِمام أحمد: لا تجوز تعدية لفظ ولا إبداله بغيره، فإذا قال الشيخ، مثلا: حدّثنا فلان عن فلان، قال أولهما: حدثنا، وقال الثاني: أخبرنا، فلا تبدل شيئًا من ألفاظه بغيره، وكذا يمنع إبدال "حدثنا" "بخبرنا" وعكسه فيما صنف من الكتب، لاحتمال أن قائل ذلك لا يرى التسوية بين الصيغتين، وإذا عُرف أن الراوي مسوٍ بينهما، جرى في ذلك من الخلاف ما جرى في النقل بالمعنى وخص ابن الصلاح هذا الخلاف بما رواه الطالب مما تحمَّله باللفظ من شيخه. وأما ما وضعه المصنفون في الكتب المصنفة، فإن ذلك يمتنع تغييره قطعًا، سواء رويناه في التصنيفات أم نقلناه منها لفظًا إلى أجزائنا، أو تخاريجنا وضعّف هذا ابن دَقيقْ العيد. خامسها: في النسخ والكلام من الشيخ أو الطالب وقت التحمل، وفي سن الإجازة مع السماع. فقال بامتناع ذلك الإسْفَرائِيْنِيّ، وإبراهيم الحربيّ وابن عَديّ، لأن الاشتغال بالنسخ من الشيخ أو الطالب مُخلٌّ. وقال الضبعي: إذا كنت راويًا حال النسخ منك، أو من شيخك فلا تقل "حدثنا"، ولا "أخبرنا"، وقيل: "حضرت"، كما يقوله من أدى ما تحمله وهو صغير قبل فهمه الخطاب، ولكنْ أبو حاتم الرازي، كان يكتب في حال تحمله عند محمد بن الفضل عارم، وكان ابن المبارك يكتب في حال تحديثه، وهذا منهما مقتضٍ جوازه، وعدم ذكر الحضور، وجوزه موسى بن هارون الحمَّال، وذهب ابن الصلاح إلى التفصيل، فقال: إنْ صحب النسخ فهمٌ للمقروء كما جرى للدارقطني صح السماع، وإلا يصحبه فهم لم يصح، ومسألة الدارقطني هي أنه حضر في حداثته إملاء أبي عليّ إسماعيل الصفّار، فرآه بعض الحاضرين ينسخ، فقال: لا يصح سماعك وأنت تنسخ. فقال له الدارقطنيّ: فهمي للإملاء خلاف فهمك، ثم قال للمنكر: أتحفظ كم أملى حديثا إلى الآن؟ قال: لا، قال له: أملى ثمانية عشر حديثًا، وسردها على الولاء، إسنادا ومتنًا فعجب الناس من ذلك.

وما جرى في النسخ يجري في الكلام من السامع والمسمع وقت السماع، وفي إفراط القارىء في الاسراع، وفيما إذا خفي صوته حتى خفي في جميع ذلك بعض الكلم، وكذا إذا بعُد السامع عن القارىء، أو عرض له نعاس ونحو ذلك. وقد كان الدارقطنيّ يصلي في حال قراءة القارىء عليه، وربما يشير بردّ ما يخطىء فيه القارىء. ثم مع اعتماد التفصيل يفتقر الكلمتان أو أقل، والضابط دوران الأمر على ما لا يكون الذهول عنه مُخلًا بفهم الباقي، ويُسَنُّ للشيخ أن يجيز السامعين رواية ما رووه عنه، مع إسماعه لهم جبرًا، لما يقع من أجل ما ذكر أو نحوه كخلل في الإعراب أو الرجال، وذلك بأن يقول: أجزت لكم روايته سماعا. وقال ابن عتّاب: لا غنى لطالب العلم عن الإجازة من الشيخ، مقترنة بالسماع لجواز سهوٍ أو غفلة أو غلط، وظاهره الوجوب، ثم ينبغي لكاتب بلغ مقابلة الطبقة أن يكتب الإجازة عقب كتابته السماع، ويقال: أول من كتبها في الطِّباق الحافظُ أبو الطاهر إسماعيل بن عبد الله بن عبد المحسن الأنماطيُّ، فجزاه الله خيرًا في سَنِّه ذلك لأهل الحديث، فلقد حصل به نفع كثير. ولقد انقطعت بسبب إهمال ذلك ببعض البلاد روايةُ بعض الكتب، لكون راويها كان له فوت، ولم يوجد في الطبقة إجازة المسمع للسامعين فما أمكن قراءة ذلك الفوت عليه بالإجازة، لعدم تحققها، كما اتفق لأبي الحسن علي بن الصَّواف الشاطِبيّ في سُنَن النَّسائي، فلم يأخذوا عنه سوى مسموعه منها على أبي بكر بن بلْقا. وسأل صالحٍ بن أحمد بن حنبل أباه فقال له: إن أدغم الشيخ أو القارىء لفظًا يسيرًا، فلم يسمعه السامع معرفته أنه كذا وكذا، أيرويه عنه؟ فقال له: أرجو أن يعفى عنه ولا يضيق. ومنع أبو نُعيم الفضل بن دُكين ذلك في حال سماعه من سفيان والأعمش، إذا شرد عليه اللفظ اليسير واستفهمه من بعض رفقائه، فقال: لا يسعه إلا أن يروي تلك الكلمة الشاردة عن فهمه إياها، لا عن شيخه، ومَثَلُه في ذلك زائدةُ بن قُدامة، فقد قال خَلف

ابن تميم: سمعت من الثوري عشرة آلاف حديث، فكنت استفهم جليسي، فقلت لزائدة، فقال لي: لا تحدّث منها إلا بما تحفظ بقلبك، وتسمع بأذنك. قال: فألقيتها. وكان خلف بن سالم يقتصر على "نا" حين فاته "حدث" من "حدثنا" من قول شيخه سفيان بن عُيينة حين تحديثه عن عمرو بن دينار، فكان يقال له: قل: "حدثنا"، فيمتنع، ويقول إن لكثرة الزحام عند سفيان لم أسمع شيئًا من حروف "حدث". وكان شيخه سفيان يكتفي بسماع لفظ المُسْتمْلي الذي اتبع لفظ المُمْلي، وذلك أن أبا مسلم المستملي قال لسفيان: الناس كثير لا يسمعون، فقال: أتسمع أنت؟ قال: نعم. قال: فأسمعهم. ولعل سماع خلف لم يكن في الإملاء، وهذا هو العمل من الأكابر الذين يَعْظُم الجمع في مجالسهم. إنّ من سمع المستملي دون المملي جاز له أن يرويه عن المملي، وكذلك أفتى حمّاد بن زيد من استفهمه في حال إملائه عن بعض الألفاظ، وقال له: استفهم الذي يليك. وروي عن الأعمش، كنا نقعد للنّخعيّ، فربما قد يبعد عنه البعض، ولا يسمعه فيسأل البعيد البعض القريب عما فاته، وينقل كل منهما ذلك عنه بلا واسطة. ويشترط أن يسمع المملي لفظ المستملي كالعرض، لأن المستملي في حكم القارىء على المملي، وحينئذ فلا يقال في الأداء كذلك: سمعت فلانا، كما مر في العرض، بل الأحوط بيان الواقع، كما فعله جماعة من الأئمة. وقال محمد بن عبد الله بن عمّار الموصلي: ما كتبت قطُّ من في المستملي ولا التفتُّ إليه، ولا أدري ما يقول. إنما كنت أكتب من في المحدّث وصوَّبه النوويّ وقال: إنه الذي عليه المحققون، وقال أبو زرعة بعد أن روى ما مر عن الأعمش: رأيتُ أبا نُعيم لا يعجبه ذلك، ولا يرضى به لنفسه، وكل التحديث بما لم يسمعه إلا عن رفيقه تساهل. وقول عبد الرحمن بن مهديّ وأبي عبد الله بن منْده: يكفي من سماع

الحديث شمه، مقصودهما أن المحدث إذا سُئل عن طرف حديث واكتفى السائل بطرقه عن ذكر باقيه، كان ذلك كافيا. وقد كان السلف يكتبون أطراف الأحاديث ليذاكروا الشيوخ فيحدثوهم بها، وما عنيا تساهلًا في الحديث ولا في الأداء. سادسها: -في التحديث من وراء ستر، فيصح السماع به بخلاف الشهادة، لأن باب الرواية أوسع، وكما لا تشترط رؤيته له لا يشترط تمييزه له من الحاضرين. وشرطُ صحة السماع أن يكون السامع عارفًا لمن وراء الستر، بصوته أو بإخبار من يثق بعدالته وضبطه، أن هذا صوته، إن كان يحدث بلفظه، أو أنه حاضر إن كان عَرْضا. وقال شعبة: لا ترو عن من يحدثك، ولم تواجهه، فلعله شيطان. ودليل الصحة حديث "أن بلالا يؤذن بليل فكلُوا واشربوا حتى تسمعوا تأذين ابن أُمِّ مكتوم"، فأمر الشارع بالاعتماد على صوته مع غيبة شخصه عمنّ يسمعه، وتحديث أمّنا عائشة وغيرها من أمهات المؤمنين من وراء حجاب، مع نقل ذلك عنهن ممن سمعه والاحتجاج به في الصحيح. سابعها: -فيما إذا منع الشيخُ الطالبَ الرواية عنه، فله أن يرويه عنه، ولا يضره منع الشيخ له، كأن يقول له: لا لعلة تمنع الرواية لا تروه عني، أو: ما أذنت لك في روايته فتسوغ له روايته عنه، لأنه قد حدثه وهو شيء لا يرجع فيه، ولا يؤثِّر منعه، وكذلك لا يضر التخصيص من الشيخ لجماعة مثلًا، بالسماع، وقد سمع غيرهم، سواءًا علم الشيخ سماعه، أو لم يعلم. وكذا لو قال: أخبركم، ولا أخبر فلانا، لا يضره. وكذا، لا يضر الرجوع بكتابة ونحوها، أو بلفظ نحو "رجعت عما حدثتكم به" ما لم يقل مع ذلك: اخطأت فيما حدثتُ به، أو شَكَكْتُ في سماعه، أو نحو ذلك. فإن قال معه ذلك، لم يروِهِ عنه.

وإلى هذه التفريعات أشار العراقيّ بقوله: واختلفوا إن أمْسَكَ الأصلَ رضا ... والشيخُ لا يحفظُ ما قد عُرضا فبعض نُظَّار الأصول يُبْطِلِهُ ... وأكثر المُحَدِّثين يَقْبَله واختلفوا إن سَكَت الشيخ ولمْ ... يُقِرَّ لفظا فرآه المُعْظَمْ وهو الصحيح كافيًا، وقد مَنع ... بعض أولي الظاهر منه، وقطعْ به أبو الفتح سليم الرّازيّ ... ثم أبو إسحاق الشِّيرازيّ كذا أبو النصر، وقال: نعملُ ... به، وألفاظ الأداء الأولُ والحاكم اختار الذي قد عهدا ... عليه أكثر الشيوخ في الأدا حدثني في اللفظ حيثُ انفردا ... واجمع ضميره إذا تعَدَّدا والعرض إن تسمع فقل: "أخبرنا" ... أو قارئا "أخبرني" واستحسنا ونحوه عن ابن وَهْبٍ رويا ... وليس بالواجب، لكن رُضِيا والشكّ في الأخذ أكان وحده ... أو مع سواه، فاعتبار الوَحْدَه محتملٌ، لكن روى القطَّانْ ... الجمعَ فيما أوْهَم الإنسانْ في شيخه ما قال، والوحدة قد ... اختار في ذا البيهقيُّ واعتمد وقال أحمد: اتبع لفظًا ورد ... للشيخ في أدائه، ولا تعَدّ ومنع الإبدال فيما صنَّفا ... الشيخُ، لكن حيثُ راوٍ عُرِفا بأنه سوا ففيه ما جرى ... في النقل بالمعنى، ومع ذا فيرى بأن ذا فيما روى ذو الطَّلبْ ... باللفظ، لا ما وضعوا في الكتب واختلفوا في صحة السماع ... من ناسخ، فقال بامتناع الإسفرائينيُّ مع الحربيّ ... وابن عَدِيّ وعن الضَّبْعِيّ لاتروِ تحديثًا أو إخبارًا قُل ... حضرتُ والرازي وهو الحنظلي وابن المُبارك كلاهما كتبْ ... وجوّز الجمال والشيخُ ذَهب بأن خيرًا منه أن يُفَصَّلا ... فحيث فهمّ صح أولا، بَطُلا كما روى للدارقطنيّ حيث عد ... إملاء إسماعيل عد أو سرد

وذاك يجري في الكلام أو إذا ... هينم حتى خفي البعض كذا إن بَعُد السامع ثم يحتمل ... في الظاهر الكلمتان أو أقل وينبغي للشيخ أن يجيزَ مع ... إسماعه جبرًا لنقص إن وقع قال ابن عتاّب ولا غناء عن ... إجازة مع السماع تقترنْ وسئل ابن حَنْبل إن حرفا ... أدغمه؟ فقال أرجو يعفى لكن أبو نعيم الفضل منع ... في الحرف يستفهمه، فلا يسع إلا بأن يروى تلك الشاردة ... عن مُفْهم ونحوه لزائدة وخَلَف بن سالرقد قال "نا" ... إذ فاته "حدَّثَ" من "حدثنا" من قول سفيان وسفيانُ اكتفى ... بلفظ مستملٍ عن المُملي اقتفى كذاك حمادُ بن زيد أفتى ... استفهم الذي يليك حتى رووا عن الأعمش: كنا نقعد ... للنّخَعيّ فربما قد يبعد البعضُ لا يسمعه فيسألُ ... البعضَ عنه، ثم كلٌّ ينقلُ وكل ذا تساهل، وقولُهْم ... يكفي من الحديث شمه فَهُمْ عَنَوا إذا أول شيء سئلا ... عرفه، وما عنوا تساهلا وإن يحدث من وراء سِتر ... عرفته بصوت أو ذي خبر صح، وعن شُعْبَةَ لا ترو لنا ... إن بلالا، وحديث أُمنا ولا يضرُّ سامعًا أن يمنعه ... الشيخُ أن يروي ما قد سمعه كذلك التخصيص، أو رجعتُ ... ما لم يقل: أخطأت أو شككتُ ثم ذكر البخاري أدلة لمذهبه من استواء السماع والعرض فقال: ورأي الحسن والثَّوري ومالك القراءة جائزة. قال أبو عبد الله: سمعت أبا عاصم يذكر عن سفيان الثوري ومالك أنهما كانا يريان القراءة والسماع جائزًا. حدثنا عُبَيد الله بن موسى عن سفيان قال: إذا قرأ على المحدث فلا بأس أن يقول: "حدثني" و"سمعت"، واحتج بعضهم في القراءة على العالم بحديث ضِمامَ بن ثَعْلَبة، قال للنبي صلى الله عليه وسلم: آلله أمرك أن تصلي الصلوات؟ قال: نعم. قال: فهذه قراءة على النبي صلى الله عليه وسلم، أخبر ضمام قومه بذلك فأجازوه، واحتج مالك بالصَّكّ يقرأ على

القوم فيقولون: أشهدنا فلان، ويقرأ ذلك قراءة عليهم، ويقرأ على المقرىء، فيقول القارىء: أقرأني فلان. حدثنا محمد بن سَلام، حدثنا محمد بن الحسن الواسطي عن عوف عن الحسن قال: لا بأس بالقراءة على العالم. وأخبرنا محمد بن يوسف الفربريّ، وحدثنا محمد بن إسماعيل البخاريّ، قال: حدثنا عُبَيد الله بن موسى عن سُفيان، قال: إذا قرئ على المحدّث فلا بأس أن يقول: حدثني. قال: وسمعت أبا عاصم يقول عن مالك وسفيان: القراءة على العالم وقراءته سواء. ذكر البخاري أثرين لمالك وسفيان موصولين، وأخر أثر الحسن عنهما، ويأتي قريبا، الأول منهما: قال أبو عبد الله: سمعت أبا عاصم يذكر عن سفيان الثَّوري ومالك أنهما كانا يريان القراءة والسماع جائزًا. رجاله أربعة: الأول: أبو عبد الله والمراد به البخاريّ نفسه، والثاني: أبو عاصم الضحَّاك بن مَخْلَد، بفتح الميم بن الضحاك بن مُسْلم بن الضَّحاك بن رافع الشيباني البصري، المعروف بالنبيل. قيل: لقب بهذا اللقب لأجل أنه قدم الفيل البصرة، فذهب الناس ينظرون إليه، فقال له ابن جُريج: مالك لا تنظر؟ فقال: "لا أجد منك عوضًا" فقال: أنت نبيل. ووقع مثل هذه الرواية ليحى بن يحيى مع مالك في فيل دخل المدينة، ولكن عبارته التي أجابه بها "إنما جئت لأنظرك لا لأنظر الفيل" فقال له: "أنت عاقل المغرب" وقيل إنما سمي النبيل؛ لأنه كان يلازم زُفَرِ. وكان حسن الحال الذي كسوته، وكان أبو عاصم آخر، ربُّ الحال ملازمًا له أيضًا، فجاء يوما الأول إلى بابه، فقال الخادم لزُفَر: أبو عاصم بالباب فقال له: أيهما؟ فقال له: ذلك النبيل. وقيل: لقبه المهديُّ به. وقيل: لأن شعبة حَلَف أن لا يحدث أصحاب الحديث شهرًا، فبلغ أبا عاصم، فقال له: حدث وغلامي حر. وقيل: لأنه

كان كبير الأنف، فقد روى إسماعيل بن أحمد والي خراسان عن أبيه عن أبي عاصم: أنه تزوج امرأة فلما أراد أن يقبلها قالت له: نحِّ ركبتك عن وجهي، فقال لها: ليس هذا رُكبة، هذا أنْف. قال الخليلي: متفق عليه زهدًا وعلمًا وديانة واتقانًا. وقال حمدان بن علي الورّاق: ذهبنا إلى أحمد ابن حنبل، فسألناه أن يحدثنا، فقال: أتسمعون مني وأبو عاصم في الحياة؟ أُخرجوا إليه. وقال البخاري: سمعت أبا عاصم يقول: مُذْ عَقَلْت أن الغيبة حرام ما اغتبت أحدًا قطّ. وقال ابن سعد: كان ثقة فقيها. وقال عمرو بن شَبَّة: والله ما رأيت مثله. وقال ابن خِراش: لم ير في يده كتاب قطّ. وقال أبو داود: كان يحفظ قدر ألف حديث من جيد حديثه. وكان فيه مزاح. وقال ابن مُعين: ثقة. وقال العَجْليّ: ثقة كثير الحديث، وكان له فقه. وقال أبو حاتم: صدوق، وهو أحب الي من رُوْح بن عُبادة. وقال محمد بن عيسى الزَّجَّاج: قال لي أبو عاصم: كل شيء حدثتك، حدثوني به، وما دلّسْتُ قطّ. وقال ابن مانع: ثقة مأمون. وروى الدارقطني في "غرائب مالك" قيل لأبي عاصم: إنهم يخالفونك في حديث مالك في الشفعة، فلا يذكرون أبا هريرة، فقال: هاتوا من سمعه من مالك في الوقت الذي سمعته منه، إنما كان قدم علينا أبو جعفر مكة، فاجتمع الناس إليه، وسألوه أن يأمر مالكًا يحدثهم فأمره، فسمعته في ذلك الوقت. وكان ذلك في حياة ابن جُريج. روى عن يزيد بن أبي عُبيَد وأيْمن بن نابل وشبِيب بن بِشر وابن عوْن وابن جُرَيج، وابن عَجْلان والأوزاعي ومالك والثَّوري وشُعبة وسعيد بن أبي عَرُوبة، وقُرَّة بن خالد، وخلق. وروى عنه جرير بن حازم، وهو من شيوخه، والأصمعي والحزيبي، وهما من أقرانه، وأحمد وإسحاق وعلي بن المدِيْنيّ وبُنْدار وهارون الجمال، وعبد الله بن محمد المسنديّ وغيرهم. ولد سنة اثنتين وعشرين ومئة، ومات سنة أحد عشر أو اثني عشر أو

ثلاثة عشر أو اربعة عشر ومئتين. وكان ارتحل من مكة إلى البصرة في حياة ابن جُريح، أو حيث مات، ثم لم يعد إلى مكة حتى مات. وهذا يدل على أنه مكي تحوّل إلى البصرة. ومن كلامه: من طلب الحديث، فقد طلب أعلى الأمور، فيجب أن يكون خير الناس. وليس في الستة الضَّحاك بن مَخْلَد سواه، وأما الضحّاك فاثنا عشر. وأبو عاصم في الستة سواه خمسة، والشيباني في نسبه نسبة إلى شيبان، حيّ من بكر، وهم الشَّيْبانية، وهما شيبانان أحدهما شيبْان بن ثعلبة بن عُكابة بن صَعْب بن عليّ بن بكر بن وائل، والآخر شيبان بن ذُهل بن ثعلبة بن عُكابة. وهما قبيلتان عظيمتان تشتملان على بطون وأفخاذ، وإلى الثانية نُسب إمام المذهب أحمد بن حنبل والإمام محمد بن الحسن صاحب الإِمام أبي حنيفة، -رضي الله عنهم-. وأبو عاصم هذا، قيل: إنه مولى، وقيل: إنه من أنفسهم، وهو الصحيح. الثالث: الثَّورِيّ، وقد مر في السابع والعشرين من كتاب الإيمان، ومرّ الإِمام مالك في الثاني من بدء الوحي. الثاني: حدثنا عُبيد الله بن موسى عن سفيان، قال: إذا قرأ على المحدث، فلا بأس أن يقول: "حدثنى" و"سمعت". رجاله اثنان: الأول عبيد الله بن موسى، وقد مر في الأول من كتاب الإيمان، والثاني سفيان، وقد مر قريبًا ذكر محله. ثم ذكر البخاريُّ قوله: واحتج بعضهم في القراءة على العالم بحديث ضمام الخ. وهذا الحديث يأتي قريبًا موصولًا، والبعض المحتج بالحديث، قيل: إنه الحُميدي، شيخ البخاريّ، وقد مر في الأول من بدء الوحي، وقال ابن حجر: الظاهر عندي أن المحتج بذلك أبو سعيد الحداد، كما أخرجه البيهقي في المعرفة، فإنه قال: عندي خبر عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في القراءة على العالم، فقيل له، فقال: قصة ضمام بن ثعلبة: آلله

أمرك بهذا؟ قال: نعم، وليس في المتن الذي ساقه البخاري بعد، أن ضِمامًا أخبر قومه بذلك، ولكن وقع ذكر ذلك في حديث ابن عباس الآتي في تعريفه، فمعنى قول البخاري: فأجازوه، أي قبلوه منه، ولم يقصد الإجازه المصطلحة بين أهل الحديث، وأبو سعيد هذا ليس له ذكر في رجال الستة، وأما ضمام فيأتي قريبًا في الحديث الخامس. ثم ذكر البخاري تعليقًا عن مالك مستدلًا به فقال: واحتج مالك بالصكّ يقرأ على القوم الخ. الصَّكّ بالفتح: الكتاب، فارسي معرب. والجمع صكاك وصكوك. والمراد هنا المكتوب الذي يكتب فيه إقرار المقر لأنه إذا قريء عليه، فقال: نعم، ساغت الشهادة عليه به، وإن لم يتلفظ هو بما فيه، فكذلك إذا قرىء على العالم فأقر به صحّ أن يُرْوى عنه. والامام مالك مرّ في الثاني من بدء الوحي، وهذا التعليق رواه الخطيب في "الكفاية" من طريق ابن وهب، قال: سمعت مالكًا سئل عن الكتب التي تُعْرَض عليه؛ أيقول الرجل "حدثني"؟ قال: نعم. وكذلك القرآن، أليس الرجل يقرأ على الرجل فيقول: أقرأ في فلان؟ ورواه الحاكم في علوم الحديث من طريق مطرف، قال: صحبت مالكًا سبع عشرة سنة، فما رأيته قرأ الموطَّأ على أحد، بل يقرؤون عليه. قال: وسمعته يأبى أشد الإباء على من يقول لا يجُزؤه إلا السماع من لفظ الشيخ، ويقول: كيف لا يجزؤه هذا؟ الخ ما مر قريبًا. ثم ذكر البخاري ثلاثة آثار موصولة: الأول عن الحسن قال: لا بأس بالقراءة على العالم. رجاله أربعة: الأول محمد بن سلام البيكنديّ، وقد مر في الثالث عشر من كتاب الإيمان، ومرعوف بن أبي جميلة في الأربعين منه، ومر الحسن البصري في الرابع والعشرين منه أيضا. الرابع: محمد بن الحسن بن عمران المُزَنّي الواسطيّ، قال أحمد وأبو

حاتم: لا بأس به، وقال ابن مُعين: ثقة. وقال: محمد بن حاتم: حدثنا محمد بن الحسن الواسطىّ، ثقة. وقال أبو داود: ثقة. حدث شعبة عن أبيه، وقال ابن سعد: كان من أهل الشام، ولي القضاء بواسط، وكان ثقةً، وقال الدارقطني: لا بأس به، وذكره ابن حبان في الثقات، وذكره أيضًا في ذيل الضعفاء، فقال: يرفع الموقوف ويسند المراسيل. روى عن محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر رفعه "زكاة الجنين" زكاة أمه لكن يذبح حتى ينصب ما فيه من الدم، وإنما هذا قول ابن عمر، موقوف، وقد قال الذهبي: توقيفه أصوب. روى عن إسماعيل بن أبي خالد وعوف الأعرابي وأصّبغ بن زيد الوراق وسعيد بن أبي عروُبة وأبي سعد البقال والعوام بن حوشب وجماعة. وروى عنه أحمد بن حنبل ومحمد بن سلام البيكندي ومحمد بن سلام الجمحي ومحمد بن عيسى الطبّاع، وعمرو بن عوْف الواسطىّ ومحمد بن إسماعيل بن البُخْتُرِيّ، ومحمد بن إسماعيل بن سمُرَة. ولم يخرج له البخاري إلا هذا الأثر. مات سنة تسع وثمانين ومائة. ومحمد بن الحسن في الستة ثمانية، والواسطىّ في نسبه مرّ، والكلام عليه في الخامس من بدء الوحي. والمُزَنِىّ في نسبه نسبة إلى مُزَيْنة، كجهينة، قبيلة من مُضر. وهو ابن أُدبن طابخة، منهم كعب بن زُهير بن أبي سُلْمَى الشاعر، وغلط ابن قُتيبة حيث جعله من غطفان. الثاني: عن سفيان، قال: إذا قرىء على المحدث، لا بأس أن يقول: "حدثّني"، رجاله أربعة: الأول محمد بن يوسف بن مطر بن صالح ابن بشر أو عبد الله، سمع من البخاري صحيحه هذا مرتين، مرة بفربر سنة ثمان وأربعين ومئتين، ومرة ببخارى سنة اثنتين وخمسين ومائتين. وهو آخر من روى الصحيح عن البخاري. رحل إليه الناس وسمعوه منه، وحدّث عنه به أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد المستملي، وأبو محمد عبد الله بن أحمد

ابن حمويه الحموي السرخسي، وأبو الهيثم محمد بن مكيّ الكشمهينيّ، والشيخ المُعَمَّر أبو لُقمان يحيى بن عمّار بن مقبل بن شاهان الخَنلانيّ. ولد سنة إحدى وثلاثين ومئتين، ومات في ثالث شوال سنة عشرين وثلاث مئة والفربرى في نسبه نسبة إلى فِرْبِر كسجل، قرية من قرى بخارى على طرف جيْحُون مما يلي بخارى. واعلم أن ذكر الفِرْبري هنا، إنما هو من ناسخ المسوَّدة، ولعله راو من رواة الفربري، لأن الفربري من رواة الصحيح كما مر، فلا يمكن أن يكون في سنده. ومحمد بن إسماعيل هو البخاريّ، وعبيد الله بن موسى مر في الثاني من الأثرين الأولين ذكر محله، وسفيان مرّ ذكر محله قريبًا في الأثر الأول من هذين الأثرين. الثالث: قال البخاري: وسمعت أبا عاصم يقول عن مالك وسفيان: (القراءة على العالم وقراءته سواء). رجاله ثلاثة، الأول أبو عاصم، وقد مرّ قريبًا في الأول من هذه الآثار. ومر الإِمام مالك في الثاني من بدء الوحي، ومر سفيان الثَّوْري في الرابع والعشرين من كتاب الإِيمان.

الحديث الخامس

الحديث الخامس حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ سَعِيدٍ هُوَ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى نَمِرٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِى الْمَسْجِدِ، وَصَلَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ فَأَنَاخَهُ فِى الْمَسْجِدِ، ثُمَّ عَقَلَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ وَالنَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مُتَّكِىءٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ. فَقُلْنَا هَذَا الرَّجُلُ الأَبْيَضُ الْمُتَّكِىءُ. فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ ابْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "قَدْ أَجَبْتُكَ". فَقَالَ الرَّجُلُ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- إِنِّى سَائِلُكَ فَمُشَدِّدٌ عَلَيْكَ فِى الْمَسْأَلَةِ فَلاَ تَجِدْ عَلَىَّ فِى نَفْسِكَ. فَقَالَ: "سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ". فَقَالَ أَسْأَلُكَ بِرَبِّكَ وَرَبِّ مَنْ قَبْلَكَ، آللَّهُ أَرْسَلَكَ إِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ نَعَمْ". قَالَ أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ، آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ نُصَلِّىَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فِى الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ قَالَ: "اللَّهُمَّ نَعَمْ". قَالَ أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ، آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ نَصُومَ هَذَا الشَّهْرَ مِنَ السَّنَةِ قَالَ: "اللَّهُمَّ نَعَمْ". قَالَ أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ، آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَأْخُذَ هَذِهِ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا فَتَقْسِمَهَا عَلَى فُقَرَائِنَا فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ نَعَمْ". فَقَالَ الرَّجُلُ آمَنْتُ بِمَا جِئْتَ بِهِ، وَأَنَا رَسُولُ مَنْ وَرَائِى مِنْ قَوْمِي، وَأَنَا ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ أَخُو بَنِى سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ. قوله: بينما، بالميم، وفي نسخة "بينا" بغير ميم، وقد مر استيفاء الكلام عليهما في الحديث الرابع من بدء الوحي. وقوله: "في المسجد" يعني النبوي، وقوله: "دخل رجل" جواب بينما. وللأصيلي: "اذ دخل" لكنَّ الأصمعيّ لا يستفصح إذ وإذا في جواب بينا وبينما ومر ما في ذلك كله. وقوله: "فأناخه في المسجد ثم عقله" بتخفيف القاف، أي: شد على ساق الجمل حبلا بعد أن ثنى ركبته، واستنبط ابن بطَّال وغيره من

قوله: في المسجد، طهارة أبوال الإبل وأرواثها، إذ لا يؤمن ذلك منه مدة كونه في المسجد. ولم ينكره النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وتعقّبه في "الفتح"، قائلًا: إن دلالته غير واضحة، وإنما فيه مجرد احتمال، ويدفعه رواية أبي نعيم "أقبل على بعير له فأناخه ثم عقله فدخل المسجد"، فهذا السياق يدل على أنه ما دخل به المسجد. وأصرح منه رواية ابن عباس عند أحمد والحاكم، ولفظها "فاناخَ بعيره على باب المسجد، فعقله، ثم دخل" فعلى هذا في رواية أنس مجاز الحذف، والتقدير فأناخه في ساحة المسجد أو نحوه. ويأتي إن شاء الله تعالى تمام البحث عند محله في الطهارة. وقوله: "ثم قال لهم: أيكم؟ " استفهامٌ مرفوع على الابتداء، خبره محمدٌ. وقوله: متكىء، بالهمز، أي مستو على وطاء، والجملة اسمية، وقعتْ حالًا. وقوله: "بين ظَهرانَيهم" بفتح الظاء المعجمة، والنون، أي: بينهم. وزيدَ لفظ الظّهر ليدل على أن ظهرًا منهم قُدّامه، وظهرًا وراءه، فهو محفوف بهم من جانبيه والألف والنون فيه للتأكيد. وقال في "المصابيح": زيدت الألف والنون على ظهر عند التثنية للتأكيد، ثم كثر حتى استعمل في الإقامة بين القوم مطلقا، من غير أن يكون محفوفًا بهم، فهو مما أريد بلفظ التثنية فيه معنى الجمع. وما استشكل به البدر الدَّماميْنىّ من ثبوت النون فيه مع الإِضافة، يجاب عنه بأنها غير ثابتة، فإن النون الثابتة هي التي يجاء بها للتوكيد في النسبة، كما يقال في النسبة إلى النفس نفساني، ونون التثنية محذوفة، لأنها هي التي تكون بعد ياء التثنية، فتأمل. وفيه جواز اتكاء الإِمام بين اتباعه، وفيه ما كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، عليه من ترك التكبر، لقوله بين ظَهْرانيْهم، وقوله: "الأبيض" أي المُشْرَب بحمرة، كما في رواية الحارث بن عُمير الأمْغَر، أي بالغين المعجمة، قال حمزة بن الحارث: هو الأبيض المُشْرب بحمرة، ويؤيده ما

يأتي في صفته صلى الله تعالى عليه وسلم، أنه لم يكن أبيض ولا آدم، أي لم يكن أبيض صرفًا كلون الجِص. وقوله: فقال له الرجل ابن عبد المطلب، بفتح النون على النداء، وفي رواية الكَشْميهنىّ: "يا ابن" بإثبات حرف النداء، وقوله: قد أجبتك، أي: سمعتك، أو المراد إنشاء الإجابة، أو نزل تقريره للصحابة في الأعلام عنه منزلة النطق. وهذا لائق بمراد المصنف. وقد قيل: إنما لم يقل "نعم" صريحًا، لأنه لم يخاطبه بما يليق بمنزلته من التعظيم، لاسيما مع قوله تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63]. والعذر عنه إن قلنا إنه قدّم مسلمًا أنه لم يبلغه النهي، وكانت فيه بقية من جفاء العرب، وقد ظهرت بعد ذلك في قوله: "فمشدِّد عليك في المسألة" وفي قوله في رواية ثابت: "وزعم رسولك أنك تزعم"، وقوله: "فقال الرجل للنبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم"، وقد سقط عند ابن عساكر الرجل إلى آخر التصلية، وسقط لفظ الرجل فقط لأبي الوقت قوله: "فمشدِّدٌ عليك" بكسر الدال الأولى المثقلة، والفاء عاطفة على سائلك. وقوله: "فلا تجد عليَّ في نفسك "أي: لا تغضب. ومادة "وجد" متحدة الماضي والمضارع، مختلفة المصادر بحسب اختلاف المعاني فيقال في الغضب: مَوْجدة، وفي المطلوب وُجودًا، وفي الضالة وجدانًا، وفي الحب وجْدًا، بالفتح، وفي الغنى جدة، بكسر الجيم وتخفيف الدال المفتوحة، وقالوا في المكتوب "وجادة" وهي مولدة. واعتراض العيني على ابن حجر بأن بعض أفعالها قد توجد فيه لغة بضم الجيم في المضارع، ساقطٌ لا فائدة فيه؛ لأن ابن حجر إنما عني باتحادها في اللغة المشهورة، ولهذا قال: على الأشهر في جميع ذلك، فتأمل. وقد وقع في رواية ثابت عن أنس الآتية الإِشارة إلى ما مر من الاعتذار عنه. "كنا نُهينا في القرآن أن نسأل رسول الله، صلى الله تعالى عليه وسلم، عن شيء فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية

العاقل، فيسأله، ونحن نسمع. زاد أبو عُوانة في "صحيحه": وكانوا أجرأ على ذلك منا، يعني أن الصحابة واقفون عند النهي الوارد في آية المائدة، وأولئك يغدرون بالجهل، وتمنوه عاقلًا ليكون عارفًا بما يسأل عنه، وقد ظهر عقل ضمام في تقديمه الاعتذار بين يدي مسألته، لظنه أنه لا يحصل إلى مقصوده إلا بتلك المخاطبة. وقوله: آلله أرسلك إلى الناس كلهم؟ بهمزة الاستفهام الممدودة في المواضع كلها، والرفع على الابتداء، والخبر أرسلك أو نحوها. وقوله: "اللَّهم نعم" الجواب حصل بنعم، وإنما ذكر "اللهم" تبركًا بها، وكأنه استشهد بالله في ذلك تأكيدًا لصدقه. وميم "اللهم" عِوَض عن حرف النداء، فلا يجتمعان إلا شذوذًا، ليتميز نداؤه عن نداء غيره. وإنما كانت ميما لقربها من حروف العلة، وشددت لأنها عِوَض من حرفين، ووقع في رواية موسى الآتية، فقال: "صدقت" قال: فمن خلق السماء؟ قال: الله، قال: فمن خلق الأرض والجبال؟ قال: الله. قال: فمن جعل فيها المنافع؟ قال: الله، قال: فبالذي خلق السماء، وخلق الأرض، ونصب الجبال، وجعل فيها المنافع، آلله أرسلك؟ قال: نعم". وكذا هو في رواية مسلم. وقوله: "أن تصلي الصلوات الخمس" هو بتاء المخاطب فيه، وفيما بعده، وعند الأصيلي بالنون فيها، قال القاضي عياض: هو أوجه، ويؤيده رواية ثابت بلفظ "إن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا" وساق البقية كذلك. وتوجيه الأول أن كل ما وجب عليه وجب على أمته حتى يقوم دليل الاختصاص. وفي رواية الكَشْمَيهِنيّ والسَّرخْسيّ "الصلاة الخمس" بالإِفراد على إرادة الجنس. وقوله: "أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا" من تغليب الاسم لكل الأصناف بمقابلة الأغنياء، أو خرج مخرج الأغلب، لأنهم معظم الأصناف الثمانية. وقوله: "فقال الرجل: آمنت بما جئت به"، يحتمل أن يكون إخبارًا، وهو اختيار البخاريّ، ورجَّحه القاضي عياض، وأنه حضر بعد إسلامه

مستثبتا من الرسول، صلى الله تعالى عليه وسلم، ما أخبره به رسوله إليهم، لأنه قال في حديث ثابت عن أنس عند مسلم وغيره، فإن رسولك زعم. وقال في حديث ابن عباس عند الطبراني "أتتنا كتبك وأتتنا رسلك" ويحتمل أن يكون قوله آمنت إنشاءً. ورجحه القرطبيُّ لقوله "زعم" قال: والزعم القول الذي لا يوثق به. قال ابن السِّكِّيت: قال في "الفتح": وفيه نظر، لأنَّ الزَّعم يطلق على القول المحقق أيضا، كما نقله أبو عمرو الزاهدي، وأكثر سيبويه من قوله: زعم الخليل في مقام الاحتجاج. وأما تبويب أبي داود عليه باب "المشرك يدخل المسجد" فليس مصيرًا منه إلى أن ضمامًا قدم مشركًا، بل وجهه أنهم تركوا شخصًا قادمًا يدخل المسجد من غير استفصال. ومما يؤيد أن قوله "آمنت" إخبارًا، أنه لم يسأل عن دليل التوحيد، بل عن عموم الرسالة وعن شرائع الإِسلام، ولو كان إنشاءًا لكان طلب معجزة توجب له التصديق، قاله الكرماني، وعكسه القُرْطبيّ، فاستدل به على صحة إيمان المقلِّد للرسول، ولو لم تظهر له معجزة، وكذلك أشار إليه ابن الصَّلاح. وقوله: "وأنا رسول من ورائي" مبتدأ وخبر مضاف إلى من الموصولة، ويجوز تنوينه وكسر من، لكن لم تأتِ به الرواية. وفي رواية ابن عباس عند الطبراني: "جاء رجل من بني سعد بن بكر إلى رسول الله، صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان مسترضعًا فيهم، فقال: أنا وافد قومي ورسولُهم". وعند أحمد والحاكم: بعثتْ بنو سعد ببكر بن هوزان ضمام بن ثعلبة وافدًا إلى رسول الله، صلى الله تعالى عليه وسلم، فقدم علينا، فذكر الحديث. فقول ابن عباس هذا: "فقدم علينا" يدل على تأخير وفادته، لأن ابن عباس إنما قدم المدينة بعد الفتح، وزاد مسلم في آخر الحديث، قال: "والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهنَّ ولا أنقص" فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: "لئن صدق ليدخُلنَّ الجنة". ووقعت هذه الزيادة في حديث ابن عباس، وهي الحاملة لمن سمى المبهم في حديث طلْحة السابق في الإِيمان ضمام بن ثعلبة كابن عبد البرّ وغيره. ومال القُرْطِبيُّ إلى أنه غيره.

وتأتي في تعريف ضمام قريبًا زيادة في رواية حديثه، ولم يذكر البخاري الحج في رواية شَرِيك هذه، وقد ذكره مسلم وغيره، فقال موسى في روايته "وإن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلًا" قال: صدق. وأخرجه مسلم من حديث أبي هريرة، وغفل البَدْرُ الزّركشِيّ فقال: إنما لم يذكر الحج لأنه كان معلومًا عندهم في شريعة إبراهيم عليه السلام، وكأنه لم يراجع صحيح مسلم فضلًا عن غيره. وأغرب ابن التين فقال: إنما لم يذكره لأنه لم يكن فُرض، وكان الحامل له على ذلك ما جزم به الواقديُّ ومحمد بن حبيب أن قُدوم ضمام كان سنة خمس، فيكون قبل فرض الحج، لكنه غلط من أوجه:- أحدها: أن في رواية مسلم أن قدومه كان بعد نزول النهي في القرآن عن سؤال الرسول، وآية النهي في المائدة ونزولها متأخر جدًا. ثانيها: أن إرسال الرسل إلى الدعاء إلى الإِسلام إنما كان ابتداؤه بعد الحُديبية، ومعظمه بعد فتح مكة. ثالثها: إن في القصة أن قومه أوفدوه، وإنما كان معظم الوفود بعد فتح مكة. رابعها: أن في حديث ابن عباس أن قومه أطاعوه، ودخلوا في الإِسلام بعد رجوعه إليهم، ولم يدخل بنو سعد في الإِسلام إلا بعد حُنين، وكانت في شوال سنة ثمان. فالصواب أن قدوم ضمام كان في سنة تسع، وبه جزم ابن إسحاق وأبو عبيدة وغيرهما. وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم، العملُ بخبرِ الواحد، ولا يقدح فيه مجيء ضمام مستثبتا، لأنه قصد اللقاء والمشافهة، وقد رجع ضمام إلى قومه وحده، فصدقوه وآمنوا، كما وقع في حديث ابن عباس الآتي، ولأجل هذا استنبط الحاكم من قصته أصل عُلُوّ الإِسناد، لأنه سمع ذلك من الرسول، وآمن وصدق، ولكنه أراد أن يسمع ذلك من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مشافهة. وفيه نسبة الشخص إلى جده إذا كان أشهر من أبيه، ومنه قوله، صلى

رجاله خمسة

الله تعالى عليه وسلم: انا ابن عبد المطلب. وفيه الاستحلاف على الأمر المحقق لزيادة التأكيد. وفيه رواية الأقران لأن سعيدًا وشريكا تابعيان من درجة واحدة، وهما مدنيان. رجاله خمسة وفيه ذكر رجل: والمراد به ضمام بن ثعلبة. الأول عبد الله بن يوسف، وقد مر في الثاني من بدء الوحي، والثاني الليث بن سعد، وقد مر في الثالث منه أيضا، ومرّ سعيد بن أبي سعيد المَقْبريّ في الثاني والثلاثين من كتاب الإِيمان. ومر أنس في السادس منه أيضًا. الخامس: شريك بن عبد الله بن أبي نمر، بفتح النون وكسر الميم، أبو عبد الله. قال ابن معين والنَّسائي: ليس به بأس، وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، وقال ابن عَديّ: إذا روى عنه ثقة فلا بأس بروايته. وقال أبو داود: ثقة، وقال النَّسائي أيضا: ليس بالقويّ. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: ربما أخطأ. وقال ابن الجارُود: ليس به بأس، وليس بالقويّ، وكان يحيى بن سعيد لا يحدث عنه. وقال السَّاجِيّ: يرى القدر، قال ابن حجر: احتج به الجماعة إلا أن في روايته عن أنس لحديث الإِسراء مواضع شاذة. روى عن أنس وسعيد بن المُسَيَّب وعبد الرحمن بن أبي عَمْرة وأبي سلمة بن عبد الرحمن وكريب وعكرمة، وعطاء بن يسار وعبد الرحمن بن أبى سعيد الخُدْرِيّ وغيرهم. وروى عنه سعيد المَقْبَرِيّ، وهو أكبر منه، والثَّوْرِيّ ومالك ومحمد بن جعفر بن أبي كثير، وعبد العزيز الدَّراورْدِيّ وأبو ضَمْرَةَ أنس بن عياض وغيرهم. مات قبل خروج محمد بن عبد الله بن الحسن سنة أربعين ومائة. وقال ابن عبد البرّ سنة أربع وأربعين ومائة. وفي الستة شريك بن عبد الله بن أبي شريك النخّعيّ الكوفيّ القاضي لا سواه، وفيها ثلاثة غير هذين الاثنين: ابن حنبل العبْسي الكوفيّ وابن شهاب الحارثيّ البصريّ وابن نَمْلَة الكوفي.

السادس: رجل المذكور في الحديث المراد به ضمام بدليل تصريح البخاري به في آخر الحديث، وضمام هو ابن ثَعلَبَة وهو بكسر الضاد، ككتاب، السَّعْدِيْ، ويقال: التميميّ وليس بشيء، روى حديثه هذا جماعة من الصحابة، ومن أكملها حديث ابن عباس. وفي آخره فلما قدم على أهله اجتمعوا إليه، فكان أول ما تكلم به أن قال: بئست اللاّت والعُزَّى. قالوا: مَهْ يا ضِمام، اتّقِ البَرَصَ اتَّق الجُذام، اتق الجُنون. قال: ويحكم، إنهما، والله، ما ينفعان ولا يضران، وإن الله قد بعث رسولًا، وأنزل عليه كتابا استنقذكم به مما كنتم فيه، وإنى أشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وقد جئتكم من عنده بما آمركم به، وأنهاكم عنه. قال: فوالله ما أمسى في ذلك اليوم في حاضرته من رجل ولا امرأة إلا مسلمًا. قال ابن عباس: فما سمعنا بوافدٍ قط كان أفضل من ضِمام بن ثعْلبة. وفي حديث ابن عباس أنه قال حين فَرَغ من السؤال: إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وسأؤدي هذه الفرائض، وأجتنب ما نهتني عنه، ثم لا أزيد ولا أنقص. ثم انصرف إلى بعيره، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: "إن يَصْدُقْ ذو العقيصتين يدخلِ الجنّة" وأخرجه النَّسائِي من طريق أبي هُرَيرة. وفي آخره قبل قوله: "وأنا ضِمام بن ثعلبة" فأما هذه الهناة، يعني الفواحش، فوالله إن كنا لنتنزه عنها في الجاهلية" فلما ولىَّ قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "فَقِه الرجلُ". وكان عمر ابن الخطاب يقول: ما رأيت أحسن مسألة ولا أوجز من ضِمام بن ثعلبة قيل: إن قدومه كان في سنة خمس. والصحيح أنه كان في سنة تسع. وكان رضي الله عنه، يسكن الكوفة. والسعدي في نسبه نسبة إلى سعد بن بكر هوازن، وقد مر الكلام على السعدي في التعليق بعد الثالث من كتاب الإِيمان، وفي الصحابة ضِمام سواه اثنان: ابن زيد بن ثُوابَة الهَمْداني، والثاني ابن مالك السَّلمانيّ. وفي

لطائف إسناده

الستة ضمام واحد، وهو ابن إسماعيل بن مالك المراديّ المُعَافريّ. لطائف إسناده منها: أن فيه التحديث والعنعنة والسماع، ورواته ما بين تنيسْيّ ومِصْرِي ومدني وفيه رواية تابعي عن تابعي، وهذا الحديث أخرجه أبو داود عن عيسى بن حمّاد، والنَّسائي في الصوم عن عيسى بن حماد أيضا، وعبيد الله بن سعد، وابن ماجة في الصلاة عن عيسى بن حماد. ثم ذكر البخاري هذا الحديث تعليقا فقال: رواه موسى وعلي بن عبد الحميد عن سليمان عن ثابت عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا. أما رواية موسى عن سُليمان، فقد أخرجها أبو عُوانة في صحيحه موصولة وابن منّدة في الإيمان، وإنما علقه البخاريّ، لأنه لم يحتج بشيخه سليمان بن المُغيرة، وقد خولف في وصله، فرواه حمّاد بن سلمة عن ثابت مرسلًا، ورجحها الدارقطنيّ. وأما رواية علي بن عبد الحميد، فهي موصولة عند التِّرْمذِيّ. أخرجه عن البخاري عنه وكذا أخرجه الدَّارمِيّ عن عليّ بن عبد الحميد. ورجال التعليقين خمسة: الأول موسى بن إسماعيل، وقد مر في الخامس من بدء الوحي، ومر أنس بن مالك في السادس من كتاب الإيمان. الثالث: علي بن عبد الحميد بن مُصْعب بن يَزيد الأَزْدِيّ، ويقال الشَّيْبانِيُّ، المَعْنِيُّ أبو الحسن. ويقال: أبو الحسين الكوفيّ، وثقه أبو حاتم وأبو زُرعة والعَجْلِيّ وزاد: كان ضريرًا. وقال ابن وارَةَ: كان من الفُضَلاء. وقال ابن سعد: كان فاضلًا خيرًا. وذكره ابن حبان في الثقات، ليس له عندهم سوى حديثين بسند واحد، أحدهما حديثه عن سليمان عن ثابت عن أنس "نُهينا أن نسأل النبي، صلى الله عليه وسلم، عن شيء" الحديث، فإن البخاريّ رواه عن علي، ورواه الترمذِيّ عن البُخاريّ عنه

متصلا، وصححه وروى النَّسائي عن أبي زُرْعَة عنه بهذا الإسناد حديثًا آخر في فضل {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. وليس له في البخاري إلا هذا التعليق روى عن سليمان بن المغيرة وحمّاد بن سلمَة وسلام بن مسْكِين وزُهير ابن مُعَاوية ومحمد بن طَلْحة بن مُصْرف ومَنْدل بن علي وغيرهم. وروى عنه البخاري تعليقًا، وروى التِّرمِذِيُّ عن البخاريُّ عنه، وروى النسِّائي عن أبي زُرعة الرازيّ عنه، وأبو حاتم وأبو مسعود، وأبو بكر بن خَيثَمة، وأبو أمية الطَّرسُوسِيّ، وعباس الدُّوْرِيّ وبشر بن موسى الأَسديّ وغيرهم. مات سنة إحدى أو اثنتين وعشرين ومئتين. وليس في الستة عليّ بن عبد الحميد سواه والمعْنِيّ في نسبه نسبة إلى مَعْن بن زائدة، الجواد المشهور. وزائدة بن عبد الله بن زائدة بن مَطَر بن شَرِيك بن قيس الصُّلْب ابن قيس بن شَراحيل بن هَمّام بن مُرَّة بن ذُهْلِ بن شَيْبان وقيل: منسوب إلى معن بن مالك بن فهم بن غَنم بن دَوْس الأَزْدِيِ. وليس بصحيح وفي طيء معن بن عتُود بن غَسّان بن سلامان بن نَفَل بن عمرو بن الغَوْث بن طَيء. الرابع: سليمان بن معين القيس، مولاهم، أبو سعيد البصريّ. قال شعبة: سليمان بن المغيرة سيد أهل البصرة. وقال أبو داود الطَّيالسيّ: حدثنا سليمان بن المغيرة، وكان خيارًا من الرجال. وقال عبد الله بن داود الخَريبيّ: ما رأيت بالبصرة أفضل من سليمان بن المغيرة، ومرحوم بن عبد العزيز. وقال أحمد: ثَبْتٌ ثبتٌ. وقال يحيى بن مُعين: ثقة ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة ثبتًا وقال ابن المدِيْنيّ: لم يكن في أصحاب ثابت أثبت من حمّاد بن سلمة، ثم بعده سليمان بن المغيرة الثقة المأمون. وقال عبد الله ابن مَسْلمة: ما رأيت بصريا أفضل منه، وقال عثمان بن أبي شيبة: هو ثقة وذكره ابن حبّان في الثقات. وقال ابن نُمَير والعَجْلِيّ: ثقة. وقال البَزّار: كان من ثقات أهل البصرة.

وقال أبو مسعود الدِّمشقي: ليس لسليمان بن المغيرة عند البخاري غير هذا الحديث، وقرنه بغيره. روى عن أبيه وثابت البَنانيّ وحُميدَ بن هلال وابن سيرين والحَرِيْرِيّ وأبي موسى الهلالي. وروى عنه الثَّوْريّ وشعبة، وماتا قبله، وبَهْز بن أسد وحِبّان بن هلال وأبو أسامة، وأبو داود وأبو الوليد الطَّيالسيّان، وابن المبارك ووكيع وآدم بن أبي إياس، وسليمان بن حَرْب وغيرهم. مات سنة خمس وستين ومئة، وفي الستة سليمان بن أبي المغيرة العَبْسِيّ أبو عبد الله الكوفيّ. وليس فيهم ابن المغيرة سواه، وأما سليمان فكثير، والقيسي في نسبه، مر الكلام عليه في الأربعين من كتاب الإِيمان، ومر الكلام على البصري في الثالث منه. الخامس: ثابت بن أبي أسلم أبو محمد البناني مولاهم، البصريّ. قال شُعْبة: كان يقرأ القرآن في كل يوم وليلة، ويصوم الدهر. وقال بكرْ المُزنّي: ما أدركنا أعبد منه. وقال ابن حبان في الثقات: كان من أعبد أهل البصرة. وقال ابن سعد: كان ثقة مأمونًا. وقال ابن المَديْني: له نحو مئتين وخمسين حديثًا. وقال أبو طالب عن أحمد: ثابت يتثبت في الحديث. وكان يقص، وكان قتادة يقص، وكان أذكر. وقال العَجْليّ: ثقة رجل صالح، وقال النَّسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: أثبت أصحاب أنس الزّهريّ، ثم ثابت ثم قتادة، وقال ابن عديّ: أروى الناس عنه حمّاد بن سلَمة، وأحاديثه مستقيمة إذا روى عنه ثقة، وما وقع في حديثه من النُّكْرة إنما هو من الراوي عنه. وقال حمّاد بن سلمة: كنت أسمع أن القُصّاص لا يحفظون الحديث، فقلت: أقلب علي ثابت الأحاديث، أجعل أنسًا لأبي ليلى، وأجعل ابن أبي ليلى لأنس، أُشوّشها عليه، فيجىء بها على الاستواء. وَسُئِل أحمد ابن حنبل عن ثابت وحُميد أيهما أثبت في أنس؟ فقال: قال يحيى القطّان: ثابت اختلط، وحميد أثبت في أنس منه. في الكامل لابن عدي عن القطان عجبٌ لأيوب يدع ثابت البنانيّ لا يكتب حديثه.

وقال أبو بكر البَرْدِيْجىّ: ثابتٌ عن أنسٍ صحيحٌ من حديث شُعبة والحمَّادين وسليمان بن المغيرة، فهؤلاء ثقات، ما لم يكن الحديث مُضْطربًا. وفي المراسيل ثابت عن أبي هريرة، قال أبو زرْعة: مرسل روى عن أنس وابن الزُّبير وابن عُمر وعبد الله بن مغفل، وعمرو بن أبي سلمة، وشُعيب والد عَمرو، وابنه عمرو، وهو أكبر منه، وعبد الله بن رُوَاح الأنصاري، وعبد الرحمن بن أبي ليلى وخلق. وروى عنه حُمَيد الطويل، وشُعْبة، وجريِر بن حازم، والحمّادان ومَعْمَر وهمّام وأبو عُوانة وجعفر بن سُليمان وسليمان بن المُغيرة والأَعْمَش وداود بن أبي هند، وجماعة. وروى عنه من أقرانه عطاء بن أبي رباح، وعبد الله بن عُبيد بن عُمير، وقتادة وسليمان التَّيْمِيّ وآخر من روى عنه عُمارة بن زادان أحد الضعفاء وروي عنه أنه قال: صحبت أنسًا أربعين سنة. مات سنة سبع وعشرين ومئة، وقيل: مات سنة ثلاث وعشرين. وليس في الستة ثابت البنانيّ سواه، ولا فيهم ثابت بن أسلم أيضا. وكل ما في الستة من هذا اللفظ فهو بالمثلثة، وبعد الألف باء موحدة، ثم مثناة. وليس فيهم نابت، أوَّلُهُ نون. نعم اسم أبي حفصة نابت، وحديث عُمارة ابن أبي حفصة في البخاري، لكنه لم يقع في الكتاب مذكورًا باسمه. والبناني في نسبه مر الكلام عليه في الثامن من كتاب الإِيمان، وقد مرّ في فوائد الحديث أن الحاكم استنبط منه طلب عُلُوّ الإِسناد، فلابد من ذكر العالي والنازل هنا، فأقول: الإِسناد خصيصته فاضلة من خصائص هذه الأُمة. قال ابن المبارك: الإِسناد من الدين. ولولا الإِسناد لقال من شاء ما شاء، وعنه قال: "مَثلُ الذي يطلب أمر دينه بلا إسناد كمثل الذي يرتقي السطح بلا سلم. وعن الثَّوْري قال: الإِسناد سلاح المؤمن، فإذا لم يكن معه سلاح فبأي شيء يقاتل؟ وطلب عُلُوّ السند أو قدم سماع الراوي أو وفاته سنة عمن سلف.

وعن محمد بن أسلم الطُّوْسِيّ قال: قرب الإِسناد قرب. أو قال: قربة إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ-. وقال الحاكم: إن طلب العُلُو سُنّة صحيحة، محتجًا في ذلك بخبر أنس في مجيء ضمام بن ثعلبة إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ليسمع منه مشافهة، ما سمعه من رسوله إليه، إذ لو كان طلب العُلُو غير مستحب، لأنكر عليه، صلى الله عليه وسلم، سؤاله عما أخبر به رسوله عنه. ولأمره بالاقتصار على خبر رسوله منه، لكن فيه نظر لجواز أن يكون إنما جاءه وسأله، لأنه لم يصدق رسوله، أو لأنه أراد الاستثبات لا العُلُو. وقد قال بعض العلماء: إن النزول أفضل من العُلُو محتجًا بأن على الراوي أن يجتهد في معرفة جَرْح من يروي عنه، وتعديله، والاجتهاد في أحوال رواة النازل أكثر، فكان الثواب فيه أوفر، وهذا القول مردود، لضعفه، وضعف حجته، قال ابن دقيق العيد: لأن كثرة المشقة ليست مطلوبة لنفسها، قال: ومراعاة المعنى المقصود من الرواية، وهو الصحة، أوْلى، فإنه بمثابة من يقصد المسجد لصلاة الجماعة، فيسلك طريقا بعيدة لتكثير الخطا، وإن أداه سلوكها إلى فوات الجماعة التي هي المقصود، وذلك أن المقصود من الحديث التوصل إلى صحته، وبعد الوهم، وكلما كثُر رجال الإِسناد تطرَّق إليه احتمال الخطأ والخلل، وكلما قصُر الإِسناد كان أسلم، اللهم إلا أن يكون رجال السند النازل أوْثق، أو أحفظ، أو أفقه، أو نحو ذلك، كما يأتي. والعلو خمسة أقسام كما قال أبو الفضل بن طاهر وابن الصَّلاح. الثلاثة الأول منها علو مطلق: ترجع إلى علو مسافة، وهو قلة العدد، والأخيران إلى علو صفةٍ في الراوي أو شيخه. الأول منها: علو مطلق، وهو ما فيه قرب من الرسول، صلى الله عليه وسلم، بالنظر لسائر الأسانيد، أو لإسناد آخر، فأكثر لذلك الحديث بعينه، وهذا هو أفضل الأقسام بشروط صحة سنده، إذ القرب مع ضعف السند لا اعتبار له. والثاني منها: علو نسبيُّ، وهو القرب إلى إمام من أئمة

الحديث، وإن لم يكن من أرباب الكتب الستة، كالأعمش وابن جُرَيج والأوزاعي وشُعُبة والثَّورْيّ، مع صحة الإِسناد إليه أيضا. وإن كثر العدد إلى النبي صلى الله عليه وسلم. والثالث: علو نسبي أيضا، لكن بالنسبة إلى الكتب الستة، أو غيرها من الكتب المعتمدة، وسماه ابن دقيق العيد "علو التنزيل"، وليس بعلو مطلق، إذ الراوي لو روى الحديث من طريق كتاب منها وقَعَ أنْزَلَ مما لو رواه من غير طريقها، وقد يكون غالبًا مطلقًا لحديث ابن مسعود ومرفوعا "يوم كَلَّم الله تعالى موسى، عليه السلام، كان عليه جُبَّةُ صوف" الحديث فإنا لو رويناه من جُزء ابن عرفة عن خلف بن خليفة، يكون أعلى مما لو رويناه من طريق الترمذِي عن عليّ بن حَجَر عن خَلَف، فهذا مع كونه علوًا نسبيًا علوٌ مطلقٌ، إذ لا يقع هذا الحديث أعلى من روايته من هذا الطريق. وفي هذا القسم الثالث، تقع الموافقة والإبدال والمساواة والمصافحة فالموافقة أن يقع لك حديثٌ عن شيخ مسلم مثلًا من غير جهته، بعدد أقل من عددك إذا رويته بإسنادك عن مسلم عنه. مثال ذلك حديث يرويه البخاريّ عن محمد بن عبد الله الأنصاري عن حُميَد عن أنَس مرفوعًا، فإذا رويناه من جزء الأنصاري يقع موافقة للبخاري في شيخه مع عُلُو درجته، ويشترط في الموافقة أن يكون العدد فيه أقل من العدد في الطريق الذي يوجد ذلك المصنف فيه، وسُمي موافقة لأنهما قد اتفقا في الأنصاري مثلا. والبدل أن يكون قد وافقه في شيخ شيخه مع عُلُو بدرجة فأكثر كحديث ابن مسعود السابق، وسُمي بدلًا لوقوعه من طريق راوٍ بدل الراوي الذي روى عنه أحد الستة، وقد يسمونه موافقة مقيدة، فيقولون: هو موافقة في شيخ شيخ التِّرمذِي مثلا، وما ذكر من تقييد الموافقة والبدل بالعلو، ذكره ابن الصلاح، لكن خالفه غيره، فأطلقوهما بدونه، فإن علا قيل: موافقة عالية، أو بَدلٌ عالٍ.

والمساواة قلة عدد إسنادك إلى الصحابيّ أو من قاربه، بحيث يكون بينك وبين صحابي مثلا من العدد مثل ما وقع بين أحد الستة وبينه، وهذا كان يوجد قديمًا، وأما الآن، فلا يوجد في حديث بعينه، بل يوجد مطلق العدد، كما قال العراقي. والمصافحة أن تقع هذه المساواة لشيخك، فيكون لك مصافحة، كأنك صافحت مسلمًا، فأخذته عنه فإن كانت المساواة لشيخ شيخك، كانت المصافحة لشيخك. وإن كانت لشيخ شيخ شيخك فالمصافحة لشيخ شيخك، وهذا العلو تابع لنزول غالبًا، فلولا نزول مسلم وشبهه، لم تَعْلُ أنت، وقد يكون مع علوه أيضًا فيكون غالبًا مطلقًا. وإنما سمي ذلك مصافحة، لجريان العادة غالبا بها بين المتلاقيين. الرابع من الأقسام: علو السند لأجْل قِدَم وفاةِ أحد رواة الحديث بالنسبة لراوٍ آخر متأخر الوفاة عنه، شاركه في الرواية عن شيخه، فمن سمع سنن أبي داود على الزكّي عبد العظيم أعلى ممن سمعها على النجيب الحرانّي، ومن سمعها على النجيب أعلى ممن سمعها على ابن خطيب المرة والفخْر بن البُخاريّ. وإن اشترك الأربعة في روايته عن شيخ واحد، وهو ابنُ طبَرْزَدَ، لتقدم وفاة الزَّكِيّ على النجيب، ووفاة عليّ من بعده. وقضية ذلك أن يكون أعلى إسنادًا تقدم سماعه أم اقترن أم تأخر، لأن متقدم الوفاة يعز وجود الرواية عنه بالنظر لتأخرها، فيرغب في تحصيل مرويه، لكنَّ الأخذ بالقضية المذكورة محله في غير تأخر السماع أخذًا مما يأتي في القسم الخامس، ثم هذا في العلو المفاد من تقدم الوفاة مع الالتفات لنسبة شيخ الشيخ. أما علو الإسناد بتقديم وفاة شيخك لا مع الالتفات لأمر آخر أو شيخ آخر، فحَدَّه الحافظ أحمد بن عُمَير بن الجوصا بمضيّ خمسين سنة من وفاة شيخك، وابن مَنده بثلاثين سنة تمضي من موته. وليس يقع في تلك المدة أعلى من ذلك. قال ابن الصلاح: وهو أوسع.

الخامس: العلو بتقديم السماع من الشيخ، فمن سمع منه متقدمًا، كان أعلى ممن سمع منه بعده، ويدخل كثير منه فيما قبله، ويمتاز عنه، بأن يسمع شخصان من شيخ وسماعُ أحدهما منذ ستين سنة، مثلًا، والآخر منذ أربعين سنة، وتساوى العدد إليهما، فالأول أعلى من الثاني ويتأكد ذلك في حق من اختلط شيخه، أو خَرِف. وربما كان المتأخر أرجح بأن يكون حديثه الأول قبل أنْ يبلغ درجة الإِتقان والضبط، ثم حصل له ذلك بعد، إلا أن هذا عُلُوُّ معنى كما يأتي. وجعل ابن طاهر وابن دقيق العيد هذا والذي قبله قسمًا واحدًا. وزاد بدل الساقط العلوَّ إلى الصحيحين ومصنِّفي الكتب المشهورة. وجعل ابن طاهر هذا قسمين: أحدهما عُلُوٌ إلى الصحيحين وأبي داود وأبي حاتم وأبي زرْعة. وثانيهما: علُوٌ إلى كتب مصنفة لأقوام كابن أبي الدنيا والخطابي قال: وكل حديث عز على المحدث، ولم يجده عاليًا، ولابدّ له من إيراده في تصنيف أو احتجاج، فمن أي وجه أورده فهو عال، لعزته. ومثل ذلك بأن البخاريّ روى عن أماثل أصحاب مالك، ثم روى حديثا لأبي إسحاق الفزاري عن مالك لمعنى فيه، فكان بينه وبين مالك ثلاثة رجال. وأما النزول فهو ضد العلو، وهو خمسة أقسام، تعرف من ضدها. فكل قسم من أقسام العلو ضده قسم من أقسام النزول، وما ورد من ذمه، كقول ابن المديني وغيره: إنه شؤم. وقول ابن مُعين: إنه قُرْحة في الوجه، فمحله الذي منه لم يجبر بصفة مرجحة، فإن جبر بها، كزيادة الثقة في رجاله على العالي، أو كونهم أحفظ أو أضبط أو أفقه، أو كونه متصلا بالسماع. وفي العالي حضور أو إجازة أو مناولة أو تساهل من بعض رواته في الجمل، فالنزول حينئذ ليس بمذموم، ولا مفضول، بل فاضل، كما صرح به السَّلَفِيّ، وغيره، والنازل حينئذ هو العالي في المعنى، عند النظر والتحقيق، والعالي عددًا عند فقد الضبط والإتقان عُلُوٌّ صُوْرِيّ، فكيف عند فقد الوثيق؟.

باب ما يذكر في المناولة وكتاب أهل العلم بالعلم إلى البلدان

ونظم العراقي أحكام العالي والنازل فقال: وطَلَبُ العُلُو سُنَّة فقدْ ... فَضَلَ بعضَ النزول وهْوَ رَدّ وقسّموه خمسة فالأولُ ... قُرْب من الرسول، وهو الأفضلُ إن صح الإِسناد وقُسِم القُرب ... إلى إمام وهو عُلُو نِسْبي بنسبةٍ للكتب الستة إذ ... ينزل متنٌ من طريقها أُخِذْ فإن يكنْ في شيخه قد وافقه ... مع عُلُوّ فهو الموافقه أو شيخِ شيخه كذاك، فالبَدَل ... وإن يكنْ ساواه عَدًّا، قد حَصَلْ فهو المساواة، وحيث راجَحَه ... الأصل بالواحد، فالمصافحهْ ثم عُلُوُّ قِدَم الوفاة ... أما العُلُوّ لا مع الثقات لآخر، فقيل للخمسينا ... أو الثلاثين مضتْ سنينَ ثم عُلُوُّ قِدَم السماعِ ... وضده النزول كالأنواع وحيث ذُمّ فهو ما لم يُجْبر ... والصحةُ العُلُوّ عند النّظر ثم قال البخاري: باب ما يذكر في المناولة وكتاب أهل العلم بالعلم إلى البلدان يُذكر، بالبناء للمجهول، لما فرغ من تقرير السماع والعرض، أردفه ببقية وجوه التحمُّل المعتبرة عند الجمهور. وقوله: "إلى البلدان" أي: إلى أهل البلدان. وكتاب مصدر، وإلى متعلق به. وذكر البلدان على سبيل المثال، وإلا فالحكم عام في القرى وغيرها، فقد ذكر في هذا الباب أصلين من أصول الحديث. الأول: المناولة وهي إعطاء الشيخ الطالبَ شيئًا من مروياته، ويقول له: هذا من مرويّاتي، أو من حديثي، أو نحو ذلك، وهي باعتبار صورها الآتية على نوعين، لأنها إما أن تقترن بالإجازة أو لا، فالتي فيها الإذن هي أعلى الإِجازات مطلقًا، لما فيها من تعيين المرويّ، وتشخيصه. وفي هذا النوع صور متفاوتة علوًا، وأعلاها أن يعطي الشيخَ الطالب مؤلفا له أو أصلًا

من مسموعاته، مثلًا، أو فرعًا مقابلًا به على وجه التمليك له، بهبة أو بيع أو غير ذلك، قائلًا له: هذا من تأليفي أو سماعي أو روايتي عن فلان. وأنا عالم بما فيه، فاروه أو حدث به عني، أو نحو ذلك. وكذا لو لم يذكر اسم شيخه، وكان مذكورًا في الكتاب المناوَل، مع بيان سماعه، أو إجازته، أو نحو ذلك، ثانيهما الإعارة، وهي أن يناوله ذلك على وجه الإعارة أو الإجازة، قائلًا له مع ما مر: انسخه ثم قابل به أو فقابل به نسختك التي انتسختها، ثم رده إليّ. الثالث: أن يُحضر الطالب الكتاب الذي هو أصل للشيخ، أو فرعه المقابل به، للشيخ ليعرضه عليه، والشيخ صاحب يقظة ومعرفة، فينظره متأملا له، ليعلم صحته، أو يقابله بأصله إن لم يكن عارفًا، ثم يناوله الشيخ للطالب الذي أحضره له، ويقول له: هذا من حديثي، فاروِه عنّي، أو حدّث به عني، ويقيّد هذا النوع بعرض المناولة ليتميز بالتقييد عن عرض السماع السابق. الرابع: أن يناول الشيخ الطالب الكتابَ، ويجيزه له ثم يسترده منه في ذلك الوقت، ويمسكه عنده، فتصح هذه الصورة، كما لو لم يمسكه، ولكن بشرط أن يكون المُجاز له بهذه المناولة أدى ما أُجيز له من نسخة موافقة لمرويه المجاز به بمقابلتها به، أو بإخبار ثقة بموافقتها له أو من مرويه الذي استرده منه الشيخ إن ظفر به بعد ذلك، وغلب على ظنه سلامته من التغيير، وهذه الصورة، مع أنها دون الصور المتقدمة، لعدم احتواء الطالب على مرويه، وغيبته عنه، ليست لها مزية على الكتاب المعين في الإِجازة المجردة عن المناولة عند المحققين من الفقهاء والأصوليين. وجعل لها بعض أهل الحديث قديما وحديثا مزية على الاجازة المجردة عن المناولة. الخامس: أن يُحضر الطالب الكتابَ للشيخ، ويقول له: وهذا مرويُّك، ناولْنيه، وأجزني روايته، والشيخ لا يعلم أنه مرويه، ولم ينظره،

لكنَّه اعتمد في كونه مرويَّه على الطالب الذي أحضره، وهو ثقة معتمد. وإن لم يكن الطالب المحضر للكتاب ثقةً معتمدًا، بَطل كلٌ من المناولة والإذن، إلا إذا تبيّن بعد ذلك بخبر ثقةٍ أن ذلك من مرويه، فالظاهر الصحة، لزوال ما كان يُخشى من عدم ثقة المُجاز، وإن قال: أجزته لك، إن كان ذلك من حديثي، كان ذلك فعلًا حسنًا، فإن كان المحضر ثقة، جازت روايته بذلك، أو غير ثقة، وتبين بخبر ثقة، أنه من مرويِّ الشيخ. وقد قال الإِمام مالك وجماعة من المدنيين وغيرهم: إن المناولة المقرونة بالإجازة تعادل السماع، بل ذهب جماعة إلى أنها أعلى منه، ووجهه بأن الثقة بالكتاب مع الإِجازة أكثر من الثقة بالسماع وأثبت لما يدخل من الوهم على السامع والمستمع. والذي عليه النُّعمان والشافعيّ وأحمد وابن المبارك وإسحاق بن رَاهَويه وغيرهم: أنها أنقص من السماع، وهو التحقيق، وقد حكى القاضي عِياض الإِجماع على أنها صحيحة معتمدة، وإن كانت مرجوحة بالنسبة للسماع على المعتمد. إن النوع الثاني: أن تخلو المناولة من الإذن، وذلك بأن يناوله مرويَّه، ويقول له: هذا حديثي، ومرْويِّي فقط، فالصحيح أنها باطلة، لا تجوز الرواية بها لعدم التصريح بالاذن فيها وقيل صحيحة تجوز الرواية بها لإِشعارها بالإِذن في الرواية. واختلف أئمة الحديث فيما يقوله الراوي بالمناولة الصحيحة، فأجاز مالك وابن شهاب له أن يقول: "حدثنا" و"أخبرنا"، بل أجاز ابن جُريج له ذلك في مُطلق الرواية بالإجازة المجردة عن المناولة. وقال أبو عبد الله محمد بن عمران المَرْزُبانيّ، بضم الزاي، وأبو نُعيم الأصْبهاني: إنه يقول: "أخبرنا" دون "حدثنا"، والصحيح عند الجمهور، أنه لابد له من التقييد بما يبين كيفية تحمله من سماع أو إجازة أو مناولة، كأن يقول: حدثنا أو أخبرنا فلان إجازة أو مناولة أو هما معًا، أو يقول: أذِن أو أطلق

لي روايته عنه، أو أجازني أو سوَّغ لي أو أباح لي أو ناولني ونحوها، مما يبين كيفية التحمل. وإن أجاز الشيخ للمُجاز إطلاق "حدثنا" و"أخبرنا" في المناولة والإِجازة، كما فعله بعض المشايخ في إجازتهم حيث قالوا في إجازتهم لمن أجازوا له، إن شاء قال: حدثنا أو أخبرنا، لم يكن ذلك كافيًا، في جواز الإِطلاق. وبعض المحدِّثين، كالحاكم، لم يقتصر على ما مر، بل أتى بلفظ موهِمٍ غير المراد فيما أجازه به شيخه بلفظه، شفاهًا أو بكتابة، كأخبرنا فلان مشافهةً، أو تشافهني فلان، أو أخبرني فلان كتابةً أو مكاتبة، أو في كتابه أو كتب لي. وهذه الألفاظ وإن استعملها بعض المتأخرين، لم يسلم من استعملها من الإِيهام، وطرفٍ من التدليل. أما المشافهة فتوهم مشافهته بالتحديث، وأما الكتابة فتوهم أنه كتب إليه بذلك الحديث بعينه، كما كان يفعله المتقدمون. وقد قال الأوزاعي: إنه يأتي بـ"يخبرنا" في الإجازة، و"بأخبرنا" في القراءة، ولم يخلُ ما قاله من النزاع. واختار الخطّابي أن يقول في الإِجازة: أخبرنا فلان أن فلانًا حدثه أو أخبره، واستبعده ابن الصَّلاح، وقال: لكنْ إذا كان سمع منه الإِسناد فقط من شيخه، وأجازه فيما وراءه كان ذلك قريبًا فإن في أن إشعارًا بوجود أصل الإِخبار، وإن أجْمل الخبر، ولم يفصِّله، واختار أبو العباس الوليد بن بكر بن مَخْلد الغَمْريّ الأنْدلسيّ، صاحب "الوِجازة في تجويز الإجازة" أن يقول في الإِجازة: أنبأنا. واختاره الحاكم فيما شافهه فيه شيخه بالإِذن في روايته بعد عرضه له عرض مناولة. واستحسن البَيْهَقيّ أن يقول: أنبأنا إجازة، وبعض متأخري الحديث استعمل لفظ "عن" فيما سمعه من شيخه الراوي، عن شيخه إجازة، فيقول: قرأته على فلان عن فلان، ولفظة "عن" قرينة لمن سماعه من شيخه، فيه شك مع تيقُّن إجازته منه، ولفظ "عن" مشترك بين السماع

والإِجازة، وأما ما في صحيح البخاريّ من قوله: "قال لي فلان" فجعله أبو جعفر أحمد بن حمدان النَّيْسابوريّ لما أخذه بالعرض والمناولة، وانفرد النَّيْسابوريّ بذلك، وخالفه في غيره. قال ابن حَجَر: إنما يستعملها في أحد أمرين: أن يكون الحديث موقوفًا ظاهرًا وإن كان له حُكْمُ الرفع، أو يكون في إسناده من ليس على شرطه. وذلك في المتابعات والشواهد. وأشار العراقي إلى هذا الفصل بقوله: ثمّ المناولاتُ إما تقترنْ ... بالِإذن أولا فالتي فيها إذْنٌ أعلى الإِجازات وأعلاها إذا ... أعطاه مِلكًا فإعارةً كذا إن يحضُر الطالبُ بالكتاب له ... عرضًا، وهذا العرضُ للمناولة والشيخُ ذو معرفةٍ فينظره ... ثم يناولُ الكتابَ مُحضِره يقولُ هذا من حديثي فاروِهِ ... وقد حَكَوا عن مالِك ونحوِهِ بأنها تعادلُ السَّماعا ... وقد أبى المُفتون ذا امتناعا إسحاقُ والثَّوري مع النعمان ... والشافعي أحمد والشيبانيّ وابن المُبارك وغيرهم رأوا ... بأنها أنقص، قلتُ: وحَكَوا إجماعهم بأنها صحِيحه ... معتمدًا وإن تكنْ مرجوحه أما إذا ناول واستردّا ... في الوقت صحّ والمُجازُ أدَّى من نسخةٍ قد وافقت مَرْويَّة ... وهذه ليست لها مَزِيَّه على الذي عُيّن في الإجازة ... عند المحققين لكنْ مازَه أهل الحديث أخرا وقدما ... أما إذا ما الشيخ لم ينظر ما أحضره الطالبُ لكنْ اعتمِدْ ... من أحضر الكتاب، وهو مُعْتمَدْ صحّ وإلا بَطل استيقانًا ... وإن يقل: أجزْتُه إن كانا ذا من حديثي، فهو فعلٌ حسنُ ... يُفيد حيث وقعَ التَّبْيين وإنْ خلتَ من إذن المناوله ... قبل: تصحُّ، والأصحُّ باطله واختلفوا فيمن روى ما نوِّلا ... فمالِكٌ وابن شهابٍ جَعَلا إطلاقه "حدثنا" و"أخبرا" ... يسوغُ وهو لائق بمن يرى العرض كالسماع بل أجازه ... بعضُهم في مطلق الإجازة

والمرْزُبانىّ وأبو نُعيم ... أخبر، والصحيح عند القوم تقييدهُ بمن يبين الواقع ... أجازه تناولاهما معا أذِن لي، أطلق لي، أجاز لي ... سوّغ لي أباح لي، ناولني وإن أباح الشيخ للمُجازي ... إطلاقه لم يكفِ في الجوازِ وبعضُهم أتى بلفظٍ موهِم ... "شافهني" "كتب لي" فما سلم وقد أتى بخبر الأوزاعي ... فيها، ولم يخلُ من النزاع ولفظ إن اختاره الخطّابي ... وهو مع الإِسناد واقتراب وبعضُهم يختار في الإِجازة ... "أنبأنا" كصاحب الوِجازة واختاره الحاكم فيما شافهه ... بالإِذن بعد عرضه مشافهه واستحسنوا للبَيْهقيّ مصطلحًا ... "أنبأنا" أجازه فصرحا وبعضُ من تأخر استعمل "عن" ... إجازة وهي قرينة لمن سماعُه من شيخه فيه يُشَكُّ ... وحرف "عن" بينهما فمشترك وفي البخاري "قال لي" فجعله ... حبرّيهم للعرض والمناوله ويلتحق بالمناولة قسم من أقسام التحمُّل، يسمى بإعلام الشيخ، وهو أن يعلم الشيخ الطالب لفظًا بشيءٍ من مرويّه مجردًا عن الإجازة، رواه الشيخ سماعًا أو إجازة أو غيرهما. فجزم أبو حامد الطُّوسيّ، من أئمة الشافعية، بمنع الرواية به وقيل: الجازمُ الغزاليُّ، لجزمه بذلك في "المستصفى" وذلك لعدم إذنه له وربما لا تجوز روايته عنه، لخلل يعرف فيه، وإن سمعه. وهذا هو المختار. وذهب ابن جُريج، وكثير من أئمة الحديث، إلى الجواز قياسًا على شهادة الشاهد بما سمعه من المُقرّ، وإن لم يأذن له فيها. وقوّاه الوليد بن بَكر وابن الصَّبّاغ صاحب "الشامل". بل قال الرّامهرمزيّ: تجوز له الرواية به، وإن منعه الشيخ بأن قال له: لا تروهِ عني، أو لا أُجيزه لك قياسا على ما إذا منعه من التحديث بما سمعه، كما مر. والمشهور عدم جواز الرواية به، كالشهادة على شهادة الشاهد، فإنه لا يكفي إعلامه بها ولا سماعها منه. بل لابد أن يأذن له في أن يشهد على

شهادته. قال ابن الصلاح: وهذا مما تساوت فيه الشهادة والرواية، لأن المعنى يجمعها وإنْ افترقا في غيره، لكن إذا صح عند أحد ما حصل الإِعلام به من الحديث، يجب العمل بمضمونه، وان لم تجز الرواية به، لأن العمل يكفي فيه صحته في نفسه، وان لم تكن له به رواية، كما نقل الحديث من الكتب المعتمدة، وأشار العراقي إلى هذا القسم بقوله: وهلْ لِمنْ أعْلمُه الشيخُ بما ... يرويه أن يرويَه فَجَزَما بمنعه الطُّوسيُّ، وذا المُختارُ ... وعدَّة كابن جُريج، صاروا إلى الجواز، وابن بَكر نَصَرَه ... وصاحبُ الشامل جزمًا ذكره بل زاد بعضُهم بأنْ لو مَنَعه ... لم يمتنعْ، كما إذا قد سمعه وردّ كاسترعاء من يحمل ... لكنْ، إذا صح، عليه العمل الأصل الثاني: المكاتبة من الشيخ بشيء من مرويه أو تأليفه أو نظمه وإرساله إلى الطالب مع ثقة بعد تحريره، وتكون بخط الشيخ، وهي أعلى. أو بإذنه لثقة في الكتابة عنه لغائب، أو لحاضر عنده ببلده، وهي على نوعين، كالمناولة: الأول أن يُجيز الشيخ بخطه أو بإذنه مع الكتابة بشيء مما ذكر، كأجزتُ ما كتبه لك، أو ما كتب به إليك. وهذا هو النوع المسمّى بالكتابة المقرونة بالإِجازة. وهذا النوع يشبه المناولة المقرونة بالإِجازة في الصحة. النوع الثاني: أن تقع الكتابة مجردة عن الإِجازة، والمشهور عند المحدِّثين صحة الأداء بها، لأنها وإن تجردت عن الإِجازة لفظًا، فقد تضمنتها معنىً، وكتبهم مشحونة بقولهم "كتب إليّ فلان"، "قال حدثنا فلان". وقد قال به أيّوب السّخْتيانيّ ومنصور بن المُعتمر والَّليث بن سعد، وقال السَّمْعانيّ: إنه أقوى من الإِجازة. وقال الماوَرْدي وبعض العلماء بمنع الرواية به. وعلى المشهور من جواز الرواية بها يكفي في الرواية بها أن يعْرف المكتوب له خط الذي كاتبه، وإن لم تقم بينة به، لتوسعهم في الرواية.

واشترط الإِمام الغزاليّ البينة برؤيته وهو يكتب، أو بإقراره إنه خطه للاشتباه في الخطوط. وقال ابن الصّلاح: إنه قول غير مرضيّ، لندور اللّبس في الخطوط، وحيث يريد تأدية ما تحمله بالكتابة، يجوز له أن يقول: "حدثنا" و"أخبرنا" بالإِطلاق عند الليث ومنصور. والجمهور على وجوب التقييد بالكتابة، كأنْ يقول: "حدثنا" أو "أخبرنا" كتابة، أو "كتب إلى"، وهذا هو الذي يليق بالتحري والبعد عما يوهم الّلبس. قال الحاكم: الذي أختاره وعهدت عليه الشيوخَ وأئمة عصري أن يقول فيما كتب إليه المحدِّث من حديثه، ولم يشافهه بالإِجازة: كتب إلى فلان، وأشار العراقي إلى هذا الفصل بقوله: ثمّ الكتابةُ بخط الشيخ أو ... بإذنه عنه لغائب، ولو لحاضرٍ، فإن أجاز معها ... أشبهَ ما نُوِّل أو جَرَّدها صحَّ على الصحيح والمشهور ... قال به أيّوب مع منصور والليثُ والسَّمْعانيّ قد أجازه ... وعدّه أقوى من الإِجازه وبعضُهم صِحَّة ذاك مَنَعا ... وصاحب "الحاوي" به قد قَطَعا ويكتفي أن يعرف المكتوب له ... خطَّ الذي كاتبه، وأبطله قومٌ للاشتباه، لكن ردَّا ... لندرة اللَّبس وحيث أدَّى فالليثُ مع منصور استجازا ... "أخبرنا" "حدثنا" جوازًا وصححوا التقييد بالكتابه ... وهو الذي يليقُ بالنزاهه ويلحق بالكتابة الوصيةُ بالكتاب، وهي أن يوصي الراوي عند موته، أو سفره، للطالب بكتاب، بل ولو بكتبه كلها، ولم يعلمه صريحًا أنه من مرويه، فقد أجاز له ابن سيرين الرواية بذلك، لأن فيه نوعًا من الإِذن، وشَبَهًا من العرض والمناولة. والمشهور أنه لا تجوز الرواية بها لأنها ليست بتحديث ولا إعلام بمروي، كالبيع. قال ابن الصّلاح: وهي زَلّة عالم ما لم يرد القائل بذلك مسألة الرواية بالوجادة. وانكر ابن أبي الدّم تشبيهها بالوجادة. وقال: هي أرفع رتبة من الوجادة بلا خلاف، فإنها معمول بها عند

الشافعي وغيره فهي أولى ووافقه ابن حَجَر على ما قال. قال العراقي: وبعضهم أجازَ للموصى له ... بالجُزء من راوٍ قضى أجَلَه يرويه أو لسفر أراده ... ورَدّ ما لم يَرُدَّ الوجاده ولما كانت الوِجادة معدودة في أقسام التحمُّل، أردت ذكرها هنا، تتميما للفائدة، لما لها من التعلق بالكتابة، ولأنها لم يبقَ من أقسام التحمل إلا هي والإِجازة. وهي عبارة عما أُخذ من العلم من صحيفة بغير سماع، ولا إجازة، ولا مناولة، وهي مصدر وَجَدَ وِجادَة، بكسر الواو، ولفظ مولد، لم يسمع من العرب، ولَّدَهُ أهل الفن اقتداء بالعرب في تفريقهم بين مصادر "وجد" للتمييز بين المعاني المختلفة، ليظهر تغايرها، فيقولون في مصدر "وجد ضالته" وجدانا، و"وجد مطلوبه" وُجُودا، وفي الغضب مَوْجِدة، وفي الغنى وُجْدًا، وفي الحب وَجْدًا، بفتح الواو، والذي قبله بضمها. والوجادة نوعان: الأول: أن تجد بخط من عاصرت، لقيته أو لم تلقه، أو بخط من لم تعاصره، حديثًا لم يحدثك به، ولم يُجز لك روايته عنه، فتقول: وجدت بخطة، أو قرأت بخطه، أخبرنا فلان. وتسوق سنده ومتنه، أو ما وجدته بخطه، وإن لم تثق بالخط الذي وجدت، قلتَ: وجدتُ عنه، أو بلغني عنه، أو وجدت بخطٍ قيل إنه خط فلان، أو قال لي فلان إنه خط فلان، بما يفصح بالمستند في كونه خطه، وجميع المروي بالإِجازة، سواء وثقت بأنه خطه أو لم تثق، مُنْقطع أو مُعلّق. وقال ابن كَثير: الوجادة ليست من باب الرواية، وإنما هي حكايةٌ عما وجده في الكتاب، ولكن الأول الموثوق فيه بالخط، فيه نثوب ما من الوصل لزيادة القوة بالوثوق بالخط.

وقد تسهل بعض المحدِّثين في أداء ما يرويه بخط فلان، فأتى بـ "عن فلان"، ونحوها، مما يوهم أخذه عنه، سماعًا أو إجازة، كقال، مكان وجدت. قال ابن الصّلاح: وهو تدليس قبيحٌ إن أوْهم أنه حدثه به بنفسه بأن كان معاصرًا له. وبعض العلماء أدّى ما وجده من ذلك بقوله: حدثنا. وهذا مردودٌ لأنه يوهم أخذه عنه سماعًا أو إجازة. قال القاضي عِياض: لا أعلم أحدًا ممن يُقتدى به أجاز النقل فيه بذلك، ولا من عده معد المسند. وأما العمل به فالأكثر على وجوبه به. وهو المشهور الذي لا يتجه غيره فى الأعصار المتأخرة، لقصور الهمم فيها عن الرواية، فلم يبق إلا الوِجادة. قال النووي: هذا هو الصحيح. وقيل: يمنع العمل به قياسًا على المرسل ونحوه، مما لم يتصل. وقيل: يجوز العمل به، ونُسب للإمام الشافعيّ. قال القاضي عِياض: وهو الذي نَصَره الجُوَيْنيّ، واختاره غيره. النوع الثاني: أن تجد ذلك بغير خط من ذكر فإن وثقت بصحة النسخة بأن قوبلت مع ثقة بالأصل أو بفرع مقابَل به، فقلت: "قال فلان" ونحوها من ألفاظ الجزم. وإن لم يحصل الوثوق بالنسخة، فلا تجزم بذلك، وقيل: بلغني عن فلان أنه ذكر كذا، أو وجدتُ في نسخة من الكتاب الفلاني، ونحو ذلك مما لا يقتضي جزمًا. ولكنّ الجزمَ مرجوُّ الجواز للعالم الفطن، الذي لا يخفى عليه غالبًا مواضع الإِسقاط والسّقط، وما أُحيل عن جهته إلى غيرها، وإلى هذا الفصل أشار العراقي بقوله: ثم الوجادة وتلك مَصْدرْ ... وجَدْته مُولَّدًا ليظهرْ تغاير المعنى وذاك أنْ تجدْ ... بخط من عاصرت أو قبلَ عهدْ ما لم يحدثْك به ولم يُجزْ ... فقل: بخطه وجدتُ، واحترز إن لم تثقْ بالخط قل: وجدتُ ... عنه، أو اذكر "قيل" أن "ظننتُ" وكله منقطِعٌ، والأول ... قد شِيبَ وصلًا ما وقد تسهَّلوا فيه "بعن" قال وهذا دَلَّسْه ... تَقْبح إذ توهم أنّ نفسه

حدثه به، وبعضٌ أدَّى ... "حدثنا" "أخبرنا" وردًّا وقيل، في العمل إن المعظمَا ... لم يَرَهُ، وبالوجوب جَزَما بعضُ المحققين، وهو الأصوب ... ولابن إدريسَ الجوازَ نسبوا وإن تكنْ بغير خطّه، فقل ... قال، ونحوها، وإن لم يحصل بالنسخة الوثوقُ قل: بَلَغني ... والجزمُ يرجى حِلُّهُ للفَطِن ثم ذكر البخاري أثرين معلقين، وحديثًا كذلك، مستدلًا بالجميع على مذهبه من الاكتفاء بالمناولة والكتابة، فأتى بالأثر الأول وهو قوله: "وقال أنس نسخ عثمان مصاحف فبعث بها إلى الآفاق". قوله: "نسخَ عثمان المصاحف" أي: أمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزُّبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن ينسخوها. وقوله: "إلى الآفاق" قال القَسْطلانيّ: بعث مصحفًا إلى مكة، وآخر إلى الشام، وآخر إلى اليمن، وآخر إلى البحرين، وآخر إلى البصرة، وآخر إلى الكوفة، وأمسك بالمدينة واحداً. والمشهور أنها خمسة. وقال الدّاني: أكثر الروايات على أنها أربعة. ودلالة هذا الحديث على تجويز الرواية بالمكاتبة بينة غير خفية، لأن عثمان أمرهم بالاعتماد على ما في تلك المصاحف، ومخالفة ما عداها. قال ابن المُنير: والمستفاد من بعثه المصاحف إنما هو ثبوت إسناد صورة المكتوب فيها إلى عثمان لا أصل ثبوت القرآن، فإنه متواتر عندهم. وهذا التعليق قطعة من حديث طويل لأنس، وصله البخاريّ في فضائل القرآن، وأنس قد مر في السادس من كتاب الإِيمان. وأما عثمان وهو ابن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف الأُمَويّ القُرشِي أبو عبد الله أو أبو عمرو، والأخير أشهر. قيل: إنه ولدت له رقية بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ابنًا فسماه عبد الله فكني به حتى مات، ثم ولدت له آخر فسماه عمْروًا فاكتنى به إلى أن مات. وقيل: يكنى

أبا ليلى، ويلقب بذي النُّورين، لتزويجه بابنتي النبي -صلى الله عليه وسلم-، رُقيّة ثم أمِّ كلثوم، واحدةً بعد واحدة. ولم يعلم أحد تزوج بنتي نبىٍّ غيره. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لو كان عندي غيرهما لزوجتكها". وثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، أنه قال: "سألت ربي، عَزَّ وَجَلَّ، أن لا يدخل النار أحدًا صاهر إلى أو صاهرت إليه وقيل: لُقب بذلك، لأنه إذا دخل الجنة برقت له برقتان. وقيل: لأنه كان يختم القرآن في الوِتر، والقرآن نور، وقيام الليل نور. وقيل غير ذلك. وأمه أروى بنت كُريز بن ربيعة بن حَبيب بن عبد شمس، أسلمت، وأمها البيضاء بنت عبد المطلب، عمة النبي -صلى الله عليه وسلم-. ولد بعد الفيل بست سنين على الصحيح، وهو أحد السابقين في الإسلام، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة الذين جعل عمر، رضي الله عنه، فيهم الشورى. وأخبر أن النبي -صلى الله عليه وسلم-، توفي وهو عنهم راضٍ، وهو أول من هاجر إلى الحبشة فارًا بدينه مع زوجته رُقية، وتابعه سائر المهاجرين إلى أرض الحبشة، وتخلف عن بدرٍ لتمريض زوجته رقية، كانت عليلة، وماتت رقية في سنتين من الهجرة، حين أتى خبر رسول الله، -صلى الله عليه وسلم-، بما فتح الله عليه به يوم بدر. وأما تخلُّفه عن بَيْعة الرِّضوان بالحُديبية، فلأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كان وجّهه إلى مكة لأمر لا يقوم به غيره من صلح قريش، على أن يتركوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والعمرة ولو كان أحدٌ أعزَّ منه ببطن مكة، لبعثه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، مكانه. ولما أتاه الخبر الكاذب بأنه قُتل جمع أصحابه ودعاهم إلى البيعة، فبايعوه على قتال أهل مكة يومئذ، وبايع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، عن عثمان، حينئذ، بإحدى يديه الأخرى، ثم أتاه الخبر بأن عثمان لم يقتل، وما كان سبب بيعة الرضوان إلا ما بلغه من قتله. وقد قال ابن عمر: يد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لعثمان خير من يد عثمان لنفسه. فهو معدود في أهل بيعة الرضوان من أجل ما ذكر. كان، رضي الله عنه، رَبْعةً وضيئًا جميلًا حسنًا أبيض، مُشْربًا بصُفرة،

جَعْد الشعر، له جُمّة أسفل من الأُذن، جذْل الساقين طويل الذراعين، بعيد ما بين المنْكبين، طويل اللحية، أقنى بيِّن القَنى، وكان يضْفُر لحيته، ويشد أسنانه بالذهب. وفيه يقال: أحسن زوجين رأى إنسانُ ... رقيةُ وزوجُها عثمانُ ومن حديث أبي المِقدام مولى عثمان بن عفّان قال: بعث النبي، -صلى الله عليه وسلم-، مع رجل بصَحْفة إلى عثمان، فاحتبس الرجل، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما حبسك إلا كنت تنظرُ إلى عثمان ورقية، تَعْجَب من حسنهما". وروي في سبب إسلامه أنه قال: كنت بفناء الكعبة، إذ أُتينا، فقيل لنا: إن محمدًا قد أنكح عُتْبة بن أبي لهب ابنته رُقية، وكانت ذات جمال بارع، وكان عثمان مشتهرًا بحب النساء، ومن وصف جماله ما مر قريبًا. قال: فلما سمعتُ ذلك دخلتني حسرة أن لا أكون سبقتُ إليها، فلم ألبث أن انصرفتُ إلى منزلي، فأصبت خالتي سُعدى قاعدةً مع أهلي، وكانت قد طَرَقت وتكهَّنت لقومها، فلما رأتني قالت: أبشِرْ وحييتَ ثلاثًا وِترًا ... ثم ثلاثًا وثلاثًا أخرى ثم بأخرى كي تتم عشرًا ... لقيتَ خيرًا، ووُقيت شرا نكحت، والله، حَصانًا زَهْرا ... وأنت بَكر ولقيت بِكرا قال: فتعجبت من قولها، وقلتُ: يا خالة، ما تقولين؟ قالت: عثمانُ يا عثمانُ يا عثمانُ ... لك الجمالُ والجمالُ الشانُ هذا نبيٌّ معه البُرهانُ ... أرسله بحقه الدَّيَّانُ وجاءَهُ التنزيل والفُرقانُ ... فاتَّبعه لا تطغى بك الأوثان فقالت: إن محمد بن عبد الله رسول الله، جاءه جبريل يدعوه إلى الله، مصباحه مصباح، وقولُه صلاح، ودينه فلاح، وأمره نجاح، لقِرنه

نطَّاح. ذلَّت له البِطاح، ما ينفعُ الصياح، لو وقع الكِفاح، وسلت الصِّفاح، ومُدَّت الرماح. ثم انصرفت ووقع كلامها في قلبي، وبقيت مفكرًا فيه. وكان لي مجلس من أبي بكر الصديق، فأتيته بعد يوم الاثنين، فأصبته في مجلسه ولا أحد عنده، فجلست إليه فرآني فسألني عن أمري، وكان رجلًا رفيقًا، فأخبرته بما سمعتُ من خالتي، فقال لي: ويحك يا عثمان، والله، إنك لرجل حازم، ما يخفى عليك الحق من الباطل. هذه الأوثان التي يعبدها قومك أليست حجارة صمًا، لا تسمع ولا تبصر، ولا تضر ولا تنفع؟ قلت: بلى، والله، إنها لكذلك. قال: والله لقد صدقت خالتك، هذا محمد بن عبد الله، بعثه الله برسالته إلى جميع الخلق. فهل لك أن تأتيه وتسمع منه؟ فقلت: نعم، فوالله ما كان بأسرع من أن مرّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعه عليٌّ بن أبي طالب، يحمل له ثوبًا، فلما رآه أبو بكر قام إليه، فسارّه في أذنه، فقعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم أقبل علَيّ فقال: "يا عثمان، أحب الله إلى جنّته"، فإني رسول الله إليك، وإلى جميع خلقه. قال: فوالله ما تمالكتُ حين سمعتُ قولَه أنْ أسلمتُ، وشهدت أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، ثم لم ألبث أن تزوجتُ رقيةَ. وفي إسلامه تقول خالتُه سُعدى: هدى الله عثمانَ الصفىَّ بقوله ... وأيَّدهُ والله يهدي إلى الحق فتابع بالرأي السديد محمدًا ... وكان ابن أرْوى لا يَصُدُّ عن الحق وأنكحه المبعوث إحدى بناته ... فكانَ كبدرٍ مازج الشمس بالأفق فذلك يا ابن الهاشِميّيْن مُهجتي ... فأنت أمين الله أُرسلت للخلق وروى التِّرمذي أن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: "لكل نبي رفيقٌ ورفيقي في الجنة عثمان". وروى سهل بن سعد: ارْتجَّ أحدٌ، وكان عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأبو بكر وعمر وعثمان، رضي الله عنهم، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اثْبُثْ، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان".

وسُئل ابن عمر، رضي الله عنه، عن عليّ وعثمان، رضي الله عنهما، فقال للسائل: قبحك الله، تسألني عن رجلين هما خيرٌ مني، تريد أن أغضَّ من أحدهما وأرفع من الآخر؟ وقال علي، رضي الله عنه: من تبرأ من دين عثمان فقد تبرأ من الإِيمان، والله ما أعنتُ على قتله، ولا أمرتُ، ولا رضيت. وقال فيه حين قال له ابن سَبْرة: حدِّثْنا عن عثمان، قال: ذلك امرؤ يدعى في الملأ الأعلى ذا النُّورين. وقال: كان عثمان أوْصَلنا للرحم، وكان من {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 93] وقال ابن عمر: كنا نقول على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-: أبو بكر ثم عمر ثمّ عثمان ثم نسكُت، فقيل هذا في التفضيل. وقيل: في الخلافة. وهو الذي جهز جيش العُسْرة بتسع مئة وخمسين بعيرًا بأحلاسها وأقتابها، وأتم الألف بخمسين فرسًا، وقال قتادة: حمل عثمان، رضي الله عنه، على ألف بعير وسبعين فرسًا. وقال الزُّهريّ: حمل على تسع مئة وأربعين بعيرًا وستين فرسًا. وعن حُذيفة بن اليَمان قال: بعث النبي -صلى الله عليه وسلم-، إلى عثمان في تجهيز جيش العُسْرة، فبعث إليه بعشرة آلاف دينار، فصُبت بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، فجعل يقلبها ويقول: "غفر الله لك يا عثمان ما أسررتَ وما أعلنت، وما هو كائنٌ إلى يوم القيامة". وفي رواية "لا يُضَرُّ عثمانُ بعد اليوم ما فعل". واشترى بِئرَ رُومة بخمسة وثلاثين ألفًا، وسبَّلها لما سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من يشتري رُومة فيجعلها للمسلمين يضربُ بدلوه في دلائهم، وله بها مشربٌ في الجنة". وكانت رَكيَّةً ليهوديِّ يبيع للمسلمين ماءها. فأتاه عثمان فساومها فأبى أن يبيعها كلها، فاشترى منه نصفها باثني عشر ألف درهم، فجعل ماله للمسلمين، وقال له عثمان: إن شئت جعلت على نصيبي قرنين، وإن شئت، فلي يومٌ ولك يوم، قال: بل لك يوم ولي يوم، فكان إذا كان يوم عثمان استقى المسلمون ما يكفيهم يومين، فلما رأى ذلك اليهوديّ قال: أفسدت عليّ ركبّتي، فاشتر النصف الآخر، فاشتراه بثمانية

آلاف درهم. فعلى هذا يكون الجميع عشرين ألفًا، خلاف ما مر من أنها خمسةٌ وثلاثون ألفًا. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من يَزِيد في مسجدنا؟ " فاشترى عثمان موضع خمس سَوارٍ، فزاده في المسجد. وقال ابن مسعود حين بويع عثمان بالخلافة: بايعنا خيرنا، ولم نألُ. وبويع له بالخلافة يوم السبت، غرة المُحرم، سنة أربع وعشرين، بعد دفن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، بثلاثة أيام باجتماع الناس عليه، ولما ولي زاد تواضعه ورأفته ورحمته برعيته، وكان يطعم الناس طعام الامارة، ويأكل الخَلّ والزيت. وقال ابن سيرين: كثر المال في زمن عثمان -رضي الله عنه-، حتى بيعت جارية بوزنها، وفرس بمئة ألف درهم، ونخلة بمئة ألف درهم. وافتُتح في أيامه الاسكندرية وسابور وإفريقية وقُبرسُ سواحل الروم وإصْطخر الأخرى، وفارس الأولى والأُخرى، وطَبَرستان وكَرَمان وسَجِسْتان وغير ذلك. وقال ابن عمر: لقد عتبوا على عثمان أشياء لو فعلها عمر ما عتبوا عليه. وقال ابن مهدي: لعثمان، -رضي الله عنه-، شيئان ليسا لأبي بكر ولا عمر، رضي الله عنهما: صبرُه على نفسه على قتل مظلومًا، وجمعه الناس على المصحف. وقال الزبير بن عبد الرحمن: إن جدته أخبرته، وكانت خادمة لعثمان، -رضي الله عنه-، أنها قالت: كان عثمان -رضي الله عنه- لا يوقظ نائمًا من أهله، إلا أن يجده يقظان، فيدعوه، فيناوله وضوءه. وكان يصوم الدهر. وعن عَلْقَمَة بن وقَّاص، أن عمرو بن العاص، قام إلى عثمان وهو يخطب الناس، فقال: يا عثمان إنك ركبتَ بالناس المهَامِه وركبوها منك، فتُب إلى الله، عَزَّ وَجَلَّ، وليتوبوا. فالتفت إليه عثمان وقال: إنك لهناك يا ابن النابغة، ثم رفع يديه، واستقبل القبلة وقال: الَّلهمّ إني أول تائب إليك. وقال الحسن: سمعت عثمان يخطب، وهو يقول: يا أيها الناس، ما

تنقِمون عليّ، وما من يوم إلا وأنتم تقسمون فيه خيرًا؟ قال الحسن: سمعت مناديًا ينادي: أيها الناس، اغدوا على عطِيَّاتكم. فيفِدون ويأخذونها دانيةً. أيها الناس: أعذوا على السمن والعسل. قال الحسن: أرزاق دارة، وخير كثير وذات بين حسن، ما على وجه الأرض مؤمن يخاف مؤمنًا إلا يوده وينصره ويألفه، ولو صبر الأنصار لوسعهم ما كانوا فيه من العطاء والرزق، ولكنهم لم يصبروا وسلوا السيف مع من سله، فصار عن الكفار مغْمدًا وعلى المسلمين مسلولًا إلى يوم القيامة. وكان سبب قتله، -رضي الله عنه-، أن أمراء الأمصار كانوا من أقاربه، كان بالشام كلها معاوية، وبالبصرة سعيد بن العاص، وبمصر عبد الله بن سعد بن أبي سَرْحٍ، وبخُراسان عبد الله بن عامر. وكان من حج منهم يشكو من أميره، وكان عثمان لين العريكة، كثير الإحسان. وكان يستبدل أُمراءه فيرضيهم، ثم يعيدهم بعد إلى أن رحل أهل مصر يشكون من ابن أبي السّرْح، فعزله، وكتب لهم كتابًا بتولية محمد بن أبي بكر الصديق، فرضوا بذلك. فلما كانوا في أثناء الطريق رأوا راكبًا على راحلة، فاستخبروه، فأخبرهم أنه من عند عثمان باستقرار ابن أبي السَّرْح، ومعاقبة جماعة من أعيانهم، فأخذوا الكتاب، ورجعوا وواجهوه به، فحلف أنه ما كتب ولا أذِن. فقالوا: سلّمنا كاتبك، فخشي عليه منهم القتل، وكان كاتبه مروان بن الحكم، وهو ابن عمه، فغضبوا، وحصروه في داره، واجتمع جماعة يحمونه منهم، فكان ينهاهم عن القتال، وكانت مدة الحصار تسعًا وأربعين يومًا. وقيل: شهران وعشرون يومًا. وعن شداد بن أوس أنه قال لما اشتد الحصار بعثمان، -رضي الله عنه-، يوم الدار: رأيت عليًا، -رضي الله عنه-، خارجًا من منزله معتمًا بعمامة رسول الله، -صلى الله عليه وسلم-، متقلدًا بسيفه، وأمامه الحسن ابنه وعبد الله بن عمر في نفر من المهاجرين والأنصار، رضي الله تعالى عنهم، فحملوا على الناس وفرقوهم. ودخلوا عليه، وقال له علي، -رضي الله عنه-: السلام عليك يا أمير

المؤمنين، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يلحق هذا الأمر حتى ضرب المدبر بالمقبل، وإني، والله، لا أرى القوم إلا قاتليك، فمرنا فلنقاتل. فقال عثمان: أنشد الله امرءا يعلم أن لله عَزَّ وَجَلَّ عليه حقًا، ويعلم أن لي عليه حقًا أن لا يُهْريق بسببي ملء مِحْجَمة من دم أو يهريق دمه فيّ، فأعاد عليه القول. فأجابه بمثل ما أجابه به. قال: فرأيت عليًا خارجًا من الباب، وهو يقول: اللهمّ إنك تعلم أنا قد بذلنا المجهود. ثم دخل المسجد فاقتحموا عليه الدار، والمصحف بين يديه، فأخذ محمد بن أبي بكر الصديق بلحيته، فقال له عثمان، -رضي الله عنه-: أرسل لحيتي يا ابن أخي، فوالله لو رأى أبوك مقامك هذا لساءه، فأرسل لحيته وولّى، وقيل: إنه قال له: لقد كان أبوك يعظمها، ولما استحيى وخرج، دخل عليه رَوْمان بن سِرحان، وهو رجل أزرق قصير محدود عداده في مراد، ومعه خنجر فاستقبله به، وقال له: على أيِّ دين أنت يا نَعْثَل؟ فقال عثمان: لستُ بنَعْثَل، ولكني عثمان بن عفّان، وأنا على ملة إبراهيم حنيفًا مسلمًا، وما أنا من المشركين. قال: كذبت، وضربه على صَدْغه الأيسر فقتله، فخرَّ، وأدخلته امرأته نائلة بينها وبين ثيابها، وكانت امرأة جسيمة، ودخل رجل من أهل مصر ومعه سيف مصلت، فقال: والله لأقطعن أنفه، فعالج المرأة، فكشفت عن ذراعيها، وقبضت على السيف، فقطع إبهامها، فقالت لغلام عثمان ويقال له رَبَاح، ومعه سيفُ عثمان: أعِنّي على هذا، وأخرجه عني. فضربه الغلام بالسيف فقتله. وبقي عثمانُ، -رضي الله عنه-، يومه ذلك مطروحًا إلى الليل. ولما قتل نضح الدم على قوله تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 137] وقيل: إن الذي باشر قتله جبلة بن الأيْهم، ثم طاف بالمدينة ثلاثًا يقول: أنا قاتل نَعْثَل. وقيل: إن الذي باشر قتله سَوْدان بن عَمران. ولما بلغ عائشة، -رضي الله عنها-، قتلُه قالت: قتلوه وإنه والله لأوصلهم

للرحم، وأتقاهم للرب. وروي عنها أنها قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ادعو لي بعضَ أصحابي، فقلت: أبو بكر؟ قال: لا. قلت: عمر؟ قال: لا. قلت: ابن عمك عليّ؟ قال: لا، قلت: عثمان بن عفان؟ قال: نعم. فلما جاء قال لي بيده، فَتَنَحَّيتُ، فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يُسارُّهُ، ولون عثمان -رضي الله عنه- يتغير، فلما كان يومُ الدار، وحُصِر قيل: ألا تقاتل؟ قال: لا، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، عَهِد إلى عهدًا، وأنا صابرٌ نفسا عليه. وقال ابن عباس، رضي الله عنهما: لو اجتمع الناس على قتل عثمان لرُمُوا بالحجارة كما رُمِي قوم لوط. وقال عبد الله بن سَلام: لقد فتح الناس على أنفسهم، بقتل عثمان، باب فتنةٍ لا ينغلق عنهم إلى يوم القيامة. وقال علي بن زيد بن جَدْعان: قال لي ابن المُسَيّب: انظر إلى وجه هذا الرجل، فنظرتُ فإذا هو مسودّ الوجه، فقال: سلْهُ عن أمره، فقلت: حسبي أنت، حدِّثْني. قال: إن هذا كان يسب عليًا وعُثمان رضي الله عنهما. فكنت أنهاه، فلا ينتهي، فقلت: اللهم هذا يسُبُّ رجلين قد سبق لهما ما تعلم، اللهم إن كان يُسْخِطُك ما يقول فيهما، فأرني فيه آية، فاسْودَّ وجهه كما ترى. وقال ابن خِلِّكَان وغيره: لما بويع عثمانُ نفى أبا ذَرٍّ الغِفاريّ، رضي الله عنه، إلى الرَّبَذَة، لأنه كان يزهِّد الناس في الدنيا، ورَدَّ الحكم بن أبي العاص، وكان قد نفاه رسول الله، -صلى الله عليه وسلم- إلى الطائف، ولم يرده أبو بكر ولا عمر، فرده عثمان، -رضي الله عنه-. وأجيب عنه بأنه إنما ردَّه بإذن من النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم يتفق له رده في حياته، عليه الصلاة والسلام، ولما ولي أبو بكر وعمر، رضي الله عنهما، طلبا منه شاهدًا آخر، فلم يتفق، حتى آل الأمر إليه، فحكم بعلمه. وأما أبو ذرّ فلم ينفِهِ، بل لما رآه يفسد بأقواله الأمور ويُشوِّشُ الأحْوال بالتزهيد في الدنيا، فقال له: إمّا أن تكفّ، وإمّا أنْ تخرج حيث شئتَ، فخرج إلى الرَّبذة غير منفيٍّ. وأجاب الآبيُّ عن كل ما نُقِد عليه متتبعًا له حرفًا حرفًا.

له مئة وستة وأربعون حديثًا اتفقا على ثلاثة، وانفرد البخاري بثمانية، ومسلم بخمسة. روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وعمر، وروى عنه أولاده عَمرو وأبان وسعيد، وابن عمه مروان بن الحكم. وروى عنه من الصحابة ابن مسعود، وابن عمر، وابن الزبير، وابن عباس، وزيد بن ثابت، وعِمران ابن حُصين، وأبو هريرة، وغيرهم. وروى عنه من التابعين الأحْنف بن قيس، وعبد الرحمن بن أبي ضَمْرة، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وسعيد بن المُسيَّب، وأبو وائل، ومحمد بن الحَنَفيّة، وغيرهم. قتل رحمه الله يوم الجمعة بعد العصر لثمان عشرة أو سبعة عشر خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين من الهجرة. وقيل غير ذلك، ودفن بالبقيع ليلة السبت بين المغرب والعشاء في حُشِّ كَوْكب، محل كان اشتراه فوسع به البقيع، فكان أول من دفن فيه هو. وكوكب رجل من الأنصار، والحُش: البستان، والفتح فيه أكثر من الضم. وكان، -رضي الله عنه-، يمر به ويقول: إنه سيدفن هنا رجل صالح. وحمل على لوح سرًا. وقد قيل: إنه صلى عليه ابنه عمرو بن عثمان، وقيل: صلى عليه حكيم بن حِزام، وقيل المُسوَّر بن مَخرَمة، وقيل: كانوا خمسة أو ستة، وهم جُبير بن مُطعم وحكيم بن حِزام وأبو جَهْم بن حُذيفة ونِيار بن مُكرم وزوجتاه نائلة، وأم المؤمنين بنت عُيينة. ونزل في القبر نيار وأبو جهم وجُبير. وكان حكيم وزوجتاه يدلونه، فلما دفنوه، غيبوا قبره، رحمه الله. وكانت ولايته اثنتي عشرة سنة إلا اثني عشر يوما. وقيل: ثمانية عشر يوما، وقيل: كانت خلافته إحدى عشرة سنة وأحد عشر شهرًا وأربعة عشر يومًا. وقيل: ثمانية عشر يومًا، واختلف في سنه حين قتل، فقيل: قتل وهو ابن ثمانين سنة، وقيل: ابن ثمان وثمانين، وقيل: ابن تسعين، وقيل: ابن ست وثمانين، وقيل: ابن اثنيتن وثمانين. وقيل: لما أُخرج ليدفن كانت بنته عائشة، معها مصباح في جرة، صاحت، فقال لها ابن الزبير، والله لئن

لم تسكتي لنضربنَّ الذي فيه عيناك، فسكتت فدفن. وروي عن كِنانة مولاة صفية بنت حُييّ بن أخطب أنها قالت: شهدت مقتل عثمان، فأخرج من الدار أمامي أربعة من شبان قريش، ملطخين بالدم محمولين، كانوا يدرؤون عن عثمان بن عفان، -رضي الله عنه-، الحسن بن علي، وعبد الله بن الزبير، ومحمد بن حاطب، ومروان بن الحكم. وروي عن أبي جعفر الأنصاري قال: دخلت مع المصريين على عثمان، فلما ضربوه خرجتُ اشْتدّ حتى ملأت فُروجي عدوًا، فدخلت المسجد، فإذا رجل جالس في نحو عشرة عليه عَمامة سوداء، فقال: ويحك، ما وراءَك؟ قلت: قد والله فُرغ من الرجل. فقال: تبًا لكم سائر الدهر، فنظرتُ فإذا هو عليّ. وروى سعيد المقْبَريّ عن أبي هُريرة قال: كنت محصورًا مع عثمان في الدار فَرُمي رجل منا، فقلت: يا أمير المؤمنين، الآن طاب الضرابُ، قَتَلوا رجلًا منا، قال: عزمت عليك يا أبا هريرة ألاّ رميت بسيفك، فإنما يُراد نفسي، وسأقي المؤمنين بنفسي اليوم. قال أبو هريرة: فرميت بسيفي، فلا أدري أين هو حتى الساعة. ثم ذكر البخاري الأثر الثاني المعلق بقوله: ورأى عبد الله بن عمر ويحيى بن سعيد ومالك ذلك جائزا. عُمر، كذا في جميع النسخ بضم العين وإسقاط الواو، وقوله: ذلك جائزًا، أي: المناولة والإِجازة على حد قوله تعالى: {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} أي ما ذكر من الفارض والبِكر، فأشار بذلك إلى المثنى. أما أثر يحيى بن سعيد ومالك، فقد أخرجه الحاكم في "علوم الحديث" من طريق إسماعيل بن أبي أُوَيْس، قال: سمعت خالي مالك بن أنس يقول: قال لي يحيى بن سعيد الأنصاري، لما أراد الخروج إلى العراق: التقط لي مئة حديث من حديث ابن شِهاب حتى أرويها عنك.

قال مالك: فكتبتها، ثم بعثتها إليه. ورواه الرَّامَهْرمزِّي من طريق ابن أبي أُوَيس أيضًا، عن مالك. أما يحيى بن سعيد، فقد مر في الأول من بدء الوحي، ومر الإِمام مالك في الثاني منه أيضًا. وأما عبد الله بن عمر المذكور فيحتمل أن يكون العُمري المَدنيّ، وجزم الكرمانيّ بذلك. وقد خرّج ابن حجر أثره في "تعليق التعليق". ويحتمل أن يكون ابن عمر، لما في كتاب الوصية لأبي القاسم بن مَنْده من طريق البخاري بسند له صحيح، إلى عبد الرحمن الحبلي أنه أتى عبد الله بكتاب فيه أحاديث. فقال: انظر في هذا الكتاب، فما عرفتَ منه اتركه، وما لم تعرفه امْحُه. فذكر الخبر، وهو أصل في عرض المناولة. وعبد الله بن عمر الذي ذكر ابن منده يحتمل أن يكون ابن عمر بن الخطاب فإن الحبلي سمع منه، ويحتمل أن يكون ابن عمرو بن العاص، فإن الحبلي مشهور بالرواية عنه، وعبد الله بن عمر بن الخطاب مر في الأثر الرابع من كتاب الإِيمان قبل ذكر حديث منه. ومر عبد الله بن عمرو بن العاص في الحديث الثالث منه. وأما العمري فهو عبد الله بن عمران بن عاصم بن عمر بن الخطاب أبو عبد الرحمن المدنيّ القرشىّ العدويّ، كان يكنى أبا القاسم، فتركها واكتنى أبا عبد الرحمن. قال أبو طلحة عن أحمد: لا بأس به، قد رُوي عنه، ولكن ليس مثل أخيه عُبيد الله، وقال أبو زرْعة الدمشقي، عن أحمد: كان يزيد في الأسانيد، ويخالف. وكان رجلًا صالحًا. وقال أبو حاتم: رأيت أحمد بن حنبل يحسن الثناء عليه. وقال أحمد: يروي عبد الله عن أخيه عُبيد الله، ولم يرو عبيد الله عن أخيه عبد الله شيئًا. كان عبد الله يُسأل عن الحديث في حياة أخيه فيقول: أمّا وأبو عثمان حيٌّ فلا. وقال ابن معين: صُوَيلح. وقال مرة: ليس به بأس، يكتبُ حديثه. وقال ابن المدينيّ: ضعيف. وقال عمرو بن علي: كان يحيى بن سعيد لا يحدث عنه. وكان عبد

الرحمن يحدث عنه. وقال يعقوب بن شَيْبة: ثقة صدوق، في حديثه اضطراب. وقال صالح جَزَرة: لين مختلط الحديث. وقال النّسائي: ضعيف الحديث. وقال ابن عدي: لا بأس به في رواياته، صدوق. وقال ابن سعد: كان كثير الحديث يُسْتضعَف، وقال أبو حاتم: وهو أحب إلى من عبد الله بن نافع، يكتب حديثه، ولا يحتج به، وقال العَجْليّ: لا بأس به، وقال ابن حِبان: كان ممن غلب عليه الصّلاح حتى غفل عن الضبط فاستحق الترك. وقال البخاريّ: ذاهب لا أروي عنه شيئاً. وقال أيضًا: كان يحيى بن سعيد يضعِّفه. وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالقويّ عندهم. وقال أحمد بنِ يُونس: لو رأيت هيأته لعرفت أنه ثقة. وقال المَرْوَزيّ: ذكره أحمد فلم يرضَهُ. وقال ابن عَمّار المُوصِليّ: لم يتركه أحد إلا يحيى ابن سعيد، وزعموا أنه أخذ كتب عُبيد الله فرواها، وأورد له يعقوب بن شَيْبة في مسنده حديثًا، فقال: هذا حديث حسن الإِسناد مدنيّ. وقال في موضع آخر: رجل صالح مذكور بالعلم والصلاح، وفي حديثه بعض الضعف والاضطراب، ويزيد في الأسانيد كثيرًا. وقال الخليلي: ثقة غير أن الحفّاظ لم يرضوا حفظه. وقال ابن معين فيه: إنه صُوَيلح، إنما حكاه عنه إسحاق الكَوْسج، وأما عثمان الدارميّ فقال: عن ابن معين: صالح ثقة. روى عن نافع وزيد بن أسْلم وسعيد المَقْبَري، وأخيه عُبيد الله بن عمر بن حَفْص، وحُميد الطويل، وسالم بن أبي النضر وغيرهم. وروى عنه ابنه عبد الرحمن وعبد الرحمن بن مهديّ واللّيْث بن سعد، وابن وَهْب، وعبد الرزاق وأبو قُتيبة مُسْلم بن قُتيبة، وعبد الله بن مَسْلَمَة القَعْنبيّ، وسعيد بن الحكم بن أبي مريم، وكامل بن طَلْحة الجُحْدُريّ. وقال ابن سعد: خرج مع محمد بن عبد الله بن حسن، فحبسه المنصور ثم خلاّه، توفي بالمدينة سنة إحدى أو اثنتين وسبعين ومئة، في خلافة هارون الرشيد، وقيل: مات سنة ثلاث وسبعين. ولنذكر هنا تعريف الحبلي تتميمًا للفائدة، لكونه هو الراوي للأثر عن

عبد الله، على احتمال، وهو عبد الله بن يزيد أبو عبد الرحمن الحُبْلِي المَعافِري. قال ابن معين: ثقة، وذكره ابن حِبان في الثقات. وقال ابن يونس: كان رجلًا صالحًا فاضلًا. وقال ابن سعد والعجليّ: ثقة. وقال أبو بكر المالكي في "تاريخ القيْروان": بعثه عمر بن عبد العزيز إلى إفريقية ليفقههم، فبث فيها علمًا كثيرًا. روى عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وعُقْبة بن عامر، وأبي ذرٍّ، وأبي أيّوب الأنصاري، وعُمارة بن شَبِيب. وروى عنه أبو هانيء حُميد بن هانىء، وأبو عَقيل زُهرة بن مَعْبد، وعُقبة بن مُسلم، وشُرحبيل بن شَريك، وعبد الرحمن بن زِياد، ويزيد بن عمرو المَعافِرِيّ، وغيرهم. مات بإفريقية سنة مئة، ودفن بباب تونس. وفي الستة عبد الله بن يزيد خلق، والحُبليّ في نسبه، بالضم على القياس، وبضمتين كجُهُنِيّ، وعلى الثاني اقتصر سيبويه، وقال: غير قياس. وقال السُّهَيْليّ: إن الضبط الأخير خطأ، وإنما أوقع من ضبطه فى الوهم، كونُ سيبويه ذكره مع جُذُمِي نسبة إلى جُذَيْمة، وإنما ذكره معه لكون كل منهما شاذًا، لا لكونه مثله في الوزن، نسبةٌ إلى حُبْلى، كبُشْرى، لقب سالم بن غَنْم بن عَوْف بن الخزرج، لقب به لعظم بطنه. من ولده بنو الحُبْلى بطن من الأنصار والمشهور بهذه النسبة هو هذا العالم. والمَعَافِريّ في نسبه نسبة إلى مَعافر، بفتح الميم، وهو بلد باليمن نزل فيه معافر بن أدد، أبو حي من هَمْدان، والميم زائدة. لا ينصرف في معرفة ولا في نكرة، لأنه جاء على مثال ما لا ينصرف من الجمع، وإلى أحدهما تنسب الثياب المَعافِريَّة. ويقال ثوب مَعَافِريّ، فتصرفه لأنك أدخلت عليه يَاء النسبة، ولم تكن في الواحد، وقال الأزهري: بُرْدٌ مَعافِريّ، منسوب إلى مَعَافر اليمن، ثم صار اسمًا لها بغير نسبة، فيقال: مَعَافر. وقال سيبويه. مَعافرُ بن مُرّ، فيما يزعمون، أخو تميم بن مُرّ، ونسب إلى الجمع لأن مَعَافر اسم لشيء واحد، كما تقول لرجل من بني كلاب: كلابيّ، فأما النَّسْب

إلى الجماعة، فإنما توقع النسب إلى الواحد، كالنسب في مساجد تقول مسجدي. والحديث المعلق هو قوله: واحتج بعضُ أهل الحجاز في المناولة بحديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، حيث كتب لأمير السرية كتابًا، وقال: "لا تقرأه حتى تبلغ مكان كذا وكذا"، فلما بلغ ذلك المكان، قرأه على الناس، وأخبرهم بأمر النبي -صلى الله عليه وسلم-. قوله: في المناولة، أي: في صحة المناولة، والسَّرِية، بفتح المهملة وكسر الراء، وتشديد الياء التحتية: القطعة من الجيش. وكانوا اثني عشر رجلا من المهاجرين. وقوله: حتى تبلغ مكان كذا وكذا، هكذا في حديث جُنْدُب، على الإِبهام. وفي رواية عُروة أنه قال: "إذا سرت يومين، فافتح الكتاب"، قال: ففتحه هناك، فإذا فيه "أن امضِ حتى تنزل نخلةَ، فتأتينا من أخبار قريش، ولا تَسْتكْرهنَّ أحدًا" قال في حديث جُنْدُب: فرجع رجلان، ومضى الباقون، فلَقُوا عمرو بن الحَضْرميّ، ومعه عيرٌ، أي: تجارة لقريش، فقتلوه، فكان أول مقتول من الكفار في الإِسلام. وذلك في أول يوم من رجب، وغنموا ما كان معهم، فكانت أول غنيمة في الإِسلام، فعاب عليهم المشركون ذلك، فأنزل الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة: 217] الآية. وكان مع ابن الحضرمي المقتول ثلاثة أُسر منهم اثنان عثمان بن عبد الله بن المُغيرة المخزومي، والحَكَم ابن كَيْسان المخزومي، وفر واحد، وهو نَوْفل بن عبد الله. وفي ذلك يقول عبد الله بن جَحْش على الصحيح، وقيل: أبو بكر الصديق: تعُدّون قتلًا في الحرام عظيمةٌ ... وأعظم منها لو يرى الرشد راشدُ صدُودُكم عمّا يقول محمدٌ ... وكفرٌ به والله راءٍ وشاهدُ وإخراجكم من مسجد الله أهله ... لئلا يرى لله في البيت ساجدُ فإنّا وإنْ عيرتمونا بقتله ... وأرْجَف بالإِسلام باغٍ وحاسدُ

سقَيْنا من ابن الحضرميّ رماحنا ... بنخلةَ، لما أوقد الحرب واقدُ دمًا، وابن عبد الله عثمان بيننا ... ينازعه غِل من الحقد عاقدُ وواقد هو ابن عبد الله التميمي، وهو القاتل لابن الحضرميّ. فأما الحَكَم بن كَيْسان، فأسلم وحَسُن إسلامه، وأقام عند النبي -صلى الله عليه وسلم-، حتى قتل يوم بئر مَعُونة شهيدًا. وأما عثمان، ففداه قومه، ولحق بمكة، ومات بها كافرًا، نسأل الله الكريم الحنّان المنّان العصمةَ من ذلك. ووجه الدلالة من هذا الحديث ظاهرة، فإنه ناوله الكتاب وأمره أن يقرأه على أصحابه، ليعملوا بما فيه، ففيه المناولة، ومعنى الكتابة. وتعقبه بعضهم بأن الحجة إنما وجبت به لعدم توهم التبديل والتغيير فيه، لعدالة الصحابة، بخلاف من بعدهم. حكاه البَيْهقيّ، قال في "الفتح": أقول: شرط قيام الحجة بالمكاتبة أن يكون الكتاب مختومًا، وحامله مؤتمنًا، والمكتوب إليه يعرف خط الشيخ، إلى غير ذلك من الشروط الدافعة لتوهم التغيير، كما مر. يعني أنه حينئذ يؤمن التغيير فيه، كما هو الواقع في حق الصحابيّ. ولم يذكر البخاريّ هذا الحديث موصولًا في كتابه، ووصله الطَّبرانيّ من حديث جُنْدُب البَجْليّ بإسناد حسن، وهو في سيرة ابن إسحاق مرسلًا، ورجاله ثقاتٌ عن عروة بن الزبير، وله شاهد من حديث ابن عباس عند الطَّبريّ في تفسيره. فبمجموع هذه الطرق يكون صحيحًا، والمراد بالبعض هنا، شيخ البخاريّ الحُمَيديّ. وقد مر في أول حديث من بدء الوحي. وأمير السرية هو عبد الله بن جَحْش بن رِياب، براء ثم تحتانية، ابن يَعْمُر بن صُبْرة بن مُرّة بن كثير بن غَنْم بن دَودَان بن أسد بن خُزَيْمة. أمه أُمَيْمة بنت عبد المطلب، وهو حليف لبني عبد شمس. وقيل لحرب بن أُمية، أسلم قبل دخول النبي -صلى الله عليه وسلم-، دار الأرقم، وكان هو وأخوه أبو أحمد

عَبد بن جَحْش من المهاجرين الأولين ممن هاجر الهجرتين، وأخوهما عُبيد الله بن جَحْش تنصَّر بأرض الحبشة، ومات بها نصرانيًّا. وبانت منه امرأته أُم حبيبة بنت أبي سُفيان، فتزوجها النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وأختهم زينب بنت جحش، زوج النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأم حبيبة وحَمْنَة بنتي جحش، وكان عبد الله يعرف بالمُجَدَّع في الله، لأنه مُثِّل به يوم أُحد. قُطع أنفه وأذنه. قتله أبو الحكم الأخنس بن شُرَيق الثقفيّ، وهو يومئذ ابن نيّفٍ وأربعين سنة. ودفن هو وحمزة، رضي الله عنهما، في قبر واحد. وولي النبي -صلى الله عليه وسلم-، تركته فاشترى لابنه مالا بخَيْبَر. وسبب تجديعه، ما رُوي من طريق إسحاق بن سعد بن أبي وقَّاص عن أبيه، أن عبد الله بن جحش قال له يوم أُحد: ألا تأتي فندعوا الله، فَخَليا في ناجية، فدعى سعد، فقال: يا ربِّ إذا لقيتُ العدوّ غدًا فلَقِّني رجلًا شديدًا بأسُه، شديدًا حَردُه، أقاتله فيك، ويقاتلني، ثم ارزقني الظَّفر حتى أقتله، وآخذ سلبه، فأمَّن عبد الله بن جحش، ثم قال: اللهم ارزقني غدا رجلًا شديدًا بأسه شديدًا حرْدُه، أقاتله فيك، ويقاتلني حتى يقتلني، فيأخذني فيجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتك، قلت: يا عبد الله فيم جُدع أنفك وأذنك؟ فأقول: فيك، وفي رسولك، فتقول: صدقت. قال سعد: كانت دعوة عبد الله خيرًا من دعوتي، لقد رأيته آخر النهار، وإن أذنه وأنفه معلقان جميعًا في خيط. وعن الشعبيّ أنه قال: أول لواء عقده النبي -صلى الله عليه وسلم-، لعبد الله بن جَحْش، وقيل: لواء عُبيدة بن الحارث، وقيل: لواء حمزة، وهو أول من سن الخمس من الغنيمة للنبي -صلى الله عليه وسلم-، من قبل أن يفرض الله تعالى الخمس، ثم أنزل الله تعالى {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] الآية. وكان قيل قبل ذلك في الجاهلية المِرْباع. وروي عن سعد بن أبي وقّاص أن النبي -صلى الله عليه وسلم-، خطبهم وقال: "لأبعثن عليكم رجلًا ليس بخيركم، ولكنه أصبركم للجوع والعطش"، فبعث

عبد الله بن جحش. وذكر الزبير أن عبد الله بن جحش انقطع سيفه يوم أحد، فأعطاه النبي -صلى الله عليه وسلم-، عُرْجُونًا، فصار في يده سيفًا، يقال: إن قائمته منه، وكان يسمى العُرْجُون، ولم يزل يُتناول حتى بيع من بغاء التُّركيّ بمئتي دينار، ورُوي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: استشار النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في أُسارى بدرٍ أبا بكر وعمر وعبد الله بن جحش. ورُوي عن الحسن بن زيد أنه قال: قاتل الله ابن هِشام ما أجرأه على ربه، دخلت عليه يومًا مع أبي في هذه الدار، يعني دار مروان، وقد أمره هشام أن يفرض للناس، فدخل عليه ابن لعبد الله بن جحش المُجدّع في الله، فانتسب له، وسأله الفريضة، فلم يجبه بشيء، ولو كان أحد يُرفع إلى السماء كان ينبغي أن يرفع بمكان أبيه، ثم دخل عليه ابنُ تِجْراة، وهم أهل بيت من كِندة، وقعوا بمكة، فقال: ابن أبي تجراة صاحب عمك عُمارة بن الوليد بن المُغيرة في سفره، فقال له: لينفَعَنَّك ذلك اليوم، ففرض له، ولأهل بيته. روى عن عبد الله بن جحش سعدُ بن أبي وقّاص، وروى عنه سعيد بن المُسيّب ولم يسمع منه. وفي الصحابة عبد الله بن جحش آخرُ، جاء ذكره في حديث ضعيف، ووصف بكونه أعمى.

الحديث السادس

الحديث السادس حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِى إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَعَثَ بِكِتَابِهِ رَجُلاً، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ الْبَحْرَيْنِ، فَدَفَعَهُ عَظِيمُ الْبَحْرَيْنِ إِلَى كِسْرَى، فَلَمَّا قَرَأَهُ مَزَّقَهُ. فَحَسِبْتُ أَنَّ ابْنَ الْمُسَيَّبِ قَالَ فَدَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ. قوله: بعث بكتابه رجلًا، هو عبد الله بن حُذافة السَّهميّ، كما صرح ابن المصنِّف في هذا الحديث في المغازي. وكون المرسَل بالكتاب عبد الله بن حُذافة هو المعتمَدُ، وما رواه عمر بن شَبّة من أنه خُنَيْس بن حُذافة غلط. فإن خُنيسًا مات بأُحُد من جراحات أصابته، فتأيَّمَتْ منه حفصةُ. وبعثُ الرسل كان بعد الهدنة سنة سبع. وقوله: إلى عظيم البحرين، هو المُنذر بن سَاوى الآتي تعريفه، وعبر بالعظيم دون ملك، لأنه لا ملك ولا سلطنة لكافر، والبحرين بالتثنية بلد بين البصرة وعُمان. وقوله: فدفعه إلى كسرى، عطف على مقدر، أي فذهب إلى عظيم البحرين، ودفعه إليه ثم بعثه العظيم إلى كسرى، ويحتمل أن يكون المنذر توجَّه بنفسه، فلا يحتاج إلى أن يكون بعثه مع أحد. وكِسرى، بكسر الكاف، أفصح من فتحها، لقب لكل من مَلَك الفُرس، كما أن قيصر لقب لكل من مَلَك الروم. وهو أبْرَويز بن هُرْمُز بن أنو شروان. وليس هو أنو شروان.

وقوله: فلما قرأه، بالهاء، وللحموي والمستملي "قرأ" بحذفها، أي: قرأ كسرى الكتاب، وفيه مجاز، فإن كسرى لم يقرأه بنفسه، وإنما قرىء عليه. وقوله: فحسبت ابن المُسيّب، قال: القائل هو الزُّهْريّ، وهو موصول بالإِسناد المذكور ووقع في جميع الطرق مرسلًا، ويحتمل أن يكون ابن المُسيّب سمعه من عبد الله بن حُذافة صاحب القصة، فإن ابن سعد ذكر من حديثه أنه قال: "فقرأ عليه كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأخذه، ومزقه". وابن المُسيّب هو سعيد، وقد مر في التاسع عشر من الإِيمان. وقوله: فدعا عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أن يمزَّقوا كلَّ مُمَزَّق، بفتح الزاي في الكلمتين، أي: أن يمزقوا غاية التمزيق، فسلط الله على كسرى ابنه شِيْرَوَيه، فقتله بأن مزَّق بطنه، سنة سبع، فتمزق ملكه كل ممزق، وزال من جميع الأرض، واضمحل بدعوته -صلى الله عليه وسلم-. وفي حديث عبد الله بن حُذافة: فلما بلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهمَّ مزِّق ملكه". وكتب إلى باذان عامِلَه على اليمن: "ابعث من عندك رجلين إلى هذا الرجل الذي بالحجاز". فكتب باذانُ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "أبلغا صاحبكما أن ربي قتل ربه في هذه الليلة"، قال: وكان ذلك ليلة الثلاثاء لعشر مضين من جُمادى الأولى سنة سبع، وإن الله سلط عليه ابنه شِيروَيه، فقتله. وعن الزُّهريّ قال: بَلَغني أن كسرى كتب إلى باذان: بلغني أن رجلًا من قريش يزعُمُ أنه نبيّ، فسِرْ إليه فإن تاب، وإلا ابعث برأسه. فذكر القصة، قال: فلما بلغ باذانُ، أسلم هو ومن معه من الفرس. وكونُ بعثِ عبد الله بن حذافة كان سنة سبع، في زمن الهدنة، هو الذي جزم به ابن سعد والواقدي، وصنيع البخاري في المغازي يقتضي أنه كان سنة تسع، لأنه ذكره بعد غزوة تبوك.

رجاله ستة

ابن العاص إلى جَيْفَر وعبّاد ابني الجُلَندي بعُمان، ودَحْية إلى قيْصر، وشُجاع بن وَهب إلى أبي شَمِر الغَسّانيّ، وعمرو بن أُميّة إلى النَّجاشي، فرجعوا جميعًا قبل وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، غير عمرو بن العاص. وزاد أصحاب السير أنه بعث المهاجرَ بن أبي أُمية بن الحارث بن عَبد كَلَال، وجَرِيرًا إلى ذي الكُلاَع، والسائبَ إلى مُسَيْلَمة، وحاطِب بن أبي بلتعة إلى المقوقس. وفي حديث أنس الذي أشرت إليه عند مسلم، أن النجاشيّ، الذي بُعث إليه مع هؤلاء، غير النجاشي الذي أسلم. ووجه دلالة هذا الحديث على المكاتبة ظاهر، ويمكن أن يُستدل به على المناولة من حيث أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، ناول الكتاب لرسوله، وأمره أن يخبر عظيم البحرين، بأن هذا كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإن لم يكن سمع ما فيه ولا قرأه. رجاله ستة: وفيه ذكر رجل مبهم الأول إسماعيل بن عبد الله، وهو ابن أبي أُويس، وقد مر في الخامس عشر من كتاب الإِيمان ومر إبراهيم بن سعد في السادس عشر منه أيضًا. ومر صالح بن كَيْسان في الأخير من الوحي، ومر ابن شهاب الزُّهريّ في الثالث منه أيضًا. ومر عُبيد الله بن عبد الله بن عُتْبة بن مسعود في السادس منه أيضًا، ومر عبد الله بن عبّاس في الخامس منه أيضًا. والرجل الذي أُرسل بالكتاب قد مرّ أنه عبد الله بن حُذافة، بضم الحاء، ابن قيس بن عَديّ بن سَعد، بفتح السين، ابن سَهْم بن عَمرو بن هُصَيْص بن كَعب بن لُؤَيّ أبو حُذافة السَّهميّ. وأمه بنت حَرْثان من بني الحارث بن عبد مَنَاة وهو أحد السابقين الأولين في الإِسلام، هاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية مع أخيه قيس بن حذافة، في قول ابن إسحاق والواقديّ، وهو أخو أبي الأخْنس بن حذافة، وخُنَيْس بن حذافة، زوج

حَفْصة. أصابته جراحات بأحد فمات منها، وخلَف عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يقال إنه شهد بدرًا، ولم يذكره ابن إسحاق في البدريِّين، وهو القائل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حين قال: "سَلُوني عمّا شئتم": من أبي؟ قال: أبوك حُذافة بن قيس. فقالت له أمه: ما سمعت بابن أعقّ منك، أمنت أن تكون أُمك قارفَتْ ما تقارِف نساءُ الجاهلية، فتفضحها على أعين الناس؟ فقال: والله، لو ألحقني بعبد أسود للحقت به. وكانت فيه دعابة معروفة، ومن دُعابته ما رُوي أنه حل حزام راحلة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، في بعض أسفاره، حتى كاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقع لضحكه. ومن دعابته أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أمَّرَه على سَرِيَّة، فأمرهم أن يجمعوا حطبًا ويوقدوا نارًا، فلما أوقدوها أمرهم بالتَقَحُّمَ فيها، فأبَوا، فقال لهم: ألم يأمركم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بطاعتي؟ وقال: "من أطاع أميري فقد أطاعني"؟ فقالوا: ما آمنا بالله واتبعنا رسوله، إلا لننجو من النار، فصوّب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعلهم، وقال: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق". قال الله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}. ومن مناقبه ما رُوي عن أبي رافع أن عُمَر وجه جيشًا إلى الروم، وفيهم عبد الله بن حُذَافة، فأسروه، فقال له ملك الروم: تَنَصَّر أشْرِكْكَ في مُلكي، فأبى، فأمر به، فصُلِب، وأمر برميه بالسهام فلم يجزع، فأُنزل، وأُمر بقدر فصب فيها الماء، وأُغلي، وأمر بإلقاء أسيرٍ فيها، فإذا عظامه تلوح، فأمر بإلقائه إن لم يتنصَّر، فلما ذهبوا به، بكى. قال: رُدّوه. قال: لم بكيتَ؟ قال: تمنيت أن لي مئة نفس تلقى هكذا في الله، فعجب وقال له: قَبّل رأسي، وأنا أخلّي عنك، قال: لا، قال: قبل رأسي وأنا أطلقك ومن معك من المسلمين، قال: نعم، فقبل رأسه ففعل، وأطلق من معه، وهم ثمانون أسيرًا، فقدم بهم على عمر، فقال: حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله، وأنا أبدأ، ففعلوا. وكان الصحابة يقولون: قَبّلْتَ رأس علج، فيقول: أطلق الله بتلك القبلة ثمانين أسيرًا من المسلمين.

له أحاديث انفرد مسلمٌ بحديثٍ منها، ومن حديثه ما رواه الزُّهريّ عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، أن عبد الله بن حُذافة صلى فجهر في صلاته، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ناجِ ربَّك بقراءتك يا ابن حُذافة، ولا تسمعني واسمعْ ربك". روى عنه من المدنيين مسعود بن الحَكَم، وأبو سلَمة بن عبد الرحمن. وسليمان بن يَسَار، وروى عنه من الكوفيين أبو وائل. مات في خلافة عُثمان، -رضي الله عنه-، بمصرَ، ودفن في مقبرتها. وليس في الصحابة ولا في الستة عبد الله بن حُذافة سواه. والسَّهميُّ في نسبه نسبة إلى جده المارّ سَهْم بن عَمرو أبي بطن من قُريش. وفي باهِلَة بنو أسْهم ابن عمرو بن ثَعْلبة بن غَنْم بن قُتَيْبة. وعظيم البحرين، قد مر أن المراد به المنذر بن ساوى بن الأخْنس بن بَيَان بن عمرو بن عبد الله بن زيد بن عبد الله بن دَارِم التَّميميّ الدّارميّ. وزعم غير الكلبيّ أنه من عَبد القيس. وذكر الرِّشاطيُّ أن السبب في ذلك، أنه يقال له العبديّ، لأنه من ولد عبد الله بن دَارِم. فظن بعض الناس أنه من ولد عبد القيس. وذُكر أنه قدم في الوفد على النبي -صلى الله عليه وسلم-. وهو في مسند ابن رَاهَوَيه عن سليمان بن نافع، قال: قال لي أبي: وَفَدَ المنذر بن ساوى من البحرين، ومعه أناس، وأنا غُليم أعقل، أمسك جمالهم، فذهبوا بسلاحهم، فسلموا على النبي -صلى الله عليه وسلم-، ووضع المنذر سلاحه، ولبس ثيابًا كانت معه، ومسح لحيته بدُهن، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأنا مع الجمال أنظر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال المنذر: قال لي: رأيت منك ما لم أر من أصحابك. فقلت: أشيءٌ جُبِلْتُ عليه أم أحدثته؟ قال: لا بل جُبلت عليه. فلما أسلموا، قال النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "أسلمت الناس كَرْها، وأسلمتْ عبد القيس طوعًا". والأكثر على أنه لم يكن في الوفد، وإنما كتب معهم بإسلامه، وكان عامل البحرين، وكتب إليه النبي -صلى الله عليه وسلم-، مع العلاء بن الحَضْرميّ قبل الفتح،

لطائف إسناده

فأسلم. وزاد الواقديّ: ثم استقدم النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-، العلاء بن الحضرميّ، فاستخلف المنذر بن ساوى مكانه، وأخرج الطَّبرانيّ من حديث عبد الله ابن مسعود، قال: كتب النبي -صلى الله عليه وسلم-، إلى المنذر بن ساوى "من صلّى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلكم المسلم، له ذمة الله ورسوله". وروى ابن مَنْده من طريق زيد بن أسلم، عن المنذر بن ساوى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كتب إليه أن افْرض على كل رجل له أرض أربعة دراهم وعباءة". مات يقرب وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وحضره عمرو بن العاص، فقال له: كم جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- للميت من ماله عند موته؟ فقال: الثلث، قال: فما ترى أن أصنع في ثلثيّ؟ قال: إن شئت قسمته في سبيل الله، وإن شئت جعلت غلته تجري عليك بعدك، على من شئت، قال: ما أُحب أن أجعل شيئًا من مالي كالسائبة ولكني أقسمه. وليس في الصحابة المنذر بن ساوى سواه، وأما المنذر فجماعة، وليس له ذكر في الستة. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث بالجمع والإِفراد والعنعنة والإخبار، ورُواته كلهم مدنيون. ومنها أن فيه رواية تابعي عن تابعي، وهذا الحديث أخرجه البخاري هنا، وأخرجه في المغازي عن إسحاق بن إبراهيم، وفي خبر الواحد عن يحيى بن بَكير، وفي الجهاد عن عبد الله بن يوسف والنّسائيّ في السِّير عن أبي الطاهر بن السَّرْح، وفي العلم عن محمد ابن إسماعيل بن إبراهيم. وهذا الحديث من أفراد البخاري عن مسلم.

الحديث السابع

الحديث السابع حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَتَبَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- كِتَابًا -أَوْ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ- فَقِيلَ لَهُ إِنَّهُمْ لاَ يَقْرَءُونَ كِتَابًا إِلاَّ مَخْتُومًا. فَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ نَقْشُهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِهِ فِى يَدِهِ. فَقُلْتُ لِقَتَادَةَ: مَنْ قَالَ نَقْشُهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ أَنَسٌ. قوله: كتب النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- كتابًا، نسبةُ الكتابة إليه -عليه الصلاة والسلام- مجازية، أي: كتب الكاتب بأمره. وكتابه كان إلى العجم أو إلى الروم، كما صرح بهما المؤلف في كتاب اللباس. وقوله: أو أراد أن يكتب، أي: أراد الكتابة، فأن مصدرية، وهو شك من الراوي أنس. وقوله: لا يقرؤون كتابًا إلا مختومًا، أي: خوفًا من كشف أسرارهم، ومختومًا منصوبٌ على البدل، أي بدل البعض من الكل، لأنه استثناء متصلٌ من كلام غير موجَب. وما في القَسْطلانيّ تبعًا للعينيّ غير صحيح. وقوله: نَقْشُه "محمد رسول الله"، بفتح النون وسكون القاف، مبتدأ خبره الجملة بعده، والرابط كون الخبر عَيْنُ المبتدأ، كأنه قيل: نَقْشُه هذا المذكور. وقوله: كأني أنظر إلى بياضه في يده، في يده حال، وهذا من باب إطلاق الكل وإرادة الجزء، لأن الخاتمَ ليس في اليد كلها، بل في أصبعها، وفي القلب، لأن الأصبع في الخاتم، لا الخاتم في الأصبع، وهو نحو قولهم: عرضتُ الناقة على الحوض. قلت: ما ذكر من القلب جارٍ على أن المراد ببياضِه نفسُ الخاتَم؛ ويحتمل عندي، وهو الظاهر، أن المراد ببياضه بريقُ الخاتم في يده، عليه

الصلاة والسلام، لا نَفْسُ الخاتم، فلا يكون هنا قلب. ويدل على هذا المعنى ما في الرواية الأخرى من قوله: "فكأني أنظر إلى وَبيصِ خاتَمِه" والوَبيصُ كالبَريق، وزنًا ومعنى. وفي رواية بلفظ "بريقه" نصًا. والله تعالى أعلم. ويعرف من قوله: "إلا مختومًا" فائدة إيراده الحديث في هذا الباب، لينبه على أن شرط العمل بالمكاتبة أن يكون الكتاب مختوما ليحصل الأمن من تَوَهَّم تغييره، لكن قد يستغنى عن خَتمه، إذا كان الحامل عدْلًا مؤتمنًا. وقد جزم أبو الفتح اليَعْمُري بأن اتخاذ الخاتم كان في السنة السابعة، وجزم غيره بأنه كان في السادسة، ويجمع بأنه كان في أواخر السادسة وأوائل السابعة، لأنه إنما اتخذه عند إرادته مكاتبة الملوك. وكان إرساله إلى الملوك في مدة الهدنة كما مر، وكانت في ذي القعدة سنة ست، ورجع إلى المدينة في ذي الحجة، ووجه الرسل في المحرم من السابعة. وكان اتخاذه الخاتَم قبل إرساله الرسل إلى الملوك. وقوله في هذا الحديث نقْشُهُ "محمد رسول الله"، في حديث أنس أيضًا عند المصنف في كتاب اللباس. وكان نقش الخاتم ثلاثة أسطر: محمد سطر، ورسول سطر، والله سطر. ولك أن تقرأ محمد بالتنوين، ورسول بالتنوين وعدمه، والله بالرفع والجر. قال ابن بطّال: ليس كون نقش الخاتم ثلاثة أسطر أو سطرين أفضل من كونه سطرًا واحدًا، قال في "الفتح": يظهر أنه إذا كان سطرًا واحدًا يكون الفص مستطيلًا، لضرورة كثرة الأحرف، فإذا تعددت الأسطر، أمكن كونه مربعًا أو مستديرًا، وكل منهما أولى من المستطيل. وظاهر الحديث أنه لم تكن فيه زيادة على ذلك، لكن أخرج أبو الشيخ في أخلاق النبي -صلى الله عليه وسلم-، عن أنس قال: كان فصّ خاتم النبي -صلى الله عليه وسلم-، حَبَشيًا مكتوبًا عليه "لا إله إلا الله، محمد رسول الله" وفي سنده عُرْعُرة بن البِرِنْد،

بكسر الموحدة والراء بعدها نون ساكنة ثم دال، وقد ضعّفه ابن المَدينيّ. وزيادته هذه شاذة. وظاهره أيضًا أنه كان على هذا الترتيب، لكن لم تكن كتابته على السياق العاديّ فإن ضرورة الاحتياج إلى أن يختم به تقتضي أن تكون الأحرف المنقوشة مقلوبة، ليخرج الختم مستويًا، وأما قول بعض الشيوخ: إن كتابته كانت من أسفل إلى فوق، يعني أن الجلالة في أعلى الأسطر الثلاثة، ومحمد في أسفلها، فلم أر التصريح بذلك في شيء من الأحاديث، بل رواية الإسماعيلي يخالف ظاهرها ذلك. فإنه قال فيها: محمد سطر والسطر الثاني رسول، والسطر الثالث الله. قاله في "الفتح". وفي حديث أنس عند المصنف في كتاب اللباس أيضًا، "اتخذتُ خاتمًا من وَرِقٍ، ونقشت فيه "محمد رسول الله" فلا ينقش على نقشه. والحكمة في النهي عن أن ينقش على نقش خاتمه، هي أنه إنما نقش فيه ذلك ليختم به كتبه إلى الملوك، فلو نقش على نقشه لدخلت المفسدة، وحصل الخلل. وفي الحديث جواز استعمال الرجال لخواتيم الفضة. قال عِياض: أجمع العلماء على جواز اتخاذ الخواتم من الوَرِق، أي الفضة للرجال، إلا ما رُوي عن بعض أهل الشام من كراهة لبسه إلا الذي له سُلطان، وهو شاذّ مردود، ومن الدليل على عدم كراهته لغير ذي السلطنة، حديثُ أنس عند البخاريّ أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، لما ألقى خاتَمه، ألقى الناس خواتيمهم، فإنه يدل على أنه كان يلْبَس الخاتم في العهد النبوي من ليس ذا سلطان، فإن قيل: هو منسوخٌ، قلنا: الذي نسخ منه لُبْس خاتَم الذهب، أو لُبس خاتم الفضة المنقوش عليه نقش خاتم النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما يأتي تقريره. وقد ورد عن جماعة من الصحابة والتابعين، أنهم كان يلبسون الخواتم

ممن ليس له سلطان، وأما ما أخرجه أحمد وأبو داود والنَّسائي عن أبي رَيْحانة قال: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، عن لُبْس الخاتم إلا لذي سُلطان" فقد سُئل عنه مالك، فضعّفه، وقال: سأل صَدَقَة بنُ يَسَار سعيد بن المُسيّب، فقال: الْبَس الخاتَم، وأخبر الناس أني قد أفتيتك. ويمكن أن يكون المراد بالسلطان في الحديث، من له سلطنة على شيء ما يحتاج إلى الختم عليه، لا السلطان الأكبر خاصة. والمراد بالخاتم ما يُخْتَم به فيكون لُبْسُه عبثًا، وأما من لبس الخاتم الذي لا يختم به، وكان من الفضة للزينة، فلا يدخل في النهي، وعلى ذلك يحمل حال من لبسه، ويؤيده ما ورد من صفة نَقْش خواتم بعض من كان يَلْبس الخواتم، مما يدل على أنها لم تكن بصفة ما يختم به. فقد أخرج ابن أبي شَيْبة في المصنف عن ابن عمر أنه نقش على خاتمه "عبد الله بن عمر" وكذا القاسم بن محمد. وقال ابن بطّال: كان مالك يقول: من شأن الخلفاء والقضاة نقشُ أسمائهم في خواتيمهم. وهذا والذي قبله يدلان على المعنى الأول من أن المراد من له احتياج إلى الختم. ويدل على المعنى الثاني الذي قصد الزينة لا الختم به ما أخرجه ابن أبي شَيْبة عن حُذيفة وأبي عُبَيدة أنه كان نقش كل واحد منهما "الحمد لله". وعن علي "الله المَلك" وعن إبراهيم النخعي "بالله" وعن مسروق "بسم الله" وعن أبي جعفر الباقِر "العزة لله". وعن الحسن والحسين لا بأس بنقش ذكر الله على الخاتم، قال النَّوويّ: وهو قول الجمهور. ونقل عن ابن سيرين وبعض أهل العلم كراهته. وقد أخرج ابن أبي شَيْبة بسند صحيح عن ابن سِيرين أنه لم يكن يرى بأسًا أن يكتب الرجل في خاتمه "حسبي الله" ونحوها. وهذا يدل على أن الكراهة عنه لم تثبت، ويمكن الجمع بأن الكراهة حيث يخاف عليه حمله للجُنُب والحائض، والاستنجاء بالكف التي هو فيها، والجواز حيث حصل الأمن من ذلك، فلا تكون الكراهة لذلك بل من جهة ما يعرض لذلك.

وحكى الخَطّابي أنه يكره للنساء التختم بالفضة، لأنه من زي الرجال. ورُد عليه ذلك. قال النَّوويّ: الصواب أنهن لا يكره لهنّ ذلك. وقول الخطّابي ضعيف، أو باطل لا أصل له. وما مر من الإِجماع على جواز خاتَم الفضة للرجال، لا يعارضه ما في الصحيحين من رواية الزُّهريّ عن أنس من أنه رأى في يد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خاتمًا من وَرِق يومًا واحدًا، ثم إن الناس اصطنعوا الخواتيم من وَرِق ولبسوها، فطرح رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، خاتَمه فطرح الناس خواتيمهم، لِما أجاب العلماء عن هذا الحديث، فقد قال القاضي عِياض: أجمع أهل الحديث أن هذا وَهْمٌ من ابن شِهاب من خاتم الذهب إلى خاتم الفضة، والمعروف من رواية أنس من غير طريق ابن شهاب اتخاذُ النبي -صلى الله عليه وسلم-، خاتم فضة، وأنه لم يطْرحه وإنما طرح خاتَم الذهب، وأجاب عنه غيره بأربعة أجوبة. الأول: قال الإِسماعيلي: إن كان هذا الخبر محفوظًا فينبغي أن يكون تأويله أنه اتخذ خاتمًا من وَرِق على لون من الألوان، وكره أن يتخذ غيره مثله، فلما اتخذوا رمى به حتى رموا به، ثم اتخذ بعد ذلك ما اتخذه، ونقش عليه ما نقش ليختم به. ثانيها: وهو للإِسماعيلي أيضًا، هو أنه اتخذه زينة، فلما تبعه الناس فيه، رمى به، فلما احتاج إلى الختم اتخذه ليختم به، وبهذا جَزم المُحبُّ الطَّبريّ. قال: والظاهر من حالهم أنهم اتخذوها للزينة، فطرح خاتمه ليطرحوا، ثم لبسه بعد ذلك للحاجة إلى الختم به، واستمر ذلك. ثالثها: هو أنه اتخذ خاتم الذهب للزينة فلما تتابع الناس فيه، وافق وقوعَ تحريمه، فطرحه، ولذلك قال: "لا ألْبسه أبدًا" وطرح الناس خواتيمهم تبعًا له. وصرح بالنهي عن لُبْس خاتم الذهب، كما رواه البخاريّ وغيره عن البَراء بن عازب وأبي هريرة وابن عُمر، ثم احتاج إلى الخاتم لأجل الختم به، فاتخذه من فِضة، ونقش فيه اسمه الكريم، فتبعه الناس

في ذلك فرمى به حتى رمى الناس تلك الخواتيم المنقوشة على اسمه، لئلا تفوت مصلحة نقش اسمه بوقوع الاشتراك، فلما عَدِمت خواتيمهم برميها، رجع إلى خاتمه الخاصّ به، فصار يختم به، ويشير إلى ذلك ما في رواية أنس عند المؤلف في كتاب اللباس في باب اتخاذ الخاتم في الخِنْصر، فإنه قال فيها: "إنا اتخذنا خاتمًا ونقشنا عليه نقشًا، فلا ينقُش عليه أحد" فلعل بعض من لم يبلغه النَّهي، أو بعض من بلغه ممن لم يرسخ في قلبه الإيمان، من منافق ونحوه، اتخذوا ونقشوا، فوقع ما وقع، ويكون طرحه له غضبا ممن تشبه بهْ في ذلك النقش. وهذا الجواب ارتضاه في "الفتح". رابعها: قال ابن بطّال: خالف ابن شِهاب رواية قَتادة وثابت وعبد العزيز بن صُهيب في كون الخاتم الفضة استقر في يد النبي -صلى الله عليه وسلم-، يختم به، وختم به الخلفاء بعده، فوجب الحكم للجماعة، وإن وهم الزُّهريّ فيه، لكن قال المُهلَّب: قد يمكن أن يتأول لابن شهاب ما ينفي عنه الوهم، وإن كان الوهم أظهر، وذلك أنه يحتمل أن يكون لما عزم على اطراح خاتم الذهب، اصطنع خاتم الفضة، بدليل أنه كان لا يستغني عن الختم على الكتب إلى الملوك، وغيرهم من أمراء السّرايا والعمال، فلما لبس خاتم الفضة، أراد الناس أن يصطنعوا مثله، فطرح عند ذلك خاتم الذهب، فطرح الناس خواتيمهم الذهب. وقد نقل عِياض نحوا من قول ابن بطّال قائلًا: قال بعضهم: يمكن الجمع بأنه لما عزم على تحريم خاتم الذهب اتخذ خاتم الفضة، فلما لبسه أراه الناس في ذلك اليوم ليعملوا إباحته، ثم طرح خاتم الذهب، وأعلمهم تحريمه، فطرح الناس خواتيمهم من الذهب، فيكون قوله: "فطرح خاتمه وطرحوا خواتيمهم التي من الذهب"، وحاصله أنه جعل الموصوف في قوله "فطرح خاتمه فطرحوا خواتيمهم" خَاتم الذهب، وإن لم يجر له ذكر. قال عِياض: وهذا يسوِّغ أنْ لو جاءت الرواية مجملة ثم أشار إلى أن رواية ابن شهاب لا تحتمل هذا التأويل، وارتضى النَّوويّ هذا التأويل،

وقال: إن هذا هو التأويل الصحيح، وليس في الحديث ما يمنعه. قال: وأما قوله "فصنع الناس الخواتيم من الوَرِق فلبسوها" ثم قال: "فطرح خاتمه فطرحوا خواتيمهم"، فيحتمل أنهم لما علموا أنه -صلى الله عليه وسلم-، يريد أن يصطنع لنفسه خاتم فضة، اصطنعوا لأنفسهم خواتيم الفضة، وبقيت معهم خواتيم الذهب، كما بقي عنده خاتمه إلى أن استبدل خاتم الفضة، وطرح خاتم الذهب، فاستبدلوا وطرحوا. وأيَّده الكَرَمانيّ بأنه ليس في الحديث أن الخاتم المطروح كان من وَرِق، بل هو مطلق، فيحمل على خاتم الذهب أوعلى ما نُقش عليه نقش خاتمه. قال: ومهما أمكن الجمع، لا يجوز توهيم الرّاوي. هذا محصل ما قيل من الأجوبة عن هذا الحديث وما فيها شيء ينشرح له الصدر. وأما التختم بالذهب، فقد نُقِل الإجماع على إباحته للنساء، وحرمته للرجال، أما إباحته للنساء فلِما أخرجه أحمد وأصحاب السنن، وصححه ابن حِبان والحاكم عن عليّ، رضي الله تعالى عنه، أن النّبي -صلى الله عليه وسلم-، أخذ حريرًا وذهبًا، فقال: "هذان حرامان على ذكور أُمتي حلٌّ لإِناثهم" وأخرجه أبو داود والنَّسائي، وصححه التِّرمذيّ والحاكم من حديث أبي موسى، وأعله ابن حِبان بالانقطاعِ قائلًا: إن سعيد بن أبي هند لم يسمع من أبي موسى. وأخرج أحمد والطَّحاويّ وصححه من حديث مَسْلمة بن مَخْلد، أنه قال لعُقْبة بن عامر: "قمْ فحدثْ بما سمعت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "سمعته يقول: الذهب والحرير حرام على ذكور أمتي حلٌّ لإِناثهم". وأخرج ابن أبي شَيْبة من حديث عائشة أن النجاشي أهدى للنبي -صلى الله عليه وسلم-، حِلْية فيها خَاتم من ذهب، فأخذه، وإنه لمُعْرضٌ عنه، ثم دعا أُمامة بنت ابنته، فقال: "تحلَّي به". وأخرج ابن سعد من طريق عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب، قال: سألت القاسم بن محمد، فقال: لقد رأيت، والله، عائشة تلبسُ المُعَصفر، وتلبس خواتيم الذهب، وأخرجه البخاري معلقًا. قال ابن أبي جمرة: إن

قلنا: إن تخصيص النهي للرجال لحكمة، فالذي يظهر، أنه سبحانه وتعالى، علم قلة صبرهنّ عن التَّزيُّن، فلَطَف بهنّ في إباحته، ولأن تزيّنهنّ غالبًا إنما هو للأزواج. وقد ورد أن حُسْن التبعل من الإِيمان. قال: ويستنبط من هذا أن الفحل لا يصلح له أن يبالغ في استعمال الملذوذات لكون ذلك من صفات الإِناث. وأما تحريمه على الرجال، فلما مر عن البَرَاء وأبي هُريرة وابن عمر عند البخاري وغيره، أنه نهى عن خاتَم الذهب، قال ابن دَقيق العيد: وظاهر النهي التحريم، وهو قول الأئمة، واستقر الأمر عليه، ولِما مر عن أصحاب السنن وغيرهم، من قوله، عليه الصلاة والسلام: "هذان حرام على ذكور أُمتي" ولما رواه يونس عن الزُّهريّ عن أبي إدريس، عن رجل له صحبة، قال: "جلس رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفي يده خاتم من ذهب، فقرع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يده بقضيب فقال: "الق هذا". ولما أخرجه أحمد والطَّبرانيّ عن عبد الله بن عمر، ورفعه: "من مات من أمتي وهو يلبس الذهب حرّم الله عليه ذهب الجنة". قال عِياض: وما نُقل عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حَزْم من تختمه بالذهب، فشذوذ، والأشبه أنه لم تبلغه السنة فيه، فالناس بعده مجمعون على خلافه، وكذا ما رُوي فيه عن خبّاب، وقد قال له ابن مسعود: أما آن لهذا الخاتم أن يلقى؟ فقال: إنك لن تراه عليّ بعد اليوم، فكأنه ما كان بلغه النهي، فلما بلغه رجع. قال: وقد ذهب بعضهم إلى أنه مكروه للرجال كراهة تنزيه لا تحريم، كما قال مثل ذلك في الحرير. قال ابن دَقيق العِيد: هذا يقتضي إثبات الخلاف في التحريم، وهو يناقض القول بالإِجماع على التحريم. قال في "الفتح": التوفيق بين الكلامين ممكن، بأن يكون القائل بكراهة التنزيه انقرض، واستقر الإجماع بعده على التحريم. وقد جاء عن جماعة من الصحابة لُبْس خاتَم الذهب، من ذلك ما

أخرجه ابن أبي شَيْبة من طريق محمد بن أبي إسماعيل أنه رأى ذلك على سعد بن أبي وقّاص، وطلحة بن عُبيد الله، وصُهيب، وذكر ستة أو سبعة. وأخرج ابن أبي شَيْبة أيضا، عن حذيفة وجابر بن سَمُرة وعبد الله بن يزيد الخطميّ، نحوه، ومن طريق حمزة بن أبي أُسيد: نزعنا من يد أبي أُسيد خاتمًا من ذهب. وأغرب ما ورد من ذلك ما جاء عن البراء، الذي روى النهي، فأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن أبي السَّفر قال: رأيت على البراء خاتمًا من ذهب. وعن أبي إسحاق نحوه، أخرجه البَغَويّ في الجَعْديّات. وأخرج أحمد من طريق محمد بن مالك، قال: رأيت على البراء خاتمًا من ذهب، فقال: قسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قسمًا، فألْبَسَنِيه، فقال: البَس ما كساك الله ورسوله. قال الحازميّ: إسناده ليس بذلك، ولو صحَّ فهو منسوخ، قال: في "الفتح": لو ثبت النسخ عند البراء ما لبسه بعد النبي، -صلى الله عليه وسلم-. وقد روي حديث النهي، المتفق على صحته عنه. فالجمع بين روايته وفعله، إما بأن يكون حمله على التنزيه، أو فهم الخصوصية له من قوله: "البس ما كساك الله ورسوله". وهذا أولى من قول الحازميّ: لعل البراء لم يبلغه النهي. ويؤيد الاحتمال الثاني أنه وقع في رواية أحمد: كان الناس يقولون للبراء: لم تتختم بالذهب وقد نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنه؟ فيذكر لهم هذا الحديث، ثم يقول: كيف تأمرونني أن أضع ما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "البَس ما كساك الله ورسوله"؟ وفي حديث ابن عمر في كتاب اللباس عند البخاري ما يستدل به على نسخ جواز لُبْس الخاتم إذا كان من ذهب. ولفظه "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، اتخذ خاتما من ذهب، وجعل فصّه مما يلي كفه، فاتخذه الناس، فرمى به، واتخذ خاتمًا من وَرِق أو فضة"، واستدل به على تحريم الذهب على الرجال، قليله وكثيره، للنهي عن التختم، وهو قليل. وتعقبه ابن دقيق العيد، بأن التحريم يتناول ما هو في قدر الخاتم، وما هو فوقه كالدُّمْلُج والمِعضَد وغيرهما. فأما ما هو دونه، فلا دلالة من الحديث عليه.

وتناول النهي جميع الأحوال، فلا يجوز لبس خاتم الذهب لمن فاجأه الحرب، لأنه لا تعلق له بالحرب، بخلاف الرُّخصة في الحرير بسبب الحرب، وبخلاف ما على السيف أو التُّرس أو المِنْطقة من حِلية الذهب، فإنه لو فاجأه الحرب جاز له الضرب بذلك السيف، فإذا انقضت الحرب فلينتقض، لأنه كله من متعلقات الحرب بخلاف الخاتم. واختلف في التختم في خِنصر اليمنى أو اليُسرى، أيهما أفضل، وقد وردت في ذلك أحاديث كثيرة مختلفة، منها ما هو صريح في جعله في اليمنى، ومنها ما هو صريح في جعله في اليسرى. وقد سردها في "الفتح" ثم قال: وقال البَيْهقيّ في "الأدب المفرد" يجمع بين هذه الأحاديث، بأن الذي لبسه في يمينه هو خاتم الذهب، كما صرح به في حديث ابن عمر والذي لبسه في يساره هو خاتم الفضة. وأما رواية الزُّهريّ عن أنس، التي فيها التصريح بأنه كان فضة، ولبسه في يمينه فكأنها خطأ. فقد مر أن الزُّهريّ وقع له وهم في الخاتم الذي طرحه النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأنه وقع في روايته أنه الذي كان من فضة، وأن الذي في رواية غيره أنه الذي كان من ذهب، فعلى هذا، فالذي كان لبسه في يمينه هو الذهب. وأجمع غيره بأنه لبس الخاتم أولا في يمينه ثم حوله إلى يساره، واستدل له بما أخرجه أبو الشيخ وابن عديّ عن ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم-، تختم في يمينه، ثم حوَّله في يساره. فلو صح هذا لكان قاطعًا للنزاع. ولكن سنده ضعيف. وأخرج ابن سعد عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: طرح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خَاتم الذهب، ثم تختم خاتمًا من وَرِق، فجعله في يساره. وهذا مُرْسَل أو مُعْضل، وقد جمع البغويّ في شرح السنة بين ذلك، بأنه تختم أولا في يمينه ثم تختم في يساره وكان ذلك آخر الأمرين. وتعقبه الطَّبري بأن ظاهره النسخ، وليس ذلك مراده، بل الإِخبار بالواقع اتفاقًا. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبا زرعة عن اختلاف الأحاديث في ذلك، فقال: لا يثبت هذا ولا هذا، ولكن "في يمينه" أكثر. وقد قال البخاريّ:

إن أصح شيء ورد فيه، حديثُ عبد الله بن جعفر وقد صرح فيه بالتختم في اليمين. وفي المسألة عند الشافعية اختلاف، والأصح اليمين. قال في "الفتح": ويظهر لي أن ذلك يختلف باختلاف القصد، فإن كان اللبس للتزيّن به فاليمين أفضل، وإن كان للتختم به فاليسار أولى، لأنه كالمُودع فيها، ويحصل تناوله منها باليمين، وكذا وضعه فيها. ويترجح التختم باليمين مطلقًا، لأن اليسار آلة الاستنجاء، فيصان الخاتم إذا كان في اليمين عن أن تصيبه النجاسة، ويترجح التختم في اليسار، بما أشرت إليه من التناول. وجنحت طائفة إلى استواء الأمرين، وجمعوا بذلك بين مختلف الأحاديث. وإلى ذلك أشار أبو داود حيث ترجم باب التختم في اليمين وأليسار، ثم أورد الأحاديث مع اختلافها في ذلك بغير ترجيح. ونقل النوويّ وغيره الإِجماع على الجواز، ثم قال: ولا كراهة فيه، يعني عند الشافعية، وإنما الاختلاف في الأفضل. والخاتم عند المالكية مندوبٌ لُبْسه إن لبسه للسنة وللعجب، واتحد لا ان تعدد فتردد الخطاب في منعه، وجزم به علي الأجْهوريّ، وكان درهمين فأقل، وإلا حُرّم. وندب جعله في اليسرى. وقال ابن عَرَفة: أرى أن لا يباح اليوم، إذ لا يفعله غالبًا إلا من لا خَلاق له، أو من يقصد به غرض سوء. تنبيه: في لغات الخاتم وهي عشرة: خاتِم، بفتح التاء وكسرها، وتقديمها على الألف، مع كسر الخاء وفتحها، خِتَام، وبفتحها وسكون التحتانية وضم المثناة، بعدها واو: خيتوم، وبحذف الياء والواو مع سكون المثناة: خَتْم وبألف بعد الخاء، وأخرى بعد التاء: خاتام، وبزيادة تحتانية بعد المثناة المكسورة خاتِيام. وهذه أغربها. وانشدوا عليها قول القائل: أخَذتَ من سُعداكَ خاتِيامًا ... لموعدٍ تكتسبُ الأثاما وبحذف الألف الأولى وتقديم التحتانية خَيْتام، وبهمز ألف خاتم

رجاله خمسة

المفتوح الخاء، وخاتام بألفين، ونظم صاحب "الفتح" ذلك فقال: خذْ عن لغات الخاتم انتظمت ... ثمانيًا ما حواها قبل نظامُ خاتام خاتَم خَتْم خاتِم وخِتا ... م خَاتِيام وخَيْتموم وخيتامُ وذيلها ببيت ثالث، فقال: وهمزُ مفتوحٍ تاء تاسع وإذا ... ساغ القياس أتَمَّ العَشْر خاتام ثم قال في "الفتح": والحق أن الختم والخِتام مختص بما يختم به، فتكمل الثمان فيه. وأما ما يتزين به، فليس فيه إلا ستة، والجمع في الجميع خواتم وخواتيم، بالياء. انتهى ما قيل في هذا الحديث. رجاله خمسة: الأول: محمد بن مُقاتل، بصيغة اسم الفاعل من المقاتلة، أبو الحسن المَرْوزيّ الكِسَائيّ، لقبه "رخّ" سكن بغداد ثم جاور بمكة، ومات بها. قال أبو حاتم: صدوق، وذكر ابن حِبان في الثقات. وقال: كان متقنا. وقال الخطيب: كان ثقة، وقال صاحب "تاريخ مرد": كان كثير الحديث. وقال الخليلي في الإِرشاد: ثقة، متفق عليه، مشهور بالأمانة والعلم، وآخر من حدّث عنه محمد بن جَرير الطَّبريّ. وقيل إن الذي حدث عنه ابن جُرير الطبريّ غير صاحب الترجمة، لأن ابن جرير يصغر عن إدراكه. والذي حدث عنه ابن جرير يعرف بصاحب محمد بن الحسن. روى هذا عن ابن المبارك والدَّرَاورْديّ وهُشَيم ووَكِيع، ومبارك بن سعيد الثَّورِيّ، والنَّضْر بن شُميل، وأسْباط بن محمد وحَجّاج بن محمد وغيرهم. وروى عنه البخاري وأحمد بن حنبل، وأبو حاتم وأبو زرعة، وإبراهيم الحربى، ومحمد بن أيّوب بن الضَّرِيس، وغيرهم. مات بمكة سنة ست وعشرين ومئتين في آخرها، وقيل: مات بطريق مكة. وفي الستة محمد بن مقاتل سواه اثنان: أحدهما الكوفيّ الهلاليّ اسم جده حكيم، وهو أقدم من

لطائف إسناده

الأول. والثاني أبو جعفر الصالح العبادانيّ. وفي الرواة محمد بن مقاتل الرازي، ذكره الخطيب، والمَرْوزيّ في نسبه مر الكلام عليه في السادس من بدء الوحي. والكسَائِي في نسبه يوجد نسبة إلى بيع الكِساء ونسجه، ومن ذلك محمد بن يحيى الكسائي الصغير، قرأ عليه ابن شَنْبُوذ، وإسماعيل بن سعيد الكِسائي الجُرْجانيّ، مؤلف كتاب البيان، وآخرون. وأما الإِمام المشهور أبو الحسن علي بن حمزة مولى بني أسد، فإنما لقبه به شيخه حمزة. كان إذا غاب يقول: أين صاحب الكِساء، أو لأنه أحرم في كِساء. مات بالرَّي هو ومحمد بن الحسن في يوم واحد. الثاني: عبد الله بن المبارك، وقد مر في السادس من بدء الوحي. الثالث: شُعبة، وقد مر في الثالث من كتاب الإِيمان، ومر قتادة بن دُعَامة وأنس بن مالك في السادس منه. لطائف إسناده: منها أن رواته ما بين مَرْوزيّ وواسِطىّ وبصري، وأنهم أئمة أجلاء. وفيه التحديث والإخبار والعنعنة، أخرجه البخاري هنا، وفي الجهاد عن عليّ بن الجَعْد، وفي اللباس عن آدم، وفي الأحكام عن بُنْدار، ومسلم في اللباس عن أبي موسى وبُندار والنَّسائيّ في الزينة والسير والعلم والتفسير عن حُميد بن مَسْعدة، ثم قال المصنف. باب من قعد حيث ينتهي به المجلس ومن رأى فرجة في الحَلقة، فجلس فيها. مناسبة هذا الكتاب العلم من جهة أن المراد بالمجلس، وبالحَلقة حلقَة العلم، ومجلس العلم، فيدخل في أدب الطالب من عدة أوجه، كما سنبينه، والتراجم الماضية كلها تتعلق بصفات العالم، وحيثُ، بالبناء على الضم، وموضعه نصب على الظرفية، والمعنى: هذا باب حكم ذلك، من الجواز أو الأدب أو نحوه. وقوله: ومن رأى فُرجَةً بالضم والفتح معًا، وهي

الخلل بين الشيئين. وقيل: إن التي بالفتح خاصة بالتًفصِّي من الهم، وعليه قول الشاعر: ربّما تَجْزع النفوسُ من الأمـ ... رله فرجَةٌ كحَل العِقال والحلقة بإسكان اللام كل شيء مستدير خالي الوسط، وحكي فيها فتح اللام، وهو نادر. والجمع حَلَق، بفتحتين.

الحديث الثامن

الحديث الثامن حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِى مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّ أَبَا مُرَّةَ مَوْلَى عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِى الْمَسْجِدِ وَالنَّاسُ مَعَهُ، إِذْ أَقْبَلَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ، فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَذَهَبَ وَاحِدٌ، قَالَ فَوَقَفَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَرَأَى فُرْجَةً فِى الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا، وَأَمَّا الآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَدْبَرَ ذَاهِبًا، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "أَلاَ أُخْبِرُكُمْ عَنِ النَّفَرِ الثَّلاَثَةِ؟ أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللَّهِ، فَآوَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَاسْتَحْيَا، فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَأَعْرَضَ، فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ". قوله: بينما هو جالس، قد مر لك أن بينما أصله بين، وزيدت فيه الميم والألف، وأنها تلازم الإِضافة إلى الجمل، إلى آخر ما استوفيناه في الحديث الرابع من بدء الوحي. وقوله: إذ أقبل ثلاثة نفر، النَّفَر، بالتحريك، للرجال من ثلاثة إلى عشرة. والمعنى: ثلاثة هم نفر. والنفر اسم جمع، ولهذا جاء مميزًا للجمع، كقوله: "تسعةُ رهط" وقوله: فأقْبَل اثنان، بعد قوله "أقبل ثلاثة": هما إقبالان، كأنهم أقبلوا أولًا من الطريق، فدخلوا المسجد مارّين، كما في حديث أنس، فإذا ثلاثة نفر يمرون، فلما رأوا مجلس النبي، -صلى الله عليه وسلم-، أقبل إليه اثنان منهم، واستمر الثالث ذاهبًا. وقوله: "فوقفا" زاد أكثر رواة المُوَطَّأ "فلما وقفا سلَّمَا" وكذا عند التِّرْمذيّ والنَّسائي. ولم يذكر المؤلف هنا، ولا في الصلاة والسلام، وكذا

في رواية مسلم، ويُستفاد منه أن الداخل يبدأ بالسلام، وأن القائم يسلم على القاعد، وإنما لم يذكر رد السلام عليهما اكتفاءً بشهرته. أو يستفاد منه أن المستغرق في العبادة يسقط عنه الرد. وسيأتي في كتاب الاستئذان استيفاء الكلام عليه، وقد استوفيناه في كتابنا على "متشابه الصفات". ولم يذكر في الحديث أنهما صليا تحية المسجد، إما لكون ذلك كان قبل أن تشرع، أو كانا على غير وضوء، أو وقع فلم ينقل للاهتمام بغير ذلك من القصة، أو كان في غير وقتِ تنفُّل، قاله القاضي عِياض، بناء على مذهبه في أنها لا تصلّى في الأوقات المكروهة. وقوله: على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أي: على مجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أو "على" بمعنى "عند"، قاله في "الفتح"، لكنا لم نقف على أن "على" بمعنى "عند". وقوله: "فرأى فرجة في الحلْقة، فجلس فيها"، أتى بالفاء في قوله "فرأى فرجة" لتضمن إما معنى الشرط، وفيه استحباب التحليق في مجالس الذكر والعلم، وفيه أن من سبق إلى موضع منها كان أحق به. وقوله: "وأما الآخر" هو بفتح الخاء المعجمة، وفيه رد على من زعم أنه يختص بالأخير لاطلاقه هنا على الثاني، وقوله: فأدبر ذاهبًا، أي: ولّى حال كونه ذاهبًا، فذاهبًا حال مقدَّرة، إذ الإِدبار لا يستلزم الذهاب، فسقط ما قيل إن معنى "ذاهبًا" استمر في ذهابه وإلا فأدبر مغنٍ عن ذاهبًا. وقوله: "ألا أخبركم عن النَّفر الثلاثة" فألا بالتخفيف حرف تنبيه. وفي الكلام طيٌّ، كأنهم قالوا: أخبرنا عنهم، فقال: أما أحدهم قآوى إلى الله، فآواه الله الخ. قال القرطبيّ: الرواية الصحيحة بقصر الأول ومد الثاني، وهو المشهور في اللغة وفي القرآن {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ} [الكهف: 10] بالقصر، {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ} [المؤمنون: 50]، بالمد. وحكي في اللغة القصر والمد معًا فيهما. ومعنى

آوى إلى الله: لجأ إلى الله أو على الحذف، أي: انضم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومصدر المقصور أُوِيًا، على مفعول، ومصدر الممدود إيواء على إفعال. ومعنى "فآواه الله" أي: جازاه الله، بنظير فعله، بأن ضمه إلى رحمته ورضوانه، أو يؤويه يوم القيامة إلى ظل عرشه، وهذا تفسير باللازم، إذ معناه الحقيقيُّ، وهو الإِنزال عند الله، مستحيلٌ في حقه تعالى، فهو من باب المُشاكلة، كما في قوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ}. وفيه استحباب الأدب في مجالس العلم، وفَضْلُ سَدِّ خَلَلِ الحَلْقَة، كما ورد الترغيب في سد خلل الصفوف في الصلاة، وجواز التخطي لسد الخلل ما لم يؤذ فإن خَشِيَ، استحب الجلوس حيث ينتهي كما فعل الثاني. وفيه الثناء على من زاحم في طلب الخير، وقوله: "وأما الآخر فاستحيا" أي: ترك المزاحمة، كما فعل رفيقه، حياءً من النبي -صلى الله عليه وسلم-، وممن حضر. وقد بين أنس في روايته معنى استحياء الثاني، ولفظه عند الحاكم: ومضى الثاني قليلًا، ثم جاء فجلس. فالمعنى أنه استحيا من الذهاب عن المجلس، كما فعل رفيقه الثالث. وقوله: "فاستحيا الله منه" أي: رحمه ولم يعاقبه، فجازاه بمثل ما فعل. وهذا أيضًا من قبيل المُشَاكلة، لأن الحياء تغيُّر وانكسار يعتري الإِنسان من خوف ما يُذَمُّ به، وهذا محال على الله تعالى، فيكون مجازًا عن ترك العقاب. وحينئذ فهو من قبيل ذكر الملزوم، وإرادة اللازم. وقوله: "وأما الآخر فأعْرَضَ" أي: عن مجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولم يلتفت إليه، بل ولى مُدْبرًا وقوله: فأعرض الله عنه، أي: جازاه بأن سخط عليه، وهو محمول على من ذهب معرضًا لا لعذر، هذا إن كان مسلمًا. ويحتمل أن يكون منافقًا، واطلع النبي -صلى الله عليه وسلم-، على أمره. كما يحتمل أن يكون قوله -صلى الله عليه وسلم-: "فأعرض الله عنه" إخبارا أو دُعاء.

رجال سنده خمسة

ووقع في حديث أنس: "فاستغنى فاستغنى الله عنه". وهذا يرشِّح كونه خبرًا. وهذا أيضًا من قبيل المُشاكلة، لأن الإِعراض هو الالتفات إلى جهة أخرى، وذلك لا يليق به تعالى، فيكون مجازًا عن السخط والغضب. وفائدة إطلاق الإعراض، وما معه على الله تعالى، على سبيل المشاكلة، هو بيان الشيء بطريق واضح. وفيه جواز الإِخبار عن أهل المعاصي وأحوالهم، للزجر عنها. وإن ذلك لا يعد من الغِيبة. وفيه فضلُ ملازمةِ حَلَق العلم والذكر، وجلوس العالم والمُذَكِّر في المسجد. وفيه الثناء على المُستحيي، والجلوس حيث ينتهي به المجلس. والثلاثة المذكورون أهل القصة لم يُسَمَّ واحدٌ منهم. رجال سنده خمسة: وفيه ذكر عَقيل بن أبي طالب، الأول إسماعيل ابن أبي أُويس، وقد مر في الخامس عشر من كتاب الإِيمان. والثاني الإِمام مالك، وقد مر في الثاني من بدء الوحي. والثالث: إسحاق بن عبد الله بن أبي طَلْحة، واسم أبي طلحة زَيْد بن سَهْل بن الأسْود بن حَرَام الأنْصاريّ البخاريّ المدنيّ، أبو يحيى، وقيل: أبو نُجَيح، ابن أخي أنس لأمه، لأن أباه عبد الله وأنسًا أمهما أم سُلَيم. وعبد الله هو صاحب الليلة المباركة، الذي قال النبي -صلى الله عليه وسلم-، لأبيه أبي طلحة: "اللهمَّ بارك لهما في ليلتهما" فولد منها عبد الله هذا. وولد لعبد الله عشرة ذكور، كلهم يقرأون القرآن. وروى أكثرهم العلم. وأشهرهم إسحاق هذا، لأنه شيخ الإِمام مالك. قال ابن مَعين: ثقة حجة، وقال أبو زرعة وأبو حاتم والنَّسائيّ: ثقة، وزاد أبو زرعة: وهو أشهر إخوته، وأكثرهم حديثًا. وقال الواقِديّ: كان مالكُ لا يقدِّم عليه في الحديث أحدًا، وكان ثقة كثير الحديث. وقال ابن حبان في "الثقات": كان ينزل في دار أبي طلحة، وكان مقدما في رواية الحديث والإِتقان فيه. وقال أبو داود: كان على الصَّوافِي باليمامة. وقال

البخاريُّ: بقي باليمامة إلى زمن بني هاشم. روى عن أبيه وأنس وعبد الرحمن بن أبي عَمْرة والطُّفَيْل بن أُبيّ بن كعب وأبي مُرَّة مولى عقيل، وغيرهم. وروى عنه يحيى بن سعيد الأنصاريّ والأوزاعي، وابن جُرَيْج، ومالك وهمّام وعبد العزيز بن المَاجِشُون، وعدة. مات سنة أربع أو اثنتين وثلاثين ومئة. وإسحاق بن عبد الله في الستة سواه ثلاثة. الرابع: أبو مرَّة، واسمه يزيد الهاشميّ، مولى عقيل بن أبي طالب، وقيل. مولى أم هانىء، وكان يلزم عقيلًا، فنسب إليه، وكان شيخًا قديمًا، قال ابن سعد في الطبقة الأولى: كان ثقة قليل الحديث. وقال العَجْليّ: مدنيّ تابعيّ ثقة. وذكره ابن حِبان في الثقات. روى عن عقيل وأم هانىء ابني أبي طالب، وأبي الدرداء، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن سعيد، وأبي واقد الليثيّ. ورأى الزبير بن العوام، وروى عنه سالم أبو النضر، وسعيد المَقْبريّ، وسعيد بن أبي هِند، وأبو جعفر محمد بن علي بن الحسين، وإسحاق بن أبي طلحة، وإبراهيم بن عبد الله بن حنين، وأبو حازم بن دينار، ويزيد بن الهاد. وأبو مُرة في الستة سواه واحد، وهو الطائفيّ، روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وروى عنه مَكْحُول الشاميّ. الخامس: أبو واقِد، مشهور بكنيته، واختلف في اسمه، قيل: اسمه الحارث بن مالك، وقيل: ابن عوف، وقيل: عوف بن الحارث بن أسد بن جابر بن عُوَيْرة بن عبد مناة بن أشجع بن عامر بن لَيْث بن بَكر بن عبد مناة ابن علي بن كنانة، الليْثي. قيل إنه شهد بدرًا، وقيل إنه ولد في عام ولد العباس. ولم يذكره ابن عقبة ولا ابن إسحاق في البدريين وقال ابن سعد: أسلم قديماً، وكان معه لواء بني ليث وضَمْرة وسعد بن بكر يوم الفتح وحنين، وفي غزوة تبوك يستنفر بني ليث. وقيل: إنه أسلم يوم الفتح، وأخبر عن نفسه أنه شهد حنينا، قال: وكنت حديث عهد بكفر، وهذا يدل على أنه تأخر إسلامه، وشهد بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- اليرموك. وروي عنه أنه قال: رأيت

العدو يوم اليرموك يسقط فيموت، حتى قُلت: لو أنْ أضرب أحدهم بطرف ردائي مات. ورُوي عنه أنه قال: إني لأتبع رجلًا من المشركين لأضربه بسيفي فوقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي، فعرفت أنَّ غيري قد قتله. روى ابن إسحاق وقوع هذه القصة في بدر، والصحيح أنها يوم اليرموك. له أربعة وعشرون حديثًا اتفقا على حديث، وهو هذا، وزاد مسلم حديثًا آخر، وهو ما كانت يقرِّبه النبي -صلى الله عليه وسلم-، في الأضحى. روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأبي بكر وعمر، وأسماء بنت أبي بكر. وروى عنه ابناه عبد الملك وواقد، وأبو سعيد الخُدْري وعطاء بن يَسَار، وعُروة وآخرون. وفي الصحابة أبو واقد سواه اثنان: أبو واقد مولى النبي -صلى الله عليه وسلم-. والثاني: أبو واقد النُّمَيْريّ. والليثي في نسبه نسبة إلى جده المار وهو لَيْث بن بكر. السادس: المذكور في الحديث عقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب ابن عم النبي -صلى الله عليه وسلم-، أخو عليّ بن أبي طالب، وأبناء أبي طالب أربعة: أسنهم طالب، وهو الفقيد، وبه كنّي أبوه، ويليه عَقيل، وهو أكبر منه بعشر سنين، وعقيل أكبر من جعفر بعشر، وجعفر أكبر من علي بها أيضًا. ويكنى عَقيل بأبي يزيد ورُوي أن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: "يا أبا يزيد، إني أحبك حُبّين: حبًا لقرابتك مني، وحبًا لما كنت أعلم من حب عمي إياك". وروي من حديثه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: كنا نؤمر أن نقول: "بارك الله لكم وبارك عليكم، ولا نقول: بالرِّفاء والبنين" رواه عنه الحسن بن أبي الحسن. ورُوي له عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، أنه قال: "يجزىءُ مُد للوضوء وصاع للغسل". وكان عقيل قد خرج إلى بدرٍ مكرها وأُسر فيه، ففداه عمه العباس. ثم أتى مسلمًا قبل الحديبية، وشهد غزوة مُؤْتَة، ولم يسمع له بذكر في الفتح، ولعله كان مريضًا، أشار إلى ذلك ابنُ سعد. لكنْ روى الزبير بن بكّار بسنده إلى الحسن بن عليّ أن عقيلا كان ممن ثبت يوم حنين. وقيل: إن إسلامه تأخر إلى عام الفتح.

وكان أنسَب قريشٍ وأعلمهم بأيام العرب ومآثرها ومثالبها. وكانت توضع له الطَّنافس في مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم-، يحدث الناس بذلك، وفي ذلك يقول الناظم: ولعقيل توضَع الطنافس ... بمسجد النبي وهو جالس يحدثُ الناس بأيام العرب ... وما لها من نسب ومن حَسَبِ وكان أسرع الناس جوابًا، وأحضرهم في القول، وأبلغهم في ذلك. وروي عن ابن عباس أنه قال: في قريش أربعة يتحاكم الناس إليهم، ويقفون عند قولهم في المنافرات: عَقيل بن أبي طالب، ومَخْرَمَة بن نَوْفَل الزُّهريّ وأبو جَهْم بن حُذَيفة العَدَويّ وحُوَيْطب بن عَبْد العُزّى العامريّ. وكان عقيل يعد المساوىء فمن كانت مساوئه أكثر يقر صاحبه عليه، ومن كانت محاسنه أكثر يقره على صاحبه. وكان أكثرهم ذكرًا لمثالب قريش، فعَادَوْه على ذلك، وقالوا فيه بالباطل، ونسبوه إلى الحمق، واختلقوا عليه أحاديث مزورة، وكان مما أعانهم على ذلك مباغضته لأخيه عليّ، وخروجه إلى معاوية، وإقامته عنده. ويقال: إنه وفد عليه لأجل دَيْن عليه. ويزعمون أن معاوية قال يومًا: هذا أبو يزيد حاضر، لولا علمه بأني خير له من أخيه لما قام عندنا، وتركه، فقال عقيل: أخي خير لي في ديني، وأنت خير لي في دنياي، وقد آثرت دنياي وأسأل الله تعالى خاتمة الخير. ووقع له ذكر في الصحيح في مواضع، وأخرج النَّسائي، وابن مَاجَه له حديثًا. رُوي أن النّبي -صلى الله عليه وسلم- أعطاه من خيبر كل سنة مئة وأربعين وسقًا. له أحاديث، روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وروى عنه ابنه محمد، وحفيده عبد الله بن محمد، وعطاء وأبو صالح السّمان وموسى بن طلحة، والحسن البصريّ ومالك بن أبي عامر الأصبحيّ. وفي تاريخ البخاريّ الأصغر، بسند صحيح، أنه مات في أول خلافة يزيد بن معاوية، قبل وقعة الحَرَّة. ومرّ

لطائف إسناده

الكلام في الثالث من بدء الوحي على عقيل مكبرًا ومصغرًا. لطائف إسناده: منها أن رواته كلهم مدنيّون، وفيه التحديث بالجمع والإفراد والعنعنة والإِخبار. وفيه رواية تابعي عن مثله، ومنها أنه ليس للبخاري عن أبي واقد غير هذا الحديث، ولم يروه عنه إلا أبو مُرّة، ولم يروه عن أبي مرة إلا إسحاق. أخرجه البخاري هنا، وفي الصلاة عن عبد الله ابن يوسف، ومسلم في الاستئذان عن قتيبة وغيره، والترمذيّ في الاستئذان أيضا عن إسحاق بن موسى الأنصاري، وقال حسن صحيح. والنَّسائي في العلم عن قُتيبة وغيره. ثم قال المُصنف: باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "رُبَّ مُبْلغٍ أوعى من سامع" أي: هذا بابُ قول، وقول: مجرور بالإِضافة، ورب، بضم الراء، وتشديد الباء المفتوحة في إحدى لغاتها الاثني عشر: حرفُ جر علي الصحيح، وعند الكوفيين أنها اسم، وترد للتكثير كثيراً، نحو {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الحجر: 2]، وكحديث البخاري "يا رُبَّ كاسيةٍ في الدنيا عارية يومَ القيامة"، وترد للتقليل قليلًا كقوله: ألا ربَّ مولودٍ وليس له أبٌ ... وذي وَلَد لم يلده أبوان وذي شامةٍ سوداء في حر وجهه ... مجللة لا تنقضي لأوان أراد عيسى وآدم والقمر، قال ابن بون في احمراره: كثّر برُبَّ قَلِّلَنْ، قليلًا ... كَرَّب من كان هنا ثقيلًا وقيل: إنها بالعكس، للتكثير قليلًا وللتقليل كثيرًا، وتنفرد عن أحرف الجر بوجوب تصديرها على ما تتعلق به، وتنكير مجرورها، ونعته إنْ كان ظاهرًا، وغلبة حذف عاملها، ومضيه، وبزيادتها في الإِعراب دون المعنى.

ومبلَغ: الذي هو مجرورها، بفتح اللام، وأوعى: لفتٌ له، والذي يتعلق به رب محذوفٌ، وتقديره "يوجد" أو "يكون" على غير الغالب. ويجوز على مذهب الكوفيين في أن رُبّ اسمٌ، أن تكون هي مبتدأ و"أوْعى" الخبر، فلا حذف، ولا تقدير. والمعنى: رب مبلغ عني أوعى، أي: أفهم وأحفظ لما أقول من سامع مني. وصرح بذلك ابن مَنْده في روايته عن ابن عَوْن، ولفظه "فإنه عسى أن يكون بعض من لم يشهد أوعى لما أقول من بعض من شَهِد". وعلى أن ربَّ زائدة في الإِعراب، فمحل مجرورها، على حسب العامل بعدها، فهو نصبٌ في نحو: ربَّ رجلٍ صالحٍ لقيتُ. ورفعٌ في نحو "ربَّ رجل عندي". ورفع أو نصب في نحو "ربَّ رجل صالح لقيتُه" ومحل مُبلغ على هذا رفعٌ بالابتداء، وأوعى صفة له. والخبر الفعلُ المحذوف المتقدم. وهذا التعليق المترجم به أورد المُصنف معناه في الباب. وأما لفظه فهو موصول عنده في باب الخطبة بمنى، من كتاب الحج، من حديث أبي بَكْرة، فذكر هذا اللفظ في آخره، وأخرجه أبو داود والتِّرمذي، وقال: حسن صحيح، بلفظ "نضَّر الله امرأ سمع منا شيئًا، فبلغه كما سمعه، فرب مبلغٍ أوعى من سامع". وقوله: نضر الله، بتشديد الضاد المعجمة، وقد تخفف، والنضرة الحُسْن والرَّوْنق. والمعنى: خصه الله تعالى بالبهجة والسرور، لأنه سعى في نضارة العلم، وتجديد السنة، فجازاه في دعائه بما يناسب حاله في المعاملة، وقد أجاب الله دعاء نبيه، عليه الصلاة والسلام، قال ابن عُيَينة: ليس من أهل الحديث أحد، إلا وفي وجهه نُضْرة لهذا الحديث.

الحديث التاسع

الحديث التاسع حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ ذَكَرَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَعَدَ عَلَى بَعِيرِهِ، وَأَمْسَكَ إِنْسَانٌ بِخِطَامِهِ -أَوْ بِزِمَامِهِ- قَالَ: "أَىُّ يَوْمٍ هَذَا؟ ". فَسَكَتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ سِوَى اسْمِهِ. قَالَ:"أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ". قُلْنَا بَلَى. قَالَ: "فَأَىُّ شَهْرٍ هَذَا؟ ". فَسَكَتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ. فَقَالَ: "أَلَيْسَ بِذِى الْحِجَّةِ؟ ". قُلْنَا بَلَى. قَالَ: "فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا. لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَإِنَّ الشَّاهِدَ عَسَى أَنْ يُبَلِّغَ مَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ مِنْهُ". قوله: ذكر النبي، -صلى الله عليه وسلم-، بنصب النبيّ على المفعولية. وفي ذكر ضمير يعود على الراوي يعني، أن أبا بكرة كان يحدثهم، فذكر النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "قعد على بعيره" ورواه النّسائي بلفظ "عن أبي بكرة قال": وذكر النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فالواو إما حالية وإما عاطفة على محذوف. وفي رواية ابن عساكر عن أبي بكرة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قعد، ولا إشكال فيه. وكان ذلك بمنى يوم النَّحر في حجة الوداع، وإنما قعد على البعير لحاجته إلى إسماع الناس كلامه، فالنهي عن اتخاذ ظهور الدواب منابرَ محمولٌ على ما إذا لم تدْعُ الحاجة إليه. وقوله: "وأمسك إنسان بخِطامه أو بزِمامه" الشك من الراوي، ممن دون أبي بكرة، لا منه، لما يظهر من رواية الاسماعيليّ الآتية. والخِطام والزِّمام بمعنى، وهو الخيط الذي تُشَدُّ فيه الحلْقة التي تسمى بالبُرة، بضم الموحّدة، وتخفيف الراء المفتوحة، المجعولة في أنف البعير. والإِنسان

المبهمُ الممسكُ، الظاهر أنه أبو بَكرة، لما في رواية الإسماعيلي عن ابن عون عن أبي بكرة قال: خطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على راحلة يوم النحر، وأمسكتُ، إما قال: بخطامها، وإما قال: بزمامها. وهذا صريح في أن الشك من غير أبي بكرة. أو كان الممسك بلالًا، كما في النَّسائي عن أُم الحُصين قالت: حججتُ فرأيتُ بلالًا يقول بخطام راحلة النبي -صلى الله عليه وسلم-. أو الممسك عمرو بن خارجة، كما في السنن من حديثه، قال: كنت آخذًا بزمام ناقة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفائدة إمساك الخطام صونُ البعير عن الاضطراب، حتى لا يشوش على راكبه. وأبو بكرة يأتي محل تعريفه في ذكر السند، وبلال يأتي تعريفه في التاسع والثلاثين من كتاب العلم هذا، وعمرو، إن شاء الله تعالى، يأتي تعريفه قريبًا بعد إتمام الكلام على المتن قبل الشروع في السند. وقوله: قال: "أليس يوم النحر" الاستفهامُ فيه، وفيما بعده، للتقرير، كما في قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36]. وقوله: "قلْنا بلى" في نسخة "فقلنا بلى"، وبلى حرف جواب مختص بالنفي، ويفيد إبطاله ويُصيِّره إثباتًا، وأما نعم، فتأتي لتقرير ما قبلها، من نفي أو إثبات. قال الناظم: "نعم" لتقرير ما قبلها ... إثباتًا أو نفيا كذا قرّروا "بلى" جوابُ النفي لكنّه ... يصير إثباتًا كما قرروا وقوله: "أليس بذي الحِجّة" هو بكسر الحاء، كما في الصحاح. وقال الزّركشيّ: هو المشهور، وأباه قوم. وقال القزاز: الأشهر فيه الفَتْح، وقوله: "قلنا بلى"، وقد سقط في رواية المستملي والحَمَويّ والأصيليّ، السؤال عن الشهر، والجواب الذي قبله، فصار هكذا: أيّ يوم هذا؟ فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه. قال: "أليس بذي الحجة؟ ". وتوجيهه ظاهر، وهو من إطلاق الكل على البعض. وثبت عند مسلم السؤال عن

البلد. وثبت السؤال عن الثلاثة عند المصنف في الأضاحي والحج. قال القرطُبيّ: سؤاله عليه الصلاة والسلام عن الثلاثة، وسكوته بعد كل سؤال منها، كان لاستحضار فُهومهم، وليقبلوا عليه بكلِّيتهم، وليستشعروا عظمة ما يخبرهم عنه. ولذلك قال بعد هذا: "فإن دماءكم .. " إلى آخره، مبالغةً في بيان تحريم هذه الأشياء. ووقع في الروايات التي أشرنا إليها عند المصنف وغيره، أنهم أجابوه عن كل سؤال بقولهم: "الله ورسوله أعلم". وذلك من حُسْن أدبهم، لأنهم علموا أنه لا يخفى عليه ما يعرفونه من الجواب، وأنه ليس مراده مطلق الإِخبار بما يعرفونه، ولهذا قال في رواية الباب: حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه، ففيه إشارة إلى تفويض الأمور الكلية إلى الشارع. ويستفاد منه الحجة لمثبتي الحقائق الشرعية. وقوله: "فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام .. الخ" مَنَاطُ التشبيه في قوله: "كحرمة يومكم" وما بعده، ظهوره عند السامعين، لأن تحريم البلد والشهر واليوم، كان ثابتًا في نفوسهم، مقررًا عندهم، بخلاف الأنفس والأموال والأعراض، فكانوا في الجاهلية يستبيحونها، فقرر الشرع عليهم بأنّ تحريم دم المسلم وماله وعرضه أعظم من تحريم البلد والشهر واليوم، فلا يرد كون المشبه به أخفض رتبةً من المشبه، لأن الخطاب إنما وقع بالنسبة لما اعتاده المخاطبون قبل تقرير الشرع، ولكون أحكام الشرع متعلقة بأفعال المكلفين لا بالذوات، عُلم أنه لابد من تقدير مضافٍ قبل كل واحد من الثلاثة مناسبٍ له، أي: فإن سفك دمائكم وأخذ أموالكم وثَلْب أعراضكم، ولابد أيضًا من تقييد هذا بغير حق شرعي. والأولى، كما في "المصابيح"، أن يُقَدَّر المضافُ لفظةَ "انتهاك" التي موضوعها تناول الشيء بغير حق، ومع تقدير لفظ "انتهاك" لا احتياج إلى التقييد "بغير الحقّيّة" لوجود القيد في أصل معناه. ووقع في حديث الباب "فسكتنا بعد السؤال". وعند المصنف في

الحج من حديث ابن عباس "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، خطب الناس يوم النحر، فقال: "أيّ يوم هذا؟ " قالوا: "يوم حرام"، وظاهرهما التعارض، والجمع بينهما أن الطائفة الذين كان فيهم ابن عباس أجابوا، والطائفة الذين كان فيهم أبو بَكرة لم يجيبوا، بل قالوا: "الله ورسوله أعلم" كما أشرنا إليه، أو تكون رواية ابن عباس بالمعنى، لأن في حديث أبي بكرة أنه لما قال: "أليس يوم النحر" قالوا: بلى، فقولهم: بلى، بمعنى قولهم: يوم حرام، بالاستلزام، وغايته أن أبا بَكرة نقل السياق بتمامه، واختصره ابن عباس، وكان ذلك بسبب قرب أبي بَكرة منه، لكونه كان آخذًا بخطام الناقة. وقال بعضهم: يحتمل تعدد الخطبة، فإن أراد أنه كررها في يوم النحر، فيحتاج إلى دليل. فإن في حديث ابن عمر عند المصنف في الحج، أن ذلك كان يوم النحر بين الجَمَرات في حجه. وقوله: "ليبلغ الشاهد الغائب" أي: الحاضر في المجلس الغائب عنه. ولام "ليبلغ" لام الأمر، مكسورة، ويبلغ فعل مضارع مجزوم بها، وكسرت غينه لالتقاء الساكنين. والمراد بالتبليغ إما تبليغ القول المذكور، أو تبليغ جميع الأحكام. وقوله: "من هو أوعى له منه" منه: صلة لأفعل التفضيل، وجاز الفصل بينهما بالجار والمجرور، لأنه معمول لأفعل. وقد يجوز الفصل بينهما بمعمول أفعل إذا كان ظرفًا، أو جارًا أو مجرورًا. وكذا يفصل بينهما بلو، وما اتصل بها، فالأول كقوله: فلَأنْتَ أسْمحُ للعفاة بسُؤلِهم ... عند الشَّصائب من أب لبنيه والشصائب: الشدائد، وزنًا ومعنى، والثاني كقوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6] وفي البيت أيضًا، الجار والمجرور. والثالث كقوله: ولَغوكِ أطْيبُ لو بَذَلْتِ لنا ... من ماءِ موهبةٍ على خَمْر وإلى هذا أشار المختار بن بون في احمراره بقوله:

رجاله ستة

وفصْله بلو وما بها وصل ... مستعملٌ كذاك ما فيه عمِل وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم، الحثُّ على تبليغ العلم وأن حامل الحديث يؤخذ منه وإن كان جاهلًا بمعناه، فالفهم للمعنى ليس شرطًا في الأداء، وهو مأمور بتبليغه محسوبٌ في زُمرة أهل العلم. وفيه أنه قد يأتي في الآخر من يكون أفهم ممن تقدمه، لكن بقلة. وفيه الخطبة على موضع عال، ليكون أبلغ في إسماعه الناس، ورؤيتهم إياه. وأما عمرو بن خارجة، فهو ابن المُنْتفِق الأسديّ حليفُ آل أبي سفيان، وقيل: إنه أشْعريّ أو أنصاري أو جُمَحىّ، والأول أشهر. قال ابن السَّكَنْ: هو أسدي سكن الشام، ومخرج حديثه عند أهل البصرة، وكان رسولَ أبي سفيان إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وأخرج التِّرمذيّ وابن مَاجه والنَّسائي عن شِهر بن حَوْشَب حديثه "خطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، على ناقته، وأنا تحت جرانها .. " الحديث. وفيه: لا وصية لوارث، وقال العَسْكريّ: لا يصح سماع شِهر بن حَوْشب منه، وقد صرح الطَّبرانيّ بسماع شِهرٍ منه في حديث آخر، وأخرج العسكريُّ والطبرانيُّ له حديثًا آخر من رواية الشعبي عنه، وأخرج الطبرانيّ حديث "لا وصية لوارث" من طريق مجاهِد عنه. رجاله ستة: الأول: مُسدَّد، وقد مرّ في السادس من كتاب الإِيمان، ومرّ ابن سيرين في الأربعين منه، ومرّ أبو بكرة في الرابع والعشرين منه أيضًا. الرابع: بشر بن المُفضَّل بن لاحق الرَّقاشيّ، مولاهم أبو إسحاق البَصْريّ. قال أحمد: إليه المنتهى في التثبت بالبصرة، وعده ابن معين في أثبات شيوخ البصريين، وقال على: كان بشرٌ يصلي كل يوم أربع مئة ركعة، ويصوم يومًا، ويفطر يومًا. وذُكر عنده إنسانٌ من الجَهْمية، فقال: لا تذكروا ذلك الكافر. وقال أبو زرعة، وأبو حاتم والنَّسائي: ثقة. وقال ابن

سعد: كان ثقة كثير الحديث، عثمانيًا. وقال العجليّ: ثقة فقيه البدن ثبتٌ في الحديث، حَسَن الحديث، صاحبَ سنة. وقال البزّار: ثقة، روى عن حُميد الطويل، وأبي رَيْحانة، ومحمد بن المُنْكدر، وابن عَوْن ويحيى بن سعيد الأنصاري، وخالد الحذّاء، وداود بن أبي هند، وعُبيد الله بن عمر العمريّ، وعُمارة بن غُزَيَّة وغيرهم. وروى عنه أحمد وإسحاق وعلي ومُسدّد وأبو أسامة وأبو الوليد وخَليفة بن خيَاط، وبشر ابن مُعاذ العَقْديّ، وخلف، ويحيى بن يحيى النَّيْسابوريّ. مات سنة ست وثمانين ومئة. قال أحمد بن حنبل: دخلت البصرة في رجب سنة ست وثمانين ومئة، واعتقل لسان بشر بن المُفضَّل قبل أن أخرج. ومات سنة سبع وثمانين ومئة. وليس في الستة بشر بن المفضل سواه. وأما بشر فكثير، ومرّ الكلام على بِسْر، بكسر الباء مع إهمال السين، وبشر بضمها مع إعجامها في السادس من بدء الوحي. والرَّقَاشيّ في نسبه نسبة إلى رَقَاشِ كحَذَام، عَلَم لنساءٍ مبني على الكسر، وقد يعرب إعراب ما لا ينصرف، وبنو رقاش في بكر بن وائل، وفي كليب وفي كندة منسوبون إلى أُمهاتهم. فرَقاش في بني بكر هي رَقاش بنت الحارث بن عبيد بن غنْم بن تَغْلِب، وهي المعروفة بالبَرْشاء. ويقال لبنيها: بنو البرشاء، سميت بذلك لبَرَشٍ بها، أو لما جرى بينها وبين ضَرَّتها. وأولادها ثلاثة: الحارث وقيس وشَيْبان بنو ثعلبة بن عُكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل. وفي بني ربيعة قبيلةٌ أخرى يعرفون ببني رَقَاش أيضا وهم بنو مالك وزيد مناة ابني شيبان بن ذُهل أمهما رَقاش بنت ضبيعة بن قيس بن ثعلبة، بها يعرفون. ورَقَاش بنت ركبة هي أم عَدي بن كعب بن لُؤى بن غالب. ورَقَاش بنت عامر، هي الناقمِيّة. وقال في "لب اللُّباب" إن رَقَاش في نسب ابن المفضل هذا المراد بها رقَاش بنت قيس بن ثعلبة. الخامس: عبد الله بن عَوْن بن أرطبان أبو عون المُزنيّ، مولاهم،

البصري فارطبان مولى لعبد الله بن مُغفل الصحابيّ الخرّاز، قال ابن المبارك: ما رأيت أحدًا ذكر لي قبل أن ألقاه ثم لقيته إلاّ وهو على دون ما ذكر لي، إلا ابن عَون وحَيْوة أو سفيان. فأما ابن عون فلوددت أني لزمته حتى يموت أو أموت. وقال ابن مَهْدي: ما كان بالعراق أحد أعلم بالسنة منه. وقال قُرّة: كنا نتعجب من ورع ابن سيرين، فأنساناه ابن عَون. وقال ابن سعد: كان ثقة، وكان عتمانيًا، وكان كثير الحديث، ورعًا. وقال الأنصاري: كان ابن عون لا يُسلِّم على القدرية، وكان يصوم يومًا، ويفطر يومًا إلى أن مات. وتزوج امرأة عربية فضربه بلال بن أبي بُرْدة. وقال محمد بن فضاء: رأيتُ النبي -صلى الله عليه وسلم- في النوم، فقال: زوروا ابن عون، فإن الله يحبه. وقال النَّسائي في "الكُنى": ثقةٌ مأمون. وقال في موضع آخر: ثقة ثَبْتٌ. وقال ابن حِبان فى "الثقات": كان من سادات أهل زمانه عبادةً وفضلًا وورعًا ونُسكًا، وصلابةً في السنة، وشدة على أهل البدع. وقال العجليّ: بصري ثقة رجلٌ صالح. وقال أبو بكر البزار: كان على غاية من التَّوقِّي. وقال عثمان بن أبي شَيْبة: ثقة صحيح الكتاب. وقال شُعبة: إني لأسمع من ابن عون حديثًا يقول فيه: أظن أني سمعته، أحبّ إلى من أن أسمع من ثقة غيره، يقول: قد سمعت. وقال ابن معين: ثبت وقال عيسى ابن يونس: كان أثبت من هشام بن حسّان، وقال أبو حاتم: ثقة، وهو أكبر من التَّيميّ، وقال ابن المَدينيّ: جمع لابن عون من الإِسناد ما لا يجمع لأحد من أصحابه، سمع بالمدينة من القاسم وسالم، وبالبصرة من الحسن وابن سيرين، وبالكوفة من الشعبي والنّخعي، وبمكة من عطاء ومجاهد، وبالشام من مكحول ورجاء بن حَيْوة. قال علي: وقال بشر بن المُفضَّل: لقيتُ الثَّوريّ فقلت: من آمن من تركت على الحديث بالكوفة؟ قال: منصور، وبالبصرة يونُس بن عبيد. قال عليّ: وهذا كان قبل أن يحدث ابن عَوْن، لأنه لم يحدث إلا بعد موت أيّوب. وقال الثَّوريّ: ما رأيتُ أربعة اجتمعوا في مصر مثل هؤلاء: أيّوب ويونُس والتيميّ وابن عَون، وقال

وُهَيب: دار أمر البصرة على أربعة، فذكر هؤلاء. وقال أبو داود عن شُعبة: ما رأيت مثلهم. وقال حمّاد بن زيد عن ابن عَون: وفِدْت عند الحسن وابن سيرين، فكلاهما لم يزل قائمًا حتى فرش لي. وقال موسى بن عُبيد: إني لأعرف رجلًا يطلب منذ عشرين سنة أن يسلم له يوم كأيام ابن عون، فلم يسلم له ذلك، وكأنه عني نفسه. وقال هشام بن حسّان: حدثني من لم تر عيناي مثله، وأشار بيده إلى ابن عون. رأى أنس بن مالك. وروى عن ثُمامة بن عبد الله بن أنس، وأنس بن سيرين، ومحمد بن سيرين، وإبراهيم النَّخعيّ، وزياد بن جُبير بن حَيّة، والحسن البَصريّ والشَّعبيّ والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وعبد الرحمن ابن أبي بَكرة، وأبي رَجَاء مولى أبي قُلابة، وموسى بن أنس بن مالك، وسعيد بن جُبير، ونافع، مولى ابن عمر. وروى عنه الأعمش، وداود بن أبي هند، وهما من أقرانه، والثَّوريّ، وشُعبة والقطّان، وابن المبارك، ووَكيع، وعبّاد بن العوّام، وهُشَيم بن يزيد ابن زُريع، وابن علية، وبِشر بن المُفضَّل، ومُعاذ بن مُعاذ، والنَّضْر بن شُمَيل، ويزيد بن هارون، وغيرهم. مات ابن عون سنة إحدى وخمسين ومئة، بعد موت أيوب بعشرين سنة. وفي الستة عبد الله بن عون، سواه، واحدٌ. وهو عبد الله بن عون بن أبي عون، عبد الملك بن يزيد الهلاليّ والخَرّاز المار في لقبه، بالخاء المعجمة والراء المهملة، نسبة إلى خَرْز الجُلود وغيرها، على ما في خلاصة "تهذيب الكمال". والذي في مقدمة "فتح الباري" هو أن الخَرّاز خاصة بعُبيد الله بن الأخْنس، وإن غيره بخاء وزايين، من الخزز. ونظم قوله سيدي عبد الله في "غرة الصباح" فقال:

لطائف إسناده

ثم ابن الأخنس بخرازٍ دَعُوا ... وغيرَه الزايين فيه قد رَوُوا وجعل في الخلاصة عُبيد الله بن الأخنس الخزاز، بمعجمات، عكس ما قال ابن حجر في مقدمته. وقال في "الخلاصة" أيضًا: إن عبد الله بن عون بن أبي عون الهلاليّ، أبو محمد الخراز، بالمعجمة ثم مهملة. فالظاهر على كلامه أن الذي بزايين هو ابن الأخْنس، وأن ما عداه بخاء وراء وزاي. وأما الجَزّار، بالجيم والزاي من الجزارة، فليس في الأعلام، لكن في حديث عليّ "ولا يعطى الجزارُ منها شيئًا". السادس: عبد الرحمن بن أبي بكرة، نُفَيع بن الحارث الثقفي أبو بحر. ويقال: أبو حاتم البصري: قال ابن سعد: هو أول مولود في الإِسلام بالبصرة فأطعم أبوه أهل البصرة جزورًا، فكفتهم. وكان ثقة وله أحاديث ورواية. وذكره ابن حِبان في الثقات. وقال العَجليّ: بصريٌّ تابعىّ ثقة. وقال أبو هلال: كان زياد ولّى عبد الرحمن بيوت الأموال، وقال أبو الحسن المدائِنِيّ: كان عبد الرحمن بن أبي بكرة فرّاسًا، وشارف التسعين. وكان يخرج كل يوم إلى المِرْبَد، فقال له سارب: إنك لطويل العمر يا شيخ. روى عن أبيه وعلي وعبد الله بن عمرو بن الأسود بن سريع والأشج العَصْريّ، وروى عنه ابن أخيه ثابت بن عُبيد الله بن أبي بَكرة وابن ابنه بَحر ابن مَرَار بن عبد الرحمن، وخالد الحذّاء، ومحمد بن سيرين، وقَتَادة ويونس بن عُبيد، وابن عون وأبو بشر بن أبي وَحْشية، وعبد الملك بن عُمير وغيرهم. ولد سنة أربع عشرة، ومات سنة ست وتسعين، وليس في الستة عبد الرحمن بن أبي بكرة سواه. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة، ورواته كلهم بصريون، وفيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض، وهم عبد الله ابن عون، وابن سيرين، وابن أبي بَكرة، أخرجه البخاري هنا، وفي الفتن عن مسدد، وفي الحج عن عبد الله بن محمد، وفي التفسير وفي بدء الخلق عن أبي موسى، وفي الأضاحي عن محمد بن سَلَام، وفي العلم والتفسير

باب "العلم قبل القول والعمل"

أيضًا، عن عبد الله بن عبد الوهاب الحجبي، ومسلم في الديات عن أبي بَكر بن أبي شيبة وغيره. والنّسائي في الحج عن إسماعيل بن مسعود، وفي العلم عن أبي قدامة السَّرْخسىّ. وأخرجه البخاري من حديث ابن عباس، وابن عمر، وابن مَنْده في مستخرجه من حديث سبعة عشر صحابيًا. ثم قال البخاري: باب "العلم قبل القول والعمل" لقوله تعالى {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19] فبدأ بالعلم. قال ابن المنير: أراد به أن العلم شرط في صحة القول والعمل، فلا يعتبران إلا به، فهو متقدم عليهما، لأنه مصحح للنية المصحّحة للعمل. فنبه المصنف على ذلك، حتى لا يسبق إلى الذهن من قولهم: إن العلم لا ينفع إلا بالعمل تهوينُ أمر العلم، والتساهل فيه. وقوله: لقول الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} فبدأ بالعلم. أي: أولا، حيث قال: {فَاعْلَمْ} [محمد: 19]، ثم قال: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد: 19] إشارة إلى القول والعمل والخطاب، وإن كان للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فهو متناولٌ لأمته. والأمر بالنسبة إليه، عليه الصلاة والسلام، للدوام والثبوت، كقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:1] أي: دم على التقوى. واستدل سُفيان بن عُيينة بهذه الآية على فضل العلم، كما أخرجه أبو نعيم في "الحلية" في ترجمته عنه، أنه تلاها، فقال: ألم تسمع أنه بدأ به؟ فقال: أعلم. ثم أمره بالعمل. وينتزع منها دليل ما يقوله المتكلمون من وجوب المعرفة، لكن النزاع إنما هو في إيجاب تعلُّم الأدلة على القوانين المذكورة في كتب الكلام، وقد مر شيء من هذا في كتاب الإيمان في باب قوله عليه الصلاة والسلام: "أنا أعلمكم بالله". ويأتي إتمام الكلام عليه في كتاب التوحيد إن شاء الله

تعالى. وقد أشبعنا القول عليه في كتابنا "على متشابه الصفات" ثم قال: "وإن العلماء هم ورثة الأنبياء، ورّثوا العلم، من أخذه أخذ بحظ وافر". بفتح أن، ويجوز كسرها، ومناسبة هذا الحديث للترجمة من جهة أن الوارث قائم مقام موروثه، فله حكمه فيما قام مقامه فيه، وقوله: ورَّثوا العلم، بتشديد الراء، أي: الأنبياء. ويروى بتخفيفها مع كسر الراء، أي العلماء، ويؤيد الأول قولُه في الحديث "وإن الأنبياء لم يورّثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورَّثوا العلم". وقد سقنا لفظ الحديث بطوله، في باب فضل العلم، أول الكتاب. وهذا التعليق طرف من حديث أخرجه أبو داود والتِّرمذيّ وابن حِبان والحاكم مصححًا من حديث أبي الدرداء، وحسّنه حمزة الكناني، وضعّفه غيرهم بالاضطراب في سنده، لكن له شواهد يتقوى بها. ولم يفصح المصنف بكونه حديثًا، فلهذا لا يعد في تعاليقه، لكن إيراده له في الترجمة مشعر بكونه له أصلًا. وشاهده في القرآن قوله تعالى {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32] ثم قال: "ومَن سَلَك طريقًا يطلب به علمًا سهّل الله له طريقًا إلي الجنة". نكّر طريقًا وعلمًا ليتناول أنواع الطرق الموصلة إلى تحصيل العلوم الدينية، وليندرج فيه القليل والكثير. وقوله: "سهل الله له طريقًا" أي: في الآخرة أو في الدنيا، بأن يوفقه للأعمال الصالحة الموصلة إلى الجنة، وفيه بشارة بتسهيل العلم على طالبه، لأن طلبه من الطرق الموصلة إلى الجنة. وهذا طرف من الحديث المذكور. وقد أخرج أيضًا هذه الجملة مسلمٌ من حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة في حديث غير هذا، وأخرجه التِّرمذيّ، وقال: حسن، ولم يقل: صحيح، لأنه يقال: إن الأعمش دَلّس فيه فقال: حُدّثتُ عن أبي صالح، قال ابن حَجَر: لكن في رواية مسلم عن أبي أُسامة عن الأعمش

حدثنا أبو صالح فانتفت تهمة تدليسه، ولكن المصنف لم يخرجْه للاختلاف فيه، ثم قال: "وقال جل ذكره {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] " أي: إنما يخافه الذين علموا قدرته وسلطانه، فمن كان أعلم كان أخشى لله، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: أنا أخشاكم لله، وأتقاكم له، ثم قال: وقال: {وَمَا يَعْقِلُهَا} [العنكبوت: 43] أي: الأمثال المضروبة، وحسنها وفائدتها. وفي الحديث، تفسيرًا لهذه الآية: العالم الذي عقل عن الله، فعمل بطاعته، واجتنب سخَطَه. ووجه إدخال هذه الآية والتي قبلها، في الترجمة، هو أن الباب في العلم والإِتيان في مدح العلماء، ولم يستحقوا هذا المدح إلا بالعلم إلا العالمون، أي: الذين يعقلون عن الله، فيتدبرون الأشياء على ما ينبغي. ثم قال: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ} [الملك: 10] أي: كلام الرُّسُل، فنقبله جملة، من غير بحث وتفتيش، اعتمادًا على ما ظهر من صدقهم بالمعجزات، أو نعقل فنفكر في حِكَمه ومعانيه تفكُّرَ المستبصرين {مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10] أي: في عدادهم وفي جملتهم. وهذا إخبار عن قول الكفار، حين دخولهم النار، وإنما حذف مفعول نَعْقِل، لأنه جُعِل كالفعل اللازم، والمعنى: لو كنا من أهل العلم، ما كنا من أهل النار. وإنما جمع بين السمع والعقل لأن مدار التكليف على أدلة السمع والعقل. وقد روى أبو سعيد الخُدريّ مرفوعًا: "أن لكل شيء دعامة، ودعامة المؤمن عَقْله، فبقدر ما يعقل يعبد ربه. ولقد ندم الفجّار يوم القيامة، فقالوا: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10] " وروى أنسٌ مرفوعًا أن الأحمق ليصيب بحمقه أعظم من فجور الفاجر، وإنما يرتفع العباد غدا في الدرجات، وينالون الزُّلفى من ربهم على قدر عقولهم. ووجه دخول هذه الآية في الترجمة، هو أن المراد من العقل هاهنا العلم، فإن الكفار تمنَّوا أن لو كان لهم العلم لما دخلوا في النار. ثم قال:

{هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]. أراد بالذين يعلمون العاملين من علماء الديانة، كانه جعل من لا يعمل غير عالم. وفيه ازدراء عظيم بالذين يقتنون العلوم ثم لا يقنتون فيها، ثم يفتنون بالدنيا، ووجه دخولها في الترجمة، هو أن الله تعالى نفى المساواة بين العلم والجهل، ويقتضي نفي المساواة أيضًا بين العالم والجاهل، وفيه مدح للعلم وذم للجهل. وهذه الآية بعد قوله تعالى {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا} [الزمر: 9] الخ .. قال القسطلانيّ عند آية المتن: نفيٌ لاستواء الفريقين، باعتبار القوة العلمية بعد نفيها، باعتبار القوة العملية على وجه أبلغ لمزيد فضل العلم، وقيل: تقرير للأول على سبيل التشبيه، أي: كما لا يستوي العالمون والجاهلون، لا يستوي القانتون والعاصون ثم قال: وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-، "من يُرِد الله به خيرًا يفقِّهه في الدين"، وفي رواية المستملي "يفهِّمه" بالهاء المشددة المكسورة بعدها ميم، والفقه هو الفهم، قال الله تعالى {لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 78] أي: لا يفهمون. والمراد الفهم في الأحكام الشرعية. وهذا التعليق وصله البخاري باللفظ الأول بعد هذا ببابين، وأما اللفظ الثاني فأخرجه ابن أبي عاصم في كتاب العلم من طريق ابن عمر عن عمر مرفوعًا. وإسناده حسن. ثم قال: "وإنما العلم بالتَّعلُّم" وهذا حديث مرفوع أورده ابن أبي عاصم والطَّبراني من حديث معاوية، بلفظ "يأيها الناس تعلّموا إنما العلم بالتعلّم، والفقه بالتَّفقُّه، ومن يرد الله به خيرًا يفقِّهه في الدِّين" وإسناده حسن لأن فيه مبهمًا اعتضد بمجيئه من وجه آخر. وروى البزّار نحوه، عن ابن مسعود موقوفًا، ورواه أبو نُعيم الأصبهاني مرفوعًا عن أبي الدرداء بلفظ "إنما العلم بالتعلم وإنما الحِلم بالتَّحَلّم، ومن يَتَحَرَّ الخير يُعْطَهُ". فلا يغتر بقول من جعله من كلام البخاري، والمعنى ليس

العلم المعتبر، إلا المأخوذ من الأنبياء وورثتهم على سبيل التعلُّم. ثم قال: وقال أبو ذَرّ: لو وضعتم الصَّمْصَامَةَ على هذه وأشار إلى قفاه، ثم ظننت أني أنفذ كلمة سمعتها من النبي -صلى الله عليه وسلم-، قبل أن تجيزوا علي لأنفذتها. وهذا التعليق وصله الدارمي في مسنده، عن أبي كثير مالك بن مَرْثَد عن أبيه قال: أتيت أبا ذَرٍّ، وهو جالس عند الجَمْرة الوُسطى، وقد اجتمع عليه الناس يستفتونه، فأتاه رجل، فوقف عليه ثم قال: ألم تُنْهَ عن الفُتْيَا؟، فرفع رأسه إليه فقال: أرقيب أنت عليّ؟ لو وضعتم .. فذكر مثله. ووصله أبو نعيم في "الحلية" من وجه آخر، وبين أن الذي خاطبه رجل من قريش، وأن الذي نهاه عن الفُتْيا عثمان، -رضي الله عنه-. وكان سبب ذلك أنه كان بالشام، فاختلف مع معاوية في تأويل قوله تعالى {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34] فقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب خاصة، وقال أبو ذر: نزلت فيهم وفينا، فكتب معاوية إلى عثمان، فأرسل إلى أبي ذر، ثم حصلت منازعة أدت إلى انتقال أبي ذرٍ عن المدينة إلى الرَّبَذَة، بفتح الراء والموحدة والذال المعجمة، إلى أن مات بها. رواه النَّسَائي. وفيه دليل على أن أبا ذرٍّ كان لا يرى بطاعة الإِمام إذا نهاه عن الفتيا، لأنه كان يرى أن ذلك واجب عليه، لأمر النبي -صلى الله عليه وسلم-، بالتبليغ، كما مر قريبًا في قوله: "لِيبلغ الشاهدُ الغائب". ولعله أيضًا سمع الوعيد في حق من كتم علمًا يعلمه. والصمصامة، بمهملتين، الأولى مفتوحة، هو السيف الصارم الذي لا ينثني، وقيل: الذي له حد واحد. وقوله: هذه، إشارة إلى القفا، وهو يذكر ويؤنث، وقوله: إني أُنْفِذُ، بضم الهمزة وكسر الفاء وبالذال المعجمة، أي: أُمضي. وقوله: أن تجيزوا عليَّ، بضم المثناة وكسر الجيم وبعد الياء زاي، أي: تكملوا قتلي. ونكر "كلمة" ليشمل القليل والكثير، والمراد أنه يبلغ ما تحمله في كل حال، ولا ينتهي عن ذلك ولو أشرف على القتل.

"لو" في كلامه لمجرد الشرط، من غير أن يلاحظ الامتناع، أو المراد أنّ الإِنفاذ حاصل على تقدير وضع الصمصامة، وعلى تقدير عدم حصوله أولى، فهو كقوله "لو لم يخَفِ الله لم يَعْصِه". وفيه الحث على تعليم العلم، واحتمال المشقة فيه، والصبر على الأذى، طلبًا للثواب. قلت: في حديث أبي ذَرّ دليل لمن قال إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يسقط وجوبهما بخوف القتل، كالشافعية. وفي حديث أبي هريرة الآتي في آخر كتاب العلم، "وأما الآخر فلو بَثَثْته لقطع هذا البلعوم" دليلٌ لمن قال بسقوط وجوبهما بخوف القتل، كالمالكية. ثم قال: "وقال ابن عباس كونوا ربانيين حلماء فقهاء علماء، ويقال الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره". وقد فسر ابن عباس الرَّباني، بأنه الحكيم الفقيه، ووافقه ابن مسعود فيما رواه إبراهيم الحربي في غريبه عنه، بإسناد صحيح. وقال الأصمعي والإِسماعيلي: الرَّبّاني نسبة إلى الربّ، أي: الذي يقصد ما أمره الرب بقصده، من العلم والعمل، وقال ثعلب: قيل للعلماء: الرَّبانيون، لأنهم يربون العلم أي يقومون به، وزيدت الألف والنون للمبالغة، والحاصل أنه اختلف في هذه النسبة، هل هي نسبة إلى الرب أو إلى التربية. والتربية على هذا للعلم، وعلى ما حكاه البخاري لمتعلمه. والمراد بصغار العلم، ما وضح من مسائله، وبكباره ما دق منها. وقيل: يعلمهم جزئياته قبل كلياته، أو فروعه قبل أصوله، أو مقدماته قبل مقاصده. وقال ابن الأعرابيّ: لا يقال للعالم ربَّانيّ حتى يكون عالمًا معلمًا عاملًا. وقد اقتصر المصنف في هذا الباب، على ما أورده، من غير أن يورد حديثًا موصولًا على شرطه، فإما أن يكون بيَّض له ليُورد فيه ما يثبت على شرطه، أو يكون تعمد ذلك اكتفاء بما ذكر. وهذا التعليق وصله ابن أبي عاصم بإسناد حسن، والخطيب بإسناد آخر حسن. وقد مرّ أبو ذَرّ في الثالث والعشرين من كتاب الإِيمان، ومر ابن عباس في الخامس من بدء الوحي.

باب "ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا".

ثم قال المصنف: باب "ما كان النبيّ -صلى الله عليه وسلم- يَتَخَوَّلهُم بالموعظة والعلم كي لا يَنفروا". " ما" من قوله: "ما كان" مصدرية، أي باب "كون النبي -صلى الله عليه وسلم-، يتخول أصحابه، بخاء معجمة وتشديد الواو ثم لام، أي: يتعهدهم. والموعظة النصح والتذكير بالعواقب. وعطف العلم عليها من باب عطف العام على الخاص، لأن العلم يشمل الموعظة وغيرها، وإنما عطفه لأنها منصوصة في الحديث، وذكر العلم استنباطا. وقوله: "كيلا ينفروا"، بفتح المثناة التحتية وكسر الفاء، أي: يتباعدوا. واستعمل في الترجمة معنى الحديثين اللذين ساقهما، وتضمن ذلك تفسير السآمة بالنفور، وهما متقاربان. ومناسبته لما قبله ظاهرة من جهة ما حكاه من تفسير الربَّاني، كمناسبة الذي قبله، من تشديد أبي ذر في أمر التبليغ لما قبله من الأمر بالتبليغ، وغالب أبواب هذا الكتاب لمن أمعن النظر فيها والتأمل، لا يخلو من ذلك.

الحديث العاشر

الحديث العاشر حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِى الأَيَّامِ، كَرَاهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا. قوله: "كان -صلى الله عليه وسلم-، يتخولنا"، بالخاء المعجمة وتشديد الواو. والخائل: هو القائم المتعهد للمال، يقال: خال المالَ يخُوله تخوُّلًا، إذا تعهده وأصلحه. والمعنى: كان يراعي الأوقات في تذكيرنا، ولا يفعل ذلك كل يوم لئلا نملّ. والتخوّن، بالنون أيضًا، يقال: تخوّن الشيء إذا تعهده وحفظه، أي اجتنب الخيانة فيه. كما قيل، في تحنَّثَ وتأثَّم ونظائرهما. وقد قيل: إن أبا عمرو بن العلاء سمع الأعمش يحدِّث هذا الحديث فقال: "يتخولنا" باللام، فرده عليه بالنون، فلم يرجع لأجل الرواية، وكلا اللفظين جائز. وحكي عن أبي عمرو الشِّيْباني أنه كان يقول: الصواب يتحولنا، بالحاء المهملة، أي: يتطلب أحوالنا التي ننشط فيها للموعظة. قال في "الفتح" والصواب من حيث الرواية الأولى، فقد رواه منصور عن أبي وائل كرواية الأعمش. وهو في الباب الآتي، وإذا ثبتت الرواية وصح المعنى، بطل الاعتراض. وقوله: "كراهة السآمة" بالنصب، مفعول لأجله، أي: لأجل الكراهة. وفي رواية الحَمَوي "كراهية" بزيادة مثناة تحتية، وهما لغتان، والسَّآمة الملالة من الموعظة، وقوله: "علينا" متعلق بالسآمة، على تضمينِ السآمة معنى المشقة، فعدّاها بعلى، والصلة محذوفة، أي: كراهة السآمة

رجاله خمسة

علينا من الموعظة، أو بالصفة المقدّرة، أي، كراهة السآمة الطارئة علينا، أو بالحال، أي: كراهة السآمة حال كونها طارئة علينا، أو بمحذوف، أي: كراهة السآمة شفقة علينا. ويستفاد من الحديث استحباب ترك المداومة في الجد في العمل الصالح خشية الملال، وإن كانت المواظبة مطلوبة. لكنها على قسمين: إما كل يوم مع عدم التكلف، وإما يوما بعد يوم، فيكون يوم الترك لأجل الراحة، ليقبل عل الثاني بنشاط. وإما يومًا في الجمعة، ويختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، والضابط الحاجة، مع مراعاة وجود النشاط. واحتمل عمل ابن مسعود مع استدلاله أن يكون اقتدى بفعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، حتى في اليوم الذي عينه، واحتمل أن يكون اقتدى بمجرد التخلل بين العمل والترك، الذي عبر عنه بالتخول، والثاني أظهر. وأخذ بعض العلماء من حديث الباب كراهة تشبيه غير الرواتب بالرواتب، بالمواظبة عليها في وقت معين دائمًا، وجاء عن مالك ما يشبه ذلك. رجاله خمسة: الأول: محمد بن يوسف بن واقد بن عثمان الضَّبّي، مولاهم، أبو عبد الله الفِريابيّ، نزيل قيسارية، وهي مدينة من مدن فلسطين من ساحل الشام، قال أحمد: كان رجلًا صالحًا فاضلًا. وقال الذَّهبيّ: كان ثقة فاضلًا عابدًا، من جملة أصحاب الثوريّ. وثَّقه أبو حاتم والنَّسائي. وقال البخاريّ: كان من أفضل أهل زمانه. وقال العجليّ: الفريابيّ ثقة، وهو ويحيى بن آدم وقبيصة والزبيري ومعاوية ثقاتٌ. وقال محمد بن سَهل: خرجنا مع الفِريابيّ للاستسقاء، فرفع يديه، فما أرسلهما حتى مُطرنا. وقال البخاريّ: رأيت قومًا دخلوا على الفريابي، فقيل له: يا أبا عبد الله، إن هؤلاء مرجئة، فتابوا ورجعوا. قال العجلي: كانت سنته كوفية. وقال ابن عدي: له إفرادات عن الثوريّ، وله حديث كثير عن الثَّوريّ، وقد يقدم

الفِريابي في الثَّوري على جماعة، مثل عبد الرزاق ونظرائه. قالوا: الفريابيُّ أعلم بالثوري منهم. ورحل إليه أحمد، فلما قرب من قيسَارية نُعي إليه، فعدل إلى حمص. والفريابي، فيما يتبين، رجلٌ صدوق، لا بأس به. وقال أبو عمير بن النحاس: سألت ابن معين، قلت: أيهما أحب إليك: كتاب الفِريابيّ أو كتاب قُبَيْصة؟ قال: كتاب الفريابيّ. وعن ابن أبي خَيْثمة، سُئِل ابن معين عن أصحاب الثَّوريّ، أيهم أثبت، فقال: هم خمسة: القطّان ووكيع وابن المبارك وابن مَهديّ وأبو نُعيم. وأما الفِريابيّ وأبو حُذيفة وقبيصة وعبيد الله بن أبي موسى وأبو أحمد الزبيريّ وعبد الرزاق وأبو عاصم والطبقة، فهم كلهم في سفيان، بعضهم قريب من بعض، وهم ثقات كلهم، دون أولئك في الضبط والمعرفة. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبا زرعة عن الفِريابي ويحيى بن يَماَن، فقال: الفريابي أحب إلى. قال: وسألت أبي عن الفِريابي، فقال: صدوق ثقة وقال محمد بن عبد الملك بن زِنْجَوَيه: ما رأيت أورع من الفِريابي. وقال السُّلَميّ: سألت الدارقطني: إذا اجتمع قبيصة والفريابي من تقدم منهما؟ قال: الفريابي نفضله ونشكره. وقال العجلي: قال بعض العلماء البغداديين: أخطأ محمد بن يوسف في مئة وخمسين حديثًا من حديث سفيان. وقال ابن معين: حديثه عن ابن عُيينة عن ابن أبي نُجَيْح عن مجاهد "الشعر في الأنف أمان من الجُذام" باطل. وفي "الزهرة"، روى عنه البُخاري ستة وعشرين حديثًا. أدرك الأعمش، وروى عن الأوزاعي وفطر بن خليفة، وجرير بن حازم، ونافع مولى ابن عمر، ومالك بن مغول، والثَّوري ولازمه، وزائدة، وثَعْلبة بن سهل، ويونس بن أبي إسحاق، وطائفة. وروى عنه البخاريّ وروى، هو والباقون، بواسطة أحمد بن حنبل وإسحاق الكَوسَج، ومحمد بن يحيى، والوليد بن عُتْبة، وأبو الأزهر، وابنه عبد الله، ومحمد بن مسلم بن وَارَة وغيرهم.

لطائف إسناده

مات في ربيع الأول سنة اثنتي عشرة ومئتين. ومحمد بن يوسف في الستة سواه ستة، وقال الكَرَماني: إن المراد بمحمد بن يوسف الراوي لهذا الحديث البَيْكنديّ، وهو وهم منه، لأن البخاريّ حيث أطلق محمد بن يوسف لا يريد إلا الفريابيّ، وإن كان يروي أيضًا عن البَيْكنديّ. والفِريابيّ في نسبه، بكسر الفاء، نسبة إلى فِرياب، اسم مدينة من نواحي بَلْخ، من أعمال جوزان، بينها وبين بلخ ستة مراحل. ولها ذكر في الحديث. منها جعفر بن محمد الفِريابيّ الحافظ، صاحب التصانيف. ويقال لها: فيرياب ككيمياء، بزيادة الياء وفارِياب، كقاصِعاء، وأما فاراب، كسَاباط، فهي ناحية وراء نهر سَيْحون في تخوم بلاد الترك، وإليها نسب خال الجَوْهريّ، مؤلف ديوان الأدب، أو هي بلد "أُتْرارة" بالضم، وهي قاعدة بلاد الترك، وهو الصحيح المشهور، وفَرابَ، كسحاب، قرية في سفح جبلٍ قرب سَمَرقَند، على ثمانية فراسخ. منها أبو الفتح أحمد بن الحسين بن عبد الرحمن الشّاشي، سكن فَرَاب، وحدث بها، سمع منه السمعانيّ، وفِرّاب، كزنّار، قرية بأصبهان. الثاني: سفيان، والمراد به الثَّوريّ لأن محمد بن يوسف الفريابي، وإن كان يروي عن السفيانين، فإنه حين يطلق لا يريد إلا الثَّوريّ. كما أن البخاري حيث يطلق محمد بن يوسف لا يريد به إلا الفريابي، كما مر قريبًا. والثَّوري مر في السابع والعشرين من كتاب الإِيمان، ومر سليمان بن مهران في الخامس والعشرين منه، ومر أبو وائل في الحادي والأربعين منه، ومر عبد الله بن مسعود في الأثر الثالث من كتاب الإِيمان، قبل ذكر حديث منه. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة، ورواته كلهم كوفيون ما خلا الفريابيّ، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. إخرجه البخاريّ في الباب الذي يلي هذا، عن عثمان بن أبي شيبة. وفي الدعوات عن عمر بن حفص، ومسلم في التوبة عن أبي بكر بن أبي شَيْبة وغيره، والتِّرمذيّ في الاستئذان عن محمد بن غَيلان. وقال: حسن صحيح.

الحديث الحادي عشر

الحديث الحادي عشر حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنِى أَبُو التَّيَّاحِ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلاَ تُنَفِّرُوا". قوله: "يسروا" أمرٌ من اليسر نقيض العسر. وقوله: "ولا تعسروا" نهيٌ من عسَّر تعْسيرًا، واستشكل الإِتيان بالثاني بعد الأول مع أن الأمر بالإِتيان بالشيء نهي عن ضده. وأجيب بأنه صرح باللازم للتأكيد، وبأنه لو اقتصر على الأول لصدق على من يسر مرة، وعسر كثيرًا، فلما قال: "ولا تُعسِّروا" انتفى التعسير في كل الأحوال من جميع الوجوه، وكذا الجواب عن قوله: "ولا تنفروا". وقوله: "وبشرِّوا" أمر من البِشارة، وهي الإِخبار بالخير، ضد النَّذَارة. وقوله: "ولا تُنَفِّروا" نهي من نَفَّر، بالتشديد، أي: بشِّروا الناس أو المؤمنين، بفضل الله وثوابه، وجزيل عطائه، وسعة رحمته، ولا تُنفِّروهم بذكر التخويف، وأنواع الوعيد. والمراد تأليفُ من قَرُب إسلامه، وترك التشديد عليه في الابتداء. وكذلك الزجر عن المعاصي ينبغي أن يكون بتلطف ليقبل. وكذا تعليم العلم، ينبغي أن يكون بالتدريج لأن الشيء إذا كان في ابتدائه سهلًا حُبِّبَ إلى من يدخل فيه، وتلقَّاه بانبساط، وكانت عاقبته غالبًا، الازدياد، بخلاف ضده. ووقع عند المصنف في الأدب "وسكِّنوا" بدل "وبشرِّوا"، وهي التي تقابل "ولا تنفروا" لأن السكون ضد النفور، كما أن ضد البشارة النذارة، لكن لما كانت النذارة، وهي الإِخبار بالشر في ابتداء التعليم، توجب النَّفْرة، قوبلت البشارة بالتنفير. ويقال أيضًا: المقصود من الإِنذار التنفير، فصرح بما هو

رجاله خمسة

مقصود منه، لا يقال كان ينبغي أن يقتصر على قوله "ولا تعسروا" "ولا تنفروا" لعموم النكرة في سياق النفي، يعني الفعل المتنزل منزلتها، ينفي مصدره المنكر، لأنه لا يلزم من عدم التعسير ثبوت التيسير، ولا من عدم التنفير ثبوت التبشير، فجمع بين هذه الألفاظ لثبوت هذه المعاني، لاسيما والمقام مقام إطناب. وفي قوله "بشروا" بعد "يسروا" الجناس الخطي. وفي الحديث الأمر للوُلاة بالرِّفق، وهو من جوامع الكلم، لاشتماله على خَيرْي الدنيا والآخرة، لأن الدنيا دار الأعمال، والأخرى دار الجزاء. فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فيما يتعلق بالدنيا بالتسهيل، وفيما يتعلق بالآخرة بالوعد بالخير، والإِخبار بالسرور، تحقيقًا لكونه رحمة للعالمين في الدارين. رجاله خمسة: الأول: محمد بن بشّار، بفتح الباء وتشديد الشين، ابن عثمان بن داود ابن كَيْسان، أبو بكر الحافظ العَبديّ البَصرْي، بُندار، بضم الباء وسكون النون وفتح الدال المهملة، لقِّب به لأنه كان بُندار الحديث، جمع حديث بلده. وبُندار، في الأصل، من في يده القانون، وهو أصل ديوان الخَرَاج، فلذلك سمي هو به، لأنه يؤول إلى معنى الحفظ. قال محمد إسحاق بن خُزَيْمة: حدثنا محمد بن بشّار الإِمام بُندار. وقال العَجليّ: بصري ثقة كثير الحديث، وكان حائكًا. وقال أبو حاتم: صدوق. وقال النّسائي: صالح لا بأس به. وقال عبد الله بن محمد بن يونس السَّخْتيانيّ: كان أهل البصرة يقدّمون أبا موسى على بُندار، وكان الغرباء يقدمون بُندارًا. وقال محمد بن المُسيّب: سمعته يقول: كتب عني خمسة قرون، وسألوني عن الحديث، وأنا ابن ثمان عشرة سنة. وقال ابن خُزيمة: سمعتُ بُندارًا يقول: اختلفتُ إلى يحيى بن سعيد القطّان أكثر من عشرين سنة، قال بندار: ولو عاش يحيى بعد تلك المدة لكنت أسمع منه شيئًا كثيرًا. وقال أبو داود: كتبت عن بُندار نحوًا من خمسين ألف حديث، وكتبت

عن أبي موسى شيئًا، ولولا سلامة في بُندار لترُك حديثه، يعني أنه كانت فيه سلامة، فكان إذا صدر منه خطأ حمل على أنه سها أو غلط، ولم يتعمد ذلك. وقال إسحاق بن إبراهيم الفزاريّ: كنا عند بُندار، فقال في حديث عن عائشة: قال: قالت: رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال له رجل، يسخر منه: أعيذك بالله ما أفصحك! فقال: كنا إذا خرجنا من عند روح، دخلنا إلى أبي عبيدة، فقال: قد بان ذلك عليك. وقال ابن سَيّار: بُندار وأبو موسى ثقتان، وأبو موسى أصح، لأنه كان لا يقرأ إلا من كتابه، وبندار يقرأ من كل كتاب. وقال ابن حِبان: كان يحفظ حديثه، ويقرأه من حفظه. وقال ابن خُزيمة في "التوحيد": حدثنا إمام زمانه، محمد بن بشّار. وقال الدارقطني: من الحفاظ الأثبات. وقال البخاريّ في صحيحه: كُتب إلى بُندار، فذكر حديثًا مسندًا، ولولا شدة وثوقه ما حدث عنه بالمكاتبة، مع أنه في الطبقة الرابعة من شيوخه، إلا أنه كان مكثرًا فيوجد عنده ما لم يوجد عند غيره. وكان يفتخر بأخذ البخاريّ عنه، ويقول: أنا أفتخر به منذ سنين. وضعّفه عمرو بن علي الفلاّس، ولم يذكر سبب تضعيفه، فما عرّجوا على تجريحه. وقال القَوارِيريّ: كان يحيى بن معين يستضعفه، وكان صاحب حمّام. قال الأزْدي: بندار قد كتب عنه الناس وقبلوه، وليس قول يحيى والقواريريّ مما يجرحه، وما رأيت أحدًا ذكره إلا بخير وصدق. قال الذَّهبيّ: لم يرحل ففاته كبار، واقتنع بعلماء البصرة، أرجو أنه لا بأس به. ولم يكثر البخاري من تخريج أحاديثه لأنه من صغار شيوخه. وفي "الزُّهرة" روى عنه البخاريُّ مئتي حديث وخمسة أحاديث. وروى عنه مسلم أربع مئة وستين. روى عن عبد الوهاب الثَّقفيّ وغُنْدر، وروح بن عُبادة ومُعاذ بن هشام، ويحيى القطّان، وابن مَهدي، وأبي داود الطيالسي، ويزيد بن زُرَيع، وابن هارون وخلق. وروى عنه الجماعة، وروى النَّسائي عن أبي بكر المَرْوَزيّ، وزكرياء

لطائف إسناده

السَّجْزيّ عنه، وأبو زرعة، وأبو حاتم وبقىّ بن مخْلَد، وابن خُزيمة والسرَّاج القاسم بن زكرياء المُطرِّز، ومحمد بن المُسيَّب الأرْغيابيّ وآخرون. ولد سنة سبع وستين ومئة في السنة التي مات فيها حمّاد بن سَلَمة، ومات في رجب سنة اثنتين وخمسين ومئتين، وليس في الستة محمد بن بشّار سواه إلا محمد بن بشار العَدَنيّ، شيخُ يمانٍ. والعبديّ في نسبه مرّ في الثامن من كتاب الإِيمان. الثاني: يزيد بن حمُيد أبو التَّيَّاح، بفوقانية، ثم تحتانية ثقيلة. وآخره حاء مهملة، الضَّبَعي البصريّ، قال أبو إياس: ما بالبصرة أحد أحب إليّ من أن ألقى الله تعالى بمثل عمله من أبي التياح. وذكره ابن حِبان في الثقات. وقال ابن سعد: كان ثقة وله أحاديث. وقال الحاكم: ثقة مأمون. وقال عبد الله ابن أحمد عن أبيه: ثَبْت ثقة ثقة. وقال ابن مَعين وأبو زرعة والنّسائي: ثقة. وقال ابن المَدينيّ: معروف. وقال أبو حاتم: صالحٌ. روى عن أنس وأبي عثمان النَّهدي وأبي الوَدَّاك والحسن البصري وثُمامة ابن عبد الله بن أنس وأبي مجلز وابن أبي مُليكَة وأبي حَجْرة الضَّبعيّ وغيرهم. وروى عنه سعيد بن أبي عَرُوبة، وشعبة وعبد الوارث بن سعيد والحمّادان، وابن علية وبُسطام بن مسلم، وغيرهم. مات سنة ثمان وعشرين ومئة، وقيل: سنة ثلاثين. ويزيد في الستة كثير والضَّبعيّ في نسبه نسبة إلى ضُبَيعة، وقد مر في السادس والأربعين من كتاب الإِيمان. وقد مر يحيى بن سعيد القطّان في السادس من كتاب الإِيمان، ومر شُعبة في الثالث منه، وأنس بن مالك في السادس منه أيضًا. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث بالجمع والإِفراد والعنعنة، ومنها أن رواته كلهم بصريون، ومنها أنهم أئمة أجلاء، وقد أخرجه البخاريّ أيضًا في الأدب عن آدم عن شعبة، فوقع له عاليًا رباعيًا من طريق آدم، وآدم ممن انفرد به البخاريّ عن مسلم، وأخرجه مسلم في المغازي والنَّسائي.

باب من جعل لأهل العلم أياما معلومة

ثم قال المصنف: باب من جعل لأهل العلم أيامًا معلومة بالجمع في الأول والإِفراد في الثاني، أو بالجمع فيهما، أو بالإِفراد فيهما. فالأُولى لكريمة، والثانية للكَشْميهني، والثالثة لغيرهما. وباب: خبر مبتدأ محذوفٍ مضافٍ لتاليه، وكان البخاري أخذ الترجمة من صَنيع ابن مسعود في تذكيره كل خميس، أو من استنباط عبد الله ذلك من الحديث الذي أورده.

الحديث الثاني عشر

الحديث الثاني عشر حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُذَكِّرُ النَّاسَ فِى كُلِّ خَمِيسٍ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَوَدِدْتُ أَنَّكَ ذَكَّرْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ. قَالَ: أَمَا إِنَّهُ يَمْنَعُنِى مِنْ ذَلِكَ أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ، وَإِنِّي أَتَخَوَّلُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَتَخَوَّلُنَا بِهَا، مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا. قوله: فقال له رجل، قال في "الفتح": هذا المبهم يشبه أن يكون يزيد ابن معاوية النِّخَعيّ، وفي سياق المصنف في أواخر الدعوات ما يرشد إليه، ويأتي تعريفه هناك في السادس والمئة من الدعوات. وقوله: لَوَدِدتُ، اللام جواب قسم محذوف، أي: والله لوددت، وقوله: "كل يوم" قاله استحلاءًا للذكر، لما وجد من بركته ونوره. وقوله: "قال أمَا"، بفتح الهمزة وتخفيف الميم، حرف تنبيه عند الكَرَماني، واستفتاح بمنزلة ألا، أو بمعنى حقًّا عند غيره. وقوله: "إنه يمنعني" بكسر الهمزة أو بفتحها، على قول إن أما بمعنى حقًا والضمير للشأن. وقوله: أني أكره بفتح الهمزة، فاعل بمعنى "يمنعني" وقوله "أن أُمِلَّكم" بضم الهمزة وكسر الميم وتشديد اللام المفتوحة، مفعول به أي: أكره إملالكم وضجركم. وقوله: "وإني أتخولكم" بكسر الهمزة، وقوله: يتخولنا بها، أي: بالموعظة في مظان القبول، ولا يكثر، وقوله: "مخافة السآمة علينا" يتعلق علينا بالمخافة أو بالسآمة، وقد مرّ شرح المتن قريبًا، قبل هذا بحديث واحد. قال ابن بطّال: فيه ما كان عليه الصحابة رضي الله تعالى عنهم من الاقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، والمحافظة على سنته على حسب معاينتهم لها منه، وتجنب مخالفته لعلمهم بما في موافقته من عظم الأجر، وما في مخالفته من عكس ذلك.

رجاله خمسة

رجاله خمسة: الأول: عثمان بن محمد بن إبراهيم بن عثمان بن خُواسْتي، بضم خاء معجمة، فواو مخففة، فألف، فمهملة ساكنة، فمثناة فوق، فتحتية، العَبَسيّ مولاهم، أبو الحسن بن أبي شَيْبة الكوفيُّ، صاحب المُسْند والتفسير. قال فُضاَلة الرازيّ: سألت ابن مَعين عن محمد بن حمُيد الرازيّ: فقال: ثقة. وسألته عن عثمان بن أبي شَيبة، فقال: ثقة. فقلت: من أحب إليك؟ ابن حُميد أو عثمان؟ قفال: ثقتين أمينين مأمونين. وقال الحسين بن حَيّان عن يحيى: ابنا أبي شيبة عثمان وعبد الله ثقتان صدوقان، ليس فيه شك. وقال أبو حاتم: سمعت رجلًا يسأل محمد بن عبد الله بن نُمَيرْ عن عثمان، فقال: سبحان الله، أمثله يُسال عنه؟ إنما يسأل هو عنا. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: كان عثمان أكبر من أبي بكر، إلا أن أبا بكر صنف. قال: وقال أبي: هو صدوق، وقال ابن حَجَر في مقدمته: أبو بكر ضعيف، وعثمان صدوق، نزل بغداد، ورحل إلى مكة والرَّيّ، وكتب الكثير. وقال أحمد بن حنبل: ما علمت إلا خيرًا. وأثنى عليه، وكان ينكر عليه أحاديث حدث بها، منها حديث جرير عن الثَّوريّ عن ابن عَقيل عن جابر قال: شهد النبي، عليه الصلاة والسلام، عيدًا للمشركين. وتتبع الخطيب الأحاديث التي أنكرها أحمد وبينّ عذره فيها، وذكر له الدارقطني في كتاب التصحيف أشياء كثيرة صحفها في القرآن في تفسيره، كأنه ما كان يحفظ القرآن، منها أنه قال: "فلما جَهَّزَهُم بجَهَازهم جعل السَّفِينَة في رِجْل أخيه" فقيل له: إنما هو {جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ} [يوسف: 70]، فقال: أنا وأخي أبو بكر لا نقرأ لعاصم. قال الدارقطني: قيل إنه قرأ عليهم في التفسير "واتَّبعوا ما تتلوا الشياطين" بكسر الباء. روى عن شرَيك وابن المبارك وهُشيم وجَرير بن عبد الحميد وابن عُيينة، وروى عنه الستة ما عدا التِّرمذيّ. لكنَّ النَّسائيّ روى عنه بواسطة رجل، وروى عنه أيضا يحيى بن محمد الذُّهلي ومحمد بن سعد، وأبو زرعة وأبو حاتم

الرَّازيّان وآخرون. روى عنه البخاري ثلاثة وخمسين، ومسلم خسة وثلاثين ومئة. ولد سنة ست وخمسين ومئة، ومات في المحرم سنة تسع وثلاثين ومئتين. وعثمان في الستة كثير، والعبسي في نسبه مر الكلام عليه في الحديث الأول من كتاب الإِيمان. الثاني: جرير بن عبد الحميد بن قُرْط بن هِلال أبو عبد الله القاضي الضَّبيّ الكوفي منشأ، ثم الرازيّ. قال ابن عمار الموصلي: حجة، كانت كتبه صحاحًا، وقال ابن المَدينيّ: كان صاحب ليل. وقال محمد بن سعد: كان ثقة كثير العلم، يُرحل إليه. وقال أبو زَرعة: صدوق من أهل العلم. ووثقه العَجْليّ والنَّسائي وأبو حاتم. وقال اللاَّلكائِيُّ: أجمعوا على ثقته، وكذا قال الخليلي. وقال أبو خَيْثَم: لم يكن يدلِّس، وروى الشادَكُونيّ عنه ما يدل علي أنه يدلس، لكن الشادكونيّ فيه مقال. وقال ابن حِبان في "الثقات": كان من العُبَّاد الخُشْن. وقال أبو أحمد الحاكم: هو عندهم ثقة. وقال قُتيبة: حدَّثنا جرير الحافظ المقدم، لكن سمعته يشتم معاوية علانية. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي، عن أبي الأحوص وجرير، في حديث حُصين فقال: كان جرير أكيس الرجلين، جرير أحب إلى. قلت: يحتج بحديثه؟ قال: نعم، جرير ثقة. وهو أحب إلى من هشام بن عُروة بن يونس ابن بَكير. وقال محمد بن عمرو زُنَيج: سمعت جريرا قال: رأيت ابن أبي نجيح وجابر الجُعفي وابن جريج، فلم أكتب عن واحد منهم، فقيل له: ضيّعت يا أبا عبد الله، فقال: لا، أما جابر فكان يؤمن بالرَّجْعة، وأما ابن أبي نُجيح فكان يرى القَدَر. وأما ابن أبي جُرَيج، فكان يرى المُتْعة، وقيل لسليمان بن حرْب: أين كتبت عن جرير؟ فقال: بمكة، أنا وعبد الرحمن بن مهدي وشَاذانُ. وقال أحمد بن حَنبل: لم يكن بالذكيّ وقال البيهقيّ: نسب في آخر عمره إلى سوء الحفظ. قال ابن حَجَر: لم أر ذلك لغيره، بل احتج به الجماعة. وذكر صاحب "الحافل" عن أبي حاتم أنه تغير قبل موته بسنة، فحجبه

أولاده، وهذا ليس بمستقيم، فإنما هذا إنما وقع لجرير بن حازم، فكأنه اشتبه على صاحب "الحافل". روى عن عاصم الأحْول ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، والأعمش، وسليمان التَّيْميّ، ومنصور بن المُعْتَمِر، وعَطاء بن السائب، وخلق كثير. وروى عنه إسحاق بن رَاهَوَيه، وعليّ بن المدينيّ، ويحيى بن مَعين، وابنا أبي شيبة، وعَبْدان المَرْوزيّ، وعليّ بن حَجَر، وغيرهم. ولد سنة مات الحسن. وهي سنة عشر ومئة. ومات سنة ثمان وثمانين ومئة، وقيل: سنة سبع. وفي الستة جرير تسعة، والجريران هما هذا وجرير بن حازم. والضَّبيّ في نسبه مر في التاسع والعشرين من كتاب الإِيمان. الثالث: منصور بن المعتمر بن عبد الله بن رُبَيْعة بالتصغير، أبو عتّاب السُّلَمي الكوفيّ. قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن منصور فقال: ثقة. قال: وسئل أبي عن الأعمش ومنصور، فقال: الأعمش حافظ يخلط ويدلس، ومنصور أتقن لا يخلط ولا يدلس. وقال العجليّ: كوفي ثقة ثبْت في الحديث، كان أثبت أهل الكوفة، وكان حديثه "القدح" لا يختلف فيه أحد، متعبد رجل صالح، أُكْرِه على القضاء شهرين، وكان فيه تشيُّع قليل. ولم يكن بغالٍ. وكان قد عَمِش من البُكاء، وصام ستين سنة، وقامها. وقالت فتاة لأبيها: يا أبت، الأُسطوانة التي كانت في دار منصور ما فعلت؟ قال: يا بنية، ذاك منصور يصلي بالليل، فمات. وسئل ابن المديني: أي أصحاب إبراهيم أعجب إليك؟ قال: إذا حدثك عن منصور ثقةٌ فقد ملأت يديك، ولا تَرُدّ غيره. وقال أبو داود: كان منصور لا يروي إلا عن ثقة، وقال علي بن المَدينيّ عن يحيى بن سعيد قال سفيان: كنت لا أُحدِّث الأعمش عن أحد من أهل الكوفة إلا رده، فإذا قلت منصور، سكت. قلت ليحيى: منصور عن مجاهد أحب إليك أم ابن أبي نُجَيح؟ قال: منصور أثبت، ثم قال: ما أحد أثبت عن مجاهد وإبراهيم من منصور. وقال شعبة: عن منصور ما كتبت حديثا قط.

لطائف إسناده

وقال ابن عُيَيْنة: قال لي الثَّوريّ: رأيت منصورًا وعبد الكريم الجَزْريّ وأيوب وعمرو بن دينار، هؤلاء الأعين الذين لا يشك فيهم. وقال الثَّوريّ أيضًا: ما بالكوفة آمن على الحديث من منصور. وقال ابن مهدي: أربعة بالكوفة، لا يختلف في حديثهم، فمن اختلف عليهم، فهو مخطىء، ليس هو منهم، منهم ابن المُعْتمِر. وقال عبدان: سمعت أبا حمزة يقول: دخلت بغداد فرأيت جميع من بها يثني على منصور، وقال وكيع عن سفيان: إذا جاءت المذاكرة، جئنا بكل، وإذا جاء التحصيل جئنا بمنصور. وقال عبد الرزاق: حدث سفيان عن منصور عن إبراهيم عن عَلْقَمة عن عبد الله، فقال: هذا الشرف على الكرسيّ، وقال عثمان الدّارميّ: قلت ليحيى: أبو مَعشر أحب إليك عن إبراهيم، أو منصور؟ قال: منصور. قلت: فالحكم أو منصور؟ قال: منصور. قلت: فمنصور أو مغيرة؟ قال: منصور. روى عن أبي وائل وزيد بن وهب، وإبراهيم النِّخعيّ، والحسن البصري، ورَبَعي بن حِراش، وسعيد بن جُبَير، ومجُاهد، وخلق. وروى عنه أيوب والأعمش، وسليمان التَّيْميّ، وهم من أقرانه، والثَّوريّ وشُعبة ومِسْعَر وشَيبان، وزُهير بن معاوية، وجرير بن عبد الحميد، وإسرائيل وخلق. مات سنة ثلاث وقيل اثنتين وثلاثين ومئة، ومنصور في الستة سواه ستة عشر. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة، ورواته كلهم كوفيون وهم أئمة أجلاء. ثم قال المصنف: باب من يُرد الله به خيرًا يفقِّهْهُ في الدين في رواية الكَشْمَيهنيّ زيادة "في الدين"، وسقطت عند الباقين. وخيرًا، بالنصب مفعول يُرد المجزوم، لأنه فعل الشرط، وكُسرِ لالتقاء الساكنين، وجواب الشرط يفقهْه، فالهاء ساكنة. يقال: فَقُهَ، بالضم، إذا صار الفقه له سجية. وفَقَهَ، بالفتح، إذا سبق غيره إلى الفهم، وفَقِه، بالكسر، إذا فهم

وعلم. وجعله العُرف خاصًا بالعلم الشريعة، ومخصصًا بعلم الفروع، وإنما خص علم الشريعة بالفقه، لأنه علم مستنبط بالقوانين والأدلة، والأقيسة والنظر الدقيق، بخلاف علم اللغة والنحو وغيرهما. روي أن سليمان نزل على نَبَطيّة بالعراق، فقال لها: هل هنا مكان نظيف أصلي فيه؟ فقالت: طهر قلبك، وصل حيث شئت. فقال: فَقِهت وفطنت الحق، ولو قال: علمت، لم يقع هذا الموقع. ونكّر "خيرًا" ليشمل القليل والكثير، والتنكير للتعظيم، لأن المقام يقتضيه، ومفهوم الحديث أن من لم يتفقه في الدين، أي: يتعلم قواعد الإِسلام، وما يتصل بها من الفروع، فقد حُرِم الخير. وقد أخرج أبو يعلي حديث معاوية الآتي من وجه آخر ضعيف، وزاد في آخره "ومن لم يتفقه في الدين لم يبالِ الله به" والمعنى صحيح، لأن من لم يعرف أمور دينه، لا يكون فقيهًا، ولا طالبَ فقهٍ، فيصح أن يوصف بأنه ما أريد به الخير، وفي ذلك بيان ظاهرٌ لفضل العلماء على سائر الناس، ولفضل التفقه في الدين على سائر العلوم.

الحديث الثالث عشر

الحديث الثالث عشر حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: قَالَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ خَطِيبًا يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَاللَّهُ يُعْطِي، وَلَنْ تَزَالَ هَذِهِ الأُمَّةُ قَائِمَةً عَلَى أَمْرِ اللَّهِ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ". قوله: "خطيبًا" حال من المفعول، وفي رواية مسلم والاعتصام: سمعت معاوية بن أبي سفيان وهو يخطب الحديث، وهذا مشتمل على ثلاثة أحكام: أحدها فضل التفقه في الدين، وهذا حاصلٌ، ما قيل فيه هو، ما ذكرناه في الترجمة. وثانيها أن المعطي في الحقيقة هو الله. وثالثها أن بعض هذه الأُمة يبقى على الحق أبدًا. والأول لائق بأبواب العلم، كما فعل. والثاني لائق بقَسْم الصدقات، ولهذا أورده مسلم في الزكاة، والمؤلف في الخُمس. والثالث لائق بذكر أشراط الساعة، وقد أورده المؤلف في الاعتصام لالتفاته إلى مسألة عدم خلوّ الزمان من مجتهد، وقد تتعلق الأحاديث الثلاثة بأبواب العلم، بل بترجمة هذا الباب خاصة، من جهة إثبات الخير لمن تفقه في دين الله، وأن ذلك لا يكون بالاكتساب فقط، بل لمن يفتح الله عليه به، وإن من يفتح الله عليه بذلك لا يزال جنسه موجودًا، حتى يأتي أمر الله. وها أنا أتكلم علي الحديثين الأخيرين بما يكفي ويشفي. فقوله: "وإنما أنا قاسم" أي: أقسم بينكم بتبليغ الوحي من غير تخصيص، وقوله: "والله يُعطي" أي: كلَّ واحد منكم من الفهم على قدر ما تعلقت به إرادته تعالى، فالتفاوت في افهامكم منه سبحانه. وقد كان بعض الصحابة يسمع الحديث، فلا يفهم منه إلا الظاهر الجليّ، ويسمعه آخر

منهم، أو من القرن الذي يليهم، أو ممن أتى بعدهم، فيستنبط منه مسائل كثيرة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وهذا على أن المراد القَسْم في تبليغ الوحي، ويحتمل أن يكون المراد القَسْم للمال، فقد قال الطّيبيّ: الواو في قوله "وإنما أنا قاسم" للحال من فاعل "يفقهْهُ" ومن مفعوله، فعلى الثاني، فالمعنى أن الله تعالى يعطي كلًا ممن أراد أن يفقهه استعدادًا لدركِ المعاني على قدرِهِ له، ثم يلهمني بالقاء ما هو لائق، باستعداد كل واحد. وعلى الأول، فالمعنى أني أُلقي على ما يسمح إليّ، وأسوي فيه، ولا أرجح بعضهم على بعض، والله يوفق كلا منهم، على ما أراد وشاء من العطاء. وقال غيره: المراد القَسم المالي، لكنّ سياق الكلام يدل على الأول، إذ أنه أخبر أن من أراد به خيرًا يفقهه في الدين، وظاهره يدل على الثاني، لأن القسمة حقيقية في الأموال، نعم يتوجه السؤال عن وجه المناسبة بين اللاحق والسابق، وقد يجُاب بأن مورد الحديث كان عند قسمة مال، وخص عليه الصلاة والسلام، بعضهم بزيادة لمقتضى اقتضاه، فتعرض بعض من خَفيت عليه الحكمة، فرد عليه -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "مَن يرد الله به خيرًا" الخ .. أي: من أراد الله به الخير، يزيد له في فهمه في أمور الشرع، فلا يتعرض لأمر ليس على وفق خاطره، إذ الأمر كله لله، وهو الذي يعطي ويمنع، ويزيد وينقص، والنبي -صلى الله عليه وسلم-، قاسمٌ بأمر الله، ليس بمعطٍ، حتى تنسب إليه الزيادة والنقصان. والحصر في قوله عليه الصلاة والسلام: "وإنما أنا قاسم" ليس حقيقيًا، إذ له صفات أخر. بل هو رد على من اعتقد أنه يعطي ويقسم، فيكون قصر إفراد، أو يعطي ولا يقسم، فيكون قصر قلب. وقوله: "ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله" أي: الدين الحق، لا يضرُّهم من خالفهم، حتى يأتي أمر الله. وفي رواية للمصنف في الاعتصام "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله، وهم ظاهرون" أي: على من خالفهم، أي: غالبون، أو المراد بالظهور أنهم غير مستترين، بل مشهورون. والأول أولى، وعند مسلم من حديث جابر بن سَمُرة "لن يبرح

هذا الدين قائمًا، تقاتل عليه عصابة من المسلمين، حتى تقوم الساعة" وله أيضًا عن عُقبة بن عامر "لا تزال عُصَابة من أمتي يقاتلون على أمر الله، قاهرين لعدوهم، لا يضرهم من خالفهم، حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك". وأخرج أبو داود والحاكم عن عمران بن حُصين، رفعه: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق، ظاهرين على من ناوأهم، حتى يقاتل آخرهُم الدجال". والطائفة التي تبقى على الحق في حديث أبي أمامة، قيل: يا رسول الله، وأين هم؟ قال: "ببيت المقدس" وفي رواية مالك بن يخامر: قال معاذ "وهم بالشام" وفي رواية لمسلم "لا يزال أهل الغَرْب" قال في "المشارق" هي بفتح الغين وسكون الراء. وروي عن علي بن المَديني أنه قال: المراد بالغَرب الدَّلْو، أي العَرَب، بفتح المُهملتين، لأنهم أصحابها لا يستسقي بها أحد غيرهم. لكن في حديث مُعاذ "وهم أهل الشام" فالظاهر أن المراد بالغَرب البلد، لأن الشام غَربيّ الحجاز، كذا قال: وليس بواضح. ووقع في بعض طرق الحديث "المَغْرب" بفتح الميم وسكون المعجمة، وهذا يرد تأويل الغرب بالعرب، لكن يحتمل أن يكون بعض رواته نقله بالمعنى الذي فهمه، أن المراد الإِقليم لا صفة بعض أهله. وقيل: المراد بالغرب أهل القوة والاجتهاد في الجهاد، يقال: في لسانه غَرْب، بفتح ثم سكون، أي: حِدّة، وفي الطَّبراني الأوسط عن أبي هريرة "يقاتلون على أبواب دمشق وما حولها، وعلى أبواب المَقْدس وما حوله، لا يضرهم من خذلهم، ظاهرين إلي يوم القيامة". قال في الفتح: يمكن الجمع بين الأخبار، بأن المراد قوم يكونون ببيت المقدس، وهي شامية، ويسقون بالدلو، وتكون لهم قوة في جهاد العدو، وحِدّة وجِد. واتفق الشرَّاح على أن معنى قوله: "على من خالفهم" أن المراد علوهم عليهم بالغلبة، وأبعد من أبدع فرد على من جعل ذلك مَنْقَبة لأهل الغرب، أنه مذمة لأن المراد بقوله: "ظاهرين على الحق" أنهم غالبون له، وأن

الحق بين أيديهم كالميت، وأن المراد بالحديث ذمّ الغَرْب وأهله، لا مدحهم. قال النَّوويّ: يجوز أن تكون الطائفة جماعة متعددة من أنواع المؤمنين، ما بين شجاع، وبصير بالحرب، وفقيه، ومحدث، ومفسر، وقائم بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وزاهد، وعابد. ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين في بلد واحد بل يجوز اجتماعهم في قطر واحد، وافتراقهم في أقطار الأرض، ويجوز أن يجتمعوا في البلد الواحد، وأن يكونوا في بعض منه دون بعض، ويجوز إخلاء الأرض كلها من بعضهم أولًا فأولًا، إلى أن لا تبقى إلا فرقة واحدة، فإذا انقرضوا جاء أمر الله. قلت: ما قاله، وإن كان ظاهر الأحاديث من كونهم يقاتلون ظاهرين على عدوهم، مخالفًا له، لم يبق بعد المشاهدة لما فيه الإِسلام من الضعف، وعدم ناصر له في قطر من الأقطار، شيءٌ تحمل عليه الأحاديث الصحاح المتقدمة إلا هو، وكأنه كوشف له عن حالة الإِسلام اليوم، فحمل الطائفة المذكورة في الأحاديث على ما قال وإلا فزمنه كان الإِسلام فيه في عز لا يخطر حالنا الذي نحن فيه اليوم على قلب مؤمن في ذلك الزمان. قال في "الفتح": ونظير ما نبه عليه ما حمل عليه بعض الأئمة حديث "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها" أنه لا يلزم أن يكون في رأس كل مئة سنة واحد فقط، بل يكون الأمر فيه كما ذكر في الطائفة، وهو متجه. فإن اجتماع الصفات المحتاج إلى تجديدها، لا ينحصر في نوع من أنواع الخير، ولا يلزم أنّ جميع خصال الخير كلها في شخص واحد، إلا أن يُدَّعى ذلك في عمر بن عبد العزيز، فإنه كان القائم بالأمر على رأس المئة الأولى، باتصافه بجميع صفات الخير، وتقدمه فيها. ومن ثَمَّ أطلق أحمد أنهم كانوا يحملون الحديث عليه. وأما من جاء بعده فالشافعي، وإن كان متصفًا بالصفات الجميلة، إلا أنه لم يكن القائم بأمر الجهاد، والحكم بالعدل، فعلى هذا كل من كان متصفًا بشيء من ذلك عند رأس المئة، هو المراد، سواء تعدد أم لا.

أما ما قيل في معنى هذا الحديث، فهو ظاهر غير منافٍ للفظه، وهذه الأحاديث المتقدمة الدالة على بقاء طائفة من هذه الأمة على الحق، إلى أن يأتي أمر الله، أو إلى الساعة، يعارضها ما أخرجه مسلم عن عبد الله بن عمرو: "ولا تقوم الساعة إلا على شرِار الخلق، هم شرٌّ من أهل الجاهلية، لا يدعون الله بشيء إلا رده عليهم". وأخرج مسلم من حديث ابن مسعود أيضًا "لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس" وأجيب عن هذا التعارض بما قال الطبريّ من أنه يضمر في كل من الحديثين المحل الذي تكون فيه تلك الطائفة، فالموصوفون بشرار الناس الذين يبقون بعد أن تقبض الريح من تقبضه، يكونون مثلًا، ببعض البلاد، كالمشرق الذي هو أصل الفتن. والموصوفون بأنهم على الحق يكونون مثلا، ببعض البلاد كبيت المقدس، لقوله في حديث مُعاذ إنهم بالشام. وفي لفظ "ببيت المقدس" كما مر. وما قاله، وإن كان محتملًا، يرده قوله في حديث أنس في صحيح مسلم "لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله" إلى غير ذلك من الأحاديث التي ذكرناها في حديث سؤال جبريل عند ذكر أشراط الساعة فيه. وأولى ما يتمسك به في الجمع بينها أن المراد بأمر الله في قوله {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة: 109] ما ذكر من قبض ما بقي من المؤمنين، وظواهر الأخبار تقتضي أن الموصوفين بكونهم ببيت المقدس، أن آخرهم من كان مع عيسى بن مريم، عليه السلام، ثم إذا بعث الله الريح الطيبة، فقبضت روح كل مؤمن، لم يبق إلا شرِار الناس، وإنما يقع ذلك بعد طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة، وسائر الآيات العظام. وقد مر عند الحديث المذكور ما قيل في تتابع تلك الآيات. وفي حديث عائشة عند مسلم ما يشير إلى بيان الزمان الذي يقع فيه ذلك، ولفظه "لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللاتُ والعزى، وفيه يبعث الله ريحًا طيبة، فتوفي كل مؤمن في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم". وعنده في حديث عبد الله بن

رجاله ستة

عمر، ورفعه "يخرج الدَّجال في أمتي. ." الحديث، وفيه "فيبعث الله عيسى ابن مريم، فيطلبه فيهلكه، ثم يمكث الناس سبع سنين، ثم يرسل الله ريحًا باردة من قِبل الشام، فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال حبة من خَير أو إيمان إلا قبضته". وفيه "فيبقى شرار الناس في خفة الطَّير، وأحلام السَّباع، لا يعرفون معروفًا، ولا ينكر منكرًا، فيتمثل لهم الشيطان، فيأمرهم بعبادة الأوثان، ثم ينفخ في الصور. فظهر بذلك أن المراد بأمر الله في حديث "لا تزال طائفة" وقوع الآيات العظام التي يعقبها قيام الساعة. ولا يتخلف عنها، إلا شيئًا يسيرًا وإن المراد بقوله {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ} في حديث عقبة بن عامر، ساعتهم هم، وهي وقت موتهم بهبوب الريح. ووجد هذا الجمع في معارضة وقعت بين عبد الله بن عمرو، وعُقبة بن عامر، فأخرج الحاكم من رواية عبد الرحمن بن شَمّاسة، أن عبد الله بن عمرو قال: "لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق، هم شرٌّ من أهل الجاهلية". فقال عقبة بن عامر: عبد الله أعلم، ما تقول؟ أما أنا، فسمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا تزال عُصابة من أُمتي الخ .. "، ما مر عنه، فقال عبد الله: أجل، ويبعثُ الله ريحًا ريحُها ريحُ المسك، ومَسُّها مسُّ الحرير، فلا تترك أحدًا في قلبه مثقال حبة من إيمان، إلا قبضته، ثم يبقى شرار الناس، فعليهم تقوم الساعة. فما ذكره عبد الله بن عمرو صريح في الجمع المذكور، وسلمه له عقبة ابن عامر. وقد أخرج التِّرمذيّ عن البخاريّ أن الطائفة التي تبقى على الحق، هم أهل الحديث. وفي صحيح البخاري من كلامه: هم أهل العلم. وأخرج الحاكم في "علوم الحديث" بسند صحيح، عن أحمد: إن لم يكونوا أهل الحديث، فلا أدري من هم. وقال القاضي عِياض: أراد أحمد أهل السنة، ومن يعتقد مذهب أهل الحديث. رجاله ستة: الأول: سَعِيد بن عُفَير، بتكبير الأول، وتصغير الثاني، ابن مُسلم بن زيد بن حبيب بن الأسود، أبو عثمان الأنصاري، مولاهم، المصريّ. وعفير

جده، واشتهر بالنسبة إليه، واسم أبيه كَثير بن عُفير. ذكره ابن حبان في الثقات، وقال الحاكم: يقال إن مصر لم تخرج أجمع للعلوم منه. وقال ابن معين: ثقة لا بأس به. وقال ابن عديّ: صدوق ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق إلا أنه كان يقرأ من كتب الناس. وقال الدُّولابيّ عن السَّعديّ: إنه قال: سعيد بن عُفير فيه غير لَون من البِدع، وكان مخُلِّطًا غير ثقة، وتعقب ابن عديّ ذلك، فقال: هذا الذي قاله السعديّ لا معنى له، ولا بلغني عن أحد في سعيد كلام، وهو عند الناس ثقة. ولم ينسب إلى بدع ولا كذب، ولم أجد له، بعد استقصائي على حديثه، شيئًا مما ينكر عليه، سوى حديثين رواهما عن مالك، فذكرهما، وقال: البلاء فيهما من ابنه عُبيد الله. لأن سعيد ابن عُفير مستقيم الحديث. قال ابن حَجَر: لم يكثر عنه البخاري. وقال ابن يونس: كان سعيد من أعلم الناس بالأنساب، والأخبار الماضية، وأيام العرب، ومآثرهم ووقائعهم، والمناقب والمثالب، كان في ذلك كله شيئًا عجيبًا. وكان أديبا فصيح اللسان، حسن البيان، لا تمُلُّ مجالسته، ولا يُنزف علمه، وله أخبار مشهورة، تركتها لشهرتها، وكان غير ظنين في ذلك كله. روى عن الَّليْث ومالك وابن لهُيعة وكَهْمَس بن المُنْهال، وخاله المُغيرة بن الحسن الهاشميّ، وسليمان بن بلال وغيرهم. وروى عنه البخاريّ، وروى له هو في "الأدب" ومسلم وأبو داود في "القدر" والنسائي بواسطة، وابناه أسد وعُبيد الله ابنا سعيد، ويونس بن عبد الأعلى، ويعقوب بن سفيان، وأبو الزِّنْباع روح بن الفَرَج القطّان وغيرهم. ولد سنة ستة وأربعين ومئة، ومات سنة ست وعشرين ومئتين. وسعيد ابن كثير غيره في الستة اثنان، وأما سعيد فكثير. الثاني: عبد الله بن وَهب بن مُسْلم بن محمد القُرشيّ الفِهْريّ مولى يزيد ابن رُمَّانَة، مولى أبي عبد الرحمن، يزيد بن أنس الفِهريّ. وقيل: مولى رَيحانة مولاة أبي عبد الرحمن المذكور، قال أحمد بن حنبل: كان ابن وهب له عقل،

ودين وصلاح، صحيح الحديث، يفصل السماع من العرض، والحديث من الحديث، ما أصح حديثه وأثبته. قيل له: إنه كان يسيء الأخذ. قال: قد كان، ولكنْ إذا نظرت في حديثه، وما روى عن مشائخه، وجَدْتَهُ صحيحًا. وقال ابن أبي حاتم، عن أبيه: صالحُ الحديث، صدوق، أحب إلى من الوليد بن مسلم وأصح حديثًا منه بكثير. وقال هارون بن عبد الله الزُّهريّ: كان الناس في المدينة يختلفون في الشيء عن مالك، فينتظرون قدوم ابن وهب حتى يسألوه عنه. وقال ابن عُيَينة: هذا عبد الله بن وهب، شيخ أهل مصر. وقال أبو زَرعة: نظرت في ثلاثين ألفًا من حديث ابن وهب بمصر، وغير مصر، لا أعلم أني رأيت له حديثًا لا أصل له، وهو ثقة. وقال أبو حاتم: ابن حبان جمع ابن وهب، وصنف وهو حفظ على أهل الحجاز ومصر حديثهم، يجمع ما رووا من المسانيد والمقاطيع، وكان من العُبّاد. وقال ابن عديّ: ابن وهب من أجلَّة الناس وثقاتهم، وحديث الحجاز ومصر يدور على رواية ابن وهب. وجمعه له مسندهم ومقطوعهم. وقد تفرد عن غير شيخ بالرواية، من الثقات والضعفاء، ولا أعلم له حديثًا منكرًا إذا حدث عنه ثقة من الثقات. وقال الحارث بن مِسْكين: جمع ابن وهب الفقه والرواية والعبادةَ، ورزق من العلماء محبة وحظوة من مالك وغيره، قال الحارث: وما أتيته قط إلا وأنا أُفيد منه خيرًا، وكان يسمى ديوان العلم. قال ابن القاسم: لو مات ابن عُيينة لضُرِبَتْ إلى ابن وهب أكباد الإِبل، ما دون العلم أحد تدوينه، وكانت المشيخة إذا رأته خضعت له، وقال ابن سعد: عبد الله بن وهب كان كثير العلم ثقة فيما قال "حدثنا"، وكان يدلس. وقال العجليّ: مصري ثقة، صاحب سنَّة، رجل صالح، صاحب آثار. وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكَم: كان ابن وهب أفقه من ابن القاسم، إلا أنه كان يمنعه الورع من الفُتْيا. وعن ابن وضّاح قال: كان مالك يكتب إلى عبد الله بن وهب فقيه مصر، قال: وما كتبها مالك إلى غيره.

قال ولما نعي ابن وهب إلى ابن عُيينة ترحم عليه، وقال: أُصيبتْ به المسلمون عامة، وأُصبتْ به خاصة. وقال لي سُحْنُون: كان ابن وهب قد قسم دهره ثلاثًا: ثلث في الرِّباط، وثلث يعلم الناس، وثلث يحج. قال: وأخبرني ثقةٌ عن عليّ بن مَعْبَد قال: رأيت ابن القاسم في النوم، فقلت كيف وجدت المسائل؟ قال: أفٍّ، أفٍّ، قلت: فما أحسن ما وجدت؟ قال: الرِّباط. قال: ورأيت ابن وهب أحسن حالًا. وقال الحارث بن مسكين: أخبرني من سمع الليث يقول لابن وهب: إن كنت أجد لابني شيئًا، فإني أجد لك مثله. وقال ابن بكير: ابن وهب أفقه من ابن القاسم. وسئل الإِمام مالك عنه هو وابن القاسم، فقال: ابن وهب عالم، وابن القاسم فقيه. وقال يوسف بن عديّ: أدْركَتِ الناس فقيهًا غير محُدث، ومحدثًا غير فقيه خلا عبد الله بن وهب، فإني رأيته فقيهًا محدثًا زاهدًا، صاحب سنّة وآثار. وقال أصْبَغُ ابن الفَرج: ابن وهب أعلم أصحاب مالك بالسنن والآثار. إلا أنه روى عن الضعفاء، وما من أحد إلا زجره مالكٌ إلا ابن وهب، فإنه كان يجُلُّهُ ويحبه. وقال يونس بن عبد الأعلى: عُرض على ابن وهب القضاء فَجَفَنَ نفسه ولزم بيته مختفيًا فيه، وكان يومًا يتوضأ في صحن داره فرآه أسعد بن زرارة، فقال له: ألا خرجت إلى الناس، فحكمت بينهم بكتاب الله وسنة رسوله؟ فقال له: إلى هنا انتهى عقلك، أما علمت أن العلماء يحشرَون مع الأنبياء، وأن القضاة يحشرون مع السلاطين؟ وقال الخليليّ: ثقة متفق عليه. وموطؤه يزيد على كل من روى عن مالك. وقال الربيع بن سليمان: سمعت ابن وهب، وقيل له: إن فلانًا حدّث عنك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- "لا تكره الفتن فإن فيها حصاد المنافقين" فقال ابن وهب: أعماه الله، إن كان كاذبًا. فأخبرني أحمد بن عبد الرحمن، أن الرجل عَمِي. وقال السَّاجيّ: صدوق ثقة، وكان يتساهل في السماع، لأن مذهب أهل بلده أن الإِجازة عندهم جائزة. ويقول فيها: حدثني فلان. ومن أخباره، قال حسين بن عاصم: كنت عند ابن وهب، فوقف على الحَلْقَة

سائلٌ فقال: يا أبا محمد، الدرهم الذي أعطيتني بالأمس زائف. فقال: يا هذا، إنما كانت أيدينا عارية، فغضب السائل، وقال: صلى الله على محمد، هذا الزمان الذي كان يحدث به أنه لا يلي الصدقات إلاّ المنافقون من هذه الأمة، فقام رجل من أهل العراق فلطم المسكين لطمة خرَّ منها لوجهه، فجعل يصيح: يا أبا محمد، يا إمام المسلمين، يفعل بي هذا في مجلسك؟ فقال ابن وهب: ومن فعل هذا؟ فقال العراقي: أصلحك الله، الحديث الذي حدثتنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: "من حمى لحم مؤمن من منافق يغتابه، حمى الله لحمه من النار" وأنت مصباحنا وضياؤنا، ويغتابك في وجوهنا؟ قال: لأحدِّثَنَّك بحديث إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يكون في آخر الزمان مساكين، يقال لهم العُتاة، لا يتوضؤون لصلاة، ولا يغتسلون من جنابة، يخرج الناس إلى مساجدهم وأعيادهم يسألون الله من فضله، ويخرجون يسألون الناس، يرون حقوقهم على الناس، ولا يرون لله تعالى عليهم حقًا". وكان يقول: لولا أن الله أنقذني بمالك، والليث، لضللت، فقيل له: كيف ذلك؟ فقال: أكثرت من الحديث، فحيرّني، فكنت أعرض ذلك عليهما، فيقولان لي: خذ هذا، ودع هذا. ومن كلامه قال: جعلتُ كلما اغتبتُ إنسانًا صيامَ يوم، فهان علي، فجعلتُ عليّ كلما اغتبت إنسانًا صدقة درهم، فثقل علي، فتركت الغيبة. وكان يقول: من قال في موعد: إن شاء الله، فليس عليه شيء. ونظر إلى رجل يمضغ اللبّان، فقال له: إنه يقسي القلب، ويضعف البصر، ويكثر القمل. وروي عنه أنه قال: كان عطاءُ حَيْوة بن شريح ستين دينارًا في السنة، وكان إذا أخذها فرّقها على المساكين في ذلك المحل. وإذا جاء إلى بيته، وجدها تحت فراشه، فسمع ذلك ابن عم له، ففعل مثل ما فعل، فجاء إلى بيته فلم يجد شيئًا تحت فراشه، فشكى ذلك إلى حَيْوة، فقال له: أنا أعطيت ربي بيقين، وأنت أعطيته تجْرُبة. لزم مالكًا عشرين سنة، أو أزيد. ولم يفارقه حتى توفي صحبه قبل ابن

القاسم ببضعة عشرة سنة. ذكر بعضهم أنه روى عن نحو أربع مئة شيخ. روى عن الليث بن سعد،. وحَيْوة بن شرُيح وابن لُهيْعة، وسعيد بن أبي أيّوب، وسليمان بن بلال، وابن جُريج، ويونس بن يزيد، وخلق كثير. وروى عنه ابن أخيه، أحمد بن عبد الرحمن بن وهب والليث بن سعد شيخه، وعبد الرحمن بن مهدي، وعبد الله بن يوسف التَّنيسيِّ، وعليّ بن المَدينيّ، وسعيد بن أبي مريم، وأصْبغ بن الفَرَج، وخلق كثير. رُوي عنه أنه قال: ولدت سنة خمس وعشرين ومئة، وطلبت العلم وأنا ابن ثمان عشرة سنة. وتوفي يوم الأحد لأربع بقين من شعبان، سنة سبع وتسعين ومئة. وروى عن خالد بن خِراش في سبب وفاته، أنه قرىء عليه كتاب "أحوال يوم القيامة" من تأليفه، فخر مغشيًا عليه، ولم يتكلم بكلمة حتى مات. قال: فنرى أنه، والله تعالى أعلم، أنه انْصدع قلبه، فمات بمصر. وليس في الصحيحين عبد الله بن وهب سواه، فهو من أفرادهما. وفي التِّرمذي وابن ماجَة: عبد الله بن وهب الأسديّ، تابعيّ. وفي النَّسائي عبد الله بن وهب عن تميم الدّاريّ، والصواب أنه ابن موهب. وفي الصحابة عبد الله بن وهب خمسة. والثالث: يونس بن يزيد، وقد مر في متابعة الرابع من بدء الوحي، ومر ابن شهاب الزُّهريّ في الثالث منه، ومر حمُيد بن عبد الرحمن بن عوف في الثلاثين من كتاب الإيمان. السادس: معاوية بن أبي سفيان. واسم أبي سُفيان صَخْر بن حَرْب بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف، وأمه هند بنت عُتبة بن ربيعة، أبو عبد الرحمن، ولد قبل البعثة بخمس سنين، وقيل: بسبع، وقيل: بثلاث. وأسلم عام الفتح على الصحيح، فهو وأبوهُ من المُؤلَّفَة قلوبهم، الذين قسم فيهم النبي -صلى الله عليه وسلم- غنائم حُنَين. وقيل: إنه أسلم عام القضية، وكتم إسلامه إلى الفتح. يقال: إن أباه رآه يومًا فقال: إن ابني هذا عظيم الرأس، وإنه

لخليق أن يسود قومه. فقالت هند: ثكلته أمه إن لم يسد العرب، فكان كما قالت. قال الحافظ شمس الدين الذَّهبيّ: كان أميرًا على الشام عشرين سنة، ومكث خليفة عشرين أيضًا، وكان حليمًا كريمًا سائسًا عاقلًا، خليقًا بالإِمارة، كامل السؤدد، ذا دهاء ورأي ومكر، كأنما خُلق للمُلك، كان أخوه يزيد أميرًا على الشام وأرسل له عمر -رضي الله عنه-، يأمره بغزو قيسارية، فغزاها، وبها بطارقة الروم، فحاصرها أيامًا، وكان معه معاوية، فخلفه على الجند، وصار إلى دمشق، فأقام معاوية على قيسارية حتى فتحها في شوال سنة تسع عشرة. وتوفي يزيد في ذي الحجة ني ذلك العام في دمشق، واستخلف أخاه معاوية على عمله، فكتب إليه عمر بعهده، على ما كان يزيد يليه من عمل الشام. ورزقه ألف دينار في كل شهر. وقال أبو إسماعيل محمد بن عبد الله البَصرْيّ: قال: جزع عمر على يزيد جزعًا شديدًا، وكتب إلى معاوية بولايته على الشام، فأقام أربع سنين، ومات عمر -رضي الله عنه-، فأقرّه عثمان عليها في اثنتي عشرة سنة، إلى أن مات. فكانت الفتنة، فحارب عليًّا أربع سنين، ويقال: ورد البريد بموت يزيد على عمر وعنده أبو سفيان، فلما قرأ الكتاب، قال لأبي سفيان: أحسن الله عزاءك في يزيد، ورحمه. ثم قال أبو سفيان: من وليت مكانه يا أمير المؤمنين؟ قال: أخاه معاوية. قال: وصلتك رحم يا أمير المؤمنين. وقال عمر بن الخطاب، -رضي الله عنه-، لما دخل الشام ورأى معاوية: هذا كسرى العرب. وكان معاوية قد تلقاه في موكب عظيم، فلما دنا منه قال: أنت صاحب الموكب العظيم، قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال له: مع ما يبلغني عنك من وقوف ذوي الحاجات ببابك؟ قال: نعم مع ما يبلغك من ذلك. قال: لم تفعل ذلك؟ قال: نحن بأرض جواسيس العدوّ بها كثير، فيجب أن نُظهر من عز السلطان ما نرهبهم به، فإن أمرتني فعلتُ، وإن نهيتني انتهيت. قال عمر: ما أسألك عن شيء إلا تركتني في مثل رَواجب

الضرِّس، إن كان ما قلت حقًا، إنه لرأيُ أريب، وإن كان باطلًا، إنه لخُدعة أديب. قال: فمرني يا أمير المؤمنين، قال: لا آمرك، ولا أنهاك. قال عمرو ابن العاص: يا أمير المؤمنين ما أحسن ما صدر الفتى عما أوردته فيه، قال: لحسن مصادره وموارده جشّمناه ما جشّمناه. وذم معاوية عند عمر، فقال: دعونا من ذم فتى قريش، من يضحك في حال الغضب، ولا ينال ما عنده إلا على الرضا ولا يؤخذ ما فوق رأسه، إلا من تحت قدميه. وروي عن ابن عمر أنه قال: ما رأيت بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسْوَدَ من معاوية، فقيل له: فأبو بكر وعمر وعثمان وعلي، رضي الله عنهم؟ فقال: كانوا والله خيرًا من معاوية، ومعاوية أسود منهم. وقال عبد الله بن عباس: ما رأيت أحلى للمُلك من معاوية. وقيل لنافع: ما بال ابن عمر بايع معاوية ولم يبايع عليًا؟ قال: كان لا يعطي يدًا في فرقة، ولا يمنعها من جماعة، ولم يبايع معاوية حتى اجتمعوا عليه، وذلك حين بايع له الحسن بن عليّ، رضي الله عنهما، وجماعة ممن معه، في ربيع أو جمادى سنة إحدى وأربعين، فسمي عام الجماعة. رُوي عن ابن عباس أنه قال: بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى معاوية يكتب له، فقيل: إنه يأكل، ثم بعث إليه، فقيل: إنه يأكل، فقال صلى الله عليه وسلم: لا أشبع الله بطنه، وهو أول من اتخذ ديوان الخاتَم، واتخذ المقاصير في الجوامع، وأول من أقام على رأسه حرسًا، وأول من قيدت بين يديه الجنائب. وأول من اتخذ الخِصيان في الإِسلام، وأول من بلغ درجات المنبر خمس عشرة مَرقاةً، وكان يقول: أنا أول الملوك. ورُوي أن معاوية لما قدم المدينة، لقيه أبو قتادة الأنصاريّ، فقال له: يا أبا قَتَادة، تَلَقَّاني الناس كلهم غيركم يا معشر الأنْصار، ما منعكم؟ قال: ما معنا دوابّ. قال معاوية: فأين النواضح؟ قال أبو قتادة: عقرناها في طلبك وطلب أبيك يوم بدر. قال: نعم يا أبا قتادة، قال أبو قتادة: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: قال لنا إنا سنرى بعده أثرة. قال معاوية: فماذا أمركم به عند ذلك؟

قال: أمرنا بالصبر، قال: فاصبروا حتى نلقوه. فقال عبد الرحمن بن حسّان ابن ثابت حين بلغه ذلك: ألا بلغ معاوية بن صَخْرِ ... أمير المؤمنين عني كلامي بأنا صابرون ومنظروهم ... إلى يوم التغابُنِ والخِصامِ وروى ابن شِهاب أن المُسوَّر بن مخْرَمَة وَفِد على معاوية، فلما دخل عليه وسلم، قال له معاوية: ما فعل طعنك على الأئمة يا مُسَور؟ فقال له: دعنا من هذا، وأحسن فيما قدمنا له، قال: والله، لتكلمني بذات نفسك. قال: فلم أدع شيئًا أعيبه عليه إلا بينته له. فقال: لا أتبرأ من الذنوب أما لك يا مسور ذنوب تخاف أن تهلكك إن لم يغفرها الله لك؟ قال: بلى. قال: فما جعلك أحق بأن ترجو المغفرة عني؟ فوالله لما آلوا من الإصلاح بين الناس، وإقامة الحدود، والجهاد في سبيل الله، والأُمور العظام، التي لست أحصيها، ولا تحصيها، أكثر مما تلي، وإني لعلى دين الله، يقبل الله فيه الحسنات، ويعفو عن السيئات، ووالله لعلى ذلك، ما كنت لأخير بين الله تعالى وما سواه إلا اخترت الله على ما سواه. قال مسور: ففكرت حين قال ما قال، فعلمت أنه خصمني. قال: فكان إذا ذكر بعد ذلك، دعوت له. وروي أن عمر بن عبد العزيز ما جلد سوطًا في خلافته إلا رجلًا سبّ معاوية عنده، فجلده ثلاثة أسواط. وروي عن معاوية أنه قال: أُعنت على علي بثلاث، كان رجلا ربما أظهر سره وكنت رجلًا كتومًا لسري، وكان في أخبث جند، وأشده خلافًا عليه، وكنت في أطوع جند وأقلّه خلافًا عليّ. ولما ظفر بأصحاب الجمل، لم أشك في أن بعض جنده سيعد ذلك وهنًا في دينه، ولو ظفروا به كان ذلك وهنًا في شوكته، ومع هذا، فكنت أحب إلى قريش منه، لأني كنت أعطيهم، وكان يمنعهم، فكم سبب من قاطع إليّ ونافر عنه. ورُوي عنه أنه قال: اتبعت النبي -صلى الله عليه وسلم- بوضوء، فلما توضأ، نظر إليّ، وقال: "يا معاوية، إن وُلِّيت أمرًا فاتَّق الله" فما زلت أظن أني مبتلىً بعمل. وروي عن أسلم مولى عمر بن الخطاب، -رضي الله عنه- أنه قال: قدم علينَا

معاوية، وهو أبضُّ الناس وأجملهم، فخرج إلى الحج مع عمر بن الخطاب، وكان عمر ينظر إليه، ويتعجب منه، ويضع أصبعه على جبينه، ثم يرفعها عن مثل الشرّاك، ثم يقول: بَخ بَخ، إذًا نحن خير الناس إن جمع لنا خير الدنيا والآخرة. فقال معاوية: يا أمير المؤمنين، سأحدثك أنا بأرض الحمامات والريف، فقال عمر: سأحدثك ما بك إلا إلطافك نفسك بأطيب الطعام، وتصبحك حين تضرب الشمس متنيك، وذوو الحاجات وراء بابك. قال: حتى جئنا إلى ذي طُوىً، فأخرج معاوية حُلَّة فلبسها، فوجد عمر منها ريحًا، كأنها ريح الطيب، فقال: يعمد أحدكم فيخرج حاجًا تفلا، حتى إذا جاء أعظم بلدان الله حرمةً، أخرج ثوبيه، كأنهما كانا في الطيب، فلبسهما. فقال معاوية: إنما لبستهما لأدخل بهما على عشيرتي. يا عمر، والله، لقد بلغني اذاك هاهنا، وفي الشام. فالله يعلم أني قد عرفت الحياء في وجه عمر، فنزع معاوية الثوبين، ولبس ثوبيه اللذين أحرم بهما. ورُوي أن معاوية دخل على عمر بن الخطاب يومًا، وعليه حلّة خضراء، فنظر إليه الصحابة، فلما رأى ذلك عمر، قام ومعه الدرة، فجعل ضربا بمعاوية، ومعاوية يقول: الله الله يا أمير المؤمنين، فيم؟ فيم؟ فلم يكلمه حتى رجع، وجلس في مجلسه، فقالوا له: لم ضربت الفتى، وليس في قومك مثله؟ فقال: ما رأيت إلا خيرًا، وما بلّغني إلا خيرًا، ولكني رأيته، وأشار بيده يعني إلى فوق، فأردتُ أن أضع منه. وروي عن عُمر أنه قال: إياكم والفُرقة بعدي، فإن فعلتم، فاعلموا أن معاوية فإذا وكلتم إلى رأيكم كيف يستبزها منكم. وروي أنه لما احتضر كان يتمثل بقول الشاعر: فهل من خالد إما هلكنا ... وهل بالموت، يا للناس، عار ولما احتضر جمع أهله، فقال: ألستم أهلي؟ قالوا: بلى فداك الله بنا، قال: وعليكم حزني، ولكم كدي وكسبي، قالوا: بلى، فداك الله بنا، قال: فهذه نفسي قد خرجت من قدمي، ردوها علي إن استطعتم، فبَكوا، وقالوا: ما لنا والله، إلى هذا من سبيل. فرفع صوته بالبكاء، ثم قال: ومن تغره الدنيا

بعدي؟ وذكر أنه لما ثقل في الضعف، وتحدث الناس أنه الموت، قال لأهله: احشوا عيني أثمدًا، وأسْبغوا رأسي دهنا. ففعلوا وبرقوا وجهه بالدهن، ثم مهدوا له مجلسًا، واسندوه وأذنوا الناس، فدخلوا وسلموا عليه قيامًا، فلما خرجوا من عنده أنشد: وتجلُّدِي للشامتين أُريهُم ... أني لرِيَب الدهر لا أتضعضع فسمعه رجل من العلويين فأجابه بقوله: وإذا المنيّة أنشبت أظفارها ... ألفيتَ كل تميمةٍ لا تنفع وروي عن الشافعي، رضي الله تعالى عنه، أنه قال: لما ثقل معاوية، كان يزيد غائبًا، فكتب إليه بحاله، فلما أتاه الرسول أنشأ يقول: جاء البريدُ بقُرطاسٍ يحث به ... فأوجس القلب من قرطاسه فزعًا قلنا لك الويل، ماذا في صحيفتكم ... قالوا: الخليفة أمسى مثبتا وجِعَا فمادت الأرض، أي كادت تميد بنا ... كأن شهلان من أركانه انقطعا أودى ابن هندٍ وأودى المجد يتبعه ... كانا جميعًا، فظلا يسريان معًا لا يرقع الناسُ ما أوهى وإن جَهدوا ... أن يرقعوه، ولا يوهون ما رقعا أغر أبلج يستسقى الغَمَامُ به ... لو قارع الناسَ في أحلامهم قرعا والبيتان الأخيران للأعشى، فلما وصل إليه وجده مغمورًا، فأنشأ يقول: لو عاش حيٌّ لنا لعاش إما ... م الناس لا عاجز ولا وَكِل الحول القلب والأريب ولن ... يدفع وقت المنية الحيلُ فأفاق معاوية، وقال: يا بني، إني صحبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فخرج لحاجة، فأتبعته بإدادة، فكساني أحد ثوبيه، الذي كان على جلده، فادخرته لهذا اليوم، وأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، من أظفاره وشعره ذات يوم، فأخذته وخبأته لهذا اليوم، أيضًا. فإذا أنا متُّ، فاجعل ذلك القميص دون كفني،

لطائف إسناده

مما يلي جلدي، وخذ ذلك الشعر والأظفار فاجعله في فمي، وعلى عينيّ، ومواضع السجود مني، فإن نفع شيءٌ فذاك، وإلا فإن الله غفور رحيم. وهو أول من جعل ابنه وليّ العهد خليفة بعده في صحته. رويت له مئة وثلاثون حديثًا، اتفقا على أربعة، وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بخمسة، روى عنه من الصحابة أبو ذرٍ مع تقدمه، وعبد الله بن عباس، رضي الله عنهم، وروى عنه من التابعين جُبَيرْ بن نُفَير وابن المُسَيَّب، وكثير. مات في رجب لأربع ليال بقين منه سنة ستين بدمشق، ودفن بها. واختلف في عمره، فقيل: ثمانون، وقيل: خمس وسبعون سنة، وقيل: خمس وثمانون سنة، وقيل: ثمان وثمانون، وقيل: تسعون. ومعاوية في الصحابة كثير جدًّا. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة والسماع، ومنها أن رواته ما بين بصري، وأيْليّ ومَدَني، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أنه قال في الإِسناد، وعن ابن شهاب قال: قال حميد بن عبد الرحمن، ولم يذكر لفظ السماع، وهكذا هو في جميع طرق البخاري. وجاء في مسلم عن ابن شهاب: حدثني حمُيد: قال قطب الدين: فلا أدري لِمَ قال: قال حمُيد، مع الاتفاق على تحديث ابن شهاب به عن حمُيد المذكور. ويمكن أن يجاب بأنه قال ذلك اكتفاء بشهرة تحديثه عنه بهذا الحديث. ثم قال المصنف: باب الفهم في العلم بتسكين الهاء، وفتحها. وقوله: في العلم، المراد به العلوم، أي إدراك المعلومات، وإلا فالفهم نفس العلم. قال الليث: يقال: فَهِمتُ الشيء إذا عَقَلته وعرفته، ففي هذا تفسير الفهم بالمعرفة، وهي عين العلم. وعورض ما مر من أن الفهم نفس العلم، بأن العلم عبارة عن الإِدراك الجَليّ، والفهم

جودة الذهن، والذِّهن بالكسر، قوة تقتضي بها الصور والمعاني، وتشمل الإِدراكات العقلية والحسية. وبعبارة: الذهن: القوة المعدة لاكتساب الآراء والحدود، أي التصديقات والتصورات.

الحديث الرابع عشر

الحديث الرابع عشر حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ قَالَ لِي ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: صَحِبْتُ ابْنَ عُمَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلَمْ أَسْمَعْهُ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلاَّ حَدِيثًا وَاحِدًا، قَالَ كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَأُتِىَ بِجُمَّارٍ فَقَالَ: "إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً مَثَلُهَا كَمَثَلِ الْمُسْلِمِ". فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ: هِىَ النَّخْلَةُ، فَإِذَا أَنَا أَصْغَرُ الْقَوْمِ فَسَكَتُّ، قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- "هِىَ النَّخْلَةُ". وهذا الحديث قد استوفينا الكلام عليه في الثالث من هذا الكتاب، غاية الاستيفاء، ومناسبته للترجمة هي أن ابن عمر، لما ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم-، المسألة عند إحضار الجُمّار إليه، فهم أن المسؤول عنه النخلة، فالفهم فطنة يفهم بها صاحبها من الكلام، ما يقترن به من قول أو فعل. وقد أخرج أحمد في حديث أبي سعيد الآتي في الوفاة النبوية حيث قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أن عبدًا خيرَّه الله" فبكى أبو بكر وقال: فديناك بآبائنا، فتعجب الناس، وكان أبو بكر فهم من المقام أن النبي -صلى الله عليه وسلم- هو المخير، فمن ثمَّ قال أبو سعيد: فكان أبو بكر أعلمنا به. وفي الحديث ما كان بعض الصحابة عليه، من توفي الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، إلا عند الحاجة خشية الزيادة والنقصان، وهذه كانت طريقة ابن عمر ووالده عمر وجماعة. وإنما كثرت أحاديث ابن عمر مع ذلك لكثرة من كان يسأله ويستفتيه. رجاله خمسة: الأول: علي بن عبد الله بن جعفر بن نجيح، بفتح النون، السعديّ مولاهم، أبو الحسن بن المَدينيّ البَصرْيّ، صاحب التصانيف قال أبو حاتم

الرازيّ: كان عليٌّ علمًا في الناس في معرفة الحديث والعلل، وكان أحمد لا يسميه، إنما يكنيه تبجيلًا له، وما سمعت أحمد سماه قط. وقال ابن عُيَيْنة: يلومونَنيِ على حبِّ عليّ، والله لقد كنت أتعلم منه أكثر مما يتعلم مني. وكان ابن عيينة يسميه حَيَّة الوادي وإذا استثبت سفيان أو سئل عن شيء يقول: لو كان حية الوادي، أو قال: لولا علي ما جلست. وقال ابن زنْجَلة: كنا عند ابن عُيينة، وعنده رؤساء أصحاب الحديث، فقال: الرجل الذي روينا عنه أربعة أحاديث، الذي يحدث عن الصحابة؟ فقال عليّ بن المَدينيّ: زيادُ بن عُلاقة، فقال ابن عُيينة: زياد بن علاقة؟ وقال حفص بن محبوب المحبوبي: كنا عند ابن عيينة، فقام ابن المَدينيّ، فقام سفيان، وقال: إذا قامت الخيل، لم تجلس الرَّجَّالة. وقال عبد الرحمن بن مَهْديّ: علي ابن المَدينيّ أعلم الناس بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وخاصة بحديث ابن عُيينة. وقال عباس العَنْبريّ: كان يحيى ابن سعيد يقول: إني قلت لا أحدث إلى كذا، استثنيت علي بن المَدينيّ. وكنا نستفيد منه أكثر مما يستفيد منا. وقال ابن مَعين: عليّ بن المَدينيّ من أروى الناس عن يحيى بن سعيد أنه أرى عنده أكبر من عشرة آلاف، قيل ليحيى: أكثر من مُسَدِّد؟ قال: نعم، إن يحيى بن سعيد كان يكرمه ويدنيه، وكان صديقه وكان علي يلزمه. وقال أبو قُدامَة السَّرخَسيّ: سمعت علي بن المَدينيّ يقول: رأيت فيما يرى النائم كان الثُّريَّا تدلت حتى تناولتها، قال أبو قدامة: فصدق الله رؤياه. بلغ في الحديث مبلغًا لم يبلغه أحد، وقال أبو عبد الرحمن النَّسائي: كأن الله عَزَّ وَجَلَّ، خلق علي بن المَدينيّ لهذا الشأن، وقال العباس العَنْبريّ: لقد بلغ علي بن المَدينيّ ما لو قضي أن يتم عليه لعله كان يُقدَّم على الحسن البصري، كان الناس يكتبون قيامه وقعوده، ولباسه وكل شيء يقولُ ويفعل. وقال بكر بن خَلَف: قَدمت مكة وبها شابٌّ حافظ، وكان يذاكرني المسند بطرقه، فقلت له: من أين لك هذا؟ فقال: طلبت إلى عليّ بن المَدينيّ أيام

ابن عُيَيْنة أن يحدثني بالمسند، فقال: قد عرفت أن ما تريد بما تطلب مني الذاكرة، فإن ضمنت لي أنك تذاكِر ولا تسميني، فعلت. قال: فضمنتُ له، واختلفتُ إليه، فجعل يحدثني هذا الذي أُذاكرك به حفظًا. وعن علي بن المَدينيّ قال: صنفت المسند على الطرق مستقصىً وجعلته في قراطيس في قِمْطر كبير، ثم غبت عن البصرة ثلاث سنين، فرجعت وقد خالطته الأرض، فصار طينا، فلم أنشط بعدُ لجمعه. وقال أبو العباس السرّاج: سمعت صاعقة يقول: كان عليُّ بن المَدينيّ، إذا قدم بغداد تصدر الحَلْقة وجاء يحيى بن مَعين وأحمد بن حَنبل والمُعَيطيّ والناس ينتظرون، فإذا اختلفوا في شيء، تكلم فيه عليّ. وقال الأعين: رأيت عليّ بن المَدينيّ مستلقيًا، وأحمد عن يمينه، وابن مَعين عن يساره، وهو يملي عليهما. وقال ابن المَدينيّ: تركت من حديثي مئة ألف، فيها ثلاثون ألفًا لعَبّاد ابن صُهَيب. وقال أبو العباس. سمعت البُخاريّ، وقيل له: ما تشتهي؟ قال: أشتهي أن اقدم العراقَ، وعليُّ بن عبد الله حي، فأُجالسه. وقال البخاري: ما استصغرت نفسي عند أحد، إلا عند عليّ بن المَدينيّ. وربما كنت أُغرب عليه، فلما ذكر هذا الكلام لابن المديني، قال: دع قوله، هو ما رأى مثل نفسه. وقال أبو داود: عليٌّ أعلم باختلاف الحديث من أحمد. وسئل الفرهيانيّ عن يحيى وعلي وأحمد وأبي خيثمة، فقال: أما عليّ فأعلمهم بالحديث والعلل، ويحيى أعلمهم بالرجال، وأحمد أعلمهم بالفقه، وأبو خَيْثَمة من النبلاء. ويروى عن ابن معين أنه سئل عن علي بن المَدينيّ والحميدي، أيهما أعلم. فقال: ينبغي للحميديّ أن يكتب عن آخر عن علي ابن المَدينيّ. وقيل لصالح بن محمد: هل كان يحيى بن مَعين يحفظ؟ قال: كانت عنده معرفة. قيل له: فعليُّ بن المَدينيّ؟ قال: كان يحفظ، ويعرف. وقال أيضًا: أعْلم من أدركت بالحديث وعلله علي بن المدينيّ، وأفقههم فيه أحمد، وأمهرهم فيه الشاذكونيّ، وقال أبو عبيد القاسم بن سَلام: انتهى العلم إلى

أربعة: أبو بكر بن أبي شَيْبة، أسردُهم له، وأحمد أفقههم فيه، وعلي أعلّمُهم به، ويحيى بن مُعين، أكتبهم له، وقال ابن أبي خيثمة: سمعت ابن معين يقول: كان عليّ بن المَدينيّ إذا قدم علينا أظهر السُّنَّة، وإذا ذهب إلى البصرة، أظهر التشيع. وقال البخاريّ: كان أعلم أهل عصره، وقال ابن حِبان في الثقات: كان من أعلم أهل زمانه بعلل حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، رَحَل وجمع، وكتب، وصنف، وذاكر، وحفظ. وقال الخطيب: صنف علي ابن المَدِينيّ في الحديث مئتي مصنف، وفي الزهرة أخرج عنه البخاريّ ثلاث مئة حديث وثلاثة أحاديث. وقال أبو داود: علي خير من عشرة آلاف مثل الشاذكونيّ. تكلم فيه أحمد، ومن تابعه لأجل إجابته في المحنة، وقد اعتذر عن ذلك وتاب وأناب. قال عباس العَنْبريّ: ذكر علي رجلًا فتكلم فيه، فقلت له: إنهم لا يقبلون منك، إنما يقبلون من أحمد بن حنبل، فقال: قوي أحمد على السوط، وأنا لم أقوَ عليه. وقال محمد بن عمار الموصليّ: قال لي علي بن المَدينيّ: ما يمنعك أن تُكَفِّر الجَهْمِيَّة؟ قال: وكنت أنا أولا امتنع من أن أُكفِّرهُم حتى قال ابن المديني، ما قال. فلما أجاب إلى المحنة كتبت إليه كتابًا أُذكره الله تعالى وأُذَكِّرُه ما قال لي في تكفيرهم، قال: فقيل لي: إنه بكى حين قرأ كتابي، ثم رأيته بعد فقلت له، فقال ما في قلبي شيء مما أجبت إليه، ولكني خفت أن أُقتل، قال: وتعلم ضعفي، إني لو ضربتُ سوطًا واحدًا لمت، أو قال شيئًا نحو هذا. قال ابن عمار: ما أجاب إلى ما أجاب ديانة، ما أجاب إلا خوفًا. وقال أبو يوسف القلوسيّ: قلت لعلي بن المَدينيّ: مثلك في علمك تجيب كل ما أجبت إليه، فقال لي: يا أبا يوسف، ما أهون عليك السيف. وعن علي بن الحسين بن الوليد قال: لما ودعت علي بن المدينيّ قال لي: بلغ قومك عني أن الجَهْمِيَّةَ كفار، ولم أجد بدًا من متابعتهم لأني حُبست في بيت مظلم، وفي رجليّ قيد حتى خفت على بصري، فإن قالوا: يأخذ منهم، فقد سُبقت إلى ذلك، فقد أخذ من هو خير مني.

وقال الحاكم: سمعت الأخرم يذكر فضل ابن المدينيّ، وتقدمه، وتبحره في العلم، فقال له بعض أصحابنا: قد تكلم فيه عمرو بن علي، فتكلم في عمرو بن علي بكلام سيء. وقال محمد بن عثمان بن أبي شَيْبة: سمعت عليًا على المنبر يقول: من زعم أن القرآن مخلوق فهو كافر. ومن زعم أن الله لا يرى، فهو كافر. ومن زعم أن الله لم يكلم موسى على الحقيقة، فهو كافر. وقال أيضًا: سمعته يقول قبل أن يموت بشهرين: القرآن كلام الله ليس بمخلوق. وقال إبراهيم بن محمد بن عُرعُرة: سمعت يحيى بن سعيد يقول لعلي بن المَدينيّ: ويحك يا عليّ، اني أراك تتبع الحديث تتبعا، لا أحسبك تموت حتى تبتلى. وقال الأثرم: سمعت الأصمعيّ وهو يقول لعلي بن المديني: والله يا علي لتتركنّ الإِسلام وراء ظهرك. روى عن أبيه وحمّاد بن زيد، وابن عُيينة، ويحيى بن سعيد القطّان، ويزيد بن زُرَيع، وهُشيم، ومُعاذ بن مُعاذ، وخلق كثير. وروى عنه البخاريّ وأبو داود، وروى أبو داود والتِّرمذيّ والنَّسائي وابن ماجه في التفسير له بواسطة، والذُّهليّ وأبو بكر بن أبي عتّاب الأعين، وعبّاس بن عبد العظيم العَنْبريّ، وروى عنه سفيان بن عُيينة، ومعاذ بن معاذ، وهما من شيوخه، وأحمد بن حنبل، وعثمان بن أبي شيبة، وهما من أقرانه، وخلق كثير. ولد سنة إحدى وستين ومئة، ومات يوم الاثنين ليومين بقيا من ذي القعدة سنة أربع وثلاثين ومئتين. وعلي بن عبد الله سواه في الستة ثلاثة، وأما علي فكثير. والسعدي في نسبه مر الكلام عليه في الثالث من كتاب الإِيمان. الثاني: عبد الله بن أبي نَجِيح، بفتح النون، يَسَار الثقفي أبو يَسار المكِّي، مولى الأخنس بن شريق. قال وكيع: كان سفيان يصحح تفسير ابن أبي نَجيح. وقال أحمد: ابن أبي نَجيح ثقة، وكان أبوه من خيار عُبَّاد الله تعالى. وقال ابن مَعين وأبو زرعة والنَّسائي: ثقة، وقال ابن سعد: قال محمد ابن عمر: كان ثقة كثير الحديث ويذكرون أنه كان يقول بالقدر. وذكره ابن

لطائف إسناده

حِبان في الثِّقات. وقال ابن أبي حاتم: قلت لأبي: ابن أبي نَجِيح عن مجاهد أحب إليك أو خُصَيف؟ قال: ابن أبي نَجِيح، إنما يقال في ابن أبي نَجيح القدر، وهو صالح الحديث. قال يحيى بن سعيد: لم يسمع ابن أبي نَجِيح التفسير من مجاهد. قال ابن حِبان: ابن أبي نَجِيح نظير ابن جُرَيج في كتاب القاسم بن أبي بزَّة عن مجاهد في التفسير رويًا عن مجاهد من غير سماع. وقال السّاجيّ عن ابن معين: كان مشهورًا بالقَدَر. وعن أحمد بن حنبل قال: أصحاب ابن أبي نَجِيح قَدَرية كلهم. ولم يكونوا أصحاب كلام. وعن أيوب قال: أي رجل أفسدوا! يعني ابن أبي نَجِيح. وقال العجليّ: مكي ثقة، يقال: كان يرى القدر، أفسده عمرو بن عبيد. وقال أحمد: قال سفيان: لما مات عمرو بن عبيد كان يفتي بعده ابن أبي نَجِيح. وذكره النّسائي فيمن كان يدلس. قال ابن حجر: احتج به الجماعة. روى عن أبيه وعطاء ومجاهد وعكرمة وطاووس وجماعة. وروى عنه عمرو بن شُعيب وهو أكبر منه، وشُعبة، والسفيانان، ووَرْقاء، وابن عليّة، وشُبيْل بن عبّاد، وعبد الله بن سعيد، وغيرهم. مات سنة إحدى وثلاثين ومئة، وليس في الستة عبد الله بن أبي نَجيح سواه، وفيهم عبد الله بن يَسار سواه ثلاثة: كوفيّان ومكّي. والثالث: من السند سفيان بن عُيَينة، وقد مر في الأول من بدء الوحي، ومر مجاهد في الأثر الخامس من كتاب الإيمان، وعبد الله بن عمر في الأثر الرابع منه، قبل ذكر حديث منه. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة والسماعِ، ورواته ما بين بصريّ ومكيّ وكوفيّ، وفيه قول سُفيان قال: قال لي ابن أبي نَجِيح، ولم يقل: حدثني، وفي مسند الحُميدي عن سفيان: حدثني ابن أبي نَجيح، فعلم أنه سماع من تلك الطريقة، ومر ذكر مواضع خروجه في أول الكتاب، أي كتاب العلم هذا.

باب الاغتباط في العلم والحكمة

ثم قال المصنف: باب الاغتباط في العلم والحكمة الاغتباط افتعال من الغِبطة، وهي تمني ما للمغبوط من غير زواله عنه، بخلاف الحسد فإنه مع زواله عنه. والحكمة معرفة الشيء على ما هو عليه، فهي بمعنى العلم حينئذ. ويكون عطفها عليه من باب العطف التفسيريّ. وقيل: الحكمة هي العلم النافع خاصة، فيكون عطفها عليه من عطف الخاص على العام. ثم قال: وقال عمر، رضي الله تعالى عنه: تفقَّهوا قبل أن تُسَوَّدوا، بضم المثناة الفوقية، وتشديد الواو، أي: تصيروا سادة، من ساد قومه يسودهم سيادة، إذا كان سيدهم. والسيد هو الذي يلجأ إلى سَوَاده، أي: شخصه عند الشدائد. وقيل: السيد كل مقهور مغمور بحلمه، قال أبو عبيدة: أي تفقهوا وأنتم صغار، قبل أن تصيروا سادة، فتمنعكم الأنفة عن الأخذ عمن هو دونكم، فتبقوا جهالًا. وفسر التسود بالتزوج، فإنه إذا تزوّج صار سيد أهله، ولاسيما إن ولد له. وهذا حمل بعيد، إذ المراد بقوله تسودوا، السيادة، وهي أعم من التزويج، ولا وجه لمن خصصه بذلك؛ لأنها قد تكون به، وبغيره من الأشياء الشاغلة لأصحابها عن الاشتغال بالعلم. وجوز الكَرَماني أن يكون من السواد في اللحية، فيكون أمرًا للشباب بالتفقه قبل أن تسود لحيته، أو أمرًا للكهل قبل أن يتحول سواد لحيته إلى الشيب. ولا يخفى تكلفه. وقيل: أراد عمر الكف عن طلب الرياسة، لأن الذي يتفقه يعرف ما فيها من الغوائل، فيجتنبها. وقيل: معناه لا تأخذوا العلم من الأصاغر، فيُزدرى بكم. وهذا أشبه بحديث عبد الله "لن يزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم" وزاد الكَشميهنيّ في روايته: قال أبو عبد الله، أي: البخاري: وبعد أن تسودوا، وإنما أتى بها البخاري عقب ذلك ليبين أنه لا مفهوم له، خشية أن يفهم أحد من ذلك أن السيادة مانعة من التفقه، وإنما أراد عمر أنها قد تكون سببًا للمنع، لأن الرئيس قد يمنعه

الكبر والاحتشامُ أنْ يجلس مجلس المتعلمين. ولهذا قال مالك: من عيب القضاء أن القاضي إذا عزل لا يرجع إلى مجلسه الذي كان يتعلم فيه. وقال الشافعيّ: إذا تصدر الحدث، فاته علم كثير. وقال ابن المنير: مطابقة قول عمر للترجمة، أنه جعل السيادة من ثمرات العلم، وأوصى الطالب باغتنام الزيادة قبل بلوغ درجة السيادة، وذلك يحقق استحقاق العلم بأن يغبط صاحبه، فإنه سبب لسيادته، كذا قال. والذي يظهر أن مراد البخاريّ أن الرياسة وإن كانت مما يغبط بها صاحبها في العادة، لكن الحديث دل على أن الغبطة لا تكون إلا بأحد أمرين: العلم أو الجود، ولا يكون الجود محمودًا إلا إذا كان بعلم، فكأنه يقول: تعلموا العلم قبل حصول الرياسة لتغبطوا، إذا غبطتم، بحق، ويقول أيضًا: إن تعجلتم الرياسة التي من عادتها أن تمنع صاحبها من طلب العلم، فاتركوا تلك العادة وتعلموا العلم لتحصل لكم الغبطة الحقيقية. وليس قول عمر، -رضي الله عنه-، هنا من تمام الترجمة إلا أنْ يقال كما قال الكَرَماني، أن الفعل مؤول بمصدر، والتقدير باب الاغتباط وقول عمر، وهذا مردود بأن تأويل الفعل بالمصدر، لا يكون إلا بوجود "أنْ" المصدرية. وأتى البخاريّ بقوله: وقد تعلم أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، في كبر سنهم، تأكيدًا للسابق. ووجهه ظاهر، فإن كثيرًا من أصحابه عليه الصلاة والسلام، لم يسلم إلا بعد كبر السن، كأبي بكر وعمر والعباس وغيرهم، رضي الله تعالى عنهم. أما عمر فقد مر في الأول من بدء الوحي، وأما الأثر الذي علقه، فقد أخرجه أبو عمر بإسناد صحيح، والجَوْزيّ في كتابه، ورواه ابن أبي شَيْبة بسند منقطع، والبَيْهَقيّ في كتابه "المَدْخَل".

الحديث الخامس عشر

الحديث الخامس عشر حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ -عَلَى غَيْرِ مَا حَدَّثَنَاهُ الزُّهْرِيُّ- قَالَ: سَمِعْتُ قَيْسَ بْنَ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ حَسَدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ، فَهْوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا". قوله: على غير ما حَدَّثناهُ الزُّهْريّ، يعني أن الزُّهريّ حدث سفيانًا بهذا الحديث بلفظ غير اللفظ الذي حدثه به إسماعيل. ورواية سفيان عن الزهري أخرجها البخاري في التوحيد وفي فضائل القرآن، عن ابن عمر. وسنبين ما تخالفت فيه الروايتان بعد إن شاء الله تعالى. وقوله: "لا حسد" الحسد: تمني زوال النعمة عن المنعَم عليه، وخصه بعضهم بأن يتمنى ذلك لنفسه. والحق أنه أعم، وسببه أن الطباع مجبولة على حب الترفع على الجنس، فإذا رأى لغيره ما ليس له أحب أن يزول ذلك عنه له، ليرتفع عليه، أو مطلقًا، ليساويه، وصاحبه مذموم إذا عمل بمقتضى ذلك من تصميم أو قول أو فعل. وينبغي لمن خطر له ذلك، أن يكرهه كما يكره ما وضع في طبعه من حب المنهيات. واستثنوا من ذلك ما إذا كانت النعمة لكافر أو فاسق يستعين بها على معاصي الله تعالى. فهذا حكم الحسد بحسب حقيقته. وأما الحسد المذكور في الحديث فهو الغبطة، وأطلق الحسد عليها مجازًا، وهي أن يتمنى أن يكون له مثل ما لغيره، من غير أن يزول عنه، كما مر. والحرص على هذا يسمى منافسة، فإن كان في الطاعة، فهو محمود، ومنه

"فليتنافس المتنافسون"، وإن كان في معصية فهو مذموم، ومنه "ولا تنافسوا". وإن كان في الجائزات، فهو مباح، فكأنه قال في الحديث: "لا غبطة أعظم أو أفضل من الغبطة في هذين الأمرين". ووجه الحصر أن الطاعات إما بدنية أو مالية أو كائنة عنهما، وقد أشار إلى البدنية بإتيان الحكمة والقضاء بها وتعليمها، وإلى المالية بإيتاء المال والتسلط على هلاكه في الحق، وليس في الحديث ذكر الثالثة الكائنة عنهما. وقوله: "إلا في اثنتين" بتاء التأنيث، أي خصلتين، يعني لا حسد محمودًا في شيء إلا في خصلتين، وللمصنف في "الاعتصام": إلا في اثنين، أي: شيئين. وقوله: "رجل" على الأول، بالرفع، والتقدير خصلة رجل، حنف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، ويجوز البدل أيضًا، على تقدير حذف المضاف، أي: خصلة رجل، لأن الاثنتين معناهما خصلتان، كما مر. وعلى الثاني، فهو بالجر على البَدَلية، والمعنى إلا في اثنين، أي: خصلة رجلين: رجل .. الخ. ويجوز النصب باضمار أعني، وهي رواية ابن مَاجَة. ويجوز حمل الحسد في الحديث على حقيقته، على أن الاستثناء منقطع، والتقدير نفي الحسد مطلقًا، أي: لكن هاتان الخصلتان محمودتان، ولا حسد فيهما، فلا حسد أيضًا. وأما جعل الاستثناء متصلًا مع أن الحسد حقيقي، فمردود، لأن الحسد لا يجوز بحال. وقوله: "آتاه الله مالًا" بمد الهمزة كاللاحقة، أي: أعطاه، ونكّر "مالًا" ليشمل القليل والكثير. وقوله: "فسُلط" بضم السين وحذف الهاء، لأبي ذر وللباقين "فسلطه" بالهاء، وعبر بالتسليط لدلالته على قهر النفس المجبولة على الشح. وقوله: "على هَلَكته" بفتح الهاء واللام، أي: إهلاكه. وعبر بذلك ليدل على أنه لا يُبقي منه شيئًا، وكمله بقوله: "في الحق" أي: في الطاعات، ليزيل عنه إيهام الإِسراف المذموم. وقوله: "ورجل آتاه الله الحكمة" رجلٌ بالحركات الثلاث المتقدمة، واللام في الحكمة للعهد، لأن المراد بها القرآن، كما في حديث ابن عمر المشار إليه سابقًا: "رجل آتاه الله القرآن، فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار". والمراد بالقيام به العمل به

مطلقًا، أعم من تلاوته، داخل الصلاة أو خارجها، ومن تعليمه، والحُكم والفتوى بمقتضاه، فلا تخالف بين لفظي الحديث. ولأحمد من حديث يزيد بن الأخنس السُّلَميّ: "رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به، آناء الليل وآناء النهار، ويتبع ما فيه". وفي حديث أبي هريرة عند المؤلف في "فضائل القرآن"، ما يدل على أن المراد بالحسد المذكور هنا، الغبطة. ولفظه "فقال رجل ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان، فعملت مثل ما يعمل". وعند التِّرمذي من حديث أبي كَبْشة الأنماريّ، بفتح الهمزة وسكون النون، أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يقول: فذكر حديثًا طويلًا فيه استواء العامل في المال بالحق، والمتمني في الأجر. ولفظه "وعبدٌ رزقه الله علمًا ولم يرزقه مالًا، فهو صادق النية يقول: لو أن لي مالًا لعملت مثل ما يعمل فلان، فأجرهما سواء". وذكر في ضدهما أنهما في الوزر سواء، وقال فيه: حديث حسن صحيح. وإطلاق كونهما سواء، يرد على الخطابيّ في جزمه بأن الحديث يدل على أن الغنيّ إذا قام بشروط المال، كان أفضل من الفقير، نعم يكون أفضل بالنسبة إلى من أعرض ولم يتمنَّ، لكنّ الأفضلية المستفادة منه، هي بالنسبة إلى هذه الخصلة فقط، لا مطلقًا. قلت: وفي تفضيل الغنيّ الشاكر، وهو القائم بحقوق الله تعالى فيما أعطاه من المال، والفقير الصابر، وهو من استغنى بما أُوتي، وقنع به ورضي، ولم يحرص على الازدياد، ولا ألح في الطلب، فكأنه غنيّ. وهذا هو غنى النفس المذكور في الحديث -اختلافٌ كثيرٌ. قال القرطبيّ: للعلماء في هذه المسألة أقوال، ثالثها الأفضل: الكفافُ. رابعها: يختلف باختلاف الأشخاص، خامسها: التوقف. ويأتي ما قيل من ترجيح الكفاف. وقد احتج من فضل الفقر بما أخرجه البخاري في كتاب الرِّقاق عن سهل بن سعد السَّاعديّ قال: مر رجل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال

لرجل عنده، جالسٍ: ما رأيك في هذا؟ فقال: رجل من أشراف الناس، هذا والله حريٌّ إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع. قال: فسكت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. ثم مر رجل، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما رأيك في هذا؟ فقال: يا رسول الله؟ هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حريٌّ إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال أن لا يسمع لقوله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: هذا خير من ملء الأرض مثل هذا. وما أخرجه عن خَبّابٌ قال: هاجرنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نريد وجه الله، فوقع أجرنا على الله تعالى، فمنا من مضى لم يأخذ من أجره شيئًا .. إلى أن قال: ومنا من أينعت له ثمرته، فهو يهديها. وما أخرجه عن عِمران بن حُصين عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: اطَّلعتُ في الجنة فوجدت أكثر أهلها الفقراء .. الخ، إلى غير هذا من الأحاديث الواردة في وصف عيشه، عليه الصلاة والسلام، ووصف عيش أصحابه، رضي الله تعالى عنهم، في زمنه. واحتج من فضل الغنى، بحديث "إن المكثرين هم الأقلون إلا من قال بالمال هكذا". أخرجه البخاريّ عن أبي ذرٍّ، وحديث سعد بن أبي وقاص في الوصاية، "إن تَذَر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة". وحديث كعب ابن مالك حيث استشار في الخروج من ماله كله، فقال: "أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك" وحديث عمرو بن العاص "نعم المال الصالح للرجل الصالح". وحديث "ذهب أهل الدثور بالأُجور" وفي آخره "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء". قال ابن بطّال عند هذا الحديث: في هذا الحديث فضل الغنى نصًا لا تأويلًا إذا استوت أعمال الغني والفقير فيما افترض الله عليهما، فللغني حينئذ فضل عمل البرِّ من الصدقة ونحوها، مما لا سبيل للفقير إليه. قال: ورأيت بعض المتكلمين ذهب إلى أن هذا الفضل يخص الفقراء دون غيرهم، أي الفضل المترتب على الذكر المذكور، وعقل عن قوله في نفس الحديث المذكور: "إلا من صنع مثل ما صنعتم" فجعل الفضل لقائله كائنًا

من كان. وقال القرطبيّ: تأول بعضهم قوله: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة: 54] قال: الإِشارة راجعة إلى الثواب المترتب على العمل الذي يحصل به التفضيل عند الله، فكأنه قال: ذلك الثواب الذي أخبرتكم به لا يستحقه أحد بحسب الذكر، ولا بحسب الصدقة، وإنما هو بفضل الله. وفي هذا التأويل بُعد. وقال ابن دَقِيق العِيد: ظاهر الحديث القريب من النص، أنه فضّل الغنيّ على الفقير، لما تضمنه من زيادة الثواب، بالقُربى المالية، والذي يقتضيه النظر أنهما إن تساويا، وفضلت العبادة المالية، أنه يكون الغنيّ أفضل. وهذا مما لا شكّ فيه. وإنما النظر إذا تساويا وانفرد كل منهما بمصلحة ما هو فيه، أيهما أفضل؟ إن فسر الفضل بزيادة الثواب، فالقياس يقتضي أن المصالِح المتعدية أفضل من القاصرة، فيترجح الغنى. وإن فسر بالأشرف بالنسبة إلى صفات النفس، فالذي يحصل للنفس من التطهير للأخلاق، والرياضة لسوء الطباع، بسبب الفقر، أشرف، فيترجح الفقر، ولهذا المعنى ذهب جمهور الصوفية إلى ترجيح الفقير الصابر، لأن مدار الطريق على تهذيب النفس ورياضتها. وذلك مع الفقر أكثر منه في الغنى. وقد اصطلحت الصوفية على إطلاق الفقر على شيء تفاوتت فيه عباراتهم، وحاصله عندهم نفض اليد من الدنيا، ضبطًا وطلبًا، مدحًا وذمًا. وقالوا: إن المراد بذلك أن لا يكون ذلك في قلبه، سواء حصل في يده أم لا. وهذا يرجع إلى ما تضمنه حديث "أن الغنى غنى النفس" والفقر الذي وقع فيه النزاع المذكور عدمُ المال والتقللُ منه، لا ما عناه الصوفية. وقال الكَرمَانيّ: إن مقصود الفقراء في شكواهم "ذهب أهل الدُّثُور بالأجور" تحصيلُ الدرجات العلا، والنعيم المقيم لهم، لا نفي الزيادة عن أهل الدثور مطلقًا. والذي يظهر أن مقصودهم إنما كان طلب المساواة، ويظهر أن الجواب وقع قبل أن يعلم النبي -صلى الله عليه وسلم-، أن متمني الشيء يكون شريكًا لفاعله في الأجر، كما مر قريبًا، وكذا قوله -صلى الله عليه وسلم-. "من سنّ سنَّة حسنة فله أجرها، وأجر من يعمل بها من غير أن ينقص من أجره شيء" فإن الفقراء

في هذه القصة كانوا السبب في تعلم الأغنياء الذكر المذكور، فإذا استووا معهم في قوله، امتاز الفقراء بأجر السبب مضافًا إلى التمني، فلعل ذلك يقاوم التقرب بالمال، وتبقى المقايسة بين صبر الفقير على شظف العيش، وشكر الغني على التنعم بالمال. ومن ثم وقع التردد في تفضيل أحدهما على الآخر. وفي "الفتح" عند حديث "الطاعم الشاكر، مثل الصائم الصابر" أخرجه البخاريّ في "الصحيح" معلقًا، وأخرجه في التاريخ، والحاكم في "المستدرك" موصولًا، قال الكرمانيّ: التشبيه هنا في أصل الثواب، لا في الكمية، ولا في الكيفية. والتشبيه لا يستلزم المماثلة من جميع الأوجه. قال: وفي الحديث رفع الاختلاف المشهور في الغنيّ الشاكر والفقير الصابر، وأنهما سواء، كذا قيل. ومساق الحديث يقتضي تفضيل الفقير الصابر لأن الأصل أن المشبه به أعلى درجة من المشبه، والتحقيق عند أهل الحذق، أن لا يجاب في ذلك بجواب كلي، بل يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال. نعم، عند الاستواء من كل جهة، وفرض رفع العوارض بأسرها، فالفقير أسلم عاقبة في الدار الآخرة، ولا ينبغي أن يعدل بالسلامة شيء. وقال أحمد بن نَصر الدّاوديّ: الفقر والغنى بختان من الله يختبر بهما عباده، في الشكر والصبر، كما قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7] وقال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35] وثبت أنه -صلى الله عليه وسلم-، كان يستعيذ من شر فتنة الفقر، ومن شر فتنة الغنى. والسؤال: أيهما أفضل؟ لا يستقيم لاحتمال أنْ يكون لأحدهما من العمل الصالح ما ليس للآخر، فيكون أفضل. وإنما يقع السؤال عنهما إذا استويا، بحيث يكون لكل منهما من العمل ما يقاوم به عمل الآخر، فعلم أيهما أفضل عند الله. وقال ابن الجَوْزيّ: صورة الاختلاف في فقير ليس بحريص، وغني ليس بممسك، إذ لا يخفى أن الفقير القانع، أفضل من الغني البخيل، وأن الغني المنفق، أفضل من الفقير الحريص. قال: وكل ما يراد لغيره، ولا يراد لعينه،

ينبغي أن يضاف إلى مقصوده، فبه يظهر فضله، فالمال ليس محذورًا لعينه، بل لكونه قد يعوق عن الله، وكذا العكس، فكم من غني لم يشغله غناه عن الله، وكم من فقير شَغله فقره عن الله، إلى أنْ قال: وإن أخذتَ بالأكثر، فالفقير عن الخطر أبعد، لأن فتنة الغنى أشد من فتنة الفقر، ومن العصمة أن لا تجد، وصرح كثير من الشافعية بأن الغنيّ الشاكر أفضل. وقال الطّبريّ: لا شك أن محنة الصابر أشد من محنة الشاكر، غير أني أقول كما قال مُطْرف بن عبد الله: لأَنْ أعافى فأشكر أحب إلى من أن أُبتلى فأصبر. وكان السبب فيه ما جبل عليه طبع الآدميّ من قلة الصبر، ولهذا يوجد من يقوم بحسب الاستطاعة بحق الصبر، أقل ممن يقوم بحق الشكر بحسب الاستطاعة. ووجد بخط عبد الله بن مرزوق: كلامُ الناس في أصل المسألة مختلفٌ، فمنهم من فضّل الفقر، ومنهم من فضل الغنى. ومنهم من فضل الكفاف. وكل ذلك خارج عن محل الخلاف، وهو أيُّ الحالين أفضل عند الله للعبد حتى يتكسب ذلك، ويتخلق به، هل التقلل من المال أفضل ليتفرغ قلبه من الشواغل، وينال لذة المناجاة، ولا ينهمك في الاكتساب، ليستريح من طول الحساب، أو التشاغل باكتساب المال أفضل ليستكثر به من التقرب بالبر، والصلة، والصدقة، كما في ذلك من النفع المتعدي؟ قال: وإذا كان الأمر كذلك، فالأفضل ما اختاره النبي -صلى الله عليه وسلم-، وجمهور أصحابه من التقلل في الدنيا والبعد من زهراتها. ويبقى النظر فيمن حصل له شيء من الدنيا بغير تكسُّب منه كالميراث، وسهم الغنيمة، هل الأفضل أن يبادر إلى إخراجه في وجوه البرّ، حتى لا يبقى منه شيء، أو يتشاغل بتثميره ليستكثر من نفعه المتعدي؟ قال: وهو على القسمين الأولين، ومقتضى ذلك أن يبذل إلى أن يبقى في حالة الكفاف، ولا يضره ما تجدد في ذلك إذا سلك هذه الطريقة. ودعوى أن جمهور الصحابة كانوا على التقلل والزهد، ممنوعة بالمشهور من أحوالهم. فإنهم كانوا على

قسمين بعد أن فتحت عليهم الفتوح، فمنهم من أبقى ما بيده مع التقرب إلي ربه بالبر والصلة والمواساة، مع الاتصاف بغنى النفس. ومنهم من استمر على ما كان عليه قبل ذلك، فكان لا يبقي شيئًا مما فتح عليه به، وهم قليل بالنسبة للطائفة الأخرى. ومن تبحر في سير السلف علم صحة ذلك، فأخبارهم في ذلك كثيرة، وحديث خَبَّاب المارّ شاهدٌ لذلك. وأخرج مسلم عن سعد بن أبي وقّاص، رفعه، "أن الله يحب الغنيّ التقيّ الخفيّ" وهو دال لما مرّ، سواء حملنا الغنى فيه على المال، أو على غنى النفس. فإنه على الأول ظاهر، وعلى الثاني يتناول القسمين، فيحصل المطلوب والمراد بالتقي، وهو بالمثناة، من يترك المعاصي امتثالا للمأمور به، واجتنابا للمنهي. والخفي، ذُكر للتتميم، إشارة إلى ترك الرياء ومن المواضع التي وقع فيها التردد، مَنْ لا شيء له فالأولى في حقه أن يكتسب للصون عن ذل السؤال، أو يترك وينتظر ما يفتح عليه بغير مسألة. فصح عن أحمد مع ما اشتهر من زهده وورعه، أنه قال لمن سأله عن ذلك: "إلْزم السوق". وقال لأخر: "استغن عن الناس، فلم أر مثل الغنى عنهم". وقال: ينبغي للناس كلهم أن يتوكلوا على الله تعالى، وأن يُعوَّدُوا أنفسهم التكسب. ومن قال بترك التكسب، فهو أحمق، يريد تعطيل الدنيا. نقله أبو بكر المَرْوزيّ. وقال: "أجرة التعليم والتعلم أحب إلى من الجلوس لانتظار ما في أيدي الناس"، وقال أيضًا: "من جلس ولم يحترفْ دعته نفسه إلى ما في أيدي الناس" وأسند عن عمر "كسب فيه بعض الشيء خير من الحاجة إلى الناس"، وأسند عن سعيد بن المُسيِّب أنه قال عند موته، وترك مالًا: "الَّلهمّ إنك تعلم أني لم أجمعه إلا لأصون به ديني" وعن سُفيان الثَّوريّ وأبي سليمان الدّارَانيّ، وغيرهما من السلف، نحوه بل لقلة البر بها. روي عن الصحابة والتابعين وأنه لا يحفظ عن أحد منهم أنه ترك تعاطي الرزق مقتصرًا على ما يفتح عليه، واحتج من فضّل الغنى، بالأمر في قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ

مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] قال: وذلك لا يتم إلا بالمال. وأجاب من فضل الفقر، بأنه لا مانع من أن يكون الغنى في جانب العموم، أفضل من الفقر في حالة مخصوصة. ولا يستلزم أن يكون أفضل مطلقًا، ورجح كثير من العلماء الكفاف، قال أحمد بن نصر الداوديّ: الفقر والغنى متقابلان لما يعرض لكل منهما، وفقره وغناه من العوارض، فيمدح أو يذم، والفضل كله في الكفاف، لقوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29] وقال -صلى الله عليه وسلم- "الّلهم اجعلْ رزق آل محمد قوت" وعليه يحمل قوله: "أسألك غناي وغنى هؤلاء" ومعناه: اكْفِهم من القوت بما لا يرهقهم إلى ذل المسألة، ولا يكون فيه فضول يبعث على التَّرفُّه والتبسط في الدنيا. وفيه حجة قوية لمن فضل الكفاف، لأنه إنما يدعو لنفسه وآله بأفضل الأحوال. والكفاف الكفاية بلا زيادة ولا نقصان. وقال القرطبي: هو ما يكفُّ عن الحاجات، ويدفع الضرورات، ولا يُلْحقُ بأهل الترفهات. وممن قال بتفضيل الكفاف القرطبيّ في "المُفْهم" فقال: جمع الله تعالى لنبيه الحالات الثلاث: الفقر والغنى والكَفاف. فكان الأول أول حالاته، فقام بواجب ذلك من مجُاهَدة النفس، ثم فتحت عليه الفتوح فصار بذلك في حد الأغنياء، فقام بواجب ذلك من بَذْلِه لمستحقه، والمواساة به، والإِيثار، مع اقتصاره منه على ما يسد ضرورة عياله، وهي صورة الكفاف التي مات عليها. قال: وهي حالة سليمة من الغنى المطغي والفقر المؤلم، وأيضًا، فصاحبها معدود في الفقراء لأنه لا يَترَفَّهُ في طيبات الدنيا، بل يجاهد نفسه في الصبر عن القدر الزائد على الكفاف، فلم يفته من حال الفقر إلا السلامة من قهر الحاجة، وذل المسألة. ويؤيده ما أخرجه التِّرمذيّ عن أبي هريرة، رفعه: "وارض بما قُسم لك تكن أغنى الناس" وأصح ما ورد في ذلك ما أخرجه مسلم عن عبد الله بن

رجاله ستة

عمر، ورفعه "قد أفلح من هُدي إلى الإِسلام، ورزق الكفاف، وقنع" وله شاهد عند التِّرمذيّ، وصححه، قال النّووي: فيه فضيلة هذه الأوصاف. وقد قال "خير الأمور أوساطها" ويؤيده ما أخرجه ابن المبارك في الزهد، بسند صحيح عن ابن عباس، أنه سُئل عن رجل قليل العمل، قليل الذنوب، أفضل أو رجل كثير العمل كثير الذنوب؟ فقال: لا أعدل بالسلامة شيئًا، ممن حصل له ما يكفيه، واقتنع به، أمن من آفات الغنى، وآفات الفقر. وقد ورد حديث، لو صح لكان نصًا في المسألة، وهو ما أخرجه ابن ماجة، وهو ضعيف، عن أنس، رفعه "ما من غني ولا فقير إلا ودَّ يوم القيامة أنه أوتي من الدنيا قوتًا". وأما الحديث الذي أخرجه التِّرمذيّ "اللهم أحيني مسكينًا، وأمتني مسكينًا .. " الحديث، فهو ضعيف. وعلى تقدير ثبوته، فالمراد به الكفاف. وقد لخصت فيه ما أتى به في "الفتح" في أربعة مواضع في العلم والصلاة والأطعمة والرِّقاق. رجاله ستة: الأول والثاني الحُميديّ وسُفيان بن عُيينة، وقد مرّا في الأول من بدء الوحي، ومر ابن شِهاب الزُّهريّ في الثالث منه أيضًا، ومر إسماعيل بن أبي خالد في الثالث من كتاب الإِيمان، ومر قيس بن أبي حازم في الخمسين من كتاب الإِيمان أيضًا، وعبد الله بن مسعود في الأثر الثالث منه قبل ذكر حديث منه. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والسماع، وفيه ثلاثة من التابعين، ورواته ما بين مكّي وكوفيّ، ومنها أنّ سفيان ذكر أن الزُّهريّ حدثه بلفظ غير اللفظ الذي حدثه به إسماعيل، فيفيد التقوية والترجيح، بتعداد الطرق وقد أخرج البخاريّ رواية الزُّهريّ في "التوحيد" عن علي بن المَدينيّ، وهذا الحديث أخرجه عن محمد بن المُثنى. وفي الأحكام والاعتصام، عن شهاب ابن عبّاد بن مسلم في الصلاة عن أبي بكر بن أبي شَيْبة والنّسائي في العلم

باب ما ذكر في ذهاب موسى في البحر إلى الخضر عليهما السلام

عن إسحاق بن إبراهيم، وابن ماجة في الزهد عن محمد بن عبد الله بن نُمَير. ثم قال المصنف: باب ما ذكر في ذهاب موسى في البحر إلى الخضر عليهما السلام هذا الباب معقود للترغيب في احتمال المشقة في طلب العلم، لأن ما يغتبط تحتمل المشقة فيه، ولأن موسى عليه السلام، لم يمنعه بلوغه من السيادة المحلَّ الأعلى، من طلب العلم وركوب البر والبحر لأجله، وبهذا تظهر مناسبة هذا الباب لما قبله، وظاهر التبويب أن موسى ركب البحر لما توجه في طلب الخضر، والذي ثبت عند المصنف وغيره، أنه خرج في البر، وفي لفظ "فخرجا يمشيان". وفي لفظ لأحمد حتى "أتيا الصخرة" وإنما ركب البحر في السفينة هو والخضر بعد أن التقيا، فيُحمل قوله "إلى الخضر" على أن فيه حذفًا، أي إلى مقصد الخضر، لأن موسى لم يركب البحر لحاجة نفسه وإنما ركبه تبعًا للخضر، ويحتمل أن يكون التقدير "ذهاب موسى في ساحل البحر" فيكون فيه حذف، ويمكن أن يقال: مقصود الذهاب إنما حصل بتمام القصة، ومن تمامها أنه ركب معه في البحر، فأطلق على جميعها ذهابًا مجازًا، إما من إطلاق الكل على البعض، أو من تسمية السبب باسم المُسبِّب. وحمله ابن المُنير على أن "إلى" بمعنى "مع" وقال ابن رشيد: يحتمل أن يكون ثبت عند البخاريّ أن موسى توجه في البحر لما طلب الخضر، ولعله قَوِيَ عنده أحد الاحتمالين في قوله "فكان يتبع أثَرَ الحوت في البحر" فالظرف يحتمل أن يكون لموسى، ويحتمل أن يكون للحوت، ويؤيد الأول ما رواه عباد ابن حُميد عن أبي العالية "أن موسى التقى بالخضر في جزيرة من جزائر البحر" والتوصل إلى الجزيرة في البحر لا يقع إلا بسلوك البحر غالبًا، وعنده، أيضًا، من طريق الرَّبيع بن أنس، قال: "انجاب الماء عن مسلك الحوت، فصار طاقة مفتوحة، فدخلها موسى على أثر الحوت، حتى انتهى إلى الخضر" فهذا يوضح أنه ركب البحر إليه، وهذان الأثران الموقوفان رجالهما ثقات. ثم قال: وقوله تعالى: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}

[الكهف: 66] أي: باب قوله تعالى. وقوله: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ} [الكهف: 66] أي: على شرط أن تعلمني، وهو في موضع الحال من الكاف، وقوله: {مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 66] أي: علما ذا رشد وهو إصابة الخير. وفي رواية، وقوله تعالى: {عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ} [الكهف: 66] الآية، فالآية بالنصب بتقدير "فذكر" على المفعولية، وذكر باقي الآية، كما هنا، ثابت في رواية الأصيلي، وقرأ يعقوب وأبو عمرو والحسن بفتح الراء والشين. في رَشَدًا، والباقون بضم الراء وسكون الشين، وهما لغتان: كالنَّجَل والنُّجل، وهو مفعول تعلمن، ومفعول عُلِّمت العائد محذوفٌ. وكلاهما منقول من "عَلِم" الذي له مفعول واحد ويجوز أن يكون له علة لـ"أتبعك"، أو مصدرًا، بإضمار فعله، ولا ينافي نُبوَّته وكونه صاحب شريعة أن يتعلم من غيره، ما لم يكن شرطًا في أبواب الدين. فإن الرسول ينبغي أن يكون أعلم ممن أُرسل إليه فيما بُعث به من أصول الدين وفروعه، لا مطلقًا. وكأنه راعى في ذلك غاية الأدب والتواضع، فاستجهل نفسه، واستأذن أن يكون تابعًا له، وسال منه أن يرشده، وينعم عليه بتعليم بعض ما أنعم الله عليه. أما موسى، عليه الصلاة والسلام، فهو كليم الله تعالى، بنص الكتاب العزيز، أحد أولي العزم من الرسل، وهذا الاسم سمته به آسية بنت مُزاحم، امرأة فرعون، لما وجدوه في التابوت، وهو اسم اقتضاه حاله، لأن موسى مُعرَّب موشى، بالشين المعجمة، ومعناه الماء والشجر. فمو بلغة القبط الماء، وشى الشجر. فقيل: موسى. وسمي موسى بذلك، لأنه وجد بين الشجر والماء. وقيل: إنه عربي، وإن اشتقاقه من المَوْسِ وهو حلق الشعر، فالميم أصلية. وقيل: مشتق من أوسيتُ رأسه إذا حلقته بالموس، فعلى هذا الميم زائدة، وموسى عليه السلام، أبوه عِمران بن يَصْهَر بن فاهت بن لاوي ابن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، عليه الصلاة والسلام. ولد وعمرُ عِمران سبعون سنة، وعمِّر عمران مئة وسبعًا وثلاثين سنة، وعُمِّر موسى عليه الصلاة والسلام، مئة وعشرين سنة، وقيل: مئة وستين

سنة، وكانت وفاته في التيه في سابع آذار لمضي ألف سنة وست مئة وعشرين سنة من الطوفان، في أيام "متوجهر" الملك. وكان عمره لما خرج ببني إسرائيل من مصر ثمانين سنة، وأقام بالتيه أربعين سنة، وأرسل عليه الصلاة والسلام إلى فرعون، ولم يكن في الفراعنة أعتى منه، ولا أطول منه عمرًا في الملك، عاش أربع مئة سنة، وذكر فضل موسى غير محتاج إليه لما في القرآن العزيز من التنويه بقدره. وذكر ما وقع له من المعجزات العظام الباهرة، فلا نطيل به الكلام. وأما الخِضر، على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فهو ككَتِف، وبفتح الخاء وكسرها، مع سكون الضاد. واختلف في سبب تلقيبه بهذا اللقب، واختلف في اسمه، واسم أبيه، واختلف فيه. هل هو نبي أو رسول أو ملك؟ وهل هو حي أو ميت؟. أما سبب تلقيبه بذلك فهو ما جاء في "الصحيح" "في كتاب الأنبياء" عليهم الصلاة والسلام، قال: إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء، فإذا هي تهتز من خلفه خضراء. والفَروة وجه الأرض، وقيل: النبات المجتمع اليابس، وقيل: سمي بذلك، لأنه كان إذا صلى اخضر ما حوله. قاله مجاهد. وقال الخطّابي: إنما سمي به لحسنه، وإشراق وجهه، وكنيته أبو العباس. وأما اسمه، فالصحيح أنه "بَلْيا" بفتح الباء الوحدة، وقيل: اسمه "إرْميا"، وقيل: "إلْيَسَع"، سمي بذلك لأن علمه وسع ست سموات، وست أرضين، وضعَّفَه ابن الجَوْزي، بأنَّ إليسع اسم أعجمي ليس بمشتق، وقيل: اسمه أحمد، وضعَّفَه ابن دحية، بأنه لم يسم أحد قبل نبينا، عليه الصلاة والسلام، بذلك. وقيل: عامر. وأما أبوه فقيل: اسمه مَلْكان، بفتح الميم وسكون اللام، ابن فالِغ بن عابِر بن شالِخ بن أرْفَخْشَذ بن سام بن نوح. وقيل: ابن عَمَاييل بن الفتر بن العِيص بن إسحاق بن إبراهيم. وقيل: ابن حلقيا، وقيل: ابن قابيل بن آدم. ورُوي عن ابن عباس أنه قال: الخضر بن آدم لصلبه، ونُسىءَ له في أجله حتى يكذِّب الدَّجال. وقيل: إنه ولد عِيصوا بن إسحاق. وقيل: إنه

من سِبط هارون، وقيل: إنه من ولد فارس، وقيل: إنه ابن خالة ذي القرنين، وقيل: إنه ابن فرعون، صاحب موسى، ملك مصر، وهذا غريب جدًّا. وقيل: إنه ابن بنته. وأما ولايته أو نبوءته، فجزم القُشَيريّ بأنه وليّ. وأغرب ما قيل فيه أنه ملك، والصحيح أنه نبيّ. وجزم به جماعة. وقال الثَّعلبيّ: هو على جميع الأقوال نبي مُعَمَّر محجوب عن الأبصار. وصححه ابن الجَوْزيّ، أيضًا في كتابه لقوله تعالى حكاية عنه {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82] فدل على أنه نبي أُوحي إليه، ولأنه كان أعلم من موسى بعلم مخصوص، ولا يبعد أن يكون نبي أعلم من نبي، وإن كان يحتمل أن يكون أُوحي إلى نبي في ذلك العصر يأمر الخضر بذلك. ولأنه قدم على قتل ذلك الغلام، وما ذلك إلا للوحي إليه في ذلك، لأن الولي لا يجوز له الإِقدام على قتل النفس بمجرد ما يلقى في خلده، لأن خاطره ليس بواجب العصمة. وكان بعض أكابر العلماء يقول: أول عقد يحل من الزندقة اعتقاد كون الخضر نبيًا، لأن الزنادقة يتذرعون بكونه غير نبي إلى أن الولي أفضل من النبي، كما قال قائلهم: مقامُ النبوءة في بَرْزَخ ... فُوَيْق الرسول ودونَ الوليّ وأما حياته، فالجمهور على أنه باق إلى يوم القيامة، واختلف في سبب تعميره، فقيل: إنه بسبب دعوة آدم، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، فقد رُوي أنه لما حضره أجَلُه، جمع بنيه، وقال لهم: إن الله تعالى منزل على أهل الأرض عذابًا، فليكن جسدي معكم في المغارة، حتى تدفنوني بالشام. فلما وقع الطوفان، قال نوح لبنيه: إن آدم دعا الله أن يطيل عمر الذي يدفنه إلى يوم القيامة، فلم يزل جسد آدم حتى كان الخضر هو الذي تولىّ دفنه، وأنجز الله تعالى ما وعده، فهو يحيا إلى ما شاء الله. وقيل: لأنه شرب من عين الحياة، فقد قيل: إن لله عينًا تسمى "عين الحياة"، من شرب منها شرْبةً لم يمت أبدًا، حتى يكون هو الذي يسأل ربه الموت. وهذه

العين مذكورة في حديث طويل، مروي في شأن ذي القرنين، عن أبي جعفر عن أبيه، أنه سُئل عن ذي القرنين فقال: "كان عبدًا من عباد الله تعالى الخ .. " ذكره ابن حَجَر في "الإِصابة" بتمامه. وقال النَّوويّ في تهذيبه: الأكثرون من العلماء على أنه موجود حي بين أظهرنا. وذلك متفق عليه عند الصوفية، وأهل الصلاح والمعرفة، وحكاياتهم في رؤيته، والاجتماع به والأخذ عنه، وسؤاله وجوابه، ووجوده في المواضع الشريفة، ومواطن الخير أكثر من أن تحصى. وأشهر من أن تذكر. وفي الإِصابة كثير من ذلك. وقال ابن الصلاح: هو حي عند جماهير العلماء والصالحين، والعامة معهم في ذلك، وإنما شذ بإنكاره بعض المُحدِّثين. وفي صحيح مسلم، في حديث الدَّجَّال أنه يقتل رجُلًا ثم يحييه، قال إبراهيم بن سُفيان، راوي كتاب مسلم، يقال: إنه الخضر. وكذلك قال مُعمَّر في مسنده، وأنكر حياته جماعة منهم إبراهيم الحربيّ والإِمام البخاريّ وابن المناويّ وابن الجوزيّ وغيرهم. واستدلوا بحديث الصحيحين "أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن على رأس مئة لا يبقى على وجه الأرض ممن هو عليها اليوم أحد"، واستدلوا أيضًا، بما أخرجه أحمد من حديث جابر بن عبد الله أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: "والذي نفسي بيده، لو كان موسى حيًا ما وسعه إلا أن يتبعُني". فإذا كان هذا في حق موسى، فكيف لم يتبعه الخضر؟ فلو كان حيًا صلى معه الجمعة والجماعة، وجاهد تحت رايته، كما ثبت أن عيسى يصلي خلف إمام هذه الأمة. واستدلوا، أيضًا، بقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} [آل عمران: 81] الخ. قال ابن عباس: ما بعث الله نبيًا إلا أخَذ عليه الميثاق: إن بعث محمد وهو حي ليُؤمنن به، ولينصرنه. فلو كان الخضر موجودًا في عهده، عليه الصلاة والسلام، لجاءه ونصره بيده ولسانه، وقاتل تحت رايته، وكان من أعظم الأسباب في إِيمان أهل الكتاب، الذين يعرفون قصته مع موسى، عليهما الصلاة والسلام.

وأما أول وقته الذي كان فيه، فقد قال الطبريّ: إنه كان في أيام أفْريدُون، وقيل: كان مقدمة ذي القرنين الأكبر، الذي كان أيام إبراهيم الخليل، عليه الصلاة والسلام. وذو القرنين، عند قوم، هو أفْريدون، وذكر بعضهم أنه كان في زمن إبراهيم، عليه الصلاة والسلام. وقيل: كان في زمن سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام، وأنه المراد بقوله تعالى: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} [النمل: 40] وفي هذا القدر كفاية. ومن أراد أكثر من هذا من شأنه، فعليه بالجزء الأول من الإِصابة لابن حَجَر، فإنه أطال فيه جدًا، وذكرته هنا، هو وموسى، عليهما الصلاة والسلام، وإن كانا غير داخلين في الرجال، رجاء أن الله تعالى يمنُّ عليَّ وعلى الكتاب بالبركة والخيرات، وأن يجعلني وارث سمي الخضر، فإن الله سميع قريب، ولمن دعاه من عباده مجيب.

الحديث السادس عشر

الحديث السادس عشر حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ غُرَيْز الزُّهْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَه أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ أَخْبَرَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ تَمَارَى هُوَ وَالْحُرُّ بْنُ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ فِي صَاحِبِ مُوسَى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ خَضِرٌ. فَمَرَّ بِهِمَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، فَدَعَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إِنِّي تَمَارَيْتُ أَنَا وَصَاحِبِي هَذَا فِي صَاحِبِ مُوسَى الَّذِي سَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ، هَلْ سَمِعْتَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَذْكُرُ شَأْنَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "بَيْنَمَا مُوسَى فِى مَلإٍ مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ، جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْكَ؟ قَالَ مُوسَى لاَ. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى: بَلَى، عَبْدُنَا خَضِرٌ، فَسَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَيْهِ، فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُ الْحُوتَ آيَةً، وَقِيلَ لَهُ: إِذَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَارْجِعْ، فَإِنَّكَ سَتَلْقَاهُ، وَكَانَ يَتَّبِعُ أَثَرَ الْحُوتِ فِى الْبَحْرِ، فَقَالَ لِمُوسَى فَتَاهُ: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ، وَمَا أَنْسَانِيهِ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ. قَالَ: ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغ، فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا، فَوَجَدَا خَضِرًا. فَكَانَ مِنْ شَأْنِهِمَا الَّذِي قَصَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ". قوله: قال ابن عباس: هو خَضر، لم يذكر ما قال الحُرُّ بن قيس. قال في "الفتح": ولا وقفت على ذلك في شيء من طرق هذا الحديث. وهذا التماري الذي وقع بين ابن عباس والحرّ غير التماري الذي وقع بين سعيد بن جُبير ونَوف البكّالي، فإن هذا في صاحب موسى، هل هو الخضر أو غيره؟ وذلك في موسى، هل هو موسى بن عِمران الذي أنزلت عليه التوراة أو موسى ابن مِيشا، بكسر الميم وسكون التحتانية بعدها معجمة، ابن أفراييم بن يوسف عليه السلام.

قال ابن إسحاق: في المبتدأ كان موسى بن مِيشا، قبل موسى بن عمران نبيًا في بني إسرائيل. ويزعم أهل الكتاب أنه الذي صحب الخضر. وقوله: فدعاه، أي: ناداه، وقال ابن التين: إن فيه حذفًا، والتقدير: فقام إليه فسأله، لأن المعروف عن ابن عباس التأدب مع من يأخذ عنه، وأخباره في ذلك شهيرة، والحق أنه ليس في دعائه أن يجلس عندهم لفصل الخصومة ما يخل بالأدب، وقد روي. فمرّ بهما أُبيّ بن كعب، فدعاه ابن عباس، فقال: يا أبا الطُّفيل هلُمَّ إلينا. وهذا صريح في المراد. وقوله: "إلى لُقيِّه" بلام مضمومة، فقاف مكسورة، فمثناة تحتية مشددة. وقوله: "بينما موسى" بينما: أصلها بين، وزيدت فيها الميم، والألف، وتلزم الإضافة إلى أجل، ومعناها بين أوقات كذا. وقد مر الكلام عليها في الرابع من بدء الوحي بأزيد من هذا. وقوله: "في ملأ من بني إسرائيل" والملأ: الجماعة أو الأشراف خاصة، وبنو إسرائيل: هم أولاد يعقوب، عليه السلام، لأنه هو إسرائيل. ويأتي الكلام عليه في أحاديث الأنبياء. وكانوا اثني عشر ولدًا، وهم الأسباط، وجميع بني إسرائيل منهم. وقوله: "جاءه رجل" هو جواب بينما، وجوابها تقدم عند الحديث المذكور الكلام عليه. والرجل، قال في "الفتح": لم أقف على تسميته. وقوله: "هل تعلم أحدًا أعلم منك" بنصب أعلم، صفة لأحد. وقوله: "قال موسى لا" وفي رواية، فقال: "لا أعلم أحدًا أعلم مني" وفي التفسير: فسئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا، فعتب الله عليه. وبين الروايتين فرق، لأن الأخيرة تقتضي الجزم بالأعلمية له، ورواية الباب تنفي الأعلمية عن غيره، عليه، فيبقى احتمال المساواة، وفي رواية عند مسلم، فقال: "ما أعلم في الأرض خيرًا وأعلم مني"، فأوحى الله إليه أني أعلم بالخير عند من هو، وإن في الأرض رجلًا هو أعلم منك. وقوله: "فعتب الله عليه" أي: لم يرضَ قولَه شرعًا ودينًا، وآخذه به. وأصل العتب المؤاخذة، يقال: عَتَب عليه، إذا آخذه، وإنما عتب الله عليه

إذ لم يَرُدَّ ردَّ الملائكة {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 32]. وقيل: جاء هذا تنبيهًا له، وتعليمًا لمن بعده، ولئلا يقتدي به أحد في تزكية نفسه، والعُجْب بحاله، فيهلك، وإنما أُلجىء موسى للخضر للتأديب، لا للتعليم. وقوله: "بلى عبدنا خَضر" بلى بوزن على، وقد مر أنها تأتي جوابًا للنفي، وتصيره إثباتا، أي هو أعلم منك بما أعْلمتَه من الغيوب، وحوادث القدر، مما لا تعلم الأنبياء منه إلا ما أُعلموا به، كما قال سيدهم وصفوتهم، صلاة الله وسلامه عليه وعليهم، في هذا المقام: "إني لا أعلم إلا ما علمني ربي"، وإلا فلا ريب أن موسى، عليه الصلاة والسلام، أعلم بوظائف النبوة، وأمور الشريعة وسياسة الأمة، ولهذا قال الخضر: إنك على علم من علم الله، علَّمك، لا أعلمه، وأنا على علم من علم الله علَّمنيه، لا تعلمه. وفي رواية الكَشميهنِيّ: بل، بإسكان اللام، والتقدير: فأوحى الله إليه لا تطلق النفي، بل قل: خضرِ، وإنما قال: عبدُنا، وإن كان السياق يقتضي أن يقول: عبد الله، لكونه أورده على طريق الحكاية عن الله تعالى، والإضافة فيه للتعظيم. وقوله: "فإنك ستلقاه" إنما كان كذلك؛ لأن موسى لما سأل السبيل إليه، قال الله تعالى له: اطلبه على الساحل عند الصخرة، قال: يا ربَّ، كيف لي به؟ قال: تأخذ حوتًا في مِكْتل، فحيث فقدته، فهو هناك. فقيل: أخذ سمكةً مملوحة، وقال لفتاه: إذا فقدت الحوتَ، فأخبرني. قوله: "وكان يتَّبع"، بتشديد المثناة الفوقية، وقوله: "أثر الحوت في البحر" روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: "فرجع موسى حتى أتى الصخرة، فوجد الحوت، فجعل موسى يقدم عصاه، يفرج بها عنه الماء، ويتبع الحوت، وجعل الحوت لا يَمَسُّ شيئًا من البحر إلاّ يبسَ حتى يصير صخرة، فجعل موسى يعجب من ذلك حتى انتهى إلى جزيرة في البحر، فلقي الخضر. وقوله: "فقال لموسى" فتاه، هو يُوشع بن نُون، فإنه كان يخدمه ويتبعه، ولذلك سماه فتاه، وزعم ابن العربي أن ظاهر القرآن يقتضي أن الفتى ليس هو يوشع، وكأنه أخذه من لفظ الفتى، وأنه خاص بالرقيق، وليس

بجيد لأن الفتى مأخوذ من الفتاء وهو الشباب، وأطلق ذلك على كل من يخدم المرء. سواءًا كان شابًا أو شيخًا؛ لأن الأغلب أن الخدم تكون شبانًا. وقوله: "أرأيت" أي: ما دهاني، وقوله: "إذ أوَيْنا إلى الصخرة" يعني الصخرة التي رقد عندها موسى عليه السلام، أو الصخرة التي دون نهر الزَّيْت، وذلك أن موسى لما رقد اضصرب الحوت المُمَلَّح، ونزل في البحر معجزة لموسى، أو الخضر عليهما السلام. وقيل: إن يوشع حمل الخبز والحوت في المكتل، ونزلا ليلًا على شاطىء عين تسمى عين الحياة، فلما أصاب السمكة رَوْح الماء وبرده، عاشت. وقيل: توضأ يوشع من تلك العين، فانتضح الماء على الحوت، فعاش، ووقع في الماء. وقوله: "فإني نسيت الحوت" أي فقدته أو نسيت ذكره بما رأيت. وقوله: "وما أنسانيه إلاَّ الشيطان أن أذكُرَه" أي: وما أنساني ذكره إلاَّ الشيطان فإن "أن أذكره" بدل من الضمير، وهو اعتذار عن نسيانه، بشغل الشيطان له بوساوسه. والحال، وإن كانت عجيبة لا ينسى مثلها, لكنه لما ضرَي بمشاهدة أمثالها عند موسى وألِفَها، قلَّ اهتمامه بها. ولعله نسي ذلك لاستغراقه في الاستبصار، وانجذاب شراشره إلى جناب القدس، بما عراه من مشاهدة الآيات الباهرة. وإنما نسبه إلى الشيطان هضمًا لنفسه. وقوله: "قال ذلك" أي: فقدان الحوت. وقوله: "ما كنا نبغ" أي: نطلب؛ لأن فقد الحوت جُعل آية، أي علامة على الموضع الذي فيه الخَضرِ، وقوله: "فارتدَّا على آثارهما" أي: فرجعا في الطريق التي جاءا فيه يقُصَّان. وقوله: "قصصًا" أي يتبعان آثارهما اتباعا، أو مقتصين، حتى أتيا الصخرة. وقوله: "فوجدا خَضرًا" فكان من شأنهما الذي قص الله عز وجل في كتابه، أي من قوله تعالى {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ ...} [الكهف: 66] إلى آخر ذلك. وفي الحديث جواز التجادل في العلم إذا كان بغير تعنّت، والرجوع إلى

أهل العلم عند التنازع، والعمل بخبر الواحد الصدوق، وركوب البحر في طلب العلم، بل في طلب الاستكثار منه، ومشروعية حمل الزاد في السفر، ولزوم التواضع في كل حال، ولهذا حرص موسى على الالتقاء بالخضر، عليهما السلام، وطلب التعلم منه، تعليمًا لقومه أن يتادبوا بأدبه، وتنبيها لمن زكّى نفسه، أن يسلك مسلك التواضع، وإطلاق الفتى على التابع، واستخدام الحُر، وطواعية الخادم لمخدومه، وعذر الناس، وقبول الهبة من غير المسلم، واستدل به على أن الخضر نبي لعدة معان، كقوله: "وما فعتله عن أمري" وكاتباع موسى رسول الله له، ليتعلم منه، وكإطلاق أنه أعلم منه، وكإقدامه على قتل النفس، لما شرحه بعد وغير ذلك. وأما من استدل به على جواز دفع أغلظ الضررين بأخفهما، والإغضاء على بعض المنكرات مخافة أن يتولد منه ما هو أشد، وإفساد بعض المال لإصلاح معظمه، كخِصاء البهيمة للسِّمَن، وقطع أذنها لتتميز، ومن هذا مصالحة ولي اليتيم السلطان على بعض مال اليتيم، خشية ذهابه بجميعه فصحيح. لكن فيما لا يعارض منصوص الشرع، فلا يسوغ الإقدام على قتل النفس ممن يتوقع منه أن يقتل أنفسا كثيرة قبل أن يتعاطى شيئًا من ذلك، وإنما فعل الخضر ذلك، لاطلاع الله تعالى عليه. وقال ابن بّطال: قول الخضر: وأما الغلام فكان كافرًا، هو باعتبار ما يؤول إليه أمره ان لو عاش حتى يبلغ، واستحباب مثل هذا القتل لا يعلمه إلا الله، ولله أن يحكم في خلقه بما يشاء، قبل البلوغ وبعده. ويحتمل أن يكون جواز تكليف المميز قبل أن يبلغ كان في تلك الشريعة، فيرتفع الإشكال، وفيه جواز الإخبار بالتعب، ويلحق به الألم من مرض ونحوه، ومحل ذلك إذا كان على غير سَخَط من المقدور، وفيه أن المتوجه إلى ربه يُعان، فلا يسرع إليه النَّصب والجوع، بخلاف المتوجه إلى غيره، كما في قصته في توجهه إلى ميقات ربه، وذلك في طاعة ربه، فلم يُنقل عنه أنه تعب، ولا طلب غذاء، ولا رافق أحدًا. وأما في توجهه إلى مدين، فكان في حاجة

رجاله تسعة

نفسه، فأصابه الجوع، وفي توجهه إلى الخضر لحاجة نفسه، أيضًا، فتعب وجاع. قلت: كون توجهه إلى الخضر كان في حاجة نفسه غير ظاهر؛ لأنه كان متوجهًا في طلب العلم ولا توجه إلى الله أعظم من ذلك. وفيه أيضًا جواز طلب القوت وطلب الضيافة، وفيه قيام العذر بالمرة الواحدة، وقيام الحجة بالثانية. قال ابن عطية: يشبه أن يكون هذا أصل مالك في ضرب الآجال في الأحكام إلى ثلاثة أيام، وفي التَّلَّوم، ونحو ذلك. قلت: نصت علماء المالكية على أن الأصل في ذلك قوله تعالى {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} [هود: 65] جاعلين الجامع بينهما كون الحكم عذابًا للمحكوم عليه. وفيه حسن الأدب مع الله، وأن لا يضاف إليه ما يستَهْجن لفظه، وإن كان الكل بتقديره وخلقه، لقول الخضر عن السفينة "فأردتُ أن أعيبَها" وعن الجدار"فأراد ربُّكَ"، ومثل هذا قوله -صلى الله عليه وسلم-: "والخير بيديك والشر ليس إليك". وما ذكر من الفوائد مستفاد من جميع طرق الحديث، لا من هذه الطريق بالخصوص لأنها مختصرة جدًا. رجاله تسعة: الأول: محمد بن غُرَيْر، بالغين المُعجمة وراء مهملة مصغر، ابن الوليد ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، أبو عبد الله القرشي الزُّهريّ، المدني، نزيل سَمَرْقند، يعرف بالفُريْزيّ. روى عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد ومُطْرف بن عبد الله المَدنيّ وأبي نُعيم. وروى عنه البخاري وأبو جعفر محمد ابن أحمد بن نصر التِّرمذيّ، وعبد الله بن شبيب. ذكره ابن حِبان في "الثقات".وفي "الزهرة" روى عنه البخاري خمسة أحاديث. وذكر السَّمعاني أن اسم غُرير هذا عبد الرحمن، لقب بغُرَير، وليس في الستة محمد بن غرير سواه، وأما محمد فكثير جدًا.

الثاني: يعقوب بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أبو يوسف، القرشيُّ المدنيّ، الزهريُّ، كان ساكنًا ببغداد، ثم خرج إلى الحسن بن سَهْل بقُم الصِّلح، بكسر الصاد، بلدة على دجلة، قريبة من واسط، وقيل: هو نهر مَيْسان، فلم يزل معه حتى توفي. قال يحيى بن معين: سمعت المغازي من يعقوب بن إبراهيم بن سعد، وهو ثقة. وقال العجليّ: ثقة، وقال أبو حاتم: صدوق، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الذُّهليّ: روى عن إبراهيم بن سعد عن الزُّهريّ، وعن أصحاب الزُّهريّ، فكثرت روايته لحديث الزُّهري. ومدار حديثه على أبيه، وكان قد سمع هو وأخوه سعد الكتب، فمات سعد قبل أن يكتب عنه كثير جدًا، وبقي يعقوب فكتب عنه الناس، فوجدوا عنده علمًا جليلًا. وقال ابن سعد: كان ثقة مأمونًا، يقدَّم على أخيه في الفضل والورع والحديث، وكان أصغر من أخيه سعد بأربع سنين. روى عن أبيه وشُعبة وابن أخي الزُّهريّ والليث، وسيف بن عمر الضَّبَّيّ وغيرهم. وروى عنه ابن أخيه عُبيد الله بن سعد بن إبراهيم، وأحمد وعليّ وابن معين. وعبد الله بن محمد المُسندي، وعمرو الناقد وعباس الدُّوريّ وغيرهم. مات في شوال سنة ثمان ومئتين. وليس في الستة يعقوب بن إبراهيم سواه إلا يعقوب بن إبراهيم بن كثير الدورقي، وأما يعقوب فكثير. الثالث: الحُر بضم الحاء، ابن قيس بن حِصن بن حُذَيْفة بن بَدْر الفَزَاريّ، ابن أخي عُيَينة بن حِصن. كان أحد الوفد الذين قدموا على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فرجعه من تبوك، وكان أحد جلساء عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وروى سفيان بن عيينة عن الزُّهري قال: كان جلساء عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أهل القرآن شبانًا، وكهولًا، فجاء عُيينة الفزاريّ، وكان له ابن أخ من جلساء عمر بن الخطاب، يقال له الحُرُّ بن قيس، فقال لابن أخيه: ألا تدخلني على هذا الرجل؟ فقال: إني أخاف أن تتكلم بكلام لا ينبغي، فقال: لا أفعل، فأدخله على عمر، فقال: يا ابن الخطاب، والله ما

تقسم بالعدل، ولا تعطي الجزل، فغضب عمر غضبًا شديدًا، حتى هم أن يقع فيه، فقال له ابن أخيه: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى يقول في كتابه {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 119] وإن هذا من الجاهلين، فخلىّ عنه عمر، وكان عمر وقافًا عند كتاب الله تعالى. وقال مالك في "العتبية": قدم عُيينة بن حِصن المدينة، فنزل على ابن أخ له أعمى، فبات يصلي، فلما أصبح غدا إلى المسجد، فقال: ما رأيت قومًا أوجه لما وجهوهم إليه من قريش. كان ابن أخي عندي أربعين سنة، لا يطيعني. وليس للحر هذا رواية فى الستة، وفيهم حُرّ بدون لام ثلاثة: ابن الصَّباح النّخعيّ الكوفيّ، وابن مالك العَنْبرَيّ البَصريّ، وابن مِسكين الأوْديّ. وفي الصحابة الحُرّ بن خِضرامة الضَّبي، أو الهِلالي. والفزاري في نسبه نسبة إلى فَزَارة، كسحابة بلا لام، أبو قبيلة من غطفان، وهو فزارة بن ذُبيان بن بَغِيض بن رَيْث بن غطفان، منهم بنو العَشراء، وبنو غُراب وبنو الشَّمْخ. الرابع: أُبيُّ بن كعب بن قيس بن عَبيد بن زيد بن معاوية بن عمر بن مالك بن النجار. والنجار هو تَيْم الّلات بن ثَعْلبة بن عمرو بن الخَزْرج الأكبر، الأنصاوي النجاري، أبو المنذر، أو أبو الطُّفيل. وأمه صُهَيلة بنت الأسود بن حَرَام النَّجَّارية أيضًا، سيد القراء. روى أبو موسى الأشعري: أن أُبيّ بن كَعب جاء إلى عمر فقال له: يا ابن الخطاب، فقال له: يا أبا الطفيل. وروى عن أبي بن كعب أنه قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا أبا المُنذر، أي آية معك في كتاب الله أعظم؟ فقلت: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] فضرب صدري وقال: لِيَهْنَكَ العلم يا أبا منذر. شهد أُبيّ العقبة الثانية، وبايع النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم شهد بدرًا، وكان أحد فقهاء الصحابة وأقرأهم لكتاب الله تعالى، فقد روي عنه -صلى الله عليه وسلم-، أنه قال: "أقرأ أمتي أُبيّ" وروي عنه أنه قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أمرتُ أن أقرأ عليك القرآن" قلت: يا رسول الله, آلله سمّاني لك؟ قال: نعم، فجعل

يبكي. فقرأ عليه {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [البينة: 1] وروي أنه قرأ عليه {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58] بالتاء جميعًا. وروي أنه قَرأهما بالياء، وروي عن أبي حَبّة البَدْريّ أنه قال: لما نزلت {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [البينة: 1] قال جبريل للنبي عليه الصلاة والسلام: إن الله يأمرك أن تقرئها أُبيًّا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأبيّ: "إن جبريل أمرني أن أُقرئك هذه السورة". قال أُبيّ: أوَذُكِرت ثمَّ يا رسول الله؟ قال: نعم، فبكى. وروي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ارحم أمتي بأمتي أبو بكر"، وأقرأهم في دين الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقضاهم علي بن أبي طالب، وأقرأهم أُبيّ بن كعب، وأفرضهم زَيْد بن ثابث، وأعلمهم بالحلال والحرام مُعاذ بن جَبل، وما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذرٍّ". وروي عن عمر من وجوه أنه قال: أقضانا عليٌّ وأقرأنا أبيَّ وإنا لنترك أشياء من قراءة أُبيّ. وروي عن عمر أيضًا أنه كان يسميه سيّد المسلمين. وروى أبو سعيد الخُدْريّ: أن رجلًا من المسلمين قال: يا رسول الله، أرأيت هذه الأمراض التى تصيبنا؟ ما لنا فيها؟ قال: كفارات: فقال أُبيّ بن كعب: يا رسول الله، وإن قلّت؟ قال: وإن "شوكة فما فوقها"، فدعى أُبيّ أن لا يفارقه الوَعَكُ حتى يموت، وأن لا يشغله عن عمرة ولا حج ولا جهاد ولا صلاة مكتوبة في جماعة. قال: فما مس إنسانٌ جسده إلا وجد حرّه حتى مات. وأول من كتب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- مقدمه المدينة أُبيّ بن كعب، وهو أول من كتب في آخر الكتاب "وكتب فلان"، وكان أُبيّ إذا لم يحضر دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، زيد بن ثابت فكتب، وكان أُبيّ وزيد يكتبان الوحي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بين يديه، ويكتبان كتبه إلى الناس وما يقطع، وغير ذلك. وكان زيد ألزم الصحابة لكتابة الوحي. روي له عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مئة وأربعة وستون حديثًا، اتفقا منها على

لطائف إسناده

ثلاثة، وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بسبعة. روى عنه من الصحابة عمر، وكان يسأله عن النوازل، ويتحاكم إليه في المعضلات، وأبو أيّوب، وعُبادة بن الصامت، وسَهل بن سعد، وأبو موسى وابن عباس، وأبو هريرة، وأنس، وغيرهم. واختلف في وقت موته، فقيل: مات في خلافة عثمان سنة ثلاثين، وهو أثبت الأقوال. وقال ابن عبد البر: الأكثر على أنه مات في خلافة عمر. وأُبيّ في الستة سواه اثنان: ابن العباس الأنصاري وابن عمارة المدني وفي الصحابة تسعة. ومن السند إبراهيم ابن سعد أبو يعقوب، وقد مر في السادس عشر من كتاب الإيمان, ومر ابن شهاب الزهري في الثالث من بدء الوحي، ومر عبيد الله بن عبد الله في السادس منه أيضًا، ومر عبد الله بن عباس في الخامس منه. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة والإِخبار، وفيه رواية صحابي عن صحابي، وفيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض، وفيه أربعة زُهْريّين، وهم ابن غُرير ويعقوب، وأبوه إبراهيم، وابن شهاب. وفيه ستةٌ مدنيون إلى ابن عباس. وفيه أنه قال: عن ابن شهاب: حدّث، وقال بعد ذلك: أخبر، وهذا تفنن منه على تساويهما، وإن لوحظ الفرق فالتحديث عند قراءة الشيخ، والإخبار عند القراءة على الشيخ. أخرجه البخاري في مواضع فوق العشرة هنا كما ترى، وفي أحاديث الأنبياء مرتين عن عمرو بن محمد وعلي بن المديني. وفي العلم عن خالد بن خليّ وفي التوحيد عن عبد الله بن محمد، وفي النذور والتفسير عن الحُميديّ، وفي العلم أيضًا عن عبد الله بن محمد مختصرًا، ومسلم في أحاديث الأنبياء عن حَرْملَة وغيره، والتِّرمذيّ في التفسير عن محمد بن يحيى. وقال: حسن صحيح. والنّسائيّ فيه عن قُتَيبة وغيره، وفي العلم عن أبي الحسين أحمد بن سليمان الرّهاوِيّ.

باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم- اللهم علمه الكتاب

ثم قال المصنف: باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم- اللهمّ علِّمهُ الكِتابَ استعمل لفظ الحديث ترجمة تمسكًا بأن ذلك لا يختص جوازه بابن عباس، والضمير على هذا الغير مذكور، ويحتمل أن يكون لابن عباس نفسه، لتقدم ذكره في الحديث الذي قبله إشارة إلى أن الذي وقع لابن عباس، من غلبة للحُرّ بن قيس، إنما كان بدعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-، له. وهل يقال لمثل هذا مما سبق في الباب سنده تعلبق فيه خلاف؟

الحديث السابع عشر

الحديث السابع عشر حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ضَمَّنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَقَالَ: "اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ". قوله: ضمني رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، زاد المصنف في فضل ابن عباس: إلى صدره، وكان ابن عباس إذ ذاك غلامًا مميزًا، فيستفاد منه جواز احتضان الصبي القريب على سبيل الشفقة. وقال الشيخ زكرياء: فيه جواز الضم، أي المعانقة، وهي جائزة للطفل، وللقادم من سفر ونحوه، بلا كراهة، ولغيرهما بها، وهذا كله في غير الأمرد الحسن الوجه. أما فيه فالظاهر، كما قال النووي، أنه حرام. وقد حررنا الكلام على المعانقة في كتابنا على "متشابه الصفات". وقوله: "علمه الكتاب" وقع في رواية مُسدّد: "الحكمة" بدل الكتاب، وللنّسائيّ والتِّرمذيّ عن ابن عباس قال: "دعا لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أن أُوتى الحكمة مرتين"، فيحتمل تعدد الواقعة، فيكون المراد بالكتاب القرآن، وبالحكمة السنة، وفي رواية عبيد الله بن أبي يزيد عند الشيخين "الَّلهمّ فقهْهُ في الدين" لكن لم يقع عند مسلم، في الدين، وعند أحمد وابن حبان والطَّبرانيّ "اللهم فقهه في الدين، وعلِّمه التأويل"، وأخرج البغويّ في "معجم الصحابة" عن ابن عمر "كان عمرِ يدعو ابن عباس ويقربه، ويقول: إني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، دعاك يومًا فمسح رأسك، وقال: اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل". وفي بعض نسخ ابن ماجة "اللهم علمه الحكمة وتأويل الكتاب" وهي عند ابن سعد عن ابن عباس بلفظ دعاني رسول الله

رجاله خمسة

-صلى الله عليه وسلم-، فمسح على ناصيتي وقال:"اللهم علمه الحكمة وتأويل الكتاب". وقد رواه أحمد عن هُشيم بلفظ "مسح على رأسي". وقد بين المصنف في الطهارة سبب هذا الدعاء عن ابن عباس قال: دخل النبي -صلى الله عليه وسلم-، الخلاء فوضعتُ له وضوءًا -زاد مسلم: فلما خرج قال: من وضع هذا؟ فأخبر. ولمسلم قالوا: ابن عباس، ولأحمد وابن حبان أن ميمونة هي التي أخبرته بذلك، وإن ذلك كان في بيتها ليلًا، ولعل ذلك كان في الليلة التي بات فيها ابن عباس عندها, ليرى صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما سيأتي في موضعه، إن شاء الله تعالى. وأخرج أحمد عن ابن عباس في قيامه خلف النبي -صلى الله عليه وسلم-، في صلاة الليل، وفيه فقال لي: ما بالك أجعلك حذائي فتخلفني؟ فقلت: أينبغي لأحد أن يصلي حذاءك وأنت رسول الله؟ فدعا لي أن يزيدني الله فهمًا وعلمًا. وهذه الدعوة مما تحقق فيها إجابة النبي -صلى الله عليه وسلم-، لما علم من حال ابن عباس في معرفة التفسير والفقه في الدين، رضي الله تعالى عنه، حتى صار يلقب بترجمان القرآن، وبالبحر، وبالحَبر، كما مر في ترجمته. أما الكتاب، فالمراد به القرآن قطعًا؛ لأن العُرْف الشرَّعيّ عليه، والمراد بالتعلم ما هو أعم من حفظه والتفهم فيه. وأما الحكمة، فقد اختلف العلماء في المراد بها هنا، فقيل: القرآن، جمعًا بين الروايتين، فيكون بعضهم رواه بالمعنى. وقيل: العمل به، وقيل: السنه كما مر، وقيل: الإصابة في القول. وقيل: الخشية، وقيل: اللهم عن الله، وقيل: العقل، وقيل: ما يشهد العقل بصحته، وقيل: نور يفرق بين الإلهام والوَسواس، وقيل: سرعة الجواب مع الإصابة. وبعض هذه الأقوال ذكرها بعض أهل التفسير في تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} [لقمان: 12] والأقرب أن المراد بها في حديث ابن عباس الفهم في القرآن. رجاله خمسة:

الأول: عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج ميسرة أبو معمر البصري المِنْقريّ، مولاهم، الحافظ الحجة، قال ابن معين: ثقة ثبت، وقال ابن الجُنَيْد، عن يحيى: ثقة نبيل عاقل، وقال يعقوب بن شيبة: كان ثقة ثبتًا صحيح الكتاب، وكان يقول بالقدر، وكان غاليًا على عبد الوارث. قال عليّ ابن المَدينيّ: قد كتبت كتب عبد الوارث عن عبد الصمد، يعني ابنه، وأنا أشتهي أن أكتبها عن أبي معمر. وقال أبو داود: أبو معمر أثبت من عبد الصمد مرارًا، وقال العجليّ: ثقة، وكان يرى القدر. وقال أبو حاتم: صدوق متقن قوي الحديث، غير أنه لم يكن يحفظ، وكان له قدر عند أهل العلم. وقال أبو ذرٍّ: كان ثقة حافظًا. قال عبد الغني، يعني أنه كان متقنًا. وقال ابن خِراش: كان صدوقًا وكان قدَريًّا. وذكره ابن حبان في "الثقات". روى عن عبد الوارث بن سعيد وهو راويته، وعبد الوهاب الثقفي، وعيثر بن القاسم أبي زَبيد وغيرهم، وروى عنه البُخاريّ وأبو داود، وروى له الباقون بواسطة، وروى عنه عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، وعُبيد الله بن فضَالة، والفضل بن سَهل وأبو حاتم، وأبو زرعة، وأحمد بن منصور الرَّماديّ، ومحمد بن مسلم بن وارَةَ، ويعقوب بن شَيْبة وغيرهم. مات سنة أربع وعشرين ومئتين. وعبد الله بن عمر في الستة كثير، والمِنقريّ في نسبه تقدم في الخامس من بدء الوحي. الثاني: عبد الوارث بن سعيد بن ذَكْوان بن التميمي العَنْبرىّ التَّنُّوريّ، أبو عُبيدة البَصريّ. قال ابن سعد: كان ثقة حجة، أحد الأعلام الحُفّاظ. وقال الذهبيّ: أجمع المسلمون على الاحتجاج به، وهو من مشاهير المحدثين ونبلائهم. أثنى شعبة على حفظه، وكان يحيى بن سعيد القطان يرجع إلى حفظه. وقال أبو زرعة: ثقة، وقال أبو حاتم: صدوق ممن يعد مع ابن عليّة، ووُهيب وبشر بن المُفضَّل يعد من الثقات، وهو أثبت من حمّاد بن سلمة. وقال النّسائي ثقة ثبت. قال معاذُ بن مُعاذ: سألت أبا يحيى بن سعيد:

شُعبة روى شيئًا من حديث أبي التَّياح؟ فقال: ما يمنعكم من ذلك الشاب، يعني عبد الوارث، فما رأيت أحدًا أحفظ الحديث أبي التَّياح منه. وقال القوارِيرىَّ: كان يحيى بن سعيد يثبته، فإذا خالفه أحد من أصحابه قال ما قال عبد الوارث. وقال أحمد: كان عبد الوارث أصح حديثًا عن حسين المعلم، وكان صالحًا في الحديث. وقال معاوية بن صالح: قلت ليحيى بن معين: من أثبت شيوخ البصريين؟ فقال: عبد الوارث مع جماعة، سماهم. وقال عثمان الدارميّ عن ابن معين: هو مثل حمّاد بن زيد في أيوب. قلت: فالثقفي أحب إليك أو عبد الوارث؟ قال: عبد الوارث، قلت: فابن علية أحب إليك في أيوب أو عبد الوارث؟ قال: عبد الوارث. وقال أبو عمر الجرْمىّ: ما رأيت فقيهًا أفصح منه إلا حمّاد بن سَلمة. وقال الحسن بن الربيع: سألت ابن المبارك، فقلت: كنا نأتي عبد الوارث بن سعيد، فإذا حضرت الصلاة، تركناه وخرجنا. فقال: ما أعجبني ما فعلت، وكان يُرمى بالقدر، قال عُبيد الله بن عُمير: قال لي إسماعيل بن علية: إذا حدثك عبد الوارث بحديث، وشد إسماعيل يده، أي خذْه، قال عبيد الله: لولا الرأي لم يكن به بأس. وقال أبو علي الموصلي: قلما جلسنا إلى حماد بن زيد إلا نهانا عن عبد الوارث، وجعفر بن سليمان. وقال ابن مَعين: ثقة إلا أنه كان يرى القَدَر، ويظهره. وقال السّاجيّ: الذي وضع منه القدرُ فقط. وقال: كان قدريًا صدوقًا متقنًا. وكان شعبة يطريه. وقال البخاريّ: قال عبد الصمد: إنه لمكذوب على أُبي، وما سمعته يقول في القدر، وكلام عمرو بن عبيد، قط شيئًا. وقال السّاجيّ: حدثنا علي بن أحمد: سمعت هُدْبة ابن خالد يقول: سمعت عبد الوارث يقول: ما رأيت الاعتزال قط. قال ابن حَجَر: يحتمل أنه رجع عنه، بل الذي اتضح لي أنهم اتهموه لأجل ثنائه على عمرو بن عبيد، فإنه كان يقول: لولا أني أعلم أن كل شيء روى عمرو بن عُبيد حق لما رويت عنه شيئًا قط. وأئمة الحديث كانوا يكذبون عمرو بن عبيد وينهون عن مجالسته. فمن هنا اتهُّم عبد الوارث. وقد احتج به الجماعة.

روى عن عبد العزيز بن صُهيب وشُعيب بن الحَبْحاب وأبي التَّياح، وأيوب السَّخْتِيانيّ، وخالد الحذاء، وحسين المعلم وسعيد بن أبي عَروبة وخلق كثير. وروى عنه الثَّوريّ وهو أكبر منه، وابنه عبد الصمد، وعفّان بن مُسلم، ومسدد، وعارم، وأبو معمر المُقعد، ويحيى بن يحيى النَّيْسابوريّ وخلق. بلغ سبعًا وثمانين سنة وأشهرًا. ومات في المحرم سنة ثمانين ومئة، وقيل في آخر ذي الحجة، فيكون سنه تسع وسبعين. وعبد الوارث في الستة سواه ثلاثة: حفيده عبد الوارث بن عبد الصمد، وابن أبي حنيفة الكوفي، وابن عبيد الله العَتكيّ. والعنبري في نسبه نسبة إلى ابن حي من تميم، وهو العَنْبر بن عمرو بن تميم، يقال: فيهم بَلْعَنْبر حذفوا منه تخفيفًا، كَبَلْحَرْث في بني الحارث، وهو كثير في كلامهم. وأما التَّنوريّ في نسبه، فلعله نسبة إلى "تنور" جبل بالجزيرة، قرب المصيصة، وهي عين الوَردَة، وموجود في النسب إلى تنور أبو بكر محمد بن علي التَّنوريّ: سمع أبا الحسن المَلْطي، وأبا جعفر بن المُسْلمة. وحدث بشيء يسير. وذكره أبو الفضل بن ناصر فأثنى عليه، وأبو مُعاذ أحمد بن إبراهيم الجُرْجانيّ التَّنُّوريّ ثقة. الثالث: خالد بن مِهران، بكسر الميم، الحذّاء، أبو المنازل البَصرْيّ، مولى قريش وقيل مولى بني مجاشع، قال ابن سعد: كان ثقة، ولم يكن حذّاء، ولكن كان يجلس إليهم، وقال فهد بن حَبّان: إنما كان يقول "احْذُ هذا النحو" فلقب الحذّاء قال: وكان خالد ثقة مهيبًا كثير الحديث، وكان قد استعمل على العشور بالبصرة، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال العجليّ: بصري ثقة، وقال الأثرم عن أحمد: ثبت، وقال ابن معين: ثقة، وكذلك قال النّسائي، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وعن أبي شهاب، قال: قال لي شُعبة: عليك بحجّاج بن أرطأة ومحمد بن إسحاق، فإنهما

حافظان واكتم عليّ عند البصريين في خالد الحذّاء، وهشام. قال يحيى: وقلت لحماد بن زيد: فخالد الحذّاء؟ قال: قدم علينا قدمة فكأنا أنكرنا حفظه. وقال عبّاد بن عبّاد: أراد شعبة أن يقع في خالد فأتيته أنا وحماد بن زَيد، فقلنا له: مالك، أجننت؟ وتهددناه، فسكت، وقال العقيليّ عن أحمد بن حنبل: قيل لابن عليّة في حديث كان خالد يرويه، فلم يلتفت إليه ابن عليّة، وضعف أمر خالد، قال الذهبي: ما خالد في المثبت بدون هشام بن عروة، وأمثاله. قال ابن حجر: والظاهر أن كلام هؤلاء فيه من أجل ما أشار إليه حماد ابن زيد من تغيرُّ حفظه بآخره، أو من أجل دخوله في عمل السلطان. روى عن أبي عثمان النَّهديّ وأبي قلابة، وأنس ومحمد، وحفصة أولاد سيرين، وأبي العالية والحسن وسعيد ابني أبي الحسن البصري، وعكرمة وعطاء بن أبي رَبَاح، وخلق. وروى عنه الحمّادان وابن عليّة والثَّوريّ وشعبة، سعيد بن أبي عَروبة. وحدث عنه شيخه محمد بن سيرين، وأبو إسحاق السَّبيعيّ والأعمش، ومنصور وابن جُريج وغيرهم، ممن هو مثله أو أكبر منه. مات سنة إحدى وأربعين ومئة، وقيل: سنة اثنتين. وكل ما كان من مُنازل، فهو بضم الميم، إلا يوسف بن مَنازل، فهو بفتحها, لكن قال الباجيّ: قرأت على الشيخ أبو ذرٍّ الهَرَوي في كتاب "الكُنى والأسماء" لمسلم خالد بن مِهران أبو المَنازل، بفتح الميم، وكذا ذكره في سائر الباب، والضمّ أظهر، وليس في الستة خالد بن مِهران سواه، وأما خالد فهو كثير. الرابع: عكرمة بن عبد الله، مولى عبد الله بن عباس، أبو عبد الله المَدَني، البرْبريّ، كان لحصين بن أبي الحُرّ العَنْبريّ، فوهبه لابن عباس. لما ولي البصرة لعلي. مات ابن عباس وهو مملوك، فباعه ابنه عليّ من خالد بن معاوية، بأربعة آلاف دينار، فقال له عكرمة: بعت علم أبيك بأربعة آلاف دينار؟ فاستقاله، فأقاله، وأعتقه. وكالن جوالاً في البلاد، قال يزيد النَّحويّ

عن عكرمة، قال لي ابن عباس: انطلق فافتِ الناس، وأنا لك عون. قال. فقلت له: لو أن هذا الناس مثلهم مرتين لأفتيتهم، قال: فانطلق فافتهم، فمن جاءك يسألك عما يعنيه، فافته، ومن سألك عما لا يعنيه، فلا تفته، فإنك تطرح عنك ثلثي مُؤْنة الناس. وقال الفرزدق بن جَوّاس: كنا مع شِهْر بن حَوْشَب بجُرْجان، فقَدِم علينا عكرمة، فقلنا لشِهر: ألا نأتيه؟ فقال: ائتوه، فإنه لم يكن أمة إلا كان لها حَبْر، وإن مولى ابن عباس حَبْر هذه الأمة. وقال داود بن أبي هند عن عكرمة: قرأ ابن عباس هذه الآية:! {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} [الأعراف: 164] لم أدر نجا القوم أو هلكوا؟ قال: فما زلت أُبين له حتى عرف أنهم قد نجوا، فكساني حلة. وقال عمرو بن دينار: دفع إليَّ جابر بن زيد مسائل أسال عنها عكرمة، وجعل يقول: هذا عكرمة مولى ابن عباس، هذا البحر فسلوه. وقال ابن عُيينة: كان عكرمة إذا تكلم في المغازي فسمعه إنسان قال: كأنه مشرف عليهم ينظر إليهم. وقال مغيرة: قيل لسعيد بن جُبير: تعلم أحدًا أعلم منك؟ قال: نعم، عكرمة. وقال الشعبي: ما بقي أعلم بكتاب الله من عكرمة. وقال سعيد بن أبي عرُوبة عن قَتادة: كان أعلم التابعين أربعة: عطاء وسعيد بن جُبير وعكرمة والحسن. وقال قتادة: أعلمهم بالتفسير عكرمة، فأقعدوه، فجعلوا يسألونه عن حديث ابن عباس. وقال حبيب بن أبي ثابت: اجتمع عندي خمسة: طاوس ومجُاهد وسعيد بن جُبير وعكرمة وعطاء، فأقبل مجاهد وسعيد يسألان عكرمة عن التفسير، فلم يسألاه عن آية إلا فسرّها لهما، فلما نفد ما عندهما، جعل يقول: أُنزلت آية كذا في كذا، وأُنزلت آية كذا في كذا. وقال أيوب: لو قلت لك إن الحسن ترك كثيرًا من التفسير حين دخل علينا عكرمة البصرة، حتى خرج منها, لصدقت. وقال الثَّوريّ: خذوا التفسير عن أربعة: فذكره فيهم، وقال يحيى بن أيّوب المصريّ: سألني ابن جُريج: هل كتبتم عن عكرمة؟ قلت. لا، قال: فاتكم ثلث العلم. وقال

أيوب: كنت أريد أن أرحل إلى عكرمة، فإني لفي سوق البصرة, إذ قيل هذا عكرمة، قال: فقمت إلى جنب حماره، فجعل الناس يسألونه، وأنا أحفظ. وقال: لم يكن عندي ثقة لم أكتب عنه. وقال حبيب بن أبي ثابت: مر عكرمة بعطاء وسعيد بن جبير فحدثهم، فلما قام قلت لهما: تنكران مما حدث شيئًا؟ قالا: لا. وقال حمّاد بن زيد عن أيوب: قال عكرمة: رأيت هؤلاء الذين يكذبوني من خلفي، أفلا يكذبوني في وجهي؟ فإذا كذبوني في وجهي، فقد والله كذبوني. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان من علماء زمانه بالفقه والقرآن. وكان جابر بن زيد يقول: عكرمة من أعلم الناس، ولا يحب لمن شم رائحة العلم أن يعرج على قول يزيد بن أبي يزيد. وقال عثمان الدراميّ: قلت لابن معين: فعكرمة أحب إليك عن ابن عباس أو عبيد الله؟ فقال: كلاهما, ولم يخير. قلت: فعكرمة أو سعيد بن جُبير؟ قال: ثقة وثقة. ولم يخير، قال: فسألته عن عكرمة بن خالد هو أصح حديثًا أو عكرمة مولى ابن عباس؟ فقال: كلاهما ثقة. وقال ابن معين: إذا رأيت إنسانًا يقع في عكرمة وحمّاد بن سلمة، فاتهم على الإِسلام. وقال ابن المديني: لم يكن في موالي ابن عباس أكثر علمًا من عكرمة، عكرمة من أهل العلم. وقال العجلي: مكيّ تابعيّ ثقة، بريء مما يرميه الناس من الحَرَورِية. وقال البخاريّ: ليس أحد من أصحابنا إلا وهو يحتج بعكرمة. وقال أبو عبد الله محمد بن نصر المَرْوزيّ: قد أجمع عامة أهل العلم بالحديث على الاحتجاج بحديث عكرمة، واتفق على ذلك رؤساء أهل العلم بالحديث من أهل عصرنا، منهم أحمد بن حنبل، وابن راهَوَيه، ويحيى بن معين، وأبو ثور. ولقد سألت إسحاق بن راهَويه عن الاحتجاج بحديثه فقال: عكرمة عندنا إمام الدنيا، تعجب من سؤالي إياه، ويحيى بن معين، سأله بعض الناس عن الاحتجاج به، فأظهر التعجب. وقال أبو عبد الله: وعكرمة قد ثبتت عدالته

بصحبته ابن عباس، وملازمته إياه، وبأن غير واحد من العلماء قد رووا عنه وعَدَّلوه. وكل رجل ثبتت عدالته لم يقبل فيه تجريح أحد، حتى يبين ذلك عليه بأمر لا يحتمل غير جرحه. وقال ابن مَنْده في صحيحه: أما حال عكرمة في نفسه، فقد روى عنه أئمة من نبلاء التابعين، فمن بعدهم، وحدثوا عنه، واحتجوا بمفاريده، في الصفات والأحكام. روى عنه زُهاء ثلاث مئة رجل من البلدان فيهم زيادة على سبعين رجلًا من خيار التابعين ورفعائهم. وهذه منزلة لا تكاد توجد لكثير أحد من التابعين، على أن من جرحه من الأئمة لم يمسك عن الرواية عنه، ولم يستغنوا عن حديثه، وكان يُتلقى حديثه بالقبول، ويحُتج به قرنًا بعد قرن، وإماما بعد إمام، إلى وقت الأئمة الأربعة، الذين أخرجوا الصحيح، وميزوا ثابته من سقيمه، وخطأه من صوابه، وأخرجوا روايته، وهم البخاريّ ومسلم وأبو داود والنّسائي، فأجمعوا على إخراج حديثه، واحتجوا به، على أن مسلمًا كان أسوأهم فيه رأيًا. وقد أخرج عنه مقرونًا، وعدَّله بعد أن جرَّحه، وقد تكلم فيه بعض العلماء. وقال ابن حَجَر في مقدمته: فأما أقوال من وهّاه فمدارها على ثلاثة أشياء: على رميه بالكذب، وعلى الطعن فيه بأنه كان يرى رأي الخوارج في التكفير بالمعصية، وعلى القدح فيه بأنه كان يقبل جوائز الأمراء. فهذه الأوجه الثلاثة عليها يدور الطعن فيه، فأما البدعة، فإن ثبتت عليه فلا تضر حديثه؛ لأنه لم يكن داعية، مع أنها لم تثبت عليه، وإنما تكُلِّم فيه بها، لأنه وقد على نجْدة الحَرَويّ، فأقام عنده تسعة أشهر، ثم رجع إلى ابن عباس، فسلم عليه، فقال: جاء الخبيث. قال يحيى بن معين: ولهذا تركه مالك. ولم يثبت عليه من وجه قاطع أنه كان يرى رأيهم، ولكنه كان يوافق في بعض المسائل، فنسبوه إليهم. وقد برأه أحمد والعَجْلِيّ من ذلك، فقال العجلي في كتاب "الثقات" له: عكرمة مولى ابن عباس مكيّ تابعيَّ ثقة، بريء مما يرميه الناس به من

الحَرَوْرِية. وقال ابن جَرير: لو كان كل من ادعي عليه مذهبٌ من المذاهب الرديئة ثبت عليه ما ادّعي به، وسقطت عدالته، وبطلت شهادته بذلك لزم ترك أكثر محدثي الأمصار؛ لأنهم ما منهم إلا وقد نسبه قوم إلى ما يرغب عنه به. وأما قبول الجوائز فلا يقدح إلا عند أهل التشديد، وجمهور أهل العلم على الجواز. وقد صنف في ذلك ابن عبد البرّ. وهذا الزُهْرِيّ قد كان في ذلك أشهر من عكرمة، ومع ذلك لم يترك أحد الرواية عنه بسبب ذلك، وأما الطعن عليه بالكذب فأشد ما روي فيه عن ابن عمر أنه قال لنافع: لا تكذب عليّ، كما كذب عكرمة عن ابن عباس. ورُوي أيضا عن سعيد بن المُسَيّب أنه قال لمولاه بُرْدٍ ذلك. وروي عن يزيد بن أبي يزيد أنه قال: دخلت على علي بن عبد الله بن عباس وعكرمة مقيَّد، فقلت: ما لهذا؟ فقال: إنه يكذب على أبي. وقيل فيه غير ذلك. فأما قول ابن عمر، فلم يثبت عنه؛ لأنه من رواية يحيى البَكّاء، ويحيى البكاء متروك الحديث، ومن المحال أن يُجْرح العدل بكلام المجروح. ولو ثبت عنه، كان محتملا لأوجه عديدة، لا يتعين منه القدح في جميع روايته، فيمكن أن يكون أنكر عليه مسألة من المسائل، كذَّبه فيها، لأنه روي عن ابن عمر أنه انكر عليه الرواية عن ابن عباس في الصرف، وذلك لا يوجب قدحًا. فقد روى الثقات عن سالم بن عبد الله بن عمر أنه قال: إذا قيل له: إن نافعا مولى ابن عمر حدث عنه في مسألة "الاتيان المحلّ المكروه" كذب العبد على أبي، ولم ير ذلك جرحًا في نافع، فكذلك عكرمة. وأيضًا فإن أهل الحجاز يطلقون كذَب على "أخطأ" فقد روي أن عُبادة ابن الصّامت قال: كذب أبو محمد، لمّا أخبر أنه يقول: الوِتر واجب، وأبو محمد لم يقله رواية , وإنما قاله اجتهادًا. والاجتهاد لا يقال فيه "كذب". وإنما يقال فيه "خطأ"، وأما ما روي عن ابن المُسَيّب فلا يبعد أن يكون ما حكي عنه مثل ما حكي عن ابن عمر، وأما ما روي عن علي بن عبد الله

لطائف إسناده

ابن عباس في تكذيبه فقد ردَّه أبو حاتم بن حبّان بضعف يزيد بن أبي يزيد. وقال: إنه ليس ممن يحتج بنقل مثله؛ لأنه من المحال أن يجرح العدل بكلام المجروح. قال: وعكرمة حمل عنه أهل القلم، الحديث والفقه في الأقاليم كلها، وما أعلم أحدًا ذمه بشيء إلا بدعابة كانت فيه. ومما يثبت صدقه على مولاه ما رواه محمد بن فضيل قال: كنت جالسًا مع أبي امامة بن سهل بن حُنيف، إذ جاء عكرمة فقال: يا أبا أُمامة: أذكرك الله هل سمعت عبد الله بن عباس يقول: ما حدثكم عني عكرمة فصدقوه، فإنه لم يكذب علي؟ فقال أبو أُمامة: نعم. وإسناد هذا صحيح. وقال أبو جعفر بن جَرير: لم يكن أحد يدفع عكرمة عن التقدم في العلم بالفقه والقرآن، وتأويله وكثرة الرواية للآثار، وأنه كان عالمًا بمولاه. روى عن مولاه، وعلي بن أبي طالب. والحسن بن علي، وأبي هُريرة، وابن عمر وابن عمرو، ومعاوية بن أبي سفيان، وجابر وغيرهم، وروى عنه إبراهيم النِّخَعِيّ، ومات قبله، وأبو الشَّعْثاء جابر بن زيدٌ والشَّعْبيّ، وهما من أقرانه، وأبو إسحاق السَّبيّعِيّ، وقتادة، وعاصم الأحول، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، وعمرو بن دينار، وخلق كثير. مات بالمدينة سنة خمس أو ست أو سبع ومائة عن ثمانين سنة، ومات يوم موته كُثَيِّر عزة الشاعر، فقيل: مات اليوم أفقه الناس وأشعر الناس. وقال الدَّرَاوَرْدِيّ: ماتا في يوم واحد، وعجب الناس لموتهما واختلاف رأيهما، عكرمة يظن به رأي الخوارج يُكَفِّر بالذَّنْب، وكثيّر شيعي مؤمن بالرَّجْعة إلى الدنيا. وليس في الستة عكرمة بن عبد الله سواه، وأما عكرمة سواه، فستة. الخامس: عبد الله بن عباس ومر في الخامس من بدء الوحي. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة، ورواته بصريون ماعدا عبد الله بن عباس وعكرمة، وهما أيضًا قد سكنا البصرة، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، أخرجه البخاري هنا، وفي فضائل الصحابة عن مسدد وغيره،

باب متى يصح سماع الصغير

وفي الطهارة عن عبد الله بن محمد، ومسلم في فضائل ابن عباس عن زهير وغيره، والتِّرْمِذِيّ في "المناقب" عن محمد بن بَشَّار، وقال: حسن صحيح. والنّسائيّ فيها عن عمران بن موسى، وابن ماجَه في "السنة" عن محمد بن المُثَنى. ثم قال المصنف: باب متى يصح سماع الصغير زاد الكشْمهينيّ "الصبي الصغير" ومقصود الباب الاستدلال على أن البلوغ ليس شرطا في التحمل، وقال الكرمانيّ: إن معنى الصحة هنا، جواز قبول مسموعه وهذا تفسير لثمرة الصحة لا لنفس الصحة. وأشار المصنف بهذا إلى اختلاف وقع بين أحمد بن حنبل ويحيى بن مُعين. ويأتي تمام الكلام على المسألة بعد انتهاء الكلام على حديث محمود بن الربيع الآتي قريبا.

الحديث الثامن عشر

الحديث الثامن عشر حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "أَقْبَلْتُ رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ أَتَانٍ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الاِحْتِلاَمَ، وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّى بِمِنًى إِلَى غَيْرِ جِدَارٍ، فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَي بَعْضِ الصَّفِّ وَأَرْسَلْتُ الأَتَانَ تَرْتَعُ، فَدَخَلْتُ فِى الصَّفِّ، فَلَمْ يُنْكَرْ ذَلِكَ عَلَيَّ". قوله: على حمارٍ أتانٍ، بالتنوين فيهما، على النعت أو بدل الغَلَط، أو بدل البعض من الكل، لان الحمار يطلق على الجنس، فيشمل الذكر والأنثى، وبدل كل من كل نحو"شجرة زيتونة"، وروي بإضافة حمارٍ إلى أتان، أي: حمار هذا النوع، وهو الأتان واستنكرها السُّهَيْليّ وقال: إنما يجوزه من جوز إضافة الشيء إلى نفسه إذا اختلف اللفظان والحمار اسم جنس يشمل الذكر والأنثى، كما مر، كقولك بعير. وقد شذ "حمارة" في الأنثى. وأتان بفتح الهمزة، وشذ كسرها، هي الأنثى من الحمير، وربما قالوا للأنثى "أتانة" حكاه يونس، وأنكره غيره، وذكر ابن الأثير أن فائدة التنصيص على كونها أنثى للاستدلال بطريق الأولى على أن الأنثى من بني آدم لا تقطع الصلاة، لانهن أشرف، وهو قياس صحيح من حيث النظر، إلا أن الخبر الصحيح لا يدفع بمثله. وعورض أيضًا بأن العلة ليست مجرد الانوثة فقط، بل الأنوثة بقيد البشرية؛ لأنها فطنة الشهوة. وقوله: "قد ناهزت" أي: قاربت، وقوله: "الاحتلام" أي: البلوغ الشرعيّ، وهو مشتق من الحلُمُ، بضم اللام، وهو ما يراه النائم، واختلف في سن ابن عباس عند وفاة النبي، صلى الله تعالى عليه وسلم، فقيل:

عشر، وقيل: ثلاث عشرة، وقيل: خمس عشرة. وقوله: "بمنى" بالصرف وعدمه، باعتبار كونه علم المكان، أو البقعة، والأجود الصرف، وكتابته بالألف. وسميت بذلك لما يمنى، أي: يراق، بها من الدماء. وقوله: "إلى غير جدار" أي إلى غير سترة، قاله الشافعي وسياق الكلام يدل على ذلك لأن ابن عباس أورده في معرض الاستدلال على أن المرور بين يدي المصلي لا يقطع صلاته، ويؤيده رواية البزَّار بلفظ "والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، يصلي المكتوبة ليس بشيء يستره" والتحقيق أن هذا كان في حجة الوداع بمنى. وما وقع لمسلم عن ابن عُيينة من أنه كان بعرفة شاذ، لا يعول عليه. وقول النَّوويّ: إن ذلك يحمل على أنهما قضيتان، متعقبٌ بأن الأصل عدم التعدد، ولاسيما مع اتحاد مخرج الحديث. وقوله: "بين يدي بعض الصف" هو مجاز عن الأمام، بفتح الهمزة، لأن الصف ليس له يد، وبعض الصف يحتمل أن يراد به صف من الصفوف، أو بعض من أحد الصفوف. ويعيِّن المراد رواية المصنف في الحج بلفظ "حتى سرت بين يدَي بعض الصف الأول". وقوله: "وارسلت الأتان ترتع" أي تأكل. "وترتع" مرفوع، والجملة في محل نصب على الحال من الاتان. وهي حال مُقدَّرة؛ لأنها لم تكن ترتع في تلك الحال، وإنما أرسلها قبلُ مقدرًا كونها على تلك الحال. وجوَّز ابن السَّيِّد فيه أن يريد "لترتع"، فلما حذف الناصب رفع، كقوله تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ} [الزمر: 64] وقيل: ترتع تسرع في المشي، والأول أصوب، ويدل عليه رواية المؤلف في الحج "نزلت عنها فرتعت". وقوله: "ودخلت الصف" عند الكَشْمَيهنِي فدخلت، بالفاء وقوله: "فلم ينكِر ذلك عليَّ أحد" وفي رواية فلم ينكر ذلك علي "بفتح الكاف"، أي: فلم ينكره عليَّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا غيره. وفيه جواز تقديم المصلحة الراجحة على المفسدة الخفيفة؛ لأن المرور مفسدة خفيفة، والدخول في الصلاة مصلحة راجحة واستدل ابن

عباس على الجواز بعدم الإنكار لانتفاء الموانع إذ ذاك، ولم يستدل بترك إعادتهم للصلاة لأن ترك الإنكار أكثر فائدة، وذلك أن ترك الإعادة يدل على صحتها فقط، لا على جواز المرور، وترك الإنكار يدل على جواز المرور، وصحة الصلاة معًا، ويستفاد منه أن ترك الإنكار حجة على الجواز، بشرطه وهو انتفاء الموانع من الإنكار، وثبوت العلم بالاطلاع على الفعل. ولا يقال: منع من الإنكار اشتغالهم بالصلاة؛ لأنه نفى الإنكار مطلقًا، فتناول ما بعد الصلاة، وأيضا، كان الإنكار يمكن بالإشارة، كما لا يقال: لا يلزم مما ذكر اطلاع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، على ذلك، لاحتمال ان يكون الصف حائلًا دون رؤية النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، له لأنا نقول: قد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام كان يرى في الصلاة من ورائه، كما يرى من أمامه، وقد مر قريبًا أنه مر بين يدي بعض الصَّف الأول، فلم يكن هناك حائل دون الرؤية، ولو لم يرد شيء من ذلك، لكان توفر دواعيهم على سؤاله صلى الله تعالى عليه وسلم، عما يحدث لهم كافيًا في الدلالة على اطلاعه على ذلك. واستدل المصنف به على ما ترجم له من أن التحمل لا يشترط فيه كمال الاهلية، وإنما يشترط عند الأداء، ويلحق بالصبي في ذلك العبد والفاسق والكافر، كما يأتي تحريره. وقامت حكاية ابن عباس لفعل النبي، صلى الله تعالى عليه وسلم، وتقريره مقام حكاية قوله، إذ لا فرق بين الأمور الثلاثة في شرائط الأداء. والمراد بالصغير, في الترجمة، غير البالغ، وذكر الصبي معه من باب التوضيح، ويحتمل أن يكون لفظ الصبي يتعلق بقصة محمود، ولفظ الصغير يتعلق بهما معًا. واستدل به على أن مرور الحمار لا يقطع الصلاة، فيكون ناسخًا لحديث أبي ذَرٍ الذي عند مسلم في كون مرور الحمار يقطع الصلاة، وكذا مرور المرأة والكلب الأسود وتعقب بأن مرور الحمار متحقق في حال مرور ابن عباس وهو راكبه، وذلك لا يضر لكون سترة الإمام سترة لمن خلفه،

رجاله خمسة

وأما مروره بعد ان نزل عنه، فيحتاج إلى نقل. وقال ابن عبد البر: حديث ابن عباس هذا يخصِّص حديث أبي سعيد "إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحدًا يمر بين يديه" فإن ذلك مخصوص بالِإمام والمنفرد، فأما المأموم فلا يضره من مر بين يديه، لحديث ابن عباس هذا. قال: وهذا كله لا خلاف فيه بين العلماء، وكذا نقل عياض الاتفاق على أنَّ المأمومين يصلون إلى سترة، لكن اختلفوا هل سترتهم سترة الإمام، أم سترتهم الإمام نفسه؟ وفيه نظر لما رواه عبد الرزاق عن الحكم ابن عمرو الغفاريّ الصحابيّ "أنه صلى بأصحابه في سفر وبين يديه سترة، فمرت حمير بين يدي أصحابه فأعاد بهم الصلاة" وفي رواية له أنه قال لهم: إنها لم تقطع صلاتي ولكن قطعت صلاتكم، فهذا يعكر على ما نقل من الاتفاق، ويظهر أثر الخلاف الذي نقله عياض فيما لو مر بين يدي الإمام أحد، فعلى قول من يقول إن سترة الإِمام سترة من خلفه يضر صلاته وصلاتهم معا، وعلى قول من يقول إن الإمام نفسه سترة من خلفه، يضر صلاته ولا يضر صلاتهم. رجاله خمسة: قد مروا كلهم، الأول إسماعيل بن أبي أُويس، مر في الخامس عشر من كتاب الإيمان, ومر الإِمام مالك في الثاني من بدء الوحي، وابن شهاب في الثالث منه أيضا، وعُبيد الله بن عبد الله في السادس منه أيضا وابن عباس في الخامس منه، أيضا. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع والإفراد، والعنعنة، ورواته كلهم مدنيون، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، أخرجه البخاريّ هنا وفي الصلاة أيضا عن القَعْبَنِيّ، وعبد الله بن يوسف، وفي الحج عن إسحاق، وفي المغازي عن الليث، ومسلم في الصلاة عن يحيى بن يحيى وغيره، وأبو داود فيها أيضا، عن عثمان بن أبي شيبة، والتِّرمذِيّ فيها أيضًا، عن أبي الشوارب، محمد بن المالك، والنسائي فيها عن محمد بن منصور، وفي العلم عن محمد بن مسْلَمة، وابن ماجة فى الصلاة عن هشام بن عمار.

الحديث التاسع عشر

الحديث التاسع عشر حَدَّثَنِا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُسْهِرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنِي الزُّبَيْدِيُّ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ قَالَ: عَقَلْتُ مِنَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- مَجَّةً مَجَّهَا فِي وَجْهِي وَأَنَا ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ مِنْ دَلْوٍ. قوله: "عقَلت" هو بفتح القاف أي: حفظت وقوله: مَجّة بفتح الميم، وتشديد الجيم، والمج هو إرسال الماء من الفم، وقيل: لا يسمى مجًا إلا إن كان على بعد، وفعله النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مع محمود، إما مداعبة معه، أو ليبارك عليه بها. كما كان ذلك من شأنه مع أولاد الصحابة وفيه دلالة على إباحة مجّ الريق على الوجه لمصلحة، وطهارته، وثبوت الصحبة بذلك، وجواز مداعبة الصغير. وقوله: "وأنا ابن خمس سنين" جملة من المبتدأ والخبر وقعت حالاً، إمّا من الضمير في عقلتُ، أو من الياء من وجهي. قال في "الفتح" لم أر التقييد بالسن في شيء من الطرق إلا في طريق الزبيديّ هذه، ولكنه من كبار الحفاظ المتقنين عن الزهريّ، وقد تابعه عبد الرحمن بن نَمِر عن الزُّهريّ، ولفظه عند الطَّبرانيّ والخطيب في "الكفاية" قال: "حدثني محمود بن الربيع، وتوفي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو ابن خمس سنين" فأفادت هذه الرواية أن الواقعة التي ضبطها كانت في آخر سنة من حياة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم. وقد ذكر ابن حبان وغيره أنه مات سنة تسع وتسعين، وهو ابن أربع وتسعين سنة، وهو مطابق لهذه الرواية.

وذكر القاضي عياض في "الإلماع" أنه كان ابن أربع، وكان أخذ هذا من قول صاحب "الاستيعاب" أنه عقل المجة وهو ابن أربع سنين أو خمس، وكان الحامل له على هذا التردد قول الواقديّ: إنه كان ابن ثلاث وتسعين لما مات. والأول أوْلى بالاعتماد، لصحة إسناده، على أن قول الواقديّ يمكن حمله، إن صحّ، علي أنه ألغى الكسر وجبره غيره، وقد اعترض المُهَلّب على البخاريّ بكونه لم يذكر هنا حديث ابن الزبير في رؤيته والده يوم بني قريظة، ومراجعته له فى ذلك، ففيه السماع منه، وكان سنه إذ ذاك ثلاث سنين، أو أربعا، فهو أصغر من محمود، وليس في قصة محمود ضبطه لسماع شيء، فكان ذكرُ حديث ابن الزبير أوْلى لهذين المعنيين وأجاب ابن المنير بأن البخاريّ إنما أراد نقل السنن النبوية، لا الأحوال الوجودية. ومحمود نقل سنة مقصودة في كون النبي، صلى الله تعالى عليه وسلم، مج مجة في وجهه، بل في مجرد رؤيته إياه فائدة شرعية، تثبت كونه صحابيًا، وأما قصة ابن الزبير، فليس فيها نقل سنة من السنن النبوية، حتى تدخل في هذا الباب. ثم انشد: وصاحبُ الييتِ أدرى بالذي فيه وهو جواب مسدد، ويكمله ما مر من أن المقصود بلفظ السماع في الترجمة، هو أو ما ينزل منزلته من نقل الفعل، أو التقرير.، وقول الزّرْكَشِي: إن المهلب يحتاج إلى ثبوت أن قصة ابن الزبير صحيحة على شرط البخاري، حتى يتوجه الإيراد بها -مردود بأن البخاري أخرجها في مناقب الزبير في الصحيح، فالإيراد متوجه، ولكن جوابه هو ما مر. وقوله: "من دلو" أي من ماء فيه. وزاد النسائي "معلق" ولابن حبان "معلقة" والدلو يذكر ويؤنث. وللمصنف في الرِّقاق "من دلو كانت في دارهم" وله في الطهارة والصلاة "من بئر" بدل "دلو" ويجمع بينهما بأن الماء أخذ بالدلو من البئر، وتناوله النبيُّ صلى الله تعالى عليه وسلم، من الدلو. وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم: جواز إحضار الصبيان

رجاله ستة

مجالس الحديث، وزيارة الإمام أصحابه في دورهم، ومداعبته صبيانهم. رجاله ستة: الأول: محمد بن يوسف البخاريّ أبو أحمد البيْكَنْديّ عن ابن عُيَنْية، والنضر بن شُمَيل ووَكيع، وأبي مُسْهِر، وهشامَ بن سعيد الطَّالْقَانيّ، وغيرهم. وروى عنه البخاريّ وعبد الله بن واصل، وأحمد بن سيّار المْروزِيّ، وعدة. قال الخليلي في "الإرشاد": ثقة متفق عليه، وإنما قلنا إنه المراد دون الفريابيّ؛ لأن البيهقي نص على أنه المراد، وذلك لأن الفريابيّ ليس له رواية عن أبي مُسْهر. والبِيْكَنْدِي في نسبه نسبة، إلى بيكند، بكسر الباء وفتح الكاف وسكون النون، بلدة بين بخارى وجيحون، على مرحلة من بخارى، كانت بلدة كبيرة حسنة كثيرة العلماء، خربت منذ أزمان، وكل بلدة مما وراء النهر لها مزارع وقرى إلا بِيْكَنْد، فإنها وحدها، غير أن بها من الرباطات ما لا يوجد ببلد من البلدان، مما وراء النهر أكثر منها فيها نحو ألف رباط، ولها سور حَصين، ومسجد جامع، قد تُنُوِّق في بنائه وزُخرف محرابه , فليس فيما وراء النهر محراب مثله، ولا أحسن زخرفة منه. ينسب إليها جماعة من الأعيان منهم أربعة مشهورون. الثاني: عبد الأعلي بن مُسْهِر بن عبد الأعلي بن مُسلم الغَسَّاني أبو مُسْهر الدمسهر الدمشقيّ، وكنية جده أبو قُدامة. قال أحمد: كان عندكم ثلاثة أصحاب حديث: مروانُ والوليدُ وأبو مُسْهرِ. وقال أيضًا: رحم الله أبا مسهر ما كان أثبته، وجعل يطريه. وقال أيضًا: كيّس عالم بالشاميين. وقال ابن معين: ما رأيت مذ خرجت من بلادي أحدا أشبه بالمشيخة من أبي مُسهر، والذىِ يحدث في البلد وفيها من هو أولى منه أحمق. وقال محمد بن عثمان التَّنُوخِيّ: ما بالشام مثل أبي مُسْهِر، وذكره

فقال: كان من أحفظ الناس. قال: فَحَكَيْتُ له قول ابن معين، فقال: صدُوق. وقال ابن مُعين أيضًا: من ثَبَّته أبو مسهر من الشاميين فهو ثَبت وكان سعيد بن عبد العزيز يُجْلس أبا مُسْهِر معه في صدر المجلس. وقال أبو حاتم: ما رأيت فيمن كتبنا عنه أفصح منه، ولا رأيت أحدا في كورة أعظم قدرًا، ولا أجل عند أهل العلم من أبي مُسْهر بدمشق. كان إذا خرج إلى المسجد، اصطف الناس يسلمون عليه، ويقبَّلون يده. وقال ابن حبان: كان إمام أهل الشام في الحفظ والإتقان ممن عني بانساب أهل بلده وأبنائهم، وإليه كان يرجع أهل الشام في الجَرْح والعدالة لشيوخهم. قال: وكان من الحفّاظ المتقنين، وأهل الورع في الدين. وقال الخليلي: ثقة حافظ إمام، متفق عليه. وقال الحاكم: إمام ثقة. وقال ابن وضّاح: كان ثقة فاضلًا. وقال الحاكم أيضًا: أبو أحمد كان عالمًا بالمغازي وأيام الناس. وقال أبو داود: كان من ثقات الناس، لقد كان من الإِسلام بمكان، حُمِل على المحنة فأبى، وحمل على السيف فمد رأسه، وجرد السيف فأبى أن يجيب، فلما رأوا ذلك حمل إلى السجن، فمات به، وقال أبو سعيد كان روايته لسعيد بن عبد العزيز وغيره. وكان أشخص من دمشق إلى المأمون في المحنة، فسئل عن القرآن، فقال: كلام الله، فدعي له بالسيف ليضرب عنقه، فلما رأى ذلك قال، مخلوق، فأمر بإشخاصه إلى بغداد، فحبس بها، فلم يلبث إلا يسيرًا حتى مات. وذكر أن المأمون قال له: لو قلتها قبل أن أدعو بالسيف لأكرمتك، ولكنك تخرج الآن فتقول: ما قلتها إلا فرقًا من السيف. روى عن مالك بن أنس، وسعيد بن عبد العزيز، ومحمد بن حرب الخَوْلاَنيّ، واسماعيل بن عبد الله بن سُمَاعة وغيرهم. وروى عنه البخاري في الأدب، أو بلغه عنه وروى له هو والباقون بواسطة محمد بن يوسف البِيْكَنْدِيّ. وروى عنه أيضًا أحمد بن حنبل، ويحيى بن مُعين، وهشام بن عمَّار، والعبَّاس بن الوليد الخَلّال، وغيرهم. مات في رجب سنة ثمانية عشر ومئتين.

والغساني في نسبه مر الكلام عليه في السادس من كتاب بدء الوحي، وليس في الستة عبد الأعلي بن مُسِهر سواه، وأما عبد الأعلى فعشرة. الثالث: محمد بن حرب أبو عبد الله الخولاني الحُمصِيّ المعروف بالأبرش، كاتب محمد بن الوليد الزُّبِيْدِيّ. قال ابن سعد: ولي قضاء دمشق، وقال أحمد ليس به بأس، وقدمّه على بقية، وقال عثمان الدارميُّ: قلت لابن مَعين: فبقيةُ كيف حديثه؟ قال: ثقة، قلت: هو أحب إليك أو محمد بن حرب؟ قال: ثقة وثقة. قال عثمان: وهو الأبرش الحُمصي ثقة، وقال العَجْليّ ومحمد بن عوف والنَّسائيّ: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال خشْنَام بن الصديق: محمد بن حرب كان من خيار الناس. وذكره ابن حبان في الثِّقات. روى عن محمد بن الوليد، والأوزاعيّ وابن جُرَيْجِ ومحمد بن زياد الأُلْهانِيّ، وعبيد الله بن عمر العُمَري، وغيرهم وروى عنه أبو مُسْهِر وحَيْوَة ابني شُرَيح، وهارون الحمّال، وإسحاق بن راهَويْه، وموسى بن مروان الرَّقي وغيرهم. مات سنة اثنين وتسعين ومئة. ومحمد بن حرب في الستة سواه اثنان: الذُّهْلِيّ الكوفيّ والنَّشائي الواسطي. والخولاني في نسبه مر في الحادي عشر من كتاب الإيمان. الرابع: محمد بن الوليد بن عامر أبو الهُذَيل الزُّبيْدِيّ بالتصغير الحُّمْصِيّ، القاضي. قال ابن سعد: كان أعلم أهل الشام بالفتوى والحديث، وكان ثقة، إن شاء الله تعالى، وقال محمد بن سالم: أتيت الزُّهْريّ أقرأ عليه، فقال: تسألني وهذا محمد بن الوليد بين أظهركم؟ وقد حوى ما بين جنبيَّ من العلم؟ وقال علي بن عَيّاش: كان الزُّبيدِيّ على بيت المال، وكان الزُّهْرِيُّ معجبًا به، يقدمه على جميع أهل حُمْص. وقال محمد بن عوف: الزُّبَيديّ من ثقات المسلمين وإذا جاءك الزُّبَيْديّ عن الزُّهريّ، فاستمسك به. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان من

الحُفّاظَ المتقنين أقّام مع الزُّهري عشر سنين حتى احتوى على علمه، وهو من الطبقة الأُولى من أصحاب الزُّهْرىّ. وقال أيضًا: كان من الفقهاء في الدين، وقال الإِمام أحمد: كان لا يَأخذ إلا عن ثقة. وقال الخليلي: ثقة حجة إذا كان الراوي عنه ثقة. وقال دُحَيْم شُعَيب: ثقة ثَبْت يشبه حديثه حديث عَقيل ثم يونس ثم شعيب والزُّبيديّ فوقه. وسئل ابن مُعين: من أثبت من روى عن الزُّهريّ؟ فقال: مالك ثم معمر ثم عقيل ثم يونس ثم شُعيب والأوزاعيّ والزُّبَيْديّ وابن عُيينة. وكل هؤلاء ثقات، والزُّبَيديّ أثبت من ابن عُيَنية. وقال الوليد بن مسلم: سمعت الأوزاعيّ يفضل محمد بن الوليد على جميع من سمع من الزُّهري. روى عن الزهرْيّ وسعيد المَقْبَريّ ونافع مولى ابن عمر، ومكحول، وهشام بن عروة، وعبد الرحمن بن جُبَير بن نُفيَر وغيرهم. وروى عنه الأوزاعيّ وشُعيب بن أبي حمزة، وهو من أقرانه، ومحمد بن حرب الخوْلانيّ، وبقيَّة، واليمان بن عَدِيّ وغيرهم. مات سنة ست أو سبع وأربعين ومئة، وهو ابن سبعين سنة. ومحمد بن الوليد سواه في الستة أربعة: القُرشيُّ البُسْرِيّ والأسَدي، والفحَّام البغداديّ، والهاشميّ الدمشقي. والزبيدي في نسبه، بالتصغير، نسبة إلى زُبيدَ، قبيلةٌ من مذحج. وزُبيدٌ اسمه مُنَبِّه الأكبر بن صَعْب بن سَعْد العشيرة بن مالك، وهو جُماع مَذحج، بفتح الميم. وزُبيدَ الأصغر هو مُنَبِّه بن رَبِيعة بن سلمة بن مازن ابن ربيعة بن زُبيد الأكبر. قال ابن دُريد: زبيد تصغير زُبْد، وهو العطية. وهم رهط عمرو بن معدي كرب. ومحْميَّة بن جزء بن عبْدِ يَغُوث، ومحمد بن الحسين الأندلسيّ صاحب القالي، وابناه، ومحمد بن عبيد الله مذْحج الإشبيليّ اللُّغويّ، نزيل قرطبة وفي الأزد زُبَيد، بطن. وهو عمرو بن كعب الحارث بن الغِطْريف الأصغر بن عبد الله بن عامر الغِطْريف الأكبر بن بَكْر

لطائف إسناده

بن يَشْكُر بن بشير بن كعبْ بن وَهمان بن نَضْر بن زَهْران بن كعْب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نضر بن الأزْد. الخامس: ابن شهاب الزُّهْرِيّ، وقد مر في الثالث من بدء الوحي. السادس: محمود بن الرَّبيع بن سُرَاقة بن عمرو بن زيد بن عَبْدَة بن عامر بن عَدِيّ بن كعب بن الخَزْرج بن الحارث بن الخَزْرِجِ الأنصاري الخزرجي، أبو نُعيم، وقيل: أبو محمد، مَدنّي وهو ختن عُبادةَ بن الصامت، نزل بيت المقدس وأمه جَمِيلة بنت أبي صَعْصَعَة. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعتبْان بن مالك، وعُبَادة، وأبي أيوب. وأكثر رواياته عن الصحابة. وروى عنه أنس بن مالك والزُّهريّ، ورجاء بن حيْوة، ومكحول الشاميّ. مات سنة تسع وتسعين، وهو ابن ثلاث وتسعين، وليس في الصحابة محمود بن الربيع سواه وفي الستة محمود بن الربيع سواه واحد: الجُرجْانيّ. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع والإفراد والعنعنة، ورواته إلى الزهري شاميون، وهذا الحديث من إفراد البخاري عن مسلم، أخرجه هنا، وفي الطهارة عن علي بن عبد الله، وفي الدعوات عن عبد العزيز بن عبد الله، والنَّسائي في العلم عن محمد بن مطفى، وفي اليوم والليلة عن سُويَد بن نصر، وابن ماجة في الطهارة عن أبي مروان. وفي هذا الحديث دلالة على صحة سماع الصبيّ إذا كان ابن خمس سنين، وذلك أصل من أصول الحديث. وقد اختلف العلماء في وقت صحة سماع الصبي على أقوال: فذهب ابن الصَّلاح إلى أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص، ولا ينحصر في زمن مخصوص، وذهب الجمهور إلى تقييده بخمس سنين، وعليه استقر عمل أهل الحديث المتأخرين، فيكتبون لابن خمس فأكثر: سمع، ولمن لم يبلغها: حَضَر أو أُحْضِر. والحجة عندهم "عقل محمود المجة" وهو ابن خمس سنين، وقيل: يصح

وهو ابن أربع. وقال ابن عبد البر: إن محمودًا عقل ذلك، وهو ابن أربع. وقيل: الصواب في صحة سماعه فهُم الخطاب وردُّ الجواب، وإن كان ابن أقل من أربع. فإن لم يكن كذلك، لم يصح سماعه. وإن زاد على الخمس وليس في صحة سماعه سنة متبعة، إذ لا يلزم من تمييز محمود أن يميز غيره تمييزه، بل قد ينقص عنه، أو يزيد. ولا يلزم أن لا يعقل مثل ذلك، وسنه أقل من ذلك، كما أنه لا يلزم من عقل المجة أن يعقل غيرها مما سمعه. ومما يدل على اعتبار الفهم والتمييز دون التقييد بسنٍ، أن أحمد بن حنبل قيل له: إن يحيى بن مُعين، قال: إن التحمل لا يجوز إلا في خمسة عشر، لا فيما دونها، محتجًا بأن النبي صلى الله عليه وسلم رد ابن عمر والبراء بن عازب، رضي الله عنهما، يوم بدر، لصغرهما عن هذا السن -فَغَلَّطه، وقال: إنما التقييد بذلك في القتال، وإلا فكيف يعمل بوكيع وابن عُيَيْنة وغيرهما، ممن سمع قبل هذا السن؟. وقال موسى بن هارون الجمّال: من ميّز بين البقرة والحمار يقال فيه: سمع، ومن لم يميز بينهما يقال له: حضر، لا سمع. قال الخطيب: سمعت القاضي أبا محمد عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الأَصْبَهانيّ يقول: حفظت القرآن ولي خمس سنين، وأحضرت عند أبي بكر المُقْرىء لأسمع منه، ولي أربع سنين، فأرادو أن يُسَمعوا لي فيما حضرت قراءته، فقال بعضهم: إنه يصغر عن السماع، فقال ابن المقرىء: اقرأ سورة "الكافرون"، فقرأتها، فقال: إقرأ سورة التكوير، فقرأتها، فقال غيره: إقرأ سورة المرسلات، فقرأتها, ولم أغلط فيها شيئًا، فقال ابن المقرىء: سمَّعوا له والعُهْدَة علي. وفي الوقت المستحب لابتداء الطلب أربعة أقوال: فالذي عليه أهل الكوفة أنه يستحب له طلب الحديث بنفسه، وكتابته عند عشرين سنة، وهو قول الإمام أبي عبد الله الزبير بن أحمد، وقول أهل البصرة عشر سنين،

وقول أهل الشام ثلاثون سنة، والحق عدم تقييده بسن مخصوص، بل ينبغي تقييده بالفهم لحصول الغرض به، وكتبه بالتأهل له. والصحيح عند المُحدِّثين أن من تحمل الحديث كافرًا ثم أسلم بعد ذلك وأداه بعد إسلامه تقبل روايته؛ لأن جُبير بن مُطْعِم، رضي الله عنه، قدم على النبي، صلى الله عليه وسلم، في فداءَ أسارى بدر، قبل أن يسلم، فسمعه حينئذ يقرأ سورة "والطور" في المغرب، قال: وذلك أول ما وقَر الإيمان في قلبي، ثم أدى ذلك بعد إسلامه، وحمل عنه، وكذلك يقبل ما تحمَّله الصبي قبل البلوغ، ثم أداه بعده. ومنع قوم القبول في مسألة الصبي؛ لأن الصبي مظنة عدم الضبط، ورد عليهم بإجماع الأُمة على قبول حديث جماعة من صغار الصحابة تحمَّلوه في صغرهم، كالسِّبْطين، وعبد الله بن الزُّبير، والنعمان بن بشير، وعبد الله بن عباس، وبإحضار أهل العلم من المُحَدِّثين صبيانهم مجالس التحديث، وقبولهم ما حدثوا به من ذلك بعد البلوغ، كما وقع للقاضي أبي عمر الهاشميّ، فإنه سمع السنن لأبي داود من اللؤلؤيّ، وله خمس سنين، واعتدّ الناس بسماعه وحملوا عنه. وقال يعقوب الدَّوْرَقِيّ: حدثنا أبو عاصم، قال: ذهبت يابني إلى ابن جُرَيج، وسنه أقل من ثلاث سنين، فحدثه. وإذا قلنا بصحة تأدية الصبي بعد البلوغ ما سمعه في حال صباه، فالمعتبر في وقت صحة سماعه، حتى يقبل منه بعد البلوغ هو ما مر من الخلاف، وأشار العراقي في نظمه إلى هذا كله بقوله: وَقَبِلوا من مُسْلِم تَحَمُّلًا ... في كفره كذا صبي حَمَلا ثم روى بعد البلوغِ ومَنَعْ ... قومٌ هنا وَرُدَّ كالسبطين مع إحضار أهل العلمِ للصبيان، ثمْ ... قُبُولهم ما حدثوا بعد الحِلْمْ وطلبُ الحديث في العشرينَ ... عند الزُّبَيْري أحب حينا وهو الذي عليه أهل الكوفة ... في العشر في البصرة كالمألوفة وفي الثلاثين لأهل الشام ... وينبغي تقييده بالفهم فكتبه بالضبط والسماع ... حيثُ يصحُّ وبه نزاعْ

باب الخروج في طلب العلم

فالخمسُ للجمهور ثم الحُجَّه ... قصته محمود وعقْل المَجَّة وهوابن خمسةٍ، وقيل أربعه ... وليس فيه سنة مُتَّبَعهْ بل الصوابُ فَهْم الخِطابْ ... مُمَيَّزًا ورَدُّوه الجوابْ وقيل لابن حنبل فَرَجُلٌ ... قال لخمس عشرة التَّحَمُّلُ يجوز لا في دونها فَغَلَّطه ... قال إذا غفله وضبطه وقيل: من بين الحمار والبقر ... فَرَّقَ "سامعه ومن لا "فحضر" قال به الحمّال وابن المقرِي ... "سمع" لابن أربع ذي ذكر ثم قال المصنف: باب الخروج في طلب العلم قال في "الفتح": لم يذكر فيه شيئًا مرفوعًا صريحًا، وقد أخرج مسلم "من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهّل الله به طريقًا إلى الجنة". ولم يخرجه المصنف لاختلاف فيه كما مر. قلت: ظاهره أن رحلة موسى إلى الخِضْر ليست صريحة في طلب العلم، والظاهر صراحتها فيه لأنها لا تحتمل غير ذلك. ثم ذكر تعليقًا فقال: ورحل جابر بن عبد الله مسيرة شهرٍ إلى عبد الله بن أُنيْس في حديث واحد. وهو حديث المظالم والقصاص أخرجه المؤلف في التوحيد مُعَلَّقًا بلفظ "ويذكر عن جابر بن عبد الله عن عبد الله بن أُنيْس قال: سمعت النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم، يقول: يَحشْرُ الله العبادَ فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب" وأخرجه بتمامه في "الأدب المفرد"، وكذا أخرجه أحمد وأبو يعلى في مسنديهما، والطَّبراني، كلهم عن عبد الله بن محمد بن عقيل، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: بلغني عن رجل حديثٌ سمعه من رسول الله، صلى الله تعالى عليه وسلم، فاشتريت بعيرًا، ثم شددت رحلي فسرت إليه شهرًا حتى قدمت الشام، فإذا عبد الله بن أُنيس، فقلت للبواب: قل له جابر على الباب، فقال: ابن عبد الله؟ قلت: نعم فخوج فاعتنقني، فقلت: حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فخشيت أن أموت قبل أن أسمعه، فقال: سمعت رسول الله صلى الله

تعالى عليه وسلم، يقول: "يحشر الله الناس يوم القيامة عُراة غُرْلًا بُهْما". قلنا: وما بُهْما؟ قال: ليس معهم شيء، ثم يناديهم بصوت يسمعه من بَعُد كما يسمعه من قرب: أنا الدَّيان، لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار، وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقصه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة، ولأحد من أهل النار عنده حق، حتى أقصه منه، حتى اللطمة". قال: قلنا: كيف وإنا إنما نأتي عراة بُهْما؟ قال: الحسنات والسيئات والغُرْل. بضم المعجمة، وسكون الراء، جمع أَغْرل، وهو الذي لم يختن. وله طريق أخرى أخرجها الطَّبرانيّ في مسند الشاميين وتمام في فوائده، وما قيل من أن المؤلف نقض قاعدته، حيث عبر هنا بقوله "رحل" بصيغة الجزم المقتضية للتصحيح. وفي كتاب التوحيد بقوله: "ويذكر" بصيغة التمريض، يجاب عنه بأنها غير منتقضة، ونظر البخاري أدق من أن يُعترض عليه بمثل هذا، فإنه حيث ذكر الارتحال فقط، جزم به؛ لأن الإسناد حسن. وقد اعتضد. وحيث ذكر طرفًا من المتن لم يجزم به؛ لأن لفظ الصوت مما يتوقف في إطلاق نسبته إلى الرب، ويحتاج إلى تأويل، فلا يكفي فيه مجيء الحديث من طريق مختلف فيها, ولو اعتضدت. ومن هنا يظهر شُفُوف علمه، ودقة نظره، وحسن تصرفه، رحمه الله تعالى. ووهم ابن بَطَّال حيث زعم أن الحديث الذي رحل فيه جابر إلى عبد الله بن أُنيس هو حديث الستر على المسلم المروي بلفظ "من ستر مؤمنا في الدنيا ستره الله يوم القيامة" فإن الراحل في حديث الستر أبو أيوب الأنصاري، رحل فيه إلى عُقْبة بن عامر الجُهَني. أخرجه أحمد بسند منقطع، وأخرجه الطَّبرانيّ من حديث مَسْلَمة بن خالد. وقد وقع ذلك لغير من ذكر فروى أبو داود عن عبد الله بن بُرَيْدة أن رجلًا من الصحابة، رحل إلى فَضاله بن عَبيد، وهو بمصر في حديث. وروى الخطيب عن عُبَيد الله بن عَدِيّ قال: بلغني حديث عن علي، رضي الله

تعالى عنه، فخفت إن مات أن لا أجده عند غيره، فرحلت حتى قدمت عليه العراق. وهذا النوع كثير، وسيأتي قول الشعبى في مسألة إن كان ليرحل فيما دونها إلى المدينة. وروى مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد ابن المُسَيَّب قال: إن كنت لأرحل الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد. وفي حديث جابر دليل على طلب علوّ الإسناد؛ لأنّه بلغه الحديث عن عبد الله بن أُنيس، فلم يقنع حتى رحل وأخذه عنه بلا واسطة، وسيأتي عن ابن مسعود في كتاب "فضائل القرآن" قوله: لو أعلم أحدًا أعلم بكتاب الله مني، لرحلت إليه. وأخرج الخطيب عن أبي العالية قال: كنا نسمع عن أصحاب رسول الله، صلى الله تعالى عليه وسلم، فلا نرصى حتى خرجنا إليهم، فسمعنا منهم، وقد مر تحرير الكلام في علو السند، ونزوله في حديث ضمام. وقيل لأحمد: رجل يطلب العلم يلزم رجلًا عنده علم كثير أو يرحل؟ قال: يرحل؟ يكتب عن علماء الأمصار، فيُشَام الناس، ويتعلم منهم، وفيه ما كان عليه الصحابة من الحرص على تحصيل السنة النبوية، وفيه جواز اعتناق القادم حيث لا تحصل الريبة. رجاله اثنان: الأول جابر بن عبد الله، وقد مر في الرابع من بدء الوحيِ. والثاني: عبد الله بن أُنيس بن أسعد بن حرام بن حبيب بن مالك ابن غنْم بن كعب بن تيْم بن نُفَاتة بن إياس بن يربوع بن البّرك بن وَبْرةَ أخي كلب بن وَبْرة من قْضاعة. والبَرْكُ بن وَبْرة دخل في جُهينة فهو جُهَني أنصاري، حليف لبني سَلَمة، وقيل: إنه من جُهينة أصالةً، حليف للأنصار. وقيل: هو من الأنصار، كنيته أبو يحيي، شهد العقَبة وما بعدها، وبعثه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، سريَّةً وحده إلى خالد بن نبيح فقتله. وهو ممن صَلّى إلى القبلتين، وهو الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن ليلة القدر، فقال له: يا رسول الله، إني شاسع الدار،

فمرني بليلة أنزل لها، فقال له: أنزل ليلة ثلاث وعشرين، وتعرف تلك الليلة بليلة الجُهينيّ بالمدينة. وهو أحد الذين كسروا آلهة بني سلمة، وروى الزُهْريّ عنه أن النبي، صلى الله عليه وسلم، انتهى إلى قربة معلقة، فخَنَثها، فشرب منها. له خمسة وعشرون حديثًا. روى له مسلم حديثًا واحدًا في ليلة القدر، وروى له الأربعة. ولم يذكره الكلاباذِيّ وغيره، فيمن روى له البخاري. وقد ذكر البخاري في كتاب "الرد على الجَهْميّة": ويذكر عن جابر بن عبد الله عن عبد الله بن أُنيس. روى عنه أولاده عطية وعمرو وضمْرة وعبد الله. وروى عنه جابر بن عبد الله وآخرون. مات بالشام سنة أربع وخمسين، في خلافة معاوية، بعد موت أبي قتادة. فقد رُوي عن خَلْدَة بنت عبد الله بن أُنيس أنها قالت: جاءت أُم النبين بنت أبي قتادة بعد موت أبيها، بنحو نصف شهر، إلى عبد الله بن أُنيس، وهو مريض، فقالت له: يا عم أَقْرِىء أبي مني السلام. وفي الصحابة عبد الله بن أُنيس، استُشهد يوم اليمامة سُلَمِيّ، وفيهم عبد الله بن أُنيس العامري، له وِفادة، وفي سنن أبي داود والتِّرْمذيّ من طريق عيسى بن عبد اللُه بن أُنيس الأَنصاري، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، دعا يوم أحد بإداوة، فقال أخنُثُ فم الإِداوة ثم أشْرَب ... الحديث، ففرق ابن المدِيني وغير واحد، وبينه وبين الجُهَنِيّ. وجزم البَغَويّ وغيره بأنهما واحد. قال ابن حجر: وهو الراجح. وخَنَثَ السقاء: كسره إلى خارج، فشرب منه. والجَهَنِيُّ في نسبه نسبة إلى جُهَيْنة بالتصغير، قبيلة من قُضاعة، وهوابن زيد بن لَيث بن سوْد بن أَسْلَم بن الحاف بن قُضاعة. وقُضاعة من ريف العراق. وفي المثل "عند جُهَيْنة الخبرُ اليَقين". وكان من حديثه ما أخبر به ابن الكلبي من أن حصين بن عمرو بن معاوية بن عمرو بن كلاب، خرج ومعه

رجل من بني جُهَينة يقال له الأخنس، فنزلا منزلًا، فقام الجُهينيّ إلى الكلابيّ، وكانا فاتكين، فقتله، وأخذ ماله. وكانت صَخْرة بنت عمرو بن معاوية تبكيه في المواسم، فقال الأخنس: تُسائِلُ عن حُصَينٍ كلَّ رَكْبٍ ... وعندَ جُهَيَنَة الخبرُ اليقينُ وروي "تسائل عن أخيها" ورواه أبو عبيدة في كتاب الأمثال عند جُفيْنة الخبر اليقين، بالجيم. وجفينة اسم خمّار.

الحديث العشرون

الحديث العشرون حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ خَالِدُ بْنُ خَلِيٍّ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: قَالَ الأَوْزَاعِيُّ أَخْبَرَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ تَمَارَى هُوَ وَالْحُرُّ بْنُ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ فِى صَاحِبِ مُوسَى، فَمَرَّ بِهِمَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، فَدَعَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ إِنِّي تَمَارَيْتُ أَنَا وَصَاحِبِى هَذَا فِى صَاحِبِ مُوسَى الَّذِي سَأَلَ السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ، هَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَذْكُرُ شَأْنَهُ فَقَالَ أُبَيٌّ نَعَمْ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَذْكُرُ شَأْنَهُ يَقُولُ: "بَيْنَمَا مُوسَى فِي مَلإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: أَتَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْكَ قَالَ مُوسَى: لاَ. فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى مُوسَى بَلَى، عَبْدُنَا خَضِرٌ، فَسَأَلَ السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ، فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُ الْحُوتَ آيَةً، وَقِيلَ لَهُ إِذَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَارْجِعْ، فَإِنَّكَ سَتَلْقَاهُ، فَكَانَ مُوسَى -صلى الله عليه وسلم- يَتَّبِعُ أَثَرَ الْحُوتِ فِى الْبَحْرِ. فَقَالَ فَتَى مُوسَى لِمُوسَى: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ، وَمَا أَنْسَانِيهِ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ. قَالَ مُوسَى: ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِى. فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا، فَوَجَدَا خَضِرًا، فَكَانَ مِنْ شَأْنِهِمَا مَا قَصَّ اللَّهُ فِى كِتَابِهِ". قوله: "تمارى هو والحر" أتى بضمير الفصل؛ لأنه لا يعطف، في الفصيح، على الضمير المرفوع المتصل إلا بفاصل من ضمير أو غيره. وسقطت لفظة "هو" في رواية ابن عساكر، فعطفه على المرفوع المتصل بدون فصل، وهو جائز عند الكوفيين. وزاد في الرواية السابقة "قال ابن عباس: هو خِضْر". وقوله: "إلى لُقِيّه" هو بضم اللام وكسر القاف، وتشديد الياء، مصدر

رجاله سبعة

بمعنى اللقاء، يقال: لقيته لقاءًا بالمد، ولقًا بالقصر، ولُقِيًا بالضم والتشديد. وقوله: "في ملأ" الملأ: الجماعة، أو الأشراف خاصة، وقوله: "إذ جاءه رجلٌ" لم يُسَمَّ. وقوله: "أتعلم" بهمزة الاستفهام، وفي رواية الأربعة "تعلم" بحذفها, وللكَشْمَيهنيّ "هلم تعلم". وقوله "أحدًا أعلم" بنصبهما، مفعولاً وصفه وفي رواية الحمويّ "أن أحدًا أعلم". وقوله: "قال موسى لا" إنما نفى الأعلمية بالنظر لما في اعتقاده وقوله: "إلى لُقِيّه" في الرواية السابقة، إليه: بدل لُقِيَّه، وزيادة موسى. وقوله: "أثر الحوت في البحر" وللكَشْمَيهنيّ والحَمَويّ في الماء". وقوله: "أن أذْكُره" قرئت "وما أنساني أن أذكره إلا الشيطان" وكانا تزودا حوتًا وخبزًا، فكانا يصيبان منه عند الغداء والعشاء، فلما انتهيا إلى الصخرة على ساحل البحر فانسرب الحوت فيه، وكان قد قيل لموسى: تزود حوتًا، فإذا فقدته، وجدت الخضر، فاتخذ سبيله في البحر مسلكًا ومذهبًا. وقوله: "فوجدا خِضْرًا" أي: على طِنْفِسة على وجه الماء، أو نائمًا مسجىً بثوب: أو غير ذلك. وقوله: "في كتابه" يعني في سورة الكهف، مما سيأتي إن شاء الله تعالى. وقد مرت مباحث هذا الحديث عند ذكره قبل بابين ووجه الدلالة منه قوله تعالى لنبيه، عليه الصلاة والسلام: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] وموسى عليه السلام منهم، فتدخل أمته عليه الصلاة والسلام تحت هذا الأمر إلا ما ثبت نسخه. رجاله سبعة: الأول: -خالد بن خَلِيّ، بالخاء كعَلِيّ، أبو القاسم الكُلَاعيّ الحُمْصّي، القاضي. قال البخاريّ: صدوق. وقال النَّسائِىّ: ليس به بأس، وذكَره ابن حبان في الثقات. وقال الدارقطني: ليس له شيء ينكر. وقال الخليلي: ثقة، روى عن بَقيْة، ومحمد بن حَرْب، وسَلمة بن عبد الملك العوصي وغيرهم.

وروى عنه البخاريّ، وروى له النسائي بواسطة ابنه محمد بن خالد وأبو زرعة الدمشقيّ وابن وارة وغيرهم. والكَلاعي في نسبه نسبة إلى ذِي الكلاع بفتح الكاف، وذو الكلاع رجلان: أحدهما الأكبر، وهو يزيد ابن النعمان الحِمْيَريّ من ولد شهال بن وَحَاطةَ بن سعد بن عوف بن عَدِيّ بن مالك بن زيد بن شدد بن زُرْعة بن سبأ الأصغر. والثاني وهو أبو شَرَاحيل سمَيْفَع بن ناكور بن عمرو بن يَعْفر بن ذي الكَلاَع الأكبر وهما من أذواء اليمن والتَّكَلُّع التحالف والتجمع، وبه سمي ذو الكلاع الأصغر؛ لأن حمير تكلَّعوا على يديه، أي: تجمعوا إلا قبيلتين: هوازِن وحَرَاز، فإنهما تكلمنا على ذي الكلاع الأكبر قاله في القاموس وشرحه. وانظر كيف يصح هذا مع ما مر قريبًا من أن ذا الكلاع الأكبر جد أعلى لذي الكلاع الأصغر. الثاني: الأوزاعي، وهو عبد الرحمن بن عمرو بن عوف بن يُحْمد بضم الياء. وكسر الميم، أبو عمر، كان يسكن دمشق خارج باب الفراديس، ثم تحول في آخر عمره إلى بيروت، فسكنها مرابطًا بها إلى أن مات، لم يكن بالشام أعلم منه. قيل: إنه أجاب في سبعين ألف مسألة من حفظه. قال ابن سعد: كان ثقة مأمونًا فاضلًا خيّرًا كثير الحديث والفقه. وقال ابن حبان في "الثقات"، كان من فقهاء أهل الشام وقرائهم وزهّادهم. وقال النَّسائي في "الكُنى": أبو عمرو الأوزاعيّ إمام أهل الشام، وفقيههم، وقال أحمد ابن حنبل: دخل الثَّوْرِيّ والأوزاعي على مالك، فلما خرجا قال مالك: أحدهما أكثر علمًا من صاحبه، ولا يصلح للإمامة، والآخر يصلح للإمامة، يعني الأوزاعي. وقال أبو إسحاق الفَزاريّ: ما رأيت مثل رجلين: الأوزاعيّ والثَّوريّ. فاما الأوزاعيّ، فكان رجل عامة، والثوري كان رجل خاصة. ولو خيّرتُ لهذه الأمة لاخترت لها الأوزاعيّ؛ لأنه كان أكثر توسعًا، وكان، والله، إمامًا إذ لا نصيب اليوم إماما. ولو أن الأمة أصابتها شدة والأوزاعي فيهم، لرأيت لهم أن يفزعوا إليه.

وقال ابن المبارك: لو قيل اختر لهذه الأمة لاخترت الثَّوْريّ والأوزاعيّ، ثم لاخترتُ الأوزاعيّ، لأنه أرفق الرجلين. وقال الخربييّ: كان الأوزاعي أفضل أهل زمانه، وقال بَقِّية بن الوليد: إنا لنمتحن الناس بالأوزاعي، فمن ذكره بخير عرفنا أنه صاحب سُنَّة. وقال الوليد بن مَزْيد: ما رأيت أحدًا كان أسرع رجوعًا إلى الحق منه. وقال محمد بن عَجْلان: لا أعلم أحدًا كان أنصح للأمة منه. وقال العَجْليّ: شاميُّ ثقة من خيار المسلمين. وقال الشافعي: ما رأيت أشبه فقهه بحديثه من الأوزاعيّ، وقال عُقبة: ارادوا الأوزاعيّ على القضاء، فامتنع، فقيل له: لِمَ لم يكرهوه؟ فقال: هيهات، هو كان أعظم في أنفسهم قدرًا من ذلك. وقال ابن مَهْديّ: الأئمة في الحديث أربعة: الأوزاعي، ومالك، والثَّوريّ، وحماد بن زيد. وقال أيضًا: ما كان بالشام أعلم بالسنة منه. وقال أبو زُرعة الدِّمشقي: إليه فتوى الفقه لأهل الشام، لفضله وكثرة روايته. وبلغ سبعين سنة. وكان فصيحًا، ورسائله تؤثر. وقال ابن عُيينة: كان إمام أهل زمانه. وقال أمية بن يزيد بن أبي عثمان: كان عندنا أرفع من مكحول، جمع العبادة والورع، والقول بالحق. قال إسحاق: إذا اجتمع الأوزاعيّ والثَّوْرِيّ ومالك على الأمر فهو سنة، كان رضي الله عنه رأسًا في العبادة والعلم، وكان أهل الشام والمغرب على مذهبه قبل انتقالهم إلى مذهب مالك واستفتي وهو ابن ثلاث عشرة سنة، روي أن سُفيان الثَّوْرِيّ كان بمكة، فبلغه مَقْدَم الأوزاعي، فخرج حتى لقيه بذي طُوَى، فحل سفيانُ رأس بعيره من القطار، ووضعه على رقبته، فكان إذا مر بجماعة قال: الطريق للشيخ. روى عن إسحاق بن أبي عبد الله بن أبي طلحة، وعطاء بن أبي رباح، وقتادة، ونافع مولى ابن عمر، والزهْريّ، ومحمد بن سيرين، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، ويحيى بن سعيد الأنصاري، ويحيى بن أبي كثير وخلق كثير.

لطائف إسناده

وروى عنه مالك وشعبة والثَّورِيّ وابن المبارك، وابن أبي الزِّناد، ويحيى بن سعيد القطّان، ومحمد بن حرب. وروى عنه من شيوخه الزُّهْرِيّ، ويحيى بن أبي كثير، وقتادة وغيرهم. مات ببيروت سنة سبع وخمسين ومئة، يوم الأحد لليلتين بقيتا من صفر، وقيل في شهر ربيع الأول، وقبره في قرية على باب بيروت، يقال لها حَنْتُوس، بالحاء المهملة، والنون الساكنة، وضم التاء المثناة من فوق، ثم واو ساكنة وسين مهملة وأهلها مسلمون، وهو مدفون في قبلة المسجد، وأهل القرية لا يعرفونه، ويقولون ههنا رجل صالح ينزل عليه النور، ولا يعرفه إلا الخواص من الناس، ورثاه بعضهم بقوله: جاء الحَيَا بالشام كُلَّ عَشِيَّةٍ ... قبرًا تَضمَّنَ لَحْده الأوزاعي قبرٌ تضمن فيه طَودُ شريعة ... سقيًا له من عالم نفّاعِ عرضتْ له الدنيا فأعرض مقلعًا ... عنها بزهد أيَّما إقلاعِ وكان سبب موته أنه دخل حمامًا ببيروت، وكان لصاحب الحمام شغل، فأغلق الحمام عليه، وذهب، ثم جاء ففتح الباب فوجده ميتًا، قد وضع يده اليمنى تحت خده، وهو مستقبل القبلة، وقيل: إن امرأته فعلت ذلك، ولم تكن عامدة لذلك، فأمرها سعيد بن عبد العزيز بعتق رقبة. والأوزاعيّ في نسبه نسبة إلى أوزاع، بطن ذي الكلاَع من اليمن، وقيل: بطنٌ من هَمْدان، لقب مَرْتَد بن زيد بن شدد بن زُرعة. وقيل: أوزاع قرية بقرب دمشق، خارج باب الفراديس، سميت بذلك لأنه سكنها في صدر الإِسلام قبائلُ شتى، منها أبو أيوب مُغيث بن سُميّ أدرك ألف صحابي، وفيه محمد بن حرب ومر في الحديث الذي قبل هذا الحديث، ومر الزُّهري في الثالث من بدء الوحي، ومر عبيد الله بن عبد الله في السادس منه أيضًا، ومر عبد الله بن عباس في الخامس منه أيضًا، ومر الحُرُّ ابن قيس في السادس عشر من كتاب العلم هذا. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والِإخبار والعنعنة، وفيه هنا

باب فضل من علم وعلم

"حدثنا محمد بن حرب، قال الأوزاعي"، وفي رواية الأصيلي "حدثنا الأوزاعي" وفيه هنا "أخبرنا الزُّهْرِيّ" وفي الطريق السابقة عن صالح عن ابن شهاب، وابن شهاب هو الزَّهري، وهذا اختلاف من جهة ضبط البخاري وقوة احتياطه حيث يقول تارة ابن شهاب، وتارة الزُّهْرِيّ، وتارة محمد بن مَسْلم؛ لأنه ينقله في كل موطن باللفظ الذي نقله شيخه. وأما المواضع التي أخرجه فيها البخاري، فقد مر ذكرها عند ذكره هو أولًا في الحديث السادس عشر من كتاب العلم هذا. ثم قال المصنف. باب فضل من عَلِمَ وعَلَّمَ الأولى، بكسر اللام الخفيفة، أي صار عالمًا، والثانية بفتحها وتشديدها أي: علَّم غيره.

الحديث الحادي والعشرون

الحديث الحادي والعشرون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِى بُرْدَةَ عَنْ أَبِى مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءً، وَلاَ تُنْبِتُ كَلأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِى دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ". قوله: "مثل" بفتح الميم والمثلثة، والمراد به الصفة العجيبة، لا القول السائر. وقوله: "من الهدى والعلم"، الهدى هو الرشاد والدلالة، يذكر ويؤنث، والمراد به هنا الدلالة الموُصِّلة إلى المطلوب. والمراد بالعلم معرفة الأدلة الشرعية. وعطف العلم عليه من عطف المدلول على الدليل. وقد مر في أول كتاب العلم ما قيل في تفسير العلم. وقوله: "أصاب أرضًا" جملة من الفعل والفاعل والمفعول، في موضع نصب على الحال، بتقدير قد. وقوله: "فكان منها نَقِيّة" أي: بالنون من النقاء، صفة لأرض محذوفة، وهذا هو الذي في جميع نسخ البخاري. وعند الخطّابي والحُميدي "ثَغِبَة"، بفتح المثلثة وكسر الغين المعجمة، بعدها موحدة خفيفة مفتوحة، وهي مستنقع الماء في الجبال والصخور. وقال القاضي عياض: هذا غلط في الرواية وإحالةٌ للمعنى؛ لأن هذا وصف الطائفة الأُولى التي تنبت، وما ذكره يصلح وصفًا للثانية التي تمسك الماء وما في نسخ البخاريّ هو مثل قوله في مسلم "طائفة طيبة". وفي رواية

"بقية" بالقاف بعد الياء، والمراد بها البقعة الطيبة، كما يقال: فلان بقية الناس. ومنه {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ} [هود: 116]. وقوله: "قَبلت الماء" أي بفتح القاف، وكسر الباء، من القُبول. وعند الأصيلي قيلت بالتحتانية المشددة، ويأتي ما فيها. وقوله: "فأنبتت الكَلَأ" بفتح الكاف واللام، وبالهمز مقصورًا، وهو النبات رطبًا ويابسًا. وقوله: "والعشُبْ" بضم فسكون، وهو الرُّطْب من النبات. وهو من عطف الخاص على العام، وقوله: "وكانت منها أجادِب" بالجيم والدال المهملة بعدها موحدة، جمع جَدْب، بفتح فسكون، وهو المَحْل وزنًا ومعنى، وهو جمع على غير قياس، وهي الأرض الصلبة التي لا ينضب منها الماء، أي لا يغور. وضبطه المازريّ "بالذال المعجمة" ووهمه القاضي وفي رواية أبي ذَرِّ "إخاذات" بكسر الهمزة، وبالخاء والذال المعجمتين، وآخره مثناة فوقية، قبلها ألف، جمع إخاذة، وهي الأرض التي تمسك الماء. قال بعضهم "أجارِد" بجيم وراء، ثم قال مهملة جمع جرداء، وهي البارزة التي لا تنبت. قال الخطابي: وهو صحيح المعنى إن ساعدته الرواية. وقوله: "فنفع الله بها الناس" أي بالإخاذات وفي رواية الأصيلي "به" أي: بالماء، وقوله: "فشربوا وسقوا" يعنيِ: شربوا من الماء وسقوا دوابهم. وقوله: "وزرعوا من الزرع"، ولمسلم والنَّسائيّ "ورعوا من الرَّعي" ورجح القاضي عِياض رواية مسلم بلا مرجح؛ لأن رواية "زرعوا" تدل على مباشرة الزرع، لتطابق في التمثيل مباشرة طلب العلم، وإن كانت رواية "رعواة مطابقة لقوله: "أنبتت"، لكن المراد أنها قابلة للنبات. والظاهر عندي حمل الإنبات على ظاهره من الإنبات بالفعل، وبهذا يكون لكل من الرواتين مرجح. وقال القاضي عياض: قوله: "ورعوا" راجع للأولى؛ لأن الثانية لم يحصل منها نبات. قال في "الفتح": ويمكن أن يرجع إلى الثانية، بمعنى أن الماء الذي استقر بها، سقيت منه أرض أخرى، فأنبتت.

قلت: هذا احتمال بعيد جدًا إلا أنَّ جَعْل الكلام مسوقًا لمحل واحد، بقربه. وقوله: "إنما هي قيعان" بكسر القاف، جمع قاعٍ، وهو الأرض المستوية الملساء التي لا تنبت. وقوله: "فذلك مثل مَنْ فَقُه في دين الله" بضم القاف، أي صار فقيهًا، أو صار الفقه له سجية، ورُوي بكسر القاف، والضم أشبه. وقوله: "ونفعه ما بعثني الله به، فعَلِم وعَلَّم" أي: علم ماجئت به، وعلمه لغيره وهذا على قسمين الأول: العالم العامل المعلم، فهو بمنزلة الأرض الطيبة، شربت فانتفعت في نفسها، وأنبتت فنفعت غيرها والثاني: الجامع للعلم المستفرق لزمانه فيه، غير أنه لم يعمل بنوافله، أو لم يتفقه فيما جمع، لكنه، أداه لغيره، فهو بمنزلة الأرض التي يستقر فيها الماء، فينتفع الناس به، وهو المشار إليه بقوله "نَضَّر الله امرءًا أسمع مقالتي، فأدَّاها كما سمعها" فهذا الشطر راجع إلى الطائفتين الأُوليين المحمودتين، وجمع بينهما في المثل لاشتراكهما في الانتفاع بهما. وقوله: "ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا" أي: تكبر، ولم يلتفت إليه من غاية تكبره، وهو من دخل في الدين ولم يسمع العلم، أو سمعه، فلم يعمل به، ولم يعلَّمه أي فما انتفع به، ولا نفع غيره، فهو بمنزلة الأرض السَّبخة أو الملساء التي لا تقبل الماء، أو تفسده على غيرها. وقوله: "ولم يقبل هُدَى الله الذي أرسلت به" أي: لم يدخل في الدين أصلًا، بل بلغه فكفر به، فهو بمنزلة الأرض الصماء الملساء المستوية، التي يمر عليها الماء فلا تنتفع به. قال القرطبيّ وغيره: ضرب النبيُ صلى الله تعالى عليه وسلم، لما جاء به من الدين مثلًا، بالغيث العام، الذي يأتي الناس في حال حاجتهم إليه، وكذا كان حال الناس قبل مبعثه عليه الصلاة والسلام، فكما أن الغيث يحي البلد الميت، فكذا علوم الدين، تحى القلب الميت، ثم شبه السامعين له بالأرض المختلفة التي ينزل بها الغيث.

رجاله خمسة

قلت: وفي تشبيه السامعين بالأرض معنى بليغ جدًا، وهو أن بني آدم أصلهم من الأرض، وأجناسهم بحسب أجناس الأرض؛ لأن طينة أبيهم آدم، عليه السلام، أُخذت من جميع أجناس الأرض، كما قيل فصار في بني آدم، جميع أوصاف الأرض، من سبخة وأرض طيبة، ووعَرْ وحَزْن، وغير ذلك. ولم أر من تنبه لهذا المعنى. وقال الطِّيْبيّ: بقي من أقسام الناس قسمان: أحدهما الذي انتفع بالعلم في نفسه، ولم يعلمه لغيره. والثاني من لم ينتفع به في نفسه وعلمه غيره. وما قاله من بقاء القسمين غير ظاهر، بل الظاهر، كما قال في "الفتح"، أن الأول داخل في الأول؛ لأن النفع حصل في الجملة، وان تفاوتت مراتبه، وكذلك ما تنبته الأرض، فمنه ما ينتفع الناس به، ومنه ما يصير هشيمًا. وأما الثاني، فإن كان عمل الفرائض، وأهمل النوافل، فقد دخل في الثاني كما مر، وإن ترك الفرائض أيضًا، فهو فاسق لا يجوز الأخذ عنه، ولعله يدخل في عموم من لم يرفع بذلك رأسًا. قلت: ما قاله في الأخير غير ظاهر عندي، بل الظاهر أن الفاسق إذا علم غيره يكون داخلًا في قوله "فنفع الله به الناس" لما ورد في الأحاديث الصحاح من أن بعض أهل الجنة يقولون لبعض أهل النار "إنما دخلنا الجنة بتعليمكم ومواعظكم" ففسقه غير مانع من انتفاع غيره به، فينتفع بتعليمه، ويعذب بفسقه والله تعالى أعلم. رجاله خمسة: الأول: محمد بن العلاء بن كرِيب أبو كَرِيب الكُوفّي الهَمْدانّي، الحافظ. قال أحمد بن حنبل: لوحدثت عن أحد ممن أجاب في المحنة لحدثت عن أبي مَعْمَر وأبي كُرَيب. وقال ابن نُمْير: ما بالعراق، أكثر حديثًا من أبي كريب، ولا أعرف بحديث بلدنا منه. وكان أبو العباس بن عُقبة يقدمه في الحفظ والمعرفة على جميع مشائخهم، ويقول: ظهر لأبي

كريب بالكوفة ثلاث مئة ألف حديث. وقال موسى بن إسحاق الأنصاري: سمعت من أبي كريب مائة ألف حديث. وقال أبو عمرو الحفّاف: ما رأيت من المشائخ بعد إسحاق بن إبراهيم أحفظ منه. وقال إبراهيم بن أبي طالب: لم أر بعد أحمد بن حنبل بالعراق أحفظ منه. وقال النسائي: لا بأس به، وقال مُرّة: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال أبو حاتم: صدوق، وقال صالح جَزْرة: غلبتْ السوسة على رأسه، فغَلّف الطببب رأسه بالفالوذج، فأخذه من رأسه، ووضعه في فيه، وقال: بطني أحوج إلى هذا. وفي الزهرة: روى عنه البخارى خمسة وسبعين حديثًا، وروى عنه مسلم خمس مئة وستة وخمسين حديثًا. روى عن هشيم ومُعْتَمر، وابن المبارك، ووكِيْع، وسفيان بن عُيينة، ومعاوية بن هشام، وزيد بن الحباب وغيرهم. وروى عنه الجماعة، وأبو حاتم، وأبو زُرعة، وعثمان بن خُرَّزاذ، والذُّهْلِيّ، وابن أبي الدنيا، وأبو عَرُوبة وخلق. مات في جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين ومائتين، وهو ابن سبع وثمانين، وأوصى أن تدفن كتبه معه فدفنت. الثاني: حماد بن أُسامة بن زيد القَرشيّ، مولاهم، أبو أسامة الكوُفي، قال أحمد: أبو أُسامة ثقة، كان أعلم الناس بأمور الناس، وأخبار أهل الكوفة، وما كان أرواه عن هشام بن عُروة. وقال أيضًا: أبو أسامة أثبت من مائة مثل أبي عاصم، كان صحيح الكتاب ضابطًا كبيرًا صدوقًا ثبتًا، ما كان أثبته، لا يكاد يخطىء. وقال عبد الله بن عمر بن أبَان، سمعت أبا أسامة يقول: كتبت بأصبعيَّ هاتين مائة ألف حديث. وقال ابن عمّار: كان أبو أسامة في زمن الثوَّري يعد من النُّسَّاك، وقال العجْليّ: ما بالكوفة شاب أعقل من أبي أسامة وقال ابن سعد: كافي ثقة مأمونًا، كثير الحديث يدلّس، ويبين تدليسه، وكان صاحب سُنّة وجماعة، وقال العجلي أيضًا: كان ثقة، وكان يعد من حكماء أصحاب الحديث.

وقال ابن قانع: كوفي صالح الحديث، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال عثمان الدَّارمي: قلت لابن مُعين: أبو أسامة أحب إليك أم عَبْدَة؟ قال: ما منهما إلا ثقة. وهو أحد الأئمة الأَثبات، اتفقوا على توثيقه، وشذ الأَزْدِيّ، فذكره في الضعفاء. وحُكِي عن سفيان بن وكيع قال: كان أبو أسامة يتتبع كتب الرواة، فيأخذها وينسخها، فقال لي ابن نُمَير: إن المحسن لأبي أسامة يقول: إنه دفن كتبه، ثم تتبع الأحاديث بعد من الناس، فنسخها. قال. سفيان بن وكيع: إنى لأعجب كيف جاز حديثه، كان أمره بَيّنًا، وكان من أسرق الناس لحديث جيد. قال ابن حجر: سفيان بن وكيع هذا ضعيفٌ لا يعتد به. كما لايعتد بالناقل عنه، وهو أبو الفتح الأزْدِيّ، مع أنه ذكر هذا عن أبي وكيع بالإسناد، وسقط من النسخة التي وقف عليها الذهبي من كتاب الأزْدِيّ ابن وكيع، فظن أنه حكاه عن سفيان الثَّوْريّ فمصار يتعجب من ذلك. ثم قال: إنه قولٌ باطل وأبو أسامة قد قال فيه أحمد وأبو أسامة وغيره ما مر من التوثيق. وروى الجماعة عنه، روى عن هشام بن عُروة، ويُرَيد بن عبد الله بن أبي بُرْدَة، والأُعمش، وابن جُرَيح والثَّوْرِيّ وشُعبة وحمّاد بن زيد وخَلْق. وروى عنه الشافعيُّ وأحمد بن حنبل ويحيى وإسحاق بن راهَوية، وقتيبة وابن نُمْير، وابنا أبي شيبة وغيرهم. مات في شوال سنة إحدى ومائتين، وهو ابن ثمانين سنة وليس في الصحيحين من هو بهذه الكنية سواه، وفي النَّسائي أبو أسامة الرقِّي النِّخَعِيّ، زيد بن عليّ بن دينار، صدوق، وليس في الكتب الستة من اشتهر بهذه الكنية سواهما. الثالث: بُريد، وجده أبو بُردة عامر. وأبو عامر هذا، هو أبو موسى الأشعريّ، وقد مروا في الرابع من كتاب الإيمان.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة، وفيه بُرْيد وجده أبو بُرْدة عن أبيه، وهذه نُكتة لطيفة. ورواته كلهم كوفيون. أخرجه البخاريّ هنا فقط، ومسلم في فضائل النبي صلى الله عليه وسلم، عن أبي بكر بن أبي شيبة، وغيره، والنسائي في العلم عن القاسم بن زكرياء، ثم قال البخاريّ: قال أبو عبد الله: قال إسحاق: وكان منها طائفة قيّلت الماء قاع يعلوه الماء، والصفصف المستوي من الأرض. وهذا اللفظ ظاهره التعليق، ولكنه يمكن أن يكون متصلًا؛ لأن إسحاق شيخ البخاريّ، وقد مر الكلام على "قال وقال لي" فالثانية متصلة اتفاقًا. قوله: قيَّلت، بتشديد الياء التحتانية، أي أن إسحاق، وهو ابن راهوَيه، كما يأتي، حيث روى الحديث عن أبي أسامة قال: "قيّلت الماء" فخالف في هذا الحرف. قال الأصيليّ: هو تصحيف من إسحاق. وقال غيره: بل هو صواب، ومعناه شربت، والقَيْل شرب نصف النهار. يقال قيّلت الإبل، أي: شربت في القائلة. وتعقَّبه القُرْطبُيّ بأن المقصود لا يختص بشرب القائلة. وأجيب بأن كون هذا أصله لا يمنع استعماله على الإطلاق تجوزًا. وقال ابن دُريد: قَيْلُ الماء في المكان المنخفض إذا اجتمع فيه. وتعقبه القرطبيُّ أيضًا، بأنه يفسد التمثيل لأن اجتماع الماء إنما هو مثال الطائفة الثانية، والكلام هنا إنما هو في الأولى التي شربت وأنبتت. قال: والأظهر أنه تصحيف. وقوله: "قاع يعلوه الماء" إلخ: هذا ثابت عند المستملي، وأراد به أن "قِيعان" المذكورة في الحديث جمع قاع، وأنها الأرض التي يعلوها الماء، ولا يستقر فيها، وإنما ذكر الصفصف معه جريًا على عادته في الاعتناء بتفسير ما يقع في الحديث من الألفاظ الواقعة في القرآن، وقد يستطرد. ووقع في رواية كريمة "وقال ابن إسحاق" ورجّحها العراقي. ووقع في نسخة الصَّغانيّ وقال إسحاق عن أبي أسامة" وهذا يرجح الأول. وفي هذا التعليق ذكر رجلين، أما أبو عبد الله، فالمراد به البخاري وهو أشهر من أن

يُعرَّف، وقد مر تعريفه في خطبة مقدمة الكتاب، وأما إسحاق فقط أطلقه البخاري ولم يقيده، وهو يروي عن ثلاثة اسمهم إسحاق وهم: إسحاق بن إبراهيم بن نصر، وإسحاق بن منصور الكَوْسَج، وإسحاق بن إبراهيم المعروف بابن راهويه، ويترجح أن المراد هنا ابن راهوية، لما روى الجَيَّاني عن سعيد بن السَّكْن أنه قال: ما كان في كتاب البخاري عن إسحاق غير منسوب، فهو إسحاق بن راهويه، وها أنا أذكر تعريف الاثنين، وقد مر الثاني في الخامس والثلاثين من الإيمان. وأبدأ بتعريف ابن راهوَية لأنه المترجح أنه هو المراد، ولأنه هو أكثر من يروي عنه البخاري منهم، ولأنه أعلم، فأقول: هو إسحاق بن إبراهيم، وإبراهيم يكنى بأبي الحسن، ويلقب براهوَيه، وإسحاق يكنى بأبي يعقوب، وإبراهيم بن مَخْلدَ بن إبراهيم بن عبد الله بن مَطَر الحَنْظليّ المَرْوَزِيّ، كان أحد أئمة الإِسلام، جمع بين الفقه والحديث والورع، طاف البلاد. قال فيه النَّسائيّ: إسحاق ثقة مأمون، أحد الأئمة. وقال أبو داود: والله لو كان في التابعين لأقروا له بحفظه وعلمه وفقهه. وقال وهب بن جرير: جزى الله إسحاق بن راهويه عن المسلمين خيرًا. وقال أحمد بن حنبل: لا أعلم لإِسحاق نظيرًا، إسحاق عندنا إمام من أئمة المسلمين، وإذا حدثك أبو يعقوب أمير المؤمنين فتمسك به، وما عبر الجسر أفقه من إسحاق. وقال نُعيم بن حمّاد: إذا رأيت الخراساني يتكلم في إسحاق فاتهمه في دينه. وقال محمد بن أسلم الطُّوسيّ: لما مات كان أعلم الناس، ولو عاش الثَّوريّ لاحتاج إلى إسحاق. وقال أبو داود الخَفَّاف: سمعت إسحاق يقول: لكأني انظر إلى مائة ألف حديث في كتبي، وثلاثين ألفًا أسردها. وقال: أملى علينا أحد عشر ألف حديث من حفظه، ثم قرأها علينا في كتابه، فما زاد حرفًا ولا نقص حرفًا. وقال أحفظ سبعين ألف حديث، وأذاكر بمائة ألف حديث، وما

سمعت شيئًا قط إلا حفظته، وما حفظت شيئًا قط فنسيته. وقال أبو حاتم: ذكرت لأبي زُرعة إسحاق وحفظه للأسانيد والمتون فقال أبو زرعة: ما رؤي أحفظ من إسحاق. وقال إبراهيم بن أبي طالب: أملى المسند كله منْ حفظه مرة، وقرأه من حفظه مرة، وقال أبو حاتم: والعجب من إتقانه وسلامته من الغلط مع ما رزق من الحفظ. وقال أحمد بن سلمة: قلت لأبي حاتم: إنه أملى التفسير عن ظهر قلبه، فقال أبو حاتم: وهذا أعجب، فإن ضبط الأحاديث المسندة أسهل وأهون من ضبط أسانيد التفسير وألفاظها. وقال ابن حبان في "الثقات": كان إسحاق من سادات أهل زمانه فقهًا وعلمًا وحفظًا وصنف الكتب، وفرع على السنن, وذَبَّ عنها، وقمع من خالفها. وقد ناظر الشافعيّ في مسألة جواز بيع دُور مكة، وقد استوفى الشيخ فخر الدين الرَّازِيَّ صورة ذلك المجلس الذي جرى بينهما في كتابه الذي سماه "مناقب الإِمام الشافعي" رضي الله تعالى عنه، فلما عرف فضله، نسخ كتبه، وجمع مصنفاته بمصر. وراهويه بفتح الراء بعدها الف وبعد الألف هاء ساكنة، ثم واو مفتوحة ثم ياء مثناه من تحت بعدها هاء سكت، هكذا ضبطه ابن خِلِّكان، وضبطه العينيّ بفتح الهاء والواو وسكون الياء والهاء الاخيرتين، وبضم الهاء ممدودة. وفتح الياء آخر الحروف، وضبطه ابن خِلِّكان بهذه الأخيرة أيضًا. وإنما لقب بهذا الاسم لأنه ولد في طريق مكة، والطريق يقال لها بالفارسية "رواه" و"ويه" معناه "وجد"، فكأنه وجد في الطريق. وروي عنه قال: قال لي عبد الله بن طاهر أمير خراسان: لِمَ قيل لك ابن راهويه؟ وما معنى هذا؟ وهل تكره أن يقال لك هذا؟ قلت: اعلم أيها الأمير أن أبي ولد في الطريق، فقالت المرَاوِزَةُ راهوَيْه؛ لأنه ولد في الطريق، وكان أبي يكره ذلك، وأما أنا فلست أكره ذلك. روى عن ابن عُيينة وابن عِلْيه وجَرير وبشر بن المُفَضّل وابن المُبارك

باب رفع العلم وظهور الجهل

وعبد الرزاق، وغُنْدُر وغيرهم. وروى عنه الجماعة سوى ابن ماجة، وبقيَّة ابن الوليد، ويحيى بن آدم، وهما من شيوخه، وأحمد بن حنبل وإسحاق الكَوْسَح، ومحمد بن رافع، ويحيى بن مُعين، وهؤلاء من أقرانه، والذُّهْلِيّ وأبو العباس السَّرَّاج. مات ليلة النصف من شعبان، ليلة الخميس، وقيل ليلة الأحد، وقيل ليلة السبت، سنة ثمان وثلاثين ومائتين، وقيل سنة سبع بَنْيسابور. وفي موته يقول الشاعر: يا هَدةً ما هددنا ليلةَ الأحدِ ... في نصف شعبان لا تنسى مدى الأبدِ وأما إسحاق الثاني، فهو إسحاق بن إبراهيم بن نصر البخاريّ، أبو ابراهيم المعروف بالسَّعْدِيّ، ذكره ابن حِبان في الثقات. وقال: كان قديم الموت، روى عن أبي أُسامة وعبد الرزاق وغيرهما. وروى عنه البخاريُّ، وربما نسبه إلى جده، توفي يوم الجمعة غرة شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وأربعين ومائتين. وقال الذهبي: إنه يقال له السُّغْدِيّ بمهملة مضمومة ثم معجمة ساكنة، نسبة إلى سُغْد، وهي بساتين وأماكن مثمرة. بسمرقند، وهو أحد متنزهات الدنيا، نسب إليها كامل بن مُكْرِم أبو العلاء، نزيل بُخارى، والقاضي أبو الحسن علي بن الحسين بن محمد، إمام فاضل، وقد سكن بخارى وأحمد بن حاجب الحافظ، وأبو العباس الفضل بن محمد بن نصر، وغيرهم. وأما السَّعْدي بالمهملة المفتوحة، فهو نسبة إلى سعد، وقد مر الكلام عليه، وإسحاق بن إبراهيم في الستة نحو أربعة عشر. ثم قال المصنف باب رفع العلم وظهور الجهل مقصود الباب الحث على تعلم العلم، فإنه لا يرفع إلا بقبض العلماء، كما يأتي صريحًا، وما دام من يتعلم العلم موجودًا لا يحصل

الرفع، وقد تبين في حديث الباب أنّ رفعه من علامات الساعة. ثم قال: وقال زبيعة: لا ينبغي لأحد عنده شيء من العلم أن يضيع نفسه، ومراد ربيعة هو أن من كان فيه فهم وقابلية للعلم، لا ينبغي له أن يمهل نفسه فيترك الاشتغال، لئلا يؤدي ذلك إلى رفع العلم، أو مراده الحث على نشر العلم في أهله، لئلا يموت العالم قبل ذلك، فيؤدي إلى رفع العلم، أو مراده أن يشهر العالم نفسه ويتصدى للأخذ عنه، لئلا يضيع علمه، وقيل: مراده تعظيم العلم، وتوقيره، فلا يهين نفسه، بأن يجعله عرضًا للدنيا، كما قال القائل: ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظموه في النفوس لعظِّما ولكنْ أهانوه فهانَ ودنّسوا ... مُحَيَّاه بالأطماع حتى تثلّما قال فى "الفتح": وهذا معنى حسن، لكن اللائق بتبويب المصنف ما تقدم. قلت: هذا المعنى هو الموافق للفظ صريحًا، وغير مناف للترجمة، لأن إضاعة أهل العلم لأنفسهم تؤدي إلى الازدراء بهم، وعدم المبالاة بالأخذ منهم، فيضيع العلم وهذا التعليق وصله الخطيبُ في "الجامع" والبَيْهقيَّ في "المدخل" من طريق عبد العزيز الأُوَيْسِيّ عن مالك عن ربيعة. وربيعة هو ابن أبي عبد الرحمن فرُّوخ التَّيْمِيّ، مولاهم، أبو عثمان المَدِنيّ، المعروف بربيعة الرأي، قيل له ذلك لكثرة اشتغاله بالرأي والاجتهاد. قال أحمد: ثقة، وأبو الزناد أعلم منه. وقال العَجْلِيّ وأبو حاتم والنَّسائي: ثقة، وقال يعقوب بن شَيْبةْ ثقة ثبت أحد مُفتِي المدينة. وقال مُصْعَب الزُّبْيري: أدرك بعض الصحابة والأكابر من التابعين، وكان صاحب الفتوى بالمدينة، وكان يجلس إليه وجوه الناس بالمدينة المنورة. وكان يحصى في مجلسه أربعون مُعْتَمًّا وعنه أخذ مالك. وقال يحيى بن سعيد:

ما رأيت أحدًا أفطن منه. وقال عُبيَد الله بن عمر: هو صاحب معضلاتنا، وأعلمنا، وافضلنا. وقال سَوَّار العَنْبرَيّ: ما رأيت أحدًا أعلم منه، قيل له: ولا الحسن وابن سيرين؟ قال: ولا الحسن وابن سيرين. وقال عبد العزيز بن أبي سَلَمة: تقولون: ربيعة الرأي، هو الله ما رأيت أحدًا أحفظ لسنة منه. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، وكانوا يتوقونه لموضع الرأي. وقال الإمام مالك: ذهبت حلاوة الفقه منذ مات ربيعة الرأي، وما كان بالمدينة رجل أسخى بما في يده لصديق أو غيره منه، انفق على إخوانه أربعين ألف درهم. ثم جعل يسأل إخوانه، فقيل له: أذْهَبْتَ مالك وأنت تخلق وجهك، فقال: لا يزال هذا دأبي، ما وجدت أحدًا يغبطني على جاهي. قال بكر بن عبد الله الصنْعانِيّ: أتينا مالكًا فجعل يحدثنا عن ربيعة الرأي، وكنا نستزيده من حديث ربيعة، فقال لنا ذات يوم: ما تصنعون بربيعة وهو نائم في ذلك الطاق؟ فأتينا ربيعة فأنبهناه وقلنا له: أنت ربيعة؟ قال: نعم. قلنا: أنت الذي يحدثنا عنك مالك بن أنس؟ قال: نعم. قلنا: كيف حُظي بك مالك وأنت لم تحظ بنفسك؟ قال: أما علمتم أن مثقالًا من دولة خير من حمل من علم؟ وكان ربيعة يكثر الكلام ويقول: الساكت بين النائم والأخرس. وكان يتكلم في مجلسه، فوقف عليه أعرابيٌّ دخل من البادية، فأطال الوقوف، والانصات إلى كلامه، فظن ربيعة أنه قد أعجبه كلامه، فقال: يا أعرابي: ما البلاغة عندكم؟ فقال: الإيجاز مع إصابة المعنى. فقال: وما العَيُّ؟ فقال: ما أنت فيه منذ اليوم، فخجل ربيعةُ. وكان أبو ربيعة فَرُّوخ خرج في البعوث إلى خراسان أيام بني أمية، وربيعة حمل في بطن أمه، وخلّف عند أم ربيعة زوجته ثلاثين ألف دينار، فقدم المدينة بعد سبع وعشرين سنة، وهو راكب فرسًا، وفي يده رمح، فنزل ودفع الباب برمحه، فخرج ربيعة وقال: ياعدو الله، أتهجم على منزلي؟ فقال فرَّوخ: يا عدو الله، أنت دخلتَ على حُرَمِي، فتواثبا حتى

اجتمع الجيران، فبلغ مالك بن أنس، فأتوا يعينون ربيعة، وكثر الضجيج، وكل منهما يقول: لا فارقتك، فلما بصروا بمالك سكتوا، فقال مالك: ايها الشيخ، لك سعة في غير هذه الدار، فقال الشيخ: هي داري وأنا فَرُّوخ، فسمعت امرأته كلامه، فخرجت، وقالت: هذا زوجي، وهذا ابني الذي خلفه وأنا حامل به، فاعتنقا جميعًا وبكيا، ودخل فرُّوح المنزل وقال لامرأته: هذا ابني؟ قالت: نعم. قال: أخرجي المال الذي عندك، قالت: قد دفنته، وأنا أخرجه، ثم خرج ربيعة إلى المسجد، وجلس في حلقته، فأتاه مالك والحسن وأشراف الناس أهل المدينة، وأحدق الناس به، فقالت أمه لزوجها فرّوخ: اخرج فصل في مسجد النبي، صلى الله عليه وسلم، فخرج فنظر إلى حلقة وافرة، فأتاها، فوقف عليها، فنكس ربيعة رأسه يوهمه أنه لم يره، وعليه قُلُنسوة طويلة، فشك أبوه فيه فقال: من هذا الرجل؟ فقيل: هذا ربيعة بن أبي عبد الرحمن، فقال: لقد رفع الله ابني، ورجع إلى منزله، وقال لوالدته: لقد رأيت ولدك على حالة ما رأيت أحدًا من أهل العلم والفقه عليها، فقالت أمه: أيهما أحب إليك، هذا الذي هو فيه أو ثلاثون ألف دينار؟ فقال: لا والله، بل هذا. فقالت: انفقت المال كله عليه. فقال: لا والله ما ضيعته. قال أبو داود: كان الذي بين أبي الزَّناد وربيعة متباعدًا، وكان أبو الزناد وجيهًا عند السلطان، فأعان على ربيعة فضرب وحُلق نصف لحيته، فحلق هو النصف الآخر، وقال عبد العزيز بن أبي سلمة: قلت لربيعة في مرضه الذي مات فيه: إنا قد تعلمنا منك، وربما جاءنا من يستفتينا في الشيء لم نسمع فيه شيئًا، فنرى أن رأينا خير له من رأيه لنفسه، فنفتيه؟ قال: فاقعدوني، ثم قال: ويحك يا عبد العزيز؛ لأن تموت جاهلًا خير من أن تقول في شيء بغير علم. لا، لا، ثلاث مرات. روى عن أنس والسائب بن يزيد وابن المسَيّب والقاسم بن محمد، وابن أبي ليلى، والأعرج ومكحول وغيرهم. وروى عنه يحيى بن سعيد

الأنصاريّ وأخوه عبد رَبِّه بن سعيد، وسليمان التيميّ، وهم من أقرانه، ومالك وشُعْبة والسفيانان والليث، وحمّاد بن سلمة، وغيرهم. مات سنة ست وثلاثين ومئة، وقيل سنة ثلاثين بالهاشمية، وهي مدينة بناها السَّفَّاح بأرض الأنبار، وكان يسكنها ثم انتقل إلى الأنبار. والقول بأنه توفي سنة ثلاثين ومئة وأنه دفن بالهاشمية. التي بناها السَّفَّاح لا يمكن الجمع بينه وبين تاريخ خلافة السَّفَّاح؛ لأن السفاح ولي الخلافة ليلة الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين ومئة، كذا نقله أرباب التواريخ، واتفقوا عليه. وليس في الستة ربيعة بن أبي عبد الرحمن ولا ابن فَرّوخ سواه.

الحديث الثاني والعشرون

الحديث الثاني والعشرون حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِى التَّيَّاحِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ، وَيَثْبُتَ الْجَهْلُ، وَيُشْرَبَ الْخَمْرُ، وَيَظْهَرَ الزِّنَا". قوله: "إن من أشراط الساعة" أي: علاماتها، كما مر في الإيمان، ومر أن منها ما يكون من قبيل المعتاد، ومنها ما يكون خارقًا للعادة. وقوله: "أن يُرفع العلم" هو في محل نصب؛ لأنه اسم إنّ، وسقطت إن من رواية النَّسائي، وعلى روايته يكون مرفوع المحل على الابتداء، مقدمٌ خبره. والمراد برفعه موت حملته، لا محوه من صدورهم، كما يأتي صريحًا في الحديث. وقوله: "ويثْبت الجهل" بفتح أوله وسكون المثلثة، وضم الموحدة، وفتحِ المثناة، من الثبوت، وهو السكون والاستقرار. وفي رواية لمسلم "ويُثَبتَ" بضم أوله وفتح الموحدة، بعدها مثلثة، أي: ينتشر ويفشو. وحكي "يُنَثُّ" بنون ومثلثه، من النَّثَّ، وهو الإشاعة، وليست في شيء من الصحيحين. وقوله: "يُشرَبُ الخمر" هو بضم المثناة أوله، وفتح الموحدة، على العطف، والمراد كثرة ذلك واشتهاره. وعند المصنف في النكاح: ويكثر شرب الخمر، فالمطلق محمول على المقيد خلافًا لمن ذهب إلى أنه لا يجب حمله عليه، والاحتياط بالحمل ههنا أَوْلى؛ لأن حمل كلام النبوة على أقوى محامله أقرب، فإن السياق يفهم أن المراد بأشراط الساعة وقوعُ أشياء لم تكن معهودة حين المقالة، فإذا ذكر شيئًا كان موجودًا عند المقالة، فحمله على المراد بجعلة علامة، أن يتصف بصفة زائدة على ما كان موجودًا، كالكثرة والشهرة أقرب. وقوله: "ويُظْهر الزِّنا" أي يفشو، والزنا

رجاله أربعة

بالقصر في لغة أهل الحجاز، وبها جاء التنزيل، وبالمد لأهل نجد، والنسبة إلى الأول زَنَوي وإلى الآخر زَنَاوِي. ووقوع الأربعة هو العلامة لوقوع الساعة، وكل منها جزء العلة، وحينئذ تقييد الشرب بالكثرة غير محتاج إليه. رجاله أربعة: الأول: عِمران بن مَيْسرَة، ضد الميْمَنة، أبو الحسن البَصْرِيّ، الأدميّ، ذكره ابن حبان في الثقات، ووثقه الدارقطنيّ، وفي الزهرة روى عنه البخاري أحد عشر حديثًا، روى عن عبد الوارث ومُعْتمر وعَبّاد بن العوام، وعبد الله بن إدريس وحفْص بن غِيَاث وغيرهم. وروى عنه البخاريّ وأبو داود وأبو زرعة وأبو حاتم والأثرم وخليفة وغيرهم، مات سنة ثلاث وعشرين ومئتين. الثاني: عبد الوارث بن سعيد، مر في السابع عشر من كتاب العلم هذا، ومر أبو التَّيَّاح في الحادي عشر منه أيضًا، ومر أنس بن مالك في السادس من كتاب الإيمان. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة، ورواته كلهم بصريون، وإسناده رُباعيّ، أخرجه البخاريّ هنا فقط، والنَّسائيّ، في العلم عن عمران بن موسى.

الحديث الثالث والعشرون

الحديث الثالث والعشرون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لأُحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثًا لاَ يُحَدِّثُكُمْ أَحَدٌ بَعْدِي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَقِلَّ الْعِلْمُ، وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ، وَيَظْهَرَ الزِّنَا، وَتَكْثُرَ النِّسَاءُ وَيَقِلَّ الرِّجَالُ، حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً الْقَيِّمُ الْوَاحِدُ". قوله: "لأحدثنكم حديثًا" بفتح اللام، جواب قسم محذوف، أي: والله، وصرح به أبو عُوانة. ولمسلم "ألا أحدثكم" فيحتمل أن يكون قال لهم أولاً: ألا أحدثكم، فقالوا: نعم، فقال: لأحدثنكم. وقوله: "لا يُحَدَّثكم أحد بعدي" بحذف المفعول، أي: به، وكذا لمسلم أيضًا، ولابن ماجة التصريحُ به، وفي رواية للمصنف "لا يحدثكم به غيري" ولأبي عُوانة "لا يحدثكم أحد سمعه من رسول الله، صلى الله عليه وسلم بعدي"، وعرف أنس أنه لم يبق أحد سمعه من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، غيره؛ لأنه كان آخر من مات من أهل البصرة، وكان خطابُه بذلك لأهلها، أو كان عامًا، وكان تحديثه بذلك في آخر عمره لأنه لم يبق بعده من الصحابة من ثبت سماعه من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، إلا النادر، ممن لم يكن هذا المتن في مرويه. وقال ابن بَطَّال: يحتمل أنه قال ذلك لِمَا رأى من التغيير ونقص العلم، يعني فاقتضى ذلك عنده، أنه لفساد الحال، لا يحدثهم أحد به. والأول أولى. وقوله: "سمعت" بيانٌ لقوله لأحدثنكم، أو بدل منه، وقوله: "أن يَقِل العلم" هو بكسر القاف، من القلة، وعند مسلم "أن يرفع العلم" وكذا عند المصنف في الحدود والنكاح، وهو الموافق لرواية أبي التَّيَّاح في الحديث

السّابق، فيحتمل أن يكون المراد بقلته أول العلامة، وبرفعه آخرها، أو أطلقت القلة وأريد بها العدم، كما يطلق العدم ويراد به القلة، وهذا أليق لاتحاد المخرج، ومجيء القلة بمعنى العدم كثير في لغة العرب، قال الشاعر: أُنيخت فأَلقتْ بلدةً فوق بلدةٍ ... قليل بها الأصواتُ إلا بُغامها أي: لا صوت بها أصلاً. وقوله: "وتكثر النساء" قيل: سببه أن الفتن تكثر، فيكثر القتل في الرجال؛ لأنهم أهل الحرب دون النساء. وقيل هو إشارة إلى كثرة الفتوح، فتكثر السبايا فيتخذ الرجل الواحد عدة موطوءات، وفيه نظر لتصريح المصنف بالعلة، في الزكاة، في حديث أبي موسى، فقال: من قلة الرجال وكثرة النساء، فالظاهر أنها علامة محضة لا لسبب، بل يقدر الله في آخر الزمان أن يقل من يولد من الذكور، ويكثر من يولد من الإناث، وكون كثرة النساء من العلامات مناسب لظهور الجهل ورفع العلم. وقوله: "لخمسين" يحتمل أن يراد به حقيقة هذا العدد، أو يكون مجازًا عن الكثرة، ويؤيده أن في حديث أبي موسى "وترى الرجل الواحد يتبعه أربعون امرأة" وقوله: "القيّم الواحد أي: من يقوم بأمرهن، والسلام للعهد إشعارًا بما هو معهود، من كون الرجال قوامين على النساء. ويحتمل أن يراد بالقيم من يقوم عليهن، سواء كنَّ موطوءات، أم لا. ويحتمل أن يكون ذلك يقع في الزمان الذي لا يبقى فيه من يقوله: الله الله، فيتزوج الواحد بغير عدد، جهلاً بالحكم الشرعيّ. قال في "الفتح": وقد وجد ذلك في بعض أمراء التُّرْكمان، وغيرهم، من أهل هذا الزمان مع دعواه الإِسلام، قلت: بل وجد في زماننا هذا في بلاد العرب من عنده نحو خمس عشرة امرأة، غير مبالٍ بالشريعة، والعياذ بالله تعالى. وكأَن هذه الأمور الخمسة خصت بالذكر لكونها مشعرة باختلال الأُمور التي يحصل بحفظها صلاح المعاش والمعاد، وهي الدين؛ لأن رفع العلم

رجاله خمسة

يخل به، والعقل؛ لأن كثرة شرب الخمر يخل به، والنسب؛ لأن الزنا يخل به، والنفس والمال؛ لأن كثرة الفتن تخل بهما. وإنما كان اختلال هذه الأمور مؤذنًا بخراب العالم؛ لأن الخلق لا يُتْركون هملًا, ولا نبيّ بعد نبينا، عليه الصلاة والسلام، فيتعين ذلك. وفي هذا الحديث علم من أعلام النبوة، إذ أخبر عن أمور ستقع، فوقعت ولاسيما في هذا الزمان. رجاله خمسة: مروا، الأول: مَسدد، وقد مر هو ويحيى بن سعيد القَطّان وقتادة بن دُعامة وأنس بن مالك في السادس من كتاب الإيمان, ومر شُعبة في الثالث منه. لطائف إسناده: منها أن رواته كلهم بصريون، أخرجه البخاريُّ هنا، ومسلم في القدر عن أبي موسى، وبُندار والتِّرمِذيّ في الفتن عن محمود بن غَيلان، وقال: حسن صحيح. والنسائي في العلم عن عمرو بن عليّ، وابن ماجة في الفتن عن أبي موسى. ثم قال المصنف. باب فضل العلم الفضل، هنا، بمعنى الزيادة، أي: ما فضل منه، والفضل الذي تقدم في أول كتاب العلم بمعنى الفضيلة، فلا تكرار. وقيل: المراد بفضل العلم في الباب السابق فضيلة العلماء، بدليل الآيتين المذكورتين هناك، فإنهما في فضيلة العلماء، وإذا لم يكن المراد من ذلك الباب فضل العلماء، لم يطابق ذكر الآيتين المذكورتين الترجمة. والمراد من باب فضل العلم هنا: التنبيهُ على فضيلة العلم.

الحديث الرابع والعشرون

الحديث الرابع والعشرون حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِقَدَحِ لَبَنٍ، فَشَرِبْتُ حَتَّى إِنِّي لأَرَى الرِّيَّ يَخْرُجُ فِى أَظْفَارِي، ثُمَّ أَعْطَيْتُ فَضْلِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ". قَالُوا: فَمَا أَوَّلْتَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "الْعِلْمَ". قوله: "بينا أنا نائم" بينا: أصله بين، فأُشبعث الفتحة، وقد تزاد الميم قبل الألف، وقد مر الكلام عليها، مستوفىً في الرابع من بدء الوحي. وقوله: أُتيت "بضم الهمزة جواب بينا، أي جيء إليَّ. وقوله: "حتى أَني" بكسر الهمزة، لوقوعها بعد حتى الابتدائية، أو بفتحها على جعلها جارة. وقوله: "لأرى" بفتح الهمزة من الرؤية البصرية أو العِلْمية، ويؤيد الأول حديث الحاكم والطبرانى "فشربت حتى رأيته يجري في عُرْوقي بين اللحم والجلد، مع أنه محتمل أيضا، واللام للتأكيد في خبر إن، أو جواب قسم محذوف. وقوله: "الرَّيّ"، هو بكسر الراء في الرواية, وحكى الجوهري الفتح، وقال غيره: بالكسر الفِعل، وبالفتح المصدر. وقوله: "يخرج" أي: الري، جعله مرئيًا تنزيلاً له منزلة الجسم، وإلا فالرِّيُّ لا يرى، فهو استعارة أصلية، وعبر بـ"يخرج" المضارع موضع الماضي، لاستحضار صورة الرؤية للسامعين. و"يخرج" في محل نصب مفعول ثانٍ لأرى إن قدرت الرؤية بمعنى العلم، أو حال إن قدرت بمعنى الإبصار. وقوله: "في أظفاري" في رواية ابن عساكر من "أظفاري" وهي أبلغ، وفي التعبير "من أطرافي" وهو بمعناه، ويجوز أن تكون "في" بمعنى "على"

أي: على أظفاري كقوله تعالى {لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71]. أي: عليها. ويكون بمعنى يظهر عليها، والظفْر إما منشأ الخروج أو ظرفه. وقوله: "ثم أعطيت فضلي عمر" أي: ما فضل من لبن القدح الذي شربت منه، وعمر مفعول ثان "لأعطيت" وقوله: "قال العلم" روي بالنصب على أنه مفعول "لأَوَّلَ" مقدرةً، أي: أوَّلتْهُ بالعلم، فحذف الجار، ونصب المجرور، على حد قوله تعالى {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155] ويجوز الرفع خبرَ مبتدأ محذوف، أي: المُؤَوَّل به العلم. وفي رواية أبي بكر بن سالم "أنه صلى الله تعالى عليه وسلم، قال لهم: أَوَّلوها، قالوا: يا نبيّ الله، هذا علم أعطاكه الله، فملاَّك منه، ففَضُلَتْ فَضْلة فأعْطَيْتها عمر، قال: أصبتم ويجمع بأن هذا وقع أولاً، ثم احتمل عندهم أن يكون عنده في تأويلها زيادة على ذلك، فقالوا: ما أوَّلْته ... الخ، والفاء في "فما أوَّلتْه" زائدة، كهي في قوله تعالى: {فَلْيَذُوقُوهُ} [ص: 57]. ووجه تفسير اللبن بالعلم الاشتراكُ في كثرة النفع بهما، وكونهما سببا للصلاح، فاللبن للغذاء البدني والعلم للغذاء المعنوي، وقال ابن المنير: وجه الفضيلة للعلم في الحديث من جهة أنه عبر عن العلم بأنه فضلة: النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ونصيب مما آتاه الله، وناهيك بذلك. قال المُهَلب: اللَّبن في النوم يدل على الفطرة والسنة والقرآن والعلم، وقد جاء في بعض الأحاديث المرفوعة تأويلُه بالفطرة، كما أخرجه البَزَّار عن أبي هريرة، رفعه "اللَّبَنُ في المنام فطره" وعند الطبراني عن أبي بكرة، رفعه من رأى أنه تسرب لبنًا فهو الفطرة" وذكر الدَّنْيوَرِيّ أن اللبن المذكور في هذا يختص بالإبل وأنه لشاربه، مال حلال وعلم وحكمة. قال: ولبن البقر خصب السنة، ومال حلال وفطرة أيضًا، ولبن الشاة مال وسرور وصحة جسم، وألبان الوحش شك في الدّين، والبان السباع غير محمودة، إلا أن لبن اللَّبُوة مال مع عداوة لذي أمرة.

وقال ابن العَرَبي: اللَّبَنُ رزق يخلقه الله طيبًا بين أخباث من فرْثٍ ودم، كالعلم نورٌ يظهره الله في ظلمة الجهل، فضرب به المثل في المنام. وقال بعض العارفين: الذي خلق اللبن من بين فرْث ودم قادرٌ على أن يخلق المعرفة من بين شك وجهل، ويحفظ العمل عن غفلة وزلل، وهو كما قال. لكن اطَّردت العادة بأن العلم بالتعلُّم، والذي ذكره قد يقع خارقًا للعادة، فيكون من باب الكرامة. قاله في "الفتح". قلت: الذي يتوقف على التعلم من العلم إنما هو علم الشريعة، وأما المعارف والأنوار فلا تتوقف على التعلم، بل يهبها الله لمن يشاء من عباده، وهذا هو المراد بقول بعض العارفين. وقد أشبعنا القول على هذه المسألة في كتابنا "مُشْتهى الخارف". وقال ابن أبي جَمْرَةَ: تأوّل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، اللبن بالعلم، اعتبارًا بما بين له أول الأمر، حين أُتي بقدح خمر، وقدح لبن، فأخذ اللبن، فقال له جبريل: أخذت الفطرة ... الحديث. قال: وفي الحديث مشروعية قَصِّ الكبير رؤياه على من دونه، وإلقاء العالم المسائل، واختبار أصحابه في تأويلها، وأنّ من الأدب أنْ يَرُدّ الطالب علم ذلك إلى معلمه. قال: والذي يظهر أنه لم يُرد منهم أن يُعَبِّروها، وإنما أراد أن يسألوه عن تعبيرها، ففهموا مراده، فسألوه، فأفادهم، وكذلك ينبغي أن يسلك هذا الأدب في جميع الحالات. قال: وفيه أن علم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، بالله لا يبلغ أحدٌ درَجَته فيه؛ لأنه شرب حتى رأى الرِّيّ يخرج من أظفاره. وأما إعطاؤه فضله عمر، ففيه إشارة إلى ما حصل لعمر من العلم بالله، بحيث كان لا تأخذه في الله لومة لائم. قال: وفيه أنَّ من الرؤيا ما يدل على الماضي والحال والمستقبل. قال: وهذه أُوِّلت على الماضي، فإن رؤياه هذه تمثيل بأمر قد وقع؛ لأن الذي أَعْطِيه من العلم، كان قد حصل له، وكذلك ما أُعْطيه عمر، فكانت فائدةُ هذه الرؤيا تعريفَ قدر النسبة بين ما أعطيه من العلم وما أُعطيه عمر.

رجاله ستة

وفي الحديث فضيلة عمر، وأن الرؤيا من شأنها أن لا تحمل على ظاهرها، وإن كانت رؤيا الأنبياء من الوحي، لكن منها ما يحتاج إلى تعبير, ومنها ما يحمل على ظاهره، والمراد بالعلم هنا العلم بسياسة الناس بكتاب الله وسنة رسوله، صلى الله تعالى عليه وسلم، واختص عمر بذلك، لطول مدته بالنسبة إلى أبي بكر، وباتفاق الناس على طاعته، بالنسبة إلى عثمان، فإن مدة أبي بكر كانت قصيرة، فلم تكثر فيها الفتوح التي هي أعظم الأسباب في الاختلاف، ومع ذلك فساس عمر فيها، مع طول مدته الناس، بحيث لم يخالفه أحد، ثم ازدادت اتساعًا في خلافة عثمان، فانتشرت الأقوال واختلفت الآراء، ولم يتفق له ما اتفق لعمر من طواعية الخلق له، فنشأت من ثَمَّ الفتنُ، إلى أن أفضى الأمر إلى قتله، واستخلف عليّ فما ازداد الأمر إلا اختلافًا، والفتن إلا انتشارًا. رجاله ستة: الأول: سعيد بن عفير، وقد مر في الثالث عشر من كتاب العلم هذا، ومر الليث بن سعد وعقيل بن خالد وابن شهاب الزُّهْرِيّ في الثالث من بدء الوحي، ومر عبد الله بن عمر في الأثر الرابع من كتاب الإِيمان قبل ذكر حديث منه، وفيه حمزة وهو حمزةُ بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب رضي الله عنهم، أبو عُمارة، بضم العين، المدنيّ العَدَويّ القُرَشِيّ التابعيّ، الجليل، أمه أم ولد، شقيق سالم وعُبيد الله، قال ابن سعد: كان ثقةً قليلَ الحديث. وقال العَجْلِيّ: مَدَني تابعيّ ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات وذكره يحيى بن سعيد في فقهاء المدينة، روى عن أبيه وعمته حفصة، وعائشة، وروى عنه أخوه عبد الله، وابن ابن أخيه خالد بن أبي بكر بن عُبيد الله بن عبد الله بن عمر والزهرِىّ، وأخوه عبد الله بن مسلم بن شهاب، وموسى بن عقبة وغيرهم. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث بصيغة، الجمع والإِفراد والسماع، ومنها أن نصف رواته مِصْريون، ونصفهم مدَنيون، وفيه رواية

باب الفتيا وهو واقف على الدابة وغيرها

تابعيّ عن تابعيّ، أخرجه البخاريّ هنا، وفي تعبير الرؤيا عن يحيى بن بكير وقتيبة، وفي فضل عمر، رضي الله عنه، عن عَبدان. ومسلم في الفضائل عن قتيبة وعن حسن الحلوانى، والتِّرمْذِيَّ في الرؤيا والمناقب عن قتيبة، وقال: حسن غريب. والنسائِيّ عن قتيبة، وفي المناقب عن عمرو بن عثمان. ثم قال المصنف. باب الفتيا وهو واقف على الدابة وغيرها الفُتيا، بضم الفاء، وإن قلت الفَتْوى فتحتها، والمصادر الآتية بوزن فُتْيا قليلة، مثل تُقْيا ورُجْعَى. وقوله: و"هو واقف" أي: العالم المفتي المجيب المستفتى عن سؤاله. ومراده أن العالم يجيب سؤال الطالب، ولو كان راكبًا. وقوله: "على الدابة" المراد بها في اللغة كل ما مشى على الأرض، وفي العرف: ما يركب، وهو المراد بالترجمة وبعض أهل العرف خصّها بالحمار، وليس في سياق الحديث ذكر الركوب، وذلك أنه أحال به على الطريق الأخرى التي أوردها في الحج، فقال: كان على ناقته، وفي رواية لأحمد ومسلم والنسائي: رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، بمنىً على ناقته.

الحديث الخامس والعشرون

الحديث الخامس والعشرون حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَقَفَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِمِنًى لِلنَّاسِ يَسْأَلُونَهُ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ. فَقَالَ: "اذْبَحْ وَلاَ حَرَجَ". فَجَاءَ آخَرُ فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ، فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِي. قَالَ: "ارْمِ وَلاَ حَرَجَ". فَمَا سُئِلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلاَ أُخِّرَ إِلاَّ قَالَ افْعَلْ وَلاَ حَرَجَ. قوله: "في حجّة الوداع" بفتح الحاء والواو وكسرهما، والفتح في الوداع على أنه اسم، والكسر فيه على أنه مصدر من المفاعلة. وقوله: "بمنى" بالصرف وعدمه، حال وقوله "يسألونه" حال من فاعل وقف، أو من الناس، أي حال كونهم سائلين منه، أو استئنافٌ بيانًا لسبب الوقوف. وقوله: "فجاء رجل" قال في "الفتح": لم أعرف اسم هذا السائل، ولا الذي بعده، في قوله "فجاء آخر" والظاهر أن الصحابي لم يسم أحداً لكثرة من سأل إذ ذاك. وقوله: "عن شيء" أي من أعمال يوم العيد: الرَّمْي والنَّحْر والحَلْق والطواف. وقوله: "قُدم ولا أُخر" أي، بضم أولهما على صيغة المجهول، وفي الأول حذف، أي: لا قُدّم ولا أخّر؛ لأن لا، لا تكون في الماضي إلا مكررة على الفصيح، وحسّن حذفها هنا أنه في سياق النفي، كما في قوله تعالى {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} [الأحقاف: 9]. ولمسلم "ما سئل عن شيء قدّم أو أُخر". وقوله: "ولاحَرَج" أي: لا شيء عليك مطلقًا، لا في الترتيب، ولا

في ترك الفدية. هذا ظاهره. وقال بعض الفقهاء: المراد نفيُ الإثم فقط، وفيه نظر؛ لأن في بعض الروايات الصحيحة "ولم يأمر بكفارة" والتفسير الأول الذي هو عدم وجوب الترتيت والفدية، هو مذهب الشافعيّ وأحمد وعطاء وطاووس ومجاهد، وقال مالك وأبو حنيفة: الترتيب واجب، يجبر بالدم. لكنَّ الدم عند مالك إنما هو في صورتين لا غير، وهما تقديم الحَلْق أو الإفاضة على الرمي، وأما ما عدا ذلك، كحلقه قبل النحر، ونحره قبل الرمي، وإفاضته قبل النحر أو الحلق، أو قبلهما معاً، فلا دم عليه على الأصح في هذه الصور الخمس. واحتجوا بما رواه ابن أبي شَيْبَة عن ابن عباس أنه قال: من قَدَّم شيئًا من نُسُكه أو آخره فَلْيُهرِق لذلك دمًا. وابن عباس أحد من روى "أن لا حرج" فدل على أن المراد بنفي الحرج نفيُ الاثم، فأوّلوا قوله "لا حرج" أي لا إثم عليكم فيما فعلتموه من هذا؛ لأنكم فعلتموه على الجهل منكم، لا على القصد، فأسقط عنهم الحَرَج، وعَذرهم لأجل النسيان، وعدم العلم. وبدل له قول السائل "لم أشعر" ويؤيده ان في رواية علي عند الطحاويّ، بإسناد صحيح، بلفظ "رمَيَتْ وحَلَقْتُ ونسِيتُ أن أنحر" والاستدلال بما رُوي عن ابن عباس، متُعَقّبٌ بأن في سنده إبراهيم بن مُهَاجر، وفيه مقال، وعلى تقدير صحته يلزم من يأخذ به أن يوجب الدم في كل شيء من الخمسة المذكورة، ولا يخصه بالحلق أو الإفاضة قبل الرمي، وقال الطَّبري محتجًا لمذهب الشافعيّ: لم يسقط النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، الحَرَج إلا وقد أجزأ الفعل، إذ لو لم يُجزىء، لأمره بالإعادة؛ لأن الجهل والنسيان لا يضعان عن المرء الحكمِ الذي يلزمه في الحج، كما لو ترك الرمي ونحوه، فإنه لا يأثم بتركه جاهلاً أو ناسيًا، لكن تجب عليه الإعادة. والعجب ممن يحمل قوله "ولا حرج" على نفي الإثم فقط، ثم يخص ذلك ببعض الأمور دون بعض، فإن كان الترتيب واجبًا، يجب بتركه دمٌ، فليكنْ في الجميع، وإلا فما وجه تخصيص بعض دون بعض، مع تعميم الشارع الجميع بنفي الحرج.

واحتج النخعيّ ومن تبعه في تقديم الحلق على غيره، بقوله تعالى {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]. قال: فمن حلق قبل الذبح اهْراق دمًا عنه، رواه ابن أبي شَيْبة بسند صحيح. ويجاب عنه بأن المراد "ببلوغ محله" وصوله إلى الموضع الذي يحل ذبحه فيه، وقد حصل، وإنما يتم ما أراد أنْ لو قال: ولا تحلقوا حتى تنحروا، وأجاب الآبيُّ عن مالك بأن وجوب الدم في الأولى يخصص عموم الخبر المار، لقاعدة أخرى، وهي أن في تقديم الحلق على الرمي إلقاء التَّفَثِ عن المُحْرِم. وروى الأثرم عن أحمد: إن كان ناسيًا أو جاهلاً فلا شيء عليه، وإن كان عامدًا، فعليه الدم، لقوله في الحديث "لم أشعر"، وتُعُقِّب بأن الترتيب لو كان واجبًا لما سقط بالسهو، كالترتيب بين السعي والطواف، فإنه لو سعى قبل أن يطوف وجبت إعادة السعي، وأيضا وجوب الفدية، يحتاج إلى دليل، ولو كان واجبًا لبَيَّنه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، حينئذ؛ لأنه وقت الحاجة ولا يجوز تأخيره. وقال ابن دقيق العيد: ما قاله أحمد قويٌّ من جهة أن الدليل دل على وجوب اتباع الرسول في الحج، بقوله "خذوا عني مَنَاسِكَكُم" وهذه الأحاديث المرخصة في تقديم ما وقع عنه تأخيره قد قرنت بقول السائل "لم أشعر" فيختص الحكم بهذه الحالة، وتبقى حالة العمد على أصل وجوب الاتباع في الحج، وأيضًا، فالحكم إذا رتب على وصف، يمكن أن يكون معتبرًا، لم يجز اطّراحه ولا شك أن عدم الشعور وصفٌ مناسب لعدم المؤاخذة، وقد عُلِّق به الحكم، فلا يمكن اطّراحه بإلحاق العمد به، إذ لا يساويه، وأما التمسك بقول الراوي، فما سئل عن شيء إلخ، فإنه يشعر بأن الترتيب مطلقٌ غير مراعىً، فجوابه أن هذا الإخبار من الراوي، يتعلق بما وقع السؤال عنه، وهو مطلق بالنسبة إلى حال السائل، والمطلق لا يدل على أحد الخاصين بعينه، فلا يبقى حجة في حال العمد، والله تعالى أعلم.

رجاله خمسة

وفي الحديث من الفوائد: جواز القعود على الراحلة للحاجة، ووجوب اتباع أفعال النبيّ، صلى الله تعالى عليه وسلم، لكون الذين خالفوها لمّا علموا سألوه عن حكم ذلك واستدل به البخاريٌ على أن من حلف على شيء ففعله ناسيًا أن لا شيء عليه. وفيه جواز سؤال العالم راكبًا وماشيًا وواقفًا وعلى كل حال، ولا يعارَضُ هذا بما روي عن مالك من كراهة ذكر العلم والسؤال عن الحديث في الطريق؛ لأن الموقف بمنىً لا يعد من الطُّرقات , لأنه موقف سُنَّة وعبادة وذكر ووقت حاجة إلى التعلم خوف الفوات، إما بالزمان أو بالمكان. رجاله خمسة: الأول: إسماعيل بن أبي اويس مر في الخامس عشر من كتاب الإيمان, والثاني الإمام مالك، وقد مر في الثاني من بدء الوحي، ومر ابن شهاب في الثالث منه، ومر عبد الله بن عمرو في الثالث من كتاب الإيمان. الرابع من السند: عيسى بن طلحة بن عبيد الله أبو محمد القُرَشِيّ التَّيْميّ، أمه سُعدى بنت عوف المُرِّيَّة، ذكره ابن سعد في الطبقة الأُولى من أهل المدينة، وقال: كان ثقة كثير الحديث. وقال ابن مُعين: ثقة، وكذا قال النَّسائي والعَجْليّ، وقال ابن حبان في الثقات: كان من أفاضل أهل المدينة وعقلائهم، روى عن أبيه ومعاذ بن جبل، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي هريرة، وعائشة ومعاوية، وحُمران بن أَبان وغيرهم. وروى عنه ابنا أخيه طلحة وإسحاق ابنا يحيى بن طلبة، والزُّهْريّ وخالد بن سَلَمة المخْزُوميّ وغيرهم. مات في خلافة عمر بن عبد العزيز سنة مئة، وليس في الستة عيسى بن طلحة سواه. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع والإفراد والعنعنة، ورواته كلهم مَدَنِيّون، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، أخرجه البخاريّ هنا، وفي العلم أيضًا عن أبي نُعيم، وفي الحج عن عبد الله بن يوسف، وفي

باب من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس

النذور عن عثمان بن الهيْثَم، ومسلم في الحج عن يحيى بن يحيى وغيره, وأبو داود في الحج عن القَعْنَبِيّ، والترْمِذِيّ فيه، أيضًا، عن سعيد بن عبد الرحمن، وقال: حسن صحيح، والنَّسائِيّ فيه، أيضًا، عن قتيبة وغيره، وابن ماجة فيه، أيضًا، عن عليّ بن محمد مختصرًا. ثم قال المصنف باب من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس أي في بيان المفتي الذي أجاب المستفتي فيما سأله عنه، والإشارة باليد مستفادة من الحديثين المذكورين في الباب أولًا، وهما مرفوعان، وبالرأس مستفادة من حديث أسماء فقط، وهو من فعل عائشة، فيكون موقوفًا لكن له حكم المرفوع؛ لأنها كانت تصلي خلف النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان في الصلاة يرى من خلفه فيدخل في التقرير.

الحديث السادس والعشرون

الحديث السادس والعشرون حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ فِى حَجَّتِهِ فَقَالَ ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ، فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ قَالَ وَلاَ حَرَجَ. قَالَ حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ. فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ وَلاَ حَرَجَ. قوله: "سُئِل" بضم السين، وقوله: "ذبحتُ قبل أن أرمي" أي الجمرة، فهل يصح وهل علي شيء؟ وقوله: "فأومأ بيده فقال لا حرج" وفي رواية الأصيلي وأبي الوقت قال "فأومأ" وقوله: "فقال" يحتمل أن يكون بيانًا لقوله أومأ ويكون من إطلاق القول على الفعل، كما في الحديث الذي بعده، فقال هكذا بيده، ويحتمل أن يكون حالاً والتقدير، فأومأ بيده قائلًا، لا حرج، فجمع بين الإِشارة والنطق، والأول أليق بترجمة المؤلف، وللأصيليّ "ولا حرج" بالواو، أي صح فعلك، ولا حرج عليك. وقوله: "فأومأ بيده ولا حرج" كذا ثبتت الواو في "ولا حرج" وليست عند أبي ذَرٍ في الجواب الأول، وذلك لأن الأول كان في ابتداء الحكم، والثاني عطف على المذكور أولًا، وهذا السائل الأخير يحتمل أن يكون هو الأول، ويحتمل أن يكون غيره، ويكون التقدير: فقال سائلٌ كذا، وقال آخر. وهو الأظهر ليوافق الرواية التي قبله حيث قال: فجاء آخر. ومباحث هذا الحديث تقدمت في الذي قبله. رجاله خمسة: الأول موسى بن إسماعيل، مر في الخامس من بدء الوحي، وكذلك ابن عباس أيضًا، ومر أيوب السَّخْتيانيّ في التاسع من كتاب الإيمان، ومر عكْرمة مولى ابن عباس في السابع عشر من كتاب العلم، ومر وهيب بن خالد في تعليق بعد الخامس عشر من الإيمان.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة، ورواته كلهم بصريون، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، أخرجه البخاري هنا، وفي الحج عن موسى ابن إسماعيل، ومسلم فيه عن محمد بن حاتم، والنسائي فيه أيضًا عن عمرو بن منصور.

الحديث السابع والعشرون

الحديث السابع والعشرون حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: أَخْبَرَنَا حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِى سُفْيَانَ عَنْ سَالِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "يُقْبَضُ الْعِلْمُ، وَيَظْهَرُ الْجَهْلُ وَالْفِتَنُ، وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ". قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْهَرْجُ فَقَالَ: هَكَذَا بِيَدِهِ، فَحَرَّفَهَا، كَأَنَّهُ يُرِيدُ الْقَتْلَ. قوله: "يقبض العلم" بضم أوله، مبنيٌ للمجهول، وهو يفسر المراد بقوله، قبل هذا "يرفع العلم" والقبض يفسره حديث عبد الله بن عمرو الآتي في باب "كيف يقبض العلم، إنه يقع بموت العلماء" ويأتي استيفاء الكلام عليه، ان شاء الله تعالى، هناك. وقوله: "ويظهر الجهل بالبناء للمعلوم، وذكر هذه لزيادة التأكيد والإيضاح، وإلا فظهور الجهل من لازم قبض العلم، وقوله: "والفتنُ" هو بالرفع، عطف على الجهل، وللأصيليّ وابن عساكر "وتظهر الفتن" بإسقاط "الجهل" وقوله: "ويكثر الهَرْج" بفتح الهاء وسكون الراء آخرُه جيم، وأصله في اللغة العربية الاختلاط، يقال: هَرَج الناس، اختلفوا واختلفوا، وهرَج القوم في الحديث، إذا كثّروا وخلّطوا. وقد جاء في حديث أبي هريرة عند المؤلف في كتاب الفتن تفسيره بالقتل مرفوعًا، ولا يعارض ذلك ما جاء من وقفه على أبي موسى حيث قال: والهرْجُ بلسان الحبش: القَتْل، ولا ما في هذه الرواية من قوله: "فقال هكذا بيده، فحرفها، كانه يريد القتل" لأنه يجمع بينها بأنه جمع بين الإشارة والقول، فحفظ بعض الرواة ما لم يحفظ بعض. وأخطأ من قال نسبة تفسير الهَرْج بالقتل للسان الحبشة، وهم من بعض الرواة، وإلا فهي عربية صحيحة، ووجه الخطأ أنها لا تستعمل في اللغة

العربية بمعنى القتل إلا على طريق المجاز، لكون الاختلاط مع الاختلاف يفضي كثيرا إلى القتل، وكثيرا ما يسمى الشيء باسم ما يُؤول إليه، واستعمالها في القتل بطريق الحقيقة هو بلسان الحبش، وكيف يُدعى على مثل أبي موسى الأشعري الوهم في تصير لفظة لغوية؟ بل الصواب معه، واستعمال العرب الهرج بمعنى القتل لا يمنع كونها لغة الحبشة، وإن ورد استعمالها في الاختلاط والاختلاف، كحديث مَعْقِل بن يسار، رفعه "العبادة في الهَرْج كهجرة إليّ" أخرجه مسلم. وذكر صاحب "المحكم" للهرج معاني أُخرى، ومجموعها تسعة: شدة القتل وكثرة القتل، والاختلاط، والفتنة في آخر الزمان، وكثرة النكاح، وكثرة الكذب، وكثرة النوم، وما يرى في النوم غير مُنْضبط، وعدم الإتقان للشيء. وقال الجوهري: أصل الهَرْج الكثرة في الشيء، يعني حتى لا يتميز. وقد جاء في تفسير أيام الهرج، فيما أخرجه أحمد والطَّبرانيّ بسند حسن من حديث خالد بن الوليد، أن رجلًا قال له: يا أبا سليمان، اتَّق الله، فإن الفتن قد ظهرت، فقال، أما وابن الخطاب حي فلا، إنما تكونَ بعده، فينظر الرجل فيفكر، هل يجد مكانًا لم ينزل به ما نزل بمكانه الذي هو فيه من الفتنة والشر، فلا يجد، فتلك الأيام التي ذكر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، بين يدي الساعة أيام الهَرْج، قلت: هذا الحديث نص في زماننا هذا، وفي قوله: "فقال هكذا بيده" إطلاق القول على الفعلِ، والفاء في قوله "فحرفها" تفسيريّة، كأن الراوي بيّن أن الإيماء كان محرفاً، وقوله: "كأنه يريد القتل" فهمه الراوي من تحريف يده الكريمة، وحركتها كالضارب. وهذا الحديث أخرجه المؤلف في الفتن عن أبي هريرة، وزاد فيه "يتقارب الزمان ويُلْقى الشُّح" وفيه "وينقص العلم" بدل "ويقبض" وأخرجه الطَّبرانِيّ في الأوسط عن أبي هريرة، بزيادة، ولفظه مرفوعًا "لا تقوم الساعة حتى يظهرَ الفُحْشُ والبُخْل، ويخوَن الأمينُ، ويؤتمنَ الخائن، وتهلك

الوُعُول، وتظهر التحوت" قالوا: يا رسول الله، وما التحوت والوعول؟ قال: "الوعول وجوه الناس وأشرافهم، والتحوت الذين كانوا تحت أقدام الناس، ليس يعلم بهم" وفي رواية عن ابن مسعود، قلنا: وما التحوت؟ قال: "فُسُوله الرجال، وأهل البيوت الغامضة" قلنا: وما الوعول؟ قال: أهل البيوت الصالحة. قال ابن بَطَّال: معنى "تقارب الزمان" تقارب أحوال أهله في قلة الدين، حتى لا يكون فيهم من يأمر بمعروف، ولا ينهى عن منكر، لغلبة الفسق، وظهور اهله. وقد جاء فى الحديث "لا يزالُ الناسُ بخيرٍ ما تفاضلوا، فإذا تساووا هلكوا" يعني لا يزالون بخير ما كان فيهم أهل فضل وصلاح وخوف من الله، يُلْجا إليهم عند الشدائد، ويستشفى بآرائهم، ويُتبَرَّك بدعائهم، ويؤخذ بتقويمهم وآثارهم. قال الطَّحاويّ: قد يكون معنا. في ترك طلب العلم خاصة والرضى بالجهل، وذلك لأن الناس لا يتساوون في العلم؛ لأن دَرَج العلم تتفاوت قال تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76] وإنما يتساوون إذا كانوا جُهّالًا، وكأنه يريد غلبة الجهل، وكثرته بحيث يفقد العلم بفقد العلماء. قال ابن بَطَّال: وجميع ما تضمنه هذا الحديث من الأشراط قد رأيناها عَيانًا، فقد قبض العلم، وظهر الجهل وألقي الشحُّ في القلوب، وعمت الفتن، وكثر القتل. قال في "الفتح": الذي يظهر أن الذي شاهده كان منه الكثير مع وجود مقابله، والمراد من الحديث استحكام ذلك حتى لا يبقى مما يقابله إلا النادر، وإليه الإشارة بالتعبير بقبض العلم، فلا يبقى إلا الجهل الصرف، ولا يمنع من ذلك وجود طائفة من أهل العلم، لانهم يكونون حينئذٍ، مغمورين في أولئك، ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن ماجة، بسند قوي عن حذيفة، قال: "يَدْرسُ الإِسلام كما يدرس وشيُ الثوب، حتى لا يُدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة، ويسري على الكتاب في ليلة، فلا يبقى في الأرض منه آية" الحديث.

وعند الطَّبرانيّ عن ابن مسعود قال: "ولَيُنْزَعَنَّ القرآن من بين أظهركم، يُسرى عليه ليلًا فيذهب من أجواف الرجال، فلا يبقى في الأرض منه شيء". وسنده صحيح، لكنه موقوف. قلت: هذا لا يقال من قبل الرأي، فله حكم المرفوع، وقد مر عند حديث "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق" بيان ما يعارض ذلك، والجمع بين الأحاديث، فراجعه. قال في "الفتح": والواقع أن الصفات المذكورة وجدت مباديها من عهد الصحابة، ثم صارت تكثر في بعض الأماكن دون بعض، والذي يَعْقُبُه قيام الساعة استحكامُ ذلك كما قرر، وقد مضى من الوقت الذي. قال فيه ابن بَطَّال ما قال، نحوُ ثلاث مئة وخمسين سنة، والصفات المذكورة في ازدياد في جميع البلاد، لكن يقل بعضها في بعض، ويكثر بعضها في بعض، وكلما مضت طبقة ظهر النقص الكثير في التي تليها، وإلى ذلك الإشارة بقوله: "لا يأتي زمان إلا والذي بعده شرُّ منه" المُخَرَّج عند المصنف في الفتن. ثم نقل ابن بطّال عن الخَطَّابيّ في معنى "تقارب الزمان" المذكور في الحديث الآخر الذي أخرجه التَرمِذِيّ عن أنس وأحمد عن أبي هُرَيْرة مرفوعًا "لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمانُ فتكون السنة كالشهر، والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، ويكون اليوم كالساعة، وتكون الساعة كاحتراق السَّعَفَة" قال الخطابيّ: هو من استلذاذ العيش، يريد أنه يقع عند خروج المَهْدِيَّ ووقوع الأمنة في الأرض، وغلبة العدل فيها، فيستلذ العيش عند ذلك، وتستقصر مدته، ومازال الناس يستقصرون مدة أيام الرخاء وإن طالت، ويستطيلون مدة المكروه، وان قصرت. وتُعُقبَ بأنه لا يناسب أخواته من ظهور الفتن، وكثرة الهرْج وغيرهما. قال في "الفتح": وإنما احتاج الخَطّابي إلى تأويله بما ذكر؛ لأنه لم يقع النقص في زمانه، وإلا فالذي تضمنه الحديث قد وجد في زماننا هذا، فإنا نجد من سرعة مر الأيام ما لم نكن نجده في العصر الذي قبل عصرنا هذا، وإن لم يكن هناك عيش مستلذ، والحق أن المراد نزع البركة من كل شيء، حتى من الزمان. وذلك من علامات قرب الساعة.

وقال بعضهم: معنى تقارب الزمان استواء الليل والنهار، وهذا مما قالوه في قوله: "إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب" وقال النوويّ تبعًا لعياض: المراد بقصره عدم البركة فيه وأن اليوم، مثلًا يصير الانتفاع به بقدر الانتفاع بالساعة الواحدة. قالوا: وهذا أظهر وأكثر فائدة، وأوفق لبقية الأحاديث، وقيل في تفسير "يتقارب الزمان" قصر الأعمار بالنسبة إلى كل طبقة، فالطبقة الأخيرة أقصر أعمارًا من التي قبلها، وقيل تقارب أحوالهم في الشر والفساد والجهل، وهذا اختيار الطَّحاويّ، والذي جنح إليه لا يناسب ما ذكر معه إلا أن يقال: إن الواو لا ترتب، فيكون ظهور الفتن أولًا، ينشأ عنها الهَرْج، ثم يخرج المَهْديُّ، فيحصل الأمن. قال ابن أبي جَمْرة: يحتمل أن يكون المراد بتقارب الزمان قصره، علي ما وقع في حديث "لا تقوم الساعة حتى تكون السنة كالشهر" المار قريبًا. قال: وعلى هذا فالقِصَر يحتمل أن يكون حِسَّيًا, ويحتمل أن يكون معنويًا. أما الحسَّي فله يظهر بعد، ولعله من الأمور التي تكون قرب قيام الساعة، وأما المعنوي فله مدة ظهر، يعرف ذلك أهل العلم الدينيّ، ومن له فطنة من أهل السبب الدنيويّ فإنهم يجدون أنفسهم لا يقدر أحدهم أن يبلغ من العمل قدر ما كانوا يعملونه قبل ذلك، ويشكون ذلك ولا يدرون العلة فيه، ولعل ذلك بسبب ما وقع من ضعف الإيمان، لظهور الأُمور المخالفة للشرع من عدة أوجه، وأشد ذلك الأقوات، ففيها من الحرام المَحْض، ومن الشُّبه ما لا يخفى، حتى أن كثيرًا من الناس لا يتوقف في شيء، ومهما قدرعلى تحصيل شيء هجم عليه، ولا يبالي، والواقع أن البركه في الزمان وفي الرزق وفي النبت إنما تكون من قوة الإيمان واتباع الأمر واجتناب النهي والشاهد لذلك قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}. [الأعراف: 96]. وقال البيضاويّ: يحتمل أن يكون المراد بتقارب الزمان تسارع الدول إلى الانقضاء والقرون إلى الانقراض، فيتقارب زمانهم فتتدانى أيامهم،

وأما قوله: "ويلقى الشح" فالمراد إلقاؤه في قلوب الناس على اختلاف أحوالهم، ومنه {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل: 29] حتى يبخل العالم بعلمه، فيترك التعليم والفتوى، ويبخل الصانع بصناعته حتى يترك تعليم غيره، ويبخل الغني بماله حتى يهلك الفقير، وليس المراد وجود أصل الشح؛ لأنه لم يزل موجودًا، والمحفوظ في الروايات "يلُقّى" بضم أوله من الرباعي، ويحتمل أن يكون بفتح اللام وتشديد القاف، أي يتلقَّى ويتعلّم ويتواصى به، كما في قوله تعالى {وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص: 80]. قال الحُميدي: ولو قيل بالفاء مع التخفيف، لم يستقم، لانه لم يزل موجودًا قال في "الفتح" لو ثبتت الرواية بالفاء لكان مستقيمًا، والمعنى أنه يوجد كثيرًا مستفيضًا عند كل أحد، وقال القُرْطُبيُّ يجوز أن يكون يلقى، بتخفيف اللام والقاف، أي يترك، لأجل كثرة المال، وإفاضته حتى يهُمُّ ذو المال مَنْ يقبل صدقته. قال ابن أبي جَمْرة: يحتمل أن يكون القاء الشح عامًا في الاشخاص، والمحذور من ذلك ما تترتب عليه مفسدة، والشحيح شرعًا هو من يمنع ما وجب عليه، وامساك ذلك ممحق للمال، مذهب لبركته، ويؤيده "ما نقص مالٌ من صدقة" فإن أهل المعرفة فهموا منه أن المال الذي يخرج منه الحق الشرعي لا تلحقه آفة ولا عاهة، بل يحصل له النماء، ومن ثمَّ سميت الزكاة؛ لأن المال ينمو بها، وتحصل فيه البركة، واختلف في المراد بقوله: "وينقص العلم"، فقيل: المراد نقص علم كل عالم بأن يطرأ عليه النسيان مثلًا، وقيل: نقص العلم بموت أهله، فكلما مات عالم في بلد ولم يخلفه غيره نقص العلم من تلك البلدة، وأما نقص العمل فيحتمل أن يكون بالنسبة لكل فَرْدٍ فإن العالم إذا دهمته الخطوب ألهته عن أوراده وعبادته ويحتمل أن يراد به ظهور الخيانة في الأمانات والصناعات. قال ابن أبي جَمْرة: نقص العمل الحسين ينشأ عن نقص الدين

رجاله أربعة

ضرورةً، وأما المعنوي، فبحسب ما يدخل من الخلل بسبب سوء المطعم، وقلة المساعد على العمل، والنفس ميالة إلى الراحة، وتحن إلى جنسها، ولكثرة شياطين الإنس الذين هم أضر من شياطين الجن. رجاله أربعة: الأول: المكي بن إبراهيم بن بشير بن فرقد أبو السَّكْن، التميميّ الحَنْظليّ البَلْخِيّ، الحافظ. قال الدارقطنيّ: ثقة مأمون. وقال ابن مُعين: صالح، وقال العَجْليّ: ثقة. وقال أبو حاتم: محله الصدق. وقال عبد الصمد بن الفضل: سمعته يقول: حججت ستين حجه، وجاورت عشرين سنة وتزوجت ستين امرأة، وكتبت عن سبعة عشر نفسًا من التابعين، ولو علمت أن الناس يحتاجون إليَّ لما كتبت دون التابعين عن أحد. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال محمد بن عبد الوهاب الفراء: حدثنا مكي بن إبراهيم، الرجل الصالح، بنيسابور، وقال ابن سعد: قدم بغداد يريد الحج، فحج، ورجع، وحدث في ذهابه ورجوعه، وكان ثقة ثبتًا في الحديث. وقال الخليلي: ثقة متفق عليه، وأخطأ في حديثه عن مالك عن نافع عن ابن عمر في الصلاة على النجاشيّ، والصواب عن الزُّهْري عن سعيد ابن أبي هند، وأيمن بن نابل، ومالك وابن جُرَيح، وهشام بن حسان وغيرهم. روى عنه البخاريّ، وروى هو والباقون له، بواسطة. وروى عنه هارون الحمّال، وأحمد بن حنبل وابن مُعين، ويحيى بن يحيى النيسْابُورِيّ وخلق كثير. وآخر من روى عنه مَعْمر بن محمد بن معمر البلخِي. وليس في الستة مكي سواه، ومكيّ بالتشديد على وزن النسبة، وليس بنسبة، وإنما هو اسمه.

لطائف إسناده

الثاني: حنظلة بن أبي سفيان، وقد مر في الأول من كتاب الإيمان, ومر سالم بن عبد الله في السابع عشر منه أيضًا، ومر أبو هريرة في الثاني منه أيضًا. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والإخبار والسماع والعنعنة، وفي رواية الإسماعيليّ من طريق إسحاق بن سليمان الرَّازيّ عن حنظلة، قال: سمعت سالمًا، وزاد فيه "لا أدري كم رأيت أبا هريرة واقفًا في السوق يقول: يقبض العلم، فذكره موقوفًا" لكن ظهر في آخره أنه مرفوع، ورواته ما بين بَلْخِيّ ومكيّ ومدَني وإسناده رُباعي.

الحديث الثامن والعشرون

الحديث الثامن والعشرون حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ فَاطِمَةَ عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ وَهِىَ تُصَلِّي فَقُلْتُ: مَا شَأْنُ النَّاسِ فَأَشَارَتْ إِلَى السَّمَاءِ، فَإِذَا النَّاسُ قِيَامٌ، فَقَالَتْ: سُبْحَانَ اللَّهِ. قُلْتُ آيَةٌ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا، أَىْ نَعَمْ، فَقُمْتُ حَتَّى تَجَلاَّنِى الْغَشْيُ، فَجَعَلْتُ أَصُبُّ عَلَى رَأْسِي الْمَاءَ، فَحَمِدَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "مَا مِنْ شَيْءٍ لَمْ أَكُنْ أُرِيتُهُ إِلاَّ رَأَيْتُهُ فِى مَقَامِي حَتَّى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، فَأُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِى قُبُورِكُمْ، مِثْلَ -أَوْ قَرِيبًا لاَ أَدْرِى أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ- مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، يُقَالُ مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ -أَوِ الْمُوقِنُ لاَ أَدْرِي بِأَيِّهِمَا قَالَتْ أَسْمَاءُ- فَيَقُولُ هُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، فَأَجَبْنَا وَاتَّبَعْنَا، هُوَ مُحَمَّدٌ. ثَلاَثًا، فَيُقَالُ ثمْ صَالِحًا، قَدْ عَلِمْنَا إِنْ كُنْتَ لَمُوقِنًا بِهِ، وَأَمَّا الْمُنَافِقُ -أَوِ الْمُرْتَابُ لاَ أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ- فَيَقُولُ لاَ أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ". قوله: "فقلت ما شأن الناس" أي: لما رأيت من اضطرابهم وفزعهم وقوله: "فأشارت" أي عائشة إلى السماء، أي انكسفت الشمس. قوله: "فإذا الناس قيام"، أي كأنها التفتت من حُجْرة عائشة إلى من في المسجد، فوجدتهم قيامًا في صلاة الكسوف، ففيه إطلاق الناس على البعض. وقوله: "فقالت سبحان الله" أي أشارت قائلة: سبحان الله. وقوله: "فقلت آية" هو بالرفم خبر مبتدأ محذوف أي: هذه آية، أي علامة لعذاب الناس؛ لأنها مقدمة له قال تعالى {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الِإسراء: 59]. أو علامة لقرب زمان قيام الساعة.

وقوله: "حتى علانى كذا" للأكثر بالعين المهملة، وتخفيف اللام، من علوت الرجل غلبته، ولكريمة "تجلاني" بمثناة وجيم ولام مشددة، وجلال الشيء ما غطي به، والغَشْي، بفتح الغين وسكون الشين المعجمتين وتخفيف الياء، وبكسر الشين وتشديد الياء، بمعنى الغشاوة وهي الغطاء، وأصله مرض معروف، يحصل بطول القيام في الحر ونحوه، وهو طرف من الإغماء. والمراد هنا الحالة القريبة منه فأطلقته مجازًا، ولهذا قالت: "فجعلتُ أصب على رأسي الماء في تلك الحالة ليذهب" ووهم من قال: إن صبها كان بعد الصلاة، ولو كان شديدًا، لكان كالإغماء، وهو ينقض الوضوء بإجماع، وكونها كانت تتولى صب الماء عليها، يدل على أنَّ حواسها كانت مدركة، وذلك لا ينقض الوضوء. ومحل الاستدلال بفعلها من جهة أنها كانت تصلي خلف النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان يرى الذي خلفه في الصلاة، ولم ينقل أنه أنكر عليها. وقوله: "وأثنى عليه" عطف على "حمد" من باب عطف العام على الخاص؛ لأن الثناء أعم من الحمد والشكر والمدح، وقوله: "لم أكن أُريته" بضم الهمزة، أي مما تصح رؤيته عقلًا كرؤية الباري، ويليق عرفًا مما يتعلق بأمر الدين وغيره، وقوله: "ألا رأيته" أي: رؤية عين حقيقية، وقوله: "في مقامي" حال، أي: حال كوني في مقامي، بفتح الميم الأولى، وكسر الثانية. وفي رواية الكَشْمَيهْنيّ والحَمَويّ زيادة "هذا" خبر مبتدأ محذوف، أي وهو هذا، ويؤول بالمشار إليه، والاستئناء مفرغ متصل، فتلغى فيه إلا من حيث العمل لا من حيث المعنى، كسائر الحروف، نحو ما جاءني إلا زيدٌ، وما رأيت إلا زيدًا، وما مررت إلا بزيدٍ. وقوله: "حتى الجنة والنار" رويت بالحركات الثلاث فيهما: (1) بالرفع على أن حتى ابتدائية والجنة مبتدأ محذوف الخبر، أي حتى الجنة مرئية، والنار عطف عليه (2).

والنصب على أنها عاطفة، عطفت الجنة على الضمير المنصوب في رأيته (3). والجر على أنها جارة، واستشكل الدماميني الجر بأنه لا وجه له إلا العطف على المجرور المتقدم، وهو ممنوع لما يلزم عليه من زيادة من مع المعرفة، والصحيح منعه. قلت: هكذا نقله القَسْطَلانيّ، ولم أفهم وجه قوله: "إن الجر لا وجه له إلا العطف على المجرور"، فإن الجر غير العطف، ولا يشترط فيه أن يكون قبله مجرور يعطف عليه، بل هي في حالة الجر لانتهاء الغاية. فالجنة والنار هما انتهاء غاية الرؤية، فهي مثل قوله تعالى {لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} [يوسف: 35] فلا فرق بين هذه الآية والحديث. وقد مر في حديث كُفران العَشير في الإيمان استيفاء الكلام على رؤيته، عليه الصلاة والسلام، للجنة والنار. وقوله: "فأُوحي إليَّ أَنكم" بضم همزة أوحي وكسر الحاء وفتح همزة أن، نائب عن الفاعل، وقوله: "تُفْتَنون" أي تُمْتَحَنون وتُخْتَبَرون. وقوله: "مثل أو قريبًا" بترك التنوين في الأول وإثباته في الثاني. وتوجيهه أن اصله مثل فتنة الدَّجال، أو قريبًا من فتنة "الدجال" فحذف ما أضيف إليه "مثل" وترك "مثل" على حاله قبل الحذف، وجاز الحذف لدلالة ما بعده عليه، وهذا كقول الشاعر: عَلَّقْتُ آمالي فَعَمّتِ النِّعَمْ ... بمثلِ أو أنفعَ من وبلِ الدِّيَمْ وتمثيله في الفتح بقول الشاعر: بين ذِراعي وجَبْهَة الأسَدِ وبقول الآخر: أمامَ وخلفَ المرِء من لُطفِ ربه الخ ليس في محله؛ لأن ما ذكره من باب قول ابن مالك: ويحذَف الثاني ويبقى الأولُ ... كحاله إذا به يَتَّصِلُ بشرطِ عطفٍ وإضافةٍ إلى ... مثل الذي له أضفت الأولَّ

وهذا المعنى ليس في الحديث، والذي في الحديث هو إعمال المعطوف في مثل ما أضيف إليه الأول: وهو يبقى فيه الأول على حاله كما مر في بيت الشاعر مشابه لما ذكره ابن مالك. وفي رواية بترك التنوين في الثاني أيضًا، وتوجيهه أنه مضافٌ إلى فتنة أيضا، وإظهار حرف الجر بين المضاف والمضاف إليه جائزٌ عند قوم. وقوله: "لا أدري"، أيّ ذلك قالت أسماء: "جملة معترضة بين العامل ومعموله"، مؤكدة لمعنى الشك المستفاد من كلمة. أو بين بها الراوي أن الشك منه هل قالت أسماء "مثل" أو قالت "قريبًا"؟ وأيّ: مرفوع بالابتداء، والخبر "قالت أسماء". وضمير المفعول محذوف، أي، قالته. وفعل الدراية معلق بالاستفهام؛ لأنه من أفعال القلوب. وروي "أيَّ" بالنصب مفعولًا لأدري إن جُعِلت موصولة، أو"لقالت" إن جُعلت استفهامية أو موصولة. وقوله: "من فتنة المسيح الدَّجَّال" المسيح بالحاء المهملة، سمي بذلك لمسحه الأرض، أو لأنه ممسوح العين. والدجَّال على وزن فَعَّال من الدجل، وهو الكذب والتمويه، وخلط الحق بالباطل، وهو كذّاب مَمَوِّه خلّاط. وقيل: سمي بذلك لأنه يغطي الأرض بالجمع الكثير، مثل دجلة تغطي الأرض بمائها، والدَّجَل التغطية. يقال دَجَل فلان الحق بباطله، أي: غطاه. وقوله: "يقال له ما علمك" مبتدأ وخبر. والخطاب فيه للمقبور، بدليل قوله "إنكم تفتنون في قبوركم" ولكنّه عدل عن خطاب الجمع، إلى خطاب المفرد؛ لأن السؤال عن العلم يكون لكل واحد بانفراده واستقلاله، وكذا الجواب. وقوله: "بهذا الرجل" أي: النبي، صلى الله تعالى عليه وسلم، ولم يعبّر بضمير المتكلم، بأن يقول ما علمك بي؛ لأنه حكاية قول المَلكَيْن، ولم يقل رسول الله، صلى الله تعالى عليه وسلم؛ لأنه يصير تَلْقِيْنًا لحجته، فيعظمه تقليدًا لهما لا اعتقادًا.

وقوله: "فأما المؤمن أو المُوقن" أي: المصدق بنبَّوته، صلى الله تعالى عليه وسلم، وقوله: "لا أدري بأيهما قالت أسماء" أي: بجر أيهما بالباء، وفي رواية الأربعة، لا أدري أيها المؤمن أو الموقن، وقوله: "قالت أسماء" والشك من فاطمة بنت المنذر. وقوله: "فيقول"، الفاء فيه جواب، إما لما في إما من معنى الشرط. وقوله: "جاءنا بالبينات" أي: بالمعجزات الدالة على نبوته. وقوله: "والهدي" أي الدلالة الموصلة إلى البغية، وقوله: "فأجبنا واتبعنا" وفي رواية أبي ذَرِّ "فأجبناه واتبعناه" بالهاء فيهما، فحذف ضمير المفعول في الرواية الأولى، للعلم به أي: قبلنا نبوته، معتقدين مصدقين، واتبعناه فيما جاء به إلينا. أو الإجابة تتعلق بالعلم، والاتباع بالعمل. وقوله: "هو محمد ثلاثًا" أي: ثلاث مرات. وقوله: "ثم صالحًا، أي: حال كونك صالحًا، أي: منتفعا بأعمالك، إذ الصلاح كون الشيء في حد الانتفاع. وقوله: "قد علمنا إن كنت لموقنًا" بكسر همزة إن، أي الشأن كنت لموقنًا، أي: أنت موقن كقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: 11] أي: أنتم، أو تبقى على بابها. قال القاضي، وهو الأظهر، واللام في قوله "لموقنا" عند البصريين للفرق بين إن المخففة وإن النافية. وأما الكوفيون، فإن عندهم بمعنى ما، والسلام بمعنى إلاَّ، كقوله تعالى {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)} [الطارق: 4]. أي: ما كل نفس إلا عليها حافظ والتقدير: ما كنت إلا موقنًا. وحكى السَّفاقسي فتح همزة أن على جعلها مصدرية، أي: علمنا كونك موقنًا به. وردَّه بدخول اللام، وتعقبه الدَّمامينيُّ قائلًا: إنما تكون اللام مانعة، إذا جعلت لام الابتداء على رأي سيبويه ومن تبعه. وأما على رأي الفارسيّ ومن وافقه، إنها لامٌ غير لام الابتداء، اجتلبت للفرق، فيسوغ الفتح، بل يتعين حينئذ، لوجود المقتضي، وانتفاء المانع.

وقوله: "واما المنافق" أي غير المصدق بقلبه لنبوته. وقوله: "أو المرتاب" أي الشَّاكّ. وقوله: "سمعتُ الناس يقولون شيئًا فقلته" أي: قلت ما كان الناس يقولونه، وفي رواية، وذكر الحديث، أي الآتي في الجنائز، وهو فيقال: "لا دريت ولا تليت، ويضرب بمفارق من حديد ضربةً، فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين". وقوله: "ولا تلَيت" أصله لا تَلَوت، أي: لا فهمتَ، ولا قرأت القرآن أو المعنى لا دريتَ ولا اتبعتَ من يدري. وإنما قاله بالياء لمؤاخاة "دريت" وروي لا دريت ولا أتليت، بزيادة همزة قبل المثناة، بوزن افتعلت، من قولهم ما ألوت، أي: لا دريت، ولا استطعت أن تدري، حُكِيَ عن الأصمعي، وبه جزم الخطابيّ. وقال الأزهريّ: الألْوُيكون بمعنى الجهد، وبمعنى التقصير، وبمعنى الاستطاعة وحُكي عن يونس بن حبيب أن الصواب في الرواية "لا دريت ولا أتليت" بزيادة ألف وتسكين المثناه. كأنه يدعو عليه بأن لا يكون له من يتبعه، وهو من الإتلاء، يقال: ما أتْلت ابله، أي: لم تلد أولادًا يتبعونها، وعند أحمد من حديث أبي سعيد "لا دريتَ ولا اهديت" وعند عبد الرزاق "لا دريت ولا أفلحت". وقوله: "بمطارق من حديد" وفي رواية "بمطرقة" بالإفراد. والجمع مؤذنٌ بأن كل جزء من أجزاء تلك المطرقة مطرقة برأسها مبالغة وفي حديث أبي هريرة عند عبد الرزاق "معهما مِرْزَيَّةٌ لو اجتمع عليها أهل مني لم يقلوها" وفي حديث البراء "لو ضرب بها جبل لصار ترابًا" وفي حديث أسماء "ويسلط عليه دابة في قبره معها سوطٌ ثمرته جمرة مثل غَرْبِ البعير، تضربه ما شاء الله، صماء لا تسمعه فترحمه" وفي حديث أبي سعيد وأبي هريرة وعائشة زيادة "ثم يفتح له باب إلى الجنة، فيقال له: هذا منزلك، لو آمنت بربك، فأما إذا كفرت، فإن الله أبدلك هذا، ويفتح له باب إلى النار، فيزداد حسرة وثبورًا، ويُضيَّق عليه قبره حتى تختلفَ أضلاعه". وفي حديث البراء "فينادي مناد من السماء": افرشؤ من النار، وألبسوه

من النار، وافتحوا له بابًا إلى النار، فيأتيه من حرها وسَمُومها". ومرَّ في الحديث أن المؤمن يقال له: "نم صالحًا". وفي حديث أبي سعيد، فيقال له: "نم نومَة عَروس، فيكون في أحلى نومة نامها أحد حتى يُبْعث" وللتِّرْمِذيّ عن أبي هريرة، ويقال له: "نم فينام نومة العروس، الذي لا يوقظه إلا أحبّ أهله إليه، حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك". ولابن حِبان وابن ماجةَ في أبي هريرة، وأحمد عن عائشة، ويقال له: "على اليقين كنت، وعليه متَّ، وعليه تبعث إن شاء الله" وفي الحديث "فيقال له انظر إلى مقعدك من النار، قد أبدلك الله به مقعدًا من الجنة، فيراهما جميعًا" وفي رواية أبي داود "فيقال له: هذا بيتك كان في النار، ولكن الله، عَزَّ وَجَلَّ، عصمك، ورحمك، فأبدلك الله به بيتًا في الجنة، فيقول: دعوني حتى أذهب فابشّر أهلي، فيقال له: اسكت". وعند أحمد عن أبي سعيد "كان هذا منزلك لو كفرت بربك"، ولابن ماجة عن أبي هريرة، بإسناد صحيح، فيقال له "هل رأيت الله فيقول: ما ينبغي لأحد أن يرى الله، فتفرج له فرْجة قِبَل النار، فينظر إليها يحطم بعضها بعضًا، فيقال له: انظر إلى ما وقاك الله" وفي الحديث، أي حديث البخاريّ، في الجنائز، "فيفسح له في قبره" زاد مسلم "سبعين ذراعًا، ويملأ خضرا إلى يوم يبعثون" وللتَّرْمِذِيّ وابن حبان عن أبي هريرة "فيفسح له في قبره سبعين ذراعًا" زاد ابن حبان "في سبعين" وله من وجه آخر عن أبي هريرة "ويُرَحَّب له في قبره سبعون ذراعًا، وينور له كالقمر ليلة البدر" وفي حديث البراء الطويل "فينادي منادٍ من السماء: إن صدق عبدي فافرشوه من الجنة، وافتحوا له بابًا في الجنه، وألبسوه من الجنة. قال: فيأتيه من رُوْحها وطيبها، ويفسح له فيها مدَّ بصره"، زاد ابن حِبان عن أبي هريرة "فيزداد غِبطة وسرورًا، فيعاد الجلد إلى ما بدا منه، وتجعل روحه في نسَم طائر يعلق في شجر الجنة". وقوله: سابقًا في الحديث "يسمعها من يليه" قال المُهَلّب: المراد

الملائكة الذين يلون فتنته، كذا قال. ولا وجه لتخصيصه بالملائكة، فقد ثبت أن البهائم تسمعه. وفي حديث البراء "يسمعه من بين المشرق والمغرب كلهم" وفي حديث أبي سعيد عند أحمد "يسمعه خلق الله غير الثقلين" وهذا يدخل فيه الحيوان والجماد، لكن يمكن أن يخص منه الجماد، ويؤيده أن في حديث أبي هريرة عند البزَّار "يسمعه كل دابة إلا الثقلين" والمراد بالثقلين الإنس والجن، قيل لهم ذلك، لألهم كالثَّقل على وجه الأرض. قال المُهَلّب: الحكمة في أن الله يسمع الجن قول الميت: قَدِّموني ولا يُسمعهم صوته إذا عُذِّب أن كلامه قبل الدفن متعلق بأحكام الدنيا، وصوته إذا عُذِّب في القبر متعلق بأحكام الآخرة. وقد أخفى الله على المكلفين أحوال الآخرة، إلا من شاء الله، إبقاء عليهم. وفي الحديث المذكور "اتاه ملكان، فَيُقعدانه" زاد ابن حِبان والتِّرمِذِيّ "أسودان أزرقان، يقال لأحدهما المُنْكر وللآخر النَّكير" وفي رواية ابن حبان "يقال لهما مُنكر ونِكيْر، وزادَ الطَّبراني في الأوسَطِ عَنْ أبي هُريَرة "أعْيَنهُما مِثْلَ قُدور النَّحاس وأنيابُهما مِثل صياصي البقَرِ وأصْواتهُما مِثْل الرَّعْد" ونَحَوْهِ لَعِبد الرَّزاقِ من مُرسَل عَمْرُو بنُ دينار، وزادَ يحفران بأنيابهما ويَطئان في أشعارهما، معَهما مِرَزَّبة لو اجتمع عَليها أهلُ منىً لم يقلُّوِهَا" وزادَ ابن حبان بَعد قولهِ "فَيُقْعِدانِه" عن أبي هريرة "فإذا كانَ مُؤمنًا كانَتْ الصَلاةُ عندَ رأسْه، والزَّكاةُ عنْ يمينهِ والصَّومُ عن شمالهِ وفِعلِ المعروفِ من قِبَلِ رِجْليه، فَيقالُ لَه: اجْلِسْ فَيجْلسِ، وقْد مثُلَت له الشَّمسُ عند الغُروب" زاد ابن حبان من حديث جابر "فيجلس فيمْسحُ عينيه ويقولُ: دعوني أُصلي. وقد اختُلفَ في سؤالِ الميّت هل يقعُ على البدَنِ أو الرَّوح أو عليهما جميعًا؟ فقد قال ابن جريرٍ وجماعة من الكرَّامية: إنَّ السؤال في القبر يقعُ على البدن فقط وأنَّ الله يخلْقُ فيه إدراكًا بحيثُ يسمعُ ويعلمُ ويلَذُّ ويألم

وذهب ابن حزْمٍ وابن هُبيرْةَ إلى أن السؤال يقعُ على الروّح فقط من غير عودٍ الىِ الجسد وخالفهم الجمهور وقالوا: تُعاد الرّوحُ إلى الجسدِ أو بَعْضه كما ثبت في الحديث ولو كان على الرَّوحِ فقط لم يكن للبدن بذلك اختصاص. ففي حديث البراء الطويل، أخرجَهُ أصحابُ السُّنن وصححهُ أبو عُوانة "فترَدُّ رُوحُهُ في جَسَدِه فيأتيهِ ملكان فَيُجلسانِه" وفيه أن الكافرَ تُعادُ روحُهُ في جَسده فيأتيه ملكان فيجلسانِه الخ. ولا يمْنع من ذلك كوْن الميتِ، قد تتفرق أجزاؤهُ؛ لأن الله تعالى قادر على أن يعيد الحياة إلى جزء من البدن، ويقع عليه السؤال، كما هو قادر على أنْ يجمع أجزاءهُ. والحامل للقائلين إن السؤالَ يقعُ على الرُّوح فقط، أنَّ الميتَ قد يشاهَد في قبره حالَ المسَألةِ لا أثرَ فيه مِنْ إقعادٍ وغيره ولا ضيق في قبَرْهِ ولا سعَة. وكذلك غير المقبور كالمَصْلوب، وجوابُهُم أنَّ ذلك غيرَ ممُتنع في القُدرة بل لهُ نظيْر في العادة، وهوَ النَّائِمْ فإنَّه يجد لذةً وألمًا لا يُدْرِكهُ جُلَيسُه، بل اليقظانُ قَدْ يدركُ ألمًا أو لذةً لما يَسْمَعُهُ أو يُفكِرْ فيه، ولا يُدرِكُ ذلك جليسهُ، وإنما أتى الغَلطُ من قياس الغائب على الشاهِدِ، وأحوالِ ما بعد الموتِ عَلى ما قبلْهَ، والظاهر أنَ الله تعَالى صرَفَ أبصار العباد وأسماعهُم عن مشاهدة ذلك، وسترهُ عنهم إبقاءً عليهم، لئِلا يتدافنوا. وليست للجوارحِ الدُّنيوية قُدرَةٌ على إدراك أمورٍ الملكوتِ إلا من شاء الله، وقد ثبَتَت الأحاديثُ بما ذَهب إليه الجمهُور كقوله عليه الصلاة والسلام "إنَّهُ لَيْسَمُع خَفْقَ نِعالهمِ" وقوله: "تَخْتَلفُ أضلاعُهُ" لضَمَّة القَبْر، وقوله: "يسمعُ صوته" إذا ضُرِبَ بالمطرقةِ وقوله "يُضْرَبُ بَين أَذُنَيه وقوله: فَيُقْعِدانه" وكلَّ ذلك من صفات الأجسادْ وَذهب أبو الهُذَيْلِ ومن تبعَهُ إلى أنّ الميتَ لا يشعُرُ بالتَّعذيب، ولا بِغَيْره إلا بيْن النَّفخْتَين. قالوا: وحالهُ كَحال النَّائمِ والمَغْشّي عليه، لا يُحِسُ بالضرب، ولا بِغَيْرِه إلا بعَد الإفاقَة. والأحاديثُ الثّابتة في السؤال حالة تولي أصحاب الميت عنه ترُدُّ عليهم، واختُلِفَ في الكافرِ غيرُ المنافِق، هل يُسألُ أم لا؟ فالذي دَلَّت عليه

رواياتُ الحديثِ أنهُ يُسأَلُ، وهي رادّةٌ على من زعم أنَّ السؤالَ إنما يقع على من يدعي الإيمان إنْ مُحِقًا وإنْ مُبْطلًا. ومُسَتَندُهمُ في ذلك ما رواهُ عبد الرّزاقِ عن عُبيد بن عمير أحدِ كبار التابعين، قال: إنما يُفَتَنُ رَجُلانِ مُؤمن ومُنافق، وأما الكافرُ فلا يُسأل عن محمدٍ ولا يُعرفه، وهِذا موقوف، والاحاديث الناصة على أن الكافرَ يسأل مرفوعَةٌ، مع كثرة طُرُقها الصحيحة، فهي أولى بالقبول. وجَزم التّرْمِذِيُّ الحكَيمُ بأنَّ الكافرَ يُسأَلْ، وقد مال ابنُ عبد البَّرِ إلى الأولِ، وقال: الآثارُ تدُلُ على أنَّ الفتْنَة لمن كان منسوبًا إلى أهل القبلة , وأما الكافرُ الجاحِدُ فلا يُسألُ عَن دينهِ. وتعقَّبه بَعضُهُم قائِلًا: إنَّ في الكتاب والسُّنة دليلًا على أن السؤال يقعُ للكافِر والمُسلم. قال الله تعالى {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم: 27]. وفي حديث أنسٍ في البخاري: "وأما المُنافقُ والكافرُ"، بواوِ العطَفْ. وفي حديث أبي سعيد "فإنْ كان مُؤْمنًا فذِكّرهُ" وفيه "وإنْ كان كافرًا". وفي حديث البَرَّاءِ أنَ الكافِرَ إذا كان في انقطِاعٍ من الدُّنيا فَذَكّرهُ، وفيه: "فَيَأْتيه مُنكرٌ ونكير الحديث" أخرجه أحمد هكذا قال، وأما قولُ أبي عمَر، "فَأَما الكافرُ الجاحدُ فليسَ ممن يُسأَلُ عن دينِه فَجوابُه أنه نَفْي بلا دَليل، بل في الكتاب العزيز الدَّلالةُ على أنَ الكافِرَ يُسأَلُ عن دينه. قال الله تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 6]. وقال تعالى {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 92]، لكنّ للنافي أن يقول: إنّ هذا السؤال يكون يومَ القيامَة، قُلتُ: وهذا الاحتمالُ هو الظاهر. وقد مَرَّ إتيان البُخاري بهذه الآية مع قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72]، وهذا دالٌ على أنَّ الُمرادَ بذلك الآخرة واخْتُلِفَ في الطفل غَير المُمَيزِ، هل يُسأَلُ؟ فَجَزَم القُرْطِبيّ

في التّذْكِرِة بَأَنهُ يُسأَلُ، وهو منقوَل عن الحنفية، وجزم غير واحدٍ من الشافعية بأنه لا يُسأل، ومن ثَمَّ قالوا: لا يُستحبُّ أن يُلَقَّنْ واختلِف أيضًا في النبي هل يُسألُ؟ وأَما الملَكُ فلَا يَعْرفُ أحدٌ ذِكْرَهَ والذي يَظْهر أنَّه لا يُسأَلُ، لأنَّ السُؤالَ يختصَ بمنَ شَأنْهُ أنْ يفُتن. والمُسالةُ واقعةٌ على كل أَحدٍ كما مَرَّ. وهل تختْصُّ بهذه الأمة أو وَقَعت على الأممَ قبلها؟ ظاهرُ الأحاديث الأولُ، وبهِ جَزَمَ الحكيمُ التِّرِمِذي، وقال: كانت الأُمم قبلَ هذه الأُمةِ تأتيهمُ الرُّسلُ فإن أطاعوا فذاك، وإنْ أبَوا اعتزلوهم وعوجلوا بالعَذابْ، فلما أرسل اِلله محمدًا رحمة للعالمين أمسكَ عنهمُ العذابَ، وقبل الإِسلام ممَّن أظْهَرَهُ سواءٌ سَرّ الكُفْر أم لا، فلَما ماتوا قيَّض لله فَتَّانَيْ القبر لَيْستخِرجَ سرَّهُم بالسُّؤالِ، وليَميزَ الله الخَبيثَ من الطَّيب، ويُثَبّتَ الله الذين آمنوا ويضُلُّ الله الظالمين. ويؤيّدُه حديثُ زَيدٍ بن ثابت مرْفوعًا "إن هذه الأُمةَ تُبْتلَى في قبورها" الحديث ... ، أخرجهُ مسلم، ويُؤيْدهُ أيضًا قولُ الملكين: ما تقولُ في هذا الرَّجل مُحمد؟ وحديثُ عائشة عند أحمدٍ أيضًا بلفظِ "وأما فِتْنة القبَّر: فبي تُفْتنونُ، وعَنّي تُسأَلون" وجَنحِ ابن القيم إلى الثاني، وقال: ليسَ في الأحاديث ما يَنفي المسألة عمنَّ تقَدَّم من الأمم، وإنّما أخبرَ النّبي صلى الله تعالى عليه وسلم، أمته بكيفية امتحانِهم في القُبورِ لا أنَّه نفي ذلك عن غَيرهم، قال: والذي يَظهَرُ أنَّ كلَّ نبي مع أمَتَّهِ كذلك فتَعَذَّبَ كفُارهِم في قُبورهمِ بعَد سُؤالهَم وإقامة الحُجُّةَ عليهم، كما يعَذبَّون في الآخرة بعد السؤال وإقامة الحُجة. وحُكي في مسألة: الأطفالِ احتمالا، والظاهرَ أنَّ ذلك لا يمتنع في حقّ المميّز دُون غَيره، قلت: وقَد مَر أن غيرَ الممَيّز فيه خِلافٌ، والظّاهرُ عندي ما جَزَم به الحكيمُ الترْمِذِيّ من اختصاص السُّؤال بهذه الأُمة، لما ذكرَ من الأدلة الظاهرةِ في اختصاصه بها، بل الصريحة كقوله في حديث زيد بن ثابت "إن هذه الأمة تُبلى في قبورها"، وما قاله ابن القَيّم إنّما هُو استظُهارٌ مِنْ نَفْسه، لمْ يأتِ عليه بلدليل، وهذا المَنْزَعُ مما لا مجالَ للرّأي فيه.

رجاله ستة

وفي الحديث إثبات عَذاب القبر وأنَّه واقع على الكفار، ومن شاءَ الله من المُوَحدّين، وفيه ذَمُّ التقلْيد في الاعتقاد لمُعاقبة من قال: كنُتُ أسمُع الناسَ يَقولون شيئًا فَقَلُتْهُ، وفَيه أنَّ الميتَ يُحيا في قَبرِهِ للِمسَألةِ خِلافًا لمِنْ رَدَّهُ، واحتَج بقوله تعالى {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11] قال: فلو كانَ يُحيا في قَبْرهِ لَلِزمَ أنْ يُحيا ثَلاثَ مَراتٍ ويَموتَ ثلاثَ مرات، وهوَ خلافُ النص. والجَوابُ بأنَّ المُرادَ بالحياةِ في القَبر للمسَاءلَةِ، ليست الحياة المُستَقَرَّةَ المَعْهودَة في الدُّنيا التي تقوُم فيها الرُّوح بالبدَنِ، وتدبيرِه وتَصَرِفه وتَحْتَاجُ إلى ما يحتاجُ إليه الأحياءُ، بلْ هي مجردُ إعادةٍ لفائدةِ الامتحانِ الذي وردت به الأحاديث الصَّحيحة، فهي إعادةٌ عارضةٌ كما حيَّى خلق لكثير من الأنبياء لمساءلَتهم لهم عن أشياءَ ثم عادوا مَوتى. رجالُهُ ستةٌ، الأَولُ: موسى بنُ إسماعيلَ وقد مر في الخامس من بَدْء الوَحْي، ومرَّ وهيبُ بن خالد في تعليقٍ بعد الخَامس عشرَ من كتاب الإيمان، ومَرَّ هشامُ بنُ عُرْوةَ وعائِشةَ أمُ المؤُمنيَن في الثَّاني من بَدْءِ الوَحْي. الخامِسَ: فاطمة بنتُ المُنذرِ بنُ الزُّبير بنُ العَوام، وهي زوجة هشام ابنُ عُرَوة، وبنتُ عَمه، الأَسدية المدَنيّة. ذكُرها ابنُ حبانَ في الثّقات، قالَ العَجْلِي: مَدَنية تابعِيَّة ثقَة، روت عن جَدَّتِها أسماء بنتْ أبي بكر وأم سلَمة زوجُ النبي صلى اَلله عليه وسلم، وعَمْرَة بنت عبد الرحمن، وروى عنها زوجها هشام بن عُروة، ومحمد بن سُوقة، ومحمد بن إسماعيل بن يسَار. قال هشام بن عروة: كانت أكبر مني بثلاث عشرة سنة، فيكون مولدها سنة ثمان واربعين. السادس: أسماء بنت أبي بكر الصديق، زوج الزّبير بن العوام، شقيقة عبد الله بن أبي بكر، أمهما قُتَيْلَة أو قَتْلَة بنت عبد العزّى قُرَشيّة من بني عامر بن لؤي، وعائشة وعبد الرحمن شقيقان أمهما أم رَوْمان، ولدت قبل الهجرة بسبع وعشرين سنة، وأسلمت قديمًا بعد سبعة عشر نفسًا، وتزوجها الزبير بن العوّام، وهاجرت وهي حامل منه بولدها عبد الله،

فوضعته بقُباء، وعاشت إلى أن ولي ابنها الخلافة، ثم إلى أن قتل، وماتت بعده بقليل. وكانت تلقب بذات النَّطاقين، سماها النبي صلى الله عليه وسلم، بذلك؛ لأنها هيأت له لما أراد الهجرة سُفْرة فاحتاجت إلى ما تشدها به، فشقت خمارها نصفين، فشدت بنصفه السفرة واتخذت النصف الآخر نطاقًا. هكذا قال ابن إسحاق. وروت فاطمة بنت المُنذر عنها إنها قالت: صنعت سفرة للنبي صلى الله عليه وسلم في بيت أبي بكر حين أراد السفر، فلم نجد لسفرته ولا لسقائه ما نربطهما به، فقلت لأبي بكر: ما أجد إلا نطاقي، فقال: شقيه باثنين واربطي بواحد منهما السقاء، وبالآخر السفرة، وقال الزبير بن بكار: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: أبدلك الله بنطاقك هذا نطاقين في الجنة، فقيل لها: ذات النطاقين. وروى ابن عبد البَرّ أنها قالت للحجّاج لما عَيَّر ابنها عبد الله بذات النطاقين: كيف تعيره بذلك، وقد كان لي نطاق أغطي به طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم، من النمل، ونطاقٌ لابد للنساء منه. ولما بلغ ابن الزبير أنه يعيّره بابن ذات النطاقين، انشد قول (أبي ذؤيب) الهُذَليّ متمثلا به: وعَيّرها الواشون أني أُحبها ... وِتلك شَكَاةٌ ظاهر عنك عارهُا فإنْ اعتذر منها فإني مكَذَّب ... وإن تعتذرْ يُرْدَدْ عليك اعتذارها ولما قتل ابنها وصلب، دخلت على الحجاج، وهي عجوز مكفوفة البصر، فقالت له أما آن لهذا الراكب أن ينزل قال لها: المنافق؟ قالت: لا، والله ما كان منافقًا، وقد كان صوَّامًا قوّامًا. قال: اذهبي، فإنك عجوز قد خَرِفت فقالت: لا والله ما خرفت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "يخرج في ثقيف كَذّاب ومُبِير"، فأما الكذّاب فقد رأيناه، وأما المُبير فهو أنت فقال الحجاج: منه المنافقون. وكانت رضي الله عنها، تُصْدع فتضع يدها على رأسها، وتقول:

لطائف إسناده

بذنبي وما يغفر الله أكثر، روُي عنها. "قالت: تزوجني الزبير وما له في الأرض مال ولا مملوك ولا شيء غير فرسه، قالت: فكنت أعلف فوسه، وأكفيه مؤنته، وأسوسه، وأدق النّوى لنا ضحه. وكنت أنقل النّوى من أرض الزبير ... "، الحديث، وفيه "حتى أرسل إليَّ أبو بكر خادمًا، فكانت تَقُوم عني بالفرس". روي لها عن النبي صلى الله عليه وسلم ستة وخمسون حديثًا، انفرد البخاري بأربعة، ومسلم بمثلها، واتفقا على أربعة عشر. روى عنها ابناها عبد الله وعُروة، وأحفادها عَبّاد بن عبد الله، وعبد الله بن عُرْوة وفاطمة بنت المنذر، وعبّاد بن حمْزة بن عبد الله بن الزبير، ومولاها عبد الله بن كيْسان، ابن عباس، وصَفّية بنت شَيْبة، وابن أبي مُلَيْكَة، وغيرهم. بلغت مئة سنة، لم تسقط لها سن، ولم ينكر لها عقل، كانت تمرض المرضة، وتعتق كل مملوك لها. توفيت بمكة سنة ثلاث وسبعين، وهي آخر المهاجرات موتًا. واختلف في مكثها بعد ابنها عبد الله، قيل: إنها عاشت بعده عشر ليال، وقيل عشرين ليلة، وقيل بضعا وعشرين يومًا حتى أتى جواب عبد الملك بإنزال ابنها من الخشبة. وفي اسد الغابة ان الزبير طلقها فكانت عند ابنها عبد الله. واختلف في سبب طلاقها، فقيل: إن عبد الله قال له: مثلي لا توطأ أمه فطلقها، وقيل: لكبر سنها، وقيل: إن الزبير ضربها، فصاحت بابنها عبد الله، فأقبل إليها، فلما رآه أبوه، قال: أمك طالق إن دخلت فقال عبد الله: أتجعل أُمي عرضة ليمينك، فدخل فخلّصها منه، فبانت منه. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة، وفيه رواية تابعيّ عن تابعية عن صحابية مع ذكر صحابية أخرى ورواته ما بين بصريّ ومدنيّ. أخرجه البخاري هنا، وفي الطهارة عن إسماعيل، وفي الكسوف عن عبد الله بن يوسف، وفي الاعتصام عن القعْنَبِي، وفي كتاب الجمعة في باب "من قال في الخطبة: أما بعد" , عن محمود، وفي باب الكسوف عن أبي

باب تحريض النبي صلى الله عليه وسلم وقد عبد القيس على أن يحفظوا الإيمان والعلم ويخبروا من وارءهم

أسامة، وفي كتاب السّهو عن يحيى بن سليمان مختصرًا، وفيه أيضًا، مختصرًا عن الربيع بن يحيى، وفيه أيضًا مختصرًا، عن الداروردي، ومسلم في الخسوف عن أبي كَرِيب وغيره ثم قال المصنف. باب تحريض النبي صلى الله عليه وسلم وقد عبد القيس على أن يحفظوا الإيمان والعلم ويخبروا من وارءهم. التحريض: الحث، وعبد القيس القبيلة المشهورة، وعطف العلم على الإيمان من باب عطف العام على الخاص، لما ذكر في الحديث من العلم الزائد على الإيمان، والتحُريض بالضاد المعجمة، ومن قاله بالمهملة، فقد صحّف. ومن قال: إن المهمل بمعنى المعجم، عليه الإثبات بالدليل، وأيضًا لو سلم له ذلك، لم يلزم من ترادفهما وقوعُهما معًا في الرواية، والكلام إنما هو في تقييد الرواية، لا مطلق الجواز. ثم قال: وقال مالك بن الحوُيرث: قال لنا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: "ارجعوا إلى أهليْكم فعلّموهم": أي أمر دينهم، وفي رواية الأصيليّ والمُسْتَملي "فعظوهم" من الوعظ والتذكير، وهذا التعليق طرف من حديث مشهور أخرجه البخاري في الصلاة والأدب وخبر الواحد، وأخرجه مسلم أيضًا، وأما الراوي فهو مالك ابن الحويرث، تصغير الحارث، ابن أَشْيمَ بن زياد بن حُشِيْش، بفتح الحاء وبالشين المعجمة المكررة، وقيل بضم الحاء، وقيل بالجيم، وقيل بالخاء، ابن عوف بن جُنْدُع، أبو سليمان اللَّيْثي، قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في ستة من قومه، فأسلم. وفي حديثه "فأتينا النبيّ صلى الله عليه وسلم، ونحن شيبة متقاربون، فأقمنا عنده عشرين ليلة ... " الحديث فيه "فصلوا كما رأيتموني أصلي" وحديثه فى الصحيحين أيضًا قال: "إني لأصلي بكم، وما أريد الصلاة، ولكني أريد أن أريكم كيف صلاة رسول الله، صلى الله عليه وسلم" وفي البخاري أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم، "إذا كان في وِتْر من صلاته، لم ينهض حتى يستوي قاعدًا".

روى عن النبي صلى الله عليه وسلم خمسة عشر حديثًا، اتفقا على اثنين منها، وانفرد البخاري بحديث. وهذا أحد الاثنين المتفق عليهما، والآخر في الرفع والتكبير نزل البصرة، وتوفي بها سنة أربع وسبعين، وقيل وتسعين، بتقديم المثناة على السين، والأول أصح. روى له ابن عاصم الليثيّ وأبو قُلَابة الجُرمّي وروت له الجماعة.

الحديث التاسع والعشرون

الحديث التاسع والعشرون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ قَالَ: كُنْتُ أُتَرْجِمُ بَيْنَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبَيْنَ النَّاسِ فَقَالَ إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ أَتَوُا النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "مَنِ الْوَفْدُ وَمَنِ الْقَوْمُ". قَالُوا رَبِيعَةُ. فَقَالَ: "مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ -أَوْ بِالْوَفْدِ- غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ نَدَامَى". قَالُوا إِنَّا نَأْتِيكَ مِنْ شُقَّةٍ بَعِيدَةٍ، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ، وَلاَ نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيَكَ إِلاَّ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ فَمُرْنَا بِأَمْرٍ نُخْبِرْ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا، نَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ. فَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ، وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ أَمَرَهُمْ بِالإِيمَانِ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَحْدَهُ. قَالَ: "هَلْ تَدْرُونَ مَا الإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ". قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَتُعْطُوا الْخُمُسَ مِنَ الْمَغْنَمِ". وَنَهَاهُمْ عَنِ الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالْمُزَفَّتِ. قَالَ شُعْبَةُ رُبَّمَا قَالَ النَّقِيرِ، وَرُبَّمَا قَالَ الْمُقَيَّرِ. قَالَ: "احْفَظُوهُ وَأَخْبِرُوهُ مَنْ وَرَاءَكُمْ". وهذا الحديث مر الكلام عليه مستوفىً غاية الاستيفاء في أواخر كتاب الإيمان. وأُنبه هنا على كلمات قليلة، فإنه قال هنا: قال شعبة: ربما قال النَّقِير: أي، بالنون المفتوحة وتخفيف القاف المكسورة، ثم قال: وربما قال: المقَيَّر أي: بالميم المضمومة وفتح القاف وتشديد الياء المفتوحة. قال في "الفتح": وليس المراد أنه كان يتردد في هاتين اللفظتين ليثبت إحداهما دون الأخرى؛ لأنه يلزم من ذكر المقير التكرار، لسبق ذكر المُزَفَّت. لأنه بمعناه، بل المراد أنه كان جازمًا بذكر الثلاثة الأول، شاكًا في الرابع، وهو النقير. فكان تارة يذكره وتارة لا يذكره، وكان أيضًا شاكًا في التلفظ بالثالث، فكان تارة لمحقول "المزفت" وتارة يقول "المُقَيَر" هذا توجيهه فلا يلتفت إلى ما عداه.

رجاله خمسة

والدليل عليه أنه جزم بالنقير في الباب السابق في كتاب الإيمان، ولم يتردد إلا في المُزفَّت والمقير. وقوله: "قال احفظوه"، أي ما ذكر، وقوله: "وأخبروه"، أي بالهاء، الضمير. وقوله: "من وراءكم" على هذه النسخة بدل من الضمير، ويحتمل أن يكون الضمير منصوبًا بنزع الخافض، أي أخبروا به، عُدِّي إليه الفعل كقوله تعالى {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155] أي من قومه. وفي رواية الكشميهني "وأَخبروا به" وفي رواية له أيضًا، بحذف الضمير، أي: وأخبروا. رجاله خمسة ذكروا كلهم، الأول محمد بن بشّار , وقد مر فى الحادي عشر من كتاب العلم، ومر غُنْدُر، وهو محمد بن جعفر في السادس والعشرين من كتاب الإيمان، ومر شُعبة في الثالث منه، ومر أبو جَمْرة في السابع والأربعين من كتاب الإيمان, وهو هذا الحديث. ومر عبد الله بن عباس في الخامس من بدء الوحي، ومر عند ذكره أولا المواضع التي أخرج فيها. ثم قال المصنف. باب الرِّحلة في المسألة النازلة الرِّحلة بكسر الراء، بمعنى الارتحال، وفي رواية بفتح الراء، أي: الواحدة، وأما بضمها فالمراد به الجهة. وقد تطلق على من يُرْتحل إليه. وفي رواية كريمة زيادة "وتعليم أهله" والصواب حذفها؛ لأنها تأتي في باب آخر والفرق بين هذه الترجمة وترجمة باب الخروج في طلب العلم أن هذا أخص وذاك أعم.

الحديث الثلاثون

الحديث الثلاثون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِى مُلَيْكَةَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّهُ تَزَوَّجَ ابْنَةً لأَبِي إِهَابِ بْنِ عَزِيزٍ، فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ إِنِّي قَدْ أَرْضَعْتُ عُقْبَةَ وَالَّتِي تَزَوَّجَ بِهَا. فَقَالَ لَهَا عُقْبَةُ مَا أَعْلَمُ أَنَّكِ أَرْضَعْتِنِي وَلاَ أَخْبَرْتِنِي. فَرَكِبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِالْمَدِينَةِ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ". فَفَارَقَهَا عُقْبَةُ، وَنَكَحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ. وقوله: "ما أعلم أنك أرضعتني ولا أخبرتني" وفي رواية "أرضعتيني وأخبرتيني" بزيادة مثناة تحتية قبل النون فيهما، تولدت من إشباع الكسرة. وعبر "بأعلم" مضارعًا، "وأخبر" ماضيًا لأن نفي العلم حاصل في الحال، ونفي الإخبار كان في الماضي فقط؛ لأنها أخبرته الآن. وقوله: "فركب" إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، بالمدينة فسأله يعني عن الحكم في المسألة النازلة به، وكان ركوبه من مكة؛ لأنها دار إقامته. وقوله: "كيف وقد قيل" أي كيف تباشرها وتفضي إليها وقد قيل إنك أخوها من الرضاعة؟ أي: ذلك بعيد من المروءة والورع. وفي رواية "في الشهادات" فنهاه عنها، وفي رواية "دعها عنك". وفي رواية الدارقطني "لا خير لك فيها". وقوله: "ففارقَها عقبة" أي صورة، أو طلقها احتياطًا، لا حكمًا، بثبوت الرضاع، وفساد النكاح، ويمكن أن يكون حكمًا بثبوت الرضاع، واحتج بهذا الحديث من قبل شهادة المرضعة وحدها. قال علي بن سعد: سمعت

أحمد يسأل عن شهادة المرأة الواحدة في الرضاع فقال: تجوز على حديث عقبة بن الحارث، وهو قول الأوزاعي. ونقل عن عثمان وابن عباس والزُّهْرِيّ والحسن وإسحاق، وروى عبد الرزاق عن ابن جُرَيْج عن ابن شهاب قال: فَرَّق عثمان بين ناس تناكحوا بقول امرأة سوداء: إنها أرضعتهم. قال ابن شهاب: الناس يأخذون بذلك من قول عثمان اليوم واختاره أبو عبيد إلا أنه قال إن شهدت المرضعة وحدها، وجب على الزوج مفارقة المرأة، ولا يجب عليه الحكم بذلك، وإن شهدت معها أخرى وجب الحكم به، واحتج أيضًا بأنه صلى الله تعالى عليه وسلم، لم يلزم عُقْبة بفراق امرأته، بل قال له: "دعها عنك" وفي رواية ابن جُرَيج "كيف وقد زعمت" فأشار إلى أن ذلك على التنزيه. وذهب الجمهور إلى أنه لا يكفي في ذلك شهادة المرضعة؛ لأنها شهادة على فعل نفسها. وقد أخرج أبو عُبَيد من طريق عمر والمغيرة بن شُعْبة وعلي بن أبي طالب وابن عباس أنهم امتنعوا من التفرقة بين الزوجين بذلك، فقال عمر فرق بينهما إن جاءت بينة، وإلا فَخَلِّ الرجل وزوجته، إلا أن يتنزها, ولو فتح هذا الباب لم تشأ امرأة أن تفرق بين الزوجين إلاَّ فعلت. وقال الشعبي: تقبل مع ثلاث نسوة بشرط أن لا تتعرض امرأة لطلب أجرة وقيل: لا تقبل مطلقًا. وقيل: تقبل في ثبوت المُحَرَّمية دون ثبوت الأجرة لها على ذلك. وقال مالك: تقبل مع الأخرى. وإن فشا قولها قبل العقد كان فيها قولان مشهوران في مذهبه بالفسخ، وعدمه وندب التَّنزه مطلقًا. وعن أبي حنيفة لا تقبل في الرضاع شهادة النساء المَتمَحضَات، وعكْسهُ الإصْطخري من الشافعية، وأجاب من لم يقبل شهادة المرضعة وحدها يحمل النهي في قوله "فنهاه عنها" على التنزيه، وبحمل الأمر في قوله: "دعها عنك" على الإرشاد، وقوله "ونكحت زوجًا غيره"، اسم هذا الرجل ظُريب، بضم المعجمة المشالة وفتح الراء مصغر، وهوابن الحارث.

رجال السند خمسة

رجال السند خمسة، وفي الحديث ذكر ابن أبي إهاب، وأبيها أبي إهاب. الأول محمد بن مقاتِل المروَزِيّ، مر في السابع من كتاب العلم هذا، ومر عبد الله بن المبارك في السادس من بدء الوحي، ومر عبد الله بن أبي مُلَيْكة في التعاليق التي بعد الأربعين من كتاب الإيمان. الرابع عمر بن سعيد بن أبي حُسين النَّوفَلِيّ المَكَيّ. قال أحمد: مكيّ قرشيّ من أمثل من يكتبون عنه. وقال ابن مُعين والنَّسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق ذكره ابن حبان في الثقات ووثقه العَجْليّ وابن البَرقِيّ ومحمد بن مسعود بن العَجَمي. روى عن أبي مُلَيكة والقاسم بن محمد وابنه عبد الرحمن وعطاء بن أبي رَباح وطاووس ومحمد بن المُنْكَدِر وجماعة وروى عنة الثوْريّ ووَهْب ابن خالد، وابن والمبارك، وعيسى بن يونس، ويحيى القطّان، ورُوْح بن عُبَادة، وأبو عاصم وغيرهم. روى له الجماعة، وأبو داود في المراسيل، وهو ابن عم عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حُسين وفي الستة عمر بن سعيد سواه ثلاثة. الخامس: عُقبة بن الحارث بن عامر بن عَدِيّ بن نَوْفل بن عبدِ مَناف القُرَشِيّ المكيّ أبو سِرْوَعة، بكسر السين المهملة، وحكى فتحها، أسلم يوم الفتح، وسكن مكة، هذا قول أهل الحديث وأما جمهور أهل النسب، فيقولون: عقبة هذا هو أخو أبي سَرْوَعة، وإنهما أسلما يوم الفتح، وقال الزبير بن بَكّار وهو أبو سَرْوَعة هذا، هو قاتل خُبَيْب بن عَدِيّ، أخرج لعقبة البخاريُّ وأبو داود والتَرمذِيّ والنَسائِيّ ولم يخرج له مسلم شيئًا. روى له البخاري ثلاثة أحاديث في العلم والحُدود والزكاة، عن أبي مُليكة عنه. أحدها هذا وأخرج معه هؤلاء الثلاثة. وأما أبو إهاب فهو ابن عزِيز، بفتح العين وزاي مكررة، بن قيس بن سُوَيد بن رَبيعة بن زيد بن عبد الله بن دارم التميميّ الدارميّ وأمه فاخِتَة بنت عامر بن نَوْفل بن عبد مناف، قدم أبوه عزيز مكة، وتزوجها، وحالف

لطائف إسناده

بني نوفل. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، "أنه نهى أن يأكل أحدنا وهو متكىء". أخرجه أبو موسى وابن حجر في الصحابة، ولم يذكره أبو عمر ولا ابن منده، ويقال إنه أول ميت صُلَّي عليه في المسجد الحرام. وابنة أبي إهاب التي تزوجها عقبة هي غَنِيَّة، بفتح الغين المعجمة، أُم يحيى، والزوج الذي تزوجها بعد فراق عقبة بن الحارث لها، هو ظريب، بظاء معجمة مُشالة، ابن الحارث، فولدت له أُم قبال، زوجة جُبير ابن مُطْعِم، وولدت له محمدًا ونافعًا وقيل: الذي تزوجها نافع بن ضُرَيب ابن عمرو بن نوفل. والمرأة المذكورة في الحديث قال في "الفتح" لم أقف على اسمها. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع والافراد والإخبار، والعنعنة، وفي رواته مَرْوزيَّان وثلاثة مَكَّيُّون ومنها أن هذا من إفراد البخاري عن مسلم. وانفرد عنه أيضًا بعقبة بن الحارث، كما مر وأما قول أبي عمِران بن أبي مُليكة: لم يسمع عقبة بن الحارث وإن بينهما عُبَيْد بن أبي مَرْيم فعلى هذا يكون منقطعًا، فهو سهو منه، فسيجيء في باب المرضعة، أن ابن أبي مُليكة قال: حدثنا عُبيَدْ بن أبي مريم عن عقبة بن الحارث. قال: وسمعته من عقبة ولكني لحديث عُبَيد أحفظ، فهذا صريح في سماعه من عقبة. أخرجه البخاري هنا وفي الشهادات عن حبان وأبي عاصم، وفي البيوع في باب تفسير الشهادات عن محمد بن كثير، وفي الشهادات أيضًا عن عليّ. وفي النكاح عن علي، وأبو داود في القضايا عن عثمان بن أبي شيبة، والتِّرْمِذِيّ في الرضاع عن علي بن حَجَر، وقال حسن صحيح، والنَّسائيّ في النكاح عن علي بن حَجَر أيضًا وفي العلم عن إسحاق بن إبراهيم. ثم قال المصنف.

باب التناوب في العلم

باب التناوب في العلم هو بالنون وضم الواو من النَّوْبَة، بفتح النون، بالخفض للإضافة، بأن يأخذ هذا مرة، ويذكره لهذا، والآخر مرة، ويذكره له، وسقط لفظ باب للأصيلي.

الحديث الحادي والثلاثون

الحديث الحادي والثلاثون حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ ح قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى ثَوْرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ قَالَ كُنْتُ أَنَا وَجَارٌ لِي مِنَ الأَنْصَارِ فِى بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ، وَهْيَ مِنْ عَوَالِى الْمَدِينَةِ، وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا، فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ بِخَبَرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الْوَحْي وَغَيْرِهِ، وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَنَزَلَ صَاحِبِي الأَنْصَارِيُّ يَوْمَ نَوْبَتِهِ، فَضَرَبَ بَابِي ضَرْبًا شَدِيدًا. فَقَالَ أَثَمَّ هُوَ فَفَزِعْتُ فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ عَظِيمٌ. قَالَ فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَإِذَا هِيَ تَبْكِي فَقُلْتُ طَلَّقَكُنَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَتْ لاَ أَدْرِي. ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقُلْتُ وَأَنَا قَائِمٌ أَطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ قَالَ: "لاَ". فَقُلْتُ: اللَّهُ أَكْبَرُ. قوله: "قال كنت أنا وجارٌ لي بالرفع عطفًا على الضمير المنفصل المرفوع، وهو أنا، وإنما أظهره لصحة العطف. وهو جائز عند الكوفيين من غير إعادة الضمير. ويجوز النصب على معنى المعية، واسم الجار عَتْبان بن مالك، وذكر البرْمَاويّ أنه أوس بن خوْلِيّ، وعلل بأنه، عليه الصلاة والسلام، آخى بينه وبين عمر. لكن لا يلزم من المؤاخاة الجوار والاول يأتي تعريفه في التاسع والعشرين من استقبال القبلة، والثاني يأتي تعريفه في الحادي والأربعين والأربع مئة من التفسير. وقوله: "في بني أمية بن زيد" أي في موضع أو قبيلة، وقوله: "وهي" أي القبيلة، وفي رواية: وهو، أي الموضع. وقوله: "من عوالي المدنية" أي: قرب شرقي المدينة، بين أقربها وبينها ثلاثة أميال أو أربعة، وأبعدها

ثمانية والعوالي جمع عالية، وكانت منازل الأوس وقوله: "وكنا نتناوب النزول" بالنصب على المفعولية. وقوله: "ينزل يومًا وأنزل يومًا" أي: من العوالي إلى المدينة. وقوله: "فنزل صاحبي الأنصاري يوم نوبته" أي: يومًا من أيام نوبته، فسمع أن رسول الله، صلى الله تعالى عليه وسلم، اعتزل نساءه، فرجع إلى العوالي. وقوله "فقال أثَمَّ" هو بفتح المثلثة وتشديد الميم، اسم يشار به إلى المكان البعيد وقوله: ففزِعت، بكسر الزاي، أي: خفت لأجل الضرب الشديد، فإنه كان على خلاف العادة، فالفاء تعليلية وللمؤلف في التفسير قال عمر، رضي الله تعالى عنه. كنا نتخوف مَلِكا من ملوك غسان، ذُكر لنا أنه يريد أن يسير إلينا، وقد امتلأت صدورنا منه، فتوهمتُ لعله جاء إلى المدينة فخفته لذلك. وقوله: قد حدث أمر عظيم، أي طَلَّق النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، أزواجه، فقلت: قد كنت أظن أن هذا كائن حتى إذا صليت الصبح، شددت على ثيابي، ثم نزلت وقوله: "فدخلت على حفصة" أي أم المؤمنين الداخل عليها أبوها عمر لا الأنصاري، وقضية حذف طلّق إلى قوله "فدخلت" يوهم أنه من قول الأنصاري، فالفاء في فدخلت فصيحة تفصح عن المقدر، أي نزلت من العوالي، فجئت إلى المدينة، فدخلت، وفي رواية الحَمَويّ والمُسْتَملي "دخلت" بدون فاء. وللأصيلى قال: "فدخلت على حفصة". وقوله: فقلت طلكقن؟ " وفي رواية أبي ذرٍ عن الكَشْمَهْيَنِيُّ "أطلقكُنَّ" بالاستفهام، وقوله، "أطلقت نساءَك" بالاستفهام وذكر العينيُّ حذفه. وقوله "فقلت: الله أكبر" أي تعجبًا من كون الأنصاري ظنّ أن اعتزاله، صلى الله تعالى عليه وسلم، لنسائه طلاقٌ، أو ناشىء عنه ويحتمل أن يكون كبَّر الله تعالى حامدًا له على ما أنعم به عليه من عدم وقوع الطلاق. والمقصود من إيراده لهذا الحديث هنا التناوب في العلم اهتمامًا بشأنه لكنّ قوله "كنت أنا وجار لي من الأنصار نتناوب النزول" ليس في رواية ابن

وهب، إنما هو في رواية شُعيب كما نص عليه الذُّهْلِيّ والدارقطنيّ والحاكم في آخرين والمؤلف أخرج الحديث من طريقين: الأولى عن شعيب موصولةً، والثانية عن عبد الله بن وهب معلقة. وقد وصلها ابن حِبان في صحيحه عن ابن قتيبة عن حَرْملَة عن عبد الله بن وَهْب. واختلف في سبب اعتزاله، عليه الصلاة والسلام، لنسائه فقد أخرج ابن سعد من طريق عَمْرة عن عائشة قالت: أهديت لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هديةً، فأرسل إلى كل امرأة من نسائه نصيبها، فلم ترض زينب بنت جحش بنصيبها، فزادها مرة اخرى، فلم ترض، فقالت عائشة لقد أقمأت وجهك، ترد عليك الهدية؟ فقال: "لأنتن أهون على الله من أنْ تُقْمئنني، لا أدخل عليكنَّ شهرًا" الحديث. وأخرج ايضا من طريق عروة عنها وفيه "ذبح ذبحًا فقسمه بين أزواجه، فأرسل إلى زينب بنصيبها فردته، فقال زيدوها ثلاثًا، كل ذلك ترده"، فذكر نحوه وقيل: سببه ما أخرجه مسلم من حديث جابر، قال: جاء أبو بكر والناس جلوس بباب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، لم يؤذن لأحد منهم، فأذن لأبي بكر فدخل، ثم جاء عمر فاستأذن فأذن له فوجدا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، جالسًا، وحوله نساؤه، فذكر الحديث وفيه "هن حولي كما ترى، يسألنني النفقة، فقام أبو بكر إلى عائشة، وقام عمر إلى حفصة، ثم اعتزلهن شهرًا، فذكر نزول آية التخيير. وقيل: سبب الاعتزال ما أخرجه البخاريُّ عن عائشة: أنها قالت: "كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، يشرب عسلًا عند زينب بنت جحش، ويمكث عندها فواطأت أنا وحفصةُ عن أيتنا دخل عليها فلتقل له: أكلت مغافير، إني أجد منك ريح مغافير، قال: لا, ولكنى كنت أشرب عسلًا عند زينب بنت جحش، فلن أعود إليه وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدًا.

وقيل: سببه تحريم ماريَّة، فقد أخرج ابن سعد عن ابن عباس "خرجت حفصة من بيتها يوم عائشة، فدخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بجاريته القبطية بيت حفصة فجاءت فرقبته حتى خرجت الجارية، فقالت له: أما إني قد رأيت ما صنعت، قال فاكتمي عليّ وهي حرام. فانطلقت حفصة إلى عائشة، فأخبرتها، فقالت له عائشة: أما يومي فتُعرِس فيه بالقبطية، ويسلم لنسائك سائر أيامهن؟ فنزلت الآية، وأخرج ابن مَرْدَوَيه عن ابن عباس قال: دخلت حفصةُ على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، بيتها فوجدت معه مارية، فقال لا تخبري عائشة حتى أبشرك ببشارة أن أباك يلي هذا الأمر بعد أبي بكر إذا أنامت، فذهبت إلى عائشة فأخبرتها، فقالت له عائشة ذلك. والتمست منه أن يحرّم مارية، فحرَّمها، ثم جاء إلى حفصة فقال: أمرتك أن لا تخبري عائشة، فأخبرتها، فعاتبها ولم يعاتبها على أمر الخلافة، فلهذا قال الله تعالى {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} [التحريم: 3]. وأخرج الطَّبرانيُّ في الأوسط, وابن مَرْدَوَيه عن أبي هُرَيرة قال: "دخل رسول الله، صلى الله تعالى عليه وسلم، بمارية بيت حفصة، فجاءت فوجدتها معه، فقالت: يا رسول الله في بيتي تفعل هذا معى دون نساءتك؟ وأخرج الضياء في "المختارة" عن عمر قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لحفصة: "لا تخبري أحدًا، إن أُم إبراهيِم عليَّ حرام" قال: فلم يقربها حتى أخبرت عائشة، فأنزل الله {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2]. وفي رواية عن عائشة عند ابن مَرْدَويه، ما يجمع القولين، ففيه أن حفصة أُهديت لها عُكَّة فيها عَسَل، وكان رسول الله، صلى الله تعالى عليه وسلم، إذا دخل عليها حبسته حتى تلعقه، أو تسقيه منها، فقالت عائشة لجارية عندها حبشية، يقال لها خضراء: إذا دخل على حفصة فانظري ما يصنع، فأخبرتها الجارية بشأن العمل، فارسلت إلى صواحبها فقالت: إذا

رجاله تسعة

دخل عليكن فقلن: إنا نجد منك ريح مغَافر، فقال: هو عسل والله لا أطعمه أبدا. فلما كان يوم حفصة استأذنته أن تأتي أباها، فأذن لها فذهبت، فأرسل إلى جاريته مارِيّة، فأدخلها بيت حفصة، فرجعت فوجدت الباب مغلقًا، فخرج ووجهه يقطر، وحفصة تبكي فعاتبته، فقال: أُشهدك أنها عليَّ حرام، انظري، لا تخبري بهذا امرأة، وهي عندك أمانة، فلما خرج قرعت حفصة الجدار الذي بينها وبين عائشة، فقالت: ألا أبشرك أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، قد حرم أَمته، فنزلت. ويحتمل أن يكون مجموع هذه الأشياء كان سببًا لاعتزالهن، وهذا هو اللائق بمكارم أخلاقه، عليه الصلاة والسلام، وسعة صدره، وكثرة صفحه، وإن ذلك لم يقع فيه حتى تكرر موجبه منهن، ويؤيده شمول الحلف للجميع، ولو كان مثلا في قصة مارية فقط، لاختص بحفصة وعائشة. ومن اللطائف أن الحكمة في الشهر مع أن مشروعية الهجر ثلاثة أيام، أن عدتهنّ كانت تسعة فإذا ضربت في ثلاثة كانت سبعة وعشرين، واليومان لمارية، لكونها كانت أمة، فنقصت عن الحرائر. وفي هذا الحديث الاعتماد على خبر الواحد، والعمل بمراسيل الصحابة، وفيه أن الطالب لا يغفل عن النظر في أمر معاشه ليستعين على طلب العلم وغيره، مع أخذه بالحزم في السؤال عما يفوته يوم غيبته، لما علم من حال عمر، أنه كان يتعاطى التجارة إذ ذاك كما سيأتي في البيوع، وفيه أن شرط التواتر أن يكون مُستَند نَقْلته الأمر المحسوس لا الإشاعة التي لا يدري من بدا بها. رجاله تسعة: الأول أبو اليَمان، والثاني شُعيب بن أبي حمزة، وقد مرا في السابع من بدء الوحي، ومر ابن شهاب ويونس بن يزيد في الثالث منه أيضًا، ومر عمر بن الخطاب في أول حديث منه، ومر عبد الله بن عباس في الخامس منه، ومر عبد الله بن وهب في الثالث عشر من كتاب العلم هذا. الخامس من السند: عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثَوْر القُرَشِيّ، مولى

لطائف إسناده

بني نوفل المَدنِيّ روى عن ابن عباس، وصفية بنت شَيْبة، وروى عنه الزُّهْريّ، ومحمد بن جعفر بن الزبير وذكر الخطيب أنه لم يرو إلا عن ابن عباس، ولم يرو عنه غير الزُّهري، ذكره مَسْلَمة في الطبقة الثالثة من أهل المدنية، وذكره ابن حبان في الثقات، وعبيد الله بن عبد الله في الستة سواه اثنا عشر. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والإخبار والعنعنة، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وصحابيّ عن صحابيّ، وذكر في الموصول الزُّهري، وفي التعليق ابن شهاب تنبيها على قوة محافظته على ما سمع من الشيوخ، وفيه كلمة "ح" مهملة إشارة إلى تحويل الإسناد، ومر الكلام عليها في الخامس من بدء الوحي. أخرجه البخاري هنا، وفي النكاح أيضًا، عن أبي اليمان أيضًا، وفي المطاعم عن يحيى بن بَكير، ومسلم في الطلاق عن إسحاق بن إبراهيم وغيره، والتِّرمِذِيّ في التفسير عن عبد بن حُميد، والنسائي في الصوم عن عمرو بن منصور، وفي عشرة النساء عن محمد بن عبد الأعلى. ثم قال المصنف. باب الغضب في الموعظة والتعليم إذا رأى ما يكره بإضافة باب إلى الغضب، وهو انفعال يحصل من غليان الدم لشيء دخل في القلب، وقوله: إذا رأى، أي الواعظ أو المعلم، وقوله: ما يكره، أي الذي يكرهه، فحذف العائد، وقد قصَر المصنف الغضب على الموعضة والتعليم، دون الحكم؛ لأن الحاكم مأمور أن لا يقضي وهو غضبان. والفرق أن الواعظ من شأنه أن يكون في صورة الغضبان؛ لأن مقامه يقتضي تكلف الانزعاج؛ لأنه في صورة المنذر، وكذا المعلم إذا أنكر على من يتعلم منه سوء فهم ونحوه؛ لأنه قد يكون أدعى للقبول منه، وليس ذلك لازمًا في حق كل أحد، بل يختلف باختلاف أحوال المتعلمين، وأما الحاكم فهو بخلاف لك، كما يأتي في بابه إن شاء الله

تعالى. فإن قيل: قد قضى عليه الصلاة والسلام، في حال غضبه، حيث قال: أبوك فلان، فالجواب أن يقال: ليس هذا من باب الحكم، وعلى تقدير ثبوته، فيقال هذا من خصوصياته، لمحل العصمة، فاستوى غضبه ورضاه، ومجرد غضبه من الشيء دال على تحريمه أو كراهته، بخلاف غيره صلى الله تعالى عليه وسلم.

الحديث الثاني والثلاثون

الحديث الثاني والثلاثون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ قَالَ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنِ ابْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ قَالَ قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لاَ أَكَادُ أُدْرِكُ الصَّلاَةَ مِمَّا يُطَوِّلُ بِنَا فُلاَنٌ، فَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فِي مَوْعِظَةٍ أَشَدَّ غَضَبًا مِنْ يَوْمِئِذٍ فَقَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ مُنَفِّرُونَ، فَمَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ، فَإِنَّ فِيهِمُ الْمَرِيضَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ". قوله: "قال رجل" هو حَزْم بن أبي كعب الأنصاريّ، فقد أخرج الطَّيالِسيّ عن عبد الرحمن بن جابر عن أبيه، حدث عن حَزْم بن أبي كعب أنه مر على معاذ بن جبل، وهو يصلي بقومه، فذكر الحديث في تطويله بهم. وأمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم له بالتخفيف. قال في الإصابة: ولم أر من ترجم لحزم بن أبي كعب من القدماء إلا ابن حِبان، فذكره في الصحابة، ثم ذكره في ثقات التابعين، ولعل التابعي آخر، وافق اسمه واسم أبيه، وإلا فالقصة صريحة في كونه صحابيًا. وقد ذكره ابن مَنْده وتبعه أبو نُعيم. وفي "الفتح" في كتاب العلم هنا قيل: هو حزم بن أبي كعب. وقال في كتاب الصلاة عند ذكر هذا الحديث. ووهم من زعم أنه حزم بن أبي كعب، لأن قصته كانت مع معاذ لا مع أُبي بن كعب. وقوله: " لا أكاد أدرك الصلاة مما يطول بنا فلان" في رواية مما يطيل، فالأُولى من التطويل، والثانية من الإِطالة. وفلان: قيل إنه معاذ بن جبل، قال في "الفتح": بل المراد بالمبهم هنا أبي بن كعب، كما أخرجه أبو يعلي بإسناد حسن عن جابر قال: كان أُبي بن كعب يصلي بأهل قُباء، فاستفتح سورة طه، فدخل

معه غلام من الأنصار في الصلاة، فلما سمعه استفتحها انفتل من صلاته، فغضب أبي فأتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، يشكو الغلام، وأتى الغلام يشكو أُبيًا، فغضب النبي، صلى الله تعالى عليه وسلم، حتى عُرف الغضب في وجهه، ثم قال: "إن منكم منفرين، فإذا صليتم فأوجزوا، فإن خلفكم الضعيف والكبير والمريض وذا الحاجة" فأبان هذا الحديث أن المراد بقوله في حديث الباب "مما يطيل بنا فلان" أي في القراءة، واستفيد منه أيضًا تسمية الإِمام وهو أبي بن كعب، والموضع وهو قباء، وأما قصة معاذ فمغايرة لحديث الباب؛ لأنها كانت في العشاء كما صرح به في كتاب الصلاة، وكانت في مسجد بني سلمة وهذه كانت في الصبح به، كما صرح به في كتاب الصلاة، وكانت في مسجد قُباء كما في الحديث المار. ومعاذ بن جبل مر في أول كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه. ومر أبيُّ ابن كعب في السادس عشر من كتاب العلم هذا، وقد قال عياض: ظاهر قوله "لا أكاد أدرك الصلاة" مشكلٌ؛ لأن التطويل يقتضي الإدراك لا عدمه، ولعله "لأكاد أترك الصلاة" فزيدت الألف بعد لا، وفصلت التاء من الراء وجعلت دالا، وهو توجيه حسن لو ساعدته الرواية. وقيل: معناه أنه كان به ضعف فكان إذا طول به، الإمام في القيام، لا يبلغ الركوع إلا وقد ازداد ضعفه، فلا يكاد يدرك معه الصلاة. وهو معنى حسن لكن رواه المصنف عن الفِرْيابيّ بلفظ "إني لأتأخر عن الصلاة" فعلى هذا فمراده بقوله "إنى لا أكاد أدرك الصلاة" أي: لا أقرب من الصلاة في الجماعة، بل أتأخر عنها أحيانًا، من أجل التطويل، فعدم مقاربته لإدراك الصلاة مع الإمام ناشىء عن تأخره عن حضورها، ومسبَّبٌ عنه، فعبر عن السبب بالمسبّب، وعلله بتطويل الإمام، وذلك لأنه إذا اعتيد التطويل منه، اقتضى ذلك أن يتشاغل المأموم عن المجيء أول الوقت، وثوقًا بتطويل الإمام، بخلاف ما إذا لم يكن يطول، فإنه كان يحتاج إلى المبادرة إليه أول الوقت، وكأنه يعتمد على تطويله، فيتشاغل ببعض شغله، ثم

يتوجه فيصادف أنه تارة يدركه، وتارة لا يدركه، فلذلك قال: "لا أكاد أدرك مما يطوّل بنا" أي: بسبب تطويله بنا، فالتطويل سبب التأخر الذي هو سببٌ لذلك الشيء. ولا داعي إلى حمل الروايات الثابتة في الأمهات الصحيحة على التصحيف. وقوله: "أشد غضبًا" بالنصب على التمييز، وقوله: "من يومئذ" في رواية ابن عَسَاكِر "منه من يومئذ" ولفظة: "منه" صلة أشد والمفضل عليه والمفضل، وإن كانا واحدًا، وهو الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن الضمير راجع إليه، لكن باعتبارين فهو مفضل باعتبار يومئذٍ مفضل عليه، باعتبار سائر الأيام، نحو قولهم: هذا بسر أطيب منه رطبًا، وسبب شدة غضبه عليه الصلاة والسلام، إما لمخالفة الموعظة، لاحتمال تقدَّم الأعلام، ويأتي قريبًا ما يرجحه، أو للتقصير في تعلُّم ما ينبغي تعلمه، أو لإرادة الاهتمام بما يلقيه على أصحابه، ليكونوا من سماعه على بال، لئلا يعود من مثل ذلك إلى مثله وقوله: "فقال: أيها الناس إنكم مُنَفَّرون"، أي: عن الجماعات. وفي رواية أبي الوقت: إن منكم منفرين، ولم يخاطب المُطَول على التعيين، بل عمم خوف الخجل عليه، لطفًا به وشفقة على جميل عادته الكريمة، صلوات الله وسلامه عليه. وقوله: "منفرين" يحتمل أن يكون تفسيرًا للمراد بالفتنة في قوله في حديث معاذ "أفَتَّانٌ أنت" ويحتمل أن قصة أُبيّ هذه بعد قصة معاذ، فلهذا أتى بصيغة الجمع، وفي قصة معاذ واجهه وحده بالخطاب، وكذا ذكر في هذا الغضب، ولم يذكره في قصة معاذ، وبهذا يتوجه الاحتمال الأول. وقوله: "فمن صلَّى بالناس فليخفف" أي إمامًا لهم، والتطويل والتخفيف من الأمور الإضافية، فقد يكون الشيء خفيفًا بالنسبة إلى عادة قوم، طويلًا بالنسبة لعادة آخرين. وقول الفقهاء: لا يزيد الإمام في الركوع والسجود على ثلاث تسبيحات، لا يخالف ما ورد عن النبي، صلى الله تعالى عليه وسلم، أنه

رجاله خمسة

كان يزيد على ذلك؛ لأن رغبة الصحابة في الخير تقتضي أن لا يكون ذلك تطويلًا، وأولى ما أخذ حد التخفيف من الحديث الذي أخرجه أبو داود والنّسائي عن عثمان بن أبي العاص أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال له: "أنت إمام قومك، وأقدر القوم بأضعفهم" إسناده حسن، وأصله في مسلم، وقوله "فإن فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة" وزاد مسلم عن أبي الزناد "والصغير والكبير" وزاد الطَّبرانيّ عن عثمان بن أبي العاص "والحامل والمرضع" وله عن عدي بن حاتم "والعابر السبيل، والمريض الذي ليس بصحيح، والضعيف الذي ليس بقويّ الخِلقة، كالنحيف والمُسِنّ، وذا الحاجة" أي: صاحبها، وهي أشمل الأوصاف المذكورة. وللقابسي "وذو الحاجة" بالرفع، مبتدأ حذف خبره، والجملة عطف على الجملة المتقدمة، أي "وذو الحاجة". كذلك وإنما ذكر الثلاثة لأنها تجمع الأنواع الموجبة للتخفيف؛ لأن المقتضي له: إما في نفسه أو لا. والأول إما بحسب ذاته، وهو الضعيف، أو بحسب العارض، وهو المرض أولًا في نفسه وهو ذو الحاجة، وقوله: "فإنَّ فيهم المريض الخ" تعليل للأمر المذكور، ومقتضاه أنه متى لم يكن فيهم متصفٌ بصفة من المذكورات لم يضر التطويل، ويرد على هذا أن الإمام قد لا يعلم حال من يأتي فيأتم به بعد دخوله في الصلاة، فعلى هذا يكره التطويل مطلقًا، إلا إذا فرض في مصلٍ بقوم محصورين راضين بالتطويل، في مكان لا يدخله غيرهم. وقال اليَعْمُريُّ: الأحكام إنما تناط بالغالب لا بالصورة النادرة، فينبغي للأئمة التخفيف مطلقًا قال: وهذا كما شرع القصر في صلاة المسافر، وعلل بالمشقة، وهو مع ذلك يشرع ولو لم يشق عملًا بالغالب؛ لأنه لا يدري ما يطرأ عليه وهنا كذلك. رجاله خمسة: الأول: محمد بن كَثير العَبْدي، أبو عبد الله البصري، قال أبو حاتم:

لطائف إسناده

صدوق، وقال ابن حبان: كان ثقة فاضلًا، وروي عنه، كان تقيًا فاضلًا ووثقه أحمد بن حنبل، وقال: لقد مات على سنة. وقال ابن مُعين: لا تكتبوا عنه، لم يكن بالثقة. قال ابن حَجر في مقدمته: والذي روى عنه البخاري ثلاثة أحاديث في العلم والبُيوع والتفسير، وقد توبع عليها، فانظر هذا مع قوله في "تهذيب التهذيب" وفي "الزهرة": روى عنه البخاري ثلاثة وستين حديثًا. روى عن أخيه سليمان، وكان أكبر منه بخمسين سنة، وعن الثَّوْرِيّ وشُعبة وهمّام وإسرائيل وغيرهم. وروى عنه البخاري وأبو داود، وروى الباقون له بواسطة الدارِمِيّ، وروى عنه أبو زَرعة وأبو حاتم وابن المَدِيْنيّ، ويعقوب بن شَيْبةَ وغيرهم مات سنة ثلاث وعشرين ومئتين، وكان له يوم مات تسعون سنة. ومحمد بن كثير في الستة سواه واحد، وهو الضَّفاني، نزيل المصيصة، وهو ثقة اختلط في اخره. الثاني: سفيان الثَّوري، وقد مر في السابع والعشرين من كتاب الإيمان, ومر إسماعيل بن أبي خالد في الثالث منه أيضًا، ومر قيس بن أبي حازم في الخمسين منه أيضًا، ومر أبو مسعود الأنصاري البدري في الثامن والخمسين منه أيضاً. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والإخبار بصيغة الإفراد، ورواته ما بين بصري وكوفي، ثلاثة منهم كوفيون. وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه راوٍ وهو ابن كثير، ليس في البخاري غيره من هذا اللفظ. أخرجه البخاري هنا، وفي الصلاة أيضاً عن محمد بن يوسف، وفيها عن أحمد ابن يونس، وفي الأدب عن مُسَدّد، وفي الأحكام عن محمد بن مقاتِل، ومسلم في الصلاة عن يحيى بن يحيى، وغيره، والنَّسائي في العلم عن يعقوب بن إبراهيم، وابن ماجة عن محمد بن عبد الله بن نَمير.

الحديث الثالث والثلاثون

الحديث الثالث والثلاثون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ الْمَدِينِيُّ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِىِّ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنِ اللُّقَطَةِ فَقَالَ: "أعْرِفْ وِكَاءَهَا -أَوْ قَالَ وِعَاءَهَا- وَعِفَاصَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، ثُمَّ اسْتَمْتِعْ بِهَا، فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ". قَالَ فَضَالَّةُ الإِبِلِ فَغَضِبَ حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ -أَوْ قَالَ احْمَرَّ وَجْهُهُ- فَقَالَ: "وَمَا لَكَ وَلَهَا مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا، تَرِدُ الْمَاءَ، وَتَرْعَى الشَّجَرَ، فَذَرْهَا حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا". قَالَ فَضَالَّةُ الْغَنَمِ قَالَ: "لَكَ أَوْ لأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ". قوله: "سأله رجل" قيل: هو عُمَير السَّلَمِيّ والد مالك، ولم ينسب، فقد ذكره الِإسماعيليّ في الصحابة، واستدركه أبو موسى وروى الإسماعيلي عن مالك بن عمير عن أبيه أنه سأل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، عن اللَّقَطَة فقال: "إن وجدت من يعرفها فادفعها إليه وإلا فاستمتع بها، وأشْهِد بها عليك فإن جاء صاحبها، وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء" وسنده ضعيف جدًا. وقيل: المُبهم هو سُويد الجُهَني، لما أخرجه الحُميدي والبَغَوي وابن السكن والباروديّ والطبراني، كلهم عن ربيعةَ عن عُقبة بن سُويد الجُهَني عن أبيهِ قال: سألتُ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، عن اللُقَطَةَ فقال: "عَرّفْها سنة ثم أوثِق وعاءها" فذكر الحديث، وهو أولى ما يُفسر به هذا المبهم، لكونه من رَهْطِ زيد بن خالد، وله حديثٌ آخر رَواهُ الزُهْرِيّ عن عقبة بن سُوَيد أن أباه حَدّثهُ قال: لما قَفَل النبيُّ، صلى الله تعالى عليه وسلم، من خيبَر بَدا لهُ أُحد فقال: "الله أكبر، هذا جبلٌ يُحبنا ونحُبهُ" رواه

أحْمد والبخاريّ في تاريخه، ورواه البَغَويّ وابن أبي عاصمٍ، وابن شاهين وأبو نعيم وفرقَ البغوي بن سُويد الذي روى حديثَه الزهُرْي، وسويد الذي روى حديثه رَبيعة لافتراق النَّسب، حيث وقع في رواية الزهُرْي الجُهني. وفي رواية ربيعة الأنصاري، ويُحْتَمل أن يكونا واحدًا بأن يكون جُهميًا حالف الأنصار. وقيل: المُبهَم هو الجَارُودُ بن المُعَليَّ العَبديّ، لما أخرجه الطَّبَري من حديث الجارود العَبْديِ، قال: قَلت: يا رسول الله اللُّقطَةُ نجِدها؟ قال "أَنشِدها ولا تكْتُم ولا تُغَيِّبْ" والجارود هذا يأتي تعريفُه في تعليق بعد الخامس والعشرين من كتاب الأحكام. وقيل: المُبَهُم بلالٌ المؤُذّن، وهو مَردودُ بقوله في اللقطة "جاء أعرابيٌ" وبلالٌ لا يوصف بأَنه أعرابي، وبلال يأتي تعريفه في التاسع والثلاثين من كتاب العلم هذا. وقيل: السائِلُ هُوَ الراوي زيدُ بنُ خالد، وَرُدَّ أيضًا بما ذكرناهُ. وقوله: "فقال: أعرِفُ"، أي: بكسر الراء، من المعرفة، وقوله: "وكاءُها"، بكسر الواو ممدودًا، ما يربط به رأس الصُّرَّة والكيس ونحوهما، أو هو الخيطَ الذي يشدّ به الوعاء. وقوله: "أو قال وِعاءها" بكسر الواو، أي: ظَرْفَها، والشك من زيد بن خالد، أو ممن هو دونه، وقوله: "وعِفَاصها" بكسر المهملة، وتخفيف الفاء، وبعد الألف مهملة: الوعاء الذي تكون فيه النفَقَةُ جلدًا أو غيره. وقيل له العفاص أخذًا من العَفْص، وهو الثَّنْي؛ لأن الوعاء يثنى على ما فيه. والعفاص أيضًا الجلد الذي يكون على رأس القارورة، وأما الذي يدخل في فم القارورة من جلد أوغيره فهو الصّمام، بكسر الصاد المهملة، وحيث ذكر العِفاص مع الوِعاء، فالمراد الثاني، وحيث لم يذكر العفاص مع الوعاء، فالمراد به الأول. والغرض معرفة الآلات التي تحفظ النفقة وإنما أمر بمعرفة ما ذكر ليُعرف صدقُ مدًعيها من كذبه، ولئلا يختلط بماله، ويلتحق بما ذكر حفظ

الجنس والصفة والقدر، والكيل فيما يكال، والوزن فيما يوزن، والذرع فيما يذرع، لقول مسلم في الحديث "فاعرف عفاصها ووعاءها وعددها" فزاد فيه، "العدد" وقال جماعة من الشافعية: يستحب تقييدها بالكتابة خوف النسيان. وقوله: "ثم عرِّفها" بالتشديد وكسر الراء، أي اذكرها للناس على سبيل الوجوب، ومحل ذلك المحافل، كأبواب المساجد، والأسواق ونحو ذلك، يقول: من ضاعت له نَفَقَةٌ ونحو ذلك من العبارات، ولا يذكر شيئًا من الصفات. وقوله: "سَنَة" أي: متوالية. قال العلماء: يعرفها في كل يوم مرتين، ثم مرة في كل أسبوع، ثم في كل شهر، ولا يشترط أن يعرفها بنفسه، بل يجوز بوكيله أو بأجرة منها، ويكون تعريفها بمكان سقوطها، أو غيره، وهل تكفي سنة متفرقة؟ وجهان: ثانيهما، وبه قطع العراقيون، نعم. وقال النُّوويّ: هو الأصح. وفي هذه الرواية تأخير "ثم عرفها سنة" وفي روايته في اللقطة "عرفها سنة ثم اعرف عفاصها ووكاءها" وفيها أيضًا رواية بتقديم "اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة". وأخرجه أبو داود بلفظ "عرفها حولًا فإن جاء صاحبها، فادفعها إليها، وإلا اعرف عفاصها ووكاءها ثم اقبضها في مالك، الحديث ورواية الباب، واحدى روايتي لملقطة تقتضيان أن التعريف يقع بعد معرفة ما ذكر من العلامات، ورواية أبي داود ورواية اللقطة الثانية تقتضيان أن التعريف يسبق المعرفة، وقال النوويّ: يجمع بينهما بأن يكون مأمورًا بالمعرفة في حالتين فيعرف العلامات أول ما يلتقط حتى يعلم صدق واصفها إذا وصفها كما تقدم، ثم بعد تعريفها سنة، إذا أراد أن يتملكها فيعرفها مرة اخرى تعرفًا وافيًا محققًا ليعلم قدرها وصفتها، فيردها إلى صاحبها، ويحتمل أن تكون "ثم" في الروايتين بمعنى "الواو" فلا تقتضي ترتيبًا، ولا تقتضي تخالفًا يحتاج إلى الجمع، ويقويه كون المخرج واحدا، والقصة واحدة، وإنما يحسن ما تقدم أن لو كان المخرج مختلفًا، فيحمل على تعدد القصة، وليس الغرض إلا أن يقع التعرّف والتعريف مع قطع النظر عن أيهما أسبق.

واختلف في هذه المعرفة على قولين للعلماء: أظهرهما الوجوب، كما مر، لظاهر الأمر. وقيل: يستحب، وقال بعضهم: يجب عند الالتقاط، ويستحب بعده. وقوله: "ثم استمتعْ بها" بكسر الثانية وإسكان العين عطف على "عرّفها"، والأمر فيه للإباحة، والمشهور عند الشافعية اشتراطُ التلقط بالتملك. وقيل: تكفي النية، وهو الأرجح دليلًا وقيل تدخل في ملكه بمجرد الالتقاط، واستدل به على أن الملتقط يتصّرف فيها سواء كان غنيًا أو فقيرًا. وعن أبي حنيفة إن كان غنيًا تصدق بها، وإن جاء صاحبها تخير بين إمضاء الصدقة أو تغريمه. قال صاحب "الهداية": إلا أن يكون بإذن الإمام، فيجوز للغني، كما في قصة أبي بن كعب، وبهذا قال عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وغيرهم من الصحابة والتابعين. وقوله: "فإن جاء صاحبها فأدها إليه" أي: أعطها إليه، يعني إذا أخبر بعفاصها ووكائها وما معه. واختلفوا فيما إذا عرف بعض الصفات دون بعض، بناء على القول بوجوب الدفع لمن عرف الصفة، قال ابن القاسم: لابد من ذكر جميعها. وكذا قال أصبغ، لكن قال: لا تشترط معرفة العدد. وقول ابن القاسم اقوى الثبوت ذكر العدد في الرواية الأخرى، وزيادة الحافظ حجة. واختلف العلماء فيما إذا تصرف في اللقطة بعد تعريفها سنة ثم جاء صاحبها هل يضمنها له أم لا؟ فالجمهور على وجوب الرد إن كانت العين موجودة أو البدل إن كانت استهلكت، وخالف في ذلك الكرابيسيُّ صاحب الشافعي، ووافقه صاحباه البخاريُّ وداود بن عليّ إمام الظاهرية. لكن وافق داود الجمهور إن كانت العين قائمة. ومن حجة الجمهور قوله في بعض الروايات: "ولتكن وديعةً عندك" وقوله أيضًا عند مسلم "فاعرف عفاصها ووكاءها ثم كُلْها، فإن جاء صاحبها فأدها إليه" فإن ظاهر قوله "فإن جاء صاحبها إلى آخره .. بعد قوله:، "كُلهْا" يقتضي وجوب ردها بعد أكلها، فيحمل على رد البدل. ويحتمل أن يكون في الكلام حذف يدل عليه بقية الروايات والتقدير "فاعرف عفاصها ووكاءها، ثم كلها إن لم يجىء صاحبها

فإن جاء صابحها فأدها إليه" وأصرح من ذلك رواية أبي داود بلفظ "فإن جاء باغيها فأدها إليه، وإلا فاعرف عفاصها ووكاءها ثم كلها، فإن جاء باغيها، فأدها إليه" فأمر بأدائها إليه قبل الإذن في أكلها وبعده. وهي أقوى حجة للجمهور. قال النووي: إن جاء صاحبها قبل أن يتملكها الملتقط أخذها بزوائدها المتصلة والمنفصلة، وأما بعد التملك فإن لم يجىء صاحبها، فهي لمن وجدها, ولا مطالبة عليه في الآخرة، وإن جاء صاحبها، فإن كانت موجودة بعينها، استحقها بزوائدها المتصلة، ومهما تلف منها لزم الملتقط غرامته للمالك. وهو قول الجمهور وقال بعض السلف: لا يلزمه، وهو اختيار البخاري كما مر. وقوله: "فضالة الإبل" أي: ما حكمها؟ أكذلك أم لا؟ وهو من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، والضال الضائع. قال العلماء: الضالة لا تقع إلا على الحيوان، وما سواه يقال له: لُقَطَة. ويقال للضوال أيضًا: الهَوامي والهَوافي بالميم والفاء، والهوامِل. وقوله "فغضب" يعني النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وقوله: "حتى احمرت وجنتاه" تثنية وجِنَة، بتثليث الواو، أُجنة بهمزة مضمومة، وهي ما ارتفع من الخد. وقوله:" أو قال: احمر وجهه" وإنما غضب استقصارًا لعلم السائل، وسوء فهمه إذ انه لم يراع المعنى المذكور، ولم يتفطن له، فقاس الشيء على غير نظيره، لأن اللقطة إنما هي الشيء الذي سقط من صاحبه، ولا يدري أين موضعه، وليس كذلك الإبل، فإنها مخالفة للقطة إسمًا وصفة. وقوله: "ومالك ولها" أي: ما تصنع بها، أي: لم تأخذها ولم تتناولها؟ وفي رواية الحمَوي والمُسْتَملي "فمالك" وفي رواية الأصيلي "مالك" بغير واو ولا فاء. وقوله: "معها سقاؤها" بكسر السين، مبتدأ وخبر مقدم، أي: أجوافها، فإنها تشرب فتكتفي به أياما. وقيل: عنقها، وأشار بذلك إلى استغنائها عن الحفظ لها، بما ركب في طباعها من الجلادة على العطش، وتناول المأكول بغير تعب، لطول عنقها فلا تحتاج إلى ملتقط.

وقوله: "وحِذاؤها" بكسر الحاء المهملة، والمد عطف على سقاؤها أي خفها الذي تمشي عليه. وقوله: "ترد الماء وترعى الشجر" جملة بيانية، لا محل لها في الإعراب أو محلها الرفع خبر مبتدأ محذوف، أي هي ترد الماء. وقوله: "فذرها" أي إذا كان الأمر كذلك فدعها فالفاء في "فدعها" جواب شرط محذوف. وقوله "حتى يلقاها ربُّها" أي مالكها، إذ أنها غير فاقدةِ أسباب العود إليه، لقوة سيرها، يكون الحذاء والسقاء معها؛ لأنها ترد الماء رَبَعًا وخَمسًا، وتمتنع من الذئاب وغيرها من صغار السباع، ومن التَّردي وغير ذلك. والجمهور على القول بظاهر الحديث في أنها لا تلتقط. وقال الحنفية: الأولى أن تلتقط، وحمل بعضهم النهي على من التقطها ليتملكها, لا ليحفظها، فيجوز له وهو قول الشافعية. وكذلك إذا وجدت بقرية، فيجوز التملك على الأصح عندهم. والخلاف عند المالكية أيضًا. قال العلماء: حكمة النهي عن التقاط الإبل أن بقاءها حيث ضلت أقرب إلى وجدان مالكها لها من تطلبه لها في رحال الناس. وقالوا في معنى الإبل: كل ما امتنع بقوته من صغار السباع. وقوله: "فضالّة الغنم" أي: ما حكمها أهي كإبل أم لا؟ فحذف ذلك للعلم به. وقوله "لك أو لأخيك أو للذئب" أي: يأكلها إن لم تأخذها أنت ولا غيرك، ففيه إشارة إلى جواز أخذها، كأنه قال: هي ضعيفة لعدم الاستقلال، معرضة للهلاك مترددة بين أن تأخذها أنت أو أخوك، والمراد ما هو أعم من صاحبها، أو من ملتقط آخر والمراد بالذئب جنس ما يأكل الشاة من السباع، وفيه حث له على أخذها؛ لأنه إذا علم أنه إن لم يأخذها بقيت للذئب، كان ذلك أدعى له إلى أخذها. وفي رواية ربيعة عند المصنف في اللقطة "خذها فإنما هي لك" الخ. وهو صريح في الأمر بالأخذ، ففيه دليل على رد إحدى الروايتين عن أحمد في قوله: يترك التقاط الشاة، وتمسك به مالك في أنه يملكها بالأخذ، ولا تلزمه غرامة، ولو جاء صاحبها، واحتج له بالتسوية بين الذئب والملتقط. والذئب لا غرامة عليه، فكذلك الملتقط، وأجيب بان اللام ليست

للتمليك؛ لأن الذئب لا يملك، وإنما يملكها الملتقط على شرط ضمانها. وقد أجمعوا على أنه لو جاء صاحبها قبل أن يأكلها الملتقط لأخذها فدل على أنها باقيةٌ على مُلك صاحبها, ولا فرق بين قوله في الشاة "هي لك أو لأخيك أو للذئب" وبين قوله في اللقطة "شأنك بها" أو"خذها" بل هو أشبه بالتملك؛ لأنه لم يشرك معه ذئبًا ولا غيره. ومع ذلك فقالوا في اللقطة: يُعرّفها إذا تصرف فيها ثم جاء صاحبها. وقال الجمهور: يجب تعريفها فإذا انقضت مدة التعريف أكلها إن شاء، وغرم لصاحبها، إلا أن الشافعي قال: لا يجب تعريفها إذا وجدت في الفلاة، وأما في القرية فيجب في الأصح. قال النووي: احتج أصحابنا بقوله صلى الله تعالى عليه في سلم في الرواية الأولى "فإن جاء صاحبها فأعطها إياه" وأجابوا عن رواية مالك بأنه لم يذكر الغرامة، ولا نفاها، فثبت حكمها بدليل آخر. قال في "الفتح": وكلامه يوهم أن الرواية الأولي من روايات مسلم فيها ذكر حكم الشاة إذا أكلها الملتقط، ولم أر ذلك في شيء من روايات مسلم ولا غيره في حديث زيد بن خالد، لكن عند أبي داود والتِّرْمِذِيَّ والنَّسائي والطَّحاويّ والدارقطنيّ من حديث عمرو بن شُعيب عن أبيه عن جده في ضالة الشاة "فاجمعها حتى يأتيها باغيها". قلت: ما ذكره عن مالك من أنه قائل بأكل الشاة مطلقًا، وملكها بالأخذ، وظاهره من غير تفصيل، ليس هو مشهور مذهبه، فمشهوره التفصيل، وحاصله أن الشاة إذا وجدت في فلاة، ولم يتيسر حملها للعمران، كان لواجدها أخذها وأكلها, ولا ضمان عليه فيها، فإن حملها للعمران ولو مذبوحة، فربها أحق بها إن علم، وعليه أجرة حملها. ووجب تعريفها إن حملها حية، كما لو وجدها بقرب العمران، أو اختلطت بغنمه في المرعى.

رجاله ستة

رجاله ستة: الأول: عبد الله بن محمد أبو جعفر المُسْنَدِيّ، والثاني أبو عامر عبد الملك وقد مرا في الثاني من كتاب الإيمان, وكذلك سليمان بن بلال. ومر ربيعة الرأي في التعليق المار بعد الحادي والعشرين من كتاب العلم. الخامس: يزيد مولى المُنْبَعِث المَدَني, روى عن أبي هريرة، وزيد بن خالد الجُهَني وروى عنه ابنه عبد الله، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وربيعة وعبد الملك، وبشر بن سعيد ذكره ابن حبان في الثقات. السادس: زيد بن خالد بن زيد بن لَوْث بن سَوْد بن أسْلُم بضم اللام، ابن الحاف الجُهَني، أبو طلحة. وقيل أبو عبد الرحمن وقيل أبو زرعة. وكان معه لواء جُهَينة يوم الفتح. روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أحدٌ وثمانون حديثًا، في البخاريّ منها خمسة. روى عن عثمان وأبي طلحة وعائشة، وروى عنه ابناه خالد وأبو حَرْب، ومولاه أبو عَمْرَة، وأبو سلمة وآخرون وشهدا الحديبية. نزل الكوفة. ومات بها سنة ثمان وسبعين، وهو ابن خمس وثمانين. وقيل مات بالمدينة. وقيل بمصر. روى له الجماعة وليس في الصحابة زيد بن خالد سواه. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة، ورواته ما بين بخاريّ وبصريّ ومَدَنيّ، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، أخرجه البخاري هنا، وفي اللقطة ثلاث مرات عن عبد الله بن يوسف وعن قتيبة وعن محمد بن يوسف، وفي الشرب عن إسماعيل بن عبد الله، وفي الأدب عن محمد، وفي الطلاق عن عليّ بن عبد الله، ومسلم في القضاء عن يحيى وغيره، وأبو داود في اللقطة عن قتيبة وغيره، والتِّرمذي في الأحكام عن قتيبة، وقال حسن صحيح. والنسائي في الضوال واللقطة عن قتيبة، وقال: حسن صحيح. وابن ماجة في الأحكام عن إسحاق بن إسماعيل.

الحديث الرابع والثلاثون

الحديث الرابع والثلاثون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِى مُوسَى قَالَ سُئِلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ أَشْيَاءَ كَرِهَهَا، فَلَمَّا أُكْثِرَ عَلَيْهِ غَضِبَ، ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ: "سَلُونِى عَمَّا شِئْتُمْ". قَالَ رَجُلٌ مَنْ أَبِي قَالَ: "أَبُوكَ حُذَافَةُ". فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ مَنْ أَبِى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "أَبُوكَ سَالِمٌ مَوْلَى شَيْبَةَ". فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ مَا فِي وَجْهِهِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَتُوبُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قوله: "سئل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم "، ببناء سئل للمجهول، ولم بسم السائل إيثارًا للستر على المسلمين. وقوله: "عن أشياء كرهها" لأنه ربما كان فيها شيء سببًا لتحريم شيء على المسلمين، فتلحقهم به المشقة، وقد أخرج البخاريّ عن سعد بن أبي وقاص مرفوعًا أن "أعظم المسلمين جُرْمًا من سأل عن شيء لم يحرَّم فَحُرِّمَ من أجل مسألته" ومن ذلك: السؤال عن الساعة، وما أشبه ذلك من المسائل. وقوله: "فلما أكثر عليه غضب" أي فلما أكثر عليه الناس السؤال غضب لتعنتهم في السؤال وتكلفهم ما لا حاجة لهم به، وقوله: "سلوني عما شئتم" بالألف، وهي نادرة، وللأصيلي "عمَّ شئتم" بحذفها؛ لأنه يجب حذف ألف ما الاستفهامية إذا جُرُت، وإبقاء الفتحة دليلًا عليها، نحو {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} [النازعات: 43]، {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ} [النمل: 35] للفرق بين الاستفهام والخبر. ومن ثم حذفت فيما ذكر، وأثبتت في} لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ {[الأنفال: 68] {أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] فكما لا تحذف الألف في الخبر، لا تثبت في الاستفهام إلا ندورًا كقراءة عكرمة {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ: 1]، وحمل هذا القول منه عليه الصلاة والسلام، على الوحي أولًا، وإلا فهو لا يعلم ما يسأل عنه من المغيبات إلا بإعلام الله تعالى، كما هو مقرر.

رجاله خمسة

وقوله: "أبوك سالم مولى شيبة". كان سبب السؤال، طعن بعض الناس في نسب بعضهم على عادة الجاهلية، ويأتي الكلام على السائلين في السند، وقوله: "إنا نتوب إلى الله عز وجل" أي: مما يوجب غضبك. وفي حديث أنس الآتي بعد إن عمر برك على ركبتيه، فقال: رضينا بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا، والجمع بينهما ظاهر بأنه قال جميع ذلك، فنقل كل من الصحابيين ما حفظ، ودل على اتحاد المجلس اشتراكهما في نقل قصة عبد الله بن حُذافة. رجاله خمسة: الأول: محمد بن العلاء، والثاني حماد بن أُسامة، وقد مرا في الحادي والعشرين من كتاب العلم هذا. ومر بُرَيد وأبو بُرْدة وأبو موسى في الرابع من كتاب الإِيمان وذكر في المتن "قال رجل من أبي؟ قال: حُذافة" والرجل المراد به عبد الله بن حُذافة، وقد مر في السادس من كتاب العلم هذا، وفيه أيضًا قول رجل آخر "من أبي؟ قال: سالم" وهذا الذي أبوه سالم هو: سعد بن سالم مولى شيبة بن ربيعة، قال في "فتح الباري": سماه ابن عبد البَرّ في التمهيد في ترجمة سُهَيل بن أبي صالح منه، وأغفله في "الاستيعاب"، ولم يظفر به أحد من الشارحين، ولا ممن صنف في المبهمات، ولا في الصحابة. وهو صحابي بلا مرْية لقوله: من أبي يا رسول الله؟ ووقع في تفسير مُقاتل في نحو هذه القصة أن رجلًا من بني عبد الدار قال: من أبي؟ قال: سعد نسبة إلى غير أبيه بخلاف حُذافة. وفيه ذكر عمر، وقد مر في الأول من بدء الوحي. لطائف إسناده: رجاله كلهم كوفيون، وأخرجه البخاري أيضًا في كتاب الاعتصام، في باب ما يكره من كثرة السؤال، عن يوسف بن موسى، وفي الفضائل عن أبي كريب، وعبد الله بن برد. ثم قال المصنف.

باب من برك على ركبتيه عند الإمام أو المحدث

باب من برك على ركبتيه عند الإِمام أو المحدث بفتح الموحدة والراء المخففة، يقال: برك البعير، إذا استناخ، واستعمل في الآدمى مجازًا.

الحديث الخامس والثلاثون

الحديث الخامس والثلاثون حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- خَرَجَ، فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ فَقَالَ مَنْ أَبِي فَقَالَ: "أَبُوكَ حُذَافَةُ". ثُمَّ أَكْثَرَ أَنْ يَقُولَ: "سَلُونِى". فَبَرَكَ عُمَرُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- نَبِيًّا، فَسَكَتَ. قوله: "خرج فقام عبد الله بن حذافة" فيه حذف يظهر من الرواية الأخرى، والتقدير خرج فسئل، فأكثروا عليه، فغضب، فقال: سلوني، فقام عبد الله. وقوله: "أبوك حذافة" في مسلم: أنه كان يدعى لغير أبيه، ولما سمعت أمه سؤاله، قالت: ما سمعت بابن أعقَّ منك. أمنت أن تكون أمك قارفت ما يقارف نساء الجاهلية؟ فتفضحها على أعين الناس؟ فقال: والله لو ألحقني بعبد أسود للحقت به. وقوله: "فبرك عمر على ركبتيه" مر أن البروك حقيقة للبعير، واستعمل في الآدمي على طريق المجاز غير المقيد، وهو أن يكون في حقيقته مقيدًا، فيستعمل في الأعم بلا قيد، كالمشفر لشفة البعير، فيستعمل لمطلق الشفة، فيقال: زيد غليظ المشفر. وقوله: "فقال" أي: عمر، رضي الله تعالى عنه، بعد، أن برك على ركبتيه، تأدبًا وإكرامًا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وشفقته على المسلمين: وقوله: "فسكت" أي غضبه وفي بعض الروايات "فسكن غضبه" بدل "فسكت" قال ابن بطّال: فهم عمر منه أن تلك الأسئلة قد تكون على سبيل التعنت أو الشك، فخشي أن تنزل العقوبة بسبب ذلك، فقال: رضينا بالله ربًا إلى آخره، فرضي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك، فسكت.

رجاله أربعة

رجاله أربعة: أبو اليمان، وشعيب بن أبي حَمْزة مرا في السابع من بدء الوحي، ومر ابن شهاب في الثالث منه، ومر أنس بن مالك في السادس من كتاب الإيمان ومر عبد الله بن حُذافة في السادس من كتاب العلم. أخرجه البخاري هنا، وفي الصلاة أيضًا، وفي الاعتصام عن أبي اليمان، ومسلم في فضائل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، عن عبد الله بن عبد الرحمن. ثم قال المصنف. باب من أعاد الحديث ثلاثًا ليفهم عنه كذا هو في رواية كريمة والأصيلي، بذكر "عنه" وحينئذ يفهم، بفتح الهاء لا غير، وفي رواية غيرهما بحذف "عنه" وحينئذ الياء بالضم والهاء روي فيه الفتح والكسر، قال ابن المنير: نبه البخاريّ بهذه الترجمة على الرد على من كره إعادة الحديث، وأنكر على الطالب الاستعادة، وعده من البلادة، والحق إن هذا يختلف باختلاف القرائح، فلا عيب على المستفيد الذي لا يحفظ من مرة إذا استعاد، ولا عذر للمفيد إذا لم يعد، بل الإِعادة عليه آكد من الابتداء، لان الشروع ملزم. ثم قال المصنف مستدلًا للترجمة: فقال: "ألا وقول الزور، فما زال يكررها" وفي رواية غير أبي ذر "فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم"، وهذا طرف معلق من حديث أبي بكرة المذكور في الشهادات والدِّيات أوله " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثًا؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وجلس، وكان متكئا، ألا وقول الزور، قال فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت" هذا لفظ الحديث. وقوله فيه: "ثلاثًا" أي: قال لهم ذلك ثلاث مرات، وكرره تأكيدًا لينتبه السامع على إحضار فهمة. ووهم من قال: المراد بذلك عدد الكبائر. وفي

هذا اللفظ معنى الترجمة لكونه قال لهم ذلك ثلاثًا. وها أنا أذكر بعضًا من تصير هذا الحديث فأقول: قوله: "الإشراك بالله" يحتمل مطلق الكفر، ويكون تخصيصه بالذكر لغلبته في الوجود، ولاسيما في بلاد العرب، فذكره تنبيهًا على غيره، ويحتمل أن يراد به خصوصيته، إلا أنه يرد عليه أن بعض الكفر أعظم قبحًا من الاشراك، وهو التعطَّل لأنه نفي مطلق، والإشراك إثبات مقيد، فيترجح الاحتمال الأول. وقوله: "وعقوق الوالدين" العقُوق، بضم العين المهملة، مشتق من العَقّ، وهو القطع، والمراد به صدور ما يتأذى به الوالد من ولده من قول أو فعل إلاَّ في شرك أو معصية، ما لم يتعنت الوالد. وضبطه ابن عطية بوجوب طاعتهما في المباحات فعلًا وتركًا، واستحبابها في المندوبات وفروض الكفاية كذلك. ومنه تقديمها عند تعارض الأمرين، وهو كمن دعته أمه ليمرِّضها مثلا بحيث يفوت عليه فعلُ واجب إن استمر عندها، ويفوت ما قصدته من تأنيسه لها، وغير ذلك إن لو تركها وفعله وكان مما يمكن تداركه مع تفاوت الفضيلة، كالصلاة أول الوقت أو في الجماعة. وقوله: "وجلس وكان متكئا" يشعر بأنه اهتم بذلك، حتى جلس بعد أن كان متكئًا، ويفيد ذلك تأكيد تحريمه، وعظم قبحه وسبب الاهتمام بذلك كون قول الزور أو شهادة الزور أسهل وقوعا على الناس، والتهاون بها أكثر، فإن الاشراك ينبو عنه قلب المسلم، والعقوق يصرف عنه الطبع، وأما الزور فالحوامل عليه كثيرة كالعداوة والحسد وغيرهما، فاحتيج إلى الاهتمام بتعظيمه، وليس ذلك لعظمها بالنسبة إلى ما ذكر معها من الإشراك قطعًا، بل لكون مفسدة الزور متعدية إلى غير الشاهد، بخلاف الشرك، فإن مفسدته قاصرة غالبًا. وقوله: "ألا وقول الزور" في رواية "وشهادة الزور". قال ابن دقيق العيد عطف الشهادة على القول ينبغي أن يكون تأكيدًا للشهادة، فإنا لو حملنا

القول على الإطلاق لزم أن تكون الكذبة الواحدة كبيرة, وليس كذلك. ولا شك أن عظم الكذب ومراتبه متفاوتة، بحسب تفاوت مفاسده ومنه قوله تعالى {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء: 112]. قال: وقد نص الحديث الصحيح على أن الغيبة والنميمة كبيرة، والغيبة تختلف بحسب القول المغتاب به، فالغيبة بالقذف كبيرة ولا تساويها الغيبة بقبح الخلقة، أو الهيئة مثلا، وقال غيره: يجوز أن يكون من عطف الخاص على العام؛ لأن كل شهادة زور قول زور، بغير عكس ويحتمل قول الزور على نوع خاص، والأولى: ما قاله ابن دقيق العيد، ويؤيده وقوع الشك في رواية أنس، هل قال: قُول الزور "أو شهادة الزور"؟ فدل على أن المراد شيء واحد. وقال القرطبي: شهادة الزور هي الشهادة بالكذب ليتوصل بها إلى الباطل من إتلاف نفس، أو أخذ مال، أو تحليل حرام، أو تحريم حلال، فلا شيء من الكبائر أعظم ضررًا منها, ولا أكثر فسادًا بعد الشرك بالله. وزعم بعضهم أن المراد بشهادة الزور في هذا الحديث الكفر، فإن الكافر شاهد بالزور، وهو ضعيف. وقيل: المراد من يستحل شهادة الزور، وهو بعيد، وقد نظم كل من العقوق وشهادة الزور بالشرك في آيتين إحداهما قوله {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23] ثانيهما قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30] وقد أخرج النَّسائي والبَّزار، وصححه ابن حبان والحاكم، عن ابن عمر "ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاقُّ لوالديه، ومُدْ من الخمر والمنَّان" وأخرج أحمد والنسائي، وصححه الحاكم عن عبد الله بن عمرو، نحوه، إلا أنه قال "الديوث" بدل "المنان" والديوث، بفتح الدال المهملة وتشديد التحتانية بوزن فروخ، هو الذي يقر الخبث في أهله. وقوله: "فما زال يكررها" يعني في مجلسه ذلك، والضمير يعود على الكلمة الأخيرة، وهي قول الزور، وقوله: "حتى قلنا: ليته سكت" أي:

شفقة عليه، وكراهية لما يزعجه، وفيه ما كانوا عليه من كثرة الأدب معه صلى الله تعالى عليه وسلم والمحبة له، والشفقة عليه. وقوله في الحديث "أكبر الكبائر" ليس على ظاهره من الحصر، بل فيه "من" مقدرة فقد ثبت في أشياء أخر أنها من أكبر الكبائر، منها حديث أنس عند المصنف حيث عد فيه "قتل النفس" وحديث ابن مسعود عنده أيضًا "أيُّ الذنب أعظم"؟ فذكر فيه "الزنى بحليلة الجار" وحديث عبد الله بن أُنيس الجهنيّ مرفوعًا قال: من"أكبر الكبائر" فذكر منها "اليمين الغَمُوس" أخرجه التِّرمذي بسند حسن، وله شاهد عند أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وحديث أبي هريرة، رفعه، أن عن أكبر الكبائر "استطالة المرء في عرض رجل مسلم" أخرجه ابن أبي حاتم بسند حسن، وحديث ابن عمر رفعه، "أكبر الكبائر سوء الظن بالله" أخرجه ابن مَرْدَويهِ بسند ضعيف، وحديث بُرَيدة رفعه، من أكبر الكبائر، فذكر منها "منع فضل الماء" و"منع الغسل" أخرجه البّزار بسند ضعيف، ويقرب من هذا حديث أبي هريرة "ومن أظلم ممن يخلق كخلقي" أخرجه المصنف في اللباس وغيره، وحديث عائشة "أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم" أخرجه الشيخان. وحديث عبد الله بن عمرو عند المصنف "من أكبر الكبائر أن يسب الرجل أباه" ولكنه من جملة العقوق. قال ابن دقيق العيد: يستفاد من قوله "أكبر الكبائر" انقسام الذنوب إلى كبير وأكبر، ويستنبط منه أن في الذنوب صغائر وكبائر، وقد اختلف السلف فذهب الجمهور إلى أن من الذنوب كبائر وصغائر، وشذت طائفة، منهم أبو إسحاق الإسْفراينيَّ، فقال: ليس في الذنوب صغيرة، بل كل ما نهى الله عنه كبيرة، ونقل ذلك عن ابن عباس أخرجه عنه إسماعيل القاضي والطبري بسند صحيح، على شرط الشيخين، وحكاه القاضي عياض عن المحققين. واحتجوا بأن كل مخالفة لله فهي، بالنسبة إلى جلاله كبيرة. ونسبه ابن بَطّال إلى بعض الأشعرية، فقال: انقسام الذنوب إلى صغائر

وكبائر، وهو قول عامة الفقهاء، وخالفهم من الأشعرية أبو بكر بن الطَّيب وأصحابه، فقالوا: المعاصي كلها كبائر، وإنما يقال لبعضها صغيرة، بالإضافة إلى ما هو أكبر منها، كما يقال: القُبْلة المحرمة صغيرة بإضافتها إلى الزنا وكلها كبائر. قالوا: ولا ذنب عندنا يغفر واجبًا باجتناب ذنب آخر، بل كل ذلك كبيرة، ومرتكبه في المشيئة غير الكفر، لقوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] وأجابوا عن الآية التي احتج أهل القول الأول بها، وهي قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النساء: 31]. أن المراد الشرك. وقال الفراء: من قرأ كبائر، فالمراد بها كبير، وكبير الإثم هو الشرك، وقد يأتي لفظ الجمع والمراد به الواحد، كقوله تعالى {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 105]. ولم يرسل إليهم غير نوح. قالوا: وجواز العقاب على الصغيرة، كجوازه على الكبيرة، قال النّوويّ: قدّ تظاهرت الأدلة من الكتاب والسنة إلى القول الأول. وقال الغزالي في "البسيط": إنكار الفرق بين الصغيرة والكبيرة لا يليق بالفقيه, وقد حقق إمام الحرمين المنقول عن الأشاعرة واختاره، وبين أنه لا يخالف ما قاله الجمهور فقال في "الإرشاد" المرضيُّ عندنا أن كل ذنب يُعصى الله به كبيرة، فرب شيء يعد صغيرة بالإضافة إلى الأقران، ولو كان في حق الملك لكان كبيرة، والرب أعظم من عُصي، فكل ذنب بالإضافة إلى مخالفته عظيم، ولكن الذنوب وإن عظمت فهي متفاوتة في رتبها، وظَنَّ بعض الناس أن الخلاف لفظي، فقال: التحقيق أن للكبيرة اعتبارين، فبالنسبة إلى مقايسة بعضها لبعض فهي تختلف قطعًا، وبالنسبة إلى الآمر الناهي، فكلها كبائر. والتحقيق أن الخلاف معنوي، وإنما جر إليه الأخذ بظاهر الآية، والحديث الدال على أن الصغائر تكَفَّر باحتناب الكبائر. وقال القرطبي: ما أظنه يصح عن ابن عباس أن كل ما نهى الله عز

وجل، عنه كبيرة؛ لأنه مخالف لظاهر القرآن في الفرق بين الصغائر والكبائر في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم: 32] وقوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31] فجعل في المنهيات صغائر الكبائر، وفرَّق بينهما في الحكم، إذ جعل تكفير السيئات في الآية مشروطًا باجتناب الكبائر، واستثنى اللمم من الكبائر والفواحش، فكيف يخفى ذلك على حَبْر القرآن؟ كذا قال، لكن النقل المذكور عنه قد مر لك من أخرجه فالأَوْلى أن يكون المراد بقوله "نهى الله عنه" محمولا على نهي خاص، وهو الذي قرن به وعيد، كما قيد في الرواية الأخرى الآتية، عن ابن عباس فيحمل مطلقَهُ على مقيده جمعًا بين كلاميه. وقال الحَلِيميّ في "المنهاج": ما من ذنب إلا وفيه صغيرة وكبيرة، وقد تنقلب الصغيرة كبيرة بقرينة تضم إليها، وتنقلب الكبيرة فاحشة كذلك، إلا الكفر بالله فإنه أفحش الكبائر، وليس من نوعه صغيرة، ومع ذلك فهو ينقسم إلى فاحش، وافحش. ثم ذكر الحليمي أمثلة لما ذكر، فقال: الثاني كقتل النفس بغير حق، فإنه كبيرة، فإن قتل أصلًا أو فرعًا أو ذا رحم أو بالحرم أو بالشهر الحرام، فهو فاحشة والزنا كبيرة فإن كان بحليلة الجار، أو بذات محرم، أو في شهر رمضان أو في الحرم فهو فاحشة. وشرب الخمر كبيرة فإن كان في شهر رمضان نهارًا فهو فاحشة. والأول كالمفاخذة مع الأجنبية صغيرة، فإن كان مع امرأة الأب أو خليلة الابن أو ذات رحم فكبيرة، وسرقة دون النصاب صغيرة، فإن كان المسروق منه لا يملك غيره، وافضى به عدمه إلى الضعف فهو كبيرة، وأطال في أمثلة ذلك، وهو منهج حسن لا بأس باعتباره، ومداره على شدة المفسدة وخفتها. وقال الطَّيبيّ: الصغيرة والكبيرة أمران نسبيان، فلابد من أمر يضافان إليه، فهو أحد ثلاثة أشياء: الطاعة أو المعصية أو الثواب. فأما الطاعة، فكل ما تكفره الصلاة مثلًا فهو من الصغائر، وكل ما يكفره الإِسلام أو

الهجرة فهو من الكبائر، وأما المعصية فكل معصية يستحق فاعلها بسببها وعيدًا أو عقابًا بأزيد من الوعيد أو العقاب المستحق بسبب معصية أخرى فهي كبيرة. وأما الثواب ففاعل المعصية إن كان من المقربين فالصغيرة بالنسبة إليه كبيرة. فقد وقعت المعاتبة في حق بعض الأنبياء على أمور لم تعد من غيرهم معصية. قال فى"الفتح": وكلامه فيما يتعلق بالوعيد والعقاب يخصص عموم من أطلق أن علامة الكبيرة ورود الوعيد أو العقاب في حق فاعلها, لكن يلزم منه أنَّ مطلق قتل النفس مثلًا ليس كبيرة؛ لأنه وإن ورد الوعيد فيه أو العقاب، لكن ورد الوعيد والعقاب في حق قاتل ولده أشد، فالصواب ما قاله الجمهور. وأن المثال المذكور ينقسم إلى كبيرة وأكبر. قال النوويّ: اختلفوا في ضبط الكبيرة اختلافًا كثيرًا، فروي عن ابن عباس أنها كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب. وهذا أخرجه عنه ابن أبي حاتم بسند لا بأس به، إلا أن فيه انقطاعًا. وأخرج عنه من وجه آخر متصل، لا بأس برجاله، قال: كل ما توعد الله عليه بالنار كبيرة، وجاء نحو هذا عن الحسن البصري، وقال آخرون: هي ما أوعد الله عليه بنار في الآخرة أو أوجب فيه حدًا في الدنيا. نص على هذا الإمام أحمد، والماوَرْدِيّ من الشافعية قال: الكبيرة ما وجبت فيه الحدود أو توجه إليها الوعيد. وقد ضبط كثير من الشافعية الكبائر بضوابط أخرى منها قول إمام الحرمين: كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة. وقال الرافعي: هي ما أوجب الحد. وقيل: ما يلحق الوعيد بصاحبه بنص كتاب أو سنة. هذا أكثر ما يوجد للأصحاب، وهم إلى ترجيح الأول أميل. لكن الثاني أوفق، لما ذكره عند تفصيل الكبائر، وقد أقره في الروضة، وهو يشعر بأنه لا يوجد عند أحد من الشافعية الجمع بين التعريفين، وليس كذلك، فقد مر قريبا عن الماوردي الجمع بينهما، وكيف يقول عالم أن الكبيرة ما ورد فيه الحد مع التصريح في الصحيحين بالعقوق واليمين الغموس

وشهادة الزور ونحو ذلك، وأجاب بعض الأئمة بأن مراد قائله ضبط ما لم يرد فيه نص بأنه كبيرة. وقال ابن عبد السلام: لم أقف على ضابط للكبيرة يسلم من الاعتراض. قال: والأولى ضبطها بما يشعر بتهاون مرتكبها بدينه إشعارًا صغر الكبائر المنصوص عليها، قال: وضبطها بعضهم بكل ذنب قرن به وعيد أو لعن. وهذا أشمل من غيره، ولا يرد عليه إخلاله بما فيه حد؛ لأن كلل ما ثبت فيه الحد لا يخلو من ورود الوعيد على فعله، ويدخل فيه ترك الواجبات الفورية منها مطلقًا والمتراخية إذ تضيقت. وقال ابن الصّلاح: لها أمارات، منها إيجاب الحد وألا يعاد عليها بالعذاب بالنار، ونحوها في الكتاب أو السنة، ومنها وصف صاحبها بالفسق أو اللعن. وهذا أوسع مما قبله، وأخرج إسماعيل القاضي بسند فيه ابن لهيعة عن أبي سعيد مرفوعًا "الكبائر كل ذنب أدخل صاحبه النار" وبسند صحيح عن الحسن البصري قال "كل ذنب نسبه الله تعالى إلى النار فهو كبيرة ومن أحسن التعاريف قول القرطبيّ "المفهم": كل ذنب أُطلق عليه بنص كتاب أو سنة أو اجماع أنه كبيرة أو عظيم أو أخبر فيه بشدة العقاب أو علق عبيه الحد أو شدد عليه النكير فهو كبيرة. قال: وعلى هذا فينبغي تتبع ما ورد فيه الوعيد أو اللعن أو الفسق من القرآن، أو الأحاديث الصحيحة أو الحسنة، ويضم إلى ما ورد فيه التنصيص في القرآن والاحاديث الصحاح والحسان على أنه كبيرة، فمهما بلغ مجموع ذلك عرف تحرير عدها. وقد أخرج البخاريّ في كتاب الحدود عن أبي هريرة رفعه "اجتنبوا السبعَ الموبقات قالوا: يا رسول الله، وما هي؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربى، وأكل مال اليتيم، والتَّولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات". وقد شرط القاضي أبو سعيد الهَرَويّ أن شرط كون غصب المال كبيرة أن يبلغ نصابًا ويطرد ذلك في السرقة، وفي أكل مال ليتيم وجميع أنواع الجناية.

والمراد بالموبقة هنا الكبيرة، وقد تتبع في "الفتح" عند هذا الحديث جميع ما وقف عليه من الأحاديث فيه التصريح بأن الذنب من الكبائر أو من أكبر الكبائر صحيحاً وضعيفًا مرفوعًا وموقوفًا فقال في عدها. وللطبرانيّ عن سهل بن أبي خَيْثَمة عن عليّ رفعه، "اجتنبوا الكبائر السبع" فذكرها، ولكن ذكر "التعّرب بعد الهجرة بدل "السحر" وله في "الأوسط" عن أبي سعيد مثله، وقال "الرجوع إلى الأعراب بعد الهجرة" ولإسماعيل القاضي عن عبد الله بن عمرو قال: صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر ثم قال: "أبشروا من صلّى الخمس، واجتنب الكبائر السبع، نودي من أبواب الجنة"، فقيل له: أسمعت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، يذكرهن؟ فقال: نعم. فذكر مثل حديث على سواء. وقال عبد الرزاق عن الحسن قال: الكبائر: الإشراك بالله، فذكر مثل الأُصول سواء إلا أنه قال: "اليمين الفاجرة" بدل "السحر" ولابن عمر فيما أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" والطبري في التفسير، وعبد الرزاق والخرائطيّ في "مساوىء الأخلاق" وإسماعيل القاضي في "أحكام القرآن" مرفوعًا وموقوفًا قال "الكبائر تسع"، فذكر السبعة المذكورة، وزاد "الإلحاد في الحرم وعقوق الوالدين" ولأبي داود والطبرانيّ عن عُبيد بن عُمير اللَّيثيّ عن أبيه، رفعه "أن اولياء الله المصلون، ومن يجتنب الكبائر" قالوا: وما الكبائر قال: هن تسع، أعظمهن الإشراك بالله، .. " فذكر مثل حديث ابن عمر سواء، إلا أنه عبر عن الإِلحاد في الحرم باستحلال بيت الله الحرام". وأخرج إسماعيل القاضي بسند صحيح عن سعيد بن المُسيّب قال: هن عشر، فذكر السبعة التي في الأصل وزاد و"عقوق الوالدين واليمين الغموس وشرب الخمر". ولابن أبي حاتم عن مالك بن الحُوَيرث عن عليّ قال: فذكر التسعة إلاَّ مال اليتيم، وزاد "العقوق، والتَّعرب بعد الهجرة وفراق الجماعة، ونكت الصَّفقة" وللطّبراني عن أبي أُمامة أنهم تذاكروا الكبائر، فقالوا: الشرك،

ومال اليتيم، والفرار من الزحف، والسحر، والعقوق، وقول الزور، والغُلول، والزنى. فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه سلم: "فأين تجعلون الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلًا"، وعند عبد الرزاق والطَّبراني عن ابن مسعود: أكبر الكبائر الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله، وهو موقوف. قلت: هذا لا مجال للرأي فيه، فهو في حكم المرفوع. وروى إسماعيل، بسند صحيح، عن ابن سيرين عن عبد الله بن عمرو مثل حديث الأصل قال: البُهْتان، بدل السحر، والقذْف. فسئل عن ذلك، فقال: البُهتان يجمع. وفي الموطأ، عن النعمان بن مُرّة، مرسلًا "الزنى، والسرقة، وشرب الخمر فواحش" وله شاهد عن عمران بن حُصين عند البخاريّ في "الأدب المفرد" والطَّبراني والبّيهقي، وسنده حسن ولاسماعيل القاضي من مرسل الحسن ذكر "الزنى والسرقة" وله عن أبي إسحاق السَّبيْعيّ "شتم أبي بكر وعمر" وهو لابن أبي حاتم من قول المغيرة بن مِقْسَم. وأخرج الطبريّ عنه، بسند صحيح "الإضرار فى الوصية من الكبائر" وعنه "الجمع بين الصلاتين من غير عذر" رفعه، وله شاهد أخرجه ابن أبي حاتم عن عمر قوله، وعند إسماعيل من قول ابن عمر، ذكر النُّهبة، ومن حديث أبي هريرة عند الحاكم "الصلوات كفّارات إلا من ثلاث: الإشراك بالله، ونكَثُ الصَّفقة، وترك السنة" ثم فسر نكث الصفقة بالخروج على الإِمام، وترك السنة بالخروج عن الجماعة. ومن الضعيف في ذلك نسيان القرآن. أخرجه أبو داود والترمذِيّ عن أنس، رفعه "نظرت في الذنوب فلم أر أعظم من سورة من القرآن أُوتيها رجلٌ فنسيها" وحديث "من أتى حائضًا أو كاهنًا فقد كفرًا أخرجه التِّرْمِذي. وقد مر في أول الكلام على هذا الحديث، وذكر أحاديث وردت فيها أشياء من أكبر الكبائر "قتل النفس، والزنى بحليلة الجار، واليمين الغموس، واستطالة المرء في عرض رجل مسلم، وسؤ الظن بالله، ومنع فضل الماء،

ومنع الغسل، ومن اظلم ممن يخلق كخلقي، وأبغض الرجال إلى الله الألد الخَصِم، وسب الرجل أباه" ومر في الطهارة ذكر النميمة، والغيبة، وترك التنّزه عن البول، ثم قال: وقد تتبعه غاية التتبع. وفي بعضه ما ورد خاصًا ويدخل في عموم غيره كالتسبب في لعن الوالدين، فهو داخل في العقوق، وقتل الولد وهو داخل في قتل النفس، والزنا بحليلة الجار، وهو داخل في الزنا، والنهبة والغلول واسم الخيانة يشملها، ويدخل الجميع في السرقة، وتعلم السحر وهو داخل في السحر، وشهادة الزور وهي داخلة في قول الزّور، ويمين الغموس وهي داخلة في اليمين الفاجرة، والقنوط من رحمة الله كاليأس من روح الله. والمعتمد من كل ذلك ما ورد مرفوعًا بغير تداخل من وجه صحيح، وهي السبعة المذكورة في الحديث السابق، والانتقال عن الهجرة يعني الرجوع عنها، والزنى، والسرقة، والعقوق واليمين الغموس، والإِلحاد في الحرم، وشرب الخمر، وشهادة الزور، والنميمة، وترك التنزه من البول، والغلول، ونكث الصفقة، وفراق الجماعة، فتلك عشرون فصلة، وتتفاوت مراتبها. والمجمع على عده من ذلك اقوى من المختلف فيه إلا ما عضده القرآن أو الإِجماع فيلتحق بما فوقه، ويجتمع من المرفوع والموقوف ما يقاربها، ويحتاج عند هذا إلى الجواب عن الحكمة في الاقتصار على سبع، ويجاب بان مفهوم العدد ليس بحجة، وهو جواب ضعيف، وبأنه أعلم أولًا بالمذكورات، ثم أعلم بما زاد فيجب الأخذ بالزائد، أو أن الاقتصار وقع بحسب المقام بالنسبة للسائل، أو من وقعت له واقعة ونحو ذلك. وقد أخرج الطبريّ وإسماعيل القاضي عن ابن عباس أنه قيل له: الكبائر سبع؟، فقال هن أكثر من سبع وسبع. وفي رواية عنه هي إلى السبعين أقرب. وفي رواية إلى السبعمائة، ويحمل كلامه على المبالغة بالنسبة إلى من اقتصر على سبع وكأَن المقتصر عليها اعتمد على حديث أبي هريرة السابق. هذا تلخيص ما بسطه في فتح الباري في ثلاثة مواضع في الشهادات والادب والحدود وكتاب المحاربين.

ثم قال المصنف: وقال ابن عمر: قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: "هل بَلَّغْت"، ثلاثًا. وهذا طرف من حديث وصله المؤلف في خطبة الوداع، ووصله أيضًا في كتاب الحدود، أوله " ألا أي شهر تعلمونه أعظم حرمة" الخ وقوله: "ثلاثًا" متعلق بقال، لا بقوله: بلّغت. وتقدم الكلام على هذا الحديث في باب قوله النبي صلى الله تعالى عليه وسلم "رُبَّ مُبَلِّغٍ أوعى من سامع" ومر عبد الله بن عمر في أول كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه.

الحديث السادس والثلاثون

الحديث السادس والثلاثون حَدَّثَنَا عَبْدَةُ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَلَّمَ سَلَّمَ ثَلاَثًا، وَإِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلاَثًا. قوله: "إنه كان إذا سلّم" أي من عادة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، والمراد أن أنسًا مخبر عما عرفه من شأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وشاهدَه، لا أنه، عليه الصلاة والسلام، أخبره بذلك، ويؤيد ذلك أن المؤلف أخرجه في كتاب الاستئذان عن عبد الصمد بهذا الإسناد إلى أنس، فقال: إن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، كان. وقوله: "سلم ثلاثا" أي ثلاث مرات، ويشبه أن يكون ذلك عند إلاستئذان لحديث، "إذا استأذن أحدكم ثلاثًا ولم يؤذن له فليرجع" وعورض بأن تسليمة الاستئذان لا تُثَنى إذا حصل الإذن بالأولى، ولا تثَلّث إذا حصل بالثانية. نعم يحتمل أن يكون معناه إنه عليه الصلاة والسلام، كان إذا أتى على قوم سلم عليهم تسليمة الاستئذان، وإذا دخل سلم تسليمة التحية، ثم إذا قام من المجلس سلم تسليمة الوداع وكل سنة. وقوله: "إذا تكلم" قال الكَرماني: مثل هذا التركيب يشعر بالاستمرار عند الأَصوليين، وقوله: "بكلمة" أي بجملة مفيدة من باب إطلاق اسم البعض على الكل، وقوله: "أعادها ثلاثًا" أي ثلاث مرات. قال الدماميني: لا يصح أن يكون أعاد مع بقائه على ظاهره عاملًا في "ثلاثًا" ضرورة أنه يستلزم قول تلك الكلمة أربع مرات، فإن الإعادة ثلاثًا إنما تتحقق بها إذ المرة الأولى لا إعادة فيها، فأما إن تضمن معنى قال ويصح

رجاله خمسة

عملها في "ثلاثًا" بالمعنى المضمن، أو يبقى أعاد على معناه، ويجعل العامل محذوفًا، أي أعادها فقالها وعليهما فلم تقع الإعادة إلا مرتين. رجاله خمسة: الأول: عَبدة، بفتح العين، ابن عبد الله بن عَبْدة الخُزاعيّ الصَفّار، أبو سهل البَصْري، كوفي الأصل. قال أبو حاتم: صدوق، وقال النَّسائي: ثقة، وقال الدارقطني: ثقة، وذكره ابن حِبان في الثقات، وقال: مستقيم الحديث. روى عن عبد الصمد بن عبد الوارث، ويحيى بن آدم وأبي داود الطَّيالِسيّ، ويزيد بن هارون الطَّيَالِسيّ وغيرهم. وروى عنه الجماعة سُوى مسلم، وابن خُزَيمة وأبو حاتم ومحمد بن هارون الرَّوْيَانيّ وغيرهم. مات بالبصرة أو الأهواز سنة سبع أو ثمان ومئتين وخمسين سنة. وفي الستة عبدة سواه خمسة، عَبْدة بن سليمان المَرْوَزِيّ، روى له أبو داود وابن سليمان الكلابِيّ، روى له الجماعة وابن عبد الرحيم وابن أبي لُبَابة الأَسديّ وابن حَزْن النَّصْريّ. الثاني: عبد الصمد بن عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان التميمي العَنْبرِيّ، مولاهم، التَّنُّوريُّ أبو سهل البصري. قال ابن سعد: ثقة إن شاء الله وقال الحاكم: ثقة مأمون. وقال ابن قانع: ثقة يخطىء. وقال ابن المدِينى: ثَبْتٌ في شُعْبة. وقال أبو أحمد: صالح الحديث صدوق، وذكره ابن حبان في الثقات. روى عن أبيه وشُعْبة وحمَّاد بن سلَمة وهشام الدَّسْتَوائِيّ وهمّام بن يحيى وغيرهم، وروى عنه عبد الوارث، وأحمد ويحيى وعلي وعبدة الصفّار، ومحمد بن يحيى الذهْلِيّ وغيرهم. مات سنة ست أو سبع ومئتين. وفي الستة عبد الصمد سواه أربعة: ابن حبيب العوذِيّ، وابن سليمان العَتكيّ وابن عبد الوهاب الحَضْرَمِيّ وابن معقل اليمانيّ. الثالث: عبد الله بن المثّنى بن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاري

أبو المثنى الأنصاري البصري. قال العَجْليّ: ثقة، وقال التِّرْمِذِيّ: محمد بن المثنى ثقة، وأبوه ثقة. واختلف فيه قول الدارقطنيّ. وقال ابن مُعين وأبو زرعة وأبو حاتم: شيخ صالح. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: ربما أخطأ. وقال السَّاجِيّ: فيه ضعف، ولم يكن من أهل الحديث. روى مناكير. وقال العقِيليّ: لا يتابع على أكثر حديثه. قال ابن حجر: لم أر البخاريّ احتج به إلا في روايته عن ثُمامه، فعنده عنه أحاديث، وأخرج له من روايته عن ثابت عن أنس حديثًا توبع فيه عنه، وهو في فضائل القرآن. وأخرج له أيضًا في اللباس عن مسلم بن إبراهيم عنه عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر في النهي عن الفزع بمتابعة نافع وغيره، عن ابن عمر. وروى له التِّرمِذيّ. وابن ماجَة روى عن عمه ثُمامة بن عبد الله، وعن أبي موسى والنَّضْر ابني أنس بن مالك والحسن البصري وثابت البنانيّ وغيرهم. وروى عنه ابنه محمد وابن ابنه سلمَة بن المُثَنُّى وعبد الصمد بن عبد الوارث ومسدد، وغيرهم. وليس في الستة عبد الله بن المثنى سواه. الرّابع: ثمامة بن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاريّ البصريّ، قاضيها. قال العَجْلِيّ: مَدَني تابعيّ ثقة. وقال ابن سعد: كان قليل الحديث، وذكره ابن حِبان في الثقات. وقال أحمد والنسائي: ثقة. وقال ابن عَدِي: له أحاديث عن أنس، وأرجو أنه لا بأس به، وأحاديثه قريبه من غيره، وهو صالح فيما يرويه عن أنس عندي. وقال عمر بن شَبَّة: سمعت بعض علمائنا يذكر أن ثمامة لما دعي إلى ولاية القضاء، شاور محمد بن سيرين فأشار عليه أن لا تقبل، فقال: لا أترك، فقال: أخبرهم أنك لا تحسن القضاء، قال: فأكذب؟ قال: فجعل ابن سيرين يعجب منه. وقال ثمامة: وقعت على باب من القضاء جسيم أدفع الخصوم حتى يصطلحوا، فكتب ذلك بلال إلى خالد فعزله عن القضاء. روى عن جده

لطائف إسناده

أنس والبراء بن عازب، وأبي هُريرة, ولم يدركه، وروى عنه ابن أخيه عبد الله بن المثنى، وحُميد الطويل وعَوْف الأَعرابيّ، وأبو عَوانة، وجماعة. مات سنة عشر ومئة. وكان تولى القضاء سنة ست ومائة. وليس في الستة ثُمامة بن عبد الله سواه. وأما ثمامة فستة سواه. الخامس: أنس، وقد مر في السادس من كتاب الإيمان. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والإخبار والعنعنة، وفيه من هو مفرد في البخاري، ليس فيه غيره، ورواته كلهم بصريون. أخرجه البخاري هنا، وفي الاستئذان عن إسحاق بن منصور، والتِّرمِذِيّ فيه أيضًا عن إسحاق بن منصور أيضًا، وفي المناقب عن محمد بن يحيى، وقال: حسن غريب صحيح إنما نعرفه من حديث عبد الله بن المُثَنَّى.

الحديث السابع والثلاثون

الحديث السابع والثلاثون حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ كَانَ إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلاَثًا حَتَّى تُفْهَمَ عَنْهُ، وَإِذَا أَتَى عَلَى قَوْمٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ ثَلاَثًا. قوله: "اعادها ثلاثًا أي: ثلاث مرات، وقد بين المراد بالتكرار في قوله: "حتى تُفْهم عنه" بضم أوله وفتح ثالثه، أي لكي تعقل، لأنه عليه الصلاة والسلام، مأمور بالإبلاغ والبيان، وعبر "بكان إذا تكلم" ليشعر بالاستمرار؛ لأنّ كان تدل على الثبات والاستمرار، بخلاف صار، فإنها تدل على الانتقال فلهذا يجوز أن يقال: "كان الله" ولا يجوز "صار" وكون كان تفيد الاستمرار مما ينازع فيه. وقوله: "فسلم عليهم" من تتمة الشرط، عطف على أتى لا جواب والجواب قوله: "سلم عليهم". قال الإسماعيليّ: يشبه أن يكون ذلك "كان إذا سلَّم سلام الاستئذان وإما أن يمر المار مسلمًا" فالمعروف عدم التكرار، وقد فهم المصنف هذا بعينه، فأورد هذا الحديث مقرونًا بحديث أبي موسى في قصته مع عمر، كما سيأتي إن شاء الله تعالى في الاستئذان، لكن يحتمل أن يكون ذلك كان يقع منه أيضًا إذا خشي أنه لا يسمع سلامه. قال ابن التين: فيه أن الثلاث غاية ما يقع به الاعتذار والبيان. واختلف فيما إذا ظن أنه لم يسمع، هل يزيد على الثلاث؟ فقيل: لا يزيد أخذًا بظاهر الحديث. وقيل: يزيد، وهذا الحديث رجاله رجال الأول، وهو هو بعينه، إلا أن هذا فيه زيادة لفظ "حتى تفهم عنه" وقد سقط حديث عَبْدة الأول من رواية ابن عساكر وأبي ذرٍ، ولا يخفى الاستغناء عنه بالثاني.

الحديث الثامن والثلاثون

الحديث الثامن والثلاثون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ تَخَلَّفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي سَفَرٍ سَافَرْنَاهُ فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ أَرْهَقْنَا الصَّلاَةَ صَلاَةَ الْعَصْرِ وَنَحْنُ نَتَوَضَّأُ، فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: "وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ". مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا. قوله: فأدركنا، بفتح الكاف، وقوله: "أرهقْنا"، بسكون القاف، والأصيلي "أرهَقَتْنا" وقوله: "صلاة العصر" بدل من "الصلاة" إن رفعًا فرفع، وإن نصبا فنصب. وقوله: "مرتين أو ثلاثًا" هو شك من الرواي، وهو يدل على أن الثلاث ليست شرطًا بل المراد التفهيم، فإذا حصل بدونها أجزأ، وقد مر الكلام على الحديث في باب من رفع صوته بالعلم، وأعاده هنا لغرض الاستدلال به على الترجمة. رجاله خمسة: الأول مسدد، وقد مر في السادس من كتاب الإيمان, ومر عبد الله بن عمرو في الثالث منه، ومر أبو عُوانة في الخامس من بدء الوحي، ومر أبو بِشْرٍ جَعْفر بن إياس ويوسف بن ماهِكَ في الثاني من كتاب العلم، وتقدمت مواضع ذكره في الثاني من كتاب العلم. ثم قال المصنف. باب تعليم الرجل أَمَتَه وأَهْلَه هذا من عطف العام على الخاص لأن أَمة الرجل من أهل بيته، ومطابقة الحديث للترجمة في الأمة بالنص، وفي الأهل بالقياس، إذ الاعتناء بالأهل الحرائر في تعليم فرائض الله وسنة رسوله، أكد من الاعتناء بالإماء.

الحديث التاسع والثلاثون

الحديث التاسع والثلاثون أَخْبَرَنَا مُحَمَّدٌ ابْنُ سَلاَمٍ حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ حَيَّانَ قَالَ: قَالَ: عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ، حَدَّثَنِي أَبُو بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "ثَلاَثَةٌ لَهُمْ أَجْرَانِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ، وَآمَنَ بِمُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- وَالْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ إِذَا أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ، وَرَجُلٌ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَةٌ فَأَدَّبَهَا، فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا، وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا، فَلَهُ أَجْرَانِ". ثُمَّ قَالَ عَامِرٌ أَعْطَيْنَاكَهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ، قَدْ كَانَ يُرْكَبُ فِيمَا دُونَهَا إِلَى الْمَدِينَةِ. قوله: "ثلاثة لهم أجران" ثلاثة مبتدأ، والتقدير ثلاثة رجال أو رجال ثلاثة. ولهم أجران خبره. وقوله: "رجل" بدل تفصيل، أو "بدل كل" بالنظر إلى المجموع. وقوله: "من أهل الكتاب" لفظ الكتاب عام، ومعناه خاص، أي المنزل من عند اقه، والمراد به التوراة والإنجيل، كما تظاهرت به نصوص الكتاب والسنة، حيث يطلق أهل الكتاب وحكم المرأة الكتابيَّة حكم الرجل، كما هو مطرد في جل الأحكام حيث يدخلن مع الرجال بالتبعية إلا ما خصه الدليل. وقيل: المراد بالكتاب هنا الإنجيل خاصة، لأن عيسى، عليه الصلاة والسلام، قد أرسل إلى بني إسرائيل بلا خلاف، فمن أجابه منهم نسب إليه، ومن كذبه منهم واستمر على يهوديته لم يكن مؤمنًا، فلا يتناوله الخبر؛ لأن شرطه أن يكون مؤمنًا بنبيه. نعم من دخل في اليهودية من غير بني إسرائيل، أو لم يكن بحضرة عيسى عليه السلام، فلم تبلغه دعوته يصدق عليه أنه يهودي مؤمن بنبيه موسى عليه السلام، ولم يكذب نبيًا آخر بعده، فمن أدرك بعثة محمد، صلى الله تعالى عليه وسلم، ممن كان بهذه المثابة، وآمن به لا يشكل أنه يدخل في الخبر المذكور ومن هذا القبيل العرب الذين كانوا باليمن وغيرها، فمن دخلوا في

اليهودية، ولم تبلغهم دعوة عيسى عليه السلام، لكونه أُرسل إلى بني إسرائيل خاصة نعم، الإشكال في اليهود الذين كانوا بحضرة النبي، صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد ثبت أن الآية الموافقة لهذا الحديث، وهي قوله تعالى: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} [القصص: 54] نزلت في طائفة آمنت منهم، كعبد الله بن سَلاَم وغيره، ففي الطبراني عن رفاعة القُرَظِيّ قال: نزلت هذه الآيات فيَّ وفيمن آمن معي وروي الطَّبَري بإسناد صحيح، عن عليّ بن رِفاعة القُرَظيّ "خرج عشرة من أهل الكتاب منهم أبو رفاعة إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، قآمنوا به، فأُوذوا فنزلت {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ ...} [القصص: 52] الآيات. وأما قول ابن التين: إن الآية المذكورة نزلت في عبد الله بن سَلَام وكعب الأحبار، فذِكره لكعب خطأ، لأن كعبًا ليست له صُحبة، ولم يُسلم إلا في عهد عمر بن الخطاب والذي في تفسير الطبري وغيره أنها نزلت في عبد الله بن سَلام وسلمان الفارسي، وهذا مستقيم لأن عبد الله كان يهوديًا فأسلم، كما سيأتي في الهجرة، وسلمان كان نصرانيًا، كما سيأتي في البيوع. وهما صحابيان مشهوران، فعبد الله بن سلام ومن ذكر معه في حديث عليّ بن رِفاعة من بني إسرائيل، ولم يؤمنوا بعيسى بل استمروا على اليهودية إلى أن آمنوا بمحمد، صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد ثبت أنهم يؤتون أَجرهم مرتين، فيحتمل أن يقال في حق هؤلاء الذين كانوا بالمدينة: أنه لم تبلغهم دعوة عيسى عليه السلام؛ لأنها لم تنتشر في أثر البلاد، فاستمروا على يهوديتهم مؤمنين بنبيهم موسى عليه السلام، إلى أن جاء الإِسلام، قآمنوا بمحمد، صلى الله تعالى عليه وسلم، وبهذا يرتفع الإشكال. ويحتمل إجراء الحديث على عمومه، إذ لا يبعد أن يكون طرَيان الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام سببًا لقبول تلك الأديان، وإن كانت

منسوخة. وقد قال القرطبيّ: إن الكتابيَّ الذي يضاعف أجره مرتين، هو الذي كان على الحق في شرعه عقدًا وفعلًا إلى أن آمن بنبينا, صلى الله تعالى عليه وسلم، فيؤجر على اتباع الحق الأول والثاني. ويشكل عليه أنه، عليه الصلاة والسلام، كتب إلى هرقل "أسْلِم يؤتكَ الله أجرك مرتين" وهرقل كان ممن دخل في النصرانية بعد التبديل، وقد مر في حديث أبي سفيان في بدء الوحي استنباط شيخ الإِسلام البَلْقِينيّ منه أنَّ كل من دان بدين أهل الكتاب، كان في حكمهم في المناكحة والذبائح، لأن هرقل وقومه ممن دخل في النصرانية بعد التبديل، وقد قال له ولقومه "يا أهل الكتاب" فدل على أن لهم حكم أهل الكتاب الخ. وقال الداوديّ، ومن تبعه: يحتمل أن يتناول جميع الأمم فيما فعلوه من خير، كما في حديث حكيم بن حزام: "أسلمتَ على ما أسلفتَ من خير" وهو متعقب بان الحديث مقيد بأهل الكتاب فلا يتناول غيرهم إلا بقياس الخير على الإيمان، وأيضًا فالنكتة في قوله "آمن بنبيه" الِإشعار بعلية الأجر، أي أن سبب الأجرين الإيمانُ بالنبيين، والكفار ليسوا كذلك. ويمكن أن يقال: الفرق بين أهل الكتاب وغيرهم من الكفار أن أهل الكتاب يعرفون محمدًا عليه الصلاة والسلام، كما قال تعالى {يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} [الأعراف: 157]. فمن آمن به واتبعه منهم، كان له فضل على غيره، وكذا من كذبه منهم كان وزره أشد من وزر غيره. وقد ورد مثل ذلك في حق نساء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، لكون الوحي كان ينزل في بيوتهن، فإن قيل: لِمَ لم يذكرنَ في هذا الحديث، فيكون العدد أربعة. أجاب البلْقِينيّ بأن قضيتهنَّ خاصة بهنّ، مقصورة عليهنّ، والثلاثة المذكورة في الحديث مستمرة إلى يوم القيامة، وهذا مصير منه إلى أن قضية مؤمن أهل الكتاب مستمرة، وهذا هو الصحيح، وما ادعاه الكَرمَاني من اختصاص ذلك بمن آمن في عهد البعثة

غير صحيح. قلت: يأتي قريبًا إن شاء الله تعالى، حديثُ الطَّبرانيّ في عد نسائه، عليه الصلاة والسلام، مع الثلاثة المذكورة. وقوله: "آمن بنبيه" أي موسى أو عيسى، عليهما الصلاة والسلام. وقوله: "وآمن بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم" أي بأنه هو الموصوف في الكتابين المنعوت فيهما المأخوذ له الميثاق على سائر النبين وأممهم. وقوله "والعبد المملوك" أي: والثاني جنس العبد المملوك. وقوله: "إذا أدى حق الله تعالى، وحق مواليه" حق الله كالصلاة والصيام، وحق مواليه خدمتهم. ومواليه بسكون الياء، جمع مولى، لتحصل مقابلة الجمع في جنس العبيد بجمع المولى أو ليدخل ما لو كان العبد المملوك مشتركًا بين موال. ووصف العبد بالمملوك لأن كل الناس عبيد الله فميزه بكونه مملوكًا للناس. قال ابن عبد البرَّ: ومعنى ذلك أن العبد لما اجتمع عليه أمران واجبان: طاعة ربّه في العبادات، وطاعة سيده في المعروف، فقام بهما جميعًا كان له ضعف أجر الحر المطيع لطاعته لأنه قد ساواه في طاعة الله، وفضل عليه بطاعة من أمره الله بطاعته، قال: ومن هنا أقول إن من اجتمع عليه فرضان فأداهما أفضل ممن ليس عليه إلا فرض واحد فأداه، كمن وجب عليه صلاة وزكاة، فقام بهما فهو أفضل ممن وجبت عليه صلاة فقط. ومقتضاه أن من اجتمعت عليه فروض فلم يؤد منها شيئًا كان عصيانه أكثر من عصيان من لم يجب عليه إلا بعضها. قال في "الفتح": والذي يظهر أن مزيد الفضل للعبد الموصوف بالصفة، لما يدخل عليه من مشقة الرق، وإلا فلو كان التضعيف بسبب اختلاف جهة العمل، لم يختصر العبد بذلك، وقال ابن التين: المراد أن كل عمل يعمله يضاعف له. قال: وقيل سبب ذلك التضعيف أنه زاد لسيده نصحًا، وفي عبادة ربه إحسانًا، فكان له أجر الواجبين، وأجر الزيادة عليهما. قال: والظاهر خلاف هذا. وأنه بيّن ذلك، لئلا يظن ظان أنه غير

مأجور على العبادة وما ادُّعي أنه الظاهر لا ينافي ما نقله قبل ذلك، فإن قيل يلزم أن يكون أجر المماليك ضعف أجر السادات، أجاب الكرماني بأنه لا محذور في ذلك، أو يكون أجره مضاعفًا من هذه الجهة، وقد يكون للسيد جهات أُخر يستحق بها أضعاف أجر العبد. أو المراد ترجيح العبد المؤدي للحقين على العبد المؤدي لأحدهما. قلت: هذا الأخير لا يصح أن يكون مرادًا، ولا ينبغي أن ينسب إلى الشارع التنبيه عليه لبداهته ويحتمل أن يكون تضعيف الأجر مختصًا بالعمل الذي تتحد فيه طاعة الله وطاعة السيد، فيعمل عملًا واحدًا ويؤجر عليه أجرين بالاعتبارين، وأما العمل المختلف الجهة، فلا اختصاص له بتضعيف الأجر فيه على غيره من الأحرار. وإنما عني العبد، ونكر رجلًا في الموضعين الأخيرين, لأن المعرف بلام الجنس مؤداه مؤدى النكرة، وكذلك الإِتيان في العبد "بإذا" دون القسم الأول. لأن إذا ظرف، وآمن حال وهي في حكم الظرف, لأن معنى جاء زيد راكبًا في وقت الركوب وحاله، وما قاله الكرماني من أن وجه المخالفة الإشعار بفائدة عظيمة، وهي أن الإِيمان بنبيه لا يفيد في الاستقبال الأجرين، بل لابد من الإِيمان في عهده حتى يستحق أجرين بخلاف العبد، فإنه في زمان الاستقبال يستحق الأجرين أيضًا، فأتى بإذا التي للاستقبال. تعقبه في "الفتح" فقال: إنه غير مستقيم, لأنه مشى فيه مع ظاهر اللفظ، وليس متفقًا عليه بين الرواة، بل هو عند المصنف وغيره مختلف، فقد عبر في ترجمة عيسى "بإذا" في الثلاثة، وعبر في النكاح بقوله "أيما رجل" في المواضع الثلاثة، وهي صريحة في التعميم. وقوله: "ورجل كانت عنده أمة" أي: والثالث رجل كانت عنده أمة وفي رواية زيادة "يطأها". وقوله: "فأدبها" أي: لتتخلق بالأخلاق الحميدة،

وقوله: "فأحسن تأديبها" أي: بلطف ورفق، من غير عنف. وقوله: "وعلمها": أي ما يجب تعليمه من الدّين وقوله: "فتزوجها" يعني بعد أن أصدقها، وقوله: "فله أجران" الضمير يرجع إلى الرجل الأخير، وإنما لم يقتصر على قوله "لهم أجران" مع كونه داخلًا في الثلاثة بحكم العطف، لأن الجهة فيه كانت متعددة، وهي التأديب والتعليم والعتق والتزوج، وكانت مظنة أن يستحق من الأجر أكثر من ذلك، فأعاد قوله "فله أجران" إشارةً إلى أن المعتبر من الجهات أمران العتق والتزوج. وإنما اعتبر الاثنان فقط لأن التأديب والتعليم يوجبان الأجر في الأجنبي والأولاد وجميع الناس، فلم يكن مختصًا بالإِماء، فلم يبق الاعتبار إلا في الأمرين المذكورين. وإنما ذكر الأخيرين لأن التأديب والتعليم أكمل للأجر، إذ تزوج المرأة المؤدبة المعلمة أكثرُ بركةً، وأقرب إلى أن تعين زوجها على دينه. قلت: وبهذا تعلم أن تعليم بنات المدارس الإِفرنجي اليوم كفرٌ وشقاء وهلاك للزوج في دينه, لأنها أفسدت دينها، وخرجت بذلك التعليم عن دين الإِسلام، فإذا أخذها زوج أفسدت دينه، وحملته على موافقتها في ارتكاب المعاصي، فلينظر المسلم أي الأمرين أهون عليه العُزْبة أو التَّزوج مع ارتكاب المعاصي، وإنما عطف بثم في العتق، وفي السابق بالفاء، لأن التأديب والتعليم ينفعان في الوطء، بل لابد منهما فيه، والعتق نقل من صنف إلى صنف، ولا يخفى ما بين الصنفين من البعد، بل من الضديّة في الأحكام والمنافاة في الأحوال، فناسب لفظًا دالًا على التراخي، بخلاف التأديب وغيره مما ذكر، فإن قلت: إذا لم يطأ الأمة لكنْ أدبها، هل له أجران. الجواب إن المراد تمكنه من وطئها شرعًا، وإن لم يطأها فقد دل الحديث على مزيد فضل من أعتق أمته ثم تزوجها، سواءً أعتقها ابتداءًا لله أو لسبب، وقد بالغ قوم فكرهوه، فكأنهم لم يبلغهم الخبر. فمن ذلك ما وقع في رواية هُشَيم عن صالح بن صالح الراوي المذكور

وفيه "فقال: رأيت رجلًا من أهل خراسان سأل الشعبي فقال: إن من قبلنا من أهل خراسان يقولون في الرجل إذا اعتق أمته ثم تزوجها، فهو كالراكب بدَنته، فقال الشعبي: فذكر هذا الحديث"، أخرجه الإِسماعيلي عن الحسن بن سفيان عنه, وأخرج الطَّبرانيّ بإسناد رجاله، ثقات، عن ابن مسعود أنه كان يقول ذلك. وأخرج سعيد بن منصور عن ابن عمر مثله، وعند ابن أبي شَيْبة بإسناد صحيح، عن أنس أنه سُئل عنه، فقال: إذا أعتق أمته لله، فلا يعود فيها. ومن طريق سعيد بن المُسيّب وإبراهيم النّخعِيّ أنهما كرها ذلك. وأخرج، أيضًا، من طريق عطاء والحسن أنهما كانا لا يريان بذلك بأسًا، وقد وقع في بعض الأحاديث زيادة "فيمن يحصل لهم الأجر مرتين" على الثلاثة المذكورة هنا، فقد أخرج الطبرانيّ من حديث أبي أمامة "أربعة يؤتون أجرهم مرتين"، فذكر الثلاثة كالذي هنا وزاد أزواج النبي، صلى الله تعالى عليه وسلم. وأخرج المؤلف في التفسير "ومَثَل الذي يقرأ القرآن، وهو يتعاهده، وهو عليه شديد، فله أجران" وأخرج أيضًا في الزكاة عن زينب امرأة ابن مسعود في "التي تتصدق على قريبها لها أجران: أجر الصدقة وأجر الصلة". وأخرج أيضًا في الأحكام عن عمرو بن العاص في "الحاكم إذا أصاب له أجران". وأخرجا في الصحيحين حديث جرير "من سَنّ سُنَّة حسنةً فله أجرها، وأجر من عمل بها". وحديث أبي هريرة "من دعا إلى هُدىً" وحديث أبي مسعود "من دل على خير" والثلاثة بمعنى. ومن ذلك ما أخرجه أبو داود عن أبي سعيد في "الذي يتيممَّ ثمَّ وجد الماء، فأعاد الصلاة، فقال له النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: لك الأجر مرتين قال في "الفتح": وقد يحصل بمزيد التتبع أكثر من ذلك، وكل هذا دالٌ على أنْ لا مفهوم للعدد المذكور في حديث المتن. وقوله: "ثم قال عامر أعطيناكها" ظاهره أنه خاطب بذلك صالحًا الراوي عنه، ولهذا جزم الكرَمانيّ بقوله: الخطاب لصالح. وليس كذلك،

بل إنما خاطب بذلك رجلًا من أهل خراسان، سأله عمن يعتق أمته ثم يتزوجها، كما مر. وقد أخرج ذلك المصنف في ترجمة عيسي بن مريم، وقوله "بغير شيء"، أي: من الأمور الدنيوية، وإلا فالأجر الأُخروي من ثواب التعليم، أو التبليغ، حاصل له. وقوله: "قد كان يُركب" وللأصيلي "وقد" بالواو، ولغيره "فقد" بالفاء، ويركب مبنيٌ للمجهول. وقوله: "فيما دونها" أي: يرحل لأجل ما هو أهون منها، كما عنده في الجهاد، والضمير عائد على المسألة. وقوله: "إلى المدينة" أي النبوية، قال في "الفتح": وكان ذلك في زمن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، والخلفاء الراشدين، ثم تفرق الصحابة في البلاد بعد فتوح الأمصار، وسكنوها، فاكتفى أهل كل بلد بعلمائه إلا من طَلَب التوسع في العلم، فرحل، وقد مر حديث جابر في ذلك، ولهذا عبر الشعبيُّ وهو من كبار التابعين، بقوله "كان". واستدلال ابن بطّال وغيره من المالكية بهذا الحديث، على تخصيص العلم بالمدينة، فيه نظرٌ، لما قررناه. وإنما قال الشعبيّ ذلك تحريضًا للسامع، ليكون ذلك أدعى لحفظه، وأجلب لحرصه. وقد روى الدارميُّ بسند صحيح، عن بُسْر بن عُبيد الله، قال: إن كنت لأركب إلى المصر من الأمصار في الحديث الواحد. وعن أبي العالية قال: كنا نسمع الحديث عن الصحابة، فلا نرضى حتى نركب إليهم فنسمعه منهم. قلت: ما اعترض به على ابن بطّال من تخصيص العلم بالمدينة لا حجة فيه، إنما قصَد ابن بطّال بالتخصيص كثرته فيها عن غيرها من الأمصار، وما استدل به من تفرق الصحابة في البلاد حق، ولكن لا ينهض حجة, لأنَّ وجودهم في البلاد لا يبلغ ما في البلد منهم غير المدينة معشار عشر ما بالمدينة منهم، فقد روي عن مالك أن البقيع دفنت فيه عشرة آلاف منهم. وأين هذا من غير المدينة، ولا شك أن موضع الوحي وكثرة الصحابة والتابعين في ذلك الزمان أكثر علمًا من غيره، وأخص بالعلم، ولأجل هذا جعل مالك عملها في ذلك الزمان مقدمًا على خبر الأحاديث.

رجاله ستة

رجاله ستة: الأول محمد بن سلام البِيْكنْديّ، وقد مر في الثالث عشر من كتاب الإِيمان. الثاني: عبد الرحمن بن محمد بن زياد الحجازي أبو محمد، الكوفي. قال ابن مُعين والنَّسائيّ: ثقة، وقال النَّسائي أيضًا: ليس به بأس. وقال أبو حاتم: صدوق إذا حدث عن الثقات، ويروى عن المجهولين أحاديث منكرة، فيفسد حديثه. وقيل لوكيع: مات عبد الرحمن بن محمدٌ، فقال: رحمه الله، ما كان أحفظه لهذه الأحاديث الطوال. وذكره ابن حبّان في الثقات، وقال البزَّار والدارقطني: ثقة، وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الغلط. وقال عثمان بن أبي شيبة: هو صدوق، ولكنه هو كذا مضطرب وقال العَجْلي: كان يدلس. أنكر أحمد حديثه عن مَعْمر، وقال عثمان الدَّارميّ: ليس بذاك. وقال السَّاجيّ: صدوق يهمّ. قال ابن حجر: ليس له في البخاري سوى حديثين، متابعة، قد نبهنا على أحدهما في ترجمة زكريا بن يحيى أبي السُّكين، وعلى الثاني في ترجمة صالح بن حيّان. روى له الجماعة، وروى عن الأعمش وإسماعيل بن أبي خالد، وحَجَّاج بن أرطاة، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وفُضيل بن غَزْوان وغيرهم. وروى عنه محمد بن سلام البِيْكَنْدِيّ وأحمد بن حنبل، وأبو كُرَيب، وأبو بكر بن أبي شَيبة. والحسن بن عُرْفَة وغيرهم. مات سنة خمس وتسعين ومئة. وعبد الرحمن بن محمد في الستة كثير. والمُحارِبيّ في نسبه نسبة إلى مُحارب، وبنو مُحارب قبائل منهم محارب خَصَفَة بن قيس عِيلان، وحارب بن فِهر، وحارب بن عمرو بن وديِعة بن لَكِيز بن عَبْدِ القَيس. الثالث: صالح بن صالح بن حَيّ، وقيل: صالح بن صالح بن مسلم بن حيّ أبو حَيّان، الثَّورْي الهَمْداني الكُوفي، وقد ينسب إلى جده

حيّ، وحي لقب حَيَّان فيقال: صالح بن حيَّان. قال أحمد: ثقة. وقال ابن عُيينة: كان خيرًا من ابنيه. وقال ابن مُعين والنَّسائي: ثقة، وقال العجلي: كان ثقة، وروى عن الشعبيَّ أحاديث يسيرة، وما نعرف عنه في المذاهب إلا خيرًا، وقال في موضع آخر: جائز الحديث، يكتب حديثه، وليس بالقوي. وذكره ابن حِبّان في الثقات. قال ابن حَجَر: وقع في "تهذيب الكمال" أن العَجْليّ ذكره في موضعين، وليس كذلك، بل كلامه الأول في صاحب الترجمة، ولم أر لأحد قط فيه كلامًا. بل قال الإِمام أحمد. كما مر، أنه ثقة ثقة، وهذا من أرفع صيغ التعديل، وأما كلام العُجّلي الأخير، فقاله في صالح بن حيّان القُرشِيّ، وقد وقع في صحيح البخاري في كتاب العلم من طريق المحاربي عن صالح بن حبان عن الشعبيّ حديثٌ فظنّ غير واحد من الكبار منهم الدّارقطني أنه القُرشي، وليس به، هو صاحب الترجمة لأنه معروف بالرواية عن الشعبيّ دون القرشيّ، وأيضًا، فالحديث المذكور قد أخرجه البخاري في أربعة مواضع أخرى من رواية صالح بن حي عن الشعبيّ به، وقد احتج الجماعة بابن حي. وصالح هذا هو والد الحسن بن حيّ الفقيه المشهور وأخوه علي. روى عن الشعبيّ، وسلَمة بن كُهَيل، وسِمَاك بن حَرْب، وعاصم الأحول وغيرهم، وروى عنه ابناه علي والحسن، وشعبة، والسفيانان، وهُشيم، وابن المبارك وغيرهم. مات هو وولده عليّ سنة ثلاث وخمسين ومئة وابنه الحسن سنة سبع وستين ومئة، وليس في الستة صالح بن صالح سواه، وفيها صالح بن أبي صالح ثلاثة، وفيهم صالح بن حيَّان القرشيّ. والثوري في نسبه إلى ثَوْر هَمْدان وهو ثَوْر بن مالك بن مُعَاوية بن دَوْدَان بن بكيل بن جُشم بن حيَوان بن نَوْف بن هَمدْان. وأبو خالد ثور بن يزيد الكلاعيّ من اتباع التابعين، قدم العراق، وكتب عنه الثوري. وأبو ثور

لطائف إسناده

صاحب الإِمام الشافعيَّ، والنسبة إليه الثَّوْرِيّ، منهم أبو القاسم الجُنيد الزاهد الثَّورْي، كان يفتي على مذهبه. الرابع: عامر بن شراحيل الشَّعبيّ، وقد مر في الثالث من كتاب الإيمان, ومر أبو بُردة وأبو موسى في الرابع منه أيضًا. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والإخبار والعنعنة، ومنها أن رواته كلهم كوفيون ما خلا ابن سلام وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وقوله: "أنبأنا المحاربيّ"، وفي رواية كريمة "حدثنا المحاربي"، وليس له عند البخاري سوى هذا الحديث، وحديث آخر، وفي الحديث "قال عامر" تقديره "قال صالح: قال عامر" وعادتهم حذف "قال" إذا تكررت خطًا لا نطقًا. أخرجه البخاريّ هنا، وأخرجه أيضًا في العتق عن محمد بن كثير، وفي الجهاد عن علي بن عبد الله، وفي أحاديث الأنبياء عن محمد بن مقاتل، وفي النكاح عن موسى بن إسماعيل، ومسلم في الإِيمان عن يحيى ابن يحيى وغيره، والتِّرْمِذي في النكاح عن ابن أبي عمر وقال: حسن. والنَّسائِيّ فيه عن يعقوب بن إبراهيم، وابن ماجة عن أبي سعيد الأَشج. ثم قال المصنف باب عظة الإمام النساء وتعليمهن نبه بهذه الترجمة على أن ما سبق من الندب إلى تعليم الأهل ليس مختصًا بأهلهم، بل ذلك مندوب للإمام الأعظم، ومن ينوب عنه، واستفيد الوعظ بالتصريح من قوله في الحديث "فوَعَظَهُنَّ" وكانت الموعظة بقوله "إني رأيتكن أكثر أهل النار لأنكن تكثرن اللَّعْن وتكفرن العشير" واستفيد التعليم من قوله "وأمرهن بالصدقة" كأنه أعلمهن أن في الصدقة تكفيرًا لخطاياهن.

الحديث الاربعون

الحديث الاربعون حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَيُّوبَ قَالَ سَمِعْتُ عَطَاءً قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ أَشْهَدُ عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَوْ قَالَ عَطَاءٌ أَشْهَدُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- خَرَجَ وَمَعَهُ بِلاَلٌ، فَظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يُسْمِعِ فَوَعَظَهُنَّ، وَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ، فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تُلْقِي الْقُرْطَ وَالْخَاتَمَ، وَبِلاَلٌ يَأْخُذُ فِى طَرَفِ ثَوْبِهِ. قوله: "أو قال عطاء اشهد على ابنِ عباس" معناه أن الراوي تردد هل لفْظ "أشهد" من قول ابن عباس، شاهدًا على النبي عليه الصلاة والسلام، أو من قول عطاء شاهدًا على ابن عباس؟ وقد رواه بالشك أيضًا، حماد بن زيد عن أيوب، أخرجه أبو نعيم في المستخرج، وأخرجه أحمد بن حنبل عن غُنْدُر عن شُعبة جازمًا بلفظ "أشهد" على كل منهما. وإنما عبر بلفظ الشهادة تأكيدًا لتحققه ووثوقًا بوقوعه. وقوله: "ومعه بلال" في رواية غير الكَشْمَيْهيني "معه بلال" بلا واو، على أنه حال استغنى عن الواو بالضمير، كقوله تعالى {اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة: 36] وقوله: "إنه لم يُسْمِع النساء" أي، حين أسمع الرجال، فأنَّ مع اسمها وخبرها سدت مسد مفعولي ظن. وفي رواية "لم يسمع" بدون ذكر النساء. وقوله: "فوعظهن" أي النبي عليه الصلاة والسلام، بقوله: إني رأيتكنّ أكثر أهل النار لأنكن تكثرن اللعن وتكفرن العَشير" وهذا أصل في حضور النساء مجالس الوعظ، وقوله: "وأمرهن بالصدقة" أي النَّفليَّة، لما رآهن أكثر أهل النار, لأنها مَمْحَاةٌ لكثير من الذنوب المدخلة النار، أو لأنه كان وقت حاجة إلى المواساة، والصدقة حينئذ كانت أفضل وجوه البر. وقوله "فجعلت المرأة تُلقي القُرْط" بضم القاف وسكون الراء آخره مهملة، وهو الذي يعلق بشحمة الأُذن. وقوله: "والخاتَمَ"

بالنصب عطف المفعول. وقوله: "وبلال يأخذ في طرف ثوبه" أي: ما يلقينه ليصرفه، عليه الصلاة والسلام، في مصارفه, لأنه تحرم عليه الصدقة. وحذف المفعول للعلم به. وبلال مرفوع بالابتداء، وتاليه خبره، والجملة حالية. وفي الحديث استحباب وعظ النساء وتعليمهن أحكام الإِسلام، وتذكيرهن بما يجب عليهنَّ، ويستحب حثّهن على الصدقة، وتخصيصهنَّ بذلك في مجلس منفرد، ومحل ذلك كله إذا أمن الفتنة والمفسدة، وفيه جواز صدقة المرأة من مالها من غير توقف على إذن زوجها، أو على مقدار معين من مالها، كالثلث، خلافًا لبعض المالكية. ووجه الدلالة من القصة ترك الاستفصال عن ذلك كله. قال القُرْطبيّ: ولا يقال في هذا أن أزواجهن كانوا حُضُورًا, لأن ذلك لم ينقل، ولو نقل فليس فيه تسليم أزواجهن لهن ذلك, لأن من ثبت له الحق، فالأصل بقاؤه حتى يصرح بإسقاطه، ولم ينقل أن القوم صرحوا بذلك. وأما كونه من الثلث فما دونه، فإن ثبت أنَّهنَّ لا يجوز لهنّ التصرف فيما زاد على الثلث، لم يكن في هذه القصة ما يدل على جواز الزيادة. وفيه أن الصدقة من دوافع العذاب, لأنه أمرهن بالصدقة، ثم علل بأنهن أكثر أهل النار، لما يقع منهن من كفران النعم واللعن، وفيه ذم اللعن، وهو الدعاء بالإبعاد من رحمة الله، وهو محمول على ما إذا كان في مُعَيَّن. واستدل النَّووَيّ على أنهما من الكبائر بالتوعد عليهما بالنار. وفيه جواز الصدقة من الأغنياء للمحتاجين، ولو كان الطالب غير محتاج. وأخذ منه الصوفية جواز ما اصطلحوا عليه من الطلب. ولا يخفى ما يشترط فيه من أن المطلوب له يكون غير قادر على التكسب مطلقًا، أو لما لابد له منه. وفي مبادرة تلك النسوة إلى الصدقة بما يعزّ عليهن من حُليَّهنّ، مع ضيق الحال في ذلك الوقت، دلالة على رفع مقامهن في

رجاله خمسة

الدين، وحرصهن على امتثال أمر الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، ورضي عنهن. رجاله خمسة: الأول سليمان بن حَرْب، وقد مر في الرابع عشر من كتاب الإِيمان، ومر شعبة بن الحجّاج في الثالث منه أيضًا، ومر أيوب السَّختياني في التاسع منه أيضًا، ومر عبد الله بن عباس في الرابع من بدء الوحي. الرابع من السند: عطاء بن أبي رباح، واسم أبي رباح أسْلم القُرَشيّ، مولاهم، أبو محمد المكيّ، قال ابن المَدِيْنِيّ: هو مولى حبيبة بنت ميْسَرة ابن أبي خُثَيْم. وقال ابن سعد: كان من مولَّدي الجُند، ونشأ بمكة، وهو مولى لبني فهر أو لجُمَح، وانتهت إليه وإلى مجاهد فتوى مكة في زمانهما، وأكثر ذلك إلى عطاء. سمعت بعض أهل العلم يقول: كان عطاء أسود أعور أفطس أشَلّ أعرج، ثم عمي بعد، وكان ثقة فقيهًا عالمًا كثير الحديث، وقطعت يده مع ابن الزُّبير، واسم أمه بَركَة. وقال ابن عباس: يا أهل مكة تجتمعون عليّ وعندكم عطاء؟ وكذا روي عن ابن عمر. وقال سليمان بن رَفِيع: دخلت المسجد الحرام، والناس مجتمعون على رجل، فاطلعت فإذا عطاء بن أبي ربَاح جالس، كأنه غُراب أسود، ولكن العلم والعمل رفعاه، قال الناظم: أسودُ أعورُ أشَلَّ أفْطَسُ ... أعْرَج من أنوارِه يُقْتَبَسُ قيل: إنه حج أكثر من سبعين حجة، وقال إبراهيم بن عمر بن كيْسان: اذكر في بني أمية صائحًا يصيح: لا يفتي الناس إلا عطاء. وقال ربيعة: فاق عطاء أهل مكة في الفتوى، وإياه عني الشاعر بقوله: سل المفتي المكيَّ هل في تزاورٍ ... وضمةِ مشتاقِ الفؤادِ جناحُ فقال: معاذَ الله أن يُذْهب التقى ... تلاصُق أكبادِ بهن جِراحُ فلما بلغه البيتان قال: والله ما قلت شيئًا من هذا.

وقال أبو عاصم الثقفيّ: سمعت أبا جعفر يقول للناس، وقد اجتمعوا عليه: عليكم بعطاء، هو والله خير مني. وقال قتادة: قال لي سليمان بن هشام: هل بمكة أحد؟ قلت: نعم. أقدم رجل في جزيرة العرب علمًا. قال: من؟ قلت: عطاء بن أبي ربَاح. وقال: إذا اجتمع لي أربعة لم أبال من خالفهم: الحسن وسعيد وإبراهيم وعطاء، قال: هؤلاء أئمة الامصار. وقال إسماعيل بن أمية: كان عطاء يطيل الصمت, فإذا تكلم تخيل أنه يؤيد، وقال الدّيباج: ما رأيت مفتيًا خيرًا من عطاء. وقال الأوزاعيّ: مات عطاء يوم مات، وهو أرضى أهل الأرض عند الناس. وقال سلمة بن كُهَيل: ما رأيت أحدًا يريد بهذا العلم وجه الله تعالى إلا ثلاثة: عطاء ومجاهد وطاووس. وقال ابن جُرَيح: كان المسجد فراش عطاء عشرين سنة، وكان من أحسن الناس صلاة. وقال عبد العزير بن رفيع: سئل عطاء عن مسألة فقال: لا أدري، فقيل له: ألا تقول فيها برأيك؟ فقال: إني استحي من الله أن يدان فيها برأيي. وذكره ابن حبان في الثقات وقال: كان من سادات التابعين، فقهًا وعلمًا وورعًا وفضلًا. وقال أبو جعفر: ما بقي أحدٌ أعلم بمناسك الحج منه، وقال أبو حاتم، أيضًا: ما أدركت أحدًا أعلم بالمناسك منه. وقال ابن أبي ليلى: كان عالمًا بالحج، وكان يوم مات ابن مئة سنة، ورأيته يفطر في رمضان، ويقول: قال ابن عباس: .... {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} [البقرة: 184] أي أطعم أكثر من مسكين. وقال أبو حنيفة: ما لقيت فيمن لقيت أفضل من عطاء، ولا لقيت فيمن لقيت أكذب من جابر الجُعْفي، وعن وكيع قال: قال لي أبو حنيفة: أخطأتُ في خمسة أبواب في المناسك فعلمنيها، وذلك أني أردت أن أحلق رأسي عند أعرابي, فقلت له: بكم تحلق رأسي؟ فقال: النُّسك لا يشارط فيه، اجلس، فجلست، منحرفًا عن القبلة، فأومأ إلي باستقبالها.

وأردت أن أحلق رأسي من الجانب الأيسر، فقال: أدر شقك الأيمن من رأسك، فأدرته. وجعل يحلق رأسي وأنا ساكت، فقال لي: كبَّر، فجعلت أكبر حتى قمت، لأذهب، فقال: اين تريد؟ قلت: رحلي، قال: صل ركعتين، ثم امضِ. فقلت: ما ينبغي أن يكون هذا من مثل هذا الحَجَّام إلا ومعه علم فقلتَ: من أين لك ما رأيتك أمرتني به؟ قال: رأيت عطاء بن أبي رباح يفعل هذا. وروى خليفة بن سلام عن يونُس قال: سمعت الحسن البصريّ ذات يوم في مجلسه يقول: اعتبروا من المنافق بثلاث: إن حدَّث كذب، وإن ائتمن خان، وإن وعد أخلف. فبلغ ذلك عطاء فقال: قد كانت هذه الخلال الثلاث في ولد يعقوب، حدثوه فكذبوه، وائتمنهم فخانوه، ووعدوه فاخلفوه، فأعقبهم الله النبوءة فبلغ ذلك الحسن، فقال: وفوق كل ذي علم عليم. ومن غرائب علمه أنه يقول: إذا أراد الإنسان سفرًا، له القَصْر قبل خروجه، ووافقه طائفة من أصحاب ابن مسعود وخالفه الجمهور ومنها أيضًا أنه إذا وافق يومُ عيدٍ يومَ جمعةٍ يصلى العيد فقط ولا جمعة ولا ظهر في ذلك اليوم. قال الناظم. من علمه الغريب ان الجُمعَه ... وظُهْرها وركعتا العيد معه في اليوم يوجبُ صلاة العيد ... ويكتفي عن ظُهرها المجيد ومنها أيضًا أنه كان يرى إباحة وطء الجواري بإذن أربابهن، وأنه كان يبعث بجواريه إلى ضيفانه إكرامًا لهم. قال ابن خِلّكان: والذي أعتقده أنا أن هذا بعيد، فإنه لو رأى الحل كانت المروءة والغيرة تأبى ذلك، فكيف يظن هذا بمثل هذا الإِمام الجليل؟. قلت: الذي يدل عليه كلام كتب المذاهب صحة عَزْو هذا المذهب له، فإنهم كثيرًا ما يدرؤون الحد مراعاة لمذهبه كقول خليل المالكي في مختصره مشبهًا على ما لا حد فيه، وكأمة مُحلَّلَة وقومت وإن أبيا. قال

شراحه هنا: فلا حد على من حُلِّلتْ له مراعاة لقول عطاء بجواز التحليل. فإنكار ابن خِلِّكان عزو هذا المذهب له فيه قصور واضح. روى عن ابن عباس، وابن عمر، وابن عمرو، وابن الزبير، ومعاوية وأُسامة بن زيد، وجابر بن عبد الله، وخلق من الصحابة. فقد روى عنه خالد بن أبي مَوْف أنه قال: أدركت مئتين من الصحابة. وروى عنه ابنه يعقوب ومُجاهِد والزُّهريُّ والأعْمَش، والأوزاعيّ، وابن جُرَيجْ، ويونس بن عُبيد، وجرير بن حازم، وخلق كثير. مات سنة خمس عشرة ومئة، وقيل أربع عشرة، وهو ابن ثمان وثمانين سنة. وقيل ابن مئة سنة. وليس في الستة عطاءُ بن أبي رباح ولا أَسْلَمُ سِواه، وأما عطاء فكثير. وذكر في متن الحديث بلال، وهو بلال بن رباح، بفتح الراء وتخفيف الباء، الحبشي، القُرَشْيّ أبو عمرو، أو أبو عبد الرحمن، أو أبو عبد الله، أو أبو عبد الكريم مؤذّن النبي صلى الله عليه وسلم، وشهرته بأمه حمامة، مولى أبي بكر الصديق، اشتراه من المشركين لما كانوا يعذبونه على التوحيد، قيل: اشتراه بعبد له، أسودَ جَلْد. وقيل: اشتراه بخمس أواقٍ. وقيل بسبع. وقيل بتسع. فأعتقه، فلزم النبي صلى الله عليه وسلم. فكان له مؤذنًا، ولأبي بكر خازنًا وشهد بدرًا. وما بعدها من المشاهد، وآخى النبي صلى الله عليه وسلم، بينه وبين عُبَيْدة بن الحارث بن المطلب. وقيل: آخى بينه وبين رُوَيحْة الخَثْعَميّ. رُوي عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، أنه قال: أول من أظهر الإِسلام سبعة: النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعمّار وأْمه سُمِّية وصُهَيب وبلال والمقداد. فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنعه الله بعمه أبي طالب، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم، فأخذهم المشركون فألبسوهم أدراع الجديد، وأصهروهم في الشمس، فما منهم إنسان إلا وقد أتاهم على ما أرادوا إلا بلالًا فإنه هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه، فأَعطوه الولدانَ، فكانوا يطوفون به في شعاب مكة، وهو يقول: أَحد أَحد.

وروي عن مُجاهد: إلا أنه لم يذكر المقداد، وذكر موضعه خَبَّابًا، وذكر في خبر بلال أنهم كانوا يطوفون به، والحبل في عنقه بين أحْبُش مكة. وكان أمية بن خَلَف يخرجه إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة على صدره، ثم يقول: لا يزال كذلك حتى يموت أو يكفر. بمحمد، فيقول، وهو في ذلك: أَحدٌ أَحدٌ. فمر به أبو بكر فاشتراه. وروي عن سعيد بن المسيّب أنه ذكر عنده بلال فقال: ذاك رجل شحيح على دينه، فإذا أراد المشركون أن يقاربهم قال: الله الله، فلقي النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر، فقال: لو كان لنا مال اشترينا بلالًا، فلقي أبو بكر العباس بن عبد المطلب، فقال له: اشتر لي بلالًا، فانطلق العباس، فقال لسيدته: هل لك أن تبيعيني عبدك هذا قبل أن يفوتك خيره، وتحرمي ثمنه؟ قالت: وما تصنع به، إنه خبيث. وإنه قال: ثم لقيها فقال مثل مقالته، فاشتراه منها، وبعثه إلى أبي بكر، فكان يؤذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى مات عليه الصلاة والسلام، فأراد أن يخرج إلى الشام، فقال له أبو بكر: بل تكون عندي، فقال له: إن كنت أعتقتني لنفسك فأمسكني، وإن كنت أعتقتني لله عَزَّ وَجَلَّ، فَذَرْني أذهب إلى الله عَزَّ وَجَلَّ، فقال: إذهبْ، فذهب إلى الشام، فكان بها حتى مات. وقيل: إنه أذن للنبي صلى الله عليه وسلم حياته، ثم أذَّن لأبي بكر حياته، ولم يؤذّن في زمن عمر. فقال له عمر: ما منعك أن تؤذن؟ قال: إني أذَّنت للنبي صلى الله عليه وسلم حتى قُبض، وأَذَّنْتُ لأبي بكر حتى قبض لأنه كان ولي نعمتي. وقد سمعت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يا بلال ليس عمل أفضل من الجهاد في سبيل الله"، فخرج مجاهدًا. قيل: إنه أَذن لعمر حين دخل الشام مرة، فبكى عمر وغيره من المسلمين وروي عن مالك أنه قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبلال: "يا بلال إني دخلت الجنة، فسمعت فيها خشفًا أمامي، فقلتُ:

لطائف إسناده

من هذا؟ قال: بلال. فكان بلال إذا ذكر ذلك بكى. والخَشْف الوطء والحِسّ". قال عمر: أبو بكر سيدنا، وأعتق سيدنا يقال: إنه كان ترب أبي بكر الصديق رضي الله عنهما, وله أخ يسمى خالد، أو أخت تسمى عقرة وهي مولاة عمر بن عبد الله مولى غُفْرة المحدِّث المصري، كان رضي الله عنه آدم شديد الأُدمة، نحيفًا طوالًا أجْنى خفيف العارضين، له أربعة وأربعون حديثًا، اتفقا على حديث، وانفرد البخاري باثنين، ومسلم بواحد. روى عنه عبد الله بن عمر، وكعب بن عُجْرة، وكبار تابعي المدينة والشام والكوفة. وقيل: إنه روى عنه أبو بكر وعمر وأُسامة بن زيد والبَراء بن عازب، وغيرهم. مات رضي الله عنه، بدمشق، ودفن بمقبرتها عند الباب الصغير, وقال ابن زبر: مات بداريَّا. وفي المعرفة لابن مَنْده أنه دفن بحلب. وكانت وفاته سنة عشرين. وقيل سنة إحدى وعشرين، وهو ابن ثلاث وستين. وقيل ابن سبعين سنة. وليس في الصحابة بلال بن رباح، ولا ابن حمامة سواه، وفيهم بلال جماعة. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة والسماع، ورواته أئمة أجلاء، وفيه رواية تابعي عن تابعي، وفيه لفظة: "أشهد تأكيدًا لتحققه ووثوقًا بوقوعه, لأن الشهادة خبر قاطع. أخرجه البخاري هنا، ومسلم في الصلاة عن أبي بكر بن أبي شيبة وغيره، وأبو داود فيها أيضا عن محمد بن كثير وغيره. والنَّسائيّ في الصلاة وفي العلم عن محمد بن منصور، وابن ماجَة في الصلاة عن محمد بن الصباح ثم ذكر تعليقا فقال: وقال إسماعيل عن أيوب عن عطاء، وقال عن ابن عباس "أشهد على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم". أراد بهذا التعليق أنه جزم عن أيوب بأن لفظ أشهد من كلام ابن عباس فقط، وكذا جزم أبو داود الطَّيالِسِيّ في مُسنده عن شُعبة، وأغرب الكرماني فقال: يحتمل أن يكون قوله "وقال إسماعيل" عطفًا على حدثنا شعبة،

باب الحرص على الحديث

فيكون المراد به حدثنا سليمان بن حرب عن إسماعيل، فلا يكون تعليقًا، وهو مردود بأن سليمان بن حرب لا رواية له عن إسماعيل أصلًا، لا لهذا الحديث ولا لغيره. قال في "الفتح": وقد قلنا غير مرة أن الاحتمالات العقلية لا مدخل لها في الأمور العقلية ولو استرسل فيها مسترسل لقال: يحتمل أن يكون إسماعيل هذا آخر، غير ابن علية، وأن أيوب آخر غير السَّخْتيانيّ، وهكذا في أكثر الرواة، فيخرج بذلك إلى ما ليس بمرضيّ. وإسماعيل المراد به إسماعيل بن علية، وقد مر في الثامن من كتاب الإِيمان، ومر أيوب في التاسع منه أيضًا، وهذا التعليق أخرجه البخاري في كتاب الزكاة موصولًا عن مُؤَمَّل بن هشام عن إسماعيل. ثم قال المصنف: باب الحرص على الحديث المراد بالحديث في عرف الشرع ما يضاف إلى الرسول، صلى الله تعالى عليه وسلم، من قول وفعل وتقرير وصفة، وكأنه أريد به مقابلة القرآن لأنه قديم.

الحديث الحادي والاربعون

الحديث الحادي والاربعون حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِى عَمْرٍو عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِى سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- "لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ لاَ يَسْأَلَنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ، لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الْحَدِيثِ، أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ أَوْ نَفْسِهِ". قوله: "أنه قال: قيل يا رسول الله" هكذا بزيادة "قيل" لأبي ذَرٍ وكريمة. وسقطت "قيل" للباقين، وهو الصواب ولعلها كانت "قلت" فتصحفت. فقد أخرجه المؤلف في الرقاق كذلك. وللإِسماعيلي أنه سأل، ولأبي نعيم أن أبا هريرة قال: يا رسول الله. وقوله: "من أسعد الناس بشفاعتك يومَ القيامة" بنصب يوم على الظرفية، ومن استفهامية مبتدأ، خبره تاليه، وقوله: "لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني" بضم اللام وفتحها على حد قراءتي {وحَسِبوا أنْ لا تكونُ فتنة} [المائدة: 71] بالرفع والنصب، لوقوع أن بعد الظن واللام في لقد جواب القسم المحذوف، أي: والله لقد، أو للتأكيد. وقوله: "عن هذا الحديث أحدٌ" بالرفع فاعل يسألني. وقوله: "أولُ منك" برفع اللام ونصبها، فالرفع على الصفة لأحد، أو البدل منه، والنصب على الظرفية، أو مفعول ثان لظننت، وقال أبو البقاء: على الحال، ولا يضر كونه نكرة, لأنها في سياق النفي، كقولهم: ما كان أحدٌ مثلكَ. وقوله: "لما رأيت من حرْصك على الحديث" ما في قوله "لمِا" موصولة أو مصدرية، أي للذي رأيته، أو لرؤيتي. ومن بيانية على الأول،

وتبعيضيّة على الثاني، ولعل أبا هريرة سأل عن ذلك عند تحديثه صلى الله تعالى عليه وسلم، بقوله: "وأريد أن أختبىء دعوتي شفاعةً لأُمتي في الآخرة"، وقوله: "من قال لا إله إلا الله" أي: احترازًا من الشرك. والمراد مع قوله "ومحمد رسول الله" لكن قد يكتفى بالجزء الأول من كلمتي الشهادة, لأنه صار شعارًا لمجموعها، كما مر في الإِيمان. ومن خبر المبتدأ الذي هو أسعد موصولة، أي: الذي. قال: وقوله: "خالصًا من قلبه أو نفسه" شك من الراوي. وفي رواية "مخلصًا" وهذا احترازٌ من المنافق. وفي رواية في الرقاق "خالصًا من قبل نفسه" أي: بكسر القاف وفتح الموحدة، أي: قال ذلك باختياره. وفي رواية أحمد، وصححه ابن حبان، عن أبي هريرة نحو هذا الحديث. وفيه "لقْد ظننت أنك أولُ من يسألني عن ذلك من أمتي، وشفاعتي لمن شهد أن لا اله إلا الله مخلصًا يصدق قلبه لسانه، ولسانه قلبه" وإنما قال "من قلبه" مع أن الإخلاص محله القلب للتأكيد، وذلك لأن إسناد الفعل إلى الجارحة أبلغ في التأكيد، كما في قوله {فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] وقد استشكل التعبير بأفعل التفضيل في قوله "أسعد" إذ مفهومه أنَّ كلا من الكافر الذي لم ينطق بالشهادة، والمنافق الذي يظن بلسانه دون قلبه، يكون سعيدًا. وأجيب بان أفعل هنا ليست على بابها, بل بمعنى سعيد الناس. ويحتمل أن يكون أفعل التفضيل على بابها، وأن كل أحد تحصل له سعادةٌ بشفاعته، لكن المؤمن المخلص أكثر سعادة بها، فإنه صلى الله تعالى عليه وسلم يشفع للخلق في إراحتهم من هول الموقف، وهذه سعادة عامة للخلق، ويشفع في بعض الكفار بتخفيف العذاب، كما صح في حق أبي طالب، ويشفع في بعض المؤمنين بالخروج من النار بعد أن دخلوها، وفي بعضهم بعدم دخلوها، بعد أن استوجبوا دخولها، وفي بعضهم بدخول الجنة بغير حساب، وفي بعضهم برفع الدرجات فيها، فظهر الاشتراك في السعادة بالشفاعة وأن أسعدهم بها المؤمن المخلص.

رجاله خمسة

وقال في "الفتح" أيضًا: المراد بهذه الشفاعة المسؤول عنها هنا، بعضُ أنواع الشفاعة، وهي التي يقول صلى الله تعالى عليه وسلم: أمتي أمتي فيقال له: أخْرج من النار من في قلبه وزن كذا من الإيمان. فأسعد الناس بهذه الشفاعة من يكون إيمانه أكمل ممن دونه، وأما الشفاعة العظمى في الِإراحة من كَرْب الموقف، فأسعد الناس بها من يسبق إلى الجنة، وهم الذين يدخلونها بغير حساب، ثم الذين يلونهم، وهو من يدخلها بغير عذاب، بعد أن يحاسب ويستحق العذاب، ثم من يصيبه لفحٌ من النار ولا يسقط. والحاصل أن في قوله "أسعد" إشارة إلى اختلاف مراتبهم في السبق إلى الدخول لاختلاف مراتبهم في الإخلاص. ولذا أكَّده بقوله "من في قلبه" مع أن الإِخلاص محله القلب إلى آخر ما مر. قال: وبهذا التقرير يظهر موقع قوله: "أسعد" وأنها على بابها من التفضيل، ولا حاجة إلى قول بعض الشُرّاح: "الاسعد" هنا بمعنى السعيد، لكون الكل يشتركون في شرطية الإخلاص, لأنا نقول يشتركون فيه، لكن مراتبهم فيه متفاوتة. وحمل ابن بّطال قوله "مخلصا" على الإخلاص العام، الذي هو من لوازم التوحيد، ورده ابن المنير بأن هذا لا يخلو عنه مؤمن، فتتعطل صيغة أفعل، وهو لم يسأله عمن يستأهل شفاعة، وإنما سأل عن أسعد الناس بها، فينبغي أن يحمل على إخلاص خاص، مختصٍ ببعض دون بعض، ولا يخفى تفاوت رتبه. وفي الحديث دليل على اشتراط النطق بكلمتي الشهادة لتعبيره بالقول في قوله "من قال". وفيه فضل أبي هُريرة، وفضل الحرص على تحصيل العلم. رجاله خمسة: الأول عبد العزيز بن عبد الله بن يحيى بن عمرو بن أُويس بن سعد بن أبي سرح العامِري القُرَشِيّ الأُويسي، أبو القاسم المَدَنيّ الفقيه، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال أبو حاتم: مدني صدوق، وهو أحب إلي من يحيى بن بكير, ووثَّقه يعقوب بن شيْبة. وقال

الدارقطنيّ: حجة، وقال الخليلي: اتفقوا على توثيقه، لكن وقع في سؤالات أبي عُبيد الآجُرِيّ عن أبي دواد، قال: عبد العزيز الأْوَيْسي ضعيف، فإن كان عني هذا، ففيه نظر, لأنه قد وثقه في موضع آخر، وروي عن هارون الحمّال عنه، ولعله ضعَّف رواية معينة له، وهم فيها، أو ضعف آخر اتفق معه في اسمه وبالجملة فهو جَرْح مردودٌ. قال ابن حجَر: روى عن مالك وسُليمان بن بلال، واللَّيث بن سعد، وعبد الرحمن بن أبي الزَّناد، وابن أبي حازم وغيرهم. وروى عنه البخاريّ، وروى له أبو داود والتَرْمِذيّ والنَّسائي في مسند مالك، وابن ماجة بواسطة، وأبو حاتم وأبو زرعة ويعقوب بن شَيْبة. وعبد العزيز بن عبد الله في الستة سواه خمسة. الثاني: سليمان بن بلال، وقد مر في الثاني من كتاب الإيمان, ومر سعيد بن أبي سعيد المَقْبَرِيّ في الثاني والثلاثين من كتاب الإيمان أيضًا. ومر أبو هريرة في الثاني منه أيضًا. الثالث من السند: عمرو بن أبي عمرو، بفتح العين فيهما، واسمه مَيْسرة مولى المطلب بن عبد الله بن حُنْطُب المَخزوميَّ، أبو عثمان المدَني، وثقه أحمد وأبو زرعة وأبو حاتم والعَجْليّ، وضعفه ابن مُعين والنسائي وعثمان الدارميّ لروايته عن عكرمة حديث البهيمة عن ابن عباس، وهو "من أتى بهيمة فاقتلوه، واقتلوا البهيمة" قال العَجْليّ: أنكروا حديث البهيمة، وقال البخاريّ: لا أدري سمعه من عكرمة أم لا؟ وقال أبو داود: وليس هو بذاك، حدث بحديث البهيمة، وقد روى عاصم عن أبي رُزَين عن ابن عباس "ليس على من أتى بهيمة حد". وقال السَّاجي: صدوق إلا أنّه يَهُمّ. وقال ابن عَدِيّ: لا بأس به لأن مالكًا روى عنه، ولا يروي مالك إلا عن صدوق ثقة. وقال ابن سعد: كان كثير الحديث، صاحب مراسيل. قال ابن حَجَر: لم يخرج البخاري من روايته عن عكرمة شيئًا، بل أخرج من روايته عن أنس

لطائف إسناده

أربعة أحاديث، ومن روايته عن سعيد بن حُبيرِ حديثًا واحدًا، ومن روايته عن سعيد المَقْبَريّ عن أبي هُريرة حديثًا واحداً، واحتج به الباقون. روى عن أنس بن مالك ومولاة المطَّلب، وعِكْرِمة وسعيد بن جبير، والأعرج وغيرهم. وروى عنه مالك بن أنس وسُليمان بن بلال، وعبد الرحمن بن أبي الزِّناد ويزيد بن الهادّ وغيرهم. مات سنة خلافة المنصور، في أولها، وكانت أول سنة ست وثلاثين ومئة، وزياد بن عبد الله على المدينة. وفي الستة عمرو بن عمرو أبو الزَّعْراء الجُشَيِميّ. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع والإفراد، والعنعنة، ورواته كلهم مدنيّون، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. أخرجه البخاريُّ هنا، وفي صفة الجنة عن قتيبة، والنَّسائيّ في العلم عن علي بن حَجَر. ثم قال المصنف. باب كيف يقبض العلم باب بالتنوين، وفي فرع اليُوْنينيَّة بغير تنوين، مضافًا لكيف، أي كيفيةُ قبضِهِ برفعِه، وموتِ العلماء الحاملين له. ثم ذكر تعليقًا فقال: وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حَزْم: انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاكتبه فإني خفت دروس العلم، وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولْتُفْشوا العلم، وليَجْلسوا حتى يعلم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرًا. قوله: "وكتب" في رواية ابن عساكر قال: أي، البخاري "وكتب" وقوله: "انظر ما كان" أي اجمع ما تجد، وفي رواية الكَشْمَيهنيّ "انظر ما كان عندك" أي في بلدك، فكان على الرواية الأُولى تامة، وعلى الثانية ناقصه. وعندك هو الخبر. وقوله: "فأكتبه" يستفاد منه ابتداء تدوين الحديث النبويّ. وكانوا قبل ذلك يعتمدون على الحفظ، فلما خاف عمر

ابن عبد العزيز، وكان على رأس المئة الثانية، من ذهاب العلم بموت العلماء، ورأى أن في تدوينه ضبطًا له وإبقاءً. وقد روى أبو نعيم في تاريخ أصبهان هذه القصة بلفظ "كتب عمر إلى الآفاق: انظروا حديث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فاجمعوه". وقوله: "ولا يقبل". بضم المثناة التحتية، وسكون اللام وفي بعض النسخ بالرفع، على أن "لا" نافيه وفي بعضها "تَقْبلْ" بفتح المثناة الفوقية على الخطاب مع الجزم، وقوله: وَلْيُفشوا العلم وليجلسوا" بضم المثناة التحتية في الأول، من الإِفشاء، وفتحها في الثاني من الجلوس، لا من الإجلاس مع كسر اللام وسكونها فيهما معًا وفي رواية ابن عساكر "ولتفشوا ولتجلسوا" بالمثناة الفوقية فيهما. وقوله: "حتى يُعلم" بضم المثناة التحتية، وتشديد اللام المفتوحة وللكَشْمَيْهنيّ "يعْلم" بفتحها وسكون العين وتخفيف اللام، من العلم، وقوله: "فإن العلم لا يهْلِك" بفتح أوله وكسر ثالثه، من باب ضرب، وقد تفتح. وقوله: "حتى يكون سرًا" أي خفية، كاتخاذه في الدار المحجورة التي لا يتأتى فيها نشر العلم، بخلاف المساجد والجوامع والمدارس ونحوها. وهذا التعليق يأتي عقبة موصولًا، وسنده اثنان: الأول عمر بن عبد العزيز أحد الخلفاء الراشدين، مر في أول كتاب الإيمان في الأثر الأول قبل ذكر حديث منه. والثاني: أبو بكر بن حَزْم، وهو ابن محمد بن عمرو بن حَزْم، الأنصاريّ الخزرجيّ البخاريّ القاضي، المدنيّ. يقال: اسمه أبو بكر، وكنيته أبو محمد. وقيل: اسمه كنيته. قال ابن معين وابن خراش: ثقة، وذكره ابن حِبان في الثقات، وقال عطّاف بن خالد عن امرأة أبي بكر بن حزم قالت: ما اضطجع أبو بكرٍ على فراشه منذ أربعين سنة بالليل، وقال محمد بن عليّ بن شافع: قالوا لعمر بن عبد العزيز: استعملت أبا بكر غرك بصلاته. فقال: إذا لم يَغرَّني المصلون فمن يغرني؟ قال: وكانت سجدته

قد أخذت جبهته وأنفه. وذكره ابن عديّ في محدّثي أهل المدينة، والواقديّ في ثقاتهم. وقال: كان ثقة كثير الحديث. وقال مالك: لم يكن عندنا بالمدينة أحد عنده من علم القضاء ما كان عند أبي بكر بن محمد بن حزم، وكان ولاه عمر بن عبد العزيز، وكتب له من العلم ما عند عمرة بنت عبد الرحمن، والقاسم بن محمد. ولم يكن بالمدينة أنصاري أمير غير أبي بكر بن حزم، وكان قاضيًا وقال أيضًا: ما رأيت مثل أبي بكر بن حزم أعظم مروءةً ولا أتم حالًا، ولا رأيت مثل ما أرى. ولي المدينة والقضاء والموسم لسليمان بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز، وسئل يحيى بن مُعين عن حديث عثمان بن حكيم عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حَزْم، قال: عرضت على النبي ... فقال: مرسل. روى عن أبيه، وأرسل عن جده، وروى عن خالته عَمْرة بنت عبد الرحمن، وخالدة بنت أنس، ولها صحبةٌ، والسائب بن يزيد، وعمر بن عبد العزيز، وخلق. وروى عنه ابناه عبد الله، ومحمد وابن عمه محمد بن عُمارة بن عمرو بن حزم، وعمرو بن دينار، وهو أكبر منه، والزُّهريّ، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، وخلق كثير. وله أخ اسمه عثمان. وأخت اسمها أم كلثوم، وأمهم كَبْشَة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زُرارة. مات سنة مئة، وفيها أقام الحج، وقيل: مات سنة عشر ومئة، وقيل سنة عشرين ومئة، في خلافة هشام بن عبد الملك، وهو ابن أربع وثمانين سنة. وليس في الستة أبو بكر بن محمد سواه إلا واحد، وهو أبو بكر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وهو وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث أحد فقهاء المدينة السبعة، كل منهما اسمه أبو بكر وله كنية، فهو كنيته أبو محمد، والثاني كنيته أبو عبد الرحمن. قال الخطيب لا نظير لهما، يعني ممن اسمه أبو بكر وله كنية، وأما من اشتهر

بكنيته، ولم يعرف له اسم غيرها فكثير، ثم ذكر البخاري هذا التعليق موصولًا فقال: حدثنا العلاء بن عبد الجبار قال: حدثنا عبد العزيز بن مسلم عن عبد بن دينار بذلك، يعني حديث عمر بن عبد العزيز، إلى قوله ذهاب العلماء. وفي رواية الأصيلي: قال أبو عبد الله، أي البخاري: حدثنا العلاء بن عبد الجبار. ولم يقع هذا التعليق موصولًا في رواية الكشَمْيهنيّ وكريمة وابن عساكر، وأشار بهذا إلى أنه روى أثر عمر بن عبد العزيز موصولًا ولكنه إلى قوله "ذهاب العلماء" فسر ذلك بقوله: يعني حديث عمر بن عبد العزيز، إلى قوله "ذهاب العلماء" قال في "الفتح": يحتمل أن يكون ما بعده ليس من كلام عمر، أو من كلامه ولم يدخله في هذه الرواية. والأول أظهر، وبه صرح أبو نعيم في "المستخرج"، ولم أجده في مواضع كثيرة إلا كذلك، وعلى هذا فبقيته من كلام المصنف. أورده تلو كلام عمر، ثم بين أن ذلك غاية ما انتهى إليه كلام عمر. ولعل المصنف أخر إسناد كلام عمر بن عبد العزيز عن كلامه، لكونه لم يطلَّع عليه إلا بعد وضع هذا الكلام، فألحقه بالأخير. رجاله ثلاثة: الأول العلاء بن عبد الجبار أبو الحسن البصريّ العطَّار الأنصاريّ، مولاهم، سكن مكة، أخرج البخاري من رواية إسحاق بن إبراهيم، وأبي الهيثم في العلم، عنه عن عبد العزيز بن مسلم هذا الأثر، ولم يخرج عنه غيره. قال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال العَجْلِيّ: ثقة، وقال ابن سعد: كان كثير الحديث. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال النَّسائي: ليس به بأس، وفي الزهرة روى عنه البخاري حديثين. توفي سنة اثنتي عشرة ومئتين روى التَّرمْذِي والنَّسائي وابن ماجة عن رجل عنه، ولم يخرج مسلم له شيئًا. الثاني: عبد العزيز بن مسلم القسْملِي، مولاهم، أبو زيد،

المَرْوَزي, البصريّ. ذكره ابن حبان, وقال: أصله من مرو. وقال ابن مُعين وابن نُمير والعَجْلي: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح الحديث ثقة، وقال أبو عامر: حدثنا عبد العزيز، وكان من العابدين. وقال يحيى بن إسحاق: حدثنا عبد العزيز، وكان من الأبدال، وقال يحيى بن حسَّان: كان من أفاضل الناس، وقال ابن خراش: صدوق. وقال ابن حبان أيضًا: ربما وهم فأفحش. روى عن أبي إسحاق الهَمْدانيّ، وعبد الله بن دينار، ويحيى بن سعيد الأنصاري، والاعمش، وابن عَجْلان وغيرهم. وروى عنه ابن مَهْدِيّ، وأبو عامر العَقْدي، وعبد الصمد بن عبد الوارث، والعلاء بن عبد الجبار وغيرهم. مات سنة سبع وستين ومئة في ذي الحجة، وليس في الستة عبد العزيز بن مسلم سواه إلا ابن مسلم الأنصاري، مولى آل رفاعة، والقسملي في نسبه مر الكلام عليه في التاسع والعشرين من كتاب الإيمان. الثالث: عبد الله بن دينار، وقد مر في الثاني من كتاب الإيمان.

الحديث الثاني والاربعون

الحديث الثاني والاربعون حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا، يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا". قوله: "لا يقبض العلم انتزاعًا" أي: محوًا من الصدور، وكان تحديث النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك، في حجة الوداع، كما رواه أحمد والطبراني والدارميّ عن أبي أُمامة. قال: لما كان في حجة الوداع، قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: "خذوا العلم قبل أنْ يقبض أو يرفع" فقال أعرابيّ: "يا رسول الله: كيف يرفع العلم منا، وبين أظهرنا المصاحف، وقد تعلمنا ما فيها، وعلمناها أبناءنا ونساءنا، وخدمنا؟ فرفع إليه رأسه وهو مغضب فقال: وهذه اليهود والنصارى بين أظهرهم المصاحف لم يتعلقوا منها بحرف فيما جاءهم به أنبياؤهم، الا ان ذهاب العلم ذهاب حَمَلَته" ثلاث مرات. فبين عبد الله بن عمرو أن الذي ورد في قبض العلم ورفعه، إنما هو على الكيفية التي ذكرها، وقد فسر عمر قبض العلم بما وقع تفسيره به، وفي حديث عبد الله بن عمر، وذلك فيما أخرجه أحمد والبَّزار وابن عبد البر "أن عمر سمع أبا هريرة يحدث بحديث قبض العلم، فقال: إنَّ قبض العلم ليس شيئًا ينزع من صدور الرجال، ولكنّه فناء العلماء. وهذا يحتمل أن يكون عند عمر مرفوعًا، فيكون شاهدًا قويًا لحديث عبد الله ابن عمرو.

وقال ابن المنير. محو العلم من الصدور جائز في القدرة، إلاَّ أنّ هذا الحديث دل على عدم وقوعه. وأخرج الطبراني في "الأوسط" بسند ضعيف عن أبي سعيد بلفظ "يقبض اللهُ العلماء، ويقبض العلم معهم، فتنشأ أحداث، ينزو بعضهم على بعض نزو العير على العير، ويكون الشيخ فيهم مستضعفًا". وأخرج الدارمي عن أبي الدرداء قوله: "رفع العلم ذهاب العلماء" وعن حُذيفة "قبض العلم قبض العلماء" وعند أحمد عن ابن مسعود "هل تدرون ما ذهاب العلم؟ ذهابُ العلماء". واستفيد من حديث أبي أمامة السابق أن بقاء الكتب بعد رفع العلم بموت العلماء، لا يغني عمن ليس بعالم شيئًا. وقوله: "ولكن يُقبْض العلم بقبض العلماء" أي بقبض أرواحهم، وإنما عبر بالمظهر في قوله "يقبض العلم" موضع المضمر، لزيادة تعظيم المظهر، كما في قوله تعالى {الله الصمد} [الصمد: 2] بعد قوله {الله أحد} [الصمد: 1]. وقوله: "حتى إذا لم يبق" بضم المثناة التحتية، وكسر القاف من الإبقاء، وفيه ضمير يرجع إلى الله تعالى، أي حتى إذا لم يبق الله. وقوله: "عالمًا" بالنصب على المفعولية، وفي رواية غير الأصيليّ "يَبْقَ" بفتح حرف المضارعة، من البقاء الثلاثي. و"عالم" بالرفع على الفاعلية، ولمسلم حتى إذا لم يترك عالمًا وقوله: "اتخذ الناس رُؤساء" أي بضم الراء والهمزة، والتنوين، جمع رأس. ولأبي ذرٍ "رؤساء" بهمزة مفتوحة، وفي آخره همزة أخرى مفتوحة، جمع رئيس. وقوله: "جُهّالًا" بالضم والتشديد والنصب، صفة لسابقه، وقوله "فسُئلوا" بضم السين أي: سألهم الناس. وقوله: "فضلوا" من الضلال، أي في أنفسهم وقوله: "وأضَلَّوا" من الاضلال أي أضلوا السائلين، فإن قيل الواقع بعد حتى هنا جملة شرطية فكيف وقعت غاية؟ أجيب بأن التقدير "ولكن يقبض العلم بموت العلماء إلى أن يتخذ الناس رؤساء جهالًا وقت انقراض أهل العلم" فالغاية في الحقيقة هي ما ينسبك من الجواب مرتبًا على فعل الشرط.

وفي الحديث الزجر عن ترئيس الجاهل لما يترتب عليه من المفسدة، وقد يتمسك به من لا يجوز تولية الجاهل بالحكم، ولو كان عاقلًا عفيفًا، لكن إذا دار الأمر بين العالم الفاسق والجاهل العفيف، فالجاهل العفيف، أولى لأن ورعه يمنعه عن الحكم بغير علم، فيحمله على البحث والسؤال. واستدل به أيضًا على جواز خلو الزمان عن مجتهد، وهو قول الجمهور خلافًا لأكثر الحنابلة وبعض من غيرهم, لأنه صريح في رفع العلم بقبض العلماء، وفي ترئيس أهل الجهل ومن لازمه الحكم بالجهل، وإذا انتفى العلم وفي يحكم به استلزم انتفاء الاجتهاد والمجتهد وعورض بحديث "لا تزال طائفةٌ من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله" وقد مر في باب "من يرد الله به خيرًا يفقهْه في الدين" بجميع رواياته. وأجيب أولًا بأنه ظاهر في عدم الخلو، لا في نفي الجواز وثانيًا بأن الدليل للأول أظهر للتصريح بقبض العلم تارة، وبرفعه أخرى بخلاف الثاني، وعلى تقدير التعارض فيبقى أن الأصل عدم المانع. قالوا الاجتهاد فرض كفاية، فيستلزم انتفاؤه الاتفاق على الباطل، وأجيب بأن بقاء فرض الكفاية مشروط ببقاء العلماء، فأما إذا قام الدليل على انقراض العلماء، فلا لأن بفقدهم تنتفي القدرة والتمكن من الاجتهاد، وإذا انتفى أن يكون مقدورًا لم يقع التكليف به، وقد مر في باب "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين" في حديث معاوية، أن محل وجود ذلك عند فقد المسلمين بهبوب الريح، التي تهب بعد نزول عيسى عليه السلام، وموته، فلا يبقى أحد في قلبه مثقال ذرة من الإيمان إلا قبضته إلى آخر ما مر. فلا يرد حينئذ اتفاق المسلمين على ترك فرض الكفاية والعمل بالجهل، لعدم وجودهم، وهو المعبر عنه بقوله "حتى يأتي أمر الله". ومر هناك ما جوزه الطبري من أنه يضمر في كل من الحديثين المحل الذي تكون فيه تلك الطائفة الخ، وما اعترض به عليه، ويمكن أن تنزل

رجاله خمسة

هذه الأحاديث على الترتيب في الواقع، فيكون أولًا رفع العلم بقبض العلماء المجتهدين الاجتهاد المطلق، ثم المقيد ثانيًا، فإذا لم يبق مجتهدٌ استووا في التقليد، لكن ربما كان بعض المقلدين أقرب إلى بلوغ درجة الاجتهاد المقيد من بعض، ولاسيما إن فرعنا على جواز تجزي الاجتهاد، ولكن لغلبة الجهل يقدم أهل الجهل أمثالهم، وإليه الإِشارة بقوله: "اتخذ الناس رؤساء جهالًا" وهذا لا ينفي ترئيس من لم يتصف بالجهل التام، كما لا يمتنع ترئيس من ينسب إلى الجهل في الجملة في زمن جهل الاجتهاد. وقد أخرج ابن عبد البر في كتاب "العلم" عن درَّاج أبي السَّمْع أنه قال: يأتي على الناس زمان يسمن الرجل راحلته حتى يصير عليها في الامصار يلتمس من يفتيه بسنة، قد عمل بها فلا يجد إلا من يفتيه بالظن، فيحمل على أن المراد الأغلب الأكثر في الحالين، وقد وجه هذا مشاهدًا. ثم يجوز أن يقبض أهل تلك الصفة، ولا يبقى إلاَّ المقلد الصرف، وحينئذ يتصور خلو الزمان من مجتهد، حتى في بعض الأبواب، بل في بعض المسائل، ولكن يبقى من له نسبة إلى العلم في الجملة، ثم يزداد حينئذ غلبة الجهل، وترئيس أهله. ثم يجوز أن يقبض أولئك حتى لا يبقى منهم أحد، وذلك جدير بأن يكون عند خروج الدّجال، أو بعد موت عيسى عليه السلام، وحينئذ يتصور خلو الزمان عمن ينسب إلى العلم أصلًا، ثم تهب الريح فتقبض كل مؤمن، وهناك يتحقق خلو الأرض عن مسلم، فضلًا عن عالم، فضلًا عن مجتهد، ويبقى شرار الناس، وعليهم تقوم الساعة، والعلم عند الله تعالى. رجاله خمسة: الأول إسماعيل بن أبي أُويس، وقد مر في الخامس عشر من كتاب الإيمان, ومر الإِمام مالك، وهشام بن عُرْوة، وأبوه عُروة في الثاني من بدء الوحي، ومر عبد الله بن عمرو بن العاص في الثالث من كتاب الإيمان. أخرجه البخاري هنا، وفي الاعتصام عن سعيد بن تَلِيد،

باب هل يجعل للنساء يوما على حدة في العلم

ومسلم في القدر عن قتيبة وغيره, والتِّرْمذيّ في العلم عن هارون بن إسحاق، وقال: حسن صحيح. والنَّسائيّ فيه عن محمد بن رافع، وابن ماجة في السنة عن أبي كريب. وفي بعض نسخ البخاري وهي من زيادة الراوي عن البخاري. قال الفربريّ: حدثنا عباس قال: حدثنا قتيبة حدثنا جرير عن هشام نحوه. قوله "نحوه" أي بمعنى حديث مالك، وهذه هي عادة المحدثين يعبرون "بنحوه" في الحديث الذي بمعنى الحديث، وبمثله في الحديث الذي بلفظ الحديث. ولفظ رواية قتيبة هذه أخرجها مسلم عنه. رجاله خمسة: الأول الفَرْبَري أبو عبد الله محمد بن يوسف، وقد مر في التعاليق المذكورة بعد الرابع من كتاب العلم، الثالث قتيبة، وقد مر في الحادي والعشرين من كتاب الإيمان, ومر هشام بن عروة في الثاني من بدء الوحي، ومر جرير بن عبد الحميد في الثاني عشر من كتاب العلم هذا. والثاني من السند: -عباس بن الفضل بن زكرياء، روى عنه أبو منصور النضرويّ. قال الخطيب: كان ثقة من الطبقة الثانية عشرة، بل من التي بعدها, ولد بعد موت ابن ماجة ومات سنة اثنتين وسبعين وثلاث مئة. وعباس بن الفضل في الستة واحد، وهو أبو الفضل الأنصاري الواقفي، نزيل الموصل، وفي غير الستة خمسة بهذا، صاحب الترجمة. فإنه روى عن أحمد بن نجدة والحسين بن إدريس. وقول من قال: إن ابن ماجة روى عنه غلطٌ. كما مر من أنه إنما ولد بعد موته، إنما روى عن ابن الفضل الأنصاري. ثم قال المصنف: باب هل يجعل للنساء يومًا على حدة في العلم أي الإمام، وللأصيليّ وكريمة: يُجعل بضم أوله. وعندهما يومٌ بالرفع لأجل ذلك. وقوله على حدة، بكسر المهملة وفتح الدال المهملة المخففة، أي ناحية وحدهن، والهاء عوض عن الواو المحذوفة، كما قالوا في عدة من الوعد.

الحديث الثالث والأربعون

الحديث الثالث والأربعون حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنِى ابْنُ الأَصْبَهَانِىِّ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ ذَكْوَانَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ. قَالَتِ النِّسَاءُ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- غَلَبَنَا عَلَيْكَ الرِّجَالُ، فَاجْعَلْ لَنَا يَوْمًا مِنْ نَفْسِكَ. فَوَعَدَهُنَّ يَوْمًا لَقِيَهُنَّ فِيهِ، فَوَعَظَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ، فَكَانَ فِيمَا قَالَ لَهُنَّ "مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقَدِّمُ ثَلاَثَةً مِنْ وَلَدِهَا إِلاَّ كَانَ لَهَا حِجَابًا مِنَ النَّارِ". فَقَالَتِ امْرَأَةٌ وَاثْنَيْنِ فَقَالَ "وَاثْنَيْنِ". قوله: "قال: قال النساء": وفي رواية بإسقاط قال الأولى، ولغير أبي ذر وأبي الوقت وابن عساكر "قالت النساء" بتاء التأنيث، وكلاهما جائز في فعل اسم الجمع. وقوله: "غلبنا عليك الرجالُ" بفتح الموحدة من غلبنا، أي بملازمتهم لك كل الأيام، يتعلمون الدين، ونحن نساء ضعفة، لا نقدر على مزاحمتهم. وقوله: "فاجعل لنا يومًا من نفسك" أي: عيَّن لنا يومًا من الأيام، تعلمنا فيه، يكون منشؤه من نفسك، أي من اختيارك، لا من اختيارنا. ومن ابتدائية، وعبر عن التعيين بالجعل, لأنه لازمه. وقوله: "فوعدهن يومًا لقيهن فيه" أي في اليوم الموعود به، ويومًا نصب مفعولٍ ثان "لوعد" ولا يقال إن في الكلام عطف جملة خبرية، وهي "فوعدهن"، على جملة إنشائية، وهي "فاجعل لنا". وقد منعه ابن مالك وابن عصفور, لأنا نقول: إن العطف ليس على قوله فاجعل لنا يومًا بل، العطف على جميع الجملة من قوله: غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يومًا من نفسك. وقوله: "فوعظهنَّ" التقدير: فوفَّى بوعده، فلقيهنّ فوعظهنَّ. وفي رواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هُريَرْة بنحو هذه القصة، فقال:

موعدكن بيت فلانة، فأتاهن فحدثهن. وقوله: "فأمرهن" أي: بالصدقة أو حذف المأمور به لإرادة التعميم. وقوله: "ما منكن امرأة"، وللأصيلي "ما من امرأة". ومن زائدة لفظًا، وقوله: "تقدم" صفة لامرأة، وقوله: "إلا كان لها حجابًا" أي: كان بالتقديم لها حجابًا. وللأصيلي "حجاب" بالرفع، وتعرب كان تامة، أي حصل لها حجاب، وللمصنف في الجنائز "إلا لها" أي الأنفس التي تقدم، وله في الاعتصام "إلاَّ كانوا" أي الأولاد. وحكم الرجل في ذلك كالمرأة. وقوله: "فقالت امرأة" قيل: هي أم سُليم، كما عند الطبراني وأحمد، أو أم هانىء كما عند الطبراني في الأوسط, أو أم أيمن كما عنده في الأوسط أيضًا، أو أم مُبَشر الانصارية، كما عند الطبراني. والظاهر أنها بنت البراء ابن مَعْرور أو عائشة، كما في حديث ابن عباس عند التِّرمذي. وأم سُليم، جاء تعريفها في السبعين من كتاب العلم هذا، وجاء تعريف أم هانىء في الثلاثين من كتاب الغسل، وجاء تعريف أم أيمن في الثاني والستين من الهبة، ومرت عائشة في الثالث من الوحي، فيحتمل أن يكون كل منهن سأل عن ذلك في ذلك المجلس وأما تعدد القصة ففيه بعد, لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم، لما سُئل عن الاثنين بعد ذكر الثلاثة، وأجاب بأن الاثنين كذلك، يكون الاقتصار على الثلاثة بعد ذلك مستبعدًا جدًا، لأن مفهومه يخرج الاثنين اللذين ثبت لهما ذلك الحكم، بناءً على القول باعتبار مفهوم العدد، وهو معتبر هنا كما يأتي البحث فيه قريبًا إن شاء الله تعالى. وقد جاء من حديث جابر بن عبد الله عند أحمد أنه ممن سأل عن ذلك. وروى الحاكم والبَزَّار من حديث بُريدة أن عمر سأل عن ذلك، ولفظه "ما من امرىء، ولا امرأة يموت له ثلاثة أولاد إلا أدخله الله الجنة فقال: عمر: يا رسول الله، واثنان؟ قال: وأثنان". قال الحاكم: صحيح

الإسناد، وهذا لا بعد في تعدده, لأن خطاب النساء بذلك لا يستلزم علم الرجال. وقوله: "واثنين فقال واثنين" ولكريمة "واثنتين" بزيادة تاء التأنيث، وهو منصوب بالعطف على ثلاثة، ويسمى العطف التلقيني وروايته في الجنائز: قالت امرأة: واثنان؟ قال: واثنان. أي: وإذا مات اثنان ما الحكم؟ فقال: واثنان، أي: وإذا مات اثنان، فالحكم كذلك، وكأنها فهمت الحصر، وطمعت في الفضل، فسألت عن حكم الاثنين: هل يلتحق بالثلاثة أم لا. وقال ابن بّطال تبعًا لعياض: هذا يدل على أن مفهوم العدد ليس بحجة لأن الصحابية من أهل اللسان، ولم تعتبره، إذ لو اعتبرته لانتفى الحكم عندها عما عدا الثلاثة، لكنها جوزت ذلك، فسألته كذا، قال: والظاهر أنها اعتبرت مفهوم العدد، إذ لو لم تعتبره لم تسأل، والتحقيق أن دلالة مفهوم العدد ليست يقينية، وإنما هي محتملة، ومن ثَمَّ وقع السؤال عن ذلك. قال القرطبي: إنما خُصَّت الثلاثة بالذكر لأنها أول مراتب الكثرة، فبعظم المصيبة يعظم الأجر، فأما إذا زاد عليها، فقد يخف أمر المصيبة، لأنها تصير كالعادة، كما قيل: رُوّعتُ بالبين حتى لا أُراع له وهذا مصير منه إلى انحصار الأجر المذكور في الثلاثة ثم في الإثنين، بخلاف الأربعة والخمسة، وهو جمود منه شديد، فإنّ من مات له أربعة فقد مات له ثلاثة ضرورة, لأنهم إن ماتوا دفعة واحدةً، فقد مات له ثلاثة وزيادة، ولا خفاء بأن المصيبة بذلك أشد، وإن ماتوا واحدًا بعد واحدٍ، فأن الأجر يحصل له عند موت الثالث بمقتضى وعد الصادق، فيلزم على قول القرطبي أنّه إن مات له الرابع، أن يرتفع عنه ذلك الأجر، مع تجدد المصيبة، وكفى بهذا فسادًا، والحق أن تناول الخبر الأربعة فما فوقها من باب أولى وأحرى.

ويؤيد ذلك أنهم لم يسألوا عن الأربعة، ولا ما فوقها, لأنها كالمعلوم عندهم, لأن المصيبة إذا كثرت كان الأجر أعظم. وقال القرطبي أيضًا: يحتمل أن يفترق في ذلك بافتراق حال المصاب، من زيادة رقة القلب، وشدة الحب، ونحو ذلك. قال في الفتح جوابًا عما قال: لم يقع التقييد في طرق الحديث بشدة الحب ولا عدمه، وكان القياس يقتضي ذلك لما يوجد من كراهة بعض الناس لولده، وتبرمه منه، ولاسيما من كان ضيق الحال، لكن لما كان الولد مظَنَّة المحبة والشفقة نِيْط به الحكم، وإن اختلفت في بعض الأفراد. وقد قال ابن بطَّال: إنَّ إخباره، عليه الصلاة والسلام، بالاثنين محمول على أنه أُوحي إليه بذلك في الحال، ولا بَعُد أن ينزل عليه الوحي في أسرع من طرفة عين. ويحتمل أن يكون كان العلم عنده بذلك حاصلًا، لكن أشفق عليهم أن يتكلموا, لأن موت الاثنين غالبا أكثر من موت الثلاثة، كما وقع في حديث معاذ وغيره في الشهادة بالتوحيد، ثم لما سُئل عن ذلك، لم يكن بد من الجواب. وقد وردت أحاديث في إلحاق الواحد بالاثنين، منها ما أخرجه الطَّبراني في الأوسط عن جابر بن سُمْرة مرفوعًا "من دفن ثلاثة، فصبر عليهم، واحتسب، وجبت له الجنة" فقالت أم أيمن: أو اثنين؟ فقال: "أو اثنين"، فقالت: وواحد؟ فسكت، ثم قال: "وواحد". وأخرج التِّرمذي عن ابن مسعود مرفوعًا، وقال: غريب، "من قَدَّم ثلاثة من الولد، لم يبلغوا الحنث، كانوا له حصنًا حصينًا من النار" قال أبو ذَرٍّ: قدمت اثنين، قال: "واثنين" قال: أُبَيّ بن كعب: قدمت واحدًا قال: و"واحدًا". وأخرج التِّرمْذِي أيضًا عن ابن عباس رفعه، "من كان له فَرْطان من أمتي أدخله الله الجنة" فقالت عائشة: فمن كان له فرْط؟ قال: "ومن كان له فرط" الحديث، وليس في شيء من هذه الطرق ما يصلح للاحتجاج،

رجاله خمسة

بل وقع في رواية شريك: ولم يسأله عن الواحد. وروى النسائي وابن حبان عن أنس أن المرأة التي قالت "واثنان" قالت بعد ذلك: يا ليتني قلت: "وواحد". وروى أحمد من طريق محمود بن لبيد عن جابر رفعه، "من مات له ثلاث من الولد فاحتسبهم، دخل الجنة، قلنا: يا رسول الله، واثنان؟ قال: واثنان" قال محمود: قلت لجابر: أراكم لو قلتم وواحد، لقال: وواحد، قال: وأنا أظن ذلك. وهذه الأحاديث الثلاثة اصح من تلك الثلاثة لكن روى المصنف من حديث أبي هريرة في الرقاق مرفوعًا: "يقول الله عز وجل: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة" وهذا يدخل في الواحد فما فوقه وهو أصح ما ورد في ذلك. رجاله خمسة: الأول آدم بن أبي إياس، وقد مر هو وشُعبة في الثاني من كتاب الإيمان, ومر أبو صالح في الثاني منه، ومر أبو سعيد الخُدْري في الثاني عشر من كتاب الإيمان. الثالث من السند: عبد الرحمن بن عبد الله بن الأصبْهاني الكُوفيّ الجُهنيّ، ويقال الجَدليّ، كان يتجر إلى أصبهان قال ابن معين وأبو زَرعة والنَّسائي: ثقة، وقال أبو حاتم: لا بأس به، صالح الحديث. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال العَجْليّ: ثقة، روى عن أنس وأبي حازم الأشجعي وعِكْرمةَ وأبي صالح السمان والشعبيّ وغيرهم. وروى عنه أبن أخيه محمد بن سليمان، وشُعبة والثَّورْيّ، وأبو عُوانة وابن أبي زائدة، وابن عُيينة وغيرهم. مات في إمارة خالد القسْريّ على العراق. وعبد الرحمن بن عبد الله في الستة كثير. والأصبهاني في نسبه نسبة إلى أصبهان، بفتح الهمزة وكسرها, وهي مدينة عظيمة في العراق العجميّ من بلاد فارس، وقد قال بعض السَّوّاح المتأخرين: لا تزال أصبهان أعظم مدن فارس وأجملها, لكن آثار عظمتها

لطائف إسناده

القديمة آخذة في التلاشي، والآن هي إحدى ولايات العجم، وبها من السكان نحو تسعين الفًا، وكان فتحها في خلافة عمر بن الخطاب سنة إحدى وعشرين، أرسل إليها عبد الله بن عبد الله بن عَتْبان، وأمدّه بأبي موسى الأشعري، ففتحت بعد قتال شديد. وفي معجم البلدان من أمرها، وما وقع فيها للشيعة شيء عجيب. و"الجدلي" في نسبه أيضًا نسبة إلى جديلة، وقد مر في الثامن والثلاثين من كتاب الإيمان. لطائف إسناده: - منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع والإِفراد والسماع والعنعنة، ورواته ما بين كوفيّ وواسطيّ ومدنيّ. أخرجه البخاري هنا، وفي الجنائز أيضًا، عن مسلم بن إبراهيم، وفي العلم أيضًا عن بندار، وفي الاعتصام عن مسدد، ومسلم في الأدب عن أبي كامل الجُحْدُري وغيره، والنّسائي في العلم عن أبي موسى وبُندار وغيره.

الحديث الرابع والأربعون

الحديث الرابع والأربعون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَصْبَهَانِىِّ عَنْ ذَكْوَانَ عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- بِهَذَا. وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَصْبَهَانِيِّ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا حَازِمٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: "ثَلاَثَةً لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ". قوله: "وعن عبد الرحمن بن الأصبهاني" الواو فيه للعطف على قوله: أولًا "عن عبد الرحمن"، والحاصل أن شعبة يرويه عن عبد الرحمن بإسنادين، فهو موصول، ووهم من زعم أنه معلق، وأفاد بهذا الإِسناد فائدتين: إحداهما: تسمية ابن الأصبهاني المبهم في الرواية الأولى. والثانية: زيادة طريق أبي هُريرة التي زاد، فيها التقييد بعدم بلوغ الحنث. وقوله: "لم يبلغوا الحنِث" هو بكسر المهملة وسكون النون بعدها مثلثة، وحكي عن الداودي أنه ضبطه بفتح المعجمة والموحدة، وفسره بأن المراد لم يبلغوا أن يعملوا المعاصي، ولم يذكره كذلك غيره، والمحفوظ الأول. والمعنى: لم يبلغوا الحُلُم فتكتب عليهم الآثام. قال الخليل: بلغ الغلام الحنث إذا جرى القلم، والحنث الذنب. قال الله تعالى: {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ} وقيل: المرادُ بلغ إلى زمان يُؤاخذ بيمينه إذا حَنَثْ. وقال الراغب: عبر بالحنث عن البلوغ لما كان الإنسان يُؤاخذ بما يرتكبه فيه، بخلاف ما قبله، وخص الإثم بالذكر, لأنه الذي يحصل بالبلوغ, لأن الصبي قد يثاب، وخص الصغير بذلك لأن الشفقة عليه أعظم، والحب له أشد، والرحمة له أوفر. وعلى

هذا، فمن بلغ الحنث لا يحصل لمن فقده ما ذكر من هذا الثواب، وإن كان في فقد الولد أجر في الجملة. وبهذا صرح كثيرٌ من العلماء، وفرقوا بين البالغ وغيره بأنه يتصور منه العقوق المقتضي لعدم الرحمة، بخلاف الصغير, فإنه لا يتصور منه ذلك، إذ ليس بمخاطب. وقال الزين بن المنير: بل يدخل الكبير في ذلك من طريق الفحوى، لأنه إذا ثبت ذلك في الطفل الذي هو كلٌّ على أبويه، فكيف لا يثبت في الكبير الذي بلغ معه السعي، ووصل له منه النفع، وتوجه إليه الخطاب بالحقوق؟ قال: ولعل هذا هو السر في الغاء البخاري التقييد بذلك في الترجمة، ويقوي الأول قوله في بقية الحديث: "بفضل رحمته إياه" لأن الرحمة للصغار أكثر، لعدم حصول الإِثم منهم، وهل يلتحق بالصغار من بلغ مجنونًا مثلًا واستمر على ذلك فمات؟ فيه نظر, لأن كونهم لا إثم عليهم، يقتضي الإِلحاق، وكون الامتحان بهم يخف بموتهم يقتضي عدمه، وهل يدخل في الأولاد أولاد الأولاد؟ محل بحث، والذي يظهر أن أولاد الصُلب يدخلون، ولاسيما عند فقد الوسائط بينهم وبين الأب، وفي التقييد بكونهم من صُلبه، ما يدل على إخراج أولاد البنات. وفي الحديث ما كان عليه نساء الصحابة من الحرص على تعليم الدين، وفيه جواز الوعد، وأن أولاد المسلمين في الجنة, لأنه يبعد أن الله تعالى يغفر للآباء بفضل رحمته للأبناء، ولا يرحم الأبناء، وكون أولاد المسلمين في الجنة قاله الجمهور، ووقفت طائفة قليلة، وقال النووي: أجمع من يعتد به من علماء المسلمين، على أن من مات من أطفال المسلمين، فهو من أهل الجنة، وتوقف فيه بعضهم لحديث عائشة الذي أخرجه مسلم بلفظ "تُوفيّ صبي من الأنصار، فقلت: طوبى له لم يعمل سوءًا، ولم يدركه، فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: أو غير ذلك يا عائشة إن الله خلق للجنة أهلًا" الحديث. قال: والجواب عنه أنه لعله نهانا عن المسارعة إلى القطع من غير دليل، أو قال ذلك قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة.

رجاله ثمانية

وقال القُرطبيُّ: نفى بعضهم الخلاف في ذلك، وكأنه عني به ابن أبي زيد، فإنه أطلق الإجماع في ذلك، ولعله أراد إجماع من يعتد به. وقال المازريّ: الخلاف في غير أولاد الأنبياء. وروى عبد الله بن أحمد في زيادات المسند عن علي، مرفوعًا "أن المسلمين وأولادهم في الجنة، وأن المشركين وأولادهم في النار" ثم قرأ {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ} [الطور: 21] الآية. وهذا أصح ما ورد في تفسير هذه الآية وبه جزم ابن عباس. رجاله ثمانية: الأول محمد بن بَشَّار، وقد مر في الحادي عشر من كتاب العلم، ومر غُنْدُر، وهو محمد بن جعفر في الخامس والعشرين من كتاب الإيمان, ومر شعبة في الثالث منه، ومر أبو صالح وأبو هريرة في الثاني منه أيضًا، ومر أبو سعيد الخدري في الثاني عشر منه أيضًا، ومر عبد الرحمن بن الأصبهاني في الذي قبل هذا. والثامن أبو حازم وهو سَلْمان الاشّجْعيّ الكوفي، قال أحمد وابن مُعين وأبو داود: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن سعد: كان ثقة، وله أحاديث صالحة، وقال العَجْلي: ثقة: وقال ابن عبد البرّ: اجمعوا على أنه ثقة. روى عن مولاته عزة الاشجعية، وابن عمر وأبي هريرة، والحسن والحسين، وابن الزبير وغيرهم، وروى عنه الأعمشُ ومنصور وأبو مالك الأشجعيّ وعديّ بن ثابت، وفُضَيل بن غَزوان ومَيْسَرة وغيرهم. مات في خلافة عمر بن عبد العزيز، وقد يشتبه بأبي حازم سلَمة بن دينار الزّاهد، فإنهما تابعيان مشتركان في الكنية. قال أبو عليّ الجَيَّاني: أبو حازم رجلان تابعيان يكنيان بأبي حازم، يرويان عن الصحابة. فالأول الأشجعي هذا، والثاني سلمة بن دينار الأعرج، كثير الرواية عن سهل بن سعد، ومن الفرق بينهما أن الأول توفي في خلافة عمر بن عبد العزيز، والثاني توفي سنة خمس وثلاثين ومئة، والأول لم يرو في البخاري ومسلم إلاَّ عن أبي هريرة، والثاني لم يرو فيهما إلاَّ عن سهل بن سعد، وكلاهما ثقة. ثم قال المصنف.

باب من سمع شيئا فراجع حتى يعرفه

باب من سمع شيئًا فراجع حتى يعرفه زاد في رواية أبي ذَرٍّ "فلم يفهمه". قوله: "فراجع" أي راجع الذي سمعه منه، وللأصيليّ فراجع فيه. وفي رواية فراجعه.

الحديث الخامس والأربعون

الحديث الخامس والأربعون حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِى مَرْيَمَ قَالَ أَخْبَرَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِى مُلَيْكَةَ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَتْ لاَ تَسْمَعُ شَيْئًا لاَ تَعْرِفُهُ إِلاَّ رَاجَعَتْ فِيهِ حَتَّى تَعْرِفَهُ، وَأَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ". قَالَتْ عَائِشَةُ فَقُلْتُ أَوَ لَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} قَالَتْ فَقَالَ: "إِنَّمَا ذَلِكَ الْعَرْضُ، وَلَكِنْ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَهْلِكْ". قوله: "إن عائشة" ظاهر أوله الإرسال, لأن ابن أبي مُليكة تابعي، لم يدرك مراجعة عائشة للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، لكن تبين وصله بعد في قوله: "قالت عائشة: فقلت. وقوله: "لا تسمع" أي: بالمضارع، استحضارًا للصورة الماضية لقوة تحققها، وقوله: وأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم" عطف على قوله أن "عائشة" وقوله: "فقلت: أو ليس يقول الله تعالى" يقول خبر ليس، واسمها ضمير الشأن، أو أن ليس بمعنى لا، أي أو لا يقول الله. وفي رواية في التفسير "يا رسول الله جعلني الله فداءك، أليس يقول الله عَزَّ وَجَلَّ". وقوله: "فقال: إنما ذلك العرض" بكسر الكاف, لأنه خطاب للمؤنث. قال القُرطبيْ: معنى قوله "إنما ذلك العرض" أن الحساب المذكور في الآية، إنما هو أن تعرض أعمال المؤمن عليه، حتى يعرف منّة الله تعالى عليه، في سترها عليه في الدنيا، وفي عفوه عنها في الآخرة، كما في حديث ابن عمر في النجوى، أخرجه المؤلف في المظالم. وفي تفسير سورة هود، وفي التوحيد، بلفظ "يدنو أحدكم من ربه حتى يضع كنفه عليه، فيقول: أعملت كذا وكذا؟ فيقول: نعم، فيقرره، ثم يقول: إني سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك في الآخرة".

وجاء في كيفية العرض ما أخرجه التِّرْمِذيُّ عن الحسن عن أبي هريرة, رفعه، "تعرض الناس يوم القيامة ثلاث عَرْضات: فأما عرضتان فجدالٌ ومعاذير، وعند ذلك تطير الصحف في الأيدي، فآخذٌ بيمينه، وآخذٌ بشماله". قال التِّرمِذي: لا يصح, لأن الحسن لم يسمع من أبي هريرة. ورواه بعضهم عن الحسن عن أبي موسى، وهو عند ابن ماجة وأحمد من هذا الوجه مرفوعًا، وأخرجه البيهْقيّ في البعث. بسند حسن عن عبد الله بن مسعود موقوفًا. قال الترمذي الحكيم: الجدال للكفار يجادلون, لأنهم لا يعرفون ربّهم، فيظنون أنهم إذا جادلوا نجوا، والمعاذير أعتذار الله لآدم وأنبيائه بإقامة الحجة على أعدائه، والثالثة للمؤمنين وهو العرض الأكبر. وقوله: "ولكن من نوقش الحساب" بالقاف والمعجمة، من المناقشة، وأصلها الاستخراج، ومنه نقش الشوكة، إذا أخرجها، والمراد بالمناقشة الاستقصاء في المحاسبة، والمطالبة بالجليل والحقير، وترك المسامحة، يقال: استنقشت منه حقي، أي: استقصيته. وقوله: "يهلِكْ" بكسر اللام، وإسكان الكاف, لأنه جواب الشرط، ويجوز الرفعُ, لأن الشرط إذا كان ماضيًا يجوز في الجواب الوجهان، كما قال ابن مالك: وبعد ماضٍ رفعكُ الجزا حَسَن وفي رواية عند المؤلف "عذَّب" قال عياض: قوله "عذب" له معنيان: أحدهما أن نفس مناقشة الحساب وعرض الذنوب والتوقيف على قبيح ما سلف والتوبيخ تعذيب، والثاني أنه يفضي إلى استحقاق العذاب، إذ لا حسنة للعبد إلا من عند الله، لإقداره عليها، وتفضله عليه بها، وهدايته لها. ولأن الخالص لوجهه قليل. ويؤيد الثاني قوله في الرواية الأخرى هلَك. وقال النَّووي: التأويل الثاني هو الصحيح, لأن التقصير غلب على الناس، فمن استقصى عليه ولم يسامح هلك. ووجه المعارضة أن لفظ الحديث عام في تعذيب كل من حوسب،

ولفظ الآية دال على أن بعضهم لا يعذب، وطريق الجمع أن المراد بالحساب في الآية العرض، وهو إبراز الأعمال وإظهارها فيُعرَّف صاحبها بذنوبه، ثم يتجاوز عنه. ويؤيده ما أخرجه البَزَّار عن عَبَّاد بن عبد الله بن الزبير، قال: سمعت عائشة تقول: سألت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن الحساب اليسير، فقال: "الرجل تعرض عليه ذنوبه، ثم يتجاوز له عنها" وفي حديث أبي ذَر عند مسلم "يؤتى بالرجل يوم القيامة، فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه" الحديث. وفي حديث جابر عند أبي حاتم والحاكم "من زادت حسناته على سيئاته، فذلك الذي يدخل الجنة بغير حساب، ومن استوت حسناته وسيئاته فذلك الذي يحاسب حسابًا يسيرًا، ثم يدخل الجنة، ومن زادت سيئاته على حسناته، فذلك الذي أوبق نفسه، وإنما الشفاعة في مثله" ويدخل في هذا حديث ابن عمر المارّ في النجوى. وروى ابن مردويه عن عائشة مرفوعًا "لا يحاسبُ رجل يوم القيامة إلا دخل الجنة" وظاهره يعارض حديثها المذكور في الباب، وطريق الجمع بينهما أن الحديثين معًا في حق المؤمن، ولا منافاة بين التعذيب ودخول الجنة, لأن الموحد وإن قضي عليه بالتعذيب فإنه لابد أن يخرج من النار بالشفاعة، أو بعموم الرحمة، وقد أخرج أحمد عن عائشة "سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول في بعض صلاته: اللهم حاسبني حسابًا يسيرًا، فلما انصرف، قلت: يا رسول الله، ما الحساب اليسير؟ قال: أن ينظر في كتابه، فيتجاوز له عنه. إنَّ من نوقش الحساب، يا عائشة، يومئذٍ هلك". وفي الحديث ما كان عند عائشة من الحرص على تفهم معاني الحديث وأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، لم يكن يتضجَّر من المراجعة في العلم، وفيه جواز المناظرة، ومقابلة السنة بالكتاب، وتفاوت الناس في الحساب، وفيه أن السؤال عن مثل هذا لم يدخل فيما نُهي الصحابة عنه في قوله تعالى {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} [المائدة: 101]. وفي حديث أنس "كنُا نهينا أن نسأل رسول الله، صلى الله تعالى عليه وسلم،

عن شيء" وقد وقع نحو ذلك لغير عائشة، ففي حديث حفصة أنها لما سمعت "لا يدخل النار أحدٌ ممن شهد بدرًا والحديبية" قالت: أليس الله يقول: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] ثم اجيبت بقوله {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} [مريم: 72] الآية. وسأل الصحابة لما نزلت {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82]: أيّنا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فأجيبوا بأن المراد بالظلم الشرك. والجامع بين هذه المسائل الثلاث: ظهور العموم في الحساب، والورود والظلم. فأوضح لهم أن المراد في كل منهما أمرٌ خاص، ولم يقع مثل هذا من الصحابة إلا قليلًا، مع توجيه السؤال وظهوره، وذلك لكمال فهمهم، ومعرفتهم باللسان العربي فيحُمل ما ورد من ذم من سأل عن المشكلات، على من سأل تعنتًا، كما قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} [آل عمران: 7] وفي حديث عائشة عن البخاري "فإذا رأيتم الذين يسألون عن ذلك، فهُم الذين سمّى الله، فاحذروهم" ومن ثم أنكر عمر على ضُبيعٍ لما رآه أكثر من السؤال عن مثل ذلك، وسيأتي إن شاء الله تعالى إيضاح ذلك كله في كتاب الاعتصام. وقد انتقد الدارقطني إسناد هذا الحديث فقال: رواه حاتم بن أبي صغيرة، عن عبد الله بن أبي مُليكة، فقال: حدثني القاسم بن محمد حدثتني عائشة. وقوله أصح, لأنه زاد، وهو حافظ متقن. وتعقبه النووي وغيره، بأنه محمول على أنه سمع من عائشة وسمعه من القاسم عن عائشة، فحدث به على الوجهين. قال في "الفتح": وقد وقع التصريح بسماع ابن أبي مُليكة له من عائشة في بعض طرقه، كما في الرقاق فانتفى التعليل بإسقاط رجل من السند، وتعين العمل على أنه سمع من القاسم عن عائشة، ثم سمعه من عائشة بغير واسطة، وإن كان مؤداهما واحدًا، وهذا هو المعتمد.

رجاله أربعة

رجاله أربعة الأول سعيد بن أبي مريم، واسم أبي مريم الحكم بن محمد بن سالم الجُمَحي أبو محمد المصري، مولى أبي الضُبَيع، مولى بني جُمَحْ. قال أبو داود: ابن أبي مريم عندي حُجة، وقال الحسين بن الحسن: سألت أحمد عمن أكتب بمصر، فقال: عن ابن أبي مريم. وقال العَجْليّ: كان عاقلًا، لم أر بمصر أعقل منه ومن عبد الله بن عبد الحكم. وقال أبو حاتم: ثقة. وقال ابن يونس: كان فقيهًا، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن مُعين: ثقةٌ من الثقات، وقال النَّسائيّ: سعيد بن عُفَير صالح، وسعيد بن الحكم لا بأس به، وهو أحب إلى من ابن عُفير. روى عن عبد الله بن عمر العُمَريّ، وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، وسليمان بن بلال، ومالك، والليث وغيرهم. وروى عنه البخاري، وروى هو والباقون له بواسطة، ويحيى بن مُعين، وأبو حاتم، وإسحاق بن الحسن الطحَّان المصريّ، وخَلْق. ولد سنة أربع وأربعين ومئة، ومات سنة أربع وعشرين ومئتين، عن ثمانين سنة، وليس في الستة سعيد بن الحكم، ولا ابن أبي مريم سواه. الثاني: نافع بن عمر بن عبد الله بن جَميل بن عامر الجُحَمي المكيِّ الحافظ. قال ابن مَهْدي: كان من أثبت الناس، وقال أبو طالب عن أحمد: صحيح الكتاب، ثبْتٌ ثَبْتٌ. وقال صالح عن أبيه أحمد: نافع بن عمر أثبت من ابن مؤمل. وقال عبد الله بن أحمد: هو أحب إليّ من عبد الجبار بن الورد، وأصح حديثًا، وهو في الثقات ثقة. وقال ابن أبي حاتم: سُئل أبي عنه فقال: ثقة، قلت: يحتج بحديثه؟ قال: نعم. وقال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث، فيه شيء. وقال ابن مُعين والنسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات. قال ابن حجر في تضعيف ابن سعد: نظر لاعتماده على الواقدي. روى عن أبي مليكة، وسعيد بن أبي هند، وعبد الملك بن أبي مَحْذُورة وغيرهم، وروى عنه عبد الرحمن بن مَهْدي، ووكيع، ويحيى القطّان،

لطائف إسناده

وابن المبارك، ويزيد بن هارون، ومَؤمَّل وغيرهم. مات سنة تسع وستين ومئة بمكة، وقيل بفخ. وليس في الستة نافع بن عمر سواه. وأما نافع فكثير. الثالث: ابن أبي مُليكة، وقد مر في التعاليق المذكورة بعد الحديث الأربعين من كتاب الإِيمان، والرابع الصِّديقة، وقد مرت في الثاني من بدء الوحي. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع والإِفراد، وفيه الإِخبار، ورواته ما بين مكيّ ومدنيّ وبصريّ ومصريّ، وهو رباعيّ. فإن قيل: هذا الإِسناد مما استدركه الدارقطني على البخاري ومسلم فقال: إن الرواة اختلفوا فيه عن أبي مُليكة، فروى عنه عن عائشة، وروى عنه عن القاسم عن عائشة. وقد اختلف في الحديث إذا رُوي موصولًا ومنقطعًا، هل يكون علة فيه؟ فالمحدثون يثبتونه علة، والفقهاء ينفون العلة عنه، ويقولون يجوز أن يكون سمعه من واحد عن آخر، ثم سمعه من ذلك الآخر بغير واسطة، فيحمل على أنه سمعه منها بواسطة وبدون الواسطة، فرواه بالوجهين. وهذا جواب عن استدراك الدارقطنيّ، وأكثر استدراكاته على البخاري ومسلم من هذا الباب، قاله العَيْنِيّ. ثم قال المصنف: باب ليبلغ العلم الشاهد الغائب باب بالتنوين، وقوله "الشاهد" بالرفع، فاعل ليبلغ، وقوله "العلم والغائب" مفعولان له، أي ليبلغ الحاضرُ الغائبَ العلم، فالغائب مفعول له أول وإن تأخر في الذكر، والعلم مفعولٌ ثانٍ. واللام في ليبلغ لام الأمر. وفي الغين الكسر على الأصل في حركة التقاء الساكنين، والفتح لخفته. ثم قال المصنف: قاله ابن عباس عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، أي: رواه، لكنه بحذف العلم. ولفظه "أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، خطب الناس يوم النحر، فقال: أيها الناس، أيُّ يوم

هذا؟ قالوا: يوم حرام" وفي آخره "اللهم هل بلغت". قال ابن عباس: فوالذي نفسي بيده إنها لوصيته إلى أمته، فليبلغ الشاهد الغائب. والظاهر أن المصنف ذكره بالمعنى, لأن المأمور بتبليغه هو العلم. وابن عباس مر في الخامس من بدء الوحي، وهذا التعليق أسنده البخاري في كتاب الحج في باب الخطبة أيام مني عن علي بن عبد الله.

الحديث السادس والاربعون

الحديث السادس والاربعون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي سَعِيدٌ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ وَهْوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ إئْذَنْ لِي أَيُّهَا الأَمِيرُ أُحَدِّثْكَ قَوْلاً قَامَ بِهِ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ، سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي، وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ، حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ، حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ، وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلاَ يَحِلُّ لاِمْرِىءٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلاَ يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِيهَا فَقُولُوا إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لِرَسُولِهِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ. وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالأَمْسِ، وَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ". فَقِيلَ لأَبِى شُرَيْحٍ مَا قَالَ عَمْرو قَالَ أَنَا أَعْلَمُ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ، أَن مَكَة لاَ تُعِيذُ عَاصِيًا، وَلاَ فَارًّا بِدَمٍ، وَلاَ فَارًّا بِخَرْبَةٍ. قوله: "وهو يبعث البعوث" جمع بَعْث بمعنى مبعوث، وهو من تسمية المفعول بالمصدر، والمراد به الجيشُ المجهز للقتال، أي: يرسل الجيوش إلى مكة. لقتال عبد الله بن الزبير، لكونه امتنع من مبايعة يزيد بن معاوية، واعتصم بالحرم، وكان عمرو والي يزيد على المدينة، والقصة مشهورة، وملخصها أن معاوية عَهِدَ بالخلافة بعده لابنه يزيد، فبايعه الناس إلا الحسين بن علي وابن الزبير، فأما ابن أبي بكر عبدُ الرحمن، فمات قبل موت معاوية، وأما ابن عمر، فقد بايع ليزيد بعد موت أبيه، وأما الحسين بن علي فسار إلى الكوفة، لاستدعائهم إياه ليبايعوه، فكان ذلك سبب قتله، وأما ابن الزبير فاعتصم، ويسمى "عائذ البيت" وغلب على أمر مكة، فكان يزيد بن معاوية يأمر أمراءه على المدينة أن يجهزوا إليه الجيوش، فكان آخر ذلك أن أهل المدينة اجتمعوا على خلع يزيد من الخلافة.

وقوله "إيئذن لي" أصله ائذن بهمزتين، فقلبت الثانية ياء لسكونها وانكسار ما قبلها. وقوله "أيها الأمير" الأصل فيه: يا أيها الأمير، فحذف حرف النداء. ويستفاد منه حسن التلطف في مخاطبة السلطان، ليكون أدعى لقبولهم النصيحة، وأن السلطان لا يخاطب إلاَّ بعد استئذانه، ولاسيما إذا كان في أمر يعترض به، فترك ذلك والغلظة له قد يكون سببًا لإثارة نفسه، ومعاندة من يخاطبه، وسيأتي في الحدود قول "والد العسيف". وإيذن لي. وقوله "أحدثك" بالجزم, لأنه جواب الأمر. وقوله "قولًا" بالنصب، مفعول ثان لأحدث، وقوله "قام به النبي" صفة للقول وقوله "الغد" بالنصب، على الظرفية، أي أنه خطب في اليوم الثاني من فتح مكة في العشرين من رمضان السنة الثامنة من الهجرة. وقوله "سمعته أذناي" أصله أذنان لي، فسقطت النون، وأضيف إلى ياء المتكلم والجملة في محل نصب صفة للقول أيضًا. وقوله "ووعاه قلبي" أي حفظه وتحقق فهمه، وتثبت في تعقل معناه. وقوله "وأبصرته عيناي" بتاء التأنيث، كسمعته أذناي, لأن كل ما هو في الإنسان من الأعضاء إثنان، كاليد والرجل والعين والأذن، فهو مؤنث، بخلاف الأنف والرأس، والمراد المبالغة في حفظه والتثبت فيه، وأنه لم يأخذه اعتمادًا فيه على الصوت من وراء حجاب، بل بالرؤية والمشاهدة، وأتى بالتثنية تأكيدًا. وقوله "حين تكلم به" الضمير في "به" راجع إلى القول. وقوله "حمد الله" هو مقول القول، أو بيان لقوله تكلم، ويؤخذ منه استحباب الثناء بين يدي تعليم العلم، وتبيين الأحكام والخطبة في الأمور المهمة، ويؤخذ من قوله "ووعاه قلبي" أن العقل محله القلب. وقوله "وأثنى عليه" عطف على سابقه، من باب عطف العام على الخاص، كما مر لك قبل هذا. وقوله "إن مكة حرمها الله" في رواية ابن عباس "في الحج يوم خلق السموات والأرض" وهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة. وقوله "ولم يحرمها الناس"

أي من قبل أنفسهم واصطلاحهم، كما حرموا أشياء في الجاهلية من عند أنفسهم، بل حرمه الله تعالى بوحيه، فتحريمها ابتدائيٌّ من غير سبب يعزى لأحد، فلا مدخل فيه لنبي ولا لغيره، ولا معارضة بين هذا وبين قوله الآتي في الجهاد وغيره من حديث أنس "أن إبراهيم حرم مكة" لأن المعنى أنه بلغ تحريم الله وأظهره، بعد أن رفع البيت وقت الطوفان، واندرست حرمتها. أو أن إبراهيم حرم مكة بأمر الله لا باجتهاده، أو أن إبراهيم أول من أظهر تحريمها بين الناس، وكانت قبل ذلك عند الله حرامًا. وقيل: معنى قوله "ولم يحرمها الناس" أن حرمتها مستمرة من أول الخلق، وليس مما اختصت به شريعة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم. وقوله "فلا يحل لامرىء" بكسر الراء كالهمزة، إذ هي تابعة لها في جميع أحوالها، أي: لا يحل لرجل، وكذا لامرأة. وقوله "يؤمن بالله واليوم الآخر" أي: يوم القيامة، إشارة إلى المبدأ والمعاد، وفيه تنبيه على الامتثال لأن من آمن بالله لزمته طاعته، ومن آمن باليوم الآخر لزمه امتثال ما أمر به، واجتناب ما نهى الله عنه خوف الحساب. وقد تعلق به من قال إن الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة، والصحيح عند الأكثر خلافه. وجوابهم بأنّ المؤمن هو الذي ينقاد للأحكام، وينزجر عن المحرمات، فجعل الكلام معه، وليس فيه نفي ذلك عن غيره. وقال ابن دقيق العيد: الذي أراه أنه من خطاب التهييج كقوله تعالى {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23] فالمعنى أن استحلال هذا المنهي عنه لا يليق بمن يؤمن بالله واليوم الآخر، بل ينافيه. فهذا هو المقتضي لذكر هذا الوصف. ولو قيل: لا يحل لأحد مطلقًا، لم يحصل منه هذا الغرض، وإن أفاد التحريم. وقوله "أن يسفِك بها دما" بكسر الفاء، وقد تضم، لغتان وفي رواية الكَشْمَيهْني "فيها" بدل "بها" والباء بمعنى في، وأن مصدرية، أي: فلا يحل سفك دم فيها، والسفك صبُّ الدم، والمراد به القتل. وقوله "ولا

يعضد بها شجرة" بفتح المثناة التحتية، وتسكين العين المهملة، وكسر الضاد المعجمة، آخره دال مهملة مفتوحة. وقال ابن الجوزي: أصحاب الحديث يقولون "يَعضُد" بضم الضاد. وقال ابن الخَشّاب: هو بكسرها، أي: لا يقطع بالمِعْضَد، بكسر أوله، الآلة التي يقطع بها. وقال الخليل: المِعْضَد المُمْتهن من السيوف في قطع الشجر. وقال الطَّبريّ: أصله من عَضُد الرجل إذا أصابه بسوء في عضده، ووقع في رواية لعمر بن شَبَّة بلفظ "لا تَخْضُد" بالخاء المعجمة بدل العين المهملة، وهو راجع إلى معناه. فإن أصل الخَضْد الكسر، ويستعمل في القطع. وقوله "شجرة" أي: ذات ساق، و"لا" زيدت لتأكيد معنى النفي، أي: لا يحل له أن يعضد. قال القرطبيّ: خص الفقهاء الشجر المنهي عن قطعه بما ينبته الله تعالى من غير صنع آدمي، فأما ما ينبت بمعالجة آدمي، فاختلف فيه. والجمهور على الجواز. وقال الشافعي: في الجميع الجزاء، ورجحه ابن قدامة. واختلفوا في جزاء ما قطع من النوع الأول، فقال مالك: لا جزاء فيه، بل يأثم وقال عطاء: يستغفر. وقال أبو حنيفة: يُؤخذ بقيمته هَدْيٌ. وقال الشافعيّ: في العظيمة بقرة، وفيما دونها شاة. واحتج الطبريّ بالقياس على جزاء الصيد، وتعقَّبه ابن القَّصّار بأنه كان يلزمه أن يجعل الجزاء على المحرِم إذا قطع شيئًا من شجر الحِل، ولا قائل به. وقال ابن العَرَبيّ: اتفقوا على تحريم قطع شجر الحرم، إلاَّ أن الشافعي أجاز قطع السِّواك من فروع الشجرة، كذا نقله أبو ثَوْر وأجاز، أيضًا، أخذ الورق والثمر إذا كان لا يضرها ولا يهلكها. وبهذا قال عطاء ومجاهد وغيرهما. وأجازوا قطع الشوك لكونه يؤدي بطبعه، فأشبه الفواسق ومنعه الجمهور، لما في حديث ابن عباس "ولا يعضد شوكه" وصححه المتولي من الشافعية. وأجابوا بأن القياس في مقابلة النص، فلا يعتبر به حتى ولو لم يرد النص على تحريم الشوك، لكان في تحريم قطع الشجر دليل على تحريم قطع الشوك, لأن غالب شجر الحرم كذلك، ولقيام

الفارق أيضًا. فإن الفواسق المذكورة تقصد بالأذى بخلاف الشجر. قال ابن قدامة: ولا بأس بالانتفاع بما انكسر من الأغصان، وانقطع من الشجر بغير صنع آدمي، ولا بما يسقط من الورق، نص عليه أحمد، ولا نعلم فيه خلافًا. قاله في "الفتح". قلت: تستثنى عند المالكية ستة أشياء يجوز الانتفاع بها، وهي: الإذخر والسنى والعصا والسّواك، وقطع الشجر للبناء، والسكنى في موضعه، أو قطعه لإصلاح الحوائط. وقوله "فإن أحدٌ ترخص لقتال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فيها". أحدٌ فاعل لفعل مضمر يفسره ما بعده، لا مبتدأ, لأن إنْ من عوامل الفعل، وحذف الفعل وجوبا لئلا يجمع بين المفسّر والمفسَّر. وترخص مشتق من الرخصة، والمعنى إن قال أحد ترك القتال عزيمة، والقتال رخصة تتعاطى للحاجة، مستدلا بقتاله عليه الصلاة والسلام فيها. وفي رواية ابن أبي ذيب عند أحمد "فإن ترخَّص قد خص، فقال: أحلَّت لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم". فإن الله أحلها لي، ولم يحلها للناس. وقوله "فقولوا" فقد أذن لرسوله صلى الله تعالى عليه وسلم خصيصة له. وقوله "وإنما أذن لي" بفتح الهمزة، والفاعل الله، وروي بضم الهمزة بالبناء للمجهول. وفي قوله "لي" التفاتٌ, لأن نسق الكلام وإنما أذن له، أي: لرسوله. وقوله "ساعةً من نهار" أي: مقدارًا من الزمان، وهو من طلوع الشمس إلى العصر. والمأذون فيه القتال لا قطع الشجر، ففي مسند أحمد من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "لما فتحت مكة قال: كفُوُّ السّلاح إلاَّ خزاعة عن بكر، فأذن لهم حتى صلى العصر، فقال كفُوّا السلاح، فلقي رجلٌ من خزاعة رجلًا من بكر، من غدٍ بالمزدلفة، فقتله، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقام خطيبًا فقال: إنَّ الله هو حرّم مكة" قال: ورأيته مسندًا ظهره إلى الكعبة. وفي حديث أبي شُريح عند أحمد "فما رأيته غَضب غضبًا أشد منه".

ويستفاد منه أنّ قتل من أذن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في قتلهم كابن خَطَل، وقع في الوقت الذي أبيح له عليه الصلاة والسلام فيه القتال، خلافًا لمن حمل قوله "ساعة من النهار" على ظاهره، فاحتاج إلى الجواب عن قصة ابن خطل. وقوله "فعادت حرمته اليوم" أي الحكم الذي في مقابلة الإباحة المستفادة من الإذن في اليوم المعهود، وهو يوم فتح مكة، إذ عوْد حرمتها كان في يوم صدور هذا القول لا في غيره. وقوله "كحرمتها بالأمس" أي الذي قبل يوم فتح مكة. وقد بين غاية التحريم في رواية ابن عباس الماضية، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة. وقوله "وليبلغ الشاهد الغائب" بنصب الغائب على المفعولية، ويجوز كسر لام ليبلغ، وتسكينها. قال ابن جرير: فيه دليلٌ على جواز قبول خبر الواحد, لأنه معلوم أن كل من شهد الخطبة قد لزمه الإِبلاغ، وأنه لم يأمرهم بإبلاع الغائب عنهم إلا وهو لازم له فرض العمل بما أبلغه، كالذي لزم السامع سواء، وإلا لم يكن للأمر بالتبليغ فائدة. وقوله "فقيل لأبي شُريح" ما قال عمرو يعني في جوابك. قال في "الفتح": لم أعرف اسم القائل، وظاهر رواية ابن إسحاق أنه بعض قومه من خزاعة، وقوله "إن مكة لا تعيذ عاصيًا" بالمثناة الفوقية، والذَّال المعجمة، أي: لا تعصم عاصيًا من إقامة الحد عليه. وفي رواية "إنَّ الحرم لا يُعيذ عاصيًا" وقوله "ولا فارًا بدم" بالفاء وتثقيلِ الراء، أي هاربًا. والمراد من وجب عليه حد القتل ففر إلى مكة مستجيرًا بالحرم من إقامة الحد عليه. والباء في "بدم" للمصاحبة والملابسة، أي متلبسًا بدم وقوله "ولا فارًا بخَرْبة" أي بسبب خربة وهي بفتح المعجمة، ثم راء ساكنة، ثم موحدة، السرقةُ كما في رواية المستملي تفسيرها بذلك، وفي رواية الأصيليّ بضم الخاء، أي الفساد. وقيل: الفساد في الإِبل، وقيل: العيب، وقيل العورة، وقيل بالفتح: أصلها سرقة الإِبل، ثم استعملت في كل سرقة وخيانة. وقال الدَّمامينيّ: هي بكسر الخاء وسكون الراء، وضبطها

ابن العربي بكسر أوله وبالزاي بدل الراء والتحتانية بدل الموحدة، من الخزي، والمعنى صحيح، لكن لا تساعد عليه الرواية. وأغرب الكرماني فأبدل الخاء المعجمة جيما، جعله من الجزية. وذكُر الدمّ والخربة بعد ذكر العصيان من ذكر الخاص بعد العام. ووقع عند البخاري في الحج والمغازي تفسيرُ الخربة بالبليَّة. وقد حاد عمرو عن الجواب، وأتى بكلام ظاهره حق، لكن أراد به الباطل، فإن أبا شريح الصحابي أنكر عليه بعثَ الخيل إلى مكة واستباحة حرمتها، ونصب الحرب عليها، فأحسن في استدلالهُ بالحديث. وحاد عمرو عن جوابه، وأجابه بأنه لا يُمنع من القصاص، وهو الصحيح، كما يأتي قريبًا. لكن ابن الزبير لم يجب عليه حدٌ فعاذ بالحرم فرارًا منه حتى يصح جواب عمرو، وكون عمرو يرى وجوب طاعة يزيد الذي استنابه، وكان يزيد أمر ابن الزبير أن يبايع له بالخلافة، ويُحضَر إليه في جامعة أي مغلولًا فامنتع ابن الزبير، وعمرو معتقد أنه عاص بامتناعه من امتثال أمر يزيد لا ينهض حجة, لأنه خطأ شديد, لأن ابن الزبير أولى بالخلافة من يزيد بن معاوية، كما قال مالك رحمه الله تعالى وغيره. وقد بويع له قبله، وهو صاحب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وبهذا يظهر بطلان ما قاله الطَّيبيّ من أنه لم يحد عن الجواب، وإنما أجاب بما يقتضي القول بالموجب، كأنه قال له: صح سَماعُك وحِفْظُك، لكن المعنى المراد من الحديث الذي ذكرته ما فهمته منه. فإن ذلك الترخص كان بسبب الفتح، وليس بسبب قتل من استحق القتل خارج الحرم ثم استجار بالحرم. والذي أنا فيه من القبيل الثاني، فقد بينا بطلان ما قاله من كون ابن الزبير لم يجب عليه شيء الخ. قال ابن حزم لا كرامة للطيم الشيطان أن يكون أعلم من صاحب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. وأغرب ابن بطِّال، فزعم أن سكوت أبي شُريح عن جواب عمرو بن سعيد دالٌ على أنه رجع إليه في التفصيل المذكور، ويرده ما وقع في رواية أحمد فإنه قال في آخرها: قال أبو شُرَيح:

فقلت لعمرو: قد كنت شاهدًا وكنت غائبًا، وقد أمرنا أن يبلغ شاهدنا غائبنا، وقد بلغتُك. فهذا يدل على أنه لم يوافقه، وإنما ترك مناقشته لعجزِه عنه لما كان فيه من قوة الشّوكة. وهذه المسألة التي وقع فيها الاختلاف بين أبي شُريح وعمرو، فيها اختلافٌ بين العلماء في تحريم القتل والقتال في الحرم. فأما القتل فنقل بعضهم الاتفاق على جواز إقامة حد القتل فيها على من أوقعه فيها. وخص الخلاف بمن قتل في الحل ثم لجأ إلى الحرم. وممن نقل الإجماع على ذلك ابن الجَوْزي واحتج بعضهم بقتل ابن خَطَل بها, ولا حجة فيه لأن ذلك كان في الوقت الذي أُحِلَّت فيه للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، كما مر. وزعم ابن حزم أن مقتضى قول ابن عمر وابن عباس وغيرهما أنه لا يجوز القتل فيها مطلقًا، ونقل التفصيل عن مجاهد وعطاء. وقال أبو حنيفة: لا يقتل في الحرم حتى يخرج إلى الحل باختياره، لكن لا يجالس ولا يكالم، ويوعظ ويذكر، حتى يخرج. وقال أبو يوسف: يُخْرج مضطرًا إلى الحل، وفعله ابن الزبير. وروى ابن أبي شيبة من طريق طاووس عن ابن عباس "من أصاب حدًا ثم دخل الحرم لم يُجالس ولم يُبايع". وعن مالك والشافعي يجوز إقامة الحد مطلقًا فيها, لأن العاصي هتك حرمة نفسه، فأبطل ما جعل الله له من الأمْن. وقال بعض العلماء: إن قوله في الحديث "إنّ الله حرم مكة" ظاهره أنَّ حكم الله تعالى بمكة أن لا يقاتل أهلها، ويؤمن من استجار بها, ولا يتعرض له، وهو أحد أقوال المفسرين في قوله تعالى {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] وقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} [العنكبوت: 67]. وأما القتال، فقال الماوَرْدِيّ: من خصائص مكة أن لا يحارَب أهلها، فلو بغوا على أهل العدل، فإن أمكن ردّهم بغير قتال لم يُجَزْ، وإن لم يمكن إلاّ بالقتال، فقال الجمهور: يُقاتلون, لأن قتالَ البُغاة من حقُوق الله تعالى، فلا تجوز إضاعتها. وقال آخرون: لا يجوز قتالُهم بل يُضيَّقُ عليهم

إلى أن يرجعوا إلى الطّاعة. قال النووي: والأول نصّ عليه الشافعي، وأجاب أصحابه عن الحديث بحمله على تحريم نصب القتال بما يعم أذاه. كالمنجنيق، بخلاف ما لو تحصّن الكفار في بلد فإنه يجوز قتالهم على كل وجه. قلت: ما يعم أذاه لا يجوز قتال البُغاة الذين معهم النساء والذّرية به مطلقًا كانوا بمكة أو غيرها، فلا خصوصية لمكة بذلك، وعن الشافعي قول آخر بالتحريم، اختاره القَفَّال وجزم به في "شرح التلخيص" وقال به جماعة من علماء الشافعية والمالكية. قال الطبري: من أتى حدًا في الحل واستجار بالحرم فللإمام إلجاؤه إلى الخروج منه، وليس للإمام أن يَنصُب عليه الحرب بل يحَاصره، ويضيَّق عليه حتى يُذعن للطّاعة، لقوله عليه الصلاة والسلام "وإنما أحلت لي ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس" فعُلم أنها لا تحل لأحد بعده بالمعنى الذي حلت له به، وهو محاربة أهلها والقتل فيها. ومال ابن العربيّ إلى هذا. وقال ابن المنير: قد أكّد النبي، عليه الصلاة والسلام، التحريم بقوله "حرمه الله" ثم قال: "فهو حرامٌ بحرمة الله"، ثم قال: "ولم تحل لي إلاَّ ساعة من نهار" وكان إذا أراد التأكيد ذكر الشيء ثلاثًا، فهذا نصٌ لا يحتمل التأويل. وقال القرطبي: ظاهرُ الحديث يقتضي تخصيصه، صلى الله تعالى عليه وسلم، بالقتال، لاعتذاره عما أبيح له من ذلك، مع أن أهل مكة كانوا إذْ ذاك مستحقين للقتال والقتل، لصدّهم عن المسجد الحرام وإخراجهم أهله منه، وكفرهم. وهذا الذي فهمه أبو شُريح، كما مرّ وقال به غير واحد من أهل العلم. وقال ابن دقيق العيد: يتأكد القول بالتحريم بان الحديث دال على أن المأذون للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم فيه، لم يُؤذن لغيره فيه، والذي وقع له إنما هو مطلق القتال، لا القتال الخاص بما يعم كالمنجنيق، فكيف يسوغ التأويل المذكور؟ وأيضًا، فسياق الحديث يدل على أنَّ التحريم لإظهار تحريم البقعة، بتحريم سفك الدماء فيها، وذلك لا يختص بما يستأصل.

رجاله أربعة

وفي الحديث شرف مكة، وتقديم الحمد والثناء على القول المقصود، وإثبات خصائص الرسول، صلى الله تعالى عليه وسلم، واستواء المسلمين معه في الحكم إلا ما ثبت تخصيصه به، ووقوع النسخ، وفضل أبي شُريح لاتباعه أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، بالتبليغ عنه، وجواز إخبار المرء عن نفسه بما يقتضي ثقته وضبطه لما سمعه ونحو ذلك، وإنكار العالم على الحاكم ما يغيره من أمر الدين والموعظة بلطف وتدريج، والاقتصار في الإنكار على اللسان إذا لم يستطع باليد، ووقوع التأكيد في الكلام البليغ، وجواز المجادلة في الأمور الدينية، وأن مسائل الاجتهاد لا يكون فيها مجتهد حجة على مجتهد، وفيه الخروج عن عهدة التبليغ، والصبر على المكاره لمن لا يستطيع بدًا من ذلك، وتمسك من قال أن مكة فُتحت عُنوة وسيأتي إن شاء الله تعالى تمام البحث في هذه المسألة في غزوة الفتح. رجاله أربعة: وفيه ذكر عمرو بن سعيد، الأول عبد الله بن يوسف التَّنيْسيّ، وقد مر في الثاني من بدء الوحي، ومر الليث بن سعد في الثالث منه أيضًا، ومر سعيد بن أبي سعيد المقبريّ في الثاني والثلاثين من كتاب الإِيمان. الرابع أبو شُرَيْح، بالتصغير، الكعْبِيّ الخُزَاعيّ، قيل: اسمه عمرو بن خالد, وقيل كعب بن عمرو، وقيل هانىء بن عمرو، والأصح عند أهل الحديث أن اسمه خُويلد بن عمرو بن صخر بن عبد العُزّى بن معاوية بن المُحْترِش بن عمرو بن مازنْ بن عَدِيّ بن عمرو بن ربيعة، أسلم قبل فتح مكة، وكان يحمل حينئذ بعض ألوية ابن كعب بن خزاعة. وكان أبو شريح من عقلاء المدينة، ومن كلامه أن أبلغت من أنكحته أو نكحت إليه السلطان، فاعلموا أني مجنون، من وَجَد لأبي شُريح سَمنًا أو لبنًا أو جِدايَة فهو لَهُ حِلٌ، فليأكله وليشربه، وإذا رأيتموني أمنع جاري أن يضع خشبة في حائطي فاعلموا أني مجنون فاكووني.

رُوَي له عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، عشرون حديثًا، اتفقا على اثنين منها، وانفرد البخاري بواحد، وهو "لا يؤمن ثلاثًا من لا يأمن جارُه بوائِقه"، والمتفق عليه هذا الحديث، وحديث "من كان يُؤمن بالله واليوم الآخر فليُكرم جاره". روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن ابن مسعود، وروى عنه أبو سعيد المَقْبريّ، وابنه سعيد، ونافع بن جُبَير بن مُطعم، وسفيان بن أبي العَرْجاء. مات رضي الله عنه في خلافة يزيد بن معاوية سنة ثمان وستين، وفي الصحابة من يشترك معه في كنيته، أبو شُريح هانيء بن يزيد الحارثي، وأبو شُريح راوي حديث "أعتى الناس على الله تعالى رجل قتل غير قاتله" وقيل هو الخزاعي هذا، وفي الرواة أبو شُريح الغِفَاريّ، أخرج له ابن ماجة. وأما عمرو بن سعيد، فهو عمرو بن سعيد بن خالد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس، أبو أمية المدنيّ، المعروف بالأَشْدَق، وهو الأَصغر، وعمرو بن سعيد بن العاص الأكبر، صحابي قديم، وهو قيل: إنَّ له رؤية، وهو خطأ، فإن أباه لا تصح له صُحبة، بل يقال: إن له رؤية، وأن النبي لما مات صلى الله عليه وسلم، كان له ثمان سنين. وأمه أم البنين، أخت مروان بن الحكم، وقال ثَوْبُ بن ثَلْدة الوالبيّ: وكان قد عاش أكثر من مئتين وأربعين سنة، لما دخل على معاوية، وقال له: من أشبه هؤلاء بأُمية هذا؟ يعني عمرًا الأشدق. وذكر له أنه رأى أمية، وهو أعمى يقوده عبده ذكوان، فقال له معاوية: مَه، هو ابنه، فقال له: هذا قلتموه أنتم. ولي المدينة لمعاوية، ولولده يزيد بعده، ثم طلب الخلافة، وغلب على دمشق، ثم قتله عبد الملك بن مروان بعد أن أعطاه الأمان، وذلك أن مروان بن الحكم لما طلب الخلافة عاضده عمرو هذا، وكان محبوبًا إلى أهل الشام، فشرط له مروان أن يوليه الخلافة من بعده، فلما استقرت قدمُ مروان في الملك دعا عمرًا إلى أن يبايع عبد الملك ابنه، ثم تكون له هو بعده، فأجاب عمرو على كره، ثم مات مروان، وولي عبد الملك

لطائف إسناده

فبايعه عمرو على أنه الخليفة بعده، فلما أراد عبد الملك خلعه، وأنه يبايع لأولاده، نفر عمرو لذلك، واتفق خروج عبد الملك إلى قتال ابن الزبير، فخالفه عمرو إلى دمشق فغلب عليها، وبايعه أهلها بالخلافة. وذكر الطبري أنه لما صعد المنبر، خطب الناس فقال: إنه لم يقم أحد من قريش قبلي على هذا المنبر إلاَّ زعم أنَّ له جنةً ونارًا يدخل الجنة من أطاعه والنار من عصاه، وإني أخبركم أن الجنة والنار بيد الله تعالى، وأنه ليس إليّ من ذلك شيء، وإن لكم عليَّ حسن المواساة. فرجع عبد الملك وحاصره، ثم خدعه وأمنه، ثم غدر به فقتله، ويقال: إنه ذبحه بيده، ويقال: إن عبد الملك بعد أن قتله قال: إن كان أبو أمية لأحب إلي من زُهر النّواظر، ولكن والله ما اجتمع فحلان في شولٍ قط إلاَّ أخرج أحدهما صاحبه. وكان يلقب بلطيم الجن. وكان هو أول من أسرَّ البَسملة في الصلاة مخالفةً لابن الزبير, لأنه كان يجهر بها، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، مرسلًا، وعن أبيه وعن عمر وعثمان وعليّ وعائشة، وروى عنه أولاده سعيد وموسى وأمية وخُثَيْم بن مروان السُّلَمي ويحيى بن سعيد الأنصاري وغيرهم، وكان قتله سنة تسعين. لطائف إسناده: منها أنّ فيه التحديث بصيغة الجمع والإِفراد، وفيه العنعنة، ورواته ما بين مِصْري ومدَني، وهو من الرباعيات, أخرجه البخاري هنا وفي الحج عن قتيبة، وفي المغازي عن سعيد بن شُرحبيل، ومسلم في الحج عن قتيبة، والتِّرمذيّ فيه عن قتيبة، وقال: حسن صحيح، وفي الديات عن ابن بشار، والنَّسائي في الحج والعلم عن قتيبة.

الحديث السابع والأربعون

الحديث السابع والأربعون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنِ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ ذُكِرَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ -قَالَ مُحَمَّدٌ وَأَحْسِبُهُ قَالَ وَأَعْرَاضَكُمْ- عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِى شَهْرِكُمْ هَذَا، أَلاَ لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ". وَكَانَ مُحَمَّدٌ يَقُولُ صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ ذَلِكَ "أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ" مَرَّتَيْنِ. قوله "عن ابن أبي بكرة عن أبي بكرة" كذا للمستملي وللكشْميهني، وسقط عن ابن أبي بكرة للباقين، فصار منقطعًا, لأن محمدًا لم يسمع من أبي بكرة. وفي رواية "عن محمد بن أبي بكرة" وهو خطأ وكان "عن" سقطت منها قوله "ذُكر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم" بالبناء للمعلوم والمجهول، وفيه اختصار، وقد قدمنا توجيهه عند ذكر هذا الحديث في باب "ربَّ مُبَلّغِ أَوعى من سامع" واستوفينا الكلام على جميع مباحثه استيفاءً تامًا. وقد ذكره هناك تامًا، وأقتصر منه هنا على بيان التبليغ، إذ هو المقصود، فقال: "فإن دماءكم" بفاء العطف على المحذوف. وقوله: "قال: محمد وأحسبه قال وأعراضكم عليكم حرام" ومحمد هو ابن سيرين، وأعْراضكم، بالنصب على السابق، كأنه شك في قوله "وأعراضكم" أقالها ابن أبي بكرة أم لا؟ وقد مر في الرواية السابقة الجزم بها، يعني "أنَّ مال بعضكم حرام على بعض" لا إنّ مال الشخص حرام عليه، كما دل عليه الفعل، ودل عليه رواية "بينكم" بدل "عليكم" وقوله "وكان محمد يقول صدق رسول الله، صلى الله

رجاله خمسة

تعالى عليه وسلم، كان ذلك" أي إخباره عليه الصلاة والسلام بأنه سيقع التبليغ فيما بعد، فيكون الأمر في قوله "ليبلغ" بمعنى الخبر, لأن التصديق إنما يكون للخبر لا للأمر، أو يكون إشارة إلى تتمة الحديث، وهو أن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى منه، يعني: وقع تبليغ الشاهد من هو أوعى منه، أو إشارة إلى ما بعده، وهو التبليغ الذي في ضمن "هل بلغت" يعني: وقع تبليغه عليه الصلاة والسلام إلى الأمة. وفي رواية "قال ذلك" بدل "قوله كان ذلك" وقوله "ألا هل بلغت" من كلامه صلى الله تعالى عليه وسلم، ومعناه أنه قال: هل بلغت مرتين لا أنه قال الجميع مرتين، إذا لم يثبت. وقوله "وكان محمد يقول" الخ اعتراض في أثناء الحديث. رجاله خمسة: الأول عبد الله بن عبد الوهاب أبو محمد البصري الحَجَبَى بفتح الحاء المهملة والجيم والباء الموحدة روى عن مالك وحماد بن زيد وابن أبي حازم، وبشر بن المفضل، وخلف وروى عنه الذُّهْلِيّ، ويعقوب بن شَيْبة انفرد البخاري بالإِخراج عنه، وروى النسائي عن رجل عنه، ولم يخرج له مسلم وأبو داود والترمذّي وابن ماجة. وهو ثقة ثبت، وثَّقة يحيى بن مُعين وآخرون. وقال أبو حاتم: صدوقٌ ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، وفي الزهرة روى عنه البخاري أربعة وثلاثين حديثًا. والحَجَبى في نسبه، بالتحريك، نسبة إلى الحَجَبة بني شَيّبة، ولكن لا أدري هل هذه نسبة أصلية أم نسبة ولاء توفي سنة ثمانٍ وعشرين ومائتين. الثاني: حَمّاد بن زيد البَصْري، وقد تقدم تعريفه في الحديث الخامس والعشرين من كتاب الإِيمان، ومر فيه تعريف أبي بكرة أيضًا، ومر تعريف ابنه عبد الرحمن في الحديث التاسع من كتاب العلم، ومر تعريف

لطائف إسناده

أيوب بن أبي تميمة في الحديث التاسع من كتاب الإِيمان, ومر تعريف محمد بن سيرين في الحديث الحادي والأربعين منه أيضًا. لطائف إسناده: منها أنّ فيه التحديث والعنعنة، ورجاله كلهم بصريون، ووقع في بعض رواياته بين محمد بن سيرين ابن أبي بكرة، وهي الصواب، وفي بعضها عن أبي بكرة، وليس بصواب، فالصَّواب هو ما تقدم في الحديث التاسع اوائل كتاب العلم، وهو هذا إلاَّ أنّه هناك تام. وتقدم هناك المواضع التي أخرج فيها من هذا الكتاب وغيره ثم قال المصنف. باب إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم ليس في الأحاديث التي في الباب التصريح بالإثم، وإنما هو مستفاد من الوعيد بالنار على ذلك لأنه لازمه.

الحديث الثامن والأربعون

الحديث الثامن والأربعون حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي مَنْصُورٌ قَالَ سَمِعْتُ رِبْعِيَّ بْنَ حِرَاشٍ يَقُولُ سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ تَكْذِبُوا عَلَيَّ، فَإِنَّهُ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَلِجِ النَّارَ". قوله "لا تكذبوا علي" هو عامٌ في كل كاذبٍ، مطلقٌ في كل نوع من الكذب، ومعناه لا تنسبوا الكذب إلى، ولا مفهوم لقوله "علي" لأنه لا يتصور أن يكذب له لنهيه عن مطلق الكذب، وقد اغتر قومٌ من الجهلة، فوضعوا أحاديث في الترغيب والترهيب، وقالوا نحن لم نكذب عليه، بل فعلنا ذلك لتأييد شريعته، وما دروا أن تقويله صلى الله تعالى عليه وسلم، ما لم يقل يقتضي الكذب على الله تعالى, لأنه إثبات حكم من الأحكام الشرعية، سواء كان في الإيجاب أو الندب، وكذا مقابلهما، وهو الحرام والمكروه ولا يعتد بمن خالف ذلك من الكرامية، حيث جوزوا وضع الكذب في الترغيب والترهيب في تثبيت ما ورد في الكتاب والسنة، واحتجوا بأنه كذب له لا عليه، وهو جهل باللغة العربية. وتمسك بعضهم بما ورد في بعض طرق الحديث من زيادة لم تثبت، وهي ما أخرجه البزَّار عن ابن مسعود بلفظ "من كذب علي ليضل به الناس". الحديث، واختلف في وصله وإرساله، ورجح الدارقطني والحاكم إرساله، وأخرجه الدارمي من حديث يعلى بن مُرة بسند ضعيف. وعلى تقدير ثبوته فليست اللام فيه للعلة، بل للصيرورة، كما فسر به قوله تعالى {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ} [الأنعام: 144] والمعنى أن مآل أمره إلى الإضلال، أو هو من تخصيص بعض أفراد العموم بالذكر، فلا مفهوم له كقوله {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا

رجاله خمسة

مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130] {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} [الأنعام: 151] فإن قتل الأولاد ومضاعفة الربى والِإضلال في هذه الآيات، إنما هو لتأكيد الأمر فيها لا اختصاص الحكم. وقوله "فَلْيِلَج النار" جعل الأمر بالولوج سببًا عن الكذب, لأن لازم الأمر الإِلزام، والإِلزام بولوج النار سببه الكذب عليه، أو هو بلفظ الأمر، ومعناه الخبر، ويؤيده رواية مسلم عن غُنْدُر عن شعبة بلفظ "من يكذب عليَّ يلج النار" ولابن ماجة عن منصور قال "الكذب عليَّ يولجُ النار" أي: يُدخل. وقيل: دعاء عليه، ثم أخرج مخرج الذم. رجاله خمسة: الأول عليّ بن الجَعْد الجَوْهريّ، وقد مر تعريفه في الحديث السادس والأربعين من كتاب الإيمان, والثالث منصور بن المعتمد وقد مر تعريفه في الحديث الثاني عشر من كتاب العلم. الرابع: رِبْعيّ بن حراش، وربعيّ بكسر الراء، وسكون الباء الموحدة، وكسر العين المهملة، وتشديد الياء آخر الحروف وحراش بكسر المهملة، على وزن كتاب، ابن جَحْش على وزن فَلْس، ابن عمرو بن عبد الله بن مالك بن غالب بن قُطَيْعة بن عَبْس بن بَغِيض بن رَيْث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان، الغَطفانّي العبسَّي، الكوفيّ، أبو مريم، الأعور، مخضرم، روى عن عمر وعليّ فرْد حديث، وعن أبي مسعود عقبة وأبي ذر وأبي موسى. وروى عنه منصور، وعبد الملك بن عُمير، وأبو مالك الأشجعي، ونُعيم بن أبي هند. قال العَجْلي: من خيار عباد الله، لم يكذب قط، وكان له ابنان عاصيان على الحجّاج، فقيل له: إن أباهما لم يكذب قط، فلو أرسلت إليه، فسألته عنهما، فأرسل إليه، فقال: هما في البيت، فقال: قد عفونا عنهما لصدقك، وحلف أن لا يضحك حتى يعلم أين مصيره إلى الجنة أم إلى النار، فما ضحك إلا بعد موته. وله أخوان مسعود، وهو الذي تكلم

بعد الموت، ورَبيع وهو أيضًا حَلَف أن لا يضحك حتى يعرف أفي الجنة أم لا، فقال غاسله: إنَّه لم يزل مبتسمًا على سريره حتى فرغنا. وقال ابن المَدِينيّ: لم يُرْوَ عن مسعود شيء إلاَّ كلامه بعد الموت، وقال الكلبي: كتب النبي صلى الله عليه وسلم، إلى حراش بن جَحش، فحرق كتابه. وليس لرِبعْي عَقِب، والعَقب لأخيه مسعود. وقال أبو الحسن القابسي: إنَّ ربعيًّا لم يصح له سماعٌ عن علي غير هذا الحديث. وقدم على الشام، وسمع خطبة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، بالجابية. قال العَجْليّ: تابعي ثقة، وقال اللاَّلْكَائيّ: مجمع على ثقته. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان من عُبَّاد أهل الكوفة، توفي في خلافة عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه، وقيل: توفي سنة أربع ومئة. وليس في الصحيحين حِراش، بالمهملة سواه، والرِبْعي بحسب اللغة، نسبة إلى الرِبْع، وحراش جمع الحرْش وهو الأثر وهو الذي قال فيه ناظم أنساب العرب. ورِبعي أقسم أن لا يَضحكا ... حتى يرى مصيرهُ فَنَسكا ورثي يَضحكُ بُعيدَ القاصمة ... وهكذا فليكُ حُسن الخاتِمة والعبسيّ في نسبه مر في الأول من كتاب الإيمان, ومر الغطفانّي في الثاني منه. والخامس: علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي الهاشمي، المكي المدني، واسم أبيه أبي طالب عبد مناف، وقيل اسمه كنيته، والأول أصح، كان يقال لعبد المطلب شَيْبَة الحمد، واسم هاشم عمرو، واسم عبد مناف المُغيرة، واسم قُصَيّ زيد. وأم علي بن أبي طالب فاطمة ابنة أسد بن هاشم بن عبد مناف. وهي أول هاشمية ولدت لهاشميّ، توفيت مسلمةً قبل الهجرة، وقيل إنها هاجرت إلى المدينة، وتوفيت في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى عليها ونزل في قبرها. وهو أصغر أولاد أبي طالب، كما مر في تعريف عقيل أخيه في

الحديث الثامن من كتاب العلم، وكنية عليّ أبو الحسن، وأبو السَّبطين، وكنَّاه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، أبا تُراب، وسبب تكنيته له بذلك هو أن عليًا، رضي الله عنه، دخل على فاطمة، عليها السلام، ثم خرج من عندها، ثم جاء النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال لها: أين ابن عمك؟ فقالت له: هو ذاك مضطجع في المسجد، فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجده قد سقط رداؤه عن ظهره، وخَلُصَ التراب إلى ظهره فجعل يمسح التراب من ظهره، ويقول: "أجلس أبا تُراب". قال سَهْل بن سَعْد السّاعديّ: فوالله ما كان اسمّ أحب إليه منه. وهو أول خليفة من بني هاشم، واحد العشرة المبشرة بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو عنهم راضٍ، وأحد الخلفاء الراشدين، وأحد العلماء الربَّانيين، وأحد الشّجعان المشهورين، والزهّاد المذكورين، وأحد السابقين إلى الإِسلام، بل هو أول من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، من الرجال، بعد خديجة رضي الله عنها. وقد قال ابن عباس: لعليَّ أربع خصالٍ ليست لأحد غيره. 1 - هو أول عربي وعجمي صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. 2 - وهو الذي كان لواؤه معه في كل زحف. 3 - وهو الذي صبر معه يوم فرّ عنه غيره. 4 - وهو الذي غسله وأدخله قبره. وروي مرفوعًا عن سَلْمان الفارسيّ أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أول هذه الأمة ورودًا على الحوض، أولها إسلامًا عليُّ بن أبي طالب". وقد رُوي عنه، رضي الله عنه، أنه قال: صليتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يصلي معه غيري إلاَّ خديجة وأجمعوا على أنه صلى إلى القبلتين، وروي عن عَفِيف الكِنْديّ أنه قال: كنت رجلًا تاجرًا، فقدمتُ الحجٍ فأتيت العباس بن عبد المطلب لأبتاع منه بعض التجارة، وكان امرءًا تاجرًا، فوالله إني لعنده بمنىّ، إذ خرج رجلٌ من خباءٍ قريب، فنظر إلى الشمس، فلما رآها قد مالت، قام يُصلي، ثم

خرجتْ امرأةٌ من ذلك الخباء الذي خرج منه ذلك الرجل، فقامت خلفه تصلي، ثم خرج غُلامٌ قد راهق الحلم من ذلك الخباء، فقام معها يصلي، فقلت للعباس: من هذا يا عباس؟ فقال: ذلك محمد بن عبد الله، ابن أخي. قلت من هذه المرأة؟ قال: هذه امرأته خديجة بنت خُوَيلد. قلت: من هذا الفتى؟ قال: علي بن أبي طالب ابن عمه. قلت: ما هذا الذي يصنع؟ قال: يصلي، وهو يزعم أنه نبي، ولم يتبعه فيما ادعى إلاَّ امرأته وابن عمه هذا الغلام، وهو يزعم أنه ستفتح له كنوز كسرى وقيصر. وكان عفيفٌ لما أسلم بعد ذلك، وحسن اسلامه، يقول: لو كان الله رزقني الإِسلام يومئذ، فأكون ثانيًا مع علي. يقال: استنبىء النبي يوم الاثنين، وصلى علي يوم الثلاثاء. واختلف في سنه وقت إسلامه فقيل إنه ابن عشر سنين، وقيل ابن ثلاث عشرة سنة، وقيل ابن اثنتي عشرة سنة، وقيل ابن خمس عشرة سنة، وقيل ابن ست عشرة سنة، وقيل ابن ثمان. وكان هو والزبير، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، رضي الله عنهم، عِدادًا واحدًا ولما آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين، ثم آخى بين المهاجرين والأنصار قال في كل واحدة منهما لعلي بن أبي طالب: أنت أخي في الدنيا والآخرة وآخى بينه وبين نفسه، فلذلك كان علي رضي الله عنه يقول: أنا عبد الله، وأخو رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يقولها أحدٌ غيري إلاَّ كذاب. قال الإِمام أحمد: لم يكُنْ لأحدٍ من الصحابة من المناقب ما نقل لعلي، وسبب ذلك بغض بني أمية له فكان كلُ من كان عنده علم بشيء من مناقبه يثبته، وكلما أرادوا اخماده وهددوا من حدث بمناقبه، لا يزداد ذلك إلا انتشارًا. ومن خصائص علي بن أبي طالب رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر: لأدفعنَّ الراية غدًا إلى رجل يحبُّ الله ورسوله، ويُحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه. فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غَدَوْا كلهم يرجو أن يعطاها، فقال رسول الله صلى

الله عليه وسلم: "أين علي بن أبي طالب؟ " فقالوا: هو يشتكي عينيه، "فأتى به، وتفل في عينيه، فدعا له، فبرأ من حينه، فأعطاه الراية"، فوقع الفتح على يديه، فقال عمر: ما أحببت الإمارة إلا ذلك اليوم، وقتل مرْحبًا ذلك اليوم، ضربه على هامته ضربةً عضَّ السيف من بيضة رأسه، وسمع المعسكر صوت ضربته، فما قام آخر الناس حتى فتح لهم. وفي مسندٍ لعبد الله بن أحمد عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما دفع له الراية يوم خيبر، أسرع، فجعلوا يقولون: ارفق، حتى انتهى إلى الحصن، فاجتذب بابه، فألقاه على الأرض، ثم اجتمع عليه سبعون رجلًا حتى أعادوه: وروي عن المطلب بن عبد الله بن حُنْطُب أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لوفد ثقيف لما جاءوا: لْتَسْلِمنُّ أو لأبعثَّن رجلًا مني، أو قال مثل نفسي، فليضربنَّ أعناقكم, وليَسْبُينَّ نساءكم وذراريكُم، وليأخُذَنَّ أموالكم؟ قال عمر: فوالله ما تمنّيت الإِمارة إلاَّ يومئذٍ، وجعلت أنصب صدري له رجاءَ أن يقولَ هو ذا، فالتفت إلي عليَّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، فأخذ بيده ثم قال: "هو هذا". وشهد المشاهد كلها مع النبي صلى الله عليه وسلم، إلا تبوك خلفه بعده على المدينة، وعلى عياله، فقال له علي: تتركني بين النساء والصبيان؟ قال له: ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبيّ بعدي. وزوجه صلى الله عليه وسلم، ابنته فاطمة، سيدة نساء أهل الجنة، سنة اثنتين من الهجرة. وقال: "زوجْتُك سيدًا في الدنيا، وفي الآخرة، وإنه لأول أصحابي إسلامًا، وأكثرهم علمًا، وأعظمهم حِلْمًا" قالت أسماء بنت عميس رمقت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اجتمعا يدعو لهما, ولا يُشرك في دعائهما أحدًا، ويدعو له كما دعى لها. وروي عن جابر والبراء بن عازب وزيد بن أرقم "من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاهُ وعادِ من عاداه". وأخرج التِّرمْذي بسند قوي عن عامر بن سعد بن أبي وقاص أن معاوية

أمر سعدًا، فقال له: ما يمنعك أن تسب أبا تراب؟ فقال: أما ما ذكرت ثلاثًا قالهن رسول الله صلى الله عليه وسلم, لأن تكون لي واحدةٌ منهن أحب إلي من أن يكون لي حمر النعم، فلن أسبه. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، وقد خلفه في بعض المغازي: تخلفني مع النساء والصبيان؟ فقال له: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبوة. وسمعته يقول يوم فتح خيبر: "لأعطين الراية رجلًا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله"، فتطاولنا لها، فقال: "ادعوا لي عليا" فأتاهُ وبه رمد، فبصق في عينيه، ودفع الراية إليه، ففتح الله عليه. ونزلت هذه الآية {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ} [آل عمران: 61] فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًا وفاطمة وحسنًا وحسينًا، وقال: اللهم هؤلاء أهلي" وفي مسلم عن علي قال: "لقد عهد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق" وقال جابر: ما كنا نعرف المنافقين إلاَّ ببغض علي بن أبي طالب. وعن عمران بن حُصين في قصة قال فيها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تريدون من علي؟ إنَّ عليًا مني وأنا من علي، وهو ولي كل مؤمن من بعدي". وفي مسند أحمد بسند جيد، عن علي قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: من نؤمِّر بعدك؟ قال: إنْ تؤمروا أبا بكر تجدوه أمينًا زاهدًا في الدنيا راغبًا في الآخرة، وإنْ تؤمروا عمر تجدوه قويًا أمينًا لا يخاف في الله لومة لائم، وإن تؤمروا عليًا، ولا أراكم فاعلين، تجدوه هاديًا مهديًا، يأخذ بكم الطريق المستقيم". وأخرج أحمد والنّسائي من طريق عمرو بن ميمون "إني لجالس عند ابن عباس إذ أتاه سبعة رهطٍ، فذكر قصة فيها قد جاء ينفض ثوبه، فقال وقعوا في رجل له عز" وقد قال صلى الله عليه وسلم "لأبعثن رجلًا لا يخزيه الله، يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله". فجاء وهو أرمد فبصق في عينيه، ثم هز الراية ثلاثًا، فأعطاه فجاء بصفية ابنة حُيَيْ، وبعثه يقرأ براءة

على قريش، وقال: "لا يذهب إلاَّ رجلٌ مني وأنا منه" وقال لبني عمه "أيكم يواليني في الدنيا والآخرة" فأبوا، فقال علي: أنا فقال: "إنه وليي في الدنيا والآخرة" وأخذ رداءه، فوضعه على عليّ وفاطمة وحسن حسين، وقال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب: 33]، ولبس ثوبه، ونام مكانه، وكان المشركون قصدوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أصبحوا رأوه فقالوا: أين صاحبك؟ وقال له في غزوة تبوك: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنك لست بنبيّ، إني لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي" وقال: "أنت ولي كل مؤمنٍ من بعدي" وسد الأبواب إلا بابَ علي فيدخل المسجد جنبًا، وهو طريقه ليس له طريق غيره. وقال: "من كنت مولاه فعلي مولاه" وأخبر الله أنه رضي عن أصحاب الشجرة، فهل حدثنا أنه سخط عليهم بعد؟. وقال صلى الله عليه وسلم: "يا عمر، ما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال: إعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم". وعن ابن عباس كان يقول: إذا جاءنا الثبت، عن علي، لم نعدل به. وقال أبو الطُّفْيل: كان علي يقول: سلوني، سلوني، سلوني عن كتاب الله تعالى، فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم أنزلت بليل أو نهار، أو في سهل أو في جبل. وقال صلى الله عليه وسلم: "من أحب عليًا فقد أحبني، ومن ابغض عليًا فقد أبغضني، ومن آذى عليًا فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله". وقال: تفترق فيك أمتي كما افترقت بنو إسرائيل في عيسى". وقال له صلى الله عليه وسلم: "يا علي ألا أعلمك كلماتٍ إذا قلتهن غفر لك؟ مع أنك مغفور لك قال: قلت: بلى، قال: لا إله إلا الله الحليم العليم، لا إله إلا الله العلي العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب العرش الكريم". وقال صلى الله عليه وسلم "يهلك فيك رجلان محب مفرط وكذاب مفتر". ولما نزل قوله تعالى {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ} [الأحزاب: 33] الخ. دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة وعليًا

وحسنًا وحسينًا رضي الله عنهم، في بيت أم سلمة، وقال: "اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب، اللهمَّ، عنهم الرجس، وطهرهم تطهيرًا". وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد العلم فليأته من بابه". وروي عن علي أنه قال: قيل لأبي بكر وعلي يوم بدر: مع أحدكما جبريل ومع أحدكما ميكائيل، وإسرافيل ملك يشهد القتال، ويقف في الصف. وقد روى أن ميكائيل وجبرائيل مع علي والأول أصح. وقال ابن عباس: لقد أعطي علي بن أبي طالب تسعة أعشار العلم، وايم الله لقد شاركهم في العشر الآخر. وقالت عائشة: من أفتاكم بصوم عاشوراء؟ قالوا: عليًا، قالت: عليّ أما إنه لأعلمُ الناس بالسنة. وقيل لعطاء: أكان في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أحد أعلم من علي قال: لا، والله ما أعلم. وقال معاوية لضرار الصَّدائي: يا ضرار صف لي عليًا، قال: اعفني يا أميرا المؤمنين، قال: لتصفنَّه. قال: أمّا إذْ لابدّ من وصفه، فكان، والله, بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلًا، ويحكم عدلًا، يتفجر العلمُ من جوانبه، وتنطق الحكمةُ من نواحيه، ويستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل ووحشته، وكان غزير العبرة، طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما قصُر، ومن الطعام ما خَشُن، كان فينا كأحدنا يجيبنا إذا سألناه، وينبئنا إذا استنبأناه، ونحن والله مع تقريبه إيانا، وقربه منا، لا نكاد نكلمه هيبة له. يعظم أهل الدين، ويقرب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، واشهد لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، قابضًا على لحيته، يتململُ تملمُلَ السّليم، ويبكي بكاء الحزِين، ويقول: يا دنيا غُريّ غيري، إليَّ تعرضت أم إليّ تشوقت هيهاتَ هيهاتَ، قد باينتك ثلاثًا لا رجعة فيها، فعمرك قصير، وخطرك حقير، آه من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق.

فبكى معاوية، وقال: رحم الله أبا الحسن كان والله، كذلك، فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ قال: بلغ حزن من ذُبح ولدها في حجرها. وكان معاوية يكتب فيما ينزل به ليسأل علي بن أبي طالب رضي الله عنه في ذلك، ولما بلغه موته قال: ذهب الفقه بموت ابن أبي طالب، فقال أخوه عتبة: لا يسمع هذا منك أهل الشام، فقال له: دعني. وروى أبو سعيد الخدري وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تمرق مارقةٌ في حين اختلاف من المسلمين تقتلها أولى الطائفتين بالحق". وقال طاووس: قيل لابن عباس: أخبرنا عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخبرنا عن أبي بكر. قال: كان والله خيرًا كله، على حدّة فيه، قلنا: فعمر، قال: كان والله كيِّسا حذرًا، كالطير الحذر الذي قد نصب له الشُرُك، فهو يراه ويخشى أن يقع فيه، مع العنف وشدة السير. قلنا: فعثمان، قال: كان والله صَوّامًا قوامًا من أجل غلبة رقته. قلنا. فعلي، قال كان والله قد ملىء علمًا وحلمًا من رجل غرته سابقته وقرابته فقلما أشرف على شيء من الدنيا إلاَّ فاته، فقيل: إنهم يقولون كان مجدودا، فقال: أنتم تقولون ذلك. وقال صلى الله عليه وسلم في أصحابه "أقضاهم علي بن أبي طالب". وقال عمر بن الخطاب: علي أقضانا وأبي أقرأنا، وإنا لنترك أشياء من قراءة أبي. وقيل للشعبي: إن المغيرة يقول: والله ما أخطأ علي في قضاء قضى به قط، فقال الشعبي: لقد أفرط. وكان عمر يتعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو الحسن، ويقول: لولا علي لهلك عمر، وذلك بسبب المجنونة التي أمر برجمها. وفي التي وضعت لستة أشهر، فأراد عمر رجمهما، فقال له عليّ إن الله تعالى يقول: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] الآية، وقال: "إن الله رفع القلم عن المجنون" .. الحديث.

وروي أن رجلين جلسا يتغديان، مع أحدهما خمسة أرغفة، ومع الآخر ثلاثة، فلما وضعا الغداء بين أيديهما، ومر بهما رجلٌ فسلم، فقالا: إجلس للغداء فجلس، وأكل معهما واستووا في أكلهم الأرغفة الثمانية فقام الرجل، وطرح إليهما ثمانية دراهم. وقال: خذا عوضًا عما أكلت لكما، فتنازعا وقال صاحب الأرغفة الخمسة: لي خمسة ولك ثلاثة. فقال صاحب الأرغفة الثلاثة: لا أرضى إلاَّ أن تكون الدراهم بيننا نصفين، وارتفعا إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، فقصا عليه قصتهما، فقال لصاحب الثلاثة: قد عرض عليك صاحبك ما عرض وخبزه أكثر من خبزك، فارض بالثلاثة، فقال: لا والله، لا أرضى منه إلا بمر الحق. فقال علي رضي الله عنه: ليس لك في مر الحق إلا درهم واحد وله سبعة. فقال الرجل: سبحان الله يا أمير المؤمنين، هو يعرض عليّ ثلاثةً ولم أرض، وأشرت علي بأخذها ولم أرض، وتقول لي الآن أنه لا يجب لي في مر الحق، إلاَّ درهم واحد؟ فقال: عرفني بالوجه حتى أقبله له علي، عرض عليك صاحبك أن تأخذ الثلاثة صلحًا، فقلت: لم أرض إلاَّ بمر الحقَّ، ولا يجب لك بمر الحقّ إلا واحد؟ فقال الرجل عرفني بالوجه حتى اقبله، فقال علي رضي الله عنه: أليس للثمانية الأرغفة أربعة وعشرون ثلثًا أكلتموها وأنتم ثلاثة، ولا يعلم الأكثر منكم أكلًا، ولا الأقل، فتحملون في اكلكم على السواء؟ قال: بلى. قال: فأكلت أنت ثمانية أثلاثٍ، وإنما لك تسعةُ أثلاث، وأكل صاحبك ثمانية أثلاث، وله خمسة عشر ثلثًا، أكل منها ثمانية، وبقي سبعة، وأكل لك واحدًا من تسعة، فلك واحد بواحدك وله سبعة بسبعة، فقال له الرجل: رضيت الآن. وقال سعيد بن عمرو بن سعيد بن أبي العاص: قلت لعبد الله بن عيَّاش بن ربيعة: يا عمِّ لم كان صفو الناس إلى علي؟ فقال: يا ابن أخي إنّ عليًا عليه السلام، كان له ما شئت من ضرسٍ قاطع في العلم، وكان له البسطة في العشيرة، والقدم في الإِسلام، والصهر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والفقه في السنة والنجدة في الحرب والجود في الماعون، وكان رضي الله عنه يسير في

الفيء سير أبي بكر الصديق في القسم، وإذا ورد عليه مال لم يبق منه شيئا إلا قسمه، ولا يترك في بيت المال منه إلا ما عجز عن قسمه في يومه ذلك، ويقول: يا دنيا غرّي غيري، ولم يكن يستأثر من الفيء بشيء، ولا يخص به حميمًا، ولا قريبًا ولا يخص بالولايات إلا أهل الديانات والامانات وإذا بلغه عن أحدهم خيانة، كتب إليه: {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [يونس: 57] {أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [هود: 85، 86]، إذا أتاك كتابي هذا فاحتفظ بما في يدك من أعمالنا حتى نبعث إليك من يستلمه منك. ثم يرفع طرفه إلى السماء فيقول: اللهم إنك تعلم أني لم آمرهم بظلم. ولا بترك حقك. وقال مُجَمع التيمي: إنَّ عليًا قسَّم ما في بيت المال بين المسلمين، ثم أمر بكنسه فكُنس، ثم صلى فيه رجاء أن يشهد له يوم القيامة. وحدث عمرو بن العلاء عن جده قال: سمعت علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، يقول: ما أصبت من فيئكم إلاَّ هذه القارورة، أهداها إلى الدُّهْقان، ثم نزل إلى بيت المال ففرق كل ما فيه، ثم جعل يقول: أفلح من كانت له قوْصَرة يأكلُ منها كل يوم مرة. وأما تقشّفه في لباسه ومطعمه، فاشهر من هذا كله، فعن أبي الهُذَيل قال: رأيت عليًا خرج وعليه قميصٌ غليظ دارسٌ، إذا مد كم قميصه بلغ إلى الظفر، وإذا أرسله صار إلى نصف الساعد. وقال جُرْمُوز: رأيت علي بن أبي طالب رضي الله عنه، يخرج من مسجد الكوفة وعليه قطَريَّتان متزرًا بالواحدة مرتديًا بالأخرى، وازراه إلى نصف الساق، وهو يطوف في الأسواق، ومعه درَّة يأمرهم بتقوى الله، وصدق الحديث، وحسنُ البيع، والوفاء بالكيل والميزان. وعن أبي حيان التيميّ عن أبيه أنه قال: رأيت علي بن أبي طالب على المنبر يقول: من يشتري مني سيفي هذا، فلو كان عندي ثمن إزارٍ ما بعته، فقام إليه رجلٌ فقال: نُسْلِفك ثمن إزار. وكانت

بيده الدنيا كلها إلاَّ ما كان من الشام، وكان يأخذ في الجزية والخراج من أهل كل صناعة من صناعته وعمل يده، حتى يأخذ من أهل الإِبر الإِبر والمسالّ والخيوط والحبال، ثم يقسم بين الناس. وكان لا يدع في بيت المال مالا يبيت فيه حتى يقسمه إلاَّ أن يغلبه شغل فيصبح إليه. وكان يقول: يا دنيا لا تغريني وغرّي غيري، وينشد: هذا جَنائي وخيَارُه فيه ... وكل جانٍ يدهُ إلى فيه وقد ثبت عن الحسن بن علي من وجوه أنه قال: لم يترك أبي إِلاّ ثمان مئة درهم أو سبع مئة درهم، فضلت عن عطائه كان يعدها لخادم يشتريها لأهله. قال ابن عبد البرّ: وأحسن ما رأيت في صفته أنه كان رَبْعَة من الرجال إلى القصر، هو أدعج العينين حسن الوجه، كأنه القمر ليلة البدر حسنًا، ضخم البطن، عريض المنكبين، شثن الكفين، عتدًا أغيد كأن عنقه إبريق فضة، أصلع ليس في رأسه شعر إلاَّ من خلفه، كبير اللحية، لمنكبيه مشاشٌ كمشاش السبع الضاري، لا يتبين عضده من ساعده، قد أدمجت إدماجًا، إذا مشى تكفأ، وإذا أمسك بذراع رجل أمسك بنفسه فلم يستطع أن يتنفس، وهو إلى السِّمن ما هو، شديد السَّاعد واليد، إذا مشى إلى الحرب هرول ثَبْت الجنان، قويٌ شجاع منصورٌ على من عاداه بويع له بالخلافة يوم قُتِل عثمان، رضي الله عنه، واجتمع على بيعته المهاجرون والأنصار، وتخلف عن بيعته جماعة من الصحابة منهم طلحة والزبير وعائشة، فلم يهجهم ولم يكرههم، وكان تخلف هؤلاء في طلب دم عثمان فكان من وقعة الجمل ما اشتهر، ثم قام معاوية في أهل الشام، وكان أميرها لعثمان ولعمر قبله, فدعى إلى الطلب بدم عثمان، فكان من وقعة صفّين ما كان، وكان رأي علي أنهم يدخلون في الطاعة ثم يقوم ولي الدم فيدعى به عنده، ثم يعمل معه ما يوجبه حكم الشريعة المطهرة، وكان من خالفه يقول له: تتبعهم وتقتلهم، فيرى أن القصاص بغير دعوى ولا إقامة بينة لا يتجه، وكل من الفريقين مجتهد. وكان من الصحابة فريق لم يدخلوا في شيء من القتال، فكان علي يقول فيهم: أولئك قوم خذلوا الحق ولم

ينصروا الباطل. ثم ظهر بقتل عمار أن الحق كان مع علي، واتفق على ذلك أهل السنة بعد أن وقع فيه اختلاف في القديم، ثم خرجت عليه الخوارج، وكفروه وكل من كان معه إذ رضي بالتحكيم بينه وبين أهل الشام. وقالوا له: حكَّمْت الرجال في دين الله، والله تعالى يقول {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57] ثم اجتمعوا وشقوا على المسلمين، ونصبوا راية الخلاف وسفكوا الدماء وقطعوا السبل. فخرج إليهم بمن معه، ورام مراجعتهم، فأبوا إلا القتال، فقاتلهم بالنهروان، فقتلهم واستأصل جمهورهم، ولم ينج إلا اليسير منهم، فانتدب له من بقاياهم عبد الرحمن بن مُلْجم، قيل التَّجوبيّ وقيل السُّكُوني وقيل الحِمْيريّ. وتجوب رجل من حمير أصاب دمًا في قومه، فلجأ إلى مراد فقال لهم: جئت إليكم أجوب البلاد، فقيل له: أنت تجوب، فسمي به، فهو اليوم من مراد رهط عبد الرحمن الملعون هذا. فأصله من حمير، وهو حليف لمراد وعداده فيهم، وكان رجلًا فاتكًا ملعونًا، ويقال في سبب قتله له أنه خطب امرأة من بني عجْل بن نِجَيح، يقال لها قطام، كانت ترى رأي الخوارج، وكان علي رضي الله عنه قد قتل أباها وإخوتها بالنهروان، فلما تعاقد الخوارج على قتل علي وعمرو بن العاص ومعاوية، خرج منهم ثلاثة نفر لذلك، كان عبد الرحمن بن ملجم هو الذي شرط قتل علي رضي الله عنه، فدخل الكوفة عازمًا على ذلك واشترى لذلك سيفًا بألف، وسقاه السُّم فيما زعموا حتى لفظه، وكان في خلال ذلك يأتي عليًا رضي الله عنه، يسأله ويستحمله فيحمله، إلى أن وقعت عينيه على قطام، وكانت رائعةً جميلةً، فأعجبته ووقعت بنفسه فخطبها، فقالت: آليت أن لا أتزوج إلا على مهرٍ لا أريد سواه، فقال: وما هو؟ فقالت: ثلاثةُ آلافٍ وقتلُ علي بن أبي طالب، رضي الله عنه. فقال: والله لقد قصدت لقتل علي والفتك به، وما أقدمني هذا المصر غير ذلك، ولكني لما رأيتك آثرت تزويجك. فقالت ليس إلا الذي قلت لك. فقال لها: وماذا يغنيك وما يغنيني منك قتل علي وأنا أعلم أني إن قتلته لم أفت. فقالت: إن قتلته ونجوت فهو الذي

أردت: تبلغ شفاء نفسي، ويهنك العيش معي، وإن قُتلت فما عند الله تعالى خيرٌ من الدنيا وما فيها. فقال لها لك ما اشترطت. فقالت له: إني سألتمس من يشد لك ظهرك، فبعثت إلى ابن عم لها يقال له وَرْدان بن مجاهد، فأجابها ولقي ابن ملجم شبيب بن نُجْيرة الأشجعيّ فقال له: يا شبيب هل لك في شرف الدنيا والآخرة؟ قال: وما هو؟ قال: تساعدني على قتل علي بن أبي طالب. فقال له: ثكلتك أمك، لقد جئت شيئًا إدًّا، كيف تقدر على ذلك؟ قال: إنه رجلٌ لا حرس له، ويخرج إلى المسجد منفردًا ليس له من يحرسه، فنكمن له في المسجد، فإذا خرج إلى الصلاة قتلناه، فإن نجونا نجونا، وإن قتلنا سعدنا بالذكر في الدنيا وبالجنة في الآخرة. فقال له: ويلك إن عليًا ذو سابقة في الإِسلام مع النبي صلى الله عليه وسلم، والله ما ينشرح صدري لقتله. فقال له: ويحك إنه حكَّم الرجال في دين الله عَزَّ وَجَلَّ، وقتل إخواننا الصالحين، فنقتله ببعض من قتل فلا تشكن في دينك، فأجابه وأقبلا حتى دخلا على قطام وهي معتكفة في المسجد الأعظم، في قبة ضربتها لنفسها، فدعت لهم، وأخذوا سيوفهم وجلسوا قبالة السِّدَّة التي يخرج منها علي رضي الله عنه، فخرج لصلاة الصبح فبدره شبيب فضربه، فأخطأه وضربه ابن ملجم على رأسه، وقال: الحكم لله يا علي لا لك ولا لأصحابك، فقال علي رضي الله عنه: فزتُ ورب الكعبة لا يفوتنكم الطلب. فشد الناس عليه من كل جانب، فأخذوه وهرب شبيبٌ خارجًا من باب كندة وكان قتله في ليلة السابع عشر من شهر رمضان صبيحة يوم الجمعة سنة أربعين من الهجرة، ومدة خلافته خمس سنين إلا ثلاثة أشهرٍ ونصف شهر, لأنه بويع بالخلافة بعد قتل عثمان في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين. وكانت وقعة الجمل في جمادى سنة ستٍ وثلاثين. ووقعة صفين سنة سبعٍ وثلاثين ووقعة النَّهروان مع الخوارج في سنة ثمانٍ وثلاثين، ثم أقام سنتين يحرض على قتال البغاة، فلم يتهيأ ذلك إلى أن مات. واختلف في

صفة أخذ ابن ملجم، فلما أخذ قال علي رضي الله عنه: احبسوه، فإن مت، فاقتلوه ولا تمثلوا به، وإن لم أمت فالأمر إلى في القصاص وعدمه. واختلف أيضًا هل ضربه في الصلاة أو قبل الدخول فيها، وهل استخلف من أتم بهم الصلاة أو أتمها هو، والأكثر أنه استخلف جَعْدَة بن هبيرة، فأتمها بهم. وقد روي عن صُهيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي: "من أشقى الأولين؟ قال: الذي عقر الناقة؟ يعني ناقة صالح، قال: صدقت. فمن اشقى الآخرين؟ قال: لا أدري. قال: الذي يضربك على هذا، يعني يافوخة، حتى يخضب هذه، يعني لحيته. وكان علي رضي الله عنه يقول: والذي فلق الحبَّة وبرَأَ النَّسمة لتُخضبَن هذه، يعني لحيته، من هذا يعني رأسه، وجاء عبد الرحمن بن ملجم يستحمله فحمله ثم قال: أريد حياتَه ويريدُ قتلي ... عزيرك من خليلك من مراد أما إنّ هذا قاتلي، قيل له: فما يمنعك منه؟ قال: إنه لم يقتلني بعد. وكان كثيرًا ما يقول: ما يمنع أشقاها، أو ما ينتظر أشقاها أن يخضب هذه من دم هذا، والله لتخضبن خضاب دمٍ لا خضاب عطرٍ وعبير. وقيل له: إن ابن مُلْجم يسمُّ سيفه يقول: إنه سيفتك بك فتكة يتحدث بها العرب، فبعث إليه فقال له: لم تسمُّ سيفك؟ فقال: لعدوي وعدوك، فخلى عنه. وقال: ما قتلني بعد. وروي عن الحسن بن علي رضي الله عنه أنه سمع أباه في ذلك السحر يقولُ له: يا بني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة في نومة نمتها، فقلت: يا رسول الله صلى الله عليك وسلم، ماذا لقيت من أمتك من الاود واللَّدَدَ؟ فقال: ادع الله عليهم. فقلت: اللهم أبدلني بهم خيرًا منهم، وأبدلهم مني من هو شر مني. ثم انتبه، وجاءه مؤذنه يؤذنه بالصلاة، فخرج فاعتوره رجلان، فأما أحدهما فوقعت ضربته في الطاق، وأما أحدهما فضربه على رأسه. وكان قتادة رضي الله عنه يقول: قُتل علي رضي الله عنه على غير مال احتجبه

ولا دنيا أصابها. وقالت عائشة رضي الله عنها, لما بلغها موته: فلتصنع العرب ما شاءت، فليس لها أحد ينهاها. وفي قتله يقول شاعرهم عمران بن حطّان الخارجيّ: يا ضربةَ من تقي ما أراد بها ... إلاَّ ليبلغ من ذي العرش رضوانًا إني لأذكره حينًا فأحسبه ... أوفى البرية عند الله ميزانًا فأجابه أبو بكر بن حماد معارضًا له في ذلك بقوله: قُل لابن ملجم والاقدارُ غالبةٌ ... هدمت، ويلك للإِسلام أركانا قتلتَ أفضل من يمشي على قدمٍ ... وأول الناس إسلامًا وإيمانا وأعلم الناس بالقرآن ثم بما ... سنّ الرسولُ لنا شرعًا وتبيانا صهر النبي ومولاهُ وناصِرهُ ... أضحت مناقبه نورًا وبُرهانا وكان منهُ على رُغم الحسودِ له ... ما كان هارونُ من موسى بن عمرانا وكان في الحرب سيفًا صارمًا ذكرًا ... ليثًا إذا لُقي الاقران أقرانا ذكرتُ قاتِلَهُ والدّمعُ مُنحدِرُ ... فقلتُ سبحانَ ربّ العرش سبُحانا إني لأحبهُ ما كانَ من بشرٍ ... يَخشى المعادَ ولكن كان شيطانا أشقى مراد إذا عُدَّت قبائلها ... وأخسر الناس عند الله ميزانا كعاقر النّاقة الأولى التي جُلبت ... على ثَمودَ بأرض الحِجْر خُسرانا قد كان يخُبرنا أن سوف يخضبها ... قبل المنية أزمانًا فأزمانا فلا عَفى الله عنه ما تحمَّله ... ولا سقى قبر عمران بن حطانا لقوله في شقيّ ظلَّ مجُترِ مًا ... ونالَ ما نالَه ظلمًا وعُدوانا يا ضربة من تقي ما أرادَ بها ... إلاَّ ليبلغ من ذي العرش رضوانا بَل ضربةٌ من شقي أورثتْهُ لظىً ... وسوف يلقى بها الرحمن غضبانا كأَنه لم يرِدْ قصدًا بضربتِهِ ... إلا ليصلى عذابَ الخُلد نيرانا وقال بعض الشعراء في قطام فلم أر مهرًا ساقهُ ذو سماحة ... كمهرِ قُطامٍ من فصيحٍ واعجم ثلاثة آلافٍ وعبد وقينة ... وضربُ عليّ بالحسام المسمم

فلا مهرٌ أعلى من عليّ وإنْ علا ... ولا فَتْكُ إلاّ دونَ فتكِ ابن ملجم وقيل فيه من المراثي ما لا يحصى، فمنها قول إسماعيل بن محمد الحميري: سائِلْ قريشًا به إن كنتَ ذا عمه ... من كان أثبتها في الدين اوتادًا من كان أقدم إسلامًا وأكثرها ... علمًا وأطهرها أهلًا وأولادا من وحَّد الله إذ كانت مُكَذّبةً ... تدعو مع الله أوثانًا وأندادًا من كان يقدم في الهيجاء إن نكلوا ... عنها وإن يبخلوا في ازمةٍ جادا من كان أعدلها حكمًا وأبسطها ... علمًا وأصدقها وعدا وإيعادًا إنْ يصَدُقوكَ فلن يعدوا أبا حسنٍ ... إنْ أنت لم تَلْق للأبرار حسادًا إنْ أنتَ لم تلقَ أقوامًا ذَوي صلَفٍ ... وذا عنادٍ لحق الله جُحادًا ومنها قول الفضل بن عباس بن عُتْبة بن أبي لهب ما كُنتُ أحسبُ أنَّ الأَمر مُنْصرفٌ ... عن هاشمٍ ثم منها عن أبي الحسن أليس أوّل من صلى لقْبلتِه ... وأعْلَم الناسِ بالقرآنِ والسنن وآخرُ الناسِ عهدًا بالنبي ومِنْ ... جبريلُ عونًا له في الغُسلِ والكفنِ مَن فيه ما فيهم لا تمترونَ بهِ ... وليسَ في القومِ ما فيه مِن الحَسَنِ إلى ما لا يحصى. له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس مئة حديث وستة وثمانون حديثًا، اتفقا منها على عشرين. وانفرد البخاري بتسعة، ومسلم بخمسة عشر. روى عنه من الصحابة ولداه الحسن والحسين، وابن مسعود وأبو موسى، وابن عباس وأبو رافع، وابن عمر، وأبو سعيد، وصُهيب، وزيد بن أرقم، وجرير وأبو أُمامة، وأبو الطفيل، والبراء بن عازب، وآخرون. ومن التابعين والمخضرمين أو من له رؤية عبد الله بن شدّاد بن الهادي، وطارق ابن شهاب، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وعبد الله بن الحارث بن نوفل، ومسعود بن الحكم، ومروان بن الحكم وآخرون. ومن بقية التابعين عدد كثير من أجلهم أولاده محمد وعمر والعباس وقصرتُ في مناقبة لكثرتها.

لطائف إسناده

والهاشمي في نسبه نسبةٌ إلى جده الثاني هاشم بن عبد مناف، واسمه عمرو. قيل: سمي هاشمًا لأنه أول من هشم الثريد بمكة لقومه، ولأهل الموسم في سنة المجاعة، وفيه يقول الشاعر: عمرو العلا هشم الثريدَ لقومهِ ... ورجالُ مكةَ مُسْنتون عِجَافُ لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة والإخبار بصيغة الجمع والإِفراد والسماع، ورواته أئمة أجلاء، وهم ما بين بغداديّ وواسطيّ وكوفيّ ومدنيّ، وفيه رواية تابعي صغير عن تابعي كبير. أخرجه البخاري هنا، وأخرجه مسلم في مقدمته، وأخرجه التِّرمْذِيّ في العلم، وقال: حسن صحيح، وفي المناقب. والنَّسائيّ في العلم، وابن ماجة في السنة.

الحديث التاسع والاربعون

الحديث التاسع والاربعون حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قُلْتُ لِلزُّبَيْرِ إِنِّي لاَ أَسْمَعُكَ تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَمَا يُحَدِّثُ فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ. قَالَ أَمَا إِنِّي لَمْ أُفَارِقْهُ وَلَكِنْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: "مَنْ كَذَبَ عَلَىَّ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ". قوله "كما يحدث فلان وفلان" سمي منهما في رواية ابن ماجة عبد الله بن مسعود. وقد مر في تعليق أول الإيمان قبل ذكر حديث منه، وقوله "أما إني" بفتح الهمزة والميم المخففة، وهي من حروف التنبيه والاستفتاح، ولذا كسرت همزة إنَّ بعدها. وقوله "لم أفارقه" أي لم أفارق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، زاد الإسماعيلي "منذ أسلمت" والمراد في الأغلب. وإلا فقد هاجر الزبير إلى الحبشة، وكذا لم يكن مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في حال هجرته إلى المدينة، وإنما أورد هذا الكلام على سبيل التوجيه للسؤال, لأن لازم الملازمة السماع، ولازمه إعادة التحديث، لكن منعه من ذلك ما خشيه من معنى الحديث الذي ذكره، ولهذا أتى بقوله "لكن". وقد أخرجه الزبير بن بكّار في كتاب النسب له عن عبد الله بن الزبير، قال: عني في ذلك يعني -قلة رواية الزبير، فسألته عن ذلك، فقال: يا بني كان بيني وبينه من القرابة والرحم ما علمت، عمته أمي وزوجته خديجة عمتي، وأمه آمنة بنت وهب وجدتي هالة بنت وهيب ابني عبد مناف بن زُهرة، وعندي أمك، وأختها عائشة عنده، ولكن سمعته يقول ... الخ. وقوله "ولكن سمعته يقول" وللأصيلي والحموي "ولكني" وفي رواية

رجاله ستة

"ولكنني" إذ يجور في إن وأخواتها إلحاق نون الوقاية وعدمه. وقوله: "من كذب علي" كذا في رواية البخاري، ليس فيه "معتمدًا"، وكذا أخرجه الإسماعيلي عن شعبة، وأخرجه ابن ماجه من طريقه، وزاد فيه "متعمدًا"، وكذا أخرجه الإِسماعيلي من طريق مُعاذ عن شُعبة. والاختلاف فيه على شعبة. وفي تمسك الزبير بهذا الحديث على ما ذهب إليه من اختيار قلة التحديث دليل للأصح عند أهل السنة من أن الكذب الإِخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه، سواءً كان عمدًا أو خطأ. ويشهد لذلك دلالةُ الحديث على انقسام الكذب إلى متعمد وغيره، والمخطىء وإن كان غير آثم بالإِجماع، لكن الزبير خشي من الإكثار أن يقع في الخطأ، وهو لا يشعر، لأنه وإِن لم يأثم بالخطأ قد يأثم بالإِكثار، إِذا الإِكثار مظنّة الخطأ، والثقة إذا حدّث بالخطأ فحمل عنه وهو لا يشعر أنه خطأ، يعمل به على الدوام للوثوق بنقله، فيكون سببًا للعمل بما لم يقله الشارع. فمن خشي من الإكثار الوقوع في الخطأ لا يؤمن عليه الإِثم إذا تعمد الإِكثار، فمن ثمَّ توقف الزبير وغيره من الصحابة عن الإِكثار في التحديث. وأما من أكثر منهم فمحمول على أنهم كانوا واثقين من أنفسهم بالتثبت. أو طالت أعمارهم فاحتيج إلى ما عندهم، فسئلوا فلم يمكنهم الكتمان رضي الله تعالى عنهم. وقوله: "فلْيتبّوأ" بكسر اللام وسكونها، جواب الشرط الذي هو من أمر من التبوأ، أي فليتخذ لنفسه منزلًا، يقال: تبوأ الرجل المكان، إذا اتخذه مسكنًا، وهو أمرٌ بمعنى الخبر، أو بمعنى التهديد، أو التهكم، أو دعاء على فاعل ذلك، أي: بوأه الله ذلك. وقال الكَرماني: يحتمل أن يكون الأمر على حقيقته، والمعنى من كذب فليأمر نفسه بالتبوأ. وأوَّلها أوْلاها فقد رواه أحمد بإسناد صحيح عن ابن عمر بلفظ "بني له بيت في النار". قال الطَّيبي: فيه إشارة إلى معنى القصد في الذنب وجزائه، أي: كما أنه قصد في الكذب التعمد فليقصد بجزائه التبوأ. رجاله ستة: الأول أبو الوليد عبد الملك بن هشام الطَّيالِسِيّ، وقد مر تعريفه

في الحديث العاشر من كتاب الإيمان, والثاني شعبة بن الحجاج وقد مر أيضًا في الحديث الثالث منه. الثالث: جامع بن شدّاد المُحاربيّ، الكوفي التابعي الثقة، أبو حَمْزة، وقيل أبو صخْر، روى عن عبد الرحمن النَّخعيّ، وحُمران. وروى عنه الأعمش ومِسْعر وشريك وثقه ابن معين وأبو حاتم والنسائي وأبو نعيم. وقال يعقوب بن سفيان: ثقة متقن، وقال العَجْليّ: شيخٌ عالٍ ثقة من قدماء شيوخ الثَّورِيّ. وذكره ابن حبان في الثقات، له نحو عشرين حديثًا، مات سنة ثماني عشرة ومئة. الرابع: عامر بن عبد الله بن الزبير بن العوام، الأسدي القرشي، أبو حارث المدني، أخو عبّاد وحمزة وثابت وخُبيب وموسى. روى عن أبيه وأنس, وعنه أبو حاتم الأعرج وابن عجلان ومالك وخلق. قال ابن عيينة: اشترى نفسه من الله ثلاث مرات، وقال أحمد بن حنبل: ثقة من أوثق الناس، وقال ابن معين والنَّسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: ثقة صالح. وقال مالك: كان يغتسل كل يوم، ويواصل صوم سبعة عشر: يومين وليلة. وقال العَجْلي: مدنيّ تابعيّ ثقة، وذكره ابن حبّان في الثقات. وقال: كان عالمًا فاضلًا، وقال ابن سعد: كان عابدًا فاضلًا، وكان ثقة مأمونًا، وله أحاديث يسيرة. وقال الخليليّ: أحاديثه كلها يحتج بها، مات قبل هشام بن عبد الملك، أو بعده بقليل، وهشام مات سنة إِحدى وعشرين ومئة. الخامس: أبوه عبد الله بن الزبير بن العوام، يكنى أبا بكر أولًا، ثم كني بأبي خبيب بالتصغير، الصحّابي بن الصحابي، أمير المؤمنين، وأول مولود وُلد في الإِسلام للمهاجرين بالمدينة، ولدته أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق بقُباء، وأتت به النبي صلى الله عليه وسلم، فوضعه في حجره، ودعى بتمرة فمضغها، ثم تفل في فيه وحنَّكه، فكان أول شيء دخل في جوفه ريقُ النبي صلى الله عليه وسلم، ثم دعا له. كان أطلس لا لحيةَ له، وكان صوّامًا قوّامًا، يبيتُ ليلةً راكعًا وليلةً ساجدًا إلى الصباح. وقيل: إِن النبيّ صلى الله

عليه وسلم أتاه في اليوم الذي ولد فيه، فسماه باسم جده أبي بكر، وكناه بكنيته، وهو أحد العبادلة وأحد الشجعان من الصحابة، وأحد من ولي الخلافة. بايع النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن سبع سنين، أمره الزبير بذلك. فلما جاء إلى النبي تبسم، وروي أن الزبير قال لابنه عبد الله: أنت أشبه الناس بأبي بكر، وروي عنه أنه قال: جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحتجم، فلما فرغ قال: يا عبد الله، إذهب بهذا فاهرقه حيث لا يراك أحد، فلما برز عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عمد إلى الدم فشربه، فلما رجع قال: يا عبد الله ما صنعت بالدم؟ قال: جعلته في أخفى مكان علمت أنه يخفى على الناس. قال: لعلك شربته؟ قال: نعم. قال: ولِمَ شربت الدم؟ قال: ويل للناس منك، وويل لك من الناس، لا تمسك النار إلا تحلة القسم. فكانوا يرون أن القوة التي به من ذلك الدم. وعن ابن عباس أنه وصف ابن الزبير فقال: عفيف الإِسلام قارىء القرآن، أبوه حواري النبي صلى الله عليه وسلم، وأمه بنت الصديق، وجدته صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمة أبيه خديجة بنت خويلد وقال علي بن زيد الجَدْعانيّ: كان عبد الله بن الزبير كثير الصلاة كثير الصيام، شديد البأس، كريم الأمهات والجدّات والخالات، إلاَّ أنه كانت فيه خلالٌ لا تصلح معها الخلافة، لأنه كان بخيلًا ضيق العطاء، سيء الخلُقُ حسودًا، كثير الخلاف، أخرج محمد بن الحَنفيَّة، ونفى عبد الله بن عباس إلى الطائف. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ما زال الزبير يعدّ منّا أهل البيت حتى نشأ عبد الله. وقال عمرو بن دينار: ما رأيت مصليًا أحسن صلاةً من ابن الزبير. وروي عن مجاهد: كان ابن الزبير إذا قام للصلاة كأنه عمودٌ. وقال ابن أبي مُليكة: كان ابن الزبير يواصل سبعة أيام ثم يُصبح اليوم الثامن، وهو إلينا. وعن مجاهد أيضًا: ما

كان بابٌ من أبواب العبادة إلا تكلّف به ابن الزبير ولقد جاء سيل بالبيت، فرأيتُ ابن الزبير يطوف به سباحة. شهد اليرموك مع أبيه الزبير وشهد أفريقية، وكان البشير بالفتح إلى عثمان، وشهد الدار وكان يقاتل عن عثمان، ثم شهد الجمل مع عائشة، وكان على الرَّجالة، ووجد وسط القتلى يوم الجمل وفيه بضع وأربعون جراحة، فأعطت عائشة البشير الذي بشرها بأنه لم يمت عشرة آلاف. وعن أبي عتيق أن عائشة قالت: إذا مر ابن عمر فأورينه، فلما مر ابن عمر قالوا: هذا ابن عمر، قالت له: يا أبا عبد الرحمن ما يمنعك أن تنهاني عن الخروج؟ قال: رأيت رجلًا قد غلب عليك، وظننتُ أنك لا تخالفينه، يعني ابن الزبير، قالت: أما إنك لو نهيتني ما خرجت. ثم اعتزل بعد الجمل حروب علي ومعاوية، ثم بايع لمعاوية، وما أراد أن يبايع ليزيد، فامتنع وتحول إلى البيت، وعاذ بالحرم، فأرسل إليه يزيد سليمان أن يبايع له، فأبى، ولقب نفسه عائذ الله، فلما كانت وقعة الحرَّة، وفتك أهل الشام بأهل المدينة، ثم تحولوا إلى مكة، فقاتلوا ابن الزبير واحترقت الكعبة أيام ذلك الحصار، ففجعهم الخبر بموت يزيد بن معاوية، فتوادعوا ورجع أهل الشام، وبايع الناس عبد الله بن الزبير، حينئذ بالخلافة سنة أربع وستين، ولم يتخلف عنه إلا بعض أهل الشام، فكان هو الخليفة، وحج بالناس ثماني حجج، ثم سار مروان فغلب على بقية الشام، ثم على مصر، ثم مات فقام ولده عبد الملك. وقد قال مالك: كان ابن الزبير أفضل من مروان، وكان أولى بالأمر منه ومن ابنه، فغلب عبد الملك على العراق، وقتل مصعب بن الزبير، ثم جهز الحجاج إلى ابن الزبير فقاتله، وروي عن عُروة بن الزبير أنه قال: لما كان قبل قتل عبد الله بعشرة أيام، دخل على أمه أسماء وهي شاكية، فقال لها: كيف تجدينك يا أماه؟ قالت: ما أجدني إلا شاكية، قال لها: إِن في الموتِ

لراحة، فقالت: لعلك تمنيته لي، ما أحب أن أموت حتى يأتي علي أحد طرفيك: إما قتلك فاحتسبك، وإما ظفرت بعدوك فتقرّ عيني. قال عروة: فالتفت إلى عبد الله فضحك، فلما كان في اليوم الذي قتل فيه، ودخل عليها في المسجد فقالت له: يا بني لا تقبلنَّ منهم خطةَّ تخاف فيها على نفسك الذّل مخافة القتل، فوالله لضربةُ سيفٍ في عز خيرٌ من ضربةِ سوطٍ في المذلة، فخرج وقد جعل له مصراعٌ عند الكعبة، فكان تحته، فأتاه رجل من قريش فقال له: ألا تفتح باب الكعبة فتدخله؟ فقال عبد الله: من كل شيء تحفظ أخاك إلا من نفسه، والله لو وجدوكم تحت أستار الكعبة لقتلوكم، وهل حرمة المسجد إلا كحرمة البيت؟ ثم تمثل: ولستُ بِمُبتاعِ الحياةِ بِسُبةٍ ... ولا مُرْتَقٍ من خَشْيةِ الموتِ سُلّماَ قال: ثم شد عليه أصحاب الحجاج، فقال: أين أهل مصر؟ فقالوا: هم هؤلاء من هذا الباب، يعني أحد أبواب المسجد، فقال لأصحابه: اكسروا أغماد سيوفكم، ولا تميلوا عني فإني في الرعيل الأول. قال: ففعلوا ثم حمل عليهم، وحملوا معه، وكان يضرب بسيفين، فلحق رجلًا فضربه فقطع يده، وانهزموا فجعل يضربهم حتى أخرجهم من باب المسجد، فجعل رجل أسود يسبه، فقال له: إصبر يا ابن حام، فحمل عليه فصرعه قال: ثم دخل عليه أهل حمص من باب بني شيبة، فشد عليهم وجعل يضربهم حتى أخرجهم من باب المسجد، ثم انصرف وهو يقول: لو كان قَرْني واحدا كفيته ... أوردته الموت وقد ذكَّيته قال: ثم دخل أهل الأردن من باب آخر، فقال: من هؤلاء؟ فقيل: أهل الأردن، فجعل يضربهم بسيفه حتى أخرجهم من المسجد، ثم أنصرف وهو يقول: لا عهد لي بغارَة مثل السيل ... لا ينجلي قتامُها حتى الليلِ قال: فأقبل عليه حجرٌ من ناحية الصفا، فضربه بين عينيه، فنكس رأسه وهو يقول: ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أعقابنا يقطر الدم

قال: وحماه موليان له، وأحدهما يقول: العبد يحمي ربه ويحتمي، ثم اجتمعوا عليه، فلم يزالوا يضربونه حتى قتلوه، ومولييه جميعًا. ولما قتل كبر أهل الشام، فقال عبد الله بن عمر: المكبرون عليه يوم ولد خير من المكبرين عليه يوم قتل. قال يعلي بن حَرَملة: لما قُتل جاءت امرأة طويلة مكفوفةُ البصر تقاد، وعبد الله رضي الله عنه مصلوب، فقالت للحجاج: أما آن لهذا الراكب أن ينزل؟ فقال الحجاج: المنافق؟ قالت: والله ما كان منافقًا، ولكنه كان صوامًا قوامًا برًا. قال لها: انصرفي فإنك عجوزٌ قد خَرِفت. فقالت له: والله ما خرفت، ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يخرج في ثقيفٍ كذّابٌ ومبير، فأما الكذاب فقد رأيناه وأما المبير فهو أنت. والكذّاب المختار بن أبي عُبيد الثقفيّ. ثم رحل عُروة بن الزبير إلى عبد الملك، فرغب إليه في إنزاله من الخشبة فاسعفه فأنزل قال ابن أبي مُليكة: كنت أول من بشر أسماء بنزوله من الخشبة، فدعت بمركنٍ وشبٍّ يمان، وأمرتني بغسله فكنا لا نتناول عضوًا إلا جاء معنا، فكنا نغسل العضو ونضعه في اكفانه. ثم نتناول العضو الآخر الذي يليه فنغسله، ثم نضعه في اكفانه حتى فرغنا منه، ثم قامت فصلت عليه، وكانت تقول قبل ذلك: اللهم لا تمتني حتى تقر عيني بجثته، فما أتت عليها جمعةٌ حتى ماتت وقتل معه مئتان وأربعون رجلًا، وإن منهم لمن سال دمه في جوف الكعبة. بدأ الحجاج بحصاره أول ليلة من ذي الحجة سنة اثنتين وسبعين، وكان قتله رحمه الله يوم الثلاثاء لسبع عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى، وقيل: الآخرة سنة ثلاث وسبعين. وحج الحجاج بالناس في ذلك العام، ووقف بعرفة وعليه درعٌ ومِعْفَر، ولم يطوفوا بالبيت في تلك الحجة، فكان الحصار ستة أشهر وسبعة عشر يومًا. روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثلاثة وثلاثين حديثًا،

ذكر البخاريُّ منها ستة. روى عن أبيه وأبي بكر وعمر وعثمان، وخالته عائشة، وسفيان بن أبي زُهير وغيرهم، وروى عنه أخوه عُروة وابناه عامر وعبّاد، وابن أخيه محمد بن عُروة، وأبو ذُبيان خليفة بن كعب، وعطاء البنانيّ وآخرون. وخبيْبٌ الذي كني به هو صاحب عمر بن عبد العزيز الذي مات من ضربه إذ كان عمر واليًا بالمدينة للوليد، وكان الوليد قد أمره بضربه، فمات من أدبه ذلك، فوداه عمر بعده. السادس: الزُّبير بن العوّام بن خُويلد الأسدي القُرشيّ، أحد العشرة المبشرين بالجنة، حَوارِيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمه صفية بنت عبد المطلب، عمته صلى الله عليه وسلم، وأحد الستة أصحاب الشورى، الذين مات النبي صلى الله عليه وسلم، وهو عنهم راضٍ. كانت أمه تكنيه أبا الطاهر بكنية أخيها الزبير بن عبد المطلب، واكتنى هو بابنه عبد الله فغلبت عليه. أسلم وهو ابن اثنتي عشرة سنة، وقيل ثمان سنين. وكان عمه يعلقه في حصير ويدخن عليه ليرجع إلى الكفر، فيقول: لا أكفر أبدًا. وكان نوفل بن خويلد عمه هو الذي يليه بعد موت أبيه العوام، وكانت أمه صفية تضربه وهو صغير، وتغلظ عليه، فعاتبها نوفل، وقال: ما هكذا يُضرب الولد، إنك لتضربين ضرب مبغضةٍ، فرجزت فيه صفية: من قال إنيّ أبغضه فقد كذب ... وإنما أضربه لكي يلَبّ ويهزم الجيش ويأتي بالسَّلَبْ ... ولا يكن لماله خبًّا مُخِبّ يأكل ما في البيت من تمر وحبّ وروى عن عروة أنه قال: قاتل الزبير وهو غلامٌ بمكة رجلًا فكسر يده. فمر الرجل محمولًا على صفية، فسألت عنه فقيل لها، فقالت: كيف رأيت زَبْرًا أم أقطًا وتمرًا أو مشمعَّلًا سقر؟ وعن عروة وابن المسيب: أول رجل سل سيفه في الإِسلام الزبير، وذلك أن الشيطان نفح نفخة، فقال: أخذ رسول

الله صلى الله عليه وسلم، فاقبل الزبير يشق الناس بسيفه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما لك يا زُبير؟ فقال: أُخبرت أنك أُخذت، فصلى عليه ودعا له، ولسيفه. وروي عنه عليه الصلاة والسلام، أنه قال: "الزبير ابن عمتي وحواريي من أُمتي". وقال أيضًا: "لكل نبيّ حواريّ، وحواريّي الزبير" وسمع ابن عمر رجلًا يقول: أنا ابن الحواري، فقال: إن كنت ابن الزبير وإلا فلا. وآخى النبي، صلى الله عليه وسلم، بينه وبين عبد الله بن مسعود حين آخى بين المهاجرين بمكة، فلما قدم المدينة وآخى بين المهاجرين والأنصار، آخى بين الزبير وبين سلَمة بن سَلاَمة بن وَقْش. وهاجر الهجرتين، وكان رجلًا طويلًا، إذا ركب تخط رجلاه الأرض. وقال عثمان بن عفان: لما قيل له استخلف الزبير، فقال: أما إنه لأخيرهم وأحبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه يقول حسان بن ثابت: أقامَ على عهد النبي وهديه ... حواريُّه والقول بالفعل يُعْدل أقام على منهاجه وطريقه ... يوالي ولي الحق والحق أعدل هو الفارس المشهور والبطل الذي ... يصول إذا ما كان يوم مجمل وإنّ امرءًا كانت صفية أمه ... ومن أسد في بيته لمرفل له من رسول الله قربى قريبة ... ومن نصرة الإِسلام مجد مؤثل فكم كربةٍ ذب الزبير بسيفه ... عن المصطفى والله يعطي ويجزل إذا كشفت عن ساقها الحرب خشها ... بأبيض سباق إلى الموت يرفل فما كان فيهم ولا كان قبله ... وليس يكون الدهر ما دام يذبل وروى البخاري عن عائشة: أنها قالت لعروة: كان أبواك من الذين استجابوا لله ورسوله بعدما أصابهم القرْح، تريد أبا بكر والزبير. وروي عن جابر قال: قال لي النبي، صلى الله عليه وسلم يوم بني قريظة: "من يأتيني بخبر القوم"، فانتدب الزبير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنَّ لكل نبي حواريًا، وحواريي الزبير. وروى يعقوب بن سُفيان عن مُطيع بن الأسود

أنه أوصى إلى الزبير، فأبى، فقال: أسألك بالله والرحم إلاَّ ما قبلت، فإني سمعت عمر يقول: إن الزبير ركن من أركان الدين. وروى الحُميدي أنه أوصى إليه عثمان والمقداد بن مسعود وابن عوف وغيرهم، فكان يحفظ أموالهم وينفق على أولادهم من ماله. وروى يعقوب بن سفيان أن الزبير كان له ألف مملوك يؤدون إليه الخراج، فكان لا يدخل بيته منها شيئًا، يتصدق به كله. وقصته في وفاء دينه وفيما وقع في تركته من البركة مذكور فى كتاب الخمس من البخاري بطولها. وثبت عن الزبير أنه قال: جمع لي النبي صلى الله عليه وسلم أبويه مرتين: يوم أحد ويوم قريظة، فقال: إرم فداك أبي وأمي. وروي عن هشام بن عُرْوة عن عَبّاد بن حمزة بن الزبير أنه قال: كانت على الزبير عمامة صفراء مُعْتَجرًا بها يوم بدر، ونزلت الملائكة عليها عمائم صفر، وشهد الحديبية والمشاهد كلها. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لن يلج النار أحدٌ شهد، بدرًا أو الحديبية". وقال أبو إسحاق السَّبيعي: سألت مجلسًا فيه أكثر من عشرين رجلًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان أكرم الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: الزبير وعلي بن أبي طالب. وكان الزبير وعلي وطلحة وسعد بن أبي وقاص ولدوا في عام واحد، وكان الزبير تاجرًا مجدودًا في التجارة. وقيل له يومًا: بم أدركت في التجارة ما أدركت؟ فقال: لأني لم أشتر غبنًا، ولم أرد ربحًا، والله يبارك لمن يشاء. ومن كثرة ماله أنه مات وله أربع نسوة، وأوصى بالثلث، وأصاب كل امرأة منهن ألف ألف ومئتا ألف، ومجموع ماله خمسون ألف ألف ومائة ألف. شهد الزبير وطلحة الجمل، فلما التقى الفريقان كان طلحة أول قتيلٍ، وقاتل الزبير ساعةً، وناداه علي وانفرد به، فذكره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له، وقد وجدهما يضحكان بعضهما إلى بعض: أما إنك ستقاتل عليًا وأنت له ظالم. فذكر الزبير ذلك، فانصرف عن القتال نادمًا

مفارقًا للجماعة التي خرج فيها، منصرفًا إلى المدينة، فسمع ابن جُرْمُوز ذلك، وهو عبد الله أو عُمير أو عمر أو عُميرة السَّعدي، فقال: أتى يؤرِّشُ بين الناس ثم تركهم، والله لا تركته، ثم اتبعه فلما لحق به ورأى الزبير أنه يريده، أقبل عليه فقال له ابن جرموز: أذكرك الله. فكف عنه الزبير حتى فعل ذلك مرارًا، فقال الزبير: قاتله الله يذكرنا الله ثم ينساه، ثم غافله ابن جرموز فقتله. وذلك يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الأولى سنة ست وثلاثين. وفي ذلك اليوم كانت وقعة الجمل بمحل يقال له وادي السّباع بناحية البصرة ودفن ثَمَّة، ثم حُوَّل إلى البصرة وقبره بها مشهور يُزار ولما أتى قاتل الزبير عليًا برأس الزبير. استأذن عليه فلم يأذن له، وقال للآذن: بشر قاتل ابن صفية بالنار. ويقال: إن الذي استأذن له على علي ابن عباس فقال ابن جرموز: أتيت عليًا برأس الزبير ... أرجو لديه به الزِّلْفَة فبشر بالنار إذ جئته ... فبئس البشارة والتُّحفة وسيانَ عندي قتل الزبير ... وضرطة عير بذى الجحفة وروي عن الأحنف أنه قال: لما بلغ الزبير سفوان، موضعًا بالبصرة، كمكان القادسية من الكوفة، لقيه النَّعِر، رجلٌ من بني مُجاشِع، فقال: أين تذهب يا حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إليّ فأنت في ذمتي لا يُوصل إليك. فأقبل معه وأتى إنسان الأحنف، فقال: هذا الزبير قد لقي بسفوان. فقال: ما شاء الله كان قد جمع بين المسلمين حتى ضرب بعضهم حواجب بعض بالسيوف، ثم يلحق ببنيه وأهله، فسمعه عُميرة بن جُرموز وفضالة بن جابس ونفيع، في غواة من غوات بني تميم، فركبوا في طلبه، فلحقوه مع النعر، فأتاه عُميرة بن جُرْمُوز من خلفه، وهو على فرس له ضعيفة، فطعنه طعنة خفيفة، وحمل عليه الزبير، وهو على فرسٍ له يقال له ذو الخمار، حتى إذا ظن أنه قاتله نادى صاحبيه: يا نفيع يا فضالة، فحملوا عليه حتى قتلوه. وهذا أصح من الأول. وكانت سنه يوم قتل سبعًا وستين سنة وقيل ستا وستين.

لطائف إسناده

وكان رضي الله عنه أسمر اللون ربعة معتدل اللحم خفيف اللحية. وروي عن عروة بن الزبير أنه قال: كان في الزبير ثلاثُ ضرباتٍ بالسيف، كنت أدخل أصابعي فيها: ثنتان يوم بدر، وواحدةٌ يوم اليرموك. روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية وثلاثون حديثًا، اتفقا على حديثين منها، وانفرد البخاري بسبعة. ولم تَكثرُ الرواية عنه لما رواه ابنه عنه في هذا الحديث من أنه قال له: إني لا أسمعك تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يحدث فلان وفلان، قال: أما إنى لم أفارقه ... ، الخ الحديث. واختلف في معنى الحواري قيل خُلْصاته، وقيل: خليله، واستدل على هذا بقول جرير: أفبعد مقتلهم خليل محمدٍ ... ترجو القُيون مع الرسول سبيلًا وقيل الحواري الناصر، وعليه قول الكلابي: ولكنه ألقى زمام قلُوصه ... فيحيا كريمًا أو يموت حواريًا وقيل الحواري الصاحب المستخلص، وقال معمر عن قتادة: الحواريون كلهم من قريش: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وحمزة وجعفر وأبو عبيدة بن الجراح وعثمان بن مَظعون وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة والزبير. وقال روح بن القاسم عن قتادة أنه ذكر يومٌ الحواريين فقيل له: وما الحواريون؟ فقال الذين تصلح لهم الخلافة. والأسديّ في نسبه نسبة إلى أسد بن عبد العزيز، جده الثاني، أبي بطنٍ من بطون قريش جد خديجة رضي الله تعالى عنها، وقد مر في السادس من بدء الوحي. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة، وفيه رواية تابعي عن تابعي، وصحابي عن صحابي، ورواية الأبناء عن الآباء، ورواية الإبن عن الأب عن الجد، أخرجه المؤلف هنا فقط، ولم يخرجه مسلم، وأخرجه أبو داود في العلم، وأخرجه النَّسائي فيه، وابن ماجة في السنة.

الحديث الخمسون

الحديث الخمسون حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ أَنَسٌ إِنَّهُ لَيَمْنَعُنِي أَنْ أُحَدِّثَكُمْ حَدِيثًا كَثِيرًا أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ "مَنْ تَعَمَّدَ عَلَيَّ كَذِبًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ". قوله "إنّه ليمنعني أن أحدثكم" بكسر همزة إنّ الأولى مع التشديد وفتح الثانية مع التخفيف أي ليمنعني تحديثكم. وقوله: حديثًا كثيرًا بالنصب فيهما، والمراد جنس الحديث، ومن ثم وصفه بالكثرة، وقوله: "إن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم" في محل الرفع, لأنه فاعل "يمنعني" وإنما خشي أنس مما خشي منه الزبير، ولذلك صرح بلفظ الإِكثار, لأنه مظنته، ومن حام حول الحمى لا يأمن وقوعه فيه، فكان التقليل منهم للاحتراز، فلم يكن توقيه من التحديث للامتناع من أصل التحديث، للأمر بالتبليغ، وإنما هو لخوف الإِكثار المفضي إلى الخطأ، ومع ذلك فأنس من المكثرين, لأنه تأخرت وفاته، فاحتيج له، ولم يمكنه الكتمان كما مر. ويُجْمعَ بأنه لو حدث. بجميع ما عنده، لكان أضعاف ما حدث به. وفي رواية عتاب مولى هرمُز: سمعت أنسًا يقول: لولا أني أخشى أن أخطىء لحدثتك بأشياء قالها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. الحديث أخرجه أحمد بإسناد، فأشار بأنه لا يحدث إلا بما تحققه, ويترك ما يشك فيه، وحمله بعضهم على أنه كان يحافظ على الرواية باللفظ، فأشار إلى ذلك بقوله "لولا أن أخطىء" وفيه نظر، والمعروف عن أنس جواز الرواية بالمعنى، كما أخرجه الخطيب عنه صريحًا وقد وجد في رواياته ذلك كالحديث في البسملة، وفي قصة تكثير الماء عند الوضوء، وفي قصة تكثير الطعام.

رجاله أربعة

وقوله "من تعمد علي كذبًا" نكرة في سياق الشرط، وهو كالنكرة في سياق النفي في إفادة العموم، فيعم جميع أنواع الكذب. وقوله "فليتبوأ مقعده من النار" يقال فيه ما قيل في الذي قبله. رجاله أربعة: الأول أبو معمر وعبد الله بن عمرو المشهور بالمُقْعَد المنْقَرِيّ، البصري، وقد مر تعريفه في الحديث السابع عشر من كتاب العلم، وكذلك عبد الوارث بن سعيد. ومر تعريف عبد العزيز بن صهيب في الحديث الثامن من كتاب الإيمان, ومر تعريف أنس بن مالك في الحديث السادس منه. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة، ورواته كلهم بصريون، وهو من الرباعيات، أخرجهَ البخاري هنا، وأخرجه مسلم عن زهير والنَّسائي في العلم أيضًا. فقول الحميدي صاحب "الجمع بين الصحيحين" إن حديث أنسٍ هذا مما انفرد به مسلم غير صواب.

الحديث الحادي والخمسون

الحديث الحادي والخمسون حَدَّثَنَا مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِى عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "مَنْ يَقُلْ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ". قوله "من يقل علي" أصله يقول ثم جزم بالشرط، وقوله "ما لم أقل" أي: شيئًا لم أقله، فحذف العائد، وهو جائز، وذكر القول لأنه الأكثر، وحكم الفعل كذلك لاشتراكهما في علة الامتناع، وقد دخل الفعل في عموم حديث الزبير وأنس السابقين، لتعبيرهما بلفظ الكذب عليه وكذلك حديث أبي هريرة الآتى بعد هذا فلا فرق في ذلك بين أن يقول: قال رسول الله كذا أو فعل كذا، إذا لم يكن قاله أو فعله. وقد تمسك بظاهر هذا اللفظ من منع الرواية بالمعنى، وأجاب المجيزون عنه بأن المراد النهي عن الإِتيان بلفظ يوجب تغيير الحكم مع أن الإِتيان باللفظ لا شك في أولويته. وقوله "فليتبوأ مقعده من النار" يعني لما فيه من الجرأة على الشريعة، وعلى صاحبها عليه الصلاة والسلام، فإن قيل: الكذب معصية إلاَّ ما استثنى في الاصلاح وغيره، والمعاصي قد توعد عليها بالنار، فما الذي امتاز به الكذب عليه صلى الله تعالى عليه وسلم من الوعيد على من كذب على غيره؟ فالجواب عنه من وجهين أحدهما هو أن الكذب عليه كبيرة، والكذب على غيره صغيرة، فافترقا. ولا يلزم من استواء الوعيد في حق من كذب عليه، أو كذب على غيره، أن يكون مقرهما واحدًا، أو طول إقامتهما سواء. فقد دل قوله عليه الصلاة والسلام "فليتبوأ" على طول الإقامة فيها بل ظاهرة أنه لا يخرج منها،

لأنه لم يجعل له منزلًا غيره، إلا أن الأدلة "القطعية" قامت على أن خلود التأييد مختص بالكافرين وقد فرق النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بين الكذب عليه والكذب على غيره، كما أخرجه البخاري في الجنائز عن المغيرة بن شعبة بلفظ "إنّ كذبًا علي ليس ككذب على أحد". قلت: ما مر من كون الكذب على غيره صغيرة مخالف لما مر في باب من "أعاد الحديث ثلاثًا ليفهم" من أن "قول الزور" من أكبر الكبائر كما في الحديث الصحيح، فتأمل. الجواب الثاني هو أن الكذب عليه يكفر متعمده عند بعض أهل العلم، وهو الشيخ أبو محمد الجُويْنيّ، لكن ضعفه ابنه إمام الحرمين ومن تبعه، وقال: إنه هفوة من والده، وانتصر له ابن المنير بأن خصوصية الوعيد توجب ذلك، إذ لو كان بمطلق النار لكان كل كاذب كذلك عليه أو على غيره، وإنما الوعيد بالخلود. قال: ولهذا قال: "فليتبوأ" فليتخذها مباءة ومسكنًا. وذلك هو الخلود وبأن الكاذب عليه في تحليل حرام مثلًا لا ينفك عن استحلال الحرام، أو الحمل على استحلاله، واستحلال الحرام كفر، والحمل على الكفر كفر. وأجيب عن الأول بأن دلالة التبوأ على الخلود غير مسلّمة، ولو سلم فلا نُسلم أن الوعيد بالخلود مقتضٍ للكفر بدليل "متعمد القتل" المقول فيه ما قيل من الخلود. وأجيب عن الثاني بأنا لا نسلم أن الكذب عليه ملازم لاستحلاله ولا لاستحلال متعلقة، فقد يكذب عليه في تحريم حرام مثلًا مع قطعه بأن الكذب عليه حرام، وأن ذلك الحرام ليس بمستحل، كما تقدم عصاة المسلمين على ارتكاب الكبائر، مع اعتقادهم حرمتها. قلت: يستدل لما قاله الجُوْينيّ، وانتصر له ابن المُنير بما قاله في "الفتح" فإنه دال على كفر من تعمد الكذب عليه، صلى الله تعالى عليه وسلم. ولفظه عند حديث واثِلَة بن الأَسْقَع في باب "مناقب قريش". والحكمة في التشديد في الكذب على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم

رجاله ثلاثة

واضحة، فإنه إنما يخبر عن الله، فمن كذب عليه كذب على الله عَزَّ وَجَلَّ. وقد اشتد النكير على من كذب على الله تعالى في قوله تعالى {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} [يونس: 17] فسوى بين من كذب عليه وبين الكافر. وقال {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [الزمر: 60]. والآيات في ذلك متعددة، وأيضًا الذي يكذب على النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم، ينسب إليه شرعًا لم يقله، والشرع غالبًا إنما تلقاه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، على لسان الملك فيكون الكاذب في ذلك كاذبًا على الله وعلى الملك. فهذا يؤيد ما قاله الجويني تأييدًا قويًا. رجاله ثلاثة: الأول المكيّ بن إبراهيم البلخيُّ، وقد مر تعريفه في الحديث السابع والعشرين من كتاب العلم. الثاني: يزيد بن أبي عبيد أبو خالد الأسلمي، مولى سلمة بن الأكوع، روى عن مولاه، وهشام بن عروة، وهو أكبر منه، وروى عنه بكير بن الأشجّ، ومات قبله، ويحيى القطان، وحمّاد بن مَسْعَدة وغيرهم. قال أبو داود: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن مُعين: ثقة. وقال العَجْلِيّ: حجازيّ تابعيّ ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، توفي في المدينة بعد خروج محمد بسنتين أو ثلاث. وقال الواقدي: مات قبل خروج محمد بن عبد الله سنة ست أو سبع وأربعين ومئة. الثالث: سَلَمة بفتح السين واللام، ابن الأكوع، واسم الأكوع سنان بن عبد الله بن قيس بن خزيمة بن مالك بن سلامان بن أفصى الأسلميّ. والأكوع جده، وأبوه عمرو، وقيل وهب، يكنى أبا عامر، أو أبا مسلم، والأكثر أبو إياس، بابنه إياس، كان شجاعًا راميًا، سخيًا خيرًا فاضلًا، وقد كلمه الذئُب. روي عنه أنه قال: رأيت الذئب قد أخذ ظبيًا، فطلبته حتى نزعته منه، فقال: ويحك ما لي ولك عمدت إلى رزقٍ رزقنيه الله، ليس من مالك تنتزعه مني. قال: قلت يا أبا عبد الله إِن هذا لعجيب،

لطائف إسناده

ذئبٌ يتكلم؟ فقال الذئب: أعجبُ من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم في أصول النخل يدعوكم إلى عبادة الله وتأبون إلاَّ عبادة الأوثان قال فلحقت بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأسلمت. كان يسبق الخيل عدوًا. وأول مشاهده الحديبية. وروي عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير رَجَّالتنا سلمة بن الأكوع". وفرض الهادي له سهمين ... لسبقه الخيل على الرجلين وبايع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية على الموت، كما روي عنه أنه قيل له: على أي شيء بايعتم النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية؟ فقال: على الموت. بايع يومئذ ثلاث مرات، بايع في أول الناس، ووسطهم، وآخرهم. روى عنه ابنه إياس أنه قال: بينما نحن قائلون نادى منادٍ: أيها الناس، البيعةَ، البيعة، فثرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو تحت الشجرة، فبايعناه، فذلك قوله عَزَّ وَجَلَّ {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 18] الخ. روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سبعة وسبعون حديثًا، اتفقا على ستة عشر منها، وانفرد البخاري بخمسة، ومسلم بتسعة، روى عن أبي بكر وعمر وغيرهما، وروى عنه ابنه إياس، والحسن بن الحنفية، وزيد بن أسْلم، ويزيد بن أبي عُبيد مولاه، وآخرون. نزل المدينة ثم تحول إلى الرَّبْذة بعد قتل عثمان، وتزوح بها، وولد له حتى كان قبل أن يموت بليال، نزل إلى المدينة فمات بها، وكان ذلك سنة أربعٍ وسبعين على الصحيح وعاش ثمانين سنة، ويقال إنّه مات في آخر خلافة معاوية. والأسلمي في نسبه مر في الأول من كتاب العلم. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة، وهو من ثلاثيات البخاريّ، وهو أول ثلاثي وقع فيه، وليس فيه أعلى من الثلاثيات، ويبلغ جميعها أكثر من عشرين حديثًا، وفيه فضل البخاري على غيره، وفيه

المكي بن إبراهيم، وهو من كبار أشياخ البخاري، سمع من سبعة عشر نفرًا من التابعين، منهم يزيد بن عبيد المذكور هنا.

الحديث الثاني والخمسون

الحديث الثاني والخمسون حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "تَسَمَّوْا بِاسْمِي وَلاَ تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي، وَمَنْ رَآنِي فِى الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لاَ يَتَمَثَّلُ فِى صُورَتِي، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ". قد أورد المصنف هذا الحديث بتمامه في "كتاب الأدب" من هذا الوجه, واقتصر مسلم في روايته له على الجملة الأخيرة، وهي مقصود الباب، وإنما ساقه المؤلف بتمامه، ولم يختصره كعادته، لينبه على أن الكذب على النبي، صلى الله تعالى عليه وسلم يستوي فيه اليقظة والمنام. وقد رتب المصنف أحاديث الباب ترتيبًا حسنًا, لأنه بدأ بحديث عليّ، وفيه مقصود الباب، وثنى بحديث الزبير الدّال على توقي الصحابة وتحرزهم من الكذب عليه، وثلَّث بحديث أنسٍ الدّال على أن امتناعهم إنما كان من الإِكثار المفضي إلى الخطأ، لا عن أصل التحديث, لأنهم مأمورون بالتبليغ. وختم بحديث أبي هُريرة الذي فيه الإشارة إلى استواء تحريم الكذب عليه، سواء كانت دعوى السماع منه في اليقظة أو في المنام. وقوله "تسموا باسمي" أي، بفتح التاء والسين والميم المشددة، أمر بصيغة الجمع من باب التَّفَعُّل واسمه محمد وأحمد والعاقب والحاشر والماحي، وغير هذا. وقوله "ولا تكتنوا بكنيتي" بفتح التائين بينهما كاف ساكنة، وفي رواية الأربعة "ولا تكنَّوا" بفتح التاء والكاف ونون مشددة من غير تاء ثانية، من باب التفعُّل من تكنَّى يتكنَّى تكنيًا، وأصله لا تتكنوا، فحذفت إحدى التاءين، أو بضم التاء وفتح الكاف وضم النون المشددة، من باب التفصيل، من كنّى يكني تكنية، أو بفتح التاء وسكون الكاف،

وكلها مأخوذة من الكناية. تقول: كنَّيت عن الأمر بكذا، إذا ذكرته بغير ما يستدل به عليه صريحًا، وقد اشتهرت الكنى للعرب حتى ربما غلبت على الأسماء، كأبي طالب وأبي لهبٍ وغيرهما. وقد يكون للواحد كنية واحدة فأكثر، وقد يشتهر باسمه وكنيته جميعًا، فالاسم والكنية واللقب يجمعها العَلم، بفتحتين، وتتغاير بأن اللقب ما أشعر بمدح أو ذم، والكنية ما صدرت بأب أو أُم وما عدا ذلك فهو اسم. وكان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يكنى أبا القاسم، بولده القاسم، وكان أكبر أولاده، واختلف هل مات قبل البعثة أو بعدها، واختلف في التسمي باسمه محمد، والتكني بكنيته أبي القاسم على خمسة مذاهب: الأول: منع التكنية بأبي القاسم مطلقًا، سواء كان اسمه محمدًا أم لا، ثبت ذلك عن الشافعي. وبه قالت الظاهرية، وبالغ بعضهم فقال: لا يجوز لأحد أن يسمي ابنه القاسم، لئلا يكنى أبا القاسم. قال ابن أبي جمرة: والأخذ به أولى, لأنه أبرأ للذمة، وأعظم للحرمة. والثاني: الجواز مطلقًا، ويختص النهي بحياته صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو الذي عليه إطباق الناس في جميع الأعصار، وكان مستندهم ما أخرجه البخاري عن أنس من أنه صلى الله تعالى عليه وسلم، كان في السوق فسمع رجلًا يقول يا أبا القاسم فالتفت إليه. فقال: لم أعنك! فقال: "تسموا باسمي ولا تكنَّوا بكنيتي". فكأن القائلين بهذا القول فهموا من النهي الاختصاص بحياته، للسبب المذكور. وقد زال بعده، صلى الله تعالى عليه وسلم، واحتجوا أيضًا بما أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" وأبو داود وابن ماجة، وصححه الحاكم، عن محمد بن الحنفية قال: قال علي: قلت يا رسول الله إن ولد لي من بعدك ولد أسميه باسمك واكنيه بكنيتك؟ قال: "نعم". وفي بعض طرقه "سماني محمدًا وكناني أبا

القاسم" فكان رخصة من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لعلي بن أبي طالب. قال الطبريُّ في إباحة ذلك لعلي، ثم تكنيته على ولده أبا القاسم، إشارة إلى أن النهي عن ذلك كان على الكراهة لا على التحريم، قال: ويؤيد ذلك أنه لو كان على التحريم لأنكره الصحابة، ولما مكنوه أن يكني ولده أبا القاسم، أصلًا، فدل على أنهم إنما فهموا من النهي التنزيه. وتعقَّب بأنه لم ينحصر الأمر فيما قاله، فلعلهم علموا الرخصة له دون غيره، كما في بعض طرقه، أو فهموا تخصيص النهي بزمانه صلى الله تعالى عليه وسلم، وهذا أقوى, لأن بعض الصحابة سمى ابنه محمدًا وكناه أبا القاسم، وهو طلحة بن عُبيد الله، وقد جزم الطَّبرانيُّ أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، هو الذي كنّاه، وأخرج ذلك من طريق عيسى بن طلحة عن ظئر محمد بن طلحة، وكذا يقال لكنية كل من المحمدين: ابن أبي بكر، وابن سعد، وابن جعفر بن أبي طالب، وابن عبد الرحمن بن عوف، وابن حاطب بن أبي بَلْتَعَة، وابن الأشعث بن قيس أبو القاسم، وإن آباءهم كنَّوهُم بذلك. قال عياض: وبه قال جمهور السلف والخلف، وفقهاء الامصار، وأما ما أخرجه أبو داود عن عائشة "أن امرأة قالت يا رسول الله إنّي سميت ابني محمدًا وكنيته أبا القاسم، فذكر لي أنك تكره ذلك، فقال: ما الذي أحل اسمي وحرَّم كنيتي؟ " فقد ذكر الطَّبرانيُّ في الأوسط أن محمد بن عمران الحَجَبَى تفرد به عن صفية بنت شيْبة عنها، ومحمد المذكور مجهول، وعلى تقدير أن يكون محفوظًا، فلا دلالة فيه على الجواز مطلقًا لاحتمال أن يكون قبل النهي. الثالث: لا يجوز لمن اسمه محمد، ويجوز لغيره، قال الرافعي: يشبه أن يكون هذا هو الأصح، وأشار ابن أبي جَمْرة إلى تصحيحه، واستدلوا بما أخرجه أحمد وأبو داود, وحسّنه التِّرمِذيّ، وصححه ابن حبان

من طريق أبي الزبير عن جابر، رفعه، قال: "من تسمَّى باسمي فلا يكتني بكنيتي، ومن اكتنى بكنيتي فلا يتسمى باسمي" وفي رواية: "إذا سمّيتم بي، فلا تكنّوا بي، وإذا كنيتم بي فلا تسموا بي" وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" وأبو يعلي بلفظ "لا تجمعوا بين اسمي وكنيتي". وأخرجه التِّرمِذِي بلفظ "أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، نهى أن يجمع بين اسمه وكنيته"، وقال: "أنا أبو القاسم، الله يعطي، وأنا القاسم". وأخرج أحمد وابن أبي شيبة عن أبي عَمْرة عن عمه، رفعه، "لا تجمعوا بين اسمي وكنيتي" وأخرج الطَّبرانيُّ عن محمد فضَالة قال: قدم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم المدينة وأنا ابن اسبوعين، فأتي بي إليه، فمسح على رأسي وقال: "سموه باسمي، ولا تكنوه بكنيتي" وأخرجه أبو يعلى عن أبي زرعة بلفظ "من تسمى باسمي فلا يتكني بكنيتي". الرابع: وهو للطّبريّ: المنع من التسمية بمحمد مطلقًا، وكذا التكني بأبي القاسم مطلقًا، وأخرج من طريق سالم بن أبي الجعْد قال: كتب عمر لا تسموا أحدًا باسم نبي، واحتج لهذا القول أيضًا، بما أخرجه عن ثابث عن أنس، رفعه، "يسمونهم محمدًا ثم يلعنونهم" وأخرجه البزَّار وأبو يعلى أيضًا، وسنده ليِّن. قال عياض: والأشبه أن عمر إنما فعل ذلك إعظامًا لاسم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، لئلا ينتهك. وكان قد سمع رجلًا يقول لمحمد بن زيد بن الخطاب: يا محمد فعل الله بك كذا، وفعل، فدعاه، وقال: لا أرى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يُسب بك" فغير اسمه. وأخرجه أحمد والطَّبرانيُّ عن عبد الرحمن بن أبي ليلى نظر عمر إلى ابن عبد الحميد، وكان اسمه محمدًا، ورجل يقول له: فعل الله بك يا محمد، فأرسل إلى ابن زيد بن الخطاب، فقال: لا أرى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يُسب بك، فسماه عبد الرحمن، وأرسل إلى بني طلحة، وهم سبعة ليغير أسماءهم، فقال له محمد وهو كبيرهم: والله لقد سماني النبي صلى الله تعالى عليه وسلم محمدًا، فقال: قوموا فلا سبيل إليكم. فهذا يدل على رجوعه عن ذلك.

الخامس: المنع مطلقًا في حياته, والتفصيل بعده بين من اسمه محمد وأحمد، فيمتنع وإلا فيجوز. قال في "الفتح": وفي الجملة أعدل المذاهب المذهب المفصل المحكي أخيرًا مع غرابته. وقوله: "ومن رآني في المنام فقد رآني" مَنْ شرطية، جوابه فقد رآني، ولأجل كون الجزاء لابد أن يكون غير الشرط، ويكون الشرط سببًا متقدمًا عليه، والأمر هنا ليس كذلك كان الجزاء حقيقة لازم، فقد رآني في تقديره فليستبشر، فإنه قد رآني. واتحاد الشرط والجزاء صورةً يدلُّ على الكمال والغاية، كما مر عند قوله: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله". وقوله: "فإن الشيطان" الفاء فيه للتعليل، والشيطان اسم إن وخبرها قوله "لا يتمثل"، والشيطان إمّا مشتق من شاط أي هلك، فهو فَعْلان، ونونه زائدة، وهو غير مصروف، وإما من شطن، أي بَعُد فهو فيْعال، ونونه أصلية، وهو مصروفٌ، والشيطان معروف، وكل عاتٍ متمردٍ من الجنِ والإِنس والدّواب الشيطانُ. والعرب تُسمي الحية شيطانًا. وقوله: "لا يتمثل في صورتي" أي لا يتصور في مثل صورتي، يقال مَثَّلْثُ له كذا تمثيلًا فتمثل، أي صوَّرت له بالكتابة وغيرها فتصَوَّر. قال {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم: 17] والتركيب يدل على مناظرة الشيء للشيء. وفي رواية: "فإن الشيطان لا يتمثل بي" وفي حديث جابر عند مسلم وابن ماجة "أنه لا ينبغي للشيطان أن يتمثل بي". وفي حديث ابن مسعودٍ عند التِّرمذِيّ وابن ماجه "إن الشيطان لا يستطيع أن يتمثل بي". وفي حديث أبي قتادة "وإن الشيطان لا يتراءى" بالراء، بوزن يتعاطى. ومعناه: لا يستطيع أن يصير مرئيًا في صورتي. وفي رواية غير أبي ذَرٍّ "يتزايا" بزاي، وبعد الألف تحتانية. وفي حديث أبي سعيد "فإن الشيطان لا يتكونني". أما قوله: "لا يتمثل بي" فمعناه لا يتشبه بي، وأما قوله "لا يتراءى بي"

فرجح بعض الشُرّاحِ رواية الزاي عليها أي لا يظهر في رئيي وليست الرواية الأخرى ببعيدةٍ من هذا المعنى. وأما قوله: "لا يتكونني" أي: لا يتكون كوني فحذف المضاف ووصل المضاف إليه بالفعل، والمعنى لا يتكون في صورتي، فالجميع راجع إلى معنى واحد. وقوله: "لا يستطيع" يُشير إلى أنَّ الله تعالى وإن أمكنه من التصور في أي صورةٍ أراد، فإنه لم يمكّنه من التصور في صورة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد ذهب إلى هذا جماعة، فقالوا في الحديث: إن محل ذلك إذا رآه الرائي على صورته التي كان عليها. ومنهم من ضيق الفرض في ذلك حتى قال: لابد أن يراه على صورته التي خرج من الدنيا عليها، حتى يعتبر عدد الشعرات البيض التي لم تبلغ عشرين شعرة. والصواب التعميم في جميع حالاته، بشرط أن تكون صورته الحقيقية في وقت ما، سواء كان في شبابه أو رجوليته أو كهوليته أو آخر عمره. وقد يكون لما خالف ذلك تعبير يتعلق بالرائي. وقوله: "فقد رآني" في رواية "فقد رأى الحق" وفي رواية "فسيراني في اليقظة" وفي رواية "فكأنما رآني في اليقظة" وفي رواية "فقد رآني في اليقظة". قال المازريّ: اختلف المحققون في تأويل هذا الحديث، فذهب القاضي أبو بكر بن الطيب إلى أن المراد بقوله "من رآني في المنام فقد رآني" أن رُؤياه صحيحة لا تكون أضغاثًا، ولا من تشبيهات الشيطان. قال: ويعضده قوله في بعض طرقه "فقد رأى الحق" قال: وفي قوله "إن الشيطان لا يتمثل بي" إشارة إلى أنّ رؤياه لا تكون أضغاثًا. ثم قال المازري: وقال آخرون: بل الحديث محمول على ظاهره، والمراد أن من رآه فقد أدركه، ولا مانع يمنع من ذلك، ولا عقل يحيله، حتى يحتاج إلى صرف الكلام على ظاهره، وأما كونه قد يُرى على غير صفة، أو يُرى في مكانين مختلفين معًا، فإن ذلك غلط في صفته وتخيل لها على غير ما هي عليه، وقد يظن بعض الخيالات مرئيات، لكون ما يتخيل مرتبطًا بما يرى

في العادة، فتكون ذاته، صلى الله تعالى عليه وسلم، مرئيةً، وصفاُته متخيلةً غير مرئية. والإِدراك لا يشترط فيه تحديق البصر، ولا قرب المسافة، ولا كون المرئي ظاهرًا على الأرض، ولا مدفونًا فيها، وإنما يشترط كونه موجودًا، ولم يقم دليل على فناء جسمه صلى الله تعالى عليه وسلم، بل جاء في الخبر الصحيح ما يدل على بقائه، وأن الأنبياء لا تغيرهم الأرض، وتكون ثمرة اختلاف الصفات اختلاف الدلالات. كما قال بعض علماء التعبير: إن من رآه شيخًا فهو عامُ سلم، أو شابًا فهو عام حرب. ويؤخذ من ذلك ما يتعلق بأقواله كما لو رآه أحد يأمر بقتل من لا يحل قتله، فإنّ ذلك يحمل على الصفة المتخيلة لا المرئية. وقال القاضي عياض: يحتمل أن يكون معنى الحديث إذا رآه على الصفة التي كان عليها في حياته لا على صفةٍ مضادة لحاله، فإن رُؤي على غيرها كانت رؤيا تأويل لا رُؤيا حقيقة. فإنَّ من الرؤيا ما يخرج على وجهه، ومنها ما يحتاج إلى تأويل. وقال النووي: هذا الذي قاله القاضي ضعيف، بل الصحيح أنه يراه حقيقة، سواء كان على صفته المعروفة أو غيرها، كما ذكره المازري. قال في "الفتح": هذا الذي رده الشيخ جاء عن ابن سيرين إمام المعَبِّرين اعتباره، فقد أخرج البخاري عنه تعليقًا بعد قوله في الحديث "ولا يتمثل الشيطان بي" قال ابن سيرين: إذا رآه في صورته. وصله إسماعيل بن إسحاق القاضي عن أيوب قال: كان محمد بن سيرين إذا قص عليه رجل أنه رأى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: صف لي الذي رأيته، فإن وصف له صفة لا يعرفها، قال: لم تره، وسنده صحيح. وأخرج الحاكم ما يؤيده عن عاصم بن كُليب عن أبيه قال: قلت لابن عباس: رأيتُ النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم. قال: صفه لي، قال: ذكرت الحسن بن عليّ فشبهته به، قال: قد رأيته، وسنده جيد. وقال

القاضي أبو بكر بن العربي: شذ بعض القدرية فقال: الرؤيا لا حقيقة لها أصلًا، وشذ بعض الصالحين فزعم أنها تقع بعيني الرأس حقيقيةً. وقال بعض المتكلمين: هي مُدْرَكةً بعينين في القلب. ثم قال: فالذي قاله عياض توسُّطٌ حسن، ويمكن الجمع بينه وبين ما قاله المازريّ، بأن تكون رؤياه على الحالين حقيقة، لكن إذا كان على صورته، كان ما يرى في المنام على ظاهره لا يحتاج إلى تعبير، وإذا كان على غير صورته، كان النقص من جهة الرائي، لتخيله الصفة على غير ما هي عليه، ويحتاج ما يراه في ذلك المنام إلى التعبير. وجرى على ذلك علماء التعبير، فقالوا: إذا قال الجاهل: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه يُسأل عن صفته، فإن وافق الصفة المروية، وإلا فلا يقبل منه. وأشاروا إلى ما إذا رآه على هيئة تخالف هيئته، مع أن الصورة كما هي، فقال أبو سعد أحمد بن محمد بن نصر: من رأى نبيًا على حاله وهيئته، فذلك دليل على صلاح الرائي، وكمال جاهه، وظفره بمن عاداه، وإنْ رآه متغير الحال عابسًا مثلاً، فذلك دليل على سوء حال الرائي. ونحا ابن أبي جمرة إلى ما اختاره النووي، فقال بعد أن حكى الخلاف: ومنهم من قال: إن الشيطان لا يتصور على صورته أصلًا، فمن رآه في صورة حسنة، فذلك حُسْن في دين الرائي، وإن كان في جارحة من جوارحه شَيْنٌ أو نقص، فذاك خلل في الرائي من جهة الدين. قال: وهذا هو الحق. وقد جرب ذلك فوجد على هذا الأسلوب، وبه تحصل الفائدة الكبرى في رؤياه، حتى يتبين للرائي هل عنده خلل أو لا, لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم، نُورانّي مثل المرآة الصقيلة، ما كان في الناظر إليها من حسن وغيره تصوَّرَ فيها، وهي في ذاتها على أحسن حال، لا نقص فيها ولا شين. وكذلك يقال في كلامه، عليه الصلاة والسلام، في النوم، أنه يعرض على السنة، فما وافقها فهو حق، وما خالفها فالخلل في سمع الرائي. فرؤيا الذات الكريمة حق، والخلل إنما هو في سمع الرائي أو بصره. قال:

وهذا خير ما سمعته في ذلك. ثم حكى القاضي عياض عن بعضهم قال: خص الله نبيه بعموم رؤياه كلها، ومنع الشيطان أن يتصور في صورته، لئلا يتذرع بالكذب على لسانه في النوم، ولما خرق الله العادة للأنبياء، للدلالة على صحة حالهم في اليقظة، واستحال تصوُّر الشيطان على صورته في اليقظة، ولا على صفة مضادة لحاله، إذ لو كان ذلك لدخل اللَّبْسُ بين الحق والباطل، ولم يوثق بما جاء من جهة النبوة، حمى الله حماها لذلك من الشيطان، وتصوره وإِلقائه وكيده، وكذلك حمى رؤياهم أنفسهم، ورؤيا غير النبي للنبي عن تمثيل بذلك، لتصح رؤياه في الوجهين، ويكون طريقًا إلى علم صحيح لا ريب فيه. وقال الغزالي: ليس معنى قوله "رآني" أنّه رأى جسمي وبدني، وإنما المراد أنه رأى مثالًا صار ذلك المثال آلة يتأدى بها المعنى الذي في نفسي إليه، وكذلك قوله "فسيراني" في اليقظة، ليس المراد أنه يرى جسمي ويدني. قال: والآلة تارة تكون حقيقية، وتارة تكون خيالية، والنفس غير المثال المتخيل، فما رآه من الشكل ليس هو روح المصطفى، ولا شخصه، بل هو مثال له، قال: ومثال ذلك من يرى الله سبحانه وتعالى، في المنام: فإن ذاته منزهة عن الشكل والصورة، ولكن تنتهي تعريفاته إلى العبد بواسطة مثال محسوس من نور أو غيره، ويكون ذلك حقًا في كونه واسطة في التعريف، فيقول الرائي: رأيت الله تعالى في المنام، لا يعني أني رأيت ذات الله تعالى، كما يقول في حق غيره. وقال أبو القاسم القُشَيْرِيّ ما حاصله أن رؤياه على غير صفته لا تستلزم أن لا يكون هو، فإنه لو رأى الله تعالى على وصف يتعالى عنه، وهو يعتقد أنه منزه عن ذلك، لا يقدح في رؤيته، بل يكون لتلك الرؤيا ضرب من التأويل، كما قال الواسطيّ "من رأى ربه على صورة شيخ كان إشارة إلى وقار الرائي" وغير ذلك. وقال الطِّيبيّ: المعنى من رأني في المنام بأي صفة كانت، فليستبشر، ويعلم أنه قد رأى الرؤيا الحق التي هي من الله، وهي

مبشرة, لا الباطل الذي هو الحلم المنسوب للشيطان فإن الشيطان لا يتمثل بي. وقوله "فسيراني" معناه فسيرى تفسير ما رأى, لأنه حق وغيب أُلقي فيه. وأما قوله "فكأنما رأني" فهو تشبيه، ومعناه أنه لو رآه في اليقظة لطابق ما رآه في النوم، فيكون الأول حقًا وحقيقة، والثاني حقًا وتمثيلًا. قال ابن العربي: وهذا كله إذا رآه على صورته، فإن رآه على خلاف صفته، فهي أمثال، فإن رآه مقبلًا عليه مثلًا، فهو خير للرائي وفيه، وعلى العكس فبالعكس. وقوله "فقد رأى الحق" قال الطيْبيّ: أي رؤية الحق لا الباطل، وكذا قوله "فقد رآني" فإن الشرط والجزاء إذا اتحدا دلّا على الغاية في الكمال، أي فقد رآني رؤيا ليس بعدها شيء. وقال القرطبي: اختلف في معنى الحديث، فقال قوم: هو على ظاهره، فمن رآه في النوم رأى حقيقته، كما رآه في اليقظة، سواء. قال: وهذا قول يدْرَك فسادهُ بأوائل العقول، ويلزم عليه أن لا يراه أحد إلا على صورته التي مات عليها، وأن لا يراه رائيان في آن واحد في مكانين، وأن يحيا الآن ويخرج من قبره، ويمشي في الأسواق، ويخاطب الناس ويخاطبوه، ويلزم من ذلك أن يخلو قبره من جسده، فلا يبقى في قبره منه شيء، فيزار مجرد القبر، ويسلم على غائب لأنه جائز أن يرى في الليل والنهار مع اتصال الأوقات على حقيقته في غير قبره، وهذه جهالات لا يلتزم بها من له أدنى مَسْكةٍ من عقل. وقالت طائفة: معناه أن من رآه رآه على صورته التي كان عليها، ويلزم منه أنّ من رآه على غير صفته أن تكون رؤياه من الأضغاث. ومن المعلوم أنه يُرى في النوم على حالة تخالف حالته في الدنيا من الأحوال اللائقة به، وتقع تلك الرؤيا حقًا كما لو رئي ملأ دارًا بجسمه مثلًا، فإنه يدل على امتلاء تلك الدار بالخير، ولو تمكن الشيطان من التمثيل بشيء مما كان عليه أو ينسب إليه، لعارض عموم قوله "فإن الشيطان لا يتمثل بي" فالأَوْلى أن تُنَزَّه

رؤياه، وكذا رؤيا شيء منه، أو مما ينسب إليه عن ذلك، فهو أبلغ في الحرمة، وأليق بالعصمة، كما عصم من الشيطان في يقظته. قال: والصحيح في تأويل هذا الحديث أن مقصوده أن رؤيته في كل حالة ليست باطلة، ولا أضغاثًا بل، هي حق في نفسها, ولو رئي على غير صورته، فتصور تلك الصورة ليست من الشيطان، بل هو من قبل الله، وهذا قول القاضي أبي بكر بن الطَّيِّب وغيره. ويؤيده قوله "فقد رأى الحق" أي رأى الحق الذي قصد إعلام الرائي به، فإن كانت على ظاهرها وإلا سعى في تأويلها, ولا يهمل أمرها لأنها إما بشرى بخير، أو إنذار من شر. إما ليخيف الرائي، وإما لينزجر عنه، وإِما لينبه على حكم يقع له في دينه أو دنياه. وقال ابن بطال: قوله "فسيراني في اليقظة" يريد تصديق تلك الرؤيا في اليقظة، وصحتها وخروجها على الحق، وليس المراد أنه يراه في الآخرة, لأنه سيراه يوم القيامة في اليقظة، فيراه جميع أمته، من رآه في النوم، ومن لم يره منهم. وقال ابن التين: المراد من آمن به في حياته، ولم يره، لكونه حينئذ غائبًا عنه، فيكون بهذا مبشرًا لكل من آمن به ولم يره أنه لابد أن يراه في اليقظة" قبل موته، قاله القزَّاز. وقال من المازَرِيّ: إن كان المحفوظ "فكأنما رآني في اليقظة" فمعناه ظاهر، وإن كان المحفوظ "فسيراني في اليقظة" احتمل أن يكون أراد أهل عصره ممن لم يهاجر إليه، فإنه إذا رآه في المنام جعل ذلك علامة على أنه يراه بعد ذلك في اليقظة، وأوحى الله بذلك إليه صلى الله تعالى عليه وسلم. وقيل: معنى الرؤية في اليقظة أنه سيراه في الآخرة وتُعقَّب بأنه في الآخرة يراه جميع أمته؛ من رآه في المنام ومن لم يره، يعني فلا يبقى لخصوص رؤيته في المنام مزية. وأجاب عياض باحتمال أن تكون رؤياه له في النوم على الصفة التي عرف بها، ووصف بها، موجبةً لتكرمته في الآخرة، وأن يراه رؤية خاصة من القرب منه، والشفاعة له بعلو الدرجة،

ونحو ذلك من الخصوصيات. قال: ولا يَبْعدُ أن يعاقب الله بعض المذنبين في القيامة بمنع رؤية نبيه عليه الصلاة والسلام مدة. قلت: الجواب الأحسن هو أن يقال: من أين للمتعقب أن جميع أمته يرونه في الآخرة؟ هل ورد نص من الشارع بذلك؟ وأيضًا أكلُّ من آمن به يأمن من سوء الخاتمة أعاذنا الله تعالى من ذلك؟ وأي بشرى وفائدة أعظم من أن رؤيته، صلى الله تعالى عليه وسلم، في النوم أمان لصاحبها من سوء الخاتمة، ضامنة لصاحبها الموت على الإِيمان؟ وقد قال الدَّمامينيّ في قوله "فسيراني في اليقظة" بشارة لرائيه بالموت مسلمًا, لأنه لا يراه تلك الرؤية الخاصة باعتبار القرب إلا من تحقق موته على الإِسلام. وحمله ابن أبي جمرة على محمل آخر، فذكر عن ابن عباس أو غيره أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم، في المنام، فبقي بعد أن استيقظ متفكرًا في هذا الحديث، فدخل على بعض أمهات المؤمنين، ولعلها خالته ميمونة، فأخرجت له المرآة التي كانت للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فنظر فيها فرأى صورته عليه الصلاة والسلام، ولم ير صورة نفسه. ونقل عن جماعة من الصالحين أنهم رأوا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في المنام، ثم رأوه بعد ذلك في اليقظة، وسألوه عن أشياء كانوا منها متخوفين، فأرشدهم إلى طريق تفريجها، فجاء الأمر كذلك. قال في "الفتح": هذا مشكل جدًا، ولو حمل على ظاهره لكان هؤلاء صحابة، ولأمكن بقاء الصحبة إلى يوم القيامة. ويُعَكَّرُ عليه أن جمعًا جمًا رأوه في المنام، ولم يذكر واحد منهم أنه رآه في اليقظة، وخبر الصادق لا يتخلف، وقد اشتد إنكار القرطبيّ على من قال: من رآه في المنام فقد رأى حقيقته، ثم يراها كذلك في اليقظة كما مر قريبًا، وقد تفطن ابن أبي جمرة لهذا، فأحال بما قال على كرامات الأولياء، فإن يكن كذلك تعين العدول عن العموم في كل راءٍ، ثم ذكر أنه عام في أهل التوفيق، وأما غيرهم فعلى الاحتمال، فإن خرق العادة قد يقع للزنديق بطريق الاغواء والإِملاء، كما

يقع للصِّدِّيق بطريق الكرامة والإِكرام، وإنما تحصل التفرقة بينهما باتباع الكتاب والسنة. والحاصل من الأجوبة المذكورة ستة: أحدها: أنه على التشبيه والتمثيل، ودل عليه قوله في الرواية الأخرى "فكأنما رآني في اليقظة". ثانيها: أن معناها سيرى في اليقظة تأويلها بطريق الحقيقة أو التعبير. ثالثها: أنه خاص بعصره ممن آمن به قبل أن يراه. رابعها: أنه يراه في المرآة التي كانت له إن أمكن ذلك، وهذا من أبعد المحامل. خامسها: أنه يراه يوم القيامة بمزيد خصوصية، لا مطلق من يراه حينئذ ممن لم يره في المنام. سادسها: أنه يراه في الدنيا حقيقة، ويخاطبه. وقد مر ما فيه من الإشكال. قال القرطبي: قد تقرر أن الذي يرى في المنام أمثلة للمرئيات لا أنفسها، غير أن تلك الأمثلة تارة تقع مطابقة وتارة يقع معناها. فمن الأول رؤياه عليه الصلاة والسلام لعائشة، وفيه فإذا هي أنت، فأخبر أنه رأى في اليقظة ما رآه في نومه بعينه. ومن الثاني رؤياه البقر التي تنحر، والمقصود بالثاني التنبيه على معاني تلك الأمور. ومن فوائد رؤيته صلى الله تعالى عليه وسلم تسكين شوق الرائي، لكونه صادقًا في محبته ليعمل على مشاهدته، وإلى ذلك الإشارة بقوله "فسيراني في اليقظة" أي: من رآني رؤية معظمٍ لحرمتي ومشتاقٍ إلى مشاهدتي، وصل إلى رؤية محبوبه، وظفر بكل مطلوبة. قال: ويجوز أن يكون مقصود تلك الرؤيا معنى صورته، وهو دينه وشريعته، فيعبر بحسب ما يراه الرائي من زيادة ونقصان، أو إساءة

وإحسان. قال في "الفتح": وهذا جوابٌ سابعٌ، والذي قبله لم يظهر لي، فإن ظهر فهو ثامن. قلت: وأنا أيضًا لم يظهر لي. وأعلم أن الرؤيا بالقصر، هي ما يراه الشخص في منامه، وهي بوزن فُعْلى وقد تسهل الهمزة، وقال الواحدي: هل في الأصل مصدر كاليُسْرى، فلما جعلت اسمًا لما يتخيله النائم أُجريت مجرى الأسماء. قال الراغب: الرؤية، بالهاء، إدراك المرء بحاسة البصر وتطلق على ما يدرك بالتخيل نحو أرى أن زيدًا مسافر، وعلى التفكير النظري: نحو أرى ما لا ترون. وعلى الرأي، وهو اعتقاد أحد النقيضين على غلبة الظن. وقال القرطبي في "المفهم": قال بعض العلماء: قد تجىء الرؤيا بمعنى الرؤية كقوله تعالى {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ} [الإسراء: 60] فزعم أن المراد بها ما رآه النبي عليه الصلاة والسلام ليلة الإسراء من العجائب، وكان الإِسراء جميعه في اليقظة، قلت: ومن هذا المعنى قول الشاعر يصف صيادًا: وكبَّر للرؤيا، وهشَّ فؤاده ... وبَشَّر قلبًا كان جمًا بلابله وعكس بعضهم، فجعل الآية دليلًا على أن الإسراء كان منامًا، ويأتي إن شاء الله تعالى، تحرير هذه المسألة في غير هذه المحل عند حديث الإسراء في أول كتاب الصلاة. ويحتمل أن تكون الحكمة في تسمية ذلك رؤيا كون أمور الغيب مخالفة لرؤية الشهادة، فاشبهت ما في المنام. واختلف في حقيقة الرؤيا المنامية، فقال أبو بكر بن العربيّ، والاستاذ أبو إسحاق: الرؤيا إدراكات علقها الله تعالى في قلب العبد على يدي ملك أو شيطان، إما باسمائها أي حقيقتها، وإِما بكنُاها أي عبارتها وإما تخليطًا. ونظيرها في اليقظة الخواطر، فإنها قد تأتي على نسق في قصد، وقد تأتي مسترسلة غير محصلة. وذهب أبو بكر بن الطَّيِّب إلى أنها اعتقادات واحتج بان الرائي قد يرى نفسه بهيمة، أو طائرًا مثلًا، وليس هذا إدراكًا، فوجب أن يكون اعتقادا،

لأن الاعتقاد قد يكون على خلاف المعتقد. قال ابن العربيّ: والأول أولى. والذي يكون من قبيل ما ذكر ابن الطَّيِّب من قبيل المثل، فالإدراك إِنما يتعلق به لا بأصل الذات. وقال المازَريّ: كثر كلام الناس في حقيقة الرؤيا، وقال فيها غير الاسلاميين أقاويل كثيرة منكرة, لأنهم حاولوا الوقوف على حقائق لا تدرك بالعقل، ولا يقوم عليها برهان، وهم لا يصدقون بالسمع فاضطربت أقوالهم. فمن ينتمي إلى الطب ينسب جميع الرؤيا إلى الأَخلاط فيقول: من غلب عليه البَلْغَم رأى أنه يسبح في الماء ونحو ذلك، لمناسبة الماء طبيعة البلغم. ومن غلبت عليه الصفراء، رأى النيران والصعود في الجو، وهكذا وهذا، وإن جوَّزه العقل، وجاز أن يجري الله العادة به، لكنه لم يقم عليه دليلٌ، ولا اطردت به عادة، والقطع في موضع التجويز غلط. ومن ينتمي إلى الفلسفة يقول: إن صور ما يجري في الأرض هي في العالم العلوي كالنقوش، فما حاذى بعض النقوش منها انتقش فيها. قال: وهذا أشد فسادًا من الأول، لكونه تحكمًا لا برهان عليه. والانتقاش من صفات الأجسام، وأكثر ما يجري في العالم العلويّ الأعراضُ، والأعراض لا ينتقش فيها. قاله في الفتح. ولم أفهم معنى قوله: إن أكثر ما يجري في العالم العلوي الأعراضُ، لأن العالم العلوي فيه الأجسام التي هي أعظم من الأرض وما فيها. ثم قال: والصحيح ما عليه أهل السنة من أن الله يخلق في قلب النائم اعتقادات، كما يخلقها في قلب اليقظان. فإذا خلقها فكأنه جعلها علمًا على أمور أخرى يخلقها في ثاني الحال، وما وقع منها على خلاف المعتقد، فهو كما يقع لليقظان، ونظيره أن الله خلق الغيم علامة على المطر، وقد يتخلف. وتلك الاعتقادات تقع تارة بحضرة الملك فيقع بعدها ما يسر، أو بحضرة الشيطان، فيقع بعدها ما يضر.

وقال القرطبيّ: سبب تخليط غير الشرعيين إعراضُهم عما جاءت به الأنبياء من الطريق المستقيم، وبيان ذلك أن الرؤيا إنما هي من إدراكات النفس، وقد غُيَّب عنّا علم حقيقتها، أي: النفس، وإذا كان كذلك، فالأوْلى أن لا نعلم علم إدراكاتها، بل كثير مما انكشف لنا من إدراكات السمع والبصر إنما نعلم منه أمورًا جُمليَّة لا تفصيلية، ونقل في "المفهم" عن بعض أهل العلم: أن لله تعالى ملكًا يعرض المرئيات على المحل المدرك من النائم، فيمثل له صورة محسوسة، فتكون تارة أمثلة موافقة لما يقع في الوجود، وتارة تكون أمثلة لمعان معقولة، وتكون في الحالين مبشرة ومنذرة. قال: ويحتاج فيما نقله عن الملك إلى توقيف من الشرع، وإلا فجائز أن يخلق الله ثلث المثالات من غير ملك. قال: وقيل: إن الرؤيا إدراك أمثلة منضبطة في التخيل جعلها الله تعالى أعلامًا على ما كان، أو يكون. وقال عياض: اختلف في النائم المستغرق، فقيل: لا تصح رؤياه، ولا ضرب المثل له, لأن هذا لا يدرك شيئًا مع استغراق أجزاء قلبه, لأن النوم يخرج الحي عن صفات التمييز، والظن والتخييل، كما يخرجه عن صفة العلم. وقال آخرون بل يصح للنائم مع استغراق أجزاء قلبه بالنوم أن يكون ظانًّا أو متخيلًا، وأما العلم فلا, لأن النوم آفة تمنع حصول الاعتقادات الصحيحة. نعم. إن كان بعض أجزاء قلبه لم يحل فيه النوم فيصح، وبه يضرب المثل، وبه يرى ما يتخيله، ولا تكليف عليه حينئذ، ولأن رؤياه ليست على حقيقة وجود العلم، ولا صحة الميز، وإنما بقيت فيه بقية يدرك بها ضرب المثل. وأيده القرطبيُّ بأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، كان تنام عينه، وقلبه لا ينام. ومن ثم احترز القائل بقوله "المدرك من النائم" ولذا قال: منضبطة في التخيل, لأن الرائي لا يرى في منامه إلا من نوع ما يدركه في اليقظة بحسه، إلا أنَّ التخيلات قد تركب له في النوم تركيبًا تحصل به صورة لا عهد له بها، يكون علمًا على أمرٍ نادر

كمن رأى رأس إنسان على جسد فرس له جناحان مثلًا، وأشار بقوله "أعلاما" إلى الرؤيا الصحيحة المنتظمة الواقعة على شروطها. وأما الحديث الذي أخرجه الحاكم والعقيليّ من رواية محمد بن عَجلان عن ابن عمر قال: لقي عمر عليًا فقال: يا أبا الحسن، الرجل يرى الرؤيا فمنها ما يصدق ومنها ما يكذب، قال: نعم. سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، يقول: "ما من عبد ولا أمة ينام فيمتلىء نومًا إلا تخرج روحه إلى العرش، فالذي لا يستيقظ دون العرش، فتلك الرؤيا التي تصدق، والذي يستيقظ دون العرش، فتلك الرؤيا التي تكذب". فقد قال الذهبي: أنه حديث منكر. وقال الحكيم الترمِذِيّ: وكل الله بالرؤيا ملكًا أطلعه على أحوال بني آدم من اللوح المحفوظ، فينسخ منها، ويضرب لكل على قصته مثلًا، فإذا نام مثل له تلك الأشياء على طريق الحكمة، لتكون له بشرى أو نذارة أو معاتبة. والآدميّ قد تسلط عليه الشيطان لشدة العداوة بينهما، فهو يكيده بكل وجه، ويريد إفساد أموره بكل طريق، فيلْبس عليه رؤياه، إما بتغليطه فيها، وإما بغفلته عنها ثم جميع المرائي تنحصر في قسمين: الصادقة، وهي رؤيا الأنبياء ومن تبعهم من الصالحين، وقد تقع لغيرهم بِنُدور، وهي التي تقع في اليقظة على وفق ما وقعت في النوم، والأضغاث، وهي لا تنذر بشيء، وهي أنواع: الأول تلاعُب الشيطان ليحزن الرائي، كأن يرى أنه قد قطع رأسه وهو يتبعه، أو يرى أنه واقع في هول ولا يجد من ينجده، ونحو ذلك. الثاني أن يرى أن بعض الملائكة تأمره أن يفعل المحرمات مثلًا، ونحوه من المحال عقلًا. الثالث أن يرى ما تتحدث به نفسه في اليقظة أو يتمناه، فيراه كما هو في المنام، وكذا رؤية ما جرت به عادته في اليقظة، أو ما يغلب على مزاجه، ويقع عن المستقبل غالبًا، وعن الحال كثيرًا. وعن الماضي قليلًا. فإن قيل هل يجوز أن تكون رؤيته، عليه الصلاة والسلام، في المنام

مما يحدث به المرء نفسه، الذي هو من أضغاث الأحلام؟ فالجواب أن ذلك لا يصح, لأن الاجتماع بين الشيئين يقظة ومنامًا لابد له من وجود اتحاد بينهما، وحديث المرء نفسه لا يمكن أن تحصل بينه وبين النبي عليه الصلاة والسلام، مناسبةٌ تكون سببًا للاجتماع. وأيضًا النبي، عليه الصلاة والسلام، أعظم عند الله تعالى من أن تكون رؤيته من أضغاث الأحلام. هذا ما قيل في رؤيته، صلى الله تعالى عليه وسلم، في النوم، وأما رؤيته في اليقظة، فلم يرد فيها حديث صحيح ولا ضعيف. وقد أشبعنا الكلام فيها في كتابنا "مشتهى الخارف الجاني" وهو لله الحمد والمنة، مطبوع بأيدي الناس شرقًا وغربًا، فمن أراد الإِطلاع على ما قيل فيها فليراجعه. تنبيهان. الأول: في رؤيا الله تعالى في المنام، قال في "الفتح": جوز أهل التعبير رؤية الباري عَزَّ وَجَلَّ في المنام مطلقًا، ولم يجروا فيها الخلاف الذي في رؤيا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم. وأجاب بعضهم عن ذلك بأمور قابلة للتأويل في جميع وجوهها، فتارة يعبر بالسلطان، وتارة بالوالد، وتارة بالسيد، وتارة بالرئيس في أي من كان، فلما كان الوقوف على حقية ذاته ممتنعًا، وجميع من يعبر به يجوز عليهم الصدق والكذب، كانت رؤياه تحتاج إلى تعبير دائما، بخلاف النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فإذا رؤي على صفته المتفق عليها، وهو لا يجوز عليه الكذب، كانت في هذه الحالة حقًا محضًا لا يحتاج إلى تعبير. ومرّ ما قاله الغزالي والقُشَيْريّ. الثاني: في الإِلهام. قال في "الفتح": وذكر ابن أبي جَمْرَة ما ملخصه أنه يؤخذ من قوله "فإن الشيطان لا يتمثل بي" أنَّ من تمثلت صورته، صلى الله تعالى عليه وسلم، في خاطره من أرباب القلوب، وتصور له في عالم سره أنه يكلمه، أنّ ذلك يكون حقًا بل ذلك أصدق من مرأى غيرهم، لما منَّ الله به عليهم من تنوير قلوبهم. وهذا المقام الذي أشار إليه هو الإِلهام،

وهو من جملة أصناف الوحي إلى الأنبياء، ولكن لم أر في شيء من الأحاديث وصفه بما وصفت به الرؤيا، أنه جزء من النبوة. وقد قيل في الفرق بينهما أن المنام يرجع إلى قواعد مقررة، وله تأويلات مختلفة، ويقع لكل أحد، بخلاف الإلهام، فإنه لا يقع إلا للخواص، ولا يرجع إلى قاعدة يميز بها بينه وبين لمة الشيطان. وتُعُقِّب بأن أهل المعرفة بذلك ذكروا أن الخاطر الذي يكون من الحق يستقر ولا يضطرب، والذي يكون من الشيطان يضطرب ولا يستقر، فهذا إن ثبت كان فارقًا واضحًا. ومع ذلك فقد صرح الأئمة بأن الأحكام الشرعية لا تثبت بذلك. قال أبو المظْفّر بن السَّمْعَاني في "القواطع" بعد أن حكى عن أبي زيد الدَّبوسي من أئمة الحنفية: إن الإلهام ما حرك القلب لعلم يدعو إلى العمل به من غير استدلال، والذي عليه الجمهور أنه لا يجوز العلم به إلا عند فَقْدِ الحجج كلها في باب المباح، وعن بعض المبتدعة أنه حجة، واحتج بقوله تعالى {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 8] وبقوله تعالى {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل: 68] أي: ألهمها حتى عرفت مصالحها، فيؤخذ منه مثل ذلك للآدمي بطريق الأَولى، وذكر فيه ظواهر أخرى. ومنه الحديث قوله صلى الله تعالى عليه وسلم "اتقوا فراسة المؤمن". وقوله لوابصة "ما حاك في صدرك فدعْه، وإن أفتوك" فجعل شهادة قلبه حجة مقدمة على الفتوى، وقوله "قد كان في الأمم محدثون" فثبت بهذا أن الإِلهام حق، وأنه وحي باطن، وإنما حُرِمه العاصي لاستيلاء وحي الشيطان عليه. قال: وحجة أهل السنة الآياتُ الدالة على اعتبار الحجة والحث على التفكر في الآيات، والاعتبار والنظر في الأدلة، وذم الأماني والهواجس والظنون، وهي كثيرة مشهورة، وبأن الخاطر قد يكون من الله، وقد يكون من الشيطان، وقد يكون من النفس، وكل شيء احتمل أن لا يكون حقًا، لم يوصف بأنه حق.

قال: والجواب عن قوله {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 8] أن معناه عرفها طريق العلم، وهو الحجج. وأما الوحي إلى النحل فنظيره في الآدمي فيما يتعلق بالصنائع، وما فيه صلاح المعاش. وأما الفراسة فنسلمها, لكن لا نجعل شهادة القلب حجة, لأننا لا نتحقق كونها من الله أو من غيره. قال ابن السمعانيّ: إنكار الإِلهام مردود، ويجوز أن يفعل الله لعبده ما يكرمه به، ولكن التمييز بين الحق والباطل في ذلك أن كل ما استقام على الشريعة المحمدية، ولم يكن في الكتاب والسنة ما يرده، فهو مقبول، وإلا فمردود، يقع من حديث النفس ووسوسة الشيطان. ثم قال: ونحن لا ننكر أن الله يكرم عبده بزيادة نور منه يزداد به نظره، ويقوي به فكره ورأيه، وإنما ننكر أن يرجع إلى قلبه بقول لا يعرف أصله، ولا نزعم أنه حجة شرعية، وإنما هو نور يخص الله به من يشاء من عباده، فإن وافق الشرع، كان الشرع هو الحجة. ويؤخذ من هذا ما مر التنبيه عليه أن النائم لو رأى النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم، يأمره بشيء هل يجب عليه امتثاله؟ ولابد أولًا أن يعرضه على الشرع الظاهر. والثاني هو المعتمد الحق وقد استوفينا في كتابنا المذكور سابقًا الكلام على هذا المنزع، الذي هو الإِلهام، استيفاء لا يحتاج إلى زيادة. وهذا الحديث حديث جليل أخرجه البخاري عن ثمانية من الصحابة، وروي عن ثلاثين من الصحابة بأسانيد صحاح وحَسِان، وعن نحو خمسين غيرهم بأسانيد ضعيفة، وعن نحو عشرين آخرين بأسانيد ساقطة، بل تحصل من مجموع من جمع طرقه رواية مائة من الصحابة له. ونقل النووي أنه جاء عن مئتين من الصحابة، ونقل البَيْهَقيّ عن الحاكم، ووافقه، أنه جاء من رواية العشرة المشهورة. قال: وليس في الدنيا حديث أجمع العشرة على روايته غيره. والطرق عنهم موجودة فيما جمعه ابن الجَوْزِيّ في مقدمة كتاب "الموضوعات" ومن بعده، لكن الثابت

رجاله خمسة

منها في الصحاح علي والزبير، وفي الحسان طلحة وسعد وسعيد وأبو عبيدة، ومن الضعيف المتماسك طريق عثمان، وبقيتها ضعيف وساقط. رجاله خمسة: الأول موسى بن إسماعيل المِنْقَرِيّ التَّبُودَكيُّ وأبو عُوانة الوَضَّاح اليَشْكُرِيّ، مر تعريفهما في الحديث الخامس من بدء الوحي. وأبو صالح ذَكْوان السَّمَّان وأبو هريرة، مر تعريفهما في الحديث الثاني من كتاب الإِيمان. والخامس: أبو حصِين بفتح الحاء وكسر الصاد، واسمه عُثمان بن عاصم بن حَصِين الكُوفي، أحد الأئمة الأثبات، روى عن ابن عباس وابن الزبير وأبي عبد الرحمن السُّلَمي، وسُوَيْد بن غَفْلة، وخلق روى عنه مِسْعَر وشُعْبة والسُّفْيانان، وأبو عُوانة وخلق. قال العَجْليّ: كان عالمًا صاحب سنة وقال مُرَّة: كوفيّ ثقة، وكان عثمانيًا، رجلًا صالحًا، وقال في موضع: كان ثقة ثبتًا في الحديث، وهو أعلى سنًا من الأعمش، وكان عثمانيًا، وكان الذي بينه وبين الأعمش متباعدًا. وقال أبو نعيم: أبو حَصين أَسَدِيٌّ شريف، ثقة ثقة، كوفي. وقال أبو بكر بن عَيَّاش: دخلت على أبي حَصِين، وهو مختف من بني أمية، فقال: إن هؤلاء يردوني عن ديني، فوالله لا أعطيهم إياه أبدًا. وقيل: للشعبي: يا عالَم، فقال: ما أنا بعالم، ولا أخلف عالمًا، وإن أبا حصين لرجل صالح. وقال ابن عُيَينة: كان أبو حصين إذا سئل عن مسألة قال: ليس لي فيها علم، والله أعلم. وقال العسكريّ: كان يقرأ على أبي حصين في مسجد الكوفة خمسين سنة، وقال ابن مَهْديّ: أربعة من أهل الكوفة لا يختلف في حديثهم، فمن اختلف عليهم فهو مخطىء، منهم أبو حَصِين، وعده أيضًا في إثبات أهل الكوفة. وقال أحمد: كان صحيح الحديث، قيل له: أيّهما أصح حديثًا هو أو أبو إسحاق؟ قال: أبو حصين أصح حديثًا، بقلة حديثه. وكذا منصور أصح

لطائف إسناده

حديثًا من الأعمش بقلة حديثه. وذكره ابن حبان في الثقات في أتباع التابعين، وقال ابن عبد البرّ: اجمعوا على أنه ثقة حافظ. وقال وكيع: كان أبو حَصِين يقول: أنا أقرأ من الأعمش، فقال الأعمش لرجل يقرأ عليه: اهمز الحوت فهمزه، فلما كان من الغد، قرأ أبو حصين في الفجر "نون"، فهمز الحوت، فلما فرغ قال له الأعمش: يا أبا حَصين كسرت ظهر الحوت، فقذفه أبو حصين، فحلف الأعمش ليحدنه، فكلمه فيه بنو أسد فأبى، فقال: خمسون منهم ... فغضب الأعمش، وحلف أن لا يساكنهم، وتحول عنهم. وثقة ابن مُعين والنَّسائِيّ وغيرهما وكان عنده أربع مئة حديث، وكان عثمانيًا. قال أبو شهاب الخَيَّاط: سمعت أبا حَصِين يقول: إن أحدهم ليفتي في المسألة، ولو وردت على عمر لجمع لها أهل بدر. مات سنة ثمان وعشرين ومئة، وليس في الكتب أبو حَصِين، بفتح الحاء سواه. ومن عداه بضم الحاء المهملة، وكله بالصاد المهملة، إلا حُضَين بن المُنذر، فإنه بالضاد المعجمة، ولم يخرج البخاري لحُضَين بن المنذر المكنىَّ بأبي ساسان، وأما حُضير آخره راء مهملة، فهو والد أَسيد، وقد لا يشتبه. قال العراقي: حُضَين أعْجمه أبو ساسان ... وافتح أبا حَصِين أي عُثمان وقال في غرة الصباح: عثمانُ نجلُ عاصمٍ أبو حَصين ... وغيره طرًا مصغرًا يبين لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة، ورواته ما بين بصريّ وواسطيّ وكوفيّ ومدنيّ وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. أخرجه البخاريّ أيضًا في الأدب، ومسلم في مقدمته عن محمد بن عُبيدَ مقتصرًا على الجملة الأخيرة. فائدة: مما يناسب أن يذكر عند ذكر أحاديث الكذب على النبي، صلى الله عليه وسلم، من أصول الحديث بيان أصناف الواضعين، الأول: قوم زنادقة كالمُغيرة بن سعيد الكوُفي، ومحمد بن سعيد المصْلُوب أرادوا

إيقاع الشك في قلوب الناس، فرووا "أنا خاتم النبيين، لا نبي بعدي، إلا أن يشاء الله". الثاني: قوم متعصبون، منهم من تعصب لعلي بن أبي طالب، رضي الله عنه، فوضعوا فيه أحاديث، وقوم تعصبوا لمعاوية، ورووا له أشياء، وقوم تعصبوا لأبي حنيفة رضي الله عنه، قال ابن حبان: وضع الحسن بن علي بن زكرياء العدَويّ الرازيّ حديث "النظر إلى وجه عليّ عبادة". وحدث عن الثقات لعله بما يزيد على ألف حديث سوى المقلوبات. وقال الخطيب في "الكفاية" بسنده إلى المهدي قال: أقرّ عندي رجل من الزنادقة أنه وضع أربع مئة حديث، فهي تجول. وقوم وضعوا أحاديث في الترغيب والترهيب. وعن ابن الصّلاح قال: رويت عن أبي عِصْمَة نوح بن أبي مريم أنه قيل له: من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضائل القرآن سورة سورة؟ فقال: إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن، واشتغلوا بفقه أبي حنيفة، ومعاذ بن أبي إِسحاق، فوضعت هذا الحديث. وقال يحيى: نوح هذا ليس بشيء، لا يكتب حديثه. وقال مسلم وأبو حاتم والدارقطنيّ: متروك. ويعرف الموضوع بإقرار واضعه، أو ما يتنزل منزلة إقراره، أو قرينة في حال الراوي أو المروي، أو ركاكة لفظه، أو لرواية عمن لم يدركه، ولا يخفى ذلك على أهل هذا الشأن. وقيل لعبد الله بن المبارك: هذه الأحاديث الموضوعة؟ قال: يعيش لها الجهابذة. وأما جهات الوضع، فربما يكون من كلامه نفسه، أو يأخذ كلامًا من مقالات بعض الحكماء، أو كلام بعض الصحابة، فرفعه، كما روي عن أحمد بن إسماعيل السَّهميّ عن مالك عن وَهْب بن كيْسان عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خَداج إلا الإِمام" وهو في الموطأ عن وهب عن جابر من قوله، وربما أخذوا كلامًا للتابعين فزادوا فيه رجلًا فرفعوه، وقوم من المجروحين عمدوا إلى أحاديث مشهورة

عن النبي صلى الله عليه وسلم، بأسانيد معلومة معروفة، وضعوا لها غير تلك الأسانيد. وقوم عندهم غفلة إذا لقنوا تلقنوا، وقوم ضاعت كتبهم فحدثوا من حفظهم على التخمين، وقوم سمعوا مصنفات وليس عندهم، فحملهم الشَّره إلى أن حدثوا عن كتب مشتراة، ليس فيها سماع ولا مقابلة، وقوم كثيرة ليسوا من أهل هذا الشأن. سئل يحيى بن سعيد عن مالك بن دينار ومحمد بن واسع وحسَّان بن أبي سنان؛ قال: ما رأيت الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث، لأنهم يكتبون عن كل من يلقون، لا تمييز لهم. وروى الخطيب بسنده عن ربيعة الرأي، قال: من إخواننا من نرجو بركة دعائه، ولو شهد عندنا بشهادة ما قبلناها، وعن مالك: أدركت سبعين عن هذه الأساطين، وأشار إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما أخذت عنهم شيئًا. وإن أحدهم يؤمن على بيت المال لأنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن، ونزدحم على باب محمد بن مسلم الزُّهْريّ. وقد أشار العراقي إلى الموضوع بقوله: شر الضعيف الخبرُ الموضوعُ ... الكذب المختلق المصنوعُ وكيف كان لم يجيزوا ذكره ... لمن علم ما لم يُبين أمره وأكثر الجامع فيه إذ خرج ... لمطلق الضعف عُني أبا الفرج والواضعون للحديث أضربُ ... أضرهم قوم لزهد نسبوا قد وضعوها حِبّة فقبلت ... منهم ركونًا لهم ونقلت فقيض الله لها نقادها ... فبينوا بنقدهم فسادها نحو أبي عصمة إذ رأى الورى ... زعمًا نأوا عن القرآن فافترى لهم حديثًا في فضائل السور ... عن ابن عباس فبئس ما ابتكر كذا الحديث عن أبي اعترف ... راويه بالوضع، وبئس ما اقترف وكل من أودعه كتابه ... كالواحدي مخطىء صوابه وجوز الوضع على الترغيب ... قوم ابن كرَّام، وفي الترهيب

والواصفون بعضهم قد صنعا ... من عند نفسه وبعض وضعا كلام بعض الحكما في المسند ... ومنه نوع وضعه لم يقصد نحو حديث ثابتٍ من كثرت ... صلاته الحديث، وصلة سرت ويعرف الوضع بالإِقرار وما ... نزل منزلته وربما يعرف بالركة، قلت استشكلا ... الثَّبجيّ القطع بالوضع على ما اعترف الواضع إذ قد يكذب ... بلى نرده، وعنه نضرب فعلم من نظم العراقي هذا ومن غيره، أنه لا فرق في تحريم الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، بين ما كان في الأحكام وغيره، كالترغيب والترهيب، وكله حرام من أكبر الكبائر، بإجماع المسلمين المعتد بهم، خلافًا للكرَّامية، في زعمهم الباطل: أنه يجوز الوضع في الترغيب والترهيب، وتبعهم كثير من الجهلة الذين ينسبون أنفسهم إلى الزهد. وحكى إمام الحرمين عن أبيه محمد بن الجُوَينيّ، من أصحاب الشافعي، أنه كان يقول: من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم متعمدًا كفر وأريق دمه. وضعفَّه إمام الحرمين، وجعله من هفوات والده. والمشهور أن فاعله لا يكفر، إلا أن يستحله إلى آخر ما مر مستوفى قريبًا. ولكن اختلف العلماء في قبول روايته بعد ذلك إذا تاب وحسنت حالته، فقال ابن الصلاح وجماعة: لا تقبل روايته أبدًا. وقال النوويّ وجماعة بقبولها، بصحة توبته، ومن رأى حديثًا وظن أو علم أنه موضوع فهو داخل في هذا الوعيد إذا لم يبين حال رواته وضعفهم. ونظم العراقي مقلوب الإِسناد بقوله: وقسموا المقلوب قسمين إلى ... ما كان مشهورًا براوٍ أُبدلا بواحد نظيره كي يرغبا ... فيه بالإِغراب إذا ما استغربا ومنه قلبُ سندٍ لمتن ... نحو امتحانهم إِمام الفنِ في مئة لما أتى بغدادا ... فردَّها وجوّد الإِسنادا وقلب ما لم يقصد الرواة ... نحو إذا أقيمت الصلاة

حدثه في مجلس البَنَانِي ... حَجَّاجُ أعني ابن أبي عثمانِ فظنه عن ثابتٍ جريرُ ... بيَّنه حمادٌ الضريرُ وإذا روى الراوي حديثًا ضعيفًا لا يذكره بصيغة الجزم، نحو قال أو فعل أو أمر ونحو ذلك، بل يقول: رُوي عنه كذا، وجاء عنه كذا, ويُذكر أو يُحكى أو يُقال، أو بلغنا، ونحو ذلك. فإن كان صحيحًا أو حسنًا قال فيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، أو فعله، ونحو ذلك من صيغ الجزم. وقال القرطبيُّ: استجاز بعض فقهاء العراق نسبة الحكم الذي دل عليه القياس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نسبةً قولية، وحكاية فعلية، فيقول في ذلك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا. قال: ولذلك ترى كتبهم مشحونة بأحاديث موضوعة، يشهد متونها بأنها موضوعة, لأنها لا تشبه فتاوى الفقهاء، ولا يليق بجزالة كلام سيد المرسلين، فهؤلاء شملهم النهي والوعيد، ونظم العراقي صيغ الأداء في ذكر الضعيف بقوله: وإن تجد متنًا ضعيف السَّنَدِ ... فقل: ضعيف أي بهذا فاقصدي ولا تضعف مطلقًا بناء ... على الطريق إذ لعل جاء بسندٍ مُجَوَّد بل تقف ... ذاك على حكم إمام يصف بيانَ ضعفه فإنْ أطلقَه ... فالشيخ فيما بعده حقَّقه وإن ترد نقلًا لواهٍ أو لما ... يشك فيه لا بإسنادهما فأتِ بتمريض كيروى واجزمْ ... بنقل ما صحَّ كقال، فاعلم وسهلوا في غير موضع رووا ... من غير تبيين لضعف ورأوا بيانه في الحكم والعقائد ... عن ابن مهدي وغير واحد ومما يظن دخوله في النهي اللحن وشبهه، ولهذا قال العلماء رضي الله عنهم: ينبغي للراوي أن يعرف من النحو واللغة والأسماء ما يسلم من قول من لم يقل. قال الأصمعيّ: أخوف ما أخاف على طالب العلم إذ لم يعرف

النحو أن يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم "من كذب علي ... " إلخ، لأنه لم يكن يلحن، فمهما لحن الراوي، فقد كذب عليه. وكان الأوزاعي يعطي كتبه إذا كان فيها لحن لمن يصلحها، فإذا صح في روايته كلمة غير مفيدة، فله أن يسأله عنها أهل العلم ويرويها على ما يجوز فيه. روي ذلك عن أحمد وغيره قال النَّسائي، فيما حكاه القابسيّ: إذا كان اللحن شيئًا تقوله العرب، وإن كان في لغة قريش ليس بإعراب، أفأعربه؟ قال: نعم. وقد قال سيدي عبد الله في "طلعة الأنوار": قد خوّفوا اللاّحن من وعيد ... في مفتر على النبي شديد ومثله مُصَحِّفٌ واندفعا ... بالنحو والأخذ من الذي وعى فقلما سلم من تصحيف ... مقلد الصُّحُفِ ومن تحريف .... فالأخذ للحديث وغيره من بطون الكتب دون الأشياخ، لا يسلم من التصحيف والتحريف، ولله در القائل: إِذا رمت العلوم بغير شيخ ... ضللت عن الصراط المستقيم وتلتَبسِ الأُمور عليك حتى ... تكون أضل من نوم الحكيم وذلك لأنه "رأى الحبة السوداء فيها شفاء من كل داء"، فقرأه "الحية" بالمثناة التحتيه، فأخذ حية سوداء، فأكلها فقتلته، أو أعمته. والفرق بين التصحيف والتحريف، هو أن التحريف يكون بتغيير الشكل، والتصحيف بتغيير اللفظ، مثالُ التحريف تغييرُ سُليم بالضم، بِسَليم بالفتح، أو العكس. ومثال التصحيف هو أن أبا بكر الصُّولي أملى "من صام رمضان وأتبعه ستًا من شوال، فكأنما صام الدهر كله" فقال شيئًا بالشين المعجمة، والياء التحتية. ومما يستأنس به في قراءة الحديث باللحن ما في كتاب "المغيث في حكم اللحن في الحديث" ونصه: مما يستأنس به للترخص في الحديث ما أخرجه في مسند الفردوس: إذا قرأ القارىء فأخطأ أو لحن، أو كان أعجميًا، كتبه الملك كما أنزل. لكن كل ما كان في مسند الفردوس

ضعيف، والضعيف لا يحتج به في الأحكام ما لم يقو بمقو ككثرة طرقه. وفي كتاب المغيث أن القارىء له ثواب قراءته، وإن أخطأ أو لحن إذا لم يتعمد إفسادًا، ولم يقصر في التعليم، وإلا فلا يؤجر، بل يؤزر، ثم قال: ولا شك أن الحديث له حكم القرآن فمن لم يتعمد إفساد الحديث، وعجز في الوقت عن التعليم، فإن وقع منه لحن أو تصحيف أصلحته الملائكة، ورفعته. ومن العجز عن التعلم أن يشغله عن معاشه أو معاش أولاده، ومنه أيضًا أن يشق عليه التعلم. ونص القرافيّ في "فروقه" على أن الجهل الذي يشق على المكلف الاحتراز منه يعفي عنه، فمن شق عليه تعلم العربية لبلادته، أو كبر سنه أو غير ذلك، رخص له في اللحن، ومما يشهد للتسهيل في اللحن أن جماعة من أولياء الله من أكابر العارفين كانوا يلحنون في الفاتحة وغيرها في الصلاة، فقد تحصل من الأدلة أن اللحن في الحديث فيه رخصة، لكن من أراد قراءة كتب الحديث ممن لا معرفة له بالعربية، وغرضه التبرك بها في خاصة نفسه، أو يسمعها لقوم بقصد التبرك، فليقرأ في نسخة صحيحة مقابلة مضبوطة، وما اعتراه من اللحن فيها لا يؤاخذ به إن شاء الله. وأما إن كان بقصد التصدر والعلو، فلا يحل، ولهذا قال سيدي المَهديّ الفاسيّ، شارح "دلائل الخيرات": إن الأَولى للعامة ابتداء قراءة الدلائل من الأسماء، ولا يقرؤون فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لاشتماله على أحاديث، فربما لحنوا فيها. وروى عن أحمد بن حنبل جواز قراءة الحديث باللحن إذا لم يغيّر المعنى وقال سيّدي الحسن اليوسي إنه وجد الشيخ محمد الخرشي شارح "مختصر خليل" يقرأ صحيح البخاري بالجامع الأزهر، ويلحن فيه، ولذلك امتنع من إجازته له، أي للخرشي. وإذا صح في الرواية ما هو خطأ، فالجمهور على روايته على الصواب ولا يغيره في الكتاب بل يكتب في الحاشية "كذا وقع، وصوابه كذا" وهو

الصواب، وقيل: يغيره ويصلحه، روي ذلك عن الأوزاعي وابن المبارك وغيرهما. وعن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: كان أبي إذا مر به لحن فاحش غيَّره، وإن كان سهلا تركه. وعن أبي زُرعة أنه كان يقول: أنا أصلح كتابي من أصحاب الحديث إلى اليوم. وقال ابن سيرين وعبد الله بن سَنْجرة: يروى على الخطأ كما وقع، وقال عز الدين بن عبد السلام: يترك الخطأ والصواب. وإلى هذا أشار سيدي عبد الله في طلعة الأنوار بقوله: واللحن والخطأ يصلحان ... ونجل سنجرة يتركان واختير أن يبقى مع التَّضبِيْب ... وجانبًا يذكرُ ذو التصويبِ وليقرأ الصواب أولا وما ... سقط في كتابه فليرسما ومَن من آخر الروات قد سقط ... فبعد "يعني" زده من دون شطط وهذا الأخير مثاله ما فعله الخطيب، حين روى عن ابن مَهْديّ بسنده إلى عَمْرِة "قالت: -تعني عائشة- كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدني إِلي رأسه فأُرَجِّلُه" قال الخطيب: كان في كتاب ابن مهدي عن عَمْرة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم" إلخ، فألحقنا فيه عائشة، إذ لم يكن بدّ منها، وعلمنا أن المحامليّ كذلك رواه، وإنما سقط من كتاب شيخنا، وقلنا فيه يعني عن عائشة لأن ابن مهديّ لم يقل لنا ذلك، ونظم العراقي إصلاح اللحن والخطأ في قوله: وإن أتى في الأصل لحنٌ أو خطأ ... فقيل: يروى كيف جاء غلطا ومذهب المحصلين يصلح ... ويقرأ الصواب، وهو الأرجح في اللحن لا يختلف المعنى به ... وصوّبوا الإِبقاء مع تضبيبه ويذكر الصواب جانبًا كذا ... عن أكثر الشيوخِ نقْلًا أخِذا والبدء بالصواب أوْلى وأَسدّ ... وأصلح الإِصلاح من متن ورد وليأتِ في الأصل بما لا يكثر ... "كابن" وحرف حيث لا يغير والسَّقْطُ يدرى إن من فوق أتى ... به يزاد بعد "يعني" مثبتًا وصححوا استدراك ما درس في ... كتابه من غيره أن يعرف

باب كتابة العلم

صحته من بعض متن أو سند ... كذا إذا أثبته من يعتمد وحسنوا البيان كالمستشكل ... كلمة في أصله فليسأل وإنما أطلت في هذا لشدة الاحتياج إليه. ثم قال المصنف. باب كتابة العلم طريقة البخاري في الأحكام التي يقع فيها الاختلاف أن لا يجزم فيها بشيء، بل يوردها على الاحتمال، وهذه الترجمة من ذلك, لأن السلف اختلفوا في ذلك عملًا وتركًا، وإن كان الأمر استمر والاجماع انعقد على جواز كتابة العلم، بل على استحبابه، بل لا يبعد وجوبه على من خشي النسيان ممن يتعين عليه تبليغ العلم.

كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري تأليف الامام المحدث العلامة الشيخ محمد الخضر الجكينى الشنقيطي (المتوفى سنة 1354هـ) الجزء الرابع مؤسسة الرسالة

بسم الله الرحمن الرحيم

كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1415هـ - 1995م مؤسسة الرسالة بيروت - شارع سوريا - بناية صمدي وصالحة هاتف: 603243 - 815112 - صَ. بَ: 7460 - برقيًا: بيُوشرَان

الحديث الثالث والخمسون

الحديث الثالث والخمسون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ أَبِى جُحَيْفَةَ قَالَ: قُلْتُ لِعَلِيٍّ: هَلْ عِنْدَكُمْ كِتَابٌ؟ قَالَ: لاَ، إِلاَّ كِتَابُ اللَّهِ، أَوْ فَهْمٌ أُعْطِيَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ، أَوْ مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ. قَالَ: قُلْتُ: فَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ قَالَ: الْعَقْلُ، وَفَكَاكُ الأَسِيرِ، وَلاَ يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ. قوله: "هل عندكم" الخطاب لعلي، والجمع إما لإِرادته مع بقية أهل البيت، أو للتعظيم. وقوله: "كتاب" أي مكتوب، أخذتموه عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، مما أُوحيَ إليه، ويدل على ذلك رواية المصنف في الجهاد "هل عندكم شيء من الوحي" وله في الديات "هلِ عندكم شيء مما ليس في القرآن". وفي مسند ابن راهَوَيه "هل علمت شيئاً من الوحي"؟ وقد سأله قيس بن عبادة والأشتر النَّخعيّ عن هذه المسألة كما في مسند النَّسائي، وإنما سألوه عن ذلك, لأن جماعة من الشيعة يزعمون أن عند أهل البيت، لاسيما عليًا، أشياء خصهم النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم بها, لم يطلع عليها غيرهم. وقوله: "إلا كتابُ الله" هو بالرفع بدل من المستثنى منه. وقوله: "أو فَهمٌ أعطيه رجل مسلم" فهم بالرفع عطف على كتاب، وأُعطيه بصيغة المجهول، نائبه رجل مسلم، والإِعطاء يكون من فحوى الكلام، ويدركه من باطن المعاني التي هي غير الظاهر من نصه، ومراتب الناس متفاوتة في ذلك، ويفهم منه جواز استخراج العالم من القرآن بفهمه ما لم يكن منقولًا عن المفسرين، إذا وافق أصول الشريعة، وقال ابن المنير: فيه دليل على أنه كانت عنده أشياء مكتوبة من الفقه المستنبط من كتاب الله، وهي المراد بقوله: "أو فهم أُعطيه رجل" والمراد بذكر الفهم إثبات إمكان الزيادة على

ما في الكتاب، أي إن أعطى الله رجلًا فهمًا في كتابه، فهو يقدر على الاستنباط، فتحصل عنده الزيادة بذلك الاعتبار. وقوله: "أو ما في هذه الصحيفة" هي الورقة المكتوبة، وكانت معلقة بقبضة سيفه, إما احتياطًا أو استحضارًا، أو لكونه منفردًا بسماع ذلك وللنسائيّ "فأخرج كتابًا من قِراب سيفه". وقوله: قلت "وما في هذه الصحيفة": وفي رواية وللكُشْمَيْهنيّ "فما" وكلاهما للعطف، أي: أيُّ شيء. وقوله: "العَقْلُ" أي الدِّية، وإنما سميت به لأنهم كانوا يعطون الإِبل فيها ويربطونها بفناء دار المقتول بالعقال، وهو الحبل، ووقع في رواية ابن ماجه بدل العقل "الديات"، والمراد أحكامها ومقاديرها وأصنافها وأسنانها. وقوله: "وفِكاك الأسير" بفتح الفاء ويجوز كسرها، وهو ما يحصل به خَلاصه. وقوله "ولا يُقتل مسلم بكافر" بضم اللام على الرفع، وللكُشْمَيْهنيّ "وأنْ لا يقتل" بالنصب، وعطفت الجملة على المفرد لأن التقدير فيها أي الصحيفة، حكم العقل، وحكم تحريم قتل المسلم بالكافر، فالخبر محذوف، وحينئذ فهو عطف جملة على جملة، وتحريم القصاص من المسلم بالكافر وهو مذهب الجمهور، إلا أنه يلزم في قول المالكية في قاطع الطريق ومن في معناه إذا قتل غيلة أن يقتل ولو كان المقتول ذميًّا استثناء هذه الصورة من منع قتل المسلم بالكافر، وهي لا تستثنى في الحقيقة لأن فيه معنى آخر، وهو الفساد في الأرض. وخالفت الحنفية الجمهور، فقالوا: يقتل المسلم بالذمي إذا قتله بغير استحقاق، ولا يقتل بالمستأمن. وعن الشعبيّ والنّخعي: يقتل باليهودي والنصراني دون المجوسي. واحتجت الحنفية بما أخرجه الدارقطنيّ عن ابن عمر قال: قتل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مسلمًا بكافر. وقال: "أنا أولى من وفى بذمته". قال الدارقطني: فيه إبراهيم بن أبي يحيى، وهو ضعيف، ومدار هذا الحديث على ابن البَيْلمانيّ. وقد قال

الدارقطني: ابن البَيْلَمانيّ ضعفه جماعة، ووثق، فلا يحتج بما انفرد به إذا وصل، فكيف إذا أرسل؟ فكيف إذا خالف؟ وقال البيهقيّ: هذا الحديث منقطع، وراويه غير ثقة. وقال أبو عبيد: بمثل هذا السند لا تسفك دماء المسلمين. وذكر الشافعي في الأم أن في حديث عبد الرحمن بن البيلماني أن ذلك كان في قصة المستأمن الذي قتله عمرو بن أميّة، قال: فعلى هذا لو ثبت، لكان منسوخًا, لأن حديث "لا يقتل مسلم بكافر" خطب به النبي عليه الصلاة والسلام، يوم الفتح، كما في رواية عمرو بن شُعيب. وقصة عمرو بن أمُيَّة متقدمة على ذلك بزمانْ. واحتجوا، أيضًا، بما أخرجه أبو داوود عن قيس بن عبّاد وعن علي بلفظ: "لا يقتل مسلم بكافر، ولا ذو عهد في عهده". ووجه استدلالهم به هو أنهم جعلوا معنى الحديث "ولا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده" أي بكافر أيضًا، قالين: إن الذي لا يقتل به ذو العهد من الكفار هو الحربي خاصة دون المعاهد والذميُّ، فيجب أن يكون الذي لا يقتل به المسلم هو الحربي تسويةً بين المعطوف والمعطوف عليه، وما فسروا به الحديث غير متعين، فمعنى الحديث على ما أبداه الشافعيّ هو أن النبي عليه الصلاة والسلام، لما أعلمهم أن لا قَوْد بينهم ويين الكفار، أعلمهم أن دماء أهل الذمة والعهد محرمة عليهم بغير حق، فقال: "لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده" فمعنى الحديث: لا يقتل مسلم بكافر قصاصًا، ولا يقتل من له عهد ما دام عهده باقيًا وهذا معنى صحيح غير محتاج إلى تقدير. والأصل عدم التقدير، والمشاركة بين المعطوف والمعطوف عليه لا تطلب من كل وجه، بل تكفي المشاركة في أصل النفي، كقول القائل: مررت بزيد منطلقًا وعمرو، فإنه لا يوجب أن يكون "بعمرو منطلقًا" أيضًا، بل بالمشاركة في أصل المرور. ويؤيد هذا التأويل أن خطبة الفتح كانت بسبب القتيل الذي قتله الخزاعيّ، وكان له عهد، فخطب النبيُّ صلى الله تعالى عليه وسلم،

وقال: "لو قتلف مسلمًا بكافر لقتلته به" وقال "لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده" فأشار بالحكم الأول إلى ترك اقتصاصه من الخزاعي بالمعاهد الذي قتله، وبالحكم الثاني إلى النهي عن الإِقدام على ما فعله القاتل المذكور. وقال ابن السَّمعانيّ: وأما حملهم الحديث على المستأمن, فلا يصح لأن العبرة بعموم اللفظ، حتى يقوم دليل على التخصيص، ومن حيث المعنى إن الحكم الذي يبنى في الشرع على الإِسلام والكفر، إنما هو لشرف الإِسلام أو لنقص الكفر، أو لهما جميعًا، فإن الإِسلام ينبوع الكرامة، والكفر ينبوع الهوان. وأيضًا إباحة دم الذمي شبهة قائمةٌ لوجود الكفر المبيح للدم، والذمة إنما هي عهد عارض منع القتل مع بقاء العلة، فمن الوفاء بالعهد أن لا يقتل المسلمُ ذميًا، فإن اتفق القتل لم يتجه القول بالقود, لأن الشبهة المبيحة لقتله موجودة، ومع بقاء الشبهة لا يتجه القود. وذكر أبو عُبيدَ بسند صحيح، عن زُفَر أنه رجع عن قول أصحابه، فأسند عن عبد الواحد بن زياد قال: قلت لزُفَر: إنكم تقولون تُدرأ الحدود بالشبهات، فجئتم إلى أعظم الشبهات، فأقدمتم عليها، المسلم يقتل بالكافر! قال: فاشهد علي أني رجعت عن هذا، وذكر ابن العربيّ أن بعض الحنفية سأل الشاشي عن دليل ترك قتل المسلم بالكافر، وأراد أن يستدل بالعموم، فيقول: أخصّه بالحربيّ، فعدل الشاشي، عن ذلك، وقال دليلي السنة والتعليل لأن ذكر الصفة في الحكم يقتضي التعليل، فمعنى لا يقتل المسلم بالكافر، تفضيل المسلم بالإِسلام فَأَسكته. ومما احتجوا به قطعُ المسلم بسرقة مال الذمي، قالوا: والنفس أعظم حرمة، وأجاب ابن بَطّال بأنه قياس حسَن لولا النص، وأجاب غيره بأن القطع حق لله، ومن ثم لو أعيدت السرقة بعينها لم يسقط الحد، ولو عفا. والقتل بخلاف ذلك، وأيضًا القصاص يشعر بالمساواة، ولا مساواة للكافر والمسلم. والقطع لا تشترط فيه المساواة.

رجاله سبعة

وفي هذا الحديث رواية للمصنف ومسلم عن عليّ قال: "ما عندنا شيء نقرؤه إلا كتاب الله وهذه الصحيفة" فإذا فيها "المدينة حرم" .. الحديث. ولمسلم عن أبي الطُّفيل عن علي ما خصنا رسول الله، صلى الله تعالى عليه وسلم، بشيء لم يعم به الناس كافةً، إلا ما في قراب سيفي هذا، وأخرج صحيفة مكتوبًا فيها "لعن الله من ذبح لغير الله" .. الحديث. وللنَّسائيّ من طريق الأشتر وغيره، عن علي "فإذا فيها المؤمنون تتكافأ دماؤهم يسعى بذمتهم أدناهم" .. الحديث. ولأحمد من طريق طارق بن شهاب: فيها فرائض الصدقة. والجمع بين هذه الأحاديث أن الصحيفة كانت واحدة، وكان جميع ذلك مكتوبًا فيها، فنقل كل واحد من الرواة عنه ما حفظه. وقد بين ذلك قتادةُ في روايته لهذا الحديث عن أبي حَسّان عن عليّ، وبين أيضًا السبب في سؤالهم لعلي، رضي الله تعالى عنه. أخرجه أحمد والبَيْهقِيّ في الدلائل عن أبي حَسّان "أن عليا كان يأمر بالأمر فيقال: قد فعلناه، فيقول: صدق الله ورسوله" فقال له الأشتر: هذا الذي تقول أهو شيء عهده إليك رسول الله صلى الله عليه تعالى عليه وسلم خاصة دون الناس؟ فذكره بطوله. رجاله سبعة: الأول محمد بن سَلاَم البِيْكَنْدِيّ، مر تعريفه في الحديث الثالث عشر من كتاب الإِيمان، وفي السند سفيان يحتمل أن يكون ابن عُيينة، وقد مر تعريفه في الحديث الأول من بدء الوحي، ويحتمل أن يكون الثَّوْريّ وقد مر في الحديث الثامن والعشرين من كتاب الإِيمان، ومر تعريف الشعبيّ عامر بن شراحيل في الحديث الثالث من كتاب الإِيمان أيضًا، ومرّ تعريف علي، رضي الله عنه، في الحديث السابع والأربعين من كتاب العلم وفي السند مُطَرِّف، وهو مطرف بضم الميم، على وزن اسم الفاعل، ابن طريف بفتح الطاء، أبو بكَر، أو أبو عبد الرحمن، الكوفيّ الحارثيّ، نسبة إلى الحارث بن كعب بن عمرو،

ويقال الخارِفيّ، بالخاء المعجمة وبالفاء، نسبة إلى خارف بن عبد الله روى عن الشعبي وأبي إسحاق السَّبِيعيّ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، والحَكَم بن عُتيبة، وخلق. وروى عنهُ أبو عُوانة وهُشَيم وأبو جعفر الرازيّ والسفيانان وخلق كثير. وثَّقه أحمد وأبو حاتم، وقال أبو داود: قلت لأحمد: أي أصحاب الشعبيّ أحب إليك؟ قال: ليس عندي فيهم مثل إسماعيل بن أبي خالد. قلت: ثمّ من؟ قال: مُطَرَّف. وقال الشافعي: ما كان ابن عُيينة بأحد أشد إعجابًا منه بمُطرف وقال ابن عُيينة: قال مُطَرِّف: ما يسرني أني كذبت كذبة وأن لي الدنيا وما فيها. وقال داود بن علية: ما أعلم عربيًا ولا عجميًا أفضل من مُطَرِّف بن طَرِيف. وقال: العِجْليّ صالح الكتاب ثقة، ثبت في الحديث، ما يذكر عنه إلا الخير في المذهب. وقال ابن أبي شيبة: ثقة صدوق وليس بثبت. وقال يعقوب بن أبي شيبة: ثقة ثبت. وقال سفيان: حدثنا مُطْرِف، وكان ثقة. وقال أبو داود: بيَان فوق مُطَرِّف، ومُطَرِّف ثقة، وابن أبي السَّفْر دونه. مات سنة ثلاث وثلاثين ومئة. وقيل سنة اثنتين وأربعين. وأما وكيع فهو ابن الجَرَّاح بن مُليَح بن عَدِيّ بن الفَرس بن حُمَحَمة، وقيل غيره. أصله من قرية من قرى نَيْسابور، الرؤاسيّ الكوفيّ من قيس عيلان. روى عن الأعمش وهشام بن عُروة، وجرير بن حازم، وإسماعيل بن أبي خالد، وخلق لا يحصى، وروى عنه أبناؤه سفيان ومُليح وعبيد ومُسْتَمليه محمد بن أبان البَلْخيَّ وشيخه سفيان الثَّوريّ، وعبد الرحمن بن مَهْدِيّ، وأحمد وعلي، ويحيى، وخلق لا يحصى. قال القَعْنَبِيّ: كنا عند حماد بن زيد، فجاء وكيع فقالوا: هذا راوية سفيان، فقال: حماد؟ ولو شئت قلت: هذا أرجح من سفيان. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه: ما رأيت أوعى للعلم من وكيع، ولا أحفظ منه. قال: وسمعت أبي يقول: كان مطبوع الحفظ. وكان وكيع حافظًا وكان أحفظ من عبد الرحمن بن مَهْدِيّ كثيرًا كثيرًا. وقال صالح بن أحمد:

قلت لأبي أيهما أثبت عندك وكيع أو يزيد؟ قال: ما منهما، بحمد الله تعالى، إلا ثَبْت، قلت: فأيهما أصلح؟ قال: ما منهما إلا صالح، إلا أن وكيعاً لم يتلطخ بالسلطان، وما رأيت أحدًا أوعى للعلم منه، ولا أشبه بأهل السنة منه. وقال محمد بن عامر المَصِّيْص: سألت أحمد: وكيع أحب إليك أو يحيى بن سعيد قال: وكيع. قلت: لِمَ؟ قال: كان وكيع صديقًا لحفص ابن غِيَاث، فلما ولي القضاء هجره، وكان يحيى بن سعيد صديقا لمعاذ بن معاذ، فلما ولي القضاء لم يهجره. وقال الدُّوريّ: ذاكرت أحمد بحديث فقال: من حدثك؟ قلت: شبابة. قال: لكن حدثني من لم تر عيناك مثله، وكيع. وقيل لأحمد: إن أبا قَتادة يتكلم في وكيع. قال: من كذب بأهل الصدق فهو الكذّاب. وقال، أيضًا: ما رأيت مثل وكيع في الحفظ والإِسناد والأبواب، مع خشوع وورع، وقد عرض عليه القضاء فامتنع منه، وكان يذاكر في الفقه فيحسن، ولا يتكلم في أحد، وقال، أيضًا: وكيع أكبر في القلب وابن مهدي إمام، وقال أيضا: كان وكيع إمام المسلمين في وقته، وقال أيضًا حين سئل عن يحيى بن سعيد وابن مَهْدي ووكيع وأبي نعيم فقال: ما رأيت أحفظ من وكيع، وكفاك بعبد الرحمن معرفة وإتقانًا، وما رأيت أوزن لقوم من غير محاباة ولا أشد ثبتًا في الرجال من يحيى. وأبو نعيم أقل الأربعة خطأ. وقال أيضًا: ما رأيت بالبصرة مثل يحيى، وبعده عبد الرحمن، وعبد الرحمن أفقه الرجلين. قيل له: فوكيع وأبو نعيم؟ قال: أبو نعيم أعلم بالشيوخ وأساميهم، ووكيع أفقه. وسئل: إذا اختلف وكيع وعبد الرحمن بمن نأخذ؟ قال: عبد الرحمن موافق، ويسلَّم عليه السلف، ويجتنب شرب النبيذ، وقال: عليكم بمصنفات وكيع. وقال أيضًا: المثبت عندنا بالعراق وكيع ويحيى وعبد الرحمن. وذُكر ذلك لابن مُعين فقال: الثبت عندنا بالعراق وكيع: وقال ابن معين: ما رأيتُ أفضلَ من وكيع. فقيل

له: فابن المبارك؟ قال: قد كان له فضل، ولكن ما رأيت أفضل من وكيع، كان يستقبل القبلة، ويحفظ حديثه، ويقوم الليل، ويسرد الصوم، ويفتي بقول أبي حنيفة. وقال أيضًا: والله ما رأيتُ أحدًا يحدث لله تعالى إلا وكيعًا والقعنبيّ. وقال أحمد بن سيّار: قدم وكيع مكة، فانجفل الناس إليه، وحج تلك السنة غير واحد من العلماء، وكان ممن قدم عبد الرّزاق، فخرج ونظر إلى مجلسه، فلم ير أحدا، فاغتم، ثم خرج فلقي رجلًا فقال: ما للناس؟ قال له: قدم وكيع. قال: الحمد لله تعالى. وقال: ظننت أن الناس تركوا حديثي. وأما أبو أسامة، فلما خرج ولم ير أحدًا وسمع بوكيع، قال: هوِ التِّنِّين لا يقع مكانًا إلا أحرق ما حوله. وقال ابن مُعين أيضًا: ما رأيت أحداً يحدث لله تعالى غير وكيع، وما رأيت أحفظ منه ووكيع في زمانه كالأوزاعي في زمانه. وقال أيضًا: ما رأيت من يحدث لله تعالى إلا ستة أو سبعة ديّانة: ابن المبارك، وحسين الجُعْفيّ، ووكيع، وسعيد بن عامر، وأبو داود الحفريّ، والقعنبيّ. وقال أيضًا: وكيع أثبت من عبد الرحمن بن مهديّ في سفيان. قال: ورأيت يحيى يميل إلى وكيع ميلًا شديدًا، فقلت له: إذا اختلف وكيع وأبو معاوية في الأعمش؟ قال: يكون موقوفًا حتى يجىء من يتابع أحدهما، قلت: فحفص؟ قال: من يحدث عنه؟ قلت: ابنه، فكأنه لم يقنع بهذا، وقال: إنما كانت الرحلة إلى وكيع في زمانه. وقال أيضًا: ثقات الناس أربعة وكيع ويعلي بن عُبيد والقَعْنبيّ وأحمد بن حنبل. وقال أيضًا: ما رأيت أحفظ من وكيع. قيل له: ولا هُشيم؟ قال: وأين يقع حديث هُشيم من حديث وكيع؟ وقال: قلت لابن مَعين: أبو معاوية أحب إليك في الأعمش أو وكيع؟ قال: أبو معاوية أعلم به، ووكيع ثقة. قال: وقلت له: عبد الرحمن أحب إليك في سفيان أم وكيع؟ قال: وكيع. قلت: فأبو نعيم؟ قال: وكيع. قلت: فابن المبارك أم وكيع؟ فلم يفضل، وقال أيضًا: رأيت عند مروان لوحًا مكتوبًا فيه أسماء شيوخ فلان كذا، وفلان كذا، ووكيع

رافضيّ. قال يحيى: قلت له: وكيع خيرٌ منك. قال: مني؟ قلت: نعم، فسكت. وقال ابن سعد: كان ثقة مأمونًا عاليًا رفيع القدر كثير الحديث حجة، وقال العَجْلي: كوفيُّ ثقةٌ عابدٌ صالح أديب، من حفاظ الحديث، وكان يفتي، وقال ابن حبان في الثقات: كان حافظًا متقنًا. وقال يحيى بن يحيى: لم أر من الرجال أحفظ منه. وقال ابن نُميَر: وكيع أعلم بالحديث من ابن إدريس، ولكن ليس هو مثله، وكانوا إذا رأوا وكيعًا سكتوا. وقال ابن عمار ما كان بالكوفة في زمان وكيع أفقه منه، ولا أعلم بالحديث. كان جهبذًا. قال ابن عمار: قلت له: عدوا عليك أربعة أحاديث بالبصرة غلطت فيها. قال: حدثتهم بعبادان بنحو من ألف وخمس مئة وأربعة ليس بكثير في ألف وخمس مئة. وقال ابن عمّار: قال لنا أبو نعيم: ما دام هذا يعني وكيعًا حيًا لا يفلح أحد معه وقال ابن عمّار أيضًا: كان سفيان يدعو وكيعًا وهو غلام، فيقول له: أي شيء سمعته؟ فيقول: حدثني فلان كذا، قال وسفيان يتبسم ويتعجب من حفظه. وقال الغلاني: كنا بعبادان فقال لي حماد بن سَعْدة أحب أن تجيء معي إلى وكيع، فجئناه، فلما خرجنا، قال لي حماد: قد رأيت الثَّوري، فما كان مثل هذا. وقال: أتيت الأعمش فقلت له: حدثني، فقال: ما اسمك؟ قلت: وكيع، قال: اسم نبيلٌ ما أحسبه إلاَّ يكون له نبأ. والرؤاسيّ في نسبه نسبة إلى رُؤاس أبي حَيّ من عامر بن صعْصَعة، واسمه رؤاس الحارث، وعَقِبه ثلاثة: بجاد وبجيد وعبيد، أولاده لصلبه، ومنهم حُميد بن عبد الرحمن بن حُميد الرؤاسيون، محدثون. وقال أبو هشام الرفاعيّ: دخلت المسجد الحرام، فإذا عُبيد الله بن موسى يحدث، والناس حوله كثير، قال: فطفت أسبوعًا، ثم جئت، فإذا عبيد الله قاعد وحده، فقلت: ما هذا؟ قال: قدم التِّنِّين فأخذهم، يعني وكيعًا.

وقال نوح بن حبيب القَوْمَسيّ: رأيت الثَّوريّ ومعمرًا ومالكًا، فما رأت عيناي مثل وكيع. وقال علي بن خَشْرم: رأيت وكيعًا وما رأيت بيده كتابًا قط، إنما هو يحفظ، فسألته عن دواء الحفظ، فقال: ترك المعاصي ما جربت مثله للحفظ، وقال هارون الحمّال: ما رأيت أخشع من وكيع، وكذا قال مروان بن محمد، وزاد: وما وصف لي أحد إلا رأيته دون الصفة، إلا وكيع فإني رأيته فوق ما وصف لي. وقال ابن عمار: أخبرت عن شريك أن رجلًا ادعى عنده على آخر بمئة ألف دينار، فأقر، فقال: أما إنه لو أنكر لم أقبل عليه شهادة أحد بالكوفة إلا شهادة وكيع وعبد الله بن نُمير، وقال جرير: جاءني ابن المبارك فقلت له: من دخل الكوفة اليوم؟ قال: رجَلُ المصرين وكيع. وقال يحيى بن أكتم: صحبت وكيعًا في الحضر والسفر، فكان يصوم الدهر، ويختم كل ليلة، وقال سلَم بن جُنَادة: جالست وكيعًا سبع سنين، فما رأيته بَزَق ولا مَسَّ حصاةً، ولا تحرك من مجلسه إلا مستقبل القبلة، وما رأيته يحلف بالله العظيم. وقال معاوية الهَمْدانِيّ: كان وكيع يؤتى بطعامه ولباسه، ولا يسأل عن شيء، ولا يطلب شيئًا. وقال إبراهيم بن شَمّاس: كنت أتمنى عقل ابن المبارك، وورعه وزهد فُضيل ورقته وعبادة وكيع وحفظه وخشوع عيسى بن يونس، وصبر حُسين بن علي الجُعْفيّ. وقال إسحاق بن راهَوية: كان حفظه طبعًا، وحفظنا تكلفًا. وقال أبو داود كان أبوه على بيت المال، فكان إذا روى عنه قرنه بآخر، ومناقبه أكثر من أن تحصى، مات سنة ست وتسعين في طريق الحج. وأما أبو جُحيْفَة، بالجيم مصغرًا، فهو وهْب بن عبد الله السُّوائِي، سماه عليّ، رضي الله عنه، وهب الخير، وكان يكرمه ويحبه ويثق به، وجعله على بيت المال بالكوفة، وشهد معه مشاهده كلها، ونزل الكوفة وتوفي بها سنة اثنتين وسبعين. روى له الجماعة، وكان من صغار

لطائف إسناده

الصحابة، قيل: إنه توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو لم يبلغ الحلم. روي عنه أنه قال: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أكلت ثريدة بُرٍّ بلحم، وأنا أتجشَّأ، فقال: "اكفف أو احبس عليك جُشَاءك أبا جُحيفة، فإن أكثر الناس شبعًا في الدنيا أطولهم جوعًا يوم القيامة" فما أكل بعد ذلك ملء بطنه حتى فارق الدنيا. كان إذا تعشى لا يتغذى، وإذا تغذى لا يتعشى. وروي أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الحسن بن علي يشبهه، وأمر لنا بثلاثة عشر قلوصًا، فمات قبل أن نقبضها. وروي له عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خمسة وأربعون حديثًا اتفقا على حديثين، وانفرد البخاريُّ بحديثين، ومسلم بثلاثة. وروى عن علي وعن البراء بن عازب، وروى عنه ابن عَوْن وسلَمة بن كُهَيل والشَّعْبي والسَّبيعيّ وغيرهم. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة والإِخبار، ورواته كلهم كوفيون إلا شيخ البخاريّ. وقد دخل فيها، ورواية صحابيّ عن صحابيّ وفيه حدثنا محمد بن سلام، وفي رواية الأصيليّ: حدثنا ابن سلام. وفيه عن الشعبي، وفي المصنف في الديات "سمعتُ الشعبي". وفيه عن أبي جُحَيفة وفي رواية البخاري في الديات "سمعت أبا جحيفة"، وقد صرح باسمهِ الإِسماعيلي في رواية أخرجها المؤلف هنا، وفي الجهاد والديات، والتِّرمِذِيّ في الديات، وقال: حسن صحيح، والنَّسائي في القْود، وابن ماجةَ في الديات.

الحديث الرابع والخمسون

الحديث الرابع والخمسون حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ خُزَاعَةَ قَتَلُوا رَجُلاً مِنْ بَنِي لَيْثٍ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ بِقَتِيلٍ مِنْهُمْ قَتَلُوهُ، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَرَكِبَ رَاحِلَتَهُ، فَخَطَبَ فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْقَتْلَ -أَوِ الْفِيلَ شَكَّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ- وَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَالْمُؤْمِنِينَ، أَلاَ وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي، وَلاَ تَحِلُّ لأَحَدٍ بَعْدِي، أَلاَ وَإِنَّهَا حَلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، أَلاَ وَإِنَّهَا سَاعَتِي هَذِهِ حَرَامٌ، لاَ يُخْتَلَى شَوْكُهَا، وَلاَ يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلاَ تُلْتَقَطُ سَاقِطَتُهَا إِلاَّ لِمُنْشِدٍ، فَمَنْ قُتِلَ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ إِمَّا أَنْ يُعْقَلَ، وَإِمَّا أَنْ يُقَادَ أَهْلُ الْقَتِيلِ". فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ: اكْتُبْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: "اكْتُبُوا لأَبِى فُلاَنٍ". فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ: إِلاَّ الإِذْخِرَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّا نَجْعَلُهُ فِي بُيُوتِنَا وَقُبُورِنَا. فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِلاَّ الإِذْخِرَ، إِلاَّ الإِذْخِرَ". قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: يُقَالُ يُقَادُ بِالْقَافِ. فَقِيلَ لأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَيُّ شَيْءٍ كَتَبَ لَهُ؟ قَالَ: كَتَبَ لَهُ هَذِهِ الْخُطْبَةَ. قوله: إن خُزاعة أي القبيلة المشهورة، وهم بنو كعب بن عمرو ابن لُحيّ، بضم اللام مصغر، قيل: إن أصلهم من سبأ، قال ابن الكلبيّ: لما تفرق أهل سبأ بسبب سيل العرم، نزل بنو مازن على ماء يقال له غسان، فمن أقام منهم فهو غسانيّ، وانخزعت منهم بنو عمرو بن لُحىِّ عن قومهم، فنزلوا مكة وما حولها، فسُموا خزاعة، وتفرقت سائر الأَزْد وفي ذلك يقول حسان بن ثابت: ولما نزلنا بطنَ مُرّ تخزعتْ ... خُزاعة عنا في جُموعٍ كراكرٍ وفي الحديث أن عمرو بن لُحَيّ أبا خزاعة، هو ابن قَمَعة بفتح القاف

والميم، أو بكسر القاف وفتح الميم مشددة، ابن خِنْدَف، بكسر الخاء وسكون النون، وفتح الدال، وهي امرأة إلياس بن مُضر، واسمها ليلى بنت حُلْوان بن عِمران بن الحاف بن قضاعة، لقبت بخندف لمشيتها، والخَنْدفَة الهرولة، واشتهر بنوها بالنسبة إليها دون أبيهم, لأن إلياس لما مات حزنت عليه حزنًا شديدًا، بحيث هجرت أهلها ودارها، وساحت في الأرض حتى ماتت، فكان من رأى أولادها الصغار يقول: من هؤلاء؟ فيقال: بنو خندف، إشارة إلى أنها ضيعتهم، فعلى هذا، فخزاعة من مُضَر، وهو الصحيح وجمع بعضهم بين القولين -أعني نسبة خزاعة إلى اليمن وإلى مضر- فزُعم أن حارثة بن عمرو بن عامر بن ماء السماء جد عمرو بن لحُيّ، لما مات قمعة بن خندف، كانت امرأته حاملًا بلُحَيّ، فولدته وهي عند حارثة، فتبناه فنسب إليه، فعلى هذا فهو من مضر بالولادة، ومن اليمن بالتبني. وقال ابن الكلبيّ: إن سبب قيام عمرو بن لحيّ بأمر الكعبة ومكة أن أمه فُهَيْرة بنت عمرو بن الحارث بن مُضاض الجُرْهُمِيّ، وكان أبوها آخر من ولي أمر مكة من جُرْهُم، فقام بأمر البيت سبطه عمرو بن لُحِيّ، فصار ذلك في خزاعة بعد جرهم، ووقع بينهم في ذلك حرب إلى أن انجلت جُرْهم عن مكة، ثم تولت خُزاعة أمر البيت ثلاث مئة سنة، إلى أن كان آخرهم يدعى أبا غبشان، بضم المعجمة وسكون الموحدة، وهو خال قُصَيّ بن كلاب، أخو أمه حُبّى بضم الحاء المهملة، وتشديد الموحدة مع الإِمالة، وكان في عقله شيء، فخدعه قصي، فاشترى منه أمر البيت بأذواد من الإِبل، ويقال بزقَّ خمر، فغلب حينئذٍ على أمر البيت، وجمع بطون بني فهر، وحارب خزاعة حتى أخرجهم من مكة، وفيه يقول الشاعر: أبوكم قُصَيُّ كان يدعى مُجمِّعًا ... به جمّع الله القبائل من فِهْرِ وقوله "إن خزاعة" المراد به واحد منهم، فأطلق عليه اسم القبيلة مجازًا، وقوله "قتلوا رجلًا من بني ليث عام فتح مكة. بقتيل منهم قتلوه" وفي رواية "ثم إنكم معشر خزاعة قتلتم هذا الرجل من هُذَيل، وإني عاقله" وبنو ليث

قبيلة كبيرة ينسبون إلى ليث بن بكر بن كنانة، وهُذَيل قبيلة كبيرة أيضًا، ينسبون إلى هُذيل، وهم بنو مُدْرِكه بن إلياس، وكان بين خزاعة وبين بني بكر في الجاهلية عداوة ظاهرة، وكانت خزاعة حلفاء بني هاشم إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وكان بنو بكر حلفاء قريش واسم الرجل القاتل منِ خزاعة خراش بن أُميّة، والمقتول منهم في الجاهلية اسمه أُحْمَر وقيل مُنَبِّه وذكر ابن هشام أن المقتول من بني ليث اسمه جُنْدب بن الأدلَع وفي مغازي ابن إسحاق أنه الذي قتله حِراش بن أمية -الغدَ من الفتح- ابن الأَثْوَع الهُذَليّ، فلعله كان هذليًا حالف بني ليث أو بالعكس، ولعل الأثوع تغيير من الأدلع، وفي فوائد أبي علي أن الخُزَاعيَّ القاتل هلالُ بن أُميّة فإن ثبت، فلعل هلالًا لَقبُ خِراشٍ. وقوله "إن الله حبس عن مكة القتل" أي منعه منها، وهو بالقاف والمثناة من فوق، وقوله "أو الفيل" أي بالفاء المكسورة بعدها ياء تحتانية، والمراد بحبس الفيل، أهل الفيل، وأشار بذلك إلى القصة المشهورة للحبشة في غزوهم مكة، ومعهم الفيل، فمنعها الله منهم، وسلط عليهم الطير الأبابيل، كما في القرآن، مع كون أهل مكة إذ ذاك كانوا كفارًا، فحرمة أهلها بعد الإِسلام آكد، لكن غزو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مخصوص به على ظاهر هذا الحديث. وقد استوفينا جميع مباحثه في حديث أبي شُريح في باب "ليبلغ الشاهد الغائب" ما عدا قوله "ولا تلتقط ساقطتها إلا لمنشد" إلى آخره. وقوله كذا، قال أبو نعيم، أراد البخاريّ إن الشك من شيخه، وإن غيره يقول الفيل بالفاء بلا شك، والمراد بالغير من رواه عن شيبان رفيقًا لأبي نعيم، وهو عبيد الله بن موسى، ومن رواه عن يحيى رفيقًا لشيبان، وهو حرب بن شداد كما يأتي في الديات وقوله: "وسلط عليهم رسول الله والمؤمنون" بضم سين سلط، مبنيُّ للمجهول، ورسول نائبه، والمؤمنون معطوف عليه وقوله "ولا تحل لأحد بعدي" للكشْمَيْهنيّ "ولم تحل"، وللمصنف في اللقُّطة "ولن تحل" وهي أليق بالمستقبل، وقوله "لا يختلى"

بالخاء المعجمة، أي لا يُحْصد يقال: اختليته: إذا قطعته، ومر ما في قطع الشوك من الخلاف في الحديث السابق. وقوله "إلا لمنشد" أي مُعَرِّف، وأما الطالب، فيقال له الناشد، يقال: نشدت الضّالة: إذا طلبتها، وأنشدتها إذا عرَّفتها، وأصل الإِنشاد والنشيد رفع الصوت، والمعنى لا تحل لقطتها إلا لمن يريد أن يُعَرفها فقط، فأما من أراد أن يعرِّفها ثم يتملكها، فلا. واستدل بالحديث على أن لُقطة مكة لا تلتقط للتمليك، بل للتعريف خاصة، وإنما اختصت بذلك عندهم لإِمكان إيصالها إلى ربها, لأنها إن كانت للمكيّ فظاهر، وإن كانت للآفاقيّ فلا يخلو أفق غالبًا من وارد إليها، فإذا عرّفها واجدها في كل سنة سهل التوصل إلى معرفة صاحبها. قاله ابن بطّال. وقال أكثر المالكية وبعض الشافعية: هي كغيرها من البلاد، وإنما تختص مكة بالمبالغة في التعريف, لأن الحاج يرجع إلى بلده وقد لا يعود، فاحتاج الملتقط بها إلى المبالغة في التعريف، واحتج ابن المنير لمذهبه بظاهر الاستثناء, لأنه نفى الحل واستثنى المنشد، فدل على أن الحل ثابت للمنشد, لأن الاستثناء من النفي إثبات. قال: ويلزم على هذا أن مكة وغيرها سواء، والقياس يقتضي تخصيصها. والجواب أن التخصيص إذا وافق الغالب لم يكن له مفهوم، والغالب أن لقطة مكة ييأس ملتقطها من صاحبها، وصاحبها من وجدانها, لتفرق الخَلْق إلى الآفاق البعيدة، فربما داخل الملتقط الطمع في تملكها من أول وهلة، فلا يعرّفها، فنهى الشارع عن ذلك، وأمر أن لا يأخذها إلا من يُعَرِّفها. وفارقت في ذلك لقطة العَسْكر ببلاد الحرب بعد تفرقهم، فإنها لا تعرف في غيرهم باتفاق، بخلاف لقطة مكة، فيشرع تعريفها, لإِمكان عود أهل أُفق صاحب اللقطة إلى مكة، فيحصل التوصل إلى معرفة صاحبها. وقال إسحاق بن راهْوَيه: قوله "إلا لمنشد" أي لمن سمع ناشدًا يقول: من رأى لي كذا، فحينئذ يجوز لواجد اللقطة أن يعرفها ليردها على

صاحبها، وهو أضيق من قول الجمهور, لأنه قيدها بحالة للمعرف دون حالة. وقيل: المراد بالمنشد الطالب، حكاه أبو عُبَيْد، وتُعُقِّب بأنه وإن ورد في اللغة، كما حكاه الحربيّ أيضًا وعياض، لا يصح أن يفسر به الحديث هنا. ويكفي في رد ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عباس "لا يلتقط لقطتها إلا مُعَرِّف" والحديث يفسر بعضه بعضًا. واستدل به أيضًا على أن لقطة عَرَفة والمدينة النبوية كسائر البلاد، لاختصاص مكة بذلك. وحكى الماوَرْديّ في "الحاوي" وجهًا في عرفة أنها تلتحق بحكم مكة, لأنها تجمع الحاج كمكة، ولم يرجح شيئًا، وليس الوجه المذكور في الروضة ولا في أصلها. واستدل به على تعريف الضالة في المسجد الحرام، بخلاف غيره من المساجد، وهو أصح الوجهين عند الشافعية، قاله في الفتح، ولم أفهم وجه الاستدلال من الحديث، والحكم عندنا معاشر المالكية الكراهة مطلقًا. وقوله: "ومن قتل فهو بخير النظرين" كذا وقع هنا، وفيه حذف وقع بيانه عند المصنف في الديات عن أبي نعيم بهذا الإِسناد "فمن قتل له قتيل" ولا يمكن حمله على ظاهره لأن المقتول لا اختيار له، وإنما الاختيار لوليه، وما قاله العَيْنيُّ من أن هذا التقدير يلزم منه حذف الفاعل خطأٌ صُراح, لأن التقدير هو لفظ الحديث في نفس هذه الرواية, فلا يمكن حمل الحديث على سواه، والتقدير الذي قدره هو مع مخالفته لرواية الحديث ركيكٌ جدًا لا يلتفت إليه. وقوله في رواية الديات: "قتل له قتيل" معناه من قتل له قريب، كان حيًا فصار قتيلًا بذلك القتل، والباء في "بخير النظرين"، متعلق بمحذوف تقديره فهو مرضى بخير النظرين أو عامل أو مأمور وخير النظرين أفضلهما، ثم فسر خير النظرين بقوله: إما أن يعقل، وإما أن يقاد أهل القتيل، أي: إما أن يعطي القاتلُ، أو أولياؤه لأولياء المقتول العَقْل، أي الدية، وإما أن يقاد أي يمكن أهل القتيل من القتل، يقال: أَقَدْتُّ القاتل بالمقتولِ: اقْتَصَصْتُه منه، فالنائب عن الفاعل ضمير

يعود على المقتول المفهوم من قوله سابقًا "فمن قتل" أي: يؤخذ له القود، فالفعلان مبنيان للمجهول، أو يكون "أهل" نائب على جعل "يقاد" بمعنى "يمكن"، وهمزة إما التفصيلية مكسورة، وأن المصدرية مفتوحة. وفي رواية لمسلم "إما أن يفادي" بالفاء وزيادة ياء بعد الدال. والصواب أن الرواية على وجهين، من قالها بالقاف قال قبلها: إما أن يُعقل من العَقْل وهو الدية. ومن قالها بالفاء قال فيما قبلها: إما أن يُقْتَل بالقاف والمثناة، والحاصل في تفسير "النظرين" بالقصاص أو الدية. وفي الحديث أن ولي الدم يخير بين القصاص والدية. واختلف إذا اختار الدية، هل يجب على القاتل إجابته، فذهب الأكثر إلى ذلك. وعن مالك وأبي حنيفة والثَّوْريّ: لا يجب إلا برضى القاتل. واستدل الجمهور بأن ظاهر هذا الحديث أن المخير في القود أو أخذ الدية هو الوَليّ وقرره الخطابيّ بأن العفو في الآية في قوله تعالى {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178] إلخ يحتاج إلى بيان, لأن ظاهر القصاص أن لا تبعة لأحدهما على الآخر، لكن المعنى أن من عُفِي عنه من القصاص إلى الدية، فعلى مستحق الدية الاتباع بالمعروف، وهو المطالبة، وعلى القاتل الأداء، وهو دفع الدية بإحسان. وقد فسر ابن عباس العفو بقبول الدية في العمد، وقبول الدية راجع إلى الأولياء الذين لهم طلب القصاص، وقالوا: إنما لزمت القاتل الدية بغير رضاه, لأنه مأمور بإحياء نفسه، لعموم قوله تعالى {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] فإذا رضي أولياء المقتول بأخذ الدية لم يكن للقاتل أن يمتنع. واستدل مالك ومن وافقه بأن قوله تعالى {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ} إشارة إلى أن أخذ الدية لم يكن في بني إسرائيل، بل كان القصاص متحتمًا، وشريعة عيسى لم يكن فيها قصاص، وإنما كانت فيها الدية خاصة، فخفف الله عن هذه الأمة بمشروعية أخذ الدية إذا رضي أولياء المقتول والقاتل، وليس في شيء من الأدلة ما يدل على إكراه القاتل على

بذل الدية، فامتازت شريعة الإِسلام بأنها جمعت بين الأمرين فكانت وُسْطى لا إفراط ولا تفريط. واحتجوا أيضًا بحديث أنس في قصة قتل الربيع عمه، فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: "كتاب الله القصاص"، فإنه حكم بالقصاص ولم يخير، ولو كان الخيار للولي لأعلمهم النبي عليه الصلاة والسلام بذلك، إذ لا يجوز للحاكم أن يحكم لمن ثبت له أحد شيئين بأحدهما من قبل أن يعلمه بأن الحق له في أحدهما، فلما حكم بالقصاص وجب أن يحمل عليه قوله "فهو بخير النظرين" أي: ولي المقتول مخير بشرط أن يرضى الجاني أن يغرم الدية. وتُعُقِّبَ بأن قوله عليه الصلاة والسلام "كتاب الله القصاص" إنما وقع عند طلب أولياء المجني عليه في العمد القودُ، فاعلم أن كتاب الله نزل على أن المجني عليه إذا طلب القود أجيب إليه، وليس فيه ما ادُّعي من تأخير البيان. واحتج الطحاويّ بأنهم أجمعوا على أن الولي لو قال للقاتل: رضيت أن تعطيني كذا على أن لا أقتلك، إن القاتل لا يجبر على ذلك، ولا يؤخذ منه كرْهًا، وإن كان يجب أن يحقن دم نفسه، قلت: قد يختار أن يقتص منه ليكون ذلك كفّارة، ويكون غير معتقد أنَّ الدية برضى الأولياء مكفرة للذنب، فلا يجب عليه حينئذ حقن دمه، وقال المهلب وغيره: يستفاد من قوله "فهو بخير النظرين" أن الولي إذا سئل في العفو على مال إن شاء قبل ذلك، وإن شاء اقتص، وعلى الوالي اتباع الأولى في ذلك، وليس فيه ما يدل على إكراه القاتل على بذل الدية، واستدل به الجمهور على جواز أخذ الدية في قتل العمد، ولو كان غيلة، وهو أن يخدع شخصًا حتى يصير به إلى موضع خفي، أو يجده فيه فيقتله، خلافًا للمالكية، فألحقه مالك بالمحارب، فإن الأمر فيه إلى السلطان، وليس للأولياء العفو عنه. وهذا على أصله في أن حد المحارب القتل. إذا رآه الإِمام، وإن "أو" في الآية للتخيير لا للتنويع.

وقوله "فجاء رجلٌ من أهل اليمن، فقال: اكتب لي يا رسول الله، فقال: اكتبوا لأبي فلان" أبو فلان هو أبو شاهٍ، بهاء منونة، اليمانيُّ، جاء مسمى في اللقطة، ويأتي تعريفه في آخر الكلام على سند هذا الحديث، وفي اللقطة زيادة عن الوليد بن مسلم "قلت للأوزاعي، ما قوله: اكتبوا لي" قال: هذه الخطبة التي سمعها من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وبهذا تظهر مطابقة هذا الحديث للترجمة. وقوله: "فقال رجل من قريش إلا الإِذْخِر" الرجل هو العباس بن عبد المطلب كما جاء مسمى في اللقطة، وقد جاء معرفا في الثالث والستين من الوضوء. وقوله إلا الإِذخر هو بكسر الهمزة وسكون الذال وكسر الخاء المعجمتين، نبت معروف عند أهل مكة، طيب الريح، له أصل مندفن وقضبان دقاق، ينبت في السهل والحزْن، وبالمغرب صنف منه، والذي بمكة أجوده. ويجوز فيه الرفع والنصب. أما الرفع فعلى البدل مما قبله، وأما النصب فلكونه استثناءً واقعًا بعد النفي. وقال ابن مالك: المختار النصب، لكون الاستثناء وقع متراخيًا عن المستثنى منه، فبعدت المشاكلة بالبدلية، ولكون الاستثناء، أيضًا، عرض في آخر الكلام، ولم يكن مقصودًا، وللأصيلي "إلا الإِذْخِر" مرتين، والثانية على سبيل التأكيد. وقوله: "فإنّا نجعله في بيوتنا وقبورنا" وفي رواية المغازي فإنه لابد منه للقين والبيوت" وفي رواية في اللقطة "فإنه لصاغتنا وقبورنا" وفي مرسل مجاهد عند عمر بن شَبَّة الجمع بين الثلاثة. ووقع عنده، أيضًا، فقال العباس: يا رسول الله، إن أهل مكة لا صبر لهم عن الإِذْخِر، لقينهم وبيوتهم، وكان أهل مكة يسقفون به البيوت بين الخشب، ويسدون به الخلل بين اللبنات في القبور، ويستعملونه بدلًا من الحلفاء في الوقود، ولعل فائدته للصاغة هو أنهم يجلون به الذهب والفضة، لقول الأنطاكيّ في تذكرته: "فإنه جلاء"، ولم أر في شروح البخاري ذكرًا لما تستعمله

الصاغة له، والقَيْن، بفتح القاف وسكون التحتانية بعدها نون، الحَدَّاد. وقال الطبريّ: القين عند العرب كل ذي صناعة يعالجه بنفسه. وهذه الروايات تدل على أن الاستثناء في حديث الباب، لم يرد به أن يستثني هو وإنما أراد أن يلقن النبي، صلى الله عليه وسلم الإستثناء، وقوله عليه الصلاة والسلام في جوابه "إلا الإذْخِر" هو استثناء بعض من كل، لدخول الإدْخِر في عموم ما يُختْلَي، واستدل به على جواز النسخ قبل الفعل، وليس بواضح، وعلى جواز الفصل بين المستثنى والمستثنى منه، ومذهب الجمهور اشتراط الاتصال إما لفظًا وإما حكمًا، لجواز الفصل بالتنفس مثلًا. وقد اشتهر عن ابن عباس الجواز مطلقًا، ويمكن أن يحتج له بظاهر هذه القصة. وأجابوا عن ذلك بأن هذا الاستثناء في حكم المتصل، لاحتمال أن يكون عليه الصلاة والسلام أراد أن يقول "إلا الإذخِر" فشغله العباس بكلامه، فوصل كلامه بكلام نفسه، فقال إلا "الإذْخِر" وقد قال ابن مالك: يجوز الفصل مع إضمار الاستثناء متصلًا بالمستثنى منه. واختلفوا هل كان قوله صلى الله تعالى عليه وسلم "إلا الإذْخِر" باجتهاد أو وحي؟ وقيل: كأنّ الله فَوَض له الحكم في هذه المسألة مطلقًا. وقيل: أوحي إليه قبل ذلك أنه إن طلب أحد استثناء شيء فأجب سؤاله. وقال الطبري: ساغ للعباس أن يستثنى الإذْخِر لأنه احتمل عنده أن يكون المراد بتحريم مكة، تحريم القتال دون ما ذكر من تحريم الاختلاء، فإنه من تحريم الرسول باجتهاده، فساغ له أن يسأله استثناء الإذْخِر، وهذا مبنى على أن الرسول، عليه الصلاة والسلام، كان له أن يجتهد في الأحكام، وليس ما قاله بلازم بل تقريره، صلى الله تعالى عليه وسلم، للعباس على ذلك دليلٌ على جواز تخصيص العام. وقد مر قريبًا أن العباس لم يرد الاستثناء، وإنما أراد تلقينه عليه الصلاة والسلام، وقال ابن بَطّال عن المُهَلَّب: إن الاستثناء هنا للضرورة، كتحليل أكل الميتة عند الضرورة. وقد بين العباس ذلك بأن الإذْخِر لا غنى لأهل مكة عنه.

رجاله خمسة

وتعقبه ابن المنير بأن الذي يباح للضرورة، يشترط حصولها فيه، فلو كان الإذخر مثل الميتة لامتنع استعماله إلا فيمن تحققت ضرورته إليه والِإجماع على أنه مباح مطلقاً من غير قيد الضرورة، ويحتمل أن يكون مراد المهلب أن أصل إباحته كان للضرورة وسببها، لا أنه يريد أنه مقيد بها. قلت: هذا الاحتمال هو الظاهر المتعين، فإن المراد أن أهل مكة في ضرورة دائمًا إلى الإذْخِر، لما ذكر وما ذكر دائم لا ينقطع، وبهذا التقرير يبطل تعقب ابن المنير. ثم قال ابن المنير: والحق أن سؤال العباس كان على معنى الضراعة، وترخيص النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان تبليغًا عن الله، إما بطريق الإلهام أو الوحي. ومن ادعى أن نزول الوحي يحتاج إلى أمد متسع فقد وهم. وفي الحديث بيان خصوصية النبي، صلى الله تعالى عليه وسلم، بما ذكر في الحديث، وجواز مراجعة العالم في المصالح الشرعية والمبادرة إلى ذلك في المجامع والمشاهد، وعظيم منزلة العباس عند النبي، صلى الله تعالى عليه وسلم، وعنايته بأمر مكة لكونه كان بها. أصلُهُ ومنشؤه. وفيه أن من قتل متأولاً كان حكمه حكم من قتل خطأ في وجوب الدية، لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم "فإنّي عاقله". رجاله خمسة: الأول أبو نعيم الفضل بن دُكَين مر تعريفه في الحديث السادس والأربعين من كتاب الإيمان وفيه أبو سَلَمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عَوْف، ومر تعريفه بعد الحديث الثالث من بدء الوحي، ومر تعريف أبي هُريرة في الحديث الثاني من كتاب الإِيمان. والثاني من السند: شَيْبان بن عبد الرحمن، أبو معاوية النَّحْوِي المؤدب البصريّ، مولى بني تميم، سمع الحسن البصريّ، وعبد الملك بن عُمَير وقتادة، ويحيى بن أبي كثير، والأعمش وخلقًا، وروى عنه أبو حنيفة، وزَائدة بن قُدَامة، وهما من أقرانه، وأبو داود الطَّيالسِيّ، وشبَّابة، ومعاوية بن هشام، وغيرهم. قال العيني: إنه روى عنه علي بن الجَعْد وأبو

حنيفة، وبين وفاتيهما تسع وسبعون سنة. كان صاحب حروف وقراآت، قال أحمد: هو ثبت في كل المشايخ، وشيبان أثبت في يحيى بن أبي كثير من الأوزاعي. وقال ابن مَعين: هو أحب إلي في قتادة من معمر. وقال أيضًا: هو ثقة. صاحب كتاب. وقال أيضًا: ثقة في كل شيء ووثَّقه النَّسائِي والعَجْلِيّ وابن سعد والتِّرمْذِيّ والبَزّار. وقال عثمان بن أبي شيبة: كان معلمًا صدوقًا حسَن الحديث. وقال أحمد: هشام حافظ، وشيبان صاحب كتاب، قيل له: حَربُ بن شداد كيف هو؟ قال: لا بأس به، وشيبان أرفع. وقال السَّاجيّ: صدوق، عنده مناكير، وأحاديثه عن الأعمش تفرد بها، وكان أحمد يثني عليه. وكان ابن مَهْديّ يحدث عنه ويفخر به، وقرأت بخط الذهبيّ في "الميزان" قال أبو حاتم: صالح الحديث لا يحتج به. قال ابن حجر: وهو وَهمٌ في النقل، فالذي في كتاب ابن أبي حاتم عن أبيه: "كوفي حسن الحديث صالح، يكتب حديثه" وكذا نقل الباجيّ عنه، وكذا هو في تهذيب الكمال. وهو الصواب وأما قول السَّاجِيّ فهو معارَض بقول أحمد أنه ثبت في كل المشايخ، ومع ذلك، فليس في البخاريّ من حديثه عن الأعمش شيء لا أصلًا ولا استشهادا، نعم أخرج له أحاديث من روايته عن يحيى بن أبي كثير ومنصور بن المعتمر، وقتادة، وفراس بن يحيى، وزياد بن علاقة، وهلال الوَزّان، واعتمده الجماعة كلهم. والنَّحْوي في نسبه نسبة إلى قبيلة ولد النَّحْو بن الشَّمس بن عمرو بن غَنْم بن غالب بن عثمان بن نصر بن زهران، وليس في هذه القبيلة من يروي الحديث سواه، هو ويزيد بن أبي سعيد. وأما ما عداهما فنسبة إلى النحو، علم العربية، كأبي عمرو بن العلاء النَّحْويّ، وغيره. وليس في البخاري من اسمه شيبان غيره، وفي مسلم هو وشيبان بن فَرُّوخ، وفي أبي داود شيبان أبو حُذَيفة النَّسائيّ وليس في الكتب الستة غير ذلك. مات ببغداد ودفن في مقبرة الخَيْزران، أو في باب التِّين، سنة أربع وستين ومئة في خلافة المهدي.

والثالث من السند: يحيى بن أبي كثير، واسمه أبي كثير صالح بن المُتَوكِّل، وقيل: نشيط، وقيل دينار، مولى عليّ اليَعماميّ الطائي مولاهم، العطار، أحد الأعلام الثقات، العبّاد، روى عن أنس وجابر مرسلًا، وعن أبي سَلَمة وهِلال بن ميمونة، ومحمد بن إبراهيم التميميّ وغيرهم، روى عنه ابنه عبد الله وأيوب السَّخْتيانيّ، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، وهما من أقرانه، والأوزاعي وغيرهم، قال وهُيب عن أيوب: ما بقي على وجه الأرض مثل يحيى، وقال ابن عُيينة: قال أيوب: ما أعلم أحداً بعد الزُّهريّ أعلم بحديث أهل المدينة من يحيى، وقال القطان: سمعت شُعْبة يقول: يحيى أحسن حديثًا من الزهريّ، وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه يحيى: من أثبت الناس، إنما يعد مع الزُّهريّ، ويحيى بن سعيد، وإذا خالفه الزُّهْري فالقول قول يحيى، وقال العِجْليّ ثقة، كان يعد من أصحاب الحديث وقال أبو حاتم: يحيى إمام لا يحدث إلا عن ثقة. وذكره ابن حبّان في الثقات، وقال: كان من العُبَّاد، رأى أنسًا يصلي في المسجد الحرام رؤية لم يسمع منه، وقال يحيى القَطَّان: مرسلاته تشبه الريح؛ لأنه كان كثير الإرسال والتحديث من الصحف. قال همام: كان يسمع الحديث منا بالغداة، فيحدث به بالعشيّ، يعني: ولا يذكر من حدثه به. وقال أبو حاتم: لم يسمع من أحد من الصحابة، وقال حسين المعلِّم: قال لي يحيى بن أبي كثير: كل شيء عن أبي سَلاَم إنما هو كتاب. قال: وقلنا له: هذه المرسلات، عمن هي؟ قال: أترى أحدًا أخذ مدادًا وصحيفة يكتب على رسول الله صلى الله عليه وسلم الكذب؟ قال: فقلت له: فإذا جاء مثل ذلك، فأخبرنا. قال: إذا قلت بلغني فإنه من كتاب. مات سنة تسع وعشرين ومئة، وقيل سنة اثنتين وثلاثين بعد أيوب بسنة وليس في الكتب الستة يحيى بن أبي كثير غيره، نعم فيها يحيى بن كثير العَنْبريّ، وفي أبي داود يحيى بن كثير الباهِليّ، وفي ابن ماجه يحيى بن كثير صاحب البصريّ، وهما ضعيفان.

لطائف إسناده

والطائيّ في نسبه نسبة إلى طيّء، كسيد، أبي قبيلة من اليمن، واسمه جُلْهمَة بن أدَد بن زيد بن كَهْلان بن سبأ بن حِمْير، سمي طيئًا لإبعاده في الأرض، وجولانه في المرعى، من الطّاءَة، كالطاعة، الإبعاد في المرعى، والنسبة إليه طائيُّ على غير قياس، وقد تحذف الهمزة من طيء فيقال فيه طيّ، كحي، ينسب إلى هذه القبيلة كثير من الأجواد والشعراء والمحدثين. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة، ورواته أئمة أجلاء، وهم ما بين كوفي وبصريّ ويماني ومدنيٍّ، وفيه من رأى الصحابيَّ عن التابعيّ. أخرجه البخاريُّ هنا وفي الديات واللقطة، وأخرجه مسلم في الحج، وأبو داود والتِّرمْذيِ، وقال: حسن صحيح، والنَّسائيّ، وابن ماجَه. وفي الحديث لفظ "أبي فلان" وهو أبو شاهٍ اليمانيّ يقال: إنه كلبيّ، ويقال: إنه فارسيّ من الأبناء الذين قدموا في نصرة سيف بن ذي يَزَن، وقيل: إن هاءه أصلية وهو بالفارسية معناه الملِك. ومن ظن أنه باسم أحد الشياه فقد وهم، له ذكر في الصحيحين في هذا الحديث.

الحديث الخامس والخمسون

الحديث الخامس والخمسون حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو فَقَالَ أَخْبَرَنِي وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ عَنْ أَخِيهِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ مَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَحَدٌ أَكْثَرَ حَدِيثًا عَنْهُ مِنِّي، إِلاَّ مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلاَ أَكْتُبُ. تَابَعَهُ مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ. قوله: "أحد" بالرفع اسم ما النافية، وقوله "أكثر" بالنصب خبرها، وفي رواية أبي ذَرٍ "أكثر" بالرفع فأعربها العيني وغيره صفة أحد، ويكون الخبر حينئذ الجار والمجرور المتقدم، وتعقبه الدّمامينيُّ فقال: إن هذا يقتضي أن ما عاملة، واحد الشروط متخلف، وهو تأخير الخبر، واغتفارهم لتقدم الظرف دائمًا إنما هو إذا كان معمولاً للخبر، لا خبرًا، وأما نصب أكثر فيحتمل أيضًا أن يكون حالًا من الضمير المستكنّ في الظرف المتقدم على بحث فيه، فتأمله. قال: والذي يظهر أن "ما" هذه مهملة غير عاملة عمل ليس، وأن أحد مبتدأ. وأكثر صفته و"من أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم" خبره. وقوله: "حديثًا" بالنصب على التمييز، وقوله: "فإنه كان يكتب ولا أكتب" هذا استدلال من أبي هريرة على ما ذكره من أكثرية ما عند عبد الله ابن عمرو بن العاص على ما عنده، ويستفاد من ذلك أن أبا هُريرة كان جازمًا بأنه ليس في الصحابة أكثر حديثًا عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم منه إلا عبد الله، مع أن الموجود المرويّ عن عبد الله بن عمرو أقل من الموجود المروي عن أبي هريرة بأضعاف مضاعفة، ويعارض هذا الحديث ما أخرجه ابن وهب من طريق الحسن بن عمرو بن أمية قال: تحدث عند أبي

هريرة بحديث، فأخذ بيدي إلى بيته، فأرانا كتبًا من حديث النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وقال: هذا هو مكتوب عندي. قال ابن عبد البر: حديث همام أصح ويمكن الجمع بأنه لم يكن يكتب في العهد النبويّ، ثم كتب بعده. وأقوى من هذا أنه لا يلزم من وجود الحديث مكتوبًا عنده أن يكون بخطه، وقد ثبت أنه لم يكن يكتب. فتعين أن المكتوب عنده لم يكن بخطه، والاستثناء في الحديث إن قيل إنه منقطع فلا إشكال إذ التقدير لكن الذي كان من عبد الله، وهو الكتابة، لم يكن مني سواء لزم منه كونه أكثر حديثًا، لما تقتضيه العادة، أم لا، وإن قيل إنه متصل، فالسبب في كثرة حديث أبي هريرة عنه مع ذلك من جهات. أحدها: أن عبد الله كان مشتغلًا بالعبادة أكثر من اشتغاله بالتعليم، فقلت الرواية عنه. ثانيها: أنه كان أكثر مقامه بعد فتوح الأمصار بمصر أو بالطائف ولم تكن الرحلة إليهما ممن يطلب العلم كالرحلة إلى المدينة، وكان أبو هريرة متصديًا فيها للفتوى والتحديث إلى أن مات، ويظهر هذا من كثرة من حمل عن أبي هريرة، فقد ذكر البخاري أنه روى عنه ثمان مئة نفس من التابعين. ولم يقع هذا لغيره. ثالثها: ما اختص به أبو هريرة من دعوة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم له بأن لا ينسى، كما سيأتي قريبا. رابعها: أن عبد الله كان قد ظفر في الشام يحمل جمل من كتب أهل الكتاب، فكان ينظر فيها ويحدث منها، فتجنبّ الأخذ عنه لذلك كثيرٌ من التابعين. خامسها: أن يقال تحمل أكثرية عبد الله بن عمرو على ما فاز به من الكتابة قبل الدعاء لأبي هريرة لأنه قال الذي حديثه "فما نسيت شيئًا بعد" فجاز أن يدخل عليه النسيان فيما سمعه قبل الدعاء، بخلاف عبد الله فإن الذي سمعه مضبوط بالكتابة.

رجاله ستة

ويستفاد من هذا الحديث ومن حديث علي المتقدم ومن قصة أبي شاهٍ أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، أذن في كتابة الحديث عنه. وهو يعارض حديث أبي سعيد الخدري " أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: لا تكتبوا عني شيئًا غير القرآن" رواه مسلم. والجمع بينهما أن النهي خاص بوقت نزول القرآن خشية التباسه بغيره، والإذن في غير ذلك أو أن النهي خاص بكتابة غير القرآن مع القرآن في شيء واحد، والإذن في تفريقها، أو النهي فتقدم والإذن ناسخ له عند الأمن من الالتباس، وهو أقربها مع أنه لا ينافيها. وقيل: النهي خاص بمن خشي منه الاتكال على الكتابة دون الحفظ، والإذن لمن أمن منه ذلك. ومنهم من أعل حديث أبي سعيد. وقال: الصوابُ وقفه على أبي سعيد. قاله البخاريّ وغيره. قال العلماء: كره جماعة من الصحابة والتابعين كتابة الحديث، واستحبوا أن يؤخذ عنهم حفظًا كما أخذوه حفظًا، لكن لما قصرت الهمم، وخشي الأئمة ضياع العلم، دونوه، وأول من دون الحديث ابن شهاب الزُّهْريّ على رأس المئة بأمر عمر بن عبد العزيز، ثم كثر التدوين، ثم التصنيف، وحصل بذلك خير كثير. قال هنا في "الفتح": وقد مر في باب "كيف يقبض العلم" أن أول تدوين الحديث كتب عمر بن عبد العزيز بذلك إلى أبي بكر بن حزم. يجمع بينهما بما ذكر هناك مما أخرجه أبو نعيم أن عمر كتب بذلك إلى الآفاق، فيكون كتب لكل من ابن شهاب وأبي بكر بذلك. رجاله ستة: الأول علي بن عبد الله المدينيّ، وقد مر تعريفه في الحديث الرابع عشر من كتاب العلم، الثاني سفيان بن عُيينة، وقد مر أيضًا تعريفه في الحديث الأول من بدء الوحي. الثالث: عمرو بن دينار، المكيّ أبو محمد الأثرم، الجُمَحِيّ، مولاهم، أحد الأعلام روى عن العبادلة الأربعة، وأبي هريرة، وجابر بن عبد الله، وأبي الطفيل والسائب بن يزيد، والحسن بن محمد بن علي بن

أبي طالب، ووهب بن مُنَبه وخلق. وروى عنه قتادة، ومات قبله، وأيوب بن جُرَيج، وجعفر الصادق ومالك، وشعبة، والحمّادان، والسفيانان، وخلق كثير. قال أحمد بن حنبل: كان شعبة لا يقدم على عمرو بن دينار أحدًا، لا الحكم ولا غيره يعني في التَّثَبُّت. وقال ابن أبي نَجِيح: ما كان عندنا أحدًا أفقه ولا أعلم من عمرو بن دينار، زاد غيره: لا عطاء ولا مجاهد ولا طاووس. وقال القطان: عمرو بن دينار أثبت عندي من قتادة، فذكر ذلك لأحمد، فذكر مثله. وقال أحمد أيضًا: عمرو أثبت الناس في عطاء وقال النَّسائيّ: ثقة ثبت، وقال أبو زرعة وأبو حاتم: ثقة. وقال سفيان لمِسْعَر من رأيت أشد إتقانًا للحديث؟ قال: عمرو بن دينار، والقاسم بن عبد الرحمن. وقال ابن عُيينة: حدثنا عمرو بن دينار، وكان ثقة ثقة ثقة، وحديث أسمعه من عمرو أحب إلى من عشرين حديثًا من غيره. ومرض عمرو فعاده الزُّهري، فلما قام الزُّهْرِيّ قال: ما رأيت شيخاً أنصَّ للحديث الجيد من هذا الشيخ. وقال ابن عُيينة وعمرو بن جرير: كان ثقة ثبتًا، كثير الحديث صدوقًا عالمًا، وكان مفتي أهل مكة في زمانه. وذكره ابن حِبّان في الثقات، مات سنة ست وعشرين ومئة، وقد جاوز السبعين، والجُمَحِيّ في نسبه نسبة إلى جُمَح بن عمر بن هُصَيْص بن كعب بن لُؤَي بن غالب بن فهو. الرابع: وهب بن مُنبه، بضم الميم وفتح النون وكسر الباء الموحدة المشددة، ابن كامل بن سِيْج، بفتح السين المهملة، وقيل بكسرها وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره جيم، وقيل الشين معجمة، ابن ذي كنار، وهو الأسوار الصنعانيّ اليمانيّ الأبناويّ الذَّمَارِيّ، روى عن العبادلة ما عدا ابن الزبير، وعن أبي هريرة، وأبي سعيد وجابر، وأنس وعمرو بن شُعيب، وأخيه همام بن مُنّبه. وروى عنه ابناه عبد الله وعبد الرحمن، وابنا أخيه عبد الصمد، وعقيل بن مَعْقِل بن منبه. قال ابن حنبل: كان من أبناء فارس، وقال العِجْليّ: تابعي ثقة، وكان

على قضاء صنعاء. وثَّقه النَّسائي وأبو زرعة، وذكره ابن حِبّان في الثقات. وكان وهب بن منبه يختلف إلى هَراة، ويتفقد أمرها. وجاء من وجهين ضعيفين عن عُبادة بن الصّامت مرفوعًا: "سيكون رجلان في أمتي أحدهما يقال له وهبٌ يؤتيه الله تعالى الحكمة، والَاخر يقال له غَيْلان هو أضر على أمتي من إبليس". وقال المثنّى بن الصَّبَاح: لبث وهب بن منبه أربعين سنة لم يسب شيئًا فيه الروح، ولبث عشرين سنة لم يجعل بين العشاء والصبح وضوءًا. وقال أحمد بن حنبل عن عبد الرزاق عن أبيه: حج عامة الفقهاء سنة مئة، فحج وهب، فلما وصلوا أتاه نفر فيهم العطاء والحسن، وهم يريدون أن يذاكروه القدر، قال: فأمعن في باب من الحمد، فمازال فيه حتى طلع الفجر، فافترقوا ولم يسألوه عن شيء. قال أحمد: كان يتهم بشيء من القدر؛ ثم رجع، وقال حماد بن سلمة عن أبي سفيان: سمعت وهب بن مُنّبه يقول: كنت أقول بالقدر حتى قرأت بضعة وسبعين كتابًا من كتب الأنبياء في كلها "من جعل إلى نفسه شيئًا من المشيئة فقد كفر" فتركت قولي. وقال الجُوْزجَانيّ: كان وهب كتب كتابًا في القدر، ثم حدثت أنه ندم عليه. وقال ابن عيينة عن عمرو بن دينار: دخلت على وهب بن منبه داره بصنعاء، فاطعمني جوزًا من جوزة في داره، فقلت له: وددت أنك لم تكن كتبت في القدر، فقال: أنا والله وددت. ولد سنة أربع وثلاثين في خلافة عثمان، ومات سنة عشر ومئة، وقيل: إن يوسف بن عمر ضربه حتى مات. روى له البخاري هذا الحديث الواحد عن أخيه. والأبْنَاويّ في نسبه نسبة إلى أبناء، بباء موحدة ثم نون، وهم كل من ولد من أبناء الفرس الذين وجههم كسرى مع سيف بن ذي يزن. الخامس: همّام بن مُنبِّه، ومر تعريفه في الحديث السادس والثلاثين من كتاب الإيمان.

لطائف إسناده

السادس: أبو هريرة، ومرَّ تعريفه في الحديث الثاني من كتاب الإِيمان. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة والإخبار بصيغة الإفراد والسماع. ووهب لم يرو له البخاري غير هذا الحديث، وفيه ثلاثة من التابعين في طبقة متقاربة أولهم عمرو. وأخرجه البخاري هنا ليس إلا، وهو من إفراده عن مسلم، وأخرجه التِّرْمِذيُّ في العلم والمناقب، وقال: حسن صحيح. وأخرجه النَّسائيّ في العلم. ثم قال: تابعه معمر عن همام عن أبي هريرة، يعني أن ابن راشد معمرًا تابع وَهْب بن منبه في روايته لهذا الحديث عن همّام. والمتابعة المذكورة أخرجها عبد الرزاق عن معمر، وأخرجها أبو بكر بن علي المَرْوَزِيّ في كتاب العلم له عن حجّاج بن الشاعر عنه، وروى أحمد والبيهقي في "المدخل" عن عمرو بن شُعيب عن مُجاهد والمُغيرة بن حكيم قالا: سمعنا أبا هريرة يقول: ما كان أحد أعلم بحديث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو. فإنه كان يكتب ويعي بقلبه، وكنت أعي ولا أكتب. واستأذن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، في الكتابة عنه، فأذِن له. إسناده حسن. وله طرق أخر، ولا يلزم أن يكونا في الوعي سواء، لما مر من اختصاص أبي هريرة بالدعاء بعدم النسيان، ومعمر بن راشد قد مر تعريفه في متابعة بعد الحديث الثالث من بدء الوحي، وهمام مر تعريفه في الحديث السادس والثلاثين من كتاب الإيمان. وأبو هريرة مر تعريفه في الحديث الثاني من كتاب الإيمان.

قال عياض: وردت آثار تدل على معرفته حروف الخط وحسن تصويرها، كقوله لكاتبه: "ضع القلم على أذنك، فإنه أذكر لك" وقوله لمعاوية: "أَلق الدواة، وحَرّف القلم، وأَقِم الباء، وفرّق السين، ولا تُعَوّر الميم" وقوله "لا تمدّ بسم الله" قال: وهذا، وإن لم يثبت أنه كتب، فلا يبعد أن يرزق علم وضع الكتابة، فإنه أوتي علم كل شيء. وأجاب الجمهور بضعف هذه الأحاديث، وعن قصة الحديبية بأن القصة واحدة والكاتب فيها علي. وقد صرح في حديث المُسَوَّر بأن عليًا هو الذي كتب، فيحمل على أن النكتة في قوله "فأخذ الكتاب وليس يحسن يكتب" لبيان أن قوله "أرني إياها" أنه ما احتاج أن يريه موضع الكلمة التي امتنع علي من محوها إلا لكونه كان لا يحسن الكتابة، وعلى أن قوله بعد ذلك "فكتب" فيه حذف تقديره "فمحاها فأعادها لعليّ فكتب". وبهذا جزم ابن التين، أو أطلق "كتب" بمعنى "أمر بالكتابة" وهو كثير، كقوله "كتب إلى قيصر"، "وكتب إلى كسرى" وعلى تقدير حمله على ظاهره، فلا يلزم من كتابة اسمه الشريف في ذلك اليوم، وهو لا يحسن الكتابة، أن يصير عالمًا بالكتابة. ويخرج عن كونه أميًا، فإن كثيرًا ممن لا يحسن الكتابة يعرف تصور بعض الكلمات، ويحسن وضعها بيده، وخصوصًا الأسماء، ولا يخرج بذلك عن كونه أميًا، ككثير من الملوك. ويحتمل أن يكون جرت يده بالكتابة حينئذ، وهو لا يحسنها فخرج المكتوب على وفق المراد، فيكون معجزة أخرى في ذلك الوقت خاصة، ولا يخرج بذلك عن كونه أميًا، وبهذا أجاب أبو جعفر السَّمْناني أحد أئمة الأصول من الأشاعرة، وتبعه ابن الجَوْزِيّ. وتعقب ذلك السُّهَيليّ وغيره بأنَّ هذا وإن كان ممكنًا ويكون آية أخرى، لكنه يناقض كونه أميًا لا يكتب، وهو الآية التي قامت بها الحجة، وأفحم الجاحد، وانحسمت الشبهة، فلو جاز أن يكتب بعد ذلك، لعادت الشبهة، وقال المعاند: كان يحسن يكتب، لكنه كان يكتم ذلك. قلت: هذا القول بعد تقرر الإِسلام ورسوخه في القلوب، وقوته وصيرورته

بالسيف، لا يؤثر ولا يضر. قال السُّهَيليّ: والمعجزات يستحيل أن يدفع بعضها بعضًا، والحق أن معنى قوله "فكتب" أي: أمر عليا أن يكتب. وفي دعوى أن كتابة اسمه الشريف على هذه الصورة تستلزم مناقضة المعجزة، وتثبت كونه غير أمي نظر كبير. وقوله "كتابًا" بعد قوله "بكتاب" فيه الجناس التام بين الكلمتين، وإن كانت إحداهما بالحقيقة والأخرى بالمجاز. وقوله "لا تضلّوا بعده" هو نفى وحذفت النون منه لأنه بدل من جواب الأمر من غير حرف العطف جائز. وقوله: "فقال عمر غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا" أي اشتد عليه فيشق عليه إملاء الكتاب، أو مباشرة الكتابة على ما مر من الاحتمالين، وكان عمر رضي الله تعالى عنه، فهم من ذلك أنه يقتضي التطويل. قال القُرطبيّ وغيره: "ائتوني" أمر، وكان حق المأمور أن يبادر للامتثال، لكن ظهر لعمر، رضي الله تعالى عنه، مع طائفة أنه ليس للوجوب، وأنه من باب الإرشاد إلى الأصلح، فكرهوا أن يكلفوه من ذلك ما يشق عليه في تلك الحالة مع استحضارهم قول الله تعالى {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] وقوله تعالى {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] ولهذا قال عمر "حسبنا كتاب الله". ودل أمره لهم بالقيام على أن أمره الأول كان على الاختيار، ولهذا عاش صلى الله تعالى عليه وسلم، بعد ذلك أياما ولم يعاود أمرهم بذلك. ولو كان واجبًا لم يتركه لاختلافهم؛ لأنه لم يترك التبليغ لمخالفة من خالف. وكان الصحابة يراجعونه في بعض الأمور ما لم يجزم بالأمر، فإذا عزم امتثلوا. قال المازَريّ: إنما جاز للصحابة الاختلاف في هذا الكتاب مع صريع أمره لهم بذلك؛ لأن الأوامر قد يقارنها ما ينقلها عن الوجوب، فكأنه ظهرت منه قرينة دلت على أن الأمر ليس على التحتم، بل على الاختيار، فاختلف اجتهادهم، وصمم عمر على الامتناع لما قام عنده من القرائن، بأنه عليه الصلاة والسلام، قال ذلك من غير قصد جازم، وعزمه

الحديث السادس والخمسون

الحديث السادس والخمسون حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا اشْتَدَّ بِالنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَجَعُهُ قَالَ: "ائْتُونِي بِكِتَابٍ أَكْتُبُ لَكُمْ، كِتَابًا لاَ تَضِلُّوا بَعْدَهُ". قَالَ عُمَرُ: إِنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- غَلَبَهُ الْوَجَعُ وَعِنْدَنَا كِتَابُ اللَّهِ حَسْبُنَا فَاخْتَلَفُوا وَكَثُرَ اللَّغَطُ. قَالَ: "قُومُوا عَنِّي، وَلاَ يَنْبَغِي عِنْدِي التَّنَازُعُ". فَخَرَجَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَبَيْنَ كِتَابِهِ. قوله: "لما اشتد وجعه" أي قوي وجعه في مرض موته كما سيأتي، وفي رواية في المغازي: "لما حضرت النبيَّ، صلى الله تعالى عليه وسلم، الوفاة، وفيها من حديث سعيد بن جُبير أن ذلك كان يوم الخميس، قبل موته صلى الله تعالى عليه وسلم، بأربعة أيام. وقوله "بكتاب" أي بأدوات الكتاب، كالقلم والدَّواة، ففيه مجاز الحذف، أو أراد بالكتاب ما من شأنه أن يكتب فيه، كالكاغد وعَظم الكتف؛ لأنهم كانوا يكتبون فيها. وقد صرح بذلك في رواية لمسلم، قال "ائتوني بالكتف والدواة". وقوله: "أكتب" هو بالجزم جواب الأمر، ويجوز الرفعُ على الاستئناف. وفيه مجاز أيضًا، أي: أمر بالكتابة. وفي مسند أحمد من حديث عليّ أنه المأمور بذلك، ولفظه "أمرني النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، أن آتي بطبق يكتب ما لا تضل أمته من بعده". قلت: هذا كحديث المتن، ليس فيه التصريح بأن عليًا هو المأمور بالكتابة، لقوله فيه "يكتب" ويحتمل أن يكون على ظاهره من كونه عليه الصلاة والسلام يريد أن يكتب بنفسه.

وفي كتْبه، عليه الصلاة والسلام، بيده الشريفة خلاف مشتهر بين العلماء. فقد أخرج البخاري في باب عُمرة القضاء "فأخذ رسول الله، صلى الله تعالى عليه وسلم، الكتاب، وليس يحسن يكتب، فكتب: "هذا ما قاضى محمد بن عبد الله " فتمسك بظاهر هذه الرواية أبو الوليد الباجِيّ، فادعى أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، كتب بيده، بعد أن لم يكن يحسن يكتب، فشنَّع عليه علماء الأندلس في زمانه، ورموه بالزندقة، وأن الذي قاله يخالف القرآن حتى قال قائلهم: برئت ممن شرى دنيا بآخرة ... وقال إن رسول الله قد كتبا فجمعهم الأمير فاستظهر الباجي عليهم بما لديه من المعرفة، وقال للأمير: هذا لا ينافي القرآن، بل يؤخذ من مفهوم القرآن؛ لأنه قيد النفي بما قبل ورود القرآن فقال: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت: 48] وبعد أن تحققت أمنيته، وتقررت بذلك معجزته، وأمن الارتياب في ذلك، لا مانع من أن يعرف الكتابة بعد ذلك من غير تعليم، فتكون معجزة أخرى. وذكر ابن دَحْية أن جماعة من العلماء وافقوا الباجي في ذلك، منهم شيخه أبو ذَر الهَرَويّ وأبو الفتح النَّيْسابُورِيّ، وآخرون من علماء إفريقية وغيرها. واحتج بعضهم لذلك بما أخرجه ابن أبي شَيْبة، وعمر بن شَبَّة، من طريق مجاهد عن عبد الله بن عون قال: ما مات رسول الله، صلى الله تعالى عليه وسلم، حتى كتب وقرأ. قال مجاهد: فذكرته للشعبيّ فقال: صدق قد سمعت من يذكر ذلك. ومن طريق يونس بن مَيْسرة عن سَهْل بن الحَنْظَليَّة أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، أمر معاوية أن يكتب للأقرع وعُيَيَنْة، فقال عيينة: أتراني أذهب بصحيفة المتلمِّس؟ فأخذ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، الصحيفة فنظر فيها، فقال: قد كتب لك بما أمر لك. قال يونس: فنرى أن رسول الله، صلى الله تعالى عليه وسلم، كتب بعدما أُنزل إليه

صلى الله تعالى عليه وسلم، كان إما بالوحي أو بالاجتهاد، وكذلك تركه؛ إنْ كان بالوحي فبالوحي، وإلا فبالاجتهاد أيضًا. وقال النوويّ: اتفق قول العلماء على أن قول عمر "حسبنا كتاب الله" من قوة فقهه ودقيق نظره؛ لأنه خشي أن يكتب أمورًا ربما عجزوا عنها، واستحقوا العقوبة لكونها منصوصة، وأراد أن لا ينسد باب الاجتهاد على العلماء. وفي تركه، صلى الله تعالى عليه وسلم، الإنكار على عمر إشارةٌ إلى تصويبه رأيهُ، فعُلم بذلك أن المأمور به ليس مما لا يستغنون عنه، إذ لو كان من هذا القبيل لم يتركه عليه الصلاة والسلام، لأجل اختلافهم، ولا يعارض ذلك قول ابن عباس: إن الرَّزية ... الخ؛ لأن عمر كان أفقه منه قطعًا. قال الخطابي: لم يتوهم عمر الغلظ فيما كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، يريد كتابته، بل امتناعه محمول على أنه لما رأى ما هو فيه من الكرب، وحضور الموت، خشي أن يجد المنافقون سبيلًا إلى الطعن فيما يكتبه، وإلى حمله على تلك الحالة التي جرت العادة فيها بوقوع بعض ما يخالف الاتفاق، فكان ذلك سبب توقف عمر لا أنه تعمد مخالفة قول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا جوز وقوع الغلط عليه، حاشا وكلا. وقد ظهر لطائفة أخرى أن الأوْلى أن يكتب لما فيه من امتثال أمره، وما تضمنه من زيادة الإيضاح. واختلف في المراد "بالكتاب" فقيل: أراد أن يكتب كتابًا ينصّ فيه على الأحكام ليرتفع الاختلاف، وقيل: بل أراد أن ينص على أسامي الخلفاء بعده، حتى لا يقع بينهم الاختلاف، قاله سفيان بن عُيَينة، ويؤيده أنه صلى الله تعالى عليه وسلم، قال في أوائل مرضه، وهو عند عائشة: "ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب كتابًا، فإني أخاف أن يتمنى متمنٍّ، ويقول قائل، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر" أخرجه مسلم، وللمصنف معناه، والأول أظهر، لقول عمر "كتاب الله حسبنا" أي كافينا، مع أنه يشمل الوجه الثاني؛ لأنه بعض أفراده.

وقال الشيخ الطيِّب بن كيران في شرحه "لتوحيد ابن عاشر": إن هذا الذي أراد أن يكتبه هو من العلم المخير في تبليغه، الذي قال فيه: "فكنت أسر إلى أبي بكر وإلى عمر وإلى عثمان وإليك يا أبا الحسن" قال: إذ لو كان ذلك من الواجب ما تركه لأجل اختلافهم، وقد عاش بعد ذلك أياما، ولو كان مما يجب كتمانه ما همَّ بكتبه لهم. وما قاله في غاية الحسن ولم أجده لغيره وهو يشير إلى ما هو مروي في حديث الإسراء من أن الله تعالى علمه ليلة الإِسراء ثلاثة علوم: علم أمره بتبليغه للعام والخاص، وعلم أمره بكتمه، وعلم خيره فيه. وقوله "وكثر اللَّغَط" بتحريك اللام والغين المعجمة، أي الصوت والجلبة بسبب ذلك، فلما رأى ذلك، قال: "قوموا عني" وقوله "ولا ينبغي عندي التنازع" هو بالرفع فاعل ينبغي، وفيه إشعار بأن الأولى كان المبادرة إلى امتثال أمره، وإن كان ما اختاره عمر صوابًا، إذ لم يتدارك ذلك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، بعد كما مر، ولأن في بعض الروايات "وأوصاهم بثلاث: قال: أخْرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم ... إلخ"، وهذا يدل على أن الذي أراد أن يكتبه لم يكن أمرا متحتما؛ لأنه لوكان مما أمر بتبليغه، لم يكن يتركه لوقوع اختلافهم، ولعاقب الله من حال بينه وبين تبليغه، ولبلغه لهم لفظًا كما أوصاهم بإخراج المشركين وغير ذلك، وقد عاش بعد هذه المقالة أيامًا، وحفظوا عنه أشياء لفظًا، فيحتمل أن يكون مجموعها هو ما أراد أن يكتبه. قال القرطبي: واختلافهم في ذلك كاختلافهم في قوله لهم "لا يُصَلِّينَّ أحد العصر إلا في بني قريظة" فتخوف ناس فوت الوقت فصلوا، وتمسك آخرون بظاهر الأمر فلم يصلوا، فما عنَّف أحدا منهم من أجل الاجتهاد المسوغ، والمقصد الصالح. وقوله في تلك الرواية "أجيزوا الوفد" أي أعطوهم، والجائزة العطية، وقيل: أصله أن ناسًا وفدوا على بعض الملوك، وهو قائم على قنطرة، فقال: أجيزوهم، فصاروا يعطون الرجل ويطلقونه،

فيجوز على القنطرة متوجهًا، فسميت عطية من يقدم على الكبير جائزة. وتستعمل، أيضًا، في إعطاء الشاعر على مدحه ونحو ذلك. وقوله "بنحو ما كنت أجيزهم" أي بقريب منه. وكانت جائزة الواحد على عهده، صلى الله تعالى عليه وسلم، أوقية من فضة، وهي أربعون درهمًا. وقوله "فخرج ابن عباس يقول: إن الرزية" ظاهره أن ابن عباس كان معهم، وأنه في تلك الحالة خرج قائلًا هذه المقالة، وليس الأمر في الواقع على ما يقتضيه الظاهر، بل قول ابن عباس المذكور إنما كان يقوله عندما يحدث بهذا الحديث. فوجه الرواية أن ابن عباس لما حدث عبيد الله بهذا الحديث، خرج من المكان الذي كان فيه، وهو يقول ذلك. ويدل عليه رواية أبي نعيم في المستخرج، قال عُبيد الله: فسمعت ابن عباس يقول ... الخ وإنما تعين حمله على غير ظاهره؛ لأن عبيد الله تابعيّ من الطبقة الثانية، لم يدرك القصة في وقتها؛ لأنه ولد بعد النبي، صلى الله تعالى عليه وسلم، بمدة طويلة، ثم سمعها من ابن عباس بعد ذلك بمدة أخرى. وفي رواية معمر عند المصنف في الاعتصام "قال عبيد الله: فكان ابن عباس يقول: ... " وكذا لأحمد من طريق جرير بن حازم. وقوله "إن الرزية" هي بفتح الراء وكسر الزاي بعدها مثناة تحتية ثم همزة، وقد تسهل الهمزة وتشدد الياء، ومعناها المصيبة. وزاد في رواية معمر "لاختلافهم ولغطهم" أي إن الاختلاف كان سببًا لترك كتابة الكتاب. وفي الحديث دليل على جواز كتابة العلم، وعلى أن الاختلاف قد يكون سببًا في حرمان الخير، كما وقع في قصة الرجلين اللذين تخاصما فرفع تعيين ليلة القدر بسبب ذلك، وفيه وقوع الاجتهاد بحضرته، صلى الله تعالى عليه وسلم، فيما لم ينزل عليه فيه. وقد ذكر البخاريّ في هذا الباب أربعة أحاديث، فبدأ بحديث علي " أنّه كتب عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم"، وقد يطرقه احتمال أن يكون إنما كتب ذلك بعد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ولم يبلغه النهي، وثنى بحديث أبي هريرة، وفيه

رجاله ستة

الأمر بالكتابة، وهو بعد النهي، فيكون ناسخًا، وثلّث بحديث عبد الله بن عمرو، وقد مر في بعض طرقه أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أذن له في ذلك، فهو أقوى في الاستدلال للجواز من الأمران يكتبوا لأبي شاهٍ، لاحتمال اختصاص ذلك بمن يكون أُميا أو أعمى، وختم بحديث ابن عباس الدال على أنه صلى الله تعالى عليه وسلم همَّ أن يكتب لأمته كتابًا يحصل معه الأمن من الاختلاف، وهو لا يهم إلا بالحق. رجاله ستة: وقد ذكروا جميعًا ما عدا الأول يحيى بن سليمان بن يحيى ابن سعيد بن مسلم بن عبد الله بن مسلم الجُعْفيّ أبو سعيد، الكوفيّ المقري، سكن مصر، روى عن عمه عمرو بن عثمان بن سعيد، وحفْص بن غِيَاث، وعبد الله بن إدريس، وعبد الله بن وهب وغيرهم. وروى عنه البخاري. وروى التّرمْذيُّ عن أحمد بن الحسن التِّرْمِذيّ عنه، وأبو زرعة وأبو حاتم وآخرون. قال أبو حاتم: شيخ ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: ربما أغرب. وقال الدارقطنيّ: ثقة. وقال مَسْلمة بن قاسم: لا بأس به، وكان عند العقيليّ ثقة، وله أحاديث مناكير، وكان النَّسائي سىء الرأي فيه، قال: إنه ليس ثقة. قال ابن حجر: لم يكثر البخاري من تخريج حديثه، وإنما أخرج أحاديث معروفة من حديث ابن وهب. مات بمصر سنة سبع أو ثمان وثلاثين ومئتين، والجُعْفي في نسبه نسبة إلى جُعَفى وقد مر في الثاني من الإيمان. الثاني: عبد الله بن وهب المصري، مر تعريفه في الحديث الثالث عشر من كتاب العلم. الثالث يونس بن يزيد، والرابع ابن شهاب وقد مر تريفهما في الحديث الشاك من بدء الوحى، الخامس عُبيد الله بن عبد الله بن عُتْبة، مر تعريفه أيضًا في الحديث السادس من بدء الوحي، ومر ابن عباس في الحديث الخامس منه أيضًا. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع والإفراد والإِخبار

باب العلم والعظة بالليل

والعنعنة. وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، ورواته ما بين كوفيّ ومصريّ ومدنيّ، أخرجه المؤلف هنا، وفي المغازي وفي الطب وفي الاعتصام، وأخرجه مسلم في الوصايا، والنَّسائي في العلم والطب. ثم قال المصنف: باب العلم والعظة بالليل أي تعليم العلم بالليل والعظة به، وقد مر أنها الوعظ، وأراد المصنف التنبيه على أن النهي عن الحديث بعد العشاء مخصوص بما لا يكون في الخير.

الحديث السابع والخمسون

الحديث السابع والخمسون حَدَّثَنَا صَدَقَةُ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِىِّ عَنْ هِنْدٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ وَعَمْرٍو وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ هِنْدٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتِ اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ لَيْلَةٍ فَقَالَ: "سُبْحَانَ اللَّهِ مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنَ الْفِتَنِ وَمَاذَا فُتِحَ مِنَ الْخَزَائِنِ أَيْقِظُوا صَوَاحِبَاتِ الْحُجَرِ، فَرُبَّ كَاسِيَةٍ فِى الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِى الآخِرَةِ". قوله "قالت استيقظ النبي" أي تيقظ، فالسين ليست للطلب، أي انتبه. وقوله "ذات ليلة" أي في ليلة. ولفظ "ذات" زيد للتأكيد. وقيل: إن الإضافة من إضافة المسمى إلى الاسم، والتقدير قطعة ذات ليلة، أي صاحبة هذا الاسم، ثم حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه. وقوله "سبحان الله ماذا" ما استفهامية متضمنة لمعنى التعجب والتعظيم؛ لأن سبحان الله تستعمل لذلك. وقوله "أنْزِل" بضم الهمزة، وللكُشْمَيهني " أنزلَ الله" واستعمل المجاز في الإنزال والمراد به إعلام الملائكة بالأمر المقدور، أوأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أوحي إليه في نومه ذلك، بما سيقع بعده من الفتن، فعبر عنه بالإنزال. وقوله "من الفتن وماذا فتح من الخزائن" عبر عن العذاب بالفتن؛ لأنها أسبابه، وعبر عن الرحمة بالخزائن، لقوله تعالى: {خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي} [الإسراء: 100]. وقال الداودي: الثاني هو الأول، والشيء قد يعطف على نفسه تأكيدًا؛ لأن ما يُفتح من الخزائن يكون سببًا للفتنة، وكأنه فهم أن المراد بالخزائن خزائن فارس والروم وغيرهما، مما فتح على الصحابة، لكن المغايرة بين الخزائن والفتن أوضح؛ لأنهما غير متلازمين، وكم من نائل من تلك الخزائن سالم من الفتن.

وقوله "أيْقظوا صواحب الحُجَر" بصيغة الأمر، مفتوح الأول مكسور الثالث، وصواحب بالنصب على المفعولية، وجوّز الكرمانيّ "إيقَظوا" بكسر أوله وفتح ثالثه، وصواحب منادى، والحُجَر بضم الحاء وفتح الجيم، جمع حُجْرة، وهي منازل أزواج النبي، صلى الله تعالى عليه وسلم، كما هو مصرح به في بعض الروايات بلفظ "يريد أزواجه لكي يصلين"، وإنما خصهن بالإيقاظ لأنهن الحاضرات حينئذ، أو من باب إبدأ بنفسك ثم بمن تعول. وفي رواية "من يوقظ صواحب الحجرات"، ودلت رواية أيقظوا على أن المراد بقوله "من يوقظ" التحريض على إيقاظهن. وقوله "فرب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة" بزيادة الفاء في أوله، وفي رواية بحذفها، وفي رواية ابن المبارك "يارُبَّ" بزيادة حرف النداء في أوله، وفي رواية هشام "كم من كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة". وهذا يؤيد ما ذهب إليه ابن مالك من أن "ربَّ" أكثر ما ترد للتكثير: فإنه قال: أكثر النحويين أنها للتقليل، وأن معنى ما يصدر بها المضيّ، والصحيح أن معناها في الغالب التكثير، وهو مقتضى كلام سيبويه، فإنه قال في باب "كم" اعلم أن "كم" في الخبر لا تعمل إلا فيما تعمل فيه "رب" لأن المعنى واحد، إلا أن "كم" اسم "ورب" حرف، ولا خلاف. إن معنى كم الخبرية التكثير، ولم يقع في كتابه ما يعارض ذلك، فصح أن مذهبه ما ذكر، وحديث الباب شاهد لذلك، فليس مراده أن ذلك قليل، بل المتصف بذلك من النساء كثير، وهنَّ أكثر أهل النار، ولذلك لو جعلت "كم" موضع "رب" لحسن، وقد وقعت كذلك في نفس هذا الحديث، لكن الحديث إنما يدل لورودها في التكثير لا لأكثريتها فيه، وأما تصدير "رب" بحرف النداء في رواية ابن المبارك، فقيل: المنادى فيه محذوف والتقدير: يا سامعين، وقد مر في باب "رُبّ مبلغ" استيفاء الكلام على مباحث "رب". وقوله كاسية على وزن فاعلة من كسا، ولكنه بمعنى مكسوَّة كما في قول الحطيئة:

واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي قال الفراء يعني المكسو كقولك ماء دافق، وعيشة راضية؛ لأنه يقال: كُسِي العريان ولا يقال كَسَا. وقوله "عارية" قال عياض: الأكثر بالخفض على الوصف للمجرور بِرُبَّ، وقال غيره: الأولى الرفع على إضمار مبتدأ، والجملة في موضع النعت لكاسية، أي هي عارية، والفعل الذي يتعلق به "رُب" محذوف. وقال السُّهيليُّ: الأحسن الخفض على النعت، لأن "رُبَّ" حرف جر يلزم صدر الكلام. واختلف في المراد بقوله "كاسية وعارية" على أوجه أحدها كاسية في الدنيا بالثياب لوجود الغنى، عارية في الآخرة من الثواب لعدم العمل في الدنيا، ثانيها: كاسية بالثياب، لكنها شفافة لا تستر عورتها، فتعاقب في الآخرة بالعُري جزاء على ذلك. ثالثها: كاسية من نعم الله، عارية من الشكر الذي تظهر ثمرته في الآخرة بالثواب. رابعها: كاسية جسدها لكنها تشد خمارها من ورائها، فيبدو صدرها، فتصير عارية، فتعاقب في الآخرة. خامسها: كاسية من خلعة التزوج بالرجل الصالح عارية في الآخرة من العمل، فلا ينفعها صلاح زوجها، كما قال تعالى {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ} [المؤمنون: 101]، ذكر هذا الأخير الطَيْبِيّ، ورجحه لمناسبة المقام. واللفظة، وإن وردت في أزواج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، لكن العبرة بعموم اللفظ، وقد سبق لنحوه الداودي فقال: كاسية للترف في الدنيا، لكونها أهل التشريف، وعارية يوم القيامة. قال: ويحتمل أن يراد عارية في النار، وأشار صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك إلى موجب

رجاله ثمانية

استيقاظ أزواجه، أي ينبغي لهن أن لا يتغافلن عن العبادة، ويعتمدن على كونهن أزواج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم. قال ابن بطال: في هذا الحديث أن الفتوح في الخزائن تنشأ عنه فتنة المال، بأن يتنافس فيه فيقع القتال بسببه، وأن يبخل به فيمنع الحق، أو يبطر صاحبه فيسرف، فأراد صلى الله تعالى عليه وسلم تحذير أزواجه من ذلك، وكذا غيرهن ممن بلغه ذلك، وأراد بقوله "من يوقظ" بعض خدمه، كما قال يوم الخندق: "من يأتيني بخبر القوم" وأراد أصحابه، لكن هناك عرف الذي انتدب، وهنا لم يذكر. وفيه استحباب الإسراع إلى الصلاة عند خشية الشر، كما قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45]، وكان صلى الله تعالى عليه وسلم، إذا حَزَبه أمر فَزع إلى الصلاة، وأمر من رأى في منامه ما يكره أن يصلي، وفيه التسبيح عند رؤية الأشياء، وفيه تحذير العالم من يأخذ عنه من كل شيء يتوقع حصوله، والإرشاد إلى ما يدفع ذلك المحذور، وفيه الندب إلى الدعاء والتضرع عند نزول الفتنة، ولاسيما في الليل، لرجاء وقت الإجابة، لتكشف. أو يسلم الداعي ومن دعا له. وفيه جواز قول "سبحان الله" عند التعجب، وندبية ذكر الله بعد الاستيقاظ، وإيقاظ الرجل أهله بالليل للعبادة، لاسيما عند آية تحدُثُ. رجاله ثمانية: الأول صدقة بن الفضل، أبو الفضل المَرْوَزِيّ أحد الرحالين روى عن المُعْتمر بن سليمان، وابن عُيينة، ويحيى القَطّان وطبقتهم. وروى عنه البخاريّ منفردًا به عن الستة، والدارميُّ وعبد الرحيم بن مُنِيب، ومحمد بن نصر المَرْوَزِيّ وغيرهم. قال عباس العَنْبَريّ: ثلاثة جعلتهم حجة فيما بيني وبين الله تعالى، فعد منهم صَدَقة. وقال ابن حبّان: كان صاحب حديث وسنة. وقال وهب بن جرير: جزى الله صدقة ويعْمر بن بشر المَرْوَزيّ وإسحاق عن الإِسلام خيرًا؛ أحيوا السنة بأرض

المشرق. وقال عباس بن الوليد: كنا نقول: بخراسان صدقة، وبالعراق أحمد، وزيد بن المبارك باليمن. وقال النسائي: ثقة، وكان من المذكورين بالعلم والفضل والسنة. وقال أحمد بن سَيّار: لم أر في جميع من رأيت مثل مسدد بالبصرة، والقواريري ببغداد، وصدقة بمرو. والمَرْوَزِيّ في نسبه مر في السادس من بدء الوحي، مات سنة ثلاث وقيل ست وعشرين ومئتين. الثاني: سفيان بن عُيينة: مر في الحديث الأول من بدء الوحي. الثالث: معمر بن راشد، مر في المتابعات بعد الحديث الثالث من بدء الوحي. الرابع: ابن شهاب، مر في الحديث الثالث منه أيضًا. الخامس: عمرو بن دينار، مر في الحديث الرابع والأربعين من كتاب العلم قبل هذا بحديث واحد. السادس: يحيى بن سعيد الأنصاري، مر في أول "حديث إنما الأعمال بالنيات". السابع: هند بنت الحارث الفراسية، ويقال القُرشية، ولعله تصحيف من الفراسية، أو نسبت إلى قريش لكونها من بني كنانة، لأن بني فراس بطن من كنانة، وعند الداودي القادسية، ولا وجه لها. ذكرها ابن حبان في الثقات، كانت تدخل على أزواج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وكانت زوجة لمَعبد بن المِقْداد، وأسقط في التهذيب معبدًا، روى لها الجماعة إلا مسلم والفِرَاسية في نسبها نسبة إلى فِراس بطن من كنانة. الثامن: أم سلمة هند، وقيل رَمْلة، زوجة النبي صلى الله عليه وسلم،

بنت أبي أُمية، اسمه حذيفة، وقيل سَهْل بن المُغيرة بن عبد الله بن عمر ابن محزوم، القرشية المخزومية، مشهورة بكنيتها، معروفة باسمها، وكان أبوها يلقب بزاد الرّكب، لأنه كان أحد الأجواد، فكان إذا سافر لم يحمل أحد معه من رُفقته زادًا بل هو كان يكفيهم. وأمها عاتكة بنت عامر، كنانية من بني فراس، وكانت تحت أبي سلمة بن عبد الأسد، وهو وابن عمها، وهاجرت معه إلى الحبشة، وكانا أول من هاجر إلى الحبشة، وهاجرت معه إلى المدينة أيضًا، ويقال إنها أول ظعينة دخلت المدينة مهاجرة. وقيل بل ليلى بنت أبي حُثمة زوجة عامر بن ربيعة. ولما مات زوجها من الجراحات التي أصابته، خطبها النبي صلى الله عليه وسلم، وروي عنها أنها قالت: لما خطبني قلت له: فيَّ ثلاثٌ: كبيرة السن" وامرأة مُعْيل، وامرأة شديدة المغيرة. فقال: أنا أكبر منك، وأما العيال فإلى الله، وأما المغيرة فأدعو الله فيذهبها عنك، فتزوجها فلما دخل عليها قال لها: إن شئت سبَعْت لك وسبعت للنساء، فرضيت بالثلاث. والحديث في الصحيح من طرق. وروي عنها أنها قالت: قلت لأبي سَلَمة: بلغني أنه ليس امرأة يموت زوجها وهو من أهل الجنة ثم لم تتزوج بعده إلا جمع الله بينهما في الجنة، وكذا إذا ماتت المرأة، وبقي الرجل بعدها، فقال: أُعاهدك على أن لا أتزوج بعدك، ولا تتزوجي بعدي، قال: أتطيعينّي؟ قالت: ما استأمرتك إلا لأطيعك. قال: فإذا مت فتزوجي. ثم قال: اللهم ارزق أم سلمة بعدي رجلًا خيرًا مني، لا يخزيها ولا يؤذيها. فلما مات قلت: من هذا الذي هو خير لي من أبي سلمة؟ فلبثت ما لبثت، ثم تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي الصحيح عن أم سَلمة أن أبا سلمة قال لها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أصاب أحدكم مصيبة، فليقل: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم عندك أحتسب مصيبتي، وأجرني فيها"، وأردت أن أقول:

لطائف إسناده

"وأبدلني بها خيرًا منها" فقلت: من هو خير من أبي سلمة؟ فما زلت حتى قلتها. وروي عن هند بنت الحارث قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لعائشة مني شُعْبة ما نزلها أحد، فلما تزوج أم سلمة سئل: ما فعلت الشعبة؟ فسكت، فعرف أن أم سلمة قد نزلت عنده وروي عن عائشة أنها قالت: لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم سلمة حزنت حُزنًا شديدًا لما ذكر لنا في جمالها. قالت: فتلطفت لها حتى رأيتها، فرأيتها أضعاف ما وصف لي في الحسن والجمال، فقلت: إن هذا إلا المغيرة، فتلطفت لها حفصة حتى رأتها، فقالت لي: لا والله ما هي كما تقولين، وإنها لجميلة. قالت: فرأيتها بعد فكانت كما قالت حفصة. روت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي سلمة. وروى عنها أولادها عمر وزينب ومكاتِبُها نَبْهان، وأخوها عامر بن أبي أميّة وابن عباس، وعائشة، وأبو سعيد الخُدْرِيّ وغيرهم. قال الواقدي: توفيت في شوال سنة تسع وخمسين، وصلى عليها أبو هريرة، ولها أربع وثمانون سنة. كذا قال، وليس بجيد، ففي صحيح مسلم أن الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة وعبد الله بن صفوان دخلا على أم سلمة في ولاية يزيد بن معاوية، وسألاها عن "الجيش الذي يخسف به" الحديث، وكانت ولاية يزيد بعد أبيه في سنة ستين. وقال ابن حبان: ماتت في سنة إحدى وستين بعدما جاءها الخبر بقتل الحسين بن علي، وهذا أقرب. قاله ابن حجر. وقال محاربُ بن دِثار: أوصت أم سلمة أن يصلي عليها سعيد بن زيد، وكان أمير المدينة يومئذ مروان بن الحكم. وقيل: الوليد بن عتبة بن أبي سفيان. قال ابن حجر: والثاني أقرب؛ لأن سعيد بن زيد مات قبل تاريخ موت أم سلمة على الأقوال كلها، فكأنها كانت أوصت بأن يصلي عليها في مرضة مرضتها، ثم عوفيت، ومات سعيد قبلها. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والإخبار والعنعنة، وفيه ثلاثة من

باب السمر في العلم

التابعين في نسق، وفيه رواية صحابية عن صحابية، على قول من قال إن هندًا صحابية، وليس بصحيح. وفيه رواية الأقران في موضعين: أحدهما ابن عُيينة عن معمر، والثاني عمرو ويحيى عن الزُّهْرِيّ، وعمرو بالجر عطف على معمر، فابن عيينة يروي عن معمر، وعمرو ويحيى، والثلاثة تروي عن الزهري. ويجوز الرفع في عمرو، وروي به، ووجهه أن يكون استئنافًا وقد جرت عادة ابن عُيينة أن يحدث بحذف صيغة الأداء، ويحيى عطف على عمرو في الوجهين. وقد روى الحُميدي هذا الحديث في مسنده عن ابن عُيينة قال: حدثنا معمر عن الزُّهرِيّ، قال: وحدثنا عمرو ويحيى بن سعيد عن الزُّهريّ، فصرح بالتحديث عن الثلاثة. أخرجه البخاريُّ هنا، وفي صلاة الليل، وفي اللباس، وفي علامات النبوءة، وفي موضعين من كتاب الأدب، وفي الفتن، وهو مما انفرد به عن مسلم، وأخرجه التِّرْمِذيّ في الفتن، وقال: صحيح. وأخرجه مالك عن ابن شهاب مرسلًا. ثم قال المصنف: باب السمر في العلم في رواية أبي ذر بإضافة باب إلى "المسمر"، وفي رواية غيره بابٌ السمر في العلم، بتنوين باب، أي هذا باب، والسمر بالتحريك معناه الحديث بالليل قبل النوم. وقيل: الصواب إسكان الميم، لأنه اسم الفعل، وأما بالفتح فهو اعتماد السمر للمحادثة، وأصله من لون ضوء القمر؛ لأنهم كانوا يتحدثون فيه، وبتفسير السمر هنا يظهر الفرق بين هذه الترجمة، والتي قبلها لأن الأولى في مطلق الليل.

الحديث الثامن والخمسون

الحديث الثامن والخمسون حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- الْعِشَاءَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ فَقَالَ: "أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ، فَإِنَّ رَأْسَ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْهَا لاَ يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَحَدٌ". قوله "صلى بنا" في روايته "لنا" أي إماما في الروايتين، وإلا فالصلاة لله لا لهم، وقوله "العشاء" بكسر العين والمد، أي صلاة العشاء. وقوله "في آخر حياته" مقيدًا في رواية جابر أن ذلك كان قبل موته عليه الصلاة والسلام بشهر. وقوله "أرأيتكم ليلتكم هذه" هو بفتح المثناة، لأنها ضمير الخطاب، والكاف ضمير ثان لا محل له من الإعراب، والهمزة الأولى للاستفهام التقريريّ، أي قد رأيتم ذلك فأخبروني. فأرأيتكم بمعنى أخبروني. وهو من إطلاق السبب على المسيِّب؛ لأن مشاهدة هذه الأشياء طريق إلى الإخبار عنها، فقد قال الزَّمَخْشَرِيّ: إن أرأيتكم ترد للاستخبار، كما في قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ} [الأنعام: 40] الَآية، فالمعنى: أخبروني، ومتعلق الاستخبار محذوف تقديره من تدعون ثم بكَّتهم، فقال: {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ} [الأنعام: 40] وقيل: إن الهمزة الأولى للاستفهام، والرؤية بمعنى العلم أو البَصر، والمعنى أعلمتم أو أبصرتم ليلتكم، وهي منصوبة على المفعولية، والجواب محذوف تقديره: قالوا: نعم، قال: فاضبطوها، أي: هل تدرون ما يحدث بعدها من الأمور العجيبة؟ ولا يستعمل هذا اللفظ إلا في الإخبار عن حال عجيبة.

وقوله "فإن رأس مئة سنة منها" في رواية الأصيلي "فإن على رأس" أي عند انتهاء مئة سنة. وقوله "منها" فيه دليل على أن من تكون لابتداء الغاية في الزمان، لقول الكوفيين. وقد رد ذلك تجاه البصريين وأوَّلوا ما ورد من شواهده، كقوله تعالى: {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة: 108] وقول أنس: مازلت أحب الدُّبَّاء من حينئذ. وقوله "مُطرنا من يوم الجمعة إلى يومِ الجمعة". وقوله "لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد" يعني موجودًا اليوم، وقد ثبت هذا التقدير في رواية شُعيب عن الزُّهري عند المصنف في الصلاة، ولفظه هناك "لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد"، قال ابن عمر: يريد أنها تَخْرمُ ذلك القرن، فبيّن ابن عمر أن مراده عليه الصلاة والسلام، أن عند انقضاء مئة سنة من مقالته تلك ينخرم ذلك القرن، فلا يبقى أحد ممن كان موجودًا حال تلك المقالة، وكذلك وقع بالاستقراء، فكان آخر من ضبط أمره ممن كان موجودًا حينئذ أبو الطُّفيل عامر بن واثلة، وقد أجمع أهل الحديث على أنه آخر الصحابة موتًا، وغاية ما قيل فيه أنه بقي إلى سنة عشر ومئة، وهي رأس مئة سنة من مقالة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم. قال ابن بطّال: إنما أراد النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم، أن هذه المدة تخترم الجيل الذي هم فيه، فوعظهم بقصر أعمارهم، وأعلمهم أن أعمارهم ليست كأعمار من تقدم من الأمم، ليجتهدوا في العبادة. وقال النووي: المراد أن كل من كان تلك الليلة على الأرض لا يعيش بعد هذه الليلة أكثر من مئة سنة، سواء قل عمره قبل ذلك أم لا. وليس فيه نفي حياة أحد يولد بعد تلك الليلة مئة سنة. وقال النّوويّ وغيره: احتج البخاريّ، ومن قال بقوله، بهذا الحديث على موت الخِضْر. والجمهور على خلافه، وأجابوا عنه بأن الخضر كان حينئذ من ساكني البحر، فلم يدخل في الحديث. قالوا: ومعنى الحديث: لا يبقى ممن ترونه أو تعرفونه، فهو عامٌ أريد به الخصوص. وقيل احترز بالأرض عن الملائكة، وقالوا: خرج عيسى من

رجاله سبعة

ذلك، وهو حي لأنه في السماء لا في الأرض، وخرج إبليس؛ لأنه على الماء أو الهواء، وقيل إن "أل" في الأرض عهدية، والمراد بها أرضه التي بها نشأ ومنها بعث، كجزيرة العرب المشتملة على الحجاز وتهامة ونجد، فهو على حد قوله تعالى: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33] أي بعض الأرض التي صدرت الجناية فيها، "فأل" ليست للاستغراق، وبهذا يندفع الاستدلال بالحديث على موت الخِضر، لأن الخضر يحتمل أن يكون حينئذ في غير هذه الأرض المعهودة. وأما من قال: المراد أمةُ محمد سواء، أمة الإِجابة وأمة الدعوة، وخرج عيسى والخِضر؛ لأنهما ليسا من أمته فهو قول ضعيف لأن عيسى يحكم بشريعته فيكون من أمته. والقول في الخضر إن كان حيًا كالقول في عيسى. رجاله سبعة: الأول سعيد بن عُفير، وقد مر في الحديث الثالث عشر من كتاب العلم. الثاني الليث بن سعيد، ومر أيضًا في الحديث الثالث من بدء الوحي. الثالث: عبد الرحمن بن خالد بن مُسافر الفَهميّ أبو خالد، ويقال أبو الوليد مولى الليث بن سعد أمير مصر لهشام بن عبد الملك، كانت ولايته عليها سنة ثمان عشرة ومئة، وعزل عنها بعد سنة. روى عن الزُّهرْيّ، وروى عنه الليث ويحيى بن أيّوب. قال ابن معين: كان على مصر، وكان عنده من الزُّهري كتاب فيه مئتا حديث أو ثلاث مئة كان الليث يحدث عنه بها. وكان جده شهد فتح بيت المقدس مع عمر. ذكره ابن حبّان في الثقات، وثَّقة العِجْليّ والنَّسائيّ والذُّهْلِيّ والدارقطنيّ. وقرنه النَّسائي بابن أبي ذيب من أصحاب الزُّهريّ. وقال أبو حاتم: صالح. وقال زكرياء السَّاجيّ: صدوق عندهم، ولهَ مناكير، احتج به الجماعة إلاَّ الترمذيّ. واستشهد به مسلم في حديث "أرأيتكم ليلتكم هذه" الخ. مات سنة سبع وعشرين ومئة. والفهمي في نسبه مر في الثالث من بدء الوحي.

لطائف إسناده

الرابع: محمد بن مسلم، وقد مر في الحديث السابع عشر من كتاب الإيمان. ومر تعريف عبد الله بن عمر في أول كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه. وأما أبو بكر فهو أبو بكر بن سليمان بن أبي حَثْمة، بفتح الحاء المهملة وسكون الثاء المثلثة، واسم أبي حثمة عبد الله بن حُذَيفة بن غانم بن عبد الله بن عُوَيج بن عَدِيّ بن كعب القُرَشِيّ العَدَويّ. قال ابن عبد البَرّ: أبو بكر هذا ليس له اسم. روى عن جدته الشفاء وسعيد بن زيد، وروى عنه ابن المُنْكدر والزُّهْرِيّ، وقال: هو من علماء قريش، وقال ابن حبان: ثقة. أخرج له البخاريّ هذا الحديث خاصة مقرونًا بسالم كما ترى ومسلم غير مقرون، أخرجوا له إلا ابن ماجه، وليس له عند مسلم والتِّرمْذِيّ سوى هذا الحديث أيضًا، والعدوي في نسبه مر في الأول من بدء الوحي. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع والإفراد والعنعنة، وفيه أربعة من التابعين، وهم عبد الرحمن وابن شهاب وسالم وأبو بكر، وليس له عند البخاريّ غير هذا الحديث المقرون فيه، أخرجه البخاريّ هنا، وفي الصلاة أيضًا، ومسلم في الفضائل.

الحديث التاسع والخمسون

الحديث التاسع والخمسون حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَكَمُ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ بِتُّ فِى بَيْتِ خَالَتِي مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ زَوْجِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَكَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عِنْدَهَا فِي لَيْلَتِهَا، فَصَلَّى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- الْعِشَاءَ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى مَنْزِلِه، فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ نَامَ، ثُمَّ قَامَ، ثُمَّ قَالَ: "نَامَ الْغُلَيِّمُ" أَوْ كَلِمَةً تُشْبِهُهَا، ثُمَّ قَامَ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ، فَصَلَّى خَمْسَ رَكَعَاتٍ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ نَامَ حَتَّى سَمِعْتُ غَطِيطَهُ أَوْ خَطِيطَهُ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلاَةِ. قوله "فصلى النبي، صلى الله تعالى عليه وسلم، العشاء، ثم جاء إلى منزله" يعني بيت ميمونة، أم المؤمنين، وقوله "فصلى أربع ركعات" الفاء فيه للتعقيب، وقوله "نام الغُليم" بضم المعجمة، وهو من تصغير الشفقة، والمراد به ابن عباس، ويحتمل أن يكون ذلك إخباراً منه عليه الصلاة والسلام بنومه، أو استفهامًا بحذف الهمزة. وقوله "أو كلمة تشبهها" بالشك من الراوي، والمراد بالكلمة الجملة، ككلمة الشهادة، وفي رواية "نام الغلام". وقوله "فقمت عن يساره" بفتح الياء وكسرها، شبهوها في الكسر بالشمال، وليس في كلامهم كلمة مكسورة الياء إلا هذه، وحكى تشديد السين، لغة عن ابن عبّاد. وقوله "ثم صلى ركعتين" أي ركعتي الفجر، وأغرب الكرماني فقال: إنما فصل بينهما وبين الخمس، ولم يقل سبع ركعات؛ لأن الخمس اقتدى ابن عباس به فيها، بخلاف الركعتين، أو لأن الخمس بسلام، والركعتين بسلام آخر. وكأنه ظن أن الركعتين من جملة صلاة الليل، وهو محتمل، لكنّ حملها على سنة الفجر أولى، ليحصل الختم بالوتر.

وقوله "حتى سمعت غَطيطه" بفتح الغين المعجمة، وكسر المهملة الأولى، وهو صوت نفس النائم عند استثقاله، وفي العبادة وغطيط النائم والمخنوق، نخيرهما. وقوله "أو خَطيطه" بفتح الخاء المعجمة وكسر المهملة، شك من الراوي، وهو بمعنى الأول. وقال ابن بطّال: لم أجده بالخاء المعجمة عند أهل اللغة، وتبعه القاضي عياض، وقد نقل ابن الأثير عن أهل الغريب أنه دون الغطيط. وقوله "ثم خرج إلى الصلاة" أي لم يتوضأ؛ لأن من خصائصه أن نومه مضطجعًا لا ينقض وضوءه؛ لأن عينيه تنامان ولا ينام قلبه، كما في البخاري وغيره. ولا يقال إنه معارض بحديث نومه عليه الصلاة والسلام في الوادي إلى أن طلعت الشمس؛ لأنه مجاب عنه بأجوبة، قال النوويّ: له جوابان: أحدهما أن القلب إنما يدرك الحسيات المتعلقة به، كالحدث والألم ونحوهما، ولا يدرك ما يتعلق بالعين لأنها نائمة، والقلب يقظان. الثاني أنه كان له حالان: حال كان قلبه لا ينام وهو الأغلب، وحال ينام فيه قلبه، وهو نادر، فصادف هذا قصة النوم عن الصلاة. قال: والصحيح المعتمد هو الأول، والثاني ضعيف. ولا يقال القلب، وإن كان لا يدرك ما يتعلق بالعين من رؤية الفجر مثلًا، لكنه يدرك إذا كان يقظانًا مرور الوقت الطويل، فإنّ من ابتداء طلوع الفجر إلى أن حميت الشمس مدة طويلة، لا تخفى على من لم يكن مستغرقًا؛ لأنّا نقول: يحتمل أن يقال: كان قلبه صلى الله تعالى عليه وسلم إذ ذاك مستغرقًا بالوحي، ولا يلزم مع ذلك وصفه بالنوم، كما كان يستغرق صلى الله تعالى عليه وسلم حالة إلقاء الوحي إليه في اليقظة، وتكون الحكمة في ذلك بيان التشريع بالفعل؛ لأنه أوقع في النفس كما في قضية سهوه في الصلاة. وقريب من هذا جواب ابن المنير: إن القلب قد يحصل له السهو في اليقظة، لمصلحة التشريع، ففي النوم بطريق الأولى أو على السواء، وقد أجيب بأجوبة أخرى ضعيفة منها: أن معنى قوله "لا ينام قلبي" أي: لا

يخفى عليه حالة انتقاض وضوئه، ومنها أن معناه لا يستغرق بالنوم حتى يوجد منه الحدث، وهذا قريب من الذي قبله، قال ابن دقيق العيد: كأنّ قائل هذا أراد تخصيص يقظة القلب بإدراك حالة الانتقاض، وذلك بعيد لأن قوله عليه الصلاة والسلام "إن عيني تنامان ولا ينام قلبي" خرج جوابًا عن قول عائشة "أتنام قبل أنْ توتر"، وهذا كلام لا تعلق له بانتقاض الطهارة الذي تكلموا فيه، وإنما هو جواب يتعلق بأمر الوتر، فتحمل يقظته على تعلق القلب باليقظة للوتر، وفرق بين من شرع في النوم مطمئن القلب به، ومن شرع فيه متعلقًا باليقظة، قال: فعلى هذا فلا تعارض ولا إشكال الذي حديث النوم "حتى طلعت الشمس" لأنه يحمل على أنه اطمأن في نومه لما أوجبه تعب السير، معتمدًا على من وكَّله بكلاءَة الفجر. ومحصله تخصيص اليقظة المفهومة من قوله "ولا ينام قلبي" بإدراكه وقت الفجر إدراكًا معنويًا، لتعلقه به، وإن نومه في حديث ليلة الوادي كان نومًا مستغرقًا، ويؤيده قول بلال له: أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك، كما في حديث أبي هُريرة عند مسلم، ولم ينكره عليه، ومعلوم أن نوم بلال كان مستغرقًا، قلت: قوله إن سؤال عائشة لا تعلق له بانتقاض الطهارة. فيه نظر؛ لأنها إنما سألته عن نومه عن الوتر، لعلمها بأن النوم مبطل للوضوء، فأفادها بما ذكر أنَّ قلبه لا ينام حتى يحصل منه ما ينقض الوضوء، وهذا الذي أفادها به لم تكن عالمة به قبل ذلك، ثم قال الذي "الفتح": وقد اعترض عليه بان ما قاله يقتضي اعتبار خصوص السبب، وأجاب بأنه يعتبر إذا قامت عليه قرينة، وأرشد إليه السياق، وهو هنا كذلك. ومن الأجوبة الضعيفة قول من قال: كان قلبه يقظان، وعلم بخروج الوقت لكن ترك إعلامهم بذلك عمدًا، لمصلحة التشريع. وقول من قال: المراد بنفي النوم عن قلبه أنه لا يطرأ عليه أضغاث أحلام، كما يطرأ على غيره، بل كل ما يراه في نومه حق ووحي. وأقرب الأجوبة إلى الصواب الأول على ما قررا، واعلم أن حديث ابن عمر مناسب للترجمة لقوله فيه

"قام فقال أرأيتكم" ... إلخ، بعد قوله "صلى العشاء"، وأما حديث ابن عباس فلم تظهر فيه مناسبة للباب. وقال ابن المنير ومن تبعه: يحتمل أن يريد أن أصل السمر يثبت بهذه الكلمة، وهي قوله "نام الغليم"، ويحتمل أن يريد ارتقاب ابن عباس لأحوال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم. ولا فرق بين التعليم من القول والتعليم من الفعل، فقد سمر ابن عباس ليلته في طلب العلم زاد الكرمانى: أو ما يفهم من جعله إياه عن يمينه كأنه قال له: قف عن يميني، فقال: وقفت. وتعقب هذا بأن المتكلم بالكلمة الواحدة لا يسمى سامرًا، وبأن صنيع ابن عباس يسمى سَهَرًا، لا سمرًا؛ لأن السمر لا يكون إلا عن تحدث، وأجيب بأن حقيقة السمر التحدث بالليل، ويصدق بكلمة واحدة، ولم يشترط أحد التعدد، وكما يطلق السمر على القول، يطلق على الفعل، بدليل قولهم: سمر القومُ الخمر إذا شربوها ليلًا، وقال الكرمانيّ تبعًا لغيره: يحتمل أن يكون مراد البخاري أن الأقارب إذا اجتمعوا لابد أن يجري بينهم حديث للمؤانسة، وحديثه عليه الصلاة والسلام كله علم وفوائد، وأجاب في "الفتح" بأن مناسبة الحديث للترجمة مستفادة من لفظ آخر في هذا الحديث بعينه، من طريق أخرى وهذا يفعله البخاري كثيرًا، يريد به تنبيه الناظر في كتابه على الاعتناء بتتبع طرق الحديث، والنظر في مواقع ألفاظ الرواة؛ لأن تفسير الحديث بالحديث أولى من الخوض فيه بالظن. والحديث هو ما أخرجه البخاري في التفسير عن ابن عباس قال: "بتُّ في بيت ميمونة، فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة، ثم رقد" الحديث، فهذا الحديث يدل صريحًا على حقيقة السمر بعد العشاء، فإن قيل: هذا إنما يدل على السمر مع الأهل لا في العلم، فالجواب أنه يلحق به، والجامع تحصيل الفائدة، أو هو بدليل الفحوى؛ لأنه إذا شرع في المباح ففي المستحب من طريق الأولى. قلت: وهذا الجواب هو أحسن الأجوبة، واعتراض العيني عليه ساقطٌ، وما استبعده غير بعيد، ويكفي في الجواب عنه ما مر من أنَّ

البخاريَّ كثيرًا ما يفعله لما مر، وما قال من أنّ هذا ليس فيه تفسير للحديث يقال فيه إن هذا فيه تفسير له؛ لأن تراجم البخاري من الحديث، وهو تفسير لها، ومبين أيضًا لمناسبة الحديث لها. ويدخل في هذا الباب حديث أنس عند المصنف في كتاب الصلاة أن النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم، "خطبهم بعد العشاء" وحديثه عنده أيضًا في المناقب، في قصة أسِيد بن حُضَير، وحديث عمر "كان النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم، يسمر مع أبي بكر في الأمر من أمور المسلمين". أخرجه التَّرمِذيّ والنَّسائِيّ. ورجاله ثقات، وهو صريح في المقصود، إلا أن في إسناده اختلافًا على علقمة، فلذلك لم يصح على شرطه، وحديث عبد الله بن عمرو"كان نبي الله صلى الله تعالى عليه وسلم، يحدثنا عن بني إسرائيل حتى يصبح، لا يقوم إلا إلى عظيم صلاة" رواه أبو داود وصحّحه ابن خزَيمة، وليس على شرط البخاريّ. وأما حديث "الأسمر إلا لمصل أو مسافر" فهو عند أحمد بسند فيه راو مجهول، وعلى تقدير ثبوته، فالسمر في العلم يلحق بالسمر في الصلاة نافلة، وقد سمر عمر مع أبي موسى في مذاكرة الفقه، فقال أبو موسى: الصلاة، فقال عمر: إنّا في صلاة. وفي الحديث طرق غير هذه، ويستفاد منه باعتبار طرقه، ملاطفة الصغير والقريب والضيف، وحسن المعاشرة للأهل، والرد على من يؤثر دوام الانقباض، وفيه مبيت الصغير عند محرمه، وإن كان زوجها عندها، وجواز الاضطجاع مع المرأة الحائض، وترك الاحتشام في ذلك بحضرة الصغير، وإن كان مميزًا، بل وإن كان مراهقًا، وفيه صحة صلاة الصبيّ، وجواز فتل أذنه لتأنيه وإيقاظه. وقد قيل إن المتعلم إذا تعود بفتل أذنه كان أذَكى لفهمه، وفيه حمل أفعاله، صلى الله تعالى عليه وسلم، على الاقتداء به، وجواز التصغير، والذكر بالصفة في قوله "نام الغليم"، وبيان فضل ابن عباس، وقوة فهمه وحرصه على تعلم أمر الدين، وحسن تأنيه في ذلك.

رجاله خمسة

رجاله خمسة: وفيه ذكر ميمونة بنت الحارث، الأول آدم بن أبي إياس، والثاني شعبة بن الحجاج، وقد مر تعريفهما في الحديث الثالث من كتاب الإيمان، والرابع سعيد بن جُبَير، والخامس عبد الله بن عباس، مر تعريفهما في الحديث الخامس من بدء الوحي. والثالث: الحكم بن عُتَيْبة، بالتصغير، كنيته أبو عبد الله، وقيل أبو عمر، وقيل أبو محمد، الكِنْديّ، مولاهم، مولى عَدِيّ بن عَدِيّ الكِنْديّ، ويقال: مولى امرأة من كندة، وليس هو الحكم بن عُتيبة بن النَّهَّاسي. روى عن أبي جُحَيفة، وزيد بن أرقم، وقيل لم يسمع منه. وعبد الله بن أبي أوفى، وهؤلاء صحابة، وعن شريح القاضي وقيس بن أبي حازم، وموسى بن أبي طلحة، وسعيد بن جبير، ومجاهد وعطاء، وطاووس وغيرهم. وروى عنه الأعمش، ومنصور، ومحمد بن جحادة، وأبو إسحاق السَّبِيعي، وقتادة وغيرهم. قال يحيى بن أبي كثير وعَبَدَة بن أبي لُبَابة: ما بين لابتيها أفقه من الحكم. وقال مجاهد بن روميّ: رأيت الحكم في مسجد الخِيف، وعلماء الناس عيال عليه. وقال جرير عن مغيرة: كان الحَكَمُ إذا قدم المدينة أخلوا له سارية النبي، صلى الله عليه وسلم، يصلي إليها. وقال عباس الدُّوْرِيّ: كان صاحب عبادة وفضل. وقال ابن عُيَينة: ما كان بالكوفة بعد إبراهيم والشَّعْبِيّ مثل الحَكم وحمّاد، وقال ابن مَهْديّ: الحكم ثقة ثبت، ولكن يختلف معنى حديثه. وقال أحمد: أثبت أصحاب إبراهيم الحكم، ثم ابن منصور. وقال ابن مَعين وأبو حاتم والعِجْليّ والنَّسائيّ: ثقة، زاد النّسائي: ثبت، وزاد العجليّ: كان من فقهاء أصحاب إبراهيم، وكان صاحب سنة واتِّباع، وكان فيه تشيُّع، إلا أنه لم يظهر منه. وقال يعقوب بن سفيان: كان فقيهاً ثقة، وقال ابن سعد: كان ثقة ثقة فقيهًا عالمًا، رفيعًا كثير الحديث. وقال ابن حبان في الثقات: كان يُدَلِّس، وسنُّه سن إبراهيم النخعيّ. مات سنة أربع عشرة وقيل خمس عشرة ومئة. روى

له الجماعة. والكِنْدي في نسبه مر في أول كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه. وأما ميمونة، فهي ميمونة بنت الحارث بن حَزْن بن بُجَير بن الهَرِم بن رُوَيْبيَة بن عبد الله بن هِلال بن عامر بن صَعْصَعَة بن مُعاوية بن بكر بن هَوازن بن منصور بن عِكْرمة بن خَصَفَة بن قيس بن غَيلان بن مُضر الهلالية، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وأمها هند بنت عوف بن زُهير بن حَمَاطة من حِمْير، وقيل من كنانة. وأخوات ميمونة لأبيها وأمها أُمُّ الفضل لُبَابَةُ الكبرى بنت الحارث، زوج العباس بن عبد المطلب، ولُبَابة الصّغرى بنت الحارث، زوج الوليد بن المغيرة المخزوميّ، وهي أم خالد بن الوليد، وعَصْماء بنت الحارث، كانت تحت أبيّ بن خلف الجُمَحِيّ، فولدت له أبانًا وغيره، وعزَّة بنت الحارث بن حَزْن، كانت تحت زياد بن عبد الله بن مالك الهلاليّ، فهؤلاء أخوات ميمونة لأب وأم، وأمهن هند بنت عوف. وأخوات ميمونة لأمها أسماء بنت عُمَيس، كانت تحت جعفر بن أبي طالب، فولدت له عبد الله وعونًا ومحمدًا، ثم خلف عليها أبو بكر الصديق فولدت له محمدًا، ثم خلف عليها علي بن أبي طالب، فولدت له يحيى، وقد قيل إن أسماء بنت عُمَيس كانت تحت حمزة، قيل: ولا يصح، وسلمى بنت عُميس الخَثْعَمية أخت أسماء، كانت تحت حمزة بن عبد المطلب، فولدت له أمة الله بنت حمزة، ثم خلف عليها بعده شداد بن أسامة بن الهادي اللَّيْثّي، فولدت له عبد الله وعبد الرحمن. وسلامة بنت عُميس أخت أسماء وسَلمى، كانت تحت عبد الله بن كعب بن مُنَبِّه الخَثْعَمِيّ. وزينب بنت خُزَيمة أُخت ميمونة لأُمها. كان اسم ميمونة بُرَّة فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة. وقال أبو عُبيدَة: لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، من خيبر توجه إلى مكة معتمرًا، سنة سبع، وقدم عليه جعفر بن أبي طالب من أرض الحبشة، فخطب عليه ميمونة بنت الحارث الهلالية، وكانت أختها لأمها

أسماء بنت عُمَيس عند جعفر، وسلمى بنت عميس عند حمزة، وأم الفضل عند العباس، فأجابت جعفر بن أبي طالب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعلت أمرها إلى العباس، فأنكحها النبي صلى الله عليه وسلم، وهو محرم، فلما رجع بني بها بسرَفٍ حلالًا، وكانت قبله عند أبي رهِم بن عبد العُزَّى بن أبي قيس بن عبدودّ بن مضربن مالك بن حِسْل بن عامر بن لُؤَيّ. وقال: يقال: بل عند سَبْرَة بن أبي رهِم. قال: وماتت بسرفٍ. هذا كله قول أبي عبيدة. وقيل: إنها كانت عند حُوَيْطب بن عبد العُزّى، وقيل: إنها هي التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، في قوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا} [الأحزاب: 50] الآية. وعن شُرَحبيل بن سعد قال: لقي العباس بن عبد المطلب النبيّ صلى الله عليه وسلم بالجحفة، حين اعتمر عمرة القضاء، فقال: يا رسول الله تأَيَّمَتْ ميمونة بنت الحارث بن حَزْن، هل لك في أن تتزوجها؟ فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محِرم، فلما قدم مكة، أقام ثلاثًا، فجاءه سهُيل بن عمرو في نفر من أصحابه من أهل مكة، فقال: يا محمد، أخرج عنّا، فقال له سعد: يا عاضَّ بَظْرِ أُمِّهِ أرضك وأرض أمك؟ نحن دونه، لا يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن يشاء، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعهم فإنهم زارونا، لا نؤذيهم، فخرج فبنى بها بسَرف. واختلف الفقهاء هل كان نكاحه لها في حال إحرامه أم وهو حل. وعن يزيد بن الأصَمّ قال: تلقينا عائشة من مكة أنا وابن طلحة من أختها، وقد وقفتا على حائط من حيطان المدينة، فأصبنا منه فبلغها ذلك، فأقبلت على ابن أُختها تلومه، ثم أقبلت عليَّ فوعظتني موعظة بليغة، ثم قالت: أما علمت أن الله تعالى ساقك حتى جعلك في بيت من بيوت نبيه. ذهبت، والله ميمونة، ورمى بحبلك على غاربك، أما إنها كانت من أتقانا لله، وأوصلنا للرحم.

لطائف إسناده

وروي عن ميمون بن مِهران: سالت صفيّة بنت شَيْبَةَ فقالت: تزوج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ميمونة بسَرفٍ، وبنى بها في قبة لها، وماتت بسرف. ودفنت في موضع قبتها. وكانت وفاتها سنة ست وستين، وقيل سنة ثلاث وستين. وصلى عليها ابن عباس، ودخل قبرها هو ويزيد بن الأَصَمّ، وعبد الله بن شدّاد بن الهادي، وهم بنو أخواتها، وعبيد الله الخَوْلانيّ، وكان يتيمًا في حِجْرها. والهلالية في نسبها نسبة إلى هِلال بن عامر المذكور في نسبها، وقد مر في الثاني والعشرين من كتاب الإيمان. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة والسماع، ورواته كلهم أئمة أجلاء، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والحكم من التابعين الصغار، وأخرجه المؤلف هنا، وفي الصلاة، عن سليمان، وفي مواضع من كتابه عن كَريب وعطاء. وأبو داود في الصلاة، والنَّسائي فيها أيضًا. ثم قال المصنف: باب حفظ العلم لم يذكر في الباب شيئًا عن غير أبي هريرة، وذلك لأنه كان أحفظ الصحابة للحديث، قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في عصره، وقد كان ابن عمر يترحَّم عليه في جنازته، ويقول: كان يحفظ على المسلمين حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم، رواه ابن سعد. وقد دل الحديث الثالث من الباب على أنه لم يحدِّث بجميع محفوظه، ومع ذلك فالموجود من حديثه أكثر من الموجود من حديث غيره من المكثرين، ولا يعارض هذا ما مر من تقديمه عبد الله بن عمر على نفسه في كثرة الحديث، لما تقدم من الجواب عنه.

الحديث الستون

الحديث الستون حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَلَوْلاَ آيَتَانِ فِى كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُ حَدِيثًا، ثُمَّ يَتْلُو {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} إِلَى قَوْلِهِ {الرَّحِيمُ} إِنَّ إِخْوَانَنَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ، وِإِنَّ إِخْوَانَنَا مِنَ الأَنْصَارِ كَانَ يَشْغَلُهُمُ الْعَمَلُ فِى أَمْوَالِهِمْ، وَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِشِبَعِ بَطْنِهِ وَيَحْضُرُ مَا لاَ يَحْضُرُونَ، وَيَحْفَظُ مَا لاَ يَحْفَظُونَ. قوله "أكثر أبو هريرة" أي: من الحديث، كما صرح به في البيوع، وله فيها، وفي المزارعة. ويقولون: ما للمهاجرين والأنصار لا يحدثون مثل أحاديثه؟. وبهذه الزيادة تبين الحكمة في ذكره المهاجرين والأنصار، ووضعه المُظْهر موضع المُضْمر على طريق الحكاية، حيث قال: أكثر أبو هريرة، ولم يقل أكثرت، وقوله "ولولا آيتان" مقول قال، لا مقول يقولون، وقوله "ثم يتلو" مقول الأعرج، وذكره بلفظ المضارع استحضارًا لصورة التلاوة، ومعناه: لولا أن الله ذم الكاتمين للعلم ما حدّث أصلًا، لكن لما كان الكتمان حرامًا، وجب الإظهار، فلهذا حصلت الكثرة، لكثرة ما عنده. والكتمان هو ترك إظهار الشيء مع مساس الحاجة إليه، وتحقق الداعي إلى إظهاره، ثم بين سبب الكثرة بقوله "إن إخواننا" جمع أخ، ولم يقل "إخوانه" بضمير الغيبة، لقصد الالتفات، وعدل عن الإفراد إلى الجمع لقصد نفسه وأمثاله من أهل الصُّفَّة، وحذف العاطف لجعله جملة استئنافية للإكثار جوابًا للسؤال عنه، والمراد إخوة الإِسلام. وقوله "من المهاجرين" أي: الذين هاجروا من مكة إلى المدينة، وقوله

"كان يَشْغَلُهم" بفتح أوله وثالثه من الثلاثي، وحكي ضم أوله من الرباعي، وهو شاذ. وقوله "الصفق بالأسواق" هو بفتح الصاد وإسكان الفاء، كناية عن التبايع؛ لأنهم كانوا يضربون فيه يدًا بيد عن المعاقدة، وسميت السوق لقيام الناس فيها على سوقهم، وقوله "العمل في أموالهم" أي: القيام على مصالح زرعهم. ولمسلم "كان يشغلهم عمل أراضيهم" ولابن سعد "كان يشغلهم القيام على أراضيهم". وقوله "وإن أبا هُريرة" فيه التفات، إذ كان نسق الكلام أن يقول: وإني. وقوله "لشبَع بطنه" في رواية الأربعة باللام، وللأصيلي بالباء الموحدة، وكلاهما للتعليل، أي لأجل بطنه، والشبع بكسر الشين وفتح الموحدة، وعن ابن دُرَيد إسكانها، وعن غيره الِإسكان. اسم لما أشبعك من الشيء، ولابن عساكر "ليشبع بطنه" بلام كي، ويشبع بصورة المضارع المنصوب، والمعنى: أنه كان يلازم قانعًا بالقوت، لا يتجر ولا يزرع. وقوله "ويحضر ما لا يحضرون" أي من أحواله عليه الصلاة والسلام؛ لأنه يشاهد ما لا يشاهدون. وقوله "ويحفظ ما لا تحفظون" أي: من الأقوال؛ لأنه يسمع ما لا تسمعون، وهما معطوفان على قوله يلزم. وقد روى البخاري في "التاريخ"، والحاكم في "المستدرك" عن طلحة بن عُبيد الله أنه قال: لا أشك أنه سمع من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ما لا نسمع، وذلك أنه كان مسكينًا لا شىء له، ضيفًا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهذا شاهد لحديث أبي هريرة، وأخرج البخاري في التاريخ أيضًا، والبَيْهَقِيّ في "المدخل" عن محمد بن عمارة بن حَزم أنه قعد في مجلس فيه مشيخة من الصحابة بضعة عشر رجلًا، فجعل أبو هريرة يحدثهم بالحديث عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فلا يعرفه بعضهم، فيراجعون فيه حتى يعرفوه، ثم يحدثهم بالحديث كذلك، حتى فعل مرارًا، فعرفت يومئذٍ أن أبا هُريرة أحفظ الناس. وأخرج أحمد والتِّرْمِذِيّ عن ابن

رجاله خمسة

عِمر أنه قال لأبي هريرة: كنتَ ألزمنا لرسول الله، صلى الله تعالى عليه وسلم، وأعرفنا بحديثه. قال التِّرْمِذيّ: حسن. رجاله خمسة: الأول عبد العزيز بن عبد الله بن يحيى، مر تعريفه في الحديث الأربعين من كتاب العلم. الثاني الإمام مالك، مر في الحديث الثاني من بدء الوحي، ومرّ ابن شهاب في الحديث الرابع منه أيضًا. ومر تعريف الأعرج عبد الرحمن بن هرْمُز في الحديث السابع من كتاب الإِيمان، ومر تعريف أبي هريرة في الحديث الثاني منه أيضًا. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع والإفراد، والعنعنة، ورواته كلهم مدنيّون، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، أخرجه البخاريُّ أيضًا في المزارعة والاعتصام، ومسلم في الفضائل، والنّسائي في العلم، وابن ماجه في السنة.

الحديث الحادي والستون

الحديث الحادي والستون حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَبُو مُصْعَبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ أَبِى ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَسْمَعُ مِنْكَ حَدِيثًا كَثِيرًا أَنْسَاهُ. قَالَ: "ابْسُطْ رِدَاءَكَ" فَبَسَطْتُهُ. قَالَ: فَغَرَفَ بِيَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: "ضُمُّهُ" فَضَمَمْتُهُ فَمَا نَسِيتُ شَيْئًا بَعْدَهُ. قوله "قلت يا رسول الله" في رواية ابن عساكر "قلت لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم". وقوله "حديثًا كثيرًا" صفة لقوله كثيرًا؛ لأنه اسم جنس، يقناول القليل والكثير، وقوله "أنساه" صفة ثانية لـ"حديثًا" والنسيان زوال علم سابق عن الحافظة والمدركة، والسهو زواله عن الحافظة فقط، ويفرق بينه وبين الخطأ بأن السهو ما ينتبه صاحبه بأدنى تنبيه، بخلاف الخطأ، وقوله "ابسط رداءك فبسطته" أي: لما قال: ابسط امتثلت أمره، فبسطته، وإلا فيلزم من عطف الخبر على الإنشاء، وهو مختلف فيه. وقوله: "فغرف بيديه" لم يذكر المغروف منه. وكأنها كانت إشارة محضة، وإنما كان الغرف من فيض فضل الله، فجعل الحفظ كالشيء الذي يغرف منه، ورمى به في ردائه، ومثل بذلك في عالم الحسّ، ثم قال "ضمه" أي قال عليه الصلاة والسلام لأبي هريرة: ضمه إليك، بالهاء مع ضم الميم، تبعًا للضاد، وفتحها، وقيل يتعين الضم، لأجل ضمة الهاء، ويجوز كسرها، والضمير يرجع إلى الحديث، كما يدل عليه قوله في غير الصحيح "فغرف بيده" ثم قال "ضم الحديث"، وقوله "فما نسيت شيئًا" مقطوع عن الإضافة، مبنيٌ على الضم، وتنكير "شيئًا" بعد النفي ظاهر في العموم في عدم النسيان منه لكل شيء من الحديث وغيره. وفي رواية ابن عُيَيْنة "فوالذي بعثه بالحق ما نسيت شيئًا سمعته منه". وفي رواية يونس عند مسلم "فما نسيت بعد ذلك اليوم شيئًا حدثني به" وهذا يقتضي تخصيص عدم النسيان بالحديث.

وفي رواية شعيب "فما نسيت من مقالته تلك من شيء". وهذا يقتضي عدم النسيان بتلك المقالة فقط، وقد صرح التِّرمْذِي في الجامع، وأبو نعيم في "الحلية" بتلك المقالة من طريق أخرى عن أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: "ما من رجل يسمع كلمة أو كلمتين أو ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا مما فرض الله، فيتعلمهنَّ ويُعلِّمهنَّ إلا دخل الجنة" لكن سياق الكلام يقتضي ترجيح رواية يونس ومن وافقه؛ لأن أبا هُريرة نبه به على كثرة محفوظه من الحديث، فلا يصح حمله على تلك المقالة وحدها، ويحتمل أن تكون وقعت له قضيتان: فالتي رواها الزُّهْري مختصة بتلك المقالة، والتي رواها سعيد المَقْبَريّ عامة. وفي هذين الحديثين فضيلة ظاهرة لأبي هريرة، ومعجزة واضحة من علامات النبوة، لأن النسيان من لوازم الإنسان، وقد اعترف أبو هريرة بأنه كان يكثر منه، ثم تخلف عنه ببركته صلى الله تعالى عليه وسلم وفي "المستدرك" للحاكم عن زيد بن ثابت قال: كنت أنا وأبو هريرة وآخر، عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال: ادعوا، فدعوت أنا وصاحبي، وأمَّنَ النبيُّ صلى الله تعالى عليه وسلم، ثم دعا أبو هريرة فقال: اللَّهم إني أسألك مثل ما سألك صاحباي، وأسألك علمًا لا ينسى فأمَّن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فقلنا: ونحن كذلك يا رسول الله، فقال: سبقكما الغلام الدَّوْسِيّ. وهذا الحديث أخرجه النَّسائِيّ بإسناد جيد، كما في الإصابة، بلفظ "إني أسألك ما سألك صاحباي، وأسألك علمًا لا ينسى" وفيه فقلنا: ونحن يا رسول الله نسألك علمًا لا ينسى ... الخ، ففي رواية النَّسائي سؤالُ العلم الذي لا ينسى من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وفي رواية الحاكم سؤاله من الله تعالى، والمخرج واحد، فتكون رواية الحاكم مفسرة لرواية النَّسائي، مبينة أن كل ما وقع سؤاله من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو غيره من المخلوقين، مما لا قدرة للمخلوق على إعطائه، كالعلم، إنما

رجاله خمسة

يراد من المسؤول التوجه إلى الله تعالى به فيه، وسؤاله هو له من الله تعالى، لا أن المخلوق مسؤول منه أن يعطي ما لا قدرة له عليه، ويكفي في جواز السؤال بهذه الصورة صدورها من الصحابة، وإقرار النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم لهم على ذلك، خلافًا للطائفة الزائفة من الخوارج، القائلة إن هذا السؤال كفر أعاذنا الله تعالى مما ابتلاهم به. وفي الحديث الحث على حفظ العلم، وفيه أن التقلُّل من الدنيا أمكن لحفظه، وفيه فضيلة التكسب لمن له عيال، وفيه جواز إخبار المرء بما فيه من فضيلة إذا اضطر إلى ذلك وأمن من الإِعجاب. رجاله خمسة: الأول أحمد بن أبي بكر، واسم أبي بكر القاسم، وقيل زُرارة بن الحارث بن زُرَارة بن مُصْعَب بن عبد الرحمن بن عوف، أبو مُصْعب الزُّهْريّ العوْفي، قاضي المدينة، وعالمها، وهو أحد من حمل الموطأ عن مالَك، وروى عن الدَّراوَرْدِيّ وابن أبي حازم والمغيرة بن عبد الرحمن، وروى عنه الجماعة لكن النَّسائي روى عنه بواسطة خَيّاط السُّنَّة، وبَقيّ بن مَخْلَد وأبو زُرعة وغيرهم. قال الزبير بن بكّار: مات وهو فقيه المدينة غير مدافع، وقال صاحب الميزان: لا أدري ما معنى قول أبي خَيْثَمَة لابنه: لا تكتب عن أبي مصعب، واكتب عمن شئت، فيحتمل أن يكون مراده دخوله في القضاء أو إكثاره من الفتوى بالرأي. وقال الحاكم: كان فقيهًا متقشفًا عالمًا بمذاهب أهل المدينة، وذكره ابن حبّان في الثقات، وقال ابن حزم: في موطئه زيادة على مئة حديث، وقدمه الدارقطنيّ في الموطأ على يحيى بن بُكَير. مات سنة اثنتين وأربعين ومئتين، عن اثنتين وتسعين سنة، ولم يرو له مسلم إلا حديث أبي هريرة "السفر قطعة من العذاب". والزهرِيّ في نسبه نسبة إلى زُهْرَة بن كِلاب أبي بطن من قريش، منه أمنا آمنة الزهرية. الثاني: محمد بن إبراهيم بن دينار المَدنِيّ، أبو عبد الله الجُهني، ويقال الأنصاريّ. يقال: لقبه صَنْدَل. روى عن ابن أبي ذئب، وسلمة بن

وَرْدان، ويزيد بن أبي عبيد، وابن عَجلان، وروى عنه ابن وهب، ويعقوب بن محمد الزُّهّري ويحيى بن إبراهيم بن أبي قَتِيلة وغيرهم. قال البخاريّ: معروف الحديث. وقال أبو حاتم: كان من فقهاء المدينة نحو مالك، وكان ثقة. وذكره ابن حبّان في الثقات. وقال ابن عبد البرّ: كان مدار الفتوى في آخر زمان مالك على المغيرة بن عبد الرحمن ومحمد بن إبراهيم بن دينار وقال في موضع آخر: كان فقيهًا فاضلًا له بالعلم رواية وغاية. وقال الدارقطني: ثقة توفي سنة اثنتين وثمانين ومئة. والجهني في نسبه مرَّ في التاسع عشر من العلم. الثالث: محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذِيب بكسر الذال المعجمة، القُرشيّ، العامريّ المدنيّ، الثقة، كبير الشأن، يكنى أبا الحارث، روى عن أخيه المغيرة، وخاله الحارث بن عبد الرحمن، وعبد الله بن السائب، وعكرمة مولى ابن عباس، ونافع مولى ابن عمر، والزُّهريّ، وسعيد المَقْبَرِيّ، وخلق. وروى عنه الثّوْرِيّ ومعمر، وهما من أقرانه، وسعد بن إبراهيم والوليد بن مسلم، وعبد الله بن نمير، وابن المبارك وغيرهم. قال أبو داود: سمعت أحمد يقول: كان ابن أبي ذِيب يشبَّه بسعيد بن المَسيّب. قيل لأحمد: خلف مثله ببلاده. قال: لا ولا بغيرها. وقال أحمد: ابن أبي ذيب كان يعد صدوقًا أفضل من مالك إلا أن مالكًا أشد تنقية للرجال منه كان ابن أبصب ذيب لا يبالي عمن يحدث عنه، وقال: كان رجلًا صالحًا، يأمر بالمعروف وقيل لأحمد: من أعلم، مالك أو ابن أبي ذيب؟ قال: ابن أبي ذيب أصلح في بدنه، وأورع، وأقوم بالحق من مالك عند السلاطين وقد دخل ابن أبي ذيب على أبي جعفر فلم يهبه أنْ قال له الحق، قال: الظلم فاشٍ ببابك. وأبو جعفر أبو جعفر. قيل له: ما تقول في حديثه. قال: كان ثقة صدوقًا رجلًا صالحًا ورعًا. وقال الشافعي: ما فاتني أحد فاسفت عليه ما أسفتُ على اللَّيْث وابن

أبي ذيب وقال النّسائيّ: ثقة، وقال ابن مَعين: ابن أبي ذيب ثقة، وكل من روى عنه ثقة إلا أبا جابر البَيّاخي، وكل من روى عنه مالك ثقة، إلا عبد الكريم أبا أميّة. وقال يعقوب بن شَيْبة: ابن أبي ذيب ثقةٌ صدوق، غير أن روايته عن الزُّهرِيّ خاصةً، تكلم فيها بعضهم بالاضطراب، قال: وسمعت أحمد ويحيى يتناظران في ابن أبي ذيب، وعبد الله بن جعفر المخرميّ، فقدم أحمد المخرميَّ على ابن أبي ذيب، فقال يحيى: المخرميُّ شيخٌ وأَيْش روى من الحديث؟ وأطرى ابن أبي ذيب، وقدمه تقديمًا كثيراً. قال: فقلت لعلي بعد، أيهما أحب إليك؟ قال: ابن أبي ذيب. قال: وسألت عليًا عن سماعه من الزهْريّ، فقال: عرضٌ، قلت: وإن كان عرضًا كيف هو؟ قال: مقارب. وقال الواقديّ: كان ابن أبي ذيب أورع الناس، وأفضلهم وكانوا يرمونه بالقدر، وما كان قدريًا، لقد كان يتقي قولهم. ويعيبه، ولكنه كان رجلًا كريمًا يجلس إليه كل أحد، وكان يصلي الليل أجمع، ويجتهد في العبادة. وأخبرني أخوه أنه كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، وكان شديد الحال، وكان من أشد الناس صرامة وقولًا بالحق، وكان يحفظ حديثه، لم يكن له كتاب، وقال أحمد بن عليّ الأبَّار: سألتُ مصعب بن الزبير عن ابن أبي ذيب، وقلت له: حدثوني عن أبي عاصم أنه كان قدريًا، فقال: معاذ الله إنما كان في زمن المهديّ، قد أخذوا أهل القدر، فجاء قوم فجلسوا إليه فاعتصموا به، فقال قوم: إنما جلسوا إليه لأنه يرى القدر. ودخل ابن أبي ذيب على عبد الصمد بن عليّ، فكلمه في شيء فقال له: إني لأحسبك مُرائيًا، فأخذ عودًا من الأرض وقال: من أرائي؟ فوالله للناسُ عندي أهون من هذا، قال: وكان ابن أبي ذيب يفتي بالمدينة، وكان عالمًا ثقة فقيهًا ورعًا عابدًا فاضلًا، وكان يرمى بالقدر وقال ابن حِبّان في الثقات: كان من فقهاء أهل المدينة وعبّادهم، وكان من أقول أهل زمانه للحق، وعظ المهدي، فقال له: أما إنك أصدق القوم. وكان مع هذا يرى القدر، وكان مالك يهجره من أجله. وقال

لطائف إسناده

الخليليّ: ثقة أثنى عليه مالك، فقيه من أئمة أهل المدينة. حديثه مخرَّجُ في الصحيح وإنما تكلموا في سماعه من الزُّهريّ لأنه كان بينه وبين الزُّهري شيء، فحلف الزُّهريُّ أن لا يحدثه، ثم ندم، فسأله ابن أبي ذيب أنْ يكتب له أحاديث أرادها فكتبها له، فلأجل هذا لم يكن في الزُّهريّ بذلك بالنسبة إلى غيره. وقد قال عمرو بن الغَلّاس: هو أحب إلى في الزُّهري من كل شامي. مات سنة ثمان وخمسين ومئة، وقيل سنة تسع وخمسين. والعامريّ في نسبه نسبة إلى عامر بن لؤي بن غالب بن فِهر أبي بطن من بطون قُريش الإثني عشر. الرابع: سعيد بن أبي سعيد المقْبريّ، مر تعريفه في الحديث الثالث والثلاثين من كتاب الإيمان، ومر تعريف أبي هريرة في الحديث الثاني من كتاب الإيمان. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة، ورواته كلهم مدنيون، وكلهم أئمة أجلاء، أخرجه البخاري هنا وفي علامات النبوة. والتِّرمْذيُّ في المناقب، وقال: حسن صحيح. ثم قال المصنف: حدثنا إبراهيم بن المنذر قال: حدثنا ابن أبي فُدَيك بهذا، أو قال: "غُرف بيده فيه". قوله "بهذا" أي بهذا الحديث، كما ساقه المؤلف في علامات النبوة، وقوله أو قال "غرف بيده فيه" يعني بإفراد اليد، مع زيادة فيه بضمير راجع للثوب، وللمستملي وحده "يحذف فيه" بالحاء المهملة والذال المعجمة والفاء، من الحذف، وهو الرمي. وقال في "الفتح": إن هذه الرواية تصحيف، لأنه لم يذكر في علامات النبوة إلا الغرف، وكذا رواه ابن سعد في الطبقات عن أبي فُدَيك، ولم يذكر إلا الغرف. وما قاله العينيّ من أنها لو كانت تصحيفًا لنبه عليها صاحب "المطالع" لا حجة فيه على عدم تصحيفها، إذ لا يلزم من عدم

تنبيه صاحب "المطالع" عليها أن لا تكون تصحيفًا، وما ذكر من قوله "حدثنا إبراهيم" الخ ساقط في رواية أبي ذَرٍ والأصيليّ وابن عساكر. أما إبراهيم بن المنذر فقد مر تعريفه في الحديث الأول من كتاب العلم، وأما ابن أبي فُدَيك فهو: أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فُدَيك، واسم أبي فُديك دينار الدِّيليّ، مولاهم، المدنيّ. روى عن أبيه، ومحمد بن عمرو ابن علقمة حديثاً واحدًا، وهشام بن سعد وابن أبي ذيب وغيرهم. وروى عنه الشافعيّ والحُميدي وأحمد بن صالح وخلق كثير. قال النَّسائيّ: ليس به بأس، وذكره ابن حبّان في الثقات، وقال ابن مَعين: ثقة، وقال ابن سعد: كان كثير الحديث، وليس بحجة كذا قال ابن سعد، ولم يوافقه على ذلك أئمة الجرح والتعديل. وقد احتج به الجماعة، وقد اشترك مع محمد ابن إبراهيم بن دينار المار في الرواية عن ابن أبي ذيب، وفي كونهما مدنيَّيْن، وليس له في البخاريّ سوى أربعة أحاديث. مات سنة مئتين. وقيل سنة إحدى ومئتين والدِّيلي بكسر الدال في نسبه نسبة إلى ديل، حي من أحياء العرب، ولا أدري لأي ديل نسبه؛ لأن دِيل عدد كثير. في عبد القيس ديلان: دِيْل بن شَنّ بن أَفْصى بن عبد القيس، وديل بن عمرو بن وَدِيعة بن أفصى بن عبد القيس، منهم أهل عُمان، كما في الصحاح. فمن بني الدِّيل بن شَنّ عبد الرحمن بن أُذينة، كان قاضي البصرة، وعمرو بن الجُعَيد الذي ساق عبد القيس إلى البحرين، وكان يقال له: أفكل من ولده المثنى بن مَخْرَمة صاحب علي رضي الله عنه، وِمن بني الديل بن عمرو أيضًا عوف بن الديل، وحَطِم بن حَبْلة، وأبو نَضرة صاحب أبي سعيد الخُدرِيّ. وفي الأزد أيضًا الديل بن هَدَّاد بن زيد مناة، وفي إياد الديل بن أمية، وبنو الديل من بني بكر بن عبد مناة بن كنانة، منهم أبو الأسود كما قال الكسائي وأبو عبيد، والديل أيضًا ابن الصبّاح بن عَبِيد بن عَبْد شمس بطن من عَنزة.

الحديث الثاني والستون

الحديث الثاني والستون حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي أَخِي عَنِ ابْنِ أَبِى ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وِعَاءَيْنِ، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ قُطِعَ هَذَا الْبُلْعُومُ. قوله "حفظت عن" وفي رواية الكُشْميهنيّ "من" بدل "عن"، وهي أصرح في تلقيه من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بلا واسطة. وقوله "وعاءين" بكسر الواو والمد، تثنيه وعاء، وهو الظرف، أطلق المحل وأراد به الحالَّ، أي: نوعين من العلم، وبهذا يندفع ما قيل من أن هذا يعارض قوله في الحديث الماضي "كنت لا أكتب"، وإنما مراده أن محفوظه من الحديث لو كتب لملأ وعاءين، ويحتمل أن يكون أبو هُريرة أملى حديثه على من يثق به، فكتبه له وذهب به معه، أو تركه عنده، والأول أولى. ووقع في المسند عنه: حفظت ثلاثة أجربة بثثت منها جرابين، وليس هذا مخالفًا لحديث الباب؛ لأنه يحمل على أن أحد الوعاءين كان أكبر من الآخر، بحيث يجيء ما في الكبير في جرابين، وما في الصغير في واحد. ووقع للرامهْرمَزيّ من طريق منقطعة عن أبي هريرة "خمسة أجْربة" وهو إن ثبت محمول على نحو ما تقدم، وعرف من هذا أن ما نشره من العلم أكثر مما لم ينشره، يعني من قوله في رواية المسند "بَثثتُّ منها جرابين" وقوله: "فبثثته" بموحدة ومثلثتين بعدهما مثناة فوقية، ودخلته الفاء لتضمن إما معنى الشرط، أي نشرته، وللأصيليّ: فبثثته في الناس. وقوله "قطع هذا البلعوم" وفي رواية "لَقُطِع". والبلعوم، بضم الباء مجرى الطعام في الحلق، وكُني به عن القتل، وهو المريء الأحمر، وعند الفقهاء الحلقوم، مجرى النَّفَس دخولًا وخروجًا والمريء مجرى الطعام والشراب، وهوتحت

الحلقوم وأراد بالوعاء الأول ما حفظه من الأحاديث ونشره، وبالوعاء الذي لم يبثّه الأحاديث التي فيها تبيين أسامي أُمراء السوء وأحوالهم وزمنهم. وقد كان أبو هريرة يكني عن بعضه ولا يصرح به، خوفًا على نفسه منهم، كقوله: أعوذ بالله من رأس الستين، وإمارة الصبيان، يشير إلى إمارة يزيد بن معاوية؛ لأنها كانت سنة ستين من الهجرة، واستجاب الله دعاء أبي هريرة، فمات قبلها بسنة، وهذا الحديث أخرجه ابن أبي شيبة، وعلي بن مَعْبد مرفوعًا. وفيه قالوا: وما إمارة الصبيان؟ قال: إنْ أطعتموهم هلكتم، أي: في دينكم، وانْ عصيتموهم أهلكوكم، أي في دنياكم: بإزهاق النفس، أو بإذهاب المال، أو بهما. أو المراد بالثاني ما كتمه من أخبار الفتن وأشراط الساعة، وما أخبر به الرسول، صلى الله تعالى عليه وسلم، من فساد الدين على يدي أغَيلمةٍ من سُفهاء قريش. وكان أبو هُريرة يقول، كما في البخاريّ: لو شئت أنْ أقول بني فلان وبني فلان، لفعلتُ. ووجه كتمانه لأشراط الساعة وتغير الأحوال والملاحم في آخر الزمان أنه ينكر عليه ذلك من لم يألفه، ويعترض عليه من لا شعور له به. قال ابن المنير: جعل الباطنية هذا الحديث ذريعة إلى تصحيح باطلهم، حيث اعتقدوا أن للشريعة ظاهرًا وباطنًا، وذلك الباطل إنما حاصله الانحلال من الدين. قال: وإنما أراد أبو هريرة بقوله "قطع" أي: قطع أهل الجور رأسه إذا سمعوا عيبه لفعلهم، وتضليله لسعيهم، ويؤيد ذلك أن الأحاديث المكتومة لو كانت من الأحكام الشرعية ما وسعه كتمانها، لما ذكره في الحديث الأول من الآية الدالة على ذم من كتم العلم. وقيل: المراد به علم الأسرار المصون عن الأغيار، المختص بالعلماء بالله من أهل العرفان والمشاهدات والإتقان، التي هي نتيجة علم الظاهر، والعمل بما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام، والوقوف عند ما حَدَّه، وهذا لا يظفر به إلا الغواصون في بحر المُجَاهدات، ولا يسعد به إلا المصطَفون بأنوار المشاهَدات، لكن في كون هذا هو المراد نظرٌ من

رجاله خمسة

حيث أنه لو كان كذلك لما وسع أبا هريرة كتمانه مع ما ذكره من الآية الدالة على ذم كتمان العلم، ولاسيما هذا الشأن الذي هو لُب ثمرة العلم، وأيضًا فإنه نفى بثه على العموم من غير تخصيص، فكيف يستدل به لذلك وأبو هريرة لم يكشف مستوره فيما علم؟ فمن أين علم أن الذي كتمه هو هذا؟ فمن ادعى ذلك فعليه البيان. قال القَسْطلاني: فقد ظهر أن الاستدلال بذلك لطريق القوم، فيه ما فيه، على أنهم في غنية عن الاستدلال، إذ الشريعة ناطقة بأدلتهم، ومن تصفَّح الأخبار، وتتبع الآثار، مع التأمل والاستنارة بنور الله، ظهر له ما قلته. وفي الحديث جواز ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للخوف على النفس، وقد مر بعض الكلام على ذلك عند قول أبي ذَرٍ "لو وضعتم الصَّمْصَامة على هذه" الخ في باب العلم قبل القول والعمل. رجاله خمسة: الأول إسماعيل بن أبي أويس، مر تعريفه في الحديث الخامس عشر من كتاب الإيمان. الثاني: أخوه عبد الحميد بن عبد الله بن أُويس بن مالك بن أبي عامر الأصْبَحِيّ المدَنيّ الأعشى، أبو بكر بن أبي أويس. روى عن مالك عم جده الربيع بن مالك، وابن أبي ذيب، ومالك بن أنس، وابن عَجلان، وروى عنه أخوه إسماعيل وأيوب بن سليمان بن بلال، وإسحاق بن راهويه وخلق. قال عثمان الدارميّ عن ابن مَعين: ثقة. وقال الآخرون عن يحيى: ليس به بأس. وقال الآجرِيّ: قدمه أبو داود على إسماعيل تقديمًا شديدًا، وذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال النَّسائي: ضعيف، وقال الحاكم عن الدارقطني: حجة. قال الأزْديّ في ضعفائه: أبو بكر الأعشى يضع الحديث، فكأنه ظن أنه آخر غير هذا، وقد بالغ أبو عمر بن عبد البر في الرد على الأزْديّ فقال: هذا رجم بالظن الفاسد، وكذب محض ... إلى آخر كلامه. احتج به الجماعة إلا ابن ماجه، وكان أكبر من أخيه إسماعيل.

لطائف إسناده

مات ببغداد سنة اثنتين ومئتين. والأصبْحي في نسبه مر في الحديث الثاني من بدء الوحي. الثالث: ابن أبي ذيب، مر في الحديث الستين من كتاب العلم، وهو الذي قبل هذا. والرابع: سعيد بن أبي المَقْبَريّ، مر تعريفه في الثالث والثلاثين من كتاب الإيمان، ومر أبو هريرة في الحديث الثاني منه أيضًا. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع والإفراد والعنعنة، وفيه رواية الأخ عن الأخ ورواته كلهم مدنيون، وهذا الحديث انفرد به البخاريّ عن الجماعة، وهنا قال أبو عبد الله: "البلعوم مجرى الطعام" وأبو عبد الله المراد به البخاريّ. ثم قال المصنف: باب الإنصات للعلماء أي السكوت والاستماع لما يقولونه

الحديث الثالث والستون

الحديث الثالث والستون حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَلِىُّ بْنُ مُدْرِكٍ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ جَرِيرٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لَهُ فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ "اسْتَنْصِتِ النَّاسَ" فَقَالَ: "لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ". قوله: "قال له في حَجِة الوَداع" بفتح الحاء وكسرها، عند جمرة العقبة، وادعى بعضهم أن لفظ "له" زيادة؛ لأن جريرًا إنما أسلم بعد حجة الوداع بشهرين، فقد جزم ابن عبد البرّ بأنه أسلم قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بأربعين ليلة، وما جزم به معارضٌ بقول البَغَويّ وابن حبّان بأنه أسلم في رمضان سنة عشر، وللمصنف في "باب حجة الوداع" أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال لجرير، وهذا لا يحتمل التأويل، فيقوّي ما قال البغَويّ. وقوله "استنصت" استفعال من الإنصات، ومعناه طلب السكوت، وقد وقع التفريق بين الانصات والاستماع في قوله تعالى {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204]، ومعناهما مختلف، فالإنصات هو السكوت، وهو يحصل ممن يستمع وممن لا يستمع، كأن يكون مفكرًا في أمر آخر، وكذلك الاستماع قد يكون مع السكوت، وقد يكون مع النطق بكلام آخر، لا يشتغل الناطق به عن فهم ما يقول الذي يستمع منه. وقد قال سفيان الثَّورِيّ وغيره: أول العلم الاستماع ثم الإنصات ثم العمل ثم النشر. وعن الأصمعي تقديم الإنصات على الاستماع، وقد ذكر علي بن المدِينّي أنه قال لابن عُيَينة: أخبرني معتِمر بن سليمان عن كهمس عن مُطْرف قال: الإنصات من العينين، فقال له ابن عُيينة: وما

ندري كيف ذلك؟ قال: إذا حدثت رجلًا فلم ينظر إليك لم يكن منصتًا. وهذا في الغالب. قال ابن بّطال فيه: إن الإنصات للعلماء لازمٌ للمتعلمين؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء، كأنه اراد بهذا مناسبة الترجمة للحديث، وذلك أن العقبة المذكورة كانت في حجة الوداع، والجمع كثير جدًا، وكان اجتماعهم لرمي الجمار، وغير ذلك من أمور الحج، وقد قال لهم "خذوا عني مناسككم" كما ثبت في صحيح مسلم، فلما خطبهم ليعلمهم ناسب أن يأمرهم بالإنصات. وقوله "لا ترجعوا بعدي كفارًا" بصيغة النهي، وهو المعروف أي: لا تصيروا. ولأبي ذَر "لا ترجعون" بصيغة الخبر، وقد أطلق الكفر على قتال المؤمنين مبالغة في التحذير من ذلك، لينزجر السامع عن الإقدام عليه أو أنه على سبيل التشبيه؛ لأن ذلك من فعل الكافر، أي لا تتشبهوا بالكفر في قتل بعضهم بعضًا. وجملة ما قيل في معناه عشرة أقوال: قيل: المراد به ستر الحق، والكفر، لغةً، الستر؛ لأن حق المسلم أن ينصره ويعينه، فلما قاتله، كأنه غطَّى على حقه الثابت له عليه. الثاني: هو أن الفعل المذكور يفضي إلى الكفر؛ لأن من اعتاد الهجوم على كبار المعاصي جره شؤم ذلك إلى أشد منها، فيخشى أن لا يختم له بخاتمة الإِسلام. الثالث: قول الخوارج: إنه على ظاهره. الرابع: هو في المُسْتَحلِّين. الخامس: كفارًا بحرمة الدماء، وحرمة المسلمين، وحقوق الدين. السادس: تفعلون فعل الكفار في قتل بعضهم بعضًا. السابع: لابسين السلاح، يقال: كفَر دِرْعة، إذا لبس فوقها ثوبًا.

رجاله خمسة

الثامن: كفارًا بنعمة الله. التاسع: المراد الزجر عن الفعل، وليس ظاهره مرادًا. العاشر: لا يكفر بعضكم بعضًا. كأنْ يقول أحد الفريقين للآخر: يا كافر، فيكفر أحدهما. وقال الدّاوديّ: معناه لا تفعلوا بالمؤمنين ما تفعلونه بالكفار، ولا تفعلوا لهم ما لا يحل، وأنتم ترونه حرامًا، وهو داخل في المعاني المتقدمة، واستشكل بعض الشراح غالب هذه الأجوبة بأن بعض رواة الخبر، وهو أبو بكرة، فهم منه خلاف ذلك. والجواب أن فهمه ذلك إنما يعرف من توقفه عن القتال، واحتجاجه بهذا الحديث، فيحتمل أن يكون توقفه بطريق الاحتياط لما يحتمله ظاهر اللفظ، ولا يلزم أن يكون يعتقد حقيقة كفر من باشر ذلك. ويؤيده أنه لم يمتنع من الصلاة خلفهم، ولا امتثال أوامرهم، ولا غير ذلك، مما يدل على أنه يعتقد فيهم حقيقته. وقوله "يضربْ بعضكم رقابَ بعض" بجزم يضرب على أنه جواب النهي، وهذا يقوي الحمل على الكفر الحقيقي، ويحتاج إلى التأويل بالمستحل مثلًا، وبالرفع على الاستئناف بيانًا لقوله "لا ترجعوا" فلا يكون متعلقًا بما قبله، أوحالًا من ضمير "ترجعوا" أي: لا ترجعوا بعدي كفارًا حال ضرب بعضكم رقاب بعض، أو صفة أي: لا ترجعوا بعدي كفارًا متصفين بهذه الصفة القبيحة من ضرب بعضكم لبعض. رجاله خمسة: الأول: حَجَّاجُ بن مَنْهال، مرَّ تعريفه في الحديث التاسع والأربعين من كتاب الإيمان. الثاني: شُعبة بن الحَجَّاج، مر أيضًا في الحديث الثالث منه أيضًا. ومر تعريف أبي زرعة في الحديث الثلاثين منه أيضًا. ومر تعريف جرير بن عبد الله في الحديث الحادي والخمسين منه أيضًا.

لطائف إسناده

وأما علي بن مُدْرك فهو أبو مُدْرك النخعِيّ الكُوفي، روى عن أبي زَرعة ابن عمرو بن جرير وإبراهيم النخعيّ وهلال بن يساف، وتميم بن طَرَفة وخلق. وروى عنه الأعمش والمسعوديّ وشُعبة وحَنَش بن الحارث وغيرهم. قال ابن مُعين والنَّسائي: ثقة، وقال أبو حاتم: صالح صدوق، ثم قال: ثقة، وذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال إنه سمع من أبي مسعود البدريّ، فلذلك عده في التابعين، وقال العجلي: كوفي ثقة، له في مسلم حديثان، أحدهما عن جرير في استنصات الناس في حجة الوداع، والثاني عن أبي ذَرٍ. مات سنة عشرين ومئة، والنخعي في نسبه مر في الخامس والعشرين من الإِيمان. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والإِخبار بصيغة الجمع والإفراد والعنعنة، ورواته ما بين كوفيّ وواسطيّ وبصريّ، وفيه رواية ابن عن جده، أخرجه البخاريُّ هنا وفي المغازي وفي الديات، ومسلم في الإِيمان، والنَّسائيّ في العلم وفي المحاربة، وابن ماجه في الفتن، وهو قطعة من حديث أبي بكرة الطويل، ذكره البخاري في الخطبة أيام مِنى، ومسلم في الجنايات، وقد تقدمت قطعة من حديث أبي بكرة في كتاب العلم في موضعين. ثم قال المصنف: باب ما يستحب للعالم إذا سئل أيُّ الناس أعلم فيكل العلم إلى الله تعالى. الفاء في قوله "فيكل" تفسيرية بناء على أن فعل المضارع بتقدير المصدر، أي ما يستحب عند السؤال، هو الوكول، وفي رواية أن يكل، وهو أوضح.

الحديث الرابع والستون

الحديث الرابع والستون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قَالَ قُلْتُ لاِبْنِ عَبَّاسٍ إِنَّ نَوْفًا الْبِكَالِيَّ يَزْعُمُ أَنَّ مُوسَى لَيْسَ بِمُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِنَّمَا هُوَ مُوسَى آخَرُ. فَقَالَ كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ، حَدَّثَنَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "قَامَ مُوسَى النَّبِيُّ خَطِيبًا فِى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَسُئِلَ أَىُّ النَّاسِ أَعْلَمُ فَقَالَ أَنَا أَعْلَمُ. فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ، إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِي بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ. قَالَ يَا رَبِّ وَكَيْفَ بِهِ فَقِيلَ لَهُ احْمِلْ حُوتًا فِى مِكْتَلٍ فَإِذَا فَقَدْتَهُ فَهْوَ ثَمَّ، فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقَ بِفَتَاهُ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ، وَحَمَلاَ حُوتًا فِى مِكْتَلٍ، حَتَّى كَانَا عِنْدَ الصَّخْرَةِ وَضَعَا رُءُوسَهُمَا وَنَامَا فَانْسَلَّ الْحُوتُ مِنَ الْمِكْتَلِ فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ سَرَبًا، وَكَانَ لِمُوسَى وَفَتَاهُ عَجَبًا، فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ لَيْلَتِهِمَا وَيَوْمِهِمَا فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا، لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا، وَلَمْ يَجِدْ مُوسَى مَسًّا مِنَ النَّصَبِ حَتَّى جَاوَزَ الْمَكَانَ الَّذِى أُمِرَ بِهِ. فَقَالَ لَهُ فَتَاهُ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ، قَالَ مُوسَى ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي، فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا، فَلَمَّا انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ إِذَا رَجُلٌ مُسَجًّى بِثَوْبٍ أَوْ قَالَ تَسَجَّى بِثَوْبِهِ فَسَلَّمَ مُوسَى. فَقَالَ الْخَضِرُ وَأَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلاَمُ فَقَالَ أَنَا مُوسَى. فَقَالَ مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ نَعَمْ. قَالَ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رَشَدًا قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا، يَا مُوسَى إِنِّى عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ لاَ تَعْلَمُهُ أَنْتَ، وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ عَلَّمَكَهُ لاَ أَعْلَمُهُ. قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا، وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْرًا، فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ لَيْسَ لَهُمَا سَفِينَةٌ، فَمَرَّتْ بِهِمَا سَفِينَةٌ، فَكَلَّمُوهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُمَا، فَعُرِفَ الْخَضِرُ، فَحَمَلُوهُمَا بِغَيْرِ نَوْلٍ، فَجَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى

حَرْفِ السَّفِينَةِ، فَنَقَرَ نَقْرَةً أَوْ نَقْرَتَيْنِ فِى الْبَحْرِ. فَقَالَ الْخَضِرُ يَا مُوسَى، مَا نَقَصَ عِلْمِى وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلاَّ كَنَقْرَةِ هَذَا الْعُصْفُورِ فِى الْبَحْرِ. فَعَمَدَ الْخَضِرُ إِلَى لَوْحٍ مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ فَنَزَعَهُ. فَقَالَ مُوسَى قَوْمٌ حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْلٍ، عَمَدْتَ إِلَى سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ. فَكَانَتِ الأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا. فَانْطَلَقَا فَإِذَا غُلاَمٌ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَ الْخَضِرُ بِرَأْسِهِ مِنْ أَعْلاَهُ فَاقْتَلَعَ رَأْسَهُ بِيَدِهِ. فَقَالَ مُوسَى أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَهَذَا أَوْكَدُ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا، فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا، فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ. قَالَ الْخَضِرُ بِيَدِهِ فَأَقَامَهُ. فَقَالَ لَهُ مُوسَى: لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا. قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ". قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- "يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى، لَوَدِدْنَا لَوْ صَبَرَ حَتَّى يُقَصَّ عَلَيْنَا مِنْ أَمْرِهِمَا". قوله "إن موسى" أي صاحب الخِضْر، كما صرح به المصنف في التفسير، وقوله "ليس بموسى بني إسرائيل" أي المرسل إليهم، والباء زائدة للتأكيد حذفت في رواية الأربعة، وأضيف "لبني إسرائيل" مع العلمية؛ لأنه نكرَّ بأن أولَّ بواحد من الأمة المسماة به، ثم أُضيف إليه. وقوله "إنما هو موسى آخر" بغير تنوين فيهما، لأنه علم شخص معين، وقد قالوا: إنه موسى بن مِيْشا، كما مر في هذا الحديث في باب ذهاب موسى في البحر. وروي بتنوين موسى، لكونه نكرة، فانصرف لزوال علميته، وقوله "كذب عدو الله" قال ابن التين: لم يرد ابن عباس إخراج نوْف عن ولاية الله، ولكن قلوب العلماء تنفر إذا سمعت غير الحق، فيطلقون أمثال هذا الكلام لقصد الزجر والتحذير منه، وحقيقته غير مرادة، وقد قاله في حال الغضب، وألفاظ الغضب تقع على غير الحقيقة غالبًا، ويجوز أن يكون ابن عباس اتَّهم نوفًا في صحة إسلامه، فلهذا لم يقل في الحُرِّ بن قيس هذه المقالة

مع تواردهما عليها. كما مر في الحديث المذكور. وأما تكذيبه له، فلكونه قال غير الواقع، ولا يلزم منه تعمده. ويستفاد منه أن للعالم إذا كان عنده علم بشيء، فسمع غيره يذكر فيه شيئًا بغير علم، أن يكذبه، ونظيره قوله، صلى الله تعالى عليه وسلم "كذب أبو السَّنَابِل" أي: أخبر بما هو باطل في نفس الأمر، وقوله "حدثني أبي بن كعب" في استدلاله بذلك دليل على قوة خبر الواحد المتقين عنده، حيث يطلق مثل هذا الكلام في حق من خالفه، وقوله "قام موسى خطيبًا في بني إسرائيل فسُئل" وعند المصنف في التفسير قال: ذكر الناس يومًا حتى إذا فاضت العيون، ورقت القلوب، ولى فأدركه رجلٌ. قال في "الفتح": لم أقف على اسمه، وهذا يقتضي أن السؤال عن ذلك وقع بعد أن فرغ من الخطبة، وتوجَّه. وروايه الباب توهم أن ذلك وقع في الخطبة، ويمكن حملها على هذه الرواية بأن تحمل على أن فيها حذفًا تقديره: قام خطيبًا، فخطب، ففرغ، فتوجه، فسئل. والذي يظهر أن السؤال وقع وموسى بعد لم يفارق المجلس، ويؤيده أن في منازعة ابن عباس والحُرّ بن قيس السابقة "بينما موسى في ملأ بني إسرائيل جاءه رجل، فقال: هل تعلم أحدًا أعلم منك ... " الحديث. وقوله "أي الناس أعلم" أي منهم، على حد "الله أكبر" أي: من كل شيء. وقوله "فقال أنا أعلم" قيل: إن هذه مخالفة لقوله في الرواية السابقة في باب الخروج في طلب العلم "هل تعلم أحدًا أعلم منك؟ قال: لا" ويمكن أن يقال لا مخالفة بينهما؛ لأن قوله هنا " أنا أعلم" أي فيما أعلم، فيطابق قوله "لا" في جواب من قال له: هل تعلم أحدا أعلم منك؟ في إسناد ذلك إلى علمه، لا إلى ما في نفس الأمر، لكن قد مر لك أن الرواية السابقة يبقى معها احتمال المساواة، وهذه تقتضي الجزم بالأعلمية له. وعند النَّسائِيّ: قام موسى خطيبًا، فعرض في نفسه أن أحدًا لم يؤتَ من العلم ما أوتي، وعلم الله بما حدث به نفسه، فقال: "ياموسى، إنَّ من

عبادي من آتيته من العلم ما لم أوتك". وعند عبد الرزاق قال: "ما أجد أعلم بالله وأمره مني". قال ابن المنير: ظن ابن بَطَّال أن ترك موسى الجواب عن هذه المسألة كان أوْلى، قال: وعندي أنه ليس كذلك، بل ردُّ العلم إلى الله تعالى متعين أجاب أو لم يجب، فلو قال موسى عليه السلام: أنا، والله أعلم، لم تحصل المعاتبة، وإنما عوتب على اقتصاره على ذلك؛ لأن الجزم يوهم أنه كذلك في نفس الأمر، وإنما مراده الإخبار بما في علمه كما مر. وقوله "فعتب الله عليه" العتب من الله تعالى محمولٌ على ما يليق به تعالى، لا على معناه العُرْفيّ في الآدميين، الذي هو تغيير النفس المستحيل عليه تعالى، كنظائره، وقد مر المراد به في الرواية السابقة، وقوله "إذ لم يَرد العلم إليه" إذ تعليلية، أي: فكان يقول: الله أعلم، وفي رواية الكشميهنيّ "إلى الله" ويرد بضم الدال اتباعًا لسابقها، وبفتحها لخفته، وبكسرها على الأصل في الساكن إذا حرك. وجوز الفك أيضًا، وقوله: "فأوحى الله إليه أن عبدًا" أي: بأن، وروي بكسر الهمزة على تقدير "فقال: إن عبدًا" والمراد به الخِضْر. وقوله "بمجَمْع البحرين" أي كائنًا به. واختلف في مكان مجمع البحرين فروي عن قتادة قال: بحر فارس والروم، وعن السّدِّيّ قال: هما الكَرّ والرَّشن، حيث يصبان في البحر، وقال ابن عطية: مجمع البحرين ذراع في أرض فارس من جهة أذربيجان، يخرج من البحر المحيط من شماليّه إلى جنوبيّه، وطرفيه مما يلي برّ الشام. وقيل: هما بحر الأردن والقُلْزُم. وقال محمد بن كعب القُرَظي: مجمع البحرين بطَنْجَة. وعن ابن المبارك. قال بعضهم: بحر أرمِينيَّة. وعن أُبي بن كعب قال: بإفريقية. أخرجهما ابن أبي حاتم، لكن السند إلى أُبي ضعيف، وأغرب من ذلك ما نقله القرطبيُّ عن ابن عباس قال: المراد بمجمع البحرين اجتماع موسى والخِضر؛ لأنهما بحرا علم، وهذا غير ثابت، ولا يقتضيه اللفظ، وإنما يحسنُ في مناسبة اجتماعهما بهذا المكان المخصوص، كما قال السُّهيليّ: اجتمع البحران بمجمع البحرين.

وقوله "هو أعلم منك" ظاهر في أنّ الخِضر نبيٌّ، بل نبي مرسل، إذ لو لم يكن كذلك للزم تفضيل العالي على الأعلى، ولهذا أورد الزَّمخشرِيُّ سؤالاً، وهو دلت حاجة موسى إلى التعليم من غيره، أنه موسى بن مِيشا، كما قيل، إذ النبيُّ يجب أن يكون أعلم أهل زمانه، وأجاب بأنه لا نقص بالنبيّ في أخذ العلم من نبي مثله. قيل: وفي الجواب نظر؛ لأنه يستلزم نفي ما أُوجب، والحق أن المراد بهذا الإطلاق تقييد الأعلمية بأمر مخصوص، لقوله بعد هذا "إني على علمٍ من علم الله عَلْمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم علَّمَكَه الله لا أعلمه" والمراد يكون النبي أعلم أهل زمانه، أي: ممن أرسل إليه، ولم يكن موسى مرسلًا إلى الخضر، وإذًا فلا نقص به إذا كان الخضر أعلم منه، إن قلنا إنه نبيُّ مرسل، أو أعلم منه في أمر مخصوص إن قلنا إنه نبيٌّ أو وَلِيٌّ وينحل بهذا التقرير إشكالات كثيرة. ومن أوضح ما يستدل به على نبوة الخِضر قوله {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82] وينبغي اعتقاد كونه نبيًا لئلا تتذرع بذلك أهل الباطل في دعواهم أن الولي أفضل من النبي، حاشا وكلا. وتعقب ابن المنير على ابن بطّال إيراده في هذا الموضع كثيراً من أقوال السلف في التحذير من الدعوى في العلم، والحث على قول العالم "لا أدري"، بأن سياق مثل ذلك في هذا الموضع غير لائق. وهو كما قال رحمه الله تعالى. قال: وليس قول موسى عليه السلام "أنا أعلم" كقول آحاد الناس مثل ذلك، ولا نتيجة قوله كنتيجة قولهم، فإن نتيجة قولهم العجب والكبر، ونتيجة قوله المزيد من العلم، والحث على التواضع، والحرص على طلب العلم. واستدلاله به أيضاً على أنه لا يجوز الاعتراض بالعقل على الشرع خطأٌ؛ لأن موسى إنما اعترض بظاهر الشرع لا بالعقل المجرد، ففيه حجة على صحة الاعتراض بالشرع على ما لا يسوغ فيه، ولو كان مستقيمًا في باطن الأمر. وقوله "قال ربِّ" بحذف أداة النداء وياء المتكلم، تخفيفًا جتزاءًا بالكسرة، وفي رواية "يارب". وقوله "وكيف لي به" أي: كيف السبيل إلى

لقائه؟ وقوله "في مِكتَلِ" بكسر الميم. وفتح المثناة الفوقية، شِبْه الزِّنْبيل، يسع خمسة عشر صاعًا. وقوله "فهو ثمَّ" بفتح المثلثة، ظرف بمعنى هناك، أي العبد الأعلم منك هناك. وقوله، "وانطلق بفتاه يوُشَع بن نونٍ" يوشع مجرور بالفتحة، عطف بيان لفتاه، غير منصرف للعلمية والعجمة، ونوِن مجرور بالإضافة، منصرف كنوحٍ ولوطٍ على الفصحى، وفي رواية أبي ذرٍ "وانطلق معه فتاه" فصرح بالمعية للتأكيد وإلا فالمصاحبة مستفادة من قوله في {لِفَتَاهُ} [الكهف: 62]. ويوشع هو الذي قام في بني إسرائيل بعد موت موسى ونقل ابن العربيّ أنه كان ابن أخت موسى، وعلى القول الذي نقله نوف بن فضالة من أن موسى صاحب هذه القصة ليس هو ابن عمران فلا يكون فتاه يوشع بن نون، وأمّا ما رواه الطَّبري عن عكرمة، قال: قيل لابن عباس: لم نسمع لفتى موسى بذكرٍ من حين لقي الخضر، فقال ابن عباس: إن الفتى شَرِب من الماء الذي شرب منه الحوت فَخَلَدَ، فأخذه العالم، فطابق به بين لوحين، ثم أرسله في البحر، فإنها لتموج به إلى يوم القيامة. وذلك أنه لم يكن له أن يشرب منه قال أبو نصر القُشَيْرِيّ: إن ثبت هذا فليس هو يوشع، فإن إسناده ضعيف. وقد مر في الحديث السابق ما قاله ابن العربيّ من أن الفتى ليس هو يوشع، وما اعترض به عليه. وقوله: "فانسلَّ الحوت من المِكتل" أي لأنه أصابه من ماء عين الحياة الكائنة في أصل الصخرة شيء، إذ أصابتها مقتضيةٌ للحياة، لما عند المؤلف في رواية. وقوله {فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} [الكهف: 61] أي مذهباً ومسلكًا يَسْرُب فيه، ومنه {وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} [الرعد: 10] أي: سألك في سِرْبه، أي: مذهبه، ومنه أصبح فلان آمنًا في سِرْبه، ومنه انْسرب فلانٌ، إذا مضى، وزاد في سورة الكهف: وأمسك الله عن الحوتِ جِرْيَة الماء فصار عليه مثل الطّاق. وقوله "وكان لموسى وفتاه عجبًا" أي: كان إحياء الحوت المملوح،

وإمساك جرية الماء حتى صار مَسْلكًا. وقوله "فانطلقا بقية ليلتهما ويومهما" وليلتهما بالجر على الإضافة، ويومهما بالنصب عطف على بقية. وفي مسلم كالمؤلف في التفسير "بقية يومهما وليلتهما" وهو الصواب، لقوله بعده "فلما أصبح" لأنه لا يصبح إلا عن ليل، ويحتمل أن يكون المراد بقوله "فلما أصبح" أي: من الليلة التي تلي اليوم الذي سارا جميعه. وقوله "آتنا غداءنا" بفتح الغين مع المد، وهو الطعام يؤكل أول النهار. وقوله {فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ} [الكهف: 63] أي نسيت ذكره بما رأيت، وأما قوله تعالى: {نَسِيَا حُوتَهُمَا} [الكهف: 61] فقيل: نسب النسيان إليهما تغليبًا، والناسي هو الفتى، نسي أن يخبر موسى، كما جاء في رواية التفسير. وقيل: المراد أن الفتى نسي أن يخبر موسى بقصة الحوت، ونسي موسى أن يستخبره عن شأن الحوت بعد أن استيقظ؛ لأنه حينئذ لم يكن معه، وكان بصدد أن يسأله أين هو، فنسي ذلك. وقيل: المراد بقوله {نَسِيَا} [الكهف: 61] أخرَّا، مأخوذ من النِّسْي بكسر النون، وهو التأخير، والمعنى أنهما أخرا افتقاده لعدم الاحتياج إليه، فلما احتاجا إليه ذكراه، وهو بعيد، بل صريح الآية يدل على صحة صريح الخبر، وأن الفتى اطلع على ما جرى للحوت، ونسي أن يخبر موسى بذلك. وعند مسلم أن موسى تقدم فتاه لما استيقظ فسار، فقال فتاه: ألا ألْحَقُ نبَيَّ الله فاخبره. قال: فنسي أن يخبره، وذكر ابن عطية أنه رأى سمكةً أحد جانبيها شوك وعظم وجلد رقيق على أحشائها، ونصفها الثاني صحيح، ويذكر أهل ذلك المكان أنها من نَسْل حوت موسى إشارة إلى أنه لما حَيَّ بعد أن أكل منه، استمرت فيه تلك الصفة، ثم في نسله. وقوله {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف: 64] أي يتبعان آثارهما اتِّباعًا، وهذا يدل على أن الفتى لم يخبر موسى حتى سارا زمانًا، إذ لو أخبره أول ما استيقظ، ما احتاجا إلى اقتصاص آثارهما، وقوله "إذا رجل مسجىً"، أو قال "تسجَّى بثوب" رجل مبتدأ، سوغ الابتداء به

تخصيصه بالصفة، ومسجَّى مغطّى. وفي رواية التفسير"على طِنْفِسَة خضراء على كبد البحر" والطنفسة بكسر أوله وثالثه، وبضمهما، وبكسر الأول وفتح الثالث، وهي فراش صغير. وفي هذه الرواية مسجّى بثوبه، قد جعل طرفه تحت رجليه، وطرفه تحت رأسه وعند مسلم "مسجّى ثوبًا مستلقيًا على قفاه" ولعبد بن حميد "فوجده نائمًا في جزيرة من جزائر البحر ملتفًا بكساء" ولابن أبي حاتم عن السَّدِّيّ "فرأى الخضر وعليه جُبَّة من صوف وكساء من صوف ومعه عصا قد ألقى عليها طعامه". وقوله "فسلم موسى، فقال الخضر: وأنّى بأرضك السلام؟ أي كيف بأرضك السلام، ويؤيده ما في التفسير "هل بأرضي من سلام" أو بمعنى "من أين" كقوله تعالى {أَنَّى لَكِ هَذَا} [آل عمران: 37]. والمعنى من أين السلام في هذه الأرض التي لا يعرف فيها؟ وكأنها كانت أرض كفْر، أو كانت تحيتهم بغير السلام. وعند مسلم "فكشف الثوب عن وجهه، وقال وعليكم السلام". ويجمع بين الروايتين بأنه استفهمه بعد أن رد عليه السلام. وقوله "فقال: أنا موسى، فقال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم" أي أنا موسى بني إسرائيل، فهو مقول القول ناب عن الجملة، وهذا يدل على أن الأنبياء ومن دونهم، لا يعلمون من الغيب، إلا ما علمهم الله تعالى لأن الخضر لو كان يعلم كل غيب لعرف موسى قبل أن يسأله. وقوله {مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 66] قد مر أنه قرىء بالتحريك، وبضم ثم سكون، وهما بمعنى كالبُخْل والبَخَل، وقيل بفتحتين: الدّين، وبالسكون: صلاخ المنظر. وقوله "إنك لن تستطيع معي صبرًا" أي لأني أفعل أمورًا ظاهرها مناكير، وباطنها حق لم تحط به. وقد عبر بالصيغة الدالة على استمرار النفي لما أطلعه الله تعالى عليه من أن موسى لا يصبر على ترك الإنكار، إذا رأى ما يخالف الشرع؛ لأن ذلك شأن

عصمته، ولذلك لم يسال موسى عن شيء من أمور الديانة، بل مشى معه ليشاهد منه ما اطلع به على منزلته في العلم الذي اختص به. "وكيف تصبر"؟ استفهام عن سؤال تقديره: لِمَ قلتَ إني لا أصبر وأنا سأصبر؟ وقوله {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} قيل: استثنى في الصبر، فصبر، ولم يستثن في العصيان فعصاه، وفيه نظر. وكان المراد أنه صبر على اتباعه والمشي معه لا الإنكار عليه فيما يخالف ظاهر الشرع. وقوله {فَانْطَلَقَا} [الكهف: 74]، يمشيان، أي موسى والخضر. ولم يذكر فتى موسى، وهو يوشع؛ لأنه تابع غير مقصود بالأصالة. وقوله "فكلموهم" ضم يوشع معهما في الكلام لأهل السفينة، لأن المقام يقتضي كلام التابع، وقوله "فحملوهما" يقال فيه، ما قيل في "يمشيان"، ويحتمل أن يكون يوشع لم يركب معهما، لأنه لم يقع له ذكر بعد ذلك، لكن في رواية "فعرف الخضر فحملوهم" وهو يقتضي الجزم بركوبه معهما في السفينة، وقد مر من شأنه ما رواه الطبريُّ عن ابن عباس، وهو لو صح نصٌّ في أنه لم يركب معهما. وقوله "بغير نَوْل" بفتح النون وسكون الواو، أي: أجرة، ولابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس "فناداهم خضر وبين لهم أن يعطى عن كل واحد ضعف ما حملوا به غيرهم، فقالوا لصاحبهم: إنا نرى رجالًا في مكان مخوفٍ نخشى أن يكونوا لصوصًا، فقال: لأحملنَّهم، فإني أرى على وجوههم النور، فحملوهم بغير أجرة" وذكر النقاش أن أصحاب السفينة كانوا سبعةً بكل واحدٍ زمَانةٌ ليست في الآخر. وقوله "فجاء عُصفور" بضم أوله، وحكي فتحه، قيل: هو الصُّرَد، بضم المهملة وفتح الراء. وللخطيب: أنه الخطاف، قال الدَّمامِينيّ: سمي عصفورًا لأنه عصى وفرّ. وقوله "فوقع على حرف السفينة فنقر نقرة أو نقرتين في البحر، فقال له الخضر: يا موسى، ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كنقرة هذا العصفور في البحر".

وروى النَّسائي عن ابن عباس أن الخضر قال لموسى: أتدري ما يقول هذا الطائر؟ قال: لا، قال يقول: "ما علْمكما الذي تعلمان في علم الله إلا مثل ما أنقصُ بمنقاري من جميع هذا البحر" وقد استشكل إطلاق النقص بالنسبة إلى علم الله تعالى، والجواب بأمور: الأول: لفظ النقص ليس على ظاهره، لأن علم الله لا يدخله نقص، فقيل معناه: لم يأخذ، وهذا توجيه حسن، ويكون التشبيه واقعًا على الأخذ لا على المأخوذ منه. الثاني: وهو أحسن من الأول، أن المراد بالعلم المعلوم بدليل دخول حرف التبعيض؛ لأن العلم القائم بذات الله تعالى صفة قديمة لا تتبعض، والمعلوم هو الذي يتبعض. قلت: الأول أحسن؛ لأنه لا يلزم عليه نقص في علم الله تعالى ولا في معلوماته، وهذا يلزم عليه ثبوت النقص في معلوماته تعالى، وحاشا أن يحصل نقص في معلوماته تعالى، فإن المعلومات متعلقات العلم الصفة القديمة، فلا يحصل فيها نقص إلا بحصوله في المتعلق به الذي هو العلم. الثالث: قال الإسماعيلى: المراد أن نقص العُصفور لا ينقص البحر بهذا المعنى، وهو كما قيل: ولا عيب فيهم غير أنَّ سيوفهم ... بهن فلولٌ من قراع الكتائب الرابع: قيل: "إلا" بمعنى "ولا" أي: ولا كنقرة هذا العصفور. وقال القُرْطبيّ: من أطلق اللفظ هنا تجوزًا قصدُه التمسك والتعظيم، إذ لا نقص في علم الله، ولا نهاية لمعلوماته، وقد وقع في رواية ابن خُرَيج بلفظ أحسن سياقًا من هذا، وأبعد إشكالًا فقال: "ما علمي وعلمك في جنب علم الله كما أخذ هذا العصفور بمنقاره من البحر" وهو تفسير اللفظ الذي وقع هنا، قاله في "الفتح": قلت: لا يظهر أنّ هذا الوجه أحسن من غيره لأن فيه إضافة شيء، وإن كان حقيرًا إلى علم الله.

الخامس: ما قيل من أن هذا الطائر من الطيور التي تعلو مناقيرها بحيث لا يعلق بها ماء البتة. قلت: انظر ما بين التمثيل الصادر من المخلوق هنا، والصادر من الخالق فيما أخرجه مسلم في الحديث القُدُسيّ من قوله تعالى "لو أن أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنَّكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المِخْيط إذا دخل البحر". فما في هذا الحديث الرباني هنا ظاهرٌ لا يوهم شيئًا في حقه تعالى يحتاج إلى توجيه، لان المخيط لا يأخذ من الماء شيئاً ما، والطير يأخذ شيئًا، وإن كان قليلًا جدًا. وقوله "فعمد الخضر" بفتح الميم، كقصد زنة ومعنى، وقوله "فخرقتها لتغْرق أهلها" بضم المثناة الفوقية وكسر الراء، على الخطاب مضارع أغرق، أي لأن تغرق، وأهلها بالنصب على المفعولية، ولا ريب أن خرقها سبب لدخول الماء فيها، المفضي إلى غرق أهلها وفي رواية "ليَغْرق أهلُها" بفتح المثناة التحتية وفتح الراء، على الغيب مضارع غرق، وأهلها بالرفع على الفاعلية وقوله "لا تؤاخذني بما نسيتُ" أي بالذي نسيته، أو بنسياني، أو بشيء نسيته، يعني وصيته له بأن لا يعترض عليه، وهو اعتذار بالنسيان، أخرجه في معرض النهي عن المؤاخذة مع قيام المانع لها زاد في رواية أبوَي ذَرٍّ والوقْت: "ولا ترهقني من أمري عُسراً" أي: لا تُغشني عسرًا من أمري بالمضايقة والمؤاخذة على المنسيّ، فإن ذلك يُعْسِر عليّ متابعتك. وقوله "فكانت الأُولى من موسى نسيانًا" وفي رواية التفسير "كانت الأولى نسيانًا والوسطى شرطًا والثالثة عمدًا" وروى ابن مرْدَويه عن ابن عباس مرفوعًا، قال: الأولى نسيانٌ والثانية عُذرٌ والثالثة فِراق. وروى الفراء عن أُبيّ بن كعب قال: لم ينس موسى، ولكنه من معاريض الكلام، وإسناده ضعيف. والأول هو المعتمد. ولو كان هذا ثابتًا لاعتذر موسى عن الضمانية وعن الثالثة بنحو ذلك.

وقوله "فانطلقا" أي: بعد خروجهما من السفينة، وقوله "فإذا غلام يلعب مع الغلمان" وغلام بالرفع مبتدأ لكونه تخصص بالصفة، والخبر محذوف، والغلام اسم للمولود إلى أن يبلغ، وكان الغلمان عشرة، وكان الغلام أظرفهم وأوضأهم واسم الغلام حَيْسُون بالحاء المهلمة آخره نون، أو حَيْسور بالراء بدل النون، وقيل بجيم أوله بدل الحاء، وقيل حَنْسُور بنون بدل التحتانية مع الراء، وعند السُّهيليّ بفتح الهاء المهملة، والموحدة، بعدهما نونان؛ أولاهما مضمومة بينهما واو ساكنة، وقيل: اسمه حَشْرَد وقيل شَمْعون. وعن الضَّحّاك: يعمل بالفساد، ويتأذّى منه أبواه وعن الكلبي: يسرق المتاع بالليل، فإذا أصبح لجأ إلى أبويه، فيقولان لقد بات عندنا، وفي رواية التفسير كان أبواه مؤمنين، وكان كافرًا. وفي رواية سفيان "وأما الغلام فطُبع يوم طُبع كافرًا، وكان أبواه قد عطفا عليه" وقيل: إن موسى لما قال للخضر: أقتلت نفسًا زكية، اقتلع الخضر كتف الصبي الأيسر وقشر عنه اللحم، فإذا في عظم كتفه كافر لا يؤمن بالله أبدًا. وعن وهب بن مُنبه كان اسم أبيه ملاس، واسم أمه رحما، وقيل اسم أبيه كاردى، واسم أمه سهوى. وقوله "فأخذ الخضر برأسه من أعلاه. فاقتلع رأسه بيده"، وعنده في بدء الخلق "فأخذ الخضر برأسه فقطعه" هكذا، وأومأ سفيان بأطراف أصابعه كأنه يقطف شيئًا، والفاء في "فاقتلع" للدلالة على أنه لما رآه اقتلع رأسه من غير ترو واستكشاف حالٍ. وعند المصنف في التفسير "فأَضجعه ثم ذبحه بالسكين"، ويجمع بينهما بأنه ذبحه ثم اقتلع رأسه. وفي رواية عند الطَّبريّ "فأخذ صخرة فثلغ رأسه"، وهي بمثلثة ثم معجمة، والأول أصح، ويمكن أن يكون ضرب رأسه بالصخرة، ثم ذبحه وقطع رأسه. وقوله "فقال موسى أقتلت نفسًا زكيَّة بغير نفس" بتشديد الياء، أي طاهرة من الذنوب، وهي أبلغ من زاكية بالألف، وتخفيف الياء لأن فعيلة

من صيغ المبالغة. وقال أبو عمرو بن العلاء: الزاكية التي لم تذنب قط، والزكية التي أذنبت ثم استغفرت، ولذا اختار قراءة التخفيف، فإنها كانت صغيرة لم تبلغ الحلم. وزعم قوم أنه كان بالغًا يعمل بالفساد، واحتجوا بقوله بغير نفس؛ لأن القصاص إنما يكون في حق البالغ، ولم يرها أذنبت ذنبًا يقتضي قتلها، أو قتلت نفسًا فتقاد بها. نبه به على أن القتل إنما يُباح حدًا أو قصاصًا، وكلا الأمرين منتف، وإنما أطلق موسى ذلك على حسب ظاهر حال الغلام. والهمزة في "أقتلت" ليست للاستفهام الحقيقي، فهي كهي في قوله تعالى {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} [الضحى: 6] وكان قتل الغلام في "أبُلَّة" بضم الهمزة والموحدة وتشديد اللام المفتوحة بعدها هاء، مدينة قرب بصرة وعبادان. وقوله "قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرًا" بزيادة "لك" في هذه المرة، زيادة في المكافحة بالعتاب على رفض الوصية، والوسم بقلة الثبات والصبر، لمّا تكرر منه الاشمئزاز والاستكثار، ولم يرعو بالتذكير أول مرة حتى زاد في الاستكثار ثاني مرة. وقوله: وقال ابن عُيينة: وهذا أوكد، واستدل عليه بزِيادة "لك" في المرة الثانية وقد قال له فيِ المرة الأولى: "لقد جئت شيئاً إمرًا" وقال له في الثانية: "لقد جئت شيئاً نكرًا" قال مجاهد: شيئًا إمرًا أي منكرًا، وقال قتادة: أي عجبًا. وقال أبو صخر: أي عظيمًا. وقال أبو عبيدة: إمرًا أي: داهية، ونكرًا أي عظيمًا. واختلف في أيهما أبلغ، فقيل "إمرًا" أبلغ من "نكرًا" لأنه قالها بسبب الخرق الذي يفضي إلى هلاك عدة أنفس، وتلك بسبب نفس واحدة. وقيل " نكرًا" أبلغ، لكون الضرر فيها ناجزًا بخلاف "إمرًا" لكون الضرر فيها متوقعًا، ويؤيد ذلك أنه قال في "نكرا": "ألم أقل لك" ولم يقلها في "إمرًا" وقد أخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس أن موسى لما رأى خرق السفينة امتلأ غضبًا، وشد ثيابه، وقال: أردت إهلاكهم، ستعلم أنك أول هالك، فقال له يوشع: ألا تذكر العُهدة؟ فأقبل عليه الخضر فقال له: "ألم أقل

لك"، فادرك موسى الحِلْم، فقال: "لا تؤاخذني" وإن الخِضر لما خلصوا قال لصاحب السفينة: إنما أردت الخير فحمدوا رأيه، وأصلحها الله على يده. وقوله "فانطلقا حتى أتيا أهل قرية" وفي رواية غير أبي ذرٍ "حتى إذا أتيا" موافقة للتنزيل. والقرية: قيل هي الأبُلَّة، وقيل أنطاكية، وقيل هي أذربيجان، وقيل بَرْقَة، وقيل ناصرة، وقيل جزيرة الأندلس. وهذا الاختلاف كالاختلاف في المراد بمجمع البحرين، وشدة المباينة في ذلك تقتضي أن لا يوثق بشيء من ذلك. وقوله "استطعما أهلها فأبوا أن يضيِّفوهما" أي: استطعموهم واستضافوهم، فلم يضيفوهم، ولم يجدوا في تلك القرية قرى ولا مأوى، وكانت ليلة باردة. وعند مسلم "أهل قرية لئامًا، فطافا في المجالس فاستطعما أهلها". وقوله "فوجدا فيها جدارًا" أي: على شاطئ الطريق، وكان سُمكه مئتي ذراع بذراع تلك القرية، وطوله على وجه الأرض خمس مئة وعرضه خمسون ذراعًا. هكذا قال القَسْطلانيّ، والذي في "الفتح" عن الثَّعلبّي: أن عرضه كان خمسين ذراعًا في مئة ذراع بذراعهم، وقوله "يريد أن ينقضَّ" استعيرت الإرادة للمشارفة، وإلا فالجدار لا إرادة له حقيقة. وكان أهل القرية يقرون تحته على خوف، وأن ينقض معتاه أن يقع. يقال: انقضَّت الدار، إذا انهدمت، وقرأه قوم ينقاضَّ أي ينقلع من أصله، كقولك انقاضت السّن إذا انقلعت من أصلها. وقراءة "ينقاض" مروية عن الزُّهْريّ، واختلف في ضادها، فقيل بالتشديد، بوزن يحمارّ، وهو أبلغ من ينقضّ. وينقضّ بوزن ينفعل من انقضاض الطائر إذا سقط إلى الأرض. وقيل بالتخفيف، وعن عليّ أنه قرأ ينقاص بالمهملة. وقال ابن خالويه: يقولون: انقاصَّت السن، إذا انشقت طولًا، وقيل: إذا تصدعت كيف كان. وقال ابن فارس: قيل معناه كالذي بالمعجمة، وقيل الشق طولًا. وقال ابن دريد: انقاضّ بالمعجمة انكسر، وبالمهملة

انصدع. وقرأ الأعمش تبعًا لابن مسعود يريد ليُنْقَض بكسر اللام، وضم التحتانية، وفتح القاف، وتخفيف الضاد، من النقضْ. وقوله: " قال الخضر بيده" أي: أشار بها. وفي رواية قال: "فمسح بيده"، وفيه إطلاق القول على الفعل. وقوله "فأقامه" وقيل "نقضه وبناه" وقيل "بعمود عَمَّده به". وقوله "قال موسى: لو شئت لاتخذت عليه أجرًا" اتخذت بهمزة وصل وتشديد التاء وفتح الخاء على وزن افتعلت، من تخذ كاتبع من تبع، واجس من الأخذ عند البصريين، يعني أن تاءها عندهم أصلية لا أنها مغايرة للأخذ معني. وفي رواية أبي ذرٍ والأصيليّ وابن عساكر: "لتَخذَت" أي: لأخذت. وقوله "عليه أجرًا" يعني: يكون لنا قوتًا، وبُلْغة على سفرنا. قال القاضي: كأنه لما رأى الحرمان ومساس الحاجة واشتغاله بما لا يعنيه، لم يتمالك نفسه وزاد سفيان في روايته "فقال موسى قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا لو شئت لاتخذت عليه أجرًا". وقوله "قال هذا فراقُ بيني وبينك" بإضافة الفراق إلى البين إضافة المصدر إلى الظرف على الاتساع، والإشارة في قوله "هذا" إلى الفراق الموعود به في قوله "فلا تصاحبني" أو تكون الإشارة إلى السؤال الثالث، أي: هذا الاعتراض سبب للافتراق، أو إلى الوقت، أي هذا الوقت وقت الفراق. وفي رواية أبي إسحاق "قال هذا فراق بيني وبينك، فأخذ موسى بطرف ثوبه، فقال: حدثني" وذكر الثعلبيُّ أن الخضر قال لموسى: أتلومني على خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار، ونسيت نفسك حين ألقيت في البحر، وحين قتلت القُبْطيّ، وحين سقيت أغنام ابنتي شعيب احتسابًا؟ وفي رواية التفسير "وكان ورأءهم ملكٌ، وكان أمامهم"، قرأها ابن عباس "أمامهم ملك" قال أبو عبيدة في قوله "من ورائه جهنم" مجازه قدامه وأمامه، يقال: الموت من ورائك، أي قُدامك وهو اسم لكل ما توارى عن الشخص، نقله ثعلب ومنه قول الشاعر:

أليس ورائي إنْ تراختْ مَنِيَّتي ... لزوم العصى تحنى عليها الأصابعُ وقول النابغة: وليس وراء الله للمرءِ مذهبُ أي: بعد الله. ونقل قُطْربُ وغيره أنه من الأضداد، وأنكره إبراهيم بن عُرْفة نفطويه، وقال: لا يقع وراء بمعنى أمام، إلا في مكان أو زمان. وفيها أيضًا ملك يزعمون عن غير سعيد أنه هُدَد، وهو بضم الهاء، وحكى ابن الأثير فتحها، والدال مفتوحة اتفاقًا. ووقع عند ابن مَردويه بالميم بدل الهاء، وأبوه بدد بفتح الموحدة. وزعم ابن دريد أن هدد اسم ملك من ملوك حمير، زوَّجه سليمان بن داود بلقيس. قال في "الفتح": إن ثبت هذا حمل على التعدد والاشتراك في الاسم، لبعد ما بين مدة موسى وسليمان. وجاء في تفسير مقاتل أن اسمه منولة بن الجُلَنْدى بن سعيد الأَزْدِيّ، وقيل هو الجُلَنْدى، وكان بجزيرة الأندلس. وفيها أيضًا "وأقرب رحمًا" هما به أرحم منهما، بالأول الذي قتل خِضر. وعن الأصمعي: الرَّحِم، بكسر الحاء: القرابة، وبسكونها فرج الأنثى، وبضم الراء ثم السكون: الرحمة. وعن أبي عبيد القاسم بن سَلام: الرَّحْم، بالضم والفتح مع السكون فيهما، بمعنى وهو مثل العمْر وتدعى مكة أمُّ رُحم بضم فسكون، وذلك لتنزل الرحمة بها. والحاصل أن رَحْمًا من الرَّحم التي هي القرابة، وهي أبلغ من الرحمة التي هي رقة القلب؛ لأنها تستلزمها غالبًا من غير عكس. وفيها أيضًا، أنهما أبدلا جارية، وروى النَّسائي عن ابن عباس "فابدلهما ربهما خيرًا منه زكاة" قال: أبدلهما جارية، فولدت نبيًا من الأنبياء، ولابن المنذر: أبدلهما مكان الغلام جارية ولدت نبيين. ولابن أبي حاتم عن السَّدِّي قال: ولدت جارية فولدت نبيًا، وهو الذي كان بعد موسى، فقالوا له: أبعث لنا ملكًا نقاتل في سبيل الله، واسم هذا النبي شَمْعُون، واسم أمه حَنَّة. وفي تفسير ابن الكلْبِيّ: ولدت جارية ولدت عدة

أنبياء، فهدى الله بهم أمما، وقيل عدة من جاء من ولدها من الأنبياء سبعون نبيًا. وعن ابن مَرْدويه عن أبيِّ بن كعب أنها ولدت غلامًا، لكن إسناده ضعيف. وأخرجه ابن المُنذر بإسناد حسن عن ابن عباس نحوه. وقال ابن جُرَيج: بلغني أن أُمه يوم مات كانت حبلى بغلام. وقوله "يرحم الله موسى لوَددنا لو صبر، حتى يقص علينا من أمرهما" يرحم إنشاء بلفظ الخبر، ولوددنا جواب لقسم مقدر، أي: والله لوددنا، وهو بكسر الدال الأولى وسكون الثانية. وقوله: لو صبر، مصدرية أي: صبره لأنه لو صبر لأبصر أعجب العجائب. وعند مسلم من رواية أبي إسحاق: رحمة الله علينا وعلى موسى، لولا أنه عَجل لرأى العجب، ولكنه أخذته ذمامة من صاحبه، فقال: إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني. وقوله: "حتى يقصَّ علينا من أمرهما" يقص: مبني للمجهول، ومن أمرهما نائب له. وفي رواية سفيان في التفسير "وددنا أن موسى صبر حتى يقص علينا من أمرهما" بدون يرحم الله موسى، وهو راويها هنا في العلم، وفي أحاديث الأنبياء، فيحتمل أن تكون هذه الزيادة لم تكن عنده بإسناد قتيبة في التفسير، ولكنه أرسلها، ويحتمل أن يكون الراوي لها منه، سمع منه الحديث مرتين، مرة بإثباتها، ومرة بحذفها. وهو الأَوْلى. وأخرجه مسلم بلفظ "ولو صبر لرأى العجب، وكان إذا ذكر أحدًا من الأنبياء بدأ بنفسه: رحمة الله علينا، وعلى أخي كذا". وأخرجه التِّرْمذيّ والنَّسائيّ مختصرًا وأبو داود بلفظ "وكان إذا دعا بدأ بنفسه، وقال: رحمة الله علينا وعلى موسى". وقد ترجم المصنف في الدعوات من خص أخاه بالدعاء دون نفسه، وذكرِ فيه عدة أحاديث، وكأنه أشار إلى أن هذه الزيادة، وهي "كان إذا ذكر أحداً من الأنبياء بدأ بنفسه" لم تثبت عنده. قال القُرْطبي: في قصة موسى والخضر من الفوائد أن الله يفعل في

ملكه ما يريد، ويحكم في خلقه بما يشاء، مما ينفع أو يضر، فلا مدخل للعقل في أفعاله، ولا معارضة لأحكامه، بل يجب على الخلق الرضى والتسليم، فإن إدراك العقول لأسرار الربوبية قاصرٌ، فلا يتوجه على حكمه كم ولا كيف، كما لا يتوجه عليه في وجوده أين ولا حيث، وإن العقل لا يُحسِّن ولا يقبِّح وإن ذلك راجع إلى الشرع، فما حسنه بالثناء عليه فهو حسن، وما قبحه بالذم فهو قبيح، وإن لله تعالى فيما يقضيه حكمًا وأسرارًا في مصالح خفية اعتبرها كل ذلك بمشيئته وإرادته من غير وجوب عليه، ولا حكم عقل يتوجه إليه، بل بحسب ما سبق في علمه، ونافذ حكمه، فما أطلع الخلق عليه من تلك الأسرار عرف، وإلا فالعقل عنده واقف، فليحذر المرء من الاعتراض فإن مآل ذلك إلى الخيبة. قال ولننبه هنا على مغلطتين: الأولى: وقع لبعض الجهلة أن الخضر أفضل من موسى، تمسكًا بهذه القصة، وبما اشتملت عليه، وهذا إنما يصدر ممن قصر نظره على هذه القصة، ولم ينظر فيما خص الله به موسى عليه السلام من الرسالة، وسماع كلامه وإعطائه التَّوراة، فيها علم كل شيء، وأن أنبياء بني إسرائيل كلهم داخلون تحت شريعته، ومخاطبون بحكم نبوته حتى عيسى عليه السلام. وأدلة ذلك في القرآن كثيرة، ويكفي من ذلك قوله تعالى: {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} [الأعراف: 144] قال: والخضر، وإن كان نبيًا، فليس برسول اتفاقًا، والرسول أفضل من نبي ليس برسول. قلت: هذا الاتفاق غير صحيح، فالخضر قيل: إنه رسول، وقد مر لك ذلك عند قوله "أعلم منك"، ثم قال: ولو تنزلنا على أنه رسول، فرسالة موسى أعظم، وأمته أكثر، فهو أفضل، وغاية الخضر أن يكون كواحد من أنبياء بني إسرائيل، وموسى أفضلهم. وإن قلنا إن الخضر ليس بنبيّ، بل وليّ، فالنبيُّ أفضل من الولي، وهوأمرمقطوع به عقلًا ونقلًا، والصائر إلى خلافه كافر؛ لأنه أمر معلوم من الشرع بالضرورة. قال: وإنما كانت قصة الخضر مع موسى امتحانًا لموسى، حتى ليعتبر.

الثانية: ذهب قوم من الزنادقة إلى سلوك طريق نستلزم هدم أحكام الشريعة، فقالوا: إنه يستفاد من قصة موسى والخضر أن الأحكام الشرعية تختص بالعامة والأغبياء، وأما الأولياء والخواصّ، فلا حاجة بهم إلى تلك النصوص، بل إنما يراد منهم ما يقع في قلوبهم، ويحكم عليهم بما يغلب على خواطرهم لصفاء قلوبهم عن الأكدار، وخلوها عن الأغيار، فتتجلى لهم العلوم الإلهية، والحقائق الربانية، فيقفون على أسرار الكائنات، ويعلمون الأحكام الجزئيات فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات، كما اتفق للخضر، فإنه استغنى بما ينجلي له من تلك العلوم عما كان عند موسى. ويؤيده الحديث المشهور "استفت نفسك وإنْ أفْتَوك". قال: وهذا القول زندقة وكفر؛ لأنه إنكار لما علم من الشرائع. فإن الله قد أجرى سنته وأنفذ كلمته بأن أحكامه لا تعلم إلا بواسطة رسله، السفراء بينه وبين خلقه، المثبتين لشرائعه وأحكامه، كما قال تعالى {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75] وقال {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] وأمر بطاعتهم في كل ما جاءوا به، وحث على طاعتهم والتمسك بما أمروا به، فإن فيه الهدى. وقد حصل العلم اليقين وإجماع السلف على ذلك، فمن ادعى أن هناك طريقًا أُخرى يعرف بها أمره ونهيه، غير الطريق التي جاءت بها الرسل، يستغني بها عن الرسول، فهو كافر يقتل ولا يستتاب. قال: وهي دعوى تستلزم إثبات نبوة غير نبينا عليه الصلاة والسلام؛ لأن من قال إنه يأخذ عن قلبه؛ لأن الذي يقع فيه هو حكم الله، وأنه يعمل بمقتضاه من غير حاجة منه إلى كتاب ولا سنة، فقد أثبت لنفسه خاصة النبوة، كما قال نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم: "إن رُوح القُدُس نَفَث في رَوْعي"، قال: وقد بلغنا عن بعضهم أنه قال: أنا لا آخذ عن الموتى، وإنما آخذ عن الحي الذي لا يموت وكذا قال آخر: أنا آخذ عن قلبي من ربي. وكل ذلك كفر باتفاق أهل الشرائع، ونسأل الله الهداية والتوفيق.

رجاله سبعة

قلت: هذا الذي يقولونه هو المعبر عنه بالإلهام، وقد مر الكلام عليه في حديث "من رآني في المنام" بما يكفي ويشفي وقال غيره: من استدل بقصة الخضر على أن الوليّ يجوز أن يطلع من خفايا الأمور على ما يخالف الشريعة، ويجوز له فعله، فقد ضل، وليس ما تمسك به صحيحًا، فإن الذي فعله الخضر ليس في شيء منه ما يناقض الشرع، فإن نقض لوح من ألواح السفينة لدفع الظالم عن غصبها، ثم إذا تركها أعيد اللوح -جائز شرعاً وعقلًا ولكن مبادرة موسى بالإِنكار بحسب الظاهر، وقد وقع ذلك واضحًا عند مسلم، ولفظه "فإذا جاء الذي يسخرها فوجدها منخرقة تجاوزها، فأصلحها"، فيستفاد منه وجوب الثاني عن الإنكار في المتحملات، وأما قتله الغلام فلعله كان في تلك الشريعة، وأما إقامة الجدار، فمن باب مقابلة الإساءة بالإحسان. وفيه استحباب الحرص على الازدياد من العلم، والرحلة فيه، ولقاء المشايخ، وتجشم المشاق في ذلك، والاستعانة في ذلك بالاتباع. وقد استوفيت مباحث هذا الحديث في هذا المحل، وعند ذكره السابق في باب خروج موسى في البحر، ولم يبق من الكلام عليه إلا توضيح ألفاظ لم تذكر في هذين المحلين، وستذكر في حديث سورة الكهف. رجاله سبعة: الأول عبد الله بن محمد السندسيّ، مر تعريفه في الحديث الثاني من كتاب الإيمان. الثاني سفيان بن عُيينة، مر أيضًا في الحديث الأول من بدء الوحي. الثالث عمرو بن دينار، مر أيضًا في الحديث الرابع والخمسين من كتاب العلم. الرابع سعيد بن جُبير، مر في الحديث الخامس من بدء الوحي. الخامس عبد الله بن عباس، مر أيضًا في الحديث الخامس منه أيضًا. ومر تعريف أُبي بن كعب في الحديث السادس عشر من كتاب العلم. وهنا ذكر موسى والخضر عليهما السلام، وقد مر ذكرهما بعد الحديث الخامس عشر من كتاب الإِيمان.

لطائف إسناده

وأما نَوفْ، بفتح النون، فهو ابن فضالة، بفتح الفاء والضاد المعجمة، أبو يزيد، أو أبو رشيد القاص، البِكاليّ، بكسر الباء الموحدة وتخفيف الكاف، وقيل بفتح الباء وتخفيف الكاف أو تشديدها، كان عالمًا فاضلًا إمامًا لأهل دمشق. وقال ابن التين: كان حاجبًا لعلي رضي الله عنه. وكان قاصًّا وهو وابن امرأة كعب الأحبار على المشهور. وقيل: ابن أخته، روى عن علي وأبي أيوب وثَوْبان وعبد الله بن عمرو، وكعب. وروى عنه أبو إسحاق الهَمْدانيّ، وشِهْر بن حَوْشب، وسعيد بن جُبير وغيرهم. وهو في الطبقة الأولى من الشاميين. استشهد مع محمد بن مروان في الصائفة وذكره ابن حبّان في الثقات وقال: كان راوية للقصص وليس له ذكر في البخاريّ إلا في هذا الحديث هنا. والبكاليّ في نسبه نسبة إلى بكال بطن من حِمير، وهو بِكال بن دُغْمِيّ، بالغين المعجمة، ابن عوف بن عَديّ بن مالك بن زيد بن سدد ابن زَرْعة بن سبأ الأصغر. وسائر ما في العرب دُعْميّ بالمهملة، غير هذه. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والإخبار بصيغة الإفراد والسؤال وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وهما عمرو، بن دينار، وسعيد بن جبير، وفيه رواية صحابي عن صحابي، مر في باب ما ذكر في ذهاب موسى عليه الصلاة والسلام في البحر إلى الخضر -ذكر المواضع التي أخرجه فيها البخاري وغيره. من هنا إلى الباب الآتي ليس منبهًا عليه في الشرح، كما أنه ليس ثابتًا في النسخة التي معي من المتن وقيدته تبعًا لكتاب الرجال. ثم قال البخاري: حدثنا محمد بن يوسف الفَرْبَريّ، حدثنا به علي بن خَشْرم، حدثنا ابن عْيينة بطوله. وهذه ثلاثة رجال: الأول محمد بن يوسف الفربري، وقد مر ذكره في الحديث الرابع من كتاب العلم، وسفيان بن عيينة، مر في الحديث الأول من بدء الوحي.

باب من سأل وهو قائم عالما جالسا

أما عليّ وابن خَشْرمَ، بوزن جعفر أوله خاء معجمة، ابن عبد الرحمن بن عطاء بن هلال بن ماهان بن عبد الله المَرْوَزِيّ، أبو الحسن الحافظ، قريب بشر الحافي، ابن عمه أوابن أخته. روى عن حَفْص بن غياث، وعيسى بن يونس، وسفيان بن عُيينة، ووكيع وغيرهم. وروى عنه مُسْلم والتِّرمذْيّ والنَّسائيّ، وأحمد بن عبد الرحمن بن بشار، ومحمد بن عقيل بن الأزهر البَلْخيّ، ومحمد بن الفضل وغيرهم. ذكره ابن حبان في الثقات، وقال النَّسائي: ثقة. وذكره مَسْلمة بن قاسم في تاريخه وقال: مروزي ثقة، وفي الزُّهرة روى عنه مسلم تسعة، روي عنه أنه قال: ولدت سنة خمس وستين ومئة، وصمت ثمانية وثمانين رمضانًا، ومات في رمضان سنة سبع وخمسين ومئتين. وليس له في البخاري ذكر إلا في هذا التعليق. والمروزيّ في نسبه مر في السادس من بدء الوحي. ثم قال المصنف: باب من سأل وهو قائم عالمًا جالسًا " وهو قائم" جملة حالية من الفاعل، وقوله "عالمًا" مفعول لسأل، "وجالسًا" صفة له. والمراد أن العالم الجالس إذا سأله شخص قائم لا يعد من باب من أحب أن يتمثل له الرجال قيامًا بل هو جائز بشرط الأمن من الإعجاب.

الحديث الخامس والستون

الحديث الخامس والستون حَدَّثَنَا عُثْمَانُ قَالَ أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْقِتَالُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّ أَحَدَنَا يُقَاتِلُ غَضَبًا، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً. فَرَفَعَ إِلَيْهِ رَأْسَهُ قَالَ وَمَا رَفَعَ إِلَيْهِ رَأْسَهُ إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ قَائِمًا فَقَالَ: "مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ". قوله "جاء رجل" في رواية عند المصنف في فرض الخُمس "قال أعرابي" وهذه تدل على وهم ما وقع عند الطبراني عن أبي موسى أنه قال: يا رسول الله. فأبو موسى، وإن جاز أن يُبهم نفسه في رواية الباب، لكن لا يصفها بكونه أعرابيًا. وهذا الأعرابيُّ يصلح أن يفسر بـ" لاحق بن ضُميرة" لما جاء عند أبي موسى المدنيّ أنه قال: "وفدت على النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم، فسألته عن الرجل يلتمس الأجر والذكر، "فقال: لا شيء له ... " الحديث. وفي إسناده ضعف، ولاحق يأتي تعريفه في الخامس والعشرين من الجهاد. وفي فوائد أبي بكر بن أبي الحديد بإسناد ضعيف عن معاذ بن جبل أنه قال: "يا رسول الله كل بني سلمة يقاتل، فمنهم من يقاتل رياء ... " الحديث. فلو صح لاحتمل أن يكون معاذ أيضًا سأل عما سأل عنه الأعرابيّ؛ لأن سؤال معاذ خاص، وسؤال الأعرابي عام. ومعاذ أيضًا لا يقال له أعرابيّ، فيحمل على التعدد. ومر معاذ في أول الإيمان قبل ذكر حديث منه. وقوله "فقال يارسول الله ما القتال الذي سبيل الله"؟ مبتدأ وخبره وقع مقول القول. وقوله "يقاتل غضبًا" نصب مفعول له، والغضب حالة تحصل عند غليان الدم في القلب لإِرادة الانتقام. وقوله "ويقاتل حَمِيَّةً" نصب

مفعول له أيضًا، وهو بفتح الحاء المهملة وكسر الميم وتشديد المثناة التحتية المفتوحة، وهي الأَنفة من الشيء والمحافظة على من يقاتل لأجله من أهل أو عشيرة أو صاحب، ويحتمل أن يفسر القتال للحمية بدفع المضرة، والقتال غضبًا بجلب المنفعة، وفي رواية شعبة في الجهاد "الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر" أي: ليذكر بين الناس ويشتهر بين الناس بالشجاعة وفيها "والرجل يقاتل ليرى مكانه". وفي رواية الأعمش في التوحيد "ويقاتل رياء" ومرجع التي قبلها إلى السمعة، ومرجع هذه إلى الرياء، وكلاهما مذموم. والحاصل من الروايات أن القتال يقع بسبب خمسة أشياء: طلب المغنم، وإظهار الشجاعة، والرياء، والحمية، والغضب، وكل منها يتناوله المدح والذم، فلهذا لم يحصل الجواب بالإثبات ولا بالنفي، وقوله "وما رفع إليه رأسه إلا أنه كان قائمًا" أي، ما رفع رأسه لأمر من الأمور إلا لقيام الرجل، فإن واسمها وخبرها في تقدير المصدر مفعول لأجله. وظاهر الحديث أن القائل لهذا أبو موسى، ويحتمل أن يكون من دونه، فيكون مدرجًا في أثناء الخبر. وقوله "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" المراد بكلمة "الله" دعوة الله إلى الإِسلام، ويحتمل أن يكون المراد أنه لا يكون في سبيل الله إلا من كان سبب قتاله إعلاء كلمة الله تعالى فقط، بمعنى أنه لو أضاف إلى ذلك سببًا من الأسباب المذكورة أخل بذلك. ويحتمل أن لا يخل إذا حصل ضمنًا، لا أصلًا ومقصودًا، وبذلك صرح الطّبريّ فقال: إذا كان أصل الباعث هو الأول لا يضره ما عرض له بعد ذلك. وبذا قال الجُمهور. لكن روى أبو داود والنَّسائي عن أمامة بإسناد جيد قال: "جاء رجل فقال: يا رسول الله، أرأيت رجلًا غزا يلتمس الأجر والذكر، ما له؟ قال: لا شيء له، فأعادها ثلاثًا كل ذلك يقول: لا شيء له، ثم قال رسول الله صلى

الله تعالى عليه وسلم: إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا، وابتُغي به وجهه ويمكن أن يحمل هذا على من قصد الأمرين معًا على حد واحد، فلا يخالف المرجح أولًا، فتصير المراتب خمسًا: أن يقصد الشيئين معًا أو يقصد أحدهما صِرْفًا، أو يقصد أحدهما ويحصل الآخر ضمنًا. والمحذور أن يقصد غير الإعلاء، فقد يحصل الإعلاء ضمنًا، وقد لا يحصل ويدخل تحته مرتبتان، وهذا ما دل عليه حديث أبي موسى، ودونه أن يقصدها معًا، فهو محذور أيضًا على ما دل عليه حديث أبي أمامة، والمطلوب أن يقصد الإعلاء صرفاً، وقد يحصل غير الإعلاء، وقد لا يحصل، ففيه مرتبتان أيضًا. قال ابن أبي جمرة: المحققون على أنه إذا كان الباعث الأول قصد إعلاء كلمة الله لم يضره ما انضاف إليه، ويدل على أن دخول غير الإعلاء ضمنًا لا يقدح في الإعلاء إذا كان الإعلاء هو الباعث الأصلي -ما رواه أبو داود بإسناد حسن عن عبد الله بن حُوالة قال: "بعثنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على أقدامنا لنغنم، فرجعنا ولم نغنم شيئًا، فقال: اللهم لا تَكِلْهم إلى .. " الحديث، ويدخل فيه من قاتل لطلب الثواب ورضاء الله ودحض أعدائه، فإنه من إعلاء كلمة الله تعالى. وقد مر بعض الكلام على هذا المنزع في حديث "إنما الأعمال بالنيات" وفي إجابة النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم، بما ذكر غاية البلاغة والإيجاز، وهو من جوامع كلمِهِ صلى الله تعالى عليه وسلم؛ لأنه أجاب بلفظ جامع لمعنى السؤال مع زيادة عليه، ولو أجاب السائلَ بأن جميع ما ذكره ليس في سبيل الله، احتمل أن يكون ما عدا ذلك كله في سبيل الله، وليس كذلك، فعدل إلى لفظ جامع، عدل عن الجواب عن ماهية القتال إلى حال المقاتل، فتضمن الجواب وزيادة. ويحتمل أن يكون الضمير في قوله "فهو" راجعًا إلى القتال الذي في ضمن "قاتل" أي: فقتاله قتال في سبيل الله. والحاصل أن القتال منشؤه القوة العقلية، والقوة الغضبية، والقوة الشَّهوانية. ولا يكون في سبيل الله إلا الأول. وقال ابن بطّال: إنما عدل

رجاله خمسة

صلى الله تعالى عليه وسلم، عن لفظ جواب السائل لأن الغضب والحمية قد يكونان لله تعالى، أو لغرض الدنيا، فأجاب عليه الصلاة والسلام بلفظ جامع مختصر، أفاد دفع الإلباس، وزيادة الإفهام. ولو ذهب يقسم وجوه الغضب لطال ذلك، ولخشي أن يلبس عليه. وفي الحديث بيان أن الأعمال إنما تحتسب بالنية الصالحة، وأن الفضل الذي ورد في المجاهد يختص بمن ذكر، وفيه جواز السؤال عن العلة، وتقدم العلم على العمل، وأنه لا بأس بقيام السائل عند أمن الكِبْر، وفيه استحباب إقبال المسؤول على السائل، وذم الحرص على الدنيا وعلى القتال لحظ النفس في غير الطاعة، وجواز وقوف المستفتي لعذر أو حاجة. رجاله خمسة وقد ذكروا: الأول عثمان بن أبي شَيبة، والثاني جرير بن عبد الحميد، والثالث منصور بن المَعْتَمِر، وقد مر تعريف هؤلاء الثلاثة في الحديث الثاني عشر من كتاب العلم. والرابع أبو وائل شقيق، مر تعريفه في الحديث الثاني والأربعين من كتاب الإيمان، والخامس أبو موسى عبد الله بن قيس، مر تعريفه في الحديث الرابع منه أيضًا. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة، ورجاله كلهم كوفيون، وهم أئمة أجلاء، أخرجه البخاري هنا، وفي الجهاد وفي كتاب الخمس، وفي التوحيد. ومسلم في الجهاد، وأبو داود فيه أيضًا والتِّرمذْي فيه أيضًا، وقال: حسن صحيح. والنَّسائيّ وابن ماجه فيه أيضًا. ثم قال المصنف: باب السؤال والفُتيا عند رمي الجمار مراده أن اشتغال العالم بالطاعة، لا يمنع من سؤاله عن العلم، ما لم يكن مستغرقًا فيها، وأن الكلام في الرمي وغيره من المناسك جائز. وقد اعترض بعضهم على الترجمة بأنه ليس في الخبر أن المسألة وقعت في حال الرمي، بل فيه أنه كان واقفًا عندها فقط، وأجيب بأن

المصنف كثيراً ما يتمسك بالعموم، فوقوع السؤال عند الجمرة أعم من أن يكون في حال اشتغاله بالرمي، أو بعد الفراغ منه، أو يقال: إن كونه عند الجمرة قرينة علي أنه كان يرمي، أو في الذكر المقول عندها. واعترض الإسماعيلي أيضًا عليها فقال: لا فائدة في ذكر المكان الذي وقع السؤال فيه حتى يفرد بباب، وعلى تقدير اعتبار مثل ذلك، فليترجم بباب السؤال والمسؤول على الراحلة، وباب السؤال يوم النحر. وما نفي من الفائدة مردود بما مر قريبًا من المراد بالترجمة، والإِلزامان اللذان ألزمهما يجاب عن الأول بأنه ترجم له فيما مضى، فقال: "باب الفُتيا وهو واقف على الدابة" وأما الثاني، فكأنه أراد أن يقابل المكان بالزمان، وهو مُتَّجهٌ، وإن كان معلومًا أن السؤال عن العلم لا يتقيد بيوم دون يوم، لكن قد يتخيل متخيل من كون يوم العيد يوم لَهْوٍ امتناع السؤال عن العلم فيه.

الحديث السادس والستون

الحديث السادس والستون حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- عِنْدَ الْجَمْرَةِ وَهُوَ يُسْأَلُ، فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ نَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ. قَالَ: "ارْمِ وَلاَ حَرَجَ". قَالَ آخَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ. قَالَ: "انْحَرْ وَلاَ حَرَجَ". فَمَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلاَ أُخِّرَ إِلاَّ قَالَ افْعَلْ وَلاَ حَرَجَ. قوله "عند الجمرة" أي جمرة العقبة لأنها المقصودة عند الإطلاق، "فَأَلْ" للعهد، وقوله "يسأل" بضم أوله مبنيٌّ للمجهول، واستدل الإسماعيليّ بالخبر على أن الترتيب قائم مع اللفظ بأي صيغة ورد، ما لم يقم دليل على عدم إرادته. ووجه دلالته هو أنهم لو لم يفهموا أن ذلك هو الأصل، لما احتاجوا إلى السؤال عن حكم تقديم الأول على الثاني، إذا ورد الأمر لشيئين معطوفين بالواو، فيقال: الأصل العمل بتقديم ما قدم، وتأخير ما أخر، حتى يقوم الدليل على التسوية، ولمن يقول بعدم الترتيب أصلًا أن يتمسك بهذا الخبر، فيقول: حتى يقوم دليل على وجوب الترتيب. ويستفاد منه أن سؤال من لا يعرف الحكم عنه في موضع فعله حسن بل واجب عليه؛ لأن صحة العمل متوقفة على العلم بكيفيته، وإن سؤال العالم على قارعة الطريق عما يحتاج إليه السائل، لا نقص فيه على العالم إذا أجاب، ولا لوم على السائل. ويستفاد منه أيضًا دفع توهم من يظن أن في الاشتغال بالسؤال والجواب عند الجمرة تضييقًا على الرامين، وهذا وإن كان كذلك، لكن يستثنى من المنع ما إذا كان فيما يتعلق بحكم تلك العبادة وهذا الحديث قد استوفيت مباحثه عند ذكره في باب "الفتيا وهو واقف على الدابة".

رجاله خمسة

رجاله خمسة: الأول أبو نعيم الفضل بن دُكين، مر تعريفه في الحديث السادس والأربعين من كتاب الإيمان، ومر تعريف ابن شهاب في الحديث الثالث من بدء الوحي، ومر تعريف عيسى بن طلحة بن عُبيد الله في الحديث الخامس والعشرين من كتاب العلم. ومر تعريف عبد الله بن عمرو بن العاص في الحديث الثالث من كتاب الإيمان. والثاني من السند: عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة، نسب إلى جده أبي سلمة الماجشون، بفتح الجيم وكسرها، واسم أبي سلمة ميمون، وقيل دينار، المدنيّ، أبو عبد الله. ويقال أبو الأصْبغ الفقيه، أحد الأعلام، مولى آل الهدبر التميميّ، نزيل بغداد. روى عن أبيه وعمه يعقوب، ومحمد بق المُنْكدَر، والزُّهْرِيّ، وإسحاق بن أبي طلحة، وزيد ابن أَسْلَم وغيرهم. وروى عنه ابنه عبد الملك، وزهير بن معاوية، وإبراهيم بن طَهْمان، والليث بن سعد، وهم من أقرانه، وابن وهب وابن مَهْدي، وخلق كثير. والماجَشون فارسِيُّ. وإنما سُمي الماجشون لأن وجنتيه كانتا حمراوين، فسُمي بالفارسية "الماهكون" فشبه وجنتاه بالقمر، فعربه أهل المدينة، فقالوا الماجشون. وقال أحمد: تعلق من الفارسية بكلمة، فكان إذا لقي الرجل يقول "شموني" فلقب الماجشون. وقال الحسين بن حبّان قيل، لأبي زكرياء: الماجشون هل هو مثل الليث وإبراهيم بن سعد؟ فقال: لا هو دونهما، إنما كان رجلًا يقول بالقدر والكلام، ثم تركه وأقبل على السنة، ولم يكن من شأنه الحديث، فلما قدم بغداد كتبوا عنه، فكان بعد يقول: جعلني أهل بغداد محدثًا وكان صدوقًا. ووثقه أبو زرعة وأبو حاتم وأبو داود والنَّسائيّ. وقال ابن خراش: صدوق، قال ابن مَهْديّ: لم يسمع من الزُّهْرِيّ. وقال أحمد بن سنان: معناه أنه عرض. وقال ابن وهب حججت سنة ثمان وأربعين ومئة، وصائح يصيح: لا يفتح الباب إلا لمالك وعبد العزيز بن أبي سلمة. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، وأهل العراق أروى عنه من

لطائف إسناده

أهل المدينة، وكان فقيهًا ورعًا، متابعًا لمذهب أهل الحرمين، مفرعًا على أصولهم، ذابًا عنه. وقال أحمد بن صالح: كان نزهًا صاحب سنة، ثقة. وقال ابن أبي مَرْيم: سمعت أشْهَبَ يقول: هو أعلم من مالك. وقال أحمد بن كامل لعبد العزيز: كتب مصنفة في الأحكام. وقال موسى بن هارون الحمّال: كان ثبتًا متقنًا. توفي ببغداد سنة أربع وستين ومئة، ويقال إن سكينة بنت الحسين بن علي رضي الله عنهما لقبته بهذا اللقب الذي هو الماجشون. والتميميّ في نسبه مر في السادس من بدء الوحي. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة، ورواته ما بين كوفيّ ومدنيّ ومصري، ومر المواضيع التي أخرج فيها عند ذكره في الحديث الخامس والعشرين من كتاب العلم. ثم قال المصنف: باب قول الله تعالى وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا كذا في رواية الكشميهنيّ، ولغيره في التفسير "وما أوتوا"، وقد ذكر في آخر الحديث. قال الأعمش: هي كذا في قراءتنا، وبيّن مسلم اختلاف الرواة فيها عن الأعمش، وهي مشهورة عن الأعمش، ولا مانع أن يذكرها بقراءة غيره. وقراءة الجمهور "وما أوتيتم" بل ليست هذه القراءة في السبعة، ولا في المشهور من غيرها. وقد أغفلها أبو عُبيد في "كتاب القراءات" له، من قراءة الأعمش. والأكثر على أن إلمخاطب بذلك اليهودُ، فتتحد القراءتان، نعم هي تتناول علم جميع الخلق بالنسبة إلى علم الله تعالى. وفي حديث ابن عباس "أن اليهود لما سمعوها قالوا أوتينا علمًا كثيراً: التوراة، ومن أوتى التوراة فقد أوتي خيرًا كثيرًا" فنزلت {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي} [الكهف: 109] الآية. قال التِّرمذي: حسن صحيح. وقوله "إِلَّا قَلِيلًا" استثناء من العلم، أي إلا علمًا قليلًا، أو من الإعطاء أي الإعطاء قليلًا أو من ضمير المخاطب أو الغائب على القراءتين، أي إلا قليلًا منكم أو منهم.

الحديث السابع والستون

الحديث السابع والستون حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ حَفْصٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ قَالَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ سُلَيْمَانُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا أَمْشِى مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي خَرِبِ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَسِيبٍ مَعَهُ، فَمَرَّ بِنَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ تَسْأَلُوهُ لاَ يَجِيءُ فِيهِ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَنَسْأَلَنَّهُ. فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ! مَا الرُّوحُ؟ فَسَكَتَ. فَقُلْتُ: إِنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ. فَقُمْتُ، فَلَمَّا انْجَلَى عَنْهُ، قَالَ {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}. قَالَ الأَعْمَشُ هَكَذَا فِى قِرَاءَتِنَا. قوله "في خِرَب المدينة" هو بكسر الخاء المعجمة وفتح الراء، جمع خِرْبة بالسكون، ويقال بفتح الخاء وكسر الراء، ككَلِمة وكلْمَة، وهذا أصوب، وأوفق للقياس. وفي التفسير: "في حرث" بفتح المهملة وسكون الراء، وعند مسلم بلفظ "كان في نخل" ولابن مردويه "في حرث للأنصار". وهذا يدل على أن نزول الآية وقع في المدينة، لكن روى التِّرمِذيُّ عن ابن عباس قال: قالت قريش لليهود: أعطونا شيئًا نسأل هذا الرجل عنه فقالوا: سلوه عن الروح، فسألوه، فأنزل الله تعالى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] ورجاله رجال مسلم، ويمكن الجمع بأن يتعدد النزول يحمل سكوته في المرة الثانية على توقع مزيد بيان في ذلك إن ساغ هذا، وإلا فما في الصحيح أصح. وقوله "وهو يتوكأ" جملة اسمية حالية، أي يعتمد. وقوله "على عَسِيب" بمهملتين آخره موحدة بوزن عظيم، وهي الجَرِيدة التي لا خُوص لها. وفي رواية ابن حبان "ومعه جريدة". قال ابن فارس: العُسْبان من النخل كالقُضْبان من غيره. وقوله "فمر بنفر من اليهود" النَّفَر بالتحريك، عدة رجال من ثلاثة إلى عشرة، وفي

رواية التفسير "إذ مر اليهود" بالرفع على الفاعلية، وعند الطبريّ "إذ مررنا على يهود" ويحمل هذا الاختلاف على أن الفريقين تلاقوا، فيصدق أن كلًا مر بالآخر. وقوله "على يهود" هذا اللفظ معرفة تدخله اللام تارة، وتارة يتجرد، وحذفوا منه ياء النسبة، ففرقوا بين مفرده وجمعه بالياء في المفرد، كما قالوا زنْج وزنْجي، وليس في شيء من الطرق تسمية من هؤلاء اليهود. وقوله "لا يجيء فيه بشيء تكرهونه" برفع يجيء على الاستئناف، والمعنى لا يجيء فيه بشيء تكرهونه، وبالجزم على جواب النهي، وهو على مذهب الكوفيين، وبالنصب على معنى لا تسألوه خشية أن يجيء فيه بشيء. ولا زائدة. وفي رواية التفسير "لا يستقبلكم بشيء تكرهونه" وفي الاعتصام لا يسمعكم ما تكرهون"، وهي كلها بمعنىً وإعراب. وقوله فقال: يا أبا القاسم، ما الروح؟ وسؤالهم بقولهم: ما الروح؟ مُشْكلٌ، لأن الروح جاء في القرآن لمعان كثيرة، كما سترى إن شاء الله تعالى، لكن الأكثرون على أنهم سألوه عن الروح التي تكون بها الحياة في الجسد. وقال أهل النظر: سألوه عن كيفية مسلك الروح في الجسد، وامتزاجه به، وهذا هو الذي استأثر الله بعلمه. وقال القرطبي: المرجح أنهم سألوه عن روح الإنسان، لأن اليهود لا تعترف بان عيسى روح الله، ولا تجهل أن جبريل ملَك، وأن الملائكة أرواح. وقال فَخْر الدين الرّازِيّ: المختار أنهم سألوه عن الروح الذي هو سبب الحياة، كما قال الجمهور، وأن الجواب وقع على أحسن الوجوه، وبيانه أن السؤال عن الروح يحتمل عن ماهيته، وهل هي متحيزة أم لا؟ وهل هي حالة في متحيّز أم لا؟ وهل قديمة أو حادثة؟ وهل تبقى بعد إنفصالها عن البدن أو تفنى؟ وما حقيقة تنعيمها أو تعذيبها؟ وغير ذلك من متعلقاتها. قال: وليس في السؤال ما يخصص أحد هذه المعاني إلا أن الأظهر أنهم سألوه عن الماهية، وهل الروح قديمة أو حادثة. والجواب يدل على أنها

شيء موجود، مغاير للطبائع والأخلاط وتركيبها، فهو جوهر بسيط مجرد، ولا يحدث إلا بمحدث، وهو قوله تعالى {كُنَّ} [البقرة: 228]، فكأنه قال: هي موجودة محدثة بأمر الله وتكوينه، ولها تأثير في إفادة الحياة للجسد، ولا يلزم من عدم العلم بكيفيتها المخصوصة نفيه. وجنح ابن القيِّم في "كتاب الروح" إلى ترجيح أن المراد بالروح المسؤول عنها في الآية ما وقع في قوله تعالى {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا} [النبأ: 38]، قال: وأما أرواح بني آدم، فلم تقع تسميتها في القرآن إلا نفسًا، كذا قال، وفيه نظر، إذ لا دلالة في ذلك لما رجحه، بل الراجح الأول، فقد أخرج الطبري عن ابن عباس في هذه القصة أنهم قالوا عن الروح: وكيف يعذب الروح الذي في الجسد وإنما الروح من الله؟ فنزلت الآية. وقيل: سألوه عن جبريل، وقيل: عن عيسى، وقد مر ما قاله القرطبيُّ في ذلك، وقوله "فقلت إنه يوحى إليه فقمت" أي: حتى لا أكون مشوشاً عليه، أو فقمت حائلًا بينه وبينهم. وفي رواية التفسير "فقمت مقامي" وفي الاعتصام "فتأخرت عنه". وقوله "فلما انجلى عنه" أي: انكشف عنه عليه الصلاة والسلام الكرب الذي كان يتغشاه حال الوحي. وقوله "فقال"، وفي رواية الأربعة "قال". وقوله "ويسألونك" بإثبات الواو، كالتنزيل. وفي رواية أبي ذَرّ والأصيليّ وابن عساكر "يسألونك" بحذف الواو. وقوله "قل الروح من أمر ربي". أي من الإبداعيات الكائنة "بكن" من غير مادة، وتولد من أصل واقتصر على هذا الجواب، كما اقتصر موسى عليه السلام في جواب {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23] بذكر بعض صفانه، إذ الروح لدقته، لا تمكن معرفة ذاته، إلا بعوارض تميزه عما يلتبس، فلذلك اقتصر على هذا الجواب، ولم يبين الماهية لكونها مما استأثر الله بعلمها، ولأن في عدم بيانها تصديقاً لنبوة نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم. وقوله "من أمر ربي" قال الفخر: يحتمل أن يكون المراد بالأمر الفعل، كقوله {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] أي فعله، فيكون الجواب

الروح من فعل ربي، إن كان السؤال هل هي قديمة أو حادثة، فيكون الجواب أنها حادثة. وقال الإسماعيلى: المراد أن الروح من جملة أمر الله، وأن الله اختص بعلمه، ولا سؤال لأحد عنه، وقال ابن القيم: ليس المراد هنا بالأمر الطلب اتفاقًا، وإنما المراد به المأمور، والأمر يطلق على المأمور، كالخلق على المخلوق، ومنه {لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} [هود: 101] وقال ابن بطّال: معرفة حقيقة الروح مما استأثر الله بعلمه، بدليل هذا الخبر، قال: والحكمة في إبهامه اختبار الخلق، ليُعرِّفَهُم عجزهم عن علم ما لا يدركونه حتى يضطرهم إلى رد العلم إليه. وقال القرطبيُّ: الحكمة في ذلك إظهار عجز المرء؛ لأنه إذا لم يعلم حقيقة نفسه مع القطع بوجوده، كان عجزه عن إدراك حقيقة الحق من باب الأولى، وقيل: المراد بقوله "من أمر ربي" كون الروح من عالم الأمر الذي هو عالم الملكوت، لا عالم الخلق الذي هو عالم الغيب والشهادة. ووقع في بعض التفاسير أن الحكمة في سؤال اليهود عن الروح، أن عندهم في التوراة، أن روح بني آدم لا يعلمها إلا الله، فقالوا نسأله، فإن فسرها فهو نبيَّ، وهو معنى قولهم "لا يجيء بشيء تكرهونه" وروى الطبريُّ في هذه القصة: فنزلت الآية، فقالوا: هكذا نجده عندنا. ورجاله ثقات، إلا أنه سقط من الإِسناد علقمة. وقد اجتمع من كلام أهل التفسير في معنى لفظ الروح الوارد في القرآن لا خصوص هذه الآية، أقوالٌ كثيرةٌ، فمن الذي في القرآن {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء: 193] {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ} [غافر: 15] {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22] {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا} [النبأ: 38] {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} [القدر: 4]. فالأول جبريل، والثاني القرآن. والثالث الوحي، والرابع القوة، والخامس والسادس محتمل لجبريل ولغيره.

ووقع إطلاق روح الله على عيسى، وقد روى ابن إسحاق في تفسيره بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: الروح من الله، وخلق من خلق الله، وصور كبني آدم، لا ينزل ملك إلا ومعه واحد من الروح. وثبت عن ابن عباس أنه كان لا يفسر الروح، أي لا يعين المراد به في الآية، وقد مر ما قيل في الروح المسؤول عنه من الاختلاف، وقيل: الروح ملَكٌ يقوم وحَدْه صفًا يوم القيامة، وقيل: ملك له أحد عشر ألف جناح ووجه. وقيل: ملك له سبعون ألف لسان، وقيل: له سبعون ألف وجه، في كل وجه سبعون ألف لسان، لكل لسان ألف لغة، يسبح الله تعالى، يخلق الله بكل تسبيحة ملكًا يطير مع الملائكة. وقيل: ملك رجلاه في الأرض السفلى، ورأسه عند قائمة العرش. وقيل: خلق كخلق بني آدم، يقال لهم الروح، يأكلون ويشربون، لا ينزل ملك من السماء، إلا نزل معه واحد منهم. وقيل: بل هم صنف من الملائكة يأكلون ويشربون. وقد اختلف في حقيقة الروح التي بها حياة البدن من ادَّعى معرفة حقيقتها اختلافًا كثيرًا متباينًا، فقيل هي النَّفس الداخل والخارج، وقيل الحياة، وقيل: جسم لطيف يحل في جميع البدن، وقيل: هي الدم، وقيل: هي عرض، حتى قيل إن الأقول فيها بلغت مئة. ونقل ابن مَنْده عن بعض المتكلمين أن لكل نبي خمسة أرواح، ولكل مؤمن ثلاثة، ولكل حي واحدة. وقال ابن العربيّ. اختلفوا في الروح والنفس، فقيل متغايران، وهو الحق، وقيل هما شيء واحد، وقد يعبر بالروح عن النفس وبالعكس، كما يعبر عن الروح والنفس بالقلب وبالعكس، وقد يعبر بالروح عن الحياة، حتى يتعدى ذلك إلى غير العقلاء، بل إلى الجماد مجازًا. وقال السهيليّ: يدل على مغايرة الروح والنفس. وقوله تعالى {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر: 29] وقوله تعالى {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116] فإنه لا يصح جعل أحدهما موضع الآخر، ولولا التغاير لساغ ذلك.

قلت: لم أفهم ما قاله من كونه لا يصح جعل أحدهما موضع الآخر، فمن أي وجه عدم الصحة؟ من اللفظ؟ فاللفظ ممكن، أو من جهة المعنى، فالمعنى غير محقق حتى يحكم عليه بعدم الصحة. وقد أمسك كثير من السلف عن الخوض فيها، فممن رأى الإمساك عن ذلك أستاذ الطائفة أبو القاسم الجُنَيد، فقال فيما نقله في "عوارف المعارف" عنه، بعد أن نقل كلام الناس في الروح: وكان الأولى الإمساك عن ذلك، والتأدب بادب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم. ثم نقل عن الجنيد أنه قال: الروح استأثر الله تعالى بعلمه، ولم يطلع عليه أحداً من خلقه، فلا تجوز العبارة عنه بأكثر من موجود وعلى ذلك جرى ابن عطية وجمع من أهل التفسير. وأجاب من خاض في ذلك بأن اليهود سألوا عنها سؤال تعجيز وتغليط، لكونه يطلق على أشياء، فأضمروا بأنه بأي شيء أجاب، قالوا: ليس هذا المراد، فرد الله تعالى كيدهم، وأجابهم جوابًا مجملًا مطابقًا لسؤالهم المجمل. وقال السَّهْروردي في "العوارف": يجوز أن يكون من خاض فيها، سلك سبيل التأويل لا التفسير، إذ لا يسوغ التفسير إلا نقلا، وأما التأويل فتمتد العقول إليه بالباع الطويل، وهو ذكر ما لا يحتمل إلا به من غير قطع، بأنه المراد، فمن ثم يكون القول فيه. قال: وظاهر الآية المنعُ من القول فيها، لختم الآية بقوله {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] أي اجعلوا حكم الروح من الكثير الذي لم تؤتوه، فلا تسألوا عنه، فإنه من الأسرار. وقال بعضهم: ليس في الآية دلالة على أن الله لم يطلع نبيه على حقيقة الروح، بل يحتمل أن يكون أطلعه، ولم يأمره أنه يطلعهم، وقد قالوا في علم الساعة نحو هذا، وقد خالف الجُنَيد ومن تبعه من الأئمة جماعةً من متأخري الصوفية، فأكثروا من القول في الروح، وصرح بعضهم بمعرفة حقيقتها، وعاب من أمسك عنها. ونقل ابن مَنْده في كتاب الروح له، عن محمد بن نصر المَرْوَزِي

رجاله ستة

المطلع على اختلاف الأحكام من عهد الصحابة إلى عهد فقهاء الأمصار -نقل الإجماع على أن الروح مخلوقة، وإنما ينقل القول بقدمها عن بعض غُلاة الرَّافضة والمتصوفة. واختلف هل تفنى عند فناء العالم قبل البعث أو تستمر باقية على قولين، قاله في "الفتح": قلت: الذي هو الثابت عند السنيين من أهل التوحيد أن الروح باقية لا تفنى، هي سابعة سبعة من المخلوق غير فانية، نظمها بعضهم بقوله: سبع من المخلوق غير فانيه ... العربُ والكرسيّ ثم الهاويه واللّوح والقلم والأَرواح ... وجنة في عرضها نرتاح وفي الحديث من الفوائد: جواز سؤال العالم في حال قيامه ومشيه إذا كان لا يثقل ذلك عليه، قلت: إنما أخذ هذا من الحديث، مع أن السؤال وقع من كفار اليهود، لإقرار النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لهم على ذلك. وفيه أدب الصحابة مع النبي عليه الصلاة والسلام، والعمل بما يغلب على الظن، والتوقف عن الجواب بالاجتهاد لمن يتوقع النص، وأن بعض المعلومات قد استأثر الله بعلم حقيقته، وأن الأمر يرد لغير الطلب. رجاله ستة: الأول: قيس بن حَفْص بن القَعْقاع التّميميّ الدارميّ، مولاهم، أبو محمد البَصريّ، روى عن عبد الواحد بن زياد، وهُشيم، ومعمر، وطالب بن حُجَير، وخالد بن الحارث وغيرهم. وروى عنه البخاري وأبو داود في فضائل الأنصار، ويعقوب بن سفيان وغيرهم. قال ابن معين: ثقة، وقال العجليّ: لا بأس به كتبتُ عنه شيئًا يسيرًا. وقال أبو حاتم: شيخ، وذكره ابن حبّان في الثقات، وقال: يُغْرِب. وقال الدارقطني: ثقة، وفي الزهرة روى عنه البخاريّ اثني عشر حديثًا، انفرد البخاري به عن الأئمة الخمسة، وليس في مشايخهم من اسمه قيس سواه. توفي سنة سبع وعشرين ومئتين.

لطائف إسناده

الثاني: عبد الواحد بن زياد، مر تعريفه في الحديث الثلاثين من كتاب الإيمان. الثالث: سليمان بن مهران الأعمش، مر في الحديث السادس والعشرين منه أيضًا. وكذلك إبراهيم بن يزيد النَخَعِيّ، وعلقمة بن قيس، ومر تعريف عبد الله بن مسعود في كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة، ورواته ما بين بصريّ وكوفيّ، وفيه ثلاثة من التابعين الحفاظ المتقنين، يروي بعضهم عن بعض، وهم الأعمش وإبراهيم وعلقمة، ومنها رواية الأعمش عن إبراهيم عن علقمة أصح الأسانيد فيما قيل. أخرجه البخاريّ هنا، وفي التوحيد والتفسير والاعتصام، ومسلم في الرقاق، والتِّرمْذِيُّ والنَّسائِيّ في التفسير. وقال التِّرْمِذيّ: حسن صحيح. ثم قال المصنف: باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه، فيقعوا في أشد منه. قوله "ترك بعض الاختيار" أي ترك فعل بعض الشيء المختار، أوترك الإعلام به، وقوله "فيقعوا" نصب بإسقاط النون، عطفًا على المضارع المنصوب بأن. وقوله "في أشد منه" أي من تَرْك الاختيار. وفي رواية الأصيليَّ في أشر بالراء، وفي أخرى للكشميهنيَّ في شرٍ منه بالراء مع إسقاط الهمزة.

الحديث الثامن والستون

الحديث الثامن والستون حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الأَسْوَدِ قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ الزُّبَيْرِ: كَانَتْ عَائِشَةُ تُسِرُّ إِلَيْكَ كَثِيرًا فَمَا حَدَّثَتْكَ فِى الْكَعْبَةِ؟ قُلْتُ: قَالَتْ لِي: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "يَا عَائِشَةُ، لَوْلاَ قَوْمُكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ" قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: بِكُفْرٍ "لَنَقَضْتُ الْكَعْبَةَ فَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ بَابٌ يَدْخُلُ النَّاسُ، وَبَابٌ يَخْرُجُونَ". فَفَعَلَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ. قوله: "كانت تُسرُّ إليك كثيرًا" أي إسرارًا كثيرًا، من الإسرار ضد الإعلان وفي رواية ابن عساكر "تسر إليك حديثًا كثيرًا"، فإن قلت قوله "كانت" للماضي، و"تسر" للمضارع، فكيف اجتمعا؟ فالجواب بأن تسر تفيد الاستمرار، وذكر بلفظ المضارع استحضارًا لصورة الإسرار. وقوله "فما حدثتك في الكعبة" أي في شأنها. وقوله "قلت" في رواية أبي ذر "فقلت". وقوله "قالت لي" زاد فيه ابن أبي شيبة في مسنده بهذا الإِسناد. قلت لقد حدثتني حديثًا كثيرًا نسيتُ بعضَه وأنا أذكر بعضه، قال ابن الزبير ما نسيتَ أذكرتُك، قلت: قالت. وقوله "حديثُ عهدهم" بتنوين حديث ورفع عهدهم، على إعمال الصفة المشبهة. وقوله "قال ابن الزبير: بكفر" وللأصيلي. "فقال ابن الزبير" كأن الأسود نسي قولها "بكفر" فذكره ابن الزبير. وأما التالي، وهو قوله "لنقضت الخ" فيحتمل أن يكون مما نسي أيضًا، أو مما ذكر، ورواه الإسماعيلى عن زُهير بن معاوية عن أبي إسحاق بلفظ "حدثتني حديثًا حفظتُ أوله، ونسيت آخره" وللترمذي والمؤلف في الحج الحديث بتمامه إلا قوله "بكفر" جعل بدلها "بجاهلية".

وقوله "لنقضت الكعبة" جواب لولا، وقوله "فجعلت لها بابين، بابًا يدخل الناس، وبابًا يخرجون" بتقدير "منه" مع كل من الفعلين وفي رواية الحَمَوِيّ والمستحلى إثبات ضمير الثاني "يخرجون منه"، وهي منازعة بين الفعلين، ولأبي ذرٍّ بنصب "بابًا" في الموضعين على البدل أو البيان، ولغيره بالرفع على الاستئناف. وقوله "ففعله ابن الزبير" يعني ما ذكر من النقض والبناء على ما أراد النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم. وكان سبب هدم ابن الزبير للكعبة وبنائه لها ما أخرجه مسلم عن عطاء بن أبي رباح قال: لما احترق البيت زمن يزيد بن معاوية حين غزاه أهل الشام، وللفاكهانيّ: لما أحرق أهل الشام الكعبة ورموها بالمنجنيق، وهت الكعبةُ. ولابن سعد في الطبقات عن أبي الحارث بن زَمْعَة قال: ارتحل الحصين بن نُمير الأمير الذي كان يقاتل ابن الزبير من قبل يزيد بن معاوية، لما أتاهم موت يزيد بن معاوية في ربيع الآخر سنة أربع وستين، قال: فأمر ابن الزبير بالخِصاص التي كانت حول الكعبة فهدمت، فإذا الكعبة تنفض، أي تتحرك متوهنة، ترتج من أعلاها إلى أسفلها، فيها أمثال جيوب النساء من حجارة المنجنيق. ولعبد الرزّاق عن مَرْثد بن شُرَحبيل أنه حضر ذلك، قال: كانت الكعبة قد وهت من حريق أهل الشام، فتركه ابن الزبير حتى قدم الناس الموسم، يريد أن يَحْزُبهم على أهل الشام، فلما صدر الناس قال: أشيروا عليَّ في الكعبة، فكشف عن ربض في الحجر آخذٍ بعضه ببعض، فتركه مكشوفًا ثمانية أيام ليشهدوا عليه، فرأيت ذلك الربض مثل خَلِف الِإبل، وجهُ حَجَر، ووجه حجران، ورأيت الرجل يأخذ العَتلة فيضرب بها من ناحية الركن فيهتز الركن الآخر. وذكر مسلم في رواية عطاء السابقة إشارة ابن عباس عليه بأن لا يفعل. وقول ابن الزبير: لو أن أحدكم احترق بيته بناه حتى يجدده، وأنه استخار الله ثلاثًا، ثم عزم على أن ينقضها، قال: فتحاماه الناس حتى صعد رجل فألقى منه حَجَرة، فلما لم يره الناس أصابه شيء تتابعوا فنقضوه، حتى

بلغوا به الأرض، وجعل ابن الزبير أعمدةً فستر عليها الستور حتى ارتفع بناؤه. وقال ابن عُيينة في "جامعه" عن مجاهد: خرجنا إلى منىً فأقمنا بها ثلاثًا ننتظر العذاب، وارتقى ابن الزبير على جدار الكعبة، هو بنفسه، فهدم. وللفاكهانيّ في كتاب مكة عن يزيد بن رومان، ثم عزل ما كان يصلح أن يعاد في البيت فبنوا به، ثم نظروا إلى ما كان لا يصلح منها أن يبنى به، فأمر بدفنه في حفرة في جوف الكعبة، واتبعوا قواعد إبراهيم من نحو الحِجْر، فلم يصيبوا شيئًا حتى شق على ابن الزبير، ثم أدركوها بعد ما أمعنوا، فنزل عبد الله بن الزبير فكشفوا له عن قواعد إبراهيم، وهي صخر مثل الخلف من الإبل، فانفضوا له، أي حركوا تلك القواعد بالعتل، فنفضت قواعد البيت، ورأوه بنيانًا مربوطًا بعضه ببعض، فحمد الله تعالى وكبره، ثم أحضر الناس، فأمر بوجوههم وأشرافهم، فنزلوا حتى شاهدوا ما شاهده، ورأوا بنيانًا متصلًا فأشهدهم على ذلك. والخَلِف ككتف، حوامل الإبل، واحدتها خلفه بالهاء، وللفاكهانيّ من وجه آخر عن عطاء قال: كنت في الأمناء الذين جُمعوا على حفره فحفروا قامة ونصفًا، فهجموا على حجارة لها عروق تتصل بزَرَد عروق المروة، فضربوه فارتجت قواعد البيت، فكبر الناس فبنى عليه. وفي البخاريّ قال يزيد وهو ابن رُومان: شهدت ابن الزبير حين هدمه وبناه وأدخل فيه الحجر، وقد رأيت أساس إبراهيم حجارةً كأسْنمة الإِبل. ولعبد الرزاق عن ساباط عن زيد أنهم كشفوا عن القواعد، فإذا الحجر مثل الخَلِفَة، والحجارة مشبَّكة بعضها ببعض، وعند مسلم من رواية عطاء "وجعل له بابين أحدهما يدخل منه والآخر يخرج منه" وعند الإِسماعيليّ "فنقضه ابن الزبير فجعل له بابين في الأرض" ونحوه للتِّرمِذِيّ. وللفاكهانيّ عن موسى بن مَيْسرة أنه دخل الكعبة بعدما بناها ابن الزبير، فكان الناس لا يزدحمون فيها، يدخلون من باب ويخرجون من

آخر. وقصة تغيير الحجاج لما صنعه ابن الزبير ذكرها مسلم من رواية عطاء قال: فلما قُتل ابن الزبير، كتب الحجاجُ إلى عبد الملك بن مروان يخبره أن ابن الزبير قد وضعه على أُسٍ، نظَر العُدول إليه من أهل مكة، فكتب إليه عبد الملك: إنا لسنا من تلطيخ ابن النربير في شيء، أما ما زاد في طوله فأقره، وأما ما زاد فيه من الحجر فرده إلى بنائه، وسدَّ بابه الذي فتحه، فنقضه وأعاده إلى بنائه. وللفاكهانيّ عن أبي أويس: فبادر الحجاج فهدمها، وبنى شقها الذي يلي الحِجْر، ورفع بابها، وسد الباب الغربي. قال أبو أُويس: فأخبرني غير واحد من أهل العلم أن عبد الملك ندم على إذنه للحجاج في هدمها، ولعن الحجاج. ولابن عُيينة عن مُجاهد: فرد الذي كان ابن الزبير أدخل فيها من الحِجْر. قال: فقال عبد الملك: وَدِدنا أنا تركنا ابن الزبير وما توَّلى من ذلك. وأخرج مسلم قصة ندمه عن الوليد بن عطاء، أن الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، وقد على عبد الملك في خلافته فقال: ما أظن أبا خُبيَبْ، يعني ابن الزبير، سمع من عائشة ما كان يزعم أنه سمع منها. فقال الحارث: بلى، أنا سمعته منها. زاد عبد الرزاق عن ابن جُرَيج فيه. وكان الحارث مُصَدَّقًا لا يكذب، فقال عبد الملك: أنت سمعتها تفول ذلك؟ قال: نعم، فنكت ساعة بعصاه، وقال: وددت أني تركته وما تحمل. وأخرجها أيضًا عن أبي قزعة "بينما عبد الملك يطوف بالبيت إذ قال: قاتل الله ابن الزبير، حيث يكذب على أُم المؤمنين ... " فذكر الحديث، فقال له الحارث: لا تقل هذا يا أمير المؤمنين، فأنا سمعتها تحدِّث بذلك. فقال: لو كنت سمعته قبل أن أهدمه لتركته علي بناء ابن الزبير. قال في "الفتح" جميع الروايات متفقة على أن ابن الزبير جعل الباب بالأرض، ومقتضاه أن يكون الباب الذي زاده على سمته، وقد ذكر الأزرقيّ أن جملة ما غيّره الحجاج الجدار الذي من جهة الحِجر والباب المسدود

الذي في الجانب الغربيّ عن يمين الركن اليمانيّ، وما تحت عتبة الباب الأصليّ، وهو أربعة أذرع وشبر، وهذا موافق للروايات المذكورة. لكن المشاهد الآن في ظهر الكعبة باب مسدود ومقابل الباب الأصلي، وهو في الارتفاع مثله، ومقتضاه أن يكون الباب الذي كان على عهد ابن الزبير لم يكن لاصقًا بالأرض، فيحتمل أن يكون لاصقًا كما صرحت به الروايات، لكن الحجاج لما غيّره رفعه، ورفع الباب الذي يقابله، ثم بدا له فسدَّ الباب المجدد، لكن لم أر النقل بذلك صريحًا. قلت: بل ظاهر النقل أو صريحه مخالفٌ له، لما مر عن مسلم أن عبد الملك أمره بسد الباب الذي فتحه ابن الزبير، وقال الفاكهانيّ: إن الحجاج بادر إلى فعل ما أمر به، فكيف يقال إنه رفع الباب أولًا، ثم بدا له فسدَّه، فإنه مأمورٌ مبادرٌ إلى ما أمر به. وذكر الفاكهانيّ في أخبار مكة أنه شاهد هذا الباب المسدود من داخل الكعبة في سنة ثلاث وستين ومئتين، فإذا هو مقابل باب الكعبة، وهو بقدره في الطول والعرض، وإذا في أعلاه كلاليب ثلاثة، كما في الباب الموجود سواء. وأما زمن بناء ابن الزبير للبيت، فقد قال ابن سعد عن ابن أبي مُلَيكة: لم يبن ابن الزبير الكعبة حتى حج الناس سنة أربع وستين، ثم بناها حين استقبل سنة خمس وستين. وحُكِي عن الواقِدِيّ أنه ردّ ذلك، وقال: الأثبت عندي أنه ابتدأ بناءها بعد رحيل الجيش بسبعين يومًا، وجزم الأَزْرَقِيّ بأن ذلك كان في نصف جمادى الآخرة سنة أربع وستين، ويمكن الجمع بأن يكون ابتداء البناء من ذلك الوقت، وامتد أمده إلى الموسم، ليراه أهل الآفاق ليشنع علي بني أُمية. ويؤيده أنّ في تاريخ المسيمي أن الفراغ من بناء الكعبة كان في سنة خمس وستين، وزاد المحب الطَّبريّ أنه كان في شهر رجب. قال في "الفتح": وإن لم يكن هذا الجمع مقبولًا، فالذي في الصحيح مقدم علي غيره، قلت: لم أر في واحد من الصصحيحين التصريح بشيء يكون مقدمًا

رجاله ستة

على غيره، وبناء ابن الزبير للبيت هو المرة الرابعة من بناء البيت، ثم بناه الخامسة الحجاج، واستمر علي بنائه. وقد تضمن الحديث معنى ما ترجم له؛ لأن قريشًا كانت تعظم أمر الكعبة جدًا، فخشي صلى الله تعالى عليه وسلم أن يظنوا، لأجل قرب عهدهم بالإسلام أنه غيَّر بناءها لينفرد بالفخر عليهم في ذلك. ويستفاد منه ترك المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة، ومنه ترك إنكار المنكر خوف الوقوع في أنكر منه، وإن الإمام يسوس رعيته بما فيه إصلاحهم، ولو كان مفضولًا ما لم يكن محرمًا. رجاله ستة: الأول عبيد الله بن موسى، مر تعريفه في الحديث الأول من كتاب الإيمان، ومر تعريف عائشة في الحديث الثاني من بدء الوحي، ومر تعريف أبي إسحاق عمرو بن عبد الله في الحديث الرابع والثلاثين من كتاب الإيمان، ومر تعريف ابن الزبير في الحديث الثامن والأربعين من كتاب العلم. وأما إسرائيل فهو إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السَّبيعيّ الهَمْدانيّ الكوفيّ، أبو يوسف. روى عن جده وزياد بن عِلاقة، وزيد بن جبير، وعاصم الأحول وسِماك بن حَرْب، وهشام بن عُروة وغيرهم. وروى عنه ابنه مهديّ والنَضْر بن شُمَيل، وأبو داود وأبو الوليد الطيالسيان، ووكيع وخلق. قال ابن مهدي عن عيسى بن يونس: قال لي اسرائيل: كنت أحفظ حديث أبي إسحاق كما أحفظ السورة من القرآن. وقال يحيى القطان: إسرائيل فوق أبي بكر بن عَيّاش. وقال أحمد بن حنبل: كان شيخًا ثقة، وجعل يتعجب من حفظه. وقال مرة، هو وابن معين وأبو داود: هو أثبت من شريك. وقال أيضًا: كان القطان يحمل عليه في حال أبي يحيى القتات. قال: روى عنه مناكير، قال: قال أحمد: ما حدث عنه يحيى بشيء. وقال ابن مَعين: هو أثبت

في أبي إسحاق من شيبان، وقدمه أبو نعيم فيه على أبي عُوانة، وقدمه أحمد على أبيه في حديث أبي إسحاق، وكذا قدمه أبوه على نفسه. وقال أبو حاتم: ثقة صدوق من أتقن أصحاب أبي إسحاق. وقال ابن سعد: كان ثقة، وحدث عنه الناس حديثًا كثيرًا، ومنهم من يستضعفه، وقدم ابن مَعين وأحمد شعبة والثَّوريّ عليه في أبي إسحاق، وقدمه ابن مَهْديّ عليهما، وقال حجاج الدَّعور: قلنا لشعبة: حدثنا عن أبي إسحاق، فقال: سلوا إسرائيل، فإنه أثبت مني فيها. وقال العجليّ: كوفيّ ثقة صدوق. وقال يعقوب بن شيبة: صالح الحديث، وفي حديثه لِيْن. وقال في موضع آخرة ثقة صدوق، وليس في الحديث بالقوي، ولا بالساقط. وقال يحيى بن آدم: كنا نكتب عنده من حفظه، وقال يحيى: كان إسرائيل لا يحفظ، ثم حفظ، وقال عيسى بن يونُس: كان أصحابنا سفيان وشريك، وعد قومًا، إذا اختلفوا في حديث أبي إسحاق يجيئون إلى أبي فيقول: اذهبوا إلى ابني إسرائيل، فهو أروى عنه مني، وأتقن لها مني، هم كان قائد جده، وقال شبابة بن سوّار: قلت ليونس بن أبي إسحاق: املِ عليَّ حديث أبيك، قال: اكتب عن ابني إسرائيل، فإن أبي أملاه عليه. وقال ابن معين: زكرياء وزهير وإسرائيل حديثهم في أبي إسحاق قريبٌ من السواء، إنما أصحاب أبي إسحاق سفيان وشعبة. وقال ابن مَهْدي: ما فاتني الذي فاتني من حديث الثَّوري عن أبي إسحاق، إلا لما اتكلت به على إسرائيل؛ لأنه كان يأتي به أتم. فهذا ما قيل فيه من الثناء. قال ابن حجر: وبعد ثبوت ذلك واحتجاج الشيخين به، لا يجمل من متأخر لا خبرة له بحقيقة حال من تقدمه، أن يطلق على إسرائيل الضعف، ويرد الأحاديث الصحيحة التي يرويها دائمًا، لاستناده إلى كون القَطَّان كان يحمل عليه، من غير أن يعرف وجه ذلك العمل، وقد بحثت عن ذلك،

فوجدت الإمام أبا بكر بن أبي خيْثمة قد كشف علة ذلك، وأبانها بما فيه الشفاء لمن أنصف. قال في تاريخه: قيل ليحى بن مَعين: إن إسرائيل روى عن أبي يحيى القتات ثلاث مئة، وعن إبراهيم بن مهاجر ثلاث مئة، يعني مناكير، فقال: لم يوت منه، أتى منهما وهو كما قال، فتوجه أن كلام يحيى القطَّان محمول على أنه أنكر الأحاديث التي حدثه بها إسرائيل عن أبي يحيى، فظن أن النِّكارة من قبله، وإنما هي من قبل أبي يحيى لما قال ابن مَعين وأبو يحيى ضعَّفه الأئمة النقاد، فالحمل عليه أولى من العمل على من وثقوه، واحتج به الأئمة كلهم، والله تعالى أعلم. ولد في سنة مئة، ومات سنة ستين ومئة، والسَّبيعيّ في نسبه مر في الثالث والثلاثين من الإِيمان. والأسود بن يزيد بن قيس النخعي، خال إبراهيم بن يزيد، أبو عمرو ويقال أبو عبد الرحمن: أدرك زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يره، روى عن أبي بكر وعمر وعلى وابن مسعود وحُذيفة وبلال وعائشة وغيرهم، وروى عنه ابنه عبد الرحمن وأخوه عبد الرحمن وابن أخته إبراهيم بن يزيد، وأبو إسحاق السَّبيعيّ، وأبو بُرْدة وخلق، قال أحمد: ثقة من أهل الخير. وقال يحيى أيضًا: ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة، وله أحاديث صالحة، وذكره ابن حبَّان في الثقات، وقال: كان فقيهًا زاهدًا، وذكره إبراهيم النخعى فيمن كان يفتي من أصحاب ابن مسعود. وقال الحكم: كان الأسود يصوم الدهر كله، وذهبت إحدى عينيه في الصوم، حج مع أبي بكر وعمر وعثمان، سافر ثمانين حجة وعمرة، ولم يجمع بينهما، وكان عبد الرحمن سافر ثمانين حجة وعمرة، ولم يجمع بينهما، وكان يقول في تلبيته: لبيك أنا الحاج بن الحاج. وكان يصلي كل يوم سبع مئة ركعة، وصار عظمًا وجلدًا، وكانوا يسمونه: أهل الجنة، مات

لطائف إسناده

سنة خمس وتسعين، روى له الجماعة، وفي الصحيحين الأسود جماعة غيره، منهم: الأسود بن عامر شادان. والنخعي في نسبه مر في الخامس والعشرين من الإيمان. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة، ورواته إلى الأسود كوفيون، وفيه صحابيان، أخرجه البخاريّ هنا، وفي الحج والتمني، وابن ماجه في الحج أيضًا، ومسلم فيما انفرد به، أن عبد الملك بن مروان بينما هو يطوف بالبيت قال: قاتل الله ابن الزبير حيث يكذب على أم المؤمنين، يقول: سمعتها تقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا عائشة لولا حدثان قومك بالكفر لنقضت البيت حتى أزيد فيه من الحِجر، فإن قومك اقتصروا في البناء" فقال ابن عبد الله بن أبي ربيعة: لا تقل هذا يا أمير المؤمنين، إني سمعتها تحدث بهذا، قال: لو كنت سمعته قبل أن أهدمه لتركته علي بناء ابن الزبير. ثم قال المصنف: باب من خص بالعلم قومًا دون قوم كراهية أن لا يفهموا قوله "دون قوم" أي سوى قوم، لا بمعنى الأدون، وقوله "كراهية" بتخفيف الياء، والنصب على التعليل، مضاف لقوله "أن لا يفهموا" وأن مصدرية، والتقدير لأجل كراهية عدم فهم القوم، الذين هم سوى القوم الذين خصهم بالعلم. ولفظ أنْ ساقط للأصيلي، وهذه الترجمة قريبةٌ من التي قبلها لكن هذه في الأقوال، وتلك في الأفعال، أو فيهما، ثم قال: وقال عليّ: حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذَّب الله ورسوله؟ وقوله "يعرفون" أي: يفهمونه وتدركه عقولهم. وزاد آدم بن أبي إياس "ودعوا ما ينكرون" أي: ما يشتبه عليهم فهمه، وفيه دليل على أن المتشابه لا ينبغي أن يذكر عند العامة ومثله قول ابن مسعود: ما أنت مُحَدثًا قومًا حديثًا لا تبلغُهُ عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة. رواه مسلم. وممن كره التحديث ببعض دون بعض أحمد، في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان، ومالك في أحاديث الصفات، وأبو يوسف

في الغرائب، ومن قبلهم أبو هريرة كما تقدم عنه في الجرابين، وإن المراد ما يقع من الفتن ونحوه، عن حذيفة وعن الحسن أنه أنكر تحديث أنس للحجاج بقصة العرنيين، لأنه اتخذها وسيلة إلى ما كان يتعمده من المبالغة في سفك الدماء، بتأويله الواهي، وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة، وظاهره في الأصل غير مراد، فالإمساك عنه عند من يُخْشى عليه الأخذ بظاهره -مطلوبٌ. وقوله "أن يكذَّب الله ورسوله" يكذب بصيغة المجهول، ومعناه أن الإنسان إذا سمع ما لا يفهم، وما لا يتصور إمكانه، اعتقد استحالته جهلًا، فلا يصدق وجوده، فإذا أسند إلى الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم. لزم ذلك المحذور. ثم ذكر المصنف سند الأثر السابق فقال: حدثنا عُبيد الله بن موسى عن معروف بن خَرَّبوذ، عن أبي الطُّفيل عن علي بذلك. وقد أخر المؤلف هنا الإسناد عن المتن في رواية غير أبي ذَر، ليميز بين طريقة إسناد الحديث وإسناد الأثر، أو لضعف الإِسناد بسبب ابن خَرَّبوذ أو للتفنن وبيان الجواز، وقد وقع في رواية أبي ذَرٍ مقدمًا على المتن، وسقط هذا الأثر كله من رواية الكشميهنيّ. ورجال هذا الأثر أربعة: الأول عُبيد الله بن موسى، مر تعريفه في الحديث الأول من الإيمان، ومر تعريف علي بن أبي طالب في السابع والأربعين من كتاب العلم. والثالث معروف بن خَرَّبوذ، بفتح الخاء المعجمة، وتشديد الراء وضم الباء الموحدة في آخره ذال معجمة، ورواه بعضهم بضم الخاء، المكيّ القرشيّ مولى عثمان، روى عن أبي الطفيل، وأبي جعفر، وروى عنه وكيع وعُبيد الله بن موسى، وهو من صغار التابعين، ضعفه يحيى بن مَعين، وقال أحمد: ما أدري كيف هو. وقال الساجيّ: صدوق، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه. وقول ابن حبّان في الضعفاء: كان يشتري الكتب فيحدث بها، ثم تغير حفظه، فكان يحدث على التوهم. كأنه ترجمه لغيره، فإن هذه الصفة مفقودة في حديث معروف. قاله في

"تهذيب التهذيب" وليس له في البخاري سوى هذا الأثر، وأخرج له مسلم وأبو داود وابن ماجه حديثه عن أبي الطُّفيل: أنه رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم في الحج. الرابع: أبو الطُّفيل، بضم الطاء وفتح الفاء، عامر بن واثلة، وقيل عمرو بن واثلة بن عبد الله بن جَحْش بن جَريّ بن سعد بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن عليّ بن كنانة، الكنانيّ الليثيّ، ولد عام أحد، وأدرك من حياة النبي صلى الله عليه وسلم ثمان سنين. نزل الكوفة وصحب عليًا، رضي الله عنه، في مشاهده كلها، فلما قتل علي، رضي الله عنه، انصرف إِلى مكة، فأقام بها حتى مات. روى عن أبي بكر وعمر وعلي ومعاذ وحُذيفة وابن مسعود وابن عباس وغيرهم، وروى عنه الزُّهرْيّ وأبو الزبير وقتادة وعكرمة بن خالد وعمرو بن دينار، ومعروف بن خَرَّبوذ وغيرهم. جاءت عنه روايات ثابتة أنه رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأما سماعه منه فلم يثبت روى سعيد الجَريريّ عن أبي الطُّفيل أنه قال: ما على وجه الأرض اليوم رجلٌ رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم غيري، كان شاعرًا محسنًا، وهو القائل: أيدعونني شيخًا وقد عشتُ حِقبة ... وهنَّ من الأزواج نحوي نوازعُ وما شاب رأسي من سنين تتابعتْ ... عليَّ ولكن شيبتنيِ الوقائع وذكره ابن أبي خيثمة في شعراء الصحابة، وكان فاضلاً عاقلاً حاضر الجواب فصيحًا، وكان متشيعًا في عليّ يفضّله ويثنى على الشيخين، ويترحم على عثمان، قدم على معاوية يومًا فقال له: كيف وَجْدكَ على خليلك أبي الحسن؟ قال: كوجد أُم موسى على موسى، وأشكو إلى الله التقصير. قال له معاوية: كنت فيمن حصر عثمان؟ قال: لا ولكني كنت فيمن حضره. قال له: وما منعك من نصره؟ قال له: وأنت فما منعك من نصره إذ تربصت به ريب المنون؟ وكنت مع أهل الشام وكلهم تابع لك فيما

تريد؟ فقال له معاوية: أو ما ترى طلبى لدمه نصرة له؟ قال: بلى، ولكنك كما قال أخُو حجف: لا ألفينك بعد الموت تندبني ... وفي حياتي ما زودتني زادًا وهو آخر من مات من الصحابة على الإِطلاق، مات بمكة سنة مئة، وقيل سنة اثنتين ومئة، وقيل سنة سبع ومئة، وقيل عشر ومئة. وحديث علي بن زيد بن جدعان عن أبي الطفيل قال: "كنت أطلب النبي صلى الله عليه وسلم فيمن يطلبهُ وهو بالغار" ضعيف؛ لأنهم لا يختلفون في أن أبا الطفيل لم يكن ولد في تلك الليلة. قال في الإصابة: وأظن أن هذا من رواية أبي الطفيل عن أبيه. والكناني في نسبه، بكسر الكاف، نسبة إلى كنانة بن خُزَيمة الجد الرابع عشر للنبي صلى الله عليه وسلم، وروي بفتح الكاف، والأول أصح، كنيته أبو النضر، قيل: سمي به لأنه كان يُكنُّ قومه. وقيل: لأنه لما ولدته أمه خرج أبوه يطلب شيئًا يسميه به، فوجد كنانة السهام، فسماه بها. وفي غير عمود النسب خمسُ قبائل: بنو عبد مناة بن كنانة، ويقال لولده بنو علي، وبنو عمرو بن كنانة، وبنو عامر بن كنانة، وبنو مَلْكان بن كنانة، وبنو مالك بن كنانة، وهذا الإِسناد من عوالي البخاريّ؛ لأنه ملحق بالثلاثيات من حيث أن الراوي الثالث منه صحابيُّ، وهو أبو الطفيل المذكور، وعلى أنه تابعي ليس منها.

الحديث التاسع والستون

الحديث التاسع والستون حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَمُعَاذٌ رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحْلِ. قَالَ: "يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ". قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ. قَالَ: "يَا مُعَاذُ". قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ. ثَلاَثًا. قَالَ: "مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ إِلاَّ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ". قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَفَلاَ أُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا؟ قَالَ: "إِذًا يَتَّكِلُوا". وَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا. قوله "ومعاذ رديفه على الرحل" أي: راكب خلف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، والجملة حالية، والرَّحْل، بإسكان الحاء المهملة، وأكثر ما يستعمل للبعير، وهو أصغر من القَتَب، لكن يأتي للمصنف في الجهاد أن معاذًا كان في تلك الحالة رديفه عليه الصلاة والسلام على حمار. وقوله "قال يا معاذ بن جبل" هو خبر أنَّ المتقدمة، وابن جبل بفتح النون، وأما معاذُ فبالضم؛ لأنه منادى مفرد علم وهذا اختيار ابن مالك، لعدم احتياجه إلى تقدير، واختار ابن الحاجب النصب على أنه مع ما بعده كاسم واحد مركب، كأنه أضيف، والمنادى المضاف منصوب فقط. وقال ابن التين: يجوز النصب على أن قوله "معاذ" زائد، فالتقدير: يا ابن جبل، وهو يرجع إلى كلام ابن الحاجب بتأويل. وقوله "قال لبيك يا رسول الله، وسعديك" اللَّب بفتح اللام، معناه هنا الإجابة، والسعد المساعدة، كأنه قال: لبًا لَك وإسعادًا لك، وهو لفظ مثنى عند سيبويه ومن تبعه، وعند يونس مفرد، وألفه إنما انقلبت ياءً لاتصالها

بالضمير، ك "لدى" وعلى، ورُدَّ بأنها قلبت ياء مع المظهر في قول الشاعر: فلبَّىْ ولَبَّيْ يدَي مسوَر وعن الفراء هو منصوب على المصدر، وأصله لبالك فثنى على التأكيد، أي إلبابًا بعد إلبابٍ، وهذه التثنية ليست حقيقة، بل هي للتكثير والمبالغة، ومعناه إجابة لك بعد إجابة، أو إجابة لازمة. قال ابن الأنباريّ: ومثله حنانيك أي تحنّنًا بعد تحنُّنٍ، وقيل: معنى لبيك: اتجاهي وقصدي إليك، مأخوذ من قولهم: داري تَلُبُّ دارك، أي تواجهها. وقيل: معناه محبتي لك، مأخوذ من قولهم: امرأة لبَّة، أي محبة، وقيل: إخلاصي لك، من قولهم: حُبُّ لباب، أي: خالص. وقيل: أنا مقيم على طاعتك، من قولهم "لبَّ الرجل بالمكان" إذا أقام. وقيل: قربى لك، من الإلباب وهو القرب، وقيل: خاضعًا لك. والأول أظهر وأشهر، لقول المحرم لهذا اللفظ حال إحرامه، وهو مستجيب لدعاء الله إياه في حج بيته، ولهذا من دعا فقال: لبيك، فقد استجاب، وقال ابن عبد البَرّ: قال جماعة من أهل العلم: معنى التلبية إجابة دعوة إبراهيم حين أذن في الناس بالحج. وقوله "ثلاثًا" أي: النداء والإجابة قيلا ثلاثًا. وصرح بذلك في رواية مسلم، ويؤيده الحديث السابق في باب من أعاد الحديث ثلاثًا ليفهم عنه. وقوله "صدقًا من قلبه" الجار والمجرور يمكن أن يتعلق بقوله صدقًا أو بقوله "يشهد"، فعلى الأول: الشهادةُ لفظية، أي: يشهد بلفظه، ويصدق بقلبه، وعلى الثاني: قلبية، أي: يشهد بقلبه، ويصدق بلسانه، واحترز به عن شهادة المنافقين. والأول أَوْلى وقال الطِّيبيّ: قوله "صدقًا" أُقيم هنا مقام الاستقامة؛ لأن الصدق يعبر به قولًا عن مطابقة القول المخبر عنه، ويعبر به فعلًا عن تحرّي الأخلاق المَرْضية، كقوله تعالى {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر: 33] أي: حقق ما أورده قولًا بما تحراه فعلًا.

وأراد بهذا التقرير رفع الإشكال عن ظاهر الخبر؛ لأنه يقتضي عدم دخول من شهد الشهادتين النار، لما فيه من التعميم والتأكيد. وقد دلت الأدلة القطعية عند أهل السنة على أن طائفة من عصاة المؤمنين يعذبون ثم يخرجون من النار بالشفاعة، فعلم أن ظاهره غير مراد، فكأنه قال: إن ذلك مقيد بمن عمل الأعمال الصالحة. قال: ولأجل خفاء ذلك لم يؤذن لمعاذ في التبشير به. وقد أجاب العلماء عن الإشكال بأجوبة أخرى منها: أن مطلقه مقيد بمن قالها تائبًا، ثم مات على ذلك، ومنها أن ذلك كان قبل نزول الفرائض، وفيه نظر؛ لأن مثل هذا الحديث وقع لأبي هريرة كما رواه مسلم، وصحبته متأخرة عن نزول أكثر الفرائض، وكذا ورد نحوه من حديث أبي موسى، رواه أحمد بإسناد حسن. وكان قدومه في السّنة التي قدم فيها أبو هريرة. ومنها أنه خرج مخرج الغالب، إذ الغالب أن الموحِّد يعمل الطاعة، ويجتنب المعصية. ومنها أن ذلك ليس لكل من وحّد وعبد، بل يختص بمن أخلص، والإخلاص يقتضي تحقيق القلب بمعناها، ولا يتصور حصول التحقيق مع الإصرار على المعصية. لامتلاء القلب بمحبة الله وخشيته، فتنبعث الجوارح إلى الطاعة، وتنكف عن المعصية، وهذا الجواب هو المراد عند الطِّيبيّ، لكن هذا يوضحه. ومنها أن المراد بتحريمه تحريم خلوده فيها لا تحريم أصل دخوله فيها، ومنها أن المراد بتحريمه على النار حرمة جملته؛ لأن النار لا تأكل مواضع السجود من المسلم، كما ثبت في حديث الشفاعة، أن ذلك محرَّم عليها. وكذا لسانُه الناطق بالتوحيد. ومنها أن المراد: النار التي أُعدت للكافرين، لا الطبقة التي أُفردت لعصاة الموحدين. وقوله "يا رسول الله، أفلا أُخبر الناس؟ " بهمزة الاستفهمام، وفاء العطف، والمعطوف محذوف تقديره: أقلت ذلك فلا أُخْبِر؟. وقوله "فيستبشرون" بالرفع لأبي ذَرٍ أي: فهم يستبشرون، وللباقين

بحذف النون على النصب، وهو أوجه، لوقوع الفاء بعد النفي أو الاستفهام أو العرض، وهي تنصب في كل ذلك بتقدير أن بعدها، أي: فأَنْ يستبشروا. وقوله: "إذا يتَّكلوا" بتشديد المثناة المفتوحة وكسر الكاف، وهو جواب وجزاء، أي: إنْ أخبرتهم يتكلوا. وللأصيلي والكشميهنيّ "ينْكلوا" بإسكان النون وضم الكاف، أي يمتنعوا من العمل اعتمادًا على ما يتبادر من ظاهره. وروى البزَّار بإسناد حسن عن أبي سعيد الخُدري، رضي الله تعالى عنه، في هذه القصة "أن النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم أذِنَ لمعْاذ في التبشير، فلقيه عمر فقال: لا تعجَلْ، ثم دخل، فقال: يا نبيّ الله أنت أفضل رأيًا، إن الناس إذا سمعوا ذلك اتكلوا عليها، قال: فرده" وهذا معدود من موافقات عمر، وفيه جواز الاجتهاد بحضرته صلى الله تعالى عليه وسلم، واستدل بعض متكلمي الأشاعرة من قوله "يتكلوا" على أن للعبد اختيارًا، كما سبق في علم الله. وقوله "عند موته" أي موت معُاذ، وأَغرْب الكرمانيُّ فقال: يحتمل أن يرجع الضمير إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. ويَرُدُّه ما رواه أحمد بإسناد صحيح عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: أخبرني من شهد معاذًا حين حضرته الوفاة يقول: سمعت من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حديثًا لم يمنعني أنْ أُحَدّثكموه إلا مخافة أن تتكلوا، فذكره تأثُّمًا، بفتح الهمزة وتشديد المثلثة المضمومة، أي خشية الوقوع في الإثم إنْ كتم ما أمر الله بتبليغه، حيث قال: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187]. وقد مر توجيه "تأثما" في حديث بدء الوحي، عند قوله "يتحنث". فإن قيل: إن كان تَأَثَّم من الكتمان، فكيف لا يتأثم من مخالفة الرسول عليه الصلاة والسلام في التبشير؟ فالجواب أنه عرف أن النهي عن التبشير كان على التنزيه لا على التحريم، وإلا لما كان يخبر به أصلًا، أو عرف أن

رجاله ستة

النهي مقيد بالاتكال، فأخبر به من لا يخشى عليه ذلك، وإذا زال القيد زال المُقيد، والاول أوجه، لكونه أَخَّر ذلك إلى وقت موته. وقال القاضي عياض: لعل معاذًا لم يفهم النهي، لكن كثر عزمه عما عرض له من تبشيرهم. لكن الرواية الآتية في الجهاد صريحة في النهي حيث قال فيها "لاتبشرهم فيتكلوا" فالأولى ما تقدم. وفي الحديث جواز ركوب اثنين على حمار، وفيه تواضع النبيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم، وفضل مُعاذ، وحسن أدبه في القول وفي العلم، برده لما لم يحط بحقيقته إلى علم الله ورسوله، وقرب منزلته من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، لخصوصيته له بما ذكر، وفيه تكرار الكلام لتأكيده وتفهيمه، واستفسار الشيخ تلميذه عن الحكم، ليختبر ما عنده، ويبين له ما يشكل عليه منه، واستئذانه في إشاعة ما يعلم به وحده. قال ابن رجب في شرحه لأوائل البخاريّ: قال العلماء: يؤخذ من منع معاذ من تبشير الناس لئلا يتكلوا، أن أحاديث الرُّخص لا تشاع في عموم الناس لئلا يقصر فهمهم عن المراد بها. وقد سمعها معُاذ، فلم يزدد إلا اجتهادا في العمل، وخشية لله عَزَّ وَجَلَّ، فاما من لم يبلغ منزلته، فلا يؤمن أن يقصر اتكالا على ظاهر هذا الخبر. وقد عارضه ما تواتر من نصوص الكتاب والسنة أن بعض عصاة الموحدين يدخلون النار، فعلى هذا فيجب الجمع بين الأمرين بما مر. رجاله ستة: الأول: إسحاق بن إبراهيم الشهير بابن راهويه، مرَّ تعريفه في الحديث الحادي والعشرين من كتاب العلم. والثاني: معاذ بن هشام الدَّسْتوائي البَصريّ، سكن اليمن، ثم البصرة، روى عن أبيه وابن عَون وشُعبة وأشْعث بن عبد الملك. وخلق. وعنه أحمد وابن المدِيْني، وابن مَعين وعَفّان وخلق. كان من أصحاب الحديث الحُذّاق، وثقَّه يحيى بن مَعين في رواية عثمان الدارميّ، واعتمده

لطائف إسناده

علي بن المَدِيْنيّ وقال: سمعت مُعاذ بن هشام يقول: سمع أبي من قتادة عشرة آلاف حديث، ثم أخرج إلينا من الكتب عن أبيه نحواً مما قال، فقال: هذا سمعته، وهذا لم أسمعه، فجعل يميزها. وقال الدوريُّ عن ابن مَعين: صدوق، وليس بحجة، وقال ابن أبي خَيْثَمة عنه: ليس بذلك القويّ. وقال ابن عديّ: ربما يغلط في الشيء بعد الشيء، وأرجو أنه صدوق. وتكلم فيه الحُمَيديّ من أجل القدر، فقال: لا تسمعوا من هذا القدري شيئًا، قال ابن حجر: لم يكثر له البخاريّ، واحتج به الباقون، قال عثمان الدارميّ. قلت ليحيى بن مَعين: مُعاذ بن هشام أثبت في شُعبة أم غُنْدُر؟ قال: ثقةٌ وثقة. وقال ابن قانع: ثقة مأمون. مات في ربيع الَآخر سنة مئتين. والدَّستوائي في نسبه مر في السابع والثلاثين من الإيمان. الثالث: أبوه هِشام، مر تعريفه في الحديث الثامن والثلاثين من كتاب الإيمان، ومر تعريف قتادة وأنس في الحديث السادس منه أيضًا، ومر تعريف معُاذ بن جبل في كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع والإفراد وفيه الإخبار والعنعنة، ورواته بصريون ما خلا إسحاق، وقد دخلها، وفيه رواية الأبناء عن الآباء. أخرجه مسلم في الإيمان.

الحديث السبعون

الحديث السبعون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا قَالَ: ذُكِرَ لِي أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِمُعَاذٍ: "مَنْ لَقِيَ اللَّهَ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ". قَالَ: أَلاَ أُبَشِّرُ النَّاسَ قَالَ: "لاَ، إِنِّى أَخَافُ أَنْ يَتَّكِلُوا". قوله "ذكر لي" بضم الذال، مبني للمجهول، ولم يسمِّ أنس من ذكر له ذلك في جميع الطرق وهو غير قادح في صحة الحديث، لأن متنه ثابت من طريق أُخرى، وأيضًا، فأنس لا يروي إلا عن عدل صحابيّ أو غيره، فلا تضر الجهالة هنا، وكذلك جابر فيما مر له عند أحمد، لم يسمِّ من روى عنه حديث معاذ؛ لأن معاذًا إنما حدث به عند موته بالشام، وجابر وأنس إذ ذاك بالمدينة، فلم يشهداه. وقد حضر ذلك من مُعاذ عمرُو بن ميمون، كما عند المصنف، في الجهاد ورواه النسائِيّ عن عبد الرحمن بن سَمُرة الصحابي أنه سمع ذلك من معاذٍ أيضًا، فيحتمل أن يفسر المبهم بأحدهما، وعمرو بن ميمون يأتي تعريفه في الخامس والمئة من الوضوء، ويأتي تعريف عبد الرحمن بن سمرة في الثالث عشر من كتاب الصلح. وقوله "من لقي الله" أي: من لقي الأجل الذي قدره الله، يعني الموت، أو المراد البعث، أو رؤية الله. وقوله "لا يشرك به شيئًا" اقتصر على نفي الإشراك، لأنه يستدعي التوحيد بالاقتضاء، ويستدعي إثبات الرسالة باللزوم؛ لأن من كذّب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقد كذّب الله تعالى، ومن كذب الله تعالى فهو مشركٌ، أو هو مثل قول القائل "من توضأ صحت صلاته" أي مع سائر الشرائط، فالمراد من مات حال كونه مؤمنًا بجميع ما يجب الإيمان به.

وقوله "دخل الجنة" أي وإن لم يعمل صالحًا، إما قبل دخوله النار أو بعده بفضل الله ورحمته، وليس في قوله هنا "دخل الجنة" من الإِشكال ما مرّ في قوله "حرمه الله على النار"؛ لأن هذا أعم من أن يكون قبل التعذيب أو بعده كما علمت. قال النّووي: مذهب أهل السنة بأجمعهم أن أهل الذنوب في المشيئة، وإن من مات موقنًا بالشهادتين، دخل الجنة، فإن كان دَيِّنًا أو سليمًا من المعاصي، دخل الجنة برحمة الله تعالى، وحرِّم على النار، وإن كان من المخلطين بتضييع الأوامر أو بعضها، وارتكاب النواهي أو بعضها، ومات من غير توبة فهو في خطر المشيئة، وهو بصدد أن يمضي عليه الوعيد، إلاَّ أن يشاء الله أن يعفو عنه، فإن شاء أن يعذبه فمصيره إلى الجنة بالشفاعة، وحينئذ فمعنى قوله "دخل الجنة" لكنه قبل ذلك إن مات مصرًا على المعصية في مشيئة الله. وقوله "حرمه الله على النار" أي: إلا أن يشاء الله، وقوله "لا أخاف أن يتكلوا" هي للنهي، ليست داخلة على أخاف، بل المعنى لا تبشرهم، ثم استأنف، فقال: أخاف، وفي رواية كريمة "إِني أخاف" بإثبات التعليل، وللحسن بن سفيان في مسنده عن مُعْتمر قال: لأدعهم، فليتنافسوا في الأعمال، فإنى أخاف أن يتنافسوا وإخبار معاد به عند موته مخافة من الإِثم المرتب على الكتمان كما مر، وكأنه فهم من منع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن يخبر بها إخبارًا عامًا، لقوله: أفلا أبشر الناس؟ فأخذ هو أولًا بعموم المنع، فلم يخبر بها أحدًا، ثم ظهر له أن المنع إنما هو من الإخبار بالعموم، فبادر قبل موته، فأخبر بها خاصًا من الناس، فجمع بين الحكمتين. ويقوّي ذلك أن المنع لو كان على عمومه في الأشخاص لما أخبر هو بذلك، وأُخذ منه أن من كان مثل مقامه في اللهم إنه لم يمنع من إخباره. وقد تعقب هذا الجواب بما أخرجه أحمد من وجه فيه انقطاع عن

معاذ، أنه لما حضرته الوفاة قال: أدْخلوا عليَّ الناس، فأُدخلوا عليه، فقال: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، يقول: "من مات لا يشرك بالله شيئًا جعله الله في الجنة، وما كنت أحدثكموه إلا عند الموت، وشاهدي على ذلك أبو الدرداء، فقال: صدق أخي، وما كان يحدثكم به إلا عند موته" وقد وقع لأبي أيوب مثل ذلك، ففي "المسند" أن أبا أيّوب غزا الروم، فمرض، فلما حضر قال: سأحدثكم حديثًا سمعته من رسول الله، صلى الله تعالى عليه وسلم، لولا حالي هذه ما حدثتكموه، سمعته يقول: "من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة" وإذا عورض هذا الجواب فأجيب عن أصل الإشكال، بأن معاذًا اطلع على أنه لم يكن المقصود من المنع التحريم، بدليل أن النبيّ، صلى الله تعالى عليه وسلم، أمر أبا هريرة أن يبشر بذلك الناس، فلقيه عمر، فدفعه، وقال: ارجع يا أبا هُريرة، ودخل على أثره، فقال: يا رسول الله لا تفعل، فإنى أخشى: أن يتكل الناس، فخلِّهم يعملون، فقال: فخلِّهم أخرجه مسلم. فكان قوله صلى الله تعالى عليه وسلم، لمعاذ: أخاف أن يتَّكلوا، كان بعد قصة أبي هُريرة، فكان النهي للمصلحة لا للتحريم، فلذلك أخبر به معاذ لعموم الآية بالتبليغ، وقال الطِّيبيّ: قال بعض المحققين: قد يتخذ من أمثال هذه الأحاديث المطلقة ذريعة إلى طرح التكاليف، وإبطال العمل ظنًا أن ترك الشرك كاف، وهذا يستلزم طي بساط الشريعة، وإبطال الحدود، وأن الترغيب في الطاعة، والتحذير عن المعصية لا تأثير له، بل يقتضي الانخلاع من الدين، والانحلال عن قيد الشريعة، والخروج عن الضبط، والولوج في الخبط، وترك الناس سدى مهملين، وذلك يفضي إلى خراب الدنيا بعد أن يفضي إلى خراب الأُخرى، مع أن قوله في بعض طرق الحديث "أن يعبدوه" يتضمن جميع أنواع التكاليف الشرعية. وقوله "ولا يشرك به شيئًا" يشمل مسمى الشرك الجليّ والخفيّ، فلا

رجاله أربعة

راحة للتمسك به في ترك العمل؛ لأن الأحاديث إذا ثبتت، وجب ضم بعضها إلى بعض، فإنها في حكم الحديث الواحد، فيحمل مطلقها على مقيدها، ليحصل العلم بجميع ما في مضمونها. رجاله أربعة: الأول: مسدد بن مُسَرهد، مر تعريفه في الحديث السادس من كتاب الإيمان. والثاني: مُعْتَمر بن سليمان بن طَرَخَان التَّيمي البّصريّ، لم يكن من بني تيم، ولكنه كان نازلًا فيهم، وهو مولى بني مرة، روى عن أبيه ومنصور وحُميد وخلق. وروى عنه ابن المبارك وابن مَهْديّ وعفّان وخلق. وثَّقه أبو حاتم وابن مَعين وابن سعد. وقال يحيى القطَّان: كان سيء الحفظ، فإذا حدثكم بشيء فاعرضوه. وذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال أبو داود عن أحمد: ما كان أحفظ معتمر بن سليمان! ما كنا نسأله عن شيء إلا عنده فيه شيء. وقال ابن خِراش: كان يخطىء إذا حدث من حفظه، وإذا حدث من كتابه فهو ثقة، وأكثر ما أخرج له البخاريّ مما توبع عليه، واحتج به الجماعة. حدث عنه الثَّوْرِيّ والحسن بن عُرْفَة، وبين وفاتهما ستٌّ وتسعون سنة، كان رأسًا في العلم والعبادة مثل أبيه، مات سنة سبع وثمانين ومئة. الثالث: سليمان بن طرخَان، أبوه كان ينزل في بني مُرة، فلما تكلم بالقدر أخرجوه، فقبله بنو تَيْم وقدموه، وصار إمامًا لهم. روى عن أنس وأبي عثمان النَّهديّ وطاووس، ويحيى بن يعمر، وخلق. وروى عنه ابنه المَعْتَمر، وشُعبة وابن المبارك وابن علية وخلق. قال ابن المدينيّ: له نحو مئتي حديث. قال شُعبة: ما رأيت أصدق من سليمان، كان إذا حدث تغير لونه. قال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، وكان من العباد المجتهدين، وكان يصلي الليل كله بوضوء العشاء الآخرة. وقال القطّان: ما جلست إلى رجل أخوف لله من سليمان التيمي، وقال ابن سلَمة: كنا نرى أن سليمان لا يحسن أن يعصي الله، ولم يضع جنبه

لطائف إسناده

على الأرض عشرين سنة، وكان هو وابنه معتمر يدوران بالليل في المساجد، فيصليان في هذا مرة، وفي ذلك مرة، وكان مائلًا إلى عليّ رضي الله عنه، وقال الربيع بن يحيى عن سعيد: ما رأيت أحدًا أصدق من سليمان التيميّ. وقال شُعبة: شكُّ ابن عون وسليمان التيميّ يقينٌ. وقال أحمد: ثقة، وهو في أبي عثمان أحب إليّ من عاصم الأحول. وقال ابن معين والنَّسائي: ثقة، وقال العجليّ: تابعيّ ثقة، كان من خيار أهل البصرة وسئل أبو حاتم: سليمان أحب إليك في أبي عثمان أو عاصم؟ فقال: سليمان. قال سليمان التيميّ: أتوني بصحيفة جابر، فلم أروها، فراحوا بها إلى الحسين فرواها، وراحوا بها إلى قتادة فرواها. وقال الثوريّ: حفّاظ البصرة ثلاثة، فذكره فيهم. وقال ابن حبَّان في الثقات: كان من عبّاد أهل البصرة، وصالحيهم ثقةً وإتقانًا وحفظًا وسُنَّةً توفي بالبصرة في ذي القعدة سنة ثلاث وأربعين ومئة، ومات وهو ابن سبع وتسعين سنة. الرابع: أنس بن مالك، مر تعريفه في الحديث السادس من كتاب الإيمان. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والسماع مكررًا، ورواته كلهم بصريون، وفيه رواية الابن عن الأب، وهو من الرباعيات العوالي، ولم يخرجه غير البخاري ثم قال المصنف: باب الحياء في العلم أي حكم الحياء في تعلم العلم وتعليمه، وقد مر أن الحياء من الإيمان، وهو الشرعيّ الذي يقع على وجه الإجلال والاحترام للأكابر، وهو محمود وأما ما يقع سببًا لترك أمر شرعيّ فهو مذموم، وليس بحياء شرعيّ، وإنما هو ضعف ومهانة، وهو المراد بقول مجاهد. ثم قال: وقال مجاهد: لا يتعلم العلم مستحيي ولا مستكبر، وهو بإسكان الحاء وبياءين أخيرتهما ساكن من استحي يستحيي، على وزن يستفعل،

ويجوز مستحي بياء واحدة من استحى يستحي، على وزن مستفع، ويجوز مستح على وزن مستفٍ، "ولا" في كلامه نافية لا ناهية، ولذا كانت ميم "يتعلمُ" مضمومة، وكأنه أراد تحريض المتعلمين على ترك العجز والتكبر، لما يؤثر كل منهما من النقص في التعليم. وسئل أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه: بم حصلت العلم العظيم؟ فقال ما بخلت بالإفادة، ولا استنكفت عن الاستفادة. ثم قال: وقالت عائشة: نعم النساء نساء الأنصار لم يمنعهنَّ الحياء أن يتفقهنَّ في الدين. برفع نساء في الموضعين فالأُولى على الفاعلية، والثانية على أنها مخصوصة بالمدح. وقوله "أن يتفقهن" أن مصدرية، والتقدير عن التفقه في أمور الدين. أما مجاهد، فقد مر تعريفه في كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه، ومر تعريف عائشة في الحديث الثاني من بدء الوحي، وأثر مجاهد وصَله أبو نعيم في "الحلية" من طريق عليّ بن المَدِينيّ عن ابن عُيينة عن منصور عنه بإسناد صحيح على شرط البخاري، والثاني: رواه أبو داود عن عُبيد الله بن مُعاذ: حدثنا أبي، حدثنا شُعبة عن إبراهيم بن مُهاجر عن صَفيَّة بنت شَيْبة، عن عائشة رضي الله عنها، الخ.

الحديث الحادي والسبعون

الحديث الحادي والسبعون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ، فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا احْتَلَمَتْ؟ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ". فَغَطَّتْ أُمُّ سَلَمَةَ تَعْنِى وَجْهَهَا وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَتَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ؟ قَالَ: "نَعَمْ، تَرِبَتْ يَمِينُكِ فَبِمَ يُشْبِهُهَا وَلَدُهَا". قوله: "إن الله لا يستحيي من الحق" قدمت هذا القول تمهيدًا لعذرها في ذكر ما يستحى منه، فإن كتمان هذا من عادتهن، لأنه يدل على شدة شهوتهن للرجال، ولذا قالت لها عائشة، كما في مسلم: فضحت النساء. والمراد بالحياء هنا: معناه اللغويّ، وقد مر في كتاب الإيمان أن الحياء لغةً: تغير وانكسار، وهو مستحيل في حقه تعالى، فيحمل هنا على أن المراد أن الله لا يأمر بالحياء في الحق، أو لا يمنع من ذكر الحق. وقد يقال: إنما يحتاج إلى التأويل في الإثبات، ولا يشترط في النفي أن يكون ممكنًا، لكنْ لما كان المفهوم يقتضي أنه يستحيي من غير الحق، عاد إلى جانب الإثبات، فاحتيج إلى تأويله. وقوله "فهل على المرأة من غُسل" من زائدة، وقد سقطت في رواية المصنف في الأدب، والغُسل بضم الغين، وروي بفتحها، وهما مصدران عند أكثر أهل اللغة، وقال آخرون: بالضم الاسم، وبالفتح المصدر. وقوله "إذا احتلمت" الاحتلام افتعال من الحُلم، بالضم والضمتين، وهو ما يراه النائم في نومه، يقال منه؛ حلَم بالفتح، واحتلم، والمراد به هنا أمر خاص منه، وهو الجماع. وفي رواية أحمد عن أم سُلَيم أنها قالت: يا رسول الله، إذا رأت المرأة أن زوجها يجامعها في المنام، اتغتسل؟

وقوله "إذا رأت الماء" أي المني بعد الاستيقاظ، فإذا ظرفية، ويجوز أن تكون شرطية، أي إذا رأت وجب عليها الغسل، وجعْل رؤية المني شرطًا للغُسل يدل على أنها إذا لم تر الماء لا غسل عليها. وقوله "فغطت أم سلمة" تعني وجهها. قال ذلك عُروة أو غيره، وفاعل تعني زينب والضمير يعود على أم سلمة، ويحتمل أن تكون أم سلمة قالته على سبيل الالتفات، من باب التجريد، كأنها جردت من نفسها شخصًا، فاسندت إليه التغطية إذ الأصل "فغطيت". وقوله "وقالت يا رسول الله وتحتلم المرأة" بحذف همزة الاستفهام، وللكشميهنيّ "أو تحتلم المرأة" بإثباتها، وهو معطوف على مقدر يقتضيه السياق، أي أترى المرأة الماء وتحتلم؟ ويأتي في الأدب للمصنف عن هشام: فضحكت أم سلمة. ويجمع بينهما بأنها تبسمت تعجبًا وغطت وجهها حياء، وروى مسلم الحديث عن الزهري عن عروة لكن قال عن عائشة وفيه أن المراجعة، وقعت بين أمّ سلمة وعائشة. وأخرج أيضًا من حديث أنس قال: جاءت أُم سليم إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقالت له وعائشة عنده، فذكر الحديث. ويجمع بينهما بأن تكون عائشة وأم سلمة جميعًا أنكرتا على أم سليم وهو جمع حسن لأنه لا يمتنع حضور أم سلمة وعائشة عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، في مجلس واحد. وقال النّوويّ في "شرح المهذب". يجمع بين الروايات بان أنسًا وعائشة وأُم سلَمة حضروا القصة. والذي يظهر أن أنسًا لم يحضر القصة، وإنما رواها عن أم سُليم. وقد سألت عن هذه المسألة أيضًا خولةُ بنت حكيم، عند أحمد والنَّسائيّ وابن ماجه. وفي آخره "كما ليس على الرجل غسل، إذا رأى ذلك فلم يُنزل"، وسَهْلةُ بنت سُهيل عند الطَّبرانيّ، ويُسْرة بنت صَفْوان عند ابن أبي شَيْبة. وقوله "قال: نعم، تربت يمينك" بكسر الراء، من ترب الرجل، إذا

افتقر، أي لصق بالتراب، وأترب إذا استغنى، وهي كلمة جارية على ألسنة العرب لا يريدون بها الدعاء على المخاطب، ولا وقوع الأمر بها، كما يقولون: قاتله الله. وقيل: معناه لله دره، وقال عياض: هذا خطاب على عادة العرب في استعمال هذه الألفاظ، عند الإنكار للشيء، والتأنيس، أو الإِعجاب أو الاستعظام، لا يريدون معناها الأصليّ، وكثيرًا ما يرد للعرب ألفاظ ظاهرها الذم، وإنما يريدون بها المدح كقولهم: لا أب لك، ولا أم لك، وهوت أمه، ولا أرض لك. قال الهروِيّ: ومنه قوله في حديث خزيمة "أنعم صباحًا تربت يداك" فأراد الدعاء له، ولم يرد الدعاء عليه. وقوله "فبم يُشْبهها ولدها" أصله "فبما" فحذفت الألف. يُشبهها: فعل ومفعول، وولدها فاعل، والضمير يرجع إلى المرأة. وفي رواية عند المصنف في الهجرة "فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت الولد" أي جذبته إليها. وعند مسلم عن عائشة "إذا علا ماء الرجل ماء المرأة أشبه أعمامه، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أشبه أخواله". ونحوه للبزّار عن ابن مسعود وفيه "ماء الرجل أبيض غليظ، وماء المرأة أصفر رقيق، فأيهما علا كان الشبه له" والمراد بالعلو هنا السبق، لأن كل من سبق، فقد علا شأنه، فهو علو معنوي. وأما ما وقع عند مسلم من حديث ثوبان رفعه "ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذكرا بإذن الله، وإذا علا مني المرأة مني الرجل أنثا بإذن الله" فهو مشكل من جهة أنه يلزم منه اقتران الشبه للأعمام إذا علا ماء الرجل، ويكون ذكرًا لا أنثى، وعكسه والمشاهد خلاف ذلك؛ لأنه قد يكون ذكراً ويشبه أخواله لا أعمامه، وعكسه. قال القرطبيُّ: يتعين تأويل حديث ثوبان بان المراد بالعلو السبق. قال في "الفتح": والذي يظهر ما قدمته وهو تأويل العلو في حديث عائشة بالسبق. وأما حديث ثوبان فيبقى العلو فيه على ظاهره، فيكون السبق علامة التذكير والتأنيث، والعلو علامة الشبه، فيرتفع الإشكال، كذا قال.

والظاهر أن فيه تغييرًا، وإصلاحه أن يقال: فيكون العلو علامة التذكير والتأنيث، والسبق علامة الشبه، فيرتفع الإشكال ثم قال: وكان المراد بالعلو الذي يكون سبب الشبه بحسب الكثرة، بحيث يصير الآخر مغمورًا فيه، فبسبب ذلك يحصل الشبه، كذا قال. والظاهر أن فيه تغييرًا أيضًا، وإصلاحه أن يقال: بالعلو الذي يكون سبب التذكير والتأنيث، ويقال فيما بعده: فبسبب ذلك يحصل التذكير والتأنيث. ثم قال: وينقسم ذلك إلى ستة أقسام. الأول: أن يسبق ماء الرجل ويكون أكثر فيحصل له المذكورة والشبه. والثاني: عكسه. والثالث: أن يسبق ماء الرجل ويكون ماء المرأة أكثر، فتحصل الذكورة، والشبه للمرأة، والصواب عندي أن يقال: فتحصل الأنوثة والشبه للرجل. والرابع: عكسه. والخامس: أن يسبق ماء الرجل، ويستوك، فيذكر، ولا يختص بشبه، والصواب عندي أن يقال: فيشبه، ولا يختص بذكورة ولا أنوثة. والسادس: عكسه. قال ابن بَطّال: فيه دليل على أن كل النساء يحتلمن، وعكسه غيره فقال: فيه دليل على أن بعض النساء لا يحتلمن. والظاهر أن مراد ابن بطّال الجواز لا الوقوع، أي فيهن قابلية ذلك. وفيه دليل على وجوب الغسل على المرأة بالإنزال، ونفى ابن بطّال الخلاف فيه، وليس بصواب، فقد حكى ابن المنذر وغيره الخلاف فيه عن إبراهيم النخعِيّ، واستبعد النووي في "شرح المهذب" صحته عنه، لكن رواه ابن أبي شيبة عنه بإسناد جيد، وكأن أم سليم لم تسمع حديث "إنما الماء من الماء" أو سمعته وقام عندها ما يوهم خروج المرأة من ذلك، وهو ندور بروز الماء منها.

رجاله ستة

وقد روى أحمد من حديث أم سليم في هذه القصة، أن أم سلمة قالت: يا رسول الله، وهل للمرأة ماء؟ فقال: هن شقائق الرجال. وروى عبد الرزاق في هذه القصة: "إذا رأت إحداكن الماء كما يراه الرجل". وروى أحمد عن خَولة بنت حكِيم في نحو هذه القصة "ليس عليها غُسل حتى تنزل كما ينزل الرجل"، وفيه رد على من زعم أن ماء المرأة لا يبرز، وإنما يعرف إنزالها بشهوتها. وحمل قوله "إذا رأت" أي علمت به؛ لأن وجود العلم هنا متعذر؛ لأنه إذا أراد به علمها بذلك، وهي نائمة، فلا يثبت به حكم؛ لأن الرجل لو رأى أنه جامع، وعلم أنه أنزل في النوم، ثم استيقظ، فلم ير بللا، لم يجب عليه الغسل اتفاقًا. فكذلك المرأة. وإن أراد به علمها بذلك بعد أن استيقظت، فلا يصح؛ لأنه لا يستمر في اليقظة ما كان في النوم، إلا إن كان مشاهدًا، فحَمْل الرؤية على ظاهرها هو الصواب. وفيه استفتاء المرأة بنفسها، وسياق صور الأحوال في الوقائع الشرعية لما يستفاد من ذلك، وفيه جواز التبسم في التعجب. رجاله ستة: وفيه ذكر أم سليم. الأول: محمد بن سلام البيْكَنْديّ، مر تعريفه في الحديث الثالث عشر من كتاب الإيمان. الثاني أبو معاوية محمد بن خَازِم، مر في الحديث الثالث منه أيضًا، ومر تعريف هشام وأبوه عُروة في الحديث الثاني من بدء الوحي، ومر تعريف أُم سَلَمة في الحديث الخامس والخمسين من كتاب العلم. وزينب بنت أم سَلَمة هي زينب بنت أبي سلمة، واسم أبي سلمة عبد الله بن عبد الأَسَد بن عمرو بن مخزوم المخزومية، ربيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمها أم سلمة بنت أبي أميّة، يقال: ولدت بأرض الحبشة، وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم أمها وهي ترضعها. وفي مسند البزّار ما

يدل على أن أم سلمة وضعتها بعد موت أبي سلمة، فحلت، فخطبها النبي صلى الله عليه وسلم، فتزوجها، وكانت ترضع زينب، وكان اسمها بُرَّة، فغير النبي صلى الله عليه وسلم اسمها، كما فعل بزينت بنت جحش. حفظت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروت عنه وعن أزواجه: أُمِّها وعائشة وأُم حبيبة وغيرهن. لها في البخاري حديثان، وفي مسلم حديث واحد. روى عنها ابنها أبو عُبيدة بن عبد الله بن زَمَعَة ومحمد بن عطاء، وعراك بن مالك، وعُروة بن الزبير، وزين العابدين، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، كانت أسماء بنت أبي بكر أرضعتها، فكانت أخت أبناء الزبير. قال أبو رافع الصائغ: كنت إذا ذكرتُ امرأة فقيهة بالمدينة ذكرتُ زينب بنت أبي سلمة. وقال سُليمان التَّيمّي عن أبي رافع: غضبت على امرأتي فقالت زينب بنت أبي سلمة، وهي يومئذ أفقه امرأة بالمدينة، فذكر قصته، وروى عطّاف بن خالد عن أمه عن زينب بنت أبي سلمة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا دخل يغتسل، تقول أمي: أُدخلي عليه، فإذا دخلت، نضح في وجهي من الماء ويقول: ارجعي، قالت: فرأيت زينب، وهي عجوز كبيرة، ما نقص من وجهها شيء" وفي رواية "فلم يزل ماء الشباب في وجهها حتى كبرت وعُمِّرَت". وروى ابن المبارك عن خرير بن حازم قال: سمعت الحسن يقول: لما كان يوم الحرة قُتل أهل المدينة، فكان فيمن قتل ابنا زينب، ربيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحملا ووضعا بين يديها مقتولين، فقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، فقالت: والله إن المصيبة عليّ فيهما لكبيرة، وهي علي في هذا أكبر منها في هذا، أما هذا فجلس في بيته، فكف يده، فدخل عليه وقتل مظلوما، وأنا أرجو له الجنة، وأما هذا فبسط يده، فقاتل حتى قتل، فلا أدري على ما هو من ذلك، فالمصيبة به علي

أعظم منها في هذا وهما ابنا عبد الله بن زَمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العُزّى بن قُصَيّ. وأم سليم بنت ملحان بن خالد بن زيد بن حَرام بن جُنْدب بن عامر بن غَنم بن عدي بن النجار. اختلف في اسمها، قيل: اسمها سَهلة، وقيل: رمُيَثه وقيل: مُلَيكة، وقيل: الغُميصاء أو الرُّميصاء. كانت تحت مالك بن النَّضْر أبي أنس بن مالك في الجاهلية، فولدت له أنس بن مالك، فلما جاء الله بالإسلام أسلمت مع قومها في السابقين، وعرضت على زوجها الإِسلام فغضب عليها، وخرج إلى الشام، ومات به كافرًا فخطبها أبو طلحة قبل أن يسلم، فقالت له: يا أبا طلحة ألست تعلم أن إلهك الذي تعبد نبت من الأرض؟ قال: بلى، قالت: ألا تستحيي تعبد شجرة؟ إن أسلمت فإني لا أريد منك صداقًا غيره. قال لها: حتى انظر في أمري. فذهب ثم جاء، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله. فقالت: يا أنس زوج أبا طلحة، فزوجها وكان صداقها الإِسلام. وكانت أم سليم تقول: لا أتزوج حتى يبلغ أنس، ويجلس في المجالس، فيقول: جزى الله أُمي عني خيرًا، لقد أحسنت ولايتي. فقال لها أبو طلحة: فقد جلس أنس وتكلم، فتزوجها. وروي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يزور أم سليم فتتحفه بالشيء تصنعه له. وروي عنه أيضًا أنه قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل بيتًا غير بيت أم سلمة، إلا على أزواجه، فقيل له، فقال: إني أرحمها، قتل أبوها وأخوها معي. والجواب عن دخوله بيت أم حرام أُختها، أنهما كانتا في "دار واحدة. وكانت تغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولها قصص مشهورة، منها ما أخرجه ابن سعد بسند صحيح، أن أم سليم اتخذت خِنجرًا يوم حُنين، فقال أبو طلحة: يا رسول الله هذه أُم سليم معها خِنجر، فقالت: اتخذته إنْ دنا مني مشركٌ بقَرَتُ به بطنه. ومنها قصتها المخرجة في

لطائف إسناده

الصحيح: لما مات ولدها ابن أبي طلحة قالت لما دخل: لا يذكر ذلك أحد لأبي طلحة قبلي، فلما جاء وسأل عن ولده، قالت: هو أسكن ما كان، فظن أنه عوفي، وقام فأكل، ثم تزينت له وتطيبت، فنام معها وأصاب منها، فلما أصبح قالت له: احتسبْ ولدك. فذكر ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: بارك الله لكما في ليلتكما، فجاءت بولد، وهو عبد الله ابن أبي طلحة، فأنجب ورزُق أولادًا، قرأ القرآن منهم عشرةٌ كُمَّل، وحُمِل عن كل واحد منهم العلم. روي عنها أنها قالت: لقد دعا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى ما أريد زيادة. والولد الميت هو أبو عُمير، صاحب النّفير. وفي الصحيح عن أنس أن أُم سليم لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم، قالت له: يا رسول الله، هذا أنس يخدمك، وكان حينئذ ابن عشر سنين، فخدم النبي صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة حتى مات، فاشتهر بخادم النبي صلى الله عليه وسلم. روي لها عن النبي صلى الله عليه وسلم أربعة عشر حديثًا، اتفقا على حديث، وانفرد البخاريّ بحديث، ومسلم بحديثين. روى عنها ابنها أَنس وابن عباس، وزيد بن ثابت، وأبو سلمة بن عبد الرحمن وآخرون. وفي كتاب ابن السَّكن أن اسم أُمها أنيقة. روُي عن أنس أنه قال: أتيت أبا طلحة وهو يضرب أمّي فقلت: تضرب هذه العجوز؟ لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والإخبار والعنعنة، وفيه رواية صحابية عن صحابية، ورواية البنت عن الأُم. أخرجه البخاريّ هنا، وفي الطهارة والأدب، ومسلم في الطهارة، والتِّرمِذِيُّ فيها أيضًا، وقال: حسن صحيح، والنَّسائي فيها وفي العلم، وابن ماجه وأبو داود في الطهارة أيضًا. وفي الحديث إدراج، وهو قول زينب: فغطت أم سلمة وجهها، وقول عروة أو غيره من الرواة: تعني وجهها.

فنذكر هنا حقيقة الإدراج، وهو قسمان: قسم في المتن، وهو أن يقع في المتن كلام ليس منه، تارة في أوله، وتارة في أثنائه، وتارة في آخره، وهو الأكثر، لأنه يقع بعطف جملة على جملة، أو بدمج موقوف من كلام الصحابة، أو من بعدهم، بمرفوع من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، بدون فصل. وقسم في الإِسناد وهو أقسام: الأول: أن يروي جماعةٌ الحديث لأسانيد مختلفة، فيرويه عنهم راوٍ فيجمع الكل على إسناد واحد من تلك الأسانيد، ولا يبين الاختلاف، كحديث أبي وائل عن عمرو بن شُرحبيل عن عبد الله بن مسعود، قلت: يا رسول الله أيّ الذنب أعظم؟ والثاني: أن يكون المتن عند راو إلا طرفًا منه: فإنه عنده بإسناد آخر، فيرويه راو آخر عنه تامًا بالإِسناد الأول. مثاله حديثُ وائل بن حَجَر في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه ثم جئت بعد ذلك، في زمان فيه برد شديد، فرأيت الناس عليهم جُلُّ الثياب، تحركُ أيديهم تحت الثياب، الخ. ومنه أن يسمع الحديث من شيخه، بلا واسطة، إلا طرفًا منه، فيسمعه عن شيخه بواسطة، فيرويه راو عنه تامًا بحذف الواسطة. الثالث: أن يكون عند الراوي متنان مختلفان بإسنادين مختلفين، فيرويهما راو عنه مقتصرًا على أحد الإسنادين، أو يروى أحد الحديثين بإسناده الخاص به، لكن يزيد فيه من المتن الآخر ما ليس في الأول، كحديث أنس، رفعه "لا تباغَضوا ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تنافسوا" فقدله "ولا تنافسوا" أدرجه ابن أبي مريم، الخ. الرابع: أن يسوق الراوي الإِسناد، فيعرض له عارض، فيقول كلاما من قبل نفسه، فيظن بعض من سمعه أن ذلك الكلام هو متن ذلك

الإِسناد، فيرويه عنه، كحديث جابر بن عبد الله مرفوعًا "من كثرت صلاته بالليل حَسُن وجهه بالنهار". قال الحاكم: دخل ثابت على شريك، وهو يقول: حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسكت ليكتب المستملي، فلما نظر إلى ثابت قال: "من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار"، وقصد بذلك ثابتًا لزهده وتهجده، فظن ثابت أن متن ذلك الإِسناد، فكان يحدث به، وإنما هو قول شريك، فهو أشبه الموضوع بغير قصد، وليس بموضوع حقيقة. وحكم الإدراج، قال ابن الصّلاح والنّوويّ: إنه بأقسامه حرام بإجماع أهل الحديث والفقه، لكن قال ابن السَّمعانيّ: عندي أن ما أُدرج بتفسير غريب لا يمنع، ولذلك فعله الزُّهْريّ وغير واحد من الأئمة، ونقل عن الماوَرْدِيّ والرويانيّ وابن السَّمعانيّ أنهم قالوا: إن من تعمد الإدارج ساقطُ العدالة، وهو ممن يحرف الكَلِم عن مواضعه، فكان ملحقًا بالكذابين. ونظم العراقيُّ في ألفيته أقسام المدرج فقال: المدرَجُ الملحقَ آخر الخبر ... من قول راوٍ ما، بلا فصل ظهر نحو: إذا قلت التشهدّ وصل ... ذاك زهير، وابن ثوبان فصل قلت: ومنه مدرج قبل قلب ... فأسبغوا الوضوء، ويل للعقب ومنه جمع ما أتى كل طرف ... منه بإسناد بواحد سلف كوائل في صفة الصلاة قد .... أدرج ثم جئتهم وما اتحد ومنه أن يدرج بعض سند ... في غيره مع اختلاف السند نحو "ولا تنافسوا" في متن "لا ... تباغضوا فمدرج قد نقلا من متن "لا تجسسوا" أدرجه ... ابن أبي مريم إذْ أخرجه ومنه متن عن جماعة ورد ... وبعضهم خالف بعضًا في السند فيجمع الكل بإسناد ذكر ... كمتن "أي الذنب أعظم" الخبر فإن عَمْرا عند واصل فقط ... بين شقيق وابن مسعود سقط وزاد الأعمش، كذا منصور ... ومحمد الإدراج لها محظور

الحديث الثاني والسبعون

الحديث الثاني والسبعون حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لاَ يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَهِىَ مَثَلُ الْمُسْلِمِ، حَدِّثُونِي مَا هِيَ؟ ". فَوَقَعَ النَّاسُ فِى شَجَرِ الْبَادِيَةِ، وَوَقَعَ فِى نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَاسْتَحْيَيْتُ. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنَا بِهَا؟. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "هِىَ النَّخْلَةُ". قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَحَدَّثْتُ أَبِي بِمَا وَقَعَ فِى نَفْسِي فَقَالَ: لأَنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِي كَذَا وَكَذَا. هذا الحديث قد استوفينا الكلام عليه استيفاء لا يحتاج إلى زيادة، في أوائل كتاب العلم هذا، في الحديث الثالث، وأورده المؤلف هنا لقول ابن عمر "فاستحييت" ولتأسف عمر على كونه لم يقل ذلك لتظهر فضيلته، فاستلزم حياؤه تفويت ذلك، وكان يمكنه إذا استحيا إجلالًا لمن هو أكبر منه، أن يذكر ذلك لغيره سرًا، فيخبر به عنه، فيجمع بين المصلحتين، ولهذا عقبه المصنف "بباب من استحيا فأمر غيره بالسؤال" وقوله في الحديث: لأن تكوُنَ قُلْتها بلفظ المضارع في تكون، والماضي في قلت، قيل فيه: كان من حقه أن يقال: لأن كنت قلتها والجواب عن ذلك، هو أن المعنى لأن تكون في الحال موصوفًا بهذا القول الصادر في الماضي. رجاله أربعة: الأول إسماعيل بن أبي أُويس، مر في الحديث الخامس عشر من كتاب الإيمان، ومر تعريف الإمام مالك في الحديث الثاني من بدء الوحي، ومر تعريف عبد الله بن دينار في الحديث الثاني من الإيمان، ومر تعريف عبد الله بن عمر في كتاب الإيمان قبل ذكر حديث

باب من استحيا فأمر غيره بالسؤال

منه، ومر الكلام على المواضيع التي أخرجه فيها المؤلف وغيره، عند الحديث الثالث من كتاب العلم. ثم قال المصنف: باب من استحيا فأمر غيره بالسؤال أي استحيا من العالم أن يسأله بنفسه.

الحديث الثالث والسبعون

الحديث الثالث والسبعون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ مُنْذِرٍ الثَّوْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدٍ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: كُنْتُ رَجُلاً مَذَّاءً فَأَمَرْتُ الْمِقْدَادَ أَنْ يَسْأَلَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَسَأَلَهُ فَقَالَ: "فِيهِ الْوُضُوءُ". قوله "كنت رجلًا مذّاء" بتثقيل الذال المعجمة، والمد بصيغة المبالغة، أي كثير المذي، يقال مَذَى يمَذْي مثل مضى يمضي، ثلاثيًا ويقال أيضًا: أمذى يُمْذي بوزن أعطى يعُطي رباعيًا. وفي المذي لغات أفصحها فتح الميم وسكون الذال المعجمة وتخفيف الياء. ثم بكسر الذال وتشديد الياء، وهو ماء أبيض رقيق لزج، يخرج عند الملاعبة، أو تذكر الجماع، أو إرادته، وقد لا يحس بخروجه. وقوله "فأمرتُ المِقداد أن يسأل النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم" وفي رواية قُتيبة عند المصنف في الوضوء "فاستحييتُ". وفي رواية عنده في الغسل "لمكان ابنته". وفي رواية لمسلم "من أجل فاطمة رضي الله تعالى عنها"، ووقع في رواية للنَّسائيّ أن عليًا قال: أمرت عمارًا أن يسأل. وفي رواية لابن حِبَّان والإسماعيليّ أنّ عليًا قال: سألت، وجمع ابن حبان بين هذا الاختلاف، بأن عليًا أمر عمارًا أنْ يسال، ثم أمر المقداد بذلك ثم سأل بنفسه، وهو جمع جيد إلا بالنسبة إلى آخره، لكونه مغايرًا لقوله: إنه استحيا عن السؤال بنفسه لأجل فاطمة، فيتعين حمله على المجاز بأن بعض الرواة أطلق أنه سأل، لكونه الآمر بذلك، وبهذا جزم الإسماعيليّ ثم النّوويّ. ويؤيد أنه أمر كلًا من المقداد وعمار بالسؤال عن ذلك، ما رواه عبد الرزاق عن عائِش بن أنس قال: تذاكر علي والمقداد وعمار المَذْيَ فقال عليّ: إنني رجل مذّاء، فاسألا عن ذلك النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم،

فسأله أحد الرجلين. وصححَّ ابن بَشْكوال أن الذي تولّى السؤال عن ذلك هو المقداد وعليّ هذا، فنسبة عمار إلى أنه "سأل عن ذلك" محمولة على المجاز أيضًا، لكونه قصده لكن تولى المقداد الخطاب دونه. وقوله "فقال فيه الوضوء" هذا مطابق لكون السائل المقداد، وفي رواية الغُسل، فقال: توضأ واغسل ذكرك. وهذا الأمر، بلفظ الإفراد، يشعر بأن المقداد سأل لنفسه، ويحتمل أن يكون سأل لمبهم أو لعليّ، فوجه النبيُّ صلى الله تعالى عليه وسلم الخطاب إليه. وفي رواية لمسلم، فقال: يغسل ذكره ويتوضأ بلفظ الغائب، فيحتمل أن يكون سؤال المقداد وقع على الإبهام، وهو الأظهر، ففي مسلم، أيضًا فسأله عن المذي يخرج من الإنسان وفي الموطأ نحوه. والظاهر أن عليًا كان حاضر السؤال، فقد أطبق أصحاب المسانيد والأطراف على إيراد هذا الحديث في مسند علي، ولو حملوه على أنه لم يحضر، لأوردوه في مسند المقداد، ويؤيده ما في رواية النَّسائيّ عن أبي حصين في هذا الحديث، عن علي قال: فقلت لرجل جالس في جنبي: سله، فسأله. وفي رواية لأبي داود والنَّسائيّ وابن خُزَيمة، ذكر سبب ذلك عن حَصين بن قُبَيْصةَ عن عليّ قال: كنت رجلًا مذاءًا، فجعلت أغتسل منه في الشتاء حتى تشقق ظهري، فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تفعل. ولأبي داود وابن خُزيمة عن سَهل بن حُنيف أنه وقع له نحو ذلك، وأنه سأل عنه بنفسه. واستدل بقوله عليه الصلاة والسلام "توضّأ" على أن الغُسل لا يجب بخروج المذي، وصرح بذلك في رواية أبي داود وغيره، وهو إجماع، وعلى أن الأمر بالوضوء منه كالأمر بالوضوء من البول، وحكى الطحاويّ عن قوم أنهم قالوا بوجوب الوضوء بمجرد خروجه، ثم رد عليهم بما رواه عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عليّ قال: سئل النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم عن المَذْي فقال: فيه الوضوء، وفي المَنْي الغُسْل.

فعرف بهذا أن حكم المَذْي حكم البوك وغيره من نواقض الوضوء، لا أنه يوجب الوضوء بمجرد خروجه. واستدل به على وجوب الوضوء على من به سلس المذي، للأمر بالوضوء مع الوصف بصيغة المبالغة الدالة على الكثرة، وتعقَّبه ابن دقيق العيد بأنَّ الكثرة هنا ناشئة عن غلبة الشهوة مع صحة الجسد، بخلاف صاحب السلس، فإنه ينشأ عن علة في الجسد، ويمكن أن يقال: أمر الشارع بالوضوء منه، ولم يستفصل فدل على عموم الحكم. وقوله "واغسل ذكرك" وقع في رواية البخاري تقديم الأمر بالوضوء على غسله، وفي العُمدة نسبة عكس ذلك للبخاري، لكن الواو لا ترتّب، فالمعنى واحد، وهي رواية الإسماعيليّ، فيجوز تقديم غسله على الوضوء، وهو أوْلى، ويجوز تقديم الوضوء على غسله، لكن من يقول بنقض الوضوء بمسه، يشترط أن يكون ذلك بحائل، واستدل به ابن دقيق العيد على تعين الماء فيه دون الأحجار ونحوها؛ لأن ظاهره يعيّن الغُسل والمُعين لا يقع الامتثال إلا به، وهذا هو مذهب المالكية، وهو ما صححه النَّوويّ في شرحِ مسلم، وصحح في باقي كتبه جواز الاقتصار إلحاقًا له بالبول، وحملاً للأمر بغسله على الاستحباب، أو على أنه خُرِّج مخْرج الغالب، وهذا هو المعروف في مذهب الشافعية. واستدل به المالكية والحنابلة على إيجاب استيعابه بالغسل، عملاً بالحقيقة، لكن الجمهور نظروا إلى المعنى، فإن الموجب لغسله إنما هو خروج الخارج، فلا تجب المجاوزة إلى غير محله، ويؤيده ما عند الإسماعيلي في رواية فقال: "توضأ واغسلْه" فأعاد الضمير على المذي. ونظير هذا قوله "من مس ذكره فليتوضأ" فإن النقض لا يتوقف على مسّ جميعه. قلت: من أين لهم أن الضمير في رواية الإسماعيليّ راجع إلى المذيّ؟ فلم لا يكون راجعًا إلى الذكر، حملًا للحديث على الرواية

الصريحة، وتحصيلًا للتوفيق بين الحديثين الواجب الجمع بينهما؟ وأما حصول النقض بمس بعض الذكر، فيجاب عنه بأنه جعل فيه النقض بمس البعض ليتيقن حصول الوضوء صحيحًا، فتبرأ به الذمة من الصلاة، والأصل أن الذمة لا تبرأ إلا بمحقق، ولو حمل على أن المس لابد أن يكون لجميعه، بقي احتمال كون المراد به البعض، فلا يتحقق من مس البعض صحة وضوئه، وكذلك الأمر بالغسل للذكر حمل على الحقيقة، لأنه لو حُمل على غسل البعض الذي هو خلاف المتبادر من اللفظ، لم تتحقق براءة الذمة من المأمور به، ولا صحة وضوء الخارج منه المذي، وبالله تعالى التوفيق. واختلف القائلون بوجوب غسل جميعه، هل هو معقول المعنى أو للتعبد؟ فعلى الثاني تجب النية فيه، قال الطحاويّ: لم يكن الأمر بغُسله لوجوب غسله كله، بل ليتقلص فيبطل خروجه كما في الضرع إذا غسل بالماء البارد، ويتفرق لبنه إلى داخل الضرع، فينقطع خروجه. قلت: العلة تشمل البول، فلِمَ لم يأمر الشارع بغسل الذكر فيه؟ واستدل به أيضًا على نجاسة المذي، وهو ظاهر، وخرَّج ابن عقيل الجنبليّ من قول بعضهم إن المذي من أجزاء المني، رواية بطهارته، وتعُقِّب بأنه لو كان منيًا لوجب الغسل منه. واستدل به على قبول خبر الواحد، وعلى جواز الاعتماد على الخبر المظنون مع القدرة على المقطوع به. وفيهما نظر، لأن السؤال كان بحضرة عليّ رضي الله تعالى عنه، كما مر، ولو صح أن السؤال كان في غيبته، لم يكن دليلًا على المدعى، لاحتمال وجود القرائن التي تحفُّ الخبر فترقيه عن الظن إلى القطع. والمراد بالاستدلال به على قبول خبر الواحد مع كونه خبر واحد، أنه صورة من الصور التي تدل، وهي كثيرة، تقوم الحجة بجملتها، بفرد معين منها. وفيه جواز الاستنابة في الاستفتاء، وقد يؤخذ منه جواز دعوى الوكيل

رجاله ستة

بحضرة موكّله، وفيه ما كان الصحابة عليه من حرمة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وتوقيره، وفيه استعمال الأدب في ترك المواجهة لما يستحيا منه عُرفًا، وحسن المعاشرة مع الأصهار، وترك ذكر ما يتعلق بجماع المرأة ونحوه، بحضرة أقاربها. رجاله ستة: الأول مسدد بن مُسَرهَد، مر تعريفه في الحديث السادس من كتاب الإِيمان، ومر تعريف سليمان بن مهران الأعمش في الحديث السادس والعشرين من كتاب الإيمان، ومر تعريف عليّ بن أبي طالب في الحديث السابع والأربعين من كتاب العلم. والثاني: عبد الله بن داود بن عامر بن الربيع الخُرَبْبيّ، نسبة إلى خُرَيْبة تصغير خَرْبة، ملحة بالبصرة، أبو محمد، أو أبو عبد الرحمن، الهَمْدانيّ، الكوُفيّ الأصل. روى عن الأعمش وهشام بن عروة وابن جُرَيج وإسماعيل بن أبي خالد، والأوزاعيّ وخلق. وروى عنه الحسن بن صالح ابن حَيّ، وهو من شيوخه، وعامر ومسدد، وعمرو بن أبي ليلى الصَّيرفيّ، وخلق. قال ابن سعد: كان ثقة عابدًا ناسكًا. وقال ابن مَعين: ثقة مأمون صدوق. وقال عثمان الدارميّ: سالت ابن مَعين عنه وعن أبي عاصم فقال: ثقتان، قال الدارميّ: الخريبي أعلى ووثَّقه أبو زَرعة والنَّسائِيّ. وقال الدارقطنيّ: ثقة زاهد. وقال ابن عُيينة ذلك أحد الأحدين، وقال مرة: ذلك شيخنا القديم. قال الكُدَيميّ: سمعته يقول: ما كذبت قط إلا مرة واحدة، كان أبي قال لي: قرأت على المعلم؟ قلت: نعم، وما كنت قرأت عليه. وقال أبو نصر بن ماكولا: كان عسرًا في الرواية، وقال محمد بن أبي مسلم الكجيّ عن أبيه: أتينا عبد الله بن داود ليحدثنا، فقال: قوموا اسقوا البستان، فلم نسمع منه غير ذلك. قال ابن قانع: كان ثقة. وقال الخليليّ: أَمسك عن الرواية قبل موته. وقال أبو حاتم: كان يميل إلى الرأي، وكان صدوقًا.

ولد سنة إحدى وعشرين ومئة، ومات في شوال سنة ثلاث عشرة ومئتين. روى له الجماعة إلا مسلمًا، وليس في البخاري والكتب الأربعة عبد الله بن داود غير هذا. نعم، في التِّرْمِذيّ آخر واسطي مختلف فيه. والخُريَبة المنسوب إليها التي هي محلة بالبصرة، تسمى البَصْرة الصغرى ينسب إليها خلق كثير، والنسبة إليها على غير قياس؛ لأن فُعَيلة النسبة إليها بطرح الياء إلا ما شذ. الثالث من السند: مُنذر، بضم الميم، ابن يَعْلى، بفتح الياء آخر الحرِوف، أبو يعلى الثَّوْرِيّ الكوفيّ، روى عن محمد بن الحَنْفية، والربيع ابن خيْثم وسعيد بن جُبير وجماعة. وروى عنه ابنه الربيع والأعمش وقَطَر ابن خَليفة وغيرهم. ذكره ابن سعد في الطبقة الثالثة من أهل الكوفة، وقال: كان ثقة قليل الحديث. وقال ابن مَعين والعِجْليّ وابن خِراش: ثقة، وذكره ابن حِبّان في الثقات. روى له الجماعة. رابع السند، محمد بن الحَنَفية، وهو محمد بن عليّ بن أبي طالب الهاشميّ، أبو القاسم، المدنيّ، المعروف بابن الحنفية، وهي خَوْلة بنت جَعفر بن قيس بن ثَعْلبة بن يربوع بن ثعلبة بن الدُّؤل بن حَنفية بن لجَيم. ويقال: بل كانت من سبْي اليمامة، وصارت إلى عليّ رضي الله عنه، وقيل: بل كانت سِنْدِيَّة سوداء، وكانت أَمة لبني حنيفة، ولم تكن منهم، وإنما صالحهم خالد بن الوليد على الرقيق، ولم يصالحهم على أنفسهم. استولد عليّ تلك الجارية من السبيّ، ثم لم ينقرض عصر الصحابة حتى أجمعوا على أن المرتد لا يسبى. وكنيته بأبي القاسم رُخْصة من النبيّ صلى الله عليه وسلم لعليّ. يقال إنه قال لعليّ: سيولد لك بعدي ولد، وقد نحلته اسمي وكنيتي، ولا تحل لأحد من أمتي بعده. وممن سمي محمدًا وتكنَّى أبا القاسم، محمد بن أبي بكر الصديق، ومحمد بن طلحة بن عُبَيد الله، ومحمد بن سعد بن أبي وقّاص، ومحمد

ابن عبد الرحمن بن عَوف، ومحمد بن جعفر بن أبي طالب، ومحمد بن حاطب بن أبي بَلْتَعة، ومحمد بن الأشعث بن قيس. روى عن أبيه وعثمان وعمار ومعاوية وأبي هريرة وابن عباس، ودخل على عمر، وروى عنه أولاده إبراهيم والحسن وعبد الله وعمر وعَوْن، وابن أخيه محمد بن عمر بن علي، ومحمد بن بشرِ الهَمْدانّي، وكان مؤدبًا له، وخلق. قال العِجْليّ: تابعي ثقة، كان رجلًا صالحًا. قال إبراهيم بن الجُنَيد: لا نعلم أحدًا أسند عن عليّ، ولا أصح مما أسند محمد. وتسميه الشيعة المهديّ، وكانوا إذا سلموا عليه يقولون: السلام عليك يا مهديّ، فيقول: أجل، أنا مهديٌّ أُهدى إلى الخير، ولكن إذا سلم أحدكم فليقل: السلام يا محمد. وقال ابن حبان: كان من أفاضل بيته، كان كثير العلم والورع. وقد ذكره الشيخ أبو إسحاق الشِّيرازِيّ في "طبقات الفقهاء"، وكانت راية أبيه يوم الجمل بيده، ويُحكى أنه توقف أول يوم في حملها لكونه قتال المسلمين، ولم يكن قبل ذلك شهد مثاله، فقال له عليّ رضي الله عنه: هل عندك شك في جيش مقدمه أبوك؟ فحملها. وقيل له: كان أبوك يُقْحمك المهالك ويُولجك المضايق دون أخَويك: الحسن والحسين، فقال: لأنهما كانا عيْنيه، وكنت يديه، فكان يقي عينيه بيديه. ومن كلامه. ليس بحكيم من لم يعاشر بالمعروف، مَنْ لا يجد في معاشرته بُدًا، حتى يجعل الله له فرجًا. كان رضي الله عنه شديد القوة، وله في ذلك أخبار عجيبة، منها ما حكاه المُبَرِّد في كتابه "الكامل" أن أباه عليًا، رضي الله عنه، استطال درعًا كانت له، فقال: لينقص منها كذا وكذا حلقة، فقبض محمد بإحدى يديه على ذيلها، وبالأخرى على فضلها، ثم جذبها، فقطع من الموضع الذي حَدَّه أبوه. وكان عبد الله بن الزبير، إذا حُدِّث بهذا الحديث، غضب واعتراه أفْكَل، وهو الرعدة؛ لأنه كان يحسده على قوته. وكان ابن الزبير أيضًا شديد القوة، ومن قوته أيضًا ما حكاه المُبَرِّد في كتابه أن ملك الروم في أيام

معاوية، وجه إليه أن الملوك قَبْلك كانت تراسل الملوك منا، ويجهد بعضهم أن يغرب على بعض، أفتأذن لي في ذلك؟ فأذن له، فوجه إليه رجلين، أحدهما جسيم طويل، والآخر أيِّد، فقال معاوية لعمرو بن العاص: أما الطويل فقد أصبنا كفؤه، وأما الآخر الأيِّد، فقد احتجنا إلى رأيك فيه، فقال عمرو: هاهنا رجلان كلاهما إليك بغيض، محمد بن الحنفية، وعبد الله بن الزبير. قال معاوية: من هو أقرب إلينا على كل حالى، فلما دخل الرجلان، وجه إلى قيس بن سعد بن عبادة يعلمه، فدخل قيس، فلما مثل بين يدي معاوية، نزع سراويله، ورمى بها إلى العلج، فلبسها فبلغت ثندوته فأطرق مغلوبًا، فقيل: إن قيسًا لاموه على ذلك، وقيل له: لِمَ تَبَذَّلْت هذا التَّبَذُّل بحضرة معاوية؟ وهلّا وجّهت إليه غيرها؟ فقال: أردتُ لكيما يعلم الناس أنها ... سراويلُ قيس، والوفودُ شهودُ وأن لا يقولوا غاب قيسٌ وهذه ... سراويلُ عاديّ نَمَتْهُ ثَمُودُ وإنّي من القوم اليمانين سيّدٌ ... وما الناس إلا سيد ومَسَودُ وبَدَّ جميع الناس أصلي ومنصبي ... وجسمٌ به أعلو الرجال مديدُ ثم وجه معاوية إلى محمد بن الحنفية فحضر، فخُبر بما دُعي إليه فقالى: قولوا له إن شاء فليجلس، وليعطني يده حتى أُقيمه، أو يقعدني، وإن شاء فليكن هو القائم وأنا القاعد، فاختار الرومي الجُلوس، فأقامه محمد، وعجز الرومي عن إقعاده، ثم اختار أن يكون محمد القاعد، فجذبه محمد فأقعده، وعجز الرومي عن إقامته، فانصرفا مغلوبين. ولما دعا ابن الزبير إلى نفسه، وبايعه أهل الحجاز، دعا عبد الله بن عباس ومحمد بن الحنفية، رضي الله عنهما، إلى بيعته فأبيا ذلك، وقالا: لا نبايعك حتى يجتمع لك البلاد، ويتفق الناس، فأساء جوارهما، وحصرهما وآذاهما، وقال لهما: لئن لم تبايعا أحرقتكما بالنار. والشرح في ذلك يطول. كانت ولادته لسنتين بقيتا من خلافة عمر، وتوفي رضي الله عنه في أولى

المحرم سنة إحدى وثمانين، وقيل: سنة ثلاث وثمانين، وقيل: سنة اثنتين أو ثلاث وسبعين، بالمدينة، وصلى عليه أبان بن عثمان، وهو والي المدينة يومئذ، ودفن بالبقيع، وقيل: إنه خرج إلى الطائف هاربًا من ابن الزبير، فمات هناك، وقيل إنه مات ببلاد أَيْلة، وتعتقد الفرقة الكَيْسانية إمامته، وأنه مقيم بجبل رَضْوى وإلى ذلك أشار كثير عزة بقوله، من جملة أبيات وكان كيْسَاني الاعتقاد: تغَيَّب لا يُرى فيهم زمانًا ... برضوى، عنده عسلٌ وماء وأول هذه الأبيات: ألا إن الأئمة من قريش ... ولاة الحق أربعة سواء عليٌّ والثلاثة من بنيه ... هم الأسباط وليس بهم خفاء فسبطٌ سبي إيمان وبِرٍ ... وسبطٌ غَيَّبَتْه كرْبلاء وسبطٌ لا يذوق الموت حتى ... يقول الخيل يَقْدُمُه اللواء وكان المختار بن عُبيد الثقفيّ يدعو الناس إلى إمامة محمد بن الحنفية، ويزعم أنه المهديّ، وقال الجوهري في كتاب "الصحاح" كَيْسان لقب المختار المذكور، وقال غيره: كيسان مولى علي، رضي الله عنه، والكيسانية يزعمون أنه مقيم برضوى في شِعبٍ منه، ولم يمت، دخل إليه ومعه أربعون من أصحابه، ولم يوقف لهم على خبر، وهم أحياء يرزقون، ويقولون: إنه مقيم في هذا الجبل بين أسد ونمر، وعنده عينان نضاختان تجريان عسلًا وماءً، وأنه يرجع إلى الدنيا فيملأها عدلًا، وانتقلت إمامته إلى ولده أبي هاشم عبد الله، ومنه إلى محمد بن عليّ والد السَّفَّاح والمنصور، ويقال: إن له ولدًا اسمه الهَيْثَم. وكان مُوَخَّذًا عن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يقدر أن يدخله، والأخيذ في اللغة الأسير، ووالأُخْذة، بضم الهمزة، رُقْيَةٌ كالسحر، فكأنه كان مسحورًا. كان محمد، رضي الله عنه، يخضب بالحناء والكتَم، وكان يتختم في اليسار، وله أخبار مشهورة. ورضَوى، بفتح الراء بعدها

ضاد ساكنة، جبل جُهَينة، وهو في عمل اليَنْبُع، بينهما مسيرة يوم واحد، وهو من المدينة على سبعة مراحل، ميامنة طريق المدينة، ومياسرة طريق البَرّ، لمن كان مُصَعَّدًا إلى مكة. وهو على ليلتين من البحر، ومنه تحمل حجارة المِسَنّ إلى سائر الأمصار، والحنفيّ في نسبه مر في تعريفه ما هو النسبة له. وفيه ذكر المقداد، وهو المقداد بن الأسود، نسب إلى الأسود بن عَبْد يَغُوث بن وَهب بن عبد مناف بن زُهْرة الزُّهْرِيّ؛ لأنه كان تبناه وحالفه في الجاهلية، فقيل له: المقداد بن الأسود، وهو المقداد بن عمرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة بن عامر بن مطرود، النهروانيّ، وقيل الحضرميّ. قال ابن الكلبيّ: كان عمرو أبو المقداد أصاب دمًا في قومه، فلحق بحضرموت، فحالف كندة، فكان يقال له الكنديّ، وتزوج هناك امرأة فولدت له المقداد، فلما كبر المقداد وقع بينه وبين أبي شمِر بن حُجْر الكنديّ، فضرب رجله بالسيف، وهرب إلى مكة، فحالف الأسود بن عبد يغوث الزهريّ وكتب إلى أبيه فقدم عليه، وتبنى الأسود المقداد، فصار يقال له المقداد بن الأسود، وغلب عليه واشتهر بذلك، فلما نزلت {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5] قيل له المقداد بن عمرو، واشتهر شهرته بابن الأسود. وكان المقداد يكنى أبا الأسود، وقيل: كنيته أبو عمرو، وقيل أبو سعيد، أسلم قديمًا، روي عن ابن مسعود أنه قال: أول من أظهر الإِسلام سبعة، فذكر المقداد منهم. وكان من الفضلاء النجباء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وروي عن عليّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه لم يكن نبىٌّ إلا أعطى سبعة نُجَباء ووزراء ورفقاء، وإني أعطيت أربعة عشر: حمزة وجعفر وأبو بكر وعمر وعليّ والحسن والحسين وعبد الله بن مسعود وعمّار وسَلْمان وحذَيفة وأبو ذَرٍّ والمِقْداد وبلال. وروي عن ابن مسعود: لقد شهدت مع المقداد مشهدًا، لأن أكون

صاحبه أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس، وذلك أنه أتى النبيَّ، صلى الله عليه وسلم، وهو يذكر المشركين، فقال: يا رسول الله، إنا والله لا نقول لك كما قال أصحاب موسى لموسى، إذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكنا نقاتل من بين يديك ومن خلفك، وعن يمينك وعن شمالك، قال: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرق وجهه بذلك، وسره وأعجبه. وروي عن عبد الله بن بُرَيدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الله عَزَّ وَجَلَّ أمرني بحب أربعة من أصحابي، وأخبرني أنه يحبهم، فقيل له: يا رسول الله من هم؟ قال: عليٌّ والمقداد وسَلمان وأبو ذر. وروي عن أنس أن النبي، صلى الله عليه وسلم، سمع رجلًا يقرأ القرآن، ويرفع صوته به، فقال: "أوَّاب"، وسمع آخر يرفع صوته به، فقال "مراءٍ" فنظر فإذا الأول المقداد بن عمرو. وروي عن المقداد أنه قال: لما نزلنا المدينة عَشَرنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم، عشرة عشرة في كل بيت، فكنت في العشرة الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن لنا إلا شاةٌ نتجزَّأ لبنها. وهو أول من قاتل علي فرس في سبيل الله، معِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد شهد بدراً على فرس له يقال لها سَبْخَة. تزوج ضُباعة بنت الزبير بن عبد المطلب بنت عم النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهاجر الهجرتين، وشهد بدرًا والمشاهد بعدها. كان المقداد وعبد الرحمن بن عوف جالسين، فقال له: مالك لا تتزوج؟ قال: زوِّجني ابنتك، فغضب عبد الرحمن وأغلظ له، فشكاه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: أنا أزوجك، فزوجه بنت عمه ضُباعة. كان المقداد عظيم البطن، وكان له غلام، روميٌّ، فقال له: أشُقُّ بطنك فأُخرج من شحمه حتى تلطف؟ فشق بطنه ثم خاطه، فمات المقداد، وهرب الغلام.

لطائف إسناده

شهد المقداد مصر، ومات في أرضه بالجرف، فحمل إلى المدينة ودفن بها، وصلى عليه عثمان بن عفان رضي الله عنه، سنة ثلاث وثلاثين. روى عنه من كبار التابعين طارق بن شهاب، وعُبيد الله بن عَدِيّ بن الخيار، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وغيرهم. والنَّهرْوانِيُّ في نسبه نسبة إلى نهروان، قرية من قرى اليمن، من أعمال ذَمار، والنسبة في الزُّهريّ قد مرت. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة، ورواته ما بين بصريّ وكوفيّ وحجازيّ، وفيه رواية تابعيّ، وهو الأعمش، يروي عن غير تابعيّ وهو المنذر، وفيه ما قيل لا يُعلم أحدٌ أسند إلى عليّ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر ولا أصح مما أسند محمد بن الحنفية، رضي الله تعالى عنه. أخرجه البخاري هنا وفي الطهارة، ومسلم فيها أيضًا، والنَّسائيّ فيها وفي العلم، وروي بوجوه مختلفة. ثم قال المصنف: باب ذكر العلم والفتيا في المسجد أي إلقاء العلم والفتيا في المسجد، وأشار بهذه الترجمة إلى الرد على من توقف عليه، لما يقع في المباحثة من رفع الأصوات، فنبه على الجواز.

الحديث الرابع والسبعون

الحديث الرابع والسبعون حَدَّثَنِي قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا نَافِعٌ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ. أَنَّ رَجُلاً قَامَ فِى الْمَسْجِدِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مِنْ أَيْنَ تَأْمُرُنَا أَنْ نُهِلَّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "يُهِلُّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَيُهِلُّ أَهْلُ الشَّامِ مِنَ الْجُحْفَةِ، وَيُهِلُّ أَهْلُ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ". وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَيَزْعُمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "وَيُهِلُّ أَهْلُ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ". وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: لَمْ أَفْقَهْ هَذِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. قوله "إن رجلًا قام في المسجد" قال في "الفتح": لم أقف على اسم هذا الرجل، والمراد بالمسجد، مسجد النبي، صلى الله تعالى عليه وسلم. ويستفاد منه أن السؤال عن مواقيت الحج كان قبل السفر من المدينة. وحكى الأثرم عن أحمد أنه سئل في أي وَقْتٍ وَقَّت النبيّ، صلى الله تعالى عليه وسلم، المواقيت؟ فقال: عام حَجَّ. وهذا موافق لما استفيد من الحديث إلا أن المستفاد منه مبين، لكون التوقيت قبل سفره للحج. وقوله "من أين تأمرنا أن نُهِل" أي: بالإهلال، وأصله رفع الصوت، لأنهم كانوا يرفعون أصواتهم بالتلبية عند الإحرام، ثم اطلق على نفس الإحرام اتساعًا، والسؤال عن "المُهَلّ" بضم الميم وفتح الهاء وتشديد اللام، وهو موضع الإهلال، وهو الميقات المكانيّ. وقال أبو البقاء العَكْبَرِيّ: إن المُهَل مصدر بمعنى الإهلال، كالمدخل والمخرج، بمعنى الإدخال والإخراج. وقوله "يهلُّ أهل المدينة من ذي الحُليفة" بالمهملة والفاء مصغر، مكان معروف بينه وبين المدينة ستة أميال، ووهم من قال بينهما ميل واحد، وبها مسجد يعرف بمسجد الشجرة خراب، وبها بئر يقال

لها بئر عليّ، وهي أبعد المواقيت من مكة، فقيل: الحكمة في ذلك أن تعظم أجور أهل المدينة، وقيل: رفقًا بأهل الآفاق؛ لأن أهل المدينة أقرب الآفاق إلى مكة أي ممن له ميقات معين. وقوله: "ويهلُّ أهل الشام من الجُحْفَة" بضم الجيم وسكون المهملة، وهي قرية خَرِبة بيتها وبين مكة خمس مراحل أو ستة. وفي حديث ابن عمر أنها مَهْيعةٌ، بوزن علقمة، وقيل بوزن لطيفة، وسميت الجُحفة لأن السيل أجحف بها. قال ابن الكلبيّ: كان العمالق يسكنون يثرب، فوقع بينهم وبين بني عَبِيل، بفتح المهملة بوزن عظيم، وهم أخوة عاد حرب، فأخرجوهم من يثرب، فنزلوا مهيعة، فجاء سيل فاجتحفهم، أي استأصلهم، فسميت الجحفة. وقوله "ويهل أهل نجدٍ من قَرْن"، أما نجد فهو كل مكان مرتفع، وهو اسم لعشرة مواضع، والمراد هنا التي أعلاها تهامة واليمن، وأسفلها الشام والعراق، وجميع ما يسمى نجدًا مضاف أي: نجد كذا، إلا هذا، أو يقال لقْرن قَرْن المنازِل، بلفظ جمع المنزل، وهو اسم المكان، وهو بفتح القاف وسكون الراء، وغلط من قال بفتح الراء، لكن حكى عياض عن القابِسيّ أن من قاله بالإسكان أراد الجبل، ومن قاله بالفتح أراد الطريق. والجبل المذكور بينه وبين مكة من جهة المشرق مرحلتان، وحكى الروياني عن بعض الشافعية، أن المكان الذي يقال له قَرْن موضعان: أحدهما في هبوط، وهو الذي يقال له قَرْن المنازل، والآخر في صعود وهو الذي يقال له قرْنُ الثعالب، والمعروف الأول. وفي أخبار مكة للفاكهانيّ: أن قَرن الثعالب جبل مشرف على أسفل مِنى، بينه وبين مسجد مني ألف وخمس مئة ذراع. وقيل له قرن الثعالب، لكثرة ما كان يأوي إليه من الثعالب، فظهر أن قرن الثعالب ليس من المواقيت. وقوله "ويهل" في الكل على صورة الخبر في الظاهر، والظاهر أن المراد منه الأمر، فالتقدير "ليهل"، وقوله "وقال ابن عمر" هو بواو العطف في

غير رواية ابن عساكر والأصيلي، فإنها أي: الواو، ساقطة، والعطف على لفظٍ عن عبد الله بن عمر عطفا من جهة المعنى، كأنه قال: قال نافع قال عبد الله بن عمر ما مر. وقال "ويزعمون" وهو عطف على مقدر، أي: وقال: قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: كذا. ويزعمون أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: "ويهل أهل اليمن من يلمْلَم" وهذا التقدير لابد منه؛ لأن هذه الواو لا تدخل بين القول ومقوله، ويلملم بفتح المثناة التحتية وفتح اللامين، جبل من جبال تهامة على مرحلتين من مكة، بينهما ثلاثون ميلًا ويقال "ألملم" بالهمزة بدل الياء، وهو الأصل والياء تسهيل لها، وحكي فيه "يَرَمْرَم" براءين بدل اللامين، وفي عبارة القاضي حسين في سياقه لحديث ابن عباس "ولأهل نجد اليمن ونجد الحجاز قَرْن"، وهذا لا يوجد في شيء من طرق حديث ابن عباس، وإنما يوجد ذلك من مرسَل عطاء، وهو المعتمد، فإن لأهل اليمن إذا قصدوا مكة طريقين: إحداهما طريق أهل الجبال، وهم يصلون إلى قَرْن أو يحاذونه، فهو ميقاتهم، كما هو ميقات أهل المشرق، والأخرى طريق أهل تهامة، فيمرون بيلملم، أو يحاذونه، وهو ميقاتهم لا يشاركهم فيه إلا من أتى عليه من غيرهم. وقول ابن عمر "ويزعمون" إلى آخره، يفسر بمن روى الحديث تامًا، كابن عباس وغيره، وقوله "وقال ابن عمر: لم أفقه هذه من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم" أي: لم أفهم هذه الأخيرة، أي يلملم لأهل اليمن، وهذا من شدة تحرّيه وورعه. وفيه دليل على إطلاق الزعم على القول المحقق، لأن ابن عمر سمع ذلك من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، لكنه لم يفهمه، لقوله: لم أفقه هذه، أي الجملة الأخيرة، فصار يرويها من غيره، وأيضًا فإن ابن عمر لا يريد بهؤلاء الزاعمين إلا أهل الحجة، والعلم بالسنة، ومحالٌ أن يقولوا ذلك بآرائهم، لأن هذا ليس مما يقال بالرأي.

رجاله أربعة

رجاله أربعة: الأول قتيبة بن سعد، مر في الحديث الثاني والعشرين من كتاب الإيمان، ومر تعريف أبي معاوية محمد بن حازم في الحديث الثالث منه أيضًا، ومر تعريف عبد الله بن عمر في أول كتابه أيضًا قبل ذكر حديث منه. الثالث: نافع بن سَرْجِس، بفتح السين وسكون الراء وكسر الجيم في آخره سين أخرى، أبو عبد الله المدني مولى عبد الله بن عمر، أصله من المغرب، وقيل من نَيْسابور، وقيل من سَبْي كابُل، وقيل من جبال الطَّالقان، أصاب عبد الله بن عمر في بعض غزواته، روى عن مولاه وأبي هريرة وأبي لبُابة بن عبد المنذر وأبي سعيد الخُدْريّ ورافع بن خديج، وعائشة وأم سلَمة، وعبد الله وعبيد الله وسالم وزيد أولاد عبد الله بن عمر، وخلق كثير. روى عنه أولاده أبو عمر وعمر وعبد الله وعبد الله بن دينار وصالح بن كَيْسان وأبو إسحاق السَّبيعيّ ومالك بن أنس والأوزاعي وابن إسحاق وغيرهم. قال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، وقال البخاريّ: أصح الأسانيد مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر، وقال مالك: كنت إذا سمعت حديث نافع عن عبد الله بن عمر لا أبالي أن لا أسمعه من أحد غيره. وأهل الحديث يقولون: رواية الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر سلسلة الذَّهب لجلالة كل واحد من هؤلاء الرواة. ومعظم حديث ابن عمر دائر عليه، وقال عبد الله بن عمر: لقد منّ الله علينا بنافع، قال أحمد بن صالح المصريّ: كان نافع حافظًا ثبتًا له شأن، وهو أكبر من عِكرمة عند أهل المدينة. وقال الخليليّ: نافع من أئمة التابعين بالمدينة، إمام في العلم، متفق عليه، صحيح الرواية" منهم من يقدمه على سالم، ومنهم من يقارنه به، ولا يعرف له خطأ في جميع ما رواه، بعثه عمر بن عبد العزيز إلى مصر ليعلمهم السنن، وقيل لابن مَعين: نافع عن ابن عمر أحب إليك أو سالم؟

لطائف إسناده

فلم يفضل. فقيل له: نافع أو عبد الله بن دينار؟ فقال: ثقات، ولم يفضل. وقال العجليّ: مدنيّ ثقة. وقال ابن خراش: ثقة نبيل. وقال النَّسائي: ثقة، وقال في موضع آخر: أثبت أصحاب نافع مالك ثم أيوب، فذكر جماعة. وقال في موضع آخر: اختلف سالم ونافع في ثلاثة أحاديث، وسالم أجل من نافع، وحديث الثلاثة أولى بالصواب. وقال سفيان: فأي حديث أوثق من حديث نافع؟ وروي عنه أنه قال: كنت أسير مع عبد الله ابن عمر، رضي الله عنهما، فسمع زُمَّارة راع، فوضع أصبعيه في أذنيه، ثم عدل عن الطريق، فلم يزل يقول: يانافع، أتسمع؟ حتى قلت: لا، فأخرج أصبعيه عن أذنيه، ثم رجع إلى الطريق ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي هذا الأثر إشكال تسأل عنه الفقهاء، وهو أن ابن عمر كيف سد أذنيه عن استماع صوت الزمارة، ولم يأمر مولاه نافعًا حينئذ بفعل ذلك؟ بل مكنه منه، وكان يسأله كل وقت: هل انقطع الصوت أم لا؟ وقد أجابوا عن الإشكال بأن نافعًا حينئذ كان صبيًا، فلم يكن مكلفًا حتى يمنعه عن الاستماع، ويرد على هذا الجواب سؤال، وهو أن الصحيح أن إخبار الصبي غير مقبول، فكيف ركن ابن عمر إلى إخباره في انقطاع الصوت؟ ولكن الصحيح غير ما ذكر من عدم قبول رواية الصبي، بل الصحيح عند المحدثين قبول روايته، كما هو مذكور في أصول الحديث. وفي متن البخاريّ وغيره. وأخبار نافع كثيرة، مات رضي الله عنه سنة سبع عشرة ومئة، وقيل سنة عشرين ومئة. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة، وفيه "حدثني قتيبة" وفي بعض النسخ "حدثنا قتيبة". أخرجه البخاريّ هنا وفي الحج، والنَّسائي في العلم، وثبت من رواية ابن عباس. أخرجه البخاريّ ومسلم وأبو داود، وأخرجه مسلم عن جابر، وأكمل الأحاديث حديث ابن عباس؛ لأنه ذكر المواقيت الأربعة فيه، وحديث ابن عمر لم يحفظ فيه ميقات أهل اليمن،

باب من أجاب السائل بكثر مما سأله

وحديث جابر، رضي الله عنه، لم يجزم برفعه، ثم قال المصنف: باب من أجاب السائل بكثر مما سأله موقع هذه الترجمة التنبيه على أن مطابقة الجواب للسؤال غير لازمة، بل إذا كان السبب خاصا والجواب عاما جاز، وحمل الحكم على عموم اللفظ على خصوص السبب لأنه جواب وزيادة فائدة وأما ما وقع في كلام كثير من الاصوليين أن الجواب يجب أن يكون مطابقا للسؤال، فليس المراد بالمطابقة عدم الزيادة بل المراد أن الجواب يكون مفيدًا للحكم المسؤول عنه.

الحديث الخامس والسبعون

الحديث الخامس والسبعون حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَعَنِ الزُّهْرِىِّ عَنْ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّ رَجُلاً سَأَلَهُ: مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ؟ فَقَالَ: "لاَ يَلْبَسِ الْقَمِيصَ وَلاَ الْعِمَامَةَ وَلاَ السَّرَاوِيلَ وَلاَ الْبُرْنُسَ وَلاَ ثَوْبًا مَسَّهُ الْوَرْسُ أَوِ الزَّعْفَرَانُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا تَحْتَ الْكَعْبَيْنِ". قوله ابن أبي ذئب عن الزُهريُّ هو بالضم عطفًا على قول آدم: حدثنا ابن أبي ذئب والمراد أن آدم سمعه من ابن أبي ذيب بإسنادين، وفي رواية غير أبي ذر وعن الزُّهريّ بالعطف على نافع، ولم يعد ذكر ابن أبي ذيب، وقوله "إن رجلًا" قال في "الفتح": لم أقف على اسمه، وقد سأله ما يلبس المُحْرِم، بفتح المثناة التحتية والموحدة، مضارع لبس بكسر الموحدة، والمراد بالمحرم من أحرم بحج أو عمرة أو قِران. وحكى ابن دقيق العيد أن ابن عبد السلام كان يستشكل معرفة حقيقية الإحرام على مذهب الشافعيّ، ويرد على من يقول إنه النية؛ لأن النية شرط في الحج الذي الإحرام ركنه، وشرط الشيء غيره، ويعترض على من يقول إنه التلبية، بأنها ليست ركنًا، وكأنه يحوم على تعيين فعل تتعلق به النية في الابتداء، والذي يظهر أنه مجموع الصفة الحاصلة، من تجرد وتلبية ونحو ذلك. وعند النَّسائِيّ عن ابن عمر "ما تلبس من الثياب إذا أحرمنا" وهو مشعر بأن السؤال عن ذلك كان قبل الإحرام، وقد حكى الدارقطنيّ أن في رواية

ابن جُرَيج والليث عن نافع أن ذلك كان في المسجد، قال في "الفتح": ولم أر ذلك في شيء من الطرق عنهما، لكن أخرج البيهقيّ عن نافع عن ابن عمر قال: نادى رجل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو يخطب بذلك المكان، وأشار نافع إلى مُقَدم المسجد، فذكر الحديث" وظهر أن ذلك كان بالمدينة. ووقع في حديث ابن عباس في آخر الحج عند المصنف أنه صلى الله تعالى عليه وسلم خطب بذلك في عرفات، فيحُمل على التعدد، ويؤيده أن حديث ابن عمر أجاب به السائل، وحديث ابن عباس ابتدأ به في الخطبة. وقوله "لا يُلْبَسُ القميص" هو بالرفع على الخبر، وهو في معنى النهي، وروى بالجزم على أنه نهي، وأجمعوا على أن المراد بالمُحْرِم هنا الرجلُ، ولا تلتحق به المرأة في ذلك. قال ابن المنذر: أجمعوا على أن المرأة تلبس جميع ما ذكر، وإنما تشترك مع الرجل في منع الثوب الذي مسه الزعفران أو الوَرْس، ويؤيده ما في حديث اللّيث الآتي في آخر الحج، ولا تَنْتَقبُ المرأة وقال عياض: أجمع المسلمون على أن ما ذكر في هذا الحديث لا يلبسه المُحرم وأنه نبه بالقميص والسراويل على كل مَخِيط، وبالعمائم والبرانس على كل ما يغطى الرأس به، مخيطًا أو غيره، وبالخِفاف على كل ما يستر الرجل. وخصَّ ابن دقيق العيد الإجماع الثاني بأهل القياس، وهو واضح، والمراد بتحريم المخِيط ما يُلْبس على الموضع الذي جعل له، ولو في بعض البدن، فأما لو ارتدى بالقميص مثلًا فلا بأس وقال الخَطَّابيّ: ذكر العِمامة والبُرْنُس معًا ليدل على أنه لا تجوز تغطية الرأس، لا بالمعتاد ولا بالنادر. قال: ومن النادر، المِكْتَل يحمله على رأسه فإن أراد أنه يجعله على رأسه كلابس القُبعُ صح ما قال، وإلا فمجرد وضعه على رأسه على

هيئة الحامل لحاجته لا يضر على مذهبه، ومما لا يضر أيضًا الانغماس في الماء، فإنه لا يسمى لابسًا، وكذا سَتْر الرأس باليد. وقال النَووِيّ: قال العلماء: هذا الجواب من بديع الكلام، وجزله، لأن مالا يلبس منحصرٌ، فحصل التصريح به، وأما الملبوس الجائز فغير منحصر، فقال: لا يلبس كذا، أي: ويلبس ما سواه، وقال البَيْضاويّ: سُئِل عما يُلْبَس، فأجاب بما لا يلبس , ليدل بالالتزام من طريق المفهوم علي ما يجوز، وإنما عَدَل عن الجواب لأنه أخصر وأحصر، ونكتة العدول أيضًا هي أن السائل سأل عما يلبس، فأجيب بما لا يلبس، إذا الأصل الإباحة، ولو عدد له ما يلبس لطال به، بل كان يؤمن أن يتمسك بعض السامعين بمفهومه، فيظن اختصاصه بالمحرم، وأيضاً المقصود ما يحرم لبسه، لا يحل له لبسه, لأنه لا يجب له لباس مخصوص، بل عليه أن يجتنب شيئًا مخصوصًا. قال البيضاوي وفيه إشارة إلى أن حق السؤال أن يكون عما لا يلبس، لأنه الحكم العارض بالإحرام المحتاج لبيانه، إذ الجواز ثابت بالأصل، معلوم بالاستصحاب، فكان الأَليق السؤال عما لا يلبس، وقال غيره: هذا يشبه أسلوب الحكيم، ويقرب منه قوله تعالى {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ} [البقرة: 215] الآية: فعدل عن جنس المنفَق. وهو المسؤول عنه، إلى ذكر المنفق عليه, لأنه الأهم. وقال بعضهم: يؤخذ منه أن المفتي إذا سئل عن واقعة، واحتمل عنده أن يكون السائل يتذرع بجوابه إلى أن يعديه إلى غير محل السؤال، تعين عليه أن يفصل الجواب، ولهذا قال: فإن لم يجد نعلين، فكأنه سأل عن حالة الاختيار، فأجابه عنها، وزاده حالة الاضطرار، وليست أجنبيته عن السؤال؛ لأن حالة السفر تقتضي ذلك. وقال ابن دقيق العيد: يستفاد منه أن المعتبر في الجواب، ما يحصل منه المقصود، كيف كان، ولو بتغيير أو زيادة، ولا تشترط المطابقة. وطعن

بعضهم في قول من قال: إن هذا من أسلوب الحكيم، بأنه كان يمكن الجواب بما يحصر أنواع ما لا يُلْبَس، كأن يقال: ما ليس بمخيط، ولا على قدر البدن، كالقميص، أو بعضه كالسراويل، أو الخف، ولا يستر الرأس أصلًا، ولا يلبس ما مسه طيب، كالورس والزعفران. وفي هذا الاعتراض نظر؛ لأن إمكان الحصر لا يمنع من أسلوب الحكيم، فإن أسلوب الحكيم إنما هو لكون المعدول إليه أهم من المسؤول عنه. وفي هذا الجواب العدول إلى ما هو الأهم، وهو ما يحرم لبسه، ويوجب الفدية، وهذا كله بناء على الرواية المشهورة عن نافع وسالم. وقد رواه أبو عُوانة عن ابن جُريج عن نافع بلفظ "ما يترك المُحْرم" وهي شاذة، والاختلاف فيها على ابن جُرَيج لا على نافع، ورواه سالم عن ابن عمر بلفظ "إن رجلًا قال ما يجتنب المحرم من الثياب" أخرجه أحمد وابن خزيمة وأبو عُوانة في صحيحيهما عن معمر عن الزُّهْريّ عنه وأخرجه أحمد عن ابن عُيينة عن الزُّهري. قال مرة ما يترك؟ ومرة ما يلبس؟ وأخرجه المؤلف في أواخر الحج عن الزُّهري بلفظ نافع، فالاختلاف فيه على الزُّهري يُشْعر بأن بعضهم رواه بالمعنى، فاستقامت رواية نافع لعدم الاختلاف فيها، واتجه البحث المتقدم. وقوله "ولا ثوبًا مسه الورس أو الزعفران" الورس، بفتح الواو وسكون الراء بعدها مهملة، نبت أصفر طيِّب الريح يصيبغ به، قال ابن العربي: ليس الورس بطيب، ولكنه نبه به على اجتناب الطِّيب وما يشبهه في ملاءمته الشم، فيؤخذ منه تحريم أنواع الطيب على المحرم. والزعفران، بفتح الزاي والفاء، اسم أعجمي، وقد صرفته العرب، فقالوا: ثوب مُزَعْفر، وقد زَعْفَر ثوبه. قال أبو حنيفة الدِّيْنَوريّ: لا أعمله ينبت بشيء من أرض العرب، وفي كتاب المفضل بن سلمة أن الكُرْكُمَ عروق الزَّعفران. وقال مُؤرّج يقال لورق الزعفران الفَيْد، ومنه يسمى مورج أبا فَيد. واستدل بقوله "مسه" على تحريم ما صبغ كله، أو بعضه، ولو خفيت رائحته.

قال مالك في الموطأ: إنما يكره لبس المصبغات لأنها تنغض، وقال الشافعية: إذا صار الثوب بحيث لو أصابه الماء لم تفح له رائحة، لم يمنع. والحجة فيه حديث ابن عباس عند المصنف في آخر الحج "ولم ينه عن شيء من الثياب إلاَّ المزعفرة التي تَرْدَعُ الجلد" وأما المغسول، فقال الجمهور: إذا ذهبت الرائحة جاز خلافاً لمالك، واستدلوا بما رواه أبو معاوية عن عُبيد الله بن عمر عن نافع في هذا الحديث "إلا أن يكون غسيلًا". وهذه الزيادة شاذة, لأنها عن أبي معاوية والحَمَّانيّ، وأبو معاوية مضطرب الحديث في عُبيد الله، ولم يجيء بهذه الزيادة غيره، والحَمَّانيّ ضعيف، واستنبط من منع لبس الثوب المزعفر منه أكل الطعام الذي فيه الزعفران وهذا قول الشافعية، وعن المالكية خلاف. وقال الحنفية: لا يحرم؛ لأن المراد اللُّبس والتَّطَيُّب، والأكل لا يسمى متطيبًا. وقوله: "فإن لم يجد النعلين فليلبس الخفين" وفي حديث ابن عباس "ومن لم يجد إزارًا فليلبس السراويل للمحرم"، زاد معمر في روايته عن الزهريّ زيادة تفيد ارتباط ذكر النعلين بما سبق، وهي قوله: "وليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين. فإن لم يجد النعلين، فليلبس الخفين" واستدل بقوله: "فإن لم يجد" على أن واجد النعلين لا يلبس الخفين المقطوعين، وهو قول الجمهور. وعن بعض الشافعية جوازه. وكذا عند الحنفية. وقال ابن العربيّ: إن صارا كالنعلين جاز، وإلا متى سترا من ظاهر الرِّجل شيئًا، لم يجز إلا للفاقد. والمراد بعدم الوجدان أن لا يقدر على تحصيله إما لفقده أو ترك بذل المالك له، أو عجزه عن الثمن إن وجد من يبيعه، أو الأجرة. ولو بيع بغُبن لم يلزمه شراؤه، أو وهب له لم يجب قبوله، إلا إن أُعير له. وقوله "فليلبس" ظاهر الأمر للوجوب، لكنه لما شرع للتسهيل، لم يناسب التثقيل، وإنما هو للرخصة. وقوله "وليقطعهما حتى يكونا تحت الكعبين" المراد كشف الكعبين في

الإحرام، وهما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم. وجمهور أهل اللغة على أن في كل قدم كعبين، ويؤيده ما روى ابن أبي شيبة عن عُروة قال "إذا اضطر المحرم إلى الخُفين خَرَق ظُهورهما، وترك فيهما قدر ما يستمسك رجلاه". وقال محمد بن الحسن ومن تبعه من الحنَفية: الكعب هنا هو العظم الذي في وسط القدم عند معقد الشراك. وظاهر الحديث أنه لا فدية على من لبسهما إذا لم يجد النعلين. وعن الحنفية تجب، وتُعُقِّب بأنها لو وجبت لَبيَّنها النبي، صلى الله تعالى عليه وسلم, لأنه وقتُ الحاجة. واستدل به على اشتراط القطع خلافًا للمشهور عن أحمد، فإنه أجاز لبس الخفين من غير قطع، لإِطلاق حديث ابن عباس، حيث قال فيه: "من لم يجد نعلين فليلبس الخفين" وتُعُقِّب بأنه موافق على قاعدة حمل المطلق على المقيد، فينبغي أن يقول بها هنا، فيحمل المطلق على المقيَّد، ويلحق النظير بالنظير لاستوائهما في الحكم. وقال ابن قُدامة: الأَوْلى قطعهما عملًا بالحديث الصحيح، وخروجًا من الخلاف، وأجاب غيره من الحنابلة بأشياء منها دعوى النسخ في حديث ابن عمر، فقد روى الدارقطني عن عمرو بن دينار أنه روى عن ابن عمر حديثه، وعن جابر بن زيد عن ابن عباس حديثه، وقال: انظروا أي الحديثين قَبْل,. ثم حكى عن أبي بكر النَّيسابوريّ أنه قال: حديث ابن عمر قَبْل؛ لأنه كان بالمدينة قبل الإِحرام، وحديث ابن عباس بعرفات، وأجاب الشافعيّ في الأم عن هذا فقال: كلاهما صادق حافظ، وزيادة ابن عمر لا تخالف ابن عباس، لاحتمال أن تكون عُزِبت عنه، أوشك، أو قالها، فلم يقلها عنه بعض رواته. وسلك بعضهم الترجيح بين الحديثين، قال ابن الجَوْزيّ: حديث ابن عمر اختلف في رفعه ووقفه، وحديث ابن عباس لم يختلف في رفعه، وهو تعليل مردود، بل لم يختلف على ابن عمر في رفع الأمر بالقطع إلا في

رواية شاذة، على أنه اختلف في حديث ابن عباس أيضًا، فرواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح، عن سعيد بن جُبير عن ابن عباس موقوفًا، ولا يرتاب أحد من المحدِّثين أن حديث ابن عمر أصح من حديث ابن عباس, لأن حديث ابن عمر جاء بإسناد وصف بكونه أصح الأسانيد، واتفق عليه عن ابن عمر غيرُ واحد من الحفّاظ، منهم نافع وسالم، بخلاف حديث ابن عباس، فلم يأت مرفوعًا إلا من رواية جابر بن زيد عنه، حتى قال الأصيليّ: إنه شيخ بَصري لا يعرف. كذا قال وهو معروف موصوف بالفقه عند الأئمة. واحتج بعضهم بقول عطاء: إن القطع فساد، والله لا يحب الفساد. وأجيب بأن الإِفساد إنما يكون فيما نهى الشارع عنه، لا فيما أَذِن فيه. وقال ابن الجَوزيّ: يُحمل الأمر بالقطع على الإباحة، لا على الاشتراط عملًا بالحديثين، ولا يخفى تكلُّفه. واستدل بعضهم بالقياس على السراويل، وأجيب بأن القياس مع وجود النص فاسد الاعتبار، والحكم في السراويل المشار إليها، هو أنه قد مر في حديث ابن عباس "من لم يجد إزارًا فليلبس السراويل للمحرم" أي: هذا الحكم للمحرم لا الحلال، فلا يتوقف جواز لُبسه السراويل على فقد الإزار. قال القرطبيّ: أخذ بظاهر هذا الحديث أحمدُ، فأجاز لُبْس الخف والسراويل للمحرم الذي لا يجد النعلين والإِزار علي حالهما، واشترط الجمهور قطع الخف، وفتق السراويل، فلو لبس شيئاً منهما على حاله، لزمته الفدية. والدليل لهم قوله في حديث ابن عمر "وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين" يعني: وَقِيْسَ السراويلُ على الخفِ في التغيير عن حاله الأصْلَّي. وقال في "الفتح": الأصح عند الشافعية والأكثر، جوازُ لبس السراويل بغير فتق، كقول أحمد، واشترط الفتق محمد بن الحسن وإمامُ الحرمين وطائفة. وعن أبي حنيفة منع السراويل للمحرم مطلقًا، ومثله عن مالك، وكأن

رجاله ستة

حديث ابن عباس لم يبلغه، ففي الموطأ أنه سئل عنه فقال: لم أسمع بهذا الحديث، فمنع السراويل عن مالك محلُّه إذا لم يفتق، كما مر عن القرطبيّ. وقال الرّازيّ من الحنَفية: يجوز لُبْسه وعليه الفدية، كما قاله أصحابهم في الخفين. ومن أجاز لبس السراويل على حاله، قيّده بأن لا يكون في حالة لو فتقة لكان إزارًا, لأنه في تلك الحالة يكون واجد الإزار. والحكمة في منع المُحْرم من اللباس والطيب البعدُ عن التَّرفِه والاتّصافُ بصفة الخاشع، وليتذكر بالتجرد القدومَ على ربه، فيكون أقرب إلى مراقبته وامتناعه من ارتكاب المحظورات. رجاله ستة: الأول آدم بن أبي إياس، مر في الحديث الثالث من كتاب الإيمان، ومر تعريف سالم بن عبد الله في الحديث السابع عشر منه، ومر تعريف الزُّهرِيّ في الحديث الثالث من بدء الوحي، ومر تعريف عبد الله بن عمر في كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه، ومر تعريف ابن أبي ذيب في الحديث الستين من كتاب العلم، ومر تعريف نافع في الحديث الذي قبل هذا. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة، ورواته كلهم مدنيون ماخلا آدم، ومنها ما قيل: أصح الأسانيد الزُّهْري عن سالم عن أبيه، ونُسِب هذا القول لأحمد بن حنبل، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وهما الزُّهْرِيّ وسالم، وفيه حاء التحويل، وتقدم الكلام عليه في الحديث الخامس من بدء الوحي. أخرجه البخاريّ هنا وفي اللباس وفي الصلاة، ومسلم وأبو داود وابن ماجه والنَّسائِيّ.

خاتمة

خاتمة اشتمل كتاب العلم من الأحاديث المرفوعة على مئة حديث وحديثين، منها في المتابعات بصيغة التعليق وغيرها، ثمانيةَ عَشَر، والتعاليق التي لم يوصلها في مكان آخر أربعة، وهي: كتب لأمير السرية، ورحل جابر إلى عبد الله بن أُنيس، وقصة ضمام في رجوعه إلى قومه، وحديث إنما العلم بالتعلم وباقي ذلك وهو ثمانون حديثًا كلها موصولة، فالمكرر منها ستة عشر حديثًا، وبغير تكرير أربعة وستون حديثًا وقد وافقه مسلم على تخريجها إلى ستة عشر حديثًا، وهي الأربعة المعلقة المذكورة، وحديث أبي هريرة "إذا وسد الأمر إلى غير أهله"، وحديث ابن عباس "اللهم علمه الكتاب" وحديثه في الذبح قبل الرمي، وحديث عقبة بن الحارث في شهادة المُرضعة، وحديث أنس في إعادة الكلمة ثلاثًا، وحديث أبي هريرة "أسعد الناس بشفاعتي"، وحديث الزُّبير "من كذب عليَّ"، وحديث سلمة "من تقوَّل عليَّ"، وحديث علي في الصحيفة، وحديث أبي هريرة في كونه أكثر الصحابة حديثًا، وحديث أم سلمة، "ماذا أُنزل الليلة من الفتن"، وحديث أبي هُريرة "حفظت وعاءَين" والمراد بموافقة مسلم موافقتهُ على تخريج أصل الحديث عن الصحابة، وإن وقعت بعض المخالفة في بعض السياقات، وفيه من الآثار الموقوفة على الصحابة ومن بعدهم إثنان وعشرون أثرًا: أربعة منها موصولة، والبقية معلقة. قلت: هكذا قال في "فتح الباري" والذي رأيته فيه من الأحاديث الموصولة أربعة وسبعون. وذكر آبن حَجر في مقدمته أن فيه خمسة وسبعين، وفيه من التعاليق عشرين، ومن المتابعات ثلاثة، فانظره مع هذا الذي ذكر هنا، وتقدم الكلام عليه في أول كتاب الإِيمان.

فائدة في الخاتمة

فائدة في الخاتمة قال ابن رشد خَتْم البخاري كتاب العلم بباب "من أجاب السائل بأكثر مما سأل عنه" إشارة منه إلى أنه بلغ الغاية في الجواب عملًا بالنصيحة، واعتمادًا على النية الصحيحة, وأشار قبل ذلك بقليل، بترجمة "من ترك بعض الاختيار مخافةَ أن يَقْصُرَ فَهْمُ بعضِ الناس عنه" إلى أنه بما صنع ذلك، فاتبع الطيِّب بالطيِّب بأبرع سياق، وأبدع اتساق، رحمه الله تعالى.

كتاب الوضوء

كتاب الوضوء قد مرّ أول كتاب الإيمان أنه افتتح الكتاب أولًا بالمقدمة، وهو باب الوحي، ومرّت النكتة في ذلك، وأنه أتبعه بكتاب الإيمان وكتاب العلم لما مر، ثم شرع بذكر الكتب المتعلقة بالعبادات، وقدمها على غيرها من الكتب المتعلقة بنحو المعاملات والآداب والحدود وغير ذلك, لأن ذكر العبادات عقيب كتاب الإيمان والعلم أنسب, لأن أصل العبادات ومبناها الإيمان, ومعرفتها على ما يجب وينبغي بالعلم، ثم قدم كتاب الصلاة بأنواعها على غيرها من كتب العبادات لكونها تالية الإيمان في الكتاب والسنة، ولأن الاحتياج إلى معرفتها أشد لكثرة دورانها، ثم قدم كتاب الوضوء لكونه شرط الصلاة، وشرط الشيء يسبقه، ووقع في بعض النسخ كتاب الطهارة، وبعده باب ما جاء في الوضوء وهذه أنسب، لأن الطهارة أعم من الوضوء والكتاب الذي يذكر فيه نوع من الأنواع ينبغي أن يترجم بلفظ عام حتى يشمل جميع أقسام ذلك الكتاب، والكلام على لفظ الكتاب قد مرّ عند كتاب الإيمان. والطَهارة -بفتح الطاء- مصدر طَهُر -بضم الهاء وفتحها- وهي لغة النظافة من الأوساخ الحسية والمعنوية، كالمعاصي الظاهرة والباطنة. وشرعًا، قال ابن عرفة: صفة حكمية توجب لموصوفها جواز استباحة الصلاة به أو فيه أو له. فالأوليان من خَبَث، والأخيرة من حدث. وقوله: "صفة حكمية" أي: تقديرية قدرها الشارع وحكم بها, وليس لها وجود حقيقي. وقوله: "توجب" أي: تستلزم للمتصف بها جواز الصلاة، به إن كان محمولًا للمصلي، وفيه إن كان مكانًا له، وله إن كان نفس المصلي. ويقابل الطهارة بهذا المعنى أمران: النجاسة والحدَث. فالنجاسة صفة

حكمية توجب لموصوفها منع استباحة الصلاة به أو فيه، والحدث صفة حكمية توجب لموصوفها منع استباحة الصلاة له، وقد يطلق على نفس المنع المذكور سواء تعلق بجميع الأعضاء كالجنابة، أو ببعضها كحدث الوضوء والفرق بين هذين المعنيين كالفرق بين القائم والقيام، ويطلق في مبحث الوضوء على الخارج المعتاد من المخرجين، كقولهم: نقض الوضوء يحدث، وهو الخارج المعتاد في الصحة، وفي مبحث قضاء الحاجة على خروج الخارج، كقولهم: من آداب الحدث تغطية الرأس. والوُضوء -بالضم- هو الفعل، وبالفتح الماء الذي يُتَوَضَّأ به على المشهور فيهما، وهل هو اسم للماء المطلق مطلقًا، أو بعد كونه معدًّا للوضوء, أو بعد كونه مستعملًا فيه. وحُكي في كل منهما الأمران، وهو مشتق من الوضاءة وهي الحسن، يقال: رجل وضيء وامرأة وضيئة، وسمي بذلك لأن المصلي يتنظف به. باب ما جاء في قول الله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]. هكذا في رواية الأصيلي، وفي رواية كريمة: "باب في الوضوء وقوله عز وجل: {إذا قمتم ... الخ} "، وفي أصل الدمياطيّ: "باب ما جاء في الوضوء وقول الله عَزَّ وَجَلَّ". وأشار بقوله: "ما جاء" إلى اختلاف السلف في معنى الآية، فقال الأكثرون: التقدير: إذا قمتُم إلى الصلاة محدثينَ، أي: إذا أردتم القيام، فعبر عن ارادة الفعل في قوله: {إذا قمتُم} بالفعل المسبب عنها, للإيجاز والتنبيه على أن مَنْ أراد العبادة ينبغي له أن يبادر إليها، بحيث لا ينفك الفعل عن الِإرادة. ونقل الشافعي أن التقدير إذا قمتم من النوم. وقال آخرون: بل الأمر على عمومه من غير تقدير حَذْفٍ إلا أنه في حق المحدث على الإيجاب، وفي

حق غيره على الندب. وقال بعضهم: كان على الإيجاب ثم نسخ فصار مندوبًا، ويدل لهذا ما رواه أحمد وأبو داود عن عبد الله بن حَنْظلة الأنصاري: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أمره بالوضوء لكل صلاة طاهرًا كان أو غير طاهر، فلما شقَّ عليه وضع عنه الوضوء إلا من حدث. ولمسلم من حديث بُرَيْدة: كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة، فلما كان يوم الفتح صلى الصلوات بوضوء واحد، فقال له عمر: إنّك فعلت شيئًا لم تكن تفعله! فقال: "عمدًا فعلته". واختلف العلماء أيضًا في موجب الوضوء فقيل: يجب بالحدث وجوبًا موسّعًا، وقيل: به وبالقيام إلى الصلاة معًا، ورجحه جماعة من الشافعية. وقيل: بالقيام إلى الصلاة حسب، ويدل له ما رواه أصحاب "السنن" من حديث ابن عبّاس عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: "إنما أُمِرت بالوضوء إذا قمتُ إلى الصلاة". واستنبط بعض العلماء من قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} إيجاب النية في الوضوء, لأن التقدير إذا أردتم القيام إلى الصلاة فتوضؤوا لأجلها، ومنه قولهم: إذا رأيت الأمير فقم، أي: لأجله. وتمسك بهذه الآية مَنْ قال: إن الوضوء أول ما فُرض بالمدينة، فأما ما قبل ذلك فنقل ابن عبد البر اتفاق أهل السير على أن غُسل الجنابة إنما فُرض علي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو بمكة كما فرضت الصلاة، وأنه لم يصلِّ قط إلا بوضوء، قال: وهذا مما لا يجهله عالم. وقال الحاكم في "المستدرك": وأهل السنة بهم حاجة إلى دليل الردِّ على مَنْ زعم أن الوضوء لم يكن قبل نزول آية المائدة، ثم ساق حديث ابن عباس: دخلت فاطمة على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهي تبكي، فقالت: هؤلاء الملأ من قريش قد تعاهدوا ليقتُلوك، فقال: "إيتوني بوضوء، فتوضأ ... الحديث"، وهذا يصلح ردًّا على مَنْ أنكر وجود الوضوء قبل الهجرة، لا على مَنْ أنكر وجوبه حينئذ. وقد جزم ابن الجهم المالكي بأنه كان قبل الهجرة مندوبًا، وجزم ابن حزم بأنه لم يشرع إلاَّ

بالمدينة. ورُدَّ عليهما بما أخرجه ابن لَهِيعة عن عُروة أن جبريل علّم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الوضوء عند نزوله عليه بالوحي. وهو مرسل، ووصله أحمد من طريق ابن لَهِيعة أيضًا، لكن قال: عن الزهري، عن عروة، عن أسامة بن زيد، عن أبيه. وأخرجه ابن ماجه من رواية رِشْدين بن سعد، عن عقيل، عن الزُّهري نحوه، لكن لم يذكر زيد بن حارثة في السند. وأخرجه الطبراني في "الأوسط" عن اللَّيْث، عن عقيل موصولًا، ولو ثبت لكان على شرط الصحيح، لكن المعروف رواية ابن لَهِيعة. قلت: الحديث لو صح لم تكن فيه حجة على وجوب الوضوء قبل الهجرة، لأنه ليس فيه إلا أن جبريل عليه السلام علّمه للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ولم يذكر له وجوبًا ولا غيره. وقد افتتح المؤلف رحمه الله الباب بهذه الآية للتبرك، أو لأصالتها في استنباط مسائله، وإن كان حق الدليل أن يؤخَّر عن المدلول, لأن الأصل في الدعوى تقديم المدّعى، والمراد بالوضوء ذكر أحكامه وشرائطه وصفته ومقدماته. وقوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} المرافق داخلة في الغسل، دل على دخولها في الإجماع كما قال الشافعي في الأم، وفعله عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم أن أبا هريرة توضأ فغسل وجهه فأسبغ الوضوء، ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد ثم اليسرى حتى أشرع في العضد ... الحديث. وفيه: ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يتوضأ. فثبت غسله عليه الصلاة والسلام لها، وفعله بيان للوضوء المأمور به، ولم يُنقل تركه ذلك، ودل عليه الآية بجعل اليد إلى الكوع مجازًا إلى المرفق، مع جعل إلى للغاية الداخلة هنا في المغيّا، أو للمعية كما في {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [آل عمران: 52]، أو يجعل اليد باقية على حقيقتها إلى المنكب، مع جعل إلى غاية للغسل أو للترك المقدر كما قال بكل منهما جماعة، فعلى الأول

منهما تدخل الغاية لا لكونها إذا كانت من جنس ما قبلها تدخل كما قيل، لعدم اطّراده كما قال التَّفْتزانيّ وغيره، فإنها قد تدخل كما في: قرأت القرآن إلى آخره، وقد لا تدخل كما في: قرأت القرآن إلى سورة كذا، بل لقرينتي الإجماع والاحتياط للعبادة. قال المتولّي: بناء على أنها حقيقة إلى المنكب، لو اقتصر على قوله: {وَأَيْدِيَكُمْ} لوجب غسل الجميع، فلما قال: إلى المرافق أخرج البعض عن الوجوب، فما تحققنا خروجه تركنا، وما شككنا فيه أوجبناه احتياطًا للعبادة، والمعنى: اغسلوا أيديكم من رؤوس أصابعها إلى المرافق، وعلى الثاني تخرج الغاية، والمعنى اغسلوا أيديكم واتركوا منها إلى المرافق. وقوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} بجرِّ أرجلكم ونصبها، والكعبان هما العظمان الناتئان .. أي: البارزان بمفصلي الساقين، وهما داخلان في غسل الرجلين، ويُقال فيهما ما قيل في المرفقين. قال أبو عبد الله: وبيِّن النبي صلي الله تعالى عليه وسلم أن فرضَ الوضوءِ مرةٌ مرةٌ، وتوضَّأ أيضًا مرتينِ مرتينِ وثلاثًا ثلاثًا، ولم يزِدْ على ثلاثٍ. و"مرة مرة" بالرفع على الخبرية، ويجوز النصب على أنه مفعول مطلق، أي: فرض الوضوء غسل الأعضاء غسلًا مرة مرة، أو على الحال السادّة مسد الخبر، أي: يفعل مرة، أو على لغة من ينصب الجزأين بأنَّ. وأعاد لفظ مرة لإرادة التفصيل، أي: الوجه مرة، واليد مرة إلخ. والبيان المذكور يحتمل أن يشير به إلى ما رواه بعد عن ابن عباس أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم توضأ مرة مرة. وهو بيان بالفعل لمجمل الآية، إذ الأمر يفيد طلب إيجاد الحقيقة، ولا يتعين بعدد، فبيَّن الشارع أن المرة الواحدة للإيجاب، وما زاد عليها للاستحباب، وستأتي الأحاديث على ذلك فيما بعد. وأما حديث أُبيّ بن كعْب أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم دعا بماء فتوضأ مرة مرة، وقال: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلاَّ به" ففيه بيان الفعل والقول معًا، لكنه حديث ضعيف أخرجه ابن ماجه، وله طرق أخرى كلها ضعيفة.

وقوله: "وتوضأ أيضًا مرتين مرتين" كذا لأبي ذرٍّ، ولغيره: "مرتين" بغير تكرار، وسيأتي هذا التعليق موصولًا في باب مفرد عن عبد الله بن زيد، ويأتي الكلام عليه هناك. وقوله: "وثلاثًا" أي: وتوضأ ثلاثًا، زاد الأصيليّ ثلاثًا على نسق ما قبله، وسيأتي موصولًا أيضًا عن عثمان بن عفان في باب مفرد، ويأتي الكلام عليه هناك أيضًا. وقوله: "ولم يزد على ثلاث" أي: لم يأت في شيء من الأحاديث المرفوعة في صفة وضوئه عليه الصلاة والسلام أنه زاد على ثلاث، بل ورد عنه صلى الله تعالى عليه وسلم ذمُّ مَنْ زاد عليها، وذلك فيما أخرجه أبو داود وغيره عن عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جده أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم توضأ ثلاثًا ثلاثًا، ثم قال: "مَنْ زاد على هذا أو نقص فقد أساء أو ظلم" إسناده جيد. أي: ظلم بالزيادة بإتلاف المال ووضعه في غير محله، وظاهره الذم بالنقص عن الثلاث، وهو مشكل لما ورد في ذلك من الأحاديث الصحيحة, ولذا عدَّ مسلم قوله: "أو نقص" مما أُنكر على عمرو بن شُعيب. وأجيب عنه بأجوبة: منها: أنه أمر سيء، والإساءة تتعلق بالنقص، والظلم بالزيادة. وفيه نظر, لأن ما فعله عليه الصلاة والسلام لا يوصف بأنه سيء. الثاني: أن فيه حذفًا تقديره مَنْ نقص من واحدة، ويؤيده ما رواه نُعَيْم بن حماد عن المطَّلِبْ بن حَنْطَب مرفوعًا: "الوضوء مرة ومرتين وثلاثًا، فإن نقص من واحدة أو زاد على ثلاث فقد أخطأ" وهو مرسل رجاله ثقات، والمراد من النقص في الواحدة أن لا تستوعب العضو. الثالث: هو أن الرواة لم يتفقوا على ذكر النقص فيه، بل أكثرهم اقتصر على قوله: "فمَن زاد" فقط كما رواه ابن خُزَيْمة في "صحيحه" وغيره. الرابع: أنه يكون ظالمًا لنفسه في ترك الفضيلة والكمال، وإن كان يجوز

مرة مرة أو مرتين مرتين، ويقال: معنى "أساء" في الأدب بتركه السنة، والتأدب بآداب الشريعة، ومعنى "ظلم" أي: ظلم نفسه بما نقصها من الثواب، وفي تركه الفضيلة والكمال. الخامس: أنه يكون ظالمًا إذا اعتقد خلاف السنة في الثلاث. ومن الغرائب ما حكاه أبو حامد الإسْفَرايينيّ عن بعض العلماء أنه لا يجوز النقص من الثلاث، وكأنه تمسك بظاهر الحديث المذكور، وهو محجوج بالإجماع. وأما قول مالك في "المدونة": لا أحب الواحدة إلا من العالم. فليس فيه إيجاب زيادة عليها، واختلف في معنى "أساء" و"ظلم"، فقيل: أساء في النقص وظلم في الزيادة، فإن الظلم مجاوزة الحدود، ووضع الشيء في غير محله. وقيل عكسه, لأن الظلم يستعمل بمعنى النقص، لقوله تعالى: {آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} [الكهف: 33] وقيل: أساء وظلم فيهما، واختاره ابن الصلاح، لأنه ظاهر الكلام. وكره أهل العلم الإسراف فيه، وأن يجاوزوا فعل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم. وقوله: "وكره أهل العلم الإسراف فيه" أهل العلم المجتهدون، والإسراف هو صرف الشيء فيما ينبغي زائدًا على ما ينبغي، بخلاف التبذير فإنه صرف الشيء فيما لا ينبغي. والكراهة للتنزيه على ما هو المعتمد من قولين مشهورين عند المالكية بالمنع والكراهة، وعلى ما هو الأصح أيضًا من مذهب الشافعية، وقال أحمد وإسحاق وغيرهما: لا تجوز الزيادة على الثلاث، وقال ابن المبارك: لا آمن أن يأثم. وأشار المصنف بما ذكر إلى ما أخرجه ابن أبي شَيْبة عن هِلال بن يسافٍ أحد التابعين، قال: كان يُقال: من الوضوء إسراف ولو كنت على شاطىء نهر.

وأُخرج نحوه عن أبي الدَّرداء وابن مسعود، ورُوي في معناه حديث مرفوع أخرجه أحمد وابن ماجه بإسناد ليّن عن عبد الله بن عمرو، وحكى الدّارمي من الشافعية عن قوم: إن الزيادة على الثلاث تُبطل الوضوء كالزيادة في الصلاة، وهو قياس فاسد. ولو شك في أثناء الوضوء في غرفة هل هي ثالثة أو رابعة؟ ففي ذلك عند المالكية قولان بالكراهة والندب، علة الأول خوف الوقوع في المنهي عنه، وعلة الثاني الاعتبار بالأصل كالشك في الركعات، وكذلك عند الشافعية قولان هل يأخذ بالأكثر حذرًا من زيادة رابعة، أو يأخذ بالأقل كالركعات وهو الأصح. ونصت الشافعية على أن الشك بعد الفراغ لا عبرة به على الأصح، لئلا يؤديه الأمر إلى الوسوسة المذمومة. وقوله: "وأن يجاوِزوا فعل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم" وهذا عطف تفسير على ما قبله، إذ ليس المراد بالإِسراف إلا المجاوزة عن فعله صلى الله تعالى عليه وسلم الثلاث، فقد أخرج ابن أبي شَيْبة، عن ابن مسعود، قال: ليس بعد الثلاث شيء. قال في "الفتح": ويلزم من القول بتحريم الزيادة على الثلاث أو كراهتها أنه لا يُندب تجديد الوضوء على الإطلاق، واختُلف عند الشافعية في القيد الذي يزول به حكم الزيادة على الثلاث، فالأصح إن صلّى به فرضًا أو نفلًا، وقيل: فرضًا فقط. وقيل: مثله حتى سجدة التلاوة والشكر ومسّ المصحف. وقيل: ما يُقصد له الوضوء وهو أعم. وقيل: إذا وقع الفصل بزمن يُحتمل في مثله نقض الوضوء عادة. وعند المالكية يُندب تجديده إن صلّى به أو فعل به ما يتوقَّف على طهارة، كطوافٍ، ومس مصحفٍ على الراجح، ولو لم يفعل به ما يتوقف على الطهارة لم يجز التجديد، أي: يكره أو يمنع على الخلاف السابق في الرابعة، ولابد من كون المجدد له الوضوء صلاة ولو نافلة، أو طوافًا لا غيرهما كمس مصحف، فلا يجدد له الوضوء.

باب لا تقبل صلاة بغير طهور

والصحيح عند الحنفية في الزيادة على الثلاث أن ذلك راجع إلى الاعتقاد، فإن اعتقد أن الزيادة على الثلاث سنة أخطأ ودخل في الوعيد، وإلا فلا يشترط للتحديد شيء، بل لو زاد الرابعة وغيرها لا لوم عليه، ولاسيما إذا قصد به القربة، لحديث: "الوضوء على الوضوء نور". لكن هذا الحديث ضعيف، ويستثنى من ذلك ما لو علم أنه بقي من العضو شيء لم يصبه الماء في المرات أو بعضها، فإنه يغسل موضعه فقط. باب لا تُقبلُ صلاة بغير طُهور " باب" بالتنوين، "تُقبل" بالبناء لما لم يسم فاعله، و"الطُهور" بضم الطاء وهو المصدر، أي: التطهير، وبالفتح الماء الذي يُتَطهَّر به، والمراد بالطهور هنا ما هو أعم من الوضوء والغسل، وهذه الترجمة لفظ حديث رواه مسلم وغيره من حديث ابن عمر، ورواه أبو داود وغيره عن أبي المَلِيح بن أسامة، عن أبيه، وله طرق كثيرة، لكن ليس فيها شيء على شرط البخاري، فلهذا اقتصر على ذكره في الترجمة، وأورد في الباب حديث أبي هريرة القائم مقامه.

الحديث الأول

الحديث الأول حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ تُقْبَلُ صَلاَةُ مَنْ أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ". قَالَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ: مَا الْحَدَثُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ فُسَاءٌ أَوْ ضُرَاطٌ. قوله: "لا تُقبل صلاةٌ" بالضم على البناء لما لم يسم فاعله، وأخرجه المصنف في ترك الحيل، أبو داود بلفظ: "لا يقبل الله"، والمراد بالقَبول هنا ما يرادِف الصحة، وهي موافقة الأمر ذي الوجهين الشرع، والإِجزاء أخص منها لاختصاصه بالعبادات. وحقيقة القَبول ثمرة وقوع الطاعة مجزئةً رافعةً لما في الذمة، والثمرة هي حصول الثواب الذي لا يعلمه إلا الله، ولما كان الإِتيانُ بشروطها مظِنّة الإِجزاء الذي القبول ثمرته، عبر عنه بالقبول مجازًا. وأما القبول المنفي في مثل قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: "مَنْ أتى عرّافًا لم تُقبل له صلاةٌ" فهو الحقيقي, لأنه قد يصح العمل ويتخلف القبول لمانع، ولهذا كان بعض السلف يقول: لأن تُقبل لي صلاة واحدة أحب إليَّ من جميع الدنيا، قاله ابن عمر، قال: لأن الله تعالى قال: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]. وقوله: "مَنْ أحدثَ" أي: وُجد منه الحدث، والمراد به الخارج من أحد السبيلين مطلقًا، لما مر أنه أحد إطلاقاته، وإنما فسره أبو هريرة بأخص من ذلك، تنبيهًا بالأخف على الأغلظ، ولأنهما قد يقعان في أثناء الصلاة أكثر من غيرهما، وأما باقي الأحداث المختلف فيها بين العلماء كمسِّ الذكر، ولمس المرأة، والقيء ملءِ الفم، والحجامة، فلعل أبا هريرة كان لا يرى النقض بشيء

منها. وعليه مشى المصنف فيما يأتي في باب مَنْ لم ير الوضوء إلا من المخرجين. وقيل: إن أبا هُريرة إنما اقتصر في الجواب على ما ذُكر لعلمه أن السائل كان يعلمُ ما عدا ذلك. واستُدلَّ بالحديث على بطلان الصلاة بالحدث، سواء كان خروجه اختياريًّا أم اضطراريًّا، لعدم التفرقة في الحديث بين حدثٍ وحدثٍ في حالةٍ دون حالةٍ. ويُردُّ على مَنْ يقول إذا سبقه الحدث يتوضأ ويبني على صلاته، وهو قول أبي حنيفة. وأجاب العيني عنه قائلًا: إنه ليس فيه ردٌّ أصلًا , لأن مَنْ سبقه الحدث إذا ذهب وتوضأ وبنى على صلاته يصدق عليه أنه توضأ وصلّى بالوضوء. قلت: هذا الجواب ظاهر البطلان, لأن الباني لا يمكنه البناء إلا على شيء صحيح، فإذا بنى على ما قبل الحدث من صلائه كان الحدث غير مبطل لصلاته، وكانت صلاته ملفقة من وضوءين، وهذا عجيب في القياس. واستُدِلَّ به أيضًا على أن الوضوء لا يجب لكل صلاة, لأن القبول انتفى إلى غاية الوضوء وما بعدها مخالف لما قبلها، فاقتضى ذلك قبول الصلاة بعد الوضوء مطلقًا. وقولُه: "حتّى يتوضأَ" أي: بالماء، أو ما يقوم مقامه من الصعيد الطاهر، وقد روى النسائي بإسنادٍ قوي عن أبي ذرٍّ مرفوعًا: "الصعيد الطيب وَضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين" فأطلق الشارع على التيمم أنه وُضوء، لكونه قام مقامه، وإنما اقتصر على ذكر الوضوء نظرًا إلى كونه الأصلي. ولا يخفى أن المراد بقبول صلاة مَنْ كان محدثًا فتوضأ، أي: مع باقي شروط الصلاة. وقوله: "قال رجل من حَضْرَمَوْت" بفتح الحاء المهملة، وسكون الضاد المعجمة، وفتح الراء والميم، ويقال: بضم الميم. اسم بلد باليمن وقبيلة أيضًا، وهما اسمان جُعلا اسمًا واحدًا، قال الزّمخشري: فيه لغتان: التركيب ومنع الصرف، والإضافة، وإذا أضيف جاز في المضاف إليه الصرف وتركه.

وقوله: "ما الحدث؟ " في رواية: "فما الحدث؟ ". وقوله: "فُساء أو ضُراط" الأول بضم الفاء والمد، والثاني بضمِّ الضاد، وهما يشتركان في كونهما ريحًا خارجًا من الدُّبر، لكن الثاني مع صوت، وقد مرَّ قريبًا وجه تخصيص أبي هريرة لهذين النوعين. وقد جعل في الحديث الوضوء رافعًا للحديث، فلا يعني بالحدث الخارج المعتاد، ولا نفس الخروج, لأن الواقع لا يرتفع، فلم يبق أن يعني إلا المنع المرتب على الأعضاء كلاًّ كالأكبر، أو بعضًا كالأصغر، أو الوصف الذي هو الصفة الحكيمة إلى آخر ما مرَّ أول الكتاب. وقد قال عياض: إن الحديث نصٌ في وجوب الطهارة. وتعقبه الأُلِّيُّ بأن الحديث إنما فيه أنها شرط في القبول، والقبول أخص من الصحة، وشرط الأخص لا يكون شرطًا في الأعم، وإنما كان القبول أخص لأنه حصول الثواب على الفعل، والصحة وقوع الفعل مطابقًا للأمر، فكل مُتَقَبَّلٍ صحيحٌ دون العكس، والذي ينتفي بانتفاء الشرط الذي هو الطهارة القبول لا الصحة، وإذا لم تنتف الصحة لم يتم الاستدلال بالحديث، والفقهاء يحتجون به وفيه من البحث ما سمعت، فإن قلت: إذا فُسِّرت الصحة بأنها وقوع الفعل مطابقًا للأمر، فالقواعد تُدل على أن الفعل إذا وقع مطابقًا للأمر كان سببًا في حصول الثواب. قلت: غرضنا إبطال التمسك بالحديث من قبل الشرطية، وقد اتضح، ثم نمنع أنها سبب في حصول الثواب, لأن الأعم ليس سببًا في حصول أخصه المعين. ويجاب بما مر من أن المراد بالقبول هنا ما يُرادف الصحة، وهو الإجزاء، وحقيقة القبول ثمرة وقوع الطاعة مجزِئَةً رافعةً لما في الذمة، فعبر بالقبول عن الصحة مجازًا, لأن الغرض من الصحة مطابقة العبادة للأمر، وإذا حصل ذلك ترتب عليه القَبول، وإذا انتفى القبول انتفت الصحة لما قام من الأدلة على كون القبول من لوازمها، فإذا انتفى انتفت.

رجاله خمسة

قلت: قوله: "ثم نمنع أنها سبب في حصول الثواب، غير صحيح, لأن الثواب على العمل إذا لم تكن الصحة سببًا له فأي سبب له، وكون الأعم لا يكون سببًا في الأخص غير مسلم، فإن الحيوانية أعمُّ من النطق، وهي سببٌ له، فتأمل. وكذا قوله: "فإذا انتفى القبول انتفت الصحة" غير صحيح، لما مرَّ من أنَّ القبول قد يتخلف عن الصحة. وفي "المصابيح": قال بعض العلماء: يلزم من حديث أبي هريرة أن الصلاة الواقعة في حال الحدث إذا وقع بعدها وضوء تصح. فقلت له: الإجماع يدفعه. فقال: يمكن أن يُدفع من لفظ الشارع، وهو أولى من التمسك بدليل خارج، وذلك بأن تُجعل الغاية للصلاة لا لعدم القبول، والمعنى: صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ لا تقبل. قلت: هذا يصح في جعل هذا الكلام مستقلاًّ غير مطابق للفظ، وأما مطابقته للفظ فغير ممكنة, لأن الغاية في الحديث إنما جُعلت لعدم القبول لا للصلاة. رجاله خمسة: الأول إسحاق بن راهَوَيه مرَّ في الحديث الحادي والعشرين من كتاب العلم. ومرَّ تعريف عبد الرزاق بن همّام، وهمّام بن مُنبِّه في الحديث السادس والثلاثين من كتاب الإيمان. ومرَّ تعريف مَعْمر بن راشد في المتابعة بعد الحديث الرابع من بدء الوحي. ومرَّ تعريف أبي هُريرة في الحديث الثاني من كتاب الإيمان. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والإخبار والعنعنة، ورواته كلهم يمانيّون إلا إسحاق وأبا هُريرة. وكلهم أئمة أجلاّء أصحاب مسانيد. أخرجه البخاري هنا، وفي ترك الحيل، ومسلم في الطهارة، والترمذي فيها أيضًا، وقال: حسن صحيح.

باب فضل الوضوء والغر المحجلون من آثار الوضوء

باب فضل الوضوء والغرُّ المحجّلون من آثار الوضوء " الغرُّ" بالرفع في أكثر الروايات، وهو على سبيل الحكاية لما ورد في بعض طرق الحديث عند مسلم: "أنتم الغُرُّ المُحَجَّلونَ" أو: الواو استئنافية، والغرُّ المحجلونَ مبتدأ، وخبره محذوف تقديره: لهم فضلٌ، أو الخبر من آثار الوضوء. وفي رواية المستملي: "والغرِّ المحجلينَ بالعطف على الوضوء, أي: وفضل الغرِّ المحجلين كما صرح به الأصيليُّ في روايته.

الحديث الثاني

الحديث الثاني حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ خَالِدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِى هِلاَلٍ عَنْ نُعَيْمٍ الْمُجْمِرِ، قَالَ رَقِيتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى ظَهْرِ الْمَسْجِدِ، فَتَوَضَّأَ، فَقَالَ إِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "إِنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ". قوله: "رَقِيتُ" بفتح الراء وكسر القاف أي: صعدت. وقوله: "فتوضأ" بالفاء التعقيبية، وفي نسخة بالواو، ولأبي ذرِّ: "توضأ" بدونهما, وللإسماعيليّ وغيره: "ثم توضَّأ" وللكُشْمِيْهَنِيِّ: "يومًا" بدل توضأ، وهو تصحيف. وزاد مسلم: "إن أبا هُريرة قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يتوضأ"، فأفاد رفعه. وفيه ردُّ على مَنْ زعم أن ذلك من رأي أبي هريرة، بل هو من روايته ورأيه. وقوله: "فقال" وفي رواية الأربعة: "قال" بحذف حرف العطف على الاستئناف، كأنَّ قائلًا قال: ثم ماذا؟ فقال: قال: إني سمعت إلخ. وقوله: "يقول" حال، وهو بلفظ المضارع استحضارًا للصورة الماضية، أو لأجل الحكاية عنها. وقوله: "إنَّ أمتي" أي: أمة الإجابة، وقد تُطلق أمة محمد ويُراد بها أمة الدعوة، وليست مرادة هنا. وقوله: "يُدعَوْن يومَ القيامة" -بضم أوله وفتح ثالثه- أي: ينادَوْن على رؤوس الأشهاد بذلك، أو يسمَّوْنَ بذلك.

وقوله: "غُرًّا" -بضم المعجمة وتشديد الراء- جمع أغرَّ أي: ذو غرة، وأصل الغرة لمعة بيضاء تكون في جبهة الفرس، ثم استُعملت في الجمال والشهرة وطيب الذكر، والمراد بها هنا النور الكائن في وجوه أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم. و"غرَّا" منصوب على المفعولية ليُدعون، أو على الحال، أي: إنهم إذا دُعوا على رؤوس الأشهاد نُودوا بهذا الوصف، وكانوا على هذه الصفة. وقوله: "محجَّلين" -بالمهملة والجيم- من التحجيل، وهو بياض يكون في قوائم الفرس، أو في ثلاث منها، وأصله من الحِجْل -بكسر المهملة- وهو الخلخال، والمراد به هنا أيضًا النور. فإن قيل: الغرة والتحجيل في الآخرة صفات لازمة غير منتقلة، فكيف يكونان حالين؟ أجيب: بان الحال تكون منتقلة أو في حكم المنتقلة إذا كانت وصفًا ثابتًا مؤكدًا، كقوله تعالى: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا} [البقرة: 91]، ومنه: "خلق الله الزرافة يديها أطولَ من رجليها" فأطول حال لازمة غير منتقلة، لكنّها في حكم المنتقلة, لأن المعلوم من سائر الحيوانات استواء القوائم الأربع، فلا يخبر بهذا الأمر إلا من يعرفه، وكذلك هنا المعلوم في سائر الخلق عدم الغرة والتحجيل، فلما جعل الله ذلك لهذه الأمة دون سائر الأمم، صارت في حكم المنتقلة بهذا المعنى. وأخصر من هذا أن كون الحال منتقلة وصف غالب لا لازم كما قال ابن مالك. ويُحتمل أن تكون هذه علامة لهم في الموقف وعند الحوض، ثم تنتقل عنهم عند دخولهم الجنة، فتكون منتقلة بهذا المعنى. وقوله "من آثار الوضوء" أي: لأجل، أو: من سببية، أي: بسبب آثار الوضوء ومثله قوله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا} [نوح: 25]، أي: بسبب خطاياهم أُغرِقوا، وحرف الجر متعلق بمحَجَّلينَ، أو بيدعوَن على الخلاف في التنازع بين البصريين والكوفيين. و"الوُضوء" بضم الواو ويجوز فتحها، فإن الغرة

والتحجيل نشأ عن الفعل بالماء، فيجوز أن يُنسب إلى كل منهما. واستدل الحُلَيْميُّ بهذا الحديث على أن الوضوء من خصائص هذه الأمة، وفيه نظر لما أخرجه المصنف في قصة سارة رضي الله تعالى عنها مع الملك الذي أعطاها هاجر أن سارة "لما همَّ الملِكُ بالدنوِّ منها قامت تتوضّأُ وتصلّي"، وفي قصة جُرَيْج الراهب أيضًا أنه "قام فتوضأ وصلّى ثم كلَّم الغلام"، فالظاهر أن الذي اختُصَّت به هذه الأمة هو الغُرة والتحجيل لا أصل الوضوء. وقد صُرِّح بذلك في رواية لمسلم عن أبي هريرة مرفوعًا، قال: "سِيْما ليست لأحدٍ غيرِكم" وله من حديث حذيفة نحوه، وسِيْما -بكسر المهملة وإسكان الياء الأخيرة- أي: علامة. واعترض بعضهم على الحُلَيْمي بحديث: "هذا وُضوئي ووضوءُ الأنبياءِ قبلي" وهو حديث ضعيف لا يصح الاحتجاج به لضعفه، ولاحتمال أن يكون الوضوء من خصائص الأنبياء دون أممهم إلا هذه الأمة. وقوله: "فمن استطاعَ منكم أن يطيلَ غرَّتَهُ فلْيفعلْ" أي: فليُطِلِ الغرة والتحجيل، واقتصر على إحداهما لدلالتها على الأخرى، نحو: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81]، أي والبرد، واقتصر على ذكر الغرة وهي مؤنئة دون التحجيل وهو مذكر, لأن محل الغرة أشرف أعضاء الوضوء وأول ما يقع عليه النظر من الإنسان، على أن في رواية مسلم ذكر الأمرين، ولفظه: "فلْيطلْ غرتَه وتحجيلَه". ونقل الرافعي عن بعضهم أن الغرة تُطلق على كلٍّ من الغرة والتحجيل. وقال ابن بطّال: كنّى أبو هريرة بالغُرة عن التحجيل لأن الوجه لا سبيل إلى الزيادة في غسله. وفيما قاله نظر, لأنه يستلزم قلب اللغة، وما نفاه ممنوعٌ؛ لأن الإطالة ممكنة في الوجه بأن يغسِلَ إلى صفحة العنق مثلًا، قاله في "الفتح". قلت: وفيه عجب, لأنه نقل عن الرافعي الذي هو على مذهبه أن الغرة تطلق على كلٍّ من الغرة والتحجيل ولم يعترض عليه، ولما قال ابن بطّال ما قاله الرافعي، قال: إن فيه قلب اللغة. ومراد ابن بطّال أن الزيادة في غير الوجه من أعضاء الوضوء زيادة في العضو الذي أمر الشارع بغسله لإطلاق اليد إلى الإبط،

والرجل إلى أصل الفخذ، والزيادة في الوجه لا يمكن أن تكون في العضو المطلوب غسله، بل هي في عضوآخر، إما الرأس، وإما العنق، وهذا مخالف لقوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} إذ لا يطلق على واحد من الرأس والعنق أنه من الوجه. واختلف القائلون بالزيادة على الفرض في القدر المستحب من التطويل في التحجيل، فقيل: إلى المنكب والركبة، وقد ثبت عن أبي هريرة روايةً وعملًا، وعن ابن عمر من فعله أخرجه ابن أبي شَيْبة وأبو عُبيد بإسنادٍ حسن. وقيل: المستحب الزيادة إلى نصف الساق والعضد. وقيل: إلى فوق ذلك. وأما الغرة فتحصُلُ بأن يغسل شيئًا من مقدَّم رأسه، وما يجاوز وجهه زائدًا على القدر الذي يجب غسله لاستيعاب كمال الوجه. وحمل ابن عرفة من المالكية فيما نقله الأُبِّيُّ عنه الغرة والتحجيل على أنهما كناية عن إنارة كل الذات، لا أنه مقصور على أعضاء الوضوء واستدل بما أخرجه الترمذي وصححه عن عبد الله بن بُسر: "أمَّتي يومَ القيامةِ غرٌّ من السجود، محجلةٌ من الوضوء". قلت: هذا الحديث مفسر لكون المراد من حديث الباب الإنارة لا اعتبار فيه بلفظ الإِطالة، وتفسر الإطالة المذكورة في الحديث بأن المراد بها المداومة على الوضوء، لأن الطول والدوام معناهما واحد، ويمواظبة على الوضوء لكل صلاة تطول غرته بتقوية نور أعضائه. وما قاله في "المصابيح" من أن حديث الترمذي معارَض بظاهر ما في البخاري غير ظاهر، إذ لا معارضة بينهما، بل الظاهر ما قلناه من كونه تفسيرًا له. وكذلك قول صاحب "الفتح": "إن تفسير الإطالة بالدوام معتَرَضٌ بأن الراوي أدرى بمعنى ما روى، وكيف وقد صرح برفعه إلى الشارع صلى الله تعالى عليه وسلم". فيه أن مذهب الراوي أو تفسيره ليس حجة على مجتهد آخر على ما هو المعروف. وقوله: "وقد صرح برفعه إلى الشارع" إنما صرح إذا كان

صرح باللفظ لا بالتفسير، والخلاف بيننا إنما هو في تفسير اللفظ لا في اللفظ، ويأتي قريبًا إن شاء الله تعالى ما في اللفظ. وادّعى ابن بطّال وعِياض وابن التّين اتِّفاق العلماء على عدم استحباب الزيادة على المرفق والكعب، واستدلّوا بحديث "مَنْ زاد على هذا فقد أساء وظلم". ورد عليهم في "الفتح" منتصرًا لمذهبه بأن ما قالوه معتَرضٌ من وجوه: فرواية مسلم صريحة في الاستحباب، فلا تعارض بالاحتمال. وبأن دعواهم اتفاق العلماء على خلاف مذهب أبي هريرة في ذلك مردودة بما مر عن ابن عُمر، وقد صرح باستحبابه جماعة من السلف وأكثر الشافعية والحنفية، والحديث إنما هو في الزيادة في عدد المرات أو النقص عن الواجب. وما قاله فيه اعتراض, لأن رواية مسلم التي قال صريحة في الاستحباب، ليس فيها تصريح بتفسير الغرة والتحجيل واستحبابهما، فهي كرواية البخاري في قبول التأويل. ومرادهم بالعلماء المتفِّقين على خلاف أبي هُريرة الصحابة، يعنون أنهم لم يرفعوا هذه الزيادة، وابن عمر لم يرفعها، وإنما رُويت عنه من فعله، وفعله لا يجب على مجتهد اتِّباعه كما هو معلوم، واستدلالهم بالحديث في غاية الإيضاح؛ لأنه إذا كانت الزيادة على ما حدَّه الشارع من المستحبّات مكروهة، فأحرى أن تكون في المحدودات الواجبة أشد كراهة، وهذا بديهي، فالله تعالى قال: {إِلَى الْمَرَافِقِ}، و {إِلَى الْكَعْبَيْنِ}، وقال: {وُجُوهَكُمْ}. وكون الزيادة لم ترو عن أحد من الصحابة إلا عن أبي هُريرة في رواية نُعيم عنه خاصة صرح به في "فتح الباري" فقال: ظاهره أن قوله: "مَنْ استطاع منكم .. إلى آخر" بقية الحديث، لكن رواه أحمد عن نُعيم، وفي آخره: قال نُعيم: لا أدري قوله: "مَنْ استطاع منكم ... إلخ" من قول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو من قول أبي هُريرة، قال: ولم أر هذه الجملة في رواية أحد ممن روى هذا الحديث من الصحابة، وهم عشرة، ولا ممن رواه عن أبي هُريرة غير رواية نعيم هذه.

رجاله ستة

قلت: انظر كيف صرح بأن هذه الزيادة لم تُروَ عن أحد من الصحابة ولا التابعين إلا عن نُعيم، وأنه لا يدري أهي من قول النبي عليه الصلاة والسلام أو من قول أبي هُريرة، ومع ذلك يتمسك بها، ويرد على كل من خالفها، وهي في الحقيقة الثابتُ لها الإدراجُ من قول أبي هريرة، وقول الصحابي ليس بحجة على مجتهد آخر، ولاسيما مع قبوله للتأويل. وفي الحديث ما ترجم له من فضل الوضوء الحاصل بالغرة والتحجيل من آثار الزيادة على الواجب، فكيف الظن بالواجب، قاله في "الفتح" جريًا على مذهبه، وأنا أقول: الحاصل من آثار الوضوء لا من الزيادة، وقد وردت في فضله أحاديث صحيحة صريحة أخرجها مسلم وغيره، وفيه جواز الوضوء على ظهر المسجد، لكن إذا لم يحصل منه أذى للمسجد أو لمن فيه. رجاله ستة: الأول: يحيى بن بُكَيْر، مرَّ في الحديث الثالث من بدء الوحي، وكذلك اللَّيْث بن سَعْد. ومرَّ تعريف أبي هُريرة في الحديث الثاني من الإيمان. الثالث: خالد بن يزيد -من الزيادة- الإسْكَنْدرانيّ البَرْبريّ الأصل، أبو عبد الرحمن المِصْري الفقيه المفتي التابعيّ الثقة، أحد الفقهاء الثّقات، وروايته عن سَعيد بن أبي هِلال من رواية الأقران. مات سنة تسع وثلاثين ومئة. والإسْكَنْدَرانيّ في نسبه نسبة إلى الإسكندرية الثغر العظيم المعروف ببلاد مصر على غير قياس. الرابع: سعيد بن أبي هِلال اللِّيْثِيّ مولاهم أبو العلاء المِصْري، ولد بمصر، ونشأ بالمدينة، ثم رجع إلى مصر في خلافة هشام، وتوفي بها سنة خمس وثلاثين ومئة. روى عن: جابر وأنس مرسلًا، وزيد بن أسهم، وربيعة، وأبي الزِّناد،

وقتادة، وغيرهم. وروى عنه: سعيد المَقْبُري وهو أكبر منه، وخالد بن يزيد المِصْري، واللَّيث، وعَمْرو بن الحارث، وخلق. وثقه ابن سعد، والعِجْلي، وأبو حاتم، وابن خُزيمة، والدّارَقُطني، وابن حِبّان، وآخرون. وشذَّ السَّاجيّ فذكره في الضعفاء. ونُقل عن أحمد بن حنبل أنه قال: ما أدري أيُّ شيء حديثه، يخلط في الأحاديث؟ وتبعه محمد بن حَزْم السَّاجيّ. فضعف سعيد بن أبي هلال مطلقًا، ولم يُصب في ذلك، والله أعلم. احتج به الجماعة. واللَّيْثيُّ في نسبه مر في الثامن من كتاب العلم. الخامس: نعيم بن عبد الله المُجَمِّر أبو عبد اللُه المدني مولى آل عمر بن الخطاب. وروى عن أبي هُريرة، وابن عمر، وأنس، وجابر، وربيعة بن كعب الأسْلَميّ، وجماعة. وروى عنه ابنه محمد، ومحمد بن عَجْلان، والعَلاء بن عبد الرحمن، وسعيد بن أبي هِلال، وبُكيْر بن عبد اللُه الأَشَجُّ، ومالك بن أنس. قال ابن مَعين، وأبو حاتم، وابن سعد: ثقة. وذكره ابن حِبّان في "الثقات". وذُكِرَ أنَّ المُجَمِّر لقب أبيه عبد الله, لأنه كان يأخذ المِجْمَرة أمام عمر، أو كان يُجَمِّر مسجد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فإطلاقه على ابنه نُعيم مجاز. والمجمر رُويت بضم الميم، وفتح الجيم، وتشديد الميم مكسورة من التَّجْمير، أي: التبخير. ورويت بإسكان الجيم، وكسر الميم من أجمر.

لطائف إسناده

رُوي عن مالك قال: سمعت نُعيمًا يقول: جالست أبا هريرة عشرين سنة. وجزم إبراهيم الحربيُّ بان نُعيمًا أيضًا كان يجمَّر المسجد لنفسه، فكلٌّ من نعيم وأبيه عبد الله كان يُبخِّرُ المسجد، فلا مجاز في إطلاق التجمير عليه. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة والسماع، ومنها أن نصف الإسناد مصري ونصفه مدني، وفيه رواية ثلاثة من التابعين بعضهم عن بعض، وفيه رواية الأقران، وهي رواية خالد عن سعيد. ورجاله كلهم من فرسان الكتب الستة إلا يحيى بن بكير، فإنه من رجال البخاري ومسلم وابن ماجه فقط. أخرجه البخاري هنا، وأخرجه مسلم في الطهارة. باب لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن " باب" بالتنوين، و"يَتوضأ" بفتح الياء، وفي رواية: "باب مَنْ لا يتوضأ"، و"من الشك" أي: لأجله، كقوله وذلك مِن نبإٍ جاءني

الحديث الثالث

الحديث الثالث حَدَّثَنَا عَلِيٌّ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَعَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَمِّهِ أَنَّهُ شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الرَّجُلُ الَّذِى يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِى الصَّلاَةِ. فَقَالَ: "لاَ يَنْفَتِلْ أَوْ لاَ يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا". قوله: "أنه شكا" هو بالألف، ومقتضاه أن الراوي هو الشاكي، وصرح بذلك بان خُزيمة عن سفيان بلفظ: "سألت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن الرجل"، وفي بعض الروايات: "شُكِي" بالبناء للمفعول، وعلى هذه فالهاء في إنه ضمير الشأن، ووقع في "مسلم": "شُكِي" بالضم كما ضبطه النّووي، وقال: لم يسمَّ الشاكي. قال: وجاء في رواية البخاري أنه الراوي. قال: ولا ينبغي أن يُتوَهَّم من هذا أن "شُكِيَ" في رواية مسلم بالفتح. وقوله: "الرجلُ" بالضمِّ على الحكاية، وهو وما بعده في موضع نصب. قال في "التنقيح": وعلى هذين الوجهين في شكا يجوز في الرجل الرفع والنصب. قال الدّماميني: إن الوجهين محتملان على الأول فقط، وذلك أن الضمير في أنه يُحتمل أن يكون ضمير الشأن، وشكا الرجل فعل وفاعل مفسر للشأن، ويحتمل أن يعود إلى الراوي، وشكا مسند إلى ضمير يعود إليه أيضًا، والرجل مفعول به. وقوله: "الذي يُخَيل إليه" بضم المثناة وفتح المعجمة مبنيًّا للمفعول، وأصله من الخيال، والمعنى يظن، والظن هنا أعم من تساوي الاحتمالين أو ترجيح أحدهما، على ما هو أصل اللغة من أن الظن خلاف اليقين.

وقوله: "أنه يجد الشيء" أي: الحدث خارجًا منه، وصرح به الإسماعيلي، ولفظه: "يخيل إليه في صلاته أنه يخرج منهُ شيءٌ"، وفيه العدول عن ذكر الشيء المستقذر بخاص اسمه إلا للضرورة. وقوله: "في الصلاة" قال في "الفتح": تمسك بعض المالكية بظاهره، فخصوا الحكم بمن كان داخل الصلاة، وأوجبوا الوضوء على مَنْ كان خارجها، وفرقوا بالنهي عن إبطال العبادة، والنهي عن ابطال العبادة متوقف على صحتها، فلا معنى للتفريق بذلك, لأن هذا التخيُّل إن كان ناقضًا خارج الصلاة فينبغي أن يكون كذلك فيها كبقية النواقض. قلت: القائل بهذا التفصيل هو مالك وابن القاسم، قالا: يتمادى في صلاته إذا طرأ له الشك فيها، فإن بان له الطهر بعد ذلك صحت صلاته، وإن بان له الحدث أو استمر على شكه أعاد الصلاة لنقض وضوئه، متمسكين بقوة جانب الصلاة لدخوله فيها جازماً بالطهر، وبحديث: "إن الشيطان يَفْسو بين ألْيَتَيْ أحدكم إذا كان يصلي، فلا ينصرفْ حتى يسمعَ صوتًا أو يجدَ ريحًا" وفي رواية: "فإذا كان يصلي فلا ينصرِفْ ... إلخ"، أخرجه أبو داود بلفظ: "إذا كان أحدكم في الصلاة فوجد ريحًا أو حركة في دُبُره فأشكل عليه فلا ينصرفْ ... الحديث"، وأخرج أحمد والبزار قريبًا من اللفظ الأول. وقد قال هو في "تلخيص الحبير": حديث أبي داود حجة لمالك، فالحديث نص في إلغاء الشك العارض في أثناء الصلاة، وأنه لا ينصرف من تلك الصلاة إلا بتحقق الحدث، فأعملا ظاهر الحديث، واحتاطا للصلاة بأنه إذا استمر على الشك ينتقض وضوؤه ويعيد الصلاة. وقوله: "لا ينفتِلُ" بالجزم على النهي، ويجوز الرفع على أن لا نافية. وقوله: "أو لا ينصرف" بالشك من الراوي، وكأنه من علي, لأن الرواة غيره رووه عن سفيان بلفظ: "لا ينصرف" من غير شك. وقوله: "يسمعَ صوتًا" أي: من مخرجه.

وقوله: "أو يجدَ ريحًا" أو للتنويع، وعبر بالوجدان دون الشم ليشمل ما لو لمس المحل ثم شمَّ يده. والمراد تحقق وجودهما، حتى إنه لو كان أخشم لا يشم، أو أصم لا يسمع كان الحكم كذلك. وذكرهما ليس لقصر الحكم عليهما، فكل حدث كذلك، إلا أنه وقع جوابًا لسؤال، والمعنى: إذا كان أوسع من الاسم كان الحكم للمعنى، وهذا كحديث: "إذا استهل الصبي ورِثَ وصُلِّي عليه" إذ لم يرد تخصيص الاستهلال دون غيره من إمارات الحياة كالحركة والنبض ونحوهما. قال النووي: هذا الحديث أصل في حكم بقاء الأشياء على أصولها حتى يتحقق خلاف ذلك، ولا يضر الشك الطارىء عليها، وأخذ بهذا الحديث جمهور العلماء. ورُوي عن مالك النقض مطلقًا، يعني: بالشك في الحدث. وروي عنه النقض خارج الصلاة دون داخلها، وقد مرَّ قريبًا ما في ذلك. وروي هذا التفصيل عن الحسن البَصْري، والأول مشهور مذهب مالك، قاله القُرْطبي، وهو رواية ابن القسام عنه. قلت: التفصيل هو المشهور عند المالكية. وروى ابن نافع عنه: لا وضوء عليه مطلقًا. كقول الجمهور. وروى ابن وهب عنه: أحب إليَّ أن يتوضأ. ورواية التفصيل لم تثبت عنه، وإنما هي لأصحابه. قلت: بل هي مروية عنه، وعن ابن القاسم كما مر. وحمل بعضهم الحديث على مَنْ كان به وسواس، وتمسك بأن الشكوى لا تكون إلا عن علة، وأجيب بما دل على التعميم، وهو حديث أبي هُريرة عند مسلم، ولفظه: "إذا وجدَ أحدكم في بطنه شيئًا فأشكل عليه أخَرَجَ منه شيء أم لا فلا يخرجنَّ من المسجد حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا". وقوله: "فلا يخرجن من المسجدِ" أي: من الصلاة، وصرح بذلك أبو داود في روايته.

رجاله ستة

وقال القرافي: ما ذهب إليه مالك أرجح, لأنه احتاط للصلاة، وهي مقصد، وألغى الشك في السبب المبرىء، وغيره احتاط للطهارة وهي وسيلة، وألغى الشك في الحدث الناقض لها، والاحتياط للمقاصد أولى من الاحتياط للوسائل. قال في "الفتح": وجوابه أن ذلك من حيث النظر قويٌّ، لكنه مغاير لمدلول الحديث؛ لأنه أمر بعدم الانصراف إلى أن يتحقق. قلت: يُجاب عنه بما مرَّ من أنه مشهور مذهب مالك من التفصيل بين الشك العارض في الصلاة والشك في غيرها، فيُخَصُّ عنده النقض بالشك في الحدث في غير الصلاة لما مرَّ من الحديث، وقد قال ابن حجر نفسه في "تلخيص الحبير": حديث أبي داود حجة لمالك كما مرَّ، وعند المالكية لو تيقن الحدث والطهر، وشك في السابق منهما، انتقض طهره. وفيه تفصيل عند الشافعية. وقال الخطابي: يستدل بالحديث لمن أوجب الحد على مَنْ وُجِدَ منه ريح الخمر, لأنه اعتبر وجدان الريح ورتب عليه الحكم، ويكمن الفرق بأن الحدود تدرأ بالشبهات، والشبهة هنا قائمة، بخلاف الأول، فإنه متحقق، واستدل به بعضهم على أن لمس الدُّبر لاينقُضُ الوضوء، ورُدَّ بأن الصورة تحمل على لمس ما قاربه لا عينه. رجاله ستة: الأول: علي بن عبد الله المعروف بابن المدينيّ، وقد مرّ تعريفه في الحديث الرابع عشر من كتاب العلم. الثاني: سفيان بن عُيينة مرَّ في الحديث الأول من بَدْء الوحي. ومرَّ تعريف الزُّهري في الحديث الثالث منه أيضًا. ومرَّ تعريف سعيد بن المسيِّب في الحديث التاسع عشر من كتاب الإيمان. الخامس: عَبّاد -بفتح العين المهملة، وتشديد الباء- ابن تميم بن زيد بن

عاصم الأنصاري المدني. روى عن: عمه عبد الله بن زيد، وجدته أم عمارة، وأبي قتادة الأنصاريّ، وأبي سعيد الخُدْرِيّ، وعُوَيْمر بن أشقر. وروى عنه: عمر بن يحيى بن عُمارة، وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وابناه محمد وعبد الله، والزُّهري، وخلق. قال محمد بن إسحاق، والنسائي: ثقة. وذكره ابن حِبّان في "الثقات"، وقال العِجْلي: مدنيٌّ تابعيٌّ ثقة، رُوي عن موسى بن عقبة أنه قال -يعني عباد بن تميم-: أعي يوم الخندق وأنا ابن خمس سنين. وقال ابن الأثير وغيره: إنه تابعيٌّ لا صحابي، وهذا هو المشهور. وعبّاد يشتبه بعُباد -بالضم-، وهو والد قيس وغيره. وبعِباذ -بكسر العين وتخفيف الباء- وبعِياذ -بكسر العين، وتخفيف الياء. آخر الحروف، والذال المعجمة- وبعنِاد -بكسر العين وتخفيف النون وبالدال المهملة. والأنصاري في نسبه مرَّ في الأول من بدء الوحي. السادس: عم عباد المذكور، وهو عبد الله بن زَيْد بن عاصم بن كَعب بن عَمرو بن عَوْف بن مبذول بن عمرو بن غُنْم بن مازن الأنصاري المازِني من بني مازن بن النجار، يُعرف بابن أم عمارة، أمه أم عُمارة واسمها نسيبة بنت كعب بن عمرو بن عوف، وهي أم أخويه حبيب وتميم ابنا زيد. شهد عبد الله بن زيد هذا أحدًا ولم يشهد بدرًا، وهو الذي قتل مُسيلمة الكذّاب أوشارك وحشيَّ بن حرب في قتله، وكان مُسليمة قد قتل أخاه حبيب بن زيد وقطَّعه عضوًا عضوًا، رماه وحشيُّ بالحربة، وضربه عبد الله بن زيد بالسيف. وروى عبّاد بن تميم: لما كان يوم الحَرِّة أتى آتٍ إلى عبد الله بن زيد هذا. فقال له: إن ابن حنظلة يبايع الناس على الموت، فقال: لا أبايع أحدًا على الموت بعد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.

لطائف إسناده

مات يوم الحرة سنة ثلاث وستين، وهو صاحب حديث الوضوء وعدة أحاديث. روى عنه: سعيد بن المسيِّب، وابن أخيه عبّاد، ويحيى بن عُمارة، وواسع بن حَبّان، وآخرون. وليس عبدُ الله بن زيد روايَ حديث الأذان، ووهم ابن عُيينة فزعم أنه هو، وهو عجيب، فإن ذلك عبد الله بن زيد بن عبد ربّه بن ثعلبة بن زيد بن الحارث بن الخَزْرجَ الأنصاريّ، فكلاهما اتّفقا في الاسم واسم الأب والقبيلة، وافترقا في الجد والبطن من القبيلة، فالأول مازِني، والثاني حارِثي، وكلاهما أنصاريان خزْرَجِيّان، فيدخلان في نوع المتفق والمفترق. وبيّن غلط ابن عُيينة في ذلك البخاري في "صحيحه" في باب الاستسقاء، كما ستعلمه هناك إن شاء الله تعالى. ورُوي لعبد الله هذا ثمانية وأربعون حديثًا، اتفقا على ثمانية منها. وعبد الله بن زيد صاحب الأذان لم يشتهر له إلا حديثٌ واحد، وهو حديث الأذان، حتى قال البخاري فيما نقله الترمذي: لا يُعرف له غيره. لكن له حديثان آخران. ووهم مَنْ زعم أن هذا المذكور هنا بَدْرِيٌّ، وليس في الصحابة من اسمه عبد الله بن زيد بن عاصم سوى هذا، وفيهم أربعة أخر، كل منهم اسمه عبد الله بن زيد، منهم صاحب الأذان. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة، ورجاله من رجال الستة إلا علي بن المديني، فلم يخرج له مسلم وابن ماجه، وكلهم مدنيون خلا ابن المديني فإنه بصريٌّ، وخلا سفيان فإنه مكّيٌّ. وفيه رواية صحابي عن صحابي على قول مَنْ يعُدُّ عبادًا صحابيًّا، وهو مرجوح كما مر.

باب التخفيف في الوضوء أي جوازه

وقوله في السند: "وعن عباد" معطوف على قوله: "عن سعيد بن المسيِّب"، وسقطت الواو من رواية كريمة غلطًا, لأن سعيد لا رواية له عن عباد أصلًا، ثم إن شيخ سعيد يُحتمل أن يكون عمَّ عبادٍ، كأنه قال: كلاهما عن عمه، أي: عم الثاني، وهو عباد. ويُحتمل أن يكون محذوفًا ويكون من مراسيل ابن المسيِّب، وعلى الأول جرى صاحب الأطراف، ويؤيد الثاني رواية معمر له عن الزهري عن ابن المسيِّب عن أبي سعيد الخُدري أخرجه ابن ماجه، رواته ثقات، لكن سُئل أحمد عنه، فقال: إنه منكر. أخرجه البخاري هنا، وفي باب مَنْ لم ير الوضوء إلا من المخرجين القبل والدبر، وفي البيوع، ومسلم في الطهارة، وأبو داود والنسائي فيها أيضًا، وابن ماجه فيها أيضًا. باب التخفيف في الوضوء أي جوازه

الحديث الرابع

الحديث الرابع حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو قَالَ: أَخْبَرَنِي كُرَيْبٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- نَامَ حَتَّى نَفَخَ ثُمَّ صَلَّى، وَرُبَّمَا قَالَ اضْطَجَعَ حَتَّى نَفَخَ ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى. ثُمَّ حَدَّثَنَا بِهِ سُفْيَانُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ عَنْ عَمْرٍو عَنْ كُرَيْبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ لَيْلَةً، فَقَامَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمَّا كَانَ فِى بَعْضِ اللَّيْلِ قَامَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَتَوَضَّأَ مِنْ شَنٍّ مُعَلَّقٍ وُضُوءًا خَفِيفًا، يُخَفِّفُهُ عَمْرٌو وَيُقَلِّلُهُ وَقَامَ يُصَلِّي، فَتَوَضَّأْتُ نَحْوًا مِمَّا تَوَضَّأَ، ثُمَّ جِئْتُ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ عَنْ شِمَالِهِ فَحَوَّلَنِي فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ، ثُمَّ صَلَّى مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ اضْطَجَعَ، فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ، ثُمَّ أَتَاهُ الْمُنَادِي فَآذَنَهُ بِالصَّلاَةِ، فَقَامَ مَعَهُ إِلَى الصَّلاَةِ، فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. قُلْنَا لِعَمْرٍو: إِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- تَنَامُ عَيْنُهُ وَلاَ يَنَامُ قَلْبُهُ. قَالَ عَمْرو: سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ رُؤْيَا الأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ، ثُمَّ قَرَأَ: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ}. [الصافات: 120]. قوله: "ربما قال اضطجع" أي: كان سفيان يقول تارة نام، وتارة اضطجع، وليسا مترادفين، بل بينهما عموم وخصوص من وجه، لكنه لم يرو إقامة أحدهما مقام الآخر، بل كان إذا روى الحديث مطولًا قال اضطجع فنام كما سيأتي، وإذا اختصره قال نام، أي: مضطجعًا، أو اضطجع، أي: نائمًا. وقوله: "ثم حدَّثنا" يعني أن سفيان كان يحدثهم به مختصرًا، ثم صار يحدثهم به مطولًا.

وقوله: "ليلةً فقام" كذا لأكثر، ولابن السكن: "فنام" بالنون بدل القاف، وصوَّبها القاضي عياض لقوله بعد ذلك: "فلما كان في بعض الليل قام"، ولا ينبغي الجزم بخطئها، أي: رواية "فقام", لأن توجيهها ظاهر، وهو أن الفاء في قوله: "فلما" تفصيلية، فالجملة الثانية وإن كان مضمونها مضمون الأولى لكن المغايرة بينهما بالإجمال والتفصيل. وقوله: "فلما كان" أي: رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. وقوله: "في بعض الليل" للكُشْمِيْهنيّ من بدل في، فيحتمل أن تكون بمعناها، ويحتمل أن تكون زائدة، وكان تامة، أي: فلما حصل بعض الليل. وقوله: "شَنٍّ" بفتح الشين المعجمة وتشديد النون، أي: القربة العتيقة. وقوله: "معلق" ذكر على إرادة الجلد أو الوعاء، وقد أخرجه بعد أبواب بلفظ: "معلقة". وقوله: "يخفِّفه عمرو ويقلِّله" أي: يصفه بالتخفيف والتقليل، فالتخفيف بالغسل الخفيف مع الإسباغ، والتقليل بالاقتصار على المرة الواحدة، فالأول من باب الكيف، والثاني من باب الكم، وذلك أدنى ما تجوز به الصلاة. قال ابن المنير: فيه دليل على إيجاب الدَّلْك؛ لأنه لو كان يمكن اختصاره لاختصره. قال في "الفتح": وهي دعوى مردودة، إذ ليس في الخبر ما يقتضي الدَّلْك، بل الاقتصار على سيلان الماء على العضو أخف من قليل الدلك. وقوله: "فتوضَّأتُ نحوًا ممّا توضأ" قال الكِرماني: لم يقل مثل, لأن حقيقة مماثلته صلى الله تعالى عليه وسلم لا يقدر عليها غيره، ورُدَّ بأن ثبت في هذا الحديث بعد أبواب: "فقمتُ فصنعت مثل ما صنع" ولا يلزم من إطلاق المثلية المساواة من كل جهة. وقوله: "فآذن" بالمد، أي: أعلمه، وفي رواية: "يُؤذن" بالمضارع من غير فاء وللمستملى فناداه وقوله فصلى ولم يتوضأ فيه دليل على أن النوم ليس

يحدث، بل مَظِنّة الحدث, لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم كانت تنام عينه ولا ينام قلبه، ولو أحدث لعلم بذلك، ولهذا كان ربما توضأ إذا قام من النوم، وربما لم يتوضأ، وإنما مُنعَ قلبُه النومَ ليعيَ الوحي الذي يأتيه في منامه. وقوله: "قلنا" القائل هو سفيان، والحديث المسؤول عنه عمرو صحيح، رواه البخاري في مواضع من كتابه، وقد تكلمنا على معارضته لحديث الوادي، وأشبعنا الكلام عليه عند ذكر هذا الحديث في باب السمر في العلم. وقوله: "رؤيا الأنبياء وحيٌ" رواه مسلم مرفوعًا، ووجه الاستدلال بما تلاه من جهة أن الرؤيا لو لم تكن وحيًا لما جاز لإبراهيم عليه السلام الإقدام على ذبح ولده. وأغرب الداوودِيُّ فقال: قول عبيد بن عمير لا تعلق له بهذا الباب. وهذا إلزام منه للبخاريّ بأن لا يذكر من الحديث إلا ما يتعلق بالترجمة فقط، ولم يشترط ذلك أحد. وإن أراد أنه لا يتعلق بحديث الباب أصلًا فممنوع, لأنه أتى به عمرو تعضيدًا للحديث الذي سُئل عنه. قال ابن العَربيّ: اعلم أن رؤيا الأنبياء وحيٌ، فما أُلقى إليهم، أو نَفَثَ به المَلَكُ في رَوْعهم، أو ضُرِبَ المثل له عليهم فهو حقٌّ، وقد بُيِّنتْ حقيقة الرؤيا وأنواعها عند حديث "مَنْ رآني في المنام" بيانًا كافيًا لا يحتاج إلى زيادة. ومما يحتاج للذكر هنا ما جرى من الخلاف بين العلماء في الذبيح، هل هو إسماعيل أو إسحاق عليهما السلام؟ فعند أحمد عن أبي الطُّفَيْل عن ابن عبّاس قال: إن إبراهيم لما رأى المناسك، عرض له إبليس عند المسعى، فسبقه إبراهيم، فذهب به جبريل إلى العقبة، فعرض له إبليس، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، وكان على إسماعيل قميص أبيض، وثم تَلَّهُ للجبين، فقال: يا أبتِ إنه ليس لي قميص تكفِّنني فيه غيره فاخلعه، فنودي من خَلفه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا، فالتفت، فإذا بكبش أبيض أقرن أعين، فذبحه.

وأخرج ابن إسحاق في "المبتدأ" عن ابن عبّاس نحوه، وزاد: فوالذي نفسي بيده لقد كان أول الإِسلام، وإن رأس الكبش لمعلق بقرنيه في ميزاب الكعبة. وأخرجه أحمد أيضًا عن عثمانَ بن أبي طلحة، قال: أمرني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فواريت قَرْني الكبش حين دخل البيت. وهذه الآثار من أقوى الحجج لمن قال: إن الذبيح إسماعيل. وقد نقل ابن أبي حاتم وغيره، عن العبّاس وابن مسعود، وعن علي وابن عبّاس في إحدى الروايتين عنهما، وعن الأحنف عن ابن ميسرة وزيد بن أسلم ومسروق وسعيد بن جُبَيْر في إحدى الروايتين عنه، وعطاء والشعبي وكعب الأحبار أن الذبيح إسحاق. وعن ابن عبّاس في أشهر الروايتين عنه، وعن علي في إحدى الروايتين، وعن أبي هُريرة، ومعاوية، وابن عمر، وأبي الطُّفيل، وسعيد بن المسيِّب، وسعيد بن جُبير، والشَّعبي في إحدى الروايتين عنهما، ومجاهد، والحسن، ومحمد بن كَعْب، وأبي جعفر الباقر، وأبي صالح، والربيع بن أنس، وأبي عَمرو بن العلاء، وعمر بن عبد العزيز، وابن إسحاق أن الذّبيح إسماعيل. ويؤيده ما مرَّ، وحديث: "أنا ابن الذَّبيحين" رواه في "الخلعيات" عن معاوية، ونقله عبد الله بن أحمد عن أبيه، وابن أبي حاتم عن أبيه. واستنبط تقيُّ الدين السُّبكي من القرآن أنه إسماعيل، وهو قوله تعالى: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} ... إلى قوله: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات: 102]، وقوله: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ}. . . إلى قوله: {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} [هود: 72]، قال: ووجه الأخذ منهما أن سياقهما يدل على أنهما قصتان مختلفتان: الأولى عن طلب من إبراهيم لما هاجر من بلاد قومه في ابتداء أمره، فسأل من ربه الولد، فبشره بغلام حليم، فلما بلغ معه السعي قال: يا بني إني أرى

في المنام أني أذبحك، فانظر ماذا ترى؟ والقصة الثانية بعد ذلك بدهرٍ طويل، لما شاخ إبراهيم، واستُبْعِدَ من مثله أن يجيء له الولد، وجاءته الملائكة عندما أُمروا بإهلاك قوم لوط، فبشروه بإسحاق، فتعين أن يكون الأول إسماعيل، ويؤيده أن في التوراة أن إسماعيل بكره، وأنه ولد قبل إسحاق. قال في "الفتح": وهو استدلال جيد، وقد كنت أستحسنه وأحتجُّ به إلى أن مرَّ بي قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [إبراهيم: 39]، فإنه يعكر على قوله: إنه رُزق إسماعيل في ابتداء أمره، وقوته، لأن هاجر والدة إسماعيل صارت لسارة من قِبَلِ الجبّار الذي وهبها لها، وإنها وهبتها لإبراهيم لما يئست من الولد، فولدت هاجر إسماعيل، فغارت سارة منها كما يأتي في ترجمة إبراهيم في أحاديث الأنبياء، وولدت بعد ذلك إسحاق، واستمرت غيرة سارة إلى أن كان من إخراجها وولدها إلى مكة ما كان. وقد ذكره ابن إسحاق في "المبتدأ" مفصلًا. وأخرج الطبريُّ عن السُّدِّيِّ قال: انطلق إبراهيم من بلاد قومه قِبَلَ الشام، فلقي سارة وهي بنت ملك حَرّان، فآمنت به، فتزوجها، فلما قدم مصر وهبها الجبار هاجر، ووهبتها له سارة، وكانت سارة مُنعت الولد، وكان إبراهيم قد دعا الله تعالى أن يهب له ولدًا من الصالحين، فأُخِّرت الدعوة حتى كبر، فلما علمت سارة أن إبراهيم وقع على هاجر حزنت على ما فاتها من الولد، ثم ذكر قصة مجيء الملائكة بسبب إهلاك قوم لوط وتبشيرهم إبراهيم بإسحاق، فلذلك قال إبراهيم: الحمد لله الذي وهب لي على الكِبَر إسماعيل وإسحاق. ويقال: لم يكن بينهما إلا ثلاث سنين، وقيل: كان بينهما أربع عشرة سنة. قلت: وفي كثير من المفسرين أن إسماعيل وُلد ولإبراهيم تسع وتسعون سنة، وولد إسحاق وله مئة واثنتا عثرة سنة. وما ثبت من كون قصة الذبيح كانت بمكة حجة قوية في أن الذبيح

إسماعيل, لأن سارة وإسحاق لم يكونا بمكة، وما رُوي عن سعيد بن جُبير من أنه قال: أُرِيَ إبراهيم ذبح إسحاق في المنام، فسار به مسيرة شهر في غداة واحدة حتى أتى به المنحر بِمنى، فلما صرف الله عنه الذبح أمره أن يذبح به الكَبش، فذبحه، وسار إلى الشام مسيرة شهر في روحة واحدة، وطويت له الأودية والجبال. مستبعد جدًّا. ومما رُوي أن الذبيح إسحاق ما أخرجه ابن أبي حاتم، عن السُّدِّي، أن إبراهيم نذر إن رزقه الله من سارة ولدًا أن يذبحه قربانًا، فرأى في المنام أن أُوْف بنذرك، فقال إبراهيم لإسحاق، انطلق بنا نقرِّبْ قُربانًا، وأخذ حبلًا وسكّينًا، ثم انطلق به، حتى كان بين الجبال، قال: يا أبت أين قربانك؟ قال: أنتَ {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ...} [الصافات: 102]، فقال: اشدد رباطي حتى لا أضطرب. واكفف ثيابك حتى لا ينتضح عليها من دمي فتراه سارة فتحزن، وأسرع مر السكين على حلقي ليكون أهون عليَّ، ففعل ذلك إبراهيم وهو يبكي، وأمر السكين على حلقه فلم تحزَّ، ومُنعت بقدرة الله تعالى، أو ضرب الله على حلقه صفيحة من نحاس، والأول أبلغ في القدرة الإلهية، وهو منع الحديد من اللحم، فكبه على جبينه، وحزّ في قفاه، فذاك قوله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات: 103 - 105]، فالتفت، فإذا هو بكبش، فأخذه وحل عن ابنه. هكذا ذكره السُّدي، ولعله أخذه من بعض أهل الكتاب، فقد أخرج ابن أبي حاتم بسند صحيح أيضًا عن القاسم، قال: اجتمع أبو هُريرة وكعب، فحدث أبو هُريرة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم "إن لكلِّ نبيٍّ دعوةٌ مستجابة" فقال كعب: أفلا أخبرك عن إبراهيم لما رأى أنه يَذبح ابنه إسحاق، قال الشيطان: إن لم أفتِن هؤلاء عند هذه لم أفتنهم أبدًا، فذهب إلى سارة، فقال: أين ذهب إبراهيم بابنك؟ قالت: في حاجته. قال: كلاّ، إنه ذهب به ليذبحه، يزعُم أن ربَّه أمره بذلك. فقالت: أخشى أن لا يُطيع ربه. فجاء إلى إسحاق، فأجابه بنحوه، فواجه إبراهيم، فلم يلتفت إليه، فأيس أن يطيعوه.

رجاله خمسة

وساق نحوه عن سعيد، عن قتادة، وزاد: إنه سدَّ على إبراهيم الطريق إلى المَنْحر، فأمره جبريل أن يرميه بسبع حصيات عند كل جمرة. وكأن قتادة أخذ أوله عن بعض أهل الكتاب، وآخره مما جاء عن ابن عبّاس. وبقي قولٌ ثالثٌ، وهو الوقف عن الجزم بأحد القولين، وتفويض علم ذلك إلى الله تعالى. رجاله خمسة، وفيه ذكر ميمونة وعُبيد بن عُمير. الأول: علي بن المدينيّ مرَّ في الحديث الرابع عشر من كتاب العلم. الثاني: سُفيان بن عُيَيْنة مرَّ في الحديث الأول من بدء الوحي. والثالث: عَمْرو بن دينار، مرِّ أيضًا في الحديث الرابع والخمسين من كتاب العلم. ومرَّ تعريف عبد الله بن عبَّاس في الحديث الرابع من بدء الوحي. الرابع: كُرَيْب بن أبي مُسلم القُرشي الهاشمي أبو رِشْدِين -بكسر الراء وسكون الشين وكسر الدال بعده ياء بعدها نون- مولى عبد الله بن عبّاس. روى عن مولاه، وأمه أم الفضل، وأختها ميمونة بنت الحارث، وعائشة، وأم سلمة، وأم هانىء بنت أبي طالب، وغيرهم. وروى عنه: ابناه محمد ورِشْدِين، وسُليمان بن يَسار، وأبو سلمة بن عبد الرحمن وهما من أقرانه، ومكحول، وعمرو بن دينار، ومنصور بن المُعْتَمِر، وخلق. قال ابن سعد: كان ثقة حسن الحديث. وقيل لابن معين: كُرَيْب أحبُّ إليك عن ابن عبّاس أم عِكْرمة؟ فقال: كلاهما ثقة. وقال النسائي: ثقة. وقال موسى بن عُقبة: وضع عندنا كُريب حمل بعير من كتب ابن عبّاس. وذكره ابن حِبّان في "الثقات". مات بالمدينة سنة ثمان وتسعين في آخر خلافة سُليمان بن عبد الملك.

لطائف إسناده

وعبيد هو عُبَيد بن عُمَيْر بن قَتادة بن عامر بن جُنْدَع بن لَيْث اللَّيْثيّ ثم الجُنْدَعِيّ أبو عاصم المكي قاضي أهل مكة، وهو من كبار التابعين، وقيل: إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم. روى عن: أبيه -وأبوه صحابي- وعن عمر، وعلي وأبي بن كعب، وأبي موسى الأشعَريّ، وأبي هُريرة، وعائِشة، وأم سلمة، وابن عَمرو، وابن عبّاس، وغيرهم. وروى عنه: ابنه عبد الله، وقيل: انه لم يسمع منه، وعطاء ومجاهد، وعبد العزيز بن رُفَيْع، وعَمرو بن دينار، وأبو الزُّبير، ومعاوية بن قُرّة، وخلق. وثقه ابن مَعين، وأبو زُرعة، وقال العوّام بن حَوْشب: رُؤي ابن عمر في حلقة عُبيد بن عُمير يبكي. وذكره ابن حِبّان في "الثقات". وقال العِجْلي: مكي تابعي ثقة من كبار التابعين، كان ابن عُمر يجلس إليه، ويقول: لله درُّ ابن قتادة، ماذا يأتي به؟ ويُروَى عن مجاهد أنه قال: نفخر على التابعين بأربعة، فذكره منهم. وأما ميمونة فقد مرَّ تعريفها في الحديث الثامن والخمسين من كتاب العلم. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والإخبار بصيغة الإفراد والعنعنة، ورواته كلهم من فرسان الكتب الستة إلا ابن المديني، فإن مسلمًا وابن ماجه لم يخرِّجا له. وكلهم مكيون ما عدا ابن المديني، وابن عبّاس مكي أقام بالمدينة أيضًا. وفيه رواية تابعي عن تابعي، وهما عُمر وكُريب. أخرجه البخاري هنا، وفي الصلاة مرتين، وفي كتاب العلم كما مر، ومسلم في الصلاة، والتِّرمذي فيها أيضًا، وقال: حسن صحيح، وأخرجه النّسائي في الطهارة، وابن ماجه فيها.

باب اسباغ الوضوء

باب اسباغ الوضوء الإسباغ في اللغة الإتمام، من قوله تعالى: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ} [لقمان: 21]، أي: أتمّها، ومنه: درع سابغ. وقال ابن عمر: إسباغ الوضوء الإِنقاء وهذا التعليق وصله عبد الرزاق في "مصنفه" بإسناد صحيح، وكون الإِسباغ هو الإِنقاء من تفسير الشيء بلازمه، إذ الإتمام يستلزم الإِنقاء عادة. وكان ابن عمر يغسل رجليه في الوضوء سبع مرات كما رواه ابن المنذر بسند صحيح، وإنما بالغ فيهما دون غيرهما لكونهما محلاًّ للأوساخ غالبًا لاعتيادهم المشي حفاة. واستشكل بما تقدم من أن الزيادة على الثلاث ظلم وإساءة، وأجيب بأنه فيمن لم ير الثلاث سنة، أما إذا رآها وزاد على أنه من باب الوضوء على الوضوء يكون نورًا على نور. وهذا الجواب غير ظاهر لما مر من تحرير الكلام على زيادة الرابعة عند قول المصنف: "وكره أهل العلم الإسراف فيه" وما أُجيب به هنا هو مذهب الحنفية خاصة، واختلف عند المالكية في الرجلين غير النقيتين هل تُكره فيهما الرابعة أو المطلوب فيهما الإِنقاء بأي شيء حصل، وأما النقيتان عندهم فحكمهما حكم سائر الأعضاء. ومرَّ ابن عُمر في أول كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه.

الحديث الخامس

الحديث الخامس حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: دَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ عَرَفَةَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالشِّعْبِ نَزَلَ فَبَالَ، ثُمَّ تَوَضَّأَ وَلَمْ يُسْبِغِ الْوُضُوءَ. فَقُلْتُ: الصَّلاَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: "الصَّلاَةُ أَمَامَكَ". فَرَكِبَ، فَلَمَّا جَاءَ الْمُزْدَلِفَةَ نَزَلَ فَتَوَضَّأَ، فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَنَاخَ كُلُّ إِنْسَانٍ بَعِيرَهُ فِى مَنْزِلِهِ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الْعِشَاءُ فَصَلَّى وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا. قوله: "دفع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من عرفة"، أي: أفاض من الوقوف فيها، فالمضاف محذوف، وعرفة هو الموضع الذي يقف فيه الحاج. وقوله: "حتى إذا كان بالشِّعب" بكسر الشين المعجمة، وهو الطريق في الجبل، والسلام فيه للعهد، وكان يسمى بالشعب الذي يصلّي فيه الخلفاء والأمراء المغرب قبل دخول وقت العشاء، والمراد بالخلفاء والأمراء بنو أمية، فلم يوافقهم ابن عمر, لأنه خلاف السُنّة. وكان عكرمة كما للفاكهيّ يقول: اتخذه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مبالًا واتخذتموهُ مصلى. وقوله: "ولم يسبغ الوضوء" أي: خففه بأن توضأ مرة مرة، وخفف استعمال الماء بالنسبة لغالب عادته. وأغرب ابن عبد البر حيث قال: إن المراد بالوضوء هنا الاستنجاء، وأطلق عليه اسم الوضوء اللغوي؛ لأنه من الوضاءة، أي: النظافة. ويدل على بعد ما قاله قول أسامة في الرواية الآتية في باب الرجل يوضِّىء

صاحبه: "إنه صلى الله تعالى عليه وسلم عَدَل إلى الشِّعب، فقضى حاجته، فجعلت أصبُّ الماء عليه ويتوضأ"، إذ لا يجوز أن يصب عليه أسامة إلاَّ وضوء الصلاة, لأنه كان لا يقرب منه أحد، وهو على حاجته. واستدل ابن عبد البر لما قال بأنه توضأ بعد ذلك، والوضوء لا يُشرع لصلاة واحدة مرتين، وما قاله ليس بلازم، لاحتمال أنه توضأ ثانيًا من حدث طارىء، وليس الشرط بأنه لا يُشرع تجديد الوضوء إلا لمن أذّى به صلاة فرضًا أو نفلًا متَّفَق عليه، بل ذهب جماعة إلى جوازه، وإن كان الأصح خلافه. ويرد قوله أيضًا قوله في الرواية الأخرى: "فتوضأ وضوءً خفيفًا", لأنه لا يُقال في الناقص خفيف، وإنما توضأ أولًا ليستديم الطهارة، ولاسيما في تلك الحالة لكثرة الاحتياج إلى ذكر الله حينئذٍ، وخفف الوضوء لقلة الماء حينئذٍ. وفي "زوائد المسند" بإسناد حسن عن علي بن أبي طالب أن ذلك الماء كان من زمزم. وقال الخطابي: إنما ترك إسباغه حين نزل الشِّعب ليكون مستصحبًا للطهارة في طريقه، وتجوز فيه؛ لأنه لم يرد أن يصلي به، فلما أرادها ونزل أسبغه. وقوله: "فقلتُ الصلاةَ" أي: بالنصب على الإغراء، أو بتقدير أتريد أو أتصلي الصلاة، ويجوز الرفع على تقدير أحانت الصلاة. وقوله: "الصلاةُ أمامك" مبتدأ، وأمامك بالنصب على الظرفية خبر. أي: الصلاة ستصلى بين يديك، أو أطلق الصلاة على مكانها، أي: المصلى بين يديك، أو معنى أمامك لا تفوتك وستدركها. وفيه تذكير التابع بما تركه متبوعه ليفعله، أو يعتذر عنه، أو يبين له وجه صوابه. واستدل ابن بطّال بقول أسامة الصلاة على بطلان ما مرَّ عن ابن عبد البر، قال: فإنه يدل على أنه رآه يتوضأ وضوء الصلاة، ولذلك قال له: أتُصلي؟ وفيما

قاله نظر, لأنه لا مانع أن يقول له ذلك لاحتمال أن يكون مراده: أتريد الصلاة، فلم لم تتوضأ وضوءها؟ وجوابه بأن "الصلاة أمامك" معناه أن المغرب لا تُصلّى هنا، فلا يحتاج إلى وضوء الصلاة. وكانَّ أسامة ظن أنه صلى الله تعالى عليه وسلم نسي صلاة المغرب، ورأى وقتها قد كاد أن يخرج أو خرج، فأعلمه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنها في تلك الليلة يُشرع تأخيرها لتجمع مع العشاء بالمُزْدَلِفَة، ولم يكن أسامة يعرف تلك السُنّة قبل ذلك. وقوله: "فلما جاءَ المزْدَلِفَة نزل فتوضأ" أي: بماء زمزم أيضًا، والمزدلفة تسمى جَمْعًا -بفتح الجيم وسكون الميم- وسُمِّيت جمعًا لأن آدم اجتمع فيها مع حواء، وازدلف إليها، أي: دنا منها. وروي عن قتادة أنها سميت جَمْعًا لأنها يُجمع فيها بين الصلاتين. وقيل: وصفت بفعل أهلها, لأنهم يجتمعون فيها ويزدَلِفون إلى الله، أي: يتقربون إليه بالوقوف فيها. وسميت المُزدَلِفة إما لاجتماع الناس فيها، أو لاقترابهم إلى مِنى، أو لازدلاف الناس منها جميعًا، أو للنزول بها في كل زُلْفةٍ من الليل، أو لأنها منزلة وقربة إلى الله، أو لازدلاف آدم إلى حواء بها. وقوله: "فأسبغَ الوضوء" أي: لإرادته الصلاة به، بخلاف الأول كما مرّ. قيل: فيه دليل على مشروعية إعادة الوضوء من غير أن يُفصل بينهما بصلاة، وفيه نظر، لاحتمال أن يكون أحدث كما مر. وقوله: "ثم أُقيمتِ العشاءُ، فصلّى، ولم يُصَلِّ بينهما" وفي رواية ابن عمر في الحج: "ولم يسبِّح بينهما, ولا على أثر كلِّ واحدة منهما" أي: عقبها، ويستفاد من هذه الرواية أنه ترك التنفل عقب المغرب وعقب العشاء، ولما لم يكن بين المغرب والعشاء مهلة صرح بأنه لم يتنفل بينهما، بخلاف العشاء، فإنه يحتمل أن يكون المراد أنه لم يتنفل عقبها, لكنه تنفل عقب ذلك في أثناء الليل. ومن ثم قال الفقهاء: تؤخر سنة العشاءين عنهما. ونقل ابن المنذر الإجماع

رجاله خمسة

على ترك التطوع بين الصلاتين بالمزدلفة, لأنهم اتفقوا على أن السُنّة الجمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة، ومن تنفَّلَ بينهما لم يصحِّ أنه جمع بينهما. ويعكر على نقل الاتفاق ما في البخاري في الحج، من أن ابن مسعود صلّى ركعتين بعد المغرب، ودعا بعشائه، وتعشّى. قلت: يمكن أن يُجاب عنه بأن الاتفاق انعقد بعد فعل ابن مسعود، فلا اعتراض. رجاله خمسة: الأول: عبد الله بن مَسْلمة القَعْنَبِيّ، مرَّ في الحديث الثاني عشر من كتاب الإيمان. ومرَّ تعريف الإِمام مالك في الحديث الثاني من بدء الوحي. ومرَّ تعريف كُرَيْب في الحديث الذي قبل هذا. والثالث: موسى بن عُقبة بن أبي عَيّاش التّبان الأسديّ مولى آل الزبير، ويقال: مولى أم خالد بنت سعيد بن العاص زوج الزُّبير. أدرك ابن عمر وغيره، روى ابن أبي خيثمة عنه أنه قال: لم أُدرك أحدًا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أم خالد. وقال مخلد بن الحُسين: إنه سمعه يقول -وقد قيل له: أرأيت أحدًا من الصحابة؟ -: حججت وابن عمر بمكة عام حج نَجْدة الحروري، ورأيت سهل بن سعد متخطِّيًا علي، فتوكّأ على المنبر، فسارَّ الإِمام بشيء. ذكره ابن حِبّان في "الثقات". قال ابن سعد: كان ثقة ثبتًا كثير الحديث. وقال في موضع آخر: كان ثقة قليل الحديث. وكان مالك يقول: عليكم بمغازي موسى بن عُقَبة فإنه ثقة. وفي رواية أخرى عنه: عليكم بمغازي موسى بن عُقْبة فإنها أصح المغازي. وفي رواية عنه: فإنه رجل ثقة، طلبها على كِبر السنن, ولم يُكْثِر كما كثَّر غيره. وفي رواية: مَنْ كان في رواية موسى بن عُقبة قد شهد بدرًا فقد شهدها، ومَنْ لم يكن فيه

لم يشهدها. وقال محمد بن طلحة بن الطويل: لم يكن بالمدينة أعلم بالمغازي منه. قال: وكان شُرحبيل أبو سعد عالمًا بالمغازي، فاتهموه أنه يُدخل فيهم مَنْ لم يشهد بدرًا، وفي من قُتل يوم أُحد مَنْ لم يكن فيهم، وكان قد احتاج، فسقط عند الناس، فسمع بذلك موسى بن عُقبة، فقال: وإن الناس قد اجترؤوا على هذا؟ فدب على كِبر السنن, وقيد مَنْ شهد بدرًا وأُحُدًا، ومَن هاجر إلى الحبشة والمدينة، وكتب ذلك ووثقه أحمد بن حنبل، وابن مَعين، والعِجْلي، والنّسائي. وقال إبراهيم بن الجُنَيْد عن ابن مَعين: ليس موسى بن عُقبة في نافع مثل مالك وعبيد الله بن عمر. وقال الواقدي: كان لإبراهيم وموسى ومحمد بني عُقبة حلقة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا كلهم فقهاء ومحدثين، وكان موسى يُفتي. وقال مصعب الزُّبَيْري: كان لهم هيئة وعلم. وقال الدُّوري عن ابن مَعين: أقدمهم محمد، ثم إبراهيم، ثم موسى، وكان موسى أكثرهم حديثًا. وقال أبو حاتم: ثقة صالح. قال القطان: مات قبل أن أدخل المدينة بسنة، سنة إحدى وأربعين ومئة، فتليين ابن مَعين له إنما هو بالنسبة إلى رواية مالك وغيره، لا فيما تفرَّد به. ولذلك قال ابن مَعين: كتاب موسى بن عُقبة عن الزُّهري من أصح الكتب. روى عن أم خالد المذكورة، وجده لأن أبي حَبيبة مولى الزُّبير، وحمزة وسالم بني عبد الله بن عُمر، وسالم أبي الغَيْث، والأَعْرج، ونافع بن جُبَيْر بن مُطْعِم، ونافع مولى ابن عمر، وكُرَيْب، وعِكْرمة بن الزبير، وخلق. وروى عنه ابن أخيه إسماعيل بن إبراهيم، وبُكَيْر بن الأشج وهو من أقرانه، ويحيى بن سعيد الأنصاري، ومالك بن أنس، والسفيانان، وابن المبارك، ومحمد بن فُليح، وخلق. الخامس: أسامة بن زَيْد بن حارِثة بن شراحيل بن عبد العُزى بن زيد بن امرىء القيس بن عامر بن النُّعمان بن عامر بن عبد ودِّ بن عَوْف بن كنانة بن

بكر بن عوف بن عُذرة بن زيد اللات بن رُفَيدة بن ثور بن كلب بن ويرة الكلبيّ الحِبُّ بن الحِبِّ, يكنى أبا محمد، ويقال: أبو زيد. وأمه أم أيمن حاضنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومولاته، واسمها بركة. ولد بالإِسلام، ومات النبي صلى الله عليه وسلم وله عشرون سنة، وقيل: ثماني عشرة سنة. وأمّره على جيش عظيم، فمات النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يتوجه، فأنفذه أبو بكر الصديق، وكان عمر يُجِلُّه ويكرمه، فرض له في العطاء خمسة آلاف، ولابنه عبد الله ألفين. فقال ابن عمر: فضَّلْت عليَّ أسامة وقد شهدتُ ما لم يشهده؟ فقال: إن أسامة كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك، وأباه أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك. وروى هشام بن عُروة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخّر الإِفاضة من عرفة من أجل أسامة بن زيد ينتظره، فجاء غلام أسود أفطس، فقال أهل اليمن: إنما حُبِسْنا من أجل هذا، فكان كفر أهل اليمن -أعني: ردتهم- أيام أبي بكر من أجل هذا. وروي عن ابن عُمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أحب الناس إلي أسامة ما حاشا فاطمة ولا غيرها". وروى هشام بن عُروة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أسامة بن زيد لأحب الناس إِلي، أو من أحبِّ الناس إلي، وأنا أرجو أن يكون من صالحيكم، فاستوصوا به خيرًا". وروي عن عبيد الله بن عبد الله قال: رأيت أسامة بن زيد يصلي عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فدُعي مروان إِلى جنازة ليصلي عليها، فصلّى عليها، ثم رجع وأسامة يصلي عند باب بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له مروان: إِنما أردت أن يُرى مكانك، فقد رأينا مكانك، فعل الله بك وفعل قولًا قبيحًا، ثم أدبر. فانصرف أسامة وقال: يا مووان: إِنك آذيتني، وإنك رجل فاحش متفحِّش؛ وإني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّ الله

لطائف إسناده

يبغضُ الفاحشَ المتفحِّشَ". وروي عن علي بن خَشْرم قال: قلت لوكيع: مَنْ سلم من الفتنة؟ قال: أما المعروفون من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأربعة: سعد بن مالك، وعبد الله بن عمر، ومحمد بن مَسْلمة، وأسامة بن زيد، واختلط سائرهم. قال: ولم يشهد من التابعين أمرهم أربعة: الربيع بن خَيْثم، ومَسْروق بن الأَجْدع، والأسود بن يزيد، وأبو عبد الرحمن السُّلَميّ. قال ابن عبد البر: أما أبو عبد الرحمن السُّلَميّ فالصحيح عنه أنه كان مع علي رضي الله عنه. وأما مسروق فذكر عنه إبراهيم النَّخَعي أنه ما مات حتى تاب من تخلفه عن علي رضي الله عنه. وقد صح عن عبد الله بن عمر أنه قال: ما آسى على شيء كما آسى على أني لم أقاتل الفئة الباغية مع علي رضي الله عنه. سكن المزة من عمل دمشق، ثم رجع فسكن وادي القرى، ثم نزل إلى المدينة فمات بها بالجرف سنة أربع وخمسين. روى عنه من الصحابة: أبو هريرة، وابن عباس. ومن كبار التابعين: أبو عثمان النَّهْدِي، وأبو وائل، وآخرون. روي له مئة وثمانية وعشرون حديثًا، اتفقا على خمسة عشر منها، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم باثنين أيضًا. وليس في الصحابة أسامة بن زيد سواه. وفي الرواة أسامة بن زيد سواه خمسة: تَنُوخِيُّ روى عن زيد بن أسلم وغيره، وليْثِيٌّ روى عن نافع وغيره، ومدنِيٌّ مولى عمر بن الخطاب ضعيف، وكَلْبيٌّ روى عن زُهير بن معاوية. وغيره، وشيرازِيٌّ روى عن أبي حامد الفَضْلي. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة والسماع، ورواته كلهم مدنيون، وفيه رواية تابعي عن تابعي موسى بن عُقبة عن كُريب.

باب غسل الوجه باليدين من غرفة واحدة

ورجاله كلهم من رجال الستة إلا عبد الله بن مَسْلمة، فإن ابن ماجه لم يخرِّج له. أخرجه البخاري هنا، وفي الحج والطهارة، ومسلم وأبو داود والنّسائي في الحج. باب غسل الوجه باليدين من غرفة واحدة أي: فلا يشترط الاغتراف باليدين معًا، والغَرْفة -بفتح المعجمة- بمعنى المصدر، -وبالضم- بمعنى المغروف، وهي ملء الكف. ومراده بهذه الترجمة التنبيه على عدم اشتراط الاغتراف باليدين جميعًا، والإشارة إلى تضعيف الحديث الذي فيه أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يغسل وجهه بيمينه، وجمع الحُلَيْمِيُّ بينهما بأن هذا حيث كان يتوضأ من إناء يصب فيه بيساره على يمينه، والآخر حيث كان يغترف، لكن سياق الحديث يأباه, لأن فيه أنه بعد أن تناول الماء بإحدى يديه أضافه إلى الأخرى وغسل بهما.

الحديث السادس

الحديث السادس حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو سَلَمَةَ الْخُزَاعِيُّ مَنْصُورُ بْنُ سَلَمَةَ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ بِلاَلٍ يَعْنِي سُلَيْمَانَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ تَوَضَّأَ فَغَسَلَ وَجْهَهُ، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ، فَمَضْمَضَ بِهَا وَاسْتَنْشَقَ، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ، فَجَعَلَ بِهَا هَكَذَا، أَضَافَهَا إِلَى يَدِهِ الأُخْرَى، فَغَسَلَ بِهِمَا وَجْهَهُ، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ، فَغَسَلَ بِهَا يَدَهُ الْيُمْنَى، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ، فَغَسَلَ بِهَا يَدَهُ الْيُسْرَى، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَرَشَّ عَلَى رِجْلِهِ الْيُمْنَى حَتَّى غَسَلَهَا، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً أُخْرَى، فَغَسَلَ بِهَا رِجْلَهُ (يَعْنِى الْيُسْرَى)، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَتَوَضَّأُ. قوله: "إنه توضأ" زاد أبو داود في أوله: "أتحبّون أن أريكم كيف كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يتوضأ، فدعا بإناءٍ فيه ماءٌ"، وللنسائي في أوله أيضًا: "توضأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فغرف غرفة". وقوله: "فغسل وجهه" الفاء تفصيلية لأنها داخلة بين المجمل والمفصل. وقوله: "أخذ غَرفة من ماء فمضمض بها" وفي رواية: "فتمضمض بها". وقوله: "فجعل بها هكذا أضافها إلى يده الأخرى" أي: جعل الماء الذي في يده في يديه جميعًا، لكونه أمكن في الغسل, لأن اليد قد لا تستوعب الغسل، وسقط للأصيلي وابن عساكر لفظة من ماء. وقوله: "فغسل بها وجهه" أي: بالغرفة، وللأصيلي وكريمة: "فغسل بهما"، أي: باليدين. وظاهر قوله: "أنه توضأ فغسل وجهه" مع قوله: "أخذ غرفة فمضمض" أن المضمضة والاستنشاق من جملة غسل الوجه، لكن المراد

بالوجه أولًا ما هو أعم من المفروض والمسنون، بدليل أنه أعاد ذكره ثانيًا بعد ذكر المضمضة والاستنشاق بغرفة مستقلة. وقوله: "ثم مسح برأسه" لم يذكر له غرفة مستقلة، فقد يتمسك به مَنْ يقول بطهورية الماء المستعمل، لكن في رواية أبي داود: "ثم قبض قبضة من الماء، ثم نفض يده، ثم مسح رأسه" زاد النسائي: "وأذنيه مرة واحدة" ومن طريق ابن عجلان: "باطنهما بالسبّابتين، وظاهرهما بإبهاميه" زاد ابن خُزيمة من هذا الوجه: "وأدخل أصبعيه فيهما". قلت: رواية أبي داود لا تنفي ما أخذ من رواية البخاري من طهورية الماء المستعمل، لإِمكان أنه عليه الصلاة والسلام فعل كلاًّ منهما مرة. وقوله: "فرشَّ على رجله اليمنى حتى غسلها" المراد بالرش هنا سكب الماء قليلًا قليلًا إلى أن صدق عليه مسمى الغسل، بدليل قوله: "حتى غسلها" فإنه صريح في أنه لم يكتف بالرش. وأما ما وقع عند أبي داود والحاكم: "فرش على رجله اليمنى وفيها النعل، ثم مسحهما بيديه يد فوق القدم ويد تحت النعل" فالمراد بالمسح تسييل الماء حتى يستوعب العضو، وقد صح أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يتوضأ في النعل كما سيأتي عند المصنف من حديث ابن عمر، وأما قوله: "تحت النعل" فإن لم يحمل على التجوز عن القدم فهي رواية شاذة، وراويها هشام بن سعد لا يُحتج بما تفرد به، فكيف إذا خالف؟ وإنما عبّر بالرش تنبيهًا على الاحتزاز عن الإسراف, لأن الرجل مظنته في الغسل. وقوله: "فغسل بها رجله" يعني اليسرى، وفي رواية أبي ذر والوقت: "فغسل بها يعني رجله اليسرى" وقائل يعني هو زيد بن أسلم، أو مَنْ هو دونه من الرواة. وقوله: "هكذا رأيتُ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يتوضأ" حكاية حال ماضية، وفي رواية ابن عساكر: "توضأ". واستدل ابن بطّال بهذا الحديث على أن الماء المستعمل طهور, لأن

رجاله ستة

العضو إذا غُسل مرة واحدة فإن الماء الذي يبقى في اليد منها يلاقي ماء العضو الذي يليه. وأيضًا فالغرفة تلاقي أول جزء من أجزاء كل عضو، فيصير مستعملًا بالنسبة إليه. وأجيب بأن الماء ما دام متصلًا باليد مثلًا لا يُسمّى مستعملًا حتى ينفصل. قال في "الفتح": وفي الجواب نظر، ووجه النظر هو أنه بعد انفصاله عن العضو المغسول، وبقائه في اليد، كيف لا يقُال: إنه مستعمل. وفي الحديث دلالة على الجمع بين المضمضة والاستنشاق بغرفة واحدة، وهو يحتمل وجهين، أن يتمضمض منها ثلاثًا أولًا، ثم يستنشق كذلك، وأن يتمضمض ثم يستنشق، ثم يفعل كذلك ثانيًا وثالثًا. وعند المالكية الأفضل فعلهما بست غرفات، يتمضمض بثلاث ويستنشق بثلاث، وعند الشافعية الأفضل فعلهما بثلاث، يتمضمض من كل واحدة ثم يستنشق، فقد صح من حديث عبد الله بن زيد وغيره، وصححه النووي. رجاله ستة: الأول: محمد بن عبد الرحيم بن أبي أزهر العدويّ مولى آل عمر، أبو يحيى البَغْدادي البزّار، المعروف بصاعِقة الحافظ، فارسي. قيل: سُمي صاعقةً لجودة حفظه. ذكره ابن حِبّان في "الثقات"، وقال: كان صاحب حديث يحفظ. وقال نصر بن أحمد الكِنْدي: كان من أصحاب الحديث المأمونين. وقال الخطيب: كان متقنًا ضابطًا عالمًا حافظًا. وقال ابن أبي حاتم: كتب عنه أبي بمكة، وسئل عنه، فقال: صدوق. وقال عبد الله بن أحمد والنسائي: ثقة. وقال أحمد بن صاعد: حدثنا أبو يحيى الثقة الأمين ووثقه القَرّاب ومَسْلمة. وقال الدارقُطني: حافظ ثبت. وقال أبو بكر الخَلاّل: عنده عن أبي عبد الله مسائل حسان لم يجيء بها غيره. ولد سنة خمس وثمانين ومئة، ومات سنة خمس وخمسين ومئتين. روى عن أبي أحمد الزُّبَيْريّ، ويزيد بن هارون، وأبي سَلَمة الخُزاعي،

وزكرياء بن عَدِيّ، ومُعلّى بن منصور، ومُحمد بن عَرْعَرة، وخلق. وروى عنه: الستة ما عدا مسلمًا، وابن ماجه، والذّهلي، وعبد الله بن أحمد، وأحمد بن علي الأبّار, والقاسم بن زكرياء، وخلق. والعَدَوِي في نسبه مر في الأول من بدء الوحي. الثاني: أبو سَلَمة منصور بن سَلَمة بن عبد العزيز بن صالح الخُزاعي الحافظ البغدادي. قال أحمد: أبو سلمة الخُزاعي من مثبتي أهل بغداد. وقال أحمد بن أبي خَيْثمة عن ابن مَعين: ثقة. قال: ولما خرجنا من عنده قال: إني كتبت اليوم من كبش نطاح. وقال الدّارقُطني: أحد الثقات الحفاظ الرفعاء الذين كانوا يسألون عن الرِّجال، ويؤخذ بقوله فيهم، أخذ عنه أحمد، وابن مَعين، وغيرهما علم ذلك. وذكره ابن حِبّان في "الثقات". وقال ابن سعد: كان ثقة، سمع من غير واحد، وكان يتمتع بالحديث، ثم حدث أيامًا، ثم خرج إلى الثَّغْر، فمات بالمِصّيصة سنة تسع أو عشر ومئتين. وقيل: بطَرَسوس. روى عن: عبد الله بن عمر العُمري، ومالك، وسُليمان بن بلال، والوليد بن المُغيرة، وحفاد بن سَلمة، وخَلاَّد بن سُليمان، وغيرهم. وروى عنه: أحمد بن حَنبل، وحجّاج بن الشاعر، ومحمد بن إسحاق الصَّنعاني، ومحمد بن عبد الرحيم البزّار، ومحمد بن عامر الأنْطاكي، وخلق كثير. والخُزاعي في نسبه مرّ في الثاني والأربعين من العلم. الثالث: سُليمان بن بلال وقد مرَّ تعريفه في الحديث الثاني من كتاب الإيمان. ومرَّ تعريف زيد بن أسلم وعطاء بن يَسار في الحديث الثالث والعشرين منه أيضًا.

لطائف إسناده

ومرَّ ابن عبّاس في الحديث الخامس من بدء الوحي. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة والإخبار، وفيه رواية تابعي عن تابعي؛ زيد عن عطاء، ورواته ما بين بغدادي ومدني. وفيه تفسير لبعض الرواة المجمل، وهو قوله: "يعني سليمان" وهو يحتمل أن يكون للبخاري، ويحتمل أن يكون لمحمد بن عبد الرحيم. وهذا الحديث مما شاهده ابن عبّاس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي معدودة، قال الداوودي: الذي صح سماعه له من النبي عليه الصلاة والسلام اثنا عشر حديثًا، وحُكي عن غُنْدَر: عشرة أحاديث. وعن يَحْيى القطّان وأبي داود: تسعة. وفي "المستصفى" للغزالي: إن ابن عبّاس مع كثرة روايته قيل: إنه لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أربعة أحاديث لصغر سنه، وقد مرَّ ردَّ ما قاله الغزالي وغيره في تعريفه في الحديث الخامس من بدء الوحي. وهذا الحديث انفرد به البخاري عن مسلم، ولم يخرج مسلم شيئًا عن ابن عبّاس في صفة وضوئه صلى الله عليه وسلم. وأخرجه أبو داود والنّسائي وابن ماجه في الطهارة أيضًا. وقد مرَّ أن في السند زيادة سليمان، والزيادة في نسب الشيخ على قسمين أشار لهما العراقي في "ألفيته" بقوله: والشيخ إن يأت ببعض نسب ... من فوقه فلا تزد واجتنب إلا بفصل نحو هو أو يعنى ... أو جيء بأن وأنسب المعنى وهذا أحدهما ثم قال: أمّا إذا الشيخُ أتمَّ النَّسَبا ... في أولِ الجزء فَقَطْ فذَهَبا الأكثرونَ لجوازِ أن يُتِمّ ... ما بعدَهُ والفصلُ أولى وأتَمَّ

باب التسمية على كل حال وعند الوقاع

باب التسمية على كل حال وعند الوِقاع أي: بكسر الواو: الجماع، وعطفه عليه من عطف الخاص على العام للاهتمام به، وليس العموم ظاهرًا من الحديث الذي ساقه، لكنه يُستفاد من باب الأولى, لأنه إذا شُرع في حالة الجماع وهي أبعد حال من ذكر الله تعالى ومما أُمر فيه بالصمت, فغيره أولى. وساق المصنف هذا الحديث ولم يُسقْ حديث: "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه" مع كونه أبلغ في الدلالة، لكونه ليس على شرطه، بل هو مطعون فيه. وفيه إشارة إلى تضعيف ما ورد من كراهة ذكر الله تعالى في حالين: الخلاء والوقاع، لكن على تقدير صحته لا ينافي حديث الباب؛ لأنه يُحمل على حال إرادة الجماع كما جاء في رواية ابن عبّاس في الدعوات بلفظ: "إذا أراد أن يأتي أهله ... إلخ" ويقيد ما أطلقه المصنف ما رواه ابن أبي شيبة عن علقمة بن مسعود: "وكان إذا غَشِيَ أهله فأنزل، قال: اللهم لا تجعل للشيطانِ فيما رزَقْتنا نصيبًا".

الحديث السابع

الحديث السابع حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ كُرَيْبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ قَالَ بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا. فَقُضِىَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ، لَمْ يَضُرَّهُ". قوله: "يَبْلُغ به النبي" هو بفتح أوله وضم ثالثه، أي: يصل ابن عبّاس بالحديث النبي، وسقط لفظ به لغير الأربعة، وهذا كلام كُريب، يعني أنه ليس موقوفًا على ابن عبّاس، بل هو مسند إلى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم. لكنه يحتمل أن يكون بواسطة صحابي سمعه من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وأن يكون بدونها. وقوله: "إذا أتى أهله" وفي رواية عند الإسماعيلي: "إما إن أحدَكم لو يقولُ حينَ يُجامعُ أهله" وهو ظاهر في أن القول يكون مع الفعل، لكن يمكن حمله على المجاز، بدليل رواية ابن عبّاس الماضية. وقوله: "فقضى بينهما" بالتثنية، وهي أصوب، وفي رواية المُسْتَملي والحموي: "بينهم" بالجمع، وتُحمل هذه على أن أقل الجمع اثنان، أو نظرًا إلى معنى الجمع في الأهل. وقوله: "ولد" أي: ذكرًا كان أو أُنثى. وقوله: "لم يُضرُّه" أي: بضم الراء على الأفصح، والفاعل في هذه الرواية الضمير العائد على الشيطان المذكور في الحديث. وفي رواية: "لم يَضُرّه شيطانٌ أبدًا" بالتنكير. وفي رواية:"لم يضُرّه الشيطان" واللام للعهد المذكور

في لفظ الدعاء، واختُلف في الضرر المنفي بعد الاتفاق على ما نقل عياض على عدم العمل على العموم في أنواع الضرر، وإن كان ظاهرًا في العمل على عموم الأحوال من صيغة النفي مع التأبيد، وكأن سبب ذلك ما ورد في الحديث من أن "كل بني آدم يطعن الشيطان في بطنه حين يولد إلا من استثني"، فإن في هذا الطعن نوع ضرر في الجملة، ثم إن ذلك سبب صراخه، ثم اختلفوا فقيل: المعنى لم يسلَّط عليه من أجل بركة التسمية، بل يكون من جملة العباد الذين قيل فيهم: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42]، ويؤيده مرسل الحسن عن عبد الرزاق: "إذا أتى الرجل أهله فليقل: بسم الله، اللهم بارك لنا فيما رزقتنا, ولا تجعل للشيطان نصيبًا فيما رزقتنا، فكان يرجِّي إن حملت أن يكون ولدًا صالحًا" وقيل: المراد لم يطعن في بطنه، وهو بعيد لمنابذته ظاهر الحديث المتقدم، وليس تخصيصه بأولى من تخصيص هذا. وقيل: لم يضره في بدنه، ولا يتخبطه ولا يداخله بما يَضُرّه عقله. وقال ابن دقيق العيد: يُحتمل أن لا يضُرّه في دينه أيضًا، لكن يبعده انتفاء العصمة. وتُعُقِّب بأن اختصاص من خص بالعصمة بطريق الوجوب لا بطريق الجواز، فلا مانع أن يوجد من لا تصدر منه معصية عمدًا، وإن لم يكن ذلك واجبًا له. وقال الداوودي: "لم يضرّه" أي: لم يفتنه عن دينه إلى الكفر، وليس المراد عصمته منه عن المعصية. وقيل: لم يضره بمشاركة أبيه في جماع أُمه كما جاء عن مجاهد: إن الذي يُجامع ولا يسمّي يلتفُّ الشيطان على إحليله فيجامع معه، وذلك قوله: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن: 56]. رواه ابن جرير في "تهذيب الآثار" بسنده عنه. ولعل هذا أقرب الأجوية، ويتأيد العمل على الأول بأن الكثير ممن يعرف هذا الفضل العظيم يَذْهل عند إرادة المواقعة، والقليل الذي قد يستحضره

رجاله ستة

ويفعله لا يقع معه الحمل، فهذا كان ذلك نادرًا لم يبعد. ونقل الكرماني عن البخاري أن مَنْ لا يُحسن العربية يقوله بالفارسية. وفي الحديث استحباب التسمية والدعاء والمحافظة على ذلك حتى في الملاذ كالوقاع. وفيه الاعتصام بذكر الله من الشيطان، والتبرك باسمه، والاستعاذة به من جميع الأسواء. وفيه الاستشعار بأنه الميسر لذلك العمل والمعين عليه. وفيه الإشارة إلى أن الشيطان ملازم لابن آدم، لا ينطرد عنه إلا إذا ذكر الله. وفيه رد على مَنْ منع المحدث من أن يذكر الله، وقد مرَّ هذا في الترجمة. رجاله ستة: الأول: علي بن المديني مرَّ تعريفه في الحديث الرابع عشر من كتاب العلم. ومرَّ تعريف جرير بن عبد الحميد ومنصور بن المُعْتَمِر في الحديث الثاني عشر منه. ومرَّ تعريف كُرَيْب بن أبي مُسلم في الحديث الرابع من كتاب الوضوء. ومرَّ تعريف عبد الله بن عبّاس في الحديث الخامس من بدء الوحي. والرابع: سالم بن أبي الجَعْد، واسم أبي الجَعْد رافعٌ الأشْجَعِيُّ مولاهم الكوفي التابعي. قال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث. وقال العجلي: تابعي ثقة. وقال إبراهيم الحربي: مُجمع على ثقته. ووثقه ابن مَعين وأبو زرعة والنَّسائي. وقال الذهلي: لم يسمع سالم من ثَوْبان ولم يلقه، بينهما مَعْدان بن أبي طَلْحة. مات سنة مئة. وقيل: إحدى ومئة. وقيل: سنة سبع وتسعين أو ثمان وتسعين.

لطائف إسناده

روى عن عمر ولم يدركه، وكعب بن مرة. وقيل: لم يسمع منه، وعائشة وقيل: إن بينهما أبا مليح، وعن أبي كبشة وقيل: عن ابن أبي كَبْشة عن أبيه، وعن علي بن أبي طالب، وأبي هُريرة، وابن عمر، وابن عبّاس، وابن عمرو بن العاص، وجابر، وأنس، وغيرهم. وعنه ابنه الحسن، والحَكَم بن عُتيبة، وعمرو بن دينار، وعمرو بن مرة، وقتادة، والأعمش، وأبو إسحاق السَّبيعي، وعثمان بن المُغيرة، ومنصور بن المُعْتَمر، وغيرهم. والأشجعيُّ في نسبه نسبة إلى أشجع بن ريث بن غَطَفان بن سعد بن قَيْس عَيْلان أبي قبيلة من العرب. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة، ورواته كلهم من رجال الكتب الستة إلا ابن المديني، فإن مسلمًا وابن ماجه لم يخرَّجا عنه. ورواته كلهم ما بين مكي ومدني وكوفي وبصري ورازي، وفيه ثلائة من التابعين، وهم: منصور، وهو من صغار التابعين، وسالم، وكريب. وفيه البلاغ، وهو قوله: "يبلُغُ به" أي: يصل ابن عبّاس بالحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا كلام كُريب، وغرضه أنه ليس موقوفًا على ابن عبّاس، بل هو مسندٌ إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، لكنه يُحتمل أن يكون بالواسطة بأن سمعه من صحابي سمعه من الرسول عليه الصلاة والسلام، وأن يكون بدونها, ولما لم يكن قاطعًا بأحدهما أو لم يرد بيانه ذكره بهذه العبارة. أخرجه البخاري هنا وفي التوحيد وفي النكاح وفي صفة إبليس، ومسلم في النكاح، وأبو داود والترمذي فيه أيضًا. وقال الترمذي: حسن صحيح، وابن ماجه في النكاح أيضًا، والنّسائي في عِشرة النساء وفي "اليوم والليلة". وفي الحديث عن كُريب بعد ذكر ابن عبّاس يبلغ به، وهذا اللفظ إذا كان

باب ما يقول عند الخلاء

من التابعي كان رفعًا، وإذا كان بعد ذكر التابعي كان إرسالًا مرفوعًا، قال العراقي: وقولُهُم يرفعُهُ يبلُغُ بهْ ... رواية ينميه رفعٌ فانتَبهْ وإن يقُل عن تابعي فمرسلُ ... قلتُ من السنةِ عنهُ نقَلُوا تصحيحُ وقفِهِ وذُو احتمالِ ... نَحْو أُمِرْنا منهُ للغَزالي باب ما يقول عند الخلاء أي: عند إرادة دخول الخلاء إن كان مُعَدًّا لذلك، وإلا فلا تقدير، وهو بفتح الخاء والمد موضع قضاء الحاجة، سمي بذلك لخلائه في غير أوقات قضاء الحاجة، وهو الكنيف والحَشُّ والمِرْفَق، وأصله المكان الخالي، ثم كثر استعماله حتى تُجُوِّز به عن ذلك. ووجه المناسبة بين هذا الباب والذي قبله هو أنه لما ذكر أن التسمية مشروعة في أول الوضوء, أتبع ذلك بان الذكر يُشرع عند دخول الخلاء، واستطرد من هنا آداب الاستنجاء وشرائطه.

الحديث الثامن

الحديث الثامن حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا دَخَلَ الْخَلاَءَ قَالَ "اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ". قوله: "يقول: كان النبيُّ صلى الله تعالى عليه وسلّم إذا دخلَ الخلاء" أي: إذا أراد دخول الخلاء كما هو مصرح به في رواية سعيد بن زيد الآتية قريبًا، وعبر بلفظة كان للدلالة على الثبوت والدوام، ويلفظ المضارع في يقول استحضارًا لصورة القول. قوله: "أعوذُ بك من الخُبُث والخبائث" أي: ألوذ بك وألتجىء من الخبث بضمتين، وقد تسكن الموحدة تخفيفًا، جمع خبيث، ذكر أن الشياطين. والخبائث جمع خبيثة إناثهم. وإنما استعاذ صلى الله تعالى عليه وسلم إظهارًا للعبودية، ويجهر بها للتعليم، وإلا فهو عليه الصلاة والسلام محفوظ من الجن والإنس، وقد ربط عفريتًا على سارية من سواري المسجد. وصرّح الخطابي بأن تسكين الخبث ممنوع، وعده من أغاليط المحدثين. وردَّه النووي وابن دقيق العيد بأن فُعُلًا -بضم الفاء والعين- تخفف عينه بالتسكين اتفاقًا. ورده الزَّرْكشيُّ بأن التخفيف إنما يطرد فيما لا يُلْبس كعُنُق من المفرد، ورُسُل من الجمع، لا فيما يُلْبِس كحُمُر، فإنه لو خفف التبس بجمع أحمر. وتعقبه صاحب "المصابيح" بأن هذا التفصيل لا يُعرف لأحد من أئمة العربية. وفي كلامه ما يدفعه، فإنه صرح بجواز التخفيف في عنق، مع أنه

يلتبس بجمع أعنق، وهو الرجل الطويل العنق، والأنثى عنقاء بيِّنةُ العنق، وجمعهما عُنْق بضم العين وإسكان النون. وفي نسخة ابن عساكر: قال أبو عبد الله البُخاريُّ: ويقال: الخبْث -أي بإسكان الموحدة- فإن كانت مخففة من المحركة فقد مرَّ توجيهه، وإن كانت بمعنى المفرد فمعناه المكروه، فإن كان من الكلام فهو الشتم، وإن كان من الملل فهو الكفر، وإن كان من الطعام فهو الحرام، وإن كان من الشراب فهو الضار، وعلى هذا فالمراد بالخبائث المعاصي أو مطلق الأفعال المذمومة، ليحصل التناسب، ولهذا وقع في رواية الترمذي وغيره: "أعوذ بالله من الخبْث والخبيث، أو من الخُبث والخبائث" هكذا بالشك، الأول بالإسكان مع الإفراد، والثاني بالتحريك مع الجمع، أي: من الشيء المكروه ومن الشيء المذموم، أو من ذكران الشياطين وإناثهم. وقد روى المَعْمَري هذا الحديث عن عبد العزيز بن صُهيب بلفظ الأمر، قال: "إذا دخلتم الخلاءَ فقدلوا: بسم الله أعوذ بالله من الخُبُث والخبائث" وإسناده على شرط مسلم، وفيه زيادة التسمية. قال في "الفتح": ولم أرها في غير هذه الرواية, وظاهر ذلك تأخير التعوذ عن البسملة, لأنه ليس للقراءة، وخص الخلاء لأن الشياطين تحضُرُ الأخلية لأنه يُهجر فيها ذكر الله، وهذا في الأمكنة المعدَّة لذلك، بقرينة الدخول، ولهذا قال ابن بطّال: رواية "إذا أتى" أعم لشمولها. والكلام هنا في مقامين: أحدهما: هل يختص هذا الذكر بالأمكنة المعدة لذلك لكونها تحضُرها الشياطين كما في حديث زيد بن أرقم في "السنن" أو يشمل حتى لو بال في إناء مثلًا في جانب البيت، الأصح الثاني ما لم يَشْرَع في قضاء الحاجة. المقام الثاني: متى يقول ذلك؟ فمن يكره ذكر الله في تلك الحالة يفصّل، فأما في الأمكنة المعدة لذلك فيقوله قُبيل دخولها، وأما في غيرها فيقوله في أول

الشروع، كتشمير ثيابه مثلًا، وهذا مذهب الجمهور، وقالوا فيمن نسي: يستعيذ بقلبه لا بلسانه. ومن يجيز مطلقًا كما نُقل عن مالك لا يحتاج إلى تفصيل. كذا قال في "الفتح". قلت: ما نسبه لمالك لم أجد نسبته له في كتب المذهب عندنا، وإن ثبتت نسبته له فلعله كول ضعيف جدًّا لا يُلتفت إليه، فمذهب المالكية كمذهب الجمهور: المحلُّ المعَدُّ لقضاء الحاجة يُكره فيه الذكر غير القرآن، ويحرم فيه القرآن، وغير المعد لها يجوز فيه الذكر ما لم يجلس لقضائها، وقيل: ما لم يخرج منه الحدث، ويزيل عند دخول المعد لها ما فيه كتابة ذِكرٍ ندبًا في غير القرآن، ووجوبًا في القرآن، إلا أن يكون حرزًا مستورًا، أو خاف عليه الضياع. ولم يذكر المؤلف ما يُقال بعد الخروج منه, لأنه ليس على شرطه. وفيه حديث عائشة رضي الله تعالى عنها عند ابن حِبّان وابن خُزيمة في "صحيحيهما": كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا خرج من الغائط قال: "غفرانَك"، وحديث أنس عند ابن ماجه إذا خرج من الخلاء قال: "الحمد لله الذي أذهبَ عني الأذى وعافاني" وحديث ابن عبّاس عند الدّارقُطني مرفوعًا: "الحمد لله الذي أخرجَ عني ما يُؤذيني، وأمسك عليَّ ما ينفعني"، وحديث ابن عمر عند الدّارقُطني مرفوعًا: "الحمد لله الذي أذاقني لذَّته وأبقى عليَّ قوَّته، وأذهب عني أذاه"، وأصح شيء في هذا الباب حديث عائشة. والحكمة في قوله: "غفرانك" مع أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن متلبِّسًا بشيء يستوجب طلب المغفرة، هو أنه عليه الصلاة والسلام لما كان ممنوعًا في تلك الحالة من الذكر اللساني، عدّ ذلك كأنه مما يُوجب الاستغفار في حقه، لأنه دائمًا مشتغل القلب واللسان بذكر الله، وهذا من باب ما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين. وقيل: إنه لشكر النعمة التي أنعم عليه بها إذ أطعمه وهضمه، فحق على مَنْ خرج سالمًا مما استعاذه منه أن يؤدي شكر النعمة في إعاذته واجابة سؤاله، وأن يستغفر الله تعالى خوفًا أن لا يؤدي شكر تلك النعمة، ولهذا ورد في بعض الأحاديث المارة الحمد لله ... الخ.

رجاله أربعة

رجاله أربعة مرَّ تعريف جميعهم: مرَّ تعريف آدم وشعبة في الحديث الثالث من كتاب الإيمان, وعبد العزيز بن صُهيب مرَّ في الحديث الثامن منه أيضًا، ومرَّ أنس في الحديث السادس منه أيضًا. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة والسماع، وأنه من رباعيات البخاري، ورجاله ما بين بغدادي وواسطي وبصري. أخرجه البخاري هنا وفي الدعوات، ومسلم في الطهارة، وأخرجه أبو داود والترمذي والنّسائي وابن ماجه فيها أيضًا. تابعه ابن عرعرة عن شعبة وقال غندر عن شعبة إذا أتى الخلاء، وقال موسى عن حماد إذا دخل، وقال سعيد بن زيد حدثنا عبد العزيز إذا أراد أن يدخل. رجال المتابعة سبعة: الأول محمد بن عَرْرَة مرَّ تعريفه في الحديث الثاني والأربعين من كتاب الإيمان. ومرَّ تعريف شعبة في الحديث الثالث منه أيضًا. ومرَّ عبد العزيز في الحديث الثامن منه. ومرَّ تعريف محمد بن جعفر وهو غُنْدَر في الحديث السادس والعشرين منه أيضًا. ومرَّ تعريف موسى بن إسماعيل التَّبُوذَكي في الحديث الخامس من بدء الوحي. وأما حمّاد فهو حَمّاد بن سَلَمة بن دينار البصري أبو سَلَمة مولى تميم، ويقال: مولى قريش، وقيل: غير ذلك. أحد الأئمة الأثبات. قال عبد الرحمن بن مهدي: حمّاد بن سلمة صحيح السماع، حسن

اللُّقِيِّ، أدرك الناس لم يُتهم بلون من الألوان، لم يلتبس بشيء، أحْسَنَ ملكَ نفسه ولسانه ولم يطلقه على أحد فسلم حتى مات. وقال ابن المبارك: دخلت البصرة فما رأيت أحدًا أشبه بمسالك الأول من حمّاد بن سلمة. وقال أبو عمر الجَرْميّ: ما رأيت فقيهًا أفصح من عبد الوارث، وكان حمّاد بن سلمة أفصح منه. وقال شهاب بن المُعَمّر البَلْخِي: كان حمّاد بن سلمة يُعد من الأبدال، وعلامة الأبدال أن لا يُولد لهم، تزوج سبعين امرأة فلم يُولد له، وقال عفّان: قد رأيت مَنْ هو أعبد من حمّاد بن سلمة، ولكن ما رأيت أشد مواظبة على الخير وقراءة القرآن والعمل لله من حمّاد بن سلمة. وقال ابن مَهْدي: لو قيل لحمّاد بن سلمة: إنك تموت غدًا ما قدر أن يزيد في العمل شيئًا. وقال ابن حِبّان: كان من العُبّاد المجابي الدعوة في الأوقات، ولم ينصَفْ من جانب حديثه، واحتج في كتابه بأبي بكر بن عَيّاش، فإن كان تركه إياه لما كان يخطىء فغيره من أقرانه مثل الثوري وشعبة كانوا يخطئون، فإن زعم أن خطأه قد كثُر حتى تغير، فقد كان ذلك في أبي بكر بن عَيّاش موجودًا، ولم يكن من أقران حمّاد بن سلمة بالبصرة مثله في الفضل والدين والنسك والعلم والكتب والمجمع والصلابة في السنة والقمع لأهل البدع. وأورد له ابن عَدِيّ في "الكامل" عدة أحاديث انفرد بها إسنادًا ومتنًا، وقال: حمّاد من أجلة المسلمين، وهو مفتي البصرة، وقد حدّث عنه مَنْ هو أكبر منه سنًّا, وله أحاديث كثيرة، وأصناف كثيرة، ومشايخ، وهو كما قال ابن المديني: مَنْ تكلّم في حمّاد بن سلمة فاتَّهِمُوه في الدين. وقال السّاجيّ: كان حافظًا ثقة مأمونًا. وقال ابن سَعْد: كان ثقة كثير الحديث، وربما حدث بالحديث المنكر. وقال العِجْلي: ثقة رجل صالح حسن الحديث. وقال: إن عنده ألف حديث حسن ليس عند غيره. وسُئل النسائي عنه فقال: ثقة. قال الحاكم ابن مَسْعَدة: فكلمته، فقال: ومَنْ يجترىء يتكلم فيه لم يكن عند القطان هناك؟ وقال عفان: اختلف أصحابنا في سعيد بن أبي عَروبة وحمّاد بن سلمة، فصرنا إلى خالد بن الحارث، فسألناه، فقال: حمّاد

أحسنهما حديثًا، وأثبتهما لزومًا للسنة، فرجعنا إلى يحيى القطان، فقال: أقال لكم: وأحفظهما؟ فقلنا: لا. وقال البيهقي: حمّاد أحد أئمة المسلمين، إلا أنه لما كبر ساء حفظه، فلذا تركه البخاري، وكان يقال: فضل حمّاد بن سلمة بن دينار على حمّاد بن زيد بن دِرْهم كفضل الدينار على الدرهم. استشهد به البخاري تعليقًا، ولم يخرِّج له احتجاجًا ولا مقرونًا ولا متابعة إلا في موضع واحد، وهو هذا، وقيل: إنه روى له حديثًا واحدًا عن أبي الوليد، عنه، عن ثابت، عن أنس. قال: قال لنا أبو الوليد: حدثنا حمّاد بن سَلمة، فذكره. وهو في كتاب الرقاق، وهذه الصيغة يستعملها البخاري في الأحاديث الموقوفة والمرفوعة أيضًا إذا كان في إسنادها من لا يُحتجُّ به عنده. واحتج به مسلم والأربعة، لكن قال الحاكم: لم يحتج به مسلم إلا في حديث ثابت عن أنس، وأما باقي ما أخرج له فمتابعة. زاد البيهقي: إن ما عدا حديث ثابت لا يبلغ عند مسلم اثنا عشر حديثًا. مات سنة سبع وستين ومئة. روى عن: ثابت البُناني، وقَتادة، وخاله حُميد الطويل، وإسحاق بن عبد الله بن أبي طَلْحة، وأنس بن سِيرين، وهشام بن عُروة، وعمرو بن دينار، وخلق. وروى عنه: ابن جُرَيْج، والثوري، وشعبة -وهم أكبر منه- وابن المبارك، وابن مهدي، والقطان، وأبو داود، وأبو الوليد الطّيالسيان، وآدم بن أبي إياس، وخلق. وأما سعيد فهو سعيد بن زَيْد بن دِرْهم الأزْديّ الجَهْضَمِيّ -نسبة إلى الجهاضِمَة بطنٌ من الأزد- أبو الحسن البصري أخو حمّاد بن زيد. قال الدُّوري: عن ابن معين ثقة. وقال أبو حاتم والنّسائي: ليس بالقوي.

باب وضع الماء عند الخلاء

وقال ابن حِبّان: كان صدوقًا حافظًا ممن كان يخطىء في الأخبار ويهم، حتى لا يحتج به إذا انفرد. وقال الجُوزجاني: يُضَعِّفون حديثه وليس بحجة. وقال العِجْلي: بصري ثقة. وقال سُليمان بن حرب: حدثنا سعيد بن زيد وكان ثقة. وقال حَبّان بن هِلال: حدثنا سعيد بن زيد وكان حافظًا صدوقًا، قال ابن عدي: وليس له من منكر لا يأتي به غيره، وهو عندي من جملة من يُنسب إلى الصدق. ليس له في "البخاري" إلا هذا التعليق، لكنه لم ينفرد به، فقد رواه مسدَّد عن عبد العزيز مثله، وأخرجه البيهقي من طريقه، وهو على شرط البخاري. روى عن: عبد العزيز بن صُهيب، وعمرو بن دينار قَهْرَمان آل الزُّبير، والجَعْد أبي عثمان، وأيوب، وسنان بن ربيعة، وعلي بن زيد بن جُدْعان، وغيرهم. وروى عنه: ابن المبارك، وأبو المنذر الواسطي، والحسن بن موسى، وحَبّان بن هِلال، وعارِم، وسليمان بن حَرْب، وخلق. مات سنة سبع وستين ومئة مات قبل أخيه سنة وفاة حَمَّاد بن سَلَمة. والجَهْضَمِيُّ في نسبه مر في الرابع والعشرين من الإيمان. وهذه المتابعة مشتملة على متابعات: متابعة ابن عَرْعَرة لآدم وهي تامة، وقد أخرج البخاري حديثه في الدعوات، وتعليق غُنْدَر عن شعبة وصله البزار في "مسنده" بلفظه، ورواه أحمد أيضًا عن غُنْدَر بلفظ: "إذا دخل" وتعليق موسى عن حمّاد وصله البيهقي باللفظ المذكور، وتعليق سعيد بن زيد وصله البخاري في "الأدب المفرد"، ومر الكلام على المتابعة والتعليق بعد الحديث الثالث من بدء الوحي. باب وضع الماء عند الخلاء أي: ليستعمله المتوضىء بعد خروجه، وقد مرَّ معنى الخلاء قريبًا.

الحديث التاسع

الحديث التاسع حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ قَالَ: حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ الْخَلاَءَ، فَوَضَعْتُ لَهُ وَضُوءًا، قَالَ: "مَنْ وَضَعَ هَذَا؟. فَأُخْبِرَ، فَقَالَ: "اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِى الدِّينِ". قوله: "فوضعت له وَضوءًا" بفتح الواو، أي: ماء ليتوضأ به، ويحتمل أن يكون ناوله إياه ليستنجي به، وفيه نظر. وقوله: "فأُخْبِرَ" أي: على صيغة المجهول عطف على السابق، وقد جوز ما عطف الفعلية على الاسمية والعكس، أي: أُخبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه ابن عبّاس، والمُخْبِرَةُ له ميمونة خالة ابن عبّاس, لأن ذلك كان في بيتها كما مرَّ. وقوله: "اللهمَّ فقَّههِ في الدين" قال فيه ابن المُنير: مناسبة الدعاء لابن عبّاس بالتفقه في الدين على وضع الماء من جهة أنه تردَّد بين ثلاثة أمور: إما أن يدخل إليه بالماء إلى الخلاء، أو يضعه على الباب ليتناوله بقرب، أو لا يفعل شيئًا. فرأى الثاني أوفق, لأن في الأول تعرضًا للاطلاع، والثالث يستدعي مشقة في طلب الماء، والثاني أسهلها، ففعله يدل على شدة ذكائه. ولما كان وضع الماء فيه إعانة على الدين، ناسب أن يدعو له بالتفقه فيه، ليطلع به على أسرار الفقه في الدين، ليحصل النفع به، وكذا كان. وفي الحديث استحباب المكافأة بالدعاء. وقد مرت مباحث هذا الحديث مستوفاة في العلم في باب اللهم علِّمهُ الكتاب.

رجاله خمسة

رجاله خمسة: الأول: عبد الله بن محمد الجُعْفِي المُسْنِدِيّ مر في الحديث الثاني من كتاب الإيمان. ومرّ ابن عبّاس في الحديث الخامس من بدء الوحي. الثاني: من السند هاشِم بن القاسِم بن مسلم بن مِقْسم اللَّيْثي أبو النضر البغدادي الحافظ، خراساني الأصل، ولقبه قيصر. وثقه ابن مَعين، وابن المَديني، وابن سعد، وأبو حاتم، وقال العِجْلي: بغدادي صاحب سنة، وكان أهل بغداد يفخرون به. وقال ابن قانع: ثقة. وقال ابن عبد البر: اتفقوا على أنه صدوق. وقال الحاكم: حافظ ثبت في الحديث، وكان أحمد بن حَنْبل يقول: أبو النضر شيخنا من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ورجحه على وهب بن جرير، وقال أبو حُميد: أبو النضر من مثبتي بغداد. روى عن عكرمة بن عمّار، وزهير بن معاوية، وسفيان، وعُبيد الله الأشجَعي، وخلق. وروى عنه: أحمد بن حَنبل، وسمع من شعبة جميع ما أملى ببغداد وهو أربعة آلاف حديث، وإسحاق بن راهويه، وعلي بن المديني، ويحيى بن مَعين، وعبد الله بن محمد المُسْنِدي، وخلق. مات سنة خمس أو سبع ومئتين. الثالث: وَرْقاء بن عُمر بن كليب اليَشْكري، ويقال: الشِّيْباني، أبو بشر الكوفي نزيل المدائن، يقال: أصله من مرو. قال أبو داود الطّيالِسِييّ قال لي شعبة: عليك بورقاء، فإنك لا تلقى بعده مثله حتى يرجع. قال محمود بن غَيْلان: قلت لأبي داود: أي شيء عَنَى بذلك، قال: أفضل وأورع وخير منه. وقال أبو داود عن أحمد: ثقة صاحب سنة، قيل له: كان مرجئيًّا؟ قال: لا أدري. وقال عمرو بن علي: سمعت

معاذ بن معاذ ذكر ورقاء فأحسن الثناء عليه، ورضيه، وحدثنا عنه. وقال الآجُرْي: سألت أبا داود عن ورقاء وشبل في ابن أبي نُجيح، فقال: ورقاء صاحب سنة إلا أن فيه إرجاء، وشبل قَدَريّ. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبا زُرعة: ورقاء أحب إليك في أبي الزِّناد، أو شعيب، أو مُغيرة، أو ابن أبي الزِّناد؟ فقال: ورقاء أحب إلي منهم. وذكره ابن حِبّان في "الثقات". وقال إسماعيل بن عُمر: دخلنا على ورقاء وهو في الموت، فجعل يهلل ويكبِّر، وجعل الناس يسلِّمون عليه، فقال لابنه: يا بنيَّ: اكفني رد السلام على هؤلاء لئلا يشغلوني عن ربي. وقال العُقَيْلي: تكلموا في حديثه عن منصور، وكأنه عني بذلك ما قال معاذ بن معاذ: قلت ليحيى القطان: سمعت حديث منصور، قال: ممن؟ قلت: من ورقاء. قال: لا يساوي شيئًا. وقال ابن عَدي: له نسخ عن أبي الزِّناد ومنصور وابن أبي نُجيح، وروى أحاديث غلط في أسانيدها، وباقي حديثه لا بأس به. ووثقه ابن مَعين وغير واحد مطلقًا. قال ابن حجر: لم يخرِّج له الشيخان من رواية عن منصور بن المعتمر شيئًا، وهو محتج به عند الجميع. روى عن أبي إسحاق السَّبيعي، وابن طوالة، وزيد بن أسلم، وعبد الله بن دينار، والأعمش، ومنصور، وسُمَيّ مولى أبي بكر، وابن المنكدر، وابن أبي نُجيح، وأبي الزِّناد، وغيرهم. وروى عنه شعبة وهو من أقرانه، وابن المبارك، ومعاذ بن معاذ، وأبو داود الطيالسي، وأبو نُعيم، والفِرْيابي، ويزبد بن هارون، وآخرون. مات سنة تسع وستين ومئة، وليس في الكتب الستة ورقاء غيره. واليَشْكري في نسبه مرّ في الخامس من بدء الوحي. الرابع: عُبيْد الله -بالتصغير- ابن أبي يزيد -من الزيادة- المكي مولى آل قارِظ -بالقاف والراء وبالظاء المعجمة- من خلفاء بني زُهرة. وثقه ابن المَديني، وابن مَعين، والعِجْلي، وأبو زُرعة، والنسائي. وقال ابن

لطائف إسناده

سعد: كان ثقة كثير الحديث. وذكره ابن حِبّان في "الثقات". روى عن: ابن عبّاس، وابن عمر، وابن الزُّبير، وأبي لُبابة بن عبد المنذر، والحسين بن علي بن أبي طالب، وأبيه، أبي يزيد، وغيرهم. وروى عنه: ابنه محمد، وابن المُنْكَدِر وهو أكبر، وابن جُرَيْج، ووَرْقاء بن عُمر، وحِمّاد بن زَيْد، وسفيان بن عُيَيْنة، وغيرهم. مات سنة ست وعشرين ومئتين عن ست وسبعين سنة. وليس في الكتب الستة عُبيد الله بن أبي يزيد غيره، وفي النسائي عُبيد الله بن يزيد الطائفي، روى عن ابن عبّاس أيضًا، وفي رواية الكُشْميهني: عبيد الله بن أبي زائدة، وهو غلط، ولم يُعرف اسم أبي يزيد. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة، ورواته ما بين بغدادي وكوفي ومكي، وهو على شرط الستة خلا شيخ البخاري، فإنه من رجاله ورجال الترمذي فقط. وهذا الحديث من الأحاديث التي صرّح ابن عبّاس فيها بالسماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه البخاري هنا، ومسلم في فضائل ابن عبّاس، والنّسائي في المناقب عن أبي بكر بن أبي النَّضْر باب لا تُسْتَقْبَل القِبلةُ ببولٍ ولا غائط إلا عند البناء جدارٍ أو نحوه. بضم المثناة الفوقية على البناء للمفعول وبرفع القبلة، وفي غيرها بفتح الياء التحتانية على البناء للفاعل، ونصب القبلة، ولام تستقبل مضمومة على أن لا نافية، ويجوز كسرها على أنها ناهية. وقوله: "إلا عند البناء جدار أو نحوه" في رواية الكُشْمِيهني: "أو غيره" بدل: "أو نحوه" أي: كالأحجار الكبار والسواري الخشب وغيرها من السواتر.

قال الإسماعيلي: ليس في حديث الباب دِلالة على الاستثناء المذكور، وأجيب بثلاثة أجوبة: أحدها: أنه تمسك بحقيقة الغائط, لأنه المكان المطمئن من الأرض في الفضاء، وهذه حقيقته اللغوية، وإن كان قد صار يُطلق على كل مكان أعدَّ لذلك مجازًا، فيختصُّ النهي به إذ الأصل في الإِطلاق الحقيقة، وهذا الجواب للإسماعيلي، وهو أقواها. وإذا أريد لفظ الغائط في الحديث لم تحصل دلالة الحديث على الاستثناء المذكور، اللهم إلا أن يُراد أن البخاري تمسك بحقيقة الغائط في الحديث، واستثنى البناء لانتفائه في الفضاء، فيمكن حينئذ. قلت: كيف يصح أن يُراد بالغائط هنا المكان المطمئن، مع مصاحبته للبول، والنهي عن الاستقبال به، فهذا بعيد جدًّا. ثانيها: أن استقبال القبلة إنما يتحقق في الفضاء، وأما الجدار والأبنية فإنها إذا استقبلت أضيف إليها الاستقبال عُرفًا، ويتقوى بأن الأمكنة المعدة ليست صالحة لأن يُصَلّى فيها، فلا يكون فيها قبلة بحال، وتُعُقِّب بأنه يلزم منه أن لا تصح صلاة مَنْ بينَه وبين الكعبة مكان لا يصلُحُ للصلاة وهو باطل. ثالثها: الاستثناء مستفاد من حديث ابن عُمر المذكور في الباب الذي بعد، لأن حديث النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كله كأنه شيء واحد، كما أن القرآن كله كالآية الواحدة قاله ابن بطّال، وارتضاه ابن التّين، لكن مقتضاه أن لا يبقى لتفصيل التراجم معنى. وقيل: إن الحديث عنده عامٌّ مخصوص، فيتجه الاستثناء. فإن قيل: لم حملتم الغائط على حقيقته ولم تحملوه على ما هو أعم من ذلك ليتناول الفضاء والبنيان، لاسيَّما والصحابي راوي الحديث قد حمله على العموم فيهما. لأنه قال كما سيأتي عند المصنف في باب قبلة أهل المدينة في أوائل الصلاة: "فقدمنا الشام، فوجدنا مراحيضَ بُنِيَت قِبَلَ القبلة، فننحرف ونستغفر"؟

فالجواب: إن أبا أيوب أعمل لفظ الغائط في حقيقته ومجازه، وكأنه لم يبلغه حديث التخصيص، ولولا أن حديث ابن عُمر دل على تخصيص ذلك بالأبنية لقلنا بالتعميم، لكن العمل بالدليلين أولى من إلغاء أحدهما، وقد جاء عن جابر فيما رواه أحمد وأبو داود وابن خُزيمة وغيرهم تأييد ذلك، ولفظ أحمد: "كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ينهانا أن نستدبِرَ القبلة أو نستقبِلَها بفروجنا إذ هَرَقنا الماء. قال: ثم رأيته قبل موته بعام يبول مستقبل القبلة". والحق أنه ليس بناسخ لحديث النهي، خلافًا لمن زعمه، بل هو محمول على أنه رآه في بناء ونحوه, لأن ذلك هو المعهود من حاله صلى الله تعالى عليه وسلم، لمبالغته في التستر، ورؤية ابن عمر له كانت عن غير قصد كما سيأتي، فكذا رواية جابر. ودعوى خصوصية ذلك بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم لا دليل عليها، إذ الخصائص لا تثبُتُ بالاحتمال.

الحديث العاشر

الحديث العاشر حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ الْغَائِطَ فَلاَ يَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَلاَ يُوَلِّهَا ظَهْرَهُ، شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا". قوله: "فلا يستقبِلِ القبلة" بكسر اللام على النهي وبضمها على النفي. وقوله: "ولا يولِّها ظهره" مجزوم بحذف الياء على النهي، أي: لا يجعلها مقابل ظهره. وقوله: "شرِّقوا أو غرِّبوا" أي: خذوا في ناحية المشرق أو ناحية المغرب. وفيه الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، وهو لأهل المدينة ومن كانت قبلته على سمتهم، أما مَنْ كانت قبلته إلى جهة المشرق أو المغرب فإنه ينحرف إلى جهة الجنوب أو الشمال. وقد دل حديث ابن عمر الآتي على جواز استدبار القبلة في الأبنية، وحديث جابر الماضي على جواز استقبالها, ولولا ذلك لكان حديث أبي أيّوب لا يُخَصُّ من عمومه بحديث ابن عمر إلا جواز الاستدبار فقط، ولا يُقال: يلحق به الاستقبال قياسًا, لأنه لا يصح إلحاقه به لكونه فوقه. وقد تمسك به قوم، فقالوا بجواز الاستدبار دون الاستقبال، حكي عن أبي حنيفة وأحمد. وقيل بالتفريق بين البنيان والصحراء مطلقًا قال الجمهور، وهو مذهب مالك والشافعي وإسحاق، وهو أعدل الأقوال، لإعماله جميع الأدلة.

ويؤيده من جهة النظر ما مرَّ عن ابن المُنير أن الاستقب الذي البنيان مضاف إلى الجدار عرفًا، وبأن الأمكنة المعدة لذلك مأوى الشياطين فليست صالحة لكونها قبلة، بخلاف الصحراء فيهما. وقال قوم بالتحريم مطلقًا، وهو المشهور عن أبي حنيفة وأحمد، وقال به أبو ثور صاحب الشافعي، ورجحه من المالكية ابن العربي، ومن الظاهرية ابن حزم. وحجتهم أن النهي مقدم على الإِباحة، ولم يصححوا حديث جابر الذي أشرنا إليه، واحتجّوا أيضًا بان تعظيم القبلة موجود فيهما، وبأن الجواز في البنيان إن كان لوجود الحائل فهو موجود في الصحراء، كالجبال والأودية. وقال قوم بالجواز مطلقًا، وهو قول عائشة وعروة وربيعة وداود، واعتلّوا بأن الأحاديث تعارضت، فليُرجع إلى أصل الإِباحة. وقيل: بجواز الاستدبار في البنيان فقط، تمسكًا بظاهر حديث ابن عمر، وهو قول أبي يوسف. وقيل: بالتحريم مطلقًا حتى في القبلة المنسوخة وهي بيت المقدس، وهو محكيٌّ عن إبراهيم وابن سيرين، عملًا بحديث معقِل الأسدي: "نهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن نستقبل القبلتين ببولٍ أو غائط" رواه أبو داود وغيره، وهو حديث ضعيف, لأن فيه راويًا مجهول الحال، وعلى تقدير صحته فالمراد بذلك أهل المدينة ومن على سمتها, لأن استقبالهم بيت المقدس يستلزم استدبارهم الكعبة، فالعلة استدبار الكعبة لا استقبال بيت المقدس. وقد ادّعى الخطابي الإجماع على عدم تحريم استقبال بيت المقدس لمن لا يستدبر في استقباله الكعبة، قال في "الفتح": وفيه نظر، لما مرَّ عن إبراهيم وابن سِيرين، وقد قال به بعض الشافعية، حكاه ابن أبي الدّم. قلت: يمكن الجواب عن إيراده بانعقاد الإجماع بعد عصر المذكورين، وبأن ما ذكر عن بعض الشافعية لا يقدح في الإجماع لضعفه.

وقيل: إن التحريم مختصٌّ بأهل المدينة ومَنْ كان على سمتها، فأما مَنْ كانت قبلته في جهة المشرق أو المغرب فيجوز له الاستقبال والاستدبار مطلقًا، لعموم قوله: "شرِّقوا أو غرِّبوا" قاله أبو عَوانة صاحب المُزَني، وعكسه البخاري فاستدل به على أنه ليس في المشرق ولا في المغرب قبلة كما يأتي في باب قبلة المدينة من كتاب الصلاة. ويُستثنى من القول بالحرمة في الصحراء ما لو كان الريح يهب على يمين القبلة أو على شمالها، فإنهما لا يحرمان للضرورة. ولمسلم: "ولا يستدبرها ببول أو بغائط" والغائط في الحديث غيره في الترجمة، فقد أطلق فيها على الخارج من الدبر مجازًا من إطلاق اسم المحل على الحال كراهية لذكره بصريح اسمه، وحصل من ذلك جِناس تام. والظاهر من قوله: "ببول" اختصاص النهي بخروج الخارج من العورة، ويكون مثاره إكرام القبلة عن المواجهة بالنجاسة، ويؤيده قوله في حديث جابر: "إذا هَرَقْنا الماء". وقيل: مثار النهي كشف العورة، وعلى هذا فيطَّرِد في كل حالة تكشف فيها العورة كالوطء مثلًا، وقد نقله ابن شاس المالكي قولًا في مذهبهم، وكأن قائله تمسك برواية في "الموطأ": "لا تستقبلوا القبلةَ بفروجِكم" ولكنها محمولة على المعنى الأول، أي: حال قضاءَ الحاجة، جمعًا بين الروايتين. قاله في "الفتح". قلت: ما قاله من حمله على حال قضاء الحاجة لم يحمله عليه مالك صاحب الرواية, بل حمله على ظاهره، فمنع الوطء في حال استقبال القبلة هو مشهور مذهب مالك، فقوله: "قولًا في مذهبهم" غير صحيح لكنه لا عار عليه فيه لأنه غير مذهبه، وحمله على ظاهره أولى من حمله على حال قضاء الحاجة، لأن حال الجماع أقبح بكثير من حالة قضاء الحاجة، فإذا منع التوجه إلى القبلة حال قضاء الحاجة، فلئن يمنع في حالة الجماع أولى، وقد نظمت ملخص مذهب مالك في الوطء وقضاء الحاجة، فقلت:

رجاله خمسة

الحكمُ في استقبالِ واستدبارِ ... قبلةٍ أنْ بالوطءِ ذاك جارِ أو غائطٍ أو بولٍ الجوازُ معْ ... ضرورةٍ وفي المراحيضِ وَقَعْ وكانَ معَ ساترٍ اتّفاقا ... والمنعُ في الفَيافي جا وِفاقا إنْ انْتَفى السّاترُ والسّاترُ في ... نفس المراحيضِ والإِلجاءُ نُقي مجوزٌ ذاك على ما رَجَحا ... والمنَعُ للَّخميِّ في ذا وَضحا وفي مراحيضِ السُّطوع والفَضا ... بينَ البيوتِ مطلقًا خُلْفٌ أضا فرجّح الحطّابُ حِلَّ ذلكَ ... ومنعَ اللَّخميِّ ما هُنا لكَ وفي الفيافي والصحاري الخُلْفُ ... في الغزوِ والترجيحُ هذا يقفُو لكن بساترٍ وبالنقولِ ... قد أُيِّدَ المنعُ لدى الفُحولِ هذا الذي قد حصلَ الرهوني ... فاشددْ عليه بيدِ الضَّنينِ رجاله خمسة: الأول: آدم بن أبي اياس مرَّ تعريفه في الحديث الثالث من كتاب الإيمان. ومرَّ تعريف ابن شِهاب في الحديث الثالث من بدء الوحي. ومرَّ تعريف ابن أبي ذئب في الحديث الستين من كتاب العلم. الرابع: عطاء بن يزيد الليثي ثم الجُنْدَعي أبو يزيد، وقيل: أبو محمد المدني ثم الشامي. قال علي بن المديني: سكن الرملة وكان ثقة. وقال النسائي: أبو يزيد عطاء بن يزيد شامي ثقة. وقال ابن سعد: كِناني من أنفسهم، وهو كثير الحديث. وذكره ابن حِبّان في "الثقات"، ورآه وهو ابن ثمانين سنة. روى عن: تميم الدّاري، وأبي هريرة، وأبي سعيدٍ الخُدري، وأبي أيّوب الأنصاري، وحُمران بن أَبان، وعُبيد الله بن عديّ بن الخِيار. وروى عنه: ابنه سليمان، والزُّهري، وأبو عُبيد صاحب سليمان بن عبد الملك، وأبو صالح السّمان، وهِلال بن مَيْمون، وغيرهم. مات سنة سبع ومئة وهو ابن إحدى وثمانين سنة.

واللَّيْثي في نسبه مرَّ في الثامن من العلم. الخامس: أبو أيوب خالد بن زيد بن كُلَيْب بن ثَعْلبة بن عبد عَوْف بن غُنم بن مالك بن النّجار الأنصارى النجّاري معروف باسمه وكنيته، وأمه هند بنت سعيد بن عمرو من بني الحارث بن الخزرج من السابقين. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأُبي بن كعب. وروى عنه البراء بن عازِب، وزيد بن خالد، وابن عبّاس، والمِقدام بن مَعْد يكَرِب، وجابر بن سَمُرة، وأنس، وغيرهم من الصحابة، وروى عنه جماعة من التابعين. شهد العقبة وبدرًا وما بعدها. ونزل عنده النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة، فأقام عنده حتى بني بيوته ومسجده، وآخى بينه وبين مُصعب بن عُمير. وشهد الفتوح وداوم الغزو، واستخلفه علي على المدينة لما خرج إلى العراق، ثم لحق به بعدُ، وشهد معه قتال الخوارج. وعن سعيد بن المسيِّب أن أبا أيوب أخذ من لحية النبي صلى الله تعالى عليه وسلم شيئًا، فقال له: "لا يُصيبك السوءُ يا أبا أيوب". وحدَّث أبو رُهم أن أبا أيوب حدثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل في بيته، وكنت في الغرفة، فأُهريق ماء في الغرفة، فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة نتتبع الماء شفقة أن يخلُصَ الماء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت إلى النبي وأنا مشفقٌ، فقلت: يا رسول الله: إني ليس ينبغي أن نكون فوقك، انتقل إلى الغرفة. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بمتاعه أن ينقل، ومتاعه قليل. قلت: يا رسول الله: كنت ترسل إلى بالطعام فأنظر، فأضع أصابعي حيث أرى أثر أصابعك، حتى كان هذا الطعام. قال: "أجل، إن فيه بصلًا، فكرهت أن آكل من أجل الملك، وأما أنتم فكُلوا".

لطائف إسناده

ولم يتخلف عن غزاة المسلمين إلا وهو في أخرى، إلا عامًا واحدًا استُعمل على الجيش شابٌّ، فقعد، فتلهف بعد ذلك، فقال: ما ضرّني من استعُمل علي، فمرض وعلى الجيش يزيد بن معاوية، فأتاه يعوده، فقال: ما حاجتك؟ فقال: حاجتي إذا أنا من، فاركب ما وجدْتَ مساغًا في أرض العدو، فإذا لم تجد فادفني. فحملوه حتى صافّوا العدو، فدفنوه تحت أقدامهم، وقبره قرب سور القسطنطينية معلوم إلى اليوم معظم، يستسقون به فيُسقون. روي له مئة وخمسون حديثًا، اتفقا منها على سبعة، وانفرد البخاري بحديث. وكانت هذه الغزوة التي مات فيها سنة خمسين، وقيل: إحدى، وقيل: اثنتين وخمسين، وهو الأكثر. وأبو أيوب في الصحابة ثلاثة هذا أجلهم، وثانيهم يماني له رواية, وثالثهم رُوي له عن علي بن مُسْهِر، عن الأفْرِيقيّ، عن أبيه، عن أبي أيوب، ولعله الأول. وأيّوب يَشْتبه بأَثْوَب -بفتح الهمزة وسكون الثاء المثلثة وفتح الواو- وهو أَثْوَب ابن عُتبة، صحابي، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: "الديك الأبيض خليلي" إسناده لا يثبت. وقيل: إن هذا اسمه ثَوْب، وأَثْوب بن أَزْهر زوجُ قَيْلة بنت مَخْرمة الصحابية رضي الله عنها. والأنصاري في نسبه مرَّ في الأول من بدء الوحي. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة، ورواته كلهم مدنيون ما خلا آدم فإنه أيضًا دخل إليها، وفيه رواية تابعي عن تابعي. أخرجه البخاري هنا وفي الصلاة أيضًا، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه في الطهارة كلهم.

باب من تبرز على لبنتين

باب مَنْ تبرَّزَ على لبنتين " تبرَّزَ" بوزن تَفَعَّل من البرَاز -بفتح الموحدة- وهو الفضاء الواسع، كنوا به عن الخارج من الدبر كما مرَّ في الغائط. وقوله: "على لَبنَتَيْن" بفتح اللام وكسر الموحدة وفتح النون تثنية لبنة، وهي ما يُصنع من الطين أَو غيره للبناء قبل أن يُحرق.

الحديث الحادي عشر

الحديث الحادي عشر حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ عَنْ عَمِّهِ وَاسِعِ بْنِ حَبَّانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ إِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ إِذَا قَعَدْتَ عَلَى حَاجَتِكَ، فَلاَ تَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَلاَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: لَقَدِ ارْتَقَيْتُ يَوْمًا عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ لَنَا، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى لَبِنَتَيْنِ مُسْتَقْبِلاً بَيْتَ الْمَقْدِسِ لِحَاجَتِهِ. وَقَالَ: لَعَلَّكَ مِنَ الَّذِينَ يُصَلُّونَ عَلَى أَوْرَاكِهِمْ، فَقُلْتُ لاَ أَدْرِي وَاللَّهِ. قَالَ: مَالِكٌ يَعْنِي الَّذِى يُصَلِّي وَلاَ يَرْتَفِعُ عَنِ الأَرْضِ، يَسْجُدُ وَهُوَ لاَصِقٌ بِالأَرْضِ. قوله: "إنه كان يقول" أي: ابن عمر كما صرح به مسلم، فأما مَنْ زعم أن الضمير يعود على واسع فهو وهم منه، وليس قوله بعد: "فقال عبد الله بن عمر" جوابًا لواسع، بل الفاء في قوله: "فقال" سببية, لأن ابن عمر أورد القول الأول منكِرًا له، ثم بيَّن سبب إنكاره بما رآه من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان يمكنه أن يقول: "فلقد ارتقيت ... إلى آخره" ولكن الراوي عنه وهو واسع أراد التأكيد بإعادة قوله: "فقال عبد الله بن عمر". وقوله: "إن ناسًا" يشير بذلك إلى مَن كان يقول بعموم النهي كما سبق، وهو مروي عن أبي أيوب، وأبي هُريرة، ومعقِل الأسدي، وغيرهم. وقوله: "إذا قعدتَ على حاجتِكَ" كناية عن التَّبَرُّز ونحوه، وذكر القعود لكونه الغالب، وإلا فحال القيام كذلك. وقوله: "لقد ارتقيت" اللام جواب لقسم محذوف، أي: والله. و"ارتقيت"

صعدت، وفي رواية: "رقيت". وقوله: "على ظهر بيت لنا" وفي رواية يزيد الآتية: "على ظهر بيتنا"، وفي رواية عُبيد الله بن عمر الآتية: "على ظهر بيت حفصة" أي: أخته كما صرح به مسلم. ولابن خُزَيْمة: "دخلتُ على حفصة بنت عمر، فصعدت ظهر البيت". وطريق الجمع أن يُقال: إضافة البيت إليه على سبيل المجاز، لكونها أخته، فله منه سبب، وحيث أضافه إلى حفصة كان باعتبار أنه البيت الذي أسكنها فيه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، واستمر في يدها إلى أن ماتت فورث عنها، أو حيث أضافه إلى نفسه كان باعتبار ما آل إليه الحال, لأنه ورث حفصة دون إخوته، لكونها كانت شقيقته، ولم تترك مَنْ يحجبه عن الاستيعاب. وقوله في هذا الحديث: "بيت حفصة" استنبط منه البخاري بترجمته في كتاب الخمس كما قال ابن المنير أن هذه النسبة تحقق دوام استحقاقهنَّ للبيوت ما بقينَ, لأن نفقتهنَّ وسكناهن من خصائص النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، والسر فيه حبسهن عليه. وقال الطبري: كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ملَّكَ كلاًّ من أزواجه البيت الذي هي فيه، فسَكَنَّ بعده فيهن بذلك التمليك. وقيل: إنّما لم ينازَعْن في مساكنهنَّ لأن ذلك من جملة مؤنتهنَّ التي كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم استثناها لهنَّ مما كان في يده أيام حياته، حيث قال: "ما تركتُ بعد نفقة نسائي" قال: وهذا أرجح، ويؤيده أن ورثتهنَّ لم يرثن عنهنَّ منازلهنَّ، ولو كانت البيوت ملكًا لهنَّ لانتقلت إلى ورثتهنَّ، وفي ترك ورثتهنَّ حقوقهم منها دِلالة على ذلك، ولهذا زيدت بيوتَّهن في المسجد النبوي بعد موتهنَّ، لعموم نفعه للمسلمين، كما فُعل فيما كان يُصرف لهنَّ من النفقات. قلت: انظر قوله: إن ورثتهنَّ لم يرثن عنهنَّ منازلهنَّ، مع قوله السابق: كان باعتبار ما آل إليه الحال, لأنه ورث حفصة. فظاهر هذا أنه ورث بيت حفصة، وقوله أيضًا: فورث عنها. والصحيح عدم إرثه.

وادّعى المهلّب أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان حبس عليهنَّ بيوتهنَّ، ثم استدل به على أن مَنْ حبس دارًا جاز له أن يسكن منها في موضع، وضعفّه ابن المنير بمنع أصل الدعوى، ثم على التنزل لا يوافق ذلك مذهبه إلا إن صرح بالاستثناء، ومن أين له ذلك؟ وقوله: "على لبنتين مستقبلًا بيت المقدس لحاجته" أي لأجل حاجته، أو وقت حاجته. والمَقْدِس -بفتح الميم وسكون القاف وكسر الدال المخففة. ويضم الميم وفتح القاف وتشديد الدال المفتوحة- والإضافة فيه إضافة الموصوف إلى صفة كمسجد الجامع. وقوله: "على لَبِنَتَيْن" ولابن خُزيمة: "فأشرفتُ على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو على خلائه"، وفي رواية له: "فرأيته يقضي حاجته محجوبًا عليه بلبن". وللحكيم الترمذي بسند صحيح: "فرأيته في كنيف" -بفتح الكاف بوزن عظيم- وانتفى بهذا إيراد مَنْ قال ممن يرى الجواز مطلقًا: يحتمل أن يكون رآه في الفضاء. وكونه على لبنتين لا يُدلُّ على البناء لاحتمال أن يكون جلس عليهما ليرتفع بهما عن الأرض، ويرد على هذا الاحتمال أيضًا أن ابن عمر كان يرى المنع من الاستقبال في الفضاء إلا بساتر كما رواه أبو داود والحاكم بسند لا بأس به. ولم يقصد ابن عمر الإشراف على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في تلك الحالة، وإنما صعد السطح لضرورة له كما في الرواية الآتية، فحانت منه التفاتةٌ كما للبيهقي عن ابن عمر. نعم لما اتَّفقت له رؤيته في تلك الحالة من غير قصد أحب أن لا يُخلي ذلك من فائدة، فحفظ هذا الحكم الشرعي، وكأنه إنما رآه من جهة ظهره، حتى ساغ له تأمل الكيفية المذكورة من غير محذور. ودلَّ ذلك على شدة حرص هذا الصحابي على تتبع أحوال النبي صلى الله

تعالى عليه وسلم ليَتَّبِعها، وكذا كان رضي الله تعالى عنه، ولهذا كان يلقَّب بالأثَرِيِّ. وقوله: "وقال لعلَّك من الذين يصلّون على أوراكِهم" الخطاب لواسع، وقد غلط مَنْ زعم أنه مرفوع. وقوله: "فقلت: لا أدري والله" أي: لا أدري أنا منهم أم لا. وقوله: "قال مالك ... إلخ" يعني أن مالكًا فسر المراد بقول ابن عمر: "يصلّون على أوراكِهم" بأنه مَنْ يلصق بطنه بفخذيه إذا سجد، فلا يرتفع عن الأرض، فيسجد وهو ملتصق بالأرض. وهذا خلاف هيئة السجود المشروعة، وهي التجافي والتجنح كما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانه في موضعه. واستشكلت مناسبة ذكر ابن عمر لهذا مع المسألة السابقة، فقيل: يحتمل أن يكون أراد بذلك أن الذي خاطبه لا يعرف السنة، إذ لو كان عارفًا لعرف الفرق بين الفضاء والبينان، أو الفرق بين استقبال الكعبة وبيت المقدس، وإنما كنّى عمّن لا يعرف السنة بالذي يصلّي على وركيه, لأن مَنْ يفعل ذلك لا يكون إلا جاهلًا بالسنة، قاله الكرماني. ولا يخفى تكلفه، فليس في السياق أن واسعًا سأل ابن عمر عن المسألة الأولى حتى ينسبه إلى عدم معرفتها، ثم الحصر الأخير مردودٌ, لأنه قد يسجد على وركيه مَنْ يكون عارفًا بسنن الخلاء. والذي يظهر في المناسبة ما دل عليه سياق مسلم، ففي أوله عنده: "عن واسع قال: كنت أصلي في المسجد، فإذا عبد الله بن عمر جالس، فلما قضيتُ صلاتي انصرفت إليه من شقي، فقال عبد الله: يقول ناس ... فذكر الحديث" فكأن ابن عمر رأى منه في حال سجوده شيئًا لم يتحققه، فسأله عنه بالعبارة المذكورة، وكأنه بدأ بالقصة الأولى لأنها من روايته المرفوعة المحققة عنده، فقدمها على ذلك الأمر المظنون، ولا يبعد أن يكون قريب العهد بقول مَنْ نقل عنهم ما نقل، فأحب أن يعرِّفَ الحكم لهذا التابعي لينقله عنه.

رجاله ستة

على أنه لا يمتنع إبداء مناسبة بين هاتين المسألتين بخصوصهما، وأن لإحداهما بالأخرى تعلقًا بأن يقال: لعل الذي كان يسجد وهو لاصق بطنه بفخذيه كان يظن امتناع استقبال القبلة بفرجه في كل حالة كما قدَّمنا قريبًا، وأحوال الصلاة أربعة: قيام، وركوع، وسجود، وقعود. وانضمام الفرج فيها بين الوركين ممكن إلا إذا جافى في السجود، فرأى أن في الإلصاق ضمًّا للفرج، ففعله ابتداعًا وتنطعًا، والسنة بخلاف ذلك، والتستر بالثياب كاف في ذلك كما أن الجدار كاف في كونه حائلًا بين العورة والقبلة إن قلنا: إن مثار النهي الاستقبال بالعورة. فلما حدث ابن عمر التابعي بالحكم الأول، أشار له إلى الحكم الثاني، منبهًا له على ما ظنه منه في تلك الصلاة التي رآه صلاّها. وأما قول واسع: لا أدري. فدالٌّ على أنه لا شعور عنده بشيء مما اظنه به، ولهذا لم يُغْلِظ ابن عمر له في الزجر. رجاله ستة: الأول: عبد الله بن يوسف، والثاني: الإِمام مالك، وقد مرَّ تعريفهما في الحديث الثاني من بدء الوحي. ومرَّ تعريف يحيي بن سعيد الأنصاري في الحديث الأول منه. ومرَّ تعريف ابن عُمر في أول كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه. والرابع: محمد بن يحيي بن حَبّان بن مُنْقذ بن عمرو بن مالك بن حسان بن مَبْذول بن عَمرو بن غُنم بن مازن بن النجّار الأنصاري المازني أبو عبد الله المدني الفقيه وثقه ابن مَعين وأبو حاتم والنسائي. وذكره ابن حِبّان في "الثقات". وقال الواقدي: كانت له حلقة في مسجد المدينة، وكان يفتي، وكان ثقة كثير الحديث. روى عن: أبيه، وعمه واسع، ورافع بن خُديج، وأنس، وعبّاد بن تميم، والأعرج، وعمرو بن سُليم الزُّرَقي، وخلق.

لطائف إسناده

وروى عنه: الزُّهري، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وربيعة الرأي، ومالك، واللَّيث، وخلق كثير. مات بالمدينة سنة إحدى وعشرين ومئة وهو ابن أربع وسبعين سنة. والمازِني في نسبه نسبة إلى جدّه مازن بن النجّار المذكور في نسبه، وقد مرّ في الثاني عشر من الإِيمان. الخامس: عم محمد بن يَحْيى وهو واسِع بن حَبّان بن مُنْقِذ المازني النجّاري. روى عن: رافع بن خُدَيْج، وعبد الله بن زَيْد بن عاصم المازني، وعبد الله بن عُمَر، وقيس بن صَعْصَعة، وجابر، وغيرهم. وروى عنه: ابنه حَبّان، وابن أخيه محمد بن يحيي. قال أبو زُرعة: مدني ثقة. وذكره ابن حِبّان في "الثقات". وذكره البغوي في الصحابة، وقال: في صحبته مقال. وقال العِجْلي: مدني تابعي ثقة. وزعم العبْدَرِيُّ أنه شهد بيعة الرضوان. قال ابن حجر في "الإصابة": هذا غير الراوي فيما أظن, لأنه مشهور في التابعين، وحديثه في "صحيح" مسلم، وقد فرق بينهما ابن فَتْحون في "ذيل الاستيعاب". ومرّ مبحث حَبّان وحَيّان في الحديث الرابع والعشرين من كتاب الإيمان. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والإخبار على شرط الشيخين والأربعة إلا عبد الله بن يوسُف، فإنه مسلمًا وابن ماجه لم يخرِّجا له. وكلهم مدنيون سوى عبد الله، فإنه مصري تِنّيسيٌّ كما مرَّ. وفيه رواية ثلاثة من التابعين بعضهم عن بعض: يحيى بن سعيد،

باب خروج النساء إلى البراز

ومحمد بن يحيي، وواسع بن حَبّان. وفيه رواية صحابي عن صحابي على قول من يعُدُّ واسعًا من الصحابة رضي الله عنهم. أخرجه البخاري هنا، وفي الطهارة أيضًا، والخمس. ومسلم وأبو داود والنّسائي وابن ماجة والترمذي في الطهارة، وقال الترمذي: حسن صحيح. باب خروج النساء إلى البَرَاز بفتح الموحدة ثم راء، وبعد الألف زاي، وهو الفضاء كما مر. قال الخطّابي: أكثر الرواة يقولونه بكسر أوله، وهو غلط, لأن البراز بالكسر هو المبارزة في الحرب. وقال في "الفتح": بل هو موجه, لأنه يُطلق بالكسر على نفس الخارج. قال الجوهري: البِراز: المبارزة في الحرب، والبِراز أيضًا كناية عن ثفل الغداء، وهو الغائط. والبَراز بالفتح: الفضاء الواسع. فعلى هذا فمن فَتَح أراد الفضاء، فإن أطلقه على الخارج فهو من باب إطلاق اسم المحل على الحال كما مرَّ مثله في الغائط، ومَنْ كسر أراد نفس الخارج.

الحديث الثاني عشر

الحديث الثاني عشر حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- كُنَّ يَخْرُجْنَ بِاللَّيْلِ إِذَا تَبَرَّزْنَ إِلَى الْمَنَاصِعِ وَهُوَ صَعِيدٌ أَفْيَحُ، فَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- احْجُبْ نِسَاءَكَ. فَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَفْعَلُ، فَخَرَجَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي عِشَاءً، وَكَانَتِ امْرَأَةً طَوِيلَةً، فَنَادَاهَا عُمَرُ أَلاَ قَدْ عَرَفْنَاكِ يَا سَوْدَةُ. حِرْصًا عَلَى أَنْ يَنْزِلَ الْحِجَابُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الْحِجَابِ. قوله: "إذا تَبَرَّزْنَ" أي: خرجن إلى البراز للبول أو الغائط. وقوله: "إلى المناصِع" بالنون وكسر الصاد المهملة بعدها عين مهملة، جمع مَنْصَع بوزن مَقْعَد، وهي أماكن معروفة من ناحية البقيع. قال الداووديُّ: سميت بذلك لأن الإنسان يَنْصَع فيها، أي: يخلُصُ. وقوله: "وهو صعيدُ أفيح" بالحاء المهملة، أي: المتسع. والظاهر أن التفسير مقول عائشة. وقوله: "احجب نساءك" أي: امنعهن من الخروج من بيوتهن، بدليل أن عمر بعد نزول آية الحجاب قال لسودة ما قال كما سيأتي قريبًا، ويُحتمل أن يكون أراد أولًا الأمر بستر وجوههن، فلما وقع الأمر بوفق ما أراد أحب أيضًا أن يَحْجُبَ أشخاصهُنَّ مبالغة في التستر، فلم يُجَبْ لأجل الضرورة، وهذا أظهر الاحتمالين، وعلى هذا فقد كان لهنَّ في التستر عند قضاء الحاجة حالات أوَّلها بالظلمة, لأنهن كن يخرجن بالليل دون النهار كما قالت عائشة في هذا

الحديث: "كنَّ يخرجنَ بالليل" وسيأتي في حديث عائشة في الإفك: "فخرجتُ مع أم مِسْطح قِبَلَ المناصِع، وهو مُتَبرَّزُنا، وكنّا لا نخرجُ إلا ليلًا إلى ليل". ثم نزل الحجاب، فتَستَّرنَ بالثياب، لكن كانت أشخاصهن ربما تتميز، ولهذا قال عمر لسَوْدَة في المرة الثانية بعد بزول الحجاب: أما والله ما تَخْفَيْنَ علينا، ثم اتُّخذت الكنف في البيوت، فتستَّرن بهن كما في حديث عائشة في قصة الإفك أيضًا، فإنه فيها: "وذلك قبلَ أن تُتَّخَذَ الكنُفُ" وكانت قصة الإفك قبل نزول آية الحجاب كما سيأتي. وقوله: "ألا قد عرفناك" بفتح الهمزة وتخفيف اللام حرف استفتاح، ينبه به على تحقيق ما بعده. وقوله: "حرصًا" مفعول لأجله معمول لقوله: "فناداها". وقوله: "على أن يُنَزَّل الحجاب" بضم المثناة مبنيًّا للمفعول، وفي نسخة بفتح المثناة مبنيًا للفاعل، وأن مصدرية، وسقط لفظ "على" للأصيلي. وقوله: "فأنزل الله الحجاب"، ولغير الأصيلي: "فأنزل الله تعالى آية الحجاب"، أي: حكم الحجاب، وللمستملي: "فأنزل الله آية الحجاب"، وزاد أبو عَوانة في "صحيحه" من طريق التَّرمذي عن ابن شِهاب: "فأنزل الله تعالى آية الحجاب .. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ ... الآية} [الأحزاب: 53] "، ففسر المراد من آية الحجاب صريحًا. وسيأتي في تفسير سورة الأحزاب أن سبب نزولها قصة زينب بنت جَحْش لما أو لم عليها، وتأخر الثلاثة النفر في البيت، واستحيا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن يأمرهم بالخروج، فنزلت آية الحجاب. وسيأتي أيضًا حديث عمر: "قلت: يا رسول الله: إن نساءك يدخُلُ عليهنَّ البَرُّ والفاجِر فلو أمرتهُنَّ أن يحتَجِبْن، فنزلت آية الحجاب". وروى ابن جرير في "تفسيره" عن مجاهد قال: بينما النبي صلى الله تعالى

رجاله ستة

عليه وسلم يأكل ومعه بعض أصحابه وعائشة تأكل معهم، إذ أصابت يد رجل منهم يدها، فكره النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك، فنزلت آية الحجاب. وقد أخرج النّسائي هذا الحديث عن مجاهد عن عائشة بلفظ: "كنت آكلُ مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حيّسًا في قعب، فمر عمر، فدعاه، فأكل، فأصاب أصبعه أصبعي، فقال: حَس أوأوّه، لو أطاع فيكنَّ ما رأتكُنَّ عينٌ، فنزل الحجاب". وأخرج ابن مَرْدويه عن ابن عبّاس قال: "دخل رجلٌ على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فأطال الجلوس، فخرج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ثلاث مرات ليخرج، فلم يفعل، فدخل عمر، فرأى الكراهية في وجهه، فقال للرجل: لعلَّك آذيتَ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلبم: لقد قُمتُ ثلاثًا لكي يتبعني فلم يفعل، فقال له عمر: يا رسول الله: لو اتَّخذتَ حجابًا، فإن نساءك لسن كسائر النساء، وذلك أطهر لقلوبهنَّ، فنزلت آية الحجاب". وطريق الجمع بينها أن أسباب النزول تعددت، وكانت قصة زينب آخرها. للنص على قصتها في الآية، أو أن ذلك وقع كله قبل قصة زينب، ولقربه منها أطلق نزول الحجاب بهذا السبب، أو أن المراد بآية الحجاب في بعضها قوله تعالى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} [الأحزاب: 59]. رجاله ستة مرَّ تعريفهم، وفيه ذكر سَوْدة بنت زَمْعة زوج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم. ومرَّ تعريف يحيى بن بُكير، والليث بن سعد، وعقيل بن خالد، وابن شهاب في الحديث الثالث من بدء الوحي. ومرَّ تعريف عروة وعائشة في الحديث الثاني منه أيضًا. وأما سَوْدة فهي سَوْدة بنت زَمْعة بن قيس بن عبد شمس القُرشية العامِرِية، أمها الشموس بنت قيس بن زيد الأنصارية من بني عدي بن النجار.

كان تزوجها السَّكران بن عمرو أخو سُهيل بن عمرو، أسلم معها، وهاجرا جميعًا إلي الحبشة، فلما قدما مكة مات زوجها، فتزوجها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وكانت أول امرأة تزوجها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بعد خديجة. قالت له خَوْلة بنت حكيم: أفلا أخطب عليك؟ قال: "بلى إنكنَّ معشرَ النساء أرفق بذلك". فخطبت عليه سَوْدة بنت زَمْعة وعائشة، فتزوَّجَهما، فبنى بسودة بمكة، وعائشة إذ ذاك بنت ست سنين، حتى بني بها بعد ذلك حين قدم المدينة. وروي عن ابن عبّاس أن سَوْدة خشيت أن يطلِّقها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: لا تطلِّقني وأمسكني، واجعل يومي لعائشة، ففعل، فنزلت: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا ... إلى قوله تعالى خَيْرٌ} [النساء: 128]. وأخرج عن عائشة أنه بعثها إليها بطلاقها، وفي رواية أنه قال لها: "اعتدّي"، وأنها قعدت له على الطريق، فناشدته أن يراجعها، وجعلت يومها وليلتها لعائشة. وروي عن معمر قال: بلغني أنها كلمته، فقالت: ما بي على الأزواج من حرص، ولكني أحب أن يبعثني الله في أزواجك. وفي "الصحيح" عن عائشة: استأذنت سَوْدة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة أن تدفع قبل حطمة الناس، وكانت امرأة ثبطة -يعني: ثقيلة- فأذن لها, ولأن أكون استأذنته أحب إلي. وصح عن عائشة أنها قالت: ما من الناس أحد أحبُّ إلي أن أكون في فسلاخه من سَوْدة، إلا أن بها حدة، كانت تسرع منها العنة. وعن الأعمش عن إبراهيم قال: قالت سَوْدة للنبي صلى الله عليه وسلم: صليت خلفك الليلة، فركعت بي حتى أمسكت أنفي مخافة أن يقطُرَ الدم، فضحك. وكانت تضحكه بالشيء أحيانًا. وعن محمد بن سيرين أن عمر بعث إلى سَوْدة بغِرارةٍ من دراهم، فقالت: ما هذه؟ قالوا: دراهم. قالت: في غرارة مثل التمر؟! ففرقتها.

لطائف إسناده

ورُوي عن أبي الأسود يتيم عروة أن سَوْدة قالت: يا رسول الله: إذا مِتْنا صلّى بنا عثمان بن مَظْعون حتى تأتينا أنت. فقال لها: "يا بنتَ زَمْعة، لو تعلمين علمَ الموتِ لعلمت أنه أشد مما تظنين". توفيت رضي الله عنها في آخر زمان عمر بن الخطاب، ويُقال: ماتت زمن معاوية سنة أربع وخمسين، ورجحه الواقدي. روى عنها ابن عبّاس، ويحيى بن عبد الرحمن بن أسعد بن زُرارة. روي لها خمس أحاديث، أخرج البخاري منها حديثين. والعامِرِيّة في نسبها مرَّ في الستين من العلم. وهنا ذُكر عمر بن الخطاب، ومرَّ تعريفه في أول حديث من البخاري. لطائف إسناده: منها أن فيه صيغة التحديث بالجمع والإفراد والعنعنة، وفيه تابعيان ابن شهاب وعُروة، وقرينان الليث وعقيل، ورواته ما بين مصري ومدني، وهو على شرط الستة إلا يحيى، فإنه على شرط البخاري ومسلم. أخرجه البخاري هنا، ومسلم في الاستئذان.

الحديث الثالث عشر

الحديث الثالث عشر حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "قَدْ أُذِنَ أَنْ تَخْرُجْنَ فِى حَاجَتِكُنَّ". قَالَ هِشَامٌ: يَعْنِى الْبَرَازَ. قوله: "قد أُذِن" أي: بالبناء للمفعول، أي: أذن الله. وقوله: "أن تخرجنَ" أي: بأن تخرجن، أي: بخروجكن. وقوله: "قال هشام: تعني البراز" أي: تعني عائشة رضي الله تعالى عنها بالحاجة البَراز -بفتح الموحدة- كما مرَّ، وفي بعض الأصول: "يعني" النبي صلى الله تعالى عليه وسلم. قال الداوودي: قوله: "قد أُذن أن نخرجن" دالٌّ على أنه لم يرد هنا حجاب البيوت، فإن ذلك وجه آخر، فإنما أراد أن يستترن بالجلبابات حتى لا يبدو منهن إلا العين. وهذا الحديث طرف من حديث جاء في التفسير مطولًا، وحاصله أن سَوْدة خرجت بعدما ضُرب الحجاب لحاجتها، وكانت عظيمة الجسم، فرآها عُمر رضي الله تعالى عنه، فقال: أما والله لا تخفَيْن علينا، فانظري كيف تخرجين، فرجعت، فشكت ذلك إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو يتعشّ، فأوحى الله تعالى إليه، فقال: "إنه قد أُذن لكنَّ أن تخرُجْنَ لحاجتِكُنَّ" أي: لضرورة عدم الأخلية في البيوت، فلما اتخذت فيها الكنف منعهنَّ من الخروج إلا لضرورة شرعية. قال عياض: فرض الحجاب ممن اختصصن به، فهو فرض عليهنَّ بلا

خلاف في الوجه والكفين، فلا يجوز لهنَّ كشف ذلك في شهادة ولا غيرها, ولا إظهار شخوصهن وان كن مستترات إلا ما دَعَت إليه ضرورة من براز، ثم استدل بما في "الموطأ": أن حفصة لما توفي عمر ستَرَها النساء عن أن يُرى شخصها. وأن زينب بنت جحش جُعلت لها القبة فوق نعشها ليُستر شخصُها. قال في "الفتح": ليس فيما ذكره دليل على ما ادّعاه من فرض ذلك عليهن، وقد كنَّ بعد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يحجُجْنَ ويطُفْن، وكان الصحابة ومن بعدَهم يسمعون منهنَّ الحديث وهن مستترات الأبدان لا الأشخاص، وقد جاء في الحج قول ابن جُرَيْج لعطاء لما ذكر له طواف عائشة: أقبل الحجاب أو بعده؟ قال: قد أدركت ذلك بعد الحجاب. قلت: ما اعترض به لا اعتراض به ولا دليل له فيما ذكر، فإن قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53]، كاف للقاضي عياض في منع رؤية أشخاصهن، فقد قال كثير من المفسرين في قوله تعالى: {مَتَاعًا} أي: حاجة ما، فتوى أو عارية أو شيئًا من الموافق. وقد قالوا: إن هذه الآية دالة على أن مكالمتهن من وراء حجاب لا تجوز إلا في حادثة تعرِضُ أو مسألة يُستَفْتى بها، وإذا كان الكلام من وراء الحجاب بهذه المثابة فكيف تجوز رؤية أشخاصهنَّ، ولم يُروَ عن أحد من الصحابة والتابعين أنه روى عنهنَّ بدون حجاب، وأما طوافُهن وسعيُهنَّ فذلك لضرورة العبادة التي لا تمكن إلا به، ولم يوجد في السنة إخلاء المطاف والمسعى لأحد، إذ لا اختصاص لأحد به دون أحد في وقت من الأوقات، فلا يمكن أن يقال بإخلاء المطاف لهن حتى لا تُرى أشخاصهن. وفي الحديث مَنْقَبة كبيرة لعمر، وهذا أحد المواضع الأحد عشر التي وافق عمر فيها نزول القرآن. وفيه أنه يجوز للنساء التصرف فيما لهنَّ الحاجة إليه من مصالحهن. وفيه مراجعة الأدنى للأعلى فيما يتبين له أنه الصواب، وحيث لا يقصد التَّعنُّت.

رجاله خمسة

وفيه جواز كلام الرجال مع النساء في الطرق للضرورة، وجواز الاغلاظ في القول لمن يَقْصد الخير. وفيه جواز وعظ الرجل أمه في الدين, لأن سَوْدة من أمهات المؤمنين. وفيه أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان ينتظر الوحي في الأمور الشرعية؛ لأنه لم يأمرْهُنَّ بالحجاب مع وضوح الحاجة إليه، حتى نزلت الآية، وكذا في إذنه لهنَّ في الخروج. رجاله خمسة: الأول: زكريا بن يَحْيى بن صالح بن سُليمان بن مَطَر البَلْخي أبو يحيى اللُّؤلؤي، وهو زكريا بن أبي زكريا الفقيه الحافظ. ذكره ابن حِبّان في "الثقات"، وكان صاحب سنة وفضل، ممن يردُّ على أهل البِدع، وهو صاحب كتاب "الإيمان". قال قُتيبة: فتيان خراسان أربعة، فذكره فيهم. روى عن: عبد الله بن نُمير، ووكيع، والحكم، وابن المبارك، وأبي أسامة، وغيرهم. وروى عنه: البخاري، والتِّرمذي بواسطة وجعفر الفِرْيابي، وإسماعيل بن محمد بن أبي كثير. روي البخاري في كتابه عن زكريا بن يحيى غير منسوب، عن عبد الله بن نُمير، وعن أبي أسامة، واختلف فيه من هو. وقد روى في العيدين عن زكريّاء بن يحيى أبي السكين عن المحاربي وقال أبو الوليد الباجي يشبه عندي أن يكون الراوي عن ابن نُمير هو ابن أبي السُّكَيْن، وأشار الدّارقُطني إلى ذلك، وقال ابن حجر في "تهذيب التهذيب": ويشبه أن يكون هو الراوي عن أبي أسامة أيضًا حملًا للمطلق على المقيد في العيدين. وقال في "مقدمته": روى البخاري في "الصحيح" حديثًا واحدًا عن أبي السُّكيْن في العيدين، عن المحاربي، عن محمد بن سُوقَة، وعن أحمد بن يعقوب عن إسحاق بن سعيد، كلاهما عن

سعيد بن جبير، عن ابن عمر في قصته مع الحجاج حين أصابه سنان الرمح. قال فيه البخاري: حدثنا زكريّاء بن يحيى أبو السُّكَيْن. وأخرج ثلاثة أحاديث أخرى في "الصحيح" عن زكرياء بن يحيى غير مكنّى ولا منسوب، إثنان منها عن عبد الله بن نُمير، والآخر عن أبي أسامة. وزكريّاء بن يحيى في هذه المواضع الثلاثة هو البَلْخِي، وليس لأبي السُّكَيْن عنده سوى الأول، فبين كلاميه في كتابيه تناف ظاهر فانظره. مات زكريّاء اللُّؤلؤي هذا سنة ثلاثين ومئتي سنة، وهو ابن ست وخمسين سنة، ودفن عند قُتيبة بن سعيد ببغداد. واللؤلؤيُّ في نسبه نسبة إلى اللؤلؤ الجوهر النفيس المعروف، إما لإخراجه أو بيعه أو غير ذلك، وإليه ينسب كثير من المحدثين: كأبي علي محمد بن أحمد بن عُمر اللُّؤلؤي راوي السنن عن أبي داود، وعبد الله بن خالد بن يزيد اللّؤلؤي حدث بسرَّ من رأى عن غُنْدر ورَوْح بن عُبادة، وأبي عبد الله محمد بن إسحاق البَلْخي اللؤلؤي روى عن عمرو بن بشْر، عن أبيه، عن جده، وعنه موسى الحمال. وأما زكريّاء أبو السُّكَيْن فهو زكريّاء بن يحيى بن عمر بن حصن بن خميد بن مُنْهِبِ -اسم فاعل من أنهب- بن حارثة بن خُريم بن أوس بن حارثة بن لام الطائي الكوفي نزيل بغداد. وروى عن: أبيه، وعم أبيه زحر، وعن المحاربي، وعن عبد الله بن نُمَيْر، وأبي بكر بن عَيّاش، وغيرهم. وروى عنه: البُخاري، والحسن بن الصباح البزار، والحسن بن محمد بن الصبّاح الزَّعفرانيّ وهما من أقرانه، وابن صاعد، وغيرهم. ذكره ابن حِبّان في "الثقات". وقال الخطيب: ثقة. وقال الدّارقطني: كوفي ليس بالقوي، يحدث بأحاديث ليست بمضيئة. وقال مرة: يحدث بأحاديث

لطائف إسناده

خطأ. وقال مرة: متروك. وتقدم قريبًا قول ابن حجر في "مقدمته": إن البخاري لم يخرج له إلا حديث العيدين، وذكرته هنا لقوله المار في "تهذيب التهذيب": إن الظاهر عنده أنه هو الراوي عن أبي أسامة. مات سنة إحدى وخمسين ومئتين. الثاني: من السند أبو أسامة حمّاد بن أسامة مرَّ تعريفه في الحديث الحادي والعشرين من كتاب العلم. ومرَّ تعريف هشام بن عُروة وأبو عُروة وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها في الحديث الثاني من بدء الوحي. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة، ورواته ما بين بَلْخي وكوفي ومدني، وفيه رواية الأب عن الابن. أخرجه البخاري هنا، وفي التفسير عن زكريّاء أيضًا، ومسلم في الاستئذان. باب التبرز في البيوت عقَّبَ المصنف بهذه الترجمة ليشير إلى أن خروج النساء إلى البَراز لم يستمرَّ، بل اتُّخذت بعد ذلك الأخلية في البيوت، فاستغْنَيْن عن الخروج إلا للضرورة.

الحديث الرابع عشر

الحديث الرابع عشر حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ عَنْ وَاسِعِ بْنِ حَبَّانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: ارْتَقَيْتُ فَوْقَ ظَهْرِ بَيْتِ حَفْصَةَ لِبَعْضِ حَاجَتِي، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقْضِى حَاجَتَهُ مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةِ مُسْتَقْبِلَ الشَّامِ. قوله: "فوق ظهر بيت حفصة" قد مرّت الروايات في باب من تبرَّزَ على لبِنَتَيْن. ومرَّ الجمع بينها هناك. وقوله: "مستدبرَ القبلة مستقبلَ الشام" لا يقال: شرط الحال أن تكون نكرة ومستدبر مضاف لمعرَّف فيعرف, لأن إضافته لفظية، وهي لا تفيد التعريف. وتقدمت مباحث هذا الحديث والذي بعده في الحديث السابق في الترجمة المذكورة آنفًا. رجاله ستة: الأول: إبراهيم بن المنذر، مرَّ تعريفه في الحديث الأول من كتاب العلم. ومرَّ تعريف محمد بن يحيى بن حَبّان وعمه واسع في الحديث الحادي عشر من هذا الكتاب. ومرَّ تعريف عبد الله بن عُمر في أول كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه. الثاني: من السند أنَس بن عِياض بن ضمْرة، وقيل: ابن عبد الرحمن، وقيل: ابن جُعْدُبة. وقال ابن حبان في "الثقات": من ظن أنه أخو يزيد بن عِياض بن جُعْدُبة فقد وهم، نعم هما جميعًا من بني ليث من أهل المدينة، أبو ضمرة الليثي المدني.

قال ابن سعد: كان ثقة كثير الخطأ. وقال ابن مَعين: ثقة. وقال أبو زُرعة والنّسائي: لا بأس به. وقال يونُس بن عبد الأعلى: ما رأينا أسمح بعلمه منه. وحُكِيَ عن إسماعيل بن رشيد قال: كنا عند مالك في المسجد، فأقبل أو ضَمْرة، فأقبل مالك يُثني عليه ويقول فيه الخير، وإنه وإنه، وقد سمع وكتب. وحكى أحمد بن صالح أنه ذُكر عند مالك، فقال: لم أر عند المحدثين غيره، ولكنه أحمق، يدفع كتبه إلى هؤلاء العراقيين. وقال مروان: كانت فيه غفلة الشاميين، ووثقه، ولكنه كان يعرض كتبه على الناس. روى عن: هشام بن عُروة، وشَريك بن أبي نمر، وأبي حازم، وربيعة، وصالح بن كَيْسان، وابن جُرَيْج، والأَوْزاعي، وجماعة. وروى عنه: ابن وَهْب، وبقِيّة بن الوليد، ومات قبله، والشافعيّ، والقَعْنَبِيّ، وابن المديني، وأحمد بن حَنْبل، وقُتيبة، وإبراهيم بن المُنْذر، وخلق. مات سنة مئتين عن ست وتسعين سنة، وهو من الأفراد، وليس في الكتب الستة أنس بن عياض سواه. الثالث: عُبيد الله -بالتصغير- بن عبد الله بن عُمر بن حَفْص بن عاصم بن عُمر بن الخطاب أبو عُثَمان القُرشي العَدَوي المدني، أمه فاطمة بنت عمر بن عاصم بن عُمر. وثقه ابن مَعين، وأبو حاتم، وأبو زُرعة. وقال النَّسائي: ثقة ثبت. وقال ابن مَنْجويه: كان من سادات أهل المدينة وأشراف قريش فضلًا وعلمًا وعبادة وشرفًا وحفظًا وإتقانًا. وكذا قال ابن حِبّان في "الثقات". وقال أحمد بن صالح: ثقة ثبت مأمون، ليس أحد أثبت في حديث نافع منه. وقيل لابن مَعين: مالك أحب إليك عن نافع أو عبيد الله؟ قال: كلاهما, ولم يفضل. وقال جعفر الطّيالسي: سمعت يحيى بن مَعين يقول: عُبيد الله عن القاسم عن عائشة الذهب المُشَبّك بالدُّر. فقلت: هو أحب إليك أو الزُّهري عن عُروة عن عائشة؟ قال: هو إلي أحب. وقال أحمد بن صالح: عُبيد الله أحب إلى من مالك في حديث نافع.

لطائف إسناده

وذُكر ليحيى بن سعيد قول ابن مَهدي: إن مالكًا أثبت في نافع من عبيد الله، فغضب. وقال: أبو حاتم: عُبيد الله أثبتهم وأحفظهم وأكثرهم رواية. وذكره ابن سعد في الطبقة الخامسة، وقال: لما خرج محمد بن عبد الله بن الحسن على المنصور، لزم عُبيد الله ضيعته، واعتزل، فلما قُتل محمد رجع إلى المدينة، وكان حجة ثقة كثير الحديث. روى عن أم خالد بنت خالد ولها صحبة، وعن أبيه، وخاله حبيب بن عبد الرحمن، وسالم بن عبد الله، والقاسم بن محمد، وسُمَيّ مولى أبي بكر، وعبد الله بن دينار، وأبي الزِّناد، وعطاء بن أبي رباح، وخلق. وروى عنه: عبد الله، وحُميد الطويل -وهو من شُيوخه- وأيوب السِّخْتِياني ومات قبله، ويحيى بن سعيد الأنصاري وهو أكبر منه، والحمّادان، والسُّفيانان، وشعبة، وابن المبارك، ويحيى القطّان، وخلق. مات بالمدينة سنة سبع وأربعين ومئة. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة، ورواته كلهم مدنيون، وفيه ثلاثة من التابعين، بعضهم عن بعض، وهم: عبيد الله، ومحمد بن يحيى، وواسع. ورواية صحابي عن صحابي على قول من يعدُّ واسعًا من الصحابة. وتقدم ذكر من أخرجه في الحديث الحادي عشر من هذا الكتاب، وهو هذا بعينه.

الحديث الخامس عشر

الحديث الخامس عشر حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، أَنَّ عَمَّهُ وَاسِعَ بْنَ حَبَّانَ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ قَالَ: لَقَدْ ظَهَرْتُ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى ظَهْرِ بَيْتِنَا، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَاعِدًا عَلَى لَبِنَتَيْنِ مُسْتَقْبِلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. لم يقع في رواية يحيى الأنصاري هذه "مستدبر القبلة" كما في رواية عبيد الله السابقة , لأن ذلك من لازم من استقبل الشام بالمدينة , وإنما ذكرت في رواية عُبيد الله للتأكيد والتصريح به. وقال هنا: "مستقبل بيت المقدس"، وفي السابقة "مستقبل الشام"، فغاير في اللفظين، والمعنى واحد, لأنهما في جهة واحدة. رجاله ستة: الأول: يعقوب بن إبراهيم الدُّوْرَقي مرَّ في الحديث الثامن من كتاب الإيمان. ومرَّ يحيى بن سعيد في الحديث الأول من بدء الوحي. ومرَّ عبد الله بن عمر في أول كتاب الإِيمان قبل ذكر حديث منه. ومرَّ محمد بن يحيى بن حَبّان وعمه واسع في الحديث الحادي عشر من هذا الكتاب. الثاني: من السند يزيد بن هارون بن وادي، ويقال: زاذان بن ثابت السُّلَمي مولاهم، أبو خالد الواسِطيّ، أحد الأعلام الحفاظ المشاهير. قيل: أصله من بخارى.

قال أبو حاتم: ثقة صدوق، لا يسأل عن مثله. وقال أبو بكر بن أبي شيبة: ما رأيت أتقن حفظًا من يزيد. وقال أبو زُرعة: والإِتقان أكثر من حفظ السَّرْد. وقال ابن المديني: هو من الثقات، وما رأيت أحفظ منه. وقاله العِجْلي: ثقة ثبت في الحديث، وكان متعبدًا حسن الصلاة جدًّا، وكان يصلي الضُّحى ستة عشر ركعة، وكان قد عَمِيَ. وقال الحسن بن عَرَفة: قلت ليزيد: ما فعلت تلك العينان الجميلتان؟ قال: ذهب بهما بكاء الأسحار. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة، وكان يُعد من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر. وقيل لأحمد: يزيد بن هارون له فقه؟ قال: نعم، ما كان أفطنه وأذكاه وأفهمه. قيل له: فابن عُلَيّة؟ قال: كان له فقه، لا أعلم أني أخْبُره خُبْري يزيد، ما كان أجمع أمر يزيد، صاحب صلاة، حافظ، متقن للحديث، صوّانه، وحَسَنُ مذهبٍ. وقال عفان: ما رأيت عالمًا قط أحسن صلاة منه، يقوم كأنه أسطوانة، لم يكن يفتر عن صلاة الليل والنهار، وكان هو وهشيم معروفين بطول الصلاة. وقال يحيى: ابن يحيى: كان بالعراق أربعة من الحفاظ، فذكره فيهم، وأشار إلى أنه أحفظ من وكيع. وقال مؤمل بن إهاب: سمعت يزيد يقول: ما دلستُ قط إلا حديثًا واحدًا عن عون. فما بُورك لي فيه. وقال محمد بن قُدامة الجوهري: سمعته يقول: أحفظ خمسة وعشرين ألف إسناد ولا فخر. وقال علي بن شُعيب: سمعته يقول: أحفظ أربعة وعشرين ألف حديث بإسناده ولا فخر، وأحفظ للشاميين عشرين ألف حديث لا أُسأل عنها. وقال يحيى بن أبي طالب: كان يقول: إن في مجلسه سبعين ألف رجل. وقال زياد بن أيوب: ما رأيت له كتابًا قطُّ ولا حديثًا إلا حفظًا. وقال أحمد بن الطيب: سمعت يزيد يقول لهارون مستمليه: بلغني أنك تريد أن تُدخل علي في حديثي، فاجهد جهدك، لا أرعى الله تعالى عليك إن رعيت، أحفظ ثلاثة وعشرين ألف حديث.

لطائف إسناده

وقال الزَّعفراني: ما رأيت خيرًا من يزيد. وذكره ابن حِبان في "الثقات" وقال: كان من خيار عباد الله تعالى، ممن يُحفظ حديثه. وقال زكريّاء بن يحيى: كنا نسمع أن يزيد من أحسن أصحابنا صلاة، وأعلمهم بالسنة. وذكر ابن أبي خَيْثمة عن أبيه أنه كان بعد أن كُفَّ بصره إذا سُئل عن الحديث لا يعرفه أمر جاريته أن تحفظ له من كتابه، وكان ذلك يُعاب عليه، وكان المتقدمون يحترزون عن الشيء اليسير من التساهل, لأن هذا يلزم منه اعتماده على جاريته، وليس عندها من الإتقان ما يميز بعض الأجزاء من بعض، فمن هنا عابوا عليه هذا الفعل. قال ابن حجر: وهنا في الحقيقة لا يلزم منه الضَّعْف والتليين. روى عن: حُميد الطويل، وعاصم الأحْول، وسليمان التَّميمي، ويحيى ابن سعيد الأنصاري، ومسلم بن سعيد، وهمّام، ووَرْقاء، وهشام بن حَسّان، وهشام الدَّسْتُوائي، وخلق. وروى عنه: بقِيّ بن الوليد ومات قبله، وآدم بن أبي إياس، وأحمد بن حَنْبل، ويحيى بن مَعين، وابن المديني، وإسحاق بن راهويه، وهارون الحمال، ويعقوب الدَّوْرقي. وأدركه البخاري بالسن لكن مات قبل أن يرحل، فأخذ من كبار أصحابه، وخلق كثير. مات في خلافة المأمون في غُرة ربيع الآخر سنة ست ومئتين. والسُّلمي في نسبه مرَّ في الرابع من بدء الوحي، ومرَّ الواسطيّ في الخامس منه. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والإخبار والعنعنة، ورواته أئمة أجلاّء أعلام، وفيه رواية ثلاثة من التابعين بعضهم عن بعض. ومرَّ ذكر المواضع التي أُخرج فيها عند أول ذكره في الحديث الحادي عشر من هذا الكتاب.

باب الاستنجاء بالماء

باب الاستنجاء بالماء أي: هذا باب في حكم الاستنجاء بالماء، والاستنجاء في اللغة الذهاب إلى النَّجْوة من الأرض لقضاء الحاجة، والنَّجوة المرتفع من الأرض، كانوا يستترون به إذا قعدوا للتخلي، وهو استفعال من النَّجْو، ومعناه إزالة النَّجو، وهو الأذى الباقي في فم أحد المخرجين بالحجر أو بالماء. وأراد المصنف بهذه الترجمة الرد على مَنْ كره الاستنجاء بالماء، وعلى مَنْ نفى وقوعه من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، متمسكًا بما رواه ابن أبي شيبة بأسانيد صحيحة، عن حُذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه، أنه سُئل عن الاستنجاء بالماء. فقال: إذًا لا يزال في يديَّ نتنٌ. وعن نافع أن ابن عمر كان لا يستنجي من الماء. وعن ابن الزُّبير قال: ما كنا نفعله. وعن سعيد بن المسيِّب أنه سُئل عن الاستنجاء بالماء، فقال: إنه وضوء النساء. ونقل ابن التين عن مالك أنه أنكر أن يكون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم استنجى بالماء، وعن ابن حبيب من المالكية أنه منع الاستنجاء بالماء لأنه مَطْعوم. قلت: كيف يصح إنكار الاستنجاء بالماء مع ما هو مطبَقٌ عليه عند المفسرين من أن قوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة: 108]، نزلت في أهل قباء، أو أهل المدينة، وأن النبي عليه الصلاة والسلام سألهم عن الطهارة التي مدحهم الله تعالى بها، فقالوا له: كنا نُتْبِعُ الحجارة بالماء. فقال: "هو ذاك، فعليكُموه" رواه البزار. وروى ابن خُزيمة في "صحيحه" أنه صلى الله تعالى عليه وسلم أتاهم في مسجد قُباء، فقال: "إن الله تعالى قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم"، فما هذا الطهور الذي تطهرون به؟ " قالوا: والله يا رسول الله ما نعلم شيئًا، إلا أنه كان لنا جيرانٌ من اليهود، فكانوا يغسِلون أدبارهم من الغائط، فغسلنا كما غسلوا. وقال ابن العربي: إن هذا الحديث لم يصح، والله تعالى أعلم.

الحديث السادس عشر

الحديث السادس عشر حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِى مُعَاذٍ وَاسْمُهُ عَطَاءُ بْنُ أَبِى مَيْمُونَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا خَرَجَ لِحَاجَتِهِ، أَجِيءُ أَنَا وَغُلاَمٌ مَعَنَا إِدَاوَةٌ مِنْ مَاءٍ. يَعْنِي يَسْتَنْجِي بِهِ. قوله: "كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إذا خرج لحاجته" لفظة "كان" تشعر بالتكرار والدوام، وكلمة "إذا" ظرف، ويحتمل أن يكون فيها معنى الشرط، وجوابه جملة "أجيء"، و"خرج" أي: من بيته أو من بين الناس، "لحاجته" أي: البول أو الغائط. وقوله: "أجيء أنا وغلام" الجملة في محل نصب على أنها خبر كان، والعائد محذوف، أي: أجيئه، وضمير أنا ضمير متصل، أبرزه ليصح العطف على ضمير الرفع المتصل. وزاد المصنف في الرواية الآتية عقب هذه: "منا" أي: من الأنصار، كما صرح به الإسماعيلي في روايته، ولمسلم: "نحوي" أي: مقارب لي في السنن. والغلام هو المترعرع، وقال في "المحكم": من لدن الفطام إلى سبع سنين. وقال الزَّمَخْشري: الغلام هو الصغير إلى حد الالتحاء، فإن قيل له بعد الالتحاء: غلام، فهو مجاز. والغلام المذكور لم يُسَمَّ. وقال في "الفتح": إن إيراد المصنف لحديث أنس مع الطرف المعلق الآتي قريبًا من حديث أبي الدَّرداء يشعر إشعارًا قويًّا بأن الغلام المذكور في حديث أنس هو ابن مسعود، وقد مرَّ أن لفظ الغلام يُطلق على غير الصغير مجازًا، وقد

قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لابن مسعود بمكة وهو يرعى الغنم: "إنك لغلامٌ معلّم"، وعلى هذا فقول أنس: "وغلام منّا" أي: من الصحابة أو من خدم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم. وأما رواية الإسماعيلي التي فيها: "من الأنصار" فلعلها من تصرف الراوي، حيث رأى في الرواية "منا"، فحملها على القبيلة، فرواها بالمعنى، فقال: "من الأنصار"، أو إطلاق الأنصار على جميع الصحابة سائغ، وإن كان العرف خَصَّه بالأوس والخزرج. وقيل: الغلام أبو هُريرة، لما رواه أبو داود عن أبي هريرة قال: كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إذا أتى الخلاء أتيته بماء في ركوة، فاستنجى، فيمكن أن يفسر به الغلام المذكور في حديث أنس. ويؤيده ما رواه المصنف في ذكر الجن عن أبي هريرة أنه كان يحمل مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الإداوة لوضوئه وحاجته. لكن يبعده أن إسلام أبي هُريرة بعد بلوغ أنس، وأبو هُريرة كبير، فكيف يقول أنس كما مرّ لمسلم: "وغلامٌ نحوي" أي: مقارب لي في السن. وعند مسلم في حديث جابر الطويل في آخر الكتاب أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم انطلق لحاجته. فاتّبعه جابر بإداوة، فيحتمل أن يفسر به المبهم، ولاسيما وهو أنصاري. ووقع عند الإسماعيلي عن شُعبة: "فاتَّبعتُه وأنا غلامٌ" بتقديم الواو، فتكون حالية، لكن تعقبه الإسماعيلي بأن الصحيح: "أنا وغلام" أي: بواو العطف. وقوله: "معنا إِداوة" بسكون العين وفتحها، وبكسر الهمزة في الإداوة، وهي إناء صغير من جلد كالسطحية مملوءة ماء. وقوله: "يعني: يستنجي به" قائل يعني هو هشام، أي: يعني أنس أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يستنجي بالماء. وقد تعقب الأصيلي البخاري في

استدلاله بحديث الباب على الاستنجاء بالماء، قائلًا: إن قوله هنا: "يستنجي به" ليس هو من قول أنس، إنما هو من قول أبي الوليد هشام الراوي، وقد رواه سليمان بن حرب عن شعبة فلم يذكرها، فيُحتمل أن يكون الماء لوضوئه. وزعم بعضهم أن قوله: "يستنجي" مدرَجٌ من عطاء الراوي عن أنس، فيكون مرسلًا، وحينئذ فلا حجة فيه. وهذا يرده ما عند الإسماعيلي عن شعبة: "فانطلقت أنا وغلام من الأنصار، معنا إداوة من الماء يستنجي منها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم". ولمسلم عن عطاء عن أنس: "فخرج علينا وقد استنجى بالماء". وللمؤلف عن عطاء بن أبي مَيْمونة: "إذا تبرَّزَ لحاجته، أتيته بماء، فيغتسل به". وعند ابن خُزيمة في "صحيحه" عن إبراهيم بن جرير، عن أبيه "أنه صلى الله تعالى عليه وسلم دخل الغَيْضة، فقضى حاجته فأتاه جرير بإداوة من ماءٍ فاستنجى منها". وفي "صحيح" ابن حبان، عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: "ما رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خرج من غائط قطُّ إلا مسَّ ماء". وعند الترمذي، وقال: حسن صحيح أنها قالت: "مرنَ أزواجكُنَّ أن يغسِلوا أثر الغائط والبول، فإن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يفعله". وهذا كله يرد على الأصيلي وعلى مَنْ كره الاستنجاء بالماء فيما مر. وقال بعضهم لا يجوز الاستنجاء بالأحجار مع وجود الماء، والسنة قاضية عليهم، استعمل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الأحجار وأبو هريرة معه، ومعه إداوة ماء. والذي عليه جمهور السلف والخلف رضي الله تعالى عنهم أن الجمع بين الحجر والماء أفضل، فيقدم الحجر لتخفيف النجاسة وتقل مباشرتها بيده، ثم يستعمل بالماء، وسواء فيه البول والغائط. وكلام القفّال الشاشي يقتضي تخصيصه بالغائط. فإن أراد الاقتصار على أحدهما فالماء أفضل، لكونه يزيل عين النجاسة وحكمها، والحجر يزيل العين فقط. والخُنْثى المشكل يتعيّن فيه

رجاله أربعة

الماء كالأنثى، ويشترط في الحجر الطهارة إلا في الجمع بينه وبين الماء كما قاله الغزالي. رجاله أربعة: الأول: أبو الوليد هشام بن عبد الملك، مرَّ تعريفه في الحديث العاشر من كتاب الإيمان. ومرَّ تعريف شُعبة بن الحجّاج في الحديث الثالث منه. ومرَّ تعريف أنس بن مالك في الحديث السادس منه أيضًا. الثاني: من السند عطاء بن أبي مَيْمونة، واسمه مَنيع البصري أبو مُعاذ مولى أنس، ويقال: مولى عِمْران بن حُصَيْن. وثقه ابن مَعين، والنسائي، وأبو زرعة. وقال أبو حاتم: صالح لا يُحتج بحديثه. ووثقه أيضًا يعقوب بن سُفيان. وقال البزار: بصري مشهور. وقال ابن عَدي: في أحاديثه ما يُنكر. وقال البُخاري وغير واحد: كان يرى القدر. احتج به الجماعة سوى الترمذي، وليس له في البخاري سوى حديث الاستنجاء هذا. روى عن: أنس، وعِمران، وجابر بن سَمُرة، وأبي بُرْدة بن أبي موسى، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وغيرهم. وروى عنه: ابناه إبراهيم وروح، وخالد الحذّاء، وشعبة، وحمّاد بن سلمة، وغيرهم. مات بالطاعون بالبصرة سنة إحدى وثلاثين ومئة. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة والسماع، ورواته كلهم بصريون، وهم من فرسان الستة إلا عطاء، فإن التّرمذي لم يخرّج له.

باب من حمل معه الماء لطهوره

وهو من رباعيات البُخاري. أخرجه البخاري هنا وفي الطهارة أيضًا وفي الصلاة. ومسلم والنسائي وأبو داود في الطهارة أيضًا. باب مَنْ حمل معه الماء لطهوره " حمل" بضم الحاء وكسر الميم الخفيفة، أو بفتح الحاء والميم. وقوله: "لطُهوره" بضم الطاء ليتطهر به، وفي رواية: "لطَهورٍ" بفتح الطاء، وحذف الضمير. وقال أبو الدرداء أليس فيكم صاحب النعلين والطهور والوساد. هذا الخطاب لعَلْقمة بن قيْس، والمراد بصاحب النعلين وما ذُكر معهما عبد الله بن مسعود, لأنه كان يتولى خدمة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في ذلك. وصاحب النعلين في الحقيقة هو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وقيل لابن مسعود: صاحب النعلين مجازًا لكونه كان يحملهما. و"الطَّهور" بفتح الطاء، و"الوِساد" بكسر الواو، أي: صاحب نعلي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ومائه الذي يتطهر به، ومخدته، أي: لم لا تسألون ابن مسعود رضي الله تعالى عنه وهو في العراق بينكم؟ وكيف تحتاجون معه إلى أهل الشام أو إلى مثلي؟. وهذا التعليق وصله البخاري بتمامه في المناقب. وأبو الدَّرداء هو عُوَيْمر بن عامر بن مالك بن زيد بن قَيْس بن أمية. وقيل: عُويمر بن عبد الله بن زيد بن قَيْس بن أمية بن عامر بن عديّ بن كعب بن الخَزْرجَ بن الحارث بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج. وقيل: اسم أبي الدرداء عامر بن مالك، وعُوَيْمر لقب له. واسم أمه مجّة بنت واحد بن عمرو بن الأطنابة. وقيل: واقدة بنت واقد. قيل: إنه أسلم يوم بدر، وشهد أحدًا، وأبلى فيها بلاءً حسنًا. روي عن شُريح بن عُبيد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد: "نعمَ الفارس

عُوَيْمر" وقيل: إنه تأخر إِسلامه عنها, ولم يشهدها، وشهد الخندق وما بعدها من المشاهد. كان رضي الله عنه أحد العلماء والحكماء والفضلاء، آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين سلمان الفارسي. وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "عويمرٌ حكيمُ أُمتي". وروي عن مسروق أنه قال: شافهت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فوجدت علمهم انتهى إلى ستة: عمر، وعلي، وعبد الله بن مسعود، ومعاذ، وأبي الدَّرْداء، وزيد بن ثابت. وروي عن القاسم بن عبد الرحمن، قال: أبو الدرداء من الذين أوتوا العلم. وكان عبد الله بن عمر يقول: حدَّثونا عن العالِمَيْن العامِلَين، معاذ وأبي الدرداء. ورُوي عن يزيد بن عُميرة قال: لما حضرت معاذًا الوفاة، قيل له: يا أبا عبد الرحمن: أوصنا. قال: أجلسوني. إن للعلم والإيمان مكانهما، من ابتغاهما وجدهما، يقولها ثلاثًا، التمسوا العلم عند أربعة رهط. عند عُوَيْمر أبي الدَّرداء، وسلمان الفارسي، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن سلام الذي كان يهوديًّا وأسلم، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنه عاشر عشرة في الجنة". وروي عن أبي الدرداء أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا فرَطُكُم على الحوض، فلا أُلفينَّ ما نوزعت في أحدكم، فأقول: هذا مني. فيقال: لا تدري ما أحدث بعدك". فقلت: يا رسول الله: ادع الله أن لا يجعلني منهم. قال: "لست منهم فمات"، قبل قتل عثمان بسنتين. ورُوي عن عوف بن مالك أنه رأى في المنام قبة أدم في مرج أخضر، وحول القبة غنم ربوض تجتَرُّ وتبعر العجوة، قال: قلت: لمن هذه القبة؟ قيل: هذه لعبد الرحمن بن عوف، فانتظرناه حتى خرج، فقال: يا عوف هذا الذي أعطاناه الله بالقرآن، ولو أشرفت على هذه الثنية، لرأيت فيها ما لم تر عينك، ولم تسمع أذنك، ولم يخطر على قلبك مثله، أعده الله لأبي الدَّرداء، إنه كان يدفع الدنيا بالرّاحتين والصدر.

وقال أبو ذرٍّ لأبي الدَّرداء: ما حملت ورقاء، ولا أظلت غبراء أعلم منك يا أبا الدرداء. وروي عن معاوية أنه كان يقول: إن أبا الدرداء من الفقهاء والعلماء الذين يشفون من الداء. وقيل له: ما لك لا تقول الشعر، وكل لبيب من الأنصار قال الشعر. قال: وأنا قد قلت شعرًا. قيل له: ما هو؟ قال: يريدُ المرءُ أَنْ يُؤتى مُناهُ ... ويأبى الله إلا ما أرادَ يقولُ المرء فائدتي ومالي ... وتَقْوى الله أفضل ما استفادَ استقضاه عمر بن الخطاب على دمشق، وكان القاضي يكون خليفة الأمير إذا غاب. وقيل: بل استقضاه معاوية في خلافة عثمان، والصحيح أنه مات في خلافة عثمان قبل موته بسنتين، وقبره بالباب الصغير بدمشق. وقيل: مات بعد صفين سنة ثمان أو تسع وثلاثين، ومات عام موته كعب الأحبار. وله حكم مشهورة منها قوله: وجدت الناس أخبر نقله. ومنها: من يأت أبواب السلطان يقوم ويقعد. ووصف الدنيا فأحسن، فمن قوله فيها: الدنيا دار كدر، ولن ينجو منها إلا أهل الحذر. ولله فيها علامات، يسمعها الجاهلون، ويعتبرها العالمون، ومن علاماته فيها أن حفّها بالشهوات، فارتطم فيها أهل الشُّبهات، ثم أعقبها بالآفات، فانتفع بذلك أهل العظات، ومزج حلالها بالمؤونات، وحرامها بالتَّبعات، فالمثري فيها تعب، والمقل نصِب. وقال: رب شهوة ساعة أورثت حزنًا طويلًا. وقال: كنت تاجرًا قبل البعثة، فحاولت بعد ذلك التجارة والعبادة، فلم يجتمعا. فرض له عمر بن الخطاب رزقًا فألحقه بالبدريين لجلالته. له مئة وتسعة وسبعون حديثًا، اتفقا على حديثين، وانفرد البخاري بثلاثة، ومسلم بثمانية أحاديث.

وروى عن: عائشة، وزيد بن ثابت. وروى عنه: ابنه بلال، وزوجته أم الدَّرداء، وجُبَيْر بن نُفَير، وزيد بن وَهْب، وسُوَيْد بن غَفَلة، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وسعيد بن المسيِّب، ومحمد بن سِيرين، وخلق كثير.

الحديث السابع عشر

الحديث السابع عشر حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِى مُعَاذٍ هُوَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي مَيْمُونَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا خَرَجَ لِحَاجَتِهِ، تَبِعْتُهُ أَنَا وَغُلاَمٌ مِنَّا، مَعَنَا إِدَاوَةٌ مِنْ مَاءٍ. مرت مباحثته في الحديث الذي قبله, لأنه هو بنفسه، إلاَّ تغييرًا يسيرًا مرَّ التنبيه عليه هناك. وقوله "إذا خرج" إن قيل: إذا للاستقبال وخرج للماضي، فكيف يصح هنا، إذ الخروج قد وقع، فالجواب أن إذا هنا لمجرد الظرفية، فيكون المعنى تبعته حين خرج، أو هو حكاية للحال الماضية. رجاله أربعة: الأول: سليمان بن حَرْب مرَّ تعريفه في الحديث الرابع عشر من كتاب الإِيمان. ومرَّ تعريف شعبة في الحديث الثالث منه. ومرَّ أنس في الحديث السادس منه. ومرَّ عطاء بن أبي مَيْمونة في الحديث الذي قبل هذا. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والسماع والعنعنة، ورواته كلهم بصريون، وهو من رباعيات البخاري، وقد مرَّ في ذكره أولًا المواضع التي أخرج فيها.

باب حمل العنزة مع الماء في الاستنجاء

باب حمل العنزة مع الماء في الاستنجاء " العَنَزَة" بفتح النون عصى أقصر من الرمح، لها سنان، وقيل: هي الحربة القصيرة، ويأتي في المتابعة قريبًا عصى عليها زُجٌّ بضم الزاي ثم جيم مشددة أي: سنان. وفي "الطبقات" لابن سعد أن النجاشي كان أهداها للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذا يؤيد كونها كانت على صفة الحربة.

الحديث الثامن عشر

الحديث الثامن عشر حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَدْخُلُ الْخَلاَءَ، فَأَحْمِلُ أَنَا وَغُلاَمٌ إِدَاوَةً مِنْ مَاءٍ، وَعَنَزَةً، يَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ. قوله: "سمع أنس بن مالك" أي: إنه سمع، ولفظة إن تُحذف في الخط عرفًا. وقوله: "يدخل الخلاء" بالمد، أي المتبَرَّز، والمراد به هنا الفضاء، لقوله في الرواية الأخرى: "كان إذا خرج لحاجته" ولقرينة حمل العنزة مع الماء، فإن الصلاة إليها إنما تكون حيث لا سترة غيرها، وأيضًا فإن الأخلية التي في البيوت إنما يتولى خدمته فيها عادة أهله. وقوله: "وعَنَزةً" بالنصب عطفا على "إداوةً". وقوله: "يستنجي بالماء" أي: النبي -صلى الله عليه وسلم-. وفهم بعضهم من تبويب البخاري أن العَنَزة كانت تُحمل ليستتر بها عند قضاء الحاجة، وفيه نظر؛ لأن ضابط السترة في هذا ما يستر الأسافل، والعنزة ليست كذلك. نعم يُحتمل أن يركزها أمامه ويضع عليها الثوب، أو يركزها بجنبه لتكون إشارة إلى منع من يروم المرور بقربه لا ليستتر بها، أو تُحمل لنبش الأرض الصلبة عند قضاء الحاجة لئلا يرتد عليه الرشاش، أو لمنع ما يعرِضُ من هوامِّ الأرض لكونه -صلى الله عليه وسلم- كان يُبْعِد عند قضاء الحاجة، أو تحمل لأنه كان إذا استنجى يتوضأ، وإذا توضأ صلى، وهذا أظهر الأوجه، وسيأتي التبويب على العنزة في سترة المصلي في الصلاة.

رجاله خمسة

وفيه جواز استخدام الأحرار، خصوصًا إذا أُرصِدُوا لذلك، ليحصل لهم التمرن على التواضع. وفيه أن خدمة العالم شرفًا للمتعلم، لكون أبي الدَّرداء مدح ابن مسعود بذلك. وفيه حجة على ابن حبيب حيث منع الاستنجاء بالماء؛ لأنه مطعوم, لأن ماء المدينة كان عذبًا. قلت: ما قاله في ماء المدينة بالعكس، فإن مياهها أكثرها ملح لا يصلح للشرب كما دلت عليه الأحاديث الواردة في ذلك، كحديث بئر رومة، وكحديث: "ذهب يستعذب لنا الماء". واستدل به بعضهم على استحباب التوضُّؤِ من الأواني دون الأنهار والبرك. ولا يستقيم إلا لو كان النبي -صلى الله عليه وسلم- وجد الأنهار والبرك فعدل عنها إلى الأواني. رجاله خمسة: الأول: محمد بن بشار مر تعريفه في الحديث الحادي عشر من كتاب العلم. ومر تعريف محمد بن جعفر في الحديث السادس والعشرين من كتاب الإيمان. وشعبة في الحديث الثالث منه. وأنس في الحديث السادس منه أيضًا. وعطاء بن أبي مَيْمونة في الحديث السادس عشر من كتاب الوضوء هذا. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة والسماع، ورواته أئمة أجلاّء. وفيه هنا سمع أنس بن مالك، وفي الرواية السابقة سمعت أنس بن مالك، ومحصلهما واحد، والفرق بينهما من جهة المعنى أن الأول إخبار عن عطاء، والثاني حكاية عن لفظه.

تابعه النضر وشاذان عن شعبة العنزة عصا عليها زج. ومتابعة النضر حديثها موصول عند النسائي، ومتابعة شاذان حديثها موصول عند البخاري في الصلاة كما سيأتي إن شاء الله، ولفظه: "ومعنا عُكّازة أو عَنَزة" والظاهر أن "أو" شكّ من الراوي لتوافق الروايات على ذكر العنزة. وأما الرجلان: فالأول: النضر بن شُمَيَّل بن خَرَشة بن يزيد بن كلثوم بن عَبْدة بن زُهير السكب الشاعر ابن عُروة بن حليمة بن حجر بن خزاعي بن مازن بن مالك بن عمرو بن تميم التميمي المازني النحوي أبو الحسن. كان عالمًا بفنون من العلم، صدوقًا، صاحب غريب وفقه ومعرفته بأيام العرب ورواية الحديث، وهو من أصحاب الخليل بن أحمد. وثقه ابن المديني وابن مَعين. وقال أبو حاتم: ثقة، صاحب سنة. وسئل ابن المبارك عنه فقال: درةٌ بين مروين ضائعة، يعني: مرو الرُّوزِ، ومروَ الشّاهجانِ. وقال مرة فيه: ذلك أحد الآخذين، لم يكن أحد من أصحاب الخليل يدانيه. وقال العباس: كان النَّضْر إمامًا في العربية والحديث، وهو أول من أظهر السنة بمرو وجميع خراسان، وكان أروى الناس عن شعبة، وأخرج كتبًا كثيرة لم يُسْبَق إليها، منها كتابه في الأجناس على مثال غريب سماه "كتاب الصفات" الجزء الأول منه يحتوي على خلق الإنسان والجود والكرم وصفات النساء. والثاني: يحتوي على الأخبية والبيوت، وصفات الجبال والشعاب. والثالث: على الإبل فقط. والرابع: على الغنم والطير والشمس والقمر والليل والنهار والألبان والكمأة والإبار والحياض والأرشية والدَّلاء وصفة الخمر. والخامس: على الزرع والكرم والعنب وأسماء البقول والأشجار، والرياح والسحاب والأمطار. ومنها كتاب "السلاح"، وكتاب "خلق الفرس"، وكتاب "الأنواء"، وكتاب

"غريب الحديث"، وكتاب "المعاني"، وكتاب "المصادر"، وغير ذلك. وقد ضاقت عليه المعيشة بالبصرة، فخرج يريد خراسان، فشيعه من أهل البصرة نحو من ثلاثة آلاف رجل، ما فيهم إلا محدث أو نحوي أو لغوي أو عَرُوضي أو أخباري، فلما صار بالمِرْبَد جلس، وقال: أيها الناس يعزُّ علينا فراقكم، والله لو وجدت كل يوم كَيْلَجة باقلي ما فارقتكم، فلم يكن أحد فيهم يتكلف له بذلك. فسار حتى وصل خراسان، فأفاد بها مالًا عظيمًا، وكانت إقامته بمرو. وقع مثل هذه القضية للقاضي عبد الوهاب المالكي لمّا خرج من بغداد. وله مع المأمون بن هارون الرشيد حكايات ونوادر لما كان مقيمًا بمرو، وكان يجالسه، فمن ذلك ما حكاه في "درة الغواص" من أنه قال: كنت أدخل على المأمون في سمره، فدخلت ذات ليلة وعليّ ثوب مرقوع، فقال: يا نضر ما هذا التقشف حتى تدخل على أمير المؤمنين في هذه الخَلَقَات؟ قلت: يا أمير المؤمنين: إن حر مرو شديد، وأنا شيخ كبير، فأبرد بهذه الخَلَقات. قال: ولكنك رجل قَشِفٌ. ثم أجرينا الحديث، فأجرى هو ذكر النساء، فقال: حدثنا هشيم، عن خالد، عن الشعبي، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيها سدادٌ من عَوَزٍ" فأورده بفتح السين. قال: فقلت: صدق يا أمير المؤمنين هُشيم، حدثنا عَوْف بن أبي جَميلة، عن الحسن، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيها سِدادٌ من عَوَزٍ" قال: وكان المأمون متكئًا، فاستوى جالسًا، وقال: يا نضر كيف قلت سِداد؟ قلت: لأن السِّداد هنا لحنٌ. قال: أوَ تُلَحِّنُني؟ قلت: إنما لحن هشيم وكان لحّانه. فتبع أمير المؤمنين لفظه، وقال: ما الفرق بينهما؟ قلت: السِّداد بالفتح: القصد في الدين والسبيل، والسِّداد بالكسر: البلغة، وكل ما سددتَ به شيئًا فهو سِداد. قال: أو تعرف العرب ذلك؟ قلت: نعم، هذا العَرْجيُّ يقول: أضاعوني وأيَّ فتىً أضاعوا ... ليومِ كريهةٍ وسِدادِ ثَغْرِ

فقال المأمون: قبّح الله من لا أدب له، وأطرق مَليًّا، ثم قال: ما مالك يا نضر؟ قلت: أُريضةٌ أتصابُّها وأتمززها. قال: أفلا نفيدك مالًا معها؟ قلت: إني إلى ذلك لمحتاج، فأخذ القرطاس وأنا لا أدري ما يكتب، ثم قال: كيف تقول إذا أمرت أن يُثْرب؟ قلت: أتربه. قال: فهو ماذا؟ قلت: مُثْرَبٌ. قال: فمن الطين؟ قلت: طِنْه. قال: فهو ماذا؟ قلت: مَطِيْنٌ. قال: هذه أحسن من الأولى. ثم قال: يا غلام: أتِربْه وطِنْه. ثم صلى بنا العشاء، وقال لخادمه: تبلغ معه إلى الفضل بن سهل. قال: فلما قرأ الفضل القِرْطاس، قال: يا نضر: إن أمير المؤمنين قد أمر لك بخمسين ألف درهم فما كان السبب فيه؟ فأخبرته ولم أكذبه. فقال: لحَّنْت أمير المؤمنين؟! فقلت: كلاّ، إنما لحن هُشيم وكان لحّانة، فتبع أمير المؤمنين لفظه وقد تتبع ألفاظ الفقهاء ورواة الآثار, ثم أمر لي بثلاثين ألف درهم، فأخذت ثمانين ألف درهم بحرف استُفيد مني. ومن أخباره أنه مرض، فدخل عليه قوم يعودونه، فقال له رجل منهم يُكْنى أبا صالح: مسح الله ما بك. فقال: لا تقل: مَسَحَ بالسين، ولكن قل: مَصَح الله بالصاد أي: أذهبه وفرَّقه، أما سمعت قول الأعشى وإذا ما الخمرُ فيها أزبَدَتْ ... أفَلَ الازبادُ فيها ومَصَحْ فقال له الرجل: إن السين قد تُبدل من الصاد، كما يقال: الصراط السراط، وصقر وسقر. فقال له النضر: فأنت إذًا أبا سالح. وتشبه هذه النادرة ما حكي أيضًا من أن بعض الأدباء جوِّز بحضرة الوزير أبي الحسن الفرات أن تُقام السين مقامَ الصاد في كل موضع. فقال له الوزير: أتقرأ {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ} أم من سلح، فخجل الرجل وانقطع. والذي ذكره أرباب اللغة في جواز إبدال الصاد من السين أن كل كلمة كان فيها سين وجاء بعدها أحد الحروف الأربعة، وهي: الطاء والخاء والغين والقاف، فيجوز إبدال السين بالصاد، فتقول في الصراط: السراط، وفي سخر

لكم: صخر لكم، وفي مسغبة: مصغبة، وفي سيقل: صيقل، وقس على هذا، وليس في هذا خلاف عند أهل اللغة سوى ما حكى الجوهري في لفظة صدغ، فإنه قال: وربما قال: السدغ بالسين، ولا فرق بين أن يكون أحد الحروف الأربعة متصلًا بالصاد كسخر ومصغبة، أو منفصلًا بحرف كسرق وكالسراط. روى عن: هشام بن عروة، وإسماعيل بن أبي خالد، وحُميد الطويل، وعبد الله بن عَوْن، وهشام بن حسان، وابن جُريج، وعوف بن أبي جميل، وخلق. وروى عنه: يحيى بن أبي يحيى النَّيْسابوري، وإسحاق بن راهويه، ويحيى بن مَعين، وعلي بن المديني، ومحمود بن غَيْلان، وإسحاق بن منصور الكَوْسَج، ومحمد ابن مُقاتل، وخلق. مات سلخ ذي الحجة سنة أربع ومئتين، وقيل: سنة ثلاث ومئتين بمدينة مرو من بلاد خراسان، وبها ولد، ونشأ بالبصرة، فلذلك نسب إليها رحمه الله تعالى. الثاني: شاذان، وهو الأسود بن عامر أبو عبد الرحمن الشامي نزيل بغداد. روى عن: شعبة، والحّمادَيْن، والثوري، والحسن بن صالح، وجرير، وجماعة. وروى عنه: أحمد بن حَنبل، وابنا أبى شيبة، وعلي بن المديني، والحارث ابن أبي أُسامة خاتمة أصحابه، وغيرهم. وروى عنه بَقِيّة: وهو أكبر منه. قال ابن مَعين: لا بأس به. وقال ابن المديني: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق صالح. وقال ابن سعد: صالح الحديث. وذكره ابن حِبّان في "الثقات". مات سنة ثمان ومئتين.

باب النهي عن الاستنجاء باليمين

باب النهي عن الاستنجاء باليمين أي: باليد اليمنى، وعبر بالنهي إشارة إلى أنه لم يظهر له هل هو للتحريم أو للتنزيه، أو أن القرينة الصارفة للنهي عن التحريم لم تظهر له، وهي أن ذلك أدب من الآداب، ويكون للتنزيه قال الجمهور، وذهب أهل الظاهر إلى أنه للتحريم، وفي كلام جماعة من الشافعية ما يشعر به، لكن قال النووي: مراد من قال منهم لا يجوز الاستنجاء باليمين أي: لا يكون مباحًا تستوي طرفاه، بل هو مكروه راجح الترك. ومع القول بالتحريم فمن فعله أساء وأجزأه، وقال أهل الظاهر وبعض الحنابله: لا يُجزىء. ومحل هذا الاختلاف حيث كانت اليد تباشر ذلك بآلة غيرها كالماء وغيره، أما بغير آلة فحرام غير مجزىء بلا خلاف، واليسرى في ذلك كاليمنى. قلت: هذا في غير مذهبنا معاشر المالكية، وأما مذهبنا فالاستنجاء باليد مباشرة مجزىء، إلا أنه يكره إذا كان لغير ضرورة، لان التلطخ بالنجاسة قبل دخول وقت الصلاة غاية ما فيه الكراهة.

الحديث التاسع عشر

الحديث التاسع عشر حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ هُوَ الدَّسْتَوَائِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلاَ يَتَنَفَّسْ فِي الإِنَاءِ، وَإِذَا أَتَى الْخَلاَءَ فَلاَ يَمَسَّ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ، وَلاَ يَتَمَسَّحْ بِيَمِينِهِ". قوله: "إذا شرب أحدكم" أي: ماء أو غيره, لأن حذف المفعول يؤذن بالعموم. وقوله: "فلا يتنفّس في الإناء" بالجزم في الثلاثة على أن لا ناهية، ورُوي بالضم فيها على أنها نافية. وقوله: "في الإناء" أي: داخله، والنهي للتأديب لإِرادة المبالغة في النظافة، إذ قد يخرج مع التنفس بصاق أو مخاط أو بخار رديء فيكسبه رائحة كريهة، فيتقذر بها هو أو غيره عن شربه. والسنة أن يبين الإناء عن فمه، ويتنفس خارجه ثلاثًا، فقد أخرج مسلم وأصحاب السنن عن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يتنفس في الإناء ثلاثًا، ويقول: "هو أروى وأمرأ وأبرأ"، وفي رواية "أهنأ" بدل: "أروى". و"أروى": هو من الرِّي بكسر الراء غير مهموز، أي: أكثر رِيًّا، ويجوز أن يُهمز للمشاكلة. "وأمرأ" بالهمز من المراءة، يقال: مرَأ الطعام يَمْرأ بفتح الراء فيهما، أي: صار مرئيًا. و"أبرأ" بالهمز من البراءة أو من البُرْء, أي يُبرىء من الأذى والعطش. و"أهنأ" بالهمز من الهناء، والمعنى أنه يصير هنيئًا مريئًا بريئًا، أي: سالمًا أو مبرئًا من مرض أو عطش أو أذى.

ويؤخذ من ذلك أنه أقمع للعطش، وأقوى على الهضم، وأقل أثرًا في ضعف الأعضاء وبرد المعدة، واستعمال أفعل التفضيل في هذا يدل على أن للمرتين في ذلك مدخلًا في الفضل المذكور. ويؤخذ منه أن النهي عن الشرب في نفس واحد للتنزيه، وهذا قول مالك. وقال عمر بن عبد العزيز: إنما نُهي عن التنفس داخل الإناء، فأما من لم يتنفس فإن شاء فليشرب بنفس واحد وهو تفصيل حسن. وقد ورد الأمر بالشرب بنفس واحد عن أبي قتادة مرفوعًا أخرجه الحاكم، ويمكن حمله على التفصيل المذكور، قال المهلب: النهي عن التنفس في الشراب كالنهي عن النفخ في الطعام والشراب، من أجل أنه قد يقع فيه شيء من الريق، فيعافه الشارب ويتقذره إذ كان التقذر في مثل ذلك عادة غالبة على طباع أكثر الناس، ومحل هذا إذا أكل أو شرب مع غيره، وأمّا لو أكل وحده أو مع أهله أو من يعلم أنه لا يتقذر شيئًا مما يتناوله فلا بأس. قال في "الفتح": الأولى تعميم المنع, لأنه لا يؤمن مع ذلك أن تفضل فضلة، أو يحصل التقذر من الإناء أو نحو ذلك. قلت: ما قاله المهلب أولى وأوجه, لأن الاستقذار إنما يحصل ويُحذر منه حالة الأكل، فإذا أُمن منه حالة الأكل فالاطلاع عليه بعد الأكل بعيد, لأن ما يحصل من التنفس قليل جدًّا لا يظهر له تأثير. وفي هذا ردٌّ أيضًا على قول ابن العربي: هو من مكارم الأخلاق. ولكن يحرم على الرجل أن يُناول أخاه ما يتقذره، فإن فعله في خاصة نفسه فجاء غيره فناوله إياه فليعلمه، فإن لم يعلمه فهو غشٌّ، والغشُّ حرام. والعجب منه حيث قال: إن عدم إعلامه بما تنفس فيه حرام، فكيف يكون حرامًا؟ وأي وجه لحرمته؟ فإن البصاق طاهر إجماعًا، فإذا تسبب في أكله لشيء طاهر لم يظهر له فيه استقذار كيف يكون حرامًا؟ ولو كان ظهر له فيه قذر ما أكله،

بل لو أكرهه على كله لم تكن فيه حرمة. وكيف يلتئم التحريم مع قوله: إن التنفس خارج الإناء من مكارم الأخلاق؟ فتأمل. وقال القُرطبي: معنى النهي عن التنفس في الإناء لئلا يتقذر به من بزاق أو رائحة كريهة تتعلق بالماء، وعلى هذا إذا لم يتنفس يجوز له الشرب بنفس واحد، وقيل: يُمنع مطلقًا, لأنه شرب الشيطان. قال: وقول أنس: "كان يتنفس في الشرب ثلاثًا" قد جعله بعضهم معارضًا للنهي، وحُمل على بيان الجواز، ومنهم من أومأ إلى أنه من خصائصه, لأنه كان لا يُتقذر منه شيء. وأخرج الطبراني في "الأوسط" بإسناد حسن عن أبي هريرة "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يشرب في ثلاثة أنفاس، إذا أدنى الإناء إلى فيه يسمي الله تعالى، فإذا أخره حمد الله تعالى، يفعل ذلك ثلاثًا". وأصله في ابن ماجه، وله شاهد من حديث ابن مسعود عند البزّار والطبراني. وأخرج الترمذي عن ابن عباس "سمّوا إذا أنتم شربتم، واحمدوا إذا أنتم رفعتم" وهذا يحتمل أن يكون شاهدًا لحديث أبي هريرة المذكور، ويحتمل أن يكون المراد به في الابتداء والانتهاء فقط. وأخرج الترمذي وصححه والحاكم عن أبي سعيد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن النفخ في الشراب. فقال رجل: القذاة أراها في الإناء. قال: "أهرقها". قال: فإني لا أروَى من نفس واحد. قال: فأَبِنِ القدح إذا عنَّ فيك". ولابن ماجه عن أبي هريرة رفعه: "إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإِناء، فإذا أراد أن يعودَ فليُنَحِّ الإِناء ثم ليعُد إن كان يريد". قال الأثرم: واختلاف الرواية في هذا قال على الجواز، وعلى اختيار الثلاث، والمراد بالنهي عن التنفس في الإناء أن لا يجعل نفسه داخل الإِناء، وليس المراد أن يتنفس خارجه طلب الراحة. وقوله: "وإذا أتى الخلاء" أي: فبال كما فسرته الرواية الآتية.

وقوله: "فلا يمسَّ ذكره بيمينه" أي: حالة البول، والفاء في فلا جواب الشرط، كهي في السابقة، ويجوز في سين يمس الفتح لخفته، والكسر على الأصل في تحريك الساكن، وفك الإِدغام، وإنما لم يظهر الجزم فيها للإِدغام، فإذا زال ظهر. وقوله: "ولا يتمسّحُ بيمينه" أي: تشريفًا لها عن مماسة ما فيه أذى أو مباشرته، وربما يتذكر عند تناوله الطعام ما باشرته يمينه من الأذى، فينفر طبعه عن تناوله، وقد مر في الترجمة ما قيل في المراد بالنهي. وقد أورد الخطابي هنا بحثًا، وهو أن المستجمر متى استجمر بيساره استلزم مس ذكره بيمينه، ومتى أمسكه بيساره استلزم استجماره بيمينه، وكلاهما قد شمله النهي. وأجاب عنه بأنه يقصد الأشياء الضخمة التي لا تزول بالحركة، كالجدار ونحوه من الأشياء البارزة، فيستجمر بها بيساره، فلا يكون متصرفًا في شيء من ذلك بيمينه. وهذه هيئة منكرة، بل يتعذر فعلها في غالب الأوقات، وتعقبه الطيبي بأن النهي عن الاستجمار باليمين مختص بالدبر، والنهي عن المس مختص بالذكر، فبطل ألا يراد من أصله كذا. قال: وما ادّعاه من تخصيص الاستنجاء بالدبر مردود، والمس وإن كان مختصًّا بالذكر لكن يلحق به الدبر قياسًا، والتنصيص على الذَّكر لا مفهوم له، بل فرج المرأة كذلك، وإنما خص الذكر بالذكر لكون الرجال في الغالب هم المخاطبون، والنساء شقائق الرجال في الأحكام إلا ما خُص، والصواب ما قاله إمام الحرمين ومَن بعده كالغزالي والبغوي، أنه يُمِرَّ العضو بيساره على شيء يمسكه بيمينه، وهي قارّة غيرمتحركة، فلا يعدُّ مستجمرًا باليمين، ولا ماسًا بها، ومن ادعى أنه في هذه الحالة يكون مستجمرًا فقد غلط، وإنما هو كمن صب الماء بيمينه على يساره حال الاستنجاء، ومحصله أنه لا يجعل يمينه محركة للذكر ولا للحجر، ولا يستعين بها إلا لضرورة، كما إذا استنجى بالماء أو بحجر لا يقدر على الاستنجاء به إلا بمسكه بها.

رجاله خمسة

رجاله خمسة: الأول: مُعاذ بن فَضالة -بضم ميم معاذ، وفتح فاء فضالة- الزَّهراني، ويقال: الطُّفاوي مولى قريش، أبو زيد البصري. روى عن: هشام الدَّسْتُوائي، وسفيان الثَّوري، وعمر بن قيس سَندل، وعبد الرحمن بن شُريح، ويحيى بن أيّوب المصري، وغيرهم. وروى عنه: البخاري، والذُّهلي، وأبو حاتم، وأحمد بن منصور الرَّمادي، وحدث عنه ابن وهب وهو كبر منه. قال أبو حاتم: ثقة صدوق. وذكره ابن حِبان في "الثقات". مات سنة بضع عشرة ومئتين. والطُّفاوي في نسبه مر في الرابع والعشرين من الإيمان. ومر الزَّهراني في السادس والعشرين منه. الثاني: هشام بن أبي عبد الله الدَّسْتوائي مر تعريفه في الحديث الثامن والثلاثين من كتاب الإيمان. الثالث: يحيي بن أبي كثير، مر تعريفه في الحديث الثالث والخمسين من كتاب العلم. الرابع: عبد الله بن أبي قَتادة الأنصاري السُّلَمي أبو إبراهيم، ويقال: أبو يحيى المدني. روى عن: أبيه، وجابر. وروى عنه: ابناه ثابت وقتادة، ويحيى بن أبي كَثير، وزيد بن أسلم، وسعيد بن أبي سعيد المَقْبُري، وعبد العزيز بن رُفيع، وأبو الخليل صالح بن أبي مريم، وجماعة.

قال النسائي: ثقة، وذكره ابن حِبّان في "الثقات". وقال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث. مات في خلافة الوليد بن عبد الملك سنة تسع وتسعين، وقيل سنة خمس وتسعين. الخامس: أبو قتادة بن رِبْعي الأنصاري، المشهور أن اسمه الحارث، وقيل: اسمه النعمان، وقيل: اسمه عمرو وأبوه رِبْعي بن بلدمة بن خُناس -بضم المعجمة وفتح النون- بن عُبيد بن غُنم بن سلمة الخَزْرَجي السُّلمي. وأمه كبشة بنت مطهر بن حرام بن سواد بن غُنم. اختلف في شهوده بدرًا، واتفقوا على أنه شهد أحدًا وما بعدها، وكان يقال له: فارس رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وروي عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه، قال: أدركني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم ذي مرو، فنظر إلي، فقال: "اللهم بارك في شعره وبشره"، وقال: "أفلح وجههُ" فقلت: ووجهك يا رسول الله. قال: "ما هذا الذي بوجهك؟ " قلت: سهم رُميت به. قال: "ادن". فدنوت، فبصق عليه، فما ضرب علي قطُّ ولا فاح. وأخرج مسلم عن سلمة بن الأكوع أنه قال عليه الصلاة والسلام: "خير فرساننا أبو قَتادة، وخير رجالنا سَلَمة بن الأكْوع". ورُوي عن عبد الله بن أبي قَتادة، عن أبيه أنه قال: إنه حرس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة بدر، فقال: "اللَّهم احفَظْ أبا قَتادة كما حفظ نبيَّك هذه الليلة". وروي عنه أنه قال: انحاز المشركون على لقاح رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأدركتهم، فقلت: مسعدة. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين رآني: "أفلَحَ الوجهُ". وروي عنه أنه قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من اتَّخَذ شعرًا فليُحْسِن إليه أو لِيَحْلِقْه"، وقال لي: "أكرم جُمَّتك وأحسِن إليها" فكان يرجلها غبًّا.

لطائف إسناده

روي له مئة وسبعون حديثًا، انفرد البخاري بحديثين، ومسلم بثمانية، واتفقا على أحد عشر. وروى عن: معاذ، وعمر. وروى عنه: ابناه ثابت وعبد الله، ومولاه أبو محمد نافع الأقْرع، وأنس، وجابر، وعبد بن رَباح وسعيد بن كَعب بن مالك، وعطاء بن يسار، وآخرون. قيل: مات سنة أربعين، وكان شهد مع علي مشاهده كلها، وولاه على مكة، ثم ولّى قُثَم بن العباس. وقيل: مات بالمدينة المنورة سنة أربع وخمسين، وله اثنان وسبعون سنة. وقال أهل الكوفة: انه مات بها -وعليٌّ بها- سنة ثمان وثلاثين، وإن عليًّا صلى عليه وكبَّر ستًّا. وقيل: مات بين الخمسين والستين. وروي أن مروان لما كان واليًا على المدينة من قِبل معاوية أرسل إلى أبي قتادة ليريه مواقف النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فانطلق معه، فأراه. ويدل على تأخره أيضًا ما أخرجه عبد الرزاق عن مَعْمر عن عبد الله بن محمد ابن عَقيل أن معاوية لما قدم المدينة تلقاه الناس، فقال لأبي قتادة: تلقاني الناس كلُّهم غيرَكم يا معشر الأنصار. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة، ورجاله ما بين بصري ومدني، وفيه قوله: "هو الدَّستُوائي" قيد لاخراج هشام بن حسان؛ لأنهما بصريان ثقتان مشهوران من طبقة واحدة، فقيد به لرفع الالتباس وغرض التعريف، وإنما أتى بهذه العبارة اختصارًا على ذكره شيخه، احترازًا عن الزيادة على لفظه، وقد مر الكلام على عدم الزيادة على ما بينه شيخه في الحديث السادس من كتاب الوضوء هذا. أخرجه البخاري هنا، وفي الطهارة أيضًا، وفي الأشربة ومسلم في الطهارة وفي الأشربة، وأبو داود في الطهارة، والترمذي فيها أيضًا، وقال: حسن صحيح. والنسائي وابن ماجه فيها أيضًا.

باب لا يمسك ذكره بيمينه إذا بال

باب لا يمسك ذكره بيمينه إذا بال أشار بهذه الترجمة إلى أن النهي المطلق عن مس الذكر باليمين كما في الباب قبله محمول على المقيد بحالة البول، فيكون ما عداه مباحًا. وقال بعض العلماء: يكون ممنوعًا أيضًا من باب الأولى؛ لأنه نهى عن ذلك، مع مظنة الحاجة في تلك الحالة. وتعقبه ابن أبي جَمْرة بان مظِنة الحاجة لا تختص بحالة الاستنجاء، وإنما خُص النهي بحالة البول من جهة أن مجاور الشيء يُعطى حكمه، فلما منع الاستنجاء باليمين، منع مس آلته حسمًا للمادة. ثم استدل على الإِباحة بقوله -صلى الله عليه وسلم- لطَلْق بن علي حين سأله عن مس ذَكَرِهِ: "إنما هو بَضْعَة منك" وهو حديث صحيح أو حسن أخرجه أحمد وأصحاب السُّنن والدارقطني، وصححه عمرو بن علي الفلاّس، وضعفه الشافعي وأبو حاتم وأبو زُرعة والدارقُطني والبَيهقي وابن الجَوْزي، وادعى فيه النسخ ابن حِبّان والطّبراني وابن العربي والحازمي، وآخرون. قال: فدل هذا الحديث على الجواز في كل حال، فخرجت حالة البول بهذا الحديث الصحيح، وبقي ما عداها على الإباحة. وقد يقال: حمل المطلق على المقيد غير متفق عليه بين العلماء، ومن قال به اشترط فيه شروطًا، لكن نبه ابن دقيق العيد على أن محل الاختلاف إنما هو حيث تتغاير مخارج الحديث، بحيث يعد حديثين مختلفين، فأما إذا اتحد المخرج، وكان الاختلاف فيه من بعض الرواة، فينبغي حمل المطلق على المقيد بلا خلاف, لأن التقييد حينئذ يكون زيادة من عدل، فتقبل، فإن قيل: حكم هذه الترجمة قد مر في الحديث السابق فما فائدة هذه الترجمة؟ فالجواب: إن فائدتها اختلاف الإسناد، مع ما وقع في لفظ المتن من الخلاف الآتي بيانه وتحريه على عادته في تعدد التراجم بتعدد الأحكام المجموعة في الحديث الواحد كما في هذا.

الحديث العشرون

الحديث العشرون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِى كَثِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا بَالَ أَحَدُكُمْ فَلاَ يَأْخُذَنَّ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ، وَلاَ يَسْتَنْجِ بِيَمِينِهِ، وَلاَ يَتَنَفَّسْ فِى الإِنَاءِ". وقد صرح ابن خُزيمة في رواية بسماع يحيى له من عبد الله بن أبي قَتادة، وصرح ابن المنذر في "الأوسط" بالتحديث في جميع الإِسناد، أو رده من طريق بِشْر بن بَكْر، عن الأوزاعي فحصل الأمن من محذور التدليس. وقوله "فلا يأخذنَّ ذكره بيمينه" في رواية أبي ذرٍّ بنون التأكيد، ولغيره بدونها، وهو مطابق لقوله في الترجمة: "لا يُمسك" وكذا في مسلم التعبير بالمسك، وفي الرواية السابقة: "فلا يمسَّ ذكره بيمينه"، وفي رواية الإسماعيلي: "لا يمس" فاعترض على ترجمة البخاري بأن المس أعم من المسك، فكيف يستدل بالأعم على الأخص. ولا إيراد على البخاري من هذه الحيثية, لأنه ترجم بالمسك، وأتى بالحديث الذي فيه الأخذ، والأخذ والمسك بمعنى. واستنبط من بعضهم منع الاستنجاء باليد التي فيها الخاتم المنقوش فيه اسم الله تعالى، لكون النهي عن ذلك لتشريف اليمين، فيكون ذلك من باب الأولى. وما وقع في "العتبية" عن مالك من عدم الكراهة قد أنكره حذاق أصحابه. وقيل: الحكمة في النهي لكون اليمين معدة للأكل بها، فلو تعاطى ذلك بها لأمكن أن يتذكره عند الأكل فيتأذّى بذلك. وقوله "ولا يستنج بيمينِهِ" مجزوم بحذف حرف العلة بعد الجيم على النهي، وفي رواية الأربعة: "ولا يستنجي" بإثباتها على النفي، وهو مفسر لقوله في الرواية السابقة: "ولا يتمسَّح" بيمينه، ولفظ: "لا يستنج" أعم من أن يكون

رجاله خمسة

بالقبل أو الدبر، وهو يرد على الطيبي حيث قال في الرواية السابقة: "ولا يتمسح بيمينه" مختص بالدبر. وقوله: "ولا يتنفَّس في الإناء" جملة خبرية مستقلة استئنافية على أن لا نافية، أو معطوفة على أنها ناهية، ولا يلزم من كون المعطوف عليه مقيدًا بقيد أن يكون المعطوف مقيدًا به, لأن التنفس لا يتعلق بحالة البول: وإنما هو حكم مستقلٌّ. ويحتمل أن تكون الحكمة في ذكره هنا أن الغالب من أخلاق المؤمنين التأسي بأفعاله -صلى الله عليه وسلم-، وقد كان إذا بال توضأ، وثبت أنه شرب فضل وضوئه، فالمؤمن بصدد أن يفعل ذلك، فعلّمه أدب الشرب مطلقًا لاستحضاره. والتنفس في الإناء مختص بحالة الشرب كما دل عليه سياق الرواية السابقة، وللحاكم عن أبي هُريرة: "لا يتنفس في الإناء إذا كان يشرب"، وقد استوفينا الكلام على هذه الجملة في الحديث السابق. رجاله خمسة: الأول: محمد بن يوسف الِبيْكَنْدِيّ مر تعريفه في الحديث التاسع عشر من كتاب العلم. ومر تعريف الأوزاعي في الحديث العشرين منه. ومر تعريف يَحْيى بن أبي كثير في الحديث الثالث والخمسين منه أيضًا. ومر تعريف عبد الله بن أبي قَتادة وأبي قَتادة في الحديث الذي قبل هذا. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة، ورواته ما بين شامي وبصري ومدني، وهم أئمة أجلاء، ومر في الحديث الذي قبل هذا ذكر المواضع التي أخرج فيها. باب الاستنجاء بالحجارة أراد بهذه الترجمة الرد على من زعم أن الاستنجاء مختصٌّ بالماء، والدلالة على ذلك من قوله: "استنفض" فإن معناها استنجى كما سيأتي.

الحديث الحادي والعشرون

الحديث الحادي والعشرون حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَكِّيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ بْنِ عَمْرٍو الْمَكِّيُّ عَنْ جَدِّهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: اتَّبَعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَخَرَجَ لِحَاجَتِهِ، فَكَانَ لاَ يَلْتَفِتُ، فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَقَالَ: "ابْغِنِى أَحْجَارًا، أَسْتَنْفِضْ بِهَا أَوْ نَحْوَهُ وَلاَ تَأْتِنِي بِعَظْمٍ وَلاَ رَوْثٍ". فَأَتَيْتُهُ بِأَحْجَارٍ بِطَرَفِ ثِيَابِي، فَوَضَعْتُهَا إِلَى جَنْبِهِ وَأَعْرَضْتُ عَنْهُ، فَلَمَّا قَضَى أَتْبَعَهُ بِهِنَّ. قوله: "اتَّبعت" بتشديد التاء المثناة، أي: مشيت وراءه، وفي رواية: "أتبعت" بهمزة قطع من الرباعي، أي: لحقته. قال تعالى: {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} [الشعراء: 60]. وقوله: "وخرج لحاجته، وكان لا يلتفت". الواو الأولى حالية، فلابد فيها من قد ظاهرة أو مقدرة، والثانية استئنافية. وفي رواية أبي ذر بالفاء: "فكان"، وكونه لا يلتفت وراءه هي عادته عليه الصلاة والسلام دائمًا في مشيه. وقوله: "فدنوت منه" زاد الإسماعيلي: "أستأنس وأتَنَحْنَح، فقال: من هذا؟ فقلت: أبو هريرة". وقوله: "ابغِني" بالوصل من الثلاثي أي: اطلب لي، يقال: بغيتُك الشيء، أي: طلبته لك. وفي رواية بالقطع، أي: أعنّي على الطلب، يقال: أبغيتك الشيء أي: أعنتك على طلبه. والوصل أليق بالسياق، ويؤيده رواية الإسماعيلي: "ايتِني"وللأصيلي: "ابغ لي" بلام بدل النون. وقوله: "أحجارًا" مفعول ثان لا بِغني. وقوله: "أستنفضْ بها" بفاء مكسورة وضاد معجمة مجزوم لأنه جواب الأمر،

ويجوز الرفع على الاستئناف، وأستنفض: أستفعل من النفض، وهو أن تهز الشيء ليطير غباره، وهذا هنا بمعنى أستنظف بتقديم الظاء المشالة على الفاء، وقد روي بذلك. والاستنفاض أيضًا: الاستنجاء، قال في "القاموس": استنفضه استخرجه، وبالحجر استنجى. وقال المطرِّزي: الاستنفاض الاستخراج، ويُكنى به عن الاستنجاء، ومن رواه بالقاف والصاد المهملة فقد صحَّف. وفي رواية الإسماعيلي: "أستنجي" بدل: "أستنفض". وقوله: "أو نحوه" أي: أو قال عليه الصلاة والسلام نحو هذا اللفظ، كأستنجي، أو أستنظف، والتردد إنما هو من بعض الرواة، لما مر من جزم الإسماعيلي بـ "أستنجي". وقوله: "ولا تأتني" بالجزم بحذف حرف العلة على النهي، وفي رواية ابن عساكر وأبي ذر بإثبات الياء على النفي، وفي رواية: "ولا تأتي". وقوله: "بعظم ولا روث" أي: لأنهما مطعومان للجن، كأنه عليه الصلاة والسلام خشي أن يفهم أبو هريرة من قوله: "أستنجي" أن كل ما يزيل الأثر وينقي كافٍ، ولا اختصاص لذلك بالأحجار، فنبهه باقتصاره في النهي على العظم والروث، على أن ما سواهما مجزىء، ولو كان ذلك مختصًا بالأحجار كما يقوله بعض الحنابلة والظاهرية لم يكن لتخصيص هذين بالنهي معنى، وإنما خص الأحجار بالذكر لكثرة وجودها. وزاد المصنف في المبعث في حديث أبي هريرة هذا أن أبا هُريرة قال له -صلى الله عليه وسلم- لما فرغ: ما بال العظم والروثة؟ قال: "هما من طعام الجن، وإنه أتاني وقد جِنِّ نَصيبينَ -ونعم الجن- فسألوني الزاد، فدعوت الله لهم أن لا يمُرّوا بعظم ولا روثة إلا وجدوا عليها طعامًا". وعند مسلم عن ابن مسعود: "أن البعر زاد دوابِّهم" ولا ينافي هذا ما سبقه، لإمكان حمل الطعام فيه على طعام الدواب. وعند أبي داود عن ابن مسعود أيضًا أن وفد الجن قدموا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقالوا: يا محمّد: انه أمتك عن

الاستنجاء بالعظم والروث، فإن الله تعالى جعل لنا فيه رزقًا، فنهاهم عن ذلك، وقال: "إنه زاد إخوانكم من الجن". قلت: هذا الحديث غير مناف للحديث السابق من سؤالهم الزاد منه عليه الصلاة والسلام، لما يأتي إن شاء الله في باب المبعث النبوي من تعدد وفود الجن عليه -صلى الله عليه وسلم-، فيكون هذا النبي في هذا الحديث واقعًا بعد أن سألوه ودعا لهم الله تعالى، فأخبروه بما حصل لهم بسبب دعائه، وسألوه الكف عما صار طعامًا لهم، وهذا في غاية البيان، والله تعالى المستعان. والظاهر من التعليل الوارد في الحديث اختصاص المنع بهما، نعم يلتحق بهما المطعومات التي للآدميين قياسًا من باب الأولى، وكذا المحرمات كأوراق كتب العلم. ومن قال: علة النهي عن الروث كونه نجسًا. ألحق به كل نجس ومتنجس, وعن العظم كونه لزجًا فلا يزيل إزالة تامة. ألحق به ما في معناه كالزجاج الأملس. ويؤيده ما رواه الدَّارقطني وصححه عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى أن يُستنجى بروث أو بعظم، وقال: "إنهما لا يطهِّران" وفي هذا رد على من قال: إن الاستنجاء بهما مجزىء، وإن كان منهيًّا عنه. قلت: مذهب المالكية أن كل ما حصل به الإِنقاء يجزىء, لأن المدار على الإِنقاء، فالأحجار لا يحصل بها إلاَّ إنقاء المحل لا تطهيره، ولو أحرق العظم وخرج عن حال العظام ففيه وجهان عند الشافعية، أصحهما المنع، ولم يحضرني النص فيه عند المالكية، والظاهر عندي الجواز لخروجه عن العظامية، وإن اختص المطعوم بالبهائم لم يمنع عندنا، ومنعه ابن الصباغ من الشافعية. وقوله: "بأحجار لطرف ثيابي" أي: في طرف. وقوله: "فوضعتُها" بتاء بعد العين الساكنة، وفي رواية: "فوضعها". وقوله: "وأعرضتُ عنه" وللكشميهني: "واعترضتُ" بزيادة مثناة بعد العين، والمعنى متقارب.

رجاله أربعة

وقوله: "فلما قضى أتبعه" بهمزة قطع، أي: ألحقه. وقوله: "بهنَّ" أي: بالحجارة، أتبع المحل بالأحجار، وكنّى به عن الاستنجاء. واستُنبط منه مشروعية الاستنجاء، وهل هو واجب أو سنة، وبالأول قال الشافعي وأحمد، لأمره عليه الصلاة والسلام بالاستنجاء بثلاثة أحجار. وكل ما فيه تعدد يكون واجبًا، كولوغ الكلب. وقال مالك وأبو حنيفة والمزني من الشافعية: هو سنة، واحتجوا بحديث أبي هريرة مرفوعًا: "من استجمرَ فلْيُوتِر، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حَرَج ... الحديث" قالوا: وهو يدل على انتفاء المجموع لا الايتار وحده. وأن يكون قبل الوضوء اقتداءً بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، وخروجًا من الخلاف، فإنه شرط عند أحمد، وإن أخره بعد التيمم لم يجزه. وفي الحديث جواز اتباع السادات وإن لم يأمروا بذلك، واستخدام الإِمام بعض رعيته، والإِعراض عن قاضي الحاجة والإعانة على إحضار ما يُستنجى به، وإعداده عنده لئلا يحتاج إلى طلبها بعد الفراغ فلا يأمن التلوث. رجاله أربعة: الأول: أحمد بن محمد المكّي، وهو يحتمل أن يكون أحمد بن محمد ابن الوليد بن عُقبة بن الأزْرق بن عمرو بن الحارث بن أبي شَمَّر الغسّاني أبو الوليد، ويقال: أبو عبد الله جد أبي الوليد محمد بن عبد الله الأزْرَقي صاحب "تاريخ مكة". روى عن: عمرو بن يحيى السعدي، ومالك، وابن عُيينة، والشّافعي، وغيرهم. وروى عنه: البُخاري، وأبو حاتم، وابن ابنه أبو الوليد، ويعقوب الفَسَوي، وجماعة. وثقه أبو حاتم وأبو عَوانة. وقال ابن سعد: ثقة كثير الحديث.

توفي سنة اثنين وعشرين ومئتين، وقيل: سنة اثنا عشر ومئتين. ويحتمل أن يكون أحمد بن محمد بن عون القَوّاس النّبال المكي أبو الحسن المقرىء. روى عن: عبد المجيد بن أبي داود، ومسلم بن خالد، وغيرهما. وروى عنه: بقيّ بن مَخْلد، ومحمد بن علي بن زيد الصّائغ، وغيرهم. وقرأ القرآن على الإخريط وَهْب بن واضح، وقرأ عليه قُنْبل القارىء. توفي سنة خمس وأربعين ومئتين. والمعني عند البخاري هو الأول؛ لأنه الذي روى عنه، وأما هذا الأخير فلم يرو عنه، وإنما ذكرته للتمييز. الثاني: عمرو بن يحيى بن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية الأموي السَّعيديّ أبو أمية. ذكره ابن حِبان في "الثقات". وقال ابن مَعين: صالح. ووثقه الدّارقُطني. له عند الشيخين حديث أبي هريرة: "ما بعث الله نبيًّا إلا راعي غنم". وذكره ابن عدي في "الكامل"، وأورد له حديثين أحدهما في "صحيح" البخاري، ولم ينقل عن أحد فيه جرحًا، وقال: ليس له في الحديث إلاَّ القليل. وروى عن جده سعيد بن عمر، وعن أبيه يحيى. وروى عنه: ابن عُيينة، ورَوْح بن عْبادة، وأبو النَّضْر هاشم بن القاسم، وغيرهم. الثالث: جده سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية أبو عثمان، ويقال: أبو عَنْبَسة الأموي. كان مع أبيه إذ غلب على دمشق، ثم سكن الكوفة. أرسل عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. وروى عن: الحكم وخالد ابني سعيد بن العاص، وروى عن أبيه، وعن معاوية، والعبادلة الأربعة، وأبي هريرة، وعائشة، وأم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص، وغيرهم.

لطائف إسناده

وروى عنه: أولاده خالد وإسحاق وعمرو، وحفيده عمرو بن يحيى، والأسْود بن قيس، وشعبة. وثقه أبو زُرعة، والنسّائي. وقال أبو حاتم: صدوق. وقال الزُّبير: كان من علماء قريش بالكوفة. وذكره ابن حِبّان في "الثقات". وذكر ابن عساكر أنه بقي إلى أن وقد على الوليد بن يزيد بن عبد الملك. الرابع: أبو هريرة، مر تعريفه في الحديث الثاني من كتاب الإيمان. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة، وفيه مكيان ومدنيان، وهو من رباعيّات البخاري، وفيه رواية الابن عن الجد. أخرجه البخاري هنا، وأخرجه مطولًا في ذكر الجن، ولم يخرجه مسلم ولا الأربعة، وأخرجه رزين عن أبي هريرة، فانظر لفظه في العيني. باب لا يُستنجى بروث بتنوين "باب"، و"يُستنجى" بضم المثناة التحتية، وفتح الجيم، مبنيًّا للمفعول.

الحديث الثاني والعشرون

الحديث الثاني والعشرون حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ عَنْ أَبِى إِسْحَاقَ قَالَ: لَيْسَ أَبُو عُبَيْدَةَ ذَكَرَهُ وَلَكِنْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الأَسْوَدِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ يَقُولُ أَتَى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- الْغَائِطَ، فَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَهُ بِثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ، فَوَجَدْتُ حَجَرَيْنِ، وَالْتَمَسْتُ الثَّالِثَ فَلَمْ أَجِدْهُ، فَأَخَذْتُ رَوْثَةً، فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَأَلْقَى الرَّوْثَةَ وَقَالَ: "هَذَا رِكْسٌ". قوله: "ليس أبو عبيدة ذكره، ولكن عبد الرحمن بن الأسود" يعني: إن أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعود لم يذكره له، ولكن ذكره له عبد الرحمن بن الأسود، بدليل قوله في الرواية المعلقة الآتية قريبًا: حدثني عبد الرحمن. وإنما عدل أبو إسحاق عن الرواية عن أبي عُبيدة إلى الرواية عن عبد الرحمن، مع أن رواية أبي عبيدة أعلى له، لكون أبي عُبيدة لم يسمع من أبيه على الصحيح، فتكون منقطعة، بخلاف رواية عبد الرحمن، فإنها موصولة. ورواية أبي إسحاق لهذا الحديث عن أبي عُبيدة، عن أبيه عبد الله بن مسعود رواها الترمذي وغيره من طريق إسرائيل بن يونس، عن أبي إسحاق. فمراد أبي إسحاق هنا بقوله: "ليس أبو عبيدة ذكره" أي: لست أرويه الآن عن أبي عُبيدة، وإنما أرويه عن عبد الرحمن. ويأتي في تعريف أبي عُبيدة ما قاله العيني من أنه سمع من أبيه. وقوله: "أتى الغائط" أي: الأرض المطمئنة لقضاء الحاجة، فالمراد به معناه اللغوي. وقوله: "فالتمست الثالث فلم أجده" بالضمير المنصوب، أي: الحجر.

ولأبي ذرٍّ: "فلم أجد" بحذفه. قال في "الفتح" وفي قوله: "بثلاثة أحجار" العمل بما دل عليه النهي في حديث سلمان عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ولا يستنجِ أحدكم بأقل من ثلاثة أحجار"، وأخذ بهذا الشافعي وأحمد وأصحاب الحديث، فاشترطوا أن لا ينقص عن الثلاث، مع مراعاة الإِنقاء، إذا لم يحصل بها فيزداد حتى ينقى، ويستحب حينئذ الإِيتار، لقوله: "من استجمر فلْيوتر" وليس بواجب، لزيادةٍ عند أبي داود حسنةٍ، قال: "ومن لا فلا حرج" وبهذا يحصل الجمع بين الروايات في الحديث. قال الخطابي: لو كان القصد الإِنقاء فقط لخلا اشتراط العدد من الفائدة، فلما اشتُرط العدد لفظًا، وعُلم الإِنقاء فيه معنى، دَلَّ على إيجاب الأمرين، ونظيره العدة بالأقراء، فإن العدد مشترط، ولو تحققت براءة الرحم بقرء واحد. قلت: هكذا قال انتصارًا لمذهبه، وبعض كلامه يرد بعضه، فقد قال: ليس بواجب لحديث أبي داود، ونقل عن الخطابي قوله: دل على وجوب الأمرين. وهذا مخالف لما مر. وقوله: لخلا اشتراط العدد من الفائدة. يقال فيه: إن العدد لم يشترط، وإنما جاء على سبيل الندب، وقول أبي داود: "ومن لا فلا حرج" كاف في عدم اشتراطه. وقد جاء الإِيتار في أكثر أفعاله عليه الصلاة والسلام في وضوئه بثلاث غرفات على ما هو الغالب من أحواله عليه الصلاة والسلام، وكتكحله، وكإعادته للحديث ثلاثًا. وفي الحديث: "إن الله وتر يحب الوتر". وأما القياس على الأقراء في العدة فقياس مع وجود الفارق, لأن الأقراء واجبة بنص القرآن العظيم، وكون البراءة تحصل بالقرء الواحد أمر غير قطعي، لوجود الحيض من الحامل، فجُعلت الثلاثة لبراءة الرحم احتياطًا في البراءة، ليحصل القطع ببراءة الرحم. واشتراط الأقراء لم يحصل له معارِض،

والاستجمار بالثلاثة جاء النص على عدم اشتراطه. وقوله: "فأخذت روثةً" زاد ابن خُزيمة في روايته في هذا الحديث: "إنها كانت روثة حمار"، ونقل التيمي أن الروث مختصٌّ بما يكون من الخيل والبغال والحمير. وقوله: "وألقى الرَّوْثة" يعني: واستنجى بالحجرين على ما هو ظاهر هذا الحديث. وفيه دلالة لمذهب مالك وأبي حنيفة وداود من عدم اشتراط الثلاث في الاستنجاء. وقال الطحاوي: لو كان العدد مشترطًا لطلب ثالثًا. وقال أبو الحسن القصّار المالكي: روي أنه أتاه بثالث، لكن لا يصح، ولو صح فالاستدلال به لمن لا يشترط الثلاثة قائم, لأنه اقتصر في الموضعين على ثلاثة، فحصل لكل منهما -أي: المخرجين- أقل من ثلاثة. واعترض في "الفتح" ما قالاه، قال: إن الطحاوي غفل عما أخرجه أحمد في "مسنده" عن معمر، عن أبي إسحاق، عن علقمة، عن ابن مسعود في هذا الحديث، فإن فيه: "فألقى الروثة، وقال: إنها رِكس، اتيني بحجر" ورجاله ثقات أثبات، وقد تابع عليه معمرًا أبو شعبة الواسطي -وهو ضعيف- أخرجه الدَّارقطني، وتابعهما عمار بن رُزَيْق وهو أحد الثقات عن أبي إسحاق، وقد قيل: إن أبا إسحاق لم يسمع من علقمة، لكن أثبت الكرابيسيّ سماعه لهذا الحديث منه، وعلى تقدير أن يكون أرسله عنه فالمرسل حجة عند المخالفين، وعندنا أيضًا إذا اعتضد. واستدلال الطحاوي فيه نظر بعد ذلك، لاحتمال أن يكون اكتفى بالأمر الأول في طلب الثلاثة، فلم يجدد الأمر بطلب الثالث، أو اكتفى بطرف أحدهما عن الثالث، لان المقصود بالثلاثة أن يمسح بها ثلاث مسحات، وذلك حاصل ولو بواحد. والدليل على صحته أنه لو مسح بطرف واحد ورماه، ثم جاء شخص آخر فمسح بطرقه الآخر لأجزأهما بلا خلاف. هذا ما اعترض به على الطحاوي، وفي بعض اعتراضه نظر، فقوله: إن

المرسل حجة عند المخالفين، فيه أن هذا الواقع في الحديث انقطاع لا إرسال، وليس المنقطع كالمرسل في القبول عند من يقبل المرسل كما هو معلوم عنده. وقوله: إن المقصود ثلاث مسحات ولو بواحد فيه أن هذا مخالف لمذهبه من اشتراط ثلاثة أحجار، وللحديث الذي استدل به من أنه لا يستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، فالمسحات بحجر واحد لا تصيِّره ثلاثة أحجار. ثم قال: وفيما قاله ابن القصار نظر أيضًا, لأن الزيادة ثابتة كما قدمناه. وكأنه إنما وقف على الطريق التي عند الدّارقطني فقط. ثم يُحتمل أن يكون لم يخرج منه شىء إلا من سبيل واحد، وعلى تقدير أن يكون خرج منهما، فيحتمل أن يكون اكتفى للقبل بالمسح في الأرض، وللدبر بالثلاثة، أو مسح من كل منهما بطرفين. وفي اعتراضه هذا نظر ظاهر، أما قوله: إن الزيادة ثابتة. فابن القصار ممكن أنه لم يصح عنده ما قاله الكرابيسيّ من سماع أبي إسحاق من علقمة، فحكم بانقطاع الحديث، فلم يقبل الزيادة لضعف المنقطع. ومتابعة عمار بن رُزَيْق إنما هي لمَعْمر عن أبي إسحاق، فلا تنفي الانقطاع. وما أبداه من الاحتمالات في طعن قوله: "إنه يحصل لكل واحد منهما أقل من ثلاثة احتمالات" عقلية لا يُعترض بها على الظاهر من كون ثلاثة أحجار للقبل والدبر لا يحصل لكل واحد منهما إلا أقل من ذلك، وما أبعد قوله: إنه يمكن أن لا يخرج من أحد السبيلين شيء، فهذا وإن جوزه العقل فالمعتاد يمنعه. وقوله: "هذا رِكْس" بكسر الراء وإسكان الكاف، فقيل: هي لغة في رجس بالجيم، ويدل عليه رواية ابن ماجه وابن خُزيمة فإنها عندهما بالجيم. وأغرب النَّسائي فقال عقب هذا الحديث: الركس: طعام الجن. وهذا إن ثبت في اللغة فهو مريح من الإشكال. وقيل: الركس: الرَّجيع، سُمي الرجيع لأنه ردَّ من حالة الطهارة إلى حالة النجاسة، قاله الخطابي، والأولى أن يقال: رد من حالة الطعام إلى حالة الروث. قلت: المعنى متقارب, لأن حالة الطهارة هي حالة الطعام. وقال ابن بطّال: لم أر هذا الحرف في اللغة، أعني: الركس. وتُعُقِّب بأن معناه

رجاله سبعة

الرد كما قال تعالى: {أُرْكِسُوا فِيهَا} [النساء: 91] أي: ردوا، فكأنه قال: هذا رد عليك، ولو ثبت ما قيل لكان بفتح الراء، يقال: أرْكَسَه رَكْسًا إذا رده. وفي رواية الترمذي: "هذا ركس، يعني: نجسًا" وهذا يؤيد الأول. وقد ذكر إشارة الروثة باعتبار تذكير الخبر، على حد قوله تعالى: {هذا ربّي} وفي بعض النسخ: "هذه ركس" على الأصل. فإن قيل: ما وجه إتيانه بالروثة بعد أمره عليه الصلاة والسلام له بالأحجار؟ أجيب بأنه قاس الروث على الحجر بجامع الجمود، فقطع -صلى الله عليه وسلم- قياسه بالفرق أو بإبداء المانع، ولكنه ما قاسه إلا لضرورة عدم المنصوص عليه. رجاله سبعة بذكر أبي عُبيدة الأول أبو نُعيم الفضل بن دُكَيْن مر تعريفه في الحديث السادس والأربعين من كتاب الإيمان. ومر تعريف زهير بن مُعاوية وأبي إسحاق عمرو بن عبد الله السِّبيعيّ في الحديث الرابع والثلاثين منه أيضًا. ومر تعريف الأسود بن يزيد في الحديث السابع والستين من كتاب العلم. ومر تعريف عبد الله بن مسعود في أول كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه. الرابع من السند عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد بن قيس النَّخَعي أبو حفص الفقيه، ويقال: أبو بكر. أدرك عمر، وروى عن أبيه، وعم أبيه علقمة بن قيس، وعائشة، وأنس، وابن الزبير، وغيرهم. وروى عنه: أبو إسحاق السَّبيعي، وأبو إسحاق الشَّيباني، ومالك بن مِغْول، والأعمش، وهارون بن عَنْترة، وغيرهم. قال ابن معين والنسائي والعِجلي وابن خِراش: ثقة. وزاد ابن خِراش: من

خيار الناس، كان يصلي كل يوم سبع مئة ركعة، وكان يصلي العشاء والفجر بوضوء واحد. وقال محمد بن إسحاق: قدم علينا عبد الرحمن حاجًّا، فاعتلّت إحدى قدميه، فقام يصلي حتى أصبح على قدم، فصلى الفجر بوضوء العشاء، وحجَّ ثمانين حجة، واعتمر مثلها, ولم يجمع بينهما كما فعل أبوه الأسود، وكان يقول في تلبيته: لبيك أنا الحاج بن الحاج، وتقدم ذلك في ترجمة أبيه. وذكره ابن حِبان في "الثقات"، وقال: مات سنة تسع وتسعين. وفي البخاري عبد الرحمن بن الأسود بن عَبد يَغُوث زُهري تابعيّ وليس فيه غيرهما. وفي الترمذي والنسائي عبد الرحمن بن الأسود الوَرّاق وليس في الكتب الستة عبد الرحمن بن الأسود غير هؤلاء. ووقع في كتاب الداوودي وابن التين أن عبد الرحمن الواقع في رواية البخاري هنا هو عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يَغُوث، وهو وهم فاحش منهما، إذ الأسود الزهري مات كافرًا ولم يُسلم، فضلًا عن أن يكون عاش حتى روى عن عبد الله بن مسعود. وأما أبو عبيدة المذكور فهو أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود، واسمه عامر، وقيل: اسمه كنيته، هُذَلي كوفي أخو عبد الرحمن، وكان يفضُلُ عليه كما قال أحمد. روى عن: عائشة رضي الله عنها، وعن أبيه، وعن أبي موسى، وكعب بن عُجْرة. وروى عنه إبراهيم النَّخَعي، ومجاهد، ونافع بن جُبير، وأبو إسحاق السَّبيعي، وغيرهم. ذكره ابن حِبان في "الثقات"، وقال: إنه لم يسمع من أبيه. وقال عمرو بن مرة: سألت أبا عبيدة هل تذكر من عبد الله شيئًا، قال: لا. وقال الدّارقطني: أبو عبيدة أعلم بحديث أبيه من حنيف بن مالك ونظرائه، لكن صحح العيني كونه سمع من أبيه، واستدل على ذلك بما ذكره في "المعجم الأوسط" للطبراني من

لطائف إسناده

أنه سمع أباه يقول: كنت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في سفر الحديث، وبما أخرجه الحاكم له عن أبيه في ذكر يوسف عليه السلام، وبعدة أحاديث رواها الترمذي فيها سماعه عن أبيه. وقال: إن عمره حين مات عنه أبوه سبع سنين، وابن سبع سنين لا يُنكر سماعه من الغرباء عند المحدثين، فكيف من الآباء القاطنين. وقد مات أبو عبيدة هذا، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبد الله بن شداد ليلة دُجيل، وكانت سنة إحدى وثمانين، وقيل: اثنين وثمانين. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والسماع والعنعنة، ورواته كلهم ثقات كوفيون، وفيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: أبو إسحاق، وعبد الرحمن، وأبوه الأسود. وهو من أفراد البخاري عن مسلم، فلم يخرجه. وأخرجه النسائي وابن ماجه في الطهارة. وقال إبراهيم بن يوسف عن أبيه عن أبي إسحاق حدثني عبد الرحمن. يعني: بالإسناد المذكور أولًا، وأراد البخاري بهذا التعليق الرد على من زعم أن أبا إسحاق دلّس هذا الخبر، كما روي عن سلمان الشّاذَكُوني حيث قال: لم يُسمع في التدليس بأخفى من هذا، قال: ليس أبو عبيدة ذكره، ولكن عبد الرحمن، ولم يقل ذكره لي. وقد استدل الإسماعيلي على صحة سماع أبي إسحاق لهذا الحديث من عبد الرحمن يحيى القطّان رواه عن زهير، فقال بعد أن أخرجه من طريقه: القطان لا يرضى أن يأخذ من زهير ما ليس بسماع لأبي إسحاق، وكأنه عرف ذلك بالاستقراء من صنيع القطان، أو بالتصريح من قوله، فانزاحت عن هذه الطريق علة التدليس. وقد أعلّه قوم بالاضطراب، ومن ثمَّ انتقده الدّارقطني على المؤلف، لكنه

قال: أحسنها سياقًا الطريق التي أخرجها البخاري، لكن في النفس منه شيء لكثرة الاختلاف فيه على أبي إسحاق. وأُجيب بأن الاختلاف على الحفاظ لا يوجب الاضطراب إلاَّ مع استواء وجوه الاختلاف فمتى رجح أحد الأقوال قُدِّم، ومع الاستواء لابد أن يتعذر الجمع على قواعد المحدثين، وهنا يظهر عدم استواء وجوه الاختلاف على أبي إسحاق فيه, لأن الروايات المختلفة عنه لا يخلو إسناد منها عن مقال غير طريقة زهير وإسرائيل، مع أنه يمكن رد أكثر الطرق إلى رواية زهير، وقد ترجحت رواية زهير هذه عند المؤلف بمتابعة يوسف حفيد أبي إسحاق، وتابعهما شَريك القاضي، وزكرياء بن أبي زائدة، وغيرهما. وتابع أبا إسحاق على روايته عن عبد الرحمن المذكورة ليث بن أبي سُليم، وحديثه يستشهد به، أخرجه ابن أبي شيبة. ومما يرجِّحها أيضًا استحضار أبي إسحاق لطريق أبي عبيدة، وعدوله عنها، بخلاف رواية إسرائيل عنه عن أبي عبيدة، فإنه لم يتعرض فيها لرواية عبد الرحمن، كما أخرجه الترمذي وغيره، فلما اختار في رواية زهير طريق عبد الرحمن على طريق أبي عُبيدة، دل على أنه عارف بالطريقين، وأن رواية عبد الرحمن عنده أرجح، ولم أر مَن، وصل هذا التعليق. ورجال هذه المتابعة أربعة: الأول: إبراهيم بن يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق السَّبيعيّ الهَمْداني الكوفي. روى عن: أبيه، وجده أبي إسحاق، وعبد الجبار الشِّبامي بكسر المعجمة. وروى عنه: أبو كُريب، وشَريح بن سَلَمة، وإسحاق بن منصور السَّلولي، وغيرهم. ذكره ابن حِبان في "الثقات"، وقال الدّارقطني: ثقة. وقال أبو حاتم: حسن الحديث، يكتب حديثه. وقال ابن عدي: ليس بمنكر الحديث. وقال ابن المديني: ليس هو كأقوى ما يكون. وهذا تضعيف نسبي. وقال الجُوزْجاني: ضعيف. قال ابن حجر: وهو إطلاق مردود. وقال النسائي: ليس بالقوي.

باب الوضوء مرة مرة

احتج به الشيخان في أحاديث يسيرة، وروى له الباقون سوى ابن ماجه. مات سنة ثمان وتسعين ومئة. الثاني: أبوه: يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق السَّبيعي، وقد ينسب إلى جده. روى عن: أبيه، وجده، والشعبيّ، وابن المنْكَدِر، وعمار الدُّهْني، وعبد ابن محمد بن عقيل. وروى عنه: ابنه إبراهيم، وابنا عمه إسرائيل وعيسى ابنا يونُس ابن أبي إسحاق، وابن عُيينه، وغيرهم. قال ابن عيينة: لم يكن في ولد أبي إسحاق أحفظ منه. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه. وذكره ابن حِبّان في "الثقات"، وقال: كان أحفظ من ولد أبي إسحاق، مستقيم الحديث على قلته. وقال الدّارقطني: ثقة. وقال العُقَيْلي: يخالف في حديثه، ولعله أتي من منصور بن وَرْدان، يعني: الراوي عنه. قال ابن حجر: وجرح العُقيلي له جرح مردود. مات في زمن أبي جعفر المنصور، ويقال: سنة سبع وخمسين ومئة. الثالث: أبو إسحاق مر تعريفه في الحديث الرابع والثلاثين من كتاب الايمان. الرابع: عبد الرحمن بن الأسود وقد مر في الحديث الذي قبل هذا الحديث. باب الوضوء مرة مرة أي: لكل عضو.

الحديث الثالث والعشرون

الحديث الثالث والعشرون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تَوَضَّأَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مَرَّةً مَرَّةً. قوله: "توضأ مرةً مرةً" أي: توضأ، فغسل كل عضو من أعضاء الوضوء مرة مرة بالنصب فيهما على المفعول المطلق المبين للكمية، وقيل: على الظرفية، أي: توضأ في زمان واحد. وقيل: على المصدر، أي: توضأ مرة من التوضؤ، أي: غسل الأعضاء غسلة واحدة. والحديث المذكور في الباب مجمل، وقد تقدم بيانه في باب غسل الوجه باليدين من غرفة واحدة، وصرح أبو داود والإسماعيلي بسماع سفيان له من زيد بن أسلم. رجاله خمسة: الأول: محمد بن يوسف، فيحتمل الفِرْيابي والبِيْكَنْديّ، وقد مر كل منهما، فالفريابي مر في الحديث العاشر من كتاب العلم، والبيْكنديّ مر في التاسع عشر منه أيضًا. الثاني: سفيان، وهو يحتمل أن يكون ابن عُيينة وقد مر في الحديث الأول من بدء الوحي، ويحتمل أن يكون الثوري، وقد مرَّ أيضًا في الحديث الثامن والعشرين من كتاب الإيمان. ومرَّ تعريف زيد بن أسلم، وعطاء بن يسار في الحديث الثالث والعشرين منه أيضًا. ومرَّ تعريف ابن عباس في الحديث الخامس من بدء الوحي.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة، ورواته أئمة أجلّاء ثقات، وفيه رواية تابعي عن تابعي زيد بن أسلم عن عطاء. وهو مما انفرد به البخاري عن مسلم، وأخرجه الأربعة. باب الوضوء مرتين مرتين أي: لكل عضو.

الحديث الرابع والعشرون

الحديث الرابع والعشرون حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عِيسَى قَالَ: حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْن. قوله: "توضأ مرتين مرتين" فيه ما قيل في الذي قبله من قوله مرة مرة. وهذا الحديث قيل: إنه مختصر من الحديث المشهور عن مالك وغيره في صفة وضوء النبي -صلى الله عليه وسلم-، وسيأتي بعد، لكن ليس فيه الغسل مرتين إلاَّ في اليدين إلى المرفقين. وقد روى أبو داود، والترمذي وصححه، وابن حِبان عن أبي هُريرة "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- توضأ مرتين مرتين"، وهو شاهد قوي لرواية فُلَيْح هذه، فيحتمل أن يكون حديثه هذا المجمل غير حديث مالك المبين لاختلاف مخرجهما، نعم روى النسائي عن سفيان بن عُيينه في حديث عبد الله بن زيد التثنية في اليدين والرجلين ومسح الرأس وتثليث غسل الوجه. وفي هذه الرواية شيء سيذكر بعد هذا، وعليه فحق حديث عبد الله بن زيد أن يبوب له غسل بعض الأعضاء مرة وبعضها مرتين وبعضها ثلاثًا. رجاله ستة: الأول: الحسين بن عيسى بن حُمران -بضم الحاء- أبو علي الطائي القُومَسي -بضم القاف- البَسْطامي -بفتح الباء- الدَّامَغَاني. سكن نيسابور ومات بها. قال الحاكم: كان من كبار المحدثين وثقاتهم، من أئمة أصحاب العربية.

وقال أبو حاتم: صدوق. وقال ابن حِبان في "الثقات": ثقة، وقال الدَّارقطني والإدريسيّ: كان عالمًا فاضلًا كثير الحديث. روى عن ابن عُيينة، وابن أبي فُديك، وأبي قُتيبة، وعبد الصمد بن عبد الوارث، وجعفر بن عَوْن، وطبقتهم. وروى عنه: الجماعة إلاَّ الترمذي وابن ماجه. وأبو حاتم، ويحيى الذَّهلي، ومأمون بن هارون، وغيرهم. مات سنة سبع وأربعين ومئتين. وهو من الأفراد، وليس في"الصحيحين" من اسمه الحسين بن عيسى وغيره. وفي ابن ماجه وأبي داود آخر حنفي كوفي أخو سليم القارىء ضعيف. وبَسْطام وسِمْنان والدَّامَغان من قُومَس، وقُومس عمل مفرد بين الرَّيّ وخُراسان. الثاني: يونس بن محمد بن مسلم أبو محمد البغدادي الحافظ المؤدب. قال أبو حاتم: صدوق. وقال ابن مَعين: ثقة. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة ثقة. وقال أحمد بن الخليل: حدثنا يونس بن محمد الصدوق. وذكره ابن حِبان في "الثقات". روى عن: داود بن الفُرات، وسُفيان بن عبد الرحمن، وفُلَيْح، والحمادَّين، ومعتَمِر بن سليمان، والليث بن سعد، وعبد الواحد بن زياد، وغيرهم. وروى عنه ابنه إبراهيم، وأحمد، وعلي بن المديني، وابنا أبي شيبة، ومحمد بن عبد الرحيم، وعبد الله المسندي، وأبو خَيثمة، وخلق. مات في صفر سنة سبع ومئتين. الثالث: فُلَيْح بن سُليمان، وقد مر في الحديث الأول من كتاب العلم.

لطائف إسناده

الرابع: عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حَزْم الأنصاري أبو محمد أو أبو بكر المدني. وثقه ابن مَعين، وأبو حاتم. وقال النّسائي: ثقة ثبت. وقال مالك: كان كثير الحديث، وكان رجل صدق. وقال أحمد بن حَنْبل: حديثه شفاء. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث عالمًا. وقال العِجْليّ: مدني تابعي ثقة. وذكره ابن حِبان في "الثقات". وقال ابن عبد البر: كان من أهل العلم، ثقة فقيهًا محدّثًا مأمونًا حافظًا وهو حجة فيما نقل وحمل. وقال ابن شِهاب ما في المدينة مثل عبد الله بن أبي بكر، ولكنه يمنعه أن يرتفع ذكره مكان أبيه أنه حي. وقال مالك: كان أيضًا من أهل العلم والبصيرة. روى عن أبيه، وخالته عمرة بنت عبد الرحمن، وأنس، وحُمَيْد بن نافع، وسالم بن عبد الله بن عمر، وعروة بن الزُّبير، وأبي الزَّناد، والزُّهري من أقرانه، وغيرهم. وروى عنه الزهري، وابن أخيه عبد الملك بن محمد بن أبي بكر، ومالك، وهشام بن عُروة، وابن جُريج، وحمّاد بن سَلمة، والسُّفيانان، وفُلَيْح بن سليمان، وخلق. مات سنة خمس وثلاثين ومئة، ويقال: سنة ثلاثين ومئة وهو ابن سبعين سنة، وليس له عقب. الخامس: عبّاد بن تميم، والسادس: عبد الله بن زَيْد عم عبّاد، وقد مر تعريفهما في الحديث الثالث من كتاب الوضوء هذا. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والإخبار والعنعنة، ورواته ما بين نَيْسابوري وبغدادي ومدني، ففُلَيْح ومن فوقه مدنيون. وفيه رواية تابعي عن تابعي عبد الله بن أبي بكر عن عباد بن تميم. ورواية صحابي عن صحابي على قول من يقول: إن عبادًا

باب الوضوء ثلاثا ثلاثا

من الصحابة. وهو من أفراد البخاري عن عبد الله بن زيد. وأخرجه أبو داود الترمذي من حديث أبي هريرة، وقال الترمذي: حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن ثَوبان عن عبد الله بن الفضل، قال: وفي الباب عن جابر. وأغفل حديث عبد الله بن زيد. وحديث جابر أخرجه ابن ماجه. باب الوضوء ثلاثًا ثلاثًا أي: لكل عضو.

الحديث الخامس والعشرون

الحديث الخامس والعشرون حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأُوَيْسِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَزِيدَ أَخْبَرَهُ أَنَّ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَأَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ دَعَا بِإِنَاءٍ، فَأَفْرَغَ عَلَى كَفَّيْهِ ثَلاَثَ مِرَارٍ فَغَسَلَهُمَا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِى الإِنَاءِ فَمَضْمَضَ، وَاسْتَنْشَقَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثًا، وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثَلاَثَ مِرَارٍ، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلاَثَ مِرَارٍ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، لاَ يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ". قوله: "فأفرغ على كفيه ثلاث مرار" يعني: فصب الماء ثلاث مرار على كفيه، وفي رواية الأصيلي وكريمة: "ثلاث مرات". والظاهر أنه أفرغ على واحدة بعد واحدة لا عليهما، وقد بين في رواية أخرى أنه أفرغ بيده اليمنى على اليسرى. وقوله: "فغسلهما" قدر مشترك بين كونه غسلهما مجموعتين أو متفرقتين، واختلف العلماء في أيهما أفضل، فمشهور مذهب مالك التفريق أفضل، ومذهب الشافعية الجمع أفضل، واستدلوا بقوله: "غسلهما ثلاثًا" قالوا: لو أراد التفريق لقال: غسلهما ثلاثًا ثلاثًا. ولا يخفى أن ما قالوه غير لازم من اللفظ لمن تأمل فيه. وفي الحديث غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء، ولو لم يكن عقب نوم احتياطًا. وقوله: "ثم أدخل يمينه في الإناء" أي: فأخذ منه الماء. وفيه الاغتراف

باليمين. واستدل به بعضهم على عدم اشتراط نية الاغتراف. قال في "الفتح": ولا دلالة فيه نفيًا ولا إثباتًا. وقوله: "فمضمض" في رواية "فتمضمض" بالتاء بعد الفاء. والمضمضة: ادخال الماء في الفم، وخضخضته فيه، ومجه بقوة. وقوله: "واستنثَرَ" الاستنثار هو طرح الماء من الأنف بعد الاستنشاق، وسيأتي الكلام عليه وعلى حكمته في الباب الذي يليه. وفي رواية الكُشْميهني: "واستنشق" بدل قوله: "واستنثر". وثبتت الثلاثة في رواية شعيب الآتية في باب المضمضة. وليس في طرق هذا الحديث تقييد المضمضة والاستنشاق بعدد غير طريق يونس عن الزُهري فيما ذكره ابن المنذر، وكذا فيما ذكره أبو داود بوجهين آخرين عن عثمان رضي الله تعالى عنه، فإن في أحدهما: "فتمضمض ثلاثًا واستنثر ثلاثًا"، وفي الآخر: "فتمضمض واستنشق ثلاثًا". وقوله: "ثم غسل وجهه ثلاثًا" أي: غسلًا ثلاثًا، وحد الوجه طولًا من قُصاص الشعر إلى أسفل الذهن، وحده عرضًا من شحمة الأذن إلى شحمة الأذن اتفاقًا فيما بين العارض والعارض، وعلى المشهور فيما بين الأذن والعارض. وفيه تأخيره عن المضمضة والاستنشاق كما دل عليه العطف بثم المقتضية للمهلة والترتيب، وحكمة ذلك اعتبار أوصاف العبادة؛ لأن اللون يُدرك بالبصر، والطعم بالفم، والريح بالأنف، فقدِّمت المضمضة والاستنشاق -وهما مسنونان- قبل الوجه -وهو مفروض- احتياطًا للعبادة. وقوله: "ويديه إلى المرفقين ثلاث مرار",. والمرفق بفتح الميم وكسر الفاء، وبالعكس، لغتان مشهورتان. وقوله: "ويديه" أي: كل واحدة كما بينه المصنف في رواية معمر عن الزُّهري في الصوم، وكذا مسلم من طريق يونس، وفيها تقديم اليمنى على اليُسرى، والتعبير في كل منهما بثُمَّ، وكذا القول في الرجلين أيضًا.

وقوله: "ثم مسح برأسه" وجاء حذف الباء في الروايتين المذكورتين في هذا الحديث، وليس في شيء من طرقه عند "الصحيحين" ذكر عدد للمسح، فاقتضى ذلك الاقتصار على مرة واحدة وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد، إلاّ أن مالكًا يُسنُّ عنده رد مسح الرأس كما يأتي إن شاء الله تعالى مستوفي في باب مسح الرأس كله. وقال الشافعي: يستحبُّ التثليث في المسح كما في الغَسْل، واستدل بظاهر رواية مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- توضأ ثلاثًا ثلاثًا. وأجيب بأنه مجمل، تَبين في الروايات الصحيحة أن المسح لم يتكرر، فيحمل على الغالب، أو يختص بالمغسول. قال أبو داود في "السنن": أحاديث عثمان الصحاح كلها تدل على أن مسح الرأس مرة واحدة. وقال ابن المُنذر: الثابت عنه عليه الصلاة والسلام في المسح مرة واحدة. وأيضًا: المسح مبني على التخفيف، فلا يُقاس على الغسل المراد منه المبالغة في الإسباغ. وأيضًا لو اعتبر العدد في المسح لصار في صورة الغسل، إذ حقيقة الغسل جريان الماء، والدلك غير مشترط على الصحيح عند أكثر العلماء، وقد اتفق على كراهة غسل الرأس بدل المسح وإن كان مجزئًا. وبالغ أبو عبيد فقال: لا نعلم أحدًا من السلف استحب تثليث الرأس إلاّ إبراهيم التّيمي، وفيما قاله نظر، فقد نقله ابن أبي شيبة وابن المنذر عن أنس وعطاء وغيرهما، وقد روى أبو داود من وجهين صحح أحدهما ابن خُزيمة وغيره في حديث عثمان بتثليث مسح الرأس، والزيادة من الثقة مقبولة، لكن لا يخفى أن هذه الزيادة شاذة، لما مر قريبًا عن أبي داود فلا تثبت بها حجة لشذوذها. وقوله: "ثم غسل رجليه ثلاث مرار إلى المرفقين" أي: مع الكعبين، وهما العظمان المرتفعان عند مفصل الساق والقدم. وقوله: "من توضأ نحو وضوئي هذا" قال النووي: إنما لم يقل مثل؛ لأن حقيقة مماثلته لا يُقدر عليها. لكن ثبت التعبير بها في رواية المصنف في الرقاق، ولفظه: "من توضأ مثل هذا الوضوء" وله في الصيام: "من توضأ وضوئي" ولمسلم عن حُمران: "توضأ مثل وضوئي هذا" وعلى هذا فالتعبير بنحومن تصرف الرواة؛ لأنها تطلق على المثلية

مجازًا، ولأن مثل وإن كانت تقتضي المساواة ظاهرًا لكنها تطلق على الغالب، فبهذا تلتئم الروايتان، ويكون المتروك بحيث لا يُخِلُّ بالمقصود. وقال ابن دقيق العيد: بين نحو ومثل فرق من حيث إن لفظ "مثل" يقتضي المساواة من كل وجه إلا في الوجه الذي يقتضي التغاير بين الحقيقتين، بحيث يخرجان من الوحدة. ولفظ "نحو" لا يقتضي ذلك. ولعلها استُعملت هنا بمعنى المثل مجازًا، أو لعله لم يترك مما يقتضي المثلية إلا ما لا يقدَحُ في المقصود. وفي "شرح العمدة": إنما حمل "نحو" على معنى "مثل" مجازًا أو على جل المقصود, لأن الكيفية المترتب عليها ثواب معين، باختلال شيء منها يختل الثواب المترتب، بخلاف ما يفعل لامتثال الأمر مثل فعله -صلى الله عليه وسلم-، فإنه يُكتفى فيه بأصل الفعل الصادق عليه الأمر، نعم علمه عليه الصلاة والسلام بحقائق الأشياء وخفيات الأمور لا يعلمه غيره، وحينئذ فيكون قول عثمان رضي الله تعالى عنه "مثل" بمقتضى الظاهر. وقوله: "ثم صلى رَكْعتين" فيه استحباب صلاة ركعتين عقب الوضوء. وقوله: "لا يحدث فيهما نفسه" قال في "الفتح": المراد به ما تسترسل النفس معه، ويمكن المرء قطعه؛ لأن قوله: "يحدِّث" يقتضي تكسبًا منه، فأما ما يهجم من الخطرات والوساوس، ويتعذر دفعه، فذلك معفوٌّ عنه. ونقل القاضي عياض عن بعضهم أن المراد من لم يحصل له حديث النفس أصلًا ورأسًا، ويشهد له ما أخرجه ابن المبارك في الزهد بلفظ "لم يُسِرَّ فيهما". ورده النووي، فقال: الصواب حصول هذه الفضيلة مع طريان الخواطر العارضة غير المستقره، نعم: من اتفق أن يحصل له عدم حديث النفس أصلًا أعلى درجة بلا ريب؛ لأنه عليه الصلاة والسلام إنما ضمن الغفران لمن راعى ذلك بمجاهدة نفسه عن خطرات الشيطان، ونفيها عنه، وتفرغ قلبه، ولا ريب أن المتجردين عن شواغل الدنيا، الذين غلب ذكر الله على قلوبهم يحصل لهم ذلك.

وروي عن سعد رضي الله تعالى عنه أنه قال: ما قمت في صلاة فحدثتني نفسي فيها بغيرها. قال الزُّهري: رحم الله سعدًا إن كان لمأمونًا على هذا، ما ظننت أن يكون هذا إلاّ في نبي. ثم إن تلك الخواطر منها ما يتعلق بالدنيا والمراد رفعه مطلقًا، ووقع في رواية الحكيم الترمذي في هذا الحديث: "لا يحدِّث نفسه بشيء من أمور الدنيا" وهو في "الزهد" لابن المبارك أيضًا، "والمصنف" لابن أبي شَيبة. ومنها ما يتعلق بالآخرة، فإن كان من متعلقات تلك الصلاة كالتفكر في معاني ما يتلوه من القرآن، فذلك سائغ فاضل، وإن كان أجنبيًّا منها أشبه أحوال الدنيا, ولذا قال البِرماوي فيما روي أن عمر كان يجهز جيشه في الصلاة: ينبغي تأويله لكونه لا تعلق له بالصلاة، إذ السائغ إنما هو ما يتعلق بها من فهم المتلو فيها وغيره، كما قاله عز الدين بن عبد السلام. وقوله: "غُفر له ما تقدَّم من ذنبه" بضم الغين مبنيًّا للمفعول، ولابن عساكر: "غفر الله له"، وظاهره يعم الصغائر والكبائر، لكنهم خصصوه بالصغائر دون الكبائر، لما في مسلم من التصريح بذلك، فيُحمل المطلق على المقيد. وزاد ابن أبي شيبة "وما تأخر"، ويأتي لفظه إن شاء الله تعالى في باب المضمضة، وقد استوفيت الكلام على هذا البحث في كتاب الإيمان عند حديث قيام ليلة القدر. وفي رواية المصنف في الرقاق في آخر هذا الحديث، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تَغْتَروّا" أي: لا تحملوا الغفران على عمومه في جميع الذنوب، فتسترسلوا في الذنوب اتكالًا على غفرانها بالصلاة، فإن الصلاة التي تكفر الذنوب هي المقبولة، ولا اطلاع لأحد عليه. أو المعنى هو أن المكفَّر بالصلاة هو الصغائر، فلا تغتروّا فتعملوا الكبيرة بناء على تكفير الذنوب بالصلاة، فإنه خاص بالصغائر. أو: المعنى لا تستكثروا من الصغائر، فإنها بالإصرار تُعطى حكم الكبيرة، فلا يكفرها ما يكفر الصغيرة. أو: إن ذلك خاص بأهل الطاعة، فلا يناله من هو مرتبك في المعصية.

رجاله ستة

وفي الحديث التعليم بالفعل لكونه أبلغ وأضبط للمتعلم، والترتيب في أعضاء الوضوء للإتيان في جميعها بثم. والترغيب في الإخلاص. وتحذير من لها في صلاته بالتفكر في أمور الدنيا من عدم القبول، ولاسيما إن كان في العزم على فعل معصيته، فإنه يحضر المرء في حال صلائه ما هو مشغوف به أكثر من خارجها. رجاله ستة: الأول: عبد العزيز الأُوَيْسي مر في الأربعين من كتاب العلم. الثاني: إبراهيم بن سعد، وقد مر في الحديث السادس عشر من كتاب الإيمان. ومر تعريف ابن شِهاب في الحديث الثالث من بدء الوحي، وتعريف عطاء بن يزيد التابعي في الحديث العاشر من كتاب الوضوء. ومر تعريف أمير المؤمنين عثمان بن عفان في باب ما يُذكر في المناولة بعد الخامس من كتاب العلم. الخامس من السند: حُمران -بضم الحاء- ابن أبان بفتح الهمزة والباء مخففًا ابن خالد بن عمرو مولى عثمان بن عفان. كان من النَّمِر بن قاسط سبي بعين التمر، فابتاعه عثمان بن المسيَّب بن نَجَبَة، فأعتقه. أدرك أبا بكر وعمر، وروى عن عثمان ومعاوية. وعنه: أبو وائل سفيان بن سلمة وهو من أقرانه، وأبو ضمرة جامع بن شَدَّاد، وعُروة بن الزبير، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وغيرهم. يقال: إنه ابن عم صُهيب بن سنان، يلتقي معه في خالد بن عمرو. قال ابن عبد البر: كان حُمران أحد العلماء الجلة أهل الوجاهة والرأي والشرف. وذكره ابن حِبان في "الثقات". وقال ابن سعد: نزل البصرة، ودعى

لطائف إسناده

ولده في النمر بن قاسط، وكان كثير الحديث، ولم أرهم يحتجون بحديثه. وقال يحيى بن مَعين: من تابعي أهل المدينة ومحدثيهم. وقال قتادة: إنه كان يصلي مع عثمان، فإذا أخطأ فتح عليه. وحُكي عن المِسور أن عثمان مرض، فكتب العهد إلى عبد الرحمن بن عوف، ولم يطّلع على ذلك إلاَّ حُمران، ثم أفاق عثمان فأطلع حُمران عبد الرحمن على ذلك، فبلغ عُثمان، فغضب عليه ونفاه، كان كاتب عثمان وحاجبه، وولي نيسابور من الحجاج فاغرمه مئة ألف لأجل الولاية، ثم رد عليه ذلك بشفاعة عبد الملك. ذكره البخاري في ضعفائه، واحتج به في "صحيحه"، مات سنة خمس وسبعين. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع والإفراد، والإخبار بصيغة الإفراد، والعنعنة. ورواته كلهم مدنيون. وفيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: ابن شِهاب، وعطاء، وحُمران. أخرجه البخاري هنا، وأخرجه في الطهارة والصوم، وأخرجه مسلم وأبو داود والنَّسائي في الطهارة. وعن إبراهيم قال: قال صالحُ بنُ كَيْسان قال ابن شهاب ولكن عروة يحدث عن حمران فلما توضأ عثمان قال: ألا أحدثكم حديثًا لولا آية ما حدثتكموه سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يتوضأ رجل يحسن وضوءه ويصلي الصلاة إلاَّ غفر له ما بينه وبين الصلاة حتى يصليها" قال عروة الآية {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} [البقرة: 159]. "إبراهيم" هو ابن سعد السابق أول الباب، وهو معطوف على قوله: "حدثني إبراهيم بن سعد". وقوله: "لكن عروة يحدث عن حُمران" هذا استدراك من ابن شِهاب، يعني

ان شيخيه اختلفا في روايتهما له عن حُمران عن عثمان رضي الله تعالى عنه، فحدثه عطاء على صفة، وعروة على صفة، وليس ذلك اختلافًا، وإنما هما حديثان متغايران. فأما صفة تحديث عطاء فتقدمت، وأما صفة تحديث عروة عنه فأشار لها بقوله: "فلما توضأ عثمان" وهو عطف على محذوف تقديره: عن حُمران أنه رأى عثمان دعا بإناء، فأفرغ على كفيه، إلى أن قال: فغسل رجليه إلى الكعبين، فلما توضأ. وقوله: "ألا أحدثكم"، وفي رواية الأربعة: "لأحدِّثنكم" أي: والله لأحدثنَّكم. وقوله: "لولا آية"، زاد مسلم "في كتاب الله", ولأجل هذه الزيادة صحف بعضٌ رواية "آية" فجعلها: "أنه" بالنون المشددة وبهاء الشأن. وقوله: "ما حدَّثتكموهُ" أي: ما كنت حريصًا على تحديثكم. وقوله: "لا يتوضأ" في رواية "لا يتوضأنَّ" بنون التوكيد الثقيلة. وقوله: "رجل يُحسن" في رواية: "فيُحسن وضوءَه" بان يأتي به كاملًا بآدابه وسننه، والفاء في هذه النسخة ليست للتعقيب؛ لأن إحسان الوضوء ليس متأخرًا عنه حتى يُعطف عليه بالفاء التعقيبية، بل هي بمعنى ثم التي هي لبيان المرتبة وشرفها, للدِّلالة على أن الإحسان في الوضوء والإجادة من مراعاة السنن والآداب أفضل وأكمل من أداء ما وجب مطلقًا. ولا شك أن الوضوء المحسن فيه أعلى رتبة من غير المحسن فيه. وقوله "ويصلي الصلاة" أي: المكتوبة. وفي رواية لمسلم: "فيُصلي هذه الصلوات الخمس". وقوله: "إلا غُفر له" بالبناء للمفعول. وقوله: "وبينَ الصلاة" أي: التي تليها كما في "مسلم" من رواية هشام بن عروة.

وقوله: "حتى يصليها" أي: حتى يفرغ منها، فحتى غاية لحصل المقدر بعدما العامل في الظرف الذي هو بين، إذ الغفران لا غاية له. وقال في "الفتح": "حتى يصليها" أي: حتى يشرع في الصلاة الثانية، واعترضه العيني بأنه حينئذ يكون قوله: "حتى يصليها" لا فائدة فيه، إذ لا زيادة فيه على قوله: "ما بينه وبين الصلاة". وقوله: "قال عروة: الآية {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا} [البقرة: 160] يعني: الآية التي في البقرة إلى قوله: {اللاعنونَ} كما صرَّح به مسلم. ومراد عثمان رضي الله تعالى عنه أن هذه الآية تحرض على التبليغ، وهي وإن نزلت في أهل الكتاب، لكن العبرة بعموم اللفظ، وقد تقدم نحو ذلك لأبي هُريرة في كتاب العلم. وإنما كان عثمان يرى ترك تبليغهم ذلك لولا الآية المذكورة خشية عليهم من الاغترار. وقد روى مالك هذا الحديث في "الموطأ" عن هشام بن عُروة، ولم يقع في رواية تعيين الآية، فقال من قِبَل نفسه: "أراه يريد: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]، وما ذكره عروة راوي الحديث بالجزم أولى. ثم إن ظاهر الحديث يقتضي أن المغفرة لا تحصُل بما ذكر من إحسان الوضوء، بل حتى تنضاف إليه الصلاة. قال ابن دقيق العيد: الثواب الموعود به يترتب على مجموع الوضوء على النحو المذكور، وصلاة الركعتين بعده به، والمترتب على مجموع أمرين لا يترتب على أحدهما إلاّ بدليل خارج، وقد أدخل قوم هذا الحديث في فضل الوضوء وعليهم في ذلك هذا السؤال. ويجاب بأن كون الشيء جزءً فيما يترتب عليه الثواب العظيم كاف في كونه ذا فضل، فيحصل المقصود من كون الحديث دليلًا على فضيلة الوضوء. ويظهر بذلك الفرق بين حصول الثواب المخصوص وحصول مطلق الثواب، فالثواب المخصوص يترتب على مجموع الوضوء على النحو المذكور

رجاله خمسة

والصلاة الموصوفة، وفضيلة الوضوء قد تحصُل بما دون ذلك. وفي حديث أبي هُريرة الصحيح: "إذا توضأ العبد خرجت خطاياه ... الحديث" وفيه أن الخطايا تخرج مع آخر الوضوء حتى يفرغ من الوضوء نقيًّا من الذنوب، وليس فيه ذكر الصلاة. وأجيب بأنه يَحمل حديث أبي هريرة على الصلاة أن في رواية لمسلم من حديث عثمان رضي الله تعالى عنه: "وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة"، وأجيب: باحتمال أن يكون ذلك باختلاف الأشخاص، فرب متوضىء يحضره من الخشوع ما يستقل وضوءه بالتكفير، وآخر عند تمام الصلاة. رجاله خمسة: الأول: إبراهيم بن سعد، وقد مر في الحديث السادس عشر من كتاب الإيمان. ومر تعريف صالح بن كَيْسان في الحديث السادس من بدء الوحي. ومر تعريف ابن شِهاب في الحديث الثالث منه أيضًا. ومر تعريف عُروة في الحديث الثاني منه أيضًا، وحمران مر في الحديث الذي قبل هذا. لطائف إسناده: منها أن فيه العنعنة، وليس فيه صيغة التحديث، وفيه الإخبار بلفظ: "قال". ورواته كلهم مدنيون، وفيه أربعة تابعيون، وهم: صالح، وابن شِهاب، وعُروة، وحُمران. وفيه رواية الأكابر عن الأصاغر، فإن صالحًا أكبر سنًّا من الزُّهري. وفيه أن إبراهيم هنا يروي عن ابن شهاب بواسطة صالح عنه، وروى عنه في أول الباب بلا واسطة. وهذا التعليق أخرجه مسلم موصولًا من طريق يعقوب بن إبراهيم. وأما البخاري هنا فيُحتمل أن يكون معقبًا بحديث إبراهيم الأول، فيكون موصولًا من طريق الأُويسي، فيكون صورته صورة تعليق وهو موصول، وهذا هو الذي اختاره في "الفتح"، ويحتمل التعليق حقيقة.

باب الاستنثار في الوضوء

باب الاستنثار في الوضوء وهو استفعال من النَّثْر -بالنون والمثلثة- وهو طرح الماء الذي يستنشقه المتوضىء، أي: يجذبه بريح أنفه لتنظيف ما في داخله، فيخرج بريح أنفه سواء كان بإعانة يده أم لا، وكره مالك فعله بغير اليد, لأنه يشبه فعل الدواب. قال في "الفتح": والمشهور عدم الكراهة. ولعله أراد في مذهبه، وأما مذهب مالك فمشهوره الكراهة، وإذا استنثر بيده فالمستحب أن يكون باليسرى، بوب عليه النسائي وأخرجه مقيدًا بها من حديث علي. ذكره عثمان وعبد الله بن زيد وابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. أما عثمان فقد مر تعريفه في باب ما يذكر في المناولة بعد الحديث الخامس من كتاب العلم. ومر تعريف عبد الله بن زيد في الحديث الثالث من كتاب الوضوء هذا. ومر عبد الله بن عباس في الحديث الرابع من بدء الوحي. أما رواية عثمان فقد أخرجها موصولة في الباب الذي قبله. والذي رواه عبد الله بن زيد، فقد أخرجه موصولًا في باب مسح الرأس كله. وحديث ابن عباس مر موصولًا في باب غسل الوجه من غرفة واحدة، وفي بعض نسخه: "واستنثر" موضع "استنشق"، وكان المصنف أشار بذلك إلى ما رواه أحمد وأبو داود والحاكم من حديثه مرفوعًا: "استنثِروا مرتين بالغتين أو ثلاثًا" ولأبي داود الطيالسي "إذا توضأ أحدكم واستنثر فليفعل ذلك مرتين أو ثلاثًا" وإسناده حسن.

الحديث السادس والعشرون

الحديث السادس والعشرون حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو إِدْرِيسَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ، وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ". قوله: "من توضأ فليستنثر" بأن يخرج ما في أنفه من أذى بعد الاستنشاق، لما فيه من تنقية مجرى النفس الذي به تلاوة القرآن، وبإزالة ما فيه من الثفل تصح مجاري الحروف، وفيه طرد الشيطان لما عند المؤلف في بدء الخلق: "إذا استيقظ أحدكم من منامه فتوضأ، فليستنثر ثلاثًا، فإن الشيطان يبيت على خَيْشومه" والخيشوم بفتح الخاء أعلى الأنف. وقيل: هو الأنف. وقيل: المِنْخر. ونوم الشيطان عليه حقيقة، أو هو على الاستعارة؛ لأن ما ينعقد من الغبار في رطوبة الخياشيم قذارة توافق الشياطين، فهو على عادة العرب في نسبتهم المستخبث والمستبشع إلى الشيطان، أو ذلك عبارة عن تكسيله عن القيام إلى الصلاة، ولا مانع من حمله على الحقيقة. وهل مبيته لعموم النائمين أو مخصوص بمن لم يفعل ما يحتَرِسُ به في منامه من الشيطان بشيء من الذكر لحديث أبي هريرة "اقرأ آية الكرسي، لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنّك شيطان حتى تصبح". ويحتمل أن يكون المراد بنفي القرب هنا أنه لا يقرب من المكان الذي يوسوس فيه، وهو القلب، فيكون مبيته على الأنف، ليتوصل منه إلى القلب إذا استيقظ، فمن استنثر منعه من التوصل إلى ما يقصد من الوسوسة، فحينئذ فالحديث متناول لكل مستيقظ. وظاهر الأمر فيه للوجوب، فيلزم من قال بوجوب الاستنشاق كأحمد وإسحاق وأبي عُبيد وأبي ثور وابن المنذر لورود الأمر به أن يقول به في

الاستنثار، وظاهر كلام صاحب "المغني" أنهم يقولون بذلك، وأن مشروعية الاستنشاق لا تحصل إلا بالاستنثار. وصرح ابن بطّال بان بعض العلماء قال بوجوبه. وفيه تعقب على من نقل الإجماع على عدم وجوبه. واستدل الجمهور على أن الأمر فيه للندب بما حسنه الترمذي وصححه الحاكم من قوله عليه الصلاة والسلام للأعرابي: "توضّأ كما أمرك الله" فأحاله على الآية، وليس فيها ذكر الاستنشاق. وأجيب بأنه يحتمل أن يُراد بالأمر ما هو أعم من آية الوضوء، فقد أمر الله سبحانه باتباع نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وهو المبين عن الله أمره، ولم يحك أحد ممن وصف وضوءه عليه الصلاة والسلام على الاستقصاء أنه ترك الاستنشاق، بل ولا المضمضة، وهو يرد على من لم يوجب المضمضة أيضًا، وقد ثبت الأمر بها أيضًا في "سنن" أبي داود بإسناد صحيح. وذكر ابن المنذر أن الشافعي لم يحتج على عدم وجوب الاستنشاق مع صحة الأمر به إلا لكونه لا يعلم خلافًا في أن تاركه لا يعيد، وهذا دليل قوي، فإنه لا يُحفظ عن أحد من الصحابة ولا التابعين إلا عن عطاء، وثبت عنه أنه رجع عن إيجاب الإِعادة. ذكر كله ابن المنذر، ولم يذكر المؤلف في هذه الرواية عددًا، وذكر في بدء الخلق عن أبي هريرة: "فليستنثر ثلاثًا" كما مر. وأخرجه الحميدي في "مسنده" عن أبي الزِّناد بلفظ: "إذا استنثر فلْيستنثِر وترًا" وأصله لمسلم. وقوله: "ومن استجمر فليوتر" أي: استعمل الجمار، وهي الحجارة الصغار في الاستنجاء، وحمله بعضهم على استعمال البخور، فإنه يقال: تجمَّر واستجمرْ، أي: فليأخذ ثلاث قطع من الطيب ويتطيب ثلاثًا أو أكثر وترًا، حكاه ابن حبيب عن ابن عمر، ولا يصح. وكذا حكاه ابن عبد البر عن مالك. وروى ابن خُزيمة في "صحيحه" عنه خلافه، والأظهر الأول، وقد تقدم القول على معنى قوله: "فليوتر" في الكلام على حديث ابن مسعود السابق، واستدل بعض من نفى وجوب الاستنجاء بهذا الحديث للإتيان فيه بحرف الشرط، ولا دلالة، وإنما مقتضاه التخيير بين الاستنجاء بالماء أو بالأحجار.

رجاله خمسة

رجاله خمسة: الأول: عَبْدان عبد الله بن عثمان. والثاني عبد الله بن المبارك وقد مر تعريفهما في الحديث السادس من بدء الوحي. ومر تعريف ابن شهاب في الحديث الثالث منه، ومر تعريف يونُس بن يزيد في المتابعة التي بعد هذا الثالث من بدء الوحي، ومر تعريف عائذ الله أبو إدريس في الحادي عشر من كتاب الإيمان، ومر تعريف أبي هُريرة في الحديث الثاني منه أيضًا. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والإخبار بصيغة الجمع والإفراد والسماع، ورواته ما بين مَرْوزيّ وأَيْليّ ومدني وشامي، وفيه رواية تابعي عن تابعي الزُّهري عن أبي إدريس. أخرجه البخاري، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه في الطهارة أيضًا. باب الاستجمار وترًا استُشْكل إدخال هذه الترجمة في أثناء أبواب الوضوء ولا اختصاص لها بالاستِشكال، فإن أبواب الاستطابة لم تتميز في هذا الكتاب عن أبواب صفة الوضوء لتلازمها، ويحتمل أن يكون ذلك ممن دون المصنف، وقد أجاب في "الفتح" في أول الوضوء بجواب فيه تكلف، فلذلك أعرضت عن جلبه.

الحديث السابع والعشرون

الحديث السابع والعشرون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِى أَنْفِهِ ثُمَّ لِيَنْثُرْ، وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ، وَإِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهَا فِى وَضُوئِهِ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لاَ يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ". قوله: "إذا توضأ" أي: إذا شرع في الوضوء. وقوله: "فليَجْعَل في أنفه ماء" كذا لأبي ذر، وسقط لغيره لفظ ماء للعلم به، واختلف رواة "الموطأ" في إسقاطه وذكره، وثبت ذكره لمسلم. وقوله: "ثم لينتثر" بوزن لِيَفْتَعِل لأبي ذر والأصيلي، ولغيرهما: "ثم ليَنْثُر" بمثلثة مضمومة بعد النون الساكنة، والروايتان لأصحاب "الموطأ" يقال: نثر الرجل وانتثر واستنثر إذا حرك النَّثْرة، وهي طرف الأنف في الطهارة. وقوله: "وإذا استيقظ أحدكم" عطف على قوله: "إذا توضأ" واقتضى سياق المصنف أنه حديث واحد، وهو في "الموطأ"، و"مسلم"، و"الإسماعيلي" حديثان، فكأن البخاري كان يرى جواز جمع الحديثين إذا اتحد سندهما في سياق واحد، كما يرى جواز تفريق الحديث الواحد إذا اشتمل على حكمين مستقلين. وقوله: "من نومه" أخذ بعمومه الجمهور، فاستحبوه عقب كل نوم، وخصه أحمد بنوم الليل، لقوله في آخر الحديث: "باتت يده" لأن حقيقة المبيت أن يكون في الليل، وفي روايتين لأبي داود ساق مسلم إسنادهما: "إذا قام أحدكم

من الليل" وفي الأخرى: "إذا قام أحدكم إلى الوضوء حين يصبح" وللترمذي من وجه صحيح مثل الأولى، لكن التعليل يقتضي إلحاق نوم النهار بنوم الليل، وإنما خص نوم الليل بالذكر للغلبة. قال الرافعي في "شرح المسند" يمكن أن يقال: الكراهة في الغمس لمن نام ليلًا أشد منها لمن نام نهارًا, لأن الاحتمال في نوم الليل أقرب لطوله عادة. وقوله: "فلْيغسِل يده" أي: بالإفراد، ثم الأمر عند الجمهور على الندب، وحمله أحمد على الوجوب في نوم الليل دون النهار، وعنه في رواية استحبابه في نوم النهار. والقرينة الصارفة للأمر عن الوجوب عند الجمهور التعليل بأمر يقتضي الشك, لأن الشك لا يقتضي وجوبًا في هذا الحكم استصحابًا لأصل الطهارة. واستدل أبو عَوانة على عدم الوجوب بوضوئه -صلى الله عليه وسلم- من الشَّن المعلق بعد قيامه من الليل كما يأتي في حديث ابن عباس، وتُعُقّب بأن قوله: "أحدكم" يقتضي اختصاصه بغيره -صلى الله عليه وسلم-. وأجيب بأنه صح عنه غسل يديه قبل إدخالهما في الإناء حال اليقظة، فاستحبابه بعد النوم أولى، ويكون تركه لبيان الجواز. قلت: وضوءه عليه الصلاة والسلام من الشَّن لا دليل فيه على عدم الوجوب، ولا ترك فيه للمأمور به, لأنه ليس فيه ترك الغسل قبل الإدخال في الإناء الذي هو موضوع الحديث. وحمل مالك الأمر على التعبد لما في رواية مسلم وأبي داود وغيرهما: "فليغسلهما ثلاثًا" وفي رواية: "ثلاث مرات" قائلًا: إن التقييد بالعدد دالٌّ على التعبد كما قال في غسل الإناء بولوغ الكلب, لأن غسل النجاسة إنما تُطلب منه إزالة عين النجاسة وحكمها بأي عدد كان. ولا تزول الكراهة بدون الثلاث عند الشافعي، وهي المطلوبه عند كل وضوء، لكن عندنا معاشر المالكية الكراهة تزول بغسلة واحدة، والثلاثة مستحبة على أحد قولين مرجحين، والثاني موافق لهم. واتفقوا على أنه لو غمس يده لم يضرَّ الماء، خلافًا لداود وإسحاق

والطبري: إنه يَنْجُس. واستدل الطبري بما ورد من الأمر بإراقته، لكنه ضعيف، أخرجه ابن عدي. والمراد باليد هنا الكف دون ما زاد عليها اتفاقًا، وهذا كله في حق من قام من النوم، لما دل عليه مفهوم الشرط، وهو حجة عند الأكثر. أما المسُتيقظ فيُستحب له الفعل لحديث عثمان وعبد الله بن زيد، ولا يُكره الترك لعدم ورود النهي فيه، وقد روى سعيد بن منصور بسند صحيح عن أبي هريرة أنه كان يفعله ولا يرى بتركه بأسًا. وعند المالكية يُكره عندهم الغمس قبل الغسل مطلقًا، لحمل الأمر عندهم على التعبد كما مر، ولفعله -صلى الله عليه وسلم- له على الدوام. وقوله: "قبل أن يُدخلها" ولمسلم وابن خُزيمة: "فلا يغمِسْ يده في الإناء حتى يغسلها" وهي أبين في المراد من رواية الإِدخال, لأن مطلق الإدخال لا تترتب عليه كراهة، كمن أدخل يده في إناء واسع، فاغترف منه بإناء صغير من غير أن تلامس يده الماء. وقوله: "في وَضوئه" بفتح الواو، وهو الماء الذي يُتوضأ به. وفي رواية الكُشْمِيهني: "في الإناء" أي: الذي أُعد للوضوء. ولابن خُزيمة: "في إنائه أو وَضوئه" بالشك، والظاهر اختصاص ذلك بإناء الوضوء ويلحق به إناء الغُسل، وكذا سائر الآنية قياسًا، لكن في الاستحباب من غير كراهة، لعدم ورود النهي فيها عن ذلك، قاله في "الفتح". وهل تُغسلان مجتمعتين أو مفترقتين قولان مبنيان على اختلاف الألفاظ الواردة في الحديث، ففي بعض الطرق: "غسل يديه مرتين مرتين"، وذلك يقتضي الإفراد، وهو مشهور مذهب مالك. وفي بعضها: "فغسل يديه مرتين" وذلك يقتضي الجمع. وخرج بذكر الإناء البرك والحياض التي لا تَفْسُد بغمس اليد فيها على تقدير نجاستها، فلا يتناولها النهي. وقوله: "فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده من جسده" أي: هل لاقت

مكانًا طاهرًا منه أو نجسًا بثرةً أو جرحًا أو أثر الاستجمار بالأحجار بعد بلل المحل بالعرق أو باليد. قال البيضاوي: فيه إيماء إلى أن الباعث على الأمر بذلك احتمال النجاسة؛ لأن الشارع إذا ذكر حكمًا وعقّبه بعلة دلَّ على أن ثبوت الحكم لأجلها، ومثله قوله في حديث المحرم الذي سقط فمات: "فإنه يبعثُ ملبيًا" بعد نهيهم عن تطييبه، فنبه على علة النهي، وهي كونه محرمًا. وتعقبه أبو الوليد الباجي بأنه لو كان لأجل النجاسة استلزم الأمر بغسل ثوب النائم لجواز ذلك عليه. وأجيب بأنه محمول على ما إذا كان العرق في اليد دون المحل. وهذا جواب في غاية الضعف، فمن أين لقائله بهذا التعيين؟ وإذا حصل العرق في اليد ففي المحل أولى على ما لا يخفى، وأيضًا إذا تنجست يد النائم بالعرق احتمل تنجس الثوب والجسد منها. أو يجاب بأن المستيقظ لا يريد غمس ثوبه في الماء حتى يؤمر بغسله، بخلاف اليد، فإنه محتاج إلى غمسها. قال في "الفتح": وهذا أقوى الجوابين. قلت: هذا أضعف من الأول, لأنه إذا كان لا يريد إدخاله في الماء يريد الصلاة به، فيغسله لأجل الصلاة به. والدليل على أنه لا اختصاص لذلك بمحل الاستجمار ما رواه ابن خُزيمة وغيره عن أبي هريرة في هذا الحديث، ففيه: "أين باتت يدهُ منه" وقد تابع فيه عبد الصمد عن شعبة، وأخرجه ابن مَندة عن طريقه، فلم يقع فيه تفرد. ومفهوم قوله: "لا يدري" أن من درى أين باتت يده، كمن لف عليها خرقة مثلًا، فاستيقظ وهي على حالها، أن لا كراهة، وإن كان غسلها مستحبًّا على المُختار كما في المستيقظ. ومن قال بان الأمر في ذلك للتعبد كمالك لا يفرق بين شاكٍّ ومتيقن للطهارة. واستدل بهذا الحديث على التفرقة بين ورود الماء على النجاسة، وورود

النجاسة على الماء، وهو ظاهر. قلت: هذا ظاهر عند من جعل الأمر تعللًا، وأما من جعله تعبدًا فلا دليل فيه عنده على ما قيل. واستدل به أيضًا على أن النجاسة تؤثر في الماء، وهو صحيح، لكن كونها تؤثر التنجيس وإن لم يتغير فيه نظر, لأن مطلق التأثير لا يدل على خصوص التأثير بالتنجيس، فيحتمل أن تكون الكراهة بالمتيقن أشد من الكراهة بالمظنون، قاله ابن دقيق العيد، ومراده أنه ليست فيه دلالة قطعية على من يقول: إن الماء لا ينجس إلا بالتغير. قلت: بل ولا ظنية, لأن القائل بأن المطلق لا يتنجس إلاّ بالتغير جعل الأمر في هذا الحديث للتعبد كما مر عن المالكية. وفيه تنبيه على أنه ينبغي للسامع لأقواله عليه الصلاة والسلام أن يتلقاها بالقبول ودفع الخواطر الرادة لها، فقد روي أن شخصًا سمع هذا الحديث، فقال: إنه يعرف أين تبيت يده منه، فاستيقظ من النوم، ويده داخل دبره محشوة، فتاب عن ذلك وأقلع، نرجو الله تعالى السلامة من الخواطر الرديئة. وفيه الأخذ بالوثيقة والعمل بالاحتياط في العبادة، والكناية عما يُستحيى منه إذا حصل بها الإفهام، واستحباب غسل النجاسة ثلاثًا. لأنه أمرنا بالتثليث عند توهمها، فعند تيقنها أولى. قلت: هذا عند من يرى أن الأمر لأجل النجاسة لا عند القائل بأنه تعبد، ولكن يقال لهذا: لم لا تقول بانها يُندب غسلها سبعًا كما ورد في ولوغ الكلب احتياطًا للطهارة إذا كنت تقول الأمر فيهما لأجل النجاسة. وفيه أيضًا أن موضع الاستنجاء مخصوص بالرخصة في جواز الصلاة مع بقاء أثر النجاسة عليه، وفيه أيضًا إيجاب الوضوء من النوم، وفيه تقوية من يقول بالوضوء من مسّ الذكر، حكاه أبو عَوانة في "صحيحه" عن ابن عُيينه، وفيه أن القليل من الماء لا يصير مستعملًا بإدخال اليد فيه لمن أراد الوضوء.

رجاله خمسة

رجاله خمسة: الأول: عبد الله بن يوسف ومالك مر تعريفهما في الحديث الثاني من بدء الوحي. ومر تعريف أبي الزِّناد والأعرج في الحديث السابع من كتاب الإيمان، وأبي هريرة في الثاني منه أيضًا. لطائف إسناده: من أن فيه التحديث والإخبار والعنعنة، ورواته كلهم مدنيون ما خلا عبد الله. ومنها ما قاله البخاري: أصح أسانيد أبي هريرة مالك عن أبي الزِّناد وعن الأعرج عن أبي هريرة. أخرجه البخاري هنا وفي محل آخر من الطهارة أيضًا، والنسائي، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، كل واحد أخرجه من وجه آخر غير وجه البخاري. باب غسل الرجلين كذا للأكثر، وزاد أبو ذر: ولا يمسح على القدمين، أي: العاريتين كما في الفرع.

الحديث الثامن والعشرون

الحديث الثامن والعشرون حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: تَخَلَّفَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَنَّا فِى سَفْرَةٍ سَافَرْنَاهَا، فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ أَرْهَقْنَا الْعَصْرَ، فَجَعَلْنَا نَتَوَضَّأُ وَنَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: "وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا". قوله "في سَفْرة" قد مر عند ذكر هذا الحديث في باب: من رفع صوته بالعلم أنها كانت من مكة إلى المدينة، ولم يقع ذلك لعبد الله محققًا إلا في حجة الوداع أما غزوة الفتح فقد كان فيها, لكن ما رجع النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها إلى المدينة من مكة، بل من الجعرانة، ويحتمل أن تكون عمرة القضية، فإن هجرة عبد الله بن عمر وكانت في ذلك الوقت أو قريبًا منه. وقوله: "وقد أرهقنا العصر" قد مر في الحديث المذكور ما فيها من النسخ والضبط، قال ابن بطّال: كان الصحابة أخروا الصلاة في أول الوقت طمعًا في أن يلحقهم النبي -صلى الله عليه وسلم- فيصلوا معه، فلما ضاق الوقت بادروا إلى الوضوء، ولعجلتهم لم يُسبغوه، فأدركهم على ذلك، فأنكر عليهم. ويحتمل أيضًا أن يكونوا أخروا لكونهم على طهر، أو لرجاء الوصول إلى الماء، ويدل عليه رواية مسلم: "حتى إذا كنّا بماء بالطريق، تعجل قوم عند العصر" أي: قرب دخول وقتها، فتوضؤوا وهم عجال. وقوله: "ونمسح على أرجلنا" انتزع منه البخاري أن الإنكار عليهم كان بسبب المسح لا بسبب الاقتصار على غسل بعض الرجل، فلهذا قال: ولا يسمح على القدمين. وهذا ظاهر الرواية المتفق عليها. وفي أفراد مسلم: "فانتهينا إليهم وأعقابهم بيض تلوح لم يمسها الماء" فتمسك بها من يقول بإجزاء

رجاله خمسة

المسح، ويُحمل الإنكار على ترك التعميم، لكن الرواية المتفق عليها أرجح، فتحمل هذه الرواية عليها بالتأويل، فيحتمل أن يكون معنى قوله: "لم يمسها الماء" أي: ماء الغسل جمعًا بين الروايتين. وأصرح من ذلك رواية مسلم عن أبي هُريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عنه رأى رجلًا لم يغسل عقبه، فقال ذلك. وأيضًا فمن قال بالمسح لم يوجب مسح العقب، والحديث حجة عليه. وقال الطّحاوي: لما أمرهم بتعميم غسل الرجلين حتى لا تبقى منهما لمعة، دل على أن فرضهما الغسل، وتعقبه ابن المنير بأن التعميم لا يستلزم الغسل، فالرأس تعم بالمسح، وليس فرضها الغسل. قلت: ما أورده ابن المنير على الطحاوي غير وارد عليه, لأنه لا يقول بوجوب تعميم مسح الرأس حتى يتعقب عليه به. والأحاديث الصحيحة المستفيضة في صفة وضوئه -صلى الله عليه وسلم- أنه غسل رجليه كثيرة جدًّا ولم يثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه مسح رجليه بغير خف في حضر ولا سفر، وقد مر باقي ما يتعلق بالحديث عند ذكره في باب رفع الصوت بالعلم. رجاله خمسة: الأول: موسى بن إسماعيل التَّبوذَكيّ، والثاني: أبو عَوانة الوضّاح اليَشْكُري وقد مر تعريفهما في الحديث الخامس من بدء الوحي، ومر تعريف أبي بشر ويوسف بن ماهِك في الحديث الثاني من كتاب العلم، وعبد الله بن عَمرو بن العاص في الحديث الثالث من كتاب الإيمان, وذكر في الحديث الثاني من كتاب العلم المواضع التي أخرج فيها. باب المضمضة في الوضوء بإضافة باب لتاليه، وفي رواية: "بابٌّ" بالتنوين. وأصل المضمضة في اللغة التحريك، ومنه مضمض النعاس في عينيه إذا تحركتا بالنعاس، ثم اشتهر استعماله في وضع الماء في الفم وتحريكه، وأما معناه في الوضوء الشرعي فأكمله أن يضع الماء في الفم، ثم يديره، ثم يمجه.

ومشهور مذهب المالكية أنه لابدَّ في حصول السنة في الخضخضة والمج بقوة، فلو لم يخضخضه أو ابتلعه أو تركه يسيل بدون مجٍّ لم يكن آتيًا بالسنة عندهم. والمشهور عند الشافعية أنه لا يُشترط تحريكه ولا مجه، وهو عجيب، ولعل المراد أنه لا يتعين المج، بل لو ابتلعه أو تركه حتى يسيل أجزأه. قاله ابن عباس وعبد الله بن زيد عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. قوله: "قاله" الضمير فيه راجع إلى المضمضة، وهو في الأصل مصدر يستوي فيه التذكير والتأنيث، أو يكون تذكير الضمير باعتبار المذكور. والقول هنا بمعنى الحكاية كما في: قلت شعرًا، فلا يشترط أن يكون مقول القول. جملة حديث ابن عباس أخرجه المؤلف موصولًا فيما مر في باب غسل الوجه باليدين، وأخرج حديث عبد الله بن يزيد في باب غسل الرجلين إلى على ما يأتي قريبًا. وعبد الله بن عباس مر تعريفه في الحديث الخامس من بدء الوحي، ومر تعريف عبد الله بن زيد في الثالث من كتاب الوضوء هذا.

الحديث التاسع والعشرون

الحديث التاسع والعشرون حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّهُ رَأَى عُثْمَانَ دَعَا بِوَضُوءٍ، فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ إِنَائِهِ، فَغَسَلَهُمَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِى الْوَضُوءِ، ثُمَّ تَمَضْمَضَ، وَاسْتَنْشَقَ، وَاسْتَنْثَرَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثًا وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثَلاَثًا، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ غَسَلَ كُلَّ رِجْلٍ ثَلاَثًا، ثُمَّ قَالَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَتَوَضَّأُ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا وَقَالَ: "مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، لاَ يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ، غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ". هذا الحديث مر بعينه، وفيه اختلاف يسير في الألفاظ. قوله: "فغسلهما ثلاث مرات" في السابقة: "فافرغ على كفَّيه ثلاث مرات". وقوله: "ثم أدخل يمينه في الوضوء" إلخ، في السابقة: "ثم أدخل يمينه في الوضوء فمضمض واستنثر" وإذا كانت المضمضمة بالأصبع فالمستحب أن يكون باليمين؛ لأن الشمال مست الأذى. وقوله: "ثم غسل كل رجل" كذا للأصيلي والكُشْمِيْهني. ولابن عساكر "كِلتا رجليه" وهي التي اعتمدها صاحب "العمدة"، وللمستملي والحموي: "كل رجله" وهي تفيد تعميم كل رجل بالغسل، وفي نسخة "كل رجليه" وهي بمعنى الأولى. وقوله: "لا يحدِّث فيهما نفسه" تقدمت مباحثه قريبًا، وقال بعضهم: يُحتمل أن يكون المراد بذلك الاخلاص أو ترك العُجب بأن لا يرى لنفسه مزية، خشية أن يتغير فيتكبر فيهلك.

رجاله خمسة

وقوله: "غفر الله له ما تقدم من ذنبه" مرت مباحثه إلا أن في هذا السياق من الزيادة رفع صفة الوضوء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-. وزاد مسلم في رواية ليونس: "قال الزهري: كان علماؤنا يقولون: هذا الوضوء أسبغ ما يتوضأ به أحدٌ للصلاة"، وقد تمسك بهذا من لا يرى تثليث مسح الرأس كما يأتي في باب مسح الرأس مرة إن شاء الله تعالى. وهذا الحديث رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" و"مسنده" معًا عن حُمران بلفظ: "دعا عثمان رضي الله تعالى عنه بوضوء في ليلة باردة، وهو يريد الخروج إلى الصلاة، فجئته بماء، فأكثر ترداد الماء على وجهه ويديه، فقلت: حسبك فقد أسبغت الوضوء، والليلة شديدة البرد، فقال: صبَّ، فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: لا يُسبغُ عبد الوضوء إلا غُفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر". وليس في شيء من طرق "الصحيحين" زيادة: "وما تأخر"، وقد تابع ابن أبي شيبة جماعة: منهم محمد بن سعيد بن يزيد التُّستري، أخرجه عنه عبد الرزاق. وأخرجه أيضًا الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن سعيد المَرْوزيّ شيخ النّسائي في "مسند عثمان" له. وأخرج الزيادة النّسائي في حديث قيام رمضان. ورواها هشام بن عمار. وأخرجها أحمد عن أبي هريرة وغيره. وقد مر الكلام على معنى غفران الذنب المتأخر في الإيمان في باب قيام في ليلة القدر. رجاله خمسة: الأول: أبو اليمان الحكم بن نافع، والثاني: شعيب بن أبي حَمْزة وقد مرَّ في الحديث السادس من بدء الوحي. والثالث: الزُّهري وقد مر في الحديث الثالث منه أيضًا. والرابع: عطاء بن يزيد وقد مر في الحديث العاشر من كتاب الوضوء. ومر تعريف حُمران في الحديث الخامس والعشرين منه أيضًا. ومر تعريف عُثمان بن عفّان في باب ما يُذكر في المناولة من كتاب العلم. ومر في الحديث الخامس والعشرين المواضع التي أُخرج فيها.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والإخبار بصيغة الجمع، والإفراد، وفيه رواية حمصي عن حمصي وهما الأولان، والبقية مدنيون. باب غسل الأعقاب جمع عَقِب -بفتح العين وكسر القاف- أي: وما يلتحق بها مما في معناها من جميع الأعضاء التي قد يحصُلُ التساهل في إسباغها، كبطون الأقدام. وكان ابن سيرين يغسل موضع الخاتم إذا توضأ. وذهب الشافعي والحنفية إلى أنه إن كان الخاتم واسعًا بحيث يدخل الماء تحته أجزأ من غير تحريكه، وإن كان ضيقًا فلْيحرِّكْه. وعند المالكية: الخاتم المأذون في اتخاذه لا يجب تحريكه ضيقًا كان أو واسعًا، ولكن يُندب تحريكه إذا كان ضيقًا، وغير المأذون في اتخاذه تجب إزالته. وابن سيرين المراد به محمد، وقد مر تعريفه في الحديث الحادي والأربعين من كتاب الإيمان. وهذا التعليق وصله ابن أبي شَيْبة في مصنفه عن هشيم عن خالد عن ابن سيرين أنه كان إذا توضأ حرّك خاتمه، والإسنادان صحيحان. وأخرجه البخاري موصولًا في "التاريخ" عن موسى بن إسماعيل، عن مهدي بن ميمون، عنه.

الحديث الثلاثون

الحديث الثلاثون حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ -وَكَانَ يَمُرُّ بِنَا وَالنَّاسُ يَتَوَضَّئُونَ مِنَ الْمِطْهَرَةِ- قَالَ: أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ، فَإِنَّ أَبَا الْقَاسِمِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ". قوله: "وكان يمرُّ بنا" جملة حالية من مفعول سمعت الذي هو قول أبي هريرة المقدر المحذوف, لأن أبا هُريرة ذات، والذات لا تسمع، فالمراد سمعت قول أبي هريرة، وجملة "يمر بنا" في محل نصب خبر كان. وقوله: "والناس يتوضؤون جملة من مبتدأ وخبر حالية من فاعل كان. وقوله "من المطْهرة": بكسر الميم الإناء المعد للتطهير، وفتحها أجود، وصح في الحديث: "السواك مطهرة للفم". وقوله: "قال" حال، أي: حال كونه قائلًا. وفي رواية الأربعة: "فقال" بالفاء التفسيرية؛ لأنه يفسر قال المحذوفة بعد قوله: "أبا هريرة" لأن التقدير سمعت أبا هريرة قال: "وكان يمر بنا" إلخ. وقوله: "أسبِغوا الوضوء" أي: بفتح الهمزة من الإسباغ، وهو إبلاغه مواضعه، وإيفاء كل عضو حقه. وقوله: "فإن أبا القاسم -صلى الله عليه وسلم-" فيه ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بكنيته، وهو حسن، وذكره بوصف الرسالة أحسن. وقوله: "ويلٌ للأعقاب من النار" قد مر قريبًا ضبط الأعقاب، ومر الكلام عليها في باب رفع الصوت بالعلم، وإنما خُصَّت بالذكر لصورة السبب كما مر

رجاله أربعة

في حديث عبد الله بن عمرو، فيلتحق بها ما في معناها من جميع الأعضاء ... إلخ ما مر. وفي الحاكم وغيره عن عبد الله بن الحارث: "ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار"، ولهذا ذكر في الترجمة أثر ابن سيرين في غسله موضع الخاتم, لأنه قد لا يصل إليه الماء إذا كان ضيقًا، وإنما خُصّت أيضًا لأن مواضع الوضوء لا تأكلها النار كمواضع السجود. قلت: بل هي داخلة في مواضع السجود. رجاله أربعة: الأول: آدم بن أبي اياس، والثاني شُعبة وقد مر تعريفهما في الحديث الثالث من كتاب الإيمان، ومر تعريف أبي هريرة في الحديث الثاني منه أيضًا. والثالث: محمد بن زياد القُرَشيّ الجُمَحِيّ مولاهم أبو الحارث المدني. وثقه الترمذي والنسائي وابن مَعين وابن الجُنَيْد. وذكره ابن حِبان في "الثقات". وقال أبو حاتم: محلُّه الصدق، وهو أحب الينا من محمد بن زياد الألهاني. وقال الآجُريّ: أثنى عليه أبو داود وقال أحمد بن حنبل: من الثقات، وليس أحد أروى عنه من حمّاد بن سَلَمة، ولا أحسن حديثًا. روى عن: الفضل بن عباس، ومُحَيِّصة بن مسعود، وأبي هريرة، وعائشة، وعبد الله بن الزُّبير، وعبد الله بن الحارث. وروى عنه: ابنه الحارث، وخالد الحذّاء، والحسين بن واقد المَرْوزي، والحمّادان. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والسماع، ورواته ما بين خُراساني وبَصْري ومَدني، وهو من رُباعيات البخاري. أخرجه البخاري هنا، ومسلم والنَّسائي في الطهارة، كلاهما عن قُتيبة.

باب غسل الرجلين في النعلين ولا يمسح على النعلين

باب غسل الرجلين في النعلين ولا يمسح على النعلين ليس في الحديث الذي ذكره تصريح بذلك، وإنما هو مأخوذ من قوله: "يتوضأ فيها", لأن الأصل في الوضوء هو الغسل، ولأن قوله: "فيها" يدل على الغسل، ولو أريد المسح لقال: عليها. قوله: "ولا يمسح على النعلين" أي: لا يكتفي بالمسح عليهما كما في الخُفَّين، وأشار بذلك إلى ما روي عن علي وغيره من الصحابة أنهم مسحوا على نعالهم في الوضوء، ثم صلَّوا. وروي ذلك في حديث مرفوع أخرجه أبو داود وغيره من حديث المُغيرة بن شعبة، لكن ضعفه عبد الرحمن بن مهدي وغيره من الأئمة. واستدل الطّحاوي على عدم الإجزاء بالإجماع على أن الخُفَّين إذا تخرّقا حتى تبدو القدمان فإن المسح لا يُجزىء عليهما، قال: فكذلك النعلان، لأنهما لا يستران القدمين، وهو استدلال صحيح، لكنه منازَع في نقل الإجماع المذكور. وقد تمسك من اكتفى بالمسح بقوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ} عطفًا على: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] فذهب إلى ظاهرها جماعة من الصحابة والتابعين فحكي عن ابن عباس في رواية ضعيفة، والثابت عنه خلافه، وعن عكرمة والشعبي، وقَتادة، وهو قول الشيعة، وعن الحسن البصري: الواجب الغسل أو المسح، وعن بعض أهل الظاهر يجب الجمع بينهما. وحُجة الجمهور الأحاديث الصحيحة المذكورة وغيرها من فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، فإنه بيان للمراد، وأجابوا عن الآية بأجوبة منها أنه قرىء: {وَأَرْجُلَكُمْ} بالنصب عطفًا على أيديكم. وقيل: معطوف على محل {بِرُءُوسِكُمْ} كقوله: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} [سبأ: 10]. وقيل: المسح في الآية محمول لمشروعية المسح على الخفين، فحملوا قراءة الجر على مسح الخفين، وقراءة النصب على غسل الرجلين، وقرر ذلك أبو بكر بن العربي، فقال: بين القراءتين تعارض ظاهر، والحكم فيما ظاهره التعارض أنه إن أمكن العمل بهما وجب، وإلاّ عُمل

بالقدر الممكن. ولا يتأتّى الجمع بين المسح والغسل في عضو واحد في حالة واحدة, لأنه يؤدي إلى تكرار المسح, لأن الغسل يتضمن المسح، والأمر المطلق لا يقتضي التكرار، فبقي أن يُعمل بهما في حالين توفيقًا بين القراءتين، وعملًا بالقدر الممكن، وهذا هو معنى قول الشافعي: أراد بالنصب آخرين، وبالجر آخرين. وقيل: إنما عطفت على الرؤوس الممسوحة لأنها مظِنّة لكثرة صب الماء عليها، فلمنع الإسراف عُطفت، وليس المراد أنها تمسح حقيقة، ويدل على هذا المراد قوله: {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} , لأن المسح رخصة، فلا يقيد بالغاية، ولأن المسح يطلق على الغسل الخفيف، يقال: مسح على أطرافه لمن توضأ، ذكره أبو زيد اللُّغوي وابن قُتيبة وغيرهما، وقد مر بعض مباحث الرجلين في غير هذا الموضع في العلم وفي الوضوء.

الحديث الحادي والثلاثون

الحديث الحادي والثلاثون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، رَأَيْتُكَ تَصْنَعُ أَرْبَعًا لَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِكَ يَصْنَعُهَا. قَالَ وَمَا هِيَ يَا ابْنَ جُرَيْجٍ؟ قَالَ: رَأَيْتُكَ لاَ تَمَسُّ مِنَ الأَرْكَانِ إِلاَّ الْيَمَانِيَيْنِ، وَرَأَيْتُكَ تَلْبَسُ النِّعَالَ السِّبْتِيَّةَ، وَرَأَيْتُكَ تَصْبُغُ بِالصُّفْرَةِ، وَرَأَيْتُكَ إِذَا كُنْتَ بِمَكَّةَ أَهَلَّ النَّاسُ إِذَا رَأَوُا الْهِلاَلَ وَلَمْ تُهِلَّ أَنْتَ حَتَّى كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أَمَّا الأَرْكَانُ فَإِنِّي لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَمَسُّ إِلاَّ الْيَمَانِيَيْنِ، وَأَمَّا النِّعَالُ السِّبْتِيَّةُ فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَلْبَسُ النَّعْلَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَعَرٌ وَيَتَوَضَّأُ فِيهَا، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَلْبَسَهَا، وَأَمَّا الصُّفْرَةُ فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَصْبُغُ بِهَا، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَصْبُغَ بِهَا، وَأَمَّا الإِهْلالُ، فَإِنِّي لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُهِلُّ حَتَّى تَنْبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهُ. قوله: "تصنع أربعًا" أي: أربع خصال. وقوله: "لم أر أحدًا من أصحابك" أي: أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والمراد بعضُهم، والظاهر من السياق انفراد ابن عمر بما ذُكر دون غيره ممن رآهم عبيد. وقال المازري: يحتمل أن يكون مراد: لا يصنعُهنَّ غيرُك مجتمعةً، وإن كان يصنع بعضها أو المراد: الأكثر منهم. وقوله: "لا تمسُّ من الأركان" أي: أركان الكعبة الأربعة. وقوله: "إلاّ اليمانِيَينْ" من باب التغليب، وإلا فالذي فيه الحجر الأسود عراقي, لأنه على جهته، ولم يقع التغليب بالأسود خوف الاشتباه على جاهل، واليمانيان باقيان على قواعد إبراهيم، ومن ثمَّ خُصا بالاستلام. واليماني

بتخفيف الياء على المشهور, لأن الألف عوض عن ياء النسب، فلو شدّدت لكان جمعًا بين العوض والمعوض، وجوز سيبويه التشديد، وقال: إن الألف زائدة. وفي البيت أربعة أركان: الأول له فضيلتان، كون الحجر الأسود فيه، وكونه على قواعد إبراهيم. وللثاني الثانية فقط، وليس للآخرين شيء منهما، فلذلك يُقبل الأول ويُستلم الثاني فقط، ولا يقبل الآخران ولا يستلمان، هذا على رأي الجمهور، واستحبَّ بعضهم تقبيل الركن اليماني فقط. وعلى هذا لو بني البيت على قواعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام الآن استُلمت كلها, ولذلك لما ردّهما ابن الزُّبير على القواعد استلمهما واستلمهما الناس، فقد روى الأَزْرَقي في "كتاب مكة" أن ابن الزبير لما فرغ من بناء البيت، وأدخل فيه من الحِجْر ما أُخرج منه، ورد الرُّكنين على قواعد إبراهيم، خرج إلى التَّنعيم، واعتمر، وطاف بالبيت، واستلم الأركان، الأربعة، ولم يزل البيت على قواعد إبراهيم إذا طاف الطائف استلم الأركان جميعها حتى قُتل ابن الزبير. وأخرَجَ من طريق ابن إسحاق، بلغني أن آدم لما حج استلم الأركان كلها، وأن إبراهيم وإسماعيل لما فرغا من بناء البيت طافا به سبعًا يستلمان الأركان. وظاهر الحديث أن غير ابن عمر من الصحابة الذين رآهم عبيد كانوا يستلمون الأركان كلها، وقد صح ذلك عن معاوية وابن الزبير، فقد أخرج أحمد والترمذي والحاكم عن أبي الطفيل قال: كنت مع ابن عباس ومعاوية، فكان معاوية لا يمر بركن إلا استلمه. فقال ابن عباس: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يستلم إلاَّ الحَجَرَ واليماني. فقال معاوية: ليس شيء من البيت مهجورًا. وقد رواه أحمد، عن مجاهد، عن ابن عباس أنه طاف مع معاوية. فقال معاوية: ليس شيء من البيت مهجورًا. فيقول ابن عباس: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]. وأما رواية أحمد عن شعبة أن ابن عباس هو الذي استلم الأركان كلها، فقال معاوية: إنما استلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذين الركنين اليمانيين، فقال ابن عباس: ليس من أركانه شيء مهجور. فهي رواية مقبولة،

وقد رواها أحمد أيضًا، عن سعيد بن أبي عَروبة على الصواب. وروى الشافعي أن ابن عباس كان يمسح الركن اليماني والحَجَرَ، وكان ابن الزبير يمسح الأركان كلها، ويقول: ليس شيء من البيت مهجورًا. ويقول ابن عباس: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}. [الأحزاب: 21]. وأخرج أحمد أيضاً عن مجاهد، عن ابن عباس أنه طاف مع معاوية، فقال: ليس شيء من البيت مهجورًا. فقال له ابن عباس: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}، فقال معاوية: صدقت. وحمل ابن التين تبعًا لابن القصار استلام ابن الزبير للكل على ما بعد تعميره للبيت على قواعد إبراهيم. وهو متعقّب بما أخرجه ابن أبي شيبة موصولًا، عن عبّاد بن عبد الله بن الزبير، أنه رأى أباه يستلم الأركان كلها، وقال: إنه ليس شيء من البيت مهجورًا. وفي "الموطأ" عن هشام بن عُروة أن أباه كان إذا طاف بالبيت يستلم الأركان كلها، فهذا يدلُّ على أن هذا إعادته مطلقًا. قلت: ليس في ما ذكر أنه كان يفعل قبل تعميره للبيت حتى يُساق على ابن التين. وروى ابن المنذر وغيره استلام جميع الأركان أيضًا عن جابر وأنس والحسن والحسين من الصحابة، عن سُويد بن غَفَلة من التابعين. وأجاب الشافعي عن قول من قال: ليس شيء من البيت مهجورًا، بأنّا لم ندع استلامهما هجرًا للبيت، وكيف يهجره وهو يطوف به، ولكنا نتبع السنة فعلًا وتركًا، ولو كان ترك استلامهما هجرًا لهما لكان في ترك ما بين الأركان هجرًا له، ولا قائل به. وقوله: "النعال السِّبْتية" بكسر المهملة وسكون الموحدة آخره مثناة فوقية، التي لا شعر عليها، مشتقة من السِّبت وهو الحَلْق، وهو ظاهر جواب ابن عمر الآتي قريبًا، أو هي جلد البقر المدبوغ بالقَرَظِ. والسُّبتَ بالضم نبتٌ يُدبغ به،

أو كل مدبوغ. أو: قيل لها سِبتية لأنها انسبتت بالدباغ، أي: لانت به، يقال: رطبة منسَبِتة، أي: لينه، أو نسبة إلى سوق السِّبت. وإنما اعتُرِض على ابن عمر رضي الله تعالى عنهما بذلك لأنه لباس أهل النعيم، وإنما كانوا يلبَسون النعال بالشعر غير مدبوغة، وكانت المدبوغة تعمل بالطائف وغيره. وقوله: "أهلَّ الناس" أي: رفعوا أصواتهم بالتلبية للإحرام بحج أو عمرة. وقوله: "حتى كان يوم التَّروية" يومُ بالرفع، اسم كان، وبالنصب خبرها، فعلى الأول كان تامة، وعلى الثاني ناقصة، والرؤية هنا تحتمل البصرية والعلمية، ويوم التروية هو الثامن من ذي الحجة، وسمي بالتَّرْوِية -بفتح المثناة وسكون الراء وكسر الواو وتخفيف التحتانية- لأنهم كانوا يروون فيها إبلهم ويتروون من الماء, لأن تلك الأماكن لم تكن إذ ذاك فيها آبارٌ ولا عيونٌ، وأما الآن فقد كئرت جدًّا واستَغْنَوا عن حمل الماء. وقد روى الفاكِهاني، عن مجاهد، قال: قال عبد الله بن عمر: يا مجاهد: إذا رأيتَ الماء بطريق مكة، ورأيت البناء يعلو أخاشِبها، فخذ حِذْرك. وفي رواية: فاعلم أن الأمر قد أظلَّكَ. وقيل في تسمية التروية أقوال أخرى شاذة: منها أن آدم رأى فيها حواء، واجتمع بها. ومنها أن إبراهيم رأى في ليلة أنه يذبح ابنه، فأصبح متفكرًا يتروّى. ومنها أن جبريل عليه السلام أرى فيه إبراهيم مناسك الحج. ومنها أن الإمام يُعلِّم الناس فيها مناسك الحج. ووجه شذوذها أنه لو كان من الأول لكان يوم الرؤية، أو الثاني لكان يوم التروّي بتشديد الواو، أو الثالث لكان من الرؤيا، أو الرابع لكان من الرواية. وقوله: "يمسُّ إلا اليمانِيَينْ" قد زاد ابن عمر في غير هذه الرواية: "إنّما ترك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استلام الرُّكنين الشامييَّن لأن البيت لم يُتَمَّ على قواعد إبراهيم.

وقوله: "يلبَس النعال" ولغير الأربعة: "النعل" بالإفراد. وقوله: "فأنا أحبُّ أن ألبَسها"، في رواية الحموي والمستملي: "فإني أحبُّ". واستدل بهذا الحديث في لباس النبي -صلى الله عليه وسلم- النعال السِّبتية، ومحبة ابن عمر لها لذلك، على جواز لبسها على كل حال. وقال أحمد: يكره لبسها في المقابر لحديث بشير بن الخصَاصِيَّة أخرجه أحمد وأبو داود وصححه الحاكم، واحتج به على ما ذكر، قال: "بينما أنا أمشي في المقابر وعلي نعلان، إذا رجل ينادي من خلفي: يا صاحب السِّبتيَّتين، إذا كنت في هذا الموضع فاخلع نعليك". وتعقبه الطَّحاوي بأنه يحتمل أن يكون الأمر بخلعهما لأذى فيهما، وقد ثبت في الحديث أن الميت يسمع قرع نعالهم إذا ولَّوا عنه مدبرينَ، وهو دالٌّ على لُبس النعال في المقابر. قال: وثبت حديث أنس "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى في نعليه" قال: فإذا جاز دخول المسجد بالنعال، فالمقبرة أولى. ويحتمل أن يكون النهي لإكرام الميت، كما ورد النهي عن الجلوس على القبر، وليس ذكر السِّبتيتين للتخصيص، بل اتفق ذلك، والنهي إنما هو للمشي على القبور بالنعال. وقوله: "فانا أحبُّ أن أصبغَ بها" وفي رواية: "فإني أحبُّ" يحتمل صبغ ثيابه لما في الحديث المروي في "سنن" أبي داود: "وكان يصبُغُ بالورس والزَّعفران حتى عِمامته" أو صبغ شعره، لما في "السنن": "إنه كان يصفِّر بهما لحيتَه" وكان أكثر الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم يخضِب بالصُّفرة. ورجح الأول القاضي عياض، وأجيب عن الحديث المستدل به للثاني باحتمال أنه كان يتطيب بهما، لا أنه كان يصبُغ بهما، لكن حديث الباب صريح في جواز الصبغ بالصفرة، وكذلك حديث عبد الرحمن بن عوف يأتي للمؤلف في عدة مواضع في البيع والنكاح واللباس أنه تزوج، وجاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وعليه أثر صُفرة.

وقد اختلف العلماء في ذلك، فاجاز مالك جواز لبس الثوب المزَعْفَر للحلال، ولم يجزْه في البدن، وقال: إنما وقع النهي عنه للمحرم خاصة. ونَقَل ذلك عن علماء المدينة، واحتج بما أخرجه أبو داود عن أبي موسى رفعة: "لا يقبلُ الله صلاة رجل في جسده شيء من خلوق" فإن مفهومه أن ما عدا الجسد لا يتناوله الوعيد. وأخرج الحاكم من حديث عبد اللة بن جعفر: "رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعليه ثوبان مصبوغان بالزَّعفران"، وأخرج الطبراني عن أم سَلَمة: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صبغ إزاره ورداءه بزعفران"، والأول في سنده عبد الله بن مُصعب الزُّبيري وهو ضعيف، والثاني فيه راوٍ مجهول. وتمسكوا في منعه في الجسد بما أخرجه أبو داود والتِّرمذي في "الشمائل" والنسائي في "الكبرى" عن سَلْم العَلَويّ، عن أنس: دخل رجل على النبي -صلى الله عليه وسلم- وعليه أثر صُفرة، وكان قلّما يواجه أحدًا بشيء يكرهه، فلما قام، قال: "لو أمرتُم هذا أن يترك هذه الصفرة" لكن سَلْم فيه لين. وأخرج أبو داود عن عمّار رفعه، قال: "لا تحضُر الملائكة جنازة كافر ولا متضمِّخٍ بالزعفران"، وأخرج أيضًا عنه قال: قدمت على أهلي ليلًا وقد تشقَّقت يداي، فخلّقوني بزعفران، فسلمت على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلم يرحِّب بي، وقال: "اذهَبْ فاغسِل عنك هذا". وهذه الأحاديث معارضة لحديث ابن عمر، فإما أن تكون ناسخة له، وإما أن تكون مقدمة عليه لأنها نهي، والعمل بالنهي مقدم على العمل بالطلب. واستدل بعضهم على جواز التَّزَعْفُر للعروس دون غيره بحديث عبد الرحمن بن عوف، وخُصَّ به عموم النهي عن التَّزَعْفُر للرجال، ويأتي قريبًا الجواب عنه. ومنع أبو حنيفة والشافعي ومن تبعهما ذلك في البدن والثوب للمحرم وغير المحرم، وتمسكوا بالأحاديث الواردة في ذلك، وهي صحيحة، وفيها ما هو

صريح في المدَّعَى كحديث أنس عند البخاري قال: "نهى الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يتزعفر الرجل" إلى غير هذا، وأجابوا عن قصة عبد الرحمن بأجوبة منها: إن ذلك كان قبل النهي. وهذا يحتاج إلى تاريخ، ويؤيده أن في قصة عبد الرحمن سياق يشعر بأنها كانت في أوائل الهجرة، وأكثر من روى النهي من تأخرت هجرته. ثانيها: إن أثر الصفرة التي كانت على عبد الرحمن تعلقت به من جهة زوجته، فكان ذلك غير مقصود له، ورجحه النووي، وعزاه للمحققين، وجعله البيْضاوي أصلًا ردَّ إليه أحد الاحتمالين أبداهما ذهب قوله: "مهيم؟ " فقال: معناه ما السبب في الذي أراه عليك؟ فلذلك أجاب بأنه تزوج. قال: ويُحتمل أن يكون استفهام إنكار لما تقدم من النهي عن التضمُّخ بالخَلوق، فأجاب بقوله: "تزوجت" أي: فتعلق بي منها, ولم أقصد إليه. ثالثها: إنه كان قد احتاج إلى التطيب للدخول على أهله، فلم يجد من طيب الرجال حينئذٍ شيئًا، فتطيب من طيب المرأة، وصادف أنه كان فيه صفرة، فاستباح القليل منه عند عدم غيره جمعًا بين الدليلين. وقد ورد الأمر في التطيب للجمعة ولو من طيب المرأة، فبقي أثر ذلك عليه. رابعها: كان يسيرًا ولم يبق إلا أثر. فلذلك لم ينكر. خامسها: وبه جزم الباجيّ: إن الذي يُكره من ذلك ما كان من زعفران وغيره من أنواع الطيب، وأما ما كان ليس بطيب فهو جائز. سادسها: إن النهي عن التَّزَعْفُر للرجال ليس على التحريم، بدلالة تقريره لعبد الرحمن بن عوف في هذا الحديث. سابعها: إن العروس يُستثنى من ذلك، ولاسيما إذا كان شابًّا. قال أبو عُبيد: كانوا يرخصون للشابِّ في ذلك أيام عرسه. قيل: كان في أول الإِسلام من تزوج لبس ثوبًا مصبوغًا علامة لزواجه، ليُعان على وليمة عرسه. قال: وهذا غير معروف.

قال في "الفتح": وفي استفهامه له -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك دلالة على أنه لا يختص بالتزويج، لكن وقع في بعض طرقه: "فأتيت النبي -صلى الله عليه وسلم-، فرأى علي بشاشة العرس، فقال: أتزوجت؟ فقلت: تزوجت امرأة من الأنصار" فقد يتمسك بهذا السياق للمدَّعَى، ولكن القصة واحدة، وفي أكثر الروايات أنه قال له: "مهيم؟ " أو: "ما هذا؟ " فهو المعتمد. وبشاشة العرس: أثره وحسنه، أو فرحه وسروره، يقال: بشَّ بفلان، أي: أقبل عليه فرحًا به، ملطفًا به. وقوله: "حتى تنبعث به راحلته" أي: تستوي قائمة إلى طريقه، والمراد ابتداء الشروع في أفعال النُّسك، وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد. وقال أبو حنيفة: يُحرم عقب الصلاة جالسًا، وهو قول عند لشافعية أيضًا، لحديث الترمذيّ: "أنه -صلى الله عليه وسلم- أهلَّ بالحج حين فرغ من ركعتيه" وقال: حسن. وقال آخرون: الأفضل أن يُهِلَّ من أول يوم من ذي الحجة. وقد كان ابن عمرُ يُنكر على رواية ابن عباس الآتية في الحج بلفظ: "ركب راحلته حتى استوى على البَيْداء أهلَّ" ويقول: والله ما أهل إلا من عند المسجد مسجد ذي الحُلَيْفة. وقد أزال الإشكال ما رواه أبو داود والحاكم عن سعيد بن جُبير قال: قلت لابن عبّاس: عجبت لاختلاف أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في إهلاله فذكر الحديث، وفيه: "فلما صلى في مسجد ذي الحُلَيْفة ركعتين، أوجب من مجلسه، فأهلَّ الحج حين فرغ منها، فسمع منه قوم، فحفظوه، ثم ركب، فلما استقلت به راحلته أهلَّ، وأدرك ذلك منه قوم لم يشهدوه في المرة الأولى، فسمعوه حين ذلك، فقالوا: إنما أهلَّ حين استقلّت به راحلته، ثم مضى، فلما علا شرف البيداء أهلّ، وأدرك ذلك قوم لم يشهدوه، فنقل كل واحد ما سمع، وإنما كان إهلاله في مصلاه وأيم الله، ثم أهل ثانيًا وثالثًا". فعلى هذا كان إنكار ابن عمر على من يخصُّ الإهلال بالقيام على شرف البيداء، وقد اتفق فقهاء الأمصار على جواز جميع ذلك، وإنما الخلاف في الأفضل. واستنبط بعض العلماء من مشروعية تقبيل الأركان جواز تقبيل كل من يستحق التعظيم من آدمي أو غيره، فأما تقبيل يد الآدمي فقد تكلمنا عليه بما

رجاله خمسة

يكفي في كتاب "متشابه الصفات"، وأما غيره فقد نُقل عن الإِمام أحمد أنه سئل عن تقبيل منبر النبي -صلى الله عليه وسلم- وتقبيل قبره فلم ير به بأسًا، واستبعد بعض أتباعه صحة ذلك، ونُقل عن ابن أبي الصَّيْف اليماني أحد علماء مكة من الشافعية جواز تقبيل المصحف، وأجزاء الحديث، وقُبور الصالحين، قاله في "الفتح". قلت: البعض الذي ذكره هو ابن تيمية, لأنه هو صاحب هذا الأمر، وقد استوفينا الكلام على هذا البحث غاية الاستيفاء في كتابنا "الفتوحات الربانية"، ويؤخذ منه أيضًا حفظ المراتب، وإعطاء كل ذي حق حقه، وتنزيل كل أحد منزلته. رجاله خمسة: الأول: عبد الله بن يوسف، والثاني. مالك وقد مرّا في الحديث الثاني من بدء الوحي. ومر تعريف سعيد المَقْبرُي في الحديث الثالث والثلاثين من كتاب الإيمان. ومر عبد الله بن عمر في أول كتابه قبل ذكر حديث منه. والرابع: عُبيد بن جُريج التَّيمْي مولاهم المدني. روى عن: ابن عمر، وابن عباس، وأبي هُريرة، والحارث بن مالِك بن البَرْصاء. وروى عنه: زيد بن أبي عتّاب، وسُليمان بن موسى، وعمر بن عطاء، ويزيد بن أبي حبيب، ويزيد بن عبد الله بن قُسَيْط. وثقه النَّسائي، وأبو زُرعة. وذكره ابن حِبان في "الثقات". وقال العِجْلي: مكي تابعي ثقة له هذا الحديث وحده عن ابن عمر. والجُرَيْج وعاء يُشبه الخُرْج. وليس بينه وبين عبد الملك بن عبد العزيز بن جُرَيجْ نسب، وقد يظُن أن هذا عمه، وليس كذلك.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: منها أن كلهم مدنيون. وفيه رواية الأقران, لأن عُبيدًا وسعيدًا تابعيان من طبقة واحدة. وفيه التحديث والإخبار والعنعنة. أخرجه البخاري هنا، وفي اللباس أيضًا عن القَعْنَبي، ومسلم عن يحيى بن يحيى، وأبو داود في الحج، والترمذي في "شمائله"، والنّسائي عن كُريب في الطهارة، وابن ماجه في اللباس عن أبي بكر بن أبي شَيْبة. باب التيمن في الوضوء والغسل أي: الابتداء فيهما باليمين.

الحديث الثاني والثلاثون

الحديث الثاني والثلاثون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- لَهُنَّ فِي غُسْلِ ابْنَتِهِ: "ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا". قوله: "في غَسْل ابنته" أي: في صفه غسل ابنته، ويأتي قريبًا آية بناته هي، وأورد المصنف من الحديث طرفًا ليبيّن به المراد بقول عائشة: "يعجبه التيمن"، إذ هو لفظ مشترك بين الابتداء باليمين، وتعاطي الشيء باليمين، والترك، وقصد اليمين، فبان بحديث أم عطية أن المراد بالطهور الأول. رجاله خمسة: الأول: مُسدَّد بن مُسَرْهَد وقد مر في الحديث السادس من كتاب الإيمان. الثاني: إسماعيل بن عُلَيّة وقد مر في الحديث الثامن منه أيضًا. الثالث: خالد الحذّاء وقد مر في الحديث السابع عشر من كتاب العلم. الرابع: حفصة بنت سِيرين أم الهُذَيْل الأنصارية البَصْرية أم الهُذَيْل أخت محمد بن سِيرين. روت عن: أخيها يحيى، وأم عَطِية، وأنس بن مالك، والرَّباب أم الرائح، وأبي العالية، وخَيْرة أم الحسن البصري. وروى عنها: أخوها محمد، وقتادة، وعاصم الأحول، وخالد الحذّاء، وابن عَوْن، وغيرهم. قال ابن مَعين: ثقة حجة. وقال العجلي: بصرية تابعية. وقال إياس بن معاوية: ما أدركت أحدًا أفضِّله على حفصة. وقال ابن أبي داود: قرأت القرآن

وهي ابنة اثنتي عشرة مشة، وماتت وهي ابنة تسعين أو سبعين، سنة إحدى ومئة. وذكرها ابن حِبان في "الثقات". الخامس: أم عطية الأنصارية، واسمها نُسَيْبة -بنون وسين مهملة مصغر- وقيل: بفتح النون، وهي بنت الحارث، وقيل: بنت كعب. وأنكره ابن عبد البر، وقال: إن نُسيبة بنت كعب هي أم عُمارة. كانت من كبار نساء الصحابة رضوان الله عليهم، وكانت تغزو كثيرًا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، تمرِّض المرضى، وتداوي الجرحى، وشهدت غُسل ابنته -صلى الله عليه وسلم-، وحكت ذلك فأتقنت، وحديثها أصل في غسل الميت، وكان جماعة من الصحابة وعلماء التابعين بالبصرة يأخذون غسل الميت عنها. لها أربعون حديثًا، اتفقا على سبعة أو ستة، وانفرد البخاري بواحد، ومسلم بآخر. روت عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعمر. وروى عنها: أنس، ومحمد وحفصة ولدا سيرين، وإسماعيل بن عبد الرحمن بن عطية، وعبد الملك بن عُمير، وغيرهم. وحديثها في "الصحيحين": "أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نخرج في العيدين العوائق وذوات الخُدور"، ومن حديثها: "كنا لا نَعُدُّ الكُدْرة والصُّفرة شيئًا"، وحديثها: "نُهينا عن اتِّباع الجنائز ولم يُعْزَم علينا"، وحديث: "دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- على عائشة رضي الله عنها، فقال: هل عندكم من شيء؟ قالت: لا إلاّ شيء بعثت به إلينا نُسيبة من الشاة التي بُعثت إليها من الصدقة. قال: إنها قد بلغت محلَّها" وفي "صحيح" مسلم عنها: "غزوت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سبع غزوات، كنت أخلُفُهم في رحالهم". ورُوي عن أم شَراحيل مولاة أبي عطية، قالت: كان علي بن أبي طالب يقيل عند أم عطية، وكنت أنتف إبطه بوَرْسة.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: منها أن رواته كلهم بصريون، وفيه التحديث والعنعنة، وفيه رواية التابعية عن الصحابية. أخرجه البخاري هنا وفي الجنائز أيضًا عن محمد بن عبد الوهاب الثَّقَفي، ومسلم والنّسائي فيها أيضًا عن قُتيبة، وابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شَيبة. وبنت النبي -صلى الله عليه وسلم- التي حضرت غسلها، قيل: إنها زينب. وقيل: أم كلثوم. ولابد من تعريف كل منهما هنا، فنبدأ بتعريف الأولى. وهي زينب أكبر بناته، وأول من تزوج منهنَّ، وُلدت قبل البعثة بمدة، قيل: إنها عشر سنين، واختلف هل القاسم قبلها أو بعدها. وتزوجها ابن خالتها أبو العاص بن الرَّبيع العبشمي، وأمه هالة بنت خُوَيْلد. قيل: إنها هاجرت مع أبيها، وأبى زوجها أن يسلم، فلم يفرِّق النبي -صلى الله عليه وسلم- بينهما. وروي عن عائشة أن أبا العاص شهد بدرًا مع المشركين، فأُسر، فقدم أخوه عمرو في فدائه، وأرسلت معه زينب قلادة من جَزْع كانت خديجة أدخلتها بها على أبي العاص، فلما رآها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عرفها، ورقَّ لها، وذكر خديجة، وترحم عليها، وكلّم الناس فأطلقوه، ورد عليها القِلادة، وأخذ على أبي العاص أن يُخلي سبيلها ففعل. وذكر الواقدي أن أبا العاص خرج في عير لقريش، فبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- زيد بن حارثة في سبعين ومئة راكب، فلقوا العير في ناحية العيص في جمادى الأولى سنة ست، فأخذوا ما فيها، وأسروا ناسًا منهم أبو العاص، فدخل على زينب فأجارته، ونادت إني أجرت أبا العاص بن الربيع. فقال بعد أن انصرفت: "هل سمعتم ما سمعت؟ " قالوا: نعم. قال: "والذي نفس محمد بيده ما علمتُ شيئًا مما كان حتى سمعتُ، وإنه يُجير على المسلمين أدناهم، وقد أجرنا من

أجارت"، فسألته زينب أن يردَّ عليه ما أُخذ منه ففعل، وأمرها أن لا يقربَها، ومضى أبو العاص إلى مكة، فأدى الحقوق لأهلها، ورجع فأسلم في المحرم سنة سبع، فرد عليه زينب بالنكاح الأول، وقيل: بعقد جديد. ووَلَدَتْ من أبي العاص عليًّا مات وقد ناهز الاحتلام، وأُمامة وعاشت وتزوجها علي بعد فاطمة عليها السلام. توفيت زينب في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سنة ثمان من الهجرة، وكان سبب موتها أنها لما خرجت من مكة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عدلها هبّار بن الأسود ورجل آخر، فدفعها أحدهما، فسقطت وأهراقت الدماء، فلم يزل بها مرضها حتى ماتت سنة ثمان من الهجرة، وكان زوجها محبًّا لها، وأنشد في بعض أسفاره بالشام ذكرتُ زينبَ بالأجزاع من إرما ... فقُلت سُقيا لشخص يسكن الحَرَمَا بنتُ الرسولِ جزاها الله صالحةً ... وكلُّ بعلٍ سيثني بالذي علما وكانت وفاته بعدها بقليل. وأما أم كلثوم، فقد اختلف فيها هل هي أصغر أو فاطمة، تزوجها عُتبة بن أبي لهب قبل البعثة، فلم يدخل عليها حتى بُعث النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأمره أبوه بفراقها، ثم تزوجها عُثمان بن عفان بعد موت أختها سنة ثلاث من الهجرة، وتوفيت عنده أيضًا سنة تسع، ولم تلد له. وقيل: كان عُتبة وعُتَيْبة ابنا أبي لهب تزوجّا رُقية وأم كلثوم ابنتي النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما نزلت {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1] قال أبو لهب: رأسي بين رؤوسكما حرام إن لم تطلّقا ابنتي محمد. وقالت لهما أمهما حمالة الحطب: إن رقية وأم كلثوم صَبتا فطلِّقاهما، فطلقاهما قبل الدخول. قال ابن حجر: هذا أولى مما ذكر أوّلًا من كون ولدي أبي لهب تزوجا رُقية وأم كلثوم قبل البعثة, لأن ابن عبد البر نقل الاتفاق على أن زينب أكبر البنات، ومر في ترجمتها أنها وُلدت قبل البعثة بعشر سنين، فإذا كانت كبرهن بهذا السنن, فكيف تزَوّج من هو أصغر منها؟ نعم، إن ثبت ذلك يكون عقدًا لنكاح إلى حين يحصل التأهل، فوقع الفراق قبله.

وروى ابن شِهاب عن أنس انه رأى على أم كلثوم بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثوب حرير سيراء. وروي عن أم عيّاش مولاة رُقية أنها قالت: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما زوَّجتُ عثمان أم كلثوم إلا بوحي من السماء". وعن أبي هُريرة رفعه: "أتاني جبريلُ فقال: إن الله يأمرك أن تزوِّج عثمان أمَّ كلثوم على مثل صَداق رُقية، وعلى مثل صُحبتها". وكان رضي الله عنه لما تُوفيت رقية عرض عليه عمر بن الخطاب حفصة ابنته ليتزوّجها. فسكت عثمان عنه, لأنه كان قد سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يذكرها، فلما بلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ألا أدلُّ عثمان على من هو خيرٌ له منها، وأدُلُّها على من هو خير لها من عثمان؟ " فتزوج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حفصة، وزوّج عثمان أم كلثوم، وكان نكاحه لها في ربيع الأول، وبنى عليها في جُمادى الآخرة من السنة الثالثة من الهجرة. وروي عن أسماء بنت عُمَيْس قالت: أنا غسلت أمَّ كُلثوم وصَفِيّة بنت عبد المطلب. ومن طريق عَمْرة: غسلتها نسوة، منهن أم عطية. وفي البُخاري عن أنس: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على قبرها فرأيت عينيه تدمعان، فقال: "فيكم أحد لم يقارف الليلة؟ " فقال أبو طلحة: أنا. فقال: أنزل في قبرها. وقال الواقِدي بسند له: نزل في حفرتها علي، والفضل، وأسامة بن زيد. وصلّى عليها أبوها -صلى الله عليه وسلم-.

الحديث الثالث والثلاثون

الحديث الثالث والثلاثون حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي أَشْعَثُ بْنُ سُلَيْمٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبِى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ. قَالَتْ: كَانَ النَّبِسُّ -صلى الله عليه وسلم- يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَطُهُورِهِ وَفِى شَأْنِهِ كُلِّهِ. قوله: "يعجبه التيمُّن" قيل: لأنه كان يحب الفأل الحسن إذ أصحاب اليمين أهل الجنة. وزاد المصنف في الصلاة عن شُعبة: "ما استطاع" فنبّه على المحافظة على ذلك ما لم يمنع مانع. وقوله: "في تنعُّله وترجُّله" أي: لبس نعله، وترجيل شعره، وهو تسريحه ودهنه. قال في "المشارق": رجَّل شعره إذا مشطه بماء أو دهن ليَلين، ويُرسل الثائر، ويُمد المنقبض. زاد أبو داود عن شعبة: "وسواكه". وقوله: "وطُهوره" بضم الطاء لأن المراد تطهره، وتفتح. أي: البداءة بالشِقِّ الأيمن في الغُسل، وباليمين في اليدين والرجلين على اليسرى. وفي "سنن" أبي داود عن أبي هريرة مرفوعًا: "إذا توضأ ثُم فابدؤوا بميامِنكم" فإن قدَّم اليسرى كُره، ووضوءه صحيح. وأما الكفان والخدّان والأذنان فيطهَّران دفعة واحدة. وقوله: "في شأنه كله" بغير واو لأكثر الرواة، وفي رواية أبي الوقت بإثبات الواو، وهي التي اعتمدها صاحب "العمدة". قال الشيخ تقي الدين: هو عام مخصوص, لأن دخول الخلاء والخروج من المسجد ونحوها يبدأ فيهما باليسار. وتأكيد الشأن بقوله: "كله" يدل على التعميم, لأن التأكيد يرفع المجاز، فيمكن أن يقال: حقيقة الشأن ما كان فعلًا مقصودًا، وما يستحب فيه التياسر

ليس من الأفعال المقصودة، بل هي إما تروك وإما غير مقصودة، وعلى رواية الواو فهو من عطف العام على الخاص. ويدخل في قوله: "كله" نحو لبس الثوب، والخف، والسراويل، ودخول المسجد، والصلاة على ميمنة الإمام، وميمنة المسجد، والأكل، والشرب والاكتحال، وتقليم الأظفار، وقص الشارب ونتف الإبط، وحلق الرأس، والخروج من الخلاء، وغير ذلك مما في معناه، إلا ما خُص بدليل كدخول الخلاء، والخروج من المسجد، والامتخاط، والاستنجاء، وخلع الثوب، والسراويل، ونحو ذلك. وإنما استحب فيها التياسر لأنها من باب الإزالة، والقاعدة الشرعية كما قال النووي: البداءة باليمين استحبابًا في كل ما كان من باب التكريم والتزين، وما كان بضدهما استُحبَّ فيها التياسر. ولا يقال: حلق الرأس من باب الإزالة، فيبدأ فيه بالأيسر. لأنّا نقول: هو من باب العبادة والتزيين، وقد ثبت الابتداء بالشِّق الأيمن في الحلق كما يأتي قريبًا إن شاء الله تعالى. قال في "الفتح": وهذا كله على تقدير إثبات الواو، وأما على إسقاطها فقدله: "في شأنه كله" متعلق بيعجبه لا بالتيمن، أي: يعجبه في شأنه كله، أي: جميع أحواله، التيمن في تنعله ... إلى آخره، أي: لا يترك سفرًا ولا حضرًا ولا في فراغه وشغله. ووقع في رواية مسلم تقديم قوله: "في شأنه كله" على قوله: "في تنعله ... إلى آخره"، وعليها شرح الطّيبي، فقال في شرحه لذلك: قوله: "في طهوره وترجله وتنعله" بدلٌ من قوله: "في شأنه كله" بإعادة العامل، فكأنه ذكر التنعل لتعلقه بالرجل، والترجل لتعلقه بالرأس، والطهور لكونه مفتاح أبواب العبادة، فكأنه نبّه على جميع الأعضاء، فيكون كبدل الكل من الكل. وجميع ما مر مبني على ظاهر السياق الوارد هنا، لكن بين المصنف في

رجاله ستة

الأطعمة عن شعبة أن شيخه أشعث كان يحدث به تارة مقتصرًا على قوله: "في شأنه كله"، وتارة على قوله: "في تنعله ... إلخ". وزاد الإسماعيلي عن شعبة أن عائشة أيضًا كانت تُجْمِلُهُ تارةً وتبيِّنه أخرى، وعلى هذا يكون أصل الحديث ما ذكر من التَّنَعُّل وغيره، ويؤيده رواية مسلم من طريق أبي الأَحْوص، وابن ماجه عن عمرو بن عُبيد، كلاهما عن أشعث بدون قوله: "في شأنه كله"، وكان الرواية المقتصرة على: "في شأنه كله" من الرواية بالمعنى. قال النَّوَويّ: أجمع علماء السنة على أن تقديم اليمين في الوضوء سنة، من خالفها فاته الفضل، وتم وضوؤه، ومذهب الشيعة الوجوب، وغلط المُرتضى منهم فنسبه الشافعي، وكأنه ظن أن ذلك لازم من قوله بوجوب الترتيب، لكنه لم يقل بذلك في اليدين والرجلين, لأنهما بمنزلة العضو الواحد، ولأنهما جُمعا في القرآن. لكن يُشكل على أصحابه حكمهم على الماء بالاستعمال إذا انتقل من يد إلى يد أخرى، مع قولهم بان الماء ما دام مترددًا على العضو لا يُسمّى مستعملًا. وفي استدلالهم على وجوب الترتيب بأنه لم يَنْقُل أحد في صفة وضوء النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه توضأ منكسًا، وكذلك لم ينقل أحد أنه قدم اليُسرى على اليمنى، ووقع في "البيان" للعُمراني، و"التجريد" للبَنْدَنيجِيّ نسبة القول بالوجوب للفقهاء السبعة، وهو تصحيف من الشيعة. وفي كلام الرافعي ما يُوهم أن أحمد قال بوجويه، ولا يُعرف ذلك عنه، بل قال الشيخ الموفق في "المفتي": لا نعلم في عدم الوجوب خلافًا. رجاله ستة: الأول: حَفْص بن عُمر بن الحارث بن سَخْبَرة -بفتح السين وسكون الخاء -الأزْدِي النَّمري بالتحريك أبو عمر الحَوْضي بن النَّمِر بن عميان، ويقال: مولى بني عدي. والحوضِيّ: نسبة إلى الحوض المعروف، وقال الرّشاطي: نسبة إلى حوض مدينة باليمن.

روى عن: شُعبة، وإبراهيم بن سعد، وهشام بن عبد الله، وهمّام، وحمّاد بن زيد، وغيرهم. وروى عنه: البُخاري وأبو داود. وروى النسائي عنه بواسطة أبي الحسن المَيْموني. وعنه: أبو حاتم الرّازي، وصاعِقة ويوسُف بن موسى القطّان، وخلق آخرهم أبو خليفة. وثقه ابن مَعين، وابن قانِع، وابن وضّاح، ومَسْلَمة، والدارقطني. وقال أحمد: ثبت متقن لا يُؤخذ عليه حرف واحد. وقال ابن المديني: اجتمع أهل البصرة على عدالة أبي عمر الحَوضي وعبد الله بن رجاء. وقال صاعقة: هذا أثبت من ابن رجاء. وقال عُبيد الله بن جرير بن جَبَلة: أبو عمر صاحب كتاب متقن. وقال يعقوب بن شَيبة: كان أثبت من المثبتين. وقال أبو حاتم: صدوق متقن أعرابي فصيح. وقيل له: الحوضي أحب إليك أم علي بن الجَعْد أو عمرو بن مَرْزوق؟ قال: الحوضي، وكان يأخذ الدراهم. وسُئل العباس الدُّوري عن أبي حُذيفة والحَوْضي، فقال: الحوضي أوثق وأحسن حديثًا وأشهر. والحوضي كان يعدُّ مع وَهْب بن جرير، وعبد الصمد، حدث عن شعبة أحاديث صحاحًا. مات سنة خمس وعشرين ومئتين في البصرة. وليس في البخاري حفص بن عمر غيره. وفي "السنن" مفرقًا جماعات. الثاني: شُعبة بن الحجّاج، وقد مر في الحديث الثالث من كتاب الإيمان. ومر تعريف مَسْروق بن الأجْدَع في الحديث الثامن والعشرين منه، وتعريف أم المؤمنين عائشة في الحديث الثاني من بَدْء الوحي. الثالث من السند أشعث بن سُلَيْم أبي الشَّعثاء بن أسود المحاربي الكُوفي. روى عن: أبيه، والأسود بن يزيد، والأسود بن هلال، وسعيد بن جُبير، وأبي وائل، وعمرو بن ميمون، وجماعة.

لطائف إسناده

وعنه: شعبة، والثَّوري، وشَريك، وأبو الأحوص، وشَيْبان النَّحوي، وأبو عَوانه، وأبو إسحاق الشَّيباني -وهو من أقرانه-. ذكره ابن حِبان وابن شاهين في "الثقات". وقال ابن مَعين وأبو داود والبزار وأبو حاتم والنّسائي: ثقة. وقال حَرْب: سمعت أحمد يقدمه على سِماك بن حَرْب. وقال العِجْلي: من ثقات شيوخ الكوفيين، وليس بكثير الحديث، إلا أنه شيخ غال. مات في إمارة يوسف بن عمر بالكوفة سنة خمس وعشرين ومئة. الرابع: سُليم بن أسود بن حَنْظَلة أبو الشَّعثاء المحاربي الكوفي وهو بكنيته أشهر منه باسمه. روى عن: عمر، وأبي ذَر، وحذيفة، وابن مسعود، وسلمان الفارسي، والعبادلة ما عدا ابن الزبير، وخلق. وروى عنه: ابنه الأشعث، وإبراهيم النَخَّعي، وعبد الرحمن بن الأسود، وجامع بن شدّاد، وأبو إسحاق السَّبيعي، وغيرهم. ذكره ابن حبان في "الثقات". وقال: ابن عبد البَرّ أجمعوا على أنه ثقة. ووثقه ابن مَعين، والعِجلي، والنَّسائي، وابن خِراش. وقال الميموني عن أحمد: بخٍ ثقة. وقال أبو حاتم: لا يُسأل عن مثله، شهد مع علي رضي الله عنه مشاهده كلها، ومات في خلافة عبد الملك أو الوليد بعد الجماجم سنة خمس وثمانين، وأما قول ابن حزم في "المحلى" سليم بن أسود مجهول، فكأنه لا يعرف أن أبا الشعثاء اسمه هذا. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والإخبار والعنعنة، ورواته ما بين بصري وكوفي، وفيه رواية الابن عن الأب، ورواية كبيرَيْن من أتباع التابعين، وهما: أشعث وشعبة. ورواية كبيرَين قرينين من كبار التابعين، وهما: سُليم ومَسروق.

باب التماس الوضوء إذا حانت الصلاة

أخرجه البخاري هنا وفي الصلاة عن سُليمان بن حَرْب، وفي اللِّباس عن أبي الوليد، وفي الأطعمة عن عَبْدان، ومسلم في الطهارة عن عُبيد الله بن معاذ، وأبو داود في اللباس عن حفص، والتِّرمذي في آخر الصلاة عن هنّاد بن السَّري، وقال: حسن صحيح. والنّسائي في الطهارة والزينة عن محمد بن عبد الأعلى، وابن ماجه في الطهارة عن هنّاد. باب التماس الوضوء إذا حانت الصلاة الوَضوء -بفتح الواو -أي: الماء الذي يُتوضأ به للوُضوء -بضم الواو- الذي هو الفعل. و"حانت" بالمهملة، أي: قربت. والمراد وقتها الذي توقع فيه. وقالت عائشة: حضرت الصبح فالتمس الماء فلم يوجد فنزل التيمم. قوله: "حضرت الصبح" أتته باعتبار صلاة الصبح. وقوله: "فالُتمِس" مبنيًّا للمفعول، أي: طلب. وقوله: " الماء" بالرفع نائب عن الفاعل. وقوله: "فلم يُوجد" في رواية الكُشميهني: "فالتمسوا الماء" بالجمع والنصب على المفعوليه، "فلم يجدوه" بالجمع. وقوله: "فنزل التيمم" أي آيته. وإسناد النزول إلى التيمم مجازٌ عقليٌّ. قال ابن المنير: أراد الاستدلال على أنه لا يجب طلب الماء للتطهير قبل دخول الوقت؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم ينكر عليهم التأخير، فدل على الجواز. وعائشة مر تعريفها في الحديث الثاني من بدء الوحي. وهذا التعليق صحيح، أخرجه في كتابه مسندًا في مواضع شتى، وهوقطعة من حديثها في قصة نزول آية التيمم، واللفظ المذكور هنا لفظ عَمرو بن الحارث، أخرجه موصولًا عنها في تفسير المائدة.

الحديث الرابع والثلاثون

الحديث الرابع والثلاثون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَحَانَتْ صَلاَةُ الْعَصْرِ، فَالْتَمَسَ النَّاسُ الْوَضُوءَ فَلَمْ يَجِدُوهُ، فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِوَضُوءٍ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي ذَلِكَ الإِنَاءِ يَدَهُ، وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَتَوَضَّئُوا مِنْهُ. قَالَ فَرَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ تَحْتِ أَصَابِعِهِ حَتَّى تَوَضَّئُوا مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ. قوله: "وحانت صلاة العصر" الواو للحال بتقدير قد. وقوله: "الوَضوء" بفتح الواو، أي: الماء الذي يُتَوَضّأ به. وقوله: "فلم يجدوا"، وللكُشميهني: "فلم يجدوه" بزيادة الضمير. وقوله: "فأُتِي" بالضم على البناء للمفعول، وبين المصنف في رواية قتادة في علامات النبوة أن ذلك كان بالزَّوراء، وهو سوق بالمدينة. وقوله: "بوَضوء" بالفتح، أي: بإناء فيه ماء ليُتَوَضّأ به، وفي رواية ابن المبارك: "فجاء رجل بقدح فيه ماء يَسيرٌ، فصَغُر أن يبسطَ -صلى الله عليه وسلم- فيه كله، فضم أصابعه" ونحوه في رواية حُميد الآتية في باب الوضوء من المخضب. وروى المهلب أنه كان مقدار وضوء رجل واحد. وقوله: "يَنبُعُ" بفتح أوله وضم الموحدة، ويجوز كسرها وفتحها. وقوله: "حتى توضؤوا من عند آخرهم" أي: توضأ الناس ابتداء من أولهم حتى انتهوا إلى آخرهم، والشخص الذي هو آخرهم داخل في هذا الحكم, لأن السياق يقتضي العموم والمبالغة, لأن عندها تُجعل لمطلق الظرفية حتى تكون

بمعنى في، كأنه قال: حتى توضأ الذين هم في آخرهم. وأنس داخل فيهم إذا قلنا: يدخل المخاطِب -بكسر الطاء- في عموم خطابه أمرًا أو نهيًا أو خبرًا، وهو مذهب الجمهور. وقال النووي: "من" هنا بمعنى إلى، وهي لغة، وإن كانت شاذة، وعليه يمكن أن يقال عند زائدة. وقد قال ابن بطّال: إن حديث نبع الماء هذا شهده جمع من الصحابة، إلا أنه لم يُرو إلا عن أنس، وذلك لطول عمره، ولطلب الناس علو السند. وقال القاضي عياص: هذه القصة رواها العدد الكثير من الثقات، عن الجم الغفير، عن الكافة متصلًا، عن جملة من الصحابة، بل لم يُؤثر عن أحد منهم إنكار ذلك، فهو ملتحق بالقطعي من معجزاته، فبين كلاميهما تفاوت كبير. وأخرج مسلم في أواخر الكتاب في حديث طويل فيه: "إن الماء الذي أحضروه له كان قطرة في إناء من جلد، لو أفرغها لشربها يابس الإِناء، وإنه لم يجد في الركب قطرة ماء غيرها، قال: فأخذه النبي -صلى الله عليه وسلم-، فتكلم وغمز بيده. ثم قال: نادِ بجَفْنَة الركب، فجيء بها، فقال بيده في الجفنة، فبسطها، ثم فرق أصابعه، ووضع تلك القطرة في قعر الجفنة، فقال: خذ يا جابر، فصُبَّ عليَّ وقُل بسم الله، ففعلت، قال: فرأيت الماء يفور من بين أصابعه، ثم فارت الجفنة، ودارت حتى امتلأت، فأتى الناس، فاستقوا حتى رووا، فرفع يده من الجفنة وهي ملأى" وهذه القصة أبلغ من جميع الروايات، لاشتمالها على قلة الماء وعلى كثرة من استقى منه. وفي رواية لقتادة: "قلت لأنس: كم كنتم؟ قال: ثلاث مئة أو زُهاء ثلاث مئة وعند الإسماعيلي "ثلاث مئة" بالجزم بدون زهاء. وفي الحديث دلالة على أن المواساة مشروعة عند الضرورة لمن كان في مائه فضل عن وضوئه. وفيه أن اغتراف المتوضىء من الماء القليل لا يصيّر الماء

رجاله أربعة

مستعملًا. وفيه أن الأمر بغسل اليد قبل إدخالها في الإناء أمر ندب لا حتم. وفيه استحباب التماس الماء لمن كان على غير طهارة، والرد على من أنكر المعجزة من الملاحدة. رجاله أربعة: الأول: عبد الله بن يوسف، والثاني الإمام مالك، وقد مرّا في الحديث الثاني من بدء الوحي. ومر أنس بن مالك في الحديث السادس من كتاب الإِيمان. والثالث إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة وقد مر في الثامن من العلم. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والإخبار والعنعنة، ورواته ما بين تِنّيسيّ ومدني وبصري، وهو من رباعيات البخاري. أخرجه البخاري هنا، وفي علامات النبوة عن القَعْنَبي. ومسلم في الفضائل عن إسحاق بن موسى، والتِّرمذي في المناقب عنه أيضًا، والنّسائي في الطهارة عن قُتيبة، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان أي: حكم الماء الذي يُغسل به شعر الإنسان. أشار المصنف إلى أن حكمه الطهارة, لأن المغتسل قد يقع في ماء غسله من شعره، فلو كان نجسًا لتنجس الماء بملاقاته، ولم يُنقل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- تجنب ذلك في اغتساله، بل كان يخلل أصول شعره كما يأتي، وذلك يفضي غالبًا إلى تناثر بعضه، فدل على طهارته، وهو قول جمهور العلماء، ونص الشافعي في القديم والجديد، وصححه جماعة من أصحابه، وهو طريقة الخُراسانيين، وصحح جماعة القول بتنجيسه، وهي طريقة العراقيين. قال في "الفتح": وهذا كله في شعر الآدمي، أما شعر الحيوان غير المأكول المذَكىّ ففيه اختلاف بين العلماء، مبني على أن الشعر هل تُحِلُّه الحياة فيتنجس بالموت، أو لا. والأصح عند الشافعية أنه ينجُس بالموت، وذهب

جمهور العلماء إلى خلافه. واستدل ابن المنذر على أنه لا تحله الحياة فلا ينجس بالموت ولا بالانفصال بأنهم أجمعوا على طهارة ما يُجَزُّ من الشاة وهي حية، وعلى نجاسة ما يقطع من أعضائها وهي حية، فدل ذلك على التفرقة بين الشعر وغيره من أجزائها، وعلى التسوية بين حالتي الموت والانفصال. وقال البغوي في "شرح السنة" في قوله -صلى الله عليه وسلم- في شاة ميمونة: "إنما حُرِّم أكلها" يُستدل به لمن ذهب إلى أن ما عدا ما يؤكل من أجزاء الميتة لا يحرُمُ الانتفاع به. وعند المالكية: كل ما أزيل بجزٍّ أو نُورة أو حرق من صوف ووبرٍ وزَغَب ريش وشعر ولو من خنزير يكون طاهرًا، سواء أزيل قبل الموت أو بعده، أو بعد النتف بان أزيل عن الأصل المنتوف معه. وكان عطاء لا يرى به بأسًا أن يُتَّخذ منها الخيوط والحبال. عطاء المراد به عطاء بن أبي رَباح، وقد مر تعريفه في الحديث التاسع والثلاثين من كتاب العلم. وهذا التعليق وصله محمد بن إسحاق الفاكِهِيّ في "أخبار مكة" بسند صحيح. وسؤر الكلاب وممرها في المسجد. وهو بالجر عطفًا على قوله "الماء"، والتقدير: وباب سؤر الكلاب، أي: ما حكمه؟ والسؤر البقية، والظاهر من تصرف المصنف أنه يقول بطهارته، وفي بعض النسخ بعد قوله: "في المسجد" و"أكلها" وهو من إضافة المصدر إلى الفاعل، وقال الزهري إذا ولغ الكلب في إناء ليس له وضوء غيره يتوضأ به. أي: فيه ماء، بأن أدخل لسانه فيه فحركه فيه تحريكًا قليلًا أو كثيرًا، وفي رواية أبي الوقت: "في الإناء". وقوله: "ليس له وَضوء غيره"، أي: ليس لمريد الوُضوء، وَضوءَ -بفتح الواو- ماء يتوضأ به غير ما ولغ فيه الكلب، ويجوز في غير الرفع والنصب.

وقوله: "يتوضأ به" أي: بالماء الباقي عن الكلب، وهو جواب إذا الشرطية. وفي رواية أبي ذر: "حتى يتوضأ بها" أي: بالبقية، وفي رواية: "منه". جمع المصنف في هذا الباب بين مسألتين، وهما: حكم شعر الآدمي، وسؤر الكلب، فذكر الترجمة الأولى وأثرها معها، ثم ثَنّى بالثانية وأثرها معها، ثم رجع إلى دليل الأولى من الحديث المرفوع، ثم ثنى بأدلة الثانية. وهذا الأثر رواه الوليد بن مُسلم في "مصنفه" عن الأوزاعي وغيره عنه. وأخرجه ابن عبد البَر في "التمهيد" من طريقه بسند صحيح. والزُّهري مر تعريفه في الحديث الثالث من بدء الوحي. وقال سفيان هذا الفقه بعينه يقول الله تعالى فلم تجدوا ماء فتيمموا وهذا ماء وفي النفس منه شيء يتوضأ به ويتيمم. فسمى الثوري الأخذ بدلالة العموم فقهًا، وهي التي تضمنها قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [المائدة: 6] لكونها نكرة في سياق النفي، فتعم، ولا تُخَصّ إلا بدليل، وتنجيس الماء بولوغ الكلب فيه غير متفق عليه بين أهل العلم. وقال: إن في نفسه منه شيئًا لعدم ظهور دلالته، أو لوجود معارض له من القرآن، أو غيره، فيتوضأ به حينئذ، ويتيمم؛ لأن الماء الذي يُشَكُّ فيه لأجل اختلاف العلماء كالعدم، فَيحتاط للعبادة. وتعقبه الإسماعيلي بأن اشتراطه في جواز التوضُّؤ به إذا لم يجد غيره يدل على تنجيسه عنده, لأن الطاهر يجوز التوضُّؤ به مع وجود غيره. وأجيب بأن المراد أن استعمال غيره مما لم يُختلف فيه أولى، فأما إذا لم يجد غيره فلا يعدِلُ عنه وهو يعتقد طهارته إلى التيمم. وقد تُعقِّب أيضًا بأنه يلزم من استعماله أن يكون جسده الطاهر بلا شك مشكوكًا في طهارته باستعماله له. وقال بعض الأئمة: الأوْلى أن يُراق ذلك الماء ثم يتيمم.

وفي رواية أبي زيد المَرْوَزي عن سفيان: "يقول الله: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا} " وهو مخالف للتلاوة، والظاهر أن الثوري حكاه بالمعنى، ولعله كان يرى جواز ذلك، ولم يوجدمن قرأ بها في جميع القراءات. وسفيان هنا المتبادر إلى الذهن أنه ابن عُيينة، لكونه معروفًا بالرواية عن الزُّهري دون الثوري، لكن المراد به هنا الثوري, لأن أبا الوليد بن مسلم لما روى هذا الأثر قال: فذكرت ذلك لسفيان الثوري، وسفيان الثوري مر تعريفه في الحديث الخامس والعشرين من كتاب الإيمان.

الحديث الخامس والثلاثون

الحديث الخامس والثلاثون حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ عَاصِمٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ قُلْتُ لِعَبِيدَةَ عِنْدَنَا مِنْ شَعَرِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَصَبْنَاهُ مِنْ قِبَلِ أَنَسٍ، أَوْ مِنْ قِبَلِ أَهْلِ أَنَسٍ فَقَالَ لأَنْ تَكُونَ عِنْدِي شَعَرَةٌ مِنْهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. قوله: "أصبناه من قِبَلِ أنس" أي: حصل لنا من جهة أنس بن مالك. وقوله: "لأن تكونَ عندي شعرةٌ منه أحبُّ إلى من الدُّنيا وما فيها" أي: من متاعها. وعند الإسماعيلي: "أحب إلى من كل صفراء وبيضاء" ولام: "لأن تكون" لام الابتداء للتأكيد، وأن مصرية، أي: كون شعرة. "وأحب" خبر أن تكون، وتكون ناقصة، ويحتمل أن تكون تامة. وأراد المصنف بإيراد هذا الأثر تقرير أن الشعر الذي حصل لأبي طلحة كما في الحديث الذي يليه بقي عند آل بيته إلى أن صار لمواليهم منهم, لأن سيرين والد محمد كان مولى أنس بن مالك، وكان أنس ربيب أبي طلحة. ووجه الدلالة منه على الترجمة أن الشعر طاهر هو حفظ أنس لشعره -صلى الله عليه وسلم-، وتمنّى عُبيدة أن تكون عنده شعرة واحدة منه لطهارته وشرفه، فدل ذلك على أن مطلق الشعر طاهر، وإذا كان طاهرًا فالماء الذي يُغسل به طاهر. وتعقُّب بأن شعر النبي -صلى الله عليه وسلم- مكرمٌ لا يقاس عليه غيره. ونقضوه بأن الخصوصية لا تثبت إلا بدليل، والأصل عدمه، قالوا: ويلزم القائل بذلك أن لا يحتج على طهارة المني بأن عائشة كانت تفركه من ثوبه -صلى الله عليه وسلم-، لا مكان أن يُقال له: منيه طاهر، فلا يقاس على غيره.

رجاله خمسة

والحق أن حكمه حكم جميع المكلفين في الأحكام التكليفية إلاّ فيما خُصَّ بدليل، وقد تكاثرت الأدلة على طهارة فضلاته، وعد الأئمة ذلك في خصائصه، فلا يُلتفت إلى ما وقع في كتب كثير من الشافعية مما يخالف ذلك، فقد استقر الأمر بين أئمتهم على القول بالطهارة. قاله في "الفتح". رجاله خمسة: الأول: مالك بن إسماعيل بن دِرْهم، ويقال: ابن زياد بن دِرهْم أبو غسان النَّهْديّ الكُوفي الحافظ ابن بنت حمّاد بن أبي سليمان. قال محمد بن علي بن داود البغدادي: سمعت ابن مَعين يقول لأحمد: إن سرك أن تكتب عن رجل ليس في قلبي منه شيء، فاكتب عن أبي غسّان. وقال أبو حاتم ظن ابن مَعين أن ليس بالكوفة أتقن من أبي غسّان، وقال: هو أجود كَتْبًا من أبي نُعيم. وقال يعقوب بن أبي شَيبة: ثقة صحيح الكتاب، وكان من العابدين. وقال مرة: كان ثقة متقنًا. وقال ابن نُمير: أبو غسان أحب إلى من محمد بن الصَّلْت، أبو غسان محدِّث من أئمة المحدثين. وقال أبو حاتم: كان أبو غسان يملي علينا من أصله، وكان لا يملي حديثًا حتى يقرأه، وكان ينحو، ولم أرَ في الكوفة أتقن منه لا أبو نعيم ولا غيره، وهو أتقن من إسحاق بن مَنْصور والسَّلوليّ، وهو متقن ثقة، وكان له فضل وصلاح وعبادة وصحة حديث واستقامة، وكانت عليه سيماء كنت إذا نظرت إليه كأنه خرج من قبره. وقال أبو داود: كان صحيح الكتاب، جيد الأخذ. وقال عثمان بن أبي شَيبة: أبو غسان صدوق ثقة ثبت متقن إمام من الأئمة، ولولا كلمته لما كان يفوقه بالكوفة أحد. وقال العِجْلي: ثقة وكان متعبدًا، وكان صحيح الكتاب. وذكره ابن عَدي في "الكامل"، واعترف بصدقه وعدالته، لكن ساق قول الثوري: كان حسنيًّا -يعني الحسن بن صالح على عبادته وسوء مذهبه- وعنى بذلك أن الحسن بن صالح بن حي مع عبادته كان يتشيع، فتبعه مالك هذا في الأمرين. وقال ابن سعد: أبو غسان صدوق شديد التشيُّع. روى عن: عبد الوهاب بن سُليمان بن الغَسيل، والحسن بن حَيّ، وابن

عُيينة، وشَريك، وعبد السلام بن حَرْب، وخلق. وروى عنه: البخاري، والباقون بواسطة، وعبد الأعلي بن واصل، ومحمد بن إسحاق البكّائي، وأبو زُرعة الرازي، وأبو زُرعة الدِّمشقي، وأبو كُريب، وخلق كثير. مات سنة تسع عشرة ومئتين. وليس في الكتب الستة مالك بن إسماعيل سواه. والنَّهدي في نسبه نسبة إلى نَهْد بن زيد بن ليث بن أسلم بن إلحاف بن قُضاعة أبي قبيلة باليمن، وفي هَمْدان: نَهْد بن مرهبة بن دعام بن مالك بن معاوية بن صعب. الثاني: إسرائيل بن يونُس ومر تعريفه في الحديث السابع والستين من كتاب العلم. ومر تعريف ابن سِيرين في الحديث الحادي والأربعين من كتاب الإِيمان، ومر تعريف أنس بن مالك في الحديث السادس منه أيضًا. الثالث: عاصم بن سُليمان الأحول البَصري مولى بني تميم، ويقال: مولى عثمان، ويقال: مولى زياد، من صغار التابعين. قدمه شعبة في أبي عثمان النَّهْدي على قَتادة. وعده سفيان الثوري رابع أربعة من الحفاظ أدركهم ووصفهم بالثقة والحفظ. وقال أحمد بن حَنْبل: شيخ ثقة من الحفاظ للحديث، فقيل له: إن يحيى القطان يتكلم فيه. فعجب، وقال: ثقة. ووثقه ابن مَعين وابن المَديني والعِجْلي وابن عَمّار والبزّار. وقال أبو الشيخ: سمعت عَبْدان يقول: ليس في العواصم أثبت منه. وقال ابن مَهْدي: كان من حفّاظ أصحابه وذكره ابن حِبان في "الثقات"، وقال: كان يحيى بن سعيد قليل الميل إليه. وقال ابن سَعْد: كان من أهل البصرة، وكان يتولى الولايات، فكان بالكوفة على الحسبة في المكاييل والموازين، وكان قاضيًا بالمدائن لأبي جعفر. وقال

ابن إدريس: رأيته أتى السوق، فقال: اضربوا هذا، أقيموا هذا، فلا أروي منه شيئًا. وتركه وُهَيْب لأنه أنكر سيرته. احتج به الجماعة. روي عن: أنس، وعبد الله بن سَرْجِس، وعمرو بن سَلَمة الجُرمي، وسَوادة ابن عاصم، وأبي عُثمان النَّهدي، وحفصة بنت سِيرين، وخلق. وروى عنه: قتادة ومات قبله، وسُليمان التَّيمْي وشعبة، وإسرائيل بن يونس، والسُّفيانان، وحماد بن زيد، وابن المبارك، وحفص بن غياث، وغيرهم. مات سنة إحدى أو اثنتين وأربعين ومئة. الخامس: عبيدة بن عَمْرو السَّلْماني: عَبيدة -بفتح العين- ابن عمرو، ويقال: ابن قَيْس بن عمرو السَّلْماني المُرادي أبو عَمْرو الكوفي. أسلم قبل وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بسنتين، ولم يلقه. روى عن: علي، وابن مسعود، وابن الزُّبير. وروى عنه: عبد الله بن سَلَمة المُرادي، وإبراهيم النَّخعي، وأبو إسحاق السبيعي، ومحمد بن سِيرين، وعامر الشَّعبي، وغيرهم. قال الشّعبي: كان شَريح أعلمهم بالقضاء، وكان عَبيدة يوازيه. وقال ابن سيرين: أدركت الكوفة وفيها أربعة ممن يعدُّ في الفقه، فمن بدأ بالحارث ثنّى بعَبيدة أو العكس، ثم علقمة الثالث، وشَريح الرابع، ثم يقول: وإن أربعة أخسُّهم شريحٌ لخيار. وقال العِجْلي: كوفي تابعي ثقة جاهلي، أسلم قبل وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يره، وكان من أصحاب علي وعبد الله بن مسعود، وكان ابن سيرين من أروى الناس عنه. وقال ابن نُمير: كان شَريح إذا أشكل عليه الأمر كتب إلى عَبيدة. ويُروى عن ابن سيرين: ما رأيت رجلًا أشد توقّيًا منه، وكل شيء روي عن

لطائف إسناده

إبراهيم عن عبيدة سوى رأيه فإنه من عبد الله إلا حديثًا واحدًا. وكل شيء روى محمد عن عبيدة سوى رأيه فإنه عن علي. وقال علي بن المديني وعمرو بن علي الفلاّس: أصح الأسانيد محمد بن سيرين عن عَبيدة عن علي. وقال ابن مَعين: ثقة لا يُسأل عن مثله. وقال عثمان الدّارمي: قلت لابن مَعين: علقمة أحب إليك أم عُبيدة؟ فلم يخير. قال عثمان: هما ثقتان. مات سنة اثنتين وسبعين، وأوصى أن يُصلّي عليه الأسود خشية أن يصلّي عليه المختار، فبادر وصلى عليه. والمُرادِيُّ في نسبه نسبة إلى مراد بن مالك بن زيد بن كَهْلان بن سبأ. كان اسمه يحابر، فسُمّي مرادًا لأنه أول من تمرد باليمن، أبي قبيلة من اليمن. والسّلْماني نسبة إلى سلمان بن يَشْكر بن ناجية بن مراد بطن من مراد، منهم عبيدة هذا، ومنهم العلامة ابن الخطيب السَّلْماني ذي الوزارتين الذي أُلّف من أجله كتاب "نفح الطيب". لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة والقول، ورواته ما بين بصري وكوفي، وفيه رواية تابعي عن تابعي. أخرجه الإسماعيلي، وفي رواية "أحب إلى من كل صفراء وبيضاء".

الحديث السادس والثلاثون

الحديث السادس والثلاثون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ قَالَ أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنَا عَبَّادٌ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا حَلَقَ رَأْسَهُ كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَوَّلَ مَنْ أَخَذَ مِنْ شَعَرِهِ. قوله: "لما حلق رأسه" أي: أمر الحلاق فحلقه، فأضاف الفعل إليه مجازا، وكان ذلك في حَجّة الوداع، واختُلف في اسم الحالق، والصحيح أن مَعْمر بن عبد الله كما ذكره البخاري، وقيل: هو خُراش بن أمية، والصحيح أن خِراشًا كان حالقًا بالحُديبية، وقد جاء تعريف خِراش في التاسع عشر من كتاب الشُّروط، ومَعْمر بن عبد الله هذا لم أعرف من هو من الصحابة، فلهذا لم أعرفه. وقد أخرج أبو عَوانة في "صحيحه" هذا الحديث عن سعيد بن سليمان المذكور، وهو أبين مما سيق هنا, ولفظه: "إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر الحلاق، فحلق رأسه، ودفع إلى أبي طلحة الشِّق الأيمن، ثم حلق الشق الآخر، فأمره أن يقسمه بين الناس". ورواه مسلم عن ابن عُيينة بلفظ: "لما رمى الجمرة، ونحر نُسكه، ناول الحالق شِقّه الأيمن فحلقه، ثم دعا أبا طلحة، فأعطاه إياه، ثم ناوله الشِّق الأيسر، فحلقه، فأعطاه أبا طلحة، فقال: "اقسمه بين الناس"، وله أيضًا عن حَفْص بن غِياث "إنه قسَّم الأيمن فيمن يليه"، وفي لفظ: "فوزّع بين الناس الشعرة والشعرتين، وأعطى الأيسر أمَّ سُليم" وفي رواية: "أبا طلحة", ولا تناقض بين هذه الروايات، بل طريق الجمع بينهما أنه ناول أبا طلحة كلاًّ من الشِّقين، فأما الأيمن فوزعه أبو طلحة بأمره، وأما الأيسر فأعطاه لأمِّ سليم زوجته بأمره -صلى الله عليه وسلم- أيضًا. زاد أحمد "لتجعله في طيبها".

رجاله سبعة

وعلى هذا فالضمير في "يقسمه" في رواية أبي عَوانة يعود على الشِّق الأيمن، وكذا قوله في رواية ابن عُيينة: "اقسِمْه بين الناس" للجمع بين الروايات، وإن كان ظاهر اللفظ خلاف ذلك. قال النّووي: فيه استحباب البداءة بالشق الأيمن من رأس المحلوق، وهو قول الجمهور، خلافًا لأبي حنيفة. وفيه طهارة شعر الآدمي، وبه قال الجمهور، وهو الصحيح عندنا. وفيه التبرك بشعره -صلى الله عليه وسلم-، وجواز اقتنائه. قلت: وفي هذا الحديث كفاية في الرد على الملاحدة الذين يمنعون التّبرك بآثاره -صلى الله عليه وسلم-، ويأتي الكلام على هذا إن شاء الله تعالى بأبسط. وفيه المواساة بين الأصحاب في العطية والهدية. وفيه أن المواساة لا تستلزم المساواة، وفيه تنفيل من يتولى التفرقة على غيره. رجاله سبعة: الأول: محمد بن عبد الرحيم صاعِقة، مرّ في الحديث السادس من كتاب الوضوء هذا الثاني: سعيد بن سُليمان الضَّبِيّ أبو عثمان الواسِطي البزّار المعروف بسعَدْوُيه، سكن بغداد، وسمى ابن حِبّان جدَّه كِنانة، وسمّى ابن عساكر جده نشيطًا فوهم. رأى معاوية بن صالح، وروى عن سُليمان بن كثير، وسليمان بن المُغيرة، وحمّاد بن سَلمة، والليث بن سعد، وشَريك القاضي، وابن مبارك، وغيرهم. وروى عنه: البُخاري، وأبو داود، والباقون بواسطة، ومحمد بن عبد الرحيم صاعقة، وأبو حاتم، وأبو زُرعة، ويحيى بن مَعين، وقُتيبة بن سعيد، وخلق. ذكره ابن حِبان في الثقات. وقال أبو حاتم: ثقة مأمون، ولعله أوثق من عفان. وقال صالح بن محمد عنه: ما دلست قطُّ، ليتني أحدث بما قد سمعت.

قال: وسمعته يقول: حججت ستين سنة. وقال الدُّوري: سئل ابن مَعين عنه وعن عمرو بن عَوْن، فقال: كان سعدُويه أكيسهما. وروى جعفر الطّيالسي عنه: كان سعدويه قبل أن يُحِّدث أكيس منه حين حدث. وقال العِجْلي: واسطي ثقة، قيل له بعد ما رجع من المحنة: ما فعلتم؟ قال: كفرنا ورجعنا. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: كان صاحب تصحيف ما شئت. مات ببغداد لأربع خلون من ذي الحجة سنة خمس وعشرين ومئتين وله مئة سنة. والضَّبِّي في نسبه مر الكلام عليه في الثامن والعشرين من الإيمان. الثالث: عبّادة -بتشديد الباء- ابن العوّام بن عمر بن عبد الله بن المنذر بن مصعب بن جَنْدل الكلابي مولاهم أبو سهل الواسِطي. قال ابن سعد: كان ثقة. وذكره ابن حِبان في "الثقات". ووثقه البزار، وابن مَعين، وأبو حاتم، والعِجْلي، وأبو داود، والنسائي. وقال الحسن بن عرفة: سألني وكيع عنه: أتحدث عنه؟ قلت: نعم. قال: ليس عندكم أحد يشبهه. وقال الفضل بن زياد عن أحمد: كان يشبه أصحاب الحديث. وقال الأثرم عن أحمد: مضطرب الحديث عن سَعيد بن أبي عَروبة. قال ابن حجر: لم يخرِّج البخاري من حديثه عن سعيد حديثًا واحدًا. وقال ابن سعد كان يتشيَّع، فأخذه هارون، فحبسه، ثم خلى عنه، فقام ببغداد. وقال سعيد بن سليمان: حدثنا عباد بن العوام، وكان من نبلاء الرجال في كل أمره. روى عن: حُميد الطويل، وإسماعيل بن أبي خالد، وابن عَوْن، وعَوْف الأعرابي، وحجّاج بن أرطأة، وسعيد بن أبي عَروبة، وأبي إسحاق الشَّيباني، وغيرهم. وروى عنه: أحمد بن حنبل، وابنا أبي شيبة، وسعيد بن سليمان الواسطي، وأبو الربيع الزَّهراني، وإسماعيل بن عُلَيّة وهو من أقرانه.

مات سنة خمس وثمانين ومئة. والكِلابي في نسبه مر في الثالث عشر من الإِيمان، ومر الواسِطي في الخامس من بدء الوحي. الرابع: عبد الله بن عَوْن مر في الحديث التاسع من كتاب العلم، ومر تعريف محمد بن سيرين في الحديث الحادي والأربعين من كتاب الإيمان, ومر تعريف أنس بن مالك في الحديث السادس منه. والسابع: أبو طلحة الأنصاريُّ النَّجاري زَيْد بن سَهل بن الأسود بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار مشهور بكنيته، وهو الذي يقول: أنا أبو طَلْحة واسمي زيدُ ... وكل يوم في سلاحي صيدُ ووهم من سماه سهل بن زيد. وهو زوج أم سُليم بنت مِلحان، خطبها بعد إسلامها، فقالت: يا أبا طلحة، ما مثلك يردُّ، ولكنك امرؤ كافر وأنا مسلمة لا تحِلُّ لي، فإن تُسلم فذلك مهري، فأسلم، فكان ذلك مهرها. رجل شهد العقبة وبدرًا، وما بعدها من المشاهد، أم عُبادة بنت مالك بن عَدي بن زيد مناة بن عَدي بن عمرو بن مالك بن النجار، كان مربوعًا آدم، وكان من رماة الصحابة. روي عن أنس بن مالك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال يوم حُنين: "من قتل كافرًا فله سلبُه" فقتل أبو طلحة يومئذٍ عشرين رجلًا، وأخذ أسلابهم. وقال أنس: كان أبو طلحة يجثو بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحرب، ويقول: نفسي لنفسك الفداء، ووجهي لوجهك الوقاء، ثم ينثر كنانته بين يديه. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لصوت أبي طلحة في الجيش خير من مئة رجل"، وفي رواية: "خيرٌ من ألف رجل"، وفي رواية: "خير من فئة".

وكان أبو طلحة بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- يرمي يوم أحد، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرفع رأسه من خلف أبي طلحة ليرى مواقع النَّبْل، فكان أبو طَلْحة يتطاول بصدره يقي به النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويقول: نحري دون نحرك. وفي "الصحيحين" لما نزلت: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] قال أبو طلحة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن أحب مالي إليَّ بيرحاء، وإنها صدقة أرجو بَّرها وذخرها، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "بخٍ بخٍ، مال رابحٌ". وكان أبو طلحة لا يصوم على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- من أجل الغزو، فصام بعده أربعين سنة لا يفطر إلا يوم أضحى أو فطر. وروى مسلم وغيره من طريق ابن سيرين عن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما حلق شعره بمِنى فرق شقه الأيمن على أصحابه الشعرة والشعرتين، وأعطى أبا طلحة الشِّق الأيسر كله. كان من نقباء الأنصار، وشُلَّت يده يوم أحد يقي بها النبي -صلى الله عليه وسلم-. له اثنان وسبعون حديثًا، اتفقا على حديثين، وانفرد البخاري بواحد، ومسلم بآخر. روى عنه: ربيُبه أنس، وولده عبد الله، وأنس، وأبو الحُباب، وعُبيد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود. مات سنة أربع وثلاثين، وصلى عليه عثمان، وقيل: قبلها بسنتين. وعلى الحديث الذي تقدم من أنه عاش بعد النبي أربعين سنة، يكون موته سنة خمسين أو إحدى وخمسين، وبه جزم المدائني، ويؤيده ما رواه في "الموطأ"، وصححه الترمذي من رواية عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أنه دخل على أبي طلحة، فذكر الحديث في التصاوير، وعبيد الله لم يدرك عثمان ولا عليًّا، فيدل على تأخر وفاته. وروي عن أنس: مات أبو طلحة غازيًا في البحر، فما وجدوا جزيرة يدفِنونه فيها إلا بعد سبعة أيام، ولم يتغير.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة، ورواته ما بين بغدادي وهو شيخ البخاري، وواسطي، وبصري. وفيه رواية تابعي عن تابعي فالأول عبد الله بن عَوْن وفي مسلم والنّسائي عبد الله بن عون بن أمير مصر، وليس في الكتب الستة غيرهما. ومع هذه اللطائف إسناده نازل, لأن البخاري سمع من شيخه سعيد بن سليمان، بل سمع من ابن عاصم وغيره من أصحابه، فيقع بينه وبين ابن عَوْن واحد، وهنا بينه وبينه ثلاثة أنفس. أخرجه البخاري هنا, ولم يخرجه أحد من الستة بهذه العبارة وهذا السند، ولم يخرجه هو إلا في هذا المحل. وأخرجه أبو عَوانة في "صحيحه"، وأخرجه مسلم من طريق ابن عُيينة بغير هذا اللفظ. باب إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعًا الترجمة هنا هي لفظ الحديث، ويأتي الكلام عليها في الكلام عليه.

الحديث السابع والثلاثون

الحديث السابع والثلاثون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا شَرِبَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ، فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا". قوله: "إذا شرب" هكذا رواه في "الموطأ" بلفظ "إذا شرب"، وكذا رواه ابن خُزيمة وابن المنذر عن أبي هريرة بلفظ: "إذا شرب"، وكذا أخرجه الجَوْزَقيّ وأبو يعلى عن أبي الزناد بهذا اللفظ. فقول ابن عبد البر: إن لفظ "شرب" لم يروه إلا مالك، وإن غيره رواه بلفظ: "ولغ" غير صحيح. والمشهور عن أبي هُريرة من رواية جمهور أصحابه عنه: "إذا ولغ" وهو المعروف في اللغة، يقال وَلَغَ يلَغُ -بالفتح فيهما- إذا شرب بطرف لسانه، أو أدخل لسانه فيه فحركه، وقيل: هو أن يُدخل لسانه في الماء وغيره من كل مائع فيحركه، شرب أو لم يشرب، فإن كان غير مائع يقال: لَعَقَه، وإن كان فارغًا يقال: لحَسَهُ. وقد رواه أبو عُبيد في كتاب الطهور له عن مالك بلفظ: "إذا ولغ" ورواه الإسماعيلي والدّارقُطني في "الموطآت" وابن ماجه في "سننه" كذلك عن مالك، فكأن أبا الزناد حدث به باللفظين لتقاربهما في المعنى، لكن الشرب كما بيّنا أخص من الولوغ، فلا يقوم مقامه. ومفهوم الشرط في قوله: "إذا ولغ" يقتضي قصر الحكم على ذلك، لكن إذا قلنا: إن الأمر بالغسل للتنجيس يتعدّى الحكم إلى ما إذا لحس أو لعق مثلًا، ويكون ذكر الولوغ للغالب. وأما إلحاق باقي أعضائه كيده ورجله فالمذهب المنصوص أنه كذلك؛ لأنَّ فمه

أشرفها، فيكون الباقي من باب الأولى، وخصه في القديم بالأول، وقال النووي في "الروضة": إنه وجه شاذٌ. وفي "شرح المهذب": إنه القوي من حيث الدليل. والأولوية المذكورة قد تمُنع لكون فمه محل استعمال النجاسات. وعند المالكية قصر الحكم على الولوغ المفسر بتحريك اللسان، فلو أدخل يده أو غيرها من الأعضاء أو لسانه من غير تحريك أو سقط لعابه لم يُغسل الإِناء، ولم يُرَقِ الماء. وقوله: "في إناء أحدكم" ظاهره العموم في الآنيه، ومفهومه يخرج الماء المستنقع مثلًا، وبه قال الأوزاعي مطلقًا، لكن إذا قلنا بأن الغسل للتنجيس يجري الحكم في القليل من الماء دون الكثير. وعند المالكية مفهوم الإناء معتبر، فالحوض لا يُطلب غسله، والماء المستنقع لا شيء فيه, لأن الغسل عندهم تعبُّدي لا للتنجيس، فيقُتَصرَ فيه على ما ورد من الشارع، ويأتي قريبًا زيادة في هذا البحث. والإضافة التي في "إناء أحدكم" يُلغى اعتبارها, لأن الطهارة لا تتوقف على ملكه، وكذا عند القائل بالتعبد لا اعتبار لها. وزاد مسلم والنسائي وأبو رُزَيْن عن أبي هُريرة في هذا الحديث: "فليُرِقْه"، لكن قال النسائي: لا نعلم أحدًا تابع علي بن مُسْهر على زيادة "فليرقه". وقال حمزة الكِناني: إنها غير محفوظة. وقال ابن عبد البَرّ: لم يذكرها الحفاظ من أصحاب الأعمش كشعبة وأبي معاوية. وقال ابن مَنْدة: لا تُعرف عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بوجه من الوجوه إلا عن علي بن مُسْهِر بهذا الإسناد، لكن قد ورد الأمر بالإراقة عن عطاء عن أبي هريرة مرفوعًا، وفي رفعه نظر، والصحيح أنه موقوف. وأخرج الدّارقطني ذكر الإراقة عن أبي هريرة موقوفًا أيضًا، وإسناده صحيح. قال في "الفتح": وزيادة الإراقة تقوي القول بأن الغسل للتنجيس، إذ المراد أعم من أن يكون ماء أو طعامًا، فلو كان طاهرًا لم يُؤمر بإراقته للنهي عن إضاعة المال. والقائل بالتعبد يخُصُّ الإراقة بالماء دون الطعام، قائلًا: إن الحديث إنما

ورد في إناء الماء, لأن أواني الطعام مصانة في العادة، بخلاف أواني الماء، فإنها مبتذلة غالبًا، فإن قيل: قد ورد الأمر بالغسل مطلقًا، قلنا: القاعدة الأصولية أنه إذا ورد مطلق ومقيد في واقعة واحدة، فيُقيد المطلق. وقوله: "فليغسله" المراد غسله من غير توقف، على أن يكون المالك هو الغاسل له، وظاهر الأمر يقتضي الفَوْر، لكن حمله الجمهور على الاستحباب إلا لمن أراد أن يستعمل ذلك الإناء، ومشهور مذهب مالك أنه لا يُطلب غسله إلا عند قصد استعمال الإناء، وقيل: يُطلب الغسل بفور الولوغ. وقوله: "سبعًا" أي: سبع مرار، فهو مفعول مطلق لغسل، وهو صفة لمصدر محذوف، والتقدير: غسلًا سبعًا. أي: ذا مرات سبع. والتحديد بالسبع في الحديث دال دِلالة قوية جدًّا على أن الأمر بالغسل في الحديث للتعبد، ومعنى التعبد هو الحكم الذي لا تظهر له حكمة بالنسبة إلينا، مع أنا نجزم أنه لابد من حكمه، وذلك لأنا استقرَيْنا عادة الله، فوجدناه جالبًا للمصالح دارئًا للمفاسد، ووجه الدلالة بالتحديد هو أن الغسل لو كان للنجاسة لما كان لتحديد فائدة؛ لأن المطلوب في النجاسة الإزالة للعين والحكم، فلا فائدة في التقييد بالعدد، وأيضًا الكلب لا يكون أشدُّ نجاسة من الخنزير، وقد نصت الشافعية على أن الخِنزير أسوأ حالًا في النجاسة من الكلب، وإذا كان أسوأ حالًا من الكلب، ولم يُؤمر بذلك فيما شَرب منه، عُلم أن الأمر في الكلب للتعبد، وأيضًا العَذِرَة نجاستها أشد من نجاسة الكلب، ولم تقيد بالسبع، فيعلم أن التقييد بالسبع في ولوغ الكلب تعبد. وأجاب في "الفتح" بأنه لا يلزم من كونها أشد منه في الاستقذار أن لا يكون أشد منها في تغليظ الحكم، وبأنه قياس مع وجود النص، وهو فاسد الاعتبار. وأجيب عن الأول بأنها إذا كانت أشد منه نجاسة لا يحصل التغليظ في الحكم في جانبه إلا لأمر غير معقول لا للنجاسة، وهذا هو التعبد بعينه. وأجيب عن الثاني بأن النص لم يرد يكون الغسل للنجاسة، وإنما ورد الأمر

بالغسل مطلقًا من غير علته، فلا قياس مع وجود النص. وأيضًا الشافعية القائلون بظاهر هذا الحديث من وجوب سبع غسلات، يلزمهم القول بإيجاب ثمان غسلات عملًا بظاهر حديث عبد الله بن مُغَفَّل الذي أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه، وقال ابن مَنْدة: إسناده مُجمع على صحته. ولفظه: "فاغسِلوه سبع مرات وعفِّروه الثامنة في التراب"، وفي رواية أحمد: "بالتراب"، فالعمل به أولى مما رواه أبو هريرة؛ لأنه زاد عليه: "وعفِّروه الثامنة بالتراب"، والزائد أولى من الناقص، فكان ينبغي لهم أن يقولوا: لا يطهر إلاَّ بأن يُغسل ثمان مرات الثامنة بالتراب عملًا بالحديثين جميعًا، فإن تركوا حديث ابن مُغَفَّل فقد لزمهم ما لزم المالكية في عدم القول بوجوب السبع، وقد اعتذر بعض الشافعية عن ترك العمل به، بأن الإجماع على خلافه، وفيه نظر، لأنه ثبت القول بذلك عن الحسن البصري، وبه قال أحمد في رواية حَرْب الكِرْماني عنه. ونُقِل عن الشافعي أنه قال: هو حديث لم أقف على صحته. ولكن هذا لا يثبت العذر لمن وقف على صحته. وجنح بعضهم إلى الترجيح لحديث أبي هُريرة على حديث ابن مُغَفَّل، والترجيح لا يُصار إليه مع إمكان الجمع، والأخذ بحديث ابن مُغَفَّل يستلزم الأخذ بحديث أبي هريرة دون العكس، والزيادة من الثقة مقبولة، ولو سلكوا الترجيح في هذا الباب لم يقولوا بالترتيب أصلًا, لأن رواية مالك بدونه أرجح من رواية من أثبته، ومع ذلك قالوا به أخذًا بزيادة الثقة. وجمع بعضهم بين الحديثين بضرب من المجاز، فقال: لما كان التراب جنسًا غير الماء، جعل اجتماعهما في المرة الواحدة معدودًا باثنتين. وتعقبه ابن دقيق العيد بأن قوله: "وعفِّروه الثامنة بالتراب" ظاهر في كونها غسلة مستقلة. قال في "الفتح": لكن لو وقع التعفير في أوله قبل ورود الغسلات السبع كانت الغسلات ثمانية، ويكون إطلاق الغسلة على التتريب مجازًا، وهذا الجمع من مرجحات تعين التراب في الأولى.

قلت: لم أفهم معنى لما قاله، فإن التعفير بالتراب لا يمكن إلاّ مع الماء سواء كان في الأولى أو الأخيرة، لقوله في الحديث: "أولاهُن أو إحداهن" أي: الغسلات، وقد حمل المالكية في مشهور مذهبهم الأمر بالغسل في الحديث والإراقة فيه على الندب في الماء خاصة، ولم يأخذوا بالتتريب أصلًا, لأنه لم يقع في رواية مالك، ولم يثبت في شيء من الروايات عن أبي هُريرة إلا عن ابن سيرين، على أن بعض أصحابه لم يذكره عنه. وقد اختلف الرواة عن ابن سيرين في محل غسلة التتريب، ففي رواية مسلم والد الدراقطني "أولاهن"، ولأبي داوود: "السابعة"، وللشافعي: "أولاهنَّ أو إحداهن" وللبزار: "إحداهن" فلهذا الاضطراب لم تأخذ المالكية بالتتريب. وقال في "الفتح": طريق الجمع بين هذه الروايات أن يقال: إحداهن مبهمة، وأولاهن، والسابعة معينة. وأو إن كانت في نفس الخبر فهي للتخيير، فمقتضى حمل المطلق على المقيد أن يُحمل على إحداهما, لأن فيه زيادة على الرواية المعينة، وهو الذي نص عليه الشافعي في "الأم"، والبُوَيْطي، وصرح به المَرْعَشي، وغيره من الأصحاب. قلت: الظاهر أن المطلق هو إحداهما، المقيد هو المعينة لزيادة الإبهام في إحداهما على المعينة، فإحداهما بمنزلة رجل، والسابعة بمنزلة رجل عالم. وإن كانت "أو" شكًّا من الراوي، فرواية من عيَّن ولم يشك أولى من رواية من أبهم أو شك، فيبقى النظر في الترجيح بين رواية أولاهن ورواية السابعة، ورواية أولاهن أرجح من حيث الأكثرية والأحفظية، من حيث المعنى أيضًا, لأن تتريب الأخيرة يقتضي الاحتياج إلى غسلة أخرى. وقد نص الشافعي في حرملة على أن الأولى أولى. وأورد بعض الشافعية على المالكية في قولهم: إن الأمر تعبد. ما رواه مسلم عن أبي هريرة: "طهور إناء أحدكم ... " قائلًا: إن الطهارة تستعمل إما عن

حدث أو خبث، ولا حدث في الإِناء، فتعين الخبث، وأجيب بمنع الحصر، لأن التيمم لا يرفع الحدث، وقد قيل وله: طهور المسلم, لأن الطهارة تطلق على غير ذلك كقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة: 103] وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "السواك مطهرة للفم". وأجيب عن الأول بأن التيمم ناشىء عن حدث، فلما قام مقام ما يُطَهِّر الحدث سمي طهورًا، ومن يقول بأنه يرفع الحدث يمنع هذا الايراد من أصله. والجواب عن الثاني أن ألفاظ الشرع إذا دارت بين الحقيقة اللغوية والشرعية حُملت على الشرعية، إلاّ إذا قام دليل. وعورض هذا بالحديث إطار: "السواك مطهرةٌ للفم" فإنه من ألفاظ الشارع، ولم تُقصد به الحقيقة الشرعية، وإنما قُصدت به الحقيقة اللغوية. وكذلك حديث: "طهور إناء أحدكم" لم يقصد به إلا الحقيقة اللغوية التي هي النظافة. وادّعى بعض المالكية أن المأمور بالغسل من ولوغِهِ الكلب المنهيُّ عن اتخاذه دون المأذون فيه، ورُدَّ هذا بأنه يحتاج إلى قرينة تدل على أن المراد ما لم يؤذن في اتخاذه, لأن الظاهر من اللام في قوله: "الكلب" أنها للجنس أو لتعريف الماهية، فيحتاج المدعي أنها للعهد إلى دليل. وأجيب عن هذا بأن الإذن في اتخاذه هو الدليل, لأن في ملابسته مع الاحتراز منه مشقة شديدة، فالإذن في اتخاذه إذن في مكملات مقصودة، كما أن المنع من لوازمه مناسب للمنع منه، وهذا استدلال قوي، ولا يعارضه عموم الخبر الوارد بالغسل مما ولغ فيه الكلب, لأن تخصيص العموم غير مستنكر إذا سوغه الدليل. وفرق بعضهم بين البدوي والحضري. وادّعى بعضُهم أن ذلك مخصوص بالكَلْب الكَلِب، وأن الحكمة في الأمر بغسله سبعًا من جهة الطب، لأن الشارع اعتبر السبع في مواضع منه، كقوله: "صبّوا عليَّ من سبع قرب"، وكقوله: "من تصبحّ بسبع تمرات من عجوة لم يضرّه في ذلك اليوم سُمَّ ولا سحر" إلى غير ذلك، وتُعُقِّب بأن الكلب الكَلِب لا يقرب الماء، فكيف يؤمر بالغسل من ولوغه. وأجاب حفيد ابن رُشد بأنه لا يقرب الماء

بعد استحكام الكَلَب فيه، أما في ابتدائه فلا يمتنع منه. قال في "الفتح": وهذا التعليل وإن كان فيه مناسبة، لكنه يستلزم التخصيص بلا دليل، والتعليل بالتنجيس أقوى, لأنه في معنى المنصوص، وقد ثبت عن ابن عباس التصريح بأن الغسل من ولوغ الكلب بأنه رِجْس. رواه محمد بن نَصْر المَرْوزي بإسناد صحيح، ولم يصح عن أحد من الصحابة خلافه. قلت: ما عُزي لابن عباس رضي الله تعالى عنه إنما هو اجتهاد منه، واجتهاد المجتهد لا يُحتجُّ به على مجتهد آخر، وكون الصحابة لم يُنقل عنهم خلافه، كذلك لم ينقل عنهم وفاقه. والحنفية لم يقولوا بوجوب السبع ولا التتريب، وإنما قالوا بوجوب غسل الإناء ثلاثًا، آخذين بما جاء عن أبي هُريرة قولًا وفعلًا، قائلين: إن عمله بخلاف السبع التي روى مثبتٌّ نسخ السبع, لأن الراوي إذا عمل بخلاف روايته أو أفتى بخلافها لا يبقى حجة, لأن الصحابي لا يَحِلُّ أن يسمع من النبي -صلى الله عليه وسلم- ويفتي أو يعمل بخلافه، إذ تسقط به عدالته، ولا تُقبل روايته، وإنا نحسن الظن بأبي هريرة، فدل على نسخ ما رواه. وتعقبه في "الفتح" بأن إفتاء أبي هريرة بثلاث يُحتمل أن يكون أفتى بذلك لاعتقاده ندبية السبع لا وجوبها، أو كان نسي ما رواه، ومع الاحتمال لا يثبت النسخ. قلت: دعوى نسيانه بعيدة جدًّا لما مر من دعائه عليه الصلاة والسلام له بعدم النسيان، ولقوله هو رضي الله تعالى عنه: ما نسيتُ شيئًا بعد ذلك. ثم قال: وأيضًا فقد ثبت أنه أفتى بالغسل سبعًا، ورواية من روى عنه موافقة فتياه لروايته أرجح من رواية من روى عنه مخالفتها، من حيث الإسناد ومن حيث النظر، أما النظر فظاهر، وأما الإسناد فالموافقة وردت من وراية حمّاد بن زيد، عن أيوب، عن ابن سرين، عنه. وهذا من أصح الأسانيد، وأما المخالفة فمن

رجاله خمسة

رواية عبد الملك بن أبي سُليمان. عن عطاء، عنه. وهو دون الأول في القوة بكثير. وتعقبه العيني بأن قوله: ثبت أن أبا هريرة أفتى بالغسل سبعًا. يحتاج إلى البيان، ومجرد الدعوى لا تُسمع، ولئن سلمنا ذلك فقد يُحتمل أن يكون فتواه بالسبع قبل ظهور النسخ عنده، فلما ظهر أفتى بالثلاث. واحتجوا أيضًا بأن الأمر بذلك، أي: بالسبع كان عند الأمر بقتل الكلاب، فلما نهي عن قتلها نُسخ الأمر بالغسل. وتعُقِّب بأن الأمر بقتلها كان في أوائل الهجرة، والأمر بالغسل متأخر جدًّا, لأنه من رواية أبي هريرة وعبد الله بن مُغَفَّل، وقد ذكر ابن مُغَفَّل أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يأمر بالغسل، وكان إسلامه سنة سبع كأبي هريرة، بل سياق مسلم ظاهر في أن الأمر بالغُسل كان بعد الأمر بقتل الكلاب. قال في "الفتح": وفي الحديث دليل على أن حكم النجاسة يتعدّى عن محلها إلى ما يجاورها، بشرط كونه مائعًا. وعلى تنجيس المائعات إذا وقع في جزء منها نجاسة. وعلى تنجيس الإِناء الذي يتصّل بالمائع. وعلى أن الماء القليل ينجس بوقوع النجاسة فيه، وإن لم يتغير, لأن الولوغ لا يغير الماء الذي في الإناء غالبًا. وعلى أن ورود الماء على النجاسة يخالف ورودها عليه, لأنه أمر بإراقة الماء لما وردت عليه النجاسة، وهو حقيقة في إراقة جميعه، وأمر بغسله. وحقيقته تتأذى بما يُسمى غسلًا, ولو كان ما يغسل به أقل مما أريق. قلت: ما ذكره كله مما أخذ من الحديث إنما يدل عليه عند القائل بأن علة الغسل النجاسة لا عند القائل بأن الأمر للتعبد، فلا يدل على شيء مما ذكر. رجاله خمسة: الأول: عبد الله بن يوسف، والثاني مالك بن أنس ومر تعريفهما في الحديث الثاني من بدء الوحي. ومر تعريف أبي الزِّناد والأعرج في الحديث السابع من كتاب الإيمان, ومر تعريف أبي هريرة في الثاني منه.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والإخبار والعنعنة، ورواته كلهم أئمة أجلاء، ورواته مدنيون ما عدا عبد الله فهوَ تنيّسِيّ. أخرجه البخاري هنا، ومسلم في الطهارة عن يحيى بن يحيى، ومن حديث الأعمش، وأبو داود فيها أيضًا عن الحارث بن مسكين، والنّسائي فيها أيضًا عن قُتيبة، وابن ماجه أيضًا عن محمد بن يحيى، والترمذي في الطهارة أيضًا عن سِوار بن عبد الله العَنْبَري، وقال: حديث حسن صحيح.

الحديث الثامن والثلاثون

الحديث الثامن والثلاثون حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- "أَنَّ رَجُلاً رَأَى كَلْبًا يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ، فَأَخَذَ الرَّجُلُ خُفَّهُ فَجَعَلَ يَغْرِفُ لَهُ بِهِ حَتَّى أَرْوَاهُ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ، فَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ". قوله: "إن رجلًا" لم يسمِّ هذا الرجل، وهو من بني إسرائيل. وقوله: "يأكل الثَّرى" بالمثلثة، أي: يلعق التراب الندي، وفي "المحكم": الثرى التراب. وقيل: التراب الذي إذا بُلَّ لم يصرْ طينًا لازبًا. وقوله: "من العطش" أي: بسبب العطش. وقوله: "حتى أرواه" أي: جعله ريّانَ. وقوله: "فشكر الله له" أي: أثنى عليه، فجزاه على ذلك بأن قبل عمله. وقيل: معنى "فشكر الله له" أي: أظهر ما جازاه به عند ملائكته. وقوله: "فأدخله الجنة" من باب عطف الخاص على العام، أو الفاء تفسيرية على حد قوله تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54]، على ما فُسر أن القتل كان نفس توبتهم. وفي رواية المصنف في كتاب الشرب: "بينما رجلٌ يمشي، فاشتد عليه العطش، فنزل بئرًا، فشرب منها، ثم خرج، فإذا هو بكلب يلهثُ يأكل الثَّرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ مني، فملأ خُفَّه، ثم أمسكه بفيه، ثم رقي، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له". قالوا: يا رسول الله: وإن لنا في البهائم أجرًا؟! قال: "في كلِّ كبد رَطْبةٍ أجر".

وقوله: "بينما رجلٌ يمشي" للدارقطني في "الموطئات" عن مالك: "يمشي بفلاة"، ولابن وَهْب عنه: "يمشي بطريق مكة". والفاء في قوله: "فاشتدَّ عليه العطش"، واقعة موضع إذا، كما وقعت إذا موضعها في قوله {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم: 36] وفي رواية المُستملي: "العطاش" وهو داء يصيب الغنم تشرَبُ فلا تُروى، وهو غير مناسب هنا. وقيل: يصح على تقدير أن العطش يحدث منه هذا الداء، كالزكام، وسياق الحديث يأباه. وقوله: "يلهَثُ" -بفتح الهاء- واللَّهَث -بفتح الهاء- هو ارتفاع النَّفس من الإعياء، يقال: لهث الكلب: أخرج لسانه من العطش، وكذا الطائر. ولهث الرجل إذا أعياه ويقال: إذا بحث بيديه ورجليه. وقوله: "بلغ هذا مثلَ الذي" بفتح مثل، أي: بلغ مبلغًا مثل الذي بلغ بي. وقوله: "ثم رَقِي" بفتح الراء وكسر القاف كصَعِد وَزْنًا ومعنى، وفيه فتح القاف بوزن قضى، وهي لغة طيّىء يفتحون العين فيما كان من الأفعال معتل اللام، والأول أفصح وأشهر. وقوله: "وإن لنا في البهائم أجرًا؟! " معطوف على محذوف، تقديره: الأمر كما ذكرت. "وإن لنا في البهائم" أي: في سقيها أو الإحسان إليها. وقوله: "في كل كبد رطبة أجرًا" أي: كل كبد حية، والمراد رطوبة الحياة، أو لأن الرطوبة لازمة للحياة، فهو كناية. ومعنى الظرفية هنا أن يقدر محذوف، أي: الأجر ثابت في إرواء كل كبد حية، والكبد يذكر. ويؤنث، ويحتمل أن تكون في سببية، كقولك: "في النفس الدية". قال: الداوودي: المعنى: في كل كبد حيٌّ أجر، وهو عام في جميع الحيوان. وقال أبو عبد الملك: هذا الحديث كان في بني إسرائيل، وأما الإِسلام فقد أمر بقتل الكلاب، وأما قوله: "في كل كبد" فمخصوص ببعض البهائم مما

لا ضرر فيه, لأن المأمور بقتله كالخنزير لا يجوز أن يُقَوّى ليزداد ضرره. وكذا قال النووي: إن عمومه مخصوص بالحيوان المحترم، وهو ما لم يؤمر بقتله، فيحصل الثواب بسقيه، ويلتحق به إطعامه وغير ذلك من وجوه الإحسان إليه. وقال ابن التين: لا يمتنع إجراؤه على عمومه، يعني: فيُسقى ثم يُقتل؛ لأنا أُمرنا أن نحسن القتلة، ونُهينا عن المُثلة. قلت: والأمر بقتل الكلاب عمومًا قد ورد نسخه فلا يُستدل به على خصوصية الحديث. واستدل بالحديث على طهارة سؤر الكلب، وظاهر البخاري الاستدلال به على ذلك؛ لأن ظاهر الحديث أنه سقى الكلب فيه، ولم يذكر أنه غسله. وأما قول من قال: إنه يحتمل أن يكون صبه في شيء فسقاه، أو غسل خفه بعد ذلك، أو لم يلبسه بعد ذلك، فكلها احتمالات في غاية البعد, لأنها كلها تجويزية عقلية لا يحتجُّ بها، فمن أين له وهو مسافر في فلاة كما مر بشيء يصب فيه الماء، وهو لم يجد ما يأخذه فيه إلا خفه. ورُدَّ أيضًا على من استدل به بأنه فعل بعض الناس، ولا يُدرى هل هو كان ممن يُقتدى به أم لا؟ وبأن الاستدلال به مبني على أن شرع من قبلنا شرع لنا، وفيه اختلاف، ولو قلنا به لكان محله فيما لم ينسخ. ورُدَّ هذا بأناّ لم نحتجَّ بمجرد الفعل المذكور، بل إذا فرغنا على أن شرع من قبلنا شرع لنا، فإنا لا نأخذ بكل ما ورد عنهم، بل إذا ساقه إمامنا مساق المدح إن علم ولم يقيده بقيد صح الاستدلال به. وفيه جواز السفر منفردًا وبغير زاد، ومحل ذلك في شرعنا ما لم يَخَفْ على نفسه الهلاك. وفيه الحث على الإحسان على الناس, لأنه إذا حصلت المغفرة بسبب سقي الكلب، فسقي المسلم أعظم أجرًا.

رجاله ستة

واستُدل به أيضًا على جواز صدقة التطوع على المشركين، أي: لأنهم بمنزلة الكلاب، ومحله: إذا لم يوجد هناك مسلم فالمسلم أحق. وكذا إذا دار الأمر بين البهيمة والأدمي المحترم، واستويا في الحاجة، فالآدمي أحق. رجاله ستة: الأول: إسحاق وهو يحتمل إسحاق بن منصور بن بَهرام الكَوْسَج، ويحتمل إسحاق بن إبراهيم المعروف بابن راهُويه، وكل واحد منهما مر تعريفه في الحديث الحادي والعشرين من كتاب العلم. الثاني: عبد الصمد بن عبد الوارث، مر تعريفه في الحديث السادس والثلاثين من كتاب العلم. الثالث: عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار المدني العَدَوي. قال الدُّوري عن ابن مَعين: في حديثه عندي ضَعْف، وقد حدث عنه يحيى القطان، ويكفيه رواية يحيى عنه. وقال عمرو بن علي: لم أسمع عبد الرحمن بن مَهدي يحدث عنه قطُّ. وقال أبو حاتم: يُكتب حديثه ولا يحتجُّ به. وقال ابن المديني: صدوق. وقال الدّارقطني: خالف فيه البخاري الناس، وليس بمتروك. وذكره ابن عَدي في "الكامل"، وأورد له أحاديث، وقال: بعض ما يرويه منكر مما لا يُتابع عليه، وهو في جملة من يُكتب حديثه من الضعفاء. واحتج به البخاري كما قال الدارقطني وأبو داود والنّسائي والترمذي. وقال أبو القاسم البغوي: هو صالح الحديث. وقال الحربى غيره أوثق منه. وقال ابن خَلْفون: سئل عنه علي بن المديني، فقال: صدوق. روى عن: أبيه، وزيد بن أسلم، وأبي حازم بن دينار، ومحمد بن زيد المُهاجر، ومحمد بن عَجْلان، وغيرهم. وروى عنه: أبو النضر، وعبد الصمد بن عبد الوارث، وابن المبارك، وأبو الوليد الطَّيالسيّ، وعلي بن الجَعْد، وغيرهم.

لطائف إسناده

وهو من أفراد البخاري عن مسلم. ومر تعريف عبد الله بن دينار وأبي صالح ذكران السّمان وأبي هريرة في الحديث الثاني من كتاب الإيمان. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والإخبار. والسماع والعنعنة، ورواته ما بين مَرْوزي وبَصري ومدني. وفيه رواية تابعي عن تابعي عبد الله بن دينار وأبو صالح. أخرجه البخاري هنا، وفي عدة مواضع: في الشرب، والمظالم، والأدب، وفي ذكر بني إسرائيل. ومسلم في الحيوان، وأبو داود في الجهاد.

الحديث التاسع والثلاثون

الحديث التاسع والثلاثون وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبٍ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: حَدَّثَنِي حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَتِ الْكِلاَبُ تَبُولُ وَتُقْبِلُ وَتُدْبِرُ فِى الْمَسْجِدِ فِى زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. قوله: "كانت الكلاب تقبل" في رواية إبراهيم بن مَعْقِل عن البخاري زيادة: "تبول" قيل: "وتقبل" بواو العطف. وأخرجها أبو نُعيم والبيهقي عن أحمد بن شَبيب بصريح التحديث. وأخرجها أبو داود والإسماعيلي عن ابن وَهْب. قال في "الفتح": وعلى هذا، فلا حجة في الحديث لمن استدل به على طهارة الكلاب، للاتفاق على نجاسة بولها، وتَعُقِّب هذا بأن من يقول: إن الكلب يؤكل، وإن بول ما يؤكل لحمه طاهر يقدحُ في نقل الاتفاق، لاسيما وقد قال جمع بأن أبوال الحيوانات كلها طاهرة إلا الآدمي، وممن قال به ابن وَهْب، حكاه الإسماعيلي وغيره عنه. قلت: الظاهر أن البخاري يقول بطهارة الكلب وإباحة أكله لهذه الزيادة المروية عنه، وقد ترجم لذلك فيما مر بقوله: "وممرها في المسجد"، "وأكلها" في بعض النسخ، والحديث بهذه الزيادة مشتمل على المسألتين: الممر في المسجد، وطهارة البول الدالة على إباحة الأكل. وأما ما هو شائع من إباحة أكل الكلب عند مالك فغير صحيح، بل قال داود شيخ التتائي: إن من نسب إلى مالك القول بإباحة الكلب يؤدَّب، فلم يُرو عندهم قول بالإباحة، وعندهم في أكله قولان: الكراهة وهو المعتمد، والتحريم.

وقال المنذري: المراد أنها كانت تبول خارج المسجد في مواطنها، ثم تقبل وتدبر في المسجد، إذ لم يكن عليه في ذلك الوقت غَلَقٌ. قال: ويبعد أن تُترك الكلاب تنتاب المسجد حتى تمتهنه بالبول. وتُعقِّب بأنه إذا قيل بطهارتها لم يمتنع ذلك كما في الهرة. قلت: وأيضًا ما أبداه من التأويل غير مستقيم، فكيف يصح في أفعال متعاطفة بالواو، مجتمعة في متعلق واحد، أن يُجعل أحدها مفصولًا عن ذلك المتعلق، متعلقًا بمحذوف من غير دليل على ذلك. قال في "الفتح": والأقرب أن يقال: إن ذلك كان في ابتداء الحال على أصل الإباحة، ثم ورد الأمر بتكريم المساجد وتطهيرها، وجعل الأبواب عليها، ويشير إلى ذلك ما زاده الإسماعيلي في هذا الحديث عن ابن وَهْب عن ابن عمر قال: كان عمر يقول بأعلى صوته: اجتنِبوا اللغوَ في المسجد. قال ابن عمر: وكنت أبيت في المسجد على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكانت الكلاب ... إلى آخره. فأشار إلى أن ذلك كان في الابتداء، ثم ورد الأمر بتكريم المسجد حتى من لغو الكلام. وأما قوله: "في زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "فهو وإن كان عامًّا في جميع الأزمنة لأنه اسم مضاف، لكنه مخصوص بما قبل الزمن الذي أُمر فيه بصيانة المسجد. وقوله: "فلم يكونوا يرشُّون شيئًا من ذلك" وفي رواية: "فلم يرشّوا" في ذكر الكون مبالغة ليست في حذفه كما في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ} [الأنفال: 33]، حيث لم يقل: وما يعذبهم. وكذا في لفظ الرش، حيث اختاره على لفظ الغسل؛ لأن الرش ليس فيه جريان الماء، بخلاف الغسل، فإنه يُشترط فيه الجريان، فنفي الرش أبلغ من نفي الغسل، ولفظ "شيئًا" أيضًا عامٌّ، لأنه نكرة في سياق النفي، وهذا كله مبالغة في طهارة سؤرة. وقوىّ ابن بطّال الدِّلالة، فقال: لأن من شأن الكلاب أن تتبَّع مواضع المأكول، وكان بعض الصحابة لا بيوت لهم إلاّ المسجد، فلا يخلو أن يصل

رجاله ستة

بعض لعابها إلى بعض أجزاء المسجد. وتُعُقَّب بأن طهارة المسجد متيقَّنه، وما ذكر مشكوك فيه، واليقين لا يرتفع بالشك، وبأن دلالته لا تُعارض دلالة منطوق الحديث الوارد في الأمر بالغسل من ولوغه. قلت: التعقب المذكور متَعَقَّب, لأن حصول لعاب الكلاب وغيرها من بول أو شعر بدوام دخولها المسجد غالب أو متحقق لا مشكوك، ولذلك قال ابن عُمر: "فلم يكونوا يرشون شيئًا من ذلك". فما قال هذا القول إلا لتحقق الحصول. وقوله: إن دلالته لا تُعارض دلالة منطوق الحديث. يقال فيه: إن الحديث ليس في منطوقه دلالة على الوجوب ولا على أن الغسل للتنجيس، ولأجل هذا أتى البخاري به مع الأحاديث الدالة على طهارة سؤر الكلاب، بل وعلى إباحة أكلها. واستدل الحنفية بهذا على الحديث على طهارة الأرض إذا أصباتها نجاسة وجفت بالشمس أو الهواء وذهب أثرها، وعليه بوب أبو داود في "سننه" حيث قال: باب طهور الأرض إذا يبست. ووجه الدلالة منه هو أن قوله: "لم يكونوا يرشون" يدل على نفي صب الماء من باب الأولى، فلولا أن الجفاف يفيد تطهير الأرض ما تركوا ذلك. قال في "الفتح" ولا يَخفْى ما فيه. رجاله ستة: الأول: أحمد بن شَبيب بن سعيد الحَبَطي -بالتحريك- أبو عبد الله البَصْري. روى عن: أبيه، ويَزيد بن زُريع، وعبد الله بن رجاء المكّي، وغيرهم. وروى عنه: أبو زُرعة، وأبو حاتم، وأبو داود، والنسائي بواسطة: أبي الحسن الميمؤني، وروى عنه البخاري أحاديث، بعضها قال فيه: حدثنا، وبعضها قال فيه: قال أحمد بن شَبيب. ووثقه أبو حاتم الرّازي. وقال ابن عدي: وثقه أهل العراق، وكتب عنه

علي بن المديني. وقال أبو الفَتْح الأزْدي: منكر الحديث غير مَرضي. ولا بيرة بقول الأزدي لأنه ضعيف، فكيف يُعتمد في تضعيف الثقات. الثاني: أبوه شَبيب بن سعيد بن سعيد التميمي الحَبَطي أبو سعيد البَصْري. روى عن أبان بن أبي عيّاش، ورَوْحْ بن القاسم، ويونُس بن يزيد الأيْلي. وروى عنه: ابن وَهْب، ويحيى بن أيوب وابنه أحمد، وزَيْد بن بِشْر الحَضْرَمي. قال ابن المَديني: ثقة، كان يختلف في تجارة إلى مصر، وكتابه كتاب صحيح. وقال أبو زُرعة: لا بأس به. وقال أبو حاتم: كان عنده كتب يُونس بن يزيد، وهو صالح الحديث، لا بأس به. وقال النَّسائي: ليس به بأس، وقال ابن عَديّ: ولشبيب نسخة عنده عن يونُس عن الزُّهري، أحاديث مستقيمة وذكره ابن حِبّان في "الثقات". وقال الدَّارقُطني: ثقة. وحدث عنه ابن وَهْب بأحاديث مناكير. ونقل ابن خَلْفون توثيقه عن الذُّهلي. وقال ابن عَدي في "الكامل": لعل شبيبًا لما قدم مصر في تجاراته، كتب عنه ابن وَهْب من حفظه، فغلط ووهِم، وأرجو أن لا يتعمد الكذب، وإذا حدث عنه ابنه أحمد فكانه شبيب آخر يجود، وقال الطّبراني في "الأوسط" ثقة. مات بالبصرة سنة ست وثمانين ومئة. والحَبَطي في نسبهما نسبة إلى حَبط كَكَتِفَ ويحرك، وهو الحارث بن عمرو بن تَميم، وبنوه الحبطات، والنسبةَ إليهم حَبَطي. قيل: سُمي بذلك، أي: لقب لأنه كان في سفر، فأصابه مثل الحبط الذي يُصيب الماشية. وقيل: إنه أكل طعامًا، فأصابه من هَيضته. وقيل: أكل صمغًا فحَبِط منه. ومرّ تعريف يونُس بن يزيد الأيْلي، وابن شهاب الزهري في الحديث الثالث من بدء الوحي، ومر تعريف عبد الله بن عمر في أول كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه.

لطائف إسناده

الخامس: حمزة بن عبد الله بن عُمر بن الخطاب أبو عُمارة القُرَشي العَدَوي المدني التابعي. روى عن: أبيه، وعمته حفصة، وعائشة. وعنه: أخوه عبد الله، وابن أخيه خالد بن أبي بكر بن عُبيد الله بن عبد الله بن عمر، والزهري، وأخوه عبد الله بن مُسلم بن شِهاب، وغيرهم. قال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث. وقال العِجْلي: مدني تابعي ثقة. وذكره ابن حِبّان في "الثقات". وذكره ابن المَديني عن يحيى بن سعيد في فقهاء أهل المدينة. وهو شقيق سالم. لطائف إسناده: منها أن فيه القول والتحديث والعنعنة، ورواته ما بين بَصْري وأَيْلي ومدني، وفيه تابعي عن تابعي. أخرجه البخاري هنا، وأبو داود عن أحمد بن صالح، وأخرجه الإسماعيلي عن أبي يَعْلى، وأبو نُعيم عن أبي إسحاق عن إسحاق.

الحديث الأربعون

الحديث الأربعون حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ ابْنِ أَبِي السَّفَرِ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ فَقَتَلَ فَكُلْ، وَإِذَا أَكَلَ فَلاَ تَأْكُلْ، فَإِنَّمَا أَمْسَكَهُ عَلَى نَفْسِهِ". قُلْتُ: أُرْسِلُ كَلْبِي فَأَجِدُ مَعَهُ كَلْبًا آخَرَ قَالَ: "فَلاَ تَأْكُلْ، فَإِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ، وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى كَلْبٍ آخَرَ". قوله: "سألت" أي: عن حكم صيد الكلاب، وحُذف المسؤول عنه لدلالة الجواب عليه، وقد صرح به المصنف في كتاب الصيد. وقوله: "كلبك المعلَّم" بفتح اللام المشددة، وهو الذي يسترسل بإرسال صاحبه، أي: يهيج بإغرائه، وينزجر بإنزجاره في إبتداء الأمر وبعد شدة العدو، ويمسك الصيد ليأخذه الصائد، ولا يأكل منه. وهذا الحديث ساقه المصنف للاستدلال به لمذهبه في طهارة سُؤر الكلب، ومطابقته للترجمة من قوله فيها: "وسؤر الكلاب". ووجه الدلالة من الحديث هو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أذن له في أكل ما صاده الكلب، ولم يقيد ذلك بغَسْل موضع فمه، ولو كان واجبًا لبيّنه؛ لأنه وقت الحاجة إلى البيان، ومن ثَم قال مالك: كيف يُؤكل صيده ويكون لعابه نجسًا؟ وأجاب الإِسماعيلي عنه بأن الحديث سيق لتعريف أن قتله ذكاته، وليس في إثبات نجاسته ولا نفيها، ويدل لذلك أن لم يقل له: اغسل الدم إذا خرج من جرح نابه، لكنه وكله إلى ما تقرر عنده من وجوب غسل الدم، فلعله وكله أيضًا إلى ما تقرر عنده من غسل ما يماسُّه فمه.

قلت: ما أبعد هذا الجواب، فإذا كان العرب في الجاهلية يمكن أن يتقرر عندهم غسل الدم استقذارًا له مع استبعاده، فكيف يمكن أن يتقرر عندهم غسل موضع فم الكلب لنجاسته، وعلماء المسلمين بعد تقرر الشريعة مختلفون في نجاسته وطهارته، لم يثبت عندهم نصٌّ قاطع فيه فهذا غير معقول. وقد قال ابن المنير عند الشافعية: إن السكين إذا سُقيت بماء نجس وذبح بها نجَّست الذبيحة، وناب الكلب عندهم نجس العين، وقد وافقونا على أن ذكاته شرعية لا تُنَجِّس المذكّى، وهذا إيراد في غاية الصعوبة. وأجيب عنه بأنه لا يلزم من الاتفاق على أن الذبيحة لا تصير نجسة بمعضِّ الكلب ثبوت الإجماع على أنها لا تفسير متنجسة، فما ألزمهم به من التناقض ليس بلازم، على أن في المسألة عندهم خِلافًا، والمشهور وجوب غسل المَعَضِّ. قلت: هذا الجواب غير جواب عن الإيراد، فإن الذي ألزمهم من التناقض لازم لهم، فإنه لم يُلْزِمُهم ثبوتُ الإجماع على أنها لا تصير متنجّسة، وإنما ألزَمَهُم ثبوت نجاستها في مذهبهم, لأنهم لما حكم وابن جاسة الذبيحة بالسكين العارضة نجاستها فكانت نجاستها بناب الكلب النجسة العين من باب أولى، وكيف يجري عندهم الخلاف في غسل معض الكلب، ولا يجري عندهم في المذبوحة بالسكين المتنجسة. وظاهر قوله: "ولم تُسمِّ على كلب آخر" أن التسمية لابدَّ منها، والأمر كذلك، فقد أجمعوا على مشروعيتها، إلا أنهم اختلفوا في كونها شرطًا في حلِّ الأكل. فذهب الشافعي وطائفة، وهي رواية عن مالك وأحمد أنها سنة، فمن تركها عمدًا أو سهوًا لم يَفْدح في حلِّ الأكل، وذهب أحمد في الراجح عنه وأبو ثور وطائفة إلى أنها واجب، لجعلها شرطًا في حديث عديٍّ هذا, ولإيقاف الإذن في الأكل عليها في حديث أبي ثعلبة الآتي في الذبائح، والمعلق بالوصف ينتفي عند انتقائه، عند من يقول بالمفهوم، والشرط أقوى من الوصف. ويتأكد القول بالوجوب بأن الأصل تحريم الميتة، وما أُذن فيه منها تراعى

صفته، فالمسمّى عليها وافق الوصف، وغير المسمّى باق على أصل التحريم. واحتُجَّ للوجوب أيضًا بقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121]، وذهب أبو حنيفة ومالك والثوري وجماهير العلماء إلى الجواز لمن تركها ساهيًا لا عامدًا، لكن اختلف عند المالكية هل تَحْرُم وهو المذهب المعتمد عندهم، أو تكره. وعند الحنفية: تحرم. وعند الشافعية في العمد ثلاثة أوجه: أصحها يكره الأكل، وقيل: خلاف الأولى، وقيل: يأثم بالترك ولا يحرم الأكل. والمشهور عن أحمد التفرقة بين الصيد والذَّبيحة، فذهب في الذبيحة إلى هذا القول الثالث. واحتج القائلون بالتفرقة بقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} قالوا: إن الناسي لا يسمى فاسقًا، وبما أخرجه البخاري تعليقًا، والدَّارقُطني موصولًا عن ابن عباس: "من نسيَ فلا بأس به"، وأخرجه سعيد بن منصور عن ابن عباس موقوفًا بسند صحيح فيمن ذبح ونسي التسمية، فقال: "المسلم فيه اسم الله، وإن لم يَذْكر التسمية". وذكره مالك بلاغًا عن ابن عباس، وأخرجه الدّارقطني عن ابن عبّاس مرفوعًا. وحجة القائلين بانها سنة حديث عائشة رضي الله تعالى عنها عند المصنف، قلت: يا رسول الله: إن قومًا حديثو عهدٍ بجاهلية، أتونا بلحم لا ندري أَذَكَروا اسم الله عليه أم لم يذكروا؟ أنأكل منه أم لا؟ فقال: "اذكروا اسم الله عليه، وكلوا" فلو كان واجبًا لما جاز الأكل مع الشكِّ. وأما الآية، ففُسِّر الفسق فيها بما أُهِلَّ به لغير الله، وتوجيهه أن قوله: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} ليس معطوفًا, لأن الجملة الأولى فعلية إنشائية، والثانية خبرية، ولا يجوز أن تكون جوابًا لمكان الواو، فتعين كونها حالية، فتفيد النهي بحال كون الذبح فسقًا، والفسق مفسر في القرآن بما أُهلَّ به لغير الله، فيكون دليلًا لهم لا عليهم، وهو نوع من القلب، وقال تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5]، وهو لا يسمّون، وقد قام الإجماع على أن من أكل متروك

التسمية ليس بفاسق، قاله القَسْطلاّني. وما احتج به من كون الأولى طلبية، والأخيرة خبرية، لا يَسوغ عطفها عليها غير صحيح، فإن سيبويه ومن تبعه من المحققين يجيزون ذلك، ولهم شواهد كثيرة. وما ذكره من كون الإجماع على أن من أكل متروك التسمية ليس بفاسق غير صحيح، وكيف يصحُّ مع استدلال العلماء المتقدمين بالآية على أن ترك التسمية على الذبيحة عمدًا فسق. ودلَّ قوله: "إذا أرسلت كلبك المعلَّم" على إباحة الاصطياد بالكلاب المعلمة، واستثنى أحمد وإسحاق الكلب الأسود، وقالا: لا يحل الصيد به لأنه شيطان. ونُقل عن الحسن وإبراهيم وقتادة نحو ذلك. وفيه جواز أكل ما أمسكه الكلب بالشروط المذكورة من التعليم، والتسمية، وعدم أكله منه، وعدم مشاركة كلب آخر له في الصيد -ويأتي ما في هذين الشرطين الأخيرين- ولو لم يُذبح، لقوله: إن أخذ الكلب ذكاة، فلو قتل الصيد بظفره أو نابه حلَّ، وكذا بثقله على أحد القولين للشافعي، وهو المشهور عندهم، والمشهور عند المالكية أن الصيد إذا مات من صدم الكلب أو غير ذلك من غير جرح لا يؤكل، ولو لم يقتله الكلب بأن تركه وبه رمق، ولم يبقى زمن يمكن صاحبه فيه لحاقه وذبحه، فمات، حل لعموم قوله: "فإن أخْذَ الكلب ذكاةٌ"، وهذا في المعلم، فلو وجده حيًّا حياة مستقرة، وأدرك ذكاته، لم يحلَّ إلا بالتذكية، فلو لم يذبحه مع الامكان حرُم، سواء كان عدم الذَّبح اختيارًا أو اضطرارًا كعدم حضور آلة الذبح. فإن كان الكلب غير معلم اشْتُرط إدراك تذكيته، فلو أدركه ميتًا لم يحل. ودل الحديث على أنه لا يَحِلُّ أكل ما شاركه فيه كلب آخر في اصطياده، ومحله إذا استرسل الآخر بنفسه، أو أرسله من ليس من أهل الذكاة، فإن تحقق أنه أرسله من هو من أهل الذكاة حلَّ، ثم ينظر، فإن أرسلاهما معًا فهو لهما،

وإلا فللأول، ويؤخذ ذلك من التعليل في قوله: "فإنما سمَّيْت على كلبك، ولم تسمِّ على غيره"، فإنه يُفهم منه أن المرسل لو سَمّى على الكلب لحلَّ، وفي رواية الشعبي: "وإن خالطها كلاب من غيرها فلا تأكل"، فيؤخذ منه أنه لو وجده حيًّا وفيه حياة مستقرة، فذكّاه، حلَّ, لأن الاعتماد في الإِباحة على التذكية لا على إمساك الكلب. وقوله: "وإذا أكل فلا تأكل" فيه تحريم أكل الصيد الذي أكل منه الكلب، ولو كان الكلب معلمًا، وعُلل في الحديث بالخوف من أنه إنما أمسك على ... وأما الآية، ففُسِّر الفسق فيها بما أُهِلَّ به لغير الله، وتوجيهه أن قوله: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} ليس معطوفًا, لأن الجملة الأولى فعلية إنشائية، والثانية خبرية، ولا يجوز أن تكون جوابًا لمكان الواو، فتعين كونها حالية، فتفيد النهي بحال كون الذبح فسقًا، والفسق مفسر في القرآن بما أُهل به لغير الله، فيكون دليلًا لهم لا عليهم، وهو نوع من القلب، وقال تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5]، وهو لا يسمّون، وقد قام الإِجماع على أن من أكل متروك التسمية ليس بفاسق، قاله القَسْطلّاني. وما احتج به من كون الأولى طلبية، والأخيرة خبرية، لا يَسوغ عطفها عليها غير صحيح، فإن سيبويه ومن تبعه من المحققين يجيزون ذلك، ولهم شواهد كثيرة. وما ذكره من كون الإجماع على أن من أكل متروك التسمية ليس بفاسق غير صحيح، وكيف يصحُّ مع استدلال العلماء المتقدمين بالآية على أن ترك التسمية على الذبيحة عمدًا فسق. ودلَّ قوله: "إذا أرسلت كلبك المعلَّم" على إباحة الاصطياد بالكلاب المعلمة، واستثنى أحمد وإسحاق الكلب الأسود، وقالا: لا يحل الصيد به لأنه شيطان. ونُقل عن الحسن وإبراهيم وقتادة نحو ذلك. وفيه جواز أكل ما أمسكه الكلب بالشروط المذكورة من التعليم، والتسمية،

وعدم أكله منه، وعدم مشاركة كلب آخر له في الصيد -ويأتي ما في هذين الشرطين الأخيرين- ولو لم يُذبح، لقوله: إن أخذ الكلب ذكاة، فلو قتل الصيد بظفره أو نابه حلَّ، وكذا بثقله على أحد القولين للشافعي، وهو المشهور عندهم، والمشهور عند المالكية أن الصيد إذا مات من صدم الكلب أو غير ذلك من غير جرح لا يؤكل، ولو لم يقتله الكلب بأن تركه وبه رمق، ولم يبقى زمن يمكن صاحبه فيه لحاقه وذبحه، فمات، حل لعموم قوله: "فإن أخْذَ الكلب ذكاةٌ"، وهذا في المعلم، فلو وجده حيًّا حياة مستقرة، وأدرك ذكاته، لم يحلَّ إلا بالتذكية، فلو لم يذبحه مع الامكان حرُم، سواء كان عدم الذَّبح اختيارًا أو اضطرارًا كعدم حضور آلة الذبح. فإن كان الكلب غير معلم اشْتُرط إدراك تذكيته، فلو أدركه ميتًا لم يحل. ودل الحديث على أنه لا يَحِلُّ أكل ما شاركه فيه كلب آخر في اصطياده، ومحله إذا استرسل الآخر بنفسه، أو أرسله من ليس من أهل الذكاة، فإن تحقق أنه أرسله من هو من أهل الذكاة حل، ثم ينظر، فإن أرسلاهما معًا فهو لهما، وإلا فللأول، ويؤخذ ذلك من التعليل في قوله: "فإنما سمَّيْت على كلبك، ولم تسمِّ على غيره"، فإنه يُفهم منه أن المرسل لو سَمّى على الكلب لحلَّ، وفي رواية الشعبي: "وإن خالطها كلاب من غيرها فلا تأكل"، فيؤخذ منه أنه لو وجده حيًّا وفيه حياة مستقرة، فذكّاه، حلَّ, لأن الاعتماد في الإباحة على التذكية لا على إمساك الكلب. وقوله: "وإذا أكل فلا تأكل" فيه تحريم أكل الصيد الذي أكل منه الكلب، ولو كان الكلب معلمًا، وعُلل في الحديث بالخوف من أنه إنما أمسك على نفسه، وهذا قول الجمهور، وهو الراجح من قول الشافعي، وقال في القديم: وهو قول مالك. ونُقل عن بعض الصحابة: يحلُّ، واحتجوا بما أخرجه أبو داود بسند لا بأس به عن أبي ثعلبة، قال: يا رسول الله: إن لي كلابًا مُكلَّبة فاقتني في صيدها، قال: "كل مما أمسكْنَ عليك". قال: وإن أكل منه؟ قال: "وإن أكل منه".

وسلك الناس في الجمع بين الحديثين طرقًا، منها -للقائلين- بالتحريم: حملُ حديث أبي ثعلبة على ما إذا قتله وخلاّه، ثم عاد فأكل منه. ومنها: الترجيح، فرواية عدي في "الصحيحين" متفق على صحتها، ورواية أبي ثعلبة في غيرها مختلف في تضعيفها، وأيضًا رواية عدي صريحة مقرونة بالتعليل المناسب للتحريم، وهو خوف الإمساك على نفسه، متأيدة بأن الأصل في الميتة التحريم، فإذا شككنا في السبب المُبيح رجعنا إلى الأصل وظاهر القرآن أيضًا، وهو قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4]، فإن مقتضاها أن الذي يمسكه من غير إرسال لا يؤكل. وقالوا: معنى {أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} صِدْنا لكم، وقد جعل الشارع أكله منه علامة على أنه أمسكه لنفسه لا لصاحبه، فلا يعدل عن ذلك. وفي رواية لابن أبي شيبة: "إن شرب من دمه فلا تأكل، فإنه لم يَعْلَم ما علَّمته" وفي هذا إشارة إلى أنه إذا شرعَ في أكله، دل على أنه ليس بمعلم التعليم المشترط. وعند أحمد عن ابن عباس: إذا أرسلت الكلب فأكل الصيد فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه، وإذا أرسلته فقتل ولم يأكل، فكل، فإنما أمسك على صاحبه. وأخرجه البزار عن ابن عباس من وجه آخر. ولو كان مجرد الإمساك كافيًا لما احتيج إلى زيادة عليكم. ومنها للقائلين بالإباحة حمل حديث علي على كراهة التنزيه وحديث أبي ثعلبة على بيان الجواز، قال بعضهم: ومناسبة ذلك أن عديًّا كان موسرًا، فاختير له الحمل على الأولى، بخلاف أبي ثعلبة، فإنه كان بعكسه. ولا يَخْفى منافاة هذا للتصريح بالتعليل في الحديث بخوف الإمساك على نفسه. وقال ابن التين عن بعض أصحابه: هو عام، فيحمل على الذي أدركه ميتًا من شدة العدو أو من الصدمة، فأكل منه, لأنه صار على صفة لا يتعلق بها الإِرسال ولا الإمساك على صاحبه، قال: ويُحتمل أن يكون معنى قوله: "وإن أكل فلا تأكل" أي: لا يوجد منه غير مجرد الأكل، دون إرسال الصائد له،

وتكون هذه الجملة مقطوعة عما بعدها. ولا يخفى بعد هذا. وقال ابن القصّار: مجرد إرسال الكلب إمساك علينا, لأن الكلب لا نية له، ولا يصح من مثلها، وإنما يتصيد بالتعليم، فإذا كان الاعتبار بأن يُمسك علينا أو على نفسه، واختلف الحكم في ذلك، وجب أن يتميز ذلك بنية من له نية وهو مرسله، فإذا أرسله فقد أمسكه عليه، وإذا لم يرسله لم يمسك عليه. وفي هذا أيضًا بُعد ومصادقة لسياق الحديث. وسلك بعض المالكية الترجيح، فقال: هذه اللفظة ذكرها الشعبي، ولم يذكرها همّام، وعارضها حديث أبي ثعلبة. وهذا الترجيح معارَضٌ بالترجيح السابق الأقوى. وتمسك بعضهم بالاجماع على جواز أكله إذا أخذه الكلب بفيه وهمَّ باكله، فأُدرك قبل أن يأكل، قال فلو كان أكله منه دالاًّ على أنه أمسك لنفسه لكان تناوله بفيه وشروعه في أكله كذلك، ولكان يشترط أن يقف الصائد حتى ينتظر هل يأكل أم لا. واستُدِلَّ بقوله: "كُل ما أمسك عليك" بأنه لو أرسل كلبه على صيد، فاصطاد غيره، حل لعموم قوله: "ما أمسكَ" وهذا قول الجمهور، وقال مالك: لا يحل. وهو رواية البُوَيْطي عن الشافعي. وفي الحديث جواز الاصطياد للانتفاع بالصيد للأكل والبيع، وكذا اللهو، بشرط قصد التذكية والانتفاع، وكرهه مالك، بل المذهب عنده حرمة اصطياد مأكول اللحم بلا نيّة أصلًا، أو بنية قتله او حبسه أو الفرجة عليه؛ لأنه من العَبَثِ المنهي عنه، وإذا لم يقصد الانتفاع به حرم عند غير مالك, لأنه من الفساد في الأرض، بإتلاف نفس عبثًا، وقد قال الليث في الصيد للَّهْو: لا أعلم حقًّا أشبهَ بباطل منه. ويمكن أن يقال: يُباح، فإن لازَمَه وأكثر منه كُره, لأنه قد يشغله عن بعض الواجبات، وكثير من المندوبات، وأخرجه الترمذي عن ابن عباس رفعه: "من سكن البادية جفا، ومن اتّبع الصيد غَفِل" وله شاهد عن أبي هريرة عن

الترمذي أيضًا، وآخر عند الدارقطني في الأفراد من حديث البراء بن عازب، وقال: تفرد به شَريك. وفيه جواز اقتناء الكلب المعلّم للصيد، فقد أخرج البخاري عن ابن عمر: "من اقتنى كلبًا إلا كلبًا ضاريًا لصيد، أو كلب ماشية، فإنه ينقصُ من أجره كلَّ يوم قيراطان"، وأخرج عن أبي هريرة مثله، إلا أنه قال: "نقَصَ كلَّ يوم من عمله قيراط"، وأخرج عنه أيضًا: "إلا كلب غنم، أو حرث، أو صيد"، فزاد في هذه الرواية كلب الحرث على رواية ابن عمر. وأخرج مسلم أن ابن عمر قيل له: إن أبا هريرة يقول: "كلب زرع"، فقال: إن لأبي هريرة زرعًا. يعني أنه أثبت منه في حفظ هذه الزيادة، لاحتياجه إلى تعرف أحكامها. قال ابن عبد البر: في هذا الحديث إباحة اتخاذ الكلاب للصيد والماشية والزرع، وكراهة اتخاذها لغير ذلك، إلا أنه يدخل في معنى الصيد وغيره مما ذُكر اتخاذُها لجلب المنافع ودفع المضارِّ قياسًا، فتُمْحَض كراهة اتخاذها لغير حاجة، لما فيه من ترويع الناس، وامتناع دخول الملائكة للبيت الذي هم فيه. وفي قوله: "نقص من عمله"، أي من أجر عمله، ما يشير إلى أن اتخاذها غير محرم, لأن ما كان اتخاذه محرمًا امتنع اتخاذه على كل حال، سواء نقص الأجر أو لم ينقص، فدل ذلك على أن اتخاذها مكروه لا حرام. قال: ووجه الحديث عندي أن المعاني المتعبد بها في الكلاب من غسل الإِناء سبعًا لا يكاد يقوم بها المكلف ولا يتحفظ منها، فربما دخل عليه باتخاذها ما يُنْقص أجره من ذلك. ويُروى أن المنصور سأل عمرو بن عبيد عن سبب هذا الحديث فلم يعرفه، فقال المنصور: لأنه يَنْبَح الضَّيْف، ويُرَوِّع السائل. وما ادعاه من عدم التحريم، واستند له بما ذكر ليس بلازم، بل يحتمل أن تكون العقوبة تقع لعدم التوفيق للعمل بمقدار قيراط مما كان يعمله من الخير لو لم يتخذ الكلب، ويحتمل أن يكون الاتخاذ حرامًا، والمراد بالنقص أن الإِثم الحاصل باتخاذه يوازي قدر قيراط أو قيراطين من أجر، فينقص من ثواب عمل

المتخذ قدر ما يترتب عليه من الإثم باتخاذه، وهو قيراط أو قيراطان. وقيل: سبب النقصان امتناع الملائكة من دخول بيته، أو ما يلحق المارين من الأذى، أو لأن بعضها شياطين، أو عقوبة لمخالفة النهي، أو لولوغها في الأواني عند غفلة صاحبها، فربما يتنجس الطاهر منها، فإذا استُعمل في العبادة لم يقع موقع الطاهر. وقال ابن التين: المراد أنه لو لم يتخذه لكان عمله كاملًا، فإذا اقتناه نقص من ذلك العمل، ولا يجوز أن يَنْقص من عمل مضى، وإنما أراد أن ليس عمله في الكمال كعمل من لم يتخذه. وما ادعاه من عدم الجواز في الماضي منازَع فيه، فقد حكى الرُّوياني في "البحر" اختلافًا في الأجر، هل ينقص من العمل الماضي أو المستقبل؟ وفي محل نقصان القيراطين، فقيل: من عمل النهار قيراط، ومن عمل الليل آخر. وقيل: من الفرض قيراط، ومن النفل آخر. وفي سبب النقصان كما مر. والأصح عند الشافعية إباحة اتخاذ الكلاب لحفظ الدرب، إلحاقًا للمنصوص بما في معناه، كما أشار له ابن عبد البر، واتفقوا على أن المأذون في اتخاذه هو ما لم يحصل الاتفاق على قتله، وهو الكلب العقور، وأما غير العقور فقد اختُلف هل يجوز قتله مطلقًا أم لا، واستُدِلَّ به على جواز تربية الأجر والصغير لأجل المنفعة التي يؤول أمره إليها إذا كبر، ويكون القصد لذلك قائمًا مقام وجود المنفعة به، كما يجوز بيع ما لم ينتفع به في الحال، لكونه ينتفع به في المال. واختلفوا في اختلاف الروايتين في القراطين والقيراط، فقيل: الحكم للزائد لكونه حَفِظ ما لم يحفظه الآخر، أو أنه -صلى الله عليه وسلم- أخبر أولًا بنقص قيراط واحد، فسمعه الراوي الأول، ثم أخبر ثانيًا بنقص قيراطين زيادة في التأكيد في التنفير من ذلك، فسمعه الراوي الثاني. وقيل ينزل على حالين، فنقصان القيراطين باعتبار كثرة الأضرار باتخاذها، ونقص القيراط باعتبار قلته. وقيل: يختص نقص

رجاله خمسة

القيراطين بمن اتّخذها بالمدينة الشريفة خاصة، والقيراط بما عداها. وقيل: يلتحق بالمدينة في ذلك سائر المدن والقرى، ويختص القيراط بأهل البوادي، وهل يلتفت إلى معنى كثرة التأذي وقلته. وكذا من قال: يحتمل أن يكون في نوعين من الكلاب، ففيما لابسه آدمي قيراطان، وفيما دونه قيراط. وجوَّز ابن عبد البر أن يكون القيراط الذي ينقُص أجر إحسانه إليه, لأنه من جملة ذوات الأكباد الرطبة، ولا يَخْفى بُعده. واختُلف في القيراطين المذكورين هنا، هل هما كالقيراطين المذكورين في الصلاة على الجنازة واتِّباعها، فقيل بالتسوية، وقيل: اللذان في الجنازة من باب الفضل، واللذان هنا من باب العقوبة، وباب الفضل أوسع من غيره. وفي حديث اقتناء الكلب الحث على تكثير الأعمال الصالحة، والتحذير من العمل بما يُنْقِصها، والتنبيه على أسباب الزيادة فيها والنقص منها لتُجتنب أو ترتكب، وبيان لطف الله تعالى بخلقه في إباحة ما لهم به نفع، وتبليغ نبيهم -صلى الله عليه وسلم- لهم أمور معاشهم ومعادهم، وفيه ترجيح المصلحة الراجحة على المفسدة لوقوع استثناء ما يُنتفع به مما حرم اتخاذه. رجاله خمسة: الأول: حَفْص بن عمر مرَّ في الحديث الثالث والثلاثين من كتاب الوضوء هذا. الثاني: شُعبة بن الحجاج وقد مر أيضًا في الحديث الثالث من كتاب الإيمان، وكذلك عبد الله بن أبي السَّفَر وعامر الشَّعبي. والخامس: عديّ بن حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحَشْرج بن امرىء القيس بن عدي الطائي الجواد بن الجواد المشهور أبو طَريف. أسلم في سنة تسع، وقيل: عشر. وكان نصرانيًّا قبل ذلك، وثبت على إسلامه في الردة، وأحضر صدقة قومه إلى أبي بكر، وشهد فتح العراق، ثم سكن الكوفة، وشهد صفين مع علي.

روى الترمذي من حديثه قال: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في المسجد، فقال الناس: هذا عدي بن حاتم. قال: وجئت بغير أمان ولا كتاب، وكان قال قبل ذلك: "إني لأرجو الله أن يجعَلَ يده في يدي"، فقام، فأخذ بيدي، فلقيته امرأة وصبي معها، فقالا: إن لنا إليك حاجة، فقام معهما حتى قضى حاجتهما، ثم أخذ بيدي حتى أتى إلى داره، فألقت إليه الوليدة الوسادة، فجلس عليها وجلست بين يديه، فقال: "هل تعلم من إله سوى الله؟ " قلت: لا. ثم قال: "هل تعلم شيئًا أكبر من الله؟ " قلت: لا. قال: "فإن اليهود مغضوبٌ عليهم، وإن النصارى ضالّون". وروى أحمد من حديثه قال: لما بُعث النبي -صلى الله عليه وسلم- كرهته كراهيةً شديدة، فانطلقت حتى كنت في أقصى الأرض مما يلي الروم، فكرهت مكاني أشد من كراهته، فقلت: فلو أتيته، فإن كان كاذبًا لم يَخْفَ عليَّ، وإن كان صادقًا اتَّبعته، فأقبلت، فلما قدمت المدينة استشرفني الناس، فقالوا: عدي بن حاتم، فأتيته، فقال لي: "يا عدي أسلم تسلم". قلت: إن لي دينًا. فقال: "أنا أعلم بدينك منك، ألست ترأس قومك؟ " قلت: بلى. قال: "ألست تأكل المِرباع؟ " قلت: بلى. قال: "فإن ذلك لا يحلُّ في دينك"، ثم قال: "أسلم تسلم قد أظن أنه إنما يمنعُك غضاضةٌ تراها ممن حولي، وإنك ترى الناس علينا إلبًا واحدًا"، قال: "هل أتيت الحيرة؟ "، قلت: لم آتها، وقد علمت مكانها. قال: "يوشك أن تخرجَ الظّعينةُ منها بغير جوار، حتى تطوف بالبيت، ولتُفتحَن علينا كنوز كسرى بن هُرمز" فقلت: كسرى بن هرمز؟! قال: "نعم. وليفيضَنَّ المال حتى يهم الرجلُ من يقبل صدقَتَه". قال عدي: فرأيت الظعينة، وكنت في أول خيل أغارت على كنوز كسرى، وأحلِف بالله لتجيئنَّ الثالثة. وقال الشَّعبي عن عدي: أتيت عمر في أناس من قومي، فجعل يفرض للرجل ويُعرض عني، فاستقبلته، فقلت: أتعرفني؟ قال: نعم آمنت إذ كفروا، وعَرَفْت إذ أَنكروا، وأوفيت إذ غدروا، وأقبلت إذ أدبروا. إن أول صدقة بيَّضَت وجوه أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صدقة طيّىء.

وروى عنه ابن خليفة أنه قال: ما أقيمت الصلاة منذ أسلمت إلا وأنا على وضوء. وقال: ما دخل وقت الصلاة قطُّ إلا وأنا أشتاق إليها. وروي عنه أنه قال: ما دخلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- قطُّ إلا وسَّع لي، أو تحرّك لي، وقد دخلت عليه يومًا في بيته وقد امتلأ من أصحابه، فوسّع لي حتى جلست إلى جنبه. وأتاه الشاعر سلم بن دُارة القطعاني، فقال له: قد مدحتك يا أبا طريف. فقال له عدي: أمسك عليك يا أخي حتى أخبرك بما بي، فتمدحني على حسبه، لي ألف ضائنة، وألف درهم، وثلاثة أعبد، وفرس هذه حبس في سبيل الله عَزَّ وَجَلَّ، فقل، فقال: تحِنُّ قَلوصي في معدٍّ وإنما ... تلاقي الرّبيعَ في ديار بني وأبغي الليالي من عديِّ بن حاتمٍ ... حسامًا كلونِ الملح سُلّ من الخلَلِ أبوك جوادٌ ما يُشقُّ غبارُه ... وأنتَ جوادٌ لست تُعذر بالعلَلِ فإن تتقوا شرًّا فمثلكم أتّقي ... وإن تفعلوا خيرًا فمثلكم فعلي وسأله رجل يومًا مئة درهم، فقال: تسألني مئة درهم وأنا ابن حاتم، والله لا أعطيك. روي له عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ستة وستون حديثًا، اتفقا على ثلاثة، وانفرد مسلم بحديثين. قال أبو حاتم: كان متواضعًا، لما أسنَّ إستأذن قومه في وطاء يجلِسُ عليه في ناديهم، كراهته أن يظُن أحدٌ منهم أنه يفعل ذلك تعاظمًا، فأذنوا له. روى عن: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمر. وروى عنه: عَمرو بن حُريثن وتميم بن طَرَفة، وبلال بن المنذر، وسعيد بن جُبير.

لطائف إسناده

قيل: عاش مئة وثمانين سنة، وقيل: مئة وعشرين سنة. مات بالكوفة زمن المختار سنة ثمان وستين. وقال جرير عن مُغيرة الضَّبّي: خرج عدي بن حاتم وجرير بن عبد الله وحنظلة الكاتب من الكوفة إلى قَرْقيساء، وقالوا: لا نُقيم ببلد يُشتم فيها عثمان. وفي "الصحيحين" أنه سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أمور تتعلق بالصيد، وفيهما قصته في حمله قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]، على ظاهره، وقوله له: "إنك لعريض الوسادة". والطائي في نسبه مر في الثالث والخمسين من العلم. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة، ورواته ما بين بَصري وكوفي، وكلهم أئمة أجلاء. أخرجه البخاري أيضًا في البيوع والصيد والذبائح، ومسلم في الصيد عن أبي بكر بن أبي شَيْبة، وأبو داود فيه عن هنّاد السّريّ، وابن ماجه فيه أيضًا عن علي بن المنذر. باب من لم ير الوضوء إلاّ من المخرجين القبلُ والدبر لقوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ}. قوله: "إلا من المخرجين" الاستثناء مفرغ، والمعنى: من لم ير الوضوء واجبًا من الخروج من شيء من مخارج البدن إلا من القُبل والدُّبر، وأشار بذلك إلى الرد على من قال بالوضوء مما يخرج من غيرهما من البدن، كالقيء والحِجامة وغيرهما وسيأتي تبين القائل بذلك قريبًا. ويمكن أن يقال: إن نواقض الوضوء المعتبرة ترجع إلى المخرجين، فالنوم مظِنة خروج الريح، ولمس المرأة ومس الذكر مظنة خروج المني. وقوله: "القبل والدبر" بالجر فيهما عطف بيان أو بدل، والقُبل يتناول ذكر

الرجل وفرج المرأة. وقوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء: 43]، أي: فأحدث بخروج الخارج من أحد السبيلين القبل والدبر، فعلق وجوب الوضوء أو التيمم عند فقد الماء على المجيء من الغائط، وهو المكان المطمئن من الأرض الذي كانوا يقصدونه لقضاء الحاجة فهذا دليل الوضوء مما يخرج من المخرجين. ولكن ليس في هذه الآية ما يدُلُّ على الحصر الذي ذكره المؤلف. غاية ما فيها أن الله تعالى أخبر أن الوضوء أو التيمم عند فقد الماء يجب بالخارج من السبيلين. وقوله: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} دليل الوضوء من ملامسة النساء. وفسر الشافعي الملامسة المذكورة بجسِّ اليد، مستدلاًّ بأن ابن عمر فسّرها بذلك، والمعنى في النقض به أنه مظِنة الالتذاذ المُثير للشهوة. وقال الحنفية: الملامسة هنا كناية عن الجِماع، فيكون دليلًا للغسل لا للوضوء، محتجين بما رُوي عن علي وأبي موسى رضي الله تعالى عنهما، وعطاء وطاووس والحسن البَصري والشعبي أن الملامسة كناية عن الجماع، فالملامسة عندهم لا ينقُضُ منها إلا المباشرة بالإِفضاء الفاحش مع الانتشار. وأجيب عما قالوه بأن اللفظ لا يختصُّ بالجماع، قال تعالى: {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} [الأنعام: 7]، وقال عليه الصلاة والسلام لماعز: "لعلّك قبّلت أو لمست" وفي الحديث الآخر: "اليد زناها اللمس". وفصلت المالكية في اللمس جمعًا بين الآية والأحاديث، فقالوا اللمس مع قصد اللّذة أو وجدانها ناقض، وعند انتفاء القصد والوجدان لا نقض فيه، لحديث عائشة في مسلم: "أن يدها وقعت على قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو ساجد"، ولحديثها في "الصحيحين": "إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي وهي معترضة بينه وبين القبلة، فإذا سجد غمزني، فقبضتُ رجلي" ففي قولها: "غمزني" دليل واضح

على أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء، فيُجمع بين الحديث والآية يحمل الآية على لمس قُصِدت به اللذه أو وجدت، والحديث على ما خلا من ذلك, لأنه في وقت العبادة بعيد من وقت الشهوة. وما أجاب به في "الفتح" من احتمال الحديث لأن يكون بحائل، أو يكون خصوصية بعيد جدًا, لأن الاحتمال لا ينفي الظاهر ولا تثبت به الأحكام، والخصوصية لا تثبت إلا بدليل. قال في "الفتح": وفي معنى اللمس مسُّ الذكر، مع صحة الحديث فيه، إلا أنه ليس على شرط الشيخين، وقد صححه مالك، وجميع من أخرج الصحيح غير الشيخين، والحديث هو حديث بُسرة بنت صفوان عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من مسَّ ذكره فليتوضأ" أخرجه أحمد، والأربعة، وابن خُزيمة، وابن حِبان، والحاكم، وابن الجارود. وعند الحنفية أن مَن مسّ الذكر لا ينتقض وضوؤه واحتجوا بحديث طَلْق بن علي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سُئل عن مس الذكر في الصلاة، فقال: "هل هو إلا بَضْعة منك؟ " أخرجه أحمد، والأربعة، والدّارقطني وصححه، وقد مر في الاستنجاء. وقال: عطاء فيمن يخرج من دبره الدود أو من ذكره نحو القملة يعيد الوضوء. وهذا مذهب الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وسُفيان الثّوري، والأوزاعي. والمخالف في ذلك إبراهيم النَّخَعي، وقَتادة، وحمّاد بن أبي سلمة، قالوا: لا ينقُض النادر. وهو قول مالك, لأن الناقض عنده هو الخارج من أحد السبيلين المعتاد خروجه في الصحة، والدود والحصى المختلفة في البطن والقملة لا نقض عنده في خروجها, لعدم اعتيادها, ولو كان معها أذىً من بول أو عَذِرة، ولو كان أكثر منها، ويعفى عن غسل ما خرج معها إن كان

قليلًا، وتجب إزالته بماء أو حجر إن كثر. وعند الحنفية في القُدُوري أن الدودة الخارجة من قِبَل المرأة تنقض الوضوء، ومن الذكر لا تنقض، وإن خرجت من الفم أو الأذن أو العين لا تنقض. وعطاء: المراد به عطاء بن أبي رباح، وقد مر تعريفه في الحديث التاسع والثلاثين من كتاب العلم. وهذا الأثر وصله ابن أبي شَيبة في "مصنفه" بإسناد صحيح. وقال جابر بن عبد الله إذا ضحك في الصلاة أعاد الصلاة لا الوضوء. والمخالف في ذلك إبراهيم النَّخَعي والأوزاعي والثَّوري. وقال أبو حنيفة وأصحابه: ينقض الضَّحكِ إذا وقع داخل الصلاة لا خارجها وكان بقَهْقَهْة، فالضَّحِك يُبطل الصلاة ولا يُبطل الوضوء، والقَهْقهة تبطلهما جميعًا، والتبسم لا يبطلهما. والضَّحك ما يكون مسموعًا له دون جيرانه، والقهقهة ما يكون مسموعًا له ولجيرانه، والتبسم ما لا صوت فيه ولا تأثير له دون واحد منهما. قال ابن المنذر: أجمعوا على أنه لا ينقض خارج الصلاة، واختلفوا إذا وقع داخلها، فخالف من قال: به القياس الحلبّي، وتمسكوا بحديث لا يصحُّ، وحاشا أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذين هم خير القرون أن يضحكوا بين يدي الله تعالى خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. والحديث هو ما أخرجه ابن عدي في "الكامل" عن ابن عمر قال: من ضَحِكَ في الصلاة قهقهةً فليُعِدِ الوضوء والصلاة. وهذا الأثر المعلق وصله البيهقي في "المعرفة" عن ابن عبد الله الحافظ. ورواه أبو نُسيبة قاضي واسط عن يزيد بن أبي خالد عن أبي سفيان مرفوعًا.

واختلف عليه في "سننه"، وفي الموقوف وهو الصحيح ورفعه ضعيف. وجابر بن عبد الله مر تعريفه في باب الخروج في طلب العلم بعد الحديث التاسع عشر منه. وقالَ الحَسَنُ: إن أخَذَ مِن شَعْره وأظْفَارهِ أو خَلَع خُفَّيهِ فَلا وُضُوء عَلَيْه. قوله: "من شعره أو أظفاره" خالف في ذلك مجاهد والحكم بن عُتيبة وحمّاد، قالوا: من قصَّ أظفاره أو جزَّ شاربه فعليه الوضوء. ونقل ابن المنذر أن الإجماع استقرَّ على خلاف ذلك. وقوله: "أو خلع خُفَّيه" وافقه على ذلك إبراهيم النَّخَعي، وطاووس، وقتادة، وعطاء، وبه كان يُفتي سليمان بن حرب، وداود. وخالفهم الجمهور على قولين مرتبين على إيجاب الموالاة وعدمها، فمن أوجبها قال: يجب استئناف الوضوء إذا طال الفصل، ويبادر إلى غسل الرجلين بالقرب، وهذا مذهب مالك. ومن لم يُوجبها قال: يكتفي بغسل رجليه وهو الأظهر من مذهب الشافعي. وقال بعض العلماء من الشافعية وغيرهم: يجب الاستئناف وإن لم تجب الموالاة، وعن الليث عكس ذلك. وهنا تعليقان: الأول "من شعره وأظفاره" وقد أخرجه سعيد بن المنصور وابن المُنذر بإسناد صحيح موصولًا. والثاني: قوله: "أو خلع خُفَّيه .. إلخ" وقد وصله ابن أبي شَيْبة بإسناد صحيح عن هشام، عن يونس، به. والحسن: المراد به البَصْري، وقد مر تعريفه في الحديث الخامس والعشرين من كتاب الإيمان. وقالَ أبو هُرَيْرَةَ: لا وُضُوءَ إلاّ مِنْ حَدَثٍ.

و"الحدث" في اللغة الشيء الحادث، ثم نُقل إلى الأسباب الناقضة للطهارة، وقد مرت معانيه في كتاب الوضوء. وهذا التعليق وصله إسماعيل القاضي في "الأحكام" بإسناد صحيح من حديث مجاهد عنه موقوفًا. ورواه أبو عبيد في كتابه "الطهور" بلفظ: "لا وضوء إلا من حدث أو صوت أو ريح"، ورواه أبو داود، وأحمد، والترمذي من طريق شُعبة. وأبو هريرة مر تعريفه في الحديث الثاني من كتاب الإيمان. ويُذْكَرُ عن جابرٍ أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كانَ في غَزْوَةِ ذاتِ الرِّقاع فَرُمِي رَجُل بِسَهْمٍ فَنَزَفَهُ الدَّمُ فَركَعَ وَسَجَدَ وَمَضَى في صَلَاتِهِ. قوله: "فرُمي رجلُ بسهم" محصل هذه القصة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نزل بشِعب، فقال: "من يحرُسُنا الليلة؟ " فقام رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار، فباتا بفم الشِّعب، واقتسما الليل للحراسة، فنام المهاجري، وقام الأنصاري يصلي، فجاء رجل من العدوِّ، فرأى الأنصاري، فرماه بسهم، فأصابه، فنزعه، واستمر في صلاته، ثم رماه بثان، فصنع كذلك، ثم رماه بثالث، فانتزعه وركع وسجد وقضى صلاته، ثم أيقظ رفيقه، فلما رأى ما به من الدِّماء قال له: لم لا أنبهتني أول ما رَمَى؟ قال: كنت في سورة فأحببت أن لا أقطعها. وسمّى البيهقي في "الدلائل" المهاجري عمار بن ياسر، والأنصاري عبّاد بن بِشْر، والسورة الكهف. وعمّار مر تعريفه في تعليق بعد العشرين من الإيمان، وعبّاد بن بِشْر يأتي تعريفه في الثامن والستين من استقبال القبلة. وقوله: "فَنَزَفَهُ الدَّمُ" يقال: نزفه الدم وأنزفه إذا سأل منه كثيرًا حتى يُضعفه، فهو نزيفٌ ومنزوفٌ.

وأراد المصنف بهذا الحديث الرد على الحنفية في أن الدم السائل ينقُضُ الوضوء. فإن قيل: كيف مضى في صلاته مع وجود الدم في بدنه أو ثوبه، واجتناب النجاسة فيها واجب. وأجاب الخطابي بأنه يُحتمل أن يكون الدم جرى من الجراح على سبيل الدَّفق، بحيث لم يُصب شيئًا من ظاهر بدنه وثيابه. وفيه بعد. ويُحتمل أن يكون الدم أصاب الثوب فقط، فنزعه عنه، ولم يسِلْ على جسمه إلا قدر يسير معفوٌّ عنه. ثم الحجة قائمة به على كون خروج الدم لا ينقض، ولو لم يظهر الجواب عن كون الدم أصابه، والظاهر أن البخاري كان يرى أن خروج الدم في الصلاة لا يبطلها، بدليل أنه ذكر عقب هذا الحديث أثر الحسن البصري الآتي قريبًا، وقد صح أن عمر صلى وجرحه ينبع دمًا. وهذا الحديث وصله ابن إسحاق في "المغازي"، وهو صحيح أخرجه ابن حبان في "صحيحه"، والحاكم في "مستدركه"، وأبو داود وصححه، وابن خُزيمه في "صحيحه"، وأحمد في "مسنده"، والدارقطني في "سننه"، كلهم من طريق ابن إسحاق، عن صدقة، عن عقيل. وصدقة ثقة. وعَقيل لا يُعرف راو عنه إلا صدقة، فلهذا لم يجزم به المصنف، أو للخلاف في ابن إسحاق. ومر تعريف جابر بن عبد الله في باب الخروج في طلب العلم. وَقَالَ الحَسَنُ: ما زالَ المُسْلِمَونَ يُصَلّون في جِرَاحَاتِهِمْ. بكسر الجيم، وقال العيني منتصرًا لمذهبه: أي يصلون في جراحاتهم من غير سيلان الدم، والدليل على ما رواه ابن أبي شَيْبة في "مصنفه" عن الحسن بإسناد صحيح: إنه كان لا يرى الوضوء من الدم إلا ما كان سائلًا، قال: وهذا هو مذهب الحنفيه، وحجة لهم على الخصم.

وليس الأمر كما قال, لأن الأثر الذي رواه البخاري ليس هو الذي ذكره هو، فإن الأول هو رواية عن الصحابة وغيرهم، والثاني هو مذهب الحسن. ولم أر من أخرج هذا التعليق حين كان الذي أخرجه ابن أبي شيبة ليس هذا. والحسن المراد به البَصْري، وقد مر تعريفه في الحديث الخامس والعشرين من كتاب الإيمان. وقالَ طَاووسُ ومُحَمدُ بنُ عَليّ وعطاءُ وأهلُ الحِجَاز لَيْسَ في الدَّمِ وُضُوء. واللفظ المروي عن طاووس أنه كان لا يرى في الدم وضوءً، يغسل عنه الدم ثم حسبُه. والمروي عن محمد بن علي لفظه: قال الأعمش: سألت أبا جعفر الباقِر عن الرُّعاف. فقال: لو سأل نهرٌ من دم ما أعدت منه الوضوء. وقوله: "وأهل الحجاز" هو من عطف العام على الخاص, لأن الثلاثة المذكورين قبلُ حجازيون. وقد رواه عبد الرزاق عن أبي هريرة وسعيد بن جُبير، وأخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عُمر وسعيد بن المسيِّب، وأخرجه إسماعيل القاضي عن أبي الزناد عن الفقهاء السبعة من أهل المدينة، وهو قول مالك والشافعي. وأوجب أبو حنيفة الوضوء بالدم إذا سأل إلى موضع الطهارة مستدلاًّ بما رواه الدّارقُطني، إلا أن يكون دمًا سائلًا، وبقوله: قال الثوري، والأوزاعي، وأحمد بن حَنْبل، وإسحاق بن راهويه. أما أثر طاووس فقد وصله ابن أبي شَيْبة بإسناد صحيح عن عُبيد الله بن موسى. وأثر محمد بن علي وصله الحافظ أبو بشْر المعروف بَسمَّوَيه في "فوائده"

من طريق الأعمش. وأثر عطاء وصله عبد الرزاق عن ابن جُريج عنه. الرجال: الأول: طاووس بن كَسيان اليماني أبو عبد الرحمن الحِميْري الجَنَدي -بالتحريك- مولى بحير بن ريسان من أبناء الفرس، كان ينزل الجند، وقيل: هو مولى هَمذان، وقال ابن حِبان: كانت أمه من فارس وأبوه من النَّمِر بن قاسط، وقيل: اسمه ذكوان، وطاووس لقب له، وإنما لقب طاووسًا لأنه كان طاووس القراء، والمشهور أنه اسمه. قال عبد الملك بن مَيْسرة عنه: أدركت خمسين من الصحابه. وقال ابن جُريج عن عطاء عن ابن عباس: إني لأظن طاووسًا من أهل الجنة. وقال ليث بن أبي سُليم: كان طاووس يَعُد الحديث حرفًا حرفًا. وقال قَيْس بن سعد: كان فينا مثل ابن سيرين في البصرة. وقال عثمان الدارمي: قلت لابن مَعين: طاووس أحب إليك أم سعيد بن جُبير؟ فلم يخير. وقال ابن حِبان: كان من عُبّاد أهل اليمن ومن سادات التابعين، وكان قد حج أربعين حجة، وكان مستجاب الدعوة. وقال الزُّهري: لو رأيت طاووسًا علمت انه لا يكذب. وقال عَمرو بن دينار: ما رأيت أحدًا أعفَّ عما في أيدي الناس من طاووس. وقال ابن عُيينه: متجنِّبو السلطان ثلاثة: أبو ذرٍّ في زمانه، وطاووس في زمانه، والثوري في زمانه. وقال أيضًا: قلت لعبد الله بن يزيد: مع من تدخل على ابن عباس؟ قال: مع عطاء وأصحابه. قلت: وطاووس؟ قال: هيهات، ذلك يدخل مع الخواص. ولما ولي عُمر بن عبد العزيز الخلافة، كتب إليه طاووس المذكور إن أردت أن يكون عملك خيرًا كله فاستعمل أهل الخير، فقال عمر: كفى بها موعظة. وروي أن أمير المؤمنين أبا جعفر المنصور استدعى عبد الله بن طاووس المذكور ومالك بن أنس رضي الله عنهما، فلما دخلا عليه أطرق ساعة، ثم التفت إلى ابن طاووس، وقال له: حدثني عن أبيك. فقال: حدثني أبي أن أشد الناس عذابًا يوم القيامه رجلٌ أشركه الله في سلطانه، فأدخل عليه الجور في

حكمه. فأمسك أبو جعفر ساعة. قال مالك: فضممت ثيابي خوفًا من أن يصيبني دمه. ثم قال له المنصور: ناولني تلك الدّواة، ثلاث مرات، فلم يفعل. فقال له: لم لا تناولني؟ فقال: أخاف أن تكتب بها معصية، فأكون قد شاركتك فيها. فلما سمع ذلك قال: قوما عني. قال: ذلك ما كنا نبغي. قال مالك: فما زلت أعرف لابن طاووس فضله من ذلك اليوم. روى عن: العبادلة الأربعة، وأبي هريرة، وعائشة، وزيد بن ثابت، وزيد بن أرقم، وجابر، وسُراقة بن مالك، وصفوان بن أميه، وعبد الله بن شدّاد بن الهاد، وغيرهم. وروى عنه: ابنه عبد الله، ووَهْب بن منبِّه، وسليمان الأحول، والزُّهري، وعمرو بن دينار، والحكم بن عُتيبه، وعبد الملك بن مَيْسره، وخلق. مات حاجًّا بمكة قبل يوم التروية بيوم، وصلى عليه هشام بن عبد الملك، وذلك في سنة ست ومئة، وقيل: سنة أربع ومئة. وقال ابن شوْذب: شهدت جنازة طاووس بمكة سنة مئة، فجعلوا يقولون: رحم الله أبا عبد الرحمن حجَّ أربعين حجة. قال بعض العلماء: مات طاووس بمكة، فلم يتهيأ إخراج جنازته لكثرة الناس، حتى وجه إبراهيم بن هشام المخزومي أمير مكة بلحارث، فلقد رأيت عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم يحمل السرير على كاهله، وقد سقطت قلنسوة كانت على رأسه، وفُرِّق رداؤه من خلفه. وبمدينة بعلبك داخل البلد قبرٌ يزار، وأهل البلد يزعُمون أنه لطاووس المذكور، وهو غلط. واليماني في نسبه مر في الخامس والثلاثين من الإيمان. والجَنَدي بالتحريك نسبة إلى جَنَد بلد باليمن بين عَدَن وتَعْز، وهو أحد مخالفيها المشهورة، نزلها مُعاذ بن جَبَل. الثاني: محمد بن علي، فيُحتمل أن يكون محمد بن علي المعروف بابن

الحَنَفيّة وقد مر تعريفه في الحديث الثاني والسبعين من كتاب العلم وليس هذا الاحتمال بصواب، والصواب أنه: محمد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، الملقب بالباقِر، أحد الأئمة الاثني عشر في اعتقاد الإِمامية، وهو والد جعفر الصادق. وكان الباقِر عالمًا سيدًا كبيرًا، وإنما قيل له: الباقر لأنه تبقَّر في العلم، أي: توسع، والتبقُّر التوسُّع، وفيه يقول الشاعر: يا باقِرَ العلمِ لأهلِ التُّقى ... وخيرَ مَن لبّى على الأجبلِ كان مولده بالمدينة يوم الثلاثاء ثالث صفر سنة سبع وخمسين للهجرة، وكان عمره يوم قتل جده الحسين رضي الله عنه ثلاث سنين، وأمه أم عبد الله بنت الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. قال ابن سَعْد: كان ثقة كثير الحديث، وليس يروي عنه من يُحتج به. وقال العِجْلي: مدني تابعي ثقة. وقال ابن البَرقي: كان فقيها فاضلًا. وذكره النسائي في فقهاء أهل المدينة من التابعين. وقال محمد بن المُنْكَدِر: ما رأيت أحدًا يفضُل على علي بن الحسين حتى رأيت ابنه محمدًا، أردت أن أعظه يومًا فوعظني. وقال سالم بن أبي حفصة: سألت أبا جعفر وابنه جعفرًا عن أبي بكر وعمر، فقالا لي: يا سالمٍ تولَّهما وابرأ من عدوِّهما، فإنهما كانا إمامي هُدى. وعنه قال: ما أدركت أحدًا من أهل بيتي إلا وهُو يتولاّهُما. روى عن: أبيه، وجدَّيه الحسن والحسين، وجد أبيه علي بن أبي طالب مرسلًا، وعمِّ أبيه محمد بن الحنَفِيّة، وابن عم جده عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وسَمرة بن جُنْدَب، وابن عباس، وابن عمر، وأبي هريرة، وعائشة، وام سلمة. وقال أحمد: لم يسمع من عائشة ولا أم سلمة، ولم يدرك جدَّه عليًّا أيضًا. وروى عنه: ابنه جعفر، وإسحاق السَّبيعي، والأعرج، والزُّهري،

وعَمْرو بن دينار، والأوزاعي، وابن جُريج، وعبد الله بن عطاء، والأعمش، وخلق كثير. توفي في شهر ربيع الأول سنة ثلاث عشرة ومئة. وقيل: في الثالث والعشرين من صفر سنة أربع عشرة، وقيل: سبع عشرة، وقيل: ثمان عشرة بالحُمَيْمة، ونقل إلى المدينة، ودفن بالبقيع في القبر الذي فيه أبوه وعم أبيه الحسن بن علي رضي الله عنهم في القُبة التي فيها قبر العباس رضي الله عنه، والحُمَيْمة -بالتصغير- قرية بنواحي الشَّوبْك كانت لعلي بن عبد الله بن العباس وأولاده في أيام بني أمية وفيها وُلد السفاح والمنصور، وبها تربّيا، ومنها انتقلا إلى الكوفة، وبويع السفاح بالخلافة فيها كما هو مشهور. وعطاء بن أبي رباح مرَّ تعريفه في الحديث التاسع والثلاثين من كتاب العلم. وقوله: "أهل الحجاز" المراد به ما رواه عبد الرزاق من طريق أبي هريرة وسعيد بن جُبير، وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق ابن عمر وسعيد بن المسيِّب، وأخرجه إسماعيل القاضي من طريق أبي الزِّناد عن الفقهاء السبعة من أهل المدينة. وَعَصَرَ ابنُ عمر بثرة فَخَرَجَ مِنْها الدّمُ وَلَمْ يَتَوَضّأ. والبَثْرة -بفتح الموحدة وسكون المثلثة، ويجوز فتحها- وهي خراج صغار، يقال: بثر وجهه، مثلث الثاء المثلثة. قال العيني: هذا الأثر حجة للحنفية, لأن الدم الخارج بالعصر لا يُنقض عندهم, لأنه مًخرج، والنقض يُضاف إلى الخارج دون المُخْرج كما هو مقرر في كتبهم. قلت: وهذا يصحُّ جوابًا لهم عن حديث جابر السابق.

وهذا الأثر وصله ابن أبي شَيْبة بإسناد صحيح، وزاد قبل قوله: "ولم يتوضأ"، "ثم صلّى". وعبد الله بن عمر مرَّ تعريفه في أول كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه. وبزق ابن أبي أوفى دمًا فمضى في صلاته. وهذا الأثر وصله سفيان الثوري في "جامعه" عن عطاء بن أبي السّائب، وسفيان سمع من عطاء قبل اختلاطه، فالإسناد صحيح. ورواه ابن أبي شَيبة في "مصنفه" بسند جيد عن عبد الوهاب الثَّقَفي. وابن أبي أوفى هو عبد الله أبي أوفى الأسْلَمي، واسم أبي أوفى علقمة بن خالد بن الحارث بن أسد بن رِفاعة بن ثعلبة بن هَوازن بن أسلم بن أفضى بن حارثة ابن عمرو بن عامر أخو زيد بن أبي أوفى، يُكنى أبا معاوية، وقيل: أبا إبراهيم، وقيل: أبا محمد. شهد الحُديبية وخيبر وما بعدها من المشاهد، ولم يزل بالمدينة حتى قُبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم تحول إلى الكوفة، وهو آخر من بقي بالكوفة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وقال إسماعيل بن أبي خالد: رأيت على ساعد عبد الله بن أبي أوفى ضربة، فقلت: ما هذه؟ فقال: ضربتها يوم حنين، فقلت: أشهدتَ معه حنينًا؟ قال: نعم، وقبل ذلك. مات بالكوفة سنة ست أو سبع وثمانين، وكان ابتنى بها دارًا في أسلم، وكان قد كُفَّ بصره. روى خمسة وتسعين حديثًا، اتفقا على عشرة، وانفرد البخاري بخمسة، ومسلم بواحد. روى عنه عمرو بن مُرّة وطَلْحة بن مُصرِّف، وعديّ بن ثابت، والأعمش.

قال الذهبي: قيل: حديثه عنه مرسل، وقد سمع الأعمش ممن مات قبله، فما المانع من أن يكون سمع منه. وقال ابن عمرو والحسن فيمن يحتجم ليس عليه إلا غسل محاجمه. وفي رواية الأصيلي وغيره: "ليس عليه غسل محاجمه" بإسقاط أداة الاستثناء، وهو ذكره الإسماعيلي. وقال ابن بطال: ثبتت إلا في رواية المُستملي دون رفيقه. قال في "الفتح": وهي في نسختي ثابتة من رواية أبي ذرٍّ عن الثلاثة. وقد حكي عن الليث أنه قال: يُجزىء المحتجم أن يمسح موضع الحجامة ويصلي ولا يغسله. وأثر ابن عمر وصله الشافعي وابن أبي شَيْبة بلفظ: "كان إذا احتجم غسل محاجمه". وعبد الله بن عمر مرَّ تعريفه في أول كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه. وأثر الحسن البَصْري وصله ابن أبي شيبة أيضًا في "مصنفه". والحسن البَصْري مرَّ تعريفه في الحديث الخامس والعشرين من كتاب الايمان.

الحديث الحادي والأربعون

الحديث الحادي والأربعون حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٍ الْمَقْبُرِىِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يَزَالُ الْعَبْدُ فِي صَلاَةٍ مَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُ الصَّلاَةَ، مَا لَمْ يُحْدِثْ". فَقَالَ رَجُلٌ أَعْجَمِيٌّ: مَا الْحَدَثُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: الصَّوْتُ. يَعْنِى الضَّرْطَةَ. قوله: "ما كان في المسجد" أي: ما دام، وهي رواية الكُشميهني. وقوله: "في المسجد" في رواية: "في صلاة"، وفي رواية: "في مُصَلاّه"، والمراد أنه في ثواب الصلاة لا في حكمها، وإلا لما حل له الكلام، وغيره مما منع في الصلاة. وقال الكِرماني: نكّر صلاة ليشعر بأن المراد نوع صلاته التي ينتظرها، والمراد بالمصلّى المكان الذي أوقع فيه الصلاة من المسجد، وكأنه خرج مخرج الغالب، وإلا فلو قام على بقعة أخرى من المسجد، مستمرًا على نية انتظار الصلاة، كان كذلك. وأخذ من قوله: "في مُصلاّه" أن ذلك مقيد بمن صلى ثم انتظر صلاة أخرى، وتقييد الصلاة الأولى بكونها تامة مجزئة, لأنه عليه الصلاة والسلام قال للمُسيء صلاته: "ارجِع فصلِّ فإنك لم تصلِّ". وهل يحصل ذلك لمن نيته إيقاع الصلاة في المسجد ولو لم يكن فيه، الظاهر خلافه, لأنه رتَّب الثواب المذكور على المجموع من النية وشُغل البقعة بالعبادة، لكن للمذكور ثواب يخصه.

وقوله: "ما لم يُحدث" أي: ما لم يأت يحدث، وما مصدرية ظرفية، أي: مدة دوام عدم الحدث، والمراد به ما خرج من السبيلين، لكن يؤخذ منه أن اجتناب حدث اليد واللسان من باب الأولى, لأن الأذى منهما يكون أشد كما قال ابن بطّال. وفي رواية عند المصنف في الجماعة "إن الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه ما لم يُحدِث، اللَّهم اغفِر له، اللَّهمَّ ارحمه، لا يزال أحدكم في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه، لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة". وقوله: "لا يمنعه" يقتضي أنه إذا صرف نيته عن ذلك صارف آخر، انقطع عنه الثواب المذكور، وكذا إذا شارك الانتظار أمر آخر، ودعاء الملائكة مطابق لقوله تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 5]، قيل: السر فيه أنهم يطّلعون على أفعال بني آدم وما فيها من المعصية والخلل في الطاعة، فيقتصرون على الاستغفار لهم من ذلك, لأن دفع المفسدة مقدَّم على جلب المصلحة، ولو فرض أن فيهم من تحفظ من ذلك، فإنه يعوَّض من المغفرة بما يقابلها من الثواب. واستدل به على أفضلية الصلاة على غيرها من الأعمال وذلك بصلاة الملائكة عليه ودعائهم له بالرحمة والمغفرة والتوبة، كما في رواية ابن ماجه. وعلى تفضيل صالحي الناس على الملائكة, لأنهم يكونون في تحصيل الدرجات بعباداتهم، والملائكة مشغولون بالاستغفار والدعاء لهم. وقوله: "رجل أعجمي" أي: غير فصيح بالعربية، كان عربي الأصل أم لا، ويحتمل أن يكون هذا الأعجمي هو الحضرمي الذي تقدم ذكره في باب: لا تقبل صلاة بغير طهور. وقوله: "قال: الصوت" كذا فسره، ويؤيده الزيادة المذكورة في رواية أبي داود وغيره، حيث قال: "لا وضوء إلا من صوتٍ أو ريح"، فكانه قال: لا وضوء إلا من ضراط أو فُساء، وإنما خصها بالذكر دون ما هو أشد منهما لكونهما لا

رجاله أربعة

يخرج من المرء غالبًا في المسجد غيرهما، فالظاهر أن السؤال وقع عن الحدث الخاص، وهو المعهود وقوعه غالبًا في الصلاة كما مرَّ عند ذكر الحديث في الباب السابق ذكره. رجاله أربعة: الأول: آدم بن أبي إياس مرَّ تعريفه في الحديث الثاني من كتاب الإيمان. والثاني: ابن أبي ذِئب مرَّ أيضًا في الحديث الستين من كتاب العلم. ومرَّ تعريف سعيد المقْبُري في الحديث الثالث والثلاثين من كتاب الإيمان. وتعريف أبي هُريرة في الثاني منه. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة، ورواته كلهم مدنيون إلا آدم، فإنه أيضًا دخلها، ومر ذكر من أخرجه في أول حديث من كتاب الوضوء.

الحديث الثاني والأربعون

الحديث الثاني والأربعون حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لاَ يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا". قد مرَّ الكلام مستوفى غاية الاستيفاء على هذا الحديث في باب لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن، وأورده هنا لظهور دلالته على حصر النقض بما يخرج من السبيلين، وقد مر توجيه إلحاق بقية النواقض بهما قريبًا. رجاله خمسة: الأول: أبو الوليد وهو هشام بن عبد الملك الطّيالسيّ على ما جزم به في "فتح الباري"، قال: وإن كان هشام بن عمّار يُكنى أيضًا أبا الوليد ويروي عنه البخاري. وهو يروي عن ابن عُيينة، وقد مر تعريفه في الحديث العاشر من كتاب الإيمان، ويحتمل أن يكون: هشام بن عمار بن نُصَيْر -مصغرًا- بن مَيْسرة بن أبان السُّلَمي، ويقال الظَّفَري أبو الوليد الدِّمشقي خطيب المسجد الجامع بها. وثقه ابن مَعين، والعجلي، والنَّسائي قائلًا: لا بأس به. وعظمه أحمد بن أبي الحَوَاري، قال: إذا حدثت في بلد فيه مثل هشام يجب للحِيْتي أن تُحلق. وقال أبو زُرعة الرازي: من فاته هشام بن عمار يحتاج أن ينزل في عشرة آلاف حديث. وقال أبو علي المُقرىء: لما توفي أيوب بن تميم في سنة بضع وستين ومئة، رجعت الإمامة إلى رجلين، أحدهما مشتهر بالقرآن والضبط، وهو عبد الله بن

ذَكْوان، والآخر مشتهر بالعقل والفصاحة والرواية والعلم والدراية وهو هشام بن عمّار، وقد رُزق كبر السن، وصحة العقل والرأي. فأخذ عنه الناس قديمًا، منهم: أبو عبيد القاسم ابن سَلام، روى عنه قبل وفاته بنحو من أربعين سنة، وكان عبد الله بن ذكران يفضله ويرى مكانه فلما مات ابن ذكوان اجتمع الناس على هشام. وأبو علي هذا ليس بثقة في النقل. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال الدّارقطني: صدوق كبير المحل. وقال عَبدان: ما كان في الدنيا مثله. وقال أبو حاتم: لما كبر هشام تغير، فكل ما دُفع إليه قرأه، وكل ما لُقِّن تلقن، وكان قديمًا أصح، كان يقرأ من كتابه. وقال أبو داود: سليمان بن عبد الرحمن خير منه، حدث هشام بأربع مئة حديث مسنده ليس لها أصل. وقال ابن وارة: عزمت زمانًا أن أمسك عن حديث هشام, لأنه كان يبيع الحديث. وقال صالح بن محمد: كان يأخذ على الحديث، ولا يحدث ما لم يأخذ. وقال عبد الله بن محمد بن سَيار: كان هشام يلقِّن، وكان يلقن كل شيء ما كان من حديثه، وكان يقول: أنا قد خرّجت هذه الأحاديث صحاحًا، وقال الله تعالى {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} [البقرة: 181]، وكان يأخذ على كل ورقتين درهمين، ويشارط، ولما لمته على التلقين، قال: أنا أعرف حديثي. ثم قال لي بعد ساعة: إن كنت تشتهي أن تعلم فأدخل إسنادًا في شيء، فتفقدت الأسانيد التي فيها قليل اضطراب، فسألته عنها، فكان يمر فيها. وقال أبو المستضيء: رأيت هشامًا إذا مشى أطرق في الأرض حياءً من الله تعالى، وقال أبو بكر أحمد بن المعلّى بن يزيد القاضي: رأيت هشام بن عمار في النوم، والمشايخ متوافرون وهو يكنس، فماتوا وبقي آخرهم. وقال أحمد بن حَنبل: هشام طيّاش خفيف، وذكر له قصة في اللفظ بالقرآن، أنكر عليه أحمد حتى قال: إن صلوا خلفه فليعيدوا الصلاة.

لطائف إسناده

وقال في "الزُّهِرة": روى عنه البخاري أربعة أحاديث. وقال ابن حجر في "مقدمته": لم يخرِّج عنه البخاري في "صحيحه" سوى حديثين، أحدهما في البيوع من حديث أبي هريرة كان تاجر يداين الناس ... إلخ وهو عنده من حديث إبراهيم بن سعد، عن الزُّهري. والثاني: في مناقب أبي بكر عنه، من حديث أبي الدرداء، بمتابعة عبد الله بن العلاء. وعلق عنه في الأشربة حديثًا في تحريم المعازف. روى عن: معروف الخياط أبي الخطاب الدِّمشقي صاحب واثلة، وصَدَقة ابن خالد، ومالك بن أنس، والوليد بن مسلم، وابن عُيينة، وخلق. وروى عنه: البخاري، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وروى الترمذي عن البخاري عنه، وابنه أحمد بن هشام، وشيخاه الوليد بن مسلم ومحمد بن شَبيب، وابن سعد، وأبو عُبيد القاسم بن سَلام، ومَؤمّل نجن الفضل الحرّاني، ويحيى بن مَعين. وماتوا قبله، وخلق كثير. مات بدمشق آخر المحرم سنة خمس وأربعين ومئتين. الثاني: سفيان بن عُيينه، وقد مر في الحديث الأول من بدء الوحي. والثالث: ابن شِهاب الزُّهري، ومر تعريفه في الحديث الثالث من بدء الوحي، ومر عبّاد بن تميم وعمه عبد الله بن زيد في الحديث الثالث من كتاب الوضوء هذا. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة، ورواته أئمة أجلاء، وهم ما بين بصري وكوفي ومدني، أخرجه البخاري هنا، وفي الطهارة أيضًا عن علي بن عبد الله، وفي البيوع عن أبي نُعيم. ومُسلم في الطهارة عن أبي بكر ابن أبي شَيبة. وأخرجه أبو داود فيها أيضًا عن قتيبة، والنَّسائي فيها أيضًا عن قتيبة، ومحمد بن منصور وابن ماجه فيها أيضًا عن محمد بن صباح.

الحديث الثالث والأربعون

الحديث الثالث والأربعون حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ مُنْذِرٍ أَبِى يَعْلَى الثَّوْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدٍ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: كُنْتُ رَجُلاً مَذَّاءً، فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَمَرْتُ الْمِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: "فِيهِ الْوُضُوءُ". وهذا الحديث مرَّ الكلام عليه مستوفى غاية الاستيفاء في باب: من استحيا فأمر غيره بالسؤال. وأورده هنا لدلالته على إيجاب الوضوء من المذي، وهو خارج من أحد المخرجين. رجاله ستة، وفيه ذكر المقداد بن الأسود. الأول: قُتيبة بن سعيد وقد مر في الحديث الثاني والعشرين من كتاب الإيمان، ومر تعريف الأعمش في الحديث السادس والعشرين منه، وتعريف جرير بن عبد الحميد في الحديث الثاني عشر من كتاب العلم، وتعريف منذر بن يَعْلى أبي يَعْلى ومحمد بن الحنفية والمقداد بن الأسود في الحديث الثاني والسبعين منه، ومر علي بن أبي طالب في الحديث السابع والأربعين منه. وقد مر ذكر المواضع التي أُخرج فيها في ذكره في الحديث الثاني والسبعين من كتاب العلم. ورواه شعبة عن الأعمش. وهذا وصله أبو داود الطيالسي في "مسنده" عن شعبة بالإسناد المذكور. وشعبة مر تعريفه في الحديث الثالث من كتاب الإيمان, وتعريف الأعمش في الحديث السادس والعشرين منه.

الحديث الرابع والأربعون

الحديث الرابع والأربعون حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ أَخْبَرَهُ أَنْ زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَأَلَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِذَا جَامَعَ فَلَمْ يُمْنِ؟ قَالَ عُثْمَانُ يَتَوَضَّأُ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلاَةِ، وَيَغْسِلُ ذَكَرَهُ. قَالَ عُثْمَانُ: سَمِعْتُهُ مِنْ النّبيّ -صلى الله عليه وسلم-. فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ عَلِيًّا، وَالزُّبَيْرَ، وَطَلْحَةَ، وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ فَأَمَرُوهُ بِذَلِكَ. قوله: "قلت" بتاء المتكلم على سبيل الالتفات من الغيبة إلى التكلم، بقصد حكايته لفظه بعينه، وإلا فكان أسلوب الكلام أن يقول: قال: قلت. وقوله: "أرايتَ" أي: أخبرني. وقوله: "إذا جامع" أي الرجل امرأته كما هو صريح الرواية الآتية في الغسل، وكامرأته أمته. وقوله: "فلم يُمن"، وفي رواية: "ولم يُمن" بضم الياء وسكون الميم وقد يُفتح الأول، وقد يُضم مع فتح الميم وشد النون. وقوله: "كما يتوضأ للصلاة" أي: الوضوء الشرعي لا اللغوي، وإنما أمره بالوضوء من غير أن يجب الغسل، إما لكون الجماع مِظنة خروج المذي، أو لملامسة المرأة، وبهذا تظهر مناسبة الحديث للترجمة، من حيث دلالته على وجوب الوضوء من الخارج المعتاد لا على الجزء الآخر، وهو عدم الوجوب في غيره. ولا يلزم أن يدل كل حديث في الباب على كل الترجمة، بل تكفي دلالة البعض على البعض. وقوله: "ويغسِل ذَكره" أي: لتنجيسه برطوبة الفرج، كما تدل عليه ترجمة

البخاري الآتية في الغسل في باب: غسل ما يصيب من رطوبة فرج المرأة. واستدل لذلك بما في الرواية المذكورة هناك من قوله: "بغسل ما مسَّ المرأة منه". فقول القَسْطلاّني: لتنجيسه بالمذي. غير ظاهر لما ذكر. فإن قيل: غسل الذكر متقدم على الوضوء، فلم آخره؟ أجيب بأن الواو لا تدل على الترتيب، بل على مطلق الجمع، ولهذا جاء في الرواية الآتية التصريح بتأخير الوضوء عن غسل الذكر، حيث قال: "يغسل ما مسَّ المرأة منه. ثم يتوضأ ويصلي" فلا فرق بين أن يغسل الذَكَرَ قبل الوضوء أو بعده على وجه لا ينتقض الوضوء معه. وقوله: "فأمروه بذلك" فيه التفات, لأن الأصل أن يقول: أمروني أو: هو مقول عطاء بن يسار، فيكون مرسلًا. وقال الكِرماني: الضمير المرفوع يعود للصحابة، والمنصوب يعود على المجامع الذي في ضمن إذا جامع. وجَزَم بأنه عن عثمان إفتاء ورواية مرفوعة، وعن الباقين إفتاء فقط. قال في "الفتح": وظاهره أنهم أمروه بما أمره به عثمان، فليس صريحًا في عدم الرفع، لكن في رواية الإسماعيلي: "فقالوا، مثل ذلك"، وهذا ظاهره الرفع, لأن عثمان أفتاه بذلك وحدثه به عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، والمثلية تقضي أنهم أفتوه وحدّثوه أيضًا. وقد صرح الإسماعيلي بالرفع في رواية أخرى له، فقال: "فقالوا مثل ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- " لكنه قال: لم يقل ذلك غير يحيى الحِمّاني، وليس هو على شرط هذا الكتاب. وظاهر الحديث وجوب الوضوء على من جامع ولم ينزل لا الغسل، لكن حكى الأثرم عن أحمد أن حديث الباب معلول, لأنه ثَبَتَ عن هؤلاء الخمسة الفتوى بخلاف ما في هذا الحديث. وحكى يعقوب بن أبي شَيْبة عن ابن المديني أنه شاذٌّ. والجواب عن ذلك أن الحديث ثابت من جهة اتصال إسناده وحفظ رواته،

وقد روى ابن عُيينة عن عطاء بن يسار نحو رواية أبي سلمة عنه، كما أخرجه ابن أبي شَيْبة وغيره، فليس هو فردًا، وأما كونهم أفتَوْا بخلافه فلا يقدح في صحته، لاحتمال أنهم ثبت عندهم ناسخه، فذهبوا إليه، وكم من حديث منسوخ وهو صحيح من حيث الصناعة الحديثية. وقد ذهب الجمهور إلى أن ما دل عليه حديث الباب من الاكتفاء بالوضوء إذا لم يُنزل المجامع منسوخ بما دلَّ عليه حديث أبي هريرة عند المصنف: "إذا جَلَس بين شُعبها الأربع وجَهَدَها، وجب الغسل" يقال: جَهَد وأجهد أي: بلغ المشقة، قيل: معناه كدَّها بحركته، أو بلغ جهده في العمل بها. وفي رواية أبي داود وألزَقَ الخِتان بالختان" بدل قوله: "ثم جهدها" وهذا يدل على أن الجهد هنا كناية عن معالجة الايلاج. قال النووي: معنى الحديث أن إيجاب الغسل لا يتوقف على الإنزال. وتعُقِّب بأنه يُحتمل أن يراد بالجهد الإنزال لأنه هو الغاية في الأمر، فلا يكون فيه دليل. والجواب أن التصريح بعدم التوقف على الانزال قد ورد في بعض طرق الحديث المذكور، فانتفى الاحتمال. ففي رواية مسلم عن الحسن في آخر هذا الحديث: "وإن لم يُنْزل"، وفي رواية قَتادة أيضًا عن أبي خيثمة في "تاريخه": "أنزل أو لم يُنزل"، وكذا رواه الدّارقطني وصححه، وأبو داود الطَّيالسي. وبحديث عائشة أيضًا عند البيهقي: "إذا التقى الختان فقد وجب الغسل"، ورواه ابن ماجه عن عائشة، ورواه مسلم عنها بلفظ: "ومسَّ الختان الختان". والمراد بالمس والالتقاء المحاذاة، ويدل عليه رواية الترمذي بلفظ: "إذا جاوز"، وليس المراد بالمس حقيقته لأنه لا يُتصور عند غيبة الحشفة, لأن ختانها في أعلى الفرج فوق مخرج البول الذي هو فوق مدخل الذكر، ولا يمسُّه الذكر في الجماع، فالمراد تغييب حشفة الذكر، ولو حصل المسُّ قبل الإِيلاج لم يجب الغسل بالاجماع.

ومن الدليل على النسخ صريحًا ما أخرجه أحمد وغيره عن الزُّهري عن سهل بن سعد، قال: حدثني أُبي بن كعب أن الفُتيا التي كانوا يقولون: "الماء من الماء". رخصة كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رخص بها في أول الإِسلام، ثم أمر بالاغتسال بعد. صححه ابن خُزيمة وابن حِبّان، وقال الإسماعيلي هو صحيح على شرط البخاري، إلا أنهم اختلفوا في كون الزُّهري سمعه من سعد، نعم، أخرجه أبو داود، وابن خُزيمة أيضًا من طريق أبي حازم عن سهل، وهو حديث صريح في النسخ، على أن حديث: "الغسل وإن لم ينزل" أرجح من حديث: "الماء من الماء", لأنه بالمنطوق، وترك الغسل من حديث "الماء من الماء" بالمفهوم أو بالمنطوق أيضًا، لكن ذاك أصرح منه. وحديث: "إنما الماء من الماء" أخرجه مسلم مطولًا عن أبي سعيد الخُدري، وفيه قصة عُتبان بن مالك، واقتصر البخاري على القصة دون قوله: "الماء من الماء". ورواه أبو داود، وابن خُزيمة، وابن حِبّان، والنسائي، وابن ماجه، وغيرهم. وروى ابن أبي شَيْبة وغيره عن ابن عباس أنه حمل حديث: "الماء من الماء" على صورة مخصوصة، وهي ما يقع في المنام من رؤبة الجماع، وهو تأويل يجمع بين الحديثين من غير تعارض. وفي قوله: "الماء من الماء" جناس تام، والمراد بالماء الأول ماء الغسل، وبالثاني المني. وذكر الشافعي أن كلام العرب يقتضي أن الجنابة تُطلق بالحقيقة على الجماع، وإن لم يكن معه إنزال، فإن كل من خوطب بأن فلانًا أجنب من فلانة، علم بأنه أصابها وإن لم ينزل. قال: ولم يُخْتَلَف أن الزنى الذي يجب به الجلد هو الجماع ولو لم يكن معه إنزال. وقال ابن العربي: إيجاب الغسل بالايلاج بالنسبة إلى الإنزال، تطير

رجاله أحد عشر

إيجاب الوضوء بمس الذكر بالنسبة إلى خروج البول، فهما متفقان دليلًا وتعليلًا. ولا يقال: إذا كان منسوخًا كيف يصح الاستدلال به, لأنا نقول المنسوخ منه عدم وجوب الغُسل، وناسخه الأمر بالغسل، وأما الأمر بالوضوء باق بخروج المذي في الغالب، أو ملامسة الموطوءة كما مرَّ. رجاله أحد عشر: الأول: سعد بن حَفْص الطَّلْحي أبو محمد الكوفي المعروف بالضَّخْم مولى آل طلحة. روى عن: شيبان النَّحوي. وروى عنه: البخاري، وروى له النسائي بواسطة ميمون بن عباس الرافِقِيّ، وأبو شيبة ابن أبي بكر بن أبي شيبة، وعبد الله الدّرِامي، والذُّهلي، والدُّوري، وحفص بن عُمر بن الصباح، وغيرهم. ذكره ابن حِبان في "الثقات". وقال الدارقطني: ثقة. وقال مطين: مات سنة ستة عشر ومئتين، وكان ثقة. والثاني: شيبان بن عبد الرحمن أبو معاوية النَّحوي مر تعريفه في الحديث الثالث والخمسين من كتاب العلم، وكذلك يحيى بن أبي كثير. ومر أبو سلمة في الحديث الرابع من بدء الوحي، ومر عطاء بن يسار في الحديث الثالث والعشرين من كتاب الإيمان. وزيد بن خالد في الحديث الثالث والثلاثين من كتاب العلم. وعثمان بن عفّان في باب ما يُذكر في المناولة بعد الحديث الخامس من كتاب العلم. وعلي في الحديث السابع والأربعين منه. والزُّبير بن العوام في الثامن والأربعين منه أيضًا. وأبي بن كعب في الحديث السادس عشر منه. وطلحة بن عُبيد الله في الحديث الأربعين من كتاب الإيمان.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة والاخبار والسؤال والقول، وفيه: ثلاثة من التابعين، اثنان من كبار التابعين وهما: أبو سلمة وعطاء، والصغير يحيى بن أبي كثير، وفيه صحابيّان يروي أحدهما عن الآخر وهما: زيد وعثمان. ورواته ما بين كوفي وبصري ومدني. أخرجه البخاري هنا، ومسلم في الطهارة عن زُهير بن حَرْب.

الحديث الخامس والأربعون

الحديث الخامس والأربعون حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ هُو ابنُ مَنْصُور قَالَ: أَخْبَرَنَا النَّضْرُ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ ذَكْوَانَ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَرْسَلَ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ فَجَاءَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "لَعَلَّنَا أَعْجَلْنَاكَ؟ ". فَقَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا أُعْجِلْتَ أَوْ قُحِطْتَ، فَعَلَيْكَ الْوُضُوءُ". قوله: "أرسل إلى رجل من الأنصار" ولمسلم وغيره: "مرَّ على رجل" فيحمل على أنه مر به، فأرسل إليه، وهذا الأنصاري هو عُتبان بن مالك كما في "مسلم"، ووقعت القصة أيضًا لرافع بن خديج وغيره أخرجه أحمد وغيره، لكن الأقرب في تصير المبهم الذي في "البخاري" أنه عُتبان بن مالك، وقد جاء تعريف عُتبان في التاسع والعشرين من استقبال القبلة، وتعريف رافع بن خُديج في السادس والثلاثين من مواقيت الصلاة. وقوله: "ورأسه يقطرُ" أي: ينزل منه الماء قطرة قطرة من أثر الاغتسال، وهي جملة وقعت حالًا من ضمير جاء، وإسناد القَطْر إلى الرأس مجازٌ، كسال الوادي. وقوله: "لعلّنا أعجلناك" أي: عن فراغ حاجتك من الجماع. وقوله: "فقال: نعم" وفي رواية: "قال، أي: الرجل: نعم" مقررًا لما قيل، أي: أعجلتني. وقوله: "إذا أُعْجِلتَ بضم الهمزة وكسر الجيم، وفي رواية أبي ذرٍّ بضم العين وكسر الجيم الخفيفة من غير همز، وفي رواية: "عُجِّلْت" كذلك مع

رجاله ستة

تشديد الجيم. وقوله: "أو أُقحِطت" بضم الهمزة، وكسر الحاء، أي: لم تُنزل، وفي رواية بضم القاف وكسر الحاء من غير همز، وفي رواية: "أو أَقْحَطت" بفتح الهمزة والحاء، وكذا المسلم، يقال: أقحط الرجل: إذا جامع ولم يُنزل، ويقال: قُحِط الناس وأَقْحَطوا إذا حُبس عنهم المطر، ومنه استعير ذلك لتأخير الإنزال. قال الكِرْماني: ليس قوله: "أو" للشك، بل هو لبيان عدم الإنزال، سواء كان بحسب أمر من ذات الشخص أم لا، أو للشك من الراوي. وقوله: "فعليك الوضوء" بالرفع مبتدأ، خبره الجار والمجرور، وبالنصب على الإغراء أو المفعولية, لأنه اسم فعل. وقد مر في الحديث الذي قبله أن هذا الحكم منسوخ، وبنسخه قال أبو بكر وعُمر وعلي وعائشة وابن مَسعود وابن عبّاس وابن عُمر وأصحاب المذاهب الأربعة وأتباعهم. وفي الحديث جواز الأخذ بالقرائن, لأن الصحابي لما أبطأ عن الإجابة مدة الاغتسال، خالف المعهود منه وهو سرعة الإجابة للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما رأى عليه أثر الغسل، دلَّ على أن شُغله كان به، واحتُمِل أن يكون نزع قبل الإنزال ليسرع الإجابة، أو كان أنزل فوقع السؤال عن ذلك. وفيه استحباب الدوام على الطهارة، لكون النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يُنكر عليه تأخير إجابته، وكان ذلك قبل إيجابها، إذ الواجب لا يُؤخر للمستحب. وقد كان عُتبان طلب من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يأتيه فيصلي في بيته في مكان يتخذه مصلّى، فأجابه كما سيأتي في موضعه، فيُحتمل أن تكون هي هذه الواقعة، وقدَّم الاغتسال ليكون للصلاة معه. رجاله ستة: الأول: إسحاق بن منصور مر في الحادي والعشرين من كتاب العلم، ومر

لطائف إسناده

النَّضْر بن شُميل في متابعة الحديث السابع عشر من كتاب الوضوء، ومر شعبة في الحديث الثالث من كتاب الإيمان، والحَكَم بن عُتيبة في الثامن والخمسين من كتاب العلم، ومر أبو صالح في الحديث الثاني من كتاب الإيمان، وأبو سعيد الخُدري في الثاني عشر منه. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة والإخبار، ورواته ما بين مَرْوزيّ وبَصْري وواسِطي وكوفي ومدني. أخرجه البخاري هنا فقط، ومسلم وابن ماجه في الطهارة عن أبي بكر بن أبي شيبة. تابعة وهب قال: حدثنا شعبة وهذه المتابعة وصله أبو العباس السراج في مسنده عن زياد بن أيوب ووهب. هو وَهْب بن جرير بن حازِم بن زيد بن عبد الله بن شُجاع الأزْدي أبو العباس البَصْري الحافظ. قال فيه سليمان بن داود القزاز: قلت لأحمد: أريد البصرة عمّن أكتب؟ قال: عن وَهْب بن جرير، وأبي عامر العَقَدي، وقال: عثمان أحب إلى منهما، ووهب رجل صالح الحديث. وقال الآجُريّ: سمعت أبا داود يحدث عن وَهْب بن جرير ورَوْح بن عُبادة وعثمان بن عمر، قال: وهب بن أبي وهب الجيشاني: قال أبو داود جرير بن حازم: روى هذا عن ابن لهيعة، أراه صحيفة اشتبهت على وهب بن جرير. وقال النّسائي: ليس به بأس. قال فيه سليمان بن داود القزاز: قلت لأحمد: أريد البصرة عمّن أكتب؟ قال: عن وَهْب بن جرير، وأبي عامر العَقَدي، وقال: عثمان أحب إلى منهما، ووهب رجل صالح الحديث. وقال الآجُرّي: سمعت أبا داوود يحدث عن وَهْب بن جرير ورَوْح بن عُبادة وعثمان بن عمر، قال: وهب بن أبي وهب الجيشاني:

قال أبو داود جرير بن حازم: روى هذا عن ابن لهيعة، أراه صحيفة اشتبهت على وهب بن جرير. وقال النّسائي: ليس به بأس. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال العِجْلي: بصري ثقة، كان عفان يتكلم فيه. وقال ابن سعد: كان ثقة. وقال ابن حِبّان: كان يُخطىء. وقال أحمد: قال ابن مَهْدي: هاهنا قوم يحدِّثون عن شعبة، ما رأيناهم عنده، يعرِّض بوَهْب. وقال أحمد: ما روى وهب قطُّ عن شعبة، ولكن كان وَهْب صاحب سنة، حدث -زعموا- عن شعبة بنحو أربعة آلاف حديث. قال عفّان: هذه أحاديث عبد الرحمن الرصّاص، شيخ سمع من شعبة كثيرًا، ثم وقع إلى مصر. وقال أحمد بن منصور الرَّمادي: تذاكرت أنا وابن دَارة: أيُّما أثبت وَهْب أو أبو النَّضر، وقلت أنا: وهب. روى في أبيه، وعِكرمة بن عمّار، وهِشام بن حسّان، وابن عَوْن، وهشام الدَّسْتوائي وشُعبة، وخلق. وروى عنه أحمد بن حَنْبل، وعلي بن المَديني، ويحيى بن مَعين، وإسحاق بن راهوية، وهارون الحمال، ومحمود بن غَيْلان، وخلق. مات سنة ست ومئتين بالمنجشانية على ستة أميال من البصرة منصرفًا من الحج، فَحُمل ودُفن بالبصرة. قال أبو عبد الله ولم يقل غندَر ويحيى عن شعبة الوضوء. قال الكِرماني: أي لم يقولا لفظ الوضوء بل قالا: فعليك فقط، بحذف المبتدأ للقرينة المسوِّغة للحذف. والمقدر عند القرينة كالملفوظ. وقال في "الفتح": أما يحيى فهو كما قال، فلفظه عند أحمد: "فليس عليك غسل"، وأما غنْدَر ففي الروايات الآية عنه: "فلا غسل عليك، عليك الوضوء" فكان بعض مشايخ البخاري حدثه به يحيى وغندَر معًا، فساقه له على لفظ يحيى. وشعبة مر تعريفه في الحديث الثالث من كتاب الإيمان, ويحيى المراد به

يحيى بن سعد القطان، وقد مر في الحديث السادس منه أيضًا. وغُنْدَر هو محمد بن جعفر، مرَّ تعريفه في الحديث السادس والعشرين من كتاب الإيمان أيضًا. وحديث غُندر ويحيى عن شعبة أخرجه أحمد بن حَنْبل في "مسنده". وأخرج عنهما حديث غُنْدَر أيضًا مسلم، وابن ماجه، والإسماعيلي، وأبو نُعيم من طرق، وكذا ذكره أبو داود الطّيالسيّ.

باب الرجل يوضىء صاحبه

باب الرجل يوضىء صاحبه الحديث السادس والأربعون حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ يَحْيَى عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا أَفَاضَ مِنْ عَرَفَةَ عَدَلَ إِلَى الشِّعْبِ، فَقَضَى حَاجَتَهُ. قَالَ أُسَامَةُ: فَجَعَلْتُ أَصُبُّ عَلَيْهِ وَيَتَوَضَّأُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُصَلِّي؟ فَقَالَ: "الْمُصَلَّى أَمَامَكَ". قوله: "أصُبُّ عليه" بتشديد الموحدة، ومفعوله محذوف، أي: الماء. وقوله: "ويتوضأ" أي: وهو يتوضأ جملة حالية، واستدل به المصنف على الاستعانة في الوضوء. قال في "الفتح": لكن من يدعي أن الكراهة مختصّة بغير المشقة أو الاحتجاج في الجملة، لا يستدل عليه بحديث أسامة, لأنه كان في السفر، ولا بحديث المُغيرة المذكور. قلت: وأي اضطرار للصبّ في السفر دون الحضر. وقال ابن المنير: قاس البخاري توضئة الرجل غيره على صبه عليه، لاجتماعهما في معنى الإعانة، والفرق بينهما ظاهر، ولم يُفصح البخاري في المسألة بجواز ولا غيره، وهذه عادته في الأمور المحتملة. قلت: ويحتمل عندي أن يكون المراد عند البخاري بتوضئة الرجل صاحبه ما ذكر في الحديث من صبَّ الرجل الماء على صاحبه، فإنه يصدُقُ عليه أنه

رجاله ستة

توضئة لصاحبه. قال النووي: الاستعانة ثلاثة أقسام: إحضار الماء ولا كراهة فيه أصلًا، لكن الأفضل خلافه كما قال في "الفتح"، ثم قال: الثاني مباشرة الأجنبي الغسل، وهذا مكروه إلا لحاجة. الثالث: الصب، وفيه وجهان: أحدهما يكره، والثاني خلاف الأوْلى. وتُعُقِّب بأنه إذا ثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- فعله لا يكون خلاف الأولى. وأجيب بأنه قد يفعله لبيان الجواز، فلا يكون في حقه خلاف الأوْلى بخلاف غيره. قلت: من أين للقائل بأن فعله لبيان الجواز، وأين ثبوت النهي عنه حتى يصحَّ أنْ يكون فعله لذلك، ولم يروِ حديث في النهي إلاّ ما رُوي أنه عليه الصلاة والسلام قال: "أنا لا أستعينُ في وضؤلي بأحدٍ"، وأنه قاله عليه الصلاة والسلام لعمر، وقد بادر لصب الماء عليه. فقد قال النووي في "شرح المهذب": إنه حديث باطل لا أصل له. ولهذا قال الجلال المحلّي: إنه ليس فيه خلاف الأولى، وهذا هو مذهب المالكية في صب الماء على الشخص، وأما مباشرته لغسل غيره فعندهم تجوز للضرورة ولغير ضرورة تمنع الاستنابة ولا تجزىء. وقال الكِرماني: إذا كان الأَولى تركه، كيف يُنازع في كراهته. وأجيب بأن كلَّ مكروه، فعله خلاف الأولى من غير عكس، إذا لمكروه يُطلق على الحرام بخلاف الآخر. وقد استوفينا الكلام على هذا الحديث غاية الاستيفاء عند ذكره في باب إسباغ الوضوء. رجاله ستة: الأول: محمد بن سلام البِيكَنْدي، وقد مر في الثالث عشر من الإيمان، ومر يحيى بن سعيد الأنصاري في الحديث الأول من بدء الوحي. ومر كُرَيب في

لطائف إسناده

الرابع من الوضوء, وموسى بن عُقبة وأسامة بن زَيْد في الخامس منه، ويزيد بن هارون في الخامس عشر منه. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والإخبار والعنعنة، وفي رواية ثلاثة من التابعين في نسق واحد، وهم يَحْيى وموسى وكُريب، وهو من أوساط التابعين، ورواته ما بين بيكَنْدي وواسطي ومدني. ووقع لابن المنير في هذا الإسناد وهم، فإنه قال فيه ابن عباس عن أسامة بن زيد، وليس كذلك، وإنما هو من رواية كُريب مولاه عن أسامة بن زيد. أخرجه البخاري هنا، وأخرجه في الطهارة أيضًا عن القَعْنَبي، وفي الحجِّ عن يوسف، عن مالك، وعن مسدد. ومسلم في الحج عن يَحْيى بن يحيى، وأبو داود في الطهارة عن القَعْنَبي، والنسائي فيها عن محمود بن غَيْلان.

الحديث السابع والاربعون

الحديث السابع والاربعون حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَنَّ نَافِعَ بْنَ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ عُرْوَةَ بْنَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ يُحَدِّثُ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي سَفَرٍ، وَأَنَّهُ ذَهَبَ لِحَاجَةٍ لَهُ، وَأَنَّ مُغِيرَةَ جَعَلَ يَصُبُّ الْمَاءَ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ. قوله: "إنه كان" أدّى عُروة معنى كلام أبيه بعبارة نفسه، وإلّا فكأن السياق يقتضي أن يقول: قال: إني كُنْتُ. وكذا قوله: "وإن المغيرةَ جعلَ"، ويُحتمل أن يقال: هو التفات على رأي، فيكون عُروة أدّى لفظ أبيه. وقوله: "في سفرٍ، وإنه ذهب لحاجة له" الضمير في "إنه" وفي قوله: "له" للنبي -صلى الله عليه وسلم-. والسفر المذكور، في "المغازي" أنه كان في غزوة تبوك على تردد في ذلك من بعفرواته، ولمالك وأحمد وأبي داود أنه كان في غزوة تبوك بلا تردد، وإن ذلك عند صلاة الفجر. وفي الرواية الآتية في المسح على الخفين: "فاتَّبعه المغيرة بإداوة فيها ماء"، واتَّبعه بتشديد المثناة المفتوحة. وللمصنف عن المغيرة في الجهاد وغيره أن النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الذي أمره أن يتَّبعه بالإِدواة، وزاد: "فانطلق حتى توارى عني، فقضى حاجته، ثم أقبل فتوضأ"، وعند أحمد عن المغيرة أن الماء الذي توضأ به أخذه المغيرة من أعرابيّة، صبته له من قُربة كانت جلد ميتة، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: "سَلْها، فإن كانت دبَغَتها فهو طهور"، وأنها قالت: إي والله، لقد دبغتها.

وقوله: "جعل يصبُّ الماء عليه وهو يتوضأ" في الرواية الآتية: "فصب عليه حين فَرَغَ من حاجته، فتوضأ"، زاد في الجهاد: "وعليه جُبّة شاميّة", ولأبي داود: "من صوفٍ من جباب الروم". وقوله: "فَغَسَل وجهه ويديه" الفاء في فغسل تفصيلية، وتَبَيَّن من ذلك أن قوله: "توضأ" المراد به بالكيفية المذكورة، لا أنه غسل رجليه. واستدل به القُرطبي على الاقتصار على فروض الوضوء دون سننه، لاسيَّما في حال مِظنّة قلة الماء كالسفر، قال: ويُحتمل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- فعلها فلم يذكرها المغيرة، والظاهر خلافه. قال في "الفتح": بل فعلها، وذكرها المغيرة، ففي رواية أحمد أنه: "غسل كفيه"، وله من وجه آخر قوي: "فغسلهما، فأحسن غسلهما" قال: وأشك أقال: دلكهما بتراب أم لا. وللمصنف في الجهاد أنه: "تمضمض، واستنشق، وغسل وجهه" زاد أحمد: "ثلاث مرات، ثم ذهب يُخرج يديه من كميه، فكانا ضيِّقين، فأخرجهما من تحت الجُبة"، ولمسلم من وجه آخر: "وألقى الجُبة على منكبيه"، ولأحمد: "فغسل يده اليمنى ثلاث مرات، ويده اليسرى ثلاث مرات". وقوله: "ومسح رأسه ومسح على الخُفَّين"، وفي رواية لمسلم: "ومسح بناصيته، وعلى عِمامته، وعلى الخُفين"، وللمصنف فيما يأتي في باب إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان: "فأهَويَت لأنزَع خُفَّيه، فقال: دعهما فإني أدخلتُهُما طاهِرتين، فمسح عليهما". وحديث المغيرة هذا ذكر البزّار أنه رواه عنه ستون رجلًا. قلت في: "الفتح": وقد لخِّصْتُ مقاصد طرقه الصحيحة في هذه القطعة. قلت: وأنا لخَّصت ما لخصه تبعًا له في ذلك، والمراد منه هنا عند المصنف الاستدلال به على الاستعانة.

قال ابن بطال: هذا من القُربات التي يجوز للرجل أن يعملها من غيره بخلاف الصلاة، قال: واستدلَّ البخاري من صبِّ الماء عليه عند الوضوء على أنه يجوز للرجل أن يوضئه غيره, لأنه لما لزم المتوضىء الاغتراف من الماء لأعضائه، وجاز له أن يكفيه غيره ذلك بالصب، والاغتراف بعض عمل الوضوء، كذلك يجوز في بقية أعماله. وتعقبه ابن المُنير بأن الاغتراف من الوسائل لا من المقاصد, لأنه لو اغترف ثم نوى أن يتوضأ جاز، ولو كان الاغتراف عملًا مستقلًا لكان قد أخّر النية عليه، وذلك لا يجوز وحاصله التفرقة بين الإعانة بالصبِّ وبين الإعانة بمباشرة الغير لغسل الأعضاء، والحديثان دالاّن على عدم كراهة الاستعانة بالصبِّ، وكذا إحضار الماء من باب الأولى، وأما المباشرة فلا دِلالة فيهما عليها. قلت: قد مر ذلك قريبًا ما أبديته مما يصحُّ أن يكون هو مُراد البخاري، وما رواه أبو جعفر الطبري عن ابن عمر أنه كان يقول: ما أُبالي من أعانني على طُهوري أو على رُكوعي وسُجودي. محمول على الإِعانة بالمباشرة لا الصبِّ، بدليل ما رواه الطبري أيضًا وغيره، عن مجاهد أنه كان يسكُبُ على ابن عمر وهو يغسِلُ رجليه. وقد روى الحاكم في "المستدرك" عن الرُّبَيِّع بنت مُعَوِّذ أنها قالت: أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بوضوء، فقال: "اسكبي" فسكبت عليه، وهذا أصرح في عدم الكراهة من الحديثين المذكورين، لكونه في الحضر، ولكونه بالطلب، لكنه ليس على شرط البخاري. وفي الحديث من الفوائد باعتبار طرقه المتقدمة غير ما مر: الإبعاد عند قضاء الحوائج، والتواري عن الأعين، واستحباب الدّوام على الطهارة لأمره -صلى الله عليه وسلم- المغيرة أن يتبعه بالماء، مع أنه لم يستنج به، وإنما توضأ به حين رجع. وفيه غسل ما يُصيب اليد من الأذى عند الاستجمار، وأنه لا تكفي إزالته بغير الماء، والاستعانة على إزالة الرائحة بالتراب ونحوه. وفيه الانتفاع بجلود الميتة إذا دُبغت، والانتفاع بثياب الكفار حتى تتحقق

رجاله سبعة

نجاستها, لأنه -صلى الله عليه وسلم- لبس الجُبة الرومية ولم يستفصل. واستدل به القُرطبي على أن الصوف لا ينجس بالموت, لأن الجبة كانت شامية، وكانت الشام إذ ذاك دار كفر، ومأكول أهلها الميتات. وفيه الرد على من زعم أن المسح على الخُفَّين منسوخ بآية الوضوء التي في المائدة, لأنها نزلت في غزوة المُرَبْسيع، وكانت هذه القصة في غزوة تبوك، وهي بعدها باتفاق. وفيه التَّشمير في السفر، ولبس الثياب الضيقة فيه، لكونها أعون على ذلك. وفيه المواظبة على سُنن الوضوء حتى في السفر. وفيه قبول خبر واحد في الأحكام، ولو كانت امرأة، سواء أكان ذلك مما تعم به البلوى أم لا, لأنه -صلى الله عليه وسلم- قبل خبر الأعرابية. وفيه أن الاقتصار على غسل معظم المفروض غسله لا يُجزىء، لاخراجه -صلى الله عليه وسلم- يديه من تحت الجُبة، ولم يكتف فيما بقي منهما بالمسح عليه. وقد يستدل به من ذهب إلى وُجوب تعميم مسح الرأس، لكونه كمَّلَ بالمسح على العِمامة، ولم يكتفِ بالمسح على ما بقي من الرأس. رجاله سبعة: الأول: عمرو بن علي بن بَحْر -مكبر- ابن كُنَيْز -مصغر- الباهلي أبو حَفْص البَصْري الصَّيرفي الفلاّس. قال أبو حاتم: كان أرشق من علي بن المديني، وهو بَصري صدوق. وقال العَنْبري: ما تعلمت الحديث إلا من عمرو بن علي. وقال حجاج بن الشاعر: عمرو لا يُبالي أحدَّث من حفظه أو من كتابه. وقال النّسائي: ثقة، صاحب حديث، حافظ. وحكى ابن مُكْرَم بالبصرة: ما قدم علينا بعد علي بن المديني مثل عَمْرو بن علي. وقال أبو زُرعة: كان من فرسان الحديث. وقال الدّارقطني:

كان من الضُّباط، وبعض أصحاب الحديث يفضّلوله على ابن المديني ويتعصَّبون له، وقد صنف "المسند" و"العلل" و"التاريخ" وهو إمام متقنٌ. وذكره ابن حِبّان في "الثقات". وقال إبراهيم بن أرومة الأصبهاني: حدّث عمرو بن علي بحديث عن يحيى القطان، فبلغه أن بُندار قال: ما نعرف هذا من حديث يحيى. قال أبو حفص: وبَلَغَ بُندار إلى أن يقول: ما نعرف؟ قال إبراهيم: وصدق أبو حفص، بُندار رجل صاحب كتاب، وأما أن يأخذ على أبي حفص فلا. وقال صالح جَزَرة: ما رأيت في المحدثين بالبصرة أكيس من خياط، ومن أبي حفص الفلّاس، وكانا جميعًا متَّهَمَين، وما رأيت بالبصرة مثل ابن عَرْعَرة، وكان أبو حفص أرجح عندي منهما. وقال العباس العَنْبري: حدث يحيى بن سعيد القطان بحديث فأخطأ فيه، فلما كان من الغد اجتمع أصحابه حوله، وفيهم ابن المديني وأشباهه، فقال لعمرو بن علي من بينهم: أُخطىء في حديث وأنت حاضر فلا تُنكر؟! وقال مَسْلمة بن قاسم: ثقة حافظ، وقد تكلم فيه علي بن المديني، وطعن في رواية عن يزيد بن زُريع، وإنما طعن فيها لأنه استصغره فيه، وقد كان عمرو بن علي أيضًا يقول في ابن المديني، وقد أجل الله تعالى محلهما عن ذلك، يعني أن كلام الأقران غير معتبر في حق بعضهم بعضًا إذا كان غير مفسّر لا يقدح. روى عن: عبد الوهاب الثَّقفي ويزيد بن زُريع، وأبي داود الطّيالسي، وأبي عاصم النّبيل، ويحيى القَطّان، ويزيد بن هارون، وخلق. وروى عنه: الجماعة، وروى النّسائي عن زكريا السِّجْزي عنه، وأبو زُرعة، وأبو حاتم، وعبد الله بن أحمد، وابن أبي الدنيا، ومحمد بن جرير الطَّبري، وخلق كثير.

مات بالعسكر في آخر ذي الحجة سنة تسع وأربعين ومئتين. الثاني: عبد الوهاب بن عبد المجيد الثَّقَفي مر في التاسع من كتاب الإيمان. الثالث: يحيى بن سعيد الأنصاري مرَّ في الحديث الأول من بدء الوحي. الرابع: سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عَوْف كنيته أبو إسحاق أو أبو إبراهيم، أمه أم كلثوم بنت سعد. كان قاضي المدينة، والقاسم بن محمد حيّ. قال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث. وقال أحمد: ثقة، ولي قضاء المدينة، وكان فاضلًا. وقال ابن مَعين: ثقة لا يُشك فيه. وكذا قال العجلي وأبو حاتم والنسائي. وقال ابن المَديني: كان سعد لا يحدِّث بالمدينة، فلذلك لم يَكْتُب عنه أهل المدينة، ولم يكتب عنه مالك. وقال ابن عُيينة: لما عُزل سعد عن القضاء كان يُتّقى كما كان يُتّقى وهو قاض. وقال الساجيّ: ثقة، أجمع أهل العلم على صدقه والرواية عنه إلاّ مالك، وقد روى مالك عن عبد الله بن إدريس، عن شعبة، عن سعد، وصح باتفاقهم أنه حجة، ويُقال: إن سعدًا وعظ مالكًا، فوجد عليه، فلم يرو عنه. وقال أحمد بن البَرقي: سألت يحيى عن قول بعض الناس في سعد: إنه كان يرى القدر، وترك مالك الرواية عنه، فقال: لم يكن يرى القدر، وإنما ترك مالك الرواية عنه لأنه تكلم في نسبه، فصار مالك لا يروي عنه، وقال أحمد بن حَنْبل: سعد ثقة، فقيل له: إن مالكًا لا يحدِّث عنه، فقال: من يلتفت إلى هذا؟ سعد ثقة، رجل صالح. وقال الساجي: إنما ترك مالك الرواية عنه، فأما أن يكون يتكلّم فيه فلا أحفظه. وقال يعقوب بن إبراهيم عن أبيه: سرد سعد الصوم قبل أن يموت بأربعين سنة. روى عنه رأى ابن عمر. وروى عن: أبيه، وعميه حُميد وأبي سلمة، وابن عم أبيه طلحة ابن عبد الله بن عَوْف، وعن نافع ومحمد ابنَيْ جُبير بن مُطعم، والأعرج، وعُروة،

وابن المُنْكَدر، وخلق. وروى عنه: ابنه إبراهيم، وأخوه صالح، وعبد الله بن جعفر، والزُّهري، وموسى بن عُقبة، واب عُيينة ويحيى بن سعيد الأنصاري، وخلق كثير. مات سنة سبع وعشرين ومئة، وهو ابن اثنين وثمانين سنة. الخامس: نافع بن جُبير بن مُطعم بن عدي بن نَوْفل بن عبد مناف النَّوْفَلي أبو محمد أو أبو عبد الله المدني. قال ابن سعد روى عن أبي هريرة، وكان ثقة، أكثر حديثًا من أخيه، وقال العجلي: مدني تابعي ثقة. وقال ابن خِراش: ثقة مشهور، أحد الأئمة. وذكره ابن حِبَّان في "الثقات"، وقال: من خيار الناس، وكان يحجُّ ماشيًا، وناقته تقاد. وقال ابن المديني: أصحاب زيد بن ثابت الذين كانوا يأخذون عنه ويفتون بفتواه، فذكره فيهم. وقال الكَلاباذي: كان نافع بن جُبير تائهًا فصيحًا عظيم النَّخْوة جهير الكلام، يفخِّم كلامه. روى عن أبيه، والعبّاس بن عبد المطلب، والزُّبير بن العوام، وعلي بن أبي طالب، وعثمان بن أبي العاص، والمُغيرة بن شعبة، وعبد الله بن عبّاس، وعائشة، وأم سلمة، وجماعة. وروى عنه عُروة بن الزُّبير، وسعد بن إبراهيم، والزُّهري، وصالح بن كَيْسان، وعَمْر بن دينار، وموسى بن عُقبة، وخلق. مات في خلافة سُليمان بن عبد الملك سنة تسع وتسعين. السادس: عُروة بن المُغيرة بن شُعبة الثَّقفي أبو يَعْفُور الكوفي. روى عن أبيه وعائشة رضي الله عنهما. وروى عنه: الشعبي، وعبّاد بن زياد، ونافع بن جُبير بن مُطعم، والحسن البَصْري، وغيرهم.

لطائف إسناده

ذكره ابن حِبان في "الثقات"، وقال: كان من أفاضل أهل بيته. وقال الشّيعي: كان خير أهل بيته. وقال العجلي: كوفي تابعي ثقة. وقال خليفةُ بن خياط: ولاّه الحجاج الكوفة سنة خمس وسبعين، وذكره في تسمية عُمّال الوليد على الصلاة بالكوفة. والثَّقَفي في نسبه مر في التاسع من الإيمان. السابع: المُغيرة بن شعبة وقد مر في الحديث الثاني والخمسين من كتاب الإيمان. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث بالجمع والإفراد والإخبار كذلك والسماع والعنعنة، ورواته ما بين بصري وكوفي ومدني، وفيه أربعة من التابعين يروي بعضهم عن بعض، وهو أحسن اللطائف، اثنان منهم تابعيّان صغيران، وهما يحيى وسعد، واثنان وسطان وهما نافع بن جُبير وعُروة بن المغيرة. وفيه رواية الأقران في موضعين: الأول في الصغيرين، والثاني في الوسطين. أخرجه البخاري هُنا وفي الطهارة أيضًا عن عمرو بن خالد، وفي المغازي عن يحيى بن بُكَيْر، وفي الطهارة واللباس عن أبي نُعيم. ومسلم في الطهارة عن قُتيبة وجماعة. وأبو داود في الطهارة عن أحمد بن صالح. والنّسائي فيه عن سليمان بن داود وابن ماجه عن محمد بن رُمح. باب قراءة القرآن بعد الحدث وغيره والحدث: المراد به الأصغر، لما دلّ عليه الحديث المذكور، إذ لو كان المراد الأكبر لما اقتصر على الوضوء ثم صلى، بل كان يغتسل. والضمير في "غيره" يُحتمل أن يرجع للحديث، أي: وغير الحدث من مظانه، ويحتمل أن يرجع للقرآن، أي: وغير القرآن من الذِّكر والسلام والكتابة للقرآن ونحو ذلك، ويلزم الفصل بين المتعاطفين، ولأنه إن جازت القراءة بعد الحدث، فجواز غيرها من الأذكار بطريق الأولى، فهو مستغنى عن ذكره،

بخلاف غير الحدث من نواقض الوضوء. وقال منصور عن إبراهيم لا بأس بالقراءة في الحمَّام. خُصّ الحمّام بالذكر لأن القارىء فيه يكون محدثًا في الغالب. وقد روى سعيد بن منصور عن حمّاد بن أبي سليمان، قال: سألت إبراهيم عن القراءة في الحمّام، فقال: يكره ذلك. وإسناد الأول أرجح. وروى ابن المنذر عن علي قال: بئس البيتُ الحمّام، يُنزع فيه الحياء، ولا تقرأ فيه آية من كتاب الله. وهذا لا يدُلُّ على كراهة القراءة، وإنما هو إخبار بما هو الواقع، بأن شأن مَن يكون في الحمام أن يلتهي عن القراءة. وحكيت الكراهة عن أبي حنيفة، وخالفه صاحبه محمد بن الحسن ومالك، فقال: لا يُكره, لأنه ليس فيه دليل خاص. وبه صرَّح صاحب "العدة" و"البيان" من الشافعية. وقال النووي في "التبيان" عن الأصحاب: لا تكره، فأطلق. وفي "شرح الكفاية" للصَّيمْري: لا ينبغي أن يقرأ. وسوّى الحَليمي بينه وبين القراءة حال قضاء الحاجة. ورجّح السُّبكي الكبير عدم الكراهة، واحتجّ بأن القراءة مطلوبة، والاستكثار منها مطلوب، والحدث يكثر، فلو كُرهت لفات خير كثير، ثم قال حكم القراءة في الحمام إن كان القارىء في مكان نظيف، وليس فيه كشف عورة لم يكره، وإلا كُراه. وهذا التعليق وصله سَعيد بن منصور، عن أبي عَوانة، عن منصور، مثله. ورواه عبد الرزاق، عن الثَّوري، عن منصور. ومنصور هو منصور بن المُعْتَمِر، مرَّ تعريفه في الحديث الثاني عشر من كتاب العلم. وإبراهيم بن يزيد مر في الحديث السادس والعشرين من الإيمان. ويكتب الرسالة على غير وضوء. في رواية الأكثر بلفظ مُضارع كتب، وفي رواية كريمة بـ"كَتْبِ" بموحدة مكسورة وكاف مفتوحة، عطفًا على قوله: "بالقراءة".

وهذا الأثر وصله عبد الرزاق، عن الثوري، عن منصور قال: سألت إبراهيم: أأكتب الرسالة على غير وضوء؟ قال: نعم. وقوله: "على غير وضوء" يتعلق بالكتابة لا بالقراءة في الحمّام، ولما كان من شأن الرسائل أن تصدر بالبسملة، وقد يكون فيها ذكر أو قرآن، توهّم السائل أن ذلك يكره لمن كان على غير وضوء, لكن يمكن أن يُقال: إن كاتب الرسالة لا يقصد القراءة، فلا يستوي مع القراءة. ويُحتمل أن يكون قوله: "على غير وضوء" متعلق بالمعطوف والمعطوف عليه, لأنهما كشيء واحد. وقال حماد عن إبراهيم إن كان عليهم إزار فسلم وإلا فلا تسلم. وقوله: "إن كان عليهم" أي: على الذين في داخل الحمام للتطهير. وقوله: "إزار" المراد به الجنس، أي: على كل واحد منهم إزار، وهو اسم لما يُلبس في النصف الأسفل. وقوله: "وإلا فلا تسلِّم" أي: وإن لم يكن عليهم إزار فلا تُسلِّم عليهم. والنهي عن السلام عليهم إما إهانة لهم لكونهم على بدعة، وإما لكونه يستدعي منهم الرد، والتلفظ بالسلام فيه ذكر الله, لأن السلام من أسمائه، وإن لفظ سلام عليكم من القرآن، والمتعرّي من الإزار مشابه لمن هو في الخلاء، وبهذا التقرير يتوجه ذكر هذا الأثر في هذه الترجمة. وهذا التعليق وصله الثوري في "جامعه" عنه. وإبراهيم مرّ في الحديث السادس والعشرين من الإيمان. وحماد هو ابن أبي سُليمان مَسْلمة الأشعري مولاهم أبو إسماعيل الكوفي الفقيه. قال القطّان: حماد أحب إليَّ من مغيرة. وكذا قال ابن مَعين، وقال حماد: ثقة. وقال أبو حاتم: حماد صدوق لا يُحتج بحديثه، وهو مستقيم في الفقه، فإذا جاء الآثار شوّش. وقال العجلي: كوفي ثقة، وكان أفقه أصحاب إبراهيم

وقال المُغيرة: قلت وإبراهيم: إن حمادًا قعد يفتي، فقال: وما يمنعه أن يفتي، وقد سألني هو وحده عمّا لم تسألوني كلكم عن عُشره. وقال ابن شُبْرُمة: ما أحد آمن على علم من حماد. وقال مَعْمر: ما رأيت أفقه من هؤلاء: الزُّهري، وحماد، وقتادة. وقال شعبة: كان صدوق اللسان. وقال مرة: كان لا يحفظ. وقال النسائي: ثقة إلا أنه مُرجىء. وقال داود الطائي: كان سخيًّا على الطعام، جوادًا بالدنانير والدراهم. وقال ابن عَديّ: وحماد كثير الرواية خاصة عن إبراهيم، ويقع في حديثه أفراد وغرائب، وهو متماسك في الحديث لا بأس به. وقال الثوري: كان الأعمش يلقى حمادًا حين تكلم في الإرجاء، فلم يكن يسلم عليه. وقال المغيرة: حَجَّ حماد بن أبي سُليمان، فلما قدم أتيناه، فقال: أبشروا يا أهل الكوفة، رأيت عطاء وطاووسًا ومجاهدًا، فصبيانكم، بل صبيان صبيانكم أفقه منهم، قال المغيرة: فرأينا ذلك بغيًا منه. وقال ابن سعد: كان ضعيفًا في الحديث، واختلط في آخر أمره، وكان مرجئيًّا، وكان كثير الحديث، إذا قال برأيه أصاب، وإذا قال عن غير إبراهيم أخطأ. وقال الذُّهلي: كثير الخطأ والوهم. وقال شُعبة: كنت مع زبير فمررنا بحماد، فقال: تنحَّ عن هذا، فإنه قد أحدث. وقال الإِمام مالك: كان الناس عندنا هم أهل العراق، حتى وثب إنسان يُقال له حماد، فاعترض هذا الدين، فقال فيه برأيه. روى عن: أنس، وزيد بن وَهْب، وسعيد بن المسيِّب، وسعيد بن جُبير، وإبراهيم النَّخَعي، وعبد الرحمن بن سَعْد مولى آل عمر. وروى عنه: ابنه إسماعيل، وعاصم الأحول، وشعبة، والثَّوري، وحماد بن مَسْلمة، وأبو حَنيفة، والأعمش، وغيرهم. مات سنة عشرين ومئة. والأشعري في نسبه مر في الرابع من الإيمان.

الحديث الثامن والأربعون

الحديث الثامن والأربعون حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ بَاتَ لَيْلَةً عِنْدَ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَهِيَ خَالَتُهُ فَاضْطَجَعْتُ فِى عَرْضِ الْوِسَادَةِ، وَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَهْلُهُ فِي طُولِهَا، فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ اللَّيْلُ، أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ، اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَجَلَسَ يَمْسَحُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَرَأَ الْعَشْرَ الآيَاتِ الْخَوَاتِيمَ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى شَنٍّ مُعَلَّقَةٍ، فَتَوَضَّأَ مِنْهَا فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقُمْتُ فَصَنَعْتُ مِثْلَ مَا صَنَعَ، ثُمَّ ذَهَبْتُ، فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى رَأْسِي، وَأَخَذَ بِأُذُنِي الْيُمْنَى، يَفْتِلُهَا، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَوْتَرَ، ثُمَّ اضْطَجَعَ، حَتَّى أَتَاهُ الْمُؤَذِّنُ، فَقَامَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الصُّبْحَ. قوله: "فاضطجعت" قائل ذلك هو ابن عباس، وفيه الثقات, لأن أسلوب الكلام يقتضي أن يقول: "فاضطجع" لأنه قال: قبل ذلك: "أنه بات"، أو يقدر: قال: فاضطجعت. وقوله: "في عَرض الوسادة" بفتح العين على المشهور، وبالضم، وأنكره أبو الوليد الباجي من جهة النقل والمعنى، قال: لأن العُرض -بالضم- هو الجانب، وهو لفظ مشترك، لكن لما قال: "في طولها" تعيَّن المراد، وقد صحت به الرواية، فلا وجه لإنكاره. وقوله: "حتى انتصف الليل" وفي رواية غير الأصيلي: "حتى إذا انتصف".

وقوله: "استيقظَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" إن جُعلت إذا ظرفية، "فقَبْلَه" ظرف لاستيقظ، أي: استيقظ وقت الانتصاف أو قبله. وإن خعلت شرطية، فمنعلق بفعل مقدر، واستيقظ جواب الشرط، أي: حتى إذا انتصف الليل أو كان قبل الانتصاف واستيقظ. وقوله: "يمسح النوم عن وجهه بيده" بالإفراد، أي: يمسح عينيه بيده من باب إطلاق اسم الحال على المحل, لأن المسح لا يقع إلا على العين، والنوم لا يُمسح، أو أثر النوم من باب إطلاق السبب على المسبب، وليس أثر النوم من النوم كما قال العيني, لأن الأثر غير المؤثر، فالمراد بالأثر ارتخاء الجفون من النوم ونحوه. وقوله: "ثم قرأ العشر الآيات" من إضافة الصفة للموصوف، واللام تدخل على العدد المضاف، نحو: الثلاثة الأثواب. وقوله: "الخواتيم" بالنصب صفة للعشر المنصوب بقرأ، أولها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ... إلى آخر السورة}. وقوله: "ثم قام إلى شَنٍّ معلقة" بفتح الشين المعجمة، وتشديد النون، القربة الخلقة من أدم، وجمعه شِنان بكسر أوله. وذكر الشَّن باعتبار الأدم أو الجلد أو الوعاء، وأنّث الوصف باعتبار القربة. وقوله: "فأحسن وضوءه" أي: أتمّة بأن أتى بمندوباته، ولا يُعارض هذا قوله في باب التخفيف في الوضوء: "وضوءً خفيفًا" لأنه يحتمل أن يكون أتى بمندوباته جميعًا مع التخفيف، أوكان كل منهما في وقت، وهذا بعيد لاتحاد الحديث، وقد مر هناك معنى التخفيف. وقوله: "وأخذ باذني اليمنى يفتِلُها" أي: يدلِّكُها تنبيهًا عن الغفلة عن أدب الائتمام وهو القيام عن يمين الإِمام إذا كان الإِمام وحده، أو تأنيسًا له لكون ذلك كان ليلًا.

وقد مرَّ في باب السمر في العلم جميع فوائد هذا الحديث مستوفاة عند ذكره هناك. وقوله: "فصلّى رَكْعتين ثم ركعتين ... إلخ" ومجموع ما صلى اثنتا عشرة ركعة، وهو يقيد المطلق في قوله في باب التخفيف: "ثمَّ صلى ما شاء الله". وقوله: "ثم أوتَرَ" يعني: بواحدة، أو بثلاث كما قيل بكلٌّ، فقد أخرج البخاري عن القاسم، عن عبد الله ببن عُمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "فإذا أردتَ أن تنصرف فاركع ركعةً تُوتر لك ما صلَّيت"، قال القاسم: ورأينا أناسًا منذ أدركنا يوترون بثلاثٍ، وإن كلاًّ لواسع، وأرجو أن لا يكون بشيء منه بأس. وفي قوله: "فإذا أردت أن تنصرف" ردٌّ لقول من ادّعى أن الوتر بواحدة مختص بمن خشي طلوع الفجر, لأنه علقه بإرادة الانصراف، وهو أعم من أن يكون لخشية طلوع الفجر أو غير ذلك، وما جاء في حديث ابن عُمر: "فإذا خشي أحدكم الصّبح صلى ركعة واحدة" محمول على خروج وقت الوتر بطلوع الفجر. وقول القاسم: "يوتِرون بثلاث ... إلخ" يقتضي أن القاسم فهم من قوله: "فاركَعْ ركعةً" أي: منفردة منفصلة، ودل ذلك على أن لا فرق عنده بين الوصل والفصل. واستُدل بقوله في حديث ابن عمر: "صلِّ ركعة واحدة"، على أن فصل الوتر أفضل من وصله، وتُعُقِّب بأنه ليس صريحًا في الفصل فيُحتمل أن يريد بقوله: "صلِّ ركعة واحدة" أي: مضافة إلى ركعتين مما مضى. واحتجَّ بعض الحنفية لما ذهب إليه من تعيين الوصل والاقتصار على ثلاث بأن الصحابة أجمعوا على أن الوتر بثلاث موصولة حسنٌ جائز، واختلفوا فيما عداه. قال: فأخذنا بما أجمعوا عليه، وتركنا ما اختلفوا فيه. وتعقَّبه محمد بن نصر المَرْوَزي بما رواه عن أبي هريرة مرفوعًا وموقوفًا: "لا

تُوتروا بثلاث تُشبهوا بصلاة المغرب" وقد صححه الحاكم عن أبي هُريرة مرفوعًا نحوه، وإسناده على شرط الشيخين. وقد صحح ابن حِبان والحاكم من طريق مِقْسم عن ابن عباس وعائشة كراهية الوتر بثلاث. وأخرجه أيضًا النسائي. وعن سُليمان بن يَسار أنه كره الثلاث في الوتر، وقال: لا يشبه التطوع الفريضة، فهذه الآثار تقدح في الإجماع الذي نقله. وقال محمد بن نصر: لم نجد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- خبرًا ثابتًا صريحًا أنه أوتر بثلاث موصولة، نعم ثبت عنه أنه أوتر بثلاث، لكن لم يبين الراوي هل هي موصولة أو مفصولة. ورُدّ عليه بما رواه الحاكم عن عائشة: "أنه عليه الصلاة والسلام كان يوتر بثلاث لا يقعد إلا في آخرهن ". وروى النسائي نحوه عن أبي بن كعب بلفظ: "يوتر بسبَّح اسم ربك الأعلى، وقل يا أيها الكافرون، وقُل هو الله أحد، ولا يسلم إلا في آخرهن". ويبين في عدة طرق أن السور الثلاث بثلاث ركعات. ويجاب عنه باحتمال أنهما لم يثبتا عنده. والجمع بين هذا وبين ما تقدم من النهي عن التشبه بصلاة المغرب، أن يُحتمل النهي على صلاة الثلاث بتشهدين، وقد فعله السلف، فروى محمد بن نَصْر أن عمر كان ينهض في الثالثة من الوتر بالتكبير. ومن طريق المِسْوَر بن مَخْرمة: أن عمر أوتر بثلاث لم يسلم إلا في آخرهن. ومن طريق ابن طاووس عن أبيه أنه كان يوتر بثلاث لا يقعد بينهنَّ. وروى محمد بن نَصْر عن ابن مسعود وأنس وأبي العالية أنهم أوتروا بثلاث كالمغرب. وكأنهم لم يبلغهم النهي المذكور. وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن بكر بن عبد الله المُزني قال: صلى ابن عُمر ركعتين، ثم قال: يا غلام ارحل لنا، ثم قام فأوتر بركعة. وروى الطّحاوي عن سالم بن عبد الله، عن أبيه أنه كان يفصل بين شَفْعه ووتره بتسليمة، وأخبر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يفعله. وإسناده قوي. ولم يعتذر الطحاوي عنه إلا باحتمال أن يكون المراد من قوله: "بتسليمة"

أي: التسليمة التي في التشهد. ولا يخفى بُعد هذا التأويل. وحديث عائشة: "يسلِّم من كل ركعتين" تدخل فيه الركعتان اللتان قبل الأخيرة، فهو كالنص في محل النزاع. وحمل الطحاوي هذا ومثله على أن الركعة مضمومة على الركعتين قبلها، ولم يتمسك في دعوى ذلك إلا بالنهي عن البُتَيْراء، مع احتمال أن يكون المراد بالبُتَيْراء أن يوتر بواحدة فردة ليس قبلها شيء، وهو أعم من أن يكون مع الوصل أو الفصل. وصرح كثير منهم بأن الفصل يقطعهما عن أن يكونا من جملة الوتر، ومن خالفهم يقول: إنهما منه بالنية. وقول القاسم بن محمد السابق: إن كلًّا من الأمرين واسع يشمل الوصل والفصل، والاقتصار على واحدة وأكثر. وقال الكِرماني قوله: "وإن كلاًّ" أي: وإن كل واحدة من الركعة والثلاث والخمس والسبع وغيرها جائز، وأما تعيين الثلاث موصولة ومفصولة فلم يشمَلْه كلام؛ لأن المخالف من الحنفية يحمل كل ما ورد من الثلاث على الوصل، مع أن كثيرًا من الأحاديث ظاهر في الفصل كما مر عن عائشة وغيرها. واستُدلَّ بقوله في الحديث: "تُوتر له ما قد صلَّى" على أن الركعة الأخيرة هي الوتر، وأن كل ما تقدمها شفع، وادّعى بعض الحنفية أن هذا إنما يُشرع لمن طرقه الفجر قبل أن يوتر، فيكتفي بواحدة لقوله: "فإذا خشي الصبح" فيحتاج إلى تعين الثلاث، وقد مرَّ ما ذُكر في ذلك عن القاسم. واستدل به المالكية على تعيُّن الشفع قبل الوتر بناء على أن قوله: "ما قد صلى" من النفل، وحملُه من لا يشترط سبق الشفع على ما هو أعم من الفرض والنفل، وقالوا: إن سَبْق الشفع شرط في الكمال لا في الصحة، ويؤيد العمل الأول أن قوله: "توتر له ما قد صلى" وارد في حال صلاة النفل في جميع الأحاديث، فلا يصح حمله على الفرض، واستدل الآخرون بما أخرجه أبو داود والنسائي وصححه ابن حِبان والحاكم عن أبي أيوب مرفوعًا: "الوتر حقٌ فمن شاء

أوتر بخمس، ومن شاء بثلاث، ومن شاء بواحدة" وصح عن جماعة من الصحابة أنهم أوتروا بواحدة من غير تقدم نفل قبلها، ففي كتاب محمد بن نَصْر بإسناد صحيح عن السّائب بن يزيد أن عثمان قرأ القرآن ليلة في ركعة لم يصلِّ غيرها. ويأتي في المغازي عن عبد الله بن ثعلبة أن سعدًا أوتر بركعة. ويأتي في المناقب أن معاوية أوتر بواحدة، وأن ابن عباس استَصْوَبه، فقول ابن التين: إن الفقهاء لم يأخذوا بعمل معاوية في ذلك. كانه أراد به فقهاءهم. وقد قال أبو حنيفة بوجوب الوتر مستدلاًّ على وجوبه بما أخرجه أحمد عن معاذ مرفوعًا: "زادني ربّي صلاة، وهي الوتر، وقتها من العشاء إلى طلوع الفجر" وفي إسناده ضعف، وكذا في حديث خارجة بن حُذافة في "السنن"، وليس صريحًا في الوجوب. وأما حديث بُريدة رفعه: "الوتر حقُ، فمن لم يُوتر فليس منا" وأعاد ذلك ثلاثًا، ففي سنده أبو المُنيب وفيه ضعف، وعلى تقدير قبوله فيحتاج من احتجَّ به إلى أن يثبت أن لفظ حق بمعنى واجب في عرف الشارع، وأن لفظ واجب بمعنى ما ثبت من طريق الآحاد. وقد بالغ الشيخ أبو حامد، فادّعى أن أبا حنيفة انفرد بوجوب الوتر، ولم يوافقه صاحباه، مع أن ابن أبي شَيْبة أخرج عن سعيد بن المسيِّب، وأبي عبيدة ابن عبد الله بن مسعود، والضّحاك ما يدل على وجوبه عندهم. وعنده عن مجاهد: الوتر واجب. ولم يثبت، ونقله ابن العربي عن أصبغ من المالكية، ووافقه سُحنون، وكأنه أخذه من قول مالك: من تركه أُدِّب وكان جرحة في شهادته. واستدل الجمهور على عدم وجوب الوتر بما في حديث ابن عمر عند المصنف: "يصلي في السفر على راحلة حيث توجهت به، يومىء إيماءً, صلاة الليل إلا الفرائض، ويوتر على راحلته" فقالوا: إن صلاته على الراحلة دليل على أن الوتر ليس بفرض، وعلى أنه ليس من خصائص النبي -صلى الله عليه وسلم- وجوب الوتر عليه، لكونه أوقعه على الراحلة. وأما قول بعضهم: إنه كان من خصائصه أيضًا أن يوقعه على الراحلة مع

كونه واجبًا عليه، فهي دعوى لا دليل عليه؛ لأنه لم يثبت دليل وجوبه عليه حتى يحتاج إلى تكلف هذا الجمع. واستُدِلَّ به على أن الفريضة لا تصلّى على الراحلة. قال ابن دقيق العيد: وليس ذلك بقوي؛ لأن الترك لا يدل على المنع، إلا أن يقال: إن دخول وقت الفريضة مما يكثر على المسافر، فتركُ الصلاة لها على الراحلة دائمًا يُشعر بالفرق بينها وبين النافلة في الجواز وعدمه. وأجاب من ادَّعى وجوب الوتر من الحنفية بأن الفرض عندهم غير الواجب، فلا يلزم من نفي الفرض نفي الواجب، وهذا يتوقف على أن ابن عُمر كان يفرق بين الفرض والواجب. واستدل الحنفية على وُجوب الوتر بقول عائشة: "فإذا أراد أن يوتر أيقظني فاوترت" قالوا: إنه سلك به مسلك الواجب حيث لم يدعها نائمة، وأبقاها في التهجد. ورُدَّ بأنه لا يلزم من ذلك الوجوب، نعم يدل على تأكد أمر الوتر، وأنه فوق غيره من النوافل الليلية. وقال الطحاوي: ذُكر عن الكوفيين أن الوتر لا يُصلّى على الراحلة، وهو خلاف السنة الثابتة، واستدل بعضُهم برواية مجاهد: أنه رأى ابن عمر نزل فأوتر. وليس ذلك بمعارِض لكونه أوتر على الراحلة، لكونه لا نزاع أن صلاته على الأرض أفضل. وروى عبد الرزاق من وجه آخر عن ابن عمر أنه كان يُوتر على راحلته، وربما نزل فأوتر بالأرض. ومباحث الوتر كثيرة، ويأتي إتمامها عند ذكره في باب الحلق والجلوس في المسجد من أبواب المساجد. وتأتي بقية قليلة في محله من أبواب الوتر. وقوله: "ثم خرج فصلى الصبح" يعني: بأصحابه، قال ابن بطّال ومن تبعه: فيه دليل على ردَّ من كره قراءة القرآن على غير طهارة؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- قرأ هذه الآيات بعد قيامه من النوم قبل أن يتوضأ. وتعقّبه ابن المنير تبعًا للاسماعيلي بأن

رجاله خمسة

ذلك مفرَّغٌ على أن النوم في حقه ينقض، وليس كذلك؛ لأنه قال: "تنام عيناي ولا ينام قلبي"، وأما كونه توضأ بعد ذلك، فلعله جدَّد الوضوء أو أحدث بعد ذلك فتوضأ، وهذا تعقُّب جيد بالنسبة إلى قول ابن بطّال بعد قيامه من النوم؛ لأنه لم يتعين كونه أحدث في النوم، لكن لما عقَّب ذلك بالوضؤء كان ظاهرًا في كونه أحدث. ولا يلزم من كون نومه لا ينقُض وضوءه أن لا يقع منه حدث وهو نائم، نعم خصوصيته أنه إن وقع منه شعر به، بخلاف غيره. وما ادَّعوه من التجديد وغيره الأصل عدمه. وقد روى مسلم من حديث ابن عمر كراهة ذكر الله بعد الحدث، لكنه على غير شرط المصنف. والأظهر أن مناسبة الحديث للترجمة من جهة أن مضاجعة الأهل في الفراش لا تخلو من الملامسة. وقد قال السُّبكي الكبير بعد أن ذكر اعتراض الإسماعيلي: لعل البخاري احتجَّ بفعل ابن عباس بحضرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو اعتبر اضطجاعه عليه الصلاة والسلام مع أهله واللمس يُنقض الوضوء وعورض هذا بأنه -صلى الله عليه وسلم- كان يقبِّل بعض أزواجه ثم يصلي ولا يتوضأ رواه أبو داود والنسائي. وأجيب بان المذهب الجزم بانتقاضه به كما قال النووي، ولم يرد المؤلف أن مجرد نومه ينقض؛ لأن في آخر هذا الحديث عنده في باب التخفيف في الوضوء ثم اضطجع، فنام حتى نفخ، ثم صلَّى. رجاله خمسة: الأول: إسماعيل بن أبي أُويس، وقد مر في الخامس عشر من كتاب الإيمان. والثاني: الإِمام مالك بن أنس، وقد مرَّ في الحديث الثاني من بدء الوحي. ومرَّ عبد الله بن عباس في الرابع منه أيضًا. ومر مولاه كُريب في الحديث الرابع من كتاب الوضوء.

لطائف إسناده

والرابع: من السند مَخْرمة بن سُليمان الأسَدي الوَالبي المدني. روى عن: ابن عباس، وابن الزُبير، وأسماء بنت أبي بكر، والسائب بن يزيد، وكُريب مولى ابن عبّاس، وغيرهم. وروى عنه: عمرو بن شُعيب ومات قبله، وعبد ربَّه بن سعيد، ومالك بن أنس، وعبد الرحمن بن أبي الزِّناد، وغيرهم. قال ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال ابن سَعْد: كان قليل الحديث. وذكره ابن حِبّان في "الثقات". قتلته الحرورية بقديد سنة ثلاثين ومئة وهو ابن سبعين سنة. والوالبي في نسبه مر في الخامس من بدء الوحي ومر الأسَدي في السادس من الإيمان. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث بالجمع والإفراد والعنعنة والإِخبار، ورواته مدنيون كلهم، وفيه رواية الرجل عن خاله وهو إسماعيل عن مالك. أخرجه البخاري هنا وفي الصلاة أيضًا عن عبد الله بن يوسف، وعن أحمد عن ابن وهب، وفي الوتر عن القَعْنَبي، وفي التفسير عن قُتيبة وعلي بن عبد الله، ومسلم في الصلاة عن يحيى بن يحيى وجماعة، وأبو داود عن القعنبي وعبد الملك بن شعيب، والترمذي في الشمائل عن قُتيبة بن سعيد، وابن ماجه في الطهارة عن أبي بكر بن خلّاد. باب من لم يتوضأ إلا من الغشي المثقل الاستثناء مفرغ، والمُثْقِل -بضم الميم وسكون المثلثة وكسر القاف، ويجوز فتحها- وأشار المصنف بذلك إلى الرد على من أوجب الوضوء من الغِشي مطلقًا، والتقدير: باب من لم يتوضأ من الغشي إلا إذا كان مثقلًا.

الحديث التاسع والأربعون

الحديث التاسع والأربعون حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنِ امْرَأَتِهِ فَاطِمَةَ عَنْ جَدَّتِهَا أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهَا قَالَتْ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ خَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَإِذَا النَّاسُ قِيَامٌ يُصَلُّونَ، وَإِذَا هِيَ قَائِمَةٌ تُصَلِّي فَقُلْتُ: مَا لِلنَّاسِ؟ فَأَشَارَتْ بِيَدِهَا نَحْوَ السَّمَاءِ وَقَالَتْ: سُبْحَانَ اللَّهِ!. فَقُلْتُ: آيَةٌ، فَأَشَارَتْ أَيْ نَعَمْ. فَقُمْتُ حَتَّى تَجَلاَّنِي الْغَشْيُ، وَجَعَلْتُ أَصُبُّ فَوْقَ رَأْسِي مَاءً، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "مَا مِنْ شَيْءٍ كُنْتُ لَمْ أَرَهُ إِلاَّ قَدْ رَأَيْتُهُ فِى مَقَامِي هَذَا حَتَّى الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِى الْقُبُورِ مِثْلَ أَوْ قَرِيبًا مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ لاَ أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ: يُؤْتَى أَحَدُكُمْ فَيُقَالُ مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ أَوِ الْمُوقِنُ لاَ أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ: فَيَقُولُ: هُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، فَأَجَبْنَا وَآمَنَّا وَاتَّبَعْنَا، فَيُقَالُ: نَمْ صَالِحًا، فَقَدْ عَلِمْنَا إِنْ كُنْتَ لَمُؤْمِنًا، وَأَمَّا الْمُنَافِقُ أَوِ الْمُرْتَابُ لاَ أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ: فَيَقُولُ لاَ أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ. وهذا الحديث قد مر استيفاء الكلام عليه بما لا مزيد عليه عند ذكره في باب الفُتيا بالإشارة باليد والرأس. رجاله ستة: الأول: إسماعيل بن أبي أُوَيس وقد مر في الحديث الخامس عشر من كتاب الإيمان، ومر الإمام مالك وهشام بن عُروة في الحديث الثاني من بدء الوحي، وكذلك عائشة أم المؤمنين، ومر تعريف فاطِمة بنت المُّنذر بن الزُّبير

لطائف إسناده

بن العوَّام وجدتها أسماء بنت أبي بكر الصديق في الحديث الثامن والعشرين من كتاب العلم. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع والإفراد والعنعنة والقول، ورواته كلهم مدنيون، وفيه رواية الأقران: هشام وامرأته فاطمة. أخرجه البخاري هنا، وفي الطهارة عن إسماعيل، وفي الكسوف عن عبد الله بن يوسُف، وفي الاعتصام عن القَعْنَبي، وفي العلم عن مُوسى بن إسماعيل، وفي الجهاد وفي السمر عن يحيى بن سليمان. وأخرجه مسلم في الصلاة عن أبي كُريب وغيره. باب مسح الرأس كله وفي رواية المستملي الاقتصار على مسح الرأس وإسقاط لفظ: "كله لقوله تعالى {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ}. أي: امسحوا رؤوسكم كلها، فالباء زائدة عند المؤلف ومالك. وقال ابن المسيِّب المرأة بمنزلة الرجل تمسح على رأسها. ولفظه: "الرجل والمرأة في المسح سواء"، ونُقل عن أحمد قال: يكفي المرأة مسح مقدم رأسها. وسعيد بن المسيِّب مر تعريفه في الحديث التاسع عشر من كتاب الإيمان، وأثر هذا وصله ابن أبي شَيْبة في "مصنفه" من طريق وكيع. وسُئِلَ مالِكٌ أيُجْزِىءُ أن يَمْسَحَ بعضَ الرأْسِ فاحْتَجّ بحَدِيثِ عبدِ اللهِ بن زَيْدٍ. والامام مالك مر تعريفه في الحديث الثاني من بدء الوحي، وعبد الله بن زيد مر في الحديث الثالث من كتاب الوضوء هذا.

والسائل للإمام مالك هو إسحاق بن عيسى بن الطباع بيّنه ابن خُزيمة في "صحيحه"، وابن الطباع هذا هو إسحاق بن عيسى بن نُجيح البغدادي أبو يعقوب بن الطبّاع نزيل أَذنة. روى عن: مالك، والحمادّيْن، وشَريك، وابن لهيعة، وهُشيم، وجرير بن حازم، وغيرهم. وروى عنه: أحمد، وأبو خيثمة، والذُّهلي، ويعقوب بن شيبة، ومحمد بن رافع، والحارث بن أبي أسامة، وجماعة. قال البخاري: مشهور الحديث. وقال صالح بن محمد، لا بأس به صدوق، وقال أبو حاتم: أخوه محمد أحب إلى منه، وهو صدوق. وقال الخليلي: إسحاق ومُحمد ولدا عيسى متفق عليهما، ثقتان. مات سنة أربع عشرة ومئتين.

الحديث الخمسون

الحديث الخمسون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ وَهُوَ جَدُّ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى: أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تُرِيَنِي كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَتَوَضَّأُ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ: نَعَمْ. فَدَعَا بِمَاءٍ، فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَ يَدَهُ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلاَثًا، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثًا، ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ، فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ، حَتَّى ذَهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِى بَدَأَ مِنْهُ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ. ولفظ الحديث المحتج به: عن عبد الله بن زيد، قال: "مسح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في وضوئه من ناصيته إلى قفاه، ثم ردَّ يديه إلى ناصيته، فمسح رأسه كله"، وهذا السياق أصرح للترجمة من الذي ساقه المصنف. وموضع الدلالة من الآية والحديث أن لفظ الآية مجمل؛ لأنه يُحتمل أن يُراد منها مسح الكل على أن الباء زائدة، أو مسح البعض على أنها تبعيضية، فتبَّين بفعل النبي -صلى الله عليه وسلم- أن المراد الأول، ولم يُنقل عنه أنه مسح بعض رأسه إلا في حديث المغيرة أنه مسح على ناصيته وعمامته، فإن ذلك دلَّ على أن التعميم ليس بفرض، فعلى هذا فالإِجمال الذي المسند إليه لا في الأصل. وقوله: "عن أبيه" أي: أبي عُثمان يحيى بن عمارة بن أبي حسن. وقوله: "أن رجلًا" هو عمرو بن أبي حسن كما سمّاه المصنف في الحديث الذي بعد هذا، وعلى هذا فقوله هنا: "وهو جدُ عمرو بن يحيى" فيه تجوُّز؛ لأنه عم أبيه، وسمَّاه جدًّا لكونه في منزلته، ووهم من زعم أن المراد بقوله: "وهو"

أي: عبد الله بن زيد؛ لأنه ليس جدًّا لعمرو بن يحيى لا حقيقة ولا مجازًا. وأما قول من قال: إن عمرو بن يحيى ابن بنت عبد الله بن زيد. فغلط تُوُهِّم من هذه الرواية. وقد ذكر ابن سعد أن أم عمرو بن يحيى هي حَميدة بنت محمد بن إياس بن البُكير، وقال غيره: هي أم النُّعمان بنت أبي حيّة. وقد اختلف رواة "الموطأ" في تعيين هذا السائل، وأما أكثرهم فأبهمه. قال مَعْن بن عيسى، عن عمرو، عن أبيه أنه سمع أبا حسن وهوجد عمرو بن يحيى، قال لعبد الله بن زيد -وكان من الصحابة- فذكر الحديث. وقال مُحمد بن الحسن الشَّيْباني عن مالك، حدثنا عمرو، عن أبيه يحيى أنه سمع جده أبا حسن يسأل عبد الله بن زيد. وقال الشافعي في "الأم" عن مالك، عن عمرو، عن أبيه، أنه قال لعبد الله بن زيد. وفي رواية الإسماعيلي، عن مالك، عن عمرو، عن أبيه، قال: قلت لعبد الله. والذي يجمع هذا الاختلاف أن يقال: اجتمع عند عبد الله بن زيد أبو حسن الأنصاري وابنه عمرو، وابن ابنه يَحْيى بن عمارة بن أبي حسن، فسألوه عن صفة وضؤ النبي -صلى الله عليه وسلم- وتولّى السؤال منهم له عمرو بن أبي حسن فحيثُ نُسب إليه السؤال كان على الحقيقة، ويؤيده رواية سُليمان بن بلال عند المصنف في باب الوضوء من التَّوْر، قال: حدثني عمرو بن يحيى، عن أبيه، قال: كان عمي عمرو بن أبي حسن يُكثر الوضوء، فقال لعبد الله بن زيد: أخبرني، فذكره. وكذا في رواية الدَّراوَرْدي عند أبي نُعيم في "المستخرج" عن عمرو بن يحيى, عن أبيه، عن عمه عمرو بن أبي حسن، قال: كنت كثير الوضوء، فقلت لعبد الله بن زيد إلخ. وحيث نُسِب السؤال إلى أبي حسن فعلى المجاز أيضًا، لكونه كان الأكبر وكان حاضرًا. وحيثُ نسب السؤال ليحيى بن عَمارة فعلى المجاز أيضًا، لكونه ناقل الحديث، وقد حضر السؤال. وفي رواية لمسلم عن خالد الواسِطىّ، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد قال: قيل له: توضأ لنا. فذكره مبهمًا. وفي رواية الإسماعيلي، عن خالد المذكور بلفظ: قلنا له. وهذا يؤيد الجمع المتقدم من كونهم اتفقوا على سؤاله، لكن متولي السؤال منهم

عمرو بن أبي حسن. وقوله: "أتستطيعُ" فيه ملاحظة الطالب للشيخ، وكأنه أراد أن يريه بالفعل ليكون أبلغ في التعليم، وسبب الاستفهام ما قام عنده من احتمال أن يكون الشيخ نسي ذلك لبعد العهد. وقوله: "فدعا بماءٍ" وفي رواية وَهْب في الباب الذي بعده: "فدعا بتَوْرٍ من ماء". وقوله: "فأفرغ" أي: صبَّ من الماء، وفي رواية وَهْب: "فاكفأ" بهمزتين، وفي رواية وُهَيب الآتية: "فكَفَأَ" بفتح الكاف، وهي لغتان، يقال: كفأ الإناء وأكفاه إذا أماله. وقال الكِسائي: كفأتُ الإناء كببتُه، وأكفأتُه أملته. والمراد في الموضعين إفراغ الماء من الإناء على اليد كما صرح به في رواية مالك. وقوله: "فغسل يده مرتين" هكذا في رواية مالك بإفراد يده، وفي رواية وُهَيب وسليمان بن بلال عند المصنف والدَّراوردي عند أبي نُعيم: "فغسل يديه" بالتثنية، فيُحتمل الإفراد عند مالك على إرادة الجنس. وعند مالك مرتين، وعند هؤلاء ثلاثًا، وكذا عند مسلم من رواية خالد بن عبد الله، وهؤلاء حفاظ، وقد اجتمعوا، فزيادتهم مقدمة على الحافظ الواحد. ولا يقال: يُحتمل على واقعتين؛ لأنّا نقول: المخرج متحد، والأصل عدم التعدُّد. والمراد باليدين هنا الكفَّان لا غير. وفي رواية لمسلم من طريق حبَّان بن وَاسِع، وعن عبد الله بن زيد، أنه رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- توضأ، وفيه: "وغسل يده اليمنى ثلاثًا، ثم الأخرى ثلاثًا" فيُحمل على أنه وضوء آخر، لكون مخرج الحديثين غير متحد. وقوله: "ثم مَضْمَض واستنثر ثلاثًا" وللكُشْميهني: "مضمض واستنشق" والاستنثار يستلزم الاستنشاق بلا عكس، وقد ذكر في رواية وُهَيْب الثلاثة، وزاد بعد قوله: "ثلاثًا، بثلاث غرفات"، واستدل به على استحباب الجمع بين

المضمضة والاستنشاق من كل غَرْفة. وفي رواية خالد بن عبد الله الآتية قريبًا: "مضْمضَ واستنشق من كفٍّ واحدة" فعل ذلك ثلاثًا، وهو صريح في الجمع في كل مرة، بخلاف رواية وُهَيْب، فإنها تطرقَّها احتمال التوزيع بلا تسوية، وفي رواية سليمان بن بلال في باب الوضوء من التَّورْ: "فمضمضَ واستنشق ثلاث مرات من غَرْفةٍ واحدة"، واستدل بها على الجمع بغَرْفة واحدة. وفي رواية خالد المذكورة عند مسلم: "ثم أدخل يده، فاستخرجها، فمضمض"، فاستُدل بها على تقديم المضمضة على الاستنشاق، لكونه عطف بالباء التعقيبية، وفيه بحث. وقد مرَّ الكلام على المضمضة والاستنشاق متفرقًا في مواضع ذكرهما. وقوله: "ثم غسل وجهه ثلاثًا" لم تختلف الروايات في ذلك. قال في "الفتح" ويلزم من استدل بهذا الحديث على وجوب تعميم مسح الرأس أن يستدلَّ به على وجوب الترتيب، للإتيان بقوله: "ثم" في الجميع؛ لأن كلاًّ من الحكمين مجملٌ في الآية بينته السنة. ويجاب عن هذا بأن الآية دلَّت على عدم وجوب الترتيب للعطف فيها بالواو، فيُحتمل الترتيب في الحديث على السنة، بخلاف مسح الرأس كله، فهو ظاهر الآية، فبينت السنة وجوبه. وقوله: "غسل يديه مرتين مرتين" كذا بتكرار مرتين، ولم تختلف الروايات عن عمرو بن يحيى في غسل اليدين مرتين، وقد مرت رواية مسلم عن حِبَّان بن واسِع. وقوله: "إلى المرفقين" بالتثنية مع فتح الميم وكسر الفاء، وفي رواية الأصيلي بكسر الميم وفتح الفاء، وفي رواية المُسْتَملي والحموي: "إلى المرفق" بالإفراد على إرادة الجنس وهو مفصل الذراع والعَضُد، وسمي بذلك لأنه يُرتفق به في الاتِّكاء. واختلف العلماء هل يدخُل المرفقان في غسل اليدين أم لا، فقال الجمهور: نعم. وخالف زُفر، وحكاه بعضهم عن مالك، ولم يثبت ذلك عنه صريحًا، وانما حكى عنه أَشْهب كلامًا محتملًا.

واحتج بعضهم للجمهور بأن إلى في الآية والحديث بمعنى مع، كقوله تعالى: {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هود: 52]، وقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2]، ورُدَّ هذا بأنه خلاف الظاهر. وأجيب بأن القرينة دلّت عليه، وهي كون ما بعد إلى من جنس ما قبلها. وقال ابن القصار: اليد يتناولها الاسم إلى الإبط، لحديث عمار: "أن يتيمم إلى الابط" وهو من أهل اللغة، فلما جاء قوله تعالى: {إِلَى الْمَرَافِقِ} بقي المرفق مغسولًا مع الذِّراعين بحق الاسم فعلى هذا فإلى هنا حد للمتروك من غسل اليدين لا للمغسول. وفي كون ذلك ظاهرًا من السياق نظر. وقال الزَّمَخْشري: لفظ إلى يفيد معنى الغاية مطلقًا، فأما دُخولها في الحكم وخروجها فأمرٌ يدور مع الدليل، فقدله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] دليل عدم الدخول النهي عن الوصال. وقول القائل: حفظت القرآن من أوله إلى آخره. دليل الدخول كون الكلام مسوقًا لحفظ جميع القرآن. وقوله تعالى: {إِلَى الْمَرَافِقِ} لا دليل فيه على أحد الأمرين، فأخذ العلماء بالاحتياط، ووقف زُفر مع المتَيِّقن. ويمكن أن يُستدل لدخولهما بفعله -صلى الله عليه وسلم-، ففي الدَّارقطني بإسناد حسن عن عثمان في صفة الوضوء: "فغسل يديه إلى المرفقين حتى مسَّ أطراف العضُدَيْن" وفيه عن جابر قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا توضأ ادار الماء على مرفَقَيه" لكن إسناده ضعيف. وفي البزار والطبراني عن وائل بن حَجَر في صفة الوضوء: "وغسل ذِراعيه حتى جاوزَ المِرفق"، وفي الطحاوي والطبراني عن ثعلبة بن عبّاد، عن أبيه مرفوعًا: "ثم غسل ذراعيه حتى يسيل الماء على مرفقيه" فهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضًا. قال إسحاق بن راهويه: إلى في الآية يحتمل أن تكون بمعنى الغاية، وأن تكون بمعنى مع، فبينت السنة أنها بمعنى مع، وقد قال الشافعي في "الأم": لا أعلم مخالفًا في إيجاب دخول المرفقين في الوضوء، فعلى هذا فزُفر محجوج بالاجماع قبله، وكذا من قال بذلك من أهل الظاهر بعده، وقد مر في أول هذا الكتاب بعض الكلام على غسل المرافق

عند ذكر الآية. وقوله: "ثم مسح رأسه بيديه" زاد ابن الطبّاع: "كله" كما في رواية ابن خزيمة في "صحيحه" الماضية، وفي رواية خالد بن عبد الله: "برأسه" بزيادة الباء. قال القرطبي: الباء للتعدية، يجوز حذفها وإثباتها، كقولك: مسحت رأس اليتيم، ومسحت برأسه. وقيل: دخلت الباء لتفيد معنى آخر، وهو أن الغسل لغة يقتضي مغسولًا به، والمسح لغة لا يقتضي ممسوحًا به، فلو قال: وامسحوا برؤوسكم. لأجزأ المسح باليد بغير ماء، فكأنه قال: وامسحوا برؤوسكم الماء، فهو على القلب، والتقدير: وامسحوا رؤوسكم بالماء. وقال الشافعي: احتمل قوله تعالى {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} جميع الرأس أو بعضه، فدلّت السنة على أن بعضه يجزىء، والفرق بينه وبين قوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ} [النساء: 43] في التيمم، أن المسح فيه بدل من الغسل، ومسح الرأس أصل، فافترفا، ولا يرد كون مسح الخفِّ بدلًا من غسل الرجل؛ لأن الرخصة فيه ثبتت بالإجماع. ويرد على ذلك أنه قيل: لعله اقتصر على مسح الناصية لعذر؛ لأنه كان في سفر، وهو مظنة العذر، ولهذا مسح على العمامة بعد مسح الناصية كما هو ظاهر من سياق مسلم في حديث المغيرة. وقال الشافعية: قد روي عنه مسح مقدم الرأس من غير مسح على العمامة ولا تعرض لسفر، وهو ما رواه الشافعي عن عطاء أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- توضأ، فحسر العمامة عن رأسه، ومسح مقدم رأسه. وهو مرسل، ولكنه اعتضد بمجيئه من وجه آخر موصولًا، أخرجه أبو داود عن أنس، وفي إسناده أبو معقِل لا يعرف حاله، فقد اعتضد كل من المرسل والموصول بالآخر، وحصلت القوة من المجموع. وفي الباب أيضًا عن عثمان في صفة الوضوء، قال: ومسح مقدَّم

رأسه، أخرجه سعيد بن منصور، وفيه خالد بن يزيد بن أبي مالك مُختلف فيه. وصحَّ عن ابن عُمر الاكتفاء بمسح بعض الرأس، قاله ابن المنذر وغيره، ولم يصحَّ عن أحد من الصحابة إنكار ذلك، قاله ابن حزم، وهذا كله مما يتقوى به المرسل المتقدم، قال فى "الفتح". قلت: انظر كيف يقوى المرسل من القوة حتى يعارض الأحاديث الصحيحة المرفوعة، وكيف يلتئم هذا مع ما يأتي عنه في باب صب الماء على البول في المسجد من أن المرسل عند الشافعي لا يعتضد إلا إذا كان من كبار التابعين، وكان من أرسل إذا سمي لا يُسمى إلا ثقة، فهل وُجدت هذه الشروط هنا. واحتجّوا أيضًا بأن الباء للتبعيض، وعورض بأن بعض أهل العربية أنكر كونها للتبعيض. قال ابن برهان: من زعم أن الباء تفيد التَّبعيض فقد جاء عن أهل اللغة بما لا يعرفون. وأجيب بأن ابن هشام نقل التبعيض عن الأصمعي والفارسي والقُتَيبي وابن مالك والكوفيين، وجعلوا منه {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان]. قلت: مع هذا الاختلاف لا يتحقق حامل الآية على التبعيض أنه مصيب في حمله للوجه العربي، فبقي الاحتياط في الدين عدم العمل على التبعيض. وقال بعضهم: الحكم في الآية مجمل في حق المقدار فقط؛ لأن الباء للالصاق باعتبار أصل الوضع، فإذا قرنت بآلة المسح يتعدى الفعل إلى محل المسح، فيتناول جميعه كما تقول: مسحت الحائط بيدي، ومسحت رأس اليتيم بيدي. فيتناول مسح الحائط كله، ورأس اليتيم كله. وإذا قُرنت بمحل المسح يتعدّى الفعل بها إلى الآلة، فلا تقتضي الاستيعاب، وإنما تقتضي التصاق الآلة بالمحل، وذلك لا يستوعب الكل عادة، فمعنى التبعيض إنما ثبت بهذا الطريق. لكن يلزمهم على هذا أن يكون الواجب مسح قدر اليد من الرأس، وهم لا يقولون بذلك، بل يحصل المسح عندهم بشعرات. وأما استدلال الحنفية

على إيجاب مسح الربع بمسحه عليه الصلاة والسلام بالناصية، وأنه بيان للاجمال فى الآية؛ لأن الناصية ربع الرأس. فاجيب عنه بأنه لا يكون بيانًا إلا إذا كان أول مسحه كذلك بعد الآية، وليس الأمر كذلك. وبأن قوله: "بناصيته" يحتمل بعضها كما جاء نظيره في "برؤوسكم". وبأن حديث المغيرة فيه: "ومسح على العمامة" فهو دال على وجوب تعميم الرأس بالمسح، فلو لم يكن ذلك لاقتصر على الناصية، وأما عدم نزع العمامة فلعذرٍ اقتضى ذلك. وقوله: "فأقبل بهما وأدبر" أي: بهما ولمسلم: "مسح رأسه كله، وما أقبل، وما أدبر، وصدغيه". وقوله: "بدأ بمقدَّم رأسه" بفتح الدال المشددة، بأن وضع يديه عليه، وألصق مسبّحته بالأخرى وإبهاميه على صدغيه، والجملة عطف بيان لقوله: "فأقبل بهما وأدبر"، ومن ثَم لم تدخل الواو على قوله: "بدأ". وقوله: "ثم ردَّ هما إلى المكان الذي بدأ منه" أي: ليستوعب جهتي الشعر بالمسح. عندنا معاشر المالكية للإتيان بالسنة، سواء كان على الرأس شعرًا أم لا. والظاهر أن هذا من الحديث، وليس مدرجًا من كلام مالك، وقد جعله مالك، وابن عُلَيّه، وأحمد في رواية, وأصحاب مالك غير أَشْهب بيانًا للمسح الواجب وبيان الواجب واجب. وقال القسطلاّني: لا يُقال: إنه بيان للواجب؛ لأنه يلزم منه وجوب الدر إلى المكان الذي بدأ منه، ولا قائل بوجوبه، ويلزم أن يكون تثليث الغسل وتثنيته واجبين؛ لأنهما بيان أيضًا، فالحديث ورد في الكمال، ولا نزاع فيه، بدليل أن الإقبال والإدبار لم يُذكرا في غير هذا الحديث. قلت: ما قاله يجاب عنه بأن الردَّ والتثليث والتثنية ورد في الأحاديث عدم فعلها، فدل ذلك على أن فعلها للفضل لا للوجوب، ولا كذلك تعميم مسح

الرأس، فلم يرد في الاقتصار على بعضه إلا ما مر مما لا يُعارض الصحيح. قال في "الفتح" وهذا يختصُّ بمن له شعر. قال القسطلاّني: وإلا فلا حاجة إلى الردِّ، فلو رد لم تُحسب ثانية؛ لأن الماء صار مستعملًا. وهذا التعليل يقتضي أنه لو رد ماء المرة الثانية حُسبت ثالثة، بناء على الأصح، من أن المُستعمل في النَّفل طهور، إلا أن يُقال: السنة كون كل مرة بماء جديد. قلت: ما قاله غير وارد على المالكية. فإن مذهبهم أن الرد سنة لا واجب، كان على الرأس شعرٌ أو لم يكن، ومذهبهم أن الماء ما دام على العضو لا يصير مستعملًا. وفيه حجة على من قال: السنة أن يبدأ بمؤخر الرأس إلى أن ينتهي إلى مقدمه، لظاهر قوله: "أقبل وأدبر" ويرد عليه أن الواو ولا تقتضي الترتيب، ويأتي قريبًا عند المصنف من رواية سُليمان بن بلال: "فأدبر بيديه، وأقبل" فلم يكن في ظاهره حجة؛ لأن الإقبال والإدبار من الأمور الإضافية، ولم يعين ما أقبل إليه ولا ما أدبر عنه، ومخرج الطريقين متَّحد، فهما بمعنى واحد، وعَيَّنَت رواية مالك البداءة بمقدم الرأس، فيحمل قوله: "أقبل" على أنه من تسمية الفعل بابتدائه، أي: بدأ بقُبُل الرأس، وقيل في توجيهه غير ذلك. وقوله: "ثم غسل رجليه" زاد في رواية وُهيب الآتية: "إلى الكعبين"، والبحث فيه كالبحث في قوله: "إلى المرفقين". والمشهور أن الكعب هو العظم الناشز عند ملتقى الساق والقدم، وحكى محمد بن الحسن عن أبي حنيفة: إنه العظم الذي في ظهر القدم عند معقد الشراك. وروى ابن القاسم عن مالك مثله. والأول هو الصحيح الذي يعرفه أهل اللغة. وقد أكثر المتقدمون من الرد على من زعم ذلك، ومن أوضح الأدلة حديث

رجاله ستة

النعمان بن بشير الصحيح في صفة الصفِّ في الصلاة: "فرأيتَ الرجلَ منا يلزق كعبه بكعب صاحبه" أخرجه أبو داود والبيهقي بأسانيد جيدة، والبخاري تعليقًا بصيغة الجزم في أبواب تسوية الصفوف. وقيل: إن محمدًا إنما روى ذلك في حديث قطع المحرِم الخفين إلى الكعبين إذا لم يجد النعلين. وقد أطلق الغسل في الرجلين هنا، ولم يذكر فيه تثليثاً ولا تثنية كما سبق في بعض الأعضاء، وإشعارًا بأن الوضوء الواحد يكون بعضه بمرة وبعضه بمرتين وبعضه بثلاث، وإن كان الأكمل التثليث في الكل، ففعله بيان للجواز، والبيان بالفعل أوقع في النفوس منه بالقول، وأبعد من التأويل، قد مر الكلام على غسل الرجلين قبل هذا. وفي هذا الحديث من الفوائد. الإفراغ على اليدين معًا في ابتداء الوضوء. وفيه مجيء الإمام إلى بيت بعض رعيته، وابتداؤهم إياه بما يظنون أنَّ له به حاجة، وجواز الاستعانة في إحضار الماء من غير كراهة، والتعليم بالفعل، وأن الاغتراف من الماء القليل للتطهر لا يصيِّر الماء مستعملًا، لقوله في رواية وُهَيب وغيره: "ثم أدخل يده فغسل وجهه .. إلخ". وأما اشتراط نية الاغتراف فليس في هذا الحديث ما يثبتها ولا ما ينفيها. واستدل به أبو عَوانة في "صحيحه" على جواز التطهر بالماء المستعمل، وتوجيهه أن النية لم تذكر فيه، وقد أدخل يده للاغتراف بعد غسل الوجه، وهو وقت غسلها. وقال الغزالي مجرد الاغتراف لا يصيِّر الماء مستعملًا؛ لأن الاستعمال إنما يقع من المغترف منه، وبهذا قطع البغوي. واستدلَّ به المصنف على استيعاب مسح الرأس. رجاله ستة: الأول: عبد الله بن يوسف.

لطائف إسناده

الثاني: الإِمام مالك بن أنس وقد مر تعريفهما في الحديث الثاني من بدء الوحي. ومر تعريف عَمْرو بن يحيى بن عُمارة وأبيه يحيى بن عُمارة في الحديث الخامس عشر من كتاب الإيمان , ومر عبد الله بن زَيْد في الثالث من كتاب الوضوء. والسادس: الرجل السائل، وهو عم أبي عمر عَمْرو بن يحيى , وإنما قال البخاري جد عمرو بن يحيى تجوزًا، لكونه في منزلة الأب وهو: عمرو بن أبي حسن، واسم أبي حسن تميم بن عمرو، وقيل: ابن عبد بن عمر، وقيل ابن عبد قيس بن مَخْرمة بن الحارث بن ثعلبة بن مازن الأنصاري المازني لأبيه صحبة. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع والاخبار كذلك والعنعنة والقول، ورواته كلهم مدنيون إلا عبد الله بن يوسف وقد دخلها. وفيه رواية الابن عن الأب. أخرجه البخاري هنا وفي أربعة مواضع من الطهارة أُخر. ومسلم في الطهارة عن محمد بن الصبّاح وغيره، والأربعة في الطهارة، وأبو داود عن مسدَّد وغيره، والتِّرمذي عن إسحاق بن موسى، والنسائي عن عُقبة بن عبد الله وغيره، وابن ماجه عن الرّبيع بن سُليمان وغيره.

كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري تأليف الامام المحدث العلامة الشيخ محمد الخضر الجكينى الشنقيطي (المتوفى سنة 1354هـ) الجزء الخامس مؤسسة الرسالة

بسم الله الرحمن الرحيم

كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1415هـ - 1995م مؤسسة الرسالة بيروت - شارع سوريا - بناية صمدي وصالحة هاتف: 603243 - 815112 - صَ. بَ: 7460 - برقيًا: بيُوشرَان

باب غسل الرجلين إلى الكعبين

باب غسل الرجلين إلى الكعبين تقدمت مباحثه في الذي قبله. الحديث الحادي والخمسون حَدَّثَنَا مُوسَى بنُ إسماعيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ عَمْرٍو عَنْ أَبِيهِ شَهِدْتُ عَمْرَو بْنَ أَبِي حَسَنٍ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ عَنْ وُضُوءِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَدَعَا بِتَوْرٍ مِنْ مَاءٍ، فَتَوَضَّأَ لَهُمْ وُضُوءَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَأَكْفَأَ عَلَى يَدِهِ مِنَ التَّوْرِ، فَغَسَلَ يَدَيْهِ ثَلاَثًا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي التَّوْرِ، فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلاَثَ غَرَفَاتٍ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثًا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَغَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَمَسَحَ رَأْسَهُ، فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ مَرَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ. قوله: "فدعا بتَوْر" بمثناة مفتوحة، قال الداوودي: قدح. وقال الجوهري: إناء يُشرب منه، وقيل: هو الطَّسْت. وقيل: يُشبه الطَّست. وقيل: هو مثل القدر، يكون من صُفر أو حجارة. وفي رواية عند المصنف في باب الغُسل في المخضب في أول هذا الحديث: "أتانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأخرجنا له ماءً في تور من صُفْرٍ" والصُّفر -بضم المهملة وسكون الفاء، وقد تكسر- صنف من حديد النحاس، قيل: إنه سُمي بذلك لكونه يشبه الذهب، ويسمّى أيضًا الشَّبه -بفتحتين-. والتور المذكور يحتمل أن يكون هو الذي توضأ منه عبد الله بن زيد إذ سُئل عن صفة وضوء النبي -صلى الله عليه وسلم-، فيكون أبلغ في حكاية صورة الحال على وجهها.

وقوله: "فتوضأ لهم" أي: لأجلهم. وقوله: "وضوءَ النبي -صلى الله عليه وسلم-" أي: مثل وضوئه عليه الصلاة والسلام، وأطلق عليه وضوءه مبالغةً. وقوله: "فاكفأ على يده من التَّوْر" قد مر في الذي قبله أنَّ فيه رواية: "فكَفَأ" ومر معناه هناك. وقوله: "ثم أدخل يده، فغسل وجهه" بين في هذه الرواية تجديد الاغتراف لكل عضو، وأنه اغترف بإحدى يديه، وكذا هو في باقي الروايات، وفي مسلم وغيره، لكن في رواية ابن عساكر وأبي الوَقْت عن سليمان بن بلال الآتية: "ثم أدخل يديه" بالتثنية، وليس ذلك في رواية أبي ذَر ولا الأصيلي، ولا في شيء من الروايات خارج" الصحيح". والظن أن الإِناء كان صغيرًا، فاغترف بإحدى يديه ثم أضافها إلى الأخرى، كما جاء نظيره في حديث ابن عباس، وإلا فالاغتراف باليدين جميعًا أسهل وأقرب تناولًا كما قال الشافعي، وعند المالكية الأفضل الاغتراف باليد اليمنى إن كان الإناء واسعًا. وقوله: "ثم غسل يديه مرتين" المراد منه غسل كل يدٍ مرتين، كما تقدم عن مالك: "ثم غسل يديه مرتين مرتين"، وليس المراد توزيع المرتين على اليدين، فكان يكون لكل يد مرة واحدة. وقوله: "ثم أدخل يده" بالإفراد في الإناء. وقوله: "فمسح رأسه" أي: كلَّه، أي وجوبًا عند المالكية والحنابلة، وندبًا عند غيرهما. وقوله: "ثم غسل رجليه إلى الكعبين" مرَّ تفسيرهما في الذي قبله ومرت فيه بقية مباحث الحديث.

رجاله ستة

رجاله ستة: الأول: موسى بن إسماعيل التَّبوذكي وقد مرَّ في الحديث الرابع من بدء الوحي. والثاني: وُهَيْب بن خالد وقد مرَّ في السادس والعشرين من كتاب العلم. ومرَّ عَمْرو بن يحيى وأبوه يَحْيى في الخامس عشر من كتاب الإيمان. وذُكر عمرو بن أبي حسن في الحديث الذى قبل هذا. ومرَّ تعريف عبد الله بن زَيْد في الحديث الثالث من كتاب الوضوء. ومرّ في الحديث الذي قبل هذا ذكر المواضع التي أُخرج فيها. باب استعمال فضل وضوء الناس أي: استعمال فضل الماء الذي يبقى في الإناء بعد الفراغ من الوضوء في التطهير وغيره كالشرب والعجين والطبخ, أو المراد: ما استعمل في فرض الطهارة من الحدث، وهو ما يتقاطر عن أعضاء المتوضىء، وهو الذي تسميه الفقهاء الماء المستعمل، واختلف فيه الفقهاء: فعند مالك في مشهور مذهبه طاهر طهور، إلا أنه يُكره التطهير به مع وجود غيره، وطَهُور أيضًا عند النخَّعي والبَصْري والزُّهري والثَّوري وأبي ثور. وعن أبي حنيفة ثلاث روايات، فرواية أبي يوسف أنه نجس مخفف. ورواية الحسن بن زياد أنه نجس مغلَّظ، وهي رواية شاذّة. ورواية محمد بن الحسن وزُفر أنه طاهر غير طهور، وهو الأشهر الصحيح، وهو الذي عليه الفتوى عندهم، واختاره المحققون من مشايخ ما وراء النهر. وعند الشافعي في الجديد أنه طاهر غير طهور، قال: لأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم لم يجمعوا المستعمل في أسفارهم القليلة الماء ليتطهروا به، بل عدلوا عنه إلى التيمم. واحتج القائلون بطهوريته وهو مذهب الشافعي في القديم، بقوله تعالى:

{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48]، المقتضى تكرار الطهارة به، كضَرُوب لمن يتكرر منه الضرب. وأجيب بتكرر الطهارة به فيما يتردد على المحل دون المنفصل، جمعًا بين الدليلين. ولا يخفى بعد هذا الجواب؛ لأن الطهارة لا تُسمّى طهارة إلا بعد الكمال، فما دام الماء مترددًا على العضو لا يُوصف بأنه قد طَهُر. والأصح عند الشافعية أن المستعمل في نفل الطهارة طَهور على الجديد. وَأمَر جَريرُ بنُ عَبدِ اللهِ أَهْلَهُ أنْ يَتَوَضَّؤوا بِفَضْلِ سِوَاكِهِ. وفي بعض طرقه: "كان جرير يستاك ويغمِس رأس سواكه في الماء، ثم يقول لأهله: توضؤوا بفضله، لا يرى به بأسًا" وهذه الرواية مبينة للمراد. وظن ابن التين وغيره أن المراد بفضل سواكه الماء الذي ينتقع فيه العود من الأراك وغيره ليلين، فقالوا: يُحمل على أنه لم يغيِّر الماء، وإنما أراد البخاري أن صنيعه ذلك لا يغيّر الماء، وكذلك مجرد الاستعمال لا يغير الماء، فلا يمتنع التطهر به. وقد صححه الدّارقُطني بلفظ: "كان يقول لأهله توضؤوا من هذا الذي أُدخل فيه سواكي"، ورُوي مرفوعًا أخرجه الدارقطني عن أنس "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يتوضأ بفضل سواكه"، وسنده ضعيف. وذكر أبو طالب عن أحمد أنه سأله عن معنى هذا الحديث، فقال: كان يُدخل السواك في الإناء ويستاك، فإذا فرغ توضأ من ذلك. وقد استشكل إيراد البخاري له في هذا الباب المعقود لطهارة الماء المستعمل، وأجيب بأنه ثبت أن: "السواك مطهرة للفم، مرضاة للربِّ"، علقه البخاري ووصله النسائي وأحمد وابن حِبان عن عائشة، وابن خُزيمة فهذا خالط الماء، ثم حصل الوضوء بذلك الماء كان فيه استعمال للمستَعْمل في الطهارة، أو يقال: إن المراد من فضل السواك هو الماء الذي في الظرف، والمتوضىء

يتوضأ منه، وبعد فراغه من تسوكه عقب فراغه من المضمضة يرمي السواك الملوث بالماء المستعمل فيه. وجرير بن عبد الله مر في الحديث الحادي والخمسين من كتاب الإيمان. وأثره المذكور وصله ابن أبي شَيْبة في "مصنفه" والدارقطني في "سننه" وغيرهما من طريق قَيس بن أبي حازِم.

الحديث الثاني والخمسون

الحديث الثاني والخمسون حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جُحَيْفَةَ يَقُولُ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِالْهَاجِرَةِ، فَأُتِيَ بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَأْخُذُونَ مِنْ فَضْلِ وَضُوئِهِ فَيَتَمَسَّحُونَ بِهِ، فَصَلَّى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ عَنَزَةٌ. قوله: "بالهاجِرة" أي: في وسط النهار عند شدة الحر في سفر، وفي رواية أنّ خروجه كان من قبة حمراء من أدم، وكان ذلك بالأبطح بمكة. وقوله: "فأُتِي" بضم الهمزة وكسر التاء. وقوله: "بوَضوء" أي: بفتح الواو، أي: بماء يتوضأ به. وقوله: "فجعل الناس يأخذون" في محل نصب خبر جعل الذي هو من أفعال المقاربة. وقوله: "من فضل وضوئه عليه الصلاة والسلام" وهو بفتح الواو، الماء الذي بقي بعد فراغه من الوضوء، وكأنهم اقتسموه أو كانوا يتناولون ما سال من أعضاء وضوئه -صلى الله عليه وسلم- وقوله: "فيتمسَّحون به" تبركًا به، لكونه مس جسده الشريف المقدس، وفيه دِلالة بينة على طهارة الماء المستعمل. والتمسح تفعل، كأن كلَّ واحد منهم مسح به وجهه ويديه مرة بعد أخرى، نحو: تجرّعه أي: شربه جرعة بعد جرعة، أو هو من باب التكلُّف؛ لأنّ كل واحد منهم لشدة الازدحام على فضل وضوئه عليه الصلاة والسلام كان يتعنّى لتحصيله، كتشَجّع وتصبّر.

وعلى القول بأن الماء المأخوذ ما فضل في الإناء بعد فراغه عليه الصلاة والسلام، فالماء طاهر، مع ما حصل له من التشريف والبركة بوضع يده المباركة فيه. وفي رواية تأتي للمصنف عن عَوْن، عن أبيه: "رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قُبة حمراء من أدم، ورأيت بلالاً أخذ وَضوء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ورأيت الناس يبتدرون ذلك الوضوء فمن أصاب منه شيئًا تمسَّح به، ومن لم يُصبْ منه شيئًا أخذ من بلل يد صاحبه". وفي رواية: "إن الوضوء الذي ابَتَدَرَه الناس كان فضل الماء الذي توضأ به النبي -صلى الله عليه وسلم-"، وفي مسلم ما يُشعر بأن ذلك كان بعد خروجه من مكة، بقوله: "ثم لم يَزَلْ يصلّي رَكْعتين حتّى رجَع إلى المدينة"، وفي رواية: "وخرجَ في حُلة حمراء مشمرًا"، وفي رواية: "كأني أنظُر إلى وَبيص ساقيه". وقوله: "وبين يديه عَنَزَة" بفتحات، أقصر من الرُّمح، وأطول من العَصَى، وفيها زَجٌ كَزَج الرمح. وقد روى عمر بن شَبَّة في أخبار المدينة: "أن النجاشي أهدى إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- حَرْبة، فأمسكها لنفسه، فهي التي يمشي بها مع الإِمام يوم العيد". وعن الليث أنه بلغه "أن العَنَزَة التي كانت بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت لرجل من المشركين، فقتله الزُّبير بن العوام يوم أحد، فأخذها منه النبي -صلى الله عليه وسلم-، فكان ينصبها بين يديه إذا صلى". ويحتمل الجمع بأن عَنَزة الزبير كانت أولًا قبل حربة النجاشي. وقوله: "صلّى الظهر رَكعتين والعصر رَكعتين"، قال النووي: يُستفاد منه أنه علبه الصلاة والسلام جمع حينئذٍ بين الصلاتين في وقت الأولى منهما، ويُحتمل أن يكون قوله: "العصرَ رَكعتين" أي: بعد دخول وقتها. وفي الحديث من الفوائد التماس البركة مما لامسه الصالحون، خلافًا لزنادقة الخوارج الذين لا يلتمسون البركة من نبي ولا صالح، ولا يعتقدونها في

أحد. وفيه وضع السترة للمصلي حيث يَخْشى المرور بين يديه، والاكتفاء فيها بمثل غلظ العنزة. وأن قصر الصلاة في السفر أفضل من الإتمام لما يُشعر به الخبر من مواظبته -صلى الله عليه وسلم- وأن ابتداء القصر من حين مفارقة البلد الذي يخرج منه. وفيه تعظيم الصحابة للنبي -صلى الله عليه وسلم-. وفيه استحباب تفسير الثِّياب لاسيمَّا في السفر، وكذا استصحاب العَنَزَة ونحوها. وجواز النظر إلى الساق، وهو إجماع في الرجل، حيث لا فتنة. وجواز لبس الثوب الأحمر، وفيه سبعة أقوال: الأول: الجواز مطلقًا، ودلَّ عليه حديث البراء: "رأيته في حُلّة حمراء، ما رأيت شيئًا أحسن منه"، ورواية أبي جُحَيْفة السابقة: "خرج في حلة حمراء مشمّرًا"، وقد جاء عن علي، وطلحة، والبراء، وعبد الله بن جَعْفر، وطائفة من التابعين: سعيد بن المسيِّب، والنَّخعي، والشّعبي، وأبي قِلابة، وأبي وائل. الثاني: المنع مطلقًا، لحديث عبد الله بن عَمرو أخرجه مسلم، قال: "رأى عليَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- ثوبين مُعَصْفرين، فقال: إن هذه من لباس الكفار فلا تَلْبَسْهما". وفي لفظ له: "فقلتُ أغسِلُهما؟ قال: بل أحرِقْهما". وما نقله البيهقي وأخرجه ابن ماجه عن ابن عمر: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن المفَدَّم" وهو بالفاء وتشديد الدال، وهو المشبَّع بالمعصفر. ورُوي عن عمر "أنه كان إذا رأى على الرجل ثوبًا معصفرًا جَذَبه، وقال: دعوا هذا للنساء". أخرجه الطَّبري. وأخرج ابن أبي شَيْبة من مرسل الحسن: "الحمرة من زينة الشيطان، والشيطان يحب الحمرة"، وصله أبو يَعْلى بن السكن، وأبو محمد بن عدي. وأخرج البيهقي عن رافع بن يزيد الثَّقَفي رفعه: "إن الشيطان يحبُّ الحُمرة، وإياكم والحُمرةَ وكلَّ ثوبٍ ذي شهرة"، وأخرجه ابن منده وهو حديث ضعيف. وقول الجُوزقاني: إنه باطل. غير صحيح. وعن عبد الله بن عمرو، قال: "مرّ على النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل وعليه ثوبان أحمران، فسلم عليه، فلم يردَّ عليه النبي عليه الصلاة والسلام" أخرجه أبو داود، والترمذي وحسنه، والبزار وقال: لا نعلمه إِلا من هذا الإسناد، وفيه أبو يَحْيى

القتّات مختلف فيه، قال في "الفتح": ويُحتمل أن يكون ترك الرد عليه بسبب آخر. وعن رافع بن خديج قال: "خرجنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في سفر، فرأى على رواحلنا أكسية فيها خطوط عهن حمر، فقال: ألا أرى هذه الحمرة قد غلبتكم. قال: فقمنا سراعًا، فنزعناها، حتى نَفر بعضُ إبلنا". أخرجه أبو داود، وفي سنده راوٍ لم يسمَّ. وعن امرأة من بني أسد قالت: كنت عند زينب أم المؤمنين ونحن نصبغ ثيابًا لها بمُغْرة، إذ طلع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما رأى المغرة رجع، فلما رأت ذلك زينب غسلت ثيابها، ووارت كل حمرة، فجاء فدخل. أخرجه أبو داوود، وفي سنده ضعف. الثالث: يكره لبس الثوب المشبَّع بالحمرة دون ما كان صبغه خفيفًا، جاء ذلك عن عطاء وطاووس ومجاهد، وكان الحجة فيه حديث ابن عمر المذكور قريبًا في المفدَّم. الرابع: يكره لبس الأحمر مطلقًا لقصد الزينة والشهرة، ويجوز في البيوت والمهنة، جاء ذلك عن ابن عباس. الخامس: يجوز لبس ما كان صُبغ غزله ثم نسج، ويُمنع ما صُبغ بعد النسج، قال ذلك الخطّابي، واحتج بأن الحُلّة الحمراء الوارد لبسه -صلى الله عليه وسلم- لها إحدى حلل اليمن، وكذلك البرد الأحمر، وبرود اليمن يُصبغ غزلها ثم ينسج. السادس: اختصاص النهي بما يُصبغ بالمعصفر، لورود النهي عنه، ولا يمنع ما صُبغ بغيره من الأصباغ، ويعكر عليه حديث المغيرة المتقدم. السابع: تخصيص المنع بالثوب الذي يُصبغ كله، وأما ما فيه لون آخر غير الحمرة من بياض وسواد فلا، وعلى ذلك تُحمل الأحاديث الواردة في الحلة الحمراء، فإن الحلل اليمانية غالبًا تكون ذات خطوط حُمر وغيرها. وقال الطّبري بعد أن ذكر الأقوال: الذي أراه جواز لبس الثياب المصبَّغة

بكل لون، إلا أني لا أحب لبس ما كان مشبعًا بالحمرة، ولا لبس الأحمر مطلقًا ظاهرًا فوق الثياب، لكونه ليس من لباس أهل المروءة في زماننا، فإن مراعاة زِيّ الزمان من المروءة ما لم يكن إثمًا، وفي مخالفة الزَّي ضربٌ من الشهرة. قال في "الفتح": وهذا يمكن أن يخلُص منه قول ثامن، والتحقيق في هذا المقام أن النهي عن لبس الأحمر إن كان من أجل أنه لبس الكفار، فالقول فيه كالقول في المِيثرة الحمراء. قلت: والكلام فيها طويل، يأتي إن شاء الله تعالى قريبًا. وإن كان من أجل أنه من زي النساء، فهو راجع على الزجر عن التشبيه بالنساء، فيكون النهي عنه لا لذاته وإن كان من أجل الشهرة أو خَرْم المروءة فيُمنع حيث يقع ذلك، وإلا فيقوى ما ذهب إليه مالك من التفرقة بين المحافل والبيوت، فكرهه في المحافل دون البيوت. والمِيثرة التي وقع التشبيه بها هي بكسر الميم وسكون التحتانية، وفتح المثلثة بعدها راء ولا همز فيها، وأصلها من الِوثارة أو الوِثرة -بكسر الواو وسكون المثلثة- والوَثير هو الفراش الوطىء، وامرأةَ وَثيرة كثيرة اللحم، كانت النساء تصنعه لبعولتهن مثل القطائف يصفّونها. وقال الزبيدي: المِيثرة مرفقة كصفة السرج. وقال الطبري: هو وطاء يوضع على سرج الفرس أو رحل البعير، كانت النساء تصنعه لأزواجبن من الأرجوان الأحمر، ومن الديباج، وكانت مراكب العجم وقيل: هي أغشية للسروج من الحرير. وقيل: هي سروج من الديباج حكاهما في "المشارق". وقيل: المِيْثرة جلود السباع. وقال النووي: إن هذا التفسير باطل. قال فى "الفتح": ليس بباطل، بل يمكن توجيهه، وهو ما إذا كانت المِيْثرة وطاء صُنعت من جلد، ثم حُشيت، والنهي حينئذ عنها إما لأنها من زي الكفار، وإما لأنها لا تعمل فيها الذّكاة، أو لأنها لا تُذكّى غالبًا، فتكون فيه حجة لمن منع لبس ذلك، ولو دبغ. لكن الجمهور على خلافه، وإن الجلد يطهر بالدباغ، وقد اختلف في الشَّعر

أيضًا هل يطهر بالدباغ؟ لكن الغالب على المياثر أن لا يكون فيها شعر. وقد ثبت النهي عن الركوب على جلود النمور، أخرجه النسائي عن المقدام بن مَعدي كَرِب، وهذا بما يؤيد التفسير المذكور، ولأبي داود "لا تصحب الملائكة رفقةً فيها جلد نمر". فتحصّل في تفسير المِيْثرة خمسة أقوال: هل هي وطاء للدابة، أو لراكبها، أو هي السرج نفسه، أو غِشاوة، أو هي من جلود السباع. وقد اختلف في حكمها، فقد أخرج أحمد والنسائى وأصله عند أبي داود بسند صحيح، عن علي قال: "نُهي عن المياثر الأرجوان" بلفظ نُهي عن البناء للمجهول، وهو محمول على الرفع. وأخرج أحمد وأصحاب السنن، وصححه ابن حِبّان، عن علي أيضًا قال: "نهاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن خاتَم الذهب، وعن لبس القُسيّ، وعن المِيثرة الحمراء"، قال أبو عُبيد: المياثر الحُمر التي جاء النهي عنها كانت من مراكب العجم من ديباج وحرير. وقيل: إنها تشبه المخدة، تُحشى بقطن أو ريش، يجعلها الراكب تحته، وهذا يوافق تفسير الطبري. والأقوال المذكورة فيها يُحتمل أن لا تكون متخالفة، بل المِيثرة تطلق على كل منها، وعلى كل تقدير فالميثرة وإن كانت من حرير فالنهي فيها كالنهي عن الجلوس على الحرير، ولكن تقييدها بالأحمر أخص من مطلق الحرير، فيمتنع إن كانت حريرًا، ويتأكد المنع إن كانت مع ذلك حمراء. وإن كانت من غير حرير فالنهي فيها للزجر عن التشبُّه بالأعاجم، قال ابن بطّال: كلام الطبري يقتضي التسوية في المنع من الركوب عليه، سواء كانت من حرير أو من غيره، فكان النهي عنها إذا لم تكن من حرير للتشبُّه أو للسَّرف أو التزين، وبحسب ذلك تفصيل الكراهة بين التحريم والتنزيه، وأما تقييدها بالحمرة، فمن يحمل المطلق على المقيَّد وهم الأكثر، يخصُ المنع بما كان أحمر. والأُرْجُوان المذكور في الرواية الماضية بضم الهمزة والجيم بينهما راء ساكنة ثم واو خفيفة وحكى عياض والقُرطبي: فتح الهمزة. وأنكره النووي،

رجاله أربعة

وصوب أن الضم هو المعروف في كتب الحديث واللغة والغريب، واختلفوا في المراد به، فقيل: هو صبغ أحمر شديد الحمرة، وهو نَوْر شجر من أحسن الألوان. وقيل: الصوف الأحمر. وقيل: كل شيء أحمر فهو أرجوان. ويقال ثوب أرجوان، وقطيفة أرجوان. وحكى السّيرافي: أحمر أرجوان، فكأنه وصفٌ للمبالغة في الحمرة، كما يقال: أبيض يقَقَ، وأصفر فاقع. واختلفوا هل الكلمة عربية أو معرّبة. فإن قلنا باختصاص النهي بالأحمر من المياثر. فالمعنى في النهي عنها ما مر في الثوب الأحمر قريبًا. وإن قلنا: لا يختصُّ بالأحمر. فالمعنى بالنهي عنها ما فيه من الترفه، وقد يعتادُها الشخص فتعوزه، فيشُقُّ عليه تركها، فيكون النهي نهي إرشاد لمصلحة دنيوية. وإن قلنا: النهي من أجل التشبه بالأعاجم، فهو لمصلحة دينية، لكن كان ذلك شعارهم حينئذٍ، وهم كفّار، ثم لما لم يصر الآن يختصُّ بشعارهم زال ذلك المعنى، فتزول الكراهة. رجاله أربعة: الأول: آدم بن أبي إياس. الثاني: شُعبة بن الحجاج ومرَّ تعريفهما في الحديث الثالث من كتاب الإيمان. الثالث: ابن عُتَيْبة وقد مرَّ تعريفه في الثامن والخمسين من كتاب العلم. ومرَّ أبو جُحَيْفة في الحادي والخمسين منه. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع والسماع، ورواته ما بين عَسْقلاني وكوفي وواسطي، وهو من رباعيات البخاري. والصحيح أن الحكم بن عُتيبة لم يرو عن أحد من الصحابة إلا عن أبي جُحيفة هذا، وقيل: روى عن أبي أوفى أيضًا. أخرجه هنا وفي الصلاة أيضًا عن سليمان بن حَرْب، وفي صفة النبي -صلى الله عليه وسلم-

عن الحسن بن منصور، ومسلم في الصلاة عن محمد بن المثنّى وغيره، والنّسائي فيها أيضًا عنه. وقَالَ أبو مُوسى: دَعَا النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بقَدَح فيهِ ماءٌ، فَغَسَلَ يَدَيهِ وَوَجْهَهُ فيهِ وَمَجَّ فِيهِ ثُمّ قالَ لهما: "اشْرَبَا منِهُ وأفْرِغَا عَلى وُجُوهِكما وَنُحُورِكما". وقوله: "مجَّ فيه"، أي: صب ما تناوله من الماء بفيه في الإناء، والغرض من ذلك إيجاد البركة في الماء بريقه المبارك. وقوله: "ثم قال لهما" أي: لبلال وأبي موسى كما جاء مبيّنًا في المغازي، فإن أوله عن أبي موسى قال: "كنت عند النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجعرانة ومعه بلال، فأتاه أعرابيٌّ" فذكر الحديث، فعُرف منه أن المبهَمَيْن هنا هما المذكوران. وقوله: "اشربا وأَفْرِغا على وجوهكما، ونحورِكما" وهمزة "اشربا" همزة وصل من شرب وهمزة "أفرِغا" همزة قطع مفتوحة من الرباعي. و"نحورِكما" جمع نحر، وهو موضع القِلادة من الصدر. ومطابقة الحديث للترجمة من حيث استعماله عليه الصلاة والسلام الماء في غسل يديه ووجهه، وأمره لهما بشربه وإفراغه على وجوهكما، ونحورهما، فلو لم يكن طاهرًا لما أمرهما به. واستدلَّ به ابن بطال على أن لُعاب الآدمي ليس بنجس كبقية شربه، وحينئذٍ فنهيه عليه الصلاة والسلام عن النفخ في الطعام والشراب إنما هو لئلا يُتَقَذَّر بما يتطاير من اللعاب في المأكول والمشروب لا لنجاسته. وفي هذا الحديث من الحرص على التبرك بريقه -صلى الله عليه وسلم- زيادة على ما في الذي قبله؛ لأن الذي قبله كان التبرك فيه من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم من قِبَل أنفسهم، وفي هذا الحديث الأمر منه -صلى الله عليه وسلم- لهم بذلك، وقصد فعله عليه الصلاة والسلام ذلك لهم للتبرك.

وقوله لهم: "أبشرا" يعني بما نالا من بركة الماء المخلوط بريقه عليه الصلاة والسلام. ومن أعظم هذا فعل أم سلمة كما في الحديث: "فنادت أم سلمة من وراء السِّتر أن أَفْضِلا لأُمِّكما، فافْضَلا لها منه طائفةً" فنداؤها رضي الله تعالى عنها من وراء الستر وهي محجوبة فيه دلالة عظيمة على أنها لم تتمالك لما تعلم في ذلك من الخير، حتى نادت من وراء الستر بحضرته -صلى الله عليه وسلم-. ولم ينكِر عليها ذلك. فسبحان الله كيف تنكر زنادقة الخوارج التبرك بآثاره -صلى الله عليه وسلم-، مع ورود ما يفوت الحصر من الأحاديث الصحاح في ذلك. وأبو موسى هو أبو موسى الأَشْعري مرَّ تعريفه في الرابع من كتاب الإيمان. وهذا التعليق طرف من حديث مطوّل، أخرجه البخاري في المغازي، وأخرج قطعة منه أيضًا في باب الغُسل والوضوء في المخضب، وأخرجه مسلم في فضائل النبي -صلى الله عليه وسلم-.

الحديث الثالث والخمسون

الحديث الثالث والخمسون حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ قَالَ: وَهُوَ الَّذِي مَجَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي وَجْهِهِ وَهْوَ غُلاَمٌ مِنْ بِئْرِهِمْ. وهذا الحديث قد مرَّ الكلام عليه مستوفى عند ذكره في باب مَتى يصحُّ سماع الصغير من كتاب العلم. رجاله ستة: الأول: علي بن عبد الله بن المديني، وقد مرَّ في الرابع عشر من كتاب العلم. ومرَّ يعقوب بن إبراهيم في السادس عشر منه أيضًا. ومرَّ أبوه إبراهيم بن سعد في السادس عشر من كتاب الإيمان. ومرَّ صالح بن كَيْسان في السادس من بَدْء الوحي. ومرَّ ابن شهاب في الثالث منه أيضًا، ومرَّ محمود بن الرّبيع في التاسع عشر من كتاب العلم. وقال عروة عن المِسْوَر وغيره يصدق كل واحد منهما صاحبه وإذا توضأ النبي -صلى الله عليه وسلم- كادوا يقتتلون على وضوئه. وزعم الكِرماني أن قوله: "وقال عروة" معطوف على قوله في السند الذي قبله: "أخبرني محمود"، فيكون صالح بن كَيْسان روى عن الزُّهري حديث محمود، وعطف عليه حديث عروة، فعلى هذا فلا يكون حديث عروة معلقًا، بل يكون موصولًا بالسند الذي قبله. وصنيع أئمة النقل يخالف ما زعمه. واستمر الكرماني على هذا التجويز حتى زعم أن الضمير في قوله: "يصدق كل واحد منهما صاحبه" للمسور ومحمود، وليس كما زعم، بل هو للمسور ومروان، وهو

تجويز منه بمجرد العقل، والرجوع إلى النقل في باب النقل أولى. وقوله: "كانوا يقتتلون على وَضوئه" أي: بفتح الواو، "وكانوا" لأبي ذر، وللباقين: "كادوا" بالدال، وهو الصواب؛ لأنهم لم يقع بينهم قتال، ويمكن أن يكون أطلق القتال مبالغة، وإنما حكى ذلك عروة بن مسعود الثَّقَفي لما رجع إلى قريش ليُعْلِمَهم شدة تعظيم الصحابة للنبي -صلى الله عليه وسلم-. وهذا التعليق أخرجه البخاري موصولًا في كتاب الشروط في باب الشروط في الجهاد، وهو حديث طويل. وعروة المراد به عُروة بن الزبير، وقد مرَّ تعريفه في الحديث الثاني من بدء الوحي. والمِسْوَر -بكسر الميم- هو ابن مَخْرمة بن نَوْفل بن أُهَيْب بن زُهرة بن كِلاب بن مُرة بن كعب بن لُؤي القُرشي الزُّهري يُكْنى أبا عبد الرحمن، وأمه عاتكة بنت عَوْف أخت عبد الرحمن بن عَوْف، أسلمت وهاجرت، وقيل: أمه الشِّفاء بنت عَوْف أخته أيضاً. ولد بمكة بعد الهجرة بسنتين، وقدم به أبوه المدينة في ذي الحجة سنة ثمان، وهو أصغر من ابن الزبير بأربعة أشهر، وقُبضَ النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو ابن ثمان سنين، ووقع في بعض طرق حديثه في خطبة علي بنت أبي جهل عند مسلم: "سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنا مُحتلم". وهذا يدُلُّ على أنه ولد قبل الهجرة، ولكنهم أطبقوا على أنه وُلد بعدها، وتأوَّلوا أن قوله: "محتلم" من الحِلْم -بالكسر- لا من الحُلْم -بالضم- يريد أنه كان عاقلًا ضابطًا لما يتحمله. كان يلزم عمر بن الخطاب، وكان من أهل الفضل، ولم يزل مع خاله عبد الرحمن بن عَوْف مقبلًا ومدبرًا في أمر الشّورى، وبقي بالمدينة إلى أن قُتل عثمان، ثم نزل مكة. ويقال: إنه كان لفضله ودينه وحسن رأيه تغشاه الخوارج وتعظمه وتنتحل رأيه، وقد برّأه الله منهم.

وروي من طريق أم بكر بنت المِسْور عنه، قال: مرَّ بي يهودي والنبي -صلى الله عليه وسلم- يتوضأ، وأنا خلفه، فَرُفَع ثوبه، فإذا خاتَم النبوّة في ظهره، فقال لي اليهودي: ارفع رداءه عن ظهره، فذهبت أفعل، فنضح في وجهي كفًّا من ماء. وروي عنه أيضًا أنه قال: أقبلت بحجر أحمله ثقيل، وعليَّ إزار خفيف، فانحلَّ، فلم أستطع أن أضع الحجر حتى بلغت به موضعه، فقال لي النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ارجع إلى ثوبك فخُذه ولا تمشُوا عراة". وروي عن مالك قال: بلغني أن المِسْور بن مَخْرمة دخل على مروان، فجلس معه وحدثه، فقال المسور لمروان في شيء سمعه: بئس ما قلت. فركضه مروان برجله، فخرج المسور، ثم إنَّ مروان نام، فأُتِي في المنام، فقيل له: مالك وللمِسْوَر {كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا} [الإسراء: 84] , فأرسل مروان إلى المسور، وقال له: إني زُجرت عنك في المنام، وأخبره بالذي رأى. فقال المسور: لقد نُهيت عني في اليقظة والنوم، وما أراك تنتهي. روي له اثنان وعشرون حديثًا، اتّفقا على حديثين منها، وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بواحد. روى عن: الخلفاء الأربعة، وعمرو بن عوف القُرشي، والمغيرة، وغيرهم. وروى عنه: سعيد بن المسيِّب، وعلي بن الحسين، وعَوْف بن الطُّفيل، وعُروة، وآخرون. وكان مع ابن الزُّبير، ولما كان الحصار الأول الواقع من الجيش الذي أرسله يزيد بن معاوية، أصابه حجر من حجارة المنجنيق وهو يصلي، فأقام خمسة أيام، ومات يوم أتى نَعيُّ يزيد بن معاوية سنة أربع أو خمس وستين، وصلّى عليه ابن الزُّبير بالحجون، وهو معدود في المكيين، توفي وهو ابن اثنتين وستين سنة.

وقوله في الحديث: "وغيره" المراد بالغير هو مروان، لما يأتي عن البخاري في محل وصله المذكور عن المِسور بن مخرمة ومروان يُصَدِّق كل واحد منهما حديث صاحبه. ومروان هو مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القُرشي الأموي أبو عبد الملك أو أبو القاسم أو أبو الحكم، أمه آمنة بنت عَلْقمة بن صفوان الكِناني، تُكنى أم عثمان، وهو وابن عم عثمان وكاتبه في خلافته. ولد بعد الهجرة بسنتين، وقيل: بأربع، وقيل: ولد عام أحد، يعني ثلاث سنين. وقال ابن شاهين: مات النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو ابن ثمان سنين، فيصح أن مولده بعد الهجرة بسنتين. قال ابن حجر: لم أر مَن جزم بصحبته، فلم يثبت أزيد من الرؤية؛ لأنه خرج إلى الطائف طفلًا لا يعقلْ، وذلك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان قد نفى أباه الحكم إليها، فلم يزل بها حتى ولي عُثمان بن عفان رضي الله عنه، فرده عثمان، فقدم إلى المدينة هو وولده في خلافة عثمان، وتوفي أبوه، فاستكتبه عثمان رضي الله عنه، وضمه إليه، فاستولى عليه، إلى أن قُتل عثمان بسببه. ونظر علي رضي الله عنه إليه يومًا، فقال له: ويلك وويل أمة محمد منك ومن بنيك إذا ساءت دِرْعك. وعاب الإسماعيلي على البخاري تخريج حديثه، وعد من موبقاته أنه رمى طلحة أحد العشرة يوم الجمل، وهما جميعًا مع عائشة، ومات. ثم وثب على الخلافة بالسيف. وقال ابن حجر في "مقدمته": فإن ثبت أن له رؤية، فلا يُعرج على من تكلم فيه. وقد قال عُروة بن الزبير: كان مروان لا يُتَّهم في الحديث، وقد روى عنه سهل بن سعد الساعدي اعتمادًا على صدقه، وإنما نقموا عليه أنه رمى طلحة

يوم الجمل بسهم فقتله، ثم شهر السيف في طلب الخلافة، حتى جرى ما جرى. فأما قتل طلحة فكان متأولًا فيه، وأما ما بعد ذلك فإنما حمل عنه سهل بن سعد، وعروة، وعلي بن الحسين، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، وهؤلاء أخرج البخاري أحاديثهم عنه في "صحيحه" لما كان أميرًا على المدينة قبل أن يبدو منه في الخلاف على ابن الزُّبير ما بدا. وقد اعتمد مالك على حديثه ورأيه، والجماعة سوى مسلم. شهد الجمل مع عائشة، ثم صفين مع معاوية، ثم ولي أمر المدينة لمعاوية لما صار إليه الأمر جمع له معها مكة والطائف، ثم عزله عن المدينة سنة ثمان وأربعين، وولاها سعيد بن أبي العاص، فأقام عليها أميرًا إلى سنة أربع وخمسين، ثم عزله وولّى الوليد بن عُتبة، فلم يزل واليًا على المدينة حتى مات معاوية وولي يزيد، فلما كفَّ الوليد بن عُتبة عن الحسين وابن الزُّبير في شأن البيعة ليزيد، وكان الوليد رحيمًا حليمًا سربًّا، عزله وولّى يزيدُ عمرو بن سعيد الأشدق، ثم عزله ورجع الوليد بن عتبة، ثم عزله وولّى عثمان بن محمد بن أبي سفيان عليهما ثم لما مات وولي ابنه أبو ليلى معاوية ابن يزيد، وذلك سنة أربع وستين، وعاش بعد أبيه أربعين ليلة، ومات وهو ابن إحدى وعشرين سنة من قُرحة يقال لها: السكتة، وكانت أمه أُم خالد بنت هاشم بن عتبة بن ربيعة، وقالت له: اجعل الخلافة من بعدك لأخيك، فأبى، وقال: لا يكون لي مرُّها، ولكم حلوها. وثب مروان حينئذٍ عليها، وأنشد: إني أرى فتنةً تغلي مراجِلُها ... والملكُ بعدَ أبي لَيْلا لمَنْ غَلَبا ثم التقى هو والضحاك بن قيس في مرج راهط على أميال من دمشق، فقتل الضحاك، وكان مروان قد تزوج أم خالد بن يزيد ليضع منه، فوقع بينه وبين خالد يومًا كلام، فقال له مروان وأغلظ عليه في القول: اسكت يا ابن الرطبة. فقال له خالد: مؤتمن خائن. فندم مروان، وقال ما أدّى الأمانة إذا اؤتمن. ثم دخل

خالد على أمه، وقال لها: هكذا أردت يقول لي مروان على رؤوس الناس كذا وكذا؟ فقالت له اسكت، فوالله لا ترى بعد منه شيئًا تكرهه، وسأقرب عليك ما بعد، فسمته، ثم قامت إليه مع جواريها، فضمته حتى مات، وكانت خلافته عشرة أشهر. وقيل تسعة أشهر. وكان مروان يقال له: خيط باطل. وضُرِب يوم الدار على قفاه، فخرَّ لفيه، فلما بويع له بالإمارة، قال فيه أخوه عبد الرحمن بن الحكم، وكان ماجنًا شاعرًا محسنًا، وكان لا يرى رأي مروان: فواللهِ لا أدري وإني لسائلٌ .... حليلةَ مضروب القَفَا كيفَ يصنعُ لحى الله قومًا أمَّروا خيطَ باطلٍ .... على النّاسِ يُعَطي ما يشاءُ ويمنعُ وقيل: إنما قال له أخوه ذلك حين ولاّه معاوية إمارة المدينة، وكان كثيرًا ما يهجوه، ومن قوله فيه: وهبتُ نفسي فيكَ يا مروَ كلَّه .... لعمروٍ ومروانَ الطويلِ وخالدي فكل ابنِ أمٍّ زائدٌ غيرُ ناقصٍ .... وأنت ابنُ أمٍّ ناقص غير زائدِ ومن شعره فيه: ألا مَنْ مبلغٌ مروانَ عنّي ... رسولاً والرسولُ من البيانِ بأنَّك لَن ترى طردًا لِحُرٍّ ... كإلصاق به بعضَ الهوانِ وهل حُدِّثْتَ قبلي عن كريمٍ .... معينٍ في الحوادثِ أو مدانِ يقيمُ بدارِ مَضْيَعةٍ إذا لَمْ ... يكُنْ حيرانَ أو خَفِقَ الجَنانِ فلا تَقْذِف بيَ الرَّجوَين إنّي ... أقلُّ القوم مَن يفْنَى مكاني سأكفيكَ الذي استكفَيْتَ منّي ... بأمر لا يُخالجُهُ يدانِ ولو أنا بمنزلةٍ جميعًا ... جريت وأنتَ مضطربُ العِنانِ ولولا أنَّ أمَّ أبيكَ أمّي ... وأنْ مَنْ قَدْ هجاكَ فَقدْ هجاني لقد جاهَرْتُ بالبَغْضاءِ إنّي ... إلى أمرِ الجهارةِ والعلانِ

وهجاه مالك بن الريب وقال فيه: لعمركَ ما مروانُ يقضي أُمورنا ... ولكنَّ ما تقضي لنا بنتُ جعفرِ فيا ليتها كانت علينا أميرةً ... وليتَكَ يا مروانُ أمسيتَ فأخر وفي "حياة الحيوان" وروى الحاكم في كتاب الفتن والملاحم من "المستدرك"، عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: كان لا يولد لأحد مولودٌ إلا أتى به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فيدعو له، فأدخل عليه مروان بن الحكم، فقال: "هو الوَزَغُ بن الوَزَغِ بن الوزغ الملعون بن الملعون"، ثم قال: صحيح الإسناد. قلت: صحة هذا الحديث يأباها ما اتفق عليه ابن عبد البر وابن حجر في "الإصابة" وغيرهما، من أنه ولد بعد الهجرة بسنتين، وأبوه كافر بمكة، وهو من مسلمة الفتح كما اتّفقا على ذلك، فكيف يصح إدخاله عليه عليه الصلاة والسلام؟ فانظره. وقال الدُّمَيري أيضًا: وروى الحاكم أيضًا عن عمرو بن مُرة الجُهَنْي وكانت له صحبة، أن الحكم بن أبي العاص استأذن على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فعرف صوته، فقال: "إيذنوا له، وعليه وعلى من يخرج من صلبه لعنة الله إلا المؤمن منهم، وقليل ما هم، يترفهون في الدنيا ويضيعون في الآخرة، ذوو مكر وخديعة، يُعْطَوْن في الدُّنيا وما لهم في الآخرة من خلاق. مات مروان في رمضان سنة خمس وستين وهو ابن ثلاث وستين، وقيل: ابن ثمانية وستين، وهو معدود فيمن قتله النساء. لم يصح له سماع، وروى عن عثمان، وعلي، وزيد بن ثابت، وأبي هُريرة، وبُسْرة بنت صفوان، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث. وروى عنه: ابنه عبد الملك، وسهل بن سعد الساعدي وهو أكبر منه، وسعيد بن المسيِّب، وعلي بن الحسين، وعُروة بن الزُّبير، وأبو بكر بن

باب

عبد الرحمن بن الحارث، وعبيد الله بن عبد الله بن عُتبة، ومجاهد. باب كذا للمستملي بدون ترجمة، والباب الخالي من الترجمة كالفصل من الباب الذي قبله، وجعله الباقون من الباب السابق بدون فصل بباب.

الحديث الرابع والخمسون

الحديث الرابع والخمسون حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يُونُسَ قَالَ: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنِ الْجَعْدِ قَالَ: سَمِعْتُ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ يَقُولُ: ذَهَبَتْ بِي خَالَتِي إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ ابْنَ أُخْتِي وَقِعٌ، فَمَسَحَ رَأْسِي وَدَعَا لِي بِالْبَرَكَةِ، ثُمَّ تَوَضَّأَ فَشَرِبْتُ مِنْ وَضُوئِهِ، ثُمَّ قُمْتُ خَلْفَ ظَهْرِهِ، فَنَظَرْتُ إِلَى خَاتَمِ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ مِثْلِ زِرِّ الْحَجَلَةِ. قوله: "ذهبت بي خالتي" لم تُسَمَّ. وقوله: "فقالت: يا رسول الله إنَّ ابن أختي" هي عُلْبة -بالعين المهملة المضمومة، واللام الساكنة، والموحدة- بنت شَريح. وقوله: "وَقِعٌ" بفتح الواو وكسر القاف والتنوين، أي: أصابه وجع في قدميه، أو يشتكي لحم رجليه من الحفاء لغِلَظ الأرض والحجارة. وللكُشْميهني: "وَقَعَ" بلفظ الماضي، أي: وقع في المرض. وعند أبوي ذرٍّ والوقت: "وَجِع" بفتح الواو وكسر الجيم والتنوين، وعليه الأكثر، والعرب تسمّي كلَّ مرض وَجَعاً. وقوله: "فشربتُ من وَضوئه" هو بفتح الواو، أي: من الماء المتقاطر من أعضائه الشريفة. وقوله: "فنظرت إلى خاتم النُّبوة بين كتفيه" بكسر تاء خاتم أي: فاعل الختم، وهو الإتمام، والبلوغ إلى الآخر، وبفتحها وهو بمعنى الطابع، ومعناه الشيء الذي هو دليل على أنه لا نبي بعده، وفيه صيانة لنبوته عليه الصلاة

والسلام من تطرق القدح إليها صيانة الشيء المستوثَق بالختم. وقوله: "مثل" هو بكسر الميم وفتح اللام مفعول نظرت، وللأصيلي بكسر اللام بدل من المجرور. وقوله: "زِرِّ الحجلة" هو بكسر الزاي وتشديد الراء، واحدًا لأزرار، والحَجَلَة بفتحات واحدة الحِجال، وهي الكُلّة التي تُعلق على السرير، ويُزين بها للعروس كالبشخانات، وتكون ذات أزرار وعُرى، والزِرُّ حينئذ على حقيقته. وقيل: المراد بالحجلة الطير، وهو اليعقوب، يقال للأنثى: حجلة. وعلى هذا فالمراد بِزرِّها بيضتها. وقد وردت في صفة خاتم النبوة أحاديث مشابهة لما ذكر، منها عند مسلم، عن جابر بن سَمُرة: "كأنه بيضة حمامة"، وعند ابن حِبّان عن سِماك بن حَرْب: "كبيضة نَعامة" ونبّه على أنها غلط، وعند قاسم بن ثابت من حديث قُرة بن إياس: "مثل السِّلْعة"، وعند أحمد من حديث أبي رِمْثة التيمي قال: "خرجت مع أبي حتى أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فرأيت على كتفه مثل التُّفاحة، فقال أبي: إني طبيبٌ ألا أطِبُّها لك؟ قال: طبيبُها الذي خلقها". وأما ما ورد من أنها كانت كأثر محجم، أو كالشامة السوداء أو الخضراء، أو مكتوب عليها محمد رسول الله، أوسر فأنت المنصور، أو نحو ذلك، فلم يثبت منها شيء، ولا تغترَّ بما وقع منها في "صحيح" ابن حِبان فإنه غَفِل حيث صحَّح ذلك. قال القُرطبي: اتفقت الأحاديث الثابته على أن خاتَم النبوة كان شيئًا أحمر بارزًا عند كتفه الأيسر، قدره إذا قلَّ قدر بيضة الحمامة ,. وإذا كثُر جمع اليد. وعند مسلم عن عبد الله بن سَرْجس: "أنَّ خاتم النبوة كان بين كتفيه عند ناغِض كتفه اليسرى" والناغض أعلى الكتف، أو العظم الدقيق الذي على طرفه.

وعند الطّبراني من حديث عبّاد بن عمرو:"كانه ركبةُ عنز على طرف كتفه الأيسر"، ولكن سنده ضعيف. قال العلماء: السر في ذلك أن القلب في تلك الجهة، وقد ورد في خبر مقطوع أن رجلًا سأل ربه أن يُريه موضع الشيطان، فرأى الشيطان في صورة ضِفْدع عند نقص كتفه الأيسر حِذاء قلبه، له خرطوم كالبعوضة" أخرجه ابن عبد البر بسند قوي عن عُمر بن عبد العزيز. وله شاهد مرفوع عن أنس عند أبي يَعْلى وابن عَدي، ولفظه: "إن الشيطان واضع خَطْمِه على قلب ابن آدم، فإذا سهى وغَفَل وسوس، وإذا ذكر الله خَنَس". وأخرجه سعيد بن منصور من وجه آخر عن ابن عباس. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي دؤاد في "كتاب الشريعة" عن عُروة بن رُوَيْم، قال: إن عيسى عليه السلام سأل ربه أن يريه موضع الشيطان من ابن آدم، قال: فإذا برأسه مثل الحية، واضع رأسه على ثمرة القلب، فإذا ذكر العبد ربّه خنس، وإذا غَفَل وسوس. قال السُّهيلي: وضع خاتم النبوة عند نغض كتفه -صلى الله عليه وسلم- لأنه معصوم من وسوسة الشيطان، وذلك الموضع يدخل منه الشيطان. وهل وُضع الخاتم بعد مولده -صلى الله عليه وسلم- أو وُلد وهو به؟ والجواب أن في "الدلائل" لأبي نُعيم أنه عليه الصلاة والسلام لما وُلد ذكرت أمه أنَّ الملك غمسه في الماء الذي أنبعه ثلاث غمسات، ثم أخرج صُرّة من حرير أبيض، فإذا فيها خاتَم، فضرب به على كتفه كالبيضة المكنونة، تضيء كالزُّهرة. فهذا صريح في وضعه بعد مولده، وقيل: ولد به. وأراد البخاري بهذه الأحاديث الاستدلال على ردِّ قول من قال بنجاسة الماء المستعمل، وقد مر لك عند الترجمة من قال بذلك، وهذه الأحاديث ترد عليه؛ لأن النجس لا يُتَبَرَّك به. وحديث المَجّة وإن لم يكن فيه تصريح بالوضوء، لكن توجيهه أن القائل

رجاله أربعة

بنجاسة الماء المستعمل إذا علله بأنه مضاف، قيل له: إنه مضاف إلى طاهر لم يتغير به، وكذلك الماء الذي خالطه الريق طاهر لحديث المجّة، وأما من علله منهم بأنه ماء الذَّنوب، فيجب إبعاده محتجًّا بالأحاديث الواردة في ذلك عند مسلم وغيره، فأحاديث الباب أيضًا تردُّ عليه؛ لأن ما يجب إبعاده لا يُتَبَرَّك به، ولا يُشرب. قال ابن المُنذر: وفي إِجماع أهل العلم على أن البلل الباقي على أعضاء المتوضىء، وما قطر منه على ثيابه طاهر، دليل قوي على طهارة الماء المستعمل. قلت: ما أجاب به العيني من أن القائل بنجاسة محلّه عنده في المتقاطر عن الأعضاء على غير الثوب، جواب لا يَخْفى بطلانُه، فكيف يكون الشيء الواحد بعضه طاهر وبعضه نجس, فما دام على العضو يكون طاهرًا، وعند نزوله عنه ينجس, فهذا غير معقول. رجاله أربعة: الأول: عبد الرحمن بن يونُس بن هاشم الرُّومي أبو مسلم المُسْتَملي البغدادي مولى أبي جعفر المنصور. قال أبو حاتم: صدوق. وقال ابن حِبّان في "الثقات": كان صاعقة لا يُحمد أمره. وقال السّرّاج: سألت أبا يحيى محمد بن عبد الرحمن عنه فلم يرضَه، وأراد أن يتكلَّم فيه، ثم قال: أستغفر الله. فقلت له: في الحديث؟ فقال: نعم، وشيء آخر. وقال أبو داود: كان يجوِّزُ حدَّ المستحلّين للشُّرب. قال الخطيب: أحسب أن هذا هو الذي كنّى عنه محمد بن عبد الرحمن. وقال ابن سعد: استملى على ابن عُيينة ويزيد بن هارون، ورحل في طلب الحديث. وفي "التهذيب": إن البخاري روى عنه أربعة أحاديث. وقال في "المقدمة": إنه لم يرو له إلا حديثًا واحدًا في الوضوء من "مسند" السائب بن يزيد، بمتابعة إبراهيم بن حمزة وغيره، عن حاتم بن إسماعيل، فانظرهما.

روى عن: ابن عُيينه، وابن أبي فُدَيك، وحاتم بن صَفْوان الأُموي، وعبد الله بن إدريس وغيرهم. وروى عنه: البخاري، وإبراهيم الحربي، ومحمد بن سعد، وأبو حاتم، وأبو زُرعة، وابن أبي الدُّنيا، وغيرهم. مات فجأة في رجب سنة أربع وعشرين ومئتين. والرُّومي في نسبه نسبة إلى الرُّوم -بالضم- جيل من ولد الروم بن عيصو بن إسحاق عليه السلام، سُمّوا باسم جدهم. قيل: كان لِعيصو ثلاثون ولدًا، منهم الروم. ودخل في الروم طوائف من تَنوخ ونهد وسليم وغيرهم من غسان، كانوا بالشام، فلما أجلاهم المسلمون عنها دخلوا بلاد الروم فاستوطنوها، فاختلطت أنسابهم. ورُوميّ جمعه رُوم، كزِنجيّ وزَنج. الثاني: حاتم بن إسماعيل المدني أبو إسماعيل الحارثي مولاهم. وثقه ابن معين والعِجْلي. وقال ابن سعد: كان ثقة مأمونًا كثير الحديث. وقال أحمد: هو أحَبَّ إلى من الدَّراوَرْدِيّ، وزعموا أنه كان به غَفْلة، إلا أن كتابه صالح. وقال أبو حاتم: هو أحب إلى من سعيد بن سالم. وقال النّسائي: ليس به بأس. وقال مُرة: ليس بالقوي. وتكلم علي بن المديني في أحاديثه عن جعفر بن محمد. قال ابن حجر: احتج به الجماعة، ولم يُكثر له البخاري، ولا أخرج له من روايته عن جعفر شيئًا، بل أخرج ما تُوبع عليه من روايته عن غير جعفر. روى عن: يحيى بن سعيد الأنصاري، ويزيد بن أبي عُبيد، وهشام بن عُروة، والجُعَيْد بن عبد الرحمن، وموسى بن عُقبة، وشَريك بن عبد الله القاضي، وغَيرهم.

وروى عنه: ابن مَهْدي، وابنا أبي شيبة، وقُتيبة، وإسحاق بن رَاهويه، ويَحيى بن مَعين، وغيرهم. مات ليلة الجمعة لتسع ليالٍ مضَيْن من جُمادى الأولى عام سبع وثمانين ومئة. الثالث: الجَعْد بن عبد الرحمن أبو أُويس، ويقال: أُوَيس الكِندي، ويقال: التّميمي، وقد ينسب إلى جده، ويقال له: الجُعيد أيضًا. روى عن: السائب بن يزيد، وعائشة بنت سَعْد، ويزيد بن خَصِيفَةَ، وغيرهم. وروى عنه: سليمان بن بلال، والدَّراوَرْدِيّ، وحاتم بن إسماعيل، والقطّان، ومكّي بن إبراهيم، وغيرهم. وثقه ابن مَعين والنّسائي وذكره ابن حِبان في "الثقات" في التابعين، ثم أعاده في أتباعهم، وقال: روَى عن السائب بن يزيد إن كان سمع منه. ولا معنى لشكه في ذلك، فقد أخرج البخاري سماعه من السائب في هذا الحديث. وقال ابن المديني: لم يروِ عنه مالك. قال السّاجيّ: أحسبه لصغره. الرابع: السائِب بن يزيد بن سعيد بن ثُمامة الأسود ابن أخت النَّمِر، والنَّمِر خال أبيه يزيد هو النَّمِر بن جَبَل، ووهم من قال: إنه النَّمِر بن قاسِط، قاله في "الإصابة" ردًّا على ابن عبد البر. وأم أمه أم العلاء بنت شَريح الحَضْرَمية، وكان العلاء بن الحَضْرَميّ خاله. واختلف في نسبه، فقيل: كِندي. وقيل: أزدي حالف بني كِنانة. وقيل: كِناني، ثم لَيْثي. وقيل: هُذَلي. له ولأبيه صحبة. ولد في السنة الثانية من الهجرة، فهو تِرب ابن الزُّبير والنُّعمان بن بشير في قول من قال ذلك. كان عاملًا لعمر على سوق المدينة مع عبد الله بن عُتبة بن مسعود. وروي عنه أنه قال: حجَّ بي أبي وأنا ابن سبع سنين مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

لطائف إسناده

وروي من طريق الزُّهري أنه قال: لما قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- من غزوة تبوك تلقّاه الناس، فتلقّيته مع الناس. وقال مرة: مع الغلمان. روي له خمسة أحاديث أخرجها البخاري كلها. روى عن: النبي -صلى الله عليه وسلم-، وحُوَيطِب بن عبد العُزّى، وعمر، وعثمان، وعبد الرحمن بن السعدي، وأبيه يزيد، وخاله العلاء بن الحَضْرميّ، وطلحة بن عُبيد الله. وروى عنه ابنه عبد الله، والجعد بن عبد الرحمن، والزُّهري، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وحُميد بن عبد الرحمن بن عَوْف، وإبراهيم بن عبد الله بن قارِط. مات بالمدينة سنة إحدى وتسعين. وقيل: سنة ست. وقيل: سنة ثمان وثمانين، وقال ابن أبي دؤاد: هو آخر من مات من الصحابة بالمدينة. وخالة السائب بن يزيد، قال ابن حَجر في "مقدمته": اسمها سَلمى، ولم أجد لها تعريفًا ما. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع والعنعنة والسماع، ورواته ما بين بغدادي وكوفي ومدني، وفيه الرواية من صغار الصحابة. أخرجه البخاري هنا وفي صفة النبي -صلى الله عليه وسلم- عن محمد بن عُبيد الله، وفي الطِّب عن إبراهيم بن حمزة. وفي الدّعوات عن قُتيبة. ومسلمٍ في صفة النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قُتيبة وغيره. والترمذي في المناقب عن قُتيبة أيضًا، وقال: حسن غريب. والنّسائي في الطب عن قُتيبة أيضًا. وفي رواية: "تمضمض". باب من مَضْمض واستنشق من غَرْفة واحدة

الحديث الخامس والخمسون

الحديث الخامس والخمسون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ أَفْرَغَ مِنَ الإِنَاءِ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَهُمَا، ثُمَّ غَسَلَ أَوْ مَضْمَضَ، وَاسْتَنْشَقَ مِنْ كَفَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَفَعَلَ ذَلِكَ ثَلاَثًا، فَغَسَلَ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ مَا أَقْبَلَ وَمَا أَدْبَرَ، وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ قَالَ هَكَذَا وُضُوءُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. قوله: "ثم غسل" أي: فمه. وقوله: "أو مضمض" كذا عنده بالشك، وأخرجه مسلم عن خالد من غير شك، ولفظه: "ثم أدخل يده فاستخرجها، فمضمض واستنشق"، وأخرجه الإسماعيلي كذلك عن خالد، فالظاهر أن الشك فيه من مسدَّد شيخ البخاري، وأغرب الكِرماني فقال: الظاهر أن الشكَّ فيه من التابعي. وقوله: "من كَفّة واحدة" كذا في رواية أبي ذرٍّ، وفي نسخة: "من غَرفة واحدة" وللأكثر: "من كَفٍّ" بغير هاء. قال ابن بطّال: المراد بالكَفَّة الغَرْفَة، فاشتُقَّ لذلك من اسم الكَفِّ عبارةً عن ذلك المعنى، قال: ولا يُعرف في كلام العرب إلحاق هاء التأنيث في الكف، ومحصله أن المراد بقوله: "كَفة" فَعْلة لا أنها تأنيث الكف. وقال صاحب "المشارق": قوله: "من كفه" هي بالفتح والضم كغرفة، أي: مما ملأ كفه من الماء. وقوله: "ثم غسل يديه" لم يذكر غسل الوجه في بعض الروايات اختصارًا، وهو ثابت في رواية مسلم وغيره.

رجاله خمسة

والكلام عن المضمضة مر في باب غسل الوجه باليدين من غَرْفة واحدة، وفي غير ذلك، ومرت بقية مباحث هذا الحديث قريبًا. رجاله خمسة: الأول: مسدَّد مر تعريفه في الحديث السادس من كتاب الإيمان, ومر تعريف عمرو بن يحيى وأبيه يحيى في الخامس عشر منه، وتعريف عبد الله بن زيد في الحديث الثالث من كتاب الوضوء. الثاني: من السند خالد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن يزيد الطحّان أبو الهيثم، ويقال: أبو محمد المُزَني مولاهم الواسطي. وثّقه ابن سَعْد، وأبو زُرعة، والنسّائي. وقال أبو حاتم: ثقة صحيح الحديث. وقال التِّرمذي: ثقة حافظ. وقال أحمد بن حَنْبل: كان خالد الطحّان ثقة صالحًا في دينه، وهو أحب إليّ من هُشيم. وقال إسحاق الأزرق: ما رأيت أفضل من خالد الطحّان. قيل له: قد رأيت سُفيان؟ قال: كان سفيان رجل نفسه، وكان خالد رجل عامّة. وسُئل محمد بن عمار عن جَرير وخالد: أيُّهما أثبت؟ فقال: خالد. وذكره ابن حِبّان في "الثقات". ويحكى أنه تصدّق بزِنَة بدنه فضةً ثلاث مرات. روى عن إسماعيل بن أبي خالد، وبيان بن بِشر، وحُميد الطّوبل، وسُليمان التميميّ، وابن عَوْن، وخالد الحذّاء، ويونُس بن عُبيد، وعَمرو بن يَحيى بن عُمارة، وخلق. وروى عنه: زيد بن الحُباب، وعبد الرحمن بن مَهْدي، ووكيع، ويحيى القطّان، وإسحاق بن شَاهين الواسطيّ، وقتيبة، وخَلْق. مات سنة تسع وسبعين ومئة. وقيل: سنة ست وثمانين ومئة. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع والعنعنة، ورواته ما بين بَصْري

باب مسح الرأس مرة

وواسطي ومدني، وفيه فعل الصحابي ثم إسناده إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-. وقد مر أن البخاري أخرج حديث عبد الله بن زيد في خمسة مواضع. وأخرجه مسلم عن محمد بن الصباح، والإِسماعيلي من طريق وَهْب بن بِقيّة. باب مسح الرأس مرة وللأصيلي: "مسحة"، وله في أخرى: "مرة واحدة".

الحديث السادس والخمسون

الحديث السادس والخمسون حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ قَالَ: شَهِدْتُ عَمْرَو بْنَ أَبِي حَسَنٍ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ عَنْ وُضُوءِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَدَعَا بِتَوْرٍ مِنْ مَاءٍ، فَتَوَضَّأَ لَهُمْ، فَكَفَأَ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَهُمَا ثَلاَثًا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ، فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ، وَاسْتَنْثَرَ ثَلاَثًا بِثَلاَثِ غَرَفَاتٍ مِنْ مَاءٍ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثًا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ، فَغَسَلَ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ، فَمَسَحَ بِرَأْسِهِ فَأَقْبَلَ بِيَدَيْهِ وَأَدْبَرَ بِهِمَا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ فَغَسَلَ رِجْلَيْهِ. هذا الحديث قد مرت مباحثه مستوفاة قريبًا. رجاله ستة: الأول: سُليمان بن حرب وقد مر في الرابع عشر من الإيمان. والثاني: وُهَيْب بن خالد، وقد مرَّ تعريفه في الحديث السادس والعشرين من كتاب العِلْم. ومر تعريف عمرو بن يحيى وأبيه في الخامس من كتاب الإيمان. ومر ذكر عمرو بن أبي حسن في الحديث الخمسين من كتاب الوضوء هذا. وعبد الله بن زيد في الحديث الثالث منه. ومر ذكر المواضع المخرج فيها في الخمسين من هذا الكتاب.

الحديث السابع والخمسون

الحديث السابع والخمسون حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ قَالَ: مَسَحَ رَأْسَهُ مَرَّةً. قوله: "حدثنا وُهَيْب" أي: بإسناده المذكور في باب غسل الرجلين. وذكر في هذه الرواية أن مسح الرأس مرة، وقد مر في باب الوضوء ثلاثًا ثلاثًا في الكلام على حديث عُثمان ما نُقل من الخلاف في استحباب العدد في مسح الرأس، ومن أقوى الأدلة على عدم العدد الحديث المشهور الذي صححه ابن خُزَيْمة وغيره، عن عبد الله بن عَمرو بن العاص في صفة الوضوء، حيث قال النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد أن فرغ: "من زاد على هذا فقد أساء وظَلَم"، فإن في رواية سعيد بن منصور فيه التصريح بأنه مسح رأسه مرة واحدة، فدل على أن الزيادة في مسح الرأس على المرة غير مستحبة. ويحمل ما ورد من الأحاديث في تثليث المسح إن صحَّت على إرادة الاستيعاب بالمسح، لا أنها مسحات مستقلة لجميع الرأس، جمعًا بين هذه الأدلة. وموسى هو موسى بن إسماعيل التَّبوذَكي وقد مر في الرابع من بدء الوحي. ووُهَيْب هو ابن خالد المذكور محله الآن. وطريقة موسى هذه تقدمت في الحديث الحادي والخمسين من كتاب الوضوء هذا. باب وضوء الرجل مع امرأته وفضل وضوء المرأة واو "وُضوء" الأول مضمومة لأن المراد منه الفعل، وفي بعض النسخ: "مع المرأة"، وهو أعم من أن تكون امرأته أو غيرها. و"وَضوء" الثاني واوه مفتوحة؛ لأن المراد به الماء الفاضل في الإناء بعد

فراغها من الوضوء. و"فضل" مجرور عطفًا على "وضوء الرجل". وَتوَضّأ عُمَرُ بالحَميم من بَيْتِ نَصْرَانيةٍ. قوله: "بالحَميم" بفتح الحاء المهملة، أي: الماء المسخَّن، فعيل بمعنى مفعول. ولفظ الأثر عند عبد الرزاق: "إن عُمر كان يتوضّأ بالحميم ويغتسل منه"، ولفظه عند الدّارقُطني: "كان يُسَخن له ماء في قُمْقُم ثم يغتسِلُ منه". ومناسبة الأثر الأول للترجمة من جهة أن الغالب أن أهل الرجل تَبَع له فيما يفعل، فأثار البخاري إلى الرد على من منع المرأة أن تتطهر بفضل الرجل؛ لأن الظاهر أن امرأة عمر كانت تتوضأ بفضله أو معه، فيناسب قوله: "وضوء الرجل مع امرأته" أي: من إناء واحد. وأما التطهُّر بالماء المسخن فاتّفقوا على جوازه إلا ما نُقل عن مجاهد. وقوله: "ومن بيت نصرانية" معطوف على قوله: "بالحميم" أي: وتوضأ عمر من بيت نصرانية. ولفظ الأثر عند الشافعي: "توضّأ عمر من ماء في جرة نصرانية"، وهو من رواية ابن عُيينة عن زيد بن أسلم. وأثبت الإسماعيلي واسطة بين ابن عُيينة وزَيْد، فقال: عن ابن زيد، عن أبيه به. وأولاد زيد هم: عبد الله، وأسامة، وعبد الرحمن. وأوثقهم وأكبرهم عبد الله، والمظنون أنه هو الذي سمع من ابن عُيينة ذلك. وهو مناسب لقوله في الترجمة: "وفضل وضوء المرأة"؛ لأن عمر توضأ بمائها ولم يستفصل، مع جواز أن تكون تحت مسلم، واغتسلت من حيض ليحلَّ لزوجها وطؤها، ففضل منه ذلك الماء. وهذا وإن لم يقع به التصريح، لكنه محتملٌ، وجرت عادة البخاري بالتمسك بمثل ذلك عند عدم الاستفصال، وإن كان غيره لا يستدِلُّ بذلك، ففيه دليل على جواز التطهُّر بفضل وضوء المرأة

المسلمة، إذ لا تكون أسوأ حالًا من النصرانية. وفيه دليل على جواز استعمال مياه أهل الكتاب من غير استفصال. وقال الشافعي في "الأم": لا بأس بالوضوء من ماء المشرك، وبفضل وضوئه ما لم تعلم فيه نجاسة. وقال ابن المُنْذِر: انفرد إبراهيم النَّخَعي بكراهة فضل المرأة إذا كانت جُنبًا، ويأتي هذا قريبًا عند الحديث الآتي. واعترض القسطلاني على المصنف بإتيانه بهذين الأثرين، قائلًا: إنه لا مناسبة فيهما للترجمة. قال: أما توضُّؤ عمر بالحميم فلا يخفى عدم مناسبته، وأما توضّؤه من بيت نصرانية فلا يدُلُّ على أنه كان من فضل ما استعملته، بل الذي يدلُّ عليه جواز استعمال مياههم. ولا خلاف في استعمال سؤر النصّرانية لأنه طاهر، خلافًا لأحمد وإسحاق رضي الله تعالى عنهما وأهل الظاهر، واختلف قول مالك رحمه الله تعالى، ففي "المدونة": لا يتوضأ بسؤر النّصراني ولا بما أدخل يده فيه. وفي "العتبية" أجازه مرة، وكرهه أخرى. ومشهور مذهبه الكراهة إلا إذا عُلمت النجاسة على فيه. وفي رواية ابن عساكر حذف الأثرين، وهو أولى لعدم المطابقة بينهما وبين الترجمة. ولعل ما مرَّ من المناسبة عن الفتح لم يظهر للقسطّلاني. ووقع في رواية كريمة بحذف الواو من قوله: "ومن بيت" وهذا الذي جرّأ الكِرماني أن يقول: المقصود ذكر استعمال سؤر المرأة. وأما الحميم فذكره لبيان الواقع. وقد عرفت أنهما أثران متغايران. الأول: وهو: "توضأ عُمر بالحميم" وصله سعيد بن منصور وعبد الرزاق وغيرهما بإسناد صحيح، ورواه ابن أبي شيبة والدارقطني، وقال الدّارقُطني: إسناده صحيح.

والثاني: وهو "توضأ عمر من بيت نصرانية" وصله الشافعي وعبد الرزاق وغيرهما عن ابن عُيينة عن زيد بن أسلم، ورواه البَيْهقي من طريق سعدان بن نصر عنه، ورواه الإسماعيلي من وجه آخر عنه. وعمر مرَّ في الأول من بدء الوحي.

الحديث الثامن والخمسون

الحديث الثامن والخمسون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَتَوَضَّئُونَ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- جَمِيعًا. قوله: "كان الرجال والنساء" ظاهره التعميم، فاللام للجنس لا للاستغراق. وقوله: "في زمان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جميعًا" أي: حال كونهم مجتمعين لا متفرقين، وزاد ابن ماجه في هذا الحديث، عن مالك: "من إناء واحدٍ"، وزاد أبو داود، عن نافع، عن ابن عمر: "نُدْلي فيه أيدينا"، وفي "صحيح" ابن خُزيمة، عن نافع، عن ابن عُمر: "أنه أبصر النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه يتطهَّرون والنساء معهم من إناء واحد، كلهم يتطهرون منه". واستشكل توضُّؤ النساء والرجال من إناء واحد، فقال ابن التين: معناه أن الرجال والنساء كانوا يتوضُّؤون جميعًا في موضع واحد، هؤلاء على حدةٍ وهؤلاء على حدةٍ، وزيادة من إناء واحد المتقدمة ترد عليه. وحُكي عن سُحنون أن معناه كان الرجال يتوضؤون ويذهبون، ثم تأتي النساء فيتوضَّأْن وهو خلاف الظاهر من قوله: "جميعًا". قال أهل اللغة: "الجميع ضد المفترق، وترده رواية ابن خزيمة المتقدمة. والأوْلى في الجواب أن يقال: لا مانع من الاجتماع قبل نزول الحجاب، وأما بعده فيختصُ بالزوجات والمحارم. ودل الحديث على أن الاغتراف من الماء القليل لا يصيِّره مستعملًا، لأن

أوانيهم كانت صغارًا كما صرح به الشافعي في "الأم" في عدة مواضع. وفيه دليل على طهارة الذِّمية، واستعمال فضل طهورها وسؤرها, لجواز تزوجهنَّ، وعدم التفرقة في الحديث بين المسلمة وغيرها. والحديث يدل على الجزء الأول من الترجمة فقط، وأما فضل وضوء المرأة فيجوز للرجل الاستعمال به من غير كراهة، سواء خلت به أم لا عند مالك والشافعي وأبي حنيفة وجمهور العلماء. وقال أحمد وداود: لا يجوز إذا خلت به. وقال الحسن وابن المسيِّب: لا يجوز مطلقًا. وأشهر ما رُوي في الجواز ما أخرجه الشيخان بلفظ: "إن النبي -صلى الله عليه وسلم- وميمونة كانا يغتسلان من إناءٍ واحد"، وما أخرجه أصحاب "السنن" والدّارقطني، وصححه التِّرمذي وابن خزيمة وغيرهما من حديث ابن عباس، عن ميمونة، قالت: "أجنبتُ فاغتسلتُ من جَفْنَةٍ ففَضَلت فيها فَضْلة، فجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- يغتسل منه، فقلت له، فقال: الماء ليس عليه جَنابة، واغتسل منه"، وما أُعِلَّ به من كون سِماك بن حَرْب رواية عن عكرمة كان يقبل التلقين، يرده أن شُعبة رواه عنه وهو لا يحمل عن مشايخه إلا صحيح حديثهم. ومن أصح ما ورد في المنع ما أخرجه أبو داود والنسائي عن حُميد بن عبد الرحمن الحِمْيَري قال: لقيت رجلًا صحب النبي -صلى الله عليه وسلم- أربع سنين، فقال: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن تغتسلَ المرأة بفضلِ الرجل، أو يغتسل الرجل بفضل المرأة، وليَغْتَرِفا جميعًا" رجاله ثقات. وما أعله به البيهقي من أنه في معنى المرسل مردود بأن إبهام الصحابي لا يضُرُّ. وكذا ما قاله ابن حَزْم من أنَّ داود راويه عن حُميد هو ابن يزيد الَأوْدي وهو ضعيف، مردود بأنه ابن عبد الله الأوْدي، وهو ثقة. وقول أحمد فيما رواه عنه المَيْموني: إن الأحاديث من الطريقين مضطربة إنما يُصار إليه عند تعذر الجمع، وهو ممكن بأن تحمل أحاديث النهي على ما تقاطر من الأعضاء، والجواز على ما بقي من الماء، وبذلك جمع الخطّابي، أو

رجاله أربعة

يُحمل النهي على التنزيه جمعًا بين الأدلة. رجاله أربعة: الأول: عبد الله بن يوسُف. الثاني: الإمام مالك، وقد مرَّ تعريفهما في الحديث الثاني من بدء الوحي. ومر تعريف نافع في الحديث الثالث والسبعين من كتاب العلم. وعبد الله بن عُمر في أول كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع والعنعنة، والقول، ورواته مدنيّون ما عدا عبد الله بن يوسف، فهو تِنّيسيّ، وهذا السند من سلسلة الذهب. وعن البخاري: أصح الأسانيد: مالك عن نافع عن عبد الله بن عُمر أخرجه أبو داود من حديث أيوب عن نافع. وقول عبد الله بن عمر: "كان الرجال والنساء" من التقرير المرفوع حكمًا، لأن الظاهر اطلاعه على ذلك، لتوفر دواعيه على سؤاله عن أمر دينهم، ولأن ذلك الزمان زمان نزول الوحي، فلا يقع من الصحابة فعل شيء ويستمرُّون عليه إلا وهو غير ممنوع الفعل. وقد استدل جابر وأبو سعيد رضي الله عنهما على جواز العَزْل بأنهم كانوا يفعلونه، والقرآن ينزل، ولو كان مما يُنهى عنه لنهى عنه القرآن. وقاله الحاكم والخطيب: ليس بمرفوع، لجواز أن لا يعلم النبي -صلى الله عليه وسلم- به. وفي المسألة سبعة أقوال: الرفع مطلقًا. والوَقْف مطلقًا. والتفصيل بين ما قُيد بالعصر النبوي وما لم يقيد به. الرابع: هو إن كان الفِعْل مما لا يَخْفى غالبًا فمرفوع، وإلا فموقوف. والخامس: هو أنه إن ذُكر في معرض الاحتجاج فمرفوع، وإلا فموقوف. السادس: إن كان قائله مجتهدًا فموقوف، وإلا فمرفوع. والسابع: إن قال: كنا نرى فموقوف، أو كنا نفعل ونحوه فمرفوع؛ لأن نرى من الرأي، فيُحتمل أن يكون سنده استنباطًا لا توقيفًا. ثم محل الخلاف إذا لم يكن في القصة اطّلاعه -صلى الله عليه وسلم- على ذلك، وإلا

باب صب النبي -صلى الله عليه وسلم- وضوءه على المغمى عليه

فمحله الرفع قطعًا، كقول ابن عُمر: "كنّا نقول ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيٌّ: أفضل هذه الأمة بعد نبيِّها -صلى الله عليه وسلم- أبو بكر وعُمر وعُثمان، ويسمع ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلا يُنكره" رواه الطبراني في "معجمه الكبير"، ونظم العراقي المسألة بقوله: قولُ الصحابيِّ مِنَ السنَّةِ أوْ ... نحوَ أُمِرْنا حكْمُه الرفعُ ولَوْ بعدَ النبيِّ قالَهُ بأعصُرِ ... على الصحيح وهْوَ قولُ الأكْثَرِ وقولُه كنّا نرى إن كانَ ... معْ عصرِ النبيِّ من قبيلِ ما رَفَعْ وقيلَ لا أَوْ لا فلا كذاكَ لَهْ ... وللخطيب قلتُ لكِنْ جَعَلَهْ مرفوعًا الحاكم والرّازيُّ ... وابنُ الخَطيب وَهو والقَوِيُّ لكن حديثُ "كانَ بابُ المُصطفى ... يُقْرعُ بالأظْفارَ" ممّا وُقِفا حكمًا لدى الحاكمِ والخطيبِ ... والرفعُ عندَ الشيخِ ذُو تصويبِ باب صب النبي -صلى الله عليه وسلم- وضوءه على المغمى عليه قوله: "وَضوءه" بفتح الواو، أي: الماء الذي توضّأ به. وقوله: "على المُغْمى عليه" بضم الميم وإسكان المعجمة، من أصابه الاغماء، ويكون العقل فيه مغلوبًا، وفي الجنون مسلوبًا، وفي النوم مستورًا.

الحديث التاسع والخمسون

الحديث التاسع والخمسون حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرًا يَقُولُ: جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَعُودُنِي، وَأَنَا مَرِيضٌ لاَ أَعْقِلُ، فَتَوَضَّأَ وَصَبَّ عَلَيَّ مِنْ وَضُوئِهِ، فَعَقَلْتُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لِمَنِ الْمِيرَاثُ إِنَّمَا يَرِثُنِي كَلاَلَةٌ. فَنَزَلَتْ آيَةُ الْفَرَائِضِ. قوله: "يعودُني" زاد المصنف في الطب: "ماشيًا". وقوله: "لا أعقلُ" أي: لا أفهم شيئًا، فحذف مفعوله ليعُمَّ، وصرح به في التفسير. وفيه إشارة إلى عظم الحال. وله في الطب: "فَوَجَدني قد أغمي عليَّ" وهو المطابق للترجمة. وقوله: "فصبَّ على من وَضوئه" بفتح الواو، يحتمل أن يكون المراد صبَّ علي بعض الماء الذي توضأ به، أو مما بقي منه، والأول المراد، فللمصنف في الاعتصام: "ثم صبَّ وَضوءه عليَّ" ولأبي داود: "فتوضأ وصبّه عليَّ". وقوله: "لمَن الميراث؟ " أي: لمن ميراثي، فأل عِوَضٌ عن المضاف إليه، ويؤيده أن في الاعتصام أنه قال: "كيف أصنع في مالي؟ ". وقوله: "إنما يرثني كَلالة" أي: غير ولد ولا والد، قيل: هو مأخوذ من الإكليل، كان الورثة أحاطوا به وليس له اب ولا ابن. وقيل: هو مأخوذ من كلَّ يكلُّ، يقال: كلَّت الرحم إذا تباعدت وطال انتسابها. وقيل: الكلالة من سوى الولد وولد الولد. وقيل: من سوى الوالد. وقيل: هم الأخوة. وقيل: من الأم. وقال الأزهري: سمي الميت الذي لا ولد له ولا والد كلالة، وسمي الوارِث

رجاله أربعة

كلالة، وسمي الارث كَلالة. وعن عطاء: الكَلالة هي المال. وقيل: الفريضة. وقيل: الورثة والمال. وقيل: بنو العم ونحوهم. وقيل: العَصَبات، وإن بَعُدوا. وقيل غير ذلك. ولأجل كثرة الاختلاف فيها صحَّ عن عمر أنه قال: لم أقُل في الكَلالة شيئًا. وقوله: "فنزلت آية الفرائض"، أي: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ ...} إلى آخر السورة، أو المراد: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} أي: يامركم الله ويعَهد إليكم في شأن ميراث أولادكم، وهو إجمال تفصيله: {فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} إلى آخرها. وفي الحديث عيادة الأكابر للأصاغر، والتبرك، والاستشفاء بما ماسَّه عليه الصلاة والسلام أو قَرُب منه، دمَّر الله الخوارج ما أقبح اعتقادهم فيه -صلى الله عليه وسلم-. رجاله أربعة: الأول: أبو الوليد عبد الملك بن هشام الطّيالسيّ، مر في الحديث العاشر من كتاب الإيمان, ومر شعبة في الثالث منه أيضًا، وجابر بن عبد الله في الحديث الرابع من بدء الوحي. الثالث: من السند محمد بن المُنْكَدِر بن عبد الله بن الهُدَيْر -بالتصغير- بن عبد العُزّى بن عامِر بن الحارث بن حارثة بن سَعْد بن تَيْم بن مُرّة التميميّ أبو عبد الله، ويقال: أبو بكر، أحد الأئمة الأعلام. قال ابن عُيينة: كان من معادن الصدق، ويجتمع إليه الصالحون، ولم أدرِك أحدًا أجدر أن يقبل الناس منه إذ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا يُسأل عمّا هو منه لتحريه. وقال الحُميدي: ابن المنكدر حافظ. وقال ابن مَعين وأبو حاتم: ثقة. وذكره ابن حِبّان في "الثقات"، وقال: كان من سادات القراء. وأخرج ابن سعد من طريق أبي مَعْشر دخل المنكدر على عائشة رضي الله عنها. -ويقال: إنه خالٌ لها- فقال لها: إني قد أصابتني جائحة فأعينيني. فقالت: ما عندي شيء، لو كان عندي عشرة آلاف لبعثتُ بها إليك. فلما خرج

لطائف إسناده

من عندها جاءتها عشرة آلاف من عند خالد بن أسد، فقالت: ما أوشك ما ابتُليت! ثم أرسلت في أثره، فدفعتها إليه، فدخل السوق، فاشترى جارية بألف درهم، فولدت له ثلاثة، فكانوا عُبّاد أهل المدينة مُحمد وأبو بكر وعُمر. وقال الواقدي: كان ثقة ورعًا عابدًا قليل الحديث يكثِرُ الإسناد عن جابر. وقال العِجْلي: مدني تابعي ثقة. وقال إبراهيم بن المنذر: غاية في الحفظ والإتقان والزهد، حجة. وقال يعقوب بن شَيْبة: صحيح الحديث جدًّا. وقال الشافعي في مناظرته مع عشرة: فقلت: ومحمد بن المنكَدِر عندكم غاية في الثقة؟ قال: أجل، وفي الفضل. روى عن: أبيه، وعمه ربيعة وله صُحبة، وربيعة بن عبّاد، وابن الزُّبير، وابن عبّاس، وابن عُمر، وعائشة، وأبي هُريرة، وأبي أيُّوب، وأبي قَتادة، وسَفينة، وأنس، وجابر. وقيل: إن روايته عن عائشة، وأبي هريرة، وأبي أيّوب، وقتادة، وسَفينة، ونحوهم مرسلة. وروى عن سعيد بن المسيِّب، وعروة بن الزُّبير، ومعاذ بن عبد الرحمن التَّيْمي، وخلق. وروى عنه: ابناه يوسف والمنكَدِر، وابن أخيه إبراهيم بن أبي بكر بن المنكدر، وابن أخيه عبد الرحمن، وزيد بن أسلم، وعمرو بن دينار، والزُّهرى وهم من أقرانه، ويونس بن عُبيد، ويحيى بن سعيد الأنصاري، ومالك، وشعبة، وخلق. مات سنة ثلاث وثلاثين ومئة، وقيل: سنة أحدى وثلاثين عن ست وسبعين سنة. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع والعنعنة والسماع، ورواته ما بين بصريٍّ وكوفي ومدني، ومنها أنهم كلهم أئمة أجلّاء. أخرجه البخاري هنا وفي الطب عن محمد بن بشّار، وفي الفرائض عن

باب الغسل والوضوء في المخضب والقدح والخشب والحجارة

عبد الله بن عُثمان، ومسلم في الفرائض عن محمد بن حاتم، والنسّائي فيها وفي الطب والطهارة والتفسير عن محمد بن عبد الأعلى. باب الغسل والوضوء في المِخْضَب والقدح والخشب والحجارة قوله: "المِخْضَب" بكسر الميم وسكون الخاء وفتح الضاد المعجمتين آخره موحدة، الصحيح أنه الإناء الذي تُغسل فيه الثياب من أي جنس كان، وقد يُطلق على الإناء صغيرًا أو كبيرًا، والقدح الذي يُؤكل فيه ويكون من الخشب غالبًا مع ضيق فمه. وقوله: "الخشب" بفتحتين، وبضمتين، وبالضم وسكون الشين. وقوله: "الحجارة" أي: سواء كانت نفيسة أو غيرها، وعَطْفُ الخشب والحجارة على سابقيهما، قيل: إنه من العطف التفسيري؛ لأن المِخْضَب والقدح قد يكونان من الخشب أو الحجارة، كما وقع التصريح به في حديث الباب: "بمِخْضَبٍ من حجارة"، وقيل: ليس من عطف العام على الخاص فقط، بل بين هذين وهذين عموم وخصوص من وجه.

الحديث الستون

الحديث الستون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: حَضَرَتِ الصَّلاَةُ، فَقَامَ مَنْ كَانَ قَرِيبَ الدَّارِ إِلَى أَهْلِهِ، وَبَقِيَ قَوْمٌ، فَأُتِى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِمِخْضَبٍ مِنْ حِجَارَةٍ فِيهِ مَاءٌ، فَصَغُرَ الْمِخْضَبُ أَنْ يَبْسُطَ فِيهِ كَفَّهُ، فَتَوَضَّأَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ. قُلْنَا كَمْ كُنْتُمْ؟ قَالَ: ثَمَانِينَ وَزِيَادَةً. قوله: "من كان قريب الدار إلى أهله" أي: لإرادة تحصيل الماء ليتوضّأ به. وقوله: "بمِخْضَب من حجارة" مِنْ هنا لبيان الجنس. وقوله: "فصَغُرَ" بفتح الصاد المهملة وضم الغين المعجمة، أي: لم يَسَع بسط كفه عليه الصلاة والسلام. وللإسماعيلي: "فلم يستَطِع أن يبسُط كفَّه من صِغَر المِخْضَب" وهو دال على ما مر من أن المِخْضَب يطلق على الإناء الصغير. وقوله: "قلنا" في رواية: "فقلنا" وفي أخرى: "قلت"، وهو من كلام حُميد الراوي عن أنس. وقوله: "ثمانين وزيادة" قد مر في الكلام على هذا الحديث في باب التماس الوَضوء أنهم يصلون إلى ثلاث مئة، ومر هناك الكلام مستوفى على جميع مباحثه. رجاله أربعة: الأول: عبد الله بن مُنير -بضم الميم- اسم فاعل من أنار، ويؤتى فيه باللام أيضًا أبو عبد الرحمن المَرْوَزي الزاهد الحافظ.

ذكره ابن حبان في"الثقات". وقال النَّسائي: ثقة. وقال الغربريّ: قال البخاري: حدثنا عبد الله بن مُنير ولم أر مثله. روى عن أبي النَّضْر، وسعيد بن عامر الضُّبَعِيّ، وعبد الله بن بكر السَّهمي، وعلي بن الحسن بن شفين، وبزيد بن هارون، ويزيد بن أبي حكيم، وغيرهم. وروى عنه: البخاري، والترمذي، والنسائي، وعبدان بن محمد المَرْوزيّ، ويحيى بن بدر القُرَشي، وإبراهيم بن السميدع. قال الفِرْيابي: ابن منير مَرْوزي سكن فِرَبْر، وتوفي بها سنة ثلاث وأربعين ومئتين. وقد يلتبس هذا بابن المُنَيِّر الذي له كلام في تراجم البخاري وفي غيرها، وهو بضم الميم، وفتح النون، وكسر الياء آخر الحروف مشددةً، وهو متأخر عن هذا بزهاء أربع مئة سنة. وهوابن العباس أحمد بن أبي المعالي محمد، كان قاضي الاسكندرية وخطيبها. الثاني: عبد الله بن بكر بن حَبيب السَّهْمي الباهلي أبو وَهْب البَصْريّ سكن بغداد. قال ابن سعد: السَّهْمي نسبة إلى سَهْم بطن من باهِلة، وكان صدوقًا ثقة، نزل بغداد على سعيد بن مسلم، ولم يزل بها حتى مات في المحرَّم في خلافة المأمون سنة ثمان ومئتين. قال أحمد بن مَعين والعِجلي: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح. ذكره ابن حِبان في "الثقات". وقال الدارقطني: ثقة مأمون. وقال أبو قانع: ثقة. وأثنى أبو عبد الله على السَّهمي خيرًا، فقيل له: فأين سماعه من سماع محمد بن بكر يعني البُرسانّي وغيره عن سعيد؟ فقال: هو عندي فوق هؤلاء كلهم. روى عن: حُميد الطويل، وحاتم بن أبي صَفيرة، ومهدي بن ميمون، وسعيد بن أبي عَروبة، وبهز بن حكيم، ومبارك بن فَضالة، وغيرهم. وروى عنه: أحمد بن حَنْبل، وعلي بن المديني، وإسحاق بن منصور

لطائف إسناده

الكَوْسَج، وهارون الحمّال، وعبد الله بن مُنير، ومحمود بن غَيْلان، وغيرهم. والباهِليّ في نسبه مر في العاشر من الإِيمان. الثالث: حُميد بن أبي حُميد الطّويل، وقد مر تعريفه في الحديث الثاني والأربعين من كتاب الإِيمان. ومر تعريف أنس بن مالك في السادس منه. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع والسماع والعنعنة، ورواته ما بين مَرْوزي وبصري، وهو من رباعيات البخاري. أخرجه البخاري هنا وفي علامات النُّبوة عن يزيد بن هارون، ومسلم بغير هذا اللفظ، وأخرجه الإِسماعيلي وغيره.

الحديث الحادي والستون

الحديث الحادي والستون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- دَعَا بِقَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ، فَغَسَلَ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ فِيهِ وَمَجَّ فِيهِ. وهذا الحديث مر الكلام عليه حيث ذكره المؤلف معلقًا في باب استعمال فضل وضوء الناس. رجاله خمسة: الأول: أبو كُرَيب محمد بن العلاء، والثّاني أبو أُسامة حمّاد بن أسامة، ومر تعريفهما في الحادي والعشرين من كتاب العلم. ومر تعريف بُريد وجدّه أبي بردة بن أبي موسى الأشعري في الرابع من كتاب الإيمان. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع والعنعنة، ورواته كلهم كوفيّون، وفيه ثلاثة مذكورون بكناهم.

الحديث الثاني والستون

الحديث الثاني والستون حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: أَتَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَخْرَجْنَا لَهُ مَاءً فِي تَوْرٍ مِنْ صُفْرٍ فَتَوَضَّأَ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثًا وَيَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ فَأَقْبَلَ بِهِ وَأَدْبَرَ، وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ. قوله: "أتى رسول الله"، وفي رواية الكُشميهني وأبي الوقت: "أتانا". وقوله: "فغَسَلَ وجهه" تفسير لقوله: "فتوضأ" وفيه حذف تقديره: فمضمض واستنشق كما دلّت عليه باقي الروايات، والمخرج متحد. وفي هذه الرواية زيادة أن التَّور كان من صُفر، أي: من نحاس جيد، وقد مر الكلام على جميع مباحثه عند ذكره في باب مسح الرأس كله، والباب الذي بعده. رجاله خمسة: الأول: أحمد بن عبد الله بن يونُس مر في التاسع عشر من الإيمان. ومر عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سَلمة الماجِشون في الخامس والستين من كتاب العلم. ومر عَمْرو بن يَحْيى في الخامس عشر من كتاب الإيمان. ومر عبد الله بن زَيد في الحديث الثالث من كتاب الوضوء. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع والعنعنة، ورواته ما بين كوفي ومدني،

وفيه اثنان منسوبان إلى جدَّيهما، واسم أبي كل منهما عبد الله، وكنية كل واحد منهما أبو عبد الله، وكل واحد منهما حافظ فقيه، وهما أحمد بن يونس، وعبد العزيز.

الحديث الثالث والستون

الحديث الثالث والستون حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا ثَقُلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَاشْتَدَّ بِهِ وَجَعُهُ، اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ فِي أَنْ يُمَرَّضَ فِى بَيْتِي، فَأَذِنَّ لَهُ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ رَجُلَيْنِ تَخُطُّ رِجْلاَهُ فِي الأَرْضِ بَيْنَ عَبَّاسٍ وَرَجُلٍ آخَرَ. قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَأَخْبَرْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ أَتَدْرِي مَنِ الرَّجُلُ الآخَرُ؟ قُلْتُ: لاَ. قَالَ: هُوَ عَلِيٌّ. وَكَانَتْ عَائِشَةُ تُحَدِّثُ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ بَعْدَمَا دَخَلَ بَيْتَهُ وَاشْتَدَّ وَجَعُهُ: "هَرِيقُوا عَلَيَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ، لَمْ تُحْلَلْ أَوْكِيَتُهُنَّ، لَعَلِّي أَعْهَدُ إِلَى النَّاسِ". وَأُجْلِسَ فِى مِخْضَبٍ لِحَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، ثُمَّ طَفِقْنَا نَصُبُّ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ حَتَّى طَفِقَ يُشِيرُ إِلَيْنَا أَنْ قَدْ فَعَلْتُنَّ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى النَّاسِ. قوله: "لما ثَقُل" أي: في المرض، وهو بضمِّ القاف بوزن صَغُر، وفي "القاموس" ثَقِلَ كفَرِحَ، فهو ثاقل وثقيل، اشتد مرضه. يقال: ثقل في مرض إذا رَكَدت أعضاؤه عن خفة الحركة. وقوله: "استأذن أزواجه في أن يمرَّضَ" -بفتح الراء الثقيلة -أي: يُخدم. وروى ابن سعد بإسناد صحيح "أن فاطمة هي التي خاطبت أمهات المؤمنين بذلك. فقالت لهن: إنّه يشُقُّ عليه الاختلاف". وفي رواية هشام بن عُروة، عن أبيه، عن عائشة عند المؤلف "أنه كان يقول: أين أنا غدًا؟ أين أنا غدًا؟ يريد يوم عائشة، فأذِن له أزواجه يكون حيث شاء، فكان في بيت عائشة حتى مات عندها"، وفي رواية ابن أبي مُلَيْكة عن عائشة "أن دخوله بيتها كان يوم الاثنين، ومات يوم الاثنين الذي يليه، وكان أول ما بدأ مرضه في بيت ميمونة"، وعند أحمد عن عائشة "أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لنسائه: إني لا أستطيع أن أدور بيوتَكُنَّ، فإذا شئتُنَّ أذِنْتُنَّ لي"، وعند أبي شَيْبة من مرسل أبي جعفر "أنه عليه الصلاة والسلام قال:

أين أكونُ غدًا، كررها، فعرفت أزواجه أنه إنما يريد عائشة، فقلن: يا رسول الله، قد وَهَبْنا أيامنا لأُختنا عائشة"، وعند الإسماعيلي عن عائشة: "كان يقول: أين أنا حِرْصًا على بيتِ عائشة، فلمّا كان يومي سَكَن، وأذن له أزواجه أن يمرَّض في بيتي". وقوله: "في بيتي" أي: بيت عائشة، ونسبته لها بالنظر إلى سكناها به. وقوله: "فأذِنَّ له" بفتح الهمزة وكسر الذال وتشديد النون، أي الأزواج، ورُوي بضمِّ الهمزة وكسر الذال على البناء للمجهول. واستُدِلَّ به على أن القَسْم كان واجبًا عليه، ويُحتمل أن يكون فعل ذلك تطييبًا لهن. وقوله: "فخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- بين رَجُلَيْن تخطُّ رِجلاه في الأرض" أي: لم يكن يقدر على تمكينهما من الأرض، وفي رواية تأتي: "يُهادي بينَ رجلين" بضم الياء وفتح الهاء، أي: يعتمد على الرجلين متمايلًا في مشيه من شدة الضَّعْف، والتّهادي التمايل في المشي البطيء. وقوله: "قال عبيد الله" هو الراوي له عن عائشة، وهو بالإسناد المذكور من غير أداة عطف. وقوله: "قال: هو علي" زاد الإسماعيلي عن مَعْمر: "ولكن عائشة لا تطيبُ له نفسًا بِخَيْر"، ولابن إسحاق في "المغازي" عن الزُّهري: "ولكنها لا تقدِرُ أن تذكره بخير". وفي هذا ردٌّ على من تنطَّع فقال: لا يجوز أن يُظَنَّ ذلك بعائشة، وإنما لم تسمِّه لما كان عندها منه مما يحصُل للبشر، مما يكون سببًا في الإعراض عن ذكر اسمه. وفيه ردٌّ أيضًا على من زعم أنها أبهمت الثاني لكونه لم يتعيّن في جميع المسافة، إذ كان تارة يتوكأ على الفضل كما في رواية لمسلم: "خرج بين الفضل بن عباس ورجل آخر"، وفي رواية له: "بين رجُلَين أحدهما أسامة"، وعند الدارقطني: "أسامة والفَضْل"، وعند ابن حِبّان: "بين بُرَيْرة ونُوْبة" بضم النون وسكون الواو ثم موحدة، وهو اسم عبدٍ لا أمة كما جزم به سَيْف في "الفتوح"،

وعند ابن سعد: "بين الفَضْل وثَوْبان" قائلًا: إن في جميع ذلك الرجل الآخر هو العبّاس، واختُصَّ بذلك إكرامًا له. وهذا توهُّم ممن قاله، والواقع خلافه، لأن ابن عباس في جميع الروايات الصحيحة جازمٌ بأن المبهم هو علي، فهو المعتمد. ودعوى وجود العباس في كل مرة، والذي يتَبَدّل غيره مردود بما مر عن الدّارقُطني وابن حِبّان وابن سَعْد، فإنه صريح في أن العبّاس لم يكن في واحدة منها. ويُجمع بين هذه الروايات بأنه خرج من البيت إلى المسجد بين بُريرة ونُوبة، ومن ثَمَّ إلى مقام الصلاة بين العباس وعلي أو غيرهما، أو يُحمل على تعدد الخروج، فيتعدد من اتّكأ عليه، وهو أولى من قول من قال: تناوبوا في صلاة واحدة. وقوله: "وكانت عائشة تحدَّث" هو معطوف أيضًا بالإِسناد المذكور. وقوله: "هَريقوا عليَّ" كذا للأكثر، وللأصيليّ بزيادة الهمزة وسكون الهاء، قال سيبويه: أَهراق يُهْريقُ إهرياقًا، مثل اسطاعَ يُسطيعُ اسطياعًا بقطع الهمزة وفتحها في الماضي، وضمِّ الياء في المستقبل وهي لغة في أطاعَ يُطيعُ، فجُعِلَت السين والهاء عوضًا من ذهاب حركة عين الفعل. وروي بفتح الهاء واستشكل، ويوجه بأن الهاء مبدلة من الهمزة؛ لأن أصل هَرَاق أراق، ثم اجتُلِبت الهمزة، فتحريك الهاء على بقاء البدل والمبدل منه، وله نظائر. وذكر له الجوهري توجيهًا آخر، وأن أصله أأريقوا، فأبدلت الهمزة الثانية هاءً للخفّة. وجزم ثعلب بأن أهَريقوا بفتح الهاء. وقوله: "من سبع قرب" في رواية للطبراني في هذا الحديث: "من آبار شتّى"، والظاهر أن ذلك للتداوي، لقوله في رواية أخرى في "الصحيح": "لعلّي أستريحُ فأَعْهَدُ" أي: أوصي، وهذا مثل ما في هذه الرواية هنا: "لعلّي أعهد إلى الناس". قال الخطابي: يشبه أن يكون خَصَّ السبع تبركًا بهذا العدد؛ لأن له دخولًا

رجاله خمسة

في كثير من أمور الشريعة وأصل الخلقة، وقد ثبت حديث: "من تصبَّحَ بسبع تَمَراتٍ من عجوة لم يضُرَّه ذلك اليوم سمٌّ ولا سحرٌ". وللنّسائي في قراءة الفاتحة على المصاب سبع مرات، وسنده صحيح، وفي "صحيح" مسلم القول لمن به وجع "أعوذُ بعزّة الله وقدرته من شرِّ ما أجد وأحاذر سبع مرات"، وفي النسائي: "من قال عند مريضٍ لم يحضُر أجلُه: أسأل الله العظيم ربَّ العرش العظيم أن يشفيَك سبع مرات"، وبهذا الحديث تمسَّكَ بعض من أنكر نجاسة سؤر الكلب، وزعم أن الأمر بالغسل منه سبعًا إنما هو لدفع السُّمية التي في ريقه. وقوله: "لم تُحلَّل أوكِيتهُنَّ" إنما أمر بذلك لأن الماء البارد في بعض الأمراض تُردُّ به القوة، والحكمة في عدم حل الأوكية كونه أبلغ في طهارة الماء وصفائه لعدم مخالطة الأيدي، والوِكاء هو ما يُربط به فم القربة. وقوله: "وأُجْلِس في مِخْضَب حفصة" زاد ابن خُزيمة عن عائشة: "أنه كان من نحاس". وفيه إشارة إلى الرد على من كره الاغتسال فيه كما ثبت ذلك عن ابن عمر. وقال عطاء: إنما كُره من النحاس ريحه. وقوله: "ثم طفِقْنا" بكسر الفاء، وقد تُفتح، أي: جعلنا. وقوله: "حتى طَفِق"، يقال: طفق يفعل كذا إذا شَرَع في فعل واستمر فيه. وقوله: "يُشير إلينا أن قد فعلتُنَّ" أي: ما أمرتكن به من إهراق الماء من القرب المذكورة. وقوله: "ثم خرج إلى الناس" أي: الذين في المسجد، فصلى بهم وخطبهم كما للمصنف في الوفاة النبوية. ويأتي في هذا الحديث في باب حد المريض أن يشهد الجماعة ذكر أمره عليه الصلاة والسلام لأبي بكر بالصلاة بالناس. ويأتي إن شاء الله تعالى الكلام في الصلاة في السطوح على ما فيه من أحكام الإمامة إلا القليل يأتي في باب حد المريض. رجاله خمسة: وفيه ذكر العباس وابنه عبد الله وحفصة.

الأول: أبو اليمان الحكم بن نافع. الثاني: شُعيب بن أبي حَمْزة وقد مر تعريفهما في الحديث السابع من بدء الوحي. ومر ابن شهاب في الثالث منه. ومر عبيد الله بن عبد الله في السادس منه. ومرت عائشة أم المؤمنين في الثاني منه. وعبد الله بن عباس في الخامس منه. وعلي بن أبي طالب في السابع والأربعين من كتاب العلم. وأما العباس فهو ابن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القُرشي الهاشمي عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبو الفضل، أمه نُثَيلة بنت خَبّاب بن كُلَيْب بن مالك بن عُمر بن عامر بن زيد مَناة بن عامر بن الضَّحيان بن سعد بن الخزرج بن تيم الله بن النَّمِر بن قاسط. ولد قبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسنتين، وضاع وهو صغير، فنذرت أمه إن وجدته أن تكسو البيت الحرير، فوجدته، فكست البيت الحرير، فهي أول من كساه ذلك. وكان رئيسًا في الجاهلية في قريش، وإليه كانت عِمارة المسجد الحرام والسقاية في المسجد، فالسقاية معروفة، وأما العِمارة فإنه كان لا يدع أحدًا يسبُّ في المسجد الحرام ولا يقول هجرًا، يحملهم على عِمارته في الخير، لا يستطيعون لذلك امتناعًا؛ لأنه كان ملأُ قريش قد اجتمعوا وتعاقدوا على ذلك، فكانوا له أعوانًا عليه، وسلّموا ذلك إليه. وحضر بيعة العقبة مع الأنصار قبل أن يُسلم، وكان أنصر الناس لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد أبي طالب، واشترط على الأنصار للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان على دين قومه ليلة العقبة. وخرج إلى بدر مع قومه مكرهًا، ففدى نفسه وبني أخويه عقيلًا ونوفلًا والحارث من ماله. وحدَّث يزيد بن الأصمّ أن العباس لما أسر يوم بدر كانوا شدّوا وَثاقه، فسهر النبي -صلى الله عليه وسلم- تلك الليلة ولم ينم، فقال له بعض أصحابه: ما أسهرك

يا نبي الله؟ فقال له: "أسهرني أنينُ العبّاس"، فقام رجل من القوم فأرخى من وَثاقه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما لي لا أسمع أنين العباس؟ " فقال الرجل: أنا أرخيتُ من وَثاقه. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "افعل ذلك بالأسرى كلِّهم". أسلم العباس قبل فتح خيبر، وكان يكتم إسلامه، وذلك في حديث الحجاج بن علابط أنه كان مسلمًا يَسُرُّه ما يفتح الله عَزَّ وَجَلَّ على المسلمين، ثم أظهر إسلامه يوم فتح مكة، وشهد حُنَيْنًا والطائف وتبوك. وقيل: إن إسلامه قبل بدر، وكان رضي الله تعالى عنه يكتُب بأخبار المشركين إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان المسلمون يتقوون به بمكة، وكان يحب أن يَقْوُم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فكتب إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن مقامَك بمكة خيرٌ" فلذلك قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم بدر: "من لقي منكُم العبّاس فلا يقتُلْه، فإنما أُخرج كارهًا"، ثم هاجر قبل الفتح بقليل، وشهد الفتح، وثبت يوم حُنين لما انهزم المسلمون غيره وغير عمرو علي وأبي سفيان بن الحارث رضي الله عنهم، وقيل: غير سبعة من أهل بيته، وذلك مذكور في شعر العباس الذي يقول فيه: ألا هَلْ أتى عُرسي مكَرّي ومَقْدَمي ... بوادي حُنينٍ والأسِنَّةُ تشرعُ وقولي إذا ما النَّفْسُ جاشَتْ لها فِرّي ... وهامٌ تدهدهها السيوفُ وأدرعُ وكيفَ رددتُ الخيلَ وهيَ مغيرةٌ ... بزَوراء تعطي في اليدين وتمنعُ وهو شعر مذكور في "السير" لابن إسحاق، وفيه: نَصَرْنا رسولَ الله في الحربِ سبعةً ... وقد فرَّ من قد فَرَّ عنه وأَقْشعوا وثامنُنا لاقى الحِمامَ بسيفِهِ ... بما مسَّهُ في الله لا يتوجَّعُ وقال ابن إسحاق: السبعة علي، والعباس، والفضل بن عباس، وأبو سفيان ابن الحارث، وابنه جَعْفر، وربيعة بن الحارث، وأسامة بن زيد، والثامن أيمن بن عُبيد. وجعل غير ابن إسحاق في موضع أبي سُفيان عمر بن الخطاب، والصحيح أن أبا سفيان بن الحارث كان يومئذٍ معه لم يُخْتَلف فيه، واخْتلف في عمر.

وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكرم العباس بعد إسلامه ويعظِّمه ويُجِلُّه ويقول: "هذا عمي وصِنْو أبي"، وكان العباس جوادًا مطعِمًا وَصولًا للرحم ذا رأي حسن ودعوة مرجوة. وروي عن سعد بن أبي وقّاص أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هذا العباس بن عبد المطلب، أجودُ قريش كفًّا وأوصلُهم للرحم". وروى ابن أبي الزِّنا وعن أبيه أن العباس بن عبد المطلب لم يمرَّ بعُمر ولا بعثمان وهما راكبان إلا نزلا حتى يجوز العباس إجلالًا له، ويقولان: عم النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال ابن شِهاب: كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعرفون للعباس فضله، ويقدمونه ويشاورونه، ويأخذون برأيه، واستسقى به عمر، وكان سبب ذلك أن الأرض أجدبت إجدابًا شديدًا على عهد عمر زمن الرَّمادة، وذلك سنة سبع عشرة، فقال كعب: يا أمير المؤمنين: إن بني إسرائيل كان إذا أصابهم مثل هذا استسْقَوا بعُصبة الأنبياء. فقال عمر: هذا عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وصِنْو أبيه، وسيد بني هاشم، فمشى إليه عُمر، وشكى إليه ما فيه الناس من القحط، ثم صعد المنبر ومعه العباس، فقال: اللهم إنّا قد توجَّهنا إليك بعمِّ نبينِّا وصِنْوِ أبيه فاسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين. ثم قال عمر: يا أبا الفضل قُم فادعُ. فقال العباس رضي الله تعالى عنه بعد حمد الله تعالى والثناء عليه: اللهم إنَّ عندك سحابًا، وعندك ماءً، فانشُر السحاب ثم أنزل الماء علينا منه، فاشدُد به الأصل، وأطِل به الفَرْع، وأدِرَّ به الضَّرْع، اللهم إنك لم تنزل بلاء إلا بذنب، ولم تكشفه إلا بتوبة، وقد توجه القوم بي إليك، فاسقنا الغيث، اللهم شفِّعنا في أنفسنا وأهلينا، اللهم شفِّعنا فيما لا ينطِقُ من بهائمنا وأنعامنا، اللهم اسِقنا سقيًا وادعًا نافعًا طِبْقًا سحًّا عامًّا، اللهم إنا لا نرجو إلا إياك، ولا ندعوا غيرك، ولا نرغب إلا إليك، اللهم إليك نشكوا جوعَ كل جائع، وعُرْي كل عارٍ وخوف كل خائفٍ، وضَعْف كل ضعيف ... في دعاء كثير.

قال ابن عبد البَرّ: وهذه الألفاظ كلها لم تجيء في حديث واحد، ولكنها جاءت في أحاديث جمعتُها واختصرتُها ولم أخالف شيئًا منها، وفي بعضها: فُسقوا والحمد لله. وفي بعضها: فأرخت السماء عزاليها، فجاءت بأمثال الجبال، حتى استوت الحُفَر بالآكام، وأخصبت الأرض، وعاش الناس. فقال عمر: هذا والله الوسيلة إلى الله عَزَّ وَجَلَّ، والمكان منه. قال حسان بن ثابت: سألَ الإمامُ وقد تتابَعَ جدبنُا ... فسقَى الغمامُ بغرَّةِ العبّاسِ عمِّ النبيِّ وصِنْوِ والدهِ الذي ... ورثَ النبيَّ بذاكَ دونَ النّاسِ أحيا الإِلهُ به البلادَ فأصبَحَتْ ... مخضرةَ الأخبابِ بعدَ الياسِ وقال الفضل بن عبّاس بن عتبة بن أبي لهب: بِعَمّي سَقَى الله الحجازَ وأهْلَهُ ... عشيَّةَ يسْتَسْقي بشيبته عُمر توجَّهَ بالعباسِ في الجَدْبِ راغبًا ... فما كَرَّ حتى جادَ بالديِّمةِ المطرُ قال ابن عبد البر: ورَوينا من وجوه عن عُمر أنه خرج يستسقي، وخرج معه العباس، فقال: اللهم إنا نتقَرَّب إليك بعمِّ نبيك -صلى الله عليه وسلم-، ونستشفع به، فأحفظ فيه لنبيِّك -صلى الله عليه وسلم- كما حفظت الغلامين لصلاح أبيهما، وأتيناك مستغفرين ومستشفعين، ثم أقبل على العباس، فقال: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12)} نوح: [10 - 12]، ثم قام العباس رضي الله تعالى عنه وعيناه تنضحان، فطالع عمر، ثم قال: اللهم أنت الراعي لا تهمل الضّالة، ولا تدع الكسير بدار مَضيعة، فقد ضرع الصغير، ورقَّ الكبير، ارتفعت الشكوى، وأنت تعلم السر وأخفى، اللهم فأغِثْهم بغياثك من قبل أن يَقْنَطوا فيهلِكُوا، فإنه لا ييأس من رَوْحِكَ إلا القومُ الكافرون، فنشأت طريرة من سحاب، فقال الناس: ترون ترون!! ثم تلاءمت واستتمت ومشت فيها ريح، ثم هزت ودرت، فوالله ما برحوا حتى اعتلقوا الجدر، وقلصوا المآزر، وطَفق الناس بالعباس يمسحون أركانه، ويقولون: هنيئًا لك ساقي الحرمين.

وأخرج الترمذي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من آذى العبّاس فقد آذاني فإنما عم الرجل صِنو أبيه". ورُوي عنه أيضًا أنه قال: "العبّاس مني وأنا منه". وله خمسة وثلاثون حديثًا، اتفقا على حديث، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بثلاثة. روى عنه: بنوه عبد الله وكَثير وعبيد الله وأم كلثوم، ومولاه صُهيب، ومالك بن أوس بن الحَدَثان، والأحنف بن قيس، ونافع بن جُبير بن مُطعم، وعامر بن سعد بن أبي وقّاص، وغيرهم. قال الحسن بن عثمان: كان العباس جميلًا أبيض بضًّا ذا ضفيرتين، معتدل القامة. وقيل: بل كان طُوالًا. وروى ابن غيينة عن عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله قال: أردنا أن نكسو العباس حين أُسر يوم بدر، فما أصبنا قميصًا يصلُح عليه إلا قميص عبد الله بن أُبي. توفي رضي الله عنه بالمدينة يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من رجب. وقيل: من رمضان. سنة اثنتين وثلاثين قبل قتل عثمان رضي الله تعالى عنه بسنتين، وصلى عليه عثمان، ودُفن بالبقيع وهو ابن ثمان وثمانين، وقيل: ابن تسع وثمانين. أدرك في الإِسلام اثنتين وثلاثين سنة، وفي الجاهلية ستًّا وخمسين سنة. وأما حفصة فهي أم المؤمنين بنت عمر بن الخطاب أمير المؤمنين أخت عبد الله لأبيه وأمه، أمها زينب بنت مَظْعون بن حبيب بن وَهْب بن حُذافة بن جُمَح. كانت حفصة من المهاجرات، وكانت قبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تحت خُنَيْس بن حُذافة بن قيس بن عدي السَّهْمي، وكان ممن شهد بدرًا، ومات بالمدينة، فانقضت عدتها، فعرضها عمر على أبي بكر فسكت، فعرضها على عثمان حين ماتت رُقية بنت النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: ما أريد أن أتزوج اليوم. فذكر ذلك عمر لرسول

الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "يتزوج حفصة من هُو خيرٌ من عثمان، ويتزوَّج عثمان من هُو خُيرٌ من حفصة، فلقي أبو بكر عمر، فقال له: لا تجِدْ عليَّ، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذكر حفصة، فلم أكن أفشي سرَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولوَ تركها لتزوجتها"، فتزوجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد الهجرة بسنتين، وقيل: ثلاث وهو الراجح؛ لأن زوجها قُتل بأحُد سنة ثلاث. ولدت قبل: المبعث بخمس سنين، طلقها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تطليقة ثم ارتجعها، وذلك أن جبريل قال له: أرجعْ حفصة، فإنها صوّامة قوّامة، وإنها زوجتك في الجنة. وروي عن عُقبة بن عامر طلّق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حفصة بنت عمر، فبلغ ذلك عمر، فحَثَى التراب على رأسه، وقال: ما يعبأ الله بعمر وابنته بعدها، فنزل جبريل من الغد على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: إن الله يأمرك أن تراجع حفصة رحمةً لعُمر. وفي رواية: دخل عُمر على حفصة وهي تبكي، فقال: لعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد طلَّقك، إنه كان قد طلّقك مرة، وإنه راجعك من أجلي، فإن كانْ طلقك مرة أخرى لا أكلمك أبدًا. وأوصى عمر بعد موته إلى حفصة، وأوصت حفصة إلى عبد الله بن عمر بما أوصى به إليها عمر، وبصدقة تصدقت بها، وبمال وقفته في الغابة. لها ستون حديثًا، اتّفقا على ثلاثة، وانفرد مسلم بستة. روت عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعن أبيها. وروى عنها: أخوها عبد الله بن عُمر، وابنه حَمْزة، وزوجته صَفيّة بنت أبي عُبيد، وأم بِشر الأنصارية، والمسيَّب بن رافع، وخلق. ماتت لما بايع الحسن معاوية سنة إحدى وأربعين. وقيل: بل بقيت إلى خمس. وقال نافع: ماتت حفصة حتى ما تُفطر، ورأيت مروان بين أبي سعيد

لطائف إسناده

وأبي هُريرة أمام جنازة حفصة، ورأيت مروان حمل بين عمودي سريرها عند دار آل حرام إلى دار المغيرة، وحمل أبو هريرة من دار المغيرة إلى قبرها. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع والإخبار بصيغة الجمع وبصيغة الإِفراد والقول. ورواته ما بين حِمْصي ومدني، وفيه راويان جليلان الزُّهري وعبيد الله. أخرجه البخاري في سبعة مواضع، هنا، وفي الصلاة في موضعين، وفي حد المريض يشهد الجماعة وإنما جُعل الإِمام ليُؤتَمَّ به مختصرًا، وفي الهبة والخُمس وأجر المغازي، وفي باب مرضه عليه الصلاة والسلام، وفي الطب. ومسلم في الصلاة عن عَبْد بن حُميد وغيره، والنسّائي في عِشرة النساء وفي الوفاة عن مُحمد بن منصور وسُوَيد بن نَصْر، والتِّرمذي في الجنائز عن ابن إسماعيل. باب الوضوء من التور والتَّور بفتح المثناة شبه الطَّسْت، وقيل: هو الطَّسْت. ووقع في حديث شَريك عن أنس في المعراج: "فأتى بطَسْت من ذهب، فيه تَوْر من ذهب" وظاهره التغاير بينهما، ويُحتمل الترادف، وكأن الطست أكبر من التور، وقد مرت الزيادة على هذا عند ذكره في باب غسل الرجلين إلى الكعبين.

الحديث الرابع والستون

الحديث الرابع والستون حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ عَمِّي يُكْثِرُ مِنَ الْوُضُوءِ، قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَخْبِرْنِي كَيْفَ رَأَيْتَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَتَوَضَّأُ؟ فَدَعَا بِتَوْرٍ مِنْ مَاءٍ، فَكَفَأَ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَهُمَا ثَلاَثَ مِرَارٍ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي التَّوْرِ، فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِنْ غَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَاغْتَرَفَ بِهَا فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِهِ مَاءً، فَمَسَحَ رَأْسَهُ، فَأَدْبَرَ بِيَدَيْهِ وَأَقْبَلَ ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ، فَقَالَ هَكَذَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَتَوَضَّأُ. قوله: "ثم أدخل يده في التَّوْر فمضمض" فيه حذف تقديره: ثم أخرجها، فمضمض. وقد صرح به مسلم. وقوله: "من غرفة واحدة" يتعلق بقوله: "فمضمض واستنثر"، والمعنى أنه جمع بينهما ثلاث مرات كل مرة من غرفة، ويُحتمل أن يتعلق بقوله ثلاث مرات، والمعنى أنه جمع بينهما ثلاث مرات من غرفة واحدة، والأول موافق لباقي الروايات فهو أولى. وقوله: "هكذا" هذه الزيادة صريحة في رفع الحديث، وإن كان أول سياق الحديث يدل عليه. وهذا الحديث مر الكلام عليه مستوفى عند أول ذكره في باب مسح الرأس كله. رجاله ستة: الأول: خالد بن مَخْلد مر في الحديث الرابع من كتاب العلم.

والثاني: سُليمان بن بلال، وقد مر في الحديث الثاني من كتاب الإِيمان. ومر عَمرو بن يحيى وأبوه يحيى بن عُمارة في الخامس عشر منه. ومر عمرو بن أبي حسن في الحديث الخمسين من كتاب الوضوء. ومر عبد الله بن زيد في الثالث منه، وتقدم في الحديث الخمسين من هذا الكتاب ذكر المواضع التي أخرج فيها.

الحديث الخامس والستون

الحديث الخامس والستون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ مَاءٍ، فَأُتِيَ بِقَدَحٍ رَحْرَاحٍ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ مَاءٍ، فَوَضَعَ أَصَابِعَهُ فِيهِ. قَالَ أَنَسٌ فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَى الْمَاءِ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ، قَالَ أَنَسٌ فَحَزَرْتُ مَنْ تَوَضَّأَ مَا بَيْنَ السَّبْعِينَ إِلَى الثَّمَانِينَ. قوله: "أُتي بقدح رَحْراح" بمهملات الأولى مفتوحة بعدها سكون، أي: متسع الفم. وقال الخَطّابي: الرَّحْراح: الِإناء الواسع الصحن، القريب القعر، ومثله لا يسع الماء كثيرًا، فهو أدل على عِظَم المعجزة، وهذه الصفة شبيهة بالطَّسْت، وبهذا تظهر مناسبة هذا الحديث للترجمة. وروى ابن خُزيمة هذا الحديث عن أحمد بن عَبْدة، فقال: "زُجاج" بضم الزاي وجيمين بدل رحراح، وهذه اللفظة تفرَّدَ بها أحمد بن عَبْدة عن جميع أصحاب حمّاد بن زيد، وصرح جمع من الحُذّاق بأن أحمد بن عَبْدة صحَّفها. وعلى أنها صحيحة لا منافاة بينها وبين رواية الجماعة، لاحتمال أن يكونوا وَصَفوا هيأته وذكر هو جنسه. وفي "مسند" أحمد عن ابن عبّاس "أن المقَوْقِس أهدى للنبي -صلى الله عليه وسلم- قدحًا من زجاج"، لكن في إسناده مقال. ورواية أحمد بن عَبْدة ترد على من زعم من المتصوِّفة أن ذلك إسراف لإسراع الكسر إليه. وقوله: "فحزرتُ" بتقديم الزاي، أي: قدرت. وقوله: "ما بين السبعين إلى الثمانين" هنا قال ما ذكر، ومر في رواية حُميد أنهم "كانوا ثمانين وزيادة"، والجمع بينهما أن أنسًا لم يكن يضبط العدة، بل كان يتحقق أنها تُنيف على السبعين، ويشُكُّ هل بلغت العَقْد الثامن أو تجاوزته، فربما جزم بالمجاوزة حيث يغلب ذلك على ظنه.

رجاله أربعة

وهذا الحديث استُوفي الكلام عليه عند أول ذكره في باب التماس الوضوء. رجاله أربعة: الأول: مُسَدَّد بن مُسَرْهَد مر في الحديث السادس من كتاب الإِيمان، وكذلك أنس بن مالك. ومرّ حمّاد بن زيد في الخامس والعشرين منه. وثابت البُناني في تعليق بعد الحديث الخامس من كتاب العلم. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع والعنعنة، ورواته كلهم بصريون، وكلهم أئمة أجلّاء. أخرجه البخاري هنا. وأخرجه مسلم في فضائل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أبي الربيع الزَّهراني. باب الوضوء بالمُدِّ وهو بضم الميم وتشديد الدال.

الحديث السادس والستون

الحديث السادس والستون حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ جَبْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَغْسِلُ أَوْ كَانَ يَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ إِلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ، وَيَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ. قوله: "يغسِل" أي: جسده الشريف. وقوله: "أو كان يغتسِلُ" والشك فيه من البخاري؛ لأن الإسماعيلي رواه عن أبي نُعيم، فقال: "يغتَسِل" ولم يشك، أو هو من مِسْعر، أو أبي نعيم. وقوله: "بالصّاع" هو إناء يسع خمسة أرطال وثلثًا بالبغدادي، وقال بعض الحنفيّة: ثمانية، والمُد رطلٌ وثلث بالبغدادي، وهو مئة وثمانية وعشرون درهمًا وأربعة أسباع درهم، وحينئذ فيكون الصاع ست مئة درهم وخمسة وثمانين وخمسة أسباع درهم. وعند المالكية إسقاط الأسباع المذكورة فيهما. وقوله: "إلى خمسة أمداد" أي: كان ربما اقتصر على الصاع، وهو أربعة أمداد، وربما زاد عليها إلى خمسة، فكأن أنسًا لم يطَّلع على أنه استعمل في الغُسل أكثر من ذلك لأنه جعلها النهاية. وقد روى مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها "أنها كانت تغتسل هي والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم من إناء واحد هو الفرق" بالتحريك يسع ثلاثة آصُع، وبسكون الراء مئة وعشرين درهمًا. وروى مسلم أيضًا من حديثها "أنه عليه الصلاة والسلام كان يغتسِلُ من إناء يَسَعُ ثلاثة أمداد". وفي أخرى:"كان يغتسل بخمسِ مكاكيك، ويتوضأ بمكّوك" وهو إناء يسع المد. وفي حديث أُم عُمارة عند أبي داود: "أنه عليه الصلاة والسلام توضأ، فأُتي بإناء فيه قدر ثلثي

رجاله أربعة

المُدِّ". وعنده أيضًا من حديث أنس رضي الله تعالى عنه: "وكان عليه الصلاة والسلام يتوضَّأُ بإناء يسعُ رطلين، ويغتسِلُ بالصّاع". ولابني خزيمة وحِبان، والحاكم في "مستدركه" عن عبد الله بن زيد: "أنه عليه الصلاة والسلام أُتي بثلثي مُدٍّ من ماء، فتوضأ، فجعل يُدَلِّك ذراعيه". وفي قوله هنا: "يدلِّك ذراعيه" تصريح بما ذهب إليه مالك في مشهور القولين عنه من وجوب الدَّلك بنفسه، والدَّلْك الواجب عنده هو إمرار اليد على العضو إمرارًا متوسِّطًا، وهذا لا يخلو منه وضوء ولم يُرو عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه اكتفى بإدخال العضو في الماء من غير أن يُمِرَّ يده عليه في وضوء ولا غُسل. والقول الثاني عن مالك أن الدَّلك واجب لا لنفسه، بل لإِيصال الماء إلى البشرة، فلو أدخل يده في ماء حتى تحقق وصول الماء للبشرة كفاه. ذلك. والجمع بين هذه الروايات المتقدمة هو كما قال الشافعي رحمه الله تعالى: لأنها كانت اغتسالات في أحوال وجد فيها أكثر ما استعمله وأقله، وهو يدل على أنه لا حدَّ في قدر ماء الطهارة يجب استيفاؤه، بل القلة والكثرة باعتبار الأحوال والأشخاص. وفي اختلاف الروايات رد على من قدر الوضوء والغسل بما ذكر في حديث الباب كابن شعبان من المالكية، وكذا من قال به من الحنفية، مع مخالفتهم له في مقدار المد والصاع. وحمله الجمهور على الاستحباب؛ لأن أكثر من قدر وضوءه وغسله صلى الله تعالى عليه وسلم من الصحابة قدرهما بذلك، ففي "مسلم" عن سَفينة مثله. ولأحمد وأبي داود بإسناد صحيح عن جابر مثله، وهذا إذا لم تدع الحاجة إلى الزيادة، وهو أيضًا في حق من يكون خلقه معتدلًا، وإلى هذا أشار المصنف في أول كتاب الوضوء بقوله: "وكره أهل العلم الإِسراف فيه، وأن يجاوِزوا فعل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم". رجاله أربعة: الأول: أبو نُعيم الفضل بن دُكَيْن مرّ في السادس والأربعين من كتاب

الإيمان. ومر أنس بن مالك في السادس منه. والثاني من السند: مِسْعر بن كِدام -بكسر الميم من مِسعر، والكاف من كِدام- ابن طُهير بن عبيدة بن الحارث بن هِلال بن عامر بن صَعْصَعة الهلالي العامري الرَّوّاسيّ -بفتح المهملة وتشديد الواو- وأبو سلمة الكوفي أحد الأعلام. قال هشام بن عُروة: ما قدم علينا من العراق أفضل من أيّوب ومن ذاك الرَّوّاسي، يعني مسعرًا، إلاَّ أن رأسه كان كبيرًا. وقال إبراهيم بن سعد: كان شعبة وسفيان إذا اختلفا في شيءٍ قالا: اذهب بنا إلى الميزان مسعرٍ. وقال شعبة: كنّا نسمي مسعرًا المصحف لصدقه وحفظه وقلة خطئه. وقال شعبة: مسعر في الكوفيين كابن عَوْن في البَصْريين. وفيه يقول ابن المبارك: مَن كانَ ملتمِسًا جليسًا صالِحًا ... فليأتِ حَلْقَةَ مسعرِ بن كِدامِ في أبيات. وقال مُحمد بن مِسعْر: كان أبي لا ينام حتى يقرأ نصف القرآن. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن مسعر إذا خالفه الثَّوري، فقال: الحكم لمسعر، فإنه المصحف. وقال معنٌ المسعوديُّ: ما رأيت مسعرًا في يوم إلاَّ وهو فيه أفضل مما مضى أو من سعد. وقال الحَكَم بن هشام: حدثنا مسعر قال: دعاني أبو جعفر ليُولِّيَني، فقلت: إن أهلي يقولون: لا نرضى اشتراءك في شيء بدرهمين، وأنت توليني، فأعفاني. وقال الثَّوري: كنا إذا اختلفنا في شيء سألنا عنه مسعرًا. وقال ابن المَديني: قلت ليَحْيى بن سعيد: أيّهما أثبت هشام الدَّسْتُوائي أو مسعر؟ قال: ما رأيت مثل مسعرٍ، كان مسعر من أثبت الناس. وقال أحمد: كان ثقة خيارًا حديثه حديث أهل الصدق. وقال ابن أبي حاتم: سُئل أبي عن مسعر وسفيان، فقال: مسعرٌ أعلى إسنادًا وأجود حديثًا وأتقن، ومسعر أتقن من حمّاد بن زيد. وقال أبو نُعيم: كان مسعرُ شكّاكًا في حديثه، وليس يُخطىء في شيء من حديثه إلاَّ في حديث واحد. وقال وكيع: شكُّ مسعر كيقين غيره. وقال العِجْلي: كوفي ثقة ثبت في الحديث. وكان الأعمش يقول: شيطان مسعر يستضعفه فيشككه، وكان يقول الشعر. وقال ابن عُيينة: كان من معادن

لطائف إسناده

الصدق. وقال ابن عمّار: مسعر حجة، ومن بالكوفة مثله؟ وقال إبراهيم بن سعيد الجَوْهري: كان مسعر يُسمّى الميزان. وقال أبو داود: مسعر صاحب شيوخ، روى عن مئة لم يرو عنهم سفيان. وذكره ابن حِبّان في"الثقات"، وقال: كان مرجئيًّا ثبتًا في الحديث. وقال أبو نُعيم: سمعت الثوريَّ يقول: الإِيمان يزيد وينقص، وأنا أقول بقول سفيان، ولقد مات مسعرٌ وكان من خيارِهم فما شهد سفيانُ جنازته. يعني من أجل الإرجاء. روى عن أبي بكر بن عمارة بن روبية، وعطاء، وعبد الجبار بن وائل بن حَجَر، وأبي إسحاق السَّبيعي، وزياد بن عِلاقة، وبُكَيْر بن الأخْنس، وعلقمة بن مَرْثَد، وخلق. وروى عنه: سليمان التَّيْمي وابن إسحاق وهما أكبر منه. وشعبة، والثوري، ومالك ابن مِغْوَل وهم من أقرانه، وابن عُيينة، وابن المبارك، ووكيع، ويحيى بن أبي زائدة، ويحيى القطّان، ويحيى بن سعيد الأُمَوي، وأبو أسامة، وغيرهم. مات سنة خمس وخمسين ومئة. والثالث: ابن جَبْر، وهو عبد الله بن عبد الله بن جَبْر، فهو سِبط جَبْر، مر في الحديث العاشر من كتاب الإيمان. ومن قاله بالتصغير فقد صحف؛ لأن ابن جُبَيْر وهو سعيد لا رواية له عن أنس في هذا الكتاب، وقد روى هذا الحديث الإسماعيلي من طريق أبي نُعيم شيخ البخاري، فقال: حدثنا مسعر، قال: حدّثنا شيخ من الأنصار يقال له: ابن جَبْر. والهِلالي في نسبه مر في الثاني والعشرين من الإيمان. ومر العامِرِي في الأول من العلم. والرّوّاسي في الثاني والخمسين منه. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع والسماع، وفيه كوفيان أبو نُعيم

باب المسح على الخفين

ومِسْعر، وبَصْريّان ابن جَبْر وأنس، وفيه من يُنْسب إلى جده. باب المسح على الخفين نقل ابن المُنذر عن ابن المبارك قال: ليس في المسح على الخفين عن الصحابة اختلاف؛ لأن كل من رُوِيَ عنه منهم إنكاره رُوَي عنه إثباته. وقال ابن عبد البر: لا أعلم عن أحد من فقهاء السلف إنكاره إلاَّ عن مالك، مع أن الروايات الصحيحة عنه مصرِّحة بإثباته، وقد أشار الشافعي في "الأم" إلى إنكار ذلك عند المالكية. والمعروف المستقر عندهم الآن قولان: الجواز مطلقًا، والجواز للمسافر دون المقيم، وهذا الثاني مُقتضى ما في "المدونة"، وبه جزم ابن الحاجب. وصحح الباجي الأول، ونقله عن ابن وَهْب وعن ابن نافع في "المبسوطة" نحوه. وإن مالكًا إنما كان يتوقَّف فيه في خاصة نفسه مع إفتائه بالجواز، وهذا مثل ما صح عن أبي أيّوب الصحابي. وقال ابن المنذر: اختلف العلماء أيُّهما أفضل المسح أفضل أو نزعهما وغسل الرجلين؟ قال: والذي أختاره أن المسح أفضل، لأجل من طعن فيه من أهل البدع من الروافض والخوارج، وإحياء ما طعن فيه المخالفون من السنن أفضل من تركه. وقال الشيخ محيي الدين: صرح جمعٌ من الأصحاب بأن الغسل أفضل بشرط أن لا يترك المسح رغبةً عن السنة، كما قالوه في تفضيل القصر على الإتمام. وعند المالكية المسح مباح والغسل أفضل. وقد صرح جمع من الحفاظ بأن المسح على الخُفَّين متواتر، وجمع بعضهم رواته فجاوزوا الثمانين، ومنهم العشرة. وفي ابن أبي شَيْبة وغيره عن الحسن البصري: حدثني سبعون من الصحابة بالمسح على الخفين.

الحديث السابع والستون

الحديث السابع والستون حَدَّثَنَا أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرٌو قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو النَّضْرِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ. وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ سَأَلَ عُمَرَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: نَعَمْ، إِذَا حَدَّثَكَ شَيْئًا سَعْدٌ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَلاَ تَسْأَلْ عَنْهُ غَيْرَهُ. قيل: إن البخاري إنما حدث عن أصبغ بهذا الحديث لقوله: المسح عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وعن أكابر الصحابة في الحضر، أثبت عندنا وأقوى من أن نتَّبع مالكًا على خلافه. وقوله: "إنه مسح على الخفين" أي: الطاهرين الملبوسين بعد كمال الطُّهر، الساترَيْن لمحل الفرض وهو القدم بكعبيه. ويشترط عند المالكية أن لا يكونا متَّسِعين بحيث لا يمكن تتابع المشي بهما، ويشترط عندهم أيضًا أن يكونا من جلد أو مجلَّدَين من الظاهر والباطن، الظاهر ما يلي السماء، والباطن ما يلي الأرض. وخالفت الشافعية في هذا، فقالوا: يجوز من الجلود واللبود بشرط أن يكون قويًّا يمكن تتابع المشي عليه في تردده في الحوائج والمنزل والترحال والنزول لا في مسافة فراسخ. وقد قال الكَرْخِي: أخاف الكفر على من لا يرى المسح على الخفين. وليس المسح منسوخًا بالغسل الوارد في الآية، لما ثبت في "الصحيحين" من رواية المغيرة من مسحه عليه الصلاة والسلام على الخفين في غزوة تبوك.

وقد اتفق العلماء على أن آية الوضوء المذكورة في المائدة كانت قبل غزوة تبوك. وثبت في "الصحيحين" عن جرير أنه قال: "رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمسح على الخُفين". زاد أبو داود: قالوا لجرير: إنما كان هذا قبل نزول المائدة. فقال جرير: وما أسلمتُ إلاَّ بعد نزول المائدة. وكان إسلام جرير متأخرًا جدًّا. وفي "سنن" البيهقي عن إبراهيم بن أدهم قال: ما سمعت في المسح على الخُفَّين حديثًا أحسن من حديث جرير. وأما الأمر بالغَسْل فمحمولٌ على غير لابس الخُفِّ ببيان السنة. وأما ما رُوي عن علي وعائشة وابن عبّاس من كراهة المسح فليس بثابت، بل ثبت في "صحيح" مسلم وغيره عن علي رضي الله تعالى عنه أنه روى المسح على الخف عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ولو ثبت عن ابن عبّاس وعائشة ذلك لحُمِل على أن ذلك قبل بلوغهما جواز المسح عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فلما بلغهما رجعا. وقد روى البَيْهقي معنى هذا عن ابن عباس. وقوله: "وإن عبد الله بن عمر" معطوف على قوله: "عن عبد الله بن عمر" فهو موصول إذا حملناه على أن أبا سلمة سمع ذلك من عبد الله، وإلا فأبو سلمة لم يدرك القصة. وأخرجه أحمد عن أبي سلمة، عن ابن عمر، قال: رأيت سعد بن أبي وقّاص يمسح على خُفَّيه بالعراق حين توضّأ، فأنكرت ذلك عليه، فلما اجتمعنا عند عمر، قال لي سعد: سَل أباك. فذكر القصة. ورواه ابن خُزَيْمة عن نافع عن ابن عمر نحوه، وفيه أن عُمر قال: كنّا ونحن مع نبيِّنا صلى الله تعالى عليه وسلم نمسح على خِفافِنا لا نرى بذلك بأسًا. وقوله: "فلا تسأل عنه غيره" أي: لقوة الوثوق بنقله، ففيه دليل على أن الصفات الموجبة للترجيح إذا اجتمعت في الراوي كانت من جملة القرائن التي إذا حفَّت خبر الواحد قامت مقام الأشخاص المتعددة، وقد يُفيد العلم عند البعض دون البعض. وعلى أن عمر كان يقبل خبر الواحد، وما نقل عنه من

رجاله سبعة

التوقف إنما كان عند وقوع رِيْبة له في بعض المواضع. واحتج به من قال بتفاوت رتب العدالة، ودخول الترجيح في ذلك عند التعارض. ويمكن إبداء الفارق في ذلك بين الرواية والشهادة. وفيه تعظيم عظيم من عمر لسعد. وفيه أن الصحابي القديم الصحبة قد يَخْفى عليه من الأمور الجليلة في الشرع ما يطَّلِع عليه غيره؛ لأن ابن عمر أنكر المسح على الخفين مع قديم صحبته، وكثرة روايته. وقد روى قصته مالك في "الموطأ" عن نافع وعبد الله بن دينار أنهما أخبراه أن ابن عمر قدم الكوفة على سعد وهو أميرها، فرآه يمسح على الخفين، فأنكر ذلك عليه، فقال له سعد: سل أباك، فذكر القصة. ويُحتمل أن يكون ابن عُمر إنما أنكر المسح في الحضر لا في السفر لظاهر هذه القصة، وأما في السفر فقد كان ابن عمر يعلمه، ورواه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كما رواه ابن أبي خَيْثمة في "تاريخه الكبير"، وابن أبي شيبة في "مصنفه" عن سالم، عنه، بلفظ: قال: "رأيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يمسَحُ على الخفَّين بالماء في السفر". رجاله سبعة: وفيه ذكر عمر بن الخطاب: الأول: أصْبَغ بن الفرج بن سعيد بن نافع الأُمَوي مولاهم الفقيه المصري أبو عبد الله، كان ورّاق بن وَهْب، وجده نافع عَتيق عبد العزيز بن مروان بن الحكم. قال يحيى بن صالح: هو من ولد عبيد المسجد، يُنسب إلى أولاد بني أمية، وكان مطَّلِعًا في الفقه والنظر. وقد قيل لأشْهب: من لنا بعدك؟ قال: أصبغ بن الفرج. وكان كاتب ابن وَهْب، وأخص الناس به. وقد قال له: لولا أن تكون بدعة لسوَّرناك يا أصبغ كما تسوِّر الملوك فرسانها. وقال ابن اللّباد: ما انفتح لي طريق الفقه إلاَّ من أصول أصبغ. وقال عبد الملك بن الماجِشون: ما أخرجت مصر مثل أصبغ. قيل له: ولا ابن القاسم؟ قال: ولا ابن القاسم كلفًا

منه، وكان يستفتي مع أشهب وغيره من شيوخه. وقال ابن مَعين: كان أصبغ من أعلَمِ من أعلَمُ من خلق الله كلهم برأي مالك، يعرفه مسألةً مسألةً، ومتى قالها؟ ومن خالفه فيها؟ وقال أصبغ: أخذ ابن القاسم بيدي، وقال لي: أنا وأنت في هذا الأمر سواء، فلا تسألني عن المسائل الصعبة بحضرة الناس، ولكن بيني وبينك حتى تنظر وانظر. وقال العِجلي: لا بأس به. وقال مرة: ثقة صاحب سنة. وقال أبو حاتم: صدوق، وكان أجلَّ أصحاب ابن وَهْب. وقال مُطَرِّف بن عبد الله: هو أفقه من عبد الله بن عبد الحكم، وكان بينهما منازعة، فكان كل منهما يتكلم في الآخر، وهرب أيام المحنة، فاستتر بحلوان إلى أن مات بها في شوال سنة خمس وعشرين ومئتين. وذكره ابن حِبّان في "الثقات". وقال أبو علي بن السَّكَن: ثقة ثقة. روى عن: ابن وهب، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وعبد العزيز الدَّراوَرْدِيّ، وعبد الرحمن بن القسام -وكان قد رحل إلى المدينة ليسمع من مالك، فدخلها يوم مات- وصحب ابن القاسم وابن وَهْب وأشهب وسمع منهم وتفقه منهم. وروى عنه: البخاري، وروى أبو داود والترمذي والنسائي عنه بواسطة، وأبو حاتم الرازي، ومحمد بن أسد الخشني، وابن وضّاح، وعليه تفقه ابن الموّاز، وابن حبيب، وأبو زيد القُرطُبي، وابن مزن، وغيرهم. الثاني: عبد الله بن وَهْب، وقد مر في الحديث الثالث عشر من كتاب العلم. الثالث: عمرو بن الحارث بن يعقوب بن عبد الله الأنصاري مولاهم مولى قيس أبو أمية المصري المدني أصالة. قال يعقوب بن شَيْبة: كان ابن مَعين يوثِّق جدًّا. ووثقه أبو زُرعة والنَّسائي والعِجْلي وغير واحد. وقال النَّسائي: الذي يقول فيه مالك في كتابه: الثقة عن بكير، يشبه أن يكون عمرو بن الحارث. وقال ابن وَهْب: سمعت من ثلاث مئة

وسبعين شيخًا، فما رأيت أحدًا أحفظ من عمرو بن الحارث. وقال: قال ربيعة: لا يزال بذلك العصر علم ما دام بها ذلك القصير. وقال أيضًا: لو بقي لنا عَمرو ما احتجنا إلى مالك. وقال: قال لي ابن مَهْدي: اكتب لي من حديث عمرو بن الحارث، فكتبت له من حديثه، وحدثته به. وقال أبو حاتم: كان أحفظ زمانه، ولم يكن له نظير في الحفظ. وقال سعيد بن عُفَيْر. كان أخطب الناس وأرواهم للشعر. وقال ابن يونُس: كان فقيهًا أديبًا وكان مؤدِّبًا لولد صالح بن علي. وقال الذَّهبي: كان عالم الديار المصرية ومحدثها وفقيهها مع الليث. وقال ابن حِبّان في "الثقات": كان من الحفاظ المُتْقِنين ومن أهل الورع في الدين. وقال السّاجي: صدوق ثقة. وقال أحمد بن صالح: الليث إمام ولم يكن بالبلد بعد عَمْرو بن الحارث مثله. وقال ابن الأخرم: عمرو بن الحارث عزيز الحديث جدًّا، مع علمه وثَبْتِه، وقلما يخرُجُ حديثه من مصر. وقال الخطيب: كان قارئًا مفتيًا ثقة. وقال ابن ماكولا: كان قارئًا مفتيًا أفتى في زمن يزيد بن أبي حبيب، وكان أديبًا فصيحًا. وقال الليث: كنت أرى عمرو بن الحارث عليه أثواب بدينار، ثم لم تمض الليالي حتى رأيته يجرُّ الويش، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون. ولأجل كثرة الثناء عليه لم يلتفت ابن حجر في "مقدمته" عند ذكر من تُكُلِّم فيه من رجال البخاري إلى قول أحمد: ليس فيهم مثل الليث، لا عمرو بن الحارث ولا غيره، وكان عمرو بن الحارث عندي ثقة، ثم رأيت له مناكير. وقال في موضع آخر: يروي عن قتادة أحاديث يضطَّرب فيها ويخطىء، فلم يذكره فيهم. روى عن: أبيه، وسالم أبي النَّضْر، والزُّهري، وعبد ربه، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وأبي الأسود يتيم عروة، وربيعة، وحَبّان بن واسِع، وأبي يونس مولى أبي هُريرة، وخلق. وعنه: مجاهد بن جَبْر، وصالح بن كَيْسان وهما أكبر منه، وقتادة، وبُكَيْر بن الأشَجّ وهما من شيوخه، وأسامة بن زيد الليثي، وموسى بن أَعْيَن، وخلق. مات سنة سبع أو ثمان وأربعين ومئة. الرابع: أبو النَّضر سالم بن أبي أمية التَّيْمي المدني مولى عُمر بن عبد الله

لطائف إسناده

التَّيْمي وهو والد بَرَدان. قال ابن المديني: قلت ليحيى بن سعيد: سالم أبو النضر عندك فوق سُمَيّ؟ قال: نعم. وقال أحمد وابن مَعين والعِجلي والنَّسائي: ثقة. زاد العِجْلي: رجل صالح. وكذا قال أبو حاتم، وزاد: حسن الحديث. وقال ابن سعد: ثقة كثير الحديث. وقال الجُندي: سئل ابن عُيينة عن سالم أبي النَّضر، فقال: كان ثقة، وكان يَصفه بالفضل والعقل والعبادة. وذكره ابن حِبّان في "الثقات". وقال ابن شاهين في "الثقات": قال أحمد بن صالح: له شأن ما أكاد أقدِّم عليه كبير أحد. وقال ابن عبد البر: أجمعوا على أنه ثقة ثبت. روى عن: أنس، والسائب بن يزيد، وعوف بن مالك، وعبد الله بن أبي أوفى كتابة، وسعيد بن المسيِّب، وعامر بن سعد، ونَبْهان مولى التوأمة، وخلق. وروى عنه: ابنه إبراهيم المعروف ببَرَوان -بفتح الموحدة والراء- والسفيانان، ومالك، وعمرو بن الحارث، والليث، وإسحاق، وموسى بن عُقبة، وابن جُريج، وخلق. مات في خلافة مروان بن محمد سنة تسع وعشرين ومئة. الخامس: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عَوْف، مر في الحديث الرابع من بدء الوحي. ومر عبد الله بن عمر في كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه. ومر سعد بن أبي وقّاص في العشرين منه. ومر عمر بن الخطاب في أول حديث من بدء الوحي. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع والإفراد والعنعنة، وثلاثة من رواته مصريون. وهم: أصبغ، وابن وَهْب، وعمرو بن الحارث .. وأربعة مدنيون وهم: أبو سلمة، وأبو النَّضْر، وابن عُمر، وسعد بن أبي وقّاص، وكذلك عمر المذكور فيه. وفيه رواية صحابي عن صحابي. ومعظم رواته قُرشيّون أعلام أجلاّء.

رجاله خمسة

أخرجه البخاري هنا ,ولم يخرجه إلاَّ هنا، وهو من أفراده. ومسلم في المسح لعمر، والنسائي في الطهارة عن سليمان بن داوود وغيره. وقَالَ مُوسَى بنُ عُقْبَةَ أَخْبَرَني أبو النَّضْر أنَّ أبا سَلَمَة أخبرهُ أنَّ سَعْدًا حَدَّثَهُ فقالَ عُمَرُ لِعَبْدِ الله نَحْوَهُ. قوله: "إن سعدًا حدّثه" أي: حدث أبا سلمة، والمحدَّث به محذوف يظهر من الرواية السابقة الموصولة. وقوله: "فقال" الفاء عطف على المقدر بعد "حدَّثه". وقوله: "نحوه" بالنصب لأنه مقول القول. وظهر منه أن قول عمر في هذه الرواية المعلقة بمعنى الرواية التي وصلها المؤلف لا بلفظها. وقد وصله الإِسماعيلي عن موسى بن عُقبة بلفظ: "وإن عمر قال لعبد الله -أي: ابنه، كانه يلومه-: إذا حدثك سعدٌ عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فلا تبتغَ وراء حديثه شيئًا". رجاله خمسة: الأول: موسى بن عُقبة وقد مر في الحديث الخامس من كتاب الوضوء، والباقون مر قريبًا في الحديث الذي قبل هذا ذكر محالِّهم. وهذا التعليق وصله الإسماعيلي والنسائي وغيرهما. وفيه ثلاثة من التابعين على الولاء أولهم موسى، وموسى وأبو النَّضْر قرينان مدنيان.

الحديث الثامن والستون

الحديث الثامن والستون حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ الْحَرَّانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ عَنْ أَبِيهِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ -رضي الله عنه- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ خَرَجَ لِحَاجَتِهِ فَاتَّبَعَهُ الْمُغِيرَةُ بِإِدَاوَةٍ فِيهَا مَاءٌ، فَصَبَّ عَلَيْهِ حِينَ فَرَغَ مِنْ حَاجَتِهِ، فَتَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ. وهذا الحديث مرّ الكلام عليه مستوفى وعلى ما فيه من الفوائد عند ذكره في باب الرجل يوضِّىء صاحبه. رجاله سبعة: الأول: عمرو بن خالد بن فَرُّوخ وقد مر في الثالث والثلاثين من كتاب الإيمان. ومرّ اللَّيث بن سعد في الحديث الخامس منه أيضًا. ومرّ يحيى بن سعيد الأنصاري في الحديث الأول من بدء الوحي. ومرّ سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف في السابع والأربعين من كتاب الوضوء. وكذا نافع بن جُبَيْر، وعروة بن المُغيرة بن شعبة. ومرّ المغيرة بن شعبة في الثاني والخمسين من كتاب الإيمان. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع والعنعنة، ورواته ما بين حرّاني ومصري ومدني، وفيه أربعة من التابعين على الولاء، وهم: يحيى وسعد ونافع وعروة. أخرجه البخاري في مواضع: في الطهارة عن عمرو بن خالد، وفي المغازي عن يَحْيى بن بُكَيْر، وفي اللباس عن أبي نُعيم. ومسلم في الطهارة

عن قُتيبة، وفي الصلاة عن مُحمد بن رافع، وزاد فيه قصة الصلاة خلف عبد الرحمن. وأخرجه أبو داود في الطهارة عن أحمد بن صالح. والنّسائي فيها عن سُليمان بن داود. وابن ماجه فيها عن محمد بن رُمْح.

الحديث التاسع والستون

الحديث التاسع والستون حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِى سَلَمَةَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ. قوله: "يمسحُ على الخفين" هذا المسح إنما هو في الوضوء خاصة، ولا يجوز في الغُسل بالإجماع واجبًا كان أو مندوبًا، لما في حديث صَفْوان بن عسال عند التِّرمذي وصححه، قال: "كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يأمُرُنا إذا كنّا مسافرينَ أو سفرًا أن لا نَنْزِعَ خفافنا ثلاثة أيام بلياليهنَّ إلاَّ من جَنابة"، فدلّ الأمر بالنزع على عدم جواز المسح في الغُسل لأجل الجنابة، فهي مانعة من المسح. ولم يخرِّج البخاري ما يدل على توقيت المسح، ولا عدمه، وبه قال الجمهور، فقالوا: مدته للمقيم يوم وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام من وقت الحَدَث، محتجّين بما رُوي عن علي بن أبي طالب "أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم جعل المسح ثلاثة أيّام ولياليهنَّ للمسافر، ويومًا وليلة للمقيم" أخرجه مسلم، وأبو داود، والتِّرمذي، وابن حِبّان من حديث شَريح بن هانىء، قال: "أتيتُ عائشة أسألها عن المسح على الخُفَّين، فقالت: عليك بابن أبي طالب، فذكر الحديث"، وبحديث صفوان بن عسال السابق. وقال مالك في المشهور عنه: يمسح ما لم يخلع أو يجب على الماسح غسل. وروى أشهب أن المسافر يمسح ثلاثة أيام، ولم يذكر للمُقيم وقتًا. وذكر ابن نافع أن المقيم يمسح من الجمعة إلى الجمعة، لكن هذا على

وجه الاستحباب؛ لأنه يغتسِلُ للجمعة، واحتج بما رُوي عن خُزيمة بن ثابت: "رخَّص رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم للمسافر ثلاثة أيّامٍ ولياليهنَّ، ولو استزدناهُ لزادنا" رواه أبو داود بزيادته، وابن ماجه بلفظ: "ولو مضى السائل على مسألته لجعلها خمسًا"، ورواه ابن حِبّان باللفظين جميعًا، ورواه التِّرمذي وغيره بدون الزيادة. وقول النووي في "المهذب": إنه ضعيف يرد عليه تصحيح ابن حِبّان له. ونقل التِّرمذي عن ابن مَعين أنه صحيح. وقول ابن دَقيق العيد: الروايات متضافرة متكاثرة برواية التيمي له عن عمرو بن ميمون، عن الجدلي، عن خزيمة. وبما رواه البيهقي وغيره عن عُقبة بن عامر، قال: خرجت من الشام إلى المدينة، فدخلتُ على عُمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فقال: متى أولجتَ خُفَّيكَ في رجليك؟ قلت: يوم الجمعة. قال: فهل نزعتَهما؟ قلت: لا. قال: أصبت السُنّة. وفي رواية: لبستُهما يوم الجمعة، واليوم يوم الجمعة ثمان. قال: أصبت السُنّة. وروي عن ابن عمر أنه كان لا يوقَّت في الخفين وقتًا. وبما أخرجه أبو داود وابن ماجه والدّارقطني والحاكم في "المستدرك" عن أُبي بن عُمارة، وكان ممن صلى إلى القبلتين، قلت: يا رسول الله: أمسح على الخفَّ؟ قال: "نعم"، قلت: يومًا؟ قال: "نعم"، قلت: ويومين؟ قال: "نعم"، قلت: وثلاثة؟ قال: "نعم وما شئت". قال أبو داود ليس بالقوي. وقال البُخاري: لا يصح. ويُندب عند المالكية نزعه في كل أسبوع مراعاةً للخُروج من الخلاف. ولو نزع خُفيه بعد المسح قبل انقضاء المدة عند من قال بالتوقيت أعاد الوضوء عند أحمد وإسحاق وغيرهما، وغسل قدميه عند الكوفيين وأبي ثور والمُزَني، وكذا قال مالك والليث، إلا إن تطاول. وقال الحسن وابن أبي ليلى وجماعة: ليس عليه غسل قدميه، وقاسوه على من مسح رأسه ثم حلقه أنه لا تجب عليه إعادة المسح، وفي هذا القياس نظر. وكيفية المسح أن يضع اليسرى تحت العَقِب واليمنى على ظهر الأصابع،

رجاله ستة

ثم يُمِرَّ اليمنى إلى ساقه واليسرى إلى أطراف الأصابع من تحت مفرجًا بين أصابع يده، هكذا قالت الشافعية. وكيفيته عند المالكية أن يضع يمناه على أطراف أصابع رجله اليمنى، ويسراه تحتها، ويمرهما لكعبيه. وفي الرجل اليسرى خلاف هل هي مثل اليمنى في الكيفية أو تجعل اليسرى فوقها واليمنى تحتها؟ والواجب عند المالكية وغيرهم مسح الأعلى دون الأسفل. وتبطُلُ الصلاة عند المالكية بترك الأعلى دون الأسفل، فتندب الإعادة في الوقت المختار في تركه. وترك بعضِ كلٍّ منهما كتركِ الكلِّ، وكره غسله لما فيه من إضاعة المال، وتكرار مسحه لمنافاته للرخصة. رجاله ستة: الأول: أبو نُعيبم الفَضْل بن دُكَيْن مرَّ في الحديث السادس والأربعين من كتاب الإيمان. ومرَّ شَيْبان بن عبد الرحمن النَّحْوي ويحيى بن أبي كثير في الثالث والخمسين من كتاب العلم. ومرَّ أبو سلمة بن عبد الرحمن في الحديث الثالث من بدء الوحي. الخامس: جعفر بن عَمْرو بن أُميّة الضَّمْري المدني أخو عبد الملك بن مروان من الرضاعة. روى عن: أبيه، ووحشي بن حَرْب، وأنس. وروى عنه: أبو سلمة، وأبو قِلابة، وسُليمان بن يَسار، وأخوه الزِّبْرِقان، وابن أخيه الزِّبرقان بن عبد الله بن عمرو، وغيرهم. قال العِجْلي: مدني تابعي ثقة من كبار التابعين، مات في خلافة الوليد. وقال خليفة: سنة خمس أو ست وتسعين. قال ابن المديني: ليس هو ابن عَمْرو بن أُميّة لصلبه، بل هو جعفر بن عمرو بن فلان بن عمرو بن أُميّة. قال الذي

لطائف إسناده

"تهذيب التهذيب": وهذا غاية التحقيق. السادس: عمرو بن أُميّة بن خُويلد بن عبد الله بن إياس بن عبد بن ناشِرة بن كعب بن جدي بن ضَمْرة الضَّمْري أبو أُميّة، صحابي مشهور. شهد مع المشركين أحدًا وبدرًا، وأسلم حين انصرف المشركون من أحد، وكان شجاعًا من رجال العرب جرأة ونجدة، وأول مشاهده بئر معونة، فأسره عامر بن الطُّفيل، وقال له: إنه كان على أمي نَسمة، فاذهب فأنت حرُّ عنها، وجزَّ ناصيته. وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبعثه في أموره، بعثه في سنة ست إلى النجاشي بالحبشة، فقدم عليه بكتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعوه إلى الإِسلام، فأسلم، وشهد أن لا إله إلاَّ الله وأن محمدًا رسول الله، وأرسل إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليزوِّجه أُم حبيبة بنت أبي سُفيان، ويبعث بها إليه، ويحمِلَ من عندهُ من المسلمين، ففعل. وبعثه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهدية إلى أبي سُفيان بن حرب بمكة. وهو معدود في أهل الحجاز. له عشرون حديثًا، اتّفقا على حديث، وانفرد البخاري بآخر. روى عنه: ابناه جعفر وعبد الله. مات بالمدينة في خلافة معاوية بن أبي سُفيان رضي الله تعالى عنهما. والضَّمْري في نسبه نسبة إلى ضَمْرة بن بكر بن عبد مناة بن كِنانة. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع والعنعنة والإِخبار، وفيه ثلاثة من التابعين وهم: يحيى، وأبو سلمة، وجعفر، يحيى تابعي صغير، والأخيران قرينان. ورواته ما بين كوفي وبصري ومدني. أخرجه البخاري هنا، والنّسائي في الطهارة عن ابن عبّاس العَنْبَري، وابن

ماجه فيها عن أبي بكر بن أبي شَيْبة. وتابَعَهُ حَرْبُ بنُ شَدَّادٍ وأبَانَ عَنْ يَحْيَى. حديث حرب موصول عند النّسائي والطبراني. وحديث أبان بن يزيد موصول عند أحمد والطبراني. ومرّ تعريف أبان بن يزيد في الثامن والثلاثين من كتاب الإيمان. وحرب هو ابن شَدّاد اليَشْكُري أبو الخطاب البَصْري العطّار، ويقال: القطّان، ويقال: القصاب. روى عن: يحيى بن أبي كَثير، وقَتادة، والحُسين، وحُصين بن عبد الرحمن، وشهر. وروى عنه: ابن مَهْدي، وأبو داود الطّيالسي، وعبد الصمد بن عبد الوارث، وغيرهم. ذكره ابن حِبّان في "الثقات". وقال ابن مَعين وأبو حاتم: صالح. وقال عبد الصمد: حدّثنا حرب بن شدّاد وكان ثقةً. وقال أحمد: ثبت في كل المشايخ. وقال عمرو بن علي: كان يحيى لا يحدِّث عنه، وكان عبد الرحمن يحدث عنه. مات سنة إحدى وعشرين ومئة.

الحديث السبعون

الحديث السبعون حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الأَوْزَاعِيُّ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَمْسَحُ عَلَى عِمَامَتِهِ وَخُفَّيْهِ. هكذا رواه الأوزاعي، وأسقط بعض الرواة عنه جعفرًا من الإِسناد، وهو خطأ، قاله أبو حاتم الرازي. وقوله: "على عِمامته وخُفَّيه" وروى ابن بطّال عن الأصيلي أنه قال: ذِكر العِمامة في هذا الحديث من خطأ الأوزاعي؛ لأن شَيْبان وغيره روَوْه عن يحيى بدونها، فوجب تغليب رواية الجماعة على الواحد. ولم يتفرد بها الأوزاعي كما يأتي عن ابن مَنْده قريبًا، وعلى تقدير تفرده بها لا يستلزم ذلك تخطئته؛ لأنها تكون زيادة من ثقة حافظ غير منافية لرواية رفقته، فتقبل، ولا تكون شاذة، ولا معنى لردَّ الروايات الصحيحة بهذه التعليلات الواهية. وقد اختلف السلف في معنى المسح على العِمامة، فقيل: إنه كمَّل عليها بعد مسح الناصية، وقد مرَّ ما يدُل على ذلك في رواية مسلم عند ذكر الحديث في باب: الرجل يوضِّىءُ صاحبه. وإلى عدم الاقتصار على المسح عليها ذهب الجمهور. وذهب إلى المسح عليها الأوزاعي، والثوري في رواية عنه، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثَوْر، والطَّبري، وابن خُزيمة، وابن المُنذر، وغيرهم. وقال ابن المنذر: ثبت ذلك عن أبي بكرٍ وعمر. وقد صح أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، قال: "إن يُطِع الناسُ أَبا بكر وعُمر يرشُدوا".

رجاله سبعة

واحتج المانعون بقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] , من مسح على العمامة لم يمسح على رأسه، وأجمعوا على أنه لا يجوز مسح الوجه في التيمم على حائل دونه، فكذلك الرأس. وقال الخطّابيّ: فرض الله مسح الرأس، والحديث في مسح العِمامة محتملٌ للتأويل، فلا يُترك المتيقَّن للمحتَمِل. قال: وقياسه على مسح الخف بعيدٌ؛ لأنه يشق نزعه بخلافه. وأجيب بأن الآية لا تنفي الاقتصار على المسح عليها, ولاسيما عند من يحمل المشترك على حقيقته ومجازه، لأن من قال: قبَّلْتُ رأس فلان يصدُق ولو كان على حائل. وإن الذين أجازوا الاقتصار على مسحها شرطوا فيه أن يعتمَّ بعد كمال الطهارة، وأن تكون المشقة في نزعها كما في الخف، بأن تكون محنّكة كعمائم العرب، قالوا: لأنه عضوٌ يسقط فرضه في التيمم، فجاز المسح على حائله كالقدمين. والتقييد بالعِمامة مخرجٌ للقُلُنْسُوة ونحوها، فلا يجوز الاقتصار في المسح عليها، نعم رُوي عن أنس أنّه مسح على القُلُنْسوة. وذكر ابن ناجي أن ابن راشدٍ القفْصي حضر درس بعض الحنابلة، فقال المدرس: الدليل لنا على مالك في المسح على العِمامة أنه مسح على حائل أصله الشعر، فإنه حائل. فأجابه ابن راشد بأن الحقيقة إذا تعذَّرت انتُقل إلى المجاز إن لم يتعدد، وإلى الأقرب منه إن تعدد، والشعر هنا أقرب، والعِمامة أبعد، فيتعين العمل على الشعر. فلم يجد جوابًا، فنهض قائمًا وأجلَسَهُ بإزائه. رجاله سبعة: الأول: عبدان. والثاني: عبد الله بن المبارك وقد مرّا في الحديث السادس من بدء الوحي. ومر الأَوْزاعِيّ في الحديث العشرين من كتاب العلم. ويحيى بن أبي كَثير في

لطائف إسناده

الثالث والخمسين من كتاب العلم. وأبو سلمة في الحديث الثالث من بدء الوحي. ومرَّ جعفر بن عمرو وأبوه عمرو في الحديث الذي قبل هذا. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والإخبار بصيغة الجمع والعنعنة، ورواته ما بين مَرْوَزِي وشامي ومدني. وذكر مواضعه في الحديث الذي قبل هذا، ثم قال المصنف: وتابَعَهُ مَعْمَرٌ عَنْ يَحْيَى عنْ أبي سَلَمَةَ عَنُ عَمْرو قالَ: رأيتُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- هذه المتابعة في المتن لا في الإِسناد، وهذا هو السبب في سياق المصنف الإِسناد ثانيًا، ليبين أنه ليس في رواية معمر ذكر جعفر. ولفظ المتن في رواية أبي ذرٍّ: "يمسحُ على عمِامته"، زاد الكُشْمِيْهَني: "وخُفيه"، وسقط ذكر المتن في سائر الروايات في "الصحيح". وقال ابن بطّال: رواية مَعْمر ليس فيها ذكر العِمامة، وهي أيضًا مُرسلة؛ لأن أبا سلمة لم يسمع من عمرو. قال في "الفتح": سماع أبي سلمة من عمرو ممكن، فإنه مات بالمدينة سنة ستين، وأبو سلمة مدني، ولم يُوصف بتدليس، وقد سمع من خلق ماتوا قبل عمرو. وروى بُكَيْر بن الأشجِّ عن أبي سلمة أنه أرسل جعفر بن عمرو بن أُميّة إلى أبيه يسأله عن هذا الحديث، فرجع إليه، فأخبره بها، فلا مانع من أن يكون أبو سلمة اجتمع بعمرو بعد، فسمعه منه. ويقوّيه توفر دواعيهم على الاجتماع في المسجد النبوي. ورواية مَعْمر أخرجها عبد الرزاق في "مصنفه" عن مَعْمر بدون ذكر العِمامة، لكن أخرجها ابن منده في كتاب الطهارة له من طريق مَعْمر بإثباتها.

باب إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان

ورجال المتابعة أربعة: الأول: مَعْمر بن راشد مرَّ تعريفه في الثالث من بدء الوحي. ومرَّ في الحديث الذي قبل هذا ذكر المحالِّ التي عُرِّف فيها الباقون. باب إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان هذا لفط رواية أبي داود عن الشعبي، وسنبين ما بينها وبين لفظ حديث الباب من التفاوت.

الحديث الحادي والسبعون

الحديث الحادي والسبعون حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ عَنْ عَامِرٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي سَفَرٍ، فَأَهْوَيْتُ لأَنْزِعَ خُفَّيْهِ فَقَالَ: "دَعْهُمَا، فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ". فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا. قوله: "زكريا عن عامر"، قال فى "الفتح": زكريا مدلّس، ولم أره من حديثه إلاَّ بالعنعنة، لكن أخرجه أحمد، عن يحيى القطّان، عن زكرياء، والقطّان لا يحمل من حديث شيوخه المدلِّسين إلاَّ ما كان مسموعًا لهم، صرَّح بذلك الإِسماعيلي. وقوله: "في سفر" أي: في رجب سنة تسع في غزوة تبوك. وقوله: "فأهويتُ" أي: مددت يدي، قال الأصمعي: أهويت بالشيء إذا أومأت به، وقال غيره: أهويتُ قصدت الهواء من القيام إلى القعود، وقيل: الإهواءُ الإمالة. قال ابن بطّال: فيه خدمة العالم، وأن للخادم أن يقصد إلى ما يعرفُ من عادة مخدومهِ قبلَ أن يأمرَهُ. وفيه الفهم عن الإشارة، ورد الجواب عمَّا يُفهم منها, لقوله: "فقال دعهما". وقوله: "فإني أدخلتُهما" أي: القدمين. وقوله: "طاهرتين" كذا للأكثر، وللكُشْمِيهني: "وهُما طاهرتان"، ولأبي داود: "فإني أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان"، وللحميدي في "مسنده": "قلت: يا رسول الله: أيمسح أحدنا على خفَّية؟ قال: نعم إذا أدخلهما وهما طاهرتان"، ولابني خُزيمة وحِبّان من حديث صفوان بن عسال:

"أمرنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن نمسح على الخُفَّين إذا نحن أدخلناهما على طهر، ثلاثًا إذا سافرنا، ويومًا وليلة إذا أقمنا" قال ابن خُزيمة: ذكرته للمزني فقال: حدِّث به أصحابنا، فإنه أقوى حجة للشافعي. وحديث صفوان وإن كان صحيحًا فإنه ليس على شرط البخاري، لكن حديث الباب موافق له في الدلالة على اشتراط الطهارة عند اللبس. وأشار المُزَني بما قال إلى الخلاف في المسألة، ومحصله أن الجمهور حملوا الطهارة على الشرعية في الوضوء، وخالفهم داود، فقال: إذا لم يكن على رجليه نجاسة عند اللبس جاز له المسح. ولو تيمم ثم لبسهما لم يُبَح له المسح عند الجمهور؛ لأن التيمم مبيح لا رافع، وخالفهم أصبغ. ولو غسل رِجليه بنية الوضوء ثم لبسهما، ثم أكمل باقي الأعضاء لم يُبَحِ المسح عند من قال بإيجاب الترتيب، وكذا عند من لا يوجبه بناء على أن الطهارة لا تتبعَّض، لكن قال صاحب "الهداية" من الحنفية: شرط إباحة المسح لبسهما على طهارة كاملة، قال: والمراد بالكاملة وقت الحدث لا وقت اللبس، ففي هذه الصورة إذا أكمل الوضوء ثم أحدث جاز له المسح؛ لأنه وقت الحدث كان على طهارة كاملة. والحديث حجة عليه؛ لأنه جعل الطهارة قبل لبس الخف شرطًا لجواز المسح، والمعلق بشرط لا يصح إلاَّ بوجود ذلك الشرط، وقد سُلِّم أن المراد بالطهارة الكاملة. وتعقبه العيني بما يظهر بطلانه من نظره. ولو توضأ مرتبًا، وغسل إحدى رجليه فلَبِس، ثم غسل الثانية فلبِس لم يُبَح له المسح عند الأكثر، إلاَّ أن ينزع الأولى من مقرِّها ثم يدخلها فيه. وأجازه الثوريُّ، والكوفيّون، والمُزني صاحب الشافعي، ومطرِّف صاحب مالك، وابن المُنذر، وغيرهم لصدق أنه أدخل كلاًّ من رجليه الخفين وهي طاهرة. وتعُقِّبَ بأن الحكم المرتب على التثنية غير الحكم المرتب على الوحدة. واستضعفه ابن دقيق العيد بأن الاحتمال باق، قال: لكن إن ضُمَّ إليه دليل

رجاله خمسة

يدُل على أن الطهارة لا تتبعَّضُ اتجه، ولو ابتدأ اللبس بعد غسلهما، ثم أحدث قبل وصولهما إلى موضع القدمين لم يجز المسح. رجاله خمسة: الأول: أبو نُعيم الفَضْل بن دُكَيْن مرَّ في السادس والأربعين من كتاب الإيمان، وكذلك زكريا بن أبي زائدة. ومرَّ عامر بن شُراحيل الشعبي في الثالث من كتاب الإيمان. ومرَّ عُروة بن المغيرة في السابع والأربعين من كتاب الوضوء. ومرَّ أبوه المغيرة في الثاني والخمسين من كتاب الإيمان. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع والعنعنة، ورواته كلهم كوفيون، وفيه رواية التابعي الكبير عن التابعي، وبيان موضع من أخرجه في الحديث السابع والستين قبل هذا بقريب. باب من لم يتوضأ من لحم الشاة والسويق قوله: "من لحم الشاة" نص على لحم الشاة ليندرج ما هو مثلها وما هو دونها بالأولى، وأما ما فوقها فلعله يشير إلى استثناء لحوم الإبل؛ لأن من خصه من عموم الجواز علَّله بشدة زُهومته، فلهذا لم يقيده بكونه مطبوخًا وهو قول أحمد، واختاره ابن خُزيمة وغيره من محدثي الشافعية. وفيه حديثان: أحدهما رواه مسلم من طُرق عن جابر بن سَمُرة أن رجلًا سأل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أنتوضّأ من لحوم الغنم؟ قال: "إن شئت فتوضّأ، وإن شئت فلا تتوضّأ". قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: "نعم، فتوضأ من لحوم الإبل". والثاني عن البراء أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال: "توضؤوا من لحوم الإبل، ولا تتوضّؤوا من لحوم الغنم" أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن خُزيمة وابن الجارود. قال البيهقي: قد صح فيه حديثان حديث جابر بن سَمُرة وحديث البراء، قاله أحمد بن حَنْبل، وإسحاق بن راهويه.

وقوله: "والسويق" السويق هو ما اتُّخذ من شعير أو قمح يُدق فيكون كالدقيق إذا احتيج إلى أكله خُلط بماء أو لبن أو رُبٍّ ونحوه. وقد وصفه أعرابي فقال: عدة المسافر، وطعامُ العَجْلان، وبُلْغَة المريض. قال ابن التين: ليس في أحاديث الباب ذكر السويق. وأجيب بأنه دخل من باب الأولى؛ لأنه إذا لم يتوضأ من اللحم مع دُسومته فعدمه من السويق أولى، ولعله أشار بذلك إلى حديث الباب الذي بعده، إذ فيه: "فلم يُؤت إلا بالسويق ... إلخ". وأكَلَ أبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وعثمانُ رضي الله عنهم فَلَمْ يَتَوَضَّؤُوا. كذا في رواية أبي ذر إلا عن الكُشميهني بحذف المفعول، وهم يعُم كل ما مست النار وغيره. وفي رواية أبي ذرٍّ عن الكُشميهني والحموي والأصيلي: "وأكل أبو بكر وعمر وعثمان لحمًا" بإثباته. وهذا التعليق وصله الطبراني في مسند الشاميين بإسناد حسن من طريق سليمان بن عامر، قال: رأيت أبا بكر وعمر وعثمان أكلوا ممّا مستِ النار ولم يتوضؤوا. ورواه التِّرمذي عن أبي عُمر مطولًا. ورواه ابن حِبّان عن عبد الله بن محمد. ورواه ابن خُزَيمْة عن موسى بن إسماعيل. وأخرجه الطّحاوي من عشر طرق. ورجاله ثلاثة: عمر بن الخطاب مرَّ تعريفه في حديث: "إنما الأعمال" أول حديث، وعثمان بن عفان مرَّ في باب ما يُذكر في المناولة من كتاب العلم. وأما أبو بكر فهو أبو بكر الصديق عبد الله بن عُثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تَيْم بن مُرة بن كعب بن لُؤي القرشي التَيْميّ الصِدّيق ابن أبي قُحافة خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. أُمه أُم الخير سلمى بنت صَخْر بن عامر ابنة عم أبيه.

ولد بعد الفيل بسنتين وستة أشهر. روى ابن البرقي من حديث عائشة: "تذاكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر ميلادَهما عندي، فكان أبو بكر أكبر صحب النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل البعثة، وسبق إلى الإيمان, واستمر معه طول إقامته بمكة، ورافقه في الهجرة وفي المشاهد كلها إلى أن مات، وكانت الراية يوم تبوك معه، وحج بالناس في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سنة تسع، واستقر خليفة في الأرض بعده، ولقَّبه المسلمون خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وهو أول مَنْ أسلم من الرجال فى قول طائفة من أهل السير والخبر، وأول مَنْ صلّى مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما ذكر أولئك. وروي عن ميمون بن مِهْران قال: لقد آمن أبو بكر بالنبي -صلى الله عليه وسلم- من زمن بَحيرا الراهب، واختلف بينه وبين خديجة حتى تزوجها، وذلك قبل أن يولد علي. وكان في الجاهلية وجيهًا رئيسًا من رؤساء قريش، وإليه كانت الأشناق في الجاهلية، والأشناق الديات، كان إذا حمل شيئًا قالت فيه قريش: صدقوه، وأمصوا حمالته وحمالة من قام معه أبو بكر، وإن احتملها غيره خذلوه ولم يصدِّقوه. وأسلم على يدي أبي بكر الصديق الزُّبير وعُثمان وطلحة وعبد الرحمن بن عَوْف. وكان يقال له: عتيق. واختلف العلماء في المعنى الذي قيل له به عتيق، فقال الليثُ بن سعد وجماعة معه: إنما قيل له: عتيق لجماله وعَتَاقة وجهه. وقال مُصعب الزُّبيري وطائفة من أهل النسب: إنّما سمي أبو بكر عتيقًا لأنه لم يكن في نسبه شيء يعاب به. وقيل: سمي عتيقًا لأنه قديم في الخير. وقيل: كانت أمه لا يعيش لها ولد، فلما ولدته استقبلت به البيت، فقالت: اللهم إن هذا عتيقُك من الموت فهبه لي. وروي عن عائشة أنها قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه بفناء البيت، وبيني وبينهم السَّتْر، إذ جاء أبو بكر رضي الله عنه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من سرَّه أن ينظر إلى عتيقٍ من النار فلينظر إلى أبي بكر" فغلب عليه اسم عتيق. وروي عن القاسم بن محمد قال: سألت عائشة عن اسم أبي بكر،

فقالت: عبد الله. فقلت: إن الناس يقولون: عتيق. قالت: إن أبا قُحافة كان له ثلاثة أولاد، فسمّى واحدًا عتيقًا، والثاني مُعْتَقًا، والثالث عُتَيْقًا بالتصغير. وسمي الصِّدّيق لبداره إلى تصديق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كل ما جاء به -صلى الله عليه وسلم-. وقيل: بل قيل له: الصديق، لتصديقه له في خبر الإسراء. ومن أعظم مناقبه قول الله تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] , فإن المراد بصاحبه أبو بكر بلا نزاع، إذ لا يُعترض بأنه لم يتعيّن لأن عبد الله بن أبي بكر وعامر بن فُهيرة وعبد الله بن أُرَيْقط الدليل كانوا معهما، لأنه لم يصحبه في الغار إلاَّ أبو بكر، فإن عبد الله بن أبي بكر كان يتردّد عليهما بما وقع بعدهما، من الأخبار بمكة، وكان عامر يقوم بغذائهما من الشياه، والدليل لم يصحبهما إلاَّ من الغار وكان على دين قومه مع ذلك كما في نفس الخبر، وقد قيل: إنه أسلم بعد ذلك. وثبت في "الصحيحين" من حديث أنس أن أبا بكر الصديق حدثه قال: قلت للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ونحن بالغار: لو أن أحدهم ينظر إلى قدميه لأبصَرَنا تحتَ قدميه. فقال: "يا أبا بكر: ما ظنُّك باثنين الله ثالثهما". وعن أبي أمامة الباهلي، قال عمرو بن عَبْسة: أتيتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو نازلٌ بعُكاظ، فقلت: يا رسول الله: مَنْ اتَّبعك على هذا الأمر؟ قال: "حر وعبد، أبو بكر وبلال". فأسلمت عند ذلك. وروي عن الشعبي أنه قال: قلت لابن عباس أو سُئل: أيٌّ الناس كان أول إسلامًا؟ قال: أما سمعت قول حسان: إذا تذكَّرْتَ شجوًا من أخي ثقةٍ ... فاذكُر أخاكَ أبا بكرٍ بما فَعَلا خيرَ البريةِ أتقاها وأعدَلَها ... بعد النَّبيِّ وأوفاها بما حَملا والثّاني التاليَ المحمودَ مشهدُهُ ... وأوّلَ الناس ممّن صدَّق الرُّسُلا وثانيَ اثنينِ في الغارِ المنيفِ وَقَدْ ... طافَ العدوُّ به إذ صَعَّدوا الجبلا

وكان حِبَّ رسولِ اللهِ قد علموا ... خيرُ البريةِ لم يعْدِلْ به رجلًا وروي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لحسان: "هل قلت في أبي بكر شيئًا؟ "، قال: نعم. وأنشده هذه الأبيات، فسُرَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك، وقال: أحسنتَ يا حسان. واختُلف في مُكثهما في الغار، فقيل: ثلاثًا وهو الصحيح. وروي في حديث مرسل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مكثتُ مع صاحبي في الغار بضعة عشر يومًا، ما لنا طعام إلاَّ ثمر البرير" يعني: الأراك، والأول أصح. وروي عن هشام بن عُروة عن أبيه قال: أسلم أبو بكر وله أربعون ألفًا، فأنفقها في سبيل الله. وقالت عائشة إنه مات وما ترك دينارًا ولا درهمًا. وروي عن أسماء بنت أبي بكر الصديق أنهم قالوا لها: ما أشدَّ ما رأيت المشركين بلغوا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فقالت: كان المشركون قُعودًا في المسجد الحرام، فتذاكروا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما يقول في آلهتهم، فبينما هم كذلك إذ دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقاموا إليه، وكان إذا سألوه عن شيءٍ صدقهم، فقالوا: ألست تقول في آلهتنا كذا وكذا؟ قال: "بلى"، قالت: فتشبثوا به بأجمعهم، فأتى الصريخُ إلى أبي بكرٍ، فقيل له: أدرك صاحبك. فخرج أبو بكر حتى دخل المسجد، فوجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والناس مجتمعون، فقال: ويلَكُم، أتقتلونَ رجلًا أن يقول: ربيَّ الله وقد جاءكم بالبيِّناتِ من ربكم؟! فَلَهَوْا عن رسول -صلى الله عليه وسلم-، وأقبلوا على أبي بكرٍ يضربونه. قالت: فرجع إلينا، فجعل لا يَمَسُّ شيئًا من غدائره إلاَّ جاء معه، وهو يقول: تباركت يا ذا الجلال والإِكرام. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما نفعني مالٌ ما نفعني مالُ أبي بكر". وأعتق أبو بكر سبعةً كانوا يُعذبون في الله: بلال، وعامر بن فُهيرة، وبَريرة، والنَّهدية، وابنتها، وجارية بني مؤمُّل، وأم عُبيس. وقيل لمحمد بن الحنفية: لأيِّ شيءٍ قُدم أبو بكر حتى لا يُذكر فيهم غيره؟ قال: لأنه كان أفضلهم إسلامًا حين أسلم، فلم يزل كذلك حتى قبضه الله.

وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "دعوا لي صاحبي فإنكم قلتم لي: كذبت. وقال: صدقت". وقال -صلى الله عليه وسلم- في البقرة والذئب: "آمنت بهذا أنا وأبو بكر وعُمر" وما هما، ثم علما منه بما كانا عليه من اليقين. وقال عمرو بن العاص: يا رسول الله: من أحب الناس إليك؟ قال: "عائشة". قلت: من الرجال. قال: "أبوها". وعن أبي سعيد الخُدري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ من أمنِّ الناس عليَّ في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنتُ متَّخِذًا خليلًا لاتَّخذتُ أبا بكر خليلًا، ولكن أخوة الإِسلام، لا تَبْقَيَنَّ في المسجد خوخةٌ إلا خوخةُ أبي بكر". وروي أنْ رجلًا من أبناء أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال فى مجلس فيه القاسم ابن محمد بن أبي بكر الصِّديق: والله ما كان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- من موطىء إلاَّ وعلي معه فيه. فقال القاسم: يا أخي لا تحلف. قال: هلم. قال: بلى ما لم ترده، قال الله تعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة: 40]. واستخلفه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أمته بعده بما أظهر من الدلائل البينة على محبته في ذلك، وبالتعريض الذي يقوم مقام التصريح، ولم يصرِّح بذلك لأنه لم يُؤمر فيه بشيء، وكان لا يصنع شيئًا في دين الله إلاَّ بوحي، والخلافة ركن من أركان الدين. ومن الدلائل الواضحة على ذلك ما رُوي عن محمد بن جُبير بن مُطعم عن أبيه، قال: أتت امرأة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فسألته عن شيء، فأمرها أن ترجِعَ إليه. فقالت: يا رسول الله أرأيت إن جئت فلم أجدك -تعني الموت-؟ فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن لم تجديني فائتِ أبا بكر". قال الشافعي: فيه دليل على أن الخلافة بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر. وروي عن عبد الله بن زَمْعة بن الأسود، قال: كنت عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو عليلٌ، فدعاه بلال إلى الصلاة، فقال: "مُروا مَن يُصلّي بالناس"، فخرجت،

فإذا عمر في الناس، وكان أبو بكر غائبًا. فقلت: قم يا عُمر فصلِّ بالناس. فقام عمر, فلما كبَّر سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-صوته، وكان مُجْهِرًا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فأين أبو بكرٍ؟! يأبى الله ذلك والمسلمون"، فبعث إلى أبي بكرٍ، فجاء بعد أن صلّى عمر تلك الصلاة، فصلى بالناس طول علته حتى قُبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وهذا أيضًا واضح في ذلك. وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اقتدوا باللَّذَيْنِ من بعدي، أبي بكر وعمر، واهتدوا بهدي عمّار، وتمسَّكوا بهدي ابن أُم عبد". وعن عبد الله بن مسعود كان رجوع الأنصار يوم سقيفة بني ساعدة بكلام قاله عُمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: أنشدتُكم الله هل تعلمون أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر أبا بكرٍ أن يصلي بالناس؟ قالوا له: اللهم نعم. قال: فأيُّكم تطيب نفسه أن يزيله عن مقامٍ أقامه فيه النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ فقالوا: كلنّا لا تطيبُ نفسه، ونستغفر الله. وقال قيسُ بن سعد بن عُبادة: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرض لياليَ وأيّامًا يُنَادَى بالصلاة، فيقول: "مُروا أبا بكرٍ يصلّي بالنّاس"، فلما قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نظرت، فإذا الصلاة عَلَمٌ على الإِسلام، وقِوامُ الدين، فرضينا لدنيانا من رضي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لديننا، فبايَعْنا أبا بكر. وقال ابن مسعود: اجعلوا إمامكم خيرَكم، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جعل إمامنا خيرنا. وكان أبو بكر يقول: أنا خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وكذلك كان يُدعى: يا خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان عُمر يُدعى خليفة أبي بكر صدرًا من خلافته حتى تسمّى بأمير المؤمنين لقصة ذُكرت في ترجمته. وعن أبي مُلَيْكة، قال: قال رجل لأبي بكر: يا خليفة الله. قال: لست بخليفة الله، ولكني أنا خليفةُ رسول الله، وأنا راضٍ بذلك.

وعن النَّزّال بن سَبْرة، عن علي رضي الله عنه، قال: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر. وكان علي رضي الله تعالى عنه يقول: سبقَ رسول -صلى الله عليه وسلم-، وثنّى أبو بكر، وثلَّث عمر، ثم حفَّتْنا فتنةٌ يعفو الله فيها عمَّن يشاء. وقال عبد خَيْر: سمعت عليًّا رضي الله تعالى عنه يقول: رحم الله أبا بكر، كان أول من جمع ما بين اللَّوْحين. وقال رضي الله عنه: لا يفضِّلني أحدٌ على أبي بكر وعُمر لأَجلِدَنَّهُ حدَّ المفتري. وروي عن ابن أَبْجَر قال: لما بُويع لأبي بكر جاء أبو سفيان إلى علي، فقال: غلبكم على هذا الأمر أرزلُ بيت في قريش، أما والله لأملأنّها خيلًا ورجالًا. فقال علي: ما زلتَ عدوًا للإسلام وأهله، وما ضر ذلك الإِسلام وأهله شيءٌ، وإنّنا رأينا أبا بكر لها أهلًا. وروي عن عبد الله بن جَعْفر بن أبي طالب من وجوه أنه قال: ولِيَنا أبو بكر فخير خليفة، أرحمه بنا، وأحناه علينا. وعن سعيد بن المسيِّب: لما قُبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ارتجَّت مكة، فسمع بذلك أبو قُحافة، فقال: ما هذا؟ قالوا: قُبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. قال: أمر جلل. قال: فمن ولي بعده؟ قالوا: ابنك أبو بكر. قال: فهل رضِيَتْ بذلك بنو عبد مناف وبنو المغيرة؟ قالوا: نعم. قال: لا مانع لما أعطى الله، ولا معطيَ لما منَعَ الله. وعن أبي تميم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأبي بكر وعمر: "لو اجتَمَعْتُما في مشورةٍ ما خالفتُكما". وعن معاذ بن جبل أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما أراد أن يرسله إلى اليمن، استشار أبا بكر وعمر، فقال كل برأيه، فقال: "إن الله يكره فوق سمائه أن يُخطىء أبو بكر".

وعن علي رضي الله تعالى عنه، قال لي النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم بدر ولأبي بكر: "مع أحدِكما جبريل، ومع الآخر ميكائيل". وعن أبي سعيد الخُدري قال: قال أبو بكر: ألست أول من أسلم؟ ألست أحق بهذا الأمر؟ ألست كذا؟ ألست كذا؟ رجاله ثقات. ومن أعظم مناقبه أن ابن الدغنة سيد القارة لما ردَّ إليه جواره بمكة، وصفه بنظير ما وصفت به خديجة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فتواردا فيها على نعت واحد من غير أن يتواطآ على ذلك، وهذا غاية في مدحه؛ لأن صفات النبي -صلى الله عليه وسلم- منذ نشأ كانت أكمل الصفات. وقال ابن إسحاق في "السيرة الكبرى": كان أبو بكر رجلًا مؤلِّفًا لقومه، محببًا، سهلًا، وكان أنسب قريش لقريش، وأعلمهم مما كان منها من خير وشر، وكان تاجرًا ذا خُلُق ومعروفٍ، وكانوا يألفونه لعلمه وتجاربه وحسن مجالسته، فجعل يدعو إلى الإِسلام من وَثِقَ به، فأسلم على يديه من مرَّ ذكرهم. وكان أبو بكر رجلًا نحيفًا أبيضَ خفيفَ العارضَيْن أجنى لا يستمسك، أزرتُه تسترخي عن حَقْويه، معروقَ الوجه، غائرَ العَيْنين، نَاتىءَ الجبهة، عاريَ الأشاجع، هكذا وصفته ابنته عائشة. ووصفه الزُّهري فقال: كان أبيض لطيفًا جعدًا مشرفَ الوركين. بويع له بالخلافة في اليوم الذي مات فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سقيفة بني ساعدة، ثم بويع بيعة العامة يوم الثلاث من غد ذلك اليوم، وتخلف عن بيعته سَعْد بن عُبادة، وطائفة من الخَزْرج، وفِرقة من قُريش، ثم بايعوه بعد غير سعد. وقيل: لم يتخلَّف عن بيعته يومئذ أحد من قريش، وقيل: تخلف عنه من قُريش علي والزُّبير وطلحة وخالد بن سعيد بن العاص رضي الله عنهم، ثم بايعوه بعد ذلك. وقيل: إن عليًّا لم يبايعه إلاَّ بعد موت فاطمة، ثم لم يزل سامعًا مطيعًا له يثني عليه ويفضِّله. وعن محمد بن سيرين، قال: لما بُويع أبو بكر الصديق رضي الله عنه أبطأ

عليٌّ في بيعته، وجلس في بيته، فبعث إليه أبو بكر: ما أبطَأَ بك عني؟ أكرهت إمارتي؟ فقال علي: ما كرهتُ إمارتك، ولكني آليتُ أن لا أرتدي رداءً إلاَّ إلى صلاة حتى أجمع القرآن. قال ابن سِيرين: فبلغني أنه كتبه على تنزيله، ولو أصيب ذلك الكتاب لوُجِدَ فيه علم كثير. وعن عِكرمة قال: لما بُويع لأبي بكر تخلَّف علي عن بيعته، وجلس في بيته، فلقيه عمر، فقال: تخلفت عن بيعة أبي بكر؟! فقال: إني آليت بيمين حين قُبضَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن لا أرتدي برداءِ إلاَّ إلى الصلاة المكتوبة حتى أجمعَ القرآن، فإني خشيت أن ينفَلِتَ، ثم خرج فبايعه. ورَوى زيد بن أسلم عن أبيه أن عليًّا رضي الله عنه والزُّبير كانا حين بويع لأبي بكر يدخلان على فاطمة ويشاورانها في أمرهما، فبلغ ذلك عمر، فدخل عليها وقال: يا بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ما كان من الخلق أحدٌ أحبَّ إلينا من أبيك، وما أحد أحب إلينا بعده منك، وقد بلغني أن هؤلاء النفر يدخلون عليك، ولئن بلغني لأفعلنَّ ولأفعلنَّ، ثم خرج، وجاؤوها، فقالت لهم: إن عُمر قد جاءني، وحلف لئن عُدتم ليفعلَنَّ، وأيم الله لَيَفِيَنَّ بها، فانظُروا في أمركم، ولا ترجِعُوا إلى، فانصرفوا ولم يرجعوا حتى بايعوا لأبي بكر. وروي أن خالد بن سعيد لما قدم من اليمن بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، تربَّص ببيعته شهرين، ولقي علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان رضي الله عنهم، وقال: يا بني عبد مناف، لقد طِبْتم نفسًا عن أمركم يليه غيركم، فأما أبو بكر فلم يَحْفِل لها، وأما عمر فاضطَغَنَها عليه، فلما بعث أبو بكر خالد بن سعيد أميراً على ربع من أرباع الشام، وكان أول من استُعمل عليها، جعل عمر يقول: أبو مرة، وقد قال ما قال؟! فلم يزل بأبي بكر حتى عزله وولّى يزيد بن أبي سُفيان. وقال ابن أبي يزيد الجُمَحي القُرَشي: شكرًا لِمَنْ هُو بالثناءِ خليقُ ... ذهبَ اللَّجاجُ وبُويع الصديقُ من بعدِ ما رحضت بسعدٍ نعلُه ... ورَجا رجاءً دونَه العيّوقُ جاءتْ به الأنصارُ عاصبَ رأسهِ ... فأتاهُمُ الصّديقُ والفاروقُ

وأبو عُبَيْدة والذينَ إليهِمُ ... نفس المؤمَّلِ للبقاءِ نَتوقُ كُنّا نقولُ لها عليٌّ والرِّضى ... عمرٌ وأوْلاهُم بتلكَ عتيقُ فدَعَتْ قريشٌ باسمهِ فأجابَها ... إن المنوَّهَ باسمهِ الموثوقُ وقال أبو الهيثم بن النَّبهان: وإني لأرجو أن يقومَ بأمرنا ... ويحفَظَهُ الصِّديقُ والمرءُ من عَدي أولاكَ خيارُ الحيِّ فِهرِ بن مالكٍ ... وأنصارُ هذا الدينِ من كل مُعْتَدِ وقال أبو محْجَن فيه: سُمِّيتَ صِدّيقًا وكلُّ مهاجرٍ ... سواك يُسَمّى باسمهِ غيرُ منكَرِ سبقتَ إلى الإِسلام واللهُ شاهدٌ ... وكنتَ جليسًا بالعريشِ المشَهَّرِ وبالغارِ إذْ سُمّيتَ بالغارِ صاحبًا ... وكنتَ رفيقًا للنّبيِّ المطهَّرِ له مائة واثنان وأربعون حديثًا، اتفقا على ستة، وانفرد البخاري بأحد عشر، ومسلم بحديث واحد. وروى عنه: عُمر، وعثمان، وعلي، وعبد الرحمن بن عَوْف، وابن مسعود، والعبادلة ما عدا ابن الزُّبير، وحُذيفة، وزيد بن ثابت، وعُقبة بن عامر، وولداه عبد الرحمن وعائشة، وخلق. كانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر واثنين وعشرين يومًا، وفي هذه المدة قام لقتال أهل الردة، وظهر من فضل رأيه في ذلك وشدته مع لينه ما لم يُحتسب، فأظهر الله به دينه، وقتل على يديه وببركته كل من ارتدَّ عن دين الله، حتى ظهر أمر الله وهم كارهون. وكانت وفاته يوم الإثنين في جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة من الهجرة، وهو ابن ثلاث وستين سنة، وقيل: مات لليلة خلت من ربيع الأول. وقيل: لثمان بقين من جُمادى الآخرة. وقيل: قُدِّر مُكثه في الخلافة سنتان وثلاثة أشهر إلاَّ خمس ليال. وقيل: سنتان وثلاثة أشهر وسبع. وقيل: سنتان وثلاثة أشهر واثنتا عشرة. وقيل: عشرة.

واختلف في السبب الذي مات منه، فقال الواقِدي: إنه اغتسل في يوم باردٍ، فحُمَّ ومرض خمسة عشر يومًا. وقيل: كان به طَرَفٌ من السلِّ، وقيل: إنه سُمَّ. فقد رُوي من طريق الزُّهري أن أبا بكر والحارث بن كَلَدة أكلا خزيرة أهديت لأبي بكر، وكان الحارث طبيبًا، فقال لأبي بكر: ارفع يدك، والله إن فيها لَسُمُّ سَنَة، فلم يزالا عليلين حتى ماتا لانقضاء السنة في يوم واحد. وأوصى أن تُغَسِّلَه أسماء بنت عُميس زوجته، فغسَّلته، وصلى عليه عمر، ونزل في قبره عمر وعثمان وطلحة وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهم، ودُفن ليلًا ببيت عائشة رضي الله تعالى عنها مع النبي -صلى الله عليه وسلم-. ولا يختلِفون أن سنه انتهت إلى حين وفاته ثلاثًا وستين سنة، إلاَّ ما لا يصحُّ، وأنه استوفى بخلافته سنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وكان نَقْش خاتمه: نعمَ القادرُ اللهُ. وقيل: نقشه: عبد ذليلٌ لربٍّ جليل. والتَّيْمِيّ في نسبه مر في الأول من بدء الوحي.

الحديث الثاني والسبعون

الحديث الثاني والسبعون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ. أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَكَلَ كَتِفَ شَاةٍ، ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. قوله: "أكل كَتِفَ شاة" أي: لحمه، وللمصنف في الأطعمة: "تعرَّقَ" أي: أكل ما علي العَرْق بفتح المهملة وسكون الراء وهو العظم، ويقال له: العُراق بالضم أيضًا. وكان ذلك في بيت ضُباعة بنت الزُّبير بن عبد المطلب، وهي بنت عم النبي -صلى الله عليه وسلم- كما قاله القاضي إسماعيل. ويُحتمل أنه كان في بيت مَيْمونة كما يأتي من حديثها قريبًا، وهي خالة ابن عبّاس، كما أن ضُباعة بنت عمه، وبيَّن النسائي من حديث أُم سلمة أن الذي دعاه إلى الصلاة هو بلال. وقوله: "ثم صلى ولم يتوضأ" يعني مما مسَّتِ النار، وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي والثوري والليث والأوزاعي وإسحاق وأبى ثور محتجّين بهذه الأحاديث التي رواها البخاري ومسلم وغيرهما. وقالت طائفة: يجب ممّا مسته النار: عائشة وأبو هريرة وزيد بن ثابت وابن عمر وأبو موسى وعمر بن عبد العزيز والحسن والزُّهري وأبو قِلابة، محتجّين بأحاديث صحيحة منها حديث زيد بن ثابت وأبي هريرة وعائشة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "توضؤوا مما مسَّتِ النار". وقد مرَّ عند الترجمة القول بالتفرقة بين لحم الإبل وغيره، وما استدل به المفرقون.

وفي "البيهقي" عن الزُّهري أنه قال في أكله عليه الصلاة والسلام من كتف شاة ولم يتوضأ: ذهبت تلك القصة في الناس، ثم أخبر رجالٌ من أصحابه صلى الله تعالى عليه وسلم، ونساءٌ من أزواجه أنه قال: "توضؤوا مما مسَّتِ النار"، فكان الزُّهري يرى أن الأمر بالوضوء مما مسَّتِ النار ناسخ لأحاديث الإباحة؛ لأن الإِباحة سابقة. واعتُرض عليه بحديث جابر قال: "كان آخر الأمرينِ من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تركُ الوضوء مما مسَّتِ النارِ"، رواه أبو داود والنّسائي وغيرهما، وصححه ابن خزيمة وابن حِبّان وغيرهما، لكن قال أبو داود وغيره: إن المراد بالأمر هنا الشأن والقصة لا مقابل النهي، وإن هذا اللفظ مختصرٌ من حديث جابر المشهور في قصة المرأة التي صنعت للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم شاة، فأكل منها، ثم توضأ وصلى الظهر، ثم أكل منها وصلى العصر ولم يتوضأ. فيُحتمل أن تكون هذه القصة وقعت قبل الأمر بالوضوء مما مسَّتِ النار، وأن توضُّؤه للظهر كان عن حدث لا بسبب الأكل من الشاة. وحكى البَيْهقي عن عثمان الدّارِمي أنه قال: لما اختلفت أحاديث الباب، ولم يتبين الراجح منها، نظرنا إلى ما عمل به الخلفاء الراشدون بعد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فرجَّحنا به أحد الجانبين، وارتضى النّووي هذا في "شرح المهذب"، وبهذا تظهر حكمة تصدير البخاري حديث الباب بالأثر المنقول عن الخلفاء الثلاثة. قال النّووي: كان الخلاف فيه معروفًا بين الصحابة والتابعين، ثم استقر الإِجماع على أنه لا وضوء مما مست النار إلاَّ ما تقدم استثناؤه من لحوم الإبل. وجمع الخطّابي بوجه آخر، وهو أن أحاديث الأمر محمولة على الاستحباب لا على الوجوب. وقال المهلَّب: كانوا في الجاهلية قد ألفوا قلة التنظيف، فأمروا بالوضوء مما مسَّتِ النار، فلما تقررت النظافة في الإِسلام، وشاعت، نُسخ الوضوء تيسيرًا على المسلمين.

رجاله خمسة

رجاله خمسة: الأول: عبد الله بن يوسف، والثاني: الإمام مالك، وقد مرّا في الحديث الثاني من بدء الوحي. ومرَّ زيد بن أسلم وعطاء بن يسار في الثالث والعشرين من كتاب الإيمان. ومرَّ عبد الله بن عبّاس في الخامس من بدء الوحي. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع والإخبار بصيغة الجمع والعنعنة. أخرجه البخاري هنا، ومسلم وأبو داود في الطهارة عن القَعْنَبي.

الحديث الثالث والسبعون

الحديث الثالث والسبعون حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَحْتَزُّ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ، فَدُعِيَ إِلَى الصَّلاَةِ فَأَلْقَى السِّكِّينَ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. قوله: "يحتزُّ" بالمهملة والزاي، أي: يقطع، زاد في الأطعمة عن الزُّهري: "يأكل منها"، وفي الصلاة عنه أيضًا: "يأكُلُ ذراعًا يحتزُّ منها". وقوله: "فألقى السِّكين" زاد في الأطعمة: "فألقاها والسكينَ". وقوله: "فصلّى"، وفي رواية: "وصلى"، ومباحثه مرت في الذي قبله. واستدل البخاري في الصلاة بهذا الحديث على أن الأمر بتقديم العشاء على الصلاة خاص بغير الإمام الراتب، وعلى جواز قطع اللحم بالسكين، وفي النهي عنه حديث ضعيف في "سنن" أبي داود عن عائشة رفعته: "لا تقطعوا اللحم بالسكين، فإنه من صنيع الأعاجم، وانهشُوه فإنّه أمرأ وأهنأ". قال أبو داود حديث ليس بالقوي، وعلى ثبوته خُصَّ بعدم الحاجة الداعية إلى ذلك، لما فيه من التشبيه بالأعاجم وأهل الترف. وفيه أن الشهادة على النَّفْي إذا كان محصورًا تُقبل. رجاله ستة: الأول: يحيى بن بُكير مرَّ تعريفه هو والليث وعُقيل بن خالد وابن شِهاب الزُّهري في الحديث الثالث من بدء الوحي، ومرَّ تعريف جعفر بن عمرو بن أُميّة وأبيه عمرو في الثاني والستين من كتاب الوضوء هذا.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع والعنعنة والإِخبار، وثلاثة من رواته مصريون، والثلاثة الباقية مدنيون، وهم أئمة أجلّاء. أخرجه البخاري في الصلاة، وفي الجهاد عن عبد العزيز بن عبد الله، وفي الأطعمة عن أبي اليمان ومُحمد بن مقاتل، وفي الطهارة أيضًا عن محمد بن الصبّاح وأحمد بن عيسى، والترمذي في الأطعمة عن محمود بن غَيْلان، والنسائي في الوليمة عن أحمد بن محمد، وابن ماجه في الطهارة عن عبد الرحمن بن إبراهيم بن دُحَيْم. باب من مضمضر من السويق ولم يتوضأ مرَّ الكلام عليه في الترجمة التي قبل هذا.

الحديث الرابع والسبعون

الحديث الرابع والسبعون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ مَوْلَى بَنِي حَارِثَةَ أَنَّ سُوَيْدَ بْنَ النُّعْمَانِ أَخْبَرَهُ. أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَامَ خَيْبَرَ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالصَّهْبَاءِ وَهِيَ أَدْنَى خَيْبَرَ فَصَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ دَعَا بِالأَزْوَادِ، فَلَمْ يُؤْتَ إِلاَّ بِالسَّوِيقِ، فَأَمَرَ بِهِ فَثُرِّيَ، فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَكَلْنَا، ثُمَّ قَامَ إِلَى الْمَغْرِبِ، فَمَضْمَضَ وَمَضْمَضْنَا، ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. قوله: "بالصهباء" بالفتح والمد. وقوله: "وهي أدنى خيبر" أي: طرفها مما يلي المدينة، وللمصنف في الأطعمة: "وهي على رَوْحة من خَيْبَر"، وفي معجم البلدان: هي على بريد. ويأتي له في الأطعمة أن هذه الزيادة من قول يحيى بن سعيد، أدرجت. ويأتي الحديث قريبًا بدون الزيادة من طريق سُليمان بن بلال. وقوله: "ثم دعا بالأزواد" جمع زاد، وهو ما يُؤكل في السفر. وقوله: "فَثُرِّي" بضم المثلثه وششديد الراء ويجوز تخفيفها، أي: بُلَّ بالماء لما لحقه من اليَبَس. وقوله: "وأكلنا" زاد في رواية سليمان: "وشربنا"، وفي الجهاد: "فلُكْنا وأكَلْنا وشَرِبنا" أي: من الماء أو من مائع السويق. وقوله: "ثم قام إلى المغرب فمضمض" أي: قبل الدخول في الصلاة، وفائدة المضمضة من السويق وإن كان لا دسم له أن يحتَبسَ بقاياه بين الأسنان ونواحي الفم، فيشغله تتبُّعه عن أحوال الصلاة. وقوله: "ولم يتوضّأ" أي: بسبب أكل السويق. وقال الخطّابي: فيه دليل على أن الوضوء مما مسَّتِ النار منسوخ لأنه

رجاله خمسة

متقدم، وخيبر كانت سنة سبع. قال في "الفتح": لا دلالة فيه؛ لأن أبا هريرة حضر بعد فتح خيبر، وروى الأمر بالوضوء كما في مسلم، وكان يُفتي به بعد النبي-صلى الله عليه وسلم-. واستدل به البخاري على جواز صلاتين فأكثر بوضوء واحد، وعلى استحباب المضمضة بعد الطعام. وفيه جمع الرفَقاء على الزاد في السفر، وإن كان بعضهم أكثر أكلًا. وفيه حمل الأزواد في الأسفار، وإن ذلك لا يقدح في التَّوكُّل. واستنبط منه المهلّب أن الإِمام يأخذ المحتكرين بإخراج الطعام عند قلته ليبيعوه من أهل الحاجة، وأن الإمام ينظر لأهل العسكر فيجمع الزاد ليصيب منه مَنْ لا زاد معه. رجاله خمسة: الأول: عبد الله بن يوسف، والثاني: الإمام مالك وقد مرَّا في الحديث الثاني من بدء الوحي، ومرَّ يحيى بن سعيد في الأول منه. والرابع: بُشَيْر -بالتصغير- ابن يسار الحارثي الأنصاري مولاهم المدني كنّاه ابن إسحاق في روايته عنه: أبا كَيْسان. ذكره ابن حِبّان في "الثقات"، وقال ابن مَعين: ثقة، وليس بأخي سُليمان بن يسار. وقال ابن سعد: كان شيخًا كبيرًا فقيهًا، وكان قد أدرك عامّة أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان قليل الحديث. وقال النّسائي: ثقة. روى عن: أنس، وجابر، ورافع بن خُديج، وعبد الله بن مَسْعود، وسُويد بن النُّعمان، مُحَيصة، وسَهْل بن أبي حَثْمة، وغيرهم. وروى عنه: حفيده بُشير بن عبد الله بن بُشَيْر، وربيعة الرأي، ويحيى بن سعيد، وسعيد بن عُبيد الطائي، وغيرهم. والحارثي نسبة إلى الحارث بن الخزرج الآتي في نسب الذي بعده.

لطائف إسناده

والخامس: سُويد بن النعمان بن مالك بن عامر بن مَجْدَعة بن جشم بن حارثة بن الحارث بن الخَزْرجَ بن عمرو بن مالك بن الأوس الأنصاري يُكْنى أبا عقبة. له سبعة أحاديث، للبخاري منها هذا الحديث وحده. شهد بيعة الرضوان، وذكر ابن سعد أنه شهد أحدًا، وذكر العسكَرِيُّ أنه استُشهد بالقادسية. وفيه نظر؛ لأن بُشَيْر بن يسار سمع منه، وهو لم يلحق ذلك الزمان. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع والإخبار كذلك والعنعنة، ورواته كلهم مدنيون إلا شيخ البخاري. وفيه رواية تابعي كبير عن آخر كبير أيضًا. ورواته كلهم أئمة أجلّاء فقهاء كبار. أخرجه البخاري في سبعة مواضع: اثنان في الطهارة، أحدهما: هذا عن عبد الله بن يوسف، والثاني: عن خالد بن مَخْلد، وفي المغازي عن القَعْنَبي، وفي الجهاد عن مُحمد بن المثنّى، وفي الأطعمة في موضعين: عن علي بن عبد الله، وعن سُليمان بن حرب. والنسائي في الطهارة عن قُتيبة، وفي الوليمة عن مُحَمّد بن بشار. وابن ماجَة فيها أيضًا عن أبي بكر بن أبي شَيْبة.

الحديث الخامس والسبعون

الحديث الخامس والسبعون وَحَدَّثَنَا أَصْبَغُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِى عَمْرو عَنْ بُكَيْرٍ عَنْ كُرَيْبٍ عَنْ مَيْمُونَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَكَلَ عِنْدَهَا كَتِفًا، ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. وليس في هذا الحديث ذكر المضمضة التي ترجم بها، فقيل: أشار بذلك إلى أنها غير واجبة، بدليل تركها في هذا الحديث، مع أن المأكول دَسِمٌ يحتاج إلى المضمضة منه، فتركها لبيان الجواز. وقال الكِرْماني إن في نسخة الفِرَبِرْيّ التي بخطه تقديم حديث ميمونة هذا إلى الباب الذي قبله، فعلى هذا هو من تصرف النُساخ، ومباحث المتن مرت في الباب الذي قبله. رجاله ستة: الأول: أصْبغ بن الفَرَج وقد مرَّ في السابع والستين من كتاب الوضوء هذا. ومرَّ عبد الله بن وَهْب في الثالث عشر من كتاب العلم. ومرَّ عَمْرو بن الحارث مع أصبغ أيضًا في السابع والستين من كتاب الوضوء. ومرَّ كُرَيْب في الرابع منه. ومرت مَيْمونة في الثامن والخمسين من كتاب العلم. والرابع من السند: بُكَيْر بن عبد الله بن الأشَجِّ -بمعجمة وجيم مشددة- القُرشي مولاهم، ويقال: مولى أَشْجع أبو عبد الله. ويقال: أبو يوسُف المدني نزيل مصر. قال يحيى بن مَعين وأبو حاتم: ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث. وقال النسائي: ثقة ثبت مأمون. وذكره ابن حِبّان في أتباع التابعين من صلحاء الناس، وقال: كان من خيار أهل المدينة. وقال ابن وَهْب: ما ذَكَر مالك

لطائف إسناده

بُكير بن الأَشَج إلاَّ قال: كان من العلماء. وقال مَعْن بن عيسى: ما ينبغي لأحد أن يفضُل أو يفوق بُكير بن الأشج في الحديث. وقال ابن المديني: لم يكن بالمدينة بعد كبار التابعين أعلم من ابن شِهاب ويحيى بن سعيد وبُكير بن عبد الله بن الأشجّ. وقال أحمد بن صالح المصري: إذا رأيت بُكير بن عبد الله روى عنه رجل فلا تسأل عنه، فهو الثقة الذي لا شكَّ فيه. وقال البُخاري في "التاريخ الكبير": كان من صلحاء الناس، وهلك في زمن هشام. وقال العِجْلي: مدني ثقة لم يسمع منه مالك شيئًا، خرج قديمًا إلى مصر، فنزل بها، وقد روى في "الموطأ" عن الثقة عنده، عن بُكير بن عبد الله بن الأشج. وقال ابن المديني: أدركه مالك ولم يسمع منه، وكان بُكير سيىء الرأي في ربيعة، فأظنه تركه من أجل ربيعة، وإنما عرف مالك بكيرًا بنظره في كتاب مخرمة. وقال الواقدي: كان كثيرًا بالثغر، وقيل من يروي عنه من أهل المدينة. وقال يحيى بن بُكير: بنو عبد الله بن الأشَجّ ثلاثة، لا أدري أيهم أفضل. روى عن: محمود بن لَبين، وأبي مَيمونة بن سهل، وبُسْر بن سعيد، وسعيد بن المسيِّب، وسليمان بن يسار، وحَرّان مولى عثمان، وكُريب، ونافع، ولم تثبت روايته عن عبد الله بن الحارث بن جَزْء، وإنما روايته عن التابعين. وروى عنه: بكر بن عُمر المَعَافِري، والليث، وابن إسحاق، وعُبيد الله بن أبي جعفر، وجعفر بن ربيعة، وابن عَجْلان، ويزيد بن أبي حَبيب، وغيرهم. مات سنة عشرين ومئة. وقيل: سنة ثمانية عشر ومئة وقيل. سنة اثنتين وعشرين ومئة. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع والإخبار بصيغة الإفراد والعنعنة، والنصف الأول مصريّون والثاني مدنيون، وفيه اسمان مصغّران وهما تابعيّان. أخرجه البخاري هنا. ومسلم في الطهارة عن أحمد بن عيسى عن ابن وَهْب.

باب هل يمضمض من اللبن

باب هل يُمَضْمِض من اللبن بضم الياء وفتح الميم الأولى وكسر الثانية، وللأصيلي: "يتمضمض" بزيادة مثناة فوقية بعد التحتية وفتح الميميْن.

الحديث السادس والسبعون

الحديث السادس والسبعون حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ وَقُتَيْبَةُ قَالاَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- شَرِبَ لَبَنًا، فَمَضْمَضَ وَقَالَ: "إِنَّ لَهُ دَسَمًا". قوله: "شرب لبنًا"، زاد مسلم: "ثم دعا بماء". وقوله: "إن له دَسَمًا" بفتحتين منصوبًا اسم إن، وهو بيان لعلة المضمضة من اللبن، والدسم ما يظهر على اللبن من الدُّهن، ويقاس عليه استحباب المضمضة من كل ما له دسم. رجاله سبعة: الأول: يحيى بن بُكير وقد مر في الثالث من بدء الوحي. ومرَّ قُتيبة بن سعيد في الثاني والعشرين من كتاب الإيمان. ومرَّ الليث بن سعد وعقيل بن خالد وابن شهاب في الثالث من بدء الوحي أيضًا. ومرَّ عُبيد الله بن عبد الله بن عُتبة في الخامس من بدء الوحي أيضًا. ومر عبد الله بن عبّاس في الخامس منه أيضًا. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع والعنعنة، وفيه شيخان للبخاري وهما: يحيى بن بُكير وقُتيبة، وهو أحد الأحاديث التي أخرجها الستة غير ابن ماجه عن شيخ واحد وهو قُتيبة. ورواته ما بين مصري وهم يحيى والليث وعُقيل، ويَلْخِي وهو قُتيبة، ومَدَني وهما ابن شهاب وعبيد الله، ومكي وهو عبد الله بن عبّاس. أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنَّسائي في الطهارة عن قُتيبة.

باب الوضوء من النوم

ومسلم عن زُهير بن حوب وغيره، وابن ماجه فيها عن دُحَيْم، ثم قال المصنف: تَابَعَهُ يُونُسُ وصالحُ بن كَيْسَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ. وتابعهما الأوزاعي أيضًا كما عند المصنف في الأطعمة بلفظ حديث الباب. لكن رواه ابن ماجه عنه، فذكره لصيغة الأمر: "مضمِضُوا من اللبن" الحديث. ورواه الطبري عن الليث بالإِسناد المذكور. وأخرج ابن ماجه عن أُم سلمة وسهل بن سعد مثله. وإسناد كل منهما حسن. والدليل على أن الأمر فيه للاستحباب ما رواه الشافعي عن ابن عبّاس راوي الحديث أنه شرب لبنًا فمَضْمَض ثم قال: لو لم أتمضمضُ ما باليتُ. ورواه أبو داود بإسناد حسن عن أنس: "أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- شرب لبنًا، فلم يتمضمض، ولم يتوضأ". وأغرب ابن شاهين فجعل حديث أنس ناسخًا لحديث ابن عبّاس، ولم يذكر من قال فيه بالوجوب حتى يحتاج إلى دعوى النسخ. رجاله ثلاثة: يونس والزُّهري مرّا في الثالث من بدء الوحي. وصالح بن كَيْسان في السابع منه أيضًا. وحديث يونس موصول عند مسلم، وحديث صالح موصول عند أبي العبّاس السّراج في "مسنده". باب الوضوء من النوم أي: القليل أو الكثير، هل يجب أويستحب. ومن لم ير من النعسة والنعستين أي: وباب من نم ير. والنَّعْسَتَيْن تثنية نَعسة، على وزن فَعْلة، مرّة من النَّعَس، من نَعَسَ يَنْعُسُ من باب نصر.

وظاهر كلامه أن النُّعاس يسمى نوماً، المشهور التفرقة بينهما. وأن من قرَّتْ حواسه بحيث يسمع كلام جليسه ولا يفهم معناه فهو ناعس، وإن زاد على ذلك فهو نائم. ومن علامات النوم: الرؤيا طالت أو قصرت. وعلامة النوم الثقيل سقوط شيء من يده، أو انحلال حبوته، أو سَيَلان ريقه ولم يشعر في الجميع، أوعدم سماعه للأصوات المتصلة به. وحقيقة النوم حالةٌ تعرِضُ للحيوان من استرخاء أعصاب الدماغِ من رطوبات الأبخرة المتصاعدة، بحيث تقف المشاعر عن الإحساس رأسًا. وقيل: ريح تأتي الإِنسان إذا شمها أذْهَبَت حواسه كما تذهَبُ الخمرةُ بعقل شاربها. وقيل: انعكاس الحواس الظاهرة إلى الباطنة، حتى يصح أن يرى الرؤيا. وفي "المحكم"، و"العين" النعاس: النوم، وقيل: مقاربته. أو الخَفْقَةِ وُضُوءًا. والخَفْقة -بفتح المعجمة وسكون الفاء بعدها قاف- قال ابن التين: هي النَّعْسة، وإنما كرر لاختلاف اللفظ، والظاهر أنه من ذكر الخاص بعد العام. قال أهل اللغة: خَفَقَ رأسَه إذا حركها وهو ناعس. وقال أبو زيد: خَفَق برأسه من النعاس: أماله. وقال الهَرَوي: تَخْفُق رؤوسهم، أي: تسقط أذقانهم على صُدورهم. وكون النعاس لا يوجب وضوءًا هو قول المُعظم، وبه قال مالك، فلا يجب الوضوء عنده إلاَّ من النوم المتقدم وَصْفُه. فقد روى مسلم في قصة صلاة ابن عبّاس مع النبي -صلى الله عليه وسلم- بالليل، قال: فجعلت إذا أغفيتُ أخذتُ بشحمةِ أذني. فدل على أن الوضوء لا يجب على غير المستغرق. وروى ابن المنذر عن ابن عباس أنّه قال: وجب الوضوء على كل نائم إلاَّ من خَفَق خفقةً. ورواه البيهقي مرفوعًا وموقوفًا. وروى محمد بن نصر في قيام

الليل بإسناد صحيح، وأصله عند مسلم، عن أنس قال: كان أصحابُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- ينتظرونَ الصلاةَ فيَنْعَسون حتى تخفُقَ رؤوسهم، ثم يقومون إلى الصلاة.

الحديث السابع والسبعون

الحديث السابع والسبعون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ يُصَلِّي فَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا صَلَّى وَهُوَ نَاعِسٌ لاَ يَدْرِي لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبَّ نَفْسَهُ". قوله: "فَلْيرقُد"، وللنسائي: "فلينصرف"، والمراد به التسليم من الصلاة بعد إتمامها، إلاَّ أنه يقطع الصلاة بمجرد النعاس. وحمله المهلب على ظاهره، فقال: إنما أمره بقطع الصلاة لغلبة النوم عليه، فدل على أنه إذا كان النعاس أقل من ذلك يُعفى عنه. قال: وقد أجمعوا على أن النوم القليل لا ينقُض الوضوء، وخالف المزنيّ فقال: ينقُض قليله وكثيره، فخرق الإجماع. كذا قال المهلب، وتبعه ابن بطال، وابن التين، وغيرهما. وهذا تحامل منهم على المزني، فقد اختلف العلماء في النوم هل هو في ذاته حدث أو هو مظِنّة الحدث؟ فنقل ابن المنذر وغيره عن بعض الصحابة، وبه قال إسحاق والحسن والمُزَني وغيرهم أنه في ذاته ينقُض الوضوء مطلقًا قليله وكثيره، وعلى كل حال وهيئة لعموم حديث صفوان بن عسال الذي صححه ابن خزيمة وغيره، ففيه: "إلاَّ من غائطٍ أو بولٍ أو نومٍ" فسوى بينهما في الحكم. وقال آخرون بالثاني لحديث أبي داود وأحمد وابن ماجه والدّارقُطني عن علي: "العَيْنان وِكاء السَّهِ، فمن نام فلْيتوضأ" والسَّه -بفتح السين وكسر الهاء

المخففة- الدُّبُر. وهذا الحديث فيه مقال وتضعيف، واختلف هؤلاء، فمنهم من قال: لا ينقُض القليل وهو قول مالك والزُّهري وأحمد في إحدى الروايتين عنه. ومنهم من قال: ينقض مطلقًا إلاَّ نوم ممكِّن مقعدتِه من مَقَره فلا ينقُض، لحديث أنس المروي عند مسلم وأبي داود: "أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا ينامونَ، ثم يصلّون ولا يتوضؤون"، فحمل على نوم الممكِّن جمعًا بين الأحاديث. لكن في "مسند" البزار بإسناد صحيح في هذا الحديث: "فيضعونَ جنوبَهم، فمنهُم مَنْ ينام، ثم يقومون إلى الصلاة"، وهذا يرد حمله على القاعد، وحَمَله بعضهم على النوم الخفيف. وبهذا القول الذي هو عدم النقض للممَكِّن مَقْعَدَته قال الشافعي وأبو حنيفة. وقيل: لا ينقض نوم غير القاعد مطلقًا، وبه قال الشافعي في القديم، وروي عنه التفصيل بين خارج الصلاة فينقض أو داخلها فلا. قال القسطلّاني: ولا تمكين لمن نام أعلى قفاه ملصِقًا مقعدته بمقرِّه، ولا لمن نام محتبيًا وهو هزيل بحيث لا تُطبِق أَليتاه على مقرِّه. واختار الماوَرْدي أنّه متمكن، وصححه في "الروضة" نظرًا إلى أنّه متمكن بحسب قدرته. ولو نام جالسًا، فزالت أليتاه أو إحداهما عن الأرض، فإن زالت قبل الانتباه انتقض وضوؤه، أو بعده أو معه أو لم يدرِ أيَّهما أسبق فلا؛ لأن الأصل بقاء الطهارة، وسواء وقعت يده أم لا. وقال آخرون: لا ينقض الوضوءَ النومُ بحالٍ. وهو مروي عن أبي موسى الأشعري وابن عُمر ومكحول رضي الله تعالى عنهم لحديث مسلم المار قريبًا، ولاسيما رواية البزار. وفرق الثوري بين المضطجع وغيره. وفرق أصحاب الرأي بين المضطجع والمستند وغيرهما. ويقاس على النوم الغلبة على العقل بجنون أو إغماء أو سكر؛ لأن ذلك أبلغ في الذهول من النوم الذي هو مظنة الحدث على ما لا يخفى.

وقوله: "فإن أحدكم إذا صلّى وهو ناعسٌ لا يدري لعله يستغفِرُ فيسبُّ نفسه" أي: يدعو على نفسه. وصرح به النسائي في روايته، ويحتمل أن يكون علة النهي خشية أن يوافق ساعة الإجابة، والفاء عاطفة على "يستغفر"، وفي بعض النسخِ: "يسُبُّ" بدونها جملة حالية، و"يسبَّ" بالنصب جوابًا لـ"لعلَّ"، والرفع عطفاً على: "يستغفر"، والترجي في "لعل" عائد إلى المصلّي، لا إلى المتكلم به، أي: لا يدري أمستغفر أم سابٌّ مترجيًا للاستغفار، وهو بضد ذلك في الواقع. وغاير بين لفظي النعاس، فقال في الأول: "نعِسَ" بالماضي، وفي الثاني: "ناعس" باسم الفاعل، تنبيهًا على أنه لا يكفي تجدُّد أدنى نعاس وتقضيه في الحال، بل لابد من ثبوته، بحيث يفضي إلى عدم درايته بما يقول، وعدم علمه بما يقرأ. فإن قلت: هل بين قوله: "نعس وهو يصلّي"، و"وصلّى وهو ناعس" فرق؟ أجيب بأن الحال قيد وفضلة، والقصد في الكلام ما له القيد، ففي الأول لا شك أن النعاس هو علة الأمر بالرُّقاد لا الصلاة فهو المقصود الأصليّ في التركيب، وفي الثاني الصلاة علة الاستغفار، إذ تقدير الكلام: فإن أحدكِم إذا صلَّى وهو ناعس يستغفر، والفرق بين التركيبين هو الفرق بين: ضرب قائماً. وقام ضاربًا، فإن الأول يحتمل قيامًا بلا ضرب، والثاني ضربًا بلا قيام. وقال المهلب: في قوله: "فإن أحدكم" إلخ. إشارة إلى العلة الموجبة لقطع الصلاة، فمن صار في مثل هذه الحال فقد انتقض وضوؤه بالإجماع. كذا قال، وفيه نظر، فإن الإشارة إنما هي إلى جواز قطع الصلاة أو الانصراف إذا سلّم منها كما مرَّ، وأما النقض فلا يتبين من الحديث؛ لأن جريان ما ذكر على اللسان ممكن من الناعس، وهو القائل: إن قليل النوم لا ينقض، فكيف بالنعاس؟ وما ادعاه من الإجماع منتقضٌ بما مرَّ عن أبي موسى وغيره. وفي الحديث الأخذ بالاحتياط؛ لأنه علل بأمر محتمل الوقوع، والحث

رجاله خمسة

على الخضوع وحضور القلب للعبادة، واجتناب المكروهات في الطاعات، وجواز الدعاء في الصلاة من غير تقييد بشيء معين. رجاله خمسة: الأول: عبد الله بن يوسف ومالك وهشام وعروة وعائشة ذُكروا جميعًا بهذا الترتيب في الحديث الثاني من بدء الوحي. رواته كلهم مدنيون غير شيخ البخاري. أخرجه البخاري هنا عن قُتيبة. ومسلم في الصلاة عن قُتيبة وأبو داود عن القَعْنبي.

الحديث الثامن والسبعون

الحديث الثامن والسبعون حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلاَةِ فَلْيَنَمْ حَتَّى يَعْلَمَ مَا يَقْرَأُ". قوله: "إذا نعَس في الصلاة" أي: بحذف الفاعل للعلم به، وزاد الإسماعيلي: "أحدكم" فصرح به، وفي رواية محمد بن نصر عن أيوب: "فلينصرف". وقوله: "فلْيَنَم" أي: فليتجوّز في الصلاة ويتمها وينم. وقوله: "حتى يعلم ما يَقْرأ" أي: الذي يقرؤه. قال المهلب: إنما هذا في صلاة الليل؛ لأن الفريضة ليست في أوقات النوم، ولا فيها من التطويل ما يوجب ذلك، لكن يقال فيه: إن العبرة بعموم اللفظ، فيُعمل به أيضًا في الفرائض إن وقع ما أَمِنَ بقاء الوقت. وقول الإسماعيلي: إن في هذا الحديث اضطرابًا؛ لأن حمّاد بن زيد رواه عن أيوب فوقفه، وقال فيه عن أيوب: قُرىء علي كتاب عن أبي قلابة، فعرفته. ورواه عبد الوهاب الثَّقفي عن أيوب فلم يذكر أنسًا. وما قاله لا يوجب الاضطراب؛ لأن رواية عبد الوارث أرجح بموافقة وهيب والطُّفاوي له عن أيوب. وقول حمّاد عنه: قُرىء عليَّ. لا يدل على أنه لم يسمعه من أبي قِلابة، بل يُحمل على أنه عرف أنه فيما سمعه من أبي قِلابة. رجاله خمسة: الأول: أبو مَعْمر عبد الله بن عمرو،

لطائف إسناده

والثاني: عبد الوارث بن سعيد وقد مرّا في السابع عشر من كتاب الحلم، ومرَّ أيوب السُّختياني وأبو قِلابة في التاسع من كتاب الإيمان، ومرَّ أنس بن مالك في السادس منه. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع والعنعنة، ورواته كلهم بصريّون، وفيه رواية تابعي عن تابعي، وهما أيوب وأبو قِلابة. اُخرجه البخاري هنا. والنسائي في الطهارة عن يعقوب بن إبراهيم. باب الوضوء من غير حدث أي: ما حكمه؟ والمراد تجديد الوضوء، وقد مرَّ الكلام عليه في أول كتاب الوضوء عند قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 6].

الحديث التاسع والسبعون

الحديث التاسع والسبعون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا ح قَالَ: وَحَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: حَدَّثَنِى عَمْرُو بْنُ عَامِرٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلاَةٍ. قُلْتُ: كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ؟ قَالَ: يُجْزِىءُ أَحَدَنَا الْوُضُوءُ مَا لَمْ يُحْدِثْ. إنما ذكر الإِسناد الثاني وإن كان الأول أعلى لتصريح سفيان الثوري فيه بالتحديث. وقوله: "لكل صلاة" أي مفروضة، زاد الترمذي عن حُميد عن أنس: "طاهرًا أو غير طاهر". وظاهر قوله: "كان" أن تلك كانت عادته، لكن حديث سويد المذكور في الباب يدُلُّ على أن المراد الغالب، وفعله -صلى الله عليه وسلم- ذلك كان على جهة الاستحباب، وإلّا لما كان وسعه ولا لغيره أن يخالفه، ولأن الأصل عدم الوجوب. وقال الطّحاوي: يُحتمل أنه كان واجبًا عليه خاصة، ثم نسخ يوم الفتح لحديث بُريدة السابق عند الآية المذكورة. وتُعُقّب بأنه على تقدير القول بالنسخ كان قبل الفتح، بدليل حديث سُويد بن النعمان، فإنه كان في خيبر وهي قبل الفتح بزمان. وذهب إلى استمرار الوجوب قوم، كما جزم به الطّحاوي، ونقله ابن عبد البر عن عِكرمة وابن سِيرين وغيرهما. واستبعده النووي، وجنح إلى تأويل ذلك إن ثبت عنهم، وجزم بان الإجماع استقر على عدم الوجوب. وخص بعض الظاهرية والشيعة وجوبه لكل صلاة بالمقيمين دون المسافرين، وذهب إبراهيم

رجاله ستة

النَّخَعي إلى أنه لا يصلّي بوضؤ واحد أكثر من خمس صلوات. وقوله: "قلت: كيف كنتم تصنعون؟ "، قائل: قلت، عمرو بن عامر، والخِطاب للصحابة رضي الله تعالى عنهم. وقوله: "يجزِىء أحدنا الوُضوء" بضم أول يُجزىء من أجزأ، أي: يكفي، والوضوء بالرفع فاعل، وأحدنا مفعول يجزىء. وقوله: "ما لم يُحدث" وعند ابن ماجه: "وكنا نحن نصلي الصلوات كلها بوضوء واحد"، وللنّسائي عن عَمرو أنه سأل أنسًا: أكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتوضأ لكل صلاة؟ قال: نعم. رجاله ستة: الأول: محمد بن يوسف الفِريْابي مرَّ في العاشر من كتاب العلم، ومرَّ سفيان الثوري في الثامن والعشرين من كتاب الإِيمان، ومرَّ مسدّد ويحيى بن سعيد القطان وأنس بن مالك في السادس منه. والثالث من السند: عمرو بن عامر الأنصاري الكوفي. روى له: الجماعة عن أنس. وروى عنه: أبو الزِّناد، وشعبة، والثوري، ومسعر، وشريك، وغيرهم. قال أبو حاتم: ثقة صالح الحديث. وقال النسائي: ثقة. وذكره ابن حِبّان في "الثقات". وقيل: إنّه بَجَلِيّ. وصحح المِزِّي أن البَجَلي راو آخر غير الأنصاري. وليس لهذا في البخاري غير ثلاثة أحاديث كلها عن أنس. وليس للبَجَلي عنده رواية. وقد يلتبس به عُمر بن عامر بضم العين راو آخر بصري سُلَمي أخرج له مسلم دون البخاري. لطائف إسناده: فيه تحويل من إسناد إلى آخر، وفي بعض النسخ بعد سمعت أنسًا صورة

(ح) إشارة إلى التحويل، وقد مرَّ تحقيق ذلك في الخامس من بدء الوحي. وفي الإِسناد الأول التحديث بصيغة الجمع والعنعنة والسماع، وفي الثاني التحديث بصيغة الجمع والإفراد. وفي الأول بين البخاري وسفيان رجل، وفي الثاني بينهما رجلان، فالأول عالٍ، والثاني نازلٌ. وفي الإِسناد الثاني صرَّح بسماع سفيان عن عمرو، وفي الأول، قال: عن عمرو. وسفيان من المدلسين، والمدلس لا يُحتج بعنعنته إلاَّ إن ثبت سماعه من طريق آخر. وجزم هنا يكون المراد بسفيان: الثوري؛ لأن ابن عُيينة لم يحصُل له سماع من عمرو. ورواته ما بين فِرْيابي وكوفي وبصري. أخرجه البخاري هنا. والترمذي في الطهارة عن ابن بشار، وقال: صحيح. وأخرجه من حديث سلمة من طريق حميد بزيادة، وقال: حديث حميد عن أنس غريب من هذا الوجه، والمشهور عند أهل العلم حديث عمرو. وأخرجه النسائي عن محمد بن عبد الأعلى. وابن ماجه عن سُويد بن سعيد، كلاهما في الطهارة.

الحديث الثمانون

الحديث الثمانون حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي بُشَيْرُ بْنُ يَسَارٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي سُوَيْدُ بْنُ النُّعْمَانِ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَامَ خَيْبَرَ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالصَّهْبَاءِ، صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْعَصْرَ، فَلَمَّا صَلَّى دَعَا بِالأَطْعِمَةِ، فَلَمْ يُؤْتَ إِلاَّ بِالسَّوِيقِ، فَأَكَلْنَا وَشَرِبْنَا، ثُمَّ قَامَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْمَغْرِبِ فَمَضْمَضَ، ثُمَّ صَلَّى لَنَا الْمَغْرِبَ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. هذا الحديث مرّت مباحثه عند ذكره قريبًا في باب من مضمض من السويق، وأفادت هذه الطريق التصريح بالإخبار عن يحيى وشيخه. رجاله خمسة: الأول: خالد بن مخلد، والثاني: سليمان بن بلال وقد مرّا في الرابع من كتاب العلم. ومرَّ يحيى بن سعيد الأنصاري في الأول من بدء الوحي. ومرّ بُشَيْر بن يسار وسويد بن النعمان في الثالث والسبعين من كتاب الوضوء هذا. ومرَّ هناك في الثالث والسبعين ذكر المواضع التي أُخرج فيها. باب من الكبائر أن لا يستتر من بوله باب بالتنوين، والكبائر هي التي وعد الله من اجتنبها بالمغفرة، وهي جمع كبيرة، وهي الفعلة القبيحة من الذنوب المنهي عنها شرعًا العظيم أمرها، كالقتل والزِّنى والفرار من الزحف وقد مرّ استيفاء الكلام عليها غاية الاستيفاء في باب من أعاد الحديث ثلاثًا ليُفهم عنه من كتاب العلم.

الحديث الحادي والثمانون

الحديث الحادي والثمانون حَدَّثَنَا عُثْمَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِحَائِطٍ مِنْ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ أَوْ مَكَّةَ، فَسَمِعَ صَوْتَ إِنْسَانَيْنِ يُعَذَّبَانِ فِي قُبُورِهِمَا، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "يُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ"، ثُمَّ قَالَ: "بَلَى، كَانَ أَحَدُهُمَا لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ، وَكَانَ الآخَرُ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ". ثُمَّ دَعَا بِجَرِيدَةٍ فَكَسَرَهَا كِسْرَتَيْنِ، فَوَضَعَ عَلَى كُلِّ قَبْرٍ مِنْهُمَا كِسْرَةً. فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لِمَ فَعَلْتَ هَذَا؟ قَالَ: "لَعَلَّهُ أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُمَا مَا لَمْ تَيْبَسَا". قوله: "مرَّ -صلى الله عليه وسلم- بحائط" أي: بستان، وللمصنف في الأدب: "خرج عليه الصلاة والسلام من بعض حيطان المدينة"، فيُحمل على أن الحائط الذي خرج منه غير الحائط الذي مرَّ به. وفي "الأفراد" للدارقطني من حديث جابر أن الحائط كان لأم مُبَشِّر الأنصارية، وهو يقوي رواية "الأدب"، لجزمها بالمدينة من غير شك. والشك في قوله: "أو مكة" من جرير. وقوله: "فسمع صوت إنسانَيْن يُعذبان في قبورهما"، قال ابن مالك في قوله: "صوت إنسانيْن" شاهد على جواز إفراد المضاف المثنى إذا كان جزء ما اضيف إليه، نحو: أكلت رأس شاتين، وجمعه أجود نحو: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4]، وقد اجتمع التثنية والجمع في قوله: ظهراهُما مثلُ ظهورِ الترسَيْنِ وإن لم يكن المضاف جزء ما أُضيف إليه، فالأكثر مجيئه بلفظ التثنية، نحو: سل الزيدان سيفيهما. فإن أُمن اللَّبْس جاز جعل المضاف بلفظ الجمع،

كما في قوله هنا: "في قبورهما"، وفي رواية الأعمش الآتية قريبًا: "مر بقبرين"، زاد ابن ماجه: "جديدين". وقوله: "يعذَّبان" أي: الإِنسانين اللذين سمع صوتهما، وأما رواية الأعمش التي فيها: "مرَّ بقبرين" فيُحتمل أن يقال: أعاد الضمير فيها على غير مذكور، لأن سياق الكلام يدُل عليه. وأن يقال: أعاده على القبرين مجازًا، والمراد مَنْ فيهما. وقوله: "وما يعذَّبانِ في كبير، ثم قال: بلى" أي: وإنه لكبير، وصرح بذلك في "الأدب المفرد"، وهذا من زيادات رواية منصور هذه على رواية الأعمش، ولم يخرِّجها مسلم. وفي قوله: "في كبير" شاهد على ورود في للتعليل، وهو مثل قوله عليه الصلاة والسلام: "عُذِّبت امرأة في هِرة"، وخفي ذلك على كثير من النحويين، مع وروده في القرآن، كقوله تعالى: {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ} [الأنفال: 68]، وفي الحديث كما مرَّ، وفي الشعر. واختُلف في معنى قوله: "وإنه لكبير"، فقال أبو عبد الملك البوني: يُحتمل أنّه -صلى الله عليه وسلم- ظن أن ذلك غير كبير، فأُوحي إليه في الحال بأنه كبير، فاستَدْرَكَ. وتُعُقِّب بأنه يكون نسخًا، والنسخ لا يدخل الخبر. وأجيب بأن الحكم بالخبر يجوز نسخه، فقوله: "وما يعذَّبانِ في كبير" إخبار بالحكم، فإذا أُوحي إليه أنه كبير، فأخبر به، كان نسخًا لذلك الحكم. وقيل: الضمير في قوله: "وإنه" يعود على العذاب، لما ورد في "صحيح" ابن حِبّان عن أبي هريرة: "يعذَّبان عذابًا شديدًا في ذنبٍ هيِّن". وقيل: الضمير يعود على أحد الذَّنبين وهو النميمة، لأنها من الكبائر، بخلاف كشف العورة. وهذا غير مستقيم، لأن الاستتار المنفي ليس المراد به كشف العورة فقط كما يأتي قريبًا. وقال الداووديّ وابن العربي: "كبير" المنفي بمعنى أكبر، والمثبت واحد

الكبائر، أي: ليس ذلك بأكبر الكبائر كالقتل والزِّنى، وإن كان كبيرًا في الجملة. وقيل: المعنى ليس بكبير في الصورة؛ لأن تعاطي ذلك يدُلُّ على الدناءة والحقارة، وهو كبير في الذنب. وقيل: ليس بكبير في اعتقادهما أو في اعتقاد المخاطبين، وهو عند الله كبير، كقوله تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15]. وقيل: ليس بكبير في مشقة الاحتراز، أي: كان لا يَشُقُّ عليهما الاحتراز من ذلك، وهذا جزم به البغوي، ورجحه ابن دقيق العيد وغيره. وقيل: ليس بكبير بمجرده، وإنما صار كبيرًا بالمواظبة عليه، ويرشد إلى ذلك السياق، فإنه وصفهما بما يدلُّ على تجدد ذلك منهما، واستمرارهما عليه للإتيان بصيغة المضارَعَة بعد لفظ كان. وقوله: "لا يستَتِرُ" كذا في أكثر الروايات بمثنّاتين من فوق، الأولى مفتوحة والثانية مكسورة. وفي رواية ابن عساكر: "يستبْرِئ". بموحدة ساكنة من الاستبراء. ولمسلم وأبي داود عن الأعمش: "يستَنِزِه" بنون ساكنة بعدها زاي ثم هاء من التَّنَزُّه وهو الإبعاد. فعلى رواية الأكثر، معنى الاستتار أنه لا يجعل بينه وبين بوله سترة، يعني لا يتحفظ منه، فتوافق رواية: "لا يستنزه" إنها من التنزُّه وهو الإبعاد كما مرَّ. وعند أبي نُعيم في "المستخرج" عن الأعمش: "كان لا يتوقّى" وهي مفسِّرة للمراد. وحمله بعضهم على ظاهره، فقال: معناه لا يستر عورته، وهذا مردود، لأنه -كما قال ابن دقيق العيد- لو حُمل الاستتار على حقيقتة، للزم استقلال كشف العورة بالسَّببية، واطِّراح اعتبار البول، فيترتب العذاب على الكشف سواء وجد البول أم لا، وسياق الحديث يدلُ على أن للبول بالنسبة إلى عذاب القبر خصوصيته، كما يشير إليه ما صححه ابن خُزيمة عن أبي هُريرة مرفوعًا: "أكثر عذاب القبر من البول" أي: بسبب ترك التحرُّز منه. ويؤيده أن لفظ "من" في هذا الحديث، لما أضيف إلى البول، اقتضى نسبة الاستتار الذي عدمه سبب

العذاب إلى البول، بمعنى أن ابتداء سبب العذاب من البول، فلو حُمل على مجرد كشف العورة زال هنا المعنى. ويؤيده أيضًا أن في حديث أبي بَكْرة عند أحمد وابن ماجه: "أما أحدهما فيُعذَّب في البول"، ومثله للطبراني عن أنس، فيتعيَّن العمل على المجاز، لتجتمع ألفاظ الحديث على معنى واحد؛ لأن مخرجه واحد، فيكون المراد بالاستتار التنزُّه عن البول والبعد منه والتوقي له، إما بعدم ملابسته البول، وإما بالاحتراز عن مفسدة تتعلق به كانتقاض الطهارة، وعبَّر بالاستتار عن التوقّي مجازًا، ووجه العلاقة بينهما أن المستَتِر عن الشيء فيه بعد عنه واحتجاب، وذلك شبيه بالبعد عن ملابسة البول. وأما رواية الاستبراء فهي أبلغ في التوقّي، أي: يستفرغ جهده بعد فراغه منه. وهو يدل على وجوب الاستنجاء؛ لأنه لما عُذِّب على استخفافه بغسله وعدم التحرُّز منه، دل على أن من ترك البول في مخرجه ولم يستنجِ منه حقيقٌ بالعذاب. وقوله: "من بوله" في رواية الأعمش الآتية: "من البول"، وقال البخاري فيما يأتي عنه قريبًا: ولم يذكر سوى بول الناس. قال ابن بطّال: أراد البخاري أن المراد بقوله في رواية الباب: "كان لا يستتر من البول" بول الناس لا بول سائر الحيوان، فلا يكون فيه حجة لمن حمله على العموم في بول جميع الحيوان، وكأنه أراد الرد على الخطابي حيث قال: فيه دليل على نجاسة الأبوال كلها. ومحصل الرد أن العموم في رواية: "من البول" أريد به الخصوص، لقوله: "من بوله"، أو الألف واللام بدل من الضميرم، لكن يلتحق ببوله بول من هو في معناه من الناس، لعدم الفارق. قال: وكذا غير المأكول، وأما المأكول فلا حجة في هذا الحديث لمن قال بنجاسة بوله، ولمن قال بطهارته حجج أخرى تأتي إن شاء الله تعالى. وقال القرطبي: قوله: "من البول" اسم مفرد لا يقتضي العموم، ولو سُلِّم

فهو مخصوص بالأدلة المقتضية لطهارة بول ما يُؤكل. وقوله: "يمشي بالنميمة" فعيلة من نَمَّ الحديث ينُمُّه، إذا نقله عن المتكلم به إلى غيره. والمراد منه هنا ما كان بقصد الإضرار، فأما ما اقتضى فعل مصلحة أو ترك مفسدة فهو مطلوب مستحبٌّ أو واجب، كمن اطَّلع من شخص أنه يريد إيذاء شخص ظلمًا، فحذره منه، وكذا مَنْ أخبر الإمام أو مَنْ له ولاية بسيرة نائبه مثلًا، فلا منع من ذلك. وقال النووي: هي نقل كلام الغير بقصد الإضرار، وهي من أقبح القبائح. وتعقبه الكِرْماني بأن الكبيرة هي الموجبة للحد، ولا حد في النميمة. وما قاله في حد الكبيرة ليس متَّفقًا عليه، وقد مرَّ تحرير الكلام عليها في المحل المذكور آنفًا عند الترجمة. قال الغزالي: ينبغي لمن حُملت إليه نميمة أن لا يُصدق من نَمَّ له. ولا يظن بمن نُمَّ عنه ما نُقِل عنه، ولا يبحث عن تحقيق ما ذُكر له، وأن ينهاه ويقبِّح له فعله، ويغضبه إن لم ينزَجِرْ، وأن لا يرضى لنفسه ما نهى النمامَ عنه، فينُمَّ هو على النمام، فيصير نمامًا. واختُلف في الغِيبة والنميمة هل هما متغايرتان أو متَّحدتان، والراجح التغاير، وأن بينهما عمومًا وخصوصًا، ووجه ذلك أن النميمة: نقل حال الشخص لغيره على جهة الإفساد بغير رضاه، سواء كان بعلمه أم بغير علمه، والغيبة: ذكره في غيبته بما لا يرضيه، فامتازت النميمة بقصد الإفساد، ولا يشترط ذلك في الغيبة، وامتازت الغيبة بكونها في غيبة المقول فيه، واشتركتا فيما عدا ذلك. والمناسبة في الجمع بين هاتين الخصلتين هي أن البرزخ مقدمة الآخرة، وأول ما يُقضي فيه يوم القيامة من حقوق الله الصلاة، ومن حقوق العباد الدماء، ومفتاح الصلاة التطهر من الحدث والخبث، ومفتاح الدماء الغيبة والسعي بين الناس بالنميمة، مما ينشر الفتن التي تُسفك بسببها الدماء، فكان البرزخ محلًّا

للقضاء في مقدمات هذين الحقين ووسائلهما. وقوله: "فدعا بجريدة"، وللأعمش: "فدعا بعَسِيبٍ رَطْب"، والعسيب بمهملتين بوزن فَعيل، وهي الجريدة التي لم ينبت فيها خُوص، فإن نبت فيها فهي السَّعَفة. وقيل: إنه خص الجريد بذلك لأنه بطيء الجفاف. وقوله: "فكسرها" أي: أتى بها فكسرها، وفي حديث أبي بَكْرة عند أحمد والطبراني أنه هو الذي أتى بها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-. وللنَّسائي عن أبي رافع بسند ضعيف: إن الذي أتاه بالجريدة بلال. ولفظه: "كنّا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في جَنازة، إذ سمع شيئًا زفر، فقال لبلال: ائتني بجريدةٍ خضراء". وأما ما رواه مسلم في حديث جابر الطويل المذكور في آخر الكتاب أنه الذي قطع الغصنين، فهو في قصة أخرى غير هذه، فالمغايرة بينهما من أوجه، منها: أن هذه كانت في المدينة وكان معه عليه الصلاة والسلام جماعة، وقصة جابر كانت في السفر، وكان خرج لحاجته، فتبعه جابر وحده. ومنها: أن في هذه القصة أنه -صلى الله عليه وسلم- غرس الجريدة بعد أن شقها نصفين كما في رواية الأعمش في الباب الذي بعد هذا، وفي حديث جابر أنه عليه الصلاة والسلام أمر جابرًا بقطع غصنين من شجرتين كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستتر بهما عند قضاء حاجته، ثم أمر جابرًا فألقى الغصنين عن يمينه وعن يساره، حيث كان النبي -صلى الله عليه وسلم- جالسًا، وإن جابرًا سأله عن ذلك، فقال: "إني مررت بقبرين يُعذَّبان، فأحببت بشفاعتي أن يرفَّه عنهما ما دام الغصنانِ رطبين". ولم يذكر في قصة جابر السبب الذي كانا يعذَّبان به، ولا الترجي الآتي في قوله: "لعله"، فبان تغاير حديث ابن عباس وحديث جابر، وأنهما كانا في قصتين مختلفتين، ولا يبعد تعدد ذلك. وقد روى ابن حِبّان في "صحيحه" عن أبي هريرة "أنه -صلى الله عليه وسلم- مرّ بقبر، فوقف عليه، فقال: إيتوني بجريدتين، فجعل إحداهما عند رأسه، والأخرى عند رجليه فيُحتمل أن تكون هذه القصة ثالثة، ويؤيده أن في حديث أبي رافع المتقدم: "إذ سمع شيئًا في قبر"، وفيه: "فكسرها باثنتين، ترك نصفها عند رأسه ونصفها عند رجليه"، وفي قصة الاثنين: "جعل على كلِّ قبرٍ جريدةً"، فما

رجحه النووي من كون القصة واحدة فيه نظر. وقوله: "كِسرتين" بكسر الكاف، والكِسرة القطعة من الشيء المكسور، وقد تبين من رواية الأعمش الآتية: "شقَّها نصفين" أنها كانت نصفًا، وفي رواية جرير عنه: "باثنتين" قال النووي: الباء زائدة للتوكيد، والنصب على الحال. وقوله: "فوضع على كلِّ قبرٍ منهما كِسرة"، في رواية الأعمش الآتية: "فغَرز" وهي أخص من الأولى، وفي "مسند" عبد بن حُميد عن الأعمش: "ثم غَرَزَ، عند رأس كل واحد منهما قطعة". وقوله: "فقيل له"، وللأعمش: "قالوا" أي: الصحابة، ولم يوقف على تعيين السائل منهم. وقوله: "لعلَّه أن يُخَفَّف عنهما" يجوز أن تكون الهاء ضمير الشأن، وجاز تفسيره بأن وصلتها؛ لأنها في حكم جملة، لاشتمالها على مسند ومسند إليه، ويحتمل أن تكون أن زائدة مع كونها ناصبة، كزيادة الباء مع كونها جارة، وقد ثبت في الرواية الآتية بحذف أن، فقوي الاحتمال الثاني. وقال الكِرماني: شبَّهَ لعل بعسى، فأتى بأن في خبره. ويُخَفَّف بضم الياء وفتح الفاء مشددة، أي: العذاب عن المقبورَيْن. وقوله: "ما لم تَيْبسا" في أكثر الروايات بالمثناة الفوقانية، أي: الكِسرتان، وللكُشْمِيهني: "إلا أن تَيْبسا" بحرف الاستثناء، وللمُسْتَملي: "إلى أن يَيْبسا" بإلى التي للغاية، والياء التحتانية، أي: العودان. قال المازَري: يُحتمل أن يكون أوحي إليه أن العذاب يُخفف عنهما هذه المدة، وعلى هذا، فلعلَّ هنا للتعليل، قال: ولا يظهر له وجه غير هذا. وتعقبه القُرطبي بأنه لو حصل الوحي لما أتى بحرف الترجّي، كذا قال. ولا يَرِدُ عليه ذلك إذا حملنا لعلَّ على التعليل. قال القُرْطُبي: وقيل: إنه شفع لهما هذه المدة كما صُرِّح به في حديث جابر؛ لأن الظاهر أن القصة واحدة. وفيه نظر لما أوضحناه من المغايرة بينهما.

وقال الخَطّابي: هو محمول على أنه دعا لهما بالتخفيف مدة بقاء النَّداوة، لا أن في الجريدة معنى يخصُّه، ولا أن في الرَّطْب معنى ليس في اليابس، قال: وقد قيل: إن المعنى فيه أنه يسبِّح ما دام رطبًا، فيحصل التخفيف ببركة التسبيح، وعلى هذا فيطَّرِد في كل ما فيه رطوبة من الأشجار وغيرها، وكذلك فيما فيه بركة كالذِكْر وتلاوة القرآن من باب الأولى. وقال الطيبي: الحكمة في كونهما ما دامتا رطبتين تمنعان العذاب، يحتمل أن تكون غير معلومة لنا كعدد الزَّبانية. وقد استنكر الخَطّابي ومن تبعه وضع الناس الجريد ونحوه في القبر عملًا بهذا الحديث، قال الطُرْطُوشيّ: لأن ذلك خاص ببركة يده. وقال القاضي عِياض: لأنه علل غَرْزَهما على القبر بأمر مُغَيَّب، وهو قوله: "لَيُعذَّبان". قال في "الفتح": لا يلزم من كوننا لا نعلم أيعذب أم لا أن لا نتسبب له في أمر يخفف عنه العذاب لو عُذِّب، كما لا يمنع كوننا لا ندري أرُحِمَ أم لا أن لا ندعو له بالرحمة. وليس في السياق ما يقطع على أنه باشر الوضع بيده الكريمة، بل يُحتمل أن يكون أمر به. وقد تأسّى بُرَيْدة بن الحُصَيْب الصحابي بذلك، فأوصى أن يوضع على قبره جَريدتان كما أخرجه المصنِّف في الجنائز تعليقًا، وابن سعد موصولًا، وهو أولى أن يُتَّبع من غيره. قال ابن المُرابط وغيره: يُحتمل أن يكون بُريدة أمران يُغرز في ظاهر القبر اقتداء بالنبي-صلى الله عليه وسلم- في وضعه الجريدتين في القبرين، ويُحتمل أن يكون أمر أن يُجعلا في داخل القبر لما في النخلة من البركة، لقوله تعالى: {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} [إبراهيم: 24]، والأول أظهر، وكأن بريدة حمل الحديث على عمومه، ولم ير ذلك خاصًّا بالرجلين. قال ابن رشيد: ويظهر من تصرف البخاري أن ذلك خاص بهما، ولذلك عقبه بقول ابن عُمر: إنّما يُظِلُّه عمله.

وقلت: وعلى كل حال، فعل بُريدة فيه استئناس لما تفعله الناس اليوم من وضع الجريد ونحوه على القبر، فإن الصحابي أدرى بمقاصد الحديث من غيره، خلافًا لما مرَّ عن الخَطّابي. واعلم أن المقبورَيْن لم يُعرف اسمهما ولا اسم واحد منهما، والظاهر أن ذلك كان على عمدٍ من الرواة لقصد الستر عليهما، وهو عملٌ مستحسن، وينبغي أن لا يُبالَغ في الفحص عن تسمية من وقع في حقه ما يُذم به. وما حكاه القُرطبي في "التذكرة" وضعفه عن بعضهم أن أحدهما سعد بن معاذ قول في غاية البطلان، ولا ينبغي ذكره إلاَّ لبيان بطلانه، ومما يدُل على بطلانه ما ثبت في "الصحيح" من أنه عليه الصلاة والسلام حضر دفن سعد بن معاذ، وفي قصة المقبورَيْن عن أبي أمامة عند أحمد أنه عليه الصلاة والسلام قال لهم: "من دفنتُمُ اليوم هاهُنا؟ "، فدل على أنه لم يحضرهما. وإنما ذكرت هذا ذبًّا عن هذا السيد الذي سماه النبي -صلى الله عليه وسلم- سيدًا، فقال: "قوموا إلى سيِّدكم"، وقال: "إن حكمه قد وافق حكم الله"، وقال: "إن عرش الرحمن اهتزَّ لموتِهِ" إلى غير ذلك من مناقبه الجليلة، خشية أن يغتر ناقص العلم بما ذكره القُرطبي، فيعتقد صحة ذلك، وهو في غاية البطلان. واختلف في المقبورَيْن، فقيل: كانا كافِرَيْن، وبه جزم أبو موسى المديني، واحتج بما رواه عن جابر بسند فيه ابن لَهيعة: "أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- مرَّ على قبرين من بني النجار هلكا في الجاهلية، فسمعهما يعذَّبان في البول والنميمة"، قال أبو موسى: هذا وإن كان ليس قويًّا، لكن معناه صحيح؛ لأنهما لو كانا مسلمين لما كان لشفاعته إلى أن تيبس الجريدتان معنى، ولكنه لما رآهما يعذَّبان، ولم يستجز للطفه وعطفه حرمانهما من إحسانه، فشفع لهما إلى المدة المذكورة. وجزم ابن العطار بأنهما كأنا مسلمين، وقال: لا يجوز أن يُقال إنهما كانا كافرين؛ لأنهما لو كانا كافرين لم يَدْعُ لهما بتخفيف العذاب، ولا ترجاه لهما، ولو كان ذلك من خصائصه لبيَّنه كما في قصة أبي طالب.

قال في "الفتح": وما قاله أخيرًا هو الجواب، وما طالب به من البيان قد حصل، ولا يلزم التنصيص على لفظ الخصوصية، لكن الحديث الذي احتج به أبو موسى ضعيف كما اعترف به، وقد رواه أحمد بإسناد صحيح على شرط مسلم، لكنه ليس فيه سبب التعذيب، فهو من تخليط ابن لَهيعة، وهو مطابق لحديث جابر الطويل الذي مر أنَّ مسلمًا أخرجه، واحتمال كونهما كافرين فيه ظاهر. قلت: ليس في حديث ابن لهيعة بيان للخصوصية ألبتة، وليس في حديث جابر الذي قال: إنه موافق له. أن القبرين كانا من بني النجار هلكا في الجاهلية. ثم قال: وأما حديث الباب فالظاهر من مجموع طرقه أنهما كانا مسلمَيْن، ففي رواية ابن ماجه: "مرَّ بقبرين جديدين"، فانتفى كونهما في الجاهلية. وفي حديث أبي أمامة السابق قريبًا: "مرَّ بالبقيع، فقال: مَنْ دفنتم اليوم هُنا؟ "، وهذا يدلس على أنهما كانا مسلمين؛ لأن البقيع مقبرة المسلمين، والخطاب للمسلمين، مع جريان العادة بأن كل فريق يتولاه من هو منهم. ويقوّي كونهما مسلمين رواية أبي بَكرة عند أحمد والطبراني بإسناد صحيح: "يعذَّبان، وما يعذبان في كبير، وبلى، وما يعذَّبان إلاَّ في الغيبة والبول"، فهذا الحصر ينفي كونهما كانا كافرين؛ لأن الكافر وإن عذب على ترك أحكام الإِسلام، فإنه يعذب مع ذلك على الكفر بلا خلاف. وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم إثبات عذاب القبر، وهو حق يجب الإِيمان به والتسليم له، وعلى ذلك أهل السنة والجماعة، ووردت في عذاب القبر أحاديث كثيرة عن جماعة من الصحابة، منها حديث عُبادة بن الصامت بسند لا بأس به عند البزار، ومنها حديث أبي سعيد وزيد بن ثابت عند مسلم، ومنها حديث شُرَحْبيل بن حبَيبة، ومنها حديث أبي مُوسى الأشعري عند أبي داود، ومنها حديث أبي أمامة وأبي رافع عند أبي موسى المديني في كتاب "الترغيب والترهيب"، ومنها حديث ميمونة ذكره ابن سعد في كتاب الطهارة،

ومنها حديث عثمان رضي الله تعالى عنه عند اللّالكائي. وأنكرت المعتزلة عذاب القبر والخوارج وبعض المرجئة، لكن قال القاضي عبد الجبار رئيس المعتزلة: إن قيل: مذهبكم أدّاكم إلى إنكار عذاب القبر، وقد أطبقت عليه الأمة. قيل: هذا الأمر إنما أنكره ضِرار بن عمرو، ولما كان من أصحاب واصل ظنوا أن ذلك مما أنكرته المعتزلة، وليس الأمر كذلك، بل المعتزلة رجلان: أحدهما: يُجوِّز ذلك كما وردت به الأخبار، والثاني: يقطع بذلك، وأكثر شيوخنا يقطعون بذلك، وإنما يُنْكَر قول جماعة من الجهلة: إنهم يعذَّبون وهم موتى. ودليل العقل يمنع من ذلك. وقال القُرطبي: إن الملحدة ومن يذهب مذهب الفلاسفة أنكروه، والإيمان واجب به لازم حسب ما أخبر به الصادق -صلى الله عليه وسلم-، وإن الله يُحيي العبد ويردُّ إليه الحياة والعقل، وقد نطقت به الأخبار، وهو مذهب أهل السنة والجماعة، وكذلك يُكمل العقل للصغارليعلموا منزلتهم وسعادتهم. وقد جاء أن القبر ينضمُّ عليه كالكبير. وصار أبو الهُذيل وبِشْر إلى أن من خرج عن سِمة الإيمان فإنه يعذب بين النفختين، وأن المساءلة إنما تقع في تلك الأوقات. وأثبت البَلْخي والجُبّائي وابنه عذاب القبر، ولكنهم نفوه عن المؤمنين، وأثبتوه للكافرين والفاسقين. وقال بعضهم: عذاب القبر جائز، ويجري على الموتى من غير ردِّ أرواحهم إلى الجسد، وإن الميت يجوز أن يتألم ويحسَّ، وهذا مذهب جماعة من الكرّامِيّة. وقال بعض المعتزلة: إن الله تعالى يعذب الموتى في قبورهم، ويحدث الآلام وهم لا يشعرون، فإذا حُشروا وجدوا تلك الآلام كالسكران والمغمى عليه، إن ضُربوا لم يجدوا ألمًا، فإذا عاد عقلهم إليهم وجدوا تلك الآلام.

وأما باقي المعتزلة كضِرار بن عَمرو، وبشْر المَرِيسيّ، ويحيى بن كامل، فإنهم أنكروا عذاب القبر أصلًا. وهذه الأقوال كلها فاسدة، تردها الأحاديث الثابتة، وقد مرَّ عند حديث أسماء في سؤال الميت في باب من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس ما قاله أهل السُنَّة من أن المعذَّب الجسد بعينه، أو بعضه، إلى آخر ما مرَّ. وفيه أيضًا دلالة على استحباب تلاوة الكتاب العزيز على القبور؛ لأنه إذا كان يُرجى التخفيف عن الميت بتسبيح الشجر، فتلاوة القرآن العظيم أعظم رجاء وبركة. وقد اختُلف في هذه المسألة، فذهب أبو حنيفة وأحمد إلى وصول ثواب قراءة القرآن للميت، لما روى أبو بكر النجّار في كتاب "السنن" عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ مرَّ بين المقابر، فقرأ قل هو الله أحد إحدى عشرة مرة، ثم وهب أجرها للأموات، أُعطي من الأجر بعدد الأموات". وفي "سننه" عن أنس يرفعه: "من دخل المقابر فقرأ سورة يس، خفَّف الله عنهم يومئذ". وعن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من زار قبر والديه أو أحدهما، فقرأ عنده أو عندهما يس، غُفر له". وروى ابن شاهين عن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من قال: الحمد لله رب العالمين، رب السماوات ورب الأرض رب العالمين، وله الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم، لله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين، وله العظمة في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم، هو الملك رب السماوات ورب الأرض ورب العالمين، وله النور في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم مرة واحدة، ثم قال: اللهم اجعل ثوابها لوالديَّ، لم يبقَ لوالديه حقٌّ إلاَّ أداه إليهما". والصحيح من مذهب مالك والشافعي وصول ثواب قراءة القرآن للميت،

وقد جَلَبْنا نصوص المذهبين، واستوفينا الكلام على ذلك في كتابنا "مشتهى الخارِف الجاني". وأما الدُّعاء فالإجماع على أنه ينفعهم ويصلهم ثوابه، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الحشر: 10]، وغير ذلك من الآيات والأحاديث المشهورة، منها قوله عليه الصلاة والسلام: "اللهم اغفِر لأهل بقيع الغَرْقد"، ومنها قوله عليه الصلاة والسلام: "اللهمَّ اغفِر لحيِّنا وميِّتنا"، وغير ذلك. فإن قلت: هل يبلُغ ثواب الصوم أو الصدقة أو العتق، فالجواب: روى أبو بكر النجّار في كتاب "السنن" من حديث عَمْرو بن شُعيب عن أبيه عن جده أنه سأل النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله: إن العاص بن وائل كان نذر في الجاهلية أن ينحر مئة بدنة، وإن هشام بن العاص نحر حصته خمسين، أفيجزىء عنه؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن أباك لو كان أقرَّ بالتوحيد، فصُمتَ عنه، أو تصدقتَ عنه، أو أعتقتَ عنه، بلغه ذلك". وروى الدارقطني، قال رجل: يا رسول الله: كيف أَبَرُّ أبويَّ بعد موتهما؟ فقال: "إن من البر بعد الموت أن تصلي لهما مع صلاتك، وأن تصوم لهما مع صيامك، وأن تصدَّق عنهما مع صدقتك". وفي كتاب القاضي الإِمام أبي الحسين بن الفرّاء، عن أنس أنه سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله، إنا نتصدق عن موتانا، ونحجُّ عنهم، وندعوا لهم، فهل يصل ذلك إليهم؟ قال: "نعم، ويفرحون به كما يفرح أحدكم بالطَّبَق إذا أُهدي إليه". وعن سعد أنه قال: يا رسول الله: إن أبي مات، أفأُعتِق عنه؟ قال: "نعم". وعن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين، أن الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما كان يُعتقان عن علي رضي الله تعالى عنه. وفي "الصحيح" قال رجل: يا رسول الله: إن أمي توفيت، أينفعُها أن

أتصدَّق عنها؟ قال: "نعم". فإن قيل: قال الله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} [النجم: 39]، وهو يدل على عدم وصول ثواب القرآن للميت، فالجواب هو أن العلماء اختلفوا في الآية على ثمانية أقوال. أحدها: أنها منسوخة بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ} [الطور: 21]، أدخل الأبناء الجنة بصلاة الآباء، قاله ابن عبّاس. الثاني: أنها خاصة بقوم إبراهيم وموسى عليهما السلام، وأما هذه الأمة فلهم ما سَعَوا وما سَعَى لهم غيُرهم. قاله عكرمة. الثالث: المراد بالِإنسان هنا الكافر. قاله الرَّبيعُ بن أنس. الرابع: ليس للإنسان إلاَّ ما سعى من طريق العدل، فأما من باب الفَضْل فجائز أن يزيد الله تعالى ما شاء، قاله الحُسين بن الفَضْل. الخامس: أن معنى ما سعى: ما نوى، قاله أبو بكر الورّاق. السادس: ليس للكافر من الخير إلاَّ ما عمله في الدنيا، فيُثاب عليه في الدنيا، حتى لا يبقى له في الآخرة شيء. ذكره الثَّعْلَبي. السابع: أن اللام في: للإِنسان، بمعنى على، أي: ليس على الإنسان إلاَّ ما سعى. الثامن: أنه ليس له إلاَّ سعيه، غير أن الأسباب مختلفة، فتارة يكون سعيه في تحصيل الشيء بنفسه، وتارة يكون سعيه في تحصيل سببه، مثل سعيه في تحصيل قراءة ولدٍ يترحم عليه، وصَديق يستغفِر له، وتارة يسعى في خدمة الدين والعبادة، فيكتسب محبة أهل الدين، فيكون ذلك سببًا حصل بسعيه، حكاه أبو الفرج. وقد أشبعنا الكلام على هذه الآية بما لا نزيد عليه في كتابنا "مشتهى الخارف الجاني".

رجاله خمسة

وفيه التحذير من ملابسة البول، ويلتحق به غيره من النجاسات في البدن والثوب. ويستدل به على وجوب إزالة النجاسة، خلافًا لمن خصَّ الوجوب بوقت إرادة الصلاة. قلت: ليس في الحديث دلالة على وجوب المبادرة بغسل النجاسة، فيحتمل أن التعذيب حصل بترك الغسل مطلقًا لا بترك المبادرة، وهذا هو الظاهر. رجاله خمسة: الأول: عثمان بن أبي شيبة، والثاني: جَرير بن عبد الحميد، والثالث: منصور بن المُعْتَمِر وقد ذُكروا جميعًا في الثاني عشر من كتاب العلم. ومرَّ مجاهد بن جَبْر في أول كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه. ومرَّ عبد الله بن عبّاس في الخامس من بدء الوحي. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع والعنعنة، ورواته ما بين كوفي ورازِيّ ومكي. وروى هذا الحديث الأعمش عن مجاهد، فأدخل بينه وبين ابن عباس طاووسًا كما أخرجه المؤلف بعد قليل، وإخراجه له على الوجهين يقتضي صحتهما عنده، فيُحمل على أن مجاهدًا سمعه من طاووس عن ابن عبّاس، ثم سمعه من ابن عبّاس بلا واسطة أو العكس، ويؤيده أن في روايته عن طاووس زيادة على ما في روايته عن ابن عبّاس. وصرح ابن حِبّان بصحة الطريقين معًا. وقال الترمذي: رواية الأعمش أصح. وهذا الحديث أخرجه الستة وغيرهم، أخرجه البخاري في مواضع هنا عن عثمان، وفي الطهارة أيضًا عن محمد بن المُثَنَّى في موضعين، وفي الجنائز عن يَحْيى بن يَحْيى، وفي الأدب عن يحيى ومحمد بن سَلاَم، وفي الحجّ عن

باب ما جاء في غسل البول

علي. ومسلم في الطهارة عن أبي سعيد الأشجّ وغيره. وأبو داود عن زهير بن حرب وغيره في الطهارة. والترمذي فيها عن قتيبة وغيره في الطهارة. والنسائي فيها وفي التفسير عن هنّاد وغيره. وابن ماجه في الطهارة أيضًا عن أبي بكر بن أبي شيبة. باب ما جاء في غسل البول أي: من الإنسان، فأل فيه للعهد الخارجي. وقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- لصاحب القَبْرِ: "كانَ لا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلهِ"، وَلَمْ يَذْكُرْ سِوَى بَوْلِ النَّاسِ. اللام في "لصاحب"، قيل: بمعنى لأجل. وقيل: بمعنى عن، على حد قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [العنكبوت: 12]. وقيل: بمعنى عند، على حد قولهم، كتبته لخمس خَلَوْنَ. وقوله: "كان لا يستتِر من بوله" يشير إلى لفظ الحديث الذي قبله. وقوله: "ولم يذكر سوى بول الناس"، قد مرَّ ما فيه من البحث في الحديث السابق.

الحديث الثاني والثمانون

الحديث الثاني والثمانون حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنِي رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ قَالَ: حَدَّثَنِى عَطَاءُ بْنُ أَبِي مَيْمُونَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا تَبَرَّزَ لِحَاجَتِهِ أَتَيْتُهُ بِمَاءٍ فَيَغْسِلُ بِهِ. قوله: "إذا تبرَّز" بتشديد الراء، أي: خرج إلى البَراز بفتح الموحدة، وهو اسم للفضاء الواسع، فكنَّوْا به عن قضاء الحاجة كما كنَّوْا عنه بالخلاء؛ لأنهم كانوا يتبرَّزون في الأمكنة الخالية. وقوله: "بماء يغسل به" أي: ذَكَرَهُ الشريف، وحذف المفعول للعلم به أو للحياء من ذِكْره. و"يَغسِل" بفتح المثناة التحتية من باب ضرب، ولأبي ذر: "فيغتَسِل" من باب يفتعل، ولابن عساكر: "فتَغَسَّل" من باب تَفَعَّل، وفيه دلالة على التكلف والتشديد في الأمر. وقد استدل المؤلف بهذا الحديث هنا على غسل البول، وهو أعم من الاستدلال به على الاستنجاء وغيره، فلا تكرار. وقد ثبتت الرخصة في حق المستجمر، فيُستدل به على وجوب غسل ما انتشر على المحل، وقد مرّت مباحث الحديث في باب الاستنجاء بالماء. رجاله خمسة: الأول: يعقوب بن إبراهيم، والثاني: إسماعيل بن عُلَيّة وقد مرَّا في الثامن من كتاب الإيمان. ومرَّ عطاء بن أبي ميمونة في السادس عشر من كتاب الوضوء. ومرَّ أنس بن مالك في

لطائف إسناده

السادس من كتاب الإيمان. والثالث من السند: رَوْح بن القاسم التَّميمي العَنْبَري أبو غِياث -بكسر الغين- البَصْري. قال ابن مَعين وأحمد بن حنبل وأبو حاتم وأبو زُرعة: ثقة. وقال أحمد في موضع آخر: رَوْح بن القاسم وأخوه هشام من ثقات البصريين. وقال النَّسائي: ليس به بأس. وقال ابن عُيينة: لم أر أحدًا طلب الحديث وهو مسنٌّ أحفظ منه. وقال ابن حِبّان في "الثقات": كان حافظًا متقنًا. روى عن زيد بن أسلم، وعمرو بن دينار، وقتادة، ومحمد بن المنكَدِر، ومنصور بن المُعْتَمِر، وعطاء بن أبي ميمونة، وجماعة. وروى عنه: سعيد بن أبي عَروبة، ومحمد بن إسحاق -وهما من أقرانه-، وعيسى بن شُعيب النَّحوي، وإسماعيل بن عُلية، وغيرهم. مات قبل الحجاج بن أرطاة سنة إحدى وأربعين ومئة، وقيل: سنة نيف وخمسين. والعَنْبَري في نسبه مرَّ في السابع عشر من الإيمان. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع والإفراد، وفيه الإخبار والعنعنة، ورواته ما بين بغدادي وبصري. أخرجه البخاري هنا، وفي الطهارة عن أبي الوليد وغيره، وفي الصلاة عن محمد بن حاتم. ومسلم في الطهارة عن أبي بكر وغيره، وأبو داود فيها أيضًا عن وَهْب بن بقيّة والنّسائي فيها أيضًا عن إسحاق بن إبراهيم. باب أي: بالتنوين من غير ترجمة، وقد مرَّ غير ما مرة أنه إذا كان عاريًا عن الترجمة يكون في موضع الفصل من الباب.

الحديث الثالث والثمانون

الحديث الثالث والثمانون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَازِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِقَبْرَيْنِ فَقَالَ: "إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِى كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنَ الْبَوْلِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ". ثُمَّ أَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً، فَشَقَّهَا نِصْفَيْنِ، فَغَرَزَ فِى كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدَةً. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِمَ فَعَلْتَ هَذَا؟ قَالَ: "لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا". قوله: "وما يعذَّبان في كبير" استدل ابن بطّال برواية الأعمش هذه على أن التعذيب لا يختصُّ بالكبائر، بل قد يقع على الصغائر، قال: لأن الاحتراز من البول لم يرد فيه وعيد قبل هذه القصة. وتُعقَّب هذا بالزيادة المتقدمة في رواية منصور، وقد ورد مثلها من حديث أبي بَكْرة عند أحمد والطبراني، ولفظه: "وما يعذَّبان في كبيرٍ، بلى". قلت: ويرد عليه أيضًا بأن قوله: لم يرد فيه وعيد. ليس ضابطًا للكبيرة متفقًا عليه، وقد حررنا ما قيل فيها في باب من أعاد الحديث ثلاثًا ليُفهم عنه. وقوله: "فغرز" في رواية وكيع في الأدب: "فغرس"، وهما بمعنى. وأفاد سعد الدين الحارثي أن ذلك كان عند رأس القبر. وقال: إنه ثبت بإسناد صحيح، وهو ما جاء في "مسند" عَبد بن حُميد عن الأعمش من حديث ابن عبّاس صريحًا. ومباحث الحديث تقدمت في الرواية الأولى قريبًا في باب: من الكبائر أن لا يستتر من بوله.

رجاله ستة

رجاله ستة: الأول: محمد بن المُثَنّى وقد مرَّ في التاسع من كتاب الإِيمان. ومرَّ محمد بن خازِم أبو معاوية في الثالث منه أيضًا. ومرّ سُليمان بن مِهْران في الخامس والعشرين منه أيضًا. ومرَّ مجاهد بن جَبْر في كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه. ومرَّ طاووس في باب من لم ير الوضوء إلاَّ من المَخْرَجين من كتاب الوضوء بعد الأربعين منه. ومرَّ عبد الله بن عبّاس في الخامس من بدء الوحي. لطائف إسناده: منها: أن فيه التحديث بصيغة الجمع ثلاث مرات، وفيه العنعنة ثلاثًا، ورواته ما بين بَصري وكُوفي ومكي ويماني، وقد مرَّ ذكر المواضع التي أُخرج فيها عند ذكره قبل هذا بحديث واحد. قال ابنُ المُثَنَّى وحَدَّثنَا وَكيعٌ قالَ حَدَّثَنَا الأعمشُ قالَ: سمعتُ مُجَاهِدًا مِثْلَهُ. وهو معطوف على الأول، وثبتت أداة العطف فيه للأصيلي. والحكمة في إفراد البخاري له أن في رواية وكيع التصريح بسماع الأعمش دون الآخر، والأعمش مدلِّس، وعنعنة المدلس غير معتبرة، إلاَّ إن عُلِم سماعه. وعبَّر هنا بقال رعاية للفرق بينه وبين حدثني، فإنَّ قال أحط رتبة، وقد مرَّ الكلام عليها في أول كتاب العلم. ووصله أبو نُعيم في "المستخرج" من طريق محمد بن المثنّى. ورجاله ذكرنا محالَّهم غير وكيع بن الجرّاح، وقد مرَّ في الحادي والخمسين من كتاب العلم. باب ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- والناس الأعرابي حتى فرغ من بوله في المسجد. "والناس" وبالجر عطف على النبي، أي: وترك الناس. و"الأعرابيّ" مفعول به لـ "تَرْك"، واللام فيه للعهد الذّهني، والأعرابي واحد

الأعراب، وهم من سكن البادية عربًا كانوا أو عجمًا، وهذا الأعرابي هو الذي قدم المدينة ودخل المسجد النبوي وبال فيه، فلم يتعرض له أحد بإشارته -صلى الله عليه وسلم-، ويأتي الخلاف في اسمة قريبًا. وإنما تركوه يبول في المسجد لأنه كان شرع في المفسدة، فلو منع لزادت، إذ حصل تلويث جزء من المسجد، فلو مُنع لدار بين أمرين، إما أن يقطعه فيتضرر، وإما أن لا يقطعه فلا يأمن من تنجيس بدنه أو ثوبه أو مواضع أخرى من المسجد.

الحديث الرابع والثمانون

الحديث الرابع والثمانون حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- رَأَى أَعْرَابِيًّا يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: "دَعُوهُ حَتَّى إِذَا فَرَغَ دَعَا بِمَاءٍ فَصَبَّهُ عَلَيْهِ". قوله: "عن أنس"، ولمسلم: "حدّثني". وقوله: "في المسجد"، أي: مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم-. وقوله: "فقال: دعوه"، كان هذا الأمر بالترك عقب زجر الناس كما سيأتي. وقوله: "حتى إذا فرغ" أي: فتركوه حتى فرغ من بوله. وقوله: "دعا بماء فصبه عليه" أي: فلما فرغ، دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- بماء، أي: في دلو كبير، "فصبَّه"، أي: فأمر بصبه كما يأتي ذلك كله صريحًا. وللأصيلي: "فصُبَّ" بحذف ضمير المفعول. وقد أخرج مسلم هذا الحديث عن إسحاق عن أنس، فساقه مطولًا، وزاد فيه: "ثم إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعاه، فقال له: "إن هذه المساجد لا تصلُح لشيء من هذا البول ولا القذر، وإنما هي لذكر الله تعالى والصلاة وقراءة القرآن". وزاد ابن عُيينة عند الترمذي وغيره في أوله أنه صلّى ثم قال: اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحدًا. فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لقد تمجرتَ واسعًا"، فلم يلبث أن بال في المسجد. وتأتي هذه الزيادة عند المصنف مفردة في الأدب. وأخرج ابن حِبّان وابن ماجه عن أبي هُريرة: فقال الأعرابي بعد أن فقه في الإِسلام مقام النبي -صلى الله عليه وسلم-: بأبي أنت وأُمي، فلم يؤنب ولم يسب. واستُدل به على أن الأرض إذا تنجست تطهير بصب الماء عليها، أي: قدر

ما يغمرها حتى تستهلك فيه، ولا يشترط نضوب الماء؛ لأنه لو اشتُرط لتوقفت طهارة الأرض على الجفاف. قال الموفق: الأَوْلى الحكم بالطهارة مطلقًا؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يشترط في الصب على بول الأعرابي شيئًا. وقيل: إن كانت صُلبة -بضم الصاد وسكون اللام- يُصب عليها من الماء سبعة أمثاله، ونقل هذا عن الشافعي من غير تقييد بصلابته، ولعله أخذه من نسبة بول الأعرابي الآتي في الحديث قريبًا إن شاء الله تعالى إلى الذنوب المصبوب عليه. وفصلت الحنفية فقالوا: إذا كانت الأرض رَخوة بحيث يتخلّلها الماء حتىِ يغمرها فهذه لا تحتاج إلى حفر، وإن كانت الأرض صُلبة، فإن كانت صعودًا يُحفر في أسفلها حُفيرة، ويُصب الماء عليها ثلاث مرات، ويتسفل إلى الحُفيرة، ثم تُكبس الحُفيرة. وإن كانت مستوية بحيث لا يزول عنها الماء لا تُغسل لعدم الفائدة في الغسل، بل تحفر. وعن أبي حنيفة: لا تطهُر حتى تحفر إلى الموضع الذي وصلت إليه النداوة، وينقل التراب. وقيل: يُشترط في تطهير الأرض أن يُصب على بول الواحد ذَنوب، وعلى بول الاثنين ذنوبان، وهكذا. والظاهر الأول، لحديث الباب ولاحقه، إذ لم يأمر عليه الصلاة والسلام فيهما بقلع الأرض. ودليل الحنفية على الحفر ما رواه أبو داود عن عبد الله بن معقِل رضي الله تعالى عنه: "خُذوا ما بال عليه من التراب، فألقوه، وأهريقوا على مكانه ماءً". وما أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" عن طاووس، قال: بال أعرابي في المسجد، فأرادوا أن يضربوه، فقال عليه الصلاة والسلام: "احفِروا مكانه، واطرحوا عليه دلوًا من ماء، علِّموا ويسِّروا ولا تعسِّروا". وما أخرجه الدارقطني في "سننه" عن عبد الله قال: "جاء أعرابي، فبال في المسجد، فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بمكانه فاحتُفِر، وصُبَّ عليه دلو من ماء". وما أخرجه أيضًا عن أنس أن أعرابيًّا

بال في المسجد، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: "احفِروا مكانه، ثم صُبوا عليه ذنوبًا من ماء". قال في "الفتح": الموصول عن ابن مسعود إسناده ضعيف، والمرسلان رجالهما ثقات، وهو يلزم من يحتج بالمرسل مطلقًا، وكذا من يحتج به إذا اعتضد مطلقًا، والشافعي إنما يعتضد عنده إذا كان من رواية كبار التابعين، وكان من أرسَلَ إذا سُمي لا يُسمَّى إلاَّ ثقة، وذلك مفقود في المرسَلَين المذكورين على ما هو ظاهر من سنديهما. وفي الحديث أيضًا تعيين الماء لإِزالة النجاسة؛ لأن الجفاف بالريح أو الشمس لو كان يكفي لما حصل التكليف بطلب الدلو، ولأنه لم يوجد المزيل، ولهذا لا يجوز التيمم بها. وقال الحنفيّة غير زُفَر منهم: إذا أصابت الأرض نجاسة، فجفَّت بالشمس وذهب أثرها، جازت الصلاة على مكانها لقوله عليه الصلاة والسلام: "زكاة الأرض بيبسِها"، ولا دلالة هنا على نفي غير الماء؛ لأن الواجب هو الإِزالة، والماء مزيل بطبعه، فيقاس عليه كل ما كان مزيلًا لوجود الجامع، وإنما لا يجوز التيمم به لأن طهارة الصعيد ثبتت شرطًا بنص القرآن، فلا تتأذّى بما ثبت في الحديث. وفيه أيضًا أن غُسالة النجاسة الواقعة على الأرض طاهرة؛ لأن الماء المصبوب لابد أن يتدافع عند وقوعه على الأرض، ويصل إلى محل لم يُصِبْه البول مما يجاوره، فلولا أن الغُسالة طاهرة، لكان الصب ناشرًا للنجاسة، وذلك خلاف مقصود التطهير. وإذا لم يثبت أن التراب نُقِلَ، وعلمنا أن المقصود التطهير، تعيَّن الحكم بطهارة البلة، وإذا كانت طاهرة فالمنفصلة أيضًا مثلها لعدم الفارق، وسواء كانت النجاسة على الأرض أو غيرها، لكن الحنابلة فرّقوا بين الأرض وغيرها، وكذا لا يُشترط عصر الثوب إذ لا فارق. وعند المالكية الغُسالة المتغيرة نجسة، وغير المتغيرة بشيء من أوصاف النجاسة طاهرة.

وفيه الرفق بالجاهل وتعليمه ما يلزم من غير تعنيف إذا لم يكن ذلك منه عنادًا، ولاسيّما إن كان ممّن يُحتاج إلى استئلافه. وفيه رأفة النبي -صلى الله عليه وسلم- وحسن خلقه. وفيه تعظيم المسجد وتنزيهه عن الأقذار. وظاهر الحصر من سياق مسلم في حديث أنس أنه لا يجوز في المسجد شيء غير ما ذُكر من الصلاة والقرآن والذكر، لكن الإجماع على أن مفهوم الحصر منه غير معمول به، ولا ريب أن فعل غير المذكورات وما في معناها خلاف الأولى. وفيه أن الاحتراز من النجاسة كان مقررًا في نفوس الصحابة، ولهذا بادروا إلى الإنكار بحضرته -صلى الله عليه وسلم- قبل استئذانه، ولما تقرر عندهم أيضًا من طلب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. واستُدِل به على جواز التمسك بالعموم إلى أن يظهر الخصوص. قال ابن دقيق العيد: والذي يظهر أن التّمسك يتحتم عند احتمال التخصيص عند المجتهد، ولا يجب التوقف عن العمل بالعموم لذلك؛ لأن علماء الأمصار ما بَرَحوا يُفتون بما بلغهم من غير توقُّف على البحث عن التخصيص، ولهذه القصة أيضًا، إذ لم يُنكر النبي -صلى الله عليه وسلم- على الصحابة، ولم يقل لهم: لم نهيتُم الأعرابي؟ بل أمرهم بالكف عنه للمصلحة الراجحة، وهي دفع أعظم المفسدتين باحتمال أيسرهما، وتحصيل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما فإن البول فيه مفسدة، وقطعه على البائل فيه مفسدة أعظم منها، فدفع أعظمهما بأيسر المفسدتين، وتنزيه المسجد عنه مصلحة، وترك البائل إلى الفراغ مصلحة أعظم منها، فحصل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما. وفيه المبادرة إلى إزالة المفاسد عند زوال المانع، لأمرهم عند فراغه بصب الماء عليه.

رجاله أربعة

رجاله أربعة: الأول: موسى بن إسماعيل مرَّ في الرابع من بدء الوحي. وإسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة مرَّ تعريفه في الثامن من كتاب العلم. ومرَّ أنس بن مالك في السادس من كتاب الإِيمان. الثاني من السند: همّام بن يحيى بن دينار الأزْدي العَوْذي -بسكون الواو- المحملي مولاهم، أبو عَبْد الله، ويقال: أبو بكر البَصْري، أحد الأثبات. قال أحمد بن حَنْبل: هو أثبت من أبان العطّار في يحيى بن أبي كثير. ومال أيضًا: همّام ثبتٌ في كل المشايخ. وقال ابن مَعين: هو أحب إليّ من حمّاد بن سلمة في قتادة، ومن أبي عَوانة. وقال عَمرو بن علي: الأثبات من أصحاب قتادة. ابن أبي عَروبة، وهشام، وسعيد، وهمام. وقال علي بن المديني في ذكر أصحاب قتادة: كان هشام أرواهم عنه، وكان سعيد أعلمهم به، وكان شعبة أعلمهم بما سمع من قَتادة مما لم يسمع، ولم يكن همّام عندي بدون القوم. ولم يكن ليحيى القطان فيه رأي. وكان ابن مَهدي حسن الرأي فيه، وقال: ظلم يحيى بنُ سعيد همامَ بن يحيى، همام لم يكن له به علم ولا مجالسة. وقال ابن عمّار: كان يحيى القطّان لا يعبأ بهمّام، وكان يعترِض عليه في كثير من حديثه، فلما قدم معاذ نظرنا في كتبه فوجدناه موافقًا همامًا في كثير مما كان يحيى يُنكر عليه، فكف عنه يحيى بعد. وقال أبو حاتم: ثقة صدوق، في حفظه شيء. وسئل عن أبان وهمام، فقال: همام أحبُّ إليَّ ما حدَّثَ من كتابه، وإذا حدث من حفظه فهما متقاربان. وقال ابن عَدي لما أن ذكره في "الكامل": همّام أشهر وأصدق من أن يُذكر له حديث، وأحاديثه مستقيمة عن قتادة، وهو مقدَّم في يحيى بن أبي كثير. وقال الحسن بن علي الحلواني: سمعت عفّان يقول: كان همامٌ لا يكاد يرجِع إلى كتابه ينظر فيه، وكان يخالَفُ فلا يرجع إلى كتابه، ثم رجع بعد فنظر فيه، فقال: يا عفّان، كنا نخطىء كثيرًا فنستغفر الله، وهذا يقتضي أن أحاديثه بأَخَرة أصح ممن سمع منه قديمًا، وقد نص على ذلك أحمد بن حنبل. وقال الحاكم: ثقة حافظ. وقال السّاجيّ: صدوق سيىء

لطائف إسناده

الحفظ، ما حدث من كتابه فهو صالح، وما حدث من حفظه فليس بشيء. روى عن: عطاء بن أبي رباح، وإسحاق بن أبي طلحة، وزيد بن أسلم، وأبي التّيّاح، ونافع مولى ابن عمر، وأنس بن سِيرين، ويحيى بن أبي كثير، وخلق. وروى عنه: الثوري وهو من أقرانه، وابن المبارك، وابن عُلَيّة، ووكيع، وابن مَهدي، وعبد الصمد بن عبد الوارث، وأبو داود وأبو الوليد الطيالسيان، وخلق كثير. مات سنة ثلاث وستين ومئة، وقيل: سنة أربع وستين بالبصرة. والعَوْزي في نسبه مرَّ في السادس من الإيمان، ومرَّ الأزْدي في السادس من بدء الوحي. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، والعنعنة في موضع واحد، ورواته ما بين بصري ومدني. أخرجه البخاري هنا، وفي الطهارة أيضًا عن يحيى بن سعيد، وأخرجه فيها أيضًا من حديث أبي هُريرة، وفي الأدب عن أبي اليمان. ومسلم في الطهارة عن زُهير بن حرب وغيره. والترمذي عن سعيد بن عبد الرحمن في الطهارة. والنّسائي فيها أيضًا عن دُحَيْم. وأبو داود من حديث الزُّهري. وابن ماجه من حديث أبي سلمة. تنبيه الأعرابي الذي بال في المسجد مختلَفٌ فيه، قيل: إنه الأقرع بن حابِس كما حكاه أبو بكر التاريخي. وقيل: هو ذو الخُوَيْصرة التميمي، واسمه حرقوص بن زُهير. وقيل: ذو الخُويصرة اليماني، وإنه غير التميمي، والتميمي هو الذي صار بعد ذلك من رؤساء الخوارج. وقيل: هو عُيينة بن حصن

الفَزاري، والعلم لله تعالى. ولنذكر هنا تعريف الأربعة لتتم الفائدة. فالأول: الأقرع بن حابس بن عقال بن سفيان التميمي المُجاشعي الدارِمي، قيل: اسمه فراس، وإنما قيل له: الأقرع لقَرَع كان برأسه. كان شريفًا في الجاهلية والإِسلام، وقد على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وشهد فتح مكة وحُنينًا والطائف، وكان من المؤلَّفة، وحسُن إسلامه. وقال الزُّبير في النسب: كان الأقرع حَكَمًا في الجاهلية، وفيه يقول جرير، وقيل: غيره لما تنافرا إليه هو والقرافصة، أو خالد بن أرطاة. يا أقرعُ بنَ حابسٍ يا أقرعْ ... إن تصرعِ اليومَ أخاكَ تُصرعْ وروي أن الأقرع بن حابس وعُيينة بن حصن شهدا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتح مكة وحنينًا والطائف، فلما قدم وقد بني تميم كانا معه، فلما دخل وقد بني تميم المسجد نادَوْا النبي -صلى الله عليه وسلم- من وراء حجرته أن اخرج إلينا، فأذى ذلك من صياحهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، فخرج إليهم، فقالوا: يا محمد، جئنا نفاخرك. ونزل فيهم قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [الحجرات: 4]، وكان فيهم الزِّبرقان بن بدر، وقيس بن عاصم. وروي من طريق أخرى أنه لما نادى النبي -صلى الله عليه وسلم- من رواء الحجرات ولم يُجِبْه، قال: يا محمد: إن مدحي لزينٌ، وإن ذمي لشينٌ. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ذلكم الله". وروي عن أبي هريرة: أبصر الأقرع بن حابس النبي -صلى الله عليه وسلم- يُقَبِّل الحسن ... الحديث. ورُوي عن أبي سعيد الخُدري، قال: بعث عليٌّ على النبي -صلى الله عليه وسلم- بذهيبة من اليمن، فقسمها في أربعة، أحدهم الأقرع بن حابس. وروي أن أبا بكر لما قدم وقد بني تميم قال: يا رسول الله صلّى الله عليك

وسلَّم: أمر الأقرع ... الحديث. وروي من طريق المدائني: لما أصاب عُيينة بن حصن من بني العنبر، قدم وفدهم، فذكر القصة، وفيها: فكلَّم الأقرع بن حابس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في السبي، وكان بالمدينة قبل قدوم السبي، فنازعه عُيينة بن حصن، وفي ذلك يقول الفَرَزْدق يفخر بعمّه الأقرع: وعند رسولِ اللهِ قامَ ابن حابسٍ ... بخِطَّةِ أسوارٍ إلى المجدِ حازمِ له أُطلَق الأسرى التي في قيودِها ... مُغلَّلة أعناقُها في الشّكائِمِ وروى عبيدة بن عمرو السَّلْماني أن عيينة والأقرع استقطعا أبا بكر، فقال لهما عمر: إنما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتألَّفكما على الإِسلام، فأما الآن فاجهدا جهدَكُما، وقطع الكتاب. وشهدا مع خالد بن الوليد اليمامة وغيرها، ثم مضى الأقرع فشهد مع شُرحبيل بن حَسَنة دومة الجندل، وشهد مع خالد حرب أهل العراق وفتح الأَنْبار، واستعمله عبد الله بن عامر على جيش سيَّرَه إلى خراسان، فأصيب بالجوزان هو والجيش، وذلك في زمن عثمان. وقيل: إنه قتل باليرموك في عشرة من بنيه. والدارِمي في نسبه نسبة إلى دارِم بن مالك بن حَنْظَلة بن مالك بن زيد مناة أبي حي من تميم فيهم بيتها وشرفها، وكان يسمى بحرًا، وذلك أن أباه أتاه قوم في حمالة، فقال له: يا بحر ائتني بخريطة المال، فجاء يحملها وهو يدرم تحتها، أي: يقارب الخطو من ثقلها، فقال أبوه: جاءكم يُدارِم، فسُمّي دارِمًا لذلك. منهم الإِمام المحدث أبو عبد الرحمن بن محمد بن علي بن الفضل التّميمي النَّيْسابوري. روى عن: أبي بكر بن خُزيمة. وعنه: الحاكم أبو عبد الله وغيره.

والمُجاشِعي نسبة إلى مُجاشع بن دارِم المذكور قبل. الثاني: عُيينة بن حصْن بن حُذيفة بن بَدر بن عمرو بن حُوَيّة -مصغرًا- ابن لوذان بن ثعلبة بن عدي بن فزارة الفَزَاري أبو مالك، يقال: كان اسمه حُذيفة، فلُقِّب عُيينة لأنه أصابته شجّة فجَحَظَت عيناه. له صحبة، وكان من المؤلفة قلوبهم، ولم يصح له رواية. وروي عن الحارث بن يزيد أنه روى عن عُيينة أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن موسى عليه السلام آجر نفسَهُ بعفَّةِ فرجهِ وشِبَع بطنه". أسلم قبل الفتح، وشهدها، وشهد حنينًا والطائف، وبعثه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى بني تميم، فسبى بعض بني العنبر، ثم كان ممن ارتدَّ في زمن أبي بكر، ومال إلى طُليحة فبايعه، ثم عاد إلى الإِسلام، وكان فيه جفاء سكان البوادي. وروى الأعمش عن إبراهيم، قال: جاء عُيينة بن حصن إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وعنده عائشة رضي الله عنها، فقال: مَنْ هذه؟ -وذلك قبل أن ينزل الحجاب- قال: "هذه عائشة". قال: أفلا أنزل لك عن أم البنين فتنكِحها؟ فغضبت عائشة رضي الله عنها، وقالت: مَنْ هذا؟ فقال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هذا أحمق مطاعٌ في قومه". وفي غير هذه الرواية في هذا الخبر أنه دخل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بغير إذن، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وأين الإذنُ؟! ". فقال: ما استأذنت على أحدٍ من مُضر. وكانت عائشة رضي الله عنها مع النبي -صلى الله عليه وسلم- جالسة، فقال: مَنْ هذه الحُميراء؟ فقال: "أُم المؤمنين". قال: أفلا أنزل لك عن أجمل منها؟ فقالت عائشة: مَنْ هذا يا رسول الله؟ فقال: "هذا أحمق مطاعٌ، وهو على ما تَرَيْن سيدُ قومه". وقال الزُّهري: كان جلساء عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أهل القرآن، وكان لعُيينة بن حصن ابن أخٍ من جلساء عمر، يقال له: الحُر بن قيس. فقال لابن أخيه: ألا تُدخلني على هذا الرجل؟ فقال: إني أخاف أن

تتكلم بكلام لا ينبغي. فقال: لا أفعل. فأدخله على عمر، فقال: يا ابن الخطّاب، والله ما تقسِم بالعدل، ولا تعطي الجَزْل. فغضب عمر غضبًا شديدًا، حتى همَّ أن يقعَ به. فقال له ابن أخيه: يا أمير المؤمنين: إن الله عَزَّ وَجَلَّ يقول في محكم كتابه: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، وإن هذا من الجاهلين، فخلّى عنه عمر، وكان وقّافًا عند كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ. وتزوج عثمان بن عفان ابنته، فدخل عليها يومًا، فأغلظ، فقال عثمان: لو كان عمر ما قدمت عليه بهذا. فقال: إن عمر أعطانا فأغنانا، وأخشانا فأتقانا. وروي عن أبي وائل قال: سمعت عُيينة بن حصن يقول لعبد الله: أنا ابنُ الأشياخ الشُمّ. فقال عبد الله: ذلك يوسُف بن يعقوب بن إبراهيم. فسكت. وروى عُبيدة بن عمر وقال: جاء الأقرع بن حابس وعُيينة بن حصن إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فقال: يا خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن عندنا أرضًا سبخة ليس فيها كَلأ ولا منفعة، فإن رأيت أن تُقطعَناها. فأجابهما، وكتب لهما، وأشهد القوم، وعُمر ليس فيهم، فانطلقا إلى عُمر ليُشهداه فيه، فتناول الكتاب، وتَفَلَ فيه ومحاه، فتذمّرا له، وقالا له مقالة سيئة، فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يتألَّفُكُما والإسلام يومئذٍ قليل، وإن الله قد أعزَّ الإِسلام، اذهَبا فاجهدا على جهدِكما، لا رَعَى الله عليكما إن رَعَيْتُما، فأقبلا إلى أبي بكرٍ وهما يتذمّران، فقالا: ما ندري والله أنت الخليفة أم عمر؟ فقال: لا بل هُو لو شاء. فجاء عمر وهو مُغْضَب حتى وقف على أبي بكرٍ، فقال: أخبرني عن هذا الذي اقطَعْتَهُما، أرضٌ هي لك خاصة أو للمسملين عامة؟ قال: بل للمسلمين عامّة. قال: فما حملك على أن تَخُصَّ بهما هذين؟ قال: استشرف الذين حولي فأشاروا عليَّ بذلك، وقد قلت لك: إنك أقوى على هذا مني، فغلبتني. وكان عُيينة يُعدُّ في الجاهلية من الجّرارين، يقود عشرة آلاف. وروى أبو حاتم السِّجِسْتاني أن حصن بن حذيفة أوصى ولده عند موته، وكانوا عشرة -قال: وكان سبب موته أن كرز بن عامر العُقَيْلي طعنه، فاشتد مرضه- فقال لهم: الموت أروحُ مما أنا فيه، فأيُّكم يطيعوني؟ قالوا: كلُّنا. فبدأ

بالأكبر، فقال: خُذ سيفي هذا، فضعه على صدري، ثم اتّكِىء عليه حتى يخرج من ظهري. فقال: يا أبتاه، هل يقتل الرجل أباه؟ فعرض ذلك عليهم واحدًا واحدًا فأَبَوْا إلاَّ عُيينة، فقال: يا أبتي: أليس لك فيما تأمرني به راحة وهوى ولك فيه مني طاعة؟ قال: بلى. قال: فمُرني كيف أصنع. قال: ألق السيف يا بني، فإني أردت أن أبلوَكُم، فأعرف أطوعكم لي في حياتي، فهو أطوع لي بعد مماتي، فاذهب أنت سيد ولدي من بعدي، ولك رياستي. فجمع بني بدرٍ، فأعلمهم بذلك، فقام عُيينة بالرياسة بعد أبيه، وقتل كرزًا. قال ابن حَجر: وفي "الأم" للشافعي في باب من كتاب الزكاة أن عمر بن الخطاب قتل عُيينة على الرِّدة، ولم أر من ذكر ذلك غيره، فإن كان محفوظًا فلا يُذكر عُيينة في الصحابة، لكن يُحتمل أن يكون أمر بقتله، فبادر إلى الإِسلام، فترك، فعاش إلى خلافة عثمان. والفَزَارِيّ في نسبه مرَّ في السادس عشر من العلم. الثالث: ذو الخُوَيْصِرة التَميمي، ومرّ أن اسمه حُرْقُوص -بضم الحاء والقاف وسكون الراء بينهما- ابن زهير السّعدي، له ذكر في فتوح العراق، وهو رأس الخوارج المقتول بالنَّهْروُان. وذكر الطبري أن عُتبة بن غزوان كتب إلى عمر يستمده، فأمده بحُرقوص بن زهير، وكانت له صحبة، وأمره على القتال على ما غلب عليه، ففتح سوق الأهواز. وذكر الهيثم بن عدي أن الخوارج تزعم أن حُرقُوص بن زهير كان من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأنه قُتل معهم يوم النَّهْروان، فسألت عن ذلك، فلم أجد أحدًا يعرفه. وذكر بعض من جمع المعجزات أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يدخُل النار أحد شهد الحديبية إلا واحد" فكان هو حُرقوص بن زهير.

باب صب الماء على البول في المسجد

وأخرج البخاري من حديث أبي سعيد الخُدري، قال: بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقسم ذات يوم قَسْمًا، فقال ذو الخُويصرة حُرقوص رجل من بني تميم يا رسول الله: اعدل. فقال: "ويلَكَ، ومَن يعدِل إذا لم أعدل؟! ". وأخرجه عبد الرزاق، ولكن قال فيه: إذ جاءه ذو الخُويصرة التميمي، وهو حُرقوص بن زهير. قال ابن حجر: وعندي في ذكره في الصحابة وقفة. والتميمي في نسبه مرَّ في السادس من بدء الوحي. الرابع: ذو الخُويصرة اليماني، روى أبو موسى من طريق سليمان بن يسار، قال: طلع ذو الخويصرة اليماني وكان أعرابيًّا جافيًا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المسجد، فلما رآه النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: "هذا الذي بال في المسجد"، فلما وقف. قال: أدخلني الله وإياك الجنة، ولا أدخل غيرنا. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ويحَكَ احتظرتَ واسعًا"، ثم قام فدخل، فبال الرجل في المسجد، فصاح به الناس وعجبوا لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يسِّروا"، يقول علموه، فأمر رجلًا، فجاء بسَجل من ماء، فصبه على مباله. وقصة الرجل الذي بال في المسجد في الصحيح بغير هذا السياق، ولم يسمَّ فيها الرجل من حديث أنس وأبي هريرة. وأخرجه ابن ماجه، وزاد فيه من طريق أبي هريرة: فقال الأعرابي بعد أن فقه: بأبي وأمي، فلم يؤنّب ولم يسب، فقال: "إن هذا المسجد لا يُبال فيه". واليماني في نسبه مرَّ في الخامس والثلاثين من الإيمان. باب صب الماء على البول في المسجد أي: النبوي وغيره من سائر المساجد.

الحديث الخامس والثمانون

الحديث الخامس والثمانون حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي الْمَسْجِدِ فَتَنَاوَلَهُ النَّاسُ، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "دَعُوهُ وَهَرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلاً مِنْ مَاءٍ، أَوْ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ، فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ". كذا رواه أكثر الرواة عن الزُّهري، ورواه ابن عُيينة عنه عن سعيد بن المسيَّب بدل عبيد الله، وتابعه سفيان بن حسين، فالظاهر أن الروايتين صحيحتان. وقوله: "فتناوله الناس" أي: بألسنتهم، وللمصنف في الأدب: "فثار إليه الناس"، وله في رواية أنس: "فقالوا إليه"، وللإسماعيلي: "فأراد أصحابه أن يمنعوه"، وفي رواية أنس في الباب الذي يليه: "فزجره الناس"، وأخرجه البيهقي بلفظ: "فصاح به الناس"، وكذا للنسائي، ولمسلم عن أنس: "فقال الصحابة: مَه مَه"، فظهر أن تناوله كان بالألسنة لا بالأيدي. وقوله: "هَريقوا"، وله في الأدب: "وأهرِيقُوا"، وقد تقدم توجيهها في باب الغُسل في المخضب. وقوله: "سَجْلاً" بفتح المهملة وسكون الجيم، وهو الدلو ملأى، ولا يقال لها ذلك وهي، فارغة. وقال ابن دُريد: دلو واسعة. وفي "الصحاح": الدلو الضخمة. وقوله: "أو ذنوبًا"، قال الخليل: الدلو ملأى ماء. وقال ابن فارس: الدلو العظيمة. وقال ابن السّكيت: فيها ماء قريب من الملء، ولا يقال لها وهي فارغة

رجاله خمسة

ذنوب. فعلى الترادف أو للشك من الراوي، وإلاّ فهي للتخيير، والأول أظهر، فإن رواية أنس لم تختلف في أنها ذنوب، وقال في الحديث: "من ماء"، مع أن الذنوب من شأنها ذلك، لكنه لفظ مشترك بينه وبين الفرس الطويل وغيرها. وقوله: "فإنّما بُعثتم" أسند البعث إليهم على طريق المجاز؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- هو المبعوث بما ذُكر، لكنهم لما كانوا في مقام التبليغ عنه في حضوره وغيبته أطلق عليهم ذلك، إذ هم مبعوثون من قبله بذلك، أي: مأمورون. وكان ذلك شأنه -صلى الله عليه وسلم- في حق كل من بعثه إلى جهة من الجهات، يقول: "يسِّروا ولا تعسِّروا". وقد مرت مباحثه في الحديث الذي قبله. رجاله خمسة: الأول: أبو اليمان الحكم بن نافع، والثاني: شُعيب بن أبي حمزة وقد مرَّ تعريفهما في السابع من بدء الوحي. ومرَّ ابن شِهاب في الثالث منه. ومرَّ عُبيد الله في السادس منه أيضًا. ومرَّ أبو هريرة في الثاني من كتاب الإيمان. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع والإخبار بصيغة الجمع والإفراد، ورواته ما بين حمصي ومدني وبصري، ورُوي عن سُفيان بن عُيينة عن سعيد بن المسيِّب بدل عبيد الله، وقال: ظاهر أن الروايتين صحيحتان، ومرَّ ذكر من أخرجه في الحديث الذي قبل هذا.

الحديث السادس والثمانون

الحديث السادس والثمانون حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-. أخرج البَيْهقي هذا الحديث عن عبدان بلفظ: جاء أعرابيٌّ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما قضى حاجته قام إلى ناحية المسجد، فبال، فصاح به الناس، فكفَّهم عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم قال: "صُبُّوا عليه دلوًا من ماء"، وقد مرت مباحثه. رجاله أربعة: الأول: عَبْدان، والثاني: عبد الله بن المُبارك، ومرَّ تعريفهما في السادس من بدء الوحي. ومرَّ يحيى بن سعيد الأنصاري في أول حديث منه. ومرَّ أنس بن مالك في السادس من كتاب الإيمان. باب يهَريق الماء على البول بتنوين باب، وفتح الهاء من يهَريق، وفي بعض الأصول هنا حاء علاقة التحويل من سند إلى سند آخر، وسقط الباب والترجمة في رواية الأصيلي والهَرَوِي وابن عساكر.

الحديث السابع والثمانون

الحديث السابع والثمانون حَدَّثَنَا خَالِدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي طَائِفَةِ الْمَسْجِدِ، فَزَجَرَهُ النَّاسُ، فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-، فَلَمَّا قَضَى بَوْلَهُ أَمَرَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ، فَأُهْرِيقَ عَلَيْهِ. قوله: "وحدّثنا خالد" سقطت الواو من رواية كريمة، والعطف فيه على قوله: "حدّثنا عبدان"، والظاهر أن المتن على لفظ رواية سليمان؛ لأن لفظ عَبْدان فيه مخالفة لسياقه، كما مرَّ أنه عند البيهقي، ومرّ لفظ البيهقي. وقوله: "في طائفة من المسجد" أي: ناحيته، والطائفة القطعة من الشيء. وقوله: "فنهاهم"، في رواية عبدان: "فقال: اتركوه، فتركوه". وقوله: "فهُريق عليه" بالبناء للمجهول لأبي ذر، وللباقين: "فأهريق عليه"، ويجوز إسكان الهاء وفتحها كما مر. وقد مرت مباحثه مستوفاة عند الحديث الأول من هذه الروايات. رجاله أربعة: الأول: خالد بن مَخْلد، والثاني: سليمان بن بلال، وقد مرَّا في الرابع من كتاب العلم. ومرَّ يحيى بن سعيد في أول حديث من بدء الوحي. ومرَّ أنس بن مالك في السادس من كتاب الإيمان. باب بول الصِّبْيان بكسر الصاد ويجوز ضمها جمع صَبِيّ، وقول العيني: إن الضم لا يجوز

إلاَّ في الصُّبوان بالواو مردود بقول "القاموس": الصبي من لم يُفْطَم، وجمعه: أصبِية، وأصب، وصُبوة، وصبية، وصبوان، وصبيان، وتضم هذه الثلاثة.

الحديث الثامن والثمانون

الحديث الثامن والثمانون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِصَبِيٍّ، فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَأَتْبَعَهُ إِيَّاهُ. قوله: "إنها قالت: أُتِيَ" بضم الهمزة وكسر التاء. وقوله: "بصبي"، وهو الذي لم يأكل ولم يشرب غير اللبن للتغذّي. قال في "الفتح": يظهر لي أن المراد به ابن أُم قيس المذكور بعده، ويُحتمل أن يكون الحسن بن علي أو الحُسَيْن، فقد روى الطبراني في "الأوسط" عن أُم سلمة بإسناد حسن، قالت: "بال الحسن أو الحسين على بطن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فتركه حتى قضى بوله، ثم دعا بماء، فصبه عليه". ولأحمد عن أبي ليلى نحوه. ورواه الطحاوي من طريقه، قال: فجيء بالحسن، ولم يتردد. وكذا الطبراني عن أبي أُمامة. وإنما رجحت أنه غيره؛ لأن عند المصنف في العقيقة عن يحيى القطّان، عن هشام بن عروة: أتي النبي -صلى الله عليه وسلم- بصبيٍّ يحنِّكه. وفي قصته أنه بال على ثوبه. وأما قصة الحسن ففي حديث أبي ليلى وأُم سلمة أنه بال على بطنه -صلى الله عليه وسلم-. وفي حديث زينب بنت جحش عند الطبراني أنه جاء وهو يحبو، والنبي -صلى الله عليه وسلم- نائم، فصعد على بطنه، ووضع ذَكَرَه في سرته، فبال، فذكر الحديث بتمامه، فظهرت التفرقة بينهما. ويأتي قريبًا تعريف الحسن والحسين. وقول: "فأَتْبعه إياه" بفتح الهمزة وإسكان المثناة الفوقانية، أي: أتبع رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- البولَ الذي على الثوبِ الماءَ الذي يصبُّه عليه، حتى غمره من غير

رجاله خمسة

سيلان، كما يدل عليه قوله الآتي قريبًا: "ولم يغسِلْه"، زاد مسلم عن عبد الله بن نُمَيْر عن هشام: "فأَتْبَعَهُ ولم يغسِله"، ولابن المنذر عن هشام: "فصبَّ عليه الماء"، وللطحاوي عن هشام أيضًا: "فنَضَحَهُ عليه". رجاله خمسة: الأول: عبد الله بن يوسف، والثاني: الإِمام مالك، وقد مرَّا في الثاني من بدء الوحي. وكذلك هشام وأبو عُروة وأُم المؤمنين عائشة. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع والإِخبار بصيغة الجمع، وفيه العنعنة في ثلاث مواضع. أخرجه البخاري هنا، والنَّسائي في الطهارة عن قتيبة عن مالك. والصبي: قيل: إنه عبد الله بن الزُّبير، وقد مرَّ تعريفه في الثامن والأربعين من كتاب العلم. وقيل: إنه الحسن. وقيل: إنه الحسين، ونذكر تعريفهما هنا تتميمًا للفائدة. فالحسن: هو ابن علي بن أبي طالب بن عبد المطَّلب بن هاشم بن عبد مَناف الهاشمي سبي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وريحانته، أمير المؤمنين أبو محمد. ولدته أُمه فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في النصف من شهر رمضان سنة ثلاث من الهجرة على أصح ما قيل فيه، وعقَّ عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم سابعه بكبش، وحلق رأسه، وأمر أن يُتصدق بزنته فضة. وروي عن علي أنه قال: لما وُلد الحسن جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "أروني ابني، ما سميتموه؟ ". قلت: سميته حربًا. قال: "بل هو حسن". فلما ولد الحسين، قال: "أروني ابني، ما سميتمو؟ " قلت: سميته حربًا. قال: "بل هو حُسَيْن". فلما ولد الثالث، جاء النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "أروني ابني، ما سميتموه". قلت: حربًا. قال: "بل هو محسنٌ"، ثم قال: "إني سميتهم

بأسماء ولد هارون شَبَر وشُبَيْر ومُشْبِر". وروي عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال: كان الحسن أشبه الناس برسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما بين الصدر إلى الرأس، والحسين أشبه الناس به ما كان أسفل. وقال أنس: لم يكن أحدٌ أشبه برسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الحسن. وفي رواية معمر عنه: أشبه وجهًا. وعن عُقبة بن الحارث، قال: صلَّى بنا أبو بكر العصر، ثم خرج، فرأى الحسن بن علي يلعب، فأخذه، فحمله على عُنُقه وهو يقول: بأبي شبيهٌ بالنبي، لا شبيهٌ بعلي، وعليٌّ يضحك. وعن أبي مُليكة: كانت فاطمة تُنغّي الحسن، وتقول مثل ذلك. وروى الزبير عن عمه قال: تذاكرنا من أَشْبَهَ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- من أهله، فدخل علينا عبد الله بن الزبير، فقال: أنا أحدثكم بأشبه أهله به وأحبهم إليه، الحسن بن علي، رأيته يجيء وهو ساجدٌ، فيركب رقبته، أو قال: ظهره، فما يُنْزِلُه حتى يكون هو ينزل، ولقد رأيته يجيء وهو راكع، فيفرِّجُ له بين رجليه حتى يخرجَ من الجانب. وروى التِّرمذي من حديث أسامة بن زيد، قال: طرقت النبي -صلى الله عليه وسلم- في بعض الحاجة، فقال: "هذان ابناي وابنا ابنتي، اللَّهم إني أحبُّهما، فأحِبَّهما، وأحبَّ من يحبُّهما". وفيه أيضًا من حديث بُريدة، قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطُبُ، إذ جاءه الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثُران، فنزل من المِنْبر، فحملهما ووضعهما بين يديه. وفي "البخاري" عن أسامة، كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يُجلسني والحسن بن علي، فيقول: "اللَّهم إني أحبُّهما فأحبَّهما".

وفي الطبراني عن أبي هريرة: سمعت أذناي هاتان وأبصرت عيناي هاتان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو آخذ بكفيه جميعًا -يعني: الحسن والحسين- وقدماه على قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو يقول: حزقة حزقة، ترق عين بقة. فيرقى الغلام حتى يضَعَ قدميه على صدر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم قال له: "افتح"، ثم قبله، ثم قال: "اللهمَّ أحِبَّه فإني أحبُّه". ومن طريق زُهير بن الأحمر: بينما الحسن بن علي يخطب بعدما قُتِل علي، إذ قام رجل من الأزد، آدم طُوال، فقال: لقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واضعه في حبوته، يقول: "من أحبَّني فَلْيحبَّه"، فليُبَلِّغ الشاهد، ولولا عَزْمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما حدثتكم. وعن أبي هُريرة قال: خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعه الحسن وحسين، هذا على عاتقه وهذا على عاتقه، ويَلْثَم هذا مرة وهذا مرة، حتى انتهى إلينا، فقال: "مَنْ أحبَّهما فقد أحبَّني، ومَنْ أبغضهُما فقد أبغضني". وعن عبد الله بن مسعود: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي، فإذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره، فإذا أرادوا أن يمنعوهما أشار إليهم أن دعوهما، فإذا قَضَى الصلاة وضعهُما في حِجْره، فقال: "مَنْ أحبَّني فليحبَّ هذين". ومن حديث أُم سلمة قالت: دخل عليٌّ وفاطمة ومعهما الحسن والحسين، فوضعهما في حُجره، فقبَّلهما واعتنق عليًّا بإحدى يديه، وفاطمة بالأخرى، فجعل عليهم خَميصَة سوداء، فقال: "اللَّهمَّ إليك لا إلى النار". ومن حديث حُذيفة رفعه: "الحسن والحسين سيِّدا شباب أهل الجنة، وأبوهما خيرٌ منهما". وفي "البخاري" عن أبي بَكْرة: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- على المِنْبر، والحسن بن علي معه، وهو يُقْبِل على النّاس مرة وعليه مرة، ويقول: "إن ابني هذا سيدٌ، ولعلَّ الله أن يُصلحَ به بين فئتين من المسلمين".

وعن أبي بَكْرة: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلّي بالناس، وكان ابن علي يَثِبُ على ظهره إذا سجد، ففعل ذلك غير مرة، قالوا له: إنك لتفعلُ بهذا شيئًا ما رأيناك تفعل بأحد؟ قال: "إن ابني هذا سيدٌ، وسيُصْلح به بين فئتين من المسلمين"، وفي رواية: "ولعل الله أن يُبقيه حتى يُصْلحَ به بين فئتين عظيمتين من المسلمين، وإنه رَيْحانتي من الدنيا". ولا أسودَ ممن سماه النبي -صلى الله عليه وسلم- سيدًا، وكان من المبادرين إلى نصر عثمان، والذّابين عنه، وكان رحمه الله تعالى حليمًا ورعًا فاضلًا دعاه ورعه وفضله إلى أن ترك الدنيا والملك رغبة فيما عند الله. وقال: والله ما أحببتُ منذ علمت ما ينفعني ويضرني أن أليَّ أمر أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-على أن يُهراق في ذلك محجمة دم. ولما قُتل أبوه عليٌّ بايعه أكثر من أربعين ألفًا، كلهم قد كانوا بايعوا عليًّا قبل موته على الموت، وكانوا أطوع للحسن وأحب فيهم منه في أبيه، فبقي نحو سبعة أشهر خليفة بالعراق وما وراءها من خُراسان، ثم سار إلى معاوية وسار معاوية إليه، فلما تراءى الجمعان وذلك بموضع يُقال له: مسكن، من أرض السواد بناحية الأنبار، علم أنه لن تُغلب إحدى الفئتين حتى يذهب أكثر الأخرى، فكتب إلى معاوية يخبره أنه يُصَيِّر الأمر إليه على أن يشترط عليه أن لا يَطْلُبَ أحدًا من أهل المدينة والحجاز ولا أهل العراق بشيء كان في أيام أبيه، فأجابه معاوية وكاد يطير فرحًا، إلا أنه قال: أما عشرة أنفس فلا أؤمِّنهم. فراجعه الحسن فيهم، فكتب إليه يقول: إني قد آليت متى ظفرت بقيس بن سعد أن أقطِع لسانه ويده. فراجعه الحسن: إني لا أبايعك أبدًا وأنت تطلب قيسًا أو غيره بتبِعة قلَّت أو كثُرت. فبعث إليه معاوية حينئذ برَقٍّ أبيض، وقال: اكتب ما شئت فيه، وأنا ألتزمه. فاصطلحا على ذلك، واشترط عليه الحسن أن يكون له الأمر من بعده، فالتزم ذلك كلَّه معاوية. فقال له عمرو بن العاص: إنهم قد انْفَلَّ حَدُّهم، وانكسرت شوكتهم. فقال له معاوية: أما علمت أنه قد بايعه أربعون ألفًا على الموت، فوالله لا يُقتلون حتى يُقتل أعدادهم من أهل الشام، والله ما في العيش خير بعد ذلك. فكان كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأصلح به الله بين فئتين عظيمتين من المسلمين.

ورُوي عن عَمرو بن دينار أنه قال: كان معاوية يعلم أن الحسن أكره الناس للفتنة، فراسله وأصلح الذي بينهما، وأعطاه عهدًا: إن حَدَثَ به حَدَثٌ والحسن حيٌّ ليجعلن هذا الأمر إليه. وعن عبد الله بن جعفر قال: قال الحسن: إني رأيت رأيًا أُحبُّ أن تتابعني عليه. قلت: ما هو؟ قال: رأيت أن أعمِد إلى المدينة، فأنزلَها، وأُخَلّيَ الأمر لمعاوية، فقد طالت الفتنة، وسُفكت الدماء، وقُطعت السُّبل. قال: فقلت له: جزاك الله خيرًا عن أُمة محمد. فبعث إلى حسين، فذكر له ذلك، فقال: أعيذُك بالله، فلم يزل به حتى رضي. ورُوي عن ضَمْرة، عن ابن شَوْذَب قال: لما قُتل علي سار الحسن في أهل العراق ومعاوية في أهل الشام، فالتَقَوْا، فكره الحسن القتال، وبايع معاوية على أن يجعل العهد له من بعده، فكان أصحاب الحسن يقولون له: يا عار المؤمنين، فيقول: العار خيرٌ من النار. وروُي عن الشعبي وغيره قال: بايع أهل العراق بعد علي الحسنَ بن علي، فسار إلى أهل الشام وفي مقدمته قَيْس بن عُبادة في اثني عشر ألفًا يسمَّوْن شرطة الجيش، فنزل قيس بمَسْكَن من الأنبار، ونزل الحسن المدائن، فنادى منادٍ في عسكر الحسن ألا إن قيسًا قد قُتل، فوقع الانتهاب في العسكر حتى انتهبوا فُسطاط الحسن، وطعنه رجل من بني أسد بخنجره، فدعا عمرو بن سلمة الأرجي وأرسله إلى معاوية يشترط عليه، وبعث معاوية عبد الرحمن بن سَمُرة وعبد الله بن عامر، فأعطيا الحسن ما أراد، فجاءه معاوية من منبج إلى مَسْكَن، فدخلا الكوفة جميعًا، فنزل معاوية النخيلة، ونزل الحسن القصر، وأجرى عليه معاوية في كل سنة ألف ألف درهم، وعاش الحسن بعد ذلك عشر سنين. وقال هلال بن حبان؛ جمع الحسن رؤوس أهل العراق في هذا القصر قصر المدائن، فقال: إنكم بايعتموني على أن تُسالموا مَنْ سالمت، وتُحاربوا مَنْ حاربت، وإني قد بايعت معاوية فاسمعوا له وأطيعوا.

وعن أبي الغِطْريف قال: كنّا في مقدمة الحسن بن علي اثنا عشر ألفًا بمَسْكن، مستميتين، تقطر أسيافنا من الجد والحرص على قتال أهل الشام، وعلينا أبو العمرطة، فلما جاء صلح الحسن بن علي كأنما كُسرت ظهورنا من الغيظ والحزن، فلما جاء الحسن الكوفة أتاه شيخ منا يُكنى أبا عامر سفيان بن أبي ليلي، فقال: السلام عليك يا مُذِلَّ المؤمنين. فقال: لا تقل يا أبا عامر، فإني لم أُذِلَّ المؤمنين، ولكني كرهت أن أقتلهم في طلب الملك. والصحيح أن تسليم الأمر منه لمعاوية كان عام إحدى وأربعين في النصف من جمادى الأولى، وكان هذا العام يُسمّى عام الجماعة، ووهم من قال: إنه عام أربعين. ولما دخل معاوية الكوفة حين سَلَّم إليه الحسنُ الأمرَ، قال له عمرو بن العاص: مُرِ الحسن بن علي يخطب الناس، فكره معاوية ذلك، وقال: لا حاجة لنا بذلك. فقال عمرو: ولكني أريد ذلك ليبدو عليه، فإنه لا يدري هذه الأمور ما هي، ولم يزل بمعاوية حتى أمر الحسن يخطب، وقال له: قم يا حسن فكلِّم الناس فيما جرى بيننا، فقام الحسن، فتشهد وحمد الله وأثنى عليه، ثم. قال في بديهته: أما بعد أيها الناس: فإن الله هداكم بأوَّلنا، وحقن دماءكم بآخرنا، وإن لهذا الأمر مدة، والدنيا دُول، وإن الله عَزَّ وَجَلَّ يقول: {وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [الأنبياء: 109 - 111]، فلما قالها، قال معاوية: اجلس. فجلس، ثم قام معاوية فخطب الناس، ثم قال لعمرو: هذا من رأيك. وروي عن الشعبي قال: لما جرى الصلح بين الحسن بن علي ومعاوية، قال له معاوية: قم فاخطُب الناس واذكُر ما كنت فيه، فقام الحسن، فخطب، فقال: الحمد لله الذي هدى بنا أوَّلكم، وحقَنَ بنا دماء آخركم، ألا إن أكْيَسَ الكَيسِ التُّقى، وأعجَزَ العَجْز الفُجور، وإن هذا الأمر الذي اختلفت فيه أنا ومعاوية، إما أن يكون كان أحق به مني، وإما أن يكون حقي، فتركناه لله ولصلاح أُمة محمد -صلى الله عليه وسلم- وحقن دمائهم، ثم التفت إلى معاوية، وقال: {وَإِنْ

أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [الأنبياء: 111]. ثم نزل، فقال معاوية لعمرو: ما أردتَ إلاَّ هذا. وروي عن أبي هُريرة قال: صلَّى النبي -صلى الله عليه وسلم- العشاء، فجعل الحسن والحسين يثبان على ظهره، فلما قضى الصلاة قلت يا رسول الله: أذهب بهما إلى أُمهما؟ قال: فبرقت بارقة، فلما يزالا في وضوئها حتى دخلا على أُمهما. وروي من حديث علي رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخذ بيد الحسن والحسين، وقال: "مَنْ أحبَّني أحبَّ هذين وأباهما وأُمَّهما، كان معي في درجتي يوم القيامة". وعن أُم سلمة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جلَّل عليًّا وحَسنًا وحُسينًا وفاطمة كساء، ثم قال: "اللهمَّ إن هؤلاء أهل بيتي وخاصتي، اللهمَّ أذهِبْ عنهم الرِّجْسَ وطهِّرهم تطهيرًا". وعن أبي هُريرة، قال: أشهد لخرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حتى إذا كنا ببعض الطريق، سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صوت الحسن والحُسين يبكيان مع أُمهما، فأسرع السير حتى أتاهما، فسمعته يقول: "ما شأن ابنيَّ"، فقالت: العطش. قال: فأخلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى شنة يتوضأ بها فيها ماء، وكان الماء يومئذٍ أغدارًا، والناس يريدون الماء، فنادى: "هل أحد منكم معه ماء" فلم يجد أحد منهم قطرة. فقال: "ناوليني أحَدَهَما"، فناولته إياه من تحت الخدر، فأخذه فضمه إلى صدره وهو يصعو ما يسكت، فأدلع له لسانه، فجعل يمصه حتى هدأ وسكن، وفعل بالآخر مثل ذلك. وحج خمس عشرة حجة وهو ماشٍ وجنائبه تقاد، وكان لا تفارقه أربع حرائر، وكان مطلاقًا، وكان لا يفارق امرأة إلاَّ وهي تحبه. له ثلاثة عشر حديثًا. روى عن جده رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأبيه علي، وأخيه حسين، وخاله هِند بن أبي هالة.

وروى عنه: ابنه الحسن، وعائشة أُم المؤمنين، وأبو الحَوْراء -بمهملتين- ربيعة بن شيبان، وعِكرمة مولى ابن العبّاس، ومحمد بن سِيرين، وهُبيرة بن يَريم -بفتح المثناة التحتية وزن عظيم-. ومن أحاديثه: أخذت تمرة من تمر الصدقة، فتركتها في فيَّ، فنزعها بلعابها، وقال: "إنا آل محمدٍ لا تحِلُّ لنا الصدقة". ومنها حديث الدعاء في القنوت. مات الحسن رضي الله تعالى عنه بالمدينة سنة تسع وأربعين، وقيل: سنة خمسين. وقيل: سنة إحدى وخمسين. ودُفن ببقيع الغرقد، قال ثعلبة بن أبي مالك: شهدت الحسن يوم مات ودفن في البقيع، فرأيت البقيع ولو طُرحت فيه إبرة ما وقعت إلاَّ على رأس إنسان. ومات مسمومًا، يقال: إن زوجته بنت الأشعث بن قيس سمَّته. وقالت طائفة: إن ذلك كان بدسيسةٍ من معاوية إليها وبذلٍ لها، وكانت لها ضرائر، وإنه اشتكى منه شكاةً، كان يوضع تحته اطست وترفع أخرى نحوًا من أربعين يومًا. ودخل عليه الحُسين -رحمهما الله- فقال: يا أخي: إني سُقيت السم ثلاث مرارٍ، لم أسق مثل هذه المرة، إني لأَضَع طائفة من كبدي. فقال له الحسين: أخي: مَنْ سقاك السم؟ قال: وما تريد إليه، أتريد أن تقتله؟ قال: نعم. قال: فإن كان الذي أظن فالله أشد نقمة، وإن كان غيره فما أحبُّ أن يُقتل فيَّ بريء. ولما حضرته الوفاة قال لأخيه الحسين: يا أخي: إن أباك رحمه الله لما قُبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استشرف لهذا الأمر ورجا أن يكون صاحبه، فصرفه الله عنه، ووليها أبو بكر، فلما حضرت أبا بكرٍ الوفاة تشوَّف لها أيضًا، فصُرفت عنه إلى عمر، فلما احتضر عُمر جعلها شورى بين ستة هو أحدهم، فلم يشكَّ أنها لا تعدوه، فصُرفت عنه إلى عثمان، فلما مات عثمان بُويع ثم نُوزع حتى جَرَّدَ السيف وطلبها، فما صفا له منها شيء، وإني والله لا أدري أن يجمع الله فينا

أهل البيت النبوة والخلافة، فلا أعرِفَنَّ ما استخفَّك سفهاء أهل الكوفة فأخرجوك. إني وإن كنت طلبت إلى عائشة إذا متُّ أن تأذن لي فأُدفن في بيتها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقالت: نعم. وإني لا أدري لعلَّها كان ذلك منها حياء، فإذا أنا متُّ فاطلب ذلك إليها، فإن طابت نفسها فادفِنّي في بيتها، وما أظن القوم إلا يمنعونك إذا أردت ذلك، فإذا فعلوا فلا تُراجعهم في ذلك، وادفِنّي في بقيع الغرقد، فإن لي فيمن فيه أسوة. فلما مات الحسن، أتى الحسين عائشة، فطلب ذلك منها، فقالت: نعم وكرامة. فبلغ ذلك مروان، فقال مروان: كذب وكذَبَتْ، والله لا يُدفن هناك أبدًا، منعوا عثمان من دفنه في المقبرة ويريدون أن يدفنوا حسنًا في بيت عائشة، فبلغ ذلك الحسين، فدخل هو ومَنْ معه في السلاح، وبلغ ذلك مروان، فاستلأم الحديد أيضًا، فبلغ ذلك أبا هُريرة، فقال: والله ما هو إلا ظلم، يُمنع حسنٌ أن يُدفن مع أبيه، والله إنه لابن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم انطلق إلى الحُسين فكلمه وناشده الله، وقال له: أليس قد قال أخوك: إن خفت أن يكون قتال فرُدَّني إلى مقبرة المسلمين؟ فلم يزل به حتى فعل، وحمله إلى البقيع، فلم يشهده يومئذ من بني أمية إلا سعيد بن العاص، وكان يومئذ أميرًا على المدينة، قدمه الحسين للصلاة، وقال: لولا أنها السُنّة ما قدمتُك، وإلا خالد بن الوليد بن عُقبة ناشد بني أمية أن يُخلوه يشاهد الجنازة، فتركوه، فشهد دفنه في المقبرة، ودفن إلى جنب أُمه فاطمة رضي الله عنها وعن بنيها أجمعين. وقال مساوِر مولى بني سعد بن بكر: رأيت أبا هُريرة قائمًا على المسجد يوم مات الحسن يبكي وينادي بأعلى صوته: يا أيُّها الناس: مات اليوم حِبُّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فابكوا. وروي عن ابن عُيينة أنه قال: قُتل علي وهو ابن ثمان وخمسين، ومات لها الحسن، وقُتل لها الحسين، وقيل: مات الحسن وهو ابن سبع وأربعين سنة. الثاني: الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطَّلب بن هاشم الهاشمي أبو عبد الله سِبط رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورَيْحانته.

ولد في شعبان سنة أربع، وقيل: سنة ست. وقيل: سنة سبع، وليس بشيء. وقيل: لم يكن بين الحمل بالحسين بعد ولادة الحسن إلا طهر واحد، فإذا كان الحسن ولد في رمضان، وولد الحسين في شعبان، احتمل أن يكون ولدته لتسعة أشهر، ولم تطهر من النفاس إلا بعد شهرين. وقد حفظ من النبي -صلى الله عليه وسلم- ثمانية أحاديث، وأخرج له أصحاب "السنن" أحاديث يسيرة. وروى ابن ماجه وأبو يَعْلى عنه، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما من مسلمٍ تصيبه مصيبة وإن قَدُم عهدُها، فيحدث لها استرجاعًا، إلاَّ أعطاه الله ثواب ذلك". وروى عن: أبيه، وأُمه، وخاله هند بن أبي هالة، وعن عمر. وروى عنه: أخوه الحسن، وبنوه علي زين العابدين، وفاطمة، وسكينة، وحفيده الباقر، والشعبيّ، وعِكرمة، وشَيبان الدُّؤلي، وكِرْز التميمي، وآخرون. وعن علي رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لابنته فاطمة: "إني أباك، وإيّاك، وهذين، وهذا الراقد والدهما عليًّا في الجنة في مكان واحد". رواه أبو داود الطّيالسي. وعن أبي هُريرة قال: كان الحسن والحسين يَصْطَرِعان بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فجعل يقول: "هي حسين"، فقالت فاطمة: لم تقول هي هي حسين؟ فقال: "إن جبريل يقول: هي". وفي "الصحيح" عن ابن عمر حين سأله رجل عن دم البعوض: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "هُما رَيْحانتاي من الدنيا" يعني الحسن والحسين. وقد تقدم في ترجمة الحسن قريبًا شيء من مناقبه. وقال أنس: أما إنه كان أشبههم برسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وعن زينب بنت أبي رافع قالت: أتت فاطمة بابنَيْها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في شكواه الذي تُوفي فيه، فقالت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: هذان ابناك، فورِّثْهما شيئًا.

فقال: "أما حسن فإن له هَيْبتي وسؤددي، وأما حسين فله جُرأتي وجودي". وعن يعلي بن مُرة رفعه: "حُسين مني وأنا من حسين، أحبَّ الله من أحبَّ حسينًا، حسين سِبط من الأسباط". وقال عبد الله بن شدّاد بن الهادي، عن أبيه: سجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-سجدةً أطالها حتى ظننّا أنه قد حدث أمر، أو أنه يُوحى إليه، فلما قضى صلاته قال: "كل ذلك لم يكُن، ولكن ابني ارتَحَلَني، فكرهت أن أَعْجَلُه حتى يقضيَ حاجته". وقال ابن بُريدة عن أبيه: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطُبنا، فجاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من المنبر، فحملهما، ووضعهما بين يديه، ثم قال: صدق الله العظيم: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15]، الحديث. وعن عبيد بن حُنين قال: حدثني الحسين بن علي، قال: أتيتُ على عمر وهو يخطُب على المنبر، فصعدت إليه، فقلت له: أنزل عن منبر أبي، واذهب إلى منبر أبيك. فقال عمر: لم يكن لأبي مِنبر، وأخذني، وأجلسني معه أُقلِّب حصى بيدي، فلما نزل انطلق بي إلى منزله، فقال لي: من علَّمك؟ فقلت: والله ما علمني أحد. قال: يا بنيَّ، لو جعلت تغشانا. قال: فأتيته يومًا وهو خال بمعاوية، وابن عمر بالباب، فرجع ابن عمر ورجعت معه، فلقيني بعدُ فقال لي: لم أرك. فقلت: يا أمير المؤمنين، إني جئت وأنت خال بمعاوية وابن عمر بالباب، فرجع ورجعت معه. فقال: أنت أحقُّ بالإذن من ابن عمر، وإنما أنبتَ ما ترى في رؤوسنا اللهُ ثم أنتم. وعن العَيْزار بن حُريث: بينما عبد الله بن عمرو بن العاص جالس في ظل الكعبة، إذ رأى الحسين بن علي مقبلًا، فقال: هذا أحب أهل الأرض إلى أهل السماء اليوم. وكان رضي الله عنه فاضلًا دينًا كثير الصوم والصلاة والحج. وعن مصعب

الزُّبيري: حج الحسين بن علي خمسًا وعشرين حَجة ماشيًا. وعن بشر بن خالد قال: سمعت ابن الزُّبير وهو يسأل حسين بن علي: يا أبا عبد الله: ما تقول في فكاك الأسير على من هو؟ قال: على القوم الذين أعانهم. وربما قال: قاتل معهم. قال سفيان: يعني يُقاتل مع أهل الذِّمة فيُفَك من جزْيتهم. قال: وسمعته يقول له: يا أبا عبد الله: متى يجب عطاء الصبي؟ فقالَ: إذا استهلَّ وجب له عطاؤه ورِزْقهْ. وسأله عن الشّرب قائمًا. فدعا بلِقْحة له، فحلبت، وشرب قائمًا، وناوله. وكان يعلِّق الشاة المصلية، فيطعمنا منها ونحن نمشي معه. وعن عبد الله بن نُجَيٍّ عن أبيه أنه سافر مع علي بن أبي طالب، وكان صاحب مِطْهرته، فلما جاؤوا نينوى وهو منطلق إلى صُفين، نادى علي: صبرًا أبا عبد الله، صبرًا أبا عبد الله، بشط الفرات. قلت: مَنْ ذا أبا عبد الله؟ قال: دخلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعيناه تفيضان. فقلت: يا نبي الله أأغضبك أحد؟ قال: "بل قام من عندي جبريل، وقال قبل فحدثني أن الحسين يُقتل بشط الفرات، وقال: هل لك أن أُشِمّك من تربته؟ قلت: نعم. فمد يده فقبض قبضة من تراب، فأعطانيها، فلم أملك عيني أن فاضت". وعن شَقيق، عن أُم سلمة قالت: كان الحسن والحسين يلعبان بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في بيتي، فنزل جبريل، فقال: يا محمد: إن أمتك تقتُل ابنك هذا من بعدك، وأومأ بيده إلى الحسين، فبكى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وضمَّه إلى صدره، ثم قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: وضعت عندك هذه التربة، فشمها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقال: "ريح كربٍ وبلاء". وقال لأُم سلمة: "يا أُم سلمة: إذا تحولت هذه التربة دمًا فاعلمي أن ابني الحسين قد قُتل". فجعلَتْها في قارورة، وجَعَلَتْ تنظر إليها كل يوم، وتقول: إن يومًا تَحَوَّلين دمًا ليوم عظيم. وروي أن السماء مكثت سبع ليال بأيّامهن لما قُتل كأنها علقة. وقال عمّار الدُّهني: مرَّ علي رضي الله عنه على كعب، فقال: يُقتل من

ولد هذا رجل في عصابة لا يجفُّ عرق خيولهم حتى يردوا على محمد -صلى الله عليه وسلم-. فمر حسن، فقالوا: هذا؟ قال: لا فمر حسين، فقالوا: هذا؟ قال: نعم. وقال أبو عبد الله الضَّبِّي: دخلنا على هرثم الضَّبّي حين أقبل من صفين وهو مع علي، فقال: أقبلنا مرجِعَنا من صفين، فنزلنا كروبلاء، فصَّلى بنا علي صلاة الفجر، ثم أخذ كفًّا من بعر الغزلان فشمه، ثم قال: يُقتل بهذا الغائط قوم يدخلون الجنة بغير حساب. وعن هرثمة بن سلمى قال: خرجنا مع علي، فسار حتى انتهى إلى كربلاء، فنزل إلى شجرة، فصلى إليها، فأخذ تربة من الأرض، فشمها، ثم قال: واهًا لك تربة، ليُقْتَلَنَّ بك قوم يدخلون الجنة بغير حساب. قال: فقفلنا من غَزاتنا، وقُتل علي، ونسيت الحديث، فكنت في الجيش الذي سار إلى الحسين، فلما انتهيت إليه نظرت إلى الشجرة، فذكرت الحديث، فتقدمت على فرس لي، فقلت: أبشِّرك ابن بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وحدثته الحديث. قال: معنا أو علينا؟ قلت: لا معك ولا عليك، تركت عيالًا. قال: أما لا فولِّ في الأرض هاربًا، فوالذي نفس حسين بيده لا يشهدُ قتلنا اليوم رجلٌ إلاَّ دخل جهنّم. قال: فانطلقت هاربًا موليًا في الأرض حتى خفي عليَّ مقتله. وكانت إقامة الحسين بالمدينة إلى أن خرج مع أبيه إلى الكوفة، فشهد معه الجمل ثم صفين ثم قتال البغاه الخوارج، وبقي معه إلى أن قُتل، ثم مع أخيه إلى أن سلَّم الأمر إلى معاوية، فتحول مع أخيه إلى المدينة واستمرَّ بها إِلى أن مات معاوية، فخرج إلى مكة، ثم أتته كتب أهل العراق بأنهم بايعوه بعد موت معاوية، فأرسل إليهم ابن عمه مسلم بن عَقيل بن أبي طالب، فأخذ بيعتهم وأرسل إليه، فتوجه، وكان من قصة قتله ما كان. وقال عمّار بن مُعاوية الذهبي: قلت لأبي جعفر محمد بن علي بن الحسين: حدِّثني عن مقتل الحسين حتى كأني حضرته. قال: مات معاوية، والوليد بن عُتبة بن أبي سفيان على المدينة، فأرسل إلى الحسين بن علي ليأخذ

بيعته، فقال: أخِّرني وارفق بي، فأخّره ورفق به، فخرج إلى مكة، فأتاه رسل أهل الكوفة أنّا قد حبسنا أنفسنا عليك، ولسنا نحضُر الجمعة مع الوالي، فاقدُم علينا، وكان النعمان بن بشير الأنصاري على الكوفة، فبعث الحسين بن علي إلى ابن عمه مُسلم بن عقيل، فقال له: سر إلى الكوفة، فانظر ما كتبوا به إلى، فإن كان حقًّا قدمت عليهم، فخرج مسلم حتى أتى المدينة، فأخذ منها دليلين، فمرّا به في البرية، فأصابهم عطش، فمات أحد الدليلين، وكتب مسلم إلى الحسين يستعفيه، فأبى أن يعفِيَه، وكتب إليه أن امضِ إلى الكوفة، فخرج حتى قدِمها، فنزل على رجل من أهلها يُقال له: عَوْسَجة. فلما تحدث أهل الكوفة بقدومه دَبّوا إليه، فبايعه منهم اثنا عشر ألفًا، فقام رجل ممَّن يهوى يزيد بن معاوية، يُقال له: عبيد الله بن مسلم بن شعبة بن الحضرمي إلى النعمان بن بشير، فقال له: إنك لضعيف أو مستضعف، قد فسد البلد. فقال له النعمان: لأن أكون ضعيفًا في طاعة الله أحبُّ إليَّ من أن أكون قويًّا في معصية الله، وما كنت لأهتك سترًا ستره الله. فكتب بقوله إلى يزيد بن معاوية، فدعا يزيد مولى له يُقال له: مرحون، قد كان يستشيره، فأخبره الخبر، فقال له: أكنت قابلًا من معاوية لو كان حيًّا؟ قال: نعم. قال: فأقبل مني، إنه ليس للكوفة إلا عبيد الله بن زياد فولِّها إياه، وكان يزيد عليه ساخطًا، وكان قد همَّ بعزله، وكان على البصرة، فكتب إليه برضاه عنه، وأنه قد ولاّه الكوفة مع البصرة، وكتب إليه أن يَطْلُبَ مسلم بن عقيل ويقتله إن وجده. فأقبل عبيد الله بن زياد في وجوه البصرة حتى قدم الكوفة متلثِّمًا، فلا يمر على مجلس من مجالسهم فيسلم إلاَّ قالوا: وعليك السلام يا ابن رسول الله، وهم يظنون أنه الحسين بن علي نزل القصر، فدعا مولى له فأعطاه ثلاث مئة ألف درهم، وقال: اذهب حتى تسأل عن الرجل الذي يُبايع أهل الكوفة، فأَعْلِمْه أنك رجل من أهل حمص، جئتَ لهذا الأمر، وهذا مال تدفعه إليه ليَقْوى به. فخرج الرجل، فلم يزل يتلطّف به ويرفق حتى دُلَّ على شيخ يلي البيعة، فقال له الشيخ: لقد سرني لقاؤك إياي ولقد ساءني ذلك، فأما ما سرَّني من ذلك فما

هداك الله له، وأما ما ساءني فإن أمرنا لم يستحكم بعد، فأدخله على مسلم، فأخذ منه المال وبايعه، ورجع إلى عبيد الله فأخبره. وتحول مسلم حين قدم عبيد الله من الدار التي كان فيها إلى دار هانىء بن عروة المُرادي، وكتب مسلم بن عَقيل إلى الحسين يخبره ببيعة اثني عشر ألفًا من الكوفة، ويأمره بالقدوم، قال: وقال عبيد الله لوجوه أهل الكوفة: ما بال هانىء بن عروة لم يأتني فيمن أتى؟ قال: فخرج إليه الأشعث في أناس منهم، فأتوه وهو على باب داره، فقالوا له: إن الأمير قد ذكرك واستبطأك فانطلِق إليه، فلم يزالوا به حتى ركب معهم، فدخل على عبيد الله بن زياد وعنده شريح القاضي، فلما نظر إليه، قال لشريح: أتتك بخائنٍ رجلاه. فلما سلم عليه قال له: يا هانىء: أين مسلم؟ قال: ما أدري. قال: فأمر عبيد الله صاحب الدراهم يخرج إليه، فلما رآه قَطَع به وقال: أصلح الله الأمير، والله لو كان تحت قدميَّ ما رفعته عنه. قال: أدنوه إليَّ. قال: فأُدني، فضربه بقضيب، فشجَّ حاجبه، وأهوى إلى سيف شرطي ليستله فدُفع عن ذلك، وقال له: قد أحل الله دمك، وأمر به فجلس في جانب القصر، فبلغ الخبر إلى مِذْحج، فإذا على باب القصر جلبة، فسمعها عبيد الله، فقال: ما هذا؟ قالوا: مِذْحِج. فقال لشريح: اخرج إليهم، فأعلمهم أني إنما حبسته لأسائله، وبعث عينًا عليه من مواليه يسمع ما يقول، ومرّ بهانىء، وقال له هانىء: يا شريح: اتَّق الله، فإنه قاتلني. فخرج شريح حتى وقف على باب القصر، فقال: لا بأس عليه، إنما حبسه الأمير ليسائله. فقالوا: صدق، ليس على صاحبكم بأس. قال: فتفرقوا. وأتى مسلمًا الخبرُ، فنادى بشعاره، فاجتمع عليه أربعون ألفًا من أهل الكوفة، فقدَّمَ مقدِّمة، وهيأ مَيْمنة ومَيْسرة، وسار في القلب إلى عُبيد الله، وبعث عبيد الله إلى وجوه أهل الكوفة، فجمعهم عنده في القصر، وسار إليه مسلم، وانتهى إلى باب القصر، فأشرفوا من فوقه على عشائرهم، فجعلوا يكلِّمونهم ويردّونهم، فجعل أصحاب مسلم يتسلّلون حتى أمسى في خمس مئة، فلما اختلط الظلام ذهب أولئك أيضًا، فلما رأى مسلم أنه قد بقي وحده تردد في

الطريق، فأتى بابًا، فخرجت إليه امرأة، فقال لها: اسقني ماء، فسقته ماء، ثم دخلت فمكثت ما شاء الله، ثم خرجت، فإذا هو على الباب، فقالت: يا عبد الله: إن مجلسك مجلس ريبة، فقم. فقال لها: إنى مُسلم بن عَقيل، فهل عندك مأوى؟ قالت: نعم، فدخل وكان ابنها مولى لمحمد بن الأشعث، فلما علم به الغلام انطلق إلى محمد بن الأشعث وأخبره الخبر، فبعث عُبيد الله صاحب شرطته ومعه محمد بن الأشعث، فلم يعلم مسلمٌ حتى أحيط بالدار، فلما رأى ذلك خرج بسيفه، فقاتلهم، فأعطاه محمد بن الأشعث الأمان، فأمكن من يده، فجاء به إلى عبيد الله، فأمر به، فأُصعد إلى أعلى القصر، فضَرب عنقه، وألقى جثته إلى الناس، وأمر بهانىء، فسُحب إلى الكناسة، فصلب هناك، فقال شاعرهم في ذلك: فإن كنتِ لا تَدْرينَ ما الموتُ فانظُري ... إلى هانىءٍ في السوقِ وابن عَقيلِ الأبيات. وأقبل الحسين بكتاب مسلم بن عَقيل إليه، حتى إذا كان بينه وبين القادسية ثلاثة أميال لقيه الحر بن زيد التميمي، فقال له: أين تريد؟ قال: أُريد هذا العصر. قال له: ارجع، فإني لم أَدَعْ لك خلفي خيرًا أرجوه، فهمَّ أن يرجع، وكان معه إخوة مسلم بن عَقيل، فقالوا: لا والله لا نرجِعُ حتى نصيبَ من ثأرنا أو نُقتل. قال: لا خير في الحياة بعدكم. فسار، فلقيته أول خيل عبيد الله، فلما رأى ذلك عدل إلى كربلاء، وأسند ظهره إلى قضبا حتى لا يُقاتل إلاَّ من وجه واحد، فنزل، وضرب أبنيته، وكان أصحابه خمسة وأربعين فارسًا ونحوًا من مئة راجل. وكان عُمر بن سعد بن أبي وقاص قد ولاّه عبيدُ الله بن زياد الرَّي وعهِد إليه، فدعاه، فقال له: اكفني هذا الرجل، فقال له: اعفُني. فأبى أن يعفوه، قال: فأَنْظِرني الليلة. فأُخِّر، فنظر في أمره، فلما أصبح غدا إليه راضيًا بما أمره، فتوجه عمر بن سعد إلى الحسين بن علي، فلما أتاه قال له الحسين، اختر

واحدة من ثلاث: إما أن تَدعوني فألحق بالثغور، وإما أن تَدَعوني فأذهب إلى يزيد، وإما أن تَدَعوني فأذهب من حيث جئت. فقبل ذلك عُمر بن سعد، وكتب بذلك إلى عبيد الله، فكتب إليه عبيد الله: لا ولا كرامة، حتى يضع يده في يدي. فقال الحسين: لا والله لا يكون ذلك أبدًا، فقاتله، فقتل أصحابه كلهم، وفيهم بضعة عشر شابًّا من أهل بيته، ويجيء سهم فيقع بابن له صغير في حجره، فجعل يمسح الدم عنه، ويقول: اللهم احكم بيننا وبين قوم دَعَوْنا لينصُرونا ثم يقتلوننا، ثم أمر بسراويل حَبِرة، فشقها ثم لبسها، ثم خرج بسيفه، فقاتل حتى قُتل، قتله رجل من مِذْحج وحزَّ رأسه فانطلق به إلى عبيد الله بن زياد، فَوَفَده إلى يزيد ومعه الرأس، فوُضع بين يديه. وسَرَّح عمر بن سعد بحرمه وعياله إلى عبيد الله، ولم يكن بقي من أهل بيت الحسين إلاَّ غلام، وكان مريضًا مع النساء، فأمر به عُبيد الله ليقتل، فطرحت زينب بنت الحسين بن علي نفسها عليه، وقالت: لا يُقتل حتى تقتلوني. فتركه، ثم جهَّزهم وحملهم إلى يزيد، فلما قدموا عليه، جمع من كان بحضرته من أهل الشام، ثم أدخلوا عليه فهنؤوه بالفتح، فقالى رجل منهم أحمر أزرق، ونظر إلى وصيفة من بناتهم، فقال: يا أمير المؤمنين: هب لي هذه. فقالت زينب: لا والله، ولا كرامة لك ولا له إلاَّ أن يخرج من دين الله، فأعادها الأزرق، فقال له يزيد: كفَّ. ثم أدخلهم إلى عياله، فجهَّزهم، وحملهم إلى المدينة، فلما دخلوا خرجت امرأة من بنات عبد المطلب ناشرة شعرها، وأضعة كفها على رأسها، تتلقاهم وتبكي وتقول: ماذا تَقولونَ إن قالَ النبيُّ لكُم ... ماذا فعَلْتُم وأنتُم آخرُ الأممِ بعِتْرتي وبأهلي بعدَ معتَقَدي ... منهُم أُسارى وقَتْلى ضُرِّجوا بدمي مَا كانَ هذا جزائي إذ نَصَحْتُ لكم ... أن تخلُفوني بشرٍّ في ذوي رحمي وروى طاووس عن ابن عباس: استشارني الحسين في الخروج إلى العراق، فقلت: لولا أن يُزْرَى بك وبي لنشبتُ يدي رأسك. وقال الشعبي: كان ابن عمر قد قدم على المدينة، فبلغه أن الحسين قد

توجه إلى العراق، فلحقه على مسيرة ليلتين، فنهاه، فقال: هذه كتبهم وبيعتهم. فقال: إن الله خيَّر نبيه -صلى الله عليه وسلم- بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة، وإنكم بَضْعة منه، لا يليها أحد منكم، وما صرفها الله عنكم إلاَّ للذي هو خير لكم، فأبى، فاعتنقه ابن عمر، وقال: أستودعُكَ اللهَ من قتيل. وكان قتل الحسين رضي الله تعالى عنه يوم عاشوراء سنة إحدى وستين. وقيل: سنة ستين وهو ابن خمس وخمسين وأشهر. وقيل: ابن ثمان وخمسين. وعن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس قال: أوحى الله إلى محمد أني قد قتلتُ بيَحْيى بن زكريا سبعين ألفًا، وإني قاتل بابن بنتك سبعين ألفًا وسبعين ألفًا. وقالْ خَلَف بن خليفة عن أبيه: لما قُتل الحسين أسودَّت السماء، وظهرت الكواكب نهارًا. وروى الربيع بن منذر عن أبيه، جاء رجل يبشر الناس بقتل الحسين، فرأيته أعمى يُقاد. وقال الوليد بن عبد الملك يومًا: أيُّكم يعلم ما فعلت أحجار بيت المقدس يوم قتل الحسين بن علي، فقال الزهري: بلغني أنه لم يُقْلَب حجر إلاَّ وُجد تحته دم عبيط. وقال أبو الزِّناد: قتل الحسين ولي أربع عشرة سنة، وصار الورس الذي في عسكرهم رمادًا، واحمرَّت آفاق السماء، ونحروا ناقة في عسكرهم، فكانوا يرون في لحمها النيران. وروى ابن عُيينة عن جدته أُم أبيه قالت: لقد رأيت الوَرْس عادت رمادًا، ولقد رأيت اللحم كان فيها النار حين قُتِل الحسين. وقال أيضًا: حدّثتني جدتي قالت: شهد رجلان من الجُعْفِيّين قتل الحسين بن علي، فأما أحدهما فطال ذَكَرُهُ حتى كان يلفه، وأما الآخر فكان يستقبل الراوية بفيه حتى يأتي على آخرها. قال سفيان: رأيت ابن أحدهما،

وكان مجنونًا. وعن جميل بن مرة: أصابوا إبلًا في عسكر الحسين يوم قُتل، فنحروها وطبخوها، فصارت مثل العلقم، فما استطاعوا أن يُسيغوا منها. وقال إبراهيم النَّخَعي: ولو كنت ممن قاتل الحسين ثم أدخلت الجنة، لاستحييت أن انظر إلى وجه النبي -صلى الله عليه وسلم-. وروي عن ابن عباس أنه قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يرى النائم بنصف النهار أشعث أغبر، وبيده قارورة فيها دم، فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما هذا؟ قال: هذا دم الحسين وأصحابه، لم أزل ألتقطه منذ اليوم. فأُحصي ذلك اليوم، فوجدوه قُتِل يومئذٍ. وعن أُم سلمة: سمعت الجنَّ تنوح على الحُسين. وعن شَهْر بن حَوْشَب قال: إنا لعند أُم سلمة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: فسُمِعَت صارخة، فأقبلت حتى انتهت إلىِ ام سلمة، فقالت: قُتل الحسين. قالت: قد فعلوها ملأ الله بيوتهم عليهم نارًا، ووقعت مغشيًّا عليها، فقمنا. وعن رُزَيْن قال: حدّثتني سَلمى قالت: دخلت على أُم سلمة وهي تبكي، فقلت: ما يُبكيك؟ قالت: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المنام وعلى رأسه ولحيته التراب، فقلت: مالك يا رسول الله صلّى الله عليك وسلّم؟ قال: شهدتُ قتل الحسين. وعن أبي رجاء العُطارِدي، قال: لا تسبّوا أهل هذا البيت، فإنه كان لنا جار من بَلْهجيم، قدم علينا من الكوفة، قال: أما تَرَوْن إلى هذا الفاسق ابن الفاسق، قتله الله، فرماه الله بكوكبين في عينيه، فذهب بصره. ورُوِيَ عن السُّدّي قال: أتيت كربلاء أبيع البر بها، فعمل لنا شيخ من جلي طعامًا، فتعشيناه عنده، فذكرنا قتل الحسين، فقلنا: ما شَرَكَ في قتله أحد إلَّا مات بأسوأ ميتة. فقال: ما أكذبكم يا أهل العراق، فأنا ممن شَرَكَ في دمه، فلم

يبرح حتى دنا من المصباح وهو يتّقد، فنفط، فذهب يخرج الفتيلة بإصبُعه، فأخذت النار فيها، فذهب يطفئها بريقه، فأخذت النار في لحيته، فعدا، فألقى بنفسه في الماء، فرأيته كأنه حممة. وعن محمد الصَّقَلّيّ: لما قُتل الحسين بن علي، سُمع منادٍ ينادي ليلًا يُسمع صوته ولم يُر شخصه: عَقَرَتْ ثمودٌ ناقةً فاستَوْصَلوا ... وجَرَتْ سوانِحُهم بغيرِ الأسْعُدِ فبَنو رسولِ اللهِ أعظمُ حرمةً ... وأجلُّ من أمِّ الفصيلِ المُقْعَدِ عجبًا لهُم لَمّا أَتَوا لم يُمْسَخوا ... اللهُ يملي للطُّغاةِ الجُحَّدِ وقالت مرجانة لابنها عبيد الله: يا خبيث، قتلت ابن بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لا ترى والله الجنة أبدًا. وعن أبي حمزة بن يزيد، قال: رأيت امرأة عاقلة من أعقل النساء يقال لها: ريّا، حاضنة يزيد بن معاوية قد بلغت مئة سنة، قال: قالت: دخل رجل على يزيد، فقال: يا أمير المؤمنين: أبشِرْ، فأمكنك الله من الحسين، قُتل وجيء برأسه إليك، ووضع في طَسْتٍ، فأمر الغلام، فكشفه، فحين رآه احمرَّ وجهه كأنه يشم منه رائحة، وإن الرأس مكث في خزائن السلاح حتى ولي سُليمان، فبعث، فجيء به، فقد بقي عظمًا، فطيّبه وكفَّنه ودفنه، فلما وصلت المسودة، سألوا عن موضع الرأس ونبشوه وأخذوه، فالله أعلم ما صُنع به. وقضى الله عَزَّ وَجَلَّ أنَّ قَتْل عبيد الله بن زياد يوم عاشوراء سنة سبع وستين، قتله ابن الأشتر في الحرب، وبعث برأسه إلى المختار، وبعث به المختار إلى ابن الزُّبير، فبعث به ابن الزُبير إلى علي بن الحسين. واختَلَفوا اختلافًا كثيرًا فيمن قتل الحسين، وفي شعر سليمان بن قِنّة الخُزاعي ما يدُل على الاشتراك في دمه، فقال: مررتُ على أبياتِ آلِ محمدٍ ... فلَمْ أرَ من أمثالِها حيثُ حلَّتِ

فلا يُبْعِدِ الله البيوتَ وأهلَها ... وإنْ أصبحتْ منهُم برغمي تَخَلَّتِ وكانوا رجالًا ثم عادوا رَزِيَّةً ... لقد عظُمت تلكَ الرَّزايا وجَلَّتِ أولئكَ قومٌ لم يُشينوا سيوفهُم ... ولم تَنْكَ في أعدائهم حين سُلَّتِ وإنَّ قتيلَ الطَفِّ من آلَ هاشمٍ ... أذل رقابًا من قريشٍ فذَلَّتِ وفيها يقول: إذا افتَقَرَتْ قيسٌ جبَرْنا فقيرَها ... وتقتُلنا قيسٌ إذا النعلُ زلَّتِ وعندَ غوِيٍّ قطرةٌ من دِمائنا ... سنجزيِهمُ يومًا بها حيثُ حلَّتِ ومنها أو من غيرها: ألم تَرَ أنَّ الأرضَ أضحَتْ مريضةً ... لفَقْدِ حسينٍ والبلادَ اقشعرتِ وقد أعْوَلَتْ تبكي السماءُ لفقدهِ ... وأنجُمُهما ناحت عليهِ وصلَّتِ ومرَّ أن قاتله رجل من مِذْحج. وقيل: قتله شَمَّر بن ذي الجَوْشن، وكان أبرص، وأجهز عليه خولى بن يزيد الأصبحي من حِمْير، حزَّ رأسه وأتى به عبيد الله، وقال: أوقِرْ ركابي فضةً وذهبًا ... إني قتلتُ الملك المحجَّبا قتلتُ خيرَ الناس أمًّا وأبا ... وخيرَهُم إذ ينسُبون نَسَبَا وقيل: قاتله سنان بن أبي سنان النَّخَعي لا رحمه الله، ويصدِّق ذلك قول الشاعر: وأيُّ رزِيَّةٍ عَدَلَتْ حُسينًا ... غَداةَ تُبِيرُهُ كفّا سِنانِ وقال منصور النَّمرَيّ: ويلكَ يا قاتلَ الحسينِ لقَدْ ... بُؤتَ بِحمْل ينؤُ بالحاملِ أيَّ حِباءٍ حبوتَ أحمدَ في ... حفرتهِ مِنْ حرارةِ الثّاكِلِ تعالَ فاطلُبْ غدًا شفاعَتَهُ ... وانهَضْ فرِدْ حوضَة مع النّاهلِ ما الشكُّ عندي في حال قاتِلِهِ ... لكنّني قد أشُكُّ في الخاذِلِ

كأنّما أنتِ تعجَبين الأمورُ ... تنزِلُ بالقوم نقمَة العاجلِ لا يعجَلُ الله إن عجَلْتِ وما ... ربُّكِ عمّاَ تَرَيْنَ بالغافلِ ما حصلَتْ لامرىءٍ سعادتُهُ ... حقَّتْ عليهِ عقوبةُ الآجلِ وزعموا أن بيتًا قديمًا لا يُدرى قائله وهو: أتَرْجو أمةٌ قَتَلَتْ حسينًا ... شفاعةَ جدِّهِ يومَ الحسابِ

الحديث التاسع والثمانون

الحديث التاسع والثمانون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ أُمِّ قَيْسٍ بِنْتِ مِحْصَنٍ أَنَّهَا أَتَتْ بِابْنٍ لَهَا صَغِيرٍ، لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَأَجْلَسَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي حِجْرِهِ، فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَنَضَحَهُ وَلَمْ يَغْسِلْهُ. وقوله: "لم يأكل الطعام"، المراد بالطعام ما عدا اللبن الذي يرتضعه، والتمر الذي يُحَنَّك به، والعسل الذي يلعقه للمداواة، وغيرها، فكان المراد أنه لم يحصل له الاغتذاء بغير اللبن علي الاستقلال، قاله النووي في "شرح مسلم"، وفي "الروضة": المراد أنه لم يَطْعم ولم يشرب غير اللبن. وقيل: المراد أنه لم يأكل غير اللبن وغير ما يُحنك به وما أشبهه. وحمل الموفق الحموي قوله: "لم يأكل" على ظاهره، فقال: معناه لم يستقلَّ بجعل الطعام في فمه. والأول أظهر. وقال ابن التين: يُحتمل أنها أرادت أنه لم يتقوَّت بالطعام، ولم يستغن به عن الرضاع، ويُحتمل أنها إنما جاءت به عند الولادة ليحنكه -صلى الله عليه وسلم-، فيحمل النفي على عمومه، ويؤيده ما مر قريبًا أنه للمصنف في العقيقة في الحديث الذي قبله. وظاهر قولهم: لم يطعم غير اللبن. شموله للبن الآدمي وغيره، وظاهره أنه لا فرق بين النجس وغيره، وأما قول الزركشي: لو شرب لبنًا نجسًا أو متنجسًا فينبغي وجوب غسل بوله، كما لو شربت السخلة لبنًا نجسًا يحكم بنجاسة أنفحتها، وكذا الجلّالة، فإنه مردود بأن استحالة ما في الجوف تُغير حكمه الذي كان، بدليل قول الجمهور بطهارة لحم جديٍ ارتضع كلبةً أو نحوها، فنبت لحمه من لبنها، ويعدم تسبيع المخرج فيما لو أكل لحم كلب، وإن وجب تسبيع

الفم، وما قاس عليه لم يذكره الأئمة كما اعترف هو به في أثناء كلامه، وهو ممنوع؛ لأن الأنفحة لبن جامد لم يخرج من الجوف، فهي مستحيلة في الجوف، وقد عرف أن الحكم يتغير بالاستحالة، والجلّالة لحمها ولبنها طاهران كما هو المذهب عند الجمهور، وإن صحح في "المحرر" خلافه، قاله القسطلاني. قلت: وعند المالكية، المستعمل للنجاسة مما بوله طاهر يكون ما يخرج منه نجسًا مدةَ ظنِّ بقائها في جوفه. وقوله: "فأجلسه" أي: وضعه إن قلنا إنه كان كما ولد، ويُحتمل أن يكون الجلوس حصل منه على العادة إن قلنا كان في سن مَنْ يحبو، كما في قصة الحسن. وقوله: "على ثوبه" أي: ثوب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأغرب ابن شعبان من المالكية، فقال: المراد به ثوب الصبي، والصواب الأول. وقوله: "فنضحه "أي رشه بماء عَمَّه وغلبه من غير سيلان. ولمسلم عن ابن شهاب: "فلم يزد على أن نضح بالماء"، وله عنه أيضًا: "فرشَّه"، زاد أبو عَوانة في "صحيحه": "عليه"، ولا تخالف بين الروايتين، أي: بين نضح ورش؛ لأن المراد به أن الابتداء كان بالرش وهو تنقيط الماء، وانتهى إلى النضح، وهو صب الماء. ويؤيده رواية مسلم عن عائشة: "فدعا بماء، فصبه عليه"، ولأبي عَوانة: "فصبه على البول يتبعه إياه". والفاءات الأربعة في قوله: فأجلسه، فبال، فدعا بماء، فنضحه، للعطف للكلام بمعنى التعقيب. وقوله: "ولم يغسله" أي: لم يبلغ الإسالة، وادَّعى الأصيلي أن قوله: "ولم يغسله" مدرج من كلام ابن شهاب، ليس من المرفوع، قال: وكذلك روى معمر عن ابن شهاب، وكذا أخرجه ابن أبي شَيْبة، قال: "فرش"، ولم يزد على ذلك. وليس في سياق معمر ما يدل على ما ادعاه من الإدراج، وما ذكره عن ابن

أبي شيبة لا اختصاص له به، فإن ذلك لفظ ابن عُيينة عن ابن شهاب عند مسلم، وقد بيّنا أنها غير مخالفة لرواية مالك، ورواية مالك رواها معه الليث وعمرو بن الحارث ويونس بن يزيد، كلهم عن ابن شهاب، أخرجه ابن خزيمة والإِسماعيلي وغيرهما عن ابن وَهْب عنهم، وهو لمسلم عن يونس وحده. وعبَّر في الحديث بالابن دون الولد؛ لأن الابن لا يطلق إلا على الذكر، بخلاف الولد، فإنه يطلق عليهما، وفي ذلك إشارة إلى التفرقة بين بول الغلام والجارية قبل أن يطعما، وقد اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة مذاهب: الأول: الاكتفاء بالنضح في بول الغلام، ولابد في بولها من الغسل، وهو قول علي وعطاء والحسن والزهري وأحمد والشافعي وإسحاق وابن وهب من المالكية، ورواه الوليد بن مسلم عن مالك، وقال أصحابه: هي رواية شاذة عنه. واحتج القائلون بالتفرقة بأحاديث ليست على شرط المصنف، منها ما أخرجه أحمد وأصحاب "السنن" إلاَّ النسائي عن علي مرفوعًا: "يُنضح بول الغلام ويُغسل بول الجارية" وإسناده صحيح. ومنها ما أخرجه أحمد وابن ماجه وصححه ابن خُزيمة وغيره عن لبابة بنت الحارث مرفوعًا: "إنما يُغسل من بول الأنثى، ويُنضح من بول الذكر". ومنها ما أخرجه أبو داود والنسائي وصححه ابن خُزيمة أيضًا عن أبي السمح نحوه بلفظ: "يرش". وفرَّق بينهما بأن النفوس أعلق بالذكور منها بالإناث، فحصلت الرخصة في المذكور لكثرة المشقة. وبأنه أرق من بولها، فلا يلصق بالمحل كلصوق بولها، لأن بولها بسبب استيلاء الرطوبة والبرودة على مزاجها أغلظ وأنتن، ومثلها الخُنثى كما جزم به في "المجموع". الثاني: يكفي النضح فيهما، وهو مذهب الأوزاعي، وحكي عن مالك والشافعي، وخصص ابن العربي النقل في هذا بما إذا كانا لم يدخل أجوافهما شيء أصلًا.

والثالث: هما سواء في وجوب الغسل مطلقًا، سواء أكلا الطعام أم لا، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة، واستدل لهما بأنه عليه الصلاة والسلام نضح، والنضح هو الغسل، لقوله عليه الصلاة والسلام في المذي: "فلْينضح فرجَه" رواه أبو داود وغيره من حديث المقداد، والمراد به الغسل كما وقع التصريح به في مسلم، والقصة واحدة كالراوي. ولحديث أسماء في غسل الدم: "وانضحيه" وقد ورد الرش وأريد به الغسل، كما في حديث ابن عباس في "الصحيح" لما حكى الوضوء النبوي، أخذ غرفة من ماء، ورش على رجله اليمنى حتى غسلها، وأراد بالرش هنا الصب قليلًا قليلًا. وتأولوا قوله: "لم يغسله" أي: غسلًا مبالغًا فيه بالعرك، كما تغسل الثياب إذا أصابتها النجاسة. وأجاب المفرقون بينهما بأن النضح ليس هو الغسل كما في كتب أهل اللغة، فإنهم قالوا: النضح الرش، ولا نسلم أن حديث المقداد بمعنى الغسل، ولئن سلمنا فبدليل خارجي. قلت: وهذا جواب لا يخفى ما فيه؛ لأن الحديث دليل أهل اللغة، فما ورد فيه مقدم على كلام أهل اللغة، مع أن كلامهم غير مناف له، وحديث ابن عباس والمقداد الماران صريحان في المراد. وأجابوا أيضًا بأن ما ورد في الأحاديث من التفرقة بين بول الغلام والجارية يبعد ما قالوه من عدم التفرقة بينهما. واستدل بعضهم بقول: "ولم يغسله" على طهارة بول الصبي، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور، وحكي عن مالك والأوزاعي، وأما حكايته عن الشافعي فجزم النووي بأنها باطلة قطعًا، وكأنهم أخذوا ذلك من طريق اللازم، وأصحاب صاحب المذهب أعلم بمراده من غيرهم، فلا عبرة بجزم ابن عبد البر وابن بطال ومن تبعهما بذلك عن الشافعي وأحمد، وكذلك لم يُعرف ذلك عند الحنابلة، فبول الصبي الذي لم يَطْعم نجس، ولكنه جُوِّز فيه النضح لتخفيف نجاسته لا لطهارته. واستدل به بعض المالكية على أن الغسل لابد فيه من أمر زائد على مجرد

رجاله خمسة

إيصال الماء إلى المحل. قال في "الفتح": وهو مشكل عليهم؛ لأنهم يدعون أن المراد بالنضح هنا الغسل. قلت: لعله لم يعرف وجه الاستدلال عندهم، فوجهه عندهم هو أن النضح المراد به في الحديث صب الماء على البول، وتَتَبُّعُه به كما مر، ومع هذا قال: "ولم يغسله"، فعُلم من هذا القول أن المراد بالغسل المنفي أمر زائد على مجرد إيصال الماء إلى المحل، وهو الدلك أو العرك، فلا اعتراض عليهم. وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم: الندب إلى حسن المعاشرة، والتواضع، والرفق بالصغار، وتحنيك المولود، والتبرك بأهل الفضل، وحمل الأطفال إليهم حال الولادة وبعدها. رجاله خمسة: الأول: عبد الله بن يوسف. والثاني: الإمام مالك وقد مرّا في الحديث الثاني من بدء الوحي، ومرَّ ابن شهاب في الثالث منه. ومرَّ عبيد الله في السادس منه. والرابع: أُم قَيْس -بفتح القاف وسكون الياء- بنتِ مِحْصَن -بكسر الميم وسكون الحاء وفتح الصاد- الأسديّة أخت عكاشة بن محصن. أسلمت بمكة قديمًا، وبايعت النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهاجرت إلى مدينة النبي -صلى الله عليه وسلم-، واسمها جذامة -بالجيم والذال المعجمة- وقال السهيلي: اسمها آمنة. وقيل: اسمها أمية. رُوي لها أربعة وعشرون حديثًا، في "الصحيحين" منها اثنان. وروي عن مولاها أبي الحسن أنها قالت: توفي ابني، فجزعت، فقلت للذي يغسله: لا تغسل ابني بالماء البارد فتقتله، فانطلق عكاشة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبره بقولها، فتبسم ثم قال: "طال عمرها" فلا نعلم امرأة عمرت ما عمرت. وروي عنها أنها أتت بابن لها قد أعلقت عليه من العذرة، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-:

لطائف إسناده

"علام تذعرنَ أولادكن؟ ". وروي أنها سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أنتزاور إذا متنا يزور بعضنا بعضًا؟ قال: "يكون النسم طائرًا يعلق بالجنة، حتى إذا كان يوم القيامة دخل كل نفس في جثتها". وقيل: إن صاحبة هذا الحديث أُم قيس الأنصارية، وليست بنت مِحْصَن. وقيل: إن التي روت هذا الحديث أُم هانىء الأنصارية. روى عنها: مولاها عدي بن دينار، ومولى لها آخر أبو الحسن، وعبيد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود، ووابصة بن مَعْبد الأسدي، وأبو عبيدة بن عبد بن زمعة، وعمرة أخت نافع مولى حِمْنة بنت شجاع. وأما ابنها المذكور فقد قال ابن حجر في "فتح الباري": إنه مات صغيرًا في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم يقف على تسميته. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث في موضع بصيغة الجمع، والإخبار في موضع آخر بصيغة الجمع أيضًا، والعنعنة في ثلاثة مواضع. ورواته ما بين تِنِّيْسِيٍّ وهو عبد الله، ومدني وهو ما عداه. أخرجه البخاري هنا فقط. وأخرجه مسلم في الطب عن ابن أبي عمر، وفيه وفي الطهارة عن ابن يحيى وعن القعنبي ومحمد بن رمح وغيرهم، والترمذي فيها عن قُتيبة وأحمد بن منيع، والنسائي فيها أيضًا عن قُتيبةُ أيضًا، وابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة. باب البول قائمًا وقاعدًا قال ابن بطال: دلالة الحديث على القعود بطريق الأولى؛ لأنه إذا جاز قائمًا فقاعدًا أجوز، ويُحتمل أن يكون أشار بذلك إلى حديث عبد الرحمن بن حسنة الذي أخرجه النسائي وابن ماجه وغيرهما، فإن فيه: "بال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالسًا، فقلنا: انظروا إليه يبول كما تبول المرأة".

وحكى ابن ماجه عن بعض مشايخه أنه قال: كان من شأن العرب البول قائمًا، ألا تراه يقول في حديث عبد الرحمن بن حسنة: قعد يبول كما تبول المرأة. وقال في حديث حذيفة: فقام كما يقوم أحدكم. ودل حديث عبد الرحمن المذكور على أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يخالفهم في ذلك، فيقعد، لكونه أستر وأبعد من مماسة البول. وهو حديث صحيح، صححه الدارقطني وغيره، ويدل له حديث عائشة قالت: "ما بال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائمًا منذ أنزل عليه القرآن". رواه أبو عَوانة في "صحيحه"، والحاكم.

الحديث التسعون

الحديث التسعون حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: أَتَى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- سُبَاطَةَ قَوْمٍ فَبَالَ قَائِمًا، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ، فَجِئْتُهُ بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ. قوله: "عن أبي وائل"، ولأبي داود الطيالسي في "مسنده" عن الأعمش أنه سمع أبا وائل. ولأحمد عنه: حدّثني أبو وائل. وقوله: "سُباطة قوم" بضم المهملة بعدها موحدة، هي المزبلة والكناسة، تكون بفِناء الدور مرفقًا لأهلها، وتكون في الغالب سهلة لا يرتد فيها البول على البائل، وإضافتها إلى القوم إضافة اختصاص لا ملك؛ لأنها لا تخلو عن النجاسة، وبهذا يندفع إيراد من استشكله يكون البول يوهي الجدار، ففيه إضرار، أو نقول: إنما بال فوق السباطة لا في أصل الجدار، وهو صريح رواية أبي عوانة في "صحيحه" وقيل: يُحتمل أن يكون علم إذنهم في ذلك بالتصريح أو غيره، أو لكونه مما يتسامح الناس به، أو لعلمه بإيثارهم إياه بذلك، أو لكونه يجوز له التصرف في مال أُمته دون غيره؛ لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأموالهم، وهذا وإن كان صحيح المعنى، لكن لم يُعهد ذلك من سيرته ومكارم أخلاقه عليه الصلاة والسلام. قلت: لم أفهم معنى قولهم: إن الإِضافة في السُّباطة ليست للملك؛ لأنها لا تخلو عن النجاسة، فإن مقتضى هذا أن المحل المختص بالنجاسة كالمراحيض لا يُملك، وهذا لا يمكن القول به، فالنجاسة لا تمنع ملك المحل الذي هي فيه. وقوله: "ثم دعا بماء" زاد مسلم وغيره عن الأعمش: "فتنحَّيْتُ، فقال: ادنُه، فدنوت عند عقبيه". وفي رواية أحمد عن القطان: "أتى سُباطة قومٍ،

رجاله خمسة

فتباعدتُ منه، فأدناني حتى صرت قريبًا من عقبيه، فبال قائمًا، ودعا بماء فتوضأ ومسح على خفيه". وكذا زاد مسلم فيه ذكر المسح على الخفين، وهو عند الإسماعيلي عن الأعمش، وزاد عيسى بن يونس فيه عن الأعمش: "إن ذلك كان بالمدينة"، وزعم ابن عبد البر أن تفرد عيسى بهذه الزيادة عن الأعمش غير صحيح، فقد أخرجها البيهقي عن محمد بن طلحة بن مصرِّف عن الأعمش كذلك، وله شاهد من حديث عصمة بن مالك، قال: خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعض سكك المدينة، فانتهى إلى سُباطة قوم، فقال: "يا حذيفة استرني"، فذكر الحديث. رواه الطبراني، وظهر منه الحكمة في إدنائه حذيفة في تلك الحالة، وكأن حذيفة لما وقف خلفه عند عقبه استدبره، وظهر أيضًا أن ذلك كان في الحضر لا في السفر، وظهر مما قبله أن المسح كان في الحضر. وروى ابن ماجه أن عاصمًا رواه عن أبي وائل عن المغيرة: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتى سُباطة قوم، فبال قائمًا". ووافق منصورٌ الأعمشَ في روايته عن أبي وائل عن حذيفة، ولم يذكر فيه زيادة المسح، وذكرها مسلم كما مر؛ لأنها زيادة من حافظ. وقال الترمذي: حديث أبي وائل عن حذيفة أصح من حديثه عن المغيرة، وهو كما قال، وإن جنح ابن خزيمة إلى تصحيح الروايتين لكون حمّاد بن أبي سليمان وافق عاصمًا على قوله: عن المغيرة، فجاز أن يكون أبو وائل سمعه منهما، فيصح القولان معًا، لكن من حيث الترجيح: رواية الأعمش ومنصور لاتفاقهما أصح من رواية عاصم وحمّاد ولكونهما في حفظهما مقال. رجاله خمسة: الأول: آدم بن أبي إياس وقد مرّ في الثالث من كتاب الإِيمان، وكذلك شعبة بن الحجاج، ومرَّ الأعمش وهو سليمان بن مهران في الخامس والعشرين منه، ومرَّ أبو وائل شقيق في الثاني والأربعين منه، ومرَّ حذيفة بن اليمان في التعاليق بعد الحديث الثاني من كتاب العلم.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في ثلاثة مواضع، ورواته ما بين خراساني وكوفي. أخرجه البخاري هنا، وفي الطهارة أيضًا في موضعين: عن سليمان بن حرب، وعن محمد بن عرعرة. ومسلم في الطهارة عن يحيى بن يحيى. وأبو داود فيها أيضًا عن حفص بن عمر. والترمذي فيها عن هنّاد. والنسائي فيها أيضًا عن إسحاق بن إبراهيم. وابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة. باب البول عند صاحبه والتستر بالحائط أي: حكم بول الرجل فـ"ال" في البول عوض عن المضاف إليه كما رأيت، والضمير في صاحبه يرجع إلى المضاف المقدر وهو الرجل البائل.

الحديث الحادي والتسعون

الحديث الحادي والتسعون حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِى وَائِلٍ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: رَأَيْتُنِي أَنَا وَالنَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- نَتَمَاشَى، فَأَتَى سُبَاطَةَ قَوْمٍ خَلْفَ حَائِطٍ، فَقَامَ كَمَا يَقُومُ أَحَدُكُمْ فَبَالَ، فَانْتَبَذْتُ مِنْهُ، فَأَشَارَ إِلَيَّ فَجِئْتُهُ، فَقُمْتُ عِنْدَ عَقِبِهِ حَتَّى فَرَغَ. قوله: "رأيتُني" بضم المثناة من فوق فعل وفاعل ومفعول، وجاز كون ضمير الفاعل والمفعول واحدًا؛ لأن أفعال القلوب يجوز فيها ذلك. وقوله: "أنا والنبي" بالنصب عطفًا على الضمير المنصوب على المفعولية في رأيتني، أي: رأيت نفسي، ورأيت النبي، وأنا للتأكيد ولصحة عطف لفظ النبي على الضمير المذكور، ويجوز رفع النبي عطفًا على أنا، وكلاهما رواية. وقوله: "فانتبذتُ" بنون فمثناة فوقية فموحدة فمعجمة، أي: ذهبت ناحية، يقال: جلس فلان نبذة بفتح النون وضمها، أي: ناحية. وقوله: "فأشار إليَّ" يدل على أنه لم يبعد منه بحيث لا يراه، وإنما صنع ذلك ليجمع بين المصلحتين: عدم مشاهدته في تلك الحالة، وسماع ندائه لو كانت له حاجة، أو رؤية إشارته إذا أشار له وهو مستدبره. وليست فيه دلالة على جواز الكلام في حال البول، لأن هذه الرواية بينت أن قوله في رواية مسلم: "ادنه"، كان بالإِشارة لا باللفظ. وأما مخالفته -صلى الله عليه وسلم- لما عُرف من عادته من الإبعاد عند قضاء الحاجة عن الطرق المسلوكة وعن أعين النظّارة، فقد قيل فيه: إنه عليه الصلاة والسلام كان

رجاله خمسة

مشغولًا بمصالح المسلمين، فلعله طال عليه المجلس حتى احتاج إلى البول، فلو أبعد لتضرر، واستدنى حذيفة ليستره من خلفه عن رؤية من لعله يمرُّ به كما صرح به في حديث عصمة المار قريبًا، وكان قُدّامه مستورًا بالحائط. أو لعله فعله لبيان الجواز. ثم هو في البول، وهو أخف من الغائط، لاحتياجه إلى زيادة تكشف، ولما يقترن به من الرائحة، والغرض من الإِبعاد التستُّر، وهو يحصُل بإرخاء الذيل والدنو من الساتر. ويستفاد من هذا الحديث دفع أشد المفسدتين بأخفهما، والإتيان بأعظم المصلحتين إذا لم يمكنا معًا، وبيانه أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يُطيل الجلوس لمصالح الأمة ويُكثر من زيارة أصحابه وعيادتهم، فلما حضره البول وهو في تلك الحالات لم يؤخره حتى يُبعد كعادته، لما يترتب على تأخيره من الضرر، فراعى أهم الأمرين، وقدم المصلحة في تقريب حذيفة منه ليستره عن المارة على مصلحة تأخيره عنه إذ لم يمكن جمعهما. رجاله خمسة: الأول: عثمان بن أبي شيبة، والثاني: جرير بن عبد الحميد، والثالث: منصور بن المعتمر، مرُّوا في الثاني عشر من كتاب العلم. ومرَّ أبو وائل في الثاني والأربعين من كتاب الإيمان. ومرَّ حذيفة بعد الحديث الثاني عن كتاب العلم في تعاليق هناك. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في ثلاثة مواضع، ورواته ما بين كوفي ورازيّ، ومرَّ في الحديث الذي قبله ذكر المواضع التي أخرج فيها. باب البول عند سُباطة قوم

الحديث الثاني والتسعون

الحديث الثاني والتسعون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: كَانَ أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ يُشَدِّدُ فِي الْبَوْلِ وَيَقُولُ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ إِذَا أَصَابَ ثَوْبَ أَحَدِهِمْ قَرَضَهُ. فَقَالَ حُذَيْفَةُ: لَيْتَهُ أَمْسَكَ، أَتَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- سُبَاطَةَ قَوْمٍ فَبَالَ قَائِمًا. قوله: "يشدِّد في البول" أي: في الاحتراز منه، حتى كان يبول في قارورة خوفًا من أن يصيبه شيء من رشاشه، وقد بيَّن ابن المنذر وجه هذا التشديد، فأخرج عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه أنه سمع أبا موسى، ورأى رجلًا يبول قائمًا، فقال: ويحكَ! أفلا قاعدًا؟ ثم ذكر قصة بني إسرائيل، وبهذا تظهر مطابقة حديث حذيفة في تعقبه على أبي موسى. وقوله: "إن بني إسرائيل"، أي: بني يعقوب، وإسرائيل لقبه؛ لأنه لما فاز بدعوة أبيه إسحاق دون أخيه عيصو توعده بالقتل، فلحق بخاله ببابل أو بحران، فكان يسير الليل ويكمُن بالنهار، فسمي لذلك إسرائيل. وقوله: "ثوب أحدهم" وقع في مسلم: "جلد أحدهم" قال القرطبي مراده بالجلد واحد الجلود التي كانوا يلبَسونها، وحمله بعضهم على ظاهره، وزعم أنه من الإصر الذي حُمِّلوه. ويؤيده رواية أبي داود ففيها: كان إذا أصاب جسد أحدهم، لكن رواية البخاري صريحة في الثياب. وقوله: "قرضه" أي: قطعه، وللإسماعيلي: "بالمقراض"، وهو يدفع حمل من حمل القرض على الغسل بالماء. وقوله: "ليته أمسك" أي: نفسه عن هذا التشديد، فإنه خلاف السنة. وعن

الإسماعيلي: "لوددتُ أن صاحبكم لا يشدد هذا التشديد". وقوله: "فبال قائمًا" أي: فلم يتكلف البول في القارورة، ولا التزم الجلوس، وإنما احتج حذيفة بهذا الحديث لأن البائل من قيام قد يتعرض للرشاش، ولم يلتفت النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى هذا الاحتمال، فدل على أن التشديد مخالف للسنة. واستُدل به لمالك في الرخصة في مثل رؤوس الإبر المتطاير من البول. قال في "الفتح" وفيه نظر؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- في تلك الحالة لم يصل إلى بدنه شيء. قلت: مشهور مذهب مالك عدم اغتفار المتطاير المذكور، فيجب غسله. وإلى كونه لم يصل إلى بدنه شيء أشار ابن حِبان في ذكر السبب في قيامه، قال: لأنه لم يجد مكانًا يصلُح للقعود، فقام، لكون الطرف الذي يليه من السُّباطة عاليًا، فأمن أن يرتد إليه شيء من بوله. وقيل: لأن السُّباطة رخوة يتخللها البول، فلا يرتد إلى البائل منه شيء. وقيل: إنما بال قائمًا لأنها حالة يُؤمن معها خروج الريح بصوت، ففعل ذلك لكونه قريبًا من الديار، ويؤيده ما رواه عبد الرزاق عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: "البول قائمًا أحصن للدُّبر". وقيل: السبب في ذلك ما رُوي عن الشافعي وأحمد أن العرب كانت تستشفي لوجع الصلب بذلك، فلعله كان به. وروى الحاكم والبيهقي عن أبي هريرة قال: إنما بال -صلى الله عليه وسلم- قائمًا لجُرح كان في مأبَضِه -بهمزة ساكنة بعدها موحدة فمعجمة- باطن الركبة، فكأنه لم يتمكن من القعود لأجله، ولو صح هذا الحديث لكان فيه غنى عن جميع ما تقدم، لكن ضعَّفه الدارقطني والبيهقي، والأظهر أنه فعل ذلك لبيان الجواز، وكان أكثر أحواله البول من قعود. وسلك أبو عَوانة في "صحيحه" وابن شاهين فيه مسلكًا آخر، فزعما أن البول عن قيام منسوخ، واستدلا عليه بحديث عائشة الذي مرَّ: "ما بال قائمًا منذ

رجاله ستة

أنزل عليه القرآن"، وبحديثها أيضًا: "من حدثكم أنه كان يبول قائمًا فلا تصدِّقوه، ما كان يبول إلاَّ قاعدًا". والصواب أنه غير منسوخ، والجواب عن حديث عائشة أنه مستند إلى علمها، فيُحمل على ما وقع في البيوت، وأما في غير البيوت فلم تطَّلع هي عليه، وقد حفظه حذيفة، وهو من كبار الصحابة، وقد مر أن ذلك كان بالمدينة، فتضمن الرد على ما نفته من أن ذلك لم يقع بعد نزول القرآن. وقد ثبت عن عُمر وعلي وزيد بن ثابت وغيرهم أنهم بالوا من قيامٍ، وهو دالّ على الجواز من غير كراهة إذا أمن الرشاش، ولم يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في النهي عنه شيء كما قال في "الفتح". وكره القيام عامة العلماء للتنزيه، وينقسم عند المالكية الحكم في القيام والجلوس حالة البول إلى أربعة أقسام، الأمر فيها للندب، والنهي لكراهة التنزيه، جمعها الناظم بقوله: بالطاهِرِ الصُّلب اجْلِسِ ... وقُمْ برخوٍ نجسِ والنَّجِسَ الصُّلبَ اجتَنِبْ ... واجلِسْ وقُمْ إن تعكِسِ يعني: إنك مخير فيهما. رجاله ستة: الأول: محمد بن عَرْعرة وقد مرَّ هو وأبو وائل في الثاني والأربعين من كتاب الإِيمان، ومرَّ شعبة بن الحجاج في الثالث منه أيضًا، ومرَّ أبو موسى في الرابع منه أيضًا، ومرَّ منصور بن المعتمر في الثاني عشر من كتاب العلم، وحذيفة بن اليمان بعد الثاني منه في تعليق. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث في موضعين، والعنعنة في موضعين أيضًا، ورواته ما

باب غسل الدم

بين شامي ومصري وكوفي، ومرَّ تعداد مواضعه في الذي قبل هذا بحديث واحد. باب غَسل الدم بفتح الغين، أي: دم الحيض.

الحديث الثالث والتسعون

الحديث الثالث والتسعون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ قَالَ: حَدَّثَتْنِي فَاطِمَةُ عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: أَرَأَيْتَ إِحْدَانَا تَحِيضُ فِي الثَّوْبِ كَيْفَ تَصْنَعُ قَالَ: "تَحُتُّهُ، ثُمَّ تَقْرُصُهُ بِالْمَاءِ، وَتَنْضَحُهُ وَتُصَلِّي فِيهِ". قوله: "أرأيت إحدانا تَحيضُ في الثوب" أي: فيصل دم الحيض إلى الثوب غالبًا، وللمصنف من طريق مالك عن هشام: "إذا أصاب ثوبها الدم من الحيضة"، وأطلقت الرؤية، وأرادت الإخبار؛ لأنها سببه، أي: أخبرني، والاستفهام بمعنى الأمر بجامع الطلب. وقوله: "تَحتُّه" بالفتح وضم المهملة وتشديد المثناة الفوقية، أي: تحكه، وكذا رواه ابن خُزيمة، والمراد بذلك إزالة عينه. وقوله: "ثم تَقْرُصُه بالماء" بالفتح وسكون القاف وضم الراء والصاد المهملتين، وفي رواية بفتح القاف وكسر الراء مشددة، أي: تدلك موضع الدم بأطراف أصابعها، ليتحلَّل بذلك، ويخرج ما تشَرَّبَه الثوب منه. وقال أبو عبيدة: معنى التشديد: تقطعه. وقوله: "وتَنْضَحه" بفتح الأول والثالث، أي: تغسله بأن تصب عليه الماء قليلًا قليلًا، قاله الخطابي. وقال القُرطبي: المراد به الرش؛ لأن غسل الدم استُفيد من قوله: "تقرُصُه بالماء"، وأما النضح فهو لما شكت فيه من الثوب. قال في "الفتح": فعلى هذا فالضمير في تنضحه يعود على الثوب، بخلاف تحته، فإنه يعود على الدم، فيلزم منه اختلاف الضمائر، وهو خلاف الأصل.

ثم إن الرش على المشكوك فيه لا يفيد شيئًا؛ لأنه إن كان طاهرًا فلا حاجة إليه، وإن كان متنجسًا لم يطهر بذلك. قلت: النضح الذي هو الرش للمشكوك فيه مذهب الإمام مالك، وهو تعبدي، ولا يمكن إنكاره مع ما هو وارد في الحديث الصحيح، فقد أخرج البخاري عن أنس قال: فقمت إلى حصير لنا قد اسودَّ من طول ما لبث، فنضحته بماء، فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وصففت أنا واليتيم ... إلخ. ولما رأى ابن حجر صراحة هذا الحديث في النضح للمشكوك فيه، قال في قوله: "فنضحته" يحتمل أن يكون النضح لتليين الحصير أو لتنظيفه أو لتطهيره، قال: ولا يصح الجزم بالأخير، بل المتبادر غيره؛ لأن الأصل الطهارة. وما قاله غير ظاهر، بل الظاهر الجزم بالأخير لمناسبته لحال الحصير الذي هو اسوداده من طول اللَّبْث فإن كونه بهذا الوصف موجب للشك في نجاسته قطعًا، وأما الأولان فالحمل عليهما غير ممكن البتة، إذ كيف يمكن تنظيف حصير مسود بالنضح، وكيف يحصُل التليين بالنضح، فما قاله إنما هو تمحُّل وانتصار لمذهبه لا غير. ومما هو صريح فيه أيضًا ما أخرجه البخاري عن عائشة قالت: كانت إحدانا تحيض ثم تقرُصُ الدم من ثوبها عند طهرها فتغسِلُه، وتنضح على سائره، ثم تصلي فيه. فقولها: "تنضح على سائره" بعد أن غسلت الدم المحقق صريح في أن النضح كان للشك ودفع الوسوسة، وقد ورد أن عمر قال حين شك في ثوبه هل أصابه شيء من المني: أغسِلُ ما رأيت، وأنضَحُ ما لم أر. وهو عمل الصحابة والتابعين، ولذا قال مالك في "المدونة": وهو من أمر الناس، يعني: عمل أهل المدينة، فبان أن الصواب مع مالك، وبالله تعالى التوفيق. قال الخطابي: في هذا الحديث دليل على أن النجاسة إنما تزال بالماء دون غيره من المائعات؛ لأن جميع النجاسات بمثابة الدم لا فرق بينها وبينه إجماعًا، أي: فيتعين الماء لإزالة النجاسة، وهو قول الجمهور.

رجاله خمسة

وعن أبي حنيفة وأبي يوسف: يجوز تطهير النجاسة بكل مائع طاهر، ومن حجتهم حديث عائشة: ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه، فإذا أصابه شيء من دم الحيض، قالت بريقها، فمصعته بظفرها. ولأبي داود: بلَّته بريقها. وجه الحجة منه أنه لو كان الريق لا يطهِّر لزاد النجاسة. وأجيب باحتمال أن تكون قصدت بذلك تحليل أثره ثم غسلته بعد ذلك، لقولها في باب غسل الدم بعد القرص: فتغسله ثم تصلي فيه. فدل هذا على أنها عند إرادة الصلاة فيه كانت تغسله، وإنها إنّما أزالته بريقها ليذهب أثره، ولم تقصد تطهيره بذلك. وأجيب عن هذا الحديث أيضًا بأن المراد بالذي تقرصه بظفرها هو دم يسيرٌ يُعفى عن مثله، والتوجيه الأول أقوى، وهذا أيضًا قوي. وتُعُقب استدلال من استدل على تعيين إزالة النجاسة بالماء بهذا الحديث بأنه مفهوم لقب وليس بحجة عند الأكثر، وبأنه خرج مخرج الغالب في الاستعمال لا الشرط، وأجيب بأن الخبر نص على الماء، فإلحاق غيره به بالقياس، وشرطه أن لا ينقُص الفرع عن الأصل في العلة، وليس في غير الماء ما في الماء من الرقة وسرعة النفود، فلا يُلحق به غيره. وفيه جواز استفتاء المرأة بنفسها، ومشافهتها للرجل فيما يتعلق بأحوال النساء، وجواز سماع صوتها للحاجة، والإفصاح بذكر ما يُستقذر للضرورة. وفيه أن دم الحيض كغيره من الدماء في وجوب غسله. وعن مالك: يُعفى عن دون درهم من الدم مطلقًا والقيح والصديد لا غير ذلك من النجاسات، وعن الحنفية يُعفى عن قدر الدرهم من النجاسة مطلقًا، وفيه استحباب ترك النجاسة اليابسة ليهون غسلُها. رجاله خمسة: الأول: محمد بن المثنى ومرَّ في التاسع من كتاب الإِيمان. والثاني: يحيى بن سعيد القطان، وقد مرَّ في السادس منه أيضًا. ومرَّ هشام بن عُروة في الثاني من بدء الوحي. ومرت فاطمة بنت المنذر وجدتها

لطائف إسناده

أسماء بنت أبي بكر الصديق في الثامن والعشرين من كتاب العلم. والمرأة السائلة هي أسماء بنت أبي بكر الصديق، ولا وجه لإنكار النووي لذلك؛ لأنه لا يبعد أن يُبهم الراوي اسم نفسه، وقد وقع مثل ذلك في حديث أبي سعيد الخُدري رضي الله تعالى عنه في قصة الرقية بفاتحة الكتاب، قاله ابن حجر وغيره. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وبالإفراد في موضع، والعنعنة في موضعين، وفيه رواية الأنثى عن الأنثى، ورواته ما بين شامي ومصري. أخرجه البخاري هنا، وفي البيوع عن عبد الله بن يوسف وفي الصلاة عن أبي موسى. ومسلم في الطهارة عن أبي بكر بن أبي شَيْبة وغيره. وأبو داود فيها أيضًا عن القعنبي. والترمذي فيها أيضًا عن محمد بن يحيى. والنسائي فيها أيضًا عن يحيى بن حبيب. وابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة.

الحديث الرابع والتسعون

الحديث الرابع والتسعون حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: جَاءَتْ فَاطِمَةُ ابْنَةُ أَبِي حُبَيْشٍ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلاَ أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلاَةَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ، إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ، وَلَيْسَ بِحَيْضٍ، فَإِذَا أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ فَدَعِي الصَّلاَةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ ثُمَّ صَلِّي". قَالَ: وَقَالَ أَبِي ثُمَّ تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلاَةٍ، حَتَّى يَجِيءَ ذَلِكَ الْوَقْتُ. قوله: "إني امرأة أُستَحاضُ" أي: بضم الهمزة وفتح المثناة مبني للمجهول، أي: يستمر بي الدم بعد أيامي المعتادة، إذ الاستحاضة جريان الدم من فرج المرأة في غير أوانه، والسين في استحاض للتحول؛ لأن دم الحيض تحول إلى غير دمه، وهو دم الاستحاضة كما في استحجر الطين، وبُني الفعل فيه للمفعول، فقيل: استُحيضت المرأة، بخلاف الحيض، فيقال فيه: حاضت المرأة؛ لأن دم الحيض لما كان معتادًا معروف الوقت نُسب إليها، والآخر لما كان نادرًا مجهول الوقت، وكان منسوبًا إلى الشيطان كما في الحديث: "إنها رَكْضَة الشيطان"، بني للمفعول. وتأكيدها بأن لتحقيق القضية لندور وقوعها، لا لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- متردد أو منكر. وقوله: "فلا أطهر" أي: لدوامه. وقوله: "أفأدع الصلاة" أي: أترك، والعطف على مقدر بعد الهمزة؛ لأن لها صدر الكلام، أي: أيكون لي حكم الحيض فأترك الصلاة، أو أن الاستفهام ليس باقيًا، بل للتقرير، فزالت صدريتها. وقوله: "لا" أي: لا تدعي الصلاة.

وقوله: "إنما ذلك" بكسر الكاف. وقوله: "عِرْق" أي: دم عِرْق بكسر العين، ويسمى العاذِل بكسر الذال المعجمة. وقوله: "وليس بحيض" لأنه يخرج من قعر الرحم. وقوله: "فإذا أقبلت حَيْضتك" بفتح الحاء: المرة، وبالكسر: اسم للدم، والخرقة التي تستثفر بها المرأة، والحالة. أو الفتح خطأ؛ لأن المراد بها الحالة. ورده القاضي عياض وغيره، وقالوا: الصواب الفتح، إذ المراد: إذا أقبل الحيض. وقوله: "فدعي الصلاة" يتضمن نهي الحائض عن الصلاة، وهو للتحريم، ويقتضي فساد الصلاة بالإجماع. وقوله: "وإذا أدبرت" أي: انقطعت. وقوله: "فاغسِلي عنك الدم" يعني: واغتسلي، فذكر هنا غسل الدم، ولم يذكر الاغتسال، وذكر في كتاب الحيض في باب: إذا حاضت في شهر ثلاث حيض الاغتسال، فقال: "ثم اغتسلي وصلّي"، ولم يذكر غسل الدم، وهذا الاختلاف واقع بين أصحاب هشام، منهم من ذكر غسل الدم ولم يذكر الاغتسال، ومنهم من ذكر الاغتسال ولم يذكر غسل الدم، وكلهم ثقات، وأحاديثهم في "الصحيحين"، فيحمل على أن كل فريق اختصر أحد الأمرين لوضوحه عنده، إذ لابد من كل منهما. وفيه دلالة على أن فاطمة كانت معتادة، لتصريحه في الحديث الآتي بقوله: "دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها". وقوله: "وقال أبي" بفتح الهمزة وتخفيف الموحدة، أي: عروة بن الزبير، وادعى بعضهم أن هذا معلق، وليس بصواب، بل هو بالإسناد المذكور، وقد بين ذلك الترمذي في روايته. وادعى آخر أن قوله: "ثم توضّئي" من كلام عروة موقوفًا عليه، وفيه نظر؛ لأنه لو كان كلامه لقال: ثم تتوضأ بصيغة الإخبار، فلما أتى بصيغة الأمر شاكله الأمر الذي في المرفوع: "فاغسِلي". وقوله: "ثم توضئي لكل صلاة" لم ينفرد أبو معاوية بهذا عن هشام، فقد

رواه النسائي عن حمّاد بن زيد، عن هشام، وقد رواها الدارِمي عن يحيى بن سليم، عن هشام. وفي الحديث دليل على أن المرأة إذا ميَّزت دم الحيض من دم الاستحاضة تعتبر دم الحيض وتعمل على إقباله وإدباره، فإذا انقضى قدره اغتسلت عنه، ثم صار حكم دم الاستحاضة حكم الحدث، فتتوضأ لكل صلاة، لكنها لا تصلي بذلك الوضوء أكثر من فريضة واحدة مؤدّاة أو مَقْضِيّة، لظاهر قوله: "ثم توضّئي لكل صلاة"، وبهذا قال الجمهور. وعند الحنفية أن الوضوء متعلِّق بوقت الصلاة، فلها أن تصلي به الفريضة الحاضرة وما شاءت من الفوائت ما لم يخرُج وقت الحاضرة، وعلى قولهم، المراد بقوله: وتوضئي لكل صلاة، أي: لوقت كل صلاة، ففيه مجاز الحذف، ويحتاج إلى دليل. وعند المالكية: يستحب لها الوضوء، ولا يجب إلا يحدث آخر. وقال أحمد وإسحاق: إن اغتسلت لكل فرض فهو أحوط. وكون المستحاضة لا يجب عليها إلا الوضوء كسائر الأحداث هو مذهب الجمهور، وما ورد في حديث عائشة عند البخاري من أن أُم حبيبة، تعني ابنة جحش رضي الله تعالى عنها، كانت مستحاضة فأمرها أن تغتسل، وقال: "هذا عرق"، فكانت تغتسل لكل صلاة، فهذا الأمر الوارد منه عليه الصلاة والسلام بالاغتسال مطلق لا يدل على التكرار، فلعلها فهمت طلب ذلك منها بقرينة، فلهذا كانت تغتسل لكل صلاة. وقال الشافعي: إنما أمرها عليه الصلاة والسلام أن تغتسل وتصلي، وإنما كانت تغتسل لكل صلاة تطوعًا، وكذا قال الليث في روايته عند مسلم: لم يذكر ابن شهاب أنه -صلى الله عليه وسلم- أمرها أن تغتسل لكل صلاة، ولكنه شيء فعلته هي. ويؤيده ما رواه أبو داود عن عكرمة أن أُم حبيبة استُحيضت، فأمرها -صلى الله عليه وسلم- أن تنتظر أيام أقرائها، ثم تغتسل وتصلي، فإذا رأت شيئًا من ذلك توضأت وصلت. وأما ما وقع عند أبي داود من رواية سليمان بن كَثير وابن إسحاق، عن

رجاله ستة

الزهري في هذا الحديث: فأمرها بالغسل لكل صلاة. فقد طعن الحفاظ في هذه الزيادة؛ لأن الأثبات من أصحاب الزهري لم يذكروها، وقد مرَّ تصريح الليث بنفي ذكره لها. لكن روى أبو داود عن زينب بنت أبي سلمة أنه أمرها أن تغتسِل عند كل صلاة، فيُحمل الأمر على الندب جمعا بين الروايتين: هذه، ورواية عكرمة. وقد حمله الخطابي على أنها كانت متحيرة، وفيه نظر لما مرَّ عن عكرمة أنه أمرها أن تنتظر أيام أقرائها. ولمسلم عن عروة في هذه القصة: فقال لها: "امكثي قدرَ ما كانت تحبِسك حيضتُك"، ولأبي داود عن الأوزاعي وابن عُيينة عن الزهري في حديث الباب نحوه، لكن استنكر أبو داود هذه الزيادة في حديث الزهري، وأجاب بعض من قال: إنها كانت مميزة بأن قوله: "فأمرها أن تغتسل لكل صلاة" أي: من الدم الذي أصابها؛ لأنه من إزالة النجاسة، وهو شرط في صحة الصلاة. وقال الطحاوي: حديث أُم حبيبة منسوخ بحديث فاطمة بنت أبي حُبيش، أي: لأن فيه الأمم بالوضوء لكل صلاة لا الغسل، والجمع بين الحديثين يحمل الأمر في حديث أُم حبيبة على الندب أولى. وقوله: "إنما ذلك عِرْق" استدل به الحنفية على إيجاب الوضوء بخروج الدم من غير السبيلين؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- علّل نقض الطهارة بخروج الدم من العِرْق، وكل دم يبرز من البدن فإنما يبرز من عرق؛ لأن العروق هي مجاري الدم من الجسد. وقال الخطابي: ليس معنى الحديث ما ذهب إليه هؤلاء، ولا مراد النبي عليه الصلاة والسلام من ذلك ما توهَّموه، وإنما أراد أن العلة إنما حدثت بها من تصدع العرق، وتصدع العرق علة معروفة عند الأطبّاء، يحدث ذلك عند غلبة الدم، فتتصدع العروق، إذا امتلأت تلك الأوعية. رجاله ستة: الأول: محمد بن سلام البِيْكَنْدي، وقد مرَّ في الثالث عشر من كتاب

لطائف إسناده

الإيمان. ومرَّ أبو معاوية محمد بن خازم في الثالث منه أيضًا. ومرَّ هشام بن عروة وأبو عروة وعائشة أُم المؤمنين في الثاني من بدء الوحي. والسادس: فاطمة بنت أبي حُبَيْش بن المطلب بن أسد بن عبد العُزّى بن قُصي الأسدية القرشية، واسم أبي حُبيش: قيس بن المطَّلب، وقيل ابن عبد المطلب، وهي غير فاطمة بنت قَيْس التي طُلَّقت ثلاثًا. روى عنها: عروة بن الزبير. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والإخبار بصيغة الجمع في موضع، وفيه العنعنة في موضعين، وفيه ذكر أبي معاوية هنا بالكنية، وفي باب غسل البول بالاسم رعايةً للفظ الشيوخ، وفيه حكاية الصحابية عن سؤال الصحابية لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفيه أن البخاري هنا روى عن محمد غير منسوب عند الأكثرين، وصرح به في النكاح بقوله: حدّثنا محمد بن سلام، حدّثنا أبو معاوية. أخرجه البخاري هنا، ومسلم في الطهارة عن يحيى بن يحيى، والترمذي عن هنّاد بن السّريّ، وقال: حديث حسن صحيح، والنسائي عن إسحاق بن إبراهيم، وأبو داود عن أحمد بن يونس. باب غسل المني وفركه وغسل ما يصيب من المرأة لم يذكر المصنف حديثًا في الفرك، بل اكتفى بالإشارة إليه في الترجمة على عادته، وسأذكره قريبًا إن شاء الله تعالى. وقوله: "وغسل ما يصيب" أي: الثوب وغيره من المرأة. وفي هذه المسألة حديث صريح ذكره في أواخر كتاب الغسل عن عثمان، وقد مرَّ في باب من لم ير الوضوء إلاَّ من المخرجين، وتكلمنا هناك على هذا المعنى، ويمكن أن يكون المصنف استنبطه من أن المني الحاصل في الثوب لا يخلو غالبًا من مخالطة ماء المرأة أو رطوبتها.

الحديث الخامس والتسعون

الحديث الخامس والتسعون حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ الْجَزَرِيُّ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْتُ أَغْسِلُ الْجَنَابَةَ مِنْ ثَوْبِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَيَخْرُجُ إِلَى الصَّلاَةِ، وَإِنَّ بُقَعَ الْمَاءِ فِي ثَوْبِهِ. قوله: "أغسل الجنابة" أي: أثر الجنابة، فيكون على حذف مضاف؛ لأن الجنابة معنى لا يغسل، أو عبرت بها عن ذلك مجازًا، أو المراد المني من باب تسمية الشيء باسم سببه، فإن وجوده سبب لبعده عن الصلاة ونحوها، وحينئذ فلا حاجة إلى التقدير. وقوله: "فيخرج إلى الصلاة" أي: من الحجرة لأجلها. وقوله: "وإن بُقَع الماء" بضم الموحدة وفتح القاف، جمع بُقْعة، وهو الخلاف في اللونين. وقوله: "في ثوبه" أي: لم يجف؛ لأنه خرج مبادرًا إلى الصلاة، ولم يكن له ثياب يتداولها. ولابن ماجه: "وأنا أرى أثر الغَسْل فيه" أي: لم يجِفَّ. وفي رواية لمسلم عن عائشة: "لقد رأيتني وإني لأحُكّه من ثوب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يابسًا بظفري". وروى الترمذي وصححه عن همام بن الحارث: "إن عائشة أنكرت على ضيفها غسله الثوب الذي احتلم فيه لما أخبرتها بذلك الجارية، فقالت لها: أفسد علينا ثوبنا، إنما كان يكفيه أن يفركه بأصابعه، فربما فركته من ثوب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأصابعي". وفي رواية ابن خُزيمة: "إنها كانت تحكُّه من ثوبه -صلى الله عليه وسلم- وهو يصلي"، وفي رواية أخرى لابن خُزيمة عن عائشة: "كانت تَسْلُتُ المنيَّ من ثوبه بعرق الإذْخِر، ثم يصلي فيه، وتحكه من ثوبه يابسًا، ثم يصلي فيه. وفي رواية لمسلم عنها أيضًا: "لقد رأيتني أفرُكه من ثوب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

فركًا، فيصلّي فيه". وقد اختلف العلماء في نجاسة المني وطهارته، فذهب مالك وأبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي والثوري والليث والحسن بن حي وفي رواية عن أحمد إلى نجاسته، إلاَّ أن أبا حنيفة يكتفي في تطهير اليابس منه بالفرك، وأما مالك فيُوجب غسله رطبًا ويابسًا. وذهب الشافعي وأحمد وداود وإسحاق إلى أنه طاهر، وأنه لا يُفسد الماء، وأن حكمه في ذلك حكم النخامة. وعلى القول بنجاسته اختُلف في سبب تنجيسه، فقيل: لأن أصله دم غيرته الشهوة، ويرد على هذا عند المالكية عدم العفو عن دون الدرهم منه كالدم. وقيل: لقذارته، وأُورد عليه المخاط، وأجيب بأن الأصل اقتضاؤه التنجيس، وتخلف في المخاط للتكرر، وهو موجب للطهارة. وقيل: لمروره في مجرى البول، ويتخرج عليه طهارة مني ما بوله طاهر من الحيوانات. استدل القائلون بنجاسته بالأحاديث الأربعة التي أخرجها المصنف، وغيرها من الأحاديث المذكور فيها الغسل، ففي جميعها قالت عائشة: "كنت أغسل"، وقولها: "كنت" يدل على تكرار هذا الفعل منها، وهذا أدل دليل على نجاسة المني. وأيضًا أعلى مراتب الأمر الوجوب، وأدناها الإباحة، ولا وجه للثاني هنا؛ لأن عليه الصلاة والسلام لم يتركه على ثوبه أبدًا، وكذلك الصحابة من بعده، ومواظبته -صلى الله عليه وسلم- علي فعل شيء من غير ترك في الجملة يدل على الوجوب بلا نزاع فيه. وأيضاً الأصل في الكلام الكمال، فإذا أطلق اللفظ ينصرف إلى الكامل، إلاَّ أن يَصْرِفَ ذلك قرينة تقوم فتدُل عليه حينئذٍ، وفحوى كلام أهل الأصول أن الأمر المطلق المجرد عن القرائن يدلُ على الوجوب. واستدل القائلون بطهارته بما مرَّ من الأحاديث الدالة على عدم غسله، كحديث عائشة المار أنها كانت تَسْلُت المني من ثوبه بعِرْق ثم يصلي فيه، وتحكُّه من ثوبه يابسًا ثم يصلي فيه، فإنه يتضمن ترك الغسل في الحالين،

وبحديثها المار أيضًا من أنها كانت تفركه من ثوبه فركًا فيصلي فيه، قالوا: وهذا التعقيب بالفاء ينفي احتمال تخلل الغسل بين الفرك والصلاة. وبحديثها المار أيضًا أنها كانت تحكه من ثوبه -صلى الله عليه وسلم- وهو يصلي، فهذه هي أقوى الأحاديث التي استدلّوا بها للتصريح فيها بالصلاة في الثوب. وحملوا أحاديث الغَسل على الاستحباب للتنظيف لا على الوجوب. وقد مرَّ تقرير دلالة أحاديث الغسل على الوجوب. والجواب عن الحديث الأول أنه غير متضمن لترك الغسل في الحالين؛ لأن التعبير فيه بثمَّ الدالة على التراخي، فيمكن أن يقع الغسل بين السَّلْت والحكِّ والصلاة في الثوب كما مرَّ قريبًا في الدم من قوله: تحتُّه أو تحكُّه قصدًا للتخفيف، وهم لا يقولون بطهارة الدم، فكذلك المني هنا. والجواب عن الثاني من كون التعقيب بالفاء ينفي احتمال تخلل الغسل بين الفرك والصلاة هو أن كون الفاء للتعقيب لا ينفي احتمال تخلل الغسل؛ لأن أهل العربية قالوا: إن التعقيب في كل شيء بحسبه، ألا ترى أنهم قالوا: تزوج فلان فوُلد له إذا لم يكن بينهما إلا مدة الحمل، وهي مدة متطاولة، فيجوز على هذا أن يكون معنى قول عائشة أنها كانت تفركه من الثوب ثم تغسله فيصلي فيه، ويجوز أن الفاء بمعنى ثم، كما في قوله تعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} [المؤمنون: 14]، فالفاءات فيها بمعنى ثم، لتراخي معطوفاتها، فإذا ثبت جواز التراخي في المعطوف، يجوز أن يتخلّل بين المعطوف والمعطوف عليه مدة يجوز وقوع الغسل في تلك المدة، ويؤيد كون الواو بمعنى ثم رواية البزار في "مسنده"، والطحاوي في "معاني الآثار" لهذا الحديث عن عائشة أنها قالت: "كنت أفرُكُ المنيَّ من ثوب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم يصلي فيه" فصرح بثمَّ الدالة على التراخي، وخير ما فسرته بالوارد. والجواب عن الثالث هو أن قولها: "وهو يصلي" جملة اسمية وقعت حالًا منتظرةً، أي: والحال أنه منتظر للصلاة، لا أن عائشة رضي الله تعالى عنها كانت

تحكُّه من ثوبه عليه الصلاة والسلام في حال كونه في الصلاة، وإذا كان الأمر كما ذُكر احتمل تخلُّل الغسل بين الفَرْك والصلاة. وحملت المالكية ما ورد من فرك اليابس في الأحاديث على إرادة التخفيف ثم الغسل بعد ذلك كما مرَّ، أو على أن ذلك كان في ثوب النوم المتَّخذ له من غير أن يصلي فيه، والنوم في الثوب النجس لا بأس به. وقالت الحنفية: أحاديث الغسل تدُل على نجاسة المني وعلى وجوب غسله، ولكن خُصَّ تطهير اليابس منه بالفرك بأحاديث الفرك، وأورد عليهم أنه إذا كان نجسًا كان القياس وجوب غسله دون الاكتفاء بفركه كالدم وغيره، وهم لا يكتفون فيما لا يُعفى عنه من الدم بالفرك، وأن ما لا يجب غسلُ يابسه لا يجب غسل رطبه كالمخاط. وأجابوا عن الأول بأنه لم يأت نص بجواز الفرك في الدم ونحوه، وإنما جاء في يابس المني على خلاف القياس، فيُقتصر على مورد النص. وعن الثاني بأن المخاط لا يتعلّق بخروج حدث ما أصلًا، والمني موجب لأكبر المحدثين وهو الجنابة، فإن قلت: سقوط الغسل في يابسه يدل على الطهارة، فالجواب: لا نسلم ذلك كما في موضع الاستنجاء. واستدل بعض القائلين بطهارته بأنه أصل الأنبياء والأولياء فيجب أن يكون طاهرًا، ورُد بأنه أصل الأعداء أيضًا كفرعون والنمرود وهامان وغيرهم، وبأن العلقة أقرب إلى الإِنسان من المني، وهي أيضًا أصل الأنبياء عليهم السلام، ومع هذا لا يقال: إنها طاهرة. وأجاب بعضهم عن الاستدلال بحديث الفرك على طهارة المني، بأن منيَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- طاهر دون غيره كسائر فضلاته. وأجيب عن هذا بأنه على تقدير صحة طهارة منيِّه عليه الصلاة والسلام، يقال: إن منيَّه كان عن جماع، فيخالط مني المرأة، فلو كان منيُّها نجسًا لم يُكتفَ فيه بالفرك، وبهذا احتج الشيخ الموفق وغيره على طهارة رطوبة فرجها. ومن قال: إن المني لا يسلم من المذي

رجاله خمسة

فيتنجس به لم يصب؛ لأن الشهوة إذا اشتدت خرج المني دون المذي والبول، كحالة الاحتلام. رجاله خمسة: الأول: عبدان، والثاني: عبد الله بن المبارك، وقد مرَّا في الخامس من بدء الوحي. والثالث: عَمرو بن ميمون بن مِهْران الجَزَري أبو عبد الله، وقيل: أبو عبد الرحمن الرَّقّي، أمه أم عبد الله بنت سعيد بن جُبَيْر. ذكره ابن حِبّان في "الثقات". ووثقه النَّسائي. وقال ابن مَعين: ثقة. وقال ابن خِراش: شيخ صدوق. وقال ابن سَعيد: كان ثقة إن شاء الله تعالى. وقال المَيْموني: سمعت أبي يصِفُ عمرو بن ميمون بالقرآن والنحو، قال: وحدثني أبي قال: ما سمعت عَمرًا يغتابُ أحدًا قطُّ، قال: وسمعته يقول: لو علمت أنه بُقي على حرف من السنة باليمن لأتيتها. ووجه ميمون بن مهران عَمرًا إِلى عمر بن عبد العزيز يستعفيه من ولاية الجزيرة، فلم يعفه، وولي عمرو البريدَ. روى عن: أبيه، وسليمان بن يسار، والشعبي، وأبي قِلابة، ونافع مولى ابن عمر، ومكحول، وعمر بن عبد العزيز، والزُّهري، وغيرهم. وروى عنه: ابنه عبد الله وابن أخيه بزيع، وابن أخيه أيضًا عبد الحميد بن عبد الحميد، ومحمد بن إسحاق، وهو من أقرانه، والثوري، وابن المبارك، ويزيد بن زُرَيْع، وأبو معاوية، وخلق. مات بالكوفة، وقيل: بالرقة، سنة خمس وأربعين ومئة. والجَزَري في نسبه نسبة إلى الجزيرة؛ لأن والده ميمون نزلها، وكان واليًا عليها، فنُسب إليها. والرابع: سُليمان بن يَسار -ضد اليمين- السَّلامي أبو أيوب، وقيل: أبو عبد الرحمن، وقيل: أبو عبد الله، المدني، مولى ميمونة بنت الحارث. وقيل: كان مُكاتَبًا لأُم سلمة.

لطائف إسناده

أحد الفقهاء السبعة. أهل الفقه والفضل والصلاح. وقال الحسن بن محمد بن الحنفية: سليمان بن يسار عندنا أفهم من ابن المسيِّب، وكان ابن المسيِّب يقول للسائل: اذهب إلى سُليمان بن يسار، فإنه أعلم من بقي اليوم. وقال مالك: كان سليمان بن يسار من علماء الناس بعد ابن المسيِّب. وقال أبو زُرعة: ثقة مأمون فاضل عابد. وقال النَّسائي: أحد الأئمة. وقال ابن سعد: كان ثقة عالمًا رفيعًا فقيهًا كثير الحديث. وقال العجلي: مدني تابعي ثقة مأمون فاضل عابد. وقال ابن حِبّان في "الثقات": وهبت ميمونة ولاءه لابن عباس، وكان من فقهاء المدينة وقرائهم. وقال قَتادة: قدمت المدينة، فسألت من أعلم أهلها بالطلاق، فقالوا: سليمان بن يسار. روى عن: ميمونة، وعائشة، وأُم سلمة، وفاطمة بنت قَيْس، وحمزة بن عمرو، وزيد بن ثابت، وابن عباس، وجابر بن عبد الله، والمقداد بن الأسود، وأبي هُريرة، والرُّبَيِّع بنت معوِّذ، وأبي رافع مولى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وخلق. وروى عنه: عمرو بن دينار، وعبد الله بن دينار، وعبد الله بن الفضل الهاشمي، وأبو الزِّناد، وبُكير بن الأشجّ، وعمرو بن ميمون، ونافع مولى ابن عمر، ومكحول، وغيرهم. مات سنة عشر ومئة، وقيل: سنة سبع. والخامس: أُم المؤمنين عائشة، مرَّ ذكرها في الحديث الثاني من بدء الوحي. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد، والإِخبار بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في موضعين، ورواته ما بين مَرْوَزِي ورَقّي ومدني، فعبدانُ وعبد الله مروزِيّان. أخرجه البخاري في الطهارة هنا في مواضع، عن عبدان هذا، وعن قتيبة، وعن مسدَّد، وعن موسى بن إسماعيل، وعن عمرو بن خالد كما يأتي ذكر

الجميع. ومسلم في الطهارة عن أبي بكر بن أبي شَيْبة، وغيره. وأبو داود فيها عن النُّفَيلي. والتِّرمذي فيها عن أحمد بن منيع، وقال: حسن صحيح. والنَّسائي فيها عن سُويد بن نصر. وابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شَيْبة.

الحديث السادس والتسعون

الحديث السادس والتسعون حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو عَنْ سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ ح وَحَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنِ الْمَنِيِّ يُصِيبُ الثَّوْبَ فَقَالَتْ: كُنْتُ أَغْسِلُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَيَخْرُجُ إِلَى الصَّلاَةِ وَأَثَرُ الْغَسْلِ فِي ثَوْبِهِ بُقَعُ الْمَاءِ. قوله: "عن المني" أي: عن حكم المني هل يشرع غسله أم لا، فحصل الجواب بأنها كانت تغسله. وقوله: "في ثوبه بُقعُ الماء" بضم العين على أنه بدل من قوله: "أثر الغسل"، ويجوز النصب على الاختصاص. وفي هذه الرواية جواز سؤال النساء عمّا يُستحيى منه لمصلحة تعلُّم الأحكام، وفيه خدمة الزوجات للأزواج، وقد استوفيت مباحثه في الذي قبله. رجاله سبعة: مرَّ قُتيبة بن سعيد في الثاني والعشرين من كتاب الإِيمان، ومرَّ مسدَّد بن مُسَرْهد في السادس منه، ومرَّ عبد الواحد بن زياد في الثلاثين من كتاب الإيمان أيضًا، ومرت عائشة في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ عمرو بن ميمون وسليمان بن يسار في الحديث الذي قبله. والثاني من السند: يزيد، ذكره البخاري غيرٍ منسوب، واختُلف فيه، قيل: يزيد بن هارون، وقيل: يزيد بن زُريع، فإن كلًّا منهما روى عن عمرو بن ميمون، وروى قُتيبة عن كل منهما أيضًا، فإن كان المراد يزيد بن هارون فقد

مرَّ تعريفه في الخامس عشر من كتاب الوضوء هذا، وإن كان المراد الآخر فهو: يزيد بن زُرَيْع بتقديم الزاي مصغرًا العَيْشي -بتحتانية- ويقال: التميمي، أبو معاوية البصري الحافظ. قال إبراهيم بن محمد بن عَرْعرة: لم يكن أحد أثبت من يزيد بن زُريع. وقال أحمد: إليه المنتهى في التثبت بالبصرة. وقال فيه أيضًا: كان ريحانة أهل البصرة. وقال أيضًا فيه: ما أتقنه وما أحفظه، يا لك من صحة حديث صدوق متقن. قال: وكل شيء رواه يزيد بن زُريع عن سعيد بن أبي عَروبة فلا تبالِ أن لا تسمعَهْ من أحد، سماعه منه قديم، وكان يأخذ الحديث بنية. وسئل يَحيى بن مَعين: يزيد بن زُريع وعبد العزيز العمّي أيهما مقدم؟ فقال: يزيد أوثق. وقال أيضًا: يزيد بن زُرَيع الصدوق الثقة المأمون. وقال معاوية بن صالح: قلت لابن مَعين: مَنْ أثبت شيوخ البصريين؟ قال: يزيد بن زُريع. وقال ابن المبارك لرجل يحدث عن يزيد بن زُريع: عن مثله فحدِّثْ. وقال أبو عَوانة: صحبت يزيد بن زُريع أربعين سنة، يزداد كل يوم خيرًا. وقال محمد بن المثنى السِّمار: سمعت بشر بن الحكم، وذُكر يزيد بن زُريع، فقال: كان متقنًا حافظًا ما أعلم أني رأيت مثله ومثل صحة حديثه. وقال عمرو بن علي: أعلى من روى عن شُعبة يزيد بن زُريع، ويحيى بن سعيد، وذكر جماعة. وقال أبو حاتم: ثقة إمام. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، كان من أورع أهل زمانه، مات أبوه وكان واليًا على الأُبُلّة، وخلف خمس مئة ألف، فما أخذ منها حبة. وقال نصر بن علي الجَهْضَمي: رأيتُ يزيد بن زُريع في النوم، فقلت: ما فعل الله تعالى بك؟ فقال: أدخلني الجنة. قلت: بم ذلك؟ قال: بكثرة الصلاة. وقال عبد العزيز القواريري: لم يكن يحيى بن سعيد يقدِّم في سعيد بن أبي عَروبة إلا يزيد بن زُرَيع. وقال محمد بن عيسى الطبّاع: ذكروا الفقهاء وأصحاب الحديث ومن لا يُطعن عليه في شيء فذكروا مالكًا وحمّاد بن زيد ويزيد بن زُريع. روى عن: سليمان التميمي، وحُميد الطويل، وأبي سلمة سعيد بن يزيد،

لطائف إسناده

وعَمرو بن ميمون، وخالد الحذّاء، وسعيد بن أبي عَروبة، وشعبة، والثوري، وخلق. وروى عنه: ابن المبارك، وابن مهدي، ويحيى بن غَيْلان، ويحيى بن يَحْيى النيسابوري، وعبد الأعلي بن حمّاد، وقتيبة، وعمرو بن علي، وخلق كثير. ولد سنة إحدى ومئة، ومات في شوال بالبصرة سنة اثنتين وثمانين ومئة. والعَيْشي في نسبه مرَّ في الرابع والعشرين من الإيمان. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع في ستة مواضع، والعنعنة في موضعين. وفي الإِسناد الأول: سمعت، وفي الثاني: سألت، إشارة إلى الرد على مَنْ زعم أن سليمان بن يسار لم يسمع من عائشة رضي الله تعالى عنها، وقد صرَّح البخاري بسماعه منها، وكذا هو في "صحيح" مسلم، فتبين صحة سماعه منها، وأن رفعه صحيح مع فتواه به، وليس بين فتواه وروايته تناف، وكذا لا تأثير في اختلاف الروايتين، حيث وقع في إحداهما أن عَمرًا سأل سليمان، وفي الأخرى أن سليمان سأل عائشة؛ لأن كلًّا منهما سأل شيخه، فحفظ بعض الرواة ما لم يحفظ بعض، وكلهم ثقات. وفي سألت وسمعت لطيفة أخرى، وهي أن كل واحدة من اللفظتين لا تستلزم الأخرى، فالسماع لا يستلزم السؤال، والسؤال لا يستلزم السماع، فذكرهما في الإسنادين ليدل على صحة السؤال والسماع. ورواته ما بين بصري وواسطي ومدني. وفيه وقعت صورة "ح" إشارة إلى التحويل من سند قبل ذكر متن الحديث إلى سند آخر له، ومرَّ الكلام عليها في الخامس من بدء الوحي.

باب إذا غسل الجنابة أو غيرها فلم يذهب أثره

وفي الإِسناد الثاني: حدّثنا عمرو، يعني ابن ميمون، إشارة إلى أن شيخه لم ينسبه، وهذا تفسير له من تلقاء نفسه، ومرّ الكلام على حكم ذلك في الحديث السادس من كتاب الوضوء. ولا يقدح التباس يزيد، هل يزيد بن هارون أو يزيد بن زُريع، في الحديث؛ لأن أيًّا كان فهو عدل ضابط بشرط النجاري، وإنما يقدح لو كان أحدهما على غير شرطه. ومرَّ ذكر مواضع إخراجه في الحديث الذي قبل هذا. باب إذا غسل الجنابة أو غيرها فلم يذهب أثره ذكر في الباب حديثَ الجنابة، مستدلًّا به على أن بقاء الأثر بعد زوال العين في إزالة النجاسة لا يضر، ولهذا ترجم بهذه الترجمة، وأعاد الضمير مذكَّرًا في قوله: "فلم يذهب أثره"، على المعنى، أي: فلم يذهب أثر الشيء المغسول، ومراده أن ذلك لا يضُرُّ، والمراد بالأثر ما تعسُرُ إزالته من اللون والريح دون الطعم، فلابد من إزالته لسهولة إزالته غالبًا، ولأن بقاءه يدُل على بقاء العين، والأظهر كما قال القسطلاني: إن بقاء اللون والريح معًا يضر لقوة دلالتهما على بقاء عين النجاسة، وبما ذكر يحصُل الجمع بين هذا وبين حديث أُم قيس: "حكيه بضلع واغسِليه بماءٍ وسَدَر" أخرجه أبو داود، وإسناده حسن. ولم يذكر المصنف في الباب غير حديث الجنابة، وألحق غيرها بها قياسًا، أو أشار بذلك إلى ما رواه أبو داود وغيره عن أبي هريرة أن خولة بنت يسار قالت: يا رسول الله: ليس لي إلاَّ ثوب واحد، وأنا أحيضُ، فكيف أصنع؟ قال: "إذا طهرتِ فاغسِليهِ، ثم صلّي فيه". قالت: فإن لم يخرجِ الدم؟ قال: "يكفيكِ الماءُ ولا يضرُّك أثره" وفي إسناده ضعف، وله شاهد مرسل ذكره البيهقي، ولما لم يكن هذا الحديث على شرط المصنف، استنبط من الحديث الذي على شرطه ما يدُلُّ على ذلك المعنى كعادته.

الحديث السابع والتسعون

الحديث السابع والتسعون حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ قَالَ: سَأَلْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ فِي الثَّوْبِ تُصِيبُهُ الْجَنَابَةُ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ كُنْتُ أَغْسِلُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى الصَّلاَةِ وَأَثَرُ الْغَسْلِ فِيهِ بُقَعُ الْمَاءِ. قوله: "سمعت سليمان بن يسار في الثوب" أي: يقول في مسألة الثوب، وللكُشمِيهني: "سألت سُليمان بن يسار في الثوب" أي: قلت له: ما تقول في الثوب؟ أو: في بمعنى عن. وقوله: "اغسله" أي: أثر الجنابة أو المني. وقوله: "وأثر الغسل فيه" أي: في الثوب. وقوله: "بقع الماء" بدل من قوله: "وأثر الغسل". رجاله خمسة: الأول: موسى بن إسماعيل، وقد مرَّ في الحديث الخامس من بدء الوحي. ومرَّ عبد الواحد بن زياد في الثلاثين من كتاب الإِيمان. ومرَّ عمرو بن ميمون وسليمان بن يسار في الرابع والتسعين من هذا الكتاب. ومرت عائشة في الثاني من بدء الوحي.

الحديث الثامن والتسعون

الحديث الثامن والتسعون حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَغْسِلُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، ثُمَّ أَرَاهُ فِيهِ بُقْعَةً أَوْ بُقَعًا. قوله: "أنها كانت" يحتمل أن يكون مذكورًا بالمعنى من لفظها، أي: قالت: كنت أغسل، ليشاكل قولها: "ثم أراه"، أو حذف لفظ قالت، قيل قولها: "ثم أراه". وقوله: "ثم أراه فيه" أي: أبصر الثوب فيه الأثر الدال عليه. وقوله: "تغسل المني" أي: أرى أثر الغسل في الثوب، وفي بعض النسخ: "ثم أرى" بدون الضمير المنصوب، فعلى هذا يكون الضمير المجرور في قوله: "فيه" للثوب، أي: أرى في الثوب بقعة، فالنصب على المفعولية. وقوله: "بقعةً أو بقعًا" يحتمل أن يكون من كلامها، وينزل على حالتين، أو شكًّا من أحد رواته، وعلى رواية وجود ضمير النصب في أراه تكون بقعة منصوبة على الحال، وقد استوفيت مباحثه في الرواية الأولى. رجاله خمسة: الأول: عمرو بن خالد، والثاني: زهير بن معاوية، وقد مرَّا في الرابع والثلاثين من كتاب الإيمان. ومرَّ عمرو بن ميمون وسليمان بن يسار في الرابع والتسعين من هذا الكتاب. ومرت عائشة رضي الله تعالى عنها في الثاني من بدء الوحي.

باب أبوال الإبل والدواب والغنم ومرابضها

باب أبوال الإبل والدواب والغنم ومرابضها المراد بالدّواب معناه العُرفي، وهو ذوات الحافر من الخيل والبغال والحمير، ويحتمل أن يُراد المعنى اللغوي، وهو اسم لكل ما يدِبُّ على الأرض، وعلى هذا يكون من عطف العام على الخاص، ثم عطف الخاص على العام، والأول أوجه، ولهذا ساق أثر أبي موسى في صلاته في دار البريد، لأنها مأوى الدواب التي تُركب، وحديث العُرَنيّين، ليُستدل به على طهارة أبوال الإِبل، وحديث مرابض الغنم، ليُستدل به على ذلك، والمرابض جمع مِرْبَض بكسر أوله وفتح الموحدة بعدها معجمة، وهي للغنم، كَالمعاطِن للإبل، ورُبوض الغنم كبُروك الإبل. ولم يُفصح المصنف بالحكم كعادته في المختَلَف فيه، لكن ظاهر إيراده حديث العُرَنيين يُشعر باختياره الطهارة، ويدل على ذلك قوله في حديث صاحب القبر المار: "ولم يذكر سوى بول الناس" وإلى ذلك ذهب الشعبي وابن عُلية وداود وغيرهم، إلاَّ أنهم استثنوا بول الآدمي ورَوْثه، وهو يرد على من نقل الإِجماع على نجاسة بول غير المأكول مطلقًا، وقد قدمنا حكمه عند حديث صاحب القبر. وصَلَّى أبُو مُوسَى في دَارِ البَريدِ والسِّرْقِينُ والبَرِّيّةُ إلى جنْبِه فَقَالَ: هَاهُنا وثَمَّ سَوَاءٌ. البريد: موضع بالكوفة، كانت الرسل تنزل فيه إذا حضرت من الخلفاء إلى الأمراء، وكان أبو موسى أميرًا على الكوفة في زمن عمر وعثمان، وكانت الدار في طرف البلد، ولهذا كانت البرية إلى جنبها. وقال المطرِّزي: البريد في الأصل الدابة المرتبة في الرباط، ثم سُمي به الرسول المحمول عليها، ثم سميت به المسافة المشهورة اثني عشر ميلًا، وكان لعُمر رجل بريد اسمه هَمْدان، روى عنه. والسِّرْقين -بكسر السين وإسكان الراء- هو الزِّبل، وحُكي فتح أوله، وهو

فارسي معرب؛ لأنه ليس في الكلام من فَعْليل -بالفتح-، ويقال له: السِّرجين -بالجيم-، وهو في الأصل حرف بين القاف والجيم، يقرب من الكاف. والبرية، الصحراء، منسوبة إلى البر. وقوله: "هاهنا وثم سواء" يريد أنهما متساويان في صحة الصلاة؛ لأن ما فيها من الأرواث والبول طاهر، فلا فرق بينها. ولفظ الأثر عن مالك بن الحُوَيْرث، عن أبيه: صلَّى بنا أبو موسى في دار البريد، وهناك سِرقين الدواب، والبرية على الباب، فقالوا: لو صليت على الباب، فذكره. وتعقبه القائلون بالنجاسة، فقالوا: لا دِلالة فيه، لاحتمال أنه صلّى على حائل بينه وبين ذلك. وأجيب بأن الأصل عدمه، وقد رواه الثوري في "جامعه" عن الأعمش بسنده، ولفظه: صلّى بنا أبو موسى على مكان فيه سِرقين. وهذا ظاهر في أنه بغير حائل. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" بلفظ: فصلّى بنا على رَوْث وتبنٍ، فقلنا: تصلي هاهنا والبرية إلى جنبك؟ فقال: البرية وهاهنا سواء. وهذا أيضًا كذلك. وقد روى سعيد بن منصور، عن ابن المسيب وغيره أن الصلاة على الطِّنْفِسة محدثة، وإسناده صحيح. قالوا: فالأولى في الجواب أن يقال: إن هذا من فعل أبي موسى، وقد خالفه غيره من الصحابة كابن عمر وغيره، فلا يكون حجة، أو لعل أبا موسى كان لا يرى الطهارة شرطًا في صحة الصلاة، بل يراها واجبةً برأسها، وهو مذهب مشهور، وقد مرَّ مثله في قصة الصحابي الذي صلّى بعد أن جُرح وظهر عليه الدم الكثير، فلا تكون فيه حجة على أن الروث طاهر، كما أنه لا حجة في ذلك على أن الدم طاهر. قلت: هذا الجواب غير ظاهر؛ لأن أبا موسى لم يكن منفردًا بذلك الفعل حتى يصحَّ ما قيل فيه، بل كان معه جمع من الصحابة والتابعين، ولم ينكر عليه أحد منهم ما قال، فما أبعد هذا من القياس على ما قيل، وقياس غير المأكول

على المأكول غير واضح؛ لأن الفرق بينهما متجه على ثبوت أن روث المأكول طاهر، وسأذكر قريبًا ما قيل فيه. وهذا الأثر وصله أبو نعيم شيخ المؤلف في كتاب الصلاة. ومرَّ تعريف أبي موسى في الرابع من كتاب الإيمان.

الحديث التاسع والتسعون

الحديث التاسع والتسعون حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَدِمَ أُنَاسٌ مِنْ عُكْلٍ أَوْ عُرَيْنَةَ، فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِلِقَاحٍ، وَأَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا، فَانْطَلَقُوا، فَلَمَّا صَحُّوا قَتَلُوا رَاعِيَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَاسْتَاقُوا النَّعَمَ، فَجَاءَ الْخَبَرُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، فَبَعَثَ فِي آثَارِهِمْ، فَلَمَّا ارْتَفَعَ النَّهَارُ جِيءَ بِهِمْ، فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، وَسُمِرَتْ أَعْيُنُهُمْ، وَأُلْقُوا فِي الْحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ فَلاَ يُسْقَوْنَ. قَالَ أَبُو قِلاَبَةَ: فَهَؤُلاَءِ سَرَقُوا وَقَتَلُوا وَكَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ، وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ. قوله: "عن أيوب، عن أبي قلابة" كذا رواه البخاري وأبو عَوانة وأبو داود وأبو نُعيم، وخالفهم مسلم، فزاد بين أيوب وأبي قِلابة أبا رجاء مولى أبي قِلابة. قال الدارقطني وغيره: ثبوت أبي رجاء وحذفه في حديث حمّاد بن زيد عن أيوب صواب؛ لأن أيوب حدث به عن أبي قِلابة في قصة العُرَنيين خاصة، فرواه أكثر أصحاب حمّاد مقتصرين عليها، وحدث به أيوب أيضًا عن أبي رجاء عن أبي قِلابة، وزاد فيه قصة طويلة لأبي قِلابة مع عمر بن عبد العزيز، تأتي إن شاء الله تعالى في كتاب الديات، ووافقه على ذلك حجّاج الصوّاف عن أبي رجاء، فالطريقان جميعًا صحيحان. وقوله: "عن أنس"، زاد الأصيلي: "ابن مالك". وقوله: "قدم أناس" وللأصيلي والكشميهني والسرخسي: "ناس" أي: على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وصرح به المصنف في الديات. وقوله: "من عُكْل أو عُرَيْنة"، عُكْل -بضم العين وسكون الكاف- قبيلة من

تَيْم الرَّباب، وعُرَيْنة -بالعين والراء المهملتين والنون مصغرًا- حي من قُضاعة، وحي من بجَيلة، والمراد هنا الثاني كما ذكره موسى بن عقبة في المغازي، والطبراني. وغلِط من زعم أن عُرَينة هم عُكْل، بل هما قبيلتان متغايرتان، عُكْل من عدنان، وعُرَيْنة من قَحْطان. وغلِط أيضًا مَنْ قال: إنهم من بني فَزارة؛ لأن بني فَزارة من مُضر، لا يجتمعون مع عُكْل ولا مع عُرَينة. والشك فيه من حمّاد. وقال الكِرْماني: ترديد من أنس. وقال الداوودي: شك من الراوي. وللمؤلف في الجهاد عن أيوب: "إن رهطًا من عُكْل" ولم يشك، وله في الزكاة عن قتادة: "إن رهطًا من عُرَيْنة" ولم يشك، وكذا لمسلم. وفي المغازي عن قتادة أيضًا: "إن ناسًا من عُكْل وعُرَيْنة" بالواو العاطفة. قال في "الفتح": وهو الصواب ويؤيده ما رواه أبو عَوانة والطبري عن أنس قال: كانوا أربعة من عُرَينة وثلاثة من عُكْل، قال: وهذا لا يخالف ما عند المصنف في الجهاد والديات عن أنس بطريقين: "إن رهطًا من عُكْل ثمانية" لاحتمال أن يكون الثامن من غير القبيلتين، وكان من أتباعهم، فلم ينسب. وغَفَل من نسب عدتهم ثمانية لأبي يعلى، وهي عند البخاري ومسلم. قلت: هذا الجواب عن العدد، فأين الجواب عن كون الثمانية من عُكْل، وفي الذي قبله من عُكْل وعُرينة. ولابن إسحاق في المغازي أن قدومهم كان بعد غزوة ذي قرد، وكانت في جمادى الآخرة سنة ست، وذكرها المصنف بعد الحُدَيْبية، وكاتَ في ذي القعدة منها. وذكر الواقدي أنها كانت في شوال منها، وتبعه ابن سعد وابن حِبّان وغيرهما. وللمصنف في المحاربين عن أيوب أنهم كانوا في الصفة قبل أن يطلبوا الخروج إلى الإبل. وقوله: "فاجتَوَوا المدينة" بالجيم وواوين، أي: أصابهم الجوى، وهو داء الجَوْف إذا تطاول. ويقال: اجتويتُ البلد إذا كَرهْتُ المُقام فيه، وإن كنت في

نعمة. وقيده الخطابي بما إذا تضرر بالإقامة، وهو المناسب لهذه القصة. وقيل اجتَوَوا، أي: لم يوافقهم طعامها، زاد المصنف في رواية يحيى بن أبي كثير قبل هذا: "فأسلموا"، وفي رواية أبي رجاء قبل هذا: "فبايعوه على الإِسلام"، وللمصنف عن قتادة في هذه القصة: "فقالوا: يا رسول الله: إنا كنا أهل ضَرْع، ولم نكن أهل ريف"، وله في الطب عن ثابت: "إن ناسًا كان بهم سُقْم، قالوا: يا رسول الله: آوِنا وأطعمنا. فلما صحّوا، قالوا: إن المدينة وخمة"، والظاهر أنهم قدموا سِقامًا، فلما صحوا من السُّقم كرهوا الإقامة في المدينة لوخَمها. والسقم الذي كان بهم هو الهزال الشديد والجهد من الجوع، فعند أبي عَوانة عن أنس: "كان بهم هزال شديد"، وعنده أيضًا عنه: "مصفرةٌ ألوانُهم"، وأما الوَخَم الذي شكَوا منه بعد أن صحت أجسامهم فهو من حُمّى المدينة كما عند أحمد، وعن مسلم عن أنس: "وقع بالمدينة المُوم" -بضم الميم وسكون الواو-، وهو البِرْسام -بكسر الموحدة- سرياني معرب، يطلق على اختلال العقل، وعلى ورم الرأس والصدر، والمراد هنا الأخير. فعند أبي عَوانة عن أنس في هذه القصة: "فعَظُمت بطونُهم". وقوله: "فأمرهم بلِقاح" بلام مكسورة، جمع لَقُوح كقَلوص وقِلاص، أو جمع لِقْحة بكسر اللام، وهي النوق ذوات الالبان، ويقال لها ذلك إلى ثلاثة أشهر، ثم هي لبون. والمعنى: أمرهم أن يلحقوا بها، وللمصنف عن أبي قَتادة: "فأمرهم أن يلحَقوا براعيه"، وله عن حماد: "فأمر لهم بلِقاح" بزيادة اللام، فيحتمل أن تكون زائدة، أو للتعليل، أو لشبه الملك، أو للاختصاص، وليست للتمليك. وعند أبي عَوانة أنهم بدؤوا بطلب الخروج إلى اللقاح، فقالوا: "يا رسول الله: قد وقع هذا الوخم، فلو أذنت لنا فخرجنا إلى الإبل". وللمصنف عن أيوب أنهم قالوا: "يا رسول الله: أبغِنا رِسلًا" أي: اطلب لنا لبنًا. قال: "ما أجِدُ لكم إلا أن تلحقوا بالذَّود"، وفي رواية أبي رجاء: "هذه لقاح لنا تخرج، فاخُرجوا فيها"، وظاهر ما مر أن اللقاح كانت له عليه الصلاة والسلام، وصرح بذلك في

المحاربين، فقال: "إلا أن تلحَقوا بإبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، وله فيه وفي الزكاة: "فأمرهم أن يأتوا إبل الصدقة"، والجمع بين ذلك هو أن إبل الصدقة كانت ترعى خارج المدينة، وصادف بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- بلقاحه إلى المرعى طلب هؤلاء النفر الخروج إلى الصحراء لشرب ألبان الإبل، فأمرهم أن يَخْرُجوا مع راعيه، فخرجوا معه إلى إبل الصدقة، ففعلوا ما فعلوا. وذكر ابن سعد أن عدد لقاحه عليه الصلاة والسلام خمس عشرة، وأنهم نحروا منها واحدة يقال لها الحناء وتابع في هذا الواقدي، وقد ذكره في "مغازيه" مرسلًا بإسناد ضعيف، وعند أبي عَوانة: "كانت ترعى بذى الجْدر" بالجيم والدال المهملة الساكنة، ناحية قُباء، قريبًا من عين على ستة أميال من المدينة. وقوله: "وأن يشربوا من أبوالها وألبانها": أي: وأمرهم بالشرب منهما وله في رواية أبي رجاء: "فاخرُجوا فاشربوا من أبوالها وألبانها" بصيغة الأمر، وفي رواية قتادة: "فرخَّص لهم أن يأتوا الصدقة فيشربوا". أما شربهم ألبان الصدقة فلأنهم من أبناء السبيل، وأما شربهم لبن لقاحه عليه الصلاة والسلام فبإذنه المذكور. وأما شربهم البول فاحتج به من قال بطهارته. قال في "الفتح": أما في الإبل فبهذا الحديث الصحيح، وأما في غيرها من مأكول اللحم فبالقياس عليها. قلت: ليس الأمر كما ذكر، بل الجميع بالنص، أعني: النعم، أما الغنم فبالحديث الذي بعد هذا، والأحاديث الآتية عنده، وأما البقر فقد أخرج عبد الله بن وَهْب في "مسنده" عن ابن المغفّل: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يُصلّى في معاطن الإبل، وأمر أن يُصلى في مراح البقر والغنم". وقال ابن المنذر: تجوز الصلاة في مراح البقر، لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: "أينما أدركتك الصلاة فصلِّ"، فالقياس الذي قاله لعله في مأكول اللحم من غير الأنعام، مع أنه يأتي قريبًا ما يدل على العموم، ويأتي إن شاء الله التنبيه على

علة النهي عن الصلاة في معاطن الإبل مع التصريح بطهارة بولها. والقول بالطهارة قال به مالك، وأحمد، ومحمد بن الحسن الحنفي، والإصْطَخْري والرُّوياني الشافعيان، وهو قول الشعبي، والنَّخعي، وعطاء، والزّهري، والثوري، وابن سِيرين، والحكم، وابن خُزيمة، وابن المنذر. وقال الشافعي وأبو حنيفة وأبو ثور وأيو يوسف بنجاسة الأبوال كلها إلاَّ ما عُفي عنه. واحتج ابن المنذر للطهارة بأن الأشياء على الطهارة حتى تثبت النجاسة، قال: ومن زعم أن هذا خاص بأولئك فلم يصب، إذ الخصائص لا تثبت إلا بدليل، قال: وفي ترك أهل العلم بيع الناس أبعار الغنم في أسواقهم، واستعمال أبوال الإبل في أدويتهم قديمًا وحديثًا من غير نكير، دليل على طهارتها. قال في "الفتح": وهذا استدلال ضعيف؛ لأن المختلف فيه لا يجب إنكاره، فلا يدل ترك إنكاره على جوازه، فضلًا عن طهارته. قلت: هذا الجواب ساقط؛ لأن قول ابن المنذر: تَرْك أهل العلم. شامل للصحابة ومن بعدهم قبل تقرر الخلاف المذكور، فهو رد على المخالفين جاعلًا ترك النهي من الصحابة والتابعين كالاجماع على طهارته، فلا وجه حينئذ للخلاف، وأين الجواب عن قوله: إن الخصائص لا تثبت إلا بدليل؟ وحمل القائلون بالنجاسة من الشافعية الحديث على التداوي، قالوا: فليس فيه دليل على الإباحة في غير حال الضرورة. وحديث أم سلمة المروي عند أبي داود: "إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها" محمول على حالة الاختيار، وأما حالة الاضطرار فلا حرمة، كالميتة للمضطر، ولا يرد قوله -صلى الله عليه وسلم- في الخمر: "أنها ليست بدواء، إنها داء" في جواب مَن سأله عن التداوي بها فيما رواه مسلم، فإن ذلك خاص بالخمر، ويلتحق به غيرها من المسكر، والفرق بين المسكر وغيره من النجاسات أن الحد يثبت باستعماله في حالة الاختيار دون غيره، ولأن شربه يجُر إلى مفاسد كثيرة، ولأنهم كانوا في الجاهلية يعتقدون أن

في الخمر شفاء، فجاء الشرع بخلاف معتقدهم. قلت: ما أجابوا به عن حديث أم سلمة من حمله على حالة الاختيار يردُّه الحديث نفسه؛ لأن الشفاء لا يكون إلا من المرض، والمرض هو محل الضرورة، والحديث نص في أن المرض لا يُعالج بشيء يحصُل له به الشفاء مما هو محرم، والفرق بينه وبين أكل الميتة للمضطر واضح جلي، فإن أكل الميتة محقِّق حصول النفع المطلوب منه، وهو إزالة الجوع، ولا كذلك الدواء بالمحرم. وقالوا: إن الإبل قد روى ابن المُنذر عن ابن عباس مرفوعًا أن في أبوالها شفاء للذَّرِبة بطونُهم، والذَّرَب فساد المعدة، قالوا: فلا يقاس ما ثبت أن فيه دواء على ما ثبت نفي الدواء عنه، والجواب عن هذا أن كون بول الإبل فيه شفاء للذَّرَب دالٌّ على طهارته، إذ لا يصِف -صلى الله عليه وسلم- شيئًا بأن فيه دواء وهو نجس. قال في "الفتح": والتمسك للنجاسة بحديث أبي هريرة الذي صححه ابن خُزيمة وغيره مرفوعًا: "استنزهوا من البولِ، فإن عامة عذاب القبر منه" أولى، لأنه ظاهر في تناول جميع الأبوال، فيجب اجتنابها لهذا الوعيد. قلت: غفل رحمه الله تعالى من أجل محبة الانتصار لمذهبه عن كون الحديث واردًا في قصة صاحب القبر، وقد مر في رواية الأعمش عند البخاري هذا اللفظ: "فكان لا يستتر من البول"، أعني اللفظ الدال على العموم، لتعريفه باللام. ومرَّ قول البخاري في تفسيره له: لم يذكر سوى بول الناس. يريد أنه لا يُراد به بول سائر الحيوان. ومرّ الرد على الخطابي، حيث استدل به على ما استدل هو له بهذا الحديث من نجاسة جميع الأبوال، بأن التعريف أُريدَ به الخصوص، لقوله في الرواية الأخرى: "من بوله" بالإضافة، أو يقال: إن الالف واللام بدل من الضمير. وأما القائلون من الحنفية بالنجاسة، فحملوا الحديث على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خصَّ هؤلاء بذلك؛ لأنه عرف من طريق الوحي أن شفاءهم فيه، قالوا: لا يوجد

مثله في زماننا، كما خصَّ الزبير رضي الله تعالى عنه بلبس الحرير لحكة كانت به، أو للقمل، فجعلوا هذا من الخصائص لأولئك النفر. ويكفي في بطلان ما قالوه ما مر عن ابن المنذر، من أن الخصائص لا تثبت إلا بدليل، وأين الدليل على ذلك، ومن أين لهؤلاء النفر الأرذال أن تكون لهم خصيصة، هذا بعيد جدًّا وما نظروا به من مسألة الزبير في لباس الحرير غير موافق، فإن ما أبيح للزبير عام له ولغيره من كل من كان فيه ما فيه من الحكة. وقد وردت أحاديث تدل على عموم الطهارة في فضلات ما يُؤكل لحمه، منها ما أخرجه الدارقطني عن جابر رضي الله تعالى عنه مرفوعًا: "ما أُكل لحمه فلا بأس ببوله" لكنه ضعفه. ومنها الحديث الصحيح الوارد في غزوة تبوك: "فكان الرجل ينْحَرُ بعيره، فيعصر فرثه، فيشربه، ويجعل ما بقي على كبده". قال ابن خزيمة: لو كان الفرث نجسًا إذا عصره، لم يجز للمرء أن يجعله على كبده. وقوله: "فلما صحُّوا" فيه حذف تقديره، فشربوا من أبوالها وألبانها، فلما صحّوا، وثبت ذلك في رواية أبي رجاء، وفي رواية: "وسمِنوا، ورجعت إليهم ألوانهم". وقوله: "قتلوا راعي النبي"، ولابن عساكر: "رسول الله"، وهو يسار النُوبي، قال ابن إسحاق: أصابه في غزوة بني ثعلبة، فرآه يحسنُ الصلاة، فأعتقه وبعثه في لقاح له بالحَرَّة، فكان بها إلى أن قُتل، وذلك انهم لما عَدَوا على اللقاح أدركهم ومعه نفر، فقاتلهم، فقطعوا يده ورجله، وغرزوا الشوك في عينيه ولسانه حتى مات، ذكره ابن سعد في "الطبقات". ولم تختلف روايات البخاري في أن المقتول راعيه عليه الصلاة والسلام، ولا في ذكره بالإِفراد، وكذا عند مسلم، لكن عنده عن أنس: "ثم مالوا على الرعاة، فقتلوهم" بصيغة الجمع، ونحوه لابن حبان، فيحتمل أن إبل الصدقة كان لها رُعاة، فقتل بعضهم مع راعي النبي -صلى الله عليه وسلم-، فاقتصر بعض الرواة على راعيه عليه الصلاة والسلام، وذكر بعضهم معه غيره.

ويُحتمل أن يكون بعض الرواة ذكره بالمعنى، فتجوَّرَ في الاتيان بصيغة الجمع، وهذا أرجح؛ لأن أصحاب "المغازي" لم يذكر أحد منهم أنهم قتلوا غير يسار. وقوله: "واستاقوا النَّعَم" من السَّوق، وهو السير العنيف. وقوله: "فجاء الخبر" في رواية وُهيب: "الصَّريخ" بالخاء المعجمة، وهو بمعنى فاعل، أي: صرخ بالاعلام بما وقع لهم، وهذا الصارخ هو أحد الراعيين كما في "صحيح" أبي عَوانة، ولفظه: "فقتلوا أحد الراعيين، وجاء الآخر قد جزع، فقال: قد قتلوا صاحبي، وذهبوا بالابل"، والراعي الآتي بالخبر، قال في "الفتح" لم أقف على اسمه. وقوله: "فبعث في آثارهم"، يعني: الطلب، وعن سلمة بن الأكوع: "خيلًا من المسلمين، أميرهم كُرْز بن جابر الفِهري" بضم الكاف وسكون الراء بعدها زاي، وللنسائي: "فبعث في طلبهم قافّة"، جمع قائف. ولمسلم عن أنس أنهم شباب من الأنصار "قريب من عشرين رجلًا، وبعث معهم قائفًا يَقْتَصُّ آثارهم"، ولم يعرِّف اسم القائف، ولا اسم واحد من العشرين. وفي "مغازي" موسى بن عقبة أن أمير هذه السرية سعيد بن زيد بزيادة الياء، والذي لغيره أنه سعد بن زيد الأشهلي بسكون العين، وهذا أنصاري أيضًا، فيحتمل أنه كان رئيس الأنصار، وكان كُرز أمير الجماعة. وروى الطبري عن جرير بن عبد الله "أن النبي عليه الصلاة والسلام بعثه في آثارهم" وإسناده ضعيف، والمعروف أن جريرًا تأخر إسلامه عن هذا الوقت بمدة. وقوله: "فلما ارتفع النهار" فيه حذف تقديره: فأُدرِكوا في ذلك اليوم، فأُخذوا، فلما ارتفع النهار جيء بهم إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أسارى. وقوله: "فأمر بقطع أيديهم وأرجلهم"، كذا للأصيلي والمستملي والسَّرْخسي، وللباقين: "فقطع أيديهم وأرجلهم" وإسناد الفعل على هذه الرواية إليه عليه الصلاة والسلام مجاز، بدليل الرواية الأولى، وأيديهم جمع يد، فإما

أن يُراد بها أقل الجمع، وهو اثنان كما عند بعضهم؛ لأن لكل واحد منهم يدين، وإما أن يراد التوزيع عليهم، بأن يُقطع من كل واحد منهم يدًا واحدة، والجمع في مقابلة الجمع يدل على التوزيع، والاحتمال الأول ترده رواية الترمذي: "من خلاف"، وللمصنف من رواية الأوزاعي: "ولم يحسمهم" أي: لم يَكْوِ ما قُطع منهم بالنار، لينقطع الدم، بل تركه ينزف. وقوله: "وسُمِرت أعينهم" بضم السين وتخفيف الميم، وفي رواية بتشديدها، ولم تختلف روايات البخاري في أنه بالراء. وعند مسلم: "سُمِلت" بالتخفيف واللام مبنيًّا للمفعول، ومعنى سُمِرت: كحِّلوا بمسامير، قد أُحميت، والسَّمْل: فقء العين بأي شيء كان، قال أبو ذُؤيب: والعينُ بعدَهُمُ كأنَّ حِداقَها ... سُمِلتْ بشوكٍ فهي عُورٌ تدمعُ والسَّمْر لغة في السَّمْل، ومخرجهما متقارب، وإنما فُعل هذا بهم قصاصًا، لأنهم سملوا عيني الراعي كما مر، وليس من المُثْلة المنهي عنها. وقوله: "وأُلقوا في الحَرَّة" بضم الهمزة مبنيًّا للمفعول، والحرَّة بفتح الحاء المهملة وتشديد الراء أرض ذات حجارة سود، كأنها أحرقت بالنار بظاهر المدينة المنورة، وكانت بها الوقعة المشهورة أيام يزيد بن معاوية، وإنما أُلقوا فيها لأنها قرب المكان الذي فعلوا فيه ما فعلوا. وقوله: "يَستَسْقون فلا يُسقَوْن" بفتح أول الأول وضم أول الثاني، أي: يطلبون السقي فلا يُسقون، زاد وهيب والأوزاعي: "حتى ماتوا"، وله في الطب عن أنس: "فرأيت رجلًا منهُم يكدُمُ الأرض بلسانه حتى يموت"، ولأبي عَوانة: "يكدُم الأرض ليجِدَ بردَها من الحرِّ والشِّدة". وزعم الواقِدي أنهم صُلبوا، والروايات الصحيحة ترده، لكن عند أبي عَوانة عن أنس: "فصلبَ اثنين، وقطع اثنين، وسمل اثنين" فذكر ستة فقط، فإن كان محفوظًا فعقوبتهم كانت موزعة.

ومال جماعة منهم ابن الجوزي إلى أن ذلك وقع عليهم على سبيل القصاص، لما عند مسلم عن أنس: إنما سمل النبي -صلى الله عليه وسلم- أعينهم لأنهم سملوا أعين الرعاة. وقَصَّر من اقتصر في عزوه للترمذي والنسائي. وتعقبه ابن دقيق العيد بأن المثلة في حقهم وقعت من جهات، وليس في الحديث إلا السَّمْل فيحتاج إلى ثبوت البقية. والجواب أنهم تمسكوا بما مر عن ابن سعد ونقله أهل "المغازي" من أنهم مثلوا بالراعي، وذهب آخرون إلى أن هذا نُسِخَ. قال ابن شاهين عقب حديث عِمران بن حُصَيْن في النهي عن المثلة: هذا الحديث ينسخ كل مثلة. وتعقبه ابن الجوزي بأن ادعاء النسخ يحتاج إلى تأريخ. والجواب عنه أنه يدل عليه ما رواه البخاري عن أبي هُريرة في الجهاد من النهي عن التعذيب بالنار بعد الإذن فيه، وقصة العُرَنيّين قبل إسلامه، وقد حضر الإذن ثم النهي. وقد روى قَتادة عن ابن سِيرين أن قصتهم كانت قبل أن تنزل الحدود. ولموسى ابن عقبة في "المغازي" ذكروا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى بعد ذلك عن المثلة الآتية في سورة المائدة، وإلى هذا مال البخاري، وحكاه إمام الحرمين عن الشافعي. واستشكل القاضي عِياض عدم سقيهم الماء، مع الإجماع على أن من وَجَبَ عليه القتل فاستقى لا يُمنع، وأجاب بأن ذلك لم يقع بأمر من النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا وقع منه نهي عن سقيهم. وهو مردود؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- اطلع على ذلك، وسكوته كاف في ثبوت الحكم. وأجاب النووي بأن المحارب المرتد لا حرمة له في سقى الماء ولا في

غيره، ويدل عليه أن من ليس معه ماء إلا لطهارته، ليس له أن يسقيه للمرتد ويتيمم، بل يستعمله ولو مات المرتد عطشًا. وقال الخطابي: إنما فعل عليه الصلاة والسلام ذلك بهم؛ لأنه أراد بهم الموت بذلك. وقيل: إن الحكمة في تعطيشهم لكونهم كفروا نعمة سقي ألبان الإبل التي حَصَلَ لهم بها الشفاء من الجوع والوخم، ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- دعا بالعطش على من عطَّش آل بيته في قصة رواها النسائي، فيُحتمل أن يكونوا في تلك الليلة منعوا إرسال ما جرت به العادة من اللبن الذي كان يُراح به إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- من لِقاحِهِ في كل ليلة، كما ذكره ابن سعد. وقوله "قال أبو قلابة: فهؤلاء سرقوا"؛ لأنهم أخذوا اللقاح من حرز مثلها، وهذا قاله أبو قِلابة استنباطًا. وقوله: "وكفروا" هو من روايته عن قَتادة عن أنس في "المغازي"، وفي رواية وهيب عن أيوب في أصل الحديث في الجهاد. وقوله: "وحاربوا الله ورسوله" أطلق عليهم المحاربة، لما ثبت عند أحمد من رواية حُميد عن أنس في أصل الحديث: "وهربوا محاربين"، فليس قوله: "وكفروا وحاربوا" موقوفًا على أبي قِلابة. وقول أبي قِلابة هذا إن كان مقول أيوب فهو مسند، وإن كان من مقول المؤلف فهو من تعاليقه. وفي الحديث من الفوائد غير ما مر قدوم الوفود على الامام، ونظره في مصالحهم. وفيه مشروعية الطب والتداوي بألبان الإبل وأبوالها. وفيه أن كل جسد يُطَبُّ بما اعتاده. وفيه قتل الجماعة بالواحد سواء قتلوه غيلة أو حرابة، إن قلنا: إن قتلهم كان قصاصًا. وفيه المماثلة في القصاص، وليس ذلك من المثلة المنهي عنها. وثبوت حكم المحاربة في الصحراء، وأما في القرى ففيه خلاف. وفيه جواز استعمال أبناء السبيل إبل الصدقة في الشرب وفي غيره قياسًا عليه بإذن الامام. وفيه العمل بقول القائف، وللعرب في ذلك المعرفة التامة.

رجاله خمسة

رجاله خمسة: الأول: سليمان بن حرب، وقد مر تعريفه في الرابع عشر من كتاب الإيمان. والثاني: حمّاد بن زيد، ومرّ في الخامس والعشرين منه أيضًا. ومرّ أيوب السُّخْتياني وأبو قِلابة في التاسع منه أيضًا. ومرّ أنس بن مالك في السادس منه أيضًا. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد، والعنعنة في أربعة مواضع، وفيه رواية تابعي عن تابعي، ورواته أعلام أئمة بصريون. أخرجه البخاري في ثمانية مواضع: هنا، وفي المحاربين عن قتيبة وموسى بن إسماعيل، وفي الجهاد عن مُعَلَّى بن اسد، وفي التفسير عن علي بن عبد الله، وفي المغازي عن ابن عبد الرحيم، وفي الديات عن قتيبة. ومسلم في الحدود عن هارون بن عبد الله وغيره. وأبو داود في الطهارة عن سليمان بن حرب. والنسائي في المحاربة عن أحمد بن سليمان وغيره.

الحديث المائة

الحديث المائة حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو التَّيَّاحِ يَزِيدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي قَبْلَ أَنْ يُبْنَى الْمَسْجِدُ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ. قال ابن المنذر: أجمع من يُحفظ عنه العلم على إباحة الصلاة في مرابض الغنم إلا الشافعي، فإنه قال: لا أكره الصلاة في مرابضها إذا كانت سليمة من أبعارها وأبوالها. وممن رُوي عنه إجازة ذلك وفعله: ابن عمر، وجابر، وأبو ذر، والزبير، والحسن، وابن سِيرين، والنَّخَعي، وعطاء. وتمسك بهذا الحديث من قال بطهارة أبوالها وأبعارها، فإن المرابض لا تخلو من ذلك، فدل على أنهم كانوا يباشرونها في صلاتهم، فلا تكون نجسة. ونوزع من استدل بذلك لاحتمال الحائل، وأُجيب بأنهم لم يكونوا يُصلّون على حائل دون الأرض، ورُدَّ بأنها شهادة نفي، وأجيب بأنها مستندة إلى أصل. والجواب أن في "الصحيحين" عن أنس: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى على حصيرٍ في دارهم". وصح عن عائشة أنه: "كان يصلّي على الخمرة". قلت: ما ذكر لا يدل على التزامهم للفرش حتى يكون فيه دليل على أن الصلاة وقعت في المرابض على حائل، أما وقوعه مرة فلا دلالة فيه على ما ذُكر، ومعلوم أنهم لم يكونوا في ذلك الوقت أهل بسط لضيق الحال وعدم اعتنائهم بالرفاهية، فعدم وجود الحائل هو الظاهر، بل المتعين، ويدل عليه الحديث الصحيح أنه "كان يسجُد في طينٍ ليلة القدر"، فإنه صريح في أن المسجد غير

مفروش وزعم ابن حزم أن الحديث منسوخ؛ لأن فيه أن ذلك كان قبل أن يُبنى المسجد، فاقتضى أن ذلك كان في أول الهجرة. ورد عليه بما صح عن عائشة أنه -صلى الله عليه وسلم- أمرهم ببناء المساجد في الدور، وان تُطيَّب وان تُنظّف. رواه أبو داود وأحمد، وغيرهما، وصححه ابن خزيمة وغيره. ولأبي داود نحوه من حديث سمرة، وزاد: "وأن نطِّهرها"، قال: وهذا بعد بناء المسجد. وما ادعاه من النسخ يقتضي الجواز ثم المنع، وهذا يرده ثبوت إذنه عليه الصلاة والسلام في الصلاة في مرابض الغنم كما في "صحيح" مسلم عن جابر بن سمرة. وفي "صحيح" ابن حبان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن لم تجدوا إلا مرابض الغنم وأعطان الإبل فصلّوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل". قال الطوسي والترمذي: حسن صحيح. وفي "تاريخ نيسابور" عن أبي حبان مرفوعًا: "الغنم من دواب الجنة، فامسحوا رغامها، وصلوا في مرابضها". وعند البزار في "مسنده": "أحسنوا إليها، وأميطوا عنها الأذى". وفي حديث عبد الله بن المُغَفَّل: "صلّوا في مرابض الغنم، ولا تُصلوا في أعطان الإبل، فإنها خُلقت من الشياطين"، قال البيهقي: كذا رواه جماعة، وقال بعضهم: "كنا نؤمر"، ولم يذكر النبي -صلى الله عليه وسلم-. وفي لفظ: "إذا أدركتكم الصلاة وأنتم في مراح الغنم، فصلوا فيها، فإنها سكينة وبركة، وإذا أدركتكم الصلاة وأنتم في أعطان الإبل فاخرُجوا منها، فإنها جن خُلقت من الجن، ألا ترى أنها إذا نفرت كيف تشمخُ بأنفها". وعند ابن ماجه بسند صحيح عن عبد الملك بن الربيع بن سمرة، عن أبيه، عن جده مرفوعًا: "لا يُصلَّى في أعطان الإبل، ويُصلَّى في مَراح الغنم".

رجاله أربعة

وعند ابن خُزيمة عن البراء: سئل -صلى الله عليه وسلم- عن الصلاة في مرابض الغنم، فقال: "صلوا فيها، فإنها بركة". وعند أبي القاسم اللالكائي بسند لا بأس به عن عُقبة بن عامر: "صلوا في مرابض الغنم". وكذا رواه ابن عمرو وأسيد بن حُفير. قلت: قد بات من الأحاديث المذكورة أن علة النهي عن الصلاة في معاطن الإبل كونها خُلقت من الجانِّ لا من جهة النجاسة. وقيل: العلة كون الناقة تحيض والجمل يمذي. وقيل: لأن أهلها يستترون بها عند قضاء الحاجة. وقيل غير ذلك، فلا حجة في النهي على نجاسة فضلاتها. رجاله أربعة: الأول: آدم بن أبي إياس. والثاني: شُعبة بن الحجّاج وقد مرّا في الثالث من كتاب الإيمان. ومرَّ أنس بن مالك في السادس منه. ومرَّ أبو التّيّاح يزيد بن حميد في الحادي عشر من كتاب العلم. لطائف إسناده: وفيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والاخبار بصيغة الجمع في موضع، والعنعنة في موضع، ورواته ما بين خُراساني وكوفي وبصري. أخرجه البخاري هنا، وفي الصلاة عن سليمان بن حرب. ومسلم في الصلاة مختصرًا كما هنا عن عبيد الله بن معاذ وغيره. والترمذي فيها عن محمد ابن بشار، وفي المغازي عن عبيد الله بن معاذ وغيره. والنسائي في العلم عن بُندار. باب ما يقع من النجاسات في السمن والماء هل ينجسها أم لا؟ أو لا ينجس الماء إلا إذا تغير دون غيره. وهذا هو الذي

يظهر من مجموع ما أورده المصنف في الباب من حديث أو أثر. ثم ذكر تعاليق فقال: وقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَا بأْسَ بالماءِ ما لَمْ يُغَيِّرْهُ طَعْمٌ أوْ رِيحٌ أوْ لَوْنٌ. أي: لا حرج في استعماله في كل حالة، فهو محكوم بطهارته، ما لم يغيره طعم، أي: من شيء نجس، أو ريح منه، أو لون. ولفظ يونس عن الزهري: كل ما فيه قوة عما يصيبه من الأذى، حتى لا يغير ذلك طعمه ولا لونه ولا ريحه فهو طاهر. ومقتضى هذا أنه لا فرق بين القليل والكثير إلا بالقوة المانعة للملاقي أن يغيِّر أحد أوصافه، فالعبرة عنده بالتغيُّر وعدمه. ومذهب الزهري هذا قال به طوائف من العلماء، منهم الحسن، والنخعي، والأوزاعي، وهو مذهب أهل المدينة، والرواية المشهورة عن مالك، وروي عنه أن قليل الماء وهو آنية وضوء أو غسل ينجُس بقليل النجاسة، وإن لم تغيره. ويوافق أثرُ الزهري حديثَ أبي أُمامة المرفوع: "إن الماء لا ينجِّسه شيء إلا ما غلب على ريحه أو طعمه أو لونه"، أخرجه ابن ماجه والطبراني، وأخرجه الدارقطني عن ثَوْبان بلفظ: "الماء طهور لا ينجِّسه إلا ما غلب على ريحه أو لونه"، وتُكُلِّم في هذا الحديث لأن في سنده رِشْدين بن سعد، وهو متروك، ولكنه روي عن غيره. وقال البيهقي: الحديث غير قوي، إلا أنا لا نعلم في نجاسة الماء إذا تغير بالنجاسة خلافًا. قلت: ويعضُده حديث: "إن الماء طهور لا ينجسِّه شيء" بلفظ الترمذي، وقال: حديث حسن، ولفظ أحمد وابن خُزيمة وابن حِبان: "الماء لا ينجِّسه شيء، ولفظ أصحاب "السنن": "إن الماء لا يَجْتَنب"،

فيحمل العموم الوارد في هذا الحديث على الخصوص الوارد في الأول، لما هو متقرر من أن الماء إذا تغير أحد أوصافة بالنجاسة لم تبق له طهورية بالاجماع، كما مر عن البيهقي. ومذهب الشافعي وأحمد التفريق بالقُلتين فما كان دونهما تنجس بملاقاة النجاسة، وإن لم يظهر فيه تغيير، لمفهوم حديث القلتين: "إذا بلغ الماء قُلتين لم يحمل الخبث"، صححه ابن خُزيمة وغيره. وفي رواية لأبي داود وغيره بإسناد صحيح: "فإنه لا ينجس"، وهو المراد بقوله: "لم يحمل الخبث"، أي: يدفع النجس ولا يقبله، وهو مخصص لمنطوق حديث: "الماء لا ينجسه شيء". قالوا: إنما لم يخرجه البخاري للاختلاف الواقع في إسناده، لكن رواته ثقات، وصححه جماعة. قلت: بل قال ابن عبد البر في "التمهيد": ما ذهب إليه الشافعي من حديث القُلتين مذهب ضعيف من جهة النظر غير ثابت في الأثر؛ لأنه قد تكلَّم فيه جماعة من أهل العلم بالنقل. وقال الدَّبّوسي: هو خبر ضعيف، ومنهم من لم يقبله؛ لأن الصحابة والتابعين لم يعلموا به. وقال ابن العربي: مداره على علة أو مضطرب أو موقوف، وحسبك أن الشافعي رواه عن الوليد بن كثير، وهو إباضيّ. واختلفت روايته، فقيل: قلتين، وقيل: قلتين أو ثلاثًا، ورُوي: أربعون قلة، وروي: أربعون فرقًا، ووُقِف على أبي هريرة وعبد الله بن عمرو. وقال اليَعْمَري: حكم ابن مندة بصحته على شرط مسلم من جهة الرواة، ولكنه أعرض عن جهة الرواية بكثرة الاختلاف فيها والاضطراب، ولهذا لم يخرِّجه مسلم ولا البخاري. واختلفوا في مقدار القُلتين؛ لأن القلة في العرف تُطلق على الكبيرة

والصغيرة كالجرة، ولم يثبت من الحديث تقديرهما، فيكون مجملًا، فلا يعمل به كما قاله الطحاوي وابن دقيق العيد. لكن أجاب عن ذلك أبو عبيد القاسم بن سلام، فقال: المراد القلة الكبيرة، إذ لو أراد الصغيرة لم يَحْتَج لذكر العدد، فإن الصغيرتين قدر واحدة كبيرة، ويرجع في الكبيرة إلى العرف عند أهل الحجاز. والظاهر أن الشارع عليه الصلاة والسلام ترك تحديدهما على سبيل التوسعة، والعلم محيط بأنه ما خاطب الصحابة إلا بما يفهمون، فانتفى الإِجمال، لكن لعدم التحديد وقع الخلف بين السلف في مقدارهما على تسعة أقوال حكاها ابن المنذر. ثم حدث بعد ذلك تحديدهما بالأرطال، واختلف فيه أيضًا، واعتبر الشافعي قدرهما بخمس قُرب من قُرب أهل الحجاز احتياطًا. وقالت الحنفية: إذا اختلطت النجاسة بالماء تنجس إلا أن يكون كثيرًا، وهو الذي إذا حُرِّك أحد جانبيه لم يتحرك الآخر. واختلفوا في جهة التحريك، فقيل: بالاغتسال من غير عنف. وقيل: باليد من غير اغتسال ولا وضوء، إلى ما هو مذكور في كتبهم. والزُّهري هو محمد بن مسلم بن شهاب، وقد مر في الثالث من بدء الوحي. وأثره هذا وصله عبد الله بن وهب في "جامعه" عن يونس، عنه. وروى البيهقي معناه من طريق أبي عمرو، وهو الأوزاعي. وقال حماد: لا بأس بريش الميتة أي: ليس نجسًا، ولا ينجس الماء بملاقاته، سواء كان ريش مأكول أو غيره. وحماد: هو حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة، وقد مر في باب قراءة

القرآن بعد الحدث وغيره في السابع والأربعين من كتاب الوضوء. وأثره هذا وصله عبد الرزاق عن معمر عنه. وقَالَ الزُّهْرِيُّ في عِظام المَوْتَى نَحْو الفِيلِ وغَيْرهِ أَدْرَكْتُ ناسًا مِنْ سَلَفِ العُلمَاءِ يَمْتَشِطُون بها ويَدَّهِنُونَ فِيها لا يَرَوْن بِهِ بَأَسًا. وقوله: "نحو الفيل" أي: مما هو محرم الأكل عند بعض العلماء، ومكروه عند بعضهم. وقوله: "أدركت ناسًا" أي: كثيرًا، فالتنوين للتكثير. وقوله: "يمتشطون بها" أي: بعظام الموتى، بأن يصنعوا منها مِشْطًا، ويستعملوها. وقوله: "ويدَّهنونَ فيها" أي: في عظام الموتى، بأن يصنعوا منها آنية، يجعلون فيها الدهن، ويدَّهنون: بتشديد الدال من باب الافتعال، ويجوز ضم أوله وإسكان الدال. وقوله: "لا يرون به بأسًا" أي: حرجًا، وهذا يدل على أنهم كانوا يقولون بطهارته، فلو كان نجسًا عندهم ما استعملوه امتشاطًا وادّهانًا، وحينئذ فإذا وقع عظم الفيل في الماء لم ينجس بناء على القول بعدم نجاسته، وهو مذهب أبي حنيفة بناء على أنه لا تحلُّه الحياة، ومذهب الشافعي أنه نجس بناء على أنه تحلُّه الحياة، لقوله تعالى: {قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 78، 79] قال في "الفتح": وعند المالكية أن عظم الفيل يطهُر إذا ذُكِّي، بناء على قول مالك أن غير المأكول يطهر بالتذكية. قلت: هذا كله غير جار على مشهور مذهب مالك، فإن مشهور مذهبه أن ما لا يُؤكل لا يطهُر شيء منه بالتذكية، ومشهور مذهبه أن الفيل مكروه الأكل لا محرمه، ومشهور مذهبه أن عاج المذكّى وعظمه طاهران، وغير المذكّى في عاجه قولان بكراهة التنزيه والحرمة، لتعارض مقتضى التنجيس، وهو جزئية الميتة ومقتضى

الطهارة، وهو عدم الاستقذار؛ لأنه مما يُتنافس في اتخاذه. وأثر الزهري هذا لم أر من وصله. قالَ ابنُ سِيرِينَ وإبْراهِيمُ لَا بَأْسَ بِتِجارَةِ العَاجِ. لم يذكر السَّرْخسي إبراهيم في روايته ولا أكثر الرواة عن الفِرْبَري، وهذا يدل على أنه كان يراه طاهرًا؛ لأنه لا يجيز بيع النجس ولا المتنجس الذي لا يمكن تطهيره، بدليل قصته المشهورة في الرويث. والعاج: هو ناب الفيل، قال ابن سِيده: لا يسمى غيره عاجًا. وأنكر الخليل أيضًا أن يسمّى غير ناب الفيل عاجًا. وقال ابن فارس والجوهري: العاج: عظم الفيل. فلم يخصِّصاه بالناب. وقال الخطابي تبعًا لابن قُتيبة: العاج الذَّبْل وهو ظهر السلحفاة البحرية، وفيه نظر، ففي "الصحاح": المسك السوار من عاج أو ذبل، فغاير بينهما، لكن قال القالي: العرب تسمي كل عظم عاجًا، فإن ثبت هذا فلا حجة في الأثر المذكور على طهارة عظم الفيل، لكن إيراد البخاري له عقب أثر الزُّهري في عظم الفيل يدل على اعتبار ما قال الخليل عنده. وابن سيرين المراد به الإمام محمد بن سيرين، وقد مر في الحادي والأربعين من كتاب الإيمان. وأثره وصله عبد الرزاق في "مصنفه" عن الثوري عن همّام، عنه. وإبراهيم المراد به إبراهيم بن يزيد النَّخَعي، وقد مر في السادس والعشرين من كتاب الإيمان أيضًا، ولم أر من وصل أثره، بل لم يذكره السَّرخسي في روايته، ولا أكثر الرواة عن الفربري كما مر قريبًا.

الحديث الحادي والمئة

الحديث الحادي والمئة حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ سَقَطَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ: "أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا فَاطْرَحُوهُ. وَكُلُوا سَمْنَكُمْ". قوله: "سئل عن فَأرة" بهمزة ساكنة، والسائل ميمونة كما رواه الدارقُطني وغيره. وقوله: "سقطت في سمن" زاد النَّسائي من رواية عبد الرحمن بن مهدي: "جامد"، وزاد المصنف في الذبائح عن ابن عُيينة: "فماتت". وقوله: "خذوها وما حولها فاطرَحُوه وكُلوا سمنَكم" أي: الباقي، ويقاس عليه نحو العسل والدبس الجامدين. ولم يرد في طريق صحيحة تحديد ما يُلقى، لكن أخرج ابن أبي شَيبة مرسلًا عن عطاء بن يسار أنه قدر الكف. وسنده جيد. وعند الدارقطني عن مالك في هذا الحديث: "فأمر أن يُقَوَّرَ ما حولها فيرمى به"، وهذا أظهر في كونه جامدًا من قوله: "وما حولها" فيقوى ما تمسك به ابن العربي، فإنه قال: إن قوله: "وما حولها" يدُل على أنه كان جامدًا، قال: لأنه لو كان مائعًا لم يكن له حولٌ؛ لأنه لو نُقل من أي جانب مهما نقل لخلفه غيره في الحال، فيصير مما حولها، فيحتاج إلى إلقائه كله، وهذا أخذ في غاية الحسن. ورواية التفرقة بين المائع والجامد رواها أبو داود الطيالسي في "مسنده"، وأخرجها أبو داود من حديث عبد الرزاق، عن أبي هريرة بلفظ: سئل رسول الله

-صلى الله عليه وسلم- عن الفأرة تقع في السمن، فقال: "إذا كان جامدًا فألقوها وما حولها، وإن كان مائعًا فلا تقربوه". وأخرجه ابن حِبان بلفظ: "إن كان جامدًا فألقوها وما حولها، وكلوه، وإن كان ذائبًا فلا تقربوه". والتفرقة بين الجامد والمائع أخذ بها الجمهور، فقالوا: إن المائع يتنجس كله بملاقاة النجاسة، ويتعذر تطهيره، ويحرم أكله. وخالف فريق منهم الزُّهري والأوزاعي، فسوَّوا بين الجامد والمائع. وما أخرجه الطبراني عن أبي الدَّرداء -مرفوعًا- من التقييد في المأخوذ منه ثلاث غرفات بالكفين، سنده ضعيف، ولو ثبت لكان ظاهرًا في المائع. وفي إحدى الروايتين عن أحمد: إن المائع إذا حلت فيه النجاسة لا ينجُس إلا بالتغيُّر، وهو اختيار البخاري وابن نافع من المالكية، وروي عن مالك. وقد أخرج أحمد عن عِكْرمة أن ابن عباس سُئل عن فأرة ماتت في سمن، فقال: تُؤخذ الفأرة وما حولها. فقلت: إن أثرها كان في السمن كله. فقال: إنما كان وهي حية، وإنما ماتت حيث وجدت. ورجاله رجال الصحيح. وأخرجه أحمد من وجه آخر، وقال فيه: عن جَرٍّ فيه زيت، وقع فيه جُرَذ، وفيه: أليس جال في الجرِّ كله؟ قال: إنما جال وفيه الروح، ثم استقر حيث مات. وضابط المائع عند الجمهور أن يترادَّ بسرعة إذا أخذ منه شيىء. واستُدل بقوله: "فماتت" على أن تأثيرها في المائع إنما يكون بموتها فيه، فلو وقعت فيه وخرجت بلا موت لم يضره. ولم يقع في رواية مالك التقييد بالموت، فيلزم من لا يقول يحمل المطلق على المقيد أن يقول بالتأثير ولو خرجت وهي في الحياة، وقد التزمه ابن حزم، فخالف الجمهور. واستدل به على أن الفأرة طاهرة العين. وأغرب ابن العربي فحكى عن الشافعي وأبي حنيفة أنها نجسة.

رجاله ستة

واستدل بقوله في الرواية المفصلة: "وإن كان مائعًا فلا تقربوه" على أنه لا يجوز الانتفاع به في شيىء، فيحتاج من أجاز الانتفاع به إلى الجواب عن هذا الحديث الذي احتج به الجمهور في التفرقة بين الجامد والمائع. وقد أجازت المالكية الانتفاع به في غير أكل الآدمي، والاستصباح به في المسجد، وفي غير البيع، وكذلك الشافعية أجازوه في غير الأكل والبيع، واحتج الجميع بما رواه البيهقي عن ابن عمر في فأرة وقعت في زيت. قال: استصبحوا به، وادْهَنوا به أومَكُم. وهو على شرط الشيخين، إلا أنه موقوف. وأجاز الحنفية الانتفاع به في البيع وغيره ما عدا الأكل، محتجين بما رواه البيهقي أيضًا عن ابن عمر، من قوله: "فإن كان مائعًا فانتفعوا به ولا تأكُلوه"، والبيع من باب الانتفاع. ومنع الحنابلة الانتفاع به مطلقًا، لقوله في رواية عبد الرزاق: "وإن كان مائعًا فلا تقربوه". رجاله ستة: الأول: إسماعيل بن أبي أُويس،، وقد مر في الخامس عشر من كتاب الإيمان. والثاني: الإمام مالك، وقد مر في الثاني من بدء الوحي. ومرّ ابن شِهاب في الثالث منه. ومرّ عبيد الله بن عبد الله في السادس منه. ومرّ ابن عباس في الخامس منه. ومرت ميمونة بنت الحارث في الثامن والخمسين من كتاب العلم. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع والإفراد، وفيه العنعنة في أربعة مواضع، ورواته مدنيون، وفيه القول في موضع واحد، وفيه رواية صحابي عن صحابي. أخرجه البخاري هنا، وفي الذبائح عن عبد العزيز بن عبد الله، وهو من

أفراده عن مسلم. وأبو داود في الأطعمة عن مسدَّد، والترمذي فيه عن سعيد بن عبد الرحمن، وقال: حسن صحيح. والنسائي في الذبائح عن قُتيبة.

الحديث الثاني والمئة

الحديث الثاني والمئة حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْنٌ قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ سَقَطَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ: "خُذُوهَا وَمَا حَوْلَهَا فَاطْرَحُوهُ". وقوله: "فاطرحوه" أي: المأخوذ وهو الفأرة وما حولها، أي: وكلوا الباقي كما صرح به في الرواية السابقة. وفيه أنه ينجس وإن لم يتغير، بخلاف الماء، والمراد بطرحه عدم أكله كما مر. رجاله سبعة: الأول: علي بن عبد الله المديني، وقد مر في الرابع عشر من كتاب العلم. ومرّ مالك في الثاني من بدء الوحي. وابن شهاب في الثالث منه. وعبد الله في السادس منه. وابن عباس في الخامس منه. وميمونة بنت الحارث في الثامن والخمسين من كتاب العلم. والثاني من السند: مَعْن بن عيسى بن دينار الأشَجْعَي مولاهم القزّاز -بالقاف والزايين المنقوطتين- أبو يحيى المدني، أحد الأئمة في الحديث. كان له غلمانٌ حاكةٌ، وكان يشتري القَزَّ ويُلقيه إليهم، وكان يتوسد عتبة مالك. وقال إسحاق بن موسى: سمعته يقول: كان مالك لا يجيب العراقيين في شيء من الحديث حتى أكون أنا أسأله. وقال أبو حاتم: أثبت أصحاب مالك وأتقنهم مَعْن بن عيسى، وهو أحب إلى من ابن وَهْب. وقال ابن سعد: كان ثقة

لطائف إسناده

ثبتًا مأمونًا كثير الحديث. وقال إبراهيم بن الجُنَيْد: قلت ليحى بن مَعْين: كان عند معن شيء غير "موطأ" مالك؟ قال: قليل. قال يحيى: وإنما قصدنا إليه في حديث مالك. قلت: فكيف هو في حديث مالك؟ قال: ثقة. وذكره ابن حِبّان في "الثقات"، وقال: كان هو الذي يتولّى القراءة على مالك. وقال الخليلي: قديم متفق عليه، رضي الشافعي بروايته. روى عن: إبراهيم بن طَهْمان، ومالك، وخارِجة بن عبد الله بن سليمان، وابن أبي ذِئب، ومعاوية بن صالح، وغيرهم. وروى عنه: إبراهيم بن المُنذر الحِزامي، ويحيى بن مَعين، وعلي بن المديني، والحُميدي، وعبد الله بن جعفر البَرْمَكي، والفضل بن الصَبّاح، وقُتيبة، وأبو خَيْثمة، وغيرهم. مات بالمدينة في شوال سنة ثمان وتسعين ومئة. والأشْجَعِيُّ في نسبه مر في السابع من الوضوء هذا. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، والعنعنة في أربعة. ومرّ ذكر مواضع إخراجه في الحديث الذي قبل هذا. قَالَ مَعْنٌ حَدَّثَنا مالِكٌ ما لَا أُحْصِيهِ يَقَوُلُ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ. قوله: "قال معن" هو قول علي بن المديني، فهو متصل، وأبعد من قال: إنه معلق، وإنما أورد البخاري كلام معن، وساق حديثه بنزول بالنسبة إلى الإِسناد الذي قبله، مع موافقته له في السياق، للإِشارة إلى الاختلاف على مالك في إسناده، فرواه أصحاب "الموطأ" عنه، واختلفوا، فمنهم من ذكره هكذا كيحيى بن يحيى وغيره، ومنهم من لم يذكر فيه ميمونة كالقَعْنَبي، ومنهم من لم يذكر فيه ابن عباس كأشهب، ومنهم من لم يذكر ابن عباس ولا ميمونة كيحيى بن بُكير وأبي مصعب.

واستشكل إيراد البخاري كلام معن هذا، مع كونه غير مخالف لرواية إسماعيل. وأجيب بأن مراده أن إسماعيل لم ينفرد بتجويد وإسناده، أو بأن رواية معن المذكورة وقعت خارج "الموطأ" هكذا، وقد رواها في "الموطأ" فلم يذكر ابن عباس ولا ميمونة، كما أخرجه الإسماعيلي فن طريقه، فأشار المصنف إلى أن هذا الاختلاف لا يضُر؛ لأن مالكًا كان يصله تارة ويرسله أخرى. ورواية الوصل عنه مقدمة، قد سمعه منه معن بن عيسى مرارًا، وتابعه غيره من الحفاظ. وقد قال ابن المنير: مناسبة حديث السمن للآثار التي قبله اختيار المصنف أن المعتبر في التنجيس تغير الصفات، فلما كان ريش الميتة لا يتغير بتغيرها بالموت، وكذا عظمها، فكذا السمن البعيد عند موقع الميتة، إذا لم يتغير، واقتضى ذلك أن الماء إذا لاقته النجاسة ولم يتغير أنه لا يتنجس. ومرّ تعريف معن في هذا الحديث، ومرّ ذكر محل الباقين في الذي قبل هذا.

الحديث الثالث والمئة

الحديث الثالث والمئة حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "كُلُّ كَلْمٍ يُكْلَمُهُ الْمُسْلِمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَهَيْئَتِهَا إِذْ طُعِنَتْ، تَفَجَّرُ دَمًا، اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَالْعَرْفُ عَرْفُ الْمِسْكِ". قوله: "كَلْم" بفتح الكاف وسكون اللام. وقوله: "يكُلْمه المسلم" بضم أوله وسكون ثانيه مبنيًّا للمفعول، أي: كل جرح يُجرحه، وأصله يُكْلم به، فحذف الجار، واتصل الضمير بالفعل توسعًا. وفي نسخة القابسي وابن عساكر: "كل كَلْمة يُكلمها"، أي: كل جراحة يُجرحها. وقوله: "في سبيل الله" قيد يخرج ما يصيب المسلم من الجراحات في غير سبيل الله، وزاد في الجهاد: "والله أعلم بمن يُكلم في سبيله" وفيه إشارة إلى أن ذلك إنما يحصُل لمن خَلَصت نيته. وقوله: "تكون يوم القيامة كهيئتها" أعاد الضمير مؤنثًا، لإرادة الجراحة كما مر في رواية: "كل كَلْمة يُكلمها". وقوله: "إذْ طُعِنت" بسكون الذال، أي: حين، والمطعون هو المسلم، وهو مذكر، لكن لما أُريد طعن بها، حذف الجار، ثم أوصل الضمير المجرور بالفعل، وصار المنفصل متصلًا، وتسمية الضمير المستتر متصلًا طريقة، والأجود أن الاتصال والانفصال وصف للبارز، وفي بعض أصول البخاري، كمسلم: "إذا طُعِنت" بالألف بعد الذال، وهي هنا لمجرد الظرفية، أو بمعنى إذ، فقد يتقارضان، أو لاستحضار صورة الطَّعن؛ لأن الاستحضار كما يكون بصريح لفظ المضارع، نحو: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا}

[فاطر: 9]، يكون بما في معنى المضارع، كما فيما نحن فيه. وقوله: "تفجَّر" بفتح الجيم مشددة، وحذف التاء الأولى، أصله تتفجَّر، وروي بضم الجيم من الثلاثي. وقوله: "اللون لون الدم، والعَرْف عَرْف المسك" بفتح المهملة وسكون الراء، أي: الريح. والحكمة في كون الدم يأتي يوم القيامة على هيئته، أنه يشهد لصاحبه بفضله، وعلى ظالمه بفعله. وفائدة رائحته الطيبة أن تنتشر في أهل الموقف، إظهارًا لتفضيله أيضًا، ومن ثَم لم يُشرع غسل الشهيد في المعركة. واستشكل إيراد المصنف لهذا الحديث في هذا الباب؛ لأنه لا يدخل في طهارة الدم ولا في نجاسته، وإنما ورد في فضل المطعون في سبيل الله. وأجيب بأن قصد المصنف بإيراده تأكيد مذهبه، في أن الماء لا يتنجس بمجرد الملاقاة، ما لم يتغير، فاستُدل بهذا الحديث على أن تبدل الصفة يؤثر في الموصوف، فكما أن تغير الدم بالرائحة الطيبة أخرجه من الذم إلى المدح، فكذلك تغير صفة الماء إذا تغير بالنجاسة يُخرجه عن صفة الطهارة إلى النجاسة. وتعُقِّب بأن الغرض إثبات انحصار التنجيس في التغير، وما ذكر يدل على أن التنجيس يحصُل بالتغير، وهو وفاق، لا أنه لا يحصُل إلا به، وهو موضع النزاع. وله أن يجيب، فما لم يحصل التغير يبقى على أصله. وقيل: إن مقصود البخاري أن يبيِّن طهارة المسك، ردًّا على من يقول بنجاسته، لكونه دمًا انعقد، فلما تغير عن الحالة المكروهة من الزُّهومة وقبح الرائحة، إلى الحالة الممدوحة، وهي طيب رائحة المسك، دخل عليه الحل، وانتقل من حالة النجاسة إلى حالة الطهارة، كالخمر إذا تخلَّلت.

وقال ابن رَشيد: مُراده أن انتقال الدم إلى الرائحة الطيبة هو الذي نقله من حالة الذم إلى حالة المدح، فحصَلَ من هذا تغليب وصف واحد وهو الرائحة على وصفين وهما الطعم واللون، فيُستنبط منه أنه متى تغير أحد أوصافه الثلاثة بصلاح أو فساد، تبعه الوصفان، وكأنه أشار بذلك إلى ردِّ ما نُقل عن ربيعة وغيره أن تغير الوصف الواحد لا يُؤثر حتى يجتمع اثنان. قال: ويُمكن أن يُستدل به على أن الماء إذا تغير ريحه بشيء طيب لا يسلبُه اسم الماء، كما أن الدم لم ينتقل عن اسم الدم مع تغير رائحته إلى رائحة المسك؛ لأنه قد سماه دمًا، مع تغير الريح، فما دام الاسم واقعًا على المسمّى، فالحكم تابع له. ويرد على الأول أنه يلزم منه أن الماء إذا كانت أوصافه الثلاث فاسدة، ثم تغيرت صفة واحدة منها إلى صلاح، أنه يُحكم بصلاحه كله. وعلى الثاني أنه لا يلزم من كونه لم يُسلب اسم الماء أن لا يكون موصوفًا بصفة تمنع من استعماله مع بقاء اسم الماء عليه. قلت: الاعتراض الثاني ظاهر، والأول غير لازم؛ لأنه زوال وصف واحد بعدما انسلبت طهورية الماء بتغير أوصافه الثلاثة لا يُقاس على زوال وصف واحد مع بقاء الوصفين الأصليين. ولأصحاب "السنن" وصححه الترمذي وابن حِبان والحاكم، عن معاذ بن جبل: "من جُرِح جرحًا في سبيل الله، أو نُكِب نكبة، فإنها تجيء يوم القيامة كأغزَر ما كانت، لونها الزعفران، وريحها المسك"، وعُرِف بزيادة: "نكب نكبة" في هذا الحديث، أن الصفة المذكورة لا تختصُّ بالشهيد، بل هي حاصلة لكل من جُرح، وهذا لا يخالف ما مر من أن الجرح خاص بأن يكون في سبيل الله. ويُحتمل أن يكون المراد بهذا الجرح هو ما يموت صاحبه بسببه قبل اندِماله، لا ما يندمل في الدنيا، فإن أثر الجراحات وسيلان الدم يزول، ولا ينفي ذلك أن يكون له فضلٌ في الجملة، لكن الظاهر أن الذي يجيء يوم القيامة

رجاله خمسة

وجرحه يَثْعُب دمًا، من فارق الدنيا وجرحه كذلك. ويؤيده ما وقع عند ابن حِبان في حديث معاذ المذكور: "عليه طابع الشهداء". وقوله: "كأغزَرِ ما كانت"، لا ينافي قوله: "كهيئتها"؛ لأن المراد لا ينقُص شيئًا بطول العهد. رجاله خمسة: الأول: أحمد بن محمد بن موسى المروزي أبو العباس السِّمسار المعروف بمردُويه، ورُبما نُسب إلى جده. ذكره ابن حِبان في "الثقات". وقال ابن وضّاح: ثقة ثبت. روى عن: ابن المبارك، وجَرير بن عبد الحميد، وإسحاق بن يُوسف. وروى عنه: البخاري، والتِّرمذي، والنَّسائي، وقال: لا بأس به. وذكره ابن أبي خيثمة فيمن قدم بغداد، وقال: مات سنة خمس وثلاثين ومئتين. والمَرْوَزي مر في السادس من الإيمان. الثاني: عبد الله بن المبارك، مر في السادس من بدء الوحي. ومرَّ مَعْمر بن راشد في متابعة الثالث من بدء الوحي أيضًا. ومرّ همّام بن منبِّه في السادس والثلاثين من كتاب الإيمان. ومرّ أبو هريرة في الثاني منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع، والإخبار كذلك في موضعين، والعنعنة في موضعين، ورواته ما بين مَرْوزي وبصري ومدني. أخرجه البخاري هنا، وفي الجهاد، ومسلم في الجهاد. باب البول في الماء الدائم أي: الساكن، يقال: دوَّم الطائر تدويمًا، إذا صف جناحيه في الهواء فلم يحرِّكهما. وفي رواية الأصيلي: باب لا تبولوا في الماء الدائم، وهي بالمعنى.

الحديث الرابع والمئة

الحديث الرابع والمئة حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الزِّنَادِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ هُرْمُزَ الأَعْرَجَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ". وَبِإِسْنَادِهِ قَالَ: "لاَ يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لاَ يَجْرِي، ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ". قوله: "إن الأعرج حدثه" كذا رواه شُعيب، ووافقه ابن عُيينة فيما رواه الشافعي عنه عن أبي الزناد، ورواه أكثر أصحاب ابن عُيينة عن أبي الزناد عن موسى بن أبي عثمان عن أبيه عن أبي هريرة، والطريقان صحيحان معًا، فلأبي الزناد فيه شيخان، ولفظهما في سياق المتن مختلف كما سيُشار إليه. وقوله: "نحن الآخِرون السابقون" في رواية مسلم: "نحن الآخِرون ونحن السابقون" أي: الآخرون زمانًا، الأوَّلون منزلة، والمراد أن هذه الأمة وإن تأخر وجودها في الدنيا عن الأمم الماضية، فهي سابقة لهم في الآخرة، بأنهم أول من يُحشر، وأول من يُحاسب، وأول من يُقضى بينهم، وأول من يدخل الجنة. وفي "فوائد" ابن المقرىء عن أبي هريرة بلفظ: "نحن الآخِرون في الدنيا، ونحن السابقون، أول من يدخل الجنة؛ لأنهم أوتوا الكتاب من قبلنا". وفي حديث حذيفة عند مسلم: "نحن الآخِرون من أهل الدنيا، والأوَّلون يوم القيامة، المقضيُّ لهم قبل الخلائق". وقيل: المراد بالسبق هنا إحراز فضيلة اليوم السابق بالفضل، وهو يوم الجمعة، ويوم الجمعة وإن كان مسبوقًا بسبتٍ قبله أو أحدٍ، لكن لا يُتصور اجتماع الأيام الثلاثة متوالية إلا ويكون يوم الجمعة سابقًا.

وقيل: المراد بالسَّبْق أي: إلى القَبول والطاعة التي حرمها أهل الكتاب، فقالوا: سمعنا وعصينا والأول أقوى. واختُلف في الحكمة في تقديم هذه الجملة على الحديث المقصود، فقال ابن بطّال: يحتمل أن يكون أبو هريرة سمع ذلك من النبي -صلى الله عليه وسلم- في نسق واحد، فحدث بهما جميعًا. ويُحتمل أن يكون همّام فعل ذلك لأنه سمعهما من أبي هُريرة. وإلا فليس في الحديث مناسبة للترجمة. وجزم ابن التين بالأول، وهو متعقَّب بأنه لو كان حديثًا واحدًا ما فصَّله المصنف بقوله: "وبإسناده". وأيضًا: قوله: "نحن الآخرون السابقون" طرف من حديث مشهور، يأتي في الجمعة، فلو راعى البخاري ما ادعاه، لساق المتن بتمامه. وأيضًا حديث الباب مرويٌّ بطرق متعددة في دواوين الأئمة عن أبي هريرة، وليس في طريق منها في أول: "نحن الآخِرون السابقون". وقول ابن بطّال: يُحتمل أن يكون همّام ... إلخ. وهمٌ تبعه عليه جماعة، فليس لهمّام ذكر في هذا الإِسناد. قلت: يُجاب عن ابن بطّال بأنه قال ما قال في نظير هذا الحديث، فقد أخرج البخاري في كتاب التعبير عن همّام عن أبي هُريرة مثل هذا، صدَّره أيضًا بقوله: "نحن الآخِرون السابقون"، قال: وبإسناده. ولا تأتي فيه المناسبة المذكورة، مع ما فيها من التكلُّف. والظاهر أن نسخة أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة كنسخة مَعْمر عن همّام عنه، ولهذا قلَّ حديث يوجد في هذه إلا وهو في الأخرى، وقد اشتملتا على أحاديث كثيرة، أخرج الشيخان غالبها، وابتداء كل نسخة منهما حديث: "نحن الآخِرون السابقون"، فلهذا صدَّر به البخاري فيما أخرجه من كل منهما. قلت: ففي هذا جواب عن ابن بطال في ذكره لهمّام، فظاهر هذا الكلام أنه مذكور في هذا الحديث بعينه، وإن لم يذكره البخاري. وقد مر الكلام على

النسخة مستوفى عند الحديث الأخير من بدء الوحي. والصواب في مناسبة الحديث للجملة السابقة هو أن البخاري في الغالب يذكر الشيء كما سمعه جملة، لتضمُّنه موضع الدِّلالة المطلوبة، وإن لم يكن باقيه مقصودًا، كما صنع في حديث عروة البارقي الآتي في الجهاد في شراء الشاة، وأمثلة ذلك في كتابه كثيرة. وقد وقع لمالك في "الموطأ" نحو هذا، إذ أخرج في باب صلاة الصبح والعتمة متونًا بسند واحد، أولها: "مر رجل بغصن شوك"، وآخرها: "لو يعلمون ما في الصبح والعتمة لأتوهما ولو حبوًا" وليس غرضه منها إلا الحديث الأخير، لكنه أدّاها على الوجه الذي سمعه. وقال ابن العربي في "القبس": نرى الجهّال يتبعون تأويلها، ولا تعلُّق للأول منها بالباب أصلًا. وقيل: وجه المناسبة بينهما أن هذه الأمة آخر من يُدفن من الأمم في الأرض، وأول من يخرج منها؛ لأن الوعاء آخر ما يُوضع فيه أول ما يُخْرَج منه، فكذلك الماء الراكد آخر ما يقع فيه من البول أول ما يصادف أعضاء المتطهر، فينبغي أن يجتنب ذلك. ولا يخفى ما فيه. وقيل: وجه المناسبة أن بني إسرائيل وإن سبقوا في الزمان، لكن هذه الأمة سبقتهم باجتناب الماء الراكد إذا وقع البول فيه، فلعلهم كانوا لا يجتنبونه. وتُعُقِّب بأن بني إسرائيل كانوا أشدَّ مبالغة في اجتناب النجاسة، بحيث كانت النجاسة إذا أصابت جلد أحدهم قرضه، فكيف يُظن بهم التساهل في هذا، وهو استبعاد لا يستلزم رفع الاحتمال المذكور، وما مر أولى. وقوله: "وبإسناده" أي: إسناد هذا الحديث السابق. وقوله: "الذي لا يَجْري" قيل: هو تفسير للدائم، وإيضاح لمعناه. وقيل: احترز به عن راكد يجري بعضه، كالبرك. وقيل: احترز به عن الماء الدائر؛ لأنه

جارٍ من حيث الصورة، ساكن من حيث المعنى. وقال ابن الأنباري: الدائم من حروف الأضداد، يقال للساكن والدائر، ومنه أصاب الرأس دوامٌ، أي: دُوار، ويطلق على البحار والأنهار الكبار التي لا ينقطع ماؤها أنها دائمة، بمعنى أن ماءها غير منقطع. وقد اتفق على أنها غير مرادة هنا، وعلى هذا فقوله: "الذي لا يجري" صفة مخصصة لأحد معنى المشترك، وهذا أولى من حمله على التأكيد الذي الأصل عدمه. ولا يخفى أنه لو لم يقل: "الذي لا يجري" لكان مجملًا، بحكم الاشتراك الدائر بين الدائر والدائم، وحينئذ فلا يصح العمل على التأكيد. وقيل: الدائم والراكد مقابلان للجاري، لكن الدائم هو الذي له نبعٌ، والراكد الذي لا نبع له. وقوله: "ثم يغتسل" بضم اللام على المشهور، وجوَّز ابن مالك الجزم عطفًا على "يبولنَّ"، لأنه مجزوم الموضع بلا الناهية، ولكنه بُني على الفتح لتوكيده بالنون. ومنع القرطبي ذلك، فقال: لو أراد النهي لقال: ثم لا يغتسِلنَّ، فحينئذ يتساوى الأمران في النهي عنهما؛ لأن المحل الذي تواردا عليه شيء واحد، وهو الماء، فعُدوله عن ذلك يدُل على أنه لم يُرِد العطف، بل نبَّه على مآل الحال، والمعنى أنه إذا بال فيه قد يحتاج إليه، فيمتنع عليه استعماله. ومثَّلَه بقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يضربنَّ أحدُكم امرأته ضربَ الأمة ثم يضاجعُها" فإنه لم يروه أحد بالجزم؛ لأن المراد النهي عن الضَّرب؛ لأنه يحتاج في مآل حاله إلى مضاجعتها، فتمتنع لاساءته إليها، فلا يحصُل له مقصوده، وتقدير اللفظ: ثم هو يضاجعها. وفي حديث الباب: ثم هو يغتسل منه. وتعُقِّب بأنه لا يلزم من تأكيد النهي أن لا يعطِف عليه نهي آخر غير مؤكد، لاحتمال أن يكون للتأكيد في أحدهما معنى ليس للآخر. وقال القُرطبي: لا يجوز النصب، إذ لا تُضمر أن بعد ثم.

وأجازه ابن مالك بإعطاء ثم حكم الواو. وتعقبه النووي بأن ذلك يقتضي أن يكون المنهي عنه الجمع بين الأمرين، دون إفراد أحدهما. وضعَّفه ابن دقيق العيد، بأنه لا يلزم أن يدُل على الأحكام المتعددة لفظ واحد، فيُؤخذ النهي عن الجمع بينهما من هذا الحديث إن ثبتت رواية النصب، ويُؤخذ النهي عن الإفراد من حديث آخر، كحديث مسلم عن جابر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- "أنه نهى عن البول في الماء الراكد". وعنده أيضًا عن أبي هُريرة بلفظ: "لا يغتسِلْ أحدُكم في الماء الدائم وهو جُنب". وروى أبو داود النهي عنهما في حديث واحد بلفظ: "لا يبولنَّ أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسِل فيه من الجنابة". واستدل به بعض الحنفية على تنجيس الماء المستعمل؛ لأن البول ينجِّس الماء، فكذلك الاغتسال، وقد نهى عنهما معًا، وهو للتحريم، فيدل على النجاسة فيهما. ورُدَّ بأنها دِلالة اقتران، وهي ضعيفة، وعلى تسليمها فلا تلزم التسوية، فيكون النهي عن البول لئلا ينجِّسَه، وعن الاغتسال فيه لئلا يسلبَهُ الطُّهورية، ويزيد ذلك وضوحًا قولُه في رواية مسلم: كيف يفعل يا أبا هُريرة؟ قال: "يتناوله تناولًا" فدل على أن المنع من الاغتسال فيه لئلا يصير مستعملًا، فيمتنع على الغير الانتفاع به، والصحابي أعلم بموارد الخطاب من غيره. قال في "الفتح": وهذا من أقوى الأدلة على أن المستعمل غير طهور، وقد تقدمت الأدلة على طهارته. قلت: هذا على مذهبه من أن النهي للتحريم. وحمل مالك النهي عن الاغتسال في الماء الراكد على التنزيه، ومحل الكراهة عنده إذا لم يستبحر جدًّا، بحيث لا يؤثر فيه الاغتسال، وأن لا تكون له مادة، وإلا فلا كراهة، وأن لا يحصُل له التنجيس بالاغتسال، وأن لا يكون في ملكه، وإلا مُنع في الأول، وأبيح في الثاني.

رجاله خمسة

ولا فرق في الماء الذي لا يجري في الحكم المذكور بين بول الآدمي وغيره، خلافًا لبعض الحنابلة في رواية عن أحمد: إن هذا في غير بول الآدمي وعُذرته المائعة، وأما هما فينجِّسان الماء وإن كان قُلتين فأكثر على المشهور، ما لم يكثُر بحيث لا يمكن نزحه. ولا فرق أيضًا بين أن يبول في الماء أو يبول في إناء ثم يصبه فيه، خلافًا للظاهرية. وهذا كله محمول على الماء القليل عند من يعتبر القلة والكثرة في تنجيس الماء بمجرد الملاقاة بدون تغير، وقد مر حد الكثير عندهم، واختلافهم فيه عند أثر الزُّهري المار قريبًا. وقوله: "ثم يغتسل فيه" هو كذا هنا، وفي رواية ابن عيينة عن أبي الزناد: "ثم يغتسل منه"، وكذالمسلم عن ابن سِيرين. وكل من اللفظين يفيد حكمًا بالنص وحكمًا بالاستنباط، فرواية فيه تدل على منع الانغماس بالنص وعلى منع التناول بالاستنباط، ورواية منه بعكس ذلك، وكل منه مبنيٌّ على أن الماء ينجُس بملاقاة النجاسة. رجاله خمسة: الأول: أبو اليمان، والثاني: شُعيب بن أبي حمزة، وقد مرّا في السابع من بدء الوحي. ومرّ أبو الزِّناد والأعرج في السابع من كتاب الإيمان. ومرّ أبو هريرة في الثاني منه أيضًا. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع، وبالإفراد في موضع، والإخبار بصيغة الجمع في موضعين، والسماع في موضعين، ورواته ما بين حمصي ومدني، وفي بعض النسخ: أخبرنا أبو الزناد أن الأعرج، وفي بعضها: حدثنا أبو الزِّناد أن عبد الرحمن بن هُرْمُز الأعرج.

باب إذا ألقي على ظهر المصلي قذر أو جيفة لم تفسد عليه صلاته

أخرجه البخاري هنا. وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي عن محمد بن سِيرين. والترمذي عن همّام بن مُنَبِّه. وابن ماجه عن ابن عَجْلان. باب إذا أُلقِي على ظهرِ الْمُصَلِّي قذر أوْ جِيفَةٌ لمْ تَفْسُد عليهِ صَلاتُهُ. قوله: "قذَر" بفتح الذال المعجمة، أي: شيء نجس. وقوله: "أو جيفة" أي ميتة لها رائحة. وقوله: "لم تفسُد" محله ما إذا لم يعلم بذلك وتمادى، ويَحتمل الصحة مطلقًا على قول من ذهب إلى أن اجتناب النجاسة في الصلاة ليس بفرض، وعلى قول من ذهب إلى منع ذلك في الابتداء دون ما يطرأ، وإليه مَيْل المصنف، وعليه يتخرَّجُ صنيع الصحابي الذي في الصلاة بعد أن سألت منه الدماء برمي من رماه، وقد تقدم الحديث عن جابر بذلك في باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين. وكانَ ابنُ عُمَرَ إذا رَأى في ثَوْبهِ دَمًا وهو يُصلّي وَضَعَهُ وَمَضَى في صَلاتِه. قوله: "وضعه" يعني إن استطاع وضعه، وإن لم يستطع خرج فغسله ثم جاء وبنى على ما صلّى كما في لفظ الأثر المذكور، وهذا يقتضي أنه كان يرى التفرقة بين الابتداء والدوام، وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين، والأوزاعي، وإسحاق، وأبي ثور. وقال أحمد والشافعي: يعيد الصلاة. وعند مالك: إذا صلى بالنجاسة ولم يعلم بها إلا بعد الصلاة، أعاد الظُّهرين ندبًا إلى الاصفرار، والعشاءين إلى طلوع الفجر، والصبح إلى طلوع الشمس. وإن سقطت عليه نجاسة وهو في الصلاة، أو تذكرها فيها، ففي كل من المسألتين قولان: قيل: تبطل فيهما، سواء أمكن نَزْعُها ونَزَعَها أم لا، إلا إذا

كانت مما يُعفى عنه. والثاني: تبطُل بشرط أن تستقرَّ عليه، أو يتعلق به شيء منها في المسألة الأولى. وأن يجد لو قطع ما يزيلها به، أو ثوبًا آخر يلبسه، وإلا تمادى، وأن يتسع الوقت اختياريًّا أو ضروريًّا بأن يبقى ما يسع بعد إزالتها ركعة فأكثر، وإلا تمادى. وإذا تمادى في الاختيار فهل يُعيدها بمنزلة ذكرها بعد الصلاة في الوقت المار أم لا؟ وإذا كانت النجاسة في أسفل النعل فخَلَعَها من غير أن يكون حاملًا لها في رجله، كرفع رجله بها، صحت صلاته، وكذا لو صلّى قائمًا على جنازة أو إيماءً ولم ينزعها صحت أيضًا، لأنه لم يحملها، وعلى هذا المعنى حملت المالكية حديث أبي سعيد أنه -صلى الله عليه وسلم- خلع نعليه في الصلاة، ثم قال: "إن جبريل أخبرني أن فيهما قذرًا" أخرجه أحمد وأبو داود وصححه ابن خُزيمة، وله شاهد من حديث ابن مسعود أخرجه الحاكم، وحمله المذكورون أولًا على إمكان النزع مطلقًا. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَالشَّعْبِيُّ: إِذَا صَلَّى وَفِي ثَوْبِهِ دَمٌ أَوْ جَنَابَةٌ أَوْ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ أَوْ تَيَمَّمَ، فَصَلَّى ثُمَّ أَدْرَكَ الْمَاءَ فِي وَقْتِهِ، لاَ يُعِيدُ. قوله: "وقال ابن المسيِّب" هو الذي في أكثر النسخ، وهو الصواب، وللمُسْتَملي والسَّرْخَسي: "وكان"، وعليها: فإفراد قوله: "إذا صلى" على إرادة كل منهما، والمراد بمسألة الدم ما إذا كان بغير علم المصلّي. والدم عند المالكية يُعفى عن دون الدرهم منه مطلقًا، في الدرهم قولان. وعند الشافعية يُعفى عنه إذا كان قليلًا من أجنبي، ومطلقًا من نفسه. وقوله: "أو جَنابة" أي: أثرها، وهو المني، وهو مقيد عند القائل بنجاسته بعدم العلم، كالدم. وقوله: "أو لغير القبلة" المراد به ما إذا كان عن اجتهاد، ثم تبين الخطأ، فقد قالت الثلاثة والشافعي في القديم: لا يعيد. وهو قول الأكثر. وقال في

الجديد: تجب الإِعادة. لكن عند المالكية تُندب الإِعادة في الوقت المُختار. وقوله: "أو تيمم" المراد به عدم وجوب الإعادة في التيمم، وهو قول الأئمة الأربعة وأكثر السلف، وذهب جمع من التابعين منهم عطاء وابن سيرين ومَكْحول إلى وجوب الإعادة مطلقًا. وعبد الله بن عمر مرَّ ذكره في كتاب الإِيمان قبل ذكر حديث منه. وسعيد بن المسيِّب مر في التاسع عشر منه. ومرّ الشعبي في الثالث منه. وأثر عبد الله بن عمر وصله ابن أبي شَيْبة من طريق بُرْد بن سِنان، عن نافع، عنه. وإسناده صحيح. وأثر ابن المسيِّب والشعبي وصلهما عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شَيْبة بأسانيد صحيحة مفترقة.

الحديث الخامس والمئة

الحديث الخامس والمئة حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- سَاجِدٌ. * قوله: "بينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" بغير ميم، وأصله بين أُشبعت فتحة النون، فصارت ألفًا، وعامله: قال، في قوله بعد ذلك: "إذ قال بعضهم لبعض". وبقيته من رواية عبدان المذكورة: "وحوله ناس من قريش من المشركين"، ثم ساق الحديث مختصرًا. ح قَالَ: وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا شُرَيْحُ بْنُ مَسْلَمَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُصَلِّي عِنْدَ الْبَيْتِ، وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابٌ لَهُ جُلُوسٌ، إِذْ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَيُّكُمْ يَجِيءُ بِسَلَى جَزُورِ بَنِي فُلاَنٍ فَيَضَعُهُ عَلَى ظَهْرِ مُحَمَّدٍ إِذَا سَجَدَ؟ فَانْبَعَثَ أَشْقَى الْقَوْمِ فَجَاءَ بِهِ، فَنَظَرَ حَتَّى إِذَا سَجَدَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَضَعَهُ عَلَى ظَهْرِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ وَأَنَا أَنْظُرُ، لاَ أُغْنِي شَيْئًا، لَوْ كَانَ لِي مَنْعَةٌ. قَالَ: فَجَعَلُوا يَضْحَكُونَ وَيُحِيلُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- سَاجِدٌ لاَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، حَتَّى جَاءَتْهُ فَاطِمَةُ، فَطَرَحَتْ عَنْ ظَهْرِهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ". ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَشَقَّ عَلَيْهِمْ إِذْ دَعَا عَلَيْهِمْ. قَالَ: وَكَانُوا يُرَوْنَ أَنَّ الدَّعْوَةَ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ مُسْتَجَابَةٌ. ثُمَّ سَمَّى "اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ، وَعَلَيْكَ بِعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ

أَبِي مُعَيْطٍ". وَعَدَّ السَّابِعَ فَلَمْ يَحْفَظْهُ قَالَ: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِينَ عَدَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- صَرْعَى فِي الْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ. قوله: "إن عبد الله" في رواية الكُشْمِيهني: "عن عبد الله". وقوله: "عند البيت" أي: العتيق. وقوله: "وأبو جَهْل وأصحابٌ له جلوس" خبر المبتدأ الذي هو: أبو جهل وما عُطف عليه، والجملة في موضع نصب على الحال. وأصحابه هم السبعة المدعو عليهم بعد كما بينه البزار عن أبي إسحاق. وقوله: "إذ قال بعضهم" هو أبو جهل كما سمّاه مسلم، وزاد فيه: "وقد نحِرت جزورٌ بالأمس". وقوله: "بسَلى جزور" الجَزور من الإبل ما يُجزر، أي: يقطع. وهو بفتح الجيم، والسَّلَى مقصور بفتح المهملة، هي الجلدة التي يكون فيها الولد، يقال لها ذلك من البهائم، وأما من الآدميات فالمشيمة، وفي المحكم أنه يقال فيهنَ أيضًا سلى. وقوله: "فيضعه" زاد في رواية إسرائيل: "فيَعْمَد إلى فَرْثِها ودمها وسلاها، ثم يُمهِله حتى يسجد". وقوله: "فانبعث أشقى القوم" وللكُشميهني والسَّرْخسي: "فانبعث أشقى قوم"، ومنه مبالغة ليست في المعرفة، إذ المعنى أشقى كل قوم من أقوام الدنيا، لكن المقام يقتضي التعريف؛ لأن الشقاء هنا بالنسبة إلى أولئك القوم فقط. والذي انبعث هو عُقبة بن أبي مُعَيْط بمهملتين مصغرًا، أي: بعثته نفسه الخبيثة من دونهم، فأسرع السير، وإنما كان أشقاهم مع أن فيهم أبا جَهْل، وهو أشد كفرًا منه وإيذاء للنبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنهم اشتركوا في الكفر والرضى، وانفرد عُقبة بالمباشرة، فكان أشقاهم، ولذا قُتلوا في الحرب، وقُتل هو صبرًا.

وقوله: "وأنا انظر" أي: أشاهد تلك الحالة. وقوله: "لا أُغني شيئًا" أي: في كفِّ شرهم، وللكُشميهني والمستملي: "لا أُغيِّر" أي: لا أغير من فعلهم شيئًا. وقوله: "لو كان لي مَنعة" بفتح النون وإسكانها، أي: قوة، والفتح على أنه جمع مانع، ككاتب وكتبة، ورجح الهَرَوي الإسكان في المفرد، وعَكَسَ ذلك صاحب "إصلاح المنطق". وفي الكلام حذف تقديره: لطرحته عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وصرح به مسلم كما في رواية زكرياء. وللبزار: "فأنا أرهبُ منهم" أي: أخاف، وإنما قال ذلك لأنه لم يكن له بمكة عشيرة، لكونه هُذليًّا حليفًا، وكان حلفاؤه إذ ذاك كُفارًا. وقوله: "ويحيل بعضهم على بعض" كذا هنا بالمهملة من الإحالة، والمراد أن بعضهم ينسب فعل ذلك إلى بعض بالإشارة تهكمًا، ويحتمل أن يكون من حال يَحيل بالفتح إذا وثب على ظهر دابته أي: يثب بعضهم على بعض من المرح والبطر. ولمسلم: "يميل" بالميم، أي: من كثرة الضحك، وكذا للمصنف من رواية إسرائيل. وقوله: "حتى جاءته فاطمة"، ولأبي ذرٍّ: "حتى جاءت"، وهي ابنته عليه الصلاة والسلام، زاد إسرائيل: "وهي جُوَيْرية" فأقبلت تسعى، وثبت النبي -صلى الله عليه وسلم- ساجدًا. وقوله: "فطرحته" كذا للأكثر، وللكُشميهني بحذف المفعول، زاد إسرائيل: "وأقبلت عليهم تشتُمهم" زاد البزار: "فلم يردّوا عليها شيئًا". وقوله: "فرفع رأسه" أي: من السجود، زاد البزار من رواية زيد بن أبي أُنَيْسه: "فحمد الله تعالى، وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، اللهم". قال البزار: تفرد بقوله: "أما بعد" زيد. وقوله: "ثم قال" يُشعِر بمهلة بين الرفع والدعاء، وهو كذلك، فعند البزار:

"فرفع رأسه كما كان يرفعه عند تمام سجوده، فلما قضى صلاته، قال: اللهم"، ولمسلم والنَّسائي خوه، والظاهر منه أن الدعاء المذكور وقع خارج الصلاة، لكن وقع وهو مستقبل الكعبة، كما ثبت من رواية زُهير عند الشيخين. وقوله: "عليك بقُريْش" أي: بإهلاك قريش، والمراد الكفار منهم، أو من سمّى منهم، فهو عام أريد به الخصوص. وقوله: "ثلاث مرات" كرره إسرائيل في روايته لفظًا لا عددًا، وزاد مسلم: "وكان إذا دعا دعا ثلاثًا، وإذا سأل سأل ثلاثًا". وقوله: "فشقَّ عليهم"، ولمسلم: "فلما سمعوا صوتَه ذهبَ عنهم الضِّحك وخافوا دعوتَه". وقوله: "وكانو يَرَوْن" أي: بفتح أوله من الرأي، أي: يعتقدون، ورُوي بالضم، أي: يظنّون. وقوله: "أن الدعوة"، ولابن عساكر: "الدعوة". وقوله: "في ذلك البلد" أي: مكة. وقوله: "مُستجابة" أي: مجابة، يقال: استجاب وأجاب بمعنى واحد، وإنما كان اعتقادهم إجابة الدعوة من جهة المكان لا من جهة خصوص دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولعل ذلك بقي عندهم من شريعة إبراهيم عليه الصلاة والسلام. وقوله: "ثم سمّى" أي: النبي -صلى الله عليه وسلم-، أي: عيَّن في دعائه، وفصَّل ما أَجْمَل قبلُ. وقوله: "فقال: اللهم عليك بأبي جهل" وفي رواية: بعمرو بن هشام، وهو اسم أبي جهل، فلعله كناه وسماه معًا، ويعرف بابن الحنظليّة، فرعون هذه الأمة، وكان أحول مأبونًا. وقوله: "وعليك بعُتْبة بن رَبيعة" بضم العين وسكون المثناة الفوقية في

الأول، وفتح الراء في الثاني. وقوله: "وشَيْبةَ بن ربيعة" أخي عُتبة. وقوله: "والوليد بن عُتبة" بسكون المثناة الفوقية، وفي مسلم بالقاف، واتَّفقوا على أنه خطأ نبه عليه ابن سفيان الراوي عن مسلم، وأخرجه الإسماعيلي عن شيخ مسلم على الصواب. وقوله: "وأُمية بن خَلَف" في رواية شعبة، أو اُّبيَ بن خلف، شك شبَعة، والصواب أنه أمية، فقد أطبق أهل المغازي على أن المقتول ببدر أمية، وعلى أن أخاه أبَيًّا قُتل بأحد. وقوله: "وعدَّ السابع فلم نحفَظْه" بالنون، وفي رواية بالياء، وفاعل: عدَّ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وابن مسعود أو عمرو بن ميمون. وفاعل: فلم نحفظه، ابن مسعود أو عمرو بن ميمون أو أبو إسحاق، ويترجح الأخير بما في رواية الثوري عند مسلم، قال أبو إسحاق: "ونسيت السابع". وقد سماه أبو إسحاق مرة أخرى عُمارة بن الوليد كما أخرجه المؤلف في الصلاة من رواية إسرائيل عن أبي إسحاق. واستشكل بعضُهم عدَّ عُمارة بن الوليد في المذكورين؛ لأنه لم يُقتل ببدر، بل ذكر أصحاب "المغازي" أنه مات بأرض الحبشة، وله قصة مع النجاشي، إذ تعرض لامرأته، فأمر النجاشي ساحرًا، فنفخ في إحليل عُمارة من سحره عقوبةً له، فتوحَّش، وصار مع البهائم إلى أن مات في خلافة عمر. وقصته مشهورة. والجواب أن كلام ابن مسعود في أنه رآهم صرعى في القليب محمولٌ على الأكثر، ويدُلُّ عليه أن عُقبة بن أبي مُعَيْط لم يُطرح في القليب، وإنما قُتل صبرًا بعد أن رحلوا عن بدر مرحلةً، وأمية بن خَلَف لم يُطرح في القليب كما هو، بل مقطّعًا، ويأتي إن شاء الله تعالى بيان كيفيّة قتل المقتولين ببدر قريبًا. وفي رواية الطَّيالِسيّ عن شعبة أن ابن مسعود قال: "ولم أره دعا عليهم إلا

يومئذٍ"، وإنما استحقّوا الدعاء حينئذ لما أقدموا عليه من التهكُّم حال عبادته لربه، وإلا فحِلْمه عليه الصلاة والسلام عمَّن آذاه لا يَخْفى. وقوله: "قال: فوالذي نفسي بيده" أي: ابن مسعود، والمراد باليد هنا القدرة، وفي رواية مسلم: "والذي بعث محمدًا بالحقِّ"، وللنسائي: "والذي أَنْزَلَ عليه الكتاب"، وكان عبد الله قال كل ذلك تأكيدًا. وقوله: "صرعى في القليب" جمع صَريع، بمعنى مصروع، مفعول ثان لرأيت. والقَليب بفتح القاف آخره موحدة هو البئر التي لم تُطو، وقيل: العادية القديمة التي لا يُعرف صاحبها. وفي رواية إسرائيل: "لقد رأيتهم صَرْعى يوم بدرٍ، ثم سُحِبوا إلى القليب قليب بدرٍ، ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: وأُتبع أصحاب القليب لعنةً" وهذا يُحتمل أن يكون من تمام الدعاء الماضي، فيكون فيه عَلَم عظيم من أعلام النبوة، ويحتمل أن يكون قاله عليه الصلاة والسلام بعد أن ألقوا في القليب. وزاد شعبة في روايته: "إلا أمية بن خَلَف، فإنه تقطّعت أوصاله لأنه كان بادنًا". وإنما أمر بإلقائهم في البئر تحقيرًا لشأنهم، ولئلا يتأذّى الناس برائحتهم، وإلا فالحربي لا يجبُ دفنه. قلت: مذهبنا معاشر المالكية أن الكافر مطلقًا حربيًّا أو غيره تجب مواراته إذا خيفت ضيعته. وقوله: "قليب بدر" بالجر على البدلية، ويجوز الرفع بتقدير هو، والنصب بتقدير أعني، لكن الرواية بالجر، والظاهر أن البئر لم يكن فيها ماء معين. وأخرج ابن إسحاق هذا الحديث في "المغازي"، وزاد في آخره قصة أبي البَخْتَرى مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في سؤاله إياه عن القصة، وضربه لأبي جهل، وشجه إياه. والقصة مشهورة في السيرة، وأخرجها البّزار عن أبي إسحاق، وأشار إلى

تفرد الأَجْلح بها عن أبي إسحاق. وفي الحديث دِلالة على أن من حدث له في صلاته ما يمنعُ انعقادها ابتداء لا تبطُل صلاته ولو تمادى، فلو كانت نجاسة فأزالها في الحال ولا أثر لها صحت صلاته اتفاقًا، وعلى هذا يُنْزَل كلام المؤلف. وأجاب الخطابي بأنه لم يكن إذ ذاك حُكْمٌ بنجاسة ما أُلقي عليه، كالخمر، فإنهم كانوا يُلاقون بأبدانهم وثيابهم الخمر قبل نزول التحريم. واستُدل به على طهارة فَرْث ما يؤكل لحمه. ورُدَّ بأن الفرث لم يُفرد بل كان مع الدم، وهو نجس اتفاقًا. وأجيب بأن الفرث والدم كانا داخل السَّلَى، وجلدة السلى الظاهرة طاهرة، فكان كحمل القارورة المرصَّصة. وتُعُقِّب بأنها ذبيحة وَثَنيٍّ فجميع أجزائها نجسة؛ لأنها ميتة. وأجيب بأن ذلك كان قبل التعبد بتحريم ذبائحهم. وتعُقِّب بأنه يحتاج إلى تأريخ، ولا يكفي فيه الاحتمال. قلت: يجاب عن هذا بأن الأحكام معلوم أنها ما نزلت إلا بالمدينة. وقالَ النووي: الجواب المرضي أنه عليه الصلاة والسلام لم يعلم ما وُضع على ظهره، فاستمرَّ في سجوده استصحابًا لأصل الطهارة. ورُدَّ بأنه يُشكل على مذهبه من وجوب الإعادة في هذه الصورة. وأجيب بأن الإعادة إنما تجب في الفريضة، فإن ثبت أنها فريضة فالوقت موسَّع، فلعله أعاد. وتُعقِّب بأنه لو أعاد لنُقِل، ولم يُنْقَل، وبأنه تعالى لا يُقرهُّ على التمادي في صلاة فاسدة، وقد تقدم أنه خلع نعليه وهو في الصلاة لأن جبريل أخبره أن فيهما قذرًا.

ويدُل على أنه علم بما أُلقي على ظهره أن فاطمة ذهبت به قبل أن يرفع رأسه، وعقَّب هو صلاته بالدعاء عليهم، وأجيب بأنه لا يلزم من إزالة فاطمة إياه عن ظهره إحساسه عليه الصلاة والسلام به؛ لأنه كان إذا في دخل في الصلاة استغرق باشتغاله بالله، ولئن سلمنا إحساسه فقد يُحتمل أنه لم يتحقق نجاسته، لأن شأنه أعظم من أن يمضي في صلاته وبه نجس. وفي الحديث تعظيم الدعاء بمكة عند الكفار، وما ازدادت عند المسلمين إلا تعظيمًا. وفيه معرفة الكفار بصدقه -صلى الله عليه وسلم- لخوفهم من دعائه، ولكن حملهم الحسد على ترك الانقياد له. وفيه استحباب الدعاء ثلاثًا، وقد مر في العلم استحباب السلام ثلاثًا وغير ذلك. وفيه جواز الدعاء على الظالم، لكن قال بعضهم: محله إذا كان كافرًا، فاما المسلم فيستحب الاستغفار له، والدعاء بالتوبة، ولو قيل: لا دلالة فيه على الدعاء على الكافر، لما كان بعيدًا، لاحتمال أنه عليه الصلاة والسلام اطلع على أن المذكورين لا يؤمنون والأولى أن يدعى لكلِّ حيٍّ بالهداية. وفيه قوة نفس فاطمة الزهراء من صغرها، لشرفها في قومها، لكونها صرَّحت بشتمهم وهم رؤوس قريش، فلم يردُّوا عليها. وفيه أن المباشرة أقوى من السبب والإعانة، لقوله في عقبة: "أشقى القوم"، وقد كان فيهم أبو جهل، وهو أشدُّ منه كفرًا، إلى آخر ما مرَّ قريبًا. أهـ. وحاصل ما حُرِّر في قتل أبي جهل ومن معه، هو أن كلًّا من ابني عفراء سأل عبد الرحمن بن عوف عن أبي جهل، فدلَّهما عليه، فشدَّا عليه، فضرباه حتى قتلاه، وفي آخر حديث مسدد: أحدهما معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعاذ بن عفراء، وأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم نظر في سيفيهما وقال: "كلاكما قتله" وأنه قضى بسَلَبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح. وعفراء والدة معاذ، واسم أبيه الحارث، وأما ابن عمرو بن الجموح فليس اسم أبيه عفراء، وإن أُطلق عليه تغليبًا، ويحتمل أن تكون له أُم تسمى عفراء.

وأخرج الحاكم عن ابن إسحاق قال: قال معاذ بن عمرو بن الجموح: سمعتهم يقولون -وأبو جهل في مثل الحَرَجَة-: أبو حكم لا يُخلَص إليه، فجعلته من شأني، فعمدت نحوه فلما أمكنني حملت عليه، فضربته ضربة أطنَّت ساقه، وضربني ابنه عكرمة على عاتقه فطرح يدي، قال: ثم عاش معاذ إلى زمن عثمان. قال: ومرَّ بأبي جهل معوِّذ بن عفراء فضربه حتى أثبته وبه رمق، ثم قاتل معوِّذ حتى قتل، فمرَّ عبد الله بن مسعود بأبي جهل فوجده في آخر رمق، فقال: أنت أبو جهل! فأخذ بلحيته، قال: وهل فوقه رجل قتلتموه، أو رجل قتله قومه. فهذا الذي رواه ابن إسحاق يجمع بين الأحاديث، لكنه يخالف ما في الصحيح عن عبد الرحمن بن عوف أنه رأى معاذًا ومعاذًا شدَّا عليه جميعًا حتى طرحاه، وابن إسحاق يقول: إن ابن عفراء هو معوِّذ بتشديد الواو، والذي في الصحيح: معاذ، وهما أخوان فيحتمل أن يكون معاذ بن عفراء شهد عليه مع معاذ بن عمرو كما في الصحيح وضربه بعد ذلك معوِّذ حتى أثبته ثم حزّ رأسه ابن مسعود فتجتمع الأقوال كلها وإطلاق كونهما قتلاه يخالف في الظاهر حديث ابن مسعود أنه وجده وبه رمق وهو محمول على أنهما بلغا به بضربهما إياه بسيفهما منزلة المقتول حتى لم يبق به إلاَّ مثل حركة المذبوح وفي تلك الحالة لقيه ابن مسعود فضرب عنقه. هذا ما قيل في قتل أبي جهل، وأما عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة، فمتفق على أنهم ماتوا يوم بدر بمبارزة علي وحمزة وعُبيدة بن الحارث، واختلفوا في كيفية المبارزة، فعند ابن إسحاق: أن عبيدة وحمزة كانا أسن القوم، فبرز عُبيدة لعتبة، وحمزة لشَيْبة، وعلي للوليد. وعند موسى بن عقبة: برز حمزة لعتبة، وعبيدة لشَيْبة، وعلي للوليد، ثم اتفقا: فقتل علي الوليد، وقتل حمزة الذي بارزه، واختلف عُبيدة والذي بارزه بضربتين، فوقعت الضربة في ركبة عبيدة، فمات منها لما رجعوا بالصفراء، ومال حمزة وعلي إلى الذي بارز عُبيدة، فأعاناه على قتله. ووافق ابن سعد ابن إسحاق في الكيفية، ووافق الحاكم

موسى بن عقبة فيها. وأخرج أبو داود عن علي قال: تقدم عتبة وتبعه ابنه وأخوه، فانتدب شبابٌ من الأنصار، فقال: لا حاجة لنا فيكم، إنما أردنا بني عمنا. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قم يا حمزة، قم يا علي، قم يا عبيدة" فأقبل حمزة إلى عتبة، وأقبلت إلى شيبة، واختلف بين عبيدة والوليد ضربتان، فأثخن كل واحد منهما صاحبه، ثم ملنا على الوليد فقتلناه، واحتملنا عبيدة. وفي رواية الطبراني زيادة: فلم يعب علينا ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم-. قال في "الفتح": وهذا هو أصح الروايات، لكن الذي في السير من أن الذي بارزه علي هو الوليد هو المشهور، وهو اللائق بالمقام؛ لأن عبيدة وشيبة كانا شيخين كعتبة وحمزة، بخلاف علي والوليد، فكانا شابَّين. وأما عُمارة بن الوليد فمرت كيفية موته قريبًا. وأما أمية بن خلف فقد اختلف أهل السير في قتله، فعند موسى بن عقبة: قتله رجل من الأنصار من بني مازن. وعند ابن إسحاق: أن معاذ بن عفراء، وخارِجة بن زيد، وحبيب بن إساف اشتركوا في قتله. وادعى ابن الجوزي أنه عليه الصلاة والسلام قتله. وفي السير عن عبد الرحمن بن عوف أن بلالًا رضي الله تعالى عنه خرج إليه ومعه نفر من الأنصار فقتلوه، وكان بدينًا، فلما قُتل انتفخ، فألقوا عليه التراب حتى غيَّبوه، ثم جُر إلى القليب، فتقطع قبل وصوله إليه، وكان من المستهزئين، وفيه نزل قوله تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1)} [الهمزة: 1]، وهو الذي كان يعذِّب بلالًا في مكة. وأما عُقبة بن أبي مُعَيْط فقتله النبي -صلى الله عليه وسلم- صبرًا بعد رجوعه من بدر بموضع يُقال له: عرق الظبية، وهو من الروحاء، والروحاء على ستة وثلاثين ميلًا من المدينة. والأصح أنه -صلى الله عليه وسلم- تولى قتله. وقيل: قتله علي. وقيل: عاصم بن ثابت، وكان من المستهزئين. وقيل: لما أراد عليه الصلاة والسلام قتله، قال له: أتقتُلني من بين سائر قريش؟ قال: نعم.

رجاله عشرة

رجاله عشرة: وفيه ذكر فاطمة الزهراء. الأول: عبدان، وقد مر في الخامس من بدء الوحي. ومرّ شعبة بن الحجاج في الثالث من كتاب الإيمان. ومرّ إبراهيم بن يوسف وأبوه يوسف في المتابعة بعد الثاني والعشرين من كتاب الوضوء. ومرّ أبو إسحاق عمرو بن عبد الله السَّبيعي في الرابع والثلاثين من كتاب الإيمان. ومرّ عبد الله بن مسعود في أول كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه. الثاني من السند: عثمان بن جَبَلة -بالتحريك- ابن أبي رَوّاد بفتح الراء وتشديد الواو العَتَكني مولاهم المَرْوزي. روى عن: عمه عبد العزيز، وشعبة، والثوري، وابن المبارك، وعلي بن المبارك، وغيرهم: وروى عنه: ابناه عبدان وعبد العزيز، وأبو بشر مصعب بن بِشْر المَرْوَزي. قال أبو حاتم: كان شريكًا لشُعبة، وهو ثقة صدوق. وقال ابن عدي: قيل لعثمان بن جَبَلة: من أين لك هذه الغرائب؟ قال: كنت شريكًا لشُعبة، فكان يخصُّني بها. وقال ابن حِبان في "الثقات": كان عثمان مع أبي تميلة بالكوفة في طلب الحديث، فهاج به غمٌّ وكربٌ، فوضع رأسه في حِجْر أبي تميلة، فمات. وقال أبو حاتم عن النُّفَيْلي: رأيت عثمان والد عبدان بالكوفة، فبينا هو يمشي معنا في بعض أزقة الكوفة، إذ دخل دارًا ليَبول، فنظرنا، فإذا هو ميت. له عند مسلم: "المرء مع من أحب". زاد في "الخلاصة": أنه مات على رأس مئتين. الثاني: أحمد بن عثمان بن حكيم الأَوْدي أبو عبد الله الكوفي. روى عن: أبيه، وعمه. علي بن حكيم، وشُرَيْح بن مَسْلمة، وعُبيد الله بن موسى، وخالد بن مَخْلد، وغيرهم. وروى عنه: البُخاري، ومُسلم، والنسائي، وابن ماجه، وأبو حاتم، وأبو عَوانة، وغيرهم.

قال أبو حاتم: صدوق. وقال النَّسائي: ثقة. وقال ابن خِراش: كان ثقة عدلًا. وذكره ابن حِبان في "الثقات". وقال العُقيلي والبزار: ثقة، مات يوم عاشوراء سنة إحدى وستين ومئتين. الثالث: شُريح -بالتصغير- ابن مَسْلمة -بفتح الميم- الكوفي التَّنُوخي -بفتح التاء وضم النون- نسبة إلى تنوخ قبائل أقاموا بالبحرين. روى عن: إبراهيم بن يوسُف بن أبي إسحاق السَّبيعي، وشريك، ومِنْدل بن علي، وعبد الله بن جعفر المديني، وغيرهم. وروى عنه: أحمد بن عُثمان بن حكيم الأوْدي، ومحمد بن عُمر بن الوليد الكندي، وعبد الله بن أسامة العَدَوي، وأبو حاتم الرازي وقال: صدوق. وذكره ابن حِبان في "الثقات". وقال ابن أبي حاتم: سمع منه أبي حديثًا واحدًا. وقال الدارقطني: ثقة، مات سنة اثنتين وعشرين ومئتين. والتَّنُوخي في نسبه نسبة إلى تَنُوخ -كصبور- قبيلة من اليمن؛ لأنهم تحالفوا وأقاموا في مواضعهم. وقال ابن قُتيبة: تَنُوخ ونَمِر وكَلْب أخوة بنو وبرة. الرابع: عمرو بن مَمْيون الأوْدي أبو عبد الله أو أبو يحيى الكوفي. أسلم في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- على يد مُعاذ بن جَبَل، وصحبه، ثم قدم المدينة وصحب ابن مسعود. روى عبد الملك بن ساباط عنه: قدم مُعاذ بن جَبَل من السَّحَر رافعًا صوته بالتكبير، أجش الصوت، فأُلقيت عليه محبتي. وقال العجلي: تابعي ثقة جاهلي كوفي. وقال أبو إسحاق: كان أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يرضون بعَمْرو بن ميمون. وقال كان عَمْرو بن ميمون إذا دخل المسجد فرُؤي ذُكر الله. وذكره ابن حِبان في ثقات التابعين. وقال ابن مَعين والنسائي: ثقة. وأخرج البخاري من طريق حُصين عن عَمرو بن ميمون، قال: رأيت في

الجاهلية قِرْدةً قد زنت، اجتمع عليها قِرَدَةٌ، فرجموها، فرجمتُها معهم. وأخرجه الإسماعيلي من وجه آخر عن عيسى بن حِطّان، عن عمرو مطولًا، وأوله: "كنت في غَنَم لأهلي، فجاء قردٌ مع قردة، فتوسد يديها، فجاء قردٌ أصغر منه، فغمزها، فسلَّت يدها سلًّا رفيقاً، وتبعته، فوقع عليها، ثم رجعت، فاستيقظ، فشمها، فصاح، فاجتمعت عليه القِرِدَة، فجعل يصيحُ ويومئ إليها، فذهبت القِرَدَةُ يمنةً ويسرةً، فجاؤوا بذلك القِرد أعرفه، فحفروا حفرة، فرجموهما، فلقد رأيت الرجم في غير بني آدم". قال ابن عبد البر: إن ثبت هذا، فلعل هؤلاء كانوا من الجن. وهو في جميع نسخ البخاري من رواية العزيزي، وإنما سقط من رواية السّبيعي. وقال ابن عبد البَر: إن عمرو بن ميمون صدق إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في حياته. وروى عن: معاذ، وابن مسعود، وعمر، وأبي ذر، وسعد، وأبي هُريرة، وعائشة، وغيرهم. وروى عنه: سعيد بن جُبَيْر، وعبد الملك بن عُمير، والشعبي، وعمرو بن مُرة، وحُصين بن عبد الرحمن، وغيرهم. مات سنة أربع وسبعين، وقيل: سنة خمس وسبعين. والأوْدِيُّ في نسبه نسبة إلى أَوْد بالفتح، أبي قبيلة من اليمن، وهو أوْد بن صَعب بن سعد العشيرة، وإليهم نسبت خطة بني أَوْد بالكوفة. الخامس: فاطمة الزهراء بنت النبي -صلى الله عليه وسلم-، كانت تُكْنى أمّ أبيها، وتلقب بالزهراء. واختُلف في سنة مولدها، فقد روي عن العباس أنها وُلدت والكعبة تُبنى، والنبي -صلى الله عليه وسلم- ابن خمس وثلاثين سنة. وقيل: وُلدت سنة إحدى وأربعين من مولد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان مولدها قبل البعثة بقليل، نحو سنة أو أكثر. وهي أسن من عائشة بنحو خمس سنين. وهي أصغر بنات النبي -صلى الله عليه وسلم-. وقيل: أم كلثوم أصغر.

والذي تسكن إليه النفس على ما تواترت به الأخبار في ترتيب بنات النبي -صلى الله عليه وسلم- أن زَيْنب الأولى، ثم الثانية رُقية، ثم الثالثة أم كلثوم، ثم الرابعة فاطمة الزهراء رضي الله تعالى عنهن. وتزوجها علي أوائل المحرم سنة اثنتين، قيل: إنه تزوجها بعد أن ابتنى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعائشة بأربعة أشهر ونصف، وبنى بها بعد تزويجه إياها بتسعة أشهر ونصف، وكان سنها يوم تزويجها خمس عشرة سنة وخمسة أشهر ونصفًا، وكان سن علي إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر. وقيل: تزوجها في رجب سنة مقدمهم المدينة، وبنى بها مرجعه من بدر، ولها يومئذٍ ثمان عشرة سنة. وفي الصحيح عن علي قصة الشارفية لما ذبحهما حمزة، وكان علي أراد أن يبني بفاطمة. فهذا يدفع قول من زعم أن تزويجه بها كان بعد أحد، فإن حمزة قُتل بأحد. وولدت له: حسنًا وحُسينًا، ومُحسنًا، وأم كلثوم، وزينب، ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت وانقطع نسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا منها. واختُلف في مهره إياها، فقيل: إنه أمهرها دِرْعه، ولم يكن في ذلك الوقت صفراء ولا بيضاء. رُوي عن عكرمة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعلي حين زوَّجه فاطمة: "أعطِها درعَك الحطمية". وعن أبي نُجَيْح عن رجل سمع عليًّا: أردت أن أخطِب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بنته، فقلت: والله مالي من شيء، ثم ذكرت صلته وعائدته، فخطبتها إليه، فقال: "وهل عندك شيء؟ " فقلت: لا. قال: "فأين دِرْعُك الحطمية التي أعطيتك يوم كذا وكذا؟ ". قلت: هي عندي. قال: "فاعطِها إيّاها". وقيل: إنه تزوجها على أربع مدّة وثمانين، فأمره النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يجعل ثلثها في الطيب. وزعم بعض الفقهاء أن الدرع قدَّمها علي من أجل الدخول بأمر النبي -صلى الله عليه وسلم-. وروى عبد الله بن بُريدة عن أبيه، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة بني علي بفاطمة: "لا تُحِدث شيئًا حتى تلقاني"، فدعا بماء، فتوضأ منه، ثم أفرغه

عليهما، وقال: "اللهم بارك فيهما، وبارك عليهما، وبارك لهما في نسلهما". وروى الواقدي من طريق أبي جعفر، قال: نزل النبي -صلى الله عليه وسلم- على أبي أيوب، فلما تزوج علي فاطمة، قال له: "التمس منزلًا"، فأصابه مستأجرًا، فبنى بها فيه، فجاء إليها، فقالت له: كلِّم حارثة بن النعمان. فقال: "قد تحوَّل حارثة حتى استحييتُ منه"، فبلغ حارثة، فجاء، فقال: يا رسول الله: والله الذي تأخذ أحبُّ إلى من الذي تدع. فقال: "صدقتَ بارك الله فيك"، فتحول حارثة من بيتٍ له، فسكن فيه علي بفاطمة. وعن أبي سعيد الخُدْري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فاطمة سيدة نساء أهل الجنة إلاَّ ما كان من مَريم ابنة عِمران. وعن عِمران بن حُصَين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عاد فاطمة رضي الله عنها وهي مريضةٌ، فقال لها: "كيف تجدينَك يا بنيةُ؟ ". قالت: إني لوجِعة، وإنه ليزيدني أني مالي طعام آكله. قال: "يا بنيةُ: أما ترضَيْن أنك سيدة نساء العالمين؟ " قالت: يا أبتِ: فأين مريمُ بنت عِمران؟ قال: "تلك سيدةُ نساء عالمها، وأنت سيدة نساء عالمك، أما والله لقد زوَّجتك سيدًا في الدنيا والآخرة". وعن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "سيدة نساء أهل الجنة مَريم، ثم فاطمة بنت محمد، ثم خديجة، ثم آسية بنت مُزاحم امرأة فرعون ". وفي رواية أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عِمران، وآسية بنت مُزاحم، وخديجة بنتُ خوَيْلد، وفاطمة بنت محمد". وفي رواية أنس: "حسبُك من نساء العالمين مريم بنت عِمران، وخديجة بنت خُوَيلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية امرأة فرعون". وروي عن ابن عباس: خط رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الأرض أربعة خطوط، ثم قال: "أتدرونَ ما هذا؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أفضل

نساء أهل الجنة خديجةُ بنت خُوَيْلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم بنتُ عِمران، وآسية بنت مُزاحم امرأة فرعون". وروى ابن بُريدة عن أبيه قال: "كان أحب النساء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاطمة، ومن الرجال علي بن أبي طالب". وعن أبي ثعلبة الخُشَني: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قدم من سفر أو غزوٍ، بدأ بالمسجد، فصلى فيه ركعتين، ثم يأتي فاطمة، ثم يأتي أزواجه". وفي "الصحيحين" عن المِسْوَر بن مَخْرَمة: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المنبر يقول: "فاطمةُ بَضْعةٌ مني، يؤذيني ما آذاها، ويُريبني ما رابها". وعن علي، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لفاطمة: "إن الله يرضى لرضاك، ويغضبُ لغضبك". وعن زيد بن أَرْقم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "عليٌّ وفاطمةُ والحسنُ والحسينُ أنا حربٌ لمن حاربهم، وسِلْم لمن سالَمهم". وعن عائشة رضي الله عنها: ما رأيتُ قطُّ أحدًا أفضلَ من فاطمة غير أبيها. وعنها أيضًا أنها قالت: ما رأيت أحدًا أشبه كلامًا وحديثًا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- من فاطمة، وكانت إذا دخلت عليه قام إليها، فقبلها، ورحَّب بها، كما كانت تصنع هي به -صلى الله عليه وسلم-. وقالت أم سَلَمة: في بيتي نزلت: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ....} [الأحزاب: 33] قالت: فأرسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى فاطمة وعلي والحسن والحسين، فقال: "هؤلاء أهل بيتي". وقال مسروق، عن عائشة: أقبلت فاطمة تمشي، كأن مشيها مشي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "مرحبًا بابنتي"، ثم أجلسها عن يمينه، ثم أسرَّ إليها حديثًا، فبكت، ثم أسر إليها حديثًا، فضحكت، فقلت: ما رأيتُ أقرب فرحًا من حزنٍ، فسألتها عن ذلك، فقالت: ما كنت لأفشيَ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سرَّه؟ فلما قُبِض،

سألتها، فأخبرتني أنه قال: "إن جبريل كان يعارضني بالقرآن في كل سنة مرة، وإنه عارَضَني العامَ مرتين، وما أُراه إلا قد حضر أجلي، وإنك أول أهل بيتي لحوقًا بي، ونعم السَّلَف أنا لك" فبكيتُ. فقال: "أما ترضَيْن أن تكوني سيدة نساء العالمين" فضحكت. أخرجاه. وعن عمرو بن سعيد قال: كان في علي شدة على فاطمة، فقالت؟ والله لأشكونَّك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فانطلقت وانطلق علي في إثرها، فقال: "أي بنيةُ، اسمعي واستمعي واعقلي، إنه لا مرأة لا يأتي زوجها وهو ساكت" قال علي: فكففت عما كنت أصنع، وقلت: والله لا آتي شيئًا تكرهينه أبدًا. وعن حبيب بن أبي ثابت قال: كان بين علي وفاطمة كلام، فدخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلم يزل حتى أصلح بينهما، ثم خرج، فقيل له: دخلت وأنت على حال، وخرجت وفحن نرى البشْر في وجهك! فقال: "وما يمنعني وقد أصلحتُ بين أحب اثنينِ إليَّ". وعن ابن مسعود مرفوعًا: "إن فاطمة أحصنت فرجَها، فحرَّمها الله تعالى وذُريتها على النار". وروى السائب عن علي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما زوَّجه فاطمة، بعث معها بخَميلة ووِسادة أدم حشوُها ليفٌ ورَحاءين وسِقاءين، قال: فقال علي لفاطمة: لقد سنوتُ حتى أسليتُ صدري، وقد جاء الله بسبي، فاذهبي فاستخدمي النبي -صلى الله عليه وسلم-. فقالت: وأنا والله قد طحنتُ حتى سجلتْ يداي، فأتت النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "ما جاء بك بنيةُ؟ " فقالت: جئت لأسلم عليك، واستحيت أن تسأله، ورجعت. فأتياه جميعًا، فذكر له علي حالهما، قال: "لا والله لا أعطيكما، وأدع أهل الصُّفة تتلوّى بطونُهم، لا أجد ما أُنفق عليهم، أبيع وانفق عليهم أثمانهم". فرجعا، فأتاهما وقد دخلا في قطيفتهما، إذا غطيا رؤوسهما بدت أقدامهما، وإذا غطيا أقدامهما انكشفت رؤوسهما، فثارا، فقال: "مكانكما، ألا أخبركما بخير مما سألتماني؟ ". فقالا: بلى. فقال: "كلمات علَّمنيهِنَّ جبريلٌ، تسبِّحان دُبُرَ كلِّ صلاة عشرًا، وتحمَدانِ عشرًا، وتكبِّران عشرًا، وإذا آويتما إلى فراشِكما

تسبِّحان ثلاثًا وثلاثين، واحمدا ثلاثًا وثلاثين، وكبِّرا أربعًا وثلاثين". قال علي: فوالله ما تركتُّهنَّ منذ علمنيهنَّ. قال له ابن الكواد: ولا ليلة صفين؟ قال: قاتلكم الله يا أهل الطروق، ولا ليلة صفين. لها رضي الله عنها ثمانية عشر حديثًا اتفقا على حديث منها. روى كلها: ابناها، وأبوهما، وعائشة، وأم سلمة، وأنس، وسلمى أُم رافع. توفيت عليها السلام ليلة الثلاثاء لثلاث خلونَ من شهر رمضان سنة إحدى عشرة بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بستة أشهر. وقيل: بثلائة أشهر. وقيل: بمئة يوم. وقيل: بثمانية أشهر. وقيل: عاشت بعده سبعين يومًا. وسنها حين توفيت ثلاثون سنة. وقيل: خمس وثلاثون. وأوصت عليًّا أن يغسلها هو وأسماء بنت عُميس، وإنهما غسلاها. واستبعده ابن فَتْحون بأن أسماء كانت حينئذ تحت أبي بكر الصديق، فكيف تنكشف بحضرة علي في غسل فاطمة، وهو محل استبعاد. وقد وقع عند أحمد أنها اغتسلت قبل موتها بقليلٍ، وأوصت أن لا تنكشِف، ويُكتفى بذلك في غسلها، واستُبعد هذا أيضًا. وأخرج ابن سعد وأحمد بن حَنْبل من حديث أم رافع قالت: مرضت فاطمة، فلما كان اليوم الذي توفيت فيه، قالت لي: يا أُمّهْ: اسكُبي لي غُسلًا، فاغتسَلَتْ كأحسن ما كانت تغتسل، ثم لبست ثيابًا لها جُدُدًا، ثم قالت: اجعلي فراشي وسطَ البيت. فاضطجعت عليه، واستقبلت القبلة، وقالت: يا أمَّهْ: إني مقبوضة الساعة، وقد اغتسلت، فلا يكشفنَّ لي أحد كنفًا. فماتت، فجاء علي، فأخبرته، فاحتملها وصلّى عليها. وقيل: صلى عليها العباس، ونزل هو وعلي والفضل بن العباس في حفرتها. وقيل: صلّى عليها أبو بكر، وهذا ضعيف. ودُفِنت ليلًا بالبقيع، وقد أشارت بذلك.

لطائف إسناده

وقال الواقِدي: قلت لعبد الرحمن بن أبي الموالي: إن الناس يقولون: إن قبر فاطمة بالبقيع. فقال: ما دُفنت إلاَّ في زاوية في دار عَقيل، وبين قبرها وبين الطريق سبعة أذرع. وهي أول من غُطِّي نعشها من النساء في الإِسلام، ثم بعدها زينب بنت جَحْش، صُنع بها ذلك أيضًا، فقد روي عن عمار بن المهاجر، عن أم جعفر، أن فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالت لأسماء بنت عُميس: يا أسماء: قد استقبحتُ ما يُصنع بالنساء، إنه يُطرح على المرأة الثوب فيصِفُها. فقالت أسماء: يا بنتَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ألا اريك شيئًا رأيتُه بأرض الحبشة، فدعت بجرائد رطبة، فحتَّتْها، ثم طرحت عليها ثوبًا. فقالت فاطمة: ما أحسن هذا وأجمله، تُعرف به المرأة من الرجل، فإذا أنا متُّ فاغسليني أنت وعلي، ولا تدخلي عليَّ أحدًا. فلما تُوفيت جاءت عائشة تدخل، فقالت أسماء: لا تدخُلي، فشكت إلى أبي بكر، فقالت: إن هذه الخَثْعَمية تَحول بيننا وبين بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد جَعَلَتْ لها مثل هودَج العروس. فجاء أبو بكر، فوقف على الباب، وقال: يا أسماء: ما حملك على أن منعت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- في لي أن يدخُلن علي بنته، وجعلت لها مثل هَوْدج العروس؟ فقالت: أمرتني أن لا يدخُل عليها أحد، وأريتها هذا الذي صنعتُ وهي حيةٌ، فأمرتني أن أصنع ذلك لها. قال أبو بكر: فاصنعي ما أمرتك، ثم انصرف، فغسلها علي وأسماء. وكانت أول أهله -صلى الله عليه وسلم- لحوقًا به، ولم يخلِّف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من بنيه غيرها، فكانت مصيبته -صلى الله عليه وسلم- في ميزانها. لطائف إسناده: هنا إسنادان: في الأول: التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد، والإخبار بصيغة الإفراد، والعنعنة في أربعة مواضع. وفي الثاني: التحديث بصيغة الإفراد في ثلاثة مواضع، وبصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في موضعين.

باب البصاق والمخاط ونحوه في الثوب

ورواته كلهم كوفيون غير عبدان وأبيه، فهما مَرْوزيّان. وفيه أنه قرن رواية عبدان برواية أحمد بن عثمان، مع أن اللفظ برواية أحمد تقوية لروايته برواية عبدان، لأن في إبراهيم بن يوسف مقالًا. وفي رواية عبدان: رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفي رواية أحمد: النبي -صلى الله عليه وسلم-. أخرجه البخاري هنا، وفي الجزية عن عبدان، وفي مَبْعَث النبي -صلى الله عليه وسلم- عن محمد بن بشّار، وفي الصلاة عن أحمد بن إسحاق، وفي الجهاد عن عبد الله بن أبي شَيْبة، وفي المغازي عن عمرو بن عثمان. ومسلم في المغازي عن أبي بكر عبد الله بن أبي شيبة، وغيره. والنسائي في الطهارة عن أحمد بن عثمان، وفي السير عن أحمد بن سُليمان. ولا يُروى هذا الحديث إلاَّ بإسناد أبي إسحاق المذكور. باب البصاق والمخاط ونحوه في الثوب البُصاق بالصاد في بعض الروايات، وفي الأكثر بالزاي، وهو لغة فيه. وقيل: بالسين، وضُعِّف. وقوله: "في الثوب" أي: والبدن ونحوه، ودخول هذا في أبواب الطهارة من جهة أنه لا يُفْسِد الماء لو خالطه. وَقَالَ عُرْوَةُ عَنِ الْمِسْوَرِ وَمَرْوَانَ خَرَجَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- زَمَنَ حُدَيْبِيَةَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَمَا تَنَخَّمَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- نُخَامَةً إِلاَّ وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ. قوله: "زمن حُديبية" وللأصيلي: "في زمن"، وللأصيلي والهَرَوي وابن عساكر: "الحُدَيْبيَة" وهي بتخفيف المثناة التحتية الثانية عند الشافعي، مشددة عن أكثر المحدثين، قرية على مرحلة من مكة، سُميت ببئر هناك أو شجرة حدباء كانت تحتها بيعة الرضوان. وقوله: "فذكر الحديث " يعني: وفيه: "وما تنخَّم" وغَفَل الكِرماني، فظن أن قوله: "وما تنخم ... إلى آخره" حديث آخر.

وقوله: "وما تنخَّم نُخامةً" أي: ما رمى بنخامة زمن الحديبية أو مطلقًا. وقوله: "إلا وقعت في كفِّ رجل منهم" أي: ما تنخم في حال من الأحوال إلّا حال وقوعها في كف رجل منهم. والنخامة -بضم النون- النُّخاعة، وقيل: بالميم، ما يخرُج من الفم، وبالعين ما يخرج من الحلق. وقيل: بالميم من الصدر، والبلغم من الدماغ. وقوله: "فدلك بها وجهه وجلده" أي: تبركًا به عليه الصلاة والسلام وتعظيمًا وتوقيرًا. واستُدل به على طهارة الريق ونحوه من فم طاهر غير متنجِّس، وحينئذ فإذا وقع ذلك في الماء لا ينجسه، ويُتوضأ به. ونقل بعضهم الإِجماع على طهارة الريق، لكن روى ابن أبي شَيْبة بإسناد صحيح عن إبراهيم النَّخَعي: إنه ليس بطاهر. وقال ابن حزم: صح عن سَلْمان الفارسي وإبراهيم النَّخَعي أن اللعاب نجِس إذا فارق الفم. قلت: يمكن أن يكون انعقاد الإجماع وقع بعد هذين. وزاد ابن إسحاق: "ولا يسقُط من شعره شيء إلا أخذوه"، ففي الحديث طهارة النخامة والشعر المنفصل والتبرك بفضلات الصالحين الطاهرة. ولعل الصحابة فعلوا ذلك بحضرة عُروة، وبالغوا في ذلك، إشارة منهم إلى الرد على ما خشيه من فرارهم، وكأنهم قالوا بلسان الحال: من يحبُّ إمامه هذه المحبة ويعظِّمه هذا التعظيم، كيف يُظن به أنه يَفِرَّ عنه ويُسلمه لعدوه؟ بل هم أشد اغتباطًا به وبدينه وبنصره من القبائل التي يراعي بعضها بعضًا بمجرد الرحم، فيُستفاد منه جواز التوصل إلى المقصود بكل وجه سائغ. وهذا التعليق قطعة من حديث طويل ساقه البخاري بطوله في صلح الحديبية، والشروط في الجهاد، وقد علق منه موضعًا آخر مضى في باب استعمال فضل وضوء الناس.

ورجاله ثلاثة: الأول: عُروة بن الزُّبير، وقد مر في الثاني من بدء الوحي، ومر مروان بن الحكم ومِسْور بن مَخْرمة في الرابع والخمسين من كتاب الوضوء هذا.

الحديث السادس والمئة

الحديث السادس والمئة حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: بَزَقَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فِي ثَوْبِهِ. طَوَّلَهُ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-. قوله: "في ثوبه"، زاد أبو نُعيم: "وهو في الصلاة". وقوله: "طوَّلَه" أي: هذا الحديث، أي: ذكره مطوّلًا. ويأتي مطوّلًا أيضًا عند المصنف في باب حك البزاق باليد من المسجد. وقوله في الرواية الثانية: "سمعت أنسًا" يعني: مثل الحديث المذكور، وهو مفعول سمعتُ الثاني، حُذِف للعِلْم به. وفي رواية ابن أبي مَرْيم التصريح بسماع حُميد من أنس، فظهر أنه لم يدلِّس فيه، خلافًا لما زعمه حمّاد بن سلمة أنه إنما سمعه عن ثابت عن أبي نَضْرة. رجاله سبعة: الأول: محمد بن يوسُف الفِرْيابي وقد مرَّ في العاشر من كتاب العلم. والثاني: سفيان الثوري وقد مرَّ في الثامن والعشرين من كتاب الإيمان. وإنما تعين أن المراد الثوري دون ابن عُيينة لأن الدّارقُطني صرح بذلك، ولأن ابن عُيينة مقلٌّ في حُميد، حتى إن البخاري لم يخرِّج له عنه إلاَّ حديثًا واحدًا، وهو حديث النّواة في الصداق. والثالث: حُميد الطويل، وقد مرَّ في الثالث والأربعين من كتاب الإيمان، وإنما كان هو المَعْنِي دون حُميد بن هِلال وإن كان في طبقته؛ لأن السفيانين

باب لا يجوز الوضوء بالنبيذ ولا المسكر

لم يرويا عن حُميد بن هِلال شيئًا. ومرَّ سعيد بن أبي مريم في الرابع والأربعين من كتاب العلم. ومر أنس بن مالك في السادس من كتاب الإيمان. وأما أبو عبد الله فالمراد به البخاري نفسه. والسادس من السند: يحيى بن أيوب، وهو يحيى بن أيوب بن بادي كوادي أبو زكريّا الخَوْلاني العلّاف. روى عن: أبي صالح عبد الغفار بن داود، وعمرو بن خالد الحرّاني، وسعيد بن أبي مَرْيم، وغيرهم. وروى عنه: النّسائي، وأبو علي بن هارون، وأبو علي عبد المؤمن بن خَلَف النَّسَفي، وأبو القاسم اللالَكائي، وإبراهيم بن محمّد بن مُسلم بن وارد، وآخرون. قال النَّسائي: صالح. وقال ابن يُونس: توفي في المحرم سنة تسع وثمانين ومئتين، وقد رأيته. وكان إذا رآني يقبِّل رأسي والخَوْلاني في نسبه مرَّ في الحادي عشر من الإيمان. باب لا يجوز الوضوء بالنبيذ ولا المسكر قوله: "النبيذ" بالمعجمة، وهو الماء الذي يُنبذ فيه نحو التمر لتخرج حلاوته إلى الماء، فعيل بمعنى مفعول، أي: مطروح، وإنما أُفرد النبيذ لأنه محل الخلاف في التوضؤ، والمراد بالنبيذ ما لم يبلغ إلى حد الإِسكار. وكَرِهَهُ الحسنُ وأَبُو العَالِيَةِ. فقد روى ابن أبي شَيْبة وعبد الرزاق من طريقين عن الحسن، قال: لا تتوضأ بلبن ولا بنبيذ. وروى أبو عبيد من طريق أخرى عنه أنه لا بأس به. فعلى هذا، فكراهته عنده على التنزيه، فلا يساعد الترجمة حينئذ. وأبو العالية تعليقه رواه أبو داود وأبو عبيد عن أبي خَلْدة، قال: سألت أبا

العالية عن رجل أصابته جنابة، وليس عنده ماء، أيغتسل به؟ قال: لا. وفي رواية لأبي عُبيد: فكرهه. والظاهر أن هذا كراهة تنزيه أيضًا. والحسن المراد به الحسن البصري، وقد مرَّ تعريفه في الخامس والعشرين من كتاب الإيمان. وتعليقه رواه ابن أبي شَيْبة وعبد الرزاق في "مصنفه" كما مر. وأبو العالية المراد به رُفَيْع الرِّياحي، وقد مرَّ تعريفه في التعاليق بعد الحديث الثاني من كتاب العلم. والذي علَّقه عنه رواه الدارقُطني في "سننه" بسند جيد، وابن أبي شَيْبة أيضًا. وقَالَ عطاءٌ: التيمّمُ أحبُّ إليَّ منَ الوُضُوءِ بالنَّبيذِ واللَّبَنِ. وقول عطاء هذا يدُل على أنه يُجيز استعمال النبيذ في الوضوء، ولكن التيمم أحب إليه منه، فعلى هذا هو أيضًا لا يساعد الترجمة. واللبن الذي لم يخالطه ماء لا يجوز الوضوء به إجماعًا، وأما المخلوط بالماء فأجاز الحنفية الوضوء به دون غيرهم. وأما الوضوء بالنبيذ فقد ذهب الأوزاعي إلى جواز الوضوء بالأنبذة كلها، وهو قول عِكْرمة مولى ابن عباس. ورُوي عن علي وابن عباس، ولم يصحَّ عنهما. وأجازه أبو حنيفة، وقيده في المشهور عنه بنبيذ التمر، واشترط أن لا يكون بحضرة ماء، وأن يكون خارج المصر أو القرية، وأن يكون حلوًا رقيقًا يسيل على الأعضاء كالماء، وما اشتدَّ منه صار حرامًا لا يجوز التوضؤ به. وإن غيرته النار، فما دام حلوًا فهو على الخلاف. ولا يجوز التوضؤ بما سواه من الأنبذة. وقال محمد: يُجمع بينه وبين التيمم، قيل: إيجابًا، وقيل: استحبابًا. وقال أبو يوسف كالجمهور: لا يُتوضأ به بحال، واختاره الطحاوي. وقال قاضيخان: إن أبا حنيفة رجع إلى هذا القول، لكن في المفيد من كتبهم إذا ألقى في الماء تمرات، فحلي، ولم يزُل عنه اسم الماء، جاز الوضوء به بلا خلاف، يعني: عندهم.

ومذهب مالك والشافعي وأحمد والجمهور أنه لا يُتوضأ به بحال. واحتجت الأحناف بحديث ابن مسعود حيث قال له النبي -صلى الله عليه وسلم- ليلة الجن: "ماذا في إداوتِك؟ " قال: نبيذ. قال: "تمرة طيبة، وماء طهور" رواه أبو داود والترمذي، وزاد: "فتوضأ به". وهذا الحديث أطبق علماء السلف على تضعيفه. وقيل على تقدير صحته: إنه منسوخ، لأن ذلك كان بمكة، ونزول قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6]، إنما كان بالمدينة بلا خلاف، أو هو محمول على ما ألقيت فيه تمرات يابسة لم تُغير له وصفًا، وإنما كانوا يصنعون ذلك لأن غالب مياههم لم تكن حلوة. قاله في "الفتح". وأجاب العيني عن التضعيف بأنه إنما حصل من رواية أبي زيد له عن ابن مسعود، وهو رجل مجهول، وقد رواه أربعة عشر رجلًا عن ابن مسعود، كما رواه أبو زيد وتتبعها، يعني أنه بكثرة الطرق المتعددة المخارج ينتقل عن رتبة الضعف إلى رتبة الحسن. وأجاب عن النسخ بأنه مردود، قال: وجه الرد ما ذكره الطبراني في "الكبير"، والدارقطني، أن جبريل عليه السلام نزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فهمز له بعقبه، فأنبع الماء، وعلَّمه الوضوء. وقال السُّهَيْلي: الوضوء مكي، ولكنه مدني التلاوة، وإنما قالت عائشة رضي الله عنها: آية التيمم، ولم تقل: آية الوضوء؛ لأن الوضوء كان مفروضًا قبلُ، غير أنه لم يكن قرآنًا يُتلى حتى نزلت آية التيمم. وحكى عِياض عن أبي الجَهْم أن الوضوء كان سُنة حتى نزل به القرآن بالمدينة. قلت: هذا الجواب في غاية السقوط كما ترى، فإنه ليس فيه إلاَّ أن الوضوء كان بمكة، وهذا لا تعرُّض فيه لمنع نسخ الوضوء بالنبيذ إن صح بالتيمم، فوجه الدلالة على النسخ هو أن الله تعالى حصر الطهارة في الوضوء بالماء، وفي التيمم بالتراب عند عدم الماء، والنبيذ ليس من الماء ولا من التراب، وهي مدنية متأخرة عن الحديث إن كان صحيحًا، فأفادت أن من لم يجد الماء يتيمم لا يتوضأ بنبيذ ولا غيره.

واختلفت الحنفية في جواز الاغتسال بنبيذ التمر، فقال بعضهم: لا يجوز، لأن الجواز عُرف بالنص، وإنه ورد بالوضوء دون الاغتسال، فيُقتصر على مورد النص .. وقال بعضهم، ومنه صاحب "المبسوط": يجوز لاستوائهما في المعنى. ونبيذ التمر الذي فيه الخلاف عند الحنفية وغيرهم هو أن يُلقى في الماء شيء من التمر لتخرج حلاوتها، كما هو الوارد في الحديث؛ لأن من عادة العرب أنها تطرح التمر في الماء ليحلو، فما دام رقيقًا حلوًا أو قارصًا يُتوضأ به عند أبي حنيفة، وإن كان غليظًا كالرُّبِّ لا يجوز الوضوء به، وكذا إن كان رقيقًا لكنه غلا واشتد وقَذَفَ بالزَّبَد؛ لأنه صار مسكرًا، والمسكر حرام، فلا يجوز الوضوء به، لأن النبيذ الذي توضَّأ به عليه الصلاة والسلام كان رقيقًا حلوًا، فلا يُلحق به الغليظ. والنبيذ إذا كان نيئًا أو كان مطبوخًا أدنى طبخة، فما دام قارصًا أو حلوًا فهو على الخلاف، وإن غلا واشتد وقذف بالزبد. وذكر القُدورِي في هذا الاختلاف بين الكرخي وأبي طاهر الدبّاس، فأجازه الأول، ومنعه الثاني، قاله العيني. وعطاء: المراد به ابن أبي رباح، وقد مرَّ في التاسع والثلاثين من كتاب العلم، وتعليقه رواه أبو داود من طريق ابن جُريج عنه.

الحديث السابع والمئة

الحديث السابع والمئة حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ". قوله: "حدّثنا الزُّهري" في رواية الأصيلي: "عن الزُّهري". وقوله: "أسكر" أي كان من شأنه الإسكار، سواء حصل بشربه السكر أم لا. ووجه احتجاج البخاري به في هذا الباب هو أن المسكر لا يحِلُّ شربه، وكل ما لا يحِلُّ شربه لا يجوز الوضوء به اتفاقًا. وقوله: "فهو حرام" أي: قليله وكثيره، وحُدَّ شاربُه المكلف قليلًا كان أو كثيرًا، من عنب أو تمر أو حِنطة أو لبن أو غير ذلك، نيئًا كان أو مطبوخًا. قال الخطابي: فيه دليل على أن قليل المسكر وكثيره حرام من أي نوع كان، لأنها صيغة عموم أُشير بها إلى جنس الشراب الذي يكون منه السُّكر، فهو كما لو قال: كل طعام أشْبع فهو حلال، فإنه يكون دالاًّ على حِلِّ كل طعام من شأنه الإشباع، وإن لم يحصُل الشِّبَع به لبعض دون بعض. قلت: ما ذكره استنباطًا وقع التصريح به في بعض طرق الحديث، فعند أبي داود والنسائي وصححه ابن حِبان، عن جابر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما أسكر كثيرُه فقليلُه حرام". وللنَّسائي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده مثله. وسنده إلى عمرو صحيح. ولأبي داود عن عائشة مرفوعًا: "كل مسكرٍ حرام، وما أسكر منه الفَرْق فملء الكف منه حرام". ولابن حِبّان والطحاوي عن سعد بن أبي وقّاص عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أنهاكُم عن قليل ما أسكر كثيره". وقد اعترف الطحاوي بصحة هذه الأحاديث.

وقال أبو حنيفة: لا يحرُم عصير العنب النيّئ حتى يغلي ويقذف بالزبد، فإذا على وقذف بالزبد حرم، وأما المطبوخ حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه، فلا يمتنع مطلقًا، ولو على وقذف بالزبد بعد الطبخ. وقال في المتَّخَذ من غير العنب: لا يحرُم منه إلا القَدْر الذي يُسكر، وما دونه لا يحرُم. ففرَّقوا بينهما بدعوى المغايرة في الاسم، مع اتحاد العلة فيهما، فإن كل ما قُدِّر في المتخذ من العنب يُقدر في المتجذ من غيرها، واستدلوا بحديث ابن عباس مرفوعاً وموقوفًا أخرجه النَّسائي ورجاله ثقات: "إنما حُرِّمت الخمر قليلها وكثيرها، والسكرُ من كل شراب". قالوا: فهذا يدُل على أن الخمر قليلها وكثيرها أسكرت أم لا حرام، وعلى أن غيرها من الأشربة إنما يحرم عند الإسكار. وقد رجح الإمام أحمد وغيره أن الرواية في هذا الحديث بلفظ: "والمُسْكر" بضم الميم، لا السُّكْر بضم فسكون، وعلى تقدير ثبوتها، فهو حديث فرد، ولفظه محتمِل، فكيف يعارِض تلك الأحاديث مع صحتها وكثرتها. وقذ قال أبو المظفَّر ابن السمعاني: ثبتت الأخبار الكثيرة في ذلك، فلا مساغ لأحد في العدول عنها، والقول بخلافها، فإنها حجج قواطع، وقد زلَّ الكوفيون في هذا الباب، وروَوْا أخبارًا معلولة لا تُعارض هذه الأخبار بحال، ومن ظن أن النبي -صلى الله عليه وسلم- شرب مسكرًا فقد دخل في أمر عظيم، وباء بإثم كبير، وإنما الذي شربه كان حلوًا ولم يكن مسكرًا. وقال أبو الليث السَّمَرْقندي: شارب المطبوخ إذا كان يُسكر أعظم ذنبًا من شارب الخمر؛ لأن شارب الخمر يشربُها وهو يعلم أنه عاصٍ، وشارب المطبوخ يشرب المُسكر وهو يراه حلالًا، وقد قام الإجماع على أن قليل الخمر وكثيره حرام، وثبت قوله -صلى الله عليه وسلم-: "كل مُسْكِر حرام"، ومن استحل ما هو حرام بالإجماع كفر، وقد قال بعض الشعراء في المئة الثالثة، معرِّضًا بمن يُفتي بإباحة المطبوخ: وأشربُها وأزعُمها حرامًا ... وأرجو عفوَ ربٍّ ذي امتنانِ

ويشربُها ويزعُمها حلالًا ... وتلكَ على المسيء خطيئتانِ واستدلوا لشراب المطبوخ بما أخرجه "الموطأ" عن عمر في قدومه للشام أن أهله شكوا إليه وباء الأرض، وقالوا: لا يُصلِخنا إلاَّ هذا الشراب. فقال عمر: اشربُوا العسل. قالوا: ما يُصلحنا العسل. فقال رجال من أهل الأرض: هل لك أن نجعلَ لك من هذا الشراب شيئًا لا يُسكر؟ فقال: نعم. فطبخوه حتى ذهب منه ثلثان وبقي الثلث، فأتَوا به عمر، فأدخل فيه أُصْبُعَه، ثم رفع يده، فتبعها يتمطَّط، فقال: هذا الطِّلاء مثل طِلاء الإِبل. فأمرهم عمر أن يشربوه، وقال: اللهم إني لا أُحِلُّ لهم شيئًا حرمتَهُ عليهم. والطِّلاء -بكسر المهملة والمد- الدبس، شُبِّه بطلاء الإبل وهو القَطِران الذي يُدهن به. ووجه الاستدلال به عندهم هو أنه أمر بشرب المطبوخ، ولم يفصِّل بين ما إذا أسكر أو لم يُسكر. ورُد هذا الاستدلال بما في الأثر نفسه من قولهم له: نجعل لك شيئًا لا يُسكر. فما قَبِلَ الشراب إلا بشرط أنه لا يُسكر. وبقوله رضي الله تعالى عنه في آخره: اللهم لا أُحلُّ لهم شيئًا حرمته عليهم. فإنه يدل على التفصيل؛ لأن المسكر حرمه الله تعالى. وبرده أيضًا ما أخرجه البخاري تعليقًا، ومالك وسعيد بن منصور موصولًا، عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه خرج عليهم، فقال: إني وجدت من فلان ريحَ شرابٍ، فزعم أنه شراب الطِّلاء، وإني سائل عمّا شرب، فإن كان يُسكر جلدته، فجلده عمر الحدَّ تامًّا، يعني بعد أن سأل عنه، فوجده يُسكر. فهذا الأثر يبين أن ما أحله عمر من المطبوخ الذي يسمى الطلاء، المراد به ما لم يبلغ حدَّ الإسكار، فإن بلغه لم يحِل عنده، ولذلك جلدهم، ولم يستفصل: هل شوبوا منه قليلًا أو كثيرًا. فالحاصل أن مذهب الحنفية هذا مخالف لمذاهب الأئمة الثلاثة وجمهور العلماء، فإن الشراب عندهم محرَّم إذا صار مسكرًا شُرْبُ قليله وكثيره، وسواء غلى أو لم يغل؛ لأنه يجوز أن يبلغ حد الإسكار بأن يغلي، ثم يسكن غليانه

بعد ذلك، وهو مراد من قال: حد منع شربه أن يتغير. وقد قال أبو عبيدَة في الأشربة: بلغني أن المنصّف يُسكر، فإن كان كذلك فهو حرام. والذي يظهر أن ذلك يختلف باختلاف الأعناب في البلاد، فقد قال ابن حزم: إنه شاهد من العصير ما إذا طُبخ إلى الثلث ينعقد ولا يصير مسكرًا أصلًا، ومنه ما إذا طُبخ إلى النصف كذلك، ومنه ما إذا طُبخ إلى الربع كذلك، بل قال: إنه شاهد منه ما يصير ربًّا خاثرًا لا يُسكر، ومنه ما لو طُبخ حتى لا يبقى غير ربعه لا يخثُر ولا ينفك السكر عنه، قال: فوجب أن يُحمل ما ورد عن الصحابة من أمر الطلاء على ما لا يُسكر بعد الطبخ. وقد ثبت عن ابن عباس بسند صحيح أنه قال: إن النار لا تُحِلُّ شيئًا ولا تحرِّمه. أخرجه النسائي، وقال: إنه يريد ما نُقل عنه في الطلاء. وأخرج أيضًا عن طاووس، قال: هو الذي يصير مثل العسل، يُؤكل ويُصب عليه الماء. وما ورد عن الصحابة في أمر الطلاء منه ما مرَّ عن عمر. ومنه ما أخرجه سعيد بن منصور عن عامر بن عبد الله، قال: كتب عمر إلى عمار: أما بعد، فإنه جاءني عِير تحمل شرابًا أسود كانه طلاء الإبل، فذكروا أنهم يطبخونه حتى يذهب ثُلثاه الأخبثَان، ثلث بريحه، وثلث ببَغْيه، فمُر من قِبَلَك أن يشربوه. وعن سعيد بن المسيِّب أن عمر أحلَّ من الشراب ما طُبخ فذهب ثلثاه وبقي ثلثه. وأخرج النسائي عن عمر قال: كتب عمر: اطبخوا شرابَكم حتى يذهب نصيب الشيطان منه، فإن للشيطان اثنين ولكم واحد. وهذه أسانيد صحيحة، وقد أفصح بعضُها بأن المحذور منه السكر، فمتى أسكر لم يحلَّ، وكأنه أشار بنصيب الشيطان إلى ما أخرجه النسائي عن ابن سِيرين في قصة نوح عليه السلام، قال: لما ركب السفينة فقد الحَبْلة، يعني: المكرمة، وهي بفتح الحاء وسكون الموحدة. فقال له الملك: إن الشيطان أخذها، ثم أُحضِرت له ومعها الشيطان، فقال له الملك: إنه شريكُك فيها،

رجاله خمسة

فأحسن الشركة. قال له: النصف؟ قال: أحسن. قال له: الثلثان ولي الثلث؟ قال: أحسنت، وأنت مِحْسان، أن تأكله عنبًا، وتشربه عصيرًا، وما طُبخ على الثلث فهو لك ولذريتك، وما جاز عن الثلث فهو من نصيب الشيطان. ومثل هذا لا يُقال بالرأي، فهو في حكم المرفوع. قال في "الفتح": فقد ورد عن ثلاثين صحابيًّا وأكثر أن المسكر لا يحل تناوله ويجب اجتنابه، وأكثر الأحاديث عنهم جياد، وتتبَّع جميعَها في كتابه "الفتح"، قال: واستُدل بقوله: "كل مسكر حرام" على تحريم ما يُسكر ولو لم يكن شرابًا، فيدخل في ذلك الحشيشة وغيرها. وجزم النووي وغيره بأنها مُسكر. وجزم آخرون بأنها مُخدِّرة. وهي مكابرة، لأنها تُحدث بالمشاهدة ما يُحدثه الخمر من الطرب والنشأة والمداومة عليها والانهماك فيها. وعلى تسليم أنها ليست بمسكرة، فقد ثبت عن أبي داود النهي عن كل مسكر ومفتر. وهو بالفاء. قلت: وللمالكية في الحشيشة قولان: قيل: إنها مسكرة، وهو اختيار عبد الله المَنْوفي. وقيل: إنها مخدِّرة، واختاره القَرافي. مع اتفاقهم على المنع من أكلها. وأما المفسِد والمرقِّد فلا يحرُم منهما إلا ما يغيِّب العقل، والفرق بين الثلاثة هو أن المسكر هو ما غيَّب العقل دون الحواس مع نشأة وطرب، وِالمفسد ما غيب العقل دون الحواس لا مع نشأة وطرب كحب البلادر، والمرقِّد ما غيب العقل والحواس كالسيكران. وينبني على الإسكار ثلاثة أحكام دون الأخيرين، الحد والنجاسة وتحريم القليل، بخلاف الأخيرين، فلا يحرم منهما إلا ما غيَّب كما مر، وإنما فيهما التعزير عن الملابسة. رجاله خمسة: الأول: علي بن المديني، وقد مرَّ في الرابع عشر من كتاب العلم. ومرَّ سًفيان بن عُيينة في الأول من بدء الوحي. ومرَّ أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عَوْف

لطائف إسناده

وابن شِهاب الزُّهري في الثالث منه. ومرت عائشة في الثاني من بدء الوحي. لطائف إسناده: فيه التحديت بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، والعنعنة في موضعين، ورواته ما بين مديني ومدني ومكي، وفيه رواية تابعي عن تابعي. أخرجه البخاري هنا، وفي الأشربة عن عبد الله بن يوسف وعن أبي اليمان. ومسلم في الأشربة عن يحيى بن يحيى وغيره، وأبو داود فيه عن القَعْنَبي. والترمذي عن إسحاق بن موسى. والنسائي عن سُويد بن نصر. وابن ماجه في الأشربة عن أبي بكر بن أبي شيبة. باب غسل المرأة أباها الدم عن وجهه قوله: "أباها" منصوب على المفعولية، و"الدم" منصوب على الاختصاص، أو على البدل، وهو إما اشتمال أو بعض من كل. وفي رواية ابن عساكر: "غسل المرأة الدم عن وجه أبيها" وهو بالمعنى. وقوله: "عن وجهه" في رواية الكُشْمِيهني: "من وجهه"، وفي رواية غيره: "عن" إما بمعنى من، كما في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [الشورى: 25]، أو ضمَّن الغسلَ معنى الإزالة، وهذه الترجمة معقودة لبيان أن إزالة النجاسة ونحوها تجوز الاستعانة فيها كما مرَّ في الوضوء، وبهذا تظهر مناسبة أثر أبي العالية لحديث سَهْل. وقالَ أبُو العَالِيَةِ: امْسَحُوا على رِجْلي فَإنَّها مريضَةٌ. قد مرَّ قريبًا أن أبا العالية عُرِّف في التعاليق بعد الحديث الثاني من العلم. وتعليقه هذا وصله عبد الرزاق وابن أبي شَيْبة، ولفظ عبد الرزاق: عن عاصم بن سليمان، قال: دخلنا على أبي العالية وهو وَجِعٌ، فوضؤوه، فلما بقيت إحدى رجليه، قال: امسحوا على هذه فإنها مريضة، كان بها حُمرة. وزاد ابن أبي شيبة أنها كانت معصوبة.

الحديث الثامن والمئة

الحديث الثامن والمئة حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ، سَمِعَ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ، وَسَأَلَهُ النَّاسُ وَمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ أَحَدٌ: بِأَيِّ شَيْءٍ دُووِيَ جُرْحُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-؟ فَقَالَ: مَا بَقِىَ أَحَدٌ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، كَانَ عَلِيٌّ يَجِيءُ بِتُرْسِهِ فِيهِ مَاءٌ، وَفَاطِمَةُ تَغْسِلُ عَنْ وَجْهِهِ الدَّمَ، فَأُخِذَ حَصِيرٌ فَأُحْرِقَ فَحُشِيَ بِهِ جُرْحُهُ. قوله: "وسأله الناس وما بيني وبينه أحد" جملة حالية، وأراد بقوله: "وما بيني وبينه أحد" أي: عند السؤال، ليكون إدل على صحة سماعه منه، لقربه منه. وقوله: "بأي شيء" الجار متعلق بسأل، والمجرور للاستفهام. وقوله: "دُوْوِي" بواوين، الأولى ساكنة والثانية مكسورة، مبني للمفعول من المُداواة، وربما حُذف في بعض الأصول إحدى الواوين، كداود في الخط. وقوله: "جرح النبي -صلى الله عليه وسلم-" يعني الذي أصابه في غزوة أحد، ومجموع ما ذُكر في الأخبار أنه شُجَّ وجهه، وكُسرت رباعيته، وجُرحت وجنته، وشفتُه السُّفلى من باطنها، ووَهِيَ منكِبُهُ من ضربة ابن قَمِئة، وجُحِشت رُكبته. وروى عبد الرزاق عن الزُّهري قال: ضُرب وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- بالسيف سبعينَ ضربةً، وقاه الله شرَّها كلها. وهذا مرسلٌ قوي. ويُحتمل أن يكون أراد بالسبعين حقيقتها أو المبالغة في الكثرة. وذكر ابن هشام عن أبي سعيد الخُدري أن عُتبة بن أبي وقّاص هو الذي كَسَرَ رباعية النبي -صلى الله عليه وسلم- السفلى، وجرح شفته السفلى، وأن عبد الله بن شهاب الزهري هو الذي شجه في جبهته، وأن عبد الله بن قمِئة جرحه في وجنته فدخلت

حَلَقَتان من حَلَق المِغْفر في وجنته، وأن مالك بن سنان مصَّ الدم من وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم ازدَرَدَه، فقال: "لن تمسَّك النار". وروى ابن إسحاق عن سعد بن أبي وقّاص أنه قال: ما حَرَصْتُ على قتل رجل قطُّ حِرصي على قتل أخي عُتبة بن أبي وقّاص لما صنع برسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد. وفي الطبراني عن أبي أمامة، قال: رمى عبد الله بن قمِئة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد فشجَّ وجهه، وكسر رباعيته، فقال: خُذها وأنا ابن قَمِئة. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يمسح الدم عن وجهه: "مالك أقْمَأَكَ الله؟ " فسلط الله عليه تَيْسَ جبل، فلم يزل ينطحه حتى قطَّعَه قطعةً قطعةً. وأخرج ابن عائذ في "المغازي" نحوه، إلاَّ أنه قال: فانصرف إلى أهله، فخرج إلى غنمه، فوافاها على ذروة جبل، فدخل فيها، فشدَّ عليه تيسُها، فنطحه نطحة أرداه من شاهق الجبل، فتقطع. فالأول جعل القاتل له تيس الجبل، وهذا جعله تيس غنمه. ولابن عائذ أيضًا عن الأوزاعي: بلغنا أنه لما جُرح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد، أخذ شيئًا، فجعل ينشِّف به دمه، وقال: "لو وقع منه شيء على الأرض لنزل عليكم العذابُ من السماء"، ثم قال: "اللهم اغفِر لقومي فإنهم لا يعلمون". وقوله: "ما بقي أحدٌ أعلمُ به مني" برفع أعلم صفة لأحد، أو بالنصب على الحال، وإنما قال ذلك لأنه كان آخر من بقي من الصحابة بالمدينة كما عند المصنف في النكاح، وكان بين الوقعة وبين تحديث سهل بذلك أكثر من ثمانين سنة. وقوله: "يجيء بتُرسه" أي: بضم التاء، جمعه أتراس. وقوله: "فأُخذ حصيرٌ فأُحرق فحُشي به" بضم الهمزة في الأوَّلين والحاء في الأخير بالبناء للمفعول في الجميع، والضمير في "به" لما أُحرق.

رجاله أربعة

وقوله "جرحُه" بالرفع نائب عن الفاعل. وله في الطب: "فلما رأت فاطمة الدم يزيد على الماءِ كثرةً، عمَدَتْ إلى حصيرٍ، فأحرقتها، وألصقتها على الجُرح، فَرَقَأ الدم". وإنما فعلت ذلك لأن في رماد الحصير استمساك الدم. وسبب مجيء فاطمة إلى أحد كما أخرجه الطبراني هو أنه لما كان يوم أحد وانصرف المشركون، خرج النساء إلى الصحابة يعينونهم، فكانت فاطمة فيمن خرج، فلما رأت النبي -صلى الله عليه وسلم- اعتنقته وجعلت تغسل جراحاته بالماء، فيزداد الدم، فلما رأت ذلك أخذت شيئًا من حصير، فأحرقته بالنار، وكمدته به حتى لَصِقَ بالجُرح، فاستمسك الدم. وفي الحديث مشروعية التداوي ومعالجة الجراح واتخاذ التُّرس في الحرب، وأن جميع ذلك لا يقدح في التوكل، لصدوره من سيد المتوكلين. وفيه مُباشرة المرأة لأبيها وكذا لغيرها من ذوي محارمها، ومداواتها لأمراضهم. وأن الأنبياء قد يُصابون ببعض العوارض الدنيوية من الجراحات والآلام والأسقام، ليعظُم لهم بذلك الأجر، وتزداد درجاتهم رفعة، وليتأسّى بهم أتباعهم في الصبر على المكاره، والعاقبة للمتقين، وليتحقق الناس أنهم مخلوقون لله فلا يُفتنون بما ظهر على أيديهم من المعجزات كما افتتن النصارى بعيسى بن مريم. رجاله أربعة، وفيه ذكر علي وفاطمة رضي الله عنهما: الأول: محمد بن سَلام البِيْكَنْدِي وقد مرَّ في الثالث عشر من الإيمان. والثاني: سُفيان بن عُيينة ومرَّ في الأول من بدء الوحي. ومرَّ تعريف علي في السابع والأربعين من كتاب العلم. ومرت فاطمة رضي الله عنها في الرابع والمئة من كتاب الوضوء هذا. والثالث من السند: أبو حازم سَلَمة بن دينار الأعرج الأثور التمّار القاضي المدني مولى الأسود بن سفيان المخزومي، ويقال: مولى بني شجع من بني

ليث، ومن قال: أشجع، فقد وهم. قال أحمد وأبو حاتم والعجلي والنسائي: ثقة. وقال ابن خُزيمة: ثقة، لم يكن في زمانه مثله. وقال ابن سعد: كان يقضي في مسجد المدينة، وكان ثقة كثير الحديث. وذكره ابن حِبان في "الثقات"، وقال: كان قاضي أهل المدينة، ومن عبّادهم وزُهادُهم، بعث إليه سليمانُ بنن عبد الملك الزُّهريَّ في أن يأتيه، فقال للزُّهري: إن كان له حاجة فليأتِ، وأما أنا فمالي إليه حاجة. وقال ابنه ليحيى بن صالح: من حدثك أن أبي سمع من أحد من الصحابة غير سَهْل بن سعد فقد كذب. وروى عن: سَهل بن سَعد السّاعِديّ، وأبي امامة بن سهل بن حُنَيْف، وسعيد بن المسيِّب، وابن عَمرو بن العاص ولم يسمع منهما، وعامر بن عبد الله بن الزُّبير وخلق. وروى عنه: الزُّهري، وعبيد الله بن عمر، وابن أبي ذئب، ومالك، والحمّادان، والسفيانان، وأسامة بن زيد، وخلق آخرهم أبو ضَمْرة أنس بن عياض الليثي. مات في خلافة أبي جعفر بعد سنة أربعين ومئة. الرابع: سهل بن سعد بن مالك بن خالد بن ثعلبة بن حارثة بن عمرو بن الخَزْرَج بن ساعِدة الأنصاري الساعِدِيّ من مشاهير الصحابة، يقال: كان اسمه حَزْنًا، فغيره النبي -صلى الله عليه وسلم-. رُوي عن الزُّهري أنه قال: قلت لسهل بن سعد: ابن كم كنت يوم المتلاعنَيْن؟ قال: ابن خمس عشرة سنة. وعن الزُّهري أيضًا، عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- توفي وهو ابن خمس عشرة سنة. وعُمِّر حتى أدرك الحجاج، وامتُحن معه. قال الواقِدي: وفي سنة أربع وسبعين أرسل الحجاج لسَهْل بن سعد يريد إذلاله، قال: ما منعك من نصر أمير

لطائف إسناده

المؤمنين عثمان رضي الله عنه؟ قال: فعلت. قال: كذبت. ثم أمر به فخُتم في عنقه، وختم أيضًا في عنق أنس بن مالك حتى ورد كتاب عبد الملك فيه، وختم في يد جابر يريد إذلالهم بذلك، وأن يجتنبهم الناس ولا يسمعوا منهم. واختُلف في وقت وفاته، فقيل: توفي سنة ثمان وثمانين وهو ابن ست وتسعين سنة. وقيل: سنة إحدى وتسعين، وقد بلغ مئة سنة. ويقال: هو آخر الصحابة موتًا بالمدينة. وحُكي عن أبي حازم قال: سمعت سَهل بن سَعد يقول: لو متُّ لم تسمعوا أحدًا يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وقال أبو حازم أيضًا: كان سهل آخر من بقي من الصحابة رضي الله عنهم. له مئة وثمانية وثمانون حديثًا، اتفقا على ثمانية وعشرين، وانفرد البخاري بأحد عشر. روى عنه أبو حازم، والزُّهري، وأبو سهل الأصبَحي، وابنه العباس، وخلق كثير. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في موضع، وفيه السماع، ورواته ما بين مكي ومدني، وهو من رباعيات البخاري. أخرجه البخاري هنا، وفي الجهاد عن علي بن عبد الله، وفي النِّكاح عن قُتيبة. ومسلم في المغازي عن أبي بكر بن أبي شيبة وغيره. والترمذي في الطب عن ابن أبي عُمر. وابن ماجه فيه عن محمد بن الصبّاح. وقال الترمذي: حسن صحيح. باب السِواك وهو بكسر السين على الأفصح، وقيل فيه الضم، ويطلق على الآلة وعلى الفعل، وهو المراد هنا، ويقال في الآلة: مِسواك -بكسر الميم- وهو مذكر، وقيل: مؤنث، وجمعه سُوُك، ككتاب وكتب، ويجوز بالهمز كما هو القياس في

كل واو مضمومة، كوُقِّتت وأُقِّتت، وهو مشتق من ساك الشيء إذا دلكه، أو من جاءت الإبل تتساوَك، أي: تتمايل هُزالا. وهو في اصطلاح الفقهاء استعمال عود أو نحوه في الأسنان لذهاب التغير ونحوه. وهو من سنن الوضوء، فلذا ذكره المؤلف في بابه، لحديث: "لولا أن أشُقَّ على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء" أي: أمر إيجاب. رواه ابن خُزيمة وغيره. ومن سنن الصلاة لحديث الشيخين: "لولا أن أشُق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" أي: أمر إيجاب. ولحديث: "صلاة بسواك خيرٌ من سبعين صلاة بغير سواك"، معناه ثوابها أكثر من ثواب سبعين. أو أن باب الطهارة يشمَل الإِزالة، و"السواك مطهَرَةٌ للفم مرضاةٌ للربِّ" رواه أحمد والنسائي وابن حِبان عن عائشة، وقد مر ذكره. وقالَ ابنُ عَباسٍ بتُّ عِنْدَ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَاسْتَنَّ قوله: "فاستنَّ" أما من الاستنان، وهو دلكُ الأسنان وحكُّها بما يجلوها، مأخوذ من السَنِّ بالفتح، وهو إمرار ما فيه خشونة على آخر ليُذهبها، أو من السِّنِّ بالكسر لأن السواك يمُرُّ على الأسنان. وهذا التعليق قطعة من حديث طويل وصله البخاري من طرق، منها بلفظه هذا في تفسير سورة آل عمران. وقد تقدم بعضه في باب التخفيف في الوضوء، ومرَّ الكلام عليه هناك مستوفى، ويأتي الباقي إن شاء الله تعالى. وابن عباس مرّ تعريفه في الرابع من بدء الوحي.

الحديث التاسع والمئة

الحديث التاسع والمئة حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ غَيْلاَنَ بْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَوَجَدْتُهُ يَسْتَنُّ بِسِوَاكٍ بِيَدِهِ يَقُولُ: "أُعْ أُعْ"، وَالسِّوَاكُ فِي فِيهِ، كَأَنَّهُ يَتَهَوَّعُ. قوله: "يستنُّ بسواكٍ بيده" بفتح أوله وسكون المهملة وفتح المثناة وتشديد النون، قد مرَّ معناه قريبًا، وهي جملة في موضع نصب مفعول ثان لوجدته. وقوله: "يقول" أي: النبي -صلى الله عليه وسلم- أو السواك مجازًا. وقوله: "أُع أُع" بضم الهمز وسكون العين المهملة فيهما، كما لأبي ذرٍّ، ورواه غيره بفتح الهمزة، ورواه النسائي وابن خُزيمة بتقديم العين على الهمزة، ولأبي داود بهمزة مكسورة ثم هاء، وفي "صحيح" الجوزقي بكسر الهمزة وخاء معجمة بدل الهاء، والرواية الأولى أشهر، وإنما اختلفت الرواة الثقات لتقارب مخارج هذه الحروف، وكلها ترجع إلى حكاية صوته، إذ جعل السواك على طرف لسانه كما عند مسلم، والمراد طرفه الداخل كما عند أحمد: "يستنُّ إلى فوق"، ولذا قال هنا: "كأنه يتهوَّعُ" أي: يتقيّأ، فالتهوع القيء، يقال: هاع يهُوع إذا قاء بلا تكلُّف، يعني أن له صوتًا كصوت المتقىء على سبيل المبالغة. ويستفاد منه مشروعية السواك على اللسان طولًا، وأما الأسنان فالأحب أن يكون عرضًا، لحديث: "إذا استكتُم فاستاكوا عرضًا". رواه أبو داود في "مراسيله"، وله شاهد موصول عند العُقيلي في "الضعفاء". وفيه تأكيد السواك، وأنه لا يختصُّ بالأسنان، وأنه من باب التنظيف والتطيُّب لا من باب إزالة القاذورات، لكونه -صلى الله عليه وسلم- لم يختف به.

وبوّبوا عليه: "استياك الإمام بحضرة رعيته". ويستحب عند قراءة القرآن، والاستيقاظ من النوم، وتغير الفم، وفي كل حال إلا للصائم بعد الزوال فيكره عند الشافعية، ويأتي إن شاء الله تعالى الكلام عليه في الصيام. وقال ابن عباس: فيه عشر خصال: يذهب الحَفْرَ، ويجلو البصرَ، ويشُد اللثة، ويطيِّب الفم، وينفي البلغم، وتفرح له الملائكة، ويرضى الرب تعالى، ويوافق السنة، ويزيد في حسنات الصلاة، ويصح الجسم. وزاد الترمذي الحكيم: ويزيد الحافظ حفظًا، ويصفّي اللون، ويُنبت الشعر. ويندب باليمنى، ويُبدأ بالسواك من الجانب الأيمن. والأراك أفضل، وهو شجر معروف، والأخضر أفضل للمفطر. ويحصُل بكل عود، وأفضله المتوسط بين الشدة والرِّخوة. وكرهه ابن حبيب بعود الرمان والريحان، لتحريكهما عِرق الجذام. ولا يستاك بعود مجهول ولا بالحلفاء وقصب الشعير؛ لأن ذلك يورث الأكله والبرص. وعند الشافعية الأولى الأراك، ثم جريد النخل، ثم الزيتون، ثم غيره مما له ريح طيب، ثم غير ذلك والظاهر أن مذهب المالكية لا يُخالف ذلك. وتتأدّى السنة بكل خشن يصلُح لإزالة الوسخ وكالخرقة، وبالأُصبع عند المالكية، لكن لا يدخلها بعد ذلك في الماء إلاَّ بعد الغسل، خوف إضافة الماء. وفي الأُصبع عند الشافعية ثلاثة أوجه، ثالثها: إن قدر على العود ونحوه لا يجزىء، وإلا أجزأ. وليبلع ريقه في أول استياكه، فإنه ينفع من الجذام والبرص وكل داء سوى الموت، ولا يبلع بعده شيئًا، فإنه يورث النسيان.

رجاله خمسة

رجاله خمسة: الأول: أبو النعمان محمد بن فضل عارِم مرَّ في الثاني والخمسين من كتاب الإيمان. ومرَّ حمّاد بن زيد في الخامس والعشرين منه. ومرَّ أبو بُردة عامر وأبوه أبو مُوسى في الرابع منه أيضًا. والثالث من السند غَيْلان بن جَرير المِعْوَليّ -بفتح الميم وسكون العين وفتح الواو- نسبة إلى بطن من الأزْد. روى عن: أنس بن مالك، وأبي قيس زياد بن رباح، ومُطرِّف بن عبد الله بن الشِّخيّر، وعارم الشعبي، وغيرهم. وروى عنه: موسى بن أبي عائشة، وأيوب، وجرير بن حازِم، وحمّاد بن زيد، وآخرون. قال أحمد وابن مَعين وأبو حاتم والنسائي: ثقة. وذكره ابن حِبّان في "الثقات". وقال ابن سعد: كان ثقة، وله أحاديث. وقال العِجْلي: بصري ثقة. مات سنة تسع وعشرين ومئة. والمَعْوَلي -بفتح الميم، وقيل: بكسرها- نسبة إلى بطن من الأزد كما مر، وهم بنو مَعْوَلة بن شمس بن عمرو بن غالب بن عثمان بن نَضْر بن زَهْران بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نَضْر بن الأزد، وفيهم قال الشاعر يصف حمّامًا: وإذا دخلت سمعت فيها رَنَّةً ... لَغَطَ المعاوِل في بيوت هدادِ لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في ثلاثة مواضع، ورواته ما بين بصري وكوفي. أخرجه البخاري هنا، وقوله: "أع أع" من أفراده. ومسلم في الطهارة عن يحيى بن حبيب. وأبو داود فيها عن مسدَّد. والنّسائي فيها عن أحمد بن عَبْدة.

الحديث العاشر والمئة

الحديث العاشر والمئة حَدَّثَنَا عُثْمَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ. قوله: "إذا قام من الليل" ظاهره عام في كل حالة، ويحتمل أن يُخص بما إذا قام إلى الصلاة، ويدل عليه رواية المصنف في الصلاة بلفظ: "إذا قام للتهجُّد"، ولمسلم نحوه، وحديث ابن عبّاس يشهد له، وكان ذلك هو السر في ذكره في الترجمة. وقوله: "إذا قام" ظاهره يقتضي تعليق الحكم بمجرد القيام، ولفظة: "كان" تدل على المداومة والاستمرار. وفي الحديث استحباب السواك عند القيام من النوم؛ لأن النوم مقتضٍ لتغيُّر الفم لما يتصاعد إليه من أبخرة المعدة، والسواك آلة تنظيفه، فيُستحب عند مقتضاه. وقوله: "يشُوص فاه" بضم المعجمة وسكون الواو بعدها مهملة، والشَّوْص بالفتح الغسل والتنظيف أو التنقية أو الدلك أو الإمرار على الأسنان من أسفل إلى فوق. رجاله خمسة: الأول: عثمان بن أبي شيبة، والثاني: جرير بن عبد الحميد، والثالث: منصور بن المُعتمر وقد عُرِّفوا في الثاني عشر من كتاب العلم. ومر أبو وائل في الثاني والأربعين من كتاب الإيمان. ومرَّ حُذيفة بن اليمان بعد

لطائف إسناده

الحديث الثاني من كتاب العلم. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع، ورواته كلهم كوفيون. أخرجه البخاري هنا عن عثمان، وفي الصلاة عن محمد بن كَثِير، وفي صلاة الليل عن حَفْص بن عمر. ومُسلم في الطهارة عن أبي بكر بن أبي شَيْبة وغيره. وأبو داود فيها عن مُحمد بن كَثير. والنسائي فيها عن إسحاق بن إبراهيم وقُتيبة، وفي الصلاة عن عمرو بن علي وغيره. وابن ماجه في الطهارة عن محمد بن عبد الله.

باب دفع السواك إلى الأكبر

باب دفع السواك إلى الأكبر الحديث الحادي عشر والمائة وَقَالَ عَفَّانُ حَدَّثَنَا صَخْرُ بْنُ جُوَيْرِيَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "أَرَانِي أَتَسَوَّكُ بِسِوَاكٍ، فَجَاءَنِي رَجُلاَنِ أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ مِنَ الآخَرِ، فَنَاوَلْتُ السِّوَاكَ الأَصْغَرَ مِنْهُمَا، فَقِيلَ لِي كَبِّرْ. فَدَفَعْتُهُ إِلَى الأَكْبَرِ مِنْهُمَا". قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ اخْتَصَرَهُ نُعَيْمٌ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ أُسَامَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. قوله: "أراني" بفتح الهمزة للأصيلي، أي: أرى نفسي، فالفاعل والمفعول المتكلم، وهذا من خصائص أفعال القلوب، وبضمها لغيره، أي: أظن نفسي. وقال في "الفتح": إنه وهم. وللمستملي: "رآني" بتقديم الراء، والأول أشهر، ولمسلم، "أراني في المنام"، وللإسماعيلي: "رأيت في المنام" فعلى هذا فهو من الرؤيا. وقوله: "فقيل لي" قائل ذلك له جبريل عليه السلام كما سيذكُر قريبًا في رواية ابن المبارك. وقوله: "كبِّر" أي: قدم الأكبر في السن. وقوله في السند الثاني: "اختصرهُ نُعيم" أي: المتن، ورواية نُعيم هذه وصلها الطبراني في "الأوسط" عنه بلفظ: "أمرني جبريلُ أن أُكبِّر"، وقد رواه أحمد والإسماعيلي والبيهقي عن جماعة من أصحاب ابن المبارك، عنه، بلفظ: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يستنُّ، فأعطاه أكبر القوم، ثم قال: "إن جبريل أمرني أن أكبِّر" وهذا يقتضي أن تكون القضية وقعت في اليقظة. ويُجمع بينه وبين رواية صخر أن ذلك ما وقع في اليقظة، أخبرهم عليه

رجاله ثمانية

الصلاة والسلام بما رآه في النوم، تنبيهًا على أن أمره بذلك بوحي متقدم، فحفِظَ بعض الرواة ما لم يحفَظ بعض. ويشهد لرواية ابن المبارك ما رواه أبو داود بإسناد حسن عن عائشة قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستنُّ وعنده رجلان، فأُوحي إليه أن أعط السواكَ الأكبَر. وفي الحديث تقديم ذي السن في السواك، ويلتحق به الطعام والشراب والمشي والكلام. وقال المهلب: هذا ما لم يترتَّب القوم في الجلوس، فإذا ترتبوا فالسنة حينئذ تقديم الأيمن، وهذا قال عليه ما يأتي في الأشربة من تقديم مَن على اليمين مع صِغَر سنه. وفيه أن استعمال سواك الغير ليس بمكروه، إلاَّ أن المستحب أن يغسله ثم يستعمله، وفيه حديث عن عائشة في "سنن" أبي داود قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعطيني السواك لأغسله، فأبدأ به، فأستاك، ثم أغسله، ثم أدفعه له. وهذا دالٌّ على عظيم أدبها وكبير فطنتها، لأنها لم تغسله ابتداء حتى لا يفوتها الاستشفاء بريقه، ثم غسلته تأدبًا وامتثالًا. ويُحتمل أن يكون المراد بأمرها بغسله تطييبه وتليينه بالماء قبل أن يستعمله. رجاله ثمانية: عفان بن مسلم بن عبد الله الصفار أبو عثمان البَصْري مولى عُزرة بن ثابت الأنصاري. سكن بغداد، وكان من حكام الجرح والتعديل. قال ابن سعد: كان ثقة ثبتًا كثير الحديث حجة. وقال ابن خِراش: ثقة من خيار المسلمين. وقال ابن نافع: ثقة مأمون. وقال العِجْلي: عفّان بصري ثقة ثبت صاحب سنة، وكان على مسائل معاذ بن معاذ، فجعل له عشرة آلاف على أن يقف عن تعديل رجل فلا يقول عَدْل ولا غير عَدْل، فأبى، وقال: لا أُبطل حقًّا من الحقوق. وقال حنبل بن إسحاق: وأمر المأمون إسحاق بن إبراهيم الطاهري أن يدعو

عفّان إلى القول بخَلْق القرآن، فإن لم يُجب فاقطع عنه رزقه، وهو خمس مئة درهم في الشهر، فاستدعاه، فقرأ قل هو الله أحد حتى ختمها، فقال: مخلوق هذا؟! قال: يا شيخ: إن أمير المؤمنين يقول: إن لم يُجب اقطَعْ رزقَه. فقال: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22]، وخرج ولم يجب. وقال الحسين بن حبان: سألت أبا زكريا: إذا اختلف أبو الوليد وعفان في حديثٍ عن حمّاد بن سَلَمة، فالقول من؟ قال: عفان. قلت: وفي حديث شعبة؟ قال: القول قول عفان. قلت: وفي كل شيء؟ قال: نعم، عفان أثبت منه وأكيس، وأبو الوليد ثبت ثقة. قلت: فأبو نُعيم؟ قال: عفّان أثبت منه. وقال يحيى بن مَعين: أصحاب الحديث خمسة: مالك، وابن جُريج، والثوري، وشعبة، وعفان. وقال جعفر بن محمد الصايغ: اجتمع علي بن المديني وأبو بكر بن أبي شَيْبة وأحمد بن حَنْبل وعفّان، فقال عفّان ثلاثة يُضعَّفون في ثلاثة: علي بن المديني في حمّاد بن زيد، وأحمد بن حنبل في إبراهيم بن سعد، وأبو بكر بن أبي شَيْبة في شَريك. قال علي: ورابع معهم. قال عفّان: ومن ذاك؟ قال: عفّان في شعبة. قال عمر بن أحمد: وكل هؤلاء أقوياء ليس فيهم ضعيف، ولكن قال هذا على وجه المزاح. وقال حنبل عن أحمد: عفان وحبان وبَهْز هؤلاء المثبتون. وقال: قال عفّان: كنت أوقف شعبة على الأخبار. قلت له: فإذا اختلفوا في الحديث يُرجع إلى مَنْ؟ قال: إلى قول عفّان، هو في نفس أكبر، وبَهْز أيضًا، إلاَّ أن عفّان أضبط للأسامي، ثم حبان. وقال يحيى بن سعيد القطان: كان عفّان وحبّان ويَهْز يختلفون إلى، فكان عفّان أضبط القوم للحديث، عملت عليهم مرة في شيء، فما فطِنَ لي أحد إلاَّ عفان. وقال الآجُرّي: قلت لأبي داود: بلغك عن عفّان أنه يكذِّب وهبَ بن جرير؟

فقال: حدثني عبّاس العَنْبري، سمعت عليًّا يقول: أبو نُعيم وعفّان صدوقان لا أقبل كلامهما في الرجال، هؤلاء لا يدعون أحدًا إلاَّ وقعوا فيه. وقال حسان بن الحسن المُجاشِعي: سمعت ابن المديني يقول: قال عفان: ما سمعت من أحد حديثًا إلاَّ عرضتُه عليه، غير شعبة، فإنه لم يمكِّنني أن أعرض عليه. قال: وذُكر عنده عفان، فقال: كيف أذكر رجلاً شكَّ في حرف فضرب على خمسة أسطر؟ قال: وسمعت عليًّا يقول: قال عبد الرحمن: أتينا أبا عَوانة، فقال: مَنْ على الباب؟ فقلنا: عفّان وبَهز وحبان. فقال: هؤلاء بلاء من البلاء قد سمعوا، يريدون أن يعرِضوا. وقال الحسن الزَّعفراني: قلت لأحمد: من تابع عفان على كذا وكذا؟ فقال: وعفّان يحتاج إلى متابعة أحد. وسئل يحيى بن مَعين عن عفّان وبَهْز: أيُّهما كان أوثق؟ فقال: كلاهما ثقة. فقيل له: إن ابن المديني يزعم أن عفّان أصح الرجلين، فقال: كانا جميعًا ثقتين صدوقين. وقال ابن معين: عفّان أثبت من زيد بن الحُباب. وقال: عفّان -والله- أثبت من أبي نُعيم في حماد بن سلمة. وقيل له: من أثبت، عبد الرحمن بن مهدي أو عفّان؟ فقال: كان عبد الرحمن أحفظ لحديثه وحديث الناس، ولم يكن من رجال عفّان في الكتاب، وكان عفّان أسن منه. وقال عمرو بن علي: رأيت يحيى يومًا حدث بحديث، فقال له عفّان: ليس هو هكذا. فلما كان من الغد أتيت يحيى فقال: هو كما قال عفّان، ولقد سألت الله أن لا يكون عندي على خلاف ما قال عفّان. وقال ابن مَعين: كان يحيى إذا تابعه عفّان على شيء ثبت عليه وإن كان خطأ، وإذا خالفه عفّان في حديث عن حمّاد رجع عنه يحيى لا يُحدث به أصلًا. وقال الزَّعفَراني: رأيت يحيى بن مَعين يعرِض على عفان ما سمعه من يحيى القطان. وقال القيظي: عفان أثبت من القطان. وقال ابن مَعين: عفان أثبت من عبد الرحمن بن مَهدي. وقال: ما أخطأ عفان قطُّ إلاَّ مرة واحدة، أنا لقَّنْتُه إياه،

فقال: أستغفر الله. وقال خلف بن سالم: ما رأيت أحدًا يُحسن الحديث إلاَّ رجلين بَهْز وعفّان. وقال أبو حاتم: ثقة إمام متقن. وقال ابن عديَّ بعد أن حكى قول سليمان بن حرب: هذا عفان، كان يضبط عن شعبة، والله لو جَهَدَ جَهْده أن يضبُط عن شعبة حديثًا واحدًا ما قدر عليه، كان بطيئًا، رديء الفهم، ولقد دخل قبره وهو نادم على روايته عن شعبة. قال ابن عدي: عفّان أشهر وأصدق وأوثق من أن يقال فيه شيء، وإنَّ أحمد كان يرى أن يكتب عنه ببغداد الإملاء من قيام، وأحمد أروى الناس عنه، ولا أعلم لعفّان إلا أحاديث مراسيل عن الحمّادَين وغيرهما وصلها، وأحاديث موقوفة رفعها، والثقة قد يَهِم في الشيء، وعفّان لا بأس به صدوق، وقد رحل أحمد بن صالح المِصْري من مصر إلى بغداد، وكانت رحلته إلى عفّان خاصة. روى عن: داود بن أبي الفرات، وعبد الله بن بكر المُزَني، وصخر بن جُويرية، وشعبة، ووهيب بن خالد، وهمّام بن يحيى، والحّمادَين، وأبي عَوانة، وعبد الوارث بن سعيد، وغيرهم. وروى عنه: البخاري، وروى هو والباقون بواسطة إسحاق بن منصور، وأبي قُدامة السَّرْخَسي، وروى عنه أيضًا محمد بن عبد الرحيم، وأبو بكر بن أبي شيبة، وأخوه عثمان، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهُويه، وعلي بن المديني، وخلق كثير. مات ببغداد سنة عشرين ومئتين. الثاني: صخر بن جُوَيْرية -تصغير جارية- أبو نافع مولى بني تَميم، ويُقال: مولى بني هلال. قال أحمد بن حَنبل: شيخ ثقة ثقة. وقال ابن سعد: كان مولى لبني تميم، وكان ثقة ثبتًا. وقال عفّان: كان أثبت في الحديث وأعرف به من جُويرية بن أسماء. وقال أبو زُرعة وأبو حاتم: لا بأس به. وقال أبو داود: تُكُلِّم فيه. وقال النسائي: ليس به بأس، وذكره ابن حِبّان في "الثقات". وقال يَحيى بن مَعين:

صخر بن جُويرية ليس حديثه بالمتروك، إنما يُتكلم فيه؛ لأنه يقال: إن كتابه سقط. وقال الذُّهلي: ثقة. وقال ابن أبي خَيْثمة: رأيت في كتاب علي: قال يحيى بن سعيد: ذهب كتاب صخر، فبُعث إليه من المدينة. قال ابن حجر: له في "البخاري" سبعة أحاديث وحديث معلق، وحديث آخر متابعة، واحتج به الباقون إلاَّ ابن ماجه. روى عن: أبي رجاء العُطارِدي، وعائشة بنت سعد، ونافع مولى ابن عمر، وهشام بن عُروة، وعبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر، وغيرهم. وروى عنه: أبو أيوب السَّخْتِياني وهو أكبر منه، وأبو عمرو بن العلاء وهو من أقرانه، وحمّاد بن زيد، وبِشر بن المفضّل، ويحيى القطّان، وابن عُيينة، وابن المبارك، وغيرهم. الثالث: نافع مولى ابن عمر، وقد مرّ في الثالث والسبعين من كتاب العلم. وأُسامة بن زيد المراد به أُسامة بن زيد الليثي مولاهم، أبو زيد المدني. قال أبو حاتم: يُكتب حديثه ولا يُحتج به. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال أبو أحمد بن عدي: يروي عنه الثوري وجماعة من الثقات، ويروي عنه ابن وَهْب نسخة صالحة، وهو كما قال ابن مَعين: ليس بحديثه بأس، وهو خير من أُسامة بن زيد بن أسلم. وقال ابن نُمير: مدني مشهور. وقال العِجْلي: ثقة. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: روي عن نافع أحاديث مناكير. فقلت له: أُراه حسن الحديث. فقال: إن تدبرت حديثه فستعرف فيه النُّكر. وذكره ابن المديني في الطبقة الخامسة من أصحاب نافع، وقال الدارقطني: لما سمع يحيى بن سعيد القطان أنه حدث عن عطاء عن جابر رفعه: "أيام مِنى كلُّها مَنْحر" قال: اشهدوا أني قد تركت حديثه. قال الدارقطني: فمن أجل هذا تركه البخاري. وقال الحاكم في "المدخل": روى له مسلم، واستدللت بكثرة روايته له على أنه صحيح الكتاب عنده، على أن أكثر تلك الأحاديث مستشهد بها أو مقرون. هو

في الإِسناد. وقال ابن حِبان في "الثقات": يخطىء، وهو مستقيم الأمر صحيح الكتاب. وأُسامة بن زبد بن أسلم مدني واه، وكانا في زمن واحد، إلاَّ أن الليثي أقدم. روى عن: الزُّهري، ونافع مولى ابن عمر، وعطاء بن أبي رباح، ومحمد بن المُنْكَدِر، وصالح بن كَيْسان، وجماعة. وروى عنه: يحيى القطان، وابن المُبارك، والثوري، والأوزاعي، وابن وَهْب، ووكيع، وأبو نُعيم، وغيرهم. مات سنة ثلاث وخمسين ومئة عن بضع وسبعين سنة. ومر عبد الله بن عُمر في أول كتاب الإِيمان قبل ذكر حديث منه. ومر ابن المبارك في السادس من بدء الوحي. والمراد بأبي عبد الله البخاري نفسه. والسادس من السند: نُعيم بن حمّاد بن معاوية بن الحارث بن همام بن سَلَمة بن مالك الخُزاعي أبو عبد الله المَرْوَزي الفارِض. سكن مصر. قال أحمد: سمعنا نُعيم بن حمّاد ونحن نتذاكر على باب هُشيم المقطعات، فقال: جمعت المسند فغَنينا به من يومئذ. وقال أيضًا: أول من عرفناه يكتب المسند نعيم. وقال الخطيب: إنه أول من جمع المسند. وقال أحمد أيضًا: كان نُعيم كاتبًا لأبي عِصْمة، وهو شديد الرد على الجهمية، وأهل الأهواء، ومنه تعلم نُعيم بن حمّاد. وقال أيضًا: لقد كان من الثقات. وكان أحمد ويحيى يقولان: نعيم معروف بالطلب، ثم ذمه بأنه يروي عن غير الثقات. وقال إبراهيم بن الجُنَيْد عن ابن مَعين: ثقة. قال: فقلت له: إن قومًا يزعُمون أنه صحح كتبه من علي العَسْقلاني؟ قال يحيى: أنا سألته فأنكر، وقال: إنما قدرت فنظرت، فما عرفت ووافق كتبي غيرت. وقال أبو زكريا:

نُعيم بن حمّاد صدوق ثقة رجل صدق، أنا أعرف الناس به، كان رفيقي بالبصرة، وقد قلت له قبل خروجي من مصر: هذه الأحاديث التي أخذتها من العسقلاني. فقال: إنما كانت معي نسخ أصابها الماء، فدَرَسَ بعضها، فكنت انظر في كتابه في الكلمة تُشكل علي، فأما أن أكون كتبت منه شيئًا قط فلا. قال ابن مَعين: ثم قدم عليه ابن أخيه بأصول كتبه، إلاَّ أنه كان يتوهّم الشيء فيخطىء فيه، وأما هو فكان من أهل الصدق. وروى الدُّوري عن ابن مَعين أنه حضر نُعيمَ بن حماد بمصر، فجعل يقرأ كتابًا من تصنيفه، فمر له حديث عن ابن المبارك عن ابن عَون، قال: فقلت له: ليس هذا عن ابن المبارك. فغضب، وقام، ثم أخرج صحائف، فجعل يقول: أين الذين يزعُمون أن يحيى ليس بأمير المؤمنين في الحديث؟ نعم يا أبا زكريا، غلطت. قال اليُونارْتي: فهذا يدُل على ديانة نُعيم وأمانته لرجوعه إلى الحق. وقال العِجْلي: نُعيم بن حمّاد مَرْوزي ثقة. وقال ابن أبي حاتم: محله الصدق. وقال العباس بن مصعب: جمع كتبًا على محمد بن الحسن وشيخه، وكتبًا في الرد على الجهمية، وكان من أعلم الناس بالفرائض. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: ربما أخطأ ووهم. وقال النّسائي: نُعيم ضعيف. وقال في موضع آخر: ليس بثقة. وقال أبو علي النَّيْسابوري: سمعت النسائي يذكر فضل نُعيم بن حماد وتقدمه في العلم والمعرفة والسنن، ثم قيل له في قبول حديثه، فقال: قد كثُر تفرده عن الأئمة المعروفين بأحاديث كثيرة، فصار لا يُحتج به. وقال غير النسائي، وهو ابن حمّاد: كان يضع الحديث في تقوية السنة، وحكايات في مثالب أبي حنيفة. قال ابن عدي: وابن حمّاد متهمٌ فيما يقوله عن نُعيم، لصلابته في أصل الرأي. وأورد له ابن عدي أحاديث مناكير، وقال: وليعلم غير ما ذكرت، وقد أثنى عليه قوم وضعفه قوم، وكان أحد من يتصلَّب في السنة.

وقال أبو زرعة الدِّمشقي: قلت لدُحَيْم: حدثنا نُعيم بن حماد، وعن عيسى بن يونس، عن حَريز بن عثمان، عن عبد الرحمن بن جُبَيْر بن نُفيْر، عن أبيه، عن عوف بن مالك، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "تفترقُ أمتي على بِضْعٍ وسبعين فِرقة ... الحديث" فقال: هذا مقلوب الإسناد، فإن هذا حديث صفوان بن عمر وحديث معاوية. وقال محمد بن علي المَرْوزي: سألت يحيى بن مَعين عنه، فقال: ليس له أصل. قلت: فنُعيم؟ قال: ثقة. قلت: كيف يحدث ثقة بباطل؟ قال: شُبِّه له. وقال عبد الغني: وبهذا الحديث سقط نُعيم عند كثير من أهل العلم بالحديث، إلا أن يحيى بن مَعين لم يكن ينسبه إلى الكذب، بل كان ينسبه إلى الوهم. وقال محمد بن سعد: طلب الحديث كثيرًا بالعراق والحجاز، ثم نزل مصر، فلم يزل بها حتى أشخص منها في خلافة المعتصم، فسُئل عن القرآن، فأبى أن يجيب، فلم يزل محبوسًا بها حتى مات في السجن سنة ثمان وعشرين ومئتن. وقال مسلمة بن قاسم: كان صدوقًا، وهو كثير الخطأ، وله أحاديث منكرة في الملاحم انفرد بها، وله مذهب سوء في القرآن، كان يجعل القرآن قرآنين، فالذي في اللوح المحفوظ كلام الله تعالى، والذي بأيدي الناس مخلوق، كأنه يريد بالذي بأيدي الناس ما يتلونه بألسنتهم ويكتبونه بأيديهم، ولا شك أن المِداد والورق والتالي وصوته كله مخلوق، وأما كلام الله سبحانه وتعالى فإنه غير مخلوق قطعًا. رأى الحسين بن واقد، وروى عن إبراهيم بن طِهْمان، يقال: حديثًا واحدًا، وعن أبي عِصمة نوح بن أبي مريم، وكان كاتبه. وأبي حمزة السُّكَّري، وهشَيْم، وأبي بكر بن عيّاش، وحَفْص بن غياث، وابن عُيينة، وابن المبارك، وغيرهم. لقيه البخاري ولكنه لم يحرج عنه في "الصحيح" سوى موضع أو موضعين،

لطائف الإسنادين

وعلق له أشياء أخر. وروى له مسلم في "المقدمة" حديثًا واحدًا. وروى عنه: أصحاب "السنن" إلا النَّسائي، ومحمد بن يحيى الذُّهلي، وأبو حاتم الرازي، وأبو زُرعة الدِّمشقي، ويعقوب بن سُفيان، وأبو الأحْوص، وآخرون. لطائف الإسنادين: في الإسناد الأول التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد، وفيه العنعنة في موضعين، وفي الثاني العنعنة في أربعة مواضع ورواته ما بين مَرْوزي وبَصْري ومدني. أخرج البخاري هذا الحديث بلا رواية، ووصله أبو عَوانة في "صحيحه" عن محمد بن إسحاق الصغاني وغيره عن عفان. وأخرجه أبو نُعيم الأصبهاني عن أبي أحمد. وأخرجه مسلم في "صحيحه" عن نَصْر بن علي. والإسماعمِلي من طريق وَهْب بن جَرير وسعيد بن حَرْب. باب فضل من بات على الوضوء بالألف واللام، ولأبوي ذرِّ والوقت والأصيلي: "وضوء" بالتنكير.

الحديث الثاني عشر والمئة

الحديث الثاني عشر والمئة حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلاَةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الأَيْمَنِ، ثُمَّ قُلِ اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لاَ مَلْجَأَ وَلاَ مَنْجَا مِنْكَ إِلاَّ إِلَيْكَ، اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ. فَإِنْ مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ فَأَنْتَ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ". قَالَ: فَرَدَّدْتُهَا عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَلَمَّا بَلَغْتُ "اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ". قُلْتُ: وَرَسُولِكَ. قَالَ: "لاَ، وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ". قولنا: "إذا أتيت مَضْجَعك" بفتح الجيم من ضَجَعَ يضجَع، من باب منع يمنع، وروي بكسر الجيم، والمعنى: إذا أردت أن تأتي مضجعك، فتوضأ كلما في قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ} [النحل: 98]، أي: إذا أردت القراءة، وقد وقع صريحًا "إذا أردت" في رواية أبي إسحاق الآتية في الدعوات، وعند أبي داود والنسائي: "إذا آويت إلى فراشك وأنت طاهر، فتوسد يمينك" الحديث مثل حديث الباب وللنسائي أيضًا بلفظ: "من تكلّم بهؤلاء الكلمات حين يأخذ جَنْبه من مضجعه بعد صلاة العشاء" نحو حديث الباب. وقوله: "فتوضأ وُضوءك للصلاة، الأمر فيه للندب، وظاهره استحباب الوضوء لكل من أراد النوم، ولو كان على طهارة، ويحتمل أن يكون مخصوصًا بمن كان محدِثًا.

ووجه مناسبته للترجمة من قوله: "فإن من من ليلتك، فأنت على الفطرة" والمراد بالفطرة السنة. وقد روى هذا الحديث الشيخان وغيرهما من طرق عن البراء، وليس فيها ذكر الوضوء إلا في هذه الرواية، وكذا في الترمذي، وقد ورد في الباب حديث عن معاذ بن جبل أخرجه أبو داود، وحديث عن علي أخرجه البزار، وليس واحد منهما على شرط البخاري. ولهذا الوضوء فوائد منها: أن يبيتَ على طهارة لِئلا يبغتَهُ الموت، فيكون على هيئة كاملة. ويؤخذ منه الأمر بالاستعداد للموت بطهارة القلب؛ لأنه أولى من طهارة البدن. وقد أخرج عبد الرزاق عن مجاهد قال: قال لي ابن عباس: لا تبيتن إلاَّ على وضوء، فإن الأرواح تُبعث على ما قُبضت عليه. ورجاله ثقات، إلاَّ أن أبا يحيى القتات صدوق فيه كلام. وعن أبي مراية العِجْلي قال: من آوى إلى فراشه طاهرًا، ونام ذاكرًا، كان فراشه مسجدًا، وكان في صلاة وذِكرٍ حتى يسيقظ. وعن طاووس مثله. ويتأكد ذلك في حق المحدث، ولاسيما الجُنُب، وهو أنشط للعود، وقد يكون منشطًا للغسل، فيبيت على طهارة كاملة. ومنها أن يكون أصدق لرؤياه، وأبعد من تلاعب الشيطان به. وقوله: "ثم اضطجع على شِقّك الأيمن" أي: بكسر المعجمة وتشديد القاف، أي: الجانب، وخُص الأيمن لفوائد منها: أنه أسرع للانتباه؛ لأن القلب متعلق إلى جهة اليمين، فلا يثقُل بالنوم، فيُسرع الإفاقة ليتهجد أو ليذكر الله تعالى، بخلاف الاضطجاع على الأيسر. وقال ابن الجوزي: هذه الهيئة نصَّ الأطباء على أنها أصلح للبدن، قالوا: يبدأ بالاضطجاع على الجانب الأيمن ساعة، ثم ينقلب إلى الأيسر؛ لأن الأول سبب لانحدار الطعام، والنوم على اليسار يهضِم لاشتمال الكبد على المعدة. ووقع هذا الحديث في هذه الرواية وفي رواية أبي إسحاق المشار لها قريبًا هكذا، وفي رواية العلاء بن المسيِّب عن البراء أنه من فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولفظه: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا آوى إلى فراشه نام على شِقِّه الأيمن" فتستفاد مشروعية هذا

الذكر من قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ومن فعله"، وهو عند النسائي عن البراء، وزاد في أوله: "ثم قال: بسم الله، اللهم أسلمت نفسي إليك". وعند الخرائطي في مكارم الأخلاق بلفظ: "كان إذا آوى إلى فراشه قال: اللهم أنت ربي ومليكي وإلهي لا إله إلا أنت، إليك وجَّهت وجهي ... الحديث". وقوله: "وقيل: اللهم أسلمت وجهي إليك" كذا لأبي ذر وأبي زيد، ولغيرهما: "أسلمت نفسي إليك"، قيل: الوجه والنفس هنا بمعنى الذات والشخص، أي: أسلمت ذاتي وشخصي لك، وفيه نظر للجمع بينهما في رواية أبي إسحاق بلفظ: "أسلمت نفسي إليك، وفوَّضتُ أمري إليك، ووجَّهت وجهي إليك". وجمع بينهما أيضًا في رواية العلاء بن المسيّب الآتية في الدعوات، وزاد خَصْلة رابعة، ولفظه: "أسلمت نَفْسي إليك، ووجَّهت وجهي إليك، وفوَّضتُ أمري إليك، وألجأت ظهري إليك"، فعلى هذا، فالمراد بالنفس هنا الذات، وبالوجه القصد والعمل الصالح. ومعنى أسلمت، أي: استسلمت وانقَدْت، أي: جعلت نفسي مُنقادة لك في أوامرك ونواهيك، متابعة لحُكمك، إِذ لا قُدرة لي على تدبيرها، ولا على جلب ما ينفعها إليها، ولا دفع ما يضُرها عنها، مفوض إليك تفعل بها ما تريد، واستسلمت لما تفعل، فلا اعتراض عليك فيه. وقوله: "وفوضتُ أمري إليك"، أي: توكلت عليك في أمري كله، وبرِئْت من الحول والقوة إلا بك، فاكِفني همه. وقوله: "وألجاتُ ظهري إليك" أي: اعتمدت في أموري عليك لتُعينني على ما ينفعني؛ لأن من استند إِلى شيء تقوّى به واستعان به، وخصه بالظهر لأن العادة جرت أن الإنسان يعتمد بظهره إلى ما يستند إليه. وقوله: "رغبةً ورهبةً إليك" أي: رغبة في رِفْدك وثوابك، ورهبة، أي: خوفًا من غضبك ومن عقابك، فأسقط من مع ذكر الرهبة، وأعمل إلى مع ذكر الرغبة، لتعدي رغب بـ"إلى"، وهذا من باب الاكتفاء، كقول الشاعر:

وزجَّجْنَ الحواجبَ والعُيونَ فالعيون لا تزجج، ولكن لما جمعهما في نظم، حمل أحدهما على الآخر. وكقوله: متقلدًا سيفًا ورمحًا فالرمح لا يُتقلد، فهما منصوبان على المفعول له على طريق السلف والنشر المرتب، أي: فوضت أمري إليك رغبة، وألجات ظهري إليك رهبة من المكاره والشدائد. وقد ورد في بعض طرقه بإثبات من، كما أخرجه النسائي وأحمد بلفظ: "رهبة منك ورغبةً إليك". وقوله: "لا ملجأ ولا منجا منك إلاَّ إليك" أصل ملجأ بالهمز، ومنجا بغير همز، ولكن لما جُمعا جاز أن يُهمزا للازدواج، وأن يُترك الهمز فيهما، وأن يُهمز المهموز ويُترك الآخر، فهذه ثلاثة أوجه، ويجوز التنوين مع القصر، فتصير خمسة. وهذا التركيب مثل: لا حول ولا قوة إلاَّ بالله، فتجري فيه الأوجه الخمسة المشُهورة، وهي: فتح الأول والثاني، وفتح الأول ونصب الثاني، وفتح الأول ورفع الثاني، ورفع الأول وفتح الثاني، ورفع الأول والثاني. ومع التنوين تسقط الألف. واللفظان إن كانا مصدرين يتنازعان في: "منك"، وإن كانا ظرفين فلا، إذ اسم المكان لا يعمل، وتقديره: لا ملجأ منك إلى أحد إلا إليك، ولا منجا منك إلا إليك. وقال الطيبي: في نظم هذا الذكر عجائب لا يعرفها إلا المتقين من أهل البيان، فأشار بقوله: "أسلمت" إلى أن جوارحه منقادة لله تعالى في أوامره ونواهيه، وبقوله: "وجهت وجهي" إلى أن ذاته مخلصة له، بريئة من النفاق، وبقوله: "فوضتُ أمري" إلى أن أموره الخارجة والداخلة مفوضة إليه، لا مدبر لها غيره، وبقوله: "ألجات ظهري" إلى أنه بعد التفويض يلتجىء إليه مما يضُره ويؤذيه من الأسباب كلها.

وقوله: "آمنت بكتابك الذي أنزلت" المراد به القرآن، والإيمان به يتضمّن الإيمان بجميع كتب الله المنزلة، ويُحتمل أن يريد اسم الجنس، فيعُمَّ كل كتاب أنزل، لإضافته إلى الضمير؛ لأن المعرَّف بالإضافة كالمعرف باللام في احتماله الجنس. والاستغراق والعهد، بل جميع المعارف كذلك. قال البيضاوي كالزمخشري في "الكشاف" في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} [البقرة: 6]: تعريف الموصول إما للعهد، فالمراد به ناس بأعيانهم، كأبي لهب وأبي جهل، والوليد بن المغيرة، وأحبار اليهود. أو للجنس متناولًا من صمَّم على الكفر من غيرهم، وخصَّ منهم غير المصرين. وقوله: "وبنبيِّك الذي أرسلت" بحذف ضمير المفعول، أي: أرسلته، وفي رواية أبي زيد المَرْوزي: "أرسلته"، و"أنزلته" في الأول، بزيادة الضمير فيهما. وقوله: "فإن مُتَّ من ليلتك" وفي رواية بإسقاط من ليلتك، وفي رواية المسيَّب بن رافع: "من قالهن ثم مات تحت ليلتِه". قال الطيبي: فيه إشارة إلى وقوع ذلك قبل أن ينسلخ النهار من الليل، وهو تحته، أو المعنى بالتحت أي مُت تحت نازل ينزل عليك في ليلتك، وكذلك معنى من في الرواية الأولى، أي: من أجل ما يحدُث في ليلتك. وقوله: "فأنت على الفطرة" أي: على الدين القويم ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فإنه عليه السلام أسلم واستسلم، قال تعالى عنه: {جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات: 84]، وقال عنه: {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرًة: 131]، وقال: {فَلَمَّا أَسْلَمَا} [الصافات: 103]. وقال ابن بطال وجماعة: المراد هنا دين الإِسلام، وهو بمعنى الحديث الآخر: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة". قال القُرطبي في "المفهم": كذا قال الشيوخ، وفيه نظر؛ لأنه إذا كان قائل هذه الكلمات المقتضية للمعاني التي ذُكرت من التوحيد والتسليم والرضى إلى أن يموت، كمن يقول لا إله إلا الله ممن لم يخطُر له شيء من هذه الأمور،

فأين فائدة هذه الكلمات العظيمة، وتلك المقامات الشريفة. ويمكن أن يكون الجواب أن كلاًّ منهما وإن مات على الفطرة فبين الفطرتين ما بين الحالتين، ففطرة الأول فطرة المقربين، وفطرة الثاني فطرة أصحاب اليمين، وقد وقع في رواية عند أحمد بدل قوله: "مات على الفِطرة"، "بُني له بيت في الجنة" وهو يؤيد ما ذكره القُرطبي. قلت: لعل المراد عند ابن بطّال بالمساواة بين الحديثين، بالنظر إلى أن الثاني كان آخر ما تكلم به في الدنيا هذه الكلمة المشتملة على جميع عقائد التوحيد، فلا يبعُد أن يساوي الأول أو يزيد عليه. وفي آخر هذا الحديث في التوحيد: "وإن أصبحتَ أصبتَ خيرًا"، وعند مسلم: "فإن أصبحت أصبحتَ وقد أصبت خيرًا"، وعنده في رواية أخرى: "وإن أصبحَ أصابَ خيرًا" أي: صلاحًا في الحال وزيادة في الأعمال. وقوله: "واجعَلْهُنَّ آخر ما تتكلَّم به" ولابن عساكر: "ما تَكَلَّم به" بحذف إحدى التاءين، وللكُشميهني: "من آخر ما تتكلّم به"، وهي تبين أنه لا يمتنع أن يقول بعدهن شيئًا مما شُرع من الذكر عند النوم، والفقهاء لا يعُدون الذكر كلامًا في باب الإيمان، وإن كان كلامًا في باب اللغة. وقوله: "فرددتُها" بتشديد الدال الأولى وإسكان الثانية، أي: الكلمات لأحفَظهُنَّ. وقوله: "قال: لا، ونبيِّك الذي أرسلت" أي: لا تقل: ورسولك، بل قل: ونبيِّك الذي أرسلت. وفي رواية جرير بن منصور: "فقال: قل: وبنبيك". وأولى ما قيل في الحكمة في رده عليه الصلاة والسلام على من قال الرسول بدل النبي، أن ألفاظ الأذكار توقيفية، ولها خصائص وأسرار لا يدخُلها القياس، فتجب المحافظة على اللفظ الذي وردت به، فيُقْتَصر فيه على اللفظ الوارد بحروفه، رقد يتعلق الجزاء بتلك الحروف، ولعله أوحي إليه بهذه الكلمات،

فيتعين أداؤها بحروفها. أو وجه الحكمة هو أنه لو قال: ورسولك، لكان تكراراً مع قوله: "أرسلت"، فلما كان نبيًّا قبل أن يُرسل، صرَّح بالنبوة للجمع بينها وبين الرسالة، وإن كان وصف الرسالة مستلزمًا وصف النبوة، مع ما فيه من تعديد النعم وتعظيم المنة في الحالين. أو احترز به ممن أُرسل من غير نبوة، كجبريل وغيره من الملائكة؛ لأنهم رسل لا أنبياء، فلعله أراد تخليص الكلام من اللَّبْس. وقال القُرطبي تبعًا لغيره: هذا حُجة لمن لم يُجِز نقل الحديث بالمعنى، وهو الصحيح من مذهب مالك. يعني إلا لكامل المعرفة بالمعنى والمفردات العربية، فإن لفظ النبوة والرسالة مختلفان في أصل الوضع، فإن النبوة من النبأ، وهو الخبر، فالنبي في العُرف هو المُنْبَأ من جهة الله بأمر يقتضي تكليفًا، فإن أمر بتبليغه إلى غيره فهو رسول، وإلا فهو نبي غير رسول، وعلى هذا فكل رسول نبي دون عكس، فإن الرسول والنبي اشتركا في أمر عام وهو النبأ، وافترقا في الرسالة، فإذا قلت: فلان رسول تضمَّن أنه نبي رسول، وإذا قلت: فلان نبي، لم يستلزم أنه رسول، فأراد -صلى الله عليه وسلم- أن يجمع بينهما في اللفظ، لاجتماعهما فيه، حتى يُفهم من كل واحد منهما من حيث النطق ما وُضع له، وليخرُج عمّا يكون شبه التكرار في اللفظ من غير فائدة، فإنه إذا قال: ورسولك. فقد فُهم منه أنه أرسله، فإذا قال: "الذي أرسلت" صار كالحشو الذي لا فائدة فيه، بخلاف قوله: "ونبيِّك الذي أرسلت" فلا تكرار فيه، لا متحققًا ولا متوهمًا. وقوله: صار كالحشو. متعقَّب لثبوته في أفصح الكلام، كقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4} {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ} [المزمل: 15]، {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى} [التوبة:33]، ومن غير هذا اللفظ: {يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ} [ق: 41]، إلى غير ذلك، فالأولى حذف هذا الكلام الأخير.

والاقتصار على قوله: "ونبيِّك الذي أرسلت" في هذا المقام أفيد من قوله: ورسولك الذي أرسلت، لما ذكر. والذي ذكره في الفرق بين الرسول والشعبي مقيدٌ بالرسول البشري دون الملَك، فيخلُص الكلام من اللبس كما مر. وأما الاستدلال به على منع الرواية بالمعنى ففيه نظر؛ لأن شرط الرواية بالمعنى أن يتفق اللفظان في المعنى المذكور، وقد تقرر أن النبي والرسول متغايران لفظًا ومعنى، فلا يتم الاحتجاج بذلك. وكذا لا حجة فيه لمن استدل به على أنه لا يجوز إبدال لفظ قال نبي الله مثلًا في الرواية، بلفظ: قال رسول الله، وكذا عكسه، ولو أجزنا الرواية بالمعنى، وكذا لا حجة فيه لمن أجاز الأول دون الثاني، لكون الأول أخص من الثاني؛ لأنا نقول: الذات المخبر عنها في الرواية واحدة، فبأي وصف وُصفت به تلك الذات من أوصافها اللائقة بها عُلم القصد بالمخبر عنه، ولو تباينت معاني الصفات، كما لو أبدل اسمًا بكُنية، أو كُنية باسم، فلا فرق بين أن يقول الراوي مثلًا: عن أبي عبد الله البخاري، أو عن محمد بن إِسماعيل البخاري، وهذا بخلاف ما في حديث الباب، فإنه يحتمل ما مر من الأوجه التي بيناها من ارادة التوقيف وغيره. والسبب في منع الرواية بالمعنى هو أن الذي يستجيزُ ذلك قد يظُنُّ لفظًا يوفي بمعنى اللفظ الآخر، ولا يكون كذلك في نفس الأمر كما عُهد في كثير من الأحاديث، فالاحتياط الإتيان باللفظ، فعلى هذا إذا تحقق بالقطع أن المعنى فيهما متحد لم يضُر، بخلاف ما إذا اقتصر على الظن، ولو كان غالبًا. وأخرج الترمذي عن رافع بن خُديج أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا اضطجع أحدُكم على يمينه، ثم قال" فذكر نحو الحديث، وفي آخره: "بكتابك الذي أنزلت، وبرسلك التي أرسلت" بصيغة الجمع، وقال: حسن غريب. فإن كان محفوظًا، فالسر فيه حصول التعميم الذي دلت عليه صيغة الجمع صريحًا، فدخل فيه جميع الرسل من البشر والملائكة، فأمن اللَّبْس.

رجاله ستة

ومنه قوله تعالى: {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة: 285]. وفي الحديث ثلاث سنن مهمة: الوضوء عند النوم، وإن كان متوضئًا كفاه، لأن المقصود النوم على طهارة كما مر. ثانيها: النوم على اليمين. ثالثها: الختم بذكر الله الذي هو الدعاء المرغَّب فيه؛ لأنه قد تُقبض روحه في النوم، فيكون قد خَتَم عمله بالدعاء الذي هو من أفضل الأعمال كما ختمه بالوضوء. وقال الكِرماني: هذا الحديث يشتمل على الإيمان بكل ما يجب الإيمان به إجمالًا من الكتب والرسل، الإلاهيات والنبويات، وعلى إسناد الكل إلى الله من الذوات والصفات والأفعال، لذكر الوجه والنفس والأمر وإسناد الظهر، مع ما فيه من التوكل على الله والرضى بقضائه، وهذا كله بحسب المعاش، وعلى الاعتراف بالثواب والعقاب خيرًا وشرًا وهذا بحسب المعاد، ويأتي قريبًا وجه ختم البخاري كتاب الوضوء بهذا الحديث. رجاله ستة: الأول: محمد بن مُقاتل، وقد مر في السابع من كتاب العلم. الثاني: عبد الله بن المبارك، وقد مر في السادس من بدء الوحي. والثالث: سفيان، وهو يحتمل ابن عُيينة وقد مر في أول حديث من بدء الوحي، ويحتمل الثوري وقد مر في الثامن والعشرين من كتاب الإيمان. والرابع: منصور بن المُعْتَمِر وقد مر في الثاني عشر من كتاب العلم، ومر البراء بن عازب في الرابع والثلاثين من كتاب الإيمان. الخامس من السند: سعد بن عُبيدة -مصغرًا- ابن حَمْزة، أبو ضَمْرة الكوفي. روى عن: المغيرة بن شُعبة، وابن عمر، والبراء بن عازِب، وحِبّان بن عَطية، والمُسْتَوْرِد بن الأحنف، وأبي عبد الرحمن السُّلمي، وكان ختنه على ابنته.

لطائف إسناده

وروى عنه: الأعمش، ومنصور، والحكم بن عُتيبة، وعمرو بن مرة، وعلقمة بن مَرْثَد، وجماعة. قال ابن مَعين والنسائي: ثقة، وقال العِجْلي: تابعي ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث. وذكره ابن حِبان في "الثقات". وقال أبو حاتم: كان يرى رأي الخوارج، ثم تركه، يكتب حديثه. مات في ولاية عَمرو بن هُبَيْرة على العراق. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد، وبصيغة الإخبار بصورة الجمع في موضعين، والعنعنة في ثلاثة مواضع، ورواته ما بين مَرْوزي وكوفي. وخالف إبراهيم بن طَهْمان أصحاب منصور، فأدخل بين منصور وسعد الحكم بن عتيبة، وانفرد الفِرْيابي بإدخال الأعمش بين الثوري ومنصور. أخرجه البخاري هنا، وفي الدعوات عن مسدَّد. ومُسلم في الدعاء عن عُثمان بن أبي شيبة وغيره. وأبو داود في الأدب عن مسدَّد وعن ابن عبد الملك. والترمذي في الدعوات عن سفيان بن وَكيع. والنسائي في "اليوم والليلة" عن بُندار وغيره. تنبيه النكتة في ختم البخاري كتاب الوضوء بهذا الحديث من جهة أنه آخر وضوء أُمر به المكلف في اليقظة، ولقوله في نفس الحديث: "واجعَلْهُنَّ آخر ما تقول" فأشعر ذلك بختم الكتاب، والله الهادي للصواب.

خاتمة

خاتمة اشتمل كتاب الوضوء وما معه من أحكام المياه والاستطابة من الأحاديث المرفوعة على مئة وأربعة وخمسين حديثًا، الموصول منها مئة وستة عشر حديثًا، والمذكور منها بصيغة المتابعة وصيغة التعليق ثمانية وثلاثون حديثًا، فالمكرر منها فيه وفيما مضى ثلاثة وسبعون حديثًا، والخالص منها أحد وثمانون حديثًا، ثلاثة منها معلقة، والبقية موصولة. ووافقه مسلم على تخريجها سوى تسعة عشر حديثًا، وهي الثلاثة المعلقة، وحديث ابن عباس في صفة الوضوء، وحديثه توضأ مرة مرة، وحديث أبي هريرة بلغني ابغني أحجارًا، وحديث ابن مسعود في الحَجَربْن والرَّوْثة، وحديث عبد الله بن زيد في الوضوء مرتين مرتين، وحديث أنس في ادّخار شَعر النبي -صلى الله عليه وسلم-، وحديث أبي هُريرة في الرجل الذي سقى الكلب، وحديث السائب بن يزيد في خاتم النبوة، وحديث سعيد وعمر في المسح على الخفين، وحديث عمرو بن أمية فيه، وحديث سُويد بن النعمان في المضمضة من السَّويق، وحديث أنس إذا نعس في الصلاة فلينم، وحديث أبي هريرة في قصة الذي بال في المسجد، وحديث ميمونة في فأرة سقطت في سمن، وحديث أنس في البصاق في الثوب. وفيه من الآثار الموقوفة على الصحابة والتابعين ثمانية وأربعون أثرًا، الموصول منها ثلاثة، والبقية معلقة. كذا في "فتح الباري". وأنت تراه قال: إن الموصول من أحاديث هذا الكتاب مئة وستة عشر حديثًا. وقال في "المقدمة": إنها مئة وخمسة عشر حديثًا، والصحيح الذي هو الحق أنه مئة واثنا عشر حديثًا كما رأيته مبيناً واحدًا واحدًا، انتهى.

كتاب الغسل

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الغُسْلِ في رواية تقديم البسملة كما ترى، وللأكثر بالعكس، وقد مر توجيه ذلك في كتاب الإيمان، كما ذكرنا في أول كتاب الإيمان والوضوء وجه مناسبة ترتيب البخاري، بإتباع كتاب الوضوء لكتاب العلم. وفي رواية الأصيلي حذف البسملة، وفيها: باب بدل كتاب، وهي أولى، لأن الكتاب يجمع أنواعًا، والغسل نوع واحد من أنواع الطهارة، وإن كان متعددًا في نفسه. والغُسل بضم الغين اسم للاغتسال، وقيل: إذا أريد به الماء فهو مضموم، وأما المصدر فيجوز فيه الضم والفتح. وقيل: الغَسْل -بالفتح- فِعْل المغتسل، وبالضم الماء الذي يغتسل به، وبالكسر ما يُجعل مع الماء كالأشنان والخطمى. والغُسل لغة: جريان الماء على الأعضاء. وشرعًا: غَسْل جميع الأعضاء مع تمييز ما للعبادة عمّا للعادة بالنية. قال في "الفتح": واختُلف في وجوب الدلك، فلم يوجبه الأكثر، بل هو مستحب عند الشافعية والحنفية والحنابلة، ونُقل عن مالك والمُزَني وجوبه. واحتج ابن بطال بالإجماع على وجوب إمرار اليد على أعضاء الوضوء عند غسلها، قال: فيجب ذلك في الغسل قياسًا، لعدم الفرق بينهما. قال: وتُعقِّب بان جميع من لم يوجب الدلك أجازوا غمس اليد في الماء

للمتوضىء من غير إمرار، فبطُل الإجماع، وانتفت الملازمة. قلت: ما قاله مصادرة، وهي جعل الدعوى جزءً من الدليل، فإن القائلين بالاكتفاء بغمس اليد في الماء مطلوب منهم الدليل، هل وجدوا ذلك في حديث من فعله عليه الصلاة والسلام أو أثر صحيح عن أصحابه رضي الله تعالى عنهم، وأما قول المخالف فلا يُبْطِل الإجماع، وقد مر الكلام على وجوب الدلك في الوضوء في باب الوضوء بالمد، فراجعه. ثم إن المؤلف افتتح كتاب الغُسل بآيتي النساء والمائدة إشعارًا بأن وجوب الغسل على الجُنُب بنص القرآن، فقال: وقولِ اللهِ تعالى وللأصيلي عزَّ وجَلَّ: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. والجنب الذي أصابته الجنابة يستوي فيه المذكر والمؤنث، والواحد والجمع؛ لأنه يجري مجرى المصدر الذي هو الإجناب، وأصله من البعد، وسُمي الإنسان جُنبًا لأنه نُهي أن يَقْرَب مواضع الصلاة ما لم يتطهر. وقوله: {فَاطَّهَّرُوا} أي: اغسلوا أبدانكم على وجه المبالغة؛ لأن أصله اطتهر، قُلبت التاء طاء، وأدغم الطاء في الطاء، فهو من الافتعال، والافتعال يدل على التكلف والاعتمال. وقدم المؤلف الآية التي من سورة المائدة على الآية التي من سورة النساء لدقيقة، وهي أن لفظ التي في المائدة: {فَاطَّهَّرُوا} ففيها إجمال، ولفظ التي في النساء: {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} ففيها تصريح بالاغتسال، وبيان للتطهير المذكور. ودل على أن المراد بقوله تعالى: {فَاطَّهَّرُوا} فاغتسلوا، قوله تعالى في

الحائض: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة: 222]، أي: اغتسلن اتفاقًا. وقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} أي: مرضاً يُخاف معه من استعمال الماء، فإن الواجد له كالعادم، أو مرضًا يمنعه من الوصول إليه، فقد روى ابن أبي حاتم عن مجاهد أنها نزلت في مريض من الأنصار، لم يكن له خادم، ولم يستطع أن يقوم فيتوضأ. وقوله: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} أي: طويلًا كان أو قصيرًا، فلم تجدوا فيه ماء. وقوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} أي: فأحدث بخروج الخارج من أحد السبيلين، وأصل الغائط المُطْمَئن من الأرض كما مر مرارًا. وقوله: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} أي: جامعتُموهن كما هو قول علي، والثابت عن ابن عباس وأكثر الصحابة والتابعين: أو ماسستم بشرتهن ببشرتكم، وبه استدل الشافعي على أن اللمس ينقُض الوضوء وهو قول ابن مسعود وابن عمر وبعض التابعين، وقد مر الكلام على النقض باللمس مطولًا في باب من لم ير الوضوء إِلا من المخرجين. وقوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} أي: فلم تتمكنوا من استعماله، إِذ الممنوع عنه كالمفقود، ووجه هذا التقسيم أن المترخِّص بالتيمم إما محدِثٌ أو جُنب، والحال المقتضية له في غالب الأمر مرض أو سفر، والجُنُب لمّا سَبَق ذكره اقتُصِر على بيان حاله، والمحدِث لما لم يجر ذكره ذَكَر أسبابه ما يُحدِث بالذات وما تحدِث بالعرَض، واستغنى عن تفصيل أحواله بتفصيل حال الجنب وبيان العذر مجملًا، وكأنه قيل: وان كنْتُم جُنُبًا مرضى أو على سفر أو محدثين جئتم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء. وقوله: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} أي: اقصدوا ما على وجه الأرض على أي حال كان، من رمل أو حجر أو مدَر أو تراب طيِّب، أي: طاهر؛ لأن الصعيد لغة وجه الأرض كما عند الخليل وغيره، وسمي بذلك لأنه نهاية ما يَصْعد إليه من

باطن الأرض. وقيل: الطيب الحلال. وقيل: المُنْبتْ دون السَّبْخة، كما في قوله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [الأعراف: 58]، وتمسك الشافعي بكونه مُنْبِتًا، فقال: لابد أن يعلق باليد شيء من التراب. وقوله: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} تعليم لكيفية التيمم، ولم يبيِّن غاية المسح؛ لأنه مبيَّن في الوضوء الذي هو نائب عنه بقوله: {إِلَى الْمَرَافِقِ} وبفعله عليه الصلاة والسلام. وقوله: {مِنْهُ} كلمة من للتبعيض عندمن يشترط تعلَّق شيء من التراب باليد، ولابتداء الغاية عند من لا يشترط ذلك. وقيل: الضمير في منه للحديث المفهوم من السياق، ومن للتعليل. وقوله: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} أي: ضيق، أي: بما فَرَضَ من الغسل والوضوء والتيمم. وقوله: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} أي: من الأحداث والذنوب، فإن الوضوء تكفير لها. وقوله {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ} بيان ما هو مطفر للقلوب والأبدان عن الآثام والأحداث. وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي: نعمتي فأزيدها عليكم. وفيه إشارة إلى كون الإنسان كفورًا. وفي الآية سبعة أمور كلها مثنى: طهارتان أصل وبدل، والأصل مستوعِب وغير مستوعِب، وغير المستوعب باعتبار الفعل غَسْلُ ومسح، وباعتبار المحل محدودٌ وغير محدودٌ. وآلتهما مائع وجامدَ، وموجِبُهما حدث أصغر وأكبر، والمبيح للعدول إلى البدل مرض أو سفر، والموعود عليهما تطهير الذنوب وإتمام النعمة. وقولِهِ جلَّ ذِكْرُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى

حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا}. قوله: {الصَّلَاةِ} أي: نفسها أو مواضعْها، ورُدَّ هذا بأنه يقال في اللغة: لا تَقْرَب كذا بفتح الراء، أي: لا تلتبس بالفعل، وإن كان معناه لا تدنُ من الموضع، فهو بضم الراء. وقوله: {وَأَنْتُمْ سُكَارَى} أي: من الشرب. وقوله: {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} أي: اجتنبوها حال السكر، نزلت في جمع من الصحابة شربوا الخمر قبل تحريمها. عند ابن عوف، وتقدم علي للإمامة، وقرأ: قُل يا أيُّها الكافرونَ أعبدُ ما تعبدونَ ونحنُ نعبدُ ما تعبدونَ. فنزلت. أخرجه أبو داود، والترمذي وحسنه، والنسائي، والحاكم وصححه، وقال الضحّاك: عني به سكر النوم لا سكر الخمر. وقوله: {وَلَا جُنُبًا} أي: ولا تقربوا الصلاة أو مواضعها جنبًا، فهو منصوب على الحال، عطف على: {وَأَنْتُمْ سُكَارَى} لأن الجمل التي لها محل من الإعراب في حكم المفردات. وقوله: {إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} أي: مجتازي سبيل، أي إلا مسافرين، فتيمموا وصلّوا وأنتم جُنب؛ لأن التيمم يبيح الصلاة ولا يرفع الحدث، وهوحال مُقدَّرة للفعل المقيد بالحال، كأنه قال: لا تقربوا الصلاة في حال الجنابة إلا ومعكم حال أخرى تُعذرون فيها وهي كونكم مسافرين. وفيه إيماء إلى أن سائر الأعذار مثل السفر، وذَكَره لأنه الغالب، فلا يُنافي هذا الحصر ما يُذكر بعد من الموجبات، ويجوز أن يكون وصفًا للحال، أي: جُنبًا غير عابري سبيل. وقوله: {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} غاية للنهي، وفيه إشعار بوجوب النية في الغُسل، إذ لفظ اغتسل يقتضي الاكتساب، ولا يكون إلا مع النية، خلافًا للحنفية،

باب الوضوء قبل الغسل

فدلت الآية على أن استباحة الجنب الصلاة والمكث في المسجد يتوقّف على الاغتسال. وجوزت الشافعية للجنب المرور بالمسجد من غير مُكث. ومنعته المالكية ولو كان في الطريق، إلا أن لا يجد الماء إلا في جوفه، أو يلتجى إلى المبيت به، أو يكون بيته داخله، فيجوز له في هذه الأحوال أن يتيمّم ويدخله وهو حاضر صحيح، وأما المريض والمسافر فلهما دخوله بالتيمم. وجوزت الحنابلة له الجلوس فيه مطلقًا، بشرط الوضوء. ومنعت الحنفية له الدخول فيه مطلقًا، وقيل: إلا أن يكون الماء أو الطريق فيه. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} يسهِّل ولا يعسر، كذا ساق الآيتين بتمامهما في بعض الروايات. باب الوضوء قبل الغسل أي: استحبابه، وقدم الوضوء على الغسل لفضل أعضاء الوضوء، وينوي بهذا الوضوء رفع الجنابة، ولو نوي نية الأصغر أجزأه غسل محل تلك الأعضاء عن غسل الجنابة، وعند الشافعية المختار أنه إن تجرَّدتْ جنابتُه عن الحدث ينوي بوضوئه سنة الغسل، وإذا اجتمعا نوى به رفع الحدث الأصغر.

الحديث الأول

الحديث الأول حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ بَدَأَ فَغَسَلَ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلاَةِ، ثُمَّ يُدْخِلُ أَصَابِعَهُ فِي الْمَاءِ، فَيُخَلِّلُ بِهَا أُصُولَ شَعَرِهِ ثُمَّ يَصُبُّ عَلَى رَأْسِهِ ثَلاَثَ غُرَفٍ بِيَدَيْهِ، ثُمَّ يُفِيضُ الْمَاءَ عَلَى جِلْدِهِ كُلِّهِ. قوله: "كان إذا اغتسل" أي: شرع في الفعل، ومِنْ في قوله: "من الجنابة" سببية، أي: من أجل الجنابة. وقوله: "بدأ فغسل يديه" يُحتمل أن يكون غسلهما للتنظيف مما بهما من مستقذَر كما يدُل عليه قول ميمونة في الرواية الآتية: "وما أصابه من الأذى"، ويُحتمل أن يكون هو الغَسل المشروع قبل أن يُدخلهما في الإناء، ويدل عليه زيادة ابن عيينة في هذا الحديث: "قبل أن يُدخلهما في الإناء" رواه الشافعي والترمذي، وزاد أيضًا: "ثم يغسِلُ فرجه"، وكذا لمسلم وأبي داوود. وهي زيادة جليلة؛ لأن بتقديم غسله يحصُل الأمن من مسه في أثناء الغسل. وقوله: "كما يتوضأ للصلاة احترز به عن الوضوء اللُّغوي، ويحتمل أن يكون الابتداء بالوضوء قبل الغسل سُنة مستقلة، بحيث يجب غسل أعضاء الوضوء مع بقية الجسد في الغسل، ويؤيد هذا الاحتمال قوله في آخر الحديث: "على جلده كله"، وعليه تجري النية على ما مر. ويُحتمل أن يكتفي بغسلها في الوضوء عن إعادته، وعلى هذا فيحتاج إلى نية غسل الجنابة في أول عضو، وقد مرّ إجزاء غسل المحل عن إعادته في الغسل عند المالكية وإنما قدم أعضاء

الوضوء تشريفًا لها، ولتحصُل له صورة الطهارتين الصغرى والكبرى، وظاهر قوله: "كما يتوضأ للصلاة" أنه يتوضأ وضوءً كاملًا، وهذا هو المحفوظ من حديث عائشة من هذا الوجه، وهو مذهب الشافعي، وأحد الأقوال عند المالكية. وقال الفاكهاني في "شرح العمدة": هو المشهور. وقيل: يؤخر غسل قدميه إلى ما بعد الغسل، ليحصُل الافتتاح والاختتام بأعضاء الوضوء، وهو المشهور عند المالكية، خلافًا لما درج عليه خليل، حيث قال: أعضاء وضوئه كاملة مرة، وهو صريح حديث ميمونة الآتي قريبًا. وفي رواية مسلم عن أبي معاوية في حديث عائشة: "ثم أفاض على سائر جسده، ثم غسل رجليه"، وهذه الزيادة تفرد بها أبو معاوية، إلاَّ أن لها شاهدًا من رواية أبي سلمة عن عائشة، أخرجه أبو داوود الطيالسي، فزاد في آخره: "فإذا فَرغَ غَسَلَ رجليه" فإما أن تُحمل الروايات عن عائشة على أن المراد بقولها: "وضوءه للصلاة" أي: أكثره، وهو ما سوى الرجلين، أو يُحمل على ظاهره، ويستدل برواية أبي معاوية على جواز تفريق الوضوء، ويُحتمل أن يكون قولها في رواية أبي معاوية: "ثم غسل رجليه" أي: أعاد غسلهما لاستيعاب الغسل بعد أن كان غسلهما في الوضوء، فيوافق قولها في حديث الباب: "ثم يُفيضُ على جلده كله". وللمالكية قول ثالث، وهو إن كان موضعه وسخًا أخر، وإلا فلا. وعند الحنفية إن كان في مستنقع يؤخر، وإلا فلا. ونقل ابن بطّال الإجماع على أن الوضوء لا يجبُ مع الغسل، وهو مردود، فقد ذهب جماعة منهم أبو ثور وداوود وغيرهما إلى أن الغسل لا ينوب عن الوضوء للمحدث. وقوله: "ثم يُدخل أصابعه في الماء، فيخلِّل بها" أي: بأصابعه التي أدخلها في الماء، ولمسلم: "ثم يأخذ الماء فيُدْخل أصابعه في أصول الشعرة، وللترمذي والنسائي: "ثم يشرِّب شعرَهُ الماءَ". وقوله: "أصول الشعر"، وللكُشميهني: "أصول شعره" أي: شعر رأسه، ويدل عليه رواية حمّاد بن سلمة عند البيهقي: "يخلِّل بها شِقَّ رأسه الأيمن، فيتتبَّعُ بها أصول الشعر، ثم يفعل بشق رأسه الأيسر كذلك"، والحكمة في هذا

تليين الشعر وترطيبه، ليسهل مرور الماء عليه، ويكون أبعد من الإسراف في الماء، وتأنيس البشرة، لئلا يصيبها بالصب ما تتأذّى به. وقال القاضي عِياض: احتج به بعضُهم على تخليل شعر الجسد في الغُسل، إما لعموم قوله: أصول الشعر، وإما بالقياس على شعر الرأس، وأوجبت المالكية والحنفية تخليل شعر المغتسل، لقوله عليه الصلاة والسلام: "خلِّلوا الشعر، وأنقُوا البشرة، فإنَّ تحتَ كلِّ شعرة جنابة" أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه. ولكنه ضعيف. وفائدة التخليل عندهم إيصال الماء إلى الشعر والبشرة، ومباشرة الشعر باليد ليحصُل تعميمه بالماء. وقال في "الفتح": والتخليل غير واجب اتفاقًا، إلا إن كان الشعر ملبّدًا بشيء يحول بين الماء وبين الوصول إلى أصوله. فظاهر كلامه هذا أن الشعر لا يجبُ تخليله عندهم إلاَّ في هذه الحالة. وفي "المهذّب" وغيره من كتبهم: وأما الشعور، فيجب إيصال الماء إلى منابتها خفَّت أو كثُفت، بخلاف الوضوء، فإنه يتكرَّر في اليوم والليلة، ويجب نقض الضفائر. فظاهر هذا الكلام وجوب تخليل الشعر عندهم مطلقًا. وإنما قال: "ثم يُدخل" بلفظ المضارع، وما قبله مذكور بلفظ الماضي وهو الأصل، لإرادة استحضار صورة الحال للسامعين. وقوله: "ثم يصبَّ على رأسه ثلاث غُرَف بيديه" بضم ففتح جمع غُرْفة، وهي قدر ما يُعرف من الماء بالكف، وللكشميهنى: "ثلاث غُرُفات" وهو المشهور في جمع القلة. وفيه استحباب التثليث في الغسل، يعني فيغسل رأسه ثلاثًا بعد تخليله في كل مرة، ثم شِقَّه الأيمن ثلاثًا، ثم شِقه الأيسر ثلاثًا. قال النووي: لا نعلم فيه خلافًا، إلا ما انفرد به الماوَرْدي، فإنه قال: لا يُستحب التكرار في الغُسل.

رجاله خمسة

وقال الباجي من المالكية: والثلاث يُحتمل أنها لما جاء من التكرار، وأنها مبالغة لإتمام الغسل، إذ قد لا تكفي الواحدة. وخصت المالكية التثليث بالرأس، فقالوا: إنه يغسِلُه بثلاث غُرُفات، يعُم بكل واحدة منها. وقال القُرطبي: حُمل التثليث في هذه الرواية على رواية القاسم عن عائشة الآتية قريبًا، فإن مقتضاها أن كل غُرفة كانت في جهة من جهات الرأس، أي: شِقيه وأعلاه. وقوله: "ثم يفيض الماء" أي: يُسيله، والإفاضة: الأسالة، واستدل به من لم يشترط الدلك، وقال المازَرِي: لا حجة فيه؛ لأن أفاضَ بمعنى غَسَل، والخلاف في الغَسْل قائم، وقد مر الكلام على الدلك في باب الوضوء بالمد. قال عياض: لم يأت في شيء من الروايات في وضوء الغُسل ذكر التكرار. قال في "الفتح": قد ورد ذلك في طريق صحيحة أخرجها النسائي والبيهقي، عن أبي سلمة، عن عائشة أنها وَصَفَت غسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الجنابة ... الحديث. وفيه: "ثم يتمضمضُ ثلاثًا، ويستنشِقُ ثلاثًا، ويغسِل وجهه ثلاثًا ويديه ثلاثًا، ثم يُفيض على رأسه ثلاثًا". ومشهور مذهب المالكية أنه إن أتى بوضوء الغسل جعله مثلثًا، وإن لم يأت به وأتى بهذه السنن مضافة للغسل لم يثلِّثها. وقوله: "على جلدِهُ كلَّه" قد مر ما فيه. رجاله خمسة: وقد عرفوا جميعًا في الثاني من بدء الوحي. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع، والإخبار كذلك في موضع، والعنعنة في ثلاثة مواضع، وفيه تَّنِيسيّ وكوفي، وما عدا ذلك مدني.

أخرجه النسائي في الطهارة بمثله. وأخرجه مسلم عن أبي مُعاوية بتغيير. وأخرجه "الموطأ" وأبو داود وابن ماجه بتغيير أيضًا وزيادة.

الحديث الثاني

الحديث الثاني حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِى الْجَعْدِ عَنْ كُرَيْبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَتْ: تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وُضُوءَهُ لِلصَّلاَةِ غَيْرَ رِجْلَيْهِ، وَغَسَلَ فَرْجَهُ، وَمَا أَصَابَهُ مِنَ الأَذَى، ثُمَّ أَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ، ثُمَّ نَحَّى رِجْلَيْهِ فَغَسَلَهُمَا، هَذِا غُسْلُهُ مِنَ الْجَنَابَةِ. قوله: "وضوءه" هو كالذي قبله احترازًا عن الوضوء اللغوي الذي هو غسل اليدين فقط. وقوله: "غير رجليه" فيه التصريح بتأخير الرجلين في الغسل، وهو مخالف لظاهر رواية عائشة كما مر، ويمكن الجمع بينهما إما يحمل رواية عائشة على المجاز، كما مر، أو بحملها على حالة أخرى، وبحسب اختلاف هاتين الحالتين اختلف نظر العلماء، فذهب المالكية والحنفية إلى ما مر عنهم، وعند الحنابلة يكمله، وعند الشافعية قولان في الأفضل، قال النووي: أشهرهما ومختارهما أنه يكمل وضؤه، قال: لأن أكثر الروايات عن عائشة وميمونة كذلك. قال في "الفتح": ليس في شيء من الروايات عنهما التصريح بذلك، بل هي إما محتملة، كرواية: "توضأ وضوءه للصلاة" أو ظاهرة في تأخيرهما، كرواية أبي معاوية المارة وشاهدها عن أبي سلمة، أو صريحة في تأخيرهما كحديث الباب، وراويه مقدِّم في الحفظ والفقه على جميع من رواه عن الأعمش. وقول من قال: إنه فعل ذلك مرة لبيان الجواز. متعقب بما في رواية أحمد، عن أبي معاوية، مما يدل على التكرار والمواظبة، ولفظه: "كان إذا اغتسل من الجنابة،

يبدأ فيغسِلُ يديه، ثم يُفرِغ بيمينه على شماله، فيغسل فرجَه" فذكر الحديث. وفيه: "ثم يتنحّى فيغسِل رجليه". وقوله: "وغسل فرجه" فيه تقديم وتأخير؛ لأن غسل الفرج كان قبل غسل الوضوء إذ الواو لا تقتضي الترتيب، وقد بيَّن ذلك ابن المبارك عن الثوري عند المصنف في باب الستر في الغسل، فذكر أولًا غسل اليدين، ثم غسل الفرج، ثم مسح يده بالحائط، ثم الوضوء غير رجليه. وأتى بـ "ثم" الدالة على الترتيب في جميع ذلك. وقوله: "وما أصابه من الأذى" أي يغسل ما أصابه من الأذى، كالمني وغيره، فالسُّنَّة البدء بغسل النجاسة، ليقع الغسل على أعضاء طاهرة، ولكن يكفيه لها وللجنابة غسلة واحدة. وقوله: "هذه غُسله من الجنابة" الإشارة إلى الأفعال المذكورة، أو التقدير: هذه صفة غُسله. وللكُشْمِيهني: "هذا غُسله" وهو ظاهر. وأشار الإِسماعيلي إلى أن هذه الجملة الأخيرة مُدرجة من قول سالم بن أبي الجعد، وأن زائدة بن قُدامة بيَّن ذلك في روايته عن الأعمش. واستدل البخاري بهذا الحديث على جواز تفريق الوضوء. وعلى استحباب الإِفراغ باليمين على الشمال للمُغْتَرف من الماء، لقوله في رواية أبي عَوانة وحفص وغيرهما: "ثم أفرغَ بيمينه على شماله". وعلى مشروعية المضمضمة والاستنشاق في غُسل الجنابة، لقوله فيها: "ثم تمضمض واستنشق" وتمسك به الحنفية للقول بوجوبهما. وتُعُقِّب بأن الفعل المجرد لا يدُل على الوجوب إلا إذا كان بيانًا لمُجمل تعلَّق به الوجوب، وليس الأمر هنا كذلك. وقال العيني: إن وجوبَهما في الغُسل بالنص في قوله تعالى: {فاطَّهَّروا} فإن معناه: طهِّروا أبدانكم، وهذا يشمل الفم والأنف. وفيه استحباب مسح اليد بالتراب من الحائط أو الأرض، لقوله في الروايات

المذكورة: "ثم دَلَكَ يده بالأرض أو بالحائط". وفيه الاكتفاء بغسلة واحدة لإزالة النجاسة والغُسل من الجنابة؛ لأن الأصل عدم التكرار، وفيه خلاف. وصحح النووي وغيره أنه يُجزىء، لكن لم يتعيَّن في هذا الحديث أنه كان للنجاسة، بل يُحتمل أنه كان للتنظيف، فلا يدُل على الاكتفاء. وأما دلك اليد بالأرض فللمبالغة فيه، ليكون أنقى. وأبعد من استدل به على نجاسة المني، أو على نجاسة رُطوبة الفرج؛ لأن الغَسْل ليس مقصورًا على إزالة النجاسة، وقوله في حديث الباب: "وما أصابه من أذى" ليس بظاهر في النجاسة. قلت: هذا مكابرة لا تَخْفى، فإنه صريح في النجاسة لا ظاهر فيها. واستدل به البخاري على أن الواجب في غُسل الجنابة مرة واحدة. وعلى أن من توضأ بنية الغسل ثم أكمل باقي أعضاء بدنه لا يُشرع له تجديد الوضوء من غير حدث. وعلى جواز نفض اليدين من ماء الغُسل، وكذا الوضوء، لما في الروايات الآتية عن ميمونة: "فجعل يَنْفُضُ الماء بيده"، أو: "فانطلق وهو ينفُض يديه"، وفي النهي عنه حديث ضعيف أخرجه ابن حِبّان في "الضعفاء"، وابن أبي حاتم في "العلل" عن أبي هريرة، ولفظه: "لا تنفضوا أيديكم في الوضوء، فإنها مرواحُ الشيطانِ". قال ابن الصلاح: لم أجده. وتبعه النووي. ولو لم يعارضه هذا الحديث الصحيح لم يصح الاحتجاج به. وعلى استحباب التستر في الغسل، ولو كان في البيت، وقد عقد المصنف لكل مسألة بابًا، وأخرج في الأبواب هذا الحديث بطرق متغايرة عن الأعمش، يزيدُ بعض الرواة عنه ما ليس عند الآخر. وفيه جواز الاستعانة بإحضار ماء الغسل والوضوء، لقولها في رواية حفص وغيره: "وضعتُ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- غُسلًا"، وفي رواية: "يغتسل به".

وفيه: خدمة الزوجات لأزواجهن. وفيه الصب باليمين على الشِمال لغسل الفرج بها. وفيه تقديم غسل الكفيق على غسل الفرج لمن يريد الاغتراف، لئلا يدخلهما في الماء وفيهما ما لعله يُستقذر، فأما إذا كان في إبريق مثلًا، فالأولى تقديم غسل الفرج لتوالي أعضاء الوضوء. ولم يقع في شيء من طرق هذا الحديث التنصيص على مسح الرأس في هذا الوضوء، وتمسك به المالكية لقولهم: إن وضوء الغسل لا تُمسح فيه الرأس، بل يُكتفى عنه بغسلها. واستدل بعضهم بقولها في رواية أبي حمزة وغيره: "فناولته ثوبًا فلم يأخذه، أو فأتيته بخرقة فلم يُرِدْها" على كراهة التنشيف بعد الغُسل، ولا حجة فيه؛ لأنها واقعة حال يتطرق إليها الاحتمال، فيجوز أن يكون عدم الأخذ لأمر آخر لا يتعلق بكراهة التنشيف، بل لأمر يتعلق بالخرقة، أو لكونه كان مستعجلًا، أو غير ذلك. قال المهلب: يُحتمل أن يكون تَرْكُه الثوب لإِبقاء بركة الماء، أو للتواضع، أو لشيء آخر في الثوب من حرير أو وسخ. وقد وقع عند أحمد والإسماعيلي عن الأعمش في هذا الحديث: فذكرت ذلك لإبراهيم النَّخَعِي، فقال: لا بأس بالمنديل، وإنما رده مخافة أن يصير عادة. وقال التَّيْمِي: في هذا الحديث دليل على أنه كان يتنشَّف، ولولا ذلك لم تأته بالمنديل. يعني: لعلمها بأحواله قبل هذا الوقت. وقال ابن دقيق العيد: نفضه الماء بيده يدُل على أن لا كراهة في التنشيف؛ لأن كلًّا منهما إزالة. وروى الشيخان عن أم هانىء: قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فسترت عليه فاطمة، ثم أخذ ثوبه، فالتَحَفَ به. وهذا ظاهر في التنشيف. وأخرج أبو داود عن قيس بن سعد، قال: أتانا النبي -صلى الله عليه وسلم- فاغتسل، ثم أتيناه بملحفة وَرْسية، فاشتَمَل بها، فكأني انظر إلى أثر الورس عليه. وصححه ابن حزم. وروى الترمذي وضعفه، وصححه الحاكم عن عائشة: كانت للنبي -صلى الله عليه وسلم- خرقة يتنشَّف بها بعد الوضوء. وروى الترمذي وضعفه: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا توضأ مسح وجهه في ثوبه. وأخرج البيهقي وقال إسناده قوي عن أبي بكر رضي

رجاله سبعة

الله تعالى عنه كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- خرقة يتنشَّف بها بعد الوضوء. وأخرج النسائي في "الكنى" بسند صحيح عن رجل من الصحابة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان له منديل أو خِرقة يمسح بها وجهه إذا توضأ. وجَهْل الصحابي لا يضُر. وأخرج مُغْلُطاي عن مُنيب بن مدرك قال: رأيت جاريةً تحمِل وضوءً ومنديلًا، فأخذ -صلى الله عليه وسلم- الماء، فتوضأ، ومسح بالمنديل وجهه. فهذه الأحاديث وان كان في بعضها ضعف، تكفي من الحجة لِتقوّي بعضها ببعض. وأخذ به عثمان، والحسن بن علي، وأنس، والحسن، وابن سِيرين، ومسروق، ومالك، والثّوْري، وأحمد، وأصحاب الرأي، وكرهه عبد الرحمن بن أبي ليلى، وابن المسيِّب، والنّخَعي، ومجاهد. وقال النووي: اختلف أصحابنا فيه على خمسة أوجه. أشهرها أن المستحب تركه. وقيل: مكروه. وقيل: مباح. وقيل: مستحب في الصيف مباح في الشتاء. واستُدل به على طهارة الماء، المتقاطر من أعضاء المتطهر، خلافًا لمن غلا من الحنفية فقال بنجاسته، وأجاب العيني عن هذا بما لا يُجدي. وقد اخترت جمع فوائد هذا. الحديث هنا مخافةً من التكرار في الروايات الآتية، وأذكر فيها ما ظهر مما لم يُذكر هنا. رجاله سبعة: الأول: محمد بن يوسف البِيْكنْدي وقد مرَّ في التاسع عشر من كتاب العلم. والثاني: سفيان، يحتمل ابن عُيينة، وقد مر في الأول من بدء الوحي، ويَحتمل الثوري، وقد مر في الثامن والعشرين من كتاب الإِيمان. ومرَّ الأعمش سليمان بن مِهْران في السادس والعشرين منه. ومرَّ سالم بن أبي الجعد في السابع من كتاب الوضوء. ومرَّ كُرَيْب في الرابع منه. ومرَّ عبد الله بن عبّاس في الخامس من بدء الوحي. ومرت، ميْمونة بنت الحارث في الثامن والخمسين من كتاب العلم.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وفيه العنعنة في خمسة مواضع، ومرّ أن سفيان غير منسوب، فيحتمل ابن عُيينة ويحتمل الثوري كما مرَّ، وفيه رواية تابعي عن تابعي، وصحابي عن صحابي على الولاء. أخرجه البخاري في عشرة مواضع. وأخرجه مسلم في الطهارة عن محمد بن الصبّاح وجماعة. وأبو داود عن عبد الله بن داود. والترمذي عن هنّاد. والنَّسائي عن علي بن حجر. وابن ماجه عن علي بن محمد، وأبي بكر بن أبي شيبة. باب غُسْلَ الرجل مع امرأته أي: من إناء واحد.

الحديث الثالث

الحديث الثالث حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَالنَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ، مِنْ قَدَحٍ يُقَالُ لَهُ الْفَرَقُ. قوله: "عن عروة" هذا عن أكثر أصحاب الزُّهري، وأخرجه النسائي عن سعد بن إبراهيم، عنه، عن القاسم. والظاهر أن للزُّهري شيخين فيه فإن الحديث محفوظ عن عُروة والقاسم من طرق أخرى. وقوله: "أنا والنبي" يُحتمل أن يكون مفعولًا معه، وأن يكون عطفًا على الضمير المتصل، وأبرز الضمير ليصح العطف عليه، وهو من باب تغلبب المتكلم على الغائب، لكونها هي السبب في الاغتسال، فكأنها أصلٌ في الباب، كما غلب المخاطب على الغائب في قوله تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35]. لكون آدم عليه السلام كان أصلًا في سُكنى الجنة، وحواء عليها السلام متابعة له. وقوله: "من إناء واحدٍ من قدحٍ"، من الأولى ابتدائية، والثانية بيانية، ويُحتمل أن يكون من قدح بدل من إناء بتكرار حرف الجر. وقال ابن التين: كان هذا الإناء من شَبَه بالتحريك، كما مرَّ في صفة الوضوء من حديث عبد الله بن زيد موضحًا، وكان مستنده ما رواه الحاكم عن عُروة بلفظ: "تَوْرٍ من شَبَه". وقوله: "يقال له الفَرَق"، ولمالك: "هو الفَرَق"، وزاد في روايته: "من الجنابة" أي: بسبب الجنابة. قال ابن التين: الفَرْق بسكون الراء، ورويناه بفتحها. وقال القُتَيْبي: هو بالفتح. وشهَّرَهُ النووي، وقال: هو الأفصح. وقال الباجي: هما لُغتان، قال: فغلب الفَرَق بفتح الراء، والمحدثون يسكِّنونه،

رجاله خمسة

وكلام العرب بالفتح. وحكى ابن الأثير أن الفَرَق -بالفتح- ستة عشر رطلًا، وبالإسكان مئة وعشرون رطلًا. قال في "الفتح": وهو غريب. وعند مسلم في مقداره في آخر هذا الحديث، قال سُفيان بن عُيينة: الفَرق ثلاثة آصُع. قال النووي: وكذا قال الجماهير. وقيل: الفَرَق صاعان. ونقل أبو عبيد الاتفاق على أن الفَرَق ثلاثة آصُع. وعلى أن الفَرَق ستة عشر رطلًا، ولعله يريد اتفاق أهل اللغة، وإلا فقد قال بعض الفقهاء من الحنفية وغيرهم أن الصاع ثمانية أرطال، وتمسَّكوا بما رُوي عن مجاهد في هذا الحديث الآتي عن عائشة، أنه حَزَر الإِناء ثمانية أرطال. والصحيح الأول، فإن الحَزْر لا يُعارض التحدبد. وأيضًا لم يصرِّح مجاهد بأن الإناء المذكور صاع، فيُحمل على اختلاف الأواني مع تقاربها. ويؤيد كون الفَرَق ثلاثه آصع ما رواه ابن حِبّان عن عائشة بلفظ: "قدر ستة أقساط" والقِسْط بكسر القاف باتفاق أهل اللغة هو نصف صاع، ولا اختلاف بينهم أن الفَرَق ستة عشر رطلًا، فصح أن الصالح خمسة أرطال وثلث. وتوسط بعض الشافعية، فقال: الصاع الذي لماء الغسل ثمانية أرطال، والذي لزكاة الفطر وغيرها خمسة أرطال وثلث، وهو ضعيف. وقد مرت مباحث هذا المتن في باب وضوء الرجل مع امرأته. واستدل به الداوودي على جواز نظر الرجل إلى عورة امرأته وعكسه، ويؤيده ما رواه ابن حِبّان عن سُليمان بن موسى أنه سُئل عن الرجل ينظر إلى فرج امرأته، فقالت: سألت عطاء، فقال: سألت عائشة، فذكرت هذا الحديث بمعناه، وهو نصٌّ في المسألة. رجاله خمسة: الأول: آدم بن أبي اياس، وقد مرَّ في الثالث من كتاب الإيمان. ومرَّ ابن أبي ذِئب في الستين من كتاب العلم. ومرَّ الزُّهري في الثالث من بدء الوحي، ومرَّ عُروة وعائشة في الثاني من بدء الوحي.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في ثلاثة مواضع، أخرجه البخاري هنا، ومسلم، والنسائي. باب الغُسل بالصاع ونحوه أي: بملء الصاع وما يقاربه، والصاع خمسة أرطال وثلث كما مرَّ في تفسير الفَرَق، والرطل البغدادي مئة وثمانية وعشرون درهمًا وأربعة أسباع درهم، وقال الرافعي: إنه مئة وثلاثون درهمًا، وسبب هذا كما قال الموفق أنه كان في الأصل مئة وثمانية وعشرين درهمًا وأربعة أسباع، ثم زادوا فيه مثقالًا لإرادة جبر الكسر، فصار مئة وثلاثين، والعمل على الأول؛ لأنه هو الذي كان موجودًا وقت تقدير العلماء به، وأما ما مرَّ عن العراقيين من أنه ثمانية أرطال، محتجّين بما مرَّ عن مجاهد، ولفظه: دخلنا على عائشة، فأُتي بعسٍّ، أي: لوح عظيم. فقالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يغتسِلُ بمثله. قال جابر: فحزرتُه ثمانية أرطال إلى تسعة إلى عشرة. فلا يُقابَل بما اشتُهر بالمدينة وتداولوه في معاشهم، وتوارثوه خلفًا عن سلف كما أخرجه مالك لأبي يوسُف حين قدم المدينة، وقال له: هذا صاع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فوجده أبو يوسف خمسة أرطال وثلثًا، فلا يُترك نقل هؤلاء الذين لا يجوز تواطؤهم على الكذب إلى خبر يَحتِملُ التأويل؛ لأنه حَزَر، والحَزْر لا يُؤمن فيه الغلط، ولم يجزم فيه بحَزْرٍ أيضًا كما مر عنه. ولم يقبل العيني هذا، ولكنه لم يأت بما يعارضه.

الحديث الرابع

الحديث الرابع حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الصَّمَدِ قَالَ: حَدَّثَنِي شُعْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ حَفْصٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ يَقُولُ: دَخَلْتُ أَنَا وَأَخُو عَائِشَةَ عَلَى عَائِشَةَ فَسَأَلَهَا أَخُوهَا عَنْ غُسْلِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَدَعَتْ بِإِنَاءٍ نَحْوًا مِنْ صَاعٍ، فَاغْتَسَلَتْ وَأَفَاضَتْ عَلَى رَأْسِهَا، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَهَا حِجَابٌ. قوله: "وأخو عائشة" يأتي في السند ما في تعيينه من الخلاف، وتعريف كل من قيل به. وقوله: "فدعت بإناء نحوٍ من صاع" بجر نحو وتنوينه صفة لإناء، وفي رواية كريمة: "نحوًا" بالنصب على أنه نعت للمجرور باعتبار المحل، أو بإضمار أعني. وقوله: "وبيننا وبينها حجاب"، قال القاضي عيّاض: ظاهره أنهما رأيا عملها في رأسها وأعالي جسدها، مما يحِلُّ نظره للمَحرم؛ لأنها خالة أبي سلمة من الرضاع، أرضعته أختها أم كلثوم، وإنما سترت أسافل بدنها مما لا يحِلُّ للمحرم النظر إليه، وإلا لم يكن لاغتسالها بحضرتهما معنى. وفي فعل عائشة: دِلالة على استحباب التعليم بالفعل؛ لأنه أوقع في النفس، ولما كان السؤال محتمِلًا للكيفية والكمية، أثبتت لهما ما يدُل على الأمرين معًا، أما الكيفية فبالاقتصار على إفاضة الماء، وأما الكمية فبالاكتفاء بالصاع.

رجاله سبعة

رجاله سبعة: الأول: عبد الله بن محمد الجُعْفِي المُسْنِدي أبو جعفر. مرَّ في الثاني من كتاب الإيمان. ومرَّ عبد الصمد بن عبد الوارث في السادس والثلاثين من كتاب العلم. ومرَّ شُعبة بن الحجاج في الثالث من كتاب الإيمان. ومرَّ أبو سلمة بن عبد الرحمن في الرابع من بدء الوحي. ومرَّت عائشة في الثاني منه أيضًا. والرابع: أبو بكر بن حَفْص بن عمر بن سعد بن أبي وقّاص، واسمه عبد الله المدني، مشهور بكنيته. روى عن: أبيه، وجدته، وابن عمر، وسالم بن عبد الله بن عمر، وأنس، وعروة بن الزبير، وأبو سلمة بن عبد الرحمن. وروى عنه: ابن جُرَيْج، وزيد بن أبي أُنَيْسة، وشعبة، ومِسْعَر، وجماعة. قال النسائي: ثقة. وذكره ابن حِبّان في "الثقات"، وقال: كان راويًا لعروة. وقال العِجْلي: ثقة. وقال ابن عبد البر: كان اسمه كنيته، وكان من أهل العلم والثقة، أجمعوا على ذلك. السادس من السند: أخو عائشة، قيل: إنه أخوها من الرضاعة، وهو الصحيح، لتصريح مسلم بقوله: أخو عائشة من الرضاعة، وعلى هذا قيل: إنه عبد الله بن يزيد. وقيل: كثير بن عبيد. وقيل: أخوها من الأم، وهو الطفيل بن عبد الله. وقيل: أخوها من الأب عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، فأذكر هنا تعريف الجميع إن شاء الله تعالى. فالأول: عبد الله بن يزيد، بصري، روى عنها، وروى عنه أبو قِلابة الجَرْمِيّ، ذكره ابن حِبّان في "الثقات". وقال العجلي: تابعي ثقة. له عند الأربعة: "اللهم هذا قسمي فيما أملك". الثاني: كثير بن عُبيد التيمي، مولى أبي بكر الصديق، أبو سعيد الكوفي، رضيع عائشة. ذكره ابن حِبّان في "الثقات". روى: عنها، وعن أبي هريرة،

وزيد بن ثابت، وأسماء بنت أبي بكر الصديق. وعنه: ابنه أبو العَنْبَس سعيد، وابن ابنه عَنْبَسَة بن سعيد، وعبد الله بن دُكَيْن، ومجالد، وغيرهم. الثالث: الطفيل بن سَخْبَرة -بفتح السين وسكون المعجمة- وهو الطفيل بن عبد الله بن سَخْبرة. ويقال: ابن عبد الله بن الحارِث بن سَخبرة القُرَشي. ويقال: الأزْدي. ويقال: الأَسدي. له صحبة، وهو أخو عائشة رضي الله تعالى عنها لأمها. قال ابن عبد البر: كانت أم رُومان تحت عبد الله بن الحارث بن سَخْبرة، وكان قدم بها مكة، فحالف أبا بكر قبل الإِسلام، وتوفي عن أم رومان، وقد ولدت له الطفيل، ثم خلف عليها أبو بكر، فولدت له عبد الرحمن وعائشة، فهما أخو الطفيل هذا لأمه. روى عنه ربعي بن حِراش من حديثه عنه ما رواه سُفيان وشُعبة وزائدة أنه رأى في المنام أن قائلًا من اليهود يقول له: نعم القومُ أنتم لولا قولكم ما شاء الله وما شاء محمد. ثم رأى ليلة أخرى رجلًا من النصارى، فقال له مثل ذلك، فأخبر بذلك النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقام خطيبًا، فقال: "لا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، وقولوا: ما شاء الله وحده". زاد بعضهم فيه: "ثم ما شاء محمد". الرابع: عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما، يُكْنى أبا عبد الله، وقيل: يُكْنى أبا محمد بولده محمد الذي يُقال له: عتيق والد عبد الله بن أبي عتيق. أدرك أبو عتيق هذا محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق هو وأبوه وجده وأبو جده رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. ولد أبو عتيق قبل موت النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويُقال: لم يدرك النبي -صلى الله عليه وسلم- أربعة غير هؤلاء. وعبد الرحمن أمه أم رُومان بنت الحارث بن غُنم الكنانية، فهو شقيق عائشة، وهو أسن ولد أبي بكر الصديق، كان اسمه عبد الكعبة، فغيَّره النبي -صلى الله عليه وسلم-، وسماه عبد الرحمن. شهد عبد الرحمن بدرًا وأحدًا كافرًا مع قومه، ودعا إلى البراز فقال له أبوه

ليُبارزه، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: متِّعنا بنفسك. كان عبد الرحمن من أشجع رجال قريش وأرماهم، تأخر إسلامه إلى الهدنة، ثم أسلم وحسُن إسلامه، وصحب النبي -صلى الله عليه وسلم-، خرج في فتية من قريش فيهم معاوية، هاجروا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل الفتح، وقيل: إنما أسلم يوم الفتح. قال الزبير بن بكار: كان رجلًا صالحًا، وكان فيه دعابة. وقال سعيد بن المسيِّب لم تجرَّب عليه كذبة قط. وقال ابن عبد البر: كان شجاعًا راميًا حسن الرمي، وشهد اليمامة، فقتل سبعة من أكابرهم، شهد له بذلك جماعة عند خالد بن الوليد، فيهم محكم اليمامة، وكان في ثلمة من الحصين، فرماه عبد الرحمن بسهم، فأصاب نحره، فقتله، ودخل المسلمون من تلك الثلمة. وشهد الجمل مع عائشة، وأخوه محمد مع علي. نفَّله عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ليلى ابنة الجُودي، وكان أبوها عربيًّا من غسان أمير دمشق، لأنه كان نزلها قبل الفتح في تجارة، فرأى ليلى ابنة الجُودي وحولها وَلائِد، فأعجبته وهام بها، وعمل فيها أشعارًا منها: تذكَّرْتُ ليلَى والسَّماوة بينَنا .... فما لابنةِ الجُودِيِّ ليلى وما لِيا وأنّى تُلاقيها بَلى ولعلَّها ... إن الناسُ جمُّوا قابلًا أن تُوافيا فلما سمع الشعر، قال لأمير الجيش: إن ظفرت بها فادفعها لعبد الرحمن، ففعل، فعجب بها وآثرها على نسائه، فلامته عائشة على ذلك، فلم تفِد فيه، ثم إنه جفاها حتى شكته إلى عائشة، فقالت: أفرطت في الأمرين. وأخرج البخاري: كان مروان بن الحكم على الحجاز استعمله مُعاوية، فخطب، فذكر يزيد بن معاوية لكي يُبايع له بعد أبيه، فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئًا، فقال: خذوه، فدخل بيت عائشة، فقال مروان: هذا الذي أنزل الله فيه: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا ...} [الأحقاف: 17]، فأنكرت عائشة ذلك من وراء الحجاب. وأخرجه النسائي من وجه آخر، فقال مروان: سنة أبي بكر وعمر. فقال

لطائف إسناده

عبد الرحمن: سنة هِرَقْل وقيصر. وفيه: فقالت عائشة: والله ما هُو به، ولو شئت أن أسميه لسميتُه. وأخرج الزبير قال: خطب مُعاوية، فدعا الناس إلى مبايعة يزيد، فكلمه الحسين بن علي وابن الزبير وعبد الرحمن بن أبي بكر، فقال عبد الرحمن: أهِرَقْلية، كلما مات قيصر كان قيصر مكانه، لا نفعل والله أبدًا؟ ثم بعث معاوية بعد ذلك إلى عبد الرحمن بمئة ألف، فردها، وقال: لا أبيع ديني بدنياي، وخرج إلى مكة، فمات بها قبل أن تتم البيعة ليزيد، وكان موته فجأة من نومة نامها بمكان يسمى الحبشي على عشرة أميال من مكة، فحُمل إلى مكة ودُفن بها. ولما بلغ خبره عائشة، خرجت حاجّة، فوقفت على قبره، فبكت وتمثلت ببيتي مُتَمّم بن نُويرة في أخيهِ مالك حيث قال: وكنّا كنَدْماني جَذيمةَ حِقْبةً ... من الدهرِ حتّى قيلِ لن يتصدَّعا فلمّا تفرَّقْنا كأني ومالكًا .... لطُولِ اجتماعٍ لم نبِتْ ليلةً معًا ثم قالت: والله لوحضرتك لدفنتك مكانك حيث متَّ، ولو حضرتك ما بكيتك، وكان موته سنة ثلاث وخمسين، قيل: ماتت عائشة بعده بسنة. له ثمانية أحاديث، اتفقا على ثلاثة. روى عن: النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعن أبيه. وروى عنه: ابناه عبد الله وحَفْصة، وابن أخيه القاسم بن محمد، وأبو عُثمان النهدي، وعبد الله بن أبي مُلَيْكة، وموسى بن وَرْدان، وغيرهم. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في أربعة مواضع، وفيه السماع والسؤال، وفيه راويان كلاهما بالكنية مشهوران، ومشاركان في الاسم على قول من يقول: إن اسم أبي بكر عبد الله. وكلاهما مدنيان زُهريان. قالَ أبُو عبدِ اللهِ: قالَ يَزيدٌ بنُ هارونَ: وبَهْزٌ والجُدِّيُّ عن شُعْبَة قَدْرِ صاعٍ.

بجر "قدر" على الحكاية، ويجوز النصب كما مرَّ. والمراد من الروايتين أن الاغتسال وقع بملء الصالح من الماء تقريبًا لا تحديدًا. وهذه متابعة ناقصة، ورجالها أربعة؛ لأن أبا عبد الله المراد به البخاري نفسه. ذكرها البخاري هنا تعليقًا، أما طريق يزيد فرواها أبو نُعيم في "مستخرجه" عن أبي بكر بن جلّاد، عن الحارِث بن محمد، عنه. وأبو عَوانة في "مستخرجه". وأما طريق بَهْز فرواها الإسماعيلي موصولة عنه، وأما طريق الجُدّي فلم أقف على من وصلها. ورجالها الأربعة شعبة مرَّ تعريفه في الثالث من كتاب الإيمان، ومرَّ يزيد بن هارون في الخامس عشر من كتاب الوضوء. وأبا بَهْز فهو بفتح الباء الموحدة وسكون الهاء ابن أسد العَمِّي أبو الأسود البصري. قال أحمد: إليه المنتهى في التثبت. وقال أبو بكر بن أبي خَيْثمة عن ابن مَعين: ثقة. وقال ابن عباس عنه: قال جرير بن عبد الحميد: اختُلط عليَّ حديث عاصم الأحول، وأحاديث أشعث بن سِوار، حتى قدم علينا بَهز، فخلَّصها. وقال أبو حاتم: صدوق ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث حجّة. وقال عبد الرحمن بن بِشْر: سألت يحيى بن سعيد يومًا عن حديث، فحدثني به، ثم قال لي: أراك تسألني عن شُعْبة كثيرًا. فعليك بَبَهْز بن أسد فإنه صدوق ثقة، فاسمع منه كتاب شُعبة. وقال في موضع آخر: ما رأيت رجلًا خيرًا من بَهْز. وقال العِجْلي: كان أسن من أخيه مُعَلّى، بصري ثقة ثبت في الحديث، رجل صالح صاحب سنة، وهو أثبت الناس في حمّاد بن سلمة. وذكره ابن حِبّان في "الثقات". وقال أبو الفتح الأَزْدِي: صدوق كان يتحامل على عثمان، سيىء المذهب. وقال: هؤلاء الثلاثة أصحاب الشكل والنقط، يعني: بَهْزًا وحِبّان وعفّان.

روى عن: شعبة، وحمّاد بن سلمة، ووُهَيْب بن خالد، وسَليم بن حِبّان، وسليمان بن المغيرة، وجرير بن حازِم، وغيرهم. وروى عنه: أحمد بن حَنْبل، وعبد الرحمن بن بِشْر، وبُندار، ويعقوب الدَّوْرَقي، وأبو بكر بن خلّاد، وعدة. مات بعد المئتين. وقيل: سنة سبع وتسعين. والعَمِّي في نسبه نسبة إلى العم لقب مالك بن حَنْظَلة أبي قبيلة، نُسب للأَزْد طورًا، وطورًا لبني تميم، وفي الأغاني أنهم نزلوا في بني تميم بالبصرة أيام عمر رضي الله تعالى عنه، وغزوا مع المسلمين، وأبلَوْا فحُمِدوا. وقيل لهم: إن لم تكونوا من العرب فأنتم الأخوان وبنو العم، فلُقِّبوا بذلك. والرابع: الجُدِّي -بضم الجيم وكسر الدال مشددة- نسبة إلى جُدة ساحل مكة، وهو عبد الملك بن إبراهيم أبو عبد الله القُرشي الحجازي المكي مولى بني عبد الدار، أصله من جدة، ولكنه سكن البصرة. قال الدارقطني: ثقة. وذكره ابن حِبّان في "الثقات". وقال أبو زُرعة: لا بأس به. وقال أبو حاتم: شيخ. وقال أحمد بن محمد بن أبي بزة: حدثنا عبد الملك بن إبراهيم الثقة المأمون. وقال أبو عبد الرحمن المقرىء في حديث رواه عن شعبة: بلغني أن عبد الملك الجُدّي وقفه، وهو أحفظ مني. وقال السّاجي: روى عن شعبة حديثًا لم يُتابع عليه. روى عن إبراهيم بن طَهْمان، وشعبة، وسعيد بن خالد الخُزاعي، وحمّاد بن سلمة، ونافع بن عُمر الجُمَحِيّ، وهمّام بن يحيى، وغيرهم. وروى عنه: الحُميدي، وعبد الله بن مُنير، والحسن بن علي الخلال، ومحمود بن غَيْلان، وسَلمة بن شَبيب، وأحمد بن شَيبان الرَّمْلي، وغيرهم. مات سنة أربع أو خمس ومئتين.

الحديث الخامس

الحديث الخامس حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ وَأَبُوهُ، وَعِنْدَهُ قَوْمٌ فَسَأَلُوهُ عَنِ الْغُسْلِ. فَقَالَ: يَكْفِيكَ صَاعٌ؟. فَقَالَ رَجُلٌ: مَا يَكْفِينِي. فَقَالَ جَابِرٌ: كَانَ يَكْفِي مَنْ هُوَ أَوْفَى مِنْكَ شَعَرًا، وَخَيْرٌ مِنْكَ، ثُمَّ أَمَّنَا فِي ثَوْبٍ. في رواية أبي ذَرٍّ عن الحموي سقوط يحيى بن آدم، وهو وهم، إذ لا يتصل السند إلا به كما يأتي في لطائف السند. وقوله: "هو وأبوه" أي: أبو أبي جعفر، وهو علي بن الحسين. وقوله: "وعنده قوم" أي: عند جابر. وقوله: "فسألوه عن الغسل" أفاد إسحاق بن راهَوَيْه في "مسنده" أن متولي السؤال هو أبو جعفر الراوي، وبيَّن النسائي في روايته سبب السؤال عن أبي إسحاق عن أبي جعفر قال: تمارَيْنا في الغُسل عند جابر، فكان أبو جَعْفر تولّى السؤال. ونَسَبَ السؤال إلى الجميع في هذه الرواية مجازًا، لقصدهم ذلك، ولهذا أفرد جابر الجواب، فقال: "يَكفيك" وهو بفتح أوله. وقوله: "فقال رجل"، زاد الإسماعيلي: "منهم" أي: من القوم لا من قوم جابر؛ لأن القائل كما جزم به صاحب "العمدة" هو الحسن بن محمد، ويأتي تعريفه قريبًا، ويأتي في الرواية الآتية التصريح به. وقوله: "من هُو أوفى" يَحتِملُ الصفة والمقدار، أي: أطول وأكثر. وقوله: "خير منك" بالرفع عطفًا على أوفى المخبر به عن "هو"، وفي رواية

رجاله سبعة

الأصيلي: "خيرًا" بالنصب عطفًا على من الموصول. وقوله: "ثم أمَّنا" فاعل أمَّنا جابر كما جاء مصرحًا به في كتاب الصلاة: "إن جابراً صلى في إزار، فقال له قائل: تصلي في إزار واحد؟ " ولا التفات إلى من جعله من مقوله، والفاعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وفي هذا الحديث بيان ما كان عليه السلف من الاحتجاج بأفعال النبي -صلى الله عليه وسلم-، والانقياد إلى ذلك. وفيه جواز الرد بعنف على من يماري بغير علم إذا قصد الرادُّ إيضاح الحق وتحذير السامعين من مثل ذلك، وفيه كراهة التنطّع والإسراف في الماء. رجاله سبعة: الأول: عبد الله بن محمد الجُعْفي المُسْنِدي وقد مرَّ في الثاني من كتاب الإيمان. ومرَّ زُهير بن معاوية وأبو إسحاق السبيعي في الرابع والثلاثين من كتاب الإِيمان. ومرَّ محمد بن علي الباقر في باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين بعد الأربعين من كتاب الوضوء. ومرَّ جابر بن عبد الله في الرابع من بدء الوحي. الثاني من السند: يحيى بن آدم بن سليمان الأموي مولى آل أبي مُعَيْط أبو زكريا الكوفي. قال ابن مَعين والنسائي وابن سعد: ثقة. وذكره ابن حِبّان في "الثقات"، وقال: كان متقنًا يتفقه. وقال يحيى بن أبي شيبة: ثقة صدوق ثبت حجة، ما لم يخالف من هو فوقه مثل وكيع. وقال العجلي: كان ثقة جامعًا للعلم عاقلًا ثبتًا في الحديث. وسُئِل أبو داود عن معاوية بن هشام ويحيى بن آدم، فقال: يحيى بن آدم واحد الناس. وقال أبو حاتم: كان يتفقه وهو ثقة. وقال يعقوب بن شَيْبة: ثقة كثير الحديث، فقيه البدن، ولم يكن له سن متقدم، سمعت علي بن المديني يقول: يرحم الله تعالى يحيى بن آدم، أيُّ علم كان عنده، وجعل يُطريه. وقال أبو أُسامة: ما رأيت يحيى بن آدم إلا ذكرت الشعبي.

روى عن: عيسى بن طَهْمان، ومَطَر بن خليفة، وإسرائيل، والثوري، وجرير بن حازِم، وزهير بن مُعاوية، وخلق. وروى عنه: أحمد، وإسحاق، وعلي بن المديني، ويحيى بن مَعين، وأبو كُريب، والمسنِدي، وابنا أبي شيبة، وهارون الحمّال، وخلق. مات في ربيع الأول سنة ثلاث ومئتين. والسادس: علي بن الحُسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي أبو الحسين، ويقال: أبو الحسن، ويقال: أبو محمد، ويقال: أبو عبد الله المدني زين العابدين، وأُمه سُلافة بنت يَزْدَجُرد آخر ملوك فارس، وهي عمة أم يزيد بن الوليد الأموي المعروف بالناقص. وكان قُتيبة بن مسلم الباهلي أمير خراسان لما تتبّع دولة الفرس، وقتل فيروز بن يَزْدَجُرد المذكور، بعث بابنتيه إلى الحجّاج بن يوسف، وكان يومئذ أمير العراق وخراسان، وقتيبة نائبه بخراسان، فأمسك الحجاج إحدى البنتين لنفسه، وأرسل الأخرى إلى الوليد بن عبد الملك، فأولدها يزيد الناقص، واسمها شاه فريد، وسُمي النّاقص لنَقْصِه أعطية الجُند. وكان يقال لزين العابدين: ابن الخِيْرتَيْن. لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لله تعالى من عِباده خِيرتان، فخيرته من العرب قُريش، ومن العجم فارس". وفي كتاب "ربيع الأبرار" أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم لما أتوا المدينة بسبي فارس في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، كان فيهم ثلاث بنات ليزدَجُرْد، فباعوا السبايا، وأمر عمر ببيع بنات يزدجرد أيضًا، فقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: إن بنات الملوك لا يُعاملن معاملة غيرهن من بنات السوقة. فقال: كيف الطريق إلى العمل معهن؟ قال: يقوَّمْن، ومهما بلغ ثمنهن قام به من يختارُهُنَّ، فقوِّمْن، فأخذهن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، فدفع واحدة لعبد الله بن عمر، وأخرى لولده الحسين، وأخرى لمحمد بن أبي بكر الصديق وكان تربيته رضي الله عنهم أجمعين، فأولد

عبد الله أمته سالمًا، وأولد الحسين أمته زين العابدين، وأولد محمد بن أبي بكر الصديق أمته القاسم، فهؤلاء الثلاثة بنو خالة، وأمهاتهم بنات يزدجرد. وفي "الكامل" للمبرِّد: يروى عن رجل من قريش لم يُسمَّ لنا، قال: كنت أجالس سعيد بن المسيِّب، فقال لي يومًا: من أخوالك؟ فقلت له: أمي فتاة. فكأني نَقْصتُ من عينه، فأمهلت حتى دخل سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهم، فلما خرج من عنده، قلت: يا عم: من هذا؟ فقال: سبحان الله أتجهل مثل هذا من قومك؟ هذا سالم بن عبد الله. قلت: فمن أمه؟ قال: فتاة. قال: ثم أتاه القاسم بن مُحمد بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهم، فجلس عنده، ثم نهض. قلت: يا عم: من هذا؟ فقال: أتجهل مثل هذا من أهلك؟ ما أعجب هذا؟ هذا القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق. قلت: فمن أمه؟ قال: فتاة. فأمهلت شيئاً حتى جاءه علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما، فسلم عليه، ثم نهض، فقلت: يا عم: من هذا؟ قال: هذا لا يسع مسلمًا أن يجهله، هذا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. فقلت: من أمه؟ قال: فتاة. فقلت: يا عم: رأيتني نقصت من عينك لما علمت أن أمي فتاة، أفما لي في هؤلاء أسوة. قال: فجلَلْتُ في عينه جدًّا. وكان أهل المدينة يكرهون اتخاذ أمهات الأولاد، حتى فشا فيهم علي بن الحسين وسالم بن عبد الله بن عمرو القاسم بن محمد، ففاقوا أهل المدينة فقهًا وورعًا، فرغب الناس في السراري. وقيل: إن أمه سِندية، يقال لها: سُلافة، ويقال لها: غزالة. وزين العابدين أحد الأئمة الاثني عشر، ومن سادات التابعين. قال الزُّهري: ما رأيت قرشيًّا أفضل منه. وقال ابن سعد في الطبقة الثانية من طبقات التابعين من أهل المدينة: أمه أم ولد، وكان ثقة مأمونًا ورعًا كثير الحديث عاليًا رفيعًا، كان مع أبيه يوم قُتل وهو مريض، فسَلِم. وقال الزُّهري أيضًا: كان أفقه منه، ولكنه كان قليل الحديث. وقال مالك: قال نافع بن جُبَيْر بن مُطعم لعلي بن الحسين: إنك تجالس أقوامًا دونًا، فقال علي بن الحسين: إني

أجالس من أنتفع بمجالسته في ديني. قال: وكان علي بن الحسين رجلًا له فضل في الدين. وقال مالك: لم يكن في أهل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثل علي بن الحسين. وقال أبو بكر بن أبي شيبة: أصح الأسانيد كلها الزُّهري عن علي بن الحسين عن أبيه عن علي. وقال يحيى بن سعيد: سمعت علي بن الحسين، وكان أفضل هاشمي أدركته. وقال سعيد بن المسيِّب: ما رأيت أورع منه. وقال العجلي: مدني تابعي ثقة. وقال جُوَيْرية بن أسماء: ما أكل علي بن الحسين لقرابته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- درهمًا قط. وقال ابن عُيينة: حج علي بن الحسين، فلما أحرم واستوت به راحلته، اصفرَّ لونه وانتفض، ووقع عليه الرِّعْدة، ولم يستطع أن يلبي. فقيل له: مالك لا تُلبّي؟ فقال: أخشى أن أقول: لبيك، فيقال لي: لا لبيك. فقيل له: لابد من هذا. فلما لبّى غُشِيَ عليه، وسقط من راحلته، فلم يزل يعتريه ذلك حتى قضى حجَّه. وقال مالك: لقد أحرم علي بن الحسين، فلما أراد أن يقول: لبيك، قالها، فأُغمي عليه حتى سقط من ناقته، فهُشم، ولقد بلغني أنه كان يصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة إلى أن مات، وكان يسمّى زين العابدين لعبادته. وروي عن أبي جعفر أن أباه علي بن الحسين قاسَمَ الله تعالى مرتين، وقال: إن الله تعالى يُحبُّ المؤمن المذنب التوّاب. وقال محمد بن إسحاق: كان ناس من أهل المدينة يعيشون ولا يدرون من أين كان معاشهم، فلما مات علي بن الحسين فقدوا ما كانوا يُؤْتَوْنَ به من الليل. وقال موسى الرضي عن أبيه عن جده، قال: قال علي بن الحسين: إني لأستحي من الله أن أرى الأخ من إخواني، فاسأل الله له الجنة، وأبخل عليه بالدنيا. وقال أبو حازم عن أبيه: سمعت علي بن الحسين، وقد سُئل: كيف كانت

منزلة أبي بكر وعمر من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فأشار بيده إلى القبر، وقال: منزلتهما منه الساعة. وقال عُبيد الله بن عبد الرحمن بن مَوْهَب: جاء قوم إلى علي بن الحسين، فأثنوا عليه، فقال: ما أكذبكم وأجرأكم على الله، نحن من صالحي قومنا، فحسبُنا أن نكون من صالحي قومنا. وعن موسى بن طريف قال: استطال رجل على علي بن الحسين، فأغضى عنه، فقال له: إياك أعني. فقال له: وعنك أُغضي. وكان زين العابدين كثير البِرِّ بأمه، حتى قيل له: إنك أبو الناس بأمك، ولسنا نراك تأكل معها في صَحْفة. فقال: أخاف أن تسبِق يدي إلى ما تسبق إليه عينها، فأكون قد عققتها. وهذا ضد قصة أبي الحسن مع ابنته، فإنه قال: كانت لي ابنة تجلِسُ معي على المائدة، فتُبْرز كفًّا كأنه طلعة، في ذراع كأنها جمارة، فما تقع عينها على لقمة نفيسة إلا خصَّتْني بها. فزوجتها، فصار يجلِسُ معي على المائدة ابنٌ لي، فيبرِزُ كفًّا كأنه كرنافة، في ذراع كأنها كربة، فوالله ما تسبِق عيني إلى لقمة طيبة إلا سبقت يده إليها. وحكى ابن قُتيبة أن أم زين العابدين زوَّجها بعد أبيه يزيد مولى أبيه، وأعتق جارية له وتزوجها، فكَتَبَ إليه عبد الملك بن مروان يعيِّره بذلك، فكتب إليه زين العابدين: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، وقد أعتق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صفية بنت حيي بن أخطب، وتزوجها، وأعتق زيد بن حارثة، وزوجه بنت عمته زينب بنت جحش. وفضائل زين العابدين أكثر من أن تُحصر. روى عن: أبيه، وعمه الحسن، وأرسل عن جده علي بن أبي طالب، وروى عن ابن عباس، وأبي هريرة، والمِسْوَر بن مَخْرمة، وعائشة، وصفيّة بنت حُيي بن أخطب، وأم سلمة، وبنتها زينب بنت أبي سلمة، وأبي رافع مولى

النبي -صلى الله عليه وسلم-، وخلق. وروى عنه: أولاده محمد وزيد وعبد الله وعمر، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وطاووس، وهما من أقرانه، والزُّهري، وأبو الزِّناد، وزيد بن أسلم، والحكم بن عُتيبة، وهشام بن عُروة، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وخلق. ولد يوم الجمعة سنة ثمان وثلاثين للهجرة، وتوفي سنة أربع وتسعين. وقيل: اثنتين وتسعين للهجرة بالمدينة، ودُفن بالبقيع في قبر عمه الحسن بن علي في القُبة التي فيها قبر العباس رضي الله تعالى عنهم أجمعين. وفي الحديث: "وقال رجل"، والمراد به: الحسن بن مُحمد بن علي بن أبي طالب الذي يُعرف أبوه بابن الحنفية، يُكنى الحسن بأبي محمد المدني. قال ابن سعد: كان من ظرفاء بني هاشم، وأهل الفضل منهم، وكان يُقَدَّمُ على أخيه، أي: هاشم في الفضل والهيبة، وهو أول من تكلم في الإرجاء. وقال الزُّهري: حدثنا الحسن وعبد الله ابنا محمد، وكان الحسن أرضاهما في أنفسنا. وفي رواية: وكان الحسن أوثقهما. وقال عبد الله بن مَسْلَمة بن أسلم عن أبيه عن حسن بن محمد قال: وكان حسن من أوثق الناس عند الناس. وقال سُفيان عن عمرو بن دينار: ما كان الزُّهري إلا من غِلْمان الحسن بن محمد. وقال ابن حِبّان: كان من علماء الناس بالاختلاف. وقال سلّام بن أبي مُطيع عن أيوب: أنا أتبرأ من الإرجاء، إن أول من تكلم فيه رجل من أهل المدينة، يقال له: الحسن بن محمد. وقال عطاء بن السائب عن زاذان وميسرة أنهما دخلا على الحسن بن محمد، فلاماه على الكتاب الذي وضع في الإرجاء، فقال لزاذان: يا أبا عمرو، لوددت أني كنت مت ولم أكتبه. قال في "تهذيب التهذيب": قلت: الإرجاء الذي تكلم الحسن بن محمد فيه غير الإرجاء الذي يعيبه أهل السنة المتعلق بالإيمان، وذلك أني وقفت على كتاب الحسن بن محمد المذكور، أخرجه ابن أبي عمرو العدني في كتاب

لطائف إسناده

الإِيمان له في آخره، قال: حدثنا إبراهيم بن عُيينة، عن عبد الواحد بن أيمن، قال: كان الحسن بن محمد يأمرني أن أقرأ هذا الكتاب على الناس: أما بعد: فإنا نوصيكم بتقوى الله، فذكر كلامًا كثيرًا في الموعظة والوصية لكتاب الله تعالى واتِّباع ما فيه، وذكر اعتقاده، ثم قال في آخره: ونوالي أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، ونجاهد فيهما؛ لأنهما لم تقتتل عليهما الأمة، ولم تشكَّ في أمرهما، ونرجىء مِن بعدِهما مَن دخل في الفتن، نكلُ أمرهم إلى الله تعالى آخر الكلام. فمعنى الذي تكلم فيه الحسن أنه كان يرى عدم القطع على إحدى الطائفتين المقتتلتين في الفتنة بكونه مخطئًا أو مصيبًا، وكان يرى أنه يرجىء الأمر فيهما. وأما الإرجاء الذي يتعلق بالإيمان، فلم يعرِّج عليه، فلا يلحقه بذلك عيب. روى عن: أبيه، وابن عباس، وسلمة بن الأكوع، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وعائشة، وجابر بن عبد الله، وغيرهم. وروى عنه: عمرو بن دينار، وعاصم بن عمر بن قَتادة، والزُّهري، وأبان بن صالح، وقيس بن مسلم، وعبد الواحد بن أيمن، وجماعة. قيل: إنه توفي في خلافة عمر بن عبد العزيز، وليس له عقب. وقيل: توفي سنة تسع وتسعين أو مئة. وقيل غير ذلك في وفاته. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في أربعة مواضع، والعنعنة في موضع واحد، وفيه السؤال والجواب، وبين عبد الله بن محمد وزهير يحيى بن آدم، وهذا هو الصواب، ووقع في بعض إسقاط يحيى، وهو خطأ، إذ لا يتصل الإسناد إلا به، وأكثر رواته كوفيون. وأخرجه النسائي عن قُتيبة بتغيير عن هذا.

الحديث السادس

الحديث السادس حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَمَيْمُونَةَ كَانَا يَغْتَسِلاَنِ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ. قوله: "يغتسِلان من إناء واحد" في رواية أبي الوقت: "في إناء واحد من الجنابة". فإن قلت: ما وجه تعلق هذا الحديث بهذا الباب؟ فالجواب أن مناسبته له مستفادة من أن أوانيهم كانت صغارًا كما صرح به الشافعي في عدة المواضع، فيدخل الحديث تحت قوله: "ونحوه" أي: نحو الصاع، أو يُحمل المطلق فيه على المقيد في حديث عائشة، وهو الفَرَق، لكون كل منهما زوجة له واغتسلت معه، فيكون حصة كل منهما أزيد من صاع، فيدخل تحت الترجمة بالتقريب. رجاله خمسة: الأول: أبو نُعيم الفضل بن دُكَيْن وقد مرَّ في السادس والأربعين من كتاب الإيمان. ومرَّ سفيان بن عُيينة في الأول من بدء الوحي. وعبد الله بن عباس في الخامس منه. وعمرو بن دينار في الرابع والخمسين من كتاب العلم. وهنا ذُكرت ميمونة، وقد مرَّ تعريفها في الثامن والخمسين منه أيضًا. والرابع من السند: جابر بن زَيْد الأزْدي اليَحْمَدي أبو الشعثاء الجَوْفي -بفتح الجيم وسكون الواو. نسبة إلى درب الجوف محلة بالبصرة- البصري. روى عطاء عن أبيه عن ابن عباس: لو أن أهل البصرة نزلوا عند قول جابر بن زيد، لأوسعهم علمًا من كتاب الله تعالى. وروى الرباب سألت ابن عباس عن شيء، فقال: تسألولي وفيكم جابر بن زيد؟ وقال عُزرة: دخلت على

لطائف إسناده

جابر بن زيد، فقلت: إن هؤلاء القوم ينتحلونك، يعني الإباضِيّة، فقال: أبرأ إلى الله من ذلك. وقال ابن مَعين وأبو زُرعة: ثقة. وقال العِجْلي: تابعي ثقة. وفي "تاريخ" البخاري عن جابر بن زيد، قال: لقيني ابن عمر، فقال: يا جابر: إنك من فقهاء البصرة. وقال ابن حِبّان في "الثقات": كان فقيهًا، ودُفن هو وأنس بن مالك في جمعة واحدة، وكان من أعلم الناس بكتاب الله تعالى، ولما مات، قال قتادة: اليوم مات أهل العراق. وقال إياس بن مُعاوية: أدركت الناس وما لهم مفتٍ غير جابر بن زيد. وقال أبو خيثمة، كان الحسن البصري إذا غزا أفتى الناس جابر بن زيد. وفي "الضعفاء" للساجي عن يحيى بن مَعين: كان جابر إباضيًّا، وعكرمة صفربًّا. روى عن ابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير، ومعاوية بن أبي سفيان، وعكرمة، وغيرهم. وروى عنه قتادة، وعمرو بن دِينار، ويَعْلى بن مُسلم، وأيّوب السُّختياني، وجماعة مات سنة أربع ومئة أو ثلاث. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في ثلاثة مواضع، ورواته ما بين كوفي ومكي وبصري. أخرجه البخاري هنا، ومسلم في الطهارة عن قُتيبة وغيره، والترمذي فيها عن ابن أبي عمر، والنسائي فيها أيضًا عن يحيى بن موسى، وابن ماجه فيها عن أبي بكر بن أبي شيبة. قالَ أبُو عبدِ اللهِ كانَ ابنُ عُيينةَ يقولُ أخيرًا عنِ ابنِ عباسٍ عنْ مَيْمُونَةَ والصَّحيحُ ما رواهُ أبُو نُعيمٍ. كذا رواه أكثر الرواة عنه كما يأتي، وإنما رواه عنه كما قال أبو نُعيم من سمع منه قديمًا، وإنما رجح البخاري رواية أبي نُعيم جريًا على قاعدة المحدثين؛ لأن

باب من أفاض على رأسه ثلاثا

من جملة المرجحات قدم السماع؛ لأنها مظنة قوة حفظ الشيخ، ولرواية الآخرين جهة أخرى من وجوه الترجيح، وهي كونهم أكثر عددًا وملازمةً لسُفيان، ورجَّحها الإسماعيلي من جهة أخرى من حيث المعنى، وهي كون ابن عباس لا يطَّلع على النبي -صلى الله عليه وسلم- في حالة اغتساله مع ميمونة، فيدُل على أنه أخذه عنها. ويستفاد من هذا البحث أن البخاري لا يرى التسوية بين عن فلان، وبين أن فلانًا، وفي هذا بحث طويل قد استوفيناه في الحديث الأول. وهذا تعليق من البخاري، وأخرجه الشافعي بالرواية المذكورة، والحُمَيْدي، وابن أبي عمر، وابن أبي شيبة في "مسانيدهم" عن سفيان. ومسلم والنسائي وغيرهما من طريقه. والمراد بأبي عبد الله: البخاري نفسه. وابن عُيينة مرَّ في الأول من بدء الوحي. ومرَّ ابن عباس في الخامس منه. ومرَّت ميمونة في الثامن والخمسين من كتاب العلم. باب من أفاض على رأسه ثلاثًا تقدم حديث عائشة وميمونة في ذلك.

الحديث السابع

الحديث السابع حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَمَّا أَنَا فَأُفِيضُ عَلَى رَأْسِى ثَلاَثًا". وَأَشَارَ بِيَدَيْهِ كِلْتَيْهِمَا. قوله: "أما أنا" بفتح الهمزة وتشديد الميم. وقوله: "فأُفيض" بضم الهمزة وقسيم "أمّا" محذوف، يدل عليه السياق، وهو مذكور في رواية مسلم عن أبي إسحاق: "تماروا في الغُسل عند النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال بعض القوم: أما أنا فأغسِل رأسي بكذا وكذا، وقال عليه الصلاة والسلام: أما أنا فافيض ... إلخ" فما ذكر في الحديث عن بعض القوم هو القسم المحذوف. وقول العيني: إنه لا يحتاج إلى تقدير شيء من حديث في طريق لأجل حديث في طريق أخرى، فإن "أما" هنا حرف شرط وتفصيل وتوكيد، وإذا كانت للتوكيد، فلا تحتاج إلى التقسيم، ولا أن يُقال: إنه محذوف، كيف يصح ما قال مع التصريح بالمحذوف في الحديث المتَّحد المخرج مع هذا، وخير ما فُسِّر به الوحي الوحي، فلا التفات إلى ما قال. وقوله: "على رأسي ثلاثًا" أي: ثلاث أكف. وقوله: "ثلاثًا" يدل، على أن المراد بكذا وكذا في قول البعض السابق أكثر من ذلك. ولمسلم من وجه آخر: إن الذين سألوا عن ذلك وقد ثقيف. والسياق مشعر بأنه عليه الصلاة والسلام كان لا يُفيض إلاَّ ثلاثًا، وهي محتملة لأن تكون للتكرار، وأن تكون للتوزيع لكل جهة من الرأس غرفة. وحديث جابر الآتي يقوي الاحتمال الأول. وقد مرَّ أن هذين الاحتمالين قولان عند المالكية، وأن

رجاله خمسة

ما عدا الرأس عندهم من الغسل لا يُسَنَّ فيه التثليث، وقوفًا مع ظاهر الحديث. وقال القسطلاني: ألحق به أصحابُنا سائر الجسد، قياسًا على الرأس، وعلى أعضاء الوضوء، وهو أولى بالتثليث من الوضوء، فإن الوضوء مبني على التخفيف مع تكراره. قلت: لم تُعْمِل المالكية هذا القياس لاختلاف الأجساد وتباعدها فيعسر انضباط إنقاء كل جسد بثلاث غرفات، فوكلوا الأمر إلى كل مغتسل بحسبه. وقوله: "بيديه كلتيهما" كذا للأكثر، وللكشميهني: "كلاهما" بالألف، وفي بعض الروايات: "كلتاهما"، وهي مخرجة على لغة من يلزم المثنى الألف، وكلتا ملحقة بالمثنى، إذا أضيفت إلى مضمر على الصحيح. قال الشاعر: إن أباها وأبا أباها ... قد بَلَغا في المجدِ غايَتاها رجاله خمسة: الأول: أبو نُعَيْم الفضل بن دُكَيْن مرَّ في الحديث السادس والأربعين من كتاب الإيمان. ومرَّ زُهير بن معاوية وأبو إسحاق السَّبيْعِي في الرابع والثلاثين منه أيضًا. الرابع: سليمان بن صُرَد بن الجَوْن بن أبي الجون بن مُنقِذ بن ربيعة بن أصرم الخُزاعي يُكنى أبا المطرِّف. كان رضي الله تعالى عنه خيِّرًا فاضلًا له دين وعبادة، كان اسمه في الجاهلية يسار، فسماه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سليمان، سكن الكوفة وابتنى بها دارًا في خُزاعة، وكان نزوله بها في أول ما نزلها المسلمون، وكان له سن عالية وشرف وقدر وكلمة في قومه. شهد مع علي رضي الله تعالى عنه صفين، وهو الذي قتل حَوْشَب ذا ظليم الألهاني بصفين مبارزة، ثم اختلط الناس يومئذ، وكان فيمن كتب إلى الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما يسأله القدوم إلى الكوفة، فلما قدمها ترك القتال معه، فلما قُتِل الحسين رضي الله تعالى عنه، ندم هو والمسيَّب بن

نجية الفَزَاري وجميع من خذله إذ لم يقاتل معه، وقالوا: ما لنا من توبة مما فعلنا إلا أن نقتل أنفسنا في الطلب بدمه، فخرجوا، فعسكروا بالنخيلة، وولوا أمرهم سليمان بن صُرد، وسموه أمير التوّابين، ثم ساروا إلى عبيد الله بن زياد، فلقوا مقدمته في أربعة آلاف عليها شرحبيل بن ذي الكَلاع، فاقتتلوا، فقُتل سُليمان بن صُرَد والمسيَّب بموضع يُقال له: عين الوردة، وكانوا أربعة آلاف، والقاتل لسليمان يزيد بن الحُصَيْن بن نُمَيْر، وحمل رأسه ورأس المسيَّب بن نُجَيَّة إلى مروان بن الحكمَ، أدهم بن مُحَيْريز الباهلي، وكان سُليمان يوم قُتل ابن ثلاث وتسعين سنة، له خمسة عشر حديثًا، اتفقا على حديث، وانفرد البخاري بحديث من حديثه: إن رجلين تلاحيا، فاشتد غضب أحدهما. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إني لأعرفُ كلمةً لو قالها سَكَنَ غضبُه، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم". روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعن علي، وأُبي، والحسين، وجُبَيْر بن مُطعِم. وروى عنه: أبو إسحاق السبيعي، ويحيى بن يَعْمَر، وعبد الله بن يسار، وأبو الضحى. الخامس: جُبَيْر بن مطعِمْ بن عدي بن نوفل بن عبد مناف بن قُصَي القرشي النوفلي، يُكنى أبا محمد، وقيل: أبا عدي، أمه أم جميل بنت سعيد من بني عامر بن لؤي. كان من أكابر قريش وعلماء النسب. قال ابن إسحاق: كان جُبَيْر بن مُطْعِم من أنسب قريش لقريش وللعرب قاطبة، وكان يقول: إنما أخذت النسب عن أبي بكر الصِدّيق، وكان أبو بكر رضي الله تعالى عنه من أنسب العرب، وحين أتى عمر بنسب النعمان دعاه. أسلم جُبَيْر بين الحُديبية والفتح، وقيل: في الفتح، قدم على النبي -صلى الله عليه وسلم- في أسارى بدر، فوافقه يصلي بأصحابه المغرب أو العشاء، قال: فسمعته يقرأ وقد خرج صوته من المسجد: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8)} [الطور: 8]، قال: فكأنما صدع قلبي. وفي رواية: فسمعه يقرأ: {أم خُلِقُوا من

لطائف إسناده

غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36)} [الطور: 35 - 36]، فكاد قلبي يطير، فلما فرغ من صلاته كلمته في أسارى بدر، فقال: "لو كان الشيخ أبوك حيًّا فأتانا فيهم شفَّعناه". وفي رواية: "ثم كلمني في هؤلاء النتنى لأطلقتهم له"، وكانت له يد عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإنما كان هذا القول من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مُطْعِم بن عدي؛ لأنه الذي كان أجار النبي -صلى الله عليه وسلم- حين قدم من الطائف من دعاء ثقيف، وكان أحد الذين قاموا في شأن الصحيفة التي كتبتها قريش علي بني هاشم، وكانت وفاة مُطْعِم بن عدي قبل بدر بنحو سبعة أشهر. ويقال: إن أول من لبس الطيلسان بالمدينة جُبَيْر بن مُطْعِم. وروي أنه أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- هو وعثمان، فسألاه أن يقسم لهم كما قسم لبني هاشم والمطلب، وقالا: إن قرابتنا واحدة، أي: إن هاشمًا والمطلب ونوفلًا جد جبير وعبد شمس جد عثمان إخوة، فأبى، وقال: إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد. له ستون حديثًا، اتفقا على ستة، وانفرد البخاري بحديث ومسلم بآخر. روى عنه: ابناه محمد ونافع، وسليمان بن صُرَد، وابن المسيِّب، وطائفة. توفي سنة تسع أو ثمان وخمسين بالمدينة. لطائف إسناده: أن فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وبالإفراد في موضعين، والعنعنة في موضع واحد. وإسناده عن أبي نُعيم أعلى من إسناد حديث الباب الأول عنه، وفيه رواية صحابي عن صحابي، ورواية الأقران، ورواته ما بين كوفي ومدني. أخرجه البخاري هنا، ومسلم في الطهارة عن أبي بكر بن أبي شَيْبة وغيره، وأبو داود وفيها عن النَّوفْلَي، والنَّسائي فيها أيضًا عن قُتيبة، وابن ماجه فيها أيضًا عن أبي بكر بن أبي شَيْبة.

الحديث الثامن

الحديث الثامن حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مِخْوَلِ بْنِ رَاشِدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُفْرِغُ عَلَى رَأْسِهِ ثَلاَثًا. قوله: "يُفرغ" أي: بضم أوله، آخره غين معجمة، من الإفراغ. وقوله: "على رأسه ثلاثًا" أي: ثلاث غَرَفات، وللإسماعيلي: "قال شُعبة: أظنه من غسل الجنابة". رجاله ستة: الأول: محمد بن بشّار مرَّ في الحادي عشر من كتاب العلم. ومرَّ محمد بن جعفر، وهو غُنْدَر، في السادس والعشرين من كتاب الإيمان. ومرَّ شعبة في الثالث منه. ومرَّ أبو جعفر محمد بن علي الباقِر في الأربعين من كتاب الوضوء في باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين ... إلخ. ومرَّ جابر بن عبد الله في الرابع من بدء الوحي. الرابع من السند: مُخَوَّل -باسم المفعول من التَّخويل بالمعجمة، ورُوي بكسر الميم وسكون الخاء المعجمة- ابن راشد النَّهْدي مولاهم، أبو راشد بن أبي المجالد الكوفي الحنّاط. روى عن الباقِر أبي جعفر، ومسلم البطين، وأبي سعد المدني. وروى عنه: شُعبة، والثوري، وجعفر الأحمر، وشَريك، وأبو عَوانة. قال أحمد: ما علمت إلا خيرًا. وقال ابن مَعين، والنسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: يُكْتَب حديثه. وقال العجلي: ثقة من غُلاة الكوفيين، وليس بكثير

لطائف إسناده

الحديث. وذكره ابن حِبّان في "الثقات". وقال ابن سعد: كان ثقة إن شاء الله تعالى. وقال الدارقطني: مُخَوَّل بن راشد ومجاهد بن راشد ثقتان. وقال أبو داود: شيعي. وقال ابن عمّار: كوفي ثقة. وقال يعقوب بن سفيان: ثقة. وليس له في البخاري غير حديث واحد توبع عليه، والنَّهْدِيّ في نسبه مرَّ في الخامس والثلاثين من الوضوء. لطائف إسناده: فيه حدثني محمد بن بشار بصيغة الإفراد وفي رواية الأكثرين، وفي رواية الأصيلي بصيغة الجمع. وفيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في ثلاثة، ورواته ما بين بصري وكوفي ومدني، وليس لمُخَوَّل بن راشد في البخاري غيره، وهو عزيز انفرد به البخاري. أخرجه البخاري هنا، والنسائي في الطهارة عن محمد بن عبد الأعلى.

الحديث التاسع

الحديث التاسع حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَامٍ قَالَ: حَدَّثَنِى أَبُو جَعْفَرٍ قَالَ: قَالَ لِي جَابِرٌ: أَتَانِي ابْنُ عَمِّكَ يُعَرِّضُ بِالْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ: كَيْفَ الْغُسْلُ مِنَ الْجَنَابَةِ؟ فَقُلْتُ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَأْخُذُ ثَلاَثَةَ أَكُفٍّ وَيُفِيضُهَا عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ يُفِيضُ عَلَى سَائِرِ جَسَدِهِ. فَقَالَ لِى الْحَسَنُ: إِنِّي رَجُلٌ كَثِيرُ الشَّعَرِ. فَقُلْتُ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَكْثَرَ مِنْكَ شَعَرًا. قوله: "أتاني ابن عمك" فيه تجوز؛ لأنه ابن عم والده علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. وقوله: "ابن الحنفية" هي زوجة علي، تزوجها بعد فاطمة الزهراء، فولدت له محمدًا، فاشتهر بالنسبة إليها. وقول جابر: "أتاني" يشعر بأن سؤال الحسن بن محمد كان في غيبة أبي جعفر، فهو غير سؤال أبي جعفر الذي مرَّ في الباب قبله؛ لأن ذلك كان عن الكمية كما يُشْعِر به قوله في الجواب: "يكفيك صاع"، وهذا عن الكيفية، لما يظهر من قوله: "كيف الغُسل"، ولكن الحسن بن محمد في المسألتين هو المنازع لجابر في ذلك، فقال في جواب الكمية: "ما يكفيني" أي: الصاع، ولم يعلل، وقال في جواب الكيفية: "إني كثير الشعر" أي: فأحتاج إلى أكثر من ثلاث غَرَفات، فقال جابر في جواب الكيفية: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكثر شعرًا منك وأطيب" أي: واكتفى بالثلاث، فاقتضى أن الإنقاء يحصُلُ بها، وقال في جواب الكمية ما مر. وناسب ذكر الخيرية هنا لأن طلب الازدياد من الماء يُلْحَظُ فيه التحري في

رجاله خمسة

إيصال الماء إلى جميع البدن، وكان عليه الصلاة والسلام سيد الورعين، وأتقى الناس لله، وأعلمهم به، وقد اكتفى بالصاع، فأشار جابر إلى أن الزيادة على ما اكتفى به تَنَطُّع، فلا يكون مثاره إلا وسوسة، فلا يُلتفت إليه. وقوله: "يُعَرِّض بالحسن" التعريض غير التصريح، وهو في الاصطلاح كناية سيقت لموصوف غير مذكور، وفي "الكشاف": هو أن تذكر شيئًا تدُلُّ به على شيء لم تذكره، وسقطت عند ابن عساكر الموحدة من قوله: "بالحسن". وقوله: "ثلاث أكف"، ولكريمة: "ثلاثة أكف" بالتاء، وهي جمع كف، والكف تذكَّر وتؤنث، والمراد أنه يأخذ في كل مرة كفين، ويدل على ذلك رواية إسحاق بن راهَويه عن محمد بن جَعْفر عن أبيه: "وبسط يديه"، ويؤيده حديث جُبَيْر بن مُطْعِم المار، والكف اسم جنس، فيُحمل على الاثنين. وقوله: "ويفيضها" بالواو، وللكشميهني والأصيلي: "فيفيضها" بالفاء. وفي قوله: "كان" دلالة على استمرار ملازمته عليه الصلاة والسلام ثلاثة أكف في غسل الرأس، وأنه يُجزىء وإن كان كثير الشعر. وقوله: "ثم يفيض على سائر جسده"، قال القسطلاني: محذوف مفعوله، تقديره: الماء على سائر جسده، يعني مع اعتبار العدد وعدم اعتباره على ما مرَّ. وقوله: "أكثر منك شعرًا" يعني: وقد كفاه ذلك، وقد مرَّ لك قريبًا أن السؤالين في الحديثين أحدهما عن الكمية، والثاني عن الكيفية، وقد تعقبه العيني بأن لفظة: "كيف" في السؤال السابق مطوية اختيارًا؛ لأن السؤال في الحالين عن حالة الغُسل وصفته، والجواب في الموضعين بالكمية؛ لأنه هناك قال: "يكفيك صاع"، وهنا قال: "ثلاثة أكف"، وكل منهما كم. رجاله خمسة: الأول: أبو نُعيم الفضل بن دُكَيْن مرَّ في السادس والأربعين من كتاب الإيمان. ومرَّ أبو جعفر الباقِر بعد الأربعين من كتاب الوضوء في باب من لم ير

لطائف إسناده

الوضوء إلا من المخرجين ... إلخ. ومرَّ جابر بن عبد الله في الرابع من بدء الوحي. والثاني من السند: مَعْمَر -بفتح الميم وسكون العين المهملة، وفي رواية القابسيّ بضم الميم الأولى على وزن محمد- ابن يحيى بن سام بن موسى الضَبيّ الكوفي، وقد يُنسب إلى جده. روى عن: أخيه، وأبي جعفر الباقِر، وفاطمة بنت علي بن أبي طالب. وروى عنه: وكيع، وأبو أسامة، وأبو نُعيم. وقال أبو زُرْعة: ثقة. وذكره ابن حِبّان في "الثقات". وقال أبو داود: بلغني أنه لا بأس به، وكأنه لم يرتضه. له في البخاري هذا الحديث وحده، المخرج متابعة. والخامس: الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب الهاشمي أبو محمد المدني، وأبوه يُعرف بابن الحنفيّة، وقد مرَّ في الحديث الخامس من هذا الكتاب أنه هو المعنى بقول القائل فيه: فقال رجل: ما يكفيني. ومرَّ تعريفه هناك. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وبالإفراد في موضع واحد، وفيه القول من اثنين في موضعين، ورواته ما بين بصري وكوفي ومدني. باب الغسل مرة واحدة قال ابن بطال: يُستفاد ذلك من قوله في الحديث: "ثم أفاض على جسده"؛ لأنه لم يقيِّد بعدد، فيُحمل على أقل ما يُسمى، وهو المرة الواحدة، لأن الأصل عدم الزيادة عليها. قلت: وهذا هو دليل المالكية على عدم ندبية التثليث في الغُسل.

الحديث العاشر

الحديث العاشر حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِى الْجَعْدِ عَنْ كُرَيْبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَتْ مَيْمُونَةُ: وَضَعْتُ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- مَاءً لِلْغُسْلِ، فَغَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا، ثُمَّ أَفْرَغَ عَلَى شِمَالِهِ فَغَسَلَ مَذَاكِيرَهُ، ثُمَّ مَسَحَ يَدَهُ بِالأَرْضِ، ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى جَسَدِهِ، ثُمَّ تَحَوَّلَ مِنْ مَكَانِهِ فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ. قوله: "فغسل يديه"، وللكُشميهني: "يديه". وقوله: "مرتين أو ثلاثًا" الشك من الأعمش كما في رواية أبي عَوانة عنه، وغفل الكِرماني، فقال: الشك من ميمونة وقوله: "مذاكيره" جمع ذكر على غير قياس، وكأنهم فرقوا بين العضو وبين خلاف الأنثى، قال الأخفش: هو من الجمع الذي لا واحد له، وقيل: واحده مذكار. قال ابن خَروف: إنما جمعه مع أنه ليس في الجسد إلا واحد، بالنظر إلى ما يتصل به، وأطلق على الكل اسمه. فكأنه جعل كل جزء من المجموع كالذكر في حكم الغسل، فيعم غسل الخصيتين وحواليهما معه. قلت: ويؤوَّل الحديث عند المالكية الذين لا يوجبون إلا غسل الذكر خاصة بأن اللفظ لما كان لا واحد له من لفظه. جيء به في موضع المفرد للأمن فيه من اللبس، للعلم بأن الإنسان ليس عنده إلا ذكر واحد. قال النووي: ينبغي للمغتسل من نحو إبريق أن يتفطن لدقيقة، وهي أنه إذا استنجى يعيد غسل محل الاستنجاء بنية الجنابة؛ لأنه إذا لم يغسل الآن ربما غفل عنه بعد ذلك، فلا يصح غسله لتركه بعض البدن، فإن تذكر احتاج لمس

رجاله ستة

فرجه، فينتقض وضوءه، أو يحتاج إلى تكلف لف خرقة على يده. قلت: يمكنه أن يغسِل محل الاستنجاء بنية الجنابة ابتداء، فيكفي لهما غسل واحد كما مرَّ. رجاله ستة: الأول: موسى بن إسماعيل مرَّ في الرابع من بدء الوحي. ومرَّ عبد الواحد بن زياد في الثلاثين من كتاب الإيمان. ومرَّ سُليمان بن مِهْران في السادس والعشرين منه. ومرَّ سالم بن أبي الجعد في السابع من كتاب الوضوء. ومرَّ كُرَبْب بن أبي مسلم في الرابع منه أيضًا. ومرت ميمونة رضي الله تعالى عنها في الثامن والخمسين من كتاب العلم. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في أربعة مواضع، والقول. والحديث أخرجه مسلم والأربعة، وقد مرَّ. باب من بدأ بالحِلاب أو الطيب عند الغُسل الحِلاب -بكسر الحاء المهملة، وتخفيف اللام، بوزن كتاب- ومن ضبطه بضم الجيم وتشديد اللام، أي: الجُلّاب، وهو ماء الورد، فارسي معرب، فقد أخطأ. والحِلاب إناء يسع قدر حَلْب ناقة، ووصفه أبو عاصم بأنه أقل من شبر في شبر، كما أخرجه أبو عوانة في "صحيحه" عنه، وفي رواية لابن حِبّان: وأشار أبو عاصم بكفيه، فكأنه حلَّق بشبريه يصف دوره الأعلى. وفي رواية للبيهقي: كقدر كوز يسع ثمانية أرطال. وقوله: "أو الطيب عند الغُسل" يعني: أو دعا بالطيب عند الغسل. وأولى ما فُسِّرت به هذه الترجمة المشكلة: هو أن يُقال: إن المصنف عقد هذا الباب لأحد الأمرين: الإناء والطيب، حيث أتى بـ"أو" الفاصلة دون الواو الواصلة، فوفى بذكر أحدهما، وهو الإناء، وكثيرًا ما يترجِمُ بشيء مشيرًا به إلى

حديث لم يذكره كما هنا. فقوله هنا: "من بدأ بالحلاب" معناه بإناء الماء الذي للغسل، فاستدعى به للغسل، أو من بدأ بالطيب عند إرادة الغسل، فالترجمة مترددة بين الأمرين، فدل حديث الباب على مداومته على البداءة بالغسل، وأما التطيب بعده فمعروف من شأنه، وأما البداءة بالطيب قبل الغسل فهو إشارة إلى حديث عائشة الآتي بعد أبواب: "أنا طيَّبْتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم طاف في نسائه، ثم أصبح محرمًا"، وفي رواية: "كأني انظر إلى وَبيص الطيب" أي: لمعانه "في مفرقه عليه الصلاة والسلام وهو محرِم"، فاستنبط المصنف الاغتسال بعد التطيب من قولها: "ثم طاف على نسائه"؛ لأنه كناية عن الجماع، ومِن لازمه الاغتسال، ولأن هذا عند الإحرام والغسل من سنن الإحرام، فعُرِف أنه اغتسل بعد أن تطيب، وبقي أثر الطيب بعد الغسل لكثرته؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان يحب الطيب ويُكْثِر منه.

الحديث الحادي عشر

الحديث الحادي عشر حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ حَنْظَلَةَ عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ دَعَا بِشَيْءٍ نَحْوَ الْحِلاَبِ، فَأَخَذَ بِكَفِّهِ، فَبَدَأَ بِشِقِّ رَأْسِهِ الأَيْمَنِ ثُمَّ الأَيْسَرِ، فَقَالَ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ. قوله: "إذا اغتسل" أي: أراد أن يغتسل. وقوله: "فأخذ بكفه" بالإفراد، وللكُشميهني: "بكفَّيْه" بالتثنية. وقوله: "فبدأ بشِقه" بكسر الشين المعجمة. وقوله: "فقال بهما" أي: بكفيه، وهذا يقوي رواية الكشميهني، وأطلق القول هنا على الفعل مجازًا، أي: قلب بكفيه على رأسه، وإطلاق القول على الأفعال وعلى غير الكلام كثير في كلام العرب، قال الشاعر: وقالَتْ لنا العَيْنانِ سمعًا وطاعةً أي: أومأت. وفي رواية مسلم لهذا الحديث بعد قوله: "الأيسر، ثم أخذ بكفيه، فقال بهما على رأسه"، فأشار بقوله: "أخذ بكفيه" إلى الغرفة الثالثة، كما صرحت به رواية أبي عوانة. وقوله: "على رأسه" لأبوي ذر والوقت والأصيلي: "على وسَط رأسه"، وهو بفتح السين، قال الجوهري: كل موضع صَلُح فيه بَيْن، بان يكون ذا أجزاء منفصلة، فهو بالسكون، وإن لم يصلُح فيه، بأن كان لا ينفَصِل ولا يتفرق، فهو بالتحريك، فالأول كقولك: اجعل هذه الخرزة وسْط السبحة، والياقوتة وسْط القِلادة، والثاني كقولك: احتجم وسَط الرأس، وأُجلس وسَط الدار. وسوّى

رجاله خمسة

بعض الكوفيين بينهما، فقال: هما ظرفان واسمان بمعنى. وفي الحديث استحباب البداءة بالميامن في التطهر، وبذلك ترجم عليه ابن خُزيمة والبيهقي، وفيه الاجتزاء في الغسل بثلاث غَرَفات، وترجم على ذلك ابن حِبّان، واستنبط من قولها: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم-" مداومته على ذلك، لأن هذه اللفظة تدل على الاستمرار والدوام، ويؤخذ من الترجمة استعمال الطيب عند الغسل، تأسِّيًا بالنبي -صلى الله عليه وسلم-. رجاله خمسة: الأول: محمد بن المثنّى المعروف بالزَّمِن، وقد مر في التاسع من كتاب الإيمان. ومرَّ أبو عاصم الضحّاك في الرابع من كتاب العلم. ومرَّ حنظلة بن أبي سفيان في الأول من كتاب الإِيمان. ومرت أم المؤمنين في الثاني من بدء الوحي. والرابع من السند: القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، أبو محمد، أمه أم ولد، إحدى بنات يزدَجُرد آخر ملوك الفرس، وتقدم في ترجمة زين العابدين أنهما كانا ابني خالة. قال البخاري: قُتل أبوه، وبقي في حِجْر عائشة رضي الله تعالى عنها. وقال ابن سعد: أمه أم ولد، يقال لها: سودة، وكان ثقة رفيعًا عالمًا فقيهًا إمامًا ورعًا كثير الحديث. وقال ابن حِبّان في ثقات التابعين: كان من سادات التابعين من أفضل أهل زمانه علمًا وأدبًا وفقهًا، وكان صموتًا، فلما ولي عمر بن عبد العزيز قال أهل المدينة: اليوم تنطِق العذراء، أرادوا القاسم. وهو أحد فقهاء المدينة السبعة المنظومة في قول الشاعر: ألا كل مَن لا يقتدي بأئمةٍ إلخ ما مرَّ وكان القاسم بن محمد يقول في سجوده: اللهم اغفر لأبي ذنبه في عثمان.

وقال الزُّبَيري والعِجْلي: كان من خيار التابعين. وقال العِجْلي: مدني تابعي ثقة نزيه رجل صالح. وقال ابن وَهْب: حدثني مالك أن عمر بن عبد العزيز قال: لو كان لي من هذا الأمر شيء ما عصبته إلا بالقاسم. وقال الزُّبير: ما رأيت أبا بكر ولد ولدًا أشبه من هذا الفتى. وقال يحيى بن سعيد: ما أدركنا بالمدينة أحدًا نفضله على القاسم. وقال أيوب: ما رأيت أفضل منه. وقال البخاري في "الصحيح": حدثنا علي، حدثنا ابن عُيينة، حدثنا عبد الرحمن بن القاسم، وكان أفضل أهل زمانه، أنه سمع أباه، وكان أفضل أهل زمانه. وقال أبو الزناد: ما رأيت أعلم بالنسبة منه، ولا أحدَّ ذِهنًا. وقال عُبيد الله بن عمر عن القاسم عن عائشة: ترجمة مشبكة بالذهب. وقال ابن عَوْن: كان القاسم وابن سِيرين ورجاء بن حَيْوة يحدَّثون بالحديث على حروفه. وقال خالد بن نزار: كان أعلم الناس بحديث عائشة ثلاثة: القاسم، وعُروة، وعَمْرة. وقال مالك: كان قليل الحديث والفُتيا. وقال ابن إسحاق: رأيت القاسم يصلي، فجاء أعرابي، فقال: أيُّما أعلم أنت أم سالم؟ فقال: سبحان الله. فكرر عليه، فقال: ذاك سالم فاسأله. قال ابن إسحاق: فكره أن يقول: أنا أعلم من سالم، فيزكي نفسه، وكره أن يقول: سالم أعلم مني، فيكذب. قال: وكان القاسم أعلمهما. وقال مالك: كان القاسم من فقهاء هذه الأمة، وكان ابن سِيرين يأمر من يَحُجُّ أن ينظر إلى هدي القاسم، فيقتدي به. روى عن: أبيه، وعمته عائشة، وعن العبادلة، وأبي هريرة، وعبد الله بن جعفر، وعبد الله بن خبّاب، ومعاوية، ورافع بن خُدَيْج، وصالح بن خوات، وغيرهم. وروى عنه: ابنه عبد الرحمن، والشعبي، وسالم بن عبد الله بن عمر، وهما من أقرانه، ويحيى وسعد ابنا سعيد الأنصاري، ونافع مولى ابن عمر، والزُّهري، وابن أبي مُلَيْكة، ومالك بن دينار، وخلق.

لطائف إسناده

مات بعد عمر بن عبد العزيز بسنة إحدى أو اثنتين ومئة بقديد، وقال: كفنوني في ثيابي التي كنت أصلي فيها: قميصي وإزاري وردائي. فقال له ابنه: يا أبتي ألا نزيد ثوبين؟ فقال: هكذا كُفِّن أبو بكر في ثلاثة أثواب، والحي أحوج إلى الجديد من الميت. وقُدَيْد -بالتصغير- منزل بين مكة والمدينة. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع، والإفراد في موضع، والعنعنة في ثلاثة مواضع، وفيه أن أبا عاصم من كبار شيوخ البخاري، وقد أكثر عنه في هذا الكتاب، لكنه نزل في هذا الإسناد، فأدخل بينه وبينه محمد بن المثنى، ورواته ما بين بصري ومكي وكوفي. أخرجه هنا، ومسلم وأبو داود والنسائي جميعًا في الطهارة عن محمد بن المثنى. باب المضمضة والاستنشاق في الجنابة أي: في غسل الجنابة، هل هما واجبتان فيه أم لا؟ وأشار ابن بطّال وغيره إلى أن البخاري استنبط عدم وجوبهما من هذا الحديث، لأن في رواية الباب الذي بعده في هذا الحديث: ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، فدل على أنهما للوضوء، وقام الإجماع على أن الوضوء في غُسل الجنابة غير واجب، والمضمضة والاستنشاق من توابع الوضوء، فإذا سقط الوضوء سقطت توابعه، ويُحمَل ما رُوي من صفة غسله -صلى الله عليه وسلم- على الكمال والفضل.

الحديث الثاني عشر

الحديث الثاني عشر حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ: حَدَّثَنِي سَالِمٌ عَنْ كُرَيْبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حَدَّثَتْنَا مَيْمُونَةُ قَالَتْ صَبَبْتُ لِلنَّيِىِّ -صلى الله عليه وسلم- غُسْلاً، فَأَفْرَغَ بِيَمِينِهِ عَلَى يَسَارِهِ فَغَسَلَهُمَا، ثُمَّ غَسَلَ فَرْجَهُ، ثُمَّ قَالَ بِيَدِهِ الأَرْضَ فَمَسَحَهَا بِالتُّرَابِ، ثُمَّ غَسَلَهَا، ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ، وَأَفَاضَ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ تَنَحَّى فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ، ثُمَّ أُتِيَ بِمِنْدِيلٍ، فَلَمْ يَنْفُضْ بِهَا. قوله: "غُسلًا" بضم أوله، أي: ماء الاغتسال كما مرَّ في باب الغسل. وقوله: "ثم قال بيده الأرض" كذا في رواية، وللأكثر: "بيده على الأرض"، وهو من إطلاق القول على الفعل، كما مر، أي: ضرب، كما في رواية أبي حمزة عن الأعمش في هذا الموضع: "فضرب بيده الأرض"، وقد وقع إطلاق الفعل على القول عكس ما هنا في حديث: "لا حسد إلاَّ في اثنتين"، قال فيه في الذي يتلو القرآن: "لو أوتيت مثل ما أُوتي هذا لفعلت مثل ما يفعل". وقوله: "ثم تمضمض واستنشق" أي: طلبًا للكمال المستلزم للثواب، وقد مرَّ الكلام عليهما وعلى قول الحنفية بوجوبهما. وقوله: "ثم تنحى" أي: تحول إلى ناحية. وقوله: "بمِنْديل" بكسر اللام. وقوله: "فلم ينفُض بها" بضم الفاء، وفي رواية: "فلم ينتفِض" بمثناة فوقية بعد النون، وأنث الضمير على معنى الخِرْقة؛ لأن المنديل خرقة مخصوصة، وزاد هنا في رواية كريمة: "قال أبو عبد الله: يعني لم يتمسح به"، أي: بالمنديل

رجاله سبعة

من بلل الماء. وقد استوفيت مباحث هذا الحديث في باب الوضوء قبل الغسل عند ذكره هناك. رجاله سبعة: الأول: عمر بن حفص بن غِياث -بكسر المعجمة- ابن طَلْق بن مُعاوية النَّخَعي أبو حفص الكوفي. روى عن: أبيه، وابن إدريس، وأبي بكر بن عيّاش، ومسكين بن بُكَيْر. وروى عنه: البخاري، ومسلم، وروى أبو داود والنسائي والترمذي له بواسطة محمد بن الحسن السَّمْناني، وروى هارون الحمال، ومحمد بن يحيى الذُّهلي، وآخرون. وقال العجلي وأبو حاتم وأبو زُرعة: ثقة. وقال أحمد: صدوق. وذكره ابن حِبّان في "الثقات"، وربما أخطأ. وقال أبو داود: تبعته إلى منزله، ولم أسمع منه شيئًا. مات سنة ست وعشرين ومئتين. والثاني: أبوه حفص بن غياث بن طَلْق بن مُعاوية بن مالك بن الحارث بن ثعلبة النَّخَعي أبو عمر الكوفي قاضيها وقاضي بغداد أيضًا. قال ابن كامل: ولاه الرشيد قضاء الشرقية ببغداد، ثم عزله، وولاه قضاء الكوفة. قال ابن مَعين: ثقة صاحب حديث، له معرفة. وقال العجلي: ثقة مأمون فقيه، كان وكيع ربما سُئِل عن الشيء فيقول: اذهبوا إلى قاضينا فسلوه. وقال يعقوب: ثقة ثَبْت إذا حدث من كتابه، ويتقى بعض حفظه. وقال ابن خِراش: بلغني أن علي بن المديني قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: أوثق أصحاب الأعمش حفص بن غياث، فأنكرت ذلك، ثم

قدمت الكوفة بأَخَرة، فأخرج إلى عمر بن حفص كتاب أبيه عن الأعمش، فجعلت أترحم على يحيى. وقال ابن نُمَيْر: كان حفص أعلم بالحديث من ابن إدريس. وقال أبو زُرعة: ساء حفظه بعدما استقضى، فمن كتب عنه من كتابه فهو صالح، وإلا فهو كذا. وقال أبو حاتم: حفص أتقن وأحفظ من أبي خالد الأحمر. وقال النَّسائي وابن خِراش: ثقة. وقال ابن مَعين: حفص أتقن وأحفظ من أبي خالد الأحمر، وجميع ما حدث به ببغداد من حفظ. وقال أبو داود: كان ابن مَهدي لا يقدم بعد الكبار من أصحاب الأعمش غير حفص بن غياث. وقال العِجْلي: ثبت فقيه البدن. وقال محمد بن الحُسَيْن البغدادي: قلت لأبي عبد الله: مَن أثبت عندك شُعبة أو حفص بن غياث في جعفر بن محمد؟ فقال: ما منهما إلا ثبت، وحفص أكثر رواية، والقليل من شُعبة كثير. وقال ابن سعد: كان ثقة مأمونًا كثير الحديث يدلِّس. وقال أبو داود: كان حفص بأخرة دَخَلَهُ نسيانٌ، وكان يحفظ. وقال ابن رشيد: حفص كثير الغلط. وقال ابن عمار: كان لا يحفظ حسنًا، وكان عسِرًا. وقال أبو بكر بن أبي شَيْبة: سمعت حفص بن غياث يقول: والله ما وليت القضاء حتى حلَّت لي الميتة، ولم يخفف درهمًا يوم مات، وخلَّف عليه الدين، وكان يُقال: خُتِم القضاء بحفص. وقال يحيى بن يحيى بن الليث بعد أن ساق قصة من عدله في قضائه: كان أبو يوسف لما ولي حفص، قال لأصحابه: تعالَوا نكتب نوادر حفص. فلما وردت قضاياه عليه، قال أصحابه: أين النوادر؟ فقال: ويحكم، إن حفصًا أراد الله تعالى فوفَّقَه. وقال الأثرم عن أحمد: إن حفصًا كان يدلِّس. ومما أُنكر على حفص حديثه عن عُبيد الله عن نافع عن ابن عمر: "كنا نأكلُ ونحن نمشي". قال ابن مَعين: تفرد حفص فيه، وما أراه إلا وهم فيه. وقال ابن المديني: انفرد حفص نفسه بروايته، وإنما هو حديث أبي البزري. قال ابن حجر: اعتمد البخاري على

لطائف إسناده

حفص هذا في حديث الأعمش، لأنه كان يميِّز بين ما صرَّح به الأعمش بالسماع وبين ما دلَّس فيه. روى حفص عن: جده، وإسماعيل بن أبي خالد، وأشعث الحراني، وعاصم الأحول، وهشام بن عُروة، والأعمش، والثوري، وغيرهم. وروى عنه: أحمد، وإسحاق، وعلي، وابنا أبي شيبة، وابن معين، وأبو نُعيم، ويحيى بن يحيى النيسابوري، ويحيى القطان وهو من أقرانه. مات في عشر ذي الحجة سنة خمس أو ست وتسعين ومئة. الثالث: سليمان بن مِهران مرَّ في السادس والعشرين من كتاب الإيمان. ومرَّ كُرَيْب في الرابع من كتاب الوضوء. ومرَّ عبد الله بن عباس في الرابع من بدء الوحي. ومرَّ سالم بن أبي الجَعْد في السابع من كتاب الوضوء أيضًا. ومرت ميمونة في الثامن والخمسين من كتاب العلم. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في أربعة مواضع، وبصيغة الإفراد في موضع واحد، والعنعنة في موضعين، وفيه رواية تابعي عن تابعي، وصحابي عن صحابية، ورواته ما بين كوفي ومدني، وفيه: حدّثنا عمر بن حفص بن غياث في رواية الأكثرين، وفي رواية الأصيلي: حدّثنا عمر بن حفص، أي: ابن غياث باب مسح اليد بالتراب لتكون أنقى أي: لتصير اليد أنقى منها قبل المسح.

الحديث الثالث عشر

الحديث الثالث عشر حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِى الْجَعْدِ عَنْ كُرَيْبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ، فَغَسَلَ فَرْجَهُ بِيَدِهِ، ثُمَّ دَلَكَ بِهَا الْحَائِطَ ثُمَّ غَسَلَهَا، ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلاَةِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ غُسْلِهِ غَسَلَ رِجْلَيْهِ. قوله: "فغسل فرجه" هذه الفاء تفسيرية وليست تعقيبية؛ لأن غسل الفرج لم يكن بعد الفراغ من الاغتسال، فهو تفسير لاغتسل. وقال العيني: الفاء عاطفة، ولكنها للترتيب المستفاد من ثم الدالة عليه. قال: والمعنى أنه عليه الصلاة والسلام اغتسل، فرتب غسله، فغسل فرجه، ثم يده، ثم توضأ. وكون الفاء للتعقيب لا يخرجها عن كونها عاطفة. فإن قلت: سياق المؤلف لهذا الحديث تكرار؛ لأن حكمه عُلِمَ من السابق. أجيب بأن غرض المؤلف بمثله استخراج روايات الشيوخ، مثلًا عمر بن حفص روى الحديث في معرض المضمضة والاستنشاق في الجنابة، والحميدي في معرض مسح اليد بالتراب، وهذا مع إفادة التقوية والتأكيد، وحينئذ فلا تكرار في سياقه له. رجاله سبعة: الأول: الحميدي، والثاني: سفيان بن عُيينة، وقد مرَّا في الأول من بدء الوحي. ومر عبد الله بن عباس في الخامس منه. ومر الأعمش سليمان بن مِهْران في السادس من كتاب الإيمان. ومرَّ سالم بن أبي الجَعْد في السابع من كتاب الوضوء. ومرَّ كُرَيْب في

لطائف إسناده

الرابع منه أيضًا. ومرت ميمونة رضي الله تعالى عنها في الثامن والخمسين من كتاب العلم. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، وفيه العنعنة في أربعة مواضع، وفيه في رواية الأكثرين: حدّثنا الحميدي، وفي بعضها: حدّثنا عبد الله بن الزُّبير الحميدي، وفي بعضها: حدّثنا الحميدي عبد الله بن الزُّبير. باب هَلْ يُدْخِلُ الجُنُبُ يَدَهُ في الإِناءِ قبلَ أنْ يَغسِلَها إذَا لمْ يكنْ عَلَى يَدِهِ قَذَرٌ غيرُ الجَنَابِةِ. قوله: "في الإناء" أي: الذي فيه ماء الغسل، قبل أن يغسلها خارج الإناء، إذا لم يكن على يده قَذَر من نجاسة وغيرها. "غير الجنابة" أي: حكمها. قال المهلب: أشار البخاري إلى أن يد الجنب إذا كانت نظيفة جاز له إدخالها الإناء قبل أن يغسلها؛ لأنه ليس شيء من أعضائه نجِسًا بسبب كونه جنبًا. وأَدْخَلَ ابنُ عُمَرَ والبَرَاءُ بنُ عَازِبٍ يَدَهُ في الطَّهُورِ ولمْ يَغْسِلْهَا ثُمَّ تَوَضَّأ. قوله: "يده" بالإفراد، أي: أدخل كل واحد منهما يده. وفي رواية أبي الوقت: "يديهما" بالتثنية. وقوله: "في الطَّهور" بفتح أوله، أي: الماء المعد للاغتسال. وقوله: "ولم يغسلها ثم توضأ" أي: كل واحد منهما، ولأبي الوقت: "توضأا" بالتثنية على الأصل، وفي بعض النسخ: "يديهما ولم يغسلاهما، ثم توضأا بالتنثية في الكل.

وروى عبد الرزاق عن ابن عمر أنه كان يغسل يده قبل التطهر، ويجمع بينهما بأن ينزلا على حالين، فحيث لم يغسل كان متيقنًا أن لا قذر في يده، وحيث غسل كان ظانًّا أو متيقنًا أن فيها شيئًا، أو غسل للندب، وترك للجواز. وأخرج ابن أبي شَيْبة عن الشعبي قال: كان أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يُدخلون أيديهم الماء قبل أن يغسلوها. وهم جنب. وأثر ابن عمر وصله سعيد بن منصور بمعناه، وعبد الله مرَّ في أول كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه. وأثر البراء وصله ابن أبي شيبة في "مصنفه" بلفظ: إنه أدخله في المطهرة قبل أن يغسلها. والبراء بن عازب مرَّ في الرابع والثلاثين من كتاب الإيمان أيضًا. ولَمْ يَرَ ابنُ عُمَرَ وابنُ عباسٍ بأسًا بما يَنْتَضِحُ مِنْ غُسْلِ الجَنَابَةِ. أي: في الإناء الذي يغتسل فيه. ووجه الاستدلال به للترجمة هو أن الجنابة الحكمية لو كانت تؤثر في الماء لامتنع الاغتسال من الإناء الذي تقاطر فيه ما لاقى بدن الجنب من ماء اغتساله. ويمكن أن يقال: إنما لم ير الصحابي بذلك بأسًا؛ لأنه مما يشق الاحتراز منه، فكان في مقام العفو كما روى ابن أبي شَيْبة عن البصري قال: ومن يملك انتشار الماء؟ إِنا لنرجو من رحمة الله ما هو أوسع من هذا. أما أثر ابن عمر فوصله عبد الرزاق بمعناه، وابن عمر مرَّ في أول كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه. وأما أثر ابن عباس فقد رواه ابن أبي شَيْبة وعبد الرزاق من وجه آخر عنه، ومرَّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي.

الحديث الرابع عشر

الحديث الرابع عشر حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَفْلَحُ عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَالنَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ تَخْتَلِفُ أَيْدِينَا فِيهِ. قوله: "أنا والنبي" بالرفع عطفًا على المرفوع في: "كنت"، وأبرز الضمير المنفصل ليصح العطف عليه، وبالنصب مفعول معه، فتكون الواو للمصاحبة، أي: اغتسل مصاحبة له. وقوله: "تختلف أيدينا فيه" أي: من الإدخال فيه والإخراج منه، تعني أنه كان يغترف تارةً قبلها، وتغترف هي تارة قبله. وزاد مسلم في آخره: "من الجنابة"، أي: لأجلها. ولمسلم أيضًا عنها: "فيُبادِرني حتى أقول: دع لي". وللنسائي: "وأبادره حتى يقول: دعي لي". وجملة: "تختلف ... إلخ" حالية من قوله: "من إناء واحد"، والجملة بعد المعرفة حال، وبعد النكرة وصف، والإناء هنا موصوف، فله حكم المعرفة. ومطابقة الحديث للترجمة هو أن الجنب لما جاز له أن يدخل يده في الماء قبل أن يغسلها إذا لم يكن عليها قَذَر، لقولها: "تختلف أيدينا فيه"، واختلافها فيه لا يكون إلا بعد الإدخال، دل ذلك على أنه غير مفسد للماء إذا لم يكن عليها ما ينجس يقينًا، وإن الأمر بغسل يده قبل إدخالها في الإناء ليس لأمر يرجِعً إلى الجنابة، بل إلى ما لعله يكون بيده من نجاسة متيَقَّنة أو مظنونة. وفي هذا الحديث جواز اغتراف الجُنُب من الماء القليل، وأن ذلك لا يمنع من التطهُّر بذلك الماء، ولا بما يفضُل منه. ويدل على أن النهي عن انغماس الجنب في الماء الدائم إنما هو للتنزيه، كراهية أن يُستقذر، لا لكونه يصير نجسًا

رجاله أربعة

بانغماس الجُنب فيه؛ لأنه لا فرق بين جميع بدن الجنب وبين عضو من أعضائه. وقد مرَّ هذا المتن في باب: غسل الرجل مع امرأته من طريق أخرى، مع مغايرة في بعض المتن، ومرت مباحثه هناك. رجاله أربعة: الأول: عبد الله بن مَسْلمة القَعْنَبي مرَّ في الثاني عشر من كتاب الإيمان. ومرَّ القاسم بن مُحمد بن أبي بكر في الحادي عشر من هذا الكتاب. ومرَّت عائشة في الثاني من بدء الوحي. الثاني من السند: أفلح بن حُميد بن نافع الأنصاري النّجّاري مولاهم أبو عبد الرحمن المدني، يقال: ابن صُفَيْراء. روى عن: القاسم بن محمد، وأبي بكر بن أبي حزم، وسُليمان بن عبد الرحمن، وغيرهم. وروى عنه: ابن وَهْب، وأبو عامر العَقَدي، وابن فُدَيْك، ووكيع، وأبو نُعيم، وحمّاد بن زَيْد، والثوري، وغيرهم. والقعنبي هو آخر من حدث عنه. قال ابن مَعين ثقة. وقال أحمد: صالح. وقال أبو حاتم: ثقة لا بأس به. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث. وقال ابن حِبّان في "الثقات": كان مكفوفًا. وقال ابن صاعِد: كان أحمد يُنكر على أفلح قوله: "ولأهل العراق ذات عِرق". قال ابن عدي: ولم ينكر أحمد سوى هذه اللفظة، وقد تفرد بها عن أفلح مُعافى، وهو عندي صالح، وأحاديثه أرجو أن تكون مستقيمة. وقال أبو داود عن أحمد: روى أفلح حديثين منكرين: "إن النبي -صلى الله عليه وسلم- أشعر"، وحديث: "وقَّت لأهل العراق ذات عِرق". قال ابن حجر: لم يخرِّج له البخاري شيئًا من هذا، بل له عنده واحد في الطهارة، وثلاثة في الحج، ورابع في الحج أيضًا علقه. ووافقه مسلم على تخريج الخمسة، وكلها عندهما عنه، عن القاسم، عن عائشة.

لطائف إسناده

مات سنة ثمان وخمسين ومئة. وقيل: سنة خمس وستين. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وفي رواية كريمة في موضع واحد، وفيه العنعنة في موضعين، ورواته كلهم مدنيون، أخرجه البخاري هنا، ومسلم في الطهارة عن عبد الله بن مَسْلمة نحوه.

الحديث الخامس عشر

الحديث الخامس عشر حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ غَسَلَ يَدَهُ. قوله: "غسل يده" هكذا أورده مختصرًا، وقد أورده أبو داود تامًّا بهذا السند، لكن قال: "يديه" بالتثنية. وزاد: "يصُبُّ على يده اليمنى" أي: من الإناء، "فيغسل فرجه، يفرغ على شماله، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة ... الحديث". وسيأتي نحوه من وجوه أُخر في باب تخليل الشعر. قال المهلب: حمل البخاري أحاديث الباب التي لم يُذكر فيها غَسْل اليدين قبل إدخالهما على حال تيقن نظافة اليد، وحديث هشام هذا على ما إِذا خشي أن يكون قد علق بها شيء، فاستعمل من اختلاف الحديثين ما جمع بينهما ونفى التعارض عنهما. ويمكن أن يحمل الفعل على الندب، والترك على الجواز. قلت: وهذا هو مذهب مالك أو يقال: حديث الترك مطلق والفعل مقيد فيحمل المطلق على المقيد؛ لأن في رواية الفعل زيادة لم تُذكر في الأخرى، وقد مرَّ أكثر هذا قريبًا في الجمع بين أثري ابن عمر. رجاله خمسة: الأول: مُسَدَّد بن مُسَرْهَد، وقد مرَّ في السادس من كتاب الإيمان. والثاني: حمّاد بن زَيْد، لأنَّ مسدَّدًا لم يسمع من ابن سلمة. وقد مرَّ في الخامس والعشرين من كتاب الإيمان ومر هشام بن عُروة وأبوه عُروة وعائشة رضي الله تعالى عنها في الثاني من بدء الوحي.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعمة في ثلاثة مواضع. أخرجه البخاري هنا مختصرًا، وأخرجه أبو داود في الطهارة عن سُليمان بن حَرْب ومسدَّد، كلاهما عن حمّاد مطوّلًا.

الحديث السادس عشر

الحديث السادس عشر حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَفْصٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ: "كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَالنَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ مِنْ جَنَابَةٍ". وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ مِثْلَهُ. قوله: "كنتُ أغتسل أنا والنبي" قد مرَّ قريبًا ما في "النبي" من الإعراب. وقوله: "من جنابة" للكشميهني: "من الجنابة" أي: لأجل الجنابة. وقوله: "وعن عبد الرحمن بن القاسم" هو معطوف على قوله: "عن أبي بكر"، فلشُعبة فيه إسنادان إلى عائشة، حدثه أحد شيخيه به عن عروة، والآخر عن القاسم. وقد وهم من زعم أن رواية عبد الرحمن معلقة. وقد أخرجها أبو نُعيم والبيهقي بالإسنادين عن أبي الوليد، وقالا: أخرجه البخاري عن أبي الوليد بالإِسنادين جميعًا، وكذا قال أبو مسعود وغيره في الأطراف. وقوله: "مثله" أي: مثل المتن المذكور، وهو بالنصب والرفع، وللأصيلي: "بمثله" بزيادة باء موحدة في أوله. رجاله سبعة: الأول: أبو الوليد هشام بن عبد الملك، وقد مرَّ في العاشر من كتاب الإيمان. ومرّ شُعبة في الثالث منه. ومرَّ عُروة وعائشة في الثاني من بدء الوحي. ومرَّ أبو بكر بن حفص في الرابع من كتاب الغُسل. ومرَّ القاسم بن محمد في الحادي عشر منه أيضًا. والسابع: عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق التيمي

لطائف إسناده

أبو محمد المدني. ولد في حياة عائشة، وأمه قُرَيْبة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق. قال مصعب الزُّهري: كان من خيار المسلمين، وكان له قدر في أهل المشرق. وقال ابن عُيينة: حدثنا عبد الرحمن بن القاسم، وكان أفضل أهل زمانه. وقال مرة: سمعت عبد الرحمن بن القاسم، وما بالمدينة يومئذٍ أفضل منه. وقال مالك: لم يخلُفْ أحدٌ أباه في مجلسه إلا عبد الرحمن. وقال أحمد: ثقة ثقة. وقال العجلي وأبو حاتم والنسائي: ثقة. وقال الواقِدي: كان ثقة ورعًا كثير الحديث. وقال ابن حِبّان في الثقات: كان من سادات أهل المدينة فقهًا وعلمًا ودِيانة وفضلًا وحفظًا وإتقانًا. روى عن: أبيه، وابن المسيِّب، وعبد الله بن عبد الله بن عمر، وسالم بن عبد الله، ونافع مولى ابن عمر، وغيرهم. وروى عنه: سِماك بن حرب، والزُّهري، وعبيد الله بن عمر، وابن عَجْلان، وهشام بن عُروة، وموسى بن عُقبة، ومالك، وشُعبة، والثوري، والأوزاعي، والليث، وابن جُريج، وغيرهم. مات وهو قاصد إلى الوليد بن يزيد بالفدين من أرض الشام سنة ست وعشرين ومئة. وقيل: سنة واحد وثلاثين. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في ثلاثة مواضع. أخرجه البخاري هنا عن أبي الوليد بإسنادين، والنسائي في الطهارة عن محمد بن عبد الأعلى.

الحديث السابع عشر

الحديث السابع عشر حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَبْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَالْمَرْأَةُ مِنْ نِسَائِهِ يَغْتَسِلاَنِ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ. زَادَ مُسْلِمٌ وَوَهْبٌ عَنْ شُعْبَةَ: مِنَ الْجَنَابَةِ. هذا إسناد ثالث لأبي الوليد عن شُعبة في هذا المتن، لكن من طريق صحابي آخر. وقوله: "والمرأة" يجوز فيه الرفع على العطف، والنصب على المعية، واللام فيها للجنس. وقوله: "زاد مسلم ووهب" في رواية الأصيلي، وأبي الوقت: "ابن جرير" أي: ابن حازم. ووقع في رواية أبي ذر: "وُهَيْب" بالتصغير، وهو وهم. فإن الحديث موجود في رواية وَهْب بن جرير، ولم يوجد في رواية وُهَيْب بن خالد ووهب بن جرير من الرواة عن شُعبة، أما وُهَيْب فهو من أقرانه. ومراد البخاري أن مسلم بن إبراهيم وَوَهْب بن جرير رويا هذا الحديث عن شُعبة بهذا الإسناد الذي رواه به أبو الوليد عنه، وفي آخره زيادة: "من الجنابة"، وقد أخرجه الإسماعيلي من رواية وَهْب بن جرير بدون هذه الزيادة. وقد قيل: إن هذا من التعاليق، لأن البخاري حين وفاة وَهْب بن جرير كان ابن اثنتي عشرة سنة، والظاهر أنه سمعه منه، وإدخاله في سلك مسلم يدل عليه. رجاله ستة: الأول: أبو الوليد الطيالسي، مرَّ هو وعبد الله بن عبد الله بن جبر في العاشر من كتاب الإيمان. ومرَّ شعبة في الثالث منه. ومرَّ أنس بن مالك في السادس

لطائف إسناده

منه أيضًا. ومسلم بن إبراهيم الفراهدي قد مرَّ في الثامن والثلاثين من كتاب الإيمان أيضًا ووهب بن جرير قد مرَّ في الخامس والأربعين من كتاب الوضوء. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في موضع واحد، وفيه السماع والقول، وهذا الحديث من أفراد البخاري. باب تفريق النُسل والوضوء أي: جوازه، وهو مذهب أبي حنيفة، وقول الشافعي في الجديد: إن الموالاة سنة، واحتج لذلك بأن الله تعالى أوجب غسل أعضائه، فمن غسلها فقد أتى بما وَجَبَ عليه، فرقها أو نسيها، ثم أيَّد ذلك بفعل ابن عمر الآتي قريبًا، وبهذا قال ابن المسيِّب، وعطاء، وجماعة، وفي القديم للشافعي وجوبها، لحديث أبي داود أنه عليه الصلاة والسلام رأى رجلًا يصلي وفي ظهر قدمه لمعة كالدرهم لم يصبها الماء، فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة. لكن قال في "شرح المهذب": إنه ضعيف. وعند المالكية فيها قولان: قيل: إنها واجبة مع الذكر والقدرة، ساقطة مع النسيان والعجز، لكنه مع النسيان إذا تذكر يبني مطلقًا ما دام متوضئًا، ومع العجز يبني مع القرب بان لا يحصُل قدر جفاف الأعضاء. وقيل: إِنها سنة مطلقًا، وفيها عندهم تفصيل طويل. وقال قتادة والأوزاعي: لا يعيد إلا إن جف. وأجازه النخعي مطلقًا في الغسل دون الوضوء. وقال ابن المنذر: ليس مع من جعل الجفاف حدًّا لذلك حجة. وقال الطحاوي: الجفاف ليس يحدث فينقض، كما لو جف جميع أعضاء الوضوء لم تبطُل الطهاوة. ويُذْكَرُ عنِ ابنِ عُمَرَ أَنَّهُ غَسَلَ قَدَمَيْهِ بَعْدَمَا جَفَّ وَضُوؤه. بفتح الواو، أي: الماء الذي توضأ به، وفي نسخة بضمها. والحافظ الأثر هو: "إنه توضأ في السوق، فغسل وجهه ويديه، ومسح برأسه، ثم دُعيَ إلى جنازة، فدخل المسجد ليصلي عليها، فمسح خفيه، ثم صلى عليها". وإسناده صحيح. فلعل البخاري إنما ذكره بصيغة التمريض ولم يجزم به لكونه ذكره

بالمعنى. وقال الشافعي: لعله قد جف وضوؤه؛ لأن الجفاف قد يحصُل بأقل مما بين السوق والمسجد. وعبد الله بن عمر مرَّ في أول كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه، وأثر هذا وصله البيهقي في "المعرفة"، والشافعي في "الأم" عن مالك، عن نافع، عنه، باللفظ السابق.

الحديث الثامن عشر

الحديث الثامن عشر حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَحْبُوبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ قَالَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِى الْجَعْدِ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَتْ مَيْمُونَةُ: وَضَعْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَاءً يَغْتَسِلُ بِهِ، فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ، فَغَسَلَهُمَا مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا، ثُمَّ أَفْرَغَ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ، فَغَسَلَ مَذَاكِيرَهُ، ثُمَّ دَلَكَ يَدَهُ بِالأَرْضِ، ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ ثُمَّ غَسَلَ رَأْسَهُ ثَلاَثًا، ثُمَّ أَفْرَغَ عَلَى جَسَدِهِ، ثُمَّ تَنَحَّى مِنْ مَقَامِهِ فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ. قوله: "وضعت لرسول الله" في رواية الأصيلي: "للنبي" وقد مرَّ هذا المتن في باب الغُسل مرة واحدة، وسياقهما واحد غالبًا إلا في قليل من الألفاظ، سأنبه عليه. وقوله: "ماء يغتَسِل به "في الرواية المارة: "ماء للغسل". وقوله: "ثم دلك يده بالأرض" في الرواية السابقة: "ثم مسح يده بالأرض". وقوله: "وغسل رأسه ثلاثًا"، قال القسطلاني: الظاهر عوده لجميع الأفعال السابقة، ويُحتمل عوده للأخير فقط، وهو يناسب مذهب الحنفية من أن القيد المتعقِّب لجُمُلٍ يعود على الأخيرة. وقال الشافعية: يعود على الكل. قلت: هذا الخلاف غير وارد هنا؛ لأن تخصيص الرأس بالغسل ثلاثًا مصرَّح به في الروايات السابقة، كرواية جابر: "كان يُفرغ على رأسه ثلاثًا"، فيجب حمل ما هنا على ما وقع فيه التصريح، توفيقًا بين الروايات، فلا يجري هنا الخلاف المذكور.

رجاله سبعة

وقوله: "ثم أفرغ على جسده" في السابقة: "ثم أفاض على جسده". وقوله: "ثم تنحَّى من مقامه" في السابقة: "ثم تحوَّل من مكانه"، وهما بمعنى. وأبدى الكرماني من هذا احتمال أن يكون اغتسل قائمًا. وقد مرَّ باقي المباحث في السابقة. رجاله سبعة: الأول: محمد بن محبوب البُناني أبو عبد الله البصري. قال أبو داود: سمعت ابن مَعين يُثني عليه، ويقول: هو كيِّس صادق كثير الحديث. قال يحيى: وكان أكيس في الحديث من مُسَدَّد، وكان مُسَدَّد خيرًا منه. وقال الآجُريّ: قلت لأبي داود: كان يرى شيئًا من القدر؟ فقال: ضعيفٌ القول فيه. وذكره ابن حِبّان في "الثقات". روى عن: الحمادَيْن، وحفص بن غِياث، وعبد الواحد بن زياد، وأبي عَوانة، وسلام بن أبي مُطيع، وغيرهم. وروى عنه: البخاري سبعة أحاديث، وروى عنه أيضًا أبو داود، وروى النسائي عن عمرو بن منصور عنه. وروى عنه محمد بن يحيى الذُّهلي، ويعقوب بن سُفيان، وآخرون. مات سنة ثلاث وعشرين ومئتين. والبُناني في نسبه مرَّ في الثامن من الإيمان. والثاني: عبد الواحد بن زياد، مرَّ في الثلاثين من كتاب الإيمان. ومرَّ الأعمش في السادس والعشرين منه. ومرَّ سالم بن أبي الجعد في السابع من كتاب الوضوء ومرَّ كُرَيْب في الرابع منه. ومرَّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي. ومرت ميمونة في الثامن والخمسين من كتاب العلم. وتقدم هذا الحديث وذكر المواضع التي أخرج فيها. باب من أفرغ بيمينه على شماله في الغُسل هذا الباب مقدَّم عند الأصيلي وابن عساكر على الذي قبله، واعتُرض على

المصنف بأن الترجمة أعم من الدليل، والجواب أن ذلك في غَسْل الفرج بالنص، وفي غيره بما عُرف من شأنه أنه كان يحب التيامن كما مر، ومحله هنا فيما إذا كان يغترف من الإناء، أما إذا كان ضيقًا كالقُمقم فإنه يضعه عن يساره، ويصب الماء منه على يمينه.

الحديث التاسع عشر

الحديث التاسع عشر حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ قَالَتْ: وَضَعْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- غُسْلاً وَسَتَرْتُهُ، فَصَبَّ عَلَى يَدِهِ، فَغَسَلَهَا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ. قَالَ سُلَيْمَانُ: لاَ أَدْرِي أَذَكَرَ الثَّالِثَةَ أَمْ لاَ ثُمَّ أَفْرَغَ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ، فَغَسَلَ فَرْجَهُ، ثُمَّ دَلَكَ يَدَهُ بِالأَرْضِ أَوْ بِالْحَائِطِ، ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ، وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، وَغَسَلَ رَأْسَهُ، ثُمَّ صَبَّ عَلَى جَسَدِهِ، ثُمَّ تَنَحَّى فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ، فَنَاوَلْتُهُ خِرْقَةً، فَقَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا، وَلَمْ يُرِدْهَا. هذا الحديث مرَّ في باب الغُسل مرة من رواية موسى بن إسماعيل، لكن شيخه هناك عبد الواحد، وهنا أبو عَوانة. وقوله: "وسَتَرْتُه" زاد ابن فُضَيل عن الأعمش: "بثوب"، والواو فيه حالية، أي: غطيت رأسه. وقوله: "فصب على يده" قيل: هو معطوف على محذوف، أي: فأراد الغُسل، فكشف رأسه، فأخذ الماء، فصب على يده. ويُحتمل أن يكون الوضع معقبًا بالصب على ظاهره، والإرادة والكشف يمكن كونهما وقعا قبلى الوضع، والأخذ هو عين الصب هنا، والمعنى وضعت له ماء، فشرع في الغُسل، ثم شرحت الصفة. وقوله: "قال سليمان: لا أدري أَذَكر الثالثة أم لا" سُليمان هو الأعمش. وقائل ذلك أبو عَوانة، وفاعل أذَكر سالم بن أبي الجَعْد. وقد مرت رواية عبد الواحد عن الأعمش: "فغسل يديه مرتين أو ثلاثًا". ولابن فُضَيْل عن

رجاله سبعة

الأعمش: "فصب على يديه ثلاثًا" ولم يشد. أخرجه أبو عَوانة في "مستخرجه". ويجمع بينهما بأن الأعمش كان يشُكُّ فيه، فتذكر، فجزم؛ لأن سماع ابن فُضَيْل منه متأخر. وقوله: "ثم تمضمض"، وللأصيلي: "مضمض" بغير تاء، "وغسل قدميه". كذا لأبي ذر، وللأكثر: "فغسل" بالفاء. وقوله: "فقال بيده هكذا" أي: أشار لا أتناولها، وهو من إطلاق القول على الفعل كما مر. وقوله: "ولم يُرِدْها" بضم أوله وإسكان الدال، من الإرادة، والأصل يريدها، لكن جُزِم بلم، ومن قالها بفتح أوله وتشديد الدال فقد صحَّف وأفسد المعنى. وقد رواه أحمد عن أبي عَوانة بهذا الإسناد، وقال في آخره: "فقال: هكذا، وأشار بيده أن لا أريدها"، وفي رواية أبي حمزة عن الأعمش: "فناولته ثوبًا، فلم يأخذه" وقد مر الكلام على حكم التنشيف مستوفى، وعلى سائر مباحث هذا الحديث عند ذكره في باب الوضوء قبل الغسل. رجاله سبعة: الأول: موسى بن إسماعيل، والثاني: أبو عَوانة وقد مرَّا في الرابع من بدء الوحي، وكذلك عبد الله بن عباس .. ومرَّ الأعمش سليمان بن مِهْران في السادس والعشرين من كتاب الإِيمان. ومرَّ سالم بن أبي الجعد في السابع من كتاب الوضوء، ومرَّ كُريب مولى ابن عباس في الرابع منه. ومرت ميمونة في الثامن والخمسين من كتاب العلم، وهذا الحديث مرَّ أيضًا مع الذي قبله. باب إذا جَامَعَ ثم عاد ومن دار على نسائه في غُسْلٍ واحد قوله: "جامع" أي: الرجل امرأته أو أمته.

وقوله: "عاد" أي: ما حكمه؟ وللكُشْمِيهني: "عاودَ" أي الجماع، وهو أعم من أن يكون لتلك المجامعة أو غيرها. قلت: كذلك نسخة: "عاد" لا يُفهم منها اختصاص بالأوْلى. وقوله: "في غُسل واحد" أي: ما حكمه؟ وقد أجمعوا على أن الغُسل بينهما لا يجب، وأشار المصنف بما في الترجمة إلى ما ورد في بعض طرق الحديث الآتي، وإن لم يكن منصوصًا فيما أخرجه هو كما جرت به عادته. وأخرج الترمذي وقال: حسن صحيح، أنه عليه الصلاة والسلام كان يطوف على نسائه في غُسل واحد. واستدلوا لاستحباب الغُسل بين الجماعين بما أخرج أبو داود والنسائي عن أبي رافع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- طاف على نسائه، يغتسل عند هذه، وعند هذه، قال: فقلت: يا رسول الله: ألا تجعله غُسلاً واحدًا؟ قال: "هذا أزكى وأطيبُ وأطهر". واختلفوا في الوضوء بينهما كوضوء الصلاة: هل يُستحب أم لا؟ فعند مالك: لا يُستحب، وإنما يُندب غسل الذَّكر خاصة عند إرادة العود، وكذا قال أبو يوسُف، وقال الجمهور: يُستحب. وقال ابن حبيب المالكي وأهل الظاهر: يجب، واحتجوا بما أخرجه مسلم عن أبي سعيد مرفوعًا: "إِذا أتى أحدُكم أهلَه، ثم أراد أن يعود، فلْيتوضأ". وأجيب عن هذا بما رواه ابن خُزيمة: "فإنه أنشَطُ للعَوْد"، فدل على أن الأمر للإرشاد أو الندب. وبما رواه الطحاوي عن عائشة قالت: كان عليه الصلاة والسلام يُجامع ثم يعود ولا يتوضأ. وبهذا الحديث استدل القائلون بعدم استحباب الوضوء وحملوا ما ورد في الحديث على الوضوء اللغوي الذي هُو غسل الفرج. وعُورض هذا بحديث ابن خُزيمة: "فَلْيتوضأ وُضوءَه للصلاة". وقد تفرد شعبة عن عاصم بلفظ: "وضؤه للصلاة"، وهو تفرد مقبول، ولكن حيث عارضه حديث عائشة المتقدم، وحديث ابن عباس أخرجه أبو عَوانة في "صحيحه": "إنما أُمِرت بالوضوء إذا قمتُ إلى الصلاة" يَرْجحان على تلك الزيادة المتفرَّد بها، ولاسيما حديث عائشة التي هي مباشرة. والمباشرة من طرق الترجيح.

الحديث العشرون

الحديث العشرون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِى عَدِيٍّ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: ذَكَرْتُهُ لِعَائِشَةَ فَقَالَتْ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَيَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ، ثُمَّ يُصْبِحُ مُحْرِمًا يَنْضَخُ طِيبًا. قوله: "ذكرته لعائشة" أي: قول ابن عمر المذكور بعد باب غسل المذي، وهو: "ما أحبُّ أن أصبحَ محرمًا أنضحُ طيبًا". وزاد مسلم: "قال ابن عُمر: لأَن أُطْلى بِقَطران أحبُّ إلى من أن أفعل ذلك"، فكأن المصنف اختصره، لكون المحذوف معلومًا عند أهل الحديث في هذه القصة، أو حدثه به محمد بن بشّار مختصرًا. وقوله: "يرحم الله أبا عبد الرحمن" تريد: ابن عمر، وفي ترحمها إشعار بأنه سهى فيما قاله، إذ لو استحضر فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يقُل ذلك. وقوله: "فيطوف على نسائه" وهو كناية عن الجماع، وبهذا تظهر مناسبة الحديث للترجمة. وقال الإسماعيلي: يُحتمل أن يُراد به الجماع، وأن يُراد به تجديد العهد بهن، والاحتمال الأول يرجِّحه الحديث الثاني، لقوله فيه: "أُعطي قوة ثلاثين"، و"يطوف" في الأول مثل "يدور" في الثاني. وقوله: "يَنْضَخ" بفتح أوله وفتح العشاء المعجمة، وبالخاء المعجمة، أو بالحاء المهملة. قال الأصمعي: النَّضْخ -بالمعجمة- أكثر من النَّضْح -

رجاله سبعة

بالمهملة-، وسوّى أبو زيد بينهما. وقيل: بالمعجمة لما ثَخُن، وبالمهملة لما رَقَّ. وقوله: "طِيبًا" بالنصب على التمييز، وظاهره أن عين الطيب بقيت بعد الإحرام. قال الطيبي: بحيث إنه صار كأنه يتساقط منه الشيء بعد الشيء، وسيأتي إن شاء الله تعالى حكم هذه المسألة في الحج. وفي الحديث أن غسل الجنابة ليس على الفور، وإنما يتضيق عند إرادة القيام إلى الصلاة. رجاله سبعة: وأبو عبد الرحمن المذكور فيه المراد به: عبد الله بن عمر. الأول: محمد بن بشّار، وقد مرَّ في الحادي عشر من كتاب العلم. ومرَّ شُعبة بن الحجّاج في الثالث من كتاب الإيمان. ومرَّ يحيى بن سعيد القطان في السادس منه أيضًا. ومرت عائشة رضي الله تعالى عنها في الثاني من بدء الوحي. ومرَّ عبد الله بن عمر في أول كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه. والثاني من السند: ابن أبي عَدي محمد بن إبراهيم بن أبي عَدي، ويقال: إن كُنية إبراهيم أبو عَدي السُّلَمي مولاهم القِسْمَلي. نزل فيهم أبو عمرو البصري. قال عمرو بن علي: سمعت عبد الرحمن بن مَهْدي وقد ذُكر ابن أبي عَدِي، فأحسن الثناء عليه. وسمعت مُعاذ بن معاذ يحسن الثناء عليه. وقال رُسْتَه: سمعت معاذ بن معاذ يقول: ما رأيت أحدًا أفضل من ابن أبي عدي. وقال أبو حاتم والنسائي: ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة. وذكره ابن حِبّان في "الثقات". وفي "الميزان": قال أبو حاتم مرة: لا يُحتج به. روى عن: سليمان التَّيْمي، وحُميد الطويل، وابن عَوْن، وداود بن أبي هند، وعثمان بن غياث، وشُعبة، وسعيد بن أبي عَروبة، وهشام الدَّسْتُوائي، وغيرهم.

لطائف إسناده

وروى عنه: أحمد بن حَنْبل، ويحيى بن مَعين، وعمرو بن علي، وابنا أبى شَيْبة، وقُتيبة بن سعيد، وخلق. مات بالبصرة سنة أربع وتسعين ومئة. والقِسْمَلي في نسبه بكسر القاف، نسبة إلى قِسْمل كزِبْرج بطن من الأزد. الثالث: إبراهيم بن محمد بن المُنْتَشِر -باسم الفاعل- ابن الأَجْدَع الهَمْداني الكوفي. روى عن: أبيه، وأنس بن مالك، وقيس بن مُسلم، وغيرهم. وروى عنه: شُعبة، والثوري، ومِسْعر، وأبو عَوانة، وعدة. قال أحمد وأبو حاتم: ثقة صدوق، وقال النسائي: ثقة. وقال يعقوب بن سفيان: شريف كوفي ثقة. وقال العِجْلي وابن سعد ويحيى بن مَعين: ثقة. وذكره ابن حِبّان في "الثقات". والرابع: أبوه محمد بن المُنْتَشِر بن الأَجْدع بن مالك الهَمْداني ثم الوادِعي الكوفي. روى عن: عمه مَسْروق على خلافٍ فيه، وعن أبيه المُنْتَشِر، وعن ابن عُمر، وعائشة، وأبي مَيْسَرة، وعمرو بن شُرَحْبيل، وغيرهم. وروى عنه: ابنه إبراهيم، وعبد الملك ابن عُمير، ومُجالد، وسِماك بن حَرْب. قال الميموني: قلت لأحمد: محمد بن المُنْتَشِر؟ فوثقة، وقال خيرًا. وذكره ابن حِبّان في "الثقات". وقال ابن سعد كان ثقة، وله أحاديث قليلة. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع، وفيه الذِّكْر والقول، ورواته ما بين كوفي وبصري.

أخرجه البخاري في هذا الباب، وفي الباب الذي يليه، ومسلم في الحج عن سعد بن منصور، وغيره، والنسائي في الطهارة عن هَنّاد.

الحديث الحادي والعشرون

الحديث الحادي والعشرون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَدُورُ عَلَى نِسَائِهِ فِي السَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَهُنَّ إِحْدَى عَشْرَةَ. قَالَ: قُلْتُ لأَنَسٍ: أَوَكَانَ يُطِيقُهُ؟ قَالَ: كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّهُ أُعْطِيَ قُوَّةَ ثَلاَثِينَ. قوله: "في الساعة الواحدة من الليل والنهار" المراد بالساعة قَدْر من الزمان، لا ما اصطلح أصحاب الهيئة عليه. وقوله: "من الليل والنهار" الواو بمعنى أو، ويُحتمل أن تكون على بابها، بأن تكون تلك الساعة جزءً من آخر أحدهما وجزءً من أول الآخر. وقوله: "وهُنَّ إحدى عشرة" أي: امرأة، تسع زوجات، ومارية ورَيْحانة، وأطلق عليهنَّ نساء تغليبًا، وبهذا يُجمع بين هذا الحديث ورواية سعيد الآتية: "وهن تِسْع نسوة": لأنه لم يجتمع عنده من الزوجات أكثر من تسع، مع أن سودةَ وَهَبَتْ يومها لعائشة كما يأتي، فإنه عليه الصلاة والسلام لما دخل المدينة لم تكن تحته امرأة سوى سَوْدة، أي: مدخولًا بها، ثم دخل على عائشة بالمدينة، ثم تزوج أُم سلمة، وحفصة، وزينب بنت خُزَيْمة في السنة الثالثة والرابعة، ثم تزوج زينب بنت جحش في الخامسة، ثم جُوَيْرِية في السادسة، ثم صفِيّة وأُم حبيبة وميمونة في السابعة، وهؤلاء جميع من دخل بهن من الزوجات بعد الهجرة على المشهور، واختُلِف في ريحانة، وكانت من سبي بني قُريظة، فجزم ابن إسحاق بأنه عرض عليها أن يتزوجها ويضرب عليها الحجاب، فاختارت البقاء في الملك، والأكثر على أنها ماتت قبله في سنة عشر، وكذا ماتت زينب بنت خُزَيْمة بعد دخوله عليها بقليل. وقال ابن عبد البر: مكثت عنده شهرين أو ثلاثة.

وقد سرد الدِّمياطي في "سيرته" من اطّلع عليه من أزواجه ممن دخل بها أو عقد عليها فقط أو طلقها قبل الدخول أو خطبها ولم يعقد عليها، فبلغت ثلاثين. وسرد أبو الفتح اليَعْمَري أسماءهن، ومُغْلُطاي، فزدن على العدد الذي ذكره الدمياطي. قال في "الفتح": والحق أن الكثرة المذكورة محمولة على اختلاف في بعض الأسماء، وبمقتضى ذلك تنقص العدة، ومحل تفصيلهن في كتب السير، والإطلاق السابق في حديث عائشة محمول على المقيد في حديث أنس هذا، حتى يدخل الأول في الترجمة؛ لأن النساء لو كن قليلات ما كان يتعذر الغسل من وطء كل واحدة، بخلاف الإحدى عشرة، إذ تتعذر المباشرة والغُسْل إحدى عشرة مرة في ساعة واحدة في العادة. وقال ابن المُنير: ليس في حديث دورانه على نسائه دليل على الترجمة، فيُحتمل أنه طاف عليهن، واغتسل في خلال ذلك عن كل فعلة غسلًا، قال: والاحتمال في رواية الليلة أظهر منه في الساعة. قال في "الفتح" التقييد بالليلة ليس صريحًا في حديث عائشة، وأما حديث أنس، فحيث جاء فيه التصريح بالليلة، قيَّد الاغتسال بالمرة الواحدة، كما وقع في رواية النسائي وابن خُزيمة وابن حِبّان، ووقع التقييد بالغُسل الواحد من غير ذكر الليلة في روايات أخرى لهم ولمسلم، وحيث جاء في حديث أنس التقييد بالساعة، لم يحتج إلى تقييد الغسل بالمرة؛ لأنه يتعذر أو يتعسر. وفي وطئه عليه الصلاة والسلام للكل في ساعة واحدة أو ليلة، دلالة صريحة على أنه عليه الصلاة والسلام لا يجب عليه القسم، وهو مذهب المالكية، وقول طوائف من أهل العلم، وبه جزم الإصْطَخْرِي من الشافعية، والمشهور عندهم وعند الأكثرين وجوبه، وأولوا هذا الحديث بوجوه. فقيل: كان ذلك برضى صاحبة النوبة، كما استأذنهن أن يُمرض في بيت عائشة.

ويُحتمل أن يكون ذلك حصل عند استيفاء القسمة، ثم يستأنف القسمة. ويُحتمل أن يكون ذلك عند إقباله من السفر، حيث لا قسم يلزم؛ لأنه كان إذا أراد السفر يُقْرِعُ بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها سافر بها، فإذا انصرف استأنف القَسْم بعد ذلك، وإذا رجع كانت حقوقهن مستوية، فجامعهن كلهن في وقت، ثم استأنف القسم، وهو أخص من الاحتمال الثاني. ويُحتمل أن يكون ذلك كان يقع قبل وجوب القسمة، ثم تُركَ بعدها. وأغرب ابن العربي فقال: إن الله خصَّ نبيه بأشياء، منها أنه أعطاه ساعة في كل يوم لا يكون لأزواجه فيها حق، يدخل فيها على جميعهن، فيفعل ما يريد، ثم يستقر عند من لها النوبة، وكانت تلك الساعة بعد العصر، فإن اشتغل فيها كانت بعد المغرب، ويحتاج إلى ثبوت ما ذكره مفصلًا. وقوله: "أَوَكان يُطيقه؟ " بفتح الواو، وهو مقول قتادة، والهمزة للاستفهام. وقوله: "قوة ثلاثين" أي: رجلًا. وعند الإسماعيلي عن معاذ: "قوة أربعين"، وعند أبي نُعيم في صفة الجنة عن مجاهد: "كل رجل من أهل الجنة". وعند أحمد والنسائي وصححه الحاكم عن زيد بن أَرْقم: "إن الرجل من أهل الجنة ليُعطى قوة مئة في الأكل والشُّرب والجماع والشهوة"، وفي الترمذي وقال صحيح غريب عن أنس رفعه: "يُعطى المؤمن في الجنة قوة كذا وكذا في الجِماع" قيل: يا رسول الله أوَيطيق ذلك؟ قال: "يعطى قوة مئة". قال في "الفتح" فعلى هذا يكون حساب قوة نبينا عليه الصلاة والسلام أربعة آلاف، يعني: من ضرب أربعين في مئة. قلت: مقتضى ما تقدم من أن له قوة أربعين من رجال أهل الجنة في الدنيا، يكون هذا القدر له في الدنيا، ويكون له في الجنة قوة أربع مئة ألف من رجال أهل الدنيا. وذكر ابن العربي أنه كان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- القوة الظاهرة على الخلق في الوطء كما في هذا الحديث، وكان له في الأكل قناعة ليجمع له الفضيلتين في الأمور

رجاله خمسة

الاعتبارية، كما جمع له الفضيلتين في الأمور الشرعية، حتى يكون حاله كاملًا في الدارين. واستدل المصنف بهذا الحديث على إستحباب الاستكثار من النساء، وفيه ما أُعطي النبي -صلى الله عليه وسلم- من القوة على الجِماع، وهو دليل على كمال البني وصحة الذكورية. والحكمة في كثرة أزواجه أن الأحكام التي ليست ظاهرة يطَّلِعْنَ عليها، فينقُلْنَها. وقد جاء عن عائشة من ذلك الكثير الطيب، ومن ثَمَّ فضَّلَها بعضُهم على الباقيات. واستدل به ابن التين لقول مالك بلزوم الظهار من الإماء، بناءً على أن المراد بالزائدتين على التسع مارية وريحانة، وقد أطلق على الجميع لفظ نسائه. وتُعُقِّب بأن الإطلاق المذكور للتغليب كما تقدم، فليس فيه حجة لما ادّعى. واستدل به ابن المنير على جواز وطء الحرة بعد الأمة من غير غُسل بينهما ولا غيره، والمنقول عن مالك أنه لا يتأكد الاستحباب في هذه الصورة، ويمكن أن يكون ذلك وقع لبيان الجواز، فلا يدل على عدم الاستحباب. رجاله خمسة: الأول: محمد بن بشار مرَّ في الحادي عشر من كتاب العلم. ومرَّ معاذ بن هشام الدَّسْتُوائي في الثامن والستين منه. ومرَّ أبوه هشام في الثامن والثلاثين من كتاب الإيمان. ومرَّ قتادة بن دِعامة وأنس بن مالك في السادس منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، والإفراد في موضع واحد، وفيه العنعنة في موضع واحد، ورواته كلهم بصريون.

أخرجه البخاري هنا، والنسائي في عِشْرة النساء. وقالَ سَعيدٌ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُمْ تِسْعُ نِسْوَةٍ. وقد مرَّ الجمع بينه وبين السابق، وقد وقع عند الأصيلي في نسخة: "شُعبة" بدل: "سعيد" ورواية شُعبة وصلها الإِمام أحمد، والمراد بسعيد سعيد بن أبي عَروبة. وهذا التعليق وصله البخاري بعد اثني عشر بابًا بلفظ: "كان يطوف على نسائه في الليلة الواحدة، وله يومئذ تسع نسوة". وقتادة بن دِعامة وأنس مرَّ تعريفهما في السادس من كتاب الإيمان. وأما سعيد فهو ابن أبي عَروبة، واسم أبي عَروبة مِهْران العَدَوي مولى بني عدي بن يَشْكُر أبو النَّضْر البصري. قال أحمد بن حنبل: لم يكن لسعيد بن أبي عَروبة كتاب، إنما كان يحفظ ذلك كله. وقال ابن مَعين والنسائي: ثقة. وقال أبو زُرعة: ثقة مأمون. وقال ابن أبي خَيْثمة: أثبت الناس في قَتادة سعيد بن أبي عَروبة، وهِشام الدَّسْتُوائي. وقال أبو عَوانة ما كان عندنا في ذلك الزمان أحفظ منه. وقال أبو داود الطيالسي: كان أحفظ أصحاب قتادة. وقال أبو زُرعة سعيد أحفظ وأثبت من أبان العطار، وأثبت أصحاب قَتادة هِشام وسعيد. وقال أبو حاتم: هو قبل أن يختلط ثقة، وكان أعلم الناس بحديث قَتادة. وقال وكيع: كنا ندخل على سعيد، فنسمع، فما كان من صحيح حديثه أخذناه، وما لم يكن صحيحًا طرحناه. وقال دُحَيْم: اختلط مخرج إبراهيم بن عبد الله بن الحسن. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، ثم اختُلِط في آخر عمره. وقال أبو بكر البزّار: يحدث عن جماعة لم يسمع منهم، فإذا قال: سمعت وحدثنا كان مأمونًا على ما قال. وقال ابن عَدي: سعيد من ثقات المسلمين، وله مصنفات كثيرة، وحدث عنه الأئمة، ومن سمع منه قبل الاختلاط فإن ذلك صحيح حجة، ومن سمع منه بعد الاختلاط لا يُعتمد عليه، وأرواهم عنه عبد الأعلى، وهو مقدم في أصحاب

قتادة، ومن أثبت الناس عنه رواية، وكان ثبتًا عن كل من روى عنه، إلا مَنْ دلَّس عنهم، وأثبت الناس عنه: ابن ذُرَيْع، وخالد بن الحارث، ويحيى بن سعيد، ونظراؤهم. وقال يزيد بن زُرَيْع: أول ما أنكرنا ابن أبي عَروبة يوم مات سُليمان التيمي، جئنا من جنازته، فقال: من أين جئتم؟ قلنا: من جنازة سُليمان التيمي. فقال: ومَنْ سُليمان التيمي؟ وقال ابن مَعين: مَنْ سمع منه سنة اثنين وأربعين فهو صحيح السماع، وسماع من يسمع منه بعد ذلك ليس بشيء، وأثبت الناس سماعًا عنه عَبْدَةُ بن سليمان. وقال ابن نافع: خلَّط في آخر عمره، وكان أعرج، يُرمى بالقدر. وقال أحمد: كان يقول بالقدر ويكتمه. وقال العِجْلي: لا يدعو إليه، وكان ثقة. وقال أبو داود: كان سعيد يقول في الاختلاط: قتادة عن أنس، وأنس عن قتادة. قال ابن حَجَر: لم يخرِّج له البخاري عن غير قتادة سوى حديث واحد، أورده في كتاب اللباس، من طريق عبد الأعلى، عنه، قال: سمعت النَّضْر بن أنس يحدث عن قتادة، عن ابن عباس، فذكر الحديث: "من صوَّر صورة". وقد وافقه مسلم على إخراجه، ورواه أيضًا من حديث هشام، عن قتادة، عن النَّضْر. وأما ما أخرجه البخاري من حديثه عن قتادة، فأكثره من رواية من سمع منه قبل الاختلاط. وأخرج عمن سمع منه بعد الاختلاط قليلًا، كمحمد بن عبد الله الأنصاري، ورَوْحْ بن عُبادة، وابن أبي عدي، فإذا أخرج من حديث هؤلاء، انتقى منه ما توافقوا عليه. روى عن: قَتادة، والنَّضْر بن أنس، والحسن البَصْرىِ، وعبد الله بن فيروز، وعامر الأحول، وجماعة. وروى عنه: الأعمش وهو من شيوخه، وشُعبة، وعبد الأعلي بن عبد الأعلى، ورَوح بن عُبادة، وابن المُبارك، ويحيى القطان، وجماعة.

باب غسل المذي والوضوء منه

مات سنة ست وخمسين ومئة. باب غَسْلِ المذي والوضوء منه أي: بسببه، وفي المَذِي لغات، أفصحها: فتح الميم، وإسكان الذال، وتخفيف الياء، ثم بكسر الذال وتشديد الياء، وهو ماء أبيض رقيق لزج، يخرج عند الملاعبة أو تذكر الجماع أو إرادته، وقد لا يُحسُّ بخروجه.

الحديث الثاني والعشرون

الحديث الثاني والعشرون حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَائِدَةُ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: كُنْتُ رَجُلاً مَذَّاءً فَأَمَرْتُ رَجُلاً أَنْ يَسْأَلَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- لِمَكَانِ ابْنَتِهِ فَسَأَلَ فَقَالَ: "تَوَضَّأْ وَاغْسِلْ ذَكَرَكَ". قوله: "مذّاء" بصيغة المبالغة من المذي، يقال: مَذى يَمْذي، مثل: مضى يمضي، ثلاثيًّا، ويقال: أمذى يُمذي، مثل: أعطى يُعطي، رباعيًّا. وقوله: "أمرتُ رجلًا" هو المقداد بن الأسود كما مر في باب من استحيا فأمر غيره بالسؤال في كتاب العلم، حيث ذكر الحديث هناك، ومرَّ الكلام عليه هناك مستوفى غاية الاستيفاء. رجاله خمسة: الأول: أبو الوليد، وقد مرَّ في العاشر من كتاب الإِيمان. ومرَّ أبو حفص عثمان بن عاصم في الحادي والخمسين من كتاب العلم. ومرَّ علي بن أبي طالب في السابع والأربعين منه. الرابع: زائدة بن قُدامة الثَّقَفي أبو الصَّلْت الكوفي. قال أبو زُرعة: صدوق من أهل العلم. وقال أبو حاتم: كان ثقة صاحب سُنّة، وهو أحب إلى من أبي عَوانة، وأحفظ من شَريك وأبي بكر بن عيّاش. وقال العجلي: كان ثقة صاحب سنة. قال ابن سعد: كان ثقة مأمونًا صاحب سنة. وقال ابن حِبّان في "الثقات": كان من الحفاظ المُتْقِنين، لا يعُدُّ السماع حتى يسمعه ثلاث مرات. وقال أبو نُعيم: كان زائدة لا يكلِّم أحدًا حتى يمتحنه، فأتاه وكيع، فلم يحدثه. وقيل ليحيى: زهيرٌ أحبُّ إليك في الأعمش أو زائدة؟

فقال: كلاهما ثقة. وقال الدّارَقُطني: من الأثبات الأئمة. وقال أحمد بن يونُس: رأيت زهير بن معاوية جاء إلى زائدة، فكلمه في رجل يحدثه، فقال: من أهل السنة هو؟ فقال: ما أعرفه ببدعة. فقال: من أهل السنة هو؟ فقال زهير: متى كان الناس هكذا؟! فقال زائدة: متى كان الناس يشتُمون أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما؟! وقال النَّسائي: وقال عثمان بن زائدة: قدمت الكوفة، فقلت للثوري: ممن أسمع؟ قال: عليك بزائدة. وقال أبو أسامة: حدّثنا زائدة، وكان من أصدق الناس وأبره. وقال أبو داود الطيالسي وسُفيان بن عُيينة: حدّثنا زائدة بن قُدامة، وكان لا يحدِّث قدريًّا ولا صاحب بدعة. وقال أحمد: المتثبِّتون في الحديث أربعة: سفيان وشُعبة وزُهير وزائدة. وقال أيضًا: إذا سمعت الحديث من زائدة وزُهير فلا تبالِ أن لا تسمَعَه من غيرهما إلاَّ حديث أبي إسحاق. وقال أبو داود الطيالسي: لم يكن بالأستاذ في حديث أبي إسحاق. وقال الدُّهلي: ثقة حافظ، ولهم شيخ آخر يُقال له زائدة بن قُدامة، كان يقاتل أيام الخوارج، قتله شبيب سنة ست وثلاثين ومئة. روى صاحب الترجمة عن: أبي إسحاق السَّبيعي، وعبد الملك بن عُمير، وسُليمان التَّيْمي، وإسماعيل بن أبي خالد، وحُميد الطويل، وهِشام بن عروة، والأعمش، وخلق. وروى عنه: ابن المبارك، وأبو أُسامة، وحسين بن علي الجعفي، وابن مَهْدي، وعُيينة، وأبو إسحاق، والطيالسيّان، وجماعة. مات في أرض الروم غازيًا سنة ستين أو إحدى وستين ومئة. الخامس: عبد الله بن حَبيب بن رُبيعة -بالتصغير- أبو عبد الرحمن السُّلَمي الكوفي، لأبيه صحبة.

لطائف إسناده

قال ابن عبد البر: هو عند جميعهم ثقة. وقال أبو إسحاق السبيعي: أقرأ القرآن في أربعين سنة. وقال العِجْلي: كوفي تابعي ثقة. وقال النسائي ثقة. وقال أبو داود: كان أعمى. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، شهد مع علي صفين، ثم صار عثمانيًّا. وقال عطاء بن السائب عنه أنه قال: صُمْتُ لله تعالى ثمانين رمضان. روى عن: عُمر، وعُثمان، وعلي، وسعد، وخالد بن الوليد، وابن مسعود، وحُذيفة، وأبي موسى الأشعري، وأبي الدَّرْداء، وأبي هريرة. وروى عنه: إبراهيم النَّحَعي، وعلقمة بن مَرْثَدَ، وأبو الحُصَيْن الأسدي، وعطاء بن السائب، وعبد الأعلي بن عامر، وعبد الملك بن أَعْيَن، وعاصم بن بَهْدَلة، وغيرهم. مات سنة خمس وثمانين، وهو ابن تسعين سنة. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع، وفيه رواية تابعي عن تابعي، ورواته ما بين بصري وكوفي، فأبو الوليد البصري والبقية كوفيون. أخرجه البخاري هنا، ومسلم في العلم عن مُسَدَّد، وفي الطهارة عن قُتيبة، وأبي بكر بن أبي شَيْبة، والنسائي في الطهارة وفي العلم عن مُحمد بن عبد الأعلى. باب من تطيب ثم اغتسل وبقي أثر الطيب وقد كانوا يتطيبون عند الجِماع للنشاط.

الحديث الثالث والعشرون

الحديث الثالث والعشرون حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ فَذَكَرْتُ لَهَا قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ مَا أُحِبُّ أَنْ أُصْبِحَ مُحْرِمًا أَنْضَخُ طِيبًا. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَنَا طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ طَافَ فِي نِسَائِهِ ثُمَّ أَصْبَحَ مُحْرِمًا. هذا الحديث قد مرَّ الكلام عليه قبل باب، وموضع الاستدلال به أن قولها: "طاف في نسائه" كناية عن الجِماع، ومِن لازمه الاغتسال. ومن فوائده رد بعض الصحابة عن بعض بالدليل، واطلاع أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- على ما لم يطَّلع عليه غيرهن من أفاضل الصحابة، وخدمة الزوجات لأزواجهن. وقال ابن بطّال فيه: إن السُّنَّة الطيب للرجال والنساء عند الجِماع. رجاله خمسة، وفيه ذكر ابن عمر: الأول: أبو النعمان محمد بن فَضْل، مرَّ في الثاني والخمسين من كتاب الإيمان. ومرَّ أبو عَوانة الوضّاح اليَشْكُري في الخامس من بدء الوحي. ومرت عائشة رضي الله تعالى عنها في الثاني من بدء الوحي. ومرَّ عبد الله بن عمر في أوّل كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه. ومر إبراهيم بن المُنْتَشِر وأبوه محمد في العشرين قبل هذا بحديثين. ومرَّ هناك مواضع إخراجه.

الحديث الرابع والعشرين

الحديث الرابع والعشرين حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنِ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِى مَفْرِقِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَهْوَ مُحْرِمٌ. قوله: "وَبِيص" بفتح الواو، وكسر الموحدة، بعدها تحتانية، ثم صاد مهملة، وهو البريق. وقال الإسماعيلي: وبيص الطيب: تلألؤه، وذلك لعين قائمة لا لريح فقط. وقوله: "مَفْرِق" بفتح الميم، وكسر الراء، ويجوز فتحها. أي: مكان فرق الشعر، وهو من الجبهة إلى دائرة وسط الرأس. ودِلالة المتن على الترجمة إمالك ونها قصة واحدة، وإما لأن من سنن الإحرام الغُسل عنده، ولم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعه. وفيه أن بقاء الطيب على بدن المحرم لا يضُر، بخلاف ابتدائه بعد الإِحرام. رجاله ستة: الأول: آدم بن أبي اياس. والثاني: شُعبة بن الحجاج، وقد مرَّا في الثالث من كتاب الإيمان. ومرَّ الحكم بن عُتيبة في الثامن والخمسين من كتاب العلم. ومرَّ إبراهيم بن يزيد النَّخعَي في السادس والعشرين من كتاب الإيمان. ومرَّ الأسود بن يزيد في السابع والستين من كتاب العلم.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، والعنعنة في ثلاثة أيضًا. ورواته ما بين خُراساني، وواسطي، وكوفي. وفيه ثلاثة من التابعين كلهم كوفيون. وهم الحكم، وإبراهيم، والأسود. أخرجه البخاري هنا، وفي اللباس عن أبي الوليد. ومسلم في الحج عن ابن المثنّى وابن بشّار. والنّسائي فيه عن حُميد. باب تخليلِ الشَّعَرِ حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليه الترجمة من متن الحديث، ويأتي قريبًا تفسيرها.

الحديث الخامس والعشرون

الحديث الخامس والعشرون حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ غَسَلَ يَدَيْهِ، وَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلاَةِ ثُمَّ اغْتَسَلَ، ثُمَّ يُخَلِّلُ بِيَدِهِ شَعَرَهُ، حَتَّى إِذَا ظَنَّ أَنْ قَدْ أَرْوَى بَشَرَتَهُ، أَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ سَائِرَ جَسَدِهِ. قوله: "إذا اغتسل" أي: أراد الاغتسال كما مر. وقوله: "يخلِّل بيده شعره" يعني شعر رأسه. وقوله: "حتى إذا ظنَّ" يُحتمل أن يكون على بابه، ويكْتَفي فيه بالغلبة، ويُحتمل أن يكون بمعنى علم. وقوله: "أروى" فعل ماضٍ من الإِرواء، يقال أرواه إذا جعله ريّانَ، والمراد بالبشرة هنا ما تحت الشعر. وقوله: "أفاض عليه" أي: على شعره. وقوله: "ثلاث مرات" بالنصب على المصدرية؛ لأنه عدد المصدر، وعدد المصدر مصدر. وقوله: "ثم غسل سائر جسده" قد مرَّ في رواية مالك في أول كتاب الغُسل على جلده كله، فيُحتمل أن يُقال: إن سائر هنا بمعنى الجميع، جمعًا بين الروايتين. قوله: "وقالت" أي: عائشة، هو معطوف على الأول، فهو متصل بالإسناد المذكور.

رجاله خمسة

وقوله: "كنت أغتسل أنا والنبي" أنا تأكيد لاسم كان، مصحح للعطف على الضمير المرفوع المتصل، ويجوز فيه النصب على أنه مفعول معه، والأكثرون على أن هذا العطف، وما كان مثله، من باب عطف المفردات، وزعم بعضهم أنه من باب عطف الجُمل، وتقديره في قوله تعالى: {لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ} [طه: 58]: ولا تُخْلِفه أنت. وفي قوله تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ} [البقرة: 35]، وليسكن زوجك، وهكذا كنت أغتسل أنا ويغتسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وقوله: "نغرف" بالنون والغين المعجمة الساكنة، وله في الاعتصام: "نشرع فيه جميعًا". وقوله: "جميعًا" حال، وصاحب الحال فاعل اغتسل. وما عُطِف عليه، ونظيره قوله تعالى: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} [مريم: 27]، فقيل: هو حال من ضمير مريم ومن الضمير المجرور، ضمير عيسى عليه السلام، لاشتمال الجملة على ضميريهما، وقيل: من ضميرها، وقيل: من ضميره. ويُحتمل أن يكون في محل الصفة لـ"إناء" صفة مقدرة بعد الصفة الظاهرة المذكورة، أو بدلًا من اغتسل، ويقال جاؤوا جميعًا، أي كلهم، فتكون تأكيدًا، والصواب أنها حال، والجمع ضد التفريق، ويحتمل هنا أن يراد جميع المغروف، أو جميع الغارفين. وقال ابن فَرْحون: "جميعًا" يرادف كلاًّ في العموم، ولا يفيد الاجتماع في الزمان، بخلاف معًا. وعدَّها ابن مالك من ألفاظ التوكيد. وقال سيبويه: إنها بمنزلة "كل" معنىً واستعمالًا، والشاهد قول أعرابية ترقص ولدها: فداك حيُّ خَوْلان ... جميعُهُم وهَمْدان وهكذاكَ قَحْطان .... والأكرَمون عَدْنان ومرت مباحث هذا الحديث في باب: الوضوء قبل الغسل، وباب: هل يُدخل الجنب يده في الإناء. رجاله خمسة: الأول: عبدان،

لطائف إسناده

والثاني: عبد الله بن المبارك، وقد مرّا في السادس من بدء الوحي. ومرَّ هشام بن عُروة وأبو عُروة وعائشة رضي الله تعالى عنها في الثاني منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والإِخبار كذلك في موضع، والعنعنة في موضعين. وهذا الحديث هو الأول من الكتاب، وتقدم هناك ذكر المواضع التي أُخرج فيها. باب من توضأ في الجنابة ثم غسل سائر جسده ولم يُعِدْ كسل مواضع الوضوء منه مرة أخرى سقط لفظ: "منه" في آخر الترجمة في رواية غير أبي ذر.

الحديث السادس والعشرون

الحديث السادس والعشرون حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عِيسَى قَالَ: أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى قَالَ: أَخْبَرَنَا الأَعْمَشُ عَنْ سَالِمٍ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ قَالَتْ: وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَضُوءًا لِجَنَابَةٍ فَأَكْفَأَ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلاَثًا، ثُمَّ غَسَلَ فَرْجَهُ، ثُمَّ ضَرَبَ يَدَهُ بِالأَرْضِ أَوِ الْحَائِطِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا، ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ، وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ، ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى رَأْسِهِ الْمَاءَ، ثُمَّ غَسَلَ جَسَدَهُ، ثُمَّ تَنَحَّى فَغَسَلَ رِجْلَيْهِ. قَالَتْ فَأَتَيْتُهُ بِخِرْقَةٍ، فَلَمْ يُرِدْهَا، فَجَعَلَ يَنْفُضُ الماءَ بِيَدِهِ. قوله: "وضَعَ رسول الله" ببناء "وَضَعَ" للفاعل، ورسول الله هو الفاعل. وقوله: "وَضوءً للجنابة" بفتح الواو والتنوين مفعول به، وللجنابة بلا مين في رواية الكُشْميهني، ولكريمة وأبوي ذرٍّ والوقت بلام واحدة مع تنوين وضوء، وللأكثر "وضوء الجنابة" بالإضافة، وإنما أضيف مع أن الوَضوءَ -بالفتح- الماء المعد للوضوء لأنه صار اسمًا له، ولو استعمل في غير الوضوء، فهو من إطلاق المقيَّد وإرادة المُطْلَق. وقال ابن فَرْحون: قوله: "وضوء الجنابة" يقع على الماء وعلى الإناء، فإن كان المراد الماء، كان التقدير: وضع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الماء المعدَّ للجنابة، ولابد من تقدير: في تَوْبى أو طَسْتٍ، وإن كان المراد الإِناء كان هو الموضوع، وأضيف إلى الجنابة بمعنى أنه معدٌ لغُسل الجنابة، إضافة تخصيص. وفي رواية الحموي والمُسْتَمْلي: "وُضِع" بضم أوله مبنيًّا للمجهول:

"لرسول الله" بلام الجر، أي: لأجله. و"وَضوء" بالرفع والتنوين. وقوله: "فكفأ"، ولغير أبي ذر: "فأكفأ" أي: قلب. وقوله: "على يساره"، وللمستملي وكريمة: "على شماله". وقوله: "ثم ضَرَبَ يده بالأرض أو الحائط" جعل الأرض أو الحائط آلة الضرب، والشك من الراوي. وللكُشْمِيهني: "ضرب بيدِه الأرض" فيحتمل أن تكون الأولى من باب القلب، كقولهم: أَدخلتُ القَلَنْسُوة في رأسي: أي: أدخلت رأسي فيها، ويُحتمل أن يكون الفعل متضمنًا غير معناه؛ لأن المراد تعفير اليد بالتراب، فكأنه قال: فعفَّر يده بالأرض. وقوله: "ثم مَضْمَض" في رواية: "تمضمض". وقوله: "ثم غسل جسده". قال ابن بطّال: حديث عائشة الذي في الباب قبله أليق بالترجمة؛ لأن فيه: "ثم غسل سائر جسده"، وأما حديث الباب ففيه: "ثم غسل جسده" فيدخل في عمومه مواضع الوضوء، فلا يُطابق قوله: "ولم يُعِدْ غَسْلَ مواضع الوضوء". وأجاب ابن المنير بأن قرينة الحال والعُرف من سياق الكل تخصُّ أعضاء الوضوء، وذِكْرُ الجسد بعد ذِكْر الأعضاء المعنية يُفْهِم عُرفًا بقية الجسد لا جملة؛ لأن الأصل عدم التكرار، أو يقال: إن البخاري حمل قوله: "ثم غسل جسده" على المجاز، أي: ما بقي بعدما تقدم ذكره، ودليل ذلك قوله بعد: "فغسل رجليه" إذ لو كان قوله: "غسل جسده" محمولًا على عمومه، لم يحتج لغسل رجليه ثانيًا؛ لأن غسلهما كان يدخل في العموم. قلت الجوابان متَّحدان في المجازية، إلا أن الأول جعل القرينة حاليّة، والثاني جعلها لفظية. واستنبط ابن بطّال من كونه لم يُعِدْ غسل مواضع الوضوء إجزاء غُسْل الجمعة عن غُسل الجنابة، وإجزاء الصلاة بالوضوء المجدَّد لمن تبيَّن أنه كان

رجاله سبعة

قبل التجديد محدثًا. قال في "الفتح": والاستنباط المذكور مبني عنده على أن الوضوء الواقع في غُسل الجنابة سنة، وأجزأ مع ذلك عن غسل تلك الأعضاء بعده، وهي دعوى مردودة؛ لأن ذلك يختلف باختلاف النية، فمن نوى غسل الجنابة وقدم أعضاء الوضوء لفضيلته ثم غسله، وإلا فلا يصح البناء. قلت: اعتراض صاحب "الفتح" عليه إنما هو باعتبار مذهبه، وقد مرَّ أن مذهب مالك إجزاء غسل محل الوضوء عن غسل محله في الجنابة، ولو توضأ ناسيًا للجنابة، فلا يُعترض بمذهب على مذهب، لكن الاستنباط المذكور في المسألتين غير موافق لمذهب المالكية، فإن مَن اغتسل بنيّة الجمعة ناسيًا للجنابة، أو قَصَد نيابة الجمعة عن الجنابة، يبطُلُ غسله لهما كما قال خليل، وإن نسي الجنابة أو قصد نيابةً عنها انتفيا، وكذلك من نوى تجديد الوضوء ناسيًا حَدَثه إذا تبيَّن أنه محدِث لا يُجزئه ذلك الوضوء. قال خليل عاطفًا على ما يبطُلُ فيه الوضوء: أو جدَّد فتبيَّن حَدَثَه. وقوله: "فأتيته بخِرْقة، فلم يُرِدْهَا" مرَّ الكلام عليه قريبًا في باب: من أفرغ بيمينه على شماله. وقوله: "فجعل ينفُضُ الماء بيده" سقط لفظ الماء من غير رواية أبي ذر، وللأصيلي: "ينفُضُ يده " ومرت مباحث الحديث في أول الغسل. رجاله سبعة: الأول: يوسُف بن عيسى بن دينار الزُّهري أبو يعقوب المَرْوَزِيّ. روى عن: عمه يحيى، وحفص بن غِياث، والفَضْل بن موسى، ووَكِيع، وابن عُيينة، وغيرهم. وروى عنه: البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وأحمد بن سَيّار المَرْوَزِيّ، وآخرون.

قال النّسائي: ثقة. وذكره ابن حِبان في "الثقات". وقال الحاكم: هو جد شيخنا أبي الفضل الحسن بن يَعْقوب بن يوسُف البخاري، وكان شيخنا أبو الفضل يذكر فضائل جده وزهده وورعه وكثرة صدقاته وإحسانه وما خلَّف من أوقافه ببُخارى أو نيسابور. مات سنة تسع وأربعين ومئتين. الثاني: الفضل بن موسى السِّيناني -بكسر السين- نسبة إلى سينان، قرية من خراسان، يُقال: من جاء من الكوفة فهو شيناني -بالمعجة-، ومن جاء من الشام فهو سيباني -بالمهملة-، ومن جاء من خُراسان فهو سيناني -بنونين- أبو عبد الله المروزي مولى بني قُطَيْعَة -بالتصغير-. قال ابن مَعين وابن سعد: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق صالح. وقال علي بن خَشْرَم: سألت وكيعًا عنه، فقال: أعرفه ثقة صاحب سنة. وقال أبو نُعيم: هو أثبت من ابن المبارك. وقال أبو إسماعيل التِّرمذي: سمعت أبا نُعيم ذكره، فقال: كان والله نبيلًا عاقلًا. وذكره ابن حِبّان في "الثقات". وقال الحاكم: هو كبير السن، عالي الإِسناد إمام من أئمة عصره في الحديث. وقال ابن شاهين في "الثقات": كان ابن المبارك يقول: حدثني الثقة بعينه. وقال البخاري: فضل بن مُوسى مَرْوَزي أبو عبد الله ثقة. وقال إبراهيم بن شماس: سألت وكيعًا عن السِّيناني، فقال: ثبت سمع الحديث معنا، لا تُبالي سمعت الحديث منه أو من ابن المبارك. وقال عبد الله بن علي بن المديني: سألت أبي عن حديث الفضل بن موسى، عن معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه، عن ابن الزُّبير، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من شَهَرَ سيفَه فدمُهُ هدرٌ". فقال: منكر ضعيف. وقال عبد الله أيضًا سألت أبي عن الفضل وأبي ثُميلة فقدم أبا ثميلة، وقال: روى الفضل مناكير. قال ابن حجر: ليس له في البخاري سوى ثلاثة أحاديث: أحدها في كتاب الغُسل بمتابعة أبي حمزة وغيره عن الأعمش، عن سالم، عن كُريب، عن ابن

لطائف إسناده

عباس، عن ميمونة. والآخر في الرِّقاق عن مُعاذ بن أسد، عنه، عن فُضَيْل بن غَزْوان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، حديث: "ما بينَ مَنْكِبي الكافر مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع" وقد رواه مسلم من حديث محمد بن فضيل عن أبيه. والثالث في صفة النبي -صلى الله عليه وسلم- عن إسحاق بن إبراهيم، عنه، بمتابعة حاتم بن إسماعيل، كلاهما عن الجُعَيْد بن عبد الرحمن، عن السائب بن يزيد. روى عن الأعمش، وإسماعيل بن أبي خالد، وهشام بن عُروة، وعبيد الله وعبد الله ابني عمر، وطَلْحة بن يَحيى، وشُرَيْح القاضي، وخلق. وروى عنه: إسحاق بن راهَوَيْه، وإبراهيم بن موسى الرازي، ومُعاذ بن أسد، وأبو إسحاق الطّالقاني، وغيرهم. مات في ربيع الأول سنة اثنتين وتسعين ومئة. والثالث: الأعمش، وقد مر في السادس والعشرين من كتاب الإيمان. ومرَّ سالم بن أبي الجعد في السابع من كتاب الوضوء. ومرَّ كُريب في الرابع منه. ومرّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي. ومرت ميمونة في الثامن والخمسين من كتاب العلم. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين عند أبي ذر، في الثاني عند غيره: أخبرنا، وكذلك: أخبرنا الأعمش. وفيه العنعنة في أربعة مواضع. ومرَّ ذكره أيضًا. وقول البخاري: "قالت: فأتيته بخرقة ... إلخ" المراد بالقائلة ميمونة، وقد مرَّ ذكرها قريبًا. باب إذا ذكر في المسجد أنه جنب يخرج ولا يتيمم قوله: "إذا ذكر" أي: تذكر الرجل، ولأبي ذر وكريمة: "يخرج كما هو" أي: على حاله. قال الكرماني: الكاف هنا كاف المقاربة لا كاف التشبيه.

وعلى التنزل لما قال فالتشبيه هنا ليس ممتنعًا؛ لأنه يتعلق بحالته، أي: خرج في حالة شبيهة بحالته التي قبل خروجه فيما يتعلق بالحدث، لم يفعل ما يرفعه من غسل أو ما ينوب عنه من التيمم. وقوله: "ولا يتيمم" إشارة منه إلى رد من يوجبه في هذه الصورة، وهو منقول عن الثوري، وإسحاق، وكذا قال بعض المالكية فيمن نام في المسجد فاحتلم: يتيَمَّم قبل أن يخرج.

الحديث السابع والعشرون

الحديث السابع والعشرون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ، وَعُدِّلَتِ الصُّفُوفُ قِيَامًا، فَخَرَجَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَلَمَّا قَامَ فِي مُصَلاَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ جُنُبٌ فَقَالَ لَنَا: "مَكَانَكُمْ". ثُمَّ رَجَعَ فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْنَا وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ، فَكَبَّرَ فَصَلَّيْنَا مَعَهُ. قوله: "قال: أقيمت الصلاة، وعُدِّلَتِ الصفوف" أي: سُوِّيت، وكان من شأنه عليه الصلاة والسلام أن لا يكبِّر حتى تستوي الصفوف. وقوله: "قيامًا" جمع قائم، منصوب على الحال من مقدر، أي: وعَدَّل القوم الصفوف حال كونهم قائمين، أو منصوب على التمييز؛ لأنه مفسِّر لما في قوله: "وعدِّلَتِ الصفوف" من الإيهام، أي: سُوِّيت الصفوف من حيث القيام. وقوله: "فخرج إلينا رسول الله" يُحتمل أن يكون المعنى: خرج في حالة الإقامة، ويُحتمل أن تكون الإقامة تقدمت خروجه، وهو ظاهر الرواية هنا، للإتيان بالفاء التعقيبية في قوله: "فخرج" بعد الإِقامة والتعديل، ويُحتمل أنهم إنما شرعوا في ذلك بأمر منه، أو قرينة تدل عليه. وقوله: "فلما قام في مُصَلّاه ذكر أنه جنبٌ" مُصَلّاه -بضم الميم-: موضع صلاته. ذكر: أي: تذكر ذلك بقلبه، لا أنه قال ذلك لفظًا، وعلم الراوي ذلك من قرائن الحال، أو بإعلامه له بعد ذلك. وبيَّن المصنف في الصلاة من رواية صالح بن كَيْسان أن ذلك كان قبل أن يكبِّر النبي -صلى الله عليه وسلم- للصلاة، وكذا في مسلم عن الزُّهري: "قبل أن يكبِّر للصلاة،

رجاله ستة

فانصرف"، وهذا معارَضٌ بما رواه أبو داود وابن حِبّان عن أبي بَكْرة: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل في صلاة الفجر، فكبَّر، ثم أومأ إليهم". ولمالك عن عطاء بن يسار مرسلًا: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كبَّر في صلاة من الصلوات، ثم أشار بيده أن امكُثوا". ويمكن الجمع بينهما يحمل قوله: "كبَّر" على: أراد أن يكبِّر، أو بأنهما واقعتان. أبداه عياض والقُرطبي احتمالًا. وقال النووي: إنه الأظهر. وجزم به ابن حِبّان. فإن ثبت، وإلا، فما في "الصحيح" أصح. وقوله: "فقال لنا مكانَكُم" بالنصب، أي: الزموا مكانكم. وفيه إطلاق القول على الفعل؛ لأن في رواية الإسماعيلي: "فأشار بيده أَنْ مكانَكم" ويُحتمل أن يكون جَمَع بين الكلام والإشارة. وقوله: "ورأسُهُ يَقْطُر" أي: من ماء الغسل. وقوله: "فكبَّر"، ظاهره الاكتفاء بالإقامة السابقة، فيُؤخذ منه جواز التخلل الكثير بين الإقامة والدخول في الصلاة، والظاهر أنه مقيَّد بالضرورة. وعن مالك: إذا بعُدَتِ الإِقامة من الإحرام تُعاد. ويَنْبغى أن يُحمل على ما إذا لم يكن عذر ليوافق هذا الحديث وغيره مما دلَّ على التفرقة، أو يؤول عنده لفظ "كبَّر" أي: مع رعاية ما هو وظيفة للصلاة، كالإقامة. أو يؤوَّل قوله أولًا: "أُقيمت" بغير الإقامة الاصطلاحي. وفي الحديث جواز النسيان على الأنبياء في أمر العبادة لأجل التشريع. وفيه طهارة الماء المُستعمل. وفيه أنه لا حياء في أمر الدين، وسبيل من غُلِبَ أن يأتي بأمر موهم، كأن يُمسِكَ بأنفه ليوهم أنه قد رَعِفَ. وفيه جواز انتظار المأمومين مجيء الإِمام قيامًا عند الضرورة. وفي نسخة: قيل للبخاري: إذا وقع هذا لأحدنا يفعل مثل هذا؟ قال: نعم. قيل: فينتظرون الإمام قيامًا أو قعودًا؟ قال: إن كان قبل التكبير فلا بأس أن يقعُدوا، وإن كان بعد التكبير انتظروه قيامًا. وفيه جواز تأخير الجنب الغُسْلَ عن وقت الحدث. رجاله ستة: الأول: عبد الله بن مُحمد الجُعفي، مرَّ في الثاني من كتاب الإيمان. ومرَّ

لطائف إسناده

يونُس بن يزيد وابن شِهاب الزُّهري وأبو سَلَمة بن عبد الرحمن في الثالث من بدء الوحي. ومرَّ أبو هُريرة في الثاني من كتاب الإيمان. والسادس: عُثمان بن عُمر بن فارِس بن لَقِيط العَبْديّ أبو محمد، وقيل: أبو عَدِيّ، وقيل: أبو عبد الله البَصْري. قيل: أصله من بُخارى. قال ابن مَعين وأحمد وابن سعد: ثقة. وقال العِجْلي: ثقة ثبت في الحديث. وذكره ابن حِبان في "الثقات". وقال ابن قانع: صالح. وقال أبو حاتم: صدوق، وكان يحيى بن سعيد لا يرضاه. قال البخاري: احتج يحيى بن سعيد بكتاب عثمان بن عمر بحديثين عن أُسامة، عن عطاء، عن جابر: "عرفةُ كلُّها موقف". قال ابن حَجَر: احتج به وهو شديد التعنت في الرجال، لاسيما مَن كان من أقرانه. وقد احتج به الجماعة. روى عن: ابن عون، وكَهْمَس بن الحسن، ويونس بن يزيد، وابن أبي ذئب، وشعبة، وحمّاد بن نُجَيْح، وعيسى بن دِينار، وقُرة بن خالد، وطائفة. وروى عنه: أحمد، وإسحاق، وبُندار، وعبد الله بن محمد المُسْنِدي، وأحمد بن سعيد الدارِمي، وهارون الحمّال، وجماعة. مات سنة ثمانين ومئتين. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والإخبار بصيغة الجمع في موضع واحد، والعنعنة في ثلاثة مواضع، ورواته ما بين بصري وأَيْليّ ومَدَني. أخرجه البخاري هنا، وفي الصلاة أيضًا عن إسحاق الكَوْسَج. ومسلم في الصلاة أيضًا عن زهير بن حرب وغيره. وأبو داود في الطهارة عن أبي بكر بن الفضل، وفي الصلاة أيضًا عن محمود بن خالد. والنسائي في الطهارة عن عمرو بن عثمان.

ورجالها أربعة

تابَعَهُ عَبْدُ الأَعْلَى عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ ورَوَاة الأَوْزَاعِيُّ عَنِ الزُّهْرِيِّ. وظن بعضهم أن السبب في التفرقة بين قوله: "تابعه"، وبين قوله: "رواه" كون المتابعة وقعت بلفظه، والرواية بمعناه، وليس كما ظُنَّ، بل هو من التفنُّن في العبارة. وهذه متابعة ناقصة، وهو تعليق للبخاري، وهو موصول عند الإِمام أحمد عن عبد الأعلى. ورواية الأوزاعي موصولة عند البخاري في أوائل أبواب الإمامة كما يأتي إن شاء الله تعالى. ورجالها أربعة: الأول: عبد الأعلى السّامي وقد مرَّ في الثالث من كتاب الإيمان. ومرَّ مَعْمر بن راشد والزُّهري في الثالث من بدء الوحي. ومرَّ الأوزاعي في العشرين من كتاب العلم. باب نفض اليدين من الغسل عند الجنابة كذا لأبي ذر وكريمة، وللباقين: "من غُسْل الجنابة" أي: من ماء غسلها.

الحديث الثامن والعشرون

الحديث الثامن والعشرون حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَمْزَةَ قَالَ: سَمِعْتُ الأَعْمَشَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ كُرَيْبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَتْ مَيْمُونَةُ وَضَعْتُ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- غُسْلاً، فَسَتَرْتُهُ بِثَوْبٍ، وَصَبَّ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَهُمَا، ثُمَّ صَبَّ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ، فَغَسَلَ فَرْجَهُ، فَضَرَبَ بِيَدِهِ الأَرْضَ فَمَسَحَهَا، ثُمَّ غَسَلَهَا فَمَضْمَضَ، وَاسْتَنْشَقَ، وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ، ثُمَّ صَبَّ عَلَى رَأْسِهِ، وَأَفَاضَ عَلَى جَسَدِهِ، ثُمَّ تَنَحَّى فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ، فَنَاوَلْتُهُ ثَوْبًا فَلَمْ يَأْخُذْهُ، فَانْطَلَقَ وَهْوَ يَنْفُضُ يَدَيْهِ. قوله: "وهو ينفض يديه" أي: من الماء، جملة اسميه وقعت حالًا. واستدل به على إباحة نفض اليد في الوضوء والغسل، وقد مرَّ الكلام على إباحة التنشيف وعدمها فيما مر. وعند من يجيز التنشيف يجوز النفض بالأَوْلى، ورجَّح النووي في "الروضة" و"شرح المهذب" جوازه، إذ لم يثبُت في النهي عنه شيء، والأشهر تركه؛ لأن النفض كالتبرِّي من العبادة، فهو خلاف الأولى، وهذا ما رجحّه في "التحقيق"، وجزم به في "المنهاج"، وفي "المهمات" أن به الفتوى. وقيل: مكروه، وصححه الرافعي، وقد مرت مباحث الحديث في أول الغُسل. رجاله سبعة: الأول: عَبْدان وقد مرَّ في الحديث الخامس من بدء الوحي. ومرَّ سليمان بن مِهْران في السادس والعشرين من كتاب الإيمان. ومرَّ سالم بن أبي الجعد في السابع من كتاب الوضوء. ومرَّ كُرَيْب في الرابع منه، ومرَّ عبد الله بن عباس في الخامس من بدء الوحي. ومرّت ميمونة في الثامن والخمسين من كتاب العلم.

والسابع: مُحمد بن مَيْمون المَرْوَزي أبو حَمْزة السُّكَّري. قال أحمد: ما بحديثه بأس، وهو أحب إلى حديثًا من حُسين بن واقد، وقال النَّسائي: ثقة. وقال الدوري: كان من ثقات الناس، ولم يكن يبيع السكر، ولكنه سُمِّي السُّكَّري لحلاوة كلامه، وقيل: لأنه كان يحمله في كمه. وقال ابن المبارك: حسين بن واقد ليس بحافظ، ولا يُترك حديثه، وأبو حمزة صاحب حديث. وقال مرة: السُّكَّري وابن طَهْمان صحيحا الكتاب. وقال علي بن الحسين بن شقيق: سئل ابن المبارك عن الأئمة الذين يُقتدى بهم، فذكر أبا بكر وعمر، حتى انتهى إلى أبي حمزة، وأبو حمزة حي. وقال يحيى بن أكثم: سئل ابن المبارك عن الاتِّباع، فقال: الاتِّباع ما كان عليه حُسين بن واقد وأبو حمزة. وقال العباس بن مصعب: كان مستجاب الدعوة. وقال النَّسائي مرة: لا بأس به، إلاَّ أنه كان قد ذهب بصره في آخر عمره، فمن كتب عنه قبل ذلك فحديثه جيد. وقال ابن عبد البر في "التمهيد": ليس بقوي، ذكره في ترجمة سُمَي. وذكره القطان العباسي فيمن اختُلِط، ووثقه أحمد بن حَنْبَل ويحيى بن مَعين. قال ابن حجر: وأغرب ابن عبد البر في قوله المتقدم: إن ليس بقوي. قال: واحتج به الأئمة كلهم، والمُعتمد فيه ما قال النَّسائي، ولم يخرِّج له البخاري إلا أحاديث يسيرة من رواية عبدان عنه، وهو من قدماء أصحابه. روى عن: أبيه، وإسحاق السَّبيعي، وزياد بن عِلاقة، والأعمش، وعاصم الأحول، ومنصور بن المعتمِر، ومنصور بن زاذان، وغيرهم. وروى عنه: ابن المبارك، والفَضْل بن موسى السِّيناني، وعبدان بن عثمان، وسلامة بن الفضل الأبرش، ونُعيم بن حمّاد، وغيرهم. مات سنة ست وستين ومئة. وهذا الحديث ذكَره البخاري في ثمانية مواضع، ذكره قبل هذا بست، وهذا هو السابع، وذكره مرة أخرى.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وفيه السماع، وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع، وفيه القول، وفيه مروَزِيّان عبدان وشيخه أبو حمزة، وكوفيّان الأعمش وشيخه سالم بن أبي الجعد، ومدنيّان كُرَيْب وابن عباس. وفي الإِسناد الذي قبله كذلك يوسف بن عيسى وشيخه الفضل مروَزِيّان وخراسيّان، وفيما قبل ذلك موسى وأبو عَوانة شيخه بصريّان، وكذلك موسى وعبد الواحد، وكذا محمد بن محبوب وعبد الواحد، وفيما قبل ذلك مكيّان الحُمَيْدي وشيخه سفيان بن عيينة، وكلهم رواه عن الأعمش. باب من بدأ بشقِّ رأسه الأيمن في الغسل الشِّق -بكسر الشين- وقد تقدم مثل هذا في باب من بدأ بالحِلاب.

الحديث التاسع والعشرون

الحديث التاسع والعشرون حَدَّثَنَا خَلاَّدُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنَّا إِذَا أَصَابَتْ إِحْدَانَا جَنَابَةٌ، أَخَذَتْ بِيَدَيْهَا ثَلاَثًا فَوْقَ رَأْسِهَا، ثُمَّ تَأْخُذُ بِيَدِهَا عَلَى شِقِّهَا الأَيْمَنِ، وَبِيَدِهَا الأُخْرَى عَلَى شِقِّهَا الأَيْسَرِ. قوله: "عن صفية" للإسماعيلي أنه سمع صفية. وقوله: "أصاب" لكريمة: "أصابت". وقوله: "إحدانا" أي: أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-. وللحديث حكم الرفع؛ لأن الظاهر اطّلاع النبي عليه الصلاة والسلام على ذلك، وهو مصير من البخاري إلى القول بأن لقول الصحابي: "كنا نفعل كذا" حكم الرفع، سواء صرح بإضافته إلى زمنه عليه الصلاة والسلام أم لا، وبه جزم الحاكم. وقوله: "أخذت بيديها"، ولكريمة: "بيدها" أي: الماء. وصرح به الإسماعيلي في روايته. وقوله: "فوق رأسها" أي: فصبته فوق رأسها. وللإسماعيلي: "ثم أخذت بيديها الماء، ثم صبت على رأسها". وقوله: "وبيدها الأخرى" رواية الإسماعيلي: "ثم أخذت" أدل على الترتيب من رواية المصنف، وإن كان لفظ الأخرى يدُل على أن لها أولى، وهي متأخرة عنها.

رجاله خمسة

فإن قيل: الحديث دالٌّ على تقديم أيمن الشخص لا أيمن رأسه، فكيف يطابق الترجمة. أجاب الكرماني بأن المراد من أيمن الشخص أيمنه من رأسه إلى قدمه، فيطابق. والذي يظهر أنه حمل الثلاث في الرأس على التوزيع كما مرَّ في باب من بدأ بالحِلاب، وفيه التصريح بأنه بدأ بشِقِّ رأسه الأيمن. رجاله خمسة: الأول: خَلّاد -بفتح الخاء وتشديد اللام- ابن يحيى بن صفوان السُّلَمي أبو محمد الكوفي سكن مكة. قال أحمد: ثقة أو صدوق، ولكن كان يرى شيئًا من الإرجاء. وقال ابن نُمَيْر: صدوق، إلاَّ أن في حديثه غلطًا قليلًا. وذكره ابن حِبّان في "الثقات". وقال العِجْلي: ثقة. وقال الخليلي في "الإرشاد": ثقة إمام. وقال الحاكم: قلت للدارقطني: فخلّاد بن يحيى؟ قال: ثقة، إنما أخطأ في حديث واحد، حديث الثوري، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عمرو بن حرَيْث، عن عُمر بن الخطاب، حديث: "لأَنْ يمتلى جوفُ أحدِكم قيحًا خيرٌ له من أن يمتلى شعرًا" رفعه، ووقفه الناس. روى عن: عيسى بن طَهْمان، ونافع بن عمر الجُمَحِيّ، والثوري، ومِسْعَر، وإبراهيم بن نافع المكّي، وغيرهم. وروى عنه: البخاري. وروى له: أبو داود والترمذي بواسطة عن جعفر بن مُسافر عنه. وروى أبو زُرعة وأبو بكر الصنعاني، وحنبل بن إسحاق، وغيرهم. سكن مكة، ومات بها سنة سبع عشرة سنة ومئتين. الثاني: إبراهيم بن نافع المَخْزُومي أبو إسحاق المكّي، يقال: إنه ابن أخت عطاء الكيخاراني. روى عن: الحسن بن مسلم بن يَنّاق، وابن أبي نُجَيْح، وعطاء بن أبي رباح، وعدة.

وروى عنه: ابن المبارك، وابن مهدي، وأبو عامر العَقَدي، وخلّاد بن يحيى، وغيرهم. قال ابن عيينة: كان حافظًا. وقال ابن مَهْدي: كان أوثق شيخ بمكة. وقال أحمد وابن مَعين والنسائي: ثقة. وقال وكيع: كان إبراهيم يقول بالقدر، وكان أحمد يُطريه. وذكره ابن حِبّان في "الثقات". الثالث: الحسن بن مسلم بن يَنّاق -بفتح الياء وتشديد النون- المكّي. روى عن: صفية بنت شَيْبَة، وطاووس، ومجاهد، وسعيد بن جُبَيْر، وعطاء الكَيْخاراني، وعُبيد بن عُمير، ولم يدركه. وروى عنه: أبان بن صالح، وإبراهيم بن نافع، وعمرو بن مُرة، وحُميد الطويل، وجماعة. قال ابن مَعين وأبو زُرعة وأبو حاتم والنسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وذكره ابن حِبّان في "الثقات". وقال أبو داود: كان من العلماء بطاووس. وقال ابن سعد: مات قبل طاووس، وكان ثقة، وله أحاديث. الرابع: صفية بنت شَيْبة بن عثمان العبدَرِيّة، مختَلَف في صحبتها، وأبعدَ من قال: لا رؤيةَ لها، فقد أثبت حديثها في "صحيح" البخاري تعليقًا أنها قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وأخرج ابن مَنْدَه عنها أنها قالت: "والله لَكَأني انظر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين دخل الكعبة". الحديث. لها خمسة أحاديث، اتّفق الشيخان على روايتها عن عائشة، بقيت إلى زمان ولاية الوليد بن عبد الملك، وهي من صغار الصحابة، وأبوها شَيْبة صحابي مشهور، وذكرها ابن حِبّان في ثقات التابعين. روت عن: عائشة، وأم حبيبة، وأم سلمة أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعن أسماء بنت أبي بكر، وأم عثمان بنت سفيان، وعن أم ولد لشَيْبَة، وغيرهم.

لطائف إسناده

وروى عنها: ابنها من عبد الرحمن الحَجَبي، وابن أخيها عبد الحميد بن جُبَيْر بن شَيْبَة، والحسن بن مسلم، وقَتادة، والمُغيرة بن حكيم، وعُبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور، وميمون بن مِهْران، وأدركها ابن جُرَيْج ولم يسمع منها. والعبدَرِيّة في نسبها نسبة إلى بني عبد الدار بن قُصَيّ بن كِلاب، منهم: حَجَبة الكعبة، وجدهم شيبة بن عثمان بن طلحة بن عبد الله بن عبد العُزَّى بن عثمان بن عبد الدّار، ومُصعب بن عُمير الشهيد، والحافظ أبو عامر، ومحمد بن سَعْدُون العَبْدَرِيّان محدثان. الخامس: عائشة رضي الله تعالى عنها، وقد مرَّت في الثاني من بدء الوحي. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمعٍ في موضعين، والعنعنة في ثلاثة مواضع، ورواته كلهم مكيّون ما خلا خلّاداً، وهو أيضًا سكن مكة كما ذكرنا، وفيه رواية صحابيّة عن صحابية. والحديث أخرجه أبو داود عن عثمان بن أبي شَيْبة. بسم الله الرحمن الرحيم بابُ مَنِ اغْتَسلَ عُرْيَانًا وَحْدَهُ في الخَلْوَةِ ومَنْ تَسَتَّر فالتستُّر أَفْضَلُ سقط لفظ البسملة لغير أبي ذر. وقوله: "في خلوة" للكشميهني ولغيره: "في الخلوة"، أي: من الناس، وهي تأكيد لقوله: "وحده"، واللفظان متلازمان بحسب المعنى. وقوله: "ومن تَسَتَّر" عطف على من اغتسل السابق، وللحموي والمُسْتَملي: "ومن يستَتِر". وقوله: "فالتستُّر أفضل" ولأبوي ذر والوقت: "والتستر" بالواو.

وهذا لا خلاف فيه، ويُفهم منه جواز الكشف للحاجة كالاغتسال، كما هو مذهب الجمهور، خلافًا لابن أبي ليلى، لحديث أبي داود مرفوعًا: "إذا اغتسل أحدُكم فَلْيَسْتَتِرْ" قال لرجل رآه يغتسل عريانًا وحده. وفي "مراسيله" عن الزهري حديث: "لا تغتسلوا في الصحراء إلاَّ أن تجدوا مُتَوارىً"، فإن لم تجِدوا مُتَوارىً فَلْيَخُطَّ أحدُكم كالدائرة، فليسمِّ الله، وليغتسل فيه". وحكاه الماوردي وجهًا للشافعية فيما إذا نزل في الماء عريانًا بغير مِئْزر، لحديث: "لا تدخُلوا الماء إلا بمئزرٍ، فإن للماء عامرًا". وضعِّف. فإن لم تكن حاجة للكشف، فمذهب المالكية كراهة التنزيه في كشف العورة المغلَّظة وما قاربها، وعند الشافعية، قال القسطلاني: الأصح في هذه الحالة التحريم. وقال في "الفتح": رجَّح بعض الشافعية التحريم، والمشهور عند متقدميهم كغيرهم: الكراهة فقط. وقالَ بَهْزٌ عَنْ أَبيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- اللهُ أحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَى مِنْهُ مِنَ النَّاسِ. قوله: "وقال بَهْز" زاد الأصيلي: "ابن حكيم". وقوله: "أن يُسْتَحْيى منه من الناس" كذا للأكثر من الرواة، وللسَّرْخَسي: "أحق أن يُستتر منه"، وهذا بالمعنى. والحديث المعلق أخرجه أصحاب "السنن" وغيرهم، من طرق عن بَهْز، وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم. ولفظه عند ابن أبي شيبة: "عن جد بَهْز قال: قلت: يا رسول الله: عوراتنا: ما نأتي منها وما نذر؟ قال: احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك. قلت: يا رسول الله: أحدنا إذا كان خاليًا؟ قال: الله أحق أن يُسْتَحْيَى منه من الناس". فالإسناد إلى بَهْز صحيح، ولهذا جزم به البخاري، وأما بَهْز وأبوه فليسا من شرطه، ولهذا لما علق في النكاح شيئًا

من حديث جد بَهْز لم يجزم به، بل قال: ويُذكر عن معاوية بن حَيْدة، فعُرف من هذا أن مجرد جزمه بالتعليق لا يدُلُّ على صحة الإسناد إلاَّ إلى من علَّق عنه، وأما ما فوقه فلا يدُل. والحديث وارد في كشف العورة، خلافًا لما قال البوني: إن المراد بقوله: "أحق أن يُسْتَحْيَى منه" أي: فلا يُعصى. وقوله: "إلاَّ من زوجتك" دالٌّ على أنه يجوز لها النظر إلى ذلك منه، وقياسه أنه يجوز له النظر لذلك منها، إلا حلقة الدبر كما عند الدّارمي من الشافعية. ويدُلُّ أيضًا على أنه لا يجوز النظر لغير من استُثني، ومنه: الرجل للرجل، والمرأة للمرأة. وفيه حديث في "صحيح" مسلم. ثم إن ظاهر حديث بَهْز يدُلُّ على أن التعرّي في الخلوة غير جائز مطلقًا، لكن استدل المصنف على جوازه في الغُسْل بقصة موسى وأيوب عليهما الصلاة والسلام، ووجه الدلالة منه أنهما ممن أمرنا بالاقتداء بهم، وهذا إنما يتأتّى على رأي من يقول: شرع من قبلَنا شرعٌ لنا، ما لم يرد ناسخ. والذي يظهر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قصَّ القصتين ولم يتعقَّب شيئًا منهما، فدل على موافقتهما لشرعنا، وإلا فلو كان فيهما شيء غير موافق لبيَّنَه، فعلى هذا يُجمع بين الحديثين يحمل حديث بَهْز بن حكيم على الأفضل، وإليه أشار في الترجمة، كما مر أنه مما لا خلاف فيه. رجاله ثلاثة: الأول: بَهْز بن حكيم بن مُعاوية بن حَيْدة أبو عبد الملك القُشَيْري. قال ابن قُتيبة: من خيار الناس. وقال ابن مَعين: ثقة. وقال أيضًا: إسناد صحيح إذا كان دون بَهْز ثقة. وقال ابن المديني والنّسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: شيخ يُكتب حديثه ولا يُحتج به. وقال أيضًا: عمرو بن شُعيب عن أبيه عن جده، أحب إلى. وقال أبو زُرعة: صالح، ولكنه ليس بالمشهور. وقال صالح جَزَرة: إسناد أعرابي. وقال الحاكم: كان من الثقات، ممن يُجمع حديثه، وإنما أُسقط من

الصحيح روايته عن أبيه عن جده لأنها شاذّة، لا متابِع له عليها. وقال ابن عدي: قد روى عنه ثقات الناس، وقد روى عنه الزهري، وأرجو أنه لا بأس به، ولم أر له حديثًا منكرًا، وإذا حَدَّث عنه ثقة، فلا بأس به. وقال أبو داود: هو عندي حجة، وعند الشافعي ليس بحجة، ولم يحدِّث شعبة عنه، وقال له: من أنت ومن أبوك. وقال التِّرمذي: قد تكلم شعبة في بَهْز، وهو ثقة عند أهل الحديث. وقال محمد بن الحسين أبو جعفر: قلت لأحمد بن حنبل: ما تقول في بَهْز؟ فقال: سألت غُندرًا عنه، فقال: قد كان شُعبة لم يبيِّن معناه، فكتبت عنه. قال: وسألت ابن مَعين: هل روى شعبة عن بَهْز؟ قال: نعم حديث: "اترعون عن ذكر الفاجر"، وقد كان متوقفًا عنه. وقال أبو جعفر السَّبْتِي: بَهْز بن حكيم عن أبيه عن جده صحيح. وقال ابن حِبّان: كان يُخطىء كثيرًا. فأما أحمد وإسحاق فهما يحتجّان به، وتركه جماعة من أئمتنا, ولولا حديثه: "إنا آخذوها وشطرَ مالِه عَزْمةٌ من عَزَماتِ ربِّنا" لأدخلناه في الثقات، وهو ممن أستخير الله فيه. روى عن: أبيه، وهشام بن عُروة. وروى عنه: سليمان التيمي، وابن عَوْن، وجرير بن حازِم، وغيرهم، من أقرانه، والحمّادان، ومَعْمر بن راشِد، وغيرهم. وقال أحمد بن بشير: أتيت البصرة في طلب الحديث، فأتيت بَهْزًا، فوجدته يلعب الشطرنج مع قومٍ، فتركته ولم أسمع منه. الثاني: أبوه: حكيم بن مُعاوية بن حَيْدة -بفتح المهملة وسكون المثناة التحتانية- القُشَري. روى عن: أبيه. وروى عنه: بنوه بَهْز وسَعيد ومِهران، وسَعيد بن أبي إياس، وأبو قزعة. قال العجلي: ثقة. وقال النسائي: ليس به بأس. وذكره ابن حِبّان في "الثقات". وذكره أبو الفضائل فيمن اختُلِف في صحبته، وهو وهم منه، فإنه

تابعيٌّ قطعًا. الثالث: أبو حكيم مُعاوية بن حَيْدة بن معاوية بن قُشَيْر بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صَعْصَعة القُشَيْري. نزل البصرة. قال ابن سعد: له وِفادة وصحبة. وقال البخاري: سمع النبي -صلى الله عليه وسلم-. وزعم الحاكم أن ابنه تفرد عنه، ولكن موجودةٌ روايةٌ لعُروة بن رُوَيْم اللخمي عنه. وذكر المِزِّي أن حُميدًا المُزَني روى عنه. وأخرج البغوي من طريق الزُّهري قال: حدثَني رجل من قُشير يقال له: بَهْز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في كل ذَوْد خمسٌ، سائِمةُ الصدقة". قال البغوي: تفرد به الزُّهري، وأظنه من رواية مَعْمر عن بَهْز بن حكيم. علق له البخاري في النكاح، وفي الغسل هنا. وقال ابن الكَلْبي: أخبرني أبي أنه أدركه بخُراسان، ومات بها. وهذا الحديث المعلق الذي مر أن الأربعة أخرجوه، أخرجه أبو داود في كتاب الحمام. والترمذي في الاستئذان في موضعين. والنسائي في عِشْرة النساء. وابن ماجه في النكاح.

الحديث الثلاثون

الحديث الثلاثون حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَغْتَسِلُونَ عُرَاةً، يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَكَانَ مُوسَى يَغْتَسِلُ وَحْدَهُ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا يَمْنَعُ مُوسَى أَنْ يَغْتَسِلَ مَعَنَا إِلاَّ أَنَّهُ آدَرُ، فَذَهَبَ مَرَّةً يَغْتَسِلُ، فَوَضَعَ ثَوْبَهُ عَلَى حَجَرٍ، فَفَرَّ الْحَجَرُ بِثَوْبِهِ، فَخَرَجَ مُوسَى فِي إِثْرِهِ يَقُولُ ثَوْبِي يَا حَجَرُ. حَتَّى نَظَرَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى مُوسَى، فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا بِمُوسَى مِنْ بَأْسٍ. وَأَخَذَ ثَوْبَهُ، فَطَفِقَ بِالْحَجَرِ ضَرْبًا. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاللَّهِ إِنَّهُ لَنَدَبٌ بِالْحَجَرِ سِتَّةٌ أَوْ سَبْعَةٌ ضَرْبًا بِالْحَجَرِ". قوله: "كانت بنو إسرائيل" أي: جماعتهم، وهو كقوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ} [الحجرات: 14]. وقوله: "يغتسلون عراة"، ظاهره أن ذلك كان جائزًا في شرعهم، وإلا لما أقرهم موسى على ذلك، أو كان حرامًا عندهم، لكنهم كانوا يتساهلون في ذلك، وهذا الثاني هو الظاهر؛ لأن الأول لا ينهضُ أن يكون دليلًا لجواز مخالفتهم له في ذلك، ويؤيده قول القرطبي: كانت بنو إسرائيل تفعل ذلك معاندةً للشرع، ومخالفة لموسى عليه الصلاة والسلام، وهذا من جملة تعنُّتهم، وقلة مبالاتهم باتِّباع شرعه. وقوله: "وكان موسى يغتسل وحده" أي: يختار الخَلْوة، تنزهًا واستحبابًا وحياءً ومروءةً، أو لحرمة التعري. وقوله: "إلاَّ أنه آدَرُ" بالمد وفتح الدال المهملة وتخفيف الراء، أي: عظيم

الخصيتين منتفخهما، والأُدْرة -بضم الهمزة وسكون الدال على المشهور، وبفتحتين- انتفاخ الخصية. وقوله: "فوضع ثوبه على حجر" ظاهره أنه دخل الماء عريانًا، وهو الذي يقتضيه تبويب المصنف. ونقل ابن الجوزي عن الحسن بن أبي بكر النيسابوري أن موسى نزل الماء مؤتزِرًا، فلما خرج تتبَّع الحجر والمئزَرُ مبتلٌّ بالماء، فعلموا أنه غير آدر؛ لأن الأُدْرة تَبِين تحت الثوب المبتَل. قال في "الفتح": هذا وإن كان محتَمَلًا، المنقول يخالفه؛ لأن في رواية علي بن زيد عن أنس عند أحمد في هذا الحديث أن موسى كان إذا أراد أن يدخُل الماء، لم يُلْقِ ثوبه حتى يُواري عورته في الماء. وهذا الحجر، قال سعيد بن جُبَيْر: هو الحجر الذي كان يحمله معه في أسفاره، فيتفجَّر منه الماء. وقوله: "ففرَّ الحجر بثوبه، فخرج موسى في أَثَره" في رواية الكُشْميهني وأبي الوقت: فجَمَعٍ". وأثره -بكسر الهمزة وسكون المثلثة، وبفتحهما- أي: ذهب يجري مسرعاً بعده. وقوله: "ثوبي يا حجر، ثوبي يا حجر" أي: ردَّ ثوبي، أو أعطني، فهو منصوب بفعل مقدر، ويحتمل أن يكون مرفوعًا خبر مبتدأ محذوف، أي: هذا ثوبي، وعلى هذا الثاني، المعنى: استعظام كونه يأخذ ثويه، فعامله معاملة من لا يعلم كونه ثوبه، كي يرجِعَ عن فعله ويَرُدَّه. وقوله: "ثوبي يا حجر" الثانية، ثابتة للأربعة، ولغيرهم: "ثوبي حجر" بحذف "يا"، وإنما خاطبه لأنه أجراه مجرى من يعقل، لكونه فرَّ بثوبه، فانتقل عنده من حكم الجماد إلى حكم الحيوان، فناداه، إذ المتحرِّك يمكن أن يَسْمَع ويُجيب، فلما لم يُعْطِه ضربه. وقوله: "حتى نَظَرت بنو إِسرائيل إلى موسى" ظاهره أنهم رأوا جسده، وبه

يتم الاستدلال على جواز النظر عند الضرورة لمداواة وشبهها، ويأتي ما في هذا قريبًا إِن شاء الله تعالى. وأبدى ابن الجوزي الاحتمال السابق في أنه كان عليه مِئْزَر مبتَلٌّ. وقوله: "والله ما بِموسى من بأس"، في رواية أحاديث الأنبياء "فرأوه عُريانًا أحسنَ الخلائق"، وفي رواية: "فرأوه كأحسن الرجال خَلْقًا"، وعند ابن خُزيمة: "وأعدله صورةً". وقوله: "فطفِقَ بالحجر ضربًا" بكسر فاء "طفِق" وفتحها, وللأصيلي: "وطفِق" أي: شرع في الحجر يضربه ضربًا. وفي رواية الكُشميهني: "فطفِق الحجر ضربًا" والحجر على هذه منصوب بفعل مقدر، أي: يضرب الحجر. وقوله: "فقال أبو هُريرة"، وللأصيلي وابن عساكر: "قال"، وهذا إما من تتمة مقول همّام، فيكون مُسْنَدًا، أو مقول أبي هريرة، فيكون تعليقًا، وبالأول جزم في "الفتح". وقوله: "وإنه لَنَدَب بالحجر" بفتح النون والدال، أي: أثر، فالنَّدَب أثر الجرح. وقوله: "ستة" بالرفع على البدلية، أي: ستة آثار، أو بتقدير هي، أو بالنصب على الحال من الضمير المستكِنّ في قوله: "بالحجر"، فإنه ظرفٌ مستقرٌّ لنَدَب، أي: إنه لَنَدَب استقرَّ بالحجر حال كونه ستة آثار. وقوله: "أو سبعة" بالشك من الراوي. وقوله: "ضربًا بالحجر" بنصب ضربًا على التمييز، أراد عليه الصلاة والسلام إظهار المعجزة لقومه بأثر الضرب في الحجر، ولعله أُوحي. إليه أن يِضرِبه. ومَشْيُ الحجر بالثوب معجزة أخرى. وفي الحديث جواز النظر إلى العورة عند الضرورة الداعية لذلك، من مداواة أو براءة من عَيْب كما رُمِي به موسى من الأُدْرة أو البرَصَ.

واعتُرض هذا بأنه إنما يكون حيث يترتَّب على الفعل حكم، كفسخ النكاح، وأَما قصة موسى عليه الصلاة والسلام فليس فيها أمر شرعي ملزِم يترتب على ذلك، فلولا إباحة النظر إلى العورة لما أمكنهم موسى عليه الصلاة والسلام من ذلك، ولا خرج مارًّا على مجالسهم وهو كذلك. ويدُلُّ على الإباحة أيضًا ما وقع لنبيِّنا -صلى الله عليه وسلم- وقت بناء الكعبة من جعل إزاره على كتفه بإشارة العباس عليه بذلك, ليكون أرفق به في نقل الحجارة، ولولا إباحته لما فعله، لكنه ألزم بالأكمل والأفضل لعلو مرتبته -صلى الله عليه وسلم-. ومجرَّدُ تستُّرِ موسى عليه الصلاة والسلام لا يدُلُّ على الوجوب، لما قُرِّر في الأصول أن الفعل لا يدُلُّ بمجرده على الوجوب، وليس في الحديث أن موسى عليه السلام أمرهم بالتستُّر ولا أنكر عليهم التكشُّف. وقال ابن الجوزي: لما كان موسى في خَلْوة، وخرج من الماءِ، ولم يجد ثوبه، تبع الحجر بناءً على أنه لا يصادِف أحدًا وهو عُريان، فاتَّفق أنه كان هناك قوم، فاجتاز بهم. كما أن جوانب الأنهار وإن خلت، غالبًا لا يُؤمن وجود قومٍ قريبًا منها، فبنى الأمر على أنه لا يراه أحد لأجل خلاء المكان، فأتَّفق رؤية من رآه، والذي يظهر أنه استمر يتبع الحجر على ما في الخبر، حتى وقف على مجلس من بني إسرائيل، كان فيهم من قال فيه ما قال، وبهذا تظهر الفائدة، وإلا فلو كان الوقوف على قوم منهم في الجملة، لم يقع ذلك الموقع. وفي الحديث أن الأنبياء في خَلْقِهم وخُلُقِهم على غاية الكمال، وأن من نَسَبَ نبيًّا من الأنبياء إلى نقص في خِلْقته فقد آذاه، ويُخشى على فاعله الكفر. قلت: بل هو مرتدٌّ في مذهب الإمام مالك. وفيه أن الآدمي يغلب عليه طباع البشر؛ لأن موسى عليه الصلاة والسلام علم أن الحجر ما سار بثوبه إلا بأمر من الله، ومع ذلك عامله معاملة من يعقِلُ حتى ضربه، ويُحتمل أنه أراد بيان معجزة أخرى لقومه بتأثير الضرب بالعصى في الحجر كما مر.

رجاله خمسة

وفيه ما كان عليه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الصبر على الجُهّال، واحتمال أذاهم، وجَعْل الله تعالى العاقبة لهم على من آذاهم. رجاله خمسة: الأول: إسحاق بن إبراهيم بن نَصْر، وقد مرَّ في الحادي والعشرين من كتاب العلم. والثاني: عبد الرزّاق بن همّام، وقد مرَّ في السادس والثلاثين من كتاب الإِيمان، ومرَّ معه همّام بن مُنَبِّه. ومر مَعْمر بن راشد في الثالث من بدء الوحي. ومرَّ أبو هُريرة في الثاني من كتاب الإيمان. والحديث أخرجه مسلم في أحاديث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عن محمد بن رافع.

الحديث الحادي والثلاثون

الحديث الحادي والثلاثون وَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "بَيْنَا أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا فَخَرَّ عَلَيْهِ جَرَادٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ أَيُّوبُ يَحْتَثِى فِي ثَوْبِهِ، فَنَادَاهُ رَبُّهُ يَا أَيُّوبُ، أَلَمْ أَكُنْ أَغْنَيْتُكَ عَمَّا تَرَى! قَالَ: بَلَى وَعِزَّتِكَ وَلَكِنْ لاَ غِنَى بِي عَنْ بَرَكَتِكَ". قوله: "وعن أبي هُريرة" هو معطوف على الإسناد الأول، وجزم الكِرْماني بأنه تعليق بصيغة التمريض فأخطأ، فإن الحديثين ثابتان في نسخة همّام بالإسناد المذكور. وقد أخرج البخاري هذا الثاني من رواية عبد الرزّاق بهذا الإِسناد في أحاديث الأنبياء. وقوله: "بَيْنا أيوب" وفي رواية أحاديث الأنبياء: "بينما"، وأصل بينا بين أُشبعت الفتحة أو زيدت الميم. و"يغتسل" خبر المبتدأ، والجملة في محل الجر بإضافة بين إليه، والعامل: "خرَّ عليه" أو: هو مقدر، وخرَّ مفسِّر له. وقد مر في أوائل أحاديث الوحي إشباع الكلام على بينا. وعند أحمد وابن حِبّان عن أبي هريرة: "لما عافى الله أيّوبَ أمطر عليه جرادًا من ذهب". وقوله: "فخرَّ عليه جراد من ذهب" في رواية أحاديث الأنبياء: "رِجْل جرادٍ من ذهب"، والرِّجْلِ -بكسرٍ فسكون-: الطائفة العظيمة من الجراد، والجراد اسم جمع، واحدُه جرادة، كتمر وتمرة. وحكى ابن سيدة أنه يقال للذكر: جراد، وللأنثى جرادة، وسُمّي جرادًا لأنه يجرد الأرض، أي: يأكلها. وقوله: "يَحْتَثي في ثوبه" بإسكان المهملة وفتح المثناة بعدها مثلثة، وفي رواية: "يَحْثي" بفتح المثناة التحتية، وفي رواية القابِسيّ: "يحتثِن" بنون في

آخره بدل الياء، والحَثْيَة هي الأخذ باليدين جميعًا، وفي رواية بَشير بن نَهيك: "يلتقِط"، وفي حديث ابن عبّاس عند أبي حاتم: "فجعل أيّوب ينشُرُ طرفَ ثوبه فيأخذ الجراد، فيجعله فيه، فكلما امتلأت ناحية نشر ناحية". وهل كان الجراد حقيقة ذا روح إلا أن اسمه ذهب، أو كان على شكل الجراد وليس فيه روح، والأظهر الثاني. وقوله: "فناداه ربه"، يُحتمل أن يكون بواسطة أو بإلهام، ويُحتمل أن يكون بغير واسطة كما كلَّم موسى. وقوله: "قال: بلى وعزتك" أي: أغنيتني، ولو قيل في مثل هذه المواضع بدل بلى: نعم. كقوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 170]، لم يجُز، بل يكون كُفرًا؛ لأن بلى مختصّة بجواب النفي، وتصييره إثباتًا، ونعم مقرِّرة لما سبقها من نفي أو إثبات. والفقهاء لم يفرِّقوا بينهما في الأقارير لأن مبناها على العرف، ولا فرق بينهما في العرف، ولا يُحمل هذا على المعاتبة، وإنما هو استنطاق بالحجة. وقوله: "ولكن لا غنى بي عن بركتك" أي: خيرك، وغِنى بكسر الغين- والقصر من غير تنوين، على أن لا لنفي الجنس، ورُوي بالتنوين والرفع على أن لا بمعنى ليس، ومعناهما واحد؛ لأن النكرة في سياق النفي تفيد العموم، إلا أن الأولى توجب الاستغراق، والثانية تجوِّزه. وخبر لا، يُحتمل أن يكون: بي، أو: عن بركتك. وفي رواية بشير بن نَهِيك: "فقال: ومَنْ يشبعُ من رحمتك؟ أو قال: من فضلك". ووجه الدلالة من حديث أيوب هذا أن الله تعالى عاتبه على جمع الجراد، ولم يعاتبه على الاغتسال عُريانًا، فدل على جوازه. وفي الحديث جواز الحِرْص على الاستكثار من الحل الذي حق من وَثِق من نفسه بالشكر عليه. وفيه تسمية المال الذي يكون من هذه الجهة بركة.

رجاله خمسة

ومُحال أن يكون أيوب عليه الصلاة والسلام أخذ هذا المال حبًّا للدنيا، وإنما أخذه كما أخبر هو عن نفسه؛ لأنه بركة من ربه تعالى؛ لأنه قريب العهد بتكوينه عَزَّ وَجَلَّ، أو أنه نعمة جديدة خارقة للعادة، فينبغي تلقّيها بالقَبول، ففي ذلك شُكرٌ لها، وتعظيمٌ لشأنها، وفي الإعراض عنها كفر لها. واستنبط منه الخطابي جواز أحد النِّثار في الأملاك. وتعقبه ابن التين فقال: هو شيء خصَّ الله به نبيه أيوب، بخلاف النِّثار، فإنه من فعل الأدمي، فإن يُكره لما فيه من السَّرَف. ورُدَّ عليه بأنه أُذن فيه من قِبَل الشارع إن ثبت الخبر، يعني الخبر المبيح له، ويُستأنس له بهذه القصة. ويأتي الكلام على نسب أيوب عليه السلام وما قيل في بلائه في أحاديث الأنبياء، عند ذكر هذا الحديث. ورَوَاهُ إبراهيمُ عَنْ مُوسَى بن عُقْبَةَ عَن صَفْوَانَ عَنْ عَطَاءِ بنِ يَسَارٍ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ عَنْ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قالَ: "بَيْنَا أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا" وهذه الرواية موصولة، أخرجها النسائي عن أحمد بن حفص، عن أبيه، عن إبراهيم. والإسماعيلي عن أبي بكر بن عُبيد الشَّعراني، عن أحمد بن حفص ... إلخ. رجاله خمسة: الأول: إبراهيم بن طَهْمان بن شُعبة الخُراساني أبو سعيد، وُلد بهراة، وسكن نَيْسابور، وقدم بغداد، ثم سكن مكة إلى أن مات. قال ابن المبارك: صحيح الحديث. وقال علي بن الحسن بن شَقيق: سمعت ابن المبارك يقول: أبو حمزة السُّكّري وإبراهيم بن طَهْمان صحيحا العلم والحديث. وقال أحمد وأبو حاتم وأبو داود: ثقة. وزاد أبو حاتم: صدوق حسن الحديث. وقال ابن مَعين والعِجْلي: لا بأس به. وقال عُثمان بن سعيد الدارِمي: كان ثقة في الحديث، لم يزل الأئمة يشتهون حديثه ويرغبون فيه

ويوثِّقونه. وقال صالح بن محمد: ثقة حسن الحديث، يميلُ شيئًا إلى الإرجاء في الإِيمان، حبب الله حديثه إلى الناس، جيد الرواية. وقال إسحاق بن رَاهَوَيه: كان صحيح الحديث، حسن الرواية، كثير السماع، ما كان بخراسان أكثر حديثًا منه، وهو ثقة. وقال يحيى بن أكثم: كان من أنبل من حدَّث بخُراسان والعراق والحجاز، وأوثقهم وأوسعهم علمًا. وقال أحمد: كان يرى الإِرجاء، وكان شديدًا على الجهمية. وقال أبو زُرعة: ذُكر عند أحمد وكان متكئًا، فاستوى جالسًا، وقال: لا ينبغي أن يُذكر الصالحون فنتَّكِىء. وقال الدارقُطني: ثقة، إنما تكلموا فيه للإرجاء. وقال ابن عمّار: ضعيف مضطرب الحديث. فذُكِرَ ذلك لصالح جزرة، فقال: ابنُ عمار، من أين يعرف حديث إبراهيم؟ إنما وقع إليه حديث إبراهيم في الجمعة عن المعافى بن عِمران، عن إبراهيم، عن محمد بن زياد، عن أبي هُريرة: "أول جُمعة جمعت ... إلخ"، قال صالح: والغلط فيه من غير إبراهيم؛ لأن جماعة رووه عنه، عن أبي جمرة، عن ابن عبّاس، وكذا هو في تصنيفه، وهو الصواب. وتفرد المعافى بذكر محمد بن زياد، فكان الغلط منه لا من إبراهيم. وقال السُّليماني: أنكروا عليه حديثه عن أبي الزُّبير، عن جابر في رفع اليدين، وحديثه عن شُعبة عن قَتادة عن أنس: "رُفِعَت لي سِدرة المنتهى، فإذا أربعة أنهار". فأمّا حديث أنس فعلَّقه البخاري في "الصحيح" لإبراهيم، ووصله أبو عَوانة في "صحيحه". وأما حديث جابر، فرواه ابن ماجه من طريق أبي حُذيفة عنه. وقال ابن حِبّان في "الثقات": قد روى أحاديث مستقيمة تُشبه أحاديث الأثبات، وقد تفرد عن الثقات بأحاديث مُعْضَلة. قال ابن حجر: والحق فيه أنه ثقة صحيح الحديث إِذا روى عنه ثقة، ولم يثبت غلوه في الإرجاء، ولا كان داعية إليه، بل ذكر الحاكم أنه رجع عنه، وأفرط

ابن حزم فذكر أنه ضعيف، وهو مردود، وأكثر ما خرج له البخاري في الشواهد، وأخرج له الباقون. روى عن أبي إسحاق السَّبِيعي، وأبي إسحاق الشَّيباني، وعبد العزيز بن صُهَيْب، والأعمش، وشُعبة، وسُفيان، وجماعة. وروى عنه: حَفْص بن عبد الله، وخالد بن نِزار بن المبارك، وأبو عامر العَقَدي، وغيرهم. مات بمكة سنة ثمان وستين ومئة. وقيل: سنة ثمان وخمسين. والثاني: موسى بن عقبة وقد مرَّ في الخامس من كتاب الوضوء. ومرَّ أبو هُريرة في الثاني من كتاب الإِيمان. ومرَّ عطاء بن يسار في الثالث والعشرين منه أيضًا. والخامس: صفوان بن سُلَيْم المدني أبو عبد الله، وقيل: أبو الحارث القُرَشي الزُّهري مولاهم الفقيه. قال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث عابدًا. وقال سفيان: حدثني صفوان بن سليم وكان ثقة. وقال يحيى بن سعيد: هو أحب إلى من زيد بن أسلم. وقال أحمد: رجل يُسْتَشْفى بحديثه، ويَنْزِل القطر من السماء بذكره. وقال مرة: ثقة من خيار عباد الله تعالى الصالحين. وقال العِجْلي وأبو حاتم والنَّسائي: ثقة. وقال يعقوب بن شَيْبة: ثقة ثبت مشهور في العبادة. وقال مالك: كان صفوان يصلّي في الشتاء في السطح، وفي الصيف في بطن البيت، يتيَّقظ بالحر والبرد حتى يصبح. وقال أنس بن عياض: رأيت صفوان ولو قيل له: غدًا القيامة. ما كان عنده مزيد. وقال ابن عُيينة: حلف صفوان أن لا يضع جَنْبَه بالأرض حتى يَلْقى الله تعالى، فمكث على ذلك أكثر من ثلاثين سنة. وقال العِجْلي: مدني رجل صالح. وقال ابن حِبّان في "الثقات": كان من عُبّاد أهل المدينة وزُهّادهم. روى عن: ابن عُمر، وأنس، وأبي بُسْرَة الغِفاري، وعبد الرحمن بن غَنْم،

لطائف إسناده

وأبي أُمامة بن سَهْل، وابن المسيِّب، وأبي سلمة بن عبد الرحمن. وجماعة. وروى عنه: زيد بن أسلم، وابن المُنْكَدِر، وموسى بن عُقبة، وهم من أقرانه، وابن جُرَيْج، ومالك، والليث، وابن أبي ذئب، والسفيانان. مات سنة اثنتين وثلاثين ومئة. لطائف إسناده: فيه العنعنة في أربعة مواضع، وفيه رواية تابعي عن تابعي. باب التستر في الغسل عند الناس وفي رواية عطاء: "عن الناس"، لما فرغ من الاستدلال لأحد الشِّقَّين، وهو التعري في الخلوة، أورد الشق الآخر.

الحديث الثاني والثلاثون

الحديث الثاني والثلاثون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّ أَبَا مُرَّةَ مَوْلَى أُمِّ هَانِىء أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أُمَّ هَانِىء بِنْتَ أَبِي طَالِبٍ تَقُولُ: ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَامَ الْفَتْحِ، فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ وَفَاطِمَةُ تَسْتُرُهُ فَقَالَ: "مَنْ هَذِهِ؟ ". فَقُلْتُ: أَنَا أُمُّ هَانِىء. قوله: "عام الفتح": أي: فتح مكة في رمضان سنة ثمان. وقوله: "فقال: مَنْ هذه؟ " يدُل على أن الستر كان كثيفًا، وعَرف أنّها امرأة لكون الرجال لا يدخلون عليه في ذلك الموضع، ففي الحديث جواز الغُسل بحضرة المَحرم إذا حال بينهما ساتر من ثوب أو غيره. رجاله خمسة: الأول: عبد الله بن مَسْلمة وقد مرَّ في الثاني عشر من الإيمان. والثاني: مالك بن أنس، وقد مرَّ في الثاني من بدء الوحي. ومرَّ أبو النضر سالم بن أبي أمية في السابع والستين من كتاب الوضوء. ومرَّ أبو مُرة في الثامن من كتاب العلم. والخامس: أُم هانىء بنت أبي طالب بن عبد المطَّلب بن هاشِم الهاشِمية بنت عم النبي -صلى الله عليه وسلم-. قيل: اسمها فاختة. وقيل: اسمها هند. وقيل: اسمها فاطمة. والأول أشهر. وأُمها: فاطمة بنت أسد بن هاشِم بن عبد مناف، وأُمُّ طالبٍ وعقيل وجعفرٍ وعليٍّ وجُمانَة.

كانت زوج هُبَيْرة بن عمرو بن عائِذ بن عُمير بنِ عُمر بن عمْران بن مَخْزوم المخزوميّة. رُوي عن ابن عباس قال: خطب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أبي طالب أُمَّ هانىء، وخطبها منه هُبَيْرة فزوَّج هُبَيْرة، فعاتبه النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال أبو طالب: يا ابن أخي: إنا قد صاهَرْنا إليهم، والكريم يكافىء الكريم. ثم فرَّق الإِسلام بينهما، فخطبها النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقالت: والله إني كنت لأُحبُّك في الجاهلية، فكيف في الإِسلام، ولكني امرأة مُصْبِية، فأكره أن يؤذوك. فقال: "خيرُ نساء ركِبْنَ الإبل نساءُ قريش، أحناه على ولد ... الحديث" وفي رواية عن الشعبي أنه لما خطبها قالت: يا رسول الله: لأنت أحبُّ إلى من سَمْعي ومن بصري، وحق الزوج عظيم، وأنا أخشى أن أضيِّع حقَّ الزوج، فذكر الحديث. وفي رواية أبي نَوْفل بن أبي عَقْرب أنه لما خطبها، قال لولدٍ من بين يديها: "كفى بهذا رضيعًا، وهذا ضجيعًا". وعن أبي صالح مولاها أنه لما خطبها، قالت: إنّي مؤيَّمة. فلما أدرك بنوها، عرضت نفسها عليه، فقال: "أما الآن فلا"؛ لأن الله أنزل عليه في قوله: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} [الأحزاب: 50]. ولم تكن من المهاجرات. أسلمت أم هانىء، ولما فُتِحت مكة فَرَّ هُبيرة إلى نجران، وقال حين فرَّ معتذرًا من فراره: لعمُركَ ما ولَّيتُ ظهري محمدًا ... وأصحابَه جبنًا ولا خِيْفةَ القتلِ ولكنّي قلبْتُ أمري فلَمْ أجِد ... لسيفي غَناءً إن ضربتُ ولا نَبْلي وَقَفْتُ فلما خِفْتُ ضيعةَ مَوْقفي ... رجعتُ لعَوْدٍ كالهِزَبرِ أبي الشِّبْلِ قال خلف الأحمر: إن أبيات هُبيرة في الاعتذار من الفرار خير من قول الحارث بن هشام. وقال الأصمعي: أحسن ما قيل في الاعتذار من الفرار قول

لطائف إسناده

الحارث بن هشام. وقال هُبيرة بعد فراره يخاطب امرأته أُم هانىء هند بنت أبي طالب: أشاقَتْكَ هند أم أتاكَ سؤالُها ... كذاكَ النَّوى أسبابُها وانفِتالُها وقد أرَّقَتْ في رأسِ حِصْنِ ممرَّدٍ ... بنجرانَ يَسْري بعدَ نومٍ خيالُها لئِنْ كنتِ قد تابعتِ دينَ محمْدٍ ... وعطَّفَتِ الأرحامَ منكِ حبالُها فكوني على أعلى سحيقٍ بهَضْبَةٍ ... ممنَّعَةٍ لا تُستطاع قلالُها فإنّيَ من قومٍ إذا جدَّ جدُّهم ... على أيِّ حال أصبحَ القومُ حالُها ولائي لأحمي مَن وراءَ عشيرتي ... إذا كَثُرت تحتَ العوالي مجالُها وكان له منها عمرو، وبه كان يُكْنَى وجعدة، وغيرهما. لها ستة وأربعون حديثًا، اتفقا على حديث. لها أحاديث في الكتب. روى عنها: ابنها جعدة، وابنه يحيى، وحفيدها هارون، ومولياها أبو مرة وأبو صالح، وابن عمها عبد الله بن عباس، وعبد الله بن الحارث بن نوفل الهاشمي، وولده عبد الله، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، ومجاهد، وعروة، وآخرون. قال الترمذي: عاشت بعد علي. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد، والعنعنة في موضع واحد، وفيه الإِخبار بصيغة الإفراد، وفيه السماع والقول. وفيه رواية تابعي عن تابعي عن الصحابية، ورواته مدنيون. أخرجه البخاري هنا، وفي الأدب عن عبد الله بن مَسْلمة، وفي الصلاة عن إسماعيل بن أبي أُويس، وفي الجِزْية عن عبد الله بن يوسف. ومُسلم في الطهارة عن محمد بن رُمح، وعن يحيى بن يحيى، وفي الصلاة عن يحيى بن يحيى، وعن حجاج بن الشاعر. والترمذي في الاستئذان عن إسحاق بن

يونُس، وقال: صحيح. وفي السير عن أبي الوليد الدمشقي. والنَّسائي في الطهارة عن يعقوب بن إبراهيم. وابن ماجه في الطهارة عن محمد بن رُمح.

الحديث الثالث والثلاثون

الحديث الثالث والثلاثون حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ كُرَيْبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ قَالَتْ: سَتَرْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ، فَغَسَلَ يَدَيْهِ ثُمَّ صَبَّ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ، فَغَسَلَ فَرْجَهُ، وَمَا أَصَابَهُ، ثُمَّ مَسَحَ بِيَدِهِ عَلَى الْحَائِطِ أَوِ الأَرْضِ، ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلاَةِ، غَيْرَ رِجْلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى جَسَدِهِ الْمَاءَ، ثُمَّ تَنَحَّى فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ. وقد تقدم هذا الحديث في أول الغُسل عاليًا إلى الثوري، ونزل فيه هنا درجةً، وكذلك نزل فيه شيخه عبدان درجة؛ لأنه سبق في روايته عن أبي حمزة عن الأعمش، والسبب في ذلك اعتناؤه بمغايرة الطرق عند تغاير الأحكام، وقد مرَّت مباحث الحديث مستوفاة. رجاله ثمانية: الأول: عبدان، والثاني: عبد الله بن المبارك، وقد مرّا في السادس من بدء الوحي. ومرَّ سفيان بن عُيَيْنة في الأول منه. ومرَّ الأعمش في السادس والعشرين من كتاب الإيمان. ومرَّ سالم بن أبي الجَعْد في السابع من كتاب الوضوء. ومرَّ كُرَيْب في الرابع منه. ومرَّ عبد الله بن عباس في الخامس من بدء الوحي. ومرت مَيْمونة في الثامن والخمسين من كتاب العلم. وهذا الحديث عدد المواضع التي أُخْرِج فيها قد مرت. تابَعَهُ أبُو عَوَانَةَ وابنُ فُضَيْلٍ في السَّتْرِ.

قوله: "في الستر" يعني: لا في بقية الحديث، وللأصيلي: "في التستُّر"، وسبقت مباحث الحديث. فهنا متابعتان: متابعة أبي عَوانة ذكرها البخاري موصولة فيما مر، في باب: من أفرغ بيمينه. ومرَّ تعريف أبي عَوانة في الرابع من بدء الوحي. ومتابعة ابن فُضَيْل موصولة في "صحيح" أبي عَوانة الإسفراييني نحو رواية أبي عَوانة البَصْري. وابن فُضَيْل هو مُحمد بن فُضَيْل بن غَزْوان -بفتح الغين- ابن جَرير الضَّبّي مولاهم الكوفي أبو عبد الرحمن. قال أحمد: كان يتشيَّع، وكان حسن الحديث. وقال ابن مَعين: ثقة. وقال أبو زُرعة: صدوق من أهل العلم. وقال أبو حاتم: شيخ. وقال النَّسائي: ليس به بأس. وقال أبو داود: كان شيعيًّا محترفًا. وذكره ابن حِبّان في "الثقات"، وقال: كان يغلو في التشيُّع، صنف مصنَّفاتٍ في العلم، وقرأ القراءات على حمزة الزيات. وقال ابن سَعْد: كان ثقة صدوقًا كثير الحديث متشيِّعًا، وبعضهم لا يحتج به. وقال العِجْلي: كوفي ثقة شيعي، وكان أبوه ثقه، وكان عثمانيًّا. وقال ابن المديني: كان ثقة ثبتًا في الحديث. وقال الدارقطني: كان ثبتًا في الحديث إلاَّ أنه كان منحرفًا عن عثمان. وقال يعقوب بن سفيان: ثقة شيعي. وقال أبو هاشم الرِّفاعي: سمعت ابن فُضَيْل يقول: رحم الله عثمان، ولا رحم من لا يترحَّم عليه. وقال: وصليت خلفه ما لا يُحصى، فلم يجهَرْ بالبسملة. روى عن: أبيه، وإسماعيل بن أبي خالد، وعاصم الأحْول، والمُختار بن فُلْفُل، وهشام بن عُروة، والأعمش، وخلق كثير. وروى عنه: الثوري، وهو أكبر منه، وأحمد بن حَنْبل، وإسحاق بن راهَوَيه، وقُتَيْبة، وأبو سعيد الأشَج، ومحمد بن سَلاَم البِيْكَنْدي، وخلق.

باب إذا احتلمت المرأة

وتقدم تعريف محمد بن فُضَيْل هذا في الثاني والثلاثين من كتاب الإيمان, ولكنه هنا أتم. باب إذا احتلمت المرأة إنما قيده بالمرأة، مع أن حكم الرجل كذلك، لموافقة صورة السؤال، وللإشارة إلى الرد على من منع منه في حقِّ المرأة دون الرجل. وقد قال عليه الصلاة والسلام في جواب سؤال أُم سُلَيْم: المرأة ترى ذلك أعليها الغسل: "نعم، النساء شقائق الرجال". أخرجه أبو داود، أي: نظائر الرجال وأمثالهم في الأخلاق والطِّباع، كأنهن شُقِقْن منهم، أو كأنهن شقائق لهم من أب وأُم.

الحديث الرابع والثلاثون

الحديث الرابع والثلاثون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ امْرَأَةُ أَبِي طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْي مِنَ الْحَقِّ، هَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا هِيَ احْتَلَمَتْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "نَعَمْ إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ". قوله: "عن زينب بنت أبي سَلمة" مرَّ في باب الحياء في العلم نسبتها إلى أُمها في هذا الحديث من وجه آخر، فنُسِبت هنا إلى أبيها، وهناك إلى أُمها. وقوله: "إذا رأت الماء" أي: المني بعد استيقاظها من النوم، فالرؤية بصرية، فتتعدّى إلى واحد، ويُحتمل أن تكون عِلْمية فتتعدّى إلى مفعولين، الثاني مقدر، أي: رأَت الماء موجودًا، أو غير ذلك. قال أبو حيّان: حذف أحد مفعولي رأى وأخواتها عزيز، وقد قيلِ في قوله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ} [آل عمران: 180]: هو، أي: البخل خيرًا لهم. وأما حذفُهما جميعًا فجائز اختصارًا، كقوله تعالى: {أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى} [النجم: 35]، والظاهر أنها بصرية بما مرَّ تقريره في باب: الحياء في العلم. وأخرج ابن أبي شَيْبة عن أُم سُلَيْم أنه قال: "هل تجد شهوة؟ " قالت: لعله. قال: "هل تجِدُ بللًا؟ " قالت: لعله. فقال: "فلتَغْتَسِل". فلقيتها النسوة، فقلن: فضَحْتِنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فقالت: والله ما كنتُ لأَنتهيَ حتى أعلمَ في حلٍّ أنا أم في حرام.

رجاله ستة

وهذا الحديث مرُّ الكلام عليه مستوفى في باب: الحياء في العلم من كتاب العلم، عند ذكره هناك. رجاله ستة: وفيه ذكر أُم سُلَيْم وأبي طلحة. الأول: عبد الله بن يوسف، والثاني: الإِمام مالك، وقد مرّا في الثاني من بدء الوحي، وكذلك هشام بن عُروة، وأبوه عُروة. ومرت أُم سَلَمة رضي الله تعالى عنها في السادس والخمسين من كتاب العلم. ومرت زَيْنب بنت أبى سلمة وأُم سُلَيْم في الحديث السبعين منه. ومرَّ أبو طَلْحة في السادس والثلاثين من كتاب الوضوء. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد، والإخبار كذلك في موضع واحد، وفيه العَنْعَنة في أربعة مواضع، وفيه القول، وفيه ثلاث صحابيّات، وفيه أن رواته مدنيون ما خلا عبد الله بنَ يوسُف. أخرجه البخاري في ستة مواضع، في الغُسل هنا، وفي الأدب عن إسماعيل، وعن محمد بن المثنى وعن مالك بن إسماعيل، وفي خَلْق آدم عن مُسَدَّد، وفي العلم عن محمد بن سلام. ومُسلم في الطهارة عن يحيى بن يحيى وغيره. والترمذي في الطهارة عن ابن أبي عُمر والنَّسائي فيها وفي العلم عن شُعَيْب بن يوسف. وابن ماجه في الطهارة عن ابن أبي شَيْبة وغيره، ولكنه من حديث عائشة بزيادة على هذا. باب عرق الجُنُب وأن المسلم لا يَنْجُس أي: باب بيان حكم عَرَق المسلم، وبيان أن المسلم لا يَنْجُس، وإذا كان لا ينجُس، فعَرَقُه ليس بنجس. ومفهومه أن الكافر يَنْجُس، فيكون عرقه نجسًا. وكأن المصنف يشير بذلك إلى الخلاف في نجاسة عرقه بناء على القول بنجاسة عينه كما يأتي قريبًا.

الحديث الخامس والثلاثون

الحديث الخامس والثلاثون حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا بَكْرٌ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- لَقِيَهُ فِي بَعْضِ طَرِيقِ الْمَدِينَةِ وَهْوَ جُنُبٌ، فَانْخَنَسْتُ مِنْهُ، فَذَهَبَ فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: "أَيْنَ كُنْتَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ ". قَالَ: كُنْتُ جُنُبًا، فَكَرِهْتُ أَنْ أُجَالِسَكَ وَأَنَا عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ. فَقَالَ: "سُبْحَانَ اللَّهِ، إِنَّ الْمُؤْمِنَ لاَ يَنْجُسُ". قوله: "في بعض طريق المدينة" أي: بالإفراد للأكثر، ولكريمة والأصيلي: "طرق" بالجمع، ولأبي داود والنسائي: "لقيتُهُ في طريقٍ من طرق المدينة". وقوله: "وهو جُنُب" يعني نفسه، جملة حالية من الضمير المنصوب في "لقيه"، وفي رواية أبي داوود: "وأنا جُنُب". وقوله: "فانخَنَسْتُ" بنون ثم خاء معجمة ثم نون ثم سين مهملة، أي: مضيتُ عنه مستخفيًا، ولذلك وُصِفَ الشيطان بالخَنَّاس، وفي رواية: "فانسَلَلْتُ" وهي توافق هذه، وفي رواية: "فانْخَنَس"، وفي رواية: "فانْبَجَسْتُ" بالموحدة والجيم، أي: اندفعت، كقوله تعالى: {فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} [الأعراف: 60]، أي: جرت واندفعت، وفي رواية: "فانتَجَسْتُ" بنون ثم مثناة فوقية ثم جيم، من النجاسة، من باب الافتعال، أي: اعتقدت نفسي نجسًا. وفي رواية: "فانْبَخَسْتُ" بنون فموحدة ثم خاء معجمة ثم سين مهملة، قال القزّاز: لا وجه لها، وقد تُوَجَّه بأنها من البَخْس، وهو النقص، أي: اعتقدت نقصان نفسي بجنابتي عن مجالسة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وقوله: "فذهب فاغتسل" بلفظ الغيبة من باب النقل عن الراوي بالمعنى، أو من قول أبي هريرة من باب التجريد، وهو أنه جرد من نفسه شخصًا، فأخبر

عنه، وهو المناسب لرواية: "فانْخَنَسَ"، وفي رواية: "فذهبتُ واغتسلتُ"، وهو المناسب لرواية: "فانْخَنَسْتُ". وسبب ذهاب أبي هريرة ما رواه النسائي وابن حِبّان عن حُذيفة أنه -صلى الله عليه وسلم- كان إذا لقِيَ أحْدًا من أصحابه ماسَحَه ودعا له، فلما ظن أبو هُريرة أن الجُنُبَ يَنْجُسُ بالجنابة، خشي أن يماسَّه النبي -صلى الله عليه وسلم- كعادته، فبادر إلى الاغتسال. وقوله: "قال: كنتُ جُنُبًا" أي: ذا جنابة؛ لأنه اسم جرى مجرى المصدر، وهو الإجْناب كما مرّ. وقوله: "فكرهت أن أجالِسَكَ وأنا على غير طهارة" جملة اسمية حالية من الضمير المرفوع في "أُجالِسَك". وقوله: "فقال" بالفاء قبل القاف، وسقطت في كلام أبي هُريرة على الأفصح في الجُمَلْ المفتتحة بالقول، كما قيل في قوله تعالى: {أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11)} [الشعراء: 10]، وأما القول مع ضمير النبي عليه الصلاة والسلام، فالفاء سببية رابطة، فاجتلبت لذلك، ولأبي ذر والأصيلي: "قال" بإسقاط الفاء. وقوله: "سبحان الله" نُصِبَ بفعل لازم الحذف، وأتى به هنا للتعجب والاستعظام، أي: كيف يَخْفى عليك هذا الظاهر من عدم التنجس بالجنابة. وقوله: "إن المسلم لا ينجُسْ" أي: في ذاته حيًّا ولا ميتًا، ولذا يُغسل إذا مات، نعم يتنجس بما يعتريه من ترك التحفظ من النجاسات والأقذار. وتمسك بمفهومه بعض أهل الظاهر، كابن حزم، فقال: إن الكافر نجس العين، وقوّاه بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]. وأجاب الجمهور عن الحديث: بأن المراد أن المؤمن طاهر الأعضاء لاعتياده مجانبة النجاسة، بخلاف المشرك، لعدم تحفظه عن النجاسة. وعن الآية: بأن المراد نجاسة اعتقادهم، أو لأنه يجب أن يُتَجَنب عنهم كما يُتَجَنَّب

رجاله ستة

عن الأنجاس، أو لأنهم لا يتطهَّرون ولا يتجَنَّبون النجاسات، فهم ملابسون لها غالبًا. وقد نُقِل عن ابن عبّاس أن أعيانهم نجسة كالكلاب. وحجة الجمهور أن الله تعالى أباح نساء أهل الكتاب، ومعلوم أن عرقَهُنَّ لا يَسْلَم منه من يضاجعُهن، ومع ذلك فلم يجب عليه من غُسْل الكتابية إلاَّ مثل ما يجب عليه من غُسْل المسلمة، فدل على أن الآدمي الحي ليس بنجس العين، إذ لا فرق بين النساء والرجال. وأغرب القرطبي، فنسب القول بنجاسة الكافر للشافعي. وفي الحديث استحباب استصحاب الطهارة عند ملابسة الأمور المعظَّمة، واستحباب احترام أهل الفضل وتوقيرهم ومصاحبتهم على أكمل الهيئات. وفيه استحباب استئذان التابع للمتبوع إذا أراد أن يفارقه، لقوله: "أين كنت" فأشار إلى أنه كان ينبغي أن لا يفارِقه حتى يعلمه. وفيه استحباب تنبيه المتبوع لتابعه على الصواب، وإن لم يسأله. وفيه جواز تأخير الاغتسال عن أول وقت وجوبه، وبوَّب عليه ابن حِبان، والرد على من زعم أن الجُنُب إذا وقع في البئر، فنوى الاغتسال، فإن ماء البئر ينجس. وفيه الدلالة على طهارة عرق الجنب؛ لأن بدنه لا ينجُس بالجنابة، فكذلك ما تحلَّب منه. وفيه جواز تصرف الجُنُب في حوائجه قبل أن يغتسل، كما بوَّب عليه البخاري. رجاله ستة: الأول: علي بن عبد الله المديني، وقد مرَّ في الرابع عشر من كتاب العلم. ومرَّ يَحْيى بن سعيد القطّان في السادس من كتاب الإيمان. ومرَّ حُمَيْد الطويل

في الثالث والأربعين منه. ومرَّ أبو هُريرة في الثاني منه أيضًا. الخامس: بَكْر بن عبد الله بن عَمْرو المُزَنّي أبو عبد الله البَصْري أخو عَلْقَمة بن عبد الله المُزَني، وقيل: ليس بأخيه. قال ابن مَعين: ثقة. وكذلك النسائي. وقال أبو زُرعة: ثقة مأمون. وقال ابن سَعْد: كان ثقة مأمونًا حجة، وكان فقيهًا. وقال ابن المَديني: له نحو خمسين حديثًا، قال: أدركت ثلاثين من فرسان مُزَبْنة، منهم: عبد الله بن مُغَفَّل، ومَعْقِل بن يسار. وقال ابن حِبّان في "الثقات": روى عن عبد الله بن عمرو بن هِلال المُزَني، وله صحبة، وكان عابدًا فاضلًا، وهو والد عبد الله بن بَكْر. وقال حُميد الطويل: كان بكر مجابَ الدعوة. وقال العِجْلي: بصري تابعي ثقة، وكان يقول: إياك من الكلام ما إن أصبتَ فيه لم تُؤجر، وإن أخطأت فيه أثمتَ، وهو سؤ الظن بأخيك. روى عن: أنس بن مالك، وابن عباس، وابن عمر، والمغيرة بن شُعبة، وأبي رافع الصايغ، والحسن البصري، وحمزة وعروة ابني المُغيرة بن شعبة، وغيرهم. وروى عنه: ثابت البُناني، وقتادة، وعاصم الأحول، وسعيد بن عبد الله بن جُبَيْر، ومطر الوراق. مات سنة ست ومئة، أو ثمان. السادس: أبو رافع نُفَيْع بن رافع الصايغ المدني نزيل البصرة، مولى ابنة عمر، وقيل: مولى بنت العَجْماء. أدرك الجاهلية. ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من أهل البصرة، وقال: خرج من المدينة قديمًا، وكان ثقة. وقال العِجْلي: بصري تابعي ثقة من كبار التابعين. وقال أبو حاتم: ليس به بأس. وقال ثابت: لما أُعتق أبو رافع بكى، وقال: كان لي أجران، فذهب أحدهما. وقال الدارقُطني: ثقة. وذكره ابن حِبّان في "الثقات".

لطائف إسناده

وقال ابن عبد البر: لا أقف على نسبه، وهو مشهور من علماء التابعين، أدرك الجاهلية. وروي عنه أنه قال: كان عُمر يمازِحُني، حتى يقول: أكذبُ الناس الصايغ، يقول: اليوم وغدًا. روى عن: الخلفاء الأربعة، وابن مَسْعود، وزيد بن ثابت، وأُبي بن كَعْب، وأبي هُريرة، وحَفْصة بنت عُمر رضي الله تعالى عنهم. وروى عنه: ابنه عبد الرحمن، والحسن البصري، وحُميد الطويل، وقَتادة بن دِعامة، وغيرهم. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع في أربعة مواضع، والعنعنة في موضعين، وفيه رواية تابعي عن تابعي عن صحابي، ورواته بصريّون. ومن أجل لطائفه أنه متصل، ورواه مُسلم مقطوعًا عن حُميد عن أبي رافع في طريق الجلودي. وذكر أبو مسعود وخلف أن مسلمًا أخرجه أيضًا متصلًا مثل البخاري، فله فيه روايتان. أخرجه البخاري أيضًا عن عياش بن الوليد. ومسلم في الطهارة عن أبي بكر بن أبي شَيْبة، وأبو داود في الصلاة عن مسدد، والترمذي فيه عن إسحاق بن منصور، والنسائي فيها عن حُمَيْد بن مَسْعَدة، وابن ماجه فيها أيضًا عن أبي بكر بن أبي شَيْبة. باب الجنب يخرج ويمشي في السوق وغيره بجر "غيره" عطفًا على سابقة، أي: وفي غير السوق، ويجوز فيه الرفع على أنه مبتدأ، أي: وغيره نحوه، أي: فينام ويأكل، فهو عطف عليه من جهة المعنى.

وقالَ عَطاءٌ يَحْتَجِمُ الجُنُبُ ويُقَلِّمُ أظْفَارَهُ ويَحْلِقُ رِأسَهُ وإنْ لَمْ يتَوَضَّأْ. وما قاله عطاء هو قول الجمهور، خلافًا لما رواه ابن أبي شَيْبة عن علي، وعائشة، وابن عُمر، وسعيد بن المسيِّب، والحسن، ومجاهد، وغيرهم من أنهم كانوا إذا أجنبوا لا يخرُجون ولا يأكُلون حتى يتوضؤوا. وهذا التعليق وصله عبد الرزاق في "مصنفه" عن ابن جُرَيْج، عنه. وزاد فيه: "ويطلي بالنَّوْرَةِ". ومرَّ عطاء في التاسع والثلاثين من العلم.

الحديث السادس والثلاثون

الحديث السادس والثلاثون حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُمْ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ فِي اللَّيْلَةِ الْوَاحِدَةِ، وَلَهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعُ نِسْوَةٍ. وقوله في السند: "سعيد" وهو ابن أبي عَروبة، وللأصيلي: "شعبة" بدل سعيد، وليس بصواب. وقوله: " أن النبي" في رواية كريمة والأصيلي: "أن نبي الله". وقوله: "وله يومئذ تسع نسوة" أي: وله حينئذٍ، إذ لا يومَ لذلك معيَّن، ولفظةُ: "كان" تدل على التكرار والاستمرار. ومطابقة الحديث للترجمة تُفهم من قوله: "كان يطوف على نسائه"؛ لأن نساءه كان لهن حُجَر متقاربة، فبالضرورة أنه كان يخرج من حجرة إلى حجرة قبل الغُسْل. وحديث أنس هذا يقوّي اختيار عطاء؛ لأنه لم يذكُر فيه أنه توضأ، فكان المصنف أورده ليستدلَّ له، لا ليستدل به. ومرَّت مباحث الحديث في باب: إذا جامع ثم عاد. رجاله خمسة: الأول: عبد الأَعْلى بن حمّاد بن نَصْر الباهلي مولاهم البَصْري أبو يَحْيى المعروف بالنَّرْسِيّ -بفتح النون وسكون الراء- نسبة إلى نهر بالكوفة، عليه عدة قرى.

روى عن: مالك، ووُهَيْب بن خالد، والحمادَيْن، ويزيد بن زُرَيْع، وداود بن عبد الرحمن العطّار، وابن أبي الزِّناد، وجماعة. وروى عنه: البخاري، ومسلم، وأبو داود. وروى النسائي عنه بواسطة. وروى عنه أبو زُرعة، وأبو حاتم، ومحمد بن عبد الرحيم صاعِقة، وجماعة. قال ابن مَعين: النرسِيّان ثقتان. وقال مرة: لا بأس بهما. وقال أبو حاتم والدارقطني ومَسْلَمة بن قاسم والخَليلي: ثقة. وقال صالح بن مُحمد بن خِراش: صدوق. وقال النَّسائي: ليس به بأس. وذكره ابن حِبّان في الثقات. مات في جمادى الآخرة سنة سبع وثلاثين ومئتين. والثاني: يزيد بن زُريع وقد مرَّ في الخامس والتسعين من كتاب الوضوء. ومرَّ سعيد بن أبي عَروبة في الحادي والعشرين من كتاب الغُسل. ومرَّ قَتادة بن دِعامة وأنس بن مالك في السادس من كتاب الإيمان. وقد مرَّ الكلام على مواضع إخراجه.

الحديث السابع والثلاثون

الحديث السابع والثلاثون حَدَّثَنَا عَيَّاشٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ بَكْرٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَنَا جُنُبٌ، فَأَخَذَ بِيَدِي، فَمَشَيْتُ مَعَهُ حَتَّى قَعَدَ فَانْسَلَلْتُ، فَأَتَيْتُ الرَّحْلَ، فَاغْتَسَلْتُ ثُمَّ جِئْتُ وَهْوَ قَاعِدٌ فَقَالَ: "أَيْنَ كُنْتَ يَا أَبَا هُريرة؟ " فَقُلْتُ لَهُ. فَقَالَ: "سُبْحَانَ اللَّهِ يَا أَبَا هُريرة إِنَّ الْمُؤْمِنَ لاَ يَنْجُسُ". قوله: "فأخذ بيدي" في بعض الأصول: "فأخذ بيميني". وقوله: "فانسَلَلْتُ" أي: ذهبت في خفيةٍ، ولابن عساكر: "فانسللتُ منه". وقوله: "فأتيتُ الرَّحْل" بحاء مهملة ساكنة، أي: المكان الذي يأوي فيه. وقوله: "أين كنت؟ " كان واسمها، والخبر الظرف، أو هي تامة، فلا تحتاج إلى خبر. وقوله: "يا أبا هُريرة"، للكُشميهني: "يا أبا هر" بالترخيم، وقد مرَّ في تعريفه أنه أحب إليه من غير المُرَخَّم؛ لأنه صدر له من النبي عليه الصلاة والسلام. وقوله: "فقلت له" أي: الذي فعلته من المجيء للرحل والاغتسال. ومطابقته للترجمة من قوله: "فمشيتُ معه"، واستُنْبِط منه جواز أخذ العالم بيد تلميذه، ومشيه معه، معتمدًا عليه، ومرتفقًا به، وغيرَ ذلك. وقد مرَّ الكلام على مباحثه في الباب الذي قبله. رجاله ستة: الأول: عياش بن الوليد الرقّام القطّان أبو الوليد البَصْري.

باب كينونة الجنب في البيت إذا توضأ

روى عن: عبد الأعلي بن عبد الأعلى، والوليد بن مُسلم، ووكيع، وغيرهم. وروى عنه: البخاري، وأبو داود، والنسائي في "اليوم والليلة" عن أبي موسى عنه، وأبو حاتم، وأبو زُرعة، والذُّهلي، وآخرون. قال أبو حاتم: هو من الثقات. وقال أبو داود: صدوق. وذكره ابن حِبّان في "الثقات". مات سنة ست وعشرين ومئتين. والثاني: عبد الأعلي بن عبد الأعلى السّاميّ، وقد مرَّ في الثالث من كتاب الإِيمان. ومرَّ حُمَيْد الطويل في الثالث والأربعين من كتاب الإيمان أيضًا. ومرَّ بَكْر بن عبد اللهْ المُزَني وأبو رافع الصايغ المدني في الثالث والثلاثين قبل هذا بحديث واحد. ومرَّ أبو هُريرة في الثاني من كتاب الإيمان. ومرَّ قريبًا قبل هذا بحديث ذكر مواضع إخراجه. باب كينونة الجنب في البيت إذا توضأ قوله: "كينونة" أي: استقراره فيه، و"كينونة" مصدر كان يكون كونًا وكينونةً، ولم يجيء على هذا إلا أحرف معدودة، مثل: ديمومة من دام. وقوله: "إذا توضّأ" زاد أبو الوقت وكريمة: "قبل أن يغتسل"، وسقط الجميع من رواية المُسْتَملي والحموي. قيل: "أشار بهذه الترجمة إلى ما ورد عن عليٍّ مرفوعًا: "إن الملائكة لا تدخُل بيتًا فيه كلب، ولا صورة، ولا جنب" رواه أبو داود وغيره. وفيه نُجَيّ -بالتصغير- الحَضْرَمي، ما روى عنه إلاَّ ابنه عبد الله، فهو مجهول، لكن وثَّقه العِجْلي، وصحح حديثه ابن حِبّان والحاكم، فيحتمل -كما قال الخطابي- أن المراد بالجنب من يتهاون بالاغتسال، ويتخذ تركه عادةً، لا من يؤخِّره ليفعله.

ويقوّيه أن المراد بالكلب غير ما أُذِن في اتِّخاذه، وبالصورة ما فيه روح وما لا يُمْتَهَنَ. قال النووي: وفي الكلب نظر. ويُحتمل أن يكون المراد بالجُنُب في حديث علي الذي لم يرتفع حدثه كلّه ولا بعضه، وعلى هذا فلا يكون بينه وبين حديث الباب منافاة؛ لأنه إذا توضأ ارتفع بعض حدثه على الصحيح. قاله في "الفتح"، ويأتي قريبًا استيفاء الكلام عليه.

كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري تأليف الامام المحدث العلامة الشيخ محمد الخضر الجكينى الشنقيطي (المتوفى سنة 1354هـ) الجزء السادس مؤسسة الرسالة

بسم الله الرحمن الرحيم

كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1415هـ - 1995م مؤسسة الرسالة بيروت - شارع سوريا - بناية صمدي وصالحة هاتف: 603243 - 815112 - صَ. بَ: 7460 - برقيًا: بيُوشرَان

الحديث الثامن والثلاثون

الحديث الثامن والثلاثون حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ وَشَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ أَكَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَرْقُدُ وَهْوَ جُنُبٌ؟ قَالَتْ: نَعَمْ وَيَتَوَضَّأُ. قوله: "قالت: نعم، ويتوضأ" هو معطوف على ما سد لفظ نعم مسدَّه، أي: يرقد ويتوضأ، والواو لا تقتضي الترتيب، فالمراد أنه كان يجمع بين الوضوء والرقاد، فيتوضأ ثم يرقد. ويدل لهذا رواية مسلم بلفظ: "كان إذا أراد أن ينام وهو جُنُب توضّأَ وُضوءَه للصلاة". وهذا السياق أوضح في المراد. وللمصنف مثله في الباب الذي بعد هذا بزيادة غسل الفرج من رواية عروة، وكذا قال أبو نُعيم في "المستخرج" في آخر هذا الحديث، ويتوضأ وُضوءه للصلاة. رجاله ستة: الأول: أبو نُعيم الفضل بن دُكَيْن، وقد مرَّ في السادس والأربعين من كتاب الإِيمان. ومرَّ هشام بن أبي عبد الله الدَّسْتُوائي في الثامن والثلاثين منه. ومرَّ شَيْبان بن عبد الرحمن النَّحْوي في الثالث والخمسين من كتاب العلم. ومرَّ يَحْيى بن أبي كثير في الثالث والخمسين منه أيضًا. ومرَّ أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عَوْف في الرابع من بَدْء الوحي. ومرت عائشة في الثاني منه أيضًا. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في موضعين، وفيه

السؤال، وفيه رواية ابن أبي شَيْبة بتحديث أبي سلمة، ورواه الأوْزاعي عن يَحْيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن ابن عُمر، رواه النسائي.

الحديث التاسع والثلاثون

الحديث التاسع والثلاثون حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: أَيَرْقُدُ أَحَدُنَا وَهْوَ جُنُبٌ؟ قَالَ: "نَعَمْ إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرْقُدْ وَهُوَ جُنُبٌ". قوله: "إن عمر بن الخطاب سأل" ظاهره أن ابن عمر حضر السؤال، فيكون الحديث من مُسنده، وهو المشهور من رواية نافع. وأخرجه النسائي ومسلم عن نافع عن ابن عمر عن عمر، فيكون من مسند عمر. لكن ليس في هذا الاختلاف ما يقدح في صحة الحديث. ومطابقة الحديث للترجمة من جهة أن جواز رُقاد الجُنُب في البيت يقتضي جواز استقراره فيه يَقْظان لعدم الفرق، أو لأن نومه يستلزم الجواز، لحصول اليقظة بين وضوئه ونومه، ولا فرق في ذلك بين القليل والكثير. ووقع في رواية كريمة قبل حديث ابن عُمر هذا: "باب: نوم الجُنُب"، وهذه الترجمة زائدة للاستغناء عنها بباب: الجُنُب يتوضأ ثم ينام، ويُحتمل أن يكون ترجم على الإطلاق وعلى التقييد، فلا تكون زائدة. وهذا الوضوء، المراد به عند الجمهور الوضوء الشرعي، وهو محمولٌ عندهم على الاستحباب، قال بذلك مالك والشافعي وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق وابن المُبارك والأوزاعي. وذهب أهل الظاهر إلى إيجابه، وكذا قال ابن حَبيب من المالكية: إنه واجب وجوب الفرائض، وأشار ابن العربي إلى تقوية قول ابن حَبيب، وبوَّب عليه أبو عَوانة في "صحيحه" إيجاب الوضوء على الجُنُب إذا أراد النوم. وقال ابن دَقيق العيد: جاء الحديث بصيغة الأمر وبصيغة الشرط،

وهو مُتَمَسَّكٌ لمن قال بوجوبه. واستدل ابن العربي وابن خُزَيْمة على عدم الوجوب بحديث ابن عباس مرفوعًا: "إنما أمرت بالوضوء إذا قُمتُ إلى الصلاة". وقد مر ذكره في باب: إذا جامع ثم عاد. وقدح ابن رشد المالكي في هذا الاستدلال. وقال ابن العربي: قال مالك والشافعي: لا يجوز للجُنُب أن ينام قبل أن يتوضأ. واستنكر بعض المتأخرين هذا النقل قائلًا: لم يقل الشافعي بوجوبه ولا مالك. ويمكن أن يُجاب عن ابن العربي بأن كلامه محمول على أنه أراد نفي الإِباحة المستوية الطرفين، لا إثبات الوجوب، أو أراد أنه واجب وجوب سنة، أي: متأكد الاستحباب، بدليل أنه قابله بقول ابن حَبيب، وهذا موجود في عبارات المالكية كثيرًا. ونقل الطحاوي عن أبي يوسُف أنه ذهب إلى عدم الاستحباب، وتمسك بما رواه أبو إسحاق عند أبي داود وغيره عن عائشة: "أنه عليه الصلاة والسلام كان يُجْنِب ثم ينام ولا يَمَسُّ ماء". وتُعُقِّب بأن الحفاظ قالوا: إن أبا إسحاق غَلِطَ فيه، وبأنه لو صح حُمل على أنه ترك الوضوء لبيان الجواز لئلا يُعتقد وجوبه. أو معنى قوله: "لا يمسُّ ماء" أي: للغُسل. وذهب آخرون إلى أن الوضوء المأمور به هو غسل الأذى وغسل ذَكَره ويديه، وهو التنظيف. وجَنَح الطحاويُّ إلى هذا، واحتج بأن ابن عمر راوي الحديث -وهو صاحب القصة- كان يتوضأ وهو جُنُب ولا يغسِلُ رِجليه كلما رواه مالك في "الموطأ" عن نافع. وأجيب بأنه ثبت تقييد الوضوء بالصلاة من روايته ورواية عائشة، فَيُعتمد،

رجاله خمسة

ويُحمل ترك ابن عمر لغسل رجليه على أنه كان لعذر. واختلف في الحكمة في هذا الوضوء, فقيل: هي أنه يخفِّف الحدث، ولاسيما على القول بجواز تفريق الغسل، فينويه، فيرتفع الحدث عن تلك الأعضاء المخصوصة على الصحيح، ويؤيده ما رواه ابن أبي شَيْبة بسندٍ رجاله ثقات عن شداد بن أوْس الصحابي، قال: "إذا أجنَبَ أحدُكم من الليل، ثم أراد أن ينام، فلْيَتَوضّأ، فإنه نصف غُسل الجنابة" وبهذا قال الشافعية. وقيل: الحكمة فيه أنه إحدى الطهارتين، ليبيت على طهارة، وعلى هذا يقوم التيمم مقامه عند عدم وجود الماء، وقد روى البيهقي بإسناد حسن عن عائشة: "أنه -صلى الله عليه وسلم- كان إذا أجنَبَ، فأراد أن ينامَ، توضأ أو تيمم". وقيل: الحكمة فيه أن ينشُطَ للعَوْد أو إلى الغسل، وبكل من هاتين العلتين قالت المالكية، والصحيح عدم اعتبار التيمم. والحائض بعد إنقطاع دمها كالجُنُب. وقال ابن الجوزي: الحكمة فيه أن الملائكة تبعُدُ عن الوسخ والريح الكريهه، بخلاف الشياطين، فإنها تَقْرُبُ من ذلك قلت: مقتضى هذا أن يكون المراد بالوضؤ التنظيف، وقد مرَّ أنه غير صحيح. وفي الحديث أن غُسل الجنابة ليس على الفور، وإنما يتضيَّق عند القيام إلى الصلاة. رجاله خمسة: الأول: قُتيبة بن سعيد، وقد مرَّ في الثاني والعشرين من كتاب الإيمان. ومرّ الليث في الثالث من بدء الوحي. ومرّ نافع مولى ابن عمر في الثالث والسبعين من كتاب العلم. ومرّ ابن عُمر أول كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه. ومرّ عمر بن الخطاب في أول حديث من بدء الوحي.

باب الجنب يتوضأ ثم ينام

وهذا الحديث أخرجه النسائي ومسلم من طريق يحيى القطان. باب الجنب يتوضأ ثم ينام

الحديث الأربعون

الحديث الأربعون حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ وَهْوَ جُنُبٌ، غَسَلَ فَرْجَهُ، وَتَوَضَّأَ لِلصَّلاَةِ. قوله: "وتوضأ للصلاة" أي: توضأ وضوءً كوضوء الصلاة، وليس المعنى أنه توضأ لأداء الصلاة، وإنما المراد أنه توضأ وضوءً شرعيًا لا لغويًّا كما مر. رجاله ستة: الأول: يحيى بن بُكَيْر وقد مرَّ في الثالث من بدء الوحي، ومرَّ الليث فيه أيضًا. الثالث: عُبَيْد الله بن أبي جَعْفَر المِصْري، أبو بكر الفقيه، مولى بني كِنانة، ويقال: مولى بني أُمية أبي جعفر يَسار -بتحتانية ومهملة-. قال أحمد: كان يتفقه، ليس به بأس. وقال أبو حاتم: ثقة مثل يزيد بن أبي حبيب. وقال النَّسائي: ثقة. وقال ابن خِراش: صدوق. وقال ابن سَعْد: ثقة فقيه زمانه. وقال ابن يونُس: كان عالمًا عابدًا زاهدًا. قال أبو شُرَيح عبد الرحمن بن شُرَيح، عن عبيد الله بن أبي جعفر: غزونا القَسْطَنْطينية، فكُسِر بنا مركَبُنا، فألقانا الموج على خشبة في البحر، وكنا خمسة أو ستة، فأنبت الله لنا بعددنا ورقة لكل رجل منا، فكنا نمصُّها فتُشْبعنا وتروينا، فإذا فنيت أثبت الله لنا مكانها أخرى، حتى مرَّ بنا مركبٌ، فحملنا. وقال العِجْلي: عبيد الله بن أبي جعفر بَصْري ثقة، وأخوه عبد الله لا بأس

به. ونقل صاحب "الميزان" عن أحمد أنه قال: ليس بالقوي. رأى عبد الله بن الحارث بن جُزْء الزُّبَيْدي، وروى عن حمزة بن عبد الله بن عمر، ومحمد بن جعفر بن الزبير، وأبي الأسود، وأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عَوْف، وطائفة. وروى عنه: إسحاق، وعمرو بن الحارث، والليث، وحَيْوة بن شُرَيْح، وأبو شُرَيْح عبد الرحمن بن شُرَيْح، وغيرهم. مات سنة خمس أو ست وثلاثين ومئة. الرابع: محمد بن عبد الرحمن بن نَوْفل بن الأسود بن نَوْفل بن خُوَيْلد بن أسد بن عبد العُزّى الأَسَدي أبو الأسود المدني يتيم عروة؛ لأن أباه كان أوصى إليه. وكان جده الأسود من مُهاجرة الحبشة. قال ابن أبي حاتم: سئل أبي عنه، فقال له: ثقة. قيل له: يقوم مقام الزُّهري وهشام بن عروة؟ فقال: ثقة. وقال النسائي: ثقة. ذكره ابن حِبّان في "الثقات". وقال ابن سعد: ليس له عقِب، وكان كثير الحديث ثقة. وقال أحمد بن صالح: هو ثبتٌ له شأن وذِكْر. وقال ابن البُرْقي: لا يعلم له رواية عن أحد من الصحابة مع أن سنَّه يَحْتَمل ذلك. روى عن: عُروة، وعلي بن الحُسين، وسليمان بن يسار، وعامر بن عبد الله بن الزُّبير، وسالم بن عبد الله بن عمر، والأعرج، وعكْرمة، والنُّعمان بن أبي عياش، وغيرهم. وروى عنه: الزهري. وهو من أقرانه، ويزيد بن قُسَيْط ومات قبله، وابن إسحاق، ومالك، وعمرو بن الحارث، والليث، وحيْوة بن شُرَيْح، وشُعبة، وأبو ضَمْرة أنس بن عِياض الليثي، وغيرهم. مات سنة إحدى وثلاثين ومئة أو سبع وثلاثين.

لطائف إسناده

الخامس: عُروة بن الزُّبير، والسادس: عائشة رضي الله تعالى عنها، وقد مرّا في الثاني من بدء الوحي. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في أربعة مواضع، وفيه القول، ونصف رواته مصريون، والنصف الآخر مدنيون.

الحديث الحادي والأربعون

الحديث الحادي والأربعون حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: اسْتَفْتَى عُمَرُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَيَنَامُ أَحَدُنَا وَهْوَ جُنُبٌ. قَالَ: "نَعَمْ، إِذَا تَوَضَّأَ". قوله: "عن عبد الله" في رواية ابن عساكر: "عن ابن عمر". وقوله: "قال: نعم إذا توضأ"، ولمسلم عن نافع: "ليتوضأ ثم لينم". وهذا الحديث قد مرَّ في باب كينونة الجُنُب في البيت الكلام عليه. رجاله أربعة: الأول: موسى بن إسماعيل، وقد مرَّ في الخامس من بدء الوحي. ومرَّ نافع مولى ابن عُمر في الثالث والسبعين من كتاب العلم. ومرَّ عبد الله بن عمر في أول كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه. والرابع: جُويرية بن أسماء بن عبيد بن مُخارِق، ويقال: مِخْراق الضُّبَعي أبو مُخارِق، ويقال: أبو أسماء البَصْري. روى عن: أبيه، ونافع، والزُّهري، ومالك بن أنس وهو من أقرانه. وروى عنه: حَبّان بن هِلال، وحَجاج بن مِنْهال، وابن أخته سعيد بن عامر الضُّبَعي، وابن أخيه عبد الله بن مُحمد بن أسماء، ومُسَدَّد، وأبو الوليد، وغيرهم. قال ابن مَعين: ليس به بأس. وقال أحمد ثقة وليس به بأس. وقال أبو حاتم: صالح. وذكره ابن حِبَّان في "الثقات". وقال ابن سعد: كان صاحب

علم كثير. وذكره ابن المَديني في الطبقة السابعة من أصحاب نافع. مات سنة ثلاث وسبعين ومئة.

الحديث الثاني والأربعون

الحديث الثاني والأربعون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: ذَكَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ تُصِيبُهُ الْجَنَابَةُ مِنَ اللَّيْلِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "تَوَضَّأْ وَاغْسِلْ ذَكَرَكَ ثُمَّ نَمْ". هكذا رواه مالك في "الموطأ" عن عبد الله بن دينار باتفاق رواته، ورواه خارج "الموطأ" عن نافع بدل عبد الله بن دينار، وكذا رواه ابن السَّكَن. قال أبو علي: الحديث محفوظ لمالك عنهما جميعًا، وقد رواه عنه كذلك عن نافع خمسة أو ستة، فلا غرابة فيه، وإن أخرجه الدارقطني في "غرائب مالك"، فمراده ما رواه خارج "الموطأ"، خلافًا لقول ابن عبد البر: حديث نافع غريب. لكن رواية "الموطأ" أشهر. وقوله: "ذكر عمر بن الخطاب" مقتضاه أيضًا أنه من مسند ابن عمر كما هو عند أكثر الرواة، ورواه أبو نوح عن مالك فزاد فيه: "عن عمر"، وقد بين النسائي سبب ذلك في روايته عن نافع، قال: أصاب ابن عمر جنابة، فأتى عمر، فذكر ذلك له، فأتى عمر النبي -صلى الله عليه وسلم-، فاستأمره، فقال: "ليتوضأ ويرقُدْ" وعلى هذا فالضمير في قوله في حديث الباب: "أنه تصيبه" يعود على ابن عمر لا على عمر. وقوله: في الجواب: "توضأ" يُحتمل أن يكون ابن عمر كان حاضرًا، فوُجِّه الخطاب إليه، ويُحتمل أن يكون الجواب لعمر في غيبة ابنه جوابًا لاستفتائه، ولكنه يرجِعُ إلى ابنه؛ لأن الاستفتاء من عمر انما هو من أجل ابنه.

رجاله خمسة

وقوله: "بأنه تصيبه" كذا للحموي والمستملي، والباقين: "أنه". وقوله: "فقال له" سقط لفظ له من رواية الأصيلي. وقوله: "توضأ واغسِل ذكرك"، في رواية أبي نوح: "اغسل ذكرك، ثم توضّأ، ثم نم" وهو يرد على من حمله على ظاهره، فقال: يجوز تقديم الوضوء على غَسْل الذكر؛ لأنه ليس بوضوء يرفع الحدث، وإنما هو للتعبد، إذ الجنابة أشد من مس الذكر. فتبين من رواية أبي نوح أن غَسْله مقدَّمٌ على الوضوء ويمكن أن يؤخره عنه بشرط أن لا يمسَّه على القول بأن مسّه ينقُض. وقوله: "ثم نم" فيه من البديع تجنيس التصحيف. وقد مرت مباحث الحديث قبل هذا بحديثين. رجاله خمسة بعُمر المذكور فيه: الأول: عبد الله بن يوسُف مرَّ هو ومالك بن أنس في الثاني من بدء الوحي. ومرَّ عُمر في الأول منه. ومر عبد الله بن دينار في الثاني من كتاب الإيمان. ومرَّ ابن عُمر في أوله قبل ذكر حديث منه. باب إذا التقى الختانان باب بالتنوين، أي: من الرجل والمرأة، والمراد بهذه التثنية خِتان الرجل وخِفاض المرأة، والخَتْن قطع جلدة كمرته، والخَفْض قطع جُليدة في أعلى فرجها تشبه عرف الديك، بينها وبين مدخل الذكر جلدة رقيقة، ويينهما مخرج البول كما مرَّ، وإنما ثنيا بلفظ واحدٍ تغليبًا، وله نظائر، وقاعدته ردُّ الأثقل إلى الأخف، والأدنى إلى الأعلى. والمراد بالتلاقي: تلاقي موضع القطع من الذكر، مع موضعه من فرج الأنثى.

الحديث الثالث والأربعون

الحديث الثالث والأربعون حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ وَحَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الأَرْبَعِ ثُمَّ جَهَدَهَا، فَقَدْ وَجَبَ الْغَسْلُ". قوله: "إذا جلس" الضمير المستتر فيه. وفي قوله: "جهد" للرجل، والضميران البارزان في قوله: "شعبها"، و"جهدها" للمرأة، وترك إظهار ذلك للمعرفة به، وقد وقع مصرَّحًا به في رواية ابن المنذر من وجه آخر عن أبي هُريرة قال: "إذا غَشِي الرجل امرأته، فقعد بين شعبها .. الحديث". وقوله: "بين شُعَبِها الأربع" الشُّعَب -بضم ثم فتح- جمع شُعْبة -بضم فسكون- وهي القطعة من الشيء، قيل: المراد هنا يداها ورجلاها. وقيل: رجلاها وفخِذاها. وقيل: ساقاها وفخذاها. وقيل: فخذاها واسكتاها. وقيل: فخِذاها وشُفراها. وقيل: نوحي فرجها الأربع. والاسكتان: ناحيتا الفرج. والشُّفران: طرف الناحيتين. ورجح عياض الأخير، وابن دقيق العيد الأول، قائلًا: إنه أقرب إلى الحقيقة، أو هو حقيقة في الجلوس، وهو كناية عن الجماع، فاكتفى به عن التصريح. وقوله: "ثم جَهَدَها" بفتح الجيم والهاء، يقال: جَهَد واجْهَد، أي: بلغ المشقة، قيل: معناه: كدها بحركته، أو بلغ جهده في العمل بها. وفي رواية لمسلم: "ثم اجتهد". ومرت مباحث هذا الحديث مستوفاة في باب الوضوء من المَخْرَجين عند

رجاله سبعة

ذكر حديث عثمان هناك: "أرأيتَ إذا جامع الرجلُ امرأته فلم يُمْنِ". رجاله سبعة: الأول: مُعاذ بن فَضَالة وقد مرَّ في التاسع عشر من كتاب الوضوء. ومرَّ هشام بن أبي عبد الله الدَّسْتُوائي في الثامن والثلاثين من كتاب الإيمان. ومرَّ أبو نُعَيْم الفَضْل بن دُكَيْن في السادس والأربعين منه. ومرَّ قَتَادة بن دِعامة في السادس منه. ومرَّ الحسن البَصْري في الخامس والعشرين منه. ومرَّ أبو هُريرة في الثاني منه. ومرَّ أبو رافع الصايغ في الثالث والثلاثين من كتاب الغُسْل هذا. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، وفيه العنعنة في ست مواضع، ورواته كلهم بصريون. أخرجه مسلم في الطهارة عن أبي خَيْثَمة زُهير بن حرب، وغيره، وأبو داود فيها أيضًا عن مسلم بن إبراهيم. والنسائي فيها عن مُحمد بن عبد الأعلى. وابن ماجه فيها عن أبي بكر بن أبي شَيْبة. تابَعَهُ عَمْرُو عَنْ شُعْبَةَ مِثْلَهُ وقالَ: مُوسَى حَدَّثَنا أَبَانُ قالَ: حَدَّثَنا قَتَادَةُ قالَ: أَخْبَرنا الحسنُ مِثْلَهُ. الضمير في تابعه يعود على هشام لا على قَتادة؛ لأن رواية شعبة عن قَتادة عن الحسن لا عن الحسن نفسه. وقوله: "مثله" أي: مثل حديث الباب، إلاَّ أنه قال: "وأجهدها". وقوله: "وقال موسى" أفادت روايته التصريح بتحديث الحسن لقتادة، وفي رواية الباب عن الحسن بالعنعنة، فأُمِن تدليس قتادة. وكون رواية موسى هذه أخرجها البيهقي عن عفّان وهمام عنه، غير صحيح، فلا ذكر فيه لموسى، بل رواه عفّان عن أبان، كما رواه عنه موسى، فهو رفيقه لا شيخه، ويُحتمل أن يكون البخاري سمعها من موسى لا من

مشايخه، فلا يكون تعليقًا. ومتابعة عمرو موصولة في "فوائد" عثمان بن أحمد السَّمّاك. ومرَّ شُعبة في الثالث من الإيمان. وموسى بن إسماعيل مرَّ قريبًا محله. وأبان بن يزيد بن العطار مرَّ في الثامن والثلاثين من كتاب الإيمان. ومرَّ قَتادة بن دِعامة في السادس منه. ومرَّ الحسن البصري في الخامس والعشرين منه. وأما عمرو فهو: عمرو بن مرزوق الباهلي، يقال: مولاهم أبو عُثمان البَصْري. قال أبو زُرعة: سمعت أحمد بن حَنْبل وقلت له: إن علي بن المديني يتكلم في عمرو بن مَرْزوق، فقال: عمرو رجل صالح، لا أدري ما يقول علي. قال: وبلغني عن أحمد أنه قال: كان عفّان يَرْضى عمرو بن مرزوق، ومن كان يرضَى عفّانُ؟ وقال سليمان بن حرب -وقد ذُكر عمرو بن مرزوق-: جاء بما ليس عندهم فحسدوه. وقال أبو عبيد الله الحداني: سئل عنه أحمد بن حنبل، فقال: ثقة مأمون، فتَّشْنا على ما قيل فيه، فلم نجد له أصلًا. وقال ابن مَعين: ثقة مأمون صاحب غزو وقرآن وفضل، وحمده جدًّا. وقال أبو حاتم: كان ثقة من العباد، ولم يكتب عن أحد من أصحاب شعبة كان أحسن حديثًا منه. قال أبو حاتم: قلت لأبي سلمة: كتب عمرو مع أبي داود فغضب، وقال: بل أبو داود وكان يطلب مع عمرو. وكان أحمد بن محمد بن مَخْلد يقول: لم يكن بالبصرة مجلس أكبر من مجلس عمرو بن مرزوق، كان فيه عشرة آلاف رجل. وقال مُسلم بن إبراهيم: كانت الكتب التي عند أبي داود لعمرو بن مرزوق، وكان عمرو غزّاء، فلما مات أبو داود حولها عمرو.

وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث عن شعبة. وقال السّاجِي: صدوق من أهل القرآن والجهاد، وكان أبو الوليد يتكلم فيه. وقال الأزْدِي: كان علي بن المديني صديقًا لأبي داود وكان أبو داود لا يحدّث حتى يأمره علي، وكان ابن مَعين يُطري عَمرو بن مرزوق ويرفع ذكره ولا يفعل ذلك بأبي داود، لطاعة أبي داود لعلي. وقال بُندار: سمعت عمرو بن مرزوق، وقيل له: تزوجت ألف امرأة؟ قال: أو زيادة. وقال سعيد: قال لي ابن المديني: اختَلِف إلى مسلم بن إبراهيم، ودع عمرو بن مرزوق. وقال الحسن بن شُجاع البَلْخي: سمعت ابن المديني يقول: اتركوا حديث الفَهْدين والعَمْرَين، يعني: فهد بن حيّان وفهد بن عَوْف، وعمرو بن مرزوق وعمرو بن حكام. وقال ابن وارة: سألت أبا الوليد عنه، فقال: لا أقول فيه شيئًا. وقال ابن أبي خَيْثمة: قال عبيد الله بن عمر: كان يحيى بن سعيد لا يَرْضَى عمرو بن مرزوق. وقال ابن المديني أيضًا: ذهب حديثه. وقال ابن عمّار الموصِلي: ليس بشيء. وقال العِجْلي: عمرو بن مَرزوق بصري ضعيف يحدِّث عن شُعبة، ليس بشيء. وقال الدارقطني: صدوق كثير الوهم. وقال الحاكم: سيىء الحفظ. قال ابن حجر: لم يخرج عنه البخاري في "الصحيح" سوى حديثين، أحدهما: حديثه عن شُعبة، عن عمرو بن مرة، عن عروة، عن أبي موسى في فضل عائشة، وهو عنده بمتابعة آدم بن أبي إياس وغُنْدَر وغيرهما عن شُعبة. والثاني: حديثه عن شُعبة، عن أبي بكر، عن أنس في ذكر الكبائر مقرونًا عنده بعبد الصمد عن شعبة، فوضح أنه لم يخرِّج له احتجاجًا. روى عن: شعبة، ومالك، وزائدة، وعمران القطّان، والحمّادَيْن، وزهير بن معاوية، وجماعة. وروى عنه: البخاري مقرونًا بغيره، وأبو داود، وبُندار، وأبو قِلابة الرُّقاشي،

باب غسل ما يصيب من رطوبة فرج المرأة

وإسماعيل بن إسحاق، وعثمان بن خُرَّزاد، وأبو حاتم، وجماعة. مات في صفر سنة أربع وعشرين ومئتين. باب غسل ما يصيب من رطوبة فرج المرأة قوله: "ما يصيب" أي: الرجل، والترجمة شاهدة لما قدَّمناه عند حديث عثمان من نجاسة رطوبة فرج المرأة، وهي عند المالكية نجسة مما بوله نجس, طاهرة مما بوله طاهر إن لم يتغذَّ بنجاسة.

الحديث الرابع والأربعون

الحديث الرابع والأربعون حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: يَحْيَى وَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ الْجُهَنِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَأَلَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ إِذَا جَامَعَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فَلَمْ يُمْنِ. قَالَ عُثْمَانُ: يَتَوَضَّأُ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلاَةِ، وَيَغْسِلُ ذَكَرَهُ. قَالَ عُثْمَانُ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ وَطَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ -رضى الله عنهم- فَأَمَرُوهُ بِذَلِكَ. قَالَ يَحْيَى وَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. قوله: "عن الحسين"، زاد أبو ذر: "المعلم". وقوله: "قال يحيى" هو ابن أبي كثير، أي: قال الحسين: قال يحيى. ولفظ قال الأُولى يُحذف في الخط عُرفًا. وقوله: "وأخبرني أبو مسلمة" هو عطف على مقدر، أي: أخبرني بكذا، وأخبرني بكذا. وفي رواية مسلم بحذف الواو. قال ابن العربي: لم يسمعه الحسين من يحيى، فلهذا قال: "قال يحيى". ولم يأت بدليل على هذا. وقد وقع في رواية مسلم: "عن الحسين عن يحيى" وليس الحسين بمدلِّس، وعنعنة غير المدلس محمولة على السماع إذا لقيه على الصحيح. على أنه وقع التصريح في رواية ابن خُزَيمة بالتحديث في رواية حسين عن يحيى بلفظ: "حدثني يحيى". ومع هذا لم ينفرد الحسين به، فقد رواه عن يحيى أيضًا معاوية بن سلام، أخرجه ابن شاهين، وشَيْبان بن عبد الرحمن، أخرجه المؤلف في باب الوضوء من المخرجين.

رجاله أربعة عشر

وقوله: "فأمروه بذلك" قد مرَّ ما فيه مستوفى في الباب المذكور الآن، وقد مرَّ الكلام على جميع مباحثه عند ذكره هناك. وقوله: "وأخبرني أبو سلمة أن عُروة بن الزبير أخبره" كذا لأبي ذر، وللباقين: "قال يحيى: وأخبرني أبو سلمة" وهو المراد، وهو معطوف بالإسناد الأول، وليس معلقًا، وقد رواه مسلم بالإسنادين معًا. وقوله: "إنه سمع ذلك من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" قال الدارقطني هو وهم؛ لأن أبا أيوب إنما سمعه من أُبي بن كعب كما قال هشام بن عروة عن أبيه في الرواية التي بعد هذه. قال في "الفتح": والظاهر أن أبا أيوب سمعه منهما، لاختلاف السياق، لأن في روايته عن أُبي بن كعب قصة ليست في روايته عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، مع أن أبا سَلمة أكبر قدرًا وسنًّا وعلمًا من هشام بن عروة، وروايته عن عروة من رواية الأقران؛ لأنهما تابعيان فقيهان من طبقة واحدة، وكذلك رواية أبي أيوب عن أُبي بن كعب؛ لأنهما فقيهان صحابيّان كبيران، وقد جاء هذا الحديث من وجه آخر عن أبي أيوب، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأخرجه الدارِمي وابن ماجه. رجاله أربعة عشر نفسًا سبعة من أجلاء الصحابة وسبعة من غيرهم. فالأول من غير الصحابة: أبو مَعْمر عبد الله بن عمرو، والثاني: عبد الوارث بن سعيد، وقد مرّا في السادس عشر من كتاب العلم. ومرَّ حُسين بن ذَكْوان المعلِّم في السادس من كتاب الإيمان. ومرَّ يحيى بن أبي كثير في الثالث والخمسين من كتاب العلم. ومرَّ أبو سلمة بن عبد الرحمن في الرابع من بدء الوحي. ومرَّ عروة في الثاني منه. ومرَّ عطاء بن يَسار في الثالث والعشرين من كتاب الإيمان. والأول من الصحابة: زيد بن خالد، وقد مرَّ في الثالث والثلاثين من كتاب العلم. ومرَّ أُبي بن كعب في السادس عشر منه. ومرَّ عثمان بن عفّان في باب ما يُذكر في المناولة بعد الخامس منه أيضًا. ومرَّ علي بن أبي طالب في السابع

لطائف إسناده

والأربعين منه. ومرَّ الزُّبَيْر بن العوام في الثامن والأربعين منه. ومرَّ طلحة بن عُبيد الله في الأربعين من كتاب الإيمان. ومرَّ عُروة في الثاني من بدء الوحي. ومرَّ أبو أيوب الأنصاري في العاشر من كتاب الوضوء. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وبلفظ أخبره في أربعة مواضع، وفيه لفظ القول في موضعين: أحدهما: قال يحيى، أي: قال الحسين: قال يحيى، ولفظ قال الأولى يُحذف في الخط في اصطلاحهم. وقال الآخر: قوله: قال عثمان، وفيه السؤال في موضعين، وفيه السماع في موضعين، وفيه قال يحيى: وأخبرني، هذا عطف على مقدَّر تقديره: قال يحيى: أخبرني بكذا، وأخبرني بهذا، وإنما احتَجْنا إلى هذا التقدير لأن أخبرني مقول قال، وهو مفعول حقيقة، فلا يجوز دخول الواو بينهما. وفي رواية مسلم بحذف الواو على الأصل، وفي رواية البخاري دقة، وهو الإشعار بأن هذا من جملة ما سمع يحيى من أبي سلمة، فإن قيل: قول الحسين: قال يحيى، يوهم أنه لم يسمع من يحيى ... إلخ ما مرَّ.

الحديث الخامس والأربعون

الحديث الخامس والأربعون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو أَيُّوبَ قَالَ أَخْبَرَنِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِذَا جَامَعَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ فَلَمْ يُنْزِلْ. قَالَ: "يَغْسِلُ مَا مَسَّ الْمَرْأَةَ مِنْهُ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّى". قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: الْغَسْلُ أَحْوَطُ، وَذَاكَ الأخِيرُ، إِنَّمَا بَيَّنَّا لاخْتِلاَفِهِمْ. قوله: "ما مس المرأة منه" أي: يغسل الرجل العضو الذي مسَّ فرج المرأة من أعضائه، وهو من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم؛ لأن المراد رطوبة فرجها، ففي "مسَّ" ضمير، وهو فاعله، يعود إلى كلمة: "ما"، وموضعها نصب مفعولًا ليغسل. وقوله: "ثم يتوضأ" صريح في تأخير الوضوء عن غَسْل الذكر، زاد عبد الرزاق عن هشام: "وضوءَه للصلاة". وقوله: "ويصلي" هو أصرح في الدلالة على ترك الغسل من الحديث الذي قبله. وقوله: "قال أبو عبد الله" هو المصنف، وقائل ذلك هو الراوي عنه. وقوله: "الغُسل أحوط" بضم الغين، أي: الاغتسال من الإِيلاج وإن لم يُنزل أحوط، أي: أكثر احتياطًا في أمر الدين من الاكتفاء بغسل الفرج والوضوء المذكور في الحديث السابق، وفتوى من ذكر من الصحابة على تقدير أن لا يثبت الناسخ ولا يظهر الترجيح. وقوله: "وذلك الأخير" بالمثناة من غير مد، ولغير أبي ذر: "الآخِر" بالمد وكسر الخاء من غير ياء، أي: آخر الأمرين من فعل الشارع، أو من اجتهاد

الأئمة، وهو يشير إلى أن حديث الباب منسوخ، وضبطه الدَّماميني وابن التين: "الآخَر" بفتح الخاء، أي: ذلك الوجه الآخر، أو الحديث الآخر الدال على عدم وجوب الغسل. وقوله: "إنما بيّنّا لاختلافهم" وفي رواية كريمة: "إنَّما بيَّنّا اختلافَهم"، وللأصيلي: "إنما بيّناه لاختلافهم"، وفي نسخة الضغَاني: "إنما بيَّنّا الحديث الآخر لاختلافهم، والماء أنقى". واللام تعليلية، أي: حتى لا يُظَنَّ أن في ذلك إجماعًا، ولابن عساكر: "وإنما بالواو"، والأليق حذفها، وهو يناسب رواية فتح خاء "الآخَر". واستشكل ابن العربي كلام البخاري، فقال: إيجاب الغُسل أطبق عليه الصحابة ومَن بعدهم، وما خالف فيه إلا داود، ولا عبرة بخلافه، وإنما الأمر الصعب مخالفة البخاري، وحكمه بأن الغسل مستحب، وهو أحد أئمة الدين وأجلة علماء المسلمين. وتُعقِّب هذا بأن كلام البخاري إنما يكون مَيْلًا منه لمذهب داود إذا فُتِحت خاء "الآخر"، أما بالكسر، فيكون جزمًا منه بالنسخ كما مرَّ تقديره، وأما نفيه للخلاف فمعتَرَضٌ بأن الخلاف مشهور بين الصحابة، ثبت عن جماعة منهم، لكن ادّعى ابن القصّار أن الخلاف ارتفع بين التابعين. واعْتُرِض أيضًا، فقد قال الخطابي: إنه قال به من التابعين الأعمش، وتبِعَه عِياض، لكنه قال: لم يقل به أحد بعد الصحابة غيره. وهو مُعْتَرَض أيضًا، فقد ثبت ذلك عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، رواه أبو داود في "سننه" بسند صحيح، وعن هشام بن عروة عند عبد الرزاق بإسناد صحيح، ونقل عبد الرزاق عن عطاء أنه قال: لا تطيب نفسي إذا لم أنزل حتى أغتسل من أجل اختلاف الناس، لأخذنا بالعروة الوثقى. وقال الشافعي: حديث الماء من الماء ثابت، لكنه منسوخ، إلى أن قال:

رجاله ستة

فخالفنا بعضُ ناحيتنا من الحجازيين، فقالوا: لا يجب الغسل حتى يُنزل، فعُرِف بهذا أن الخلاف كان مشهورًا بين التابعين ومن بعدهم. لكن الجمهور على إيجاب الغسل، وهو الصواب، وقد بيّنّا عند ذكر هذا الحديث في الباب السابق إيضاح نسخه فليُراجع. رجاله ستة: الأول: مسدَّد بن مُسَرْهد، والثاني: يحيى القطان، وقد مرّا في السادس من كتاب الوحي. ومرَّ هشام بن عُروة وأبو عُروة في الثاني من بدء الوحي. ومرَّ أبَي بن كَعب في السادس عشر من كتاب العلم. ومرَّ أبو أيوب الأنصاري في العاشر من كتاب الوضوء. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وفيه الإِخبار بصيغة الإفراد في ثلاثة مواضع، وفيه العنعنة في موضع واحد، وفيه رواية صحابي عن صحابي.

خاتمة

خاتمة قال في "فتح الباري": اشتمل كتاب الغُسل وما معه من أحكام الجنابة من الأحاديث المرفوعة على ثلاثة وستين حديثًا، المكرر منها فيه وفيما مضى خمسة وثلاثون حديثًا، الموصول منها أحد وعشرون، والبقية تعليق ومتابعة، والخالص ثمانية وعشرون، منها واحد معلق، وهو حديث بَهْز، عن أبيه، عن جده. وقد وافقه مسلم على تخريجها سواه، وسوى حديث جابر في الاكتفاء في الغسل بصاع، وحديث أنس: كان يدور على نسائه وهن إحدى عشرة امرأة في ليلة واحدة، وحديثه في الاغتسال مع المرأة من إناء واحد، وحديث عائشة في صفة غُسل المرأة من الجنابة. وفيه من الآثار الموقوفة على الصحابة والتابعين عشرة، المعلق منها سبعة، والموصول ثلاثة، وهي حديث أيوب بن خالد عن علي وطلحة والزُّبير المذكور في الباب الأخير، فإن كان مرفوعًا عنهم فتزيد عدة الخالص من المرفوع ثلاثة، وهي أيضًا من أفراده عن مسلم، والله تعالى أعلم. قلت: ترى ابن حجر جزم بأن الموصول من أحاديث هذا الكتاب أحد وعشرون، وقد رأيتُ الموصول المسند ثلاثة وأربعين بالمكرر وغيره، فانظره مع ما قال.

كتاب الحيض

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الحيض ولابن عساكر والأصيلي إسقاط البسملة، ولأبي ذر تقديم كتاب على البسملة، وقد تقدم توجيه كل من الأمرين عند كتاب الإيمان، وفي رواية باب بدل كتاب، والتعبير بالكتاب أولى. لما فرغ مما ورد في بيان أحكام من الأحداث أصلًا وخلقًا، شرع في بيان ما ورد في الحيض الذي هو من الأنجاس، وترجم بالحيض دون النفاس، وإن كان المراد بقوله: "كتاب الحيض" أي: وما يذكر معه من النفاس والاستحاضة، لكثرة وقوعه بالنسبة إلى وقوع النفاس. وللحيض خمسة عشر اسمًا، جمعها الناظم في قوله: للحيض عشرةُ أسما وخمستُها ... حيضٌ محيضٌ محاضٌ طمثٌ اكبارُ طمسٌ عراكٌ فراكٌ مع أذى ضحك ... درسٌ دراسٌ نفاسٌ قرءٌ اعصارُ وهو في اللغة: السيلان. يقال: حاض الوادي، إذا سال، وحاضت الشجرة إذا سال صمغُها، وفي الشرع: دم يخرج من قَعْر رحم المرأة بعد بلوغها في أوقات معتادة. والاستحاضة: الدم الخارج في غير أوقاته، ويسيل من عرق فمه في أدنى الرحم، اسمعه العاذل بالذال المعجمة كما مرَّ في الوضوء، وحكى ابن سِيده إهمالها، والجوهري بدل اللام راء. والذي يحيض من الحيوانات تسعة، جمعها الراجز في قوله:

امرأةٌ وفرسٌ وضبُعٌ ... ووزَغٌ حيةٌ الخفاشُ عُوا وناقةٌ وأرنبٌ ثمانِ ... تحيضُ كلُّها بلا بُهتانِ وهذهِ الصفةُ أيضًا جامعة ... لفيلةٍ معها فهي التاسِعَهْ وقول الله تعالى: وللأصيلي: "عَزَّ وَجَلَّ" بجر "قول" عطفًا على قوله: "الحيض" المجرور بإضافة كتاب إليه، وفي رواية: "قول الله" بالرفع، ثم قال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}. {الْمَحِيضِ} مصدر كالمجيء والمبيت، أي: الحيض، أي: عن حكمه. وروى الطبري عن السُّدّي أن الذي سأل أولًا عن ذلك هو ثابت بن الدَّحْداح، فقد روى مسلم وأبو داود عن أنس أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة أخرجوها من البيت، فسُئِل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، فنزلت الآية، فقال اصنعوا كلَّ شيءٍ إلا النكاح، فأنكرت اليهود ذلك، فجاء أُسَيْد بن حُضَيْر وعبّاد بن بِشْر، فقالا: يا رسول الله: ألا نُجامِعُهُنَّ في الحيض، يعني: خلافًا لليهود، فلمَ يأذن في ذلك. وقوله: {قُلْ هُوَ أَذًى} قال الطيبي: سمي الحيض أذىً لنتنه وقذره ونجاسته، فهو مؤذ لمن يقربه. وقال الخطابي: الأذى المكروه الذي ليس بشديد، كما قال تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى} [آل عمران: 111]. فالمعنَى أن المحيض أذى، يُعتزل من المرأة موضعه، ولا يَتَعدّى ذلك إلى بقية بدنها. وقوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} أي: اجتنبوهن، والمحيض الأول هو الحيض اتفافًا، وهذا الثاني معناه الحيض أيضًا عند الجمهور، وقيل: زمانه، وقيل: مكانه، وهو الفرج، وهذا اقتصاد بين إفراط اليهود الآخِذين في ذلك بإخراجهن من البيوت كما مر، وتفريط النَّصارى فإنهم كانوا يُجامعوهن ولا

باب كيف كان بدء الحيض

يُبالون بالحيض، وإنما وصفه بأنه أذىً، ورتَّب الحكم عليه بالفاء. إشعارًا بأنه العلة. وقَوْله: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} تأكيد للحكم، وبيان لغايته، وهو أن يغتسِلْن بعد الانقطاع، ويدلُ عليه صريحًا قراءة: {يَطْهُرْنَ} بالتشديد، بمعنى: يغتسلن. والتزامًا. قوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} فإنه يقتضي تأخر جواز الإتيان عن الغسل، وقال أبو حنيفة: إن طهُرت لأكثر الحيض جاز إتيانها قبل الغسل. وقال ابن شعبان من المالكية: يجوز إتيانها بعد الطُّهر إذا تيممت قبل أن تغتسل. وقوله: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} أي: بتجنبه في الحيض، وهو القبل، ولا تعدوه إلى غيره، فهو المأتي الذي أمركم به وحلله لكم. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} أي: من الذنوب. وقوله: {وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} أي: المتنزهين عن الفواحش والأقذار، كمجامعة الحائض، والإتيان في غير القبل. ذكرت الآية كلها في رواية ابن عساكر، ولأبوي ذرٍّ والوقت: "فاعتزلوا إلى قوله يحب المتطهرين". وفي رواية: "ويسألونك عن المحيض الآية". باب كيف كان بَدْءُ الحيض أي: ابتداؤه، ويجوز تنوين باب بالقطع عمّا بعده، وتركه بالإضافة إليه، وقد مرَّ ما فيه في قوله أول الكتاب: "باب: كيف كان بدء الوحي". وقولُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- هذا شَيءٌ كتَبَهُ الله على بَنَاتِ آدَمَ. بجر: "قول" ورفعه. وقوله: "هذا شيء" الإشارة إلى الحيض. وقوله: "كتبه الله علي بنات آدم" أي: لأنه من أصل خِلْقَتِهنَّ الذي فيه

صلاحهن، ويدل له قوله تعالى: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء: 90]، المفسر بأصلحناها للولادة برد الحيض إليها بعد عقرها. وأخرج الحاكم وابن المنذر بإسناد صحيح عن ابن عباس أن ابتداء الحيض كان على حوّاء عليها السلام بعد أن أُهْبِطَت من الجنة. والتعليق المذكور وصله المصنف في الباب الذي يليه عن عائشة بلفظ: "هذا أمر" ووصله بعد ستة أبواب في باب: تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت، بلفظ: "فإن ذلك شيء" بدل قوله هنا: "هذا شيء". وقالَ بَعْضُهُمْ كانَ أوَّلُ ما أُرسلَ الحَيْضُ على بَني إسْرَائيلَ. قوله: "أول" بالرفع لأنه اسم كان، والخبر: "علي بني إسرائيل". وقوله: "أُرْسِل" بضم الهمزة مبنيًّا للمفعول، والحيض نائبه، وكأنه يشير إلى حديث عبد الرزاق عن ابن مسعود بإسناد صحيح، قال: "كان الرجال والنساء من بني إسرائيل يصلّون جميعًا، فكانت المرأة تتشوَّف للرجل، فألقى الله عليهنَّ الحيضَ، ومنعهنَّ المساجد". وعنده عن عائشة نحوه. فالبعض المبهم هو عبد الله بن مسعود وعائشة كما علمت، وعبد الله قد مرَّ في أول كتاب الإيمان في ذكر حديث منه، ومرَّت عائشة في الثاني من بدء الوحي. قال أبُو عَبْدِ اللهِ وحديثُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَكْثَرُ قوله: "أكثر" قيل: معناه أشمل من قول بعضهم السابق؛ لأنه عامٌّ في جميع بنات آدم، فيتناول الإسرائيليات ومن قبلَهن، أو المراد أكثر شواهدًا وأكثر قوة. وقال الداوودي: ليس بينهما مخالفة، فإن نساء بني إسرائيل من بنات آدم، فعلى هذا، فقوله: "بنات آدم" عام أريد به الخصوص. وما قاله غير ظاهر، فالمخالفة كما ترى ظاهرة، فإن هذا القول يلزم منه أن غير نساء بني إسرائيل لم يُرسل عليهن الحيض، والحديث ظاهر في أن جميع

بنات آدم كتب عليهن الحيض إسرائيلياتٍ كُنَّ أو غيرهن، وقد مرَّ في حديث ابن عباس التصريح بأن أول ابتداء الحيض كان على حواء. وأخرج الطبري وغيره عن ابن عباس وغيره أن قوله تعالى في قصة إبراهيم: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ} [هود: 71] أي: حاضت. والقصة متقدمة علي بني إسرائيل بلا ريب. قال في "الفتح": ويمكن أن يُجمع بينهما مع القول بالتعميم، بأن الذي أرسل على نساء بني إسرائيل طول مُكْثِه بهنَّ عقوبة لهن لا ابتداء وجوده. وتعقبه العيني فقال: كيف يقول: لا ابتداء وجووه. والخبر فيه: "أول ما أرسل". وبينه وبين كلامه منافاة، وأيضًا: من أين وردَ أن الحيض طال مكثه على نساء بني إسرائيل، ومن نقل هذا. قلت: هذا الاعتراض ساقط، فإن قوله في الحديث: "أول ما أرسل" لا منافاة فيه لما قال، بل فيه دلالة له؛ لأن الإرسال عبارة عن الانطلاق، والانطلاق فيه دلالة على الكثرة، والكثرة تستلزم طول المكث، والتوفيق بين الأحاديث لا يشترط فيه النفل، بل يحصُل بما هو ممكن مما يزيل التعارض كما هو مقرر في علم الأصول. وأجاب العيني بأنه يمكن أن الله تعالى قطع حيض نساء بني إسرائيل عقوبةً لهُن ولأزواجهن لكثرة عنادِهم، ومضت على ذلك مدة، ثم إن الله رحمهم وأعاد حيض نسائهم الذي جعله سببًا لوجود النسل، فلما أعاده عليهم كان ذلك أول الحيض بالنسبة إلى مدة الانقطاع، فأطْلَق الأولية عليه بهذا الاعتبار؛ لأنها من الأمور النسبية. قلت: هذا الجواب ظاهر السقوط لما فيه من البُعد من انقطاع الحيض وإعادته، فما في الأحاديث دلالة على أنه انقطع بعد أن حصل، ولما فيه أيضًا من منافاة الحديث، فإن الحديث فيه أن الحيضَ أُرسل عقوبة لنساء بني إسرائيل، وهو قال: إن هذا الابتداء والإرسال كان رحمة لهن.

باب الأمر بالنفساء إذا نفسن

وأجاب في "المصابيح" بالحمل على أن المراد بإرسال الحيض إرسال حكمه، بمعنى أن كون الحيض مانعًا ابتدىء بالإسرائيليات، وحمل الحديث على قضاء الله علي بنات آدم بوجود الحيض، كما هو الظاهر منه. قلت: هذا الجواب عندي حسن. باب الأمر بالنفساء إذا نفسن أي: الأمر المتعلق بالنُّفساء، والجمع في قوله: "إذا نَفِسْنَ" للجنس، وفي رواية: "إذا نَفِسَ" بتذكير الضمير الراجع للنفساء، باعتبار الشخص، أو لعدم الإلباس، لاختصاص الحيض بالنساء. وقيل: إن الباء في "بالنفساء" زائدة؛ لأن النفساء مأمورة لا مأمور بها. وفي رواية أبوي ذرٍّ والوقت: باب: الأمر للنساء إذا نَفِسْنَ. وفي أكثر الروايات الباب والترجمة ساقطان. وترجم بالنفساء إشعارًا بأن ذلك يُطلق على الحائض، لقول عائشة في حديث الباب: "حِضْتُ"، وقوله -صلى الله عليه وسلم- لها: "أَنَفِسْتِ" وهو بضم النون وفتحها، وكسر الفاء فيهما للحيض والولادة. وقال الخطابي: أصل هذه الكلمة من النَّفْسِ، وهو الدم، إلا أنهم فرَّقوا بين بناء الفعل من الحيض والنفاس، فقالوا في الحيض: نَفِسَت بفتح النون، وفي الولادة بضمها. وقال الأصمعي: هو بضم النون فيهما .. وقال النووي: الضم في الولادة أكثر من الفتح، والفتح في الحيض أكثر من الضم. وقال الهَرَوي: الضم والفتح في الولادة، وأما الحيض فبالفتح لا غير.

الحديث الأول

الحديث الأول حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْقَاسِمِ قَالَ: سَمِعْتُ الْقَاسِمَ يَقُولُ سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ: خَرَجْنَا لاَ نَرَى إِلاَّ الْحَجَّ، فَلَمَّا كُنَّا بِسَرِفَ حِضْتُ، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَنَا أَبْكِي قَالَ: "مَا لَكِ أَنُفِسْتِ؟ ". قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: "إِنَّ هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، فَاقْضِي مَا يَقْضِي الْحَاجُّ، غَيْرَ أَنْ لاَ تَطُوفِي بِالْبَيْتِ". قَالَتْ: وَضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ نِسَائِهِ بِالْبَقَرِ. قوله: "لا نُرى" جملة حالية، ونُرى بضم النون، أي: لا نظن، وفي رواية: "لا نَرى" بفتحها. وقوله: "إلا الحج" أي: إلا قصده؛ لأنهم كانوا يظُنون امتناع العمرة في أشهر الحج، فأَخْبَرت عن اعتقادها أو عن الغالب من حال الناس أو حال الشارع. وقوله: "فلما كُنا" للكُشميهني وللأصيلي: "فلما كنت". وقوله: "بِسَرِف" بوزن كتف، موضع على عشرة أميال أو تسعة أو سبعة أو ستة من مكة، غير منصرف للعلمية والتأنيث، وقد يُصرف باعتبار إرادة المكان. وقوله: "وأنا أبكي" جملة إسمية حالية. وقوله: "أمر كتبه الله" أي: شأن امتحنَهُنَّ به وتعبَّدَهُن بالصبر عليه. وقوله: "فاقضي ما يَقْضي الحاج" بإثبات الياء في "اقضي" لأنه خطاب لعائشة، والمراد بالقضاء هنا الأداء، وهما في اللغة بمعنى واحد، أي أدِّ الذي يؤديه، وفي الرواية الآتية في الحج: "افعلي كما يفعل الحاج".

وقوله: "غير أن لا تطوفي بالبيت" أي: غير أن تطوفي بالبيت، فلا زائدة، وإلا فغير عدم الطواف هو نفس الطواف، أو تطوفي مجزوم بلا، وأن مخففة من الثقيلة، وفيها ضمير الشأن، أي: لا تطوفي ما دُمتِ حائضًا. وفي الرواية الآتية زيادة: "حتى تَطَّهّري" بتشديد الطاء والهاء. وقوله: "وضحّى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن نسائه بالبقر"، ولأبي ذر والحموي والمستملي: "بالبقرة". ودل الحديث على أن طواف الحائض فاسد؛ لأن النهي في العبادات يقتضي الفساد، وفي معنى الحائض الجُنُب والمحدِث كما هو قول الجمهور. وذهب جمع من الكوفيين منهم أبو حنيفة وحماد ومنصور والحكم إلى عدم اشتراط الطهارة في الطواف، واختلف أصحاب أبي حنيفة في وجوبها وجبرانها بالدم. وأما السعي فلم يذكر ابن المنذر عن أحد من السلف اشتراط الطهارة له إلا عن الحسن البصري، وحكى ذلك رواية عن الحنابلة، والذي عند المالكية أن الطهارة له مستحبة. واستدلت المالكية القائلون بأن الضحية والهَدْي لا يُجزىء فيهما التشريك بظاهر هذه الرواية من قوله: "عن نسائه بالبقر" فإن البقر جمع، فالظاهر توزيعه على النساء، فيكون ضحّى عن كل واحدة ببقرة. وكذلك رواية مسلم بلفظ: "ضحّى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن نسائه بالبقر"، وعند النَّسائي التصريح بما أفهمته الروايتان عن عائشة من رواية عمّار الدُّهْنِي قالت: "ذبح عنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم حَجَجْنا بقرةً بقرةً". وأما رواية يونس عن الزهري عن عائشة أخرجها أبو داود والنسائي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نَحَر عن أزواجه بقرة واحدة. فقد قال القاضي إسماعيل: إن يونُس تفرَّدَ بها، وقد خالفه غيره. وتمسك الشافعية وغيرهم بهذه الرواية, فأجازوا الاشتراك في الضحيّة والهدي، قائلين: إنها تفرُّد من ثقة حافظ، وقد تابعه مَعْمر عند النسائي بلفظ

رجاله خمسة

أصرح من لفظه: قال: ما ذُبِح عن آل محمد في حجة الوداع إلا بقرة. وروى النسائي عن أبي هريرة قال: ذَبَح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمَّن اعتمر من نسائه في حجة الوداع بقرةً بينهنَّ. صححه الحاكم، وهو شاهد قوي لرواية الزُّهري. واستدل بعض العلماء كالبخاري وغيره بهذا الحديث على أن الرجل له التضحية عن نسائه من غير أمرهن، آخذًا ذلك من استفهام عائشة عن اللحم لمّا دخل عليها به بقولها: "فقلت: ما هذا؟ " كما يأتي في رواية الحج، قائلًا: لو كان ذبحه بعلمها لم تَحْتَج إلى الاستفهام، لكن ليس هذا دافعاً للاحتمال، فيجوز أن يكون عِلْمُها بذلك تقدم بأن يكون استأذَنهُنَّ في ذلك، لكن لما أدخل اللحم عليها احتمل عندها أن يكون هو الذي وقع الاستئذان فيه، وأن يكون غير ذلك، فاستفهمت عنه لذلك. قلت: وهذا الوجه ظاهر؛ لأن علمها بالتضحية عنها لا يستلزم أن تعلم أن اللحم من تلك التضحية. ومذهب المالكية أنه لابد من الاستنابة باللفظ، كـ "اذبح عني" أو بالعادة كالزوج أو القريب المتعاطي أمور الشخص، وما وقع في هذا الحديث محتمل للأمرين. رجاله خمسة: الأول: علي بن عبد الله المديني مرَّ تعريفه في الرابع عشر من كتاب العلم. والثاني: سُفيان بن عيينة وقد مرَّ في الأول من بدء الوحي. ومرَّ عبد الرحمن بن القاسم في السادس عشر من كتاب الغسل. ومرَّ أبوه القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق في الحادي عشر منه. ومرّت عائشة أم المؤمنين في الثاني من بدء الوحي. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والسماع في ثلاثة مواضع، وفيه

باب غسل الحائض رأس زوجها وترجيله

أن رواته ما بين بصري ومكي ومدني. أخرجه البخاري هنا، وفي الأضاحي عن قُتيبة ومُسَدَّد. ومسلم في الحج عن أبي بكر بن أبي شَيْبة وغيره، والنَّسائي في الطهارة عن إسحاق بن إبراهيم، وفي الحج عن محمد بن عبد الله وغيره. وابن ماجه في الحج عن أبي بكر بن أبي شَيْبة، وعلي بن محمد. باب غسل الحائض رأس زوجها وترجيله بالجر عطفًا على غسل المجرور بالإِضافة، أي: تسريح شعر رأسه وتنظيفه وتحسينه، والحديث مطابق لما تُرجم له من جهة الترجيل، وأُلحق به الغسل قياسًا أو إشارة إلى الطريق الآتية في باب مباشرة الحائض، فإنها صريحة في ذلك، إذ فيها: "فأَغْسِلُه وأنا حائض" وهو دالٌّ على أن ذات الحائض طاهرة، وعلى أن حيضها لا يمنع ملامستها.

الحديث الثاني

الحديث الثاني حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْتُ أُرَجِّلُ رَأْسَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَنَا حَائِضٌ. قوله: "كنت أُرَجِّل" بضم الهمزة وتشديد الجيم، أي: أمشط. وقوله: "رأس رسول الله" أي: شعر رأسه، فهو من مجاز الحذف؛ لأن الترجيل للشعر لا للرأس، أو من إطلاق المحل على الحال مجازًا. وقوله: "وأنا حائض" جملة اسمية حالية. رجاله خمسة: عبد الله بن يوسف التِّنِّيسيّ، والإمام مالك بن أنس، وهشام بن عروة، وأبوه عروة , وعائشة أم المؤمنين، وقد مرّوا بهذا النسق في الثاني من بدء الوحي. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في ثلاثة مواضع، ورواته مدنيون ما عدا عبد الله بن يوسف، فإنه تِنيسي. أخرجه البخاري هنا وفي اللباس أيضًا عن عبد الله بن يوسف، وأخرجه الترمذي في "الشمائل" عن إسحاق بن موسى، والنسائي في الطهارة والاعتكاف عن قُتيبة، ثلاثتهم عن مالك.

الحديث الثالث

الحديث الثالث حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى قَالَ: أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ: أَخْبَرَنِي هِشَامٌ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ سُئِلَ أَتَخْدُمُنِي الْحَائِضُ أَوْ تَدْنُو مِنِّي الْمَرْأَةُ وَهْيَ جُنُبٌ؟ فَقَالَ عُرْوَةُ: كُلُّ ذَلِكَ عَلَىَّ هَيِّنٌ، وَكُلُّ ذَلِكَ تَخْدُمُنِي، وَلَيْسَ عَلَى أَحَدٍ فِي ذَلِكَ بَأْسٌ، أَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ أَنَّهَا كَانَتْ تُرَجِّلُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهِيَ حَائِضٌ، وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حِينَئِذٍ مُجَاوِرٌ فِي الْمَسْجِدِ، يُدْنِي لَهَا رَأْسَهُ وَهْيَ فِي حُجْرَتِهَا، فَتُرَجِّلُهُ وَهْيَ حَائِضٌ. قوله: "وهي جُنب" يستوي فيه المذكر والمؤنث والواحد والجمع كما مرَّ، لأنه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الإجناب، والجملة اسمية حالية. وقوله: "كل ذلك علي هين" أي: الخدمة والدنو، و"هيِّن" بتشديد الياء، وقد تخفف، أي: هين، ولابن عساكر: "كل ذلك هين". وقوله: "وكل ذلك تخدمني" الإشارة إلى الحائض والجُنُب، وجازت الإشارة بذلك إلى اثنين، كقوله: {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة: 68]، و"كُلُّ" رفع على الابتداء أو منصوب على الظرفية. وقوله: "كانت ترجِّل" أي: شعر رأسه، ولأبوي ذرٍّ والوقت والأصيلي: "يعني رأس رسول الله". وقوله: "وهي حائض" بالهمز والجملة حالية، ولم يقل حائضة بالتاء، لعدم الالتباس، لاختصاص الحيض بالنساء. وقوله: "مجاور في المسجد" أي: معتكف فيه، وحجرة عائشة كانت ملاصقة للمسجد.

رجاله ستة

وقوله: "وهي في حُجرتها" بضم الحاء المهملة جملة حالية. وقوله: "فتُرَجِّله وهي حائض" أي: فترجل شعر رأسه، والحال أنها حائض. وألحق عُروة الجنابة بالحيض قياسًا، وهو جلي؛ لأن الاستقذار بالحائض أكثر من الجُنُب، وألحق الخدمة بالترجيل. وفي الحديث دلالة على طهارة بدن الحائض وعرقها، وجواز مباشرتها، وأن المباشرة الممنوعة في قوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]، المراد بها الجِماع أو ما دونه من دواعي اللذة لا اللمس. ودل الحديث على أن إخراج المعتكف جزءً منه كيده ورأسه غير مُبطِل لاعتكافه، كعدم الحنث في إدخال بعضه دارًا حلف لا يدخُلَها، وأن الحائض لا تدخل المسجد. وقال ابن بطّال: فيه حجة على الشافعي في قوله: إن المباشرة مطلقًا تنقُض الوضوء. قال في "الفتح": لا حجة فيه؛ لأن الاعتكاف لا يُشترط فيه الوضوء، وليس في الحديث أنه عقَّبَ ذلك الفعل بالصلاة، وعلى تقدير ذلك فمسُّ الشعر لا ينقض الوضوء. قلت: ما أجاب به غير ظاهر، فإن كمال النبي عليه الصلاة والسلام يقتضي أنه لا يكون معتكفًا في المسجد إلاَّ على طهارة. وقوله: إنه ليس في الحديث أنه عقَّب ذلك الفعل بالصلاة. يقال فيه: إنه ليس في الحديث أنه توضأ عُقِيب ذلك. رجاله ستة: الأول: إبراهيم بن موسى بن يزيد بن زَاذَان التَّميمي أبو إسحاق الرازِيّ

الفرّاء المعروف بالصغير، وكان أحمد يُنْكِر على من يقول له الصغير؛ ويقول: هو كبير في العلم والجلالة. قال أبو زُرعة: هو أتقن من أبي بكر بن أبي شيبة وأصح حديثًا منه، لا يحدث إلاَّ من كتابه، وهو أتقن وأحفظ من صفوان بن صالح. وقال أبو حاتم: من الثقات، وهو أتقن من أبي جعفر الجمال. وقال صالح جزرة: سمعت أبا زُرعة يقول: كتبت عن إبراهيم بن موسى مئة ألف حديث، وعن أبي بكر بن أبي شيبة مئة ألف حديث. وقال النسائي ثقة. وفي سؤالات الآجُري عن أبي داود السِّجِسْتاني: قال أبو داود: كان عند إبراهيم حديث بخطِّ إدريس، فحدث به، فانكروه عليه، فتركه. قال ابن حجر: وهذا يدل على شدة توقّيه. وقال الخليلي في "الإرشاد": ومن الحفاظ الكبار العلماء الذين كانوا يُقْرَنون بأحمد ويحيى: إبراهيم بن موسى الصغير, ثقة، إمام. روى عن: هشام بن يوسف الصَّنْعاني، والوليد بن مُسلم، ويحيى بن أبي زائدة، وعيسى بن سُليمان، وخالد الواسطي، ويزيد بن زُرَيْع، وغيرهم. وروى عنه: البخاري، ومسلم، وأبو داود. وروى الباقون عنه بواسطة، ويحيى بن موسى خَتّ بفتح المعجمة وتشديد المثناه، وأبو زُرعة، وعَمرو بن منصور، وابن وارَه، والذُّهلي، وغيرهم. مات سنة بضع وعشرين ومئتين. والرازِيُّ في نسبه نسبة إلى الرَّي بالفتح، بلد معروف بين الدَّيْلم والجبال، له رَسَاتيق وأقاليم كثيرة، والنسبة إليه رازي، ألحقوا في النسب زايًا على خلاف القياس. الثاني: هشام بن يوسف الصَّنْعاني أبو عبد الرحمن الأَنْبارِي من أبناء الفرس، قاضي صنعاء. قال إبراهيم بن موسى: سمعت عبد الرزاق يقول: إن حدثكم القاضي،

يعني هشام بن يوسف، فلا عليكم أن لا تكتُبوا عن غيره. قال الحسين بن الحسن الرازي عن يحيى بن مَعين: لم يكن به بأس، هو أضبط عن ابن جُرَيْج من عبد الرزاق، وكذا قال الدوري عن يحيى، وزاد: وكان أعلم بحديث سفيان من عبد الرزاق، وهو ثقة. وقال إبراهيم: وسمعت هشامًا يقول: قدم الثوري اليمن، فقال: اطلبوا كاتبًا سريع الخط، فارتادوني، فكنت أكتب. وقال ابن أبي حاتم عن أبي زُرعة: كان هشام أصح اليمانيين كتابًا. وقال مرة أخرى: كان أكثرهم وأتقنهم وأحفظهم. وقال أبو حاتم: ثقة متقن. وقال العِجْلي: ثقة. وذكره ابن حِبّان في "الثقات". وقال أحمد: عبد الرزاق أوسع علمًا من هشام، وهشام أنصف منه. وقال الحاكم: ثقة مأمون. وقال الخليلي: ثقة متَّفَق عليه، روى عنه الأئمة كلهم. روى عن: معمر، وابن جُرَيْج، والقاسم بن فَيّاض، والثوري، وعبد الله بن بُجَيْر، وإبراهيم بن عُمر بن كَيْسان، والنُّعمان بن أبي شَيْبة الجندي، وغيرهم. وروى عنه: ابن عمه زكرياء بن يحيى بن تميم بن عبد الرحمن الصَّنْعاني، ومحمد بن إدريس الشافعي، وعلي بن المديني، ويحيى بن مَعين، وإسحاق بن راهَوَيه، وعبدالله بن محمد المُسْنِدي، وإبراهيم بن موسى الرازي، وموسى بن هارون البَرْدَعي، وغيرهم. الثالث: عبد الملك بن عبد العزيز بن جُرَيْج -بالتصغير- الأُمَوي مولاهم أبو الوليد أو أبو خالد المكي، أصله رومي. قال عبد الله بن أحمد: قلت لأبي: من أول من صنف الكتب؟ فقال: ابن جُرَيْج، وابن أبي عَروبة. وقال ابن جُريج: لزمت عطاء سبع عشرة سنة، وجالست عمرو بن دينار بعدما فَرَغْتُ من عطاء سبع سنين، وكان يقول: ما دَوَّنَ العلمَ تدويني أحدٌ. وقال طلحة بن عُمر المكيّ قلت لعطاء: من نسأل بعدك؟ فقال: هذا الفتى

إن عاش. وقال عطاء: شابُّ أهل الحجاز ابن جُرَيْج. وقال علي بن المديني: نظرت فإذا الإسناد يدور على ستة، فذكرهم، ثم قالِ: فصار علم هؤلاء إلى من صنف في العلم منهم من أهل مكة عبد الملك بن جُرَيْج. وقال الوليد بن مسلم: سألت الأوزاعي وغير واحد: لمن طلبتم العلم؟ فكان يقول: لنفسي، غير ابن جُرَيْج، فإنه قال: طلبته للناس. وقال يحيى القطان: ابن جُرَيْج أثبت في نافع من مالك. وقال أحمد: ابن جُريج أثبت الناس في عطاء. وقال يحيى بن سعيد أيضًا: كنا نسمّي كتب ابن جُرَيج كتب الأمانة، وإن لم يحدثك بها ابن جُرَيْج من كتابه لم ينتفع به. وسئل عنه أبو زُرعة فقال: بخٍ من الأئمة. وقال ابن خِراش: كان صدوقًا. وقال العجلي: مكي ثقة. وقال الشافعي: استمتع ابن جُرَيْج بسبعين امرأة. وقال أبو عاصم: كان من العُبّاد، وكان يصوم الدهر إلا ثلاثة أيام من الشهر. وقال الأثرم عن أحمد: إذا قال ابن جُريج: قال فلان، وقال فلان، وأُخْبِرتُ، جاء بمناكير، وإذا قال: أخبرني، وسمعت. فحسبك به. وقال الميموني: سمعت أبا عبد الله غير مرة يقول: كان ابن جُرَيْج من أوعية العلم. وقال المِخْراقي عن مالك: كان ابن جُرَيْج حاطب ليل. وقال إسماعيل بن داود عن ابن مَعين: ليس بشيء في الزُّهري. وقال ابن أبي مَرْيم عنه: ثقة في كل ما رُوي عنه من الكتاب. وقال جعفر بن عبد الواحد عن يحيى بن سعيد: كان ابن جُرَيج صدوقًا، إذا قال: حدثني. فهو سماع، وإذا قال: أخبرني. فهو قراءة، وإذا قال: قال. فهو شبه الريح. وقال سليمان بن النضر ما رأيت أصدق لهجة من ابن جُرَيْج. وقال عبد الرزاق: ما رأيت أحسن صلاةً من ابن جُرَيْج.

لطائف إسناده

وقال عبد الرحمن بنُ أبي الزِّناد: شهدت ابن جُرَيْج جاء إلى هشام بن عُروة، فقال: يا أبا المنذر: الصحيفة التي أعطيتها فلانًا هي من حديثك؟ قال: نعم. فكان ابن جُرَيْج بعد ذلك يقول: حدْثنا هشام ما لا يُحصى. وقال الدارقطني: تجنَّبْ تدليسَ ابن جُرَيْج، فإنه قبيح التدليس، لا يدلِّس إلاَّ فيما سمعه من مجروح، مثل إبراهيم بن أبي يحيى، وموسى بن عبيدة، وغيرهما. وأما ابن عُيَيْنة فكان يدلس عن الثقات. وذكره ابن حبّان في الثقات، وقال: كان من فقهاء أهل الحجاز وقرّأئهم ومتقنيهم، وكان يدلِّس. وقال الذهلي: ابن جُرَيْج إذا قال: حدثني وسمعت. فهو محتجٌّ به، داخل في الطبقة الأولى من أصحاب الزُّهري. روى عن: حكيمة بنت رقيقة، وأبيه عبد العزيز، وعطاء بن أبي رباح، وطاووس، والزُّهري، وصالح بن كَيْسان، وعِكْرمة. وقيل: لم يسمع منه. وعَمرو بن دينار، وخلق كثير. وروى عنه: ابناه عبد العزيز ومحمد، والليث، والأوزاعي، ويحيى بن سعيد الأنصاري وهو من شيوخه، وحمّاد بن زَيْد، وابن عُيينة، وخلق كثير. مات في أول عشر ذي الحجة سنة خمسين ومئة، وهو ابن ثمانين سنة. الرابع: هشام بن عروة، والخامس: أبوه عروة، والسادس: عائشة أُم المؤمنين الصديقة، ومرَّ الثلاثة في الثاني من بدء الوحي. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع، والإخبار بصيغة الإفراد في أربعة مواضع، غير أن قوله: قال: أخبرني. رُوِيَ: أخبرنا. والأول أكثر. وفيه العنعنة في موضع واحد.

باب قراءة القرآن في حجر امرأته وهي حائض

وفيه لطيفة حسنة، وهي: ابن جُرَيْج يروي عن هشام، وهشام يروي عن ابن جُرَيْج، فالأعلى ابن عروة، والأدنى ابن يوسف، ورواته ما بين رازي وصنعاني ومكي ومدني. باب قراءة القرآن في حجر امرأته وهي حائض " الحِجْر" بتثليث الحاء وسكون الجيم حضن الإنسان، وفي رواية: "باب قراءة القرآن في حجر المرأة". وكَانَ أبو وَائِل يُرْسِلُ خادِمَهُ وهيَ حائضٌ إلى أبي رَزِينٍ فَتأْتيهِ بالمُصْحَفِ فَتُمْسِكُهُ بِعِلاقَتِهِ. قوله: "خادمه" أي: جاريته، والخادم يُطلق على الذكر والأنثى. وقوله: "بعِلاقته" بكسر العين. أي: الخيط الذي يُربط به كيسه، وذلك مصير منهما إلى جواز حمل الحائض العلاقة التي فيها المصحف، يحمل الحائض المؤمن الذي يحفظ القرآن؛ لأنه حامله في قلبه، وهذا مذهب أبي حنيفة. واستدل من جوِّز ذلك بحديث: "إن المُؤمِنَ لا ينجُسُ"، وبكتابه عليه الصلاة والسلام إلى هِرَقْل، وفيه القرآن، مع علمه أنهم يمَسُّونه، وهم أنجاس. ومنعه الجمهور، وفرَّقوا بين العمل والاتِّكاء، بأن العمل مُخِلٌّ بالتعظيم، والاتكاء لا يُسَمّى في العُرف حملًا. واستدلوا بقوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79]، ويمسُّه مجزوم بلا الناهية، وضم السين لأجل الضمير، كما صرح به جماعة أنه مذهب البصريين، بل قال في الدُّرِّ: إن سيبَوَيْه لم يحفظ فيه إلا الضم. ولو حمله مع أمتعة وتفسير ولو قلَّ جدًّا حلَّ، إذا كانت هي المقصودة، فلو قصده ولو معها حَرُم، وكذا إذا كان التفسير أقل من القرآن عند الشافعية. وهذا الأثر أخرجه ابن أبي شَيْبة في "مصنفه" بسند صحيح، فقال: حدّثنا

جَرير، عن مُغيرة: كان أبو وائل. فذكره. وأبو وائل، شَقيق بن سلَمة، مرَّ في الثاني والأربعين من كتاب الإِيمان. وأما أبو رَزِين بفتح الراء مكبّرًا، فهو مسعود بن مالك أبو رَزِين الأَسَدي أسد خُزَيْمة، مولى أبي وائل الأَسَدِي الكوفي. روى عن: مُعاذ بن جَبَل، وابن مسعود، وعمرو بن أم مَكْتُوم، وعلي بن أبي طالب، وأبي موسى الأَشْعَري، وابن عبّاس، وغيرهم. وروى عنه: ابنه عبد الله، وإسماعيل بن أبي خالد، وعاصم بن أبي النَّحْوي، والأَعْمَش، وعطاء بن السائب، وغيرهم. قال ابن أبي حاتم سئل أبو زرعة عنه، فقال: اسمه مسعود، كوفي ثقة. وقال أبو حاتم: شهد صفين مع علي. وقال يحيى: كان أكبر من ابن أبي وائل، وكان عالمًا فَهْمًا. وذكره ابن حبّان في "الثقات". قيل: قتله ابن زِياد بالبصرة، وقيل: إن الذي قتله عُبيد الله بن زياد وهو أبو رَزِين الأسدي المُسَمّى بعبد، وأما هذا المسمّى بمسعود فقد تأخر إلى حدود التسعين من الهجرة. وأرخ ابن قانع وفاته سنة خمس وثمانين. وقال أبو بكر بن عَيّاش عن عاصم: قال لي أبو وائل: لا تعجَبْ من ابن أبي رَزِين، قد هَرِم، وإنما كان غلامًا على عهد عمر، وأنا رجل، ولم يقع في البخاري له ذكر إلاَّ في هذا الموضع لا غير. وموجود أبو رَزين آخر أسدي، اسمه مسعود بن مالك، روى عن سَعيد بن جُبَيْر. وبالغ البَرْقاني فيما حكاه الخطيب عنه في الرد على من زعم أنهما واحد. وسبب الاشتباه مع اتفاقهما في الاسم واسم الأب والنسبة إلى القبيلة والبلد، أن الأعمش روى عن كلٍّ منهما, ولكن الذي روى عن سعيد بن جُبَيْر أصغر من هذا بكثير.

الحديث الرابع

الحديث الرابع حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ سَمِعَ زُهَيْرًا عَنْ مَنْصُورٍ ابْنِ صَفِيَّةَ أَنَّ أُمَّهُ حَدَّثَتْهُ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَتَّكِىءُ فِي حَجْرِي وَأَنَا حَائِضٌ، ثُمَّ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ. قوله: "وأنا حائض" جملة حالية من ياء المتكلم في "حجري". وقوله: "ثم يقرأ القرآن" وللمصنف في كتاب التوحيد: "كان يقرأ القرآن ورأسه في حجْري وأنا حائض"، وحينئذٍ فالمراد بالاتّكاء وضع رأسه في حِجْرها. قال ابن دَقيق العيد: في هذا الفعل إشارة إلى أن الحائض لا تقرأ القرآن، لأن قراءتها لو كانت جائزة لما تُوُهِّم امتناع القراءة في حِجْرها، حتى احتيج إلى التنصيص عليها. ومذهب المالكية جواز قراءة الحائض القرآن إلى أن تَطْهُر، فيمتنع عليها إلى أن تغتسل كالجُنُب، وعلَّلوا الجواز بأن مانعها ليس بيدها رفعه. وفي الحديث جواز ملامسة الحائض، وأن ذاتها وثيابها على الطهارة ما لم يَلْحَق شيئًا منها نجاسةٌ، وهذا مبني على منع قراءة القرآن في المواضع المستقذرة. وفيه جواز القراءة بقرب محل النجاسة. وفيه جواز استناد المريض في صلاته إلى الحائض إذا كانت أثوابها طاهرة، قاله القُرطبي.

رجاله خمسة

رجاله خمسة: الأول: أبو نُعَيْم الفَضْل بن دُكَيْن، مرَّ في الخامس والأربعين من كتاب الإيمان. والثاني: زُهَيْر بن مُعاوية، مرَّ أيضًا في الثالث والثلاثين منه. الثالث: منصور بن صَفِية بنت شَيْبة، وأبو منصور عبد الرحمن بن طَلْحة بن الحارِث بن طَلْحة بن أبي طلحة بن عبد العُزَّى بن عثمان بن عبد الدّار بن قُصَي القُرَشِي العَبْدَرِي الحَجَبِي المكي، وإنما نُسِبَ لأمه لأنه اشتُهِر بها وروى عنها. قال ابن حِبّان في "الثقات": كان ثبتًا. ثقة. وقال الأثْرم: سئل عنه أحمد، فأحسن الثناء عليه. وقال ابن عُيَيْنة: يُثنى عليه. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث. وقال النَّسائي: ثقة. وقال الحُمَيْدي عن ابن عُيينة: كان يبكي في وقت كل صلاة. وقال هشام بن الكَلبي: رأيته في زمن خالد بن عبد الله يَحْجُبُ البيت وهو شيخ كبير. روى عن: أمه صفية بنت شيبة، ومُسافِع بن شَيْبة الحَجَبي، وسعيد بن جُبَيْر، ومحمد بن عباد بن جَعْفَر، وأبي سعيد مولى ابن عبّاس. وروى عنه: أخوه محمد، وزائدة، وابن جُرَيْج، ووُهَيْب، وزهير بن مُعاوية، وزهير بن محمد، ومعروف بن مُشْكان، وداود بن عبد الرحمن العطّار، والسفيانان، وفُضَيْل بن سُليمان. مات سنة سبع أو ثمان وثلاثين ومئة. الرابع: صفية بنت شَيْبة بن عُثمان بن أبي طلحة مرت في التاسع والعشرين من الغُسل. والخامس: عائشة رضي الله تعالى عنها، وقد مرت في الثاني من بدء الوحي.

باب من سمى النفاس حيضا

باب من سمى النفاس حيضًا قيل: هذه الترجمة مقلوبة؛ لأن حقها أن يقول: من سمى الحيض نِفاسًا. وقيل: تُحمل على التقديم والتأخير، والتقدير: من سمى حيضًا النِّفاس، أو المراد بقوله: "مَن سمى": من أطلق لفظ النفاس على الحيض، فيطابق ما في الخبر بغير تكلُّف. وقال المهلَّب: لما لم يجد المصنف نصًّا على شرطه في النفاس، ووجد تسمية الحيض نفاسًا في هذا الحديث، فُهِم منه أن حكم دم النفاس حكم دم الحيض. وتُعُقِّب بأن الترجمة في التسمية لا في الحكم. وقال ابن رشيد وغيره: مراد البخاري أن يثبت أن النِّفاس هو الأصل في تسمية الدم الخارج، والتعبير به تعبير بالمعنى الأعم، والتعبير عنه بالحيض تعبير بالمعنى الأخص، فعبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالأول، وعبَّرت أم سلمة بالثاني، فالترجمة على هذا مطابِقَة لما عبَّرت به أم سلمة.

الحديث الخامس

الحديث الخامس حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ زَيْنَبَ ابْنَةَ أُمِّ سَلَمَةَ حَدَّثَتْهُ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ حَدَّثَتْهَا قَالَتْ: بَيْنَا أَنَا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- مُضْطَجِعَةً فِي خَمِيصَةٍ إِذْ حِضْتُ، فَانْسَلَلْتُ فَأَخَذْتُ ثِيَابَ حِيضَتِي فَقَالَ: "أَنُفِسْتِ". قُلْتُ: نَعَمْ. فَدَعَانِي فَاضْطَجَعْتُ مَعَهُ فِي الْخَمِيلَةِ. قوله: "مضطجعة" بالرفع، ويجوز النصب. وقوله: "في خَميصَة" بالخاء المعجمة وبالصاد المهملة، كساء أسود له أعلام، يكون من صوف وغيره. وأكثر الروايات فيها: "خميلة" باللام بدل الصاد، وهو موافق لما في آخر الحديث. والخَميلة، قيل: القطيفة. وقيل: الطِّنْفِسة. وقال الخليل: الخميلة ثوب له خَمْل، أي: هُدب، وعلى هذا لا منافاة بين الخَميصة والخميلة فكأنها كانت كساء أسود له أهداب. وقوله: "فانسلَلْت" بلامين، الأولى مفتوحة، والثانية ساكنة، أي: ذهبت في خِفْيَةٍ، زاد المصنف في رواية تأتي قريبًا: "فخرجتُ منها" أي: من الخميلة. قال النووي: كأنها خافت وصول شيء من دمها إليه، أو خافت أن يطلُب الاستمتاع بها، أو تقذَّرت نفسها ولم ترضها لمضاجعته، فلذلك أذِن لها في العود. وقوله: "فأخذتُ ثياب حيضتي" روي بفتح الحاء وكسرها، وجزم الخطابي بالكسر، ورجحه النووي، ورجح القُرطبي الفتح لوروده في بعض طرقه بلفظ:

رجاله خمسة

"حَيْضي" بغير تاء. فمعنى الفتح: أخذت ثيابي التي أَلبَسُها زمن الحيض؛ لأن الحَيْضة بالفتح هي الحَيْض، ومعنى الكسر أخذت ثيابي التي أعددتها لألبسها حالة الحيض؛ لأن الحِيْضة بالكسر للمهيئة والحالة. وقوله: "أَنَفِسْتِ" بضم النون وفتحها، ومرَّ استيفاء الكلام عليه في باب الأمر للنُّفساء إذا نفِسْن. وفي الحديث جواز النوم مع الحائض في ثيابها، والاضطجاع معها في لحاف واحد، واستحباب اتخاذ المرأة ثيابًا للحيض غير ثيابها المعتادة. رجاله خمسة: الأول: مكي بن إبراهيم مرَّ في السابع والعشرين من كتاب العلم. ومرَّ هشام بن أبي عبد الله الدَّسْتُوائي في الثامن والثلاثين من كتاب الإيمان. ومرَّ يحيى بن أبي كَثير في الثالث والخمسين من كتاب العلم. ومرَّ أبو سَلَمة بن عبد الرحمن بن عَوْف في الحديث الثالث من بدء الوحي. ومرّت زَيْنَب بنت أم سلمة في السبعين من كتاب العلم. ومرّت أمها أم سلمة أم المؤمنين في السادس والخمسين منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وبالإفراد في موضعين أيضًا، والعنعنة في موضعين. وفيه أبو سلمة وأم سلمة، وليست كنيتان باعتبار شخص واحد، بل سَلَمة الأول هو ابن عبد الرحمن، وسلمة الثاني ولد ابن عبد الأسد رضي الله تعالى عن الجميع. وفيه أن يحيى روى عن أبي سلمة رضي الله تعالى عنه بالعنعنة، وفي رواية مسلم روى عنه بالتحديث. وفيه رواية تابعي عن صحابية، ورواته ما بين بَلْخِي وبَصْري ويماني ومدني.

باب مباشرة الحائض

أخرجه البخاري هنا، وأخرجه في الصوم أيضًا عن مسدد، وفي الطهارة عن سَعْد بن حَفْص. وأخرجه مسلم في الطهارة عن أبي موسى محمد بن المثنّى. والنسائي عن عُبيد الله بن سعيد، وغيره. باب مباشرة الحائض المراد بالمباشرة: التقاء البشرتين لا الجماع.

الحديث السادس

الحديث السادس حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنِ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَالنَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ، كِلاَنَا جُنُبٌ. وَكَانَ يَأْمُرُنِي فَأَتَّزِرُ، فَيُبَاشِرُنِي وَأَنَا حَائِضٌ. وَكَانَ يُخْرِجُ رَأْسَهُ إِلَيَّ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ، فَأَغْسِلُهُ وَأَنَا حَائِضٌ. قوله: "كنتُ أغتسل أنا والنبي" قد مرَّ كثيرًا أن "النبي" فيه الرفع عطفًا على الضمير المرفوع في "كنت"، والنصب على أن الواو بمعنى مع، أي: مصاحبة له عليه الصلاة والسلام. وقوله: "كلانا جُنُب" أي: بالتوحيد أفصح من التثنية. وقوله: "فأتَّزِر" بتشديد التاء المثناة بعد الهمزة، وأصله: فأأتَزِر بهمزة ساكنة بعد الهمزة المفتوحة، ثم المثناة بوزن أفتعل، وأنكر أكثر النحاة الإدغام، حتى قال في "المفصل": إنه خطأ. لكن نقل غيره أنه مذهب الكوفيين، وحكاه الصَّغاني في "مجمع البحرين". وقال ابن مالك: إنه مقصور على السماع. ومنه قراءة ابن مُحَيْصِن: {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ} [البقرة: 283] بالتشديد. وعلى تقدير أنه خطأ فهو من الرواة عن عائشة، فإن صح عنها كان حجة في الجواز؛ لأنها من فصحاء العرب، وحينئذ فلا خطأ. والمراد بذلك أنها تشُدُّ إزارها على وسطها، وحدد ذلك الفقهاء بما بين السرة والركبة، عملًا بالعُرف الغالب، وقد سبق الكلام على مباحث الحديث قبل هذا ببابين، وفي كتاب الغسل في باب تخليل الشعر.

رجاله ستة

رجاله ستة: الأول: قَبيصة بن عُقبة، والثاني: سفيان الثَّوري وقد مرّا في الثامن والعشرين من كتاب الإيمان. ومرَّ إبراهيم بن يَزيد النَّخَعي في السادس والعشرين منه. ومرَّ منصور بن المُعْتَمِر في الثاني عشر من كتاب العلم. ومرّ الأسود بن يزيد في السابع والستين من كتاب العلم أيضًا. ومرّت عائشة رضي الله تعالى في الثاني من بدء الوحي. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في أربعة مواضع، ورواته كلهم إلى عائشة كوفيون، وفيه رواية تابعي عن تابعي عن صحابية. أخرجه البخاري هنا، وفي باب الصوم عن محمد بن يوسف الفِرْيابي. ومسلم في الطهارة عن أبي بكر بن أبي شَيْبة، وغيره. وأبو داود، فيها عن مسلم بن إبراهيم. والترمذي فيها عن بُندار. والنسائي فيها عن إسحاق بن إبراهيم، وفي عشرة النساء عن محمود بن غَيْلان. وابن ماجه فيها أيضًا عن أبي بكر بن أبي شَيْبة.

الحديث السابع

الحديث السابع حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ خَلِيلٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ هُوَ الشَّيْبَانِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَسْوَدِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَتْ إِحْدَانَا إِذَا كَانَتْ حَائِضًا، فَأَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُبَاشِرَهَا، أَمَرَهَا أَنْ تَتَّزِرَ فِي فَوْرِ حَيْضَتِهَا ثُمَّ يُبَاشِرُهَا. قَالَتْ: وَأَيُّكُمْ يَمْلِكُ إِرْبَهُ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَمْلِكُ إِرْبَهُ. قوله: "إحدانا" أي: إحدى أزواجه -صلى الله عليه وسلم-. وقوله: "أن تَتَّزِر" بتشديد المثناة الثانية، وقد مرَّ توجيهها قريبًا. وللكُشميهني: "أن تأْتَزِر" بهمزة ساكنة، وهي أفصح. وقوله: "في فَوْرِ حيضتِها" أي: في أوله ومعظمه، وقال القُرطبي: فَوْرَ الحيضة معظم صبِّها من فَوَران القِدْر وغَليَانها. وقوله: "ثم يباشِرَها" أي: بملاقاة البشرة للبشرة من غير جِماع؛ لأنه حرام إجماعًا. وقوله: "وأيكم يملُكُ إربَه" أي: بكسر الهمزة وسكون الراء ثم موحدة، قيل: المراد عُضْوَه الذي يستمتِع، وقيل: حاجته؛ لأن الحاجة تسمى إِرْبًا بالكسر والسكون، وتُسمى أَرَبًا بفتح الهمزة والراء. وإنكار رواية الكسر لا معنى له لثبوتها ووضوح توجيهها، والمعنى هو أنه -صلى الله عليه وسلم- كان أملك الناس لأمره، فلا يُخشى عليه ما يُخشى على غيره، من أن يحوم حول الحمى، ومع ذلك فكان يباشر فوق الإزار تشريعًا لغيره ممن ليس بمعصوم. وبهذا قال أكثر العلماء، وهو البخاري على قاعدة المالكية في باب سد الذرائع.

قلت: يظهر لي في هذا الحديث معنى آخر لم أر مَن ذكره، وهو أن المعنى فيه الرد على المتنطعين المانعين قربان الحائض ألبتة، فأَخْبَرَتْ بأنه عليه الصلاة والسلام كان يفعل هذا مع ملكه لنفسه، وقدرته على ردِّ شهوته، فكيف يتنزه عنه غيره. وذهب كثير من السلف، والثوري، وأحمد، وإسحاق إلى أن الذي يمتنع من الاستمتاع بالحائض الفرج فقط، وبه قال محمد بن الحسن من الحنفية، ورجحه الطحاوي، وهو اختيار أصبغ من المالكية، واحد القولين أو الوجهين للشافعية، واختاره ابن المُنذر. وقال النووي: هو الأرجح دليلًا، لحديث أنس عند مسلم: "اصنَعوا كلَّ شيءٍ إلا الجماعَ"، ولما رواه أبو داود بإسناد قوي عن عكرمة، عن بعض أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-، "أنه كان إذا أراد من الحائض شيئًا ألقى على فرجها ثوبًا"، وحملوا حديث الباب وشبهه على الاستحباب، جمعًا بين الأدلة. وقال ابن دقيق العيد: ليس في حديث الباب ما يقتضي منع ما تحت الإزار؛ لأنه فِعْلٌ مجرَّد. واستدل الطحاوي على الجواز بأن المباشرة تحت الإزار دون الفرج لا توجب حدًّا ولا غُسلًا، فأشبهن المباشرة فوق الإزار. وفرق بعض الشافعية، فقال: إن كان يضبطُ نفسه عن المباشرة عن الفرج، ويَثِقُ منها باجتنابه، جاز، وإلا فلا. واستحسنه النووي. ولا يبعُد توجيه قول مفرِّقِ بين ابتداء الحيض وما بعده، لظاهر التقييد بقولها: "فَوْرَ حيضتِها"، ويؤيده ما رواه ابن ماجه بإسناد حسن عن أُم سلمة: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يتَّقِي سَوْرَة الدم ثلاثًا، ثم يباشِر بعد ذلك". ويُجمع بينه وبين الأحاديث الدالة على المبادرة إلى المباشرة على اختلاف هاتين الحالتين. قلت: أَخْذُ هذا الوجهِ من حديث الباب بعيدٌ جدًّا؛ لأنه صريح في ضده،

رجاله ستة

وأما من حديث ابن ماجه فظاهر؛ لأنه صريح فيه. ويجوز الاستمتاع بالسُّرّة والركبتين، نصت على ذلك كتب المالكية، ونص عليه الشافعي في الأم. ولو وَطِىء عامدًا عالمًا بالتحريم أو الحيض، مختارًا، فقد ارتكب كبيرة، فيتوب. وقال الشافعي في الجديد: لا غرم، ويُندب ما أوجبه في القديم، وهو دينار إن وَطِىء في قوة الحيض، وإلا فنصفه. وما في القديم للشافعي هو مذهب ابن عباس، وفي المشهور عند المالكية: لا يَجِبُ إلا التوبة والاستغفار، وأوجب القاضي عِياض وابن عبد البَر خُمس الدينار في أثناء الحيض، ونصفه، أي: الخمس بعد الانقطاع، ونظم هذا بعضُهم فقال: وواطىءُ الحائضِ لا يكفُرُ ... للبَرْزَلي لكنَّهُ يستغْفِرُ وخُمس الدينارِ عن عياضِ ... به ابنُ عبدِ البرِّ فيهِ قاضي ونصفُه من بعد الانقطاعِ ... وأَلْزَمَ الدينار في الجماعِ في أولِ الدَّم ابنُ عباسٍ وفي ... آخرِه النَّصيفُ منه فاعْرِفِ رجاله ستة: الأول: إسماعيل بن خَليل الخَزاز -بمعجمات- عبد الله الكوفي. روى عن: علي بن مُسْهِر، وعبد الرحمن بن سليمان، وحفص بن غياث، وغيرهم. وروى عنه: البخاري، ومسلم، وروى أبو داود بواسطة الذُّهلي حديثًا، وحسنٌ غيرُ منسوب، وبُسْر بن موسى، وغيرهم. قال أبو حاتم: كان من الثقات. وقال مُطَيَّن: كان ثقة. وكتب عنه ابن نُمَيْر. وقال العِجْلي: ثقة صاحب سنة. وذكره ابن حِبّان في الثقات. مات سنة خمس وعشرين ومئتين.

الثاني: علي بن مُسْهِر باسم الفاعل القُرَشي، أبو الحسن الكوفي الحافظ، قاضي الموصل. قال عبد الله عن أبيه: صالح الحديث، أثبت من أبي مُعاوية. وقال عثمان الدارِمي: قلت لابن مَعين: هو أحب إليك أو أبو خالد الأحمر؟ فقال: ابن مُسْهِر. فقلت: ابن مسهر أو إسحاق بن الأزرق؟ قال: ابن مُسْهِر. قلت: ابن مُسْهِر أو يحيى بن أبي زائدة. قال: كلاهما ثقة. قال يحيى: هو أثبت من ابن نُميْر. وقال العِجْلي: قرشي ثقة من أنفسهم جمع الحديث والفقه ثقة. وقال فيه أيضًا: صاحب سنة ثقة في الحديث، ثبت فيه، صالح الكتاب، كثير الرواية عن الكوفيين. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث. وقال أبو زُرعة: صدوق ثقة. وقال النسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال يحيى بن يحيى: إنه ولي قضاء أرمينية، فاشتكى عينه، فدس إليه القاضي الذي كان بأرمينية طبيبًا، فكحَّلَه، فذهبت عينه، فرجع إلى الكوفة أعمى. وقال أحمد لما سُئِل عنه: لا أدري كيف أقول، كان قد ذهب بصره، فكان يحدثهم من حفظه. روى عن: يحيى بن سعيد الأنصاري، وهشام بن عُروة، وعبد الملك بن أبي سُليمان، ومُطَرِّف بن طَريف، وأبي إسحاق الشيباني، والأجْلَح الكِنْدي، وغيرهم. وروى عنه: أبو بكر وعثمان ابنا أبي شَيْبة، وبِشْر بن آدم، وزكريّاء بن عَدي، وهنّاد بن سَريّ، وغيرهم. مات سنة تسع وثمانين ومئة. والثالث: أبو إسحاق الشَّيْباني مولاهم، وقيل: إنه سليمان بن أبي سليمان مولى ابن عباس، وأبو سليمان اسمه فَيْروز، وقيل: خاقان، ويقال: عمرو. قال الجوزجاني: رأيت أحمد يُعجبه حديث الشيباني، ويقول: هو أهل أن لا ندع له شيئًا. وقال ابن مَعين: ثقة حجة. وقال أبو حاتِم: ثقة صدوق صالح

لطائف إسناده

الحديث. وقال النَّسائي: ثقة. وقال العِجْلي: كان ثقة من كبار أصحاب الشعبي. وقال أبو بكر بن عياش: وإن الشيباني فقيه الحديث. وقال ابن عبد البَر: هو ثقة حجة عند جميعهم. روى عنه: عبد الله بن أبي أَوْفى، وزِر بن حُبَيْش، وأشعث بن أبي الشَّعثاء، وبُكَيْر بن الأخْنس، وجَبَلَة بن سُحَيْم، وعبدالله بن شَدّاد بن الهادي، وغيرهم. وروى عنه: ابنه إسحاق، وأبو إسحاق السَّبيعي وهو أكبر منه، وعاصم الأحول، وهو من أقرانه، والثوري، وشعبة، وجعفر بن عَوْن، وهو خاتمة أصحابه. مات سنة تسع وعشرين ومئة وقيل: سنة ثمان وثلاثين. وقيل: سنة تسع وثلاثين. والشَّيباني في نسبه نسبة إلى شَيْبان، حيٌّ من بكر، وهما الشيبانيّة، وهما شيبانان، أحدهما شيبان بن ثَعْلبة بن عُكابة بن صَعْب بن علي بن بكر بن وائل. والآخر شيبان بن ذُهْل بن ثَعلبة بن عُكابة وهما قبيلتان عظيمتان، تشتملان على بطون وأفخاذ، وإلى الثانية نسب إمام المذهب أحمد بن حنبل، والإمام محمد بن الحسن صاحب الإِمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنهما. الرابع: عبد الرحمن بن الأسود، وقد مرَّ في الثاني والعشرين من كتاب الوضوء. ومرَّ أبوه الأسود بن يزيد في السابع والستين من كتاب العلم. ومرت عائشة أُم المؤمنين في الثاني من بدء الوحي. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد، والإخبار بصيغته في موضعين، والعنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه قوله: "وهو الشيباني" إشارة إلى أنه تعريف له من تلقاء نفسه، وليس من كلام شيخه، وقد مرَّ الكلام على ذلك في الحديث السادس من كتاب الوضوء. ورواته كلهم إلى عائشة كوفيون، وفيه رواية تابعي عن صحابية.

أخرجه البخاري هنا، ومسلم في الطهارة عن أبي بكر بن أبي شَيْبة وعلي بن حَجَر. وأبو داود عن عثمان بن أبي شَيْبة. وابن ماجه فيه عن أبي بكر بن أبي شَيْبة. تابَعَهُ خالِدٌ وجَريرٌ عَنِ الشَّيْبَانيِّ. أي: تابعا علي بن مُسْهِر في رواية هذا الحديث عن أبي إسحاق الشَّيْبانى بهذا الإسناد، وللشيباني فيه إسناد آخر يأتي عقبه. ومتابعة خالد له وصلها أبو القاسم التَّنوخي في "فوائدة" من طريق وَهْب بن بَقيّة عنه، ومتابعة جَرير وصلها أبو داود، والإسماعيلي، والحاكم في "المستدرك"، وهذا مما وهم في استدراكه لكون مخرجًا في "الصحيحين" من طريق الشَّيْباني. وخالد المراد به خالد بن عبد الله بن عبد الرحمن، وقد مرَّ في السادس والخمسين من كتاب الوضوء، ومرَّ جَرير بن عبد الحميد في الثاني عشر من كتاب العلم.

الحديث الثامن

الحديث الثامن حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ قَالَ: حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ قَالَ: سَمِعْتُ مَيْمُونَةَ تقولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا أَرَادَ أَنْ يُبَاشِرَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ أَمَرَهَا فَاتَّزَرَتْ وَهْيَ حَائِضٌ. قوله: "أمرها" أي: بالائتزار. وقوله: "فاتَّزَرت"، قال في "الفتح": في روايتنا بإثبات الهمزة على اللغة الفصحى. وقوله: "وهي حائض" جملة حالية من مفعول "يباشر" على الظاهر، أو من مفعول "أمر"، أو من فاعل "اتَّزَرَت". وقال الكِرْماني: يُحتمل أنه حال من الثلاثة جميعًا. رجاله خمسة: الأول: أبو النعمان عارِم بن الفَضْل السَّدُوسي مرَّ في الحادي والخمسين من كتاب الإيمان. ومرّ عبد الواحد بن زياد في التاسع والعشرين منه أيضًا. ومرَّ أبو إسحاق في الحديث الذي قبل هذا. ومرت أم المؤمنين مَيْمونة بنت الحارث في الثامن والخمسين من كتاب العلم. والخامس: عبد الله بن شَدّاد بن الهادي أبو الوليد المدني، كان يأتي الكوفة، وأمه سلمى بنت عُمَيْس الخَثْعَمِيّة أخت أسماء بنت عُمَيْس، فهو أخو أولاد حمزة بن عبد المطلب لأمهم، وابن خالة أولاد جعفر، وكذا محمد بن أبي بكر، وبعض ولد علي أمهم أسماء بنت عُمَيْس. روى عن: أبيه، وعمر، ويعْلى، وطلحة، ومُعاذ، والعباس، وابن مسعود،

لطائف إسناده

وابن عبّاس، وابن عمر، وخالته أسماء بنت عُمَيْس، وخالته لأمه مَيْمونة بنت الحارث، وعن أُم سلمة، وغيرهم. وروى عنه: سعد بن إبراهيم، وأبو إسحاق الشَّيْباني، ومَعْبَد بن خالد، والحكم بن عُتيبة، ورِبْعِي بن حِراش، وطاووس، ومحمد بن كعب، وجماعة. قال الميموني: سئل أحمد: أسمع عبد الله بن شَدّاد من النبي -صلى الله عليه وسلم- شيئًا؟ قال: لا. وقال ابن المديني: شهد مع علي رضي الله عنه يوم النَّهْروان. وقال العِجْلي والخطيب: هو من كبار التابعين وثقاتهم. وقال أبو زُرعة والنسائي: ثقة. وقال ابن سعد: كان عثمانيًّا ثقة في الحديث، توفي في ولاية الحجّاج على العراق. وقال الواقِدي: خرجٍ مع القراء أيام ابن الأشعث على الحجاج، فقُتِل يوم دُجَيْل، وكان ثقة فقيها كثير الحديث متشيِّعًا. وقال يعقوب بن شيبة في "مسند" عمر: كان يتشيع. فما قاله ابن سعد فيه نظر. وقال ابن نُمَيْر: قتل بدُجَيْل سنة واحد وثمانين. وقال يحيى بن بُكَيْر وغيره: فُقِد ليلة دُجَيْل سنة اثنين وثمانين. وقال الثوري: فُقِد ابن شدّاد وابن أبي ليلى بالجَماجِم، وكذا قال العِجْلي، وزاد: اقتحم بهما فرساهما، فذهبا. وقال ابن عبد البر: ولد على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في أربعة مواضع، والسماع في موضع واحد، وفيه رواية تابع عن تابعي عن صحابية، ورواته ما بين بصري وكوفي ومدني. أخرجه البخاري هنا، ومسلم في الطهارة عن يحيى بن يحيى وغيره. وأبو داود في النكاح عن مسدَّد وغيره. وابن ماجه بسند صحيح من حديث أُم حَبيبة رضي الله تعالى عنها. رَوَاهُ سُفْيانُ عنِ الشَّيْبَانيِّ. قوله: "رواه" أي: الحديث، وللأصيلي وكريمة: "ورواه". وقوله: "عن الشَّيْباني" يعني بسند عبد الواحد، وإنما عبر بقوله: "رواه" دون

باب ترك الحائض الصوم

تابعه؛ لأن الرواية أعم من المتابعة، فلعله لم يروه متابعة، وكأن الشيباني كان يحدِّث به تارة من مسند عائشة، وتارة من مسند ميمونة، فسمعه منه جرير وخالد بالإِسنادين جميعًا، وسمعه غيرهما بأحدهما. ورواية سفيان عند أبي داود، والإِمام أحمد. وسفيان: الثوري أو ابن عُيينة، وعلى كل تقدير فلا يضرُّ إبهامه لأنهما على شرطه، وكل منهما تقدم، فابن عُيينة مرَّ في الحديث الأول من بدء الوحي، والثوري في الثامن والعشرين من كتاب الإيمان. والشَّيْباني المراد به أبو إسحاق، وقد مرَّ قبل هذا بحديثين. باب ترك الحائض الصوم قال ابن رشيد وغيره: جرى البخاري على عادته في إيضاح المشكل دون الجلي، وذلك أن تركها الصلاة واضح من أجل أن الطهارة مُشْتَرَطة في صحة الصلاة، وهي غير طاهر، وأما الصوم فلا تُشترط له الطهارة، فكان تركها له تعبدًا محضًا، فاحتاج إلى التنصيص عليه في الترجمة، بخلاف الصلاة، وإن كان الحديث جامعاً لهما.

الحديث التاسع

الحديث التاسع حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِى مَرْيَمَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي زَيْدٌ هُوَ ابْنُ أَسْلَمَ عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي أَضْحًى أَوْ فِطْرٍ إِلَى الْمُصَلَّى، فَمَرَّ عَلَى النِّسَاءِ فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ، فَإِنِّي أُرِيتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ". فَقُلْنَ: وَبِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ، وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ". قُلْنَ: وَمَا نُقْصَانُ دِينِنَا وَعَقْلِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "أَلَيْسَ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ؟ ". قُلْنَا: بَلَى. قَالَ: "فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا، أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ؟ ". قُلْنَ: بَلَى. قَالَ: "فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ دِينِهَا". قوله: "خرج رسول الله" أي: من بيته أو مسجده. وقوله: "في أضحى" أي: في يوم أضحى، بفتح الهمزة وسكون الضاد جمع أضحات إحدى أربع لغات في اسمها، بضم الهمزة وكسرها، وضحية كهدية، والأضحى يُذَكَّر ويؤنث، سميت بذلك لأنها تُذْبَح في الضُّحى، وهو ارتفاع النهار. وقوله: "أو فطر" أي: أو في يوم فطر، شكٌّ من الراوي. وقوله: "إلى المُصَلَّى" فوعظ الناس، وأمرهم بالصدقة، فقال: "أيها الناس تصدَّقوا". وقوله: "يا معشر النساء" المعشر كل جماعة أمرهم واحد، وهو يَرِدُ على ثعلبٍ، حيث خصَّه بالرجال، إلاَّ إن كان مراده بالتخصيص حالة إطلاق المعشر

لا تقييده كما في الحديث. وقوله: "فإني أُرِيْتُكُنّ" الفاء للتعليل، و"أُرِيْتُكُن" بضم الهمزة وكسر الراء، أي: إن الله تعالى أَراهُنَّ له ليلة الإسراء. وقوله: "أكثرَ أهل النار" بنصب أكثر مفعول أُرِيْتُكُن الثالث، أو على الحال إذا قُلنا: إن أفعل لا تتعرَّفُ بالإِضافة. وقوله: "فقلن" بالفاء، ولأبوي ذر والوقت والأصيلي: "قلن" بلا فاء. وقوله: "وبم" قيل: الواو استئنافية، وقيل: عاطفة على مقدر، تقديره: وما ذنبُنا؟ قاله العيني. قلت: المقدر المعطوف عليه هو عين المعطوف، فلا يَصح، والباء تعليلية، والميم أصلها ما الاستفهامية، فحُذِفَت منها الألف تخفيفًا. وفرقًا بين الاستفهام والخبر. نحو: {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} [النازعات: 43]، وأما قراءة عكرمة: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ: 78]، فشاذة. وقوله: "وتكفرن العشير" أي: تَجْحَدْنَ حق الخليط، وهو الزوج، أو هو أعم من ذلك، والخطاب عامٌّ، غلبت فيه الحاضرات على الغُيَّب. وقوله: "من ناقصات عقل ودين" صفة لموصوف محذوف، قال الطيبي: قوله: "ما رأيت من ناقصات ... إلخ" زيادة على الجواب، تسمى الاستِتْباع، والظاهر أن ذلك من جملة أسباب كونهن أكثر أهل النار؛ لأنهن إذا كنَّ سببًا لإِذهاب عقل الرجل الحازم حتى يفعل أو يقول ما لا ينبغي، فقد شاركته في الإثم. وقوله: "أَذْهب لِلُبِّ الرجل الحازم من إحداكن" أي: أشد إذهابًا على مذهب سيبويه، حيث جوز بناء أفعل التفضيل من الثلاثي المزيد فيه، وكان القياس فيه: أشد إذهابًا. واللُّبُّ أخصُّ من العقل، وهو خالص ما في الإنسان من قواه، فكل لُبٍّ عقل، وليس كل عقل لُبًّا. والحازم: الضابط لأمره. وهذه

مبالغة في وصفهِنَّ بذلك؛ لأن الضابط لأمره إذا كان ينقاد لهن، فغير الضابط أولى. قوله: "قلن: وما نُقصان ديننا وعقلنا؟ " كأنه خَفِي عليهنَّ ذلك حتى سألن عنه، ونفس هذا السؤال دالٌّ على النقصان؛ لأنَّهُنَّ سلمن ما نُسِبَ إليهن من الأمور الثلاثة: الإكثار، والكُفران، والإذهاب، ثم استشكلن كونهن ناقصات. وما ألطف ما أجابهن به -صلى الله عليه وسلم- من قوله: "أليس شهادة المرأة مثلُ نصفِ شهادة الرجل ... إلخ"، فأجابهن بما لا تعنيف فيه ولا لوم، بل خاطَبَهُنَّ على قَدْرِ عقولهن، وأشار بقوله: "مثل نصف شهادة الرجل" إلى قوله تعالى: {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]؛ لأن الاستظهار بأخرى مؤذِن بقلة ضبطها. وحملُ بعضِهم العَقْلَ هنا على الدِّية بعيد، وسياق الكلام يأباه. وقوله: "فذلك من نقصان عقلها" بكسر الكاف خطابًا للواحدة التي تولَّت خطابه عليه الصلاة والسلام، فإن قيل: هو خطاب للإناث، والمعهود فيه فذلكُنَّ، أحيب بأنه قد عُهِدَ في خطاب المذكر الاستغناء بذلك عن ذلكم، قال الله تعالى: {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ} [البقرة: 85]، فهذا مثله في المؤنث. على أن بعض النحاة نقل لغة بأنه يَكْتفي بكاف مكسورة مفردة لكل مؤنث أو الخطاب لغير معين من النساء، ليعم الخطاب كلاًّ منهن على سبيل البدل، إشارة إلى أن حالتهن في النقص تناهت في الظهور إلى حيث يمتنع خفاؤها، فلا تختص به واحدة دون واحدة، فلا تختصُّ حينئذ بهذا الخطاب مخاطبة دون مخاطبة، ويجوز فتح الكاف على أنه للخطاب العام، ويؤخذ منه أنه لا يواجه بذلك الشخص المعين، ففي الشمول تسلية وتسهيل. وقوله: "لم تصلِّ ولم تَصُم" أي: لِما قام بها من مانع الحيض، وفيه إشعار بأن منع الحائض من الصلاة والصوم كان ثابتًا بحُكم الشرع قبل ذلك المجلس.

وقوله: "فذلك من نُقصان دينها" أي: بكسر الكاف وفتحها كالسابق. قيل: وهذا العموم فيهِنَّ يعارِضه حديث: "كمُلَ من الرجال كثيرٌ، ولم يكمُلْ من النساء إلا: مريمُ ابنة عمران، وآسيةُ بنت مُزاحم". وفي رواية الترمذي وأحمد: "أربع: مريمُ ابنة عمران، وآسية امرأة فِرْعَون، وخديجة بنت خُوَيْلِد، وفاطمة بنت محمد". وأجيب بأن الحكم على الكل بشيء لا يستلزِم الحكم على كل فرد من أفراده بذلك الشيء، وليس المقصود بذكر النقص في النساء لومُهُنَّ على ذلك، لأنه من أصل الخلقة، لكن التنبيه على ذلك تحذيرٌ من الافتتان بهن، ولهذا رتَّب العذاب على ما ذُكِر من الكفران وغيره لا على النقص، وليس نقص الدين منحصرًا فيما يحصُل به الإثم، بل في أعم من ذلك؛ لأنه أمر نسبي، فالكامل مثلًا ناقض عن الأكمل، ومن ذلك الحائض، لا تأثم بترك الصلاة زمن الحيض، لكنها ناقصة عن المصلّي. وهل تُثاب على هذا الترك لكونها مكلَّفة به كما يُثاب المريض على النوافل التي كان يصليها في صحته، وشُغِل بالمرض عنها. قال النووي: الظاهر أنها لا تُثاب، والفرق بينها وبين المريض أنه ينوي أنه يفعل لو كان صحيحًا مع أهليته، وهي ليست بأهل، ولا يمكنها أن تنوي؛ لأنها حرام عليها. قال في "الفتح": وعندي في كون هذا الفرج مستلزمًا لكونها لا تُثاب وقفة. قلت: ما قاله هو الظاهر، فإن كونها ليست أهلًا للفِعْل لا يمنعُ من أن تُثاب على نية أنها لو قدرت لفعلت، كما يتمنى الرجل أنه لو كان له مال لَعَمِل فيه ما يعمل فلان في ماله، ويحصُلُ الأجر بذلك كما في الحديث. وقد مرّ الكلام على باقي مباحث هذا الحديث مستوفى في باب: كفران العشير من كتاب الإِيمان، وباب عظة الإِمام النساء، وفي باب: هل يَجْعَلُ للنساء يومًا؟ من كتاب العلم.

رجاله خمسة

رجاله خمسة: الأول: سعيد بن أبي مريم، وقد مرّ في الرابع والأربعين من كتاب العلم. ومرّ زَيْد بن أسلم في الثاني والعشرين من كتاب الإيمان. ومرَّ أبو سعيد الخُدْرِي في الثاني عشر منه. والثاني من السند: محمد بن جَعْفَر بن أبي كَثِير الأنصاري الزرقي مولاهم المدني. روى عن: زيد بن أسلم، وحُميد الطويل، وموسى بن عُقبة، وهشام بن عُروة، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وغيرهم. وروى عنه: عبد الله بن نافع الصائغ، وزياد بن يونُس، وسعيد بن أبي مَرْيم، وغيرهم. قال الدُّوري عن ابن معين: ثقة. وقال ابن المَديني: معروف. وقال النَّسائي: صالح. وذكره ابن حِبّان في الثقات. وقال النَّسائي أيضًا: مستقيم الحديث. وقال العْجِلي مدني ثقة. والرابع من السند: عِياض بن عبد الله بن سَعْد بن أبي سَرْح بن الحارث بن حَبيب بن جُذَيمة بن مالك بن حسل بن عامر بن لُؤي القرشي العامري المكي. روى عن: ابن عُمر، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وجابر. وروى عنه: زيد بن أسلم، ومحمد بن عَجْلان، وسعيد المَقْبرُي، وبُكَيْر بن الأَشَجّ، وداود بن قيس، وغيرهم. قال ابن مَعين والنسائي: ثقة. وذكره ابن حِبّان في "الثقات". وقال ابن يُونس: ولد بمكة، ثم قدم مصر مع أبيه، ثم رجع إلى مكة، فلم يزل بها حتى مات على رأس المئة. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والإخبار بصيغة الإِفراد في

باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت

موضع واحد، والعنعنة في موضعين، وفيه رواية تابعي عن تابعي عن صحابي، ورواته مدنيّون ما خلا ابن أبي مَرْيَم، فإنه مصري. أخرجه البخاري هنا، وأخرجه مقطّعًا في الصوم والطهارة وفي الزكاة، وأخرجه في العيدين بطوله. ومسلم في الإيمان عن حسن الحلواني وغيره. والنسائي في الصلاة عن قُتَيْبة. وابن ماجه عن أبي كُرَيْب. باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت الأحسن فيما قيل في مقصود البخاري بما ذكر في هذا الباب من الأحاديث والآثار أن مراده الاستدلال على جواز قراءة الحائض والجُنُب بحديث عائشة رضي الله تعالى عنها؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- لم يستثن من جميع مناسك الحج إلاَّ الطواف، وإنما استثناه لأنه صلاة مخصوصة، وأعمال الحج مشتملة على ذِكر وتلبية ودعاء، ولم تُمنع الحائض من شيء من ذلك، فكذلك الجُنُب؛ لأن حدثها أغلظ من حدثه، ومَنْعُ القراءة إن كان لكونه ذِكْرَ الله فلا فرق بينه وبين ما ذُكر، وإن كان تعبُّدًا فيحتاج إلى دليل خاص، ولم يصحَّ عند المصنف شيء من الأحاديث الواردة في ذلك، وإن كان مجموع ما ورد في ذلك تقوم به الحجة عند غيره، لكن أكثرها قابل للتأويل، ولهذا تمسك البخاري ومن قال بالجواز غيره كالطَّبَري وابن المنذر وداود بعموم حديث: "كان يذكُرُ الله على كل أحيانِهِ" الآتي قريبًا؛ لأن الذِّكر أعم من أن يكون بالقرآن أو بغيره، وإنما فُرِّق بين الذِّكر والتلاوة بالعُرف. وقالَ إبراهيمُ لا بأسَ أنْ تَقْرَأَ الآيةَ. يعني: ونحو الآية، والجُنُب مثلها. ورُوي عن مالك نحو قول إبراهيم، وروي عنه الجواز مطلقًا، وروي عنه الجواز للحائض دون الجُنُب. قلت: وهذا هو مشهور مذهبه، فالجُنُب في مشهور مذهبه لا يقرأ من القرآن إلا الآيتين ونحوهما، للتعوذ والاستدلال والرُّقْيَة.

وأجاز بعضهم قراءة المعوَّذتَيْن، ولابد فيما يُقرأ للتعوُّذ أن يكون مما يُتَعَوَّذ به، لا نحو آية الدَّيْن، وكذا يجري نحوه فيما يُرقى به، أو يُسْتَدل به. وظاهر كلام الباجي أنه يجوز له أن يقرأ المعوذتين وآية الكرسي معًا، بل قد يشمل كلامه قراءة: قل أوحي. وأما الحائض فقراءتها عنده جائزة ما دامت حائضًا كما مرَّ عند قول عائشة: "ثم يقرأ القرآن". قال القسطلاني: إن مذهب الشافعية والحنفية تحريم قراءة الحائض كالجنب، ولو بعض آية، لحديث الترمذي: "لا يقرأُ الجُنُب ولا الحائض شيئًا من القرآن". قال: فيتناول بإطلاقه الآية فما دونها، فيكون حجة على النَّخَعي والطحاوي في إباحتهما بعض الآية، لكن هذا الحديث ضعيف من جميع طرقه، فلا يصح الاحتجاج به على المالكية ولا على غيرهم. وأثر إبراهيم هذا وصله الدّارَقُطني بلفظ: "أربعة لا يقرؤون القرآن: الجُنُب، والحائِضُ، وعند الخلاء، والحمّام، إلا الآية". وإبراهيم: المراد به إبراهيم بن يزيد النخعي وقد مرَّ في السادس والعشرين من كتاب الإيمان. ولمْ يَرَ ابنُ عَبّاسٍ بالقراءةِ للجُنُبِ بَأْسًا. وهذا الأثر وصله ابن المنذر وابن أبي شَيْبة بلفظ: إنه كان يقرأ وِرْدَه من القرآن وهو جُنُب، فقيل له في ذلك، فقال: ما في جوفي أكثر منه. وابن عباس مرَّ في الخامس من بدء الوحي. وكانَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَذْكُرُ الله على كلِ أَحْيَانِهِ. وهذا الحديث أخرجه مسلم في "صحيحه" من حديث عائشة رضي الله عنها. وقَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ كنَّا نُؤْمَرُ أَنْ يَخْرُجَ الحُيَّضُ فَيُكَبِّرْنَ بتكبيرهِمْ ويَدْعُونَ. قوله: "يَخْرُجَ الحِيَّضُ" بالرفع على الفاعلية، وفي رواية: "أن نُخْرِجَ

الحيَّضَ" بالنصب على المفعولية، فيكُنَّ خلف الناس. وقوله: "ويدعون" أي: بدعائهم، يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته. وللكشميهني: "يدعين" بمثناة تحتية بدل الواو، وردها العين لمخالفتها لقواعد التصريف؛ لأن هذه الصيغة معتلة اللام من ذوات الأربع، يستوي فيها لفظ جماعة الذكور والإناث في الخطاب والغيبة جميعًا، وفي التقدير يختلف، فوزن الجمع المذكر: يَفْعُونَ لحذف لامه. ووزن المؤنث: يَفْعَلْنَ. ووجه الدلالة منه ما تقدم من أنه لا فرق بين التلاوة وغيرها. وهذا التعليق وصله البخاري في أبواب العيدين في باب التكبير أيام مِنى، وإذا غدا إلى عَرَفة. ورواه أيضًا في باب خروج النساء الحُيَّض إلى المُصَلّى على ما يأتي. ومرت أُم عطية في الثاني والثلاثين من كتاب الوضوء. وقَالَ ابنُ عباسٍ أَخْبَرني أبُو سُفيانَ أنَّ هِرَقْلَ دَعَا بكتاب النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فقرَأَهُ فإذا فيهِ بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ} الآية. قوله: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ} بإسقاط الواو لأبي ذرٍّ والأصيلي، وبزيادة واو في رواية القابِسِيّ والنَّسَفِي وعَبْدُوس، وقد مرَّ توجيه إثبات الواو في بدء الوحي. ووجه الدِّلالة منه من حيث إنه إنما كُتِبَ إليهم ليقرؤوه، وهو مشتمل على آيتين، فاستلزم جواز القراءة بالنص لا بالاستنباط. وأجاب مَن مَنَعَ ذلك وهو الجمهور، بأن الكتاب اشتمل على أشياء غير الآيتين، فأشبه ما لو ذكر بعض القرآن في كتاب في الفقه، أو في التفسير، فإنه لا تُمنع قراءته ولا مسُّه عند الجمهور؛ لأنه لا تُقصد منه التلاوة. وأجاب بعضهم بأن الجُنُب إنما مُنع من التلاوة إذا قصدها وعَرَفَ أن الذي يقرؤه قرآنًا، أما لو قرأ في ورقة ما لا يعلم أنه من القرآن، فإنه لا يُمنع، وكذلك الكافر.

واستدل الجمهور على المنع بحديث علي: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يحجُبُهُ شيءٌ عن القرآن ليس الجنابة". أخرجه أصحاب "السنن"، وصححه الترمذي وابن حِبّان، وضعَّفَ بعضُهم بعض رواته، والحق أنه من قبِيل الحسن، يصلُح للحجة. لكن قيل: في الاستدلال به نظر؛ لأنه فعلٌ مجرَّد، فلا يدُلُّ على تحريم ما عداه. وأجاب الطبري القائل بالجواز كما مرَّ عن الحديث بأنه محمول على الأكمل جمعًا بين الأدلة. ونص أحمد على أنه يجوز مثل ذلك في المكاتبة لمصلحة التبليغ، وقال به كثيرٌ من الشافعية، ومنهم من خصَّ الجواز بالقليل كالآية والآيتين. وقال الثَّوري: لا بأس أن يُعَلَّمَ الرجلُ النصرانيُّ الحرفَ من القرآن، عسى الله أن يهديه، وأكره أن يُعَلَّم الآية، هو كالجُنُب. وعن أحمد: أكره أن يَضَعَ القرآن في غير موضعه. وعنه: إن رُجِيَ منه الهداية جاز، وإلا فلا. وقالت الشافعية: تحِلُّ للجُنُب قراءة الفاتحة في الصلاة إذا فقد الطُّهورين، بل تجب كما صححه النووي؛ لأنه نادر. وصحح الرافعي حرمتها, لعجزه عنها شرعًا. وكذا تحِلُّ أذكاره لا بقصد القرآن، كقوله عند الركوب: سبحان الذي سخَّر لنا هذا وما كُنا له مُقْرِنين. فإنْ قَصَدَ القرآن وحده أو مع الذكر حَرُم، وإن أَطْلَق فلا كما اقتضاه كلام "المنهاج"، خلافًا لما في "المحرر". وقال في "شرح المهذب": أشار العراقي إلى التحريم. وهذا قطعة من حديث أبي سُفيان في قصة هِرَقْل، وقد وصله البُخاري في بدء الوحي، ومرَّ هناك المواضع المذكور فيها. وعبد الله بن عباس مرَّ هناك في الحديث الخامس من بدء الوحي. ومرَّ أبو سُفيان في السابع منه.

وقالَ عَطَاءٌ عَنْ جابرٍ حَاضَتْ عائشةُ رضي اللهُ عَنْها فَنَسكَتْ المَنَاسِكَ كُلَّها غيرَ الطوافِ بالبيتِ ولا تُصَلِّي. وهذا قطعة من حديث ذكره البخاري موصولًا في كتاب الأحكام في باب: قول النبي -صلى الله عليه وسلم-:"لو استقبلتُ من أمري ما استَدْبَرت". وعطاء بن أبي رباح مرَّ ذكره في التاسع والثلاثين من كتاب العلم. ومرَّ جابر بن عبد الله في الثالث من بدء الوحي. وقالَ الحَكَمُ إني لأذْبَحُ وأنا جُنُبٌ وقالَ الله عَزَّ وجَلَّ {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}. وجه الدلالة منه أن الذبح مستلزِمٌ لذِكر الله بحكم الآية التي ساقها، قال في "الفتح": وفي جميع ما استدل به نزاع يطُول ذكره، ولكن الظاهر من تصرُّفِهِ ما مرَّ تقريره عند الترجمة. وهذا التعليق وصله البغوي في الجَعْدِيّات من روايته عن علي بن الجَعْد، عن شُعبة، عنه. والحكم: المراد به الحكم بن عُتَيْبة وقد مرَّ ذكره في الثامن والخمسين من كتاب العلم.

الحديث العاشر

الحديث العاشر حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- لاَ نَذْكُرُ إِلاَّ الْحَجَّ، فَلَمَّا جِئْنَا سَرِفَ طَمِثْتُ، فَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَأَنَا أَبْكِى فَقَالَ: "مَا يُبْكِيكِ". قُلْتُ: لَوَدِدْتُ وَاللَّهِ أَنِّي لَمْ أَحُجَّ الْعَامَ. قَالَ: "لَعَلَّكِ نُفِسْتِ؟ ". قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: "فَإِنَّ ذَلِكَ شَيْءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، فَافْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ، غَيْرَ أَنْ لاَ تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي". قوله في آخر الحديث: "حتى تطهُري" أي: طهارة كاملة بانقطاع الحيض والاغتسال، لحديث: "الطوافُ بالبيت صلاة"، فيُشْتَرَطُ له ما يُشترط لها. وهذا الحديث مرّت مباحثه عند ذكره في أول الكتاب. رجاله خمسة: الأول: أبو نُعَيْم الفَضْل بن دُكَيْن مرَّ في السادس والأربعين من كتاب الإيمان. والثاني: عبد العزيز بن أبي سلمة مرَّ في الخامس والستين من كتاب العلم. ومرَّ عبد الرحمن بن القاسم في السادس عشر من كتاب الغُسْل. ومرَّ أبوه القاسم بن محمد في الحادي عشر منه. ومرّت عائشة أم المؤمنين في الثاني من بدء الوحي.

باب الاستحاضة

وتقدم هذا الحديث في أول كتاب الغسل. باب الاستحاضة قد مرَّ تفسيرها مرارًا.

الحديث الحادي عشر

الحديث الحادي عشر حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: قَالَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي لاَ أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلاَةَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ وَلَيْسَ بِالْحَيْضَةِ، فَإِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَاتْرُكِي الصَّلاَةَ، فَإِذَا ذَهَبَ قَدْرُهَا فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي". قوله: "إني لا أطهُرُ" قد مرَّ التصريح ببيان السبب في هذا الحديث، وهو قولها: "إني امرأة أُسْتَحاض"، فكان عندها أن طهارة الحائض لا تُعْرَفُ إلا بانقطاع الدم فتكون بعدم الطهر عند اتصاله، وكانت قد علمت أن الحائض لا تصلي، فظنَّت أن ذلك الحكم مقترنٌ بجَرَيان الدم من الفَرْج، فأرادت تَحَقُّقَ ذلك، فقالت: أفأدع الصلاة؟ وقوله: "إنما ذلك عِرْق" أي: بكسر الكاف، وزاد في الرواية السابقة: "لا". وقوله: "ليس بالحَيْضَة" بفتح الحاء، قال النووي: هو متعين أو قريب من المتعيِّن, لأنه عليه الصلاة والسلام أراد إثبات الاستحاضة ونفي الحيض. وأما قوله: "فإذا أقبلت الحيضةُ" فيجوز فيه الوجهان معًا جوازًا حسنًا. وقوله: "فاغسِلي عنك الدم وصلّي"، أي: بعد الاغتسال ... إلخ ما مرَّ. وهذا الحديث قد مرَّت مباحثُه مستوفاة عند ذكره في باب غَسْل الدم من كتاب الوضوء.

رجاله خمسة

رجاله خمسة: تقدموا بهذا النسق معرَّفين في الثاني من بدء الوحي، وهم: عبد الله بن يوسف، والإِمام مالك، وهشام بن عُروة، وأبوه عُروة، وعائشة أم المؤمنين، وفيه ذكر فاطمة بنت أبي حُبيْش وقد مرّت في الثالث والتسعين من كتاب الوضوء. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد، والإخبار كذلك، والعنعنة في ثلالة مواضع، وتقدمت المواضع التي ذُكِر فيها في الرابع والتسعين من كتاب الوضوء. باب غسل دم المحيض بالميم، ولأبي الوقت وابن عساكر: "الحيض" وفي رواية: "الحائض"، وسبق في كتاب الوضوء باب غَسْل الدم، وهذه الترجمة أخص منها على ما لا يَخْفى.

الحديث الثاني عشر

الحديث الثاني عشر حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهَا قَالَتْ: سَأَلَتِ امْرَأَةٌ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ إِحْدَانَا إِذَا أَصَابَ ثَوْبَهَا الدَّمُ مِنَ الْحَيْضَةِ، كَيْفَ تَصْنَعُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا أَصَابَ ثَوْبَ إِحْدَاكُنَّ الدَّمُ مِنَ الْحَيْضَةِ، فَلْتَقْرُصْهُ ثُمَّ لِتَنْضَحْهُ بِمَاءٍ، ثُمَّ لِتُصَلِّي فِيهِ". وهذا الحديث مرّت مباحثه مستوفاة غاية الاستيفاء عند ذكره أيضًا في الباب السابق مع الحديث الذي قبله. رجاله خمسة: الأول: عبد الله بن يوسُف، والثاني: الإِمام مالك، والثالث: هشام، وقد مرّوا في الثاني من بدء الوحي، ومرّت فاطمة بنت المنذر، وجدتها أسماء بنت أبي بكر الصديق في الثامن والعشرين من كتاب العلم. ورجال هذا الحديث مدنيّون ما خلا عبد الله بن يوسُف، فإنه تِنِّيسِيّ. ومرَّ ذكر المواضع التي أُخرج فيها في الثاني والتسعين من كتاب الوضوء. وفي الحديث: "جاءت امرأة"، وهذه المرأة هي أسماء بنفسها, ولكنها أبهمت نفسها. قاله ابن حجر في هذا الحديث في باب غَسْل الدم في الوضوء وقد قدَّمنا كلامه هناك في الحديث الثالث والتسعين من كتاب الوضوء.

الحديث الثالث عشر

الحديث الثالث عشر حَدَّثَنَا أَصْبَغُ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَتْ إِحْدَانَا تَحِيضُ، ثُمَّ تَقْتَرِصُ الدَّمَ مِنْ ثَوْبِهَا عِنْدَ طُهْرِهَا فَتَغْسِلُهُ، وَتَنْضَحُ عَلَى سَائِرِهِ، ثُمَّ تُصَلِّي فِيهِ. قوله: "كانت إحدانا" أي: أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو محمول على أنهن كُنَّ يَصْنَعْن ذلك في زمنه عليه الصلاة والسلام، وبهذا يَلْتَحِق حكم هذا الحديث بالمرفوع، ويؤيده حديث أسماء الذي قبله. وحديث عائشة مفسِّرٌ لحديث أسماء، دالٌّ على أن المراد بالنَّضْح في حديثها الغَسْل. وقوله: "ثم تَقْتَرِصُ" بالقاف والصاد المهملة، بوزن تَفْتَعِل، وفي رواية: "ثم تَقْرُصُ". وقوله: "عند طُهْرِها" أي: من الحيض، وللحموي وللمُسْتَملي: "عند طهره" أي: الثوب، أي: عند إرادة تطهيره. وقوله: "فتغسِلُه" أي: بأطراف أصابعها. وقوله: "وتنضَحُ على سائره" أي: ترُشُّ عليه بالماء، دفعًا لما يعرِضُ لها من الشكِّ في إصابة النجاسة له. وقد مرَّ في الكلام على حديث أسماء في الباب السابق في الوضوء الاستدلال بهذه الجملة على مذهب المالكية من وجوب النَّضْح عند الشكِّ في إصابته النجاسة.

رجاله ستة

وقوله: "ثم تصلّي فيه" فيه إشارة إلى امتناع الصلاة في الثوب النَّجس. وفي قوله: "عند طهره" جواز ترك النجاسة في الثوب عند عدم الحاجة إلى تطهيره. رجاله ستة: الأول: أَصْبَغ بن الفَرَج، وقد مرَّ هو وعمرو بن الحارث في السابع والستين من كتاب الوضوء. ومرَّ عبد الله بن وَهْب في الثالث عشر من كتاب العلم. ومرَّ عبد الرحمن بن القاسم في السادس عشر من كتاب الغسل. ومرَّ أبوه القاسم بن مُحمد بن أبي بكر الصديق في الحادي عشر منه أيضًا. ومرت عائشة في الثاني من بدء الوحي. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موِضع واحد، والعنعنة في موضعين، والرواة الثلاثة الأُوَل بصريّون، والثلاثة الأَخَر مدنيون. أخرجه البخاري هنا، وابن ماجه في الطهارة عن حَرْمَلة بن يَحْيى. باب الاعتكاف للمستحاضة أي: حكم اعتكافها في المسجد، ولأبوي ذرٍّ والوقت والأصيلي: "باب اعتكاف المستحاضة".

الحديث الرابع عشر

الحديث الرابع عشر حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ خَالِدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- اعْتَكَفَ مَعَهُ بَعْضُ نِسَائِهِ وَهْيَ مُسْتَحَاضَةٌ تَرَى الدَّمَ، فَرُبَّمَا وَضَعَتِ الطَّسْتَ تَحْتَهَا مِنَ الدَّمِ. وَزَعَمَ أَنَّ عَائِشَةَ رَأَتْ مَاءَ الْعُصْفُرِ فَقَالَتْ: كَأَنَّ هَذَا شَيْءٌ كَانَتْ فُلاَنَةُ تَجِدُهُ. قوله: "بعضُ نسائه" اختُلِف في المراد بهذا البعض، فقيل: هي أُم حَبيبة بنت أبي سُفيان، قال في "الفتح": إنه رأى على حاشية نسخة صحيحة من أصل أبي ذرٍّ، "فلانة: هي رملة أم حبيبة". وقيل: زينب بنت جَحْش، لما أخرجه أبو داود عن عائشة: "استُحيضَت زينب بنت جحش، فقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اغتَسِلي لكلِّ صلاة"، وكذا وقع في "الموطأ" أن زَيْنب بنت جَحْش استُحيضَت، وقد أنكر ابن عبد البَر كون زينب استُحيضت مع ما نُقِل عنه من أن بنات جحش الثلاثة كُنَّ مُستحاضات: زَيْنب أم المؤمنين، وحَمْنَة زَوْج طلحة، وأُم حَبيبة زوج عبد الرحمن بن عَوْف، وهي المشهورة منهنَّ بذلك. وقال البُلُقِّيني: يُحمل على أن زَيْنب بنت جَحْش استُحيضت وقتًا، بخلاف أختها، فإن استحاضَتَها دامت. وقيل: هي سَوْدة بنت زَمْعة، لما أخرجه أبو داود تعليقًا، وابن خُزَيمة موصولًا من مرسل أبي جَعْفر محمد بن علي زَيْن العابدين أنها استُحيضَت في زمنه عليه الصلاة والسلام. وقيل: هي أُم سَلَمة، كما في "سنن" سعيد بن منصور، عن عكرمة، أنها كانت مُعْتَكِفة، وهي مُسْتَحاضة، وربما جَعَلَتِ الطَّسْت تحتها. وأخرج البخاري هذا بذكر عائشة فيه موصولًا.

رجاله خمسة

وأنكر ابن الجَوْزي أن تكون زوجة من أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت مستحاضة في زمنه، وقال: إن عائشة أرادت بقولها: "من نسائه" أي: من النساء المتعلقة به، وهي: أُم حبيبة بنت جَحْش. وهذا التأويل مردودٌ بقولها في الرواية الثانية: "امرأة من أزواجه"، وفي الرواية الثالثة: "بعض أمهات المؤمنين". ومن المستبعد أن تعتِكف معه -صلى الله عليه وسلم- امرأةً من غير زوجاته، وإن كانت لها به تعلق. والذي اسْتُحيض من الصحابيات في زمنه عليه الصلاة والسلام غير ما ذُكرَ من أمهات المؤمنين: فاطمة بنت أبي حُبَيْش المذكورة في حديث البخاري، وأُم حَبيبة بنت جَحْش المذكورة فيه أيضًا، وحَمْنَة بنت جَحْش، وأسماء بنت عُمَيْس، وسهلة بنت سُهَيْل، ذكر الثلاثة أبو داود في "سننه". وأسماء بنت مَرْثَد، ذكرها البيهقي وغيره. وبادية بنت غَيْلان، ذكرها ابن مَنْده. وذكر البيهقي والإِسماعيلي أن زينب بنت أم سلمة استُحيضت في زمنه عليه الصلاة والسلام، ولا يَصِحُّ؛ لأنها كانت صغيرة في زمنه عليه الصلاة والسلام؛ لأنه دخل على أمها في السنة الثالثة وهي تُرْضِع. وقوله: "من الدم" أجلية، أي: لأجل الدم. وقوله: "وزعم عكرمة" هو معطوف على معنى العنعنة، أي: حدثني عكرمة بكذا، وزعم كذا. وأبعد من زعم أنه معلق. وقوله: "كأن هذا" أي: بالهمز وتشديد النون. وفي الحديث جواز مُكثْ المستحاضة في المسجد، وصحة اعتكافها وصلاتها، وجواز حدثِها في المسجد عند أمن التلويث، ويَلْتَحِق بها دائم الحدث، ومن به جُرْحٌ يسيل. رجاله خمسة: الأول: إسحاق بن شاهين -بكسر الهاء- ابن الحارث الواسطي أبو بِشْر -بكسر الباء-.

لطائف إسناده

روى عن: هيثم، وخالد الطحّان، وابن عُيينة، وغيرهم. وروى عنه: البخاري، والنّسائي، وابن خُزَيْمة، وأسلم بن سَهْل الواسطي صاحب التاريخ, ومحمد بن المُسَيَّب الأرغِياني. قال ابن حِبّان في "الثقات": مستقيم الحديث. وقال مَسْلَمة الأندلسي: واسطي صدوق، أخبرنا عنه ابن مبشِّر، وقال النسائي في أسماء شيوخه: كتبنا عنه بواسطة، صدوق. وقال مرة: لا بأس به. وقال أنس بن محمد الطحّان: كان من الدّهاقِين. وقال أسلم بن سهل: جاز المئة. مات بعد الخمسين والمئتين. الثاني: خالد بن عبد الرحمن الطحّان، وقد مرَّ في السادس والخمسين من كتاب الوضوء. ومرَّ خالد بن مِهْران الحذّاء وعِكْرمة مولى ابن عباس في السابع عشر من كتاب العِلْم. ومرّت عائشة رضي الله عنها في الثاني من بدء الوحي. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في ثلاثة مواضع، ورواته ما بين واسطي ومدني وبصري. أخرجه البخاري في هذا الباب مرتين، وفي الصوم عن قُتيبة. وأبو داود في الصوم عن مُحمد بن عيسى. والنسائي في الاعتكاف عن قُتَيْبة وأبي الأشعث. وابن ماجه في الصوم عن الحسن بن محمد بن الصبّاح.

الحديث الخامس عشر

الحديث الخامس عشر حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ عَنْ خَالِدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتِ: اعْتَكَفَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- امْرَأَةٌ مِنْ أَزْوَاجِهِ، فَكَانَتْ تَرَى الدَّمَ وَالصُّفْرَةَ، وَالطَّسْتُ تَحْتَهَا وَهْىَ تُصَلِّي. قوله: "فكانت ترى الدم والصُّفْرة" هو كناية عن الاستحاضة. وقوله: "والطَّسْت تحتها" جملة حالية بالواو، وفي بعض النسخ سقوطها. وقوله: "وهي تصلّي" جملة حالية أيضًا، وهذا الحديث رواية من الحديث السابق. رجاله خمسة: الأول: قُتيبة بن سعيد، وقد مرَّ في الحادي والعشرين من كتاب الإيمان. ومرَّ يزيد بن زُرَيْع في السادس والتسعين من كتاب الوضوء. ومرَّ خالد الحذّاء وعِكرمة مولى ابن عباس في السابع عشر من كتاب العلم. ومرَّت عائشة في الثاني من بدء الوحي.

الحديث السادس عشر

الحديث السادس عشر حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ خَالِدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ بَعْضَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ اعْتَكَفَتْ وَهْيَ مُسْتَحَاضَةٌ. وهذا أيضًا كالذي قبله، رواية من الحديث السابق. رجاله خمسة: الأول: مسدَّد، وقد مرَّ في السادس من كتاب الإِيمان. والثاني: مُعْتَمِر بن سُليمان، وقد مرَّ في التاسع والستين من كتاب العلم. ومرَّ عِكْرمة وخالد الحذّاء في السابع عشر من كتاب العلم. ومرّت عائشة في الثاني من بدء الوحي. باب هل تصلي المرأة في ثوب حاضت فيه قيل: مطابقة الترجمة لحديث الباب، أن مَن لم يكن لها إلا ثوب واحد تَحيض فيه، فمن المعلوم أنها تصلي فيه، لكن بعد تطهيره.

الحديث السابع عشر

الحديث السابع عشر حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ أَبِى نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَتْ عَائِشَةُ: مَا كَانَ لإِحْدَانَا إِلاَّ ثَوْبٌ وَاحِدٌ تَحِيضُ فِيهِ، فَإِذَا أَصَابَهُ شَيْءٌ مِنْ دَمٍ، قَالَتْ بِرِيقِهَا فَقَصَعَتْهُ بِظُفْرِهَا. قوله: "عن مجاهد قالت"، ولابن عساكر: "قال: قالت". وقوله: "لإحدانا" أي: أُمهات المؤمنين. وقوله: "إلا ثوب واحد تَحيضُ فيه" النفي عام لكلِّهن؛ لأنه نكرة في سياق النفي؛ لأنه لو كان لواحدة ثوبان لم يصدُق النفي. والجمع بين هذا وبين حديث أم سلمة السابق الدال على أنها كان لها ثوب مختص بالحيض، أن حديث عائشة محمولٌ على ما كان في أول الأمر، وحديث أم سلمة محمولٌ على ما كان بعد أتساع الحال. ويُحتمل أن يكون مراد عائشة بقولها: "ثوب واحد": مختصٌّ بالحيض. وليس في سياقها ما ينفي أن يكون لها غيره في زمن الطُّهر، فيوافق حديث أُم سلمة. وليس فيه أيضًا أنها صلَّت فيه، فلا تكون فيه حجة لمن أجاز إزالة النجاسة بغير الماء، وإنما أزالت الدم بريقها ليذهب أثره، ولم تقصد تطهيره. ومرَّ الكلام على هذا مطولًا في باب غَسْل الدم من كتاب الوضوء عند ذكر حديث أسماء. وقوله: "قالت بريقها" من إطلاق القول على الفعل. وقوله: "فمصَعَتْهُ" بالميم والصاد والعين المهملتين المفتوحتين، أي: حكتْهُ وفركته بظفرها. ولأبي داود بالقاف بدل الميم، أي: فدلكته وعالجته،

رجاله خمسة

وهي رواية الفَرْع. وفي رواية عطاء عن عائشة: "ثم ترى فيه قَطْرة من دم، فتَقْعصعه بظفرها" فعلى هذا، فيُحمل حديث الباب على أن المراد دمٌ يسير يُعْفى عن مثله، والتوجيه الأول أقوى. وقوله: "بظُفْرها" بإسكان الفاء وبضمها. وطعن بعضهم في هذا الحديث من جهة دعوى الانقطاع ودعوى الاضطراب، فأما الانقطاع، فقال أبو حاتم: لم يسمع مُجاهد من عائشة، وهذا مردود، فقد وقع التصريح بسماعه منها عند البخاري في غير هذا الإسناد، وأثبته علي بن المديني، فهو مقدَّم على من نفاه. وأما الاضطراب، فلرواية أبي داود عن محمد بن كثير، عن إبراهيم بن نافع، عن الحسن بن مسلم بدل ابن أبي نُجَيْح، وهذا الاختلاف لا يوجب الاضطراب؛ لأنه محمول على أن إبراهيم بن نافع سمعه من شيخين، ولو لم يكن كذلك، فشيخ البخاري أبو نُعيم أحفظ من شيخ أبي داود محمد بن كثير، وقد تابع أبا نعيم خَلاّدُ بن يحيى وأبو حُذيفة، والنعمان بن عبد السلام، فرجَحَتْ روايتُه، والرواية المرجوحة لا تؤثِّر في الرواية الراجحة. رجاله خمسة: الأول: أبو نُعَيْم الفضل بن دُكَيْن، وقد مرَّ في السادس والأربعين من كتاب الإيمان. ومرَّ إبراهيم بن نافع المَخْزومي في التاسع والعشرين من كتاب الغُسْل. ومرّ عبد الله بن أبي نُجَيْح في الرابع عشر من كتاب العلم. ومرَّ مُجاهد بن جَبْر في كتاب الإيمان قبل ذِكْر حديث منه. ومرت عائشة رضي الله عنها في الثاني من بدء الوحي. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في موضعين، وفيه القول: وقيل: هذا الحديث منقطِعٌ ومضطرِبٌ إلى آخر ما مرَّ قريبًا.

باب الطيب للمرأة عند غسلها من المحيض

باب الطيب للمرأة عند غسلها من المحيض المراد بالترجمة أن تطييب المرأة عند الغُسل من الحيض متأكِّد، بحيث إنه رُخِّص للحادة التي حُرم عليها استعمال الطيب في شيء منه مخصوص. ومثل الحائض النُّفَساء. وفي القَسْطَلاّني تبعًا للمجموع أن تركَه من غير عُذرٍ مكروهٌ. وفي رواية أبي ذر: "من الحيض" بغير ميم.

الحديث الثامن عشر

الحديث الثامن عشر حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ حَفْصَةَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ عَنْ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَتْ: كُنَّا نُنْهَى أَنْ نُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ، إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَلاَ نَكْتَحِلَ وَلاَ نَتَطَيَّبَ وَلاَ نَلْبَسَ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إِلاَّ ثَوْبَ عَصْبٍ، وَقَدْ رُخِّصَ لَنَا عِنْدَ الطُّهْرِ إِذَا اغْتَسَلَتْ إِحْدَانَا مِنْ مَحِيضِهَا فِي نُبْذَةٍ مِنْ كُسْتِ أَظْفَارٍ، وَكُنَّا نُنْهَى عَنِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ. وفي رواية المُسْتَملي وكريمة: "قال أبو عبد الله، أي: البخاري: أو هشام بن حسان عن حفصة" فكأنه شكَّ في شيخ حمّاد، أهو أيوب السَّختياني أو هشام بن حسان، وليس ذلك عند بقية الرّواة، ولا عند أصحاب الأطراف والمستخرجات. وقد أورد المصنِّف هذا الحديث بهذا الإسناد في كتاب الطلاق، فلم يذكر ذلك. وقوله: "كنا نُنهى" أي: بضم النون الأولى، وفاعل النهي النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما دلت عليه رواية هشام المعلقة المذكورة بعدُ، وهذا هو السر في ذكرها. وقوله: "أن تحد" بالتاء أو بالنون، مع ضم أولهما من الرباعي، ويجوز بفتحة ثم ضمة من الثلاثي. وأنكر الأصمعي "حَدَّثْ"، ولم يعرف إلا "أحَدَّثْ". وقال الفرّاء: كان القدماء يُؤثرون "أَحَدَّث"، والأخرى أكثر ما في كلام العرب. قال أهل اللغة: أصل الإِحداد: المنع، ومنه سُمي البواب حَدّادًا، لمنعه الداخل، وسميت العُقوبة حَدًّا لأنها تَرْدَعُ عن المعصية.

وقال ابن درستُوَيْه: معنى الإحداد: منع المُعْتَدّة نفسَها الزينةَ، وبدنَها الطيبَ، ومنع الخُطّاب خطبتها والطمع فيها، كما منع الحد المعصية. وقال الفّراء: سمي الحديد حديدًا للامتناع به، أو لامتناعه على محاوله، ومنه: تحديد النظر بمعنى امتناع تقلبه في الجهات، ويُروى بالجيم. قال الخطابي: يُروى بالجيم والحاء، وبالحاء أكثر، والجيم مأخوذ من جَدَّدْتُ الشيء إذا قطعته، فكأن المرأة انقطعت عن الزينة. وقوله: "على ميِّت فوق ثلاث"، يعني به: الليالي مع أيامها، جمعًا بين روايتي الحديث؛ لأن في إحدى روايتيه "ثلاث ليال"، وفي أخرى "ثلاثة أيام"، فجمع بينهما بإرادة الليالي بأيامها، خلافًا للأوزاعي القائل: إنها تَحُدُّ ثلاث ليال فقط، فإن مات في أول الليل، أقلعت في أول اليوم الثالث، وإن مات في أثناء الليل، أو في أول النهار، أو في أثنائه، لم تقلع إلا في صبيحة اليوم الرابع، ولا تلفيق. وقوله: "إلاَّ على زوج"، وفي رواية الحموي والمستملي: "إلاَّ على زوجها"، فالأولى موافقة: للفظ: "نحُدُّ" بالنون، والثانية موافقة لرواية: "تَحُدُّ" بالغيبة، أو توجه الثانية أيضًا على رواية النون، بأن الضمير يعود على الواحدة المندرِجَة في قولها: "كنا نُنهى" أي: كل واحدة منهن تُنهى أن تَحُدَّ فوق ثلاث، إلاَّ على زوجها. وسواء دخل الزوج بها أو لم يدخل، كبيرة كانت أو صغيرة، حرة أو أمة، مسلمة أو كتابية. وخالف الحنفية في الصغيرة، فقالوا: لا إحداد عليها، تمسُّكًا بمفهوم قوله في الحديث: "لا يَحِلُّ لامرأة". قالوا: إن الصغيرة ليست بامرأة، وإنها غير مكلفة. وأجاب الجمهور عن التقييد بالمرأة بأنه خرجَ مخرجَ الغالب، وعن كونها

غير مكلفة، بأن الولي هو المخاطب، يمنعُها مما تُمنع منه المعتدة، واحتجوا بأن سبب إلحاق الصبية بالبالغة في الإِحداد وجوب العدة على كل منهما اتّفاقًا، وبأنها يحرُمُ العقد عليها وخِطْبتها في العُدة. وخالفت الحنفية في الذِّمِّية، فقالوا: لا إحداد عليها. ووافقهم على ذلك بعض المالكية، وأبو ثور من الشافعية، وترجم عليه النسائي، واستدلوا بالتقييد بالإيمان في قوله في الحديث: "تؤمن بالله واليوم الآخر". وأجاب الجمهور بأنه ذُكِرَ تأكيدًا للمبالغة في الزَّجْر، فلا مفهوم له، كما يقال: هذا طريق المسلمين، وقد يسلُكُه غيرهم. وأيضًا: الإحداد من حق الزوج، وهو ملتحِقٌ بالعُدة في حفظ النسب، فتدخُل الكافرة في ذلك بالمعنى كما دخل الكافر في النهي عن السَّوْم على سَوْم أخيه. ولأنه حق للزوجة فأشبه النفقة والسُّكنى. وقال النووي: قُيِّد بوصف الإيمان؛ لأن المتَّصِف به هو الذي ينقاد للشرع، والأول أولى. وفي رواية عند المالكية: إن الذِّمِّية تعتدُّ بالأقراء، قال ابن العربي: هو قول من قال لا إحداد عليها. ودخل في قوله: "ميت" امرأة المفقود. وقال ابن الماجِشون من المالكية: لا إحداد عليها؛ لأن زوجها لم يتحقق موته. وأجيب بأنه في حكم الميت. واستشكل الاستدلال على وجوب الإحداد المدة المذكورة على الزوج بهذا الاستثناء، بأن الاستثناء وقع بعد النفي، فيدُل على الحل فوق الثلاث على الزوج لا على الوجوب. وأجيب: بأن الوجوب استُفيد من دليل آخر، كالإِجماع. ورُدَّ هذا بأن المنقول عن الحسن البصري أن الإِحداد لا يَجِبُ. أخرجه ابن أبي شَيْبة. ونقل الخلاّل عن أحمد أن الشعبي كان لا يعرف الإحداد، قال

أحمد: ما كان بالعراق أشدُّ تبحرًا من هذين، وقد خفي عليهما ذلك. لكن مخالفتهما لا تقدح في الاحتجاج، وإن كان فيها ردٌّ على من ادّعى الإجماع. وقد نفى ابن المنذر الخلاف إلا عن الحسن، وغَفَل عن خلاف الشعبي. ومما هو دالٌّ على الوجوب حديث التي شَكَتْ عينَها؛ ولم يُبِح لها الكحل، فلو لم يجب الإحداد لم يمتَنِعِ الكحل للدواء. وأجيب بأن السياق يدل على الوجوب، فإن كل ما مُنع منه إذا دلَّ دليلٌ على جوازه، كان ذلك الدليل دالاًّ بعينه على الوجوب. كالختان، والزيادة على الركوع في الكسوف، ونحو ذلك. وقد روي في حديث قوي الإِسناد عن أسماء بنت عُمَيْس ما يعارض الوجوب بعد اليوم الثالث، أخرجه أحمد، وصححه ابن حِبّان، قالت: دخل عليَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اليوم الثالث من قَتْلِ جَعْفَر بن أبي طالب، فقال: "لا تَحِدِّي بعد يومِكِ". هذا لفظ أحمد، وفي رواية له ولابن حِبّان والطحاوي: لما أصيب جعفر، أتانا النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "تسلبي ثلاثًا، ثم اصنعي ما شئت". قال البلقيني في "شرح الترمذي": ظاهره أن الإِحداد لا يجب على المتوفى عنها بعد اليوم الثالث، بل ظاهر النهي أنه لا يجوز،؛ لأن أسماء كانت زوج جعفر بن أبي طالب، وهي أم أولاده باتّفاق. وأجاب بأن هذا الحديث شاذٌّ مخالف للأحاديث الصحيحة، وقد أجمعوا على خلافه. قال: ويُحتمل أن يُقال: إن جعفرًا قُتِل شهيدًا، والشهداء أحياء عند ربهم. قال: وهذا ضعيف؛ لأنه لم يرِد في حقِّ غير جعفر، ممَّن قُطِع بأنهم شهداء، كحمزة، وعبدالله بن حرام، وغيرهما. وأجاب الطحاوي بأنه منسوخ، وأن الإِحداد كان على المعتدة في بعض عُدَّتها في وقت، ثم أُمِرَت بالإحداد أربعة أشهر وعشرًا، ثم ساق أحاديث الباب، وليس فيها دليل على ما ادّعاه من النسخ، لكنه يُكْثرُ من ادِّعاء النسخ بالاحتمال، فجرى على عادته.

وأجيب أيضًا باحتمال أن يكون المراد بالإِحداد المعتد بالثلاث قدرًا زائدًا على الإِحداد المعروف، فعلته أسماء مبالغة في حُزْنِها على جعفر، فنهاها عن ذلك بعد الثلاث. ويُجاب أيضًا باحتمال أنها كانت حاملًا، فوضعت بعد ثلاث، فانقضت العُدة، فنهاها بعدها عن الإحداد، ولا يمنع ذلك قوله في الرواية الأخرى؛ لأنه يُحمل على أنه -صلى الله عليه وسلم- اطَّلع على أن عُدَّتها تنقضي عند الثلاث. ويجاب أيضًا بأنه لعله كان أبانها بالطلاق قبل استشهاده، فلم يكن عليها إحدادٌ. وأما إعلال البيهقي للحديث بالانقطاع فغير صحيح، لتصحيح أحمد له، لكنه قال: إنه مخالف للأحاديث الصحيحة في الإِحداد، وهذا مصيَّر منه إلى إعلاله بالشذوذ، وهذا هو الذي مرَّ عن البُلُقّيني. وأما ما رُوي عن سالم، عن ابن عمر رفعه "لا إحداد فوق ثلاث" فقد قال أحمد: هذا منكر، والمعروف عن ابن عُمر من رأيه، وهذا يُحتمل أن يكون لغير المرأة المعتدّة، فلا نَكاره فيه، بخلاف حديث أسماء. وأغرب ابن حِبّان، فساق حديث أسماء بلفظ: "تسلمي" بالميم بدل الباء، وفسره بأنه أمرها بالتسليم لأمر الله، وبأن الحكمة في تقييده بالثلاث كون القلق يكون في ابتداء الأمر أشد، فلذلك قيد بالثلاث. وهذا تكلف وتصحيف، ويُبَيِّن خطأَهُ روايةُ البيهقي: "فأمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أتسلبَ ثلاثًا". قلت: الظاهر عندي في الجواب عن حديث أسماء هو أن هذا خصوصية لها منه عليه الصلاة والسلام؛ لأنه هو المرجِع في الأحكام، فله أن يخصَّ بعض أمته بحكم، ويمنع غيره منه، ولو بغير عذر، كخصوصية هذه لأسْماء بالإِحداد ثلاثًا، وكتخصيصه لأبي بُردة ابن نيار بإجزاء جَذَعة المَعْزِ عنه في الضَّحِية، وكإباحته النياحة على الميت للأنصارية، إلى غير ذلك.

واستُدِلّ بقوله: "على ميت" أن لا إحداد على المطلَّقة إجماعًا في الرجعية، وعند الجمهور في البائن. وقالت الحنفية وأبو عُبيد وأبو ثور: عليها الإحداد قياسًا على المتوفّى عنها. وبه قال بعض الشافعية والمالكية. واحتج الجمهور بأن الإحداد شُرِع لأن تركه من التطيُّب واللبس والتزين يدعو إلى الجماع، فمُنِعَت المرأة منه، زجرًا لها عن ذلك، فكان ذلك ظاهرًا في حق الميت؛ لأنه يمنعُه الموت عن منع المعتدة منه من التزويج، ولا تراعيه هي، ولا تخافُ منه، بخلاف المطلِّق الحي في كل ذلك. ومن ثَمَّ وَجَبَت العدة على كل متوفى عنها، وإن لم تكن مدخولًا بها، بخلاف المطلقة قبل الدخول، فلا عدة عليها اتفاقًا. وبأن المطلقة البائن يمكنها العود إلى الزوج بعينه بعقد جديد. وتُعُقِّب بأن الملاعنة لا إحداد عليها. وأجيب بأن تركه لفقدان الزوج بعينه لا لفقدان الزوجية. وما مرَّ من أن غير الزوج لا يجوز الاحداد عليه فوق ثلاث، هو على عمومه، أبًا كان أو غيره. وما أخرجه أبو داود عن عَمرو بن شُعيب، من أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رخَّص للمرأةِ أن تَحُدَّ على أبيها سبعة أيام، وعلى من سواه ثلاثة أيام، لو صح كان خصوص الأب يخرُجُ من العموم، لكنه مرسل أو مُعْضَل؛ لأن جُلَّ رواية عَمْرو بن شُعيب عن التابعين، ولم يرو عن أحد من الصحابة إلا الشيء اليسير عن بعض صغار الصحابة. وإنما أُبيح هذا القدر على غير الزوج لأجل حظ النفس ومراعاتها، وغلبة الطباع البشرية. وقوله: "أربعة أشهر وعشرًا" الحكمة في هذا القدر هي أن الولد يتكامل تخليقه، وتُنفخ فيه الروح بعد مضي مئة وعشرين يومًا، وهي زيادة على أربعة أشهر بنقصان الأَهِلّة، فجُبر الكسر إلى العقد على طريق الاحتياط، وأنَّث العشرَ باعتبار الليالي؛ لأنها غُرر الشهور والأيام، ولذلك لا يستعملون التذكير

في مثله قط، ذهابًا إلى الأيام، حتى إنهم يقولون: صمت عشرًا، ويشهد له قوله تعالى: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا} [طه: 103]، {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا} [طه: 104]، ولكن المراد بالليالي مع أيامها عند الجمهور، فلا تحِلُّ حتى تدخل الليلة الحادية عشرة. وعن الأوزاعي وبعض السلف: تنقضي بمضي الليالي العشر بعد مضي الأشهر، فتَحِلُّ في أول اليوم العاشر. والحامل مستثناة من هذا، لنصِّ الكتاب العزيز. وقوله: "ولا نكتحِل" قيل بالنصب عطفًا على المنصوب السابقال في هو "تَحِدَّ"، ورده الدماميني بأنه يَلْزَمُ من عطفه عليه فساد المعنى؛ لأن تقديره: كنا نُنهى أن لا نكتحل. نعم: يصِحُّ العطف عليه على تقدير أنَّ لا زائدة، أكد بها، لأن في النهي معنى النفي. ورواية الرفع هي الأحسن كما لا يَخْفى. والصحيح عند المالكية والشافعية جواز الاكتحال لها ليلًا للضرورة، وإن بطيبٍ عند المالكية، وتمسحه نهارًا، لما رواه في "الموطأ" عن أُم سلمة: "اجعليهِ بالليلِ، وامسحيه بالنهار". وأجابوا عن قصة المرأة التي سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ابنتها المتوفّى عنها زوجُها، وقد اشتكت عينها: أفنكحلها؟ فقال: "لا مرتين أو ثلاثًا" باحتمال أنه كان يحصُلُ لها الشفاء بغير الكحل، كالتضميد بالصبر ونحوه، كما أخرجه ابن أبي شَيْبة عن صفية بنت أبي عُبيد أنها أحَدَّت على ابن عُمر فلم تكتحل، حتى كادت عيناها تزيغان، فكانت تقطُرُ فيهما الصبر. ومنهم من تأول النهي على كحل مخصوص، وهو ما يقتضي التزيُّن به، لأن محضَ التداوي قد يحصل بما لا زينة فيه، فلم ينحصر فيما فيه زينة. وقال بعض العلماء: يجوز ذلك، ولو كان فيه طيب، وحملوا النهي على التنزيه جمعًا بين الأدلة. وتأول بعضُهم حديث النهي على أنه لم يتحقق الخوف على عينها. وتُعُقِّب

بأن في حديث شعبة: "فخَشُوا على عينيها"، وفي رواية ابن مَنْده: "رمِدت رَمدًا شديدًا، وقد خشيت على بصرها"، وفي رواية الطبراني أنها قالت في المرة الثانية: "إنها تشتكي عينها فوق ما يظن، فقال: لا"، وفي رواية القاسم بن أصبغ أخرجها ابن حَزْم: "إني أخشى أن تَنْفَقِىء عينُها. قال: لا، وإن انْفَقَأَت" وسنده صحيح. وقوله: "ولا تَلْبَس ثوبًا مصبوغًا إلا ثوب عَصْب" بفتح العين وسكون الصاد المهملتين، ثم موحدة، بالإضافة، وهي برود اليمن، يُعْصَب غَزْلُها، أي: يُربط، ثم يُصبغ، ثم يُنسج معصوبًا، فيخرج موش، لبقاء ما عُصب أبيض لم ينصَبِغ، وإنما يُعصب السُّدَى دون اللُّحْمة. وقال صاحب "المنتهى": العَصْب هو المفتول في برود اليمن، وذكر أبو موسى المدني أنه من دابة بحرية تُسمى فرس فرعون، يُتَّخذ منها الخَرَز وغيره، ويكون أبيض، وهذا غريب. وأغرب منه قول السُّهَيْلي: إنه نبات لا ينبُتُ إلا باليمن. وأغرب منه قول الداوودي: المراد بالثَّوْبِ العَصْب: الخَضِرة، وهي الحَبِرة. وليس له سلف في أن العَصْب الأَخْضر. وكره عُروة العَصْب، وكره مالك غليظه، وقال النووي: الأصح عند أصحابنا تحريمه مطلقًا. وهذا الحديث حجة لمن أجازه. قال ابن المُنذر: أجمع العلماء على أنه لا يجوز للحادّة لُبس الثياب المُعَصْفَرة، ولا المصبغة، إلا ما صُبغ بسواد، فرخَّص فيه مالك والشافعي، لكونه لا يُتَّخَذ للزينة، بل هو من لباس الحزن. ويُشترط عند المالكية في لبسها للسواد أن لا تكون ناصعة البياض، أو من قوم زينتهم السواد. وقال ابن دقيق العيد: أُخِذَ من مفهوم الحديث جوازُ ما ليس بمصبوغ، وهي الثياب البيض. ومنع بعض المالكية المرتفع منها الذي يُتَزيَّن به. وقال النووي: رخَّص بعض أصحابنا فيما لا يُتزين به ولو مصبوغًا. واختُلِفَ في الحرير، فعند الشافعية: الأصح منعه مطلقًا، مصبوغًا أو غير

مصبوغ؛ لأنه أُبيح للنساء للتزين به، والحادة ممنوعة من التزين، فكان في حقِّها كالرجال. وفي التحلي بالذهب والفضة واللؤلؤ ونحوه وجهات، الأصح جوازُه، وفيه نظر من جهة المعنى في المقصود بلبسه، وفي المقصود بالإحداد، فإنه عند تأمُّلها يترجَّح المنع، قاله في "الفتح". قلت: مذهب المالكية منع التحلي، ولو خاتمًا أو قِرْطًا، وكذا التزين بالحرير ونحوه من كل ما فيه زينة، واستعمال الطيب والتجارة فيه، ودخول الحمام. وقوله: "في نبذة" بضم النون وفتحها وسكون الموحدة وبالذال المعجمة، أي: قطعة، وتُطلق على الشيء اليسير. وقوله: "من كُسْت أظفار" كذا هو في هذه الرواية بضم الكاف وسكون المهملة، وفي رواية لمسلم: "من قسط أو أظفار" بإثبات أو، وهي للتخيير. قال المفضّل بن سَلَمة: القُسط، والكُسط، والكُست. ثلاث لُغات، وهي من طيب الأعراب. وقال في "المشارق": القُسط بُخُور معروف. وقال البخاري في كتاب الطلاق: القُسط والكُست مثل الكافور والقافور، أي: يجوز في كل منهما الكاف والقاف. والأظفار ضَرْب من العطر، يُشبه الظفر. وقال صاحب "المحكم": الظفر ضَرْب من العطر أسود مُغَلَّف من أصله على شكل ظفر الإنسان، يوضع في البُخور، والجمع أظفار. وقال صاحب "العين": لا واحد له من لفظه. وقال ابن التين: صوابه: "قُسْط ظِفار"، ووجهه في "المشارق" بأنه منسوب إلى ظِفار، مدينة معروفة بسواحل اليمن، يُجلب إليها القُسط الهندي. وفي ضبطها وجهان: كسر أوله وصرفه، أو فتحه والبناء بوزن: قَطَامِ. وقال النووي: القُسْط والأظفار نوعان معروفان من البُخور، وليسا من مقصود الطيب، رُخِّص فيه للمغتسلة من الحيض، لإزالة الرائحة الكريهة، تتَّبِع

به أثر الدم لا للتطيُّب. وقال المهلّب: رُخِّص لها في التبخُّر به لدفع رائحة الدم عنها, لما تستقبله من الصلاة. وقال في "الفتح": المقصود من التطيُّب بهما أن يُخلطا بأجزاء آخر من غيرهما، ثم تُسحق، فتصير طيبًا، والمقصود بهما هنا أن تُتَّبَع آثار الدم بهما، كما قال النووي، لإزالة الرائحة الكريهة لا للتطيب. وزعم الداوودي أنها تسحق القُسْط، وتُلقيه في الماء آخر غسلها لتذهب رائحة الحيض. ورده عياض بأن ظاهر الحديث يأباه، وأنه لا تحصُل منه رائحة طيبة إلا بالتبخُّر به، كذا قال، وفيه نظر. وقوله: "وكنا نُنهى عن اتِّباع الجنائز" في روايتها الآتية في الجنائز: "نُهينا عن اتِّباع الجنائز، ولم يُعْزَم علينا"، والنهي صادرٌ منه -صلى الله عليه وسلم-، فقد أخرجه الإسماعيلي بهذا الإسناد بلفظ: "نهانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، ولو لم يُسَمَّ الناهي في هذه الرواية, كان هذا اللفظ دالاًّ على الرفع، لما رواه الشيخان وغيرهما، أن كل ما وَرَدَ بهذه الصيغة كان مرفوعًا. ويؤيد رواية الإسماعيلي ما رواه الطبراني عن أُم عطية، قالت: "لما دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة، جمع النساء في بيت، ثم بعث إلينا عمر، فقال: إني رسول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليكن لأبايعكن على أن لا تُشْرِكْنَ بالله شيئًا ... " الحديث. وفي آخره: "وأمرنا أن نخرج في العيد العواتق، ونهانا أن نخرج في جنازة" وهذا يدل على أن رواية أُم عطية الأولى من مرسل الصحابة. والحديث قال على أن فضل اتِّباع الجنائز خاص بالرجال دون النساء، فقولها:"ولم يعزِم علينا" أي: ولم يؤكد علينا في المنع، كما أكد علينا في غيره من المنهيات، فكأنها قالت: كرِهَ لنا اتّباع الجنائز من غير تحريم. قال القرطبي: ظاهر سياق أُم عطية أن النهي نهي تنزيه، وبه قال الجمهور.

رجاله خمسة

ومال مالك إلى الجواز، وهو قول أهل المدينة، ويدُلُّ على الجواز ما رواه بن أبي شيبة عن أبي هُريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان في جِنازة، فرأى عمر امرأة، فصاح بها، فقال: "دعها يا عمر ... الحديث". وأخرجه ابن ماجه والنسائي من هذا الوجه. وقال الداودي: قولها: "نُهينا عن اتِّباع الجنائز" أي: إلى أن نصل إلى القبور، وقولها: "ولم يُعزم علينا" أي: أن لا نأتي أهل الميت، فنعزِّيَهم، ونترحم على ميتهم، من غير أن نتَّبع جنازته. وفي أخذ هذا التفصيل من هذا السياق نظر، لكن في حديث عبد الله بن عمر، وعند أحمد والحاكم وغيرهما، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى فاطمة مُقبلة، فقال: "من أين جئتِ؟ " فقالت: رحمت على أهل هذا الميت ميتهم. فقال: "لعلك بلغت معهم الكُدى؟ " قالت: لا ... الحديث. والكُدى بالضم وتخفيف الدال هي المقابر، فقد أنكر عليها في هذا الحديث بلوغ المقابر، ولم ينكر عليها التعزية، فيُدل ذلك على جواز التعزية للنساء دون التشييع. وقال المحب الطبري: يُحتمل أن يكون المراد بقولها: "ولم يُعزم علينا" أي: كما عُزِم على الرجال بترغيبهم في اتَّباعها بحصول القيراط، ونحو ذلك، والأول أظهر، وقد مرَّ الكلام مستوفى غاية على ما للرجال في اتِّباعها في باب اتِّباع الجنائز من كتاب الإيمان. رجاله خمسة: الأول: عبد الله بن عبد الوهّاب الحَجَبِيّ، وقد مرَّ في السادس والأربعين من كتاب العلم. ومرَّ حمّاد بن زيد في الخامس والعشرين من كتاب الإيمان. ومرَّ أيوب السَّخْتياني في التاسع من كتاب الإيمان أيضًا. ومرَّت حَفْصة بنت سيرين وأُم عطية في الثاني والثلاثين من كتاب الوضوء. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في ثلاثة مواضع، ورواته بصريون.

أخرجه البخاري هنا، وفي الطلاق عن أبي نُعَيْم. ومسلم في الطلاق عن الحسن بن الربيع، وأبي الربيع الزهراني. وأبو داود في الطلاق عن هارون بن عبد الله. والنسائي فيه عن الحسن بن محمد. وابن ماجه فيه عن أبي بكر بن أبي شَيْبة. ورَوَى هِشَامُ بنُ حَسَّانٍ عَنْ حَفْصَةَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ عنِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-. كذا لأبي ذر ولغيره: "ورواه" أي: الحديث المذكور، ولم يقع هذا التعليق في رواية المستملي، وأغرب الكِرْماني فجوَّز أن يكون قائل. ورواه حمّاد بن زيد المذكور في أول الباب فلا يكون تعليقًا، وهذا التعليق وصله البخاري في الطلاق من حديث هشام المذكور وهو: هشام بن حسان الأَزْدي القَرُدُوسي -بفتح القاف وضم الدال- أبو عبد الله البَصْري، والصحيح أنه كعصفور كما في "القاموس"، وهو قُرْدوس بن الحارث بن مالك بن فَهْم بن غُنْم بن دَوْس بن عدقان بن زهر بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن نَضْر بن الأزد أبو حي من الأزد أو من قيس، والصواب الأول. وقردوس هذا أخو جُرموز، وهم الجراميز والقراديس، وأخوهما منقذ جد العفاة، والقبط جد قاضي البصرة كعب بن سور، منهم هشام هذا، وسعد بن نجد قاتل قتيبة بن مسلم الباهلي، ومحمد بن الحسين القُرْدُوس الذي روى عن جَرير بن حازِم، يقال: كان نازلًا في القَراديس، ويقال: مولاهم أحد الأعلام. قال فيه محمد بن سيرين: هشام منا أهلَ البيت. وقال ابن عُيينة: لقد أُوتي هشام أمرًا عظيمًا بروايته عن الحسن. قيل لنعيم: لم؟ قال: إنه كان صغيرًا. وقال ابن عُيينة: كان هشام أعلم الناس بحديث الحسن. وقال حمّاد: كان أيوب يقول: سل لي هشامًا عن حديث كذا. وقال سعيد بن أبي عَروبة: ما رأيت أحفظ عن محمد بن سِيرين من هشام. وقال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عن هشام بن حسان، قال: صالح،

باب دلك المرأة نفسها إذا تطهرت من المحيض وكيف تغتسل وتأخذ فرصة ممسكة فتتبع بها أثر الدم

وهشام أحب إلى من أشعث. وقال الأثرم عن أحمد: لا بأس به عندي، وما يكاد يُنْكَرُ عليه شيء إلا وجدت غيره قد رواه، إما أيّوب، وإما عوف. وقال عثمان الدارِمي: قلت لابن مَعين: هشام أحبُّ إليك أو جرير بن حازم؟ قال هشام. قلت: أهشام في ابن سيرين أو يزيد بن هارون؟ قال: كلاهما ثقة. وقال العِجْلي: بصري ثقة حسن الحديث، يقال: إن عنده ألف حديث حسن ليست عند غيره. وقال عبد الرزاق عن عبد الله: نُرى هشامًا أعلم أهل المشرق. وذكره ابن حِبّان في "الثقات"، وقال: كان من العباد الخشن البكائين. وقال ابن سَعد: كان ثقة إن شاء الله تعالى كثير الحديث. وقال ابن عَدِي: أحاديثه مستقيمة، ولم أر في حديثه منكرًا، وهو صدوق، وتُكُلِّم في حديثه عن الحسن وعطاء. قال معاذ بن معاذ: كان شعبة يتقي حديث هشام عن عطاء والحسن، وقال أبو داود: إنما تكلموا في حديثه عن الحسن وعطاء، لأنه كان يُرسل، وكانوا يرَوْن أنه أخذ كتب حوشب. روى عن: حُميد بن هِلال، والحَسَن البصري، ومحمد وأنس وحفصة بني سيرين، وعِكْرمة، وأبي معشر، وزياد بن كُلَيْب، وهشام بن عُروة، وخلق. وروى عنه: عِكرمة بن عمار، وسعيد بن أبي عَروبة، وشُعبة، وزائدة، والحمّادان، والسُّفيانان، وابن جُريج، وابن عُلَية، وجرير بن عبد الحميد، ويزيد بن زُرَيْع، وخلق كثير. مات سنة ثمان أو سبع وأربعين ومئة. باب دلك المرأة نفسها إذا تطهرت من المحيض وكيف تغتسل وتأخذ فِرْصَةً مُمَسَّكة فَتَتَبَّع بها أثر الدم أي: باب: بيان استحباب دلك المرأة نفسها، وبيان كيف تغتسل، وكيف تأخذ فِرْصة، ويأتي تفسير الفِرْصة في متن الحديث. وقوله: "ممَسَّكة" بتشديد السين وفتح الكاف.

وقوله: "فتَتَبَّع" بلفظ الغائبة، مضارع الفعل، وحذف إحدى التاءات الثلاث، وفي رواية: "فتَتَّبِع" بتشديد التاء الثانية وتخفيف الموحدة المكسورة، ولأبي ذر: "تَتْبَع" بسكون التاء الثانية وفتح الموحدة. وقوله: "بها أثر الدم" أي: بالفرصة. واستشكل مطابقة الحديث للترجمة بأنه ليس فيه كيفية الغسل ولا الدلك، وأجاب الكِرْماني تبعًا لغيره، بان تَتَبُّع أثر الدم يستلزم الدلك، وبأن المراد من كيفية الغسل الصفة المختصة بغسل المحيض، وهي التطيب لا نفس الاغتسال. قال في "الفتح": هذا حسن، وأحسن منه أن المصنِّف جرى على عادته في الترجمة بما تضَمَّنَهُ بعضُ طرق الحديث الذي يورِدُه، وإن لم يكن المقصود منصوصًا فيما ساقه، وبيان ذلك هو أن مسلمًا أخرج هذا الحديث عن صفية عن عائشة، وفي تلك الرواية شرح كيفية الاغتسال المسكوت عنها في رواية منصور، ولفظه: "فقال: تأخُذُ إحداكُنَّ ماءَها وسِدْرتها، فَتَطَّهر، فتُحْسِن الطُّهور، ثم تصب على رأسها، فتدلكه دَلْكًا شديدًا حتى تبلغ شؤون رأسها" أي: أصوله، "ثم تصبَّ عليها الماء، ثم تأخذ فِرْصة" فهذا مراد الترجمة، لاشتمالها على كيفية الغَسل والدلك، وإنما لم يخرِّج المصنف هذه الطريق لكونها من رواية إبراهيم بن مُهاجر عن صفية، وهو ليس على شرطه.

الحديث التاسع عشر

الحديث التاسع عشر حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ صَفِيَّةَ عَنْ أُمِّهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتِ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ غُسْلِهَا مِنَ الْمَحِيضِ؟ فَأَمَرَهَا كَيْفَ تَغْتَسِلُ قَالَ: "خُذِى فِرْصَةً مِنْ مِسْكٍ فَتَطَهَّرِي بِهَا". قَالَتْ: كَيْفَ أَتَطَهَّرُ بها؟ قَالَ: "سُبْحَانَ اللَّهِ تَطَهَّرِي". فَاجْتَبَذْتُهَا إِلَيَّ فَقُلْتُ تَتَبَّعِى بِهَا أَثَرَ الدَّمِ. قوله: "إن امرأة"، في رواية وُهيب: "من الأنصار"، وسماها مسلم أسماء بنت شَكَل بالشين المعجمة وبالتحريك، وفي رواية له: أسماء من غير تسمية أبيها، وسماها الخطيب في المُبْهَمات: أسماء بنت يزيد بن السَّكَن. وقال الدِّمياطي: إن الذي في مسلم تصحيف؛ لأنه ليس في الأنصار من يقال له: شَكَل. وهذا ردٌّ للرواية الثابتة بغير دليل، ويُحتمل أن يكون شَكَل لقبًا لا اسمًا. والمشهور في المسانيد والجوامع في هذا الحديث: أسماء بنت شَكَل كما في مسلم، أو أسماء بغير نسب كما في أبي داود. وحكى النووي في "شرح مسلم" الوجهين بغير ترجيح. وأسماء بنت يزيد يأتي تعريفها في السابع والعشرين من كتاب العيدين. وقوله: "خُذي فِرصة" هو بيان لقولها: "أمرها"، فإن قيل: كيف يكون بيانًا للاغتسال، والاغتسال صب الماء لا أخذ الفِرْصة. فالجواب: أن السؤال لم يكن عن نفس الاغتسال؛ لأنه معروف لكل أحد، بل كان لقدرٍ زائد على ذلك. وهذا الجواب وقوفًا مع هذا اللفظ الوارد، مع قطع النظر عن الطريقة التي مرت عند مسلم، الدالة على أن بعض الرواة اقتصر أو اختصر. والفِرْصة بتثليث الفاء وسكون الراء وإهمال الصاد قطعة من صوف أو قُطن أو جلدة عليها صوف، وفي رواية لأبي داود: "قَرصة" بفتح القاف، أي: شيء

يسير مثل القَرْصة بطرف الإصبعين. وقال ابن قُتيبة: "قُرْضَة" بفتح القاف وبالضاد المعجمة. وقوله: "من مَسْك" بفتح الميم، والمراد قطعة من جلد، واحتج ابن قُتيبة بأنهم كانوا في ضيق يمتنع معه أن يمتهنوا المِسْك، مع غلاء ثمنه. وتبعه ابن بطال. وفي "المشارق": أكثر الروايات بفتح الميم. ورجح النووي الكسر، وقال: إن الرواية الأخرى، وهي قوله: "فِرصة مُمَسَّكة" تدُلُّ عليه. وفيه نظر؛ لأن الخطابي قال: يُحتمل أن يكون المراد بقوله: "ممْسَكة" أي: مأخوذة باليد، يُقال: أمسكتُه ومَسَكْتُه لكن يبقى الكلام ظاهر الرِّكّة؛ لأنه يصير هكذا: خُذي قطعة مأخوذة. وقال الكِرْماني: صنيع البخاري يُشعر بأن الرواية عنده بفتح الميم، حيث جَعَل للأمر بالطيب بابًا مستقلًّا، لكن اقتصارَ البُخاري في الترجمة على بعض ما دلَّت عليه لا يَدُلُّ على نفي ما عداه. ويُقَوي رواية الكسر، وأن المراد التطيُّب، ما في رواية عبد الرزاق، حيث وقع عنده: "من زريرة". وما استبعده ابن قُتيبة من امتِهان المسك ليس ببعيد، لما عُرِف من شأن أهل الحِجاز من كثرة استعمال الطّيب. وقد يكونُ المأمور به مَن يقدِرُ عليه. قال النووي: المقصود باستعمال الطيب دفع الرائحة الكريهة على الصحيح. وقيل: لكونه أسرع إلى الحَبَل، حكاه الماوَرْدي، قال: فعلى الأول، إن فَقَدَتِ المسكَ، استعملت ما يخلُطُه في طيب الريح، وعلى الثاني ما يقوم مقامه في إسراع العُلوق. وضعَّفَ النووي الثاني، وقال: لو كان صحيحًا لاختَصَّت به المتزوِّجة، واطلاق الأحاديث يرُدُّه. والصواب أنَّ ذلك مستحبٌّ لكل مغتسِلة من حَيْض أو نِفاس، ويُكره تركه للقادرة، فإن لم تجد مسكًا فطيبًا، فإن لم تجد فمُزيلًا كالطين، وإلا فالماء كافٍ.

وقوله: "فَتطَّهري"، في الرواية التي بعدها: "فتوضئي" أي: تَنظَّفي. وقوله: "سبحان الله"، زاد في الرواية الآتية: "استَحْيا وأعرض"، وللإسماعيلي: "فلما رأيتُه استحيا علَّمْتُها"، وزاد الدارِمي: "وهو يسمَعُ فلا يُنْكِر". وقوله: "فاجتَبَذْتُها" بتقديم الموحدة على الذال المعجمة، وفي راوية بتأخيرها. وقوله: "أثر الدم"، قال النووي: المراد به عند العلماء الفَرْج، وقال المحاملي: يُستحبُّ لها أن تطيبَ كلَّ موضع أصابه الدم من بدنها. قال: ولم أره لغيره، وظاهر الحديث حجة له. ويصرِّح به رواية الإسماعيلي: "تَتَبَّعي بها مواضع الدم". وفي هذا الحديث من الفوائد التسبيح عند التعجب، ومعناه هنا: كيف يَخْفى هذا الظاهر الذي لا يُحْتاج في فهمه إلى فكر. وفيه استحباب الكنايات فيما يتعلَّق بالعورات. وفيه سؤال المرأة العالِمَ عن أحوالها التي يُحتشم منها، ولهذا كانت عائشة تقول في نساء الأنصار: "لم يمنَعْهُنَّ الحياء أن يتفقَّهْنَ في الدين". كما أخرجه مسلم في بعض طرق هذا الحديث، وقد مرّ في العلم معلقًا. وفيه الاكتفاء بالتعريض والإشارة في الأمور المستَهْجَنة، وتكرير الجواب لإفهام السائل، وإنما كرَّره مع كونها لم تفهمه أولًا؛ لأن الجواب يُؤخذ من إعراضه بوجهه عند قوله: "توضيء" أي في المحل الذي يُستَحْيى من مواجهة المرأة بالتصريح به، فاكتفى بلسان الحال عن لسان المقال، وفهمت عائشة رضي الله تعالى عنها ذلك عنه، قولت تعليمها. وبوب عليه المصنف في الاعتصام الأحكام التي تُعرف بالدلائل. وفيه تفسير كلام العالم بحضرته لمن خَفِي عليه إذا عُرِفَ أن ذلك يُعجبه.

رجاله خمسة

وفيه الأخذ عن المفضول بحضرة الفاضل. وفيه صحة العَرْض عن المحدِّث إذا أقره، ولو لم يقُل عقبه: نعم. وأنه لا يُشترط في صحة التحمل فهم السامع لجميع ما يسمعه. قلت: التي لم تَفْهم أولًا ليست هي الراوية هنا حتى يؤخذ منه هذا، مع أنها أيضًا قد فهمت. وفيه الرفق بالمتعلم، وإقامة العذر لمن لا يفهم. وفيه أن المرء مطلوب بستر عيوبه، وإن كانت مما جُبِل عليها من جهة أمر المرأة بالتطيب لإِزالة الرائحة الكريهة. وفيه حسن خُلقه -صلى الله عليه وسلم-، وعظيم حِلْمه وحيائه زاده الله شرفًا. رجاله خمسة: الأول: يَحْيى غير منسوب، واختُلِف في المراد به، قيل: المراد به يحيى بن موسى، وقيل: المراد به يَحْيى بن جعفر. قال ابن السكن: القاعدة الكلية: كل ما كان في البخاري في هذا "الصحيح" من يحيى غير منسوب، فهو يحيى بن موسى، ولابدَّ من تعريف كل منهما لتتم الفائدة. فالأول: يحيى بن موسى بن عبد ربِّه بن سالم الحُدائي -بضم المهملة- أبو زكريا البَلَخِي السَّخْتياني المعروف بخَتّ -بفتح المعجمة وتشديد المثناة من فوق- كوفي الأصل. قيل: لُقِّب بخَتّ لأنها كلمة كانت تجري على لسانه. وقيل: لقبه به أبوه موسى. قال أبو زرعة والنسائي: ثقة. وقال ابن إسحاق: ثقة مأمون. وقال في موضع آخر: كان من ثقات الناس. وقال موسى بن هارون: كان من خيار المسلمين. وقال الدارقطني: كان من الثقات. وذكره ابن حِبّان في "الثقات". وقال مَسْلَمة: ثقة.

روى عن: ابن عُيينة، وأبي مُعاوية الضرير، ووكيع، والوليد بن مُسلم، ويزيد بن هارون، وأبي داود الطيالسي، وغيرهم. وروى عنه: البُخاري، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وجعفر الفِرْيابي، وغيرهم. مات سنة أربعين ومئتين. والحُدائي في نسبه نسبة إلى حُداء بن نُمَيْرة بن سعد العشيرة، قبيلة بالكوفة. والثاني: يحيى بن جَعْفر بن أعْيَن الأَزْدي البارِقي أبو زكريا البخاري البِيْكَنْدِي. روى عن: ابن عُيينة، وأبي معاوية، ووكيع، ويزيد بن هارون، وعبد الرزاق، ومعاذ بن هشام، وغيرهم. وروى عنه: البخاري، وابنه الحسين بن يَحْيى، وأبو جعفر بن أبي حاتم. ورّاق البخاري، وآخرون. قال سُرَيْج بن موسى المؤذن: لما أراد يحيى بن جَعْفر القُدوم من العراق، كتب إلى كَعْبان، قال سُرَيْج: فشهدت رقعته، فقال كَعْبان لأصحابه: مَنْ أراد علمًا لطيفًا صحيحًا فعليكم بيحيى بن جعفر، اكتبوا عنه. وقال ابن عدي: هو الذي قال لمحمد بن إسماعيل لما أراد أن يرحل إلى عبد الرزاق، مات عبد الرزاق، ولم يكن مات، فانصرف، فكتب كتبه عنه. وذكره ابن حِبّان في "الثقات". مات في شوال سنة ثلالة وأربعين ومئتين. والبارِقي في نسبه نسبة إلى بارِق، جبل للأزد باليمن، قال الشاعر: ولقيله أَوْدى أبوهُ وجدُّهُ ... وقتيلُ برقَةَ بارِقٌ لي أوجعُ

لطائف إسناده

الثاني: سفيان بن عُيينة، وقد مرّ في الحديث الأول من بدء الوحي. الثالث: منصور بن صَفْيّة، وقد مرّ في الرابع من كتاب الحَيْض. ومرّت صفية بنت شَيْبة في التاسع والعشرين من كتاب الغسل. ومرت عائشة -رضي الله عنها- في الثاني من بدء الوحي. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في ثلاثة مواضع، ووقع في "مسند" الحُميدي التصريح بالسماع في جميع السند، ورواته ما بين بلخي ومكي. أخرجه البخاري هنا، وفي الطهارة عن مسلم بن إبراهيم، وفي الاعتصام عن مُحمد بن عُيينة. ومسلم في الطهارة عن عمرو الناقد، وابن أبي عُمر، والنَّسائي فيها عن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الزُّهري. باب غسل المحيض أي: غُسل المرأة -بضم الغين وفتحها-، والمطابقة بين الحديث والترجمة على رواية فتح غين غسل وتفسير المحيض باسم المكان ظاهرة، وعلى رواية ضم الغين والمحيض بمعنى الحيض، فالإضافة بمعنى اللام الاختصاصية، لأنه ذكر لها خاصة هذا الغُسل، وما يمتاز به عن سائر الاغتسال.

الحديث العشرون

الحديث العشرون حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ قَالَ: حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ عَنْ أُمِّهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ قَالَتْ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: كَيْفَ أَغْتَسِلُ مِنَ الْمَحِيضِ؟ قَالَ: "خُذِي فِرْصَةً مُمَسَّكَةً، فَتَوَضَّئِى ثَلاَثًا". ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- اسْتَحْيَا فَأَعْرَضَ بِوَجْهِهِ أَوْ قَالَ: "تَوَضَّئِى بِهَا" فَأَخَذْتُهَا فَجَذَبْتُهَا فَأَخْبَرْتُهَا بِمَا يُرِيدُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-. قوله: "خُذي" أي: بعد إيصال الماء لشعرك وبشرتك. وقوله: "فِرْصة مُمَسَّكة" مرّ الكلام عليهما في الذي قبله. وقوله: "فتوضّئي" أي: الوضوء اللغوي، وهو التنظيف، وفي رواية أبوي ذرٍّ والوقت: "وتوضَّئي" بالواو، وفي رواية: "فتوضّئي بها". وقوله: "ثلاثًا" يُحتمل أن يتعلق بقوله: "توضّئي" أي: كرِّري الوضوء ثلاثًا، ويُحتمل أن يتعلق بـ"قال"، ويؤيده السياق المتقدم، أي: قال لها ذلك ثلاث مرات. وقوله: "فأَعْرَضَ" أي: بالفاء، ولأبي ذرٍّ والأصيلي: "وأعرض" بالواو. وقوله: "أو قال توضّئي بها" كذا في أكثر الروايات بالشك، وفي رواية ابن عساكر: "وقال" بالواو العاطفة، والأُولى أَوْلى، ومحلُّ التردد في لفظ: "بها"، هل هو ثابت أم لا، أو التردد واقع بينه وبين لفظ: "ثلاثًا". وقوله: "بما يُريد" أي: من التتبُّع، وإزالة الرائحة الكريهة. ومباحث الحديث مرت في الذي قبله؛ لأنه هو هو بعينه إلا قليل ألفاظ بينته.

رجاله خمسة

رجاله خمسة: الأول: مُسلم بن إبراهيم وقد مرَّ في السابع والثلاثين من كتاب الإيمان. ومرَّ وُهَيْب بن خالد في تعليق بعد الخاص عشر من الإيمان. ومرّ منصور بن صَفِيّة في الرابع من كتاب الحيض هذا. ومرّت أمه صفيّة بنت شَيْبة في التاسع والعشرين من كتاب الغُسل. ومرّت عائشة في الثاني من بدء الوحي. باب امتشاط المرأة عند غسلها من المحيض الامتشاط: تسريح شعر الرأص، والغُسل - بفتح الغين وضمها- كما مرَّ، والمحيض مصدرُ ميميُّ، معناه الحيض.

الحديث الحادي والعشرون

الحديث الحادي والعشرون حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَهْلَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَكُنْتُ مِمَّنْ تَمَتَّعَ، وَلَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ، فَزَعَمَتْ أَنَّهَا حَاضَتْ، وَلَمْ تَطْهُرْ حَتَّى دَخَلَتْ لَيْلَةُ عَرَفَةَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذِهِ لَيْلَةُ عَرَفَةَ، وَإِنَّمَا كُنْتُ تَمَتَّعْتُ بِعُمْرَةٍ. فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "انْقُضِى رَأْسَكِ، وَامْتَشِطِي، وَأَمْسِكِي عَنْ عُمْرَتِكِ". فَفَعَلْتُ، فَلَمَّا قَضَيْتُ الْحَجَّ أَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ لَيْلَةَ الْحَصْبَةِ فَأَعْمَرَنِي مِنَ التَّنْعِيمِ مَكَانَ عُمْرَتِي الَّتِي نَسَكْتُ. قوله: "قالت: أهلَلْتُ" أي: أحرمتُ ورفعتُ صوتي بالتَّلْبِية، وأصل الإهلال رفع الصوت؛ لأنهم كانوا يرفعون أصواتهم بالتَّلْبِية عند الإِحرام، ثم أُطلق على نفس الإحرام اتِّساعًا. وقوله: "فكنت ممَّن تمتّع ولم يَسُقِ الهَدْيَ" أي: بفتح الهاء وسكون المهملة وتخفيف الياء، أو بكسر المهملة مع تشديد الياء، اسم لما يُهْدى بمكة من الأنعام، وفيه التفات من التكلم إلى الغيبة، لأن الأصل أن تقول: ممن تمتعت. لكن ذُكر باعتبار مَن. وقوله: "حتى دَخَلَتْ ليلةُ عرفة" فيه دِلالة على أن حيضها كان خمسة أيام خاصة؛ لأن دخوله عليه الصلاة والسلام مكة كان في الخامس من ذي الحجة، فحاضت يومئذ، فطهُرت يوم النحر بِمنى. ويدل على أن حيضها كان عند القدوم، قولها في حديث الأسود الآتي في الحج: "فلما قدِمْنا تَطَوَّفْنا بالبيت" إلى أن قالت: "فحِضْتُ، فلم أطُف

بالبيت". وقالت في رواية القاسم: "حتى قدِمْنا مِنى، فطَهُرْتُ ثم خرجت من مِنى، فأفضْتُ بالبيت"، فالجميع يدل على أن مدة حيضها كان خمسة أيام، لأنها حاضت يوم القدوم في الخامس، وطهُرت يوم النحر يوم مِنى كما دلت عليه الروايات المذكورة. وقوله: "يا رسول الله هذه ليلة عرفة"، وفي نسخة: "هذا ليلة عرفة" أي: هذا الوقت، ولأبوي ذرٍّ والوقت والأصيلي: "يوم عرفة". وقوله: "وإنما كنتُ تمتعتُ بعُمرة" أي: وأنا حائض، وفيه تصريح بما تضمنَّهُ التمتُع؛ لأنه إحرام في أشهر الحج ممن على مسافة القصر من الحرم، ثم يُهِلُّ بالحج في تلك السنة. قال الله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]، وكونه على مسافة القصر ليس شرطًا في التمتع عند المالكية. وقوله: "انَقُضي رأسك" بضم القاف، أي حُلّي ضَفْرَهُ. وقوله: "وأمسكي عن عُمرِتك" بقطع الهمزة، أي: اتركي العمل في العمرة وإتمامها، وأَدْخِلي عليها الحجَّ، فليس المرادُ الخروجَ منها، فإن الحجَّ والعمرة لا يُخْرَجُ منهما إلا بالتَّحَلُّل، وحينئذ فتكون قارِنة. ويؤيده قوله في رواية لمسلم أيضًا: "وأمسكي عن العمرة" أي: عن أعمالها. وإنما قالت عائشة: "وأرجِعُ بحجٍّ"، لاعتقادها أن افراد العُمرة بالعمل أفضل، كما وقع لغيرها من أمهات المؤمنين. واستُبْعِد هذا، لقولها في رواية عطاء عنها: "وأرجعُ أنا بحجَّةٍ ليس معها عُمرة" أخرجه أحمد. وتمسَّكَ الكوفيون بهذه الرواية على أن عائشة تركت العُمرة، وحجَّت مُفردة، وفي هذه الرواية ضَعْف، وتمسَّكوا أيضًا بقولها في الرواية الأخرى: "دعي عُمرتك"، وفي رواية: "ارفضي عُمرتك"، فقالوا: إن للمرأة إذا أهلَّت بالعُمرة متمتِّعة، فحاضت قبل أن تطوف، أن تترك العمرة، وتُهِلَّ بالحجِّ مفردًا،

كما فعلت عائشة على ظاهر رواية عطاء المارّة، المارُّ أنها ضعيفة. والرافع للإِشكال ما رواه مسلم عن جابر: "أن عائشة أهلَّت بعُمرة، حتى إذا كانت بسَرِف حاضت، فقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أهِلّي بالحجِّ. حتى إذا طَهُرت، طافت بالكعبة وسعت، فقال: قد حَلَلْتِ من حجِّك وعُمرتك. قالت: يا رسول الله: إني أجد في نفسي أني لم أطُف بالبيتِ حتى حجَجْتُ. فأعمرها من التَّنْعيم". ولمسلم عن طاووس عنها: "فقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم-: طوافُكِ يسعُك لحجِّك وعُمرتك"، فهذا صريح في أنها كانت قارِنة، لقوله: "قد حللتِ من حجِّك وعُمرتك"، وإنما أعمرها من التَّنْعيم تطييبًا لخاطرها، لكونها لم تطُف بالبيت حين دخلت معتمِرةً، وقد وقع عن مسلم: "وكان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- رجلًا سَهْلًا، إذا هَوَتْ شيئًا تابَعَها عليه". وقال عِياض وغيره: الصواب في الجمع بين الروايات المختلفة عن عائشة أنها أحْرَمَتْ بالحجِّ كما هو ظاهرُ إحدى روايتي القاسم وغيره عنها، ثم فسخته في العمرة لما فسخ الصحابة، وعلى هذا تنزَّل قولُ عُروة عنها: "أحرمتُ بعُمرة". فلما حاضت وتعذَّر عليها التحلُّل من العمرة لأجل الحيض، وجاء وقت الخروج إلى الحجِّ أدخلتِ الحجَّ على العُمرة، فصارت قارِنة، واستمرَّت إلى أن تحلَّلت، وعليه يدُلُّ قولُه لها في رواية طاووس عنها عند مسلم المارة: "طوافُك يسعُكِ لحجِّك وعُمرتك". وأما قوله لها: "هذه مكانَ عُمرتك"، فمعناه: العمرة المنفردة التي حَصَلَ منها التحلُّل بمكة، ثم أنشؤوا الحجَّ منفِردًا، فعلى هذا، فقد حصل لعائشة عمرتان. وكذا قولها: "يرجِعُ الناس بحجٍّ وعُمرة، وأرجِع بحجٍ" أي: يرجِعون بحجٍّ منفردٍ وعُمرة منفردة.

قال الداودي: ليس في الحديث دليل على الترجمة؛ لأن أَمْرَها بالامتِشاط كان للإهلال وهي حائِض، لا عند غُسلها. والجواب: أن الإهلال بالحجِّ يقتضي الاغتسال؛ لأنه من سُنّة الإِحرام، وقد وَرَدَ الأمر بالاغتسال صريحًا في هذه القصة، فيما أخرجه مسلم عن جابر، ولفظه: "فاغْتَسِلي ثم أهِلّي بالحج"، فكأن البخاريَّ جرى على عادته في الإشارة إلى ما تضفّنه بعضُ طرق الحديث، وإن لم يكن منصوصًا فيما ساقه. ويحتمل أن يكون الداودي أراد بقوله السابق: لا عند غسلها. أي: من الحيض، ولم يُرِد نفيَ الاغتسال مطلقًا. والحامل له على ذلك ما في "الصحيحين" أن عائشة إنما طَهُرت من حيضها يوم النَّحْر، فلم تغتسل يوم عرفة إلا للإحرام. وأما ما وَقَعَ في مسلم عنها أنها حاضَتْ بسَرِف، وتطهَّرَتْ بعَرَفَة، فهو محمول على غُسل الإحرام، جمعًا بين الراويتين. وإذا ثبت أن غسلها إذا ذاك كان للإحرام، استُفيد معنى الترجمة من دليل الخطاب؛ لأنها إذا جاز لها الامتشاط في غُسل الإحرام، وهو مندوب، كان جوازُه لغُسل المحيض، وهو واجب، أولى. قلت: ما ذُكِر هنا من أنها حاضت بسَرِف، لا يُنافي ما مرَّ من أن حيضَها كان يوم القدوم، لإمكان دخولِها يوم صبَاحها بِسَرِف، فيكون الحيضُ حصل بِسَرِفٍ يوم الدخول. وقوله: "ففعلتُ" أي: النقضُ والامتشاط والإمساك. وقوله: "أمر عبدَ الرحمن" يعني: ابن أبي بكر الصديق: وقوله: "ليلة الحَصْبَة" أي: بفتح الحاء وسكون الصاد المهملتين وفتح الموحدة، هي الليلة التي نزلوا فيها في المحصب، وهو المكان الذي نزلوه بعد النَّفْر من مِنى خارج مكة. وقوله: "من التَّنْعيم" موضع على فرسخٍ من مكة، فيه مسجد عائشة.

رجاله خمسة

وقوله: "التي نَسَكَتْ" من النُّسُك، أي: التي أحرمتُ بها، وأردْتُ أولًا حصولَها منفردةً غير مندرِجة، ومنعني الحيضُ. وفي رواية أبي زيد المَرْوَزِي: "التي سَكَتُّ" من السكوت بلفظ التكلم، أي: تركت أعمالها، وسكتُّ عنها. وللقابسي: "شَكَتْ" بالشين المعجمة والتخفيف من الشِّكاية، والضمير راجع إلى عائشة، على سبيل الالتفات، وقد مرّ التفات آخر في الحديث، ففيه التفات بعد التفات. أو المعنى على هذه النسخة: شَكَتِ العمرةَ من الحيض، وإطلاق الشِّكاية عليها مجازٌ عن اختلالها وعدم بقاء استقلالها. رجاله خمسة: الأول: موسى بن إسماعيل التَّبُوذَكي، وقد مرَّ في الخامس من بدء الوحي. ومرَّ إبراهيم بن سَعْد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عَوْف في السادس عشر من كتاب الإِيمانْ. ومرَّ ابن شِهاب الزُّهري في الثالث من بدء الوحي. ومرَّ عُروة بن الزُّبير وعائشة في الثاني منه، وفيه ذكر عبد الرحمن بن أبي بكر، وقد مرَّ في الرابع من كتاب الغُسل. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، والعنعنة في موضعين، ورواته ما بين بَصْري ومُدَنّيين. وروى إبراهيم هنا عن الزُّهري بلا واسطة، وروى عنه في باب تفاضل أهل الإِيمان بواسطة. باب نقض المرأة شعرها عند غسل المحيض أي: هل هو واجب أم لا؟ ولابن عساكر: "باب: من رأى نَقْضَ المرأة ... إلخ". وظاهر الحديث الوجوب، وبه قال الحسن، وطاووس في الحائض دون الجُنُب. وبه قال أحمد. ورجَّح جماعة من أصحابه أنه للاستحباب فيهما. قال ابن قُدامة: لا أعلم أحدًا قال بوجوبه فيهما إلا ما رُوى عن عبد الله بن

عُمر وعند مسلم، وفيه إنكار عائشة عليه الأمر بذلك، لكن ليس فيه تصريح بأنه كان يوجبه. وقال النووي: حكاه أصحابُنا عن النَّخَعي. واستدل الجمهور على عدم وجوبه بما رواه مسلم عن أُم سلمة، قالت: يا رسول الله: إني امرأة أشدُّ ضَفْر رأسي، أفَأَنْقُضُه لغُسل الجنابة؟ قال: "لا". وفي رواية له: "للحيضة والجنابة". وحملوا الأمر في حديث الباب على الاستحباب جمعًا بين الروايتين، أو يُجمع بالتفصيل بين من لا يَصِلُ الماء إليها إلا بالنَّقْضِ، فيلزم، وإلا فلا. وحاصل مذهب المالكية، هو ما نظمه بعض شيوخ العلّامة الشيخ الأمير بقوله: " إنْ في ثلاثِ الخيطِ يُضْفَرُ الشَّعَرْ ... فنَقْضُهُ بكلِّ حالٍ قَدْ ظَهَرْ وفي أقلَّ إن يكن ذا شدَّهُ ... فالنقضُ في الطُّهرينِ صار عُمَدهُ وإن خلا عن الخيوطِ أبطَلَه ... في الغُسل إن شُدَّ وإلا أَهْمَلَه

الحديث الثاني والعشرون

الحديث الثاني والعشرون حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: خَرَجْنَا مُوَافِينَ لِهِلاَلِ ذِى الْحِجَّةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهْلِلْ، فَإِنِّي لَوْلاَ أَنِّي أَهْدَيْتُ لأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ". فَأَهَلَّ بَعْضُهُمْ بِعُمْرَةٍ، وَأَهَلَّ بَعْضُهُمْ بِحَجٍّ، وَكُنْتُ أَنَا مِمَّنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، فَأَدْرَكَنِي يَوْمُ عَرَفَةَ وَأَنَا حَائِضٌ، فَشَكَوْتُ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى إِذَا كَانَ لَيْلَةُ الْحَصْبَةِ أَرْسَلَ مَعِي أَخِي عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، فَخَرَجْتُ إِلَى التَّنْعِيمِ، فَأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ مَكَانَ عُمْرَتِي. قَالَ هِشَامٌ: وَلَمْ يَكُنْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ هَدْيٌ وَلاَ صَوْمٌ وَلاَ صَدَقَةٌ. قوله: "خرَجْنا" أي: من المدينة. وقوله: "موافين لهِلال ذي الحِجة"، قيل: معناه موافقون، والأوْلى أن معناه: مشرفون. يقال: أوفى على كذا إذا أشرف عليه، ولا يلزم منه الدخول فيه. وقال النووي: أي: مقارِبين لاستهلاله، لأن خروجه عليه الصلاة والسلام كان لخَمْس ليال بقين من ذي القعدة يوم السبت، وكان دخوله مكة في اليوم الخامس أو الرابع من ذي الحجة. وقوله: "لأهْللت بعمرة" في رواية أبوي ذرٍّ والوقت وكريمة والحموي: "لأَحْللت". وليس في الحديث دلالة على أن التمتع أفضل من الإِفراد؛ لأنه عليه الصلاة والسلام انما قال ذلك لأجل فسخ الحج إلى العمرة، الذي هو خاص بهم في تلك السنة، لمخالفة تحريم الجاهلية العمرة في أشهر الحج، لا التمتع

الذي فيه الخلاف، وقال ما قال ليطيِّب قلوب أصحابه، إذ كانت نفوسهم لا تسمح بفسخ الحجِّ إليها، لإِرادتهم موافقته -صلى الله عليه وسلم-، أي: ما يمنعني من موافقتكم فيما أمرتُكُم به إلا سَوْقي الهدي، ولولاه لوافقتكم، وإنما كان الهدي علةً لانتفاء فسخ الحج إلى العمرة؛ لأن صاحب الهدي لا يحلُّ له التحلُّل حتى ينحره، ولا ينحره إلا يوم النحر، والمتمتِّع يتحلل من عمرته قبله، فيتنافيان. وقوله: "حتى إذا كان ليلة الحَصْبة" أي: بالرفع على أن كان تامة، أي: وُجِدَت. وبالنصب على أنها ناقصة، واسمها الوقت. وقوله: "مكانَ عمرتي" أي: التي تركتها، وقد مرَّ الجمع بين الروايات في الحديث الذي قبله. وقوله: "قال هشام: ولم يكُن في شيء من ذلك هديٌ ولا صوم ولا صدقة". قال القُرطبي: أشكل ظاهر هذا الحديث من نفي الثلاثه، مع أن القارِن والمتمتِّع عليهما الدم. وأجاب القاضي عياض بأنها لم تكن قارِنة ولا مُتَمَتِّعة، لأنها أحرمت بالحجِّ، ثم نوت فَسْخَه في عُمرة، فلما حاضت ولمْ يتمَّ لها ذلك، رجعت إلى حجِّها، لتعذُّر أفعال العمرة، فأكملته، ثم أحرمت عُمرة مبتدأة، فلم يَجِبْ عليها هديٌ. قال: وكأن عياضًا لم يسمع قولها: "كنت ممَّن أهلَّ بعُمرة"، ولا قوله -صلى الله عليه وسلم- لها: "طوافُك يسعُك لحجِّك وعُمرتك". والجواب عن ذلك: أن هذا الكلام مُدْرَجٌ من قول هشام، كأنه نفى ذلك بحسب علمه، ولا يلزم من ذلك نفيه في نفس الأمر، ويُحتمل أن يكون المراد عنده بقوله: "لم يكُن في ذلك هدي" أي: لم تتكلف له، بل قام بذلك عنها، لما ثبت عن عائشة: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ضحّى عن نسائه بالبَقَر"، كما تقدم في أول الحيض، ولما رواه مسلم عن جابر: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أهدى عنها"، فيُحمل على أنه -صلى الله عليه وسلم- أهدى عنها من غير أن يأمُرَها بذلك، ولا أعلمها به. وقد بيَّن البخاري في هذه الرواية بقوله: "وقال هشام ... إلخ"، أن هذا

رجاله خمسة

من كلام هشام، بخلاف روايته في الحج، حيث قال: "فقضى الله حجَّها وعمرتها، ولم يكن في شيء من ذلك هديٌ ولا صدقةُ ولا صوم"، فإن ظاهرها يدُلُّ على أن ذلك من قول عائشة. وأخرجه مسلم وابن ماجه والإِسماعيلي كذلك، لكن بيَّن إدراجه مسلم في روايته عن أبي كُرَيب بيانًا شافيًا، فإنه ساق الحديث، وقال في آخره: "قال عُروة: فقضى الله حجَّها وعُمرتها. قال هِشام: ولم يكن في ذلك هديٌ ولا صيامٌ ولا صدقةٌ". وقال ابن خُزيمة: معنى قوله: "لم يكن في شيء من ذلك هديٌ" أي: في تركها لعمل العمرة الأولى، وإدراجها لها في الحج، ولا في عمرتها التي اعتمرتها من التَّنْعِيم أيضًا، وهذا تأويلٌ حسن. رجاله خمسة: الأول: عُبَيْد بن إسماعيل بن محمد القُرَشي الهَبّاري -بفتح الهاء وتشديد الباء الموحدة وبالراء المهملة- أبو محمد الكوفي، ويقال: إن اسمه عُبيد الله، وعُبيد لقب. روى عن: ابن عُيينة، وعيسى بن يونُس، وأبي أُسامة، والمُحارِبي، وأبي إدريس، وجُمَيْع بن عُمَيْر العِجْلي. وروى عنه: البُخاري، وأبو حاتم، ومحمد بن علي الخزّاز، ومحمد بن عبّاس الأَخْرم. قال مطيَّن: ثقة. وقال الدارقُطني: ثقة. وذكره ابن حِبّان في الثقات. وقال البخاري: مات يوم الجمعة آخر ربيع الأول سنة خمسين ومئتيق. والهَبّاري نسبة إلى هَبّار -بفتح الهاء وتشديد الباء-. وفي قريش: هبار بن الأسود بن المطّلب بن عبد العُزّى بن أسد الأسدي، أسلم في الفتح، وهبّار بن سُفيان بن عبد العُزّى الأسدي المخزومي من مهاجمرة الحبشة، قُتِل بأجنادين،

لطائف إسناده

ولا أدري لأُيِّهما هو منسوب. الثاني: أبو أُسامة حمّاد بن أُسامة، وقد مرَّ في الحادي والعشرين من كتاب العلم. ومرَّ هشام بن عُروة وأبوه عُروة وعائشة في الثاني من بدء الوحي. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في ثلاثه مواضع، ورواته ما بين كوفي ومدني. باب مخلقة وغير مخلقة المخلقة: المصوَّرة خَلْقًا تامًّا، لا نقصَ فيها ولا عيب. وغير المصوَّرة: السقط قبل تمام خَلْقِة، هذا قول مجاهد والشعبي، وهو الصواب. وللأصيلي: "باب: قول الله عز وجل". وباب: رُوِي بالإضافة، أي: باب تفسير قوله تعالى: {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} [الحج: 5]، ورُوي بالتنوين، أي: هذا باب فيه مخلّقة وغير مُخلّقة. ومناسبة الحديث للترجمة من جهة أن الحديث المذكور مفسِّر للآية؛ لأن فيه ذكر المُضْغَة، والمُضْغَة مخلَّقة وغير مُخَلَّقة. وأوضح منه سياقًا ما رواه الطبري عن ابن مَسْعود، قال: "إذا وقعتِ النطفة في الرحم، بعث الله مَلَكًا، فقال: يا ربِّ مخلَّقَة أو غير مُخَلَّقة، فإن قال: غير مخَلَّقة. مجَّها الرَّحِم، وإن قال: مُخَلَّقة. قال: يا ربِّ: فما صفة هذه النطفة؟ " فذكر الحديث. وإسناده صحيح، وهو موقوفٌ لفظًا، مرفوع حكمًا. وقال ابن بطّال: قَصَدَ البخاري بإدخال هذا الحديث في أبواب الحيض، تقوية مذهب من يقول: إن دم الحامل ليس بِحَيْض؛ لأن العمل إن تم، فإن الرحم مشغولٌ به، وما ينفصل عنه من دم، إنمَا هو رَشْحٌ من الولد، أو من فضلة غذائه، أو دم فسادٍ لعلّةٍ، وليس بحيض. وإن لم يَتِمَّ، وكانت المضغة غير مخَلَّقة، مجّها الرحم مضغةً مائعةً، حكمها حكم الولد، فكيف يكون حكم

الولد حيضًا؟ وهذا مذهب الكوفيين وأبي حنيفة وأصحابه وأحمد بن حنبل والثوري والأوزاعي، وإليه ذهب الشافعي في القديم، وقال في الجديد: إنها تحيض. وبه قال إسحاق. وعن مالك روايتان. قلت: مذهب مالك أن الحامل تحيضُ، ولحيضها تفصيل، فما كان بعد الدخول في الثالث تجلِسُ له خمسة عشر إلى عشرين، وهكذا إلى ستة، وما كان بعد الدخول في السادس تجلِسُ له عشرين إلى شهر، وما قبل الثلاثة، قيل: حكمه حكم الحائل من مبتدأة ومعنادة، وقيل: حكمها حكم صاحبة الثلاثة. قال في "الفتح": وفي الاستدلال بالحديث على أنها لا تحيض نظر؛ لأنه لا يلزم من كون ما يخرُجُ من الحامل هو السقط الذي لم يُصَوَّر أن لا يكون الدم الذي تراه المرأة التي يستمرُّ حملها ليس بحيض، وما ادّعاه المخالف من أنه رَشْحٌ من الولد أو من فضلة غذائه يحتاج إلى دليل. وما وَرَدَ في ذلك من خبر أو أثر، كما رواه ابن شاهين عن علي وابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أنهما قالا: إن الله تعالى رفع الحيض عن الحُبلى، وجعل الدَّم رزقًا للولد مما تفيض الأرحام. وما رواه الأثرم والدارقطني عن عائشة في الحامل ترى الحيض، فقالت: الحبلى لا تحيضُ، وتغتسِلُ وتصلّي. كله لا يثبت؛ لأن هذا دم بصفات دم الحيض، وفي زمن إمكانه، فله حكم دم الحيض، فمن ادّعى خلافه فعليه البيان. واستدل ابن المُنير على أنه ليس بدم حيض بأن المَلَك موكَّل برحم الحامل، والملائكة لا تدخل بيتًا فيه قَذَر، ولا يُلائِمها ذلك. وأُجيب بأنه لا يلزم من كون الملك موكّلًا بالرحم أن يكون حالًّا فيه، ثم هو مُشْتَرَكُ الإِلزام؛ لأن الدم كله قذر. ومن أقوى حججهم أن استبراء الأمة اعتُبِر بالحيض، لتحقق براءة الرحم من العمل، فلو كانت الحامل تَحيضُ لم تتمَّ البَراءة بالحيض.

قلت: يُجاب عن هذا بان الأحكام منوطة بالغالب، والغالب عدم حيض الحامل، فلهذا كان عدم الحيض دليلًا على براءة الرحم، وهذا لا ينافي حصول الحيض نادرًا من الحامل، كما هو المشاهد في كل زمن، فتجري عليه أحكامه.

الحديث الثالث والعشرون

الحديث الثالث والعشرون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَكَّلَ بِالرَّحِمِ مَلَكًا يَقُولُ: يَا رَبِّ نُطْفَةٌ، يَا رَبِّ عَلَقَةٌ، يَا رَبِّ مُضْغَةٌ. فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْضِيَ خَلْقَهُ قَالَ: أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ شَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ فَمَا الرِّزْقُ وَالأَجَلُ فَيُكْتَبُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ". قوله: "إن الله عز وجل وكل بالرحم" بتخفيف الكاف، يقال: وكله بكذا إذا استكفاه إياه، وصرف أمر إليه، وللأكثر: بالتشديد، وهو موافق لقوله تعالى: {مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11]. وقوله: "يا ربِّ نطفةٌ" أي: بالرفع والتنوين، أي وقعت في الرحم نطفة، وفي رواية القابِسي بالنصب، أي: خلقْتَ يا ربِّ نطفةً، والنُّطفة بضم النون وتجمع على نُطَف، وأصلها الماء الصافي قلَّ أو كثُر، وتُستعمل النطفة أيضًا في كل شيء خفي. وقوله: "يا ربِّ عَلَقَةٌ" بفتح اللام، وهي الدم الجامد الغليظ، ومنه قيل للدابة التي تكون في الماء: عَلَقة؛ لأنها حمراء كالدم، فالعلقة قطعة من الدم. وقوله: "يا ربِّ مُضْغَة" أي: قطعة من اللحم، وهي في الأصل قَدْرُ ما يُمضغ، ويجوز نصب الاسمين عطفًا على السابق المنصوب بالفعل المقدَّر. وقول الملك ليس فيه فائدة الخبر ولا لازمها؛ لأن الله علاّم الغُيوب، وإنما المراد منه التماس إتمام خَلْقِه، والدعاء بإفاضة الصُّورة الكاملة عليه، أو الاستعلام عن ذلك، فهو على حد قوله تعالى: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} [آل عمران: 36]، فإنها قالته تأسُّفًا وتحزُّنًا.

وبين قول الملك: يا ربِّ نطفة، يا ربِّ علقة، يا ربِّ مُضغة أربعون يومًا، لا في وقتٍ واحد، وإلا لكانت النطفة علقة مضغة في ساعة واحدة. وقد بيَّنَ المرادَ حديثُ ابن مسعود الآتي في كتاب القدر عند المصنِّف: "إن خَلْقَ أحدِكُم يُجمع في بطن أُمه أربعين يومًا، ثم يكونُ علقةً مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعثُ الله مَلَكًا، فيُؤمر بأربعة: برزقه، وأجله، وشقيٌّ أو سعيدٌ، ثم ينفُخُ فيه الروح ... إلخ" فحديث ابن مسعود هذا بجميع طرقه يَدُلُّ على أن الجنين يتقلَّب في مئة وعشرين يومًا في ثلاثة أطوار، كل طورٍ منها في أربعين، ثم بعد تكملتِها يُنفخ فيها الروح. وقوله: "فإذا أراد أن يَقْضِيَ خَلْقَه" أي: أن يُتم خَلْقَ ما في الرَّحِم من النُّطفة التي صارت عَلَقة، ثم مضغة. وقوله: "أذكرٌ أم أُنثى؟ " التقدير: أهو ذكرٌ أم أُنثى، فذَكَرٌ خبر للمبتدأ المقدر، أو التقدير: أذكر هو أم أُنثى، فذكرَ مبتدأ، وسوَّغ الابتداء به وإن كان نكرةً تخصيصُه بثبوت أحد الأمرين، إذ السؤال فيه عن التعيين، وللأصيلي: أذكرًا أم أُنْثى بالنصب. بتقدير: أتخلُقُ ذكرًا أم أُنثى. وقوله: "شقيٌّ أم سعيدٌ" بحذف أداة الاستفهام لدِلالة السابق عليه، وفيه من الإِعراب ما في الذي قبله. والشقِيُّ عند الأشاعرة: مَن وَجَبَتْ له النار، بمقتضى ما في الأزل. والسعيد: مَن وَجَبت له الجنة بمقتضى ما في الأزل. وعند الحنفية: الشقي: العاصي، والسعيد: المطيع. فالشقيُّ عندَهم قد يَسْعَد، والسعيد قد يَشْقى، لكن بالنسبة إلى الأعمال الظاهرة، وأما ما في علم الله تعالى فلا يتغيّر. وتمسك الأولون بهذا الحديث وأمثاله، كقوله في "الصحيحين": "ما مِنْكم من أحد إلا وقد كُتِبَ مقعدَهُ من النار أو مقعدَهُ من الجنة". وتمسَّكَ الحنفيةُ بمثل قوله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39]. والحقُّ أن النزاع لفظي، فالذي سَبَق في علم الله لا يتغيّر ولا يتبدّل، والذي

يجوزُ عليه التغيير والتبديل ما يبدو للناس من عمل العامل، ولا يبعُد أن يتعلق ذلك بما في علم الحَفَظة والموكلين بالآدمي، فيقعُ فيه المحو والإِثبات، كالزيادة في العُمُر والنقص، وأما ما في علم الله فلا محوَ فيه ولا إثبات. وقوله: "فما الرزق" قليلًا أو كثيرًا، حلالًا أم حرامًا، والرُّزق في اللغة الحظُّ قال تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)} [الواقعة: 82]، أي: حظكم من هذا الأمر، والحظُّ هو نصيب الرجل، وما هو خاصٌّ له دون غيره. وقيل: الرزق: كل شيء يُؤكل ويُستعمل، وهذا باطِل؛ لأن الله تعالى أمرنا بان نُنْفِقَ مما رَزَقَنا، فقال تعالى: {أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} فلو كان الرزق هو الذي يُؤكل، لما أمكن إنفاقه. وقيل: الرزق: هو ما يُملك، وهذا باطل أيضًا؛ لأن الإِنسان قد يقول: اللهم ارزُقْني ولدًا صالحًا، وزوجةً صالحةً، وهو لا يملِكُ الولد والزوجة. وقالت المعتزلة: الرزق: هو تمكين الحيوان من الانتفاع بالشيء، والحَظْرُ على غيره أن يمنعه من الانتفاع به. فالحرام ليس برزق عندهم، وعند أهل السنة: الحرام رزق؛ لأنه في أصل اللغة الحظ والنصيب، كما مرّ، فمن انتفع بحرام، كان ذلك الحرام نصيبًا له، فوجب أن يكون رزقًا له. وأيضًا قال الله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [المنافقون: 10]، وقد يعيش الرجل طول عمره لا يأكل إلا من الحرام، فوجب أن يكون طول عمره لم يأكل من رزقه شيئًا. وقوله: "وما الأجل؟ " وفي رواية: "والأجل" بدون ما، والأجل: هو مدة حياة الشخص، أو وقت موته؛ لأنه يُطلق على غاية المدة وعلى المدة. وقوله: "فيَكْتُب في بطن أُمه" أي: بالبناء للمعلوم، وفاعلُ يكتب، قيل: يرجع إلى الله تعالى، وقيل: يرجع إلى الملك. ويُروى بصيغة المجهول. وظاهر الحديث أن هذه الكتابة هي الكتابة المعهودة في صحيفته. وفي رواية لمسلم عن حُذيفة بن أسِيْد التصريح بذلك، بلفظ: "ثم تُطوى الصحيفة،

فلا يُزاد فيها ولا يُنْقَص". وفي حديث أبي ذرٍّ: "فيقضي الله ما هو قاضٍ، فيكتُبُ ما هو لاقٍ بينَ عينيه". ويجوز أن تكون مجازًا عن التقدير. وقوله: "في بطن أمه" ظرف لقوله: "يكتب"، فهو المكتوب فيه، والشخص هو المكتوب عليه، والمكتوب هو الأمور الأربعة المذكورة. والمراد بجميع ما ذُكِر من الرزق والأجل والشقاوة والسعادة والذكورة والأُنوثة أنه يظهر ذلك للملك، ويُؤمر بإنفاذِه وكتابته، وإلا فقضاء الله وعلمه وإرادته سابق على ذلك. قال عياض: اختلفت ألفاظ هذا الحديث، يعني: حديث ابن مسعود السابق في مواضع، ولم يُختلف أن نفخ الروح فيه بعد مئة وعشرين يومًا، وذلك تمام أربعة أشهر، ودخوله في الخامس، وهذا موجود بالمشاهدة، وعليه يُعَوَّل فيما يُحتاج إليه من الأحكام في الاستلحاق، عند التنازع وغير ذلك، بحركة الجنين في الجَوْف. وقد قيل: إنه هو الحكمة في عدة المرأة من الوفاة بأربعة أشهر وعشر، وهو الدخول في الخامس كما صرح به سعيد بن المسيِّب كما عند الطبري عنه أنه سُئِل عن عدة الوفاة، فقيل له: ما بال العشر بعد أربعة أشهر؟ فقال: يُنفخ فيها الروح. وزيادة حُذَيْفة ابن أَسِيد مشعرة بان المَلَك لا يأتي لرأس الأربعين، بل بعدها، فيكون مجموع ذلك أربعة أشهر وعشرًا، وهو مصرح به في حديث ابن عباس، "إذا وقعتِ النُّطفةُ في الرحم، مكثت أربعة أشهر وعَشْرًا، ثم ينفخ فيها الروح". ومعنى إسناد النفخ للمَلَك، أنه يفعله بأمر الله، والنَّفخ في الأصل إخراج ريح من جوف النافخ، ليدخُلَ في المنفوخِ فيهِ، والمراد بإسناده إلى الله تعالى أن يقول له: كن فيكون.

رجاله أربعة

وجمع بعضهم بأن الكتابة تقع مرتين، فالكتابة الأولى في السماء، والثانية في بطن المرأة. ويُحتمل أن تكون إحداهما في صحيفة، والثانية على جبين المولود. وقيل: يَخْتَلِفُ باختلاف الأجنّة، فبعضها كذا، وبعضها كذا، والأول أولى. ومباحث هذا الحديث كثيرة جدًّا، ويأتي استيفاؤها في كتاب القَدَر إن شاء الله تعالى، عند حديث ابن مسعود المشار إليه. رجاله أربعة: الأول: مسدَّد، وقد مرّ في السادس من كتاب الإيمان. ومرّ حمّاد بن زَيْد في الرابع والعشرين منه. والثالث: عُبيد الله بن أبي بَكْر بن أنس بن مالك أبو معاذ الأنصاري. روى عن: جده، وقيل: عن أبيه عن جده. وروى عنه: أخوه بكر بن أبي بكر بن أنس، والحمّادان، وعُتبة بن حُميد الضّبّي، وشدّاد بن سعيد، وآخرون. قال أحمد: وابن مَعين وأبو داود والنّسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح. وذكره ابن حِبّان في الثقات. الرابع: أنس بن مالك، وقد مرّ في السادس من كتاب الإيمان. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع، ورواته كلهم بصريّون. أخرجه البخاري هنا، وفي خَلْق بني آدم عن أبي النعمان، وفي القدر عن سُليمان بن حرب، ومُسلم في القدر عن أبي كامل الجَحْدَرِيّ، الكل عن حمّاد بن زيد.

باب كيف تهل الحائض بالحج والعمرة

باب كيف تهل الحائض بالحج والعمرة مراده بيان صحة إهلال الحائض، ومعنى "كيف" في الترجمة الإعلام بالحال بصورة الاستفهام، لا الكيفية التي تُراد بها الصفة، وبهذا يندفع اعتراض من زعم أن الحديث غير مناسب للترجمة، إذ ليس فيه ذكر صفة الإهلال.

الحديث الرابع والعشرون

الحديث الرابع والعشرون حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ، فَقَدِمْنَا مَكَّةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَلَمْ يُهْدِ فَلْيُحْلِلْ، وَمَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَأَهْدَى فَلاَ يَحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ بِنَحْرِ هَدْيِهِ، وَمَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ فَلْيُتِمَّ حَجَّهُ". قَالَتْ: فَحِضْتُ فَلَمْ أَزَلْ حَائِضًا حَتَّى كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَلَمْ أُهْلِلْ إِلاَّ بِعُمْرَةٍ، فَأَمَرَنِي النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ أَنْقُضَ رَأْسِي وَأَمْتَشِطَ، وَأُهِلَّ بِحَجٍّ، وَأَتْرُكَ الْعُمْرَةَ، فَفَعَلْتُ ذَلِكَ حَتَّى قَضَيْتُ حَجِّي، فَبَعَثَ مَعِي عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَعْتَمِرَ مَكَانَ عُمْرَتِي مِنَ التَّنْعِيمِ. قوله: "من أهلَّ بحجٍّ" في رواية المستملي: "بحجة". وقوله: "فلْيَحْلِل" بإسكان اللام من الثلاثي، أي: قبل يوم النحر، حتى يُحْرِم بالحج. وقوله: "فلا يَحِلُّ حتى يَحِلَّ" بفتح المثناة وكسر الحاء فيهما والضم في لام الأولى والفتح في لام الأخرى. وقوله: "بنحو هَدْيهِ" في رواية أبوي ذرٍّ والوقت: "حتى ينحرَ هَدْيَه"، أي: يوم العيد، لكونه أدخل الحج، فيصير قارنًا، ولا يكون متمتعًا، فلا يَحِلُّ. وأما توقفه على دخول يوم النحر مع إمكان التحلُّل بعد نصف ليلة، فليس التحلُّل الكلي، أما التحلُّل الكلي المُبيح للجِماع فهو يوم النحر. وقوله: "ومن أهَلَّ بحجٍّ" يعني مفرِدًا، وفي رواية المستملي والحموي: "ومن أهلَّ بحَجّةٍ".

رجاله ستة

وقوله: "فلْيُتِمَّ حجَّه" أي: سواء كان معه هدي أم لا. وقوله: "حتى كان يومُ عرفة" برفع يوم؛ لأن كان تامة. وقوله: "ولم أُهْلِل" بضم الهمزة وكسر اللام الأولى، وهذا الحديث قد مرّت مباحثه في البابين اللذين قبله بباب. رجاله ستة: الأول: يحيى بن بُكَيْر، والثاني: الليث بن سعد، والثالث: عقيل بن خالد، والرابع: ابن شِهاب الزُّهري، وقد مرَّ الجميع في الثالث من بدء الوحي. ومرَّ عُروة بن الزُّبير وعائشة في الثاني منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في أربعة مواضع، ورواته ما بين بصري وأَيْلِي، ومدني. أخرجه البخاري هنا، وفي الحج بزيادة. ومسلم في المناسك. باب: إقبال المحيض وإدباره اتفق العلماء على أن إقبال المحيض يُعوف بالدفعة من الدم في وقت إمكان الحيض، واختلفوا في إدباره، فقيل: يُعرف بالجُفوف، وهو أن يخرُجَ ما يُحتشى به جافًّا من أنواع الدم لا من البلل؛ لأن المحل لا يخلو غالبًا من بلل. وقيل: بالقَصَّة البيضاء، وإليه ميل المصنف كما سيظهر. وَكُنَّ نِسَاءٌ يَبْعَثْنَ إِلَى عَائِشَةَ بِالدُّرْجَةِ فِيهَا الْكُرْسُفُ فِيهِ الصُّفْرَةُ فَتَقُولُ: لاَ تَعْجَلْنَ حَتَّى تَرَيْنَ الْقَصَّةَ الْبَيْضَاءَ. تُرِيدُ بِذَلِكَ الطُّهْرَ مِنَ الْحَيْضَةِ. قوله: "وكنَّ نساءٌ" هو بصيغة جمع المؤنث، ونساءٌ بالرفع بدلٌ من الضمير على لغة: أكلوني البراغيث. والتنوين في نساء للتنويع، أي: كان ذلك من نوع

من النساء، لا من كلهن. وقوله: "بالدِّرَجَة" هي بكسر أوله وفتح الراء والجيم، جمع دُرْج بالضم ثم السكون، وضبطه ابن عبد البر في "الموطأ" بضم ثم سكون، قائلًا: إنه تأنيث دُرْج، والمراد به ما تحتشي به المرأة من قطنة أو غيرها، لتعرِفَ هل بقي من أثر الحيض شيء أم لا. وضبطها الباجي بفتح الأوَّلَيْن، ونوزع فيه. وقيل في تفسيرها: انها وعاء أو خِرقة، وهذا التفسير هو المناسب لما بعده. وقوله: "فيها الكُرْسُف" أي: بضم الكاف والسين المهملة بينهما راء ساكنة، وهو القطن، أي: في الدِّرَجَة القطن، ولأجل هذا المعنى اخترنا أن معناها الوعاء أو الخرقة. وقوله: "فيه الصُّفْرة" أي: في القطن الصُّفرة، زاد مالك: "من دم الحيضة". وقوله: "فتقول" أي: عائشة. وقوله: "لا تَعْجَلْنَ حتى تَرَيْنَ" أي: بسكون اللام والمثناة التحتية. وقوله: "القَصَّة البيضاء" أي: بفتح القاف وتشديد المهملة، ماء أبيض يكون آخر الحيض، يدفعه الرحم عند إنقطاعه، شبيهًا بالجِصّ، وهو النَّوْرَة، ومنه: قَصَّصَ دارَه، أي: جصَّصها. قال مالك: سألت النساء عنه، فإذا هو أمر معلومٌ عندهُنَّ، يعرِفْنَه عند الطُّهر. وقال الهَرَوي: معناه أن يخرُج ما تحتشي به الحائض نقيًّا كالقَصَّة، كأنه ذهب إلى الجفوف. قال القاضي عياض: وبينهما عند النساء وأهل المعرفة فرقٌ بيِّن، وإنما كانت القَصّة أبلغ؛ لأن الجفوف عدم، والقَصَّة وجود، والوجود أبلغ دِلالة، وكيف لا والرحم قد يجِفُّ في أثناء الحيض، وقد تنظُف الحائض، فيجِفُّ

رحمَها ساعة، فلا يدُلُّ ذلك على انقطاع الحيض، بخلاف القَصَّة، فإنها لا توجد إلا عند انقطاعه، فهي علامة لانتهاء الحيض، ويتبيَّن بها ابتداء الطُّهر. وإنما اختير القُطنُ للاختبار لبياضه، ولأنه يُنَشِّفُ الرطوبة، فيظهر فيه من آثار الدم ما لم يظهر في غيره. وفي الحديث دِلالة على أن الصُّفْرة والكُدرة في أيام الحيض حيض، وأما في غيرها فسيأتي الكلام على ذلك في باب مفردٍ إن شاء الله تعالى. وهذا الأثر رواه مالك في "الموطأ"، فقال: عن علقمة بن أبي عَلْقَمة، عن أمه مَرْجانة مولاة عائشة، أنها قالت: كان النساء ... إلخ. ومرّت عائشة في الثاني من بدء الوحي. وَبَلَغَ ابْنَةَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ نِسَاءً يَدْعُونَ بِالْمَصَابِيحِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ يَنْظُرْنَ إِلَى الطُّهْرِ فَقَالَتْ: مَا كَانَ النِّسَاءُ يَصْنَعْنَ هَذَا. وَعَابَتْ عَلَيْهِنَّ. قوله: "يدعونَ" أي: يطلُبْنَ، وفي رواية الكُشميهني: "يدعين" وقال في "القاموس": دَعَيْتُ لغة في دَعَوْت، وقد مرّ الكلام على "يدعون" في أثر أم عطية في باب: تقضي الحائض المناسك كلها. وقوله: "إلى الطهر" أي: إلى ما يدُلُّ على الطهر. وقولها: "ما كان النساء" اللام في النساء للعهد، أي: نساء الصحابة. وقوله: "وعابت عليهن ذلك"، إنما عابته عليهن لأن ذلك يقتضي الحَرَج والتنطُّع، وهو مذموم. أو لكون ذلك كان في غير وقت الصلاة، وهو جَوْف الليل، وفيه نظر؛ لأنه وقت العشاء. ويُحتمل أن يكون العيب لأن الليل لا يُتَبَيَّن به البياض الخالص من غيره، فيحسَبْنَ أنهنَّ طَهُرْنَ، وليس كذلك، فيُصلّين قبل الطُّهر. وهذا الأثر أخرجه مالك في "الموطأ" عن عبد الله بن أبي بكر، عن عمته، عن ابنة زيد بن ثابت، أنه بَلَغَنا. فذكره، فوقع في "الموطأ" مُبْهمًا.

ولزيد بن ثابت من البنات: حَسْنَة، وعَمْرة، وأُم كلثوم، وأُم محمد، وقُرَيْبَة، وأُم سعد. وزعم بعض الشُّرّاح أنها أُم سعد، قال: لأن ابن عبد البر ذكرها في الصحابة. وليس في ذلك دليل؛ لأنه لم يقُل: إنها صاحبة هذه القصة. وزعم بعضهم أنها أُم كُلثوم، قائلًا: لم أر رواية لواحدة منهن إلا لأُم كلثوم وكانت زوجًا لسالم بن عبد الله بن عمر. وأما أُم سعد فقد أخرج ابن مَنْده نسخة تشتمل على عدة أحاديث لها: منها أنها قالت: "كان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يأمُرُ بدفنِ الدَّمِ إذا احتَجَمَ. ومنها: "دخلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في بيت عائشة، وهو يتأوّه، يشتكي بطنه، ويقول: وابَطْناه". ومنها "قلت: يا رسول الله: هل من شيء إلا يَحِلُّ بيعُه؟ قال: لا يَحِلُّ بيع الماء". ومنها: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا سافر لا تفارِقُه مرآة ولا مِكْحَلة، يكونان معه". ومنها: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الوضوء مُدٌّ والغُسل صاعٌ، وسيأتي أقوام من بعدي يستَقِلُّون ذلك، أولئك خلاف أهل سُنّتي، والآخذ بسنتي معي، وهو في حظير القُدُس، وهو سيرة أهل الجنة". وفي سند هذه الأحاديث عَنْبَسَة بن عبد الرحمن، وهو من المتروكين.

الحديث الخامس والعشرون

الحديث الخامس والعشرون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ أَبِي حُبَيْشٍ كَانَتْ تُسْتَحَاضُ فَسَأَلَتِ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "ذَلِكِ عِرْقٌ، وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ، فَإِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلاَةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْتَسِلِي وَصَلِّي". قوله: "وإذا أَدبَرَتْ فاغتسِلي وصلّي" وهذا لا يقتضي تكرار الغسل لكل صلاة، بل يكفي غُسل واحد. وهذا الحديث مرّت مباحثه مستوفاة في باب غَسْل الدم من كتاب الوضوء. رجاله خمسة: فيه ذكر بنت أبي حُبَيْش. الأول: عبد الله بن محمد المُسْنِدي، وقد مرّ في الثاني من كتاب الإِيمان. ومرَّ هشام بن عُروة وأبوه عُروة وعائشة في الثاني من بدء الوحي. ومرّ سُفيان بن عُيينة في الأول منه، وهو المراد بسفيان المذكور في السند، لأن المُسْنِدي لا يروي إلا عن ابن عُيينة، ولم يرو عن الثوري. ومرّت بنت أبي حُبَيْش فاطمة في الرابع والتسعين من الوضوء. باب: لا تقضي الحائض الصلاة قد نقل ابن المنذر وغيره إجماع أهل العلم على ذلك، ونقل عبد الرزاق عن معمر عن الزُّهري أنه قال: اجتمع الناس عليه. ونقل ابن عبد البرَ عن طائفة من الخوارج أنهم كانوا يوجبونه. قلت: قول عائشة الآتي قريبًا: "أحروريَّةٌ أنت؟ " يدل على أن هذا

مذهبهم، اللهم إلا أن تكون أرادت أنهم هم أهل التنطُّع والإِفراط. وعن سَمُرَة بن جُنْدُب أنه كان يأمر به، فأنكرت عليه أُم سلمة، لكن استقر الإجماع على عدم الوجوب كما مرَّ. وقالَ جَابرٌ وأبُو سَعيدٍ عنِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- تَدَعُ الصَّلاةَ. واستشكل إيراد هذين الحديثين للاستدلال على الترجمة، بأن الترجمة لعدم القضاء، والحديثان لعدم الإِيقاع. وأجاب الكِرْماني بأن الترك في قوله: "تدع الصلاة" مطلق، يتناول الأداء والقضاء. ورُدَّ هذا بأن منعَها إنما هو في زمن الحيض فقط، وقد وَضَح ذلك من سياق الحديثين. قال في "الفتح" والذي يظهر أن المؤلف أراد أن يستدِلَّ على الترك أولًا بالتعليق المذكور، وعلى عدم القضاء بحديث عائشة، فجعل المعلَّق كالمقدمة للحديث الموصول، الذي هو مطابق للترجمة. أما تعليق جابر فقد أخرجه البخاري في كتاب الأحكام من طريق حبيب، عن جابر في قصة حيض عائشة في الحج، وفيه: "غيرَ أنَّها لا تطوفُ ولا تصلي"، ولمسلم نحوه من طريق أبي الزُّبَيْر عن جابر. وأما تعليق أبي سعيد الخُدري، فأخرجه في باب ترك الحائض الصوم، وفيه: "أليس إذا حاضَتْ لم تُصَلِّ ولم تَصُم". وجابر مرّ تعريفه في الرابع من بدء الوحي، ومرَّ أبو سعيد في الثاني عشر من كتاب الإِيمان.

الحديث السادس والعشرون

الحديث السادس والعشرون حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ قَالَ: حَدَّثَتْنِي مُعَاذَةُ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ لِعَائِشَةَ: أَتَجْزِي إِحْدَانَا صَلاَتَهَا إِذَا طَهُرَتْ؟ فَقَالَتْ: أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ؟! كُنَّا نَحِيضُ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَلاَ يَأْمُرُنَا بِهِ. أَوْ قَالَتْ: فَلاَ نَفْعَلُهُ. قوله: "إن امرأةً" كذا أبهمها همّام، وبيَّن شُعبة عن قَتادة أنها هي مُعاذة الراوية، أخرجه الإِسماعيلي عنه، وكذا مسلم من طريق عاصم، عن معاذة. ويأتي تعريفها قريبًا. وقوله: "أتَجْزي إحدانا صلاتَها" أي: بفتح أوله، وصلاتَها بالنصب على المفعولية، أي: أتقضي صلاتها، وفي رواية: "أَتُجْزِىءُ" بضم أوله وبالهمز آخره، أي: أتكفي المرأةَ الصلاةُ الحاضرةُ وهي طَاهرة، ولا تحتاج إلى قضاء الفائتة في زمن الحيض، فصلاتُها على هذا بالرفع على الفاعلية. وقوله: "أحَرُوريةٌ أنت؟! "، الحَروري منسوب إلى حَرُوراء بفتح الحاء وضم الراء المهملتين وبعد الواو الساكنة راء أيضًا، بلدة على ميلين من الكوفة، والأشهر أنها بالمد، قال المبرِّد: النسبة إليها حروراوِيّ، وكذا كل ما كان في آخره ألف تأنيث ممدودة، ولكن قيل: الحروري بحذف الزوائد. ويقال لمن يعتقد مذهب الخوارج: حَروري؛ لأن أول فِرقة منهم خرجوا على علي رضي الله تعالى عنه نزلوا بالبلدة المذكورة، فاشْتُهِروا بالنسبة إليها، وهم فِرق كثيرة، وأقبحهم فرقة نَجْدة بن عامر الحَرُورِيّ اليماميّ كما قال في "الفتح".

ومن أصولهم المتَّفق عليها بينهم الأخذ بما دلَّ عليه القرآن، وردُّ ما زاد عليه من الحديث مطلقًا، ولهذا استفهمت عائشة معاذةَ استفهام إنكارٍ. قلت: ومعنى أخذِهم بما دلَّ عليه القرآن، يعني: في زعمهم أنه دالٌّ عليه، كتكفيرهم لعلي رضي الله تعالى عنه، بأن حكم في دين الله تعالى، مستدلّين بقوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57]، لا أنهم يأخذون بما دلَّ عليه حقيقة؛ لأنهم لا يستنِدون في معاني القرآن إلا إلى عقولهم الفاسدة، فيبيحون ما أباحوا، ويحرِّمون ما حرَّموا، من غير دليل. ومن أصولهم المتَّفق عليها بينهم، تكفير من فَعَلَ ما هو ذنبٌ في زعمهم من المسلمين، سواء كان ذنبًا حقيقيًّا أو غير حقيقي، كما فعلوا مع علي رضي الله تعالى عنه كما مرّ. وزاد مسلم في رواية عاصم عن مُعاذة: "فقلت: لا، ولكني أسأل سؤالًا مجرّدًا لطلبِ العلمِ لا للتعنُّتِ". وفهمت عائشة عنها طلب الدليل، فاقتصرت في الجواب عليه دون التعليل. والفرق بين الصلاة والصيام أن الصلاة تتكرَّر، فلم يجِبْ قضاؤها للحرج، بخلاف الصيام. ولمن يقول بأن الحائض مخاطبة بالصيام أن يفرِّق بأنها لم تُخاطب بالصلاة أصلًا، وقيل: إن خطابها بقضائه بأمر جديدٍ لا بكونها خوطبت به أولًا. وقوله: "فلا يأمُرُنا به"، أو قالت: "فلا نفعَلُه" كذا في هذا الرواية بالشك، وعند الإِسماعيلي من وجه آخر: "فلم نَكُنْ نقضي، ولم نُؤمر به". والاستدلال بقولها: "فلم نكن نقضي" أوضح من الاستدلال بقولها: "فلم نُؤمر به"؛ لأن عدم الأمر بالقضاء هنا قد يُنازع في الاستدلال به على عدم الوجوب، لاحتمال الاكتفاء بالدليل العام على وجوب القضاء. وقال ابن دقيق العيد: اكتفاء عائشة في الاستدلال على إسقاط القضاء

رجاله خمسة

بكونها لم تُؤمر به يحتمل وجهين: أحدهما: أنها أخذت إسقاطَ القضاء من إسقاط الأداء، فيُتَمَسَّكُ به حتى يُوجد المعارِض، وهُو الأمر بالقضاء كما في الصوم. ثانيهما وهو الأقرب: أن الحاجة داعية إلى بيان هذا الحكم، لتكرر الحيض منهن عنده -صلى الله عليه وسلم-، وحيث لم يبيِّن، دلَّ على عدم الوجوب، لاسيما وقد اقترن بذلك الأمر بقضاء الصوم، كما في رواية عاصم عن مُعاذة عند مسلم. رجاله خمسة: الأول: موسى بن إسماعيل التَّبُوذَكِيّ، مرّ في الرابع من بدء الوحي. والثاني: همّام بن يَحْيى بن دينار، وقد مرَّ في الرابع والثمانين من كتاب الوضوء. ومرَّ قَتادة بن دِعامة في السادس من كتاب الإِيمان. ومرّت عائشة في الثاني من بَدْء الوحي. والرابع من السند: مُعاذة بنت عبد الله العَدَوِيّة أُم الصَّهْباء، امرأة صِلَة بن أُشَيْم. روت عن: عائشة، وعلي، وهشام بن عامر، وأم عمرو بنت عبد الله بن الزُّبير. روى عنها: أبو قِلابة، وقَتادة، وعاصم الأحول، وسليمان بن عبد الله البَصْري، وغيرهم. قال ابن مَعين: ثقة حجة. وذكرها ابن حِبّان، وقال: كانت من العابِدات، يقال: إنها لم تتوسَّد فراشًا بعد أبي الصَّهْباء حتى ماتت. وقال أبو بِشْر البَصْرِي: أتيت مُعاذة، فقالت: إني اشتكيت بطني، فوُصِفَ لي نبيذُ الجر، فأتيتها منه بقدحٍ، فوضَعَتْهُ، فقالت: اللهم إن كنت تعلم أن عائشة حدّثتني أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عن نبيذِ الجرِّ فاكفنيه بما شئت. قال: فانْكَفَأ القدحُ، وأُهْرِيق ما فيه، وأذهب الله تعالى ما كان بها.

لطائف إسناده

قال الذهبي: بلغني أنها كانت تُحيي الليل، وتقول: عجبتُ لعينٍ تنام وقد علمت طولَ الرُّقاد في القبور، توفيت سنة ثلاث وثمانين. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، وبصيغة الإفراد في موضع واحد، وفيه تصريح بسماع قَتادة من مُعاذة، وهو رَدٌّ على ما ذكره شعبة وأحمد من أنه لم يَسْمَع منها، ورواته كلُّهم بصريون. وهذا الحديث أخرجه الستة: أخرجه البخاري هنا، ومسلم عن أبي الربيع الزّهراني وغيره، وأبو داود عن موسى بن إسماعيل وغيره. والتِّرمذي عن قُتيبة، وابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شَيْبة كلُّهم في الصلاة، والنَّسائي في الصوم عن علي بن مُسْهِر. باب: النوم مع الحائض وهي في ثيابها

الحديث السابع والعشرون

الحديث السابع والعشرون حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ أَبِي سَلَمَةَ حَدَّثَتْهُ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ: حِضْتُ وَأَنَا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِى الْخَمِيلَةِ، فَانْسَلَلْتُ فَخَرَجْتُ مِنْهَا، فَأَخَذْتُ ثِيَابَ حِيضَتِي فَلَبِسْتُهَا، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَنُفِسْتِ؟ ". قُلْتُ: نَعَمْ، فَدَعَانِي فَأَدْخَلَنِي مَعَهُ فِى الْخَمِيلَةِ. قَالَتْ: وَحَدَّثَتْنِي أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُقَبِّلُهَا وَهُوَ صَائِمٌ، وَكُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَالنَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ مِنَ الْجَنَابَةِ. قوله: "فأدخلني معه في الخميلة"، الخميلة الأخيرة هي الخميلة الأولى، لأن المعرفةْ إذا أُعيدت بلفظِها كانت عينَ الأولى، وقد مرّ الكلام على هذا الحديث عند ذكره في باب من سمّى النِّفاس حيضًا. وقوله: "قالت: وحدثتني" أي: قالت زينب مما هو داخل تحت الإِسناد الأول، و"حدثتني" عطفٌ على قالت أُم سلمة الأول، أو عطف جملة على جملة، كما في: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35]، أي: ولِيَسْكُنْ زوجُك. وقولها: "كان يقبِّلها وهو صائم" روي أيضًا عن عائشة في كتاب الصوم: "كان -صلى الله عليه وسلم- يُقَبِّل ويبُاشر وهو صائم، وكانَ أمَلْكَكُم لإِرْبِه". والتقبيل أخص من المباشرة، فهو من ذكر العامِّ بعد الخاص. وقد اختُلِف في القبلة والمباشرة للصائم على أقوال: فكرهها قومٌ مطلقًا، وهو مشهور مذهب مالك، إن علمتَ السلامة من المذي أو المني أو الإنعاظ الكامل عند ابن القاسم، وإن لم تعلم السلامة بأن

عُلِم عدمُها أو ظُنَّ حَرُمَتِ المقدماتُ كلها، وان شكَّ في السلامة وعدمها فيه خلاف، هَلْ تحرُمُ أو تُكْرَه. وروى ابن أبي شَيْبة بإسناد صحيح عن ابن عُمر أنه كان يكرهُ القُبلة والمباشرة. ونقَل ابنُ المنذرِ عن قومٍ تحريمَها، واحتجوا بقوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} ... الآية [البقرة: 187]، فمنع من المباشرة في هذه الآية نهارًا. وأجيب عن ذلك بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- هو المبيِّن عن الله تعالُّ، وقد أباح المباشرة نهارًا، فدلَّ على أن المباشرة في الآية: المراد بها الجِماع لا ما دونَه من قُبلة ونحوها. وأفتى عبد الله بن شُبْرُمة أحد فقهاء الكوفة بإفطار من قبَّل وهو صائم، ونقله الطحاوي عن قومٍ لم يسمِّهم. وأباح القُبلة: قومٌ مطلقًا، وهُو المنقول صحيحا عن أبي هُريرة، وبه قال: سعيد، وسعد بن أبي وقاص، وطائفة، بل بالغ بعض أهل الظّاهر فاستحبَّها. وفرق آخرون بين الشابِّ والشيخ، فكرهها للشاب، وأباحها للشيخ، وهو مشهور عن ابن عبّاس، أخرجه عنه مالك، وسعيد بن منصور، وجاء فيه حديثان فيهما ضعف عند أبي داود، عن أبي هريرة، وأحمد عن عبد الله بن عُمر. وفرَّق آخرون بين من يملِكُ نفسَه ومن لا يملك كما أشارت إليه عائشة، وكما مرّ في مباشرة الحائض. وقال التِّرمِذي: ورأى بعضُ أهل العلم أن للصائم إذا ملك نفسه أن يقبِّل، وإلا فلا، ليَسْلَمَ له صومُه. وهو قول سفيان، والشافعي. فالنظر في ذلك لمن لا يتأثّر بالمباشرة والتقبيل، لا للتفرقة بين الشاب والشيخ؛ لأن عائشة كانت شابّة. ويدُلُّ على ذلك ما رواه مسلم عن عمر بن أبي سَلَمة، وهو ربيبُ النبي

-صلى الله عليه وسلم-، أنه سأله عليه الصلاة والسلام: أيقبِّل الصائم؟ فقال: سل هذه لأُم سلمة، فأخبرته أنه عليه الصلاة والسلام يصنعُ ذلك. فقال: يا رسول الله، قد غُفِر لك ما تقدَّم من ذنبِك وما تأخّر. فقال: "أما والله إني لأتقاكُم لله، وأخشاكُم له". وعمر حينئذٍ كان شابًّا، ولعله كان أول ما بلغ. وفيه دِلالة على أنه ليس من الخصائص. وروى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن عطاء بن يسار، عن رجل من الأنصار، أنه قبَّل امرأته وهو صائم، فأمر امرأته أن تسأل النبي عليه الصلاة والسلام عن ذلك، فسألته، فقال: "إني أفعلُ ذلك". فقال زوجها: يرخِّص الله لنبيه ما يشاء. فرجَعَتْ، فقال: "أنا أعلمُكُم بحدود الله وأتقاكم". وقال النووي: القُبلة في الصوم ليست محرمَّة على من لم تحرِّك شهوته، لكن الأولى له تركها، وأما مَن حرَّكَت شهوتَه فهي حرام في حقه على الأصح. وقيل: مكروهة. وروى ابن وَهْب عن مالك إباحتها في النفل دون الفرض، وهذا الذي قاله قريب من التفصيل المار عن المالكية. وقد قال المازَرِيّ منهم: ينبغي أن يُعتبر حال المقبِّل، فإن أثارت منه القُبلة الإِنزال حَرُمت عليه، لأن الإِنزال يُمنع منه الصائم، فكذلك ما أدّى إليه، وإن كان عنها المذي، فمن رأى القضاء منه قال: يحرم في حقه، ومن رأى أَنْ لا قضاءَ، قال: يكره. وإن لم تؤدِّ القبلة إلى شيء فلا معنى للمنع منها إلا على القول بسدِّ الذريعة. قال: ومن بديعِ ما رُوي في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام للسائل عنها فيما أخرجه أبو داود والنسائي عن عمر، وقال النسائي: إنه منكر، وصححه ابن خُزيمة وابن حِبّان والحاكم: "أرأيتَ لو تمَضْمَضْتَ؟ "، فأشار إلى فقهٍ بديعٍ، وذلك أن المضمضة لا تنقُضُ الصوم، وهي أول الشُّرب ومفتاحه، كما أن القُبلة من دواعي الجِماع ومفتاحه، والشرب يُفسد الصوم كما يفسده الجِماع، فكما ثبت عندهم أن أوائل الشرب لا تُفْسِد الصوم، فكذلك أوائل الجِماع.

وألزم ابن حَزْم أهل القياس أن يقيسوا الصيامَ على الحجِّ في منع المباشرة ومقدمات الجِماع، للاتِّفاق على إبطالهما بالجِماع. واختَلَفت العلماء فيما إذا باشر أو قبَّل أو نظر فأنزل أو أمذى، فقال الكوفيون والشافعي: يقضي إذا أنزل في غير النظر، ولا قضاء في الإمذاء. قال النووي: لا خلاف أنها، أي: القبلة، لا تُبْطِل الصوم، إلا إن أنزل بها. وقال مالك بوجوب الكفارة عند الإِنزال مطلقًا من قُبلة كان أو ملامسة أو فكر. وقال ابن القاسم: تجب إلا إذا حَصَل عن نظر أو فكر غير مُدامَيْن. وقال أَشْهَب: لا تجب إلا مع المداومة مطلقًا. وقال اللَّخْمي: إذا كان حصولُه مخالفًا للعادة لا تجِبُ، وإذا حصل المذي، فإن كان عن قُبلة ومباشرة قضى، وقيل: لا قضاء فيه، وإن كان عن نظرٍ وفِكْرٍ غير مُدامَيْن بدون قصد، لا قضاء فيه. وفي المدامَيْن قولان، والمشهور عدم القضاء. وإن حصل الإنعاظ الكامل ففيه ثلاثة أقوال، قال أشهب: لا قضاء فيه مطلقًا. وقيل: فيه القضاء مطلقًا. وفصَّل ابن القاسم بين ما إذا كان عن قبلة ومباشرة ففيه القضاء، وإلا فلا قضاء. واحتجَّ القائل بالكفارة بالإِنزال بأنه أقصى ما يُطلب بالجماع من الالتذاذ في كل ذلك. وتعقَّبه الآخرون بأن الأحكام عُلِّقت بالجِماع، ولو لم يكن إنزال، فافترقا. قلت: هذا التعقُّب غير ظاهر؛ لأن الجِماعَ المعلَّقةُ به الأحكام، غايتُه وثمرتُه الإِنزال، فتتعلَّق به كما تعلقت بسببه. وروَى عبد الرزاق عن حُذيفة بإسناد ضعيف: "من تأمَّلَ خَلْقَ امرأتهِ وهو صائمٌ، بطُلَ صومُه". وقال ابن قُدامة: من قبَّل فأنزل أفطر بلا خلاف، وفيه نظر؛ لأن ابن حَزْم قد حكى أنه لا يُفطر ولو أنزل. وقوّى ذلك وذهب إليه. وما رواه النّسائي عن عائشة أن الأسود سألها: أيُباشِر الصائم؟ قالت: لا. قلت: أليس كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يباشر وهو صائم؟ قالت: إنه كان أمْلَكَكُم لإِربهِ بما يدُلُّ بظاهره على أنها اعتقدت خصوصية النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك، يُجمع

رجاله ستة

بينه ويبن ما ثبت عنها صريحًا من إباحته، كقولها فيما رواه البخاري: يحرُمُ عليه فرجُها. وكما رواه مالك في "الموطأ" عنها مما هو دالٌّ على أنها لا ترى تحريمها ولا كونها من الخصائص عن أبي النَّضْر، أن عائشة بنت طلحة أخبرته أنها كانت عند عائشة، فدخل عليها زوجُها وهو عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر، فقالت له عائشة: ما يمنعُكَ أن تدنُو من أهلك فتلاعبها وتقبلها؟! قال: أقبِّلها وأنا صائم؟! قالت: نعم. يحمل النهي الذي في حديث الأسود على كراهة التنزيه، لأنها لا تنافي الإِباحة. وقد وردت الكراهة عنها صريحًا فيما رواه يوسف القاضي عن حمّاد، قال: سألتُ عائشةَ رضي الله تعالى عنها عن المباشرة للصائم، فكرهتها. وأما ما رواه أبو داود عنها من أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقبِّلها ويمصُّ لسانَها فإسناده ضعيف. ولو صحَّ، فهو محمولُ على أنه لم يبتلع ريقه الذي خالطه ريقها. وقوله: "وكنت أغتسِلُ" معطوف على جملة الحديث الذي قبله، أي: وحدثتني أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقبِّلها وهو صائم، وبقولها: كنت أغتسل. وقوله: "أنا والنبيُّ" برفع النبي عطفًا على الضمير المستتر في أغتسل، أو بالنصب مفعول معه، أي: أغتسِلُ معه. وقوله: "من إناءٍ واحدٍ من الجنابة" من في قوله: "من إناء"، و"من الجنابة" يتعلقان بقوله: "أغتسِل"، ولا يمتنِعُ هذا؛ لأن الابتداء في الأول من عَيْن، وهو الإناء، وفي الثاني من معنى وهو الجنابة، وإنما الممتِنعُ إذا كان الابتداء من شيئين هما من جنسٍ واحد، كزمانين، نحو: رأيته من شهر من سنة، أو مكانين، نحو خرجت من البصرة من الكوفة. وهذه القطعة من هذا الحديث مرَّ الكلام عليها مستوفى عند ذكر حديث عائشة في باب غُسل الرجل مع امرأته من كتاب الغُسل. رجاله ستة: الأول: سَعْد بن حَفْص الطَّلْحي أبو محمد المعروف بالضَّخْم، وقد مرّ في

باب: من اتخذ ثياب الحيض سوى ثياب الطهر

الرابع والأربعين من كتاب الوضوء. ومرّ شَيْبان بن عبد الرحمن النَّحْوي ويحيى بن أبي كَثير في الثالث والخمسين من كتاب العلم. ومرّ أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عَوْف في الرابع مغ بدء الوحي. ومرّت زينب بنت أبي سَلَمة في السبعين من كتاب العلم. ومرّت أُم سَلَمة في السادس والخمسين منه أيضًا. وتقدم ذكر المواضع التي أُخرج فيها في الخامس من هذا الكتاب. باب: من اتخذ ثياب الحيض سوى ثياب الطهر وفي رواية الكُشميهني: "من أعدَّ" بالعين والدال المهملتين.

الحديث الثامن والعشرون

الحديث الثامن والعشرون حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: بَيْنَا أَنَا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- مُضْطَجِعَةً فِي خَمِيلَةٍ حِضْتُ، فَانْسَلَلْتُ فَأَخَذْتُ ثِيَابَ حِيضَتِي فَقَالَ: "أَنُفِسْتِ؟ ". فَقُلْتُ: نَعَمْ. فَدَعَانِي فَاضْطَجَعْتُ مَعَهُ فِى الْخَمِيلَةِ. قوله: "فأخذتُ ثيابَ حِيْضَتي" بكسر الحاء، ولا معارضة بين هذا وبين قول عائشة في الحديث السابق في باب: هل تصلي المرأة في ثوب حاضَتْ فيه؟: "ما كان لإِحدانا إلا ثوب واحد"؛ لأنه باعتبار حالتين، حالة الإِقتار وحالة السَّعَة كما مرّ، أو المراد بالثياب هنا: خِرَق الحيضة وحفاظُها، فكنَّت بالثياب تجمُّلًا وتأدُّبًا. وقد مرّت مباحث هذا الحديث مستوفاة في باب من سمّى النِّفاس حيضًا. رجاله ستة: الأول: مُعاذ بن فَضالة، وقد مرّ في التاسع عشر من كتاب الوضوء. والثاني: هِشام الدَّسْتُوائي وقد مرّ في الثاني والثلاثين من كتاب الإيمان. ومرَّ يحيى بن أبي كثير في الثالث والخمسين من كتاب العلم. ومرَّ أبو سَلَمة بن عبد الرحمن في الرابع من بدء الوحي. ومرَّت زينب بنت أبي سلمة في السبعين من كتاب العلم ومرَّت أُم سَلَمة في السادس والخمسين من كتاب العلم. باب شهود الحائض العيدين ودعوة المسلمين ويعتزلن المصلى وفي رواية ابن عساكر: "واعتزالِهِنَّ"، وجمع الضمير في "يعتزلن" مع رجوعه إلى مفرد بالنظر إلى أن الحائض اسم جنس، كما في قوله تعالى: {بهِ

سَامِرًا تَهْجُرُونَ} [المؤمنون: 67]، أو فيه حذف، والتقدير: ويعْتَزِلْنَ الحيضُ كما ذُكر في الحديث. وقوله: "المُصَلّى" المراد به مكان صلاة العيد، وإنما اعتزلنه تنزيهًا وصِيانة واحترازًا عن مخالطة الرِّجال من غير حاجة ولا صلاة، ويأتي في الحديث تمامه.

الحديث التاسع والعشرون

الحديث التاسع والعشرون حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ حَفْصَةَ قَالَتْ: كُنَّا نَمْنَعُ عَوَاتِقَنَا أَنْ يَخْرُجْنَ فِي الْعِيدَيْنِ، فَقَدِمَتِ امْرَأَةٌ فَنَزَلَتْ قَصْرَ بَنِى خَلَفٍ، فَحَدَّثَتْ عَنْ أُخْتِهَا، وَكَانَ زَوْجُ أُخْتِهَا غَزَا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- ثِنْتَيْ عَشَرَةَ، وَكَانَتْ أُخْتِي مَعَهُ فِي سِتٍّ. قَالَتْ كُنَّا نُدَاوِي الْكَلْمَى، وَنَقُومُ عَلَى الْمَرْضَى، فَسَأَلَتْ أُخْتِي النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-: أَعَلَى إِحْدَانَا بَأْسٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا جِلْبَابٌ أَنْ لاَ تَخْرُجَ؟ قَالَ: "لِتُلْبِسْهَا صَاحِبَتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا، وَلْتَشْهَدِ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ". فَلَمَّا قَدِمَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ سَأَلْتُهَا أَسَمِعْتِ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَتْ: بِأَبِي سَمِعْتُهُ يَقُولُ: "يَخْرُجُ الْعَوَاتِقُ وَذَوَاتُ الْخُدُورِ، أَوِ الْعَوَاتِقُ ذَوَاتُ الْخُدُورِ وَالْحُيَّضُ، وَلْيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَعْتَزِلُ الْحُيَّضُ الْمُصَلَّى". قَالَتْ حَفْصَةُ: فَقُلْتُ الْحُيَّضُ؟ فَقَالَتْ أَلَيْسَ تَشْهَدُ عَرَفَةَ وَكَذَا وَكَذَا. قوله: "كنا نمنعُ عواتِقَنا أن يَخْرُجْنَ"، العواتق جمع عاتِق، وهي مَنْ بلغت الحلم أو قاربت أو استحقت التزويج، أو هي الكريمة على أهلها، أو التي عُتِقَت عن الامتهان في الخروج للخدمة. وكأنهم كانوا يمنعونَ العواتِقَ من الخروج لما حدث بعد العصر الأول من الفساد، ولم تلاحظ الصحابة ذلك، بل رأت استمرار الحكم على ما كان عليه في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-. وقوله: "فقدِمت امرأة"، لم تُسَمَّ. وقوله: "فنزلت قصَر بني خَلَف" هو قصر بالبصرة، منسوب إلى طلحة بن

عبد الله بن خَقف الخُزاعي المعروف بطَلْحةِ الطَّلْحات. وقد وَلِيَ امرة سِجِسْتان. وقوله: "فحدَّثت عن أُختها" قيل: هي أُم عطية، وقيل: غيرها. وعلى أنها أُم عطية، فزوجُها لم يُسمَّ أيضًا. وقوله: "ثِنْتَى عَشْرة" زاد الأصيلي: غزوة. وقوله: "وكانت أُختي" فيه حذف، تقديره: قالت المرأة وكانت أختي. وقوله: "معه" أي: مع زوجها، أو مع النبي عليه الصلاة والسلام. وقوله: "في ستٍّ" أي: ست غَزوات، وفي الطبراني أنها غَزَت معه سبعًا. وقوله: "قالت"، أي: الأخت لا المرأة. وقوله: "كُنا" أي: بلفظ الجمع، لبيان فائدة حضور النساء الغزوات على سبيل العموم. وقوله: "نُداوي الكَلْمى" بفتح الكاف وسكون اللام، جمع كَلِيم، أي: جريح. وقوله: "أَعَلى إحدانا بأسٌ" أي: حَرَج وإثم. وقوله: "إذا لم يكن لها جِلْباب" هو بكسر الجيم وسكون اللام وبموحدتين بينهما ألف، قيل: هو خِمار واسع كالمِلْحَفة تغطي به المرأةُ رأسَها وظهرها وقيل: المِقْنَعَة، أو الخِمار، أو ثوب واسع يكون دون الرِّداء، أو الإزار، أو المِلْحَفَة، أو المُلاءة، أو القميص. وقوله: "أن لا تخرُجَ" أن مصدرية، أي: في عدم خروجها إلى المصلّى للعيد. وقوله: "لتُلْبِسْها صاحبتُها" بالجزم ورفع صاحبتها على الفاعلية، وفي رواية: "فتلبِسُها" بالرفع وبالفاء بدل اللام. وقوله: "من جِلْبابها" قيل: المراد به الجنس، أي: تُعيرها من ثيابها ما لا

تحتاج المُعِيَرةُ إليه، ويؤيده رواية ابن خُزيمة: "من جلابيبها"، وللترمذي: "فلْتُعِرْها أختُها من جلابيبها" والمراد بالأخت الصاحبة. ويُحتمل أن يكون المراد تَشْرَكُها معها في ثوبها، ويؤيِّده رواية أبي داود: "تُلْبِسُها صاحبتُها طائفةً من ثوبِها" يعني: إذا كان واسعًا. ويؤخذ منه: جواز اشتمال المرأتين في ثوب واحد عند التستُّر. وقيل: إنه ذُكر على سبيل المبالغة، أي: يخرُجْنَ على كلِّ حال، ولو اثنتين في جلباب. وقوله: "ولْتشهَدِ الخيرَ" أي: ولتحضُرْ مجالسَ الخير، كسماع الحديث والعلم وعيادة المريض ونحو ذلك. وقوله: "ودعوةَ المسلمين" كالاجتماع لصلاة الاستسقاء، وفي رواية الكُشْمِيهني: "المؤمنين"، وهي موافِقة لرواية أُم عطية. وقوله: "قالت: بأبي" أي: فديتُه بأبي، أو هو مُفْدَى بأبي، وحُذِفَ المتعلَّق تخفيفًا لكثرة الاستعمال، وفي الطبراني: "بأبي هو وأمي". وقولها: "بأبي" هو بهمزة وموحدة مكسورة ثم مثناة تحتية ساكنة، ولأبي ذرٍّ: "بيَبي" بقلب الهمزة ياء، وللأصيلي "بأيا" بفتح الموحدة وإبدال ياء المتكلم ألفًا، وفي رواية: "بَيبي" بقلب الهمزة ياء وفتح الموحدة. وقوله: "وكانت لا تذكُرُه" أي: كانت أُم عطية لا تذكر النبي -صلى الله عليه وسلم-. وقوله: "تخرُجُ العواتِقُ" هو خبر متضمِّنٌ للأمر؛ لأن إخبار الشارع عن الحكم متضمِّن للطلب الشرعي. وقوله: "وذوات الخُدور" أي: بالعطف مع الجمع صفة للعواتق، ولأبي ذرٍّ عن الكُشميهني والأصيلي: "ذات الخدور" من غير عطف وبإفراد "ذات". و"الخُدور" بضم الخاء والدال المهملة جمع خِدْر -بكسر الخاء وسكون الدال، وهو ستر يكون في ناحية البيت، تقعد البِكْر وراءه، أو هو البيت نفسه.

وقوله: "أو العواتِق ذوات الخُدور والحُيَّض" على الشك من الراوي، هل هو بواو العطف، أم لا. و"الحُيَّض" بضم الحاء وتشديد الياء، جمع حائض، معطوف على العواتِق، وفي رواية التِّرمذي: "تخرُجُ الأبكار والعواتِقُ وذواتُ الخدورِ"، وبين العاتِق والبكر عموم وخُصوص وجهي. وقوله: "ولتشْهَدْنَ الخير" في رواية ابن عساكر: "ويشَهْدنَ" وهو معطوف على: "تخرج" المتضمن للأمر كما مرّ، أي: لتخرج العواتق وليشهدن. وقوله: "ويعتزلُن الحُيَّضُ المصَلَّى" بضم اللام، وهو خبر بمعنى الأمر، وفي رواية: "يعتزِلْنَ الحُيَّضُ المصلّى" وهو على لغة أكلوني البراغيث، أي: فيكُنَّ فيمن يدعو ويؤمِّن، رجاء بركة المشهد الكريم. وحَمَل الجمهور الأمر المذكور على الندب؛ لأن المصلّى ليس بمسجد، فيمتنع الحُيَّضُ من دُخوله، وأغرب الكِرْماني فقال: الاعتزال واجب، والخروج والشهود مندوبٌ، مع كلونه نَقَلَ عن النووي تصويبَ عدم وجوبه. وقال ابن المنير: الحكمة في اعتزالِهِنَّ أنَّ في وقوفِهِنَّ وهُنَّ لا يصلّين مع المصليات إظهارَ استهانة بالحال، فاستُحِبَّ لهُن اجتناب ذلك. وقوله: "قالت حفصة: فقلت لها" القائلة المرأة، والمَقُول لها أُم عطية، ويُحتمل أن تكون القائلة حفصة، والمَقول لها المرأة، وهي أخت أُم عطية، والأول أرجح. وقوله: "آلحُيَّضُ؟ " بهمزة ممدودة على الاستفهام التعجُّبي من إخبارها بشهود الحيض. وقوله: "فقالت: أليس تشهد" واسم ليس ضمير الشأن، وللكُشْمِيهني: "أليست" بتاء التأنيث، وللأصيلي: "أليس يشهَدْنَ" بنون الجمع، أي: الحُيَّضُ. وقوله: "عرفة وكذا وكذا" أي: نحو المُزْدَلفة ومِنى وصلاة الاستسقاء.

وفي الحديث استحباب خروج النساء إلى شهود العيدين، سواء كن شوابَّ أم لا، وذوات هيئات أم لا، وقد اختلف فيه السلف، فنقل عياض وجوبه عن أبي بكر وعلي وابن عمر. قال في "الفتح": والذي رواه ابن أبي شَيْبة عن أبي بكر وعلي أنهما قالا: "حقَّ على كلِّ ذاتِ نطاقٍ الخروجُ إلى العيدين" ولفظ: "حقَّ" يحتمِلُ الوجوب وتأكُّد الاستحباب. وروى ابن أبي شيبة عن ابن عُمر أيضًا أنه كان يُخْرِج من استطاع من أهله إلى العيدين، وهذا ليس صريحًا في الوجوب أيضًا. وقد رُوِيَ عن ابن عمر المنع، فيُحْتَمل أن يُحْمَلَ على حالين، ومنهم من حمله على الندب. وحاصل مشهور مذهب مالك أن المتجالة التي لا أرب للرجال فيها يُندب لها أن تخرج إلى الفَرْضِ والعيد والاستسقاء. والتي لم ينقطِعْ أَرَبُ الرِّجال منها بالكلية تخرج للمسجد. ولا تكثر التردُّد. وأما الشابّة، فإن كانت بارعة في الجمال لم تخرُج أصلًا، وإن كانت غير بارعة يجوز خروجُها للفَرْضِ وجنازة أهلها وقرابتها، مع أنه خِلاف الأولى، ويُمنع خروجُها لمجالس العلم والوعظ والذِّكر وإن بَعُدَت وكانت منعزِلة عن الرجال. وقيل: يكره في هذه الحالة كراهةً شديدة. وشَرَطَ العلماء في خروجها أن تكون بليلٍ، وعكس بعضهم، وقال: بل يكون نهارًا. ويمكن اختلاف ذلك باختلاف الزمان. وأن يَكُنَّ غير متزيِّنات ولا متطيِّبات ولا مزاحمات للرِّجال. وأن تخرُجَ في خشِنِ ثيابِها. وأن لا تتحلى بحُلِيٍّ يظهر أثره للرجال بنظر أو صوت، وإلا فلا بأس به. وأن لا يَبْقى في الطريق ما تخشى مفسدتُه. ولا يخرُجنَ في الليالي المقصودة بالخروج. ولا يُقضى على زوجها بالخروج ولو شرطته في أصل العقد، ولكن يُندب له الوفاء به. بِخلاف المتجالّة، فإنه يُقضى لها إذا شرطته. وقيل: لا يُقضى لها أيضًا. ومذهب الشافعية قريب من هذا.

قال القسطلاّني: وخصَّ بعضُ أصحابنا من عموم الحديث غير ذوات الهيئات والمستحسنات، وأما هُنَّ فيُمْنَعْن، لأن المفسدة إذ ذاك كانت مأمونة بخلافها اليوم، وقد قالت عائشة في "الصحيح": لو رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أحدث النِّساء لمَنَعَهُنَّ المساجد كما مُنِعت نساء بني إسرائيل. قلت: هذا قالته عائشة رضي الله تعالى عنها بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- بزمن يسير جدًّا، وأما في هذا الزمان فلا يرخَّص لهُنَّ الخروج بتاتًا لا في فرضٍ ولا في عيد ولا غيره. وقال في "الفتح": إن بعض العلماء حمل الأمر في الحديث في خروجهن على النَّدْب، وجزم بذلك الجُرجاني من الشافعية، وابن حامِد من الحنابلة، ونصَّ الشافعي في "الأم" على استثناء ذوات الهيئات. ونصه: وأنا أَحِبُّ شهودَ العجائزِ وغيرِ ذوات الهيئات للصلاة، وأنا لشُهودِهِنَّ الأعياد أشدُّ استحبابًا. وفي رواية المُزَني بإسقاط الواو من: "غير ذوات الهيئات"، فتكلون صفة للعجائز، ويكون الحكم مقصورًا عليهن دون الشوابِّ. وقد قال النووي في "شرح المهذَّب" يكره للشابّة ومن تُشْتَهى الحضور خوف الفتنة عليهن، وبهنَّ. قال في "الفتح": والأولى أن يُخَصَّ خروجُهن بمن يُؤمن عليها وبها الفتنة، ولا يَتَرَتَّب على حضورها محظورٌ، ولا تُزاحم الرجال في الطرق ولا في المجامع. وقال العَيْني: مذهب أصحابنا ما ذكره في "البدائع": أجمعوا على أنه لا يُرَخص للشابّة في الخروج إلى العيدين والجمعة وشيء من الصلوات، لقوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33]، ولأن خروجَهن سببٌ للفِتنة. وأما العجائز فيُرَخَّص لهُنَّ في الخروج للعيدين، ولا خلاف أن الأفضل أن لا يخرُجْن في صلاة ما، فهذا خرجْن يُصلّين صلاة العيد. في رواية الحسن عن أبي حنيفة، وفي رواية أبي يوسُف عنه: لا يصلّين، بل يكثِّرْنَ سواد المسلمين، وينتَفِعْنَ بدعائهم.

وفي التِّرمذي: روُي عن ابن المبارك: أكره اليوم خروجَهن في العيدين، فإن أبت المرأة إلا أن تخرُجَ فلْتخْرجُ في أطمارِها بغير زينةٍ، فإن أبت ذلك فللزَّوْج أن يمنَعَها. ويُروى عن الثوري أنه كره اليومَ خروجَهن. قال العيني: الفتوى اليوم على المنع مطلقًا، ولاسيما نساء مصر. وقد ادّعى بعضُهم نسخ هذا الحديث، قال الطحاوي: أمرُهُ عليه الصلاة والسلام بخروج الحُيَّض وذواتِ الخدور إلى العيد، يُحتمل أن يكون في أول الإِسلام، والمسلمون قليَلٌ، فأُريد التكثيرُ بحضورِهِنَّ، إرهابًا للعدوِّ، وأما اليوم فلا يُحتاج إلى ذلك. وتُعُقِّب بأن النسخ لا يثبُت بالاحتمال. وبأن حديث ابن عباس بأنه قد شهِدَه وهو صغير، وكان ذلك بعد فح مكة، يرُدُّ كونَه في أول الإِسلام. وبأنه صرَّح في حديث أُم عطية بعلَّة الحكم، وهو شهودُهُنَّ الخير ودعوةَ المسلمين ورجاء بركة ذلك اليوم وطُهرته. وبأن أُم عطية أفتت به بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- بمدة كما في هذا الحديث، ولم يثبُت عن أحدٍ من الصحابة مخالفتُها في ذلك. وما مرّ عن عائشة لا يدُلُّ على النسخ، بل يدُلُّ صريحًا على عدمه، ولكنها هي قالت ما قالت لما رأت من الفجور الموجب لتغير الأحكام كما قال عمر بن عبد العزيز: تحدثُ للنّاسِ أقضيةٌ، بقَدْرِ ما أحدثوا من الفجور. وقوله: "إرهابًا للعدو" فيه نظر، فإن الاستنصار بالنساء والتكثُّر بهنَّ في الحرب دالٌّ على الضعف. واستدل بعضُهم بالحديث على وجوب صلاة العيد، وفيه نظرٌ؛ لأن من جملة من أُمر بذلك مَن ليس بمكلِّف، فظهر أنَّ القصدَ منه إظهار شعائر الإِسلام بالمبالغة في الاجتماع، ولتَعُمَّ الجميع البركة. وفيه من الفوائد غير ما مرَّ: جواز مداواة المرأة للرجال الأجانب إذا كانت

رجاله ثمانية

بإحضار الدواء مثلًا، والمعالجة بغير مباشرة، إلا إن احتيج إليها عند أَمْن الفتنة. وفيه أن من شأن العواتِق والمُخْدَرات عدم البُروز إلا فيما أُذِنَ لهُنَّ فيه. وفيه استحباب إعداد الجِلْباب للمرأة، ومشروعية استعارة الثياب إلى الخروج للطاعات. وفيه قَبول خبر المرأة. وفيه أن في قولها: "كُنّا نداوي" جواز نقل الأعمال التي كانت في زمنه عليه الصلاة والسلام والاعتماد عليها، وإن كان عليه الصلاة والسلام لم يُخْبِر بشيء من ذلك. وفيه جواز النقل عمن لا يُعرف اسمه من الصحابة خاصة، وغيرهم إذا بُيِّن مسكنه ودُلَّ عليه. وفيه جواز السؤال بعد رواية العدل من غيره تقويةً لذلك. رجاله ثمانية: الأول: محمد بن سلاّم البيْكَنْدي، وقد مرّ في الثالث عشر من كتاب الإيمان. ومرّ عبد الوهاب بن عبد المجيد الثَّقَفِى وأيوب السَّخْتِياني في التاسع منه أيضًا. ومرّت حَفْصَة بنتُ سِيْرين وأُم عطيّة الأنصارية في الثاني والثلاثين من كتاب العلم. وأما امرأة في قوله: "فقدمت" فلم يُعلم اسمها، وكذا زوج أُختها لم يُعلم اسم ذلك الزوج، وقوله: "أُختها"، قيل: إنها أُم عَطِيّة، وقيل: غيرها. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في موضعين، والقول والسؤال والسماع، ورواته ما بينَ بُخاري وبَصْري ومدني. أخرجه البخاريُّ هنا، وفي العيدين عن أبي مَعْمر وغيره، ومُسلم في

باب إذا حاضت في شهر ثلاث حيض وما يصدق النساء في الحيض والحمل فيما يمكن من الحيض لقول الله تعالى: {ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن}

العيدين عن عمرو الناقد، وأبو داود في الصلاة عن النَّفَيْلِيّ، والتِّرمذي أيضًا في الصلاة عن أحمد بن مَنيع، والنَّسائي فيها أيضًا عن أبي بكر بن علي، وابن ماجه فيها أيضًا عن محمد بن الصَّبّاح. باب إذا حاضتْ في شهر ثلاث حِيض وما يُصَدَّقُ النساء في الحيض والحمل فيما يُمكن من الحيض لقول الله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} قوله: "حِيَض" بكسر الحاء وفتح الياء جمع حَيْضة. وقوله: "وما يُصَدَّق النساء" بضم أوله وتشديد الدال المفتوحة. وقوله: "في الحيض والحمل" أي: مدة الحيض ومدة الحمل، ولابن عساكر: "والحَبَل" بالباء الموحدة المفتوحة. وقوله: "وفيما يُمْكِنُ من الحيض" أي: من تكراره في الشهر والشهرين، والجار والمجرور متعلقان بيصدق، فما لا يُمكن لا يُصَدَّقُ فيه. وقوله: "لقول الله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} " [البقرة: 228] يشير إلى تفسير الآية المذكورة. فقد روى الطبري بإسناد صحيح عن الزهري قال: بَلَغنا أن المراد بما خلق الله في أرحامهن الحَيْض أو العمل، فلا يحلُّ لهُنَّ أن يكتمن ذلك لتنقضي العدة، ولا يملِكُ الزّوجُ الرَّجْعَةَ إذا كانت له. وروي ذلك عن ابن عمر أيضًا، وعن مجاهد: لا تقول: إني حائض. وهي ليست بحائض. ولا: لست بحائض، وهي حائض. وكذا في الحَبَل. ومطابقة الآية للترجمة من جهة أن الآية دالّة على أنها يجبُ عليها الإظهار، فلو لم تصدُق فيه لم تكُن له فائدة. ويُذْكر عَنْ عليٍّ وشُرَيْحٍ إنْ جاءتْ بِبَيِّنَة منْ بِطانةِ أهلِهَا ممنْ يُرضَى دينُه

أنَّها حاضتْ في شَهرٍ ثَلاثًا صُدِّقَتْ. قوله: "إن جاءت" في رواية كريمة: "إنِ امرأة جاءت" بكسر النون. وقوله: "بِطانة" بكسر الموحدة، أي: خواصِّها. وقوله: "ممن يُرضى دينُه" أي: بأن يكون عدلًا. وقوله: "أنها حاضت في شهرٍ" ولابن عساكر: "في كل شهرٍ"، قال إسماعيل القاضي: ليس المراد أن يشهَدَ النساء أن ذلك وقع، وإنما هو فيما نُرى أن يَشْهَدْنَ أن هذا يكون، وقد كان في نسائهن. قال في "الفتح": وسياق اللفظ الآتي قريبًا للدارِمي يدفَعُ هذا التأويل، فإنه ظاهرٌ في أن المراد أن يَشْهَدْنَ بأن ذلك وقع منها، وإنما أراد إسماعيل ردَّ هذه القصة إلى موافقة مذهبه. قلت مذهبهُ مذهب مالك، والمرأة عندهم تصدُق في انقضاء عدة القَرْءِ والوضع بلا يمين إن ادَّعت ما هو ممكن غير نادِر، وإن ادَّعت ما هو ممكن بالنُّدور كَدعواها أنها حاضت ثلاث حيض في شهر، سُئِل النساء: هل هذا يقع للنساء؟ فإن شَهِدْن أنه يقع لهن صدقت. وتصوير حيضها في شهر ثلاثًا على مشهور مذهب مالك من أن أقلَّ الطُّهر نصفُ شهر، هو أن يطلِّقها أول ليلة من الشهر وهي طاهر، فتحيضُ في تلك الليلة، وتطْهُرُ قبلَ الفجر؛ لأنَّ الطُّهر الذي طلَّقها فيه يُعَدُّ من أقرائها، وإن لحظة، والحيضُ تكفي فيه قَطْرة واحدة، ثم تحيض الليلة السادسة عشرة، وتطُهرُ فيها، ثم تستمرُّ طاهرة، ثم يأتيها الحيض عقِبَ غروب آخر يوم من الشهر، فتنقضي عُدَّتها. وإن ادَّعت ما لا يُمكن نادرًا لم تُصَدَّق. وطريق علم الشاهد بذلك، مع أنه أمر باطني، القرائن والعَلامات، بل ذلك مما يشاهده النساء، فهو ظاهر بالنسبة لهن.

وهذا الأثر وصله الدارِميّ برجال ثقات، وإنما لم يَجْزِم البخاري به للتردُّد في سماع الشعبي من علي، والأثر فيه سماعه منه، ولم يقل: إنه سمعه من شُرَيْح فيكون موصولًا. ولفظ الدارمي: أخبرنا يَعْلى بن عُبيد، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن عامر -هو الشعبي- قال: جاءت امرأة إلى علي تُخاصم زوجها طلَّقها، وقالت: حِضْتُ في شهر ثلاثَ حِيَضٍ. فقال علي لشُرَيْح: اقضِ بينهما. فقال: يا أمير المؤمنين: وأنت ها هنا؟! قال: اقض بينهما. قال: ان جاءت من بِطانة أهلها ممَّن يُرضى دينه وأمانته، تزعُم أنها حاضت ثلاث حِيض، تطْهُرُ عند كل قَرْء وتُصَلّى، جاز لها، وإلا فلا. قال علي: قالون. وقالون بلسان الروم: أحسنت. وعلي: المراد به ابن أبي طالب رضي الله عنه، وقد مرَّ في السابع والأربعين من كتاب العلم. وأما شُرَيْح فه وابن الحارث بن قَيْس بن الجَهْم بن مُعاوية بن عامر بن الرائش بن الحارث بن معاوية بن ثَوْر بن مرتِّع -بتشديد المثناة من فوق وكسرها- الكِنْدي، وثور بن مرتِّع هو كِنْدة، وفي نسبه اختلاف كثير، وهذا الطريق أصحُّها، ويُكنى بأبي أمية، مختَلَفٌ في صحبته. قال ابن منده: "ولاه عُمر القضاء وله أربعون سنة، وكان في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم يره ولم يسمع منه. قال في "الإصابة": هذا هو المشهور، لكن روى ابن السَّكَن وغير واحد من طريق علي بن عبد الله بن مُعاوية بن مَيْسرة بن شُريح القاضي، حدثنا أبي، عن أبيه معاوية، عن أبيه مَيْسرة، عن أبيه شُرَيْح، قال: أتيتُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-، فقلت: يا رسول الله: ان لي أهل بيتٍ ذوي عددٍ باليمن. قال: "جىء بهم"، فجاء بهم والنبيُّ قد قُبض. وأخرج أبو نُعيم بهذا الإسناد إلى شُرَيْح قال: وَليت القضاء لعُمر وعُثمان وعلي فمَنْ بعدهَمْ.

أقامه قاضيًا خمسًا وسبعين سنة، لم يتعطَّل فيها إلا ثلاث سنين، امتنع فها من القضاء في فتنة ابن الزُّبير، واستعفى الحجاج بن يوسف من القضاء فأعفاه، ولم يقضِ بين اثنين حتى مات، وكان له يوم استعفى مئة وعشرون سنة، وعاش بعد ذلك سنة. يقال: إنه تعلم العلم من معاذ بن جَبَل حين كان باليمن، كان أعلم الناس بالقضاء، ذا فِطْنة وذكاء ومعرفة وعَقْلٍ وإصابة. قال أبو الشَّعثاء: أتانا زياد بشُرَيْح، فقضى فينا بالبصرة سنة، لم يقضِ فينا قبله مثله ولا بعده. وقال العِجلي: كوفي تابعي ثقة. وقال ابن مَعين: شُرَيح بن هانىء وشُرَيْح بن أرطاة، وشريح القاضِ أقدم منهما، وهو ثقة. قال ابن عبد البر: كان شاعرًا محسِنًا، وهو أحد السادات الطُّلْسِ، وهم أربعة: عبد الله بن الزُّبير، وقيس ابن سَعْد بن عُبادة، والأَحْنَف بن قَيس الذي يُضرب به المثل، والقاضي شُرَيْح المذكور، والأطلس الذي لا شعر في وجهه. كان رضي الله عنه مزّاحًا، دخل عليه عديُّ بن أرطاة فقال له: أين أنت أصلحك الله؟ فقال بينك وبيني الحائط. قال. استمع مني. قال: قل أسمع. قال: إني رجلٌ من أهل الشام. قال: مكان سحيقٌ. قال: تزوجتُ عندَكم، قال: بالرَّفاء والبنين. قال: أردتُ أن أُرَحِّلَها. قال. الرجل أحقُّ بأهله. قال: وشرطتُ لها دارَها. قال: الشرط أملك. قال: فاحكمُ الآن بيننا. قال قد فعلت. قال: فعلى مَن حكمت؟ قال: على ابن أمِّك. قال: بشهادة مَن؟ قال: بشهادة ابن أُخت خالتك. وروي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه دخل مع خَصْم له ذِميٍّ إلى القاضي شُرَيْح، فقام له فقال: هذا أول جَوْرك، ثم أسند ظهره إلى الجدار، وقال: إما إنَّ خَصْمي لو كان مسلمًا لجلستُ بجَنْبه. وروي أن عليًّا رضي الله تعالى عنه قال: اجمعوا إليَّ القُرَّاء. فاجتمعوا في رحبة المسجد، فقال: إني

أوشِك أن أُفارقَكم، فجعل يسألهم: ما تقولون في كذا؟ وشُريح ساكت، ثم سأله، فلما فَرَغَ منهم، قال: اذهب، فأنت من أقضى الناس، أو من أفضل العرب، وفي رواية: فأنت أقضى العرب. وتزوج شُرَيْحُ امرأة من بني تميم تُسمّى زَيْنب، فنَقَم عليها، ثم ضربها، فندم، فقال: رأيتُ رِجالًا يضِربونَ نِساءهُم ... فشُلَّتْ يمينى حينَ أضرِبُ زيْنَبَا أأضرِبُها مِن غيرِ ذَنْبٍ أتَتْ به ... فما العدلُ مِنّي ضرب مَنْ ليسَ مذنبا فزينبُ شمسٌ والنِّساء كواكِبُ ... إذ طَلَعَتْ لم تُبْقِ منهنَّ كَوْكَبا ويُروى أن زِياد بن أبيه كَتَبَ إلى معاوية: يا أمير المؤمنين: قد ضبطتُ لكَ العراقَ بشمالي، وفَرَغَتْ يميني لطاعتك، فولِّني الحجاز. فبلغ ذلك عبد الله بن عمر، وكان مقيمًا بمكة، فقال: اللَّهم اشْغَلْ عنّا يمين زِياد، فأصابه الطاعون في يمينه، فجمعَ الأطبّاء واستشارَهُم، فأشاروا عليه بقطعها، فاستَدْعَى شُرَيْحًا، وعرض عليه ما أشار به الأطباء. فقال له: لك رزقٌ معلومٌ وأجَلٌ محتومٌ، وإني أكره إن كانت لك مُدة أن تعيشَ في الدُّنيا بلا يمينٍ، وإن كان قد دَنا أجلُك أن تلقى ربَّكَ مقطوعَ اليد، فإذا سألك: لم قطعتها؟ قلت: بُغضًا في لقائك، وفِرارًا من قضائك. فمات زياد من يومه. فلام الناس شُريْحًا على منعه له من القَطْع لبُغضْهم له. قال: إنه استشارني، والمُستشار مؤتَمَنٌ، ولولا الأمانةُ في المشورة لودِدْتُ أنَّهُ قطَعَ يده يومًا، ورِجلَه يومًا، وسائرَ جَسدِه يومًا. روى عن: النبي -صلى الله عليه وسلم- مرسلًا، وعن عُمر، وعلي، وابن مسْعود، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وغيرهم. وروى عنه: أبو وائل، والشَّعبي، وقَيْس بن أبي حازم، وابنا سِيرين: محمد وأنس، وابن أبي صَفِيّة، ومجاهد بن جَبْر، وإبراهيم النَّخَعي. مات سنة ثمان وسبعين زَمَنَ مُصعب بن الزُّبير.

وقالَ عَطاءٌ أقْراؤها ما كانَتْ يعني: قبل الطلاق، فتعتبر عادتها قبل الطلاق، فلو ادَّعت في العُدّة ما يُخالف ما قبلها لم يُقبل. والأقراء، جمع قُرء، بضم القاف وفتحها، زمان العدة. وعطاء المراد به: ابن أبي رباح، ومرَّ في التاسع والثلاثين من كتاب العلم. وبهِ قالَ إبراهيمُ. أي: قال بما قال عطاء، ووصله عبد الرزاق، عن أبي معشر، عن إبراهيم نحوه. وروى الدارِميّ بإسناد صحيح إلى إبراهيم أيضًا أنه قال: إذا حاضَتِ المرأة في شهر أو أربعين ليلة ثلاث حِيَض، فذكر نحو أثر شُريح. وعلى هذا، فيُحتمل أن يكون الضمير في قول البخاري: "وبه". ويعود على أثر شُرَيْح، أو في النسخة تقديم وتأخير، أو لإبراهيم في المسألة قولان. وإبراهيم: المراد به إبراهيم بن يزيد النَّخَعي، وقد مرَّ في السادس والعشرين من كتاب الإيمان. وقالَ عَطاءٌ الحَيْضُ يومٌ إلى خَمْسَ عَشْرَةَ. هذا إشارة إلى أن أقلَّ الحيض عنده يوم بليلته، وأكثره خمسة عشر. وقد اختَلف العلماء في أقل الحيض وأقل الطهر، ونقل الداودي أنهم اتفقوا على أن أكثر الحيض خمسة عشر، فعند المالكية: لا حدَّ لأقلِّ الحيضِ، بل تكفي فيه قطرة واحدة، وأكثره نصف شهر. وفي أقل الطهر عندهم في باب الصلاة لا في باب العِدة أربعة أقوال: المشهور: نصف شهر. وقال ابن حبيب: عشرة أيام. وقال ابن الماجِشون: خمسة. وقال سُحْنون: ثمانية. ونظم هذا بعضُهم، فقال: الحيضُ مُنْتهاه نصفُ شهرِ ... ثمَّ الخِلافُ في أقلِّ الطُّهْر

فلابنِ ماجِشون خمسةٌ تُعَدّ ... وابن حبيبٍ عشرةٌ فيما وَرَدّ سحنونُ قد ما عدّها ثمانِيَهْ ... ما زادَها في السرِّ والعلانِيهْ مَشهورُها بنصفِ شهرٍ حُدّا ... فاسْمَع لِذا وكُن به مُعْتدًا واحترزت بقولي: لا في باب العدة. عن الطهر الذي وقع فيه الطلاق، فإنه يكفي حصوله في لحظة منه كما مر، ولذا كان انقضاء العدة عندهم ممكن في شهر كما مرَّ بيانه قريبًا. وعند الشافعية القَرْء الذي هو الطهر عندهم وعندنا، أقله خمسة عشر يومًا، وأقل الحيض يوم وليلة، فلا تنقضي عدتها في أقل من اثنين وثلاثين يومًا ولحظتين، بأن تُطَلَّقَ وبقي من الطهر لحظة، وتحيض يومًا وليلة، وتطهر خمسة عشر يومًا، ثم ستة عشر كذلك. ولابد من الطعن في الحيضة الثالثة للتحقق. وعند أحمد: أقله يوم وليلة، وأكثره خمسة عشر يومًا، وغالبه ست أو سبع. وأقل الطهر ثلاثة عشر يومًا كما هو عند علي وشُريح المتقدمين، ولا حد لأكثره. وقال أبو حنيفة: أقله ثلاثة أيام، وما نقص عن ذلك فهو استحاضة، وأكثره عشرة أيام. وقال أبو يوسف: أقله يومان، والأكثر من اليوم الثالث. وقال أبو حنيفة: لا يجتمع أقل الطهر وأقل الحيض معًا، فأقل ما تنقضي به العدة عنده ستون يومًا. وقال صاحباه: تنقضي في تسعة وثلاثين يومًا، بناء على أن أقل الحيض ثلاثة أيام، وأن أقل الطهر خمسة عشر يومًا، وأن المراد بالقَرْء: الحيض. وهذا التعليق وصله الدارمي بإسناد صحيح عنه، قال: "أقصى الحيض خمس عشرة، وأدناه يوم". ووصله الدارقُطني أيضًا بلفظ: "أدنى وقتِ الحيض يوم، وأكثره خمس عشرة". وعطاء مرَّ قريبًا ذِكر محله الذي مرَّ فيه.

وَقَالَ مُعْتَمِرٌ عَنْ أَبِيهِ سَأَلْتُ ابْنَ سِيرِينَ عَنِ الْمَرْأَةِ تَرَى الدَّمَ بَعْدَ قَرْئِهَا بِخَمْسَةِ أَيَّامٍ قَالَ النِّسَاءُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ. قوله: "بعد قَرْئها" قال الكِرْماني: أي طُهْرها لا حَيْضها، بقرينة لفظ الدم. وقال العيني: المعنى أن ابن سيرين سُئل عن امرأة كان لها حيضٌ معتادٌ، ثم رأت بعد أيام عادتِها الدمَ بخمسة أيام أو أقل أو أكثر، فكيف يكون حكم هذه الزيادة؟ فقال ابن سِيرين: "هي أعلم بذلك" يعني: أن التمييز بين الدمين راجع إليها، فيكون المرئي في أيام عادتها حيضًا، وما زاد على ذلك استحاضة، فإن لم يكن لها علم بالتمييز، يكون حيضُها ما تراه إلى أكثر مدة الحيض، وما زاد عليها يكون استحاضة. والمراد بقوله: "قَرْئها" أي: حيضها المعتاد لا طهرها، كما قال الكِرْماني. وهذا الأثر وصله الدارِمي عن محمد بن عيسى عن مُعْتَمِرْ ومعتمر بن سليمان وأبوه سُليمان مرّا في التاسع والستين من كتاب العلم. والمراد بابن سِيرين محمد، وقد مرَّ في الحادي والأربعين من كتاب الإِيمان.

الحديث الثلاثون

الحديث الثلاثون حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي رَجَاءٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ أَبِي حُبَيْشٍ سَأَلَتِ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَتْ: إِنِّي أُسْتَحَاضُ فَلاَ أَطْهُرُ أَفَأَدَعُ الصَّلاَةَ؟ فَقَالَ: "لاَ، إِنَّ ذَلِكِ عِرْقٌ، وَلَكِنْ دَعِي الصَّلاَةَ قَدْرَ الأَيَّامِ الَّتِى كُنْتِ تَحِيضِينَ فِيهَا، ثُمَّ اغْتَسِلِي وَصَلِّي". ومعنى الاستدراك: لا تترك الصلاة في كل الأوقات، ولكن اتركيها في مقدار العادة. ومناسبة الحديث للترجمة في قوله: "قدر الأيام التي كُنْتِ تحيضين فيها"، فوَكَلَ ذلك إلى أمانتها، وردَّه إلى عادتها، وذلك يختلِفُ باختلاف الأشخاص. وفيه دِلالة على أن فاطمة كانت مُعتادة. وقد تقدمت مباحث هذا الحديث عند ذكره في باب غُسل الدم من كتاب الوضوء. رجاله خمسة، وفيه ذكر فاطمة بنت أبي حُبَيْش. الأول: أحمد بن أبي رجاء، واسم أبي رجاء عبد الله بن أيوب الحَنَفِي، أبو الوليد بن أبي رجاء الهَرَوي، والحَنَفِي حنفي النسب لا المذهب. روى عن: ابن عُيينة، وأبي أسامة، ويحيى القطان، وغيرهم. وروى عنه: البخاري، وأبو زُرعة، وأحمد بن حَفْص النَّيْسابوري، وأبو حاتم، وقال: صدوق.

لطائف إسناده

قال الحاكم: إمام عصره بِهَراة في الفقه والحديث، وطلب مع أحمد بن حَنْبل، وكتب بانتخابه عن الشيوخ. وقال النسائي: كتبت عنه بالثَّغْر، وهو ثقة لا بأس به، وذكره ابن حبان في الثقات. مات في النصف من جُمادى الأولى سنة اثنين وثلاثين ومئة. والحَنَفي نسبه إلى حَنيفة كسَفينة، لقب أُثال بن لُجيَم بن صعب بن بكر بن وائل، أبي حيٍّ، وهم قوم مسيلمة الكذاب، وإنمّا لُقب لقول جُذَيمة، وهو الأحْوى بن عوف، لقي أثالًا فضربه فحَنَفَه، وضربه أثال فجذمه، فلُقِّب جُذَيمة وفي ذلك يقول: فإن تَكُ خَنْصري بانَتْ فإني ... بها حَنَفْتُ حامِلَتَي أُثال فمنهم خولة بنت جَعْفر الحنفيّة أم محمد بن علي رضي الله تعالى عنه. الثاني: أبو أُسامة، وقد مرَّ في الحادي والعشرين من كتاب العلم. ومرَّ هشام بن عُروة وأبوه عُروة وعائشة أم المؤمنين في الثاني من بدء الوحي. ومرت فاطمة بنت أبي حُبَيْش في الثالث والتسعين من كتاب الوضوء. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والإخبار بصيغة الافراد في موضع، والعنعنة في موضع واحد، وفيه السماع، ورواته ما بين هَرَوي وكوفي ومدني. وتقدم ذكر المواضع التي ذُكر فيها في الرابع والتسعين من كتاب الوضوء. باب الصفرة والكدرة في غير أيام الحيض الصُّفرة: الماء الذي تراه المرأة كالصَّديد، يعلوه اصفرار، وليس على شيء من ألوان الدماء القوية والضعيفة. والكُدْرَة -بضم الكاف- شيء كَدِر ليس على ألوان الدماء.

وقوله: "في غير أيام الحيض" يشير إلى الجمع بين حديث عائشة المتقدم في قولها: "حتى تَرَيْنَ القَصَّةَ البيضاء" وبين حديث أم عطية المذكور في هذا الباب، بأن ذلك محمول على ما إذا رأت الصُّفرة أو الكُدرة في أيام الحيض، وأما في غيرها فعلى ما قالته أم عطية.

الحديث الحادي والثلاثون

الحديث الحادي والثلاثون حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: كُنَّا لاَ نَعُدُّ الْكُدْرَةَ وَالصُّفْرَةَ شَيْئًا. قوله: "كنا لا نَعُدُّ" تعني في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، مع علمه بذلك، وتقريره له، وبهذا يُعْطَى الحديث حكم الرفع، وهو مصَّير من البخاري إلى أن مثل هذه الصيغة يُعدُّ في المرفوع، ولو لم يصرِّح الصحابي بذكر زمنه عليه الصلاة والسلام، وبهذا جزم الحاكم وغيره خلافًا للخطيب. وقوله: "شيئًا" أي: من الحيض إذا كان في غير زمنه، أما فيه فهما من الحيض. ولأبي داود، عن قَتادة، عن حَفْصة، عن أم عَطِية: "كُنّا لا نعدُّ الكُدرة والصُّفرة بعد الطُّهر شيئًا"، وهو موافق لما تَرْجَمَ به البخاري. وبهذا التفصيل قال سعيد بن المسيب، وعطاء، والليث، وأبو حنيفة، ومحمد، والشافِعِي، وأحمد. وأما مالك، فمشهور مذهبه أنهما حيض مطلقًا في غير زمن الحيض وفي زمنه. وقيل: إنهما لغوٌ مطلقًا، وقيل: إن كانتا في أيام الحيض فحيضٌ، وإلا فاستِحاضة، وتأوَّلَ حديثَ أم عطية على أن معناه: لا نعدُّهما شيئًا من علامات الطُّهر كالقَصَّة، بل هما من أنواع الدم. رجاله خمسة: الأول: قُتيبة بن سعيد، وقد مرَّ في الثاني والعشرين من كتاب الإيمان. ومرَّ إسماعيل بن عُلَيّة في الثامن منه. ومرَّ أيوب السَّحْتياني في التاسع منه أيضًا، ومرَّ محمد بن سِيرين في الحادي والأربعين من كتاب الإيمان أيضًا. ومرَّت أم عطية في الثاني والثلاثين من كتاب الوضوء.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في ثلاثة مواضع، وهو في حكم المرفوع؛ لأن قول الصحابي: كنا. يعني: في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد مرَّ الكلام على ذلك في الثامن والخمسين من كتاب الوضوء. أخرجه البخاري هنا، وأبو داود في الطهارة عن مسدَّد، والنَّسائي فيها عن عَمْرو بن زُرارة، وابن ماجه فيها عن مُحمد بن يَحْيى. واختار البخاري رواية إسماعيل له عن أيوب عن محمد بن سِيرين على رواية وُهَيْب له عن أيوب عن حفصة؛ لأن إسماعيل أرجح، لمتابعة مَعْمَر عن أيّوب، ولأنه أحفظ لحديث أيوب من غيره. ويجوز أن يكون أيوب قد سمعه من محمد ومن حفصة. باب عِرق الاستحاضة أي: بكسر العين وإسكان الراء، المسمى بالعاذِل، وقد مرَّ الكلام عليه في حديث فاطمة بنت أبي حُبَيْش في باب غَسْل الدم من كتاب الوضوء.

الحديث الثاني والثلاثون

الحديث الثاني والثلاثون حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْنٌ قَالَ: حَدَّثَنِى ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ وَعَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ اسْتُحِيضَتْ سَبْعَ سِنِينَ، فَسَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ ذَلِكَ، فَأَمَرَهَا أَنْ تَغْتَسِلَ فَقَالَ: "هَذَا عِرْقٌ". فَكَانَتْ تَغْتَسِلُ لِكُلِّ صَلاَةٍ. قوله: "وعن عَمْرة" يعني: كلاهما عن عائشة، وفي رواية أبي الوقت وابن عساكر بحذف الواو، فصار من رواية عُروة عن عَمْرة، والمحفوظ إثبات الواو، وأن الزُّهري رواه عن شيخين: عُروة، وعَمْرة، كلاهما عن عائشة. وكذا أخرجه مُسلم، وأبو داود، عن الزُّهري، عنهما. وأخرجه مسلم عن الزُّهري، عن عُروة وحده. وأخرجه مُسلِم أيضًا وأبو داود عن الزُّهري، عن عَمْرة وحدها. قال الدارقطني: هو صحيح من رواية الزُّهرى عن عُروة وعَمرة جميعًا. قوله: "إن أم حبيبة" هي بنت جَحْش أخت زَيْنَب أم المؤمنين، وفي "الموطأ" أن اسمها زَيْنب، فقيل: هو خطأ، وقيل: هو الصواب، وإن اسمها زينب، وكُنيتها أم حبيبة، وأما كون اسم أختها أم المؤمنين زينب، فإنه لم يكن اسمها الأصلي، وإنما كان اسمها بَرَّة، فغيَّره النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولعلَّه سمّاها باسم أختها، لكون أختها غَلَبَتْ عليها الكُنية. ولها أخت أخرى اسمها حَمْنة. وقد مرَّ في باب الاعتكاف للمستحاضة أن بنات جَحْش الثلاثة استُحِضْن، ومرَّ هُناك ذكر من اسْتُحيضت من النساء في زمنه عليه الصلاة والسلام. وقوله: "استُحيضَتْ سبع سنين"، قيل: فيه حُجَّة لابن القاسم في إسقاطه عن المستحاضة الصلاة إذا تركتها ظانّة أن ذلك حَيْض؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- لم يأمرها

رجاله سبعة

بالإِعادة مع طول المدة. ويُحتمل أن يكون المراد بقولها: "سبع سنين" بيان مدة استحاضتها، مع قطع النظر هل كانت المدة كلها قبل السؤال أم لا، فلا يكون فيه حُجة لما ذُكر. وقوله: "فأمرها أن تغتَسِلَ" زاد الإسماعيلي ومسلم: "وتصلي"، وهذا الأمر بالاغتسال مطلق، فلا يدُلُّ على التكرار إلى آخر ما مرَّ مستوفى عند حديث فاطمة بنت أبي حُبَيْش في باب غَسْل الدم من كتاب الوضوء، فراجعه. رجاله سبعة: الأول: إبراهيم بن المُنذر، وقد مرَّ في الأول من كتاب العلم. ومرَّ مَعْن بن عيسى القَزّاز في الثاني والمئة من كتاب الوضوء. ومرَّ ابن أبي ذِئب في الستين من كتاب العلم. ومرَّ ابن شِهاب الزُّهري في الثالث من بَدْء الوحي. ومرَّتْ عائشة رضي الله عنها في الثاني منه. وأما عَمْرة فهي بنت عبد الرحمن بن سعد بن زِرٍّ الأنصارية، كانت في حَجْر عائشة. روت عن: عائشة، وأختها لأمها أُم هشام بنت حارِثة بن النعمان، وحَبيبة بنت سَهْل، وأم حبيبة حَمْنة بنت جَحْش. وروى عنها: ابُنها أبو الرّجال، وأخوها محمد بن عبد الرحمن الأنصاري، وعُروة بن الزُّبير، والزُّهري، وعَمْرو بن دينار، وآخرون. قال ابن مَعين: ثقة حُجة. وقال العِجْلي: مدنية تابعية ثقة. وفخّم ابن المديني أمرَها، وقال: عَمْرَةُ أحد العلماء بعائشة، الأثبات فيها. وذكرها ابن حِبّان في "الثقات"، وقال: كانت أعلم الناس بحديث عائشة. وقال سُفيان: أثبتُ حديث عائشة حديثُ عَمرة والقاسم وعُروة. وقال عُمر بن عبد العزيز: ما بقي أحد أعلم بحديث عائشة من عَمْرة. قال شعبة: وكان عبدُ الرحمن بن القاسم يسألُها عن حديث عائشة. وقال ابن سعد: كانت عالمة. وكتب عُمر بن عبد العزيز إلى ابن حَزْم أن يكتب

لطائف إسناده

له أحاديث عَمْرة. ماتت سنة ست ومئة، وهي بنت سبع وسبعين سنة. وفي الحديث ذكر أم حبيبة، وهي: بنت جحش أخت زينب زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- أم المؤمنين، كانت تحت عبد الرحمن بن عَوْف، فاستُحيضت سبع سنين، فسألت النبي -صلى الله عليه وسلم- ... إلخ الحديث. ورواه مَعْمر عن الزُّهري، فقال: أم حبيب بغير هاء، وفي رواية محمد بن إسحاق عن الزُّهري: إن كانت لتخرج من المركن وقد غلبت حُمرة الدم على الماء، فتصلي. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وبصيغة الافراد في موضع، والعنعنة في أربعة مواضع، ورواته مدنيّون، وفيه رواية ابن شهاب عن عُروة وعَمْرة بواو العطف، كلاهما عن عائشة. وفي رواية ابن عساكر: عن عُروة بحذف الواو. ورواية إثباتها أثبت، إلى آخر ما مرَّ قريبًا في المتن. أخرجه الستة، وأخرجه البخاري هنا، ومسلم في الطهارة عن قُتيبة ومحمد ابن رُمح، وأبو داود فيها عن يزيد بن خالد، والتِّرمذي والنسائي فيها عن قُتيبة. باب المرأة تحيض بعد الإِفاضة أي: هل يجب عليها طواف الوداع أم لا، وإذا وَجَبَ، هل يُجبر بدم أم لا؟

الحديث الثالث والثلاثون

الحديث الثالث والثلاثون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ قَدْ حَاضَتْ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَعَلَّهَا تَحْبِسُنَا، أَلَمْ تَكُنْ طَافَتْ مَعَكُنَّ؟ ". فَقَالُوا: بَلَى. قَالَ: "فَاخْرُجِي". قوله: "حاضت" أي: بعد أن أفاضت يوم النحر، كما يأتي في باب الزيارة يوم النحر. وقوله: "لعلها تحبِسُنا" أي: تمنعنا من التوجه إلى مكة في الوقت الذي أردنا التوجُّه فيه، ظنًّا منه -صلى الله عليه وسلم- انها ما طافت طواف الإِفاضة، وإنما قال ذلك لأنه لا يتركها ويتوجّه، ولا يأمرها بالتوجُّه وهي باقية على إحرامها، فيحتاج إلى أن يُقيم حتى تَطْهُرَ وتطوفَ وتَحِلَّ الحلَّ الثاني. وقَوْلُه: "ألم تكن طافت معكُنَّ؟ " أيْ طراف الرّكن ولغير أبوي ذرٍّ والوقت والأصيلي: "ألم تكن أفاضت" أي طافت طواف الإِفاضة، وهو طواف الركن. وقوله: "قالوا: بلى" بغير فاء لابن عساكر، ولغيره: "فقالوا" أي: النساء ومن معهن من المحارم، وفي رواية تأتي في الحج أنَّ صفيَّة هي التي قالت: "بلى"، وفي رواية عن عائشة فيه أيضًا في باب الزيارة يوم النحر أنها قالت: "حجَجْنا، فأفَضْنا يوم النحر، فحاضت صفيَّة، فأراد النبي -صلى الله عليه وسلم- منها ما يُريد الرجل من أهله، فقلت: يا رسول الله: إنها حائض". وهذا مشكل، لأنه عليه الصلاة والسلام إن كان عَلِم أنها طافت طواف

الإفاضة، فكيف يقول: "لعلها تحبِسُنا؟ " وإن كان ما علِمَ، فكيف يريد وقاعها قبل التحلُّل الثاني. ويُجاب عنه بأنه عليه الصلاة والسلام ما أراد ذلك منها إلا بعد أن استأذنته نساؤه في طواف الإفاضة، فأذن لهنَّ، فكان بانيًا على أنها قد حلّت، فلما قيل له: إنها حائض، جوَّز أن يكون وقع لها قبل ذلك حتى منعها من طواف الإفاضة، فاستفهم عن ذلك، فأَعلمته عائشة أنها طافت معهنَّ، فزال عنه ما خشيه من ذلك. وقوله: "قال: فاخرُجي" بالإفراد؛ لأن طواف الوداع ساقِطٌ بالحيض، وهو خطاب لصفيّة، أي: قال لصفية مخاطبًا لها: "اخرُجي". وفيه التفات من الغَيْبة، أي: "ألم تكن طافت". إلى الخطاب، أو خاطب عائشة؛ لأنها المخبرة له، أي: اخُرجي، فإنها توافقك. أو قال لعائشة: قولي لها: اخرُجي. وفي رواية المُسْتَملي والكشُميهني: "اخرُجْنَ" وهي مناسِبة للسياق، وفي رواية أبي سَلمة: "اخرُجوا"، وفي رواية عائشة في المغازي: "فَلْتَنْفِر"، وفي رواية عائشة في الحج: "وحاضت صفيَّةُ"، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "عقْرى، حلقى، إنك حابستُنا، أما كُنتِ طُفْتِ يوم النحر؟ " قالت: بلى. قال: "فلا بأس، انْفِري". ومعَاني هذه الروايات متقاربة، والمراد بها كلها الرحيل من مِنى أو المحصب إلى المدينة. وقوله في هذه الرواية: "عَقْرى حَلْقى" بالفتح فيهما ثم السكون، وبالقصر بغير تنوين في الرواية، ويجوز لغة، وصوَّبَهُ أبو عُبيد؛ لأن معناه الدعاء بالعَقْر والحَلْق كما يُقال: سُقيا ورُعيا، ونحو ذلك من المصادر التي يُدعى بها. وعلى الأول هو نعتٌ لادعاء. ثم معنى عقرى: عَقَرها الله، أي: جرحها، وقيل: جَعَلَها عاقرًا لا تلِدُ. وقيل: عَقَر قومها. ومعنى حَلْقى: حَلَقَ شعرهَا، وهو زينة المرأة، أو أصابها وجع في حلقها، أو حَلَقَ قومَها بشُؤْمِها، أي: أهلكهم. وحكى القرطبي أنها كلمة تقولها اليهود للحائض، فهذا أصل هاتين

الكلمتين، ثم اتَّسع العرب في قولهما من غير إرادة حقيقتهما، كما قالوا: قائلة العر، وتَرِبَت يداه، ونحو ذلك. قال القرطبي وغيره: شتان ما بين قوله عليه الصلاة والسلام هذا لصفية، وبين قوله لعائشة لما حاضت معه في الحج: هذا شيء كتبه الله علي بنات آدم، لما يَشْعُرُ به من الميل لها، والحنوِّ عليها، بخلاف صفية. قال في "الفتح": ليس دليل على اتّضاع قدر صَفِيّة عنده، لكن اختلف الكلام باختلاف المقام، فعائشة دخل عليها وهي تبكي أسفًا على ما فاتها من النُّسك، فسَلاّها بذلك، وصفيّة أراد منها ما يريد الرجل من أهله، فأبدت المانع، فناسب كلاًّ منهما ما خاطبها به في تلك الحالة. قلت: ما قاله يرُدُّ عليه ما أخرجه مسلم من أن النبي عليه الصلاة والسلام لما أراد أن ينفِرَ إذا صفيّةُ على باب خِبائها كئيبة حزينة، فقال: "عقرى .. الحديث"، ففي هذا الحديث أن صفيّة وقع لها ما وقع لعائشة من الحزن، ومع ذلك قال لها ما قال، فيكون الظاهر ما قاله القُرطبي وغيره. وكان حيضها ليلة النَّفْر من المحصب. وفي الحديث دلالة على أن أمير الحاجِّ يلزمه أن يؤخر الرحيل لأجل مَن تحيض ممن لم تَطُف للإِفاضة. وتعقب باحتمال أن يكون ارادته عليه الصلاة والسلام تأخير الرحيل إكرامًا لصفيّة، كما احتبس بالناس على عقد عائشة. قلت: الاحتباس على العِقْدِ لا يبعد أن يكون واجبًا، لما فيه من المحافظة على عدم إضاعة المال، والحديث الذي أخرجه البزّار عن جابر والبَيْهَقي عن أبي هُريرة مرفوعًا: "أميران وليس بأميرين، من تَبِعَ جِنازة فليس له أن ينصَرِف حتى تُدفن أو يأذن أهلها، والمرأة تَحُجُّ أو تعتمِرُ مع قومٍ، فتحيضُ قبلَ طَواف الرُّكن، فليس لهم أن ينصرِفوا حتى تَطْهُر أو تأذن لهم" في اسنادة ضعف شديد، فلا يُستدل به على الوجوب.

رجاله ستة

وقد ذكر مالك في "الموطأ" أنه يلزم الجمال أن يحبس لها إلى انقضاء أكثر مدة الحيض، وكذا النفساء. واستشكله ابن الموّاز بأن فيه تعريضًا للفساد كقطع الطريق. وأجاب عِياض بأن محلَّ ذلك مع أمن الطريق، كما أن محله أن يكون مع المرأة مَحْرم. ويأتي في الحديث الذي بعده الكلام على طواف الوداع. رجاله ستة: الأول: عبد الله بن يوسُف. والثاني: الإمام مالك. وقد مرّا في الثاني من بدء الوحي. ومرَّ عبد الرحم بن أبي بَكر في الرابع والعشرين من كتاب الوضوء. ومرت عَمرة بنت عبد الرحمن في الحديث الذي قبل هذا. ومرت عائشة في الثاني من بدء الوحي. ومرَّ أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حَزْم في باب: كيف يُقبض العلم بعد الأربعين من كتاب العلم. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد، وصيغة الإخبار كذلك، والعنعنة في ثلاثة مواضع، ورواته كلهم مدنيون غير عبد الله بن يوسُف فإنه مصري ثم تِنّيسي. أخرجه البخاري هنا، ومسلم في الحج عن يحيى بن يحيى، والنسائي فيه عن الحارث بن مِسكين، وفي الطهارة عن محمد بن مسلمة. وفي الحديث ذكر صَفِيّة بنت حُيي بن أخطب بن ثعلبة بن عُبيد بن كعب بن الخَزْرَج بن أبي حَبيب بن النَّضْر بن النحام بن تخوم من بني إسرائيل من سِبط هارون بن عِمْران، وأمها بَرّة بنت سموأل، كانت عند سلام بن مِشْكم، وكان شاعرًا، ثم خَلَفَ عليها كنابةُ بن أبي الحقيق وهو شاعر، فقتل يوم خَيبر. وعن أبي بَرْزة: لما نزل النبي -صلى الله عليه وسلم- خَيْبر، كانت صفيّة عروسًا في مجاسدها،

فرأت في المنام أن الشمس نزلت حتى وقعت على صدرها، فقصَّت ذلك على زوجها، فقال لها: ما تمنَّيْن إلا هذا الملك الذي نزل بنا. قال: فافتتحها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فضرب عُنُق زوجها صبرًا. وقيل: إنها رأت قبل ذلك أن القمر وقع في حَجْرها، فذكرت ذلك لأمها، فلطمت وجهها، وقالت: إنك لتَمُدّينَ عُنُقَك إلى أن تكوني عند ملك العرب، فلم يزل الأثر في وجهها، حتى أتى بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فسألها عنه، فأخبرته. تزوجها النبي -صلى الله عليه وسلم- سنة سبع من الهجرة. وروى ثابت عن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- اشترى صفيّة بنت حُيي بسبعة أرْؤُس. وخالفه عبد العزيز بن صُهيب وغيره عن أنس، فقال فيه: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما جمع سَبْيَ خيبر، جاءه دِحية، فقال: أعطني جارية من السَّبْي. فقال: "اذهب فخُذ جاريةً"، فأخذ صفية بنت حُيي. فقيل: يا رسول الله: إنها سيدة قُريظة والنَّضير، ما تصْلُحُ إلا لك. فقال له: "خذ جارية غيرها". وقال ابن عبد البر: اصطفاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وصارت في سهمه، ثم أعتقها وجعل عِتْقَها صَداقها، لا يختلفون في ذلك، وهو خصوصي عند أكثر الفقهاء له -صلى الله عليه وسلم- إذ كان حكمه -صلى الله عليه وسلم- في النساء مخالفًا لحكم أمته. وعن إسحاق بن يسار قال: لما افتَتَحَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الغموصَ حِصْنَ بني أبي الحقيق، أُتي بصفية بنت حُيي ومعها ابنة عمٍّ لها، جاء بهما بلال، فمر بهما على قتلى يهود، فلما رأتهم المرأة التي مع صفِيّة، صكَّت وجهها، وصاحت، وحثَتِ التراب على وجهها. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أعْزبُوا هذه الشيطانة عني"، وأمر بصفية، فجُعلت خلفه، وغَطّى عليها ثوبه، فعَرَفَ الناس أنه اصطفاها لنفسه. وقال لبلال: أنُزِعَتِ الرحمة من قلبك حين تمر بالمرأتين على قتلاهما. وقال الواقدي: لم يخرجُ من خَيْبَر حتى طَهُرَتِ صفيّة من حيضها، فجعلها وراءه، فلما صار إلى منزلٍ على ستة أميال من خَيْبر، مال يريد أن يُعْرِس بها، فأبت عليه، فوجد في نفسه، فلمّا كان بالصهباء، وهي على بريدِ من خَيْبر، نزل

بها هناك، فمشَّطَتها أم سُليم وعطَّرتها، وكانت أضوأَ ما يكون من النساء، فدخل على أهله، فلما أصبح، سألتها عما قال لها، فقالت: قال لي: "ما حملك على الامتناع من النزولِ أولًا؟ " فقلت: خشيتُ عليك من قُرب اليهود. فزادها ذلك عنده. وعن عَطاء بن يسار: لما قدمت صفية من خَيْبر، أُنزِلَت في بيت لحارثة بن النعمان، فتسمَّع نساء الأنصار فجئنَ ينظُرن إلى جمالِها، وجاءت عائشة مُتَنَقِّبَة، فلما خرجت، خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- على إثرها، فقال: "كيف رأيت يا عائشة؟ " فقالت: رأيت يهودية. فقال: "لا تقولي ذلك، فإنَّما أسلمت وحسُنَ إسلامُها". وعن سعيد بن المسيِّب قال: قدمت صفيَّةُ وفي أُذُنها خُوصة من ذهب، فوهبت منه لفاطمة ولنساءٍ معها. وقال ابن سعد، عن ثابت، عن سُمَيّة، عن عائشة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان في سفرٍ، فاعتلَّ بعيرٌ لصفيّة، وفي إبل زَيْنب بنت جَحْش فضلٌ، فقال لها: "إن بعيرَ صفية اعتلَّ، فلو أعطيتها بعيرًا". فقالت: أنا أُعطي تلك اليهودية، فتركها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذا الحجة والمحرم شهرين أوثلاثة لا يأتيها، حتى قالت زينب: يئستُ منه. قال ابن عبد البر: كانت صفيةُ حليمةً فاضلةً عاقلةً، وكان لها جارية، فأتت عمر بن الخطاب، وقالت له: إن صفيّة تُحِبُّ السبتَ، وتصِلُ اليهود. فبعث إليها عمر، فسألها عن ذلك. فقالت: أما السبتُ فإن لم أحبَّه منذ بدَّلني الله يوم الجمعة، وأما اليهود فإن لي فيهم رحمًا، وأنا أصِلُها. قال: ثم قالت للجارية: ما حملك على ما صنعت؟ قالت: الشيطان. قالت: اذهبي فأنت حُرة. ودخل عليها النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي تبكي، فقال لها: ما يُبكيك؟ قالت: بلغني أن عائشة وحفصة تنالان مني، وتقولان: نحنُ خيرٌ من صفية، نحن بناتُ عمِّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأزواجه. قال: "ألا قلتِ لهنَّ كيف تَكُنَّ خيرًا مني، وأبي هارون وعمي

موسى، وزوجي محمد؟ ". أولم النبي -صلى الله عليه وسلم- عليها تمرًا وسَويقًا، وقسم لها، وكانت إحدى أمهات المؤمنين. وعن زيد بن أسلم: اجتمع نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- في موضعه الذي تُوفي فيه، واجتمع إليه نساؤه، فقالت صفية بنت حُيي: إني والله يا نبي الله لوَدِدْتُ أن الذي بك بي. فغَمَزْنَ أزواجُه ببصرِهِنَّ. فقال: "مَضْمِضْنَ". فقلن: من أي شيىء؟ فقال: "من تغامُزِكُنَّ بها، والله إنها لصادقة". روت عن: النبي -صلى الله عليه وسلم- أحاديث، اتَّفَقا على واحدٍ. وروى عنها: ابن أخيها، ومولاها كِنانة، وزَيْن العابدين بن علي بن الحسين، وإسحاق بن عبد الله بن الحارث بن صَفْوان. توفيت سنة اثنين وخمسين في خلافة معاوية.

الحديث الرابع والثلاثون

الحديث الرابع والثلاثون حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: رُخِّصَ لِلْحَائِضِ أَنْ تَنْفِرَ إِذَا حَاضَتْ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ إِنَّهَا لاَ تَنْفِرُ. ثُمَّ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: تَنْفِرُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَخَّصَ لَهُنَّ. قوله: "رُخِّص للحائض" بالبناء للمفعول. وقوله: "أن تَنْفِرَ" بفتح أوله وكسر ثالثه، وقد يُضم، أي: رُخِّص لها في النفور، وهو الرجوع من مكة إلى وطنها. وقوله: "إذا حاضَتْ" أي: من غير أن تطوف للوداع. وقوله: "وكان ابن عُمر يقول: هذا مقول طاووس لا ابن عبّاس، وكذا قوله: "ثم سمعته يقول"، فقد صرَّح بذلك في الحج، فقال: "قال: وسمعت ابنَ عمر يقول ... إلخ" رادًا القولَ لطاووس. وكان ابن عمر يُفتي بأنها يجِبُ عليها أن تتأخّر حتى تطهُر من أجل طواف الوداع، ثم بلغته الرُّخصة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لهنَّ في تركه، فصار إليه، أو كان نسي ذلك، فتذكره. وإنما جمع في قوله: "لهن"، وإن كان المراد الحائض، نظرًا للجنس. والظاهر أنه بلغه لا أنه تذكر لما رواه الطحاوي عن طاووس أنه سمع ابن عُمر يُسْأَل عن النساء إذا حِضْن قبل النَّفْر، وقد أَفَضْنَ يوم النَّحر. فقال: إن عائشة كانت تذكرُ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رُخصة لهنَّ، وذلك قبل موت ابن عُمر بسنة.

وكذلك أخرج النسائي عن طاووس أن ابن عمر كان يقول قريبًا من سنتين: إن الحائض لا تنفِرُ حتى يكون آخر عهدِها بالبيت ثم قال بعدُ: إنّه رُخِّص للنساء. وروى ابن أبي شَيبة أن ابن عُمر كان يُقيم على الحائض سبعة أيام حتى تطوف طواف الوداع، قال الشافعي: كان ابن عُمر سمع الأمر بالوداع، ولم يسمع الرخصة أولًا، ثم بلغته الرخصة، فعمل بها. وما رُوي عن ابن عمر من وقوله أولًا بوجوب التأخير لطواف الوداع، ورجوعه عن ذلك، رُوي عن زيد بن ثابت. قال ابن المنذر: عامة الفقهاء بالأمصار ليس على الحائض التي قد أفاضت طواف وداع، ورَوَيْنا عن عمر بن الخطاب، وابن عُمر، وزيد بن ثابت، أنهم أمروها بالمُقام إذا كانت حائضًا لطواف الوداع، وكأنهم أوجبوه عليها كما يجب عليها طواف الإفاضة، إذ لو حاضت قبله لم يسقُط. قال: وقد ثبتَ رجوع ابن عمر وزيد بن ثابت عن ذلك، وبقي عمر، فخالفناه، لثبوت حديث عائشة وأم سُلَيم وغيرهما بخلافه. وأُسْند عن عمر بإسناد صحيح، عن ابن عمر قال: طافت امرأةٌ بالبيتِ يوم النَحَّر، ثم حاضت، فأمر عُمر بحبسِها بمكة بعد أن ينفِرَ الناس، حتى تطهُر وتطوف بالبيت. وروى ابن أبي شَيبة عن القاسم بن محمد: كان الصحابة يقولون: إذا أفاضت المرأة قبل أن تحيضَ فقد فَرَغَت إلا عمر، فإنه كان يقول: يكون آخر عهدها بالبيت. وقد روى أحمد، وأبو داود والنسّائي، والطحاوي عن الحارث بن عبداللُه بن أَوْس الثقفي، قال: أتيتُ عُمر، فسألته عن المرأة تطوف بالبيت يوم النحر، ثم تحيض، قال: ليكن آخر عهدها بالبيت. قال الحارث: فكذلك أفتاني. وفي رواية أبي داود: هكذا حدثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

رجاله ستة

واستدل الطحاوي بحديث عائشة وحديث أم سُليم على نسخ حديث الحارث في حق الحائض. رجاله ستة: الأول: مُعَلّى بن أسد -بفتح المهملة وتشديد اللام- أبو الهيثم البَصْري الحافظ. قال العِجْلي: شيخ بصري ثقة كيِّس، وكان معلِّمًا، وأخوه بَهْز أسنُّ منه، وهو ثبتٌ في الحديث، رجل صالح. وقال أبو حاتم: ثقة ما أعلم أني عثرتُ له على خطأ غير حديث واحد. وقال مَسْلمة بن قاسم ثقة. وقال مسعود بن الحَكَم: ثقة مأمون. وذكره ابن حِبّان في "الثقات". روى عن: وُهَيب بن خالد، وعبد الواحد بن زِياد، وعبد العزيز المُختار، ويَزيد بن زُرَيْع، وعبد الله بن المُثَنّى بن عبد الله بن أَنَس، وجماعة. وروى عنه: البخاري. وروى الباقون له بواسطة أحمد بن يوسُف السُّلَمي، وحجّاج بن الشاعر، وأحمد بن عبد الله بن علي بن مَنْجوف، وخلق. توفي في رمضان سنة ثماني عشرة ومئتين. الثاني: وُهَيْب بن خالد، وقد مرَّ في الثالث والعشرين من كتاب العلم. ومرَّ طاووس بعد الأربعين من كتاب الوضوء في باب: مَنْ لم ير الوضوء إلا من المخرجين. ومرَّ عبد الله بن عباس في الخامس من بدء الوحي. ومرَّ عبد الله بن عُمر في كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه. والثالث من السند: عبد الله بن طاووس بن كَيْسان اليماني أبو محمد الأنْباري. قال أبو حاتم والنسّائي: ثقة. وقال عبد الرزاق عن مَعْمر: قال لأيوب: إن كنت راحلًا إلى أحد فعليكَ بابن طاووس، فهذه رحلتي إليه. وقال أيضًا عن مَعْمر: ما رأيت ابن فَقيه مثل ابن طاووس. فقلت له: ولا هشام بن عروة؟ فقال:

باب إذا رأت المستحاضة الطهر

حسبُك بهشام، ولكن لم أر مثل هذا. وكان أعلم الناس بالعربية، وأحسنهم خُلُقًا. وقال النسائي: ثقة مأمون. وكذا قال الدّارَقُطني والعِجْلي. وذكره ابن حِبان في الثقات. وقال: كان من خيار عُباد الله تعالى فضلاً ونُسكًا ودينًا، وتكلَّم فيه بعضُ الرافضة. وقال حارِثة بن مضرب: جلست إلى ابن عباس، فقلت: روى أهل العراق عن طاووس عنك مرفوعًا: ما أبقيت الفرائضُ فلِأوْلى عَصَبَة ذَكَرٍ. فقال: أبلغ أهل العراق، إني ما قلت هذا، ولا رواه طاووس عني. قال حارِثة: فلقيتُ طاووسًا، فقال: لا والله ما رويتُ هذا، وإنما الشيطان ألقاه على ألسنتهم. قال: ولا أُراه إلا من قِبَلِ ولده، وكان على خاتم سُليمان بن عبد الملك، وكان كثير الحَمْل على أهل البيت. والحديث المذكور في "الصحيحين". روى عن: أبيه، وعطاء، وعَمْرو بن شُعيب، وعلي بن عبد الله بن عبّاس، ووَهْب بن مُنَبِّه، وعِكرمة بن خالد المَخْزومي، وغيرهم. وروى عنه: ابناه طاووس ومحمد، وعَمرو بن دينار، وهو أكبر منه، وأيّوب السَّخْتِياني، وهو من أقرانه، والسُّفيانان، وغيرهم. مات سنة اثنتين وثلاثين ومئة بعد أيوب بسنة. باب إذا رأت المستحاضة الطهر أي: يتميز لها دم العِرْق من دم الحيض، فسمّى زمن الاستحاضة طُهرًا، لأنه كذلك بالنسبة إلى زمن الحَيْض، ويُحتمل أن يريد به انقطاع الدم، والأول أوفق بالسِّياق، ويرجِّحه قول ابن عباس الآتي: إذا رأت الدم البحراني فلا تصلي؛ لأن البحراني هو دم الحيض. قالَ ابنُ عباسٍ تغتسلُ وتصلّي ولوْ ساعةً ويأْتيَها زَوْجُهَا إذا صلَّتْ الصَّلاَةُ أعظمُ. قال الداودي: معناه: إذا رأت الطُّهر ساعة، ثم عاوَدَها دمٌ فإنها تغتسل

وتصلي في تلك الساعة. والتعليق المذكور وصله ابن أبي شَيْبة والدّارمي عن أنس بن سِيرين، أنه سأل ابن عبّاس عن المُسْتَحاضة، فقال: أما ما رأت الدمَ البحراني فلا تصلي، وإذا رأت الطُّهر ولو ساعةً فَلْتَغْتَسِل وتصلي. وقوله: "ويأتيها زوجُها" أثر آخر عن ابن عباس، أخرجه عبد الرزاق وغيره عن عِكرمة عنه، قال: المُستحاضة لا بأس أن يأتيها زوجُها. ولأبي داود من وجه آخر عن عِكرمة قال: كانت أم حبيبة تُستحاض، وكان زوجُها يَغْشاها. وهو حديث صحيح إن كان عِكْرمة سمعه منها. وقوله: "إذا صلَّتْ" شرطٌ محذوف الجزاء، أي: إذا صلَّت تغتَسِل، وهو رأي البصريين، أو جزاؤه مقدَّم، وهو قوله: "تغتسل وتصلي" وهو رأي كوفي، والمعنى على قولهم: "إذا صلّت": أي: أرادت الصلاة، تغتسل وتصلي. وقوله: "الصلاة أعظم" أي: من الجِماع. وهذا بحث من البخاري، أراد بيان الملازمة، أي: إذا جازت الصلاة، فجواز الوطء أولى؛ لأن أمر الصلاة أعظم من أمر الجماع، ولذا عقَّبه بحديث عائشة المختصر من قصة بنت أبي حُبيش، المصرِّح بأمر المستحاضة بالصّلاة. وأشار البخاريُّ بما ذكر إلى الردِّ على مَن مَنَعَ وطء المُستحاضة، وقد نقله ابن المُنذر عن إبراهيم النَخَعي، والحكم، والزُّهري، وغيرهم. وما استدل به على الجواز ظاهر فيه. وذكر بعض الشراح أن قوله: "الصلاة أعظم" من بقية كلام ابن عباس، وعزاه إلى تخريج ابن أبي شَيْبة، وليس هو فيه، نعم: روى عبد الرزاق والدارمي عن سالم الأَفْطَس أنه سأل سعيد بن جُبير عن المُستحاضة: أتُجامع؟ قال: الصلاة أعظم من الجماع. وابن عباس مرَّ في الخامس من بدء الوحي.

الحديث الخامس والثلاثون

الحديث الخامس والثلاثون حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ عَنْ زُهَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلاَةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي". رواه البخاري هُنا عن زُهير مختصرًا، وقد أخرجه أبو نُعَيْم في "المستخرج" من طريقه تامًّا، وقد مرت مباحثه مستوفاة في باب غسل الدم من كتاب الوضوء. رجاله خمسة: الأول: أحمد بن يونُس، وقد مرَّ في التاسع عشر من كتاب الإيمان. ومرَّ زُهير بن معاوية في الثالث والثلاثين. ومرَّ هِشام بن عُروة وأبوه عروة وعائِشة في الثاني من بدء الوحي. باب الصلاة على النفساء وسنتها أي: سنة الصلاة عليها، والنُفَساء بضم النون وفتح الفاء مع المد مفرد، وجمعه نِفاس، فليس قياسًا لا في المفرد ولا في الجمع، إذ ليس في الكلام فُعلاء يجمع على فِعال إلا عُشراء، ونُفساء. والنُّفساء هي الحديثة العهد بالولادة.

الحديث السادس والثلاثون

الحديث السادس والثلاثون حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِى سُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا شَبَابَةُ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ حُسَيْنٍ الْمُعَلِّمِ عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ أَنَّ امْرَأَةً مَاتَتْ فِي بَطْنٍ، فَصَلَّى عَلَيْهَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَامَ وَسَطَهَا. قوله: "ماتت في بَطْن" أي: بسبب بَطْن، يعني العمل. وهو نظير: "عُذِّبَت امرأةٌ في هرة". قيل: وَهِم البخاري فظنَّ أن قوله: "ماتت في بَطْن" ماتت في الولادة، ومعنى ماتت في بَطْن: ماتت مَبْطونة. والموهِّم له هو الواهم، فإن عند المصنف في هذا الحديث في الجنائز: "ماتت في نِفاسها"، وكذا المسلم. وقوله: "فقام وَسَطَها" أي: محاذيًا لوسَطِها بتحريك السين على أنه اسم، وبتسكينها على أنه ظرف، وللكُشميهني: "فقام عند وَسَطِها". قيل: "إن القيام عند وَسَطها لسترها، وذلك مطلوب في حقها، بخلاف الرجل. وتعقِّبَ بأن ذلك كان قبل اتِّخاذ النَّعْش للنِّساء، فأما بعد اتِّخاذه فقد حصل المطلوب من السَّتْر وما رواه أبو داود والترمذي عن أبي غالب عن أنس بن مالك أنه صلى على رجل، فقام عند رأسه، وصلى على امراة، فقام عند عَجيزتها، قال له العلاء بن زياد: أهكذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفعل؟ قال: نعم. قال في "الفتح": في البخاري الإشارة إلى أنه ضعيف. والسنّة عند المالكية أن يقف الإِمام محاذيًا لصدر المرأة، لأنه أكثر ما

تعصي به الله، لا عند وسطها، لئلا يتذكر إن وقف عند وَسَطِها ما يشغَلُه أو يفسد صلاته، ولا يردُ على ذلك وقوفه عليه الصلاة والسلام عند وسط المرأة، لأنه معصوم، فلا يحصُل في حقه ما يحصُل في حق غيره. ويقف عند وسط الرجل محاذيًا فرجَه، لأنه أشد ما يعصي الله به. وروى ابن غانم عن مالك أنه يقف عند وَسَط المرأة كالرجل. وقال ابن شعبان: حيث وقف الإِمام من الرجل والمرأة جاز. وهذا الذي قال موافقٌ لما دَرجَ عليه البخاري في الجنائز حيث قال: باب: أين يقوم من الرجل والمرأة. فإنه أورد الترجمة مورد السؤال، وأراد عدم التفرقة بين الرجل والمرأة. قال ابن بطّال: يُحتمل أن يكون البخاري قصد بهذه الترجمة أن النُّفساء وإن كانت لا تصلي لها حكم غيرها من النساء في طهارة العين، لصلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- عليها. قال: وفيه ردٌّ على من زعم أن ابن آدم ينجُس بالموت؛ لأن النُّفساء جمعت الموت وحمل النجاسة بالدم اللازم لها، فلما لم يضرَّها ذلك، كان الميت الذي لا تسيلُ منه نجاسة أولى. وتعقبه ابن المنير بأن هذا أجنبي عن مقصود البخاري. قال: وإنما قصد أنها وإن ورد أنها من الشهداء، فهي ممن يصلى عليها كغير الشهداء. وتعقَّبه ابن رشيد بأنه أيضًا أجنبي عن أبواب الحيض، قال: وإنما أراد البخاري أن يستدِلَّ بلازم من لوازم الصلاة؛ لأن الصلاة اقتضت أن المستَقْبَلَ فيها يكون طاهرًا، فلما صلّى عليها إليها، لزِمَ من ذلك القول بطهارة عينها. وحكم النفساء والحائض واحد. قال: ويدُلُّ على أن هذا مقصوده، إدخال حديث ميمونة في الباب، كما في رواية الأصيلي وغيره، وفي رواية أبي ذرٍّ قبل حديث ميمونة باب غير مترجم، وعادته في مثل ذلك أنه بمنزلة الفصل من الباب الذي قبله، ومناسبته له أن عين الحائض والنُّفساء طاهرة، لأن ثوبه -صلى الله عليه وسلم- كان يُصيبها إذا سجد ولا يضرُّه ذلك.

رجاله ستة

قلت: ما قاله ابن رشيد وارتضاه، هو عين ما قاله ابن بطّال سابقًا. رجاله ستة: الأول: أحمد بن الصبّاح، وكنيته: أبو جعفر، وكنية أبيه: أبو سُريج الرازي المقُرىء. وقيل: اسم أبيه: عمر. بغدادي. روى عن: ابن عُلَيّة، ووكيع، ومروان بن معاوية، وشَبابة، ويزيد بن هارون، وغيرهم. وروى عنه: البخاري، وأبو داود، والنسائي، وأبو زُرعة، وأبو حاتم، وغيرهم. قال النسائي: ثقة. وقال يعقوب بن شَيْبة كان ينزل المخرم، ونَزَع إلى الرَّي، فمات بها، كان ثقة ثبتًا أحد أصحاب الحديث، قرأ القرآن على الكِسائي. وقال ابن حِبان في "الثقات": يُغْرِب على استقامته. مات بعد الأربعين ومئتين. الثاني: شَبابة -بفتح الشين وتخفيف الباءين الموحدتين ابن سَوّار- بفتح السين وتشديد الواو الفَزَاري مولاهم، أبو عمر المدائني. قال ابن مَعين: ثقة. وقال عُثمان الدارمِي: قلت ليحيى فشبابَة في شعبة؟ قال: ثقة، وسألت يحيى عن شاذان، فقال: لا بأس به. قلت: هو أحب إليك أم شَبابة؟ قال: شَبابة. وقال ابن الجُنَيْد: قلت ليحيى: تفسير وَرْقاء عمَّن حملته؟ قال: كتبة عن شبابة، وعن علي بن حَفْص، وكان شَبابة أجرأ عليها، وجميعهما ثقتان. وقال يعقوب بن شَيْبة: سمعت علي بن عبد الله، وقيل له: روى شَبابة، عن شُعبة، عن بُكير، عن عطاء، عن عبد الرحمن بن يَعْمَر في الدُّبّاء: على أي شيىء تقدر أن تقول في ذلك؟ يعني: شبابة كان شيخًا صدوقًا، إلا أنه كان يقول

بالإرجاء، ولا يُنْكَر لرجلٍ سمع من رجل ألفًا أو ألفين أن يجيىء بحديث غريب. وقال ابن سعد: كان ثقة صالح الأمر في الحديث، وكان مرجئيًّا. وقال أحمد بن حنبل تركته لم أكتب عنه للإِرجاء. قيل له: يا أبا عبد الله، وأبو معاوية؟ قال: شَبابة كان داعية. وقال زكريّا الساجي: صدوق، يدعو إلى الإرجاء، وكان أحمد يحمل عليه. وقال ابن خِراش: كان أحمد لا يرضاه، وهو صدوق في الحديث. وقال أبو زُرعة: كان يرى الإِرجاء، قيل له: رجع عنه؟ قال: نعم. وقال أبو حاتم: صدوق يُكتب حديثه، ولا يُحْتَجُّ به. وقال ابن عَدِيّ: إنما ذمَّةُ الناس للإرجاء الذي كان فيه، وأما في الحديث فلا بأس به. وقال أبو علي: ابن سُختي المدائني، رجل معروف من أهل المدائن، قال: رأيت في المنام رجلًا نظيف الثوب حسن الهيئة، فقال لي: من أين أنت؟ قلت: من أهل المدائن. قال: من أهل الجانب الذي فيه شَبابة؟ قلت نعم. قال: فإني أدعو الله، فأمِّن على دُعائي اللهمَّ إن كان شَبابة يُبْغِضُ أهلَ نبيِّك فاضرِبْه الساعة بفالج، قال: فانتبهت، وجئت المدائن وقت الظُّهر، وإذا الناس في هَرْج، فقلت: ما للناس؟ فقالوا: أُفْلجَ شَبابة في السَّحَر ومات الساعة. روى عن شعبة، وشيبان، ويونُس بن أبي إسحاق، وابن أبي ذئب، والليث، وغيرهم. وروى عنه: أحمد بن حَنْبل، وعلي بن المديني، ويَحيى بن مَعين، وإسحاق بن راهَوَيه، وأحمد بن أبي سُرَيْح، وخلق كثير. خرج إلى مكة وأقام بها إلى أن مات سنة خمس وخمسين ومئتين. الثالث: شُعبة بن الحجّاج، وقد مرَّ في الثالث من كتاب الإِيمان، ومرَّ

حُسين بن ذَكْوان المعلِّم في السادس من كتاب الإيمان أيضًا. والرابع: عبد الله بن بُرتدْة بن الحُصَيْب -بالتصغير فيهما- الأسْلَمَي أبو سَهل المَرْوزِي، قاضي مرو، أخو سليمان، وكانا توأمين. قال ابن مَعين والعِجلي وأبو حاتم: ثقة. وقال الأثْرم عن أحمد: أما سُليمان فليس في نفسي منه شيء، أما عبد الله .. ثم سكت. ثم قال: كان وكيع يقول: كانوا -لسليمان أحسد منهم لعبد الله. وفي رواية أخرى: كان سليمان أصحَّهما- حديثًا. وقال ابن خِراش: صدوق كوفي نزل البصرة. وقال إبراهيم الحَرْبي: عبد الله أتمُّ من سليمان، ولم يسمعا من أبيهما، وفيما روى عبد الله عن أبيه أحاديث منكرة، وسليمان اصح حديثًا، ويُتعَجَّب من الحاكم مع هذا القول في ابن بُريدة كيف يزعُم أن سند حديثه مع رواية حسين بن واقد عنه عن أبيه أصح الأسانيد لأهل مرو. روى عن: أبيه، وابن عباس، وابن عمر، وعبد الله بن عمرو، وابن مسعود، وعبد الله بن مُغَفَّل، وأبي موسى الأشعري، وأبي هريرة، وسَمُرة بن جُنْدَب، ومعاوية، والمغيرة، وغيرهم. وروى عنه: حسين بن ذَكْوان المعلِّم، وابناه صَخْر وسَهْل، وسعيد الجَريري، وسعيد بن عُبيد، وعبد الله بن عطاء المكي، وغيرهم. مات في ولاية أسد بن عبد الله على القضاء سنة خمس عشرة ومئة. السادس: سَمْرة بن جُنْدَب -بضم الجيم وفتح الدال وبضمهما- ابن هلال بن جُرَيْج بن مُرة بن حرب بن عمرو بن جابر بن خَتَن بن لاتي بن عاصم بن فَزَارة الفَزَاري، يُكنى أبا سليمان. قدمت به أمه المدينة بعد موت أبيه، فخطبها رجل، وكانت امرأة جميلة، فجعلت تقول: إنها لا تتزوَّج إلا برجل يكفُلُ لها نفقة ابنها سَمُرة حتى يبلُغ، فتزوَّجها رجلٌ من الأنصار على ذلك، فكانت معه في الأنصار.

وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يَعْرِضُ غلمانَ الأنصار، فمرَّ به غلام، فأجازه في البعث، وعُرِضَ عليه سَمُرة، فرده، فقال: لقد أجزت هذا وردَدْتَني، ولو صارعتُه لصرعْتهُ، قال: "فدونَكَهُ"، فصارعه، فصرعه سمرةُ، فأجازه. وروي عنه قال: كنتُ غلامًا على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، فكنت أحفظ منه. نزل البصرة، وكان زيادٌ يستخلفه عليها ستة أشهر، وعلى الكوفة ستة أشهر، فلما مات زيادٌ، أقره معاوية على البصرة عامًا، ثم عزله، وكان شديدًا على الحرورية، كان إذا أُتي بواحد منهم إليه قتله، ولم يُقِلْهُ، ويقول: شرُّ قتلى تحت أديم السماء، يكفِّرون المسلمين، ويسفِكون الدِّماء. وكانت الحرورية ومن قاربوهم في مذهبهم يطعنون عليه، وينالون منه. وكان ابن سيرين والحسن وفضلاء أهل البصرة يُثنون عليه، ويجيبون عنه. وقال ابن سِيرين في رسالة سَمُرة إلى ابنه كثير من العلم. وقال الحسن: تذاكر سَمُرة وعِمران بن حُصَيْن، فذكر سَمُرة أنه حفظَ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سكتَتَين: سكتة إذا كبَّر، وسكتة إذا فَرَغَ من قراءة: ولا الضّالين، فانكر عليه عِمْران بن حُصَين، فكتبوا في ذلك إلى المدينة إلى أُبَي بن كَعْب، فكان في جواب أُبي بن كعب: إن سَمُرة قد صدق وحفِظَ. وقال محمد بن سِيرين: كان سمرة ما علمت عظيم الأمانة، صدوق الحديث، يحبُّ الإسلام وأهله. وقال أحمد بن حنبل: كان سَمُرة من الحفّاظ المكثِرين عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. له مائة وثلاثة وعشرون حديثًا، اتّفقا على حديثين منها، وانفرد البخاري باثنين، ومسلم بأربعة. روى عنه: عبدالله بن بُريدة، والحسن البصري، والشعبي، وابن أبى ليلى، وأبو رجاء العُطارِدي، وآخرون.

لطائف إسناده

كانت وفاته بالبصرة في خلافة معاوية سنة ثمان وخمسين، سقط في قِدْرٍ مملؤة ماء حارًّا، كان يتعالج بالقعود عليها من كُزاز شديدٍ أصابه، فسقط في القدر الحارة، فمات، فكان ذلك تصديقًا لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- له ولأبي هُريرة والثالث معهما: "آخِرُكُم موتًا في النّار". وروى عنه عبد الله بن بُريدة أنه قال: كنت على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غلامًا حَدَثًا، فكنت أحفظ منه وما يمنعني من القول إلا أن هاهنا رجالًا هم أسن مني، ولقد صليت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على امرأة ماتت في نفاسها، فقام للصلاة عليها وَسَطَها. وفي الحديث هنا ذِكر امرأة بالإِبهام، وهي أم كعب كما في "صحيح" مسلم، أنصارية، هي صاحبة هذه القصة. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد، والإِخبار بها في موضعين، والعنعنة في ثلاثة مواضع، ورواته ما بين رازِيٍّ ومَرْوَزي ومدني وبَصْري. أخرجه البخاري هنا، وفي الجنائز عن مُسَدَّد، ومسلم في الجنائز عن يَحْيى بن يحيى. وغيره، وأبو داود فيها عن مُسَدَّد أيضًا، والترمذي فيها عن علي بن حَجَر، والنسَّائي فيها أيضًا عن علي بن حَجَر، وابن ماجه فيها عن علي بن محمد. باب أي: بدون ترجمة، وقد مرَّ قريبًا مَن ذكره في روايته، ومَن أسقطه من روايته وتوجيهه.

الحديث السابع والثلاثون

الحديث السابع والثلاثون حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُدْرِكٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَوَانَةَ مِنْ كِتَابِهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ الشَّيْبَانِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ قَالَ: سَمِعْتُ خَالَتِي مَيْمُونَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهَا كَانَتْ تَكُونُ حَائِضًا لاَ تُصَلِّي، وَهْيَ مُفْتَرِشَةٌ بِحِذَاءِ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهْوَ يُصَلِّي عَلَى خُمْرَتِهِ، إِذَا سَجَدَ أَصَابَنِي بَعْضُ ثَوْبِهِ. قوله: "كانت تكون حائضًا لا تُصَلِّي" تكون، أي: تحصُل أو تستقِرُّ، ويُحتمل أن قوله: "تكون ... لا تُصَلّي" خبرًا لكانت. وقوله: "حائضًا" حال على نحو: {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ} [يوسف: 16] وقيل: إن كانت زائدة على حد قوله: وجيرانٍ لنا كانوا كرامٍ وقيل: تكون هنا بمعنى تصير. ولابن عساكر: "أنها تكون". وقوله: "وهي مفترشة" أي: منبسطة على الأرض. وقوله: "بحِذاء" بكسر الحاء المهملة والذال المعجمة والمد. وقوله: "مسجِد" بكسر الجيم، أي: مكان سجوده من بيته لا مسجده المعهود، وتعقَّبه في "المصابيح" بأن المنقول عن سيبويه أنه إذا أُريد موضع السجود قيل: مسجد بالفتح فقط. وقوله: "على خُمْرتِه" هي بضم الخاء وسكون الميم. قال الطبري: هو مُصَلّى صغير، يُعمل من سَعَفِ النخل، سُمِّيت بذلك لسترها الوجه والكفين من حرِّ الأرض وبردِها، فإن كانت كبيرة سُمِّيت حصيرًا.

وزاد في "النهاية" ولا تكون خُمرة إلا في هذا المقدار، قال: وسمِّيت خُمرة لأن خُيوطها مستورة بسَعَفِها. وقال الخطّابي: هي السجّادة يسجُد عليها المصلّي، ثم ذكر حديث ابن عباس في الفأرة التي جَرَّت الفَتيلَةَ حتى ألقتها على الخُمرة التي كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاعدًا عليها. قال: ففي هذا تصريح بإطلاق الخُمرة على ما زاد على الوجه واليدين. قال: وسُمِّيت خُمرةً لأنها تغطي الوجه، ومنه. الخِمار. وقوله: "إذا سَجَد أصابني بعضُ ثوبه" هذا حكاية لفظها، فالأصل أن يقول: أصابها، والجملة حالية. وقد مرَّ قريبًا في آخر الحديث الذي قبله الغرض من إتْيان البخاري بهذا الحديث. واستُنْبط منه عدم نجاسة الحائض، والتواضع والمسكنة في الصلاة. قال ابن بطّال: لا خلاف بين علماء الأمصار في جواز الصلاة على الخُمرة، إلاّ ما روي عن عُمر بن عبد العزيز أنه كان يُؤتى بترابٍ، فيوضع على الخُمرة، فيسجدُ عليه. ولعله كان يفعله على جهة المبالغة في التواضع والخشوع، فلا يكون فيه مخالفة للجماعة. وقد روى ابن أبي شَيْبة عن عُروة بن الزُبير أنه كان يكره الصلاة على شيء دون الأرض، وكذا رُوي عن غير عروة. ويُحتمل أن يُحمل على كراهة التنزيه، قاله في "الفتح". قلت: انظر كيف تلتَئِم الكراهة مع ما هو ثابت في الأحاديث من صلاته عليه الصلاة والسلام على الخمرة. وأما صلاة كثير من المتكبِّرين على سجاجيد غالية الأثمان، مختلفة الألوان، فليس من السُّنَّة، وهو خال من التواضع والمسكنة لله تعالى.

رجاله ستة

رجاله ستة: الأول: الحسن بن مُدْرِكِ اسم فاعل من الإدراك ابن بشير السَّدوسي أبو علي البصري الطحّان الحافظ. روى عن: يحيى بن حمّاد، ومحبوب بن الحسن، وعبد العزيز الأُوَيْسي. وروى عنه: البخاري، والنَّسائي، وابن ماجه، ويَقّي بن مَخْلد، وابن أبي الدُنيا، وأحمد بن الحُسَيْن الصوفي، وقال: كان ثقة. وقال الآجُرّي عن أبي داود: كذاب، كان يأخذ أحاديث فَهْد بن عوف، فَيُلْقيها على يحيى بن حمّاد. وقال النّسائي: بصري لا بأس به. وقال ابن عَدي: كان من حفّاظ البَصْرة. وقال أبو زُرعة: كثبنا عنه. وقال أبو حاتم: هو شيخ. وقال مَسْلمة بن قاسم الأندلسي: كتب عنه من أهل بلدنا الوضّاح، وهو صالح في الرواية. الثاني: يحيى بن حمّاد بن أبي زياد الشَّيْباني مولاهم أبو بكر، ويقال: أبو محمد البَصْري، ختن أبي عَوانة. روى عن: أبي عَوانة، وعِكْرمة بن عمَّار، وشُعبة، وحمّاد بن سَلَمة، وهَمّام بن يحيى. وروى عنه: البخاري، وروى هو والباقون له بواسطة ابن راهَوَيه، وإبراهيم ابن دِينار، والحسن بن مُدْرك الطحّان. وروى عنه: الدارمى، والذُّهلي، وآخرون. قال ابن سعد: كان ثقةً كثير الحديث. وقال أبو حاتم: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال محمد بن النُّعمان: لم أر أعبد منه. وقال العِجْلي: بصرفي ثقة، وكان من أروى الناس عن أبي عَوانة، مات سنة خمسة عشر ومئتين.

لطائف إسناده

الثالث: أبو إسحاق الشَّيْباني مرَّ في السابع من كتاب الحَيْض. ومرَّ عبد الله ابن شدّاد بن الهادي في الثامن منه. ومرَّ أبو عَوانة في الخامس من بدء الوحي. ومرت مَيْمونة بنت الحارث أم المؤمنين في الثامن والخمسين من كتاب العلم. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، والإخبار بصيغته أيضًا في موضع واحد، والعنعنة في موضع واحد أيضًا، وفيه السماع، ورواته ما بين بَصْري وكوفي ومدني. وفيه رواية البخاري من صغار شيوخه، وهو الحسن المذكور، والبخاري أقدم منه سماعًا، وروى البخاري عن يحيى بن حمّاد أيضًا شيخ الحسن المذكور. والنُّكتة فيه أن هذا الحديث قد فات البخاري عن شيخه يحيى، فرواه عن الحسن؛ لأنه عارِف بحديث يحيى بن حماد. وفيه الإِشارة إلى أن أبا عَوانة حدَّث بهذا الحديث من كتابه، تقوية لما رُويَ عنه؛ لأنه إذا حدَّث من كتابه كان ثبتًا، وإذا حدَّث من غيره رُبّما وَهِمَ. أخرجه هنا، وفي الصلاة أيضًا عن مُسدَّد، ومسلم في الصلاة عن يَحْيى بن يَحْيى وغيره، وأبو داود فيها عن عُمر بن عَوْن، وابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شَيْبة.

خاتمة

خاتمة قال في "فتح الباري": اشتمل كتاب الحيض من الأحاديث المرفوعة على سبعة وأربعين حديثًا، المكرّر منها فيه وفيما مضى اثنان وعشرون حديثًا، الموصول منها عشرة أحاديث، والبقية تعليق ومتابعة، والخالص خمسة وعشرون حديثًا، منها واحد معلق، وهو حديث: "كان يذكر الله على كل أحيانه". والبقية موصولة. وقد وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث عائشة: "كانت إحدانا تحيضُ ثم تَقْتَرِصُ الدَّم"، وحديثها في اعتكاف المستحاضة، وحديثها: "ما كان لإِحدانا إلا ثوب"، وحديث أم عطِيّة: "كنا لا نَعُدُّ الصُّفرة"، وحديث ابن عمر: "رُخِّص للحائض أن تَنْفِر". وفيه من الآثار الموقوفة على الصحابة والتابعين خمسة عشر أثرًا، كلها معلقة أ. هـ. ثم قال المصنف:

كتاب التيمم

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب التيمم تقديم البسملة قبل الكتاب كتاب التيمم لكريمة، وتأخيرها عنه لأبي ذرٍّ وقد مرَّ توجيه ذلك في كتاب الإيمان ولغير أبوي ذَرٍّ والوقت، والأُصَيليُّ "باب التيمم"، والتيمم لغةً القصد، قال امرؤ القيس: تيممتُها من أذْرُعاتِ وأهلها ... بيثربَ أدنى دارُها نَظَرٌ عالي يقال: تيممت فلانًا ويممته، وتأممته، وأَمَمْتُه، أي قصدته. وفي الشرع القصدُ إلى الصعيد، لمسح الوجه واليدين بنية استباحة الصلاة ونحوها. وقال ابن السكيت: قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا} [النساء: 43] أي اقصدوا الصعيد، ثم كثر استعمالهم له حتى صار التيمم مسح الوجه واليدين بالتراب. فعلى هذا هو مجاز لغوي، وعلى الأول هو حقيقة شرعية. واختلف فيه هل هو رخصة أو عزيمة. وفصل بعضهم فقال: هو لعدم الماء عزيمة، وللعذر رخصة، وهو من خصائص هذه الأمة. ونزل فرضه سنة خمس أو ست، وأخره البخاري عن الذي قبله لأن المذكور فيه أحكام الوضوء بالماء، والمذكرر هاهنا التيمم، وهو خلف عن الماء، فيذكر الأَصل أولاًّ، ثم يذكر الخلف عقيبه. ثم قال: قول الله تعالى، بلا واو مع الرفع، مبتدأ خبره ما بعده، فالجملة استئنافية، وللأصيلي وابن عساكر "وقول الله" بواو عطف على كتاب التيمم، أو باب التيمم. أي: وفي بيان قول الله تعالى، ولأبوي ذرٍّ والوقت "عز وجل" بدل "قوله تعالى" ثم قال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] كذا في رواية الأكتر، وللنَّسَفِيّ وعَبْدوس والحمويّ

والمستملي فإن لم تجدوا قال أبو ذر كذا في روايتنا، والتلاوة {فَلَمْ تَجِدُوا} قال صاحب المشارف: هذا هو الصواب. قال البيضاوي: فلم تجدوا، أي فلم تتمكنوا من استعماله، إذ الممنوع كالمفقود. وقوله "وأيديكم" في رواية أبي ذر "لم يقل منه". وفي رواية الشبويّ وكريمة زيادة "منه" وهي تعين آية المائدة دون آية النساء. وإلى ذلك نحا البخاريُّ فأخرج حديث الباب في تفسير سورة المائدة، وأيد ذلك برواية عمرو بن الحارث عن عبد الرحمن بن القاسم في هذا الحديث ولفظه فنزلت {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 6] إلى قوله {تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6]. وقد مرَّ الكلام على الآيتين آية النساء وآية المائدة في أول كتاب الغُسل عند ذكرهما هناك.

الحديث الأول

الحديث الأول حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَتْ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ أَوْ بِذَاتِ الْجَيْشِ انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي، فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى الْتِمَاسِهِ، وَأَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، فَأَتَى النَّاسُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَقَالُوا أَلاَ تَرَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ أَقَامَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَالنَّاسِ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ. فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِي قَدْ نَامَ فَقَالَ حَبَسْتِ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَالنَّاسَ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ فَعَاتَبَنِي أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ: مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، وَجَعَلَ يَطْعُنُنِي بِيَدِهِ فِى خَاصِرَتِي، فَلاَ يَمْنَعُنِي مِنَ التَّحَرُّكِ إِلاَّ مَكَانُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى فَخِذِي، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ أَصْبَحَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ {فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43]. فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ. قَالَتْ فَبَعَثْنَا الْبَعِيرَ الَّذِى كُنْتُ عَلَيْهِ، فَأَصَبْنَا الْعِقْدَ تَحْتَهُ. قوله: في بعض أسفاره، جزم ابن عبد البَرّ وابن سَعد وابن حِبّان بأن ذلك في غزوة بني المُصْطَلق، وهي غزوة المريسيع، وفيها وقعت قصة الإِفك لعائشة، وكان ابتداء ذلك بسبب وقوع عقدها أيضًا، فإن كان ما جزموا به ثابتًا، حمل على أنه سقط منها في تلك السفرة مرتين، لاختلاف القصتين كما هو بين في سياقهما. واستبعد بعض الشيوخ ذلك، بأن المريسيع من ناحية مكة، بين قُدَيد والساحل، وهذه القصة كانت من خيبر، لقولها في الحديث "حتى إذا كنا بالبيداء، أو بذات الجيش" وهما بين المدينة وخيبر، كما جزم به النووي.

والشك من أحد الرواة عن عائشة، وقيل منها، واستبعد. والذي في غير هذا الحديث، كلحديث عمار بن ياسر عند أبي داود والنَّسائي، بإسناد جيد، أنه كان بذات الجيش، قال عَرَّس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذات الجيش، ومعه عائشة زوجه، فانقطع عقدها ... الحديث. ولم يشك بينه وبين البيداء. وما جزم به النووي مخالف لما جزم به ابن التين، فإنه قال: البيداء هي ذو الحُليفة بالقرب من المدينة من طريق مكة. قال: وذات الجيش وراء ذي الحُليفة. وقال أبو عُبيد البكريّ: البيداء أدنى إلى مكة من ذي الحُليفة، ثم ساق حديث عائشة هذا، ثم ساق حديث ابن عمر قال: "بيداؤكم هذه التي تكذبون فيها ما أهَلَّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلاّ من عند المسجد ... الحديث. قال: والبيداء هو الشرف الذي قُدّام ذي الحُليفة في طريق مكة. وقال أيضًا: ذات الجيش من المدينة على بريد. قال: وبينها وبين العَقيق سبعة أميال، والعقيق من طريق مكة لا من طريق خيبر، فاستقام ما قال ابن التين. ويؤيده ما رواه الحميديّ في مسنده عن عروة في هذا الحديث قال فيه: إن القلادة سقطت ليلة الأبواء، والأبواء بين مكة والمدينة. وروى جعفر الفريابيّ وابن عبد البر عن هشام قال: وكان ذلك المكان يقال له الصُّلْصُل، وهو بمهملتين مضمومتين ولامين الأولى ساكنة بين الصادين. قال البكري: جبل عند ذي الحُليفة. ووهم من جعله بالضاد المعجمة، ويأتي ما قيل في تعدد القصة. وقوله: عِقد لي، بكسر المهملة، كل مايعقد ويعلق في العنق، ويسمى قلادة. ففي التفسير من رواية عمرو بن الحارث: سقطت قلادة لي بالبيداء ونحن داخلون المدينة، فأناخ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ونزل. وهذا مشعر بأن ذلك كان عند قربهم من المدينة. وفي رواية عُروة الآتية عنها، أنها استعارت قلادة من أسماء، يعني أختها، فهلكت، أي ضاعت. والجمع بينهما أن إضافة القلادة إلى عائشة لكونها في يدها وتصرفها، وإلى أسماء لكونها ملكها، لتصريح عائشة في رواية عُروة بانها استعارتها منها. وهذا كله بناء على

اتحاد القصة. ويأتي ما في ذلك. وفي رواية عمار عند أبي داود وغيره أن العقد المذكور كان من جَزْع ظُفَار، وكذا في قصة الإفك الآتية، والجزع بفتح الجيم وسكون الزاي، خرز يمنيّ، وظفار مدينة تقدم الكلام عليها في باب الطيب للمرأة عند غسلها من المحيض. وفي هذا الحديث جواز السفر بالنساء، واتخاذهن الحلي تجملًا لأزواجهن، وجواز السفر بالعارية، وهو محمول على رضا صاحبها. وقوله: على التماسه، أي لأجل طلبه، فعلى أجلية كقوله تعالى: {لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [الحج: 37] أي لأجل هدايته لكم، وقوله: ليسوا على ماء، وليس معهم ماء، كذا للأكثر في الموضعين، وسقطت الجملة الثانية في الموضع الأول من رواية أبي ذَرٍّ واستدل بهذا على جواز الإِقامة في المكان الذي لا ماء فيه. وكذا سلوك الطريق التي لا ماء فيها. قيل: وفيه نظر، لأن المدينة كانت قريبة منهم، وهم على قصد دخولها. قلت: هذا لا ينفي الإقامة على غير ماء، مع أنّ كونهم على القرب منها قاصدين الدخول فيها، ليس في جميع الروايات، بل في رواية واحدة، فلا يحكم بها على كل الروايات. ويحتمل أن يكون عليه الصلاة والسلام لم يعلم بعدم الماء في الركب، وإن كان قد علم بأن المكان لا ماء فيه. ويحتمل أن يكون قوله "ليس معهم ماء" أي للوضوء، وأما ما يحتاجون إليه للشرب، فيحتمل أن يكون معهم، والماء للوضوء محتمل لجواز إرسال المطر أو نبع الماء من بين أصابعه -صلى الله عليه وسلم-، كما وقع في مواطن أخرى. وفيه اعتناء الإِمام بحفظ حقوق المسلمين، وإن قلت. فقد نقل ابن بطال أن ثمن العقد المذكور كان اثني عشر درهمًا، ويلتحق بتحصيل الضائع الإقامة للحوق المنقطع، ودفن الميت ونحو ذلك من مصالح الرعية. وفيه الإِشارة إلى ترك إضاعة المال وقوله: فأتى الناس إلى أبي بكر، فيه شكوى المرأة إلى أبيها وإن كان لها زوج، وكأنهم إنما شكوا إلى أبي بكر لكون النبي -صلى الله عليه وسلم- كان نائمًا، وكانوا لا يوقظونه. وقوله: ألا ترى، بإثبات همزة الاستفهام الداخلة على لا،

وعند الحمويّ "لا ترى" بإسقاطها. وقوله: أقامت برسول الله -صلى الله عليه وسلم- والناس، أي بالجر، فيه نسبة الفعل إلى من كان سببًا فيه، لقولهم: صنعت وأقامت. وقوله: فعاتبني أبو بكر، وقال: ما شاء الله أن يقول، في رواية عمرو بن الحارث "فقال: حبست الناس في قلادة" أي بسببها. ويأتي عن الطبرانيّ أن من جملة ما عاتبها به قوله "في كل مرة تكونين عناء وبلاء على الناس"، وإنما قالت فعاتبني أبو بكر، ولم تقل أبي؛ لأن قضية الأبوة الحنو، وما وقع من العتاب بالقول والتأديب بالفعل مغاير لذلك في الظاهر. فلذلك أنزلته منزلة الأجنبي، فلم تقل أبي. وقوله: وجعل يَطْعُنني، هو بضم العين، وكذا في جميع ما هو حسي، وأما المعنوي فيقال طَعَن، بالفتح، هذا هو المشهور فيهما، وحكي الفتح فيهما والضم فيهما معًا. وفيه جواز دخول الرجل على ابنته وإن كان زوجها معها إذا علم رضاه بذلك، ولم تكن حالة مباشرة، وفيه تأديب الرجل ابنته، وإن كانت متزوجة كبيرة خارجة عن بيته، ويلحق بذلك تأديب من له تأديبه ولو لم يأذن الإِمام. وقوله: فلا يمنعني من التحرك إلاّ مكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على فخذي، مكان مصدر ميمي، أي إلاّ كونه عليه الصلاة والسلام على فخذي، وفيه استحباب الصبر لمن ناله ما يوجب الحركة أو يحصل به تشويش لنائم، وكذا المصلي أو قارىء أو مشتغل بعلم أو ذكر. وقوله: فقام حين أصبح، كذا أورده هنا، وأورده في فضل أبي بكر بلفظ "فنام حتى أصبح" وهي رواية مسلم، ورواه الموطأ والمعنى فيهما متقارب؛ لأن كلًا منهما يدل على أن قيامه من نومه كان عند الصبح. وقال بعضهم: ليس المراد بقوله "حتى أصبح" بيان غاية النوم إلى الصباح، بل بيان غاية فقد الماء إلى الصباح؛ لأنه قيد قوله حتى أصبح بقوله "على غير ماء" أي آل أمره إلى أن أصبح على غير ماء، ورواية عمرو بن الحارث لفظها "أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- استيقظ وحضرت" فإن أُعربت الواو حالية، وهو الظاهر، كان دليلًا على أن الاستيقاظ وقع حال وجود الصباح، واستدل به على الرخصة في ترك التهجد في السفر،

إن ثبت أن التهجد كان واجبًا عليه، وعلى أن طلب الماء لا يجب إلاّ بعد دخول الوقت، لقوله في رواية عمرو بن الحارث، بعد قوله "وحضرت الصبح فالتمس الماء فلم يوجد"، وعلى أن الوضوء كان واجبًا عليهم قبل نزول آية الوضوء، ولهذا استعظموا إقامتهم على غير ماء، ووقع من أبي بكر في حق عائشة ما وقع. قلت: الاستعظام يمكن أن يكون لأجل الاحتياج إلى الماء في الشرب وغيره، وكذلك ما وقع في أبي بكر. وقال ابن عبد البَرّ: معلوم عند الجميع أهل المغازي أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يصلِّ منذ افترضت الصلاة عليه إلاّ بوضوء، ولا يدفع ذلك إلاّ جاهل أو معاند. قال: وفي قوله في هذا الحديث "آية التيمم" إشارة إلى أن الذي طرأ إليهم من العلم حكم التيمم لا حكم الوضوء، قال: والحكمة في نزول آية الوضوء مع ما تقدم العلم به، ليكون فرضه متلواً بالتنزيل. وقال غيره: يحتمل أن يكون أول آية الوضوء نزل قديمًا، فعلموا به الوضوء، ثم نزل بقيتها، وهو ذكر التيمم في هذه القصة. وإطلاق آية التيمم على هذا، من تسمية الكل باسم البعض، لكن رواية عمرو بن الحارث التي مرَّ أن المصنف أخرجها في التفسير، تدل على أن الآية نزلت جميعها في هذه القصة، فالظاهر ما قاله ابن عبد البر. وقوله: فأنزل الله آية التيمم، قال ابن العربيّ: هذه معضلةٌ ما وجدت لدائها من دواء؛ لأنا لا نعلم أنّ الآيتين عنت عائشة. قال ابن بطال: هي آية النساء أو آية المائدة. وقال القرطبيّ: هي آية النساء، ووجهه بأن آية المائدة تسمى آية الوضوء، وآية النساء لا ذكر فيها للوضوء، فيتجه تخصيصها بآية التيمم. وأورد الواحديّ في أسباب النزول هذا الحديث عند ذكر آية النساء أيضًا، وخفي على الجميع ما ظهر للبخاري من أن المراد بها آية المائدة بغير تردد، لرواية عمرو بن الحارث، إذ صرّح فيها بقوله: فنزلت {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ ... الآية} [المائدة: 6]. وقوله {فَتَيَمَّمُوا} يحتمل أن يكون خبرًا عن فعل الصحابة، أي فتيمم الناس حين نزلت الآية. ويحتمل أن يكون حكاية لبعض الآية. وهو الأمر في قوله {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] بيانًا

لقوله "آية التيمم"، أو بدلًا. واستدل بالآية على وجوب النية في التيمم؛ لأن معنى "فتيمموا" فاقصدوا، وقد مرَّ الكلام على ذلك عند حديث "إنما الأعمال بالنيات" في آخر كتاب الإيمان. ووجوبها فيه هو قول فقهاء الأمصار إلاّ الأوزاعي. واستدل به على أنه يجب عليه قصد التراب، ولا يكفي هبوب الريح به، بخلاف الوضوء، كما لو أصابه مطر فنوى الوضوء به، فإنه يجزىء، والأظهر الإجزاء لمن قصد التراب من الريح الهابّة، بخلاف من لم يقصد، وهو اختيار الشيخ أبي حامد، قاله في الفتح. وعند المالكية إذا قصد التيمم بما هب في كفيه من إلقاء الريح حتى سترهما، فيه وجهان: الإجزاء وعدمه. واستظهر عليّ الأجهوريّ أنه لابد من وضع اليدين على الأرض، ويأتي الكلام على المراد بالصعيد الطيب، وعلى التيمم لكل فريضة، وعلى كيفية التيمم. وقوله: ما هي بأول بركاتكم، بل مسبوقة بغيرها من البركات، والمراد بأبي بكر نفسه وأهله وأتباعه. وفيه دليل على فضل عائشة وأبيها، وتكرار البركة منها. وفي رواية عمرو بن الحارث: لقد بارك الله للناس فيكم وفي تفسير إسحاق البستي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لها: "ما كان أعظم بركة قلادتك" وفي رواية عروة الآتية قريبًا "فوالله ما نزل بك من أمر تكرهينه إلاّ جعل الله فيه للمسلمين خيرًا وفي النكاح إلاّ جعل الله لك منه مخرجًا وجعل للمسلمين فيه بركة" وهذا يشعر بأن هذه القصة كانت بعد قصة الإفك، فيقوي قول من قال بتعدد ضياع العقد. وممن جزم بذلك محمد بن حبيب الأخبازيّ فقال: سقط عقد عائشة في غزوة ذات الرقاع، وفي غزوة بني المصطلق. وقد اختلف أهل المغازي في أي هاتين الغزوتين كانت أولًا، وقال الداوديّ: كانت قصة التيمم فني غزاة الفتح، ثم تردد في ذلك، وقد روى ابن أبي شَيبة عن أبي هريرة قال: لما نزلت آية التيمم لم أدرِ كيف أضع الحديث. وهذا يدل على تأخرها عن غزوة بني المصطلق؛ لأن إِسلام أبي هريرة كان في السنة السابعة، وهي بعدها بلا خلاف.

ويأتي في المغازي أن البخاري يرى أن غزوة ذات الرقاع كانت بعد قدوم أبي موسى، وقدومه كان وقت إسلام أبي هريرة، ومما يدل على تأخر القصة أيضاً، عن قصة الإِفك، ما رواه الطبرانيّ عن عبَاد بن عبد الله بن الزبير عن عائشة قالت: لما كان من أمر عقدي ما كان، وقال أهل الإفك ما قالوا، خرجت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة أخرى، فسقط أيضًا عقدي حتى حبس الناس على التماسه، فقال لي أبو بكر: يا بنية، في كل سفرة تكونين عناء وبلاء على الناس، فأنزل الله عز وجل الرخصة في التيمم، فقال أبو بكر: إنك لمباركة ثلاثًا، وفي إسناده محمد بن حميد الرازيّ فيه مقال. ففي هذا الحديث التصريح بأن ضياع العقد كان مرتين في غزوتين، وقد جنح البخاري في التفسير إلى تعددها حيث أورد حديث الباب في تفسير المائدة، وحديث عروة في تفسير النساء، فكأن نزول آية المائدة بسبب عقد عائشة، وآية النساء بسبب قلادة أسماء. قلت: فعلى هذا يكون التيمم نزل في غزوتين مختلفتين. قال في الفتح: واتحاد القصة أظهر، ولم يظهر لي ظهوره مع ما ذكر مما هو قال على التعدد صريحًا. وقوله: فبعثنا البعير، أي أثرنا البعير الذي كنت عليه حالة السفر. وقوله: فأصبنا العقد تحته، أي وجدناه. وهو ظاهر في أن الذين توجهوا في طلبه أولًا لم يجدوه. وفي رواية عروة الآتية في الباب الذي يليه: فبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلًا فوجدها، أي القلادة. وللمصنف في فضل عائشة ومسلم "فبعث ناسًا من أصحابه في طلبها" ولأبي داود "فبعث أسيد بن حُضير وناسًا معه وطريق الجمع بين هذه الروايات أن أسيدًا كان رأس من بَعث لذلك، فلذلك سمي في بعض الروايات دون غيره. وكذا أسند الفعل إلى واحد بهم، وهو المراد به، وكأنهم لم يجدوا العقد أولًا، فلما رجعوا، ونزلت آية التيمم، وأرادوا الرحيل وأثاروا البعير، وجده أسيد بن حُضَير. فعلى هذا، فقدله في رواية عروة الآتية "فوجدها" بعد جميع ما تقدم من التفتيش وغيرها. وقال النوويّ: يحتمل أن يكون فاعل وجدها النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد بالغ الداودي

رجاله خمسة

في توهيم رواية عُروة، ونقل عن إسماعيل القاضي أنه حمل الوهم فيها على عبد الله بن نمير، وقد بان مما ذكرنا من الجمع بين الروايتين أن لا تخالف بينهما ولا وهم. رجاله خمسة: الأول: عبد الله بن يوسف. والثاني: الإِمام مالك. وقد مرا مع عائشة في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ عبد الرحمن بن القاسم في السادس عشر من كتاب الغُسل، ومرَّ أبوه القاسم في الحادي عشر منه، وفيه ذكر أسيد بن حُضير، وقد جاء تعريفه بعد هذا في الحديث الثالث من هذا الكتاب. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد، والإِخبار كذلك، والعنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه القول. ورواته مدنيون ما خلا شيخ المؤلف أخرجه البخاري هنا وفي النكاح عن عبد الله بن يوسف، وفي فضل أبي بكر عن قتيبة. وفي التفسير والمحاربين عن إسماعيل بن أبي أويس، ومسلم في الطهارة عن يحيى بن يحيى، والنَّسائي فيها وفي التفسير عن قتيبة.

الحديث الثاني

الحديث الثاني حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ ح قَالَ وَحَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ النَّضْرِ قَالَ أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ قَالَ أَخْبَرَنَا سَيَّارٌ قَالَ حَدَّثَنَا الْفَقِيرُ قَالَ أَخْبَرَنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْمَغَانِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً". قوله: وحدثني سعيد بن النضر قال: أخبرنا هُشيم، إنما لم يجمع البخاريّ بين شيخيه مع أنهما حدثاه به عن هشيم لأنه سمعه منهما مفترقين، وكأنّه سمعه من محمد بن سنان مع غيره، فلهذا جمع فقال: حدثنا محمد بن سنان وسمعه من سعيد وعده، فلهذا أفرد فقال: وحدثني، وكأنَّ محمدًا سمعه من لفظ هشيم، فلهذا قال: حدثنا، وكأنّ سعيدًا قرأه أو سمعه يُقرأ على هشيم، فلهذا قال: أخبرنا. ومراعاة هذا كله على سبيل الإصطلاح ثم إنّ سياق المتن لفظ سعيد ح، وقد ظهر بالاستقراء من صنيع البخاريّ أنه إذا أورد الحديث عن غير واحد يكون اللفظ للأخير، ومدار الحديث جابر هذا على هشيم بهذا الإِسناد. وله شواهد من حديث ابن عباس وأبي موسى وأبي ذَرٍّ من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، رواها كلها أحمد بأسانيد حسان وقوله: أُعطيتُ خمسًا، بيّن عمرو بن شعيب في روايته أن ذلك كان في غزوة تبوك، وهي آخر غزوات النبي -صلى الله عليه وسلم-. وقوله: لم يُعطهنَّ أحد قبلي، زاد في الصلاة من الأنبياء. وفي حديث ابن عباس "لا أقولهن فخرًا" ومفهومه أنه لم يختص بغير الخمس

المذكورة، لكن في حديث أبي هريرة عند مسلم مرفوعًا "فضلت على الأنبياء بستٍّ" فذكر أربعًا من هذه الخمس، وزاد خصلتين وهما "وأُعطيت جوامع الكَلِم، وخُتِم بي النبيّون" فتحصَّل منه ومن حديث جابر سبع خصال. ولمسلم أيضًا عن حذيفة "فضلنا على الناس بثلاث خصال: جُعِلت صفوفنا كصفوف الملائكة" وذكر خصلة الأرض كما مرَّ، وذكر خصلة أخرى مبهمة، وبينهما ابن خُزيمة والنَّسائيّ وهي "وأعطيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش" يشير إلى ما حطه الله عن أمته من الإِصر، وتحميل مالا طاقة لهم به، ورفع الخطأ والنسيان، فصارت الخصال تسعًا. ولأحمد عن عليّ "أعطيتُ أربعًا لم يُعطهن أحد من أنبياء الله: أُعطيت مفاتيح الأرض، وسُميت أحمد، وجُعلتْ أمتي خير الأمم" وذكر خصلة التراب فصارت الخصال ثنتي عشرة خصلة. وعند البزّار عن أبي هُريرة مرفوعًا "فُضلت على الأنبياء بست: غُفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر، وجُعِلت أمتي خير الأمم، وأعطيتُ الكوثر، وإن صاحبكم لصاحب لواء الحمد يوم القيامة، تحته آدم فمن دونه" وذكر ثنتين مما تقدم. وله عن ابن عباس، رفعه "فضلت على الأنبياء بخصلتين: كان شيطاني كافرًا فأعانني الله عليه فأسلم" قال: ونسيت الأخرى، فانتظم بهذا سبع عشرة خصلة، ويمكن أن يوجد أكثر من ذلك لمن أمعن التتبع. وذكر أبو سعيد النَّيسابوري في كتاب "شرف المصطفى" أن عدد الذي اختُص به نبينا -صلى الله عليه وسلم- ستون خصلة. وطريق الجمع بين الروايات المتقدمة هي أن يقال لعله اطلع أولًا على بعض ما اختص به، ثم اطلع على الباقي، ومن لا يرى مفهوم العدد حجة يدفع هذا الإِشكال من أصله. وقوله: نُصرتُ بالرعب، زاد أبو أُمامة كما عند أحمد "يقذف في قلوب أعدائي" وقوله: مسيرة شهر، مفهومه أنه لم يوجد لغيره النصر بالرعب في هذه المدة، ولا في أكثر منها، وأما ما دونها فيمكن. لكن لفظ عمرو بن شعيب "ونصرت على العدو بالرعب ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر" فالظاهر اختصاصه به مطلقًا، وهذه الخصوصية حاصلة له على الإطلاق، حتى لو كان

وحده بغير عسكر، وهل هي حاصلة لأمته من بعده؟ فيه احتمال. وليس المراد بالخصوصية مجرد حصول الرعب، بل هو وما ينشأ عنه من الظفر بالعدو. والحكمة في جعل الغاية شهرًا هي أنه لم يكن بينه وبين الممالك الكبار التي حوله ممثر من شهر، كالشام والعراق ومصر واليمن، فليس بين المدينة النبوية وبين الواحدة منها إلاَّ شهر فما دونه، وللطبراني عن السائب بن يزيد "شهرًا أمامي وشهرًا خلفي" وهذا غير مناف لحديث جابر. وله أيضًا عن أبي أُمامة "شهرًا وشهرين" وهذا التردد بي الشهر والشهرين إما أن يكون الراوي سمعه كما في حديث السائب، واما أنَّه لا أثر لتردده، لجزم غيره بالشهر. وقوله: وجُعِلَت لي الأرض مسجدًا أي موضع سجود، ولا يختص السجود بموضع منها دون موضع، ويمكن أن يكون مجازًا عن المكان المبني للصلاة وهو من مجاز التشبيه، لأنه لما جازت الصلاة في جميعها كانت كالمسجد في ذلك. وقال التيمي: قيل: المراد جُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وجعلت لغيري مسجدًا ولم تجعل له طهورًا لأنَّ عيسى كان يسيح في الأرض ويصلي حيث أدركته الصلاة، وسبقه الداوديّ إلى هذا وقيل: إنما أبيحت لهم في موضع يتيقنون طهارته، بخلاف هذه الأمة، فأبيح لها في جميع الأرض إلاّ فيما تيقنوا نجاسته. والأظهر ما قاله الخطابيّ وهو أنّ من قبله إنما أُحلت لهم الصلاة في أماكن مخصوصة كالبِيَع والصوامع. ويؤيده رواية عمرو بن شعيب بلفظ "وكان من قبلي إنما كانوا يصلون في كنائسهم" وهذا نص في موضع النزاع، فتثبت الخصوصية، ويؤيده ما أخرجه البزار عن ابن عباس نحو حديث الباب، وفيه "ولم يكن من الأنبياء أحدٌ يصلي حتى يبلغ محرابه". قلت: فعلى هذا فلعل ما روي عن عيسى عليه الصلاة والسلام من كونه يصلي حيث أدركته الصلاة، لم يثبت. وقوله: وطهورًا، استدل به على أن الطَّهور هو الطهر لغيره؛ لأن الطهور لو كان المراد به الطاهر لم تثبت الخصوصية، والحديث إنما سيق لإثباتها. وقد روى ابن المنذر وابن الجارود بإسناد صحيح، عن أنس مرفوعًا "جُعلت لي كل أرض طيبة مسجدًا وطهورًا" ومعنى طيبة طاهرة، فلو كان معنى

"طهورًا" طاهرًا للزم تحصيل الحاصل، واستدل به على أن التيمم يرفع الحدث، لاشتراكهما في هذا الوصف، وفيه نظر، ويأتي ما فيه. وقوله: فأيما رجلٌ أي مبتدأ فيه معنى الشرط. وما زائدة للتأكيد. واستدل بقوله طهورًا على أن التيمم جائز بجميع أجزاء الأرض، وقد أكد في رواية أبي أُمامة بقوله: "وجعلت لي الأرض كلها ولأمتي مسجدًا وطهورًا" وهو قول مالك وأبي حنيفة ويحيى بن سعيد الأنصاريّ وابن خزيمة، ورواية عن أحمد وعند الشافعية. والرواية الأخيرة عن أحمد لابد من التراب التي يعلق منها شيء باليد، محتجين بقوله تعالى {وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] جاعلين مِنْ للتبعيض، وجعلها الأولون لابتداء الغاية، أو صلة، بدليل حذفها في آية النساء، واحتج الأولون بما مرَّ وبعموم "فأيما رجل" فإنه يتناول جميع أجزاء الأرض، لقوله في الجواب "فليصل" يعني بعد أن يتيمم، ولا يقال هو خاص بالصلاة؛ لأنا نقول، لفظ حديث جابر مختصر، وفي رواية أبي أُمامة عند البيهقيّ فأيما رجل من أمتي أتى الصلاة وجدَ الأرض طهوراً ومسجدًا. وعند أحمد "فعنده طهوره ومسجده". وفي رواية عمرو بن شعيب "فأينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت". وقد مرَّ قريبًا بيان أن معنى طهورًا في الحديث مطهر لا طاهر، واحتج ابن خزيمة لجواز التيمم بالسبخة، التي هي غير منبتة، بحديث عائشة في شأن الهجرة أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال: "أُريت دار هجرتكم سبخة ذات نخل" يعني المدينة. قال: وقد سمى النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة طيبة، فدل على أن السبخة داخلة في الطيب، واحتج من خص التيمم بالتراب بحديث حذيفة عند مسلم بلفظ "وجُعلت لنا الأرض كلها مسجدًا، وجعلت تربتها لنا طهورًا إذا لم نجد الماء" وهذا خاص، فينبغي أن يحمل العام عليه، فتختص الطهورية بالتراب. ودل الافتراق في اللفظ حيث حصل التأكيد في جعلها مسجدًا دون الآخر على افتراق الحكم، وإلا لعطف أحدهما على الآخر نسقًا كما في حديث الباب. ومنع بعضهم الاستدلال بلفظ التربة على خصوصية التيمم بالتراب، بأن

قال: تربة كل مكان ما فيه من تراب أو غيره. وأجيب بأنه ورد في الحديث المذكور بلفظ التراب أخرجه ابن خزيمة وغيره. وفي حديث عليّ "وجعل التراب لي طَهورًا" أخرجه أحمد والبيهقي بإسناد حسن، ويقوي القول بأنه خاص بالتراب أن الحديث سيق لإِظهار التشريف والتخصيص، فلو كان جائزًا بغير التراب لما اقتصر عليه. قلت: الظاهر عندي أن ما أجيب به كله لا جواب فيه، أما الجواب بأن التربة وردت في الحديث بلفظ التراب، فهو دال على ترادف لفظ التربة والتراب، وهو الذي في القاموس وغيره من كتب العربية، فما قيل في التربة يقال في التراب. وما ذكر في الاستدلال بتفرقة اللفظين يقال فيه إن التعبير باللفظين إنما هو تفنن في العبارة، فإن التراب هي الأرض، ولذلك اقتصر على الأرض في حديث الباب وحديث أبي أُمامة، ومن أين لنا بأن الأرض والتراب متغايران لغة؟ وقد قال الله تعالى {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الروم: 20] وقال في آية أخرى {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ} [طه: 55] برجوع الضمير إلى الأرض، وما ذلك إلاَّ لترادفهما. وقد قال كثير من المفسرين إن المرادَ أصلكم آدم، ومعلوم أن آدم خلق من جميع أجزاء الأرض كما هو منصوص، وكتب العربية يجعلون التراب هي الأرض، وعموم ذكر الأرض في حديث الباب مخصوص بما نهى الشارع عن الصلاة فيه، ففي حديث أبي سعيد الخدريّ مرفوعًا "الأرض كلها مسجد إلاّ المقبرة والحمام" رواه أبو داود وقال الترمذيّ: حديث فيه اضطراب، ولذا ضعفه غيره. وفي حديث ابن عمر عند التِّرمذيّ وابن ماجه "نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يصلى في سبعة مواطن: في المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق، وفي الحمام، وفي معاطن الإِبل، وفوق ظهر بيت الله الحرام" قال الترمذيّ: إسناده ليس بالقوي، وقد تكلم في زيد بن جبيرة من قَبل حفظه. قلت: ولأجل الكلام في الحديثين المذكورين حمل مالك النهي في المسائل المذكورة على كراهة التنزيه في قول ضعيف عنده، والمشهور منه التفصيل في المسائل المذكورة، فتكره في معطن

الإبل وتحرم على ظهر الكعبة الفريضة خاصة وتبطل، وفي النافلة قولان: وتجوز في غير هاتين إن أمنت النجاسة. وقوله: فليصل، خبر المبتدأ الذي هو أي، وعرف مما مرَّ أن المراد فليصل بعد أن يتيمم. وقوله: وأحلت لي الغنائم للكشميهنيّ المغانم، وهي رواية مسلم، وللمصنف في الجهاد "أحل الله لنا الغنائم، رأى ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا" وفي رواية سعيد بن المُسَيّب "لما رأى من أمر ضعفنا" وفيه إشعار بأن إظهار العجز بين يدي الله تعالى يستوجب ثبوت الفضل. قال الخطابيّ: كان من تقدم على ضربين، منهم من لم يؤذن له في الجهاد، فلم تكن لهم مغانم، ومنهم من أذن له فيه، لكن كانوا إذا غنموا شيئًا لم يحل لهم أن يأكلوه، وجاءت نار فأحرقته إن كان مقبولًا. وقيل: المراد أنه خص بالتصرف في الغنيمة، يصرفها كيف شاء. والأول أصوب، وهو أن من مضى لم تحل لهم الغنائم أصلًا، بل تجمع، فالمقبولة تنزل عليها نار من السماء فتأكلها، وغير المقبولة لا تنزل عليها نار، وتبقى. ومن أسباب عدم القبول الغُلُول، كما يأتي في الجهاد، وقد مَنّ الله على هذه الأمة ورحمها، لشرف نبيها عنده، فأحل لهم الغنيمة، وستر عليهم الغلول، فطوى عنهم فضيحة أمر عدم القبول ودخل في عموم أكل النار الغنيمة السبيُ، وفيه بعدٌ؛ لأن مقتضاه إهلاك الذُّرِّية ومن لم يقاتل من النساء، ويمكن أن يستثنوا من ذلك، ويلزم استثناؤهم من تحريم الغنائم عليهم، ويؤيده أنهم كانت لهم عبيد وإماء، فلو لم يجز لهم النبي لما كان لهم أرقاء، ويشكل على الحصر أنه كان السارق يسترق، كما في قصة يوسف عليه السلام، ولم أرَ مَنْ صرح بذلك. قاله في الفتح. واستدل ابن بطال بما ذكر على جواز إحراق أموال المشركين، وتعقب بأن ذلك كان في تلك الشريعة، وقد نسخ بحل الغنائم لهذه الأمة، وأجيب عنه بأنه لا يخفى عليه ذلك، ولكنه استنبط من إحراق الغنيمة بأكل النار جواز إحراق

أموال الكفار إذا لم يوجد السبيل إلى أخذها غنيمة، وهو ظاهر لأن هذا القدر لم يرد التصريح بنسخه، فهو محتمل على أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ. قلت: هذا لا يتردد فيه؛ لأن إضرار العدو واجب بحسب الإِمكان. وقوله: وأُعطيتُ الشفاعة، قال ابن دقيق العيد: الأقرب أن اللام فيها للعهد، والمراد الشفاعة العظمى في إراحة الناس من هول الموقف، ولا خلاف في وقوعها، وبذا جزم النّوويُّ وغيره. وقيل: الشفاعة التي اختُص بها أنه لا يرد فيما يسأل وقيل: الشفاعة في خروج من في قلبه مثقال ذرة من إيمان؛ لأن شفاعة غيره تقع فيمن في قلبه أكثر من ذلك. قاله عياض،. والظاهر أن هذه مرادة مع الأولى لأنه يتبعها بها، كما في حديث الشفاعة الآتي إن شاء الله في كتاب الرقاق. وقال البيهقيّ في البعث: يحتمل أن الشفاعة التي تختص بها أن يشفع لأهل الصغائر والكبائر، وغيره إنما شفع لأهل الصغائر دون الكبائر، قلت: الصغائر مغفورة باجتناب الكبائر، فلا يمكن أن يوجد من له صغائر بدون الكبائر، ونقل عياض أن الشفاعة المختصة به شفاعة لا ترد، وهذا هو عين القول الثاني. وقد وقع في حديث ابن عباس "وأُعطيتُ الشفاعة، فأخرتها لأمتي، فهي لمن لا يشرك بالله شيئًا" وفي حديث عمرو بن شعيب "فهي لكم ولمن شهد أن لا إله إلا الله" والظاهر أن المراد بالشفاعة المختصة في هذا الحديث، إخراج من ليس له عمل صالح إلا التوحيد، وهو مختص أيضًا بالشفاعة الأُولى، لكن جاء التنويه بذكر هذه لأنها غاية المطلوب من تلك، لاقتضائها الراحة المستمرة، وقد ثبتت هذه الشفاعة في رواية الحسن عن أنس، كما يأتي في التوحيد "ثم أرجع إلى ربي في الرابعة، فأقول: يا رب، ائذن لي في من قال لا إله إلا الله، فيقول: وعزتي وجلالي لأخرجن منها من قال لا إله إلا الله". ولا يعكر على ذلك ما وقع عند مسلم قبل قوله "وعزتي" فيقول: "ليس ذلك لك، وعزتي ... الخ"، لأن المراد أنه لا يباشر الإِخراج كما في المرات الماضية، بل كانت شفاعته سببًا في ذلك في الجملة.

وقوله: وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامةً، وقع في رواية مسلم "وبُعثت إلى كل أحمر وأسود" فقيل: المراد بالأحمر العجم، وبالأسود العرب. وقيل: الأحمر الإِنس، والأسود الجن، وعلى الأول التنصيص على الإنس من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى؛ لأنه مرسل إلى الجميع. قلت: لعل في العبارة قلبًا، وأصلها التنبيه بالأعلى على الأدنى؛ لأن الإِنس أعلى من الجن، وظاهر قوله في الحديث "لم يعطَهن أحد قبلي" يقتضي أن كل واحدة من الخمس المذكورات لم تكن لأحد قبله، وهو كذلك، ولا يُعترض عليه بأن نوحًا عليه السلام كان مبعوثًا إلى أهل الأرض بعد الطوفان؛ لأنه لم يبق إلاّ من كان مؤمنًا معه، وقد كان مرسلًا إليهم؛ لأن هذا العموم لم يكن من أصل بعثته، وإنما اتفق بالحادث الذي وقع، وهو انحصار الخلق في الموجودين بعد هلاك سائر الناس، وأما نبينا عليه الصلاة والسلام فعموم رسالته من أصل البعثة، فثبت اختصاصه بذلك. وأما قول أهل الموقف لنوح عليه السلام، كما صح في الحديث: أنت أول رسول إلى أهل الأرض، فليس المراد به عموم بعثته، بل إثبات أولية إرساله، وعلى تقدير أن يكون مرادًا، فهو مخصوص بتنصيصه، سبحانه وتعالى، في عدة آيات على أن إرساله كان إلى قومه، ولم يذكر أنه أُرسل إلى غيرهم. واستدل بعضهم بعموم بعثته بكونه دعا على جميع من في الأرض فأُهلكوا بالغرق، إلّا أهل السفينة، فلو لم يكن مبعوثًا إليهم لما أُهلكوا، لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإِسراء: 15] وقد ثبت أنه أوّل الرسل، والجواب القاطع عندي هو أنه لم يكن في الأرض عند إرسال نوح إلاّ قومه، فبعثته خاصة، لكونها إلى قومه فقط، وهي عامة في الصورة، لعدم وجود غيرهم، لكن لو اتفق وجود غيرهم لم يكن مبعوثًا إليهم، قلت: نص الآية صريح في أن المغرقين قومه، قال تعالى: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: 36] فيدل ذلك على أنه بعث إلى قومه خاصة، ولكن لم يكن موجودًا سواهم حينئذ، وأجيب بجواز أن يكون غيره أُرسل إليهم في أثناء مدته، وعلم نوح بأنهم لم يؤمنوا، فدعا على من لم يؤمن من قومه ومن غيرهم، فأجيب: ويرد هذا الجواب

رجاله ستة

أنه لم ينقل أنه نبّىء في زمن نوح غيره. قلت: ويرده أيضًا لحديث الصحيح المار "أنت أول رسول" إذ لو كان معه رسول لم يكن أول. ويحتمل أن يكون معنى الخصوصية لنبينا عليه الصلاة والسلام في ذلك بقاء شريعته إلى يوم القيامة، ونوح وغيره بصدد أن يبعث نبي في زمانه أو بعده فينسخ بعض شريعته، ويحتمل أن يكون دعاؤه قومه إلى التوحيد بَلَغَ بقية الناس، فتمادوا على الشرك، فاستحقوا العقاب، وغير ممكن أن تكون نبوته لم تبلغ القريب والبعيد لطول مدته، قال ابن عطية: قلت: ومعناه الإِرسال إلى غير قومه المنفي لقوله تعالى {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] ووجهه ابن دقيق العيد بأن توحيد الله تعالى يجوز أن يكون عامًا في حق بعض الأنبياء، وإن كان التزام فروع شريعته ليس عامًا؛ لأن منهم من قاتل غير قومه على الشرك، ولو لم يكن التوحيد لازمًا لهم لم يقاتلهم، وغفل الداودي غفلة عظيمة فقال: قوله "لم يُعْطهن أحد" يعني لم يجمع لأحد قبله؛ لأن نوحًا بعث إلى كافة الناس، وأما الأربع فلم يعط أحد واحدةً منهن، وكأنه نظر في أول الحديث، وغفل. عن آخره؛ لأنه نص -صلى الله عليه وسلم- على خصوصيته بهذه أيضًا، لقوله "وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة". وفي رواية مسلم "وكان كل نبي ... الخ" وظاهر الرواية السابقة عند مسلم "أرسلت إلى الخلق كافة" تؤيد قول من ذهب إلى إرساله عليه الصلاة والسلام إلى الملائكة، كآية الفرقان {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} والصحيح أنه لم يبعث لهم؛ لأنهم نشأوا على التوحيد والعبادة جِبِلَّةً. ومن قال إنه بعث إليهم، قال إنه بعث إليهم ليعلمهم أدب العبودية بحضرة الرب. رجاله ستة: الأول: محمد بن سنان، وقد مرَّ في الأول من كتاب العلم. والثاني: هُشيم (بالتصغير) بن بَشير، مكبر، ابن القاسم بن دينار السلميّ أبو معاوية بن أبي خازم الواسطيّ. قيل: إنه بخاريّ الأصل، قال يزيد بن

هارون: ما رأيت أحفظ من هشيم إلا الثَّوريّ. وقال عثمان بن أبي شيبة: ما رأيت يزيد يثني على أحد ما يثني على هُشيم: وقال إبراهيم الحربيّ: كان حفاظ الحديث أربعةٌ هشيم شيخهم يحفظ هذه الأحاديث المقاطيع حفظًا عجيبًا، وقال محمد بن حاتم المؤدب: قيل لهشيم: كم تحفظ؟ قال: كنت أحفظ في اليوم مئة، ولو سئلت عنها بعد شهر لأجبت. وقال علي بن معبد الرقّيّ: جاء رجل من أهل العراق إلى مالك، فذاكره في حديث فقال له: وهل بالعراق أحد يحسن الحديث إلا ذلك الواسطيّ، يعني هشيمًا. وقال حماد بن زيد: ما رأيت في المحدثين أنبل من هُشيم. وقال إسحاق الزياديّ: اسمعوا من هشيم، فنعم الرجل هشيم. وقال نَصْر بن بسّام: رأيت معروفًا الكرخيّ، فسمعته يقول: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يرى النائم وهشيم بين يديه، وهو يقول: جزاك الله تعالى عن أمتي خيرًا. وقال أبو حاتم: لا يسأل عن هشيم في صلاحه وصدقه وأمانته. وقال أحمد: كان هشيم كثير التسبيح، ولازمته أربعًا أو خمسًا ما سألته عن شيء هيبة له، إلاّ مرتين. وقال الحسين بن الحسين الروميّ: ما رأيت أكثر ذكرًا لله عز وجل من هشيم. وقال ابن المبارك: من غير الدهر حفظه فلم يغبر حفظ هشيم. وقال ابن مهديّ: هشيم أحفظ للحديث من الثوريّ. قال: وسمعت وكيعًا يقول: نحّوا عني هُشيمًا في المذاكرة، وهاتوا من شئتم. وقال أيضًا حِفْظ هشيم أثبت عندي من حفظ أبي عُوانة، وكتاب أبي عُوانة أثبت من حفظ هشيم. وقال عمار. إذا اختلف أبو عوانة وهشيم فالقول قول هشيم، لم يعد عليه خطأ. وقال الحارث بن شريح البقّال: سمعت يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي يقولان: هشيم في حصين أثبت من سفيان وشعبة. وفي رواية عن ابن مهدي: أثبت منهما إلاّ أن يجتمعا. وقال أحمد: ليس أحد أصح حديثًا عن حصين من هشيم. وقال علي بن حَجَر: هشيم في ابني بشر مثل ابن عُيينة في الزُّهريّ. وقال عمرو بن عون: هشيم سمعت من الزُّهريّ نحوًا من مئة حديث، فلم أكتبها. وقال الهرويّ: كتب هشيم عن الزُّهري صحيفة بمكة، فجاءت

الريح فحملت الصحيفة، فطرحتها فلم يجدها، وحفظ هشيم منها تسعة، وقيل إن ذكر شعبة بحديث الزُّهريّ، ولم يكن شعبة كتب عن الزهريّ، فأخذ شعبة الصحيفة وألقاها في دجلة، فكان هشيم يروي عن الزُّهريّ من حفظه، وكان يدلس. وذكره ابن حبّان في الثقات، وقال: كان مدلسًا. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، ثبتًا يدلس كثيرًا، فما قال فيه: حدثنا، فهو حجة، وما لم يقل فليس بشيء. وقال عبد الرزاق عن ابن المبارك: قلت لهشيم: لِمَ تدلس وأنت كثير الحديث؟ فقال: كبيران قد دلّسا: الأعمش وسفيان. وذكر الحاكم أن أصحاب هشيم اتفقوا على أن لا يأخذوا عنه تدليسًا. ففطن لذلك فجعل يقول في كل حديث يذكره: حدثنا حصين ومغيرة، فلما فرغ قال: هل دلست لكم؟ قالوا: لا. قال: لم أسمع من المغيرة مما ذكرت لكم حرفًا واحدًا، إنما قلت حدثني حصين، وهو مسموع لي، وأما المغيرة فغير مسموع لي. وقال الخليليّ: حافظ متقن، تغير بآخر مدته، روى عن أبيه وخاله القاسم بن مِهران وعمرو بن دينار وعاصم الأحول وحميد الطويل، وسيار أبي الحكم، وخالد الحذاء والأعمش وخلق كثير. وروى عنه مالك بن أنس وشُعبة والثّوريّ، وهم أكبر منه، وابنه سعيد، وابن المبارك ووكيع ويزيد بن هارون، وخلق كثير. مات في شعبان سنة ثلاث وثمانين ومئة. الثالث سعيد بن النضر البغداديّ أبو عثمان، سكن وآمُل جَيْحون، روى عن هشيم وعثمان بن عبد الرحمن الوقاص وغيرهما. وروى عنه البخاري والفضل بن أحمد بن سمهل الآمُليّ، ذكره ابن حِبّان في الثقات. مات سنة أربع وثلاثين ومئتين. الرابع سيّار بن أبي سيار، أبو الحكم العَنَزيّ الواسطيّ، ويقال البصريّ، واسم أبي سيار وَرْدان، وقيل: وَرْد، وقيل: دينار. روى عن ثابت البنانيّ وبكر بن عبد الله المُزَنيّ وأبي وائل، ويزيد الفقير والشعبيّ وغيرهم. وروى عنه إسماعيل بن أبي خالد وشعبة والثَّوْريّ وقُرّة بن خالد وهُشيم وخلف بن خليفة وغيرهم. قال أحمد: صدوق ثقة ثبت في كل المشائخ. وقال ابن معين

لطائف إسناده

والنَّسائي: ثقة، وقال أسلم بن سهل الواسطيّ عن الليث بن بكّار عن أبيه: مات سنة اثنتين وعشرين ومئة وكان لنا جارًا. الخامس يزيد بن صُهيب الفقير، أبو عثمان الكونيّ، كان يشكو أفقار ظهره، ولم يكن فقيرًا من المال. قال صاحب المحكم: رجل فقير، مكسور فقار الظهر. ويقال له فقير، بالتشديد أيضًا. روى عن جابر وأبي سعيد وابن عمر، وروى عنه سيّار أبو الحكم والحكم بن عُتبة وقيس بن سليم والمسعوديّ وأبو حنيفة وابن أبي ذيب والأعمش وآخرون. قال ابن مُعين: ثقة. وأبو حاتم وأبو زرعة والنَّسائيّ: ثقة صدوق. وذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال ابن خِراش: صدوق جليل عزيز الحديث. والسادس جابر بن عبدالله، وقد مرَّ في الرابع من بدء الوحي. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، ورواته ما بين بصريّ وواسطيّ وبغداديّ وكوفيّ، وفيه صورة الماء، وقد تقدم الكلام عليها في الخامس من بدء الوحي، وفيه سيار مبهمًا، ومرَّ أن المراد به سيار بن أبي سيار، ولهم شيخ آخر اسمه سيار، وهو تابعيّ شاميّ، أخرج له التِّرمذيُّ، وذكره ابن حِبان في الثقات، وإنما ذكرته لأنه روى معنى حديث الباب عن أبي أُمامة، ولم ينسب في الرواية كما لم ينسب سيار في حديث الباب، فربما ظنهما بعض من لا تمييز له واحدًا، فيظن في الإِسناد اختلافًا، وليس كذلك، أخرجه البخاريّ هنا وفي الصلاة والخمس، ومسلم في الصلاة عن يحيى بن يحيى وأبي بكر بن أبي شيبة والنَّسائي في الطهارة بتمامه، وفي الصلاة ببعضها عن الحسن بن إسماعيل. ثم قال المصنف. باب إذا لم يجد ماء ولا ترابًا قال ابن رشيد: نزل البخاريّ فَقْدَ شرعية التيمم منزلة فقد التراب بعد شرعية التيمم، فكأنه يقول: حكمهم في عدم المطهر الذي هو الماء خاصة، كحكمنا

في عدم المطهرين: الماء والتراب، وبهذا تظهر مناسبة الحديث للترجمة؛ لأن الحديث ليس فيه أنهم فقدوا التراب، وإنما فيه أنهم فقدوا الماء فقط، ففيه دليل على وجوب الصلاة لفاقد الطهرين، ووجهه أنهم صلوا معتقدين وجوب ذلك، ولو كانت الصلاة حينئذ ممنوعة لأنكر عليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك، وحاصل مذاهب العلماء فيها خمسة أقوال: أربعة منها عند المالكية، كل واحد منها موافق لمذهب آخر إلاَّ القول الأول، وعندهم خاص لم يوافقوا عليه أيضًا. وكذلك عند الشافعية فيها أربعة أيضًا. فمشهور مذهب مالك أنها ساقطة أداء وقضاء. قال خليل: وتسقط صلاة وقضاؤها بعدم ماء وصعيد، ووجهه هو أن الطهر أداء وقضاء شرط في الوجوب. وعند ابن القاسم يصلي ويقضي، وهو مشهور مذهب الشافعيّ، أوجبوا الصلاة لحديث الباب، وأوجبوا القضاء احتياطًا، ولأن هذا عذر نادر لا يسقط الإِعادة. وقال أشهب: تجب الصلاة ولا يعيد، وهذا هو المشهور عنه وبه قال المزنيّ وابن المنذر، واختاره النوويّ في شرع المهذب قائلًا: إنه أدى وظيفة الوقت، وإنما يجب القضاء بأمر جديد، ولم يثبت فيه شيء، واحتج أهل هذا القول بحديث الباب قائلين: لو كانت الإِعادة واجبة لبينها النبي -صلى الله عليه وسلم-، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة وأُجيب بأن الإِعادة ليست على الفور، ويجوز تأخير البيان إلى وقت الحاجة. قلت: مذهب المالكية أن الإِعادة على الفور. والرابع قول أَصْبَعْ: تحرم الصلاة الآن، لكونه محدثًا، ويجب القضاء، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه. وبه قال النَّوريّ والأوزاعيّ، وقولٌ عند الشافعية. والخاص عند المالكية قول القابسيّ، وهو أن المصلوب يومىء إلى الأرض بوجهه وكفه قاصدًا التيمم، وينوي الصلاة. وعند الشافعية قول حكاء النوويّ: تستحب الصلاة، وتجب الإِعادة. ونظم بعض المالكية الأقوال الموجودة في مذهبهم فقال: ومن لم يجد ماء ولا مُيَمَّمًا ... فأربعة الأقوال يحكين مذهبًا

يصلي ويقضي عكس ما قال مالك ... وأصبغ يقضي والأداء لِأشهبا وللقابسي ذو الربط يُومي لأرضه ... بوجهٍ وكفٍّ للتيمم مطلبا

الحديث الثالث

الحديث الثالث حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا اسْتَعَارَتْ مِنْ أَسْمَاءَ قِلاَدَةً فَهَلَكَتْ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلاً، فَوَجَدَهَا فَأَدْرَكَتْهُمُ الصَّلاَةُ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ فَصَلَّوْا، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ. فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ لِعَائِشَةَ جَزَاكِ اللَّهُ خَيْرًا، فَوَاللَّهِ مَا نَزَلَ بِكِ أَمْرٌ تَكْرَهِينَهُ إِلاَّ جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكِ لَكِ وَلِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ خَيْرًا. قوله: فأدركتهم الصلاة، يعني الذين بعثوا في طلب العقد، وقوله: فصلوا بغير وضوء، كما صرح به مسلم في روايته والمصنف في فضل عائشة، وفي التفسير، وقد تقدمت مباحث الحديث مستوفاة، وطريق الجمع بين رواية عُروة والقاسم في الباب الذي قبله. رجاله خمسة: الأول: زكرياء بن يحيى من غير ذكر جد، فيحتمل زكرياء بن يحيى بن صالح اللؤلؤيّ، ويحتمل زكريا بن يحيى بن عمر الطائيّ الكوفيّ أبو السكين، وقد مرّ تعريفهما في الثالث عشر من كتاب الوضوء، وأيًا كان منهما فهو على شرطه، فلا يوجب الاشتباه بينهما قدحًا في الحديث. الثاني: عبد الله بن نُمَير،. بضم النون، الهمدانيّ الخارفيّ، أبو هشام الكوفيّ قال أبو نعيم: سئل سفيان عن أبي خالد الأحمر فقال: نِعم الرجل عبدالله بن نُمير. وقال عثمان الدارميّ: قلت ليحى بن مُعين: إدريس أحب إليك في الأعمش، أو عبد الله بن نُمير؟ فقال: كلاهما ثقة. وقال أبو حاتم: كان

مستقيم الأمر، وذكره ابن حِبّان في الثقات. وقال العجليّ: ثقة صالح الحديث، صاحب سنة. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث صدوق روى عن إسماعيل بن أبي خالد والأعمش ويحيى بن سعيد وهشام بن عروة والأوزاعيّ ويحيى بن سعيد الأنصاريّ وغيرهم. وروى عنه ابنه محمد وأبو خَيْثمة ويحيى بن يحيى وعلي بن المدينيّ وأبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة وجماعة. مات سنة تسع وتسعين ومئة، ومرَّ هشام بن عروة وأبوه عروة وعائشة أم المؤمنين في الثاني من بدء الوحي. وفي الحديث ذكر أُسَيد بن حُضير، بالتصغير فيهما ابن السِّماك بن عَتيك بن امرىء القيس بن زيد بن عبد الأشهل، يكنى أبا يحيى على المشهور، وقيل: أبا عتيك، وقيل: أبا عيسى، وقيل: أبا حضير. وقيل أبا الحُصين. كان أبوه الحُضَير فارس الأَوس ورئيسهم يوم بُعاث، وكان أُسيد من السابقين إلى الإِسلام، وهو أحد النقباء ليلة العقبة، وكان إسلامه على يد مصعب بن عُمير قبل إسلام سعد بن معاذ، واختلف في شهوده بدرًا، قال ابن سعد: كان شريفًا كاملًا، وآخى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بينه وبين زيد بن حارثة، وكان ممن ثبت يوم أحد، وجرح حينئذ سبع جراحات. وفي البغويّ عن أبي هُريرة أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "نعم الرجل أُسَيد بن حُضير" وفي ابن إسحاق عن عائشة قالت: ثلاثة من الأنصار لم يكن أحد منهم يُلْحق في الفضل كلهم من بني عبد الأشهل: سعد بن معاذ، وأُسيد بن الحُضير، وعبّاد بن بشر. وفي مسند أحمد عن عائشة قالت: كان أُسيد بن حُضير من أفاضل الناس، وكان يقول: لو أنّي أكون كما أكون على أحوال ثلاث، لكنت حين أسمع القرآن أو أقرأه، وحين أسمع خطبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإذا شهدت جنازة. وفي الواقديّ: كان أبو بكر لا يقدم أحدًا من الأنصار على أُسيد بن حضير. وقال ابن عبد البَرّ: كان أُسيد بن حُضير من أَحسن الناس صوتًا بالقرآن، وحديثه في استماع الملائكة قراءته، حين نفرت فرسه، حديث صحيحٌ جاءت

لطائف إسناده

به طرق صحاح. وفي ابن إسحاق عن أبي عطارد قال: جاء عامر بن الطفيل وأربد إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فسألاه أن يجعل لهما نصيبًا من تمر المدينة، وأخذ أُسيد بن حُضير الرمحَ فجعل يقرع رؤوسهما ويقول: اخرجا أيها الهَجْرَسان. فقال عامر: من؟ فقال: أنا أُسيد بن حُضير. قال: حُضير الكتائب؟ قال: نعم. قال: كان أبوك خيرًا منك. قال: بل أنا خير منك ومن أبي، مات أبي وهو كافر. والهَجْرَس الثعلب. توفي أُسيد بن الحُضير في شعبان سنة إحدى وعشرين، وحمل عمر بن الخطاب بين العمودين من بني الأشهل حتى وضعه في البقيع. وقيل إنه حمل نعشه بنفسه بين الأربعة الأعمد، وصلى عليه، وأوصى إلى عمر بن الخطاب فنظر عمر في وصيته، فوجد عليه أربعة آلاف دينار، فباع نخله أربع سنين بأربعة آلاف، وقضى دَيْنَه. وقال: لا أترك بني أخي عالة فرد الأرض وباع تمرها. والأشهليّ في نسبه نسبة إلى عبد الأشهل، أبو حيّ من الأنصار، وهو ابن جُشَم بن الحارث بن الخزرجيّ، وإليه يرجع كل أشْهليّ منهم سعد بن معاذ الذي اهتز عرش الرحمن لموته. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، والعنعنة في موضعين، ورواته ما بين كوفيّ ومدنيّ. ثم قال المصنف باب التيمم في الحضر إذا لم يجد الماء وخاف فوت الصلاة جعله مقيدًا بشرطين: خوف خروج الوقت، وفقد الماء. ويلتحق بفقده عدم القدرة على تحصيله، كما إذا كان في بئر وليس عنده آلة للاستسقاء، أو حال بينه وبينه عدوّ أو سبع. ثم قال: وبه قال عطاء، أي بهذا المذهب، وهذا التعليق رواه ابن أبي شيبة في مصنفه موصولًا عن عمر عن ابن جُريج عن عطاء، ووصله عبد الرزاق بسند صحيح، وليس في المنقول عنه تعرض لوجوب

الإعادة، وعطاء المراد به ابن أبي رباح، وقد مرَّ في التاسع والثلاثين من كتاب العلم. ثم قال: وقال الحسن في المريض عنده الماء ولا يجد من يناوله: يتيمم، أي كذلك يتيمم إذا خاف من الماء ضررًا، وإن وجد معينًا. وروى ابن أبي شيبة عن الحسن وابن سيرين أنهما قالا: لا يتيمم ما رجا أن يقدر على الماء في الوقت، ومفهومه يوافق ما قبله، والتعليق المذكور وصله إسماعيل القاضي في الأحكام من وجه صحيح، وروى ابن أبي شيبة في مصنفه موصولًا معنى ما ذكره البخاريّ معلقًا، وقد مرَّ الحسن في الرابع والعشرين من الإِيمان. ثم قال: وأقبل ابن عمر من أرضه بالجُرُف، فحضرت العصر بِمَرْبَد الغنم، فصلى ثم دخل المدينةَ والشمس مرتفعة، فلم يعد. والجُرُفُ، بضم الجيم والراء وقد تسكن، ما تجرفه السيول وتأكله من الأرض، والمراد به هنا موضع ظاهر المدينة كانوا يعسكرون به إذا أرادوا الغزو، وهو على فرسخ من المدينة. والمِرْبَد بكسر الميم وسكون الراء ثم موحدة مفتوحة، وحكى ابن التين أنه روي بفتح الميم، موضع تحبس فيه الإبل والغنم على ميل أو ميلين من المدينة. وقوله: فصلى يعني بعد أن تيمم. كما في رواية مالك الآتية في الموطأ ورواية الشافعيّ. وقوله: "فَلم يُعد" أي الصلاة، وهذا يدل على أن ابن عمر كان يرى جواز التيمم للحاضر؛ لأن مثل هذا لا يسمى سفرًا، وبهذا يناسب الترجمة. وظاهره أن ابن عمر لم يراع خروج الوقت، لأنه دخل المدينة والشمس مرتفعة، لكن يحتمل أن يكون ظن أنه لا يصل إلاّ بعد خروج الوقت، ويحتمل أن يكون تيمم لا عن حدث، بل لأنه كان يتوضأ لكل صلاة استحبابًا، فلعله كان على وضوء فأراد الصلاة فلم يجد ماء كعادته، فاقتصر على التيمم بدل الوضوء. وعلى هذا فليس مطابقًا للترجمة إلاّ بجامع ما بينهما من التيمم في الحضر. قاله في الفتح. قلت: هذا التأويل بعيد جدًا؛ لأنه لم ينقل عن أحد أن تجديد الوضوء

يحصل بالتيمم، وقد اختلف السلف في المسألة، فذهب مالك إلى أنه أي الحاضر الصحيح العادم للماء، يتيمم ولا يعيد الصلاة، متمسكًا بهذا الذي رواه عن ابن عمر. ووجهه ابن بطّال بأن التيمم إنما ورد في المريض والمسافر لإِدراك وقت الصلاة، فيلتحق بهما الحاضر إذا لم يجد الماء قياسًا، وذهب الشافعيّ إلى أنه تجب الإِعادة لندرة فقد الماء في الحضر، بخلاف السفر. وعن أبي يوسف وَزُفَر لا يصلي إلى أن يجد الماء، ولو خرج الوقت. وقال العينيّ: فذهبنا جواز التيمم لعادم الماء في الأمصار. وفي شرح الطحاويّ: التيمم في المِصر لا يجوز إلاّ في ذي ثلاث: إذا خاف فوت صلاة الجنازة إنْ توضأ، وعند خوف فوت صلاة العيد، وعند خوف الجنب من البرد بسبب الاغتسال. وهذا التعليق في موطأ مالك عن نافع، أنه أقبل هو وعبد الله من الجُرف الخ، وفيه أنه تيمم فمسح وجهه ويديه إلى المرفقين. قال في الفتح: ولم يظهر سبب حذف البخاريّ لذكر التيمم مع أنه المقصود بالباب. قال العينيّ: لعله من الناسخ، واستمر الأمر عليه. وعبد الله مرَّ في كتاب الإِيمان قبل ذكر حديث منه.

الحديث الرابع

الحديث الرابع حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنِ الأَعْرَجِ قَالَ سَمِعْتُ عُمَيْرًا مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَقْبَلْتُ أَنَا وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَسَارٍ مَوْلَى مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى أَبِي جُهَيْمِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الصِّمَّةِ الأَنْصَارِيِّ فَقَالَ أَبُو الْجُهَيْمِ أَقْبَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ نَحْوِ بِئْرِ جَمَلٍ، فَلَقِيَهُ رَجُلٌ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى أَقْبَلَ عَلَى الْجِدَارِ، فَمَسَحَ بِوَجْهِهِ وَيَدَيْهِ، ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلاَمَ. قوله: من نحو بئرِ جمل، أي من جهة الموضع الذي يعرف بذلك، وهو بفتح الجيم والميم، وفي النَّسائيّ: بئر الجمل، وهو العقيق. وقوله: فلقيه رجل، هو أبو الجُهيم الراوي، كما بينه الشافعي في روايته لهذا الحديث. وقوله: فلم يرد عليه، أي بالحركات الثلاث: الكسر لأنه الأصل، والفتح لأنه الأخف، والضم لاتباع الراء. وقوله: حتى أقبل على الجدار، وللدارقطنيّ: حتى وضع يده على الجدار. وزاد الشافعيّ: "فحته بعصا" وهو محمول على أن الجدار كان مباحًا أو مملوكًا لإِنسان يعرفُ رضاه. قلت: هو لا يخلو من أن يكون لمسلم، وكل مسلم معلوم رضاه بذلك، أو الكافر مباح المال. وإذا كان ذميًا فهذا لا يلحقه فيه ضرر. وقوله: فمسح بوجهه ويديه، وللأصيلي وأبي الوقت "وبيديه" بزيادة الموحدة، وللدارقطنيّ "فمسح بوجهه وذراعيه" وكذا للشافعيّ، وله شاهد أخرجه أبو داود عن ابن عمر، لكن خَطَّأ الحفاظ راويه في رفعه، وصوبوا وقفه، وقد مرَّ قريبًا أن مالكًا أخرجه موقوفًا عن ابن عمر. والثابت في حديث أَبي جُهيم لفظ "يديه وذراعيه". وقوله: ثم رد عليه السلام، زاد الطبراني في روايته في الأوسط

رجاله سبعة

"وقال إنه لا يمنعني أن أرد عليك إلاّ أني كنت على غير طُهر" أي فكره أن يذكر الله على غير طهارة؛ لأن السلام اسم من أسمائه تعالى، لكنه منسوخ بآية الوضوء أو بحديث عائشة "كان عليه الصلاة والسلام يذكر الله على كل أحيانه". والحديث كما قال النوويّ محمول على أنه كان عادمًا للماء حال التيمم، وهو مقتضى صنيع البخاري، وقد تعقب استدلاله به على جواز التيمم في الحضر بأنه ورد على سبب، وهو إرادة ذكر الله؛ لأن لفظ السلام من أسمائه، وما أريد به استباحة الصلاة، وأُجيب بأنه لما تيمم في الحضر لرد السلام، مع جوازه بدون الطهارة، فمن خشي فوت الصلاة في الحضر جاز له التيمم، بالأَوْلى لعدم جواز الصلاة بغير طهارة مع القدرة، وقيل: يحتمل أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يرد بذلك رفع الحدث، ولا استباحة محظور، وإنما أراد التشبه بالمتطهرين، كما شرع الإِمساك في رمضان لما يباح له الفطر، أو قصد تخفيف الحدث بالتيمم، كما يشرع تخفيف حدث الجنب بالوضوء، كما مرَّ. واستدل به ابن بطال على جواز التيمم بالحجر؛ لأن حيطان المدينة مبنية بحجارة سود، وأجيب بأن الغالب وجود الغبار على الجدار، لاسيما وقد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام حتّ الجدار بالعصا، ثم تيمم كما في رواية الشافعيّ المارة، فيحمل المطلق على المقيد، لكن يرد هذا الجواب تفرد الشافعيّ بتلك الزيادة، وعلوق الغبار في الحجارة قليل لا يحصل منه ما يتيمم به، ويأتي في الذي بعده الكلام على مسح الذراعين. رجاله سبعة، وفيه ذكر ميمونة. الأول: يحيى بن بكر. والثاني: الليث بن سعد. وقد مرا في الثالث من بدء الوحي، ومرَّ الأعرج عبد الرحمن بن هُرْمُز في السابع من كتاب الإِيمان، ومرت ميمونة في الثامن والخمسين من كتاب العلم. الرابع: جعفر بن الربيع بن شُرَحبيل بن حَسَنة الكنديّ، أبو شرحبيل

المصريّ، رأى عبد الله بن الحارث بن جَزْء الزَّبيديّ الصحابيّ، روى عن الأعرج وعمران بن مالك وأبي سَلمة وبَكير بن الأَشَجّ والزُّهْرِيّ وجماعة. وروى عنه ابن لُهَيعة والليث وعمر بن الحارث ونافع بن يزيد ويزيد بن أبي حبيب، وهو من أقرانه. قال أحمد: كان شيخًا من أصحاب الحديث، ثقة. وقال أبو زوعة: صدوق، وقال النَّسائي: ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة، توفي سنة ست وثلاثين ومئة. الخامس: عُمير بن عبد الله الهلاليّ، مصغر، أبو عبد الله المدَنِيّ، مولى أم الفضل، روى عن مولاته وابنيها عبد الله والفضل ابني العباس، وأبي جهْم بن الحارث الصِّمَّة، وأسامة بن زيد، وعبد الله بن يسار مولى ميمونة، وروى عنه الأعرج وسالم أبو النظر وإسماعيل بن رجاء الزُّبيدِيّ وغيرهم. قال ابن إسحاق: كان ثقة، أخرجوا له حديثين: أحدهما في الصيام، والآخر في التيمم. وقال النَّسائي: ثقة، وذكره ابن حبّان في الثقات، مات في المدينة سنة أربع ومئة. السادس: عبد الله بن يسار المدنيّ الهلاليّ، مولى ميمونة بنت الحارث، أخو عطاء بن يسار، ولم يخرج له أحد من الصحاح، ولم أجد له ذكر في تهذيب الكمال. السابع: أبو الجُهَيم الصحابيّ، بالتصغير، ويقال أيضًا بكر ابن الحارث بن الصِّمّة، وقيل في نسبه غير ذلك. قيل اسمه عبد الله، وقيل اسمه الحارث، له هذا الحديث، وله حديث آخر أخرجه أحمد والبغويّ من طريق يزيد بن خُصَيفة إلى أبي جُهيم الأنصاريّ أن رجلين اختلفا الحديث. وفيه أن هذا القرآن أُنزل على سبعة أحرف. وجعل ابن عبد البَرّ أبا جُهيم هذا ابن الحارث غير أبي جُهيم عبد الله بن جُهيم الأنصاريّ .. وقال: روى هذا بشر بن سعيد مولى الحضرميين عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، في المار بين يدي المصلي "أنه لو يعلم ماذا عليه في المرور لكان أن يقف أربعين خريفًا خيرًا له من أن يمر بين يديه". وجعل ابن حجر في الإِصابة واحدًا، وفي الصحابة آخر، يقال له أبو الجُهَيم، وهو صاحب الأنبجاتيه، وهو غير هذا؛ لأنه قرشيٌّ وهذا أنصاريّ.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: وفيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في موضعين، وفيه السماع والقول، ونصف الإِسناد والأول مصريون، والنصف الثاني مدنيون، ورواية الأعرج عن عمير رواية الأقران، وعبد الله بن يَسَار أخو عطاء بن يسار المذكور هنا ليس له في هذا الحديث رواية، ولذا لم يذكره المصنفون في رجال الصحيحين. أخرجه البخاريّ هنا، ومسلم في الطهارة منقطعًا، وهو موصول، وفيه عبد الرحمن بن يسار وهو وهم، وأخرجه أبو داود فيها عند عبد الملك بن شُعيب، والنَّسائيّ فيها عن الربيع بن سليمان. ثم قال المصنف باب المتيمم هل ينفخ فيهما أي في يديه، وإنما ترجم بلفظ الاستفهام لينبه على أن فيه احتمالًا كعادته، لأن النفخ يحتمل أن يكون لشيء علق بيده، خشي أن يصيب وجهه الشريف، أو علق بيده من التراب شيء كثير، فأراد بخفيفه لئلا يبقى له أثر في وجهه الكريم. ويحتمل أن يكون لبيان التشريع، ومن ثَمّ تمسك به من أجاز التيمم بغير التراب، زاعمًا أن نفخه يدل على أن المشترط في التيمم الضرب من غير زيادة على ذلك، فلما كان هذا الفعل محتملًا لما ذكر، أورده بلفظ الاستفهام، ليعرف الناظر أن للبحث فيه مجالًا.

الحديث الخامس

الحديث الخامس حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا الْحَكَمُ عَنْ ذَرٍّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى عَنْ أَبِيهِ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ إِنِّي أَجْنَبْتُ فَلَمْ أُصِبِ الْمَاءَ. فَقَالَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَمَا تَذْكُرُ أَنَّا كُنَّا فِى سَفَرٍ أَنَا وَأَنْتَ فَأَمَّا أَنْتَ فَلَمْ تُصَلِّ، وَأَمَّا أَنَا فَتَمَعَّكْتُ فَصَلَّيْتُ، فَذَكَرْتُ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ هَكَذَا". فَضَرَبَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِكَفَّيْهِ الأَرْضَ، وَنَفَخَ فِيهِمَا ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ. قوله: جاء رجل، قال في الفتح: لم أقف على اسمه، وفي الطبرانيّ أنه من أهل البادية، وقوله: فلم أُصِبْ الماء، بضم الهمزة، من الإصابة، أي لم أجده. وقوله: أما تذكر أنّا كنا في سفر، وزاد مسلم في سَرِية فأجنبنا، همزة أما للاستفهام، وكلمة ما للنفي، وموضعُ "أنّا كنا" نصب مفعول تذكر، وقوله: أنا وأنت تفسير لضمير الجمع في كنّا، وقوله: فاما أنت فلم تصلّ أي: إما لأنه كان يتوقع الوصول إلى الماء قبل خروج الوقت، أو لاعتقاده أن التيمم عن الحدث الأصغر لا الحدث الأكبر. وقوله: وأمّا أنا فتمعّكتُ: أي تمرغت في التراب. كما في الرواية الآتية "فتمرغتُ" أي تقلبتُ، وكأنَّ عمار استعمل في هذه المسألة القياس؛ لأنه لما رأى أن التيمم إذا وقع بدل الوضوء، وقع على هيأة الوضوء، رأى أن التيمم عن الغسل يقع على هيأة الغُسل. وما ذكر عن عمر من عدم جواز التيمم للجنب مذهب مشهور عنه، ووافقه عليه ابن مسعود، وجرت بينه وبين أبي موسى مناظرة في ذلك، كما يأتي. وقيل إن ابن مسعود رجع عن ذلك، واستفيد من هذا الحديث وقوع اجتهاد الصحابة في زمنه -صلى الله عليه وسلم-، وأن المجتهد لا لوم عليه إذا بذل وسعه، وإن لم يصب الحق.

أمر عمر أيضًا بقضائها دليل لمن قال إن فاقد الطهرين لا يصلي ولا يقضي، كما مرَّ عن مالك. وقوله: إنما كان يكفيك هكذا، وللحموي والمستملي "هذا" وقوله: وضرب بكفيه الأرض، في رواية غير أبي ذَرٍّ "فضرب النبي -صلى الله عليه وسلم- بكفيه الأرض" وللأصيلي "في الأرض". وقوله: ونفخ فيهما، وفي رواية حجاج الآتية "ثم أدناهما من فيه" وهو كناية عن النفخ فيهما، إشارة إلى أنه كان نفخًا خفيفًا ويأتي في رواية أبي معاوية "ثم نفضها" بدل نفخ فيهما، والمراد تخفيف التراب إذا كان كثيرًا، فعند المالكية يستحب النفض الخفيف، بحيث لا يزيل ما تعلق بهما من الغبار؛ لأنه يندب نقل الغبار إلى الوجه عندنا. وقوله: ومسح بهما وجهه وكفيه، قال في الفتح: فيه دليل على أن الواجب في التيمم هو الصفة المشروحة، أي من كونه ضربة واحدة، ومن الاقتصار على الكفين. قال: والزيادة على ذلك، لو ثبتت بالأمر، دلت على النسخ ولزم قبولها، لكن إنما وردت بالفعل، فتحمل على الأكمل. وهذا هو الأظهر من حيث الدليل. وذهب مالك وأحمد إلى هذا، فلا يجب عندهما المسح إلى المرفقين، ولا الضربة الثانية. لكن عند المالكية يسن المسح إلى المرفقين، والضربة الثانية يمسح بها يديه فقط. ولا يقال يلزم على هذا مسح الواجب بما هو سنة؛ لأنا نقول أثر الواجب باقٍ من الضربة الأولى مضافة إليه الضربة الثانية، بدليل أنه لو تركها وفعل الوجه واليدين معًا بالأُولى أجزأه. ويعيد المقصر على كوعيه في الوقت ندبًا دون المقتصر على الضربة الواحدة، لقوله: القول القائل بوجوب المسح إلى المرفقين عندنا، بخلاف الضربة الثانية، فالقول القائل بوجوبها ضعيف. قال في الفتح: والأحاديث الواردة في صفة التيمم لم يصح منها سوى حديث أبي جهيم، وحديث عمار، وما عداهما فضعيف أو مختلف في رفعه ووقفه. والراجح عدم رفعه، فأما حديث أبي جُهيم فورد بذكر الكفين في الصحيحين، وبذكر المرفقين في السنن. وفي رواية إلى نصف الذراع، وفي رواية إلى الأباط، فأما رواية المرفقين ونصف الذراع ففيهما مقال.

وأما رواية الأباط فقال الشافعيّ وغيره: إن كان ذلك وقع بأمر النبي -صلى الله عليه وسلم-، فكل تيمم صح للنبي عليه الصلاة والسلام بعده فهو ناسخ، وإن كان وقع بغير أمره فالحجة فيما أمر به، ومما يقوي رواية الصحيحين في الاقتصار على الوجه والكفين كونُ عمّار كان يفتي بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك، وراوي الحديث أعرف بالمراد به من غيره، ولاسيما الصحابي المجتهد. ومذهب أبي حنيفة والشافعيّ وجوب ضربتين: ضربة لوجهه، وضربة ليديه. ووجوب المسح إلى المرفقين قياسًا على الوضوء، لحديث أبي داود "أنه عليه الصلاة والسلام تيمم بضربتين مسح بإحداهما وجهه" وروى الحاكم والدارقطنيّ عن ابن عمر، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين" والقياس على الوضوء دليل على أن المراد بقوله في حديث عمار "وكفيه إلى المرفقين" وبقول أحمد. وقال إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن خزيمة، وقال النوويّ رواه أبو ثور وغيره عن الشافعيّ في القديم قال: هذا القول وإن كان مرجوحًا فهو القوي في الدليل، وقال النوويّ في شرح مسلم في الجواب عن هذا الحديث: إن المراد به بيان صورة الضرب للتعليم، وليس المراد به بيان جميع ما يحصل به التيمم، وتُعُقب بأنّ سياق القصة يدل أن المراد به بيان جميع ذلك؛ لأن ذلك هو الظاهر من قوله "إنما يكفيك" وأما ما استدل به من اشترط بلوغ المسح إلى المرفقين من أن ذلك مشترط في الوضوء، فجوابه أنه قياس في مقابلة النص، فهو فاسد الاعتبار، وقد عارضه من لم يشترط ذلك بقياس آخر، وهو الإطلاق في آية السرقة، ولا حاجة لذلك مع وجود هذا النص، وسياق هؤلاء يدل على أن التعليم وقع بالفعل. ولمسلم عن يحيى بن سعيد والإسماعيليّ عن يزيد بن هارون أن التعليم وقع بالقول، ولفظهم "إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض" زاد يحيى "ثم تنفخ ثم تمسح بهما وجهك وكفيك" واستدل بالنفخ على سقوط استحباب التكرار في التيمم، لأن التكرار يستلزم عدم التخفيف، وعلى أن من غسل رأسه

رجاله ثمانية

بدل المبيح في الوضوء أجزأه، أخذًا من كون عمار تمرغ في التراب للتيمم، وأجزأه ذلك. رجاله ثمانية: الأول: الأول آدم بن أبي إياس. والثاني: شعبة بن الحجاج، وقد مرا في الثالث من كتاب الإيمان، ومرَّ الحَكَم بن عُتَيبة في الثامن والخمسين من كتاب العلم، ومرَّ عمار بن ياسر في الحادي والعشرين من كتاب الإِيمان، ومرَّ عمر بن الخطاب في الأول من بدء الوحي. الرابع: ذرّ بن عبد الله بن زُرارة المُرْهِبي، بضم الميم وسكون الراء الهمدانيّ الكوفيّ. قال ابن مُعين والنَّسائيّ وابن خِراش: ثقة، وقال أبو حاتم: صدوق، وذكره ابن حبّان في الثقات، وقال: كان من عُبّاد أهل الكوفة، وكان يقص. وقال البخاريّ: صدوق في الحديث، وكذا قال الساجيّ، وزاد: كان يرى الإِرجاء، ووثقه ابن نُمير، وقال الأثرم عن أحمد: ما به بأس، وقال أبو داود: كان مُرجئيًا، وهجره إبراهيم النخعيّ وسعيد بن جبير للإرجاء. روى عن عبد الله بن راشد بن الهاد وسعيد بن عبد الرحمن بن أَبزى والمسيب بن عَجيبة وغيرهم. وروى عنه ابنه عمر والأعمش ومنصور والحكم بن عُتيبة وعطاء بن السائب وغيرهم. قال ابنه عمر: إنه شهد مع عبد الرحمن بن الأشعث قتاله للحجاج، وذلك سنة ثمانين. الخامس: سعيد بن عبد الرحمن بن أَبزى الخُزاعيّ، مولاهم، الكوفيّ، روى عن أبيه وعن ابن عباس وواثلة. وروى عنه جعفر بن أبي المغيرة وطلحة بن مضر والحكم بن عُتيبة وعطاء بن السائب وغيرهم. قال النَّسائي: ثقة، وذكره ابن حِبّان في الثقات. وقال ابن حنبل: حسن الحديث. السادس: عبد الرحمن بن أبزى الخُزاعيّ، مولاهم الصحابيّ، قال

لطائف إسناده

البخاريّ والتِّرمذيّ وآخرون: له صحبة. وقال أبو حاتم: أدرك النبي -صلى الله عليه وسلم-، وصلى خلفه. وقال ابن السكين: استعمله عليٌّ رضي الله تعالى عنه، على خُراسان وأَسند عنه أنه قال: شهدنا مع علي ممن بايع بيعة الرضوان تحت الشجرة ثمان مئة نفسٍ بصفين، فقتل منا ثلاث مئة وستون نفسًا. وثبت في صحيح البخاري من رواية أبي المجالد أنه سأل عبد الرحمن بن أبزى، وابن أبي أوْفى عن السلف فقالا: كنا نصب الغنائم مع النبي -صلى الله عليه وسلم-. وفي صحيح مسلم أن عمر قال لنافع بن عبد الحارث الخُزاعِيّ: من استعملتَ على مكة؟ قال: عبد الرحمن بن أبزى. قال: استعملت عليهم مولى قال: إنه قارىء لكتاب الله عالم بالفرائض. وأخرجه أبو يعلى من وجه آخر، وفيه "إني وجدته أقرأهم لكتاب الله، وأفقههم في دين الله" وسكن عبد الرحمن بعد ذلك الكوفة، روى اثني عشر حديثًا، وروى عن أبي بكر وعمار وعمر وعلي وغيرهم. وروى عنه ابناه عبد الله وسعيد، وعبد الرحمن بن أبي ليلى والشعبيّ وأبو مالك الغِفاريّ وغيرهم. وأما ذكر ابن حبان له في الثقات التابعين، فلم يوافَق عليه. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، والعنعنة في ثلاثة مواضع أيضًا. وفيه القول، وفيه ثلاثة من الصحابة، ورواته ما بين خراسانيّ وكوفيّ ومدنيّ. أخرجه البخاريّ هنا وفي الطهارة عن عدد، ومسلم في الطهارة أيضًا عن إسحاق بن منصور، وأبو داود فيها أيضًا عن محمد بن كثير، والتِّرمذيّ فيها عن أبي حفص عمرو بن علي، والنَّسائيّ فيها عن محمد بن بَسار، وابن ماجه فيه عن بُندار. ثم قال المصنف باب التيمم للوجه والكفين أي هو الواجب، وأتى بصيغة الجزم مع شهرة الخلاف فيه لقوة دليله، فإن الأحاديث الواردة في صفة التيمم ... إلخ ما مرَّ قريبًا.

الحديث السادس

الحديث السادس حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمُ عَنْ ذَرٍّ عَنْ ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى عَنْ أَبِيهِ قَالَ عَمَّارٌ بِهَذَا، وَضَرَبَ شُعْبَةُ بِيَدَيْهِ الأَرْضَ، ثُمَّ أَدْنَاهُمَا مِنْ فِيهِ، ثُمَّ مَسَحَ وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ. قوله عن الحكم، في رواية كريمة والأصيليّ أخبرني الحكم وهي رواية ابن المنذر أيضًا. وقوله: عن ابن عبد الرحمن، في رواية أبوي ذرٍّ والوَقْتِ "عن سعيد بن عبد الرحمن" وقوله: بهذا، أشار إلى سياق المتن الذي قبله من رواية آدم عن شعبة، وهو كذلك، إلّا أنه ليس في رواية حجاج قصة عمر، وحجاج في هذا الحديث المراد به ابن منهال. وقد روى النَّسائيّ هذا الحديث عن حجاج بن محمد عن شعبة بغير هذا السياق، والبخاريّ لم يرو عن حجاج بن محمد، وقد تابع البخاريَّ في حجاج بن منهال عليُّ بن عبد العزيز البغويّ، كما أخرجه ابن المنذر والطبرانيّ عنه، وخالفهما محمد بن خُزيمة البصريّ عنه، فقال: عن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه، ووهم في ذلك، فقد سقطت من روايته لفظة "ابن" ولابد منها؛ لأن أبزى لا رواية له في هذا الحديث، وقد مرَّ قريبًا ما في قوله "ثم أدناهما من فيه" في الذي قبله، ومرت فيه مباحث الحديث مستوفاة. رجاله سبعة: الأول: الحجاج بن منهال، مرَّ في الثامن والأربعين من كتاب الإِيمان، ومرَّ شعبة في الثالث منه، ومرَّ عمار بن ياسر في الحادي والعشرين منه، ومرَّ الحكم بن عتيبة في الثامن والخمسين من كتاب العلم، ومرَّ ذَرّ بن عبد الله وسعيد بن عبد الرحمن وأبوه عبد الرحمن في الذي قبل هذا.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والإِخبار بصيغة الإفراد في موضع واحد، والعنعنة في ثلاثة مواضع وفيه القول. ثم قال: وقال النضر: أخبرنا شعبة عن الحكم قال: سمعت ذرًا يقول عن ابن عبد الرحمن بن أبزى: قال الحكم، وقد سمعته من ابن عبد الرحمن عن أبيه، قال: قال عمار: "وضوء المسلم يكفيه من الماء" قوله: وقد سمعته من ابن عبد الرحمن عن أبيه، أفاد النضر في هذه الرواية أن الحكم سمعه من شيخ شيخه سعيد بن عبد الرحمن، والظاهر أنه سمعه من ذَرٍّ عن سعيد، ثم لقي سعيدًا فأخذه عنه، وكأنّ سماعه من ذرٍّ كان أتقن، ولهذا أكثر ما يجيء في الروايات بإثباته. وهذا التعليق وصله مسلم عن إسحاق بن منصور عن النضر. وأخرجه أبو نعيم في مستخرجه من طريق إسحاق بن راهويه عنه. رجاله ستة: مرَّ ذكر محالهم في الذي قبله، إلاّ النضر بن شميل، فإنه قد مرَّ تعريفه في متابعة بعد السابع عشر من كتاب الوضوء. لطائف إسناده: فيه القول أولًا، والإخبار بصيغة الجمع ثانيًا، والعنعنة ثالثًا، والقول رابعًا، وخامسًا بينهما السماع، والعنعنة سادسًا، والقول سابعًا، والسماع ثامنًا، والعنعنة تاسعًا، والقول عاشرًا.

الحديث السابع

الحديث السابع حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ الْحَكَمِ سَمِعْتُ ذَرًّا عَنِ ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ شَهِدَ عُمَرَ وَقَالَ لَهُ عَمَّارٌ كُنَّا فِي سَرِيَّةٍ فَأَجْنَبْنَا، وَقَالَ تَفَلَ فِيهِمَا. قوله: كنا في سرية فأجنبنا، أفادت هذه الرواية أن عمر أجنب أيضًا، فلهذا خالف اجتهاده اجتهاد عمار. وقوله: وتفل فيهما، التَّفْل، قال أهل اللغة: هو دون البزق، والنفث دونه. رجاله ثمانية: وتقدم في ذكره أولًا ذكر محالهم ما عدا سليمان بن حرب، وسليمان مرَّ في الرابع عشر من كتاب الإِيمان.

الحديث الثامن

الحديث الثامن حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ قالَ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ ذَرٍّ عَنِ ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى عَنْ أبيه قَالَ قَالَ عَمَّارٌ لِعُمَرَ تَمَعَّكْتُ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "يَكْفِيكَ الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ". قوله في هذه الرواية: يكفيك الوجه والكفان، هكذا هو في رواية الأصيلي، وغيره بالرفع على الفاعلية فيهما، وهو واضح. وفي رواية أبي ذرٍ وكريمة: يكفيك الوجه والكفين، بالنصب فيهما على المفعولية. إمّا بإضمار أعني، والتقدير يكفيك أن تمسح الوجه والكفين، أو بالرفع في الوجه على الفاعلية، والنصب في الكفين على أنه مفعول معه. وقيل إنه روي بالجر فيهما، ووجَّهَه ابن مالك بأن الأصل: يكفيك مسح الوجه والكفين، فحذف المضاف وبقي المجرور به على ما كان، واستفيد من هذه الرواية أن ما زاد على الكفين ليس بفرض، وقد مرَّ الكلام على ذلك مستوفى في الرواية الأُولى. رجاله ثمانية: ذكروا أول ذكره ما عدا محمد بن كثير، فإنه مرَّ في الثاني والثلاثين من كتاب العلم.

الحديث التاسع

الحديث التاسع حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ عَنْ شُعْبَةُ عَن الْحَكَمِ عَنْ ذَرٍّ عَنِ ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: شَهِدْتُ عُمَرَ فَقَالَ لَهُ عَمَّارٌ. وَسَاقَ الْحَدِيثَ. قوله: وساق الحديث، لم يسق المتن في هذه الرواية، بل قال: وساق الحديث، وظاهره أن لفظه يوافق اللفظ الذي قبله. رجاله ثمانية: مرت محالها عند أول ذكره ما عدا مسلم بن إبراهيم، فلم يذكر هناك، وقد مرَّ تعريفه في السابع والثلاثين من كتاب الإِيمان.

الحديث العاشر

الحديث العاشر حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ ذَرٍّ عَنِ ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ عَمَّارٌ فَضَرَبَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِيَدِهِ الأَرْضَ، فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ. ساق الحديث في هذه الرواية نازلًا من طريق غندر عن شعبة، والظن أنه قصد بإيراد هذه الطرق الإِشارة إلى أن النضر تفرد بزيادته وأنّ الحَكَم سمعه من سعيد بلا واسطة، واختصر المصنف أيضًا سياق غندر، وقد أخرجه أحمد عنه وابن خُزيمة في صحيحه عن محمد بن بشّار شيخ البخاريّ، وسياقه أتم، ذكر فيه قصة عمر، وذكر فيه النفخ أيضًا، وقد أخرج المؤلف هذا الحديث في هذا الباب من رواية ستة أنفس، وبينه وبين شعبة بن الحجاج في الطريق الأخير اثنان، وفي الطرق الخمسة السابقة واحد، ولم يسقه تامًا من رواية واحد منهم، ولم يذكر جواب عمر رضي الله تعالى عنه، وليس ذلك من المؤلف، فقد أخرجه البيهقيّ من طريق آدم كذلك، نعم ذكر جوابه مسلم من طريق يحيى بن سعيد، والنَّسائيّ من طريق حجاج بن محمد، كلاهما عن شعبة، ولفظهما "فقال لا تصلِّ" زاد السراج "حتى تجد الماء" وقد مرت مباحثه. رجاله ثمانية: ذكروا عند أول ذكره، ما عدا محمد بن بشار وغندر، أما محمد بن بشار فقد مرَّ في الحادي عشر من كتاب العلم، وأما غندر فقد مرَّ في الخامس والعشرين من كتاب الإيمان. ثم قال المصنف

باب الصعيد الطيب وضوء المسلم يكفيه عن الماء

باب الصعيد الطيب وضوء المسلم يكفيه عن الماء باب بالتنوين، خبر مبتدأ أي هذا باب، والصعيد مبتدأ، والطيب صفته، ووضوء المسلم خبر، والصعيد الطيب: الأرض الطاهرة، فإن الصعيد وجه الأرض، فعيل بمعنى مفعول، أي مصعود عليه. وقال قتادة: الصعيد الأرض التي لا نبات فيها ولا شجر. وقال أبو إسحاق: الطيب النظيف، وأكثر العلماء على أنه الطاهر. وقيل الحلال. وقيل: الطيب ما تستطيبه النفس، وعزا بعضهم للشافعيّ أنه قال: صعيدًا طيبًا: أي ترابًا منبتًا، والشافعي غير قائل باشتراط الإنبات في التراب التي يجوز التيمم بها. فقد قال النوويّ: الإنبات ليس بشرط على الأصح، ومعنى الترجمة أن التيمم يغنيه عن الماء عند عدمه حقيقة أو حُكمًا. والترجمة لفظ حديث أخرجه البزار عن أبي هريرة مرفوعًا، وصححه ابن القَطّان، لكن قال الدارقطنيّ: إن الصواب إرساله، وروى أحمد وأصحاب السنن عن عمرو بن بُجْدان، بضم الموحدة وسكون الجيم، عن أبي ذر ونحوه، ولفظه "إن الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين" وصححه التِّرمذيّ وابن حِبّان والدارقطني، ومعنى "وإن لم يجد الماء عشر سنين" أنه يفعل التيمم مرة بعد أخرى، وإن بلغت مدة عدم الماء عشر سنين، وليس المعنى أن التيمم دفعة واحدة بكفيه عشر سنين. ثم قال: وقال الحسن يُجزئه التيمم ما لم يحدث. قوله: يُجزئه، بضم المثناة التحتية، مهموزًا، أي يكفيه. وقوله: ما لم يحدث، أي مدة عدم حَدَثه، وفي مصنف حماد بن سَلَمة عنه قال: يصلي الصلوات كلها بتيمم واحد كالوضوء. وهذا مذهب الحنفية، قالوا نيابة عن الوضوء فله حكمه. وقال الأئمة الثلاثة: لا يصلي إلاّ فرضًا واحدًا، لأنه طهارة ضرورية بخلاف الوضوء، وقد صح فيما قاله البيهقيُّ عن ابن عمر إيجاب التيمم لكل فريضة. قال: ولا نعلم له مخالفًا من الصحابة إلاّ ما روى ابن المنذر عن ابن عباس أنه لا يجب، والنذر كالفرض.

واعترف البيهقيّ بأنه ليس في المسألة حديث صحيح من الطرفين، والأصح صحة الجنائز بعد الفرض، لشبه صلاة الجنازة بالنفل في جواز الترك، وتعينها عند انفراد المكلف عارض، وقد أبيح عند الجمهور بالتيمم الواحد النوافل مع الفريضة، إلاّ أن مالكًا اشترط تقدم الفريضة واتصال النافلة بها. وشذّ شُريك القاضي فقال: لا يصلي بالتيمم الواحد أكثر من صلاة واحدة، فرضًا كانت أو نفلًا، واحتج المصنف لعدم الوجوب بعموم قوله في حديث الباب "فإنه يكفيك" أي: ما لم تحدث أو تجد الماء، وحمله الجمهور على الفريضة التي تيمم من أجلها، ويصلي به ما شاء من النوافل، فإذا حضرت فريضة أخرى وجب طلب الماء، فإن لم تجد تيمم. والتعليق وصله عبد الرزاق ولفظه "يُجزي تيمم واحد ما لم يحدث" وابن أبي شيبة في مصنفه ولفظه "لا ينقض التيمم إلاّ الحدث" وسعيد بن منصور ولفظه "التيمم بمنزلة الوضوء، إذا توضأت فأنت على وضوء حتى تحدث" وهو أصرح في مقصود الباب. والحسن المراد به البصريّ، وقد مرَّ في الرابع والعشرين من كتاب الإيمان. ثم قال: وأَم ابن عباس وهو متيمم، وأشار المصنف بهذا إلى أن التيمم يقوم مقام الوضوء، ولو كانت الطهارة ضعيفة لما أَم ابن عباس وهو متيمم، من كان متوضئًا، وهذا مذهب مالك والشافعيّ وأبي حنيفة والجمهور، خلافًا للأوزاعيّ. قال: الضعيف طهارته نعم لا تصح ممن تلزمه الإِعادة، كمقيم تيمم لعدم الماء عند الشافعية. والتعليق وصله ابن أبي شيبة والبيهقيّ وغيرهما، وإسناده صحيح، وسيأتي في باب "إذا خاف الجنب" لعمرو بن العاص مثله، وعبدالله بن عباس مرَّ في الخامس من بدء الوحي. ثم قال: وقال يحيى بن سعيد: لا بأس بالصلاة على السَّبْخَة، والتيمم بها. والسبخة، بمهملة وموحدة ثم معجمة مفتوحات: هي الأرض المالحة التي لا تكاد تنبت، وإذا وصفت الأرض قلت: أرض سَبِخة، بكسر الموحدة. وهذا الأثر يتعلق بقوله في الترجمة "الصعيد الطيب" أي أَن المراد بالطيب الطاهر كما

مرَّ، وقد مرَّ ما قيل في الصعيد عند الترجمة، ولم يخالف في دخول السبخة في الطيب إلاّ ابن راهويه، فلم يجوّز التيمم بها. ويحيى بن سعيد المراد به الأنصاريّ، وقد مرَّ في الأول من بدء الوحي، ولم أر من وصل هذا الأثر.

الحديث الحادي عشر

الحديث الحادي عشر حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَوْفٌ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ عَنْ عِمْرَانَ قَالَ: كُنَّا فِي سَفَرٍ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَإِنَّا أَسْرَيْنَا، حَتَّى كُنَّا فِي آخِرِ اللَّيْلِ، وَقَعْنَا وَقْعَةً وَلاَ وَقْعَةَ أَحْلَى عِنْدَ الْمُسَافِرِ مِنْهَا، فَمَا أَيْقَظَنَا إِلاَّ حَرُّ الشَّمْسِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنِ اسْتَيْقَظَ فُلاَنٌ ثُمَّ فُلاَنٌ ثُمَّ فُلاَنٌ يُسَمِّيهِمْ أَبُو رَجَاءٍ فَنَسِيَ عَوْفٌ ثُمَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الرَّابِعُ، وَكَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا نَامَ لَمْ يُوقَظْ حَتَّى يَكُونَ هُوَ يَسْتَيْقِظُ، لأَنَّا لاَ نَدْرِى مَا يَحْدُثُ لَهُ فِي نَوْمِهِ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ عُمَرُ، وَرَأَى مَا أَصَابَ النَّاسَ، وَكَانَ رَجُلاً جَلِيدًا، فَكَبَّرَ وَرَفَعَ صَوْتَهُ بِالتَّكْبِيرِ، فَمَا زَالَ يُكَبِّرُ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّكْبِيرِ حَتَّى اسْتَيْقَظَ لِصَوْتِهِ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ شَكَوْا إِلَيْهِ الَّذِي أَصَابَهُمْ قَالَ: "لاَ ضَيْرَ أَوْ لاَ يَضِيرُ ارْتَحِلُوا". فَارْتَحَلَ فَسَارَ غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ نَزَلَ، فَدَعَا بِالْوَضُوءِ، فَتَوَضَّأَ وَنُودِيَ بِالصَّلاَةِ فَصَلَّى بِالنَّاسِ، فَلَمَّا انْفَتَلَ مِنْ صَلاَتِهِ إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مُعْتَزِلٍ لَمْ يُصَلِّ مَعَ الْقَوْمِ. قَالَ: "مَا مَنَعَكَ يَا فُلاَنُ أَنْ تُصَلِّيَ مَعَ الْقَوْمِ؟. قَالَ: أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ وَلاَ مَاءَ. قَالَ: "عَلَيْكَ بِالصَّعِيدِ، فَإِنَّهُ يَكْفِيكَ". ثُمَّ سَارَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَاشْتَكَى إِلَيْهِ النَّاسُ مِنَ الْعَطَشِ فَنَزَلَ، فَدَعَا فُلاَنًا كَانَ يُسَمِّيهِ أَبُو رَجَاءٍ نَسِيَهُ عَوْفٌ وَدَعَا عَلِيًّا فَقَالَ: "اذْهَبَا فَابْتَغِيَا الْمَاءَ". فَانْطَلَقَا فَتَلَقَّيَا امْرَأَةً بَيْنَ مَزَادَتَيْنِ أَوْ سَطِيحَتَيْنِ مِنْ مَاءٍ عَلَى بَعِيرٍ لَهَا، فَقَالاَ لَهَا: أَيْنَ الْمَاءُ؟ قَالَتْ عَهْدِي بِالْمَاءِ أَمْسِ هَذِهِ السَّاعَةَ، وَنَفَرُنَا خُلُوفًا. قَالاَ لَهَا: انْطَلِقِي إِذًا. قَالَتْ: إِلَى أَيْنَ قَالاَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. قَالَتِ: الَّذِي يُقَالُ لَهُ الصَّابِىءُ؟ قَالاَ: هُوَ الَّذِى تَعْنِينَ فَانْطَلِقِي. فَجَاءَا بِهَا إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَحَدَّثَاهُ الْحَدِيثَ. قَالَ: فَاسْتَنْزَلُوهَا عَنْ بَعِيرِهَا وَدَعَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِإِنَاءٍ، فَفَرَّغَ فِيهِ مِنْ أَفْوَاهِ الْمَزَادَتَيْنِ أو

السَّطِيحَتَيْنِ وَأَوْكَأَ أَفْوَاهَهُمَا، وَأَطْلَقَ الْعَزَالِىَ، وَنُودِىَ فِي النَّاسِ: اسْقُوا وَاسْتَقُوا. فَسَقَى مَنْ شَاءَ، وَاسْتَقَى مَنْ شَاءَ، وَكَانَ آخِرَ ذَاكَ أَنْ أَعْطَى الَّذِي أَصَابَتْهُ الْجَنَابَةُ إِنَاءً مِنْ مَاءٍ قَالَ: "اذْهَبْ، فَأَفْرِغْهُ عَلَيْكَ". وَهْىَ قَائِمَةٌ تَنْظُرُ إِلَى مَا يُفْعَلُ بِمَائِهَا، وَأَيْمُ اللَّهِ لَقَدْ أُقْلِعَ عَنْهَا، وَإِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيْنَا أَنَّهَا أَشَدُّ مِلأَةً مِنْهَا حِينَ ابْتَدَأَ فِيهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "اجْمَعُوا لَهَا". فَجَمَعُوا لَهَا مِنْ بَيْنِ عَجْوَةٍ وَدَقِيقَةٍ وَسَوِيقَةٍ، حَتَّى جَمَعُوا لَهَا طَعَامًا، فَجَعَلُوهَا فِي ثَوْبٍ، وَحَمَلُوهَا عَلَى بَعِيرِهَا، وَوَضَعُوا الثَّوْبَ بَيْنَ يَدَيْهَا. قَالَ لَهَا: "تَعْلَمِينَ مَا رَزِئْنَا مِنْ مَائِكِ شَيْئًا، وَلَكِنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِى أَسْقَانَا". فَأَتَتْ أَهْلَهَا، وَقَدِ احْتَبَسَتْ عَنْهُمْ. فَقَالُوا: مَا حَبَسَكِ يَا فُلاَنَةُ؟ قَالَتِ الْعَجَبُ، لَقِيَنِي رَجُلاَنِ فَذَهَبَا بِي إِلَى هَذَا الَّذِي يُقَالُ لَهُ الصَّابِىءُ، فَفَعَلَ كَذَا وَكَذَا، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ لأَسْحَرُ النَّاسِ مِنْ بَيْنِ هَذِهِ وَهَذِهِ. وَقَالَتْ بِإِصْبَعَيْهَا الْوُسْطَى وَالسَّبَّابَةِ، فَرَفَعَتْهُمَا إِلَى السَّمَاءِ: تَعْنِى السَّمَاءَ وَالأَرْضَ، أَوْ إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ حَقًّا، فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ ذَلِكَ يُغِيرُونَ عَلَى مَنْ حَوْلَهَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَلاَ يُصِيبُونَ الصِّرْمَ الَّذِى هِيَ مِنْهُ، فَقَالَتْ يَوْمًا لِقَوْمِهَا: مَا أُرَى أَنَّ هَؤُلاَءِ الْقَوْمَ يَدَعُونَكُمْ عَمْدًا، فَهَلْ لَكُمْ فِى الإِسْلاَمِ؟ فَأَطَاعُوهَا فَدَخَلُوا فِي الإِسْلاَمِ. قوله: كنا في سفر، اختلف في تعيين هذا السفر، ففي مسلم عن أبي هريرة، أنه وقع عند رجوعهم من خيبر قريبٌ من هذه القصة. وفي أبي داود عن ابن مسعود "أقبل النبي -صلى الله عليه وسلم- من الحُدَيبيةِ ليلًا، فنزل فقال: مَن يكلؤنا؟ فقال بلال: أنا ... الحديث". وفي الموطأ عن زيد بن أسلم مرسلًا "عرّس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلةً بطريق مكة، ووكّل بلالًا" وفي مصنف عبد الرزاق عن عطاء بن يسار مرسلًا أن ذلك كان بطريق تبوك. وللبيهقيّ في الدلائل نحوه، عن عقبة بن عامر. وروى مسلم حديث أبي قتادة في نومهم عن صلاة الصبح مطولًا، ورواه البخاريّ في الصلاة مختصرًا، ولم يعينا. وفي رواية لأبي داود أن ذلك كان في جيش الأُمراء، وتعقب بأن جيش

الأمراء كان في غزوة مؤتة، ولم يحضرها النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولكن يحتمل أن يكون المراد بغزوة جيش الأمراء غزوة أخرى غير غزوة مؤتة، واختلف هل كان نومهم عن صلاة الصبح مرة أو أكثر؟ فجزم الأصيليّ بأن القصة واحدة، وتعقبه عياض بأن قصة أبي قتادة مُغايرة لقصة عِمران بن حصين، فإن قصة أبي قتادة، كما يأتي فيها، أن أبا بكر وعمر، رضي الله تعالى عنهما، لم يكونا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- لما نام. وقصة عمران فيها أَنَّهُما كانا معه، كما بين قريبًا. وفي قصة عمران أن أول من استيقظ أبو بكر، ولم يستيقظ النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى أيقظه عمر بالتكبير وقصة أبي قتادة فيها أن أوّل مَنْ استيقظ النبي -صلى الله عليه وسلم-. وفيهما عير من أن عبد الله بن رباح راوي الحديث عن أبي قتادة ذكر أن عِمران بن حصين سمعه وهو يحدث بالحديث بطوله، فقال له: انظر كيف تحدث، فإني كنت شاهدًا القصة، قال: فما أنكر عليه من الحديث شيئًا، فهذا يدل على اتحادها. لكن لمدعي التَّعدد أن يقول: يحتمل أن يكون عمران حضر القصتين، فحدّث بإحداهما، وصدّق عبد الله بن رباح لما حدث عن أبي قتادة بالأخرى، ومما يدل على تعدد القصة اختلاف مواطنها كما مرَّ. وحاول ابن عبد البرّ الجمع بينها بأنّ زمان رجوعهم من خيبر قريب من زمان رجوعهم من الحديبية، وأن اسم طريق مكة يصدق عليها، وهذا ظاهر البطلان، لأن طريق خيبر إلى جهة الشام لا جهة مكة، ورواية عبد الرزاق بتعيين غزوة تبوك ترد عليه. وروى الطبرانيّ عن عمرو بن أمية شبيهًا بقصة عمران، وفيه أن الذي كلأ لهم الفجر ذو مُخبر، وأخرجه من طريق ذي مخبر أيضًا، وأصله عند أبي داود، وفي حديث أبي هريرة عند مسلم أن بلالًا هو الذي كلأ لهم الفجر، وذكر فيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان أولهم استيقاظًا كما في قصة أبي قتادة. ولابن حبّان في صحيحه عن ابن مسعود أن كلأ لهم الفجر. وهذا أيضًا يدل على تعدد القصة. وقوله: أسْرينا، قال الجوهري: تقول: أسريت وسَرَيت بمعنى إذا سَرَيت ليلًا. وقال صاحب المحكم: السُّرى سير عامة الليل، وقيل سير الليل كله، والحديث يخالفه. وقوله: وقعنا وقعة، أي نمنا نومة، وقوله: ولا وقعة أحلى عند المسافر منها، أي من الوقعة في آخر الليل، وكلمة "لا" لنفي الجنس، ووقعة

اسمها، وأحلى خبرها، وقيل: خبرها محذوف، وأحلى صفة لوقعة. وفي رواية أبي قتادة عند المصنف أن سبب نزولهم في تلك الساعة سؤالُ بعض القوم في ذلك، وفيه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال "أخاف أن تناموا عن الصلاة، فقال بلال: أنا أوقظهم" وقوله: فكان أول من استيقظ فلان، أول بالنصب؛ لأنه خبر كان مقدمًا، وفلان اسمها، وفلان بدل من أول على أنه اسم كان التامة المستغنية عن الخبر، بمعنى وُجِد. وقول الزركشيّ إن "مَنْ" نكرة موصوفة، فيكون أول نكرة أيضًا لإضافته إلى نكرة، أي أول رجل استيقظ. قال الدمامينيّ: إنه لا يتعين لجواز كونها موصولة، أي: وكان أول الذين استيقظوا، وأعاد الضمير بالإِفراد رعاية للفظ مَن، وفلان المستيقظ أولًا هو أبو بكر الصديق، كما أخرجه المصنف في علامات النبوءة. وقوله: ثم فلان، يحتمل أن يكون عِمران الراوي؛ لأن ظاهر سياقه أنه شاهد ذلك، ولا تمكنه مشاهدته إلاّ بعد استيقاظه. قال في المصابيح: الأَوْلَى أن يجعل هذا من عطف الجُمَل، أي ثم استيقظ فلان، إذ تَرَتُّبُهم في الاستيقاظ يدفع اجتماعهم جميعهم في الأولية، ولا يمتنع أن يكون من عطف المفردات. ويكون الاجتماع في الأولية باعتبار البعض لا الكل، أي أن جماعة استيقظوا على الترتيب، وسبقوا غيرهم في الاستيقاظ. لكن هذا لا يتأتى على رأي الزركشيّ؛ لأنه قال: أي أول رجل، فإذا جعل هذا من قبيل عطف المفردات، لزم الإِخبار عن جماعة بأنهم أوّل رجل استيقظ، وهو باطل. وقوله: ثم فلان، يشبه أن يكون من شارك عمران في رواية هذه القصة المعنية، وهو ذو مخبر، كما في الطبرانيّ عنه أنه قال: فما أيقظني إلاّ حر الشمس، فجئت أدنى القوم فأيقظته، وأيقظ الناس بعضهم بعضًا حتى استيقظ -صلى الله عليه وسلم-. ويأتي قريبًا تعريف ذي مخبر. وقوله: فنسي عَوف، يعني نسي تسمية الثلاثة، مع أن شيخه كان يسميهم، وقد شاركه في روايته عنه سَلَم بن زُرير، فسمى أول من استيقظ كما أخرجه المصنف في علامات النبوءة، وهو أبو بكر كما مرَّ.

وقوله: ثم عمر بن الخطاب الرابع، صفة لعمر المرفوع عطفًا على ثم فلان، أو بالنصب خبر كان أي ثم كان عمر بن الخطاب الرابع من المستيقظين. وقوله: إذا نام لم يُوقَظ، بضم المثناة التحتية مبنيًا للمفعول مع الإِفراد، وللأربعة ثم "نوقظه" بنون التكلم وكسر القاف، والضمير المنصوب للنبي -صلى الله عليه وسلم-. وقوله: لا ندري ما يحدث له، أي بضم الدال من الحديث، أي من الوحي، كانوا يخافون قطع الوحي بإيقاظه، فلا يوقظونه لاحتمال ذلك. قال ابن بطال: يؤخذ منه التمسك بالأمر الأعم احتياطًا. وقوله: وكان رجلًا جَليدًا، بفتح الجيم من الجلادة أي: الصلابة، زاد مسلم هنا "أجوف" أي رفيع الصوت، يخرج صوته من جوفه بقوة. وقوله: حتى استيقظ بصوته، بالباء الموحدة أي: بسبب صوته، وللأربعة لصوته، باللام، أي لأجل صوته، وإنما استعمل التكبير لسلوك طريق الأدب، والجمع بين المصلحتين الذكر والاستيقاظ، وخص التكبير لأنه أصل الدعاء إلى الصلاة. وقوله: الذي أصابهم، أي من نومهم عن صلاة الصبح حتى خرج وقتها. وقوله: قال لا ضير أو لا يَضير: أي لا ضرر، والشك من عوف كما صرح به البيهقيّ في روايته. ولأبي نعيم في المستخرج "لا يسوء ولا يضير". وفيه تأنيس لقلوب الصحابة، لما عرض لهم من الأسف على ذوات الصلاة في وقتها، بأنهم لا حرج عليهم، إذ لم يتعمدوا ذلك. وقوله: ارتحلوا، بصيغة الأمر للجماعة المخاطَبين، من الصحابة، واستدل به على جواز تأخير الفائتة عن وقت ذكرها إذا لم يكن عن تغافل أو استهانة. وقوله: فارتحل، أي النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن معه، ولأبي ذَرٍّ وابن عساكر "فارتحلوا" أي عقب أمره عليه الصلاة والسلام بذلك، وبين مسلم عن أبي هريرة السبب في الأمر بالارتحال من ذلك الموضع الذي ناموا فيه،. ولفظه "فإن هذا منزل حَضَرنا فيه الشيطان" ولأبي داود عن ابن مسعود "تحولوا عن مكانكم الذي أصابتكم فيه الغَفْلة" وهذا يرد على من زعم أن العلة فيه كون ذلك كان وقت الكراهة، بل في حديث الباب أنهم لم يستيقظوا حتى وجدوا حر الشمس. ولمسلم عن أبي هُريرة "حتى ضربتهم الشمس" وذلك لا يكون إلاّ بعد أن يذهب وقت الكراهة،

وقيل: إنما أخّر عليه الصلاة والسلام الصلاةَ لاشتغالهم باحوالها. وقيل: تحرزاً من العدو. وقيل: انتظارًا لما نزل عليه من الوحي، وقيل: ليستيقظ من كان نائمًا، وينشط من كان كسلانًا. وروي عن ابن وهب وغيره، أن تأخير قضاء الفائتة منسوخٌ بقوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] وفيه نظر؛ لأن الآية مكية والحديث مدنيّ، وكيف ينسخ المتقدم المتأخر؟ وقد تكلم العلماء في الجمع بين حديث النوم هذا وحديث "إنّ عينيّ تنامان، ولا ينام قلبي" قال النوويّ: له جوابان أحدهما: أن القلب إنما يدرك الحسيات المتعلقة به، كالحدث والألم، ولا يدرك ما يتعلق بالعين؛ لأنها نائمة والقلب يقظان. والثاني: أنه كان له حالان: حال كان قلبه لا ينام، وهو الأغلب، وحال ينام فيه قلبه، وهو نادر، فصادف قصة النوم عن الصلاة. قال: والمعتمد هو الأول، والثاني ضعيف، ولا يقال القلب، وإن كان لا يدرك ما يتعلق بالعين من رؤية الفجر مثلًا، لكنه يدرك إذا كان يقظانًا مرورَ الوقت الطويل، فإن من ابتداء طلوع الفجر إلى أن حميت الشمس مدة طويلة لا تخفى على من لم يكن مستغرقًا؛ لأنا نقول: يحتمل أن يقال إنه كان قبله عليه الصلاة، إذ ذاك، مستغرقًا بالوحي، ولا يلزم مع ذلك وصفه بالنوم، كما كان -صلى الله عليه وسلم- يستغرق حالة إلقاء الوحي في اليقظة، وتكون الحكمة في ذلك بيان التشريع بالفعل؛ لأنه أوقع في النفس، كما في قضية سهوه في الصلاة. وقريب من هذا جواب ابن المنير أن القلب قد يحصل له السهو في اليقظة لمصلحة التشريع، ففي النوم أولى أو على السواء، وقد أجيب عن الإِشكال بأجوبة أخرى ضعيفة، منها أن معنى قوله: لا ينام قلبي، أي لا يخفى عليه حالة انتقاض وضوئه، ومنها أن معناه لا يستغرق بالنوم حتى يوجد منه الحدث، وهذا قريب من الذي قبله. قال ابن دقيق العيد: كأنّ قائل هذا أراد تخصيص يقظة القلب بإدراك حالة الانتقاض، وذلك بعيد، وذلك أن قوله -صلى الله عليه وسلم- "إنّ عينيّ تنامان ولا ينام قلبي" خرج جوابًا عن قول عائشة: أتنام قبل أن توتر؟ وهذا كلام لا تعلق له بانتقاض الطهارة الذي تكلموا فيه، وإنما هو جواب يتعلق بأمر الوتر، فتحمل يقظته على تعلق القلب باليقظة للوتر، وفرق بين من شرع في النوم مطمئن القلب به وبين من شرع فيه متعلقًا باليقظة.

قال: فعلى هذا فلا تعارض، ولا إشكال في حديث النوم حتى طلعت الشمس؛ لأنه يحمل على أنه عليه الصلاة والسلام اطمأنّ في نومه لما أوجبه تعب السير، معتمدًا على من وكّله بكلاءة الفجر، ومحصله تخصيص اليقظة المفهومة من قوله "ولا ينام قلبي" بإدراكه وقت الوتر إدراكًا معنويًا، لتعلقه به، وأن نومه في حديث الباب كان نومًا مستغرقًا ويؤيده قول بلال له: أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك، كما في حديث أبي هريرة عند مسلم، ولم ينكر عليه، ومعلوم أن نوم بلال كان مستغرقًا، واعترض عليه بأن ما قاله يقتضي اعتبار خصوص السبب، وأجاب بأنه يعتبر إذا قامت عليه قرينة، وأرشد إليه السياق، وهو هنا كذلك، قلت: بل يعترض بأنه موجب إبطال حديث النوم، ومساواة النبي -صلى الله عليه وسلم- لغيره في النوم، فمن كان شرع في النوم متعلق القلب باليقظة، كان له ذلك، ومن شرع في النوم مطمئن القلب به، لم يحصل له ذلك الانتباه، فلا خصوصية له إذًا بأنّ عينيه تنامان ولا ينام قلبه، وهذا باطل يديه. ومن الأجوبة الضعيفة أيضًا قول من قال: كان قلبه يقظانًا، وعلم خروج الوقت، لكن ترك إعلامهم بذلك عمدًا لمصلحة التشريع، وقول من قال: المراد بنفي النوم عن قلبه أنه لا يطرأ عليه أضغاث أحلام كما يطرأ على غيره، بل كل ما يراه في نومه حق ووحيٌ. وأقرب هذه الأجوبة إلى الصواب الأول على الوجه الذي قررناه. وهذه المعارضة والأجوبة عنها قد مرت في باب "السمر في العلم" بعينها، فهي هنا مكررة. وقال القرطبيّ: أخذ بهذا بعض العلماء، فقال من انتبه من نوم عن صلاة فاتته في سفر، فليتحول عن موضعه، وإن كان واديًا فليخرج منه، وقيل: إنما يلزم في ذلك الوادي بعينه، وقيل: هو خاص بالنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه لا يعلم من حال الوادي ولا غيره ذلك إلاّ هو، وقال غيره: يؤخذ منه أن من حصلت له غفلة في مكان عن عبادة استحب له التحول منه، ومنه أمره عليه الصلاة والسلام الناعس في سماع الخطبة يوم الجمعة بالتحويل من مكانه إلى مكان آخر. وقوله: فسار غير بعيد، يدل على أن الارتحال المذكور وقع على خلاف

سيرهم المعتاد. وقوله: ونودي بالصلاة، واستدل به على الأذان للفوائت، وتعقب بأن النداء أعم من الأذان، فيحتمل أن يراد به هنا الإِقامة، وأجيب بأن عند مسلم عن أبي قَتادة التصريحُ بالتأذين، وكذا عند المصنف في أواخر المواقيت، وبالأذان للفائتة قال الشافعيّ في القديم، وأبو حنيفة وأحمد وأبو ثَور وابن المنذر، مستدلين بما في حديث أبي قتادة من قوله "قم فأذّن بالناس بالصلاة" وبما رواه أبو داود عن عمران بن حصين "ثم أمر مؤذنًا فأذنَ فصلى ركعتين قبل الفجر، ثم أقام ثم صلى الفجر". وقال مالك والأوزاعيّ، والشافعيّ في الجديد: لا يؤذَّن لها، واستدلوا بحديث جابر عند البخاريّ في المواقيت "فتوضأ لها فصلى العصر بعدما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب" وأجابوا عن حديث أبي قتادة يحمل الأذان فيه على الإِقامة، وتعقب هذا بأنه عقب في الحديث الأذان بالوضوء، ثم بارتفاع الشمس، فلو كان المراد به الإِقامة لما أخر الصلاة عنها، وأجيب أيضًا بحمله على المعنى اللغويّ، وهو محض الإِعلام، ولاسيما على رواية الكشميهنيّ، فإنّ فيها "فآذن" بالمد وحذف الموحدة من بالناس، وآذن معناه أعلم. قلت: ورواية غير الكشميهنيّ المارة دالة أيضًا على أن المراد به الإِعلام، لأن لفظها كما مرَّ "أذن بالناس بالصلاة" وهذا هو لفظ القرآن في الإِعلام بالحج، كما قال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27]، فلو كان المراد الأذان الشرعيّ لقال: أذّن للصلاة أو بالصلاة، واعترض الآخرون الاستدلال بحديث جابر، بأن المغرب كانت حاضرة، ولم يذكر الراوي الأذان لها، وقد عرف من عادته -صلى الله عليه وسلم- الأذان للحاضرة، فدل على أن الراوي ترك ذكر ذلك، لا أنّه لم يقع في نفس الأمر، وأجيب باحتمال أن تكون المغرب لم يتهيأ إيقاعها إلاّ بعد خروج وقتها، على رأي من يذهب إلى القول بتضييقه، ويؤيد هذا ما في حديث أبي سعيد من قوله "فصلى بعد مضي هَوِيّ من الليل". وقوله: فصلى بالناس، فيه مشروعية الجماعة في الفائتة، وعليه أكثر أهل العلم إلاّ الليث، مع أنه أجاز صلاة الجمعة جماعة إذا فاتت. وقوله: إذا هو

برجل، يأتي ما قيل فيه في السند. وقوله: أصابتني جنابة ولا ماء، بفتح الهمزة، أي معي أو موجود، وحذفُ الخبر أبلغ في عذره لما فيه من عموم النفي كأنه نفى وجود الماء بالكلية، بحيث لو وجد بسبب أو سعى لحصله، فإذا نفى وجوده مطلقًا كان أبلغ في النفي وأعذر له. وقوله: عليك بالصعيد فإنه يكفيك، أي المذكور في الآية الكريمة، فاللام فيه للعهد، ويؤخذ منه الاكتفاء في البيان بما يحصل به المقصود من الإِفهام، لأنه أحاله على الكيفية المعلومة من الآية، ولم يصرح له بها، ودل قوله: يكفيك، على أن المتيمم في مثل هذه الحالة لا يلزمه القضاء، ويحتمل أن يكون المراد بقوله: يكفيك أي للأداء، فلا يدل على ترك القضاء. وفي الحديث جواز الاجتهاد بحضرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، لأن سياق القصة يدل على أن التيمم كان معلومًا عندهم، لكنه صريح في الآية عن الحدث الأصغر، بناء على أن المراد بالملامسة ما دون الجماع، وأما الحدث الأكبر فليست صريحة فيه، فكأنه كان يعتقد أن الجنب لا يتيمم، فعمل بذلك مع قدرته على أن يسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن هذا الحكم، ويحتمل أنه كان لا يعلم مشروعية التيمم أصلًا، فكان حكمه حكم فاقد الطهورين، ويؤخذ من هذه القصة أن للعالم إذا رأى فعلًا محتملًا أن يسال فاعله عن الحال فيه، ليوضح له وجه الصواب. وفيه التحريض على الصلاة في الجماعة، وأنّ ترك الشخص الصلاة بحضرة المصلين مَعيب على فاعله بغير عذر. وفيه حسن الملاطفة والرفق في الإنكار. وقوله: فدعا فلانًا، هو عمران بن حصين، كما يأتي قريبًا. وقوله: فابتغيا، أي بالتاء الفوقية بعد الباء الموحدة من الابتغاء، وللأصيليّ: فابغيا، وهو من الثلاثي، وهمزته همزة وصل، ولأحمد "فابغيان" والمراد الطلب. يقال: ابتغ الشيء أي تطلبه، وابغ الشيء أي اطلبه، وابغني أي اطلب لي. وفيه الجوي على العادة في طلب الماء وغيره، دون الوقوف عند غرقها، وإنّ التسبب في ذلك غير قادح في التوكل. وقوله: بين مزادتين أو سطحتين، المزادتان تثنية مَزَادة، بفتح الميم والزاي، قربة كبيرة يزاد فيها جلد من غيرها، فلذلك سميت مزادة،

وتسمى السطيحة، لتسطيح أحد الجلدين على الآخر. والشك من عوف الراوي، لخلو رواية مسلم عن أبي رجاء منه. وفي رواية مسلم "فإذا نحن بامرأةٍ سادلة، أي مدلية رجليها بين مزادتين" والمراد بهما الراوية. وقوله: من ماء على بعير، سقط "من ماء" عند ابن عساكر. وقوله عهدي به أمسِ، بالبناء على الكسر عند الحجازيين، خبر لمبتدأ الذي هو عهدي، وعند تميم يعرب غير منصرف للعلمية والعدل. وقوله: هذه الساعةَ، بالنصب على الظرفية. وقال ابن مالك: أصله في مثل هذه الساعة، فحُذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، بعد حذف في. وقوله: ونفرنا خلوفًا: النفر ما دون العشرة أو الناس، وهو اللائق هنا لأنها أرادت أن رجالها تخلّفوا لطلب الماء أوغيره. وخُلوف، بضم الخاء المعجمة واللام، جمع خالف. والخالف المستقي، ويقال لمن غاب، ولعله المراد هنا، أي أنّ رجالها غابوا عن الحي، وخلوفًا بالنصب على الحال، السادّة مسد الخبر، كما في رواية المستملي والحموي، أو منصوبًا بكان المقدرة أي كانوا خلوفًا. وهذا هو الأظهر. وفي رواية الأصيلىّ خُلوفٌ بالرفع خبر المبتدأ أي: غُيب. وقوله: الصابي، بلا همزة، أي الماثل، ويروى بالهمزة من صبأ صُبُوءًا، أي خرج من من دين إلى دين. ويأتي تفسيره للمصنف في آخر الحديث. وقوله: هو الذي تعنين، أي تردين، وفيه حسن أدب؛ لأنهما لو قالا: لا لإِلفات المقصود، ولو قالا نعم، لكان فيه تقرير لكونه عليه الصلاة والسلام صابئًا، فتخلصا بهذا اللفظ أحسن تخلص، وأشار إلى ذاته الشريفة، لا إلى تسميتها. وفيه جواز الخلوة بالأجنبية في مثل هذه الحالة، يعني عند تعددهما وأمن الفتنة. وقوله: فاستنزلوها عن بعيرها، أي طلبوا منها النزول عنه، وجمع باعتبار عليّ وعِمران ومن تبعهما ممن يعينهما. وقوله: ففرغ فيه، من التفريغ. وللكشميهنيّ: فأفرغ فمه من الإفراغ. وقوله: من أفواه المزادتين أو السَّطيحتين، جمع الأفواه في موضع التثنية، على حد قوله تعالى {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] إذ ليس لكل مزادة

سوى فم واحد. وقوله: وأوكأ أفواههما، أي ربط. وقوله: وأطلق العَزَالي: أي فتح، والعزالي، بفتح المهملة والزاي وكسر اللام، ويجوز فتحها وفتح الياء، جمع عزلاء، بإسكان الزاي والمد، أي فم المزادتين الأسفل، وهي عُرْوتها التي يخرج منها الماء بسعة، ولكل مزادة عزلاوان من أسفلها. وزاد الطبرانيّ والبيهقيّ من هذا الوجه "فتمضمض في الماء وأعاده في أفواه المزادتين" وبهذه الزيادة تتضح الحكمة في ربط الأفواه بعد فتحها، ويعرف منها أن البركة إنما حصلت بمشاركة ريقه الطاهر المبارك للماء. قلت: صب عليه الصلاة والسلام من غير المحل الذي خالطه ريقه، لتبقى بركة ريقه مخالطة للماء، فلا يخرج الريق من الماء، فتزول عنه البركة. وقوله: أسقوا بهمزة قطع مفتوحة، من أسقى، أو بهمزة وصل مكسورة من سَقى، أي أسقوا غيركم، كالدوابّ. وقوله: واستقوا، أي اشربوا أنتم، فالفرق بين استقى وسقى هو أن الأول سقيه لنفسه والثاني سقيه لغيره من ماشيته ونحوها. وقيل فيهما بالعكس، وقيل إنهما بمعنى، والأول أصح. وقوله: وكان آخر ذلك "أن أعطى" يجوز في آخر النصب على أنه خبر كان مقدمًا، والرفع على أن "أن أعطى" هو الخبر، والأول، كما قال أبو البقاء، أقوى؛ لأنّ أن والفعل أعرف من المعرف بالإِضافة، وقد قرئ {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا} [العنكبوت: 29] بالوجهين، واستدل بهذه القصة على تقديم مصلحة شرب الآدمي والحيوان على غيره، كمصلحة الطهارة بالماء لتأخير المحتاج إليهما عمن سقى واستقى. ولا يقال وقع في رواية سَلَم بن زرير "غير أنّا لم نسق بعيرًا" لا نقول هو محمول على أن الإِبل لم تكن محتاجة إذ ذاك للسقي، فيحمل قوله "فسقى" على غيرها. وقوله: فأفرغه، بهمزة قطع في أفرغه، وقوله: وأيمُ الله، بفتح الهمزة وكسرها والميم مضمومة، أصله أَيْمُنُ الله، وهو اسم وُضع للقسم هكذا، ثم حذفت منه النون تخفيفًا وألفه ألف وصل مفتوحة، ولم يجىء كذلك غيرها. وهو مرفوع بالابتداء، وخبره محذوف، والتقدير: أيْمُ الله قسمي. وفيها لغات كثيرة

نحو عشرين، تأتي إن شاء الله تعالى في اليمين. وقوله: أشد مِلأةً، بكسر الميم وسكون اللام بعد همزة، أي امتلاءً، وفي رواية البيهقيّ "أملأ منها" والمعنى أنهم يظنون أن ما بقي فيها من الماء أكثر مما كانَ أولًا. قال بعض العلماء الأقدمين: إنما أخذوها واستجازوا أخذ مائها، لأنها كانت كافرة حربية، وعلى تقدير أن يكون لها عهد، فضرورة العطش تبيح للمسلم الماء المملوك لغيره على عوض، وإلا فنفس الشارع تفدى بكل شيء على سبيل الوجوب. قلت: الذين أخذوها لم يأخذوا شيئًا من مائها، وإنما أتوا بها النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وبعد مجيئها له لم ينقص من مائها شيئًا، بل زاد كما هو ظاهر الحديث، فلا يحتاج إلى ما ذكر، وهذا من أعظم آياته وباهر دلائل نبوته، حيث توضأوا وشربوا وسقوا واغتسل الجنب، بل رواية مسلم بن زرير أنهم ملأوا كل قربة كانت معهم، مما سقط من العزالي، وبقيت المزادتان مملوءتين، بل تخيل الصحابة أن ماءهما أكثر مما كان أولًا. وقوله: اجمعوا لها لعله تطييبًا لخاطرها في مقابلة حبسها في ذلك الوقت عن المسير إلى قومها، وما نالها من مخافتها أخذ مائها، لا أنه عوض عما أُخذ من الماء، ففيه جواز الأخذ للمحتاج برضى المطلوب منه، أو بغير رضاه إن تعين. وفيه جواز المعاطاة في مثل هذا من الريبات والإباحات من غير لفظ من المعطي والآخذ. وقوله: من بين عَجوة، بفتح أوله، تمر بالمدينة معروف. وقوله: ودقيقة وسويقة، بفتح أولهما، ولكريمة بضمة مصغران مع تثقيل الثاني. وقوله: حتى جمعوا لها طعامًا، زاد أحمد في روايته كثيرًا وفيه إطلاق لفظ الطعام على غير الحنطة والذرة، خلافًا لمن أبى ذلك، ويحتمل أن يكون قوله: حتى جمعوا لها طعامًا ما، أي غير ما ذكر من العجوة وغيرها. وقوله: قال: تَعَلَّمين، بفتح أوله وثانيه وتشديد اللام، أي اعلمي، وللإسماعيليّ: قال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وللأصيلىّ: قالوا فتحمل على أنهم قالوا لها ذلك بأمره عليه الصلاة والسلام. وقوله: ما رَزِئنا من مائك شيئًا، بفتح الراء وكسر الزاي، ويجوز فتحها،

وبعدها همزة ساكنة، أي نقصنا. وظاهره أن جميع ما أخذوه من الماء مما زاده الله تعالى وأوجده وأنه لم يختلط فيه شي من مائها في الحقيقة، وإن كان في الظاهر مختلطًا، وهذا أبدع وأغرب في المعجزة، وهو ظاهر قوله "ولكن الله أسقانا" بالهمز. ولابن عساكر "سقانا" ويحتمل أن يكون المراد ما نقصنا من مقدار مائك شيئًا. واستدل بهذا على جواز استعمال أواني المشركين ما لم يتعين فيها النجاسة. وفيه إشارة إلى أن الذي أعطاها ليس على سبيل العوض عن مائها، بل على سبيل التكرم والتفضل، وقد اشتمل على علم عظيم من أعلام النبوءة. وقوله: فقالوا: ما حبسك؟ وللأصيلىّ "فقالوا لها" وفي رواية "قالوا" بدون فاء. وقوله: قالت العجب، أي حبسني العجب. وقوله: إلى هذا الذي، ولأبي ذَرٍّ "إلى هذا الرجل الذي" وقوله: لأسحر الناس من بين، عبرت عن النيانية، وكان المناسب التعبير بقي بدل من، على أن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض. وقوله: وقالت بأصبعها، أي أشارت، وهو من إطلاق القول على الفعل، والوسطى والسَّبابة يشار بهما عند المخاصمة والسب، وهي أي السبابة، المُسَبِّحة أيضًا، لأنها يشار بها إلى التوحيد والتنزيه. وقوله: أو إنه لرسول الله حقًا؟ هذا منها لم يثبت به الإِيمان للشك، لكن أخذت في النظر فاعقبها الحق فآمنت بعد ذلك. وقوله: بعد ذلك يغيرون، للأصيلي "بعد يغيرون" وهو بضم الياء، من أغار، ويجوز فتحها من غار، وهو قليل. وقوله: الصِّرْم الذي هي منه، بكسر الصاد المهملة وسكون الراء، النفر النازلون بأهليهم على الماء، أو أبيات من الناس مجتمعة، وإنما لم يغيروا عليهم، وهم كفرة للطمع في إسلامهم بسببها، أو لرعاية ذمامها. وقوله: فقالت يومًا لقومها: ما أرى هؤلاء القوم يدعونكم محمدًا، ما موصولة، وأرى بفتح الهمزة بمعنى أعلم، والمعنى الذي أعتقده أن هؤلاء يتركونكم عمدًا لا غفلة، ولا خوفًا منكم، بل مراعاة لما سبق بيني وبينهم، وهذه الغاية في مراعاة الصحبة اليسيرة، وكان هذا القول سببًا لرغبتهم في الإِسلام. وفي رواية

رجاله خمسة

أبي ذَرٍّ "ما أرى أن هؤلاء القوم" وما موصولة، وأن بالفتح، والمعنى كالرواية الأولى. وقيل: ما نافية، وإنْ بالكسر، والمعنى: لأعلم ما لكم في تخلفكم عن الإِسلام مع أنهم يدعونكم عمدًا. وللأصيليّ وابن عساكر: "مَا أدري أن" بالدال بعد الألف، وأنَّ بفتح الهمزة والتشديد، وهي في موضع المفعول، والمعنى: ما أدري ترك هؤلاء إياكم عمدًا لماذا هو؟ وقال أبو البقاء: الجيد أن يكون "إن هؤلاء" بالكسر على الإهمال والاستئناف، ولا يفتح على إعمال "أدري" فيه، لأنها قد عملت بطريق الظاهر، ويكون مفعول "أدري" محذوفًا والمعنى: لا أدري لماذا تمتنعون من الإِسلام، إن المسلمين تركوا الإغارة عليكم عمدًا مع القدرة. واستشكل ما وقعَ بان الاستيلاء على الكفار بمجرده يوجب رق النساء والصبيان، وإذا كان كذلك، فقد دخلت المرأة في الرق باستيلائهم عليها، فكيف وقع إطلاقها وتزويدها؟ والجواب هو أنها أُطلقت لمصلحة الاستئلاف الذي جر دخول قومها أجمعين في الإِسلام، ويحتمل أنها كان لها أمان قبل ذلك، أو كانت من قوم لهم عهد، واستدل به بعضهم على جواز أخذ أموال الناس عند الضرورة بثمن، إن كان له ثمن، وفيه نظر، لابناه على أن الماء كان مملوكًا للمرأة وأنها كانت معصومة النفس والمال، ويحتاج إلى ثبوت ذلك، وإنما قدمناه احتمالًا قلت: هكذا كله غير محتاج إليه، لما مرَّ من أن الماء لم يؤخذ منه شيء، وأن الذي أعطيته المرأة إنما كان تفضلًا وإكرامًا. رجاله خمسة: الأول: مسدد. والثاني: يحيى بن سعيد القطان، وقد مرا في السادس من كتاب الإيمان. الثالث: عوف بن أبي جميلة المعروف بالأعرابيّ، وقد مَرَّ في الأربعين من كتاب الإيمان أيضًا. الرابع: أبو رجاء عمران بن مِلحان، وقيل ابن تميم بن عبد الله العطاردِيّ البصريّ، أدرك زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يره، وروى عن عمر وعلي وعمران بن حصين

وابن عباس وعائشة. وروى عنه أيوب وجرير بن حازم وعوف الأعرابيّ وعمران القَصير وآخرون. قال ابن مُعين وأبو زرعة: ثقة. وقال ابن سعيد: كان ثقة في الحديث، وله رواية علم بالقرآن، وأمَّ قومه أربعين سنة. وقال أبو حاتم: جاهليّ فر من النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم أسلم بعد الفتح، وأتى عليه مئة وعشرون عامًا. والصحيح كما قال ابن عبد البر، أنه أسلم بعد المبعث، فقد قال جرير بن حازم: سمعت أبا رجاء العُطارديّ قال: سمعنا بالنبي ونحن في مال لنا، فخرجنا هرابًا. قال: فقال: مررت بقوائم ظبي فاخذتها وبللتها، قال: وطلبت في غُرارة لنا فوجدت كف شعير، فدققته بين ثم ألقيته في قدر، ثم وَدَجْتُ بعيرًا لنا فطبخته، فأكلت أطيب طعام أكلته في الجاهلية. قلت: يا أبا رجاء، ما طعم الدم؟ قال: حلو. وقال أبو الحارث الكرمانيّ، وكان ثقة: سمعت أبا رجاء يقول: أدركت النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنا شاب أمرد. قال: ولم أر ناسًا كانوا أضل من العرب، كانوا يجيئون بالشاة البيضاء فيعبدونها، فيجيء الذئب فيذهب بها فيأخذون أخرى مكانها فيعبدونها. وإذا رأوا صخرة حسنة جاءوا بها وصلوا إليها، فإذا رأوا صخرة أحسن من تلك رموها، وجاءوا بتلك يعبدونها. وكان أبو رجاء يقول: بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنا أرعى الإبل على أهلي وأريش وأبري، فلما سمعنا بخروجه لحقنا بمُسَيلمة. كان أبو رجاء رجلًا عاقلًا فيه غَفلة، وكانت له عبادة، وعُمِّر طويلًا، أزيد من مئة وعشرين سنة. مات سنة خمس ومئة في خلافة هشام بن عبد الملك. قال أبو بكر بن عيّاش: اجتمع في جنازة أبي رجاء العطاردي الحسنُ البصري والفَرزدق الشاعر. فقال الفرزدق للحسن: يا أبا سعيد، تقول الناس: اجتمع في هذه الجنازة خير الناس وشر الناس، فقال الحسن: لست بخيرهم، ولست بشرهم، لكن ما أعددت لهذا اليوم؟ قال: شهادة أن لا إله إلَّا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، ثم انصرف الفرزدق فقال: ألم ترَ أن الناس مات كبيرُهم ... وقد كان قبل البعث بعثِ محمدِ ولم يغنِ عنه عيش سبعين حجةً ... وستين لمامات غير مُوَسِّدِ إلى حفرة غبراء يكره وِردها ... سوى أنها مثوى وضيعٍ وسيّدِ

ولو كان طول العمر يخلد واحدًا ... منه ويدفع عنه عمر ممدد لكان الذي راحوا به يحملونه .... مقيمًا ولكن ليس حي بمخلد نروح ونغدوا والحتوفُ أمامنا ... يَضَعْنَ لنا حتف الردى كل مرصدِ وقد قال لي: ماذا تعد لما ترى ... وفيه إذا ما قال غير مفندِ فقلت له: أعددت للبعث، والذي ... أراد به أني شهدت بأحمد وأن لا إله غير ربي هو الذي ... يميت ويحيي يوم بعث وموعد وهذا الذي أعددت لا شيء غيره ... وإن قلتَ لي أكثر من الخير وازدد فقال لقد أعصمت بالخير كله ... تمسك بهذا يا فرزدق ترشد والعُطارديّ نسبة إلى عطارد بن عوف أبي حيٍّ من بني تميم. الخامس: عمران بن حصين بن عبيد بن خلف بن نَهم بن حُذيفة بن جُهْمة بن غاضِرة بن حُبْشَة بن كعب بن عمر الخُزاعيّ، يكنى أبا نجيد، بنون وجيم مصغرًا. كان إسلامه عام خيبر، وغزا عدة غزوات، وكان صاحب راية خُزاعة يوم الفتح. وقال الطبرانيّ: أسلم قديمًا هو وأبوه وأخته، وكان ينزل ببلاد قومه، ثم تحول إلى البصرة إلى أن مات بها. قال أبو الأسود الدّؤلي: قدمت البصرة وبها عمران بن حصين، وكان عمر بعثه ليفقه أهلها. وقال خليفة: استقضى عبد الله بن عامر عمران بن الحصين على البصرة، فأقام أيامًا ثم استعفاه. وقال ابن سعد: استقضاه زياد ثم استعفاه، فأعفاه. وأخرج الطبرانيّ بسند صحيح عن ابن سيرين قال: لم يكن تقدم على عمران أحد من الصحابة ممن نزل البصرة. وقال أبو عمران: كان من فضلاء الصحابة وفقهائهم، يقول عنه أهل البصرة: إنه كان يرى الحفظة، وكانت تكلمه حتى اكتوى، وروى الحسن عن عِمران أنه شق بطنه فلبث زمانًا طويلًا، فدخل عليه رجل، فذكر قصته، فقال: إن أحب ذلك إليّ أحبه إلى الله. قال: حتى اكتوى قبل وفاته بسنتين، وكان يسلم عليه حتى اكتوى، ففقده ثم عاد إليه. وقال ابن سيرين: أفضل من نزل البصرة من الصحابة عمران بن حصين وأبو بكرة. وكان يحلف أنه ما قدم البصرة والسرور خير لهم من عمران، كان قد اعتزل الفتنة فلم يقاتل

لطائف إسناده

فيها. وقال أبو نعيم: كان مُجاب الدعوة، وعن مطرف قال لي عمران بن حُصين: إني محدثك بحديث إنه كان يسلّم عليّ، وإن ابن زياد أمرني فاكتويت فاحتبس عني حتى ذهب أثر الكي. له مئة وثلاثون حديثًا، اتفقا على ثمانية، وانفرد البخاريّ بأربعة، ومسلم بتسعة. روى عنه ابنه نجيد وأبو الأسود الدؤلي وأبو رجاء العطارديّ ورِبْعيّ بن خِراش، ومطرف وأبو العلاء ابنا عبد الله بن الشَخير. مات سنة اثنين وخمسين. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في أربعة مواضع، والعنعنة في موضع واحد، وفيه القول. ورواته كلهم بصريون. أخرجه البخاريّ هنا، وفي علامات النبوءة عن أبي الوليد، ومسلم في الصلاة عن أحمد بن سعيد الدارميّ، وفي الحديث ذكر عمر وعلي، رضي الله تعالى عنهما، أما عمر فقد مرَّ في الأول من بدء الوحي، وأما عليّ فقد مرَّ في السابع والأربعين من كتاب العلم. وفيه: واستيقظ فلان ثم فلان، أما الأول، فقد صرح البخاريّ في علامات النبوءة، بأنه أبو بكر، وقد مرَّ في باب "من لم يتوضأ من لحم الشاة" بعد السبعين من كتاب الوضوء. قال في فتح الباري: ويمكن أن يكون الثاني عمران راوي القصة، وتعريفه هنا. قال أيضًا: ويشبه أن يكون الثالث من شارك عمران بن حصين في رواية هذه القصة، وهو ذو مِخبر بكسر الميم وبالباء الموحدة الحبشىّ، ويقال له ذو مِخْمر، بالميم، ابن أخي النجاشىّ، وفد على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وخدمه، ثم نزل الشام. وله أحاديث أخرج منها أحمد وأبو داود وابن ماجه منها عند أبي داود من طريق جرير عن عثمان عن يزيد بن صُبيح عن ذي مخبر، وكان يخدم النبي -صلى الله عليه وسلم-، فذكر حديثًا في نومهم عن الصلاة. وروى أبو داود أيضًا من طريق خالد بن مقداد عن جُبير بن نُفير قال: انطلق بنا إلى ذي مِخْبر رجل من أصحاب النبي

-صلى الله عليه وسلم- فأتيناه، فسأله جبير عن الهُدنة فقال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ستصالحون الرُّومَ ... الحديث". والحبشيّ في نسبه نسبة إلى الحَبَشة، بالتحريك، جنس من السودان، منهم أصْحمة ملك الحبشة، الذي أسلم. وفي الحديث أيضًا: إذا هو برجل، قال ابن حَجَر: لم أقف على تسميته، وقيل: هو خِلاد بن رافع بن مالك الخزرجىّ، أخو رفاعة. يكنى أبا يحيى، ذكرهما ابن إسحاق في البدريين. وفي الطبرانيّ عن رفاعة بن مالك قال: خرجتُ أنا وأخي خِلاد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى بدر على بعير أَعْجَف، حتى إذا كنا خلف الروحاء برك بنا البعير، فذكر الحديث، وفيه دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- لهما، وتفله على البعير. قيل: إنه هو المسيء لصلاته. قال ابن الكلبيّ: إنه قتل يوم بدر. وقال غيره: له رواية، وهذا يدل على أنه عاش بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-. أما على قول ابن الكلبي فيستحيل أن يكون هو صاحب القصة، لتقدم وقعة بدر على هذه القصة بمدة طويلة، وأما على قول غيره، فيحتمل أن يكون هو، لكن لا يلزم من كونه له رواية، أن يكون عاش بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-، لاحتمال أن تكون الرواية منقطعة أومتصلة، لكن نقلها عنه صحابي آخر، وعلى هذا فلا منافاة بين هذا، وبين من قال إنه قتل ببدر، إلا أن تجيء رواية غن غير مُخضرمٍ صرح فيها بسماعه منه، فحينئذ يلزم أن يكون عاش بعد النبي عليه الصلاة والسلام، لكن لا يلزم أن يكون هو صاحب هذه القصة إلَّا إن وردت رواية مخصوصة بذلك، ولم تثبت. وفي الحديث أيضًا فدعا فلانًا، والمراد عمران بن حصين، ويدل على ذلك ما في رواية مسلم من قوله: ثم عجلني النبي -صلى الله عليه وسلم- في ركب بين يديه نطلب الماء، فدلت هذه الرواية على أنه هو وعلي فقط؛ لأنهما خوطبا بلفظ التثنية. ويحتمل أنه كان معهما غيرهما على سبيل التبعية لهما، فيتجه إطلاق لفظ "ركب" في رواية مسلم، وخُصا بالخطاب لأنهما المقصودان بالإرسال، وأما المرأة فلم أقف على تسميتها.

باب إذا خاف الجنب على نفسه المرض أو الموت أو خاف العطش تيمم

ثم قال: قال أبو عبد الله: صبأ خرج من دين إلى غيره، وهذه في رواية المستملي وحده، ووقع في نسخة الصغانيّ: صبأ فلان انخلع، وكذلك أصبأ، والمراد بأبي عبد الله البخاريُّ نفسه. ثم قال: وقال أبو العالية: الصابئين فرقة من أهل الكتاب يقرأون الزبور، وهذا أيضًا في رواية المستملي وحده، ووقع في نسخة الصغاني: أصبُ أمِل، وقيل: هم منسوبون إلى صابىء بن متوشلح عم نوح عليه السلام. وروى ابن مردويه بإسناد حسن عن ابن عباس قال: الصابؤن ليس لهم كتاب. وقال البيضاويّ: الصابئين قوم بين النصارى والمجوس. وقيل: أصل دينهم دين نوح. وقيل لهم عبدة الملائكة، وقيل: عَبَدة الكواكب. وإنما أورد المصنف هذا هنا ليبين الفرق بين الصابي المروي في الحديث، والصابىء المنسوب لهذه الطائفة المذكورة. قلت: يحتمل عندي، وهو الظاهر، أنّ البخاريّ أتى بهذا قاصدًا تفسير اللفظ المذكور في الحديث، لما تدل عليه نسخة الصغانيّ. وهذا التعليق وصله ابن أبي حاتم من طريق الربيع بن أنس عنه. وأبو العالية المراد به الرَّيَّاحيّ، وقد مرَّ في تعاليق الثاني من كتاب العلم. ثم قال باب إذا خاف الجنب على نفسه المرض أو الموت أو خاف العطش تيمم قوله: المرض، أي المتلف وغيره، كزيادته ونحو ذلك، كشين في عضو. وقوله: أو خاف العطش، أي لحيوان محترم من نفسه أو رقبته، ولو في المستقبل، أو غير ذلك من كل محترم. وقوله: تيمم، وللأصيليّ وابن عساكر يتيمم، أي مع وجود الماء. ثم قال: ويذكر أن عمرو بن العاص أجنب في ليلة باردة، وتلا {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] فذكر للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فلم يعنف. هذا التعليق رواه أبو داود والحاكم عن يحيى من أيوب موصولًا بلفظ "احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذاتِ السلاسل، فأشفقت أن أغتسل فأهلك، فتيممت فصليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "يا عمرو، صليت بأصحابك وأنت ... " فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إني سمعت الله تعالى يقول: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ

بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] فضحك النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم يقل شيئاً، وروياه عن عمرو بن الحارث وقال في القصة "فغسل مغابنه وتوضأ" ولم يقل "وتيمم" وقال فيه "لو اغتسلت مت". وذكر أبو داود أنّ الأوزاعيّ روى عن حسّان بن عطية هذه القصة، فقال فيها: فتيمم، ورواها عبد الرزاق من وجه آخر ولم يذكر التيمم، والسياق الأول أليق بمراد المؤلف، وإسناده قويّ، لكنه علقه بصيغة التمريض لكونه اختصره. وقال البيهقيّ: يمكن الجمع بين الروايات بأنه توضأ ثم تيمم عن الباقي. قال النوويّ هو متعين، ووجه استدلاله بالآية ظاهر من سياق اللفظ الذي ذكرناه، وقد أوهم ظاهر سياقه أن عمرو بن العاص تلا الآية لأصحابه وهو جنب، وليس كذلك، وإنما تلاها بعد أن رجع للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أمّره على غزوة ذات السلاسل، كما يأتي في المغازي إن شاء الله تعالى. وقوله: فلم يعنف، بحذف المفعول للعلم به، أي لم يَلُم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمرًا، فكان ذلك تقريرًا دالًا على الجواز. وفي رواية الكشميهنيّ: فلم يعنفه، بزيادة هاء الضمير. وفي هذا الحديث جواز التيمم لمن يتوقع من استعمال الماء الهلاكَ، سواء كان لأجل بردٍ أو غيره. وجواز صلاة المتيمم بالمتوضئين، وجواز الاجتهاد في زمنه -صلى الله عليه وسلم-. وعمرو هو عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سهم بن عمرو بن هُصيص بن كعب بن لؤي القرشيّ السَّهميّ، يكنى أبا عبد الله، ويقال أبو محمد. وأمه النابغة بنت حَرْمُلة، سُبيتْ من بني جلان بن عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار، وأخوه لأمه عمرو بن أُثاثَة العَدَويّ. كان من مهاجرة الحبشة، وعقبة بن نافع بن عبد القيس، وزينب بنت عفيف بن أبي العاص أُم هؤلاء وأُم عمرو واحدة، وهي بنت حَرْمُلة المذكورة. ذكروا أنه جعل لرجل ألف درهم على أن يسأل عمرًا عن أمه، وهو على المنبر، قال: فسأله، فقال: أمي سلمى بنت حرملة، تلقب النابغة من بني عنزة، ثم أحد بني جلان، أصابتها رماح العرب فبيعت بعكاظ، اشتراها الفاكِه بن المغيرة، ثم اشتراها منه عبد الله بن جُدَعان، ثم صارت إلى العاص بن وائل، فولدت له فأنجبت، فإن كان جعل لك شيء فخذه.

والصحيح أن إسلامه كان في صفر سنة ثمان، قدم هو وخالد بن الوليد وطلحة بن عثمان مسلمين، فلما دخلوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نظر إليهم قال: "قد رمتكم مكة بأفلاذ كبدها" وكان قدومهم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مهاجرين بين الحُديبية وخيبر. قيل: إنه لم يأت من أرض النجاشيّ إلَّا معتقد الإِسلام، وذلك أنّ النجاشيّ قال له: يا عمرو كيف يَعْزُب عندك أمر ابن عمك؟ فوالله إنه لرسول الله حقًا. قال: أنت نقول ذلك؟ قال: إيْ والله، فأظعن فخرج من عنده مهاجرًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-. وذكر الزبير بن بكار أن رجلًا قال لعمرو: ما أبطاكَ عن الإِسلام وأنت أنت في عقلك؟ قال: إنّا كنا مع قوم لهم علينا تقدم، وكانوا ممن يوازي خلوبهم الخبال، فلما بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- أنكروا عليه، فلذنا بهم، فلما ذهبوا وصار الأمر إلينا نظرنا وتدبرنا، فإذا هو حق بَيِّن، فوقع في قلبي الإِسلام، فعرفت ذلك قريش مني من إبطائي عما كنت أسرع فيه من عونهم عليه، فبعثوا إليّ رجلًا منهم، فناظرني في ذلك، فقلت: أنشدك ربك ورب من قبلك ومن بعدك، أنحن أهدى أم فارس والروم؟ قال: نحن أهدى. قلت: فنحن أوسع عيشًا أم هم؟ قال: هم، قلت: فما ينفعنا فضلنا عليهم إن لم يكن لنا فضل إلَّا في الدنيا، وهم أعظم منا فيها أمرًا في كل شيء؟ وقد وقع في نفسي أنّ الذي يقوله محمد من أن البعث بعد الموت ليُجزي المحسن بإحسانه، والمُسيء بإساءته حق، ولا خير في التمادي في الباطل. وروي عن عمرو بن إسحاق قال: استأذن جعفر بن أبي طالب النبي -صلى الله عليه وسلم-. في التوجه إلى الحبشة، فأذن له. قال عُمير: فحدثني عمرو بن العاص قال: لما رأيت مكانه قلت: والله لأستقلنَّ لهذا وأصحابه، فذكر قصتهم مع النجاشيّ قال: فلقيت جعفر، فذهب معي خاليًا فاسلمت قال: وبلغ ذلك أصحابي فغنموني وسلبوني كل شيء، فذهبت إلى جعفر، فذهب معي إلى النجاشيّ، فردوا عليّ بكل شيء أخذوه. ولما أسلم، كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقربه ويدنيه، لمعرفته وشجاعته، وأمَّره على

غزوة ذات السلاسل، وقال له: "يا عمرو، إني أريد أن أبعثك في جيش يُسلمك الله ويُغْنمك، وأرغب لك من المال رغبة صالحة، فقلت: يا رسول الله، ما أسلمت من أجل المال، بل أسلمت رغبة في الإِسلام. قال: يا عمرو، نعم المال الصالح للرجل الصالح" فبعثه إلى أخوال أبيه العاص بن وائل من بَلِيّ يدعوهم إلى الإِسلام في ثلاث مئة، فسار حتى إذا كان بماء بأرض جُذام يقال له السلاسل، وبذلك سميت تلك الغزوة ذات السلاسل، خاف، فكتب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستمده، فأمده بمئتي فارس من المهاجرين والأنصار وأهل الشرف، فيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وأمَّر عليهم أبا عُبيدة، فلما قدموا على عمرو قال: أنا أميركم، وإنما أنتم حدوي. وقال أبو عبيدة: بل أنت أمير من معك، وأنا أمير من معي، فأبى عمرو، فقال أبو عبيدة: يا عمرو، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عَهِدَ إليّ إذا قدمتَ إلى عمرو فتطاوعا ولا تختلفا، فإن خالفتني أطعتك. قال عمرو: فإني أخالفك، فسلّم له أبو عبيدة، وصلى خلفه في الجيش كله، وكانوا خمس مئة. وكان عمرو أحد الدهاة المقومين في المكر والرأي والدهاء، وكان عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، إذا استضعف رجلًا في رأيه وعقله يقول: أشهد أن خالقك وخالق عمرو واحد، يريد خالق الأضداد، وكان عمر رضي الله عنه إذا نظر إلى عمرو يمشي قال: ما ينبغي لأبي عبد الله أن يمشي على الأرض إلَّا أميرًا. وقال قُبيصة بن جابر: صحبت عمرو بن العاص فما وجدت رجلًا أبْينَ قرآنًا، ولا أكرم خُلُقًا، ولا أشبه سريرة بعلانية منه. وأخرج عن طلحة، أحد العَشْرة، رفعه: "عمرو بن العاص من صالحي قريش". ورجال سنده ثقات، وأخرج أحمد أيضًا والنَّسائيّ بسند حسن عن عمرو بن العاص قال: فزع أهل المدينة فزعًا فتفرقوا فنظرت إلى سالم مولى أبي حُذيفة في المسجد، عليه سيف مختفيًا ففعلت مثل فعله، فخطب النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "لا يكون فزعكم إلى الله ورسوله إلا فعلتم كما فعل هذان الرجلان المؤمنان". وأخرج ابن سعد بسند رجاله ثقات، إلى ابن أبي مليكة مرفوعًا "نعم أهل البيت

عبد الله وأبو عبد الله وأم عبد الله، وكان عمرو بن العاص من فرسان قريش وأبطالهم في الجاهلية، مذكور بذلك فيهم، وكان شاعرًا حسن الشعر، ومن شعره في أبيات له يخاطب عمارة بن الوليد عند النجاشيّ: إذا المرءُ لم يترك طعامًا يحبه ... ولم ينه قلبًا غاويًا حيث يمما قضى وطرًا منه وغادر سبةً ... إذا ذكرت أمثالها تملأ الفما ولاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على عُمان، ولم يزل عليها حتى قُبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وولاه عمر بن الخطاب بعد موت يزيد بن أبي سفيان فلسطينَ والأُردن، وولى معاوية دمشق وبعلبك والبلقاء، وولى سعيد بن عامر بن خزيم حمص، ثم جمع الشام كلها إلى معاوية، وكتب إلى عمرو بن العاص فسار إلى مصر فافتتحها، فقتل المقاتلة، وسبي الذرية، ولم يزل عليها واليًا حتى مات عمر، فأقره عثمان عليها أربع سنين أو نحوها، ثم عزله عنها وولاها عبد الله بن سعد العامري. وفي سنة خمس وعشرين انتفضت الإسكندربة، فافتتحها عمرو بن العاص، فقتل المقاتلة وسبي الذرية، فأمر عثمان برد السبي الذين سَبُوا من القرى إلى مواضعهم، للعهد الذي كان لهم، ولم يصح عنده نقضهم، وعزل عمرو بن العاص، وولى سعيد بن أبي سرح العامريّ، وكان ذلك بدء الشّرّ بين عمرو وعثمان، فاعتزل عمرو في ناحية فلسطين، وكان يأتي المدينة أحيانًا، ويطعن في خلال ذلك على عثمان، فلما قُتل عثمان سار إلى معاوية باستجلاب معاوية له، وشهد صفين معه، وكان منه بصفين وفي التحكيم ما هو عند أهل العلم بأيام الناس معلوم، ثم ولاه مصر، فلم يزل أميرًا عليها إلى أن مات بها، يوم الفطر سنة ثلاث وأربعين، وقيل سنة ست، وقيل سنة اثنتين وأربعين، وقيل: سنة إحدى وخمسين، والأول أصح. وكان له يوم مات تسعون سنة، وقيل: تسعة وتسعون. ويقال: عاش بعد عمر عشرين سنة. وكان يقول: أذكر ليلة ولد عمر، كان عمره لما ولد عمر سبع سنين. ولما حضرته الوفاة قال: اللهم إنك أمرتني فلم أأْتمر، وزجرتني فلم أنزجر، ووضع يده في موضع الغُل وقال: اللهم لا قويّ فانتصر، ولا بريء فأعتذر، ولا

مستكبر بل مستغفِر، لا إله إلَّا أنت، فلم يزل يرددها حتى مات. وروي عن الشافعيّ قال: دخل عبد الله بن عباس على عمرو بن العاص في مرضه الذي مات فيه، فسلم عليه وقال: كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟ قال: أصبحت وقد أصلحتُ دنيايَ قليلًا وأفسدت من ديني كثيرًا، فلو كان الذي أصلحت هو الذي أفسدت، والذي أفسدت هو الذي أصلحت، لفزت، ولو كان ينفعني أن أطلب طلبتُ، ولو كان ينجيني أن أهرب هربت، فصرت كالمنجنيق بين السماء والأرض، لا أرقى بيدين، ولا أهبط برجلين، ففطني بفطنة أنتفع بها يا ابن أخي. فقال ابن عباس: هيهاتَ يا أبا عبد الله، صار ابن أخيك أخاك، ولا تشاء أن تبكي إلَّا بكيت، كيف يوم يرحل من هو مقيم؟ فقال عمرو: وعلى حبها من حين ابن بضع وثمانين سنة، تقنطني من رحمة ربي، اللهم إن ابن عباس يقنطني من رحمتك، فخذ مني حتى ترضى. فقال ابن عباس: هيهات يا أبا عبد الله، أخذت جديدًا، وتعطي خَلَقًا، فقال عمرو: وما لي ولك يا ابن عباس؟ ما أرسل كلمةً إلا أرسلت نقيضها. وعن عبد الرحمن بن شَمّاسة قال: لما حضرت عمرو بن العاص الوفاةُ بكى، فقال ابنه عبد الله: لم تبكي أجزعًا من الموت؟ فقال: لا ولكن لما بعده. فقال له: قد كنت على خير، فجعل يذكره صحبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفتوحه الشام. فقال له عمرو: تركت أفضل من ذلك، شهادة أن لا إله إلا الله، إني كنت على ثلاث أطباق ليس منها طبق إلَّا عرفت نفسي فيه، كنت أول شيء كافرًا، فكنت أشد الناس على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلو مت يومئذ وجبت لي النار، فلما بايعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-كنت أشد الناس حياءًا منه، فما ملأت عيني من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حياءًا منه، فلو مت يومئذ قال الناسُ: هنيئًا لعمرو، أسلم وكان على خير، ومات على خير، وأحواله فترجى له الجنة، ثم بليت بعد ذلك بالسلطان وأشياء، فلا أدري أعَليّ أم لي، فإذا مت فلا تبكي عليّ باكية، ولا يتبعني مادح ولا نار، وشدوا عليّ إزاري، فإني مخاصم، وشنوا عليّ الترابَ شنًّا، فإن جنبي الأيمن ليس باحق بالتراب من جنبي الأيسر، ولا تجعلن في قبري خشبة ولا حجرًا، وإذا واريتموني فاقعدوا عندي قدرَ نحر جَزور، أستأنس بكم.

له تسعة وثلاثون حديثًا، اتفقا على ثلاثة، وانفرد البخاري بطرف حديث، ومسلم بحديثين. روى عنه ولداه عبد الله ومحمد، وقيس بن حازم، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وأبو قيس مولى عمرو، وعبد الرحمن بن شماسة، وأبو عثمان النهديّ وقُبيصة بن ذُؤيب، وآخرون.

الحديث الثاني عشر

الحديث الثاني عشر حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ هُوَ غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ قَالَ أَبُو مُوسَى لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: إِذَا لَمْ تَجِدِ الْمَاءَ لاَ تُصَلِّي. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَوْ رَخَّصْتُ لَهُمْ فِي هَذَا، كَانَ إِذَا وَجَدَ أَحَدُهُمُ الْبَرْدَ قَالَ هَكَذَا يَعْنِي تَيَمَّمَ وَصَلَّى. قَالَ قُلْتُ: فَأَيْنَ قَوْلُ عَمَّارٍ لِعُمَرَ؟ قَالَ إِنِّي لَمْ أَرَ عُمَرَ قَنِعَ بِقَوْلِ عَمَّارٍ. قوله: هو غندر، لم يقل الأصيليّ هو غندر، فكأنها من مقول من دون البخاريّ. وقوله: عن شُعبة، للأصيليّ: حدثنا شعبة، وقوله: إذا لم تجد الماء لا تصلي، بتاء الخطاب فيهما، ويؤيده رواية الإسماعيليّ "فقال عبد الله: نعم، إن لم أجد الماء لا أصلي" ولكريمة بالياء التحتانية في الموضعين أي إن لم يجد الجنب. وقوله: قال عبد الله زاد ابن عساكر نعم. وقوله: أحدهم، كذا للأكثر، وللحموي "أحدكم". وقوله: قال: هكذا، فيه إطلاق القول على العمل، وقوله: يعني تيمم وصلى، الظاهر أنه مقول أبي موسى، شرح به قول عبد الله "هكذا". وقوله: فأين قول عمار لعمر، يعني السابق "كنا في سفر فأجنبتُ فتمعّكتُ ... الخ". وفي رواية حفص الآتية، ورواية أبي معاوية الضرير بيان ذلك بالتمام. وقوله: لم أر عمر قَنِع بقول عمار، قَنِع بكسر النون، وإنما لم يقنع عمر بقول عمار لأنه كان حاضرًا معه في تلك السفرة، ولم يذكر القصة، فارتاب لذلك. رجاله سبعة:

لطائف إسناده

الأول: بشر بن خالد العسكريّ، مرَّ بشر هذا ومحمد بن جعفر وسليمان ابن مِهران الأعمش في الخامس والعشرين من كتاب الإيمان، ومرَّ هناك بشر ويُسر، ومرَّ شعبة في الثالث منه، ومرَّ أبو وائل وعمار بن ياسر في الحادي والأربعين، ومرَّ عمر في الأول من بدء الوحي. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع مرتين، والعنعنة في ثلاثة مواضع.

الحديث الثالث عشر

الحديث الثالث عشر حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ: سَمِعْتُ شَقِيقَ بْنَ سَلَمَةَ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي مُوسَى فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى: أَرَأَيْتَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِذَا أَجْنَبَ فَلَمْ يَجِدْ، مَاءً كَيْفَ يَصْنَعُ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لاَ يُصَلِّي حَتَّى يَجِدَ الْمَاءَ. فَقَالَ أَبُو مُوسَى: فَكَيْفَ تَصْنَعُ بِقَوْلِ عَمَّارٍ حِينَ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "كَانَ يَكْفِيكَ؟ " قَالَ: أَلَمْ تَرَ عُمَرَ لَمْ يَقْنَعْ بِذَلِكَ؟. فَقَالَ أَبُو مُوسَى: فَدَعْنَا مِنْ قَوْلِ عَمَّارٍ، كَيْفَ تَصْنَعُ بِهَذِهِ الآيَةِ؟ فَمَا دَرَى عَبْدُ اللَّهِ مَا يَقُولُ. فَقَالَ: إِنَّا لَوْ رَخَّصْنَا لَهُمْ فِي هَذَا لأَوْشَكَ إِذَا بَرَدَ عَلَى أَحَدِهِمُ الْمَاءُ أَنْ يَدَعَهُ وَيَتَيَمَّمَ. فَقُلْتُ لِشَقِيقٍ: فَإِنَّمَا كَرِهَ عَبْدُ اللَّهِ لِهَذَا؟ قَالَ نَعَمْ. قوله: حدثنا الأعمش، في رواية أبوي ذَرٍّ والوقت، عن الأعمش، وأفادت رواية حفص هذه التصريحَ بسماع الأَعْمش من شقيق. وقوله: أرأيت، أي: أخبرني، وأبو عبد الرحمن كنية ابن مسعود. وقوله: فلم يجد ماء، ولابن عساكر "فلم يجد الماء" وفي رواية "إذا أجنبتَ فلم تجد الماء كيف تصنع؟ " بتاء الخطاب في الثلاثة. وقوله: حتى يجد الماء، وللأصيلي "حتى تجد" بتاء الخطاب، وسقط عنده وعند ابن عساكر لفظة "الماء" فاقتصروا على "تجد". وقوله: كان يكفيك، أي مسح الوجه والكفين. وقوله: لم يقنع بذلك، في رواية أبي ذَرٍّ والمستملي والأصيلي "لم يقنع منه" أي من عمار. وقوله: فدعنا من قول عمار. كيف تصنع بالأية؟ يعني قوله تعالى {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا} [المائدة: 6] وسيأتي التصريح بها في الباب الذي بعده. وفيه جواز الانتقال من دليل إلى دليل أوضح منه، ومما فيه الاختلاف إلى ما فيه الاتفاق، تعجيلًا لقطع خصمه وإفحامه، كما في محاجّة إبراهيم عليه

رجاله سبعة

الصلاة والسلام مع النَّمرود الملعون، فإن إبراهيم عليه السلام لما قال: ربي الذي يحي ويميت، وقال النمرود: أنا أحي وأُميت، لم يحتج إلى أن يوقفه على كيفية إحيائه وإماتته، بلى انتقل إلى قوله: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأتِ بها من المغرب، فأُفحم نمروذ عند ذلك. وقوله: فما درى عبدُ الله ما يقول: أي في توجيه الآية على فتواه. والظاهر أن مجلس المناظرة بين ابن مسعود وأبي موسى ما كان يقتضي تطويل المناظرة، وإلا لكان لابن مسعود أن يجيب بأن المُلامسة في الآية المرادُ بها تلاقي البَشرتين بلا جماع، وقد لتشكل ما ذهب إليه عمر وابن مسعود، رضي الله تعالى عنهما، من إبطال هذه الرخصة، مع ما فيها من إسقاط الصلاة عمن خوطب بها وهو مأمور بها. وأجيب بانها إنما دَلّ الملامسة في قوله تعالى {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] على مماسة البشرتين من غير جماع، إذ لو أراد الجماع لكان فيه مخالفة صريحة لقوله تعالى {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] أي اغتسلوا، ثم {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} بعد قوله {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [المائدة: 6] فجعل التيمم بدلًا عن الوضوء فلا يدل على جواز التيمم للجنب، والحاصل أن عمر وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما لا يريان تيمم الجنب الآية {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] وآية {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] وقد مرَّ في أول الكتاب أنّ ابن مسعود قيل برجوعه عن ذلك. وقوله: إذا بَرِدَ على أحدهم الماء، بفتح الراء في برد وضمها، والفتح أشهر، قال ابن بطال: في الحديث جواز التيمم للخائف من البرد. وقال العينى: التيمم للجُنُب المقيم إذا خاف البرد ويجوز عند أبي حنيفة، خلافًا لصاحبيه. رجاله سبعة: الأول: عمر بن حفص بن غياث. والثاني: أبوه. وقد مرَّ في الثاني من كتاب الغُسل، ومرَّ في الحديث الذي قبله ذكر مجال بقيتهم

باب التيمم ضربة

باب التيمم ضربة رواية الأكثر بتنوين باب، والتيمم ضربة بالرفع مبتدأ وخبر، وفي رواية الكشميهنيّ بغير تنوين، وضربة بالنصب على الحال، فإن قيل: ليس هذا من الصور الثلاث التي يقع فيها الحال من المضاف إليه، وهي أن يكون المضاف جزءًا من المضاف إليه، أو كجزئه، أو عاملًا في الحال -أجيب بأن المعني باب شرح التيمم، فالتيمم بحسب الأصل مضاف إِلى ما يصلح عَمل في الحال، فهو من الصور الثلاث.

الحديث الرابع عشر

الحديث الرابع عشر حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ شَقِيقٍ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى: لَوْ أَنَّ رَجُلاً أَجْنَبَ، فَلَمْ يَجِدِ الْمَاءَ شَهْرًا، أَمَا كَانَ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي فَكَيْفَ تَصْنَعُونَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَوْ رُخِّصَ لَهُمْ فِي هَذَا لأَوْشَكُوا إِذَا بَرَدَ عَلَيْهِمُ الْمَاءُ أَنْ يَتَيَمَّمُوا الصَّعِيدَ. قُلْتُ: وَإِنَّمَا كَرِهْتُمْ هَذَا لِذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ أَبُو مُوسَى: أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ عَمَّارٍ لِعُمَرَ: "بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي حَاجَةٍ فَأَجْنَبْتُ، فَلَمْ أَجِدِ الْمَاءَ، فَتَمَرَّغْتُ فِي الصَّعِيدِ كَمَا تَمَرَّغُ الدَّابَّةُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَصْنَعَ هَكَذَا". فَضَرَبَ بِكَفِّهِ ضَرْبَةً عَلَى الأَرْضِ ثُمَّ نَفَضَهَا، ثُمَّ مَسَحَ بِهَا ظَهْرَ كَفِّهِ بِشِمَالِهِ، أَوْ ظَهْرَ شِمَالِهِ بِكَفِّهِ، ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أَفَلَمْ تَرَ عُمَرَ لَمْ يَقْنَعْ بِقَوْلِ عَمَّارٍ. قوله: محمد، للأصيليّ هو "ابن سلام"، وقوله: ما كان يتيمم ويصلي، ولكريمة والأصيليّ "أما كان" بزيادة همزة الاستفهام، ولمسلم: كيف يصنع بالصلاة؟ قال عبد الله: لا يتيمم وإن لم يجد الماء شهرًا، ونحوه لأبي داود قال: فقال أبو موسى: فكيف تصنعون بهذه الآية؟ وعلى رواية "أما" بالاستفهام، ما نافية على أصلها، والهمزة إما للتقرير المخرج عن معنى الاستفهام الذي هو المانع من وقوعه جزاء للشرط، وإما معجمة، فوجودها كالعدم، وإما للاستفهام فهو جواب لو، لكن مقدر في الأُولين القول قبل "لو" أي فقال أبو موسى: تقول: لو أن رجلًا، ويقدر في الثالث قبل "ما كان" أي: لو أن رجلًا أجنب، يقال في حقه: أما يتيمم؟ ويجوز على هذا أن يكون جواب "لو" هو قوله: فكيف تصنعون

بهذه الآية؟ أي مع قولكم لا يتيمم. وقوله: في سورة المائدة، وللكشميهنيّ: بهذه الآية في سورة المائدة. وقوله: فلم تجدوا ماءًا، بيان للمراد من الآية. وللأصيليّ: فإن لم تجدوا، وهو مغاير للتلاوة، وإنما عين سورة المائدة لكونها أظهر في مشروعية تيمم الجنب من آية النساء، لتقدم حكم الوضوء في المائدة. قال الخطابيّ وغيره: فيه دليل على أن عبد الله كان يرى أن المراد بالملامسة الجماع، فلهذا لم يدفع دليل أبي موسى، وإلا لكان يقول له: المراد من الملامسة التقاء البشرتين فيما دون الجماع، وجعل التيمم بدلًا عن الوضوء لا يستلزم جعله بدلًا عن الغسل. قلت: قد مرَّ قريبًا نقلًا عن العينيّ والقسطلانيّ أن ابن مسعود وعمر يريان حمل الملامسة على ما دون الجماع، وهذا مخالف لما ذكره في الفتح، هنا، نقلًا عن الخطابيّ من أن ابن مسعود يرى حمل الملامسة على الجماع، وهذا أظهر وجهًا في انقطاعه في المناظرة مما مرَّ، فإنه غير ظاهر. وقوله: قلت: وإنما كرهتم هذا لنا، أي التيمم لأجل تيمم صاحب البرد، والقائل هو الأعمش. والمقول له شقيق، كما صرح بذلك في رواية حفص التي قبل هذه، فقول الكرمانيّ: إن القائل هو شقيق، غير صحيح. وقوله: فقال أبو موسى: ألم تسمع ظاهره، إن ذكر أبي موسى لقصة عمار متأخر عن احتجاجه بالأية، وفي رواية حفص الماضية احتجاجه بالآية متأخر عن احتجاجه بقصة عمار، ورواية حفص أرجح؛ لأن فيها زيادة تدل على ضبط ذلك، وهي قوله: فدعنا من قول عمار، فكيف تصنع بهذه الآية. وقوله: كما تَمرَّغُ الدابة، بفتح المثناة وضم الغين المعجمة، وأصله تتمرغ، فحذفت إحدى التاءين، كما في تَلَظّى. والكاف للتشبيه، وموضعه مع مجروره نصب على الحال، وأعربها أبو البقاء في قوله: كما آمن الناس نعتاً لمصدر محذوف، فيقدر تمرغًا كتمرغ الدابة، ومذهب سيبويه في هذا كله النصب علي الحال من المصدر المفهوم من الفعل المتقدم المحذوف بعد الإضمار، على طريق الاتساع، فيكون التقدير: فتمرغت على هذه الحالة، ولا

يكون عنده نعتًا لمصدر محذوف؛ لأنه يؤدي إلى حذف الموصوف في غير المواضع المستثناة. وقوله: إنما كان يكفيك، فيه أن الكيفية المذكورة مجزئة، فيحمل ما ورد زائدًا عليها على الأكمل. وقوله: فضرب بكفه ضربة، بالفاء والإفراد، وللأربعة: وضرب، بالواو. وللأصيليّ: بكفيه، بالتثنية. وقوله: ثم مسح بها، أي بالضربة. وقوله: ظهرَ كفه، أي اليمنى بشماله. وقوله: أو ظهر شماله بكفه، أي اليمنى بالشك في جميع الروايات. وقوله: ثم مسح بهما وجهه، أي بكفيه. ولابن عساكر "بها" أي بالضربة. وفي رواية أبي داود من طريق أبي معاوية تحرير ذلك من غير شك، ولفظه "ثم ضرب بشماله على يمينه، وبيمينه على شماله على الكفين، ثم مسح وجهه". وفي هذا الحديث الاكتفاء بضربه واحدة، وتقديم مسح الكف على الوجه، والاكتفاء بظهر كف واحدة، وعدم مسح الذراعين. ونقل ابن المنذر عن جمهور العلماء الاكتفاء بضربة واحدة في التيمم، واختاره. وقد روى أصحاب السنن أنه عليه الصلاة والسلام تيمم فمسح وجهه وذراعيه، والذراع اسم للساعد إلى المرفق، والترتيب عند المالكية والحنفية غير واجب، بل هو عند المالكية سُنَّةٌ حملًا لما ورد فيه على ذلك، لقوله في هذا الحديث "يكفيك". والحديث مشتمل على عدم الترتيب، وعند الشافعية الترتيب واجب. وقد قال النوويّ: الأصح وجوب ضربتين. قال في الفتح: مراده ما يتعلق بنقل المذهب. ونقل القسطلانيّ كيفية التيمم المستحبة عندهم، فقال: إذا مسح اليمنى وضع بطون أصابع يساره غير الإبهام، على ظهور أصابع يمينه غير الإبهام، بحيث لا تخرج أنامل اليمنى عن مسبحة اليسرى، ولا تحاذي مسبحة اليمنى أطراف أنامل اليسرى، ويمرها على ظهر الكف، فإذا بلغ الكوع ضم أطراف أصابعه على حرف الذراع، ويمرها إلى المرفق، ثم يدير بطن كفه إلى بطن الذراع، ويمرها عليه وإبهامه مرفوعة، فإذا بلغ الكوع أمرها على إبهام

رجاله ستة

اليمنى، ثم يمسح اليسار باليمنى كذلك، ثم يمسح إحدى الراحتين بالأخرى، ويخللهما. وهذه إحدى كيفيتين عندنا معاشر المالكية، والأخرى مثلها، إلَّا أنه إذا مسح باطن ذراع اليمنى إلى الكوع، يقدم مسح راحتها وتخليل أصابعها على اليسرى، ثم يفعل باليسرى كذلك. والتخليل عندنا مندوب لا غير. وقوله: فقال عبد الله، أي بالفاء، ولأبويّ ذَرٍّ والوقت "قال" بدون فاء. وقوله: ألم تر عمر، في رواية الأصيليّ وكريمة "أفلم" بزيادة فاء. وعند مسلم عن عبد الرحمن بن أبزى: إن عمر قال لعمار: اتَّقِ اللهَ يا عمّار. قال: إن شئت لم أحدّث به. فقال عمر: نوليك ما توليت. ومعنى قول عمر: اتق الله، أي فيما ترويه، وتثبت فيه، فلعلك نسيت واشتبه عليك، فإني كنت معك، ولا أتذكر شيئًا من هذا. ومعنى قول عمار: إن كنت رأيت المصلحة في الإمساك عن التحديث به راجحةً على التحديث به، وافقتُكَ وأمسكت، فإني قد بلَّغته، فلم يبق عليّ فيه حرج. فقال له عمر: نوليك ما توليت، فإنه لا يلزم من كوني لا أتذكره أن لا يكون حقًا في نفس الأمر، فليس لي منعك من التحديث به. رجاله ستة، وفيه ذكر عمار: الأول: محمد بن سلام، وقد مرَّ في الثالث عشر من كتاب الإيمان، ومرَّ أبو معاوية في الثالث منه، ومرَّ عمار بن ياسر في الحادي والأربعين منه، وذكر محال الباقين قبل هذا بحديث. ثم قال: زاد يعلى عن الأعمش عن شقيق قال: كنت مع عبد الله وأبي موسى، فقال أبو موسى: ألم تسمع قول عمار لعمر: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعثني أنا وأنت فاجنبتُ فتمعكتُ بالصعيد، فأتينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فأخبرناه فقال: إنما كان يكفيك هكذا، ومسح وجهه وكفيه واحدة. قوله: بعثني أنا وأنت لا يقال، كان الوجه أن يقال بعثني إياي وإياك، لأن أنا ضمير رفع، فكيف يقع تأكيدًا للضمير المنصوب؟ والمعطوف في حكم

رجاله خمسة

المعطوف عليه، لأنا نقول: إن الضمائر تتقارض، فيحمل بعضها على بعض، وتجري بينها المناولة. وقوله: وكفيه واحدة أي مسحة واحدة أو ضربة واحدة، وهذا الأخير هو المناسب، لقول المؤلف "باب التيمم ضربة" والذي زاده يعلى في هذه القصة قولُ عمار لعمر "بعثني أنا وأنت" وبه يتضح عذر عمر كما مرَّ. وأما ابن مسعود فلا عذر له في التوقف عن قبول حديث عمار، فلهذا جاء عنه أنه رجع عن الفُتيا بذلك، كما أخرجه ابن أبي شيبة عنه، بإسناد فيه انقطاع، وهذا التعليق وصله أحمد في مسنده، والإسماعيليّ عن ابن زيدان. رجاله خمسة: الأول: يَعلي بن عَبيد بفتح الياء واللام وسكون العين، ابن عبيد بن أبي أمية الإياديّ، ويقال الحنفيّ، مولاهم، أبو يوسف الطَّنافسيّ الكوفيّ، مولى إياد. روى عن إسماعيل بن أبي خالد، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، والأعمش، وزكريا بن أبي زائدة وغيرهم. وروى عنه ابن أخته علي بن محمد الطنافسيّ، وأخوه محمد بن عبيد، ومحمد بن مقاتل المَرْوَزِيّ، ومحمد بن يحيى الذُّهليّ وآخرون. قال صالح بن أحمد عن أبيه: كان صحيح الحديث، وكان صالحًا في نفسه. وقال علي بن الحسين عن أحمد: يعلى أصح حديثًا من محمد بن عبيد وأحفظ. وقال عثمان الدارميّ عَن ابن مُعين: ضعيف في سفيان، ثقة في غيره. وقال إسحاق بن منصور عنه: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق، وهو أثبت أولاد أبيه في الحديث. وذكره ابن حِبّان في الثقات. وقال أحمد بن يونس: ما رأيت أحدًا يريد بعلمه الله تعالى إلَّا يَعلي بن عبيد، ما رأيت أفضل منه. وقال أبو مسعود الرازيّ: كان يعلى ومحمد ابنا عبيد من أهل بيت بركة، ما رأيت يعلى ضاحكًا قط. وكان يعلى أكثر مجلسًا وأحسن خُلُقًا. وقال ابن سَعد: كان ثقة كثير الحديث. وقال الدارقطنيّ: بنو عبيد كلهم ثقات. وقال ابن عمار: أولاد عبيد كلهم ثَبْت، وأحفظهم يعلى، وأبصرهم بالحديث محمد.

وقال سعيد بن أيوب البخاريّ: كان يعلى يحفظ عامةَ حديثه أو جميعه. مات فى رمضان سنة سبع، وقيل تسع ومئتين، وكان مولده سنة سبع عشرة ومئة. والإِياديّ نسبة إلى إياد، وهما إيادان: إياد بن نِزار، وإياد بين أسود بن الحجر بن عمار بن عمر. والباقون الأعمش وشقيق وأبو موسي وعبد الله بن مسعود مرَّ ذكر محالهم قبل هذا باثنين. ثم قال المصنف "باب" كذا للأكثر بلا ترجمة، وسقط من رواية الأصيليّ أصلًا، فعلى روايته هو من جملة الترجمة الماضية، وعلى الأَوّلَة بمنزلة الفصل من الباب كنظائره.

الحديث الخامس عشر

الحديث الخامس عشر حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا عَوْفٌ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ قَالَ حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ الْخُزَاعِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَأَى رَجُلاً مُعْتَزِلاً لَمْ يُصَلِّ فِي الْقَوْمِ، فَقَالَ: "يَا فُلاَنُ! مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ فِي الْقَوْمِ؟. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ وَلاَ مَاءَ. قَالَ: "عَلَيْكَ بِالصَّعِيدِ فَإِنَّهُ يَكْفِيكَ". قوله: يا فلان، ما منعك، هو كناية عن علم المذكر، فيحتمل أن يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- خاطبه باسمه، وكنى عنه الراوي لنسيانه لاسمه. وتحتمل غير ذلك. ولابن عساكر "ما يمنعك" وقوله: أن تصلي في القوم، مفعول ثان لمنعك، أو على إسقاط الخافض، أي من أن تصلي. ففي محله المذهبان المشهوران؛ هل هو نصب أو جر. وقوله: فإنه يكفيك، ليس فيه التصريح يكون الضربة في التيمم مرة واحدة، حتى يطابق الترجمة، فيحتمل أن يكون المصنف أخذه من عدم التقييد، لأن المدة الواحدة أقل ما يحصل به الامتثال، ووجوبها متيقن. وهذا الحديث مختصر من الحديث الطويل الماضي في باب الصعيد الطيب، وقد مرَّ الكلام عليه هناك مستوفى. رجاله خمسة: الأول: عبدان. والثاني: عبد الله بن المبارك، وقد مرا في السادس من بدء الوحي، ومرَّ عوف بن أبي جميلة في الأربعين من كتاب الإيمان، ومرَّ أبو رجاء وعمران بن الحصين في الحادي عشر من هذا الكتاب. ومرَّ في ذلك الحديث الكلام علي الرجل الذي لم يُصَلِّ.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والإخبار كذلك، والعنعنة في موضع واحد. وهذا الحديث مختصر من الحديث الطويل الذي مضى.

خاتمة

خاتمة اشتمل كتاب التيمم من الأحاديث المرفوعة على سبعة عشر حديثًا، المكرر منها عشرة، منها اثنان معلقان، والخالص سبعة، منها واحد معلق، والبقية موصولة، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث عمرو بن العاص المعلق، وفيه من المرفوعات على الصحابة والتابعين عشرة آثار، منها ثلاثة موصولة، وهي فتوى عمر وأبي موسى وابن مسعود. ومن براعة الختام الواقعة للمصنف في هذا الكتاب ختمه بقوله "فإنه يكفيك" إشارة إلى أن الكفاية، لما أورده، تحصل لمن تدبر وتفهم، والله سبحانه وتعالى أعلم. ثم قال المصنف:

كتاب الصلاة

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الصلاة البسملة ساقطة عند ابن عساكر، لما فرغ المصنف من بيان الطهارة التي هي من شروط الصلاة، شرع في بيان الصلاة التي هي المشروطة، فلذلك أخرها عن الطهارات؛ لأن شرط الشيء يسبقه، وحكمه يعقبه، وقد مرَّ في الحديث الأول من الإيمان الكلامُ على اشتقاقها وحدها. وهي صلة بين العبد وربه، وجامعة لأنواع العبادات النفسانية والبدنية، من الطهارة، وستر العورة، وصرف المال فيها، والتوجه إلى الكعبة، والعكوف على العبادة، وإظهار الخشوع بالجوارح، وإخلاص النية بالقلب، ومجاهدة الشيطان، ومناجاة الحق، وقراءة القرآن، والنطق بالشهادتين، وكف النفس عن الأطيبين، وشرع المناجاة فيها سرًا وجهرًا، ليجمع للعبد فيها ذكر السر والعلانية. فالمصلي في صلاته يذكر الله في ملأ الملائكة ومن حضر من الموجودين السامعين. وهو ما يجهر به من القراءة، فقد قال الله تعالى في الحديث الصحيح "إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وان ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه" وقد يريد بذلك الملائكة المقربين والكرويين خاصة الذين اختصهم لحضرته، وقد تكلمت على ما يتعلق بهذا الحديث في كتابي "متشابه الصفات" فلهذا الفضل شرع لهم الجهر بالقراءة، والسر في الصلاة. وقد مرَّ عند كتاب الإيمان وجه ترتيب البخاري لكتب أركان الإِسلام. وذكر ابن حجر هنا وجه ترتيبه، لما اشتمل عليه كتاب الصلاة من الأنواع، فقال: بدأ أولًا بالشروط السابقة على الدخول في الصلاة، وهي الطهارة وستر العورة واستقبال القبلة ودخول الوقت، ولما كانت الطهارة تشتمل على أنواع أفردها بكتاب، واستفتح كتاب الصلاة بذكر فرضيتها، لتعين وقته دون غيره من

باب كيف فرضت الصلاة في الإسراء

أركان الإِسلام، ولما كان ستر العورة لا يختص بالصلاة بدأ به لعمومه، ثم ثنى بالاستقبال للزومه في الفريضة والنافلة، إلَّا ما استثنى كشدة الخوف ونافلة السفر. ولما كان الاستقبال يستدعي مكاناً ذكر المساجد. ومن توابع الاستقبال سترة المصلي، فذكرها ثم ذكر الشرط الباقي، وهو دخول الوفت، وهو خاص بالفريضة. ولما كان الوقت يشرع الإعلام به، ذكر الأذان. وفيه إشارة إلى أن الأذان حق الوقت، ولما كان الأذان إعلامًا بالاجتماع إلى الصلاة، ذكر الجماعة، ولما كان أقلها إمام ومأموم ذكر الإمامة، ولما انفضت الشروط وتوايعها ذكر صفة الصلاة. ولما كانت الفرائض في الجماعة قد تختص بهيئة مخصوصة ذكر الجمعة والخوف، وقدم الجمعة لأكثريتها، ثم تلا ذلك بما تشرع فيه الجماعة من النوافل، فذكر العيدين والوتر والاستسقاء، والكسوف، وأخره لاختصاصه بهيئة مخصوصة، وهي زيادة الركوع، ثم تلاه بما فيه زيادة سجود، فذكر سجود التلاوة، لأنه قد يقع في الصلاة. وكان إذا وقع اشتملت الصلاة على زيادة مخصوصة، فتلاه بما يقع فيه نقص من عددها، وهو قصر الصلاة. ولما انقضى ما تشرع فيه الجماعة ذكر ما لا تستحب فيه، وهو سائر التطوعات. ثم للصلاة بعد الشروع فيها شروط ثلاثة، وهي: ترك الكلام، وترك الأفعال الزائدة، وترك المفطر، فترجم لذلك. ثم بطلانها يختص بما وقع من ذلك على وجه العمد، فاقتضى ذلك ذكر أحكام السهو، ثم جميع ما تقدم متعلقٌ بالصلاة ذات الركوع والسجود، فعقب ذلك بصلاة لا ركوع فيها ولا سجود، وهي الجنازة، وهي آخر كتاب الصلاة. ثم قال المصنف: باب كيف فرضت الصلاة في الإسراء وللكشميهني والمستملي: كيف فرضت الصلوات في الإسراء، أي في ليلة الإسراء، وهذا مصير من المصنف إلى أن المعراج كان في ليلة الإسراء، لأنه قال: كيف فرضت الصلاة ليلة الإسراء. والصلاة إنما فرضت في المعراج، فدل

على اتحادهما عنده. وإنما أفرد كلًا منهما بترجمة عند ذكر الحديث في السيرة النبوية قُبيل الهجرة بقليل؛ لأنّ كلًا منهما يشتمل على قصة مفردة، وإن كانا وقعا معاً في ليلة واحدة. وقد اختلف السلف بحسب اختلاف الأخبار الواردة، فمنهم من ذهب إلى أن الإسراء والمعراج وقعا في ليلة واحدة، في اليقظة، بجسد النبي -صلى الله عليه وسلم- وروحه، بعد المبعث. وإلى هذا ذهب الجمهور من علماء المحدثين والفقهاء والمتكلمين، وتواردت عليه ظواهر الأخبار الصحيحة، ولا ينبغي العدول عنه، إذ ليس في العقل ما يحيله حتى يحتاج إلى تأويل، ومما يؤيد وقوعهما في ليلة واحدة رواية ثابت عن أنس عند مسلم، ففي أوله "أتيتُ بالبراق، فركبتُ حتى أتيت بيت المقدس ... " فذكر القصة إلى أن قال: "ثم عُرج بنا إلى السماء الدنيا" وعند ابن إسحاق عن أبي سجد الخدريّ "فلما فرغت مما كان في بيت المقدس أتي بالمعراج ... الخ". ووقع في أول حديث مالك بن صعصعة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حدثهم عن ليلة أُسْريَ به، فذكر الحديث، فهو وإن لم يذكر فيه الإسراء إلى بيت المقدس صريحًا، فقد أشار إليه بالركوب على البُراق، ووصف سيره فهو المعتمد، وعلى هذا المعتمد. فالحكمة في الإسراء إلى بيت المقدس ثم العُروج منه إلى السماء هي ما قد روى كعب الأحبار: أن باب السماء الذي يقال له مصعد الملائكة، يقابل بيت المقدس، فأخذ منه بعض العلماء أن الحكمة في الإسراء إلى بيت المقدس قبل العُروج ليحصل العروج مستويًا من غير تعويج. وفيه نظر، لوررد أن في كل سماء بيتًا معمورًا، وأن الذي في السماء الدنيا حيال الكعبة، وكان المناسب أن يصعد من مكة ليصل إلى البيت المعمور من غير تعويج، لأنه صعد من سماء إلى سماء إلى البيت المعمور. وقيل: الحكمة في ذلك أن يجمع -صلى الله عليه وسلم- في تلك الليلة بين رؤية القبلتين، أو لأنّ بيت المقدس كان هجرة غالب الأنبياء قبله، فحصل له الرحيل إليه في الجملة ليجمع بين أشتات الفضائل، أو لأنه محل الحشر، وغالب ما اتفق له

في تلك الليلة يناسب الأحوال الأخروية، فكان المعراج أليق بذلك، أو للتفاؤل بحصول أنواع التقديس له حسًا ومعنى، أو ليجتمع بالأنبياء جملة كما يأتي بيانه. وقيل: إنه لما قُدّس ظاهرًا وباطنًا حين غسل بماء زمزم بالإيمان والحكمة، ومن شأن الصلاة أن يتقدمها الظهور -ناسب ذلك أن تفرض الصلاة في تلك الحالة، وليظهر شرفه في الملأ الأعلى، ويصلي بمن سكنه من الأنبياء وبالملائكة، وليناجي ربه، ومن ثَمَّ كان المصلي يناجي ربه عَزَّ وَجَلَّ. وقال ابن أبي جمرة: الحكمة في الإسراء إلى بيت المقدس قبل العروج إلى السماء إرادة إظهار الحق، لمعاندة من يريد اخماده؛ لأنه لو عرج به من مكة إلى السماء لم يجد لمعاندة الأعداء سبيلًا إلى البيان والإيضاح. فلما ذكر أنه أسري به إلى بيت المقدس، سألوه عن تعريفات جزئيات من بيت المقدس، كانوا رأوها وعلموا أنه لم يكن رآها قبل ذلك، فلما أخبرهم بها حصل التحقيق بصدقه فيما ذكر من الإسراء إلى بيت المقدس في ليلة، وإذا صح خبره في ذلك لزم تصديقه في بقية ما ذكره، فكان ذلك زيادة في إيمان المؤمن، وفي شقاء الجاحد والمعاند. وقيل: الحكمة في تخصيص فرض الصلاة بليلة الإسراء أنه عليه الصلاة والسلام لما عُرج له رأى في تلك الليلة تعبد الملائكة، وأن منهم القائم فلا يقعد، والراكع فلا يسجد، والساجد فلا يقعد فجمع الله له ولأمته تلك العبادات كلها في كل ركعة يصليها العبد بشرائطها، من الطمأنينة والإخلاص. قاله ابن أبي جمرة أيضًا، وقال: وفي اختصاص فرضيتها بليلة الإسراء، إشارة إلى عظيم بيانها، ولذلك اختص فرضها بكونها بمير واسطة، بل بمراجعة. تعددت على ما يأتي بيانه. القول الثاني: إن ذلك كله وقع مرتين، مرة في المتام توطئة وتمهيدًا، ومرة ثانية في اليقظة كما وقع نظير ذلك في ابتداء مجيء المَلَك بالوحي، وإلى هذا ذهب المهلب وأبو نصر بن القُشَيريّ وأبو سعيد في شرف المصطفى، وحكاه السُّهيليّ عن ابن العربىّ، واختاره. وجوز بعض قائلي ذلك أن تكون قصة

المنام وقعت قبل المبعث، لقول شريك في روايته عن أنس "وذلك قبل أن يوحى إليه". وعلى ظاهر رواية شريك هذه من كون المعراج وقع منامًا، ينتظم من ذلك أن الإِسراء وقع مرتين، مرة على انفراده، ومرة مضمومًا إليه المعراج. وكلاهما في اليقظة، والمعراج وقع مرتين: مرة في المنام، على انفراده توطئة وتمهيدًا، ومرة في اليقظة مضمومًا إليه الإِسراء. الثالث: كانت قصة الإسراء في ليلة، والمعراج في ليلة، متمسكًا بما ورد في حديث أنس من رواية شريك من ترك ذكر الإسراء، وكذا في ظاهر حديث مالك بن صعصعة، ولكن ذلك لا يستلزم التعدد، بل هو محمول على أن بعض الرواة ذكر ما لم يذكره الآخر. واحتج أيضًا من زعم أن الإِسراء وقع مفردًا بما أخرجه البزّار والطبرانيّ، وصححه البيهقيّ في الدلائل عن شدّاد بن أوس قال: قلنا يا رسول الله، كيف أُسري بك؟ قال: "صليت صلاة العتمة بمكة، فأتاني جبريل بدابة ... فذكر الحديث في مجيئه بيت المقدس، وما وقع له فيه. قال: ثم انصرف بي فمررنا بعِيْرٍ لقريش في مكان كذا، فذكره قال: ثم أتيت أصحابي قبل الصبح بمكة. الرابع: كان الإسراء إلى بيت المقدس خاصة في اليقظة، وكان المعراج منامًا، إما في تلك الليلة أو في غيرها، والذي ينبغي أن الاختلاف في كونه يقظة أو منامًا خاص بالمعراج لا بالإسراء، ولذلك، لما أخبر به قريشًا، كذبوه في الإِسراء، واستبعدوا وقوعه، ولم يتعرضوا للمعراج. وأيضًا فإن الله تعالى قال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1] فلو وقع المعراج في اليقظة لكان ذلك أبلغ في الذكر، فلما لم يقع ذكره في هذا الموضع مع كون شأنه أعجب، وأمره أغرب من الإسراء بكثير دلّ على أنه كان منامًا، وأما الإسراء فلو كان منامًا لما كذبوه، ولا استنكروه، لجواز وقوع مثل ذلك، وأبعد منه لآحاد الناس. الخامس: كان الإسراء مرتين في اليقظة، فالأُولى رجع من بيت المقدس

وفي صبيحته أخبر قريشًا بما وقع، وفي الثانية أُسريَ به إلى بيت المقدس، ثم عُرج به من ليلته إلى السماء، إلى آخر ما وقع. ولم يقع لقريش في ذلك اعتراض، لأنّ ذلك عندهم من جنس قوله "إن المَلَكَ يأتيه من السماء في أسرع من طَرْفة عين" وكانوا يعتقدون استحالة ذلك، مع قيام الحجة على صدقه بالمعجزات الباهرة، لكونهم عاندوا في ذلك، واستمروا على تكذيبه فيه، بخلاف إخباره أنه جاء بيت المقدس في ليلة واحدة ورجع، فإنهم صرحوا بتكذيبه فيه، فطلبوا منه نعت بيت المقدس لمعرفتهم به، وعلمهم بأنه ما كان رآه قبل ذلك، فامكنهم استعلام صِدْقه في ذلك، بخلاف المعراج. السادس: جنح الإِمام أبو شامة إلى وقوع المعراج مرارًا، واستند إلى ما أخرجه البَزّار وسعيد بن منصور عن أبي عمران الجونيّ عن أنس، مرفوعًا، قال: "بينا أنا جالس إذ جاء جبريل، فوكز بين كتفيَّ، فقمنا إلى شجرة فيها مثل وَكْري الطائر، فقعدت في أحدهما. وقعد جبريل في الآخر، فارتفعت حتى سدت الخافقين، وأنا أقلب طرفي، ولو شئت أن أمس السماء لمسستُ، فالتفتُّ إلى جبريل كأنه جلس لأجلي، وفتح لي بابًا من السماء، ورأيت النور الأعظم، وإذا دونه حجابٌ رفرف الدر والياقوت، فأوحى إلى عبده ما أوحى. ورجاله لا بأس بهم، إلَّا أن الدارقطني ذكر له علة تقتضي إرساله، وعلى كل حال فهي قصة أخرى الظاهر أنها وقعت بالمدينة، ولا بعد في وقوع أمثالها، وإنما المستبعد وقوع التعدد في قصة المعراج التي وقع فيها سؤاله عن كل نبي، وسؤال أهل كل باب هل بعث إليه، وفرض الصلوات الخمس وغير ذلك في اليقظة، لا يتجه، فيتعين رد بعض الروايات المختلفة إلى بعض، أو الترجيح. إلَّا أنه لا بُعد في وقوع جميع ذلك في المنام توطئة، ثم وقوعه في اليقظة على وفقه، كما مرَّ. ومن المستغرب قول ابن عبد البر في تفسيره: كان الإسراء في النوم واليقظة، ووقع بمكة والمدينة، فإن كان يريد تخصيص المدينة بالنوم، ويكون كلامه على طريق اللف والنشر غير المرتب، فيحتمل. ويكون الإسراء الذي اتصل به المعراج، وفرضت فيه الصلوات في اليقظة بمكة، والآخر في

المنام بالمدينة. وينبغي أن يزاد فيه أن الإسراء في المنام تكرر في المدينة المنورة، كما في أحاديث الصحيح، كحديث سمرة الطويل الآتي في الجنائز، وحديث ابن عباس في رؤياه، وحديث ابن عمر في ذلك، وغير ذلك. وبين قولهم كان الإسراء منامًا، وقولهم كان بروحه دون جسده فرقٌ، فإن الذي يراه النائم قد يكون حقيقة، بأن تصعد الروح مثلًا إلى السماء، وقد يكون من ضرب الأمثال أن يرى النائم ذلك، وروحه لم تصعد أصلًا، فيحتمل أن من قال: أُسري بروحه ولم يصعد جسده، أراد أن روحه عُرج بها حقيقة، فصعدت ثم رجعت، وجسده باقٍ في مكانه خرقاً للعادة، كما أنه في تلك الليلة شُقّ صدره والتأم، وهو حي يقظان لا يجد لذلك ألمًا واختلف في وقت المعراج، فقيل: كان قبل المبعث، وهو شاذٌ، إلَّا ان حمل على أنه وقع حينئذ في المنام كما مرَّ، وذهب أكثر إلى أنه كان بعد المبعث، ثم اختلفوا؛ فقيل: قبل الهجرة بسنة، قاله ابن سعد، وبه جزم النوويُّ وبالغ ابن حزم فنقل الإجماع فيه، وهو مردود بما فيه من الخلاف الكثير، فحكى ابن الجوزيّ أنه كان قبلها بثمانية أشهر، وحكى ابن حزم مقتضاه، لأنه قال: كان في رجب سنة اثنتي عشرة من النبوءة، وقيل: قبلها بستة أشهر، حكاه أبو الربيع بن سالم. وقيل: بأحد عشر شهرًا، جزم به إبراهيم الحربيّ، حيث قال: كان في ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة، ورجحه ابن المنير. وقيل: قبلها بسنة وشهرين، حكاه ابن عبد البر. وقيل: قبلها بسنة وثلاثة أشهر، حكاه ابن فارس. وقيل: بسنة وخمسة أشهر قاله السدّيّ. وأخرجه من طريق الطبريّ والبيهقيّ فعلى هذا كان في شوال وفي رمضاد على إلغاء الكسرين منه ومن ربيع الأول، وبه جزم الواقديّ، وعلى ظاهره ينطبق ما حكاه ابن قتيبة وابن عبد البر أنه كان قبلها بثمانية عشر شهرًا. وكذا قال ابن سعد إنة في رمضان قبلها بثمانية عشر شهرًا وما مرَّ عن ابن حزم من أنه كان في رجب، حكاه ابن عبد البر، وجزم به النّوويّ في الروضة. وقيل: قبل الهجرة بثلاث سنين، حكاه ابن الأثير. وحكى عياض، وتبعه القرطبيّ والنوويّ عن الزهريّ أنه كان قبلها بخمس

سنين، ورجحه عياض ومن تبعه، واحتج بأنه لا خلاف أن خديجة صلّت معه بعد فرض الصلاة، ولا خلاف أنها توفيت قبل الهجرة، إما بثلاث أو نحوها، وإما بخمسٍ، ولا خلاف أن فرض الصلاة كان ليلة الإسراء. وفي جميع ما نفاه من الخلاف نظر، أما أولًا، فإن العسكريّ حكى أنها ماتت قبل الهجرة بسبع سنين وقيل بأربع، وحكى العسكريّ عن الزهريّ أنها ماتت لسبع مضين من البعثة، وظاهره أن ذلك، قبل الهجرة بست سنين، وفرعه العسكري على قول من قال: إن المدة بين البعثة والهجرة كانت عشرًا، أو عن ابن الأعرابيّ أنها ماتت عام الهجرة. وإمّا ثانيًا، فإنّ فرض الصلاة اختلف فيه، فقيل: كان من أول البعثة، وكان ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي، وإنما الذي فرض ليلة الإسراء الصلوات الخمس. قلت: ويؤيد هذا ما مرَّ عن شداد بن أوس "صليت صلاة العتمة" فإنه يدل على أن الصلاة كانت قبل الإسراء، وإما ثالثًا، ففي حديث عائة الجزم بأن خديجة ماتت قبل أن تفرض الصلاة، فالمعتمد أن مراد من قال، بعد أن فرضت الصلاة، ما فرض قبل الصلوات الخمس، إن ثبت ذلك. ومراد عائشة بقولها: ماتت قبل أن تفرض الصلاة "أي الخمس" فيجمع بين القولين بذلك، ويلزم منه أنها ماتت قبل الإسراء. والعروج إلى السماء. قيل: إنه كان على البراق كما كان الإسراء. وقيل: إنه لم يكن على البراق، بل رقى في المعراج، وهو السُّلّم، كما جاء مصرحاً به في حديث أبي سعيد عند ابن إسحاق والبيهقيّ في الدلائل، ولفظه "فإذا أنا بدابة كالبغل ... الأذنين، يقال له البراق، وكانت الأنبياء تركبه قبلي فركبته، فذكر الحديث. قال: ثم دخلت أنا وجبريل بيت المقدس، فصليت ثم أُتيت بالمعراج. وفي رواية ابن إسحاق: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:" لما فرغت مما كان في بيت المقدس أُتي بالمعراج، فلم أرَ قطُّ شيئًا كان أحسن منه، وهو الذي يمد إليه الحيت عينيه إذا حضر، فأصعدني صاحبي فيه حتى انتهى بي إلى باب من أبواب السماء ... الحديث" وفي رواية "فوضعت له مَرقاة من فضة، ومرقاة

من ذهب، حتى عرج هو وجبريل" وفي رواية لأبي سعيد في شرف المصطفى أنه أُتي بالمعراج من جنة الفردوس، وأنه مُنَضَّد باللؤلؤ، وعن يمينه ملائكة، وعن يساره ملائكة. ثم قال المصنف: وقال ابن عباس: حدثني أبو سفيان في حديث هرقل فقال: يأمرنا، يعني النبي -صلى الله عليه وسلم- بالصلاة والصدق والعفاف. ومناسبة التعليق للترجمة هي أن فيه إشارة إلى أن الصلاة فرضت بمكة قبل الهجرة، لأنّ أبا سفيان لم يلق النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد الهجرة، إلى الوقت الذي اجتمع فيه بهرقل لقاء يتهيأ له معه أن يكون آمرًا له بطريق الحقيقة، والإسراء كان قبل الهجرة بلا خلاف، وبيان الوقت، وان لم يكن من الكيفية حقيقة، لكنه من جملة مقدماته، كما وقع نظير ذلك في أول الكتاب في قوله "كيف كان بدء الوحي؟ " وساق فيه ما يتعلق بالمتعلق بذلك، فظهرت المناسبة. وهذا التعليق قطعة من حديث طويل ذكره البخاريّ في أول الكتاب مسندًا، وعبد الله بن عباس مرَّ في الخامس من بدء الوحي، ومرَّ أبو سفيان وهرقل في السابعة منه.

الحديث الأول

الحديث الأول حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ أَبُو ذَرٍّ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "فُرِجَ عَنْ سَقْفِ بَيْتِي وَأَنَا بِمَكَّةَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَفَرَجَ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِىء حِكْمَةً وَإِيمَانًا، فَأَفْرَغَهُ فِي صَدْرِي ثُمَّ أَطْبَقَهُ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَعَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَلَمَّا جِئْتُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا قَالَ جِبْرِيلُ لِخَازِنِ السَّمَاءِ: افْتَحْ. قَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قَالَ: هَلْ مَعَكَ أَحَدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ مَعِي مُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم-. فَقَالَ: أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَلَمَّا فَتَحَ عَلَوْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا، فَإِذَا رَجُلٌ قَاعِدٌ عَلَى يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ وَعَلَى يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ، إِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَسَارِهِ بَكَى، فَقَالَ مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالاِبْنِ الصَّالِحِ. قُلْتُ لِجِبْرِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا آدَمُ. وَهَذِهِ الأَسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ، فَأَهْلُ الْيَمِينِ مِنْهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ، وَالأَسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ، فَإِذَا نَظَرَ عَنْ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى، حَتَّى عَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ فَقَالَ لِخَازِنِهَا: افْتَحْ. فَقَالَ لَهُ خَازِنُهَا مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُ، فَفَتَحَ. قَالَ أَنَسٌ: فَذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ فِى السَّمَوَاتِ آدَمَ وَإِدْرِيسَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَإِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يُثْبِتْ كَيْفَ مَنَازِلُهُمْ، غَيْرَ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ آدَمَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَإِبْرَاهِيمَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ. قَالَ أَنَسٌ: فَلَمَّا مَرَّ جِبْرِيلُ بِالنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- بِإِدْرِيسَ قَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالأَخِ الصَّالِحِ. فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ؟ هَذَا إِدْرِيسُ. ثُمَّ مَرَرْتُ بِمُوسَى فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالأَخِ الصَّالِحِ. قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا مُوسَى. ثُمَّ مَرَرْتُ بِعِيسَى فَقَالَ:

مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ هَذَا عِيسَى. ثُمَّ مَرَرْتُ بِإِبْرَاهِيمَ فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالاِبْنِ الصَّالِحِ. قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ هَذَا إِبْرَاهِيمُ صلى الله عليه وسلم. وهذا الحديث رواه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- جماعةٌ من الصحابة، لكن طرقه في الصحيحين تدور على أنس، مع اختلاف أصحابه عنه، فرواه الزُّهريَّ عنه عن أبي ذَرٍّ كما في هذا الباب، ورواه قتادة عنه عن مالك بن صعصعة في السيرة النبوية قبل الهجرة بقليل، ورواه شريك بن أبي غُر وثابت البناني عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بلا واسطة، وفي سياق كل منهم عنه ما ليس عند الآخر، والغرض من إيراده هنا ذكر فرض الصلاة، ونذكر الكلام على اختلاف طرقه، وتغاير ألفاظها، وكيفية الجمع بينها. وقوله: فُرِج سقف بيتي وأنا بمكة، أي بضم الفاء والجيم أي: فُتح، والحكمة في أن المَلَك انصب إليه من السماء انصبابة واحدة، ولم يعرج على شيء سواه مبالغة في المناجاة، وتنبيهًا على أن الطلب وقع على غير ميعاد. ويحتمل أن يكون السر في ذلك التمهيد لما وقع من شَقّ صدره، فكأن المَلَكَ أراه بانفراج السقف، والتئامه في الحال، كيفية ما سيصنع به لُطفًا به وتثبيتًا به. وقيل: الحكمة في نزوله عليه من السقف، الإشارة إلى المبالغة في مفاجأته بذلك، والتنبيه على أن المراد منه أن يعرج إلى جهة العلوّ. وفي رواية مالك بن صعصعة أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "بينما أنا في الحطيم وربما قال في الحِجر، مضطجعًا" والشك من قتادة، كما بينه أحمد عن عفّان عن همّام ولفظه "بينا أنا نائم في الحطيم" وربما قال قتادة في الحِجر والمراد بالحطيم هنا الحِجر، وأبعد من قال المراد به ما بين الركن والمقام، أو بين زمزم والحجر، وهو إن كان مُخْتَلَفًا فيه، هل هو الحجر أم لا، كما يأتي، إن شاء الله تعالى، في بنيان الكعبة، لكن المراد هنا بيان البقعة التي وقع ذلك فيها، ومعلوم أنها لم تتعدد، لأن القصة متحدة، لاتحاد مخرجها.

وفي أول بدء الخلق "بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان" وهو أعم. وفي رواية الواقديّ بأسانيده "أنه أُسري به من شِعْب أبي طالب". وفي حديث أم هانىء عند الطبرانيّ أنه بات في بيتها، قالت: ففقدته من الليل، فقال: "إن جبريل أتاني" والجمع بين هذه الأقوال أنه بات في بيت أم هانىء، وبيتها عند شعب أبي طالب، ففرج سقف بيته، وأضاف البيت إليه، لأنه كان سكنه منزل المَلَك فأخرجه من البيت إلى المسجد، فكان به مضطجعًا، وبه أثر النعاس، ثم أخرجه الملك إلى باب المسجد، فأركبه البراق. ووقع في مرسل الحسن عند أبي إسحاق أن جبريل أتاه فأخرجه إلى المسجد فأركبه البراق. وهو يؤيد هذا الجمع. وقوله في الرواية السابقة: بين النائم واليقظان، محمول على ابتداء الحال، ثم لما خرج الي باب المسجد فأركبه البراق استمر في يقظته، وأما ما وقع في رواية شريك في كتاب التوحيد "واستيقظ وهو في المسجد الحرام" فإنْ قلنا بالتعدد فلا إشكال، وإلاّ فإنْ حمل على ظاهره جاز أن يكون نام بعد أن هبط من السماء، فاستيقظ وهو عند المسجد الحرام. وجاز أن يؤول قوله استيقظ أي فاق مما كان فيه، فإنه كان إذا أُوحي إليه يستغرق بمشاهدة الملكوت، فإذا انتهى رجع إلى حالته الأولى في العالم الدنيويّ، فكنى عنه بالاستيقاظ. وقال ابن أبي جمرة: قال -صلى الله عليه وسلم-: إنه كان يقظان لأخبر بالحق، لأنّ قلبه في النوم واليقظة سواء، وعينه أيضًا لم يكن النوم تمكن منها لكنه تحرّى -صلى الله عليه وسلم- الصدقَ في الإخبار بالواقع له، فيؤخذ منه أنه لا يُعدل عن حقيقة اللفظ للمجاز إلاّ لضرورة. وقوله: ففَرَجَ صدري، بفتح الفاء وبالجيم، أي شقه. ورجح عياض أنّ شق الصدر كان وهو صغير عند مرضعته في بني سعد، وتعقبه السهيليّ وغيره بأن الروايات تواردت به، وثبت شق الصدر أيضًا عند البعثة، كما أخرجه أبو نعيم في الدلائل، ولكل منهما حكمة، فالأول وقع فيه من الزيادة كما عند مسلم من حديث أنس "فأخرج علقة فقال: هذا حظ الشيطان منك" وكان هذا في زمن الطفولية، فنشأ على كمل الأحوال من العصمة من الشيطان، ثم وقع شق

الصدر عند المبعث، زيادة في إكرامه، ليتلقى ما يوحى إليه بقلب قويّ في أكمل الأحوال من التطهير، ثم وقع شق الصدر عند إرادة العروج إلى السماء ليتأهب للمناجاة. ويحتمل أن تكون الحكمة في هذا الغسل لتقع المبالغة في الإسباغ بحصول المرة الثالثة، كما تقرر في شرعه -صلى الله عليه وسلم-. وقد رُوي الشق أيضًا وهو ابن عشر أو نحوها، في قصة له مع عبد المطلب أخرجها أبو نعيم في الدلائل، ورُوي مرة أخرى خامسة، ولا تثبت. قال القرطبيُّ في المُفهم: لا يلتفت لإِنكار الشق ليلة الإسراء؛ لأن رواته ثقات مشاهير، وجميع ما ورد من شق الصدر واستخراج القلب وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة، مما يجب التسليم له دون التعريض لصرفه عن حقيقته، لصلاحية القدرة، فلا يستحيل شي من ذلك. واختلف هل كان شق قلبه وغسله مختصًا به أو وقع لغيره من الأنبياء؟ وقد وقع عند الطبرانيّ في قصة تابوت بني إسرائيل أنه كان فيه الطَّسْت التي تغسل فيها قلوبُ الأنبياء، وهذا مشعر بالمشاركة. وقوله: ثم غسله بماء زمزم، أي برجوع الضمير إلى الصدر، وفي رواية مالك بن صعصعة "فغسل قلبي". وفي رواية مسلم "فاستخرج قلبي فغُسل بماء زمزم". وفيه فضيلة ماء زمزم على جميع المياه. قال ابن أبي جمرة: وإنما لم يغسل بماء الجنة، لما اجتمع في ماء زمزم من كون أصل مائها من ماء الجنة، ثم استقر في الأرض، فأريد بذلك بقاء بركة النبي -صلى الله عليه وسلم- في الأرض. وقال السهيليّ: لما كانت زمزم هَزْمَةَ جبريل رُوح القدس، لأم إسماعيل جد النبي عليهما الصلاة والسلام، ناسب أن يغسل بمائها عند دخول حضرة القدوس ومناجاته. وقوله: ثم جاءَ بطَست من ذهب، الطَست بفتح أوله وكسره وبمثناة، وقد تحذف، وهو الأكثر، وإثباتها لغة طيء، وأخطأ من أنكرها، إناء معروف خص بذلك لأنه أشهر آلات الغسل عُرفًا، وإنما كان من ذهب لأنه أعلى أنواع الأواني الحسية وأصفاها، ولأن فيه خواص ليست لغيره، وتظهر لها هنا مناسبات منها أنه من أواني الجنة، ومنها أنه لا تأكله النار ولا التراب، ولا يلحقه الصدأ،

ومنها أنه أثقل الجواهر، فناسب ثقل الوحي. وقال السهيليُّ وغيره: إن نُظِر إلى لفظ الذهب ناسب من جهة إذهاب الرجس عنه، ولكونه وقع عند الذهاب إلى ربه، وإنْ نُظر إلى معناه فلوضاءَته ونقائه وصفائه، ولثقله ورسوبته، والوحي ثقيل، قال الله تعالى {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5] والقول هو القرآن. وقال تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المؤمنون: 102]، ولأنه أعز الأشياء في الدنيا، ولعل هذا كان قبل أن يحرّم استعمال الذهب في هذه الشريعة، لا تحريمه كان في المدينة المنورة، كما سيأتي إن شاء الله تعالى في اللباس. ولا يكفي أن يقال إن المستعمل له كان ممن لم يحرم عليه ذلك من الملائكة، لأنه لو كان قد حرم عليه استعماله لنزه أن يستعمله غيره في أمر يتعلق ببدنه المكرم، ويمكن أن يقال إن تحريم استعماله مخصوص بأحوال الدنيا، وما وقع في تلك الليلة كان من أحوال الغيب، فيلحق بأحوال الآخرة. وقد أبعد من استدل به على جواز تحلية المصحف بالذهب؛ لأن المستعمل له الملك، فيحتاج إلى ثبوت كونهم مكلفين بما كلفنا به، وأيضًا فإن ذلك وقع على أصل الإباحة كما مرَّ. ومن المناسبات المستبعدة قول بعضهم: إن الطست يناسب (طس تلك) آية القرآن، وقوله: ممتلىء حكمةً وإيمانًا، كذا وقع هنا بالتذكر على معنى الإناء، لا على لفظ الطست، لأنها مؤنثة. وفي رواية مالك بن صعصعة "مملوءة" بالتأنيث مراعاةً للفظ الطست. وفي رواية له "ملآن" وفي رواية "ملأى" وفي خط الدّمياطيّ "مُلىء" بضم الميم على لفظ الفعل الماضي، وحكمة وإيمانًا نصبا على التمييز، والمعنى أن الطست جعل فيها شيء يحصل به كمال الإيمان والحكمة، فسمى حكمة وإيمانًا مجازًا، وهذا الملء يحتمل أن يبهون على حققته، وتجسُّد المعاني جائز كما ورد أن سورة البقرة تجيء يوم القيامة كأنها ظُلَّة، والموت في صورة كبش، وكذلك وزن الأعمال ونحو ذلك من أحوال الغيب. وقال البيضاويّ: لعل ذلك من باب التمثيل، إذ تمثيل المعاني قد وقع كثيرًا

كما مثلت له الجنة والنار في عرض الحائط، وفائدته كشف المعنويّ بالمحسوس. وقال النوويّ: في تفسير الحكمة أقوالٌ مضطربة، صفا لنا منها أن الحكمة العلم المشتمل على المعرفة بالله، مع نفاذ البصيرة، وتهذيب النفس، وتحقيق الحق للعمل به، والكف عن ضده، والحكيم من حاز ذلك. وقد تطلق. الحكمة على القرآن، وهو مشتمل على ذلك كله، وعلى النبوة كذلك، وقد تطلق على العلم فقط، وعلى المعرفة فقط، وقال بعضهم: أصح ما قيل في الحكمة أنها وضع الشيء في محله، أو الفهم في كتاب الله. فعلى التفسير الثاني قد توجد الحكمة دون الإيمان، وقد لا توجد. وعلى الأول فقد يتلازمان، لأن الإيمان يدل على الحكمة. وقال ابن أبي جمرة فيه: إن الحكمة ليس بعد الإيمان أجل منها، ولذلك قرنت معه، ويؤيده قوله تعالى {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269]. وقوله: فأفرغه في صدوى ثم أطبقه، وفي رواية مالك بن صعصعة "ثم حشي ثم أعيد" وزاد مسلم في روايته مكانه "ثم حشي إيمانًا وحكمة" وفي رواية شريك "فحشي به صدره ولغاديده" بلام وغين معجمة، أي عروق حلقه قال ابن أبي جمرة: الحكمة في شق قلبه مع القدرة على أن يمتلىء قلبه إيمانًا وحكمة بغير شق الزيادة في قوة اليقين، لأنه أُعطي برؤية شق بطنه وعدم تأثره بذلك ما أمن معه من جميع المخاوف العادية، فلذلك كان أشجع الناس وأعلاهم حالًا ومقالًا، ولذلك وصف بقوله تعالى {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17)} [النجم: 17]. وقد اشتملت هذه القصة من خوارق العادة على ما يدهش سامعه فضلًا عمن شاهده، فقد جرت العادة بأن من شق بطنه وأخرج قلبه يموت لا محالة، ومع ذلك فلم يوثر فيه ذلك ضررًا ولا وجعًا، فضلًا عن غير ذلك. وقوله: ثم أخذ بيدي فعَرج بي إلى السماء الدنيا، استدل بعضهم على أن المعراج وقع غير مرة، لكون الإسراء إلى بيت المقدس لم يذكر هنا، ويمكن أن يقال هو من اختصار الراوي، والإتيان بثم المقتضية للتراخي، لا ينافي وقوع أمر الإسراء بين الأمرين المذكورين، وهما الإطباق والعروج، بل يشير إِليه،

وحاصله أَن بعض الرواة ذكر ما لم يذكره الآخر، وهذه الرواية المذكورة هنا مثل رواية شريك الآتية في التوحيد، فإن كانت القصة متعددة فلا إشكال، وإن كانت متحدة ففي هذا السياق حذفٌ تقديره: ثم أركبه البراقَ إلى بيت المقدس، ثم أتي بالمعراج كما في حديث مالك بن صعصعة "فغسل قلبي ثم حشي ثم أعيد ثم أُتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار، أبيض، وهو البراق فحملت عليه، فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا" وفي سياقه أيضًا حذف تقديره: حتى أتى بي بيت المقدس، ثم أتى بالمعراج، كما في رواية ثابت عن أنس رفعه: أُتيتُ بالبراق فركبته حتى أتى بي بيت المقدس، فربطته، ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين، ثم عُرج بي إلى السماء". والحكمة في الإسراء به راكبًا مع القدرة على طي الأرض، إشارةٌ إلى أن ذلك وقع ثانيًا له بالعادة في مقام خرق العادة، لأن العادة جرت بان المَلَك إذا استدعى من يختص به يبعث إليه بما يركبه. وقال ابن أبي جمرة خص البراق بذلك إشارة إلى الاختصاص به، لأنه لم ينقل أن أحدًا ملكه بخلاف غير جنسه من الدواب، والقدرة كانت صالحة لأن يصعد بنفسه من غير براق، لكن ركوب البراق كان زيادة في تشريفه، لأنه لو صعد بنفسه لكان في صورة ماشٍ، والراكب أعز من الماشي. والحكمة في كون البراق بهذه الصفة الإشارةُ إلى أن الركوب كان في سلْم وأمْن، لا في حرب وخوف، أو لإظهار المعجزة بوقوع الإسراع الشديد من دابة لا توصف بذلك في العادة، وقد وصفه بقوله "يضع خطوه عند أقصى طَرْفه" أي بسكون الراء وبالفاء، نظره، أي يضع رجله عند منتهى ما يرى بصره. وفي حديث ابن مسعود عند أبي يعلى والبزار "إذا أتى على جبل ارتفعت رجلاه، وإذا هبط ارتفعت يداه" وفي رواية للواقديّ "له جناحان ولم تر لغيره" وفي رواية عند الثعلبيّ بسند ضعيف عن ابن عباس في صفة البراق "له خد كخد الإنسان، وعرف كعرف الفرس، وقوائم كالإبل، وأظلاف وذنبٍ كالبقر، وكأنّ صدره ياقوتة حمراء" قيل: يؤخذ من ترك تسمية سير البراق طيرانًا أن الله إذا أكرم عبدًا بتسهيل

الطريق له حتى قطع المسافة الطويلة في الزمن اليسير أن لا يخرج بذلك عن اسم السفر، وتجري عليه أحكامه. والبراق بضم الموحدة وتخفيف الراء مشتق من البَريق، فقد جاء في لونه أنه أبيض، أو من البَرق لأنه وصفه بسرعة السير، أو من قولهم شاة برقاء، إذا كان خلال صوفها الأبيض طافات سود، ولا فيافيه وصفه في الحديث بأنه أبيض، لأنّ البرقاء من الغنم معدودة في البياض، ويحتمل أن لا يكون مشتقًا. وقوله السابق: فحملت عليه، في رواية لأبي سعيد في شرف المصطفى "فكان الذي أمسك بركابه جبريل، وبزمام البراق ميكائيل" وفي رواية معمر عن قتادة عن أنس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة أُسري به اتي بالبراق مسرجًا ملجمًا، فاستصعب عليه، فقال له جبريل: ما حملك على هذا، فوالله ما ركبك خلق قط أكرم على الله تعالى منه، فارفضَّ عرقًا. أخرجه الترمذيّ وقال: حسن غريب، وصححه ابن حبّان. وذكر ابن إسحاق عن قتادة أنه لما شَمَس وضع جبريل يده على معرقته، فقال: أما تستحي، فذكر نحوه مرسلًا لم يذكر أنسًا. وفي رواية وثيمة عن ابن إسحاق "فارتعشتُ حتى لصقت بالأرض، فاستويت عليها" وللنّسائيّ وابن مردويه عن يزيد بن أبي مالك عن أنس نحو موصولًا، وزاد "وكانت تسخر للأنبياء قبله". ونحوه في حديث أبي سعيد عند ابن إسحاق. وفيه دلالة على أن البراق كان معدًا لركوب الأنبياء خلافًا لمن نفى ذلك، كابن دحية. وأُوَّل قول جبريل "فما ركبك أكرم على الله منه" أي ما ركبك أحد قط، فكيف يركبك أكرم منه، وقد جزم السهيليّ بأنّ البراق إنما استصعب عليه لبعد عهده بركوب الأنبياء قبله، قال النووي: قال الزبيديّ في "مختصر العين" وتبعه صاحب "التحرير": كان الأنبياء يركبون البراق. قال: وهذا يحتاج إلى نقل صحيح. قال في "الفتح": والنقل هو ما مرَّ، ويؤيده ظاهر قوله في حديث ثابت عن أنس "فربطته بالحلقة التي تريط بها الأنبياء" ووقع في "المبتدأ" لابن إسحاق من رواية وثيمة في ذكر الإسراء "فاستصعبت البراق، وكانت الأنبياء تركبها قبلي، وكانت بعيدة العهد

بركوبهم، لم تكن ركبت في الفترة". وفي مغازى ابن عائذ عن سعيد بن المسيب قال: البراق هي الدابة التي كان يزور إبراهيم عليها إسماعيل. وفي كتاب مكة للفاكهيّ والأزرقيّ أن إبراهيم كان يحج على البراق. وفي أوائل الرّوض للسهيليّ أن إبراهيم حمل هاجر على البُراق لما سار إلى مكة بها ويولدها، فهذه آثار يشدّ بعضها بعضًا، دالة على كون البراق كان مركوبًا للأنبياء. وقال ابن المنير: إنما استصعب البراق تيهًا وزهوًا بركوب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأراد جبريل استنطاقه، فلذلك خجل وارفضَّ عرقاً من ذلك، وقريب من ذلك رجفةُ الجبل به حتى قال له اثبت، فإنما عليك نبي وصدّيق وشهيد، فإنها هزة الطرب لا هزة الغضب. ورُوي أن البراق لما عاتبه جبريل قال له معتذرًا: إنه مس الصفراء اليوم، وإن الصفراء صنم من الذهب كان عند الكعبة، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى زيد بن حارثة أن يمسه بعد ذلك، وكسره يوم فتح مكة. ومن الأخبار الواهية في صفة البراق ما ذكره الماورديّ عن مُقاتِل، وأورده القرطبيّ في التذكرة، ومن قبله الثعلبى عن ابن عباس قال: الموت والحياة جسمان، فالموت كبش لا يجد ريحه شي إلَّا مات، والحياة فرس بَلْقاء أنثى، وهي التي كان جبريل والأنبياء يركبونها، لا تمر بشيء، ولا يجد شيء ريحها إلَّا حَيّ. واختلف هل جبريل كان راكبًا مع النبي، عليهما الصلاة والسلام، على البراق أم لا؟ والصحيح أنهما كانا رديفين عليه، ففي الطبرانيّ عند عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه أن جبريل أتى النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بالبراق فحمله بين يديه، وعند أبي يعلي والحاكم عن ابن مسعود، رفعه "أُتيتُ بالبراق فركبت خلف جبريل". وفي صحيح ابن حبان عن ابن مسعود أن جبريل حمله على البراق رَديفًا. وفي رواية الحارث في مسنده "أُتي بالبراق فركب خلف جبريل، فسار بهما" فهذا كله صريح في ركويه معه. وعند التِّرمذيّ والنَّسائيّ من حديث حذيفة "فما زايلا ظهر البراق". وعنه أيضًا عند أحمد قال: "أُتي رَسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالبراق، فلم يزايل ظهره هو وجبريل

حتى انتهيا إلى بيت المقدس" وهذا لم يسنده حذيفة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فيحتمل أنه قاله عن اجتهاده، ويحتمل أن يكون قوله: هو وجبريل، يتعلق بمرافقته في السير لا في الركوب. قال ابن دَحية وغيره: معناه وجبريل قائدًا وسائقًا ودليلًا. قال: وإنما جزمنا بذلك لأنّ قصة المعراج كانت كرامة للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فلا مدخل لغيره فيها، والتأويل المذكور يرده ما مرَّ صريحًا من ركوبه معه، وظاهر حديث حذيفة أن المعراج وقع للنبي -صلى الله عليه وسلم- على ظهر البُراق إلى أن صعد السموات كلها، ووصل إلى ما وصل، ورجع وهو على حاله، وفيه نظر، لما مرَّ من صعوده على المعراج، ولعل حذيفة إنما أشار إلى ما وقع في ليلة الإسراء المجردة، التي لم يقع فيها معراج، على ما مرَّ من تقرير وقوع الإسراء مرتين. وظاهر قوله المار "حتى أتى السماء الدنيا" يشعر بأنه استمر على البراق حتى عرج إلى السماء، وتمسك به أيضًا من زعم أن المعراج كان في ليلة غير ليلة الإسراء إلى بيت المقدس، وقد أنكر حذيفة ما مرَّ من رواية ثابت عن أنس "فربطته بالحلقة" فروى أحمد والتِّرمذيّ عن حُذيفة قال: تحدثون أنه ربطه، أخافَ أن يفر منه وقد سخره له عالم الغيب والشهادة؟ قال البيهقيّ: المثبت مقدم على النافي، يعني من أثبت ربط البراق والصلاة في بيت المقدس معه زيادة علم على من نفى ذلك، فهو أولى بالقبول. وفي رواية بُريدة عند البزار "لما كان ليلة أُسري به، فأتى جبريلُ الصخرةَ التي ببيت المقدس، فوضع أصبعه فيها، فخرقها فشد بها البراق" ونحوه للتِّرمذيّ، ويجاب عما قاله حذيفة بأن الربط كان للتشريع بتعاطي الأسباب، وتعليمًا للأمة بذلك، لا للخوف من فراره. وأنكر حذيفة أيضًا أنه -صلى الله عليه وسلم- صلى في بيت المقدس، واحتج بأنه لو صلى فيه لكتب عليكم الصلاة فيه، كما كتب عليكم الصلاة في البيت العتيق. والجواب عنه منع التلازم في الصلاة إن كان أراد بقوله {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} الفرضَ، وإن أراد التشريع فتلتزمه. وقد شرع النبي -صلى الله عليه وسلم- في بيت المقدس، فقرنه بالمسجد الحرام ومسجده في شد الرحال، وذكر فضيلة الصلاة فيه في غير ما حديث. وعند البيهقيّ عن أبي سعيد "حتى أتيت

بيت المقدس، فأوثقت دابتي بالحلقة التي كانت الأنبياء تربط بها" وفيه "فدخلت أنا وجبريل بيت المقدس، فصلى كل واحد منا ركعتين" وفي رواية أبي عُبيدة بن عبد الله بن مسعود نحوه، وزاد "ثم دخلت المسجد فعرفت النبيين من بين قائم وراكع وساجد، ثم أُقيمت الصلاة فأممتهم". وفي رواية يزيد بن أبي مالك عن أنس عند ابن أبي حاتم "فلم ألبث إلاَّ يسيرًا حتى اجتمع ناس كثير، ثم أذن مؤذن، فأقيمت الصلاة فقمنا صفوفًا ننتظر من يؤمنا، فأخذ بيدي جبريل فقدمني، فصليت بهم". وفي حديث ابن مسعود عند مسلم "وحانت الصلاة فاممتهم" وفي حديث عند أحمد "فلما أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- المسجدَ الأقصى، قام يصلي، فإذا النبيون أجمعون يصلون معه" وفي حديث عمر عند أحمد أيضًا، أنه لما دخل بيت المقدس قال: أصلي حيث صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فتقدم إلى القبلة وصلى. وأخرج الطبرانيّ عن عبد الرحمن بن هاشم عن أنس "ثم بُعث له آدم فمن دونه، فأمَّهم تلك اليلة" وفي الطبرانيّ في الأوسط عن أبي أمامة "ثم أُقيمت الصلاة فتدافعوا حتى قدموا محمدًا" وعند البزار والحاكم عن أبي هريرة "أنه صلى ببيت المقدس مع الملائكة، وأنه أُتي هناك بأرواح الأنبياء، فأثنوا على الله تعالى" وفيه قول إبراهيم "لقد فضلكم محمد" قال عياض: يحتمل أن يكون صلى بالأنبياء جميعًا في بيت المقدس، ثم صعد منهم إلى السموات مَنْ ذَكَر صلى تعالى عليه وسلم أنه رآه، ويحتمل أن تكون صلاته بهم بعد أن هبط من السماء، فهبطوا أيضًا. وقال غيره: رؤيته إياهم في السماء محمولة على رؤية أرواحهم، إلَّا عيسى لما ثبت أنه رُفع بجسده. وقد قيل ذلك في إدريس أيضًا، وأمّا الذين صلوا معه في بيت المقدس فيحتمل الأرواح خاصة، ويحتمل الأجساد بأرواحها. قلت: ويؤيد الاحتمال الأول ما مرَّ قريبًا عن الحاكم والبزار، أنه أُتي هناك بأرواح الأنبياء، والأظهر أن صلاته بهم ببيت المقدس كان قبل العروج. وقال بعض العلماء: اختلف في حال الأنبياء عند لقي النبي -صلى الله عليه وسلم- إياهم ليلة الإسراء،

هل أُسري باجسادهم لملاقاته عليه الصلاة والسلام تلك الليلة، أو أن أرواحهم مستقرة بالأماكن التي لقيهم النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها؟ وهي مشكلة بشكل أجسادهم، كما جزم به أبو الوفاء بن عقيل. واختار الأول بعض شيوخ ابو حَجَر، واحتج بما ثبت في مسلم عن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "رأيت موسى ليلة أُسري بي، قائمًا يصلي في قبره، فدل على أنه أُسري به لما مرَّ به" قال في الفتح: وليس ذلك بلازم، بل يجوز أن يكون في السماء. وقوله: فلما جئت إلى السماء الدنيا، في حديث أبي سعيد في ذكر الأنبياء عند البيهقي "إلى باب من أبواب السماء يقال له باب الحَفَظة، وعليه مَلَك يقال له إسماعيل، وتحت يده اثنا عشر ألف ملك". وقوله: قال جبريل لخازن السماء: افتح، وفي رواية "فاستفتح" وهذا يدل على أن الباب كان مغلقًا، وعلى أن للسماء أبوابًا حقيقة، وحفظة موكلين بها. قال ابن المنير: حكمته التحقيق أن السماء لم تفتح إلَّا من أجله بخلاف ما لو وجده مفتوحًا. وقوله: "قال: مَنْ هذا؟ قال: جبريل" فيه من أدب الاستئذان أن المستأذِن يسمي نفسه لئلا يلتبس بغيره. وقوله: "قال: هل معك أحد؟ قال: نعم، معي محمد" وفي رواية مالك بن صعصعة قيل: "ومن معك؟ قال: محمد" ورواية "من معك؟ " تشعر بأنهم أحسوا معه برفيق، وإلّا لكان السؤال بلفظ "أمَعَك أحد؟ " كما في الرواية الأولى، وذلك الإحساس إما بمشاهدة، لكون السماء شفّافة، وإما بأمر معنويّ، كزيادة أنوار ونحوها، تشعر بتجدد أمر يحسن معه السؤال بهذه الصيغة. وقوله: أرسل إليه، وللكشميهنى "أو أرسل إليه" يحتمل أن يكون خفي عليه أصل ارساله لاشتغاله بعبادته، ويحتمل أن يكون استفهم عن الإرسال إليه للعروج إلى السماء، وهو الأظهر لقوله "إليه" وليس المراد أصل البعث، لأنّ ذلك كان قد اشتهر في الملكوت الأعلى. وقيل: سألوه تعجبًا من نعمة الله عليه بذلك، واستبشارًا به. وقد علموا أن بشرًا لا يترقى إلَّا بإذن الله تعالى، وأن جبريل لا يصعد بمن لم يرسل إليه. وقيل: الحكمة في سؤال الملائكة: وقد

بعث إليه؟ أن الله تعالى أراد إطلاع نبيه عليه الصلاة والسلام على أنه معروف عند الملأ الأعلى؛ لأنهم قالوا: أَوَبُعث إليه؟ فدل على أنهم كانوا يعرفون أن ذلك سيقع له، والاّ لكانوا يقولون: ومن محمد؟ مثلًا. ورواية شريك "أو قد بعث" تُؤيد الاحتمال الأول، لكنها من المواضع التي تعقبت عليه، ويأتي جميعها إن شاء الله تعالى. وفي قول جبريل: محمد، دليل على أن الاسم أولى في التعريف من الكنية، ويؤخذ منه أن رسول الله رجل يقوم مقام إذنه؛ لأن الخازن لم يتوقف عن الفتح له، على الوحي إليه بذلك، بل عمل بلازم الإِرسال إليه. وقد أخرج المصنف في الأدب المفرد، وأبو داود والبيهقيّ عن سعيد بن أبي عَروبة "إذا دُعِي أحدكم، فجاء مع الرسول، فهو إذنه" وفي رواية عن أبي هريرة بلفظ "رسول الرجل إلى الرجل إذنه" وفي رواية مالك بن صعصعة زيادة "قيل: مرحبًا به، فنعم المجيء جاء" أي أصاب رحبًا وسعة، وكنى بذلك عن الإنشراح. واستنبط من ابن المنير جواز رد السلام بغير لفظ السلام، وتعقب بأن قول المَلَك: مرحبًا به، ليس ردًا للسلام، فإنه كان قبل أن يفتح الباب. والسياق يرشد إليه. وقد نبه على ذلك ابن أبي جمرة، ووقع هنا أن جبريل قال له عند كل واحد منهم: سلّم عليه، قال: فسلمت عليه، فرد عليّ السلام. وفيه إشارة إلى أنه رآهم قبل ذلك. وقوله: فإذا رجل قاعد عن يمينه أسْوِدة، وعن يساره أسْوِدة، بوزن أزمنة، وهي الأشخاص من كل شيء. وقوله: فقال مرحبًا بالنبي الصالح، والابن الصالح، قيل: اقتصر الأنبياء على وصفه بهذه الصفة، وتواردوا عليها، لأن الصلاح صفة تشتمل خلال الخير، ولذلك كررها كل منهم عند كل صفة، والصالح هو الذي يقوم بما يلزم من حقوق الله وحقوق العباد، فمن ثمّ كانت كلمة جامعة لمعاني الخير. وفي قول آدم "الابن الصالح" إشارة إلى افتخاره بأُبُوّة النبي -صلى الله عليه وسلم-. وقوله: قلت لجبريل: من هذا؟ ظاهره أنه سأل عنه بعد أن قال له آدم: مرحبًا، ورواية مالك بن صعصعة عكس ذلك، وهي المعتمدة، فتحمل

هذه عليها، اذ ليس في هذه أداة ترتيب. وقوله: هذا آدم، وفي رواية "هذا أبوك آدم". وقوله: نَسَم بنيه، بالتحريك جمع نسمة، وهي الروح. وحكى ابن التين أنه رواه بكسر الشين المعجمة وفتح الياء آخر الحروف بعدها ميم، وهو تصحيف، وظاهره أن أرواح بني آدم من أهل الجنة والنار في السماء، وهو مشكل. قال القاضي عياض: قد جاء أن أرواح الكفار في سجّين، وأن أرواح المؤمنين منعمة في الجنة. فكيف تكون مجتمعة في سماء الدنيا؟ وأجاب بأنه يحتمل أن تعرض على آدم أوقاتًا، فصادف وقت عرضها مرور النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويدل على أن كونهم في النار إنما هو في أوقات قوله تعالى {يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر: 46]. واعترض بأن أرواح الكفار لا تفتح لها أبواب السماء، كما هو نص القرآن. والجواب عنه ما أبداه هو احتمالًا من أن الجنة كانت في جهة يمين آدم، والنار في جهة شماله. وكان يكشف له عنها. قلت: كيف يصح هذا الاحتمال، مع ما هو الثابت في الأحاديث من أن الجنة فوق السموات، وأن سقفها عرش الرحمن، ومع ما هو في حديث شداد بن أوس "فإذا جهنم تكشف عن مثل الزّرابيّ، ووجدتها مثل الحَمّة السخنة". وزاد فيه أنه رآها في وادي بيت المقدس. ويحتمل أن يقال: إن النسم المرئية هي التي لم تدخل الأجساد بعد، وهي مخلوقة قبل الأجساد، ومستقرها عن يمين آدم وشماله، وقد أعلم بما سيصيرون اليه، فلذلك كان يستبشر إذا نظر الى من عن يمينه، ويحزن إذا نظر الى من عن يساره، بخلاف التي في الأجساد، فليست مرادة قطعًا، وبخلاف التي انتقلت من الأجساد الى مستقرها من جنة أو نار، فليست مُرادة فيما يظهر، وبهذا يندفع الإيراد، ويعرف أن قوله "نسم بنيه" عامٌ مخصوص، أو أريد به الخصوص. ويحتمل أن يكون المراد بها مَن خرجت من الأجساد حين خروجها، قبل أن تكون مستقرة، ولا يلزم من رؤية آدم لها، وهو في السماء الدنيا، أن تفتح لها أبواب السماء، ولا تلجها.

وفي حديث أبي سعيد عند البيهقيّ ما يؤيده، ولفظه "فإذا بآدم تعرض عليه أرواح ذريته المؤمنين، فيقول: روح طيبة، ونفس طيبة، اجعلوها في عِلِّيين، ثم تعرض عليه أرواح ذريته الفجار فيقول: روح خبيثة ونفس خبيثة، اجعلوها في سجّين". وفي حديث أبي هريرة عند الطبرانيّ والبزار "فإذا عن يمينه باب يخرج منه ريح طيبة، وعن يساره باب يخرج منه ريح خبيثة، إذا نظر عن يمينه استبشر وإذا نظر عن يساره خزِن" فظهر من الحديثين عدم اللزوم المذكور، وهذا أوْلَى من الجمع السابق، ولو صح الحديثان لوجب المصير إليه، لكن سندهما ضعيف، وقوله: قال أنس، فذكر أنه وجد في السموات آدم الخ، هذه الرواية عن الزّهريّ من كون أبي ذَرٍّ لم يثبت منازلهم، وأن إبراهيم في السماء السادسة مخالفة لرواية أنس عن مالك بن صعصعة عند المؤلف، ولرواية ثابت عن أنس عند مسلم أن في الأولى آدم، وفي الثانية يحيى وعيسى، وفي الثالثة يوسف، وفي الرابعة إدريس، وفي الخامسة هارون، وفي السادسة موسى، وفي السابعة إبراهيم. ووقع في رواية شريك عن أنس أن إدريس في الثالثة وهارون في الرابعة. وآخر في الخامسة وساقه، يدل على أنه لم يضبط منازلهم أيضًا، كما صرح به الزّهريّ، ورواية من ضبط أَوْلى، ولاسيما مع اتفاق قتادة وثابت، وقد وافقهما يزيد بن أبي مالك عن أنس، إلَّا أنه خالف في إدريس وهارون، فقال: هارون في الرابعة وإدريس في الخامسة. ووافقهم أبو سعيد، إلاّ أن في روايته: يوسف في الثانية وعيسى ويحيى في الثالثة، والأول أثبت، والثابت في الروايات غير رواية الزُّهريّ هذه، ورواية شريك في التوحيد أن إبراهيم في السابعة. فإن قلنا بتعدد المعراج، فلا تعارض. وإلاّ فالأرجح رواية الجماعة، لقوله فيها: إنه رآه مسندًا ظهره إلى البيت المعمور وهو في السابعة على الراجح. وأما ما جاء عن علي من أنه في السادسة عند شجرة طوبي، فإن ثبت حمل على أنه البيت الذي في السادسة بجانب شجرة طوبي، لأنه جاء عنه أن في كل سماء بيتًا يحاذي الكعبة، وكل منها معمور بالملانكة، وكذا القول فيما جاء عن الربيع بن أنس وغيره، إن البيت المعمور في السماء الدنيا، فإنه محمول على أول بيت يحاذي الكعبة من بيوت السموات، وقد جاء عن أنس مرفوعًا "أنه في

السماء الرابعة" وبه جزم المجد في "القاموس" وقيل: هو تحت العرش، وجاء عن الحسن ومحمد بن عباد بن جعفر أن البيت المعمور هو الكعبة، وقيل انه بناه آدم لما أُهبط إلى الأرض، أي بنته له الملائكة، ثم رفع زمن الطوفان، وكان هذا شبهة من قال إنه الكعبة، وأخرج الطبريّ عن قتادة قال: ذُكِر لنا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:"البيت المعمور مسجد في السماء بحذاء الكعبة، لو خر لخر عليها، يدخله سبعون ألف ملك كل يوم، إذا خرجوا منه لم يعودوا". وقد روى إسحاق في مسنده، والطبري عن عليّ أنه سُئِل عن السقف المرفوع، فقال: السماء، وعن البيت المعمور، فقال: بيت في السماء بحيال البيت، حرمته في السماء كحرمة هذا في الأرض، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ولا يعودون إليه. وعند مسلم عن أنس "ثم لا يعودون إليه أبدًا". وعند ابن إسحاق عن أبي سعيد "إلى يوم القيامة". وعند البزار عن أبي هريرة أنه رأى هناك أقوامًا بيض الوجوه، وأقوامًا في ألوانهم شيء، فدخلوا نهرًا فاغتسلوا، فخرجوا وقد خلصت ألوانهم. فقال له جبريل: هؤلاء من أمتك خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا، وعند الأُمويّ والبيهقيّ من رواية أبي سعيد: أنهم دخلوا معه البيت المعمور، وصلوا فيه جميعًا. واستدل به على أن الملائكة أكثر الخلق، إذ لا يعرف من جميع العوالم من يتجدد من جنسه كل يوم سبعون ألفًا غير ما ثبت عن الملائكة في هذا الخبر، ولابن مردويه عن ابن عباس نحوه، وزاد "وفي السماء نهر يقال له نهر الحَيَوان، يدخله جبريل كل يوم، فينغمس ثم يخرج، فينتفض فيخر عنه سبعون ألف قطرة، يخلق الله من كل قطرة ملكًا، فهم الذي يصلون فيه، ثم لا يعودون إليه" وإسناده ضعيف. وقد روى ابن المنذر نحوه بدون ذكر النهر، من طريق صحيحة عن أبي هريرة، موقوفًا. ويسمى البيت الضّريح والضُّراج بضم المعجمة وتخفيف الراء، ويقال بل هو اسم سماء الدنيا. وفي رواية مالك بن صعصعة "فلما خلصتُ إذا يوسف" زاد مسلم في رواية ثابت عن أنس "فإذا هو قد أعطي شطر الحُسن" وفي حديث أبي سعيد عند البيهقيّ وأبي هُريرة عند أبي عائذ والطبرانيّ فإذا أنا برجل أحسن

ما خلق الله تعالى، قد فَضَل الناس بالحسن، كالقمر ليلة البدر على سائر الكواكب" وهدا ظاهره أن يوسف عليه السلام كان أحسن من جميع الناس، لكن روى التِّرمذيّ من حديث أنس "ما بعث الله نبيًا إلاّ حسن الوجه، حسن الصوت، وكان نيكم أحسنهم وجهًا، وأحسنهم صوتًا" فعلى هذا فيحمل حديث المعراج على أن المراد غير النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويؤيده قول من قال إن المتكلم لا يدخل في عموم خطابه. وحمل ابن المنير حديث الباب على أن المراد أن يوسف أُعطي شطر الحسن الذي أُوتيه نبينا عليه الصلاة والسلام. وقد اختلف في الحكمة في اختصاص كل منهم بالسماء التي التقاه بها فقيل: ليظهر تفاضلهم في الدرجات، وقيل: لمناسبة تتعلق بالحكمة في الاقتصار على هؤلاء دون غيرهم من الأنبياء، فقيل: أُمروا بملاقاته، فمنهم من أدركه في أول وهلة، ومنهم من تأخر فلحق، ومنهم من فاته، وهذا زيّفه السهيليّ وأصاب. وقال السهيليّ وابن أبي جمرة: الحكمة في الاقتصار على هؤلاء المذكورين الإشارة إلى ما سيقع له عليه الصلاة والسلام مع قومه، من نظير ما وقع لكل منهم، فأما آدم فوقع التنبيه بما وقع له من الخروج من الجنة إلى الأرض بما سيقع للنبي -صلى الله عليه وسلم- من الهجرة إلى المدينة، والجامع بينهما ما حصل لكل منهما من المشقة، وكراهة فراق ما ألفه من الوطن، ثم كان مآل كل منهما أن يرجع إلى موطنه الذي أُخرج منه. وكان في السماء الدنيا؛ لأنه أول الأنبياء، وأول الآباء، وهو أصل، فكان أولًا في الأُولي، ولتأنيس النبوة بالأُبوة. ونبه بعيسى ويحيى على ما وقع له في أول الهجرة من عداوة اليهود، وتماديهم على البغى عليه، وإرادتهم وصول السوء إليه، كما فعلوا مع عيسى من إرادة قتله، ومع يحيى. ذبحوه، وكان عيسى بالثانية أيضًا لأنه أقرب الأنبياء عهدًا من محمد. ونبه بيوسف ما وقع له من إخوته من قريش، في نصبهم الحرب له، وإرادتهم هلاكه، وكائت العاقبة له، وقد أشار إلى ذلك بقوله لقريش يوم الفتح "أقول كما قال يوسف: لا تثريب عليكم". وكان في الثانية لأنّ أمة محمد تدخل

الجنة على صورته. ونبه بإدريس عدى رفع منزلته عند الله تعالى، وكان في الرابعة لقوله تعالى {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم: 57] والرابعة من السبع وسط معتدل. ونبه بهرون على أن قومه رجعوا إلى محبته بعد أن آذوه، فكانوا يؤثرونه على موسى، فكذلك نبينا عليه الصلاة والسلام، حتى صار محببًا عند سائر الخلق، وكان في الخامسة لقربه من أخيه موسى، وموسى أرفع منه لفضل كلام الله. ونبه بموسى على ما وقع له من معالجة قومه، وقد أشار إلى ذلك بقوله "لقد أُوذي موسى بأكثر من هذا فصبر" وعلى ما آل إليه أمره من قهر الجبابرة، وإخراجهم من أرضهم، فكذلك نبينا عليه الصلاة والسلام حاله مثل ذلك حيث فتح مكة، وقهر المتجبرين المستهزئين من قريش. وكان في السادسة لتفضيله بكلام الله تعالى. ونبه بإيراهيم في استناده إلى البيت المعمور بما ختم له -صلى الله عليه وسلم- في آخر عمره، من إقامة مَنْسك الحج، وتعظيم البيت، ولأنه الأب الأخير، فناسب أن يتجدد للنبي -صلى الله عليه وسلم- أنس بلقيه، لتوجهه بعده إلى عالم آخر، وأيضًا فمنزلة الخليل تقتضي أن تكون أرفع المنازل، ومنزلة الحبيب أرفع من منزلته، فلذلك ارتفع النبي -صلى الله عليه وسلم- عن منزلة إبراهيم إلى قاب قوسين أو أدنى، وأبدى ابن المنير في مناسبة لقاء إبراهيم في السماء السابعة معنى لطيفًا، وهو ما اتفق له -صلى الله عليه وسلم- من دخول مكة في السنة السابعة، وطوافه بالبيت، ولم يتفق له الوصول إليها بعد الهجرة قبل هذه السنة، بل قصدها في السنة السادسة، فصدوه عن ذلك كما يأتي بسطه، إن شاء الله تعالى، في كتاب الشروط. ثم قال: فلما مرَّ جبريل بالنبي -صلى الله عليه وسلم- بإدريس الباء الأولى للمصاحبة والثانية للإلصاق، أو بمعنى علي، وقوله: ثم مررت بموسى، في رواية مالك بن صعصعة "فلما تجاوزت بكى قيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلامًا بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي" وفي رواية شريك عن

أنس "لم أظن أحدًا يرفع عليّ" وفي حديث أبي سعيد "يزعم بنو إسرائيل أنه أكرم على الله، وهذا أكرم على الله مني" زاد الأموي في روايته "ولو كان هذا وحده هان عليّ، ولكن معه أمته، وهم أفضل الأمم عند الله" وفي رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه أنه مرَّ بموسى عليه السلام، وهو يرفع صوته فيقول: أكرمته وفضلته. فقال جبريل: هذا موسى، فقلت: ومن يعاتب؟ فقال: يعاتب ربه فيك. قلت: ويرفع صوته على ربه؟ فقال: إنه قد عرف له حدته". وفي حديث ابن مسعود عند الحارث وأبي يعلى والبزار "وسمعت صوتًا وتَذَمُّرًا، فسألت جبريل فقال: هذا موسى. قلت: على من تَذَمُّره؟ قال: على ربه، قلت: على ربه؟ قال: إنه يعرف ذلك منه". قال العلماء: لم يكن بكاء موسى حَسَدًا، معاذ الله، فإن الحسد في ذلك العالم منزوع من آحاد المؤمنين، فكيف بمن اصطفاه الله تعالى؟ بل كان أسفًا على ما فاته من الأجر الذي يترتب عليه رفع الدرجة، بسبب ما وقع من أمته من كثرة المخالفة، المقتضية لتنقيص أجورهم، المستلزمة لتنقيص أجره، لأن لكل نبي مثل أجر كل من اتبعه، ولهذا كان من اتبعه من أمته في العدد دون من أَتبع نبينا عليه الصلاة والسلام، مع طول مدتهم بالنسبة لهذه الأمة. وأما قوله: غلام، فليس على سبيل النقص، بل على سبيل التنويه بقدرة الله وعظيم كرمه، إذ أعطى لمن كان في ذلك السن ما لم يعطه أحدًا قبله ممن هو أسنّ منه. قال الخطابيّ: العرب تسمي الرجل المستجمع السن غلامًا، ما دامت فيه بقية القوة، ويظهر أن موسى عليه السلام أشار إلى ما أنعم الله به على نبينا، عليه الصلاة والسلام، من استمرار القوة في الكهولية، وإلى أن دخل في سن الشيخوخة، ولم يدخل على بدنه هرم، ولا اعترى قوله نقص، حتى إن الناس في قدومه المدينة، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، من حديث أنس، لما رأوه مُردفًا أبا بكر أطلقوا عليه اسم الشاب، وعلى أبي بكر اسم الشيخ مع كونه في العمر أسن من أبي بكر. وقوله: مررت بعيسى ليست "ثم" على بابها في الترتيب، إلَّا إن قيل بتعدد

المعراج، إذ الروايات متفقة على أن المرور به كان قبل المرور بموسى. وقوله: ثم مررت بإبراهيم، فقال: مرحبًا بالنبي الصالح، والابن الصالح، كل الأنبياء قالوا: بالأخ الصالح حتى إدريس، إلَّا آدم وإبراهيم. وفي هذا دليل قويّ على أن إدريس ليس من أجداد النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلا يكون نوحًا عليه السلام خارجًا منه. وقال ابن أبي الفضل: صحت لي طريق أنه خاطبه فيها بالابن الصالح، وفي حديث أبي سعيد: "فإذا أنا بإبراهيم، خليل الرحمن مسندًا ظهره إلى البيت المعمور، كأحسن الرجال". وفي حديث أبي هريرة عند الطبريّ "فإذا هو برجل أشمط جالس عند باب الجنة على كرسيّ" وللمؤلف من حديث جابر بن عبد الله، رضي الله تعالى عنهما، أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لما كذبني قريش قمت في الحجر، فجلى الله لي بيت المقدس، فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا انظر إليه". قوله: لما كذبني قريش، في رواية الكشميهنى "كذبتني" بزيادة مثناة، وكلاهما جائز، وقد وقع بيان ذلك في طرق أخرى، فروى البيهقيّ في الدلائل عن أبي سلمة قال: افتُتن ناس كثير عقب الإسراء، فجاء ناس إلى أبي بكر، فذكروا له، فقال: أشهد أنه صادق. فقالما: وتصدقه بأنه أتى الشام في ليلة واحدة، ثم رجع إلى مكة؟ قال: نعم، إني أُصدقه بأبعد من هذا، أُصدقه بخبر السماء، فسمي بذلك الصِّدِّيق. قال: سمعت جابرًا يقول: فذكر الحديث، وعند أحمد والبزار بإسناد حسن عن ابن عباس. قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "لما كان ليلة أُسري بي، وأصبحت بمكة، مرَّ بي عدو الله أبو جهل فقال: هل كان من شيء؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إني أُسري بي الليلة إلى بيت المقدس، قال: ثم أصبحتَ بين أظهرنا؟ قال: نعم. قال: فإن دعوتُ قومكَ أتحدثهم بذلك؟ قال: نعم. قال: يا معشر بني كعب بن لؤي، قال: فانفضت إليه المجالس حتى جاءوا إليهما، فقال: حدث قومك بما حدثتني، فحدثتهم. قال: فمن بين مصفق وواضع يده على رأسه متعجبًا. قالوا: وتستطيع أن تنعت لنا المسجد؟ ... الحديث.

وقوله: فجلى الله لي بيت المقدس، قيل: معناه كشف الله الحجب بيني وبينه حتى رأيته. وعند مسلم عن أم سلمة قال: فسألوني عن أشياء لم أُثبتها، فكُربت كربًا لم أكرب مثله قط، فرفع الله لي بيت المقدس انظر إليه، ما يسألوني عن شيء إلَّا نبأتهم به. ويحتمل أنه حمل إلى أن وضع بحيث يراه، ثم أعيد. وفي حديث ابن عباس المذكور "فجيء بالمسجد وأنا انظر إليه، حتى وضع عند دار عقيل، فنعتُّهُ وأنا انظر إليه، وهذا أبلغ في المعجزة، ولا استحالة فيه، فقد أُحضر عرش بلقيس في طَرْفة عَيْن لسليمان، وهو يقتضي أنه أزيل من مكانه حتى أحضر إليه، وما ذلك في قدرة الله بعزيز. وفي حديث أم هانىء عند ابن سعد "فخيّل لي بيت المقدس، فطفقت أُخبرهم عن آياته"، فإن لم يكن مغيرًا من قوله "فجلى" وكان ثابتًا احتمل أن يكون المراد أنه مثل قريبًا منه، كما مرَّ نظيره في حديث "أريت الجنة والنار" ويؤول قوله: فجيء بالمسجد، أي جيء بمثاله. وفي حديث شداد بن أوس عند البزار والطبرانيّ ما يؤيد الاحتمال الأول، ففيه: ثم مررت بعيرٍ لقريش، فذكر القصة، ثم أتيت أصحابي قبل الصبح، فأتاني أبو بكر فقال: أين كنت الليلة؟ فقلت: إني أتيت بيت المقدس، فقال: إنه مسيرة شهر، فصفه لي. قال: ففتح لي شِراك كأني أنظر إليه، لا يسألني عن شيء إلَّا أنبأته عنه". وفي حديث أم هانىء أيضًا أنهم قالوا له: "كم للمسجد بابٌ؟ قال: ولم أكن عددتها، فجعلت انظر إليه وأعدها بابًا بابًا". وفيه عند أبي يعلى أنه الذي سأله عن صفة بيت المقدس هو المُطْعِم بن عديّ، ولد جبير بن مطعم. وفيه من الزيادة "فقال رجل من القوم: هل مررت بإبل لنا في مكان كذا وكذا؟ قال: نعم والله قد وجدتهم قد أضلوا بعيرًا لهم، فهم في طلبه، ومررت بإبل بني فلان، انكسرت لهم ناقة حمراء. قالوا: فأخبرنا عن عدتها وما فيها من الرعاة؟ قال: كنت عن عدتها مشغولًا، فقامَ فأتى الإبل فعدها، وعلم ما فيها من الرعاة، ثم أتى قريشًا فقال: هي كذا وكذا، وفيها من الرعاة فلان وفلان، فكان كما قال". وقد مرَّ في بحث الترجمة ما ذكره ابن أبي جمرة من الحكمة في تقديم

الإسراء إلى بيت المقدس قبل العروج إلى السماء، وما ذكره غيره. ووقع في غير هذه الرواية التي عند المؤلف بيان ما رآه ليلة الإسراء، فمن ذلك ما وقع عند النَّسائيّ من رواية يزيد بن أبي مالك عن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "أُتيتُ بدابة فوق الحمار، ودون البغل ... الحديث" وفيه: "فركبت ومعي جبريل، فسرت فقال: أنزل فصَلِّ ففعلتُ. فقال: أتدري أين صليت؟ صليتَ بطيبة". واليها المهاجَرة، بفتح الجيم. وفي حديث شداد بن أوس عند البزار والطبرانيّ أنه أول ما أُسري به مر بأرض ذات نخل، فقال له جبريل: إنزل فصلِّ فنزلَ فصلى فقال: صليتَ بيثرب. ثم قال في روايته "ثم قال: أنزل فصلِّ" مثل الأول، قال: صليتَ بطُور سيناء حيث كلّم الله موسى. ثم قال: أنزل فذكر مثله. قال: صليت ببيت لحم، حيث ولد عيسى. وقال في رواية شداد بعد قوله يثرب: ثم مرَّ بأرض بيضاء فقال: أنزل فصل، فقال: صليت بمَدْيَن وفيه أنه دخل المدينة من بابها اليمانيّ فصلى في المسجد. وفيه أنه مر في رجوعه بعِيرٍ لقريش، فسلّم عليهم فقال بعضهم: هذا صوت محمد. وفيه أنه أعلمهم بذلك، وأن عِيرهم تَقْدُم في يوم كذا، فقدمت الظهر يقدمهم الجمل الذي وصفه. وعند البيهقيّ في الدلائل عن أنس أنه مرَّ بشيء يدعوه متنحيًا عن الطريق، فقال له جبريل: سر، وإنه مرَّ بعجوز فقال: ما هذه؟ فقال: سر، وإنه مرَّ بجماعة فسلموا، فقال جبريل: اردد عليهم. وفي آخره فقال له: الذي دعاك إبليس، والعجوز الدنيا، والذين سلموا إبراهيم وموسى وعيسى. وعند الطبرانيّ والبزار عن أبي هريرة أنه مرَّ بقوم يزرعون ويحصدون، كلما حصدوا عاد كما كان، قال جبريل: هؤلاء المجاهدون. ومرَّ بقوم ترضخ رؤوسهم بالصخر كلما رضخت عادت، قال: هؤلاء الذين تثاقل رؤوسهم عن الصلاة. ومرَّ بقوم على عوراتهم رقاع يسرحون كالأنعام، قال هؤلاء الذين لا يؤدون الزكاة، ومرَّ بقوم يأكلون لحمًا نِيًا خبيثًا، ويدعون لحمًا نضيجًا طيبًا قال: هؤلاء الزُّناة. ومر برجل جمع حزمة حطب لا يستطيع حملها، ثم هو يضم إليها غيرها، قال: هذا الذي عنده الأمانة

رجاله ستة

لا يؤديها، وهو بطلب أخرى. ومرَّ بقوم تقرض ألسنتهم وشفاههم، كلما قرضت عادت. قال: هؤلاء خطباء الفتنة. ومرَّ بثور عظيم يخرج من ثقب صغير، يريد أن يرجع فلا يستطيع. قال: هذا الرجل يتكلم بالكلمة فيندم، فيريد أن يردها فلا يستطيع. وفي حديث أبي أُمامة عند الطبراني في الأوسط أنه مرَّ بقوم مشافرهم كالإبل، يلتقمون حجرًا فيخرج من أسافلهم، وأن جبريل قال له: هؤلاء أكلة أموال اليتامى، وأنه مرَّ بقوم بطونهم أمثال البيوت، كلما نهض أحدهم خَرَّ، وأنّ جبريل قال له هم آكلوا الرّبا. رجاله ستة: مروا جميعًا، مرَّ يحيى بن بكير والليث بن سعد وابن شهاب في الثالث من بدء الوحي، ومرَّ يونس بن يزيد في الرابع منه، ومرَّ أنس بن مالك في السادس من كتاب الإيمان، ومرَّ أبو ذر في الثالث والعشرين منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وبالإفراد في موضع، والعنعنة في ثلاثة مواضع، وفيه القول. ورواته ما بين مصريّ ومدنيّ، وفيه رواية صحابيّ عن صحابيّ. أخرجه البخاريّ هنا وفي الحج مختصرًا عن عبدان، وفي بدء الخلق عن هُدْبة بن خالد، وفي الأنبياء عن عبدان أيضًا، وفي باب قوله {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} في أواخر الكتاب عن عبد العزيز بن عبد الله، ومسلم في الإِيمان عن حَرْمُلة وغيره، والتِّرمذيّ في التفسير عن محمد بن بشار، والنَّسائيّ في الصلاة عن يعقوب بن إبراهيم الدورقيّ، وقد روى هذا الحديث جماعة من الصحابة، لكن طرقه في الصحيحين دائرة على أنس مع اختلاف أصحابه عنه. قال المصنف: قال ابن شهاب: فأخبرني ابن حزم أن ابن عباس وأبا هبة الأنصاريّ كانا يقولان: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- "ثم عُرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام". قال ابن حزم وأنس بن مالك: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ففرض الله

على أمتي خمسين صلاة، فرجعت بذلك حتى مررت على موسى فقال: ما فرض الله لك على أمّتك؟ قلت: فرض خمسين صلاة. قال موسى: فأرجع إلى ربك فإنّ أمتك لا تطيق ذلك، فراجعني فوضع شطرها، فرجعت إلى موسى قلت: وضع شطرها. قال: راجع ربك، فإن أمتك لا تطيق، فراجعت فوضع شطرها، فرجعت إليه فقال: ارجع إلى ربك فإن أمّتك لا تطيق ذلك، فراجعته فقال: هن خمس وهن خمسون لا يبدل القول لديّ، فرجعت إلى موسى فقال: راجع ربك، فقلت: استحيت من ربيّ ثم انطلق بي حتى انتهى بي إلى سدرة المنتهى وغشيها ألوان لا أدري ما هي، ثم أُدخلت الجنة فإذا فيها حبايل اللؤلؤ وإذا ترابها المسك". قوله: حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام، ظهرت أي ارتفعت، والمستوى أي المصعد، وصريف الأقلام، بفتح الصاد المهملة، تصويتها حالة الكتابة، والمراد ما تكتبه الملائكة من أقضية الله تعالى. وقوله: قال ابن حزم وأنس بن مالك: يعني ابن حزم عن شيخه، وأنسًا عن أبي ذَرٍّ كما جزم به أصحاب الاصراف. ويحتمل أن يكون مرسلًا من جهة ابن حزم، ومن رواية أنس بلا واسطة. وقوله: ففرض الله على أمتي خمسين صلاة، في رواية ثابت عن أنس عند مسلم: ففرض الله في خمسين صلاة كل يوم وليلة، ونحوه في رواية مالك بن صعصعة عند المصنف، فيحتمل أن يقال في كل من رواية الباب والرواية الأخرى اختصارًا، ويقال ذكر الفرض عليه يستلزم الفرض على الأمة وبالعكس، إلَّا ما استثني من خصائصه. وقوله: فراجعني، وللكشميهنيّ "فراجعت" والمعنى واحد. وقوله: فوضع شطرها، في رواية مالك بن صعصعة: فوضع عني عشرًا، ومثله لشريك، وفي رواية ثابت "فحط عني خمسًا" قال ابن المنير: ذكر الشطر أعم، كونه وقع دفعة واحدة، وكذا العَشر، فكأنه وضع العشر في دفعتين، والشطر في خمس دفعات، أو المراد بالشطر في حديث الباب البعض، وقد حققت رواية ثابت أن التخفيف كان خمسًا خمسًا. وهي زيادة معتمدة، يتعين

حمل باقي الروايات عليها. وأما قول الكرمانيّ: الشطر هو النصف، ففي المراجعة الأولى وضع خمسًا وعشرين، وفي الثانية ثلاثة عشر، أي نصف الخمسة والعشرين بجبر الكسر، وفي الثانية سبعًا، كذا قال. وليس في حديث الباب في المراجعة الثالثة ذكرُ وضع شيء إلَّا أنْ يقال: حَذَف ذلك اختصارًا، فيتجه. لكن الجمع بين الروايات يأبى هذا الحمل، فالمعتمد ما تقدم. وقوله: هن خمس وهن خمسون، وفي رواية غير أبي ذرٍّ هي خمس، بدل هنّ في الموضعين، والمراد هنّ خمس عددًا باعتبار الفعل، وخمسون اعتدادًا بالثواب. وفي رواية ثابت عن أنس عند مسلم "حتى قال: يا محمد، هن خمس صلوات في كل يوم وليلة، كل صلاة عشرة، فتلك خمسون صلاة، "ومن هَمّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ... " الحديث المار الكلام عليه في الإِيمان. وعند النَّسائي من رواية يزيد بن أبي مالك، عن أنس: وأتيت سِدرة المنتهى فغشيتني ضبابة فخررت ساجدًا، فقيل لي: إني يوم خلقت السموات والأرض فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة، فقم بها أنت وأمتك، فذكر مراجعته مع موسى، وفيه فإنه فرض علي بني إسرائيل صلاتان فما قاموا بهما، وقال في آخره: فخمس بخمسين، فقم بها أنت وأمتك. قال: فعرفت أنها عزمة من الله، فرجعت إلى موسى فقال لي: ارجع فلم أرجع. واستدل به على عدم فرضيته ما زاد على الصلوات الخمس كالوتر، وعلى دخول النسخ في الإِنشاآت ولو كانت مؤكدة خلافًا لقوم فيما آكد، وعلى جواز النسخ قبل الفعل. قال ابن بطال: ألا ترى أنه عَزَّ وَجَلَّ نسخ الخمسين بالخمس؟ قيل: إن تُصلى ثم تفضل عليهم بان أكمل لهم الثواب. وتعقبه ابن المنير فقال: هذا ذَكره طوائف من الأصوليين والشراح، وهو مشكل على من أثبت النسخ قبل الفعل كالأشاعرة، أو منعه كالمعتزلة، لكؤلهم اتفقوا جميعًا على أن النسخ لا يتصور قبل البلاغ، وحديث الإِسراء وقع فيه النسخ قبل البلاغ، وهو مشكل عليهم جميعًا. قال في الفتح: إنْ أراد قبل البلاغ لكل أحد فممنوع، وإن أراد قبل البلاغ للأمة فَمُسَلّم، لكن قد يقال: ليس هو بالنسبة إليهم نسخًا، لكنه نسخ بالنسبة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، لأنه كُلِّف بذلك قطعًا، ثم نسخ بعد أن بلغه، فالمسألة صحيحة

التصوير في حقه عليه الصلاة والسلام. وقوله: لا يبدل القول لديّ، أي بمساواة ثواب الخمس الخمسين، أو لا يبدل القضاء المبرم، لا المعلن، الذي يمحو الله منه ما يشاء ويثبت. وقوله: فقلت استحيتُ من ربي، في رواية مالك بيع صعصعة زيادة، ولكن أرضى وأُسَلّم. وفي رواية الكشميهنيّ "ولكني أرضى وأُسَلّم" وفيه حذف تقديره: سألت ربي حتى استحيت، فلا أرجع، فإني إن رجعت صرتُ غير راض ولا مُسَلّم، ولكني راض وأُسَلّم. وقد وقع من موسى من العناية بهذه الأمة ما لم يقع لغيره، ووقعت الإشارة لذلك في حديث أبي هريرة عند الطبرانيّ والبزار، قال عليه الصلاة والسلام: كان موسى أشدهم على حين مررت به، وخيرهم لي حين رجعت إليه. وفي حديث أبي سعيد "فأقبلت راجعًا فمررت بموسى، ونعم الصاحب كان لكم، وقد سألني كم فرَض عليك ربك ... الحديث". وقال ابن أبي جمرة: إن الله جعل الرحمة في قلوب الأنبياء أكثر مما جعل في قلوب غيرهم، فلذلك بكى رحمة لأمته. وقال القرطبي: الحكمة في تخصيص موسى بمراجعة النبي عليه الصلاة والسلام في أمر الصلاة، لعلها لكون أمة موسى كلفت من الصلوات بما لم تكلف به غيرها من الأمم، فثقلت عليهم، فأشفق موسى على أمة محمد من مثل ذلك. ويشير إليه قوله: إنّي جرّبت الناس قبلك، وفي رواية: إني بلوت بني إسرائيل. وقال غيره: لعلها من جهة أنه ليس في الأنبياء من له أتباع أكثر من موسى، ولا من له كتاب أكبر، ولا أجمع للأحكام من كتابه، فكان من هذه الجهة مضاهيًا للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فناسب أنْ يتمنى أن يكون له مثل ما أنعم الله به عليه، من غير أن يريد زواله عنه، وناسب أن يطلعه على ما وقع له، وينصحه فيما يتعلق به. ويحتمل أن يكون موسى لما غلب عليه الأسف في الابتداء على نقص حظ أمته، بالنسبة لأمة محمد عليه الصلاة والسلام، حتى تمنى ما تمنى، استدرك ذلك ببذل النصيحة لهم، والشفقة عليهم، ليزيل ما عساه أن يتوهم عليه فيما وقع منه في الابتداء. وذكر السهيليّ أن الحكمة في ذلك أنه كان رأى في مناجاته

صفة أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، فدعا الله أن يجعله منهم، فكان إشفاقه عليهم كعناية مَنْ هو منهم، وقد وقع من موسى عليه السلام في هذه القصة، من مراعاة جانب النبي عليه الصلاة والسلام أنه أمسك عن جميع ما وقع له حتى فارقه النبي -صلى الله عليه وسلم-، أدبًا معه وحسن عِشرة. فلما فارقه بكى وقال ما قال. وأما قول من قال: إنه أوّل من لاقاه بعد الهبوط، فليس بصحيح؛ لأن حديث مالك بن صعصعة فيه أنه لقيه في السماء السادسة، وهو الأقوى، وإبراهيم قبله في السابعة، وإذا جمعنا بينهما بأنه لقيه في السادسة عند الصعود، وصعد موسى إلى السابعة فلقيه فيها بعد الهبوط، ارتفع الإِشكال وبطل الرد المذكور. وأبدى بعض الشيوخ حكمة لاختيار موسى تكرير ترداد النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: لما كان موسى قد سأل الرؤية فمنع، وعرف أنها حصلت لمحمد عليه الصلاة والسلام، قَصَد بتكرير رجوعه تكرير رؤيته، ليرى من رأى، كما قيل لعلي أراهم، أو أرى من رآهم، لكن هذا يحتاج إلى ثبوت تجدد الرؤية في كل مرة. وأبدى ابن المنير حكمة لطيفة في قوله -صلى الله عليه وسلم-، لموسى عليه السلام، لما أمره أن يرجع بعد أن صارت خمسًا فقال: استحييت من ربي، قال ابن المنير: يحتمل أنه -صلى الله عليه وسلم- تفرّس من كون التخفيف وقع خمسًا خمسًا أنه لو سأل التخفيف بعد أن صارت خمسًا لكان سائلًا في رفعها، فلذلك استحيا، ودلت مراجعته عليه الصلاة والسلام لربه، في طلب التخفيف تلك المرات كلها، أنه علم أن الأمر في كل مرة لم يكن على سبيل الإلزام، بخلاف المرة الأخيرة، ففيها ما يشعر بذلك، لقوله سبحانه وتعالى {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} [ق: 29]. ويحتمل أن يكون سبب الاستحياء هو أن العَشْرة، يعني من السؤال، آخر جمع القلة، وأول جمع الكثرة، فخشي إذا وصلها أن يدخل في الإلحاح في السؤال، لكن الإِلحاح في الطلب من الله مطلوبٌ، فكأنه خشي من عدم القيام بالشكر. وقوله: ثم انطلق بي حتى انتهى بي إلى سدرة المنتهى، وغشيها ألوان لا

أدري ما هي، وفي حديث ابن مسعود عند مسلم زيادة: قال الله تعالى {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم: 16]، قال فَراش: من ذهب ففسر المبهم في قوله "ما يغشى" بالفَراش. وفي رواية يزيد بن أبي مالك عن أنس: جراد من ذهب. قال البيضاويّ: وذكر الفراش وقع على سبيل التمثيل، لأنّ من شأن الشجر أن يسقط عليها الجراد وشبهه، وجعلها من الذهب لصفاء لونها، وإضاءتها في نفسها. ويجوز أن يكون من الذهب حقيقة، وتخلق فيه الطيران والقدرة صالحة لذلك. وفي حديث أبي سعيد وابن عباس "يغشاها الملائكة" وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي "على كل ورقة منها مَلَك" وعند مسلم من رواية ثابت عن أنس "فلما غشيها من أمر الله ما غشيها تغيرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها". وعند ابن مردويه من رواية حميد عن أنس نحوه، لكن قال "تغيرت ياقوتًا ونحو ذلك" وفي رواية مالك بن صعصعة "ثم رُفعتُ إلى سدرة المنتهى، فإذا نبقها مثل قِلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة" وقوله: رُفعت، بضم الراء وسكون العين وضم التاء ضمير المتكلم، وبعده حرف جر. وللكشميهني: رُفِعَتْ لي بسكون التاء، أي السدرة، لي باللام، أي من أجلي، ويجمع بين الروايتين بان المراد أنه رفع إليها ارْتُقِيَ به، وظهرت له. والرفع إلى الشيء يطلق على التقريب منه. وقد قيل في قوله تعالى {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} [الواقعة: 34] تقرب إليهم. ووقع بيان تسميتها سدرة المنتهى في حديث ابن مسعود عند مسلم، ولفظه "لما أسري برسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: انتهي بي إلى سدرة المُنتهى، وهي في السماء السادسة، وإليها ينتهي ما يعرج من الأرض، فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط، فيقبض منها". وقال النوويّ: سميت سدرة المنتهى لأن علم الملائكة ينتهي إليها، ولم يجاوزها أحد إلَّا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهذا لا يعارض حديث ابن مسعود المتقدم، وحديث ابن مسعود مرفوع صحيح ثابت في الصحيح، فهو أولى بالاعتماد. وأورده النوويّ بصيغة التمريض، فقال: وحكي عن ابن مسعود أنها سميت

بذلك ... الخ، فأشعر بضعفه عنده، ولاسيما ولم يصرح برفعه، وهذا متعقَّب عليه. وقال القرطبيُّ في المُفهم: ظاهر حديث أنس أنها في السابعة، لقوله بعد ذكر السماء السابعة "ثم ذهب بي إلى السدرة" وفي حديث ابن مسعود أنها في السادسة، وهذا تعارضٌ لا شك فيه، وحديث أنس هو قول الأكثر، وهو الذي يقتضيه وصفها بأنها التي ينتهي إليها علم كل نبي مرسل، وكل ملك مقرب، على ما قال كعب، قال: وما خلفها غيبٌ لا يعلمه إلَّا الله، ومن أعلمه به. وبهذا جزم إسماعيل بن أحمد وقال غيره: إليها منتهى أرواح الشهداء. قال: ويترجح حديث أنس بأنه مرفوعٌ، وحديث ابن مسعود موقوف. كذا قال. وقد مرَّ لك قريبًا أن حديث ابن مسعود مرفوع أيضًا، ويمكن الجمع بينهما بأن قول ابن مسعود إنها في السادسة لا يعارض ما دلت عليه بقية الأخبار أنه وصل إليها بعد أن دخل السماء السابعة، لأنه يحمل على أن أصلها في السماء السادسة وأغصانها وفروعها في السابعة، وليس في السادسة منها إلَّا أصل ساقها. وقوله: فإذا نَبْقها، بفتح النون وكسر الموحدة ويجوز سكونها، والأول هو الثابت في الرواية، والنبق معروف وهو ثمر السدر. وقوله: مثل قِلال هجر، القلال بالكسر، جمع قُلة بالضم، وهي الجرار. يريد أن ثمرها في الكبر مثل القلال. وكانت معروفة عند المخاطبين، فلذلك وقع التمثيل بها، وهي التي وقع تحديد الماء الكثير بها في قوله "إذا وقع الماء قُلَّتين" وهَجَر، بفتح الهاء والجيم، بلدة لا تنصرف للعلمية والتأنيث، وتجوز الصرف، وهي قرية قرب المدينة، إليها تنسب القلال، أو تنسب إلى هَجَر اليمن. وقوله: مثل آذان الفيلة، بكسر الفاء وفتح التحتانية بعدها لام، جمع فيل، ووقع في بدء الخلق مثل آذان الفُيُول، وهو جمع فيل أيضًا. قال ابن دَحية: اختيرت السدرة دون غيرها فيها ثلاثة أصناف: ظل ممدود، وطعام لذيذ، ورائحة ذكية، فكانت بمنزلة الإيمان الذي يجمع القول والعمل والنية، والظل بمنزلة العمل، والطعم بمنزلة النية، والرائحة بمنزلة القول. وفي

رواية مالك بن صعصعة: "وإذا أربعة أنهار: نهران باطنان، ونهران ظاهران. فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات"، وفي بدء الخلق: فإذا في أصلها، أي في أصل سدرة المنتهى أربعة أنهار. ولمسلم: يخرج من أصلها، وفي مسلم أيضًا عن أبي هريرة: أربعة أنهار من الجنة: النيل والفرات وسَيْحان وجَيْحان. وقوله: فنهران في الجنة، قال ابن أبي جمرة فيه: إن الباطن أجلّ من الظاهر، لأن الباطن جعل في دار البقاء، والظاهر جعل في دار الفناء. ومن ثَمّ كان الاعتماد على ما في الباطن، كما قال عليه. الصلاة والسلام "إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم". وقوله: فالنيل والفرات، أي بالمثناة في الخط في حالتي الوصل والوقف في القراآت المشهورة، وجاء في قراءة شاذة إنها هاء تأنيث، وشبهها أبو المظفر بن الليث بالتابوت والتابوه. وفي رواية شريك الآتية في التوحيد، أنه رأى في السماء الدنيا نهرين يطَّردان، فقال جبريل: هما النيل والفرات، عنصرهما. والجمع بينهما أنه رأى هذين النهرين عند سدرة المنتهى مع نهري الجنة، ورآهما في السماء الدنيا دون نهري الجنة، وأراد بالعُنصر عنصر امتيازهما بسماء الدنيا، كذا قيل. وفي حديث شريك أيضًا. ومضى به يرقى السماء، فإذا هو بنهر آخر، عليه قصر من لؤلؤ وزَبَرجد، فضرب بيده فإذا هو مِسْكٌ أَذْفَر، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي خَبّأ لك ربك. وفي رواية يزيد بن أبي مالك، عن أنس عند ابن أبي حاتم: أنه بعد أن رأى إبراهيم قال: ثم انطلق بي على ظهر السماء السابعة، حتى انتهى إلى نهر عليه خيام اللؤلؤ والياقوت والزبرجد، وعليه طير خُضْر أنعم طيرٍ رأيت. قال جبريل: هذا الكوثر الذي أعطاك الله، فإذا فيه آنية الذهب والفضة، يجري على رَضْرَاض من الياقوت والزُّمرد، ماؤه أشد بياضًا من اللبن، فأخذت من آنية، فاغترفت من ذلك الماء فشربت، فإذا هو أحلى من العسل، وأشد رائحة من المسك. وفي حديث أبي سعيد: فإذا فيها عينٌ تجري، يقالَ لها السَّلْسبيل،

فينشقّ منها نهران: أحدهما الكوثر والآخر يقال له نهر الرحمة، فيمكن أن يفسر بها النهران الباطنان المذكوران في حديث مالك بن صعصعة، وكذا روي عن مقاتل، قال: الباطنان السلسبيل والكوثر. وأما الحديث الذي أخرجه مسلم بلفظ "سيحان وجيحان والنيل والفرات من أنهار الجنة" فلا يغاير هذا، لأن المراد به أن في الأرض أربعة أنهار أصلها من الجنة، وحينئذ لم يثبت لسيحون وجيحون أنهما ينبعان من أصل سدرة المنتهى، فيمتاز النيل والفرات عليهما بذلك، وأما الباطنان المذكوران في الحديث، فهما غير سيحون وجيحون. قال النووي: في هذا الحديث أن أصل النيل والفرات من الجنة، وأنهما يخرجان من أصل سدرة المنتهى، ثم يسيران حيث شاء الله، ثم ينزلان إلى الأرض، ثم يسيران فيها ثم يخرجان منها، وهذا لا يمنعه العقل، وقد شهد به ظاهر الخبر، فليعتمد. وأما قول عياض: إن الحديث يدل على أن أصل سدرة المنتهى في الأرض، لكونه قال: إن النيل والفرات يخرجان من أصلها، وهما بالمشاهدة يخرجان من الأرض، فيلزم منه أن يكون أصل السدرة في الأرض، وهذا متعقَّب، فإنَّ المراد بكونهما يخرجان من أصلها غير خروجهما بالنبع من الأرض، كما مرَّ قريبًا، ولو كان الأمر كذلك لَرُئيَتِ السدرةُ عند محل خروجهما، والحاصل أن أصلها في الجنة، وهما يخرجان أولاً من أصلها ثم يسيران إلى أن يستقرا في الأرض، ثم ينبعان. واستدل به على فضيلة ماء النيل والفرات، لكون منبعهما من الجنة، وكذا سيحان وجيحان. قال القرطبيّ لعل ترك ذكرهما في حديث الإسراء لكونهما ليسا أصلًا برأسهما، وإنما يتفرعان عن النيل والفرات. قال: وقيل إنما أُطلق على هذه الأنهار أنها من الجنة تشبيهًا لها بأنهار الجنة، لما فيها من شدة العذوبة والحسن والبركة. والأول هو المعتمد. وفي رواية مالك بن صعصعة "ثم رُفع لي البيتُ المعمور" وقد مرَّ الكلام عليه مستوفى عند ذكر ترتيب الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، في السموات. وفي رواية مالك المذكورة "ثم أُتيتُ بإناء من

خمر، وإناء من لبن، وإناء من عسل، فأخذت اللبن، فقال: هي الفطرة التي أنت عليها" أي دين الإِسلام. قال القرطبيّ: يحتمل أن يكون سبب تسمية اللبن فطرة، لأنه أول شيء يدخل بطن المولود ويشق أمعاءه. والسر في ميل النبي -صلى الله عليه وسلم- إليه دون غيره، كونه كان مالوفأ له، ولأنه لا ينشأ من جنسه مَفْسدة. ووقع في هذه الرواية أن إتيانه بالآنية كان بعد وصوله إلى سدرة المنتهى. وسيأتي في الأشربة عن شُعبة عن قتادة عن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "رُفِعت لي سدرة المنتهى، فإذا أربعة أنهار ... ، فذكره، قال: "وأُتيتُ بثلاثة أقداح" وهذا موافق للحديث المذكور، إلَّا أن شعبة لم يذكر مالك بن صعصعة في الإسناد، وعند ابن عائذ عن أبي هريرة في حديث المعراج بعد ذكر إبراهيم قال: "ثم انطلقنا، فإذا نحن بثلاثة آنية مغطاة، فقال جريل: يا محمد ألا تشرب مما سقاك ربك؟ فتناولت إحداها، فهذا هو عسَل فشربت منه قليلًا، ثم تناولت الآخر، فهذا هو لبن فشربت منه حتى رويت، فقال: ألا تشرب من الثالث؟ قلت: قد رويت. قال: وفقك الله". وفي رواية البزار من هذا الوجه الثالث كان خمرًا، لكن وقع عنده أن ذلك كان ببيت المقدس، وأن الأول كان ماء، ولم يذكر العسل، وعند أحمد عن ابن عباس "فلما أتى المسجد الأقصى قام يصلي، فلما انصرف جيء بقدحين في أحدهما لبن، وفي الآخر عسل، فأخذ اللبن ... الحديث". وعند مسلم عن ثابت عن أنس أيضًا أنّ إتيانه بالآنية كان ببيت المقدس قبل المعراج، ولفظه "ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت فجاء جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن، ثم أخذت اللبن، فقال جبريل: أخذت الفطرة، ثم عَرج إلى السماء". وفي حديث شدّاد بن أوس "فصليت من المسجد حيث شاء الله، وأخدني من العطش أشد ما أخذني، فأُتيتُ بإناءين أحدهما لبن والآخر عسل، فعدلت بينهما، ثم هداني الله فأخذت اللبن، فقال شيخ بين يديّ لجبريل: أخذ صاحبك الفِطرة.

وفي حديث أبي سعيد عند ابن إسحاق "فصلى بهم، يعني الأنبياء، ثم أُتي بثلاثه آنية، إناء فيه لبن واناء فيه خمر وإناء فيه ماء، فأخذت اللبن ... الحديث". وفي مرسل الحسن عنده، لكن لم يذكر إناء الماء، ووقع بيان عرض الآنية في رواية سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عند المصنف، كما يأتي في أول الأشربة، ولفظه "أُتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة أُسري به بإيلياء، بإناء فيه خمر وإناء فيه لبن، فنظر إليهما، فأخذ اللبن، فقال له جبريل: الحمد لله الذي هداك للفطرة، لو أخذت الخمر غَوَت أمتك" وهو عند مسلم عن أنس وعند البيهقي "فعرض عليه الماء والخمر واللبن، فأخذ اللبن، فقال له جبريل: أصبت الفطرة، ولو شربت الماء لغرقت وغرقت أمتك، ولو شربت الخمر لغويت وغوت أمتك". ويجمع بين هذا الاختلاف إما يحمل "ثم" على غير بابها من الترتيب، وإنما هي بمعنى الواو هنا، وإما بوقوع عرض الآنية مرتين، مرة عند فراغه من الصلاة ببيت المقدس، وسببه ما وقع له من العطش، ومرة عند وصوله إلى سدرة المنتهى ورؤية الأنهار الأربعة. وأما الاختلاف في عدد الأنية وما فيها، فيحمل على أن بعض الرواة ذكر ما لم يذكره الآخر، ومجموعها أربعة آنية، فيها أربعة أشياء، ومن الأنهار الأربعة التي رآها تخرج من أصل سدرة المنتهى. وفي حديث أبي هريرة عند الطبريّ لما ذكر سدرة المنتهى "يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسنٍ، ومن لبن لم يتغير طعمه، ومن خمر لذة للشاربين، ومن عسل مصفى. فلعله عرض عليه من كل نهر إناء. وجاء عن كعب أن نهر العسل نهر النيل، ونهر اللبن نهر جيحان، ونهر الخمر نهر الفرات ونهر الماء سيحان. وقوله: ثم دخلت الجنة، فإذا فيها حبائل اللؤلؤ، كذا وقع لجميع الرواة في هذا الموضع بالحاء المهملة ثم الموحدة وبعد الألف تحتانية ثم لام، وذكر كثير من الأئمة أنه تصحيف، وإنما هو جنابذ، بالجيم والنون وبعد الألف موحدة ثم ذال معجمة، كما عند المصنف في أحاديث الأنبياء، وعند غيره من الأئمة. وفي نسخة معتمدة من رواية أبي ذرٍّ في هذا الموضع "جنابذ" على الصواب، ولعلها

رجاله أربعة

من إصلاح بعض الرواة. وقال ابن حزم في أجوبته على مواضع من البخاريّ: فتشت على هاتين اللفظتين، فلم أجدهما ولا واحدًا منهما، ولا وقفت على معناهما. وذكر غيره أن الجنابذ شبه القباب واحدها جُنْبُذَةٌ بالضم، وهو ما ارتفع من البناء، فهو فارسي معرب، وأصله بلسانهم "كُنْبَذَهْ" بوزنه، لكن الموحدة مفتوحة، والكاف ليست خالصة، ويؤيده ما رواه المصنف في التفسير عن أنس قال: لما عرج بالنبي -صلى الله عليه وسلم- قال:" أتيت على نهر حافتاه قِباب اللؤلؤ". وقال صاحب المطالع في الحبائل: قيل: هي القلائد والعقود، أوهي من حبال الرمل، أي فيها اللؤلؤ مثل حبال الرمل، جمع حَبْل، وهو ما استطال من الرمل. وتعقب بأن الحبائل لا تكون إلَّا جمع حِبالة أو حَبيلة بوزن عَظيمة. وقال البعض: الحبائل جمع حِبالة، والحِبالة جمع حَبل على غير قياس، والمراد أن فيها عقودًا وقلائد من اللؤلؤ. رجاله أربعة: الأول: ابن شهاب، وقد مرَّ الآن محله، ومرَّ أيضًا محل ابن عباس. والثالث: ابن حزم، والمراد به أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم؛ لأن ابن شهاب لم يسمع من أبيه محمد لتقدم موته، ورواية أبي بكر عن أبي حبّة منقطعة، لأنه استشهد بأحد قبل مولد أبي بكر بدهر، وقبل مولد أبيه محمد أيضًا، وأبو بكر هذا مرَّ في باب "كيف يقبض العلم" بعد الأربعين من كتاب العلم. والرابع: أبو حبّة البدريّ الأنصاريّ، قيل: اسمه عامر بن عبد عمرو بن عُمير بن ثابت. وقيل اسمه مالك، وقع ذكره في الصحيح هنا من رواية الزُّهريّ، وروى عنه أيضًا عمار بن أبي عمار، وحديثه عنه في مسند ابن أبي شيبة وأحمد، وصححه الحاكم وصرح بسماعه منه، وعلى هذا فهو غير الذي ذكر ابن إسحاق أنه استُشهد بأحد، وله في الطبراني حديث آخر، من رواية عبد الله بن عمرو بن

عثمان عنه، وسنده قويّ، إلا أن عبد الله بن عَمرو لم يدركه. وقال ابن عبد البر: يقال بالياء والنون، والصواب بالموحدة، وفيه كلام كثير. ووقع في غير هذه الرواية زيادات رآها -صلى الله عليه وسلم- بعد سدرة المنتهى لم تذكر في هذه الرواية، منها في رواية شريك الآتية في التوحيد "حتى جاء سدرة المنتهى، ودنا الجبّار رب العزة تبارك وتعالى، فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده خمسين صلاة ... الحديث" وقد استشكلت هذه الزيادة، ويأتي الكلام عليها وعلى جميع ما قيل من النقد في رواية شريك قريبًا إن شاء الله مستوفى. ومنها عند ابن أبي حاتم وابن عائذ عن أنس "ثم انطلق حتى أُتي بي إلى الشجرة، فغشيني من كل سحابة فيها من كل لون، فتأخر جبريل وخررت ساجدًا" وعند مسلم عن ابن مسعود "وأُعطي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصلواتِ الخمس، وخواتم البقرة، وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته المقحِمات" يعني الكبائر. وفي هذه الرواية من الزيادة "ثم انجلت عني السحابة، وأخذ بيدي جبريل، فانصرفت سريعًا، فأتيت على إبراهيم، فلم يقل شيئًا، ثم أتيت على موسى فقال: ما صنعت ... الحديث" وفيه أيضًا "فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لجبريل: ما لي لم آتِ سماء إلاّ رحبوا وضحكوا لي غير رجل واحد فسلمت عليه فرد علي السلام ورحّب ولم يضحك إليّ؟ فقال: يا محمد، ذلك مالِك خازن النار، لم يضحك منذ خلق، ولو ضحك إلى أحد لضحك إليك. وعند التِّرمذيّ وأحمد عن حذيفة "حتى فتحت لهما أبواب السماء، فرأيا الجنة والنار، ووعدا الآخرة أجمع" وفي حديث أبي سعيد "أنه عرض عليه الجنة، وأن رمّانها كأنه الدِّلاء، وإذا طيرها كأنها البُخْت، وأنه عرضت عليه النار، فإذا هي لو طرح فيها الحجارة والحديد لأكلتها". وفي حديث شداد بن أوس "فإذا جهنم تَكَشَّفُ عن مِثل الزرابيّ ... " إلى آخر ما مرَّ في ذكر آدم. وعند ابن أبي حاتم عن أنس "أن جبريل قال: يا محمد، هل سألت ربك أن يريك الحور العين؟ قال: نعم، قال: انطلق إلى أولئك النسوة، فسلّم عليهن، قال: فأتيتُ فسلمتُ عليهنّ، فرددن، فقلت: من أنتن؟ فقلن: خيراتٌ

حِسان ... الحديث". وفي رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه "أن إبراهيم عليه السلام قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: يا بني إنك لاقٍ ربك الليلة، وإن أمتك آخر الأمم وأضعفها، فإن استطعت أن تكون حاجتك أو جُلُّها في أمتك فافعل". وعند الواقديّ بأسانيده في أول حديث الإسراء "كان النبي عليه الصلاة والسلام يسأل ربه أن يريه الجنة والنار، فلما كانت ليلة السبت لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان، قبل الهجرة بثمانية عشر شهرًا، وهو نائم في بيته ظهرًا، أتاه جبريل وميكائيل، فقال: انطلق إلى ما سألت، فانطلقا به إلى ما بين المقام وزمزم، فأُتي بالمعراج، فإذا هو أحسن شيء منظرًا، فعرجا به إلى السموات، فلقي الأنبياء، وانتهى إلى سدرة المنتهى، ورأى الجنة والنار، وفرض عليه الخمس" فلو ثبت هذا لكان ظاهرًا في أنه معراج آخر، لقوله إنه كان ظهرًا، وأن المعراج كان من مكة، وهو مخالف لما في الروايات الصحيحة في الأمرين معًا، ويعكر على التعدد قوله: إن الصلوات فرضت حينئذ، إلَّا إنْ حُمل على أنه أعيد ذكره تأكيدًا، أو فرع على أن الأول كان منامًا وهذا يقظة، أو بالعكس. وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم إثبات الاستئذان، وأنه ينبغي لمن يستأذن أن يقول: أنا فلان، ولا يقتصر على أنا، لأنه ينافي مطلوب الاستفهام، وأنّ المار يسلم على القاعد، وإنْ كان المار أفضل من القاعد. وفيه استحباب تَلَقِّي أهل الفضل بالبشر والترحيب والثناء والدعاء، وجواز مدح الإنسان المأمون عليه الافتتان في وجهه. وفيه جواز الاستناد إلى القبلة بالظهر وغيره، مأخوذ من استناد إبراهيم إلى البيت المعمور، وهو كالكعبة في أنه قبلة من كل جهة. وفيه فضل السير بالليل على السير بالنهار، لما وقع من الإسراء بالليل، ولذلك كانت أكثر عبادته عليه الصلاة والسلام بالليل، وأكثر سفره فيه. وقال عليه الصلاة والسلام: عليكم بالدُّلْجة فإن الأرض تطوى بالليل". وأيضًا اختص الإسراء بالليل لأنه وقت الخلوة والاختصاص، ومجالسة الملوك، وهو أشرف من مجالستهم نهارًا، وهو وقت مناجاة الأحبة، وكان بالليل أيضًا يزداد الذين آمنوا إيمانًا بالغيب، وليفتتن الذين كفروا زيادة على فتنتهم، إذ الليل أخفى حالًا من

النهار، ولأنه لو عرج نهارًا لفات المؤمن فضيلة الإيمان بالغيب، ولم يحصل ما وقع من الفتنة على من شقي وجحد. وأيضًا فإن الله تعالى أكرم جماعة من أنبيائه بأنواع الكرامات ليلًا. قال تعالى في قصة إبراهيم {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا} [الأنعام: 76]. وفي قصة لوط {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} [الحجر: 65]. وفي قصة يعقوب {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} [يوسف: 98] وكان آخر دعائه إلى وقت السحر من ليلة الجمعة، وقرب موسى نجيًا ليلًا، وذلك قوله تعالى: {إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} [النمل: 7]. وقال: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142]. وقال لما أمره بخروجه من مصر ببني إسرائيل {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} [الدخان: 23]. وأكرم نبينا أيضًا ليلًا بأمور منها: انشقاقُ القمر، وإيمان الجن به، ورؤية الصحابة آثار بزاهم كما ثبت في صحيح مسلم، وخروجه إلى الغار ليلًا، وأيضًا فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- سراجٌ، والسراج لا يوقد إلَّا ليلًا، وبدرٌ والبدر لا يرى إلَّا ليلًا. قال الشاعر: وعد الحب بالزيارة ليلًا ... فإذا ما وفي قضيت نذوري قلت: يا سيدي وَلِمْ تؤثر الليلَ ... على بهجةِ النهار المنيرِ؟ قال: لا أستطيع تغيير رسمي ... هكذا الرسم في طلوع البدور إنما زرت في الظلام لكيما ... يشرق الليل من أشعة نوري ولله در الإِمام البوصيريّ حيث يقول: سريت من حرم ليلًا إلى حرم ... كما سرى البدر في داجٍ من الظلم وفي الحديث أيضًا أن التجربة أقوى في تحصيل المطلوب من المعرفة الكثيرة، يستفاد ذلك من قول موسى عليه السلام للنبي -صلى الله عليه وسلم- أنه عالج الناس قبله وجربهم. ويستفاد منه تحكيم العادة والتنبيه بالأعلى على الأدنى، لأن من سلف من الأمم كانوا أقوى أبدانًا من هذه الأمة، وقد قال موسى إنه عالمهم على أقل من ذلك، فما وافقوه. ويستفاد أن مقام الخلة مقام الرضى والتسليم، ومقام

التكليم مقام الإدلال والانبساط، ومن ثَمّ استبد موسى عليه السلام بأمر النبي عليه الصلاة والسلام بطلب التخفيف دون إبراهيم عليه السلام، مع أن للنبي عليه الصلاة والسلام من الاختصاص بإبراهيم أزيد مما له بموسى، لمقام الأبوة، ورفعة المنزلة، والاتباع في الملة. وقيل: الحكمة في ذلك ما أشار إليه موسى عليه السلام في نفس الحديث، من سبقه إلى معالجة قومه في هذه العبادة بعينها، وأنهم خالفوه وعصوه. وفيه أن الجنة والنار قد خلقتا، لقوله في بعض الطرق التي مرت "عرضت عليّ الجنة والنار" وفيه استحباب الإكثار من سؤال الله تعالى، وتكثير الشفاعة عنده، لما وقع منه في إجابته مشورة موسى في سؤال التخفيف. وفيه فضيلة الاستحياء، وبذل النصيحة لمن يحتاج إليها، وإن لم يستشر الناصح في ذلك. وفيه صعوده عليه الصلاة والسلام ببدنه الشريف. وكيف يتصور الصعود إلى السموات بالجسم الإنساني الكثيف؟ والجواب أن الأرواح أربعة أقسام: الأول الأرواح الكدرة بالصفات البشرية، وهي أرواح العوام، غلبت عليها القوى الحيوانية، فلا تقبل العروج أصلًا. والثاني الأرواح التي لها كمال القوة النظرية للبدن، باكتساب العلوم، وهذه أرواح العلماء. والثالث الأرواح التي لها كمال القوة المدرة للبدن باكتساب الأخلاق الحميدة، وهذه أرواح المرتاضين، إذ كسروا قُوى أبدانهم بالارتياض والمجاهدة. والرابع الأرواح التي حصل لها كمال القوتين، فهذه غاية الأرواح البشرية، وهي أرواح الأنبياء والصديقين، فكما ازداد قوة أرواحهم ازداد ارتفاع أبدانهم من الأرض، ولهذا لما كان الأنبياء، صلوات الله عليهم، كملت فيهم هذه الأرواح عرج بهم إلى السماء، وأكملهم قوةً نبينا عليه الصلاة والسلام، فعرج به إلى قاب قوسين أو أدنى. قلت: الجواب الحسن عندي هو ما تقدمت الإشارة إليه في أول بدء الوحي، من أن الأنبياء متصفون بالروحانية جِبلَّة، فيحصل لهم من الصعود بسبب ذلك ما يحصل للملائكة بدون إشكال، وأيضًا لا سبب للإشكال، فإنَّ

كون الأجسام البشرية لا يمكنها الصعود، إنما هو بحسب العادة التي أجراها الله تعالى، وإذا أراد الله خرمها انخرمت. وقد واعدت بالإتيان بما قيل في رواية شريك من الانتقاد، فرواية شريك أخرجها المؤلف في كتاب التوحيد، وقد تكلم فيها كثير من العلماء: الخطابيُّ وعبد الحق في الجمع بين الصحيحين، وابن حزم ومسلم في صحيحه، وغيرهم. وقد اختلف العلماء في توثيقه، وقد مرَّ تعريفه في كتاب العلم. أما الخطابيّ فقد قال: ليس في كتاب البخاريّ أضغ ظاهرًا ولا أشنع فداقاً من هذا الفصل، يعني قوله "ودنا الجبار رب العزة، فتدلّى حتى كان منه قاب قوسين أو أدني" فإنه يقتضي تحديد المسافة بين أحد المذكورين وبين الآخر، وتمييز مكان كل واحد منهما، هذا إلى ما في التدلي من التشبيه والتمثيل له بالشيء الذي تعلق من فوق إلى أسفل. قال: فمن لم يبلغه من هذا الحديث إلاّ هذا القدر مقطوعًا عن غيره، ولم يعتبره بأول القصة وآخرها.، اشتبه عليه وجهه ومعناه، وكان قصاراه إما رد الحديث من أصله، وإما الوقوع في التشبيه، وهما خطتان مرغوب عنهما. وأما من اعتبر أول الحديث بآخره، فإنه يزول عنه الإشكال، فإنه مصرح فيهما بأنه كان رؤيا لقوله في أوله "وهو نائم" وفي آخره "استيقظ" وبعض الرؤيا مَثَلٌ يضرب ليتناول على الوجه الذي يجب أن يعرف إليه معنى التعبير في مثله، وبعض الرؤيا لا يحتاج إلى ذلك، بل يأتي كالمشاهدة، وهو كما قال، ولا التفات لمن تعقب كلامه بما في الحديث الصحيح من "أتى رؤيا الأنبياء وحي" فلا تحتاج إلى تعبير، لأنه كلام مَنْ لم يمعن النظر في هذا المحل، فقد يأتي في كتاب التعبير أن بعض مرائي الأنبياء تحتاج إلى التعبير، ومن أمثلة ذلك قول الصحابة له -صلى الله عليه وسلم-، في رؤية القميص: ما أولته يا رسول الله؟ قال: الدين. وفي رؤية اللبن، قال: العلم، إلى غير ذلك. لكن جزم الخطابيّ بان كونه في المنام متعقّبٌ بما مرَّ تقريره في الكلام على الترجمة. ثم قال الخطابيّ مشيرًا إلى رفع الحديث من أصله بان القصة بطولها إنما

هي حكاية يحكيها أنس من تلقاء نفسه، لم يعزُها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا نقلها عنه، ولا أضافها إلى قوله، فحاصل الأمر في النقل أنها من جهة الراوي، إما من أنس، واما من شريك، فإنه كثير التفرد بمناكير الألفاظ التي لا يتابعه عليها سائر الرواة. قال في الفتح: وما نفاه من أن أنسًا لم يسند هذه القصة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- لا تأثير له، فأدنى أمره فيها أن يكون مرسل صحابيّ، فإما أن يكون تلقاها عن النبي عليه الصلاة والسلام أو عن صحابيّ تلقاها عنه، ومثل ما اشتملت عليه لا يقال بالرأي، فيكون لها حكم الرفع، ولو كان لما ذكره تأثير لم يحمل حديث أحد روى مثل ذلك على الرفع أصلًا، وهو خلاف عمل المحدثين قاطبة، فالتعليل بذلك مردود، وأما عبد الحق فقد قال: زاد فيه شريك زيادة مجهولة، وأتى فيه بألفاظ غير معروفة، وقد روى الإسراء جماعة من الحفاظ فلم يأت أحد منهم بما أتى به شريك، وشريك ليس بحافظ. وأما ابن حزم فقد قال: لم نجد للبخاري ومسلم في كتابيهما شيئًا لا يحمل مخرجًا إلَّا حديثين، ثم عليه الوهم في تخريجه مع إتقانهما، وصحة معرفتهما، فذكر هذا الحديث وقال: فيه ألفاظ معجمة، والآفة من شريك، من ذلك قوله "قبل أن يوحى إليه" "وأنه حينئذ فرض عليه الصلاة" وقوله "إن الجبار دنا فتدلى" ... الخ، ويأتي قريبًا إن شاء الله تعالى الكلام على هاتين. قال أبو الفضل بن طاهر تعليل الحديث بتفرد شريك، ودعوى ابن حزم أن الآفة منه شيء لم يسبق إليه، فإنّ شريكًا قبله أئمة "الجرح والتعديل" ووثقوه، وهذا الحديث رواه عنه ثقة، وهو سليمان بن بلال، وعلى تقدير تعزو بقوله "قبل أن يوحى إليه" لا يقتضي طرح حديثه، فوهم الثقة في موضع من الحديث لا يسقط جميع الحديث، ولاسيما إذا كان الوهم لا يستلزم ارتكاب محذور، ولو ترك حديث من وهم في موضع، لترك حديث جماعة من أئمة المسلمين، وأما مسلم، فإنه قال بعد أن ساق سنده وبعض المتن: قدَّم وأخر وزاد ونقص. والأوْلي في أمره التزام ورود المواضع التي خالف فيها غيره، والجواب عنها إما

بدفع تفرده أو بتأويلها على وفق الجماعة. ومجموع ما خالفت فيه رواية شريك غيره من المشهورين نحو اثني عشر موضعًا: الأول: وهو أشدها، قوله: ودنا الجبّار رب. العزة فتدلّى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى، وقد مرَّ ما قاله الخطابيّ جوابًا عن هذا الموضع، ثم قال أيضًا: إن الذي وقع في هذه الرواية من نسبة التدلّي للجبار عَزَّ وَجَلَّ مخالفٌ لعامة السلف والعلماء وأهل التفسير، من تقدم منهم ومن تأخر. قال: والذي قيل فيه ثلاثة أقوال: أحدها أنه دنا جبريل من محمد -صلى الله عليه وسلم-، فتدلى أي فتقرب منه، وقيل هو على التقديم والتأخير، أي تدلى فدنا لأنّ التدلي سبب الدنو. الثاني: تدلّى له جبريل بعد الانتصاب والارتفاع حتى رآه متدليًا مرتفعًا، وذلك من آيات الله حيث أقدره على أن يتدلّى في الهواء من غير اعتماد على شيء، ولا تمسك بشيء. الثالث: دنا جبريل فتدلى محمد -صلى الله عليه وسلم- ساجدًا لربه تعالى، شكرًا على ما أعطاه. قال: وقد رُوي هذا الحديث عن أنس من غير طريق شريك، ولم تذكر فيه هذه الألفاظ الشنيعة، وذلك مما يقوّي الظن أنها صادرة من شريك، لكنَّ جَزْمَه بأن روايته مخالفة للسلف والخلف يردُّه ما أخرجه الأُمويّ في مغازيه، ومن طريق البيهقيّ عن ابن عباس في قوله تعالى {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13] قال: دنا منه ربه، وهذا سنده حسن، وهو شاهد قويّ لرواية شريك، ونقل القرطبيّ عن ابن عباس أنه قال: دنا الله سبحانه وتعالى، والمعنى دنا أمره وحكمه. وقيل: تدلى الرفرف لمحمد عليه الصلاة والسلام، حتى دنا محمد من ربه، ويأتي قريبًا في بحث الرؤية، ان شاء الله تعالى، الكلامُ على قوله {وَلَقَدْ رَآهُ} وقوله {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10] وقال القاضي عياض في "الشفاء" اضافة الدنو والقرب إلى الله تعالى، أو من الله، ليس دنو مكان، ولا قرب زمان، وإنما هو بالنسبة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، إبانةُ تعظيم منزلته، وتشريف رتبته، وبالنسبة إلى الله عَزَّ وَجَلَّ، تأنيسٌ لنبيه، وإكرام له. ويتأول فيه ما قالوه

في حديث "ينزل ربنا إلى السماء" وحديث "من تقرب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا". وقال غيره: الدنو مجاز عن القرب المعنويّ، لإظهار عظيم منزلته عند ربه تعالى، والتدلي طلب زيادة القرب، وإيضاح المعرفة، وبالنسبة إلى الله إجابة سؤاله ورفع درجته. الثاني: وهو قريب من الأوّل فعلًا به إلى الجبار، فقال وهو مكانه: يا ربِّ خفف عنا. قال الخطابيّ: تفرد شريك بهذا اللفظ، والمكان لا يضاف إلى الله تعالى، إنما هو مكان النبي عليه الصلاة والسلام في مقامه الأول، الذي قام فيه قبل هبوطه، وهذا هو المتعين، وليس في السياق تصريح بإضافة المكان إلى الله تعالى. الثالث: كون المعراج قبل البعثة، وقد مرَّ الجواب عنه في تفسير، ويمكن الجواب عنه بأنه لعله أراد أن يقول: بعد أن أوحي إليه، فقال: قبل أن يوحى إليه، أو بان القَبلية هنا في أمر مخصوص وليست مطلقة، واحتمل أن يكون المعنى قبل أن يوحى إليه في شأن الإسراء والمعراج مثلًا، أي أن ذلك وقع بغتة قبل أن ينذر به، ويؤيده قوله في حديث الزُّهري "فرج سقف بيتي". الرابع: أمكنة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في السموات، وقد أفصح بأنه لم يضبط منازلهم، وقد وافقه الزُّهري في بعض ما ذكر، كما مرَّ. الخامس: كونه منامًا، وقد سبق الجواب عنه. السادس: مخالفته في محل سدرة المنتهى، وأنها فوق السماء السابعة بما لا يعلمه إلَّا الله، والمشهور أنها في السابعة أو السادسة كما مرَّ. السابع: مخالفته في النهرين، وهما النيل والفرات، وأن عنصرهما في السماء الدنيا، والمشهور في غير روايته أنهما في السماء السابعة، وأنهما من تحت سدرة المنتهى. الثامن: شق الصدر عند الإسراء، وقد وافقته رواية غيره كما مرَّ عن مالك بن صعصعة.

التاسع: ذكر نهر الكوثر في السماء الدنيا، والمشهور في الحديث أنه في الجنة كما مرَّ. العاشر: تصريحه بان امتناعه عليه الصلاة والسلام من الرجوع إلى سؤال ربه التخفيف، كان عند الخامسة، ومقتضى رواية ثابت عن أنس أنه كان بعد التاسعة. الحادي عشر: رجوعه بعد الخمس، والمشهور في الأحاديث أن موسى، عليه السلام، أمره بالرجوع بعد أن انتهى التخفيف إلى الخمس، فقال له: استحييت من ربّي. الثاني عشر: ذكره أنه جيء بطَسْت من ذهب فيه تَور من ذهب، وهذا يقتضي أنه غرِ الطَّسْت، وأنه كان داخل الطست، فإن كانت هذه الزيادة محفوظة، احتمل أن يكون أحدهما فيه ماء زمزم، والآخر هو المحشو بالإِيمان، واحتمل أن يكون التَّوْر ظرف الماء وغيره. والطَّسْت لما يصب فيه عند الْغَسْل صيانة له عن التبدد في الأرض، وجريًا له على العادة في الطست، وما يوضع فيه الماء. هذا تحرير ما قيل في رواية شريك، ولم يبق من مباحث المعراج إلَّا بحث الرؤية، وقد أخرج المؤلف بعد حديث المعراج في السيرة النبوية، عن ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما، في قوله تعالى {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60] قال: هي رؤيا عين أُرِيَها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة أُسري به إلى بيت المقدس. وقد تمسك بكلام ابن عباس هذا من قال إن الإسراء كان في المنام، ومن قال إنه كان في اليقظة، فالأول أخذ من لفظ الرؤيا قال: لأن هذا اللفظ مخصوص برؤيا المنام. قلت: هذا مردود بثبوت الرؤيا في كلام العرب لرؤية العين في اليقظة، كما في قول الراعي يصف صيادًا عند رؤيته للصيد. وكبر للرؤيا وهش فؤاده ... وبشر قلبًا كان جمًّا بلابله

وقال الواحديّ: إنها رؤية اليقظة ليلًا فقط، ومن قال بالثاني، فمن قوله أُرِيها ليلة الإسراء، والإسراء إنما كان في اليقظة؛ لأنه لو كان منامًا ما كذبه الكفّار فيه، ولا فيما هو أبعد منه، كما مرَّ تقريره. وإذا كان ذلك في اليقظة، وكان المعراج في تلك الليلة، تعينَ أن يكون في اليقظة أيضًا إذ لم يقل أحد أنه نام لما وصل إلى بيت المقدس، ثم عرج به وهو نائم، وإذا كان في اليقظة فإضافة الرؤيا إلى العين للاحتراز عن رؤيا القلب، وقد أثبت الله تعالى رؤيا القلب في القرآن فقا {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11]. ورؤيا العين فقال {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 17، 18]. وروى الطبرانيّ في الأوسط بإسناد قوي عن ابن عباس قال: رأى محمد ربه مرتين. وأخرج النَّسائيّ بإسناد صحيح، وصححه الحاكم من طريق عكرمة، عن ابن عباس قال: أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد؟ وفي رواية "والنظر". وأخرجه ابن خُزيمة بلفظ "إن الله اصطفى إبراهيم بالخلة ... الحديث"، وأخرج ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي سلمة أن ابن عمر أرسل إلى ابن عباس "هل رأى محمد ربه؟ " فأرسل إليه "أن نعم". وأخرج مسلم عن ابن عباس في قوله تعالى {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)} [النجم: 11، 13]. قال: رأى ربه بفؤاده مرتين، وله عن عطاء عن ابن عباس قال: رآه بقلبه. وأصرح من هذا ما أخرجه ابن مردويه عن عطاء أيضًا عن ابن عباس قال: لم يره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعينه، إنما رآه بقلبه، وإذا تقرر هذا ظهر أن مرادَ ابن عباس هنا برؤية العين المذكورة، جميعُ ما ذكره -صلى الله عليه وسلم- في تلك الليلة من الأشياء التي مرَّ ذكرها. وفي هذا رد لمن قال المراد بالرؤيا في هذه الآية، رؤياه -صلى الله عليه وسلم-، أنه دخل المسجد الحرام المشار إليه بقوله تعالى {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [الفتح: 27]. قال: هذا القائل، والمراد بقوله "فتنة للناس" ما وقع من صد المشركين له في الحديبية عن دخوله المسجد

الحرام، وهذا وإن كان يمكن أن يكون مراد الآية، لكن الاعتماد في تفسيرها على ترجمان القرآن أولى. قال في الفتح: جاءت عن ابن عباس أخبار مطلقة، وأخرى مقيدة، فيجب حمل مطلقها على مقيدها، يعني الأخبار المذكورة. وممن قال بإثبات الرؤية مع ابن عباس جميع أصحابه، ورواه عبد الرزاق عن الحسن أنه حلف أن محمدًا رأى ربه، وأخرج ابن خزيمة عن عُروة بن الزبير إثباتها، وأنه كان يشتد عليه إذا ذكر له إنكار عائشة، وجزم به كعب الأحبار والزُّهريّ وصاحبه معمر وآخرون، وهو قول الأشعري وغالب أتباعه. واختلفوا هل رآه بعينه أو بقلبه، وعن أحمد كالقولين كما يأتي، وروى ابن خزيمة بإسناد قوي عن أنس أن محمدًا رآى ربه، وذهبت عائشة وابن مسعود إلى إنكارها، واختلف عن أبي ذرٍّ، أما عائشة فقد أخرج البخاريّ عن مسروق قال: قلت لعائشة رضي الله تعالى عنها: يا أُمتاه هل رأى محمد -صلى الله عليه وسلم- ربه؟ فقالت: لقد قَفّ شعري مما قلت، أين أنت من ثلاث من حدثهن فقد كذب؟ من حدثك أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- رأي ربه فقد كذب، ثم قرأت {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103] {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ... الخ} [الشورى: 51]. استدلت عائشة علي ما ذهبت إليه من نفي الرؤية بدليلين: الأول هو نفي الإدراك لله تعالى المذكور في الآية، جاعلة الإدراك والرؤية بمعنى، والدليل الثاني الآية الثانية، وتقرير الاستدلال بها هو أنه سبحانه وتعالى حصر تكليمه لغيره في ثلاثة أوجه، وهي الوحي بان يلقي في رَوعه ما يشاء، أويكلمه بواسطة من وراء حجاب، أو يرسل إليه رسولًا فيبلغه عنه، فيستلزم ذلك انتفاء الرؤية عنه حالة التكلم. والجواب عن هذا أن ذلك لا يستلزم نفي الرؤية مطلقًا، قاله القرطبيّ. قال: وعامة ما يقتضي نفي تكليم الله تعالى على غير هذه الأحوال الثلاثة، فيجوز أن التكليم لم يقع حالة الرؤية، والدليل الأول قال فيه النوويّ، تبعًا لغيره: لم تنف عائشة وقوع الرؤية بحديث مرفوع، ولو كان معها لذكرته، وإنما

اعتمدت الاستنباط على ما ذكرته ما ظاهر الآية، وقد خالفها غيرها من الصحابة، والصحابيّ إذا قال قولًا وخالفه غيره منهم لم يكن ذلك القول حجة اتفاقًا. والمراد بالإدراك في الآية الإحاطة، وذلك لا ينافي الرؤية. وتبع في جزمه بأن عائشة لم تنف الرؤية بحديث مرفوع ابن خزيمة، فإنه قال في كتاب التوحيد، من صحيحه: النفي لا يوجب علمًا، ولم تحك عائشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبرها أنه لم ير ربه، وإنما تأولت الآية، وهذا عجيب منها، فقد ثبت ذلك في صحيح مسلم عن مسروق في الطريق المذكورة، قال مسروق: وكنت متكئًا فجلست، وقلت: ألم يقل الله {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13] فقالت: أنا أوّل هذه الأمّة سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك فقال: إنما هو جبريل، وأخرجه ابن مردويه عن داود بهذا الإسناد، فقالت: أنا أول من سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن هذا، فقلت: يا رسول الله، هل رأيت ربك؟ قال: لا، إنما رأيت جبريل منهبطًا. نعم احتجاج عائشهَ بالآية المذكورة خالفها فيه ابن عباس، فقد أخرج الترمذيّ عن عكرمة عن ابن عباس قال: رأى محمد ربه؟ قلت: أليس الله يقول {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] قال: ويحك، ذلك إذا تجلَّى بنوره الذي هو نوره، وقد رأى ربه مرتين، وحاصله أن المراد بالآية نفي الإحاطة به عند رؤياه، لا نفي أصل رؤياه، وإنما ساغ العدول عن ظاهر الآية، لصحة الأخبار بثبوت الرؤية. وقال القرطبي: الأبصار في الآية جمع على بالألف واللام، فيقبل التخصيص، وقد ثبت دليل ذلك سمعًا في قوله تعالى {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] فيكون المراد الكفار، بدليل قوله في الآية الأخرى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23]. قال: وإذا جازت في الآخرة جازت في الدنيا، لتساوي الوقتين بالنسبة إلى المرثي، وهو استدلال جيّد. وقال عياض: رؤية الله سبحانه وتعالى جائز عقلًا، وثبتت الأخبار الصحيحة المشهورة بوقوعها للمؤمنين في الآخرة، وأما في الدنيا فقال

مالك: إنما لم يُرَ سبحانه في الدنيا، لأنه باقٍ، والباقي لا يُرى بالفاني، فإذا كان في الآخرة، ورزقوا أبصارًا باقية، رأوا الباقي بالباقي. قال عياض: وليس في هذا الكلام استحالة الرؤية إلَّا من حيث القدرة، فإذا أقدر الله من شاء من عباده عليها، لم تمتنع، ووقع عند مسلم عن أبي أمامة، رفعه، ما يؤيد هذه التفرقة "اعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا" وأخرجه ابن خُزيمة من حديث ابن أبي أُمامة وعبادة بن الصامت، فإن جازت الرؤية في الدنيا عقلًا، فقد امتنعت سمعًا، لكن من أثبتها للنبي عليه الصلاة والسلام، له أن يقول: إن المتكلم لا يدخل في عموم كلامه، وله أن يقول أيضًا: إن رؤيته عليه الصلاة والسلام لربه تعالى في العالم العلويّ، ليست من الرؤية الدنيوية. ويمكن الجمع بين إثبات ابن عباس ونفي عائشة بأن يحمل نفيها على رؤية البصر، وإثباته على رؤية القلب، ثم المراد برؤية الفؤاد رؤية القلب لا مجرد حصول العلم، لأنه عليه الصلاة والسلام كان عالمًا به على الدوام، بل مراد من أثبت له أنه رآه بقلبه أن الرؤية التي حصلت له خُلقت في قلبه، كما يخلق الرؤية بالعين لغيره. والرؤية لا يشترط لها شيء مخصوص عقلًا، ولو جرت العادة بخلقها في العين. ولهذا كان عليه الصلاة والسلام يرى من خلفه كما يرى من أمامه. وأما ابن مسعود فقد أخرج البخاريّ عنه في قوله تعالى {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 9] وقوله {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10] قال: إنه رأى جبريل له ست مئة جناح، وزاد عاصم في هذا الحديث كما أخرجه النسائي وابن مردويه "يتناثر من ريشه التهاويل من الدر والياقوت". والتهاويل الألوان المختلفة وزينة التصاوير والنقوش والحلي. والحاصل أن ابن مسعود كان يذهب في ذلك إلى أن الذي رآه النبي -صلى الله عليه وسلم- هو جبريل، كما ذهبت إلى ذلك عائشة، والتقدير على رأيه فأوحى، أي جبريل إلى عبده، أي عبد الله محمد، لأنه يرى أن الذي دنا فتدلى جبريلُ، وأنه هو الذي أوحى إلى محمد، وكلام

المفسرين من السلف يدل على أن الذي أوحى هو الله، أوحى إلى محمد عبده. ومنهم من قال: إلى جبريل. وقاب قوسين، أي قدر قوسين عربيتين. وقال قتادة: القاب من طرف العود إلى طرفه الآخر. وقال الحسن ومجاهد: من الوتر إلى العود في وسط القوس عند المَقْبض. وقيل: هو ما بين المقبض والطرف، ولكل قوس قابان، فاصل الكلام: فكان قابي قوسٍ، فهو على القلب. وأما أبو ذر، فعند مسلم من حديثه أنه سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك فقال: نورٌ أنّى أَراه، بفتح، الهمزة بمعنى كيف، وهمزة أراه وفي رواية: نعد أنّى أُراه، بفتح النون وضم همزة أراه، وعند أحمد عنه قال: رأيت نورًا، وعند ابن خزيمة عنه قال: رآه بقلبه، ولم يره بعينه، وبهذا يتبين مراد أبي ذرٍّ بذكره النور، أي أن النور حال بين رؤيته له ببصره، لا أن الله تعالى نور، حاشاه من ذلك؛ لأنّ النور عرض من الأعراض. ورجح القرطبي في "المفهم" قول الوقف في هذه المسألة، وعزاه لجماعة من المحققين، وقوّاه بأنه ليس في الباب دليل قاطع، وغاية ما استدل به للطائفتين ظواهر متعارضة قابلة للتأويل. قال: وليست المسألة من العمليات، فيكتفى فيها بالأدلة الظنية، وإنما هي من المعتقدات، فلا يكتفى فيها إلا بالدليل القطعيّ، وجنح ابن خُزيمة في كتاب التوحيد إلى ترجيح الإثبات، وأطنب في الاستدلال له، يطول ذكره، وحمل ما ورد عن ابن عباس على أن الرؤيا وقعت مرتين: مرة بعينه، ومرة بقلبه. وفيما أوردناه من ذلك مقنع. وممن أثبت الرؤية لنبينا -صلى الله عليه وسلم- الإِمام أحمد، فروى الخلال في كتاب السنة له عن المروزيّ قال: قلت لأحمد: إنهم يقولون إن عائشة قالت: من زعم أن محمدًا رأى ربه فقد أعظم على الله الفِرية، فبأي شيء يدفع قولها؟ قال: بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: رأيت ربي، قول النبي عليه الصلاة والسلام أكبر من قولها. وحكى النقاش عن أحمد بن حنبل أنه قال: أنا أقول بحديث ابن عباس "بعينه رآه" رآه حتى انقطع نفسه، يعني نفس أحمد بن حنبل، وقد أنكر صاحب الهدى على من زعم أن أحمد قال رأى ربه بعيني رأسه، وهذا من تصرف الحاكي، فإن

نصوصه موجودة، قلت: ما قاله صاحب الهدى يرده ما مرَّ عن المروزيّ من إنكاره قول عائشة، فإن عائشة نافية لرؤيته عليه الصلاة والسلام لربه بعيني رأسه، وإنكار أحمد عليها صريح في أنه قائل بأنه رآه بعيني رأسه. وقوله: إن نصوصه موجودة، أي نص له أقوى من نقل الخلال عن المروزيّ، فلا اعتداد بإنكار صاحب الهدى، هذا ملخص ما حرروه في الإسراء والمعراج.

الحديث الثاني

الحديث الثاني حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: "فَرَضَ اللَّهُ الصَّلاَةَ حِينَ فَرَضَهَا رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، فَأُقِرَّتْ صَلاَةُ السَّفَرِ، وَزِيدَ فِي صَلاَةِ الْحَضَرِ". قوله: ركعتين ركعتين، كررت لفظ ركعتين لتفيد عموم التثنية لكل صلاة، وزاد ابن إسحاق عن صالح بن كيسان: إلَّا المغرب، فإنها كانت ثلاثًا. أخرجه أحمد من طريقه، وللمصنف في كتاب الهجرة عن الزُّهري عن عُروة عنها قالت: فرضت الصلاة ركعتين، ثم هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم-، ففرضت أربعًا. فعين في هذه الرواية أن الزيادة في قوله هنا، وزيد في صلاة الحضر وقعت بالمدينة، وأخذ الحنفية بظاهر هذا الحديث، وبنوا عليه أن القصر في السفر عزيمة لا رخصة، فلا يجوز الإتمام، إذ ظاهر قولها "أقرت" يقتضيه، واحتج مخالفوهم بقوله تعالى {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101] لأن نفي الجُناح لا يدل على العزيمة، والقصر إنما يكون من شيء أطول منه، وبحديث "صدقة تصدق الله بها عليكم" رواه مسلم. وأجابوا عن حديث الباب بأنه من قول عائشة غير مرفوع، وبانها لم تشهد زمان فرض الصلاة، وبأنه لو كان ثابتًا لنقل متواترًا، وفي هذا كله نظر، أما أولًا فإنه مما لا مجال للرأي فيه، فله حكم الرفع. وأما ثانيًا فعلى تقدير تسليم أنها لم تدرك القصة يكون مرسل صحابيّ، وهو حجة، لأنه يحتمل أن تكون أخذته عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أو عن صحابيّ آخر أدرك ذلك. وأما ثالثًا فإن التواتر في مثل هذا غير لازم، وأجابوا أيضًا بأن حديثها يعارضه حديث ابن عباس.

أخرجه مسلم "فرضت الصلاة في الحضر أربعًا، وفي السفر ركعتين" واستدلت الحنفية بهذا الحديث كما يأتي قريبًا. وألزموا الحنفية على قاعدتهم فيما إذا عارض رأي الصحابيّ روايته، بأنهم يقولون العبرة بما رأى لا بما رَوى. وخالفوا ذلك هنا، فقد ثبت عن عائشة أنها كانت تتم في السفر، فدل ذلك على أن المروي عنها غير ثابت، أو تؤول الزيادة في قولها "وزيد في صلاة الحضر" في عدد الصلوات حتى بلغت خمسًا لا في عدد الركعات، ويكون قولها: فرضت الصلاة ركعتين، قبل الإسراء، فإنها كانت قبل الإسراء صلاة قبل المغرب، وصلاة قبل طلوع الشمس. ويشهد له قوله تعالى {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَار} [غافر: 55]. ويأتي قريبًا في فرض شيء قبل الإسراء، وقد مرَّ بعض من ذلك في حديث الإسراء. والجواب عن الحنفية في الإلزام المذكور أن عروة الراوي عنها قال، لما سئل عن إتمامها في السفر: إنها تأولت كما تأول عثمان، فعلى هذا لا تعارض بين روايتها ورأيها، وروايتها صحيحة، ورأيها مَبْنيّ على ما تأولت. واحتج الحنفية أيضًا بما رواه مسلم عن ابن عباس قال "فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربع ركعات، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة" وتظهر فائدة الخلاف فيما أتم المسافر يكون الشفع الثاني فرضًا عند غير الحنفية، لأنّ الوقت سبب للأربع، والسفر سبب للقصر، فيختار أيها شاء، ويكون عندهم نقلًا. ويمكن الجمع بين الأدلة بأن الصلوات فرضت ليلة الإسراء ركعتين ركعتين إلَّا المغرب، ثم زيدت بعد الهجرة عقب الهجرة إلا الصبح، كما روى ابن خُزيمة وابن حبّان والبَيْهقيّ عن عائشة قالت: "فرضت صلاة الحضر والسفر ركعتين ركعتين، فلما قدم -صلى الله عليه وسلم- المدينةَ، واطمأنَّ زيد في صلاة الحضر ركعتان ركعتان، وتركت صلاة الفجر لطول القراءة، وصلاة المغرب لأنها وتر النهار". ثم بعد أن استقر فرض الرباعية خفف منها في السفر عند نزول الآية السابقة، وهي قوله تعالى {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101]. ويؤيد ذلك ما ذكره ابن الأثير في شرح المسند أن قصر الصلاة

رجاله خمسة

كان في السنة الرابعة من الهجرة، وهو مأخوذ مما ذكره غيره من أن نزول آية الخوف كان فيها، وقيل كان قصر الصلاة في ربيع الآخر من السنة الثانية، ذكره الدولابيّ، وأورده السهيلي بلفظ "بعد الهجرة بعام ونحوه" وقيل بعد الهجرة بأربعين يومًا. فعلى هذا المرادُ بقول عائشة "فأقرت صلاة السفر" أي باعتبار ما آل إليه الأمر من التخفيف، لا أنها استمرت منذ فرضت، فلا يلزم من ذلك أن القصر عزيمة، وأما ما وقع في حديث ابن عباس "والخوف ركعة" فالبحث فيه يجيء إن شاء الله تعالى في صلاة الخوف. وقد ذهب جماعة إلى أنه لم يكن قبل الإسراء صلاة مفروضة، إلَّا ما كان وقع الأمر به من صلاة الليل من غير تحديد، وذهب الحربيّ إلى أن الصلاة كانت مفروضة ركعتين بالغداة، وركعتين بالعشيّ. وذكر الشافعيّ عن بعض أهل العلم أن صلاة الليل كانت مفروضة، ثم نسخت بقوله تعالى {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20] فصار الفرض قيام بعض الليل، ثم نسخ ذلك بالصلوات الخمس. واستنكر محمد بن نصر المروزيّ ذلك، وقال: الآية تدل على أن قوله تعالى {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20] إنما نزلت بالمدينة، لقوله تعالى فيها {وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} والقتال إنما وقع بالمدينة لا بمكة، والإسراء كان بمكة قبل ذلك، وما استدل به غير واضح؛ لأن قوله تعالى {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ} [المزمل: 20] ظاهر في الاستقبال، فكأنه سبحانه وتعالى امتَنَّ عليهم بتعجيل التخفيف، قبل وجود المشقة التي علم أنها ستقع لهم. رجاله خمسة: قد مروا، مرَّ عبد الله بن يوسف ومالك وعروة وعائشة في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ صالح بن كيسان في السابع منه آخر حديث منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد، والإخبار في موضع، والعنعنة في ثلاثة مواضع، ورواته ما بين مصريّ ومدنيّ، وهذا الحديث من

باب وجوب الصلاة في الثياب

مراسيل عائشة، لأنها لم تدرك القصة، ويحتمل أن تكون أخذت ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو من صحابيّ آخر، ومرَّ الكلام على مرسَل الصحابي في الثاني من بدء الوحي. أخرجه البخاريّ هنا وفي الهجرة عن مسدد، ومسلم في الصلاة عن يحيى بن يحيى، وأبو داود فيها عن القعنبيّ، والنَّسائيّ فيها عن قُتيبة، ثم قال المصنف: باب وجوب الصلاة في الثياب أي بالجمع على حد قولهم: فلان يركب الخيول ويلبس البرود، ويحتمل أن الجمع على التوزيع بالنسبة لكل مصل، والمراد ستر العورة، ويأتي قريبًا استيفاؤه. ثم قال: وقول الله تعالى {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] أي وفي بيان قول الله تعالى. وللأصيلىّ وابن عساكر: وقول الله عَزَّ وَجَلَّ وقوله: زينتكم، أي ثيابكم. لمواراةِ عوراتكم. وقوله: عند كل مسجد، أي صلاة أو طواف، فأراد بالزينة ما يواري العورة، وبالمسجد الصلاة، ففي الأول إطلاق اسم الحالِّ على المحل، وفي الثاني: إطلاق اسم المحل على الحالّ لوجود الاتصال الذاتي بين الحالّ والمحلّ. وهذا الآن أخذ الزينة نفسها، وهي عرض محال، فأريد محلها، وهو الثوب مجازًا، وكانوا يطوفون عُراة ويقولون: لا نعبد الله في ثياب أذنبنا فيها، فنزلت الآية. لا يقال نزول الآية في الطواف، فكيف يثبت الحكم في الصلاة؟ لأنا نقول العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب. وهذا اللفظ عام، لأنه قال: عند كل مسجد، ولم يقل: عند المسجد الحرام، فنعمل بعمومه. وقيل: خذوا زينتكم، من قبيل إطلاق المسبب على السبب، لأنّ الثوب سبب الزينة، ومحل الزينة الشخص. وقيل: الزينة ما يتزين به من ثوب وغيره، كما في قوله تعالى {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] فالستر لم يجب لعين المسجد، وإنما وجب للصلاة، لا لأجل الناس حتى لو صلى وحده، ولم يستر عورته لم تجز صلاته، وإن لم يكن عنده أحد.

وقال في الفتح: أشار بالأية إلى ما أخرجه مسلم عن ابن عباس، قال: كانت المرأة تطوفُ بالبيت عُريانة فتقول: من يعيرني تطوافًا، وتقول: اليوم يبدو بعضه أو كله، فنزلت {خُذُوا زِينَتَكُمْ} وفي تفسير طاوس في قوله تعالى {خُذُوا زِينَتَكُمْ} [الأعراف: 31] قال: الثياب. وصله البيهقيّ، ونحوه عن مجاهد، وقال ابن حزم: الاتفاق على أن المراد ستر العورة. وقال ابن بطال: أجمع أهل التأويل على أن نزولها في الذين كانوا يطوفون بالبيت عراة. ثم قال: ومن صلى ملتحفًا في ثوب واحد، هكذا ثبت للمستملي وحده هنا، وسيأتي قريبًا في باب مفرد، وعلى تقدير ثبوته هنا، فله تعلق بحديث سلمة المعلق بعده، كما سيظهر من سياقه. ثم قال: ويذكر عن سلمة بن الأكوع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: يزره ولو بشوكة، في إسناده نظر. قوله: يَزُرّه بضم الزاي وتشديد الراء المضمومة، أي يشد إزاره، وتجمع بين طرفيه، لئلا تبدو عورته، ولو لم يمكنه ذلك إلَّا بان يغرز في طرفيه شوكة يستمسك بها. وأشار المؤلف بحديث سلمة إلى أن المراد بأخذ الزينة في الآية السابقة لُبْس الثياب لا تحسينها، وقد بين المصنف السبب في ترك جزمه به، وذكره له بصيغة التحريض بقوله: في إسناده نظر، وبيان ذلك هو أن هذا الحديث وصله المؤلف في تاريخه، وأبو داود وابنا خريمة وحبّان من طريق الدراوَرْديّ عن موسى بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة عن سَلَمة بن الأكوع "قلت: يا رسول الله إني رجل أتصيد، أفأصلي في القميص الواحد؟ قال نعم، زُرَّه ولو بشوكة" هذا لفظ ابن حبّان. ورواه البخاريّ أيضًا عن إسماعيل بن أبي أويس عن أبيه عن موسى بن إبراهيم عن أبيه عن سلمة، فزاد في السند رجلًا، ورواه أيضًا عن مالك بن إسماعيل عن عطّاف بن خالد قال: حدثنا موسى بن إبراهيم قال: حدثنا سلمة، فصرح بالتحديث بين موسى وسلمة، فاحتمل أن تكون رواية أبي أُويس من المزيد في متصل الإِسناد، أو يكون التصريح في رواية عطّاف وهمًا، فهذا وجه النظر في إسناده الذي حمل البخاري على تحريضه، وأما من صححه فقد اعتمد رواية الدراورديّ، وجعل رواية عطّاف شاهدة لاتصالها، ويحتمل أن يكون وجه النظر ما قال ابن القطان، من أن موسى هو ابن محمد بن إبراهيم

التيميّ المضعَّف، لكن رد ابن حَجَر بأنه غير صحيح، لأنه نسب في رواية البخاري مخزوميًا، وهو غير التيمي بلا تردد. نعم، وقع عند الطحاويّ موسى بن محمد بن إبراهيم، فإن كان محفوظًا فيحتمل على بُعْدٍ أن يكونا جميعًا رويا الحديث، وحمله عنهما، وإلا فذكر محمد فيه شاذ. وسلمة بن الأكوع مرَّ في الخمسين من العلم. ثم قال: ومن صلى في الثوب الذي يجامع فيه، ما لم ير فيه أذى، أي "وباب في بيان من صلى ... الخ". وقوله: ما لم ير أذى: أي نجاسة، وللحمويّ والمستمليّ: ما لم ير أذى، بإسقاط "فيه" وأشار المصنف إلى ما رواه أبو داود والنَّسائي، وصححه ابن خُزيمة وابن حبان عن معاوية بن أبي سفيان، أنه سأل أخته أم حبيبة: هل كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي في الثوب الذي كان يجامع فيه؟ قالت: نعم، إذا لم ير فيه أذى. وهذا من الأحاديث التي تضمنتها تراجم هذا الكتاب بغير صيغة رواية، بل ولا التعليق. ثم قال: وأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن لا يطوف بالبيت عريان، أشار بذلك إلى حديث أبي هريرة في بعث علي في حجة أبي بكر بذلك، وقد وصله بعد قليل، لكن ليس فيه التصريح بالأمر. قلت: في الحديث الآتي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر عليًا بذلك. والبخاري لم يقل إلَّا أن النبي، عليه الصلاة والسلام، أمر به، فصح التصريح، كما قال البخاريّ. وروى أحمد بإسناد حسن عن أبي بكر الصديق نفسه، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعثه "لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان" ووجه الاستدلال به للباب هو أن الطواف إذا منع فيه التعرّي، فالصلاة أولى إذ يشترط فيها ما يشترط في الطواف وزيادة. وقد ذهب الجمهور إلى أن ستر العورة من شروط الصلاة مطلقًا، إلَّا أن الحنفية لا يشترطون الستر عن نفسه، فلو كان محلول الجيب، فنظر إلى عورته لا تبطل صلاته، والمشهور عند المالكية أنه شرط في صحة الصلاة مع الذكر، والقدرة غير شرط مع العجز والنسيان، وقيل: عندهم أنه واجب غير شرط في الصحة، وهذا مشهور أيضًا، لكن دون الأول، وعليه بعيد في الوقت مع

العصيان إن كان ذاكرًا قادرًا، ومنهم من أطلق كونه سنة لا يُبْطِل تركُها الصلاة. وقيل بندبيته، واحتج القائلون بالوحوب مع الشرطية بما مرَّ عن مسلم من حديث ابن عباس، وبما في صحيح ابن خُزَيمة عن عائشة، ترفعه "لا يقبل الله صلاة امرأة قد حاضت إلَّا بخمار" وفي مسلم من حديث أبي سعيد، مرفوعًا "لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة". واستدل من حمله على الندب أو السُّنيّة بأن المراد بالزينة الزينةُ الظاهرة من الرداء وغير الملابس التي هي زينة، مستدلًا بما في الحديث من أنه كان رجال يصلون مع النبي -صلى الله عليه وسلم- عاقدي أزرهم على أعناقهم، كهيئة الصبيان. واستدل أيضًا بأنه لو كان شرطًا في الصلاة لاختص بها، ولا افتقر إلى النية، ولكان العاجز العريان ينتقل إلى بدل كالعاجز عن القيام ينتقل إلى القعود. والجواب عن الأول النقض بالإيمان، فهو شرط في الصلاة، ولا يختص بها، وعن الثاني باستقبال القبلة، فإنه لا يفتقر للنية، وعن الثالث على ما فيه بالعاجز عن القراءة، ثم عن التسبيح، فإنه يصلي ساكتًا. وما مرَّ عن الحنفية من اشتراط الستر عن نفسه هو مشهور مذهب مالك وكذلك إذا نظر عورة أمامه عامدًا أو ساهيًا لم تبطل على المعتمد.

الحديث الثالث

الحديث الثالث حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: أُمِرْنَا أَنْ نُخْرِجَ الْحُيَّضَ يَوْمَ الْعِيدَيْنِ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ، فَيَشْهَدْنَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَدَعْوَتَهُمْ، وَيَعْتَزِلُ الْحُيَّضُ عَنْ مُصَلاَّهُنَّ. قَالَتِ امْرَأَةٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِحْدَانَا لَيْسَ لَهَا جِلْبَابٌ. قَالَ: "لِتُلْبِسْهَا صَاحِبَتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا". قوله: أُمرنا، بضم الهمزة، ولمسلم قالت: أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وقوله: يوم العيدين، وفي رواية الكشميهنى والمستملي: يوم العيد، بالإفراد. وقوله: عن مُصَلاّهُنَّ، أي عن مصلى النساء اللاتي لسن بحُيَّض، وللمستملي "عن مصلاَّهم" على التغليب، وللكشميهنيّ "عن المصلى"، والمراد به موضع الصلاة، ودلالته على الترجمة من جهة تأكيد الأمر بالُّلبس حتى بالعارية للخروج إلى صلاة العيد. فلصلاة الفرض أولى، وإذا وجب على النساء الستر فعلى الرجال كذلك، وقد مرَّ هذا الحديث بأتم من هذا السياق في باب شهود الحائض العيدين، ومرَّ الكلام عليه هناك مستوفى. رجاله أربعة: الأول: موسى بن إسماعيل، وقد مرَّ في الخامس من بدء الوحي، ومرَّ محمد بن سيرين في الأربعين من كتاب الإيمان، ومرت أم عطية في الثاني والثلاثين من كتاب الوضوء. الرابع: يزيد بن إبراهيم التُّسْتُريّ، أبو سعيد البصريّ التميمىّ، مولاهم، وثّقه أحمد بن حنبل وأحمد بن صالح وعمرو بن عليّ وابن خير والنَّسائيّ. وقال

عليّ بن أشكاب: حدثنا أبو قطن حدثنا يزيد بن إبراهيم التُّستَريّ الذهب المصفى. وقال عثمان الدارميّ عن أبي الوليد "ما رأيت أكيس منه، كان يحدث عن الحسن فيغرب، ويحدث عن ابن سيرين فيلحن، يعني أنه كان يحدث كما سمع. وقال عثمان أيضًا: سمعت أبا الوليد يقول: يزيد أثبت عندنا من هشام. وقال ابن سعد: كان عفّان يرفع أمره، وقال الدوريّ عن ابن مُعين: يزيد بن إبراهيم أثبت من جرير بن حازم. وقال ابن أبي خَيْثمة: سئل ابن مُعين عن يزيد بن إبراهيم والسّريّ بن يحيى، أيهما أثبت؟ فقال: يزيد لا شك فيه، والسريّ ثقة. وقال عثمان الدارميّ: قلت لابن معين: هشام بن حسّان أحب إليك في ابن سيرين أو يزيد بن إبراهيم؟ فقال: ثقتان، فقلت: فيزيد أو جعفر بن حَيّان؟ قال: يزيد. وقال يزيد بن زريع: ما رأيت أحدًا من أصحاب الحسن أثبت من يزيد بن إبراهيم. وقال عبد الرحمن بن الحكم: أنس في أصحاب الحسن أثبت منه، وذُكر يزيد بن إبراهيم عند وكيع فقال: ثقة ثقة. وقال ابن المَدِينيّ: ثبت في الحسن وابن سيرين. وقال أبو حاتم: ثقة من أوسط أصحاب الحسن وابن سيرين. وقال سعيد بن عامر: حدثنا يزيد بن إبراهيم الصدوق المسلم، وقال يحيى بن سعيد: يزيد بن إبراهيم عن قتادة ليس بذلك، وقال عديّ: وليزيد أحاديث مستقيمة عن كل من يروي عنه، وإنما انكرت أحاديث رواها عن قتادة عن أنس، وهو ممن يكتب حديثه، ولا بأس به، وأرجو أن يكون صدوقًا. وذكره ابن حبّان في الثقات، وفرق أبو محمد بن حزم في كتاب الحج من "المحلّى" بين يزيد بن إبراهيم التستريّ ويزيد بن إبراهيم الراوي عن قتادة، فقال: إن التستري ثقة ثبت، والراوي عن قتادة ضعيف، وهو تفريق مردود، وغلط فاحش واضح، ولا أدري من هو سلفه في جعله اثنين. قاله ابن حجر في المقدمة، وقال: أخرج له البخاريّ ثلاثة أحاديث فقط، اثنان في متابعة والآخر احتجاجًا، الأول في الصلاة من روايته عن قتادة عن أنس، وقد توبع عليه من حديث شعبة عن قتادة الثاني في سجود السهو عن ابن سيرين عن أبي هريرة

في قصة ذي اليدين، بمتابعة ابن عون وغيره، عن ابن سيرين. وأخرج له في آل عمران عن أبي مليكة عن القاسم عن عائشة في قوله تعالى {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران: 7]. قال التِّرمذيّ رواه غير واحد عن ابن أبي مليكة عن عائشة، ليس فيه القاسم، وإنما ذكر القاسم يزيد بن إبراهيم وحده. قال ابن حجر: كذاك رواه أيوب وأبو عامر الخَزّاز عن ابن أبي مليكة، لكن رجح البخاريّ رواية يزيد بن إبراهيم، لما تضمنه من زيادة القاسم، وتبعه مسلم على ذلك، ولم يخرجا رواية أيوب، والله تعالى أعلم. قلت: انظر قول ابن حَجَر: إن يزيد بن إبراهيم روى له البخاريّ ثلاثة أحاديث، وإن الذي في الصلاة من روايته عن قتادة عن أنس، وهذا الحديث في الصلاة، وهو من روايته عن محمد كما هو الواقع في سجود السهو، لأنّ هذا الحديث إما أن يكون هو مراده بحديث الصلاة، وهذا ليست فيه رواية عن قتادة، وإما أن يكون ليس هو المراد عنده، فيكون هذا باقيًا عليه، لم يَعُدَّه. انتهى، والله تعالى أعلم. روى عن الحسن وابن سيرين وابن أبي مليكة وعطاء وقتادة وأيوب وعمرو بن دينار وغيرهم، وروى عنه وكيع وبَهْز بن أسد وعبد الرحمن بن مهديّ وابن المبارك وأبو داود وأبو الوليد الطَّيالسيّان، وخلق. مات سنة إحدى وستين ومئتين، وقيل سنة اثنتين، وقيل سنة ثلاث وليس في الستة يزيد بن إبراهيم سواه. والتُّستَريّ في نسبه نسبة إلى تُسْتَر، بضم التاء الأولى وفتح الثانية، وبينهما سين ساكنة، أعظم مدينة بخوزستان، وهو تعريب شُوشْتَر، ومعناه النَّزِه والحَسَن والطيِّب، واللطيف، فبأي الأسماء وسمتها من هذه جاز، وفيها نهر هو أعظم أنهار خوزستان، وفيها "شاذروان" من عجائب الدنيا، وكانت تعمل فيها ثياب وعمائم فائقة، ولبس يومًا الصاحب بن عباد عمامة من عمائمها، فجعل بعض جلسائه يتأملها، ويطيل النظر إليها من حسنها، فقال ابن عباد: ما عملت بتَستر لتُستَر. ويقال: إن سورها أول سور وضع بعد الطُّوفان على وجه الأرض، وفتحها أبو موسى الأشعري في خلافة عمر، واستشهد بها البراء بن مالك، وإليها تنسب

لطائف إسناده

جماعة من العلماء، منهم سهل بن عبد الله شيخ الصوفية، ورشيد بن سعيد المهريّ، وأحمد بن عيسى وغيرهم. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة والقول، وهو من رباعيات البخاريّ. وقد مر الكلام على مواضع إخراجه. ثم قال: وقال عبد الله بن رجاء: حدثنا عِمران قال: حدثنا محمد بن سيرين قال: حدثتنا أم عطية "سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذا" هكذا في أكثر الروايات، وهو الذي اعتمده أصحاب الأطراف، والكلام على رجال هذا الكتاب، ووقع عن الأصيلي في عرضه على أبي زيد بمكة "حدثنا عبد الله بن رجاء" وهذا التعليق وصله الطبرانيّ في الكبير، وفائدته تصريح محمد بن سيرين بتحديث أم عطية له، فبطل ما تخيله بعضهم من أن محمدًا إنما سمعه من أخته حفصة عن أم عطية. رجاله أربعة: الأول: عبد الله بن رجاء بن عمر، ويقال المثنى أبو عمرو، ويقال أبو عمر الغُدَانِيّ البَصريّ. قال أبو حاتم: كان ثقةً رِضىً، وقال ابن المَدِينيّ: أجمع أهل البصرة على عدالة رجلين أبي عمر الحوضي، وعبد الله بن رجاء، وذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال عمرو بن عليّ: صدوق كثير الغلط والتصحيف، ليس بحجة. وقال ابن أبي حاتم: سئل أبو زرعة عنه، فجعل يثني عليه، وقال: حسن الحديث عن إسرائيل. وقال يعقوب بن سفيان: ثقة، وقال النَّسائي: عبد الله بن رجاء المكيّ والبصريُّ ليس بهما بأس، وقال عثمان الدارميّ عن ابن مُعين: كان شيخًا صدوقًا لا بأس به، وقال هاشم بن مرفد عن ابن مُعين: كثير التصحيف، وليس به بأس، وقال الدوريّ عنه: ليس من أصحاب الحديث. وفي الزّهرة روى عنه البخاريّ خمسة عشر حديثًا.

قال ابن حجر في مقدمته: لقيه البخاريّ وحدّث عنه بأحاديث يسيرة، وروى أيضًا عن محمد عنه أحاديث أخرى، وروى له النَّسائيّ وابن ماجه، روى عن عكرمة بن عمار وإسرائيل وحرب بن شدّاد وشُعبة وعِمران القطّان وحمّاد بن سَلَمة وهشام الدَّسْتوائِيّ وجماعة. وروى عنه البخاريّ، وروى له في الصحيح أيضًا، وفي الأدب المفرد، وأبو داود في الناسخ والمنسوخ، والنَّسائِي وابن ماجه بواسطة، وأبو حاتم السجستانيّ وأبو حاتم الرازيّ، وخلق. مات سنة تسع عشرة ومئتين، وقيل سنة عشرين. وليس في الستة عبد الله بن رجاء سواه، إلَّا المكيّ أبو عمران البصريّ، سكن مكة، روى عن مالك وغيره. وفي الرواة عبد الله بن رجاء اثنان: الشيبانى الشاميّ، والقيسىّ. والغُدَانِيّ في نسبه نسبة إلى غُدانة بضم الغين وتخفيف الدال، وهو أشرس بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، منهم أحمد بن عبد الله بن شميل بن صخر الغُدَانيّ، بصريٌّ ثقة، روى عنه البخاريّ. الثاني: عِمران بن داوَر، بفتح الواو، العمي أبو العَوّام، القطان، البصري، قال عمرو بن علي: كان ابن مهدي يحدث عنه، وكان يحيى لا يحدث عنه، وقد ذكره يحيى يومًا فأحسن الثناء عليه، وقال أحمد أرجو أن يكون صالح الحديث، وقال ابن مُعين مرة: ليس بالقويّ، وقال مرة: ليس بشيء، لم يرو عنه يحيى بن سعيد. وقال أبو داود: هو من أصحاب الحسن، وما سمعت إلَّا خيرًا. وقال مُرة: ضعيف أفتى في أيام إبراهيم بن عبد الله بن حسن بفتوى شديدةٍ، فيها سفكُ، وقدم أبو داود الراسبيَّ عليه تقديمًا شديدًا. وقال النَّسائيّ: ضعيف، وقال ابن عديّ هو بمن يكتب حديثه. وذكره ابن حبّان في الثقات، وقال: يزيد بن زريع: كان حروريًا، كان يرى السيف على أهل القبلة. وفي قوله حروريًا نظر، فقد ذكر أبو يعلى القصة فقال: قال يزيد كان إبراهيم، يعني ابن عبد الله بن حسن، لما خرج بطلب الخلافة استفتاه عن شيء فافتاه بفُتيا قُتل بها رجالٌ مع إبراهيم، وكان إبراهيم ومحمد خرجا على المنصور في طلب الخلافة، لأنّ المنصور كان في زمن بني أمية.

باب عقد الأزر على القفا في الصلاة

بايع محمدًا بالخلافة، فلما زالت دولة بني أمية وولي المنصور الخلافة، تطلَّب محمدًا ففر، فألحّ في طلبه، فظهر بالمدينة بايعه قوم، وأرسل أخاه إبراهيم إلى البصرة وملكها، وبايعه قوم، فقدر أنهما قتلا وقتل معهما جماعة كثيرة. وليس هؤلاء من الحرورية في شيء. وقال الساجي: صدوق، وثّقه عفّان، وقال العقيليّ من طريق ابن مُعين: كان يرى رأي الخوارج، ولم يكن داعية. وقال البخاريّ: صدوق يهم، وقال ابن شاهين في الثقات: كان من أخص الناس بقتادة. وقال الدارقطني: كان كثير المخالفة والوهم. وقال العجليّ: بصريّ ثقة، وقال الحاكم: صدوق، وأورد له العقيلي عن قتادة عن سعيد بن أبي الحسن عن أبي هُريرة حديث "ليس شيء أكرم على الله من الدعاء" قال: لا يتابع عليه بهذا اللفظ، ولا يعرف إلَّا به. روى عن قتادة ومحمد بن سيرين وأبي جمرة الضَّبَعِيّ وسليمان التيمي ويحيى بن أبي كثير ومعمر بن راشد وغيرهم، وروى عنه ابن مهدي وأبو داود الطيالسيّ ومحمد بن بلال وعبد الله بن رجاء الغُدَانيّ وأبو عاصم الضَّحَاك وآخرون. وليس في الستة عمران بن داود سواه، وأما عِمران فكثير. والثالث محمد بن سيرين، وقد مرَّ في الأربعين من كتاب الإيمان، ومرت أم عطية في الثاني والثلاثين من كتاب الوضوء. ثم قال المصنف: باب عقد الأُزر على القفا في الصلاة القفا بالقصر، أي إزاره على قفاه، وهو مؤخر عنقه، وهو داخل في الصلاة، ثم قال: وقال أبو حازم عن سهل: صلَوْا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- عاقدي أُزُرهم على عواتقهم. قوله: صلوا، بلفظ الماضي، أي الصحابة. وقوله: عاقدي، جمع عاقد، حذفت النون للإضافة، وهو في موضع الحال. وللكشميهني: عاقدوا، وهو خبر مبتدأ محذوف أي وهم عاقدوا، وإنما كانوا يفعلون ذلك لأنهم لم تكن لهم سراويلات، فكان أحدهم يعقد إزاره في قفاه ليكون مستورًا إذا ركع

وسجد، وهذه صفة أهل الصفة كما سيأتي في باب "نوم الرجال في المسجد". وهذا التعليق وصله البخاري في الباب الثالث، وهو باب "إذا كان الثوب صيقًا" وسنده اثنان: الأول أبو حازم سَلَمة بن دينار، والثاني سهل بن سعد، وقد مرا في الثامن والمئة من كتاب الوضوء.

الحديث الرابع

الحديث الرابع حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ قَالَ حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنِي وَاقِدُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: صَلَّى جَابِرٌ فِي إِزَارٍ قَدْ عَقَدَهُ مِنْ قِبَلِ قَفَاهُ، وَثِيَابُهُ مَوْضُوعَةٌ عَلَى الْمِشْجَبِ. قَالَ لَهُ قَائِلٌ: تُصَلِّي فِي إِزَارٍ وَاحِدٍ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا صَنَعْتُ ذَلِكَ لِيَرَانِي أَحْمَقُ مِثْلُكَ، وَأَيُّنَا كَانَ لَهُ ثَوْبَانِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-. قوله: مِن قِبَل، بكسر القاف وفتح الموحدة، أي من جهة قفاه، والمِشْجَب، بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح الجيم بعدها موحدة، هو عيدانٌ تُضم رؤوسها، ويفرج بين قوائمها، توضع عليها الثياب وغيرها. وقال ابن سيده: المشجب والشِّجاب: خَشَبات ثلاث يعلِّق عليها الراوي دلوَه وسقاءَه، ويقال في المثل: فلان كالمشجب، من حيث قصدته وجدته، وقوله: فقال قائل، في رواية مسلم أنه عُبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، وقد عرّفناه في الثامن والخمسين من كتاب الأحكام، ويأتي قريبًا في الحديث الثالث عشر أن سعيد بن الحارث سأله عن مثل هذه المسألة، ويأتي تعريفه هناك فلعلهما جميعًا سألاه عن ذلك، وسيأتي عند المصنف في باب "الصلاة بغير رداء" عن ابن المنكدر أيضًا "فقلنا يا أبا عبد الله" فلعل السؤال تعدد، وقال في جواب ابن المنكدر: فأحببت أن يراني الجهال مثلكم. وقوله: إنما صنعت ذلك، باللام قبل الكاف، وللحموي والكشميهني "ذاك" بإسقاطها، وللمستملي بدلها "هذا الذي فعله من صلاته، وإزاره معقود على قفاه، وثيابه موضوعة على المِشجب" وقوله: ليراني أحمقٌ بالرفع: أي: جاهل، والحُمْق وضع الشيء في غير محله مع العلم بقبحه، وقوله: مثلُك،

رجاله خمسة

بالرفع صفة أحمق؛ لأنها وإن أضيفت إلى المعرفة لا تتعرف، لتوغلها في الإبهام، إلَّا إذا أضيفت لما اشتهر بالمماثلة، وها هنا ليس كذلك، فلذا وقعت صفة للنكرة، وهي أحمق. والغرض بيان جواز الصلاة في الثوب الواحد، وإن كانت الصلاة في الثوبين أفضل، فكأنه قال: صنعته عمدًا لبيان الجواز، إمّا ليقتدي بي الجاهل ابتداء، أو ينكر عليّ فأعلّمه أن ذلك جائز، وإنما أغلظ لهم في الخطاب زجرًا عن الإنكار على العلماء، وليحثهم على البحث عن الأمور الشرعية. وقوله: وأيّنا كان له ثوبان؟ أي كان أكثرنا في عهده -صلى الله عليه وسلم- لا يملك إلَّا الثوب الواحد، ومع ذلك لم يكلَّف تحصيل ثوب ثانٍ ليصلي فيه، فدل على الجواز، وحينئذ فلا ينكر، وقد كان الخلاف في منع جواز الصلاة في الثوب الواحد قديمًا. روى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود قال: لا تصلين في ثوب واحد وإن كان أوسع ما بين السماء والأرض، ونسب ابن بطال ذلك لابن عمر، ثم قال: لم يتابع عليه، ثم استقر الأمر على الجواز. رجاله خمسة: الأول: أحمد بن يونس، وقد مرَّ في التاسع عشر من كتاب الإِيمان، ومرَّ واقد بن محمد في الثامن عشر منه أيضًا، ومرَّ محمد بن المنكدر في التاسع والخمسين من كتاب الوضوء، ومرَّ جابر بن عبد الله في الرابع من بدء الوحي، والثاني من السند عاصم بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب العمريّ المدنيّ. قال أحمد وابنُ مُعين وأبو داود: ثقة. وقال أبو حاتم ثقة لا بأس به، وقال النَّسائيّ: ليس به بأس، وذكره ابن حبّان في الثقات، وقال أبو زرعة: صدوق في الحديث. وقال البزار: صالح الحديث، روى عن أبيه وإخوته: واقد وزيد، وعمرو بن عم أبيه القاسم بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، وعنه أبو إسحاق الفزاريّ، وابن عيينة ويزيد بن هارون ووكيع، وأبو الوليد الطَّيَالسيّ، وأحمد بن يونس. وليس في الستة عاصم بن محمد سواه، وأما عاصم فكثير.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، والعنعنة في موضع واحد، والقول في ثلاثة مواضع، ورواته ما بين كوفى ومدني، وفيه رواية الأخ عن الأخ، وهما عاصم وواقد، وفيه رواية تابعى عن تابعى من طبقة واحدة، وهما واقد ومحمد بن المنكدر، وهذا الطريق انفرد به البخاري.

الحديث الخامس

الحديث الخامس حَدَّثَنَا مُطَرِّفٌ أَبُو مُصْعَبٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الْمَوَالِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: رَأَيْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَقَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ. عقّب المؤلف الحديث الأول بهذه الرواية الأخرى، المصرِّحة بأن ذلك وقع من فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، ليكون بيان الجواز أوقع في النفس، لكونه أصرح في الرفع من الذي قبله، وخفي ذلك على الكرمانيّ فقال: دلالة الحديث الأخير على الترجمة وهي عقد الإزار على القفا، اما لأنه مخروم من الحديث السابق، فهو طرف من الذي قبله، وإما لأنه يدل عليه بحسب الغالب، إذ لولا عقده على القفا لما ستر العورة غالباً، ولو تأمل لفظه وسياقه بعد ثمانية أبواب، لعرف اندفاع احتماليه، فإنه طرف من الحديث المذكور هناك، لا من السابق، ولا ضرورة إلى ما ادعاه من الغلبة، فإن لفظه "وهو يصلي في ثوب ملتحفًا" وهي قصة أخرى فيما يظهر، كان الثوب فيها واسعًا فالتحف به، وكان في الأولى ضيقًا فعقده، وسيأتي قريبًا في الباب الثالث التصريح بهذا التفصيل. رجاله أربعة: الأول: مطرف بن عبد الله بن مطرف بن سليمان بن يسار اليَسَاريّ الهلاليّ، أبو مصعب المدنيّ، مولى ميمونة، وأمه أخت مالك، ذكره ابن حبّان في الثقات، وقال ابن سعد: كان ثقة، وبه صمم. وقال الدارقطني: ثقة، وقال ابن أبي حاتم: سئل أبي عنه فقال: مضطرب الحديث، صدوق، قلت لأبي: من أحب إليك: مطرف أو إسماعيل بن أبي أُويس؟ فقال: مطرف. ذكره ابن عَدِيّ في الكامل، وقال: يأتي بمناكير، ثم ساق أحاديث بواطيل من رواية أحمد بن

داود بن أبي صالح الحرانيّ عنه، وأحمد كذبه الدارقطني، والذنب له فيها لا لمطرف، قال ابن حنبل: كانوا يقدمونه على أصحاب مالك، صحبه سبع عشر سنة. قال ابن حَجَر في مقدمته: ليس له في البخاري سوى حديثين أحدهما حديث الاستخارة، وتابعه عليه قتيبة وغيره، وعنده، والآخر في الصلاة بمتابعة أيضًا. روى له التِّرمذِيّ وابن ماجه، روى عن مالك بن أنس وابن أبي ذيب وعبدالله بن عمر العمري وعبد الرحمن بن أبي الزناد وغيرهم. وروي عنه البخاريّ وروى التِّرمذيّ وابن ماجه عنه بواسطة، وروى منه مَعن بن عيسى القَزَّاز، وهو أكبر منه، وهارون الحمال، وأبو زرعة الدمشقيّ، والرازى وغيرهم. ولد سنة سبع وثلاثين ومئة، ومات سنة أربع عشرة ومئتين، وقيل سنة عشرين. وفي الستة مطرف بن عبد الله سواه ثلاثة: المُجاشعيّ والكَعْبيّ والعامريّ. وقد شارك أبا مصعب أحمد بن أبي بكر الزُّهريّ في صحبته مالك وفي روايته الموطأ عنه، وفي كنيته. لكن أحمد مشهور بكنيته أكثر من اسمه، ومطرف بالعكس. الثاني: عبد الرحمن بن أبي الموالي، واسمه زيد، وقيل: عبد الرحمن زيد بن أبي الوالي، كالجواري، أبو محمد، مولى عمّال عليّ. قال أبو طالب عن أحمد: لا بأس به، وقال إسحاق بن منصور عن ابن مُعين: صالح. وقال التِّرمذيّ والنَّسائيّ: ثقة، وكذا قال الدُّوريّ عن ابن مُعين. وقال أبو زرعة: لا بأس به، صدوق. وقال أبو حاتم: لا بأس به، هو أحب إلىّ من أبى مَعْشَر. وقال ابن خِراش: صدوق، وقال ابن حِبّان في الثقات: يخطىء، وقال أبو طالب عن أحمد: كان يروي حديثًا منكرًا عن ابن المنكدر عن جابر في الاستخارة ليس أحد يرويه غيره. قال: وأهل المدينة يقولون: كان حديث علط ابن المنكدر عن جابر، وأهل البصرة يقولون: ثابت عن أنس، يحملون عليهما. قال ابن عديّ: ولعبد الرحمن غير ما ذكرت، وهو مستقيم الحديث، والذي أنكر عليه حديث الاستخارة، وقد روي حديث الاستخارة غير واحد من الصحابة

لطائف إسناده

كما رواه ابن أبي الموالي، فقد جاء من رواية أبي أيوب، ولم يقيده بركعتين، ولا بقوله "من غير الفريضة". وقال ابن حجر: الأمر سهل في حديث الاستخارة. روى عن محمد بن كعب القُرَظيّ، ومحمد بن المنكدر، والزُّهريّ والحسين بن عليّ بن الحسين، وعبدالله بن الحسن بن الحسن، والحسن بن محمد بن عليّ بن أبي طالب وغيرهم. وروى عنه الثّوري، وهو من أقرانه، وخالد بن مَخْلد، وابن المبارك، وابن وهب والقعنبيّ. ومطرف بن عبد الله وغيرهم. مات سنة ثلاث وسبعين ومئة. وليس في الستة عبد الرحمن بن أبي الموالي سواه، وفيهم عبد الرحمن بن زيد اثنان: ابن زيد بن أسلم العدويّ، مولاهم، وابن زيد بن الخطاب العدويّ أيضًا. الثالث: محمد بن المنكدر، وقد مرَّ في التاسع والخمسين من كتاب الوضوء، ومرَّ جابر بن عبد الله في الرابع من بدء الوحي. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في موضع، والقول في موضع، وهو رباعيّ الإسناد، ورواته كلهم مدنيون. باب الصلاة في الثوب الواحد ملتحفًا به لما كانت الأحاديث الماضية في الاقتصار على الثوب الواحد مطلقة، أردفها بما يدل على أن ذلك يختص بحال الضيق، أو بحال بيان الجواز. ثم قال: قال الزهري في حديثه: الملتحِف المتوشِّح، وهو المخالف بين طرفيه على عاتقيه، وهو الاشتمال عليه منكبيه. قوله: على منكبيه، أي منكبي المتوشح. قال ابن السكيت: هو أن يأخذ طرف الثوب الذي ألقاه على منكبه الأيمن من تحت يده اليسرى، ويأخذ الذي ألقاه على منكبه الأيسر من تحت يده اليمنى، ثم يعقد طرفيهما على صدره.

والزهري قد مرّ في الثالث من بدء الوحي، والمراد إما حديثه عن سالم أبيه، وقد وصله الطحاوي وابن أبي شَيبة في مصنفه، أو عن سعيد عن أبي هُريرة، وهو عند أحمد. والذي يظهر أن قوله "وهو المخالف ... إلى آخره" من كلام المؤلف. ثم قال: قال وقالت أم هانىء: التحف النبي -صلى الله عليه وسلم- بثوب وخالف بين طرفيه على عاتقيه. قوله: قال، أي المؤلف، وهي ساقطة عند أبوي ذَرٍّ والوقت، والأصيليّ وابن عساكر. وقوله: قالت، وللأربعة "وقالت". وقوله: وخالف بين طرفيه على عاتقيه، فائدة هذه المخالفة في الثوب، على ما قال ابن بطال، أن لا ينظر المصلي إلى عورة نفسه إذا ركع أو أن لا يسقط عند الركوع والسجود. وهذا التعليق رواه البخاريّ موصولًا في هذا الباب، لكنه لم يقل فيه "وخالف"، وثبت في مسلم من وجه آخر عنها، ورواه أحمد من ذلك الوجه بلفظ المعلق، وأم هانىء قد مرت في الحديث الثلاثين من كتاب الغُسل.

الحديث السادس

الحديث السادس حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- صَلَّى فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ قَدْ خَالَفَ بَيْنَ طَرَفَيْهِ. رجاله أربعة: الأول: عُبيد الله بن موسى بن باذام، وقد مرَّ في الأول من كتاب الإيمان، ومرَّ هشام بن عروة وأبوه عروة في الثاني من بدء الوحي. والثاني: عمر بن أبي سلمة بضم عين عمر، واسم أبي سَلَمة عبد الله بن عبد الأَسَد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزوميّ القرشىّ، أبو حفص المدني، ربيب النبي -صلى الله عليه وسلم-، أمه أم سلمة، أم المؤمنين، ولد في الحبشة في السنة الثانية، وقيل قبل ذلك وقبل الهجرة إلى المدينة، ويدل عليه قول عبد الله بن الزبير "كان أكبر مني بسنتين"، وكان يوم الخندق هو وابن الزبير في أُطُم حَسّان بن ثابت، له اثنا عشر حديثًا، اتفقا على حديثين منها، ومن حديثه ما رواه عمرو بن الحارث عن عبد ربه بن سعيد عن عبد الله بن كعب الحِميريّ، عن عمر بن أبي سلمة قال "سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قُبلة الصائم قال: سل هذه لأم سلمة، فقلت: غفر الله لك، قال: إني أخشاكم لله، وأتقاكم ... " أخرجه مسلم. وفي الصحيحين من رواية وهب بن كيسان عنه، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: "أُدْنُ لي يا بني، فسم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك". قال ابن الزبير: ولي البحرين زمن عليّ، وكان قد شهد معه الجمل، ووهم من قال انه قتل فيها، بل مات بالمدينة سنة ثلاث وثمانين، في خلافة عبد الملك بن مروان. روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أُمّه أُم سلمة، وروى عنه محمد وأبو

لطائف إسناده

أُسامة بن سهل بن حُنَيف، وسعيد بن المُسَيِّب وعُروة بن الزبير وغيرهم. وفي الستة عمر بن أبي سلمة سواه واحد، وهو عمر بن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزُّهري، وليس في الصحابة عمر بن أبي سلمة. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في موضعين أيضًا، ورواته ما بين كوفي ومدنيّ، وفيه رواية تابعىّ عن تابعيّ عن الصحابيّ، وسنده عالٍ لأنه رباعيّ يشبه سند الثّلاثيات، لأن أحد الراويين التابعيّيْن لو روى عن الصحابي كان ثلاثياً. أخرجه البخاري في الصلاة هنا من ثلاثة طرق، ومسلم في الصلاة عن يحيى بن يحيى وغيره، والترمذيّ فيها أيضًا عن قتيبة، والنَّسائيّ عن قتيبة أيضًا، وابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة.

الحديث السابع

الحديث السابع حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، قَدْ أَلْقَى طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ. أورد المؤلف الحديث هنا بنزوله درجة من رواية يحيى القطان عن هشام بن عروة، وفائدته ما وقع فيه من التصريح بأن الصحابيّ شاهد النبيّ -صلى الله عليه وسلم- يفعل ما نقل عنه أولًا، بالصورة المحتملة، وفيه تعيين المكان، وهو بيت أم سلمة، والدة الصحابي المذكورة، وفيه زيادة كون طرفي الثوب على عاتقي النبي -صلى الله عليه وسلم-، على أن الإسماعيليّ أخرج الحديث المذكور عن عُبيد الله بن موسى، وفيه جميع الزيادة، فكأنَّ عُبيد الله حدث به البخاري مختصرًا. رجاله خمسة وفيه ذكر أم سلمة: الأول: محمد بن المثنى، وقد مرَّ في التاسع من كتاب الإيمان، ومرَّ يحيى بن سعيد القطّان في السادس منه، ومرَّ هشام بن عروة وأبوه في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ عمر بن أبي سلمة في الذي قبله، ومرت أم سلمة في السادس والخمسين من كتاب العلم.

الحديث الثامن

الحديث الثامن حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَهُ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُشْتَمِلاً بِهِ فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، وَاضِعًا طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ. قوله: مشتملًا به، بالنصب على الحال للأكثر، ولأبي ذَرٍّ "مشتملٌ" بالرفع، خبر مبتدأ محذوف، وللحموي والمستملي بالجر على المجاورة، وتعقبه الدمامينيّ فقال: الأَوْلى أن يجعل صفة لثوب، وأجاب عما لعله أن يقال من أنه لو كان صفة لبرز الضمير، لجريان الصفة على غير من هي له، بأن الكوفيين قاطبةً لا يوجبون إبرازه عند أَمْن الَّلْبس، ووافقهم ابن مالك، ومذهبهم في المسألة أقوى، واللَّبس في الحديث منتفٍ، وفائدة إيراد المصنف الحديث المذكورَ ثالثًا بالنزول أيضًا من رواته أبي أسامة عن هشام تصريح هشام عن أبيه بأن عمر أخبره، وفي الروايتين الماضيتين بالعنعنة، وفيه أيضًا ذكر الاشتمال، وهو مطابق لما مرَّ من التفسير. وقوله: في بيت، ظرف ليصلي أو للاشتمال أولهما. رجاله خمسة: وفيه ذكر أم سلمة أيضًا، الأول عبيد بن إسماعيل، وقد مرَّ في الثاني والعشرين من كتاب الحيض، ومرَّ أبو أسامة في الحادي والعشرين من كتاب العلم، ومرَّ هشام بن عُروة وأبوه عروة في الثاني من بَدء الوحي، ومرَّ عمر بن أبي سلمة في الذي قبل هذا بحديث، ومرت أم سلمة في السادس والخمسين من كتاب العلم.

الحديث التاسع

الحديث التاسع حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكُ عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّ أَبَا مُرَّةَ مَوْلَى أُمِّ هَانِىء بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أُمَّ هَانِىء بِنْتَ أَبِي طَالِبٍ تَقُولُ: ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَامَ الْفَتْحِ، فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ، وَفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ قَالَتْ: فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: "مَنْ هَذِهِ؟ ". فَقُلْتُ: أَنَا أُمُّ هَانِىء بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ. فَقَالَ: "مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِىء". فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ غُسْلِهِ، قَامَ فَصَلَّى ثَمَانِي رَكَعَاتٍ، مُلْتَحِفًا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، زَعَمَ ابْنُ أُمِّي أَنَّهُ قَاتِلٌ رَجُلاً قَدْ أَجَرْتُهُ، فُلاَنَ بْنَ هُبَيْرَةَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- "قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِىء". قَالَتْ أُمُّ هَانِىء وَذَاكَ ضُحًى. قوله: مرحبًا بأم هانىء، أي بباء الجر، ولابن عساكر "يا أم هانىء" بياء النداء، أي: لقيت رحبًا وسعة يا أم هانىء. وقولها هنا في الحديث "ذهبت فوجدته يغتسل" ظاهر في أن الاغتسال لم يقع في بيتها، وكذلك ما في الموطأ عنها، من أنها ذهبت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو بأعلى مكة، فوجدته يغتسل. وللمؤلف في باب "صلاة الضحى في السفر" قال: "دخل بيتها يوم الفتح، فاغتسل" وهذا ظاهر في أن الاغتسال وقع في بيتها، ويجمع بينهما بأن ذلك تكرر منه، ويؤيده ما رواه ابن خزيمة عن مجاهد عن أم هانىء، وفيه أن أبا ذرٍّ ستره لما اغتسل، وأن في رواية أبي مُرة هنا عنها، أن فاطمة ابنته هي التي سترته، ويحتمل أن يكون نزل في بيتها بأعلى مكة، وكانت هي في بيت الحر بمكة، فجاءت إليه فوجدته يغتسل، فيصح القولان. وأما الستر فيحتمل أن يكون أحدهما ستره في ابتداء الغسل والآخر في

أثنائه. وقوله: قام فصلى ثمان ركعات، زاد كريب عن أم هانىء "فسلم من كل ركعتين" أخرجه ابن خزيمة، وفيه رد على من تمسك به في صلاتها موصولة، سواء صلى ثمان ركعات أو أقل. وفي الطبراني عن ابن أوفى أنه صلى الضحى ركعتين، فسألته امرأته فقال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى يوم الفتح ركعتين، وهو محمول على أنه رأى من صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- ركعتين، ورأت أم هانىء بقية الثمان، وهذا يقوي أنه صلاها مفصولة، وقوله: ملتحفًا في ثوب، هو موضع الحاجة من هذا الحديث، وقد مرَّ في الرواية المعلقة تفسيره بأنه المخالفة بين طرفي الثوب على العاتقين. وقوله: زعم ابن أُمّي هو علي بن أبي طالب، وفي رواية الحموي ابن أبي، وهو صحيح في المعنى، فإنه شقيقها، وإنما خصت الأم في الرواية الأولي لكونها آكد في القرابة، ولأنها بصدد الشكاية في إخفار ذمتها، فذكرت ما بعثها على الشكاية حيث أُصيبت من محل يقتضي أنها لا تصاب منه، لما جرت العادة أن الأُخُوة من جهة الأم أشد في اقتضاء الحنان والرعاية من غيرها. وقوله: انه قاتلٌ رجلًا أي عازم على مقاتلة رجل، وفيه إطلاق اسم الفاعل على من عزم على التلبس بالفعل. وقوله: فلان بن هبيرة، بالرفع بتقدير هو، أو بالنصب بدلًا من "رجلًا"، أو من الضمير المنصوب. وهُبيرة، بضم الهاء وفتح الموحدة، ابن أبي وهب بن عمرو المخزوميّ، زوج أم هانىء؛ ولدت منه أولادًا منهم هانىء الذي كنيت به، هرب من مكة عام الفتح لما أسلمت هي، ولم يزل مشركًا حتى مات، وترك عندها ولدها منه جَعْدَة، وهو ممن له رؤية، ولم تصح له صحبة، وابنه المذكور هنا يحتمل أن يكون جَعْدة هذا، ويحتمل أن يكون من غير أم هانىء، ونسي الراوي اسمه، لكن نقل ابن عبد البر عن أهل النّسب أنهم لم يذكروا لهبيرة ولداً من غير أم هانىء. وقال ابن الجوزيّ: إنْ كان المراد بفلان ابنها، فهو جَعْدة. ورده ابن عبد البر وغيره، لصغر سنه، لأنه معدود فيمن له رؤية، ولم تصبح له صحبة، فكيفَ يتهيأ القتال لمن هذه سبيله؟ وحينئذ فلا يحتاج إلى الأمان، وأيضًا فإن عليًا لا

يقصد قتل ابن أُخته، فكونه من غيرها أرجح، وجزم ابن هشام بان اللّذين أجارتهما أم هانىء هما: الحارث بن هشام وزهير بن أبي أُمية المخزوميان، وعند الأزرقيّ عبد الله بن أبي ربيعة بدل زُهير. قال في الفتح: والذي يظهر لي أن في رواية الباب حذفًا، كأنه كان فيه فلان بن عم هبُيرة، فسقط لفظ "عم"، أو كان فيه فلان قريب ابن هبيرة، فتغير لفظ "قريب" بابن، وكل من الحارث بن هشام وزهير بن أبي أمية وعبد الله بن أبي ربيعة يصح وصفه بأنه ابن عم هُبيرة، وقريبه، لكون الجميع من بني مخزوم. وقوله: قد أجرنا من أجرت، أي أمَّنَّا من أمنت، وقوله: قالت أم هانىء، وذاك ضحى، أي صلاته الثمان ركعات وقت ضحى، أو صلاة ضحى. وقد مرَّ هذا الحديث في الغسل في باب التستر، ومرَّ هناك الكلام على أوائله، ويأتي في صلاة الضحى في "باب صلاة الضحى في السفر" من طريق أخرى. وها أنا أذكر ما يتعلق به هنا، فأقول: قد استدل به قوم على إثبات سنة الضحى، ونقل عياض عن قوم أنه ليس فيه دلالة على ذلك، قالوا: إنما هي سنة الفتح، وقد صلاها خالد بن الوليد لما فتح الحيرة، كما نقله الطبريّ. وقال عياض أيضًا: ليس حديث أم هانىء بظاهر في أنه عليه الصلاة والسلام قصد بها سنة الضحى، وإنما فيه أنها أخبرت عن وقت صلاته فقط، وقد قِيل إنها كانت قضاء عما شغل عنه تلك الليلة من حزبه فيها، وتعقبه النوويّ بأن الصواب صحة الاستدلال به، لما رواه أبو داود عن أم هانىء أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى سَبْحة الضحى. ولمسلم في الطهارة عنها، في قصة اغتساله -صلى الله عليه وسلم- يوم الفتح: ثم صلى ثمان ركعات سبحة الضحى. وروى ابن عبد البَرّ في "التمهيد" عنها أيضًا قالت: "قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكةَ، فصلى ثمان ركعات، فقلت: ما هذه؟ فقال: هذه صلاة الضحى" واستدل به أيضًا على أن كثر الضحى ثمان ركعات، واستبعده السبليّ، ووجه بأن الأصل في العبادة التوقف، وهذا أكثر ما ورد في ذلك من فعله -صلى الله عليه وسلم-، وقد ورد من فعله دون ذلك، كحديث ابن أبي أوفى "أنه عليه الصلاة والسلام صلى الضحى ركعتين" أخرجه ابن عديّ.

وأخرج البخاري مثله من حديث عَتبان، وحديث عائشة عند مسلم "كان يصلي الضحى أربعًا، وحديث جابر عند الطبرانيّ في الأوسط "أنه -صلى الله عليه وسلم-، صلى الضحى ست ركعات" وأما ما ورد من فعله عليه الصلاة والسلام، ففيه زيادة على ذلك، كحديث أنس مرفوعًا "من صلى الضحى ثنتي عشر ركعة بني الله له قصرًا في الجنة" أخرجه التِّرمذِيّ واستغربه. وليس في إسناده من أطلق عليه الضعف، وعند الطبرانيّ من حديث أبي الدرداء مرفوعًا "من صلى الضحى ركعتين لم يُكتب من الغافلين، ومن صلى أربعًا كتب من التائبين، ومن صلى ستًا كفى ذلك اليوم، ومن صلى ثمانيًا كُتب من العابدين، ومن صلى اثنتي عشر بني الله له بيتاً في الجنة" وفي إسناده ضعْف، وله شاهد من حديث أبي ذَرٍّ، رواه البزار. وفي إسناده ضعفٌ أيضًا. ومن ثَمّ قال الرويانىّ ومن تبعه: أكثرها ثنتا عشرة. وقال النووي في "شرح المهذب" فيه حديث ضعيف كأنه يشير إلى حديث أنس، لكنه إذا ضُم إليه حديث أبي ذَرٍّ وأبي الدرداء، قَوِيَ وصَلُح للاحتجاج. ونقل الترمذيّ عن أحمد أن أصح شيء ورد في الباب حديث أم هانىء، وهو كما قال. ولهذا قال النّووي في "الروضة" أفضلها ثمان، وأكثرها ثنتي عشرة، ففرق بين الأفضل والأكثر، ولا يتصور ذلك إلا فيمن صلى الاثنتي عشرة بتسليمة واحدة، فإنها تقع نفلاً مطلقاً، عند من يقول إن أكثر سنة الضحى ثمان ركعات، فأما من فَصَل، فإنه يكون صلى الضحى، وما زاد على الثمان يكون له نفلًا مطلقًا، فتكون صلاته ثنتي عشرة في حقه أفضل من ثمان، لكونه أتي بالأفضل. وزاد: وقد ذهب قومٌ منهم أبو جعفر الطبريّ، وبه جزم الخليميّ والرويانيّ من الشافعية، إلى أنه لا حد لأكثرها. وروى عن إبراهيم النخعيّ قال: سأل رجل الأسود بن يزيد: كم أصلي الضحى؟ قال: كم شئت. وفي حديث عائشة عند مسلم "كان يصلي الضحى أربعًا ويزيد ما شاء" وهذا الإطلاق قد يحمل على التقييد، فيؤكد أن أكثرها ثنتي عشرة. وذهب آخرون إلى أن فضلها أربع ركعات، فحكى الحاكم في كتابه المفرد، في صلاة الضحى، عن جماعة من أئمة الحديث، أنهم كانوا يختارون

أن تصلى الضحى أربعًا، لكثرة الأحاديث الواردة في ذلك، كحديث أبي الدرداء، وأبي ذَرٍّ عند التِّرمذيّ، مرفوعًا عن الله تعالى "ابن آدم، اركعْ أربعَ ركَعات من أول النهار، أكفك آخره". وحديث نعيم بن حماد عند النَّسائيّ، وحديثْ أبي أُمامة وعبد الله بن عمرو والنَّواس بن سمعان، كلهم بنحوه، عندَ الطبرانيّ، وحديث عقبة بن عامر، وأبي مُرّة الطائفىّ، كلاهما عند أحمد بنحوه، وحديث عائشة عند مسلم كما مرَّ قريبًا، وحديث أي موسى، رفعه "من صلى الضحى أربعًا بني الله له بيتًا في الجنة" أخرجه الطبراني في الأوسط، وحديث أبي أمامة مرفوعًا "أتدرون قوله تعالى {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37] قال: وفّي عمل يوم بأربع ركعات الضحى" أخرجه الحاكم. وجمع صاحب الهدى الأقوال في صلاة الضحى فبلغت ستًا: الأول: مستحبة، واختلف في عددها، فقيل أقلها ركعتان وأكثرها اثنتي عشرة. وقيل: أكثرها ثمان، وقيل كالأول، لكن تشرع ستًا ولا عشرًا، وقيل كالثاني، لكن لا تشرع ستًا، وقيل: ركعتان فقط، وقيل أربع فقط. وقيل: لا حد لأكثرها. والقول الثاني: لا تشرع إلاّ لسبب، واحتجوا بأنه عليه الصلاة والسلام لم يفعلها إلا بسبب، واتفق وقوعها وقت الضحى، وتعددت الأسباب، فحديث أم هانىء يوم الفتح كان بسبب الفتح، وأن سنة الفتح أن يصلي ثمان ركعات، ؤنقله الطبريّ من فِعل خالد بن الوليد لما فتح الحيرة، وفي حديث عبد الله بن أبي أوفي، أنه -صلى الله عليه وسلم- صلى الضحى حين بُشّر برأس أبي جهل، وهذه صلاة شكر، كصلاته يوم فتح مكة، وصلاته في بيت عتبان إجابةً لسؤاله أن يصلي في بيته مكاناً يتخذه مصلَّى، فاتفق أنه جاءه وقت الضحى، فاختصره الراوي، فقال: صلى في بيته الضحى. وخديث عائشة "لم يكن يصلي الضحى إلَّا أن يجيء من مَغْيَبه، لأنه كان ينهى عن الطروق ليلًا، فيقدُم في أول النهار، فيبدأ بالمسجد، فيصلي وقت الضحى". القول الثالث: لا تستحب أصلًا، وصح عن عبد الرحمن بن عوف أنه لم

يصلّها، وكذلك ابن مسعود. القول الرابع: يستحب فعلها تارةً وتركها تارة، بحيث لا يواظب عليها، وهذه إحدى الروايتين عنده والحجة فيه حديث أبي سعيد "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي الضحى حتى نقول لا يدعها، ويدعها حتى نقول لا يصليها" أخرجه الحاكم. وعن عكرمة: كان ابن عباس يصليها عشرًا، ويدعها عشرًا. وقال الثَّوريّ عن منصور: كانوا يكرهون أن يحافظوا عليها كالمكتوية، وعن سعيد بن جبير: إني لأدعها وأنا أحبها، مخافة أن أراها حتمًا عليّ. الخامس: تستحب صلاتها، والمواظبة عليها في البيوت، للأمن من الخشية المذكورة. السادس: أنها بدعة، صح ذلك من رواية عُروة عن ابن عمر، وسئل أنس عن صلاة الضحى فقال: الصلوات خمس. وعن أبي بكرة: أنه رأى ناسًا يصلون الضحى فقال: ما صلاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا عامّة أصحابه. وقد ذكر الحاكم الغالب هذه الأقوال مستندًا، وبلغ عدد رواة الحديث في إثباتها نحو العشرين نَفسًا من الصحابة، وروى الحاكم عن عقبة بن عامر قال: أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نصلي الضحى بسور منها {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}، والضحى. ومناسبة ذلك ظاهرة جدًا. وأخرج البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها "ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سبَّح سبحة الضحى، وإني لأسبحها" وفي رواية "وإني لأستحبها" من الاستحباب، ولكل منهما وجه، لكن الأول يقتضي الفعل، والثاني لا يستلزمه. وجاء عن عائشة في ذلك أشياء مختلفة، أوردها مسلم، فعنده عن عبد الله بن شقيق قلت لعائشة: أكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي الضحى؟ قالت: لا، إلا أن يجيء من مغيبه" وعنده من طريق معاذة عنها "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي الضحى أربعًا، ويزيد ما شاء الله" ففي الأول نفي رؤيتها لذلك مطلقًا، وفي الثاني تقييد النفي بغير المجيء من مغيبه. وفي الثالث الإثبات مطلقًا.

وقد اختلف العلماء في ذلك، فذهب ابن عبد البر وجماعة إلى ترجيح ما اتفق عدم الوقوع، فيقدم من روى عنه الإثبات من الصحابة، وذهب آخرون إلى الجمع بينها، قال البَيهقيّ: عندي أن المراد بقولها "ما رأيته سبحها" أي داوم عليها، وقولها "وإنّي لأسبحها" أي أداوم عليها. وكذلك قولها "وما أحدث الناسَ شيئًا" تعني المداومة عليها.، قال: وفي بقية الحديث الذي تقدم من رواية مالك إشارة إلى ذلك، حيث قالت "وإن كان ليدع العمل وهو يحب أن يعمله، خشية أن يعمل به الناس، فيفرض عليهم" وحكى المحُبّ الطبريّ أنه جمع بين قولها "ما كان يصلي إلَّا أن يجيء من مغيبه" وقولها "كان يصلي أربعاً، ويزيد ما شاء الله" بأن الأول محمول على صلاته اياها في المسجد، والثاني على البيت. قال: ويعكر عليه حديثها "ما رأيته سبح سبحة الضحى" ويجاب عنه بأن المنفي مخصوصة. وقال عياض وغيره: قولها ما صلاّها، معناه ما رأيته صلاها، والجمع بينه وبين قولها "كان يصليها" أنها أخبرت في الإنكار عن مشاهدتها، وفي الإثبات عن غيرها. وقيل في الجمع أيضًا: يحتمل أن تكون نفت صلاة الضحى المعهودة حينئذ، من هيئة مخصوصة بعدد مخصوص في وقت مخصوص، وأنه -صلى الله عليه وسلم- إنما كان يصليها إذا قدم من سفر، لا بعدد مخصوص ولا بغيره، كما قالت "يصلي أربعًا ويزيد ما شاء الله". وحديث عائشة يدل على ضعف ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- "أن صلاة الضحى كانت واجبة عليه" وعدها لذلك جمع من العلماء من خصائصه، ولم يثبت ذلك في خبر صحيح. وقول الماورديّ في "الحاوي" إنه واظب عليها بعد يوم الفتح إلي أن مات، يعكر عليه ما رواه مسلم عن أم هانىء "أنه لم يصلها قبل ولا بعد" ولا يقال إن نفي أم هانىء لذلك بلزم منه العدم، لأنا نقول يحتاج من أثبته إلى دليل، ولو وجد لم يكن حجة، لأنّ عائشة ذكرت أنه كان إذا عمل عملًا أثبته، فلا تستلزم المواظبة على هذا الوجوب عليه. وأخرج البخاريّ عن أبي هريرة قال: "أوصاني خليلي بثلاث لا أدعهن حتى أموت: صوم ثلاثة أيام من كل شهر، وصلاة

رجاله خمسة

الضحى، ونوم على وتر". وقوله: صلاة الضحى، زاد أحمد في روايته "كل يوم" وفي رواية أبي التّيّاح عند المؤلف في الصوم بلفظ "وركعتي الضحى". قال ابن دقيق العيد: لعله ذكر الأقل الذي يوجد التأكيد بفعله، وفي هذا دلالة على استحباب صلاة الضحى، وأن أقلها ركعتان، وعدم مواظبة النبي -صلى الله عليه وسلم- على فعلها لا ينافي استحبابها، لأنه حاصل بدلالة القول، وليس من شرط الحكم أن تتضافر عليه أدلة القول والفعل، لكن ما واظب النبي -صلى الله عليه وسلم- على فعله مرجّح على ما لم يواظب عليه، ومن فوائد ركعتي الضحى أنها تجزىء عن الصَّدقة التي تصبح على مفاصل الإنسان في كل يوم، وهي ثلاث مئة وستون مفصلًا كما أخرجه مسلم عن أبي ذر وفيه "ويجزىء عن ذلك ركعتا الضحى" وحكى الحافظ أبو الفضل بن الحسين في شرح التّرمذيّ أنه اشتهر بين العوام أن من صلى الضحى ثم قطعها يعمى، فصار كثيرٌ من الناس يتركونها أصلًا لذلك، وليس مما قالوه أصل، بل الظاهر أنه مما ألقاه الشيطان على ألسنة العوام، ليحرمهم الخير الكثير، لاسيما ما وقع في حديث أبي ذر المار قريبًا. هذا ملخص ما قيل في صلاة الضحى. رجاله خمسة: وفيه قولها "زعم ابن أمي أنه قاتلُ رجلًا قد أجرته فلان بن هبيرة". الأول: إسماعيل بن أبي أويس، وقد مرَّ في الخامس عشر من كتاب الإيمان، ومرَّ مالك بن أنس في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ أبو النضر سالم بن أبي أمية في السابع والستين من كتاب الوضوء ومرت أم هانىء في الثلاثين من كتاب الغُسل، ومرَّ أبو مُرَّة في الثامن من كتاب العلم، والمراد بابن أمي علي ابن أبي طالب، وقد مرَّ في السابع والأربعين منه أيضًا. واختلف في المراد بفلان بن هبيرة على أقوال وتأويلات قد مرت قريبًا. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد، وبصيغة الإفراد في موضع،

والعنعنة في موضع، والإخبار بصيغة الإفراد، وفيه السماع، وفيه القول، ورواته مدنيون. أخرجه البخاريّ هنا وفي الطهارة والأدب عن القعنبيّ، ومسلم في الصلاة والطهارة عن يحيى بن يحيى، وفي الطهارة عن محمد بن رُمح، وفي الصلاة أيضًا عن حجاج بن الشاعر، والتِّرمذيّ في الاستئذان عن إسحاق بن موسى، وفي السير عن أبي الوليد الدمشقيّ، والنَّسَائيّ في الطهارة عن يعقوب بن إبراهيم، وفي السير عن إسماعيل بن مسعود، وابن ماجه في الطهارة عن محمد بن رمح.

الحديث العاشر

الحديث العاشر حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ سَائِلاً سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ الصَّلاَةِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَوَلِكُلِّكُمْ ثَوْبَانِ؟ ". وقوله: إن سائلًا قال في الفتح: لم أقف على اسمه، لكن ذكر شمس الأئمة السّرخسيّ الحنفيّ في كتابه "المبسوط" أن السائل ثَوبان مولى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد عرفناه في الأول من كتاب الشهادات. وقوله: أو لكلكم ثوبان، قال الخطابيّ لفظه استخبار، ومعناه الإخبار عما هم عليه من قلة الثياب، ووقع في ضمنه الفتوى من طريق الفحوى كأنه يقول: إذا علمتم أن سَتر العورة فرض والصلاة لازمة، وليس لكل واحد منكم ثوبان، فكيف لم تعلموا أن الصلاة في الثوب الواحد جائزة؟ أي مع مراعاة ستر العورة به. وقال الطحاوي: معناه لو كانت الصلاة مكروهة في الثوب الواحد لكرهت لمن لا يجد إلَّا ثوبًا واحدًا. وهذه الملازمة في مقام المنع، للفرق بين القادر وغيره. والسؤال وإنما كان عن الحواز وعدمه، لا عن الكراهة. وقد روى ابن حبان هذا الحديث عن ابن شهاب، لكن قال في الجواب: ليتوشح به ثم ليصل فيه، فيحتمل أن يكونا حديثين أو حديثًا واحدًا فرقه الرواة، وهو الأظهر، وكأَنَّ المصنف أشار إلى هذا لذكره "التوشح" في الترجمة، وعامة العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم على جواز الصلاة في الثوب الواحد الساتر للعورة. ومرت مخالفة ابن مسعود في ذلك. رجاله خمسة: الأول: عبد الله بن يوسف، وقد مرَّ هو ومالك في الثاني من بدء الوحي،

لطائف إسناده

ومرَّ ابن شهاب في الثالث منه، ومرَّ سعيد بن المسيب في التاسع عشر من كتاب الإيمان، ومرَّ أبو هريرة في الثاني منه أيضًا. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد، والإخبار كذلك، وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع. أخرجه البخاري هنا، ومسلم عن يحيى بن يحيى وغيره، وأبو داو عن القعنبيّ ومسدد، والنَّسائيّ عن قتيبة بن سعيد، وابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة، وهشام بن عمار والطّحاويّ من ستة طرق، وأحمد والدارميّ والبيهقيّ. ثم قال المصنف: باب إذا صلى في الثوب الواحد فليجعل على عاتقيه قوله: باب بالتنوين. وقوله: فليجعل على عاتقيه، أي بعض الثوب. وفي رواية "عاتقه" بالإفراد، والعاتق هو ما بين المنكبين إلى أصل العنق، وهو مذكرٌ وحكي تأنيثه.

الحديث الحادي عشر

الحديث الحادي عشر حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يُصَلِّى أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ، لَيْسَ عَلَى عَاتِقَيْهِ شَيْءٌ". قوله: لا يصلي، قال ابن الأثير كذا هو بإثبات الياء في الصحيحين، ووجهه أن لا نافية، وهو خبر بمعنى النهي، ورواه الدارقطني في غرائب مالك، عن الشافعي عن مالك، بلفظ "لا يصل" بغير ياء، وعن عبد الوهاب بن عطاء عن مالك بلفظ "لا يصليَّن" بزيادة نون التوكيد، ورواه الإسماعيلي عن أبي الزناد بلفظ "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-". وقوله: ليس على عاتقيه شيء، بالتثنية، ولأبىِ ذَرٍّ وابن عساكر والأصيلى "ليس على عاتقه" بالإفراد، وزاد مسلم عن أبي الزناد "منه شيء" والمراد أنه لا يتَّزر في وسطه، ويشد طرفي الثوب في حقْويه، بل يتوشح بهما على عاتقه، ليحصل الستر لجزء من أعالي البدن، وإن كان ليس بعورة، أو لكون ذلك أمكن في ستر العورة. وقد حمل الجمهور النهي على التنزيه، وقال الكرماني: ظاهر النهي يقتضي التحريم، لكن الإجماع منعقد على جواز تركه، وفي ما قاله من الإجماع نظر، فقد نقل عن أحمد: لا تصح صلاة من قدر على ذلك فتركه، جعله من الشرائط. وعنه تصح. وياثم جعله واجبًا مستقلًا، ونقل تقي الدين السبكيّ وجوب ذلك عن نص الشافعي، واختاره. لكن المعروف في كتب الشافعبة خلافه. ونقل ابن المنذر عن محمد بن عليّ عدم الجواز، وكلام التِّرمذيّ يدل على ثبوت الخلاف أيضًا. وعقد الطّحاويّ له بابًا في شرح المعنى، ونقل المنع عن ابن عمر وعن طاووس والنخعي، ونقله غيره عن ابن وهب وابن جرير.

رجاله خمسة

وجمع الطحاويّ بين أحاديث الباب بأن الأصل أن يصلي مشتملًا، فإن ضاق أتَّزر. واستدل الخطابيّ على عدم الوجوب بأنه -صلى الله عليه وسلم-، صلى في ثوب كان أحد طرفيه على بعض نسائه وهي نائمة، قال: ومعلوم أن الطرف الذي هو لابسه من الثوب غير متسع لا يؤتزر به، ويفضل منه ما يكون على عاتقه. وفيه نظر لا يخفى. قال في الفتح. ولم أعرف وجه النظر من أي جهة، أمن ضعف الحديث أو غير ذلك. ثم قال: الظاهر من تصرف المصنف، التفصيل بين ما إذا كان الثوب واسعًا، فيجب، وبين ما إذا كان ضيقًا فلا يجب وضع شيء منه على العاتق، وهو اختيار ابن المنذر، وبذلك تظهر مناسبة تعقيبه بباب "إذا كان الثوب ضيقًا" قلت: مذهب المالكية أن الصلاة في الثوب الذي ليس على أكتافه منه شيء مكروهةٌ كراهة تنزيه. رجاله خمسة: الأول: أبو عاصم الضَّحَّاك بن مَخْلَد. وقد مرَّ في التعاليق المذكورة بعد الرابع من كتاب العلم، ومرَّ مالك في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ أبو الزناد وعبد الرحمن الأعرج في السابع من كتاب الإيمان، ومرَّ أبو هريرة في الثاني منه أيضًا. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع، والعنعنة في أربعة مواضع، وهو خماسيّ السند، ورجاله كلهم مدنيون ما عدا أبا عاصم، فإنه بصري.

الحديث الثاني عشر

الحديث الثاني عشر حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ سَمِعْتُهُ أَوْ كُنْتُ سَأَلْتُهُ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "مَنْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، فَلْيُخَالِفْ بَيْنَ طَرَفَيْهِ". قوله: سمعته أي قال يحيى: سمعت عكرمة، ثم تردد هل سمعه ابتداءًا أو جواب سؤال منه؟ هذا ظاهر هذه الرواية، وأخرجه الإسماعيليّ عن أبي نعيم بلفظ "سمعته أو كتب به إليّ" فحصل التردد بين السماع والكتابة. قال الإسماعيلي: لا أعلم أحدًا ذكر فيه سماع يحيى عن عكرمة بالجزم، وقد رواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده، عن شيبان، نحو رواية البخاريّ قال: سمعته أو كنت سألته فسمعته، أخرجه أبو نعيم في المستخرج. قوله: أشهد، ذكره تأكيدًا لحفظه واستحضاره. وقوله: مَنْ صلى في ثوب، زاد الكشميهنيّ "واحد"، ودلالته على الترجمة من جهة أن المخالفة بين الطرفين لا تتيسر إلا بجعل شيء من الثوب على العاتق، أو من جهة أن في بعض طرق هذا الحديث التصريح بالمراد، فأشار إليه المصنف كعادته، فعند أحمد عن يحيى فيه "فليخالف بين طرفيه على عاتقيه" وكذا للإسماعيلى وأبي نعيم عن شيبان، وقد حمل الجمهور هذا الأمر على الاستحباب، كما حملوا النهي في الذي قبله على التنزيه. رجاله خمسة: الأول: أبو نعيم الفضل بن دُكَين، وقد مرَّ في الخامس والأربعين من كتاب الإيمان، ومرَّ شيبان بن عبد الرحمن ويحيى بن أبي كثير في الثالث والخمسين

لطائف إسناده

من كتاب العلم، ومرَّ عكرمة مولى ابن عباس في السابع عشر منه أيضًا، ومرَّ أبو هريرة في الثالث من كتاب الإيمان. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في موضعين، وفيه الشك بين السماع والسؤال. ثم قال المصنف: باب إذا كان الثوب ضيقًا أي كيف يفعل المصلي

الحديث الثالث عشر

الحديث الثالث عشر حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ قَالَ حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ سَأَلْنَا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الصَّلاَةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ فَقَالَ: خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، فَجِئْتُ لَيْلَةً لِبَعْضِ أَمْرِي، فَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي وَعَلَيَّ ثَوْبٌ وَاحِدٌ، فَاشْتَمَلْتُ بِهِ وَصَلَّيْتُ إِلَى جَانِبِهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: "مَا السُّرَي يَا جَابِرُ؟ ". فَأَخْبَرْتُهُ بِحَاجَتِي، فَلَمَّا فَرَغْتُ قَالَ: "مَا هَذَا الاِشْتِمَالُ الَّذِي رَأَيْتُ؟ ". قُلْتُ: كَانَ ثَوْبٌ. يَعْنِي ضَاقَ. قَالَ: "فَإِنْ كَانَ وَاسِعًا فَالْتَحِفْ بِهِ، وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا فَاتَّزِرْ بِهِ". قوله: في بعض أسفاره، عند مسلم أنها غزوة بُواط، وهي بضم الباء وتخفيف الواو، وهي من أوائل مغازيه عليه الصلاة والسلام. وقوله: لبعض أمري، أي لأجل بعض جوائحي، وفي رواية مسلم أنه عليه الصلاة والسلام كان أرسله هو وجبار بن صخر لتهيئة الماء في المنزل. وقوله: ما السُّري؟ أي ما سبب سُراك أي سيرك بالليل، وهو بضم السين والقصر، وإنما سأله لعلمه بأن الحامل له على المجيء بالليل أمر أكيد. وقوله: ما هذا الاشتمال، كأنه استفهام إنكار. قال الخطابي: الاشتمال الذي أنكره أن يدير الثوب على بدنه كله، حتى لا يخرج يده إلا من أسفله، لئلا تبدو عورته، وكأنه أخذه من تفسير الصماء على أحد الأوجه، لكن بين مسلم في روايته أن الإنكار كان بسبب أن الثوب كان ضيقًا، وأنه خالف بين طرفيه، وتواقص، أي انحنى عليه، كأنه عند المخالفة بين طرفي الثوب لم يكن ساترًا، فانحنى ليستتر، فأعلمه -صلى الله عليه وسلم- بأن محل ذلك ما إذا كان الثوب واسعًا، فأما إذا كان ضيقًا فإنه يجزئه أن يتزر به؛ لأنّ القصد الأصليّ ستر العورة، وهو يحصل

رجاله أربعة

بالائتزار، ولا يحتاج إلى التواقص المغاير للاعتدال المأمور به. وقوله: كان ثوب، كذا لأبي ذَرٍّ وكريمة بالرفع على أن كان تامة، ولغيرهما بالنصب، أي كان المشتمل به ثويًا زاد الإسماعيليّ "ضيقًا" واعترض الدمامينيّ كونها تامة، بأن الاقتصار على ذلك لا يظهر، وأيّ معنى لإخباره بوجود ثوب في الجملة؟ فينبغي أن يقدر ما يناسب المقام. وقوله: فالتحف به، أي ارتدى به، بان يأتزر بأحد طرفيه، ويرتدي بالطرف الآخر منه. وقوله: فاتزر به، بإدغام الهمزة المقلوبة تاء في التاء، وهو يرد على التصريفين، حيث جعلوه خطأ. رجاله أربعة: الأول: يحيى بن صالح الوحاظي، أبو زكرياء. ويقال: أبو صالح الشاميّ. ذكره ابن حبَّان في الثقات، وقال أبو اليمان: قدم علينا الحسن بن موسى الأشيب قاضيًا بحمص، فقال: دلني على رجل ثقة موسرٍ أستعين به على أمري، فقلت: ما أعرف أحدًا أوثق من يحيى بن صالح. وقال الساجيّ: هو عندهم من أهل الصدق والأمانة. وقال أبو حاتم: صدوق، وذكره ابن عديّ في جماعة من ثقات أهل الشام. وقال أبو زرعة الدِّمشقيّ: لم يقل أحمد فيه إلا خيرًا. قال: وسألت يحيى بن مُعين عنه، فقال: ثقة. وقال عبد الله بن أحمد: قال أبي: لم أكتب عنه؛ لأني رأيته في مسجد الجامع يسيء الصلاة. وقال مهنا: سألت أحمد عنه فقال: رأيته في جنازة المغيرة، فجعل أبي يضغفه، قال: أخبرني إنسان من أصحاب الحديث قال: قال يحيى بن صالح: لو ترك أصحاب الحديث عشرة أحاديث يعني هذه التي في الرؤية. قال أبي كأنه نزع إلى رأي جَهْم. وقال أبو عُوانة الأَسفرائينيّ: كان حسن الحديث، ولكنه صاحب رأي، وهو عديل محمد بن الحسن إلى مكة. وقال يزيد بن عبد ربه: سمعت وكيعًا يقول ليحى بن صالح: يا أبا زكرياء، احذر الرأي، فإني سمعت أبا حنيفة يقول: البول في المسجد أحسن من بعض قياسهم. وقال الحاكم أبو أحمد: ليس بالحافظ عندهم. وقال أحمد بن صالح: حدثنا يحيى بن صالح بثلاثة عشر حديثًا عن مالك، ما وجدناها عند غيره. وقال

الخليلىّ: ثقة، روى عن الأئمة، وروى عن مالك حديثًا لا يتابع عليه، وهو عن مالك عن الزهري عن سالم عن أبيه "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر وعمر يمشون أمام الجنازة". قال الخليليّ: هذا منكر من حديث مالك، أخرجه الدارقطني في غرائب مالك من حديث عُبيد الله بن عوف الخزاز وغيره، عن مالك، وقال: وصله هؤلاء الثلاثة، وهو في الموطأ مرسل، وإنما روي عنه البخاري حديثين أو ثلاثة، وروى عن رجل عنه من روايته عن معاوية بن سلام، وفليح بن سليم خاصة. وروى له الباقون سوى النسائى. قلت: انظر قوله: روى له البخاري حديثين أو ثلانة، مع قوله في تهذيب التهذيب وفي الزّهرة: روى له البخاري ثمانية أحاديث. روى عن الحسن بن أيوب الحضرميّ ومعاوية بن سلام وسليمان بن بلال ومالك بن أنس وابن أبي الزناد وغيرهم. وروى عنه البخاريّ وروى هو والباقون له سوى النَّسَائيّ بواسطة، ويحيى بن معين وأحمد بن صالح المصريّ وخلق. ولد سنة سبع وأربعين ومئة. ومات سنة اثنتين وعشرين ومئتين، وليس في الستة يحيى بن صالح سواه، وفي الرواة يحيى بن صالح اثنان: الأيليّ والبلْخيّ. والوُحاظي في نسبه نسبة إلى وُحاظة بضم الواو وتخفيف الحاء، ويقال أُحاظة بهمزة، بلد أو أرض باليمن ينسب إليها مخلاف وحاظة. الثاني: فُليح بن سليمان، وقد مرَّ في الحديث الأول من كتاب العلم، والثالث سعيد بن الحارث بن أبي سعيد بن المُعلّى، بضم الميم وتشديد اللام، ويقال ابن أبي المُعلّى، وقيل سعيد بن أبى الحارث بن أوس بن المُعلّي، وصوَّبه أحمد الدمياطي، ذكره ابن حبّان في الثقات، وقال ابن مُعين: مشهور. وقال يعقوب بن سفيان: هو ثقة، روى عن أبي سعيد وأبى هُريرة وابن عمر وجابر بن عبد الله. وروى عنه محمد بن عمرو بن علقمة وعمرو بن الحارث وعمارة بن غُزَبة. وليس في الستة سعيد بن الحارث. الرابع: جابر بن عبد الله، ومرَّ في الرابع من بدء الوحي.

لطائف اسناده

لطائف اسناده: فيه التحديث بصيغة الإفراد في موضع، وبصيغة الجمع في موضع، والعنعنة في موضع، والسؤال في موضع. ورواته ما بين حُمصيّ ومدنيّ. وهذا الحديث من أفراد البخاريّ من طريق سعيد بن الحارث، وأخرجه مسلم من حديث عبادة عن جابر مطولًا وأبو داود كذلك.

الحديث الرابع عشر

الحديث الرابع عشر حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلٍ قَالَ كَانَ رِجَالٌ يُصَلُّونَ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- عَاقِدِي أُزْرِهِمْ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ كَهَيْئَةِ الصِّبْيَانِ، وَقَالَ لِلنِّسَاءِ: لاَ تَرْفَعْنَ رُءُوسَكُنَّ حَتَّى يَسْتَوِىَ الرِّجَالُ جُلُوسًا. قوله: كان رجال، التنكير فيه للتنويع، وهو يقتضي أن بعضهم كان بخلاف ذلك، وهو كذلك، وفي رواية أبي داود "رأيت الرجال" واللام فيه للجنس، فهو في حكم النكرة. وقوله: عاقدي أَزرهم على أعناقهم، بإسقاط النون للإضافة، رفي رواية أبي داود "عاقدي أَزرهم في أعناقهم" من ضيق الأَزر، ويؤخذ منه أن الثوب إذا أمكن الالتحاف به كان أولى من الائتزار؛ لأنه أبلغ في التستر. وقوله: وقال للنساء، فاعل قال هو النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما جزم به الكرمانيّ، وفي رواية الكشميهنيّ "ويقال للنساء" وفي رواية وكيع "فقال قائل: يا معشر النساء" فكأنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر من يقول لهن ذلك، ويغلب على الظن أنه بلال، وإنما نهى النساء عن ذلك لئلا يَلْمَحْنَ عند رفع رؤوسهن من السجود شيئًا من عورات الرجال، بسبب ذلك عند نهوضهم. وعند أحمد وأبى داود والتصريج بذلك عن أسماء بنت أبي بكر ولفظه "فلا ترفع رأسها حتى يرفع الرجال رؤوسهم، كراهية أن يرين عورات الرجال" ويؤخذ منه أنه لا يجب التستر من أسفل، وإنما يجب من الأعلى، واستنبط منه النهي عن فعل مستحب خشية ارتكاب محذور؛ لأنّ متابعة الإِمام من غير تأخير مستحبة، منهي عنها لما ذكر. رجاله خمسة: الأول: مسدد.

باب الصلاة في الجبة الشامية

والثاني: يحيى القطّان، وقد مرا في السادس من كتاب الإيمان، وسفيان المراد به الثّوريّ، لقول المزيّ في الأطراف: إنه هو لا ابنُ عُيينة، كما قال الكرمانيّ باحتماله. والثَّوريّ مرَّ في الثامن والعشرين من كتاب الإيمان. ومرَّ ابن عيينة في الأول من بدء الوحي، ومرَّ أبو حازم سلمة بن دينار وسهل بن سعد في الثامن والمئة من كتاب الوضوء. وهذا الحديث أخرجه البخاريّ معلقًا، كما مرَّ، وأخرجه هنا وأَخرجه عن محمد بن كثير، ومسلم في الصلاة عن أبي بكر بن أبي شيبة، وأبو داود فيها عن محمد بن سليمان الأنباريّ والنسائيّ فيها عن عبيد الله بن سعيد. ثم قال المصنف: باب الصلاة في الجبة الشامية هذه الترجمة معقودة لجواز الصلاة في ثياب الكفار، ما لم يتحقق نجاستها، وإنما عبر بالشامية مراعاة للفظ الحديث، وكانت الشام إذ ذاك دار كفر. ومرَّ في باب المسح على الخفين، في بعض طرق حديث المغيرة أن الجُبّة كانت صوفًا، وكانت من ثياب الروم، ووجه الدلالة منه أنه -صلى الله عليه وسلم- لبسها ولم يستفصل، وروي عن أبي حنيفة كراهية الصلاة فيها إلَّا بعد الغسل، وكره ذلك أيضًا ابن سيرين كما رواه ابن أبي شيبة، وأجازه الشافعيّ، وعند المالكية التحريم، ويعيد في الوقت. ثم قال: وقال الحسن في الثياب ينسُجها المجوسيّ: لم ير بها بأسًا، أي بضم سين ينسجها، من باب نصر ينصر، ويكسرها من باب ضرب، والمجوسيّ بالياء بلفظ المفرد في رواية الحمويّ والكشميهنيّ، والمراد الجنس، ولغيرهما المجوس بصيغة الجمع، والجملة صفة للثياب، لأنّ الجملة، وإن كانت نكرة، لكن المعرفة بلام الجنس كالنكرة. ومنه قوله: ولقد أمرّ على اللئيم يسبني ... فمضيتُ ثمت قلت لا يعنيني وقوله: لم ير به باساً أي الحسن، وهو من باب التجريد، أو هو مقول

الراوي، أي قبل ان تغسل، والحسن المراد به الحسن البصري، وقد مرَّ في الرابع والعشرين من كتاب الإيمان، وأثره وصله أبو نعيم بن حماد عن معتمر في نسخته المشهورة بلفظ "لا بأس بالصلاة في الثوب الذي ينسِجُه المجوسيّ قبل أن يغسل" ولأبي نعيم في كتاب الصلاة عنه "لا بأس بالصلاة في رداء اليهوديّ والنصراني". ثم قال: وقال معمر: رأيت الزهري يلبس من ثياب اليمن ما صبغ بالبول، قوله: بالبول، إن كان للجنس فمحمول على أنه كان يغسله قبل لُبسه، وإن كان للعهد فالمراد بول ما يؤكل لحمه، لأنه كان يقول بطهارته، ومعمر مرَّ في المتابعة الكائنة بعد الرابع من بدء الوحي، ومرَّ ابن شهاب في الثالث منه، وهذا الأثر وصله عبد الرزاق في مصنفه عنه. ثم قال: وصلى عليّ في ثوب غير مَقْصُور، أي خام جديد لم يغسل، وعليّ مرَّ في السابع والأربعين من كتاب العلم، وهذا الأثر رواه ابن سعد من طريق عطاء أبي محمد، قال: رأيت عليًا صلى وعليه قميص كَرَابيس غير مغسول.

الحديث الخامس عشر

الحديث الخامس عشر حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ مُغِيرَةَ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي سَفَرٍ فَقَالَ: "يَا مُغِيرَةُ، خُذِ الإِدَاوَةَ". فَأَخَذْتُهَا فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى تَوَارَى عَنِّي، فَقَضَى حَاجَتَهُ، وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ شَامِيَّةٌ، فَذَهَبَ لِيُخْرِجَ يَدَهُ مِنْ كُمِّهَا فَضَاقَتْ، فَأَخْرَجَ يَدَهُ مِنْ أَسْفَلِهَا، فَصَبَبْتُ عَلَيْهِ فَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلاَةِ، وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، ثُمَّ صَلَّى. قوله في سفر، أي في غزوة تبوك، سنة تسع. وقوله: "جُبة شامية" أي من نسج الكفار الفارين بالشام؛ لأنها إذا ذاك كانت دارهم. وقوله: "فضاقت" أي الجبة، لأن الثياب الشامية كانت حينئذ ضيقة الأكمام، وقد استوفي الكلامُ على مباحث هذا الحديث في باب المسح على الخفين. رجاله ستة: الأول: يحيى بن موسى البلخيّ، ويحتمل أنه يحيى بن جَعفر بن أَعْيُن، وقد مرَّ كل منهما في التاسع عشر من كتاب الحيض. والثاني: أبو معاوية محمد بن خازم، وقد مرَّ في الثالث من كتاب الإيمان، ومرَّ الأَعمش، وهو سليمان بن مهران في الخامس والعشرين منه، ومسروق بن الأَجدع في السابع والعشرين منه أيضًا، ومرَّ المغيرة بن شعبة في الحادي والخمسين، آخر حديث منه. السادس: مسلم بن صُبَيح، بالتصغير، أبو الضُّحى الهَمْدانيّ الكوفيّ العطار، وقيل: مولى آل سعيد بن العاص، ذكره ابن حبّان في الثقات، وقال ابن

لطائف إسناده

سعيد: كان ثقة كثير الحديث، وقال ابن مُعين وأبو زرعة والنَّسَائيّ: ثقة. وقال العجليّ: تابعي ثقة، وقال أبو حُصين: رأيت الشعبيّ وإلى جنبه مسلم بن صُبيح، فهذا جاء شيء قال: ما ترى يا ابن صبيح؟ روى عن النعمان بن بشير وابن عباس وابن عمر ومسروق بن الأجدع وغيرهم. وأرسل عن عليّ بن أبي طالب، روى عنه الأعمش ومنصور بن المعتمر، وسعيد بن مسروق بن الأجدع وغيرهم. وأرسل عن علي بن أبي طالب، روى عنه الأعمش ومنصور بن المعتمر، وسعيد بن مسروق وعمرو بن مرة وعاصم بن بَهْدلة وغيرهم. قال ابن سعد: مات في خلافة عمر بن عبد العزيز، وقال زَبْر: مات سنة مئة. وقال الكرماني: ويحتمل أن يكون المراد بمسلم هنا مسلم بن عمران، ويقالُ ابن أبي البُطين أبو عبد الله الكوفيّ، ذكره ابن حبَّان في الثقات. وقال أحمد وابن مُعين وأبو حاتم والنَّسائي: ثقة، زاد أبو حاتم: لم يدركه شُعبة. روى عن عطاء ومجاهد وسعيد بن جبير وعليّ بن الحسين والشّيبانيّ وغيرهم. وروى عنه ابنه شَبة بن مسلم وسلمة بن كُهَيل والأعمش وأبو إسحاق السَّبيعيّ وغيرهم. وليس في الستة مسلم بن صبيح، ولا مسلم بن عمران، سوى هذين. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في موضعين، ورواته ما بين بلخيّ وكوفيّ. أخرجه البخاريّ هنا، وأخرجه أيضًا في الجهاد عن موسي بن إسماعيل، وفي اللباس عن قيس بن حفص مختصرًا، ومسلم في الطهارة عن أبي بكر بن أبي شَيبة وغيره. والنَّسائيّ فيها عن عليّ بن خَشْرم، وفي الزينة عن أحمد بن حَرْب، وابن ماجه في الطهارة عن هشام بن عمّار. ثم قال المصنف باب كراهية التعري في الصلاة روى الكشميهنيّ والحمويّ "وغيرها" أي الصلاة.

الحديث السادس عشر

الحديث السادس عشر حَدَّثَنَا مَطَرُ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ حَدَّثَنَا رَوْحٌ قَالَ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَنْقُلُ مَعَهُمُ الْحِجَارَةَ لِلْكَعْبَةِ وَعَلَيْهِ إِزَارُهُ. فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ عَمُّهُ: يَا ابْنَ أَخِي، لَوْ حَلَلْتَ إِزَارَكَ فَجَعَلْتَ عَلَى مَنْكِبَيْكَ دُونَ الْحِجَارَةِ. قَالَ فَحَلَّهُ فَجَعَلَهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، فَسَقَطَ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَمَا رُؤِيَ بَعْدَ ذَلِكَ عُرْيَانًا -صلى الله عليه وسلم-. قوله: ينقل معهم أي مع قريش، وقوله: الكعبة، أي لبنائها، وكان ذلك قبل البعثة. قيل: كان عمره عليه الصلاة والسلام إِذ ذاك خمسًا وثلاثين سنة. وقيل: كان قبل المبعث بخمس عشرة سنة. وقيل: كان عمره خمس عشرة سنة. ورواية جابر لذلك من مراسيل الصحابة، فإما أن يكون سمع ذلك من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بعد ذلك، أو من بعض مَن حضر ذلك من الصحابة. والذي يظهر أنه العباس وفي سياق الحديث ما يستأنس به لأخذه من العباس، فلا يكون مرسلًا. ويدل لأخذه منه عليه الصلاة والسلام ما رواه الطبراني وأبو نعيم في الدلائل عن أبي الزبير قال: سألت جابرًا هل يقوم الرجل عريانًا؟ فقال: أخبرني النبي -صلى الله عليه وسلم-، أنه لما انهدمت الكعبة، نقل كل بطنٍ من قريش، وأنه عليه الصلاة والسلام نقل مع العباس، وكانوا يضعون ثيابهم على العواتق، يتقوون بها على حمل الحجارة. فقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- فاعتقلت رجلي، فخررت وسقط ثوبي، فقلت للعباس: هلمّ ثوبي، فلبست أتعرّى بعدها إِلاّ إِلى الغسل. وفي إسناده ابن لُهيعة، وهو ضعيف، لكن تابعه عبد العزير بن سليمان عن أبي الزبير عند أبي نعيم، وقد حدث به عن العباس ابنُه عبد الله، وسياقه أتم.

أخرجه الطبرانيّ والبيهقيّ في الدلائل، والطبريّ في التهذيب، وأبو نعيم في المعرفة والدلائل عن ابن عباس. قال: حدثني أبي العباس بن عبد المطلب قال: لما بنت قريش الكعبة انفردتْ رَجُلبن رَجُلين ينقلون الحجارة، فكنت أنا وابن أخْي، فجعلنا نأخذ أُزرنا فنضعها على مناكبنا، ونجعل عليها الحجارة، فإذا دنونا من الناس لبسنا أُزرنا، فبينا هو أمامي، إذ صرع، فسعيت وهو شاخص ببصره إلى السماء، فقلت لابن أخي: ما شأنك؟ قال: نهيت أن أمشي عُريانًا. قال: فكتمته حتى أظهر الله نبوّته. وأخرج الحاكم والطبرانيّ عن عبد الرزاق قال: كانت الكعبة في الجاهلية مبنية بالرَّضَم، ليس فيها مَدَر، وكانت قدر ما يقتحمها العناق، وكانت ثيابها توضع عليها، تسدل سدلًا، وكانت ذات ركنين كهيئة هذه الحلقة، فأقبلت سفينة من الروم، حتى إذا كانوا قريبًا من جُدّة، انكسرت فخرجت قريش لتأخذ خشبها، فوجدوا الروميّ الذي فيِها نجارًا، فقدموا به والخشب ليبنوا به البيت، فكانوا كلما أرادوا القرب منه لهدمه بدت لهم حية فاتحة فاها، فبعث الله عليها طيرًا أعظم من النَّسر فغرز مخالبه فيها، فالقاها نحو أجياد، فهدمت قريش الكعبة، وبنوها بحجارة الوادي، فرفعوها في السماء عشرين ذراعًا، فبينما النبي -صلى الله عليه وسلم- يحمل الحجارة من أجياد، وعليه نَمِرَة، فضاقت عليه النمرة، فذهب بعضها على عاتقه، فبدت عورته من صغرها، فنودي: يا محمد، خمِّر عورتك، فلم ير عُريانًا بعد ذلك. وكان بين ذلك وبين المبعث خمس سنين. قال معمر: وأما الزُّهري فقال: لما بلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحُلم أجمرت امرأة الكعبة فطارت شرارة من مجمرها في ثياب الكعبة، فاحترقت فتشاورت قريش في هدمها، وهابوه، فقال الوليد إن الله لا يهلك من يريد الإصلاح، فارتقى على ظهر البيت ومعه العباس، فقال: اللهم لا نريد إلَّا الإصلاح، ثم هدم، فلما رأوه سالمًا تابعوه. والرَّضْمَ بالسكون ويحرك، وككتاب، صخور عظام يرضَم بعضُها فوق بعض في الأبنية. وعند الطبرانيّ عن أبي الطُّفيل أن اسم النجار المذكور "باقوم".وللفاكهيّ عن ابن جُريج قال: وكان يتجر إلى بَنْدرٍ وراء

ساحل عَدَن، فانكسرت سفينته بالشُّعَيبة، فقال لقريش: ان أجريتم عِيري مع عيركم إلى الشام أعطيتكم الخشب، ففعلوا. وروى الأزرقيّ كان طولها سبعة وعشرين ذِراعًا، فاقتصرت قريش منها على ثمانية عشر، ونقصوا أذرع من عرضها أدخلوها في الحِجر، وروى ابن إسحاق أن السيل كان يأتي فيصيب الكعبة، فيتساقط من بنائها. وكان رَضَمًا فوق القامة، فأرادت قريش رفعها وتسقيفها، وذلك أن نفرًا سرقوا كنز الكعبة، فذكر القصة مطولة في بنائهم الكمعبة، وفي اختلافهم فيمن يضع الحجر الأسود، حتى رضوا بأول داخل، فدخل النبي -صلى الله عليه وسلم-، فحكموه في ذلك، فوضعه بيده. وكانت الكعبة على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ثمانية عشر ذراعًا. وروى ابن إسحاق في السيرة عن أبيه عمّن حدثه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: إني لمعَ غلمان هم أسناني، قد جعلنا أُزرنا على أعناقنا لحجارة ننقلها، إذ لكمني لاكم لكمةٌ شديدة ثم قال: اشدد عليك إزارك، فلم يعد يتعرّى بعد ذلك. وكان هذا في مدته عند حليمة، وهذا ان ثبت حمل على نفي التعرّي بغير ضرورة عادية، والذي في حديث الباب على الضرورة العادية، والنفي فيها على الإطلاق أو يتقيد بالضرورة الشرعية، كحال النوم مع الأهل أحيانًا. وقوله: وعليه إزاره، ولابن عساكر "وعليه إزار" بغير ضمير، والجملة حالية بالواو، وفي بعض الأصول بغير واو. وقوله: لو حللت ازارك، جواب "لو" محذوف إن كانت شرطية، أي لكان أسهل عليك، وإن كانت للتمنى فلا حذف، وقوله: "فجعلت" للكشميهنيّ "فجعلته" بالضمير، أي الإزار. وقوله: قال "فحلِّه" يحتمل أن يكون مقول جابر أو مقول من حدثه به. وقوله: فسقط مَغشيًا عليه، بفتح الميم وسكرن الغين المعجمة، أي مُغمى عليه لانكشاف عورته، لأنه عليه الصلاة والسلام كان مجبولًا على أحسن الأخلاق من الحياء الكامل، حتى كان أشد حياءًا من العذراء في خِدرها، فلذلك غشي عليه. وروي، مما هو غير الصحيحين، أن المَلَك نزل عليه فشد عليه إزاره.

رجاله خمسة

وقوله: فما رُؤي بعد ذلك، أَي بضم الراء بعدها همزة مكسورة، وتجوز فيه كسر الراء بعدها مدة ثم همزة مفتوحة، وفي رواية الإسماعيلي: فلم يتعرَّ بعد ذلك. ومطابقة الحديث للترجمة من هذه الجملة الأخيرة، لأنها تتناول ما بعد النبوءة، فيتم بذلك الاستدلال. وفيه أنه -صلى الله عليه وسلم- كان مصونًا عما يستقبح، قبل البعثة وبعدها، وفيه النهي عن التعرّي بحضرة الناس إلَّا ما رخص من رؤية الزوجات لأزواجهن عراة. رجاله خمسة: الأول: مطر بن الفضل المروزيّ، ذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال: مستقيم الحديث، روى عن وكيع، وروح بن عبادة وشبابة ويحيى بن بكير وغيرهم. وروى عنه البخاري وعبيد الله بن واصل، ومحمد بن علي الحكيم التِّرمذيّ. مات بعَزْبر بعد الخمسين ومئتين. الثاني: روح بن عُبادة، وقد مرَّ في الأربعين من كتاب الإيمان، ومرَّ عمرو بن دينار في الرابع والخمسين من كتاب العلم، ومرَّ جابر بن عبد الله في الرابع من بدء الوحي. الخامس: زكرياء بن إسحاق المكيّ. قال أحمد وابن مُعين: ثقة، وقال أبو زرعة والنَّسائي: لا بأس به، وذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، وقال وكيع حدثنا زكرياء، وكان ثقة. وقال البرقيّ والحاكم: كان ثقة وقال الآجريّ: قلت لأبي داود: زكرياء بن إسحاق قَدَريٌّ؟ قال: نخاف عليه، قلت: هو ثقة؟ قال: ثقة. وقال عبد الرزاق: قال لي أبي: الزم زكرياء بن إسحاق، فإني قد رأيته عند ابن أبي نجيح بمكان. فقال: فأتيته، فإذا هو قد نسي، وأتاه ابن المبارك فأخرج له كتابه. وقال ابن المدينيّ عن سفيان: لم يجالس عطاء، قيل لسفيان: إنهم حكوا عنك أن زكرياء قال: أخرج إلينا عطاء صحيفة فقال سفيان: لا، إنما أراني صحيفة عنده، ما هي بالكبيرة مقال: هذه أعطانيها يعقوب بن عطاء، قال:

لطائف إسناده

هذه التي سمع أبي من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وقال ابن مُعين: كان يرى القَدَر. وقال روح بن عبادة: سمعت منادياً بمكة يقول: إن الأمير أمر أن لا يجالَس زكرياء بن إسحاق، لموضع القَدَر. قال ابن حجر في مقدمته: احتج به الجماعة، وله في البخاريّ عن يحيى بن عبد الله بن صَيْفيّ حديث واحد، وأحاديث يسيرة عن عمرو بن دينار. روى عن عمرو بن دينار وأبي الزبير وإبراهيم بن مَيْسرة ويحيى بن عبد الله بن صيفيّ وغيرهم. وروى عنه أزهر بن القاسم وروح بن عبادة وابن المبارك ووكيع وعبد الرزاق وغيرهم. وليس في الستة زكرياء بن إسحاق سواه، وأما زكرياء فكثير. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في أربعة مواضع، وبصيغة الإفراد والمضارع، وفيه السماع، ورواته ما بين تَنِيسيّ ومروزيّ ومكيّ. وهو من مراسيل الصحابي، لأنّ جابراً لم يحضر القضية، وقد مرَّ الكلام على ذلك. أخرجه البخاريّ هنا، وأخرجه أيضًا في بنيان الكبة، ومسلم في الطهارة عن زهير بن حرب. ثم قال المصنف باب الصلاة في القميص والسراويل والتبان والقباء قال ابن سيده: السراويل فارسيّ مُعَرّب، يذكر ويؤنث، ولم يعرف أبو حاتم السَّجستانيّ التذكير، والأشهر عدم صرفه، والتّبان، بضم المثناة وتشديد الموحدة، وهو سروال صغير ليس له رجلان، وإنما يستر العورة المغلظة فقط، وقد يتخذ من جلد، والقَبَاء، بالمد كسحاب، وبالقصر، قيل: هو فارسي معرّب، وقيل: عربي مشتق من قَبَوْتُ الشيء إذا ضممتَ أصابعك عليه، سمي بذلك لانضمام أطرافه، وروي عن كعب أن أول من لبسه سليمان بن داود عليهما السلام. وقد قال القائل: ثوب قَبَاءٍ كسحاب درع ... مضيق جدًا حكاه الجمع تَلْبِسه الروم أَوَانَ الطرب ... وربما وصل بعض العرب

الحديث السابع عشر

الحديث السابع عشر حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَامَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَسَأَلَهُ عَنِ الصَّلاَةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ فَقَالَ: "أَوَكُلُّكُمْ يَجِدُ ثَوْبَيْنِ؟ ". ثُمَّ سَأَلَ رَجُلٌ عُمَرَ فَقَالَ: إِذَا وَسَّعَ اللَّهُ فَأَوْسِعُوا، جَمَعَ رَجُلٌ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ، صَلَّى رَجُلٌ فِي إِزَارٍ وَرِدَاءٍ، فِي إِزَارٍ وَقَمِيصٍ، فِي إِزَارٍ وَقَبَاءٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَرِدَاءٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَقَمِيصٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَقَبَاءٍ، فِي تُبَّانٍ وَقَبَاءٍ، فِي تُبَّانٍ وَقَمِيصٍ قَالَ وَأَحْسِبُهُ قَالَ فِي تُبَّانٍ وَرِدَاءٍ. قوله: قام رجل، تقدّم أنه لم يسمّ، وأنه قيل: انه ثوبان، ومرَّ هناك محل تعريف ثوبان، فقال: أوكلكم يجد ثوبين، بهمزة الاستفهام الإنكاريّ الإبطاليّ وواو العطف. والمعنى ليس كلكم يجد ثوبين. فلذا تصح الصلاة في الثوب الواحد، وأصل الكلام: وأَكلكم، لكن قدم الاستفهام لأن له صدر الكلام، والواو عاطفة على محذوف دل عليه المعطوف، ولا تقديم ولا تأخير. وقد مرَّ تحرير هذا في بدء الوحي عند قوله "أو مخرجي هم" وقوله: ثم سأل رجل عمر، أي عن ذلك، ولم بسم، ويحتمل أن يكون ابن مسعود أو أُبيّ بن كعب، لأنهما اختلفا في ذلك، فقال أُبيّ: الصلاة في الثوب الواحد لا تكره، وقال ابن مسعود: إنما كان ذلك وفي الثياب قلة، فقام عمر على المنبر فقال: القول ما قال أُبيّ، ولم يألُ ابن مسعود، أي لم يقصّر. أخرجه عبد الرزاق. وقوله: إذا وسّع الله فأوسعوا فيه، دليل على الثوب الواحد كافٍ، وأن الزيادة ستحسان، وقوله: جمع رجل عليه ثيابه صلى رجل، هو بقية قول عمر، وأورده بصيغة الخبر، ومراده: الأمر، أي ليجمع وليصل على حد قولهم: اتقى الله امرؤ فعل خيرًا ثبت عليه. أي: ليتق الله وليفعل. وقال ابن المنير: الصحيح أنه كلام

فى معنى الشرط، كأنّه قال: ان جمع رجل عليه ثيابه فحسن، ثم فصل الجمع بصور على معنى البدلية، فقال: صلى رجل فى ازار ورداء إلخ، ومجموع ما ذكر عمر من الملابس ستة، ثلاثة للوسط وثلاثة لغيره. وقدم ملابس الوسط لأنها محل ستر العورة وقدم أسترها أو أكثرها استعمالًا لهم، وضم إلى كل واحد واحدًا، فخرج من ذلك تسع صور، من ضرب ثلاثة الوسط فى ثلاثة غيره، ولم يقصد الحصر في ذلك، بل يلحق به ما يقوم مقامه. وقوله: قال: وأحسبه، قال ذلك أبو هريرة، والضمير في أحسبه راجع إلى عمر، وإنما لم يحصل الجزم بذلك لإمكان أنَّ عمر أهل ذلك، لأن التّبّان لا يستر العورة كلها، بناء على أن الفخذ من العورة فالستر به حاصل مع القباء ومع القميص، وأما مع الرداء فقد لا يحصل، ورأى أبو هريرة أن انحصار القسمة يقتضي ذكر هذه الصورة وأن الستر قد يحصل بها إذا كان الرداء سابقًا. وقال ابن مالك: تضمن هذا الحديث فائدتين: إحداهما ورود الفعل الماضي بمعنى الأمر، وهو قوله: جمع وصلى ... الخ ما مرَّ، والثانية حذف حرف العطف، فإن الأصل "صلى رجل فى إزار ورداء" وفي "إزار وقميص" ومثله قوله -صلى الله عليه وسلم- "تصدق رجل من ديناره من درهمه من صاع تمره" وعورض هذا بأنه لا يتعين أن يكون المحذوف حرف العطف، بل يحتمل أن يكون المحذوف فعلًا، أي صلى فى إزار وقميص، صلى فى إزار ورداء، وكذا الباقي، والحمل على هذا أَوْلى لثبوته إجماعًا، وحذف حرف العطف قيل: بابه الشعر فقط، وعند بعض وقوعه في الشعر مختلف فيه. وقد روى ابن حبان حديث الباب عن إسماعيل بن علية عن أيوب، فأدرج الموقوف في المرفوع، ولم يذكر عمر. ورواية حماد بن زيد، هذه المفصَّلة، أصح. ووافقه عليها حماد بن سلمة، فرواه عن أيوب وهشام وحبيب عن ابن سيرين، كما أخرجه ابن حبّان أيضًا، وأخرج مسلم حديث ابن علية، فاقتصر على المتفق على رفعه، وحذف الباقى، وذلك من حسن تصرفه. وفي الحديث دلالة على أن الصلاة في الثوبين أفضل من الثوب الواحد، وصرح القاضي

رجاله خمسة

عياض بنفي الخلاف في ذلك، لكن عبارة ابن المنذر قد تفهم إثباته، لأنه لما حكى عن الأئمة جواز الصلاة في الثوب الواحد قال: وقد استحب بعضهم الصلاة في ثوبين، وعن أشهب فيمن اقتصر على الصلاة فى السراويل مع القدرة يعيد فى الوقت، إلَّا إن كان صفيقًا، وعن بعض الحنفية يكره. رجاله خمسة: الأول: سليمان بن حرب، وقد مرَّ في الرابع عشر من كتاب الإيمان، ومرَّ حماد بن زيد في الرابع والعشرين منه، ومرَّ أيوب بن أبي تميمة في التاسع منه، ومرَّ محمد بن سيرين في الحادي والأربعين منه، ومرَّ أبو هريرة في الثاني منه.

الحديث الثامن عشر

الحديث الثامن عشر حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ؟ فَقَالَ: "لاَ يَلْبَسُ الْقَمِيصَ وَلاَ السَّرَاوِيلَ وَلاَ الْبُرْنُسَ وَلاَ ثَوْبًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ وَلاَ وَرْسٌ، فَمَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ". قوله: سأل رجل، تقدم في آخر كتاب العلم أنه لم يسمّ، ومرَّ الكلام على الحديث هناك. وقوله: حتى يكونا، أي بالتثنية، وفي رواية الحمويّ والمستملي "حتى يكون" بالإفراد، أي كل واحد منهما، وموضع الحاجة من الحديث هنا أن الصلاة تجوز بدون السراويل والقميص، وغيرهما من المخيط، لأمر المحرم باجتناب ذلك، وهو مأمور بالصلاة. رجاله خمسة: الأول: عاصم بن علي بن صُهَيب الواسطيّ أبو الحسين، ويقال أبو الحسن التيميّ مولاهم، مولى قريبة بنت محمد بن أبي بكر الصديق، وهو أخو الحسن بن عليّ وابن أخي عثمان بن عاصم، وابن عمر بن عفان بن عاصم. قال أبو عبد الله الجعفيّ الكوفيّ: سمعت يحيى بن مُعين بقوله: عاصم بن عليّ سيد من سادات المسلمين. وقال أبو حاتم: صدوق، وقال الحسن ابن المناوي: حدّث ببغداد في مسجد الرُّصافة، وكان مجلسه يحرز بأكثر من مئة ألف إنسان، ووثقه ابن سعد وابن مانع. وقال العجليّ: شهدت مجلس عاصمٍ بن عليّ فحرزوا من شهده ذلك اليوم ستين ومئة ألف. وكان رجلًا مسودًا، وكان ثقة في الحديث. وقال صالح بن أحمد عن أبيه: ما أقل خطأه،

قد عرض عليّ بعض حديثه. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: قد عرض عليّ حديثه وهو أصح حديثًا من أبيه. وقال الميمونيّ عن أحمد: صحيح الحديث، قليل الخطأ، ما كان أصح حديثه، وكان إن شاء صدوقًا. وقال أبو داود عن أحمد: حديثه حديث مقارب أهل الصدق، ما أقل الخطأ فيه، ولكن أبوه كان يهم في الشيء. وقال المروزيّ: قلت لأحمد: إن ابن مُعين قال: كان عاصم في الدنيا ضعيفًا. قال: ما أعلى في عاصم بن عليّ إلَّا خيرًا. كان حديثه صحيحاً حديث شعبة والمسعودي ما كان أصحهما. وقال ابن مُعين: كان ضعيفًا، وفي رواية "ليس بشيء" وفي رواية "ليس بثقة" وفي رواية "واهية كذّاب بن كذاب". وقال الحسن بن فهم: ثلاثة أبيات كانت عند يحيى بن مُعين من شر قوم: المحبر بن قحدم، وولده، وعاصم بن علي، ووالده، وآل أبي أُويس، كانوا عنده ضعافًا جدًا. وقال النسائي: ضعيف، وأورد له ابن عديّ ثلاثة أحاديث عن شعبة، فقال: لا أعلم شيئًا منكرًا إلَّا هذه الأحاديث، ولم أر بحديثه بأسًا. والثلاثة لا يزني الزاني حين يزني ... الحديث، والثاني في الصلاة قبل الأضحية، وحديث جاء عبد فبايع النبي -صلى الله عليه وسلم- على الهجرة. قال ابن حجر في مقدمته: روى عنه البخاريّ قليلًا عن عاصم بن محمد بن زيد، وروى في كتاب الحدود عن رجل عنه عن ابن أبي ذيب حدبثًا واحدًا، وروى له الترمذي وابن ماجه روى عن أبيه، وعكرمة بن عمار، وابن أبى ذيب، والليث بن سعد، وعاصم بن محمد بن زيد العُمَريّ، وعبد الرحمن بن زيد المسعوديّ وغيرهم. وروى عنه البخاريّ، وروى هو والتِّرمذي وابن ماجه له بواسطة، وأبو حاتم وأحمد بن حنبل وعمرو بن علي الفلاس وغيرهم. مات بواسط يوم الاثنين نصف سنة إحدى وعشرين ومئتين، وليس في الستة عاصم بن علي سواه. الثاني: ابن أبي ذيب، وقد مرَّ في الستين من كتاب العلم، ومرَّ ابن شهاب في الثالث من بدء الوحي، ومرَّ سالم بن عبد الله بن عمر في السابع عشر من

باب ما يستر من العورة

كتاب الإيمان، ومرَّ أبوه عبد الله في الأثر الرابع في كتاب الإيمان، قبل ذكر حديث منه. أخرج البخاريّ هذا الحديث هنا، وأخرجه في اللباس عن آدم، وفي الحج عن أحمد بن عبد الله بن يونس. ثم قال: وعن نافع عن ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مثله. وهو معطوف على قوله: عن الزهريّ، وذلك بيَّنّ في الرواية الماضية في آخر كتاب العلم، فإنه أخرجه هناك عن آدم عن ابن أبي ذيب، فقدم طريق نافع وعطف عليها طريق الزّهريّ عكس ما هنا. وزعم الكرمانيّ أن قوله: وعن نافع، تعليق من البخاريّ، وقد قدمنا أن التجوزات العقلية لا يليق استعمالها في الأمور النقلية. قال في الفتح، وانتصر العينيّ للكرمانيّ بما يعلم بطلانه، بالوقوف عليه. وقد رده المؤلف في انتقاض الاعتراض بما يكفي ويشفي، ونافع قد مرَّ في السابع والسبعين من كتاب العلم ومرَّ ابن عمر في كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه. ثم قال المؤلف: باب ما يستر من العورة أي خارج الصلاة، ويُسْتَر، بضم المثناة التحتية وفتح الفوقية، ويجوز الفتح والضم، وما مصدرية أو موصولة، ومن بيانية، والعورة السوأة وكل ما يستحى منه. وظاهر تصرف المصنف أنه يرى أن الواجب خارج الصلاة ستر السوأتين فقط، وأما في الصلاة فعلى ما مرَّ من التفصيل. وأول أحاديث الباب يشهد له، فإنه قيد النهي بما إذا لم يكن على الفرج شيء يستزه، ومقتضاه أن الفرج إذا كان مستورًا فلا نهي.

الحديث التاسع عشر

الحديث التاسع عشر حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ وَأَنْ يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ. وهذا الحديث رواه المصنف، عن ابن شهاب عن ثلاثة مشايخ هنا، عن عبيد الله. وفي اللباس عن عامر بن سعد، وفي الاستئذان عن عطاء بن يزيد، كلهم عن أبي سعيد، فحدث به ابن شهاب عن كل واحد منهم بمفرده. وقوله: عن اشتمال الصّمّاء، هو بالصاد المهملة والمد، وهي عند أهل اللغة أن يجلَّلَ جسده بالثوب، لا يرفع منه جانبًا، ولايبقي ما يُخرج منه يده، سميت صماءَ لأنه يسد المنافذ كلها، فتصير كالصخرة الصماء التي ليس فيها خرق، وعند الفقهاء أنْ يجعل ثوبه على أحد عاتقيه، فيبدو أحد شقيه، وظاهر رواية المصنف فىٍ اللباس أن التفسير المذكور فيها عن الفقهاء مرفوعٌ، وعلى تقدير أن يكون موقوفًا فهو حجة على الصحيح، لأنه تفسير من الراوي لا يخالف ظاهر الخبر، فعلى تفسير أهل اللغة مكروه لئلا تعرض له حاجة، فيتعسر عليه إخراج يده، فيلحقه الضرر. وعلى تفسير الفقهاء يحرم إنْ انكشف منه بضع العورة وإلا فيكره. وقوله: وأنْ يَحتبي الرجلُ، أي: وعن احتباء الرجل، وهو أن يقعد على أليتيه، وينصب ساقيه، ويلف عليه ثوبًا. ويقال له الحبوة، وكانت من شأن العرب. وقوله ليس على فرجه منه شيء، يعني أنه لو كان مستور العورة لم يحرم.

رجاله خمسة

رجاله خمسة: الأول: قتيبة بن سعيد، وقد مرَّ في الحادي والعشرين من كتاب الإيمان، ومرَّ الليث بن سعد وابن شهاب الزُّهريّ في الثالث من بدء الوحي، ومرَّ عُبيد الله بن عبد الله في السادس من بدء الوحي أيضًا، ومرَّ أبو سعيد الخدريّ في الثاني عشر من كتاب الإيمان. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في ثلاثة مواضع، ورواته ما بين بَلخيّ وبصريّ ومدنيّ. أخرجه البخاريّ هنا وفي اللباس عن محمد ويحيى بن بكير، وفي البيوع عن سعيد بن عُفير، وفي البيوع عن عباس، وفي الاستئذان عن عليّ بن عبد الله، ومسلم في البيوع عن سعيد بن عفير، وفي اللباس عن يحيى بن بكير، وأبو داود في البيوع عن أحمد بن صالح، والنَّسائيّ في البيوع عن يونس بن عبد الأعلى، وفي الزينة عن قُتيبة، وفي البيوع أيضًا عن محمد بن رُمْح، وابن ماجه في التجارات.

الحديث العشرون

الحديث العشرون حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَيْعَتَيْنِ عَنِ اللِّمَاسِ وَالنِّبَاذِ، وَأَنْ يَشْتَمِلَ الصَّمَّاءَ، وَأَنْ يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ. قوله عن بَيعتين، بفتح الموحدة، ويجوز كسرها على إرادة الهيأة كالجلسة، وهو الأحسن، والأول هو المشهور على الألسنة. وقوله: عن اللِّماس، بكسر اللام، وهو أن يلمس ثوبًا مطويًا، أو في ظلمة يشتريه، على أن لا خيار له إذا رآه أيضًا اكتفاء بلمسه عن رؤيته، أو يقول: إذا لمسته فقد بعتكه اكتفاه بلمسه عن الصيغة، أو يبيعه شيئًا على أنه متى لمسه لزم البيع، وانقطع خيار المجلس. وقوله: والنِّباذ أي: وعن النباذ، بكسر النون والمعجمة آخره، وهو أن يجعلا النبذ بيعًا، اكتفاءًا به عن الصيغة، فيقول أحدهما: أُنْبذ إليك ثوبي، فيأخذه الآخر، أو يقول: بعتك هذا بكذا، على أني إنْ نبذتُه إليك لزم البيع، وانقطع الخيار والبطلان فيهما لعدم الرؤية، أو عدم الصيغة، أو للشرط الفاسد. والصماء تقدم تفسيرها في الذي قبله. وقوله: وأنْ يحتج الرجلُ، الاحتباء مرَّ أيضًا تفسيره، والمطلق هنا في الاحتباء محمولٌ على المقيد في الحديث السابق بقوله "ليس على فرجه منه شيء". رجاله خمسة: الأول: قُبيصة بن عُقبة. والثانى: سفيان الثَّوريّ، وقد مرا في الثامن والعشرين من كتاب الإيمان، ومرَّ أبو الزِّناد وعبد الرحمن بن هُرْمز الأعرج في السابع منه أيضًا، ومرَّ أبو هُريرة

لطائف إسناده

في الثاني منه أيضًا. لطائف إسناده: فيه التَّحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع، وفيه القول بالحكاية، ورواية تابعي عن تابعي عن صحابي، ورواته ما بين كوفيّ ومدنيّ، أخرجه البخاري هنا وفي الصلاة عن عبيد بن إسماعيل، وفي اللباس عن محمد بن بشار، ومسلم في البيوع والصلاة، والترمذيّ في البيوع، والنَّسائيّ فيها أيضًا، وابن ماجه في التجارات واللباس والصلاة.

الحديث الحادي والعشرون

الحديث الحادي والعشرون حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَمِّهِ قَالَ: أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ فِي مُؤَذِّنِينَ يَوْمَ النَّحْرِ نُؤَذِّنُ بِمِنًى أَنْ لاَ يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلاَ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ. قَالَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: ثُمَّ أَرْدَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلِيًّا، فَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ بِبَرَاءَةَ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَأَذَّنَ مَعَنَا عَلِيٌّ فِي أَهْلِ مِنًى يَوْمَ النَّحْرِ لاَ يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلاَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ. قوله: في تلك الحجة، أي التي حجها أبو بكر بالناس، قبل حجة الوداع بسنة. وقوله: في مؤذِنين، بكسر الذال والنون، أي رهط يُؤذِنون في الناس. وقوله: أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، بإدغام "أنْ" في "لا"، فيحتمل أن تكون تفسيرية، ولا نافية، ويحج ويطوف رفع، ويحتمل أن تكون ناصبة فيحج ويطوف نصب، ويجوز أن تقرأ "يطَوَّف" بفتح الطاء وتشديد الواو، وعند المؤلف في التفسير من رواية صالح بن كيسان "أن لا يحجنَّ" وهو يعين ذلك للنهى، وللكشميهنيّ "ألا لا يحج" بتخفيف اللام للاستفتاح قبل حرف النهي. وقوله: بعد العام، الظاهر أن المراد به بعد خروج هذا العام، لا بعد دخوله. وقال العيني: ينبغي أن يدخل هذا العام أيضًا بالنظر إلى التعليل، وهذا منتزع من قوله تعالى {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] والآية صريحة في منع دخولهم المسجد الحرام، ولو لم يقصدوا الحج، لكن لما كان الحج هو المقصود الأعظم، صرّح لهم بالمنع منه، فيكون ما وراءه

أوْلى بالمنع، والمراد بالمسجد الحرام هنا الحَرَم كله. وقوله: لا يطوف بالبيت عُريان، فيه حجة لمن لايشترط ستر العورة في الطواف كما يشترط في الصلاة، والمخالف في ذلك الحنفية، قالوا: ستر العورة في الطواف ليس بشرط، فمن طاف عريانًا أعاد ما دام بمكة، فإن خرج لزمه دم. وذكر ابن اسحاق في سبب هذا الحديث، أن قريشًا ابتدعت في الجاهلية، قبل الفيل أو بعده، أنْ لا يطوف بالبيت أحد ممن يقدم عليهم من غيرهم أول ما يطوف إلاّ في ثياب أحدهم، فإن لم يجد طاف عريانًا، فإن خالف وطاف بثيابه ألقاها إذا فرغ، ثم لم ينتفع بها. فجاء الإسلام فهدم ذلك كله. والمراد بالتأذين في الحديث الإعلام، وهو اقتباس من قوله تعالى {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 3]، أي إعلام، وكون أبي بكر بعث أبا هُريرة في مؤذنين قال الطحاويّ في مشكل الآثار: إنه مشكل، لأن الأخبار في هذه القصة تدل على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان بعث أبا بكر بذلك، ثم أتبعه عليًا، فأمره أن يؤذن، فكيف يبعث أبو بكر أبا هُريرة، ومن معه بالتأذين مع صرف الأمر عنه بذلك إلى عليّ، ثم أجاب بأن أبا بكر كان الأمير على الناس في تلك الحجة بلا خلاف، وكان علي هو المأمور بالتأذين بذلك، وكان عليًا لم يطق التأذين بذلك وحده، احتاج إلى من يعينه على ذلك، فأرسل معه أبو بكر أبا هريرة وغيره، ليساعدوه على ذلك، ثم ساق من طريق المحرز بن أبي هريرة عن أبيه قال: كنت مع عليّ حين بعثه النبي -صلى الله عليه وسلم- "ببراءة" الى أهل مكة، فكنت أنادي معه حتى يَصْحَلَ صوتي، وكان هو ينادي قبلي حتى يعيى. وأخرجه أحمد وغيره أيضًا من طريق محرز بن أبي هُريرة. والحاصل أن مباشرة أبي هريرة لذلك كانت بأمر أبي بكر، وكان ينادي بما يلقيه إليه عليّ، مما أُمر بتبليغه، وقد أشار البخاريّ إلي هذا الحديث في باب وجوب الصلاة في الثياب، ومرَّ بعض الكلام عليه واستيفاؤه إن شاء الله تعالى هنا. وقوله: قال حميد بن عبد الرحمن: ثم أردف ... إلخ، وهذا القدر من الحديث مرسل، لأن حميدًا لم يدرك ذلك، ولا صرح بسماعه له من أبي هريرة.

وقال بعضهم: كان حميد بن عبد الرحمن حمل قصة توجه عليّ من المدينة إلى أن لحق أبا بكر من غير أبي هُريرة، وحمل بقية القصة كلها من أبي هريرة، لكن قد ثبت إرسال عليّ من عدة طرق موصولًا، فروى الطبريّ عن أبي صالح عن عليّ قال: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر ببراءة إلى أهل مكة، وبعثه على الموسم، ثم بعثني في أثره فأدركته فأخذتها منه، فقال أبو بكر: ما لي؟ قال: خيرٌ، أنت صاحبي في الغار، وصاحبي على الحوض، غير أنه لا يبلغ عني غيري أو رجل مني. وعند الطبراني عن أبي رافع نحوه، لكن قال: فأتاه جبريل فقال: إنه لن يؤديها عنك إلَّا أنت أو رجل منك. وروى الترمذيّ، وحسنه، وأحمد عن أنس قال: بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- براءة مع أبي بكر، ثم دعا عليًا فأعطاها إياه وقال: لا ينبغي لأحد أن يبلّغ هذا إلَّا رجل من أهلي. وهذا يوضح قوله في الحديث السابق "لا يبلّغ عني" ويعرف منه المراد خصوص القصة المذكورة لا مطلق التبليغ. وعند أحمد من حديث علىّ "لما نزلت عشر آيات من براءة، بعث بها النبي -صلى الله عليه وسلم- مع أبي بكر ليقرأها على أهل مكة، ثم دعاني فقال: أدركْ أبا بكر، فحيثما لقيته فخذ منه الكتاب، فرجع أبو بكر فقال: يا رسول الله، أَنَزَل فيّ شيء؟ فقال: لا، إلَّا أنه لن يؤدي" أو "لكن جبريل قال: لن يؤدي إلّا أنت أو رجل منك" قال العماد بن كثير ليس المراد أن أبا بكر رجع من فوره، بل المراد رجع من حجته، وهذا مثل قوله السابق: فقال أبو بكر: ما لي ... إلخ. وقال في "الفتح" لا مانع من حمله على ظاهره لقرب المسافة، وأما قوله عشر آيات، فالمراد أولها؛ {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] وقد قال العلماء: إن الحكمة في ارسال عليّ بعد أبي بكر أن عادة العرب جرت بأن العهد لا ينقضه إلَّا من عقده أو من هو منه بسبيل، من أهل بيته، فأجراهم في ذلك على عادتهم، ولهذا قال: لا يبلغ عني إلَّا أنا أو رجل من أهل بيتي. وقيل: انما لم يقتصر النبي -صلى الله عليه وسلم- على تبليغ أبي بكر عنه ببراءة؛ لأنها تضمنت مدح أبي بكر، فأراد أن يسمعوها من غير أبي بكر، وهذا غفلة من قائله، حمله على ظنه

أن المراد تبليغ براءة كلها، وليس الأمر كذلك على الصحيح. فإن المأمور بتبليغه منها أوائلها فقط، كلما يأتي قريبًا، ويأتي حديث جابر أنه قرأها حتى ختمها. والجمع بين ذلك وقوله "أن يُؤذِن ببراءة" يجوز فيه التنوين بالرفع على الحكاية وبالجر، ويجوز أن يكون علامة على الجر فتحة، على أنها علم للسورة، وهو الثابت في الروايات. وقوله: فأذن معنا عليّ .. الخ. قال الكرماني: فيه إشكال؛ لأن عليًا كان مأمورًا بأن يُؤِذن ببراءة، فكيف يُؤذن بأنْ لا يحج بعد العام مشرك؟ ثم أجاب بأنه أذنَ براءة، ومن جملة ما اشتملت عليه، أن لا يحج بعد العام مشرك، من قوله تعالى {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28]، ويحتمل أن يكون أمران يُؤذِن ببراءة، وبما أُمر أبو بكر أن يُؤذِن به أيضًا، وقد تضافرت الروايات عن أبي هريرة بأن الذي كان ينادي به هو ومن معه من قبل أبي بكر شيئان: منعُ حج المشركين، ومنع طواف العريان، وأن عليًا أيضًا كان ينادي بهما وكان يزيد "من كان له عهد فعهده إلى مدته، وأن لا يدخل الجنة إلَّا مسلم" وكان هذه الأخيرة كالتوطئة لأن لا يحج البيت مشرك. وأما التي قبلها، فهي التي اختُصَّ عليّ بتبليغها. وفي قوله: يؤذن ببراءة، تجوّز؛ لأنه أمران يُؤذِن ببضع وثلاثين آية، منتهاها عند قوله تعالى {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33] فروى الطبري عن محمد بن كعب وغيره قال: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر أميرًا على الحج سنة تسع، وبعث عليًا بثلاثين أو أربعين آية من براءة. وروى الطبريّ أيضًا عن أبي الصّهباء قال: سألت عليًا عن يوم الحج الأكبر فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بعث أبا بكر يقيم الحج للناس، وبعثني بعده بأربعين آية من براءة، حتى أتى عرفة فخطب، ثم التفت إليّ فقال: يا عليّ، قم فأدِّ رسالة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقرأت أربعين آية من أول براءة، ثم صدرنا حتى رميتُ الجمرة، فطفقت أتتبع بها الفساطيط أقرؤها عليهم؛ لأن الجميع لم يكونوا حضروا خطبة أبي بكر يوم عرفة.

وأما ما وقع في حديث جابر فيما أخرجه الطبريّ وإسحاق في مسنده والنّسائيّ والدارميّ، وصححه ابن خزيمة وابن حبان عن أبي الزبير عن جابر "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حين رجع من عُمرة الجُعْرانة، بعث أبا بكر على الحج، فأقبلنا معه، حتى إذا كنّا بالعرج ثوّب بالصُّبح، فسمع رُغوة ناقة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فإذا عليٌّ عليها فقال: أميرٌ أو رسول؟ فقال: بل أرسلني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ببراءة أقرؤها على الناس. فقدمنا مكة، فلما كان قَبْل يوم التروية بيوم، قام أبو بكر فخطب الناس بمناسكهم، حتى إذا فرغ قام عليّ فقرأ على الناس براءة حتى ختمها، ثم كان يوم النحر كذلك، ثم يوم النفر كذلك، فيجمع بينه وبين ما مرَّ بأن عليًا قرأها كلها في المواطن الثلاثة، وأما في سائر الأوقات فكان يُؤذِن بالأمور المذكورة؛ أنْ لا يحج بعد العام مشرك ... الخ، وكان يستعين بأبي هريرة وغيره في الأذان بذلك. وعند التِّرمذيّ عن مِقْسَم عن ابن عباس "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث أبا بكر ... " الحديث، وفيه "فقام عليّ أيام التشريق، فنادى: ذمة الله ورسوله بريئة من كل مشرك، فسيحوا في الأرض أربعة أشهر، ولا يحجن بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عُريان، ولا يدخل الجنة إلَّا مؤمن". فكان عليّ ينادي بها، فإذا مُجَّ قام أبو هريرة فنادى بها، وروى صعيد بن منصور والتِّرمذيّ والنَّسائيّ والطَّبريّ عن زيد بن بتيع قال: سألت عليًا: بأي شيء بُعثت؟ قال: بأنه لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يجتمع مسلم مع مشرك في الحج بعد عامهم هذا، ومن كان له عهد فعهده إلى مدته، ومن لم يكن له عهد فأربعة أشهر. وروى أحمد والنَّسائيّ عن مُحْرز بن أبي هُريرة عن أبيه قال: كنت مع عليّ حين بعثه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى مكة ببراءة، فكنا ننادي أن لا يدخل الجنة إلَّا نفس مسلمة، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عهد فأَجَله أربعة أشهر، فهذا مضت فإنّ الله بريء من المشركين ورسوله، ولا يحج بعد العام مشرك. فكنت أنادي حتى صَحِل صوتي. وقد قال حميد بن عبد الرحمن كما رواه البخاريّ في تفسير سورة براءة: إن يوم الحج الأكبر يوم النحر،

واستنبطه من قوله تعالى {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ} [التوبة: 3] ومن مناداة أبي هريرة بذلك بأمر أبي بكر يوم النحر، كما في رواية شُعيب عند المصنف في الجزية، فدل على أن المراد بيوم الحج الأكبر يوم النحر. وإنما قيل الأكبر من أجل قول الناس: الحج الأصغر، وفي حديث ابن عمر عند أبي داود، وأصله في الصحيح، رفعه "أيّ يوم هذا؟ قالوا: هذا يوم النحر، قال: هذا يوم الحج الأكبر" واختلف في المراد بالحج الأصغر، فالجمهور على أنه العمرة، وصل ذلك عبد الرزاق عن عبد الله بن شداد، أحد كبار التابعين، ووصله الطبريّ عن جماعة منهم عطاء والشعبى، وعن مجاهد: الحج الأكبر القِران، والأصغر الإفراد، وقيل: يوم الحج الأصغر عرفة، ويوم الحج الأكبر يوم النحر؛ لأن فيه تتكمل بقية المناسك. وعن الثّوريّ أيام الحج تسمى يوم الحج الأكبر، كما يقال: يوم الفتح. وأيده السهيلى بأن عليًا أمر بذلك في الأيام كلها، وقيل: لأن أهل الجاهلية كانوا يقفون بعرفة، وكانت قريش تقف بالمزدلفة، فهذا كان صبيحة النحر وقف الجميع بالمزدلفة، فقيل له الأكبر لاجتماع الكل فيه. وعن الحسن، سمي بذلك لاتفاق حج جميع الملل فيه وروى الطبريّ عن أبي جحيفة وغيره أن يوم الحج الأكبر يوم عرفة، وعن سعيد بن جُبير أنه يوم النحر، واحتج بأن اليوم التاسع وهو يوم عرفة، إذا انسلخ قبل الوقوف لم يفت الحج، بخلاف العاشر، فإن الليل إذا انسلخ قبل الوقوف فات. وعند التِّرمذيّ من حديث عليّ مرفوعًا وموقوفًا "يوم الحج الأكبر يوم النحر" ورجح الموقوف، وقد مرَّ في أوّل الحديث أن حجة أبي بكر كانت سنة تسع، واتفقت على ذلك الروايات، وعند عبد الرزاق عن أبي هريرة في قوله {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} قال؛ لمّا كان زمن الفتح اعتمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الجُعْرانة، ثم أمَّرَ أبا بكر الصديق على تلك الحجة، قال الزّهريّ: وكان أبو هريرة يحدث أن أبا بكر أمَره أن يُؤذن ببراءة، ثم أَتْبَعَ النبي -صلى الله عليه وسلم- عليًا ... الحديث. قال عماد الدين بن كثير: هذا فيه غرابة، من جهة أن الأمير في سنة عمرة

الجُعرانة كان عتاب بن أَسيد، وأما حجة أبي بكر فكانت سنة تسع. قال في الفتح: يرفع الإشكال بأن المراد بقوله: ثم أمّر أبا بكر، يعني بعد أن رجع إلى المدينة، وطوى ذكر من ولي الحج سنة ثمان، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما رجع من العمرة إلى الجُعرانة، فأصبح بها، توجه هو ومن معه إلى المدينة، إلى أن جاء أوان الحج، فأمر أبا بكر وذلك سنة تسع وليس المراد أنه أمر أبا بكر أن يحج في السنة التي كانت فيها عمرة الجُعرانة. وقوله: على تلك الحجة، يريد الآتية بعد رجوعهم إلى المدينة. واستدل بقول أبي هُريرة: بعثني أبو بكر في تلك الحجة يوم النحر، على أن حجّة أبي بكر كانت في ذي الحجة ولم يخالف في ذلك إلَّا مجاهد وعكرمة بن خالد فإنهما قالا انها كانت في ذي القعدة. أخرجه ابن سعد عن مجاهد بإسناد صحيح، والحاكم في الإكليل عن عكرمة. وقول أبي هُريرة هذا دليلٌ عليهما، وأُجيب. بأنه إن ثبت قولهما، يكون المراد بيوم النحر صبيحة يوم الوقوف، سواء كان الوقوف وقع في ذي القعدة، أو في ذي الحجة. نعم، روى ابن مردويه عن عمرو بن شُعيب عن أبيه عن جده قال: كانوا يجعلون عامًا شهرًا وعامًا شهرين، يعني يحجون في شهر واحد مرتين في سنتين، ثم يحجون في الثالث في شهر آخر غيره. قال: فلا يقع الحج في أيام الحج إلَّا في كل خمس وعشرين سنة، فلما كان حج أبي بكر وافق ذلك العام شهر الحج، فسماه الله تعالى الحج الأكبر. ولم يبق من مباحث هذا المحل إلَّا بيان ما قيل في قوله تعالى {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 2] وقد مرّ لك حديث سعيد بن منصور وغيره، عن عليّ أن من كان له عهد فعهده إلى مدته، ومن لم يكن له عهد فأربعة أشهر، واستدل بهذا الحديث على أن قوله تعالى {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} يختص بمن لم يكن له عهد مؤقت، أو لم يكن له عهد أصلًا، وأما من له عهد مؤقت فهو إلى مدته. وروى الطبريّ عن ابن إسحاق قال: هم صنفان، صنف كان له عهدٌ دون أربعة أشهر، فأُمهل إلى تمام أربعة أشهر، وصنف كانت له مدة عهده بغير أجل، فقصرت على أربعة أشهر. وروي أيضًا عن ابن عباس

رجاله ستة

أن الأربعة الأشهر أَجَلُ مَن كان له عهد مؤقت، بقدرها أو يزيد عليها، وأما من ليس له عهد، فانقضاؤه إلى سلخ المحرم لقوله تعالى {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] من طريق عُبيدة بن سلمان، سمعت الضحاك "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عاهد ناسًا من المشركين من أهل مكة وغيرهم، فنزلت براءة فنبذ إلى كل أحد عهده وأجَّلهم أربعة أشهر، ومن لا عهد له فأَجَلُه انقضاء الأشهر الحرم". ومن طريق معمر عن الزّهريّ: كان أول أربعة أشهر عند نزول براءة في شوّال، فكان آخرها المحرم، فبذلك تجمع بين ذكر الأربعة الأشهر وبين قوله {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} واستبعد الطبريّ ذلك من حيثُ إن بلوغهم الخبر إنما كان عندما وقع النداء به في ذي الحجة، فكيف يقال لهم سيحوا في الأرض أربعة أشهر، ولم يبق منها إلا دون الشهرين؟ ثم أسند عن السُّديّ وغير واحد التصريح بأنّ تمام الأربعة الأشهر في ربيع الآخر. رجاله ستة: وفَيه ذكر علي وأبي بكر. الأول: إسحاق بن إبراهيم، والمراد به ابن راهويه، وقيل المراد به إسحاق بن منصور، وقد مرا في الحادي والعشرين من كتاب العلم، ومرّ يعقوب بن إبراهيم في السادس عشر منه أيضًا، ومرّ ابن أخي الزهريّ في التاسع عشر من كتاب الإيمان، ومرّ ابن شهاب الزهريّ في الثالث من بدء الوحي، ومرّ حميد بن عبد الرحمن في الثلانين من الإيمان، ومرّ أبو هريرة في الثاني من كتاب الإيمان أيضًا، ومرّ عليّ في السابع والأربعين من العلم، وأبو بكر بعد الحديث السبعين من الوضوء فى باب من لم يتوضأ من لحم الشاة. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، والعنعنة في موضعين، والإخبار بصيغة الإفراد، وفيه أربعة زُهْرِيّون، وهم يعقوب إلى أبي هريرة. أخرجه البخاريّ هنا وفي الجزية عن أبي اليَمان، وفي المغازي عن أبي الربيع

باب الصلاة بغير رداء

الزّهرانيّ، وفي الحج عن يحيى بن بكير، وفي التفسير عن سعيد بن عُفير وغيره، ومسلم في الحج، وأبو داود فيه والنَّسائيّ. ثم قال المصنف: باب الصلاة بغير رداء

الحديث الثاني والعشرون

الحديث الثاني والعشرون حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي الْمَوَالِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ مُلْتَحِفًا بِهِ وَرِدَاؤُهُ مَوْضُوعٌ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قُلْنَا: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، تُصَلِّي وَرِدَاؤُكَ مَوْضُوعٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَحْبَبْتُ أَنْ يَرَانِي الْجُهَّالُ مِثْلُكُمْ، رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي هَكَذَا. قوله: ملتحفًا، بالنصب على الحال، وروي بالرفع خبر مبتدأ محذوف، وبالجر على الجوار، أو صفة للثوب. وقوله: رداؤه موضوع، أي على الأرض، أو على المِشْجَب، كما مرّ التصريح به، وهي جملة حالية اسمية. وقوله: مثلكم، بالرفع صفة للجُهّال، وهي، وإن كانت لا تتعرف بالإضافة، فالموصوف، وهو الجهّال، له حكم النكرة لأنه معرف بلام الجنس، وكون "مثل" مفردًا وُصف به جمع. والتطابق بين الصفة والموصوف في الإفراد والجمع شرط، فلأنه بمعنى المثيل على وزن فعيل، يستوي فيه المذكر والمؤنث، والإفراد والجمع. ويقال إنه اكتسب الجمعية من المضاف إليه، وهو جنس يطلق على المفرد والمثنى والجمع، ويجوز النصب على الحال. وقوله: يصلي كذا، للكشميهنيّ: يصلي هكذا، وقد استوفي الكلام على هذا الحديث في باب عقد الإِزار على القفا. رجاله أربعة: الأول: عبد العزيز بن عبد الله الأُوَيسيّ، وقد مرّ في الأربعين من كتاب العلم، ومرّ عبد الرحمن بن أبي الموالي في الخامس من كتاب الصلاة هذا، ومرّ محمد بن المنكدر في التاسع والخمسين من كتاب الوضوء، ومرّ جابر بن عبد الله في الرابع من بدء الوحي. ثم قال المصنف

باب ما يذكر في الفخد

باب ما يذكر في الفخد أي في حكم الفخذ، وللكشميهني: من الفخذ، ثم قال: ويروى عن ابن عباس وجَرْهَد ومحمد بن جحش عن النبي -صلى الله عليه وسلم- "الفخذ عَوْرة" ولفظ ابن جحش. قال: "مرّ النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأنا معه، على معمر وفخذاه مكشوفتان، فقال: يا معمر غطّ عليك فخذيك، فإن الفخذين عورة". ومعمر المشار إليه هو معمر بن عبد الله بن فضيلة العَدَويّ القرشيّ. وأَخرج ابن قانع حديثه هذا مسلسلًا بالمحمدين من ابتدائه إلى انتهائه. الأول: تعليق ابن عباس، وقد أخرجه التِّرمذي موصولًا وقال: هذا حديث حسن غريب، والثاني عن جرهد، وقد أخرجه مالك في الموطأ، أي موطأ ابن بكير وابن وهب ومعن وعبد الله بن يوسف، وهو عند القعنبيّ في الزيادات عن مالك خارج الموطأ، ولم يذكره كثير من أصحاب الموطأ، وأخرجه ابن حبّان في صحيحه، والتِّرمذيّ مرتين، قال مرة: هذا حديث حسن ما أرى إسناده بمتصل، وقال مرة: هذا حديث حسن صحح. والثالث عن محمد بن جحش، وقد رواه الطبرانيّ وذكر البخاريّ في تاريخه، وأحمد في مسنده، والحاكم في مستدركه. ورجال التعاليق ثلاثة: الأول: عبد الله بن عباس، وقد مرّ في الخامس من بدء الوحي. والثاني: جَرْهَد، بفتح الجيم والهاء بينهما راء سكنة وآخره قال مهملة، بن خويلد بن بُجْرَة بن عبد ياليل بن زرعة بن رَزاح بن عدِيّ بن سَهْم بن تميم بن مازن بن الحارث بن سَلَامان بن أسْلَم بن أقصى الأسلَميّ، يكنى أبا عبد الرحمن، كان من أهل الصفة، وكان شريفًا رويت عنه أحاديث منها حديثه المشهور في أن الفخذ عورة. قال ابن حبّان: عداده في أهل البصرة وقال غيره: في أهل المدينة، وهو الصحيح. ومن حديثه ما روي عنه "أنه أكل بيده الشمال فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: كل باليمين، فقال: إنها مصابة، فنفث عليها، فما شكى حتى مات". قال الواقديّ: كانت له دار بالمدينة، ومات بها سنة إحدى وستين، في آخر خلافة يزيد. وقال أبو عمر: جعل ابن أبي حاتم جرهد بن خويلد غير

جرهد بن رَزاح، ثم قال: هذا وهم، وهو رجل واحد مِن أسْلَم، لا تكاد تثبت له صحبة. الثالث: محمد بن عبد الله بن جحش الأسديّ، يكنى أبا عبد الله، وهو ابن أخي زينب أم المؤمنين لأمه فاطمة بنت حبيش صحبة، وذكر الواقديّ أنه ولد قبل الهجرة بخمس سنين. قُتل أبوه بأُحُد، فأوصى به النبي -صلى الله عليه وسلم-، فاشترى له مالًا بخيبر، وأقطعه دارًا بالمدينة بسوق الرقيق. وأخرج البغويّ عن سعيد بن المسيَّب أن عمر كتب أبناء المهاجرين ممن شهد بدرًا في أربعة آلاف، منهم محمد بن عبد الله بن جحش. وقال ابن عبد البر: هاجر مع أبيه وعمَّيْه إلى أرض الحبشة، ثم هاجر من مكة إلى المدينة مع أبيه، له صحبة ورواية، روى عنه مولاه أبو كثير حديثًا حسنًا في أن "المؤمن لا يدخل الجنة وإن رزق الشهادة حتى يُقضى دينُه". وأخرج الزبير بن بكّار من طريق أبي كثير، مولى محمد بن عبد الله بن جحش: سمعتُ محمد بن عبد الله بن جحش، وكانت له صحبة، فذكر الحديث في التشديد في الدَّين، وفي فضل الجهاد. وأخرجه أحمد وابن أبي خَيثمة والبغويّ وغيرهم. روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعن عمتيه حَسْنَة وزَينب، وعن عائشة، وروى عنه ابنه إبراهيم، ومولاه أبو كثير، والمعلّى بن عرفان ومحمد بن عبد الله كثير في الستة، وفي الصحابة محمد بن عبد الله سواه خمسة. ثم ذكر البخاريّ فقال. وقال أنس: حَسَر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن فخذه. قوله؛ حَسَرَ، بمهملات مفتوحات، أي كشف، وهذا التعليق وصله البخاريّ، قريبًا، وأنس بن مالك قد مرّ في السادس من كتاب الإِيمان. ثم قال المصنف: وحديث أنس أَسْنَد، وحديث جرهد أَحْوَط حتى يخرج اختلافهم، يعني أن حديث أنس أصح إسنادًا، كأنه يقول: حديث جرهد، ولو قلنا بصحته، فهو مرجوح بالنسبة إلى حديث أنس، وحديث جرهد وما معه أحوط للدَّين، وهو يحتمل أن يريد بالاحتياط الوجوب أو الورع، وهو أظهر لقوله "حتى يَخْرُج من اختلافهم" ويخرج بفتح الياء وضم الراء، وروي بالعكس. وفي رواية بفتح

النون وضم الراء. والجمهور من التابعين وأبو حنيفة، ومالك أصح أقواله، والشافعيّ، وأحمد في إحدى روايتيه، وأبو يوسف ومحمد على أن الفخذ عورة، وابن أبي ذيب وداود، وأحمد في إحدى روايتيه، والإصطخريّ من الشافعية، وابن حزم على أنه ليس بعورة. قال في المحلّى: لو كان عورة ما كشفها الله تعالى من رسوله المطهر المعصوم من الناس في حال النبوءة والرسالة، ولا رآها أنس وغيره. وعند المالكية قول بأن نظر الفخذ مكروه كراهة تنزيه فقط، وشهده في المدخل، وعندهم قول بالتفرقة كامل الصداقة، فيجوز كشف الفخذ بحضرته، وبين من هو دون ذلك فلا يجوز، أخذًا من حديث عائشة وحفصة الآتيتين. وقال الأوزاعيّ: الفخذ عورة إلَّا في الحمام. ثم قال المصنف: وقال أبو موسى: غَطّى النبي -صلى الله عليه وسلم- ركبتيه حين دخل عثمان. قوله: ركبتيه، بالتثنية، وفي رواية بالإفراد. وقوله: حين دخل عثمان رضي الله تعالى عنه، أدبًا معه واستحياء، ولهذا قال، كما في مسلم والبيهقيّ "ألا أستحي من رجلٍ تستحي منه الملائكة؟ " وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يفعل مع كل واحد من أصحابه ما هو الغالب عليه، فلما كان الغالب على عثمان الحياء عامله بذلك جزاءًا وفاقًا، فكشف ركبته عليه الصلاة والسلام قبل دخول عثمان، وهذا جواب عن قول الكرمانيّ: الركبة لا تخلو إمّا أن تكون عَورة أم لا، فإن كانت عورة، فَلِمَ كشفها قبل دخول عثمان؟ وإن لم تكن، فَلِم غطاها عنه؟ والشق الثاني هو المختار، والجواب عن التغطية هو ما مرَّ. ووجه مطابقة التعليق للترجمة، هو أن الركبة إذا كانت عورة، فالفخذ بالطريق الأُولى لأنه أقرب إلى الفرج الذي هو عورة إجماعًا، والتعليق المذكور طرف من حديث أبي موسى في قصة أوردها المصنف في المناقب، من رواية عاصم الأحول، وفيه أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان قاعدًا في مكان فيه ماء قد انكشف عن ركبتيه، أو ركبته، فلما دخل عثمان غطاها، وزعم الداوديّ الشارحُ أن هذه الرواية المعلقة عن أبي موسى وهْم، وأنه دخل لروايتها حديث في حديث،

مشيرًا بذلك إلى ما رواه مسلم عن عائشه، قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مضطجعًا في بيتي كاشفًا عن فخذيه، أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر، فأذن له، هو على تلك الحالة، فتحدث، ثم استأذن عمر فأذن له وهو كذلك، فتحدث، ثم استأذن عثمان، فجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وسوّى ثيابه. قال محمد، يعني ابن أبي حَرْملة: ولا أقول ذلك في يومٍ واحد فتحدث. فلما خرج قالت عائشة: دخل أبو بكر فلم تَهَشّ له، ثم دخل عمر فلم تَهَشّ له ولم تباله، فلما دخل عثمان جلست وسويت ثيابك، فقال: ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة؟ وهو عند أحمد بلفظ "كاشفًا عن فخذه" من غير تردد. وله من حديث حفصة مثله، وأخرجه الطحاويّ والبيهقيّ عن عبد الله بن مسعود المدنيّ قال: حدثتني حفصة بنت عمر قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندي يومًا، وقد وضع ثوبه بين فخذيه، فجاء أبو بكر فاستأذن، فأذن له -صلى الله عليه وسلم- على هيئته، ثم جاء عمر بمثل هذه الصفة، ثم جاء أناس من أصحابه، والنبي -صلى الله عليه وسلم- على هيئته، ثم جاء عثمان فاستأذن عليه، فأذن له، ثم أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثوبه فجلله، فتحدثوا ثم خرجوا، فقلت: يا رسول الله، جاء أبو بكر وعمر وعليّ وأناس من أصحابك وأنت على هيئتك، فلما جاء عثمان جللت بثوبك، فقال: أو لا أستحي ممن تستحي منه الملائكة؟ وهذا الذي قاله الداودي لا يلزم منه تغليط رواية عاصم، إذ لا مانع أن يتفق للنبي عليه الصلاة والسلام أن يغطي ذلك مرتين حين دخل عثمان، وأن يقع ذلك في موطنين، ولاسيما مع اختلاف مخرج الحديثين، وإنما يقال ما قاله الداوديّ، حيث تتفق المخارج، فيمكن أن يدخل حديث في حديث، لا مانع افتراق المخارج كما هنا، فلم يدخل على البخاريّ حديث في حديث، بل هما قصتان متغايرتان، في إحداهما كشف الركبة، وفي الأخرى كشف الفخذ، والأولى من رواية أبي موسى، وهي المعلقة هنا، والأخرى من رواية عائشة، ووافقتها حفصة، ولم يذكرهما البخايّ. وأخرج مسلم عن عائشة وعثمان قريبًا من الحديثين السابقين، إلا أنه ليس

فيه التصريح بكشف الفخذين، وهو عن سعيد بن العاص أن عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعثمان، حدثاه أن أبا بكر استأذن على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو مضطجع على فراشه، لابسٌ مَرْط عائشة، فأذن لأبي بكر وهو كذلك، فقضى إليه حاجته ثم انصرف، ثم استأذن عمر رضي الله تعالى عنه، فأذن له وهو على تلك الحالة، فقضى إليه حاجته ثم انصرف، قال عثمان: ثم استأذنت عليه فجلس. وقال لعائشة: اجمعي ثيابك، فقُضيت إليّ حاجتي فانصرفت، فقالت عائشة: يا رسول الله، مالي لم أرك فَزِعت لأبي بكر وعمر، كلما فزعت لعثمان؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إنّ عثمان رجل حَيِيّ وإنّي خشيتُ إنْ أذنت له على تلك الحالة أن لا يبلغ إليّ في حاجته. وقد مر أبو موسى في الرابع من كتاب الإيمان. ثم قال: وقال زيد بن ثابت: أنزل الله على رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وفخذه على فخذي فثقلت عليّ حتى خفتُ أن تُرَضَّ فخذي. وقوله: أنْ تُرَضَّ، أي تكسر، وهو بضم التاء وفتح الراء على صيغة المجهول، ويجوز العكس. واعترض الإسماعيليّ استدلال المصنف بهذا على أن الفخذ ليس بعورة؛ لأنه ليس فيه التصريح بعد الحائل. قال: ولا يظن ظانٌّ أن الأصل عدم الحائل؛ لأنّا نقول: العضو الذي يقع عليه الاعتماد يُخْبَر عنه بأنه معروف الموضع، بخلاف الثوب. قال في "الفتح": والظاهر أن المصنف تمسك بالأصل. قلت: ظاهره أن الأصل عدم الحائل، وهو غير ظاهر، بل الظاهر أن الأصل هو الحائل، فيكون القول ما قاله الإسماعيليّ. وهذا التعليق طرف من حديث وصله المصنف في تفسير سورة النساء، في قوله تعالى {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 95] وأخرجه أيضًا في الجهاد عن عبد العزيز بن عبد الله، والتِّرمذيّ في التفسير، وقال: حسن صحيح، والنَّسائيّ في الجهاد. وزيد بن ثابت بن الضحاك بن زيد بن لوذان بن عمرو بن عبد عوف بن غنم بن مالك بن النجار الأنصاريّ الخزرجيّ، أبو سعيد، أو أبو ثابت، أو أبو عبد الرحمن، أبو خارجة بابنه خارجة، وأمه النَّوَار بنت مالك بن معاوية بن عديّ، استصغر يوم بدر، شهد أُحدًا وما بعدها من المشاهد. قيل: أول مشاهده

الخندق، وكان ينقل التراب يومئذ مع المسلمين، فقال رسول الله: "أَمَا إنّه نِعْمَ الغلامُ" ونعس يومئذ، فجاء عمارة بن حزم، فأخذ سلاحه وهو لا يشعر، فقال النبي: يا أبا رُقاد، ومن يومئذ نهى أن يُرَوَّع المؤمن، ولا يؤخذ متاعه جادًا ولا لاعبًا. وكانت راية بني مالك بن النجار يوم تبوك مع عمارة بن حزم، فأخذها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ودفعها إلى زيد بن ثابت، فقال عمارة: يا رسول الله، أبلغك عنّي شيء؟ قال: ولكن القرآن مقدم، وزيد أكثر منك أخذًا للقرآن. قال ابن عبد البر: وهذا عندي خبر لا يصح. وأما حديث أنس من أن زيد بن ثابت أحد الذين جمعوا القرآن على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الأنصار فصحيح، وقد عارضه قوم بحديث ابن شهاب عن عبيد بن السبّاق عن زيد بن ثابت أن أبا بكر أمره في حين مقتل القُراء باليمامة بجمع القرآن، قال: فجعلت أجمع القرآن من العُسُب والرّقاع وصدور الرجال، حتى وجدت آخر آية من التوبة مع رجل يقال له خُزيمة أو أبو خزيمة. قالوا: لو كان زيد قد جمع القرآن على عهد رسول الله مَلاّه من حفظه، وما احتاج إلى ما ذكر. قالوا: وأما خبر جمع عثمان للمصحف، فإنما جمعه من الصحف التي كانت عند حفصة من جمع أبي بكر. يقال: إنه كان في حين قدوم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة ابن إحدى عشر سنة، وكان يوم بُعاث ابن ست سنين، وفيها قتل أبوه، وكان هو الذي تولى قَسم الغنائم يوم اليرموك، وهو الذي جمع القرآن في عهد أبي بكر، ثبت ذلك في الصحيح. وقال له أبو بكر: إنك شاب عاقل لا نتهمك. ولما اختلف الناس في القرآن زمن عثمان، واتفق رأيه ورأيُ الصحابة على أن يرد القرآن إلى حرف واحد، وقع اختياره على حرف زَيد، فأمره أن يُمْلِي المصحفَ على قوم من قريش، جمعهم إليه فكتبوه على ما هو عليه اليومَ بأيدي الناس، والأخبار في ذلك متواترة المعنى، وإن اختلفت ألفاظها. وكانوا يقولون: غلب زيد بن ثابت الناسَ على اثنتين: القرآن والفرائض. وروى البغوي وأبو يَعلى موصولًا، عن زيد بن ثابت قال: أتى بي النبي صلى

الله عليه وسلم مَقْدَمه المدينة، فقيل: هذا من بني النجار، وقد قرأ سبع عشرة سورة، فقرأت عليه فأعجبه ذلك، فقال: تعَلّم كتاب يهود، فإني ما آمنهم على كتابي، ففعلت، فما مضى لي نصف شهر حتى حذقته، فكنت أكتب له إليهم، وإذا كتبوا إليه قرأت له. وروى من طريق ثابت بن عبيد أنه قال: قال لي النبي -صلى الله عليه وسلم-: إني أكتب إلى قوم، فأخاف أن يزيدوا عليّ أو ينقصوا، فتعلم السريانية، فتعلمتها في سبعة عشر يومًا. وكتب بعده لأبي بكر وعمر وكتب لهما مُعَيْقيب الدَّوسيّ معه أيضًا، واستخلف عمر بن الخطاب زيدًا على المدينة ثلاث مرات في حجتين، وفي خروجه إلى الشام، وكتب إليه من الشام إلى زيد بن ثابت، من عمر بن الخطاب، وروى البغوي بإسناد صحيح: كان عمر يستخلف زيد بن ثابت إذا سافر، فقلما رجع إلَّا أقطعه حديقة من نخْل. وقال نافع عن ابن عمر: كان يستخلف زيدًا إذا حج، وكان عثمان يستخلفه أيضًا إذا حج، ورُمي يوم اليمامة فلم يضره، وروي عن الشعبيّ بإسناد جيد قال: ذهب زيد بن ثابت ليركب، فأمسكَ ابن عباس بالركاب فقال: تنح يا ابن عم رسول الله، قال: هكذا نفعل بالعلماء والكبراء. وروى يعقوب من طريق ابن سيرين: حج بنا أبو الوليد، فدخل بنا على زيد بن ثابت فقال: هذا لام، وهذا لام، وهذا لام في أخطاء. وقال ثابت بن عبيد: ما رأيت رجلًا أفكه في بيته ولا أوقر في مجلسه من زيد بن ثابت. وعن أنس، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: أفرضكم زيدٌ. رواه أحمد بإسناد صحيح، وروى ابن سعد بإسناد صحيح قال: كان زيد بن ثابت أحد أصحاب الفتوى، وهم ستة: عمر وعليّ وابن مسعود وأبو موسى وزيد بن ثابت. ورُوي بسند فيه الواقديّ من طريق قبيصة قال: كان زيد رأسًا في المدينة في القضاء والفتوى والقراءة والفرائض. ومن طريق ابن عباس: لقد علم المحفوظون من أصحاب محمد أن زيد بن ثابت كان من الراسخين في العلم. وقال مسروق: قدمت المدينة فوجدت زيد بن ثابت من الراسخين في العلم. وروي عن مالك بن أنس قال: كان إمام الناس عندنا بعد عمر بن الخطاب

زيدُ بن ثابت بالمدينة، وكان إمامَ الناس عندنا بعده عَبْدُ الله بن عمر. وروى عن يوسف بن سعد عن وهيب عبدٍ كانَ لزيد بن ثابت، وكان زيد على بيت المال في خلافة عثمان، فدخل عثمان، فأبصر وهيبًا يعينهم في بيت المال، فقال: من هذا؟ فقال زيد: مملوك لي. فقال عثمان: أراه يعينُ المسلمينَ وله حق، وإنّا نفرض له، نفرض لهُ ألفين، فقال زيد: والله لا تفرض لعبد ألفين، ففرض له ألفًا. قال أبو عمر: كان عثمان يحب زيد بن ثابت، وكان زيد عثمانيًا، ولم يكن فيمن شهد شيئًا من مشاهد عليّ مع الأنصار، مع ذلك يفضل عليًا ويظهر حبه، وكان فقيهًا. وقال سعيد بن المسيب: شهدت جنازة زيد بن ثابت، فلما وُلَّي في قبره قال ابن عباس: من سرّه أن يعلم كيف ذهاب العلم، فهكذا ذهاب العلم، والله لقد دفن اليوم علم كثير. وقال أبو هريرة يوم مات زيد: مات اليوم حَبر الأمة، وعسى الله أن يجعل في ابن عباس خَلَفًا. له اثنان وتسعون حديثًا اتفقا على خمسة، وانفرد البخاريّ بأربعة، ومسلم بواحد. روى عنه جماعة من الصحابة، منهم أبو هُريرة وأبو سعيد وابن عمر وأنس وسهل بن سعد، ومن التابعين سعيد بن المسيب، وولداه خارجة وسليمان، والقاسم بن محمد، وسليمان بن يسار وآخرون. مات سنة اثنتين أو ثلاث أو خمس وأربعين، وقيل سنة إحدى أو خمس وخمسين، وفي خمس وأربعين قول الأكثر، ولما مات رثاه حسان بقوله: فمنْ للقوافي بعد حَسَّان وابنه ... ومن للمعاني بعد زيد بن ثابت

الحديث الثالث والعشرون

الحديث الثالث والعشرون حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- غَزَا خَيْبَرَ، فَصَلَّيْنَا عِنْدَهَا صَلاَةَ الْغَدَاةِ بِغَلَسٍ، فَرَكِبَ نَبِيُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَرَكِبَ أَبُو طَلْحَةَ، وَأَنَا رَدِيفُ أَبِي طَلْحَةَ، فَأَجْرَى نَبِيُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي زُقَاقِ خَيْبَرَ، وَإِنَّ رُكْبَتِي لَتَمَسُّ فَخِذَ نَبِيِّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، ثُمَّ حَسَرَ الإِزَارَ عَنْ فَخِذِهِ حَتَّى إِنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِ فَخِذِ نَبِيِّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَلَمَّا دَخَلَ الْقَرْيَةَ قَالَ: "اللَّهُ أَكْبَرُ، خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ". قَالَهَا ثَلاَثًا. قَالَ: وَخَرَجَ الْقَوْمُ إِلَى أَعْمَالِهِمْ فَقَالُوا: مُحَمَّدٌ. قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: وَالْخَمِيسُ. يَعْنِي الْجَيْشَ، قَالَ فَأَصَبْنَاهَا عَنْوَةً، فَجُمِعَ السَّبْيُ، فَجَاءَ دِحْيَةُ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَعْطِنِي جَارِيَةً مِنَ السَّبْي. قَالَ: "اذْهَبْ فَخُذْ جَارِيَةً". فَأَخَذَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ، فَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَعْطَيْتَ دِحْيَةَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ سَيِّدَةَ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، لاَ تَصْلُحُ إِلاَّ لَكَ. قَالَ: "ادْعُوهُ بِهَا". فَجَاءَ بِهَا، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "خُذْ جَارِيَةً مِنَ السَّبْي غَيْرَهَا". قَالَ فَأَعْتَقَهَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَتَزَوَّجَهَا. فَقَالَ لَهُ ثَابِتٌ: يَا أَبَا حَمْزَةَ، مَا أَصْدَقَهَا؟ قَالَ: نَفْسَهَا، أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا، حَتَّى إِذَا كَانَ بِالطَّرِيقِ جَهَّزَتْهَا لَهُ أُمُّ سُلَيْمٍ فَأَهْدَتْهَا لَهُ مِنَ اللَّيْلِ، فَأَصْبَحَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَرُوسًا فَقَالَ "مَنْ كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ فَلْيَجِيء بِهِ". وَبَسَطَ نِطَعًا، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِالتَّمْرِ، وَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِالسَّمْنِ. قَالَ: وَأَحْسِبُهُ قَدْ ذَكَرَ السَّوِيقَ، قَالَ فَحَاسُوا حَيْسًا، فَكَانَتْ وَلِيمَةَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. قوله: غزا خيبر، أي غزا بلدة تسمى خيبر، وهي بلغة اليهود حِصن، وقيل: أول ما سكن فيها رجل من بني إسرائيل يسمى خيبر، فسميت به، وهي بلدة في

جهة الشمال والشرق من المدينة النبوية، على ستة مراحل، وكانت لها نخيل كثير، وكانت في صدر الإِسلام دارًا لبني قريظة والنضير، وكانت غزوتها سنة سبع من الهجرة، قاله ابن سعد. وقال ابن إسحاق: أقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد رجوعه من الحديبية، ذا الحجة وبعض المحرم، وخرج في بقيته غازيًا إلي خيبر. وقوله: بغَلَسٍ، بفتح الغين واللام، وهو ظلمة آخر الليل. وقوله: فركب نبي الله، أي ركب مركوبه، وأخرج التِّرمذيّ والبيهقيّ عن أنس قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم قريظة والنضير على حمار، ويوم خيبر على حمار مخطوم برسن ليف، وتحته إكاف من ليف. وقال ابن كثير: والذي ثبت في الصحيح عند البخاريّ عن أنس، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جرى في زقاق خيبر حتى انحسر الإزار عن فخذه، فالظاهر أنه كان يومئذ على فرس لا حمار، ولعل هذا الحديث، ان كان صحيحًا، محمول على أنه ركبه في بعض الأيام وهو محاصرها. وقوله: في زقاق خيبر، بضم الزاي وبالقافين، وهي السكة، يذكر ويؤنث، والجمع أزقة. وقوله -صلى الله عليه وسلم-: ثم حسر الإزار عن فخذه حتى أني انظر، وفي رواية الكشميهنيّ "لأنظر" والصواب أنّ حَسَرَ، بفتح المهملتين، ويدل على ذلك تعليقه الماضي في أول الباب، فإنه قال: وقال أنس حَسَر النبي -صلى الله عليه وسلم-، وضبطه بعضهم بضم أوله على المبناء للمفعول، بدليل رواية مسلم "فانحسر"، وليس ذلك بمستقيم، إذ لا يلزم من وقوعه كذلك في رواية مسلم أن لا يقع عند البخاريّ على خلافه، وقد رواه بلفظ "فانحسر" أحمد والطبرانيّ، ورواية "فانحسر" لا دلالة فيها على أن الفخذ ليس بعورة، لدلالتها على أنه وقع بغير اختياره، لضرورة الإجراء. وأما رواية حَسَر، بفتحتين، ففيها دلالة على أن ذلك كان باختياره، فتدل على أن الفخذ ليس بعورة، ولكن قال بعض العلماء: إن اللائق بحاله، عليه الصلاة والسلام، أن لا ينسب إليه كشف فخذه قصدًا، مع ثبوت قوله عليه الصلاة والسلام "الفخذ عورة" ولعل أنسًا لمّا رأى فخذه عليه الصلاة والسلام مكشوفًا، وكان عليه الصلاة والسلام تسبب في ذلك بالإجراء، أسند الفعل إليه.

وقال القرطبيّ: حديث أنس وما معه إنما ورد في قضايا معينة في أوقات مخصوصة يتطرق إليها من احتمال الخصوصية، أو البقاء على أصل الإباحة، ما لا يتطرق إلى حديث جرهد وما معه؛ لأنه يتضمن إعطاء حكم كليّ، وإظهار شرع عام، فكان العمل به أَوْلى، ولعل هذا هو مراد المؤلف بقوله: وحديث جرهد أحوط. وأجابوا عن حديثَيْ عائشة وحفصة السابقين بما قاله أبو عمر: الحديث الذي رووه عن حفصة فيه اضطراب، وقال البيهقيّ: قال الشافعيّ: والذي روي في قصة عثمان من كشف الفخذين مشكوك فيه؛ لأن الراوي قال "فخذيه" أو "ساقيه" كما في بعض الروايات، وقال الطَّبريّ في "تهذيب الآثار" الأخبار التي رويت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه دخل عليه أبو بكر وعمر، وهو كاشف فخذه، واهية الإِسناد، لا تثبت بها حجة في الدِّين، والأخبار الواردة بالأمر بتغطية الفخذ والنهي عن كشفها، أخبار صحاح. ومما احتج به القائلون بأنه ليس بعورة قول أنس في هذا الحديث "وإن ركبتي لَتَمسُّ فخذ نبي الله -صلى الله عليه وسلم-" إذ ظاهره أن المس كان بدون حائل، ومس العورة بدون حائل لا يجوز، وقالوا: إنّ رواية مسلم، ومن وافقه، في أن الإزار لم ينكشف بقصد منه عليه الصلاة والسلام، يمكن الاستدلال بها على أن الفخذ ليس بعورة من جهة استمراره على ذلك؛ لأنه، وإن جاز وقوعه من غير قصد، لكن لو كان عورة، لم يقر على ذلك، لمكان عصمته -صلى الله عليه وسلم-، ولو فُرض أن ذلك وقع لبيان التشريع لغير المختار، لكان ممكنًا، لكن فيه نظر من جهة أنه كان يتعين حينئذ البيانُ عقبه، كما وقع في قصة السهو في الصلاة، وسياقه عند أبي عُوانة والجَوزقي عند عبد العزيز، ظاهر في استمرار ذلك، ولفظه "فأجرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في زقاق خيبر، وإن ركبتي لتمس فخذ نبي الله -صلى الله عليه وسلم-، وإني لأرى بياض فخذيه". هذا ما قيل في أوله: الفخذ من الطرفين، وقد مر عند قول المصنف: وحديث أنس أسند، بيان مَن قال إنه عورة، ومن قال إنه غير عَورة، وحقيقة العورة من الرجل والأَمة قُنة أو ذات سائبة ما بين سُرَّة وركبة، وكذلك من الحرة

مع الحرة ومع المحرم عند الشافعية، وعند المالكية يجوز للرجل من الحرة المحرم، نظر أطرافها، وهي القدمان والذراعان وما فوق المنحر، وقد شهد بعض علماء المالكية أن الأولى للمحرم المالكي تقليد الشافعية، فقد روى الحارث بن أبي أسامة "عورة الرجل ما بين سرته إلى ركبته" وقيس بالرجل الأمة، بجامع أن رأس كل منهما ليس بعورة. وفي السنن أن عورتها ما بين مَعْقِد إزارها إلى ركبتها، وعند المالكية أن السُّرَّة والركبة خارجتان من العورة في المشهور. وقال القسطلانيّ: يجب ستر بعض السرة والركبة ليحصل الستر. وقيل: هما عورة، وقيل: الركبة عورة دون السرة، لحديث الدارقطني "عورة الرجل ما دون سرته حتى يجاوز ركبتيه". وصحيح مذهب أبي حنيفة وأحمد أنهما ليسا بعورة أيضًا. وقيل: إنهما عورة عند أبي حنيفة، وقيل: الستر عورة دون الركبة، وقيل بالعكس، وعورة الحرة في الصلاة وعند الأجنبي جميع بدنها إلَّا الوجه والكفين، أي اليدين ظاهرًا وباطنًا إلى الكوعين، كما فسر به ابن عباس قوله تعالى {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] وأصح الروايتين عند أبي حنيفة أن قدم المرأة ليس بعورة، لأنها مبتلاة بإبداء قدميها عند المشي؛ لأنها ربما لا تجد الخف. وقال الشافعي: إن الخلوة يجب فيها ستر العورة الكبرى، وهي السوأتان، ويكره له نظرهما من نفسه. وعند المالكية يندب ستر السوأتين وما والاهما في الخلوة، ويباح للأجنبية أن ترى من الأجنبي ما يراه من محرمه، وترى المحرم من محرمها ما يراه من الرجل. وقال القسطلانيّ: والخنثى كالأنثى، فلو استتر كالرجل بأن اقتصر على ما ستر ما بين سرته وركبتيه، وصلى، لم تصح صلاته على الأصح، للشك في الستر. وصحح في التحقيق صحتها، ونصت المالكية أيضًا على أن حكمه في الستر حكم الأنثى. وقوله: فلما دخل القرية، مشعر بأن الزقاق كان خارج القرية. وقوله: خَرِبت خيبر، أي صارت خرابًا، قاله على سبيل الإخبار، فيكون من الأنباء بالمغيبات أو على جهة الدعاء عليهم، أو التفاؤل لما رآهم خرجوا بمساحيهم

ومكاتلهم التي هي من آلات الهدم. وقوله: وخرج القوم إلى أعمالهم، أي إلى مواضع أعمالهم، أو "إلى" بمعنى اللام، أي خرجوا لأعمالهم التي كانوا يعملونها. وقوله: وقال بعض أصحابنا، البعض هو محمد بن سيرين، كما أخرجه المؤلف من طريقه، أو ثابت البنانيّ، كما أخرجه مسلم من طريقه، والأوَّل مرّ في الأربعين من الإيمان، ومرّ الثاني في تعليق بعد الخامس من كتاب العلم. وقوله: والخميسُ، بالرفع عطفًا على محمد، أو بالنصب على أن الواو بمعنى مع. وقوله: يعني الجيش، تفسير من عبد العزيز أو ممن هو دونه، والمعنى أن عبد العزيز لم يسمع لفظة الخميس من أنس، بل إنما سمع منه "قالوا: جاء محمد" فقط، وسمع من بعض أصحابه "والخميس" وسُميّ الجيش بالخميس لأنه خمسة أقسام: مقدمةٌ وساقَةٌ وقَلْب وجناحان. وقيل: من تخميس الغنيمة، وتعقبه الأزهريّ بأن التخميس إنما ثبت بالشرع، وقد كان أهل الجاهلية يسمون الجيش خميسًا، فالتفسير الأول أوْلى، والتفسير مدرج. وقوله: عَنْوة، بفتح العين وسكون النون، أي قهرًا في عنف، أو صلحًا في رفق، ضد. ومن ثَمّ اختُلف هل كانت صلحًا أو عَنوة أو إجلاءًا، وصحح المنذريّ أن بعضها أُخذ صلحًا وبعضها عنوة وبعضها إجلاءًا، وبهذا يندفع التضاد بين الآثار. وقوله: فجُمع السبي بضم الجيم مبنيًا للمجهول. وقوله: فخذ جارية إنما أذِن -صلى الله عليه وسلم- لدَحْيَة في أخذ الجارية قبل القسمة؛ لأن له عليه الصلاة والسلام صَفِيّ المَغْنَم، يعطيه لمن يشاء، أو تنفيلًا له من أصل الغنيمة، أو من خُمس الخُمس بعد أن يتميز، أو قبل، على أن تحسب منه إذا يتميز، أو أذن له في أخذها لتقوم عليه بعد ذلك، وتحسب من سهمه. وقوله: فجاء رجل، قال في الفتح: لم أعرف اسمه. وقوله: قريظة، بضم القاف وفتح الراء والظاء المعجمة المُشالة. وقوله: والنضير، بفتح النون وكسر الضاد المعجمة الساقطة، قبيلتان من يهود خيبر. وقوله: خذ جارية من السبي غيرها، يعني وارتجعها منه؛ لأنه إنما كان أذن له في جارية من حشد السبي،

لا في أخذ أفضلهن؛ لأنها كانت من بيت النبوءة من ولد هارون عليه السلام، وبيت الرياسة لأنها بنت سيد قريظة والنضير، مع الجمال، فلما رآه أخذ أنفس السبي نسبًا وشرفًا وجمالًا استرجعها منه، لئلا يتميز دَحْيَة على سائر الجيش، مع أن فيهم من هو أفضل منه، وأيضًا لما فيه من انتهاك حرمتها مع علو مرتبتها، وربما ترتب على ذلك شقاق أو غيره مما لا يخفى، فكان اصطفاؤه عليه الصلاة والسلام لها قاطعًا لهذه المفاسد؛ لأنه عليه الصلاة والسلام هو أكمل الخلق في هذه الأوصاف، بل في سائر الأخلاق الحميدة. وذكر الشافعيّ في الأم، عن سِيرة الواقديّ، أنه عليه الصلاة والسلام أعطى دحية أخت كِنانة بن الربيع بن أبي الحَقيق، وكان زوج صفية، فكأنه عليه الصلاة والسلام طيّب خاطره لمّا استرجع منه صفية، بأن أعطاه أخت زوجها وفي سيرة ابن سيد الناس أنه أعطاه ابنتَيْ عم صفية. وفي رواية لمسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- اشترى صفية منه بسبعة أرؤس، وإطلاق الشراء على ذلك على سبيل المجاز، وليس في قوله "سبعة أرؤس" ما ينافي قوله هنا "خذ جارية" إذ ليس هنا دلالة على نفي الزيادة. وقوله: أعتقها وتزوجها، أَخذ بظاهره من القدماء سعيدُ بن المسيب وإبراهيم النخعيّ وطاوس والزُّهريّ، ومن فقهاء الأمصار الثَّوريّ وأبو يوسف وأحمد وإسحاق. قالوا: إذا أَعتقَ أَمَتَه على أن يجعل عتقها صداقها، صح العقد والعتق والمهر. وذهب الجمهور كمالك وأبي حنيفة والشافعيّ ومحمد وزُفَر واللَّيث وابن شُبْرُمة إلى أنه ليس لأحد أن يفعل هذا، فيتمَّ له النكاح بدون صداق، غير النبي -صلى الله عليه وسلم-. لأن الله تعالى لما جعل له أن يتزوج بغير صداق، كان له أن يتزوج على العِتاق الذي ليس بصَدَاق. ثم إن فعل هذا وقع العتاق، ولها عليه مهر المِثل، فإن أبت أن تتزوجه تسعى له في قيمتها عند أبي حنيفة ومحمد، وقال مالك وزفر: ولا شيء له عليها. وفي الأحكام لابن بُزيزة، وقال الشافعيّ وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن: ان كرهت نكاحه غرمت له قيمتها، فإنْ كانت مُعْسِرة استسعت في ذلك، وقال مالك وزفر: وإن كرهت فهي حرة، ولا

شيء له عليها، إلا أنْ يقول: لا أعتق إلَّا على هذا الشرط، فإن كرهت لم تعتق؛ لأنه من باب الشرط والمشروط. وأغرب التِّرمذيّ فقال: إن الشافعيّ قائل بقول أحمد، والمعروف عند الشافعية أن ذلك لا يصح، ونص الشافعيّ على أن من أعتق أمته على أن يتزوجها، فقبلت، عتقت ولم يلزمها أن تتزوج به، لكن يلزمها له قيمتها، لأنه لم يرض بعتقها مجانًا، فصار كسائر الشروط الفاسدة، فإن رضيت وتزوجته على مهر يتفقان عليه، كان لها ذلك المسمى، وعليها له قيمتها، فإن اتحدا تقاصّا. وممن قال بقول أحمد من الشافعية ابن حبان، صرح بذلك في صحيحه. وقال ابن دقيق العيد: الظاهرُ مع أحمد ومن وافقه، والقياس مع الآخرين، فيتردد الحال بين ظن نشأ عن قياس، وبين ظن نشأ عن ظاهر الخبر، مع ما تحتمله الواقعة من الخصوصية، وهي، وإن كانت على خلاف الأصل، لكن يتقوى ذلك بكثرة خصائص النبي -صلى الله عليه وسلم- في النكاح، وخصوصًا خصوصيته بتزويج الواهبة من قوله تعالى {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب: 50] ... الآية، وممن جزم بأن ذلك من الخصائص يحيى بن أكثم فيما أخرجه البيهقيّ قال: وكذا نقله المزنيّ عن الشافعيّ. قال: وموضع الخصوصية أنه أعتقها مطلقًا، وتزوجها بغير مهر ولا ولي ولا شهود، وهذا بخلاف غيره. وقال القرطبيّ: منع من ذلك مالك وأبو حنيفة لاستحالته، وتقرر استحالته من وجهين: أحدهما أن عقدها على نفسها إما أن يقع قبل عَتقها، وهو محال، لتناقض الحكمين: الحرية والرق، فإن الحرية حكمها الاستقلال، والرق ضده. وإما بعد العَتق، فلزوال حكم الجبر عنها بالعتق، فيجوز أن لا ترضى وحينئذ لا نكاح إلا برضاها. الوجه الثاني: أنّا إذا جعلنا العتق صَداقًا فإما أن يتقرر العتق حالة الرق، وهو محال لتناقضهما، أو حالة الحرية فيلزم أسبقيته على العقد، فيلزم وجود العتق حالة فرض عدمه، وهو محال لأن الصَّداق لابد أن يتقدم تقرره على الزوج إما نصًا وإما حكمًا، حتى تملك الزوجة طلبه، فإن اعتلوا بنكاح التفويض، فقد تحرزنا منه بقولنا "حكمًا" فإنها، وإن لم يتعين لها

حالة العقد شيء، لكنها تملك المطالبة، فثبت أنه يثبت لها حالة العقد شيء تطالب به الزوج، ولا يتأتّى مثل ذلك في العتق، فاستحال أن يكون صداقًا. قال في الفتح: وتُعُقب ما ادعاه من الاستحالة بجواز تعليق الصّداق على شرط إذا وُجد استحقته المرأة، كأنْ يقول: تزوجتك على ما سيستحق لي عند فلان، وهو كذا، فإذا حل المال الذي وقع العقد عليه استحقته. قلت: القرطبيّ مالكيّ، وما ذكر أنه متعقب عليه به فاسد في مذهبه، لا يجوز عنده هذا الشرط، فإذا كان جائزًا في مذهب صاحب الفتح لا يعترض عليه به، إذ لا يصح الاعتراض على مذهب بمذهب، وأجاب القائلون بعدم صحته، ذلك عن ظاهر الحديث، بأجوبة أقربها إلى لفظ الحديث أنه إنْ أعتقها بشرط أن يتزوجها فوجبت له عليها قيمتها، وكانت معلومة فتزوجها بها، ويؤيده قوله في رواية عبد العزيز بن صهيب: سمعت أنسًا قال: سبى النبي -صلى الله عليه وسلم- صفيةَ فأعتقها وتزوجها. فقال ثابت لأنس: ما أصدقها؟ قال: نفسها فأعتقها. هكذا أخرجه المصنف في المغازي، وفي رواية ثابت وعبد العزيز عن أنس قال: وصارت صفية لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم تزوجها، وجعل عتقها صداقها، فقال عبد العزيز لثابت: يا أبا محمد، أنت سألت أنسًا ما أمهرها؟ قال: أمهرها نفسها، فتبسم. وهذا ظاهر جدًا في أن المجعول مهرًا هو نفس العتق، وهو الذي أوَّلَ به بعضهم فقال: إنه جعل نفس العتق مهرًا أو أنه من خصائصه، وجزم بذلك الماورديّ. قال في الفتح: والتأويل الأول لا بأس به، فإنه لا منافاة بينه وبين القواعد، حتى لو كانت مجهولة، فإن في صحة العقد بالشرط المذكور وجهًا عند الشافعية. وقال آخرون: قوله "أعتقها وتزوجها". معنا أعتقها ثم تزوجها، فلما لم يعلم أنه ساق لها صداقًا قال: أصدقها نفسها، أي لم يصدقها شيئًا فيما أعلم، لم ينف أصل الصَّداق ومن ثُمّ قال أبو الطيّب الطَّبريّ من الشافعية وابن المرابط من المالكية، ومن تبعهما: إن قول أنس قاله ظنًا من نفسه، ولم يرفعه، وربما تأيد ذلك عندهم بما أخرجه البيهقي عن أُميمة، ويقال أَمة الله بنت رزينة عن أمها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أعتق صفية، وخطبها وتزوجها وأمهرها رزينة، وكان أتى بها

مسبية من قريظة والنضير. وهذا لا تقوم به حجة، لضعف إسناده، ويعارضه ما أخرجه الطبرانيّ وأبو الشيخ عن صفية نفسها قالت: أعتقتي النبي -صلى الله عليه وسلم-، وجعل عتقي صداقي، وهذا موافق لحديث أنس، وفيه رد على من قال: إن أنسًا قال ذلك بناء على ما ظنه. وقد خالف هذا الحديث أيضًا ما عليه كافة أهل السير، من أن صفية من سبي خيبر، قلت: يمكن أن يكون قوله "مسبية" راجع إلى رزينة لا إلى صفية، إذا لم يثبت أن رزينة من غير قريظة والنضير، ولم أرهم توخوا لنسبها في تعريف الصحابة، ويحتمل أن يكون أعتقها بشرط أن ينكها بغير مهر، فلزمها الوفاء بذلك، وهذا خاص بالنبي -صلى الله عليه وسلم- دون غيره. ويحتمل أنه أعتقها بغير عوض، وتزوجها بغير مهر في الحال، ولا في المال. قال ابن الصلاح: معناه أن العتق يحل محل الصداق، وان لم يكن صداقًا. قال: وهذا كقولهم: الجوع زاد من لا زاد له. قال: وهذا الوجه أصح الأوجه، وأقربها إلى لفظ الحديث، وتبعه النوويّ في الروضة، وهو من خصائصه عليه الصلاة والسلام. وأخرج الطحاويّ عن ابن عمر في قصة جُوَيرية بنت الحارث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جعل عتقها صداقها، وهو مما يتأيد به حديث أنس، لكن أخرج أبو داود عن عائشة في قصة جُويرية أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لما جاءت تستعين به في كتابتها: "هل لك أن أقضي عنك كتابتك وأتزوجك؟ قالت: نعم، قال: قد فعلت". واستشكله ابن حزم بأنه يلزمه منه إن كان أدى عنها كتابتها أن يكون ولاؤها لمكاتبها.، وأجيب بأنه ليس في الحديث التصريح بذلك؛ لأن معنى قوله "قد فعلت" رضيت، فيحتمل أن يكون -صلى الله عليه وسلم- عوَّض ثابت بن قيس عنها، فصارت له، فأعتقها وتزوجها، كما صنع في قصة صفية، أو يكون ثابت، لما بلغه رغبة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهبها له. وقوله: حتى إذا كان بالطريق، يعني سد الصهباء، وهي على بَريد من خيبر، غلط من قال سد الروحاء؛ لأنها على نيف وثلاثين ميلًا من المدينة من جهة مكة. وقوله: فأهدتها له من الليل، بالهمز، وفي بعض الروايات "فهدتها" بغير همزة. وصُوِّبِ لقول الجوهريّ: الهداءُ مصدر هديت أنا المرأة إلى زوجها.

وقوله: عروسًا، على وزن فعول، يستوي فيه المذكر والمؤنث ما داما في أعراسهما، وجمعه عُرُس، بضمتين للرجل، وعرائس للأنثى. وقوله: وبسط نطعًا، أي بكسر النون وفتح الطاء المهملة، وعليها اقتصر ثعلب، وتجوز فتح النون وسكون الطاء وفتحهما، وكسر النون وسكون الطاء، وهو بساط من أديم، ويجمع على أنطاع ونُطوع. وقوله: وأحسبه قد ذكر السويق، وفي رواية عبد الوارث الجزم بذكر السويق. وقوله: فحاسوا حَيْسًا، أي خلطوا وتَخِذوا، والحَيْس بفتح الحاء المهملة وسكون المثناة التحتية: السمن والتمر والأقط. قال الشاعر: التمرُ والسمنُ جميعًا والأقط ... الحيسُ إلَّا أنه لم يختلط وقد يخلط مع هذه الثلاثة غيرها كالسويق، وربما عوض الدقيق عن الأقط. وقوله: فكانت وليمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أي طعام عُرْسه من الوَلْم، وهو الجمع، سمي به لاجتماع الزوجين. وفي الحديث أن للسيد أن يتزوج أَمَتَه إذا أعتقها من نفسه، ولا يحتاج إلى وليّ ولا إلى حاكم، وقد اختلف السلف في ذلك، فقال مالك، وأبو حنيفة وأكثر أصحابه، والأوزاعيّ والثَّوريّ واللَّيث: يزوج الولي نفسه، ووافقهم أبو ثَور. وعن مالك: لو قالت الثَّيِّب لوليها: زوجني بمن رأيت، فزوجها من نفسه، أو ممن اختار، لزمها ذلك، ولو لم تعلم عين الزوج. وقال الشافعي: يزوجها السلطان أو ولي آخر مثله، أو أقعد سنة. ووافقه زُفَر وداود، وحجتهم أن الولاية شرطٌ في العقد، فلا يكون الناكح منكحًا، كما لا يبيع من نفسه. وقال ابن الجوزي: فإن قيل: ثواب العتق عظيم، فكيف فوته حيث جعله مهرًا، وكان يمكن جعل المهر غيره؟ فالجواب أن صفية بنت ملك، ومثلها لا يقنع إلَّا بالمهر الكثير، ولم يكن صداقها نفسها وذلك عندها أشرف من المال الكثير. واستنبط منه مطلويية الوليمة للعرس، وأنها بعد الدخول، وجوز النوويّ كونها قبله أيضًا، وعند المالكية أنها مندوبة، وكونها بعد الدخول ندب آخر.

رجاله أربعة

وعند المالكية والشافعية والحنفية قول بأنها واجبة، واستنبط أن السنة تحصل بغير اللحم، ومساعدة الأصحاب بطعام من عندهم، وإجابة الدعوة عند المالكية والشافعية واجبة في الوليمة مستحبة في غيرها، وعند الحنفية والحنابلة سنةٌ مطلقًا، سواءًا كانت وليمة أو غيرها. وفيه الزفاف في الليل، وقد جاء أنه عليه الصلاة والسلام دخل عليها نهارًا، ففيه جواز الأمرين. رجاله أربعة: وفيه ذكر أبي طلحة ودَحْية وصفية بنت حُيَيّ بن أخْطَب، أم المؤمنين، وأم سليم، وثابت. وفيه لفظ رجل مبهم. الأول: يعقوب بن إبراهيم الدورقيّ، وقد مرّ هو وإسماعيل بن علية وعبد العزيز بن صهيب في الثامن من كتاب الإيمان، ومرّ أنس بن مالك في السادس منه، ومرَّ أبو طلحة في السادس والثلاثين من كتاب الوضوء، ومرت أم سليم في السبعين من كتاب العلم، ومر دَحية في السابع من بدء الوحي، وثابت المراد به البنانيّ، وقد مرّ في الخامس من كتاب العلم، وأبو حمزة المراد به أنس بن مالك، ومرت صفية في الثالث والثلاثين من كتاب الحيض، والرجل المبهم قال ابن حجر: لم أقف على اسمه. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، والعنعنة في موضع واحد، ورواته ما بين بصريّ وكوفيّ. أخرجه البخاريّ هنا وفي النكاح عن قُتيبة ومسدد، ومسلم في النكاح والمغازي، وأبو داود في الخراج والنكاح والوليمة والتفسير. ثم قال المصنف: باب في كم تصلي المرأة من الثياب ولغير الأربعة في الثياب، وباب بالتنوين، وكم محذوفة المميز، أي كم

ثوبًا، وهي لها صدر الكلام. ولا يقدح في ذلك تأخُّرُها عن في الجارة؛ لأن الجار والمجرور ككلمة واحدة. قال ابن المنذر، بعد أن حكى عن الجمهور أن الواجب على المرأة أن تصلي في درع وخمار: المراد بذلك تغطية بدنها ورأسها، فلو كان الثوب واسعًا فغطت بفضله رأسها جاز. قال: وما رويناه عن عطاء أنه قال: تصلي في درع وخمار وإزار، وعن ابن سيرين مثله، وزاد "وملحفة"، فإني أظنه محمولًا على الاستحباب. ثم قال: وقال عكرمة: لو وارت جسدها في ثوب جاز. وفي رواية الكشميهني: لأَجَزْتُه، أي بفتح الجيم وسكون الزاي وضمير المتكلم. وهذا التعليق وصله عبد الرزاق وابن أبي شيبة، ولفظه "لو أخذت المرأة ثوبًا فتقنعت به حتى لا يرى من شعرها شيء أجزأ عنها" وعكرمة قد مر في السابع عشر من كتاب العلم.

الحديث الرابع والعشرون

الحديث الرابع والعشرون حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي الْفَجْرَ، فَيَشْهَدُ مَعَهُ نِسَاءٌ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ مُتَلَفِّعَاتٍ فِي مُرُوطِهِنَّ ثُمَّ يَرْجِعْنَ إِلَى بُيُوتِهِنَّ مَا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ. قوله: لقد كان، اللام في "لقد" جواب قسم محذوف، وقوله: فيشهد معه نساء من المؤمنات، وفي روايته في المواقيت "كن نساء المؤمنات يشهدن". ورواية الباب واضحة المعنى، والأخيرة قوله فيها: كُنّ، هو مثل قولهم: "أكلوني البراغيث" لأن قياسه الإفراد، وقد جمع، ونساء جمع امرأة لا واحد له من لفظه. وقوله: نساء المؤمنات، أي نساء هنا بمعنى الفاضلات، أي فاضلات المؤمنات، كما يقال: رجال القوم، أي فضلاؤهم. وقوله: يشهدن، أي يحضرن. وقوله: متلفِّعات في مُرُوطهن، بعين مهملة بعد الفاء المكسورة المشددة منصوب على الحال، وللأصيلي: متلفعات، بالرفع صفة للنساء، وفي رواية متلففات، بفائين. قال الأصمعي: التلفع أن تشتمل بالثوب حتى تجلل به جسدك، وفي شرح الموطأ لابن حبيب: التلفع لا يكون إلا بتغطية الرأس. والتلفف يكون بتغطية الرأس وكشفه. والمروط جمع مِرط بكسر الميم، وهو كساء مُعْلَم من خَزّ أو صوف أو غير ذلك. وقيل: لا يسمى مِرطًا إلا إذا كان أخضر، ولا يلبسه إلا النساء، وهو مردود بقوله: مرط من شعر أسود. وقوله: ما يعرفهنّ أحد، زاد في المواقيت "منَ الغَلَس" وهو يعين أحد الاحتمالين: هل عدم المعرفة بهن لبقاء الظلمة، أولمبالغتهن في التغطية؟ قال الداوديّ: معنى لا يعرفهن أحد أنساء أم رجال: أي لا يظهر للرائي إلَّا الأشباح خاصة. وقيل: لا يعرف أعيانهن، فلا يفرق بين خديجة وزينب، وضعّفه النوويّ

رجاله خمسة

بأن المتلفعة في النهار لا تعرف عينها، فلا تبقى في الكلام فائدة، وتعقب بأن المعرفة إنما تتعلق بالأعيان، فلو كان المراد الأول لعبر بنفي العلم، وما ذكره من أن المتلفعة بالنهار لا تعرف عينها فيه نظر؛ لأن لكل امرأة هيأة غير هيأة الأخرى في الغالب، ولو كان بدنها مغطى. وقال الباجيّ: هذا يدل على أنهن كن سافرات، إذ لو كن متنقبات لمنع تغطيةُ الوجه من معرفتهن لا الغَلَسُ، وفيه ما فيه؛ لأنه مبنيّ على الأشباه الذي أشار إليه النووي. وأما إذا قلنا إن لكل واحدة هيأة غالبًا، فلا يلزم ما ذكر، ولا معارضة بين عدم المعرفة هنا وبين حديث أبي برزة الآتي في المواقيت "أنه كان ينصرف من الصلاة حين يعرف الرجل جليسه" لأن هذا إخبار عن رؤيته المتلفعة على بُعد، وذلك إخبار عن رؤية الجليس، واعترض استدلال المصنف بهذا الحديث على جواز صلاة المرأة في الثوب الواحد، بأن الالتفاع المذكور يحتمل أن يكون فوق ثياب أُخرى، والجواب عنه أنه تمسك بأن الأصل عدم الزيادة على ما ذكر، على أنه لم يصرح بشيء، إلا أن اختياره يؤخذ في العام؛ من الآثار التي يودعها في الترجمة. وفي الحديث استحباب المبادرة بصلاة الصبح في أول الوقت، وجواز خروج النساء إلى المساجد لشهود الصلاة في الليل، ويؤخذ منه جوازه في النهار من باب أولى؛ لأن الليل مِظَنة الرِّيبة أكثر من النهار، ومحل ذلك إذا لم يخش عليهن أو بهن فتنة. واستدل به بعضهم على جواز صلاة المرأة مختمرة الأنف والفم، فكأنه جعل التلفع صفة لشهود الصلاة، وتعقبه عياض بأنها إنما أخبرت عن هيأة الانصراف. رجاله خمسة: الأول: أبو اليمان. والثاني: شعيب بن أبي حمزة، وقد مرا في السابع من بدء الوحي، ومرّ ابن شهاب في الثالث منه، ومرّ عُروة وعائشة في الثاني منه.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعَين، والعنعنة في موضع واحد، والإخبار كذلك. وفيه القول، ورواته ما بين حُمصيّ ومدنيّ، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ عن الصحابيّ. أخرجه البخاريّ هنا وفي الصلاة عن عبد الله بن يوسف والقعنبيّ، ومسلم وأبو داود والتِّرمذِيّ، والنَّسائيّ فيها أيضًا، وابن ماجه. ثم قال المصنف: باب إذ صلى في ثوب له أعلام ونظر إلى علمها وأنث بالنظر إلى الخميصة الآتية قريبًا، وفي رواية ونظر إلى علمه.

الحديث الخامس والعشرون

الحديث الخامس والعشرون حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- صَلَّى فِي خَمِيصَةٍ لَهَا أَعْلاَمٌ، فَنَظَرَ إِلَى أَعْلاَمِهَا نَظْرَةً، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: "اذْهَبُوا بِخَمِيصَتِي هَذِهِ إِلَى أَبِي الجَهْمٍ وَائْتُونِي بِأَنْبِجَانِيَّةِ أَبِي الجَهْمٍ، فَإِنَّهَا أَلْهَتْنِي آنِفًا عَنْ صَلاَتِي". قوله: في خميصة أي بفتح المعجمة وكسر الميم وبالصاد المهملة، كساء مربع له عَلَمان. وقوله: بأنبجانيَّة أبي جهم، وهي بفتح الهمزة، وحكى كسرها، وسكون النون، وكسر الموحدة، وتخفيف الجيم، وبعد النون ياء النسبة، كساء غليظ لا عَلَم له، يقال كبش أنبجانيّ إذا كان ملتفًا كثير الصوف، وكساء أنبجانيّ كذلك، والصواب أن هذه النسبة إلى موضع يقال له أنبجان، وقيل: منسوب إلى منبج؛ البلد المعروف بالشام، وإذا نسب إليه فتمت الباء فقيل كساء منبجانيّ، أخرجوه مَخْرج منظراني. وخطَّأ أبو موسى المدينيّ من زعم أن النسبة هنا إلى منبج. وقوله: إلى أبي جهم، إنما خصه -صلى الله عليه وسلم- بإرسال الخميصة إليه؛ لأنه كان أهداها للنبي -صلى الله عليه وسلم-، كما رواه مالك في الموطأ، ووقع عند الزبير بن بكّار ما يخالف ذلك، فأخرج من وجه مرسل "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أتى بخميصتين سوداوين، فلبس إحداهما، وبعث الأخرى إلى أبي جهم". ولأبي داود من طريق أُخرى. "وأخذ كرديًا لأبي جهم، فقيل: يا رسول الله، الخميصة كانت خيرًا من الكرديّ". قال ابن بطال: إنما طلب منه ثوبًا غيرها ليعلمه أنه لم يرد عليه هديته استخفافًا به. قال: وفيه أن الواهب إذا ردت عليه هديته من غير أن يكون هو الراجع فيها، فله أن يقبلها من غير كراهة، وهذا مبنيّ على أنها واحدة. ورواية

الزبير، والتي بعدها، تصرح بالتعدد. وقوله: فإنها ألهتني، أي شغلتني من "لَهِيَ" بالكسر، إذا غفل، لا من لها يلهو لهوًا إذا لعب. وقوله: آنفًا، أي قريبًا، وهو مأخوذ من ائناف الشيء، أي ابتدائه. وقوله: عن صلاتي، أي عن كمال الحضور فيها، ولكن الرواية المعلقة الآتية تدل على أنه لم يقع له شيء من ذلك، وإنما خشي أن يقع لقوله "فأخاف" وفي رواية مالك في الموطأ "فإني نظرت إلى عَلَمها في الصلاة فكاد يفتنني" والجمع بين الروايتين يحمل قوله "ألهتني" على قوله "كادت" فيكون إطلاق الأولى للمبالغة في القرب لا لتحقق وقوع الإلهاء. وقد يقال: إن له عليه الصلاة والسلام حالتين: حالة بشرية وحالة يختص بها خارجة عن ذلك، فبالنظر إلى الحالة البشرية قال ألهتني، وبالنظر إلى الحالة الثانية لم يجزم به، بل قال أخاف، ولا يلزم من ذلك الوقوع. قال ابن دقيق العيد: فيه مبادرة الرسول عليه الصلاة والسلام إلى مصالح الصلاة، ونفي ما لَعَلَّه يخدش فيها، ونزع الخميصة ليستن به في ترك كل شاغل، وليس المراد ببعثها إلى أبي جهم أن يستعملها في الصلاة؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يكن ليبعث إلى غيره بما يكرهه لنفسه، فهو كإهداء حالة عطّار وإلى عمر مع تحريم لبسها، لينتفع بها ببيع أو غيره. ويحتمل أن يكون ذلك من جنس قوله "كلْ فإني أُناجي من لا يناجي" ويستنبط منه كراهية كل ما يشغل عن الصلاة من الأصباغ والنقوش ونحوها، والحض على حضور القلب، وقد شهد القرآن بالفلاح للمصلين الخاشعين، والفلاح أجمع اسم لسعادة الأخرى، وبانتفاء الخشوع ينتفي الفلاح، فالمصلي يناجي ربه، فعظم في نفسك قدر من تناجيه، وانظر مَن تناجي وكيف تناجي، وبماذا تناجي، فاعلم واعمل تسلم. وفيه قبول الهدية من الأصحاب، والإرسال إليهم، والطلب منهم. واستدل به الباجيّ على صحة المعاطاة لعدم ذكر الصيغة، وقال الطيبيّ فيه إيذان بأن للضرر والأشياء الظاهرة تاثيرًا في القلوب الطاهرة والنفوس الزكية،

رجاله خمسة

فضلًا عمن دونها، وفيه أن اشتغال الفكر اليسير في الصلاة غير قادح فيها، وهو مجمع عليه، وفيه أن الصلاة تصح وإن حصل فيها فكر بما ليس متعلقًا بالصلاة. والذي حُكِي عن السلف أنه مما يضر غير معتد به. رجاله خمسة: الأول: أحمد بن يونس، وقد مرّ في التاسع عشر من كتاب الإيمان، ومرّ إبراهيم بن سعد في السادس عشر منه، ومرّ ابن شهاب في الثالث من بدء الوحي، ومرّ عُروة وعائشة في الثاني منه أيضًا. وفيه ذكر أبي جهم، واسمه عامر بن حذيفة بن غانم بن عامر بن عبد الله بن عَبيد بن عُوَيج بن عَدِيّ بن كعب القُرشيّ العَدَويّ، وقيل اسمه عُبيد الله، أسلم عام الفتح، وصحب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان مقدمًا في قريش معظمًا، وكانت فيه وفي بنيه شدة وعرامة. قال الزبير: كان أبو الجهم بن حذيفة من مشيخة قريش، عالمًا بالنسب، وهو أحد الأربعة الذين كانت قريش تأخذ عنهم النسب، وكان من المعمَّرين، حضر بناء الكعبة مرتين: حين بنتها قُريش، وحين بناها ابن الزبير، وعمل فيها، وقال: عملت في الكعبة مرة في الجاهلية بقوة غلام يَفاع، وفي الإِسلام بقوة شيخ فانٍ. وهو أحد الأربعة الذين تولّوا دفن عثمان، وأخرج البغويّ من طريق عُروة قال: لما أُصيب عثمان أرادوا الصلاة عليه، فمُنعوا، فقال أبو الجهم: دعوه فقد صلى الله عليه ورسوله، وأخرج ابن أبي عاصم عن أبي بكر بن عبيد الله بن أبي الجهم قال: سمعت أبا الجهم يقول: لقد تركت الخمر في الجاهلية، وما تركتها إلَّا خشية على عقلي، وما فيها من الفساد. وثبت ذكره في هذا الحديث في الصحيحين، وروى الزُّبير بن بكّار من وجه آخر مرسل "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أتى بخميصتين سوداوين، فلبس إحداهما، وبعث الأخرى إلى أبي جهم، ثم أنه أرسل إلى أبي جهم في تلك الخميصة، وبعث إليه التي لبسها هو، وليس هي التي كانت عند أبي جهم بعد أن لبسها أبو جهم لبسات.

لطائف إسناده

وثبت ذكره في حديث فاطمة بنت قيس لما قالت "إن معاوية وأبا جهم خطباني، أما أبو جهم فلا يضع العصا عن عاتقه، وقالوا: لأنه ضرّاب للنساء. وقال ابن سعد: كان شديد العارضة، وكان عمر يمنعه حتى كف من لسانه، وروى الزبير بن بكار أن النبي -صلى الله عليه وسلم- استعمله على النفل يوم حنين، فجاء خالد بن البرصاء فتناول رمامًا من شَعْر فمنعه أبو جهم، فقال: إن نصيبي فيه أكثر، فتدافعا، فعلاه أبو جهم فشجه منقلة، فقضى فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- بخمس عشرة فريضة. وأخرج ابن المبارك في الزهد أن أبا جهم بن حذيفة قال: انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عمي، ومعي شَنّة من ماء، فذكر القصة. قال ابن سعد: إنه مات في خلافة معاوية، وما مرّ من أنه حضر بناء ابن الزبير الكعبة ينافي هذا، فيدل على أنه تأخر إلى خلافة ابن الزبير، ويؤيده ما رواه ابن أخي الأصمعي، عن عمه في النوادر، عن عيسى بن عمر قال: وفد أبو جهم على معاوية، ثم على يزيد، ثم ذكر قصة له مع ابن الزبير. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، والعنعنة في موضعين، ورواته ما بين مدنيّ وكوفيّ. وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. أخرجه البخاريّ هنا وفي اللباس عن موسى بن إسماعيل وأبو داود فيه أيضًا، وكذلك ابن ماجه ومسلم والنَّسائي في الصلاة. ثم قال: وقال هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: "قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: كنت انظر إلى عَلَمها وأنا في الصلاة، فأخاف أن تفتنني" قوله: فأخاف أن تفتنني، من الثلاثيّ. وسنده الثلاثة مروا في الثاني من بدء الوحي، وهذا التعليق أخرجه مسلم في صحيحه موصولًا، وأبو داود وأحمد وابن أبي شيبة. باب إن صلّى في ثوب مصلَّب أو تصاوير، هل تفسد صلاته؟ وما ينهى من ذلك؟ قوله: مصلب، بفتح اللام المشددة، أي فيه صُلبان منسوجة أو منقوشة، ويمكن أن يكون أشار بقوله "مصلب" إلى ما ورد في بعض طرق هذا الحديث كعادته، وذلك فيما أخرجه في اللباس عن عائشة قالت: "لم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

يترك في بيته شيئًا فيه تصليب إلَّا نقضه" وللإسماعيليّ "سترًا أو ثوبًا" بدل شيئاً. وقوله: أو تصاوير، أي في ثوب وفي تصاوير، كأنه حذف المضاف لدلالة المعنى؛ لأن الصلاة فيه. وقال الكرمانيّ: هو عطف على ثوب لا على مصلب، والتقدير: أو صلى في تصاوير. وعند الإِسماعيليّ "أو بتصاوير" وهو يرجح الاحتمال الأول. قاله في الفتح. ولم يظهر لي وجه الترجيع، وعند أبي نعيم "في ثوب مصلب أو مصور". وقوله: هل تفسد صلاته، جرى فيه المصنف على قاعدته في ترك الجزم فيما فيه اختلاف، وهذا من المختلف فيه، وهذا مبنيٌّ على أن النهي هل يقتضي الفساد أم لا؟ والجمهور إن كان المعنى في نفسه واقتضاه، وإلّا فلا. وقوله: وما يُنهى من ذلك، أي وما ينهى عنه من ذلك، وفي رواية "وما يُنهى عن ذلك" وفي رواية أبي الوقت والأصيليّ "وما ينهى عنه".

الحديث السادس والعشرون

الحديث السادس والعشرون حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ قِرَامٌ لِعَائِشَةَ سَتَرَتْ بِهِ جَانِبَ بَيْتِهَا فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "أَمِيطِي عَنَّا قِرَامَكِ هَذَا، فَإِنَّهُ لاَ تَزَالُ تَصَاوِيرُهُ تَعْرِضُ فِي صَلاَتِي". قوله: كان قِرام، بكسر القاف وتخفيف الراء، ستر رقيق من صوف ذو ألوان، أو رقم ونقوش. وقوله: أميطي، أمر من أماط أي: أزيلي وزنًا ومعنى، فإنه لا تزال تصاوير، أي بغير ضمير، والهاء في فإنه ضمير الشأن، وفي رواية "تصاويره" بإضافته إلى الضمير، فضمير "إنه" للثوب. وقوله: تَعْرِض، بفتح أوله وكسر الراء، أي تلوح، وللإِسماعيليّ "تَعَرّض" بفتح العين وتشديد الراء، وأصله تَتَعَرَّض، ودل الحديث على أن الصلاة لا تفسد بذلك؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يقطعها، ولم يعدها، لكن تكره الصلاة حينئذ، لما فيه من سبب اشتغال القلب المفوت للخشوع. وظاهر الحديث لا يوفي بجميع ما تضمنته الترجمة إلَّا بعد التأمل؛ لأن الثوب، وإن كان ذا تصاوير، لكنه لم يلبسه، ولم يكن مصلبًا، ولا نهى عن الصلاة فيه صريحًا. والجواب أمّا أولًا فإن منع لبسه بطريق الأوْلى، وأما ثانيًا فبإلحاق المصلب بالمصوّر، لاشتراكهما في أن كلًا منهما قد عُبِد من دون الله تعالى، أو أشار إلى الحديث المذكور فيه التصليب كما مرّ، وأما ثالثًا فإن الأمر بالإِزالة مستلزم للنهي عن الاستعمال، وتمسك الشافعية بما وقع فيه النهي عن القِرام الذي فيه التصاوير، بأن التصاوير كلها محرمة. وقد قال النوويّ منهم: قال العلماء: تصوير صورة الحيوان حرام شديد التحريم، وهو من الكبائر متوعد عليه بالوعيد

الشديد، وسواء صنعه لما يمتهن أو لغيره، فصنعه حرام بكل حال، وسواء كان في ثوب أو بساط أو درهم أو دينار أو فَلْس أو إناء أو حائط أو غيرها، فأما تصوير ما ليس فيه صورة حيوان، فليس بحرام. ونقل إمام الحرمين وجهًا: أن الذي يرخص فيه مما لا ظل له، ما كان على ستر أو وسادة، وأما ما على الجدار والسقف فيمنع، والمعنى فيه أنه بذلك يصير مرتفعًا فيخرج عن هيأة الامتهان، بخلاف الثوب، فإنه بصدد أن يمتهن، وتساعده عبارة مختصر المزني "صورة ذات روح إن كانت منتصبة" ونقل الرافعيّ عن الجمهور أن الصورة إذا قطع رأسها ارتفع المانع، وقال المتولي في "التتمة" لا فرق، وقال النوويّ جواز اتخاذ الصور إذا كانت لا ظل لها، وهي مع ذلك مما يوطأ ويداس، أو يمتهن بالاستعمال، كالمخاد والوسائد، هو قول جمهور العلماء من الصحابة والتابعين. وقول الثّوري ومالك وأبي حنيفة والشافعيّ: ولا فرق في ذلك بين ما له ظل وما لا ظل له، فإنْ كان معلقًا على حائط أو ملبوسًا أو عمامة أو نحو ذلك مما لا يعد ممتهنًا، فهو حرام. وقال في الفتح: ويستفاد من الحديث، أي حديث عائشة المذكور في الباب، أنه لا فرق في تحريم التصوير بين أن تكون الصورة لها ظل أو لا، ولا بين أن تكون مدهونة أو منقوشة ومنقورة أو منسوجة. وحكى أبو محمد الجُوَينيّ أن نسج الصورة في الثوب لا يمتنع؛ لأنه قد يلبس. وطروه المتولّي في التصوير على الأرض ونحوها. وصحح النوويُّ تحريم جميع ذلك، قال: ويستثنى من جواز تصوير ما له ظل ومن اتخاذه لعبُ البنات، لما ورد من الرخصة في ذلك، هذا حاصل كلام الشافعية في المسألة. وحاصل مذهب المالكية فيها هو أن تمثال ما له روح إن كان له ظل وهو يدوم، كالرصاص والنحاس، حرام اتفاقًا، وإن كان لا يدوم، كالفخار، ففيه قولان، والمشهور المنع، وهذا إذا لم يكن للعب البنات، وإلاّ فهو جائز. وهل يلتحق ما يصنع من الحلوى بالفخار أو بلعب البنات؟ محل تأمل، وإن كان لا ظل له بأن كان في ثوب ونحوه، فإنْ كان ممتهنًا بالتوسد والوطء والفراش، كان

خلاف الأَوْلى، وإن كان غير ممتهن، بأن كان معلقًا مثلًا، كان مكروهًا كراهة تنزيه، وهذا كله إذا كان تام الصورة. وإن كان ناقص عضو فهو جائز. كما إذا كان جمادًا أو شجرًا أو غيره، فإنه جائز ولا فرق في نقص العضو بين الرأس وغيره، مما لا يحدث به على مشهور. وصحح ابن العربيّ أن الصورة التي لا ظل لها إذا بقيت على هيأتها تحرم، سواء كانت مما يمتهن أم لا وإن قطع رأسها أو فرقت هيأتها جاز، وهذا المذهب منقول عن الزُّهريّ، وقواه النوويّ، وقد يشهد له حديث القِرام المارّ، وحديث النَّمرقة الآتي في اللباس. وقيد مجاهد جواز تصوير الشجر بما لا يثمر، وأما ما يثمر فالحقه بما له روح. قال عياض: لم يقله أحد غير مجاهد، ورده الطحاويّ بأن الصورة لمّا أبيحت بعد قطع رأسها، التي لو قطعت من ذي الروح لما عاش، دل ذلك على إباحة ما لا روح له أصلًا. قال في الفتح: وأظن مجاهدًا سمع حديث أبى هريرة المخرج في اللباس "فليخلقوا حبَّة، وليخلقوا ذرة" فإنّ في ذكر الذرة إشارة إلى ما له روح. وفي ذكر الحبة إشارة إلى ما ينبت مما يؤكل، وأما ما لا روح فيه ولا يثمر، فلم تقع الإشارة إليه. وقال ابن العربيّ: حاصل ما في اتخاذ الصور أنها إن كانت ذات أجسام حَرُم بالإجماع، وإن كانت رَقْمًا فأربعة أقوال: الأول: يجوز مطلقًا على ظاهر قوله في حديث زيد بن خالد "إلا رَقمًا في ثوب". الثاني: المنع مطلقًا حتى الرقم، قلت: لظاهر حديث القِرام المتقدم. الثالث: إن كانت الصورة باقية الهيأة قائمة الشكل، حَرُم، وإن قطعت الرأس أو تفرقت الأجزاء جاز. قال: وهذا هو أصح الأقوال. قلت: وحديث أبي هريرة الآتي قريبًا شاهد له. الرابع: إن كان مما يمتهن جاز، وإن كان معلقًا لم يجز، قلت: وحديث عائشة الآتي شاهد له.

واستدلت المالكية لمذهبها بحديث أبي هريرة في السنن وصححه التِّرمذيّ وابن حبّان، ولفظه "أتاني جبريل فقال: أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلتُ إلَّا أنه كان على الباب تماثيل، وكان في البيت قِرام ستر فيه تماثيل، وكان في البيت كلب، فَمُر برأس التمثال الذي على باب البيت يقطع فيصير كهيئة الشجرة، ومر بالستر فليقطع فليجعل منه وسادتان منبوذتان توطئان، ومر بالكلب فليخرج، ففعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" وفي رواية النَّسائيّ "إما أن تقطع رؤوسها أو تُجعل بسطًا توطأ" ففي هذا الحديث بيان أن الصورة التي تمتنع الملائكة من الدخول في المكان الذي تكون فيه باقية على هيأتها، مرتفعة غير ممتهنة، فأما لو كانت ممتهنة أو غير ممتهنة، لكنها غيرت عن هيأتها، إما بقطعها من نصفها، أو بقطع رأسها فلا امتناع. وقد قال الخطابيّ: الصور التي لا تدخل الملائكة البيت الذي هي فيه ما يحرم اقتناؤه، وهو ما يكون من الصور التي فيها الروح مما لم يقطع رأسه، أو لم يمتهن. واستدلوا أيضًا بحديث عائشة المخرج عند المصنف في اللباس "فجعلناه وسادة أو وسادتين" وفي رواية "فاتخذت منه نُمْرُقَتين، فكانتا في البيت يجلس عليها" ولفظه عند مسلم "فجعلته مِرْفقتين، فكان يرتفق بهما في البيت". وعورض حديث عائشة هذا بحديثها الذي مرّ في القِرام، وحديثها المخرج في اللباس، حيث قالت فيه "إن هذه النمرقة لتجلس عليها وتوسدها، فامتنع من الدخول حتى أزالتها" فظاهر الأول يدل على أنه عليه الصلاة والسلام استعمل الستر الذي فيه الصورة بعد أن قطع وعملت منه الوسادة، وهذا يدل على أنه لم يستعمله أصلًا، ويمكن الجمع بينهما بأنه لا يلزم من جواز اتخاذ ما يوطأ من الصور جوازُ القعود على الصورة، فيجوز أن يكون استعمل من الوسادة ما لا صورة فيه، ويجوز أن يكون رأى التفرقة بين القعود والاتكاء، وهذا بعيد جدًا، أو يجمع بأنها لما قطعت الستر، وقع القطع في وسط الصورة مثلًا، فخرجت عن هيأتها، فلهذا صار يرتفق بها، ويؤيد هذا الجمع حديثُ أبي هريرة المتقدم. وقال الداوديّ: إن حديث النمرقة فاسخ لجميع الأحاديث لدالة على

الرخصة، واحتج بأنه خبر، والخبر لا يدخله النسخ، فيكون هو الناسخ، ورُدَّ هذا بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، وقد أمكن الجمع فلا يلتفت لدعوى النسخ، وكون الخبر لا يدخله النسخ رده ابن التين، بأن الخبر إذا قارنه الأمر، جاز دخول النسخ فيه. ويمكن الجمع أيضًا بأن الثاني كانت تصاويره من ذوات الأرواح، والأول كانت من غير الحيوان. وأما الحنفية فقد قالوا إن الصور التي تكون فيما تبسط وتفرش وتمتهن خارجة عن النهي الوارد في التصاوير، لحديث زيد بن خالد "إلا رقمًا في ثوب" وكان أبو حنيفة وأصحابه يكرهون التصاوير في البيوت بتمثال، ولا يكرهون فيما يبسط، ولم يختلفوا أن التصاوير في الستور المعلقة مكروهة، ونقل عن الحنفية أنه لا تكره الصلاة إلى جهة فيها صورة إذا كانت صغيرة أو مقطوعة الرأس، وأما الحنابلة فمذهبهم جواز الصورة في الثوب، ولو كان معلقًا، على ما في خبر أبي طلحة، لكن إنْ ستر به الجدار منع عندهم، وكذا إن لُبس أو عُلق على ما هو الراجح عندهم، ويجوز إن افترش أو جعل مخدة، والذي يحرم صورة الحيوان، فإن أُزيل منها ما لا تبقى معه حياة لم تكره. ولم يحضرني الآن تفصيل مذهبهم، وهو قريب من مذهب المالكية. وقد قال الرافعيّ: في دخول البيت الذي فيه الصور وجهان، قال الأكثر يكره، وقال أبو محمد يحرم، فلو كانت الصورة في ممر الدار لا داخلها، كما في ظاهر الحمام، أو دهليزها، يمتنع الدخول. قال: وكان السبب فيه أن الصورة في الممر ممتهنة، وفي المجلس مكرمة. قال في الفتح: وقصة إطلاق نص المختصر، وكلام الماوردي وابن الصّبّاغ وغيرهما: لا فرق. قلت مذهب المالكية حرمة الدخول في محل فيه صورة محرمة مطلقًا. وذهب بعض السلف إلى أن الممنوع ما كان له ظل، وأما ما لا ظل له فلا بأس باتخاذه. قال النوويّ هذا مذهب باطل وما قاله مردود، فإن هذا المذهب أخرجه ابن أبي شيبة بسند صحيح عن القاسم بن محمد الذي هو أحد فقهاء المدينة السبعة، وكان من أفضل أهل زمانه، وهو الذي روى حديث النمرقة عن عائشة،

رجاله أربعة

فلولا أنه فهم الرخصة في مثل الحَجَلة ما استجاز استعمالها، فلعله تمسك في ذلك بعموم قوله "إلَّا رقمًا في ثوب" فإنه أعم من أن يكون معلقًا أو مفروشًا. وكأنه جعل إنكار النبي -صلى الله عليه وسلم- على عائشة تعليق الستر المذكور مركبًا من كونه مصورًا، ومن كونه ساترًا للجدار، ويؤيده ما في بعض طرقه عند مسلم عن زيد بن خالد قال: دخلت على عائشة فذكر نحو الحديث، لكن قال: "فجذبه حتى هتكه" وقال إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين. قال: فقطعنا منه وسادتين ... الحديث، فهذا يدل على أنه كره ستر الجدار بالثوب المصور، فلا يساويه الثوب الممتهن، ولو كانت فيه صورة، وكذلك الثوب الذي لا يستر به الجدار، فهذا لا يقال له مذهب باطل. لكن الجمع بين الأحاديث الواردة في ذلك يدل على أنه مذهب مرجوح، وأن الذي رُخِّص فيه من ذلك، ما يُمتهن، لا ما كان منصوبًا. وقد أخرج ابن أبي شيبة عن عكرمة قال: كانوا يقولون؛ في التصاوير في البسط والوسائد التي توطأ ذُلّ لها. وأخرجٍ عنه أيضًا أنه قال: كانوا يكرهون ما نصب من التماثيل نصبًا، ولا يرون بأساً بما وطئته الأقدام. وأخرج أيضًا عن ابن سيرين وسالم بن عبد الله وعكرمة بن خالد وسعيد بن جبير أنهم قالوا: لا بأس بالصورة إذا كانت تُوطأ، وأخرج أيضًا عن عُروة "أنه كان يتكىء على المرافق فيها التماثيل الطير والرجال". واعلم أن التحريم والوعيد الحاصلين لصانع الصورة حاصلان لمستعملها؛ لأنها لا تصنع إلَّا لتستعمل، فالصانع مسبب، والمستعمل مباشر، فيكون أولى بالوعيد. ولم يبق من مباحث هذا المحل إلا الكلام على عذاب المصورين يوم القيمة، ويأتي إن شاء الله تعالى الكلام عليه عند أول ذكره. رجاله أربعة: الأول: أبو معمر عبد الله بن عمرو، وقد مرّ هو وعبد الوارث في السابع عشر من كتاب العلم، ومرّ عبد العزيز بن صهيب في الثامن من كتاب الإِيمان، ومرّ

لطائف إسناده

أنس بن مالك في السادس منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، والعنعنة في موضع واحد، ورجاله كلهم بصريون. أخرجه البخاريّ هنا وفي اللباس والنَّسائيّ بألفاظ مختلفة. ثم قال المصنف باب من صلى في فروج حرير ثم نزعه الفَرُّوج، بفتح الفاء وتشديد الراء المضمومة وآخره جيم، وهو القَبَاء المُفَرَّج من خلف، وهو من لبوس الأعاجم، وحُكي ضم أوله وتخفيف الراء على وزن خُرُوخ.

الحديث السابع والعشرون

الحديث السابع والعشرون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: أُهْدِيَ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَرُّوجُ حَرِيرٍ، فَلَبِسَهُ فَصَلَّى فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَنَزَعَهُ نَزْعًا شَدِيدًا كَالْكَارِهِ لَهُ، وَقَالَ: "لاَ يَنْبَغِي هَذَا لِلْمُتَّقِينَ". قوله: أُهدِي، بضم أوله من الإهداء، والذي أهداه هو أُكَيدر بن عبد الملك، صاحب دومة الجندل. وقوله: كالكاره له، وفي حديث جابر عند مسلم "صلى في قَباء ديباج، ثم نزعه وقال: نهاني عنه جبريل" فالنهي سبب نزعه له، وذلك ابتداء تحريمه. وقوله: لا ينبغي هذا، يحتمل أن تكون الإشارة اللبس وتحتمل أن تكون للحرير، فيتناول غير اللبس من الاستعمال كالافتراش، ويأتي الكلام عليه قريبًا إن شاء الله تعالى. ورجَّح عياض أن المنع فيه لكونه حريرًا، واستدل لذلك بحديث جابر المار قريبًا. وقوله: للمتقين، يحتمل أن يكون نزعه لكونه كان حريرًا صرفًا، ويمكن أن يكون نزعه لكونه من جنس الأعاجم، فقد أخرج أبو داود بسند حسن عن أبي عمر، رفعه "من تشبه بقوم فهو منهم" والتردد مبني على تفسير المراد بالمتقين، فإن كان المراد مطلق المؤمن حُمِل على الأول، وإنْ كان المراد به قدرًا زائدًا على ذلك، حمل على الثاني. وقد قال القرطبي في "المفهم": المراد بالمتقين المؤمنون الذين خافوا الله تعالى، واتقوه بإيمانهم وطاعتهم له. وقال غيره: لعل هذا من باب التهيج للمكلف على الأخذ بذلك؛ لأن من سمع أنَّ مَن فعل ذلك كان غير متقٍ، فهم منه لا يفعله إلا المستحق، فيأنف من فعل ذلك، لئلا يوصف بأنه غير متقٍ. وقد استوفينا الكلام على التقوى ومراتبها في آخر حديث من كتاب الإِيمان استيفاء لا مزيد عليه.

واستدل به على تحريم الحرير للرجال دون النساء؛ لأن اللفظ لا يتناولهن على الراجح ودخولهن بطريق التغليب مجاز يمنع منه ورودُ الأدلة الصريحة على إباحته لهن، فقد أخرج أحمد وأصحاب السنن، وصححه ابن حبّان والحاكم، عن عليّ "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخذ حريرًا وذهبًا وقال: هذان حرامان على ذكور أمتي، حلٌّ لإناثهم". وأخرج أحمد والطحاويّ، وصححه عن مسلمة بن مَخْلَد أنه قال لعُقْبة بن عامر: قم فحدث بما سمعت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: سمعته يقول: "الذهب والحرير حرامٌ على ذكور أمتي، حِلٌّ لإِناثهم" فتحريمه على الرجال وحله للنساء هو الذي انعقد عليه الإِجماع بعد ابن الزبير ومن وافقه، وقد نقل عن علي وابن عمر وابن الزبير وأبي موسى وحذيفة، وعن الحسن وابن سيرين حرمتُه حتى على النساء، وقال قوم: يجوز لبسه مطلقًا، وحملوا الأحاديث الواردة في النهي عن لبسه على من لبسه خُيَلاء أو على التنزيه، وهذا الثاني ساقط كثبوت الوعيد على لبسه. وقد أخرج البخاريّ عن ابن الزبير عن عمر رفعه "من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة" زاد ابن الزبير "ومن لم يلبسه في الآخرة لم يدخل الجنة" قال الله تعالى {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج: 23]. وأخرج النَّسائي مثله عن ابن عمر، وأخرج النَّسائيّ وأحمد، وصححه الحاكم عن أبي سعيد "وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه هو" وأعدل الأقوال أن الفعل المذكور مقتض للعقوبة المذكورة، وقد يتخلف ذلك لمانع، كالتوبة والحسنات التي توازن، والمصائب التي تكفر، وكدعاء الولد بشرائط، وكذا إشفاعه من يأذن له في الشفاعة، وأعم من ذلك كله عفو أرحم الراحمين. وفيه حجة لمن أجاز لبس العَلَم من الحرير إذا كان في الثوب، وخصه بالقدر المذكور، وهو أربع أصابع، وهذا هو الأصح عند الشافعية، وفيه حجة على من أجاز العَلَم مطلقًا، ولو زاد على أربعة أصابع، وهو منقول عن بعض المالكية، وفيه حجة على منع العلم في الثوب مطلقًا، وهو ثابت عن الحسن وابن سيرين وغيرهما، لكن يحتمل أن يكونوا منعوه ورعًا، وإلّا فالحديث حجة عليهم، فلعله لم يبلغهم.

قال النووي: وقد نقل عن مالك، وهو قول مردود، وكذا مذهب من أجاز بغير تقدير، واستدل به على جواز لبس الثوب المطرز بالحرير، وهو ما جعل عليه طراز حرير مركب، وكذلك المُطرَّف وهو ما سُجّفت أطرافه بسجف من حرير بالتقدير المذكور، وقد يكون التطريز في نفس الثوب بعد النسج، وفيه احتمال، واستدل به أيضًا على جواز لبس الثوب الذي يخالطه من الحرير مقدار العلم، سواء كان ذلك القدر مجموعًا أو مفرقًا وهو قوي. واختلف في علة تحريم الحرير على الرجال على رأيين مشهورين: أحدهما الفخر والخيلاء، والثاني لكونه ثوب رفاهية وزينة، فيليق بزي النساء دون شهامة الرجال، ويحتمل علة ثالثة، وهي التشبه بالمشركين، وهذا قد رجع إلى الأول لأنه من سمة المشركين، وقد يكون المعنيان معتبرين، إلَّا أن المعنى الثاني لا يقتضي التحريم؛ لأن الشافعي قال في الأم: ولا أكره لباس اللؤلؤ إلّا للأدب، فإنه زيُّ النساء، واستشكل بثبوت اللعن للمتشبهين من الرجال بالنساء، فإنه يقتضي منع ما كان مخصوصًا بالنساء في جنسه وهيأته. وذكر بعضهم علة أخرى، وهي السَّرَف قال ابن أبي جمرة: إن قلنا إن تخصيص النهي للرجال لحكمة، فالذي يظهر أنه سبحانه وتعالى علم قلة صبرهن عن التزين، فلطف بهن في إباحته، ولأن تزيينهن غالبًا إنما هو للأزواج. وقد ورد أن حُسْن التَّبَعُّل من الإيمان. قال: ويستنبط من هذا أن الفحل لا يصلح له أن يبالغ في استعمال الملذوذات لكون ذلك من صفات الإناث، ودل الحديث على أن الصبيان لا يحرم عليهم لبسه؛ لأنهم لا يوصفون بالتقوى، وقد قال الجمهور بجواز إلباسهم ذلك في نحو العيد، وأما في غيره فكذلك في الأصح عند الشافعية، وعكسه عند الحنابلة. وفي وجه ثالث يمنع بعد التمييز، وعند المالكية المذهبُ أنه يكره كراهة تنزيه، للوليّ أن يلبسه الذهب والحرير، ويجوز له إلباسه الفضة. وقسمت المالكية الحرير إلى ثلاثة أقسام: قسم يجوز باتفاق، وهو الراية في الجهاد، وقسم حرام إجماعًا وهو الخالص منه للرجل البالغ، وقسم مختلف

فيه، والمشهور فيه المنع وهو أربعة أشياء: لبسه في الجهاد لإرهاب العدو، أو للاتكاء عليه، والارتفاق، أو للافتراش أو للحكة، وقد أخرج البخاري أنه عليه الصلاة والسلام رخص للزبير وعبد الرحمن بن عوف في لبس الحرير لحكة بهما. وقال الطبري: فيه دلالة على أن النهي عن لبس الحرير لا يدخل فيه من كانت به علة يخففها لبسُ الحرير، ويلتحق بذلك ما يقي من الحر والبرد، حيث لا يوجد غيره، وخص بعض الشافعية الجوازَ بالسفر دون الحضر، واختاره ابن الصلاح، وخصه النوويّ في "الروضة" مع ذلك بالحكة، ونقله الرافعي في القمل أيضًا. وفي وجه للشافعية أن الرخصة خاصة بالزبير وعبد الرحمن، وأما الافتراش فقد أخرج فيه البخاريّ عن حذيفة "نهانا النبي -صلى الله عليه وسلم- أن نشرب في آنية الذهب والفضة، وأن نأكل فيها، وعن لبس الحرير والديباج، وأن نجلس عليه" وأخرج ابن وهب في جامعه عن سعد بن أبي وقاص "لأن أجلس على جمر الغَضا أحبُّ إليّ من أن أقعد على مجلس من حرير" والحديث حجة قوية لمن قال يمنع الجلوس على الحرير. وهو قول الجمهور خلافًا لابن الماجشون والكوفيين وبعض الشافعية. وبه قال الحنفية، وأجاب الحنفية عن الحديث بأن لفظ "نهى" ليس صريحًا في التحريم، وبعضهم باحتمال أن يكون النهي ورد عن مجموع اللبس والجلوس، لا عن الجلوس بمفرده. واستدل الجمهور بحديث أنس "فقمت إلى حصير لنا قد اسودَّ من طول ما لبس، ولأن ليس كل شيء بحسبه" واستدل بالحديث المذكور على منع افتراش النساء للحرير، وهو ضعيف؛ لأن خطاب الذكور لا يتناول المؤنث على الراجح، ولعل الذي قال بالمنع تمسك فيه بالقياس على منع استعمالهن آنية الذهب، مع جواز لبسهن الحلي منه، فكذلك يجوز لبسهن الحرير، ويمنعن من استعماله، وهذا الوجه صححه الرافعيّ، وصحح النوويُّ الجواز، واستدل به أيضًا على منع افتراش الرجل الحرير مع امرأته في فراشها، ووجهه المجيز لذلك من المالكية بأن المرأة فراش الرجل، فلَما جاز له أن يفترشها وعليها

رجاله خمسة

الحلي من الذهب والحرير، فكذلك يجوز له أن يجلس وينام معها على فراشها المباح لها. والذي يمنع الجلوس عليه منه هو ما منع لبسه، وهو ما صنع من حرير صرف، أو كان الحرير فيه أزيد من غيره، وأما المخلوط بحيث لا يسمى حريرًا ولا يتناوله الاسم، ولا تشتمله علة التحريم، فهو جائز خارج عن المنع. وليس في حديث الباب حجة لمن أجاز الصلاة في ثياب الحرير، لكونه عليه الصلاة والسلام لم يعد تلك الصلاة؛ لأن ترك إعادتها لكونها وقعت قبل التحريم، أما بعده فعند الجمهور تجزىء، لكن مع التحريم، وقال الحنفية: تكره، أي كراهة تحريم، وتصح. وقال المالكية: تحرم ويعيد في الوقت إن وجد ثوبًا غيره. ولو تعمد الصلاة فيه واجدًا غيره. وقال ابن حبيب: يعيد في هذه الحالة أبدًا. وقال أصْبَغ: لا إعادة عليه إذا صلى غير واجد غيره. وفي الحديث أن لا كراهة في لبس الثياب الضيقة والمفرجة لمن اعتادها، أو احتاج إليها، وفيه جواز قبول هدية المشرك للإمام لمصلحة يراها. رجاله خمسة: الأول: عبد الله بن يوسف، وقد مرّ في الثاني من بدء الوحي، ومرّ الليث بن سعد في الثالث منه، ومرّ يزيد بن حبيب وأبو الخير مرثد في الخامس من كتاب الإيمان. والخامس: عقبة بن عامر بن عَبْس بن عمرو بن عَدِيّ بن عمرو بن رَفاغة بن مودعة بن عَدِي بن غنم بن الرَّبُعة بن رشدان بن قيس بن جُهينة الجُهَنيّ الصحابيّ المشهور. قال أبو سعيد بن يونس: كان قارئًا عالمًا بالفرائض والفقه، فصيح اللسان، شاعرًا كاتبًا، وهو أحد من جمع القرآن. قال: ورأيت مصحفه بمصر على غير تأليف مصحف عثمان، وفي آخره "كتبه عقبة بن عامر بيده". وفي صحيح مسلم عن عقبة بن عامر قال: قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينةَ وأنا في غَنَم لي أرعاها، فتركتها ثم ذهبت إليه، فقلت: بايعني فبايعني على

لطائف إسناده

الهجرة ... الحديث. أخرجه أبو داود والنَّسائي. وشهد ابن عامر الفتوحَ، وكان هو البريد إلى عمر بفتح دمشق، وشهد صفّين مع معاوية، وأمَّره بعد ذلك على مصر، جمع له في إمْرَة مصر بين الخراج والصلاة، ولما أراد عزله كتب إليه أن تغزو رُوْدُس، فلما توجه سائرًا استولى مَسْلَمة، فبلغ ذلك عقبة فقال: أغربة وعزلًا. له خمسة وخمسون حديثًا اتفقا على سبعة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بتسعة، روى عنه جماعة من الصحابة والتابعين، منهم ابن عباس وأبو أمامة وجُبير بن نُفير، وبعجة بن عبد الله الجُهَني، وأبو إدريس الخَوْلاني، وخلق من أهل البصرة. مات في خلافة معاوية على الصحيح، وحكى عن عبادة بن نُسى قال: رأيت رجلًا في خلافة عبد الملك فقلت: من هذا؟ قالوا: عقبة بن عامر الجهني، قال أحمد بن صالح: هذا غلط، وأما قول خليفة بن خياط: قتل في النَّهروان من أصحاب علي عُقبة بن عامر الجُهَني، فهو آخر، وفي الصحابة عقبة بن عامر سواه اثنان. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في ثلاثه مواضع، والقول. ورواته كلهم بصريون. أخرجه البخاريّ هنا وفي اللباس عن قتيبة، ومسلم والنَّسائي في الصلاة. ثم قال المصنف: باب الصلاة في الثوب الأحمر قال في الفتح: يشير إلى الجواز والخلاف في ذلك مع الحنفية فإنهم قالوا: يكره، وتأوّلوا حديث الباب بأنها كانت حُلَّة من برود فيها خطوط حمر. واعترض العينيّ بأحد اعتراضاته على الفتح، بأن الحنفية لم يقولوا بحرمة لبس الأحمر حتى يتأوّلوا، وإنما قالوا إنه مكروه، والاعتراض كما نرى، فإنّ صاحب الفتح لم يقل إنهم قالوا: إلا أنه مكروه، فما عزا لهم الحرمة مع أن نفي العيني للحرمة، مع أنهم قالوا: إنه مكروه فيه ما فيه؛ لأن الكراهة عندهم إذا اُطلقت

تنصرف إلى كراهة التحريم، وهو لم يبين أنها عندهم كراهة تنزيه، وقد استوفيت الكلام على ما قيل في لباس الثوب الأحمر عند ذكر حديث الباب في باب "استعمال فضل وضوء الناس".

الحديث الثامن والعشرون

الحديث الثامن والعشرون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ قَالَ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي قُبَّةٍ حَمْرَاءَ مِنْ أَدَمٍ، وَرَأَيْتُ بِلاَلاً أَخَذَ وَضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَرَأَيْتُ النَّاسَ يَبْتَدِرُونَ ذَاكَ الْوَضُوءَ، فَمَنْ أَصَابَ مِنْهُ شَيْئًا تَمَسَّحَ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يُصِبْ مِنْهُ شَيْئًا أَخَذَ مِنْ بَلَلِ يَدِ صَاحِبِهِ، ثُمَّ رَأَيْتُ بِلاَلاً أَخَذَ عَنَزَةً فَرَكَزَهَا، وَخَرَجَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ مُشَمِّرًا، صَلَّى إِلَى الْعَنَزَةِ بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ، وَرَأَيْتُ النَّاسَ وَالدَّوَابَّ يَمُرُّونَ مِنْ بَيْنِ يَدَي الْعَنَزَةِ. قوله: بين يدي العنزة، فيه استعمال المجاز، وإلاّ فالعنزة لا يد لها، وقد استوفيت مباحث هذا الحديث استيفاءً تامًا عند ذكره في المحل السابق قريبًا. رجاله أربعة: وفيه ذكر بلال. الأول: محمد بن عُرْعُرة وقد مرّ في الحادي والأربعين من كتاب الإِيمان. الثاني: عُمَر بن أبي زائدة، بفتح الميم، الهمدانيّ الكوفيّ، مولى عمرو بن عبد الله الوادِعيّ، أخو زكرياء بن أبي زائدة. وكان الأكبر. قال ابن مهدي: كان كيّس الحفظ. وقال أحمد: صالح، وقال ابن مُعين: ثقة، وقال أبو حاتم والنَّسائيّ: ليس به بأس. وقال العجلي: كوفي ثقة، وقال يعقوب بن سفيان: عمر لا بأس به، وزكرياء ثقة. وقال أبو داود: يرى القدر، وقال في موضع آخر: زكرياء أعلى من أخيه عمر بكثير، وقال العقيلي: كان يرى القدر، وهو في الحديث مستقيم. قال ابن حجر في مقدمته: له في البخاريّ حديثان

لطائف إسناده

أحدهما حديثه هذا، عن ابن عَوْن عن أبي جحيفة بمتابعة أبي عُميس والثَّوري وغيرهما، والثاني حديثه عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون من طرق. وروى له مسلم والنَّسائيّ، وروى عن قيس بن أبي حازم وعبد الله بن أبي السَّفْر وعون بن أبي جحيفة والشعبيّ وعكرمة مولى ابن عباس وغيرهم. وروى عنه ابن أخيه يحيى بن زكرياء وبَهْز بن أَسَد، والنضر بن شُميل وهُشَيم والأصمعي وغيرهم. مات سنة تسع وخمسين ومئة وليس في الستة عمر بن أبي زائدة سواه. الثالث: عون بن أبي جُحيفة وهب بن عبد الله السّوائيّ الكوفيّ. قال ابن مُعين وأبو حاتم والنَّسائيّ: ثقة، وذكره ابن حِبّان في الثقات، روى عن أبيه ومسلم بن رباع الثقفيّ، وله صحبة، والمنذر بن جرير البَجْليّ وغيرهم. وروى عنه شُعبَة والثَّوريّ وقيس بن الربيع، وحجاج بن أرطأة وعمر بن أبي زائدة وآخرون. مات في آخر خلافة خالد على العراق سنة ست عشرة ومئة. وعون في الستة سواه ستة. الرابع: أبو جحيفة، وقد مرّ في الثاني والخمسين من كتاب العلم، ومرّ بلال بن حمامة في التاسع والثلاثين من كتاب العلم. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع، والإفراد في موضع، والعنعنة في موضع، والقول. ورواته ما بين كوفيّ وبصريّ. أخرجه البخاريّ هنا وفي اللباس عن محمد بن عُرعرة وإسحاق، وفي باب سترة الإِمام سترة من خلفه، ومسلم وأبو داود والتِّرمذيّ في الصلاة، وكذلك ابن ماجه في الزينة. ثم قال المصنف: باب الصلاة في السطوح والمنبر والخشب يشير بذلك إلى الجواز والخلاف في ذلك عن بعض التابعين، وعن المالكية في المكان المرتفع لمن كان إمامًا، والمنبر، بكسر الميم وفتح

الموحدة، والخشب بفتحتين أو بضمتين، ثم قال: قال أبو عبد الله: ولم ير الحسن بأسًا أن يصلَّى على الجَمْد والقناطر، وإن جرى تحتها بول أو فوقها أو أمامها إذا كان بينهما سترة. قوله: يُصلَّى، بضم الياء وفتح اللام المشددة، والجمد بفتح الجيم وسكون الميم بعدها قال مهملة، وذكر ابن قرقول فتحها، هو الماء إذا جمد من البرد، وهو مناسب لأثر ابن عمر الآتي "أنه صلى على الثلج". وحكى ابن التين "الجُمُد" بضمتين، وبضم وسكون مثل عُسُر وعُسْر: المكان الصلب المرتفع، لكن هذا ليس مرادًا هنا، بل المراد ما مرّ؛ لأنه المناسب للقناطر، لاشتراكهما في أن كلاًّ منهما قد يكون تحته ما ذكر من البول وغيره. وقوله: والقناطر، بدون ياء، وللحموي والمستملي "والقناطير" بالياء، وهي ما ارتفع من البنيان. وقوله: أو أمامها، أيْ القناطر، بفتح الهمزة، أي قدامها. وقوله: إذا كان بينهما، أي بين المصلي وأمام القناطر. وقوله: سُترة، بضم السين، أي مانعة من ملاقاة النجاسة، والغرض أن إزالة النجاسة تختص بما لاقى المصلي أما مع الحائل فلا. وأبو عبد الله المراد به البخاريّ، والحسن المراد به البصريّ، وقد مر في الرابع والعشرين من كتاب الإيمان، ولم أَرَ مَنْ وصل أثره هذا. ثم قال: وصلى أبو هريرة على ظهر المسجد بصلاة الإِمام، وللمستملي "على سقف"، وأبو هريرة مرّ في الثاني من كتاب الإيمان، وهذا الأثر وصله ابن أبي شيبة من طريق صالح مولى التوءمة، وفيه ضعف، لكن رواه سعيد بن منصور من وجه آخر عن أبي هريرة، فاعتضد. ثم قال: وصلى ابن عمر على الثلج. وابن عمر قد مرّ في أول كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه، وأثره هذا لم أر من وصله.

الحديث التاسع والعشرون

الحديث التاسع والعشرون حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ قَالَ: سَأَلُوا سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ الْمِنْبَرُ؟ فَقَالَ: مَا بَقِيَ بِالنَّاسِ أَعْلَمُ مِنِّي هُوَ مِنْ أَثْلِ الْغَابَةِ، عَمِلَهُ فُلاَنٌ مَوْلَى فُلاَنَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَقَامَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ عُمِلَ، وَوُضِعَ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ كَبَّرَ وَقَامَ النَّاسُ خَلْفَهُ، فَقَرَأَ وَرَكَعَ وَرَكَعَ النَّاسُ خَلْفَهُ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ رَجَعَ الْقَهْقَرَى، فَسَجَدَ عَلَى الأَرْضِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ قَرَأَ ثُمَّ رَكَعَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ رَجَعَ الْقَهْقَرَى حَتَّى سَجَدَ بِالأَرْضِ، فَهَذَا شَأْنُهُ. قوله: ما بقي بالناس، وللكشميهني "في الناس" وقوله: أعلم مني، أي بذلك، ولأبي داود "أن رجالًا أتوا سهل بن سعد الساعديّ، وقد امتروا في المنبر من عوده" وقوله: من أَثْل الغابة، بفتح الهمزة وسكون المثلثة، شجر معروف كالطّرْفاء لا شوك له، وخشبه جيد يعمل منه القصاع والأواني، وورقه أُشنان يغسِل به القَصّارون. وقوله: عمله فلان مولى فلانة، يأتي ما فيهما من الخلاف عند ذكر السند، والغرض من إيراد هذا الحديث في هذا الباب جواز الصلاة على المنبر. وفيه جواز اختلاف موقف الإِمام والمأموم في العلو والسفل، وهو مذهب الحنفية والشافعية وأحمد والليث، لكن مع الكراهة إلا لحاجة، لتعليم الإِمام المأمومين صفة الصلاة، وكتبليغ المأمومين تكبير الإِمام، فيستحب ارتفاعهما لذلك. قال القسطلاني: وعن مالك المنع، وإليه ذهب الأوزاعيّ. وحاصل مذهب مالك هو أن علو الإِمام جائز ولو فوق سطح، وقيل: إن كان بسطح كره كراهة تنزيه، وعلو الإِمام المشهور فيه الكراهة، وقيل: ممنوع، والنهي عنه مقيد بقيود ثلاث أن لا يكون لتعليم، وأن يكون الإِمام دخل على

رجاله أربعة

ذلك، وأن لا تكون ضرورة، فإن كان لتعليم، كصلاته عليه الصلاة والسلام على المنبر، أو لم يدخل على ذلك بأن كان ابتدأ الصلاة وحده على مكان مرتفع، فجاء من صلى أسفل منه، أو دخل عليه لضرورة كضيق ونحوه، جاز. وفي الحديث أن العمل اليسير غير مبطل للصلاة. قال الخطابيّ: وكان المنبر ثلاث مراقٍ، فلعله إنما قام على الثانية منها، فليس في نزوله وصعوده إلَّا خطوتان. وفيه جواز الصلاة على الخشب، وكرهه الحسن وابن سيرين، كما رواه ابن أبي شيبة عنهما، وأخرج أيضًا عن ابن مسعود وابن عمر نحوه، وعن مسروق "أنه كان يحمل لبنة ليسجد عليها إذا ركب السفينة" وعن ابن سيرين نحوه. والقول بالجواز هو المعتمد. رجاله أربعة: الأول: علي بن عبد الله المَدينيّ، وقد مرّ في الرابع عشر من كتاب العلم. والثاني: سفيان بن عيينة، وقد مرّ في الأول من بدء الوحي، ومرّ أبو حازم وسهل بن سعد في الثامن والمئة من كتاب الوضوء. وفي المتن عمله فلان مولى فلانة، قال ابن حجر: اختلفوا في اسم فلان الذي هو نجّار منبره -صلى الله عليه وسلم-، فقيل: قُبيصة المخزوميّ، وقيل: صلاح غلام العباس بن عبد المطلب، وقيل ابن شكوال، وقيل مينا، وقيل إبراهيم، وقيل باقوم، بالميم في آخره، وقيل: رومي غلامٌ لسعيد بن العاص، مات في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-. ورُوي عن عباس بن سهل عن أبيه قال: كان بالمدينة نجار واحد يقال له ميمون، فذكر قصة المنبر، وقيل غلام لسعد بن عبادة. وفلانة، قال ابن حجر: لم يعرف اسمها، ولكنها أنصارية، وقيل اسمها عَلاثة، وقيل اسمها عائشة الأنصارية. لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والإخبار بصيغة الجمع

أيضًا في موضع، وفيه السؤال، ورواته ما بين بصريّ ومكيّ ومدنيّ. أخرجه البخاريّ هنا وفي الصلاة عن قتيبة، ومسلم وأبو داود والنَّسائيّ في الصلاة، ابن ماجه أيضًا فيها. ثم قال البخاريّ: قال أبو عبد الله: قال علي بن المدينيّ: سألني أحمد بن حنبل -رحمه الله- عن هذا الحديث قال: فإنما أردت أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- كان أعلى من الناس، فلا بأس أن يكون الإِمام أعلى من الناس بهذا الحديث. قال: فقلت: إن سفيان بن عُيينة كان يُسأل عن هذا كثيرًا، فلم تسمعه منه؟ قال: لا. قوله: قال فإنما، في رواية "فقال" ولابن عساكر "وإنما" وقوله: فقلتُ أي قال علي بن المديني: فقلت لابن حنبل. وفي رواية "قلت"، وقوله كان يُسأل بالبناء للمفعول، وقوله: قال لا في أن أحمد بن حنبل لم يسمع هذا الحديث من سفيان بن عُيينة، والمراد أنه لم يسمع منه جميعه لا بعضه؛ لأنه قد أخرج في مسنده عن ابن عُيينة بهذا الإسناد من هذا الحديث قول سهل "كان المنبر من أَثْل الغابة فقط" والغرض من هنا وهو صلاته -صلى الله عليه وسلم- على المنبر داخل في ذلك لبعض، فلذلك سأل عنه عَليّ بن المدينيّ، وقد صرح البخاريّ في حكايته عن شيخه علي بن المديني عن أحمد بن حَنبل جواز اختلاف موقف الإِمام والمأموم في العلو والسفل. وقد قال ابن دقيق العيد: في ذلك بحث، فإنه قال من أراد أن يستدل به على جواز الارتفاع من غير قصد التعليم لم يستقم؛ لأن اللفظ لا يتناوله، ولانفراد الأصل بوصف معتبر تقتضي المناسبة اعتباره، فلابد منه. وأبو عبد الله المراد به البخاريّ، وعلي بن عبد الله مرّ في الحديث الرابع عشر من كتاب العلم، ومرّ سفيان بن عيينة في الأول من بدء الوحي. والإمام أحمد بن حنبل هو أحمد بن محمد بن هلال بن أسد الشّيبانيّ، أبو عبد الله المروزيّ ثم البغداديّ، خرجت به أُمُّه من مرو وهي حامل فولدته ببغداد، وبها طلب العلم، ثم طاف البلاد. قال الشافعي: خرجت من بغداد وما خلفت فيها أفقه ولا أزهد ولا أورع من أحمد بن حنبل. وقال يحيى بن

مُعين: لو جلسنا مجلسًا بالثناء ما ذكرنا فضائله بكمالها. وقال أيضًا: ما رأيت خيرًا من أحمد ما افتخر علينا بالعربية قط. وقال عارم: قلت له يومًا: يا أبا عبد الله، بلغني أنك من العرب فقال: يا أبا النعمان نحن قوم مساكين. وقال وكيع وحفص بن غياث: ما قدم الكوفة مثل ذلك الفتى؛ يعنيان أحمد. وقال القطّان: ما قدم عليّ مثل أحمد، وقال فيه مرة حبر من أحبار هذه الأمة. وقال أحمد بن سنان: ما رأيت يزيد بن هارون لأحد أشد تعظيمًا منه لأحمد بن حنبل. وقال عبد الرزاق: ما رأيت أفقه منه ولا أورع. وقال أبو عاصم: ما جاءنا من ثَمَّةَ أحد غيره يحسن الفقه. وقال يحيى بن آدم: أحمد إمامنا. وقال عبد الله الخُريبيّ: كان أفضل زمانه، وقال أبو الوليد: ما بالمصرين أحب إليّ منه، ولا أرفع قدرًا في نفسي منه. وقال العباس: العَنْبَريّ حجة. وقال ابن المدينيّ: ليس في أصحابنا أحفظ منه. وقال قُتيبة: أحمد إمام الدنيا. وقال أبو عُبيد: لست أعلم في الإِسلام مثله. وقال العجليّ: ثقة ثبت في الحديث، نزه النفس، فقيه في الحديث، متبع الآثار صاحب سنة وخير. وقال أبو ثور: أحمد إمامنا وشيخنا. وقال العباس بن الوليد: قلت لأبي مسهر: هل تعرف أحدًا يحفظ على هذه الأمة أمر دينها؟ قال: لا إلا شاب في ناحية المشرق، يعني أحمد. وقال بشر بن الحارث: أدخل الكبير فخرج ذهبًا أحمر، وقال حجاج بن الشاعر: ما رأت عيناي روحًا في جسد أفضل من أحمد بن حنبل. وقال أحمد الدورقيّ: من سمعتموه يذكر أحمد بسوء، فاتهموه على الإِسلام. وقال أبو زرعة الرازيّ: كان أحمد يحفظ ألف ألف حديث، فقيل له: وما يدريك؟ قال: أخذت عليه الأبواب. وقال نوح بن حبيب: رأيت أحمد في مسجد الخِيف مستندًا إلى المنارة، فجاءه أصحاب الحديث، فجعل يعلمهم الفقه والحديث، ويفتي الناس. وقال عبد الله: كان أبي يصلي في كل يوم وليلة ثلاث مئة ركعة. وقال هلال بن العلاء: مَنّ الله على هذه الأمة بأربعة في زمانهم: بالشافعي تفقه بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبأحمد ثبت في المحنة، ولولا ذلك لكفر الناس، وبيحيى بن معين،

نفى الكذب عن حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وبأبي عُبَيد فسَّر الغَريب. وقال ابن أبي حاتم: سئل أبي عنه فقال: هو إمام وحجة. وقال النَّسائيّ: الثقة المأمون أحد الأئمة. وقال ابن ماكولاء: كان أعلم الناس بمذاهب الصحابة والتابعين. وقال الخليليّ: كان أفقه أقرانه وأروعهم، وأكفهم عن الكلام في المحدثين إلَّا في الاضطرار، وقد كان أمسك عن الرواية من وقت الامتحان، فما كان يروي إلَّا لبنيه في بيته. وقال ابن حبّان في الثقات: كان حافظًا متقنًا فقيهًا ملازمًا للورع الخفي، مواظبًا على العبادة الدائمة، أغاث الله به أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وذاك أنه ثبت في المحنة، وبذل نفسه لله حتى ضرب بالسياط للقتل، فعصمه الله تعالى عن الكفر، وجعله علمًا يقتدى به، وملجأً يُلجأ إليه. وقال سفيان بن حرب لرجل سأله عن مسألة: سل عنها أحمد فإنه إمام. وقال محمد بن إبراهيم البوشنجيّ: ما رأيت أجمع في كل شيء من أحمد، ولا أعقل، وهو عندي أفضل وأفقه من الثوري. وقال ابن سعد: ثقة ثبت صدوق كثير الحديث، وقال أبو الحسن ابن الزاغوني: كُشف قبر أحمد حين دفن الشريف أبو جعفر بن أبي موسى إلى جانبه، فوجد كفنه صحيحًا لم يبل، وجنبه لم يتغير، وذلك بعد موته بمئتين وثلاثين سنة. وقال إبراهيم الحريّ: رأيت بشر بن الحارث الحافي في المنام كأنه خارج من باب مسجد الرصافة، وفي كُمه شيء يتحرك، فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي وأكرمني، فقلت: ما هذا الذي في كمك؟ قال: قدم علينا البارحة روح أحمد بن حنبل فنُثر عليه الدر والياقوت، فهذا مما التقطتُّ. قلت: فما فعل يحيى بن معين وأحمد بن حنبل؟ قال: تركتهما وقد زارا رب العالمين، ووضعت لهما الموائد. قلت: فلِمَ لمْ تأكل أنت معهما؟ قال: قد عرف هو أن الطعام صَبّنٌ عليّ، فأباحني النظر إلى وجهه الكريم. روى عن الشافعي رحمه الله، وكان من خواصّه، وعن بشر بن المفضل، واسماعيل بن علية، وسفيان بن عُيينة، وأبي داود الطَّيالسيّ، ويحيى القطّان،

وغندر، وخلق. وروى عنه البخاريّ ومسلم وأبو داود، والباقون مع البخاريّ بواسطة، وابن مهدي والشافعي وأبو الوليد وعبد الرزاق ووكيع ويحيى بن آدم ويزيد بن هارون، وهم من شيوخه، وكثير من أقرانه، وابناه صالح وعبد الله، وتلامذته أبو بكر الأثرم وحرب الكرمانيّ. رُوي أنه قال: حججت خمس حجج، منها ثلاث حجج راجلًا، أنفقت في إحدى هذه الحجج ثلاثين درهمًا، وفي تلك السنة مات فضيل، ورأيت بن وهب ولم أكتب عنه. ولد سنة أربع وستين ومئة في أولها، في ربيع الأول. وقال: سمعت من عليّ بن هاشم بن البريد سنة تسع وسبعين ومئة وهي أول سنة طلبت، وفيها مات مالك، مات ضحوة نهار الجمعة، لثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، وقيل لثلاث عشرة بقيت من الشهر المذكور، سنة إحدى وأربعين ومئتين ببغداد، ودفن بمقبرة باب حرب، وقبره مشهور بها يزار، ومرّ زمن حضر جنازته من الرجال فكانوا ثمان مئة ألف، ومن النساء فكانوا ستين ألفًا وقيل: إنه أسلم يوم مات عشرون ألفًا من النصارى واليهود والمجوس. وقال عبد الله: كان أبي يقول لأهل البِدَع: بيننا وبينكم الجنائز. وليس في الستة أحمد بن حنبل سواه، وأما أحمد بن محمد فكثير. والشيباني في نسبه نسبة إلى شيبان بن ذُهل بن ثعلبة بن عُكابة بن صَعْب بن عليّ بن بكر بن وائل، وقيل إنه من بني مازن بن ذُهل بن شيبان. وذهل بن ثعلبة المذكور هو عم ذهل بن شيبان، فليُعْلم ذلك. قاله ابن خلكان.

الحديث الثلاثون

الحديث الثلاثون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- سَقَطَ عَنْ فَرَسِهِ، فَجُحِشَتْ سَاقُهُ أَوْ كَتِفُهُ، وَآلَى مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا، فَجَلَسَ فِي مَشْرُبَةٍ لَهُ، دَرَجَتُهَا مِنْ جُذُوعٍ، فَأَتَاهُ أَصْحَابُهُ يَعُودُونَهُ، فَصَلَّى بِهِمْ جَالِسًا، وَهُمْ قِيَامٌ فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: "إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا، وَإِنْ صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا". وَنَزَلَ لِتِسْعٍ وَعِشْرِينَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ آلَيْتَ شَهْرًا، فَقَالَ: "إِنَّ الشَّهْرَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ". قوله: عن أنس بن مالك، في رواية سعيد بن منصور عن حميد "حدثنا أنس" وقوله: سقط عن فرس، في رواية "عن فرسه" وأفاد ابن حبّان أن هذه القصة كانت في ذي الحجة سنة خمس من الهجرة، وقوله: فجُحِشت ساقه، بضم الجيم وكسر الحاء المهملة وبالشين المعجمة، أي خُدشت، والخدش قشر الجلد، أو أشد منه قليلًا. أو كتفه، شك من الراوي، وعند الإسماعيليّ من رواية بشر بن المفضل عن حميد "انفكت قدمه" وفي رواية الزُّهريّ من أنس في الصحيحين "فجحش شِقُّه الأيمن" وهي أشمل مما قبلها، وعند المصنف في باب "يهوي بالتكبير" قال سفيان: سمعت من الزُّهري "شقه الأيمن، فلما خرجنا، قال ابن جُريج: ساقه الأيمن". وأخرج عبد الرزاق رواية ابن جريج وهي مفسرة لمحل الخدش من الشق الأيمن؛ لأن الخدش لم يستوعبه. وقوله: وآلى من نسائه شهرًا، أي حلف أن لا يدخل عليهن شهرًا، وليس المراد به الإيلاء المتعارف بين الفقهاء، وهو الحلف على أن لا يقرب زوجته

أربعة أشهر فصاعدًا. ومن اللطائف أن الحكمة في الشهر مع أن مشروعية الهجر ثلاثة أيام أن عدتهن كانت تسعة، فإذا ضربت في تسعة كانت سبعة وعشرين، واليومان لمارية لأنها كانت أَمَة، فنقصت عن الحرائر. قلت: إنما يتم هذا لو هجر واحدة بعد واحدة، إما في حال اجتماعهن في الهجر شهرًا فلا يتم؛ لأن كل واحدة منهن شهرًا. وقوله: فجلس في مَشْرُبة له، بفتح أوله وسكون المعجمة وبضم الراء، ويجوز فتحها، وهي الغرفة المرتفعة. وقوله: دُرجتها من جذوع الدُّرجة، بالضم وبالتحريك وكهمزة وتشدد جيم هذه، وكأَسْكُفَّة: المَرقاة، وجذوع بالتنوين من غير إضافة وللكشميهني "من جذوع النخل". والغرض من هذا الحديث هنا صلاته -صلى الله عليه وسلم- في المَشْرُبة، وهي معمولة من الخشب. قاله ابن بطال: وتعقب بأنه لا يلزم من كون درجها من خشب أن تكون كلها خشبًا، فيحتمل أن يكون الغرض منه بيان جواز الصلاة على السطح، إذ هي سقف في الجملة. وقوله: وهم قيام، جملة اسمية حالية، وقوله: إنما جعل الإِمام ليُؤَم به، الائتمام الاقتداء والإِتباع، أي جعل الإِمام إمامًا ليقتدى به ويتبع، ومن شأن التابع أن لا يسبق متبوعه، ولا يساويه، ولا يتقدم عليه في موقفه، بل يراقب أحواله ويأتي على أثره بنحو فعله، ومقتضى ذلك أن لا يخالفه في شيء من الأحوال، فمتابعته واجبة في كل شيء، وليست شرطًا إلّا في تكبيرة الإحرام والسلام؛ لأن الفاء في قوله "فإذا كبّرَ فكَبّروا" للتعقب المقتضي مشروعية متابعته في الأقوال. وخالف أبو حنيفة فقال: إن المقتدي يكبر مقارنًا لتكبير الإِمام لا يتقدم ولا يتأخر عنه؛ لأن الفاء للحال. وقال أبو يوسف ومحمد: الأفضل أن يكون بعد فراغ الإِمام من التكبير؛ لأن الفاء للتعقب، وإنْ كبّر مع الإِمام أجزاه عند محمد، وقد أساء، وكذا في أصح الروايتين عند أبي يوسف، وفي رواية لا يضير شارعًا ثم ينبغي أن يكون اقترانهما في التكبير على قوله، كاقتران حركة الخاتم والأصبع. والبعدية على قولهما أَن يوصل ألف الله براء أكبر.

وقال خواهر زاده: قول أبي حنيفة أدق وأجود، وقولهما أحوط وأرفق. وقول الشافعيّ كقولهما. قال النووي وغيره: متابعة الإِمام واجبة في الأفعال الظاهرة، وقد نبه عليها في الحديث، فذكر الركوع وغيره، بخلاف النية .. إلخ ما يأتي. وقال الماورديّ في تكبيرة الإِحرام قبل فراغ الإِمام منها: لم تنعقد صلاته، فإن قارنه أو سابقه فقد أساء، ولا تبطل صلاته، فإن سلم قبل إمامه بطلت صلاته، إلَّا أن ينوي المفارقة، ففيه خلاف مشهور، وقول النووي السابق "بخلاف النية" يريد به ما ذهب إليه الشافعيّ وطائفة، من اختلاف النية مع الإِمام يضر، وجعل الحديث مخصوصًا بالأفعال الظاهرة. قال النوويّ: لأن النية لم تذكر، وقد خرجت بدليل آخر، وكأنه يعني قصة معاذ الآتية في أبواب الإمامة. قال في الفتح: يمكن أن يستدل من هذا الحديث على عدم دخولها؛ لأنه يقتضي الحصر في الاقتداء به في أفعاله لا في جميع أحواله، كما لو كان مُحْدِثًا أو حامل نجاسة، فإن الصلاة خلفه تصح لمن لم يعلم حاله على الأصح عند العلماء. وقال مالك وأبو حنيفة: يضر اختلافهما. وجعلا اختلاف النية تحت الحصر في الحديث، وقال مالك: لا يضر الاختلاف بالهيأة بالتقدم في الموقف. وجعل الحديث عامًا فيما عدا ذلك. وقوله: وإن صلّى قائمًا فصلوا قيامًا، مفهومه وإن صلّى قاعدًا فصلوا قعودًا، وقد صرح بهذا المفهوم في رواية ابن شهاب عن أنس عند المؤلف في الإمامة، ففيها "وإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا" وقد احتج بهذه الرواية أحمد وإسحاق وابن حزم والأوزاعيّ ونفر من أهل الحديث، على أن الإِمام إذا صلى قاعدًا يصلي من خلفه قعودًا. وقال أبو حنيفة والشافعي والثَّوريّ وأبو ثور وجمهور السلف: لا يجوز للقادر على القيام أن يصلي خلف القاعد إلَّا قائمًا. وقال المرغانيّ: الفرض والنفل سواء. وقال مالك: لا تجوز صلاة القادر على القيام خلف القاعد لا قائمًا ولا قاعدًا. وأجابت المالكية عن حديثي أنس الذي في الباب، والذي في الإمامة، وعن حديث عائشة بأن هذا كله خاص بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، واحتجوا بما أخرجه

الدارَقُطنيّ والبيهقيّ في سننيهما، عن جابر عن الشعبيّ مرفوعًا "لا يُؤمَّنَّ أحد بعدي جالسًا" واعترضه الشافعي فقال: قد علم من احتج به أن لا حجة فيه، لأنه مرسل، ومن رواية رجل يرغب أهل العلم عن الرواية عنه، يعني جابر الجعفيّ. قلت: الجواب عن هذا هو أن مالكًا يحتج بالمراسيل، وجابر وثقه كثير من العلماء، بل من وثقه أكثر ممن جرحه. وحكى عياض عن بعض مشائخهم أن الحديث المذكور يدل على نسخ أمره المتقدم لهم بالجلوس، لمّا صلوا خلفه قيامًا، ويتقوى ذلك بأن الخلفاء الراشدين لم يفعله أحد منهم. قال: والنسخ لا يثبت بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- لكنّ مواظبتهم على ترك ذلك تدل على صحة الحديث المذكور، واحتج أيضًا بأنه -صلى الله عليه وسلم- إنما صلى بهم قاعدًا لأنه لا يصح التقدم بين يديه، نهى الله عن ذلك، ولأن الأئمة شفعاء، ولا يكون أحد شافعًا له، ورُدّ هذا بصلاته عليه الصلاة والسلام خلف عبد الرحمن بن عوف الثابت بلا خلاف. قلت: والجواب عن هذا أنه وقع من غير دخول عليه، أي من غير أن نقدمه إلى الإمامة، بل وجده إمامًا وصلّى به، فهي واقعة عين لا توجب الاطراد، ويدل على أنها واقعة عين ما في الحديث الصحيح من امتناع أبي بكر رضي الله تعالى عنه من الصلاة به عليه الصلاة والسلام، وقوله: ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم أمام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. واستدلوا أيضًا بقول ربيعة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان في تلك الصلاة مأمومًا خلف أبي بكر. وأنكر أن يكون النبي عليه الصلاة والسلام أمَّ في مرض موته قاعدًا، كما حكاه عنه الشافعيّ في الأم، ويأتي ذلك في الحديث. وقال ابن العربيّ مؤيدًا لمذهبه: سمعت بعض الأشياخ يقول: الحال أحد وجوه التخصيص، وحال النبي -صلى الله عليه وسلم-، والتبرك به، وعدم العوض عنه، يقتضي الصلاة معه على أي حال كان عليها، وليس ذلك لغيره. وأيضًا فنقص صلاة القاعد عن القائم لا يتصور في حقه، ويتصور في حق غيره. وأجاب القائلون بأن العاجز عن القيام لا يُصلي القادر عليه خلفَه إلَّا قائمًا عن قوله في حديث الزهريّ عن أنس "فإن صلى جالسًا فصلوا جلوسًا أجمعون"

بأن هذا منسوخ. كلما قال البخاريّ عن شيخه الحميدي: قوله: إذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا هو في مرضه القديم، ثم صلى بعد ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- جالسًا والناس خلفه قيام، لم يأمرهم بالقعود، وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، فإقراره للصحابة على القيام خلفه وهو قاعد كافٍ في النسخ، وقد قرره الشافعي بهذا، لكن هذا على ما في حديث عائشة من أنه "عليه الصلاة والسلام كان إمامًا وأبو بكر مأمومًا" وقد ورد العكس، كما أخرجه الترمذي والنّسائيّ، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، عن مسروق عن عائشة قالت "صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في مرضه الذي توفي فيه خلف أبي بكر قاعدًا" وأخرجه النَّسائيّ أيضًا عن أنس قال "آخر صلاة صلاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع القوم صلى في ثوب واحد متوشحًا خلف أبي بكر رضي الله تعالى عنه" ولكن ما في الصحيح أقوى. وقد جمع العلماء بينهما، فقال البيهقيّ في المعرفة: ولا تعارض بين الحديثين، فإن الصلاة التي كان فيها النبي عليه الصلاة والسلام إمامًا هي صلاة الظهر يوم السبت أو الأحد، والتي كان فيها مأمومًا هي صلاة الصبح من يوم الإثنين، وهي آخر صلاة صلاها عليه الصلاة والسلام حتى خرج من الدنيا. قال: وهذا لا يخالف ما ثبت عن أنس في صلاتهم يوم الإثنين، وكشفه -صلى الله عليه وسلم- الستر ثم إرخائه، فإن ذلك إنما كان في الركعة الأولى، ثم إنه عليه الصلاة والسلام وجد خفة في نفسه، فخرج فأدرك معه الركعة الثانية. قلت: وهذا الجمع يرجح أن آخر صلاة له كان مأمومًا لا إمامًا، وأجابوا أيضًا بأن المراد بقوله "وإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا" الأمر بالاقتداء به في جلوسه في التشهد وبين السجدتين؛ لأنه ذكر ذلك عقب الركوع والرفع منه والسجود، فيحمل على أنه لما جلس للتشهد قاموا تعظيمًا له، فأمرهم بالجلوس تواضعًا، وقد نبه على ذلك بقوله في حديث جابر عند مسلم "إنْ كدتم أنْ تفعلوا فعل فارس والروم؛ يقومون على ملوكهم وهم قعود، فلا تفعلوا" وتعقبه ابن دقيق العيد وغيره بالاستبعاد، وبأن سياق طرق الحديث تأباه، وبأنه لو كان المراد الأمر بالجلوس في الركن لقال "وإذا جلس فاجلسوا" ليناسب قوله "وإذا سجد

فاسجدوا" فلما عدل عن ذلك إلى قوله "وإذا صلى جالسًا" كان كقوله "وإذا صلى قائمًا" فالمراد بذلك جميع الصلاة. ويؤيد ذلك قول أنس "فصلينا وراءه قعودًا" وأنكر أحمد القائل بجواز صلاة القادر جالسًا خلف المصلي جالسًا عجزًا، ومن حقه نسخ الأمر المذكور بذلك، وجمعوا بين الحديثين بتنزيلهما على حالتين؛ إحداهما: إذا ابتدأ الإِمام الراتبُ الصلاةَ قاعدًا لمرضٍ يرجى برؤه، فحينئذ يصلون خلفه قعودًا. ثانيهما: إذا ابتدأ الإِمام الراتبُ قائمًا لزم المأمومين أن يصلوا خلفه قيامًا، سواء طرأ ما يقتضي صلاة إمامهم قاعدًا أم لا، كما في الأحاديث التي في مرض موته -صلى الله عليه وسلم-، فإن تصديره لهم على القيام، دل على أنه لا يلزمهم الجلوس في تلك الحالة؛ لأن أبا بكر ابتدأ الصلاة بهم قائمًا، وصلوا معه قيامًا، بخلاف الحالة الأولى، فإنه -صلى الله عليه وسلم- ابتدأ الصلاة جالسًا، فلما صلوا خلفه قيامًا أنكر عليهم. ويقوي هذا الجمعَ أن الأصل عدم النسخ، لاسيما وهو في هذه الحالة يستدعي دعوى النسخ مرتين؛ لأن الأصل في حكم القادر على القيام أن لا يصل قاعدًا، وقد نسخ إلى القعود في حق من صلى إمامه قاعداً، فدعوى نسخ القعود بعد ذلك تقتضي وقوع النسخ مرتين، وهو بعيد. وقد قال بقول أحمد جماعةٌ من محدِّثي الشافعية، كابن خُزيمة وابن المنذر وابن حبّان، وأجابوا عما ورد عن عائشة وأنس، من الأمر بالجلوس، بأجوبة منها قول ابن خزيمة: إن الأحاديث التي وردت بأمر المأموم أن يصلي قاعدًا تبعًا لإِمامه، لم يُختلف في صحتها ولا في سياقها، وأما صلاته -صلى الله عليه وسلم- قاعدًا، فاختُلف فيها هل كان إمامًا أو مأمومًا. قال: وما لم يُختلف فيه لا ينبغي تركه لمختَلَف فيه. وأُجيبَ بدفع الاختلاف، والحمل على أنه كان إمامًا مرة ومأمومًا أخرى. ومنها أن بعضهم جمع بين القضيتين بأن الأمر بالجلوس كان للندب، وتقريره قيامهم خلفه كان لبيان الجواز، فعلى هذا مَن أمّ قاعدًا لعذر، تخيّر من صلّى خلفه بين القعود والقيام، والقعود أَوْلى لثبوت الأمر بالائتمام والاتباع، وكثرة الأحاديث الواردة في ذلك. وأجاب ابن خزيمة عن استبعاد من استبعد

ذلك، بأن الأمر قد صدر من النبي عليه الصلاة والسلام بذلك، واستمر عليه عمل الصحابة في حياته وبعده، فروى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن قيس بن قَهْد، بفتح القاف وسكون الهاء، الأنصاريّ أن إمامًا لهم اشتكى على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: فكان يؤمنا جالسًا ونحن جلوس. وروى ابن المنذر بإسناد صحيح عن أُسَيد بن حُضَير أنه كان يؤم قومه، فاشتكى، فخرج إليهم بعد شكواه، فأمروه أن يصلي بهم، فقال: إني لا أستطيع أن أُصلي قائمًا فاقعدوا، فصلى بهم قاعدًا وهم قُعود. وروى أبو داود من وجه آخر عن أُسيد بن حُضير أنه قال: يا رسول الله، إن إمامنا مريض. قال: "إذا صلّى قاعدًا فصلوا قعودًا" وفي إسناده وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن جابر أنه اشتكى، فحضرت الصلاة، فصلى بهم جالسًا، وصلوا معه جلوسًا. وعن أبي هُريرة أنه أفتى بذلك، وإسناده صحيح أيضًا. وقد ألزم ابن المنذر من قال بأن الصحابيّ أعلم بتأويل ما روى، بأن يقول بذلك؛ لأن أبا هريرة وجابرًا رويا الأمر المذكور واستمرا على العمل به، والفتيا بعد النبي عليه الصلاة والسلام، ويلزم ذلك من قال إن الصحابيّ إذا روى وعمل بخلافه أن العبرة بما عمل من باب الأَوْلى؛ لأنه عمل يوافق ما روى، وقد ادعى ابن حِبان الإِجماع على العمل به، ولعله أراد السكوتيّ؛ لأنه حكاه عن الأربعة المار ذكرهم، وقال: إنه لا يُحفظ عن أحد من الصحابة غيرهم القول بخلافه، لا من طريق صحيح ولا ضعيف، وكذا قال ابن حزم مثله. والذي ادّعيا نفيه رواه الشافعي عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة، وصرح به عبد الرزاق في مصنفه عن ابن جُريج؛ أخبرني عطاء فذكر الحديث، ولفظه "فصلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قاعدًا، وأبو بكر وراءه بينه وبين الناس، وصلى الناس وراءه قيامًا" وهذا مرسل يعتضد بما مر عن الشافعي معلقًا، وهو الذي يقتضيه النظر، فإنهم ابتدأوا الصلاة مع أبي بكر قيامًا بلا نزاع، فمن ادعى أنهم قعدوا بعد ذلك فعليه البيان، لكن استدل ابن حبّان على أنهم قعدوا بعد أن كانوا قيامًا، بما رواه

عن أبي الزبير عن جابر قال "اشتكى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فصلينا وراءه وهو قاعد، وأبو بكر يُسمع الناس تكبيره، قال: فالتفت إلينا فرآنا قيامًا، فأشار إلينا فقعدنا، فلما سلم قال: إن كدتم لتفعلون فعل فارس والروم ... إلخ" الحديث المار، لكن هذا لم يكن في مرض موته، وإنما كان ذلك حيث سقط عن الفرس. كما أخرجه أبو داود وابن خزيمة بإسناد صحيح عن أبي سفيان عن جابر قال "ركب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرسًا بالمدينة، فصرعه على جذع نخلة، فانفكت قدمه ... " الحديث، وعلى هذا فلا حجة لما ادعاه، إلَّا أنه تمسك بقوله في رواية أبي الزبير "وأبو بكر يُسمع الناس التكبير" وقال: إن ذلك لم يكن إلَّا في مرض موته؛ لأن صلاته في مرضه الأول كانت في مشربة عائشة، ومعه نفر من أصحابه لا يحتاجون إلى من يُسمعهم تكبيره، بخلاف صلاته في مرض موته، فإنها كانت في المسجد، في جمع كثير من الصحابة، فاحتاج أبو بكر أن يسمعهم التكبير، ولا راحة له فيما تمسك به؛ لأن إسماع التكبير لم يتابِع أبا الزبير عليه أحدٌ، وعلى تقدير أنه حفظه، فلا مانع أن يُسمعهم أبو بكر التكبير في تلك الحالة؛ لأنه يحمل على أن صوته عليه الصلاة والسلام كان خفيًا من الوجع، وكان من عادته الجهر بالتكبير، فكان أبو بكر يجهر عنه بالتكبير لذلك. قلت: وفي البيت من يصلي بصلاته -صلى الله عليه وسلم-، فيحتاج إلى الإِسماع، ووراء هذا كله أنه أمر محتمل، لا يترك لأجله الخبر الصريح أنهم صلوا قيامًا، كما تقدم في مرسل عطاء وغيره، بل في مرسل عطاء أنهم استمروا قيامًا إلى أن انقضت الصلاة، لكن في مرسل عطاء المذكور متصلًا به بعد قوله "وصلى الناس بعده قيامًا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: لو استقبلتُ من أمري ما استدبرت، ما صليتم إلَّا قعودًا، فصلوا صلاة إمامكم ما كان، إن صلى قائمًا فصلوا قيامًا، وإن صلى قاعدًا فصلوا قعودًا" وهذه الزيادة تقوّي ما قال ابن حبّان: إن هذه القصة كانت في مرض موته عليه الصلاة والسلام. ويستفاد منها نسخ الأمر بوجوب صلاة المأمومين قُعودًا إذا صلى إمامهم قاعدًا؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يأمرهم في هذه المرة الأخيرة بالإِعادة، لكن إذا نسخ الوجوب بقي الجواز،

والجواز لا ينافي الاستحباب، فيحمل أمره الأخير بأن يصلوا قعودًا على الاستحباب؛ لأن الوجوب قد رفع بتقريره لهم، وتَرْك أمرهم بالإعادة، هذا مقتضى الجمع بين الأدلة، وبالله تعالى التوفيق. وقوله: إذا ركع فاركعوا، قال ابن المنير: مقتضاه إن ركوع المأموم فيه بعد أن يشرع، وفي رواية هشام في الطب "وإذا رفع فارفعوا، وإذا سجد فاسجدوا" وهو يتناول الرفع من الركوع، والرفع من السجود، وجميع السجدات. وزاد مسلم عن أبي هريرة بعد قوله " ليؤتم به فلا يختلفوا عليه" وأفادت هذه الزيادة أن الأمر بالاتباع يعم جميع المأمومين، ولا يكفي في تحصيل الائتمام اتباع بعض دون بعض، ولمسلم عنه أيضًا "لا تبادر الإِمام، إذا كبر فكبروا" وهي زيادة حسنة تنفي احتمال إرادة المقارنة من قوله "إذا كبر فكبروا" المتقدم عن أبي حنيفة القولُ به، وقد مرّ أن الفاء في قوله "فكبروا" للتعقب. ومقتضاه الأمر بأن أفعال المأموم تقع عقب فعل الإِمام، لكن تعقب بأن الفاء التي للتعقب هي العاطفة، وأما التي هنا فهي للربط فقط؛ لأنها وقعت جوابًا، فعلى هذا لا تقتضي تأخر أفعال المأمومين عن الإِمام إلَّا على القول بتقدم الشرط على الجزاء. وقد قال قوم: إن الجزاء يقع مع الشرط، وعليه لا تنتفي المقارنة، لكن الرواية المتقدمة صريحة في انتفاء التقدم والتأخر. وقوله: ونزل لتسع وعشرين، أي نزل من المشربة التي كان معتزلًا فيها. واختلف الحديث في سبب الاعتزال، فأخرج مسلم عن جابر قال: دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ... الحديث في قوله -صلى الله عليه وسلم- "هن حولي كما ترى يسألنني النفقة" يعني فساءه. وأخرج البخاريّ وغيره عن عمر في قصة المرأتين اللتين تظاهرتا حين أفشته حفصة إلى عائشة، وكان قد قال: ما أنا بداخل عليهن شهراً من شدة موجِدَته عليهن ... إلخ، ويمكن الجمع بين الحديثين بأن القضيتين جميعًا سبب الاعتزال، فإن قصة المتظاهرتين خاصة بهما، وقصة سؤال النفقة عامة في جميع النسوة. ومناسبة آية التخيير بقصة سؤال النفقة أليق منها بقصة المتظاهرتين.

رجاله أربعة

وفي الحديث من الفوائد، غير ما تقدم، مشروعيةُ ركوب الخيل، والتدرب على أخلاقها، والتأسي لمن يحصل له سقوط ونحوه ما اتفق للنبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه الواقعة، وبه الأسوة الحسنة. وفيه أنه يجوز عليه -صلى الله عليه وسلم- مما يجوز على البشر، من الأسقام ونحوها من غير نقص في مقداره بذلك، بل ليزداد قدره رفعة، ومنصبه جلالة. وفيه مشروعية اليمين؛ لأنه عليه الصلاة والسلام آلى أن لا يدخل على نسائه شهرًا. وفيه أن الشهر لا يأتي دائمًا كاملًا، وإن من حلف على فعل شيء أو تركه في شهر كذا، وجاء الشهر تسعة وعشرين يومًا يخرج من يمينه، فلو نذر صوم شهر بعينه فجاء الشهر تسعة وعشرين يومًا لم يلزمه أكثر من ذلك. وإذا قال: لله عليّ صوم شهر من غير تعيين، كان عليه إكمال عدد ثلاثين يومًا، وتأتي إن شاء الله تعالى بقية مباحثه في باب "حد المريض أن يشهد الجماعة". رجاله أربعة: الأول: محمد بن عبد الرحيم المعروف بصاعقة، وقد مرّ في السادس من كتاب الوضوء، ومرّ يزيد بن هارون في الخامس عشر منه، ومرّ حميد الطويل في الثاني والأربعين من كتاب الإِيمان، ومرّ أنس بن مالك في السادس منه أيضًا. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، والعنعنة في موضع واحد، وهو رباعيّ الإسناد، ورواته ما بين بغداديّ وواسطيّ وبصريّ. أخرجه البخاريّ هنا وفي المظالم عن محمد بن سلام، وفي الصوم والنذور عن عبد العزير بن عبد الله، وفي النكاح عن خالد بن مَخْلَد، وفي الطلاق عن إسماعيل بن أُويس، ومسلم في الصلاة، وأبو داود والنَّسائِيّ وابن ماجه فيها أيضًا، ثم قال المصنف: باب إذا أصاب ثوب المصلّي امرأته إذا سجد أي هل تفسد صلاته أم لا، والحديث دال على الصحة.

الحديث الحادي والثلاثون

الحديث الحادي والثلاثون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ خَالِدٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ الشَّيْبَانِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ مَيْمُونَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي وَأَنَا حِذَاءَهُ وَأَنَا حَائِضٌ، وَرُبَّمَا أَصَابَنِي ثَوْبُهُ إِذَا سَجَدَ. قَالَتْ وَكَانَ يُصَلِّي عَلَى الْخُمْرَةِ. قوله: وأنا حذاءه، بكسر المهملة وفتح المعجمة، منصوبًا على الظرفية. وفي رواية حذاؤه بالرفع على الخبرية، وقوله: وأنا حائض، جملة اسمية حالية، وقد مر الكلام على هذا الحديث عند ذكره آخر كتاب الحيض، واستدل به المصنف هناك على أن عين الحائض طاهرة، وهنا على أن ملاقاة بدن الطاهر وثيابه لا تُفسد الصلاة، ولو كان متلبسًا بنجاسة حكمية، وفيه إشارة إلى النجاسة إذا كانت عينية قد تضر، وفيه أن محاذاة المرأة لا تفسد الصلاة. رجاله خمسة: مر خالد بن عبد الله الواسطي الطحّان في السادس والخمسين من كتاب الوضوء، ومرّ مسدد في السادس من كتاب الإيمان، ومرّ سليمان الشيباني السابع من كتاب الحيض، ومرّ عبد الله بن شدّاد فيه أيضًا، في الثامن منه، ومرت ميمونة بنت الحارث في الثامن والخمسين من كتاب العلم. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في ثلاثة مواضع، ورواته ما بين بصريّ وواسطيّ وكوفيّ ومدنيّ، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ عن صحابية. أخرجه البخاريّ هنا وفي الطهارة عن الحسن بن مُدْرِك، وفي الصلاة عن عمرو بن زائدة، ومسلم وأبو داود وابن ماجَه في الصلاة. ثم قال المصنف

باب الصلاة على الحصير

باب الصلاة على الحصير قال ابن بطال: إن ما يصلّى عليه كبيرًا قدر طول الرجل فأكثر، قيل له حصير، ولا يقال له خمرة، وكل ذلك يصنع من سَعَف النخل وما أشبهه، والنكتة في هذه الترجمة الإشارة إلى ضعف ما رواه ابن أبي شيبة وغيره، عن شريح بن هانىء أنه سأل عائشة "أكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي على الحصير، والله تعالى يقول {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} [الإسراء: 8]. فقالت: لم يكن يصلي على الحصير" فكأنه لم يثبت عند المصنف، أو رآه شاذًا مردودًا لمعارضته ما هو أقوى منه، كحديث الباب، وسيأتي عند المصنف، من طريق أبي سلمة عن عائشة، "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان له حصير يبسطه ويصلي عليه" وفي مسلم من حديث أبي سعيد "أنه رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي على حصير". ثم قال: وصلى جابر بن عبد الله وأبو سعيد في السفينة قائمًا، ولفظ التعليق عن عبد الله بن أبي عُتبة مولى أنس قال: "سافرت مع أبي الدرداء وأبي سعيد الخُدْريّ وجابر بن عبد الله، وأناس قد سمّاهم، قال: وكان إمامنا يصلي بنا في السفينة قائمًا، ونصلي خلفه قيامًا، ولو شئنا لأرفينا" أي لأرسينا، يقالى: أرسى السفينة، بالسين المهملة، وأرفى، بالفاء، إذا وقف بها على الشط. وهذا التعليق وصله أبو بكر بن أبي شيبة بسند صحيح، وجابر بن عبد الله قد مر في الرابع من بدء الوحي، ومرّ أبو سعيد الخُدريّ في الثاني عشر من كتاب الإِيمان. ثم قال: وقال الحسن تصلي قائمًا ما لم تشق على أصحابك تدور معها، وإلاّ فقاعدًا" وقوله: تصلي وتشق، بالتاء، وكذلك تدور، وعلى أصحابك بضمير الخطاب. وللكشميهنيّ بالياء في الثلاثة، وعلى أصحابه، بضمير الغائب. والمعنى أن الحسن البصريّ لما سأله عاصم الأحول، هو وابن سيرين والشعبيّ، عن الصلاة في السفينة، فكلهم يقول: إن قدر على الخروج فليخرج، غير الحسن فإنه قال: تدور مع السفينة حيثما دارت، إن لم تشق على أصحابك، فإن كان يشق عليهم فصلِّ قاعدًا. ووجه إدخال الصلاة في السفينة في باب "الصلاة على الحصير" وهو أنهما

اشتركا في أن الصلاة عليهما صلاة على غير الأرض، لئلا يتخيل متخيل أن مباشرة الأرض شرط، لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث معاذ المشهور، الذي أخرجه أبو داود "عفّر وجهك في التراب" وقد مرّ أثر عمر بن عبد العزيز في ذلك في آخر حديث من الحيض، وأشار البخاريّ إلى خلاف أبي حنيفة في تجويزه الصلاة في السفينة قاعدًا مع القدرة على القيام. وقال أبو يوسف ومحمد: لا تجوز قاعدًا إلَّا بعذر؛ لأن القيام ركن، فلا يترك إلَّا من عذر، والخلاف في غير المربوطة والمربوطة لم تجز عنده فيها قعودًا، وقيل: يجوز القعود عنده في حالة الإِجراء والإرساء، وعند المالكية يصلي الفرض في السفينة ويدور إن أمكن، وإن لم يمكن يصلي حيث توجهت به، وإن اتسع الوقت كما هو ظاهر المدونة، وقيدت بالضيق، ولعله للندب. وفي هذا الأثر جواز ركوب البحر، وهذا التعليق وصله أيضًا أبو بكر بن أبي شيبة بإسناد صحيح، والنسائيّ باللفظ الذي قدمنا، والحسن المراد به البصريّ، وقد مرّ في الخامس والعشرين من كتاب الإيمان.

الحديث الثاني والثلاثون

الحديث الثاني والثلاثون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ ابْنِ أَبِى طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ ابْنِ مَالِكٍ أَنَّ جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لِطَعَامٍ صَنَعَتْهُ لَهُ، فَأَكَلَ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ: "قُومُوا فَلأُصَلِّي لَكُمْ". قَالَ أَنَسٌ: فَقُمْتُ إِلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدِ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ، فَنَضَحْتُهُ بِمَاءٍ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَصَفَفْتُ أنَا وَالْيَتِيمَ وَرَاءَهُ، وَالْعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا، فَصَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ انْصَرَفَ. قوله: عن إسحاق بن أبي طلحة، هو للكشميهني والحموي، وللباقين إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة. وقوله: إنَّ جدّته مليكة، قيل الضمير في جدته يعود على إسحاق، وقيل يعود على أنس، أي جدته أم أمه أم سليم، وهذا هو الصحيح، لحديث أنس عند أبي الشيخ في فوائد العراقيين "أرسلتني جدتي واسمها مليكة" ... إلخ، وكونها جدة أنس لا ينفي كونها جدة إسحاق؛ لأن إسحاق جدته أم سليم، أم أبيه عبد الله، ومليكة أم جدته، فهي جدته الثانية. وقوله: الطعام صنعته له، أي لأجل طعام، وهو مشعر بأن مجيئه كان لذلك، لا ليصلي بهم ليتخذوا مكان صلاته مصلى لهم، كما في قصة عتبان بن مالك الآتية، وهذا هو السر في كونه بدأ في قصته عتبان بالصلاة قبل الطعام، وهنا بالطعام قبل الصلاة، فبدأ في كل منهما بأصل ما دُعي لأجله. وقوله: ثم قال "قوموا" استدل به على ترك الوضوء مما مست النار، لكونه صلى بعد الطعام، وتعقب بما رواه الدارقطنيّ في غرائب مالك عن أنس بلفظ "صنعت مليكة للنبي -صلى الله عليه وسلم- طعامًا، فأكل منه وأنا معه، ثم دعا بوضوء فتوضأ ... " الحديث. وقوله: فلأِصليَ، أي بكسر اللام وفتح الياء. وفي رواية الأصيلي

بحذف الياء، قال ابن مالك: روي بحذف الياء وثبوتها ساكنة ومفتوحة، ووجهه أن اللام عند ثبوت الياء مفتوحة لام كي، والفعل بعدها منصوب بأن مضمرة، واللام ومصحوبها خبر مبتدأ محذوف تقديره: قوموا فقيامكم لأُصلي لكم. ويجوز على مذهب الأخفش أن تكون الفاء زائدة، واللام متعلقة بقوموا. وعند سكون الياء يحتمل أن تكون اللام أيضًا لام كي، وسكنت الياء تخفيفًا، أو لام الأمر، وثبتت الياء في الجزم إجراء للمعتل مجرى الصحيح، كقراءة قُنْبل {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} [يوسف: 90] وعند حذف الياء، اللامُ لام الأمر، وأمْرُ المتكلم نفسه بفعل مقرون باللام فصيحٌ، قليل في الاستعمال، ومنه قوله تعالى {وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} [العنكبوت: 12]. ويجوز فتح اللام، ولم ترد به الرواية، كما قال في الفتح. وقال القسطلاني: إن فتح اللام مع سكون الياء رواية الأربعة، وتوجيهه أن اللام لام ابتداء للتأكيد، أو لام الأمر فتحت على لغة بني سليم، وثبتت الياء في الجزم إجراء للمعتل .. إلخ ما مر، أو اللام جواب قسم محذوف، والفاء جواب شرط محذوف، أي إنْ قمتم فوالله لأصلي لكم، وتُعُقب بأنْ لا وجه للقسم، ولو أريد ذلك لقال الأصلين بالنون، وقيل: إن في رواية الكشميهني "فأصل" بحذف اللام، وليس من النسخ الصحيحة، كما قال في الفتح. وحكى ابن قرقول عن بعض الروايات "فلِنصلِّ" بالنون وكسر اللام والجزم، واللام على هذا لام الأمر، وكسرها لغة معروفة. وقوله: لكم، أي لأجلكم. قال السهيليّ: الأمر هنا بمعنى الخبر، وهو كقوله تعالى {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [مريم: 75]، ويحتمل أن يكون أمرًا لهم بالائتمام، لكنه أضافه إلى نفسه لارتباط فعلهم بفعله. وقوله: من طول ما لُبِس، أي بضم اللام وكسر الموحدة، وقد استدل به، كما مرّ في باب من صلى في فَرّوج حرير، على منع افتراش الحرير، لعموم النهي عن لباس الحرير، ولا يرد على ذلك أن من حلف لا يلبس حيرًا لا يحنث بالافتراش؛ لأن الإِيمان مبناها على العُرف. وقوله: فنضحته، يحتمل أن يكون

النضح لتليين الحصير أو لتنظيفه أو لتطهيره، والأخير أوْلَى، وهو المتبادر؛ لأنه في التوجه للصلاة، والحصير متطرق فيه الشك في النجاسة، لاسوداده من طول اللبس، فهو جار على مذهب مالك من وجوب النضح عند الشك في النجاسة. وأما التليين والنظافة فلا يحصلان بالنضح بتاتًا، وإنما يحصلان بالغسل، فقول صاحب الفتح: ولا يصح الجزم بالأخير الذي هو التطهير؟ غيرُ ظاهر، بل اللازم الجزم به فتأمل منصفًا. وقوله: وصففت أنا واليتيم، كذا للأكثر، وللحمويّ والمستملي "فصففت واليتيم" بغير تأكيد، والأول أفصح، ويجوز في اليتيم الرفع على العطف، والنصب على المفعول معه، ويأتي في السند قريبًا الكلامُ على اليتيم، وعلى العجوز التي هي مليكة. وقوله: ثم انصرف، أي إلى بيته أو مِن الصلاة، وفي الحديث إِجابة الدعوة ولو لم تكن عُرسًا، ولوكان الداعي امرأة، لكن حيث تؤمن الفتنة، والأكل من طعام الدعوة، وصلاة النافلة جماعة في البيوت، وكأنه -صلى الله عليه وسلم- أراد تعليمهم أفعال الصلاة بالمشاهدة، لأجل المرأة، فإنها قد يخفى عليها بعض التفاصيل، لبعد موقعها. وفيه تنظيف مكان المصلي أو تطهيره على ما مرّ، وقيام الصبي مع الرجل صفًا، وتأخير النساء عن صفوف الرجال، وقيام المرأة صفًا وحدها إذا لم تكن معها امرأة غيرها، واستدل به على جواز صلاة المنفرد خلف الصف، ولا حجة فيه لذلك؛ لأن المنفرد امرأة. وفيه الاقتصار في صلاة النهار على ركعتين خلافًا لمن اشترط أربعًا، وسيأتي ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى. وفيه صحة صلاة الصبي المميز ووضوئه، وأن محل الفضل الوارد في صلاة النافلة منفردًا، حيث لا تكون هناك مصلحة كالتعليم، بل يمكن إن يقال: هو إِذ ذاك أفضل، ولاسيما في حقه -صلى الله عليه وسلم-. وقد أورد مالك هذا الحديث في ترجمة صلاة الضحى، وتعقب بما رواه أنس بن سيرين عن أنس بن مالك "أنه لم ير النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي الضحى إِلا مرة واحدة في دار الأنصاري الضخم الذي دعاه ليصلي له في بيته" أخرجه المصنف

رجاله أربعة

في ما يأتي؛ وأجاب ابن العربيّ في القبس بأن مالكًا نظر إلى كون الوقت الذي وقعت فيه تلك الصلاة، هو وقت صلاة الضحى، فحمله عليه، وأن أنسًا لم يطّلع على أنه عليه الصلاة والسلام نوى بتلك الصلاة صلاة الضحى. رجاله أربعة: الأول: عبد الله بن يوسف. والثاني: مالك بن أنس، وقد مرا في الثاني من بدء الوحي، ومرّ إسحاق بن عبد الله في الثامن من كتاب العلم، ومرّ أنس بن مالك في السادس من كتاب الإيمان. وفيه ذكر جدة أنس مليكة بنت مالك بن عَديّ بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار. لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد، والإِخبار كذلك والعنعنة في موضعين. أخرجه البخاريّ هنا وفي الصلاة أيضًا عن إسماعيل بن أبي أُوَيس، ومسلم والتِّرمذيّ والنَّسائيّ في الصلاة أيضًا. وفيه لفظ "واليتيم وراءه" واليتيم هو ضُميرة بن أبي ضَمرة، وأبو ضمرة مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- له ولأبيه صحبة. قال الذهبيّ: كان من حمير، واسمه سَعد، وكذا قال البخاريّ: إن اسمه سعد الحميريّ من آل ذي يَزن. وقال أبو حاتم: سعيد الحميريّ هو جد حسين بن عبد الله بن ضمير بن أبي ضمرة، ويقال: اسم أبي ضمرة رُوح بن سَنَد، وقيل روح بن شيرزاد، وضُميرة بضم الضاد والمعجمة مصغرًا. ثم قال المصنف: باب الصلاة على الخمرة

الحديث الثالث والثلاثون

الحديث الثالث والثلاثون حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ الشَّيْبَانِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ مَيْمُونَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي عَلَى الْخُمْرَةِ. الخمرة المذكورة في الترجمة والحديث، قد مرّ الكلام عليها مستوفى عند ذكر هذا الحديث آخر كتاب الحيض. رجاله خمسة: الأول: أبو الوليد الطَّيالسيّ، وقد مرّ في العاشر من كتاب الإِيمان، ومرّ شعبة بن الحجاج في الثالث منه أيضًا، ومرّ سليمان الشيبانيّ في السابع من كتاب الحيض، ومرّ عبد الله بن شداد في الثامن منه أيضًا، ومرت ميمونة بنت الحارث في الثامن والخمسين من كتاب العلم. ثم قال المصنف باب الصلاة على الفراش أي سواء كان ينام عليه مع امرأته أم لا، وكأنه يشير إلى تضعيف الحديث الذي رواه أبو داود عن عائشة، قالت "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يصلي في لحفنا" فكأنه لم يثبت عنده أو رآه شاذًا مردودًا، وقد بين أبو داود علته. ثم قال: وصلى أنس على فراشه، وهذا التعليق وصله ابن أبي شَيبة وسعيد بن منصور، وأنس قد مرّ في السادس من كتاب الإيمان. ثم قال: وقال أنس: كنا نصلي مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فيسجد أحدنا على ثوبه. وسقط لفظ "أنس" من رواية الأصيليّ، فأوهم أنه بقية من الذي قبله، وليس كذلك، بل حديث آخر، وسيأتي موصولًا في الباب الذي بعده بمعناه، ورواه

مسلم من الوجه المذكور، وفيه اللفظ المعلق هنا، وسياقه أتم. وأشار المصنف بالترجمة إلى ما أخرجه ابن أبي شيبة بسند صحيح عن إبراهيم النخعيّ عن الأسود وأصحابه "أنهم كانوا يكرهون أن يصلوا على الطنافس والفِراء والمُسُوح" وأخرج عن جمع من الصحابة والتابعين جواز ذلك، وقال مالك: لا أرى بأسًا بالقيام عليها، إذا كان يضع جبهته ويديه على الأرض، وعند أبي حنيفة والشافعي يصلي على البساط والطِّنْفسه.

الحديث الرابع والثلاثون

الحديث الرابع والثلاثون حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهَا قَالَتْ: كُنْتُ أَنَامُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَرِجْلاَيَ فِي قِبْلَتِهِ، فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي، فَقَبَضْتُ رِجْلَيَّ، فَإِذَا قَامَ بَسَطْتُهُمَا. قَالَتْ: وَالْبُيُوتُ يَوْمَئِذٍ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيحُ. قوله: ورِجلاي في قبلته، أي في مكان سجوده، ويتبين بقولها في الرواية التي بعدها "وهي بينه وبين القبلة" وقوله: فقبضتُ رجليّ، كذا بالتثنية للأكثر، وكذا في قولها "بسطتهما" وللحمويّ والمستملي "رجلي" بالإِفراد، وكذا "بسطتها" وقوله: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح، قالته كأنها مريدة به الاعتذار عن نومها على تلك الصفة، إذ لو كانت لقبضت رجليها عند إرادة السجود، ولما أحوجته للغمز. وفيه إشعار بأنهم صاروا بعد ذلك يستصبحون. ومناسبة الحديث للترجمة من قولها "كنت أنام" وقد صرحت في الحديث الذي يليه بأن ذلك على فراش أهله، واستنبط منه عدم نقض الوضوء بلمس المرأة، وهو مذهب المالكية والحنابلة، إلاّ لقصد الشهوة جمعًا بين الأدلة، ومذهب الحنفية من غير تفصيل، وأجاب عنه الشافعية ومن قال بقولهم "بالنقض باللمس مطلقًا" باحتمال أن يكون بينهما حائل من ثوب أو غيره، أو بالخصوصية، ورُد هذا بأن الأصل عدم الحائل في الرجل واليد عُرفًا، وبأن دعوى الخصوصية بلا دليل، وبأنه عليه الصلاة في مقام التشريع لا الخصوصية، وفي قولها هذا "والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح" الإِشارة إلى عدم الاشتغال بها، ولا يعكر على ذلك كونه يغمزها عند السجود، وليسجد مكان رجليها، كما وقع صريحًا في رواية لأبي داود، ولأن الشغل بها مأمون في حقه

-صلى الله عليه وسلم-، فمن أمِن ذلك لم يكره في حقه. وفي الحديث جواز الصلاة إلى النائم، وقد ورد فيه حديث ابن عباس "أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: لا تصلوا خلف النائم ولا المتحدث". أخرجه أبو داود وابن ماجه. وقال أبو داود: طرقه كلها واهية، وفي الباب عن ابن عمر أخرجه ابن عديّ، وعن أبي هريرة أخرجه الطبرانيّ في الأوسط، وهما واهيان أيضًا، وكره مجاهد وطاوس ومالك الصلاةَ إلى النائم خشية أن يبدو منه ما يُلهي المصلي عن صلاته. وفيه جواز الصلاة إلى المرأة وأنها لا تقطع صلاته، وكرهه بعضهم لغير الشارع لخوف الفتنة بها، واشتغال القلب بالنظر إليها، وأما النبي -صلى الله عليه وسلم- فمنزه عن هذا كله، مع أنه كان في الليل ولا مصابيح فيه. وفيه أن المرأة لا تبطل صلاة من صلى إليها، ولا من مرت بين يديه، وهو قول جمهور الفقهاء سلفًا وخلفًا، منهم أبو حنيفة ومالك والشافعيّ، ومعلوم أن اعتراضها بين يديه أشد من مرورها، وذهب بعضهم إلى أنه يقطع مرور الحمار والكلب والمرأة، لحديث أبي ذَرٍّ بذلك عند مسلم، وقال أحمد يقطع الكلب الأسود، وفي قلبي من الحمار والمرأة شيء، ووجّهه ابن دقيق العيد بأنه لم يجد في الكلب الأسود ما يعارضه، ووجد في الحمار حديث ابن عباس الآتي عند المصنف "أنه مرّ وهو راكب على أتان بين يدي بعض الصف"، ووجد في المرأة حديث عائشة المذكور في الباب، وحديثها الآتي "شبهتمونا بالكلاب والحمر .. إلخ". والجواب عن حديث قطع الصلاة بهؤلاء أحد أمرين: أحدهما أن المراد من القطع نقص الخشوع لا إبطالها، وذلك لأن المرأة تغير الفكر فيها، والحمار تنهق، والكلب يهوش، فلما كانت هذه الأشياء آئلة إلى القطع أطلق عليها القطع، ويؤيد هذا التأويل أن الصحابيّ راوي الحديث لما سُئل عن التقييد بالكلب الأسود أجاب بأنه شيطان، وقد علم أن الشيطان لو مرّ بين يدي المصلي لم تفسد صلاته، كما يأتي عند المصنف "إذا ثَوَّب

بالصلاة أدبر الشيطان، فإذا قضى التثوثيب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه" وسيأتي أيضًا حديث "إن الشيطان عرض لي فشد عليَّ ... " الحديث، وللنسائي عن عائشة "فأَخَذْتُه فصرعته فخنقته" ولا يقال قد ذكر في هذا الحديث أنه جاء ليقطع صلاته؛ لأنا نقول قد بين في رواية مسلم سبب القطع، وهو أنه جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهه، وأما مجرد المرور فحصل، ولم تفسد به. والثاني أن حديث القطع منسوخ بحديث "لا يقطع الصلاة شيء" رواه مالك في الموطأ وأبو داود والدارقطنيّ وغيرهم، وبصلاة الشارح عليه الصلاة والسلام، وبينه وبين القبلة عائشة، رضي الله تعالى عنها، وبكون الأتان ترتع بين يديه، ولم ينكره أحد، لكن تُعُقب هذا بأنّ النَّسخ لا يصار إليه إلَّا إذا علم التاريخ وتعذر الجمع، والتاريخ هنا لم يتحقق، والجمع لم يتعذر كما مرّ، وذهب ابن عباس وعطاء إلى أن المرأة التي تقطع الصلاة هي الحائض، وَرُدَّ بأنه جاء في حديث عائشة هذا قال شعبة "وأحسبها قالت: وأنا حائض". ونازع بعضهم في الاستدلال بحديث عائشة من أوجه: أحدها أن العلة في قطع الصلاة بها ما يحصل من التشويش، وقد قالت إن البيوت يومئذ ليس فيها مصابيح، فانتفى المعلول بانتفاء علته. ثانيها أن المرأة في حديث أبي ذَرٍّ مُطلقة، وفي حديث عائشة مقيدة بكونها زوجته، فيحمل المطْلق على المقيد، ويقال بتقيد القطع بالأجنبية لخشية الافتتان بها؛ بخلاف الزوجة، فإنها حاصلة. ثالثها أن حديث عائشة واقعة عين يتطرق إليها الاحتمال، بخلاف حديث أبي ذَرٍّ، فإنه مَسوقٌ مساق التشريع العام. وأشار ابن بطال إلى أن ذلك كان من خصائصه -صلى الله عليه وسلم-، لأنه يقدر من مَلْكِ إرْبه ما لا يقدر عليه غيره. وقال بعض الحنابلة: يعارض حديث أبي ذرٍّ وما وافقه أحاديثُ صحيحة غير صريحة، وأحاديث صريحة غير صحيحة، فلا يترك العمل بحديث أبي ذر

رجاله خمسة

الصريح بالمحتمل، يعني حديث عائشة وما وافقه، والفرق بين المار وبين النائم في القبلة، أن المرور حرام بخلاف الاستقرار، نائمًا كان أم غيره، فكذلك المرأة، يقطع مرورها دون لبثها قلت: هذا الفرق إنما هو من جهة تعلق الحرمة بالمار دون النائم، ولا تعرض فيه للفرق بين ذات المرأة وغيرها من الذوات، بحيث يتعلق البطلان بمرورها دون غيرها. رجاله خمسة: الأول: إسماعيل بن أبي أُوَيس، وقد مرّ في الخامس عشر من كتاب الإيمان، ومرّ مالك في الثاني من بدء الوحم، وكذلك عائشة، ومرّ أبو سلمة في الرابع منه، ومرّ أبو النضر سالم بن أبي أمية في السابع والستين من كتاب الوضوء. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد، وبالإِفراد في آخر، والعنعنة في ثلاثة مواضع، وفيه القول. ورواته مدنيون، أخرجه البخاريّ أيضًا عن القعنبيّ وعبد الله بن يوسف، ومسلم وأبو داود والنَّسائيّ في الصلاة.

الحديث الخامس والثلاثون

الحديث الخامس والثلاثون حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُصَلِّي وَهْىَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ عَلَى فِرَاشِ أَهْلِهِ، اعْتِرَاضَ الْجَنَازَةِ. قوله: اعتراض الجنازة، منصوب على أنه مفعول مطلق بعامل مقدر، أي معترضة اعتراضًا كاعتراض الجنازة، والمراد أنها تكون نائمة بين يديه، من جهة يمينه إلى جهة شماله، كما تكون الجنازة بين يدي المصلي عليها. رجاله ستة: الأول يحيى بن بكير، وقد مرّ هو والليث وعقيل وابن شهاب في الثالث من بدء الوحي، ومرَّ عُروة وعائشة في الثاني منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والإخبار بصيغة الإفراد في موضع، وبصيغة الماضي في موضع، والعنعنة في موضعين، ورواية تابعي عن تابعي عن الصحابية، ورواته ما بين مصريّ ومدنيّ. أخرجه البخاريّ هنا، ومسلم وأبو داود وابن ماجه في الصلاة.

الحديث السادس والثلاثون

الحديث السادس والثلاثون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ عَنْ عِرَاكٍ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُصَلِّي وَعَائِشَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ عَلَى الْفِرَاشِ الَّذِي يَنَامَانِ عَلَيْهِ. صورة سياق هذا الحديث بالإرسال، لكنه محمول على أن عُروة سمع ذلك من عائشة، بدليل الرواية التي قبلها، والنكتة في إيراده أن فيه تقييد الفراش بكونه الذي ينامان عليه، بخلاف التي قبلها، فإن قولها "فراش أهله" أعم من أن يكون هو الذي ناما عليه أو غيره. رجاله ستة: الأول: عبد الله بن يوسف، وقد مرّ في الثاني من بدء الوحي، ومرّ الليث في الثالث منه، وعروة وعائشة في الثاني منه أيضًا، ويزيد بن أبي حبيب في الخامس من كتاب الإِيمان. السادس من السند عِراك بن مالك الغِفاريّ الكِنانيّ المدنيّ. قال العجليّ: شاميّ تابعيّ ثقة، من خيار عباد الله تعالى. وقال أبو زُرعة وأبو حاتم: ثقة، وقال عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز: ما كان أبي يعدل بعراك بن مالك أحدًا. وقال أبو الغصن: رأيته يصوم الدهر. وقال الزبير بن بكار عن محمد بن الضحّاك عن المنذر بن عبد الله: إن عراك بن مالك كان من أشد أصحاب عمر بن عبد العزيز علي بني مروان في انتزاع ما حازوا من الفيء والمظالم من أيديهم، فلما ولي يزيد بن عبد الملك ولّى عبد الواحد البصريّ على المدينة، فقرّب عراكًا، وقال: صاحبِ الرجلَ الصالح، وكان يجلس معه على سريره، فبينما هو يومًا معه إذ

لطائف إسناده

أتاه كتابُ يزيد أن أبعث مع عراك حرسيًا حتى ينزله دَهْلَك، كجعفر، جزيرة بين بر اليمن والحبشة، وخذ من عراك حمولته، فقال عبد الواحد لحرسيّ: خذ بيد عراك فابتع من ماله راحلة، ثم توجه به إلى دهلك حتى تقره بها، ففعل الحرسي ذلك، وما تركه يصل إلى أمه. قال: وكان أبو بكر بن حزم قد نفى الأحوص الشاعر إلى دهلك، فلما ولي يزيد بن عبد الملك، أرسل إلى الأحوص فأقدمه عليه، فمدحه الأحوص فأكرمه. وقال عقيل بن خالد: كنت بالمدينة في الحرس، فلما صليت العصر، إذا برجل يتخطى الناس حتى دنا من عِراك بن مالك، فلطمه حتى وقع، وكان شيخًا كبيرًا، ثم جر برجله، ثم انطلق به حتى حصل في مركب في البحر إلى دهلك، فكان أهل دهلك يقولون: جزى الله عنا يزيد خيرًا، أخرج إلينا رجلًا علمنا الله الخير على يديه. وذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال موسى بن هارون: لا نعلم لعراك سماعًا من عائشة. روى عن ابن عمر وأبي هريرة، وزينب بنت سلمة، وعروة بن الزبير، وأبي سلمة بن عبد الرحمن وخلق. وروى عنه ابناه ختيم وعبد الله وسليمان بن يسار، وهو من أقرانه، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ ومكحول، وعقيل بن خالد وغيرهم. قال ابن سعد: مات في خلافة يزيد بن عبد الملك بالمدينة، ولم يصرح غير ابن سعد بكونه مات بالمدينة، وليس في الستة عراك سواه إلا واحد، وهو عراك بن خالد. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في ثلاثة مواضع، وفيه ثلاثة من التابعين، وهم يزيد وعراك وعروة، ورواته ما بين مصريّ ومدنيّ، ومرّ قريبًا الكلام على مواضع إخراجه. ثم قال المصنف: باب السجود على الثوب في شدة الحر أي والبرد، والتقييد بشدة الحر للمحافظة على لفظ الحديث، وإلاّ فهو في

البرد كذلك، بل القائل بالجواز لا يقيده بالجاجة. ثم قال: وقال الحسن: كان القوم يسجدون على العمامة والقَلَنْسُوة ويداه في كمه. قوله: كان القوم، أي الصحابة كما يأتي في الأثر. وقوله: والقَلَنْسُوة، هي بفتح القاف واللام وسكون النون وضم السين المهملة وفتح الواو بعدها هاء تأنيث، وقد تبدل ياء مثناة من ثمت، وقد تبدل ألفًا وتفتح السين فيقال قلنساة، وقد تحذف النون من هذه، وهي غشاء مبطَّن يستر به الرأس، وقيل: هي التي يقال لها العمامة الشاشيّة، وفي المحكم: هي من ملابس الرأس، معروفة. وقيل: هي التي تغطَّى بها العمائم، وتستر من الشمس والمطر، كأنها، على هذا، هي رأس البُرْنُس. وقوله: ويداه في كمه، جملة حالية، أي يد كل واحد في كمه، وكأنه أراد بتغيير الأسلوب بيان كل واحد منهم، ما كان يجمع بين السجود على العمامة والقلنسوة معًا، لكن في كل حالة كان يسجد ويداه في كمه، وللكشميهني "ويديه في كمه" بالنصب بفعل مقدر، أي ويجعل يديه. واستنبط منه أبو حنيفة جواز السجود على كَوْر العمامة، وكرهه مالك، ومنعه الشافعية محتجين بأنه لمّا لم يقم المسح عليها مقام الرأس، وجب أن يكون السجود كذلك، ولأن القصد من السجود التذلل، وتمامه بكشف الجبهة. والحسن المراد به البصريّ، وقد مرّ في الخامس والعشرين من كتاب الإيمان، وهذا الأثر وصله ابن أبي شيبة وعبد الرزاق في مصنفيهما، ولفظه عنه "أن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانوا يسجدون وأيديهم في ثيابهم، ويسجد الرجل منهم على قَلَنْسُوته وعمامته".

الحديث السابع والثلاثون

الحديث السابع والثلاثون حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ حَدَّثَنِي غَالِبٌ الْقَطَّانُ عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَيَضَعُ أَحَدُنَا طَرَفَ الثَّوْبِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ فِي مَكَانِ السُّجُودِ. قوله: حدثنا، غالب للأكثر حدثني، بالإِفراد. وقوله: طرف الثوب، ولمسلم "بسط ثوبه" وللمصنف في أبواب العمل في الصلاة "سجدنا على ثيابنا اتقاء الحر" والثوب في الأصل يطلق على غير المَخِيط، وقد يطلق على المخيط مجازًا، وفي الحديث جواز استعمال الثياب، وكذا غيرها، في الحيلولة بين المصلي وبين الأرض، لاتقاء حرها أو بردها، وفيه إشارة إلى أن مباشرة الأرض عند السجود هو الأصل. لأنه علق بسط الثوب بعدم الاستطاعة، وعند ابن أبي شيبة، يعني عن أنس "كنا نصلي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في شدة الحر والبرد، فيسجد على ثوبه"، واحتج بذلك مالك وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق على جواز السجود على الثوب في شدة الحر والبرد، وبه قال عمر بن الخطاب وغيره، وأوَّله الشافعية بالمنفصل أو المتصل الذي لا يتحرك بحركته، فلو سجد على متحرك بحركته، عامدًا عالمًا بتحريمه، بطلت صلاته؛ لأنه كالجزء منه، أو جاهلًا أو ناسيًا لم تبطل صلاته، وتجب إعادة السجود. واستثنى في "المهمات" ما لو كان بيده عود ونحوه فسجد عليه، فإنه يجوز، وأيد البيهقي ما ذهب إليه الشافعيّ بما رواه الإِسماعيليّ بلفظ "فيأخذ أحدنا الحصى في يده، فإذا برد وضعه وسجد عليه" قال: فلو جاز السجود على شيء متصل به لما احتاجوا إلى تبريد الحصى مع طول الأمر فيه، وتعقب باحتمال

رجاله خمسة

أن يكون الذي كان يبرد الحصى لم يكن في ثوبه فضلة يسجد عليها، مع بقاء سترته له. وقال ابن دقيق العيد: يحتاج من استدل به على الجواز إلى أمرين: أحدهما أن لفظ "ثوبه" دال على المتصل به، إمّا من حيث اللفظ، وهو تعقيب السجود بالبسط، كما في رواية مسلم. وإما من خارج اللفظ، وهو قلة الثياب عندهم، وعلى تقدير أن يكون كذلك، يحتاج إلى ثبوت كونه متناولًا لمحل النزاع، وهو أن يكون مما يتحرك بحركة المصلي، وليس في الحديث ما يدل عليه. وفيه جواز العمل القليل في الصلاة، ومراعاة الخشوع فيها؛ لأن الظاهر أن صنيعهم ذلك لإِزالة التشويش العارض من حرارة الأرض، وفيه تقديم الظهر في أول الوقت، وظاهر الأحاديث الواردة في الأمر بالإِبراد، والآتية في المواقيت، يعارضه. فمن قال: الإبراد رخصة، فلا إشكال، ومن قال سنة، فإما أن يقول التقديم المذكور رخصة، وإما أن يقول منسوخ بالأمر بالإبراد، وأحسن منهما أن يقال إن شدة الحر قد توجَد مع الإبراد، فيحتاج إلى السجود على الثوب، أو إلى تبريد الحصى؛ لأنه قد يستمر حره بعد الإِبراد، ويكون فائدة الإبراد وجودُ ظلٍّ يمشي فيه إلى المسجد، أو يصلي فيه في المسجد، وهذا الجمع ذكره القرطبيّ، وهو أَوْلى من دعوى تعارض الحديثين. وفيه أن قول الصحابي "كنا نفعل كذا" من قبيل المرفوع، لاتفاق الشيخين على تخريج هذا الحديث في صحيحيهما، لكن قد يقال: إن في هذا زيادة على مجرد الصيغة، لكونه في الصلاة خلق النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد كان يرى فيها مَنْ خلفه كما يرى من أمامه، فيكون تقريره فيه مأخوذًا من هذه الطريق، لا من مجرد صيغة "كنا نفعل". رجاله خمسة: الأول: أبو الوليد، وقد مرّ في العاشر من كتاب الإيمان، ومرّ أنس بن مالك في السادس منه، ومرّ بشر بن المفضل في التاسع من كتاب العلم، ومرّ بكر بن

لطائف إسناده

عبد الله في الثالث والثلاثين من كتاب الغسل. الخامس: غالب بن خُطّاف، بتشديد الطاء وفتح الخاء وضمها، ابن أبي غَيلان القطّان، أبو سُليمان البصريّ، مولى ابن بكر، وقيل: مولى بني تميم، وقيل غير ذلك. قال أحمد بن حنبل: ثقة ثقة، وقال ابن مُعين والنَّسائيّ: ثقة، وقال أبو حاتم: صدوق صالح، وقال عمر بن المختار: حدثنا غالب القطّان، وكان والله من خيار الناس. وذكره ابن حبّان في الثقات. وقال ابن سعد: كان ثقة، وقال ابن سعد، بعد أن ساق له أحاديث: الضَّعف على أحاديثه بَيِّن، وفي حديثه النُّكْرَة، ثم أورد له أحاديث منكر العمل فيه على الراوي عنه عمر بن المختار. قال الذهبي: لعل الذي ضعفه ابن عديّ آخر، قال ابن حجر في مقدمته: وهو من عجيب ما وقع لابن عدي، والكمال لله تعالى، وقد احتج به الجماعة، وليس له في الصحيحين سوى حديثه عن بكر بن عبد الله المزنيّ عن أنس في السجود على الثوب، وله عند البخاريّ موضع آخر معلق عن ابن سيرين. روى عن أنس فيما قيل، ومحمد بن سيرين والحسن وبكر بن عبد الله المزنيّ، وسعيد بن جبير، والأعمش وغيرهم. وروى عنه شُعبة وابن علية، وسلام بن أبي مُطيع، وخالد بن عبد الرحمن السلميّ، وبِشر بن المفضل وغيرهم. وفي الستة غالب سواه ستة. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وبالإِفراد في موضع، والعنعنة في موضعين، وحكاية قول الصحابيّ عما يفعله. والنبي -صلى الله عليه وسلم- يشاهده ولا ينكره، ورواته كلهم بصريون. أخرجه البخاريّ في الصلاة أيضًا عن مسدد ومحمد بن مقاتل، ومسلم وأبو داود والتِّرمِذيّ والنَّسائيّ وابن ماجه في الصلاة. ثم قال المصنف:

باب الصلاة في النعال

باب الصلاة في النعال أي بكسر النون، جمع نعل، وهي معروفة، ومناسبة لما قبله من جهة جوازِ تغطيته بعض أعضاء السجود. وقوله: في النعال، أي عليها، أو بها؛ لأن الظرفية غير صحيحة.

الحديث الثامن والثلاثون

الحديث الثامن والثلاثون حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو مَسْلَمَةَ سَعِيدُ بْنُ يَزِيدَ الأَزْدِيُّ قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ أَكَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي فِي نَعْلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قوله: يصلي في نعليه، قال ابن بطال: هو محمول على ما إذا لم يكن فيهما نجاسة، ثم هي من الرخص، كما قال ابن دقيق العيد، لا من المستحبات؛ لأن ذلك لا يدخل في المعنى المطلوب من الصلاة، وهو وإن كان من ملابس الزينة، إلَّا أن ملامسته الأرض التي تكثر فيها النجاسات قد تقصر عن هذه الرتبة، وإذا تعارضت مراعاة مصلحة التحسين ومراعاة إزالة النجاسة، قدمت الثانية؛ لأنها من باب دفع المفاسد، والأُخرى من باب جلب المصالح، إلا أن يرِد دليل بإلحاقه بما يتحمل به، فرجع إليه ويترك هذا النظر، وقد أخرج أبو داود والحاكم عن شداد بن أوس مرفوعًا: "خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم"، فيكون استحباب ذلك من جهة قصد المخالفة المذكورة. وورد في كون الصلاة في النعال من الزينة المأمور بأخذها في الآية حديث ضعيف، قد أورده ابن عدي في "الكامل"، وابن مردويه في "تفسيره" عن أبي هريرة، والعقيلي عن أنس. واختلف فيما إذا كان فيهما نجاسة، فعند مالك: إن كانت من أرواث الدواب وأبوالها، اكتُفِي فيها بالحكِّ الذي يبقى بعده ما يخرجه الغسل، رطبةً كانت أو يابسة، حملًا للأذى فيما أخرجه أبو داود من قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا وطىء أحدكم بنعله الأذى، فإن التراب له طهور" على ما إذا كان من أرواث الدواب وأبوالها؛ لأنه هو الغالب في الطرق، الشاق الاحتراز منه، وأما ما كان من غير

رجاله أربعة

ذلك، فلابد من غسله رطبًا كان أو يابسًا. وعند أبي حنيفة: إن كانت يابسةً مطلقًا أجزأ حكُّها، وإن كانت رطبةً تعين الماءُ، وعند الشافعية: لا يطهرها إلَّا الماء مطلقًا. والحكم عند الحنابلة كالحكم عند الشافعية. رجاله أربعة: الأول: آدم بن أبي اياس، وقد مرّ هو وشعبة بن الحجاج في الثالث من كتاب الإيمان، ومرّ أنس بن مالك في السادس منه أيضًا. الرابع: سعيد بن يزيد بن مسلمة الطاحي أبو مسلمة البصريّ القصير، ذكره ابن حبان في "الثقات"، ووثقه ابن معين والنَّسائي والعجلي والبزار. روى عن: أنس، وأبي نضرة، وعكرمة، ومطرِّف، والحسن البصري، وغيرهم. وروى عنه: شعبة، وإبراهيم، وحمّاد بن زيد، وبشر بن المفضَّل، وابن عُلية، وغيرهم. وفي الستة سعيد بن يزيد سواه ثلاثةٌ. والطاحي في نسبه: نسبة إلى طاحية، بطن من الأزد، وهو طاحية بن سَوْد بن الحِجْر بن عمران، والنسبة إليه: الطاحي والطحاوي. وطاحية: محلَّة بالبصرة، نزلها هذا البطن. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والإخبار بصيغة الجمع في موضع واحد، وفيه السؤال. ورواته ما بين عسقلاني وكوفي وبصري. أخرجه البخاري هنا، وفي اللباس عن سليمان بن حرب، ومسلم والنَّسائي والترمذي في الصلاة. ثم قال المصنف: باب الصلاة في الخفاف يحتمل أنه أراد الإشارة بهذه الترجمة إلى حديثِ شدَّاد بنِ أوس المذكورِ لجمعه بين الأمرين.

الحديث التاسع والثلاثون

الحديثُ التاسع والثلاثون حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الأَعْمَشِ، قَالَ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ يُحَدِّثُ عَنْ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ رَأَيْتُ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بَالَ، ثُمَّ تَوَضَّأَ، وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى، فَسُئِلَ فَقَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- صَنَعَ مِثْلَ هَذَا. قال إبراهيمُ: فكان يُعجبهم؛ لأن جريرًا كان مِن آخر مَنْ أسلم. قوله: ثم قام فصلَّى: ظاهر في أنه صلى في خُفيه؛ لأنه لو نزعهما بعدَ المسحِ، لوجب غسلُ رجليه، ولو غسلهما لنُقِلَ. وقوله: فَسُئِلَ، وللطبراني: أن السائلَ له عن ذلك هو همامُ بن الحارث المذكور، وله عن الأعمش أيضًا: فعاب عليهم ذلك رجلٌ مِن القوم. وقوله: فكان يُعجبهم، زاد مسلم: فكان يعجبهم هذا الحديثُ، وفي رواية؛ فكان أصحابُ عبد الله يُعجبهم. وقوله: لأن جريرًا كان مِن آخر مَنْ أسلم، ولمسلم: لأن إسلامَ جريرٍ كان بعدَ نزول المائدة، ولأبي داود والترمذي عن جرير: ما أسلمتُ إلَّا بعدَ نزول المائدة. ووجهُ إعجابهم بقاءُ الحكم بلا نسخ بآية المائدة، خلافًا لما ذهب إليه بعضُهم؛ لأنه لما كان إسلامُه في السنة التي تُوفي فيها الرسولُ عليه الصلاة والسلام، وذلك سنة حجةِ الوداع لما أخرجه الطبراني عن جرير، علمنا أنَّ حديثه معمول به، وهو مبين أن المرادَ بآية المائدة غيرُ صاحب الخف، فتكون السنة مخصصة للآية، وقد تقدمت مباحثُ المسح على الخف مستوفاةً في باب المسح على الخفين، وفي آية الوضوء في كتاب الوضوء.

رجاله ستة

رجاله ستة: الأول: آدمُ بن أبي إياس، وقد مرَّ هو وشعبه في الثالث من كتاب الإِيمان، ومرَّ الأعمش وإبراهيم بن يزيد النخعيّ في الخامس والعشرين منه أيضًا، ومرَّ جرير بن عبد الله في الخمسين منه أيضًا. السادس: همام بن الحارث بن قيس، النخعيّ الكوفي، العابد. قال العجليّ: تابعيّ ثقة، وذكره ابن حبّان في الثقات، وقال: كان من العُبّاد، وكان لا ينام إلَّا قاعدًا. وقال ابن مُعين: ثقة، وذكره أبو الحسن المدائنيّ في عُبّاد أهل الكوفة، روى عن عمرو وحذيفة وعمار بن يسار وجرير وعائشة وغيرهم. وروى عنه إبراهيم النخعيّ، ووبرة بن عبد الرحمن، وسليمان بن يسار وغيرهم. مات في ولاية الحجاج، وقيل في إمارة يزيد بن معاوية. وفي الستة همام سواه ثلاثة. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وبصيغة الإِفراد من المضارع والسماع في موضع، والعنعنة في موضعين، وفيه القول والرواية، ورواته ما بين بغداديّ وكوفيّ، وفيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض، أخرجه البخاريّ هنا. ومسلم وابن ماجه في الطهارة، والترمذيّ فيها والنَّسائيّ فيها وفي الصلاة، وأبو داود.

الحديث الأربعون

الحديث الأربعون حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: وَضَّأْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ وَصَلَّى. وحديث المغيرة هذا قد استوفي الكلام عليه حيث أورده المصنف تامًا في كتاب الوضوء. رجاله ستة: الأول: إسحاق بن نصر، وقد مرّ هو وأبو أسامة في الحادي والعشرين من كتاب العلم، ومرّ الأعمش في الخامس والعشرين من كتاب الإيمان، ومرّ مسروق في السابع والعشرين منه، والمغيرة في الحادي والخمسين منه، وأما مسلم، فيحتمل أن يكون ابن صُبيح، وأن يكون ابن عِمران، وقد مرا في الخامس عشر من كتاب الصلاة هذا. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في أربعة مواضع، والقول والحكاية عن الفعل، وإسناده كلهم كوفيون، وفيه ثلاثه من التابعين. أخرجه البخايّ هنا وفي الجهاد أيضًا عن موسى بن إسماعيل، وفي اللباس عن قيس بن حفص، وفي الصلاة عن يحيى، ومسلم وابن ماجه في الطهارة، والنَّسائيّ فيها وفي الزينة. ثم قال المصنف: باب إذا لم يتم السجود بابٌ بالتنوين، يعني أنه يحرم علية عدم إتمامه لترتب الوعيد الشديد عليه.

الحديث الحادي والأربعون

الحديث الحادي والأربعون أَخْبَرَنَا الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا مَهْدِيٌّ عَنْ وَاصِلٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ حُذَيْفَةَ رَأَى رَجُلاً لاَ يُتِمُّ رُكُوعَهُ وَلاَ سُجُودَهُ، فَلَمَّا قَضَى صَلاَتَهُ قَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ: مَا صَلَّيْتَ. قَالَ وَأَحْسِبُهُ قَالَ: لَوْ مُتَّ مُتَّ عَلَى غَيْرِ سُنَّةِ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-. قوله: إنه رأى رجلًا لم يعرف اسمه. وقوله: لا يتم ركوعه ولا سجوده، جملة صفة لرجلًا، وقوله: فلما قضى صلاته، أي أداها، وقوله: ما صليت، نفى عنه الصلاة؛ لأن الكل ينتفي بانتفاء الجزء، فانتفاء تمام الركوع يلزم انتفاء الركوع المستلزم لانتفاء الصلاة، وكذلك السجود. وقوله: لو مُتَّ، بضم الميم، من مات يموت، وبكسرها من مات يَمَات، وفي رواية "ولو مِت". وقوله: على غير سنة محمد -صلى الله عليه وسلم-، أي طريقته المتناولة للفرض والنفل. وعند الطبريّ عن أنس مرفوعًا "من لم يتم خشوعها ولا ركوعها ولا سجودها خرجت وهي سوداء مظلمة تقول: ضيعك الله كما ضيعتني، حتى إذا كانت حيث شاء الله لُفَّت كلما يلف الثوب الخلق، ثم ضرب بها وجهه". ورؤي ابن خُثَيْم ساجدًا كخرقة ملقاة، وعليه العصافير لا يشعر بها. وعند المصنف في أبواب صفة الصلاة طى غير الفطرة التي فطر الله محمدًا -صلى الله عليه وسلم-. واستدل به على وجوب الطمأنينة في الركوع والسجود، وعلى أن الإخلال بها مبطل للصلاة، وعلى تكفير تارك الصلاة؛ لأن ظاهره أن حذيفة نفى الإِسلام عمن أخل ببعض أركانها، فيكون نفيه عمن أحل بها كلها أولى، وهذا بناء على أن المراد بالفطرة الدين، وقد أطلق الكفر على من لم يصل، كما رواه مسلم، وهو إما على حقيقته عند قوم، أو على المبالغة في الزجر عند آخرين. قال الخطابيّ: الفطرة الملة أو الدين، ويحتمل أن يكون المراد بها هنا السنة، كما

رجاله خمسة

جاء "خمس من الفطرة ... الحديث" ويكون حذيفة قد أراد توبيخ الرجل ليرتدع في المستقبل، ويؤيده وروده هنا بلفظ "محمد" وفي هذا مصير من البخاريّ إلى أن الصحابيّ إذا قال: سنة محمد، أو فطرته، كان حديثًا مرفوعًا، وقد خالف فيه قوم، والراجح الأول. وقوله السابق لا يتم ركوعه ولا سجوده، في رواية عبد الرزاق: فجعل ينقر ولا يتم ركوعه، وزاد أحمد عن شعبة فقال: منذ كم صليت؟ فقال: منذ أربعين سنة. وللنَّسائيّ عن زيد بن وهب مثله، وفي حمله على ظاهره نظر، وأظن ذلك هو السبب في كون البخاريّ لم يذكر ذلك، وذلك لأن حذيفة مات سنة ست وثلاثين، فعلى هذا يكون ابتداء صلاة المذكور قبل الهجرة بأربع سنين أو أكثر، ولعل الصلاة لم تكن فرضت بعد، فلعله أطلق وأراد المبالغة، أو لعله ممن كان يصلي قبل إسلامه، ثم أسلم فحصلت المدة المذكورة من الأمرين. رجاله خمسة: الأول: الصَّلْت بن محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة البصريّ أبو هَمّام الخاركيّ. قال أبو حاتم: صالح الحديث، أتيته أيام الإِبصار فلم يتفق لي أن أسمع منه. وذكره ابن حبّان في الثقات، وقال البزار: كان ثقة. وقال الدارقطنيّ، وصح له في الإبراد حديث تفرد به. روى عن مهدي بن ميمون وحماد بن زيد بن زريع وأبي عَوانة وغيرهم، وروى عنه البخاريّ، وروى له النسائي بواسطة، وأبو غسان روح بن حاتم البصريّ، وعباس العنبريّ وغيرهم. وليس في الستة الصلت بن محمد سواه. وأما الصلت سواه فنحو ستة، والخاركيّ في نسبه، بالخاء والراء المهملة، وقيل بالزاي، نسبة إلى خارك، جزيرة في وسط البحر الفارسيّ، وهي جبل عال في وسط البحر، إذا خرجت المركب من عبادان تريد عُمان وطابت بها الريح وصلت في يوم وليلة، وهي من أعمال فارس، وإليها ينسب أيضًا أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن الخاركيّ. الثاني: مهدي بن ميمون، الأزدي، المِعْوَلي، مولاهم أبو يحيى البصري.

لطائف إسناده

قال العجليّ: ثقة، وقال شعبة والنَّسائيّ وابن خِراش: ثقة، وذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال ابن سعد: كان كرديًا، وكان ثقة. وقال أحمد بن حنبل: ثقة، وهو أحب إليّ من سلام بن مسكين أبي الأشهب وحَوْشب بن عقيل. روى عن أبي رجاء العطارديّ، وواصل مولى أبي عُيينة، وواصل الأحدب، ومحمد بن سيرين، وهشام بن عُروة، وعمرو بن مالك النُّكْريّ وجماعة. وروى عنه هشام بن حسّان، وهو أكبر، وابن مهدي ووكيع ومسدد وعارم وغيرهم. مات سنة إحدى أو اثنتين ومئة وليس في الستة مهدي بن ميمون سواه، وأما ميمون سواه ثلاثة، والمعولي في نسبه، بكسر الميم وسكون العين، نسبة إلى مِعْول أحد المعاول، وصَوّب ابن السمعاني فتح الميم، والمعاول قبائل من الأزْد هم: بنو قَعُولة بن شَمس بن عمرو بن غالب بن عثمان بن نصر بن زهير بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد، منهم غيلان بن جرير المِعْوَليّ البصريّ، تابعي عن أنس، وعنه قتادة وشعبة. الثالث: واصل بن حَبّان، وقد مرَّ في الثالث والعشرين من كتاب الإيمان، ومرَّ أبو وائل في الحادي والأربعين من كتاب الإيمان أيضًا، ومرَّ حذيفة بن اليمان في التعاليق الكائنة بعد الثاني من كتاب العلم. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في ثلاثة مواضع، ورواته ما بين بصريّ وكوفيّ ثم قال المصنف باب يُبْدِي ضَبْعَيْهِ ويُجَافي في السجود باب بالتنوين، يُبدي بضم الياء، أي يُظهر. وقوله: ضَبْعَيه، تثنية ضبع، بفتح الضاد المعجمة وسكون الموحدة: وسط العضد أو ما تحت الإِبط، أي لا يلصق عضديه بجنبيه. وقوله: ويجافي، أي يباعد عضديه ويرفعهما عن جنبيه في السجود، وليست المفاعلة في يجافي على بابها.

الحديث الثاني والأربعون

الحديث الثاني والأربعون أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ مُضَرَ عَنْ جَعْفَرٍ عَنِ ابْنِ هُرْمُزَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ، ابْنِ بُحَيْنَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا صَلَّى فَرَّجَ بَيْنَ يَدَيْهِ حَتَّى يَبْدُوَ بَيَاضُ إِبْطَيْهِ. قوله: ابن بحينة، صفة أخرى لعبد الله لا مالك، وحينئذ تحذف الألف من السابقة لمالك خطأً؛ لأنها وقعت بين علمين من غير فأصل، فينون مالك، وتثبت الألف من ابن بحينة؛ لأنه وإن كان صفة لعبد الله، لكن وقع الفاصل. وقوله: إذا صلَّى، أي سجد، من إطلاق الكل على الجزء. وقوله: فرَّج بين يديه، بفتح الفاء وتشديد الراء، والمعروف في اللغة التخفيف، أي نحّى كل يدٍ عن الجنب الذي يليها. وقوله: حتى يبدو بياض إبطيه، بفتح واو يبدو، أي يظهر، وفي رواية الليث "فرج يديه عن إبطيه حتى أني لأرى بياض إبطيه". وأخرج التِّرمِذيّ، وحسَّنه، عن عبد الله بن أرقم "صليت مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فكنت انظر إلى عُفْرَتي إبطيه إذا سجد" والعُفرة بياض ليس بالناصع، ويجب أن يعتقد أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن لإبطيه رائحة كريهة، بل كان عطر الرائحة كما ثبت في الصحيحين. وللحاكم عن ابن عباس نحو حديث عبد الله بن أرقم، وعنه عند الحاكم أيضًا "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا سجد يُرى وَضَحُ إبطيه" وعند مسلم عن ميمونة "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يجافي يديه، فلو أن بهيمة أرادت أن تمر لمرت" وروى الطبرانيّ وغيره عن ابن عمر بإسناد صحيح أنه قال: "لا تفترش السَّبْع، وادَّعم على راحتيك وأَبْدِ ضَبْعَيك، فإذا فعلت ذلك سجد كل عضو منك". وعند مسلم عن عائشة "نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يفترش الرجل افتراش السبع"، ولابن خُزيمة عن أبي هريرة، رفعه "إذا سجد أحدكم فلا يفترش ذراعيه افتراش

الكلب، وليضم ذراعيه" ولمسلم عن البراء، رفعه "إذا سجدت فضع كفيك، وارفع مرفقيك" قال القرطبيّ: الحكمة في استحباب هذه الهيئة في السجود أنه يخف بها اعتماده عن وجهه، ولا يتأثر أنفه ولا جبهته، ولا يتأذّى بملاقاة الأرض. وقال غيره: هو أشبه بالتواضع، وأبلغ في تمكين الجبهة والأنف من الأرض مع مغايرته لهيئة الكسلان. وقال ابن المنير: الحكمة فيه أن يظهر كل عضو بنفسه، ويتميز حتى يكون الإنسان الواحد في سجوده كأنه عدد، ومقتضى هذا أن يستقل كل عضو بنفسه، ولا يعتمد بعض الأعضاء على بعض في سجوده، وهذا ضد ما ورد في الصفوف من التصاق بعضهم ببعض؛ لأن المقصود هناك إظهار الاتحاد بين المصلين، حتى كأنهم جسد واحد، وهذا كله في حق الرجل. وأما المرة فتضم بعضها إلى بعض؛ لأنه أستر لها وأحوط، وكذا الخنثى، وظاهر الأحاديث المذكورة وجوب التفريج، لكن أخرج أبو داود ما يدل على أنه للاستحباب، وهو حديث أبي هريرة "شكا أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- له مشقة السجود عليهم، إذا انفرجوا، فقال: استعينوا بالركب" وترجم له الرخصة في ترك التفريج، قال ابن عَجْلان، أحد رواته: وذلك أن يضع مرفقيه على ركبتيه إذا طال السجود واعيًا، وأخرج التَّرمذيّ الحديث المذكور ولم يقع في روايته "إذا انفرجوا" فترجم له باب ما جاء في الاعتماد إذا قام من السجود، فجعل محل الاستعانة بالركب لمن يرفع من السجود طالبًا للقيام، واللفظ محتمل ما قال، لكن الزيادة التي أخرجها أبو داود تعين المراد. وقال ابن التين: فيه دليل على أنه لم يكن عليه قميص، لانكشاف إبطيه وتعقب باحتمال أن يكون القميص واسع الأكمام، وقد روى التِّرمذيّ في الشمائل عن أم سلمة قالت: "كان أحب الثياب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- القميص" أو أراد الراوي أن موضع بياضهما لو لم يكن عليه ثوب لرؤي. قال القرطبيّ: واستدل به على أنّ إبطيه عليه الصلاة والسلام لم يكن عليهما شعر، وفيه نظر، فقد حكى المحب الطبريّ أن من خصائصه عليه الصلاة والسلام أن الإبط من جميع الناس

رجاله خمسة

متغير اللون غيره، وقد مرّ قريبًا ما يجب أن يعتقد في حقه، واستدل بإطلاقه على استحباب التفريج في الركوع أيضًا، وفيه نظر؛ لأن في رواية قتيبة عن بكر بن مضر التقييد بالسجود، وأخرجه المصنف في المناقب، والمطلق إذا استعمل في صورة اكتفى بها. قال في الفتح: وقع عند أكثر الرواة ذكر هذه الترجمة، وحديث ابن بحينة المذكور فيها، وذكر الترجمة التي قبلها، وحديث حذيفة المذكور فيها أيضًا ولم يقع عند المستملي شيء من ذلك، وهو الصواب، لا جميع ذلك، وسيأتي في مكانه اللائق به، وهو أبواب صفة الصلاة، ولولا أنه ليس من عادة المصنف اعادة الترجمة وحديثها معًا، لكان يمكن أن يقال: مناسبة الترجمة الأولى لأبواب ستر العورة الإشارة إلى أن من ترك شرطًا لا تصح صلاته، كمن ترك ركنًا، ومناسبة الترجمة الثانية الإشارةُ إلى أن المجافاة في السجود لا تستلزم عدم ستر العورة، فلا تكون مبطلة للصلاة، وبالجملة إعادة هاتين الترجمتين هنا، وفي أبواب السجود، العمل فيه عندي على النُّساخ، بدليل سلامة رواية المستملي من ذلك، وهو أحفظهم. وقد استوفيت الكلام على الحديثين هنا فرارًا من التكرار. رجاله خمسة: الأول: يحيى بن بكر، وقد مرّ في الثالث من بدء الوحي، ومرّ جعفر بن ربيعة في الرابع من كتاب التيمم، ومرّ ابن هُرمز في السابع من كتاب الإيمان. الرابع: بكر بن مُضر بن محمد بن حكيم بن سليمان أبو محمد أو أبو عبد الملك المصري، مولى ربيعة بن شُرحبيل، قال أحمد: ثقة ليس به بأس، وقال أيضًا: كان رجلًا صالحًا. وقال ابن مَعين: ثقة وكذا قال النَّسائيّ وأبو حاتم، وزاد: وهو أحب إليّ من المفضل بن فَضالة، وبكر بن مضر ونافع بن يزيد متقاربان، وذكره ابن حبّان في الثقات وقال: كان عابدًا. وقال الخليليّ: هو وابنه عثمان ثقتان. وقال البخاريّ: كنّاه قُتيبة وأثنى عليه خيرًا. وقال العجليّ: مصريّ ثقة. روى عن جعفر بن ربيعة وعمرو بن الحارث وابن عجلان وغيرهم. وروى

لطائف إسناده

عنه ابنه إسحاق وابن وهب وقتيبة وابن عبد الحكم الأكبر ويحيى بن بكير وغيرهم. مات يوم الثلاثاء سنة أربع وسبعين ومئة، وقيل سنة ثلاث ومولده سنة اثنتين ومئة، وليس في الستة بكر بن مضر سواه، وأما بكر فكثير. الخامس: عبد الله بن مالك بن القِشْب، بكسر القاف وسكون الشين المعجمة، واسمه جُنْدُب بن نَضْلَة بن عبد الله بن رافع بن صعب بن دَهمان بن نصر بن زَهران بن كعب بن الحارث بن عبد الله بن كعب بن عبد الله بن نصر بن الأزد، أبو محمد الأزديّ، ويقال له أيضًا الأسديّ، بالسين، أمه بُحينَة بنت الحارث بن عبد المطلب حالف مالك بن القشب المطلب بن عبد مناف، وتزوج بحينة بنت الحارث بن عبد المطلب، فولدت له عبد الله، وهي بالموحدة والمهملة ثم النون مصغر، وقيل إنها أم أبيه مالك، والأول أصوب. لعبد الله صحبة، قال ابن سعد: أسلم قديمًا، وكان ناسكًا فاضلًا يصوم الدهر، وكان ينزل ببطن ريم على ثلاثين ميلًا من المدينة. ومات به في إمارة مروان الأخيرة على المدينة، وأرخه ابن زبر سنة ست وخمسين، له سبعة وعشرون حديثًا اتفقا على أربعة. روى عنه علي بن عبد الله، وحفص بن عاصم والأعرج. ويكتب ابن بُحَينة بالألف؛ لأن ابن بُحَينة ليس صفة لمالك، بل صفة لعبد الله، اسم أمه كما مرّ، فليس الاسم واقعاً بين علمين متناسبين. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في ثلاثة مواضع، ورواته ما بين مصريّ ومدني، أخرجه البخاريّ هنا وفي صفة النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قتيبة، ومسلم والنَّسائيّ في الصلاة. ثم قال: وقال الليث: حدثني جعفر بن ربيعة نحوه. والليث قد مرّ في الثالث من بدء الوحي، ومرّ جعفر في الرابع من كتاب التيمم، وهذا التعليق وصله مسلم في صحيحه، ولفظه "كان إذا سجد فرج يديه عن إبطيه حتى إني لأرى بياض إبطيه".

خاتمة

خَاتِمَة قال ابن حجر: اشتملت أبواب سترة المصلّي وما قبلها، من ذكر ابتداء فرض الصلاة، من الأحاديث المرفوعة على تسعة وثلاثين حديثًا، فإنْ أضفتَ إليها حديثَيْ الترجمتين صارت واحدًا وأربعين حديثًا، المكرر منها فيها وفيما تقدم خمسةَ عشر حديثًا، وفيها من المعلقات أربعة عشر حديثًا، وإن أضفت إليها المعلق في الترجمة الثانية صارت خمسة عشر حديثًا، عشرةٌ منها أو أحد عشر مكررة، وأربعة لا توجد فيه إلا معلقة، وهي حديث سلمة بن الأكوع "يَزُرُّه ولو بشوكة" وأحاديث ابن عباس وجرهد وابن جحش في الفخذ، وافقه مسلم على جميعها سوى هذه الأربعة، وسوى حديث أنس في قوام لعائشة، وحديث عكرمة عن أبي هريرة في الأمر بمخالفة طرفي الثوب، وفيه من الآثار الموقوفة أحد عشر أثرًا كلها معلقة إلا أثر ابن عمر "إذا وسع الله عليكم فوسعوا على أنفسكم" فإنه موصول. ثم قال المصنف:

كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري تأليف الامام المحدث العلامة الشيخ محمد الخضر الجكينى الشنقيطي (المتوفى سنة 1354هـ) الجزء السابع مؤسسة الرسالة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1415هـ - 1995م مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع مؤَسَّسَة الرّسَالة بيروت - شارع سوريَا - بنَاية صَمَدي وَصَالحَة هَاتف: 603243 - 815112 - صَ. بَ: 7460 - بَرقيًا: بيُوشرَان

أبواب استقبال القبلة وما يتبعها من آداب المساجد

أبواب استقبال القبلة وما يتبعها من آداب المساجد لما فرغ المؤلف من بيان أحكام ستر العورة شرع في بيان استقبال القبلة، لأن الذي يريد الشروع في الصلاة يحتاج أولًا إلى ستر العورة ثم إلى استقبال القبلة وما يتبعها من أحكام المساجد. ثم قال باب فضل استقبال القبلة ثم قال: يستقبل بأطراف رجليه القبلة، قاله أبو حميد عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولأبي ذَرٍّ عن الكشميهنيّ "يستقبل القبلة بأطراف رجليه" أي برؤوس أصابعهما، وأراد بذكره هنا بيان فضل الاستقبال بجميع ما يمكن من الأعضاء، وهذا التعليق أخرجه البخاريّ مسندًا فيما بعد في باب "سنة الجلوس في التشهد". وأبو حميد الساعديّ هو عبد الرحمن بن سعد، ويقال عبد الرحمن بن عمرو بن سعد، وقيل: اسمه المنذر بن سعد بن المنذر، وقيل: عمرو بن سعد بن المنذر بن سعد بن خالد بن ثعلبة بن عمرو، ويقال: إنه عم عباس بن سهل بن سعد، وأمه أُمامة بنت ثعلبة بن جبل بن أُمية بن عمرو بن حارثة بن عمرو بن الخزرج، شهد أُحدًا وما بعدها من المشاهد. له ستة وعشرون حديثًا، اتفقا على ثلاثة، وانفرد كل منهما بحديث، روى عنه ولد ولده سعيد بن المنذر بن أبي حميد، وجابر الصحابيّ، وعباس بن سهل بن سعد، وعبد الملك بن سعيد بن سُويد وغيرهم. توفي في آخر خلافة معاوية، أو أول خلافة يزيد، وليس في الصحابة أبو حميد سواه إلا أبو حميدة على الشك.

الحديث الأول

الحديث الأول حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ الْمَهْدِيِّ قَالَ حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ سِيَاهٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ صَلَّى صَلاَتَنَا، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا، فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ، فَلاَ تُخْفِرُوا اللَّهَ فِي ذِمَّتِهِ". قوله: مَنْ صلى صلاة كصلاتنا المتضمنة للإقرار بالشهادتين. وقوله: واستقبل قبلتنا، أي المخصوصة بنا. وقوله: وأكل ذبيحتنا، انما أفرد ذكر القبلة تعظيمًا لشانها، وإلاّ فهو داخل في الصلاة لكونه من شروطها أو عطفه على الصلاة؛ لأن اليهود لما تحولت القبلة شنعوا بقولهم: ما وَلاَّهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ وهم الذين يمتنعون من أكل ذبيحتنا، أي: صلى صلاتنا وترك المنازعة في أمر القبلة والامتناع عن أكل الذبيحة، فهو من عطف الخاص على العام، فلما ذكر الصلاة عطف ما كان الكلام فيه، وما هو مهتم بشانه عليها. وقوله: فذلك المسلم، مبتدأ وخبر، وقوله: له ذمة الله، خبر ومبتدأ أيضًا، بتقديم الخبر الذي هو "له"، والموصول صفة المسلم، والجملة صلته، والذمة بكسر الذال المعجمة: الأمان والعهد، أي له أمان الله وضمانه. وقيل: الذمة الحرمة، وقوله: فلا تخفروا الله في ذمته، أي ولا رسوله، وحذف لدلالة السياق عليه، أو لاستلزام المذكور المحذوف. "وتُخْفَرُوا" بضم أوله من الرباعيّ: أي لا تغدروا. يقال: خفرت الرجل إذا حميته، وأخفرته إذا نقضت عهده، والهمزة فيه للسلب، أي أزلت خَفَارته، كأشكيته إذا أزلت شكواه. وقال الخطابيّ: المعنى لا تخونوا الله في تضييع حق من هذا سبيله، وقد

رجاله خمسة

أخذ بمفهومه من قال بقتل تارك الصلاة، وقد مرّ استيفاء الكلام عليه في كتاب الإيمان، في باب "فإن تابوا" .. الخ. وأخذ منه أن أمور الناس محمولة على الظاهر، فمن أظهر شعار الدين أجريت عليه أحكام أهله، ما لم يظهر منه خلاف ذلك، وأخذ منه اشتراط استقبال عين الكعبة لمن كان بمكة من قادر عليه، فلا تصح الصلاة بدونه اجماعًا، بخلاف العاجز عنه، كمريض لا يجد من يوجهه إلى القبلة، ومربوط على خشبة فيصلي على حاله. وقالت الشافعية: إنه يعيد، والمعتبر استقبالها بجميع البدن، بحيث لو خرجت منه جارحة عنها بطلت صلاته. ومن ليس بمكة ممن لا يمكنه استقبال عين الكعبة، يجب عليه استقبال جهتها لا عينها عند غير الشافعية من الأئمة الثلاثة، وعند الشافعية يجب استقبال عين الكعبة ظنًا لمن بغير مكة، ويقينًا لمن بمكة، ووافقهم من الحنفية الجرجانيّ شيخ القُدُوريّ، ولا يشترط الاستقبال في شدة الخوف ونفل السفر. رجاله خمسة: الأول: عمرو بن عباس الباهليّ، أبو عثمان البصريّ، الأهوازيّ الرُّزيّ، ذكره ابن حبّان في الثقات، وقال: ربما خالف. وفي الزُّهرة روى عنه البخاري أربعة عشر حديثًا، روى عن ابن عُيينة وغندر وابن مهدي ويزيد بن هارون وغيرهم. وروى عنه البخاريّ ومحمد بن عمرو بن جبلة، ومات قبله، وعباس العنبريّ وحرب الكرمانيّ وغيرهم. مات في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين ومئتين، والرُّزيّ في نسبه، بضم الراء وتشديد الزاي، لعله نسبة إلى بيع الرّز، لغة في الأَرُزّ، وهو الحب المعروف، كما ينسب إليه ثابت بن محمد الأَرُزيّ، ويقال له الرُّزِّيُّ أيضًا، محدث، والأهوازيّ نسبة إلى الأهواز، وهي سبع أو تسع كور بين البصرة وفارس، لكل كورة منها اسم، وتجمعها الأهواز، ولا تفرد واحدة منها بهوز، افتتحها أبو موسى الأشعري في زمن عمر، رضي الله تعالى عنهما، وهي رامهرمز، وعسكر مكرم، وتستر، وجَند نَيْسابُور، ونسوس وسرق كسكر ونهرتيري، بالكسر، وإيذج ومُناذر. الثاني: عبد الرحمن بن مهدي بن حسان بن عبد الرحمن العنبريّ، وقيل

الأَزدي، مولاهم، أبو سعيد البصريّ اللؤلؤيّ الحافظ الإِمام العَلَم. ذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال: كان من الحفاظ المتقنين، وأهل الورع في الدين، ممن حفظ وجمع وتفقه، وصنف وحدث، وأبى الرواية إلا عن الثقات. وقال الخليليّ: هو إمام بلا مدافعة، ومات الثوريّ في داره. وقال الشافعي: لا أعرف له نظيرًا في الدنيا. وقال علي بن المَدينيّ: إذا اجتمع يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي على ترك رجل لم أُحَدِّث عنه، فإذا اختلفا أخذت بقول عبد الرحمن؛ لأنه أقصدهما، وكان في يد يحيى تشدُّد. وقال أيضًا: كان عبد الرحمن بن مهدي أعلم الناس، قالها مرارا. وقال أيضًا: لو حلفت بين الركن والمقام، لحلفت بالله أني لم أر أحدًا قط أعلم بالحديث من عبد الرحمن بن مهدي. وقال أيضًا: كان يحيى بن سعيد أعلم بالرجال، وكان عبد الرحمن أعلم بالحديث، وما شبهت عِلم عبد الرحمن بالحديث إلا بالسِّحر. وقال أيضًا: أعلم الناس بالحديث عبد الرحمن بن مهدي. قال: وكان يعرف حديثه من حديث غيره، وكان يذكر له الحديث عن الرجل فيقول خطأ، ثم يقول: ينبغي أن يكون أتى هذا الشيخ عن حديث كذا من وجه كذا، فيوجد كما قال. وقال أيضًا: كان وِرده كل ليلة نصف القرآن. وقال أبو حاتم: هو أثبت أصحاب حماد بن زيد، وهو إمام ثقة أثبت من يحيى بن سعيد، وأتقن من وكيع، وكان يعرض حديثه على الثوريّ، وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، وقال محمد بن عثمان بن أبي صفوان عن ابن مهدي: كتب عني الحديث وأنا في حلقة مالك، وسأل صدقةُ بن المفضل يحيى بن سعيد عن حديث فقال له: الزم عبد الرحمن بن مهدي. وقال أبو الربيع الزّهرانيّ: ما رأيت مثل عبد الرحمن، وأوصف منه بصيرًا بالحديث. وقال العجليّ: قال له رجل: أيما أحب إليك: يغفر الله لك ذنبًا أو تحفظ حديثًا؟ قال أحفظ حديثًا، وسُئل عنه أحمد بن حنبل أكان كثير الحديث؟ فقال: قد سمع ولم يكن بذلك الكثير جدًا، لكن الغالب عليه حديث سفيان، وكان يشتهي أن يسال عن غيره من كثرة ما يسأل عنه، فقيل له: كان يتفقه. قال: كال أوسع فيه من يحيى بن سعيد، كان يميل إلى قول الكوفيين، وكان عبد الرحمن

يذهب إلى بعض مذاهب أهل الحديث، وإلى رأي المدنيين. وذكر له عن إنسان أنه يُحكى عن ابن مهدي القدر، قال: أو يحل له أن يقول هذا هو سمع هذا منه، ثم قال يحيى إلى إمام من أئمة المسلمين يتكلم فيه. وقيل له: كان عبد الرحمن حافظًا؟ فقال: كان حافظًا يتوقى كثيرًا، كان يحب أن يحدث باللفظ. وقال أيضًا: ما رأيت بالبصرة مثل يحيى بن سعيد، وبعده عبد الرحمن، أفقه الرجلين. وقال أيضًا: إذا اختلف وكيع وعبد الرحمن فعبد الرحمن أثبت، لأنه أقرب عهدًا بالكتاب. وقال أيضًا: كان عبد الرحمن أكثر عددًا لشيوخ سفيان من وكيع، وروى وكيع عن خمسين شيخًا لم يرو عنهم عبد الرحمن. قيل له: فأبو نعيم؟ قال: أين يقع من هؤلاء؟ وقال أيضًا: إذا حدّث عبد الرحمن عن رجل فهو حجة. روى عن أيمن بن نابل، ومالك وشعبة، والسفيانين والحمادين، وهمام بن يحيى وخلق. وروى اعن ابن المبارك، وهو من شيوخه، وابن وهب، وهو أكبر منه، وأحمد وعليّ ويحيى بن معين، ويحيى بن يحيى وبندار وغيرهم. مات في جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين ومئة، وليس في الستة عبد الرحمن بن مهدي سواه. وإما عبد الرحمن فكثير. الثالث: منصور بن سعد البصريّ، صاحب اللؤلؤ، قال ابن مَعين: شيخ. وقال ابن المدينيّ: شيخ بصريّ صاحب لؤلؤ، لم يكن به بأس. وقال النَّسائيّ: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات. له في الكتابين حديثه عن ميمون عن أنس "من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا ... " الحديث. روى عن ميمون ابن سِيَاه، وبديل بن ميسرة، وثابت البُنَانيّ، وعبّاد بن كثير وغيرهم. وروى عنه ابن مهدي، ومُعَلّى بن منصور الرازيّ، وأبو سلمة موسى بن إسماعيل وغيرهم. ولبس في الستة منصور بن سعد سواه، وأما منصور فكثير. الرابع: ميمون بن سِياه، بكسر السين وتخفيف الياء ثم ألف ثم هاء ساكنة، ومعناه بالفارسية الأسود، البصريّ كنيته أبو بحر. قال يحيى بن مَعين: ضعيف. وقال أبو حاتم: ثقة. وقال أبو داود: ليس بذاك، وقال سلام بن

لطائف إسناده

مسكين: ميمون بن سياه، سيد القراء. وقال الحسن بن سفيان: يقال: إنه سيد القراء. وقال حزم القَلْعِيّ: كان لا يغتاب أحدًا ولا يدع أحدًا يغتاب عنده، وذكره ابن حِبَّان في الثقات، وقال: يخطىء ويخالف، ثم أعاد ذكره في الضعفاء فقال: ينفرد بالمناكير من المشاهير، لا يحتج به إذا انفرد. وقال يعقوب بن سفيان: ضعيف. وقال الدارقطني: يحتج به. قال ابن حجر في مقدمته: ما له في البخاريّ سوى حديثه عن أنس "من صلى صلاتنا ... " الحديث بمتابعة حُمَيد الطويل، وروى له النَّسائيّ روى عن جُنْدُب بن عبد الله البجليّ، وأنس بن مالك والحسن البصريّ وشهْر بن حَوْشَب، وروى عنه منصور بن سعد، وحميد الطويل، وسلام بن مسكين وغيرهم. وليس في الستة ميمون بن سِياه سواه، وأما ميمون فجماعة. الخامس: أنس بن مالك، وقد مرّ في السادس من كتاب الإيمان. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، والعنعنة في موضعين، ورواته كلهم بصريون. أخرجه البخاريّ هنا والنَّسائيّ في الإيمان.

الحديث الثاني

الحديث الثاني حَدَّثَنَا نُعَيْمٌ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. فَإِذَا قَالُوهَا وَصَلَّوْا صَلاَتَنَا، وَاسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَنَا، وَذَبَحُوا ذَبِيحَتَنَا، فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ". قوله: حدثنا نعيم، ولأبوي ذَرٍّ والوقت "وحدثنا" بالواو. وقوله: حدثنا ابن المبارك، فهو موصول، ولأبوي ذَرٍّ والوقت "حدثنا نعيم؛ قال ابن المبارك" وفي رواية حماد بن شاكر عن المؤلف "قال نعيم بن حماد" فيكون المؤلف علّقه عنه، وفي رواية كريمة والأصيليّ "قال ابن المبارك" بغير ذكر نعيم، وجزم بذلك أبو نعيم في المستخرج، ووصله الدارقطني في السنن "نعيم عن ابن المبارك" وتابعه حماد بن موسى وسعيد بن يعقوب وغيرهما. وقوله: أُمرتُ، بضم الهمزة وكسر الميم، أي أمرني الله، إذ لا آمر له سواه. وقوله: حتى يقولوا لا إله إلَّا الله، أي ومحمد رسول الله. واقتصر عليها ولم يذكر الرسالة. وهي مرادة، كما تقول: قرأت الحمد، وتريد السورة كلها. وقيل: أول الحديث ورد في حق من جحد التوحيد، فإذا أقر به صار كالموحِّد من أهل الكتاب، يحتاج إلى إيمان بما جاء به الرسول، فلهذا عطف الأفعال المذكورة عليها فقال "وصلوا صلاتنا" إلخ. والصلاة الشرعية متضمنة للشهادة بالرسالة. وقوله: دخول التاء فيه؛ لأنه إذا كان بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث، فلا تدخله التاء، وأجيب بأنه لما زال عنه معنى الوصفية، وغلبت عليه الاسمية، دخلت التاء، وإنما يستوي الأمران فيه عند ذكر الموصوف، وحكمه الاقتصار على ما ذكر من الأفعال أنّ من يقر بالتوحيد من أهل الكتاب، وإن صلوا

رجاله أربعة

واستقبلوا وذبحوا، لكنهم لا يصلون بصلاتنا، ولا يستقبلون قبلتنا، ومنهم من يذبح لغير الله، ومنهم لا يأكل ذبيحتنا، ولهذا قال في الرواية الأخرى "وأكل ذبيحتنا"، وأيضًا خصت الثلاثة بالذكر من بين الأركان وواجبات الدين؛ لأنها أظهر وأعظم وأسرع علمًا؛ لأن في اليوم تعرف صلاة الشخص وطعامه غالبًا، بخلاف الصوم والحج كما لا يخفى. وقوله: فقد حَرُمت، بفتح الحاء وضم الراء وجوّز البرماويّ ضم الأول وتشديد الراء مكسورًا، لكن قال في الفتح: لم أر في شيء من الروايات تشديد الراء. وقوله: إلا بحقها، أي الدماء والأموال، وفي حديث ابن عمر السابق، في كتاب الإيمان "إلا بحق الإِسلام، وحسابهم على الله" هو على سبيل التشبيه، أي كالواجب على الله تعالى في تحقق الوقوع، وإلا فلا يجب على الله تعالى شيء، وقد استنبط ابن المنير من قوله "فإذا قالوها وصلَّوا صلاتنا حرمت دماؤهم" قتل تارك الصلاة؛ لأن مفهوم الشرط إذا قالوها وامتنعوا من الصلاة، لم تحرم دماؤهم، منكرين للصلاة كانوا أو مقرين؛ لأنه رتب استصحاب سقوط العصمة على ترك الصلاة لا على ترك الإقرار بها، يقال الذبيحة لا يقتل تاركها لأنا نقول إذا أخرج الإجماع بعضًا لم يخرج الكل. وقد تقدمت مباحث هذا الحديث مستوفاة في باب "فإن تابوا وأقاموا الصلاة" من كتاب الإيمان. رجاله أربعة: الأول: نعيم بن حماد، وقد مر في الحادي عشر والمئة من كتاب الوضوء، ومرّ عبد الله بن المبارك في السادس من بدء الوحي، ومرّ حميد الطويل في الثالث والأربعين من كتاب الإيمان، ومرّ أنس بن مالك في السادس منه. وهذا الحديث أخرجه البخاريّ من ثلاثة أوجه في هذا الباب، وأخرجه أبو داود في الجهاد، والتِّرمذيّ في الإيمان والنَّسائيّ في المحاربة. ثم قال: وقال علي بن عبد الله: حدثنا خالد بن الحارث قال: حدثنا حميد

رجاله خمسة

قال: سأل ميمون بن سياه أنس بن مالك قال: يا أبا حمزة، وما يحرم دم العهد وماله؟ فقال: من شهد أن لا إله إلا الله، واستقبل قبلتنا، وصلى صلاتنا، وكل ذبيحتنا فهو المسلم، له ما للمسلم، وعليه ما على المسلم. قوله: عن أنس بن مالك قال، ولأبوي ذَرٍّ والوقت "فقال" وسقطت هذه الكلمة عند الأصيليّ. وقوله: يا أبا حمزة، بالحاء والزاي، كنية أنس. وقوله: وما يحرم، بواو العطف معطوف على شيء محذوف، كأنه سأل عن شيء غير هذا. وعن هذا، وفي رواية كريمة والأصيلي: ما يحرم. وقوله: له ما للمسلم، أي من النفع، وعليه ما عليه من الضر. وفائدة إيراد هذا الإسناد تقوية رواية ميمون بن سياه لمتابعة حميد له، ووجه مطابقة جواب أنس للسؤال عما يحصل به التحريم أنه يتضمنه؛ لأنه لما ذكر الشهادة وما عطفه عليها، عُلِم أن الذي يفعل هذا هو المسلم، والمسلم يحرم دمُه وماله إلا بحقه، فهو مطابق له وزيادة. رجاله خمسة: الأول: علي بن عبد الله المَدِينيّ، وقد مرّ في الرابع عشر من كتاب العلم. الثاني: خالد بن الحارث بن عبيد بن سليمان، ويقال: ابن الحارث سليمٍ بن عبيد بن سفيان الهُجيميّ أبو عثمان البصريّ. قال القطّان: ما رأيت خيرا من سفيان وخالد بن الحارث. وقال أحمد: إليه المنتهى في التثبت بالبصرة. وقال أيضًا: كان خالد يجيء بالحديث كما يسمع وقال أبو زرعة: كان يقال له خالد الصدق. وقال ابن سعد: ثقة، وقال أبو حاتم: إمامٌ ثقة. وقال النَّسائيّ: ثقة ثَبْت، وذكره ابن حبّان في الثقات. وقال: كان من عقلاء الناس ودهاتها. وقيل ليحيى بن مَعين: من أثبت شيوخ البصريين؟ قال: خالد بن الحارث مع جماعة سماهم. وقال التِّرمذيّ: ثقة مأمون، سمعتُ ابن مثنى يقول: ما رأيت بالبصرة مثله. وقال حماد بن زيد: ذاك الصدوق. وسئل أبو داود عن خالد ومُعاذ فقال: معاذ

صاحب حديث، وخالد كثير الشكوك. وذكر من فضله. وقال الدارقطنيّ: أحد الأثبات. روى عن حميد الطويل وأيوب وابن عون وهشام بن عروة وشعبة والثوريّ وغيرهم، وروى عنه أحمد وإسحاق بن راهويه وعلي بن المديني ومسدد وعارم والفلاس وشعبة، وهم من شيوخه، وجماعة. ولد سنة عشرين ومئة، ومات سنة ست وثمانين ومئة، وليس في الستة خالد بن الحارث سواه، وأما خالد فكثير. والهُجَيميّ في نسبه نسبة إِلى هُجَيم، بضم الهاء مصغر كزبير، وهو بطنان من العرب، أحدهما الهُجَيم بن عمرو بن تميم، والثاني ابن علي بن سود، من الأزد، وهو منسوب للأول. الثالث: حميد الطويل، وقد مرّ في الثالث والأربعين من كتاب الإيمان، ومرّ ميمون بن سياه في الذي قبل هذا، ومرّ أنس بن مالك في السادس من بدء الوحي. ثم قال: وقال ابن أبي مريم: أخبرنا يحيى قال: حدثنا حميد قال: حدثنا عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. قوله: أخبرنا يحيى، للأربعة ابن أيوب الغافقي، ولابن عساكر "وقال محمد" أي المؤلف "قال ابن أبي مريم: حدثني" بالإفراد، وهذا التعليق وصله أبو نعيم ومحمد بن نصر ابن منده في الإيمان عن ابن أبي مريم، ولما لم يكن في قول حميد: سأل ميمون أنسًا بالتصريح بكونه حضر ذلك، عقبه بطريق يحيى بن أيوب، التي فيها تصريح حميد بأن أنسًا حدثهم لئلا يظن أنه دلّسه، ولتصريحه أيضًا بالرفع، وإن كان للأخرى مزية. وأعلى الإسماعيليّ طريق حميد المذكورة، فقال: الحديث حديث ميمون، وإنما سمعه حميد منه، واستدل على ذلك برواية معاذ بن معاذ عن حميد عن ميمون قال: سألت أنسًا. وقال: وحديث يحيى لا يحتج به في التصريح بالتحديث؛ لأن عادة المصريين والشاميين ذكر الخبر فيما يروُونه. قال في الفتح: وهذا الإعلال مردود، ولو فتح هذا الباب لم يوثق برواية

رجاله أربعة

مدلس أصلًا، ولو صرح بالسماع والعمل على خلافه. ورواية معاذ لا دليل فيها على أن حُميدًا لم يسمع من أنس؛ لأنه لا مانع أن يسمعه من أنس ثم يستثبت فيه من ميمون، لعلمه بأنه كان السائل عن ذلك، فكان حقيقًا بضبطه، فكان حميد تارة يحدث به عن أنس لأجل العلو، وتارة عن ميمون لكونه ثبته فيه. وقد جرت عادة حميد بهذا، يقول: حدثني أنس وثبتني فيه ثابت، ووقع هذا لغير حميد. رجاله أربعة: الأول: سعيد بن أبي مريم، وقد مرّ في الرابع والأربعين من كتاب العلم. والثاني: يحيى بن أيوب المقابريّ أبو زكرياء البغداديّ العابد. قال أحمد: رجل صالح يعرف به، صاحب سكوت ودعة. وقال علي بن المدينيّ وأبو حاتم: صدوق. وقال أبو شعيب الحرانيّ: يحيى بن أيوب كان من خيار عباد الله تعالى. وذكره ابن حِبّان في الثقات. وقال الحسن بن فهم ينزل عسكر المهديّ: وكان ثقة ورعًا مسلمًا يقول بالسنة ويعيب على من يقول بقول جَهْم. وقال ابن قانع: ثقة مأمون، روى عن إسماعيل بن جعفر وعبد الله بن المبارك وهُشيم وإسماعيل بن علية، وابن وهب ووكيع وغيرهم. وروى عنه مسلم وأبو داود. وروى البخاريّ في خلق أفعال العباد عن محمد بن عبد العزيز بن المبارك المخرميّ، وروى عنه أبو زرعة وأبو حاتم وأبو يعلى وآخرون. مات في شهر ربيع الأول سنة أربع وثلاثين ومئتين. وفي الستة يحيى بن أيوب سواه ثلاثة: الغافقي والبجليّ والخولاني. ثم قال المصنف: باب قبلة أهل المدينة وأهل الشام والمشرق أي وأهل المغرب والمشرق، بالجر عطفًا على المجرور قبله. المراد بالمشرق مشرق الأرض كلها: المدينة والشام وغيرهما، ولم يذكر المؤلف المغرب اكتفاء بذكر المشرق إذ العلة مشتركة، كما في {وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} [النحل: 81] أي والبرد، ولأن المشرق أكثر الأرض المعمورة، ولأن بلاد

الإِسلام في جهة مغرب الشمس قليلة، ونقل عياض أن رواية أكثر ضم القاف في المشرق، وعليه يكون معطوفًا على باب، أي: وباب حكم المشرق، ثم حذف من الثاني "باب وحكم" وأقيم المشرق مقام الأول، ووجه السهيلي رواية الضم بأن الحامل ذلك كون المشرق فيه القبلة، مخالفًا لحكم المدينة، بخلاف الشام، فإنه موافق، وصوّبها الزركشيّ قال: لما في الكسر من إشكال، وهو إثبات قبلة لأهل المشرق، وأجاب ابن رشيد بأن المراد بيان حكم القبلة هو توافقت البلاد أو اختلفت. وقال الدمامينيّ: إثبات قبلة لأهل المشرق في الجملة لا إشكال فيه؛ لأنهم لابد لهم من أن يصلوا إلى الكعبة، فلهم قبلة يستقبلونها قطعًا، إنما الإشكال لو جعل المشرق نفسه قبلة مع استدبار الكعبة، وليس في جر المشرق ما يقتضي أن يكون المشرق نفسه قبلة، وكيف يتوهم هذا والمؤلف قد ألصق بهذا الكلام قوله: ليس في المشرق ولا في المغرب قبلة؟ ثم قال: ليس في المشرق ولا في المغرب قبلة لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- "لا تستقبلوا القبلة بغائط أو بول، ولكن شرقوا أو غربوا". هذه جملة مُسْتَأْنَفَة من ثقة المصنف، ومراده بذلك لأهل الشام والمدينة، فالخطاب في قوله: شرقوا أو غربوا مخصوص بالمخاطبين، وهم أهل المدينة، ويلحق بهم من كان على مثل سَمْتِهم مَن إذا استقبل المشرق أو المغرب لم يستقبل القبلة ولم يستدبرها. أما من كان في المشرق فقبلته في جهة المغرب، وكذلك عكسه. وفي رواية الأربعة إسقاط "قبلة" وعليه يكون "باب" التنوين أي هذا باب، وقبلة أهل المدينة مبتدأ خبره ليس في المشرق ولا في المغرب، ولكن على هذا لابد من تأويل قِبلة بمستقبل، ليطابق المبتدأ الخبر في التذكير، لوجوب التطابق بينهما في التذكير والتأنيث. ويؤول المشرق بالتشريق والمغرب بالتغريب، أي مستقبل أهل المدينة ليس في التشريق ولا في التغريب. قلت: ركن يرد على هذه الرواية، وما أولت به أن المشرق المذكور في الترجمة قبلته في التغريب كما مرّ قريبًا. وقوله: لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- ... إلخ، وهذا

وصله النَّسائيّ، ووصله المؤلف في الباب بتغيير يسير، وظاهره التسوية بين الصّحاري والأبنية، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في رواية عنه. وقال مالك والشافعيّ: يحرم في الصحراء لا في البنيان، إلى آخر ما مرّ تحريره مستوفى عند ذكر حديث أبي أيوب في أوائل كتاب الوضوء.

الحديث الثالث

الحديث الثالث حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا أَتَيْتُمُ الْغَائِطَ فَلاَ تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ وَلاَ تَسْتَدْبِرُوهَا، وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا". قَالَ أَبُو أَيُّوبَ: فَقَدِمْنَا الشَّامَ فَوَجَدْنَا مَرَاحِيضَ بُنِيَتْ قِبَلَ الْقِبْلَةِ، فَنَنْحَرِفُ وَنَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى. وهذا الحديث قد مرّ الكلام عليه مستوفى في المحل المذكور آنفًا، إلا قوله "فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض" .. إلخ، فإنه لم يذكر في الحديث السابق، والمراحيض جمع مِرحاض، بكسر الميم، وهو الكَنِيف. وقوله: قبلَ القبلة، بكسر القاف وفتح الموحدة، أي مقابل القبلة. وقوله: فننحرف أي عن جهة القبلة، من الانحراف، ويروى فتنحرف من التَّحَرُّف، وقوله: ونستغفر الله، قيل: نستغفر الله لمن بناها، فإن الاستغفار للمذنبين سُنّة، وقيل: نستغفر الله من الاستقبال، وقيل: نستغفر الله من ذنوبنا، ويقال: لعل أبا أيوب لم يبلغه حديث ابن عمر المار في أول كتاب الوضوء، أو لم يره مخصصًا، وحمل ما رواه على العموم، فإن قيل: الغالط والساهي لم يفعل إثمًا، فلا حاجة إلى الاستغفار. والجواب أن أهل الورع والمناصب العالية في التقوى قد يفعلون مثل هذا بناءً على نسبتهم التقصير إلى أنفسهم في التحفظ ابتداءًا. رجاله خمسة: الأول: علي بن عبد الله، وقد مرّ في الرابع عشر من كتاب العلم، ومرّ سفيان بن عيينة في الأول من بدء الوحي، ومرّ الزهريّ في الثالث منه، ومرّ

لطائف إسناده

عطاء بن يزيد وأبو أيوب في العاشر من كتاب الوضوء. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في ثلاثة مواضع، ورواته ما بين بصريّ ومكيّ ومدنيّ، أخرجه هنا وفي الطهارة عن آدم بن أبي إياس ومسلم وأبو داود والتِّرمذيّ والنسائيّ وابن ماجه في الطهارة أيضًا. ثم قال: وعن الزُّهريّ عن عطاء: سمعت أبا أيوب عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مثله، يعني بالإِسناد المذكور على الظاهر، والمراد أن سفيان حدث به عليًا مرتين؛ مرة صرح بتحديث الزُّهريّ له، وفيه عنعنة عطاء، ومرة أتى بالعنعنة عن الزُّهريّ وبتصريح عطاء بالسماع. وجزم الكرمانيّ بأن الرواية الثانية معلقة، وحمله على ما قلته أَوْلى، وقد وصله إسحاق بن راهويه في مسنده، والزُّهريُّ ومن معه مرّ قريبًا ذكر محلهم. ثم قال المصنف: باب قوله تعالى {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] قوله: واتخذوا، بكسر الخاء على الأمر أو بفتحه على الخبر فعل ماض. والأُولى قراءة الجمهور، والثانية قراءة نافع وابن عامر. وتوجيه الأُولى هو أنه معطوف على ما تضمنه قوله {مثابة} كأنه قال: ثوبوا واتخذوا، أو معمول المحذوف، أي: وقلنا اتخذوا، ويحتمل أن يكون الواو للاستئناف وتوجيه الثانية هو أنه معطوف على "جعلنا" فالكلام جملة واحدة، وقيل: عطف على "وإذ جعلنا" فيحتاج إلى تقدير إذ، ويكون الكلام جملتين، وقيل على محذوف تقديره فثابوا، أي: رجعوا واتخذوا، والأمر دال على الوجوب، لكن انعقد الإجماع على جواز الصلاة إلى جميع جهات الكعبة، فدل على عدم التخصيص، وهذا بناء على أن المراد بمقام إبراهيم الحَجَر الذي فيه أثر قدمه، وهو موجود إلى الآن. وقال مجاهد: المراد بمقام إبراهيم الحرم كله. والأول أصح، وقد ثبت دليله عند مسلم من حديث جابر. ويأتي قريبًا عند المصنف من حديث عمر.

وقوله: مصلّى، أي قبلة. قاله الحسن وغيره، وبه يتم الاستدلال. وقال مجاهد: أي مَدْعى يُدْعى عنده، ولا يصح حمله على مكان الصلاة؛ لأنه لا يصلى فيه، بل عنده، ويترجح قول الحسن بأنه جارٍ على المعنى الشرعيّ، واستدل المصنف على عدم التخصيص أيضًا، بصلاته -صلى الله عليه وسلم- داخل الكعبة، فلو تعيّن استقبال المقام لما صحت هناك؛ لأنه كان حينئذ غير مستقبله، وهذا هو السر في إيراد حديث ابن عمر عن بلال في هذا الباب. وقد روى الأزرقيُّ في أخبار مكة، بأسانيد صحيحة، أن المقام كان في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وعمر في الموضع الذي هو فيه الآن، حتى جاء سيل في خلافة عمر فاحتمله، حتى وجد بأسفل مكة، فأُتي به فَرُبط بأستار الكعبة حتى قدم عمر، فاستثبت في أمره حتى تحقق موضعه الأول، فأعاده إليه، وبنى حوله فاستقر. ثمَّ إلى الآن. وما قاله الأزرقي مروي خلافه، فقد أخرج عبد الرزاق في مصنفه بسند صحيح عن عطاء ومجاهد وغيرهما: كان المقام من عهد إبراهيم لِزْق البيت، إلى أن آخره عمر رضي الله تعالى عنه إلى المكان الذي هو فيه الآن. وأخرج البيهقيّ عن عائشة بسند قويّ مثله، ولفظه "إنّ المقام كان في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي زمن أبي بكر ملتصقًا بالبيت، ثم أخّره عمر". وأخرج ابن مردويه بسند ضعيف عن مجاهد "أن النبي عليه الصلاة والسلام هو الذي حَوّله" والأَول أصح. وأخرج ابن أبي حاتم بسند صحيح عن ابن عُيينة قال: كان المقام في سُقْع البيت في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، فحوله عمر، فجاء سيل فذهب به، فرد عمر إليه، قال سفيان: لا أدري أكان لاصقًا بالبيت أم لا، ولم تنكر الصحابة، ولا من جاء بعدهم، فعل عمر، فصار إجماعًا، وكأنَّ عمر رأى أن ابقاءه هناك يلزم منه التضييق على الطائفين، أو على المصلين، فوضعه في مكان يرتفع به الحرج، وتهيأ له ذلك؛ لأنه الذي كان أشار باتخاذه مصلَّى، وأول من عمل عليه المقصورة الموجودة الآن، ولم تزل آثار قَدَمَي إبراهيم عليه الصلاة والسلام حاضرة في المقام، معروفة عند أهل الحرم، حتى قال أبو طالب في قصيدته المشهورة:

وَمَوْطىء إبراهيم في الصخر رَطْبَةٌ ... على قدميه حافيًا غير ناعلِ وفي موطأ ابن وهب عن أنس قال: رأيت المقام فيه أصابع إبراهيم وأخمص قدميه، غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم. وأخرج الطبريّ في تفسيره عن قتادة في هذه الآية "إنما أُمروا أن يصلوا عنده، ولم يؤمروا بمسحه" قال: ولقد ذكر لنا من رأى أثر عقبه وأصابعه فيها، فما زالوا يمسحونه حتى اخْلَوْلَق وانمحى.

الحديث الرابع

الحديث الرابع حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ: سَأَلْنَا ابْنَ عُمَرَ عَنْ رَجُلٍ طَافَ بِالْبَيْتِ الْعُمْرَةَ، وَلَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، أَيَأْتِي امْرَأَتَهُ؟ فَقَالَ قَدِمَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، وَطَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ. وَسَأَلْنَا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ: لاَ يَقْرَبَنَّهَا حَتَّى يَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. قوله: طاف بالبيت للعمرة، كذا للأكثر بلام الجر، وللمستملي والحمويّ "طاف بالبيت العمرة" بحذف لام الجر، ولابد من تقديرها ليصح الكلام، ويمكن أن يقدر طواف العمرة، ثم حذف المضاف وأُقيم المضاف إليه مقامه. وقوله: يأتي امرأته، أي هل حل من إحرامه حتى يجوز له الجماع وغيره من محرمات الإِحرام؟ وخص إتيان المرأة بالذكر لأنه أعظم الحرمات في الإحرام وأجابهم ابن عمر بالإشارة إلى وجوب اتباع النبي -صلى الله عليه وسلم-، لاسيما في أمر المناسك لقوله عليه الصلاة والسلام "خذوا عني مناسككم". وأجابهم جابر بصريح النهي، وعليه أكثر الفقهاء، وخالف ابن عباس فأجاز للمعتمر التحلل بعد الطواف وقبل السعي. قال ابن بطال: لا أعلم خلافًا بين أئمة الفتوى أن المعتمر لا يحل حتى يطوف ويسعى، إلا ما شذ به ابن عباس فقال: يحل من العمرة بالطواف، ووافقه إسحاق بن راهويه. ونقل عياض أن بعض أهل العلم ذهب إلى أن المعتمر إذا دخل الحرم حل، وان لم يطف ولم يسع، وله أن يفعل كل ما حرم على

رجاله خمسة

المحرم، ويكون الطواف والسعي في حقه كالرمي والمبيت في حق الحاج، وهذا من شذوذ المذاهب وغرائبها، وغفل القطب الحلبيّ فقال فيمن استلم الركن في ابتداء الطواف وأحل حينئذ: انه لا يحصل له التحلل بالإجماع. والمناسب للترجمة من هذا الحديث قوله "وصلى خلف المقام ركعتين" وقد يشعر يحمل الأمر في قوله "واتخذوا" على تخصيص ذلك بركعتي الطواف، وقد ذهب جماعة إلى وجوب ذلك خلف المقام، ونقل ابن المنذر الاتفاق على جوازهما في أي موضع شاء الطائف، إلا أن مالكًا كرههما في الحِجْر. وقال: إن من صلى ركعتي الطواف الواجب في الحجر يعيدهما. ونقل بعض الشافعية عن الثَّوريّ أنه كان يعينهما خلف المقام، واختلف في ركعتي الطواف، فقيل سنة، وقيل واجبة، وقيل متابعة للطواف؛ إن كان الطواف سنة فالصلاة سنة، وإن كان واجبًا فالصلاة واجبة. وهذا هو مشهور مذهب مالك. وفي الفتح قال بعض الشافعية: إن قلنا إن ركعتي الطواف واجبتان، كقول أبي حنيفة والمالكية، فلابد من ركعتين لكل طواف. وقال الرافعي: ركعتا الطواف، وإن قلنا بوجوبهما، فليستا بشرط في صحة الطواف، لكن في تعليل بعض أصحابنا ما يقتضي اشتراطهما. وإذا قلنا بوجوبهما هل يجوز فعلهما بقعود مع القدرة؟ وفيه وجهان أصحهما الأول، ولا تسقط بفعل فريضة كالظهر إذا قلنا بالوجوب، والأصح أنهما سنة كقول الجمهور. رجاله خمسة: الأول: الحميديّ، والثاني ابن عُيينة، وقد مرا في الأول من بدء الوحي، ومرّ عمرو بن دينار في الرابع والخمسين من كتاب العلم، ومرّ ابن عمر في الأثر الرابع من كتاب الإِيمان قبل ذكر حديث منه، وفيه ذكر جابر بن عبد الله، وقد مرّ في الرابع من بدء الوحي. لطائف إسناده:

فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، والسؤال في موضعين، ورواته كلهم مكيون. أخرجه البخاريّ هنا وفي الحج عن الحميدي وقتيبة وعلي بن عبد الله، ومسلم والنَّسائيّ وابن ماجه في الحج.

الحديث الخامس

الحديث الخامس حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سَيْفٍ قَالَ سَمِعْتُ مُجَاهِدًا قَالَ: أُتِيَ ابْنُ عُمَرَ فَقِيلَ لَهُ هَذَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ الْكَعْبَةَ. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ فَأَقْبَلْتُ وَالنَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- قَدْ خَرَجَ، وَأَجِدُ بِلاَلاً قَائِمًا بَيْنَ الْبَابَيْنِ، فَسَأَلْتُ بِلاَلاً فَقُلْتُ أَصَلَّى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فِى الْكَعْبَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ رَكْعَتَيْنِ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ عَلَى يَسَارِهِ إِذَا دَخَلْتَ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى فِي وَجْهِ الْكَعْبَةِ رَكْعَتَيْنِ. قوله: أُتي ابن عمر، بالبناء للمجهول، لم يعرف اسم الذي أخبره بذلك. قوله: وأجد بلالًا كان المناسب للسياق أن يقول "ووجدت" لإتيانه بعد قوله فأقبلت، وكأنه عداه عن الماضي إلى المضارع استحضارًا لتلك الصورة، حتى كان المخاطبَ يشاهدها. وقوله: قائمًا بين البابين، أي المصراعين، وحمله الكرمانيّ تجويزًا على حقيقة التثنية، وقال: أراد بالباب الثاني الذي لم تفتحه قريش حين بنت الكعبة، باعتبار ما كان. أو كان إخبار الراوي بذلك بعد أن فتحه ابن الزبير، وهذا يلزمه منه أن يكون ابن عمر وجد بلالًا في وسط الكعبة، وفيه بُعد. قاله في الفتح، وهو ظاهر، واعتراض العينيّ ساقط. وفي رواية الحمويّ "بين الناس" بنون وسين مهملة، وهي أوضح. وقوله: قال نعم ركعتين، أي صَلّى ركعتين، وقد استشكل الإِسماعيليّ وغيره هذا، بأن المشهور عن ابن عمر من طريق نافع وغيره عنه، أنه قال: ونسيت أن أسأله كم صلّى قال: فدل على أنه أخبره بالكيفية، وهي تعيين الموقف في الكعبة، ولم يخبره بالكمية، ونسي هو أن يسأله عنها، والجواب عن ذلك أن يقال: يحتمل أن ابن عمر اعتمد في قوله في هذه الرواية ركعتين، على القدر المتحقق له، وذلك أن بلالًا أثبت له أنه صَلّى، ولم ينقل أن النبي -صلى الله عليه وسلم-

تنفل في النهار بأقل من ركعتين، فكانت الركعتان متحققًا وقوعهما، لما عرف بالاستقراء من عادته، فعلى هذا فقوله "ركعتين" من كلام ابن عمر، لا من كلام بلال؛ وقد وجد ما يؤيد هذا. ويستفاد منه جمع آخر بين الحديثين، وهو ما أخرجه عمر بن شبة في كتاب مكة عن نافع عن ابن عمر في هذا الحديث "فاستقبلني بلال فقلت: ما صنع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هنا؟ فأشار بيده السّبّابة والوُسطى "أي صلى ركعتين" فعلى هذا يحمل قوله "نسيت أن أسأله كم صلّى" على أنه لم يسأله لفظًا، ولم يجبه لفظًا، إنما استفاد منه صلاة الركعتين بإشارته، لا بنطقه. أو يحمل على أن مراده بهذه الكلمة، أنه لم يتحقق هل زاد على ركعتين أو لا، وأما قول بعض المتأخرين: يجمع بين الحديثين بأن ابن عمر نسي أن يسأل بلالًا، ثم لقيه مرة أخرى فسأله، ففيه نظر من وجهين: أحدهما: أن الذي يظهر أن القصة وهي سؤال ابن عمر عن صلاته في الكعبة لم تتعدد؛ لأنه أتى في السؤال بالفاء المعقبة في الروايتين معًا، فقال في هذه: فأقبلت. ثم قال: فسألت بلالًا، وقال في الأخرى: فبدرت فسألت بلالًا، فدل على أن السؤال عن ذلك كان واحدًا في وقت واحد. ثانيهما: أن راوي قول ابن عمر "ونسيت" هو نافع مولاه، ويبعد، مع طول ملازمته له إلى وقت موته، أن يستمر على حكاية النسيان، ولا يتعرض لحكاية الذكر أصلًا، وأما ما نقله عياض من أن قوله "ركعتين" غلط من يحيى بن سعيد القطَّان؛ لأن ابن عمر قال: نسيت أن أسأله كم صلّى، فهو كلام مردود، والعجب من تغليط جبل من جبال الحفظ بقول من خَفِي عليه وجه الجمع بين الحديثين. ولم ينفرد يحيى بن سعيد بذلك حتى يغلط، فقد تابعه أبو نعيم عند البخاريّ والنَّسائيّ، وأبو عاصم عند ابن خُزيمة، وعمر بن عليّ عند الإِسماعيليّ، وعبد الله بن نمير عند أحمد، كلهم عن سَيف، ولم ينفرد سيف أيضًا، فقد تابعه خُصَيف عن مجاهد عند أحمد، ولم ينفرد مجاهد عن ابن عمر، فقد تابعه عليه ابن أبي مليكة عند أحمد والنَّسائيّ، وعمرو بن دينار عند أحمد.

وورد من حديث عثمان بن أبي طلحة عند أحمد والطبرانيّ بإسناد قويّ، ومن حديث أبي هريرة عند البزار، ومن حديث عثمان بن صفوان قال: فلما خرج سألت من كان معه، فقالوا: صلّى ركعتين عند السَّارية الوُسطى. أخرجه الطبرانيّ بإسناد صحيح. ومن حديث شيبة بن عثمان قال: لقد صلّى ركعتين عند العمودين. أخرجه الطبرانيّ بإسناد جيد. وقوله: بين الساريتين، تثنية سارية، وهي الأُسطوانة. وقوله: اللتين على يساره، أي الداخل، أو يسار البيت، أو هو من الالتفات. ولأبي ذَرٍّ عن الكشميهنيّ "يسارك" بالكاف وهي أنسب لما بعدها، وفي رواية سالم في الحج "بين العمودين اليمانيين" وفي رواية جُوَيرية "بين العمودين المقدمين" وفي رواية الكشميهنيّ "المتقدمين". وفي رواية فُليح في المغازي "بين ذينك العمودين المقدمين" وكان البيت على ستة أعمدة سطرين، صلى بين العمودين من السطر المقدم، وجعل باب البيت خلف ظهره. وقال في آخر روايته: وعند المكان الذي صلى فيه مرمرةٌ حمراء. وفي رواية مالك "جعل عمودًا عن يمينه وعمودًا عن يساره وثلاثة أعمدة وراءه، وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة" وكل هذا إخبار عما كان عليه البيت قبل أن يهدم ويُبنى في زمن ابن الزبير. وليس بين رواية مالك والتي قبلها مخالفة إلَّا أن قول مالك: وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة، مُشكلٌ لأنه يُشعر بكون ما عن يمينه أو يساره كان اثنين، ولذا عقبه البخاريّ في باب "الصلاة بين السواري" برواية إسماعيل عن مالك التي فيها "عمودين عن يمينه" وجزم البيهقيّ بترجيح رواية إسماعيل، ووافقه في قوله "عمودين عن يمينه" ابنُ القاسم والقعنبيُّ وأبو مصعب ومحمد بن الحسن، وكذا الشافعي وابن مهدي في إحدى الروايتين عنهما. وقال يحيى بن يحيى النيسابوريّ فيما رواه عنه مسلم: جعل عمودين عن يساره، وعمودًا عن يمينه، عكس رواية إسماعيل. وكذا قال الشافعيّ وبشر بن عمر في إحدى الروايتين عنهما، وجمع بعض المتأخرين بين هاتين الروايتين بتعدد الواقعة، وهو بعيد لاتحاد مخرج الحديث. وفيه اختلاف رابع، قال

عثمان بن عمر عن مالك: جعل عمودين عن يمينه وعمودين عن يساره، ويمكن توجيهه بأن يكون هناك أربعة أعمدة: اثنان مجتمعان، واثنان منفردان، فوقف عند المجتمعين، لكن يعكر عليه قوله "وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة" بعد قوله "وثلاثة أعمدة وراءه" وقد قال الدارقطني: لم يتابع عثمان بن عمر على ذلك. ويمكن الجمع بين رواية إسماعيل والرواية قبلها، وهي من عبد الله بن يوسف، بأنه حيثُ ثنى أشار إلى ما كان عليه البيت في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وحيث أفرد أشار إلى ما صار إليه بعد ذلك، ويُرشد إلى ذلك قوله "وكان البيت يومئذ"، لأن فيه إشعارًا بأنه تغير عن هيأته. وقال الكرماني: لفظ العمود جنس يحتمل الواحد والاثنين، فهو مجملٌ بَيِّنَتْه رواية "وعمودين" ويحتمل أن يقال: لم تكن الأعمدة الثلاثة على سمت واحد، بل اثنان على سمت والثالث على غير سمتهما. ولفظ المقدمين في الحديث السابق مشعر به، ويؤيد هذا رواية مجاهد المذكورة هنا "بين الساريتين اللتين على يسار الداخل" فإنها صريحة في أنه كان هناك عمودان على اليسار، وأنه صلى بينهما، فيحتمل أنه كان ثم عمود آخر عن اليمين، لكنه بعيد أو على غير سمت العمودين، فيصبح قول من قال "جعل عن يمينه عمودين" وقول من قال "جعل عمودًا عن يمينه" وجوز الكرمانيّ احتمالًا آخر، وهو أن يكون هناك ثلاثة أعمدة مصطفة، فصلى إلى جنب الأوسط، فمن قال جعل عمودًا عن يمينه وعمودًا عن يساره لم يعتبر الذي صلى إلى جنبه، ومن قال عمودين اعتبره، وهو مسبوق إلى هذا الاحتمال. وأبعد منه قولُ من قال: انتقل في الركعتين من مكان إلى مكان، ولا تبطل الصلاة بذلك لقلته. وقد مر لك أن هذا كله إخبار عما كان عليه البيت قبل أن يُهدم ويُبنى في زمن ابن الزبير، وأما الآن فقد بين موسى بن عقبة في روايته عن نافع عند المؤلف أن بين موقفه عليه الصلاة والسلام والجدار الذي استقبله قريبًا من ثلاثة أذرع، وجزم برفع هذه الزيادة مالك عن نافع فيما أخرجه أبو داود والدارقطنيّ

في الغرائب عن عبد الله بن وهب، ولفظه "وصلى بينه وبين القبلة ثلاثة أذرع" وأخرجها أبو عُوانة عن نافع، وهذا فيه الجزم بثلاثة أذرع، لكن رواه النسائي عن ابن القاسم عن مالك بلفظ "نحو ثلاثة أذرع" وهي موافقة لرواية موسى بن عقبة. وفي رواية الأزرقي في كتاب مكة، والفاكهيّ، أن معاوية سأل ابن عمر أين صلّى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: اجعل بينك ويين الجدار ذراعين أو ثلاثة، فعلى هذا ينبغي لمن أراد إلاتباع في ذلك أن يجعل بينه وبين الجدار ثلاثة أذرع، فإنه تقع قدماه في مكان قدميه -صلى الله عليه وسلم- إنْ كانت ثلاثة أذرع سواء، وتقع ركبتاه أو يداه ووجهه إن كان أقل من ثلاثة. وأخذ من قوله: ركعتين بين الساريتين، جواز الصلاة بين السواري، واحتج به البخاريّ على أنه لا بأس بالصلاة بين السواري إذا لم يكن في جماعة لا في جماعة، لأن ذلك يقطع الصفوف، وتسوية الصفوف في الجماعة مطلوبة، وعند المالكية الصلاة بينها مكروهة تنزيهًا، سواء المنفرد ومن في جماعة، لورود النهي الخاص عن الصلاة بينها، فيما أخرجه الحاكم بإسناد صحيح عن أنس، وهو في السنن الثلاثة وحسّنه التِّرمذيّ، وقال المحب الطبريّ: كره قوم الصف بين السواري للنهي الوارد عن ذلك، ومحل الكراهة عند عدم الضيق، والحكمة فيه إما لانقطاع الصف، أو لأنه موضع السراويل والنعال. وقال القرطبيّ: الحكمة في ذلك أنه مصلى الجن المؤمنين. وقال الرافعي: الأَولى للمنفرد أن يصلي إلى السارية، ومع هذه الأولوية فلا كراهة في الوقوف بينهما للمنفرد، وأما في الجماعة فالوقوف بين الساريتين كالصلاة إلى السارية. قال في الفتح: وفيه نظر، لما مرّ من النهي الخاص عن ذلك. وفيه استحباب الصلاة في الكعبة، وهو ظاهر في النفل، وهو مشهور مذهب مالك: يجوز في الكعبة النفل بل يندب، وأما الفرض ففيه قولان بالمنع والكراهة، والمشهور الكراهة، وتندب إعادته في الوقت، والسنن والرغبة مكروهة فيها، ولا فرق في حالة الصلاة فيها بين جهة من الجهات، ولو إلى جهة بابها المفتوح. وقال المازريّ: المشهور في المذهب منعُ صلاة الفرض

داخلها، ووجوب الإعادة. وعن ابن عبد الحكم وأشهب الإجزاءُ، وصححه ابن عبد البر وابن العربيّ، وعن ابن حبيب يعيد أبدًا، وعن أَصْبَغ ان كان متعمدًا. وأطلق التِّرمذيّ عن مالك جواز النوافل، وقيده بعض أصحابه بغير الرواتب وما تشرع فيه الجماعة. والصلاة على ظهر الكعبة باطلة إن كانت فرضًا على المشهور، ولو كان بين يديه قطعة من سطحها، واختلف في السنن والنوافل المؤكدة، كركعتي الفجر وركعتي الطواف الواجب على قولين مشهورين. وعند الحنفية والشافعية يجوز فيها الفرض والنفل، إذ لا فرق بينهما في مسألة الاستقبال للمقيم، وهو قول الجمهور. قال في الفتح: ومن المشكل ما نقله النّوويّ في زوائد الروضة عن الأصحاب: أن صلاة الفرض داخل الكعبة إن لم يرج الجماعة أفضل منها خارجها، ووجه الإشكال أن الصلاة خارجها متفق عليها بين العلماء، بخلاف داخلها، فكيف يكون المختلف في صحته أفضل من المتفق عليه؟ وظاهر البخاريّ أنه يشترط للصلاة في جميع الجوانب اغلاق الباب، لئلا يصير مستقبلًا في حال الصلاة غير الفضاء، قال في الفتح: والمحكيُّ عن الحنفية الجوازُ مطلقًا، وعن الشافعية وجهٌ مثله، لكن يشترط أن يكون للباب عَتَبة بأي قدر كانت، ووجه يشترط أن تكون قدر قامة المصلي، ووجه يشترط أن تكون قدر مؤخرة الرحل، وهو المصحح عندهم. وفي الصلاة فوق ظهر الكعبة نظير هذا الخلاف. وعند الحنابلة لا يصح إلا في الكعبة والحجر منها، ولا على ظهرها إلا إذا لم يبق وراءه شيء منها. يصح النذر فيها وعليها إذا كان بين يديه منها شيء، وكذا النفل بل يُسَن فيها. وقال ابن عباس: لا تصح الصلاة داخل الكعبة مطلقًا، وعلله بأنه يلزم من ذلك استدبار بعضها، وقد ورد الأمر باستقبالها، فيحمل على استقبال جميعها، وقد قال به بعض المالكية كما مرّ، والظاهرية والطبريّ، ويأتي حديث ابن عباس بعد هذا الحديث، ويستوفى عليه الكلام إن شاء الله تعالى. وقوله: في وجه

الكعبة، أي مواجه الكعبة عند مقام إبراهيم، وبذلك تحصل المطابقة للترجمة، وقد مر عن الفتح أن مطابقة الحديث للترجمة من غير هذه الحيثية، وهي أن استقبال المقام غير واجب، ومرّ تقريره عند الترجمة. وفي الحديث من الفوائد، غيرُ ما تقدم، روايةُ الصاحب عن الصاحب، وسؤال المفضول مع وجود الأفضل، والاكتفاء به، والحجة بخبر الواحد، ولا يقال هو أيضًا خبر واحد، فكيف يحتج للشيء بنفسه لأنا نقول هو فرد ينضم إلى نظائر مثله يوجب العلم بذلك، وفيه اختصاص السائق بالبقعة الفاضلة. وفيه السؤال عن العلم والحرص فيه، وفضيلة ابن عمر لشدة حرصه على تتبع آثار النبي -صلى الله عليه وسلم- ليعمل بها، وفيه أن الفاضل من الصحابة يغيب عن النبي عليه الصلاة والسلام في بعض المشاهد الفاصلة، ويحضره من هو دونه، فيطلع على ما لم يطلع عليه؛ لأن أبا بكر وعمر وغيرهما ممن هو أفضل من بلال ومن ذكر معه، لم يشاركوهم في ذلك، وفيه أن الصلاة إلى المقام غير واجبة، وجواز الصلاة بين السواري، وقد مرّ تحريره. وفيه أن السترة إنما تشرع حيث يُخشى المرور؛ لأنه عليه الصلاة والسلام صلى بين العمودين ولم يصل إلى أحدهما، والذي يظهر أنه ترك ذلك للاكتفاء بالقرب من الجدار، كما مرّ أنه كان بين مُصَلّاه والجدار نحو ثلاثة أذرع، وبذلك ترجم له النَّسائيّ على أنّ حد الدنو من السترة أن لا يكون بينهما أكثر من ثلاثة أذرع، وفيه أن قول العلماء تحية المسجد الحرام الطواف مخصوصٌ بغير داخل الكعبة، لكونه عليه الصلاة والسلام جاء فأناخ عند البيت، فدخله فصلى فيه ركعتين، فكانت تلك الصلاة إما لكون الكعبة كالمسجد المستقل، أو هي تحية المسجد العام. وفيه استحباب دخول الكعبة، وقد روى ابن خُزيمة والبيهقيّ عن ابن عباس مرفوعًا "من دخل البيت دخل في حسنه وخرج مغفورًا له" قال البيهقيّ تفرد به عبد الله بن المؤمل، وهو ضعيف، ومحل استحبابه ما لم يؤذ أحدًا بدخوله. وروى ابن أبي شيبة من قول ابن عباس أن دخول البيت ليس من الحج في

رجاله خمسة

شيء، وحكى القرطبيُّ عن بعض العلماء أن دخول البيت من مناسك الحج، ورده بأنه عليه الصلاة والسلام إنما دخله عام الفتح، ولم يكن حينئذ محرمًا، وأما ما رواه أبو داود والتِّرمِذيّ، وصححه هو وابن خزيمة والحاكم، عن عائشة "أنه عليه الصلاة والسلام خرج من عندها وهو قرير العين، ثم رجع وهو كئيب، فقال: دخلت الكعبة، فأخاف أن أكون شققت على أمتي" فقد يتمسك به لصاحب هذا القول المحكي، لكن عائشة لم تكن معه في الفتح ولا في عمرته. وقد جاء عن ابن عمر عند المصنف في الحج أنه لم يدخل الكعبة في عمرته، فتعين أن القصة كانت في حجته، وبذلك جزم البيهقيّ. ويحتمل أن يكون عليه الصلاة والسلام قال ذلك لعائشة بالمدينة بعد رجوعه، فليس في السياق ما يمنع ذلك، قاله في الفتح. قلت: بل فيه ما يمنعه، فإن قولها خرج من عندها قرير العين، ثم رجع كئيبًا، وقال: دخلت الكعبة، صريح في أن هذا وقع بمكة. وإنما لم يدخل الكعبة في عمرته لِما كان في البيت من الأصنام والصور، وكان إذ ذاك لا يتمكن من إزالتها؛ لأن المشركين لا يتركونه يغيرها، فلما كان في الفتح أمر بإزالة الصور ثم دخلها، ويحتمل أن يكون دخول البيت لم يقع في الشرط، فلو أراد دخوله لمنعوه، كما منعوه من الإقامة بمكة زيادة على الثلاث، فلم يقصد دخوله لئلا يمنعوه. وفي السيرة عن عليّ "أنه دخلها قبل الهجرة فازال شيئًا من الأصنام". وفي الطبقات عن عثمان بن طلحة نحو ذلك، فإن ثبت ذلك لم يشكل على الوجه الأول؛ لأن ذلك الدخول كان لإِزالة شيء من المنكرات، لا لقصد العبادة، والإزالة في الهدنة غير ممكنة بخلاف يوم الفتح، واستدل المحب الطبريّ بعدم دخوله البيت في العُمرة على أنه عليه الصلاة والسلام دخل البيت في حجته وفي فتح مكة، ولا دلالة فيه على ذلك، إذ لا يلزم من نفي كونه دخلها في عمرته أنه دخلها في جميع أسفاره. رجاله خمسة: وفيه ذكر بلال، الأول مسدد، والثاني يحيى القطّان، وقد مرا في السادس من كتاب الإِيمان، ومرّ مجاهد وابن عمر فيه قبل ذكر حديث منه، ومرّ بلال بن

لطائف إسناده

حمامة في التاسع والثلاثين من كتاب العلم. والخامس: سَيْف بن سليمان، أو ابن أبي سليمان، المخزوميّ، مولاهم المكيّ أبو سليمان. قال أحمد والعجليّ وأبو بكر البَزّار: ثقة، وقال يحيى بن سعيد: كان عندنا ثبتًا ممن يصدق ويحفظ. وقال أبو زرعة: ثبت. وقال أبو حاتم: لا بأس به. وقال ابن عديّ: حديثه ليس بالكثير، وأرجو أنه لا بأس به. وذكره ابن حِبّان في الثقات. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث. وقال الساجيّ: أجمعوا على أنه صدوق ثقة، غير أنه اتهم بالقدر، وقيل لأبي داود: رُمي بالقدر؟ قال: ما أعلم. قال ابن حَجَر في مقدمته: له في البخاريّ أحاديث أحدها في الأطعمة حديثُ حذيفة في آنية الذهب بمتابعة الحكم وابن عون وغيرهما، عن مجاهد عن ابن أبي ليلى عنه. ثانيها في الحج حديث عليّ في القيام على البُدْن بمتابعة ابن أبي نَجيح وغيره، عن مجاهد عن ابن أبي ليلى عنه. ثالثها في الحج أيضًا، حديث كعب بن عُجْرة في الفِدية، بمتابعة حُميد بن قيس وغير واحد، عن مجاهد عن ابن أبي ليلى عنه. رابعها في الصلاة وفي التهجد، عن ابن عمر عن بلال، في صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، أخرجه من حديثه عن مجاهد عنه، وله متابع عنده عن سالم ونافع معًا، وهذه الأحاديث وقعت للبخاريّ عالية من حديث مجاهد، فإنه رواها عن أبي نعيم عن سيف هذا عن مجاهد، ولم أر له عنده من أفراده عن مجاهد غير الرابع، وقد ذكرت أنه أخرج شاهده. روى له الباقون إلا التِّرمذيّ، روى عن مجاهد وقيس بن سعد المكي وأبي أمية البصريّ وغيرهم. وروى عنه الثَّوريّ ويحيى القطّان ووكيع وابن المبارك وأبو نعيم ومعتمر بن سليمان وغيرهم. مات بمكة سنة خمس وخمسين ومئة، وقيل سنة ست، وليس في الستة سيف بن سليمان سواه، وأما سيف فيها فستة. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في موضع، وفيه

السماع، ورواته ما بين بصريّ ومكيّ. أخرجه البخاريّ في مواضع عن مسدد وعن أبي نعيم، وفي الحج عن قتيبة، وفي الصلاة أيضًا عن إبراهيم بن المنذر، وأبي النعمان، وفي الجهاد عن يحيى بن بكير، ومسلم وأبو داود والنَّسائيّ وابن ماجه في الحج.

الحديث السادس

الحديث السادس حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا دَخَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- الْبَيْتَ دَعَا فِي نَوَاحِيهِ كُلِّهَا، وَلَمْ يُصَلِّ حَتَّى خَرَجَ مِنْهُ، فَلَمَّا خَرَجَ رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ فِي قُبُلِ الْكَعْبَةِ وَقَالَ: "هَذِهِ الْقِبْلَةُ". قوله: دعا في نواحيه كلها، جمع ناحية، وهي الجهة. وقوله: ولم يصل حتى خرج منه، مرّ في حديث ابن عمر أنه صلى ركعتين فيه، راويًا ذلك عن بلال، وإثبات بلال مقدم على نفي غيره لأمرين أحدهما: أن ابن عمر لم يكن مع النبي -صلى الله عليه وسلم- يومئذ، وإنما أسند نفيه تارةً لأسامة، وتارة لأخيه الفضل، مع أنه لم يَثْبُت أن الفضل كان معهم إلا في رواية شاذة، وقد روى أحمد عن ابن عباس عن أخيه الفضل نفي الصلاة فيها، فيحتمل أن يكون تلقّاه عن أُسامة، فإنه كان معه، وقد روى ابن عباس نفي الصلاة فيها عن أُسامة كما في مسلم. وقد وقع إثبات صلاته فيها عن أسامة من رواية ابن عمر عنه عند أحمد وغيره، فتعارضت الرواية في ذلك عنه، فتترجح رواية بلال من جهة أنه مثبت وغيره ناف، ومن جهة أنه لم يُختلف عليه في الإثبات، واختلف على من نفى. وقال النووي وغيره: يجمع بين إثبات بلال ونفي أسامة بانهم لما دخلوا الكعبة اشتغلوا بالدعاء، فرأى أسامة النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يدعو، فاشتغل أسامة بالدعاء في ناحية، والنبي -صلى الله عليه وسلم- في ناحية، ثم صلى النبي عليه الصلاة والسلام، فرآه بلال لقربه منه، ولم يره أسامة لبعده منه واشتغاله، ولأن بإغلاق الباب تكون الظلمة، مع احتمال أن يحجبه عنه بعض الأعمدة، فنفاها عملًا بظنه. وقال المحب الطبريّ: يحتمل أن يكون أسامة غاب عنه بعد دخوله

لحاجة، فلم يشهد صلاته، ويشهد لهذا ما رواه أبو داود الطَّيالسيّ في مسنده، عن عمير مولى ابن عباس عن أسامة قال: "دخلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الكعبة، فرأى صورًا فدعا بدلو من ماء، فأتيته به فضرب به الصور" فهذا الإسناد جيد. قال القرطبيّ: فلعله استصحب النفي لسرعة عوده، وهو مُفرَّع على أن هذه القصة وقعت عام الفتح، فإن لم يكن، فقد روى عمر بن شبّة في كتاب مكة عن عليّ بن بَذِيمة، وهو تابعيّ، وبذيمة بموحدة ثم معجمة وزن عظيمة، قال: "دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- الكعبة، ودخل معه بلال، وجلس أسامة على الباب، فلما خرج وجد أسامة قد احتبى فأخذ بحبوته فحلها ... " الحديث. فلعله احتبى فاستراح فنعس، فلم يشاهد صلاته، فلما سئل عنها نفاها مستصحبًا للنفي لقصر زمن احتبائه، وفي كل ذلك إنما نفى رؤيته لا ما في نفس الأمر. ومنهم من جمع بين الحديثين بغير ترجيح أحدهما على الآخر، وذلك من أوجه: أحدها حمل الصلاة المثبتة على اللغوية، والمنفية على الشرعية، وهذه طريقة من يكره الصلاة داخل الكعبة فرضًا ونفلًا، ويؤيد هذا الجمع ما أخرجه عمر بن شبّة في كتاب مكة عن أبي جمرة عن ابن عباس قال: "قلت له كيف أصلّي في الكعبة؟ قال: كما تصلي في الجنازة؛ تسبّح وتكبر ولا تركع ولا تسجد، ثم عند أركان البيت سبح وكبر وتضرع واستغفر، ولا تركع ولا تسجد" وسنده صحيح، لكن هذا العمل يرده ما مرّ في بعض طرقه من تعيين قدر الصلاة، فظهر أن المراد بها الشرعية، لا مجرد الدعاء. ثانيها: قال القرطبيّ: يمكن حمل الإثبات على التطوع، والنفي على الفرض، وهذه طريقة المشهور من مذهب مالك. ثالثها: قال المهلب: يحتمل أن يكون دخول البيت وقع مرتين، صلى في إحداهما، ولم يصل في الأخرى. وقال ابن حبان: الأشبه عندي في الجمع أن يجعل الخبران في وقتين، فيقال: لما دخل الكعبة في الفتح صلّى فيها على ما

رجاله خمسة

رواه ابن عمر عن بلال، ويجعل نفي ابن عباس الصلاة في الكعبة في حجته التي حج فيها؛ لأن ابن عباس نفاها، وأسنده إلى أسامة، وابن عمر أثبتها وأسند إثباته إلى بلال وإلى أسامة، فهذا حمل الخبر على ما وصفنا بطل التعارض، وهذا جمع حسن، لكن تعقبه النّوويّ بأنه لا خلاف أنه -صلى الله عليه وسلم- دخل في يوم الفتح لا في حجة الوداع، ويشهد له ما رواه في كتاب مكة عن سفيان، عن غير واحد من أهل العلم، أنه -صلى الله عليه وسلم- إنما دخل الكعبة مرة واحدة عام الفتح، ثم حج فلم يدخلها، وإذا كان الأمر كذلك فلا يمتنع أن يكون دخلها عام الفتح مرتين، ويكون المراد بالواحدة التي في خبر ابن عيينة وحدة السفرة لا الدخول. وقد وقع عند الدارقطنيّ من طريق ضعيفة ما يشهد لهذا الجمع. وقوله في قُبُل الكعبة، بضم القاف والموحدة، وقد تسكن، أي مقابلها، أو ما استقبلك منها، وهو وجهها، وهذا موافق لرواية ابن عمر السالفة. وقوله: هذه القبلة، الإشارة إلى الكعبة، قيل: المراد بذلك تقرير حكم الانتقال عن بيت المقدس. وقيل: المراد أن حكم من شاهد البيت وجوب مواجهة عينه جزمًا بخلاف الغائب. وقيل: المراد أن الذي أمرتم باستقباله ليس هو الحرم كله، ولا مكة، ولا المسجد الذي حول الكعبة، بل الكعبة نفسها. والإشارة إلى وجه الكعبة أي هذا موقف الإِمام، ويؤيده ما رواه البزار عن عبد الله بن حَبَشي الخثعميّ قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي إلى باب الكعبة وهو يقول "أيها الناس، إن الباب قبلة البيت" وهو محمول على الندب لقيام الإِجماع على جواز استقبال البيت من جميع جهاته، والسر في إيراد حديث ابن عباس في هذا الباب هو ما رواه الطبرانيّ وغيره عنه أنه قال: ما أحب أن أصلي في الكعبة، مَنْ صلى فيها فقد ترك شيئًا منها خلفه. رجاله خمسة: الأول: إسحاق بن نصر، وقد مرّ في الحادي والعشرين من كتاب العلم. والثاني: عبد الرزاق بن همام، وقد مرّ في الخامس والثلاثين من كتاب

لطائف إسناده

الإيمان، ومرّ عبد الملك بن جريج في الثالث من كتاب الحيض، ومرّ عطاء بن أبي رباح في التاسع والثلاثين من كتاب العلم، ومرّ عبد الله بن عباس في الخامس من بدء الوحي. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والإخبار كذلك في موضع واحد، وفيه السماع. ورواته ما بين مدنيّ وصنعانيّ ومكيّ. أخرجه البخاريّ هنا، ومسلم في المناسك، والنَّسائيّ. ثم قال المصنف: باب التوجه نحو القبلة حيث كان أي حيث وجد الشخص في سفر أو حضر، والمراد بذلك في صلاة الفريضة، كما يتبين ذلك في حديث جابر الثاني في الباب. ثم قال: وقال أبو هريرة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- "استقبل القبلة وكبِّر". قوله: استقبل وكبر بكسر الباء الموحدة فيهما على الأمر، وللأربعة فكَبِّر بالفاء، وفي رواية الأصيلي "قام النبي -صلى الله عليه وسلم- استقبل فكَبَّر" بالفاء وفتح الموحدة نيهما، وأبو هريرة مرّ في الثاني من كتاب الإيمان، وهذا التعليق طرف من حديث أبي هريرة في قصة المسيء في صلاته، وصله المؤلف في كتاب الاستئذان.

الحديث السابع

الحديث السابع حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِى إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُحِبُّ أَنْ يُوَجَّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} فَتَوَجَّهَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ، وَقَالَ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ وَهُمُ الْيَهُودُ: مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلٌ ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَمَا صَلَّى، فَمَرَّ عَلَى قَوْمٍ مِنَ الأَنْصَارِ فِي صَلاَةِ الْعَصْرِ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَالَ: هُوَ يَشْهَدُ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَأَنَّهُ تَوَجَّهَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ. فَتَحَرَّفَ الْقَوْمُ حَتَّى تَوَجَّهُوا نَحْوَ الْكَعْبَةِ. قوله: وكان يحب أن يوجه إلى الكعبة، جاء بيان ذلك فيما أخرجه الطَّبريّ عن ابن عباس قال: لما هاجر النبيّ -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، واليهود أكثر أهلها يستقبلون بيت المقدس، أمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها سبعة عشر شهرًا، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحب أن يستقبل قبلة إبراهيم، فكان يدعو وينظر السماء، فنزلت. وقوله في الحديث "أمره الله" يرد على من قال إنه صلى إلى بيت المقدس باجتهاد. وأخرجه الطبريّ عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهو ضعيف، وعن أبي العالية "أنه -صلى الله عليه وسلم- صلّى إلى بيت المقدس يتألَّفُ اليهود" وهذا لا ينافي أن يكون بتوقيف، ومن طريق مجاهد عنه قال: إنما كان يحب أن يتحول إلى الكعبة، لأن اليهود قالوا يخالفنا محمد ويتبع قبلتنا؟ فنزلت. وظاهر حديث ابن عباس هذا أن استقبال بيت المقدس إنما وقع بعد

الهجرة إلى المدينة، لكن أخرج أحمد من وجه آخر عن ابن عباس "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي بمكة نحو بيت المقدس، والكعبة بين يديه" والجمع بينهما ممكن بأن يكون أمر عليه الصلاة والسلام لما هاجر أن يستمر على الصلاة إلى بيت المقدس. وأخرج الطبرانيّ عن ابن جريج قال: "صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أول ما صلى إلى الكعبة، ثم صرف إلى بيت المقدس وهو بمكة، فصلى ثلاث حجج، ثم هاجر فصلى إليه بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرًا، ثم وجهه الله تعالى إلى الكعبة". وقوله {تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144] أي تردد وجهك في جهة السماء تطلعًا للوحي، وكان عليه الصلاة والسلام يقع في رَوْعه، ويتوقع من ربه أن يحوله إلى الكعبة؛ لأنها قبلة أبيه إبراهيم، وذلك يدل على كمال أدبه حيث انتظر ولم يسأل. قاله البيضاويّ. قلت: سؤال الله تعالى ليس فيه نقصان أدب، بل فيه كمال الأدب لأمر الله به ومحبته له. وفي حديث ابن عباس السابق أنه كان يدعو وينظر السماء. فنظر السماء غير مناف للدعاء. والقبلة في الأصل الحال التي عليها الإنسان، ثم صارت عُرفًا للمكان المتوجه إليه في الصلاة وقوله {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} أي لا يختص مكان دون مكان بخاصة ذاتية تمنع إقامة غيره مقامه، وإنما العبرة بارتسام أمره لا بخصوص المكان. وقوله {إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وهو ما ترضاه الحكمة، وتقتضيه المصلحة من التوجه إلى بيت المقدس تارة، وإلى الكعبة أخرى. وقوله: فصلى مع النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل، للمستملي والحموي "رجال" وهذه تحتاج إلى تقدير محذوف في قوله "ثم خرج" أي بعض أولئك الرجال، والرجل قيل إنه عبّاد بن بشر، وقيل عباد بن نَهيك، ويأتي تعريفهما قريبًا. وقوله: ثم خرج بعدما صلى، أي بعد صلاته، أو بعد الذي صَلّى. وقوله: في صلاة العصر نحو بيت المقدس، وللكشميهنيّ "في صلاة العصر يصلون نحو بيت المقدس" وفيها إفصاح بالمراد. وقوله: فقال هو يشهد، عني بذلك نفسه على طريق التجريد، بأن جرد من نفسه شخصًا، أو على طريق الالتفات،

رجاله أربعة

أو نقل الراوي كلامه بالمعنى، ويؤيد هذه الرواية المارة في الإيمان بلفظ أشهر. وفي تفسير ابن أبي حاتم عن ثويلة بنت أسلم قالت: "صليت الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة، فاستقبلنا مسجد إيلياء فصلينا سجدتين، أي ركعتين، ثم جاءنا من يخبرنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد استقبل البيت الحرام". واختلفت الرواية في الصلاة التي تحولت القبلة فيها، وكذا المسجد، قال في الفتح: وظاهر حديث البراء هذا أنها الظهر. قلت: ظاهر حديث البراء هنا أنها العصر، لقوله فيه "ثم خرج بعدما صلى فمر على قوم من الأنصار في صلاة العصر" فالرجل لما صلّى معه عليه الصلاة والسلام خرج ووجد الناس في صلاة العصر، فيعلم منه أن الصلاة التي صليت صلاة العصر، وقد صرح بذلك البراء في روايته في الإيمان. فقال: لأنه أول صلاة صلاها العصر، فهذا صريح فيما قلنا. وعند ابن سعد في الطبقات يقال: إنه صلى ركعتين من الظهر في مسجده بالمسلمين، ثم أُمر ان يتوجه إلى المسجد الحرام، فاستدار إليه، واستدار معه المسلمون. ويقال: زار النبي -صلى الله عليه وسلم- أُمَّ بِشر بن البراء بن معرور في بني سلِمة، فصنعت له طعامًا، وحانت الظهر، فصلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأصحابه ركعتين، ثم أُمر فاستدار إلى الكعبة، واستقبل الميزاب، فسُمّي مسجد القبلتين. قال ابن سعد: قال الواقديّ: هذا أثبت. وأخرج ابن أبي داود بسند ضعيف عن عمارة بن رُوَيبة قال: "كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في إحدى صلاتي العَشِيّ حين صرفت القبلة، فدار ودرنا معه في ركعتين" وأخرج البزّار عن أنس "انصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن بيت المقدس وهو يصلي، بوجهه إلى الكعبة" وللطبراني نحوه من وجه آخر عن أنس. وفي كل منهما ضعف. وقد مرت مباحث هذا الحديث مستوفاة غاية الاستيفاء عند ذكره في باب "الصلاة من الإيمان" من كتاب الإيمان. رجاله أربعة: وفيه لفظ رجل مبهم. الأول: عبد الله بن رجاء، مرّ في التعليق الكائن بعد الحديث الثالث من

لطائف إسناده

كتاب الصلاة، ومرّ إسرائيل بن يونس في السابع والستين من كتاب العلم، ومرّ أبو إسحاق السَّبيعيّ والبراء بن عازب في الثالث والثلاثين من كتاب الإيمان، والرجل المبهم قيل إنه عباد بن بشر، وقيل عباد بن نَهيك، وأذكر تعريف الاثنين هنا. الأول: عباد بن بشر بن قَيْظيّ الأنصاريّ الأوسيّ، من بني حارثة بن الحارث بن الخزرج، ذكره ابن إسحاق فيمن شهد بدرًا، وروى ابن مَنْدَه عن ثُويلة بنت أسْلَم، وكانت من المبايعات، قالت: جاء رجل من بني حارثة يقال له عباد بن بشر بن قيظيّ فقال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد استقبل البيت الحرام، فتحولوا إليه. ووقع لابن منده أنه من بني النَّبيت، ثم من بني عبد الأشهل، وهو وهَمْ. وعباد بن بشر هذا يلتبس بعباد بن بشر بن وقش الأشهليّ، ويأتي تعريف هذا إن شاء الله تعالى عند ذكره. الثاني: عباد بن نَهيك، بفتح النون وكسر الهاء، الأنصاريّ الخطميّ ذكر ابن عبد البَر أنه هو الذي أخبر قومه بأن القبلة قد حولت. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع، وبالإفراد في موضع، والعنعنة في موضعين، ورواته ما بين بصريّ وكوفيّ. أخرجه البخاريّ في باب الصلاة من الإيمان. وقد مرّ ذكر مواضع إخراجه هناك.

الحديث الثامن

الحديث الثامن حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ، فَإِذَا أَرَادَ الْفَرِيضَةَ نَزَلَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ. قوله: حدثنا مسلم، زاد الأصيلي "ابن إبراهيم" وقوله: حدثنا هشام، زاد الأصيلي "ابن أبي عبد الله" وقوله: على راحلته، أي ناقته التي تصلح لأن تُرْحَل. وقوله: حيث توجهت، زاد ابن عساكر وأبو ذَرٍّ عن الكشميهنيّ "به" والمراد توجه صاحب الراحلة؛ لأنها متابعة لقصد توجهه، وفي حديث ابن عمر عند مسلم وأبي داود والنَّسائيّ "رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي على حمار وهو متوجه لخيبر" وعند أبي داود، والترمذيّ وقال حسن صحيح، من حديث جابر "بعثني النبي -صلى الله عليه وسلم- في حاجة، فجئت وهو يصلّي على راحلته نحو المشرق، السجود أخفض". وقوله: فإذا أراد الفريضة نزل فاستقبل القبلة، أي: وصلّى، وهذا يدل على عدم ترك استقبال القبلة في الفريضة، وهو إجماع. نعم رخص في شدة الخوف، كما يأتي محله، وعند المالكية يشترط أن يكون السفر المتنفل فيه على الدابة سفر قصر، ويحكى أيضًا عن بعض الشافعية ولا يشترط الافتتاح إلى القبلة خلافًا لبعض الشافعية، واستحبه ابن حنبل وأبو ثَور، وجوّز أبو يوسف التنفل على الدابة في الحضر. رجاله خمسة: الأول: مسلم بن إبراهيم.

لطائف إسناده

والثاني: هشام الدّستوائيّ، وقد مرا في السابع والثلاثين من كتاب الإيمان، ومرّ يحيى بن أبي كثير في الثالث والخمسين من كتاب العلم، ومرّ جابر بن عبد الله في الرابع من بدء الوحي. ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان القرشي العامريّ، مولاهم أبو عبد الله المدني، ذكره ابن حبّان في الثقات. وقال: إنه مولى الأخنس بن شَرِيق. قال أبو حاتم: هو من التابعين لا يُسأل عن مثله. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، ووثقه أبو زرعة والنَّسائيّ. وفي تهذيب التهذيب قال ابن حَزم في الأضاحي: من المحلى خبر محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان والنعمان بن أبي فاطمة بكبش أقرن ضعيف ومرسل، كذا قال. فإن كان ضعف الحديث لإرساله ففي العطف نظر، وإن كان ضعف محمد فليس له في ذلك سلف. قلت: ولأجل هذا لم يذكره ابن حَجَر في مقدمته فيمن طعن عليه من رجال البخاري. روى عن جابر وابن عباس وأبي هريرة وأبي سعيد وزيد بن ثابت وغيرهم. وروى عنه أخوه سليمان ويحيى بن أبي كثير والزُّهريّ ويحيى بن سعيد الأنصاريّ وغيرهم. وليس له في البخاريّ عن جابر غير هذا الحديث، ويشتبه محمد بن عبد الرحمن هذا بمحمد بن عبد الرحمن بن نوفل، لكن هذا لم يخرج له البخاريّ عن جابر شيئًا، بل لم يرو عن أحد من الصحابة. وقد مرّ تعريفه في الثامن والثلاثين من كتاب الغُسل. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، والعنعنة في موضعين، ورواته ما بين بصريّ ويمانيّ ومدنيّ. أخرجه البخاريّ هنا وفي تقصير الصلاة عن مُعاذ بن فَضالة، وفي المغازي عن آدم، ومسلم وأبو داود، والتِّرمذيّ وقال حسن صحيح، والنَّسائيّ في الصلاة.

الحديث التاسع

الحديث التاسع حَدَّثَنَا عُثْمَانُ قَالَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: صَلَّى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ إِبْرَاهِيمُ: لاَ أَدْرِي زَادَ أَوْ نَقَصَ، فَلَمَّا سَلَّمَ قِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَحَدَثَ فِي الصَّلاَةِ شَيْءٌ؟ قَالَ: "وَمَا ذَاكَ؟ ". قَالُوا: صَلَّيْتَ كَذَا وَكَذَا. فَثَنَى رِجْلَيْهِ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، فَلَمَّا أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ قَالَ: "إِنَّهُ لَوْ حَدَثَ فِي الصَّلاَةِ شَيْءٌ لَنَبَّأْتُكُمْ بِهِ، وَلَكِنْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي، وَإِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَتِهِ فَلْيَتَحَرَّى الصَّوَابَ، فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ ثُمَّ لِيُسَلِّمْ، ثُمَّ يَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ". قوله: لا أدري، زاد أو "نقص" أي النبي -صلى الله عليه وسلم- في صلاته، ولابن عساكر "أزاد" بالهمزة، والمراد أن إبراهيم شك في سبب سجود السهو المذكور، هل كان لأجل الزيادة أو النقصان، لكن في الباب الذي بعده من رواة الحكم عن إبراهيم بإسناده هذا أنه صلى خمسًا، وهو يقتضي الجزم بالزيادة، فلعله شك لما حدّث منصورًا وتيقن لما حدّث الحكم، وقد تابع الحكم على ذلك حماد بن أبي سليمان وطلحة بن مصرف وغيرهما. وعين في رواية الحكم وحماد أيضًا أنها الظهر، ووقع للطبرانيّ من رواية طلحة بن مصرف أنها العصر، وما في الصحيح أصح. وقوله: أحَدَث بفتحات، ومعناه السؤال عن حدوث شيء من الوحي يوجب تغيير حكم الصلاة عما عهدوه، ودل استفهامهم عن ذلك على جواز النسخ عندهم، وأنهم كانوا يتوقعونه. وقوله: وما ذاك؟، فيه إشعار بأنه لم يكن عنده

شعور بما وقع منه من الزيادة. وقوله: صليت كذا وكذا، كناية عمّا وقع إمّا زائد على المعهود أو ناقص عنه، وقوله: فثنى رجله، بتخفيف النون، أي عطف، وبإفراد رجله بأن جلس كهيئة قعود المتشهد، وللكشميهنيّ والأصيلي "رجليه" بالتثنية. وقوله: واستقبل القبلة وسجد سجدتين ثم سلم، ومناسبة الحديث للترجمة من قوله هذا "واستقبل القبلة" فدل على عدم ترك الاستقبال في كل حال من أحوال الصلاة، واستدل به على رجوع الإِمام إلى قول المأمومين، لكن يحتمل أن يكون تذكر إذ ذاك، أو علم بالوحي، أو أن سؤالهم أحدث عنده شكًا، فسجد لوجود الشك الذي طرأ، لا لمجرد قولهم. وبالرجوع إلى قول المأمومين قال مالك وأبو حنيفة وأحمد، ولكن عند مالك لابد أن يكون رجوعه لقول مأمومَيْن عدلَين عند إخبارهما له بالزيادة. وأما النقص فيرجع فيه لكل مخبر، وعند الشافعية لا يرجع المصلي في قدر صلاته إلى قول غيره، إمامًا كان أو مأمومًا، ولا يعمل إلا على يقين نفسه. وأجابوا عن الحديث بما مرّ قريبًا من الاحتمالات، وقد قال الشافعي: معنى قوله: فذكِّروني أي لأتذكر، وقيد مالك وغيره رجوع الإِمام إلى قول المأمومين، بما إذا كان الإِمام مجوزًا لوقوع السهو منه، بخلاف ما إذا كان متحققًا لخلاف ذلك، أخذًا من ترك رجوعه عليه الصلاة والسلام لذي اليدين، ورجوعه للصحابة. وفرق بعض المالكية والشافعية بين ما إذا كان المخبرون ممن يحصل العلم بخبرهم فيقبل، ويقدم على ظن الإِمام، أنه كمل الصلاة بخلاف غيرهم، ودل قوله "وسجد سجدتين" على أن سجود السهو سجدتان، وهو قول عامة الفقهاء، فلا يتكرر بتكرر السهو، ولو اختلف الجنس، خلافًا للأوزاعيّ وابن أبي ليلى، وروى ابن أبي شيبة عن النخعيّ والشعبيّ أن لكل سهو سجدتين، وورد على وفقه حديث ثَوبان عند أحمد، وإسناده منقطع، وحمل على أن معناه أن من سها بأي سهو كان شُرِع له السجود، أي لا يختص بما سجد فيه الشارع. وروى البيهقيّ من حديث عائشة "سجدتا السهو تجزئان من كل زيادة ونقصان". واختلف العلماء في حكم السجدتين، وفي محلهما. فقالت الشافعية

والمالكية: انه مسنون كله. وعن الحنابلة ... التفصيل بين الواجبات غير الأركان، فيجب لتركها سهوًا وبين السنن القولية فلا يجب، وكذا يجب إذا سها بزيادة فعل أو قول، يبطلها عمده، وعن الحنفية واجب كله. وقال الكرخيّ منهم: إنه سنة، وحجتهم في الوجوب حديث ابن مسعود عند المؤلف "فليسجد سجدتين" ومثله لمسلم من حديث أبي سعيد، والأمر للوجوب، وقد ثبت من فعله -صلى الله عليه وسلم- وأفعاله في الصلاة محمولة على البيان، وبيان الواجب واجب، ولاسيما مع قوله "صلوا كما رأيتموني أصلي". ومحله عند مالك إن كان لنقص محض أو لنقص وزيادة، فهو قبل السلام، وإن كان لزيد محض فهو بعد السلام. وقال أحمد يستعمل كل حديث فيما ورد فيه، وما لم يرد فيه شيء يسجد قبل السلام. قال: ولولا ما رُوي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك لرأيته كله قبل السلام؛ لأنه من شأن الصلاة، فيفعله قبل السلام. وفي المغني: السجود كله عند أحمد قبل السلام إلا في الموضعين اللذين ورد النص بسجودهما بعد السلام، وهما: إذا سلّم من نقص في صلاته، أو تحرّى الإِمام فبنى على غالب ظنه، وما عداهما يسجد له قبل السلام، وبقول مالك: قال أبو ثَور وقال سليمان بن داود وابن المنذر وأبو خيثمة بقول أحمد. وعند الشافعية سجود السهو كله قبل السلام. وعند الحنفية كله قبل السلام. واعتمد الحنفية على حديث الباب، وتعقب بأنه لم يعلم بزيادة الركعة إلَّا بعد السلام، حين سألوه هل زِيد في الصلاة؟ وقد اتفق العلماء في هذه الصورة على أن سجود السهو بعد السلام، لتعذره قبله، لعدم علمه بالسهو، وإنما تابعه الصحابة لتجويزهم الزيادة في الصلاة، لأنه كان زمان توقع النسخ، وأجاب بعضهم بما وقع في حديث ابن مسعود من الزيادة، وهي "وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحرَّ الصواب، فليتم عليه، ثم ليسلم، ثم يسجد سجدتين" وأجيب بأنه معارض بحديث أبي سعيد عند مسلم، ولفظه "إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدر كم صلى، فليطرح الشك، وليس على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم" وبه تمسك الشافعية.

وجمع بعضهم بينهما بحمل الصورتين على حالتين، وهذا الاستدلال والجواب إنما هو بالنسبة لمذهب الشافعية، وأما مذهب المالكية والحنابلة فلا يرد عليهما شيء مما ذكر. وقال النوويّ: أقوى المذاهب في السجود قول مالك ثم أحمد، وقال غيره: بل طريق أحمد أقوى، وأما داود فجرى على ظاهريته فقال: لا يشرع سجو السهو إلا في المواضع التى سجد فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- فقط، ورجح البيهقيّ طريقة التخيير في سجو السهو قبل السلام أو بعده، ونقل الماورديّ وغيره الإجماع على الجواز، وإنما الخلاف في الأفضل، وكذا أطلق النوويّ. وتعقب بأن إمام الحرمين نقل في "النهاية" الخلاف في الإجزاء عن المذهب، واستبعد القول بالجواز، وكذا نقل القرطبيّ الخلاف في مذهبهم، وهو مخالف لما قاله ابن عبد البر من أنه لا خلاف عن مالك أنه لو سجد للسهو كله قبل السلام أو بعده، أنه لا شيء عليه، فيجمع بأن الخلاف بين أصحابه، لا عنه هو. والخلاف عند الحنفية قال القدوريّ: لو سجد للسهو قبل السلام؛ روى عن بعض أصحابنا لا يجوز؛ لأنه أدّاه قبل وقته، وصرح صاحب الهداية بأن الخلاف عندهم في الأولوية، وقال ابن قُدامة في المقنع: من ترك سجود السهو الذي قبل السلام بطلت صلاته إن تعمد، وإلا فيتداركه ما لم يطل الفصل. ويمكن أن يقال الإجماع الذي نقله الماورديّ وغيره قبل هذه الآراء في المذاهب المذكورة. وقال ابن خُزيمة: لا حجة للعراقيين في حديث ابن مسعود، يعني المتقدم استدلالهم به؛ لأنهم خالفوه فقالوا: إن جلس المصلي في الرابعة مقدار التشهد أضاف إلى الخامسة سادسة، ثم سلّم، وسجد للسهو. وإن لم يجلس في الرابعة لم تصح صلاته، ولم ينقل في حديث ابن مسعود إضافة سادسة، ولا اعادة، ولابد عندهم من أحدهما. قال: ويحرم على العالم أن يخالف السنة بعد علمه بها. ودل الحديث على أن كلام الناسي والعامد لإصلاح الصلاة لا تبطل الصلاة به، قال أبو عمر: ذهب الشافعي وأصحابه إلى أن الكلام والسلام سهوًا

في الصلاة لا يبطلها، كقول مالك وأصحابه سواء، وإنما الخلاف بينهما إن مالكًا يقول: لا يفسد الصلاة تعمد الكلام فيها في إصلاحها، وهو قول ربيعة وأحمد بن حنبل، روى الأثرم عنه أنه قال: ما تكلم به الإنسان في صلاته لإِصلاحها لم تفسد صلاته، فإن تكلم لغير ذلك فسدت عليه. وذكر الخرقيّ عنه أن مذهبه فيمن تكلم عامدًا أو ناسيًا بطلت صلاته، إلا الإِمام خاصة، إذا تكلم لمصلحة صلاته لم تبطل. وقيد عند المالكية الكلام لإصلاحها بأن لا يزيد على خمس كلمات، وبأن لا يفهم بالتسبيح وإلا فسدت. وقال الشافعيّ وأصحابه: إن تعمد الكلام وهو يعلم أنه في الصلاة، وأنه لم يتمها، فسدت صلاته، فإن تكلم ناسيًا، أو تكلم وهو يظن أنه ليس في الصلاة لا تبطل. وأجمعوا على أن الكلام عمدًا من عالم أنه في الصلاة غير قاصد لإصلاحها مبطلٌ للصلاة، إلا ما روي عن الأوزاعي من أن من تكلم لإحياء نفسٍ أو نحو ذلك من الأمور العظام لم تفسد صلاته. وأجابت الشافعية عن حديث الباب وحديث ذي اليدين الدالين على أن الكلام لإصلاحها لا يضر، بأنه عليه الصلاة والسلام لم يتكلم إلا ناسيًا، وأما قول ذي اليدين له: بلى نسيت، وقول الصحابة له؟ صدق ذو اليدين، فإنهم تكلموا معتقدين النسخ في وقت يمكن وقوعه، فتكلموا ظنًا أنهم ليسوا في صلاة، وهذا فاسد؛ لأنهم كلموه بعد قوله عليه الصلاة والسلام "لم تقصر" وأجابوا أيضًا بأنهم لم ينطقوا، وإنما أومؤوا كما عند أبي داود في رواية ساق مسلم إسنادها. وهذا اعتمده الخطابى وقال: حمل القول على الإشارة مجاز سائغ بخلاف غيره، فينبغي أن ترد الروايات التي فيها التصريح بالقول إلى هذه. قلت: كيف يرد الصريح الذي في الصحيح إلى ما هو أضعف منه؟ وأجابوا أيضًا على ترجيح أنهم نطقوا بأن كلامهم كان جوابًا للنبي عليه الصلاة والسلام، وجوابه لا يقطع الصلاة، ورُدَّ هذا بأنه لا يلزم من وجوب الإجابة عدم قطع الصلاة، وأجيب بأنه ثبتت مخاطبته في التشهد وهو حي بقولهم "السلام عليك أيها النبي" ولم تفسد الصلاة، والظاهر أن ذلك من خصائصه.

قلت: هم في حالة التشهد، وإن كان اللفظ بصيغة الخطاب، لم يقصدوا خطابه، إذ لو قصدوه لجهروا له به ليُسمعوه. ويدل على ذلك استمراره بعد موته عليه الصلاة والسلام في البلاد النائية التي لا يمكن قصد الخطاب منها، بل إنما ورد اللفظ بالخطاب ليلة الإِسراء له عليه الصلاة والسلام من رب العزة، واستمر اللفظ على ما ورد عليه. قالوا: ويحتمل أن يقال: ما دام النبي -صلى الله عليه وسلم- يراجع المصلي، فجائز له جوابه حتى تنقضي المراجعة، فلا يختص الجواز بالجواب، لقول ذي اليدين: بلى قد نسيت، ولم تبطل صلاته. قلت: قول ذي اليدين جواب ليس بخارج عنه. وقالت الحنفية: لا يجوز الكلام في الصلاة إلاّ بالتكبير والتسبيح والتهليل وقراءة القرآن. ولا يجوز أن يتكلم فيها لأجل شيء حدث من الإِمام في الصلاة، والكلام يبطل الصلاة، سواءً كان عامدًا أو ناسيًا أو جاهلًا، وسواءً كان إمامًا أو منفردًا، وهو مذهب إبراهيم النخعيّ وقتادة وحماد بن أبي سليمان وعبد الله بن وهب وابن نافع من أصحاب مالك. واحتجوا في ذلك بحديث معاوية بن الحكم السلميّ، أخرجه مسلم مطولًا، وأخرجه أبو داود والنَّسائيّ، وفيه "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن" قالوا: إن هذا نص صريح في تحريم الكلام في الصلاة، سواء كان عامدًا أو ناسيًا، لحاجة أو غيرها، وسواء كان لمصلحة الصلاة أو غيرها، فإن احتاج إلى تنبيه إمام ونحوه سبّح إن كان رجلًا، وصفقت إن كانت امرأة. والتصفيق ضرب ظاهر إحدى يديها على باطن الأخرى. وقيل: بأصبعين من إحداهما على صفحة الأخرى للإنذار. وقالوا: إن حديث ذي اليدين الدال على إباحة الكلام لإصلاح الصلاة كان قبل تحريم الكلام في الصلاة، وهذا مردود لأنه اعتمد قول الزهريّ إنها كانت، أي قصة ذي اليدين، قبل بدر. وهو وهم: أو تعددت القصة لذي الشِّمالين المقتول ببدر، ولذي اليدين الذي تأخرت وفاته بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-. فقد ثبت شهود أبي هريرة للقصة وإسلامه متأخر،

وشهدها عمران بن حصين، وإسلامه متأخر أيضًا. وروى معاوية بن حُديج، بمهملة وجيم مصغر، قصة أخرى في السهو، ووقع فيها الكلام ثم البناء، أخرجها أبو داود وابن خزيمة وغيرهما. وكان إسلامه قبل موت النبي -صلى الله عليه وسلم- بشهرين. وقال ابن بطال: يحتمل أن يكون قول زيد بن أرقم "ونُهينا عن الكلام" أي إذا وقع سهوًا أو محمدًا لمصلحة الصلاة، فلا يعارض قصة ذي اليدين. واستدل بالحديث على أن المقدَّر في حديث "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" أي إثمهما وحكمهما، خلافًا لمن قصره على الإثم. وقوله: لنبأتكم به، أي بالحدوث، واللام في "لنبأتكم" لام الجواب، ومفعوله الأول ضمير المخاطبين، والثاني به، وفيه أنه كان يجب عليه تبليغ الأحكام إلى الأمة، ودل على عدم تأخير البيان عن وقت الحاجة. وقوله: ولكن إنما أنا بشر مثلكم، يعني بالنسبة إلى الاطلاع على بواطن المخاطبين، لا بالنسبة إلى كل شيء. وقوله: أنسى كما تنسَون، بهمزة مفتوحة وسين مخففة، ومن قيده بضم أوله وتشديد ثالثه لم ينايسب التشبيه، وفي هذا حجة لمن قال إن السهو جائز على الأنبياء فيما طريقه التشريع: وإن كان عياض نقل الإجماع على عدم جواز دخول السهو في الأقوال التبليغية، وخص الخلاف بالأفعال، لكنهم تعقبوه، وشذت طائفة فقالوا: لا يجوز على النبي السهو، وهذا الحديث يرد عليهم، لقوله -صلى الله عليه وسلم- فيه "أنسى كما تنسون". وقوله: فإذا نسيت فذكرِّوني، وقوله فيه: إنما أنا بشرٌ مثلكم أنسى كما تنسون، فأثبت العلة قبل الحكم، وقيد الحكم بقوله: إنما أنا بشر، ولم يكتف بإثبات وصف النسيان حتى دفع قول من عساه يقول: ليس نسيانه كنسياننا، فقال: كما تنسون، ولكن اتفق من جوز ذلك عليه على أنه لا يُقَرّ عليه، بل يقع له بيان ذلك إما متصلًا بالفعل، أو بعده، كما وقع في حديث ذي اليدين من قوله "لم أنس ولم تقصر" ثم تبين أنه نسي. ومعنى قوله في هذا الحديث "لم أنس" أي في اعتقادي، لا في نفسي الأمر. ويستفاد منه أن الاعتقاد عند فقد اليقين يقوم مقام اليقين. وفائدة جواز السهو في مثل ذلك بيان الحكم الشرعي إذا وقع مثله لغيره.

وأجاب من منع السهو مطلقًا عن حديث ذي اليدين بأجوبة، فقيل: قوله "لم أنس" نفي للنسيان، ولا يلزم منه نفي السهو، وهذا قول من فرَّق بينهما، والتفرقة بينهما مردودة، ويكفي من ردها إضافته -صلى الله عليه وسلم- النسيان لنفسه في قوله "أنسى" وإقراره للصحابيّ في قوله "بلى قد نسيت". وقيل: قوله "لم أنس" على ظاهره وحقيقته، وكان يتعمد ما يقع منه من ذلك، ليقع التشريع منه بالفعل، لكونه أبلغ من القول، وتعقب هذا بحديث ابن مسعود في الباب، ففيه "إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون" فأثبت العلة قبل الحكم ... إلخ ما مرَّ قريبًا. وبهذا الحديث يرد قول من قال: معنى قوله "لم أنس" إنكار اللفظ الذي نفاه عن نفسه، حيث قال "إني لا أنسى ولكن أُنَسَّى" وإنكار اللفظ الذي أنكره على غيره، حيث قال: "بئسما لأحدكم أن يقول نسيتُ آية كذا وكذا" وتعقب هذا بأن حديث "إني لا أنسى ولكن أُنَسَّى" من بلاغات مالك التي لم توجد موصولة بعد البحث الشديد. قاله في الفتح. قلت: البلاغات التي لم توصل أربعة لم يصلها ابن عبد البر، ووصل جميع ما في الموطأ من البلاغات سواها, ولكن وصلها ابن الصلاح في تأليف مستقل، كما ذكره صالح العمريّ الفِلاَّني في حواشيه على ألفية السيوطي في مصطلح الحديث. ثم قال: وأما الآخر، فلا يلزم من ذم إضافته نسيان الآية ذمَّ إضافة نسيان كل شيء، فإن الفرق بينهما واضح جدًا. وقيل: إن قوله "لم أنس" راجع إلى السلام، أي سلمت قصدًا بانيًا على ما في اعتقادي أني صليت أربعًا، وهذا جيد، وكأنَّ ذا اليدين فهم العموم فقال: بلى قد نسيت، وكان هذا القول أوقع شكًا احتاج معه إلى استثبات الحاضرين، وبهذا التقرير يندفع إيراد من استشكل كونُ ذي اليدين عدلًا، ولم يقبل خبره بمفرده، فسبب التوقف فيه كونه أخبر عن أمر يتعلق بفعل المسؤول مغايرٍ لما في اعتقاده. وقوله: وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب، فليتم عليه. ولمسلم "فأيكم شك في صلاته فلينظر أحرى ذلك إلى الصواب" وفي روايته له "فليتحرَّ

أقرب ذلك إلى الصواب" وفي رواية له "فليتحر الذي يرى أنه الصواب" زاد ابن حبَّان "فليتم عليه" واختلف في المراد بالتحري فعند المالكية والشافعية هو البناء على اليقين لا على الأغلب, لأن الصلاة في الذمة بيقين، فلا تسقط إلاّ بيقين، ويفسر التحري المذكور هنا حديث أبي سعيد عند مسلم بلفظ "وإذا لم يدر أصلّى ثلاثًا أو أربعًا فليطرح الشك، ولْيَبْنِ على ما استيقن" وفي جامع سفيان عن ابن عمر قال "إذا شك أحدكم في صلاته فليتوخَّ حتى يعلم أنه قد أتم". وقالت الحنفية: التحري هو الأخذ بغالب الظن، ولا يلزمه الاقتصار على الأقل إلا إذا تحرى ولم يقع تحريه على شيء، فإنه يبني حينئذ على الأقل. قال أبو حنيفة: إن طرأ شك أولًا استأنف، وإن كثر بني على غالب ظنه، وإلاّ فعلى اليقين، وما ذهبوا إليه هو ظاهر الروايات التي عند مسلم. وعن أحمد في المشهور: التحري يتعلق بالإمام، فهو الذي يبني على ما غلب على ظنه، وأما المنفرد فيبني على اليقين دائمًا، وعن أحمد رواية أخرى كالشافعية، وأخرى كالحنفية. وحكى الأثرم عن أحمد في معنى قوله -صلى الله عليه وسلم- "لا غرار في صلاة" قال: أن لا يخرج منها إلا على يقين، وهذا يقوّي ما ذهبت إليه المالكية. ونقل النوويّ أن الجمهور معهما، وأنّ التحري هو القصد. قال تعالى {فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} [الجن: 14]. وقال ابن حبّان في صحيحه: البناء غير التحري، فالبناء أن يشك في الثلاث أو الأربع مثلًا، فعليه أن يلغي الشك، والتحري أن يشك في صلاته فلا يدري ما صلى، فعليه أن يبني على الأغلب عنده. وقال غيره: التحري لمن اعتراه الشك مرة بعد أخرى، فيبنى على غلبة ظنه، وبه قال مالك وأحمد. وأبعد من زعم أن التحري في الخبر مُدْرَج من كلام ابن مسعود، أو ممن دونه، لتفرد منصور بذلك عن إبراهيم دون رفقته, لأن الإدراج لا يثبت بالاحتمال. وقوله: ثم يسلم ثم يسجد سجدتين، أي لا واحدة. كالتلاوة، وعبر بلفظ الخبر في هذين الفعلين، وبلفظ الأمر في السابقين، وهما فليتحرَّ، وليتمَّ،

رجاله ستة

لأنهما كانا ثابتين يومئذ، بخلاف التحري والإتمام، فإنهما ثبتا بهذا الأمر. ولأبي ذَرٍّ "يُسَلّم" بغير لام، وللأصيلي "وليسجد" بلام الأمر. واستدل بالحديث على من صلى خمسًا ساهيًا ولم يجلس في الرابعة أن صلاته لا تفسد، خلافًا للحنفية والكوفيين. وقولهم على أنه قعد في الرابعة يحتاج إلى دليل. والسياق يرشد إلى خلافه. ودل أيضًا على أن الزيادة في الصلاة سهوًا لا تبطلها، وقيدته المالكية بما إذا لم يزد عليها مثلها في الرباعية والثنائية الأصلية، وإلا بطلت. وأما الثلاثية فلا يبطلها إلا زيادة أربع، وصلاة القصر لا تبطل إلا بست. ودل أيضًا على أن مَنْ لم يعلم بسهوه إلا بعد السلام يسجد لسهوه. وهذا دليل عند الشافعية القائلين بأن السجود كله قَبْليّ. وأما عندنا معاشر المالكية، فالسجود في محله، فإن طال الفصل فالأصح عند الشافعية أنه يفوت محله، وعند المالكية البعديُّ لا يفوت تداركه ولو بعد سنة. والقبلي يفوت بالطول، وهو الخروج من المسجد لمن خرج، وبالعُرف لمن لم يخرج منه. واختلفت الشافعية في قدر الطول المانع من البناء، فعند الشافعي في الأم بالعُرف، وقال البويطيّ: قدر ركعة، وعن أبي هريرة قدر الصلاة التي يقع السهو فيها. رجاله ستة: الأول: عثمان بن أبي شيبة، وقد مرَّ هو وجرير بن عبد الحميد ومنصور بن المعتمر في الثاني عشر من كتاب العلم، ومرَّ إبراهيم بن يزيد النخعيّ وعلقمة بن قيس في الخامس والعشرين من كتاب الإيمان، ومرَّ عبد الله بن مسعود في الأثر الثالث من كتاب الإيمان، قبل ذكر حديث منه. لطائف إسناده: التحديث فيه بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في ثلاثة مواضع، وفيه القول، ورواته كلهم كوفيون، وأئمة أجِلاّء, وإسناده من أصح الأسانيد. أخرجه البخاريّ هنا وفي النذر عن إسحاق، ومسلم والنَّسائيّ وابن ماجه في الصلاة. ثم قال المصنف:

باب ما جاء في القبلة ومن لم ير الإعادة على من سها فصلى إلى غير القبلة

باب ما جاء في القبلة ومن لم ير الإعادة على من سها فصلى إلى غير القبلة أي هذا باب في بيان ما جاء في أمر القبلة، وهو بخلاف ما تقدم قبل الباب، فإن ذلك في حكم التوجه إلى القبلة، وهذا في حكم من سها فصلى إلى غير القبلة، وأصل هذه المسألة في المجتهد في القبلة إذا صلى به فتبين الخطأ في الجهة في الوقت أو بعده. فقال أبو حنيفة وإبراهيم النخعيّ والثوريّ: لا يجب عليه القضاء، وكذلك قال مالك، إلا أنه تندب عنده الإعادة في الوقت؛ لأن جهة تحريه هي التي خوطب باستقبالها حالة الاشتباه، فأتى بالواجب عليه، فلا تجب عليه الإعادة. وقال الشافعيّ: يعيد إذا تبين الخطأ. وقال أبو الحسن المراديّ من الحنابلة في "تنقيح المقنع" ومن صلى بالاجتهاد سفرًا فأخطأ لم يُعد، فإن تبين الخطأ في الصلاة وجب استئنافها عند الشافعية والمالكية إذا كان الانحراف كثيرًا بأنْ استدبر القبلة وكان بصيرًا، وإن كان أعمى مطلقًا أو بصيرًا منحرفًا يسيرًا استدار إلى القبلة ويستدير إلى القبلة ويبني على ما مضى عند الحنفية، وهو قول للشافعية, لأن أهل قُباء لما بلغهم نسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة استداروا في الصلاة إليها. واستدل من لم يوجب الإعادة بما رواه الترمذيّ وابن ماجه عن عامر بن ربيعة قال: "كنا في سفر مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فغيمت السماء، وأشكلت علينا القبلة، فصلينا وأعلمنا، فلما طلعت الشمس إذا نحن قد صلينا إلى غير القبلة، فذكرنا ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فأنزل الله تعالى {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] ". وروى البيهقيّ في المعرفة عن جابر أنهم صلوا في ليلة مظلمة كل رجل منهم على حياله، فذكروا ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "مضت صلاتكم" ونزلت: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] لكن قال التِّرمذيّ في حديثه: إسناده ليس بذاك. وقال البيهقيّ: حديث جابر ضعيف، وأخرج الحاكم حديث التِّرمذيّ وصححه.

ثم قال: وقد سلم النبي -صلى الله عليه وسلم- في ركعتي الظهر، وأقبل على الناس بوجهه ثم أتم ما بقي. ومناسبة التعليق للترجمة من جهة أن بناءه على الصلاة دال على أنه في حال استدباره القبلة كان في حكم المصلى، ويؤخذ منه أن من ترك الاستقبال ساهيًا لا تبطل صلاته، والتعليق طرف من حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين، وهو موصول في الصحيحين من طرق، لكن قوله "وأقبل على الناس" ليس في الصحيحين بهذا اللفظ، لكنه موصول في الموطأ عن أبي هُريرة، ووهم ابن التين تبعًا لابن بطّال حيث جزم بأنه طرف من حديث ابن مسعود الماضي, لأن حديث ابن مسعود ليس في شيء من طرقه أنه سلّم من ركعتين. وفيه جواز البناء على الصلاة لمن أتى بالمنافي سهوًا. وقال سُحْنون: إنما يبني من سلّم من ركعتين كما في قصة ذي اليدين, لأن ذلك وقع على غير القياس، فيقتصر فيه على مورد النص، وألزم بقصر ذلك على إحدى صلاتي العشي، فيمنعه في الصبح مثلًا، والذين قالوا بالبناء مطلقًا قيدوه بما إذا لم يطل، وقد مر حده عند المالكية والشافعية في الحديث السابق.

الحديث العاشر

الحديث العاشر حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ قَالَ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ عُمَرُ: وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلاَثٍ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اتَّخَذْنَا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى فَنَزَلَتْ {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} وَآيَةُ الْحِجَابِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَمَرْتَ نِسَاءَكَ أَنْ يَحْتَجِبْنَ، فَإِنَّهُ يُكَلِّمُهُنَّ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ. فَنَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ، وَاجْتَمَعَ نِسَاءُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي الْغَيْرَةِ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ لَهُنَّ: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبَدِّلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ. قوله: وافقت ربي في ثلاث، أي ثلاث قضايا أو ثلائة أمور، ولم يؤنث ثلاثًا بالتاء مع أن الأمر مذكر, لأن التمييز إذا لم يذكر يجوز في لفظ العدد التذكير والتأنيث، والمعنى: وافقني ربي فأنزل القرآن على وفق ما رأيت، لكن لرعاية الأدب أسند الموافقة إلى نفسه، أو أشار به إلى حدث رأيه وقدم الحكم. وقال صاحب "اللامع" لا يحتاج إلى ذلك, لأن من وافقك فقد وافقته. قلت: الأمر كذلك، ولكن الطارىء العلم، والكلام هو الذي حصلت منه الموافقة، وليس في تخصيصه العدد ما ينفي الزيادة عليها, لأنه حصلت له الموافقة في أشياء غير هذه، وقف على خمسة عشر منها بالتعيين، من مشهورها قصة أُسارى بدر، حيث كان رأيه أن لا يُفدون، فنزل {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [الأنفال: 67] ومنها في منع الصلاة على المنافقين، فنزل {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة: 84] وهما في الصحيح ومنها ما رواه أبو داود في قوله تعالى {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون:

12] إلى قوله {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14] قال: وافقت ربي، فقلت أنا: تبارك الله أحسن الخالقين، فنزلت كذلك. ومنها في تحريم الخمر، ومنها في شأن عائشة رضي الله تعالى عنها لما قال أهل الإفك ما قالوا، فقلت: يا رسول الله، من زوجكها؟ فقال: الله تعالى، فقلت: أفتنظر أنّ ربك دلّس عليك فيها {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16] فأنزل الله ذلك. وصحح الترمذي من حديث ابن عمر ما نزل بالناس أمر قط، فقالوا فيه وقال فيه عمر رضي الله تعالى عنه، إلا نزل فيه القرآن على نحو ما قال عمر. وقوله: لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، يجوز أن يكون لو للتمني، فلا يحتاج إلى جواب، ويحتمل أن يكون للشرط محذوف الجواب، أي لكان صوابًا، أو نحو ذلك، وقيل هي لو المصدرية، أغنت عن فعل التمني. قال ابن الجوزي: إنما طلب عمر الاستنان بإبراهيم عليه السلام مع النهي عن النظر في كتاب التورية، لأنه سمع قول الله تعالى في حق إبراهيم {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124] وقوله تعالى {وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123] فعلم أن الائتمام بإبراهيم من هذه الشريعة، ولكون البيت مضافًا إليه، وأن أثر قدميه في المقام كرقم الباني في البناء، ليذكر به بعد موته، فرأى الصلاة عند المقام كقراءة الطائف بالبيت اسم من بناه، وهي مناسبة لطيفة. وقد استوفي الكلام على مقام إبراهيم في باب قوله {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]. وقوله: وآية الحجاب، برفع آية على الابتداء والخبر محذوف، أي كذلك، أو على العطف على مقدر، أي هو اتخاذ مصلى، وآية الحجاب، أو بالنصب على الاختصاص، أو بالجر عطفًا على مقدر بدل قوله "ثلاث" أي اتخاذ مصلى من مقام إبراهيم. وقوله: لو أمرت نساءك أنْ يحتجبن فإنه يكلمهن البَرّ والفاجر، بفتح الباء، أي الطائع والعاصي. وقوله: فنزلت آية الحجاب، وهي قوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} [الأحزاب: 59] وفي البخاري في سورة الأحزاب، فأنزل الله آية الحجاب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} [الأحزاب: 53] إلى قوله {مِنْ وَرَاءِ

حِجَابٍ} [الأحزاب: 53] وهذا هو الأَوْلى، وذكر هنا أن سبب نزول آية الحجاب كلام عمر، وأخرج في الأحزاب عن أنس أن سبب نزولها الذين جلسوا يتحدثون يوم وليمة زينب بعد خروج الناس، وتكرر خروج النبي -صلى الله عليه وسلم- ودخوله، ولم يخرجوا إلا بعد بطء، وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: دخل رجل على النبي -صلى الله عليه وسلم- فأطال الجلوس، فخرج عليه الصلاة والسلام ثلاث مرات ليخرج، فلم يفعل، فدخل عمر فرأى الكراهية في وجهه، فقال للرجل: لعلك آذيت النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لقد قمت ثلاثًا لكي يتبعني فلم يفعل. فقال له عمر: يا رسول الله، لو اتخذت حجابًا، فإن نساءك لسن كسائر النساء، وذلك أطهر لقلوبهن، فنزلت آية الحجاب. وهذا الحديث يجمع بين السببين المذكورين، فيكون هذا الرجل الذي أطال الجلوس في وليمة زينب ودخل عليه عمر، وقال ما قال. ولم يذكر أنس في حديثه دخول عمر على الرجل المطيل للجلوس، وإذا لم يحصل هذا الجمع فحديث أنس المباشر أرجح من الذي رواه عن عمر. قال عياض: فرض الحجاب مما اختصصن به، فهو فرض عليهنّ بلا خلاف في الوجه والكفين، فلا يجوز لهن كشف ذلك لا في شهادة ولا في غيرها, ولا إظهار شخوصهن، وإن كن مستترات، إلا ما دعت إليه ضرورة من براز. واستدل بما في الموطأ أن حفصة، لما توفي عمر، سترها النساء عن أن يُرى شخصها، وأن زينب بنت جحش جعلت لها القُبة فوق نَعشها. قال في الفتح: وليس فيما ذكره دليلٌ على ما ادعاه من فرض ذلك عليهن، وقد كنّ بعد النبيّ -صلى الله عليه وسلم- يحججن ويطفن، وكان الصحابة، ومن بعدهم، يسمعون منهن الحديث وهن مستترات الأبدان لا الأشخاص. وقد أخرج في الحج قول ابن جُريج لعطاء، لما ذكر له طواف عائشة "أَقَبْل الحجاب أو بعده؟ " قال: قد أدركت ذلك بعد الحجاب. وقد ورد لنزول الحجاب سبب أخرجه النَّسائيّ عن عائشة بلفظ "كنت آكل مع النبي -صلى الله عليه وسلم- حَيْسًا في قَعْب، فمر عمر فدعاه، فأكل، فأصاب أصبعه أصبعي

فقال: حَسّ أو أَوْهِ، لو أطاعَ فيكنَّ ما رأتكنَّ عين، فنزلت آية الحجاب. ولا مانع من تعدد الأسباب، وهو الظاهر من الأحاديث المذكورة. وقوله: واجتمع نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- في الغَيْرة عليه، وهي بفتح الغين المعجمة وسكون التحتانية. قال عياض: هي مشتقة من تغير القلب وهيجان الغضب بسبب المشاركة فيما به الاختصاص، وأشد ما يكون ذلك بين الزوجين. وقيل المغيرة في الأصل الحميَّة والأنفة، وهو تصير بلازم التغير، فيرجع إلى الغضب. وقوله: أزواجًا خيرًا منكن، ليس فيه دليل على أن في النساء من هو خير منهن؛ لأن المعَلق بما لم يقع لا يجب وقوعه، فالآية واردة في الإخبار عن القدرة لا عن الكون في الوقت, لأن الله تعالى قال {إِنْ طَلَّقَكُنَّ} [التحريم: 5]، وقد علم أنه لا يطلقهن، واختلف في سبب اجتماعهن في المغيرة، فقيل: قصة شرابه عند حفصة أو زينب بنت جحش، كما أخرجه البخاريّ في كل واحدة منهما، وقيل: السبب مواقعته لماريّة كما أخرجه ابن إسحاق. وأخرج ابن مردويه ما يجمع القولين. ففيه أن حفصة أهديت لها عُكّة فيها عَسَل، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل عليها حبسته حتى تُلْعِقه أو تسقيه منها، فقالت عائشة لجارية عندها حبشية، يقال لها خضراء: إذا دخل على حفصة فانظري ما يصنع، فأخبرتها الجارية بشأن العسل، فأرسلت إلى صواحبها فقالت: إذا دخل عليكن فقلن: انا نجد منك ريح مغافير. فقال: هو عسل، فوالله لا أطعمه أبدًا، فلما كان يوم حفصة، استأذنته أن تأتي أباها، فأذن لها فذهبت، فأرسل إلى جاريته مارية فأدخلها بيت حفصة، قالت حفصة: فرجعت فوجدت الباب مغلقًا، فخرج ووجهه يقطر وحفصة تبكي، فعاتبته، فقال: أشهدك أنها عليّ حرام. انظري، لا تخبري بهذا امرأة، وهي عندك أمانة، فلما خرج قرعت حفصة الجدار الذي بينها وبين عائشة، فقالت: ألا أبشرك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد حرم أَمته، فنزلت. وعند ابن سعد عن ابن عباس "خرجت حفصة من بيتها يوم عائشة، فدخل رسول الله بجاريته القبطية بيت حفصة، فجاءت فرقبته حتى خرجت الجارية،

فقالت له: أما إني قد رأيت ما صنعت. قال: فكتمي عليّ، وهي عليّ حرام، فانطلقت حفصة إلى عائشة فأخبرتها، فقالت له عائشة: أما يومي فتُعرس فيه بالقِبطية ويسلم لنسائك سائر أيامهن؟ فنزلت الآية. وجاء في ذلك قول ثالث أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس قال: دخلت حفصة على النبي -صلى الله عليه وسلم- بيتها، فوجدت معه مارية، فقال: لا تخبري عائشة حتى أبشرك ببشارة أن أباك يلي هذا الأمر بعد أبي بكر إذا أنا متّ، فذهبت إلى عائشة فأخبرتها، فقالت له عائشة ذلك، والتمست منه أن يحرم مارية، وحرمها، ثم جاء إلى حفصة فقال: أمرتك أن لا تخبري عائشة، فأخبرتها فعاتبها, ولم يعاتبها على أمر الخلافة، ولهذا قال الله تعالى {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} [التحريم: 3]. وجاء في سبب غضبه منهن وحلفه أن لا يدخل عليهن شهرًا، ما أخرجه ابن سعد عن عمرة عن عائشة قالت: أهديت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- هَدية، فأرسل إلى كل امرأة من نسائه نصيبها، فلم ترض زينب بنت جحش بنصيبها، فزادها مرة أخرى فلم ترض، فقالت عائشة: لقد أقمات وجهك؛ ترد عليك الهدية؟ فقال: "لأنتنَّ أهون على الله من أن تقمئنني، لا أدخل عليكن شهرًا". وفي رواية عُروة عنها "ذبحٍ ذبحًا فقسمه بين نسائه، فأرسل إلى زينب نصيبها، فردته، فقال: زيدوها ثلاثًا، كل ذلك ترده"، فذكر نحوه. وفيه قول آخر أخرجه مسلم عن جابر قال: "جاء أبو بكر والناس جلوس بباب النبي -صلى الله عليه وسلم-، لم يؤذن لأحد منهم، فأذن لأبي بكر، فدخل ثم جاء عمر، فاستأذن فأذن له، فوجد النبي -صلى الله عليه وسلم- جالسًا وحوله نساؤه .... " فذكر الحديث، وفيه "هنّ حولي كما ترى يسألنني النفقة" فقام أبو بكر إلى عائشة، وقام عمر إلى حفصة، ثم اعتزلهن شهرًا، فنزلت آية التخيير. والراجح من الأقوال كلها قصة مارية لاختصاص عائشة وحفصة بها، بخلاف العسل، فإنه اجتمع فيه جماعة منهن كما سيأتي إن شاء الله تعالى،

رجاله أربعة

ويحتمل أن يكون مجموع هذه الأشياء سببًا لاعتزالهن، وهذا هو اللائق بمكارم أخلاقه -صلى الله عليه وسلم-، وسعة صدره وكثرة صفحه، وإن ذلك لم يقع منه حتى تكرر موجبه منهن، -صلى الله عليه وسلم-، ورضي عنهن. ويؤيد هذا شمول الحلف للجميع، ولو كان مثلًا في قصة مارية لاختص بحفصة وعائشة، وقد وقع التصريح بأن آية التخيير نزلت بعد فراغ الشهر الذي اعتزلهن فيه جميعًا، فقد أخرج الطبريّ والطحاويّ عن عائشة قالت "لما نزل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى نسائه أمران يخيرهن ... " الحديث. وأخرج مسلم عن ابن عباس عن عمر قال: "لما اعتزل النبي -صلى الله عليه وسلم- نساءه دخلت المسجد .. " الحديث بطوله. وفي آخره قال: وأنزل الله آية التخيير. وهذا المنزع قد مرَّ الكلام عليه مستوفى في باب التناوب في العلم فهو هنا مكرر. قال بعض العلماء: كان اللائق إيراد هذا الحديث في الباب الماضي، وهو قوله تعالى {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] والجواب أنه عدل عنه إلى حديث ابن عمر للتنصيص فيه على وقوع الصلاة خلف المقام من فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، بخلاف حديث عمر هذا، فليس فيه التصريح بذلك، ومناسبة الحديث للترجمة هي كما قال الكرمانيّ، أن المراد من الترجمة في القبلة وما يتعلق بها، فأما على قول من فسر مقام إبراهيم بالكعبة، فظاهر، أو بالحرم كله "فمِنْ" في قوله {مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ} للتبعيض، ومصلى أي قبلة، أو بالحجر الذي وقف عليه إبراهيم، وهو الأظهر، فيكون تعلقه بالمتعلق بالقبلة لا بنفس القبلة. وقال ابن رشيد الذي يظهر لي أن تعلق الحديث بالترجمة الإشارة إلى موضع الاجتهاد في القبلة, لأن عمر اجتهد في أن اختار أن يكون المصلى إلى مقام إبراهيم الذي هو في وجه الكعبة، فاختار إحدى جهات القبلة بالاجتهاد، وحصلت موافقته على ذلك، فدل على تصويب اجتهاد المجتهد إذا بذل وسعه. قال في الفتح: ولا يخفى ما فيه. رجاله أربعة: الأول: عمرو بن عون بن أوس بن الجَعْد، أبو عثمان الواسطيّ البزّاز،

لطائف إسناده

الحافظ مولى أبي العَجفاء السلميّ، سكن البصرة. قال يحيى بن مَعين: حدثنا عمرو بن عون وأطنب في الثناء عليه. وقال العجلى: ثقة، وكان رجلًا صالحًا. وقال يزيد بن هارون: عمرو بن عون ممن يزداد كل يوم خيرًا. وقال أبو زرعة: قَلَّ من رأيت أثبت منه. وقال أبو حاتم: ثقة حجة، وكان يحفظ حديثه. وذكره ابن حبّان في الثقات وفي الزهرة. روى عنه البخاريُّ أحد عشر حديثًا، روى عن الحمّادين وهُشيم وشريك وأبي عَوانة ووكيع وابن أبي زائدة وغيرهم. وروى عنه البخاريّ وأبو داود، وروى البخاريّ أيضًا والباقون له بواسطة، ويحيى بن مَعين وأبو زرعة وأبو حاتم ويعقوب بن شيبة وغيرهم. مات سنة خمس وعشرين ومئتين، وليس في الستة عمرو بن عون سواه. والثاني: هُشيم بن بشير، وقد مر في الثاني من كتاب التيمم، ومر حميد الطويل في الثاني والأربعين من كتاب الإيمان، ومر أنس بن مالك في السادس منه، ومر عمر بن الخطاب في الأول من بدء الوحي. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في موضعين، وفيه القول، ورواته ما بين واسطيّ وبصريّ. وفيه رواية صحابيّ عن صحابيّ. أخرجه البخاريّ هنا وفي التفسير مرتين عن عمرو بن عون ومسدد، والتِّرمذيّ والنَّسائيّ في التفسير، وابن ماجه في الصلاة. ثم قال: وقال ابن أبي مريم: أخبرنا يحيى بن أيوب قال: حدثني حميد قال: سمعت أنسًا بهذا. وفائدة إيراد هذا الإِسناد وما فيه من التصريح بسماع حُميد من أنس، فأمن من تدليسه. وقوله: بهذا، إسنادًا ومتنًا، فهو من رواية أنس عن عمر، لا من روايته عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. وتعقب بعضهم تلك الفائدة بان يحيى بن أيوب لم يحتج له البخاريّ وإنْ خرج له في المتابعات. والجواب أن هذا من جملة المتابعات، ولم ينفرد يحيى بن أيوب بالتصريح المذكور، فقد أخرجه الإسماعيلي من رواية أبي يوسف القاضي عن أبي الربيع الزهراني عن هشيم، أخبرنا حميد حدثنا أنس.

رجاله أربعة

رجاله أربعة: وابن أبي مريم قد مرَّ في الرابع والأربعين من كتاب العلم، ومرَّ حميد في الثاني والأربعين من كتاب الإيمان, ومرَّ أنس بن مالك في السادس منه، ويحيى بن أيوب يحتمل أن يكون المقابريّ، وقد مرَّ في التعليق الثاني بعد الحديث الثاني من أبواب استقبال القبلة، وهذا هو الظاهر, لأن هذا مثل التعليق المار عنه. وقال العينيّ: يحيى بن أيوب الغافقي أبو العباس المصريّ قال أحمد: سيء الحفظ، وهو دون حَيْوة وسعيد بن أيوب، وقال ابن مَعين: صالح، وقال مَرة: ثقة، وقال أبو حاتم: هو أحب اليّ من أبي الموالي، ومحله الصدق، يكتب حديثه، ولا يحتج به. وقال أبو داود: صالح. وقال النَّسائيّ: لا بأس به. وقال مَرة: ليس بالقوي. وذكره ابن حِبّان في الثقات. وقال ابن يونس: كان أحد طَلاّبي العلم في الآفاق، وحدث عنه الغرباء أحاديث ليست عند أهل مصر. وقال ابن سعد: منكر الحديث، وقال الدارقطنيّ: في بعض حديثه اضطراب. وقال يعقوب بن سفيان: كان ثقةً حافظًا. وقال الإسماعيليّ: لا يحتج به، وقال ابن شاهين في الثقات: له أشياء يخالف فيها، وقال أحمد بن صالح: كان يحيى بن أيوب من وجوه أهل البصرة، وربما خل في حفظه. وقال إبراهيم الحربيّ: ثقة. وقال الساجيّ: صدوق يهم. كان أحمد يقول: يحيى بن أيوب يخطىء خطأ كثيرًا. وقال الحاكم: أبو أحمد إذا حدث من حفظه يخطىء، وما حدث من كتاب فليس به بأس. وذكره العقيليّ في الضعفاء وقال ابن عدي: لا أرى في حديثه، إذا حدّث عن ثقة، حديثًا منكرًا، وهو عندي صدوق لا بأس به. قال ابن حجر في مقدمته: استشهد به البخاري في عدة أحاديث من روايته عن حُميد الطويل، ما له عنده غيرها، سوى حديثه عن يزيد بن أبي حبيب في صفة الصلاة بمتابعة الليث وغيره، واحتج به الباقون. روى عن حُميد الطويل ويحيى بن سعيد

الأنصاريّ وعبد الله بن دينار وبكير بن الأشج وابن جُرَيج ومالك بن أنس وخلق وروى عنه شيخه ابن جُريج والليث وهو من أقرانه، وجرير بن حازم وابن وهب وابن المبارك وأشهب وزيد بن الحباب وسعيد بن أبي مريم وخلق. مات سنة ثمان وستين ومئة. والغافقيّ في نسبه نسبة إلى غافق، كصاحب، وهو أبو قبيلة من الأَزد، وهو ابن الشاهد بن عَك بن عدنان بن عبد الله بن الأزد، وإليهم ينسب الحصين. ولهم خطة بمصر أيضًا. ويقال: بل هو غافق بن الحارث بن عك بن عدنان، وغافق أيضًا حصن بالأندلس من أعمال فحْص البلوط، بينه وبين قرطبة مرحلتان. وقيل: إنه قصبة من رُستاق أُسقُفة بالأندلس، وهو أيضًا قصر قرب طرابلس الغرب.

الحديث الحادي عشر

الحديث الحادي عشر حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: بَيْنَا النَّاسُ بِقُبَاءٍ فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا، وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّامِ، فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَةِ. قوله: بينا الناس بقباء، بالمد والصرف وهو الأشهر، ويجوز فيه القصر، وعدم الصرف، وهو يذكر ويؤنث، موضعٌ معروف ظاهرَ المدينة. والمراد هنا مسجد أهل قباء. ففيه مجاز الحذف، واللام في الناس للعهد الذهنيّ، والمراد أهل قباء ومن حضر معهم وقوله: في صلاة الصبح، ولمسلم "في صلاة الغَداة" وهو أحد أسمائها، وقد نقل بعضهم كراهية تسميتها بذلك. وقوله: قد أنزل عليه الليلة قرآن، فيه إطلاق الليلة على بعض اليوم الماضي، والليلة التي تليه، مجازًا، والتنكير في قوله " قرآن" لإرادة البعضية، والمراد قوله تعالي {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144] وفي رواية الأصيليّ "القرآن" بأل التي للعهد، والمراد الآية المذكورة. وقوله: وقد أمر فيه أن ما يؤمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- يلزم أمته، وأن أفعاله يؤتسى بها كأقواله حتى يقوم دليل الخصوص. وقوله: فاستقبَلوها، أي بفتح الموحدة عند الجمهور، على أنه فعل ماض، أي فتحولوا إلى جهة الكعبة. وقوله: وكانت وجوههم إلى الشام، تفسير من الراوي للتحول المذكور، والضمير في "فاستقبلوها" بكسر الباء بصيغة الأمر لأهل قباء، ويؤيد رواية الكسر ما عند المصنف في التفسير بلفظ "وقد أمر أن يُسْتقبل القبلة، ألا فأستقبلوها". فدخول حرف الاستفتاح يشعر بأن الذي بعده أمر, لأنه بقية الخبر الذي قبله، وقد مرت مباحث هذا الحديث مستوفاة غاية الاستيفاء عند ذكر

رجاله أربعة

حديث البراء المماثل له، في باب الصلاة من الإيمان من كتاب الإيمان. رجاله أربعة: الأول: عبد الله بن يوسف، وقد مرَّ هو ومالك في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ عبد الله ابن دينار في الثاني من كتاب الإيمان، ومرَّ ابن عمر في الأثر الرابع منه قبل ذكر حديث منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد، والإخبار كذلك والعنعنة في موضعين، وفيه القول: ورجاله أئمة مشهورون. أخرجه البخاريّ هنا وفي التفسير عن يحيى بن قَزَعة، وفي خبر الواحد عن إسماعيل بن أبي أويس، ومسلم في الصلاة، والنَّسائيّ فيها وفي التفسير.

الحديث الثاني عشر

الحديث الثاني عشر حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ صَلَّى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- الظُّهْرَ خَمْسًا فَقَالُوا: أَزِيدَ فِي الصَّلاَةِ قَالَ: "وَمَا ذَاكَ؟ ". قَالُوا: صَلَّيْتَ خَمْسًا. فَثَنَى رِجْلَيْهِ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ. قد مرَّ هذا الحديث في الباب الذي قبله، ومرَّ الكلام عليه مستوفى غاية الاستيفاء، وتعلقه بالترجمة من قوله: قال وما ذاك؟ أي ما سبب هذا السؤال، وكان في تلك الحالة غير مستقبل القبلة سهوًا كما يظهرُ في الرواية الماضية من قوله: فثنى رجله واستقبل القبلة. رجاله سبعة: الأول: مسدد، وقد مرَّ هو ويحيى القطّان في السادس من كتاب الإيمان, ومرَّ شعبة في الثالث منه، ومرَّ إبراهيم بن يزيد وعلقمة بن قيس في الخامس والعشرين منه، ومرَّ عبد الله بن مسعود في الأثر الثالث منه. قبل ذكر حديث منه. ومرَّ الحكم بن عُتيبة في الثامن والخمسين من كتاب العلم، وهذا الحديث مضى عن قريب. ثم قال المصنف: أبواب المساجد: باب حك البزاق باليد من المسجد لما فرغ المؤلف من بيان أحكام القبلة شرع في بيان أحكام المساجد، فقال: باب ... إلخ، والبُزاق، بالزاي وبالصاد والسين. وقوله: حَكّ أي سواء كان بآلة أم لا، ونازع الإسماعيلي في ذلك فقال: قوله في الحديث "فحكه

بيده" أي تولى ذلك بنفسه لا أنه باشر بيده النخامة. ويؤيد ذلك الحديث الآخر "أنه حكها بعُرجون" أخرجه أبو داود عن جابر، والمصنف مشى على ما يحتمله اللفظ، مع أنه لا مانع في القصة من التعدد.

الحديث الثالث عشر

الحديث الثالث عشر حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- رَأَى نُخَامَةً فِي الْقِبْلَةِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى رُؤيَ فِي وَجْهِهِ، فَقَامَ فَحَكَّهُ بِيَدِهِ فَقَالَ: "إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِي صَلاَتِهِ، فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ، أَوْ إِنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، فَلاَ يَبْزُقَنَّ أَحَدُكُمْ قِبَلَ قِبْلَتِهِ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ، أَوْ تَحْتَ قَدَمَيْهِ". ثُمَّ أَخَذَ طَرَفَ رِدَائِهِ فَبَصَقَ فِيهِ، ثُمَّ رَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ، فَقَالَ: "أَوْ يَفْعَلْ هَكَذَا". قوله: عن أنس، في جميع الطرق بالعنعنة، لكن أخرجه عبد الرزاق فصرح بسماع حميد من أنس فأمن تدليسه. وقوله: نخامة، قيل هي ما يخرج من الصدر، وقيل النخاعة بالعين من الصدر، وبالميم من الرأس. وقوله: في القبلة، أي الحائط الذي من جهة القبلة. وقوله: حتى رؤي، أي شوهد في وجهه أثر المشقة. وللكشميهنيّ "حتى رِيء" بكسر الراء وسكون الياء. وللنَّسائيّ "فغضب حتى احمر وجهه". وللمصنف في الأدب "فتغيَّظ على أهل المسجد". وقوله: في صلاته، أي بعد شروعه فيها. وقوله: يناجي ربه، أي من جهة مساررته بالقرآن والأذكار، فالمناجاة من قبل العبد حقيقة النجوى، ومن قِبَل الرب لازم ذلك، فيكون مجازًا, لأن القرينة صارفة عن إرادة الحقيقة، إذ لا كلام محسوس إلا من جهة العبد، والمعنى إقباله عليه بالرحمة والرضوان. وقوله: أو أنَّ ربه بينه وبين القبلة، كذا بالشك للأكثر، وفي الرواية الآتية بعد خمسة كذلك بالشك، وللحموي والمستملي "وإن ربه" بواو العطف، والمعنى كما قال الخطابيّ: هو أن توجهه إلى القبلة مفضل بالقصد منه إلى ربه، فصار

في التقدير: كان مقصوده بينه وبين قبلته. وقيل هو على حذف مضاف، أي عظمة الله أو ثواب الله. وقال ابن عبد البر: هو كلام خرج على التعظيم لشان القبلة. وقد نزع به بعض المعتزلة القائلين بأن الله في كل مكان، وهو جهل واضح, لأن في الحديث أنه بزق تحت قدمه، وفيه الرد على من زعم أنه على العرش بذاته، فما تُؤول به هذا جاز أن يؤول به ذلك، وهذا التعليل يدل على أن البزاق في القبلة حرام، سواء كان في المسجد أم لا, ولاسيما من المصلّي، فلا يجري فيه الخلاف في أن كراهية البزاق في المسجد هل في للتنزيه أو للتحريم. وفي صحيحي ابن خزيمة وابن حبّان عن حُذيفة مرفوعًا "من تَفَلَ تجاه القبلة جاء يوم القيامة وتفله بين عينيه" وفي رواية لابن خزيمة عن ابن عمر مرفوعًا "يبعث صاحب النخامة في القبلة يوم القيامة، وهي في وجهه" ولأبي داود وابن حبّان عن السائب بن خَلاّد "أن رجلًا أمَّ قومًا فبصق في القبلة، فلما فرغ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لا يصلي لكم" فأراد بعد ذلك أن يصلي لهم، فمنعوه، وأخبروه بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-، فذكر ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام فقال: نعم، وحسبت أنه قال: إنك آذيت الله ورسوله. وفي رواية مسلم "ما بال أحدكم يقوم يستقبل ربه عز وجل، فيتنخع أمامه؟ أيحب أن يُسْتَقبل فيتنخَّعُ في وجهه؟ ... " الحديث. وقوله: فلا يبزقنَّ بنون التوكيد الثقيلة، وللأصيليّ "فلا يبزق" وقوله: قِبَل قبلته، بكسر القاف وفتح الموحدة، أي جهة قبلته. وقوله: أو تحت قدمه، بالإفراد، أي اليسرى كما في حديث أبي هريرة في الباب الذي بعده. وزاد أيضًا من طريق همّام عن أبي هريرة "فيدفنها" كما يأتي بعد أربعة أبواب. وقوله: ثم أخذ طرف ردائه ... إلخ، فيه البيان بالفعل، ليكون أوقع في نفس السامع. وظاهر قوله "أو يفعل هكذا" أنه غير بين ما ذكر، لكن يأتي بعد خمسة أبواب أن المصنف حمل هذا الأخير على ما إذا بدره البزاق، وعلى هذا فالحديث للتنويع.

رجاله أربعة

رجاله أربعة: الأول: قتيبة بن سعيد، وقد مرَّ في الثاني والعشرين من كتاب الإيمان، ومرَّ إسماعيل بن جعفر في السادس والعشرين منه، ومرَّ حُميد الطويل في الثاني والأربعين منه، ومرَّ أنس بن مالك في السادس منه. أخرجه البخاري هنا وفي باب "كفارة البزاق في المسجد" وفي باب "إذا بدره البزاق" وفي باب "لا يبصق عن يمينه في الصلاة" وفي باب "فليبصق عن يساره" وفي باب "ما يجوز من البزاق" وفي باب "المصلي يناجي ربه" وأخرجه مسلم وأبو داود والتِّرمذيّ والنَّسائيّ.

الحديث الرابع عشر

الحديث الرابع عشر حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ. أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَأَى بُصَاقًا فِي جِدَارِ الْقِبْلَةِ فَحَكَّهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: "إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي، فَلاَ يَبْصُقْ قِبَلَ وَجْهِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ قِبَلَ وَجْهِهِ إِذَا صَلَّى". قوله: رأى بصاقًا في جدار القبلة، وللمستملي "في جدار المسجد" وللمصنف في آخر الصلاة عن نافع "في قبلة المسجد" وزاد فيه "ثم نزل وحكها بيده" وهو مطابق للترجمة، وفيه إشعار بأنه كان في الخطبة، وصرح الإسماعيليّ بذلك في روايته، وزاد فيها "قال: وأحسبه دعا بزعفران فلطخه به" زاد عبد الرزاق عن أيوب "فلذلك صنع الزعفران في المساجد". وقوله: فإن الله قبل وجهه، يقال فيه ما قيل في قوله في الذي قبله: بينه وبين القبلة. رجاله أربعة: الأول: عبد الله بن يوسف، والثاني مالك، وقد مرا في الثاني من بدء الوحي، ومرّ نافع مولى ابن عمر في الثالث والسبعين من كتاب العلم، ومرَّ عبد الله بن عمر في كتاب الإيمان, قبل ذكر حديث منه. وهذا الحديث أخرجه البخاريّ أيضًا في الأدب، ومسلم والنَّسائيّ.

الحديث الخامس عشر

الحديث الخامس عشر حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَأَى فِي جِدَارِ الْقِبْلَةِ مُخَاطًا أَوْ بُصَاقًا أَوْ نُخَامَةً فَحَكَّهُ. قوله: مخاطًا أو بصاقًا أو نخامة فحكه، هو كذا في الموطأ بالشك، وللإسماعيليّ عن مالك "أو نخاعًا" بدل مخاطًا، وقد مرَّ الفرق بينهما قريبًا. رجاله خمسة: الأول: عبد الله بن يوسف، والإمام مالك، وهشام بن عروة، وأبوه عروة وعائشة أم المؤمنين، وقد مروا في الثاني من بدء الوحي. ثم قال المصنف: باب حك المخاط بالحصى من المسجد وجه المغايرة بين هذه الترجمة والتي قبلها من طريق الغالب، وذلك أن المخاط غالبًا له جرم لزج، فيحتاج في نزعه إلى معالجة، والبصاق لا يكون له ذلك، فيمكن نزعه بغير آلة، إلاّ إن خالطه بَلْغَم، فيلتحق بالمخاط هذا الذي يظهر من مراده. ثم قال: وقال ابن عباس: إنْ وطئت على قَذَر رَطْبٍ فاغسله، وإن كان يابسًا فلا. مطابقة التعليق للترجمة الإشارة إلى أن العلة العظمى في النهي احترام القبلة، لا مجرد التأذّي بالبصاق ونحوه، فإنه، وإن كان علة أيضًا، لكنَّ احترام القبلة فيه آكد، فلهذا لم يفرق فيه بين رطب ويابس، بخلاف ما علة النهي فيه مجرد الاستقذار، فلا يضر وطء اليابس منه. وابن عباس مرَّ في الخامس من بدء الوحي، وهذا التعليق وصله ابن أبي شيبة بسند صحيح. وقال في آخره وإن كان ناسيًا لم يضره.

الحديث السادس عشر

الحديث السادس عشر حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ وَأَبَا سَعِيدٍ حَدَّثَاهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَأَى نُخَامَةً فِي جِدَارِ الْمَسْجِدِ، فَتَنَاوَلَ حَصَاةً فَحَكَّهَا فَقَالَ: "إِذَا تَنَخَّمَ أَحَدُكُمْ فَلاَ يَتَنَخَّمَنَّ قِبَلَ وَجْهِهِ وَلاَ عَنْ يَمِينِهِ، وَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى". قوله: فتناول حصاة، هذا موضع الترجمة، ولا فرق في المعنى بين النخامة والمخاط، فلذلك استدل بأحدهما على الآخر. وقوله: فحكها, وللكشميهني "فحتها" بمثناة من فوق، وهما بمعنى. رجاله ستة: الأول: موسى بن إسماعيل، وقد مرَّ في الخامس من بدء الوحي، ومرَّ ابن شهاب في الثالث منه، ومرَّ إبراهيم بن سعد في السادس عشر من كتاب الإيمان، ومرَّ أبو هريرة في الثاني منه، ومرَّ أبو سعيد الخدريّ في الثاني عشر منه، ومرَّ حميد بن عبد الرحمن بن عوف في الثلاثين منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وبصيغة التثنية في موضع واحد، والإخبار بصيغة الجمع كذلك، والعنعنة كذلك، ورواته كلهم مدنيون ما خلا موسى بن إسماعيل. أخرجه البخاري هنا وفي الصلاة أيضًا عن علي بن عبد الله وغيره، ومسلم وابن ماجه في الصلاة. ثم قال: باب لا يبصق في الصلاة

الحديث السابع عشر

الحديث السابع عشر حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ وَأَبَا سَعِيدٍ أَخْبَرَاهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَأَى نُخَامَةً فِي حَائِطِ الْمَسْجِدِ، فَتَنَاوَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَصَاةً فَحَتَّهَا، ثُمَّ قَالَ: "إِذَا تَنَخَّمَ أَحَدُكُمْ فَلاَ يَتَنَخَّمْ قِبَلَ وَجْهِهِ وَلاَ عَنْ يَمِينِهِ، وَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ، أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى". أورد فيه الحديث الذي قبله من طريق أخرى، وحديث أنس عن قتادة عنه، وليس فيهما تقييد ذلك بحالة الصلاة، ولكنه في الرواية التي في الباب بعده، فجرى المؤلف على عادته في التمسك بما ورد في بعض طرق الحديث الذي يستدل به، وإن لم يكن ذلك في سياق حديث الباب. وكأنّه جنح إلى أن المطلق في الروايتين محمول على المقيد فيهما، وهو ساكت عن حكم ذلك خارج الصلاة. وقد جزم النووي بالمنع في كل حالة، داخل الصلاة وخارجها، سواء كان في المسجد أو غيره. وقد رُوي عن مالك أنه قال: لا بأس به خارج الصلاة، ويشهد للمنع ما رواه عبد الرزاق وغيره عن ابن مسعود أنه كره أن يبصق عن يمينه وليس في صلاة، وعن معاذ بن جبل قال ما بصقت عن يميني منذ أسلمت. وعن عمر بن عبد العزيز أنه نهى ابنه عنه مطلقًا. وقال عياض: النهي عن البصاق عن اليمين في الصلاة إنما هو مع إمكان غيره، فإن تعذر فله ذلك. قال في الفتح: لا يظهر وجود التعذر مع وجود الثوب الذي هو لابسه وقد أرشده الشارع إلى التفل فيه.

رجاله سبعة

قلت: يمكن وجود التعذر عند ضيق الثوب الملبوس، أو يكون لا رداء له. وقال الخطابيّ: إن كان عن يساره أحد فلا يبزق في واحد من الجهتين، لكن تحت قدمه أو ثوبه. ويرشد لهذا حديث طارق المحاربيّ عند أبي داود، فإنه قال فيه "أو تلقاء شمالك إن كان فارغًا، وإلا فهكذا، وبزق تحت رجله ودلك". ولعبد الرزاق عن عطاء عن أبي هُريرة نحوه، ولو كان تحت رجله مثلًا شيءٌ مبسوط أو نحوه تعين الثوب، ولو فقد الثوب مثلًا، فلعل بلعه أَولى من ارتكاب المنهي عنه. قلت: هذا تصوير للتعذر الذي قال عياض، وأنكره صاحب الفتح، فيكون عياض حينئذ أَولى عنده التفل عن اليمين وأمامُ، من الابتلاع، وهذا هو مشهور مذهب مالك. وأخذ المصنف كون حكم النخامة والبصاق واحدًا من كونه عليه الصلاة والسلام رأى النخامة، ونهى أن يبزق الرجل بين يديه، كما في الحديث الآتي في الباب الذي بعده، فدل على تساويهما. رجاله سبعة: الأول: يحيى بن بكير، وقد مرَّ هو والليث وعقيل وابن شهاب في الثالث من بدء الوحي، ومرَّ حميد بن عبد الرحمن في الثلاثين من كتاب الإيمان, ومرَّ أبو هريرة في الثاني منه، ومرَّ أبو سعيد في الثاني عشر منه أيضًا.

الحديث الثامن عشر

الحديث الثامن عشر حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي قَتَادَةُ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسًا قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يَتْفِلَنَّ أَحَدُكُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلاَ عَنْ يَمِينِهِ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ رِجْلِهِ". قوله: لا يتفلنَّ أحدكم، التفل بالمثناة من فوق، أخف من البزاق، والنفث بمثلثة آخره، أخف منه ثم النفخ. رجاله أربعة: الأول: حفص بن عمر، وقد مرَّ في الثالث والثلاثين من كتاب الوضوء ومرَّ شعبة في الثالث من كتاب الإيمان, ومرَّ قتادة وأنس في السادس منه. ثم قال المصنف: باب ليبصق عن يساره أو تحت قدمه اليسرى

الحديث التاسع عشر

الحديث التاسع عشر حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي الصَّلاَةِ فَإِنَّمَا يُنَاجِي رَبَّهُ، فَلاَ يَبْزُقَنَّ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلاَ عَنْ يَمِينِهِ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ". ومعنى المناجاة قد مرَّ في الحديث الأول من هذه الأحاديث. رجاله أربعة: الأول: آدم، وقد مرَّ هو وشعبة في الثالث من كتاب الإيمان, ومرَّ قتادة وأنس في السادس منه. وفي إسناده التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، وفيه التصريح بسماع قتادة عن أنس.

الحديث العشرون

الحديث العشرون حَدَّثَنَا عَلِيٌّ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ. أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَبْصَرَ نُخَامَةً فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ فَحَكَّهَا بِحَصَاةٍ، ثُمَّ نَهَى أَنْ يَبْزُقَ الرَّجُلُ بَيْنَ يَدَيْهِ أَوْ عَنْ يَمِينِهِ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى. المتن هو الذي مضى من وجهين آخرين عن الزهري غير مذكور فيهما سفيان بن عيينة، ولم يذكر، سفيانُ في روايته هذه، أبا هريرة كما هو مذكور في الروايتين السابقتين. وقوله: لكن عن يساره أو تحت قدمه، كذا للأكثر، وهو المطابق للترجمة، ولأبي الوقت "وتحت قدمه" بالواو. وعند مسلم "ولكن عن يساره تحت قدمه" بحذف أو وكذا للمصنف في آخر الصلاة، ورواية "أو" أعم، لكونها تشمل ما تحت القدم وغير ذلك. رجاله خمسة: الأول: علي بن عبد الله المَدينيّ، وقد مرَّ في الرابع عشر من كتاب العلم، ومرَّ سفيان بن عُيينة في الأول من بدء الوحي، ومرَّ الزهريّ في الثالث منه، ومرَّ حميد في الثلاثين من كتاب الإيمان, ومرَّ أبو سعيد في الثاني عشر منه. ثم قال: وعن الزهريّ، سمع حميدًا عن أبي سعيد نحو هذا موصول بالسند السابق. وقد تقدمت له نظائر، ووهم من زعم أنه معلق، وأراد المصنف أن يبين أن سفيان رواه مرة بالعنعنة ومرة صرح بسماع الزهري من حميد. قلت: وحيث إن الزهريّ ليس بمدلِّس أي حاجة إلى التصريح بسماعه اللهم إلا أن يقال إن

باب كفارة البزاق في المسجد

التصريح بالسماع أقوى على كل حال. رجاله ثلاثة، مرَّ ذكرهم في الذي قبله، ثم قال المصنف: باب كفارة البزاق في المسجد

الحديث الحادي والعشرون

الحديث الحادي والعشرون حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "الْبُزَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ، وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا". قوله: البزاق في المسجد خطيئة، لمسلم "التفل" بدل البزاق، وفي المسجد ظرف للفعل، فلا يشترط كون الفاعل فيه حتى لو بصق من هو خارج المسجد فيه، تناوله النهيُ. والخطيئة؛ الإثم، قال عياض: إنما يكون خطيئة إذا لم يدفنه، وأما من أراد دفنه فلا. وتعقبه النوويّ قائلًا: هذا خلاف صريح الحديث قال في الفتح: وحاصل النزاع أنّ هنا عمومين تعارضا، وهما قوله "البزاق في المسجد خطيئة". وقوله "وليبصق عن يساره أو تحت قدمه" فالنووي يجعل الأول عامًا، ويخص الثاني بما إذا لم يكن في المسجد، وعياض بخلافه، يجعل الثاني عامًا ويخص الأول بمن لم يرد دفنها. وقد وافق القاضي جماعة منهم ابن مكي في "التنقيب"، والقرطبي في "المُفهم" وغيرهما. ويشهد لهم ما رواه أحمد بإسناد حسن عن سعد بن أبي وقاص مرفوعًا قال "من تنخم في المسجد فيغيب نخامته أنْ تصيبَ جلدَ مؤمن أو ثوبه فتؤذيه" وأوضح منه في المقصود ما رواه أحمد أيضًا، والطبرانيّ بإسناد حسن عن أبي أمامة مرفوعًا قال "من تنخع في المسجد فلم يدفنه فسيئة، وإن دفنه فحسنة" فلم يجعله سيئة إلا بقيد عدم الدفن، ونحوه حديث أبي ذَرٍّ عند مسلم مرفوعًا قال: "ووجدت في مساوىء أعمال أمتي النخاعة تكون في المسجد لا تدفن" قال القرطبيّ: فلم يثبت لها حكم السيئة لمجرد إيقاعها في المسجد، بل بتركها غير مدفونة. وروى سعيد بن منصور عن أبي عبيدة بن الجراح أنه تنخم في المسجد ليلةً فنسي أن يدفنها حتى رجع إلى منزله، فأخذ

رجاله أربعة

شُعلة من نار، ثم جاء فطلبها حتى دفنها، ثم قال: الحمد لله الذي لم يكتب عليّ خطيئة الليلة، فدل على أن الخطيئة تختص بمن تركها لا بمن دفنها. وعلة النهي ترشد إليه، وهي تَأذّي المؤمن بها، ومما يدل على أن عمومه مخصوصٌ جوازُ ذلك في الثوب، ولو كان في المسجد بلا خلاف، وعند أبي داود عن عبد الله بن الشّخير "أنه صلى مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فبصق تحت قدمه اليسرى، ثم دلكه بنعله" إسناده صحيح وأصله في مسلم، والظاهر أن ذلك كان في المسجد، فيؤبد ما تقدم، وتوسط بعضهم فحمل الجواز على ما إذا كان له عذر كأنْ لم يتمكن من الخروج من المسجد، والمنع على ما إذا لم يكن له عذر، وهو تفصيل حسن، وينبغي أن يفصل أيضًا بين من بدأ بمعالجة الدفن قبل الفعل، كمن حفر أولًا ثم بصق ووارى، وبين من بصق أولًا بنية الدفن، فيجري فيه الخلاف بخلاف الذي قبله, لأنه إذا كان المكفِّر إثمَ إبرازها هو دفنها، فكيف يأثم من دفنها ابتداء؟ وقال النووي: قوله كفارتها دفنها، قال الجمهور: يدفنها في تراب المسجد أو رمله أو حَصْبائه. وحكى الرويانيّ أن المراد بدفنها إخراجها من المسجد أصلًا. قال في الفتح: الذي قاله الروياني يجري على ما يقول النوويّ من المنع مطلقًا وقد علم ما فيه. رجاله أربعة: آدم وشعبة وقتادة وأنس، وقد مرَّ ذكر محلهم في الذي قبله بحديث. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، والتصريح بسماع قتادة عن أنس، وفيه القول أخرجه مسلم وأبو داود في الصلاة. ثم قال المصنف: باب دفن النخامة في المسجد أي جواز ذلك، أورد فيه حديث أبي هريرة بلفظ "إذا قام أحدكم إلى

الصلاة" ثم قال في آخره "فيدفنها" فأشعر قوله في الترجمة "في المسجد" بأنه فهم من قوله "إلى الصلاة" أن ذلك يختص بالمسجد، لكن اللفظ أعم من ذلك. وقيل: إنما ترجم الذي قبله بالكفارة، وهذا بالدفن إشعارًا بالتفرقة بين المتعمد بلا حاجة، وهو الذي أثبت عليه الخطيئة، وبين من غلبته النخامة، وهو الذي أذن له في الدفن، أو ما يقوم مقامه.

الحديث الثاني والعشرون

الحديث الثاني والعشرون حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَلاَ يَبْصُقْ أَمَامَهُ، فَإِنَّمَا يُنَاجِي اللَّهَ مَا دَامَ فِي مُصَلاَّهُ، وَلاَ عَنْ يَمِينِهِ، فَإِنَّ عَنْ يَمِينِهِ مَلَكًا، وَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ، فَيَدْفِنُهَا". قوله: فإنما يناجي، للكشميهني "فإنه يناجي" وقوله: ما دام في مُصَلاّه، يقتضي تخصيص المنع بما إذا كان في الصلاة، لكن التعليل المتقدم بأذى المسلم في حديث سعد بن أبي وقاص عند أحمد يقتضي المنع في جدار المسجد مطلقًا، ولو لم يكن في صلاة، فيجمع بأن يقال: كونه في الصلاة أشد إثمًا مطلقًا. وكونه في جدار القبلة أشد إثمًا من كونه في غيرها من جدر المسجد، فهي مراتب متفاوتة مع الاشتراك في المنع. وقوله: فإن عن يمينه ملكًا، ظاهره اختصاصه بالصلاة، فإن قلنا: المراد بالملك الكاتب، فقد استشكل اختصاصه بالمنع مع أن عن يساره مَلَكًا آخر. وأجيب باحتمال اختصاص ذلك بملك اليمين تشريفًا له وتكريمًا، ولا يخفى ما فيه. وأجيب أيضًا بأن الصلاة أم الحسنات البدنية، فلا دخل لكاتب السيئات فيها، ويشهد له ما رواه ابن أبي شيبة عن حُذيفة موقوفًا في هذا الحديث. قال "ولا عن يمينه، فإن عن يمينه كاتب الحسنات" قلت: هذا لا دخل للرأي فيه، فله حكم الرفع. وقال الطبرانيّ عن أبي أمامة في هذا الحديث: فإنه يقوم بين يدي الله ومَلَكه عن يمينه وقرينه عن يساره. فالتفل حينئذ إنما يقع على القرين، وهو الشيطان، ولعل ملك اليسار حينئذ يكون بحيث لا يصيبه شيء من ذلك، أو أنه يتحول في الصلاة إلى اليمين.

رجاله خمسة

وقوله: فيدفنها، بالرفع خبر لمبتدأ محذوف، أي فهو يدفنها، وبالنصب جواب الأمر، ويالجزم عطف على الأمر. قال ابن أبي جمرة: لم يقل يغطيها، لأن التغطية يستمر الضرر بها، إذ لا يأمن أن يجلس غيره عليها فتؤذيه، بخلاف الدفن، فإنه يفهم منه التعميق في باطن الأرض. وقال النوويّ: المراد بدفنها ما إذا كان المسجد ترابيًا أو رمليًا، فاما إذا كان مبلطًا مثلًا، فدلكها عليه بشيء مثلًا، فليس ذلك بدفن، بل زيادة في التقدير، لكن قال في الفتح: إذا لم يبق لها أثر البتة فلا مانع. وعليه يحمل حديث عبد الله بن الشخير المار "ثم دلكه بنعله" وحديث طارق المار أيضًا "بزق تحت رجله وَدَلك". قال القَفّال في فتاويه: هذا الحديث محمول على ما يخرج من الفم أو ينزل من الرأس، أما ما يخرج من الصدر، فهو نجس, فلابد من دفنه في المسجد، وهذا على اختياره، لكن يظهر التفصيل فيما إذا كان طرفًا من قيء، وكذا إذا خالط البزاق دم. رجاله خمسة: الأول: إسحاق بن نصر، وقد مرَّ في الحادي والعشرين من كتاب العلم، ومرَّ معمر بن راشد في متابعة الرابع من بدء الوحي، ومرَّ عبد الرزاق بن همام في الخامس والثلاثين من كتاب الإيمان, وكذلك همام بن منبّه، ومرَّ أبو هريرة في الثاني منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع، والإخبار كذلك، والعنعنة في موضعين، وفيه التصريح بسماع همام من أبي هريرة، وفيه عنعنة أبي هريرة، ورواته ما بين بخاريّ وصنعانيّ وبصريّ. ثم قال المصنف: باب إذا بدره البزاق فليأخذ بطرف ثوبه أنكر السروجيّ قوله "بدره" وقال: المعروف في اللغة بدرتُ إليه وبادرته،

وأجيب بأنه يستعمل في المغالبة: بادرت كذا فبدرني، أي سبقني. قاله في الفتح والدمامينيّ، وتعقَّبه العينيّ بما هو من ردوده الواهية، فقال: ليس هنا مغالبة، ومعلوم أن المغالبة تحصل مع البزاق والقيء ونحوهما. يقال: غلبه القيء والبُزاق، واستشكل التقييد في الترجمة بالمبادرة مع أنه لا ذكر لها في الحديث الذي ساقه. وكأنه أشار إلى ما في بعض طرقه عند مسلم عن جابر، فإن عجلت به بادره، فليقل بثوبه هكذا، ثم طوى بعضه على بعض، ولأبي داود وابن أبي شيبة عن أبي سعيد نحوه، والحديثان صحيحان، ولكنهما ليسا على شرطه، فأشار إليهما بأن حمل الأحاديث التي لا تفصيل فيها على ما فصل فيهما.

الحديث الثالث والعشرون

الحديث الثالث والعشرون حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ قَالَ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- رَأَى نُخَامَةً فِي الْقِبْلَةِ فَحَكَّهَا بِيَدِهِ، وَرُؤِيَ مِنْهُ كَرَاهِيَةٌ أَوْ رُؤِيَ كَرَاهِيَتُهُ لِذَلِكَ، وَشِدَّتُهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: "إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِي صَلاَتِهِ فَإِنَّمَا يُنَاجِي رَبَّهُ أَوْ رَبُّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قِبْلَتِهِ فَلاَ يَبْزُقَنَّ فِي قِبْلَتِهِ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ". ثُمَّ أَخَذَ طَرَفَ رِدَائِهِ فَبَزَقَ فِيهِ، وَرَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ، قَالَ: "أَوْ يَفْعَلُ هَكَذَا". قوله: رؤي منه، بضم الراء بعدها واو مهموزة، أي من النبي -صلى الله عليه وسلم-. وقوله: كراهيته، بالرفع، أي ذلك الفعل. وقوله: أو رُؤي كراهيته لذلك، شك من الراوي. وقوله: وشدته بالرفع عطفًا على كراهيته، ويجوز الجر عطفًا على قوله لذلك. وقد مرَّ الكلام على هذا الحديث قبل خمسة أبواب. وفي الأحاديث المذكورة، من الفوائد غير ما تقدم، الندبُ إلى إزالة ما يستقذر أو يتنزه عنه من المسجد، وتفقد الإِمام أحوال المسجد وصيانتها، وأن للمصلي أن يبصق وهو في الصلاة، ولا تبطل، وأن النفخ والتنحنح في الصلاة جائزان, لأن النخامة لابد أن يقع معها شيء من نفخ أو تنحنح، ومحله ما إذا لم يفحش، ولم يقصد صاحبه العبث، ولم يبن منه مسمى كلام، وأقله حرفان أو حرف ممدود، هذا عند الشافعية والحنابلة. وعند المالكية المشهور في النفخ أنه مبطل مطلقًا بحرف كان أو لا، والتنحنح إن كان لحاجة لا يبطل اتفاقًا، وكذا إن كان لغير حاجة على المختار. وقال بعضهم: الحاجة المنفية المتعلقة بالصلاة، ولابد من أصل الحاجة وإلا بطلت. وعند الحنفية إن حصلت منه ثلاثة أحرف بطلت، وفي الحرفين قولان.

رجاله أربعة

وعن أبي حنيفة أن النفخ إن كان يسمع فهو كالكلام، يبطل الصلاة. وفيها أن البصاق طاهر، وكذا النخامة والمخاط خلافًا لمن يقول كل ما تستقذره النفس حرام. ويستفاد منه أن التحسين أو التقبيح إنما هو بالشرع، وأن جهة اليمين مفضلة على اليسار، وأن اليد مفضلة على القدم. وفيها الحث على الاستكثار من الحسنات، وإن كان صاحبها مليًا, لأنه عليه الصلاة والسلام باشر الحك بنفسه، وهو قال على عظم تواضعه، زاده الله تعظيماً وتشريفًا -صلى الله عليه وسلم-. رجاله أربعة: الأول: مالك بن إسماعيل، وقد مرَّ في الخامس والثلاثين من كتاب الوضوء ومرَّ زهير بن معاوية في الثالث والثلاثين من كتاب الإيمان, ومرَّ حميد في الثاني والأربعين منه، ومرَّ أنس في السادس منه. ثم قال المصنف: باب عظة الإِمام الناس في إتمام الصلاة وذكر القبلة الناس، بالنصب على المفعولية. وقوله: في إتمام الصلاة، أي بسبب ترك إتمام الصلاة. وقوله: وذكر، بالجر عطفًا على عظة، وأورده للإشعار بمناسبة هذا الباب لما قبله.

الحديث الرابع والعشرون

الحديث الرابع والعشرون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "هَلْ تَرَوْنَ قِبْلَتِي هَاهُنَا، فَوَاللَّهِ مَا يَخْفَى عَلَيَّ خُشُوعُكُمْ وَلاَ رُكُوعُكُمْ، إِنِّي لأَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي". قوله: هل ترون قبلتي، هو استفهام إنكار لما يلزم منه، أي أنتم تظنون أني لا أرى فعلكم، لكون قبلتي في هذه الجهة, لأن من استقبل شيئًا استدبر ما وراءه. لكن بيّن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن رؤيته لا تختص بجهة واحدة، وقد اختلف في معنى ذلك، فقيل: المراد بها العلم، إما بأنْ يوحى إليه كيفية فعلهم، وإما بأن يلهَم، وفيه نظر, لأن العلم لو كان مرادًا لم يقيده بقوله "من وراء ظهري". وقيل: المراد أنه يرى مَنْ عن يمينه ومن عن يساره ممن تدركه عينه مع التفات يسير في النادر، ويوصف من هو هناك بأنه وراء ظهره، وهذا ظاهر التكلف، وفيه عدول عن الظاهر بلا موجب، والصواب المختار أنه محمول على ظاهره، وأن هذا الإبصار إدراك حقيقي خاص به -صلى الله عليه وسلم- انخرقت له فيه العادة، وكذا نقل عن الإمام أحمد وغيره، ثم ذلك الإِدراك يجوز أن يكون برؤية عينه انخرقت له العادة فيه، فكان يرى بها من غير مقابلة؛ لأن الحق عند أهل السنة أن الرؤية لا يشترط لها عقلًا عضو مخصوص، ولا مقابلة ولا قرب، وإنما تلك أمور يجوز حصول الإدراك مع عدمها عقلًا، ولذا حكموا بجواز رؤية الله تعالى في الدار الآخرة، خلافًا لأهل البدع، لوقوفهم مع العادة. ورواية مسلم "إني لأبصر من ورائي كما أبصر من بين يدي" قال على هذا المختار من أن المراد بالرؤية الإبصار. وقيل: كانت له عين خلف ظهره يرى بها مَنْ وراءه دائمًا، وقيل: كان بين كتفيه عينان مثل سَمّ الخياط يبصر بهما،

رجاله خمسة

لا يحجبهما ثوب ولا غيره. وقيل: بل كانت صورهم تنطبع في حائط قبلته، كما تنطبع في المرآة، فيرى أمثلتهم فيها، فيشاهد أفعالهم. وقوله: ولا خشوعكم، أي في جميع الأركان، ويحتمل أن يريد به السجود. وقد صرح بالسجود في رواية مسلم. وقوله: إني لأراكم، بفتح الهمزة. رجاله خمسة: الأول: عبد الله بن يوسف. والثاني: مالك، وقد مرا في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ أبو الزناد والأعرج في السابع من كتاب الإيمان, ومرَّ أبو هريرة في الثاني منه. أخرجه البخاريّ هنا ومسلم في الصلاة.

الحديث الخامس والعشرون

الحديث الخامس والعشرون حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ قَالَ حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ هِلاَلِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- صَلاَةً ثُمَّ رَقِيَ الْمِنْبَرَ، فَقَالَ فِي الصَّلاَةِ وَفِي الرُّكُوعِ: "إِنِّى لأَرَاكُمْ مِنْ وَرَائِي كَمَا أَرَاكُمْ". قوله: صلى لنا، أيْ لأجلنا، وقوله: صَلَاةً، بالتنكير، للِإبهام. وقوله: ثم رَقِي المنبر، بكسر القاف، ويجوز الفتح على لغة طيء. وقوله: فقال في الصلاة، أي في شأن الصلاة، أو هو متعلق بقوله "إني لأراكم" عند من يجيز تقدم الظرف. وقوله: وفي الركوع، أفرده بالذكر وإن كان داخلًا في الصلاة اهتمامًا به، إما لكون التقصير فيه كان أكثر، أو لأنه أعظم الأركان بدليل أن المسبوق يدرك الركعة بتمامها بإدراك الركوع. وقوله: كما أراكم، يعني من أمامي. وصرح به في رواية أخرى كما يأتي. وظاهر الحديث أن ذلك يختص بحالة الصلاة، ويحتمل أن يكون ذلك واقعًا في جميع أفعاله، وقد نقل ذلك عن مجاهد، وحكى بَقِيّ بن مَخْلَد أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يبصر في الظلمة كما يبصر في الضوء. وفي الحديث الحث على الخشوع في الصلاة، والمحافظة على إتمام أركانها وأبعاضها، وأنه ينبغي للإمام أن ينبه الناس على ما يتعلق بأحوال الصلاة، ولاسيما إن رأى منهم ما يخالف الأوْلَى. رجاله أربعة: الأول: يحيى بن صالح الوحاظيّ، وقد مرَّ في الثالث من كتاب الصلاة، ومرَّ فُليح بن سليمان في الأول من كتاب العلم، ومرَّ هلال بن أبي هلال معه

باب هل يقال مسجد بني فلان

في حديث واحد، ومرَّ أنس في السادس من كتاب الإيمان. أخرجه البخاريّ هنا وفي الرقاق عن إبراهيم بن المنذر. ثم قال المصنف: باب هل يقال مسجد بني فلان باب بالتنوين، قوله: هل يقال، أي هل يجوز أن يضاف مسجد من المساجد إلى بانيها، أو ملازم الصلاة فيها؟ ويلتحق بذلك جواز إضافة أعمال البر إلى أربابها، وإنما أورد المصنف الترجمة بلفظ الاستفهام، لينبه على أن فيه احتمالًا، إذ يحتمل أن يكون قد علمه النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن تكون هذه الإضافة قد وقعت في زمنه، ويحتمل أن يكون ذلك مما حدث بعده، والأول أظهر، والجمهور على الجواز، والمخالف في ذلك إبراهيم النخعيّ فيما رواه ابن أبي شيبة عنه، أنه كان يكره أن يقول مسجد بني فلان، ويقول مصلّى بني فلان، لقوله تعالى {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن: 18] والجواب أن الإضافة في هذا إضافة تمييز لا ملك، والإِضافة إلى الله تعالى في الآية على الحقيقة.

الحديث السادس والعشرون

الحديث السادس والعشرون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- سَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِى أُضْمِرَتْ مِنَ الْحَفْيَاءِ، وَأَمَدُهَا ثَنِيَّةُ الْوَدَاعِ، وَسَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِى لَمْ تُضْمَرْ مِنَ الثَّنِيَّةِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ، وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ فِيمَنْ سَابَقَ بِهَا. قوله: سابق بين الخيل التي أضمرت، بضم الهمزة مبنيًا للمفعول، أي ضُمِّرت، وهوأن تعلف الخيل حتى تسمن وتقوى، ثم يقلل علفها بقدر القوت، وتدخل بيتًا وتُغشَّى بالجِلال حتى يكثر عرقها، ويذهب رَهَلُها، بالتحريك، أي ارتخاء لحمها، فيقوى لحمها ويشتد جريها. وكان فرسه عليه الصلاة والسلام الذي يسابق به يسمى السَّكْب بالكاف، وهو أول فرس ملكه، وفيه نسبة الفعل للأمر به؛ لأن قوله سابق أي أمر أو أباح. وقوله: من الحفياء، بفتح المهملة وسكون الفاء بعدها تحتانية، ومد، ويجوز القصر، وحكى بتقديم الياء التحتانية على الفاء، وحكى عياض ضم أوله وخطأه، وهي مكان خارج المدينة. وقوله وأَمَدها، بالتحريك غايتها. قال تعالى {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ} [الحديد: 16]. وقال النابغة: سبق الجواد إذا استولى على الأمد وقوله: ثنية الوداع، أي بالمثلثة، سميت بذلك لأن الخارج من المدينة يمشي معه المودعون إليها، وهي لغة: الطريقة إلى العقبة، واللام فيه للعهد. بينها وبين الحفياء خمسة أميال أو ستة أو سبعة. وقوله: وبين الخيل التي لم تُضْمر، بضم التاء وسكون الضاد، وفي رواية بفتح الضاد وتشديد الميم، وقوله:

رجاله أربعة

من الثنية إلى مسجد بني زُريق، بضم الزاي مصغرًا، ابن عامر بطن من الخزرج، بينه وبين الثنية ميل أو نحوه. وقوله: وإن عبد الله بن عمر كان فيمن سابق بها، أي بالخيل، أو بهذه المسابقة، وهذا الكلام إما من كلام ابن عمر بنفسه كما تقول: العبد فعل كذا عن نفسك، أو من مقول نافع الراوي عنه. وعند الإسماعيلي، قال ابن عمر: وكنت فيمن أجرى، فوثب بي فرسي جدارًا. وأخرج مسلم "وقال فيه: فسبقت الناس فَطَفَّفَ بي الفرس مسجد بني زريق" أي جاوز بي المسجد الذي كان هو الغاية، وأصل التطفيف مجاوزة الحد، وهذا يقوّي الاحتمال الأول. وفي الحديث مشروعية المسابقة، وأنه ليس من العبث، بل من الرياضة المحمودة الموصلة إلى تحصيل المقاصد في الغزو، والانتفاع بها عند الحاجة. وهي دائرة بين الاستحباب والإباحة بحسب الباعث على ذلك. قال القرطبيّ: لا خلاف في جواز المسابقة على الخيل وغيرها من الدواب، وعلى الأقدام، وكذا الترامي بالسهام، واستعمال الأسلحة لما في ذلك من التدريب على الحرب. وفيه مشروعية تضمير الخيل، وتمرينها على الجري، وإعدادها لإِعزاز كلمة الله تعالى ونصرة دينه. قال الله تعالى {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]. وفيه جواز إضافة أعمال البر إلى أربابها ونسبتها إليهم، ذلك تزكية لهم، وفيه جواز معاملة البهائم عند الحاجة بما يكون تعذيبًا لها في غير الحاجة، كالإجاعة والإجراء، وفيه تنزيل الخلق منازلهم, لأنه عليه الصلاة والسلام غاير بين منزلة المضمر وغير المضمر، ولو خلطهما لأتعب غير المضمر، وفيه مشروعية الإعلام بالابتداء والانتهاء عند المسابقة. رجاله أربعة: الأول: عبد الله بن يوسف، مرَّ هو ومالك في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ نافع مولى ابن عمر في الثالث والسبعين من كتاب العلم، ومرَّ ابن عمر في كتاب

باب القسمة وتعليق القنو في المسجد

الإيمان قبل ذكر حديث منه. ثم قال المصنف: باب القسمة وتعليق القنو في المسجد وقال أبو عبد الله: القِنو العِذْق، والاثنان قِنوان، والجماعة أيضًا قِنوان مثل صِنو وصِنوان. قوله: العِذق بكسر العين المهملة وسكون المعجمة وهو العرجون بما فيه من بُسر وغيره، وأما بفتح العين المهملة فالنخلة. وقوله: والاثنان قنوانِ، بكسر القاف والنون، وقوله والجماعة أيضًا قنوان، أي بالرفع والتنوين، وبه يتميز عن المثنى كثبوت نونه عند إضافته، بخلاف المثنى، فتحذف. وقوله: مثل صنو وصنوان في الحركات والسكنات والجمع والتثنية، والصاد فيهما مكسورة، وهو أن تبرز نخلتان أو ثلاثة أو أزيد من أصل واحد، فكل واحدة منهن صنو واحد، والاثنان صِنوانِ بكسر النون، والجمع صِنوان بإعرابها, ولم يذكر المؤلف جمعه لظهوره من الأول. وهذا التفسير من قوله: قال إلى آخره ثابت عند أبويْ ذَرٍّ والوقت وابن عساكر ساقط لغيرهم. ثم قال: وقال إبراهيم، يعني ابن طَهْمان عن عبد بن صُهيب عن أنس رضي الله تعالى عنه، قال أُتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمال من البحرين، فقال: انثروه في المسجد، وكان أكثر مال أُتي به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الصلاة ولم يلتفت إليه، فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه، فما كان يرى أحدًا إلا أعطاه، إذ جاء العباس رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله: أعطني فإني فاديت نفسي وفاديت عقيلًا. فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: خذ، فحثى في ثوبه ثم ذهب يُقِلُّه فلم يستطع، فقال: يا رسول الله، مُرْ بعضهم يرفعه إليَّ. قال: لا، قال: فارفعه أنت عليّ. قال: لا، فنثر منه ثم ذهب يُقِلّه. فقال: يا رسول الله، اؤمر بعضهم يرفعه. قال: لا، قال: فارفعه أنت عليّ. قال: لا، فنثر منه، ثم احتمله فألقاه على كاهله، ثم انطلق فما زال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُتبعه بصره حتى خفي علينا، عَجبًا من حرصه. فما قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وَثَمَّ منها درهم. قوله: ابن طهمان، هو الصواب. وقوله: عن عبد العزيز بن صُهيب، هو

الصواب أيضًا ومنْ قال إنه عبد العزيز بن رفيع فقد غلط. وقوله: أُتي رسول الله، أي بالبناء للمفعول. وقوله: بمال من البحرين، بلدة بين البصرة وعُمان. روى ابن أبي شيبة عن حُميد بن هلال مرسلًا "أنه كان مئة ألف، وأنه أرسل به العلاء بن الحضرميّ من خراج البحرين" قال: وهو أول خراج حُمِل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-. وعند المصنف في المغازي عن عمرو بن عوف أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صالح أهل البحرين، وأمّر عليهم العلاء بن الحضريّ، وبعث أبا عبيدة بن الجراح إليهم، فقدم أبو عبيدة بمال، فسمعتْ الأنصار بقدومه ... الحديث. فيستفاد منه تعيين الآتي بالمال. لكن في الردة للواقديّ أن رسول العلاء بن الحضرميّ بالمال هو العلاء بن حارثة الثقفيّ. فلعله كان رفيق أبي عبيدة، وأما حديث جابر الآتي عند المصنف أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له "لو قد جاء مال البحرين أعطيتك" وفيه "فلم يقدم مال البحرين حتى مات النبي -صلى الله عليه وسلم-، فليس معارضًا لما تقدم، بل المراد أنه لم يقدم في السنة التي مات فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- , لأنه كان مال خراج أو جِزية، فكان يقدم من سنة إلى سنة. وقوله: فقال انثروه، بالمثلثة، أي صبوه. وقوله: إذ جاءه العباس، قيل المعنى: فبينما هو على ذلك إذ جاءه العباس. وقوله: وفاديت عقيلًا أي ابن أبي طالب، وكان أُسر مع عمه العباس في غزوة بدر، ويقال أُسر معهما أيضًا الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وأن العباس افتداه أيضًا. وقوله: فحثا في ثوبه، أي بمهملة ثم مثلثة مفتوحة، والضمير في ثوبه يعود على العباس، أي حثا العباس في ثوب نفسه. وقوله: يُقِلّه، بضم أوله من الإقلال، وهو الرفع والحمل. وقوله: مُرْ بعضهم يرفعه إليّ، أي بضم الميم وسكون الراء على وزن "عُلْ"، فحذف منه فاء الفعل لاجتماع المثلين في أول كلمة. وهو مؤدٍ إلى الاستثقال، فصار "آمر" فاستغنى عن همزة الوصل لتحرك ما بعدها، فحذفت. وفي رواية "اؤمر" بهمزة مضمومة فأخرى ساكنة، وتحذف الأولى عند الوصل وتصير الثانية ساكنة، وهذا هو البخاري على الأصل، ويرفعه بالجزم، لأنه جواب الأمر، ويجوز الرفع على الاستئناف، أي فهو يرفعه، والضمير المستتر فيه يرجع إلى البعض، والبارز إلى المال الذي حثاه في ثوبه، وفي

نسخة لأبي ذَرٍّ برفعه بالموحدة الجارة وسكون الفاء. وقوله: فارفعه أنت عليّ .. لا، أي لا أرفعه عليك، وإنما فعل عليه الصلاة والسلام ذلك معه تنبيهًا له على الاقتصاد، وترك الاستكثار من المال. وقوله على كاهله، أي بين كتفيه. وقوله: يُتبعه، بضم أوله من الاتباع. وقوله: عجبًا من حرصه، أي بفتح العين والجيم وبالنصب، مفعولًا مطلقًا. وقوله: وثَمَّ منها دِرهم، أي بفتح المثلثة، أي هناك، وهي جملة حالية من مبتدأ مؤخر، وهو درهم، والخبر منها، ومراده نفي أن يكون هناك درهم، فالحال قيد للمنفي لا للنفي، فالمجموع منتف بانتفاء القيد لانتفاء المقيد. وفي الحديث بيان كرمه -صلى الله عليه وسلم-، وعدم التفاته إلى المال قَلَّ أو كثر، وأن الإِمام ينبغي أن يفرق مال المصالح في مستحقيها, ولا يؤخره. وموضع الحاجة منه هنا، جواز وضع ما يشترك المسلمون فيه من صدقة ونحوها في المسجد، ومحله ما إذا لم يمنع مما وضع له المسجد من الصلاة وغيرها، مما بني المسجد لأجله، ونحو وضع هذا المال وضع زكاة الفطر فيه، ويستفاد منه جواز ما يعم نفعه في المسجد كالماء لشرب من يعطش، ويحتمل التفرقة بين ما يوضع للتفرقة وبين ما يوضع للخزن، فيمنع الثاني دون الأول. واستدل به ابن بطال على جواز إعطاء بعض الأصناف من الزكاة، ولا دلالة فيه؛ لأن المال لم يكن من الزكاة، وعلى تقدير كونه منها فالعباس ليس منها، وقيل إنما أعطاه من سهم الغارمين، والحق أن المال المذكور كان من الخراج أو الجزية، وهما من مال المصالح، ولم يذكر البخاري في الباب حديث القِنو، فقال ابن بطال: أغفله، وقال ابن التين: أُنسيه، وليس كما قالا، بل أخذه من جواز وضع المال في المسجد، بجامع أن كلاًّ منهما وضع لأخذ المحتاجين منه، وأشار بذلك إلى ما رواه النَّسائي عن عوف بن مالك الأشجعي قال "خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبيده عصا، وقد علق رجل قِنوَ حَشَف، فجعل يطعن في ذلك القنو ويقول: لو شاء رب هذه الصدقة تصدق باطيب من هذا" وليس على شرطه، وإن كان إسناده قويًا.

باب من دعا لطعام في المسجد ومن أجاب منه

وفي الباب حديث آخر أخرجه ثابت في الدلائل بلفظ "إنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر من كل حائط بقِنو يُعلق في المسجد للمساكين" وفي رواية له "وكان عليها معاذ بن جبل" أي على حفظها أو على قسمتها. وهذا التعليق أخرجه أبو نعيم موصولًا، والحاكم في المستدرك، وأخرجه البخاريّ معلقًا في الجهاد وفي الجزية. ورجاله ثلاثة، وفيه ذكر العباس وعقيل، الأول إبراهيم بن طَهمان، وقد مرَّ في التاسع والعشرين من كتاب الغسل، ومرَّ عبد العزيز بن صُهيب في الثامن من كتاب الإيمان, ومرَّ أنس بن مالك في السادس منه، ومرَّ العباس بن عبد المطلب في الثالث والستين من كتاب الوضوء، ومرَّ عقيل بن أبي طالب في كتاب العلم. ثم قال المصنف: باب من دعا لطعام في المسجد ومن أجاب منه قوله: من دعا بفتح الدال والعين، ولأبوي ذَرٍّ والوقت والأصيليّ "من دُعِي" بضم الدال وكسر العين، وقوله: لطعام في المسجد، في المسجد متعلق بدُعي لا بطعام. وعدّى دعا هنا باللام لإرادة الاختصاص، فإذا أريد الانتهاء عُدِّي بإلى نحو {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} [يونس: 25] أو بمعنى الطلب عُدِّي بالباء نحو "دعا هرقل بكتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" فتختلف صلة الفعل بحسب اختلاف المعاني المرادة. وقوله: ومن أجاب فيه، أي في المسجد، وللأربعة "منه" بدل فيه، فمِن للابتداء، والضمير للمسجد، وللكشميهني "إليه" أي إلى الطعام، والغرض من الترجمة أن مثل ذلك من الأمور المباحة، ليس من اللغو الذي يمنع في المساجد.

الحديث السابع والعشرون

الحديث السابع والعشرون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ سَمِعَ أَنَسًا قَالَ: وَجَدْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فِي الْمَسْجِدِ مَعَهُ نَاسٌ فَقُمْتُ، فَقَالَ لِي: أَرْسَلَكَ أَبُو طَلْحَةَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ: لِطَعَامٍ؟. قُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ: قُومُوا. فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ. قوله: في المسجد، أي النبوي، وقيل: المراد به المكان الذي أعده النبي -صلى الله عليه وسلم- للصلاة فيه حين محاصرة الأحزاب للمدينة في غزوة الخندق. وقوله: آرسلك أبو طلحة، أي بمد الهمزة، وفي بعض الأصول "أرسلك" بدون مد. وقوله: لطعام، بالتنكير، وفي رواية "للطعام". وقوله: قلت نعم فقال، أي بفاء قبل القاف، ولأبي ذَرٍّ والأصيلي "قال" بدون فاء، وقوله: لمن معه، ولأبوي ذَرٍّ والوقت "لمن حوله" بالنصب على الظرفية. وقوله: فانطلق، أي النبي عليه الصلاة والسلام، وفي رواية "فانطلقوا" أي النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن معه. وفي الحديث جواز الدعاء إلى الطعام، وإن لم يكن وليمة، واستدعاء الكبير إلى الطعام القليل، وأن المدعو إذا علم من الداعي أنه لا يكره أن يحضر معه غيره، فلا بأس بإحضاره معه. وقد أورد المصنف هذا الحديث مختصرًا، وأخرت الكلام عليه إلى عند ذكره مطولًا في علامات النبوءة إن شاء الله تعالى وصولَ ذلك المحل. رجاله أربعة: الأول: عبد الله بن يوسف، وقد مرَّ هو ومالك في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ إسحاق بن عبد الله في الثامن من كتاب العلم، ومرَّ أنس في السادس من

باب القضاء واللعان في المسجد

كتاب الإيمان. ثم قال المصنف: باب القضاء واللعان في المسجد أي حكم ذلك، زاد في غير رواية المستملي "بين الرجال والنساء" وسقطت في رواية المستملي، إذ هي حشو. وقوله "واللعان" من عطف الخاص على العام؛ لأن القضاء أعم من أن يكون في اللعان وغيره، وسمي لعانًا لأن فيه لعن نفسه في الخامسة، فهو من باب تسمية الكل باسم البعض.

الحديث الثامن والعشرون

الحديث الثامن والعشرون حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ رَجُلاً وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً أَيَقْتُلُهُ؟ فَتَلاَعَنَا فِي الْمَسْجِدِ وَأَنَا شَاهِدٌ. قوله: يحيى، زاد الكشميهني "ابن موسى" وكذا نسبه ابن السكن. قال في الفتح: وأخطأ من قال هو ابن جعفر، قلت: كيف الخطأ مع تصريح البخاريّ في هذا السند بعينه في باب اللعان، بأنه ابن جعفر فما في البخاري مقدم على غيره. وقوله: إن رجلًا، هو عويمر بن عامر العَجلانيّ، أو هلال بن أمية، ويأتي قريبًا تعريفهما، أو سعد بن عبادة، وتعقب هذا بأن الحديث فيه "فتلاعنا" ولم يتفق لسعد ذلك، أو هو عاصم العجلانيّ، وتعقب أيضًا بأن عاصمًا رسول هذه الواقعة، لا سائل لنفسه, لأن عويمرًا قال له: سل لي يا عاصم رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-، فجاء عاصم فسأل، فكره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المسائل وعابها، فجاء عويمر بعد ذلك، وسأل لنفسه. وقوله: أيقتله، أي أم كيف يفعل، فأنزل الله في شأنه ما ذكر في القرآن من أمر المتلاعنين، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- "قد قضى الله فيك وفي امرأتك" وقوله: فتلاعنا، أي الرجل والمرأة اللعانَ المذكور في سورة النور. وقوله: في المسجد وأنا شاهد، أي الحديث. وقد أورد المؤلف هذا الحديث هنا مختصرًا لينبه على جواز القضاء في المسجد، وهو جائز عند عامة الأئمة. وقال مالك: إنه من الأمر القديم المعمول به، وعن الشافعيّ كراهته إذا أعد لذلك دون ما إذا اتفقت له فيه حكومة. وعن ابن المسيب كراهيته، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى القاسم بن عبد الرحمن أن لا تقضي في المسجد، فإنه يأتيك الحائض

رجاله خمسة

والمُشْرك. وقال الشافعيّ: أحبُّ إليّ أن يقضى في غير المسجد لذلك. وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يتعلق باللعان في محله. رجاله خمسة: الأول: يحيى بن موسى، وقد مرَّ في التاسع عشر من كتاب الحيض، ومرَّ عبد الملك بن جريج في الثالث منه، ومرَّ عبد الرزاق في الخامس والثلاثين من كتاب الإيمان, ومرَّ ابن شهاب في الثالث من بدء الوحي، ومرَّ سهل بن سعد في الثامن والمئة من كتاب الوضوء وفي الحديث أن رجلًا مبهمًا، والصحيح أنه عُويمر بن أبيض، أو هلال بن أمية، ولابد من تعريف كل واحد منهما لتتم الفائدة. أما الأول: فهو عُوَيمر بن أبيض العجلانيّ الأنصاريّ صاحب اللعان. قال الطبريّ: عويمر بن الحارث بن زيد بن حارثة بن الجعد العجلانيّ، هو الذي رمى زوجته بشريك بن سحماء، فلاعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بينهما، وذلك في شعبان سنة تسع من الهجرة، وكان قدم من تبوك فوجدها حبلى، وعاش ذلك المولود سنتين ثم مات، وعاشت أمه بعده يسيرًا. قال ابن حَجَر: وأبيض لقب لأحد آبائه، ووقع في الموطأ في رواية القعنبيّ أنه عويمر بن أشقر العجلانيّ، قيل: إنه خطأ، وأن عويمر بن أشقر آخر، مازنيّ. ولعل أحد آباء عُويمر العجلانيّ كان يلقب أبيض، فأطلق عليه الراوي أشقر. وأما الثاني: فهو هلال بن أمية بن عامر بن قيس بن عبد الأعلم بن عامر بن كعب بن واقف الأنصاري الواقفيّ، شهد بدراً وما بعدها، وأحد الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، فنزل فيهم قوله عز وجل {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ... الآية}، وهو الذي قذف امرأته بشَرِيك بن سَحْماء قال ابن شهاب: الثلاثة الذين خلفوا كَعْب بن مالك أحد بني سلمة، ومرارة بن الربيع، وهو أحد بني عمرو بن عوف، وهلال بن أمية، وهو من بني واقف، له ذكر في الصحيحين من رواية سعيد بن جبير عن ابن عمر. وأخرج ابن شاهين من طريق عطاء بن عجلان عن مكحول عن عكرمة عن هلال بن أمية أنه أتى عمر فذكر قصة اللعان

لطائف إسناده

مطولة، وهذا لو ثبت لدل على أن هلال بن أمية عاش إلى خلافة عمر حتى أدرك عكرمة الرواية عنه، ولكن عطاء بن عجلان متروك، وبحتمل أن يكون عكرمة أرسل الحديث عنه. والواقفي في نسبه نسبةً إلى واقف أبي بَطن من الأنصار، قيل: إنّ واقفًا لقب مالك بن امرىء القيس بن مالك بن الأوس. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والإخبار بصيغته في موضع واحد، وبالإفراد في موضع، والعنعنة في موضع، ورواته ما بين بلخيّ وصنعاني ومدنيّ ومكيّ. أخرجه البخاريّ هنا، وفي الطلاق مرتين عن إسماعيل بن عبد الله وعن يحيى، وفي التفسير مرتين أيضًا عن عبد الله بن يوسف وعن أبي الربيع الزهرانيّ، وفي الاعتصام عن آدم، وفي الأحكام والمحاربين عن علي بن عبد الله، ومسلم في اللِّعان، وأبو داود والنَّسائيّ وابن ماجه في الطلاق. ثم قال المصنف: باب إذا دخل بيتًا يصلي حيث شاء أو حيث أُمر ولا يتجسس باب بالتنوين، قيل: مراد المصنف الاستفهام، لكن حذفت أداته، أي هل يتوقف على إذن صاحب المنزل أو يكفيه الإذن العام في الدخول، "فأو" على هذا ليست للشك. وقوله: ولا يتجسس، بالجيم والحاء المهملة، وبالضم أو بالجزم، أي ولا يتفحص موضعًا يصلي فيه، وهو متعلق بالشق الثاني، قال المهلب: دل حديث الباب على إلغاء حكم الشق الأول، لاستئذانه -صلى الله عليه وسلم- صاحبَ المنزل أينَ يصلّي. وقال المازريّ: قوله حيث شاء، أي من الموضع الذي أذن له فيه. وقال ابن المنير: أراد البخاريّ أن المسألة موضع نظر، فهل يصلي من دعي حيث شاء, لأن الإذن في الدخول عام في أجزاء المكان، فأينما جلس أو صلى تناوله الإذن، أو يحتاج إلى أن يستأذن في تعيين مكان صلاته، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- فعل ذلك، الظاهر الأول، وإنما استأذن عليه الصلاة والسلام لأنه دُعي للصلاة، ليتبرك صاحب البيت بمكان صلاته، فسأله ليصلي في البقعة التي يحب تخصيصها بذلك، وأما مَن صَلّى لنفسه، فهو على عموم الإذن، أي إلا أن يخص صاحب المنزل ذلك العمومَ فيختص.

الحديث التاسع والعشرون

الحديث التاسع والعشرون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَتَاهُ فِي مَنْزِلِهِ فَقَالَ: أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ لَكَ في بَيْتِكَ؟. قَالَ فَأَشَرْتُ لَهُ إِلَى مَكَانٍ، فَكَبَّرَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَصَفَفْنَا خَلْفَهُ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ. قوله: عن ابن شهاب، صرح أبو داود الطيالسيّ في مسنده بسماع إبراهيم بن سعد له من ابن شهاب. وقوله: عن محمود بن الربيع، وللمصنف في باب النوافل "جماعة عن ابن شهاب قال: أخبرني محمود" وفي الباب الذي بعده كذلك. وقوله: عن عتبان، صرح يعقوب أيضًا بسماع محمود من عتبان. وقوله: أتاه في منزله أي يوم السبت، ومعه أبو بكر وعمر. ففي الطبرانيّ عن ابن شهاب بسنده أنه قال للنبي -صلى الله عليه وسلم- يوم جمعة "لو أتيتني يا رسول الله" وفيه أنه "أتاه يوم السبت. وعند ابن حبّان في صحيحه عن أبي هريرة أن رجلًا من الأنصار، وفيه "وذلك بعدما عمي" وقوله: أنْ أصلي لك من بيتك، وللكشميهنيّ: في بيتك، والإضافة في "لك" باعتبار الموضع المخصوص، وإلا فالصلاة لله. وقوله: وصففنا خلفه، ولأُبيّ: فصففنا، بالفاء بدل الواو، ولأبي ذَرٍّ أيضًا وابن عساكر "وصفنا" بالواو والإدغام. وهذا الحديث أورده هنا مختصرًا، وفي الباب الذي بعده مطولًا، ويأتي إن شاء الله تعالى استيفاء الكلام عليه هناك. رجاله خمسة: الأول: عبد الله بن مسلمة، وقد مرَّ في الثاني عشر من كتاب الإيمان, ومرَّ إبراهيم بن سعد في السادس عشر منه، ومرَّ ابن شهاب في الثالث من بدء

لطائف إسناده

الوحي، ومرَّ محمود بن الربيع في التاسع عشر من كتاب العلم. الخامس: عتبان بن مالك، بكسر العين وضمها وسكون المثناة من فوق، ابن عمرو بن العجلان بن زيد بن غنم بن سالم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج، الأنصاريّ، الخزرجيّ السالميّ، بدريّ عند الجمهور، ولم يذكره ابن إسحاق فيهم، وحديثه في الصحيحين من طريق أنس، ومحمود بن الربيع وغيرهما عنه، وأنه كان إمام قومه بني سالم. ذكر ابن سعد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- آخى بينه وبين عمر، وكان رضي الله عنه أعمى، ذهب بصره على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. ويقال: كان ضرير البصر، ثم عمي بَعد. له أربعة عشر حديثًا للبخايّ منها واحد، روى عنه أنس ومحمود بن الربيع يعد من أهل المدينة، ومات زمن معاوية وقد كبر، وفي الصحابة عتبان سواه واحد، وهو ابن عبيد بن عمرو العبديّ. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في ثلاثة مواضع، ورواته كلهم مدنيون، وفيه رواية صحابيّ عن صحابيّ. أخرجه البخاري في أكثر من عشرة مواضع مطولًا ومختصرًا، ففي الصلاة عن هنّاد وعن حيّان بن موسى وعن معاذ بن أسد وعن إسماعيل بن مالك وعن إسحاق وعن سعيد بن عفير، وفي الرقاق عن معاذ بن أسد، وفي استتابة المرتدين عن عبدان، وفي المغازي عن القعنبيّ، وعن سعيد بن عُفير وعن يحيى بن كثير، وفي الأطعمة عن يحيى بن كثير أيضًا، ومسلم في عدة مواضع في الصلاة وفي الإيمان, والنَّسائيّ في الصلاة وفي اليوم والليلة، وابن ماجه في الصلاة. ثم قال المصنف: باب المساجد في البيوت أي اتخاذ المساجد في البيوت، ثم قال: وصلى البراء بن عازب في مسجده في داره جماعة. وللكشميهني "في جماعة" والبراء مرَّ في الثالث والثلاثين من كتاب الإيمان, وهذا الأثر أورد ابن أبي شيبة معناه في قصته.

الحديث الثلاثون

الحديث الثلاثون حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ الأَنْصَارِيُّ أَنَّ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنَ الأَنْصَارِ أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ أَنْكَرْتُ بَصَرِي، وَأَنَا أُصَلِّي لِقَوْمِي، فَإِذَا كَانَتِ الأَمْطَارُ سَالَ الْوَادِى الَّذِى بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ، لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ آتِيَ مَسْجِدَهُمْ فَأُصَلِّيَ بِهِمْ، وَوَدِدْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَّكَ تَأْتِينِي فَتُصَلِّيَ فِي بَيْتِي، فَأَتَّخِذَهُ مُصَلًّى. قَالَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: سَأَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ عِتْبَانُ: فَغَدَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَبُو بَكْرٍ حِينَ ارْتَفَعَ النَّهَارُ، فَاسْتَأْذَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَذِنْتُ لَهُ، فَلَمْ يَجْلِسْ حَين دَخَلَ الْبَيْتَ، ثُمَّ قَالَ: "أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ؟. قَالَ فَأَشَرْتُ لَهُ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ الْبَيْتِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَكَبَّرَ، فَقُمْنَا فَصَفَّنَا، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، قَالَ: وَحَبَسْنَاهُ عَلَى خَزِيرَةٍ صَنَعْنَاهَا لَهُ. قَالَ: فَثَابَ فِي الْبَيْتِ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ ذَوُو عَدَدٍ فَاجْتَمَعُوا، فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: أَيْنَ مَالِكُ بْنُ الدُّخَيْشِنِ أَوِ ابْنُ الدُّخْشُنِ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: ذَلِكَ مُنَافِقٌ لاَ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: لاَ تَقُلْ ذَلِكَ، أَلاَ تَرَاهُ قَدْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. يُرِيدُ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ. قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ فَإِنَّا نَرَى وَجْهَهُ وَنَصِيحَتَهُ إِلَى الْمُنَافِقِينَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ ثُمَّ سَأَلْتُ الْحُصَيْنَ بْنَ مُحَمَّدٍ الأَنْصَارِيَّ وَهْوَ أَحَدُ بَنِي سَالِمٍ وَهُوَ مِنْ سَرَاتِهِمْ عَنْ حَدِيثِ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ، فَصَدَّقَهُ بِذَلِكَ. قوله: إِنه أتى رسول الله، وعند مسلم: أنه بُعِث إِلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يطلب ذلك

منه، فيحتمل أن يكون نسب إتيان رسوله إلى نفسه مجازًا، ويحتمل أن يكون أتاه مرة وبعث إليه أخرى، إما متقاضيًا وإما مذكرًا. وظاهر رواية الطبرانيّ المتقدمة قريبًا أن مخاطبة عتبان بذلك، كانت حقيقة لا مجازًا. وقوله: قد أنكرت بصري، كذا هو في أكثر الروايات عن ابن شهاب، وللطبرانيّ "لما ساء بصري" وللإسماعيليّ "جعل بصري يَكِلّ" ولمسلم "أصابني في بصري بعضُ الشيء" وكل هذا ظاهر في أنه لم يكن بلغ العمى إذ ذاك، لكن أخرج المصنف في باب الرخصة في المطر عن مالك عن ابن شهاب، فقال فيه: إن عتبان كان يؤم قومه وهو أعمى، وأنه قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إنها تكون الظلمة والسيل، وأنا رجل ضرير البصر ... الحديث، وليست هذه الرواية معارضة لغيرها، بل قول محمود: إن عتبان كان يؤم قومه وهو أعمى، أي حين لقيه محمود وسمع منه الحديث، لا حين سؤاله للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وبينه قوله في رواية يعقوب "فجئت إلى عتبان، وهو شيخ أعمى يؤم قومه". وأما قوله: وأنا رجل ضرير البصر، أي أصابني منه ضر، فهو كقوله "أنكرت بصري" ويؤيد هذا الحمل قوله في رواية ابن ماجه: "لما أنكرت من بصري" وقوله في رواية مسلم المارة "أصابني في بصري بعض الشيء" فإنه ظاهر في أنه لم يكمل عماه، لكن في رواية لمسلم بلفظ "إنه عمي فأرسل" وقد جمع ابن خزيمة بين رواية مالك وغيره من أصحاب الزهري، فقال: قوله أنكرت بصري، هذا اللفظ يطلق على من في بصره سوء, وإن كان يبصر بصرًا ما، وعلى من صار أعمى لا يبصر شيئًا، والأولى أن يقال: أطلق عليه العمى لقربه منه، ومشاركته له في فوات بعض ما كان يعهده في الصحة، وبهذا تأتلف الروايات. وقوله: أصلي لقومي، أي لأجلهم، والمراد أنه كان يؤمهم، وصرح بذلك أبو داود الطَّيَالسِيّ. وقوله: سال الوادي، أي سأل الماء في الوادي، فهو من إطلاق المحل على الحالّ. وقوله: بيني وبينهم، وللإسماعيليّ "يسيل الوادي الذي بين مسكني وبين مسجد قومي، فيحول بيني وبين الصلاة معهم". وقوله: فأصليَ بهم، بالنصب عطفًا على "آتي". وقوله: وَدِدْت، بكسر الدال الأُولى،

أي تمنيت، وحكى القزّاز جواز فتح الدّال في الماضي، والواو في المصدر، والمشهور في المصدر الضمّ، وحُكي فيه الكسر، فهو مثلث. وقوله: فتصلي، بسكون الياء، ويجوز النصب لوقوع الفاء بعد التمني. وقوله: فأتخذُهُ بالرفع على الاستئناف، وبالنصب عطفًا على الفعل المنصوب، وتعقبه الدمامينيّ فقال: إنْ ثبتت الرواية بالنصب فالفعل منصوبٌ بأنْ مضمرة جوازًا لا لزومًا، وأنْ والفعل بتقدير مصدر معطوف على المصدر المسبوق من "إنّك تأتيني" أي وددت إتيانك فصلاتك فاتخاذي مكان صلاتك مصلى، وهذا ليس في شيء من جواب التمني الذي يريدونه، وكيف ولو ظهرت أن هنا لم يمتنع، وهناك يمتنع؟ ولو رفع تصلي وما بعده بالعطف على الفعل المرفوع المتقدم، وهو قولك: تأتيني لصح، والمعنى بحاله. وقوله: سأفعل إن شاء الله، علقه بمشيئة الله تعالى، لآية الكهف، لا لمجرد التبرك, لأن ذلك حيث يكون الشيء مجزومًا به، ويجوز كونه للتبرك، لأن إطلاعه عليه الصلاة والسلام بالوحي على الجزم بان ذلك سيقع، غير مستبعد. وقوله: قال عتبان، ظاهر هذا السياق أن الحديث من أوله إلى هنا من رواية محمود بن الربيع بدون واسطة، ومن هنا إلى آخره من روايته عن عتبان صاحب القصة. وقد يقال: القدر الأول مرسل, لأن محمودًا يصغر عن حضور ذلك، لكن وقع التصريح في أوله بالتحديث، بين عتبان ومحمود من رواية الأوزاعي، عن ابن شهاب عند أبي عَوانة. وكذا وقع تصريحه بالسماع عند المصنف من طريق معمر، ومن طريق إبراهيم بن سعد، كما في الباب الماضي، فيحمل قوله: قال عتبان، على أن محمودًا أعاد اسم شيخه اهتمامًا بذلك، لطول الحديث. وقوله: فغدا رسول الله، وفي رواية أبوي ذَرٍّ والوَقت "فغدا عليّ رسول الله" وزاد الإسماعيليّ "بالغد". وقوله: وأبو بكر، لم يذكر جمهور الرواة عن ابن شهاب غيره، حتى أن في رواية الأوزاعي "فاستأذنا فأذنت لهما" لكن في رواية أبي أُويس "ومعه أبو بكر وعمر"، ولمسلم "فأتاني ومن شاء الله من أصحابه"

وللطبرانيّ "في نفر من أصحابه" فيحتمل الجمع بأن أبا بكر صحبه وحده في ابتداء التوجه، ثم عند الدخول أو قبله اجتمع عمر وغيره من الصحابة، فدخلوا معه. قلت: هذا لا يحصل به الجمع مع رواية الأوزاعيّ السابقة "فاستأذنا فأذنت لهما". وقوله: فلم يجلس حين دخل، وللكشميهني "حتى دخل" ومعناها: فلم يجلس في الدار، ولا غيرها، حتى دخل البيت مبادرًا إلى ما جاء بسببه. وفي رواية يعقوب عند المصنف والطيالسيّ "فلما دخل لم يجلس حتى قال: أين تحب أن أصلي لك؟ " وهي أبين في المراد, لأن جلوسه إنما وقع بعد صلاته، بخلاف ما وقع منه في بيت مليكة، حيث جلس فأكل ثم صلى, لأنه هناك دُعي إلى الطعام، فبدأ به، وهنا دعي إلى الصلاة فبدأ بها. وقوله: أن أصلي من بيتك، وللكشميهني "في بيتك" وقوله "فقمنا فصففنا" بالفاء للأربعة، و"نا" فاعل، ولغيرهم "فصفَّنا" بالإدغام و"نا" مفعول. وقوله: ثم سلم، يستنبط منه مشروعية النافلة في جماعة بالنهار. وقوله: وحبسناه، أي منعناه من الرجوع بعد الصلاة. وقوله: على خَزِيرة بخاء مفتوحة بعدها زاي مكسورة. ثم ياء تحتانية ثم راء ثم هاء، وهي تصنع من لحم يقطع صغارًا، ثم يصب عليها ماء كثير، فإذا نضج ذُرَّ عليه الدقيق، وإن لم يكن فيه لحم فهو عَصيدة. وزاد يعقوب "من لحم بات ليلة" وقيل: هي حساء من دقيق فيه دسم، وحكى الأزهريّ أن الخزيرة من النخالة، وحكاه المصنف عن النضر بن شميل في كتاب الأطعمة. قال عياض: المراد بالنخالة دقيق لم يغربل، ويؤيد هذا التفسير ما في مسلم من قوله "على جَشِيشة" بجيم ومعجمتين. قال أهل اللغة: هي أن تطحن الحنطة ثم يلقى فيها شحم أوغيره، ورويت في الصحيحين بحاء وراءين مهملات، والتي بمهملات تصنع من اللَّبن كما حكاه المصنف في الأطعمة عن النضر. وقوله: فثاب في البيت رجال، بمثلثة وبعد الألف موحدة، أي اجتمعوا بعد

أن تفرقوا. قال الخليل: المثابةُ مجتمع الناس بعد افتراقهم. ومنه قيل للبيت: مثابة. ويقال: ثاب إذا رجع، وثاب إذا أقبل. وقوله: من أهل الدار، أي المحلة، لقوله "خير دور الأنصار دار بني النجار" أي محلتهم. والمراد أهلها وقيل: ثاب هنا معناه جاء بعضهم إثر بعض، ولا يحسن تفسيره باجتمعوا، لقوله بعده "فاجتمعوا" فيلزم منه عطف الشيء على مرادفه، وهو خلاف الأصل. وقوله: فقال قائل منهم، لم يسم ذلك القائل. وقوله: أين مالك بن الدُّخَيَشن، يأتي تعريفه قريبًا، وضبطه في الكلام على السند. وقوله: قال بعضهم، قيل: هو عتبان بن مالك راوي الحديث. وقوله: ألا تراه قد قال لا إله إلا الله، أي مع قوله محمد رسول الله، وقوله: يريد بذلك وجه الله تعالى، أي ذات الله تعالى، وقد استوفينا الكلام عليه في حديث سعد بن أبي وقّاص في آخر كتاب الإيمان. وبشهادة الرسول عليه الصلاة والسلام له بالإخلاص انتفت عنه الظنة. وقوله: قال الله ورسوله أعلم، أي قال القائل، ولمسلم "أليس يشهد أن لا إله إلا الله" وكأنهم فهموا من هذا الاستفهام أن لا جزم بذلك، ولولا ذلك لم يقولوا في جوابه: إنه لَيَقول ذلك وما هو في قلبه، كما عند مسلم. وقوله: فإنا نرى وجهه، أي توجهه. وقوله: ونصيحته إلى المنافقين، قال الكرمانيّ: يقال نصحت له لا إليه، ثم قال: قد ضمن معنى الانتهاء، والظاهر أن قوله إلى المنافقين متعلق بقوله "وجهه" فهو يتعدى بإلى، ومتعلق "نصيحته" محذوف للعلم به. وقوله: قال ابن شهاب، أي بالإسناد الماضي، ووهم من قال إنه معلق. وقوله: ثم سألت، زاد الكشميهني "بعد ذلك"، والحصين يأتي تعريفه قريبًا. وقوله: من سَراتهم، بفتح المهملة، أي خيارهم، جمع سَريّ. قال أبو عبيد: هو المرتفع القدر من سرا الرجل يَسْرو إذا كان رفيع القدر، وأصله من السَّراة، وهو أرفع المواضع من ظهر الدابة. وقيل هو رأسها. وقوله: فصدقه بذلك، يحتمل أن يكون الحصين سمعه أيضًا من عتبان، ويحتمل أن يكون سمعه من

صحابيّ آخر، وليس للحصين ولا لعتبان في الصحيحين سوى هذا الحديث. وقد أخرجه البخاري في أكثر من عشرة مواضع مطولًا ومختصرًا، وقد سمعه من عتبان أيضًا أنس بن مالك، كما عند مسلم. وسمعه أيضًا أبو بكر بن أنس مع أبيه من عتبان كما عند الطبرانيّ. ويأتي في "باب النوافل جماعة" أن أبا أيوب الأنصاري سمع محمود بن الربيع يحدث به عن عتبان، فأنكره، لما يقتضيه ظاهره من أن النار محرمة على جميع الموحدين، وأحاديث الشفاعة دالة أن بعضهم يعذب، لكن للعلماء أجوبة عن ذلك، منها أن ذلك فيمن قال الكلمة وأدى حقها وفرضيتها، فيكون الامتثال والانتهاء مُدْرَجَين تحت الشهادتين. ومنها ما رواه مسلم عن ابن شهاب أنه قال عقب حديث الباب: ثم نزلت بعد ذلك فرائضُ وأمورٌ، نرى أن الأمر قد انتهى إليها فمن استطاع أن لا يغتر فلا يغتر. وفي هذا نظر. لأن الصلوات الخمس نزل فرضها قبل هذه الواقعة، وظاهره يقتضي أن تاركها لا يعذب إذا كان موحدًا، وأيضًا وقع مثل هذا الحديث لأبي هريرة كما عند مسلم، وصحبته متأخرة عن نزول كثير من الفرائض، وكذا ورد نحوه من حديث أبي موسى، رواه أحمد بإسناد حسن، وكان قدومه في السنة التي قدم فيها أبو هُريرة، ومنها أن ذلك خرج مخرج الغالب, لأن الغالب أن الموحد إذا قالها مخلصًا لا يترك الفرائض, لأن الإخلاص يحمل على أداء اللازم. ومنها أن المراد تحريم الخلود، أو تحريم دخول النار المعدة للكافرين، لا الطبقة المعدة للعصاة، ومنها أن المراد تحريم دخول النار بشرط حصول قبول العمل الصالح، والتجاوز عن السيء، ومنها أن المراد بتحريمه على النار حرمة جملته، لأن النار لا تأكل مواضع السجود من المسلم، وكذا لسانه الناطق بالتوحيد، ومنها أن مطلَقَه مقيدٌ بمن قالها تائبًا، ثم مات على ذلك قبل أن يتمكن من الإتيان بأمر آخر. قاله في الفتح بزيادة يسيرة من المرقاة. وفي هذا الحديث من الفوائد إمامة الأعمى واخبار المرء عن نفسه بما فيه

رجاله ستة

من عاهة، ولا يكون من الشكوى، وأنه كان في المدينة مساجد للجماعة سوى مسجده -صلى الله عليه وسلم-، والتخلف عن الجماعة في المطر والظلمة ونحو ذلك، واتخاذ موضع معين للصلاة، وأما النهي عن إيْطانِ موضعٍ معينٍ من المسجد، ففيه حديث رواه أبو داود، وهو محمول على ما إذا استلزم رياء ونحوه، وفيه تسوية الصفوف، وأن عموم النهي عن إمامة الزائر من زاره، مخصوص بما إذا كان الزائر هو الإِمام الأعظم، فلا يكره، وكذا من أذن له صاحب المنزل، وفيه التبرك بالمواضع التي صلى فيها النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو وطئها، ويستفاد منه إن دُعِي من الصالحين ليتبرك به أنه يجب إذا أَمِنَ الفتنة، ويحتمل أن يكون عتبان إنما طلب بذلك للوقوف على جهة القبلة بالقطع. وفيه إجابة الفاضل دعوة المفضول، والتبرك بالمشيئة، والوفاء بالوعد، واستصحاب الزائر بعض أصحابه إذا علم أن المستدعي لا يكره ذلك، والاستئذان على الداعي في بيته، وإنْ تقدم منه طلب الحضور، وأن اتخاذ مكان في البيت للصلاة لا يخرجه عن ملك صاحبه، ولو أطلق عليه اسم المسجد، بخلاف المسجد المتخذ في المحلة، وفيه اجتماع أهل المحلة على الإِمام أو العالم، إذا ورد منزل بعضهم، ليستفيدوا منه، ويتبركوا به، والتنبيه على من يظن به الفساد في الدين عند الإِمام على جهة النصيحة، ولا يعد ذلك غيبة، وأنّ على الإِمام أن يتثبت في ذلك، ويحمل الأمر فيه على الوجه الجميل، وفيه افتقاد من غاب عن الجماعة بلا عذر، وأنه لا يكفي في الإيمان النطق من غير اعتقاد، وأنه لا يخلد في النار من مات على التوحيد، وأن العمل الذي يبتغى به وجه الله تعالى ينجي صاحبه إذا قبله الله تعالى، وأن من نَسَب مَن يظهر الإِسلامَ إلى النفاق ونحوه، بقرينة تقوم عنده، لا يُكفَّر بذلك ولا يُفَسّق، بل يعذر بالتأويل. رجاله ستة: وفيه ذكر مالك بن الدُّخَيشن، والحصين بن محمد وأبو بكر ولفظه: فقال قائل:

الأول من رجاله سعيد بن عُفير، وقد مرَّ في الثالث عشر من كتاب العلم، ومرَّ الليث وعقيل وابن شهاب في الثالث من بدء الوحي، ومرَّ محمود بن الربيع في التاسع عشر من كتاب العلم، ومرَّ عتبان في الذي قبل هذا، ومرَّ أبو بكر الصديق في باب "من لم يتوضأ من لحم الشاة" بعد السبعين من كتاب الوضوء. وأما مالك، فهو ابن الدُّخْشُم، بضم المهملة والمعجمة بينهما خاء معجمة، ويقال: بالنون بدل الميم، ويقال كذلك بالتصغير، من بني عوف بن عمرو بن عوف الأنصاريّ الأوسيّ، مختلف في نسبته. شهد العقبة في قول ابن إسحاق وموسى والواقديّ، وقال أبو مَعْشَر: لم يشهد العقبة، وكذلك قال داود بن الحصين، ولم يختلفوا أنه شهد بدرًا وما بعدها من المشاهد، وهو الذي أَسَرَ سُهيل بن عمرو يوم بدر، وأنشد الزبير بن بكّار في أسر سهيل: أسرتُ سهيلًا ولن أبتغي ... أسيرًا به من جميع الأمم وخندفُ تعلم أنّ الفتى ... سهيلًا فتاها إذا تصطلم ومن طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: أرسله النبي -صلى الله عليه وسلم- مع مَعن بن عَدِيّ فأحرقا مسجد الضرار، وكان يتهم بالنفاق، وهو الذي أسَرَّ فيه الرجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أليس يشهد أن لا إله إلا الله؟ فقال الرجل: بلى، ولا شهادة له. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أليس يصلي؟ قال: بلى، ولا صلاة له. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:"أولئك الذين نهاني الله عنهم". والرجل الذي سارَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- فيه هو عتبان بن مالك، وهذه القصة غير التي وقعت في بيت عتبان بن مالك، حين صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في بيته. قال ابن عبد البَر: لا يصح عنه النفاق، وقد ظهر من حسن إسلامه ما يمنع من اتهامه. والحصين المراد به حُصين بن محمد الأنصاريّ السالميّ المدنيّ، وكان من سَراتهم. سأله الزُّهريّ عن حديث محمود بن الربيع عن عتبان بن مالك فصدقه. قال أبو حاتم: روى عن عتبان، وعنه الزُّهريّ، مرسل ذكره ابن حبّان في الثقات، وذكره البخاريّ في تاريخه وغير واحد فيمن اسمه حصين، وزعم

باب التيمن في دخول المسجد وغيره

القابسيّ وغيره من حُفّاظ المغاربة أنه بالضاد المعجمة، وذلك وهم, لأنه لا خلاف بين أهل العلم أن حُضَين بن المنذر الرَّقَاشِيّ اسم فرد، والباقون بالمهملة، أخرجوا له الحديث الواحد المذكور. وقال الحاكم: قلت للدارقطني: حصين بن محمد السالميّ الذي يروي عنه الزهري؟ قال: ثقة، إنما حكى عنه الزهريّ حديثين. وليس في الستة حُصَين بن محمد سواه. ثم قال المصنف: باب التيمن في دخول المسجد وغيره قوله: التيمن، أي البداءة باليمين، وقوله: وغيره، أي غير الدخول، أو غير المسجد كالبيت، وهو بالخفض عطفًا على المسجد، أو على الدخول، والأخير أفيد. ثم قال: وكان ابن عمر يبدأ برجله اليمنى، فإذا خرج بدأ برجله اليسرى. قوله: برجله اليمنى، أي دخول المسجد. قال في الفتح: لم أره موصولًا عنه، لكن في المستدرك للحاكم عن أنس أنه كان يقول: من السنة إذا دخلت المسجد أن تبدأ برجلك اليمنى، وإذا خرجت أن تبدأ برجلك اليسرى، والصحيح أن قول الصحابيّ من السنة محمول على الرفع، لكنْ لمّا كان حديث أنس ليس على شرطه، أشار إليه بأثر ابن عمر. قلت: إنما يتم هذا لو كان أثر ابن عمر على شرطه، وقد مرَّ عنه أنه لم ير من وصله. فكيف يشير به؟ وابن عمر قد مرَّ في كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه.

الحديث الحادي والثلاثون

الحديث الحادي والثلاثون حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ الأَشْعَثِ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُحِبُّ التَّيَمُّنَ مَا اسْتَطَاعَ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ فِي طُهُورِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَتَنَعُّلِهِ. وعموم حديث عائشة يدل على البداءة باليمين في الخروج من المسجد أيضًا، ويحتمل أنْ يقال إنّ في قولها "ما استطاع" احترازًا عما لا يستطيع فيه التيمن شرعًا، كدخول الخلاء، والخروج من المسجد، وكذا تعاطي الأشياء المستقذرة باليمين، كالاستنجاء والتمخط. وقد علمت عائشة، رضي الله تعالى عنها، حبه عليه الصلاة والسلام لما ذكرت، إما بإخباره لها بذلك، وإما بالقرائن. وقوله: في شأنه، متعلق بالتيمن أو بالمحبة أو بهما، فيكون من باب التنازع. وقد تقدمت مباحث هذا الحديث مستوفاة في باب "التيمن في الوضوء والغسل" من كتاب الوضوء. رجاله ستة: الأول: سليمان بن حرب، وقد مرَّ في الرابع عشر من كتاب الإيمان، ومرَّ شعبة في الثالث منه، ومرَّ مسروق في السابع والعشرين منه، ومرَّ الأشعث بن سليم وأبوه سليم في الثالث والثلاثين من كتاب الوضوء، ومرت عائشة في الثاني من بدء الوحي، وقد مرَّ في الوضوء الكلام على مواضع إخراجه. ثم قال المصنف: باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية ويتخذ مكانها مساجد؟ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- "لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" وما يكره من الصلاة في القبور

قوله: مشركي الجاهلية، أي دون غيرها من قبور الأنبياء وأتباعهم، والاستفهام في قوله "هل" للتقرير، كقوله تعالى {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْر} [الإنسان: 1] أي: يجوز نبشها, لأنها لا حرمة لها. وقوله: ويتخذ مكانها مساجد، أي بالنصب مفعولًا ثانيًا ليُتّخذ، المبني للمفعول، ومكانها بالرفع نائب عن الفاعل. وفي رواية "مساجدُ" بالرفع نائب عن الفاعل، ومكانها نصب على الظرفية، ويتخذ حينئذ متعدٍ إلى مفعول واحد. وقوله: لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- ... إلخ، ووجه التعليل هو أن الوعيد على ذلك يتناول من اتخذ قبورهم مساجد، تعظيمًا ومغالاة، كما صنع أهل الجاهلية، وجرَّهم ذلك إلى عبادتهم. ويتناول من اتخذ أمكنة قبورهم مساجد بأن تنبش وترمى عظامهم، وهذان يختصان بالأنبياء ويلتحق بهم أتباعهم، وأما الكفرة فلا حرج في نبش قبورهم، إذ لا حرمة في إهانتهم، ولا يلزم من اتخاذ المساجد في أمكنتها تعظيمهم، فعرف بهذا أنْ لا تعارض بين فعله عليه الصلاة والسلام في نبش قبور المشركين، واتخاذ مسجده مكانها، وبين لعنه، عليه الصلاة والسلام، من اتخذ قبور الأنبياء، لما تبين من الفرق. والمتن الذي أشار إليه، وصله في باب الوفاة، في آخر المغازي عن عائشة بهذا اللفظ، ووصله في الجنائز، وزاد فيه "والنصارى" وذكره في عدة مواضع من طرق أخرى بهذه الزيادة، واستشكلت هذه الزيادة بأنّ النصارى ليس لهم نبي إلا عيسى بن مريم، ولم يقروا بنبوته، بل بإلهيته أو بنبوته، ولم يمت، ولم يدفن. ويأتي الباب التالي لباب الصلاة في البِيعة حيث ذكرتِ الزيادةُ هناك الجوابَ عما ذكر. وقوله: وما يكره من الصلاة في القبور، يتناول ما إذا وقعت الصلاة على القبر أو إلى القبر أو بين القبرين، وفي ذلك حديث رواه مسلم عن أبي مرثد الغنويّ، مرفوعًا "لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها أو عليها" وليس على شرطه، فأشار إليه في الترجمة. وقوله: وما يكره، عطف على "هل تنبش" واستشكل عطف الجملة الخبرية على جملة الاستفهام الطلبية، وأجيب بأن

جملة الاستفهام التقريري في حكم الخبرية. ثم قال: ورأى عمر أنس بن مالك يصلي عند قبر، فقال: القبرَ القبرَ، ولم يأمره بالإعادة. وقوله: القبرَ القبرَ، بالنصب فيهما على التحذير، محذوف العامل وجوبًا، أي اتقِ، أو اجتنب القبرَ. وقوله: ولم يأمره بالإعادة، استنبطه مق تمادي أنس على الصلاة، ولو كان ذلك يقتضي فسادها لقطعها واستأنف. ومذهب مالك أن الصلاة في المقبرة جائزة، بدون كراهة، إن أمنت من النجس, عامرة كانت أو دراسة، تيقن نبشها أو شك فيه، جعل بينه وبينها حائل أم لا، كانت لمسلم أو لمشرك، ولو كان القبر بين يديه، ولا إعادة عليه على المشهور في الجميع. وقال ابن حبيب من المالكية: إن صلى في مقابر الكفار؛ فإن كانت عامرة أعاد أبدًا، أو دارسة فلا إعادة. وفي مقابر المسلمين لا إعادة مطلقًا. وقال عبد الوهاب: تكره في الجديد من مقابر المسلمين، وفي القديمة إن كانت منبوشة، ما لم يجعل بينه وبينها حصيرًا، وتكره في مقابر المشركين، وإن شك في النجاسة أعاد في الوقت، وان تحققت أعاد العامد والجاهل أبدًا والناسي في الوقت، وعند الشافعية تكره الصلاة عليها لكونه صلى على نجاسة، ولو كان بينهما حائل، وقيل: لا كراهة لكونه صلى مع الفرش على النجاسة مطلقًا. كما قال القاضي حسين. وقال ابن الرقعة: إن الكراهة لحرمة الميت، أما لو وقف بين القبور بحيث لا يكون تحته ميت ولا نجاسة، فلا كراهة إلا في المنبوشة، فلا تصح الصلاة فيها. قال في التوشيح: ويستثنى مقبرة الأنبياء، فلا كراهة فيها, لأن الله حرم على الأرض أن تأكل أجسادهم، وأنهم أحياء في قبورهم يصلون، ولا يشكل بحديث "لعن الله اليهود، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" لأن اتخاذها مساجد أخص من مجرد الصلاة فيها، والنهي عن الأخص لا يستلزم النهي عن الأعم. قال في التحقيق: ويحرم أن يصلّى متوجهًا إلى قبره عليه الصلاة والسلام ويكره إلى غيره مستقبل آدميٌ, لأنه يشغل القلب غالبًا، ويقاس بما ذكر في قبره عليه الصلاة والسلام سائر قبور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولما احتاجت

الصحابة رضي الله تعالى عنهم، والتابعون إلى زيادة مسجده عليه الصلاة والسلام، بنوا على القبر حيطانًا مرتفعة مستديرة قوله، لئلا تصل إليه العوام، فيؤدي إلى ذلك المحذور، ثم بنوا جدارين بين ركني القبر الشمالي حرفوها حتى التقيا، حتى لا يمكن أحد أن يستقبل القبر. وذهب الثوريّ وأبو حنيفة والأوزاعي إلى كراهة الصلاة في المقبرة مطلقًا، وذهب أحمد إلى تحريم الصلاة فيها, ولم يفرق بين المنبوشة وغيرها, ولا بين أن يُفرش عليها شيء يقيه من النجاسة، أم لا, ولا بين أن تكون بين القبور أو في مكان منفرد عنها، كالبيت والعلو. قال في "تنقيح المقنع": ولا تصح الصلاة تعبدًا في مقبرة غير صلاة الجنازة، ولا يضر قبران، ولا ما دفن بداره، وذهب أهل الظاهر إلى تحريم الصلاة في المقبرة، سواء كانت مقابر المسلمين أو الكفار.

الحديث الثاني والثلاثون

الحديث الثاني والثلاثون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتَا كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِالْحَبَشَةِ فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَذَكَرَتَا لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، فَأُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". قوله: عن عائشة، وللإسماعيليّ "أخبرتني عائشة" وقوله: ذكرتا، كذا لأكثر الرواة، وللحمويّ والمستملي "ذكرا" بالتذكير، وهو مشكل، ولعله سبقُ قلمٍ من الناسخ، وقوله: كنيسة، بفتح الكاف هي معبد النصارى. وقوله: رأينها بالحبشة، أي بنون الجمع، على أن أقل الجمع اثنان، أو على أنه كان معهما غيرهما من النسوة، ولأبي ذرٍّ والأصيلي: رأتاها، بالمثناة الفوقية بضمير التثنية على الأصل. وفي رواية: رأياها، بالمثناة التحتية. وقوله: فيها تصاوير، أي تماثيل، والجملة في موضع نصب صفة لكنيسة، ويأتي للمصنف قريبًا في باب "الصلاة في البيعة" أن تلك الكنيسة تسمى "مارِيَة" بكسر الراء وتخفيف الياء. وقوله: إن أولئك، بكسر الكاف؛ لأن الخطاب لمؤنث، ويجوز الفتح. وقوله: فمات، عطف على كان. وقوله: تلك الصور، وللمستملي "تيكِ الصور" بالياء التحتانية بدل اللام، وفي الكاف فيها وفي أولئك بعدها، ما في "أولئك" الماضية. وقوله: شِرار الخلق، بكسر الشين المعجمة جمع شَر، كبحر وبحار. وأما أشرار فهي جمع شَرّ كزند وأزناد، وإنما صور أوائلهم الصور، كما قال القرطبي: ليتأنسوا برؤية تلك الصور، ويتذكروا أحوالهم الصالحة، ليجتهدوا كاجتهادهم، ثم خَلَف من بعدهم خَلْق جَهِلوا مرادهم، ووسوس لهم الشيطان

رجاله خمسة

أن أسلافهم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها فعبدوها، فحذر عليه الصلاة والسلام عن مثل ذلك، سدًا للذريعة المؤدية إلى ذلك. وقال البيضاويّ: لما كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور الأتبياء تعظيمًا لشأنهم، ويجعلونها قبلة يتوجهون في الصلاة نحوها، واتخذوها أوثانًا، لعنهم، ومنع المسلمين عن مثل ذلك. فأما من اتخذ مسجدًا بجوار صالح، وقصد التبرك بالقرب منه، لا التعظيم له ولا التوجه نحوه، فلا يدخل في ذلك الوعيد. وفي الحديث دليل على تحريم التصوير، وحمل بعضهم الوعيد على من كان في ذلك الزمان، لقرب العهد بعبادة الأوثان. وأما الآن فلا، وقد أطنب ابن دقيق العيد في رد ذلك، وقد مرَّ الكلام على التصاوير مستوفى باب "إن صلى في ثوب مصلب" إلخ. وفيه جواز حكاية ما يشاهده المؤمن من العجائب، ووجوب بيان حكم ذلك على العالم به، وذم فاعل المحرمات، وأنّ الاعتبار في الأحكام بالشرع لا بالعقل، وفيه كراهية الصلاة في المقابر، وقد مرَّ قريبًا، قبل هذا الحديث، بيان ما قيل في ذلك من مذاهب العلماء. وفيه منع بناء المساجد على القبور، ومقتضاه التحريم، كيف وقد ثبت اللعن عليه؟ وصرح الشافعيّ وأصحابه بالكراهة، وقد مرَّ تصير البيضاويّ للمراد بالنهي عن بنائها. وقال البندبيجيُّ: المراد أن يسوّى القبر مسجدًا فيصلى فوقه. وقال: إنه يكره أن يبنى عنده مسجد، فيصلى فيه إلى القبر. وأما المقبرة الدائرة، إذا بُني مسجدٌ ليصلى فيه، فلا بأس فيه, لأن المقابر وَقْف، وكذا المساجد فمعناهما واحد. رجاله خمسة: وفيه ذكر أم سلمة وأم حبيبة. الأول محمد بن المثنى، وقد مرَّ في التاسع من كتاب الإيمان، ومرَّ يحيى القطان في السادس منه، ومرَّ هشام بن عروة وأبوه عُروة وعائشة في الثاني من بدء الوحي. ومرت أم سلمة في السادس والخمسين من كتاب العلم.

وأما أم حبيبة فهي رملة بنت أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس، الأموية، زوج النبي -صلى الله عليه وسلم-، تكنى أم حبيبة، وهي بها أشهر من اسمها، وقيل اسمها هند، والأول أصح، أمها صفية بنت أبي العاص بن أمية، عمة عثمان، وُلدت قبل الهجرة بسبعة عشر عامًا، تزوجها حليفهم عُبيد الله، بالتصغير، ابن جحش بن رباب بن يعمر الأسديّ، من بني أسد بن خُزيمة، فأسلما ثم هاجرا إلى الحبشة، فولدت له حبيبة، فيها كانت تكنى. وقيل: إنما ولدتها بمكة، وهاجرت وهي حامل بها إلى الحبشة. وتزوج حبيبة داود بن عُروة بن مسعود، ولما تنصر زوَّجها عُبيدَ الله، وارتد فارقها، فأخرج ابن سعد أنها قالت: رأيت في المنام كأنَّ زوجي عبيد الله بن جحش بأسوأ صورة، ففزعت، فأصبحت فإذا به قد تنصر، فأخبرته بالمنام فلم يحفل به، وأكبَّ على الخمر حتى مات. فأتاني آتٍ في نومي فقال: يا أم المؤمنين، ففزعت، فما هو إلا أن انقضت عدتي، فما شعرت إلا برسول النجاشي يستأذن، فإذا هي جارية له يقال لها أبرهة، فقالت: إن الملك يقول لك وكلي من يزوجك، فأرسلت إلى خالد بن سعيد بن العاص بن أمية فوكلته، وأعطيت أبرهة سِوارين من فضة، فلما كان العشيّ أمر النجاشي جعفر بن أبي طالب فحمد الله تعالى وأثنى عليه، وتشهد ثم قال: أما بعد، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كتب إليَّ أن أزوجه أم حبيبة، فأجبت. وقد أصدقتها عنه أربع مئة دينار، ثم سكب الدنانير، فخطب خالد فقال: قد أجبت إلى ما دعا إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وزوجته أم حبيبة، وقبض الدنانير. وعمل لهم النجاشيّ طعامًا. قالت أم حبيبة: فلما وصل المال أعطيت أبرهة منه خمسين دينارًا قالت: فردتها عليّ وقالت: إنّ الملك قد عزم عليّ بذلك، وردت علي ما كنت أعطيتها أولًا، ثم جاءتني من الغد بعُود وَوَرْسٍ وعنبر وزَبَاد كثيرٍ، فقدمت به معي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وروى ابن سعد أن ذلك كان سنة سبع، وقيل سنة ست، والأول أشهر، ومن طريق الزهريّ أن الرسول إلى النجاشيّ شُرحبيلُ بن حَسَنة، وبعث بها معه وجاء بها. ومن طريق أخرى أن الرسول إلى النجاشيّ بذلك، كان عمرو بن أمية

الضمريّ، ومن طريق عبد الواحد بن أبي عَون قال: لما بلغ أبا سفيان أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- نكح ابنته، قال: هو الفحل لا يقاع أنفه. وقيل: نزلت في ذلك {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً} [الممتحنة: 7] وقال ابن عبد البر: إن الذي عقد لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- عثمانُ بن عفان. قال ابن حَجَر: وهذا بعيد، فإن ثبت فيكون العقد عليها كان قبل الهجرة إلى المدينة، أو يكون عثمان جدَّده بعد أن قدمت المدينة، وعلى هذا يحمل قول من قال: إن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- إنما تزوجها بعد أن قدمت المدينة، رُوي ذلك عن قتادة قال: وعمل لهم عثمان وَليمةً لحمًا وثريدًا. وفي ما ذُكر عن قتادة، ردٌّ على دعوى ابن حزم الإجماعَ على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما تزوج أم حبيبة وهي بأرض الحبشة، وتبعه على ذلك جماعة فقالوا: لا اختلاف بين أهل السير في ذلك، إلا ما وقع عند مسلم، أنّ أبا سفيان لما أسلم، طلب منه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يزوجه إياها، فأجابه إلى ذلك، وهو وهم من بعض الرواة. وفي الجزم بكونه وهمًا نظرٌ، فقد أجاب بعض الأئمة باحتمال أن يكون أبو سفيان أراد تجديد العقد، نعم، لا اختلاف أنه -صلى الله عليه وسلم- دخل على أم حبيبة قبل إسلام أبي سفيان، وقيل: عقد عليها له النجاشيّ، وأمهرها أربعة آلاف درهم، وبعث بها إليه وجهزها من عنده، وما بعث إليها النبي -صلى الله عليه وسلم- بشيء، وكان مهور سائر أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- أربع مئة درهم. وروى ابن سعد قال: قدم أبو سفيان المدينة، فأراد أن يزيد في الهدنة، فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، طوته دونه، فقال: يا بنية، أرغبتِ بهذا الفراش عني أم بي عنه؟ فقالت: بل هو فراش رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأنت امرؤ نجس مشرك. فقال: لقد أصابك بعدي شَر. وأخرج ابن سعد عن عائشة قالت: دعتني أم حبيبة عند موتها، فقالت: قد كان يكون بيننا ما يكون بين الضرائر، فتحللينني من ذلك، فحللتها واستغفرت لها، فقالت لي: سَرَرْتني سرك الله. وأرسلت إلى أم سلمة بمثل ذلك، روت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أحاديث، وعن زينب بنت جحش أم المؤمنين، وروت عنها بنتها

لطائف إسناده

حبيبة، وأخواها معاوية وعُتبة، وابن أخيها عبد الله، ومولاها سالم بن سوال، وزينب بنت أم سلمة، وعروة بن الزبير وآخرون. ماتت بالمدينة سنة أربع وأربعين، وقيل سنة اثنتين وأربعين. وقيل سنة تسع وخمسين، وهو بعيد. ورُويَ عن عليّ بن الحسين، رضي الله عنهما، قال: قدمت في منزلي في دار علي بن أبي طالب، فحفرنا في ناحية منه فأخرجنا حجراً منه، فإذا فيه مكتوب: هذا قبر رملة بنت صخر، فأعدناه مكانه. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والإخبار بصيغة الإفراد في موضع واحد، والعنعنة في موضعين. أخرجه البخاريّ هنا وفي هجرة الحبشة عن محمد بن المثنى، ومسلم في الصلاة والنَّسائيّ.

الحديث الثالث والثلاثون

الحديث الثالث والثلاثون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- الْمَدِينَةَ فَنَزَلَ أَعْلَى الْمَدِينَةِ، فِي حَيٍّ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ. فَأَقَامَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فِيهِمْ أَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى بَنِي النَّجَّارِ فَجَاءُوا مُتَقَلِّدِينَ السُّيُوفِ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَأَبُو بَكْرٍ رِدْفُهُ، وَمَلأُ بَنِي النَّجَّارِ حَوْلَهُ، حَتَّى أَلْقَى بِفِنَاءِ أَبِي أَيُّوبَ، وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يُصَلِّيَ حَيْثُ أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ، وَيُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ، وَأَنَّهُ أَمَرَ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ، فَأَرْسَلَ إِلَى مَلإٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ فَقَالَ: "يَا بَنِي النَّجَّارِ ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ هَذَا". قَالُوا: لاَ وَاللَّهِ، لاَ نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلاَّ إِلَى اللَّهِ. فَقَالَ أَنَسٌ: فَكَانَ فِيهِ مَا أَقُولُ لَكُمْ، قُبُورُ الْمُشْرِكِينَ، وَفِيهِ خَرِبٌ، وَفِيهِ نَخْلٌ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ، ثُمَّ بِالْخَرِبِ فَسُوِّيَتْ، وَبِالنَّخْلِ فَقُطِعَ، فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ، وَجَعَلُوا عِضَادَتَيْهِ الْحِجَارَةَ، وَجَعَلُوا يَنْقُلُونَ الصَّخْرَ، وَهُمْ يَرْتَجِزُونَ، وَالنَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مَعَهُمْ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ لاَ خَيْرَ إِلاَّ خَيْرُ * الآخِرَةَ فَاغْفِرْ لِلأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ. قوله: فنزل أعلى المدينة، وللأصيلي "في أعلى المدينة" وتأتي في الهجرة رواية "في علو المدينة" وكل ما في جهة نجد يسمى العالية، وما في جهة تهامة يسمى السافلة، وقباء من عوالي المدينة، وأخذ من نزوله عليه الصلاة والسلام التفاؤل له ولدينه بالعلو. وقوله: في حى، بتشديد الياء، القبيلة، وجمعه أحياء. وقوله: فأقام فيهم أربع عشرة ليلة، ولأبوي ذرٍّ والوقت، وابن عساكر "أربعًا وعشرين"، وصوب في "الفتح" الأُولى قال: وكذا رواه أبو داود عن مسدد، شيخ المؤلف فيه.

وقوله: فأرسل إلى بني النجار، وهم أخوال عبد المطلب؛ لأن أم سلمى منهم، فأراد النبي -صلى الله عليه وسلم- النزولَ عندهم، لما تحول من قباء. والنجار بطن من الخزرج، واسمه تيم الّلات بن ثعلبة، وقوله: متقلدين السيوف، أي بإثبات النون بلا إضافة، والسيوف منصوب بمتقلدين، أي جعلوا نجاد السيف على المنكب خوفًا من اليهود، وليروه ما أعدوه لنصرته عليه الصلاة والسلام. وفي رواية كريمة "متقلدي" بحذف النون، وجر السيوف بالإضافة، ومتقلدين حال على كلا الإعرابين. وقوله: على راحلته، أي ناقته، وهي القصواء. والراحلة تطلق على الذكر والأنثى من ركائب الإبل. وقوله: وأبو بكر رِدفه، أي بكسر الراء وسكون الدال، جملة اسمية حالية، أي راكب خلفه، وكأنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أراد تشريفه. والتنويه بقدره بإردافه له، وإلا فقد كان لأبي بكر، رضي الله تعالى عنه، ناقة هاجر عليها. وقوله: وملأ بني النجار، أي أشرافهم أو جماعتهم. وقوله: حوله، أي يمشون حوله، وكأنهم يمشون معه عليه الصلاة والسلام أدبًا، والجملة حالية. وقوله: حتى ألقى، أي نزل، والمراد ألقى رحله. وقوله: بفِناء، هو بكسر الفاء، الناحية المتسعة أمام الدار. وقوله: إنه أمر بكسر همزة إن ويجوز فتحها، وأمر بفتح الهمزة مبني للفاعل، وبضمها على البناء للمفعول، والضمير في "إنه" على الأول، له عليه الصلاة والسلام، وعلى الثاني للشأن. وقوله: ثامنوني، بالمثلثة أي اذكروا لي ثمنه، لأذكر لكم الثمن الذي اختاره. قال ذلك على سبيل المساومة، فكأنه قال ساوموني في الثمن. تقول: ثامنت الرجل في كذا إذا ساومته. وقوله: لا نطلب ثمنه إلا إلى الله، تقديره: لا نطلب الثمن، لكن الأمر فيه إلى الله، أو "إلى" بمعنى الانتهاء، والتقدير: ننهي طلب الثمن إلى الله، كما في قولهم: أحمد إليك الله، أي أُنهي حمده إليك، أو "إلى" بمعنى "مِن" كقول الشاعر: تقولُ وقد عاليتُ بالكُور فوقها ... أيسقى فلا يروى إلى ابن أحمر

وعند الإسماعيليّ: لا نطلب ثمنه إلا من الله. زاد ابن ماجه: أبدًا، وظاهر الحديث أنهم لم يأخذوا منه ثمنًا، وعند موسى بن عقبة عن الزهريّ أنه اشتراه بعشرة دنانير، وزاد الواقديّ أنّ أبا بكر دفعها لهما عنه. وقوله: بحائطكم، أي بستانكم. وفي رواية: أنه كان مِرْبدًا، أي محل تنشيف التمر، فلعله كان أولًا حائطًا ثم خرب فصار مِرْبدًا. ويؤيده قوله: إنه كان فيه نخل وخرب. وقيل: كان بعضه بستانًا وبعضه مربدًا. وقوله: فكان فيه ما أقول لكم، فسره بعد ذلك. وقوله: وفيه خَرِبَ، أي بفتح الخاء المعجمة وكسر الراء بعدها موحدة، جمع خَرِبَة، كَكَلِم وكَلِمة. وقال الخطابيّ: بكسر أوله وفتح ثانيه، جمع خِرْبة كعِنَب وعِنبه. وفي رواية "حَرْث" بفتح الحاء المهملة وسكون الراء بعدها مثلثة، وقد بين أبو داود أن رواية عبد الوارث بالمعجمة والموحدة، ورواية حماد بن سلمة بالمهملة والمثلثة. وقوله: فأمر بقبور المشركين فنبشت، واختلفوا هل تنبش لطلب المال؟ فأجازه الجمهور، ومنعه الأوزاعيّ، وهذا الحديث حجة للجواز, لأن المشرك لا حرمة له حيًا ولا ميتًا. وقوله: وبالخرب فسويت، وتسوية الخرب بأن يزال ما بقي منه ويسوى أرضه. وقوله: وبالنخل فقطع، وهو محمول على أنه لم يكن يثمر، إما بأن يكون ذكورًا، وإما أن يكون طرأ عليه ما قطع ثمرته، ويحتمل أن يثمر ولكن دعت الحاجة إليه لذلك. وقوله: فصفوا النخل قبلة المسجد، أي جعلوه صفًا في قبلة المسجد، أي جهتها لا القبلة الموجودة اليوم, لأن قبلته إذ ذاك كانت إلى بيت المقدس، وسيأتي في باب "بنيان المسجد" أن المسجد كان في عهده -صلى الله عليه وسلم- مبنيًا باللَّبِن، وسقفه الجريد، وعميده خشب النخل، ولم يزد فيه أبو بكر شيئًا، وزاد فيه عمر "وجعلوا طوله مما يلي القبلة إلى مؤخره مئة ذراع، وفي هذين الجانبين مثل ذلك، فهو مربع. وقيل: إنه كان أقل من مئة ذراع، وجعلوا الأساس قريبًا من ثلاثة أذرع، وجعل له ثلاثة أبواب: بابًا في مؤخره، وبابًا يقال له باب الرحمة، وهو الباب الذي يقال له باب العاتكة، والثالث الذي يدخل منه عليه الصلاة والسلام، وهو الذي يلي آل عثمان، وجعل طول الجدار قامة، ويبسطه.

وقوله: وجعلوا عِضادتيهِ الحجارة، بكسر المهملة وتخفيف المعجمة تثنية عِضادة، وهي الخشبة التي على كتف الباب، ولكل باب عضادتان، وإعضاد وكل شيء يشد جوانبه، وقوله: وهم يرتجزون، أي يتعاطون الرجز تنشيطًا لأنفسهم، ليسهل عليهم العمل، وهو ضرب من الشعر على الصحيح، وقد استشكل هذا مع قوله تعالى {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69] وأجيب بأن من أنشد القليل من الشعر أو قاله، أو تمثل به على وجه الندور، لا يستحق اسم شاعر، ولا يقال فيه يعلم الشعر، ولا ينسب إليه، على أنّ الخليل ما عد المشطور من الرجز شعرًا، وقال ابن التين: لا يطلق على الرجز شعر، إنما هو كلام مرجز مسجع، واختلف هل يحكي بيتًا واحدًا؟ فقيل: لا يتم إلا متغيرًا، ولما ذكر قول طرفة: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلًا ... ويأتيك من لم تزود بالأخبار فقال له أبو بكر: يا رسول الله، لم يقل هكذا، وإنما قال: ويأتيك بالأخبار من لم تزود، فقال: كلاهما سواء، فقال: أشهد أنك لست بشاعر، ولا تحسنه. وقوله: اللهم، معناه يالله، وقال البصريون: اللهم دعاء لله بجميع أسمائه، إذ الميم تشعر بالجمع كما في عليهم، وقال الكوفيون: أصله الله أَمَّنا بخير، أي اقصدنا. وقوله: فاغفر للأنصار، كذا في رواية الأكثرين، وللمستملي والحموي: فاغفر الأنصار، بحذف اللام، ووجهه أن يضمن اغفر معنى استر. وفي رواية أبي داود عن مسدد شيخ البخاريّ وشيخه بلفظ "فانصر الأنصار" والأنصار جمع نصير، كشريف وأشراف، وقد مرَّ الكلام عليهم مستوفى عند حديث "إنما الأعمال بالنيات". وقوله: والمهاجِرة، أي الجماعة المهاجرة، وهم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة النبوية محبة فيه، وطلبًا للآخرة، وقد استوفي الكلام على الهجرة عند الحديث المذكور. قال الكرمانيّ: اعلم أنه لو قرىء هذا البيت من الشعر ينبغي أن يوقف على الآخرة والمهاجرة، إلا أنه -صلى الله عليه وسلم- قرأهما بالتاء محركة، خروجًا عن وزن الشعر.

رجاله أربعة

قلت: لا يتزن في جميع الروايات، ولو وقف على الكلمتين الأخيرتين كما هو بديهي، لا يحتاج إلى تأمل، فالشطر الأول لا يتزن بوجه، والشطر الأخير يتزن بزيادة لام الجر قبل المهاجرة، ولم ترد زيادته في شيء من النسخ، وبما ذكرناه تعلم أن الاستشكال السابق ساقط من أصله، إذ ليس هنا رجز حتى يرد الإشكال. وفي الحديث جواز التصرف في المقبرة المملوكة بالبيع والهبة. قلت: هذا الأخذ غير عام، بل خاص بالمقبرة التي لا حرمة لها. وفيه جواز نبش القبور الدارسة إذا لم تكن محترمة، وجواز الصلاة في مقابر المشركين بعد نبشها وإخراج ما فيها، وجواز بناء المساجد في أماكنها.، وقد مرَّ في الحديث الذي قبل هذا عن البندبيجيّ أنّ المقبرة الداثرة لا بأس ببناء المسجد فيها، وكذا قال ابن القاسم المالكيّ: وقالت الحنفية: ان المسجد إذا خرب ولم تبق حوله جماعة، والمقبرة إذا عفت تعود ملكًا لأربابها، فإذا عادت ملكًا يجوز أن يبنى موضع المسجد دار وموضع المقبرة مسجد وغير ذلك. فإذا لم تكن لها أرباب تكون لبيت المال. رجاله أربعة: وفيه ذكر أبي بكر وأبي أيوب. الأول: مسدد، وقد مرَّ في السادس من كتاب الإيمان, ومرَّ عبد الوارث في السابع عشر من كتاب العلم، ومرَّ أبو التياح في الحادي عشر منه، ومرَّ أنس بن مالك في السادس من كتاب الإيمان, ومرَّ أبو بكر الصديق في باب "من لم يتوضأ من لحم الشاة" بعد السبعين من كتاب الوضوء، ومرَّ أبو أيوب الأنصاريّ في العاشر منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في موضعين، وفيه القول، ورواته كلهم بصريون. أخرجه البخاريّ هنا وفي موضعين من الوصايا،

باب الصلاة في مرابض الغنم

وفي هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- عن مسدد، وفي الحج عن أبي معمر، وفي البيوع عن موسى بن إسماعيل، وفي الوصايا والهجرة عن إسحاق، ومسلم وأبو داود والنَّسائيّ وابن ماجه في الصلاة. ثم قال المصنف: باب الصلاة في مرابض الغنم أي أماكنها، وهي بالموحدة والضاد المعجمة جمع مِرْبَض بكسر الميم، وقال العيني إنه بفتح الميم وكسر الباء.

الحديث الرابع والثلاثون

الحديث الرابع والثلاثون حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ، ثُمَّ سَمِعْتُهُ بَعْدُ يَقُولُ: كَانَ يُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ قَبْلَ أَنْ يُبْنَى الْمَسْجِدُ. وقوله: ثم سمعته بعد يقول: القائل لهذا هو شُعبة، يعني أنه سمع شيخه يزيد فيه القيد المذكور بعد أن سمعته منه بدونه، ويحتمل أن يكون القائل أبو التياح مخبرًا عن شيخه أنس، ومفهوم الزيادة أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يصل في مرابض الغنم بعد بناء المسجد، لكن قد ثبت إذنه في ذلك، كما مر مستوفى في كتاب الوضوء في باب أبوال الإبل والدواب إلخ، وحديث أنس هذا طرف من الحديث الذي قبله، لكن بَيَّن هناك أنه كان يحب الصلاة حيث أدركته، أي حيث دخل وقتها، سواء كانت في مرابض الغنم أو غيرها. وبين هنا أن ذلك كان قبل أن يبني المسجد، وبعد بناء المسجد صار لا يحب الصلاة في غيره إلا لضرورة. قال ابن بطّال: هذا الحديث حجة على الشافعيّ، ومن وافقه، في قولهم بنجاسة أبوال الغنم وأبعارها؛ لأن مرابض الغنم لا تسلم من ذلك، وتعقبه في "الفتح" بأن الأصل الطهارة وعدم السلامة منها غالبًا، وإذا تعارض الأصل والغالب قُدّم الأصل. قلت: تقديم الأصل على الغالب لعله مذهبه هو، وأما مذهب المالكية، الذي هو مذهب ابن بطال، ففيهما قولان متساويان أيهما يُقَدّم، مع أن عدم السلام هنا بعد اتخاذ المحل مَرْبِضًا ليس بغالب، بل متحقق، فلا يجري فيه ما مرَّ، مع أن مذهب الشافعية كما في "جمع الجوامع" تقديم الغالب على الأصل، إذا كان الغالب له سببًا كمن مرَّ بمن يبول في ماء كثير، ثم قرب إليه فوجده متغيرًا، فإنا نحكم بنجاسته، إحالةً على السبب

رجاله أربعة

الظاهر، مع احتمال تغيره بما لا يضر، كطول مكث، فإن استصحاب الأصل عارضه نجاستُه الظاهرة الغالبةُ ذات السبب، فقدمت على الطهارة. ومسألتنا هذه تماثل هذه المسألة التي لها سبب؛ لأن اتخاذ المحل مربضًا هو أعظم سبب لوجود البعر والبول. وهذا الحديث قد مرَّ في باب "أبوال الإبل والدواب" ومرَّ هناك استيفاء الكلام على مرابض الغنم. رجاله أربعة: الأول: سليمان بن حرب، وقد مرَّ في الرابع عشر من كتاب الإيمان, ومرَّ شعبة في الثالث منه، مرَّ أنس في السادس منه، ومرَّ أبو التياح في الحادي عشر من كتاب العلم. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في موضعين، وفيه القول. وقد مرَّ ذكر مواضع إخراجه في "أبوال الإبل". ثم قال المصنف: باب الصلاة في مواضع الإبل كأنه يشير إلى أن الأحاديث الواردة في التفرقة بين الإبل والغنم، ليست على شرطه، لكن لها طرق قوية. وقد مرَّ معظمها في باب "أبوال الإبل والدواب"، وفي معظمها التعبير بمعاطن الإِبل، وفي حديث جابر بن سمرة والراء "مبارك الإبل" ومثله في حديث سُلَيك عند الطبرانيّ، وفي حديث سَبرِة، وفي حديث أبي هُريرة عند التِّرمذيّ "أعطان الإبل" وفي حديث أُسَيد بن حُضَير عند الطبرانيّ "مُناخ الإبل" وفي حديث عبد الله بن عمر وعند أحمد "مرابد الإِبل" وفي حديث جابر بن سمرة عند الطحاويّ "أنَّ رجلًا قال: يا رسول الله، أصلي في مباءة الغنم؟ قال: نعم. قال أصلي في مباءة الإبل؟ قال: لا". والعطن اسم لمبرك الإبل عند الماء لتشرب عللًا بعد نَهَل، فإذا استوفت

رُدّت إلى المرعى. والمباءة اسم المنزل الذي تأوي إليه الإبل، والمبارك جمع مبرك، وهو موضع بروك الجمل في موضع كان، والمُناخ، بضم الميم، المكان الذي تناخ فيه الإبل، والمرابد، بالدال المهملة، الأماكن التي تحبس فيها الإبل، وغيرها من البقر والغنم، فكل عَطَن مَبْرك، وليس كل مبرك عطن، وعَبر المصنف بالمواضع لأنها أشمل، والمعاطن أخص من المواضع؛ لأن المعاطن مرَّ تفسيرها بأنها مباركها عند الماء خاصة، وذهب بعضهم إلى أن النهي خاص بالمعاطن دون غيرها من الأماكن، التي فيها الإبل. وقيل: هو مأواها مطلقًا. نقله صاحب المغني عن أحمد، وتكره الصلاة في معاطنها عند مالك والشافعي، وبه قال الحسن وإسحاق وأبو ثور، وذهب أبو حنيفة وصاحباه إلى عدم الكراهة. وعن أحمد في رواية مشهورة عنه أنه إذا صلى في أعطان الإِبل تفسد صلاته، وهو مذهب أهل الظاهر، وعند المالكية تكره الصلاة فيها ولو أمنت من النجس, بل ولو بسط على المحل شيئًا طاهرًا. والكراهة خاصة عندهم بالعطن دون المبيت والقيلولة، وقيل: تكره فيهما، ومن صلى فيها، فهل يعيد في الوقت سواء كان عامدًا أو جاهلًا أو ناسيًا، أو يعيد الناسي خاصة في الوقت، ويعيد العامد والجاهل بالحكم أبدًا؟ قيل: وجوبًا، وقيل: ندبًا؛ قولان، وهل الكراهة تعيد؟ وهل المختار عند المالكية، أو تعلل؟ قيل: العلة أنها خلقت من الشياطين، كما هو مصرح به في بعض الأحاديث السابقة في الباب الماضي ذِكْرُه آنفًا. وقيل: شدة نفارها، فتعطب من تلاقي حينئذ. وقيل: العلة هي أن عادة أصحاب الإبل التغوّط بقربها استتارًا بها، فتتنجس أعطانها، وعادة أهل الغنم ترك ذلك. وغلط من قال إن سبب ذلك ما يكون في معاطنها من أبوالها وأرواثها, لأن الغنم تشاركها في ذلك، وإنما ذهب من ذهب إلى كراهة التنزيه جمعًا بين عموم قوله "جُعلتْ لي الأرض مسجدًا وطهورًا" وبين الأحاديث المذكورة، يحملها على كراهة التنزيه. ووقع في مسند أحمد عن ابن عمر أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان

يصلي في مرابض الغنم، ولا يصلي في مرابض الإبل والبقر، وسنده ضعيف. ولو ثبت أفاد أن حكم البقر حكم الإبل، لكنه لم يثبت، وذكر ابن المنذر أن البقر في ذلك كالغنم، قلت: وهو مذهب المالكية.

الحديث الخامس والثلاثون

الحديث الخامس والثلاثون حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَيَّانَ قَالَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ يُصَلِّي إِلَى بَعِيرِهِ وَقَالَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَفْعَلُهُ. نازع الإسماعيليّ المصنف في استدلاله بحديث ابن عمر هذا، بأنه لا يلزم من الصلاة إلى البعير وجعله سترة عدمُ كراهية الصلاة في مبركه، وأجيب بأن مراده الإشارة إلى ما ذكر من علة النهي عن ذلك، وهي كونها من الشياطين، كما في حديث عبد الله بن مغفل والبراء، فكأنّه يقول: لو كان ذلك مانعًا من صحة الصلاة لامتنع في جعلها أمام المصلي، وكذلك صلاة راكبها. وقد ثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي النافلة وهو على بعيره، كما يأتي في أبواب الوتر. وتعقبه العينيّ بأن المؤلف لم يذكر علة النهي عن الصلاة في معاطن الإبل حتى يشير إليه. قلت: الجواب عن اعتراض العينيّ هو أنه سلّم له ما مرَّ، مِن أنه قصد بالترجمة الإشارة إلى الأحاديث المذكورة في النهي عن الصلاة في معاطن الإبل، وإذا ثبت أنه أشار بالترجمة إليها, لم تبعد الإشارة بالحديث إلى ما تضمنته من علة النهي، والله تعالى أعلم. وفرّق بعضهم بين الواحد منها وبين كونها مجتمعة، لما طبعت عليه من النفار المفضي إلى تشويش قلب المصلي، بخلاف الصلاة على المركوب منها، أو إلى جهة واحد معقول. وروى عبد الرزاق عن ابن عمر، أنه كان يكره أن يصلي إلى بعير إلا وعليه رحل، وكأنَّ الحكمة في ذلك أنها في حال شد الرحل عليها أقرب إلى السكون من حال تجريدها. وفي الحديث جواز التستر بالبعير، وما يستقر من الحيوان.

رجاله خمسة

وقد حكى التِّرمذيّ عن بعض أهل العلم أنهم لا يرون به بأسًا، وروى ابن أبي شيبة في مصنفه عن أنس أنه صلى وبينه وبين القبلة بعير عليه محمله، وروي أيضًا الاستتارُ بالبعير عن سويد بن علقمة، والأسود بن يزيد بالراحلة، خلافًا. وقال ابن حزم: من منع من الصلاة إلى البعير فهو مبطل، وحمل بعضهم ما وقع في السفر من الصلاة إلى البعير على حالة الضرورة، كصلاته إلى السرير الذي عليه المرأة، لكون البيت كان ضيقًا، وعلى فقول الشافعيّ: لا يستتر بامرأة ولا دابة، أي في حال الاختيار. رجاله خمسة: الأول: صَدَقة بن الفضل، وقد مرَّ في السادس والخمسين من كتاب العلم، ومرَّ نافع في الثالث والسبعين منه، ومرَّ عبيد الله بن عمر في الرابع عشر من كتاب الوضوء، ومرَّ عبد الله بن عمر في كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه. الخامس: سليمان بن حَيّان الأَزْديّ، أبو خالد الأحمر الكوفيّ، الجعفريّ، نزل فيهم. ولد بجُرجان. قال ابنُ معين: ثقة. وقال مَرّة ليس به بأس؛ وكذا قال النَّسائيّ. وقال ابن مَعين أيضًا: صدوق وليس بحجة. وقال وكيعٌ حين سئل عنه: ومن يسأل عنه؟ وقال أبو هاشم الرفاعيّ: حدثنا أبو خالد الأحمر الثقة الأمين. وقال أبو حاتم: صدوق، وقال الخطيب: كان سفيان يعيب أبا خالد لخروجه مع إبراهيم بن عبد الله بن حسن، وأما أمر الحديث فلم يكن يطعن عليه فيه. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، وذكره ابن حِبّان في الثقات. وقال العجليّ: ثقة ثبت صاحب سنة، وكان متحرفًا يؤاجر نفسه من التجار، وكان أصله شاميًا، إلا أنه نشأ بالكوفة. وقال أبو بكر البزّار: ليس ممن يلزم زيادته حجة، لاتفاق أهل العلم بالنقل أنه لم يكن حافظًا، وأنه قد روى أحاديث عن الأعمش وغيره لم يُتَابَع عليها. وقال ابن عديّ: له أحاديث صالحة، وإنما أُتي من سوء حفظه، فيغلط ويخطىء، وهو في الأصل كما قال ابن مَعين، صدوقٌ وليس بحجة.

لطائف إسناده

قال ابن حجر في مقدمته: له عند البخاري نحو ثلاثة أحاديث من روايته عن حُميد، وهشام بن عروة، وعبيد الله بن عبد الله بن عمر كلها مما توبع عليه، وعَلّق له عن الأعمش حديثًا واحدًا في الصيام، وروى له الباقون، روى عن سليمان التيميّ وحميد الطويل وهشام بن عُروة وعبيد الله بن عمر وغيرهم. وروى عنه أحمد وإسحاق وابنا أبي شيبة، وصدقة بن الفضل، وأبو كريب وخلق. وحدث عنه محمد بن إسحاق، وهو من شيوخه. مات سنة تسع وثمانين ومئة، وليس في الستة سليمان بن حيّان سواه. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، والعنعنة في موضع واحد، والقول والرواية في موضعين. ورواته ما بين مروزيّ وكوفيّ ومدنيّ. أخرجه البخاريّ هنا، وأخرجه فيما يأتي عن قريب، عن محمد بن أبي بكر المقدميّ، وأخرجه مسلم منقطعًا، وأبو داود والتِّرمذيّ، وقال: حسن صحيح. ثم قال المصنف: باب من صلى وقدامه تنور أو نار أو شيء مما يعبد فأراد به وجه الله تعالى قوله: وقدّامَه، بالنصب على الظرفية، والتَّنُّور، بفتح المثناة وتشديد النون المضمومة: ما توقد فيه النار للخبز وغيره، وهو في الأكثر يكون حُفيرة في الأرض، وربما كان على وجه الأرض. ووهم من خصه بالأول. قيل: هو معرب، وقيل: عربي توافقت عليه الألسنة، وإنما خصه بالذكر مع كونه ذكر النار بعده، اهتمامًا به, لأن عَبَدَة النار من المجوس لا يعبدونها إلا إذا كانت متوقدة بالجمر، كالتي في التنور. وأشار به إلى ما أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن سيرين أنه كره الصلاة إلى التنور، وقال: هو بيت نار. وقوله: أو شيء مما يعبد، من عطف العام على الخاص، فتدخل فيه الشمس مثلًا والأصنام والتماثيل. والمراد أن يكون ذلك بينه وبين القبلة. وقوله: فأراد به، أي أراد المصلي، الذي قُدّامَه شيء من هذه الأشياء، بفعله وجه الله

تعالى، أي ذاته، فلا تكره الصلاة إلى شيء من ذلك. وقالت الحنفية بكراهية الصلاة إلى شيء من ذلك مطلقًا، لما فيه من التشبه بعبدة الأشياء المذكورة ظاهرًا. ثم قال: وقال الزُّهريّ: أخبرني أنس قال: قال النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "عرضت عليّ النار وأنا أصلي" وهذا التعليق ذكره البخاري موصولًا في باب "وقت الظهر عند الزوال" وفي "الاعتصام" عن أبي اليَمان، ومسلم في فضائل النبي -صلى الله عليه وسلم-، والزُّهريّ قد مرَّ في الثالث من بدء الوحي، ومرَّ أنس في السادس من الإيمان.

الحديث السادس والثلاثون

الحديث السادس والثلاثون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: انْخَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ قَالَ: "أُرِيتُ النَّارَ، فَلَمْ أَرَ مَنْظَرًا كَالْيَوْمِ قَطُّ أَفْظَعَ". وهذا الحديث يأتي بتمامه في صلاة الكسوف، وتقدم طرف منه في كتاب الإيمان في باب "كفران العشير". ومرَّ استيفاء الكلام عليه هناك. ونازعه الإسماعيليّ في الترجمة فقال: ليس ما أُري نبيه من النار بمنزلة نار معبودة لقوم يتوجه المصلي إليها. وقال ابن التين: لا حجة فيه على الترجمة, لأنه لم يفعل ذلك مختارًا، وإنما عرض عليه ذلك للمعنى الذي أراده الله من تنبيه العباد. وتُعُقب بأنّ الاختيار وعدمه في ذلك سواء منه, لأنه -صلى الله عليه وسلم- لا يقر على باطل، فدل على أن مثله جائز، وتفرقة الإسماعيليّ بين القصد وعدمه، وإن كانت ظاهرة، لكن الجامع بين الترجمة والحديث وجود نار بين المصلي وبين قبلته في الجملة. قلت: ولو لم يكن ذلك جائزًا ما وضعها الله تعالى في قبلة نبيه عليه الصلاة والسلام. قال في الفتح: وأحسن من هذا عندي أن يقال: لم يفصح المصنف في الترجمة بكراهة ولا غيرها، فيحتمل أن يكون مراده التفرقة بين من بقي ذلك بينه وبين قبلته، وهو قادر على إزالته أو انحرافه عنه، وبين من لا يقدر على ذلك، فلا يكره في حق الأول، كما سيأتي التصريح بذلك عن ابن عباس في التماثيل قريبًا، بعد بابين، وكما مرَّ عن ابن سيرين. ونازعه أيضًا السروجيّ في "شرح الهداية" فقال: لا دلالة في الحديث على عدم الكراهة, لأنه عليه الصلاة والسلام قال: أُريت النار، ولا يلزم أن تكون

رجاله خمسة

أمامه متوجهًا إليها، بل يجوز أن تكون عن يمينه أو عن يساره أو غير ذلك. قال: ويحتمل أن يكون وقع له قبل شروعه في الصلاة. قال في الفتح: وكأنّ البخاريّ رحمه الله كوشف بهذا الاعتراض، فعجل بالجواب عنه، حيث صدّر الباب بالمعلق عن أنس، ففيه "عرضت عليّ النار وأنا أُصَلّي". قلت: وفي هذا جواب عن الإيراد، فإن العرض صريح في أنها في وجهه، وفيه التصريح بأنه في الصلاة، وهذا يرد الثاني. وفي حديث ابن عباس أنهم قالوا بعد أن انصرف "يا رسول الله، رأيناك تناولت شيئًا في مقامك، ثم رأيناك تكعكعت" أي تأخرت إلى خلف. وفي جوابه أن ذلك بسبب كونه أُرِيَ النار، والتناول والتكعكع يقتضيان كونها أمامه. وفي حديث أنس المعلق هنا، عنده في كتاب التوحيد موصولًا "لقد عرضت عليّ الجنة والنار، آنفًا في عرض هذا الحائط، وأنا أُصَلي" وهذا أيضًا قال على أنها أمامه، وعلى أنه في الصلاة وهذا أيضًا يدفع جواب من فرّق بين القريب من المصلِّي والبعيد منه. رجاله خمسة: الأول: عبد الله بن مسلمة، وقد مرَّ في الثاني عشر من كتاب الإيمان, ومرَّ زيد بن أسلم وعطاء بن يسار في الثاني والعشرين منه، ومرَّ مالك بن أنس في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ عبد الله بن عباس في الخامس منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع في موضع، والباقي عنعنة، ورواته كلهم مدنيون إلا عبد الله بن مسلمة، سكن البصرة، ومرَّ مواضع إخراجه في باب "كفران العشير". ثم قال المصنف: باب كراهية الصلاة في المقابر كأنه أشار إلى ما رواه أبو داود والتِّرمِذيّ في ذلك، عن أبي سعيد مرفوعًا "الأرض كلها مسجد، إلا المقبرة والحمّام". رجاله ثقات، لكنه

اختلف في وصله وإرساله، وحكم، مع ذلك، بصحته، الحاكم وابن حبّان، ولم يخرجه المؤلف لكونه ليس على شرطه، وقد مرَّ استيفاء الكلام على حكم الصلاة في المقابر في مذاهب الأئمة قبل أربعة أبواب عند أثر عمر رضي الله تعالى عنه.

الحديث السابع والثلاثون

الحديث السابع والثلاثون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنِي نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: اجْعَلُوا فِي بُيُوتِكُمْ مِنْ صَلاَتِكُمْ، وَلاَ تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا. قوله: من صلاتكم، قال القرطبيّ: مِن للتبعيض، والمراد بها النوافل لحديث الصحيحين "صلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته، إلا المكتوية" وإنما شرع ذلك لكونه أبعد من الرياء، ولتنزل الرحمة فيها والملائكة، لكن استُثني منه نفل يوم الجمعة قبل صلاتها، فالأفضل كونه في الجامع، لفضل البكور. وركعتا الطواف والإحرام والتراويح. قلت: وكذا جميع الرواتب القبلية. وحكى عياض أن معناه: اجعلوا بعض فرائضكم في بيوتكم ليقتدي بكم من لا يخرج إلى المسجد من نسوة وغيرهن. وهذا، وإن كان محتملًا، لكن الأول هو الراجح. وقال النوويّ: لا يجوز حمله على الفريضة. وقوله: ولا تتخذوها قبورًا، مهجورة من الصلاة، وهو من التشبيه البليغ بحذف حرف التشبيه للمبالغة، وهو تشبيه البيت الذي لا يصلَّى فيه بالقبر الذي لا يتمكن الميت من العبادة فيه. وقد حمل المؤلف الحديث على النهي عن الصلاة في المقابر، وترجم له وكأنَّه استنبط ذلك من قوله "ولا تتخذوها قبورًا" فإن القبور ليست محلًا للعبادة، فتكون الصلاة فيها مكروهة. وتُعُقب بأنه ليس فيه تعرّض لجواز الصلاة في المقابر ولا منعها، وإنما المراد منه الندب إلى الصلاة في البيوت, لأن الموتى لا يصلُّون، كأنه قال: لا تكونوا كالموتى الذين لا يصلون في بيوتهم، وهي القبور، حيث انقطعت عنهم الأعمال وارتفعت التكاليف، ولو أريد ما تأَوله المؤلف لقال: مقابر.

وأجيب بأنه ورد عند مسلم عن أبي هُريرة بلفظ "لا تجعلوا بيوتكم مقابر" وتُعُقب هذا بأنه كيف يقال حديث رواه غيره مطابق لما ترجم هو به؟ لكن نقل ابن المنذر عن أكثر أهل العلم أنهم استدلوا بهذا الحديث على أن المقبرة ليست بموضع للصلاة، وكذا قال البغويّ والخطابيّ. وقال: يحتمل أيضًا أنَّ المراد: ولا تجعلوا بيوتكم وطنًا للنوم فقط، لا تصلون فيها، فإن النوم أخو الموت، والميت لا يصلي. وزاد التوربشتيّ: احتمال أن يكون المراد أنَّ مَن لم يصل في بيته جعل نفسه كالميت، وبيته كالقبر، ويؤيد هذا ما رواه مسلم "مَثَل البيت الذي يذكر الله فيه، والبيت الذي لا يذكر الله فيه، كمثل الحي والميت" قلت: هذا التأويل هو عين التأويل الذي قبله. قال الخطابيّ: وأما مَن تَأَوله على النهي عن دفن الموتى في البيوت، فليس بشيء، فقد دفن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيته الذي كان يسكنه في حياته، وما ادعى نفي كونه تأويلًا هو ظاهر لفظ الحديث، ولاسيما إنْ جُعل النهيُ حكمًا منفصلًا عن الأمر. وما استدل به على رده متعقَّب بأن ذلك لعله من خصائصه عليه الصلاة والسلام. وقد روى ابن ماجه حديث ابن عباس عن أبي بكر، مرفوعًا "ما قُبِض نبيٌّ إلا دفن حيث يقبض" وفي إسناده حسين بن عبد الله الهاشميّ، وهو ضعيف، وله طريق مرسلة عند البيهقيّ في "الدلائل" وروى الترمذيّ في الشمائل والنَّسائيّ في الكبرى أن أبا بكر قيل له: فأين يدفن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: في المكان الذي قبض الله فيه روحه، فإنه لم يقبض روحه إلا في مكان طيب. إسناده صحيح لكنه موقوف، والذي قبله أصرح في المقصود، وإذا حمل دفنه في بيته على الاختصاص لم يبعد نهي غيره عن ذلك، بل هو متجه, لأن استمرار الدفن في البيوت ربما صيرها مقابر، فتصير الصلاة فيها مكروهة عند من يقول بكراهتها في المقابر، ولفظ حديث أبي هريرة المار عند مسلم أصرح من حديث الباب، وهو قوله "لا تجعلوا بيوتكم مقابر" فإن ظاهره يقتضي النهي عن الدفن في البيوت مطلقًا.

رجاله خمسة

رجاله خمسة: الأول: مسدد، وقد مرَّ هو ويحيى القطّان في السادس من كتاب الإيمان، ومرَّ عُبيد الله بن عمر في الرابع عشر من كتاب الوضوء، ومرَّ نافع في الثالث والسبعين من كتاب العلم، ومرَّ عبد الله بن عمر في كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والإخبار بصيغة الإفراد في موضع، والعنعنة في موضعين. أخرجه البخايّ ومسلم وابن ماجه. ثم قال المصنف: باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب الخسفُ يُقال: خَسَفَ المكانُ إذا ذهب في الأرض، وخَسَف الله به الأرض، غاب به فيها. ومنه قوله تعالى {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} [القصص: 81] وقوله: والعذاب، من باب عطف العام على الخاص، وأبهم المؤلف حكمه حيث لم يبين هل مكروهة أو غير جائزة، ولكن تقديره يكره، لدلالة أثر عليّ على ذلك، ثم قال: ويُذكر أن عليًا رضي الله تعالى عنه كره الصلاة بخَسْف بابل، وهذا الأثر رواه ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن أبي المَحليّ، بفتح الميم وكسر الحاء المهملة وتشديد اللام قال: كنا مع عليّ، فمررنا على الخَسْف الذي ببابل، فلم يُصَلّ حتى أجازه. أي تعدّاه. ومن طريق أخرى عن عليّ قال: ما كنت لأصلي في أرض خَسَف اللهُ بها ثلاث مرار. والظاهر أن قوله " ثلاث مرار" ليس متعلقًا بالخسف, لأنه ليس فيها إلا خسف واحد، وإنما أراد أن عليًا قال ذلك ثلاثًا، ورواه أبو داود مرفوعًا من وجه آخر عن عليّ، ولفظه "نهاني حبيبي -صلى الله عليه وسلم- أن أصلي في أرض بابل، فإنها ملعونة" وفي إسناده ضَعف، واللائق بتعليق المصنف ما تقدم، والمراد بالخسف هنا ما ذكره الله تعالى بقوله {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ

مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 26] الآية. ذكر أهل التفسير والأخبار أن المراد بذلك أن النمروذ بن كنعان بني ببابل بنيانًا عظيمًا، يقال: إن ارتفاعه كان خمسة آلاف ذراع، فخسف الله بهم. قال الخطابى: لا أعلم أحدًا من العلماء حرم الصلاة في أرض بابل، فإن كان حديث عليّ ثابتًا فلعله نهاه أن يتخذها وطنًا, لأنه إذا أقام بها كانت صلاته فيها، يعني أطلق الملزوم وأراد اللازم. قال: فيحتمل أن النهي خاص بعليّ إنذارًا له بما لقي من الفتنة بالعراق، لكن سياق قصة عليّ الأولى يبعد هذا التأويل. وبابل اسم موضع بالعراق ينسب إليه السحر والخمر، قيل: إن أهلها باتوا ليلة خسف بهم. ولسانهم سرياني، فأصبحوا وقد تفرقت لغاتهم على اثنين وسبعين لسانًا، كل يتبلبل بلسانه، فسمي الموضع بابل، وهو غير منصرف للعلمية والعجمة، وعليّ قد مرَّ في السابع والأربعين من العلم.

الحديث الثامن والثلاثون

الحديث الثامن والثلاثون حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضى الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لاَ تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلاَءِ الْمُعَذَّبِينَ إِلاَّ أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فَلاَ تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ، لاَ يُصِيبُكُمْ مَا أَصَابَهُمْ". قوله: لا تدخلوا، كان هذا النهي لما مروا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- بالحِجر، ديارِ ثمود، في حال توجههم إلى تبوك، وقد صرح المصنف في أحاديث الأنبياء عن ابن عمر بذلك، فقال: لما مرَّ بالحجر قال: "لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم". وقوله: هؤلاء المعذَّبين، بفتح الذال المعجمة، وفي أحاديث الأنبياء إلا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم". وقوله: إلا أن تكونوا باكين، شفقةً وخوفًا من حلول مثل ذلك، وليس المراد الاقتصار في ذلك على ابتداء الدخول، بل دائمًا عند كل جزء من الدخول، وأما الاستقرار فالكيفية مطلوبة فيه بالأولوية. قال ابن بطال: هذا يدل على إباحة الصلاة هناك, لأن الصلاة موضع بكاء وتضرع، كأنه يشير إلى عدم مطابقة الحديث لأثر عليّ. قال في الفتح: الحديثُ مطابق له من جهة أن كلًا منهما فيه ترك النزول، كما عند المصنف في غزوة تبوك، ثم قَنّع -صلى الله عليه وسلم- رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي، فدل على أنه لم ينزل، ولم يصل هناك، كما صنع عليٌّ في خسف بابل. قلت: النزول مصرح به في حديث ابن عمر من طريقين في أحاديث الأنبياء، قال في الأُولى: لما نَزَل الحجر في غزوة تبوك ... إلخ، وقال في الثانية: إن الناس نزلوا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أرض ثمود، والحجر ... إلخ، فكيف ينفي النزول وهو مصرح به؟

وقوله السابق: حتى أجاز الوادي، ليس صريحًا في أنه لم ينزل الحجر، فيحمل على أن الوادي من الحجر، وأنه جاوز نفس الوادي، ونزل ولم يخرج من الحجر جمعًا بين الأحاديث. وروى الحاكم في "الإكليل" عن أبي سعيد الخُدريّ قال: "رأيت رجلًا جاء بخاتم وجده بالحجر في بيوت المعذَّبين، فأعرض عنه عليه الصلاة والسلام، واستتر بيده أن ينظر إليه، وقال: ألقه، فألقاه"، لكن إسناده ضعيف، وأخرج المؤلف في أحاديث الأنبياء نهيه عليه الصلاة والسلام عن الاستقاء من بئرها ما عدا بئر الناقة، وأمرهم أن يطرحوا ما عجنوه بمائها، أو يعلفوه للإبل، ويلتحق بآبار ثمود نظائرها من الآبار والعيون التي كانت لمن هلك بتعذيب الله تعالى على كفره، واختلف في شرب المياه المذكورة، هل النهي عنه للتنزيه أو التحريم؟ وعلى التحريم هل تمتنع صحة التطهر من ذلك الماء أم لا؟ قاله في الفتح. وقوله: لا يصيبُكم، بالرفع على أن لا نافية، ويجوز الجزم على أنها ناهية، وهو أوجه، وهو نهي بمعنى الخبر، وفي أحاديث الأنبياء "أنْ يصيبَكم" أي خشيةَ أنْ يصيبَكم، ولا تنافي بين خوف إصابة العذاب وبين قوله تعالى {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] لأن الآية محمولة على عذاب الآخرة، وأما في الدنيا، فقد قال تعالى {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25] ووجه هذه الخشية أن البكاء يبعثه على التفكر والاعتبار، فكأنه أمرهم بالتفكر في أحوال توجب البكاء من تقدير الله تعالى على أولئك بالكفر، مع تمكينه لهم في الأرض، وإمهالهم مدة طويلة، مع إيقاع نقمته بهم، وشدة عذابه، وهو سبحانه مقلب القلوب، فلا يأمن المؤمن أن تكون عاقبته إلى مثل ذلك. والتفكر أيضًا في مقابلة أولئك نعمةَ الله بالكفر، وإهمالهم إعمال عقولهم فيما يوجب الإيمان به، والطاعة له، فمن مرَّ عليهم ولم يتفكر فيما يوجب البكاء اعتبارًا بأحوالهم، فقد شابههم في الإهمال، ودل على قساوة قلبه، وعدم خشوعه، فلا يأمن أن يجره ذلك إلى العمل بمثل أعمالهم، فيصيبه ما أصابهم، وبهذا يندفع اعتراض من قال: كيف يصيب عذاب الظالمين من ليس بظالم؟ لأنه بهذا التقرير لا يأمن أن يصير ظالمًا؛ فيعذب بظلمه.

رجاله أربعة

وفي الحديث حثٌّ على المراقبة، والزجر عن السكنى في ديار المعذَّبين، والإسراع عند المرور بها، وقد أشير إلى ذلك في قوله تعالى {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} [إبراهيم: 45] وقد تشاءم عليه الصلاة والسلام بالبقعة التي نام فيها عن الصلاة، ورحل عنها، ثم صلى، فكراهية الصلاة في مواضع الخَسْف أولى, لأنَّ إباحة الدخول فيها إنما هو على وجه الاعتبار والبكاء، لكن من صلى فيها لا تفسد صلاته, لأن الصلاة موضع البكاء والاعتبار كما مرَّ عن ابن بطال. رجاله أربعة: الأول: إسماعيل بن أبي أويس، وقد مرَّ في الخامس عشر من كتاب الإيمان, ومرَّ عبد الله بن دينار في الثاني منه، ومرَّ عبد الله بن عمر فيه قبل ذكر حديث منه، ومرَّ مالك في الثاني من بدء الوحي. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع، وبصيغة الإفراد في موضع، والعنعنة في موضع، ورواته كلهم مدنيون. أخرجه البخاري هنا، وفي المغازي عن يحيى بن بكير، وفي التفسير عن إبراهيم بن المنذر. ثم قال المصنف: باب الصلاة في البِيعة بكسر الموحدة بعدها مثناة تحتانية، مَعْبَد النصارى على المعتمد، كالكنيسة، وبهذا تحصل المطابقة بين الترجمة وذكر الكنائس الآتي في الحديث، والصلوات لليهود، والصوامع للرهبان، والمساجد للمسلمين، وبدخل في حكم البيعة الكنيسة وبيت المدراس والصومعة وبيت الصنم وبيت النار ونحو ذلك. ثم قال: وقال عمر رضي الله عنه: إنّا لا ندخل كنائسكم من أجل التماثيل التي فيها الصور.

قوله: كنائسكم، في رواية الأصيلي كنائسهم، وقوله: من أجل التماثيل، هو جمع تَمثال، بمثناة مفتوحة ثم مثلثة بينهما ميم، وبينه وبين الصورة عموم وخصوصٌ مطلق، فالصورة أعم، وقوله: التي فيها الصور، الضمير عائد على الكنائس، والصور بالجر على البدل من التماثيل، أو بيان لها، أو بالنصب على الاختصاص، أو بالرفع على أن الصور مبتدأ خبره "فيها" السابق، والضمير للكنائس، والجملة صلة الموصول الذي هو صفة للكنائس، لا للتماثيل. وللأصيليّ: والصور، بواو العطف على التماثيل، أي: ومن أجل الصور التي فيها، وهذا الأثر وصله عبد الرزاق عن أسلم مولى عمر. قال: لما قدم عمر الشام صنع له رجل من النصارى طعامًا، وكان من عظمائهم، وقال: أُحب أن تجيئني وتكرمني. فقال له عمر: إنا لا ندخل كنائسكم من أجل الصور التي فيها، يعني التماثيل. وتبين بهذا أن روايتي الجر والنصب أوجه من غيرهما، والرجل المذكور من عظمائهم اسمه قسطنطين، وعمر قد مرَّ في الأول من بدء الوحي. ثم قال: وكان ابن عباس يصلي في البِيعة إلاّ بيعة فيها تماثيل. أي: فلا يصلي فيها، والأثر أخرجه البغويّ في الجعديات، وزاد فيه "فإذا كان فيها تماثيل، خرج فصلى في المطر". وكره الحسن البصريّ الصلاة فيها، وكذا مالك، وسواء عنده كانت عامرة أو دارسة، ما لم يضطر إلى النزول فيها, لبرد أو نحوه، فلا كراهة. وقبل: تكره في العامرة ولو اضطر للنزول فيها, ولا إعادة عليه إذا صلى في الدارسة مطلقًا، وكذا في العامرة إن اضطر للنزول فيها، أو صلى على فراش طاهر. ولم ير الشعبيُّ وعطاء بن أبي رباح وابن سيرين بالصلاة في الكنيسة بأسًا، وصلى أبو موسى الأشعريّ وعمر بن عبد العزيز في الكنيسة. وابن عباس قد مرَّ في الخامس من بدء الوحي.

الحديث التاسع والثلاثون

الحديث التاسع والثلاثون حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَنِيسَةً رَأَتْهَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ يُقَالُ لَهَا مَارِيَةُ، فَذَكَرَتْ لَهُ مَا رَأَتْ فِيهَا مِنَ الصُّوَرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أُولَئِكَ قَوْمٌ إِذَا مَاتَ فِيهِمُ الْعَبْدُ الصَّالِحُ، أَوِ الرَّجُلُ الصَّالِحُ، بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ". مطابقته للترجمة من قوله "بنوا على قبره مسجدًا" فإن فيه إشارة إلى نهي المسلم عن أنْ يصلي في الكنيسة، فيتخذها بصلاته مسجدًا، وقد استوفي الكلام على المتن قبل خمسة أبواب في "باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية". رجاله خمسة: وفيه ذكر أم سلمة. الأول: محمد بن سلام، وقد مرَّ في الثالث عشر من كتاب الإيمان, وكذلك عبدة بن سليمان، ومرَّ هشام بن عُروة وأبوه عروة وعائشة في الثاني من بدء الوحي، ومرت أم سلمة في السادس والخمسين من كتاب العلم. ثم قال المصنف: باب كذا في أكثر الروايات بغير ترجمة، وسقط من بعض الرواة، وقد قررنا أن ذلك كالفصل من الباب الذي قبله، فله تعلق به، الجامع بينهما الزجر عن اتخاذ القبور مساجد، وكأنَّه أراد أنْ يبين أن فعل ذلك مذموم، سواء كان مع تصوير أم لا.

الحديث الأربعون

الحديث الأربعون حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ عَائِشَةَ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ قَالاَ لَمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَإِذَا اغْتَمَّ بِهَا كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ، فَقَالَ وَهْوَ كَذَلِكَ: "لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ". يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا. قوله: لما نزل، بفتحتين، لأبي ذَرٍّ، والفاعل محذوف للعلم به، أي الموت، ولغيره بضم النون وكسر الزاي مبنيًا للمفعول. وقوله: طَفِق، بكسر الفاء جواب "لما" أي: جعل. وقوله: الخميصة، مفعول ليطرح، وهي كساء له أعلام. وقِوله: فإذا اغتم بها أي بالخميصة، أي تسخن، وأخذ بنفسه من شدة الحر. وقوله: وهو كذلك، أي في حالة الطرح والكشف، ويحتمل أن يكون ذلك في الوقت الذي ذكرت فيه أمُّ سلمة وأمُّ حبيبة أمرَ الكنيسة التي رأياها بأرض الحبشة، وكأنَّه -صلى الله عليه وسلم- علم أنه مرتحل من ذلك المرض، فخاف أن يعظم قبره كما فعل من مضى، فقال: "لعنة الله على اليهود والنصارى" إشارة إلى ذم من يفعل فعلهم، واللعنة الإبعاد والطرد عن الرحمة. وقوله: اتخذوا، جملة مستَأْنَفة على سبيل البيان الموجب اللعن، كأنه قيل: ما سبب لعنهم؟ فأجيب بقوله: اتخذوا. وقوله: يحذر ما صنعوا، جملة أخرى مستأنفة من كلام الراوي، كأنه سئل عن حكمة ذكر ذلك في ذلك الوقت، فأجاب بذلك. والحكمة فيه أنه ربما يصير بالتدريج شبيهًا بعبادة الأوثان. واستشكل ذكر النصارى فيه بأن النصارى ليس لهم نبي إلاّ عيسى، وليس له قبر بخلاف اليهود، فلهم أنبياء، والجواب أنه كان فيهم أنبياء أيضًا،

رجاله ستة

لكنهم غير مرسلين، كالحواريين ومريم في قول، أو الجمع في قوله: أنبيائهم، بإزاء المجموع من اليهود والنصارى، أو المراد الأنبياء وكبار أتباعهم، فاكتفى بذكر الأنبياء، ويؤيده قوله في رواية مسلم عن جندب "كانوا يتخذون قبور أنبيائهم. وصالحيهم مساجد" والضمير راجع إلى اليهود فقط، ولهذا لما أفرد النصارى في الحديث الذي قبله قال: "إذا مات فيهم الرجل الصالح" ولما أفرد اليهود في الحديث الدي بعده قال: "قبور أنبيائهم" والمراد من أُمروا بالإيمان بهم كنوح وإبراهيم وغيرهما، أو المراد بالاتخاذ أعم من أن يكون ابتداعًا أو اتباعًا، فاليهود ابتدعت، والنصارى اتبعت، ولا ريب أن النصارى تعظم كثيرًا من قبور الأنبياء الذين تعظمهم اليهود. رجاله ستة: الأول: أبو اليمان، وقد مرَّ هو وشعيب في السابع من بدء الوحي، ومرَّ ابن شهاب في الثالث منه، ومرَّ عبيد الله في السادس منه، ومرت عائشة في الثاني منه، ومرَّ ابن عباس في الخامس منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع، والإخبار كذلك في موضع، وبصيغة الإفراد في موضع، والعنعنة في موضع، ورواته ما بين حُمصيّ ومَدَنيّ، وفيه صحابي وصحابية عن النبي عليه الصلاة والسلام. أخرجه البخاريّ هنا وفي اللباس عن يحيى بن بكير، وفي المغازي عن سعيد بن عُفير، وفي ذكر بني إسرائيل عن بشر بن محمد، ومسلم في الصلاة، والنَّسائي فيها وفي الوفاة.

الحديث الحادي والأربعون

الحديث الحادي والأربعون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ". قوله: قاتل الله اليهود، أي قتلهم الله, لأن "فَاعَل" تأتي بمعنى "فَعَل" أو المعنى: أبعد الله اليهود، وخصهم بالذكر لأنهم هم الذين ابتدعوا، والنصارى اتبعتهم، فكانوا أظلم في هذا الاتخاذ. رجاله خمسة: الأول: عبد الله بن مسلمة، وقد مرَّ في الثاني عشرِ من كتاب الإيمان, ومرَّ سعيد بن المسيب في التاسع عشر منه، ومرَّ أبو هريرة في الثاني منه، ومرَّ مالك في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ ابن شهاب في الثالث منه. لطائف إسناده: فيه صيغة التحديث بالجمع، والباقي بالعنعنة، ورواته كلهم مدنيون، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، أخرجه البخاريّ هنا، ومسلم في الصلاة، وأبو داود في الجنائز، والنَّسائي في الوفاة. ثم قال المصنف: [باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: جُعِلَت لي الأرضُ مسجدًا وطَهورًا: بفتح الطاء].

الحديث الثاني والأربعون

الحديث الثاني والأربعون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ حَدَّثَنَا سَيَّارٌ هُوَ أَبُو الْحَكَمِ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ الْفَقِيرُ قَالَ حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ". وهذا الحديث قد استوفيت مباحثه جدًا في أول كتاب التيمم، حيث ذكره هناك، وقد أخرجه هناك عن محمد بن سنان أيضًا، وسعيد بن النضر، لكنه ساقه هناك على لفظ سعيد، وهنا على ابن سنان، وليس بينهما تفاوت من حيث المعنى، لا في السند ولا في المتن، ويراده له هنا يحتمل أن يكون أراد أن الكراهة في الأبواب المتقدمة ليست للتحريم، لعموم قوله "جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا" أي كل جزء منها يصلح أن يكون مكانًا للسجود، أو يصلح أن يُبنى فيه مكان للصلاة. ويحتمل أن يكون أراد أن الكراهة فيها للتحريم، وعموم حديث جابر مخصوص بها، والأول أَوْلى, لأن الحديث سيق في مقام الامتنان، فلا ينبغي تخصيصه. ولا يرد عليه أن الصلاة في الأرض المتنجسة لا تصح, لأن التنجس وصف طارىء، والاعتبار بما قبل ذلك، قلت: هذه الأشياء المذكورة كل واحد منها له وصف طارىء يجوز أن يكون مخصصًا للحديث كالنجاسة. رجاله خمسة:

لطائف إسناده

الأول: محمد بن سنان، وقد مرَّ في الأول من كتاب العلم، ومرَّ هشيم وسيار بن أبي سيار، ويزيد بن صهيب الفقير في الثاني من كتاب التيمم، ومرَّ جابر بن عبد الله في الرابع من بدء الوحي. لطائف إسناده: جميع سنده بالتحديث بصيغة الجمع، وهو من النوادر، ورواته ما بين واسطيّ وكوفيّ، وقد مرَّ موضع إخراجه في أول كتاب التيمم ... إلخ. ثم قال المصنف: باب نوم المرأة في المسجد، أي إقامتها فيه

الحديث الثالث والأربعون

الحديث الثالث والأربعون حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ وَلِيدَةً كَانَتْ سَوْدَاءَ لِحَيٍّ مِنَ الْعَرَبِ، فَأَعْتَقُوهَا، فَكَانَتْ مَعَهُمْ قَالَتْ: فَخَرَجَتْ صَبِيَّةٌ لَهُمْ عَلَيْهَا وِشَاحٌ أَحْمَرُ مِنْ سُيُورٍ قَالَتْ: فَوَضَعَتْهُ أَوْ وَقَعَ مِنْهَا، فَمَرَّتْ بِهِ حُدَيَّاةٌ وَهْوَ مُلْقًى، فَحَسِبَتْهُ لَحْمًا فَخَطَفَتْهُ قَالَتْ: فَالْتَمَسُوهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ قَالَتْ فَاتَّهَمُونِي بِهِ. قَالَتْ فَطَفِقُوا يُفَتِّشُونَ حَتَّى فَتَّشُوا قُبُلَهَا قَالَتْ: وَاللَّهِ إِنِّي لَقَائِمَةٌ مَعَهُمْ، إِذْ مَرَّتِ الْحُدَيَّاةُ فَأَلْقَتْهُ. قَالَتْ: فَوَقَعَ بَيْنَهُمْ. قَالَتْ: فَقُلْتُ هَذَا الَّذِي اتَّهَمْتُمُونِي بِهِ زَعَمْتُمْ وَأَنَا مِنْهُ بَرِيئَةٌ، وَهُوَ ذَا هُوَ. قَالَتْ: فَجَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَسْلَمَتْ. قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها فَكَانَ لَهَا خِبَاءٌ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ حِفْشٌ. قَالَتْ: فَكَانَتْ تَأْتِينِي فَتَحَدَّثُ عِنْدِي. قَالَتْ: فَلاَ تَجْلِسُ عِنْدِي مَجْلِسًا إِلاَّ قَالَتْ: وَيَوْمَ الْوِشَاحِ مِنْ أَعَاجِيبِ رَبِّنَا ... أَلاَ إِنَّهُ مِنْ بَلْدَةِ الْكُفْرِ أَنْجَانِي قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ لَهَا: مَا شَأْنُكِ لاَ تَقْعُدِينَ مَعِي مَقْعَدًا إِلاَّ قُلْتِ هَذَا. قَالَتْ: فَحَدَّثَتْنِي بِهَذَا الْحَدِيثِ. وقوله: إن وَليدة، أي أَمَة، وهي في الأصل المولودة ساعة تولد، ثم أُطلق على الأَمَة وإن كانت كبيرة، وقوله: فخرجت صبية لهم عليها وِشاح، وهو بكسر الواو ويجوز ضمها ويجوز إبدالها ألفًا، خيطان من لؤلؤ يخالَف بينهما، وتتوشح به المرأة. وقيل: ينسج من أديمٍ عريضًا ويرصّع باللؤلؤ، وتشده المرأة بين عاتقها وكشحها. وعن الفارسيّ: لا يسمى وشاحًا حتى يكون منظومًا بلؤلؤ ووَدْع. وقوله: أحمر من سيور، يدل على أنه كان من جلد. وقوله: فوضعته أو وقع منها، شك من الراوي، وقد رواه ثابت في "الدلائل" فزاد فيه "أنَّ الصبية

كانت عروسًا، فدخلت إلى مغتسلها، فوضعت الوِشاح". وقوله: فمرت به حُدَياة، بضم الحاء وفتح الدال المهملتين وتشديد المثناة التحتانية، تصغير حِدّأة، بالهمزة بوزن عنبة، ويجوز فتح أوله، وهو الطائر المعروف المأذون في قتله في الحل والحرم، والأصل في تصغيرها حُدَيْأة سكون الياء وفتح الهمزة، لكن أُبدلت الهمزة ياء أو أُدغمت فيها الياء، ثم أشبعت الفتحة بألف، وتسمى أيضًا الحُدَّا، بضم أوله وتشديد الدال مقصورًا. وقوله: فحسبته لحمًا، لا ينافي كونه مرصعًا, لأن بياض اللؤلؤ على حمرة الجلد يصير كاللحم السمين، وقوله: فطفقوا يفتشون، وفي رواية "يفتشوني". وقوله: حتى فتشوا قُبُلها، كأنه من كلام عائشة، وإلاّ فمقتضى السياق أن تقول "قُبُلي" كما عند المؤلف في أيام الجاهلية. قلت: الظاهر أنه من كلام الوليدة، ولكن عائشة ذكرته بلفظ الغيبة فرارًا من أن تسند إلى نفسها هذا الكلام القبيح، أو قالته الجارية على طريقة الالتفات أو التجريد، كأنها جردت من نفسها شخصًا وأخبرت عنه. وقوله: إني لقائمة معهم، زاد ثابت في دلائله "فدعوت الله أنْ يبرئني". وقوله: زعمتم، أي أني أخذته. وقوله: وأنا منه بريئة، جملة حالية. وقوله: هو ذا، هو أي حاضر، الضمير الأول للشان، وذا إشارة إلى ما ألقته الحدياة، وضمير هو الثاني راجع إلى الذي اتهموني به، وهو مبتدأ، وخبره محذوف أي حاضر، كما مرَّ، أو الأول مبتدأ وذا خبره، والضمير الثاني خبر بعد خبر، أو الثاني تأكيد للأول أو تأكيد لذا وبيان له. أو ذا مبتدأ ثان خبره الضمير الثاني، والجملة خبر الأول. قال في الفتح: لم أقف على اسم الوليدة، ولا على اسم القبيلة التي كانت لهم، ولا على اسم الصبية صاحبة الرشاح. وقوله: فكانت لها خباء أي المرأة، وللكشميهنيّ "فكان". والخِباء بكسر الخاء المعجمة: الخيمة من وبر أو غيره. وعن أبي عُبيد: لا يكون إلا من شعر.

رجاله خمسة

وقال الكلبيّ: بيوت العرب ستة: مظلة من شعر، خباء من صوف، بجاد من وبر، خيمة من شجر، أُقْنَةٌ من حَجَر، قبة من أُدُم. وقوله: أو حِفْش، بحاء مهملة مكسورة وسكون الفاء بعدها شين معجمة: البيت الصغير القريب السُّمْك، مأخوذ من الانحماش وهو الانضمام، وأصله الوعاء الذي تضع المرأة فيه غزلها، وفيه يبيت من لا مسكن له في المسجد، سواء كان رجلًا أو امرأة عند أمن الفتنة. وعند المالكية السكنى بالمسجد خاصة بالرجل المتجرد للعبادة، وأما المرأة فتحرم عليها. وقيل: تكره. وقوله: فتحدث عندي، أصله تتحدث بتاءين، فحذفت إحداهما تخفيفًا. وقوله: ويوم الوشاح من تعاجيب ربنا، بالمثناة الفوقية قبل العين، لأبوي ذَرٍّ والوقت والأصيلي: أي أعاجيب، جمع أعجوبة، ونقل ابن سيده أن تعاجيب لا واحد له من لفظه، ومعناه عجائب. قال الدماميني: كذا في الصحاح، لكن لا أدري، لم لا يجعل جمعًا لتعجيب، مع أنه ثابت في اللغة؟ يقال: عَجَّبت فلانًا تعجيبًا، إذا جعلته تعجب، وجمع المصدر باعتبار أنواعه لا يمتنع. وفي رواية غير المذكورين "من أعاجيب" بالهمز بدل التاء. وقوله: ألا انه، بتخفيف اللام وكسر همزة إنه، والبيت من الطويل، وأجزاؤه ثمانية، وزنه فعولن مفاعيلن أربع مرَّات، لكن دخل البيت المذكور القَبْضُ في الجزء الثاني، وهو حذف الخامس الساكن، وإنما ذكرت هذا لأن الطبع السليم ينفر من القبض المذكور، واستعمال القبض كثير جدًا في أشعار المولدين. وقوله: بهذا الحديث، أي المتضمن للقصة المذكورة. وفي الحديث إباحة الاستظلال في المسجد بالخيمة ونحوها، وفيه الخروج من البلد الذي يحصل للمرء فيه المحنة، ولعله يتحول إلى ما هو خير له، كما وقع لهذه المرأة. وفيه فضل الهجرة من دار الكفر، وإجابة دعوة المظلوم ولو كافرًا لأن في السياق أن إسلامها كان بعد قدومها المدينة. رجاله خمسة:

باب نوم الرجال في المسجد

الأول: عُبيد بن إسماعيل، وقد مرَّ في الثاني والعشرين من كتاب الحيض، ومرَّ أبو أسامة في الحادي والعشرين من كتاب العلم، ومرَّ هشام بن عُروة وأبوه عُروة وعائشة في الثاني من بدء الوحي. ثم قال المصنف: باب نوم الرجال في المسجد أي جواز ذلك، وهو قول الجمهور. ورُوي عن ابن عباس كراهيته إلا لمن يريد الصلاة، وعن ابن مسعود مطلقًا، وعن مالك التفصيل بين من له مسكن يمكنه الوصول إليه، فيكره، وبين من لا مسكن له، أو عسر الوصول إليه، فيباح. وبقوله: قال أحمد وإسحاق، وهو أحد قولي الشافعيّ، وقد سئل سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار عن النوم فيه فقالا: كيف تسألون وقد كان أهل الصفة ينامون فيه، وهم قوم كان مسكنهم المسجد؟ وذكر الطبريّ عن الحسن قال: رأيت عثمان بن عفان نائمًا في المسجد ليس حوله أحد، وهو أمير المؤمنين. ثم قال: وقال أبو قلابة عن أنس: قدم رهط من عُكْل على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فكانوا في الصُّفة. هذا طرف من قصة العرنيين، وقد مرَّ حديثهم في الوضوء في باب أبوال الإبل، ومرَّ الكلام عليه هناك مستوفى غاية الاستيفاء، وهذا اللفظ أورده موصولًا في المحاربين من طريق وهيب. وأبو قلابة مرَّ في التاسع من كتاب الإيمان, ومرَّ أنس بن مالك في السادس منه. ثم قال: وقال عبد الرحمن بن أبي بكر: كان أصحاب الصُّفَّة الفقراء، والصّفة بضم الصاد وتشديد الفاء، موضع مظلل في أخريات المسجد النبوي، تأوي إليه المساكين، وقد سبق البخاريَّ إلى الاستدلال بذلك سعيدُ بن المسيب وسليمان بن يسار، رواه ابن أبي شيبة عنهما، وهذا التعليق أول حديث يأتي ذكره في باب السمر مع الأهل والضيف، آخر مواقيت الصلاة، وفي علامات النبوءة، ويأتي الكلام عليه عند أول ذكره إن شاء الله تعالى، وعبد الرحمن قد مرَّ في الرابع من كتاب الغسل.

الحديث الرابع والأربعون

الحديث الرابع والأربعون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي نَافِعٌ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بنِ عُمَرَ كَانَ يَنَامُ وَهْوَ شَابٌّ أَعْزَبُ لاَ أَهْلَ لَهُ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-. قوله: وهو شاب جملة حالية، وقوله: أعزب، بهمزة بعدها مهملة، ثم زاي، أي غير متزوج، وهي لغة قليلة بل أنكرها القزاز، ولأبي ذَرٍّ "عَزَب" بفتح العين والزاي من غير همز، وهي اللغة الفصيحة، وضبطها في الفتح بكسر الزاي. وقال إنه المشهور. وقوله: لا أهل له، تفسير لقوله "أعزب" ويحتمل أن يكون من العام بعد الخاص، فيدخل فيه الأقارب ونحوهم. وقوله: في مسجد، متعلق بنيام، وهذا الحديث مختصر من حديث له طويل يأتي في فضل قيام الليل، وأورده ابن ماجه مختصرًا أيضًا بلفظ "كنا ننام". رجاله خمسة: الأول: مسدد، وقد مرَّ هو ويحيى القطّان في السادس من كتاب الإيمان, ومرَّ عبيد الله بن عمر في الرابع عشر من كتاب الوضوء، ومرَّ نافع في الثالث والسبعين من كتاب العلم، ومرَّ عبد الله بن عمر في كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والإخبار بصيغة الإفراد في موضع، والعنعنة في موضعين، ورجاله ما بين مصريّ ومدنيّ، أخرجه البخاريّ هنا، وأتى به مطولًا في آخر كتاب الصلاة، وأخرجه مسلم والنَّسائي وابن ماجه فيها أيضًا.

الحديث الخامس والأربعون

الحديث الخامس والأربعون حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَيْتَ فَاطِمَةَ، فَلَمْ يَجِدْ عَلِيًّا فِي الْبَيْتِ فَقَالَ: أَيْنَ ابْنُ عَمِّكِ؟. قَالَتْ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ، فَغَاضَبَنِي فَخَرَجَ فَلَمْ يَقِلْ عِنْدِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لإِنْسَانٍ: انْظُرْ أَيْنَ هُوَ؟. فَجَاءَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هُوَ رَاقِدٌ فِي الْمَسْجِدِ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهْوَ مُضْطَجِعٌ، قَدْ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ شِقِّهِ، وَأَصَابَهُ تُرَابٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَمْسَحُهُ عَنْهُ وَيَقُولُ: قُمْ أَبَا تُرَابٍ، قُمْ أَبَا تُرَابٍ. وقوله: أين ابن عمك، فيه إطلاق ابن العم على أقارب الأب, لأنه ابن عم أبيها لا ابن عمها، وفيه إرشادها إلى أن تخاطبه بذلك، لما فيه من الاستعطاف بذى القرابة، وكأنه عليه الصلاة والسلام فهم ما وقع بينهما، فأراد استعطافها عليه بذكر القرابة التي بينهما, ولذا لم يقل: أين زوجك؟، ولا ابن عم أبيك. وقوله: قالت: ولابن عساكر "وقالت" وللأصيلي "فقالت" أي فاطمة رضي الله تعالى عنها وقوله: فغاضبني، من باب المفاعلة الموضوع لمشاركة اثنين. وقوله: فخرج فلم يقل عندي، بالفاء، وللأصيلي "ولم" بالواو، ويَقل، بفتح أوله وكسر القاف مضارع قال من القيلولة، وهي نوم نصف النهار. وللأصيليّ وابن عساكر "يُقل" بضم أوله. وقوله: فقال لإنسان: انظر أين هو، قال في الفتح: يظهر أن الإنسان سهلٌ راوي الحديث, لأنه لم يذكر أنه كان مع النبي -صلى الله عليه وسلم- غيره، وللمصنف في الأدب "فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لفاطمة: أين ابن عمك؟ قالت: في المسجد" وليس بينه وبين الذي هنا مخالفة، لاحتمال أن يكون المراد من قوله "انظر أين هو" المكان

المخصوص من المسجد، وعند الطبرانيّ "فأمر إنسانًا معه فوجده مضطجعًا في فيء الجدار" وقوله: هو راقد في المسجد، فيه مراد الترجمة لأن حديث ابن عمر يدل على إباحته لمن لا مسكن له، وكذا بقية أحاديث الباب، إلا قصة عليّ فإنها تقتضي التعميم، لكن يمكن أن يفرق بين نوم الليل وبين قيلولة النهار. وقوله: وأصابه تراب، وفي رواية المناقب "وخلص التراب إلى ظهره" أي وصل، وفي رواية الإسماعيليّ "حتى تخلص ظهره إلى التراب" وكان ينام أولًا على مكان لا تراب فيه، ثم تقلب فصار ظهره على التراب، أو سمى عليه التراب. وقوله: قم أبا تراب، قم أبا تراب، ظاهره أن ذلك أول ما قال له ذلك، وروى ابن إسحاق من طريقه، وأحمد والحاكم من حديث عمار، أنه كان هو وعليّ في غزوة العشيرة في نخل، فجاء النبي -صلى الله عليه وسلم-، فوجد عليًا نائمًا، وقد علاه تراب فأيقظه وقال له: مالك أبا تراب؟ ثم قال: ألا أحدثك بأشقى الناس ... الحديث. وغزوة العشيرة كانت في أثناء السنة الثانية قبل وقعة بدر، وذلك قبل أن يتزوج علي فاطمة، فإن كان محفوظًا أمكن الجمع بأن يكون ذلك تكرر منه -صلى الله عليه وسلم- في حق عليّ، وقد ذكر ابن إسحاق عقب القصة المذكورة قال: حدثني بعض أهل العلم أن عليًا كان إذا غضب على فاطمة في شيء لم يكلمها، بل كان يأخذ ترابًا فيضعه على رأسه، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا رأى ذلك عرف، فيقول: ما لك يا أبا تراب؟ فهذا سبب آخر يقوي التعدد. والمعتمد في ذلك كله حديث سهل في الباب، ويروى من حديث ابن عباس أن سبب غضب عليّ كان لمّا آخى النبي -صلى الله عليه وسلم- بين أصحابه، ولم يؤاخ بينه وبين أحد، فذهب إلى المسجد، فذكر القصة وقال في آخرها "قم فأنت أخي" أخرجه الطبرانيّ، وعند ابن عساكر نحوه من حديث جابر بن سمرة، وحديث الباب أصح، ويمتنع الجمع بينهما، لأن قصة المؤاخاة كانت أول ما قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة، وتزوُّج عليّ بفاطمة، ودخوله عليها، كان بعد ذلك بمدة. وفي الحديث جواز القائلة في المسجد، وممازحة المغضب بما لا يغضب

رجاله أربعة

به، بل يحصل به تأنيسه، وفيه جواز التكنية بغير الولد، وتكنية الشخص بأكثر من كنية، والتلقيب بالكنية لمن لا يغضب، ويأتي في الأدب أنه كان يقدح إذا دعي بذلك، وفيه مداراة الصهر وتسكينه عن غضبه، ودخول الوالد بيت ابنته بغير إذن زوجها حيث يعلم رضاه، وأنه لا بأس بإبداء المنكبين في غير الصلاة، والتكنية بما يشتق من حال الشخص، وأن اللقب إذا صدر من الكبير في حق الصغير تلقّاه بالقبول، ولو لم يكن لفظةَ مدحٍ، وإن من حمل ذلك على التنقيص لا يلتفت إليه، وهو كما كان أهل الشام ينتقصون ابن الزبير بزعمهم، حيث يقولون له: ابن ذات النطاقين، فيقول: تلك شكاة ظاهرٌ عنك عارها وفيه أن أهل الفضل قد يقع بين الكبير منهم وبين زوجته ما طبع عليه البشر من الغضب، وقد يدعو ذلك إلى الخروج من بيته ولا يعاب عليه، ويحتمل أن يكون سبب خروج علي خشية أن يبدو منه، في حالة الغضب، ما لا يليق بجناب فاطمة رضي الله تعالى عنهما، فحسم مادة الكلام بذلك إلى أن تسكن فورة الغضب من كل منهما. وفيه كرم خلق النبي -صلى الله عليه وسلم-, لأنه توجه نحو عليّ ليترضَّاه، ومسح التراب عن ظهره ليبسطه، وداعبه بالكنية المذكورة المأخوذة من حالته، ولم يعاتبه على مغاضبته لابنته، مع رفيع منزلتها عنده، فيؤخذ منه استحباب الرفق بالأصهار، وترك معاتبتهم إبقاءً لمودتهم, لأن العتاب إنما تخشى ممن تخشى منه الحقد، لا ممن هو منزه عن ذلك. رجاله أربعة: وفيه ذكر عليّ وفاطمة، رضي الله تعالى عنهما. الأول: قتيبة بن سعيد، وقد مرَّ في الحادي والعشرين من كتاب الإيمان. والثاني: عبد العزيز بن أبي حازم سلمة بن دينار المحاربيّ، مولاهم، أبو تمام المدنيّ الفقيه. قال أحمد: لم يكن يعرف بطلب الحديث إلا كتب أبيه،

فإنهم يقولون إنه سمعها، وكان يتفقه، ولم يكن بالمدينة بعد مالك أفقه منه. ويقال إن كتب سليمان بن بلال وقعت إليه ولم يسمعها، وقد روى عن أقوام لم يكن يعرف أنه سمع منهم، وقال ابن مَعين: صدوق ثقة، ليس به بأس. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن عبد العزيز بن أبي حاتم وعبد الرحمن بن أبي الزناد وعبد الرحمن بن أسلم قال: متقاربون. قيل: فعبد العزيز؟ قال: صالح الحديث، وقال هو وأبو زرعة: عبد العزيز أفقه من الدراوَرْدِي وأوسع حديثًا منه. وقال: النَّسائيّ: ثقة، وقال مُرة ليس به بأس. وذكره ابن عبد البَر فيمن كان مدار الفتوى عليه في آخر زمان مالك وبعده، وقال مالك: قوم يكون فيهم ابن أبي حازم لا يصيبهم العذاب، وقال ابن سعد: كان كثير الحديث دون الدراورديّ. وقال مصعب الزبيريّ: كان فقيهًا، وقد سمع مع سليمان بن بلال، فلما مات سليمان أوصى له بكتبه. وقال العجليّ وابن نُمير: ثقة، احتج به الجماعة. روى عن أبيه وسهيل بن أبي صالح، وهشام بن عُروة وكثير بن زيد بن أسلم وغيرهم. وروى عنه ابن مَهْدي وابن وهب والقعنبيّ وسعيد بن أبي مريم والحميديّ وقتيبة بن سعيد وغيرهم. مات سنة أربع وثمانين ومئة وهو ساجد، وله اثنان وثمانون سنة. الثالث: أبو حازم سلمة بن دينار، وقد مرَّ هو وسهل بن سعد في الثامن والمئة من كتاب الوضوء, ومرَّ علي بن أبي طالب في السابع والأربعين من كتاب العلم، ومرت فاطمة الزهراء في الخامس والمئة من كتاب الوضوء. فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في موضعين، وهو إسناد رباعيّ، ورواته مدنيون غير شيخ البخاريّ، فإنه بلخيّ. أخرجه البخاري في الاستئذان عن قتيبة أيضًا، وفي فضل عليّ عن القعنبيّ، ومسلم في الفضائل.

الحديث السادس والأربعون

الحديث السادس والأربعون حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عِيسَى قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: رَأَيْتُ سَبْعِينَ مِنْ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ، مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ عَلَيْهِ رِدَاءٌ، إِمَّا إِزَارٌ وَإِمَّا كِسَاءٌ، قَدْ رَبَطُوا فِي أَعْنَاقِهِمْ، فَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ نِصْفَ السَّاقَيْنِ، وَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ الْكَعْبَيْنِ، فَيَجْمَعُهُ بِيَدِهِ، كَرَاهِيَةَ أَنْ تُرَى عَوْرَتُهُ. قوله: رأيت سبعين من أصحاب الصفة، يشعر بأنهم كانوا أكثر من سبعين، وهؤلاء الذين رآهم أبو هريرة غير السبعين الذين بعثهم -صلى الله عليه وسلم- في غزوة بئر مَعُونة، وكانوا من أهل الصفة أيضًا, لأنهم استشهدوا قبل إسلام أبي هريرة، وقد اعتنى بجمع أصحاب أهل الصفة ابن الأعرابيّ والحاكم والسلميّ وأبو نعيم، وعند كل واحد منهم ما ليس عند الآخر، وفي بعض ما ذكروه اعتراض ومناقشة. وقوله: عليه رداء، هو ما يستر أعالي البدن فقط. وقوله: وإما إزار، أي فقط. وقوله: إما كساء، أي على الهيأة المشروحة في المتن. وقوله: قد ربطوا، أي الأكسية، فحذف المفعول للعلم به، والجمع باعتبار أن المراد بالرجل الجنس. وقوله: فمنها، أي من الأكسية، الجمع باعتبار أن الكساء جنس. وقوله: فيجمعه بيده، أي الواحد منهم. زاد الإسماعيليّ: أن ذلك كان في حال كونهم في الصلاة، وقد تقدم نحو هذه الصفة في باب "إذا كان الثوب ضيقًا". رجاله خمسة: الأول: يوسف بن عيسى، وقد مرَّ في السادس والعشرين من كتاب الغسل، ومرَّ محمد بن فضيل في الحادي والثلاثين من كتاب الإيمان، ومرَّ أبو هريرة في الثاني منه، ومرَّ أبو حازم سلمان الأشجعي في الثالث والأربعين من كتاب العلم.

باب الصلاة إذا قدم من سفر، أي في المسجد

والخامس: فضيل بن غَزوان بن جرير الضَّبِّيّ، مولاهم، أبو الفضل الكوفيّ. قال أحمد وابن مَعين: ثقة. وذكره ابن حِبّان في الثقات، ووثَّقَه ابن عمار ويعقوب بن سفيان. وقال أبو خَيْثمة: حدثنا ابن فضيل عن أبيه قال: كنا نجلس أنا وابن شُبْرُمة والقعْقاع بن يزيد والحارث العُكْلِيّ نتذاكر في الفقه، فربما لم نقم حتى نسمع النداء لصلاة الفجر. روى عن أبي حازم الأشجعي وسالم بن عبد الله بن عمر ونافع مولى ابن عمر وأبي إسحاق السَّبيعيّ غيرهم. وروى عنه ابنه محمد والثَّوريّ وابن المبارك والقطّان ووكيع وجرير وعيسى بن يونس وغيرهم. وذكر الخالديّ الشاعر أنه قتل أيام المنصور. ثم قال المصنف: باب الصلاة إذا قدم من سفر، أي في المسجد ثم قال: وقال كعب بن مالك: كان النبيّ -صلى الله عليه وسلم- إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى فيه، والتعليق ظاهر فيما ترجم له، وأتى بعده بحديث جابر، ليجمع بين فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- وأمره، فلا يظن أحد أن ذلك من خصائصه، وهذا التعليق ذكره البخاريّ مسندًا في غزوة تبوك، وهو حديث طويل. وأما كعب، فهو كعب بن مالك بن أبي كعب بن القَيْن بن كعب بن سواد بن غنم بن كعب بن سَلِمة بكسر اللام، ابن سعد بن عليّ بن أسد بن سارِدة، أبو عبد الله الأنصاريّ السَّلَميّ، بفتحتين. ويقال: أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو بشير. روى هارون عن إسماعيل من ولد كعب بن مالك قال: كانت كنية كعب بن مالك في الجاهلية أبا بشير، فكنّاه النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا عبد الله، ولم يكن لمالك ولد غير كعب الشاعر، شهد العقبة، وبايع، وتخلف عن بدر، وشهد أُحُدًا وما بعدها، وتخلف في تبوك، وهو أحد الثلاثة الذين تِيْبَ عليهم، وقد ساق في ذلك قصة حسنة في سياق حسن، وهو في الصحيحين. وآخى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بينه وبين طلحة بن عبيد الله حين آخى بين المهاجرين والأنصار، وكان أحد شعراء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، الذين كانوا يردّون الأذى عنه. وكان مُجوِّدًا مطبوعًا، قد غلب عليه في الجاهلية أمر الشعر، ثم أسلم وشهد العقبة

كما مرَّ، وكان يوم أُحد لَبس لَأمَةَ النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وكانت صفراء، ولبس النبي -صلى الله عليه وسلم- لَأمة كعب، وجرح كعب بن مالك أحد عشر جرحًا، قال ابن سيرين: كان شعراء المسلمين حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك، فكان كعب يخوفهم الحرب، وعبد الله يعيرهم بالكفر، وكان حسان يُقْبِل على الأنساب. قال ابن سيرين: فبلغني أن دَوْسًا إنما أسلمت فَرَقًا من قول كعب بن مالك: قضينا من تهامة كل وَتْرٍ ... وخيبرَ ثم أغمدنا السيوفا نخبرها ولو نطقت لقالت ... قواطعهنَّ دَوْسًا أو ثقيفا فقالت دوس: انطلقوا فخذوا لأنفسكم، لا ينزل بكم ما نزل بثقيف. وفي ابن هشام قال: لما قال كعب بن مالك: جاءت سخينةُ كي تغالب رَبَّها ... فليُغْلبَنّ مغالبُ الغلاّب قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لقد شكرك الله يا كعب على قولك هذا. وروى ابن شهاب قال: بلغني أن كعب بن مالك قال يوم الدار: يا معشر الأنصار، انصروا مرتين. له ثمانون حديثًا اتفقا على ثلاثة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم باثنين. روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وعن أُسَيد بن خُضير، وروى عنه أولاده عبد الله وعُبيد الله وعبد الرحمن ومَعْبَد ومحمد وابن ابنه عبد الرحمن بن عبد الله. وروى عنه ابن عباس وجابر وأبو أُمامة الباهليّ ذهب بصره في آخر عمره. قال البَغَويّ: بلغني أنه مات بالشام في خلافة معاوية. قال ابن حجر: لم نجد له في حرب عليّ ومعاوية خبرًا. ورُوي بسند ضعيف أن حسان بن ثابت وكعب بن مالك والنعمان بن بشير دخلوا على عليّ فناظروه في شأن عثمان، وأنشده كعب شعرًا في رثاء عثمان، ثم خرجوا من عنده فتوجهوا إلى معاوية فأكرمهم.

الحديث السابع والأربعون

الحديث السابع والأربعون حَدَّثَنَا خَلاَّدُ بْنُ يَحْيَى قَالَ حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ فِى الْمَسْجِدِ قَالَ مِسْعَرٌ أُرَاهُ قَالَ ضُحًى، فَقَالَ: صَلِّ رَكْعَتَيْنِ. وَكَانَ لِي عَلَيْهِ دَيْنٌ فَقَضَانِي وَزَادَنِي. قوله: قال مِسْعَر أُراه، بالضم أي أظنه، والضمير لمحارب، وقد مرَّ في الإيمان في حديث سعد "إني لأراه مؤمنًا" توجيه الضم في الذي بمعنى الظن. وقوله: قال ضحى، هو كلام مُدرج من الراوي. وقوله: وكان لي عليه دَين، كذا للأكثر، وللحمويّ "وكان له" أي لجابر "عليه" أي على النبي -صلى الله عليه وسلم-. وفي قوله بعد ذلك: فقضاني، التفاتٌ، والدَّين هو ثمن جمل جابر كما يأتي مطولًا في كتاب الشروط. ومطابقته للترجمة من جهة أن تقاضيه لثمن الجمل كان عند قدومه من السفر، كما يأتي واضحًا، حيث قال في الحديث الآتي: إنه وجد النبي -صلى الله عليه وسلم- على باب المسجد، قال: الآن قدمتَ؟ قلت: نعم، قال: فادخل فصل ركعتين. وقال النوويّ: هذه الصلاة مقصودة للقدوم من السفر، ينوي بها صلاة القدوم، لا أنها تحية المسجد التي أمر الداخل بها قبل أن يجلس، لكن تحصل التحية بها. وهذا الحديث أخرجه المؤلف في نحو عشرين موضعًا مطولًا ومختصرًا، موصولًا ومعلقًا، وأخرت استيفاء الكلام عليه إلى ذكره مستوفى في كتاب الشروط إن شاء الله تعالى وصوله. رجاله أربعة: الأول: خلاد بن يحيى، وقد مرَّ في التاسع والعشرين من كتاب الغُسل، ومرَّ مسعر بن كدام في السادس والستين من كتاب الوضوء، ومرَّ جابر بن عبد الله

في الرابع من بدء الوحي. الرابع: محارب بن دِثار بن كُرْدُوس بن قَرَاوِش بن جَعُونة بن سَلَمة بن صخر بن سَدوس السَّدُوسيّ، أبو دِثار، ويقال أبو مطرف، ويقال أبو كردوس، ويقال أبو النضر الكوفيّ القاضي. وقيل: إنه ذُهْلِيّ. قال أحمد وابن مَعين وأبو زرعة وأبو حاتم ويعقوب بن سفيان: ثقة، زاد أبو حاتم: صدوق، وزاد أبو زرعة: مأمون، وذكره ابن حِبّان في الثقات. وقال سِمَاك بن حرب: كان أهل الجاهلية إذا كان في الرجل ست خصال سَوَّدُوه: الحِلْمُ والصَّبر والسَّخاء والشجاعة والبيان والتواضع، ولا يكملن في الإِسلام إلا بالعفاف، وقد كملن في هذا الرجل، يعني محارب بن دثار. وقال الثَّوري: ما يخيل لي أني رأيت زاهدًا أفضل من محارب، وقال ابن سعد: كان من المُرْجئة الأُولى، الذي يرجئون عليًا وعثمان، ولا يشهدون فيهما بشيء، وله أحاديث، ولا يحتجون به، وقال عبد الله بن إدريس عن أبيه: رأيت الحكم وحماد في مجلس قضاء محارب. وقال الذهبيّ: هو حجة مطلقًا. وقال ابن حبّان: كان من أفرس الناس. وقال العجليّ: كوفيّ تابعيّ ثقة. وقال يعقوب بن سفيان والدارَقُطنيّ: ثقة، قال ابن حجر في مقدمته: احتج به الأئمة كلهم. وقال أبو زرعة: مأمون، ولكن ابن سعد يقلّد الواقديّ، والواقديّ على طريقة أهل المدينة في الانحراف على أهل العراق، فاعلم ذلك ترشد. روى عن ابن عمر وجابر وعبد الله بن يزيد الخَطَميّ وعبيد بن البرآء بن عازب وغيرهم. وروى عنه عطاء بن السائب وأبو إسحاق والشَّيبانيّ والأعمش، وشعبة وزائدة ومِسْعَر وغيرهم. مات في ولاية خالد بن عبد الله سنة ست عشرة ومئة، وليس في الستة محارب سواه. فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، والعنعنة في موضع واحد، ورواته كلهم كوفيون. وفيه خلاد بن يحيى من أفراد البخاريّ. أخرجه البخاريّ في سبعة عشر موضعًا في الجهاد والهبة والشفاعة والاستقراض وفي النكاح

باب إذا دخل المسجد فليركع ركعتين

والشروط والدعوات والنفقات، ومسلم في الصلاة والبيوع، والنَّسائيّ في البيوع وفي السير. ثم قال المصنف: باب إذا دخل المسجد فليركع ركعتين قوله: إذا دخل، حذف الفاعل للعلم به، وللأصيليّ: إذا دخل أحدكم المسجد. وقوله: ركعتين، زاد في رواية ابن عساكر "قبل أن يجلس".

الحديث الثامن والأربعون

الحديث الثامن والأربعون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيِّ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ السَّلَمِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ. قوله: عن أبي قتادة، اتفق الرواة عن مالك على أنه عن أبي قتادة، ورواه سهيل بن أبي صالح عن جابر بدل أبي قتادة، وخطّاه التِّرمذيّ والدارقطنيّ وغيرهما. وقوله: أحدكم المسجدَ، أي وهو متوضىء. وقوله: فليركع، أي فليصل من إطلاق الجزء وارادة الكل. وقوله: ركعتين، هذا العدد لا مفهوم لأكثره باتفاق، واختلف في أقله، والصحيح اعتباره، فلا تتأدى هذه السنة بأقل من ركعتين، واتفق أئمة الفتوى على أن الأمر في ذلك للندب، ونقل ابن بطال عن أهل الظاهر الوجوب، والذي صرح به ابن حزم عدمه. ومن أدلة عدم الوجوب قوله -صلى الله عليه وسلم- للذي رآه يتخطى "اجلس فقد آذيت" ولم يأمره بصلاة، كذا استدل به الطحاويّ وغيره. وقال الطحاويّ أيضًا: الأوقات التي نهى عن الصلاة فيها ليس هذا الأمر بداخل فيها، قال في الفتح: هما عمومان تعارضا, الأمر لكل داخل بالصلاة من غير تفصيل، والنهي عن الصلاة في أوقات مخصوصة، فلابد من تخصيص أحد العمومين، فذهب جمع إلى تخصيص النهي وتعميم الأمر، وهو الأصح عند الشافعية، وذهب جمع إلى عكسه، وهو قول الحنفية والمالكية والحنابلة. وقوله: قبل أن يجلس، صرح جماعة بأنه إذا خالف وجلس، لا يشرع له التدارك. وفيه نظر، لما رواه ابن حبّان في صحيحه عن أبي ذَرٍّ أنه دخل المسجد فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم- "أركعت ركعتين؟ قال: لا، قال: قم فاركعهما" ترجم عليه

ابن حبّان أن تحية المسجد لا تفوت بالجلوس، ومثله قصة سُليك حين قال له، وهو على المنبر، لما قعد قبل أن يصلي "قم فصل ركعتين". وقال المحب الطبريّ: يحتمل أن يقال وقتهما قبل الجلوس وقت فضيلة، وبعده وقت جواز. أو يقال: وقتهما قبله أداء، ويعده قضاء. ويحتمل أن تحمل مشروعيتهما بعد الجلوس على ما إذا لم يطل الفصل، وهذا هو المختار عند الشافعية، كما جزم به في التحقيق. ونقله في الروضة وقال في "المجموع" هو المختار. وعند المالكية يكره الجلوس قبلها حيث طلبت، بأن يكون دخل متوضئًا مريدًا الجلوس في وقت جواز، ولا تسقط به، ويحصل أداؤها بالفرض عند الدخول، وكذا بالسنة أو الرغيبة، ويحصل ثوابها إذا نوى بالفرض أو السنة الفرضَ أو السنةَ والتحية، أو نوى نيابتهما عنها كما في غسل الجنابة والجمعة. وقال في شرح "المهذب" فإن صلى أكثر من ركعتين بتسليمة واحدة جاز، وكانت كلها تحية لاشتمالها على الركعتين، وتحصل بفرض ونفل آخر، سواء نويت معه أو لا, لأن المقصود وجود صلاة قبل الجلوس، وقد وجدت بما ذكر، ولا تضره نية التحية, لأنها سنة غير مقصودة، بخلاف نية فرض وسنة مقصودة، فلا تصح، ولا تحصل بركعة، ولا بجنازة، ولا بسجدة تلاوة وشكر على الصحيح عندنا. وقال بعض أصحابنا: يكفي. وقال العَدَويّ المالكيّ: إن هذا الأخير استظهره بعض أشياخ مذهبه، ولا تسن لداخل المسجد الحرام لاشتغاله بالطواف، واندراجها تحت ركعتيه. وقيد المالكية هذا بأن يكون آفاقيًا أو مقيمًا مريدًا الطواف، وأما إن كان مقيمًا غير مريد له، فتحيته ركعتان، ولا تسن أيضًا إذا شرع الإِمام في الفرض، لحديث الصحيحين "إذا أُقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة" ولا ما إذا شرع المؤذن في إقامة الصلاة، ولا للخطيب يوم الجمعة عند صعوده على المنبر على الأصح في الروضة، وقد ورد لحديث أبي قتادة هذا سبب، وهوكما أخرجه مسلم أن أبا قتادة دخل المسجد، فوجد النبي -صلى الله عليه وسلم- جالسًا بين أصحابه، فجلس معهم، فقال: ما منعك أن تركع؟ قال: رأيتك جالسًا

رجاله خمسة

والناس جلوس. قال: فإذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس، حتى يركع ركعتين. وعند ابن أبي شيبة من وجه آخر عن أبي قتادة "أعطوا المساجد حقها، قيل له: وما حقها؟ قال: ركعتين قبل أن تجلس". رجاله خمسة: الأول: عبد الله بن يوسف، وقد مرَّ هو ومالك في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ عامر بن عبد الله بن الزبير في الثامن والأربعين من كتاب العلم، ومرَّ أبو قتادة في التاسع عشر من كتاب الوضوء. الرابع: عمرو بن سليم، بفتح العين وسكون الميم، ابن خَلْدة بن مَخْلَد بن عامر بن زُرَيق الأنصاريّ الزُّرَقيّ. قال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث، وقال النَّسائيّ: ثقة، وقال ابن خِراش: ثقة، في حديثه اختلاط. وقال العجليّ: مدني تابعيّ ثقة، وذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال الواقدي: كان قد راهق الاحتلام يوم مات عمر، قال ابن حَجَر في مقدمته: ابن خراش مذكور بالرفض والبدعة، فلا يلتفت إليه. روى عن أبي قتادة الأنصاري وأبي هريرة وأبي سعيد الخُدْريّ وابن عمر وابن الزبير وسعيد بن المُسَيَّب وغيرهم. وروى عنه ابنه سعيد وأبو بكر بن المُنْكَدِر وسعيد المَقْبَريّ وبكير بن الأَشَجّ وغيرهم. مات سنة أربع ومئة. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع، وفيه الإخبار كذلك في موضع واحد، والعنعنة في ثلاثة مواضع، والإسناد كله مدنيّ ما عدا شيخ البخاريّ. أخرجه البخاريّ أيضًا عن مكى بن إبراهيم، ومسلم وأبو داود، والتِّرمِذيّ وقال: حسن صحيح، والنَّسائيّ وابن ماجه في الصلاة. ثم قال المصنف: باب الحدث في المسجد قال المازنيّ: أشار البخاريّ إلى الرد على من منع المُحْدِث أن يدخل

المسجد، أو يجلس فيه، وجعله كالجنب. وهو مبنيٌّ على أن الحَدَث هنا الريح ونحوه، وبذلك فسره أبو هريرة كما مرَّ في الطهارة في المحل الآتي ذكرُه قريبًا، وقيل: المراد بالحدث هنا أعم من ذلك، أي ما لم يحدث سوءًا. ويؤيده رواية مسلم "ما لم يحدث فيه؛ ما لم يؤذِ فيه" بناء على أن الثانية تفسير للأولى، وفي رواية للبخاريّ "ما لم يؤذ فيه بحدث فيه".

الحديث التاسع والأربعون

الحديث التاسع والأربعون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إِنَّ الْمَلاَئِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلاَّهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ، مَا لَمْ يُحْدِثْ، تَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ. قوله: الملائكة تصلي، وللكشميهنيّ "إن الملائكة تصلي" بزيادة "إن" والمراد بالملائكة الحَفَظَة أو السيارة، أو أعم من ذلك. وقوله: تقول، بيان لقوله تصلّي، وقوله: ما دام في مُصَّلاه، مفهومه أنه إذا انصرف عنه انقضى ذلك، وسيأتي في باب "من جلس في المسجد ينتظر الصلاة" من أبواب الجماعة بيانُ فضيلة من انتظر الصلاة مطلقًا، سواء ثبت في مجلسه ذلك من المسجد، أم تحوّل إلى غيره، ولفظه "ولا يزال في صلاة ما انتظر" فأثبت للمنتظر حكمَ المصلي، فيمكن أن يُحْمَل قوله "في مصلاه" على المكان المعد للصلاة، لا الموضع الخاص بالسجود، فلا يكون بين الحديثين تخالف. وقوله: ما لم يحدث، يدل على أن الحدث يبطل ذلك، ولو استمر جالسًا، وقد مرَّ تفسيره قريبًا، وفيه دليل على أن الحدث في المسجد أشد من النخامة، لما تقدم من أن لها كفارة، ولم يذكر لهذا كفارة، بل عومل صاحبه بحرمان استغفار الملائكة، ودعاء الملائكة مرجو الإجابة، لقوله تعالى {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] وتقدم باقي مباحث هذا الحديث عند ذكره في كتاب الوضوء في باب "من لم ير الوضوء إلا من المخرجين". رجاله خمسة:

لطائف إسناده

الأول: عبد الله بن يوسف، وقد مرَّ هو ومالك في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ أبو الزناد والأعرج في السابع من كتاب الإيمان, ومرَّ أبو هُريرة في الثاني منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد، والإخبار كذلك، والعنعنة في ثلاثة مواضع. أخرجه البخاريّ في الصلاة أيضًا، ومسلم والنَّسائي وأبو داود فيها أيضًا. ثم قال المصنف: باب بنيان المسجد، أي النبوي ثم قال: وقال أبو سعيد: كان سقف المسجد من جريد النخل، وهذا التعليق رواه البخاريّ مسندًا في باب "هل يصلي الإِمام بمن حضر" من أبواب الجماعة، ووصله في الاعتكاف، وأبو سعيد مرَّ في الثاني عشر من كتاب الإيمان. ثم قال: وأمر عمر ببناء المسجد، وقال: أُكِنُّ الناسَ من المطر، وإياك تحمرّ أو تصفرّ فتفتن الناس. قوله: أكنّ الناس، بضم الهمزة وكسر الكاف وتشديد النون المضمومة، بلفظ المضارع من أُكَنَّ الرباعيّ، يقال: أكننتُ الشيءَ إكنانًا، أي صنته وسترته، وحكى أبو زيد كَنَنْته من الثلاثيّ، بمعنى أكننته، وفرق بينهما الكسائيّ فقال: كنَنْته أي سررته، وأكننته في نفسي أي أسررته. وللأصيليّ "أَكِنَّ" بفتح الهمزة والنون، فعل أمر من الإكنان أيضًا، ويرجحه قوله قبله "وأمر عمر" وقوله بعده "إياك". وتوجه الأُولى بأنه خاطب القوم بما أراد، ثم التفت إلى الصانع فقال له: وإياك، أو يحمل قوله: وإياك، على التجريد، كأنه خاطب نفسه بذلك. وفي رواية غير أبي ذَرٍّ والأصيليّ والقابسيّ "كِنَّ الناسَ" بحذف الهمزة وكسر الكاف، وهو صحيح، وجوز ابن مالك ضم الكاف على أنه من كُنّ فهو مكنون، وهو متجه، لكن الرواية لا تساعده. وقوله: وإياك أن تحمر، خطاب للصانع أي: إياكَ وتحميرَ المسجد

وتصفيرَه. وقوله: فَتُفتنَ الناسَ، بفتح المثناة من "فَتَن" وضبط بالضم من أَفْتَنَ، وأنكره الأصمعيّ، وأجازه أبو عبيد فقال: فَتَنَ وأَفْتَنَ بمعنى. قال ابن بطال: كأنَّ عمر فهم ذلك من رد الشارع الخميصة إلى أبي جهم من أجل الأعلام التي فيها، وقال: إنها ألهتني عن صلاتي. قال في الفتح: ويحتمل أن يكون عند عمر بذلك علم خاص بهذه المسألة، فقد روى ابن ماجه عن عمر مرفوعًا "ما ساء عمل قوم قط إلا زخرفوا مساجدهم". رجاله ثقات إلا شيخه جُبَارة بن المغلس، ففيه مقال. وعمر قد مرَّ في الأول من بدء الوحي، وهذا طرف من قصة في ذكر تجديد المسجد النبويّ. ثم قال: وقال أنس: يتباهون بها ثم لا يعمرونها إلا قليلًا. قوله يتباهَون: بفتح الهاء، أي يتفاخرون، وقوله: ثم لا يعمرونها، المراد به عمارتها بالصلاة وذكر الله، وليس المراد بنيانها، بخلاف ما يأتي في ترجمة الباب الذي بعده. وقوله: إلا قليلًا، بالنصب، ويجوز الرفع على البدل من ضمير الفاعل، وهذا التعليق موصول في مسند أبي يعلي، وصحيح ابن خزيمة عن أبي قِلابة أن أنسًا قال: "سمعته يقول: يأتي زمانٌ على أمتي يتباهون بالمساجد، ثم لا يعمرونها إلا قليلًا". وأخرجه أبو داود والنسائي وابن حبّان مختصرًا من وجه آخر، عن أبي قلابة عن أنس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد" والطريق الأُولى بمراد البخاري وعند أبي نعيم من الوجه الذي عند ابن خزيمة "يتباهون بكثرة المساجد" وقد مرَّ أنس في السادس من كتاب الإيمان. ثم قال: وقال ابن عباس: لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى. قوله: لَتُزَخْرِفُنَّها بفتح لام القسم وضم المثناة وفتح الزاي وسكون الخاء المعجمة وكسر الراء وضم الفاء، دلالة على واو الضمير المحذوفة عند اتصال نون التوكيد، من الزخرفة، وهي الزينة، وأصل الزخرف الذهب، ثم استعمل في كل ما يتزين به، والنون فيه للتأكيد، وفيه نوع توبيخ وتأنيب. وقوله: كما زخرفت اليهود والنصارى، أي كنائسهم وبيَعِهم، لما حرفوا الكتب وبدّلوها، وضيعوا الدين وعرجوا على الزخارف والتزيين. واستنبط منه كراهية زخرفة المساجد لاشتغال

قلب المصلي بذلك، أو لصرف المال في غير وجهه. نعم، إذا وقع ذلك على سبيل التعظيم للمساجد، ولم يقع الصرف عليه من بيت المال، فلا بأس به، ولو أوصى بتشييد مسجد وتحميره وتصفيره نفذت وصيته, لأنه قد حدث للناس فتاوى بقدر ما أحدثوا، وقد أحدث الناس مؤمنهم وكافرهم تشييد بيوتهم وتزيينها, ولو بنينا مساجد باللبن وجعلناها منه بين الدور الشاهقة، وربما كانت لأهل الذمة، لكانت مستهانة. قاله ابن المنير. وتُعُقب بأن المنع إذا كان للبحث على اتباع السلف في ترك التَّرَفّه، فهو كما قال، وإن كان لخشيته شغل بال المصلي بالزخرفة فلا، لبقاء العِلة. قاله كله القَسْطلانيّ. وعند المالكية يكره تزويق المسجد بالذهب وغيره، لا تحسين بنائه، وتجصيصه فلا يكره، بل يستحبان. وقال العينيّ: وبهذا استدل أصحابنا على أن نقش المسجد وتزيينه مكروه. وقول بعض أصحابنا: ولا بأس بنقش المسجد، معناه تركه أولى، ولا يجوز من مال الوقف، ويغرم الذي يخرجه سواء كان ناظرًا أو غيره، ووجه الكراهة إذا كان من ماله دون مال الوقف إما اشغال المصلي به، وإما إخراج المال في غير وجهه، وهذا التعليق وصله أبو داود وابن حبّان عن يزيد بن الاسم عن ابن عباس موقوفًا، وقبله حديث مرفوع، ولفظه "ما أُمرتُ بتشييد المساجد" ولم يذكر البخاري المرفوع منه للاختلاف على يزيد بن الاسم في وصله وإرساله، والتشييد رفع البناء وتطويله، وقد مرَّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي.

الحديث الخمسون

الحديث الخمسون حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ قَالَ حَدَّثَنَا نَافِعٌ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ أَخْبَرَهُ أَنَّ الْمَسْجِدَ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَبْنِيًّا بِاللَّبِنِ، وَسَقْفُهُ الْجَرِيدُ، وَعُمُدُهُ خَشَبُ النَّخْلِ، فَلَمْ يَزِدْ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ شَيْئًا، وَزَادَ فِيهِ عُمَرُ وَبَنَاهُ عَلَى بُنْيَانِهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِاللَّبِنِ وَالْجَرِيدِ، وَأَعَادَ عُمُدَهُ خَشَبًا، ثُمَّ غَيَّرَهُ عُثْمَانُ، فَزَادَ فِيهِ زِيَادَةً كَثِيرَةً، وَبَنَى جِدَارَهُ بِالْحِجَارَةِ الْمَنْقُوشَةِ وَالْقَصَّةِ، وَجَعَلَ عُمُدَهُ مِنْ حِجَارَةٍ مَنْقُوشَةٍ، وَسَقَفَهُ بِالسَّاجِ. قوله: باللَّبِن بفتح اللام وكسر الموحدة، وهو الطوب النيء. وقوله: وعَمَده، بفتح العين والميم، وبضمهما. وقوله: وخشب النخل، كذلك في الضبط. وقوله: وبناه علي بنيانه، أي بجنس الآلات المذكورة، ولم يغير شيئًا من هيئته إلا توسيعه في العرض والطول. وقوله: ثم غيّره عثمان، أي من الوجهين: التوسيع وتغيير الآلات. وقوله: والقَصَّة، أي بفتح القاف وتشديد الصاد المهملة، وهي الجِصّ بلغة أهل الحجاز، وقال الخطابيّ: تشبه الجِصّ، وليست به. وقوله: بالحجارة المنقوشة، أي بدل اللَّبِن. وللحموي والمستملي "بحجارة منقوشة" وقوله: وسَقَفَه، بلفظ الماضى، عطفًا على جَعَل، وبإسكان القاف عطفًا على عَمَده. وفي رواية "وسقَّفه" بالتشديد، والساج بالجيم، نوع من الخشب معروف، يؤتى به من الهند. قال ابن بطال وغيره: هذا يدل على أن السنة في بنيان المسجد القصد وترك العلو في تحسينه، فقد كان عمر مع كثرة الفتوح في أيامه، وسعة المال عنده، لم يغير المسجد عما كان عليه، وإنما احتاج إلى تجديده, لأن جريد النخل كان قد

رجاله ستة

نخر في أيامه، ثم كان عثمان والمال في زمانه كثر، فحسنه بما لا يقتضي الزخرفة، ومع ذلك فقد أنكر بعض الصحابة عليه، وأول من زخرف المساجد الوليد بن عبد الملك بن مروان، وذلك في أواخر عصر الصحابة، وسكت كثير من أهل العلم عن إنكار ذلك خوفًا من الفتنة. وقد مرَّ قريبًا ما في زخرفته، ومرت كيفية بناء المسجد النبويّ عند ذكر حديث أنس في باب "هل تنبش قبور مشركي الجاهلية". وفي حديث أنس هذا علم من أعلام النبوءة لإخباره -صلى الله عليه وسلم- بما سيقع فوقع. رجاله ستة: الأول: عليّ بن المدينيّ، وقد مرَّ في الرابع عشر من كتاب العلم، ومرَّ يعقوب بن إبراهيم في السادس عشر منه، ومرَّ إبراهيم بن سعد في السادس عشر من الإيمان, ومرَّ صالح بن كيسان آخر كتاب بدء الوحي، ومرَّ نافع في الثالث والسبعين من كتاب العلم، ومرَّ عبد الله بن عمر في أول كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في أربعة مواضع، والعنعنة في موضع واحد، والإخبار بصيغة الإفراد، ورواته ما بين بصريّ ومدنيّ. وفيه رواية الأقران. ورواية تابعيّ عن تابعيّ، وهما نافع وصالح. ثم قال المصنف: باب التعاون في بناء المساجد، بالجمع وفي رواية بالإفراد ثم قال {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 17، 18]. وفي رواية أبي ذرٍّ: ما كان، وللكشميهنيّ: وقول الله عز وجل {مَا كَانَ}

ولابن عساكر: قوله تعالى {ما كان} قوله: ما كان للمشركين، أي: ما صح لهم، وقوله: أن يعمروا مساجد الله، أي شيئًا من المساجد، فضلًا عن المسجد الحرام، وهو المراد. وإنما جمع لأنه قبلة المساجد وأمها وإمامها، فعامره كعامر الجميع، ويدل عليه قراءة ابن كثير وأبي عمرو بالتوحيد، قال في الفتح: ذكر البخاريّ لهذه الآية مصير منه إلى ترجيح أحد الاحتمالين فيها، وذلك أن قوله تعالى {مساجد الله} يحتمل أن يراد بها مواضع السجود، ويحتمل أن يراد بها الأماكن المتخذة لإقامة الصلاة، وعلى الثاني يحتمل أن يراد بعمارتها بنيانها، ويحتمل أن يراد بها الإقامة لذكر الله فيها، واعتراض العينيّ عليه يعلم سقوطه بالوقوف عليه. وقوله: شاهدين على أنفسهم، أي بإظهار الشرك وتكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام، أي ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين: عمارة بيت الله تعالى، وعبادة غيره. رُوي أن سبب نزول هذه الآية هو أنه لما أُسر العباس يوم بدر، عيّره المسلمون بالشرك وقطيعة الرحم، وأغلظ له عليّ، رضي الله تعالى عنه، في القول فقال: تذكرون مساوينا وتكتمون محاسننا، إنا لنعمر المسجد الحرام، ونحجب الكعبة، ونسقي الحجيج، ونفك العاني. فنزلت. وقوله: فحبطت أعمالهم، أي التي يفتخرون بها, لأن الكفر يذهب ثوابها. وقوله {إنما يعمر مساجد الله} .. إلخ. أي إنما تستقيم عمارتها لهؤلاء الجامعين للكمالات العلمية والعملية، ومن عمارتها تزيينها بالفرش، وتنويرها بالسرج، وإدامة العبادة والذكر، ودروس العلم فيها، وصيانتها مما لم تبن له، كحديث الدنيا. وفي مسند عبد بن حميد عن أنس مرفوعًا "أن عُمّار المسجد أهل الله" وروي أن الله تعالى يقول "إن بيوتي في أرضي المساجد، وإن زُوّاري فيها عُمّارها، فطوبى لعبد تطهير في بيته ثم زارني في بيتي، فحق على المزور أن يكرم زائره". وقوله: فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين، قيل: الآيتان بلفظ "عسى" إشارة إلى ردع الكفار، وتوبيخهم بالقطع في زعمهم إنهم مهتدون، فإن هؤلاء

مع هذه الكمالات اهتداؤهم دائرٌ بين "عسى ولعل" فما ظنك بمن هو أضل من البهائم؟ وإشارة أيضًا إلى منع المؤمنين من الاغترار والاتكال على الأعمال، وقد ذكر المصنف هاتين الآيتين هنا. ورواية أبي ذَرٍّ {إنما يعمر مساجد الله} ... الآية، ولفظ الأصيلي {مساجد الله} إلى قوله {من المهتدين} والمطابقة بين هذه الآية، التي هي من جملة الترجمة، وحديث الباب، هو أن يقال إنه أشار بها إلى أن التعاون في بناء المسجد المعتبر الذي فيه الأجر، إنما هو ما كان من المؤمنين، ولم يكن ذلك للكافرين، وإن كانوا بنوا مساجد ليتعبدوا فيها بعبادتهم الباطلة، فالمعنى إنما العمارة المعتمد بها عمارة من آمن بالله، فجعل عمارة غيرهم مثل لا عمارة، حيث ذكرها بكلمة الحصر.

الحديث الحادي والخمسون

الحديث الحادي والخمسون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُخْتَارٍ قَالَ حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ عِكْرِمَةَ: قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ وَلاِبْنِهِ عَلِيٍّ انْطَلِقَا إِلَى أَبِي سَعِيدٍ فَاسْمَعَا مِنْ حَدِيثِهِ. فَانْطَلَقْنَا فَإِذَا هُوَ فِي حَائِطٍ يُصْلِحُهُ، فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَاحْتَبَى، ثُمَّ أَنْشَأَ يُحَدِّثُنَا حَتَّى أَتَى ذِكْرُ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ: كُنَّا نَحْمِلُ لَبِنَةً لَبِنَةً، وَعَمَّارٌ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ، فَرَآهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَيَنْفُضُ التُّرَابَ عَنْهُ وَيَقُولُ: وَيْحَ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ، يَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ، وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ. قَالَ يَقُولُ عَمَّارٌ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ. وقوله: فإذا هو في حائط له يصلحه، زاد المصنف في "الجهاد": فأتيناه وهو وأخوه في حائط لهما يسقيانه. والحائط البستان، سمي بذلك لأنه لا سقف له، وهذا الأخ، زعم بعض الشراح، أنه قتادة بن النعمان، ولا يصح أن يكون هو، فإن عليّ بن عبد الله بن عباس ولد في آخر خلافة عليّ، ومات قتادة بن النعمان قبل ذلك في آخر خلافة عمر. وليس لأبي سعيد أخ شقيق، ولا من أبيه ولا من أمه إلا قتادة، فيحتمل أن يكون المذكور أخاه من الرضاعة، قال في الفتح: وإلى الآن لم أقف على اسمه. وقوله: فأخذ رداءه فاحتبى، أي بالحاء المهملة والموحدة، أي جمع ظهره وساقيه بنحو عمامته أو بيديه، ثم أنشا يحدثنا، وفي الحديث إشارة إلى أن العلم لا يحوي جميعَه أحدٌ, لأن ابن عباس مع سعة علمه أمر ابنه بالأخذ عن أبي سعيد، فيحتمل أن يكون علم أن عنده ما ليس عنده، ويحتمل أن يكون إرساله إليه لطلب علو السند, لأن أبا سعيد أقدم صحبة، وأكثر سماعًا من النبي -صلى الله عليه وسلم- من ابن عباس.

وفيه ما كان عليه السلف من التواضع، وعدم التكبر، وتعاهد أحوال المعاش بأنفسهم، والاعتراف لأهل الفضل بفضلهم، وإكرام طلبة العلم، وتقديم حوائجهم على حوائج أنفسهم، وفيه التأهب لإلقاء العلم، وترك التحديث في حال المهنة إعظامًا للحديث. وقوله: حتى أتى على ذكر بناء المسجد، أي النبويّ. وفي رواية كريمة: حتى إذا أتى. وقوله: لَبنة لَبنة، بفتح اللام وكسر الموحدة: الطوب النيء. وقوله: وعمار لَبِنَتينِ لَبنَتينِ، ذكرهما مكررتين كلبنة: زاد معمر في جامعه "لبنة عنه ولبنة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وزاد الإسماعيلي وأبو نعيم في المستخرج فقال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا عمار، ألا تحمل كما يحمل أصحابك؟ قال: إني أريد من الله الأجر" وفي الحديث جواز ارتكاب المشقة في عمل البر، وتوقير الرئيس، والقيام عنه بما يتعاطاه من المصالح، وفضل بنيان المساجد. وقوله: فينفض، فيه التعبير بصيغة المضارع في موضع الماضي، مبالغة لاستحضار ذلك في نفس السامع، كأنه يشاهده. وللكشميهنيّ "فجعل ينفض" ولأبي الوقت وابن عساكر "فنفض" بالماضي، وقوله: التراب عنه، في الجهاد "عن رأسه" وكذا المسلم، وفيه إكرام العامل في سبيل الله، والإحسان إليه بالقول والفعل. وقوله: وهو يقول، أي في تلك الحالة. وقوله: ويح عمار، وهي كلمة رحمة لمن وقع في هلكة لا يستحقها، كما أن "ويل" كلمة عذاب لمن يستحقها، وهي بفتح الحاء حال الإضافة، فإن لم تُضف جاز الرفع والنصب مع التنوين فيهما. وقوله: يدعوهم إلى الجنة، أعاد الضمير على غير مذكور، والمراد قَتَلَتُه، كما ثبت من وجه آخر يأتي قريبًا "تقتله الفئة الباغية يدعوهم ... " إِلى آخره، فإن قيل: قَتَلتُه معاوية ومن معه يوم صفين، وقد كان معه جماعة من الصحابة، فكيف يجوز عليهم الدعاء إلى النار، فالجواب أنهم كانوا ظانين أنهم يدعونه إلى الجنة، وهم مجتهدون لا لوم عليهم في اتباع ظنونهم، فالمراد بالدعاء إلى الجنة الدعاء إلى سببها، وهو طاعة الإِمام، وكذلك كان عمّار يدعوهم إلى طاعة

عليّ وهو الإِمام الواجب الطاعة إذ ذاك، وكانوا هم يدعون إلى خلاف ذلك، لكنهم معذورون، للتأويل الذي ظهر لهم، فالمجتهد إذا أصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر. والزيادة المذكورة التي هي "تقتل عمار الفئة الباغية" رواها جماعة من الصحابة، منهم أم سلمة عند مسلم، وأبو هريرة عند التِّرمذيّ وعبد الله بن عمرو بن العاص عند النَّسائيّ، وعثمان بن عفان وحذيفة وأبو أيوب وأبو رافع وخزيمة بن ثابت ومعاوية وعمرو بن العاص وأبو اليَسَر وعمار نفسه، وكلها عند الطبرانيّ وغيره، غالب طرقها صحيحة أو حسنة. وروي عن جماعة آخرين يطول عندهم، ووقعت هذه الزيادة في رواية ابن السكن وكريمة وغيرهما، عند المصنف، وفي نسخة الصغانيّ، التي ذكر أنه قابلها على نسخة الفربريّ التي بخطه، والزيادة تفصح بأن الضمير يعود على قتلة عمار، وهم أهل الشام، ولفظها "ويح عمار، تقتله الفئة الباغية، يدعوهم" .. الحديث. وقد أخرجها الإسماعيلي والبرقانيّ في هذا الحديث. ويظهر أن البخاريّ حذفها عمدًا لنكتة خفية، وهي أن أبا سعيد اعترف بأنه لم يسمع هذه الزيادة من النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما بين ذلك فيما أخرجه البزار عن أبي سعيد، فذكر الحديث في بناء المسجد، وحملهم لبنة لبنة، وفيه "فقال أبو سعيد: فحدثني أصحابي، ولم أسمع من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أنه قال: يا ابن سُمَيّة: تقتلك الفئة الباغية" وسمية اسم أم عمار. وإسناد البزار على شرط مسلم لا على شرط المصنف، وقد عين أبو سعيد من حدثه بذلك، ففي مسلم والنَّسائيّ عن أبي سعيد قال: حدثني من هو خير مني "أبو قتادة" فذكره، فاقتصر البخاريّ على القدر الذي سمعه أبو سعيد من النبي -صلى الله عليه وسلم- دون غيره. وهذا دال على دقة فهمه، وتبحره في الاطلاع على علل الأحاديث، وأما قول المهلب إن الضمير في يدعوهم يعود على الخوارج, لأنهم هم الذين بعث إليهم عليٌّ عمارًا يدعوهم إلى الجماعة، فباطلٌ, لأن الخوارج إنما خرجوا على عليّ بعد قتل عمار، إذ لا خلاف أن ابتداء أمرهم كان عقب

رجاله ستة

التحكيم، وكان التحكيم عقب انتهاء الفتال بصفين، وكان قتل عمار قبل ذلك قطعًا بصفين، فكيف يبعثه إليهم على بعد موته، والذين بعث إليهم عليٌّ عمارًا، إنما هم أهل الكوفة، بعثه يستنفرهم على قتال عائشة ومن معها قبل وقعة الجمل. وقوله: يقول عمار: أعوذ بالله من الفتن، فيه دليل على استحباب الاستعاذة من الفتن، ولو علم المرء أنه متمسك فيها بالحق, لأنها قد تفضي إلى وقوع ما لا يرى وقوعه. قال ابن بطال: وفيه رد لنحديث الشائع "لا تستعيذوا بالله من الفتن، فإن فيها حصاد المنافقين". وقد سئل عنه ابن وهب قديمًا فقال: إنه باطل. وفي الحديث عَلَم من أعلام النبوءة، وفضيلة ظاهرة لعليّ وعمار، ورد على النواصب الزاعمين أن عليًا لم يكن مصيبًا في حروبه. رجاله ستة: وفيه ذكر ابن عباس، وابنه علي وعمار. الأول: مسدد، وقد مرَّ في السادس من كتاب الإيمان، ومرَّ أبو سعيد الخُدريّ في الثاني عشر منه، ومرَّ عمار بن ياسر في العشرين منه، ومرَّ عبد الله بن عباس في الخامس من بدء الوحي، ومرَّ خالد بن مِهران وعكرمة مولى ابن عباس في السابع عشر من كتاب العلم. السادس من السند: عبد العزيز بن المختار الأنصاريّ، أبو إسحاق. ويقال أبو إسماعيل الدباغ البصريّ مولى حفصة بنت سيرين. قال ابن مُعين: ثقة، وروى عنه ابن أبي خَيثمة ليس بشيء. وقال أبو زرعة: لا بأس به، وقال أبو حاتم: صالح الحديث مستوي الحديث. وقال النَّسائيّ: ليس به بأس، وذكره ابن حبّان في الثقات، وقال: كان يخطىء، ووثقه العجلي وابن البرقيّ والدارقطنيّ. قال ابن حجر في مقدمته: احتج به الجماعة، وذكر ابن القطّان الفاسيّ أن مراد ابن مَعين بقوله في بعض الروايات: ليس بشيء، يعني أن أحاديثه قليلة جدًا، روى عن ثابت البُنانيّ وعاصم الأحول وأيوب وخالد الحذّاء

وهشام بن عروة وغيرهم. وروى عنه أحمد بن إِسحاق الحضرميّ ومسدد ومعلي بن أسد ويحيى بن حماد الشيبانيّ وغيرهم. وليس في الستة عبد العزيز بن المختار سواه. وأما علي فهو علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، أبو محمد، ويقال أبو عبد الله، ويقال أبو الفضل المدنيّ، أمه زرعة بنت مشرح بن معدي كَرِب الكِنْديّ، قال ابن سعد: في الطبقة الثالثة من أهل المدينة، ولد ليلة قتل عليّ في شهر رمضان سنة أربعين، فسمي باسمه، وكني بكنيته، وكان ثقة قليل الحديث. وقيل: ولد في حياة عليّ، فقد روى أن عليًا افتقد عبد الله بن عباس، رضي الله تعالى عنهم، وقتَ صلاة الظهر، فقال لأصحابه: ما بال ابن عباس لم يحضر الظهر؟ فقالوا: ولد له مولود، فلما صلى عليّ، رضي الله تعالى عنه، قال: امضوا بنا إِليه، فأتاه فقال: شكرت الواهب وبورك لك في الموهوب، ما سميته؟ فقال: أو يجوز لي أن أسميه حتى تسميه أنت؟ فأمر به، فأُخرج إِليه، فأخذه فحنّكه، ودعا له، ثم رده إليه وقال: خذ إليك أبا الأملاك، قد سميته عليًا، وكنيته أبا الحسن. فلما قام معاوية خليفة قال لابن عباس: ليس لكم اسمه وكنيته، وقد كنيته أبا محمد، فجرت عليه هكذا. وقيل: إنه لما قدم على عبد الملك بن مروان قال له: غيّر اسمك وكنيتك، فلا صبر لي على اسمك وكنيتك. قال: أما الاسم فلا، وأما الكنية فأكنني بأبي محمد، فغير كنيته. وإنما قال له ذلك لبغضه لعليّ، فكره أن يسمع اسمه وكنيته، أعوذ بالله من ذلك. وذكر الطبريّ أنه دخل على عبد الملك فأكرمه وأجلسه على سريره، وسأله عن كنيته، فأخبره فقال: يجتمع في عسكري هذا الاسم وهذه الكنية لأحد؟ وسأله: هل لك من ولد؟ وكان قد ولد له يومئذ محمد بن علي، فأخبره بذلك، فكناه أبا محمد. كان سيدًا شريفًا بليغًا، وهو أصغر أولاد أبيه، وكان أجمل قرشي على وجه الأرض، وأوسعهم وأكثرهم صلاة. وكان يدعى علي السجاد لذلك، وكان له خمس مئة أصل زيتون، يصلي في كل يوم إلى أصل ركعتين، وكان يدعى ذا الثفنات. قيل له ذلك لأنه

كان يصلي في كل يوم ألف ركعة، فصار في ركبتيه مثل ثفن البعير. وقيل: ذو الثفنات علي زين العابدين. وقال مصعب الزبيريّ: إنما كان سبب عبادته أنه رأى عبد الرحمن بن أبان بن عثمان وعبادته فقال: لأنا أَوْلى بهذا منه، وأقرب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رحمًا، فتجرد للعبادة. قال العجليّ وأبو زرعة: ثقة، وقال عمرو بن علي: كان من خيار الناس، وذكره ابن حبّان في الثقات، وكان علي المذكور عظيم المحل عند أهل الحجاز، حتى قيل إنه كان إذا قدم مكة حاجًا أو معتمرًا عطلت قريش مجالسها في المسجد الحرام، وهجرت مواضع حلقها, ولزمت مجلسه إعظامًا له، واجلالًا وتبجيلًا، فإن قعد قعدوا، وإن قام قاموا، وإن مشى مشوا جميعًا حوله، ولا يزالون كذلك حتى يخرج من الحرم، وكان آدمَ جسيمًا، له لحية طويلة، وكان عظيم القدم جدًا، لا يوجد له نعل ولا خف حتى يستعمله. وكان علي المذكور مفرطًا في الطول، إذا طاف كأنما حوله مشاة وهو راكب من طوله، وكان مع هذا الطول يكون إلى منكب أبيه عبد الله، وعبد الله إلى منكب أبيه العباس، وهو إلى منكب أبيه عبد المطلب. ونظرت عجوز إلى عليّ وهو يطوف، وقد فرع الناس طولًا، أي علا عليهم، فقالت: من هذا الذي فرع الناس؟ قالوا: علي بن عبد الله. قالت: لا إله إلا الله، إن الناس ليرذلون، عهدي بالعباس يطوف بهذا البيت كأنه قرطاس أبيض. وكان العباس عظيم الصوت، وجاءتهم مرة غارةٌ وقعت وقت الصبح، فصاح بأعلى صوته، واصباحاه، فلم تسمعه حامل إلاّ وضعت، وذكر أبو بكر الحازمي أن العباس كان يقف على سَلْعٍ، فينادي غلمانه وهم بالغابة، فيُسْمِعهم. وذلك من آخر الليل، وبين الغابة وسلع ثمانية أميال. وروي أن علي بن عبد الله دخل على هشام بن عبد الملك، وكان معه ابنا ابنه، الخليفتان السفاح والمنصور، ابنا محمد بن علي المذكور، فأوسع له على سريره وبره، وسأله عن حاجته، فقال: ثلاثون ألف درهم عليّ دينٌ فأمر بقضائها، ثم قال له: وتستوصي بابنيّ هذين خيرًا، ففعل، فشكره وقال:

وصلتك رحم، فلما ولى قال هشام لأصحابه: هذا الشيخ قد اختل وأسن وخلط، فصار يقول: إن هذا الأمر سينتقل إلى ولده، فسمعه عليّ فقال: والله ليكونن ذلك، وَلَيمْلِكَنَّ هذان. وقال المبرد: ضُرب عليٌّ بالسياط مرتين ظلمًا، ضربه الوليد بن عبد الملك إحداهما في تزوجه لُبابة بنت عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وكانت عند عبد الملك، فعض تفاحة ثم رمى بها إليها، وكان أبخر، فدعت بسكين فقال لها: ما تصنعين بها؟ فقالت: أميط عنها الأذى، فطلقها، فتزوجها عليّ المذكور، فضربه الوليد، وقال: إنما تتزوج بأمهات الخلفاء لتضع منهم, لأن مروان بن الحكم تزوج بأم خالد بن يزيد بن معاوية، ليضع منه، فقال عليّ: إنما أرادت الخروج من هذا البلد، وأنا ابن عمها، فتزوجتها لأكون لها محرمًا، وقد قيل إن عبد الملك كان تزوج لُبابة بنت جعفر، فقالت له يومًا، وكان أبخر: لو استكت فاستاك، وطلقها، ثم تزوجها علي بن عبد الله، وكان أقرع لا تفارقه قَلَنْسُوته، فبعث عبد الملك جارية وهو جالس معها، فكشفت رأسه على غفلة، فقالت لُبابة للجارية: هاشميٌّ أقرع أحبُّ إليّ من أمويّ أبخر. وأما ضربه إياه في المرة الثانية، فقد قال محمد بن شجاع: رأيت عليًا يومًا مضروبًا بالسوط، يُدار به على بعير، ووجهه مما يلي ذنب البعير، وصائح يصيح عليه يقول: هذا عليّ بن عبد الله الكذّاب، فأتيته وقلت: ما هذا الذي نسبوك به إلى الكذب؟ قال: بلغهم عني أني أقول إن هذا الأمر سيكون في ولدي، ووالله ليكوننَّ فيهم حتى يملكهم عبيدهم، الصغار العيون، العراض الوجوه، الذين كأنّ وجوههم المِجَانّ المُطْرقة، والذي تولى ضربه كلثومُ بن عِياض، كان والي الشرطة للوليد. وذكر الطبريّ أن الوليد بن عبد الملك أخرج عليًا من دمشق، وأنزله الحميمة، ولم يزل ولده بها إلى أن زالت دولة بني أمية، وولد له بها نيف وعشرون ولدًا ذكرًا، كان رضي الله عنه يخضب بالسواد، وكان ابنه محمد والد السفاح والمنصور، يخضب بالحُمرة، فيظن من لا يعرفهما أن محمدًا عليٌّ وأن

لطائف إسناده

عليًا محمد. روى عن أبيه وأبي سعيد وأبي هريرة وابن عمر وغيرهم. وروى عنه أولاده محمد وعيسى وعبد الصمد، وروى عنه الزهريّ ومنصور بن المعتمر وحبيب بن أبي ثابت وغيرهم. مات سنة سمع عشرة ومئة بالشراة، وهو ابن ثمانين سنة، والشَّراة، بفتح الشين والرّاء، صُقْع بالشام في طريق المدينة من دمشق، قريب من الشوبك، وفي ناحية الحميمة، وهو من إقليم البلقاء. وعلي بن عبد الله في الستة سواه ثلاثة. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، والعنعنة في موضع، وفيه القول، ورواته كلهم بصريون, لأن ابن عباس قد سكن البصرة أميرًا عليها، ومعه مولاه عكرمة. أخرجه البخاريّ في الجهاد أيضًا عن إبراهيم بن موسى، ثم قال المصنف: باب الاستعانة بالنجار والصناع في أعواد المنبر والمسجد قوله الصُّناع، بضم المهملة، جمع صانع، وذِكْره بعد النجار من ذكر العام بعد الخاص، أو في الترجمة لف ونشر فقوله: في أعواد المنبر، يتعلق بالنجار، وقوله: والمسجد، يتعلق بالصناع، أي والاستعانة بالصناع في بناء المسجد، وحديث الباب من رواية سهل وجابر يتعلق بالنجار فقط، ومنه تؤخذ مشروعية الاستعانة بغيره من الصناع، لعدم الفرق، وكأنه أشار بذلك إلى حديث طَلْق بن عليّ قال: "بنيت المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يقول: قربوا اليماميّ من الطين، فإنه أحسنكم مسًا وأشدكم له سبكًا" رواه أحمد. وفي رواية له "أخذت المِسحاة، فخلطت الطين، فكأنَّه أعجبه، فقال: دعوا الحنفيّ والطين، فإنه أضبطكم للطين" ورواه ابن حبّان في صحيحه, ولفظه "فقلت يا رسول الله: أنقل كما ينقلون؟ فقال: لا، ولكن اخلط لهم الطين، فأنت أعلم به".

الحديث الثاني والخمسون

الحديث الثاني والخمسون حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْ أَبِى حَازِمٍ عَنْ سَهْلٍ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى امْرَأَةٍ أَنْ مُرِي غُلاَمَكِ النَّجَّارَ يَعْمَلْ لِي أَعْوَادًا أَجْلِسُ عَلَيْهِنَّ. قوله: أن مُرِي غلامَك، أنْ مفسرة، بمنزلة أي، كهي في قوله تعالى: {أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ} وقوله: يعملْ لي، بالجزم، جواب الأمر. وقوله: أعوادًا، أي منبرًا مركبًا منها. وقوله: أجلس عليهن، أي الأعواد، وأجلسُ بالرفع, لأن الجملة صفة الأعواد، ولم يزل المنبر على حالته التي صنع عليها ثلاث درجات، حتى زاده مروان في خلافة معاوية ست درجات من أسفله، وكان سبب ذلك ما رواه الزبير بن بكار في أخبار المدينة بسنده إلى حميد بن عبد الرحمن بن عوف قال: بعث معاوية إلى مروان، وهو عامله على المدينة، أن يحمل إليه المنبر، فأمر به فقلع، فأظلمت المدينة، فخرج مروان فخطب، وقال: إنما أمرني أمير المؤمنين أن أرفعه، فدعا نجارًا فزاد فيه الزيادة التي هي عليها اليوم. ورواه من وجه آخر قال: فكسفت الشمس حتى رأينا النجوم. وقال: فزاد فيه ست درجات، وقال: إنما زدت حين كَثُرت الناس. قال ابن النجار وغيره: استمر على ذلك إلا ما أُصلح منه، إلى أن احترق مسجد المدينة سنة أربع وخمسين وست مئة فاحترق ثم جدد المظفر صاحب اليمن، سنة ست وخمسين، منبرًا، ثم أرسل الظاهر بيبرس بعد عشر سنين، أو عشرين سنة، منبرًا، فأزيل منبر المظفر، فلم يزل ذلك إلى هذا العصر، فأرسل الملك المؤيد سنة عشرين وثمان مئة منبرًا جديدًا. وكان أرسل في سنة ثماني عشرة منبرًا جديدًا إلى مكة أيضًا، شكر الله له صالح عمله آمين.

رجاله أربعة

رجاله أربعة: الأول: قتيبة بن سعيد، وقد مرَّ في الحادي والعشرين من كتاب الإيمان, ومرَّ عبد العزيز بن أبي حازم في الخامس والأربعين من أبواب استقبال القبلة، ومرَّ أبوه أبو حازم وسهل بن سعد في السابع والمئة من كتاب الوضوء. وفيه لفظ امرأة مبهمة، وقد مرَّ الكلام عليها، وعلى غلامها في التاسع والعشرين من كتاب الصلاة، في باب الصلاة في السطوح والمنبر. فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وبالإفراد في موضع، والعنعنة في موضع، وفيه رواية الابن عن الأب، ورواته ما بين مدنيّ وبلخيّ. أخرجه البخاريّ هنا، وقد مرَّ ذكر مواضعه.

الحديث الثالث والخمسون

الحديث الثالث والخمسون حَدَّثَنَا خَلاَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَيْمَنَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلاَ أَجْعَلُ لَكَ شَيْئًا تَقْعُدُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ لِي غُلاَمًا نَجَّارًا؟ قَالَ: إِنْ شِئْتِ. فَعَمِلَتِ الْمِنْبَرَ. قوله: إنّ امرأة، هي التي ذكرت في حديث سَهْل، فإن قيل: ظاهر سياق حديث جابر مخالفٌ لسياق حديث سهْل, لأن في هذا أنها ابتدأت بالعرض، وفي حديث سهل أنه عليه الصلاة والسلام هو الذي أرسل إليها يطلب ذلك، أجاب ابن بطال باحتمال أن تكون المرأة ابتدأت بالسؤال، متبرعة بذلك، فلما حصل لها القبول أمكن أن يبطىء الغلام بعمله، فأرسل يستنجزها إتمامه، لعلمه بطيب نفسها بما بذلته. قال: ويمكن إرساله إليها ليعرفها بصفة ما يصنعه الغلام من الأعواد، وأن يكون ذلك منبرًا. وقد أخرجه المصنف في علامات النبوءة من هذا الوجه، بلفظ "ألا أجعل لك منبرًا؟ " فلعل التعريف وقع بصفة للمنبر مخصوصة، أو يحتمل أنه لما فوض إليها الأمر بقوله لها: إنْ شئت، كان ذلك سبب البطء، لا أنّ الغلام كان شرع وأبطأ، ولا أنه جهل الصنعة، وهذا أوجه الأوجه. وقوله: ألا أجعل لك، أضافت الجعل إلى نفسها مجازًا. وقوله: فإنّ لي غلامًا نجارًا، في رواية الكشميهنيّ "فإن لي غلام نجار" وفي الحديث قبول البذل إذا كان بغير سؤال، واستنجاز الوعد ممن يعلم منه الإجابة، والتقرب إلى أهل الفضل بعمل الخير، وقد اختصر المؤلف هذا المتن هنا، ويأتي بتمامه في علامات النبوءة، ويأتي إن شاء الله الكلام على ما لم يذكر منه هنا، عند أول ذكره.

رجاله أربعة

رجاله أربعة: الأول: خلاد بن يحيى، وقد مرَّ في التاسع والعشرين من كتاب الغسل. والثاني: عبد الواحد بن أيمن المخزومي، مولاهم أبو القاسم المكيّ. رأى ابن الزبير. قال ابن معين: ثقة، وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال النَّسائيّ: ليس به بأس، وذكره ابن حبَّان في الثقات، وقال أبو بكر البزار: مشهور ليس به بأس في الحديث. روى عن أبيه وابن أبي مليكة وسعيد بن جُبير وعبيد بن عمير الليثيّ وغيرهم. وروى عنه حفص بن غياث ومروان بن معاوية ووكيع وخلاد بن يحيى وغيرهم. الثالث: أيمن الحبشيّ المكيّ، والد عبد الواحد بن أيمن، مولى ابن عمرو المخزوميّ. وقيل: مولى ابن أبي عمرة، ثقة من الطبقة الرابعة، ذكره ابن حبّان في الثقات، وقال أبو زرعة: ثقة، وقال البخاري في صحيحه: حدثنا أبو نعيم عن عبد الواحد عن أبيه قال: دخلت على عائشة فقلت: كنت غلامًا لعتبة بن أبي لهب، ومات وورثني بنوه، وإنهم باعوني من عبد الله بن أبي عمرو بن عمر المخزومي، فأعتقني، وذكر الحديث. روى عن جابر وعائشة وسعد بن أبي وقاص، وروى عنه ابنه. الرابع: جابر بن عبد الله، وقد مرَّ في الرابع من بدء الوحي. فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في موضعين، وفيه رواية الابن عن الأب، ورواته ما بين كوفيّ ومكيّ. أخرجه البخاريّ في البيوع عن خلاد بن يحيى، وفي علامة النبوءة عن أبي نعيم. ثم قال المصنف: باب من بني مسجدًا أي حاله من الفضل.

الحديث الرابع والخمسون

الحديث الرابع والخمسون حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو أَنَّ بُكَيْرًا حَدَّثَهُ أَنَّ عَاصِمَ بْنَ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ اللَّهِ الْخَوْلاَنِيَّ أَنَّهُ سَمِعَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ يَقُولُ عِنْدَ قَوْلِ النَّاسِ فِيهِ حِينَ بَنَى مَسْجِدَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّكُمْ أَكْثَرْتُمْ، وَإِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ مَنْ بَنَى مَسْجِدًا قَالَ بُكَيْرٌ حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ، بَنَى اللَّهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الْجَنَّةِ. قوله: عند قول الناس فيه، وبيان ذلك القول أخرجه مسلم عن محمود بن لبيد قال: لما أراد عثمان بناء المسجد، كره الناس ذلك، وأحبوا أن يَدَعوه على هيئته في عهده عليه الصلاة والسلام. قال البغويّ: لعل الذي كره الصحابة من عثمان بناءه بالحجارة المنقوشة، لا مجرد توسيعه. وقوله: حين بني، أي أراد أن يبني، ولم يبن عثمان المسجد إنشاء، وإنما وسّعه وشيّده، كما مرَّ في باب بنيان المسجد، فيؤخذ منه إطلاق البناء في حق من جدد، كما يطلق في حق من أنشا، والمراد بالمسجد هنا بعض المسجد، من إطلاق الكل على البعض. وقوله: مسجد الرسول، كذا للأكثر، وللكشميهنيّ والحمويّ، "مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم" وكان ذلك سنة ثلاثين على المشهور. وقيل: في آخر سنة من خلافته، وهي سنة خمس وثلاثين. ففي كتاب السير للحارث بن مسكين عن ابن وهب عن مالك أن كعب الأحبار كان يقول: عند بنيان عثمان المسجد: لوددِتُ أنَّ هذا المسجد لا ينجز، فإنه إذا فرغ من بنيانه، قتل عثمان. قال مالك: فكان الأمر كذلك، ويمكن الجمع بأن الأول كان تأريخ ابتدائه، والثاني كان تأريخ انتهائه.

وقوله: إنكم أكثرتم، أي الكلام في الإنكار على ما فعلته، فحذف المفعول للعلم به. وقوله: بني مسجدًا، حقيقة أو مجازاً، بأن كان آمرًا بذلك، والتنوين في "مسجدًا" للشيوع، فيدخل فيه الكبير والصغير، وعند التِّرمذيّ عن أنس "صغيرًا أو كبيرًا" وزاد ابن أبي شيبة من وجه آخر، عن عثمان "ولو كمَفْحَص قطاة" وهذه الزيادة عند ابن حبّان والبزار عن أبي ذرٍّ، وعند أبي مسلم الكجي عن ابن عباس، وعند الطبرانيّ في الأوسط عن أنس وابن عمر، وعند أبي نعيم في الحلية عن أبي بكر الصديق. ورواه ابن خُزيمة عن جابر بلفظ "كمَفْحَص قطاة أو أصغر" ومفحصها بفتح الميم والحاء، بوزن مَقْعَد، مجثمها لتضع فيه بيضها، وترقد عليها، كأنها تَفْحَص عنه أي تكشفه، والفحص البحث والكشف. وحمل أكثر العلماء ذلك على المبالغة, لأن المكان الذي تفحص القطاة عنه، لا يكفي مقداره للصلاة فيه. ويؤيده رواية جابر هذه, لأن الشارع يضرب المثل في الشيء الذي لا يكاد يقع، كقوله: "اسمعوا وأطيعوا ولو عبدًا حبشيًا" وقد ثبت أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال: "الأئمة من قريش" قلت: هذا لا يخالف الحديث الأخير، لحمل الأول ما إذا حصلت إمامته بالتغلب، وقيل: هو على ظاهره، والمعنى أن يزيد في المسجد قدرًا يحتاج إليه تكون تلك الزيادة، هذا القدر، أو يشترك جماعة في بناء مسجد فتقع حصة كل واحد منهم ذلك القدر. وهذا بناء على أن المراد بالمسجد المكان الذي يتخذ للصلاة فيه، فإن كان المراد بالمسجد موضع السجود، وهو ما يسع الجبهة، فلا يحتاج إلى شيء مما ذكر، لكن قوله "بني" يشعر بوجود بناء على الحقيقة، ويؤيده قوله في رواية أم حبيبة "مَنْ بَنى لله بيتًا" أخرجه سمويه في فوائده بإسناد حسن. وقوله في رواية عمر "من بني مسجدًا يذكر فيه اسم الله" أخرجه ابن حبّان، وأخرج نحوه النَّسائيّ من حديث عمرو بن عَنْبَسَة، فكل ذلك مشعر بأن المراد بالمسجد المكان المتخذ، لا موضع السجود فقط، لكن لا يمنع إرادة الآخر مجازًا إذ بناء كل شيء بحسبه، وقد شوهد كثير من المساجد في طرق

المسافرين، يحوطونها إلى جهة القبلة، وهي في غاية الصغر، ويعضها لا يكون أكثر من قدر موضع السجود، وروى البيهقي في الشُّعَب عن عائشة نحو حديث عثمان، وزاد فيه "قلت: وهذه المساجد التي في الطرق؟ قال: نعم" وللطبرانيّ نحوه من حديث أبي قِرْصافة، وإسنادهما حسن. وإنما خص القطاة بهذا لأنها لا تبيض على شجرة، ولا على رأس جبل، بل إنما تجعل مجثمها على بسيط الأرض دون سائر الطير، فلذلك شبه به المسجد، ولأنها توصف بالصدق، فكأنه أشار بذلك إلى الإخلاص في بنائه، كما قال الشيخ أبو الحسن الشاذليّ: خالص العبودية الاندماج في طي الأحكام من غير شهرة ولا إرادة، وهذا شأن هذا الطائر. وقيل لأن أفحوصها يشبه محراب المسجد في استدارته وتكوينه. وقوله: قال بكير: حسبت أنَّه، أي شيخه عاصمًا بالإسناد المذكور، وقوله: يبتغي به وجه الله، أي ذاته عز وجل، طلبًا لمرضاته تعالى، لا رياء أو سمعة. والمعنى ذلك الإخلاص، وهذه الجملة لم يجزم بها بكير في الحديث، وكل من روى حديث عثمان لفظه "من بني لله مسجدًا" فكأنَّ بكيرًا نسيها، فذكرها بالمعنى مترددًا في اللفظ الذي ظنه، فإن قوله "لله" بمعنى قوله "يبتغي به وجه الله" لاشتراكهما في المعنى المراد، وهو الإخلاص. قال ابن الجوزيّ: من كتب اسمه على المسجد الذي يبنيه كان بعيدًا من الإخلاص. ومن بناه بالأجرة لم يحصل له هذا الوعد المخصوص، لعدم الإخلاص، وإن كان يؤجر في الجملة. وروى أصحاب السنن وابن خزيمة والحاكم عن عقبة بن عامر مرفوعًا "أن الله يُدخل بالسهم الواحد ثلاثةً الجنة: صانِعَه المحتَسِبَ في صنعته، والرامي به، والمُمِدَّ بِهِ" فقوله: المحتسب في صنعته، أي من يقصد بذلك إعانة المجاهد، وهو أعم من أن يكون متطوعًا بذلك، أو بأجرة، لكن الإخلاص لا يحصل إلا من المتطوع، وهل يحصل الثواب المذكور لمن جعل بقعة من الأرض مسجدًا، بأن يكتفي بتحويطها من غير بناء؟ وكذا من عمد إلى بناء كان يملكه فوقفه مسجدًا؟ إن وقفنا مع ظاهر اللفظ فلا، وإن نظرنا إلى المعنى فنعم، وهو المتجه. وكذا قوله "بنى" حقيقة

في المباشرة بشرطها, لكن المعنى يقتضي دخول الأمر بذلك كما في تقدير "بنى" وهو المنطبق على استدلال عثمان رضي الله تعالى عنه؛ لأنه استدل بهذا الحديث على ما وقع منه، ومن المعلوم أنه لم يباشر ذلك بنفسه. وقوله: بني اللهُ له، جواب الشرط الذي هو "مَن بَنى" وجملة قال بكير، اعتراضٌ بينهما، وإسناد البناء إلى الله مجاز، وابراز الفاعل لتعظيم ذكره جل اسمه، أو لئلا تتنافر الضمائر أو يتوهم عوده على باني المسجد. وقوله: مثله، صفة لمصدر محذوف، أي بني بناء مثله. ولفظ المثل له استعمالان: أحدهما الإفراد مطلقًا، كقوله تعالى: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} والثاني المطابقة، كقوله تعالى: {أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} فعلى الأول لا يمتنع أن يكون الجزاء أبنية متعددة، فيحصل جواب من استشكل التقييد بقوله "مثله"، مع أن الحسنة بعشر أمثالها، الاحتمال أن يكون المراد "بني الله له عشرة أبنية مثله" والأصل أن ثواب الحسنة الواحدة واحد بحكم العدل، والزيادة عليه بحكم الفضل. وأما من أجاب باحتمال أن يكون عليه الصلاة والسلام قال ذلك، قبل نزول قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} ففيه بُعد. وكذا من أجاب بأن التقييد بالواحد لا ينفي الزيادة، ومن الأجوبة المرضية أن المثلية هنا بحسب الكمية، والزيادة حاصلة بحسب الكيفية، فكم من بيت خير من عشرة، بل من مئة، وأن المقصود من المثلية أن جزاء هذه الحسنة من جنس البناء، لا من غيره، مع قطع النظر عن غير ذلك، مع أن التفاوت حاصل قطعًا بالنسبة إلى ضيق الدنيا وسعة الجنة، إذ موضعُ شبر فيها خير من الدنيا وما فيها، كما في الصحيح، فإنه أفضل بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وقد روى أحمد من حديث واثلة بلفظ "بني الله له في الجنة أفضل منه" وللطبرانيّ عن أبي أمامة بلفظ "أوسع منه" وهذا يشعر بأن المثلية لم تقصد بها المساواة من كل وجه. وقال النوويّ: إن يكون المراد أن فضله على بيوت الجنة، كفضل المسجد على بيوت الدنيا. قلت: البيت يكفي من عظمه إسناد

رجاله سبعة

بنائه إلى الله تعالى كما في قول الشاعر: إن الذي سَمَكَ السماء بني لنا ... بيتًا دعائمه أعز وأطول وقوله: في الجنة، يتعلق ببنى، أو هو حال من قوله "مثله" وفيه إشارة إلى دخول فاعل ذلك الجنة، إذ المقصود بالبناء له أن يسكنه وهو لا يسكنه إلا بعد الدخول. رجاله سبعة: الأول: يحيى بن سليمان، وقد مرَّ في الخامس والخمسين من كتاب العلم، ومرَّ عثمان بن عفان في باب ما يذكر في المناولة في تعليق بعد الخامس منه، ومرَّ عبد الله بن وهب في الثالث عشر منه، ومرَّ عمرو بن الحارث في السابع والستين من كتاب الوضوء، ومرَّ بكير بن الأشج في الخامس والسبعين منه. السادس: عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان بن زيد بن عامر بن سَوَاد بن كعب، وهو ظَفَر بن الخَزْرج بن عمرو بن مالك بن الأوس الأنصاري الظَفَري، أبو عمرو، ويقال أبو عُمَرَ المَدَنِيّ. قال ابن معين وأبو زرعة والنَّسَائيّ: ثقة، وقال ابن سعد: كان راوية للعلم، وله علم بالمغازي والسيرة أمره عمر بن عبد العزيز أن يجلس في مسجد دمشق، فيحدث الناس بالمغازي ومناقب الصحابة، ففعل. وكان ثقة كثير الحديث، عالمًا وقال البزار: ثقة مشهور. وقال عبد الحق في الأحكام: هو ثقة عند أبي زرعة وابن معين، وقد ضعفه غيرهما. وقد رَدّ ذلك عليه ابن القطّان وقال: بل هو ثقة عندهما، وعند غيرهما، ما سمعت أحدًا ضعفه ولا ذكره في الضعفاء. قال ابن حَجَر في مقدمته: وهو كما قال ابن القَطّان، وقد احتج به الجماعة. روى عن أبيه وجابر بن عبد الله ومحمود بن لبيد وجدته رُمَيثة، ولها صحبة، وأنس وغيرهم. وروى عنه ابنه الفضل وبكير بن الأشج وزيد بن أسلم وعُمارة بن غَزية وأبو الأسود يتيم عروة وغيرهم. مات سنة عشرين ومئة.

لطائف إسناده

وعاصم بن عمر سواه في الستة ثلاثة. السابع: عبيد الله بن الأسي الخَوْلانيّ، ربيب ميمونة، أعني أنها ربته فقيل: كان مولاها, لا أنه ابن زوجها، روى عنها وعن زيد بن خالد الجُهَنِيّ وابن عباس، وروى عنه بُسر بن سعيد وعاصم بن قَتادة. ذكره ابن حبّان في الثقات، له عندهم حديث "لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ولا تصاوير" وعند الشيخين "من بني مسجدًا" وعند أبي داود في الوضوء. وليس في الستة عُبيد الله بن الأسود سواه. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وبصيغة الإفراد في موضعين، والسماع في موضعين، والإخبار بصيغة الإفراد في موضع، وفيه ثلاثة من التابعين في نسق، وفيه ثلاثة من أول الإسناد مصريون، وثلاثة من آخره مدنيون، وفي وسطه مدنيٌّ سكن مصر، وهو بكير بن الأشج أخرجه مسلم في آخر الكتاب، وفي الصلاة، والتِّرْمِذِيّ في الصلاة، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه. ثم قال المصنف: باب يأخذ بنصول النبل إذا مر في المسجد أي هذا باب يأخذ، أي الشخص، والنصول جمع نصل، ويُجمع أيضًا على نِصال، كما يأتي في حديث الباب الذي بعده. والنصل نصل السهم والسيف والرمح. والنَّبْل، بفتح النون وسكون الموحدة بعدها لام: السهام العربية، وهي مؤنثة ولا واحد لها من لفظها، وجواب الشرط في قوله "إذا مر" محذوف يفسره قوله "يأخذ" أو التقدير يستحب لمن معه نبل أن يأخذ ... الخ.

الحديث الخامس والخمسون

الحديث الخامس والخمسون حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: قُلْتُ لِعَمْرٍو أَسَمِعْتَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: مَرَّ رَجُلٌ فِي الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ سِهَامٌ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَمْسِكْ بِنِصَالِهَا. لم يذكر قتيبة في هذا السياق جواب عمرو عن استفهام سفيان، كما في أكثر الروايات، وحكى عن رواية الأصيليّ أنه ذكره في آخره، فقال: نعم. وقد ذكره غير قتيبة كما عند المصنف في الفتن عن علي بن المَدِينيّ، وسياق المصنف يفيد تحقق الاتصال فيه، والراجح الذي عليه أكثر المحققين، ومنهم البخاريّ أن قول الشيخ "نعم" إذا قال له القارىء مثلًا أحدثك فلان؟ لا يشترط، بل يكتفى فيه بسكون الشيخ إذا كان متيقظًا. وفي الحديث إشارة إلى تعظيم قليل الدم وكثيره، وتأكيد حرمة المسلم، وجواز إدخال المسجد السلاح. وفي الأوسط للطبرانيّ عن أبي سعيد قال: "نهى رسول الله صلى الله تعالى وسلم عن تقليب السلاح في المسجد" والمعنى فيه ما تقدم، وقوله: مرَّ رجل، هذا الرجل لم يسمَّ، وعند مسلم أن المار المذكور كان يتصدق بالنبل. رجاله أربعة: الأول: قتيبة بن سعيد، وقد مرَّ في الحادي والعشرين من كتاب الإيمان, ومرَّ سفيان بن عُيينة في الأول من بدء الوجي، ومرَّ جابر بن عبد الله في الرابع منه، ومرَّ عمرو بن دينار في الرابع والخمسين من كتاب العلم. فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وفيه القول والسؤال عن السماع بطريق الاستفهام، ولم يذكر له جواب، وقد ذكر البخاريّ في غير كتاب الصلاة

باب المرور في المسجد

أنه قال: نعم، فبان بقوله "نعم" إسناد الحديث. وقد اختلف العلماء في هذه المسألة، وقد مرَّ الكلام عليها مستوفى في التفاريع المذكورة في باب القراءة والعرض على المحدث، بعد الرابع من كتاب العلم. أخرجه البخاريّ هنا وفي الفتن عن علي بن عبد الله، ومسلم وابن ماجه في الأدب، والنَّسائيّ في الصلاة، وأبو داود في الجهاد. ثم قال المصنف: باب المرور في المسجد أي جوازه، وهو مستنبط من حديث الباب من جهة الأولوية، فإن قيل: ما وجه تخصيص حديث أبي موسى بترجمة المرور، وحديث جابر بترجمة الأخذ بالنصال، مع أن كلًا من الحديثين يدل على كل من الترجمتين؟ أجيب باحتمال أن يكون ذلك بالنظر إلى لفظ المتن، فإن حديث جابر ليس فيه ذكر المرور من لفظ الشارع، بخلاف حديث أبي موسى، فإن فيه لفظ المرور من لفظه مقصودًا، حيث جعل شرطًا، ورتب عليه الحكم. وهذا بالنظر إلى اللفظ الذي وقع للمؤلف على شرطه، وإلا فقد رواه النَّسائيّ عن جابر بلفظ "إذا مرَّ أحدكم الحديث".

الحديث السادس والخمسون

الحديث السادس والخمسون حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو بُرْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: مَنْ مَرَّ فِي شَيْءٍ مِنْ مَسَاجِدِنَا أَوْ أَسْوَاقِنَا بِنَبْلٍ، فَلْيَأْخُذْ عَلَى نِصَالِهَا، لاَ يَعْقِرْ بِكَفِّهِ مُسْلِمًا. قوله: أو أسواقنا، هو تنويع من الشارع، وليس شكًا من الراوي. وقوله: بنبل، الباء للمصاحبة، وقوله: على نصالها، ضمن الأخذ بمعنى الاستعلاء للمبالغة، أو على بمعنى الباء، كما مرَّ قريبًا عن ثابت عن أبي بُردة. وقوله: لا يعقر، أي يجرح، وهو مجزوم نظرًا إلى أنه جواب الأمر، أو أن لا ناهية، ويجوز فيه الرفع. وقوله: بكفه، متعلق بقوله فليأخذ، وكذا رواية الأصيلى "لا يعقر مسلمًا بكفه" ليس قوله "بكفه متعلقاً بيعقر" والتقدير فليأخذ بكفه على نصالها لا يعقر مسلمًا. ويؤيده رواية أبي امامة عن مسلم "فليمسك على نصالها بكفه أنْ يصيب أحدًا من المسلمين" وله عن أبي بردة "فليأخذ بنصالها، ثم ليأخذ بنصالها، ثم ليأخذ بنصالها". رجاله خمسة: الأول: موسى بن إسماعيل، وقد مرَّ في الخامس من بدء الوحي، ومرَّ عبد الواحد بن زياد في التاسع والعشرين من كتاب الإيمان" ومر بُرَيد بن عبد الله وجده أبو بردة وأبو أبي بردة أبو موسى الأشعريّ في الرابع منه. فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، والعنعنة في موضعين، والسماع في موضع، وفيه رواية الراوي عن جده، والابن عن الأب، ورواته ما

باب الشعر في المسجد

بين بصريّ وكوفيّ، أخرجه البخاريّ هنا، وفي الفتن عن أبي كريب، ومسلم وابن ماجه في الأدب، وأبو داود في الجهاد. ثم قال المصنف: باب الشعر في المسجد أى ما حكمه؟

الحديث السابع والخمسون

الحديث السابع والخمسون حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُ سَمِعَ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيَّ يَسْتَشْهِدُ أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْشُدُكَ اللَّهَ هَلْ سَمِعْتَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ يَا حَسَّانُ، أَجِبْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَعَمْ. قوله: أخبرني أبو سَلَمة، كذا رواه شعيب، وتابعه إسحاق بن راشد عن الزُّهري عند النَّسائيّ، وأخرجه المؤلف في بدء الخلق عن ابن عُيينة عن الزُّهريّ فقال: عن سعيد بن المسيب بدل أبي سلمة، وتابعه معمر عند مسلم، وإبراهيم بن سعد واسماعيل بن أمية عند النَّسائيّ، والجمع بين ذلك هو أن الحديث عند الزُّهريّ عنهما معًا، فكان يحدث به عن هذا تارة وتارة عن هذا، وهذا من جنس الأحاديث التي يتعقبها الدارقطنيّ على الشيخين، لكنه لم يذكره عليه. وقوله: يستشهد أبا هريرة، أي يطلب الشهادة، والمراد الإخبار بالحكم الشرعي، وأطلق عليه الشهادة مبالغة في تقوية الخبر. وقوله: أَنْشُدك، بفتح الهمزة وضم الشين المعجمة، أي سألتك الله، والنَّشْد بفتح النون وسكون الشين المعجمة: التذكر، وقوله: أحب عن رسول الله، في رواية سعيد: أحب عني، فيحتمل أن يكون الذي هنا بالمعنى، أو أنه عليه الصلاة والسلام قال ذلك كذلك، تربية للمهابة، وتقوية لداعي المأمور، كما في قوله الخليفة يأمر بكذا، بدل أنا أمرت بكذا. والمراد بالإجابة الرد على الكفار الذين هجوا رسول الله صلى الله تعالى عليه

وسلم وأصحابه، وفي التِّرمذيّ عن عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ينصب لحسان منبرًا في المسجد، فيقوم عليه يهجو الكفار" وقوله: أيده بروح القُدس، أي قوّاه، وروح القدس المراد به جبريل، بدليل حديث البراء عند المصنف أيضًا بلفظ "وجبريل معك". والقُدس بضم القاف والدال، بمعنى الطهر. وسمي جبريل بذلك لأنه خلق من الطهر. وقال كعب: القُدُس الرَّب جل وعز، ومعنى روح القدس روح الله، وإنما سمي بالروح لأنه يأتي بالبيان عن الله تعالى، فيُحيي به الأرواح، وقيل: معنى القدس البَرَكة، ومَن أسمائه تعالى القُدُّوس، أي الطاهر المنزَّه عن العيوب والنقائص. ومنه الأرض المقدسة، وبيت المَقْدِس؛ لأنه الموضع الذي يتقدس فيه أي يتطهر فيه من الذنوب. قال ابن بطال: ليس في حديث الباب أن حسانًا أنشد شعرًا في المسجد بحضرة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، لكن رواية البخاريّ، في بدء الخلق عن سعيد، تدل على أن قوله صلى الله تعالى عليه وسلم لحسان "أحب عنّي" كان في المسجد، وأنه أنشد فيه ما أجاب به المشركين. ولفظه "مر عمر رضي الله تعالى عنه في المسجد، وحسان ينشد، فزجره فقال: كنت أنشد فيه وفيه من هو خير منك، ثم التفت إلى أبي هريرة فقال: "أنْشُدك الله .. الحديث"، أو أن البخاريّ قصد تشحيذ الأذهان بالإشارات، ووجه ذلك أن هذه المقالة منه عليه الصلاة والسلام دالةٌ على أن للشعر حقًا، يتأهل صاحبه لأن يؤيد في النطق به بجبريل عليه الصلاة والسلام، وما هذا شأنه يجوز قوله في المسجد قطعًا، والذي يحرم إنشاده فيه ما كان من الباطل المنافي لما اتخذت له المساجد من الحق. والأول أليق بتصرف البخاري، وبذلك جزم المازريّ، وقال: انما اختصر البخاري القصة لاشتهارها, ولكونه ذكرها في موضع آخر، وأما ما رواه ابن خزيمة في صحيحه" والتّرمذيّ وَحسَّنه، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "نهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن تناشد الأشعار في

رجاله ستة

المساجد" وإسناده صحيح إلى عمرو، فمن يصحح نسخته يصححه، وفي المعنى عدة أحاديث، لكن في أسانيدها مقال، فالجمع بينهما وبين حديث الباب أن يحمل النهي على تناشد أشعار الجاهلية والمبطلين، والمأذون فيه ما سلم من ذلك. وقيل: المنهيُّ عنه ما إذا كان التناشد غالبًا على المسجد حتى يتشاغل به من فيه. وقد قال مالك وأبو حنيفة والشافعى وأحمد والنَّوويِّ والأوزاعيّ والشَّعبيّ وغيرهم: لا بأس بإنشاد الشعر في المسجد إذا لم يكن فيه هجاء ولا فحش، ولا نكب عرضِ أحدٍ من المسلمين. وقال بكراهة روايته وإنشاده في المسجد مسروق وإبراهيم النخعيّ وسالم بن عبد الله والحسن البصريّ، وأبعد أبو عبد الملك البونيّ فأعمل أحاديث النهيّ، وادعى النسخ في حديث الباب، ولم يوافق على ذلك. حكاه ابن التين عنه وقال: إنه طرد هذه الدعوى فيما يأتي من دخول أصحاب الحراب المسجد، وكذا دخول المشرك المسجد، وفي الحديث جواز الاستنصار من الكفار، قال العلماء: ينبغي أن لا يُبْدأ المشركون بالسب والهجاء، مخافة من سبهم الإِسلام وأهله، قال تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا} ولتنزيه ألسنة المسلمين عن الفحش، إلاَّ أن تدعو إلى ذلك ضرورة، كابتدائهم به، فيكفُّ أذاهم أو نحوه، كما فعله عليه الصلاة والسلام. وفيه استحباب الدعاء لمن قال شعرًا مثل قصة حسان، وفيه فضيلة لحسّان. رجاله ستة: الأول: أبو اليمان. والثاني: شعيب بن أبي حمزة، وقد مرا من السابع من بدء الوحي، ومرَّ ابن شهاب في الثالث منه، ومرَّ أبو سلمة في الرابع منه، ومرَّ أبو هريرة في الثاني من كتاب الإيمان. السادس: حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام بن عمرو بن زيد بن

عديّ بن عمرو بن مالك بن النجار، الخزرجيّ، شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمه الفُرَيعة، بالفاء والعين المهملة مصغرًا، بنت خالد بن حُبَيش بن لَوْذان، خزرجية أيضًا، أدركت الإِسلام فاسلمت وبايعت، وقيل هي أخت خالد لا ابنته، والأشهر في كنيته أبو الوليد، وقيل أبو المُضَرَّب، وقيل أبو عبد الرحمن. قال أبو عبيدة: فُضّل حسان بن ثابت على الشعراء بثلاثة، كان شاعر الأنصار في الجاهلية، وشاعر النبي صلى الله عليه وسلم أيام النبوءة، وشاعر اليمن كلها في الإِسلام. وفي الصحيحين أن عمر بن الخطاب مرَّ بحسان في المسجد وهو ينشد، فلحظ إليه فقال: كنت أنشد وفيه من هو خير منك، ثم التفت إلى أبي هريرة فقال: أنشدك الله، أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "أجب عني، اللهم أيده بروح القُدُس؟ " وأخرج أحمد أن عمر قال: أفي مسجد رسول الله تنشد الشعر؟ فقال: كنت أنشد وفيه من هو خير منك. وفي الصحيحين عن البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحسان: "اهجهم أو هاجهم وجبريل معك "وروى أبو داود عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضع لحسان المنبر في المسجد، يقوم عليه قائمًا يهجو الذين كانوا يهجون النبي صلى الله عليه وسلم. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن روح القدس مع حسّان ما دام ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" ومن حديث سِماك بن حرب وأبي إسحاق "أن الذين كانوا يهجون رسول الله صلى الله عليه وسلم من مشركي قريش عبد الله بن الزبَعْرى وأبو سفيان بن الحارث وعمرو بن العاص وضرار بن الخطاب، فقال قائل لعلي: اهج عنا القوم، فقال: إن أذن لي النبي صلى الله عليه وسلم فعلت، فقالوا: يا رسول الله: ائذن له. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن عليًا ليس عنده ما يراد في ذلك منه، أو ليس في ذلك هناك، ثم قال: ما يمنع القوم الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسلاحهم أن ينصروه بألسنتهم؟ فقال حسان: أنا لها، وأخذ بطرَف لسانه، وقال: والله ما

يسرني به مِقْوَل بين بُصرى وصنعاء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تهجوهم وأنا منهم؟ وكيف تهجو أبا سفيان وهو ابن عمي؟ فقال: والله لأَسُلَّنَّكَ منهم كما تسل الشعرة من العجين، فقال له: ائت أبا بكر، فإنه أعلم بأنساب القوم منك، فكان يمضي إلى أبي بكر ليفقهه في أنسابهم، وكان يقول له: كُفّ عن فلانة وفلانة، واذكر فلانة وفلانة، فجعل يهجوهم، فلما سمعت قريش شعر حسان قالوا: إن هذا الشعر ما غاب عنه ابن أبي قحافة، أو من شعر ابن أبي قحافة، فمن شعر حسان في أبي سفيان بن الحارث: وإن سنام الجد في آل هاشم ... بنو بنت مخزوم ووالدك العبدُ ومن ولدت أبناء زهرة منهم ... كرام ولم يقرب عجائزك المجد ولست كعباس ولا كابن أمه ... ولكن لئيم لا يقوم له زَند وإن امرأً كانت سمية أمه ... وسمراء مغمور إذا بلغ الجهد وأنت هجين نيط في آل هاشم ... كما نيطَ خلف الراكب القدَح الفردُ فلما بلغ هذا الشعر أبا سفيان قال: هذا الكلام لم يغب عنه ابن أبي قحافة، ويعنى بقوله بنت مخزوم فاطمة بنت عمرو بن عائذ، وهي أم أبي طالب وعبد الله والزبير بني عبد المطلب، وعنى بقوله "ومن ولدت أبناء زهرة منهم" حمزة وصفية وأمهما هالة بنت أهيب بن عبد مناف بن زهرة، والعباس وابن أمه ضرار بن عبد المطلب أمهما نُتَيلة امرأة من النَّمر بن قاسِط، وسمية أم أبي سفيان، وسمراء أم أبيه، ومن قول حسان أيضًا في أبي سفيان: هجوت محمدًا فأجبتُ عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء هجوت مطهرًا برَّاً حنيفًا ... أمين الله شيمته الوفاء أتهجوه ولست له بكفء ... فشركما لخيركما الفداء فإن أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء وهذا الشعر أوله: عفت ذات الأصابع فالجواء ... إلى عذراء منزلها خلاء

قال مصعب الزبيري: هذه القصيدة قال حسان صدرها في الجاهلية وآخرها في الإِسلام، وهجم حسان على فتية يشربون الخمر فعيرهم في ذلك فقالوا: يا أبا الوليد، ما أخذنا إلا منك، وإنا لنهم بتركها، ثم يثبطنا عن ذلك قولك: ونشربها فتتركنا ملوكًا ... وأسدًا ما ينهنهنا اللقاء فقال: هذا شيء قلته في الجاهلية، والله ما شربتها منذ أسلمت. قال ابن سيرين: وانتدب لهجو المشركين ثلاثة من الأنصار: حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة، وكان حسان وكعب بن مالك يعارضانهم بمثل قولهم في الوقائع والأيام والمآثر، ويذكران مثالبهم، وكان عبد الله بن رواحة يعيرهم بالكفر وعبادة ما لا يسمع ولا ينفع، فكان قوله يومئذ أهون القول عليهم، وكان قول حسان وكعب أشد القول عليهم فلما أسلموا وفقهوا كان أشد القول عليهم قول عبد الله بن رواحة. وقال صلى الله عليه وسلم في حسان: "إن قوله فيهم أشد عليهم من وقع النبل" وقد مرَّ نهي عمر له عن إنشاد الشعر في المسجد، وما أجابه به. وروي عن عمر أنه نهى أن ينشد شيئاً من مناقضة الأنصار ومشركي قريش، وقال: في ذلك شتم الحيّ والميت، وتجديد الضغائن، وقد هدم الله أمر الجاهلية بما جاء من الإِسلام. قال أبو عبيدة: اجتمعت العرب على أن أشعر أهل المدن يثرب ثم عيبد القيس ثم ثقيف، وعلى أن أشعر أهل المدن حسان بن ثابت، وعن أبي عُبيدة وأبي عمرو بن العلاء أنهما قالا: حسان أشعر أهل الحضر، وقال أحدهما: أهل المدن. وقال الأصمعي حسان أحد فحول الشعراء. وقال مرّة: شعر حسان في الجاهلية من أجود الشعر. وقيل لحسان: لان شعرك أو هَرِم في الإِسلام يا أبا الحُسام؟ فقال للقائل: يا ابن أخي إن الإِسلام يحجز عن الكذب، أو يمنع من الكذب، وإن الشعر يزينه الكذب، يعني أنّ شأن التجويد في الشعر الإفراط في الوصف، والتزيين بغير الحق،

وذلك كله كذب، وقال الحطيئة: أبلغوا الأنصار أن شاعرهم أشعر العرب حيث يقول: يغشَون حتى ماتَهِرُّ كلابهم ... لا يسألون عن السَّوادِ المقبل قال عبد الملك بن مروان: أمدح بيت قالته العرب بيت حسان هذا، ومن جيد شعر حسان ما ارتجله بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدوم وقد بني تميم، إذ أتوه بخطيبهم وشاعرهم، ونادوه من وراء الحجرات، فأنزل الله فيهم {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} الآية، فخرج إليهم، وخطب خطيبهم مفتخرًا، فلما سكت، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بن شمّاس أن يخطب بمعنى ما خطب به خطيبهم، فخطب ثابت فأحسن، ثم قام شاعرهم وهو الزِّبرقان بن بدر فقال: نحن الملوك فلا حيٌّ يقاربنا ... فينا العلاء وفينا تنصب البيَعُ ونحن نطعمهم في القحط ما أكلوا ... من العبيط إذا لم يؤنس القَزَع وننحر الكُوْم عبطًا في أرومتنا ... للنازلين إذا ما نَزَّلوا شبعوا تلك المكارم حزناها مقارعة ... إذا الكرام على أمثالها اقترعوا ثم جلس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان: قم، فقال: إن الذوائب من فهرو إخوتهم ... قد بينوا سنة للناس تتبعُ يرضى بها كل من كانت سريرته ... تقوى الإله وبالأمر الذي شرعوا قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم ... أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا لو كان في الناس سباقون بعدهم ... فكل سبق لأدنى سبقهم تبع لا يرقع الناس ما أوهت أكفهم ... عند الدفاع ولا يوهون ما رقعوا ولا يضنون عن جار بفضلهم ... ولا يمسهم في مطمع طَبَعُ أعفة ذكرت في الناس عفتهم ... لا يبخلون ولا يرديهم طمعُ خذ منهم ما أتوا عفواً إذا عطفوا ... ولا يكن همك الأمر الذي منعوا فإنّ في حربهم فاترك عداوتهم، ... شرًا يخاض إليه الصَّابُ والسَّلعُ

أكرم بقوم رسول الله شيعتهم ... إذا تفرقت الأهواء والشيعُ فقال التميميون عند ذلك: وربكم إن خطيب القوم أخطب من خطيبنا، وإن شاعرهم أشعر من شاعرنا، وما انتصفنا, ولا قاربنا. وروي عن عائشة أنها وصفت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: كان والله كما قال فيه شاعره حسان: متى يبد في الداجي البهيم جبينه ... يلح مثل مصباح الدجى المتوقد فمن كان أم من قد يكون كأحمد ... نظام لحقٍ أو نَكال لملحد وقال أهل السِّير والأخبار: إن حسانًا من أجبن الناس، وإنه لم يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا من مشاهده لجبنه، وفي المغازي لابن إسحاق قال كانت صفية بنت عبد المطلب في فارع حصن حسّان بن ثابت، قالت: وكان حسان معنا فيه مع النساء والصبيان، فمر بنا رجل يهوديّ، فجعل يطيف بالحصن، فقالت له صفية: إن هذا اليهودي لا آمنه أن يدل على عوراتنا، فأنزل إليه فاقتله، فقال: يغفر الله لك يابنت عبد المطلب، عرفت ما أنا بصاحب هذا، قالت صفية: فلما قال ذلك أخذتُ عمودًا ونزلت من الحصن حتى قتلت اليهوديّ، فقلت لحسان: أنزل فاسلبه، فقال: ما لي بسَلبهِ من حاجة. قال ابن عبد البر أنكر بعض أهل العلم بالخبر ذلك، وقالوا: لو كَان لَهُجي به، فإنه قد هجا قومًا فلم يهجه أحد منهم بالجبن، ولو كان ذلك لهجي به. وقيل: إنما أصابه ذلك الجبن منذ ضَرَبَه صَفوانُ بن المُعَطَّل بالسيف. وقال ابن إسحاق: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى حسانًا عوضًا من ضربة صفوان الموضعَ الذي بالمدينة، وهو قصر بني جَديلة، وأعطاه سِيْريِنَ، أمةً قبطية، فولدت له عبد الرحمن بن حسان، قال ابن عبد البَرّ: أما إعطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم سيرين أخت مارية لحسان، فمرويّ من وجوه، وأكثرها أن ذلك ليس لضربة صفوان، بل لذبه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسانه في هجاء المشركين له، وقال قوم: إن حسان كان ممن خاض في الإفك على عائشة، وإنه جلد في ذلك. وأنكر قوم أن يكون ذلك وقع منه

لطائف إسناده

وروي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها بَرَّأته من ذلك، فقد روت بَرَكة أم محمد بن السائب أنها كانت مع عائشة في الطواف، ومعها أم حكيم بنت عبد الله بن أبي ربيعة، وأم حكيم بنت خالد بن العاص، فتذاكرتا حسانًا، فابتدرتاه بالسب، فقالت عائشة: ابنَ الفريعة تسبّان؟ اني لأرجو أن يدخله الله الجنة لذبه عن النبي صلى الله عليه وسلم، أليس القائل: هجوت محمدًا فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء إلى آخر الأبيات. وروى يوسف بن ناهك عن أمه مثله، وزاد فقالت: أليس ممن لعنه الله في الدنيا والآخرة بما قال فيك؟ فقالت: لم يقل شيئاً ولكنه الذي يقول: حَضَانٌ رَزَانٌ ما تُزَنُّ بريبة ... وتصبح غَرْثى من لحوم الغوافل الخ الأبيات التي مرت في ترجمة عائشة، فقد برأته من أن يكون افترى عليهما. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث، روى عنه سعيد بن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن وعروة بن الزبير وآخرون. عاش في الجاهلية ستين سنة، وفي الإِسلام ستين، ومات وهو ابن عشرين ومئة؛ سنة خمسين. لطائف إسناده: وفيه التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد والإخبار بصيغته في موضع واحد، وبصيغة الإفراد في موضع واحد والعنعنة في موضع واحد، والسماع في موضعين، ورواته ما بين حمصي وَمَدَني. أخرجه البخاريّ هنا وفي بدء الخلق، عن علي بن المَدِينيّ، وفي الأدب عن إسماعيل بن أبي أُويس، ومسلم في الفضائل، وأبو داود في الأدب، والنّسائيّ في الصلاة وفي اليوم والليلة والقضاء. ثم قال المصنف:

باب أصحاب الحراب في المسجد

باب أصحاب الحراب في المسجد الحِراب، بكسر المهملة جمع حَرْبة، بفتحها، والمراد جواز دخولهم فيه، ونصال حرابهم مشهورة، ولعل المصنف أشار إلى تخصيص الحديث السابق في النهي عن المرور في المسجد بالنصل غير مغمود، والفرق بينهما أن التحفظ في هذه الصورة، وهي صورة اللعب بالحراب، سهلٌ بخلاف مجرد المرور، فإنه قد يقع بغته، فلا يتحفظ منه وسيأتي للمصنف في العيدين باب ما يكره من حمل السلاح في العيد، وهذه الترجمة تخالف في المظاهر الترجمة المذكورة هنا؛ لأن هذه دائرة بين الإباحة والندب على ما دل عليه حديثها، والآتية دالة على الكراهة والتحريم، لقول ابن عمر هناك: في يوم لا يحل فيه حمل السلاح ويجمع بينهما يحمل الحالة الأولى على وقوعها ممن حملها بالدربة، وعهدت منه السلامة من إيذاء أحد من الناس بها، وحمل الحالة الثانية على وقوعها بطرًا أو شرًا، أو لم يتحفظ حال حملها، وتجريدها من إصابتها أحدًا من الناس، ولاسيما عند المزاحمة، أو في المسالك الضيقة.

الحديث الثامن والخمسون

الحديث الثامن والخمسون حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمًا في بَابِ حُجْرَتِي، وَالْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ فِي الْمَسْجِدِ وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ، أَنْظُرُ إِلَى لَعِبِهِمْ. قوله: في باب حجرتي، عند الأصيلي وكريمة على باب حجرتي، وقوله: والحبشة يلعبون في المسجد، وفي الرواية الآتية في العيدين "وكان يوم عيد يلعب فيه السُّودان بالدَّرق والحراب" ولمسلم جاء "حَبَش يلعبون في المسجد" قال المحب الطبريّ: هذا السياق يشعر بأن عادتهم ذلك في كل عيد، وفي رواية ابن حبّان "لما قدم وقد الحبشة قاموا يلعبون في المسجد" وهذا يشعر بأن الترخيص لهم في ذلك في حال القدوم، ولا تنافي بينهما لاحتمال أن يكون قدومهم صادف يوم عيد، وكان من عادتهم اللعب في الأعياد، وفعلوا ذلك كعادتهم، ثم صاروا يلعبون كل يوم عيد. ويؤيده ما رواه أبو داود عن أنس قال "لما قدم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم المدينة لعبت الحبشةُ فرحًا بذلك لعبوا بحرابهم، ولا شك أن يوم قدومه عليه الصلاة والسلام كان عندهم أعظم من يوم العيد. قال ابن المنير: سماه لعبًا، وإن كان أصله التدريب على الحرب والاستعداد للعدو، وهو من الجد لما فيه من شبه اللعب، لكونه يقصد إلى الطعن ولا يفعله، ويوهم بذلك قِرنَة، ولو كان أباه أو ابنه. وفي الحديث جواز ذلك في المسجد، وحكى ابن التين عن اللخمى أنّ اللعب بالحراب في

المسجد منسوخٌ بالقرآن والسنة. أما القرآن فقوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} وأما السنة فحديث "جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم" وتعقب بأن الحديث ضعيف، وليس فيه، ولا في الآية، تصريح بما ادعاه، ولا عُرف التاريخ فيثبتَ النسخ. وحكى بعض المالكية عن مالك أن لعبهم كان خارج المسجد، وكانت عائشة فيه، وهذا لا يثبت عن مالك، وهو مخالف لما صرح به في طرق هذا الحديث، وفي بعضها أن عمر أنكر عليهم لعبهم في المسجد، فقال له النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: "دعهم يا عمر" كما يأتي في الجهاد، وزاد أبو عوانة في صحيحه "فإنهم بنو أَرْفِدة" كانه يعني أن هذا شأنهم وطريقتهم، وهو من الأمور المباحة، فلا إنكار عليهم. وقال المحب الطبريّ: فيه تنبيه على أنه يغتفر لهم ما لا يغتفر لغيرهم، لأن الأصل في المساجد تنزيهها عن اللعب، فيقتصر على ما ورد فيه النص. وروى السّراج عن عائشة أنه عليه الصلاة والسلام قال حينئذ "لتعلم يهود أن في ديننا فُسْحة، إني بُعثتُ بحنيفية سمحة". وهذا يشعر بعدم التخصيص، وكأنَّ عمر بني على الأصل في تنزيه المساجد، فبين له النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وجه الجواز فيما كان هذا سبيله، أو لعله لم يكن علم أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يراهم. وقال المُهَلَّبُ: المسجد موضوع لأمن جماعة المسلمين، فما كان من الأعمال يجمع منفعة الدين وأهله جاز فيه. وقوله: يسترني بردائه أنظُر لعبَهم، وفي رواية العيدين "فإما سألتُ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وإما قال: أتشتهينَ تنظرين؟ قلت: نعم، فأقامني وراءه، خدي على خده وهو يقول: دونكم بني أرفدة، حتى إذا مَلِلْتُ قال: حسبك؟ قلت: نعم، قال: فاذهبي" وفي هذه الرواية تردد منها فيما كان وقع له، هل كان أذِن لها في ذلك ابتداءً منه أو عن السؤال منها، وهذ ابن اء على أنَّ سَألْتُ بسكون اللام من كلامها، ويحتمل أن يكون بفتح اللام من كلام الراوي، ولا ينافي قوله "وإما قال تشتهين تنظرين" وقد اختنفت الروايات عنها في ذلك،

فروى النَّسائيّ عنها "سمعت لغطًا وصوت صبيان، فقام النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فإذا حبشة تَزْفنُ أو ترقص، والصبيان حولها، فقال: يا عائشة، تعالى فانظري" ففي هذا أنه ابتدأها، وفي رواية عبيد بن عمير عنها عن مسلم أنها قالت: "للعابين وددتُ أني أراهم" ففي هذا أنها سألت، ويجمع بينهما بأنها التمست منه ذلك فأذن لها. قلت الرواية الأولى صريحة في إذنه لها ابتداءًا من غير التماس، فكيف يصح الجمع؟ وكذلك رواية النسائي عن أبي سَلمة عنها "دخل الحبشة يلعبون، فقال لي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: يا حُميراء، أتحبين أن تنظري إليهم، فقلت: نعم" إسناده صحيح. ففي هذا عرضه ذلك عليها من غير أن تلتمسه منه. قال في الفتح: ولم أر في حديث صحيح ذكر الحميراء إلا في هذا، وفي رواية أبي سلمة هذه من الزيادة عنها، قالت: ومن قولهم يومئذ "أبا القاسم طيبًا"، كذا بالنصب على حكاية قول الحبشة. ولأحمد والسراج وابن حبّان عن أنس "أن الحبشة كانت تزفن بين يدي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ويتكلمون بكلام لهم، فقال: ما يقولون؟ قال: يقولون محمد عبد صالح". وقوله: فأقامني وراءه، أي متلاصقين، وهي جملة حالية بدون واو، كما قيل في قوله تعالى: {اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} وعند مسلم "فوضعتُ رأسي على مَنْكِبه"وفي رواية أبي سلمة المذكورة "فوضعت ذقني على عاتقه، وأسندت وجهي إلى خده" وفي رواية عبيد بن عمير عنها "أنظر بين أذنيه وعاتقه" ومعانيها متقاربة، ورواية أبي سلمة أبينها. وقوله: يسترني بردائه، فيه رد على ابن المنير في استنباطه من لفظ "فأقامني وراءه" وجوازَ اكتفاء المرأة بالتستر بالقيام خلف من تستتر به من زوج أو ذي محرم إذا قام ذلك مقام الرداء؛ لأن القصة واحدة، وقد وقع فيها التنصيص على وجود التستر بالرداء، وفيه دلالة على أن ذلك كان بعد نزول الحجاب، ويدل على جواز نظر المرأة إلى الرجل، وأجاب بعض من منع، بأن عائشة كانت إذ ذاك

صغيرةً، وفيه نظر، لما ذكرنا من كون هذا كان بعد نزول الحجاب، وكذا قولها في بعض الروايات كما يأتي قريبًا "أحببتُ أنْ يبلغَ النساءَ مقامُه لي" فإنه يشعر بأن ذلك وقع بعد أن صارت لها ضرائر أرادت الفخر عليهن، فالظاهر أن ذلك وقع بعد بلوغها، وقد مر من رواية ابن حبّان أن ذلك وقع لما قدم وقد الحبشة، وكان قدومهم سنة سبع، فيكون عمرها حينئذ خمس عشرة سنة. وقوله: دونكم يا بني أرفدة، بنصب دونكم على الظرفية بمعنى الإغراء، والمغرى به محذوف، وهو لعبهم بالحراب، وفيه اذن وتنهيض لهم وتنشيط، وأرْفِدة، بفتح الهمزة وسكون الراء وكسر الفاء، وقد تفتح، قيل: هو لقب للحبشة، وقيل: هو اسم جنس لهم، وقيل: اسم جدهم الأكبر، وقيل: المعنى يا بني الإماء. وقوله: حتى إذا ملِلت بكسر اللام الأولى، وفي رواية الزُّهري "حتى أكون أنا الذي أسام" ولمسلم "ثم يقوم من أجلي حتى أكون أنا التي أنصرف" وعند النَّسائيّ "أما شبعتِ، أما شبعتِ؟ قالت: فجعلت أقول لا لأنظر منزلتي عنده" وله عن أبي سلمة عنها قلت: "يا رسول الله، لا تعجل، فقام لي، ثم قال: حسبك، قلت: لا تعجل، قالت: وما بي حب النظر إليهم، ولكن أحببت أن يبلغ النساءَ مقامُه، ومكاني منه" وزاد في "النكاح" في رواية الزُّهريّ "فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن, الحرية على اللهو". وقولها: اقدُروا بضم الدال، من التقدير، ويجوز فيها الكسر، وأشارت بذلك إلى أنها كانت حينئذ شابة، وقد تمسك بهذا من ادعى نسخ الحكم، وأنه كان في أول الإِسلام، وقد مرَّ الرد عليه، واستدل به على جواز اللعب بالسلاح، على طريق التواثب للتدريب على الحرب، والتنشيط عليه. واستنبط منه جواز المثاقفة لما فيها من تمرين الأيدي على آلات الحرب. قال عياض: وفيه جواز نظر النساء إلى فعل الرجل الأجانب؛ لأنه إنما يكره لهن النظر إلى المحاسن والاستلذاذ بذلك، ومن تراجم البخاريّ عليه "باب نظر المرأة إلى الحبشة ونحوهم من غير ريبة" قال النوويّ: أما النظر بشهوة عند خشية

رجاله برجال التعليق تسعة

الفتنة، فحرامٌ اتفاقًا، وأما بغير شهوة، فالأصح أنه محرم، وأجاب عن هذا الحديث بأنه يحتمل أن يكون ذلك قبل بلوغ عائشة، وهذا قد مرَّ ما فيه، أو كانت تنظر إلى لعبهم بحرابهم لا إلى وجوههم وأبدانهم، وانْ وقع بلا قصد أمكن أن تصرفه في الحال. وفيه حسن خلقه صلى الله تعالى عليه وسلم مع أهله، وكرم معاشرته، وفضل عائشة وعظيم محلها عنده. ثم قال: وزاد إبراهيم بن المنذر: حدثني ابن وهب: أخبرني يونس عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم والحبشة يلعبون بحرابهم" يريد أن إبراهيم رواه عن يونس عن ابن شهاب كرواية صالح، لكنه عيّن أن لعبهم كان بحرابهم، وهو المطابق للترجمة، وفي ذلك إشارة إلى أن البخايّ يقصد بالترجمة أصل الحديث، لا خصوص السياق الذي يورده. قال في الفتح: لم أقف على طريق يونس من رواية إبراهيم بن المنذر موصولة، ووصلها مسلم عن أبي طاهر بن السَّرْح عن ابن وهب، ووصلها الإسماعيليّ أيضًا عن عثمان بن عمر عن يونس وفيه الزيادة. رجاله برجال التعليق تسعة: الأول: عبد العزيز بن عبد الله بن يحيى، وقد مرَّ في الأربعين من كتاب العلم، ومرَّ إبراهيم بن سعد في السادس عشر من كتاب الإيمان، ومرَّ صالح بن كيسان في آخر بدء الوحي، ومرَّ ابن شهاب في الثالث منه، ومرَّ عروة بن الزبير وعائشة في الثاني منه، ومرَّ يونس بن يزيد في متابعة الرابع منه، ومرَّ إبراهيم بن المنذر في الأول من كتاب العلم، ومرَّ عبد الله بن وهب في الثالث عشر منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، والإخبار بصيغة الإفراد في موضعين، والعنعنة في أربعة مواضع، وعبد العزيز من أفراد البخاري، وفيه ثلاثة من التابعين، وهم صالح وابن شهاب وعروة، ورواته ما بين مدنيّ ومصريّ وأيليّ. أخرجه البخاريّ في العيدين، وفي مناقب قريش، ومسلم في العيدين.

باب ذكر البيع والشراء على المنبر في المسجد

ثم قال المصنف: باب ذكر البيع والشراء على المنبر في المسجد قوله: ذكر البَيْع أي باب في الإخبار عن وقوعهما على المنبر، لا في وقوعهما عليه، ولأبي ذَرِّ "على المنبر والمسجد" أي وعلى المسجد، فضمن "على معنى في" عكس {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} ومطابقة الترجمة لحديث الباب من قوله: "ما بال أقوام يشترطون" فإن فيه إشارة إلى القصة المذكورة، وقد اشتملت على بيع وشراء وعتق وولاء، وقد وهم من تكلم على هذا الكتاب فقال: ليس فيه أن البيع والشراء وقعا في المسجد، ظنًا منه أن الترجمة معقودة لبيان جواز ذلك، وليس كما ظن، للفرق بين جريان ذكر الشيء والإخبار عن حكمه، فإن ذلك خير وحق. وبين مباشرة العقد، فإن ذلك يفضي إلى اللفظ المنهي عنه. قال المازريّ: واختلفوا في جواز ذلك في المسجد، مع اتفاقهم على صحة العقد لو وقع.

الحديث التاسع والخمسون

الحديث التاسع والخمسون حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ أَتَتْهَا بَرِيرَةُ تَسْأَلُهَا فِي كِتَابَتِهَا فَقَالَتْ: إِنْ شِئْتِ أَعْطَيْتُ أَهْلَكِ وَيَكُونُ الْوَلاَءُ لِي. وَقَالَ أَهْلُهَا إِنْ شِئْتِ أَعْطَيْتِهَا مَا بَقِيَ. وَقَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً إِنْ شِئْتِ أَعْتَقْتِهَا وَيَكُونُ الْوَلاَءُ لَنَا فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَكَّرَتْهُ ذَلِكَ فَقَالَ: ابْتَاعِيهَا فَأَعْتِقِيهَا، فَإِنَّ الْوَلاَءَ لِمَنْ أَعْتَقَ. ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى الْمِنْبَرِ وَقَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً فَصَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَلَيْسَ لَهُ، وَإِنِ اشْتَرَطَ مِائَةَ مَرَّةٍ. قوله: أتتها بريرة، فيه التفات إن كان فاعل قالت عائشة، وإن كان الفاعل عَمرة فلا التفات، وبريرة بفتح الموحدة بوزن فَعيلة، مشتقة من البَرير، وهو ثمر الأراك، وقيل إنها فعيلة من البِرّ بمعنى مَفعولة كمبرورة، أو بمعنى فاعلة كرحيمة، والأول أَوْلى؛ لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم غيّر اسم جويرية وكان اسمها بَرّة، وقال "لا تزكوا أنفسكم" فلو كانت بريرة من البِر لشاركتها في ذلك، قلت: يمكن ترك التغيير لاحتمال كونها من البرير. وقوله: تسألها في كتابتها، أي تستعين في كتابتها، فضمَّن تسأل معنى تستعين، وثبت ذلك في رواية ابن شهاب في العَتق. وقوله: إن شئت أعطيت أهلك. أي مواليك، والأصل في الأهل الآل، وفي الشرع من تلزم نفقته، وحذف المفعول الثاني، الذي هو بقية ما عليها , لدلالة الكلام عليه، وكان المتأخر على بَريرة خمس أواقٍ تجمعت عليها في خمس سنين، كما في رواية

ابن شهاب في العتق، وفي رواية هشام فيه "أنها كانت على تسع أواق، في كل عام أوقية" ويمكن الجمع بأن التسع أصل، والخمس كانت بقيت عليها، وبهذا جزم القرطبيّ والمحب الطبريُّ. ويعكر عليه قوله في رواية قتيبة "ولم تكن أَدَّت من كتابتها شيئًا" ويجاب بأنها كانت حصلت الأربع أواق قبل أن تستعين عائشة، ثم جاءتها وقد بقي عليها خمس. وقوله: قال سفيان مَرّة، أي أن سفيان حدث به على وجهين، وهو موصول غير معلق. وقوله: ذكّرتُه ذلك، أي بتشديد الكاف، فقيل: الصواب ما وقع في رواية مالك وغيره بلفظ "ذَكرْتُ له ذلك" لأن التذكير يستدعي سبق علم بذلك، ولا يتجه تخطئة هذه الرواية" لاحتمال السبق أولًا على وجه الإجمال. وفي رواية هشام "فسمع بذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فسألني، فأخبرته" وفي رواية مالك "فجاءت من عندهم، ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جالسٌ، فقالت: إني عرضت عليهم فأبوا، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم". وفي رواية أيمن "فسمع بذلك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، أو بلغه فقال: ما شأن بَريرة؟ ". ولمسلم وابن خزيمة عن هشام "فجاءتني بَريرة، والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم جالسٌ، فقالت لي فيما بيني وبينها ما أراد أهلها، فقلت: "لا، هاالله إذًا، ورفعت صوتي، وانتهرتها، فسمع بذلك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فسألني فأخبرته" لفظ ابن خزيمة. وقوله: فإن الولاء لمن أعتق، وفي رواية "فإنما الولاء لمن أعتق". وقوله: ما بال أقوام، كناية عن الفاعل، إذ من خُلُقه العظيم أن لا يواجه أحدًا بما يكره. وقوله: يشترطون شروطًا ليس في كتاب، أي ليس الاشتراط أو التذكير للضمير باعتبار جنس الشرط، وللأصيليّ: ليست أي الشروط. وقوله: ليس في كتاب الله فليس له، قال الخطابيّ: ليس المراد أن ما لم ينص عليه في كتاب الله فهو باطل، فإن لفظ "الولاء لمن أعتق" من قوله عليه الصلاة والسلام، لكن الأمر بطاعته في كتاب الله، فجاز إضافته ذلك إلى الكتاب، وتعقب بأن ذلك لو جاز لجازت إضافة ما اقتضاه كلام الرسول عليه الصلاة والسلام إليه. والجواب عنه

أن تلك الإضافة إنما هي بطريق العموم، لا بخصوص المسألة المعينة، وهذا مصير من الخطابيّ إلى أن المراد بكتاب الله هنا القرآن، ونظير ما جنح إليه ما قاله ابن مسعود لأم يعقوب، في قصة الواشمة "ما لي لا ألعن من لعن رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو في كتاب الله" ثم استدل على كونه في كتاب الله بقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} لما أخرجه البخاري في التفسير عند هذه الآية. وقال ابن بطال: المراد بكتاب الله هنا حكمه من كتابه أو سنة رسوله أو إجماع الأمة، سواء ذكر في القرآن أو لم يذكر. وقال ابن خزيمة: ليس في كتاب الله، أي ليس في حكم الله جوازه أو وجوبه، لا أنَّ كل من شرط شرطًا لم ينطق به الكتاب يبطُل، قد يشترط في البيع الكفيل فلا يبطل الشرط، ويشترط في الثمن شروطاً من أوصافه أو نجومه أو نحو ذلك، فلا يبطل. وقال القرطبيّ: قوله ليس في كتاب الله، أي ليس مشروعًا في كتاب الله تأصيلًا ولا تفصيلًا، ومعنى هذا أن من الأحكام ما يؤخذ تفصيله من كتاب الله كالوضوء، ومنها ما يؤخذ تأصيله دون تفصيله كالصلاة، ومنها ما أُصِّل أصْلُه لدلالة الكتاب على أصْلِية السنة والإجماع والقياس الصحيح، فكل ما يقتبس من هذه الأصول تفصيلًا، فهو مأخوذ من كتاب الله تأصيلًا. قلت: ومن أجل هذا المعنى صح تناول قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} لجميع الأحكام الشرعية إلى قيام الساعة. وقوله: وإن اشترط مئة مرةٍ، في رواية المستملي "مئة شرط" قال النوويّ: معنى قوله "ولو اشترط مئة شرط" أنه لو شرط مئة مرة توكيدًا، فهو باطل. ويؤيده رواية "مئة مرة" وإنما حمل على التأكيد, لأن العموم في قوله "كل شرط" وفي قوله "من اشترط شرطًا" دال على بطلان جميع الشروط المذكورة، فلا حاجة إلى تقييدها بالمئة فإنها لو زادت عليها كان الحكم كذلك، لما دلت عليه الصيغة، فذكر المئة إنما هو على سبيل المبالغة. وقال القرطبيّ: قوله "ولو كان مئة شرط" خرج مخرج التكثير، يعني أن الشروط الغير المشروعة باطلةٌ ولو كثرت، ويستفاد

منه أن الشروط المشروعة صحيحة. قال النوويّ: قال العلماء: الشروط في البيع أقسام: أحدها يقتضيه إِطلاق العقد، كشرط تسليمه. والثاني شرط فيه مصلحة كالرهن، وهما جائزان اتفاقًا. الثالث اشتراط العتق في العبد، وهو جائز عند الجمهور، لحديث عائشة وقصة بريرة. الرابع ما يزيد على مقتضى العقد، ولا مصلحة فيه للمشتري، كاستثناء منفعته فهو باطل. وقال أبو حنيفة: لا يجوز البيع بشرط العتق، وعند المالكية إِذا اشتراه على تنجيز العتق، "كأبيعُكَهُ بشرطِ أن تعتقه لزومًا" جُبرِ البائع على عَتقه إِن لم يعتقه. ولو قال على أنه حر بالشراء عتق بمجرد الشراء، فذهب الجمهور إلى بطلان البيع عند استثناء المنفعة، كاشتراط سكنى الدار، وخدمة العبد، وركوب الدابة. وذهب الأوزاعيّ وابن شُبرمة وأحمد وإسحاق وأبو ثور وطائفة إلى صحة البيع، وتنزل الشرط منزلة الاستثناء, لأن المشروط إذا كان قدره معلومًا صار كما لو باعه بألف إلا خمسين درهمًا مثلا، ووافقهم مالك في الزمن اليسير بحسب المبيعات، كثلاثة أيام في الحيوانات، وسنة في الدار، وعشر سنين في الأرض. وحجتهم حديث جابر في استثناثه ركوب بعيره، وأجاب عنه الجمهور بان ألفاظه اختلفت، فمنهم من ذكر فيه الشرط، ومنهم من ذكر فيه ما يدل عليه، ومنهم من ذكر ما يدل على أنه كان بطريق الهبة، وأنها واقعة عين يطرقها الاحتمال، وبأنه عارضه حديث عائشة في قصة بَريرة. ففيه بطلان الشرط المنافي للمقصود من العقد. وصح من حديث جابر أيضًا النهيُ عن بيع الثنيا، أخرجه أصحاب السنن، وإسناده صحيح، وورد النهي عن بيع وشرط، وأجيب عن هذا كله بأن البخاري صرح بأنه الاشتراط في حديث جابر أكثر وأصح، وبأن الذي ينافي المقصود من

البيع ما إذا اشترط مثلًا في بيع الجارية أنْ لا يطأها، وفي الدار أن لا يسكنها، وفي العبد أن لا يستخدم، وفي الدابة أن لا يركبها، أما إذا اشترط شيئًا معلومًا لوقت معلوم، فلا بأس به. وأما حديث النهي عن الثنيا ففي نفس الحديث "إلا أنْ يعلم" يعلم أنّ النهي إنما يقع عما كان مجهولًا، وأما حديث النهي عن بيع وشرط، ففي إسناده مقال، واعلم أنّ في حديث بَريرة هذا روايات لم يرد عليها إشكال، كرواية ابن عمر "أرادت عائشة أن تشتري جارية فتعنقها" وبهذا يتجه الإنكار على موالي بَريرة إذ وافقوا عائشة على بيعها، ثم أرادوا أن يشترطوا أن يكون الولاء لهم، ويؤيد هذه الرواية قوله في رواية أيمن "قالت لا تبيعوني حتى تشترطوا ولائي" وفي رواية الأسود الآتية في الفرائض عن عائشة "اشتريت بَريرة لأعتقها، فاشترط أهلها ولاءها". وفي رواية القاسم عن عائشة في الهبة أنها أرادت أن تشتري بَريرة، وأنهم اشترطوا ولاءها. وفي رواية هشام في العتق "خذيها واشترطي لهم الولاء" واستشكلت هذه الرواية بأنه كيف يصدر الإذن منه صلى الله تعالى عليه وسلم في البيع على شرط فاسدٍ؟ وكيف يأذن في البيع حتى يقع على هذا الشرط؟ ويقدم البائع عليه ثم يبطل اشتراطه؟ وأجيب عن ذلك بأجوبة، فمنها أن بعضهم أنكر الشرط في الحديث، فروى الخطابيّ في المعالم عن يحيى بن أكثم أنه أنكر ذلك. وعن الشافعي في الأم الإشارة إلى تضعيف رواية هشام، المصرِّحة بالاشتراط، لكونه انفرد بها دون أصحاب أبيه، ورواية غيره قابلة للتأويل، وأشار غيره إلى أنه روى بالمعنى الذي وقع له. وليس كما ظن. وأثبت آخرون الرواية, وقالوا: هشام ثقة حافظ، والحديث متفق على صحته، فلا وجه لرده. ثم اختلفوا في توجيهها، فزعم الطحاويّ أن المزنيّ حدثه به عن الشافعيّ بلفظ "فأشرطي" بهمزة قطع بغير تاء مثناة، ثم وجهه بأن معناه، أظهري لهم حكم الولاء، والإشراط الإظهار. قال أوس بن حجر: فأشرط فيها نفسَه وهو مُعْصمُ:

أي أظهر نفسه وأنكر غيره الرواية" والذي في "مختصر المزني" و"الأم" وغيرهما عن الشافعي كرواية الجمهور "واشترطي" بصيغة أمر المؤنث من الشرط، ثم حكى الطحاويّ أيضًا تأويل الرواية التي بلفظ "واشترطي" بأن اللام في قوله "واشترطي لهم" بمعنى "على" كقوله تعالى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} وهذا هو المشهور عن المزني. وهو صحيح عن الشافعيّ. أسنده البيهقي في "المعرفة" إليه. وحكى الخطابيّ عن ابن خزيمة أن قول يحيى بن أكثم غلط، والتأويل المنقول عن المزني لا يصح، وقال النووي تأويل اللام هنا بمعنى "على" ضعيف, لأنه عليه الصلاة والسلام أنكر الاشتراط، ولو كان بمعنى "على" لم ينكره، فإن قيل: ما أنكره إلا إرادة الاشتراط في أول الأمر، فالجواب أن سياق الحديث يأبى ذلك، وضعفه أيضًا ابن دقيق العيد، وقال: اللام لا تدل بوضعها على الاختصاص النافع، بل على مطلق الاختصاص، فلابد في حملها على ذلك من قرينة. وقال آخرون: الأمر في قوله "واشترطي" للإباحة، وهو على جهة التنبيه على أن ذلك لا ينفعهم، فوجوده وعدمه سواء، فكأنه يقول: اشترطي أو لا تشترطي، فذلك لا يفيدهم. ويقوّي هذا التأويل قوله في رواية أيمن الآتية آخر أبواب المكاتب "اشتريها ودعيهم يشترطون ما شاؤوا". وقيل: كان النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بأن اشتراط البائع الولاء باطل، واشتهر ذلك بحيث لا يخفى على أهل بَريرة، فلما أرادوا أن يشترطوا ما تقدم لهم العلم ببطلانه، أطلق الأمر مريدًا به التهديد على مآل الحال، كقوله: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} وكقول موسى {أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} أي فليس ذلك بنافعكم، وكأنه يقول: اشترطي لهم، فسيعلمون أن ذلك لا ينفعهم. ويؤيده قوله حين خطبهم "ما بال رجال يشترطون ... الخ" فوبخهم بهذا القول مشيرًا إلى أنه قد تقدم منه بيان حكم الله بإبطاله، إذ لو لم يتقدم بيان ذلك لبدأ ببيان الحكم في الخطبة، لا بتوبيخ الفاعل؛ لأنه كان يكون باقيًا على البراءة الأصلية، وقيل: الأمر فيه بمعنى الوعيد الذي ظاهره الأمر وباطنه النهي،

كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} وقال الشافعيّ في الأم: لما كان من اشترط خلاف ما قضى الله ورسوله عاصيًا، وكانت في المعاصي حدود آداب، وكان من أدب العاصين أن يعطل عليهم شروطهم ليرتدعوا عن ذلك، ويرتدع به غيرهم، كان ذلك من أيسر الأدب. قلت: هذا لا يستقيم إلا عند تَقَدُّم تعليم منه صلى الله تعالى عليه وسلم لهم بذلك، كما في التأويل الذي قبله، وإلا لما أمكن التأديب. وقال غيره: معنى "اشترطي" اتركي مخالفتهم. فيما شرطوا, ولا تظهري نزاعهم فيما دعوا إليه، مراعاة لتنجيز العتق، لتشوف الشارع إليه، وقد يعبر عن الترك بالفعل، كقوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} أي نتركهم يفعلون ذلك، وليس المراد بالإذن إباحة الإضرار بالسَّحر. قال ابن دقيق العيد: وهذا، وإن كان محتملًا، إلا أنه خارج عن الحقيقة من غير دلالة على المجاز من حيث السياق. وقال النووي: أقوى الأجوبة أن هذا الحكم خاص بعائشة في هذه القضية، وأن سببه المبالغة في الرجوع عن هذا الشرط لمخالفته حكم الشرع، وهو كنسخ الحج إلى العمرة كان خاصًا بتلك الحجة، مبالغة في إزالة ما كانوا عليه من منع العمرة في أشهر الحج، ويستفاد منه ارتكاب أخف المفسدتين إذا استلزم إزالة أشدهما، وتعقب بان استدلال بمُختلف فيه على مختلف فيه، وتعقبه ابن دقيق العيد بأن التخصيص لا يثبت إلا بدليل، وبأن الشافعيّ نصّ على خلاف هذه المقالة. وقال ابن الجوزيّ: ليس في الحديث أنَّ اشتراط الولاء والعتق كان مقارنًا للعقد، فيحمل على أنه كان سابقًا للعقد، فيكون الأمر بقوله "اشترطي" مجرد الوعد، ولا يجب الوفاء به، وتعقب باستبعاد أنه عليه الصلاة والسلام يأمر أحدًا أنْ يعد مع علمه بأنه لا يفي بذلك الوعد، وأغرب ابن حزم فقال: كان الحكم ثابتًا بجواز اشتراط الولاء لغير المعتق، فوقع الأمر باشتراطه في الوقت الذي كان جائزًا فيه، ثم نسخ ذلك الحكم بخطبته عليه الصلاة والسلام، وبقوله "إنما الولاء لمن أعتق" ولا يخفى بعدما قال، وسياق طرق هذا الحديث تدفع في وجه

هذا الجواب. وقال الخطابيّ: وجه هذا الحديث أن الولاء لمّا كان كلحمة النسب، والإنسان إذا ولد ثبت له نسبه، ولا ينتقل نسبه عنه، ولو نسب إلى غيره، فكذلك إذا أعتق عبدًا ثبت له ولاؤه، ولو أراد نقل ولأنه عنه، أو أذن في نقله عنه، لم ينقلُ فلم يعبأ باشتراطهم الولاء. وقيل: اشترطي ودعيهم يشترطون ما شاءوا ونحو ذلك, لأن ذلك غير قادح في العقد، بل هو بمنزلة اللغو من الكلام، وأخّر إعلامهم بذلك ليكون رده وإبطاله قولًا شهيرًا، يخطب به على المنبر ظاهرًا، إذ هو أبلغ في النكير، وأوكد في التعبير، وهو يؤول إلى أن الأمر فيه للإباحة كما مرَّ. وفي حديث بَريرة من الفوائد، سوى ما سبق، جواز بيع المكاتَب لقوله عليه الصلاة والسلام "اشتريها وأعتقيها" إذا رضي المكاتب بذلك ولو لم يعجز نفسه، وهذا قول أحمد وربيعة والأوزاعي والليث وأبي ثَور، وأحد قولي الشافعي، ومالك، واختاره ابن جرير وابن المنذر وغيرهما، على تقاصيل لهم في ذلك، وضعفه أبو حنيفة والشافعيّ في أصح القولين عنه، والمشهور في مذهب مالك جواز بيع الكتابة دون الرقبة، وأجاب الجميع عن قصة بَريرة بانها عجزت نفسها، واستدلوا باستعانة بَريرة عائشةَ، وليس في استعانتها ما يستلزم العجز، ولاسيما مع القول بجواز كتابة من لا مال له ولا حرفة له. قال ابن عبد البر ليس في شيء من طرق حديث بَريرة أنها قد عجزت عن أداء النجم، وأخبرت بأنه قد حل عليها شيء، ولم يرد في شيء من طرقه استفصال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لها عن شيء من ذلك. ومنهم من أوَّل قولها "كاتبتُ أهلي" فقال: معناه راودتهم، واتفقت معهم على هذا القدر، ولم يقع العقد بعد، ولذلك بيعت، فلا حجة فيه على بيع المكاتب مطلقًا، وهو خلاف ظاهر سياق الحديث، ويقوي الجوازَ أيضًا أنّ الكتابة عتق بصفة، فيجب أن لا يعتق إلا بعد أداء جميع النجوم، كما لو قال: أنت حر إنْ دخلت الدار، فلا يعتق إلا بعد تمام دخولها, ولسيده بيعه قبل دخولها.

وفيه أن كلمة"إنما للحصر، وهو إثبات الحكم للمذكور، ونفيه ممن عداه، ولولا ذلك، لما لزم من إثبات الولاء للمعتق، نفيه على غيره، واستدل بمفهومه على أنه لا ولاء لمن أسلم على يديه رجل، أو وقع بينه وبينه محالفة، ولا للملتقط خلافًا للحنفية في الجميع. قال ابن المنذر: الجمهور على أن لا ولاء لمن أسلم على يديه رجل. وقال حماد وأبو حنيفة وأصحابه، وروي عن النخعيّ أنه يستمر إنْ عَقَل عنه، وإن لم يعقل عنه فله أن يتحول لغيره، واستحق الثاني، وهلم جرًا وعن النخعي قول آخر: ليس له أن يتحول، وعنه: إن استمر إلى أن مات تحول عنه، وبه قال إسحاق وعمر بن عبد العزيز، والجمهور على أن اللقيط وولاءه لبيت المال. وجاء عن النخعيّ أنّ ولاءه للذي التقطه، واحتج بقول عمر لأبي جميلة في الذي التقطه "اذهب فهو حر، وعلينا نفقته، ولك ولاؤه" وأجيب عنه بأن معنى قول عمر "ولك ولاؤه" أي أنت الذي تتولى تربيته، والقيام بأمره، فهي ولاية الإِسلام لا ولاية العتق. وروي عنه كالجماعة. وجاء عن علي أن اللقيط مولى من شاء،، وبه قال الحنفية، إلى أن يعقل عنه، فلا ينتقل بعد ذلك عمن عقل عنه، وروى عن شريح وإسحاق بن راهويه مثل قول النخعيّ الأول، واستفيد من منطوق "إثبات الولاء لمن أعتق سائبة، ويدخل فيمن أعتق عتق المسلم للمسلم وللكافر، وبالعكس. وقال ابن عمر: من أعتق سائبة، هو ولي نعمته، وله ميراثه، فإنْ تأثَّم أو تحرَّج جعل إرثه في بيت المال" وبهذا الحكم في السائبة قال الحسن البصريّ وابن سيرين والشافعيّ. وأخرج عبد الرزاق بسند صحيح أن سالمًا مولى أبي حذيفة الصحابيّ أعتقته امرأةٌ من الأنصار سائبة، وقالت له: والِ من شئت، فوالى أبا حذيفة، فلما استشهد باليمامة دفع ميراثه للأنصارية أو لابنها. وأخرج ابن المنذر أن ابن عمر أتي بمالِ مولى له مات، فقال: إنّا كنا أعتقناه سائبة، فأمر أن يشترى بثمنه رقابٌ فتعتق، وهذا يحتمل أن يكون فعله على سبيل الوجوب، أو على سبيل الندب، وقد أخذ بظاهره عطاء، فقال: إذا لم يخلّف السائبة وارثًا، دعي الذي أعتقه، فإن قبل ماله وإلا ابتيعت به رقابٌ

فأعتقت. ومذهب عمر بن عبد العزيز والزّهري ومالك أن ولاءه للمسلمين، يرثونه ويعقلون عنه. وقال الشعبيّ والنخعيّ والكوفيون: لا بأس ببيع ولاء السائبة وهبته. ومذهب أحمد أن ولاءه للمعتق عليه، فلو أخذ من ميراثه شيئًا رد مثله، وفيه دليل على جواز الكتابة، فإذا كاتَبَ رجلٌ عبده أو أمته على مال شرط عليه، ورضي العبد ذلك، صار مكاتَبا، والدليل عليه أيضًا قوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} والأمر دال على مشروعية العقد، سواء كان الأمر للوجوب أو لغيره. وهذا ليس بأمر إيجاب إجماعًا سوى ما ذهب إليه داود الظاهريّ ومن تبعه، وروى نحوه عن عمرو بن دينار وعطاء وأحمد في رواية, وروى صاحب التقريب عن الشافعيّ نحوه، فإن قيل ظاهر الأمر للوجوب، كما ذهب إليه هؤلاء، فالجواب أن هذا في الأمر المطلق المجرد عن القرائن، وهنا مقيد بقوله: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} فيكون أمر ندب. وذهب بعض الحنفية إلى أنه للإباحة، وهو غير صحيح، لأن في العمل على الإباحة إلغاء الشرط، إذ هو مباح بدونه اتفاقًا، وكلام الله منزه عن ذلك. والمراد بالخير المذكور في الآية أن لا يضر المسلمين بعد العتق، فإن كان يضرهم فالأفضل أن لا يكاتبه، وإن كان يصح. وعن ابن عباس وابن عمر وعطاء: القوةُ على الكسب، والوفاء بما وقعت الكتابة عليه. وروي عن الثَّوريّ والحسن البصريّ أنه الأمانة والدين خاصة. وقيل: هو الوفاء والأمانة والصلاح، وإذا فقد الأمانة والكسب والصلاح لم تكره عند مالك وأبي حنيفة والشافعيّ. وقال أحمد وإسحاق، وأبو الحسين بن القطّان من الشافعية: تكره، وليس المراد به المال. ويؤيد ذلك أن المال الذي في يد المكاتب لسيده، فكيف يكاتبه بماله؟ لكن من يقول إن العبد يملك لا يرد عليه هذا، وقد نقل عن ابن عباس أن المراد بالخير المال، مع أنه يقول: إن العبد لا يملك، فنسب إلى التناقض، والذي يظهر أنه لا يصح عنه أحد الأمرين. واحتج غيره بأنّ العبد مال سيده، والمال الذي معه لسيده، فكيف يكاتبه بماله؟ وقال آخرون: لا يصح تفسير

الخير بالمال في الآية؛ لأنه لا يقال فلان لا مال فيه، وإنما يقال فلان لا مال له، أو لا مال عنده، فكذا إنما يقال: فيه وفاء، وفيه أمانة، وفيه حُسْن معاملة ونحو ذلك. وفيه دلالة على أن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم، ووجه الدلالة منه أن بريرة بيعت بعد أن كاتبت، ولو كان المكاتب يصير بنفس الكتابة حرًا لامتنع بيعها، وهذا هو قول الجمهور، مستدلين أيضًا بما رواه البخاريّ معلقًا، وابن أبي شيبة وابن سعد موصولًا، عن عائشة "المكاتب عبد ما بقي عليه شيء" ومما رواه البخاريّ معلقًا والشافعيّ وسعيد بن منصور موصولًا، عن زيد بن ثابت أنه قال "هو عبد ما بقي عليه درهم" وبما رواه البخاريّ أيضًا معلقًا، ومالك موصولًا، عن ابن عمر مرفوعًا "أنه قال: هو عبد إن عاش، وإن مات، وإن جنى، ما بقي عليه شيء" وقد روي ذلك مرفوعًا. أخرجه أبو داود والنسائيّ عن عمرو بن شُعيب عن أبيه عن جده. وصححه الحاكم وأخرجه ابن حبان من وجه آخر عن عبد الله بن عمرو. وروي عن علي "إذا أدّى الشطر فهو غريم" وعنه: يعتق منه بقدر ما أدى، وعن ابن مسعود: لو كاتبه على مئتين وقيمته مئة ثم أدّى المئة عتق. وعن عطاء إذا أدّى ثلاثة أرباع كتابته عتق. وروى النَّسائيّ عن ابن عباس مرفوعًا "المكاتب يعتق منه بقدر ما أدّى". ورجال إسناده ثقات، لكن اختلف في إرساله ووصله، وروي عن ابن عباس: أنه يعتق بمجرد العقد، ويكون غريم المولى بما عليه من دَيْن الكتابة. وفيه جواز كتابة الأمة كالعبد، وجواز كتابة المتزوجة ولو لم يأذن الزوج، وأنه ليس له منعها من كتابتها, ولو كانت تؤدي إلى فراقها منه، كما أنه ليس للعبد المتزوج منع السيد في عتق أمته، وإن أدى ذلك إلى بطلان نكاحها، وششنبط من تمكينها من السعي في مال الكتابة أنه ليس عليها خدمته. وفيه جواز سعي المكاتبة، وسؤالها واكتسابها، وتمكين السيد لها من ذلك، ولا يخفى أن محل الجواز إذا عرفت جهة حل كسبها، وفيه البيان بأن النهي الوارد من كسب الأمة محمول على من لا يعرف وجه كسبها، أو محمول على

غير المكاتبة. وفيه أن للمكاتب أن يسأل من حين الكتابة، ولا يشترط في ذلك عجزه، خلافًا لمن شرطه. وفيه جواز السؤال لمن احتاج إليه من دَين أو غُرم ونحو ذلك. وفيه أنه لا بأس بتعجيل مال الكتابة. وفيه جواز المساومة في البيع، وتشديد صاحب السلعة فيها، وأن المرأة الرشيدة تتصرف لنفسها في البيع وغيره، ولو كانت متزوجة، خلافًا لمن أبى ذلك، وأن مَنْ لا يتصرف بنفسه له أن يقيم غيره مقامه في ذلك، وأن العبد إذا إذن سيده له في التجارة جاز تصرفه. وفيه جواز رفع الصوت عند إنكار المنكر، وأنه لا بأس لمن أراد أن يشتري للعتق أن يظهر ذلك لأصحاب الرقبة، ليتساهلوا في الثمن، ولا يعد ذلك من الرياء، وفيه إنكار القول الذي لا يوافق الشرع، وانتهار الرسول فيه. وفيه أن الشيء إذا بيع بالنقد كانت الرغبة فيه أكثر مما لو بيع بالنَّسيئة. وأن للمرء أن يقضى عنه دينه برضاه، وفيه الشراء بالنسيئة، وأن المكاتب لو عجل بعض كتابته قبل الحل، على أن يضع عن سيده الباقي، لم يجبر السيد على ذلك. وجواز الكتابة على قدر قيمة العبد، وأقل منها وأكثر؛ لأن بين الثمن المنجز والمعجل فرقًا، ومع ذلك فقد بذلت عائشة المؤخل ناجزًا، فدل ذلك على أن قيمتها بالتأجيل أكثر مما كوتبت به، وكأنَّ أهلها باعوها بذلك. وفيه جواز كتابة من لا حرفة له، وفاقًا للجمهور، واختلف عن مالك وأحمد، وذلك أن بَريرة جاءت تستعين على كتابتها, ولم تكن قضت منها شيئًا، فلو كان لها مال أو حرفة أما احتاجت إلى الاستعانة؛ لأن كتابتها لم تكن حالَّة. وعند الطبري عن عُروة أن عائشة ابتاعت بَريرة مكاتبةً، وهي لم تقض من كتابتها شيئًا. قلت: قد مرَّ ما يدل على أنها قضت البعض، ومرَّ تحرير الجمع بينهما. وفيه جواز أخذ الكتابة من مسألة الناس، والرد على من كره ذلك، وزعم أنه من أوساخ الناس، وفيه مشروعية معونة المكاتبة من الصدقة. وعند أمالكية رواية أنه لا يجزىء عن الفرض. قلت: هذا الأخذ لم أطَّلع على ما أخذ منه، إذ ليس في الحديث أن الذي أدته عائشة رضي الله تعالى عنها، كان من الصدقة، اللهم إلا أن يكون ذلك في رواية لم أطّلع عليها. ومشهور مذهب مالك عدم الإجزاء فيما كانت فيه شائبة حرية.

وفيه جواز الكتابة بقليل المال وكثيره. وجواز التأقيت في الديون، في كل شهر مثلًا من غير بيان أوله أو وسطه، ولا يكون ذلك مجهولًا؛ لأنه يتبين بانقضاء الشهر الحلولُ، وفي هذا نظر، لاحتمال أن يكون قول بَريرة في كل عام أوقيةً، أي في غرته مثلًا، وعلى تقدير التسليم، فيمكن الفرق بين الكتابة والديون، فإن المكاتب لو عجز حل لسيده ما أخذ منه بخلاف الأجنبىّ. وقال ابن بطال: لا فرق بين الديون وغيرها. وقصة بَريرة محمولة على أن الراوي قصّر في بيان تعيين الوقت، وإلا يصير الأجل مجهولًا وقد نهى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن السَّلَف إلى أجل معلوم. وفيه أن العد في الدراهم الصحاح المعلومة الوزن يكفي عن الوزن، وأن المعاملة في ذلك الوقت كانت بالأواقي. والأوقية أربعون درهمًا، وزعم المحب الطبريّ أن أهل المدينة كانوا يتعاملون بالعد، إلى مَقْدَم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ثم أُمروا بالوزن، وفيه نظر؛ لأن قصة بَريرة متأخرة عن مقدمه بنحو ثمان سنين، لكن يحتمل قول عائشة "أعُدَّها لهم عدة واحدة" أي أدفعها لهم، وليس مرادها حقيقة العَدّ، ويؤيده قولها في طريق عمرة في العتق "أن أصُبَّ لهم ثمنك صَبَّة واحدة". وفيه جواز مناجاة المرأة دون زوجها سرًا، إذا كان المناجي ممن يؤمن، وأن الرجل إذا رأى شاهد الحال يقتضي السؤال عن ذلك، سأل وأعان، وأنه لا بأس للحاكم أن يحكم لزوجته ويشهد. وفيه قبول خبر المرأة ولو كانت امة، ويؤخذ منه حكم العبد بطريق الأَولى، وفيه أن بيع الأَمَة ذات الزوج ليس بطلاق، وفيه البداءة في الخطبة بالحمد والثناء، وقول "أما بعد" فيها، والقيام فيها، وجواز تعدد الشروط، لقوله "مئة شرط" وأن الإيتاء الذي أمر به السيد ساقط عنه إذا باع مكاتبه للعتق، وفيه أن لا كراهة في السجع في الكلام إذا لم يكن عن قصد، ولا متكلفًا. وفيه أن للمكاتب حالة فارق فيها الأحرار والعبيد، وفيه أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يظهر الأمور المهمة من أمور الدين، ويعلنها ويخطب بها على المنبر، لإشاعتها، ويراعى مع ذلك قلوب أصحابه؛ لأنه لم يعين أصحاب

بَريرة، بل قال: ما بال رجال. ولأنه يؤخذ من ذلك تقرير شرع عام للمذكورين وغيرهم في الصورة المذكورة وغيرها، وهذا بخلاف قصة عليّ في خطبته بنت أبي جهل، فإنها كانت خاصة بفاطمة، فلذلك عينها. وفيه حكاية الوقائع لتعريف الأحكام، وأن اكتساب المكاتب له لا لسيده، وجواز تصرف المرأة الرشيدة في مالها بغير إذن زوجها، ومراسلتها الأجانب في أمر البيع والشراء كذلك، وجواز شراء السلعة للراغب في شرائها بأكثر من ثمن مثلها, لأن عائشة بذلت ما قرر نسيئة على جهة النقد، مع اختلاف القيمة بين النقد والنسيئة وفيه جواز استدانة من لا مال له عند حاجته إليه. وفيه جواز نكاح العبد الحرة, لأنها إذا خيرت فاختارته بقيت معه، وهي حرة وهو عبد، وما ذكرناه في الحديث من الفوائد لا يخالف ما أخرجه البخاريّ عن عائشة قالت: "كان في بَريرة ثلاث سنن: إحداها أنها عتقت فخيرت في زوجها، وقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: الولاء لمن أعتق، ودخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والبُرمة تفور بلحم، فَقُرب إليه خبزٌ وأدم من أدم البيت، فقال: ألم أر البرمة فيها لحم؟ قالوا: بلى، ولكن ذلك لحم تُصدِّق به على بَريرة وأنت لا تأكل الصدقة، قال: عليها صدقة ولنا هدية" وزاد أحمد وأبو داود رابعةً وهي "وأمرها أن تعقد عدة الحُرة" وبيان عدم المخالفة، هو أن مراد عائشة بيان ما وقع من الأحكام مقصودًا خاصة، لكن لما كان كل منها يشتمل على تعقيب قاعدة يستنبط العالم الفطن منها فوائد جمة، وقع التكثر من هذه الحيثية، وانضم إلى ذلك ما وقع في سياق القصة غير مقصود، فإن في ذلك أيضًا فوائد تؤخذ بطريق التنصيص أو الاستنباط، أو اقتصر على الثلاث أو الأربع لكونها أظهر ما فيها، وما عداها انما يؤخذ بطريق الاستنباط، أو لأنها أهم، والحاجة إليها أمس. وقال القاضي عياض: معنى ثلاث أو أربع، أنها شرعت في قصتها، وما يظهر فيها مما سوى ذلك، فكان قد علم من كثير قصتها، وهذا أولى من قول من قال ليس في كلام عائشة حصر، ومفهوم العدد ليس بحجة، وما أشبه ذلك من

رجاله خمسة

الاعتذارات التي لا تدفع سؤال: ما الحكمة في الاقتصار على ذلك؟ وقد بلغ بعض المتأخرين الفوائد من حديث بَريرة إلى أربع مئة أكثرها مستبعد متكلف، كما وقع نظير ذلك للذي صنف في الكلام على حديث المُجامع في رمضان، فبلغ به ألف فائدة وفائدة، وقد لخصت فيه ما ذكره في فتح الباري متفرقًا تلخيصًا لم يبق مما ذكره مسألة إلا إيضاح ألفاظ مذكورة في متون الأحاديث. رجاله خمسة: الأول: علي بن المَدِينيّ، وقد مرَّ في الرابع عشر من كتاب العلم، ومرَّ سفيان بن عيينة ويحيى بن سعيد الأنصاري في الأول من بدء الوحي، ومرت عائشة في الثاني منه. الخامس: عمرة بنت عبد الرحمن، وقد مرت في الثاني والثلاثين من الحيض. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع، ورواته ما بين مدنيّ ومكيّ، وفيه رواية التابعيّ عن التابعية عن الصحابية. أخرجه البخاريّ في مواضع عديدة، في الزكاة في باب الصدقة على موالي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي العتق والمكاتب والهبة والبيوع والفرائض والطلاق والشروط والأطعمة وكفارة الأيمان، ومسلم مطولًا ومختصراً، وأبو داود في العتق، والترمذيّ في الوصايا، والنَّسائيّ في البيوع والعتق والشروط، وابن ماجه في العتق. وفي متن الحديث ذكر بَريرة وهي بنت صَفوَان، مولاة عائشة، كانت لعتبة بن أبي لهب، وقيل لبعض بني هلال، فكاتبوها ثم باعوها، فاشترتها عائشة، وجاء الحديث في شأنها بأن الولاء لمن أعتق، وعتقت تحت زوجها، فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت سنة، وكانت تخدم عائشة قبل أن تشتريها، وقصتها في ذلك في الصحيحين، وفيهما عن عائشة "كانت في بريرة

ثلاث سنن ... " الحديث، وفيها الولاء لمن أعتق. قال ابن حجر: وقد جمع بعض الأئمة فوائد هذا الحديث فزادت على ثلاث مئة ولخصتها في فتح الباري، وروى عبد الخالق بن يزيد بن واقد عن أبيه أن عبد الملك بن مروان قال: كنت أجالس بَريرة بالمدينة، وكانت تقول: يا عبد الملك، إني أرى فيك خصالًا، وإنك لخليق أن تلي هذا الأمر، فإن وليته فاحذر الدماء، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الرجل ليدفع عن باب الجنة بعد أن يَنْظر إليه بملء محجمة من دَم يريقه من مُسلم بغير حق. عاشت إلى زمن يزيد بن معاوية، واختلف في زوجها هل كان حرًا أم عبدًا، ففي نقل أهل المدينة أنه كان عبدًا يسمى مُغيثًا، وفي نقل أهل العراق أنه كان حرًا. ثم قال: ورواه مالك عن يحيى عن عمرة أن بريرة، ولم يذكر "فصعد المنبر". وهذا التعليق وصله في باب المكاتب وصورة سياقه الإرسال، ومالك قد مرَّ في الثاني من بدء الوحي، ومر يحيى بن سعيد الأنصاري في الأول منه، ومرَّ محل عمرة في الذي قبله. ثم قال: قال علي عن يحيى وعبد الوهاب عن يحيى عن عمرة نحوه. قوله: عن عمرة نحو، يعني نحو رواية مالك، وقد وصله الإسماعيليّ عن محمد بن بشار عن يحيى القطان وعبد الوهاب، كلاهما عن يحيى بن سعيد. قال: أخبرتني عمرة أن بَريرة ... ، فذكره، وليس فيه ذكر المنبر أيضًا، وصورته الإرسال، لكن قال في آخره: فزعمت عائشة أنها ذكرت ذلك للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فذكر الحديث، فظهر بذلك اتصاله، والحاصل أن عليّ بن عبد الله حدث البخاريّ عن أربعة أنفس، حدثه كل منهم عن يحيى بن سعيد الأنصاريّ، وإنما أفرد رواية سفيان لمطابقتها للترجمة بذكر المنبر فيها، ويؤيد ذلك أن التعليق عن مالك متأخر في رواية كريمة عن طريق جعفر بن عون.

رجاله خمسة

رجاله خمسة: الأول: عليّ بن عبد الله المَدِينيّ، وقد مر في الرابع عشر من كتاب العلم، ويحيى الأول هو ابن سعيد القطّان، وقد مرَّ في السادس من كتاب الإيمان، ومرَّ عبد الوهاب الثقفي في التاسع منه، ويحيى الثاني المراد به الأنصاريّ، وقد مرَّ في أول بدء الوحي، ومرَّ محل عمرة في الذي قبله. ثم قال: وقال جعفر بن عون عن يحيى قال: سمعت عمرة قالت: سمعت عائشة، رضي الله عنها، وأفادت رواية جعفر هذه التصريح بسماع يحيى من عمرة، وبسماع عمرة عن عائشة، فأمن بذلك ما يخشى فيه من الإرسال المذكور وغيره، وهذا التعليق وصله النَّسائيّ والإسماعيلى عن عائشة، قالت: أتتني بَريرة ... الخ، وليس فيه ذكر المنبر أيضًا، جعفر بن عون قد مرَّ في الثامن والثلاثين من كتاب الإيمان, ويحيى المراد به الأنصاري، وقد مرَّ في أول بدء الوحي، ومرت عمرة في الذي قبله، ومرت عائشة في الثاني من بدء الوحي ثم قال المصنف: باب التقاضي والملازمة في المسجد قوله: التقاضي، أي مطالبة الغريم بقضاء الدين، والملازمة أي ملازمة الغريم، وفي المسجد يتعلق بالأمرين، والتقاضي ظاهر من حديث الباب دون الملازمة، وأجيب عن ذلك بأنه أخذ الملازمة من كون ابن أبي حدرد لزم خصمه في وقت التقاضي، وكأنهما كانا ينتظران النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ليفصل بينهما، وإذا جازت الملازمة في حال الخصومة فجوازها بعد ثبوت الحق عند الحاكم أولى أو يقال إن المصنف أشار بالملازمة إلى ما ثبت في بعض طرقه مما أخرجه هو في الصلح عن كعب، أنه كان له على عبد الله بن أبي حدرد مال، فلقيه فلزمه، فتكلما حتى ارتفعت أصواتهما.

الحديث الستون

الحديث الستون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ قَالَ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ كَعْبٍ أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهْوَ فِي بَيْتِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ فَنَادَى: يَا كَعْبُ. قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: ضَعْ مِنْ دَيْنِكَ هَذَا. وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَي الشَّطْرَ قَالَ: لَقَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: قُمْ فَاقْضِهِ. قوله: تقاضى دينًا، أي بدين، نصب بنزع الخافض, لأن تقاضي متعدٍ لواحد وهو ابن. وأخرج الطبرانيّ أنّ الدين كان أُوقيتين. وقوله: كان عليه، جملة في محل نصب صفة لِدينًا، وقوله في المسجد: يتعلق بتقاضي، وقوله: فارتفعت أصواتهما إِما من باب فقد صغت قلوبكما للأمن من اللَّبس، أو الجمع بالنظر إِلى تنوع الصوت. وفي رواية الصلح "أصواتهم" وكأنه جمع باعتبار من حضر الخصومة، وثنى باعتبار الخصمين، أو كان التخاصم من الجانبين بين جماعة، فجمع ثم ثنى باعتبار جنس الخصم. وقوله: حتى سمعهما, ولغير الأصيلى وأبي ذَرٍّ سمعهما. وقوله: وهو في بيته، جملة حالية في موضع النصب. وقوله: فخرج إِليهما, وللأعرج "فمر بهما" ويجمع بين الروايتين بأنه خرج لأجلهما ومرَّ بهما، وقوله: حتى كشف سِجْف بيته، بكسر السين المهملة وقد تفتح وإسكان الجيم، وهو الستر أو أحد طرفي الستر المُفَرَّج أو الباب. وقوله: لبيك يا رسول الله تثنية اللَّب، وهو الإقامة، أي لبًا بعد لبٍ. والمعنى أنا مقيم

على طاعتك اقامة بعد إقامة. وقولة: وأومأ إليه، بهمزة في أوله وآخره، وقوله أي الشطر، بالنصب أي ضع عنه الشطر وهو النصف، كما صرح به المؤلف في رواية الأعرج، وهو تفسير بالمقصود الذي أوما إليه صلى الله تعالى عليه وسلم، وفي هذا جواز الاعتماد على الإشارة، وأنها تقوم مقام النطق إذا فهمت دلالتها عليه. وقوله: لقد فعلت، أي ما أمرت به، وخرج ذلك منه مخرج المبالغة في امتثال الأمر، ولذا أكد باللام مع ما فيه من معنى القسم، ولأبي ذَرٍّ والمستملي: قد فعلت، وقوله: قال قم فاقضه، هذا خطاب لأبي حدرد، أي اقض له حقه على الفور، والأمر للوجوب، وفيه إشارة إلى أنه لا تجتمع الوضيعة والتأجيل. وفي الحديث جواز رفع الصوت في المسجد، وهو كذلك ما لم يتفاحش، وقد أفرد له المؤلف بابًا يأتي قريبًا، ومشهور مذهب مالك كراهة رفع الصوت فيه، بعلم أو غيره، إلا ما لابد منه، كالجهر بالقراءة في الصلاة والخطبة، أو ما يحتاج إليه للإسماع. وقيل: يمنع غير ما لابد منه، وأما جهر بعضهم على بعض فممنوع، ويجاب عما رواه ابن ماجه عن واثلة، يرفعه "جنبوا مساجدكم صبيانكم وخصوماتكم"، وما رواه أبو نعيم عن معاذ مثله، وغير ذلك، بأن هذه الأحاديث ضعيفة، فيبقى الأمر على الإباحة، أويحمل النهي على الكراهة كما مرَّ عن المالكية، أو تحمل على ما إذا كان متفاحشًا، ويحمل حديث الباب على غير المتفاحش. ويجوز عند مالك قضاء الدين فيه، وقال المهلب: لو كان رفع الصوت في المسجد غير جائز لما تركهما عليه الصلاة والسلام، ولبين لهما، ويجاب عن هذا بأنه يحتمل أن يكون تقدم نهيه عن ذلك، فاكتفى به، واقتصر على التوصل بالطريق المؤدية إلى ترك ذلك بالصلح لترك المخاصمة لرفع الصوت. وفيه إشارة الحاكم بالصلح على جهة الإرشاد، وهنا وقع الصلح على الإقرار المتفق عليه، لأن نزاعهما لم يكن في الدَّين، وإنما كان في التقاضي، وأما الصلح على الإنكار فأجازه مالك وأبو حنيفة، وهو قول الحسن. وقال الشافعيّ: إنه باطل، وبه قال ابن أبي ليلى، وفيه الملازمة للاقتضاء والشفاعة إلى صاحب الحق

رجاله ستة

والإصلاح بين الخصوم، وحسن التوسط بينهم، وفيه قبول الشفاعة في غير معصية، وفيه إرخاء الستور على الباب. رجاله ستة: الأول: عبد الله بن محمد المسندي، وقد مرَّ في الثاني من كتاب الإيمان، ومرَّ عثمان بن عمر في السابع والعشرين من كتاب الغسل، ومرَّ يونس بن يزيد في متابعة الرابع من بدء الوحي ومرَّ ابن شهاب في الثالث منه، ومرَّ كعب بن مالك في السادس والأربعين من أبواب القبلة. السادس: عبد الله بن كعب بن مالك، الأنصاري السلميّ المدنيّ، كان قائد أبيه حين عمي، قال أبو زرعة: ثقة، وذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال ابن سعد: سمع من عثمان، وكان ثقة، وكنيته أبو فضالة. وقال العجليّ: مدنيّ تابعيّ ثقة، قال الواقديّ: ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، روى عن أبيه وأبي أيوب وأبي لُبابة وعثمان بن عفان وجابر وغيرهم. وروى عنه ابناه عبد الرحمن وخارجة وإخوته عبد الرحمن ومحمد ومعبد بنو كعب، والأعرج والزُّهريّ وغيرهم. مات في ولاية سليمان سنة سبع أو ثمان وتسعين، وفي الستة عبد الله بن كعب سواه واحد وهو الحميري المدني مولى عثمان. وابن حَدْرَد، هو عبد الله بن أبي حدرد، واسمه سلامة، وقيل عبيد بن عمير بن أبي سلامة بن سعد بن شيبان بن الحارث بن قيس بن هَوازن بن أسلم بن أفصى الأسلَميّ، أبو محمد، له ولأبيه صحبة. وقال ابن منده: لا خلاف في صحبته، وقد أمَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم على سراياهُ مرة بعد أخرى، شهد الحديبية وخببر وما بعدها. ذكر ابن أبي شيبة أنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية، فلقينا عامر بن الأضبط، فحيانا بتحية الإِسلام، فنزعنا وحمل عليه مُحَلَّم بن جَثَّامةَ، فقتله. وقد أخرج أحمد أنه كان ليهودي عليه أربعة دراهم، فاستعدى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ادفع إليه حقه، فقال: لا أجد، فأعادها ثلاثًا،

باب كنس المسجد والتقاط الخرق والقذى والعيدان

وكان إذا قال ثلاثًا لم يراجع، فخرج إلى السوق فنزع عمامته، فأتزر بها، ودفع إليه البُرد الذي كان متزرًا به، فباعه بأربعة دراهم فدفعها إليه، فمرت عجوز فسألته عن حاله، فأخبرها، فدفعت إليه بردا كان عليها. وروى ابن إسحاق في المغازي أنه قال: كنت في خيل خالد بن الوليد في قصة المرأة التي عشقها الرجل، وضربت عنقه فماتت عليه. وفي فوائد ابن قُتيبة أنه تزوج امرأة على أربعة أواق، فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لو كنتم تنحتون من الجبل ما زدتم. وروى الإسماعيليّ أنه استعان رسول الله صلى الله عليه وسلم في نكاح، فسأله كم أصدقت؟ فقال: كذا وكذا. وفي البغويّ عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تمعددوا واخشوشنوا وانتضلوا وامشوا حفاة" وروي أنه قال: كنت في سرية بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إضَمٍ وادٍ من أودية أشجع. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن عمر، وروى عنه يزيد بن عبد الله بن قُسَيط، وأبو بكر محمد بن حزم، وابنه القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد. مات سنة إحدى وسبعين، وله إحدى وثمانون سنة. فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والإخبار بصيغته في موضع والعنعنة في ثلاثة مواضع، وفيه شيخ البخاريّ من أفراده، وفيه رواية الابن عن الأب، ورواته ما بين مدني وبخاري وبصري، أخرجه البخاري في الصلح في الأشخاص عن عبد الله بن محمد، وفي الملازمة عن يحيى بن بكير، ومسلم في البيوع، وأبو داود في القضايا، والنَّسائيّ فيها أيضًا، وابن ماجه في الأحكام. ثم قال المصنف: باب كنس المسجد والتقاط الخرق والقذى والعيدان قوله: والقذى، بالقاف المعجمة مقصور، جمع قذاة، وجمع الجمع أقذية. قال أهل اللغة: القذى في العين والشراب ما يسقط فيه، ثم استعمل في كل شيء يقع في البيت وغيره إِذا كان يسيرًا، فإن قيل: دل الحديث على كنس المسجد، فمن أين يؤخذ التقاط الخرق وما معه؟ أجاب بعض المتأخرين بأنه يؤخذ

بالقياس عليه بجامع التنظيف. والذي يظهر أن البخاري أشار بكل ذلك إلى ما ورد في بعض طرقه صريحًا، فعند ابن خزيمة من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبي هريرة "امرأة سوداء كانت تلتقط الخرق والعيدان من المسجد" وعند البيهقي، بإسناد حسن عن بريدة "كانت مولعة بلقط القذى من المسجد" وتكلف من لم يطلع على هذا، فزعم أن حكم الترجمة يؤخذ من إتيان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم القبر حتى صلى عليه، قال: فيؤخذ من ذلك الترغيب في تنظيف المسجد.

الحديث الحادي والستون

الحديث الحادي والستون حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَبِى رَافِعٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلاً أَسْوَدَ أَوِ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَ يَقُمُّ الْمَسْجِدَ، فَمَاتَ، فَسَأَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَنْهُ فَقَالُوا مَاتَ. قَالَ: أَفَلاَ كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي بِهِ دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ. أَوْ قَالَ قَبْرِهَا فَأَتَى قَبْرَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ. قوله: عن أبي رافع، هو الصائغ، ووهم بعض الشُّرَّاح فقال: إنه أبو رافع الصحابيّ، وقال هو من رواية صحابي عن صحابي، وليس كما قال؛ لأن ثابتاً البناني "لم يدرك أبا رافع الصحابي. وقوله: أو امرأة سوداء، الشك فيه من ثابت، لأنه رواه عنه جماعة هكذا، أو من أبي رافع. وفي حديث العلاء المتقدم امرأة سوداء، ولم يشك. وقوله: كان يَقُمُّ المسجد أي بقاف مضمومة، أي يجمع القُمامة، وهي الكُناسة. وقوله: سأل عنه، أي عن حاله، ومفعوله محذوف تقديره الناس. وأفادت رواية البيهقيّ أن الذي أجاب النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم عن سؤاله عنها أبو بكر الصديق. وقوله: أفلا كنتم آذنتموني؟ بالمد، أي أعلمتموني به أو بها. زاد المصنف في الجنائز "قال: فحقروا وأشانه" وزاد ابن خزيمة من طريق العلاء "قالوا مات من الليل، فكرهنا أن نوقظك" وزاد مسلم عن حماد بهذا الإسناد في آخره "ثم قال إن هذه القبور مملؤة ظلمة على أهلها وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم" وإنما لم يخرج البخاريّ هذه الزيادة , لأنها مُدرجة في هذا الإسناد، وهي من مراسيل ثابت، بيَّن ذلك غيرُ واحد من أصحاب حماد بن زيد. وقال البيهقيّ: يغلب على الظن أن هذه الزيادة من مراسيل ثابت، كما قال أحمد بن عبدة، أو

من رواية ثابت عن أنس، كما رواه ابن منده. وفي مسند أبي داود الطيالسي عن حماد بن زيد وأبي عامر الخزاز، كلاهما عن ثابت، بهذه الزيادة، وزاد بعدها "فقال رجل من الأنصار: إن أبي أو أخي مات أو دفن، فصل عليه، قال: فانطلق معه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ... " وفي الحديث مشروعية الصلاة على القبر، وبذلك قال علي وأبو موسى وابن عمر وابن مسعود وعائشة، وهو قول الأوزاعي والشافعيّ وأحمد وإسحاق، ومنعه النخعيّ والحسن البصري والثّوريّ، وهو قول أبي حنيفة والليث. وعن المالكية قولان بالكراهة والحرمة، وعن هؤلاء: إن دفن قبل أن يصلى عليه شُرع، وإلا فلا. قالت المالكية: إذا دفن قبل الصلاة عليه صُلي على قبره حتى يظن أنه لم يبق منه إلا عجْب الذنب، وإذا أمكن إخراجه قبل تغيره أخرج وصُلّي عليه. ومن العلماء من قال: إنما تجوز الصلاة عليه إذا لم يصل الولي أو الوالي، واختلف من قال شرع الصلاة لمن لم يصل، فقيل: يؤخر دفنه ليصلي عليه من كان لم يصل، وقيل: يبادر بدفنها ويصلي الذي فاتته على القبر، واختلفوا في أمد الصلاة على القبر إلى كم يجوز، فقيل إلى شهر، وقيل ما لم يَبْلَ جسده، وقيل أبدًا وقيل تختص الصلاة على القبر بمن كان من أهل الصلاة عليه حين موته، وهو الراجح عند الشافعية. واحتج القائلون بالصلاة على القبر بهذا الحديث. واحتج المانعون بالزيادة المتقدمة "إن هذه القبور ... الخ" فقالوا: إن ذلك من خصائصه عليه الصلاة والسلام، وقال ابن حبان في ترك إنكاره صلى الله تعالى عليه وسلم على من صلّى معه على القبر بيانُ جواز ذلك لغيره، وأنه ليس من خصائصه، وتعقب بأن الذي يقع بالتبعية لا ينهض دليلًا للأصالة، واسقدل بخبر الباب على رد التفصيل بين من صلي عليه فلا يصلى عليه، بأن القصة وردت فيمن صلى عليه، وأجيب بأن الخصوصية تنسحب على ذلك. وفي الحديث أيضًا فضل تنظيف المسجد. قال ابن بطال: فيه الحض

رجاله خمسة

على كنس المساجد وتنظيفها, لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم إنما خصه بالصلاة عليه بعد دفنه من أجل ذلك، وقد روى أنه عليه الصلاة والسلام كنس المسجد. وفيه خدمة الصالحين، والسؤال عن الخادم والصديق، إذا غاب، وافتقاده. وفيه المكافأة بالدعاء، والترحم على من وقف نفسه على نفع المسلمين ومصالحهم، وفيه الرغبة في شهود جنائز الصالحين. رجاله خمسة: الأول: سُليمان بن حَرب، وقد مرَّ في الرابع عشر من كتاب الإيمان، ومرَّ حمّاد بن زيد في الرابع والعشرين منه، ومرَّ أبو هُريرة في الثاني منه، ومرَّ ثابت البنانيّ في الخامس من كتاب العلم، ومرَّ أبو رافع في الرابع والثلاثين من كتاب الغسل. وقوله في الحديث إن رجلًا أسود أو امرأةً" الصحيح أنها امرأة لا رجل، كما يأتي بعد هذا بباب. وذكر البيهقيّ أن اسمها أم مِحْجَن، وذكر ابن منده في الصحابة "خرقاء" امرأةً سوداءً كانت تَقُمّ المسجدَ، قال ابن حجر: فلعل هذا اسمها، وكنيتها أم محجن. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في ثلاثة مواضع، ورواته ما بين بصريّ ومدنيّ. أخرجه البخاريّ أيضًا في الصلاة عن أحمد بن واقد، وفي الجنائز عن محمد بن الفضل، ومسلم وأبو داود وابن ماجه في الجنائز. ثم قال المصنف: باب تحريم تجارة الخمر في المسجد أي باب في جواز ذكر ذلك، وتبيين أحكامه في المسجد، فلابد من تقدير هذا المضاف، وقوله: في المسجد، يتعلق بتحريم لا بتجارة، وليس المراد ما يقتضيه مفهومه من اختصاص تحريم ذلك في المسجد؛ لأنه حرام في المسجد وغيره. وموقع الترجمة أن المسجد منزه عن الفواحش قولاً وفعلًا، لكن يجوز ذكرها للتحذير منها ونحوه، كما دل عليه الحديث.

الحديث الثاني والستون

الحديث الثاني والستون حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ لَمَّا أُنْزِلَ الآيَاتُ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الرِّبَا، خَرَجَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْمَسْجِدِ، فَقَرَأَهُنَّ عَلَى النَّاسِ، ثُمَّ حَرَّمَ تِجَارَةَ الْخَمْرِ. قوله: لما أنزل الآيات، بضم الهمزة وسكون النون وكسر الزاي، ولأبي ذَرٍّ وابن عساكر "أنزلت" ولابن عساكر أيضًا "نزلت" وقوله: في الربى، بالقصر، وإنما كتب بالواو كالصلاة للتفخيم على لغة، وزيدت الألف بعدها تشبيهًا بواو الجمع، والمراد بالآيات في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا} ... إلى آخر العشر، وإنما ذكر الأكل لأنه أعظم منافع المال، ولأن الربى شائع في المطعومات. وقوله: ثم حرّم تجارة الخمر، وللإمام أحمد فتحرم التجارة في الخمر، وهو من تحريم الوسائل المفضية إلى المحرمات. قال القاضي عياش: كان تحريم الخمر قبل نزول آية الربى بمدة طويلة، فيحتمل أنه عليه الصلاة والسلام أخبر بتحريمها مرة بعد أخرى، تأكيدًا. ويحتمل أن يكون تحريم التجارة فيها تأخر عن وقت تحريم عينها. رجاله ستة: الأول: عبدان، وقد مرَّ في السادس من بدء الوحي، ومرَّ أبو حمزة محمد بن ميمون في الثامن والعشرين من الغُسل، ومرَّ الأعشى في الخامس والعشرين من الإيمان، ومرَّ مسروق في السابع والعشرين منه، ومرَّ مسلم بن صبيح في الخامس عشر من كتاب الصلاة، ومرت عائشة في الثاني من بدء الوحي.

باب الخدم للمسجد

فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع، والعنعنة في خمسة مواضع، ورواته ما بين بصريّ ومروزيّ وكوفيّ. وفيه ثلاثة من التابعين: الأعمش ومن بعده، أخرجه البخاري في البيوع عن مسلم بن إبراهيم ومحمد بن بشار، وفي التفسير عن بشر بن خالد ومحمد بن بشار، ومسلم وأبو داود في البيوع، والنّسائي فيها وفي التفسير، وابن ماجه في الأشربة. ثم قال المصنف: باب الخدم للمسجد ولكريمة: الخدم في المسجد، وكان الأولى ذكر هذا الباب قبل سابقه، ثم قال: وقال ابن عباس نذرت لك ما في بطني محررًا للمسجد يخدمه، رضي الله تعالى عنهما، مما وصله ابن أبي حاتم بمعناه، في تفسير قوله تعالى، إخبارًا عن حَنَّة، بفتح الحاء وتشديد النون، بنت فاقوذ، امرأة عِمران، وكانت عاقرًا، فرأت طيرًا يزق فرخه، فاشتهت الولد، فسألت الله تعالى أن يهبها ولدًا فاستجاب الله دعاءها، فواقعها زوجها، فتحملت منه، فلما تحققت الحمل، قالت: ما أخبر الله تعالى به عنها. قوله: محررًا، أي معتقًا، وقوله: يخدمه، أي لا أشغله بشيء غيره، ولأبي ذرٍّ "يخدمها" أي المساجد أو الصخرة أو الأرض المقدسة، والظاهر أنه كان في شرعهم صحة النذر في أولادهم، وكان غرض البخاريّ الإِشارة بإيراد هذا إلى أن تعظيم المسجد بالخدمة كان مشروعًا عند الأمم السالفة، حتى إن بعضهم وقع نذر ولده لخدمته، ومناسبة ذلك لحديث الباب من صحة تبرع تلك المرأة بإقامة نفسها لخدمة المسجد، لتقرير النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لها على ذلك. وقولها: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} قالته تحسرًا أو تحزنًا, لأنها كانت ترجو أن تلد ذكرًا تحرره للمسجد، فتقبلها ربها، فرضي بها في النذر مكان الذكر بقبول حسن، وجه حسن تقبل به النذائر، وهو إقامتها مقام الذكر، وابن عباس مرَّ في الخامس من بدء الوحي، وهذا التعليق ذكره الضحاك عن ابن عباس في تفسيره.

الحديث الثالث والستون

الحديث الثالث والستون حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ وَاقِدٍ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ امْرَأَةً أَوْ رَجُلاً كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ وَلاَ أُرَاهُ إِلاَّ امْرَأَةً فَذَكَرَ حَدِيثَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ صَلَّى عَلَى قَبْرِهِ. قوله: كانت تقم المسجد، فتحذف أو كان كما في السابق، إلا أنه حذف من الأول خبر المؤنث، وهنا خبر المذكر اعتبارًا بالسابق، ليكون جاريًا على المَهْيَع الكثير، وهو الحذف من الثاني لدلالة الأول عليه. قاله الدمامينيّ. وفي رواية أبي ذَرٍّ كان يقيم بالتذكير، وقوله: ولا أُراه بضم الهمزة، أي لا أظنه. قوله: على قبره، في رواية الأصيلي وأبو الوقت "قبرها". رجاله خمسة: الأول: أحمد بن عبد الملك بن واقد الحَرّانيّ الأسديّ، مولاهم، أبو يحيى، وقد ينسب إلى جده. قال يعقوب بن شَيبة: ثقة، وقال أحمد: ما رأيت به بأسًا، رأيته حافظًا لحديثه، وما رأيت إلا خيراً وهو صاحب سنة. قال الميموني: قلت لأحمد: إن أهل حَرّان يسيئون الثناء عليه، فقال: أهل حرّان قل أنْ يرضوا عن إنسان هو يغشى السلطان بصنيعة له. وقال أبو حاتم: كان نظير النفيليّ في الصدق والإتقان. وذكره ابن حبّان في الثقات. وقال ابن نُمير: تركتُ حديثه لقول أهل بلده. قال ابن حجر: أفصح أحمد بالسبب الذي طعن فيه أهل حران من أجله، وهو غير قادح. وقد قال أبو حاتم ما مرَّ. روى عنه أحمد في مسنده، وروى عنه البخاري في الصلاة والجهاد والمناقب أحاديثَ شورك فيها من حماد بن زيد, وروى له النَّسائيّ وابن ماجه عن زهير بن معاوية وحماد بن

باب الأسير أو الغريم يربط في المسجد

زيد وعُبيد الله بن عمرو وجماعة. وروى عنه البخاريّ والنسائيّ وابن ماجه بواسطة، وأحمد بن حنبل وأبو زرعة وأبو حاتم. ثم مات سنة إحدى وعشرين ومئة، وليس في الستة أحمد بن عبد الملك سواه. الثاني: حماد بن زيد، وقد مرَّ في الرابع والعشرين من كتاب الإيمان، ومرَّ ثابت في الخامس من كتاب العلم، ومرَّ أبو رافع في الثالث والثلاثين من الغسل، ومرَّ أبو هريرة في الثاني من الإيمان. مرَّ الكلام على مواضع إخراجه في الذي قبل هذا بحديثين. ثم قال المصنف: باب الأسير أو الغريم يربط في المسجد كذا للأكثر بأو، وهي للتنويع، وفي رواية ابن السكن وابن عساكر والغريم بواو العطف، والأسير الأخيذ.

الحديث الرابع والستون

الحديث الرابع والستون حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ أَخْبَرَنَا رَوْحٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إِنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ تَفَلَّتَ عَلَيَّ الْبَارِحَةَ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا لِيَقْطَعَ عَلَيَّ الصَّلاَةَ، فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبِطَهُ إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، حَتَّى تُصْبِحُوا وَتَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ أَخِي سُلَيْمَانَ رَبِّ هَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي. قَالَ رَوْحٌ فَرَدَّهُ خَاسِئًا. قوله: إن عفريتا، أي جنيًا ماردًا. وقوله: من الجن، بيان له، وقوله: تَفَلّت، بالفاء وتشديد اللام، أي تعرض له فَلْتَة، أي بغتة. وقال القزّاز: يعني توثب، وقال الجوهريّ: أفلتُّ الشيء فانفلتَ وتفلَّتَ، بمعنى. وقوله: البارحة، قال صاحب "المنتهى": كل زائل بارح، ومنه سميت البارحة، وهي أدنى ليلة زالت عنك، ويقال: من بعد الزوال إلى آخر النهار البارحة، وقوله: أو كلمة نحوها، الضمير راجع إلى البارحة أو إلى جملة "تفلَّت علي البارحة" وفي رواية شبابة عند المؤلف في أواخر الصلاة بلفظ "عرض لي فشد علي" وهو يؤيد الاحتمال الثاني، وفي رواية عبد الرزاق "عرض لي في صورة هر" ولمسلم عن أبي الدرداء "جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي" وللنَّسائي عن عائشة "فأخذته فصرعته فخنقته، حتى وجدت برد لسانه على يدي". وقوله: فأردت، بالفاء، ولأبوي ذرٍّ والوقت "وأردتُ" بالواو. وقوله: أن أربِطه، بكسر الموحدة، وقوله: إلى سارية، أي أسطوانة من أساطينه. وقوله: حتى تصبحوا، أي تدخلوا في الصباح، فالفعل لا يحتاج إلى خبر. وقوله: كلكم، بالرفع، توكيد الضمير المرفوع في تنظروا، وهل كانت إرادته للربط بعد

تمام الصلاة أو فيها؛ لأنه فعل يسير؟ احتمالان. وقوله: ربِّ اغفر لي وهَبْ لي ملكًا لا ينبغي لأحد من بعدي من البشر مثله، فتركه عليه الصلاة والسلام مع القدرة عليه، حرصًا على إجابة الله عَزَّ وَجَلَّ دعوة سليمان، في رواية أبي ذَرٍّ هكذا "رب اغفر لي" إلى آخر الآية، أي من بعدي. وفي بقية الروايات "رب هب لي" قال الكرماني: لعله ذكره على طريق الاقتباس لا على قصد التلاوة، لكن عند مسلم كما في رواية أبي ذرٍّ على نسق التلاوة، والظاهر أنه تغيير من بعض الرواة، وأما ما أخرجه الطبريّ عن قتادة، قال في قوله {لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} لا أسلبه كما سلبته أول مرة، فظاهر حديث الباب يرد عليه، وكان سبب تأويل قتادة هذا هكذا طعن بعض الملاحدة على سليمان، ونسبته في هذا إلى الحرص على الاستبداد بنعمة الدنيا، وخفي عليه أن ذلك كان بإذن له من الله، وأن تلك كانت معجزته كما اختص كل نبي بمعجزة دون غيره، ويحتمل أن تكون خصوصية سليمان استخدام الجن في جميع ما يريده، لا في هذا القدر فقط، وفهم ابن بطال وغيره منه، أنه كان حين عَرَض له غير متشكل بغير صورته الأصلية، فقالوا: إن رؤية الشيطان على صورته التي خلق عليها خاص بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وأما غيره من الناس فلا، لقوله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ} ... الآية. وقال الخطابيّ: استدل بهذا الحديث على أن أصحاب سليمان، كانوا يرون الجن في أشكالهم وهيأتهم حال تصرفهم. قال: وأما قوله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} فالمراد الأكثر الأغلب من أحوال بني آدم، وتُعُقب بان نفي رؤية الإِنس للجن على هيئتهم ليس بقاطع من الآية، بل ظاهرها أنه ممكن، فإنَّ نفيَ رؤيتنا إياهم مقيدٌ بحال رؤيتهم لنا, ولا ينفي إمكان رؤيتنا لهم في غير تلك الحالة، ويحتمل العموم، وهذا الذي فهمه أكثر العلماء، وهذا محمول على من يدّعي رؤيتهم على صورهم التي خلقوا عليها، وأما من ادعى أنه يرى شيئًا منهم بعد أن يتصور على صور شتى من الحيوان، فلا

يقدح فيه. وقد تواترت الأخبار بتحورهم في الصور، واختلف أهل الكلام في ذلك، فقيل: هو تخييل فقط، ولا ينتقل أحد عن صورته الأصلية، وقيل: بل ينتقل، لكن لا باقتدارهم على ذلك، بل بضرب من الفعل، إذا فعله انتقل كالسحر. وهذا يرجع إلى الأول، وفيه أثر عن عمر أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح "إنّ الغِيلان ذكروا عند عمر فقال: إن أحدًا لا يستطيع أن يتحول عن صورته التي خلقه الله عليها, ولكن لهم سحرة كسحرتكم، فإذا رأيتم ذلك "فأذِّنوا" وهذا يدل على وجودهم، كدلالة حديث الباب وغيره من الآيات والأحاديث على ذلك. قال إمام الحرمين في الشامل: إن كثيرًا من الفلاسفة والزنادقة والقَدَرية أنكروا وجودهم رأسًا، قال: ولا يتعجب ممن أنكر ذلك من غير المشرعين، إنما العجب من المشرعين مع نصوص القرآن والأخبار المتواترة. قال: وليس في قضية العقل ما يقدح في إثباتهم، وأكثر ما استروح إليه من نفاهم حضورهم عند الإنس، بحيث لا يرونهم، ولو شاءوا لأبدوا أنْفُسَهم، وإنما يستبعِدُ ذلك مَنْ لم يُحط علمًا بعجائب المقدورات. وقال القاضي أبو بكر: وكثير من هؤلاء يثبتون وجودهم، وينفونه الآن، ومنهم من يثبتهم وينفي تسلطهم على الإنس. وقال عبد الجبار المعتزليّ: الدليل على إثباتهم السمعُ دون العقل: إذ لا طريق إلى إثبات أجسام غائبة, لأن الشيء لا يدل على غيره من غير أن يكون بينهما تَعَلُّق، ولو كان إثباتهم باضطرارٍ أما وقع الاختلاف فيه، إلا أنا قد علمنا بالاضطرار بأن النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقدين بإثباتهم، وذلك أشهر من أن يتشاغل بإيراده. واختلف في صفتهم، فقال الباقلانيّ: قال بعض المعتزلة: الجن أجسام رقيقة بسيطة، قال: وهذا عندنا معاشر أهل السنة غير ممتنع إن ثبت به سمع. وقال أبو يعلي بن الفراء: الجن أجسام مؤلفة، وأشخاص ممثلة، يجوز أن تكون رقيقة، وأن تكون كثيفة، خلافًا للمعتزلة في دعواهم أنها رقيقة، وأنّ امتناع رؤيتنا من جهة رقتها، وهذا مردود، فإن الرقة ليستْ بمانعة من الرؤية،

ويجوز أن يخفى عن رؤيتنا بعض الأجسام الكثيفة إذا لم يخلق الله فينا إدراكها، واختلف في أصلهم، فقيل: إن أصلهم من ولد إبليس، فمن كان منهم كافرًا سُمي شيطانًا, وقيل: ان الشياطين خاصة أولاد إبليس، ومن عداهم ليسوا من ولده. وحديث ابن عباس الآتي في تفسير سورة الجن، يقوّي أنهم نوع واحد من أصل واحد، واختلف صنفه، فمن كان كافرًا سمي شيطانًا، وإلا قيل له جنيّ. واختُلف أيضاً هل يأكلون ويشربون ويتناكحون أم لا؟ فقيل بالنفي، وقيل بمقابله ثم اختلفوا، فقيل: أكلهم وشربهم تشمم واسترواح لا مضغ ولا بلع، وهو مردود بما رواه أبو داود عن أمية بن مخشي قال: "كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جالساً ورجل يأكل ولم يسم إلا في آخره، فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: (ما) زال الشيطان يأكل معه، فلما سمّى استقاء ما في بطنه" وروى مسلم عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم "لا يأكلنَّ أحدكم بشِماله ويشرب بشماله، فإنَّ الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله". وروى ابن عبد البَر عن وهب بن منبه أن الجن أصناف، فخالصهم ريح لا يأكلون ولا يشربون ولا يتوالدون، وجنس منهم يقع منهم ذلك، ومنهم السَّعَالي والغُول والقُطْرُب، وهذا إن ثبت كان جامعًا للقولين الأولين، ويؤيده ما روى ابن حبّان والحاكم، عن أبي ثعلبة الخشنيّ قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم "الجنّ على أصناف ثلاثة: صنف لهم أجنحة، يطيرون في الهواء، وصنف حيات وعقارب، وصنف يحلون ويظعنون". وروى ابن أبي الدنيا عن أبي الدرداء مرفوعًا نحوه، لكن قال في الثالث: "وصنف عليهم الحساب والعقاب".وروى عن ابن أبي الدنيا عن يزيد بن يزيد، أحد ثقات الشاميين، من صغار التابعين، قال: ما من أهل بيت إلا وفي سقف بيتهم من الجن، وإذا وضع الغداء نزلوا فتغدوا معهم، والعشاء كذلك. واستدل من قال بأنهم يتناكحون بقوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا

جَانٌّ} وبقوله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي} والدلالة من ذلك ظاهرة، واعتل من أنكر ذلك بان الله تعالى أخبر أن الجانّ خلق من نار، وفي النار من اليبوسة والخفة ما يمنع معه التوالد، والجواب أن أصلهم من النار، كما أن أصل الآدمي من التراب، وكما أن الآدمي ليس طينًا حقيقة، كذلك الجني ليس نارًا حقيقة، وقد مر لك في الحديث قوله عليه الصلاة والسلام "فأخذته فخنقته حتى وجدت برد ريقه على يدي" وبهذا الجواب يندفع إيراد من استشكل قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} فقال: كيف تحرق النار النار؟ وأما كونهم مكلفين فقال ابن عبد البر: الجن عند الجماعة مكلفون، وقال عبد الجبار: لا نعلم خلافاً بين أهل النظر في ذلك، إلا ما حكى زرقان عن بعض الحشوية، أنهم مضطرون إلى أفعالهم، وليسوا بمكلفين، قال: والدليل للجماعة ما في القرآن من ذم الشياطين، والتحرز من شرهم، وما أُعد لهم من العذاب، وهذه الخصال لا تكون إلا لمن خالف الأمر، وارتكب النهي مع تمكنه من أن لا يفعل. والأيات والأخبار الدالة على ذلك كثيرة جدًا. وإذا ثبت تكليفهم فقد اختلفوا هل كان فيهم نبي أم لا؟ فروى الطبريّ من الضحاك بن مزاحم إثبات ذلك، قال: ومن قال بقول الضحاك احتج بأن الله تعالى أخبر أنّ من الجن والإِنس رسلًا أُرسلوا إليهم، فلو جاز أن المراد برسل الجن رسل الإنس لجاز العكس، وهو فاسد، وأجاب الجمهور عن ذلك بأن معنى الآية: أن رسك الإنس رسل من قبل الله إليهم، ورسل الجن بثهم الله في الأرض، فسمعوا كلام الرسل من الإنس، وبلّغوا قومهم، ولهذا قال قائلهم: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} الآية. واحتج ابن حزم بأنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال: "وكان النبيّ يُبعث إلى قومه، وليس الجن من قوم الإِنس، فثبت أنه كان منهم أنبياء إليهم. قال: ولم يبعث من الإنس إلى الجنّ إلا نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم، لعموم بعثته إلى الجن والإِنس باتفاق. وقال ابن عبد البر: لا يختلفون أنه عليه الصلاة والسلام بُعث إلى الجن

والإنس، وهو مما فُضِّل به على الأنبياء، ونقل عن ابن عباس في قوله تعالى في سورة غافر {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ} قال: هو رسول الجن، وقال إمام الحرمين في الإرشاد: وقد علمنا ضرورة أنه صلى الله تعالى عليه وسلم ادَّعى كونه مبعوثًا إلى الثقلين اتفق على ذلك علماء السلف من الصحابة والتابعين، وأئمة المسلمين، وثبت التصريح بذلك في حديث "وكان النبي إلى قومه وبعثتُ إلى الإنس والجن" فيما أخرجه البزار، وعن ابن الكلبيّ "كان النبيُّ يُبعث إلى الإنس فقط، وبُعث محمد إلى الإنس والجن" وإذا تقرر كونهم مكلفين، فهم مكلفون بالتوحيد وأركان الإِسلام، وأما ما عداه من الفروع فاختلف فيه، لما ثبت من النهيّ عن الروث والعَظم، وأنهما زاد الجن، ويأتي في السيرة النبوبة حديث أبي هريرة، وفي آخره، "فقلتُ ما بالُ الروثِ والعظمِ قال: هما طعام الجن" فدل على جواز تناولهم للروث، وذلك حرام على الإنس. وكذلك روى أحمد والحاكم عن ابن عباس قال "خرج رجل من خيبر، فتبعه رجلان وآخر يتلوهما، يقول: ارجعا، حتى ردهما، ثم لحقه فقال: إن هذين شيطانان، فإذا أتيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فاقرأ عليه السلام، وأخبره أنّا في جمع صدقاتنا, ولو كانت تصلح له لبعثناها إليه، فلما قدم الرجل المدينةَ أخبر النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك، فنهى عن الخلوة" أي عن السفر منفردًا. وأما ثوابهم وعقابهم فلم يختَلِف من أثبت تكليفهم أنهم يعاقبون على المعاصي، واختُلف هل يثابون؟ فروى الطبريّ وابن أبي حاتم عن أبي الزناد موقوفًا "قال: إذا دخل أهل الجنةِ الجنة، وأهل النارِ النارَ، قال الله لمؤمن الجن وسائر الأمم من غير الإنس: كونوا ترابًا، فتحينئذ يقول الكافر: يا ليتني كنت ترابًا". وروى ابن أبي الدنيا عن ليث بن أبي سليم قال: "ثواب الجن أن يجارُوا من النار، ثم يقال لهم: كونوا ترابًا" وروى عن أبي حنيفة نحو هذا القول، وذهب الجمهور إلى أنهم يثابون على الطاعة، وهو قول الأئمة الثلاثة، وأبي يوسف ومحمد بن الحسن والأوزاعيّ وغيرهم.

ثم اختلفوا: هل يدخلون مدخل الإنس؟ على أربعة أقوال: أحدها: نعم، وهو قول الأكثر. ثانيها: يكونون في رَبَض الجنة، وهو منقول عن مالك وطائفة. ثالثها: أنهم أصحاب الأعراف. رابعها: التوقف عن الجواب في هذا. وروى ابن أبي حاتم عن أبي يوسف قال: قال ابن أبي ليلى: لهم ثواب، قال: فوجدنا مصداق ذلك في كتاب الله تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} وإلى ذلك أشار البخاري في بدء الخلق عند ذكر الجن بقوله قبلها {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} فإن قوله {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} الآية التي بعد هذه الآية، واستدل بهذه الآية أيضًا ابن عبد الحكم، واستدل ابن وهب بمثل ذلك، بقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} فإن الآية بعدها أيضًا {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا}. وروى أبو الشيخ في تفسيره عن مُغيث بن سُمَيّ، أحد التابعين، قال: "ما من شيء إلا وهو يسمع زفير جهنم، إلا الثقلين الذين عليهم الحساب والعقاب".ونُقل عن مالك أنه استدل على أن عليهم العقاب، ولهم الثواب، بقوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} ثم قال {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} والخطاب للإنس والجن، فإذا ثبت أن فيهم مؤمنين، والمؤمن شأنه أن يخاف مقام ربه، ثبت المطلوب. وقوله: قال روح: فرده خاسئًا، أي رد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم العفريتَ خاسئًا، أي مطرودًا، وفي رواية مسلم بلفظ "فرده الله خاسئًا" وظاهر المصنف أن هذه الزيادة في رواية روح دون رفيقه محمد بن جعفر، لكن أخرجه في أحاديث الأنبياء عن محمد بن جعفر وحده، وزاد في آخره "فرده خاسئًا".

رجاله ستة

رجاله ستة: الأول: إسحاق بن إبراهيم المعروف بابن راهويه، وقد مرَّ في الحادي والعشرين من كتاب العلم، ومرَّ روح بن عبادة في الأربعين من كتاب الإيمان، ومرَّ غندر الذي هو محمد بن جعفر، في الخامس والعشرين منه، ومرَّ شعبة في الثالث منه، ومرَّ أبو هريرة في الثاني منه، ومرَّ محمد بن زياد في الثلاثين من كتاب الوضوء. فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في أربعة مواضع، ورواته ما بين مروزيّ وبصريّ، أخرجه البخاريّ هنا وفي الصلاة أيضًا، وفي التفسير وأحاديث الأنبياء، وصفة إبليس، ومسلم في الصلاة والنسائيّ في التفسير. ثم قال المصنف: باب الاغتسال إذا أسلم وربط الأسير أيضًا في المسجد هكذا في أكثر الروايات، وسقط للأصيلى وكريمة. وقوله: وربط الأسير الخ، وعند بعضهم "باب" بلا ترجمة، وكأنّه فصلٌ من الباب الذي قبله، ويحتمل أن يكون بيّض للترجمة، فَسَدّ بعضهم البياضَ بما ظهر، ويدل عليه أن الإسماعيليّ ترجم عليه "باب دخول المشرك المسجد" وأيضًا، فالبخاريّ لم تجر عادته إعادة لفظ الترجمة عقب الأخرى، والاغتسال إذا أسلم لا تَعَلُّق له بأحكام المساجد، إلا على بُعْد شديد، وما ادعاه ابن المنير من الجواب عما قيل مِن أنّ إيراد قصة ثمامة في الباب الذي قبله أليقُ، بدون تأملٍ، فإن قصة ثُمامة أخرجها البخاريّ في آخر المغازي "أنه عليه الصلاة والسلام مرَّ على ثُمامة ثلاث مرات وهو مربوط في المسجد، وأنه أمرهم بإطلاقه في اليوم الثالث" وصرح ابن إسحاق "بأنه عليه الصلاة والسلام هو الذي أمرهم بربطه فيه" وكيف يتوهم أن الصحابة يفعلون في المسجد شيئًا بدون أمره ورضاه، فما أبداه ابن المنير من أن قصته أوْلى أن تكون إنكارًا لربطه من أن تكونَ تقريرًا -كلامٌ فاسد. ثم قال: وكان شُرَيح يأمر الغَرِيم أن يُحبس إلى سارية المسجد. في معناه

وجهان: أحدهما أن يكون الأصل يأمر بالغريم، وأن يُحبس بدل اشتمال، ثم حذفت الباء، كما في قولك: أمرتك الخير. والثاني: أن معنى قوله أن يحبس، أي ينحبس، فجعل المطاوِع موضع المطاوَع لاستلزامه إياه. وهذا الأثر وصله معمر عن أيوب عن ابن سيرين قال: كان شريح إذا قضى على رجل بحق، أمر بحبسه في المسجد إلى أن يقوم بما عليه، فإن أعطى الحق، وإلا أمر به إلى السجن. وشريح بن الحارث القاضي قد مرَّ في تعليق بعد التاسع والعشرين من كتاب الحيض.

الحديث الخامس والستون

الحديث الخامس والستون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- خَيْلاً قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ. فَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَاغْتَسَلَ ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. قوله: بعث خيلًا قبل نجد، أي فرسانًا، والأصل أنهم كانوا رجالًا على خيل، والسرية التي أخذت ثمامة كان أميرها محمد بن مسلمة، أرسله النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في ثلاثين راكبًا إلى القُرطاء، بضم القاف وفتح الرَاء والطاء، من بني أبي بكر بن كلاب، لعشر ليال خلون من المحرم سنة ست. وكانت غيبته بها تسع عشرة ليلة، وقدم لليلة بقيت من المحرم. وقوله: قبلَ نجد، بكسر القاف وفتح الموحدة، أي جهة، ونجد، بفتح النون وسكون الجيم، في جزيرة العرب. قال المدائني: جزيرة العرب خمسة أقسام تهامة والحجاز ونجد وعَرُوض واليمن. أما تهامة، فهي الناحية الجنوبية من الحجاز، وأما نجد فهي الناحية التي بين الحجاز والعراق، وأما الحجاز فهو جبل يُقبل من اليمن حتى يتصل بالشام، وفيه المدينة وعَمّان، وأما العَروض فهي اليمامة إلى البحرين. وقال الواقديّ. الحجاز من المدينة إلى تبوك، ومن المدينة إلى طريق الكوفة، وما وراء ذلك إلى أن يشارف أرض البصرة فهو نجد، وما بين العراق وبين وَجْرة وعَمرة الطائفِ نجدٌ، وما كان وراء وَجرة إلى البحر فهو تهامة، وما كان بين تهامة ونجد فهو حِجاز، سميَ حجازًا لأنه يحجز بينهما.

وقوله: فانطلق إلى نخل، أي بالخاء المعجمة، وكذا في رواية مسلم، ويؤيد ذلك ما رواه ابن خزيمة في صحيحه عن أبي هريرة في هذا الحديث "فانطلق إلى حائط أبي طلحة فاغتسل" الخ، وفي النسخة المقروءة على أبي الوقت "إلى نجل" بفتح النون وسكون الجيم بعده لام، وهو الماء القليل النابع من الأرض، وقيل الجاري. في الحديث جواز دخول الكافر المسجد، وقال مجاهد وابن محيريز وأبو حنيفة: يجوز دخول الكتابيّ له دون غيره، واحتجوا بما أخرجه أحمد عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: "لا يدخل مسجدنا هذا، بعد عامنا هذا، مشركٌ إلا أهل العهد وخدمهم". وقال عمر بن عبد العزيز، وقتادة ومالك: لا يجوز دخول الكافر فيه، واحتجوا بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} وبقوله تعالى: {أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} ودخول الكافر فيها منافٍ لرفعها، وبقوله عليه الصلاة والسلام "إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من البَول والقَذر" والكافر لا يخلو من ذلك، وبقوله عليه الصلاة والسلام "لا أحل المسجد لحائض ولا لجُنُب" أخرجه أبو داود، والكافر جنب. وقال الشافعيّ: يجوز دخوله فيه بإذن مسلم، ولا يجوز بغيره، كان الكافر كتابيا أو غيره، واستثنى من ذلك مسجد مكة وحرمه، واحتج بحديث ثُمامة هذا، وبأنّ ذات الكافر ليست بنجسة. وفيه اغتسال الكافر إذا أسلم، ومشهور مذهب مالك أنه يجب عليه الغُسل إذا كان قد حصل منه في الكفر ما يوجب الغُسل، سواء اغتسل منه قبل ذلك أم لا، إلا أن يكون اغتسل بعد أن صمم على الإِسلام، وإلاّ يحصل منه استحب له الغُسل. وعند الشافعية كذلك، لا يجب عليه إلا إذا حصل منه سببه، ولم يغتسل في حال الكفر، وفيه وجهان إن اغتسل أصحهما إعادته، وإن لم يحصل منه سبب استُحب له الغسل. وقال أحمد بوجوبه إذا أسلم مطلقًا، سواء من كفرٍ أصليّ أو رِدّة، وسواء حصل منه سبب أم لا.

ومذهب أبي حنيفة لا يلزمه الغسل، واحتج بقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} وبحديث عمرو بن العاص، أخرجه مسلم، "الإِسلام يهدم ما قبله" ولأنه أسلم خلق كثير لهم الزوجات والأولاد، ولم يأمرهم عليه الصلاة والسلام بالغُسل وجوبًا، ولو وجب لأمرهم به، واعترض ما احتجوا به، وفيه أسر الكافر، وجواز إطلاق، وللإمام في حق الأسير العاقل القتلُ أو الاسترقاق أو الإطلاق مَنًّا عليه أو الفِداء. وقال الكرمانيّ: يحتمل أنه عليه الصلاة والسلام أطلق ثُمامة لمَّا علم أنه آمن بقلبه، وسيظهر بكلمة الشهادة. وفيه الملاطفة بمن يرجى إسلامه من الأُسارى، إذا كان في ذلك مصلحة للإسلام، ولاسيما من يتبعه على إسلامه العدد الكثير من قومه. وفيه جواز ربط الأسير في المسجد. قال القرطبيّ: يمكن أن يقال إن ربطه في المسجد لينظر حسن صلاة المسلمين واجتماعهم عليها، فيأنس ذلك، ويؤيد هذا ما رواه ابن خزيمة في صحيحه عن عثمان بن أبي العاص "أن وقد ثقيف أما قدموا أنزلهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم المسجدَ، ليكون أرق لقلوبهم". وقال جبير بن مطعم، فيما أخرجه أحمد: "دخلت المسجد والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم يصلي المغربَ، فقرأ بِوَالطور، فكأنما صدع قلبي حين سمعتُ القرآن، وقيل: يمكن أن يكون رَبَطهَ بالمسجد لأنه لم يكن له موضع يربط فيه إلا المسجد. وقال ابن الجوزيّ: لم يسلم تحت الأسر لعزة نفسه، وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أحس بذلك منه، فقال: أطلقوه، فلما أطلق أسلم، واعترضه العيني فقال: يرد هذا حديثُ أبي هريرة عند ابن خزيمة وابن حبّان، ففيه "مرَّ صلى الله تعالى عليه وسلم يومًا فأسلم، فحله" فهذا صريح أن إسلامه كان قبل إطلاقه، ويعذر الكرمانيّ في هذا؛ لأنه قال بالاحتمال، ولم يقف على حديث أبي هريرة. وأما ابن الجوزيّ فكيف غفل عن ذلك مع كثرة اطلاعه في الحديث؟ قلت: اعتمد الكرمانيّ وابن الجوزيّ ما هو أصح من حديث ابن خزيمة، وهو

رجاله أربعة

حديث أبي هريرة عند البخاريّ ومسلم وأبي داود والنَّسائيّ في قصة ثُمامة المختصرة هنا، ففيها، عند الجميع، أن النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم "مرَّ عليه في اليوم الأول وهو مربوط فقال له: ماذا عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي خيرٌ يا محمد، إنْ تقتلني تَقْتُلْ ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال، فسل منه ما شئت، فتركه حتى كان الغد فقال: ما قلت لك: إنْ تُنعمْ تُنعمْ على شاكر؟ فتركه حتى كان الغد، فقال: "ما عندك؟ فقال: عندي ما قلت لك. فقال: أطلقوا ثُمامة، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله ... " الحديث، فهذا صريح في أن إطلاقه كان قبل إسلامه، والاعتماد عليه أوْلى من الاعتماد على ما قاله العينى، ويأتي تمام الكلام على هذا الحديث عند ذكره تامًا. رجاله أربعة: وفيه ذكر ثمامة بن أُثال. الأول: عبد الله بن يوسف، وقد مرَّ في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ الليث بن سعد في الثالث منه، ومرَّ سعيد بن أبي سعيد المَقْبَرِيَّ في الثاني والثلاثين من الإيمان، ومرَّ أبو هريرة في الثاني منه. السادس: ثمامة بن أُثال بن النعمان بن سَلَمة بن عتيبة بن ثعلبة بن يربوع بن ثعلبة بن الدُؤل بن حنيفة الحنفيّ، أبو أُمامة اليماميّ، حديثه هو هذا المذكور في البخاريّ، وروى ابن إسحاق أنّ ثمامة كان عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد قتله، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمكنه منه، فقد روى عمارة بن غَزِيّة، من طريق أبي هريرة، قال: "خرج ثُمامة بن أُثال الحنفيّ معتمرًا فظفرتْ به خيلٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم بنجد، فجاءوا به، فأصبح مربوطًا بأسطوانة عند باب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرآه فعوفه ثم قال له: ما تقول يا ثُمامَ. قال: إن تسألْ مالًا تُعْطَه، وإن تَقْتُل تَقتُلْ ذا دم، وإن تنعم تنعمْ على شاكر، فمضى عنه وهو يقول: "اللهم إنّ أكلة من لحم

جزور أحب إليّ من دم ثمامة، ثم أكثر عليه بعد ذلك، وقال لَه مثل قوله أولًا، والنبي يقول مثل قوله، ثم كر عليه في الثالثة، وأجاب بمثل ما أجاب به أولًا، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول مثل قوله، ثم أمر به، فأطلق، ثم ذهب إلى المصانع فغسل ثيابه واغتسل، ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم، وشهد شهادة الحق، وقال: يا رسول الله، إن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فمر من يسيرني إلى الطريق، فأمر من يُسَيِّره، فخرج حتى قدم مكة. فلما سمع به المشركون جاءوه فقالوا: يا ثُمامة، صَبَوْت وتركَت دين آبائك، فقال: لا أدري ما تقولون، إلا أني أقسمت برب هذه البنية لا يصل إليكم من اليمامة شيء مما تنتفعون به، حتى تتبعوا محمدًا عن آخركم، وكان مِيرة قريش ومنافعهم من اليمامة، ثم خرج فحبس عنهم ما كان يأتيهم منها من مِيرتهم ومنافعهم، فلما أضَرَّ بهم كتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم "أن عهدنا بك وأنت تأمر بصلة الرحم، وتحض عليها، وإن ثمامة قد قطع مِيرتنا وأَضَرَّ بنا فإنْ رأيت أن تكتب إليه أن يخلي بيننا وبين مِيرتنا، فافعل، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن خلِّ بين قومي وبين ميرتهم. وكان ثُمامة حين أسلم قال: "يا رسول الله، لقد قدمت عليكَ وما على وجه الأرض وجه أبغض إليّ من وجهك، ولا دين أبغض إليّ من دينك، ولا بلد أبغض إليّ من بلدك، وما أصبح على الأرض وجه أحب إليّ من وجهك، ولا دين أحب إلى من دينك، ولا بلد أحب إليّ من بلدك". وقال محمد بن إسحاق: ارتد أهل اليمامة عن الإِسلام غير ثمامة بن أُثال ومن تبعه من قومه، فكان مقيمًا باليمامة ينهاهم عن اتّباع مُسَيْلمة وتصديقه، ويقول: إياكم وأمرا مظلمًا لا نور فيه، وإنه لشقاء كتبه الله عَزَّ وَجَلَّ على من أخذ به منكم، وبلاء على من لم يأخذ به منكم يا بني حنيفة. فلما عَصَوْه ورأى أنهم قد أصفقوا على اتباع مسيلمة، عزم على مفارقتهم، ومر العلاء بن الحضرميّ ومن معه على جانبهم، فلما بلغه ذلك قال لأصحابه من المسلمين: إني والله ما أرى أنْ أُقيم مع هؤلاء بعدما قد أحدثوا، وإن الله تعالى لَضَارِبُهم ببلية لا يقومون بها ولا

لطائف إسناده

يقعدون، وما نرى أن نتخلف عن هؤلاء وهم مسلمون، وقد عرفنا الذي يريدون، وقد مروا قريبًا، ولا أرى إلا الخروج، فمن أراد الخروج منكم فليخرج، فخرج إلى العلاء بن الحضرميّ، ومعه أصحابه من المسلمين، فكان ذلك قد فتّ أعضاد عدوهم حين بلغهم مدد بني حنيفة، وقال ثمامة في ذلك: دعانا إلى ترك الديانة والهدى ... مسيلمةُ الكذاب إذ جاء يسجع فيا عجبًا من معشر قد تتابعوا ... له في سبيل الغَيّ والغي أشنع وفي البعد عن دار وقد ضل أهلها ... هدى واجتماع كل ذلك مربع وأنشد أيضًا: أهم بترك القول ثم يردني ... إلى القول إنعام النبيِّ محمدِ شكرت له فكي من الغُل بعدما ... رأيت خيالًا من حسام مهندٍ وكان في ارتحاله إلى ابن الحضرمي يقاتل معه المرتدين من أهل البحرين، فلما ظفروا اشترى ثمامة حلة كانت لكبيرهم، فرآها عليه ناسٌ من بني قيس بن ثعلبة، فظنوا أنه هو الذي قتله وسلبه، فقتلوه. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وبالإفراد في موضع، وفيه السماع والقول، ورواته ما بين بصريّ ومدنيّ، أخرجه البخاريّ في الصلاة والأشخاص والمغازي، ومسلم في المغازي، وأبو داود في الجهاد، والنّسائيّ في الطهارة والصلاة. ثم قال المصنف: باب الخيمة في المسجد للمرض وغيرهم أي جواز الخيمة في المسجد لأجل المرضى جمع مريض.

الحديث السادس والستون

الحديث السادس والستون حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ يَحْيَى قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أُصِيبَ سَعْدٌ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فِي الأَكْحَلِ، فَضَرَبَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- خَيْمَةً فِي الْمَسْجِدِ لِيَعُودَهُ مِنْ قَرِيبٍ، فَلَمْ يَرُعْهُمْ وَفِي الْمَسْجِدِ خَيْمَةٌ مِنْ بَنِي غِفَارٍ إِلاَّ الدَّمُ يَسِيلُ إِلَيْهِمْ فَقَالُوا يَا أَهْلَ الْخَيْمَةِ، مَا هَذَا الَّذِي يَأْتِينَا مِنْ قِبَلِكُمْ فَإِذَا سَعْدٌ يَغْذُو جُرْحُهُ دَمًا، فَمَاتَ فِيهَا. قوله: يوم الخندق، ويسمى يوم الأحزاب. قوله: في الأكحل، عرقٌ في اليد، ويقال له النَّسا في الفخذ، وفي الظهر الأبهر. وقيل: الأكحل هو عرق الحياة، ويدعى نَهْر البدن، وفي كل عضو منه شعبة لها اسم على حدة، فإذا قطع في اليد لم يَرْقَ الدم. وقوله: فضرب خيمة، أي نصب خيمة وأقامها على أوتاد مضروبة في الأرض. وقوله: فلم يَرُعْهم، أي بضم الراء وسكون العين المهملة، أي يفزعهم. قال الخطابيّ: المعنى أنهم بينما هم في حال طمأنينة حتى أفزعتهم رؤية الدّم، وقال غيره: المراد بهذا اللفظ السرعة لا نفس الفزع. وقوله: وفي المسجد خيمة، هذه جملة اعتراضية بين الفعل، والفاعل الذي هو إلا الدم والتقدير: فلم يرعهم إلا الدم، والمعنى فراعهم الدم. وقوله: من بني غِفار، في ابن إسحاق أن الخيمة كانت لرُفيدة الأسلمية، فيحتمل أن تكون كان لها زوج من بني غفار. وقوله: من قِبَلكم، بكسر القاف وفتح الموحدة، أي جهتكم. وقوله: يغذو بغين وذال معجمتين، أي يسيل. وقوله: فمات فيها، أي في الخيمة أو في تلك المرضة. وللكشميهنيّ والمستمليّ "فمات منها" أي الجراحة، وفي رواية ابن خزيمة في آخر هذه القصة

رجاله خمسة

"فإذا الدم له هدير"، وعند أحمد عن عائشة "فانفجر كلْمُه وكان قد برىء إلا مثل الخُرْص" بضم الخاء وسكون الراء، وهو من حُلِيَّ الأُذن. ولمسلم عن هشام بن عُروة "فما زال الدم يسيل حتى مات" استدل مالك وأحمد بهذا الحديث على أن النجاسات ليست إزالتها فرضًا، ولو كانت فرضًا لما أجاز صلى الله تعالى عليه وسلم للجريح أن يسكن في المسجد، وبه قال الشافعيّ في القديم. ولقائل أن يقول إن سكنى سعد في المسجد كان بعد اندمال جرحه، والجرح إذا اندمل زال ما يُخشى من نجاسته، وفيه جواز سكنى المسجد للعذر. وفيه أن السلطان أو العالم إذا يشق عليه النهوض إلى عيادة مريض يزوره ممن يهمه أمره، ينقل المريض إلى موضع تخف عليه فيه زيارته، ويقرب منه. رجاله خمسة: وفيه ذكر سعد. الأول: زكرياء بن يحيى، وقد مرَّ في الثالث عشر من كتاب الوضوء، ومر عبد الله بن نمير في الثالث من كتاب التيمم، ومرَّ هشام وأبوه عروة وعائشة في الثاني من بدء الوحي. وأما سعد، فالمراد به سعد بن معاذ بن النعمان بن امرىء القيس بن زيد بن عبد الأشهل بن جُشَم بن الحارث بن الخزرج بن النَّبيت. وهو عمرو بن مالك بن الأوس الأنصاريّ الأشهليّ يكنى أبا عمر، أمه كبشة بنت رافع، لها صحبة، أسلم بالمدينة بين العقبة الأولى والثانية على يدي مصعب بن عمير. وأما أسلم قال لبني عبد الأشهل: كلام رجالكم ونسائكم عليّ حرامٌ إنْ لم تسلموا، فأسلموا، فكان من أعظم الناس بركة في الإِسلام. شهد بدرًا وأحدًا والخندق، ورُمِي يوم الخندق بسهم فعاش شهرًا ثم انتقض جُرحه، والذي رماه بسهم حبّان بن العَرقة، وقال: خذها وانا ابن العرقة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عرق الله وجهَه في النار" والعرقة هي ثُلابة بنت سعيد بن سهم بن عمرو بن هُصَيص، وحبّان ابنها هو ابن عبد مناف بن منقذ بن عمرو بن

معيص بن عامر بن لؤي، وقيل: إن العرقة تكنى أم فاطمة، وإنما قيل لها العرقة لطيب ريحها. وروى ابن إسحاق في قصة الخندق عن عائشة قالت: كنت في حصن بني حارثة، وأم سعد بن معاذ معي، فمر سعد بن معاذ وهو يقول: لَبِّث قليلًا يلحق الهيجا جمل ... ما أحسن الموت إذا حان الأجل فقالت أمه: الحق يا بني فقد تأخرت، فقلت: يا أم سعد، لوددتُ أن درعَ سعدِ أسبغ من هذا، فأصابه السهم من حيث خافت عليه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بضرب فسطاط في المسجد لسعد بن معاذ، فكان يعوده في كل يوم، وكان موته بعد الخندق بشهر، وبعد "بني قريظة" بليال. قال جابر: رُمي يوم الأحزاب سعد بن معاذ، فقطعوا الحلة، فحسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانتفخت يده، ونزفه الدم، فلما رأى ذلك قال: اللهم لا تخرج نفسي حتى تقر عيني في بني قريظة، فاستمسك عرقة، فما قطرت قطرة حتى نزل بنو قريظة على حكمه. وكان حكمه فيهم أن يُقْتَلَ رِجالهم، ويسبى نساؤهم وذريتهم يستعين بهم المسلمون. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات" وأما فرغ من قتلهم انفتق عرقه فمات. وروي من حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لقد نزل الملائكة في جنازة سعد بن معاذ سبعون ألفًا ما وطئوا الأرض، وروى حديث أنس قال: أما حملنا جنازة سعد بن معاذ، قال المنافقون: ما أخف جنازته. وكان رجلًا طُوالًا ضخما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الملائكة حملته" ورُويَ عن عائشة أنها قالت: كان في بني عبد الأشهل ثلاثة، لم يكن بعد النبي صلى الله عليه وسلم أحد من المسلمين أفضل من سعد بن معاذ، وأُسَيد بن حُضَير، وعبّاد بن بِشر. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ" وقال رسول الله صلى الله عليه

وسلم في حُلَّة سيراء رآها "لمنديلٌ من مناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منها" وقال:"لو نجا أحد من ضغطة القبر نجا منها سعد. وقال: "إن جبريل عليه السلام، نزل في جنازته مُعْتَجِرًا بعمامة من استبرق، وقال: يا رسول الله، من هذا الذي فتحت له أبواب السماء، واهتز له العرش؟ فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعًا يجر ثوبه، فوجد سعدًا قد قُبض، وقال رجل من الأنصار: وما اهتز عرش الله من موت هالك ... سمعنا به إلا لسعد أبي عمر وروى سعيد بن المسيب عن ابن عباس قال: قال سعد: ثلاثٌ أنا فيهن رجلٌ يعني كما ينبغي، وما سوى ذلك فأنا رجل من الناس، ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا قط إلا علمت أنه حق من الله، ولا كنت في صلاة قط فشغلتُ نفسي بغيرها حتى أقضيها, ولا كنت في جنازة قط فتحدثت نفسي بغير ما تقول، ويقال لها، حتى أنصرف عنها. قال سعيد بن المسيب: هذه الخصال ما كنت أظنها إلا في نبي. وروى البخاريّ من حديث أبي سعيد الخُدريّ أنّ بني قُريظة لما نزلوا على حكم سعد، وجاء على حمار، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "قوموا إلى سيدكم". وأخرج ابن إسحاق أن أُم سعد قالت لما مات سعد: ويل ام سعد سعدا حزامة وجدا ... وسيدًا معدّا سد به مسدًا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كل نادبة تكذب إلا نادبة سعد". وأخرج الطبرانيّ عن ابن عباس قال: جعلت أم سعد تقول: ويل امِّ سعد سعدًا حزامة وجدا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تزيدي على هذا. كان والله ما علمت حازمًا، وفي أمر الله قويًا. له حديث موقوف في البخاريّ، وروى عنه ابن مسعود، وكان استشهاده سنة خمس.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، والعنعنة في موضعين، وفيه القول، وفيه أن زكريا من أفراد البخاريّ، ورواته ما بين كوفيّ ومدنيّ، أخرجه البخاريّ مقطعًا في الصلاة وفي المغازي والهجرة، ومسلم في المغازي، وأبو داود في الجنائز، والنّسائيّ في الصلاة ثم قال المصنف: باب إدخال البعير في المسجد للعلة أي للحاجة، وهي أعم من أن تكون للضعف أو غيره، وقيل: المراد بالعلة الضعف، واعترض عليه بأن هذا ظاهر في حديث أم سلمة دون حديث ابن عباس. ثم قال: وقال ابن عباس: "طاف النبي صلى الله عليه وسلم على بعير" وهذا التعليق يحتمل أن يكون المصنف أشار به إلى ما أخرجه أبو داود عن ابن عباس "أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قَدِم مكة وهو يشتكي، فطاف على راحلته" فيكون موافقًا للترجمة كحديث أم سلمة. وجاء أيضًا عند مسلم عن جابر أنه إنما طاف على بعيره، ليراه الناس، وليسألوه، فإن الناس غَشُوه، واللفظ المعلق رواه مسندًا في باب "من أشار إلى الركن" في كتاب الحج. وابن عباس مرَّ في الخامس من بدء الوحي.

الحديث السابع والستون

الحديث السابع والستون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنِّي أَشْتَكِي. قَالَ طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ. فَطُفْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ، يَقْرَأُ بِالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ. قوله: إني أشتكي، في محل النصب مفعول شكوت، وقوله: فطفت، أي راكبة على البعير، حتى يدل الحديث على الترجمة. وقوله: إلى جنب البيت، أي الكعبة؛ لأن البيت عَلَمٌ عليها، وصلاته إلى جنب البيت من أجل أنّ المقامَ كان حينئذ ملصقًا بالبيت قبل أن ينقله عمر، رضي الله تعالى عنه، من ذلك المكان إلى صحن المسجد. وقوله: يقرأ بالطور، أي بسورة الطور، ولم تذكر واو القسم, لأن لفظ الطور صار عَلَما للسورة. قال ابن بطال: في هذا الحديث جوازُ دخول الدواب التي يؤكل لحمها المسجدَ إذا احتيج إلى ذلك؛ لأن بولها لا ينجسه، بخلاف غيرها من الدواب. قال الفتح: وتُعُقّب بأنه ليس في الحديث دلالة على عدم الجواز مع الحاجة، بل ذلك دائر على التلويث وعدمه، فتحيث يخشى التلويث يمتنع الدخول. وقد قيل: إن ناقته عليه الصلاة والسلام كانت مُدَرَّبة معلَّمة، فيؤمن منها ما يحذر من التلويث وهي سائرة، فيحتمل أن يكون بعير أم سلمة كان كذلك. قلت: في هذا التعقيب نظرٌ؛ لأن التلويث لا يؤمن منه حالة دخول الدواب في المحل، مع طول المكث فيه. ودل إدخال البعير على أن خشية تلويثه غير ضارة، لطهارة رَجِيعها، وكون الناقة مدربة معلمة لا يوجب الأمن رجيَعها، كما

رجاله ستة

هو مشاهد في كل معلمة، وأبعد من هذا قول من قال: يحتمل أن تكون ناقته عُصمت من التلويث حينئذ، فلا يقاس غيره عليه، فإن الخصائص لا تثبت بالاحتمال، والأصل في أفعاله عليه الصلاة والسلام التشريعُ. وفيه أن النساء ينبغي لهن أن يطفنَ من وراء الرجال؛ لأن للطواف شَبَهًا للصلاة، ومن سنة النساء فيها أن يكنَّ خلف الرجال، فكذلك في الطواف، وفيه أن راكب الدابة ينبغي له أن يتجنب ممر الناس ما استطاع، ولا يخالط الرجالة وفيه جواز الطواف راكبًا للمعذور، ولا كراهة فيه، فإن كان غير معذور، فالجمهور على أن الركوب مكروه تنزيهًا. قال في الفتح: والذي يترجح المنع، لأن طوافه عليه الصلاة والسلام، وطواف أم سَلَمة، كان قبل أن يُحَوَّط المسجد، ووقع في حديث أم سلمة "طوفي من وراء الناس" وهذا يقتضي منع الطواف في المطاف، وإذا حُوِّط المسجد امتنع داخله، إذ لا يؤمن التلويث، فلا يجوز مع التحويط، بخلاف ما قبله، فإنه كان لا يحرم التلويث، كما في السعي. قال: وعلى هذا فلا فرق في الركوب بين البعير والحمار. قلت: لم نطلع على ما بنى عليه ما قال، من كون المسجد لم يكن في الزمن القديم غير محوط، فانظر اين مستنده في ذلك؟ رجاله ستة: الأول: عبد الله بن يوسف، وقد مرَّ هو ومالك في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ عروة بن الزبير في الثاني منه، ومرَّ محمد بن عبد الرحمن في التاسع والثلاثين من كتاب الغُسل، ومرت زينب بنت أم سلمة في السبعين من كتاب العلم، ومرت أمها أم سلمة في السابع والخمسين. فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد، والإخبار كذلك، والعنعنة في أربعة مواضع، وفيه القول، ورواية تابعيّ عن تابعيّ، وهما محمد وعروة، ورواية صحابية عن صحابية، ورواته كلهم مدنيون ما عدا شيخ البخاريّ، أخرجه البخاريّ هنا وفي الصلاة أيضًا وفي التفسير وفي الحج، ومسلم وأبو داود

في الحج، والنّسائي فيه وفي التفسير، وابن ماجه في الحج. ثم قال المصنف: كذا هو في الأصل بلا ترجمة، وكأنه بَيّض له فاستمر كذلك. وأما. قول ابن رشيد: إن مثل هذا إذا وقع للبخاريّ، كان كالفصل من الباب، فإنما هو حيث يكون بينه ويين الباب الذي قبله مناسبة، بخلاف مثل هذا الموضع، وأما وجه تعلقه بأبواب المساجد، فمن جهة أن الرجلين تأخرا مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في المسجد، في تلك الليلة المظلمة، لانتظار صلاة العشاء معه، فعلى هذا كان يليق أن يترجم له فصل "المشي إلى المسجد في الليلة المظلمة"، ويلمح بحديث "بَشَّر المَشّائين في الظُّلَم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة". أخرجه أبو داود وغيره عن بريدة.

الحديث الثامن والستون

الحديث الثامن والستون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ قَالَ حَدَّثَنَا أَنَسٌ أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- خَرَجَا مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، وَمَعَهُمَا مِثْلُ الْمِصْبَاحَيْنِ يُضِيآنِ بَيْنَ أَيْدِيهِمَا، فَلَمَّا افْتَرَقَا صَارَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَاحِدٌ حَتَّى أَتَى أَهْلَهُ. قوله: مظلمة، بكسر اللام، يقال: أظلم الليل، وظَلِم بكسر اللام، بمعنى. وقوله: يضيآن، مِن أضاء يقال: ضاءت النار وأضاءت، بمعنى. وقوله: بين أيديهما، أي: قدامهما. وهو مفعول فيه. وفي رواية عبد الرزاق عن معمر أن أُسَيد بن حُضير ورجلًا من الأنصار تحدثا عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، حتى ذهب من الليل ساعة، في ليلة شديدة الظلمة، ثم خرجا وبيد كل منهما عُصَيَّة، فاضاءت عصا أحدهما حتى مشيا في ضوئها، حتى إذا افترقت بهما الطريق أضاءت عصا الآخر، فمشى كل منهما في ضوء عصاهُ حتى بلغ أهله. وفي رواية أحمد والحاكم في المستدرك، عن حماد بن سلمة، أن أسَيد بن حُضير وعبّاد بن بِشر كانا عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في ليلة ظلماء حِندس، فلما خرجا أضاءت عصا أحدهما، فمشيا في ضوئها، فلما افترقت بهما الطريق، أضاءت عصا الآخر. وفي حديث الباب إكرام الله تعالى لهذين الصحابيين بهذا النور الظاهر، وادَّخر لهما يوم القيامة ما هو أعظم من ذلكَ وأتم، وفيه دلالة ظاهرة لكرامة الأولياء، والرد على من ينكر ذلك.

رجاله خمسة

ووقع مثله لقتادة بن النعمان فيما ذكره ابن عساكر وغيره، أنه خرج من عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وبيده عُرجون فأضاء العرجون. وفي دلائل البيهقيّ أن أبا عَبس كان يصلي مع النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم الصلوات، ثم يرجع إلى بني حارثة، فخرج في ليلة مظلمة مطيرة، فنورت عصاه حتى دخل دار بني حارثة. وروي عن حمزة بن عمرو الأسلمي أنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فنفرنا في ليلة مظلمة، فأضاءت أصابعي حتى جمعوا ظهرهم وما هلك منهم، وإن أصابعي لتنير. وفي لفظ "نفرت دوابُّنا ونحن في مشقّة ... " الحديث. رجاله خمسة: وفيه ذكر رجلين مبهمين. الأول: محمد بن المثنى، وقد مرَّ في التاسع من كتاب الإيمان, ومرَّ هشام الدّستوائي في السابع والثلاثين منه، ومرَّ قتادة وأنس في السادس منه، ومرَّ معاذ بن هشام في الثامن والستين من كتاب العلم، والرجلان المذكوران أحدهما عباد بن بشر قطعًا، والثاني، الصحيح أنه أُسَيد بن حضير، وقيل: عُوَيمْ بن الساعدة، ولنذكر تعريف الثلاثة هنا تتميما للفائدة. الأول: عباد بن بشر بن وقْش بن زغبة بن زَعُوراء بن عبد الأشهل الأنصاريّ الأشهلىّ، أبو بِشر، وقيل: أبو الربيع، أسلم بالمدينة على يد مصعب بن عمير قبل إسلام سعد بن معاذ، وأسيد بن حُضير شهد بدرًا وأحدًا والمشاهد كلها، وكان من فضلاء الصحابة. رُوي عن أنس بن مالك أن عصاه كانت تضيء له إذ كان يخرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم، إلى بيته ليلًا، وعرض له ذلك مرة مع أُسيد بن حُضير، فلما افترقا أضاءت لكل واحد منهما عصاه. وروى أنسٌ أيضًا قال: كان عبّاد بن بشر، ورجل آخر من. الأنصار، عند النبي صلى الله عليه وسلم يتحدثان في ليلة ظلماء، حِنْدس، فخرجا من عنده، فأضاءت عصا عباد بن بشر حتى انتهى عباد، وذهب، فأضاءت عصا الآخر.

ورُوي عن عائشة، رضي الله عنها قالت: ثلاثة من الأنصار لم يكن أحدٌ يَعْتَدُّ عليهم فضلًا، كلهم من بني عبد الأشهل: سعد بن معاذ وأسيد بن حُضير وعباد بن بشر. وروي عنها أيضًا قالت: كان في بني عبد الأشهل ثلاثة لم يكن بعد النبي صلى الله تعالى وسلم من المسلمين أحد أفضل منهم: سعد بن معاذ وأُسيد بن حُضير وعباد بن بشر. قال عباد بن عبد الله: والله ما سماني أبي عبادًا إلا به، وكان عباد بن بشر ممن قَتَل كعب بن الأشرف اليهوديّ، الذي كان يؤدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحرض على أذاه. وقال عباد بن بشر في ذلك شعرًا: صرختُ به فلم يعرض لصوتي ... ووافى طالعًا من رأس جدرِ فعدت له فقال من المنادي ... فقلت له أخوك عباد بن بشر وهذي دِرعنا رهنًا فخذها ... لشهر إن وفي أو نصف شهر فقال: معاشر سَغِبوا وجاعوا ... وما عدموا الغنى من غير فقر فأقبلَ نحونا يهوي سريعًا ... وقال لنا: لقد جئتم لأمر وفي أيماننا بيضٌ جداد ... مدربة بها الكفارَ نفري فعانقه ابن مَسلمة المروي ... بها الكفارَ كالليث الهزبر فكان الله سادسَنا فأُبنا ... بأنعم نعمة وأعز نصر وجاء برأسه نفرٌ كرامٌ ... هم ناهيك من صدق وَبِرِّ والذين قتلوا كعبَ بن الأشرف محمدُ بن مَسْلَمة والحارثُ بن أوس وعباد بن بشر وأبو عبس بن جَبر وأبو نائلة سلكان بن وقش الأشهلي. روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: تهجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، فسمع صوت عباد بن بشر فقال: يا عائشة، صوت عباد بن بشر هذا؟ قلت: نعم، قال: اللهم اغفر له. روى عنه عباد بن بشر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا معشر الأنصار، أنتم الشِّعار والناس الدِّثار، فلا أُوتين من قبلكم" ويُحفظ العباد بن بشر غير هذا الحديث. فقُتِل يومَ اليمامة شهيدًا، وكان له يومئذ بلاءً وغَناء، فاستشهد يومئذ وهو ابن خمس وأربعين سنة.

باب الخوخة والممر في المسجد

الثاني: أسيد بن حُضير وقد مرَّ في الثالث من كتاب التيمم. والثالث: عُوَيم بن الساعدة بن عابس بن قيس بن النعمان بن زيد بن أمية بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس الأنصاريّ الأوسي. وقال ابن إسحاق: أصله من بَليّ، وحالف بني أمية بن زيد. كان ممن شهد العقبة ويدرًا وأحدًا والمغازي. ومات في حياة النبي صلى الله عليه وسلم. هذا قول الواقديّ. وقال غيره: مات في خلافة عمر بن الخطاب، ويؤيده ما في الصحيحين عن ابن عباس عن عمر في حديث السقيفة، قال عمر: فَلَقِيَنا رجلان صالحان من الأنصار، وزاد الإسماعيلي أن الرجلين الذين لقيا عمر وأبي بكر عويمُ بن ساعدة ومعنُ بن عديّ، فأما عُويم فهو الذي بَلَغَنا أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: مَن الذين قال الله تعالى فيهم: {رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} قال: نِعم المرء منهم عويمُ بن الساعدة. وفي تاريخ البخاريّ دُعي عمر إلى جنازة عويم بن ساعدة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم آخى بينه وبين عمر فقال: ما نصبت راية لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وتحت ظلها عويم بن ساعدة. وقال ابن إسحاق: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه ويين حاطب بن أبي بلتعة، وليس في الصحابة عُويم سواه إلا عويم الهذليّ، وقيل: هذا عويمر. مات بالمدينة وهو ابن خمس أو ست وستين سنة. فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، ويالإفراد في موضع، والعنعنة في موضع، ورجاله كلهم بصريون. أخرجه البخاريّ في علامات النبوءة وفي مناقب الأنصار وفي منقبة أُسيد بن حُضير. ثم قال المنصف: باب الخُوخة والممر في المسجد الخُوْخَة، بضم الخاء، طاقة في الجدار تفتح لأجل الضوء, ولا يشترط عُلُوّها، وحيث تكون سفلى يمكن الاستطراق منها, لاستقراب الوصول إلى

مكان مطلوب، وهو المقصود هنا, ولذلك أُطلق عليها "باب" في الحديث الآتي، وقيل: لا يطلق عليها باب إلا إذا كانت تغلق، وهي قد تكون بمصراع، وقد لا تكون. والمَمَرّ بفتح الميمين وتشديد الراء، موضع المرور. والظاهر أن مراد البخاريّ من هذه الترجمة الإشارةُ إلى جواز اتخاذ الخوخة والممر في المسجد, لأن حديث الباب يدل على ذلك.

الحديث التاسع والستون

الحديث التاسع والستون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ خَطَبَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ". فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ فَقُلْتُ فِي نَفْسِي مَا يُبْكِي هَذَا الشَّيْخَ إِنْ يَكُنِ اللَّهُ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- هُوَ الْعَبْدَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا. قَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ لاَ تَبْكِ، إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِى صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلاً مِنْ أُمَّتِي لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الإِسْلاَمِ وَمَوَدَّتُهُ، لاَ يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ بَابٌ إِلاَّ سُدَّ إِلاَّ بَابُ أَبِي بَكْرٍ. قوله: عن عبيد بن حُنين عن بُسر بن سعيد، هو في أكثر الروايات، وسقط في رواية الأصيليّ ذكرُ بسر بين عبيد وأبي سعيد، فصار عن عبيد عن أبي سعيد، وهو صحيح في نفس الأمر، لكن محمد بن سنان إنما حدث به كما في بقية الروايات، وقد قال البخاريّ: إنه خطأ، وإنما هو عن عبيد، وعن بسر بواو العطف، فعلى هذا يكون أبو النضر سمعه من شيخين حدثه كل منهما به، عن أبي سعيد، فتحذف الواو خطأ من محمد بن سنان أو من فُليح. ويؤيد هذا رواية مسلم له عن سعيد بن منصور عن فليح عن أبي النضر عن عبيد وبُسر، جميعًا عن أبي سعيد، ورواه المصنِّف في مناقب أبي بكر عن أبي عامر العَقْديّ، عن فُليح عن أبي النضر عن بُسر وحده، فكأنَ فليحًا كان يجمعهما مرة، ويقتصر مرة على أحدهما. ورواه مالك عن أبي النضر عن عبيد وحده، عن أبي سعيد، أخرجه المصنف في الهجرة، فانتقاد الدارقطنيّ على

المؤلف هذا الحديث مع إفصاحه بما ذكر، لا وجه له، وليست هذه بعلة قادحة. وقوله: بين الدنيا وبين ما عنده، في رواية مالك الآتية في الهجرة إلى المدينة "بين أن يدنيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده". وقوله: فقلت في نفسي: ما يُبكي هذا الشيخ؟ وفي رواية المناقب: فعجبنا لبكائه، وفي رواية مالك، "فقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ يخبر رسول صلى الله تعالى عليه وسلم عن عبد، وهو يقول: فديناك" ويجمع بان أبا سعيد حدّث نفسه بذلك، فوافق تحديث غيره بذلك، فنقل جميع ذلك. وفي حديث ابن عباس الآتي بعد هذا، كان في مرضه الذي مات فيه، ولمسلم عن جُنْدُب: سمعت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقول. قبل أن يموت بخمس ليال. وفي حديث أبيّ بن كعب الآتي قريبًا "إن أحدث عهدي بنبيكم قبل وفاته بخمس ... " الخ وكأن أبا بكر رضي الله عنه، فهم الرمز الذي أشار به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من قرينة ذكره ذلك في مرض موته، فاستشعر منه أنه أراد نفسه، فلذلك بكى. وقوله: إن يكن الله خير عبدًا، كذا للأكثر، وللكشميهنىّ: إن يكن لله عبد خير، وهمزة إنْ مكسورة على أنها شرطية، وجوّز ابن التين فتحها على أنها تعليلية، وفيه. نظر. وقوله: وكان أبو بكر أعلمنا، وفي رواية مالك. وكان أبو بكر هو أعلمنا به، أي بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، أو بالمراد من الكلام المذكور، حيث فهم أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يفارق الدنيا، فبكى حزنًا على فراقه، وعبر بعبد بالتنكير، ليظهر نباهة أهل العرفان في تفسير هذا المبهم، فلم يفهم المقصود غير صاحبه الخصيص به، فبكى وقال: بل نفديك بأموالنا وأولادنا، فسكَّن الرسول جَزَعَه بقوله: يا أبا بكر، لا تبك. وقوله: إن من أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبو بكر، وفي رواية مالك: إنّ مِن أمنّ الناس عليّ، بزيادة مِنْ وقال فيها "أبا بكر" بالنصب للأكثر، ولبعضهم "أبو بكر" بالرفع. وقد قيل: إن الرفع خطأ، والصواب النصب؛ لأنه اسم إنّ، ووجه الرفع بتقدير ضمير الشأن، أي إنَّ، والجار والمجرور بعده خبر

مقدم، وأبو بكر مبتدأ مؤخر، وعلى أن مجموع الكنية اسم، فلا يعرب ما وقع فيها من الأداة، أو أنَّ إنّ بمعنى نعم، أو أنّ مِنْ زائدة على رأي الكسائي. وقال ابن برّي: يجوز الرفع إذا جعلت "مَنْ صفة لشيء محذوف، تقديره إنّ رجلًا أو إنسانًا من أمن الناس، فيكون اسم إن محذوفًا، والجار والمجرور في موضع الصفة، وأبو بكر الخبر. وقوله: أَمَنَّ، أفعل تفضيل من المَنّ، بمعنى العطاء والبذل، أي كثرهم جودًا لنا بنفسه وماله، وليس من المَنّ الذي هو الاعتداد بالصنيعة المفسد لها, ولأنه لا مِنَّةَ لأحد عليه، عليه الصلاة والسلام، بل المنة الله ولرسوله في قبول ذلك. وقال القرطبيّ: هو من الامتنان، يعني أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه، له من الحقوق ما لو كان لغيره لامتَنَّ بها، وذلك لأنه بادر بالتصديق ونفقة الأموال وبالملازمة والمصاحبة، إلى غير ذلك، بانشراح صدر، ورسوخ علم بأن الله ورسوله لهما المِنّة في ذلك، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام، بجميل أخلاقه، وكرم أعراقه، اعترف بذلك عملًا بشكر المنعم. ورواية حديث الباب توافقها رواية ابن عباس الآتية بعده "ليس من الناس أحد أَمَنَّ على في نفسه وماله من أبي بكر" وأما الرواية التي فيها "من" فإن قلنا زائدة، فلا تخالف، وإلا فتحمل على أن المراد أن لغيره مشاركة ما في الأفضلية، إلا أنه مقدم في ذلك، بدليل ما تقدم من السياق وما تأخر، ويؤيده ما رواه الترمذيّ عن أبي هُريرة بلفظ "ما لأحد عندنا يدٌ إلا كافأناه عليها، ما خلا أبا بكر، فإن له عندنا يدًا يكافئه الله بها يوم القيمة" فإن ذلك يدل على ثبوت يد لغيره، إلا أنّ لأبي بكر رُجحانًا"، فالحاصل أنه حيث أطلق أراد أنه أرجحهم في ذلك، وحيث لم يطلق أراد الإشارة إلى من شاركه في شيء من ذلك. ووقع بيان ذلك في حديث آخر عن ابن عباس، رفعه، نحو حديث الترمذيّ، أخرجه الطبرانيّ" وزاد منه اعتق فيه بلالا ومنه هاجر بنبيه، وعنه في طريق أخرى ما أحد أعظم عندي يدًا من أبي بكر واساني بنفسه وماله، وأنكحني ابنته أخرجه الطبراني.

وفي حديث مالك بن دبنار عن أنس، رفعه "أن أعظم الناس علينا مَنّاً أبو بكر، زوَّجني ابنته، وواساني بنفسه، وإن خير المسلمين مالًا أبو بكر، أعتق منه بلالًا، وحملني إلى دار الهجرة" أخرجه ابن عساكر، وأخرج عن عليّ نحَوه. وجاء عن عائشة "مقدار المال الذي أنفقه أبو بكر" فروى ابن حبّان عنها أنها قالت: أنفق أبو بكر على النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم أربعين ألف درهم. وروى الزبير بن بكّار عنها أنه لما مات، ما ترك ديناراً ولا درهمًا. وقوله: فلو كنتُ متخذًا خليلًا من أمتي، كذا للأربعة، ولغيرهم: ولو كنت متخذًا من أمتي خليلًا، أي لو كنت أختار وأصطفي. وقوله: لاتخذتُ أبا بكر، أي لكونه متأهلًا لأن يتخذه عليه الصلاة والسلام خليلاً، لولا المانع، وهو أنه عليه الصلاة والسلام امتلأ قلبه بما تخلَّله من معرفة الله تعالى ومحبته ومراقبته، حتى كأنه مزجت أجزاء قلبه بذلك، فلم يتسع قلبه لخليل آخر. وعلى هذا لا يكون الخليل إلا واحدًا، وزعم الفراء أن معنى الحديث لو كنت أخص أحدًا بشيء من العلم دون الناس لخصصتُ به أبا بكر؛ لأن الخليل من تَفَرَّد بخلة من الفضل، لا يشاركه فيها أحد. وقيل: معناه لو كنت منقطعًا إلى غير الله لانقطعت إلى أبي بكر، لكن هذا ممتنع لامتناع ذلك. والخليل هو المُخَالّ، أي الذي يخالُّك، أي يوافقك في خلالك، أو يسايرك في طريقتك، من الخَلّ، وهو الطريق في الرمل، أو يَسُدُّ خَلَلَك كما تسد خَلَلَه، أو يداخلك خلاة منازلك، وقيل: أصل الخُلّة الانقطاع، فخليل الله المنقطع إليه، وقيل: الخلة صفاء المودة بتخلل الأسرار. وقيل: الخليل مَنْ لا يتسع قلبه لغير خليله. وقال عياض: أصل الخلة الافتقار والانقطاع، فخليل الله المنقطع إليه، وقيل الخلة صفاء المودة بتخلل الأسرار. وقيل: الخليل من لا يتسع قلبه لغير خليله. وقال عياض: أصل الخلة الافتقار والانقطاع، فخليل الله المنقطِع إليه لقصرِهِ حاجَتَه عليه. وقيل: الخلة الاختصاص بأصل الاصطفاء. وقيل: الخليل من الخَلّة، بالفتح، وهي الحاجة، فعلى هذا، فهو المحتاج إلى من يخاللَه.

وسمى إبراهيم عليه الصلاة والسلام خليلَ الله, لأنه وإلى فيه وعادى فيه. وقيل: سمى بذلك لانقطاعه إلى ربه وقصره حاجته عليه. وقيل: سمي بذلك لأنه تخلل بخلال حسنة، وأخلاق كريمة، وهذا كله بالنسبة إلى الإنسان. وأما خُلة الله للعبد، فبمعنى نصره له، ومعاونته. واختلف في المودة والخلة والهبة والصداقة، هل هي مترادفة أو مختلفة؟ قال أهل اللغة: الخُلة الصداقة والمودة. وقيل: الخُلة أرفع رتبة، وهو الذي يشعر به حديث الباب، وكذا قوله عليه الصلاة والسلام "لو كنت مُتخذًا خليلًا غير ربي" فإنه يشعر بأنه لم يكن له خليل من بني آدم، وقد ثبتت محبته لجماعة من أصحابه كأبي بكر وعمر وعائشة وفاطمة والحسنين وغيرهم. ولا يعكر على هذا اتصاف إبراهيم عليه الصلاة والسلام بالخُلة، ومحمد صلى الله عليه وسلم بالمحبة، لتكون المحبة أرفع رتبة من الخُلة؛ لأنه يجاب عن ذلك بان محمدًا صلى الله تعالى عليه وسلم قد ثبت له الأمران، فيكون رُجحانة من الجهتين. وذهب ابن فَوْرك إلى أن المحبة أعلى، لأنها صفة نبينا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو أفضل من الخليل. وقيل هما سواء، فلا يكون الخليل إلا حبيباً ولا الحبيب إلا خليلًا. وهذا هو الترادف المتقدم. وقد تواردت الأحاديث على نفي الخلة من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لأحد من الناس. قال الداوديّ: لا ينافي ذلك قول أبي هُريرة وأبي ذرٍّ وغيرهما. أخبرني خليلي صلى الله تعالى عليه وسلم؛ لأن ذلك جائز لهم، ولا يجوز للواحد منهم أن يقول: أنا خليل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ولهذا يقال: إبراهيم خليل الله، ولا يقال: الله خليل إبراهيم. قال في الفتح: لا يخفى ما فيه، قلت: الجواب عندي هو أن المنفي كونُ النبي صلى الله عليه وسلم متخذًا خليلًا غير ربه، وذلك لا ينافي أن يكون أحد متخذًا له هو، عليه الصلاة والسلام، خليلًا، إذ لم يشترطوا أنَّ الخُلة لابد أن تكون من الطرفين. ورأيت في فتح الباري في صلاة الضحى الإشارةَ إلى ما قلته بعد كَتبي له، فقال: الممتنع أن يتخذ هو صلى الله تعالى عليه وسلم غيره خليلًا، لا العكس، ولا يقال إن المخالَّة لا تتم حتى تكون من الجانبين, لأنا نقول إنما نظر الصحابي

إلى أحد الجانبين، فأطلق ذلك، أو لعله أراد مجرد الصحبة أو المحبة. وأما ما روي عن أُبيّ بن كعب قال:"إن أحدث عهدي بنبيكم قبل موته بخمس، دخلت عليه وهو يقول: إنه لم يكن نبيّ إلا وقد اتخذ من أمته خليلاً, وان خليلي أبو بكر، ألا وإنّ الله اتخذني خليلًا، كما اتخذَ إبراهيم خليلًا"، أخرجه أبو الحسن الحربيّ في فوائده، فإنه معارِضٌ حديث جُندب عند مسلم أنه سمع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقول، قبل أن يموت بخمس: إني أبرأ إلى الله تعالى أن يكون لي منكم خليلٌ، وأخرج الواحدي في تفسيره عن أبي أمامة نحو حديث أُبيّ بن كعب، دون التقييد بالخمس، قال المحب الطبريّ: فإنْ ثبت حديث أُبيّ أمكن الجمع بينهما بأنه لمّا برىء من ذلك تواضعًا لربه، وإعظاما له، أذِن الله تعالى له فيه من ذلك اليوم، أما رأى من تشوقه إليه وإكرامًا لأبي بكر بذلك، فلا يتنافى الخبران، لكن حديث أُبيّ وأبي أمامة واهيان. وقوله: ولكن أخوّة الإِسلام ومودته، وفي حديث ابن عباس الآتي بعد هذا أفضل. وأخرجه الطبراني عن خالد الحذاء بلفظ "ولكن أخُوة الإيمان والإِسلام أفضل" وأخرجه أبو يعلى عن عكرمة بلفظ "ولكن خُلة الإِسلام أفضل" وفيه إشكال، فإن الخُلة أفضل من أخوة الإِسلام؛ لأنها تستلزم ذلك وزيادة، فقيل: المراد أن مودة الإِسلام مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أفضل من مودته مع غيره، وقيل: أفضل بمعنى فاضل، ولا يعكر على ذلك اشتراك جميع الصحابة في هذه الفضيلة في نصر الدين وإعلاء كلمة الحق، وتحصيل كثرة الثواب، ولأبي بكر من ذلك أعظمه وأكثره. وقد مرَّ الخلاف في المودة والخلهّ هل هما مترادفان أم لا؟ وعلى عدم الترادف قيل: إن تغايرهما باعتبار المتعلق، وهو أنه أثبت المودة؛ لأنها بحسب الإِسلام والدين، ونفى الخلة للمعنى الذي ذكرناه، وقيل: إن الخلة أخص وأعلى مرتبة من المودة، فنفى الخاص وأثبت العام، ووقع في بعض الروايات، ولكن خُوَّة الإِسلام، بغير ألف. قال ابن بطال: لم أجد خُوّة بمعنى خُلة في كلام العرب، وفي بعض الروايات "ولكن خُلة الإِسلام" وهو الصواب. وقال ابن التين: لعل الألف

سقطت من الرواية" فإنها ثابتة في سائر الروايات. ووجَّهه ابن مالك بأنه نقلت حركة الهمزة إلى النون، فتحذف الألف، وجوز مع حذفه ضم نون لكن وسكونه. قال: ولا يجوز مع إثبات الهمزة إلا سكون النون فقط. وقوله: لا يَبْقَينَّ باب، بفتح أوله ونون التوكيد الشديدة، وفي إضافة النهي إلى الباب، يجوز لأن عدم بقائه لازم للنهي عن إبقائه، فكأنه قال: لا تُبقوه حتى لا يبقى. وقد رواه بعضهم بضم أوله على البناء المجهول، وهو واضح. وقوله: إلاَّ سد، بضم أوله، وقوله إلا باب أبي بكر، استثناء مفرغ، والمعنى لا تبقوا بابًا غير مسدود إلا باب أبي بكر، فاتركوه بغير سد. قال ابن بطال والخطّابيّ وغيرهما في هذا الحديث اختصاص ظاهر لأبي بكر، وفيه إشارة قوية إلى استحقاته للخلافة، ولاسيما وقد ثبت أن ذلك كان في آخر حياة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، في الوقت الذي أمرهم فيه أن لا يؤمهم إلا أبو بكر. وقد ادعى بعضهم أن الباب كناية عن الخِلافة، والأمر بالسد كناية عن طلبها، فكأنه قال: لا يطلبن أحدٌ الخلافة إلا أبو بكر، فإنه لا حرج عليه في طلبها. وجنح إلى هذا ابن حبّان فقال بعد أن أخرج هذا الحديث: في هذا الحديث دليل على أنه الخليفة بعد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم, لأنه حسم بقوله "سُدّوا عني كل خوخة في المسجد" أطماع الناس كلهم عن أن يكونوا خلفاءَ بعده. وقوّى بعضهم ذلك بأنَّ منزل أبي بكر كان بالسُّنْح من عوالي المدينة، فلا تكون له خوخة إلى المسجد، وهذا الاستناد ضعيف؛ لأنه لا يلزم من كون منزله كان بالسنح أن لا يكون له دار مجاورة للمسجد، ومنزله الذي كان بالسنح هو منزل أصهاره من الأنصار، وقد كانت له إذ ذاك زوجة أخرى، وهي أسماء بنت عُميس بالاتفاق، وأم رومان، على القول بأنها كانت باقية يومئذ. وتعقب المحبّ الطبريّ ما قاله البعض فقال: قد ذكر عمر بن شَبّة في أخبار المدينة أن دار أبي بكر التي أُذن له في إبقاء الخوخة منها إلى المسجد كانت ملاصقة للمسجد، ولم تزل بيد أبي بكر حتى احتاج إلى شيء يعطيه لبعض من وفد عليه، فباعها فاشترتها حفصة أم المؤمنين بأربعة آلاف درهم، فلم تزل بيدها

إلى أن أرادوا توسيع المسجد في خلافة عثمان، فطلبوها منها ليوسعوا بها المسجد، فامتنعت وقالت: كيف بطريقي إلى المسجد؟ فقيل لها: نعطيك دارًا أوسع منها، ونجعل لك طريقا مثلها، فسلمتْ ورضيت. تنبيه: قد جاء في سد الأبواب التي حول إلمسجد أحاديث يخالف ظاهرها حديثَ الباب، منها حديث سعد بن أبي وقاص، وقال: أمرنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بسد الأبواب الشارعة في المسجد، وترك باب عليّ. أخرجه أحمد والنَّسائيّ وإسناده قويّ. وفي رواية للطبرانيّ في الأوسط, رجالها ثقات، من الزيادة، فقالوا: "يا رسول الله، سددتَ أبوابنا، فقال: ما أنا سددتها, ولكن الله سدها" وأخرج أحمد والنَّسائيّ والحاكم، ورجاله ثقات، عن زيد بن أرقم قال: كان لنفر من الصحابة أبواب شارعة في المسجد، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: سدوا هذه الأبواب إلا باب عليّ، فتكلم ناس في ذلك فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إني والله ما سددت شيئًا ولا فتحته، ولكن أمرت بشيء فاتبعته. وأخرج أحمد والنسائيّ برجال ثقات عن ابن عباس، قال: أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بأبواب المسجد فَسُدَّت إلا باب عليّ. وفي رواية "وأمر بسد الأبواب غير باب عليّ، فكان يدخل المسجد وهو جنب، ليس له طريق غيره" وأخرج الطبرانيّ عن جابر بن سَمُرة قال: أمرنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بسد الأبواب كلها، غير باب عليّ، فربما مرَّ فيه وهو جنب، وأخرج أحمد، وإسناده حسن، عن ابن عمر قال: كنا نقول في زمن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم خيرُ الناس، ثم أبو بكر، ثم عمر. ولقد أُعطي عليّ بن أبي طالب ثلاثَ خصالٍ, لأَن تكونَ لي واحدةٌ منهن أحب إليّ من حُمر النَّعَم: زوّجه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ابنته، وولدت له، وسُدّ الأبواب إلا بابه في المسجد، وأعطاه الراية يوم خيبر. وأخرج النسائي من طريق العلاء بن عرار، بمهملات، قال: فقلتُ لابن

عمر أخبرني عن عليّ وعثمان، فذكر الحديث، وفيه "أما عليّ فلا تسأل عنه أحدًا، وانظر إلى منزلته من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، قد سد أبوابنا في المسجد وأقرَّ بابه. ورجاله رجال الصحيح، إلا العلاء، وقد وثقه يحيى بن معين وغيره. وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضًا، وكل طريق منها صالح للاحتجاج، فضلًا عن مجموعها، وأورد ابن الجوزيّ هذا الحديث في الموضوعات مقتصرًا على بعض طرقه، وأعله ببعض من تكلم فيه من رجاله، وليس ذلك بقادح لما مر من كثرة الطرق. وأعله أيضًا بأنه مخالف للأحاديث الصحيحة الثابتة في أبي بكر. وزعم أنه من وَضْعِ الزنادقة، قابلوا به الحديث الصحيح في باب أبي بكر. وأخطأ في ذلك خطأ شنيعًا، فإنه سلك في ذلك رد الأحاديث الصحيحة بتوهُّم المعارضة، مع أن الجمع بين القضيتين ممكن، وقد أشار إليه البزّار في مسنده، فقال: ورد من روايات أهل الكوفة بأسانيد حِسَان في قصة عليّ، وورد من روايات أهل المدينة في قصة أبي بكر، فإنْ ثبتت روايات أهل الكوفة، فالجمع بينهما بما دل عليه حديث أبي سعيد الخُدريّ، الذي أخرجه الترمذيّ "أنّ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: لا يحل لأحد أن يطرق هذا المسجد جُنُبا غيري وغيرك" والمعنى أن باب علي كان إلى جهة المسجد، ولم يكن لبيته باب غيره، فلذلك لم يؤمر بسده. ويؤيد ذلك ما رواه إسماعيل القاضي في أحكام القرآن، عن المطلب بن عبد الله بن حَنْطَبَ أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لم يأذن لأحد أن يمر في المسجد وهو جنب إلا لعلي بن أبي طالب؛ لأن بيته كان في المسجد. ومحصل الجمع أن الأمر بسد الأبواب وقع مرتين، ففي الأولى استثنى عليًا لما ذكره، وفي الأخرى استثنى أبا بكر، ويحمل ما في قصة عليّ على الباب الحقيقي، وما في قصة أبى بكر على الباب المجازي، والمراد الخوخة كما صرح به بعض الطرق، وكأنّهم أما أُمروا بسد الأبواب، سدوها وأحدثوا خوخًا يستقربون الدخول إلى المسجد منها، فأُمروا بعد ذلك بسدها، فهذه طريقة

رجاله ستة

الجمع بين الحديثين، وبها جمع بينهما أبو جعفر الطحايّ في مشكل الآثار، وأبو بكر الكلاباذيّ في معاني الأخبار، وصرح بان بيت أبي بكر كان له باب من خارج المسجد، وخوخة إلى داخل المسجد، وبيت علي لم يكن له باب إلا من داخل المسجد. وفي الحديث من الفوائد، غير ما تقدم، أن للخليل صفة خاصة تقتضي عدم المشاركة فيها، وفيه أن المساجد تُصان عن التطرق لغير ضَرورة مهمة، والإشارة بالعلم الخاص، دون التصريح، لإثارة أفهام السامعين، وتفاوت العلماء في الفهم، وأنّ من كان أرفع في اللهم استحق أن يطلق عليه عَلَم، وأنه لا يستحق أخذ العِلم حقيقة إلا من فهم. والحافظ لا يبلغ درجة الفهم، وإنما يقال للحافظ: عالم، بالنص لا بالمعنى، وفيه الترغيب في اختيار ما في الآخرة على ما في الدنيا، والإعلام بمن اختار ذلك من الصالحين، وفيه شكر المحسن، والتنويه بفضله والثناء عليه. وفيه أن المرشح للإمامة يخص بكرامة تدل عليه كما وقع للصِّدِّيق في هذه القصة. وفيه ائتلاف النفوس بقوله: ولكنّ أخوة الإِسلام أفضل. رجاله ستة: وفيه ذكر أبي بكر. الأول: محمد بن سنان. والثاني: فليح، وقد مرا في الأول من كتاب العلم، ومرَّ أبو النضر سالم بن أبي أمية في السابع والستين من كتاب الوضوء. الرابع: عبيد بن حُنين المدنيّ، أبو عبد الله مولى آل زيد بن الخطاب، ويقال: مولى بني زريق. قال ابن سعد: كان ثقة، وليس بكثير الحديث. وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وذكره ابن حبّان في الثقات. روى الواقديّ عنه أنه قال: قلت لزيد بن ثابت مقتلَ عثمان: إقرأ عليّ الأعراف، فقال: اقرأها عليَّ أنت، فقال: فقرأتها عليه، فما أخذ عليّ ألفاً ولا واوًا. روى عن قتادة بن

النعمان الظفريّ، وأبي موسى الأشعري وابن عمر وغيرهم، وروى عنه أبو النضر وأبو الزناد، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، وعتبة بن مسلم وغيرهم. مات سنة خمس ومئة وهو ابن تسعين سنة بتقديم التاء على الصحيح. الخامس: بُسْر بن سعيد المدنيّ العابد، مولى ابن الحضرميّ، قال يحيى بن سعيد: بسْر أحب إليّ من العبّاد المُنْقطعين وأهل الزهد في الدنيا، وكان ثقة كثير الحديث. وقال مَالك: قال الوليد بن عبد الملك لعمر بن عبد العزيز: من أفضل أهل المدينة؟ قال: مولى لبني الحضرميّ يقال له بُسر. قال مالك: مات ولم يخلف كفنًا. وقال العجليّ: تابعيّ مدنيّ ثقة. ذكره ابن حبّان في الثقات، وقال: كان يسكن دار الحضرمي، في جَديلة بني قيس، فنسب إليهم، وكان سعيدًا متزهدًا، لم يخلف كفنًا. روى عن أبي هريرة وعثمان وأبي سعيد، وسعد بن أبي وقاص، وابن عمر وزيد بن ثابت وغيرهم. وعنه سالم أبو النضر وبكير بن الأشَجّ وأبو سلمة بن عبد الرحمن ويعقوب بن الأشج وغيرهم. مات بالمدينة سنة مئة وهو ابن ثمان وسبعين سنة. وبُسر في الستة سواه خمسة. السادس أبو سعيد الخدريّ، وقد مرَّ في الثاني عشر من الإِيمان، ومرَّ أبو بكر في باب من لم يتوضأ من لحم الشاة، بعد السبعين من كتاب الوضوء. فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، والعنعنة في ثلاثة، والقول في ثلاثة. أخرجه البخاري أيضًا في فضل أبي بكر، ومسلم في الفضائل.

الحديث السبعون

الحديث السبعون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجُعْفِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ سَمِعْتُ يَعْلَى بْنَ حَكِيمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي مَرَضِهِ الَّذِى مَاتَ فِيهِ عَاصِبٌ رَأْسَهُ بِخِرْقَةٍ، فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ أَمَنَّ عَلَيَّ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ مِنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنَ النَّاسِ خَلِيلاً لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلاً، وَلَكِنْ خُلَّةُ الإِسْلاَمِ أَفْضَلُ، سُدُّوا عَنِّي كُلَّ خَوْخَةٍ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ غَيْرَ خَوْخَةِ أَبِي بَكْرٍ. قوله: عاصبًا رأسه، ولغير الأربعة "عاصبٌ" بالرفع، أي وهو عاصب. وقوله: فحمد الله تعالى، وجود الكمال وأثنى عليه على عدم النقصان. وقوله: غير خوخة أبي بكر، وللكشميهنيّ إلا بدل غير. ومباحث الحديث استوفيت في الذي قبله. رجاله ستة: الأول: عبد الله بن محمد الجعفيّ، وقد مرَّ في الثاني من كتاب الإيمان, ومرَّ وهب بن جرير بن حازم في الخامس والأربعين من كتاب الوضوء. الثالث: جرير بن حازم بن عبد الله بن شجاع الأزدي العتكيّ، وقيل الجَهْضَمِيّ، أبو النضر البصريّ، والد وهب. قال قُراد: قال لي شُعبة: عليك بجرير بن حازم، فاسمع منه. وقال وهب بن جرير: كان شعبة يأتي جريرًا فيسأله عن حديث الأعمش، فإذا حدّثه قال له: هكذا والله سمعته من الأعمش. وقال ابن حبّان في الثقات: كان يخطىء, لأن أكثر ما كان يحدث من حفظه. وكان

شًعبة يقول: ما رأيت أحفظ من رجلين: جرير بن حازم وهشام الدستوائيّ. وقال الساجيّ: صدوق حدّث بأحاديث وهم فيها، وهي مقلوبة. وقال ابن مهدي: جرير بن حازم أثبت عندي من قُرَّة بن خالد. وقال أيضًا: جرير بن حازم اختلط وكان له أولاد أصحاب حديث، فلما أحسوا ذلك منه حجبوه فلم يسمع أحد منه في حال اختلاطه شيئًا. وقال موسى: ما رأيت حمادًا يعظم أحدًا تعظيمه جرير بن حازم. وقال ابن مَعين: ثقة، وقال الدوريّ سألت يحيى عن جرير بن حازم وأبي الأشهب. فقال: جرير أحسن حديثًا منه، وأسند، وقال أيضًا: جرير أمثل من ابن أبي هلال. وكان صاحب كتاب. وقال أيضًا: ليس به بأس، فقيل له: إنه يحدث عن قتادة عن أنس أحاديث مناكير. فقال: ليس بشيء، هو عن قتادة ضعيف. وقال وهب بن جرير: قرأ أبي على أبي عمرو بن العلاء فقال له: أنت أفصح من مَعَد، وقال العجليّ: بصريّ ثقة. وقال النّسائي: ليس به بأس، وقال أبو حاتم: صدوق صالح. وقال ابن عديّ: حدث عنه أيوب والليث بن سعد، وله أحاديث كثيرة عن مشايخه، وهو مستقيم الحديث صالح فيه، إلا روايته عن قتادة، فإنه يروي عنه أشياء لا يرويها غيره. وقال أحمد: جرير بن حازم حدث بالوهم بمصر، ولم يكن يحفظ. وقال ابن المَدِينيّ: قلت ليحيى بن سعيد: أبو الأشهب أحب إليك أم جرير بن حازم؟ قال: ما أقربهما, ولكن كان جرير أكبرهما، وكان يهم في الشيء، وكان يقول في حديث الضبع عن جابر عن عمر، ثم صيره عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال أحمد: كان حديثه عن قتادة غير حديث الناس، يوقف أشياء ويسند أشياء، ثم أثنى عليه وقال: صالح صاحب سنة وفضل. وقال الأزديّ: جرير صدوق خرج عنه بمصر أحاديث مقلوبة، ولم يكن بالحافظ، حمل رشدين وغيره عنه أحاديث مناكير، ووثقه أحمد بن صالح، وقال البزار في مسنده: ثقة، وقال ابن مهدي: جرير عندي أوثق من قُرَّة بن خالد، ونسبه يحيى الحمَّانيّ إلى التدليس، وقال ابن سعد: كان ثقة، إلا أنه اختلط في

باب الأبواب والغلق للكعبة والمساجد

آخر عمره. قال ابن حجر في مقدمته: لكنه ما ضرّه اختلاطه لما مرَّ عن ابن مهدي من فعل أولاده به. قال: واحتج به الجماعة، وما أخرج له البخاريّ من روايته عن قتادة إلا أحاديث يسيرة توبع عليها، روى عن أبي الطفيل وأبي رجاء وابن سيرين وقتادة وابن إسحاق والأعمش وشُعبة، وهو أصغر منه، وجماعة. وروى عنه الأعمش وأيوب شيخاه، وابنه وهب وابن وهب ووكيع وابن مهدي والقطان وابن أبي حبيب وابن عون، وهم أكبر منه، وشيبان بن فَرّوخ خاتمة أصحابه وغيرهم. مات سنة خمس وسبعين ومئة، وليس في الستة جرير بن حازم سواه. الرابع: يعلي بن حكيم الثقفيّ، مولاهم المكيّ، سكن البصرة، وكان صديقًا لأيوب. وقال أحمد وابن معين وأبو زرعة والنَّسائيّ: ثقة، وقال أبو حاتم: لا بأس به. وقال ابن يعقوب بن سفيان: مستقيم الحديث. وقال ابن خِراش: كان صدوقًا، وذكره ابن حبّان في الثقات، وقال حماد بن زيد: جاء نعي يعلي بن حكيم من الشام إلى أمه، فكان أيوب يأتيها ويسليها. روى عن سعيد بن جبير وعكرمة وسليمان بن يسار ونافع مولى ابن عمر وغيرهم، وروى عنه يحيى بن أبي كثير وسعيد بن أبي عَروبة وأيوب وجرير بن حازم وابن جُريح وحماد بن زيد وغيرهم. وليس في الستة يعلي بن حكيم سواه. الخامس: عكرمة مولى ابن عباس، وقد مرَّ في السابع عشر من كتاب العلم، ومرَّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي. فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، والعنعنة في موضعين، والسماع والقول. ورواية الابن عن الأب أخرجه البخاريّ في الفرائض بزيادة، والنَّسائيّ في المناقب. ثم قال المصنف: باب الأبواب والغلق للكعبة والمساجد أي اتخاذ الأبواب للكعبة وغيرها من المساجد، لأجل صونها عما لا يصلح فيها, ولأجل حفظ ما فيها من الأيدي العادِيَة، ولذا قال ابن بطال: اتخاذ

الأبواب للمساجد واجب، وعلل الوجوب بما ذكر. وقوله: والغَلَق بتحريك اللام، وهو المغلاق، وهو ما يغلق به الباب. ثم قال: قال أبو عبد الله: قال لي عبد الله بن محمد: حدثنا سفيان عن ابن جريج، قال لي ابن أبي مليكة: يا عبد الملك، لو رأيت مساجد ابن عباس وأبوابها. قوله: لو رأيت محذوف الجواب، وتقديره لرأيت عجبًا أو حسنًا لإتقانها أو نظافتها أو نحو ذلك، وهذا السياق يدل على أنها في ذلك الوقت كانت قد اندرست، ويحتمل أن تكون لو للتمني، فلا تحتاج إلى جواب. رجاله أربعة: أبو عبد الله، المراد به البخاريّ نفسه، وعبد الله بن محمد المسنديّ مرَّ في الثاني من كتاب الإيمان، ومرَّ سفيان بن عُيينة في الأول من بدء الوحي، ومرَّ ابن أبي مليكة في الأربعين من كتاب الإيمان, ومرَّ عبد الملك بن جُريح في الثالث من كتاب الحيض.

الحديث الحادي والسبعون

الحديث الحادي والسبعون حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ وَقُتَيْبَةُ بن سعيد قَالاَ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَدِمَ مَكَّةَ، فَدَعَا عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ، فَفَتَحَ الْبَابَ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَبِلاَلٌ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ، ثُمَّ أُغْلِقَ الْبَابُ، فَلَبِثَ فِيهِ سَاعَةً ثُمَّ خَرَجُوا. قَالَ ابْنُ عُمَرَ فَبَدَرْتُ فَسَأَلْتُ بِلاَلاً فَقَالَ صَلَّى فِيهِ. فَقُلْتُ فِي أَيٍّ قَالَ بَيْنَ الأُسْطُوَانَتَيْنِ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ فَذَهَبَ عَلَيَّ أَنْ أَسْأَلَهُ كَمْ صَلَّى. قوله: ثم أغلق الباب، بضم الهمزة مبنيًا للمفعول، وبفتحها مبنيًا للفاعل. قال ابن بطال: الحكمة في غلق الباب حينئذ لئلا يظن الناس أن الصلاة فيه سنة فيلتزمون ذلك. وقال غيره: يحتمل أن يكون ذلك لئلا يزدحموا عليه، لتوفر دواعيهم على مراعاة أفعاله ليأخذوها عنه، أو ليكون ذلك أسكن لقلبه وأجمع لخشوعه، وإنما أدخل معه عثمان لئلا يظن أنه قد عزل عن ولاية الكعبة، وبلالًا وأسامة لملازمتهما خدمته. وقيل: فائدة ذلك التمكن من الصلاة في جميع جهاتها؛ لأن الصلاة إلى جهة الباب وهو مفتوح لا تصح. وهذا الحديث استوفيت مباحثه غاية الاستيفاء عند ذكره في باب {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}. رجاله ستة: وفيه ذكر عثمان بن طلحة وأسامة بن زيد وبلال. الأول: أبو النعمان، وقد مرَّ في الحادي والخمسين من كتاب الإيمان، ومرَّ قتيبة بن سعيد في الحادي والعشرين منه، ومرَّ حماد بن زيد في الرابع والعشرين

لطائف إسناده

منه، ومرَّ أيوب في التاسع منه، ومرَّ عبد الله بن عمر في أوله قبل ذكر حديث منه. ومر نافع مولى ابن عمر في الثالث والسبعين من كتاب العلم، ومرَّ بلال بن حمامة في التاسع والثلاثين منه أيضًا، ومرَّ أسامة بن زيد في الخامس من كتاب الوضوء. وأما عثمان بن طلحة بن أبي طلحة، واسمه عبد الله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار العبدريّ، حاجب البيت، أمه أم سعيد بن الأوس، قتل أبوه طلحة وعمه عثمان بن أبي طلحة بأُحد، ثم أسلم عثمان بن طلحة في هدنة الحديبية، وهاجر مع خالد بن الوليد في هدنة الحديبية، فلقيا عمرو بن العاص مقبلًا من عند النجاشيّ يريد الهجرة، فاجتمعوا حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم "رمتكم مكة بأفلاذ كبدها". وشهد الفتح مع النبي صلى الله عليه وسلم، فأعطاه مفتاح الكعبة هو وشيبة بن عثمان بن أبي طلحة. وقال: "خذاها خالدة تالدة لا ينزعها يا بني أبي طلحة منكم إلا ظالم". وفي الصحيحين من حديث ابن عمر "دخل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة .... " الخ وقد وقع في تفسير الثعالبيّ بغير سند في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} أن عثمان إنما أسلم يوم الفتح بعد أن دفع له النبي صلى الله عليه وسلم مفتاح البيت، وهذا منكر، والمعروف أنه أسلم وهاجر مع عمرو بن العاص وخالد بن الوليد، فأقام بالمدينة إلى وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم انتقل إلى مكة، فسكنها حتى مات بها في أول خلافة معاوية سنة اثنتين وأربعين. وقيل استشهد بأجنادين. قال العسكريّ: وهو باطل. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في ثلاثة. وروى البخاري فيه عن شيخين، ورواته ما بين بصريّ ومدنيّ. أخرجه البخاريّ هنا

باب دخول المشرك المسجد

وفي المغازي والجهاد، ومسلم وأبو داود والنَّسائيّ وابن ماجه في الحج. ثم قال المصنف: باب دخول المشرك المسجد قد يقال إن في هذه الترجمة تكرارًا بالنسبة إلى ترجمة الأسير يربط في المسجد، لأن ربطه فيه يستلزم إدخاله، لكن يجاب عن ذلك بان هذا أعم من ذلك.

الحديث الثاني والسبعون

الحديث الثاني والسبعون حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- خَيْلاً قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ. وهذا الحديث مرت مباحثه مستوفاة عند ذكره في باب الاغتسال إذا أسلم. رجاله أربعة: وفيه ذكر ثُمامة. الأول: قتيبة بن سعيد، وقد مرَّ في الحادي والعشرين من كتاب الإيمان, ومرَّ الليث في الثالث من بدء الوحي، وسعيد بن أبي سعيد في الثاني والثلاثين منه، ومرَّ أبو هريرة في الثاني منه، ومرَّ ثمامة بن أُثال الخامس والستين من أبواب القبلة هذه. ثم قال المصنف: باب رفع الصوت في المسجد أشار بالترجمة إلى الخلاف في ذلك، وقد مرَّ الكلام عليه في باب التقاضي.

الحديث الثالث والسبعون

الحديث الثالث والسبعون حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا الْجُعَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ خُصَيْفَةَ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: كُنْتُ قَائِمًا فِي الْمَسْجِدِ فَحَصَبَنِى رَجُلٌ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ اذْهَبْ فَأْتِنِي بِهَذَيْنِ. فَجِئْتُهُ بِهِمَا. قَالَ مَنْ أَنْتُمَا أَوْ مِنْ أَيْنَ أَنْتُمَا قَالاَ مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ. قَالَ لَوْ كُنْتُمَا مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ لأَوْجَعْتُكُمَا، تَرْفَعَانِ أَصْوَاتَكُمَا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. قوله: حدثني يزيد بن خُصَيفة، وأخرج الإسماعيليّ هذا الحديث عن الجُعَيد عن السائب بلا واسطة، وعند عبد الرزاق له طريق أخرى عن نافع. قال: كان عمر يقول: لا تكثروا اللغط، فدخل المسجد فإذا هو برجلين ارتفعت أصواتهما، فقال: إن مسجدنا هذا لا يرفع فيه الصوت .. الحديث. وفيه انقطاع, لأن نافعًا لم يدرك ذلك الزمان. وقوله: كنت قائمًا في المسجد، كذا في الأصول بالقاف، وفي رواية "نائمًا" بالنون، ويؤيده رواية حاتم عن الجُعيد بلفظ "كنت مضطجعًا" وقوله: فتحصبني، أي رماني بالحصباء. وقوله: فإذا عمر، الخبر محذوف تقديره قائم أو نحوه، ولم تعرف تسمية هذين الرجلين، لكن في رواية عبد الرزاق أنهما ثقفيان. وقوله: لو كنتما، يدل على أنه كان تقدم نهيه عن ذلك، وفيه المعذرة لأهل الجهل بالحكم إذا كان مما يخفى مثله. وقوله: لأوجعتكما، زاد الإسماعيليّ "جَلْدًا" ومن هذه الجهة يتبين كون هذا الحديث له حكم الرفع؛ لأن عمر لا يتوعدهما بالجلد إلا على مخالفة أمر توقيفيّ. وقوله: ترفعان، هو جواب عن سؤال، كأنهما قالا له: لِمَ توجعنا؟، قال: لأنكما ترفعان. وفي رواية الإسماعيليّ "برفعكما أصواتكما". وهو يؤيد ما

رجاله خمسة

قدرناه، وإنما قال عمر رضي الله تعالى عنه لهما: من أين أنتما؟ ليعلم أنهما ان كانا من أهل البلد وعلما أن رفع الصوت باللغط في المسجد غير جائز، زجرهما وأدبهما. فلما أخبراه أنهما من غير أهل البلد عذرهما بالجهل. وقوله: أصواتكما، عبر بالجمع دون صوتيكما بالتثنية؛ لأن المضاف المثنى معنى، إذا كان جزء ما أضيف إليه، فالأصح أن يذكر بالجمع، كقوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} وإن لم يكن جزءه فالأكثر مجيئه بلفظ التثنية: سَلَّ الزيدان سيفيهما، فإن أُمن اللَّبس جاز جعل المضاف بلفظ الجمع، كقوله عليه الصلاة والسلام "يعذبان في قبورهما". رجاله خمسة: وفيه ذكر عمر، ورجلين مبهمين. الأول: عليّ بن المدينىّ، وقد مرَّ في الرابع من كتاب العلم، ومرَّ القطان في السادس من كتاب الإيمان, ومرَّ الجُعَيد بن عبد الرحمن والسائب بن يزيد في الخامس والخمسين من الوضوء، ومرَّ عمر بن الخطاب في الأول من بدء الوحي. والخامس: يزيد بن عبد الله بن خُصَيفة بن عبد الله بن يزيد الكنديّ المدنيّ، وقد ينسب إلى جده. قال أحمد وأبو حاتم والنَّسائيّ: ثقة، وقال ابن مَعين: حجة ثقة. وقال ابن سعد: كان عابدًا ناسكًا كثير الحديث ثبتًا. وذكره ابن حبّان في الثقات. قال في "تهذيب التهذيب": زعم ابن عبد البر أنه ابن أخي السائب بن يزيد، وكان ثقة مأمونًا. وقال أبو داود: قال أحمد: منكر الحديث. قال ابن حجر "في مقدمته": هذه اللفظة يطلقها أحمد على من يغرب على أقرانه بالحديث، عرف ذلك بالاستقراء من حاله. وقد احتج به مالك والأئمة كلهم. روى عن أبيه والسائب بن يزيد ومحمد بن عبد الرحمن بن ثَوبان وبُسْر بن سعيد وغيرهم. وروى عنه الجُعَيد بن عبد الرحمن ومالك والسفيانان وسليمان بن بلال وغيرهم.

لطائف إسناده

وأما الرجلان المبهمان، فقال ابن حجر: لم أقف على تسميتهما، لكن في رواية عبد الرزاق أنهما ثقفيان. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، وبصيغة الإفراد في موضع، والعنعنة في موضع، وفيه القول، ورواته ما بين مدينيّ ومدنيّ وبصريّ، وفيه رواية الراوي عن خاله، كما ذكرنا.

الحديث الرابع والسبعون

الحديث الرابع والسبعون حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا لَهُ عَلَيْهِ، فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى الْمَسْجِ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ فِي بَيْتِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ وَنَادَى يَا كَعْبُ بْنَ مَالِكٍ، يَا كَعْبُ. قَالَ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَأَشَارَ بِيَدِهِ أَنْ ضَعِ الشَّطْرَ مِنْ دَيْنِكَ. قَالَ كَعْبٌ قَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قُمْ فَاقْضِهِ. قوله: حتى سمعها، أي أصواتهما، وللأصيلي "حتى سمعهما" أي كعبًا وابن أبي حدرد، وحديث كعب هذا قد استُوفي عليه الكلام في باب التقاضي قبل عشرة أبواب أو نحوها. رجاله ستة: الأول: أحمد مبهمًا، واختلف فيه، فالصحيح أنه أحمد بن صالح المصريّ، وقيل: أحمد بن عيسى، فلابد من تعريفهما. فالأول أحمد بن صالح المصريّ، أبو جعفر الحافظ المعروف بابن الطبريّ، كان أبوه من أهل طبرستان. قال أبو نعيم: ما قدم علينا أحد أعلم بحديث أهل الحجاز منه. وقال أبو زرعة: سألني أحمد: من خلَّفت بمصر؟ قلت: أحمد بن صالح، فَسُرَّ بذكره. وقال يعقوب بن سفيان الفَسَوِيّ: كتبت عن ألف شيخ وليس كلهم ثقات، ما أحد منهم أتخِذُه حجة عند الله تعالى إلا أحمد بن صالح بمصر،

وأحمل بن حنبل بالعراق. وقال البخاريّ: ثقة صدوق، ما رأيت أحدًا يتكلم فيه بحجة. كان أحمد بن حنبل وابن نمير وعليّ وغيرهم يثبتون أحمد بن صالح. وكان يحيى يقول: سلوا أحمد بن صالح فإنه أثبت. وقال صالح بن محمد: لم يكن بمصر أحد يحسن الحديث ويحفظ غير أحمد بن صالح. وكان جامعًا يعرف الفقه والحديث والنحو. وكان يذاكر بحديث الزُّهريّ ويحفظه. وقال ابن نُمير: حدثنا أحمد بن صالح، وإذا جاوزت الفرات فلست تجد مثله. وقال العجليّ: ثقة صاحب سنة. وقال أبو حاتم: ثقة كتبت عنه. وقال أبو داود: كان يقوّم كل لحن في الحديث. وقال محمد بن عبد الرحمن بن سهل: كان من حفاظ الحديث رأسًا في العلل. وكان يصلي بالشافعي، ولم يكن في أصحاب ابن وهب أعلم منه بالآثار. وأما النَّسائيّ فكان سيىء الرأي فيه، ذكره مرة فقال: ليس بثقة ولا مأمون. أخبرني معاوية بن صالح قال: سألت يحيى بن مَعين عن أحمد بن صالح فقال: كذاب يتفلسف، رأيته يخطىء في الجامع بمصر، فاشتد النَّسائيّ في تضعيفه إلى ما حكاه عن يحيى بن مَعين، وهو وهم منه، حمله على اعتقاده سوء رأيه في أحمد بن صالح، فنذكر أولًا السبب الحاصل له على سوء رأيه فيه، ثم نذكر وجه وهمه في نقله ذلك عن يحيى بن مَعين. قال أبو جعفر العقيليّ: كان أحمد بن صالح لا يحدث أحدًا حتى يسأل عنه، فلما قدم النَّسائيّ مصر، جاء إليه وقد صحب قومًا من أهل الحديث لا يرضاهم أحمد، فأبى أن يحدِّثه، فذهب النسائي فجمع الأحاديث التي وهم فيها أحمد، وشرع يشنع عليه، وما ضره ذلك شيئًا. وأحمد بن صالح إمام ثقة. وقال ابن عديّ: كان النّسائي ينكر عليه أحاديث، وهو من الحفاظ المشهورين بمعرفة الحديث، ثم ذكر ابن عديّ الأحاديث التي أنكرها النَّسائيّ وأجاب عنها, وليس في البخاريّ مع ذلك منها شيء. وقال صالح جزرة: لم يكن بمصر أحد يحفظ الحديث غير أحمد بن صالح. وكان يذاكر بحديث الزُّهريّ

ويحفظه. وقال ابن حبّان في الثقات: كان أحمد بن صالح في الحديث، وحفظه عند أهل مصر كأحمد بن حنبل عند أهل العراق، ولكنه كان صلفًا تيّاهًا، والذي يروى عن معاوية بن صالح عن يحيى بن مَعين أن أحمد بن صالح كذّاب، فإن ذلك أحمد بن صالح الشموميّ، وكان مشهورًا بوضع الحديث. وأما ابن الطَّبري فكان يقارب ابن مَعين في الضبط والإتقان، فتبين أن النَّسائيّ انفرد بتضعيف أحمد بن صالح بما لا بقبل. حتى قال الخليليّ: اتفق الحفاظ على أن كلامه فيه تحامل. وقال محمد بن هارون: هذا الخراساني يتكلم في أحمد بن صالح، وحضرت مجلس أحمد فطرده من مجلسه، فتحمله ذلك على أن يتكلم فيه. قال: وهذا أحمد بن حنبل قد أثنى عليه. وقال الخطيب: احتج بأحمد جميع الأئمة إلا النَّسائيّ. ويقال: كان آفة أحمد الكِبْر، ونال النَّسائيّ منه جفاءٌ في مجلسه، فذلك السبب الذي أفسد الحال بينهما. روى عن عبد الله بن وهب وابن عُيينة وعبد الرزاق وابن أبي فُديك وغيرهم. وروى عنه البخاريّ وأبو داود والتِّرمذيّ بواسطة، ومحمد بن نُمير وعمرو بن محمد الناقد وأبو موسى ومحمد بن غَيلان، وهم من أقرانه، وغيرهم. ولد بمصر سنة خمس وسبعين ومئة، ومات في ذي القعدة سنة ثمان ومئتين. وفي الستة أحمد بن صالح سواه واحد، وهو البغداديّ. روى له النَّسائيّ. والطّبريّ نسبة إلى طَبَرستان، بلاد واسعة منها دَهِستان وجُرجان وأُستراباذ وامل، والنسبة إليها طبريّ، منها محب الدين أبو جعفر أحمد بن عبد الله بن محمد بن أبي بكر وغيره، وتشابهها طَبَرية محركة، قصبة الأردن، والنسبة إليها طبرانيّ على تغيير النسب. منها الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب بن مُطير بن اللخميّ الشاميّ، صاحب المعاجم الثلاثة وغيره. والثاني: أحمد بن عيسى بن حسّان المصريّ، أبو عبد الله العسكريّ المعروف بالتُّستَريّ. عاب أبو زرعة على مسلم تخريج حديثه، ولم يبين سبب ذلك، وقد احتج به النَّسائيّ مع تعنته. وقال الخطيب: لم أر لمن تكلم فيه حجة

توجب ترك الاحتجاج بحديثه، وذكره ابن حبّان في الثقات. وقال أبو حاتم: تكلم الناس فيه، قيل لي بمصر: إنه قدمها واشترى كتب ابن وهب، وكتاب المفضّل بن فضَالة، ثم قدمتُ بغدادَ فسألت هل يحدث عن المفضل؟ فقالوا: نعم، فأنكرت ذلك، وذلك أن الرواية عن ابن وهب والرواية عن المفضل لا يستويان. قال ابن حجر: انما أنكروا عليه ادعاء السماع، ولم يُتّهم بالوضع، وليس في حديثه شيء من المناكر، ووقع التصريح به في صحيح البخاريّ في رواية أبي ذرّ الهَرَوي، وذلك في ثلاثة مواضع: أحدها حديثه عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن أبي الأسود عن عروة عن عائشة "أن أول شيء بدأ به النبيّ صلى الله عليه وسلم الطوافُ" وقد تابعه عليه عنده أصْبَغ عن ابن وهب. ثانيها حديثه عن ابن وهب عن يونس عن الزُّهريّ عن سالم عن أبيه في المواقيت، مقرونًا بسفيان بن عُيينة عن الزُّهري. وثالثها هذا الإسناد في الإهلال من ذي الحُلَيفة بمتابعة ابن المبارك عن يونس، وقد أخرج مسلم الحديثين الأخيرين عن حَرْمَلة عن ابن وهب، فما أخرج له البخاريّ شيئًا تفرد به. ووقع في البخاري عدة مواضع غير هذه، يقول فيها: حدثنا أحمد عن ابن وهب ولا ينسبه. روى عن ابن وهب والمفضل بن فضالة وضِمَام بن إسماعيل وغيرهم. وروى عنه البخاريّ ومسلم والنّسائيّ وابن ماجَه وأبو زرعة وأبو حاتم وعبد الله بن أحمد وحنبل بن إسحاق وغيرهم. مات سنة ثلاث وأربعين ومئتين. الثاني من السند ابن وهب، وقد مرَّ في الثالث عشر من كتاب العلم، ومرَّ يونس بن يزيد في متابعة الرابع من بدء الوحي ومرَّ ابن شهاب في الثالث منه، ومرَّ عبد الله بن كعب في الستين من أبواب القبلة، ومرَّ أبوه كعب في السادس والأربعين منها، ومرَّ عبد الله بن أبي حدرد المذكور، في الحديث الستين من

باب الحلق والجلوس في المسجد

أبواب القبلة. ثم قال المصنف: باب الحَلَق والجلوس في المسجد الحلق، بفتح المهملة، ويجوز كسرها واللام مفتوحة على كل حال، جمع حَلْقَة، بإسكان اللام على غير قياس وحكى فتحها أيضًا.

الحديث الخامس والسبعون

الحديث الخامس والسبعون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَهْوَ عَلَى الْمِنْبَرِ مَا تَرَى فِي صَلاَةِ اللَّيْلِ قَالَ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيَ الصُّبْحَ صَلَّى وَاحِدَةً، فَأَوْتَرَتْ لَهُ مَا صَلَّى. وَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ اجْعَلُوا آخِرَ صَلاَتِكُمْ وِتْرًا، فَإِنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ بِهِ. قوله: سأل رجل، لم يعرف اسمه، وفي المعجم الصغير للطبرانيّ أن السائل هوابن عمر، لكن يعكر عليه رواية عبد الله بن شقيق عن ابن عمر "أن رجلًا سأل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأنا بينه وبين السائل" فذكر الحديث، وفيه "ثم سأله رجل على رأس الحَوْل وأنا بذلك المكان منه، قال: فما أدري. أهو ذلك الرجل أم غيره؟ " وعند النّسائيّ من هذا الوجه أن السائل المذكور من أهل البادية، وعند محمد بن نصر في كتاب "أحكام الوِتر" عن ابن عمر أن أعرابيًا سأل، فيحتمل أن يجمع بتعدد من سأل. وقوله: ما ترى، أي ما رأيك، من الرأي أو من الرؤية، بمعنى العلم. وقوله: مَثْنى مثنى، أي صلاة الليل مثنى مثنى، فالمبتدأ محذوف، ومثنى غير منصرف للعدل والوصف، أي اثنتين اثنتين، وكرره للتأنيث، واستشكل التكرار بأن القاعدة فيما عدل من أسماء الأعداد أن لا يكرر، فلا يقال جاء القوم مثنى مثنى، وأجيب بأنه تكيد لفظي لا لقصد التكرار، فإن ذلك مستفاد من الصيغة، كقول الشاعر: هنيئًا لأرباب البيوت بيوتهم ... وللآكلين التمر مخمس مخمسَ

ففي الصحاح: إذا قلت جاء القوم مثنى بدون تكرار، فالمعنى جاؤوا مزدوجين. وأما ما قاله الزركشيّ من أن التكرار لابد منه إذا كان العدل في لفظ واحد، فهو غير صحيح، لا يُعرف أحد من النحاة ذهب إليه. وقوله: مثنى مثنى، فسره ابن عمر راوي الحديث كما عند مسلم عن عقبة بن حُرَيث قال: قلت لابن عمر: ما معنى مثنى مثنى؟ قال: تسلم من كل ركعتين. وقد اختلف العلماء في الوصل والفصل في النافلة أيهما أفضل؟ فقال مالك والشافعيّ وأحمد: السنة أن تكون مثنى مثنى ليلًا أو نهارًا. وقال أبو حنيفة: الأفضل الأربع ليلًا أو نهارًا. وقال أبو يوسف ومحمد: الأفضل بالليل ركعتان، وبالنهار أربع. وتفسير ابن عمر السابق لمثنى مثنى يَرُدّ على من زعم من الحنفية أن معنى مثنى أن يتشهد بين كل ركعتين؛ لأن راوي الحديث أعلم بالمراد به، وما فسره به هو المتبادر إلى الفهم؛ لأنه لا يقال الرباعية مثلًا إنها مثنى، واستدل الأولون بحديث الباب على تعيُّن الفصل بين كل ركعتين من صلاة الليل. قال ابن دقيق العيد: وهو ظاهر السياق لحصر المبتدأ في الخبر، وحمله الجمهور على أنه لبيان الأفضل، أما صح من فعله صلى الله تعالى عليه وسلم بخلافه، ولم يتعين أيضًا كونه لذلك، بل يحتمل أن يكون للإرشاد إلى الأخف، إذ السلام بين كل ركعتين أخف على المصلي من الأربع فما فوقها، لما فيه من الراحة غالبًا، وقضاء ما يعرض من أمر مهم، ولو كان الوصل لبيان الجواز فقط، لم يواظب عليه صلى الله تعالى عليه وسلم. ومن ادعى اختصاصه به فعليه البيان. وقد صح عنه صلى الله تعالى عليه وسلم الفصل كما صح عنه الوصل، فعند أبي داو ومحمد بن نصر عن عائشة "أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يصلي ما بين أن يفرغ من العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة، يسلم من كل ركعتين" وإسنادهما على شرط الشيخين. واستدل به أيضًا على عدم النقصان عن ركعتين في النافلة ما عدا الوتر. قال ابن دقيق العيد: والاستدلال به أقوى من الاستدلال بامتناع قصر

الصبح في السفر إلى ركعة، واستدل بعض الشافعية للجواز بعموم قوله صلى الله تعالى عليه وسلم "الصلاة خير موضوع: فمن شاء استكثر، ومن شاء استقل" صححه ابن حِبّان، وقال الأثرم عن أحمد: الذي اختاره في صلاة الليل مثنى، فإن صلى في النهار أربعًا فلا بأس. وقال محمد بن نصر نحوه في صلاة الليل. قال: وقد صح عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه أوتر بخمس، لم يجلس إلا في آخرها، إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على الوصل، إلا أننا نختار أن يسلم من كل ركعتين، لكونه أجاب به السائل، ولكون أحاديث الفصل أثبت وأكثر طرقًا، واستدل أبو حنيفة في صلاة الليل بما رواه أبو داو في سننه عن عائشة، أنها سُئلت عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في جوف الليل، فقالت: "كان يصلي صلاة العشاء في جماعة، ثم يرجع إلى أهله، فيركع أربع ركعات، ثم يأوي إلى فراشه ... " الحديث، وفيه "حتى قُبِض على ذلك". قلت: لا دلالة له في هذا على ما ذهب إليه؛ لأن لفظ "أربع ركعات" شامل للوصل والفصل، واحتج في صلاة النهار بما رواه مسلم عن معاذ "أنها سألت عائشة: كم كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يصلي الضحى. قالت: أربع ركعات، يزيد ما شاء". قلت: هذا أيضًا مثل المتقدم، لا دلالة فيه، بل هذا أولى بعدم الدلالة؛ لأنه جواب عن سؤال عن العدد. قال العيني: رواه أبو يعلى في مسنده" وفيه "لا يفصل بينهن بسلام"واحتجوا أيضًا بمفهوم قوله في حديث الباب "صلاة الليل مثنى" على أن الأفضل في صلاة النهار أن تكون أربعًا، وتعقب بأنه مفهوم لقب، وليس بحجة على الراجح، وعلى تقدير الأخذ به، فليس بمنحصر في أربع، وبأنه خرج جوابًا للسؤال عن صلاة الليل، فقيد الجواب بذلك مطابقة للسؤال، وبأنه قد تبين من رواية أخرى أن حكم المسكوت عنه حكم المنطوق به. وأما حديث السنن، وصححه ابن خزيمة وغيره، عن عليّ الأزديّ عن ابن عمر مرفوعًا "صلاة الليل والنهار مثنى مثنى" فقد تعقب بان أكثر أئمة الحديث أعَلّوا هذه الزيادة، وهي قوله "والنهار"، بان الحُفّاظ من أصحاب ابن عمر لم يذكروها عنه، وحكم النَّسائيّ بأنها خطأ. وقال يحيى بن مَعين: ومَنْ علي

الأزديّ حتى نقبل منه؟ وروى يحيى بن سعيد الأنصاري عن نافع أنّ ابن عمر كان يتطوع بالنهار أربعًا لا يفصل بينهن، ولو كان حديث الأزدي صحيحًا ما خالفه ابن عمر مع شدة اتِّباعه، رواه عنه محمد بن نصر في سؤالاته، لكن روى. ابن وهب بإسناد قويّ عن ابن عمر قال: "صلاة الليل والنهار مثنى مثنى" موقوف، أخرجه ابن عبد البر، فلعل الأزديّ اختلط عليه الموقوف بالمرفوع، فلا تكون هذه الزيادة صحيحة على طريقة من يشترط في الصحيح أن لا يكون شاذًا. أو قد روى ابن أبي شيبة من وجه آخر عن ابن عمر أنه كان يصلي في النهار أربعًا، وهذا موافق لما نقله ابن مَعين. وقوله: فإذا خشي الصبحَ، استدل به على خروج وقت الوِتر بطلوع الفجر، وأصرح منه ما رواه أبو داود والنَّسائيّ، وصححه أبو عَوانة عن نافع أن ابن عمر كان يقول: "من صلى من الليل فليجعل آخر صلاته وترًا، فإن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يأمر بذلك، فإذا كان الفجر فقد ذهب كل صلاة الليل والوتر" وفي صحيح ابن خزيمة عن أبي سعيد مرفوعًا "من أدركه الصبح ولم يوتر فلا وتر له" وهذا محمول على التعمد أو على أنه لا يقع أداء لما رواه أبو داود عن أبي سعيد أيضًا مرفوعًا "من نسي الوِتر أو نام عنه فليصله إذا ذكره" وقيل: معنى قوله: إذا خشي أحدكم الصبح، أي وهو في شَفْع فلينصرف على وِتره، وهذا ينبني على أن الوتر لا يحتاج إلى نية. وحكى ابن المنذر عن جماعة من السلف أن الذي يخرج بالفجر وقته الاختياري، ويبقى وقت الضرورة إلى قيام صلاة الصبح. وحكاه القرطبيّ عن مالك والشافعيّ وأحمد. قال في الفتح: وإنما قاله الشافعيّ في القديم. وقال ابن قُدامة: لا ينبغي لأحد أن يتعمد ترك الوِتر حتى يصبح، واختلف السلف في مشروعية قضائه، فنفاه الأكثر. وفي مسلم وغيره عن عائشة "أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان إذا نام من الليل من وجع أو غيره، فلم يقم من الليل، صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة" وقال محمد بن نصر: لم نجد عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في شيء من الأخبار أنه قضى الوتر، ولا أمر بقضائه. ومن زعم أنه

عليه الصلاة والسلام قضى الوِتر ليلة نومهم عن الصبح في الوادي لم يُصب. وعن عطاء والأوزاعيّ: يقضى ولو طلعت الشمس. وهو وجه عن الشافعية حكاه النوويّ في شرح مسلم. وعندهم أيضًا يقضى مطلقًا، واستدلوا بحديث أبي سعيد المتقدم. وعن سعيد بن جبير يقضى من القابلة. ويؤخذ من الحديث أن الصبح ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس من النهار شرعًا، وسئل الخليل بن أحمد عن حد النهار، فقال: من الفجر المستطير إلى بداءة الشفق. وحكى عن الشعبي أنه وقت منفرد لا من الليل ولا من النهار. وقوله: صلى واحدة، وفي رواية "ركعة واحدة". وفي رواية الشافعيّ وابن وهب ومكيّ بن إبراهيم عن مالك "فليصل ركعة" أي بصيغة الأمر. أخرجه الدارقطني في الموطات. وقوله: فأوترت له ما صلى، أي تلك الركعة الواحدة. وقوله: وإنه كان يقول، بكسر الهمزة على الاستئناف، وقائل ذلك هو نافع، والضمير لابن عمر. وقوله: اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا، استدل بهذا على أنه لا صلاة بعد الوتر، وقد اختلف السلف في ذلك في موضعين، أحدهما في مشروعية ركعتين بعد الوتر عن جلوس، والثاني فيمن أوتر ثم أراد أن يتنفل هل يكتفي بوتره الأول؟ وليتنفل ما شاء، أو يشفع وتره بركعة، ثم يتنفل، ثم إذا فعل ذلك، هل يحتاج إلى وتر آخر أو لا؟ أما الأول فعند مسلم عن عائشة أنه صلى الله تعالى عليه وسلم "كان يصلي ركعتين بعد الؤلر وهو جالس" وقد ذهب إليه بعض أهل العلم، وجعلوا قوله "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا" مختصا بمن أوتر آخر الليل. وأجاب من لم يقل ذلك بان الركعتين المذكورتين هما ركعتا الفجر، وحمله النوويّ على أنه عليه الصلاة والسلام فعله لبيان جواز التنفل بعد الوتر، وجواز التنفل جالسًا. وأما الثاني: فذهب الأكثرون إلى أنه يصلي شفعًا ما شاء، ولا ينقض وتره، عملًا بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم "لا وِتران في ليلة" وهو حديث حسن أخرجه النَّسائيّ وابن خُزيمة وغيرهما، عن طَلْق بن علي، وإنما يصح نقض

الوِتر عند من يقول بمشروعية ركعة واحدة غير الوتر. وقد مرَّ ما فيه. وروى محمد بن نصر عن سعيد بن الحارث أنه سأل ابن عمر عن ذلك فقال: إذا كنت لا تخاف الصبح ولا النوم، فاشفع ثم صل ما بدا لك، ثم أوتر، وإلا فَصلّ وتْرَكَ على الذي كنت أوترت. ومن طريق أُخرى عن ابن عمر أنه سُئل عن ذلك فقال: أما أنا فأصلي مثنى، فإذا انصرفت ركعت ركعة واحدة، فقيل: أرأيت إن أوترتُ قبل أن أنام، ثم قمت من الليل فشفعت حتى أصبح؟ قال: ليس بذلك بأس. قلت: أخرج مالك في الموطأ عن سعيد بن المسيب أنه قال: كان أبو بكر الصديق إذا أراد أن يأتي فراشَه أوتر، وكان عمر بن الخطاب يوتر آخر الليل، وقد قالوا: إن أبا بكر أخذ بالحزم، وعمر أخذ بالعزم، ومذهب مالك ندب فعله آخر الليل لمن عادته الانتباه آخر الليل، أو استوى الأمران فيه على قوله، وحملوا ما رواه البخاري عن أبي هُريرة من قوله "أوصاني خليلي بثلاث" إلى أن قال "وأن أُوتر قبل أن أنام". وروى مسلم مثله عن أبي الدرداء، والنَّسائيّ مثله عن أبي ذَرٍ على أنه في حق من لم يثق بالاستيقاظ، وإذا لم تكن عادته الانتباه ندب له تقديمه أول الليل، وإذا أفاق بعد ذلك جاز له النفل، أي استحب له إن طرأت له نية النفل بعد صلاة الوِتر، أو في أثناء الوِتر. وإذا نوى النفل قبل صلاة الوتر كره له التنفل بعد استيقاظه. وقد مرَّ كثير من مباحثه في باب قراءة القرآن بعد الحدث، من كتاب الوضوء. وتأتي بقية يسيرة في أبواب الوتر. وقد اعترض الإسماعيلي على البخاريّ فقال: ليس فيما ذكره دلالة على التعليق ولا على الجلوس في المسجد بحال، وأجيب بأن كونه كان في المسجد صريح من تعليق الوليد بن كثير، وأما التَّحلقُّ فقال المهلبُ: شبه البخاريّ جلوس الرجال في المسجد حول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو يخطب، بالتحلُّق حول العالم؛ لأن الظاهر أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لا يكون في المسجد وهو على المنبر إلا وعنده جَمْعٌ جلوس محدقين به، كالمحلقين. وقال غيره: حديث ابن عمر يتعلق بأحد ركني

رجاله خمسة

الترجمة، وهو الجلوس، وحديث أبي واقد يتعلق بالركن الآخر، وهو التعليق. وأما ما رواه مسلم عن جابر بن سمرة، قال: دخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم المسجد وَهَم حِلَق فقال: مالي أراكم عِزِين؟ فلا معارضة بينه ويين هذا، لأنه انما كره تحلُّقَهم على ما لا فائدة فيه ولا منفعة، بخلاف تحلقهم حوله، فإنه كان لسماع العلم والتعلّم منه. رجاله خمسة: وفيه لفظ رجل مبهم. الأول: مسدد، وقد مرَّ في السادس من كتاب الإيمان، ومرَّ بشر بن المفضل في التاسع من كتاب العلم، ومرَّ عبد الله بن عمر في أوله قبل ذكر حديث منه، ومرَّ عُبيد الله بن عمر في الرابع عشر من كتاب الوضوء، ومر نافع مولى ابن عمر في الثالث والسبعين من كتاب العلم، والرجل المبهم قال ابن حجر: لم أقف على اسمه. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في ثلاثة، والقول، ورواته ما بين بصريّ ومدنيّ. أخرجه البخاريُّ هنا وفيما يأتي قريبًا.

الحديث السادس والسبعون

الحديث السادس والسبعون حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَهْوَ يَخْطُبُ فَقَالَ كَيْفَ صَلاَةُ اللَّيْلِ فَقَالَ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيتَ الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ، تُوتِرُ لَكَ مَا قَدْ صَلَّيْتَ. قوله: توترْ، بالجزم جوابًا للأمر، ويالرفع على الاستئناف. وزاد الأصيلي والكشميهنيّ؟ وقد مرت مباحثه في الذي قبله. رجاله خمسة: الأول: أبو النعمان، وقد مرَّ في الحادي والخمسين من كتاب الإيمان, ومرَّ حماد بن زيد في الرابع والعشرين منه، ومرَّ أيوب في التاسع منه، ومرَّ ابن عمر في أوله قبل ذكر حديث منه، ومرَّ نافع في الثالث والسبعين من كتاب العلم، ورجل مرَّ أنَّ اسم لم يعرف. ثم قال: قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ كَثِيرٍ: قَالَ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ حَدَّثَهُمْ أَنَّ رَجُلاً نَادَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ فِى الْمَسْجِدِ. رجاله ثلاثة: الأول: الوليد بن كثير المخزوميّ، مولاهم أبو محمد المدنيّ، سكن الكوفة. قال عيسى بن يونس: حدثنا الوليد بن كثير، وكان ثقة. وقال إبراهيم بن سعد: كان ثقة متبعًا للمغازي، حريصًا على علمها. وقال ابن عُيينة: كان صدوقًا وكنت أعرفه هاهنا. وقال ابن مَعين: ثقة لا بأس به. وقال أبو داود: ثقة،

إلا أنه أباضيّ. وقال ابن سعد: له علم بالسيرة والمغازي، وله أحاديث، وليس بذلك. وذكره ابن حِبّان في الثقات. وقال ابن راهويه: حدثنا عيسى بن يونس، حدثنا الوليد بن كثير، وكان متقنًا في الحديث. وقال الساجيّ: صدوق ثبْتٌ يُحتج به. وكان أباضيًا. قال ابن حَجر: الأباضية فرقة من الخوارج، ليست مقالتهم شديدة الفتحش، ولم يكن الوليد داعية. روى عن سعيد بن أبي هند، وسعيد المَقْبَري، وعُبيد الله بن عبد الله بن عمر والزُّهريّ ونافع مولى ابن عمر وغيرهم. وروى عنه عيسى بن يونس وأبو أسامة والواقديّ وغيرهم. مات بالكوفة سنة إحدى وخمسين ومئة، وفي الستة الوليد بن كثير بن سِنان المزنيّ. روى له النَّسائي. الثاني: عُبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب، العدويّ المدنيّ، أبو بكر. كان شقيق سالم. قال الواقديّ: كان أَسَنَّ من عبد الله بن عبد الله فيما يذكرون، وكان ثقة قليل الحديث. وذكره ابن حبّان في الثقات. وقال أبو زرعة والنَّسائي: ثقة، وقال العجليّ: تابعيّ ثقة. روى عن أبيه وأبي هريرة وروى عنه ابنه القاسم وابن ابنه خالد بن أبي بكر بن عُبيد الله والزُّهري وأبو الأسود يتيم عُروة وغيرهم. مات سنة ست ومئة. ومرَّ عبد الله بن عمر في أول كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه، وهذا التعليق وصله مسلم من طريق أبي أسامة عن الوليد.

الحديث السابع والسبعون

الحديث السابع والسبعون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَي مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّ أَبَا مُرَّةَ مَوْلَى عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي الْمَسْجِدِ فَأَقْبَلَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ، فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَذَهَبَ وَاحِدٌ، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَرَأَى فُرْجَةً فَجَلَسَ، وَأَمَّا الآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ أَلاَ أُخْبِرُكُمْ عَنِ الثَّلاَثَةِ أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللَّهِ، فَآوَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَاسْتَحْيَا، فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَأَعْرَضَ، فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ. قوله: في المسجد، زاد في العلم "والناس معه" وهو أصرح فيما ترجم له. وقوله: فأقبل ثلاثة نفر، أي من الطريق ودخلوا المسجد مارين فيه. وفيه زيادة الفاء في جواب بينما. وللأصيلي: فأقبل نفر ثلاثة. وقوله: فأقبل اثنان، أي من الثلاثة الذي أقبلوا من الطريق. وقوله: وذهب واحد، عطف على فأقبل اثنان. وقوله: فأما أحدهما، أما للتفصيل، وأحدهما رفع بالابتداء. وقوله: فرأى فُرجة فجلس، هو الخبر. وهذا هو موضع الترجمة، وأدخل الفاء في "فرأى" لتضمن أما معنى الشرط، وفي مجلس، للعطف، وللأصيلي: فرجة في الحلْقة، بإسكان اللام. وقوله: فلما فرغ، أي مما كان مشتغلًا به من الخطبة أو من تعليم العلم أو غير ذلك. وقوله: فاستحيا، أي ترك المزاحمة. وقوله: فاستحيا الله منه، أي جازاه بمثل فعله بأن رحمه ولم يعاقبه. وقوله: فأعرض الله عنه، أي جازاه بأن غضب عليه، فهو من باب ذكر الملزوم وإرادة اللازم؛ لأن نسبة الإيواء والاستحياء

رجاله خمسة

والإعراض في حقه تعالى محالٌ، فالمراد لازم ذلك، وهو إرادة إيصال الخير وترك العقاب، وهذا الحديث مرَّ في كتاب العلم في باب "من قعد حيث ينتهى به المجلس" ومرَّ استيفاء الكلام عليه هناك. رجاله خمسة: الأول: عبد الله بن يوسف. والثاني: الإِمام مالك. وقد مرا في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ إسحاق بن عبد الله وأبو مُرة وأبو واقد وعَقيل بن أبي طالب في الثامن من كتاب العلم. ثم قال المصنف: باب الاستلقاء في المسجد ومد الرِجل وسقط لفظ "ومد الرِجل" عند الأصيلي، وأبي ذَرٍّ وابن عساكر وثبت في نسخة الصَّغانيّ.

الحديث الثامن والسبعون

الحديث الثامن والسبعون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ: أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مُسْتَلْقِيًا فِي الْمَسْجِدِ، وَاضِعًا إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الأُخْرَى. قوله: مستلقيًا في المسجد، أي على ظهره. وقوله: واضعًا إحدى رجليه على الأخرى، هذا بظاهره معارض لما أخرجه مسلم في اللباس عن جابر "نهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنْ يضعَ الرجل إحدى رجليه على الأخرى، وهو مستلقٍ على ظهره" ويجمع بينهما بأن النهي الوارد عن ذلك إما منسوخ، أو الجواز مختص به عليه الصلاة والسلام، أو يحمل النهي حيث يُخشى أن يبدو العورة. والجواز حيث يؤمن ذلك، والأخير أولى؛ لأن ادعاء النسخ لا يثبت بالاحتمال، وكذلك الخصائص. ولما ثبت أن أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله تعالى عنهم كانوا يفعلون ذلك، دل على أنه ليس منسوخًا، وليس خاصًا به صلى الله تعالى عليه وسلم، بل هو جائز مطلقًا. والظاهر أن فعله صلى الله تعالى عليه وسلم كان لبيان الجواز. وكان ذلك في وقت الاستراحة لا عند مجتمع الناس، أما عرف من عادته من الجلوس بينهم بالوقار التام، صلى الله تعالى عليه وسلم. قال الخطابيّ: فيه جواز الاتكاء في المسجد والاضطجاع، وأنواع الاستراحة، وفيه أن الأجر الوارد للأثبت في المسجد لا يختص بالجالس، بل يحصل للمستلقي أيضًا. رجاله خمسة: الأول: عبد الله بن مسلمة، وقد مرَّ في الثاني عشر من كتاب الإيمان، ومرَّ

لطائف إسناده

مالك في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ ابن شهاب في الثالث منه، ومرَّ عباد بن تميم وعمه عبد الله بن زيد في الثالث من كتاب الوضوء. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد، والعنعنة في أربعة مواضع، والرؤية ورواية الرجل عن عمه، ورواته مدنيون. أخرجه البخاريّ في اللباس والاستئذان، ومسلم في اللباس، وأبو داود في الأدب، والترمذي في الاستئذان، وقال حسن صحيح. والنَّسائيّ في الصلاة. ثم قال: وعن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب: كان عمر وعثمان يفعلان ذلك، أي الاستلقاء المذكور، وزاد الحُميديّ عن ابن مسعود أن أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، كان يفعل ذلك أيضًا، وهذا التعليق معطوف على الإسناد المذكور. وصرح به أبو داود في روايته عن القعنبي، وهو كذلك في الموطأ. وعمر مرَّ في الأول من بدء الوحي، ومرَّ عثمان في تعليق بعد الخامس من كتاب العلم، ومرَّ سعيد بن المسيب في التاسع عشر من كتاب الإيمان. ثم قال المصنف: باب المسجد يكون في الطريق من غير ضرر بالناس قال المازريّ: بناء المسجد في ملك المرء جائز إجماعًا، وفي غير ملكه ممتنع إجماعًا، وفي المباحات حيث لا يضر بأحد جائز أيضًا، لكن شذ بعضهم فمنعه, لأن مباحات الطرق موضوعة لانتفاع الناس. فإذا بُني بها مسجدٌ منع انتفاع بعضهم، فأراد البخاري الرد على هذا القائل، واستدل بقصة أبي بكر لكون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم اطلع على ذلك وأقره. قلت: لكن يرد عندي على هذا الاستدلال أن مكة حينئذ دار كفر، وأهلها لا ملك لهم ولا اعتبار بانتفاعهم، والمنع المذكور مروي عن ربيعة، ونقله عبد الرزاق عن علي وابن عُمَر، لكن بإسنادين ضعيفين. ثم قال: وبه قال الحسن وأيوب ومالك. وإنما خص المذكورين بالذكر

لورود التصريح عنهم بهذه المسألة، وإلا فالجمهور على ذلك، والحسن المراد به الحسن البصريّ، وقد مرَّ في الرابع والعشرين من كتاب الإيمان. ومرَّ أيوب في التاسع منه، ومر مالك في الثاني من بدء الوحي.

الحديث التاسع والسبعون

الحديث التاسع والسبعون حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَتْ: لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ إِلاَّ وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ، وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلاَّ يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- طَرَفَي النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً، ثُمَّ بَدَا لأَبِي بَكْرٍ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ، فَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَيَقِفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ، وَأَبْنَاؤُهُمْ يَعْجَبُونَ مِنْهُ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلاً بَكَّاءً لاَ يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. قوله: أبوي، هما أبو بكر وأُم رَومان. وقوله: يَدِينان الدِّين، بكسر الدال فيهما، أي يتدنيان بدين الإِسلام، فهو نصب بنزع الخافض. وقوله: ثم بدا لأبي بكر، أي ظهر له رأي بعد خروجه مهاجرًا من مكة ورجوعه في جوار ابن الدُّغنة، واشتراطه عليه أن لا يستعلن بعبادته .. القصة الآتية إن شاء الله تعالى في كتاب الهجرة. وقوله: بفناء داره، بكسر الفاء مع المد، وهو ما امتد من جوانبها. وقوله: بكّاء، بالتشديد أي كثير البكاء. وقوله: فأفزع ذلك، أي أخاف الكفار لما يعلمونه من رقة قلوب النساء والشباب، أن يميلوا إلى دين الإِسلام. وقوله: إذا قرأ القرآن، إذا ظرفية والعامل فيه لا يملك، أو هي شرطية، والجزاء مقدر، وحيث إن هذا الحديث ذكر مطولًا كثيرًا في الهجرة ولم يذكر منه هنا إلا قدر يسير أخرنا شرحه إلى محل ذكره تامًا إن شاء الله تعالى، إن أحيانا الله تعالى، وأقدرنا على الوصول إلى ذلك المحل.

رجاله ستة

رجاله ستة: الأول: يحيى بن بكير، وقد مرَّ هو والليث وعقيل بن خالد وابن شهاب في الثالث من بدء الوحي، ومرَّ عُروة بن الزبير وعائشة في الثاني منه، وأبو عائشة أبو بكر الصديق، وقد مرَّ في باب "من لم يتوضأ من لحم الشاة" بعد السبعين من كتاب الوضوء. وأم رَومان، بفتح الراء وضمها، بنت عامر بن عويمر بن عبد شمس بن عتاب بن أذينة بن سبيع بن دَهمان بن الحارث بن غنم بن مالك بن كنانة، امرأة أبي بكر الصديق، والدة عبد الرحمن وعائشة. والخلاف في نسبها من عامر إلى كنانة كثيرٌ جدًا، لكن اتفقوا على أنها من بني غنم بن مالك بن كنانة، وثبت في صحيح البخاريّ قول أبي بكر لها في قصة الجَفْنة التي حلف عليها أن لا يأكل منها، من أجل أضيافه: يا أخت فراس. واختُلف في اسمها، فقيل: زينب، وقيل: دعد، كانت تحت عبد الله بن الحارث بن سخبرة بن جُرثومة الأَزْدِيّ، وكان قد قدم بها مكة، فحالف أبا بكر قبل الإِسلام. وتوفي عن أم رَومان بعد أن ولدت له الطُّفَيل، ثم خَلَفَ عليها أبو بكر. أسلمت وبايعت وهاجرت. فقد أخرج الزبير عن عائشة أنها قالت لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم، خلّفنا وخلّف بناته، فلما استقر بعث زيد بن حارثة وبعث معه أبا رافع مولاه، وأعطاهما خمس مئة درهم، أخذاها من أبي بكر يشتريان بها ما يحتاجان من الظهر، وبعث أبو بكر معهما عبد الله بن أُريقط ببعيرين أو ثلاثة، وكتب عبد الله بن أبي بكر الصديق أن يحمل أُم رَومان وأنا وأختي أسماء امرأة الزبير، فخرجوا مصطحبين، فلما انتهوا إلى قُدَيد، اشترى زيد بن حارثة بتلك الخمس مئة درهم ثلاثه أبعزة، ثم دخلوا مكة جميعًا، فصادفوا طلحة بن عُبيد الله يريد الهجرة، فخرجوا جميعًا، وخرج زيد وأبو رافع بفاطمة وأم كلثوم وسَوْدة بنت زَمعة، وحمل زيد أم أيمن وأسامة حتى إذا كنا بالبيداء نفر بعيري وأنا في محفة، معي فيها أمي، فجعلت تقول: وابنتاه واعروساه، حتى أدرك بعيرنا وقد هبط الثنية ثنية هَرْشى، فسلّم الله، ثم قَدِمنا المدينة، فنزلت مع آل أبي بكر، ونزل آل

النبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبني مسجده وأبياتًا حول المسجد، فأنزل فيها أهله. ثم قال أبو بكر: يا رسول الله، ما يمنعك أن تبني بأهلك؟ قال: الصَّداق. قال: فأعطاه أبو بكر اثنتي عشرة أوقية، ونشا، فبعث بها إلينا، وبنى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي هذا الذي أنا فيه، وهو الذي توفي فيه، ودفن فيه صلى الله عليه وسلم. وأدخل سَودة بنت زمعة أحد تلك البيوت، فكان يكون عندها. وكان تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم إيايَ وأنا ألعب مع الجواري، فما دريت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجني حتى أخبرتني أمي، فحبستني في البيت، فوقع في نفسي أني تزوجت، فما سألتها حتى كانت هي التي أخبرتني. قال ابن سعد: إنها توفيت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في ذي الحجة سنة ست، ثم أخرج عن القاسم بن محمد أنه قال: لما دليت أم رَومان في قبرها قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من سره أن ينظر إلى امرأة من الحور العين فلينظر إلى أم رومان، ونزل في قبرها واستغفر لها، وقال: اللهم لم يخفَ عليك ما لقيتْ أم رَومان فيك وفي رسولك". وقيل: إنها بقيت بعد النبي صلى الله عليه وسلم دهرًا، لما أخرجه البخايّ من طريق مسروق عن أم رومان، فذكر طرفًا من قصة الإفك، ومقتضاه أن يكون سمع منها في خلافة عمر, لأن مولده سنة إحدى من الهجرة، وفي هذا الحديث أنه حين السماع له خمس عشرة سنة، وإنما قَدِم من اليمن بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. قال في الإصابة: ويؤيد أنها لم تمت سنة ست من الهجرة ما ثبت في الصحيحين عن عبد الرحمن بن أبي بكر أن أصحاب الصفة كانوا ناسًا فقراء، فذكر القصة في أضياف أبي بكر. قال عبد الرحمن: وإنما هو أنا وأمي وامرأتي وخادم بيننا. وأم عبد الرحمن هي أم رومان بلا خلاف. وإسلام عبد الرحمن كان بين الحديبية والفتح، وهذه القصة كانت بعد إسلامه قطعًا، فلا يصح أن تكون ماتت في آخر ست، إلا على احتمال بعيد جدًا، بأن تجعل القصة والحديبية التي

لطائف إسناده

أسلم عبد الرحمن بعدها، وقدوم عبد الرحمن سنة ست. قال في الإصابة: ويدل على تأخر وفاتها عن ست، بل عن ثمان، ما أخرجه أحمد في مسنده من طريق أبي سلمة عن عائشة قالت: "لما نزلت آية التخيير بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة، فقال: يا عائشة، إني عارض عليك أمرًا فلا تفتيني فيه بشيء حتى تعرضيه على أبويك: أبي بكر وأم رَومان. قالت: يا رسول الله، وما هو؟ قال: قال الله عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ..} إلى آخر {أَجْرًا عَظِيمًا} قالت: قلت: فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، ولا أوامِر في ذلك أبا بكر ولا أم رومان، فضحك" وسنده جيد. وأصل القصة في الصحيحين. والتخيير كان في سنة تسع، والحديث مصرّح بأن أم رَومان كانت موجودة حينئذ فبان صحة حديث مسروق على ما أخرجه ابن سعد من روايته عن علي بن زيد؛ لأن مسروقًا متفق على ثقته، وعلي بن زيد متفق على سوء حفظه، وليس في الصحابة من تكنى أم رومان سواها. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في موضعين، والإخبار بصيغة الإفراد في موضع، ورواية التابعيّ عن التابعيّ، ونصف الرواة مصريون، وهم الثلاثة الأول، والباقي مدنيون أخرجه البخاري هنا. وفي الهجرة والإجازة والكفالة والأدب المفرد مختصراً ومطولًا، وبعضه في غزوة الرجيع. ثم قال المصنف: باب الصلاة في مسجد السوق ولغير أبي ذر مساجد، وموقع الترجمة الإشارة إلى أن الحديث الوارد في أن الأسواق شر البقاع، وأن المساجد خير البقاع، كما أخرجه البزار وغيره، لا يصح إسناده. ولو صح لم يمنع وضع المسجد في السوق؛ لأن بقعة المسجد حينئذ تكون بقعة خير، وقيل: المراد بالمساجد في الترجمة مواضع إيقاع الصلاة لا

الأبنية الموضوعة لذلك، فكأنه قال: باب الصلاة في مواضع الأسواق ولا يخفى ما فيه. ثم قال: وصلى ابن عون في مسجد في دار يغلق عليهم الباب، كذا في الأصول، وصحفه ابن المنير بابن عمر، وليس في هذا الأثر ما يوافق الترجمة، فقيل في الجواب عنه: إِن المصنف أراد أن يبين جواز بناء المسجد داخل السوق، ولئلا يتخيل متخيل من كونه محجورًا منع الصلاة فيه؛ لأن صلاة ابن عون كانت في دار تغلق عليهم، فلم يمنع التحجير اتخاذ المسجد. وقال الكرمانيّ: غرض البخاريّ الرد على الحنفية حيث قالوا بامتناع المسجد في الدار المحجوبة عن الناس، والذي في كتب الحنفية الكراهة لا التحريم، وظهر بحديث أبي هريرة أن الصلاة في السوق مشروعة، وإذا جازت الصلاة فيه فرادى كان أولى أن يتخذ فيه مسجد للجماعة. قاله ابن بطال.

الحديث الثمانون

الحديث الثمانون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: صَلاَةُ الْجَمِيعِ تَزِيدُ عَلَى صَلاَتِهِ فِي بَيْتِهِ، وَصَلاَتِهِ فِي سُوقِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ وَأَتَى الْمَسْجِدَ، لاَ يُرِيدُ إِلاَّ الصَّلاَةَ، لَمْ يَخْطُ خُطْوَةً إِلاَّ رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْهُ خَطِيئَةً، حَتَّى يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ، وَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ كَانَ فِي صَلاَةٍ مَا كَانَتْ تَحْبِسُهُ، وَتُصَلِّي يَعْنِي عَلَيْهِ الْمَلاَئِكَةُ مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ الَّذِى يُصَلِّي فِيهِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، مَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ. قوله: صلاة الجميع، أي الجماعة، وتكلف من قال التقدير في الجميع، وفي الرواية الآتية في الجماعة التصريحُ بذلك. ففيها صلاة الرجل في الجماعة. وفي رواية الحمويّ والكشميهنيّ "في جماعة" بالتنكير. وقوله: تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه خمساً وعشرين درجة، في رواية أبواب الجماعة "تفضل" بدل "تزيد"، وعشرين ضعفًا بدل "درجة"، ومقتضى الحديث أن الصلاة في المسجد جماعة تزيد على الصلاة في البيت وفي السوق جماعة وفرادى، والذي يظهر أن المراد بمقابل الجماعة في المسجد الصلاة في غيره منفردًا، لكنه خرج مخرج الغالب في أن من لم يحضر الجماعة في المسجد صلى منفردًا، وبهذا يرتفع الإشكال عن من استشكل تسوية الصلاة في البيت والسوق، ولا يلزم من حمل الحديث على ظاهره التسوية المذكورة، إذ لا يلزم من استوائهما في الفضولية عن المسجد أن لا يكون أحدهما أفضل من الآخر، وكذا لا يلزم منه أن كون الصلاة جماعة في البيت أو السوق لا فضل فيها على

الصلاة منفردًا، بل الظاهر أن التضعيف المذكور مختص بالجماعة في المسجد، والصلاة في البيت مطلقًا أولى منها في السوق، أما ورد من كون الأسواق موضع الشياطين، والصلاة جماعة في البيت وفي السوق أولى من الانفراد. قال التِّرمذيّ: عامة من رواه قالوا خمساً وعشرين إلا ابن عمر، فإنه قال سبعًا وعشرين، ولم يختلف عليه في ذلك، إلا في رواية ضعيفة عند عبد الرزاق، واتفق الجميع على خمس وعشرين سوى رواية أُبي عند ابن ماجه والحاكم، فقال: أربع أو خمس على الشك، وسوى رواية لأبي هريرة عند أحمد قال فيها: سبع وعشرون، وفي إسنادها شريك القاضي، وفي حفظه ضعف، وفي رواية لأبي عَوانة "بضعًا وعشرين" وليست مغايرة لصدق البضع على الخمس، فرجعت الروايات كلها إلى الخمس والسبع، إذ لا أثر للشك، واختلف في أيهما أرجح، فقيل: رواية الخمس لكثرة رواتها، وقيل: رواية السبع لأن فيها زيادة من عَدْل حافظ. ووقع الاختلاف في موضع آخر من الحديث، وهو مميَّز العدد المذكور، ففي الروايات كلها التعبير بقوله "درجة" أو حذف المميز، إلا طرق في حديث أبي هريرة، ففي بعضها "ضِعفًا". وفي بعضها "جزأ" وفي بعضها "درجة" وفي بعضها "صلاة". ووقع هذا الأخير في بعض طرق حديث أنس، والظاهر أن ذلك من تصرف الرواة، ويحتمل أن يكون ذلك من باب التفنن في العبارة. وأما قول ابن الأثير: إنما قال درجة، ولم يقل جزءاً ولا نصيبًا ولا حظاً ولا نحو ذلك، لأنه أراد الثواب من جهة العلو والارتفاع، فإن تلك فوق هذه بكذا وكذا درجة، لأن الدرجات إلى جهة فوق، فكأنه بناه على أن الأصل لفظ "درجة" وما عدا ذلك من تصرف الرواة، لكن نفيه ورود الجزء مردود، فإنه ثابت، وكذلك الضعيف، كما مر. ومعنى الدرجة أو الجزء حصول مقدار صلاة المنفرد بالعدد المذكور للجمع، وقد ورد هذا مبينًا في بعض الروايات، فعند مسلم في بعض طرقه بلفظ

"صلاة الجماعة تعدل خمسًا وعشرين من صلاة الفَذّ" وفي أخرى "صلاةٌ مع الإِمام أفضل، عن خمس وعشرين صلاة يصليها وحده" ولأحمد عن ابن مسعود بإسناد رجاله ثقات نحوه. وقال آخره: كلها مثل صلاته، وهو مقتضى لفظ رواية أبي هريرة الماضية "تضعف" لأن الضعف، كما قال الأزهريّ، المِثْل إلى ما زاد، وليس بمقصور على المثلين. تقول: هذا ضعف الشيء أي: مثله أو مثلاه فصاعداً، لكن لا يزاد على العشرة. وظاهر قوله تضعيف، وكذا قوله في روايتي ابن عمر وأبي سعيد "تفضل" أي تزيد، وقوله: في رواية أبي هريرة المذكورة في الباب هنا "تزيد" يريد أن صلاة الجماعة تساوي صلاة المنفرد، وتزيد عليها العدد المذكور، فيكون لمصلي الجماعة ثواب ست أو ثمان وعشرين من صلاة المنفرد. وقد جمع بين روايتي الخمس والسبع بوجوه: منها أن ذكر القليل لا ينفي الكثير، وهذا عند من لا يعتبر مفهوم العدد، لكن قد قال به جماعة من أصحاب الشافعي، وحكى عن نصه. الوجه الثاني لعله صلى الله تعالى عليه وسلم أخبر بالخمس ثم أعلمه الله تعالى بزيادة الفضل فأخبر بالسبع، وتعقب بأنه يحتاج إلى التاريخ، وبأن دخول النسخ في الفضائل مختلف فيه، لكنْ إنْ فرعنا على المنع تعينَ تقدم الخمس على السبع من جهة أن الفضل من الله يقبل الزيادة لا النقص، قلت: هذا ليس من النسخ وإنما هو زيادة من الله تعالى على ما أعطى أولًا، تفضلًا منه. ثالثها أن اختلاف العددين باختلاف مميزهما، وعلى هذا فقيل: الدرجة أصغر من الجزء وتعقب بأن الذي روي عنه الجزء روى عنه الدرجة، وقال بعضهم الجزء في الدنيا والدرجة في الآخرة، وهو مبني على التغاير. رابعها الفرق بقرب المسجد وبعده. خامسها الفرق بحال المصلي كانْ يكون أعلم أو أخشع.

سادسها الفرق بإيقاعها في المسجد أو غيره، وقد جاء عن بعض الصحابة قصر التضعيف إلى خمس وعشرين على التجميع في المسجد العام مع تقرير الفضل في غيره. فروى سعيد بن منصور بإسناد حسن عن أوس المغافريّ أنه قال لعبد الله بن عمرو بن العاص. أرأيت من توضأ فأحسن الوضوء ثم صلى في بيته؟ قال: حسن جميل. قال: فإن صلى في مسجد عشيرته، قال: خمس عشرة صلاة، قال: فإن مشى إلى المسجد جماعة فصلى فيه؟ قال: خمس وعشرون. وأخرج حميد بن زنجويه في كتاب الترغيب نحوه من حديث واثلة، وخص الخمس والعشرين بمسجد القبائل، وصلاته في المسجد الذي يجمّع فيه، أي الجمعة بخمس مئة وسنده ضعيف. سابعها الفرق بالمنتظر للصلاة وغيره. ثامنها الفرق بإدراك كلها أو بعضها. تاسعها الفرق بكثرة الجماعة وقلتهم. عاشرها السبع مختصة بالفجر والعشاء، وقيل بالفجر والعصر، والخمس بما عدا ذلك. حادي عشر السبع مختصة بالجهرية والخمس بالسرية، ويترجح هذا بما يأتي في آخر الأسباب المقتضية للدرجات المذكورة من اختصاص الجهرية بالإنصات عند قراءة الإِمام، والاستماع له، والتأمين عند تأمينه ليوافق تأمين الملائكة، ثم إن الحكمة في هذا العدد الخاص غير محققة المعنى. ونقل الطيبىّ عن التوربشتيّ أن ذلك لا يدرك بالرأي، بل مرجعه إلى علم النبوءة التي قصرت علوم الألبّاء عن إدراك حقيقتها كلها. قال الكرماني يحتمل أن يكون أصله كون المكتوبات خمسًا، فأريد المبالغة في تكثيرها فضربت في مثلها فصارت خمساً وعشرين، ثم ذكر للسبع مناسبة أيضًا من جهة عدد ركعات الفرائض وروايتها. وقال غيره: الحسنة بعشر للمصلي منفردًا، فإذا انضم إليه آخر بلغت عشرين، ثم زيد بقدر الصلوات الخمس، أو يزاد عدد أيام الأسبوع.

وقيل: الأعداد عشرات ومئون وألوف، وخير الأمور الوسط، فاعتبرت المئة والعدد المذكور ربعها، وهذا فاسد جدًا. وقال البلقيني: ظهر لي في العددين أن لفظ ابن عمر "صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ" ومعناه الصلاة في الجماعة كما في حديث أبي هريرة "صلاة الرجل في الجماعة" وعلى هذا فكل واحد من المحكوم له بذلك صلى في جماعة، وأدنى الأعداد التي يتحقق فيها ذلك ثلاثة حتى يكون كل واحد صلى في جماعة، وكل واحد منهم أن بحسنة، وهي بعشرة فيحصل من مجموعه ثلاثون، فاقتصر في الحديث على الفضل الزائد، وهو سبعة وعشرون دون الثلاثة التي هي أصل ذلك. قلت: هذا التوجيه لا يصح على ما هو الحق من كون الاثنين فما فوقهما جماعة. وقيل في الجمع بين العددين: إن أقل الجماعة إمام ومأموم، فلولا الإِمام ما سمى المأموم مأموما، وكذا عكسه، فإذا تفضل الله على من صلى جماعة بزيادة خمس وعشرين درجة، حمل الخبر الوارد بلفظها على الفضل الزائد والخبر الوارد بلفظ سبع وعشرين على الأصل والفضل. وقد خاض قوم في تعيين الأسباب المقتضية للدرجات المذكورة. قال ابن الجوزيّ: وما جاءوا بطائل. وقال المحبّ الطبريّ: ذكر بعضهم أن في حديث أبي هريرة المذكور في هذا الباب إشارة إلى بعض ذلك، ويضاف إليه أمور أخرى وردت في ذلك، وبيان ذلك هو أن الحديث المذكور "فإن أحدكم إذا توضأ ... " الخ وهذا ظاهر في أن المذكورة علة للتضعيف المذكور، إذ التقدير: وذلك لأنه، فكأنه يقول: التضعيف المذكور سببه كيت وكيت، وإذا كان كذلك فما رتب على موضوعات متعددة ولا يوجد بوجود بعضها إلا إذا دل الدليل على إلغاء ما ليس معتبرًا، أو ليس مقصودًا لذاته، وهذه الزيادة التي في حديث أبي هريرة معقولة المعنى، والأخذ بها متوجه، والروايات المطلقة لا تنافيها، بل يحمل مطلقها على هذه المقيدة، والذين قالوا بوجوب الجماعة على الكفاية، ذهب كثيرٌ منهم إلى أن الحرج لا يسقط بإقامة الجماعة في البيوت، وكذا روي

عن أحمد في فرض العين، ووجهوه بان أصل المشروعية إنما كان في جماعة المساجد، وهو معتبر لا ينبغي إلغاؤه، فيختص به المسجد، ويلحق به ما في معناه مما يحصل به بإظهار الشعار، وتنقيح ما ورد من الأسباب المقتضية لذلك هو ما ذكرناه. أولها إجابة المؤذن بنية الصلاة في الجماعة، والتبكير إليها في أول الوقت، والمشي إلى المسجد بالسكينة، ودخول المسجد داعيًا، وصلاة التحية عند دخوله كل ذلك بنية الصلاة في الجماعة. سادسها انتظار الجماعة، سابعها صلاة الملائكة عليه واستغفارهم له، ثامنها شهادتهم له، تاسعها اجابة الإقامة، عاشرها السلامة من الشيطان حين يفر عند الإقامة، حادي عشرها الوقوف منتظرًا إحرام الإِمام أو الدخول معه في أي هيئة وجده عليها، ثاني عشرها إدراك تكبيرة الإحرام كذلك ثالث عشرها تسوية الصفوف وسد فرجها. رابع عشرها جواب الإِمام عند قوله سمع الله لمن حمده، خامس عشرها الأمن من السهو غالبًا، وتنبيه الإِمام إذا سها بالتسبيح أو الفتح عليه. سادس عشرها حصول الخشوع والسلامة عما يلهي غالبا، سابع عشرها تحسين الهيئة غالبًا، ثامن عشرها احتفاف الملائكة، تاسع عشرها التدرب على تجويد القرآن وتعلم الأركان والأبعاض. العشرون إظهار أشعار الإِسلام، الحادي والعشرون إرغام الشيطان بالاجتماع على العبادة والتعاون على الطاعة ونشاط المتكاسل، الثاني والعشرون السلامة من صفة النفاق ومن إساءة غيره الظن به بأنه تارك للصلاة رأسًا، الثالث والعشرون رد السلام على الإِمام، الرابع والعشرون الانتفاع باجتماعهم على الدعاء والذكر وعود بركة الكامل على الناقص، الخامس والعشرون قيام نظام الألفة بين الجيران وحصول تعاهدهم في أوقات الصلوات. فهذه خمس وعشرون خصلة ورد في كل منها أمر أو ترغيب يخصه، وبقي منها أمران يختصان بالجهرية، وهما الإنصاف عند قراءة الإِمام والاستماع والتأمين عند تأمينه ليوافق تأمين الملائكة، ومقتضى الخصال المذكورة اختصاص التضعيف بالتجمع في المسجد، وهو الراجح، وعلى تقدير أن لا

يختص بالمسجد فإنما يسقط مما ذكر ثلاثة أشياء، وهي المشي والدخول والتحية، فيمكن أن تعوض من بعض ما ذكر مما يشتمل على خصلتين متقاربتين أقيمتا مقام خصلة واحدة، كالأخيرتين؛ لأن منفعة الاجتماع على الدعاء والذكر غير منفعة عود بركة الكامل على الناقص، وكذا فائدة قيام نظام الألفة غير فائدة حصول التعاهد، وكذا فائدة أمن المأمومين من السهو غالبًا غير تنبيه الإِمام إذا سها، فهذه ثلاثة يمكن أن يعوض بها الثلاثة المذكورة فيحصل المطلوب، قاله في الفتح. قلت: ما ذكر من التعويض غير مستقيم؛ لأن الأمور المذكورة موجودة في المسجد، فلا يمكن التعويض بها لغيره، ولا يرد على الخصال التي ذكرت كون بعضها يختص ببعض من صلى جماعة دون بعض، كالتبكير في أول الوقت وانتظار الجماعة وانتظار إحرام الإِمام ونحو ذلك؛ لأن أجر ذلك يحصل لقاصده بمجرد النية، ولو لم يقع. ومما ورد من الزيادة على العدد المذكور ما أخرجه ابن أبي شَيبة عن ابن عباس موقوفًا عليه قال: فضل صلاة الجماعة على صلاة المنفرد خمس وعشرون درجة، قال: فإن كانوا أكثر من ذلك فعلى عدد من في المسجد، فقال رجل: وإن كانوا عشرة آلاف؟ قال: نعم. وهذا له حكم الرفع، لأنه لا يقال بالرأي، لكنه غير ثابت. وما أخرجه ابن حبان وأبو داود زيادة في حديث أبي سعيد الذي أخرجه البخاري قال: "فإن صلاّها في فلاة فأتم ركوعها وسجودها بلغت خمسين صلاة" وكأن السر في ذلك أن الجماعة لا تتأكد في حق المسافر لوجود المشقة، بل حكى النوويّ أنه لا يجري فيه الخلاف في وجوبها، لكن فيه نظر، فإنه خلاف نص الشافعيّ، وحكى أبو داود عن عبد الواحد قال في هذا الحديث: إن صلاة الرجل في الفلاة تضاعف على صلاته في الجماعة، وكأنه أخذه من إطلاق قوله "فإن صلاها" لتناوله الجماعة والانفراد، ولكن حمله على الجماعة أولى، وهو الذي يظهر من السياق. ويلزم على ما قال النوويّ أن ثواب المندوب يزيد على ثواب الواجب عند من يقول بوجوب الجماعة، وقد استشكله القَرافيّ على أصل الحديث بناء على

القول بأنها سنة، ثم أورد عليه أن الثواب المذكور مرتب على صلاة الفرض وصنفه من صلاة الجماعة، فلا يلزم منه زيادة المندوب على الواجب، وأجاب بأنه تفرض المسألة فيمن صلى وحده ثم أعاد في جماعة، فإن ثواب الفرض يحصل له بصلاته وحده، والتضعيف يحصل بصلاته في الجماعة، فبقي الإشكال على حاله، وفيه نظر؛ لأن التضعيف لم يحصل بسبب الإعادة، وإنما حصل بسبب الجماعة، إذ لو أعاد منفردًا لم تحصل له إلا صلاة واحدة، فلا يلزم منه زيادة ثواب المندوب على الواجب. واستدل بالحديث على أن الجماعة ليست شرطًا لصحة الصلاة, لأن قوله "على صلاته وحده" يقتضي صحة صلائه منفردًا، لاقتضاء صيغة أفعل الاشتراك في أصل التفاضل، فإن ذلك يقتضي وجود فضيلة في صلاة المنفرد وما لا يصح لا فضيلة فيه. قال القرطبي وغيره: لا يقال إن لفظة أفعل قد ترد لإثبات صفة الفضل في إحدى الجهتين، كقوله تعالى: {وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} لأنا نقول: إنما يقع ذلك على قلة، حيث ترد صيغة أفعل مطلقة غير مقيدة بعدد معين، فإذا قلنا هذا العدد أزيد من هذا بكذا، فلابد من وجود أصل العدد، ولا يقال يحمل المنفرد علي، المعذور؛ لأن قوله "صلاة الفذ" صيغة عموم، فيشمل من صلى منفردًا بعذر ويغير عذر، فتحمله على المعذور يحتاج إلى دليل، وأيضًا ففضل الجماعة حاصل للمعذور لما سيأتي من هذا الكتاب عن أبي موسى مرفوعًا "إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا". وأشار ابن عبد البر إلى أن بعضهم حمله على صلاة النافلة، ثم رده بحديث "أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" واستدل بهذا على استواء الجماعات في الفضل سواء كثرت الجماعة أو قلت؛ لأن الحديث دل على فضيلة الجماعة على المنفرد بغير واسطة، فيدخل فيه كل جماعة. وبما روي عن ابن أبي شيبة بإسناد صحيح، عن إبراهيم النخعيّ قال: إذا صلى الرجل مع الرجل فهما جماعة لهم التضعيف خمسًا وعشرين. وهو مسلم في أصل الحصول، لكنه لا ينفي مزيد الفضل لما كان أكثر، لاسيما مع وجود النص المصرح به، وهو ما

رواه أحمد وأصحاب السنن، وصححه ابن خزيمة وغيره عن أُبي بن كعب مرفوعًا "صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كثر فهو أحب إلى الله تعالى" وله شاهد قوي في الطبراني عن قَبَاث، بفتح القاف, بن أَشْيم، بوزن أحمر، ويترتب على الخلاف المذكور أن من قال التفاوت استحب اعادة الجماعة مطلقًا، لتحصيل الأكثرية، ولم يستحب ذلك الآخرون، ومنهم من فصل فقال: تعاد مع الأعلم أو الأورع أو في البقعة الفاضلة. ووافق مالك على الأخير، لكن قصره على المساجد الثلاثة. وحاصل مذهبه في الإعادة في المساجد الثلاثة هو ما نظمه بعضهم بقوله: امنع إعادة من صلى فريضته ... بمسجد المصطفى والقدسِ والحرمِ ومن يصل بغيرٍ مفردًا يُعِدَنْ ... بها ولو مفردًا فاحفظه واغتنم ومن يصل بها فردًا يعيد بها ... جمعًا، وقيل وفردًا، فزت بالنعم والتفاضل المنفي عند مالك بين الجماعات المرادُ به التفاضل الذي تعاد الصلاة لأجله، وأما نفس الفضل فتحاصل، إذ لا نزاع أن الصلاة مع الصلحاء والعلماء والكثير من أهل الخير أفضل من غيرهم لشمول الدعاء وسرعة الإجابة وكثرة الرحمة، وقبول الشفاعة، وكما أن الجماعة تتفاوت في الفضل بالقلة والكثرة، وغير ذلك مما ذكر، كذلك يفوق بعضها بعضًا من جهة الأوقات، كالجماعة في صلاة الفجر، كما يأتي للمصنف في أبواب الجماعة الإشارةُ إليه. وقد استوفينا الكلام على هذا الجزء من الحديث استيفاء لا يحتاج إلى زيادة بعد هذا، عند ذكره في أبواب الجماعة. وقوله: فإنّ أحدكم، كذا للأكثر بالفاء، وللكشميهنيّ بالموحدة، وهي نسبية أو للمصاحبة. وقوله: فأحسن، أي أسبغ الوضوء. وقوله: ما لم يؤذ يحدث، كذا للأكثر بالفعل المجزوم على البدلية، ويجوز الرفع على الاستئناف، وللكشميهنيّ "ما لم يؤذ يحدث فيه" بلفظ الجار والمجرور متعلقًا

رجاله خمسة

بيؤذ، والمراد بالحدث الناقضُ للوضوء ويحتمل أن يكون أعم من ذلك، لكن صرح في رواية أبي داود وعن أبي هريرة بالأول، وقد مرت بقية مباحث هذا الجزء عند ذكره في باب الحدث في المسجد من أبواب المساجد، وعند ذكره في باب "من لم ير الوضوء إلا من المخرجين" في كتاب الوضوء. رجاله خمسة: الأول: مسدد، وقد مرَّ في السادس من كتاب الإيمان، ومرَّ أبو معاوية محمد بن خازم في الثالث منه، ومرَّ الأعمش سليمان بن مهران في الخامس والعشرين منه، ومرَّ أبو صالح وأبو هريرة في الثاني منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في أربعة، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، ورواته ما بين بصريّ وكوفي ومدني، أخرجه البخاري هنا وفي فضل الجماعة، ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه في الصلاة. ثم قال المصنف: باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره أورد فيه حديث أبي موسى، وهو دال على جواز التشبيك مطلقًا، وحديث أبي هريرة وهو دال على جوازه في المسجد، فهو في غيره أجوز، وقد اختلف العلماء في تشبيك الأصابع في المسجد وفي الصلاة، وكره إبراهيم ذلك في الصلاة، وهو قول مالك، ولا بأس عنده في غير الصلاة، ولو في المسجد، لكنه خلاف الأوْلى، ورخص في ذلك ابن عمر وابنه سالم، فكانا يشبكان أصابعهما في الصلاة، ذكره ابن أبي شيبة، وكان الحسن البصري يشبك بين أصابعه في المسجد. قال ابن بطال: وجه إدخال هذه الترجمة في الفقه معارضة ما ورد في النهي عن التشبيك في المسجد، وقد وردت فيه مراسيل ومسندةٌ من طرق غير ثابتة.

أما المسند فهو حديث كعب بن عُجْرة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم "إذا توضأ أحدكم ثم خرج عامدًا إلى المسجد، فلا يشبكن يديه، فإنه في صلاة" أخرجه أبو داود، وصححه ابن خُزيمة وابن حبان، وفي إسناده اختلاف ضعَّفه بعضهم بسببه. وروى ابن أبي شيبة من وجه آخر بلفظ "إذا صلى أحدكم فلا يشبكن بين أصابعه، فإن التشبيك من الشيطان، وإن أحدكم لا يزال في صلاة ما دام في المسجد حتى يخرج منه" وفي إسناده ضعيف ومجهول. وقال ابن المنير التحقيق أنه ليس بين هذه الأحاديث تعارض، إذ المنهي عنه فعله على وجه العبث، والذي في الحديث إنما هو لمقصود التمثيل وتصوير المعنى في النفس بصورة الحسن، وما قاله ظاهر في حديث ابن عمر وأبي موسى، دون حديث أبي هريرة، وجمع الإسماعيلي بأن النهي مقيد بما إذا كان في الصلاة أو قاصدًا لها، إذ منتظر الصلاة في حكم المصلي، وأحاديث الباب الدالة على الجواز خالية عن ذلك. أما الأولان فظاهر فيهما ذلك، وأما حديث أبي هريرة فلأن تشبيكه إنما وقع بعد انقضاء الصلاة في ظنه، وفي حكم المنصرف من الصلاة، والرواية التي فيها النهي عن ذلك ما دام في المسجد ضعيفة، كما مرَّ، فلا تعارض حديث أبي هريرة. واختلف في علة النهي عن التشبيك، فقيل: لكونه من الشيطان كما مرَّ، وقيل: لأن التشبيك يجلب النوم، وهو مظان الحَدَث، وقيل لأن صورة التشبيك تشبه صورة الاختلاف، كما نبه عليه في حديث ابن عمر الآتي قريبًا، فكره ذلك لمن هو في حكم الصلاة، حتى لا يقع في المنهي عنه، وهو قوله صلى الله تعالى عليه وسلم للمصلين "ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم".

الحديث الحادي والثمانون

الحديث الحادي والثمانون حَدَّثَنَا حَامِدُ بْنُ عُمَرَ عَنْ بِشْرٍ حَدَّثَنَا عَاصِمٌ حَدَّثَنَا وَاقِدٌ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَوِ ابْنِ عَمْرو: شَبَّكَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَصَابِعَهُ. * وَقَالَ عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ سَمِعْتُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي فَلَمْ أَحْفَظْهُ، فَقَوَّمَهُ لِي وَاقِدٌ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي وَهُوَ يَقُولُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرو، كَيْفَ بِكَ إِذَا بَقِيتَ فِي حُثَالَةٍ مِنَ النَّاسِ بِهَذَا. وهذا الحديث ليس في أكثر الروايات، ولا استخرجه الإسماعيلي ولا أبو نعيم، بل ذكره أبو مسعود في الأطراف من رواية ابن رميح عن الفِرَبريّ وحماد بن شاكر، جميعًا عن البخاريّ، وساقه الحميديّ في الجمع بين الصحيحين نقلًا عن أبي مسعود، ولفظه شبك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أصابعه وقال: "كيف أنت يا عبد الله إذا بقيت في حثالة من الناس، قد مرجت عهودهم وأماناتهم، واختلفوا فصاروا هكذا، وشبك بين أصابعه؟ قال: فكيف أفعل يا رسول الله؟ قال: تأخذ ما تعرف، وتدع ما تنكر، وتقبل على خاصتك، وتدعهم وعوامهم". وإلحثالة بضم الحاء بالمثلثة، ويقال لها الحُفَالة، بالفاء بدل المثلثة، فهما بمعنى. قال الخطابيّ: الحثالة بالفاء وبالمثلثة، الرديء من كل شيء، وقيل آخر ما يبقى من الشعير والتمر وأراده. وقال ابن التين: الحثالة سقط الناس، وأصلها ما يتساقط من قشور التمر والشعير وغيرهما. وقال الداودي: ما يسقط من الشعير عند الغربلة ويبقى من التمر بعد الأكل. وأخرج أبو سعيد بن يونس في تاريخ مصر عن الفزارية، امرأة عمر "تذهبون الخير فالخيّر، حتى لا يبقى منكم

فيه تسعة أنفس

إلا حثالة كحثالة التمر، ينزو بعضهم على بعض نزو المعز" وليس فيه تصريح بالرفع، ولكنه في حكم المرفوع. وقوله: مرجت عهودهم وأماناتهم، أي فسدت، يقال: مرجت عهودهم إذا لم تثبت، وأمرجوها إذا لم يفوا بها، ومرج الدين اختلط، واضطرب. فيه تسعة أنفس: الأول: حامد بن عمر بن حفص بن عبيد الله بن أبي بكرة الثقفيّ البكراويّ، أبو عبد الرحمن البصريّ، قاضي كرمان، نزل نيسابور، وذكره ابن حبّان في الثقات، وقال هو عندي ثقة. روى عن بكار بن عبد العزيز بن أبي بكرة وأبي عوانة وبشر بن المفضل وغيرهم. وروى عنه البخاري ومسلم وإبراهيم بن أبي طالب والحسن بن محمد القبانيّ. مات أول سنة ثلاث وثلاثين ومئتين. والبكراويّ في نسبه نسبة إلى أبي بكرة الصحابي الثقفي، لكن الذي في القاموس وشرحه أن البكراوي نسبة إلى شيئين: إلى بني بكر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، واسمه عَبيد، ولقبه البزريّ، أو إلى بكر آباذ، محلة بجرجان، فمن الأول مطيع بن عامر بن عوف الصحابي، وأخوه ذو اللحية شريح، له صحبة وغيرهما. ومن الثاني أبو سعيد بن محمد البكراويّ، وأبو الفتح سهل بن علي بن أحمد البكراويّ وغيرهما. الثاني: بشر بن المفضل، وقد مرَّ في التاسع من كتاب العلم، ومرَّ واقد بن محمد وأبو محمد بن زيد في الثامن عشر من كتاب الإيمان, ومرَّ عبد الله بن عمرو بن العاص في الثالث منه، ومرَّ ابن عمر في أوله قبل ذكر حديث منه، ومرَّ عاصم بن محمد في الرابع من كتاب الصلاة، ومرَّ عاصم بن علي في الثامن عشر منه. والتاسع: أبو عبد الله، والمراد البخاريّ نفسه.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في أربعة مواضع، والعنعنة في أربعة، والقول والسماع والشك بين عبد الله بن عمرو بن العاص. ورواته ما بين بصريّ ومدنيّ. وقول البخاري: قال عاصم بن علي تعليقٌ منه، ووصله إبراهيم الحربي في غريب الحديث له.

الحديث الثاني والثمانون

الحديث الثاني والثمانون حَدَّثَنَا خَلاَّدُ بْنُ يَحْيَى قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ جَدِّهِ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ. قوله: إن المؤمن كالبنيان، فيه إثبات "إنّ" هنا، وفي روايته في الأدب "المؤمن للمؤمن" بحذف إن، واللام فيه للجنس، والمراد ببعض المؤمنين للبعض، وقوله: يشد بعضه بعضًا، في رواية المستملي شد بلفظ الماضي، وهو بيان لوجه التشبيه. وقال الكرماني: نصب بعضًا بنزع الخافض، وقال غيره: بل هو مفعول يشد، ولكل وجه. قال ابن بطال: والمعاونة في أمور الآخرة، وكذا في الأمور المباحة من الدنيا مندوبٌ إليها. وقد ثبت حديث أبي هريرة "والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه". وقوله: وشبك أصابعه، وفي رواية الأدب "بين أصابعه" وهو بيان لوجه التشبيه أيضًا، أي شد بعضهم بعضًا مثل هذا الشد. ويستفاد منه أن الذي يريد المبالغة في بيان أقواله يمثلها بحركاته، ليكون أوقع في نفس السامع. رجاله خمسة: الأول: خلاد بن يحيى، وقد مرَّ في التاسع والعشرين من كتاب الغسل، ومرَّ سفيان الثَّوري في السابع والعشرين من كتاب الإيمان، ومرَّ بُريد وجده أبو بُردة وأبو موسى الأشعري في الرابع منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في ثلاثة، وشيخ

البخاري من أفراده، ورواته كلهم كوفيون، وفيه رواية الرجل عن جده، ورواية الابن عن أبيه. وأخرجه البخاري في الأدب والمظالم أيضًا، ومسلم في الأدب، والتِّرمذيّ في البر، والنَّسائيّ في الزكاة.

الحديث الثالث والثمانون

الحديث الثالث والثمانون حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ ابْنُ شُمَيْلٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِحْدَى صَلاَتَيِ الْعَشِيِّ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ سَمَّاهَا أَبُو هُرَيْرَةَ وَلَكِنْ نَسِيتُ أَنَا قَالَ فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، فَقَامَ إِلَى خَشَبَةٍ مَعْرُوضَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَاتَّكَأَ عَلَيْهَا، كَأَنَّهُ غَضْبَانُ، وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وَوَضَعَ خَدَّهُ الأَيْمَنَ عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ الْيُسْرَى، وَخَرَجَتِ السَّرَعَانُ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالُوا قَصُرَتِ الصَّلاَةُ. وَفِي الْقَوْمِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ، وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ فِي يَدَيْهِ طُولٌ يُقَالُ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَسِيتَ أَمْ قَصُرَتِ الصَّلاَةُ قَالَ لَمْ أَنْسَ، وَلَمْ تُقْصَرْ. فَقَالَ أَكَمَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ. فَقَالُوا نَعَمْ. فَتَقَدَّمَ فَصَلَّى مَا تَرَكَ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ، ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ. فَرُبَّمَا سَأَلُوهُ ثُمَّ سَلَّمَ فَيَقُولُ نُبِّئْتُ أَنَّ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ قَالَ ثُمَّ سَلَّمَ. قوله: إحدى صلاَتيْ العشي، كذلك للأكثر وللمستملي والحمويّ "العشاء" بالمد، وهو وهم، فقد صح أنها الظهر أو العصر. روى شُعبة عن أبي هريرة عند المصنف في سجود السهو "الظهر أو العصر" بالشك، وروى عنه في أبواب الإمامة الظهر بغير شك، وفي رواية أبي سلمة عند مسلم صلاة الظهر، وله أيضًا "العصر" بغير شك. وفي رواية لمسلم "إحدى صلاتي العشي، إما الظهر وإما العصر". وعند المصنف عن ابن سيرين أنه قال "وأكثر ظني أنها العصر".

والظاهر أن الاختلاف فيه من الرواة، وأبعد من قال: يحمل على أن القصة وقعت مرتين، بل روى النَّسائيّ عن ابن سيرين أن الشك فيه من أبي هريرة، ولفظه صلى الله تعالى عليه وسلم "إحدى صلاتي العشي". قال أبو هريرة: ولكني نسيتها، فالظاهر أن أبا هريرة رواه كثيرًا على الشك، وكان ربما غلب على ظنه أنها الظهر فجزم بها، وتارة غلب على ظنه أنها العصر فجزم بها، وطرأ الشك في تعيينها أيضًا على ابن سيرين، وكان السبب في ذلك الاهتمام بما في القصة من الأحكام الشرعية، ولم تختلف الرواة في حديث عمران، في قصة الخِرْباق، أنها العصر، فإن قلنا إنها قصة واحدة، فتترجح رواية من عين العصر في حديث أبي هريرة. وابتداء العشي من أول الزوال. وقوله: فقام إلى خشبة معروضة في المسجد، فاتكأ عليها، وفي رواية السهو، ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد، فوضع يده عليها فقدم المسجد، أي في جهة القبلة. وقوله: معروضة، أي فوضوعة بالعرض، ولمسلم "ثم أن جذعًا في قبلة المسجد، فاستند إليها مُغْضَبًا" ولا تنافي بين هذه الروايات, لأنها تحمل على أن الجذع قبل اتخاذ المنبر كان ممتدًا بالعرض، وكان الجذع الذي كان صلى الله تعالى عليه وسلم يستند إليه قبل اتخاذ المنبر، وبذلك جزم بعض الشرّاح. وقوله: ووضع خده الأيمن على ظهر كفه اليسرى، هذه رواية الكشميهني، وهي أشبه من رواية "ووضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى" لما في الأخير من التكرار. وقوله: وخرجت السَّرَعان من أبواب المسجد، بفتح المهملات، ومنهم من سكن الراء، وحكى عياض أن الأصيلي ضبطه بضم ثم إسكان، كأنه جمع سريع ككثيب وكثبان، والمراد بهم أوائل الناس خروجاً من المسجد، وهم أصحاب الحاجات غالبًا. وقوله: فقالوا أقُصرت ألصلاة، أي بهمزة الاستفهام، وفي رواية بحذفها، وقصرت بضم القاف وكسر المهملة على البناء للمفعول، أي أن الله قصرها، وبفتح ثم ضم على البناء للفاعل، أي صارت قصيرة. قال النووي: وهذا أكثر وأرجح.

وقوله: فهابا أن يكلماه، وفي رواية "فهاباه" بزيادة الضمير، والمعنى أنهما غلب عليهما احترامه وتعظيمه من الاعتراض عليه. وأما ذو اليدين فغلب عليه حرصه على تعلم العلم. وفيه دليل على ورعهم، إذ لم يجزموا بوقوع شيء بغير علم، وهابوا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن يسألوه، وإنما استفهموه, لأن الزمان زمان النسخ. وقوله: وفي القوم رجل في يده طُول يقال له ذو اليدين، وهو محمول على الحقيقة، ويحتمل أن يكون كناية عن طولها بالعمل أو بالبذل، وجزم ابن قتيبة بأنه كان يعمل بيديه جميعًا، والصواب التفرقة بين ذي اليدين وذي الشمالين، كما يأتي إيضاحه في تعريفه قريبًا. ومن أدلة قول أبي هريرة في هذا الحديث "صلى بنا" فإنه ظاهر في أن أبا هريرة حضر القصة، وإسلامه متأخر بأكثر من خمس سنين عن موت ذي الشمالين المقتول ببدر، وحمل الطحاويّ قوله "صلى بنا" على المجاز قائلًا: "إن المراد صلى بنا أي صلى بالمسلمين، ويرده رواية مسلم عن أبي هريرة "بينما أنا أصلي مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم" وقد جوز بعض الأئمة أن تكون القصة قد وقعت لكل من ذي الشمالين وذي اليدين، وأن أبا هريرة روى الحديثين، فأرسل أحدهما، وهو قصة ذي الشمالين، وشاهد الآخر، وهو قصة ذي اليدين، وهذا محتمل من طريق الجمع. وقيل: يحمل على أن ذا الشمالين كان يقال له أيضًا ذو اليدين، وبالعكس، فكان ذلك سببًا للاشتباه. وقد اتفق معظم أهل الحديث من المصنفين وغيرهم على أن ذا الشمالين غير ذي اليدين. ونص الشافعي على ذلك في اختلاف الحديث، وذهب أكثر إلى أن اسم ذي اليدين خِرباق، بكسر المعجمة وسكون الراء آخره قاف، اعتمادًا على ما عند مسلم في حديث عمران بن حصين بلفظ "فقام إليه رجل يقال له الخِرباق، وكان في يديه طول "وهذا صنيع من يوحد بين حديث أبي هريرة وحديث عمران بن حصين، وهو الراجح في النظر، وإن كان ابن خزيمة ومن تبعه جنحوا إلى التعدد، والحاصل لهم على ذلك الاختلاف الواقع بين السياقين. ففي حديث أبي هريرة أن السلام وقع من اثنتين، وأنه صلى الله تعالى عليه

وسلم قام إلى خشبة في المسجد. وفي حديث عمران أنه سلم من ثلاث ركعات، وأنه دخل منزله أما فرغ من الصلاة، فأما الأول فقد حمله بعض الشيوخ على أن المراد به أنه سلم في ابتداء الركعة الثالثة، واستبعد. ولكن طريق الجمع يكتفي فيها بأدنى ملابسة، وليس بأبعد من دعوى تعدد القصة، فإنه يلزم منه كون ذي اليدين في كل مرة استفهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن ذلك، واستفهم النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم الصحابة عن صحة قوله. وأما الثاني فلعل الراوي أما رآه تقدم من مكانه إلى جهة الخشبة، ظن أنه دخل منزله، لكون الخشبة كانت في منزله، فإن كان كذلك، وإلا فرواية أبي هريرة أرجح، لموافقة ابن عمر له على سياقه، كما أخرجه الشافعيّ وأبو داود وابن ماجه، ولموافقة ذي اليدين نفسه له على سياقه، كما أخرجه أبو بكر الأثرم وعبد الله بن أحمد في زيادات المسند، وأبو بكر بن أبي حَثمة وغيرهم. وفي الحديث هنا ما يدل على أن محمد بن سيرين راوي الحديث عن أبي هريرة، كان يرى التوحيد بينهما، وذلك أنه قال آخر حديث أبي هريرة: نبئت أن عمران بن حصين قال: ثم سلم. وقوله: قال لم أنس ولم تُقصر، كذا في أكثر الطرق وهو صريح في نفي النسيان، ونفي القصر، وفيه تفسير للمراد بقوله في رواية أبي سفيان عن أبي هريرة عند مسلم "كل ذلك لم يكن" وتأييدًا لما قاله أصحاب المعاني: إن لفظ كل إذا تقدم وعقبها النفي كان نفيًا لكل فرد لا للمجموع، بخلاف ما إذا تأخرت، كأن يقول: لم يكن كل ذلك، ولهذا أجاب ذو اليدين في رواية أبي سفيان بقوله: قد كان بعض ذلك. وأجابه في هذه الرواية بقوله: بلى قد نسيت، لأنه لما نفى الأمرين، وكان مقررًا عند الصحابيّ أن السهو غير جائز عليه في الأمور البلاغية، جزم بوقوع النسيان لا بالقصر، وهو حجة لمن قال إن السهو جائز على الأنبياء فيما طريقه التشريع، إلى آخر ما مرَّ مستوفى عند حديث ابن مسعود في باب التوجه نحو القبلة. وقال بعض العلماء: إن قول ذي اليدين "بلى قد نسيت" أوقع شكًا في قلبه

عليه الصلاة والسلام، احتاج معه إلى استثبات الحاضرين، وبما قاله يجاب من قال: إن من أخبر بأمر حسي بحضرة جمع لا يخفى عليهم ولا يجوز عليهم التواطؤ، ولا حامل لهم على السكوت عنه، ثم لم يكذبوه، أنه لا يقطع بصدقه، فإن سبب عدم القطع كون خبره معارضًا باعتقاد المسؤول خلاف ما أخبر به. وفيه أن الثقة إذا انفرد بزيادة خبر وكان المجلس متحدًا أو منعت العادة غفلتهم عن ذلك أن يقبل خبره، وفيه العمل بالاستصحاب, لأن ذا اليدين استصحب حكم الإتمام، فسأل مع كون أفعال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم للتشريع، والأصل عدم السهو، والوقت قابل للنسخ، وبقية الصحابة ترددوا بين الاستصحاب وتجويز النسخ، فسكتوا. والسَّرعَان هم الذين بنوا على النسخ، فجزموا بأن الصلاة قُصِرت، فيؤخذ منه جواز الاجتهاد في الأحكام. قلت: لم يقع من السَّرَعان ولا من غيرهم الجزمُ بالقصر، وإنما وقع الاستفهام، ومرَّ أن النُّسخة التي لم يذكر فيها لفظ الاستفهام تحمل على ما ذكر فيها ليحصل الوفاق بين النسختين. وقوله: فصلى ما ترك ثم سلم ثم كبر وسجد، يفيد أن السهو لا تكبيرة إحرام فيه، وقد اختلف في سجود السهو بعد السلام، هل يشترط له تكبيرة إحرام أو يكتفى بتكبير السجود؟ فالجمهور على الاكتفاء، وهو ظاهر غالب الأحاديث. وحكى القرطبيّ أن قول مالك لم يختلف في وجوب السلام بعد سجدتي السهو، قال: وما يتحلل منه بسلام، لابد له من تكبيرة إحرام ما رواه أبو داود عن حماد بن زيد في هذا الحديث، قال: "فكبر ثم كبر وسجد للسهو". قال أبو داود: ولم يقل أحد فكبر ثم كبر إلا حماد بن زيد، فأشار إلى شذوذ هذه الزيادة. وقال القرطبيّ أيضًا: قوله في رواية مالك يعني المُخَّرجة عند البخاري في السهو "فصلى ركعتين ثم سلم ثم كبر ثم سجد" يدل على أن التكبيرة للإحرام؛ لأنه انما أتي بثُم التي تقتضي التراخي، فلو كان التكبير للسجود لكان معه. وتعقب بأن ذلك من تصرف الرواة، ففي رواية ابن عون المذكورة هنا عن ابن سيرين بلفظ "فصلى ما ترك ثم سلم ثم كبر وسجد" فأتي بواو المصاحبة التي تقتضي المعية.

قلت: مشهور مذهب مالك مثل الجمهور، لا تكبيرة إحرام لسجود السهو عنده، واختلف في التشهد في سجدتي السهو، فإن كان السجود قبل السلام فالجمهور على أنه لا يعيد التشهد، وحكى ابن عبد البر عن الليث أنه يعيده، وعن البويطيّ عن الشافعيّ مثله، وخطّؤوه في هذا النقل، فإنه لا يعرف. وعن عطاء يتخير، واختلف فيه عن المالكية، ومشهور مذهبهم إعادته، وقد رواه أبو داود والتِّرمذيّ وابن حبّان والحاكم عن أشعث بن عبد الملك عن محمد بن سيرين عن خالد الحذّاء عن أبي قِلابة عن أبي المُهلب عن عمران بن حصين "أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم صلى بهم فسها، فسجد سجدتين، ثم تشهد ثم سلم، قال التِّرمذيّ: حسن غريب، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وقال ابن حبان عن ابن سيرين عن خالد غير هذا الحديث، وضعّفه البيهقيّ وابن عبد البر وغيرهما. ووهموا رواية أشعث لمخالفته غيره من الحفاظ عن ابن سيرين فإن المحفوظ عن ابن سيرين في حديث عمران ليس فيه ذكر التشهد. وروى السراج عن سلمة بن علقمة في هذه القصة قلت لابن سيرين: فالتشهد؟ قال: لم أسمع في التشهد شيئًا. وفي رواية ابن عون في هذا الباب عن ابن سيرين قال: نبئت أن عمران بن حصين قال: ثم أسلم، والمحفوظ عن خالد الحذاء بهذا الإسناد في حديث عمران ليس فيه ذكر التشهد، كما أخرجه مسلم، فصارت رواية أشعث شاذة، ولهذا قال ابن المنذر لا أحسب التشهد في سجود السهو يثبت، لكن قد ورد التشهد في سجود السهو عن ابن مسعود وعند أبي داود والنَّسائيّ، وعن المغيرة عند البيهقيّ، وفي إسنادهما ضعف. وقد يقال ان الأحاديث الثلاثة في التشهد باجتماعها ترتقي إلى درجة الحسن. قال العلائيّ: وليس ذلك ببعيد، وقد صح ذلك عن ابن مسعود من قوله أخرجه ابن أبي شيبة. وأما من سجد بعد السلام، فتحكى التِّرمذيّ عن أحمد وإسحاق أنه يتشهد، وهو قول بعض المالكية والشافعية، قلت: هو المشهور في مذهب مالك، ونقله أبو حامد الأسفرايني عن القديم، لكن وقع في مختصر المزنيّ:

سمعت الشافعيّ يقول: إذا سجد بعد السلام تشهد، وقبل السلام أجزأه التشهد الأول. وتأول بعضهم هذا النص على أنه تفريع على القول القديم، وفيه ما لا يخفى. وقوله: فربما سألوه "ثم سلم" أي ربما سألوا ابن سيرين هل في الحديث "ثم سلم"؟ فيقول: نبئت .. إلى آخره، وهذا يدل على أنه لم يسمع ذلك من عمران، وقد بين أشعث في روايته عن ابن سيرين الواسطة بينه وبين عمران، فقال ابن سيرين: حدثني خالد الحذّاء عن أبي قلابة عن عمه أبي المهلب عن عمران بن حصين. أخرجه أبو داود والنَّسائيّ والتِّرمذيّ، فظهر أن ابن سيرين أبهم ثلاثة في روايته عن خالد من رواية الأكابر عن الأصاغر. وفي الحديث أن الباني لا يحتاج إلى تكبير الإحرام، وأن السلام ونية الخروج من الصلاة سهوًا لا يقطع الصلاة، قلت: ومذهب المالكية أن التكبير فيه للإحرام مطلوب، وهل واجب أو سنة؟ الراجح السنة، ولذلك لم تبطل الصلاة بتركه، واستنبط من بعض القائلين بالرجوع اشتراط العدد في مثل هذا، وألحقوه بالشهادة، وفرّعوا عليه أن الحاكم إذا نسي حكمه وشهد به شاهدان أن يعتمد عليهما، واستدل به الحنفية على أن الهلال لا يُقبل بشهادة الآحاد إذا كانت مُصحية، بل لابد من عدد الاستفاضة، وتعقب بأن سبب الاستثبات كونه أخبر عن فعل النبي صلى الله تعالى وسلم. بخلاف رؤية الهلال، فإن الأبصار ليست متساوية في رؤيته، بل متفاوتة قطعًا، وعلى أن مَن سلّم معتقدًا أنه أتم، ثم طرأ عليه شك، هل أتم أو نقص، أن يكتفي باعتقاده الأول، ولا يجب عليه الأخذ باليقين، ووجهه أن ذا اليدين لما أخبر أثار خبره شكًا، ومع ذلك لم يرجع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حتى استثبت، وعلى جواز التعريف باللقب، وسيأتي في كتاب الأدب إن شاء الله تعالى، وعلى الترجيح بكثرة الرواة، وتعقبه ابن دقيق العيد بان المقصود كان تقوية الأمر المسؤول عنه، لا ترجيح خبر على خبر. وفيه أن من تحوّل عن القبلة ساهيًا لا إعادة عليه، وفيه إقبال الإمام على الجماعة

رجاله خمسة

بعد الصلاة، واستدل به البيهقيّ على أن عزوب النية بعد الإحرام بالصلاة لا يبطلها، ومباحث هذا الحديث كثيرة جداً وقد مرَّ أكثرها عند حديث ابن مسعود في باب التوجه نحو القبلة، وفي الباب الذي بعده، والباقي ذكرته هنا، فلم يبق من مباحثه ما يحتاج للذكر، إذا أعطى الله الوصول إلى محله في باب السهو. رجاله خمسة: وفيه ذكر عمر وأبي بكر وذي اليدين. الأول: إسحاق بن منصور، وقد مرَّ في تعليق بعد الحادي والعشرين من العلم، ومرَّ عبد الله بن عون في التاسع منه، ومرَّ النضر بن شميل في متابعة السابع عشر من كتاب الوضوء، ومرَّ محمد بن سيرين في الأربعين من كتاب الإيمان، ومرَّ أبو هُريرة في الثاني منه، ومرَّ عمر في الأول من بدء الوحي، ومرَّ أبو بكر في باب من لم يتوضأ من لحم الشاة بعد السبعين من كتاب الوضوء، وفي السند عمران بن حصين، وقد مرَّ في الحادي عشر من التيمم. وأما ذو اليدين، فهو رجل من بني سُلَيم، يقال له الخِرباق، حجازيّ، شهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وهم في صلاته فخاطبه، وليس هو ذا الشمالين، فذو الشمالين رجل خزاعيّ حليف لبني زهرة، قُتل يوم بدر، وذو اليدين عاش حتى روى عنه المتأخرون من التابعين، وشهد أبو هريرة يوم ذي اليدين، وهو الراوي لحديثه، وصح فيه قوله صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم "وبينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم" وأبو هريرة أسلم عام خيبر بعد بدر بأعوام، فهذا يبين لك أن ذا اليدين الذي راجع النبيَ صلى الله عليه وسلم يومئذ في شأن الصلاة ليسَ بذي الشمالين المقتول يوم بدر. وروى أبو شيبة أن محمد بن سُويد أفطر قبل الناس بيوم، فأنكر عليه عمر بن عبد العزيز، فقال: شهد عندي فلان أنه رأى الهلالَ، فقال عمر: أو ذو اليدين هو؟ وفرق ابن حبان بين خِرباق وذي اليدين، والصحيح ما مرَّ من أنهما واحد، وأخرج أحمد من طريق أم حكيم، أن أم إسحاق كانت عند النبي صلى الله عليه

باب المساجد التي على طرق المدينة والمواضع التي صلى فيها صلى الله عليه وسلم

وسلم، فأتي بقصعة من ثريد فأكلتْ معه، ومعه ذو اليدين، فناولها رسول الله صلى الله عليه وسلم عَرَقًا فقال: يا أم إسحاق أصيبي من هذا، فذكرت أني صائمة، فنسيت، فقال ذو اليدين ألآن بعدما شبعت؟ فقال النبي صلى الله علبه وسلم: إنما هو رزق ساقه الله إليكِ. فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والإخبار كذلك في موضع واحد، والعنعنة في موضعين، ورواته ما بين مروزيّ وبصريّ، أخرجه البخاريّ هنا وفي محل آخر، ومسلم وأبو داود والنَّسائيّ وابن ماجه، في الصلاة. ثم قال المصنف: باب المساجد التي على طرق المدينة والمواضع التي صلى فيها صلى الله عليه وسلم أي في الطرق التي بين المدينة النبوية ومكة، وقوله: والمواضع، أي الأماكن التي تجعل مساجد.

الحديث الرابع والثمانون

الحديث الرابع والثمانون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِىُّ قَالَ حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ قَالَ: رَأَيْتُ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَتَحَرَّى أَمَاكِنَ مِنَ الطَّرِيقِ فَيُصَلِّي فِيهَا، وَيُحَدِّثُ أَنَّ أَبَاهُ كَانَ يُصَلِّي فِيهَا، وَأَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي فِى تِلْكَ الأَمْكِنَةِ * وَحَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فِي تِلْكَ الأَمْكِنَةِ. وَسَأَلْتُ سَالِمًا، فَلاَ أَعْلَمُهُ إِلاَّ وَافَقَ نَافِعًا فِي الأَمْكِنَةِ كُلِّهَا إِلاَّ أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي مَسْجِدٍ بِشَرَفِ الرَّوْحَاءِ. قوله: وحدثني نافع، القائل ذلك هو موسى بن عقبة، ولم يسق المصنف لفظ فضيل بن سليمان، بل ساق لفظ أنس بن عياض، لكونه أتقن من فضيل، ودلت روايته على أن رواية سالم ونافع متفقتان إلا في الموضع الواحد الذي أشار إليه. وقوله: بشَرَف الرَّوْحاء، أي بفتح الشين المعجمة والراء آخره فاء في الأول، وبفتح الراء وسكون الواو وبالحاء المهملة ممدودًا في الثاني، قالَ أبو عُبيد الله البكريّ هي قرية جامعة لمُزَينة على ليلتين من المدينة، بينهما أحد وأربعون ميلًا، وفي صحيح مسلم في الأذان: بينهما ستة وثلاثون ميلًا. وللزمخشريّ في كتاب الجبال: بين المدينة والروحاء أربعة بُرُد إلا ثلاثة أميال. ولابن أبي شيبة ثلاثون ميلًا. قيل: سميت الروحاء لكثرة أرواحها، وبها بناء يزعمون أنه قبر مضر بن نزار. وروى غير واحد أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال؛ وقد وصل المسجد الذي ببطن الروحاء عند عرق الظبية، "هذا واد من أودية الجنة، وصلى في هذا الوادي سبعون نبيًا عليهم الصلاة والسلام"، وهذا أخرجه التِّرمذيُّ، "وقد مرَّ به موسى بن عمران حاجًا أو معتمرًا في سبعين ألفا من بني إسرائيل"

رجاله ستة

وروى أبو هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال: "والذي نفسي بيده لَيُهِلَّنَّ ابنُ مريم عليهما السلام. بفَجّ الروحاء حاجًا أو معتمرًا أو بثنتيها". رجاله ستة: الأول: محمد بن أبي بكر بن علي بن عطاء بن مقدم المقدميّ، أبو عبد الله، الثقفيّ مولاهم، البصريّ. قال عبد الخالق بن منصور: قلت ليحيى: أكتب عنه أحاديث أبيه، قال: اكتب. وقال أيضًا عن يحيى: ثقة، وقال أبو زرعة: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح الحديث، محله الصدق. وقال ابن قانع: كان ثقة. روى عن عمه عمر بن علي المقدميّ ويزيد بن زريع وحماد بن زيد وابن علية وبشر بن المُفَضَّل وأبي عَوانة وغيرهم. وروى عنه البُخاريّ ومسلم، وروى البخاريّ عن أحمد غير منسوب، وروى عنه أبو زرعة وأبو حاتم وغيرهم. مات سنة أربع وثلاثين ومئتين في شعبان. الثاني: فُضَيل بن سُليمان النُّميري، مصغرًا أبو سليمان البصري، والنُّميري في نسبه نسبة إلى نمير كزبير بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن، أبي قبيلة من قيس عَيلان، وفيهم قال الشاعر: فغضَّ الطرفَ إنك من نمير ... فلا كعبًا بلغت ولا كلابا قال عباس الدوريّ عن ابن معين: ليس بثقة. وقال أبو زرعة: ليِّن الحديث، وروى عنه ابن المَدِينيّ وكان من المتشددين وقال أبو حاتم: يكتب حديثه، ليس بالقوي. وقال أبو داود: كان عبد الرحمن لا يحدث عنه. قال الآجريّ: وسمعت أبا داود يقول: ذهب فُضَيل بن سليمان والسمنيّ إلى موسى بن عقبة، فاستعارا منه كتابًا، فلم يرداه إليه. وقال النّسائيّ: ليس بالقوي، وذكره ابن حبّان في الثقات. وقال صالح جزرة: منكر الحديث، روى عن موسى بن عقبة مناكير. وقال الساجي عن ابن مُعين: ليس هو بشيء، ولا يكتب حديثه. قال الساجي: كان صدوقاً وعنده مناكير. وقال ابن قانع: ضعيف، وذكره ابن عديّ وأورد له أحاديث، ولم يقل فيه شيئًا. وقال الآجريّ:

سألت أبا داود عن حديث فُضيل بن سليمان بن عبد الرحمن بن إسحاق عن الزّهري فقال: ليس بشيء، انما هو حديث ابن المنكدر. قال ابن حجر في مقدمته: روى له الجماعة، وليس له في البخاريّ سوى أحاديث توبع عليها، منها في الخُمس حديثه عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر في إجلاء اليهود، تابعه عليه ابن جُريج. ومنها في المناقب حديثه بهذا الإسناد في قصة زيد بن عمرو بن نُفيل، تابعه عليه عبد العزيز بن المختار عند أبي يعلى، ومنها حديثه عن مسلم بن أبي مريم عن عبد الرحمن بن جابر، عمن سمع النبي صلى الله عليه وسلم، وتابعه عليه عند سليمان بن يسار عن عبد الرحمن بن جابر، وسمّى المبهم المذكور أبا بردة بن نيار. ومنها في الطهارة حديثه عن منصور بن عبد الرحمن عن عائشة، أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسلها الحيض ... الحديث، تابعه عليه ابن عُيينة ووهب وغيرهما. ومنها في الرِّقاق عن أبي حازم عن سهل بن سعد في حفر الخندق، تابعه عليه عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه، ومنها بهذا الإِسناد حديث "ليدخلنَّ الجنة من أمتي سبعون ألفًا ... " الحديث، تابعه عليه عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه. قلت: فيما قاله ابن حجر نظر من وجهين، أحدهما أن هذا الحديث رواه عنه البخاري .. ولم يذكره ابن حجر، والثاني أنه قال إن الحديث المذكور في الطهارة، المروي عن صفية بنت شيبة، مرويٌّ عنه، وليس كذلك، فإنه هو الحديث الرابع من أحاديث الحيض، وليس مرويًا عنه، بل هو مرويّ عن زهير بن معاوية عن منصور بن عبد الرحمن، والكمال لله وحده. روى عن أبي مالك الأشجعيّ وغيره، وروى عنه أبو عاصم الضحاك وغيره. الثالث: موسى بن عقبة، وقد مرَّ في الخامس من كتاب الوضوء، ومر نافع في الثالث والسبعين من كتاب العلم، ومرَّ سالم بن عبد الله في السابع عشر من كتاب الإيمان، ومرَّ عبد الله بن عمر في أول كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه. فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، وفيه التحديث بصيغة

المضارع المفرد وبلفظ الماضي المفرد، والعنعنة في موضع واحد، والرؤية بصيغة الماضي للمتكلم، ورواته ما بين مدنيّ وبصريّ.

الحديث الخامس والثمانون

الحديث الخامس والثمانون حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَنْزِلُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ حِينَ يَعْتَمِرُ، وَفِي حَجَّتِهِ حِينَ حَجَّ، تَحْتَ سَمُرَةٍ فِي مَوْضِعِ الْمَسْجِدِ الَّذِي بِذِي الْحُلَيْفَةِ، وَكَانَ إِذَا رَجَعَ مِنْ غَزْوٍ كَانَ فِي تِلْكَ الطَّرِيقِ أَوْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ هَبَطَ مِنْ بَطْنِ وَادٍ، فَإِذَا ظَهَرَ مِنْ بَطْنِ وَادٍ أَنَاخَ بِالْبَطْحَاءِ الَّتِي عَلَى شَفِيرِ الْوَادِى الشَّرْقِيَّةِ، فَعَرَّسَ ثَمَّ حَتَّى يُصْبِحَ، لَيْسَ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الَّذِي بِحِجَارَةٍ، وَلاَ عَلَى الأَكَمَةِ الَّتِي عَلَيْهَا الْمَسْجِدُ، كَانَ ثَمَّ خَلِيجٌ يُصَلِّي عَبْدُ اللَّهِ عِنْدَهُ، فِي بَطْنِهِ كُثُبٌ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ثَمَّ يُصَلِّي، فَدَحَا السَّيْلُ فِيهِ بِالْبَطْحَاءِ حَتَّى دَفَنَ ذَلِكَ الْمَكَانَ الَّذِى كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بن عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- صَلَّى حَيْثُ الْمَسْجِدُ الصَّغِيرُ الَّذِي دُونَ الْمَسْجِدِ الَّذِي بِشَرَفِ الرَّوْحَاءِ، وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَعْلَمُ الْمَكَانَ الَّذِى كَانَ صَلَّى فِيهِ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ ثَمَّ عَنْ يَمِينِكَ حِينَ تَقُومُ فِي الْمَسْجِدِ تُصَلِّي، وَذَلِكَ الْمَسْجِدُ عَلَى حَافَةِ الطَّرِيقِ الْيُمْنَى، وَأَنْتَ ذَاهِبٌ إِلَى مَكَّةَ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَسْجِدِ الأَكْبَرِ رَمْيَةٌ بِحَجَرٍ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ. وَأَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُصَلِّي إِلَى الْعِرْقِ الَّذِي عِنْدَ مُنْصَرَفِ الرَّوْحَاءِ، وَذَلِكَ الْعِرْقُ انْتِهَاءُ طَرَفِهِ عَلَى حَافَةِ الطَّرِيقِ، دُونَ الْمَسْجِدِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُنْصَرَفِ، وَأَنْتَ ذَاهِبٌ إِلَى مَكَّةَ. وَقَدِ ابْتُنِيَ ثَمَّ مَسْجِدٌ، فَلَمْ يَكُنْ عَبْدُ اللَّهِ يُصَلِّي فِي ذَلِكَ الْمَسْجِدِ، كَانَ يَتْرُكُهُ عَنْ يَسَارِهِ وَوَرَاءَهُ، وَيُصَلِّي أَمَامَهُ إِلَى الْعِرْقِ نَفْسِهِ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَرُوحُ مِنَ الرَّوْحَاءِ، فَلاَ يُصَلِّي الظُّهْرَ حَتَّى يَأْتِيَ ذَلِكَ الْمَكَانَ فَيُصَلِّي فِيهِ

الظُّهْرَ، وَإِذَا أَقْبَلَ مِنْ مَكَّةَ فَإِنْ مَرَّ بِهِ قَبْلَ الصُّبْحِ بِسَاعَةٍ أَوْ مِنْ آخِرِ السَّحَرِ عَرَّسَ حَتَّى يُصَلِّيَ بِهَا الصُّبْحَ. وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَنْزِلُ تَحْتَ سَرْحَةٍ ضَخْمَةٍ دُونَ الرُّوَيْثَةِ عَنْ يَمِينِ الطَّرِيقِ، وَوِجَاهَ الطَّرِيقِ فِي مَكَانٍ بَطْحٍ سَهْلٍ، حَتَّى يُفْضِيَ مِنْ أَكَمَةٍ دُوَيْنَ بَرِيدِ الرُّوَيْثَةِ بِمِيلَيْنِ، وَقَدِ انْكَسَرَ أَعْلاَهَا، فَانْثَنَى فِي جَوْفِهَا، وَهِيَ قَائِمَةٌ عَلَى سَاقٍ، وَفِي سَاقِهَا كُثُبٌ كَثِيرَةٌ. وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- صَلَّى فِي طَرَفِ تَلْعَةٍ مِنْ وَرَاءِ الْعَرْجِ وَأَنْتَ ذَاهِبٌ إِلَى هَضْبَةٍ عِنْدَ ذَلِكَ الْمَسْجِدِ قَبْرَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ، عَلَى الْقُبُورِ رَضْمٌ مِنْ حِجَارَةٍ عَنْ يَمِينِ الطَّرِيقِ، عِنْدَ سَلِمَاتِ الطَّرِيقِ، بَيْنَ أُولَئِكَ السَّلِمَاتِ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَرُوحُ مِنَ الْعَرْجِ بَعْدَ أَنْ تَمِيلَ الشَّمْسُ بِالْهَاجِرَةِ، فَيُصَلِّي الظُّهْرَ فِي ذَلِكَ الْمَسْجِدِ. وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- نَزَلَ عِنْدَ سَرَحَاتٍ عَنْ يَسَارِ الطَّرِيقِ، فِي مَسِيلٍ دُونَ هَرْشَى، ذَلِكَ الْمَسِيلُ لاَصِقٌ بِكُرَاعِ هَرْشَى، بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّرِيقِ قَرِيبٌ مِنْ غَلْوَةٍ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُصَلِّي إِلَى سَرْحَةٍ، هِيَ أَقْرَبُ السَّرَحَاتِ إِلَى الطَّرِيقِ وَهْىَ أَطْوَلُهُنَّ. وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَنْزِلُ فِي الْمَسِيلِ الَّذِي فِي أَدْنَى مَرِّ الظَّهْرَانِ، قِبَلَ الْمَدِينَةِ حِينَ يَهْبِطُ مِنَ الصَّفْرَاوَاتِ يَنْزِلُ فِي بَطْنِ ذَلِكَ الْمَسِيلِ عَنْ يَسَارِ الطَّرِيقِ، وَأَنْتَ ذَاهِبٌ إِلَى مَكَّةَ، لَيْسَ بَيْنَ مَنْزِلِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَبَيْنَ الطَّرِيقِ إِلاَّ رَمْيَةٌ بِحَجَرٍ. وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَنْزِلُ بِذِي طُوًى وَيَبِيتُ حَتَّى يُصْبِحَ، يُصَلِّي الصُّبْحَ حِينَ يَقْدَمُ مَكَّةَ، وَمُصَلَّى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَلِكَ عَلَى أَكَمَةٍ غَلِيظَةٍ، لَيْسَ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي بُنِيَ ثَمَّ، وَلَكِنْ أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى أَكَمَةٍ غَلِيظَةٍ. وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- اسْتَقْبَلَ فُرْضَتَيِ الْجَبَلِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَبَلِ الطَّوِيلِ نَحْوَ الْكَعْبَةِ، فَجَعَلَ الْمَسْجِدَ الَّذِي يُبنِىَ ثَمَّ يَسَارَ الْمَسْجِدِ بِطَرَفِ الأَكَمَةِ، وَمُصَلَّى النَّبِيِّ -صلى الله عليه

وسلم- أَسْفَلَ مِنْهُ عَلَى الأَكَمَةِ السَّوْدَاءِ، تَدَعُ مِنَ الأَكَمَةِ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ أَوْ نَحْوَهَا، ثُمَّ تُصَلِّي مُسْتَقْبِلَ الْفُرْضَتَيْنِ مِنَ الْجَبَلِ الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ. قوله: بذي الحُلَيفة، بضم الحاء المهملة وفتح اللام، الميقات المشهور لأهل المدينة. وقوله: تحت سَمُرة، أي بفتح المهملة وضم الميم، شجرة ذات شوك، وهي التي تعرف بأُم غِيلان. وقوله: من غزو كان في تلك الطريق، أي طريق ذي الحليفة، وكان صفة لغزو، وفي نسخة "وكان" بالواو قبل الكاف، وفي نسخة "غزوة كان" بالهاء، فتذكير الضمير في كان باعتبار تأويلها بسفر. وفي نسخة "غزوة وكان" بتاء التأنيث والواو. وقوله: هبط من بطن واد، هو وادي العقيق، وسقط حرف الجر عند أبي ذرٍّ والوَقت، ولابن عساكر وحده "هبط من ظهر واد" بدل بطن واد. وقوله: بالبطحاء، أي بالمسيل الواسع المجتمع فيه دقاق الحصى من مسيل الماء. وقوله: شفير الوادي، بفتح الشين المعجمة، أي طرفة. وقوله: الشرقية، صفة للبطحاء، وقوله: فعرَّسَ، بمهملات مع تشديد الراء، والتعريس نزول استراحة لغير إقامة، وأكثر ما يكون في آخر الليل، وخصه بذلك الأصمعيّ، وأطلق أبو زيد. وقوله: ثَمّ حتى يُصبح، بفتح الثاء المثلثة، أي هناك، وبضم أول يُصبح، أي يدخل في الصباح، وهي تامة استغنت بمرفوعها. وقوله: ولا على أكمة، بالتحريك، الموضع المرتفع على ما حوله، وقيل: هو تل من حجر واحد. وقوله: خليج، بفتح الخاء المعجمة وكسر اللام، وادٍ له عمق. وقوله: عنده كُثُبْ بضم الكاف والمثلثة جمع كثيب، وهو رمل مجتمع. وقوله: فَدَحا السيلُ فيه، بالحاء المهملة أي دفع، ولأبي ذَرٍّ "فدحا فيه السيل" وفي رواية الإسماعيلي "فدخل" بالخاء المعجمة واللام، وفي بعض الروايات "قد جاء" بالقاف والجيم على أنهما كلمتان: حرف التحقيق، والفعل الماضي من المجيء.

وقوله: حدثه، أي بالإِسناد المذكور إليه. وقوله: حيث المسجُد الصغير، يرفع الصغير صفة للمسجد المرفوع بتقدير هو المسجد؛ لأن حيث لا تضاف إلا إلى الجملة. وفي بعض النسخ "صلى جنب المسجد" بالجيم والنون والباء، والمسجد حينئذ مجرور بالإضافة. وقوله: بشَرَف الروحاء، مرَّ تفسيرها قريبًا، والمسجد هو الأوسط في الوادي المعروف الآن بوادي بني سالم. وقوله: يَعلم، بفتح أوله من العلم، وبضم أوله من أعلم يُعْلِم من العلامة، أو بمثناة فوقية وتشديد اللام مفتوحتين. وقوله: على حافة الطريق، بتخفيف الفاء، أي جانبه. وقوله: إلى العِرق، بكسر العين وسكون الراء، الجبل الصغير، أو عرق الظبية: الوادي المعروف. وقوله: مُنْصَرف الروحاء، بفتح الراء فيهما أي آخرها. وقوله: انتهاء طرفه، وللكشميهنيّ "انتهى طرفه" بالقصر ورفع طرفه. وقوله: دون المسجد، أي قريب أو تحت. وقوله: وقد ابتُني، بضم المثناة الفوقية مبنيًا للمفعول. وقوله: وراءه، بالنصب على الظرفية بتقدير في، أو الجر عطفًا على سابقه. وقوله: أو من آخر السحر، ما بين الفجر الكاذب والصادق، والفرق بينه وبين قوله: قبل الصبح بساعة، أنه أراد بآخر السحر أقلّ من ساعة، وحينئذ فيغاير اللاحقُ السابقَ. وقوله: تحت سَرْحَة ضخمة، أي شجرة عظيمة، وهي بفتح السين والحاء بينهما راء ساكنة. وقوله: دون الرَّويثة، بالراء مصغرًا، قرية جامعة بينها وبين المدينة سبعة عشر فرسخًا. وقوله: ووُجاهَ الطريق، بكسر الواو وضمها، أي مقابلها، والهاء خفض عطفًا على يمين، أو نصباً على الظرفية. وقوله: في مكان بَطْحِ، أي بفتح الموحدة وسكون الطاء وكسرها، واسع. وقوله: حتى يفضي، كذا للأكثر، وللمستملي "حين يفضي" وقوله: "دُوَين بَريد الرُّويثة بميلين، أي بينه وبين المكان الذي ينزل فيه البريد بالرويثة ميلان، وقيل: المراد بالبريد سِكة الطريق، ودُوين بضم الدال وفتح الواو مصغرًا، ولابن عساكر، دون الرويثة.

وقوله: فانثنى، بفتح المثلثة، أي انعطف مبنيٌّ للفاعل. وقوله: على ساق، أي كالبنيان، ليست متسعة من أسفل. وقوله: وفي ساقها كثبٌ، بكاف ومثلثة مضمومتين جمع كثيب، وهي تلال الرمال. وقوله: في طرف تَلْعَة، بفتح المثناة وسكون اللام بعدها مهملة، وهي مسيل الماء من فوق إلى أسفل، ويقال أيضًا: لما ارتفع من الأرض ولما انهبط. وقوله: من وراء العَرْج، بفتح العين وسكون الراء بعدها جيم، قرية جامعة، بينها وبين الرويثة ثلاثة عشر، أو أربعة عشر ميلًا. وقوله: إلى هضبة، بسكون الضاد المعجمة، جبل منبسط على وجه الأرض، أو ما طال واتسع وانفرد من الجبال. وقيل: هي فوق الكثيب في الارتفاع ودون الجبل، وقيل: الأكمة الملساء. وقوله: على القبور رَضْم، بفتح الراء وسكون المهملة، الحجارة الكبار، واحدها رَضْمَة، بسكون الضاد والمعجمة أيضًا في الواحد، وعند الأصيلي رَضَم، بالتحريك. وقوله: عند سَلِمات الطريق، بفتح المهملة وكسر اللام في رواية أبي ذَرٍّ والأصيلي، أي ما يتفرع عن جوانبه. وفي رواية الباقين بفتح اللام، وقيل هي: بالكسر الصخرات، وبالفتح الشجرات يدبغ بورقها الأديم. وقوله: بالهاجرة، نصف النهار عند اشتداد الحر. وقوله: عند سَرَحات، أي بالتحريك جمع سوحة، وهي الشجرة الضخمة. وقوله: في مسيل دون هَرْشى، المسيل بفتح الميم وكسر المهملة، المكان المنحدر، وهرشَى، بفتح الهاء وسكون الراء بعدها شين معجمة مقصور، جبل على ملتقى طريق المدينة والشام، قريب من الجحفة. وكراع هرشى طوفها. وقوله: غَلْوَة، بفتح الغين المعجمة، غاية بلوغ السهم، أو أمد جري الفرس، وقيل: قدر ثُلُثي ميل. وقوله: مرّ الظهران، بفتح الميم وتشديد الراء في الأولى، وبفتح الظاء المعجمة وسكون الهاء في الأخرى، وهو الوادي الذي تسميه العامة الآن بطن مَرْو، بإسكان الراء بعدها واو. قال البكريّ: بينه وبين مكة ستة عشر ميلًا. قيل: سمي بذلك لأن في بطن الوادي كتابة بعرق من الأرض أبيض هجاء

"م ر" الميم منفصلة عن الراء، وقيل سمي بذلك لمرارة مائة. وقوله: قِبَل المدينة، بكسر القاف وفتح الموحدة، أي مقابل. وقوله: من الصفراوات، بفتح المهملة وسكون الفاء، جمع صفراء، وهي الأودية أو الجبال التي بعد مَر الظهران. وقوله: ينزل، بالمثناة التحتية أو"تنزل" بتاء الخطاب، ليوافق قوله: وأنت ذاهب. وقوله: بذي طُوَى، بضم الطاء، موضع بمكة. وللحمويّ والمستمليّ "بذي الطِّوى" بزيادة التعريف وبكسر الطاء. وحكى عياض الفتح أيضًا. وقوله: فُرْضَتي الجبل، بضم الفاء وسكون الراء بعدها ضاد معجمة، مدخل الطريق إلى الجبل. وقيل الشق المرتفع كالشرافة. ويقال أيضًا لمدخل النهر. وقوله: أسفلَ منه، بالنصب على الظرفية، أو بالرفع خبر مبتدأ محذوف. فقد عرف من صنيع ابن عمر استحباب تتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم، والتبرك بها، وقد قال البغويّ من الشافعية: إن المساجد التي ثبت أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم صلى فيها، لو نذر أحد الصلاة فيها، تعين كما تتعين المساجد الثلاثة، وقال أشهب من المالكية: لا يعجبني ذلك إلا في قباء، لأنه عليه الصلاة والسلام كان يأتيه راكبًا وماشيًا، ولم يفعل ذلك في تلك الأمكنة، وما فعله ابن عمر، مع ما عُلِم من تشدده في الاتِّباع، لا يعارض ما ثبت عن أبيه، من أنه رأى الناس في سفر يتبادرون إلى مكان، فسأل عن ذلك، فقالوا: قد صلّى فيه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال: من عرضت له الصلاة فليصل، وإلا فليمضِ، فإنَّما أهلك أهل الكتاب أنهم كانوا يتتبعون آثار أنبيائهم، فاتخذوها كنائس وبِيَعًا، لأن ذلك من عمر محمول على أنه كره زيارتهم لمثل ذلك بغير صلاة، أو خشي أن يشكل ذلك على من لا يعرف حقيقة الأمر فيظنه واجبًا، وكلا الأمرين مأمون من ابن عمر، وقد تقدم حديث عتبان، وسؤاله النبيَّ صلى الله تعالى عليه وسلم أن يصلي له في بيته ليتخذه مسجدًا، وأجابةُ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلى ذلك، فهو حجة قوية في التبرك بآثار الصالحين، ولم تزل المسلمون من لدن عصر الصحابة إلى الآن،

يتبركون بآثار الصالحين، لم يخالف في ذلك إلا الخوارج دمرهم الله. وقد قال العلماء: إن في فعل ابن عمر، ونهي أبيه رضي الله تعالى عنهما، فائدة جليلة في الدين، ففي فعل ابن عمر اقتفاء آثاره عليه الصلاة والسلام، والتبرك، والتعظيم له. وفي نهي عمر الاحتياط في السلامة من الابتداع لمن يُخشى منه ذلك، ثم إن هذه المساجد المذكورة لا يعرف منها الآن غير مسجد ذي الحُليفة، والمساجد التي بالروحاء يعرفها أهل تلك الناحية. وقد ذكر البخاريّ المساجد التي كانت بالمدينة، لأنه لم يقع له إسناد في ذلك على شرطه. وقد ذكر عمر بن شبّة في أخبار المدينة المساجد والأماكن التي صلى فيها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بالمدينة مستوعبًا. ورُوي عن أبي غسان عن غير واحد من أهل العلم أن كل مسجد بالمدينة ونواحيها مبنيّ بالحجارة المنقوشة المطابقة، فقد صلى فيه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وذلك أن عمر بن عبد العزيز حين بني مسجد المدينة سأل الناس، وهم يومئذ متوافرون، عن ذلك، ثم بناها بالحجارة المنقوشة المطابقة. قلت: في هذا حجة قوية على التبرك بآثار الصالحين، لصدوره من خامس الخلفاء عمر بن عبد العزيز، لم يوجد أحد في زمنه مثله في اتباع السنة، كما شهد له بذلك إجماع المسلمين وعدم إنكار أحد من التابعين وأتباعهم المتوافرين يومئذ كذلك، فصار إجماعًا، ولا يحتمل أن يقصد بفعله إلا بقاء الآثار معلومة ليتبرك بها. وقد عين عمر بن شبة منها كثيرًا، لكن أكثره في هذا الوقت قد اندثر، وبقي من المشهورة الآن مسجد قباء، ومسجد الفضيخ، وهو شرقيّ قُباء، ومسجد بني قُريظة، ومَشْرَبة أم إبراهيم، وهي شمال مسجد قريظة، ومسجد بني ظَفَر شرقيّ البَقيع، ويعرف بمسجد البَغْلة، ومسجد بني معاوية، ويعرف بمسجد الإجابة، ومسجد الفتح، قريب من سَلْع، ومسجد القِبلتين في بني سَلِمة. قال في الفتح: وفائدة معرفة ذلك ما تقدم عن البغويّ، وقد اشتمل حديث المساجد بهذا السياق الذي أخرجه البخاري على تسعة مساجد أخرجها الحسن

رجاله خمسة

ابن سفيان في مسنده مفرقة عن أنس بن عياض، يعيد الإسناد في كل حديث، إلا أنه لم يذكر الثالث، وأخرج مسلم الحديثين الأخيرين في كتاب الحج. قلت: أشار البخاريّ إلى ابتداء كل حديث منها بقوله: وإن عبد الله حدّثه، إلا الحديث الثاني، فإنه قال في أوله: وكان إذا رجع من غزو، وهذا ما ظهر لي، والله تعالى أعلم. رجاله خمسة: الأول: إبراهيم بن المنذر، وقد مرَّ في الأول من العلم، ومرَّ أنس بن عياض في الرابع عشر من كتاب الوضوء، ومرَّ موسى بن عقبة في الخامس منه، ومرَّ نافع في الثالث والسبعين من كتاب العلم، ومرّ عبد الله بن عمر أول كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه. فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، والعنعنة في موضع، والإخبار بصيغة الماضي المفرد، وشيخ البخاريّ من أفراده، ورواته كلهم مدنيون. ثم قال المصنف: أبواب سترة المصلى وهذا ساقط في اليونينية، والسُّترة بضم السين ثم قال: باب سترة الإِمام سترة من خلفه وقد وردت هذه الترجمة في حديث أخرجه الطبرانيّ في الأوسط عن أنس مرفوعًا "سترة الإِمام سترة لمن خلفه" لكن تفرّد به سُويد عن عاصم، وسويد ضعيف عندهم، ووردت أيضًا في حديث موقوف على ابن عمر، أخرجه عبد الرزاق.

الحديث السادس والثمانون

الحديث السادس والثمانون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: أَقْبَلْتُ رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ أَتَانٍ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الاِحْتِلاَمَ، وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي بِالنَّاسِ بِمِنًى إِلَى غَيْرِ جِدَارٍ، فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ، فَنَزَلْتُ وَأَرْسَلْتُ الأَتَانَ تَرْتَعُ، وَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ، فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيَّ أَحَدٌ. وفي الاستدراك بهذا الحديث على الترجمة نظر؛ لأنه ليس فيه أنه صلى الله تعالى عليه وسلم صلى إلى سترة، وقد بوّب عليه البيهقيّ باب من صلى إلى غير سترة، وقد مرَّ في كتاب العلم في باب "متى يصح سماع الصغير" في الكلام على هذا الحديث قولُ الشافعيّ إن المراد بقول ابن عباس "إلى غير جدار" أي غير سُترة. وذكرنا تأييد ذلك من رواية البزار. وقال غيره من المتأخرين: قوله "إلى غير جدار" لا ينفي غير الجدار، إلا أن إخبار ابن عباس عن مروره بهم، وعدم إنكارهم لذلك، مشعرٌ بحدوث أمر لم يعهدوه، فلو فرض هناك سُترة أخرى غير الجدار، لم يكن لهذا الإخبار فائدة، إذ مروره حينئذ لا ينكره أحد أصلًا، وكأن البخاريّ حمل الأمر في ذلك على المألوف من عادته صلى الله تعالى عليه وسلم، أنه كان لا يصلي في الفضاء إلا والعنزة أمامه، ثم أيد ذلك بحديثي ابن عمر وأبي جُحيفة. وفي حديث ابن عمر ما يدل على المداومة، وهو قوله بعد ذكر الحربة "وكان يفعل ذلك في السفر" وقد تبعه النووي فقال: في شرح مسلم في الكلام على فوائد هذا الحديث: فيه أن سُترة الإِمام سترة لمن خلفه، وهذا الحديث تقدمت مباحثه مستوفاة غاية في كتاب العلم عند ذكره في الباب المذكور آنفًا.

رجاله خمسة

رجاله خمسة: الأول: عبد الله بن يوسف، وقد مرَّ هو والإمام مالك في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ ابن شهاب في الثالث منه، ومرَّ عُبيد الله في السادس منه، ومرَّ ابن عباس في الخامس منه، وهذا الحديث مرَّ في باب "متى يصح سماع الصغير".

الحديث السابع والثمانون

الحديث السابع والثمانون حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا خَرَجَ يَوْمَ الْعِيدِ أَمَرَ بِالْحَرْبَةِ فَتُوضَعُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَيُصَلِّى إِلَيْهَا وَالنَّاسُ وَرَاءَهُ، وَكَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ، فَمِنْ ثَمَّ اتَّخَذَهَا الأُمَرَاءُ. قوله: فأمر بالحربة، أي أمر خادمه يحمل الحربة، وللمصنف في العيدين عن نافع "كان يغدو إلى المصلى، والعنزة تحمل وتنصب بين يديه، فيصلى إليها" زاد ابن ماجه وابن خزيمة والإسماعيلىّ "وذلك أنّ المصلّى كان فضاء ليس فيه شيء يستره". وقوله: والناسُ وراءه، بالرفع عطفًا على فاعل يصلّي، وقوله: وكان يفعل ذلك، أي نصب الحربة بين يديه، حيث لا يكون جدار. وقوله: في السفر، يعني أنه ليس مختصًا بيوم العيد. وقوله: فمن ثم اتخذها الأمراء، أي فمن تلك الجهة اتخذ الأمراء الحربة، يخرج بها بين أيديهم في العيد ونحوه، وهذه الجماعة فَصَلها علي بن مُسْهر من حديث ابن عمر، فجعلها من كلام نافع، كما أخرجه ابن ماجه. وفي الحديث الاحتياط وأخذ آلة دفع الأعداء، ولاسيما في السفر، وجواز الاستخدام. والضمير في اتخذها يحتمل عودُهُ إلى الحربة نفسها، أو إلى جنس الحربة. وقد مرَّ الكلام على الحربة في باب "حمل العَنَزَة مع الماء" من كتاب الوضوء. رجاله خمسة: الأول: إسحاق بن منصور، وقد مرّ في الحادي والعشرين من العلم، ومرَّ عبد الله بن نُمير في الثالث من كتاب التيمم، ومرَّ عُبيد الله بن عمر بن حفص في الرابع عشر من الوضوء ومرَّ نافع في الثالث والسبعين من العلم، ومرَّ ابن عمر

لطائف إسناده

أول كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، والعنعنة في موضعين، ورواته ما بين كوفيّ ومدنيّ. أخرجه البخاريّ هنا ومسلم وأبو داود في الصلاة.

الحديث الثامن والثمانون

الحديث الثامن والثمانون حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِى جُحَيْفَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- صَلَّى بِهِمْ بِالْبَطْحَاءِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ عَنَزَةٌ الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ، وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ، تَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ الْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ. قوله: بالبطحاء، يعني بطحاء مكة، وهو موضع خارج مكة، وهو الذي يقال له الأبطح، وزاد في رواية آدم عن شُعبة في باب استعمال فضل وضوء الناس أن ذلك كان بالهاجرة، فيستفاد منه، كما قال النووي، أنه صلى الله تعالى عليه وسلم، جمع حينئذ بين الصلاتين في وقت الأولى منهما، ويحتمل أن يكون قوله "والعصر ركعتين" أي بعد دخول وقتها. وقوله: ويين يديه عنزة، مرَّ ضبطها والكلام عليها في باب حمل العنزة مع الماء من كتاب الوضوء. وقوله: يمر بين يديه، أي بين العنزة والقبلة، لا بينه ويين العنزة، لما في رواية عمر بن أبي زائدة المارة في باب الصلاة في الثوب الأحمر "ورأيت الناس والدواب يمرون بين يدي العنزة" وهذا الحديث مرت مباحثه مستوفاة في باب استعمال فضل وضوء الناس، وياب الصلاة في الثوب الأحمر. ومطابقة حديثي ابن عمر وأبي جحيفة للترجمة ظاهرةٌ، فإن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لم يأمر أصحابه أن يتخذوا سترة غير سترته. رجاله أربعة: الأول: أبو الوليد الطَّيالسيّ، وقد مرَّ في العاشر من الإيمان، ومرَّ شعبة في الثالث منه، ومرَّ عون بن أبي جُحيفة في الثامن والعشرين من كتاب الصلاة، ومرّ أبو جِحيفة في الثاني والخمسين من كتاب العلم. فيه التحديث بصيغة

باب قدر كم ينبغي أن يكون بين المصلي والسترة

الجمع في موضعين، والتحديث بصيغة المضارع المفرد، والعنعنة في موضع واحد، والسماع. ورواته ما بين بصريّ وكوفيّ. أخرجه البخاريّ هنا وفي باب استعمال وضوء الناس، وفي ستر العورة، وفي الأذان، وفي صفة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وفي اللباس وفي باب الصلاة إلى العنزة، وفي باب السترة بمكة وغيره، ومسلم وأبو داود والتِّرمذيّ وابن ماجه في الصلاة. ثم قال المصنف: باب قدر كم ينبغي أن يكون بين المصلي والسترة أي من ذراع ونحوه، وكَم وإن كان لها صدر الكلام، استفهامية أو خبرية، لكن إنما تقدمها المضاف، وهو مع المضاف إليه في حكم كلمة واحدة، والمصلِّي بكسر اللام على أنه اسم فاعل، ويحتمل أن يكون بفتح اللام، أي المكان الذي يصلّى فيه.

الحديث التاسع والثمانون

الحديث التاسع والثمانون حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَهْلٍ قَالَ: كَانَ بَيْنَ مُصَلَّى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَبَيْنَ الْجِدَارِ مَمَرُّ الشَّاةِ. قوله: عن أبيه، في رواية أبي داود والإسماعيلى "أخبرني أبي" وقوله: عن سهل، زاد الأصيلي "ابن سعد" وقوله: كان وبين الجدار، أي جدار المسجد مما يلي القبلة، وصرح بذلك في الاعتصام عن أبي غسان عن أبي حازم. وقوله: ممر الشاة، بالرفع، وكان تامة، أو ممر اسم كان بتقدير قدر، والخبر الظرف. وأعربه الكرماني ممر بالنصب، على أنه خبر كان، واسمها قدر المسافة مقدرًا، والسياق يدل عليه. ووجه المطابقة بين الحديث والترجمة بالكسر هو أنه بالفتح لازم له. رجاله أربعة: الأول: عمرو بن زُرارة الكلابيّ، أبو محمد بن أبي عمرو، النَّيسابوريّ المقري الحافظ قال النَّسائيّ وأبو بكر الجارُوديّ: كان ثقة. وقال أبو عمرو المستملي: سمعت محمد بن عبد الوهاب يقول: عمرو بن زرارة ثقة ثقة. وقال داود بن الحسين: كنا نختلف إليه، فخرج إلينا يومًا فضحك رجل فغضب، ولم يحدث بحرف واحد. وقال أحمد بن سلمة عن عمرو بن زُرارة: صحبت ابن علية ثلاث عشرة سنة، فما رأيته يبتسم. وقال أبو العباس السّرّاج: حدثنا عمرو بن زُرارة رجل فيه زَهادة، ويقال: كان مجابَ الدعوة. وقال محمد بن عبد الوهاب: كان عليّ بن عثّام يسترجع عمرو بن زرارة. وفي الزهرة: روى عنه البخاري ثلاثة عشر حديثًا، ومسلم ثمانية أحاديث. روى عن أبي بكر بن عيّاش

وهُشيم وعبد الوارث الثقفيّ، ومروان بن معاوية وابن عُيينة وغيرهم. وروى عنه البخاريّ ومسلم والنَّسائيّ والذُّهلي وعبد الله الدارميّ ومسدد بن قَطَن وغيرهم. مات سنة سبع وثلاثين ومئتين، وفي الستة عمرو بن زرارة سواه واحد، وهو الحدثيّ لا غير. الثاني: عبد العزيز بن أبي حازم، وقد مرَّ في الخامس والأربعين من أبواب استقبال القبلة، ومرَّ أبوه أبو حازم وسهل بن سعد في السابع والمئة من كتاب الوضوء. فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في موضعين، وفيه القول، ورواية الابن عن الأب. أخرجه البخاريّ هنا، ومسلم وأبو داود في الصلاة.

الحديث التسعون

الحديث التسعون حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ قَالَ: كَانَ جِدَارُ الْمَسْجِدِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ مَا كَادَتِ الشَّاةُ تَجُوزُهَا. قوله: كان جدار المسجد، كذا في رواية مكيّ، ورواه الإسماعيليّ عن أبي عاصم عن يزيد بلفظ "كان المنبر على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ليس بينه وبين حائط القبلة إلا قدر ما تمر العنز" فتبين بهذا السياق أن الحديث مرفوع. وقوله: ما كادت الشاة تجوزها، وفي رواية "أن تجوزها" أي المسافة، وهي ما بين المنبر والجدار، واقتران خبر كاد بأن قليل، كحذفها من خبر عسى، فحصل التعارض بينهما، ثم إن القاعدة أن حرف النفي إذا دخل على كاد يكون للنفي، لكنه لإثبات جواز الشاة. ومطابقة الحديث للترجمة، قيل: من جهة أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقوم بجنب المنبر، ولم يكن لمسجده محراب، فتكون مسافة ما بينه وبين الجدار نظير ما بين المنبر والجدار، فكأنّه قال: والذي ينبغي أن يكون بين المصلّي وسترته، قدرُ ما كان بين منبره عليه الصلاة والسلام وجدار القبلة. وقيل: إنّ البخاري أشار بالترجمة إلى حديث سهل بن سعد المتقدم في بأس الصلاة على المنبر والخشب، فإن فيه أنه عليه الصلاة والسلام قام على المنبر حين عُمِل، فصلى عليه، فاقتضى ذلك أن ذكر المنبر يؤخذ منه موضع قيام المصلّي، ولا يعكر على هذا أن في ذلك الحديث أنه لم يسجد على المنبر، وإنما نزل فسجد في أصله، ويين أصل المنبر والجدار أكثر من ممر الشاة، لأنه يجاب عنه بأن أكثر أجزاء الصلاة قد حصل في أعلى المنبر، وإنما نزل عنه، لأن الدرجة لم تتسع لقدر سجوده، فحصل المقصود به. وأيضًا فإنه لمّا سجد

في أصل المنبر، صارت الدرجة التي فوقه سترة له، وهو قدر ما تقدم. قال ابن بطّال: أقل ما يكون بين المصلّي وسترته قدر ممر الشاة. وقيل: أقل ذلك ثلاثة أذرع، وبه قال الشافعيّ وأحمد، لحديث بلال "أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم صلّى في الكعبة وبينه وبين الجدار ثلاثة أذرع" يأتي الحديث بعد خمسة أبواب. وجمع الداوديّ بأن أقله ممر الشاة، وأكثره ثلاثة أذرع. وجمع بعضهم بأن الأول في حال القيام والقعود، والثاني في حال الركوع والسجود. وقال ابن الصلاح: قدروا ممر الشاة بثلاثة أذرع، ولا يخفى ما فيه. وقال البغويّ: استحب أهل العلم الدنوّ من السترة، بحيث يكون بينه وبينها قدر إمكان السجود، وكذلك بين الصفوف. وقد ورد الأمر بالدنو منها. وفيه بيان الحكمة في ذلك ما رواه أبو داود وغيره عن سهل بن أبي حَثْمَة مرفوعًا "إذا صلّى أحدكم إلى سترة فليدنُ منها، لا يقطع الشيطان عليه صلاته" واختلف في قدر الدنو منها عند المالكية، قيل شبر، وقيل ذِراع، وقيل ممر الشاة، وقيل ثلاثة أذرع، وقيل ما يسع ركوعه وسجوده، وهو المشهور عندهم، وكذلك هو المشهور عند الحنفية، واختلف في حريمه عندهم إذا صلّى بغير سترة، فقيل: قدر رمية حَجَر أو سهم أو رمح، أو قدر مضاربة السيف، أو قدر ركوعه وسجوده، وهو المشهور الأوفق بيسر الدين. وإنما تطلب في المشهور عند المالكية عند خشية المرور، وأما عند عدم الخشية فلا تطلب، لحديث ابن عباس المتقدم، وعند الشافعيّ تطلب مطلقًا، لعموم الأحاديث، ولأنها تصون البصر. وروى هذا عن مالك في العتبة، وبه قال ابن حبيب وابن الماجشُون ومطرف، واختاره اللخمي. والمجزىء منها قدر ذراع فصاعد، لما رواه مسلم عن طلحة بن عُبيد الله قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم "إذا جعلت بين يديك مثل مؤخرة الرَّحل فلا يضرك من يمر بين يديك" وعند المالكية أقل غلظها غلظ رمح، وعند الحنفية يكفي غلظ الأصبع، وتجوز السترة بالحيوان المأكول اللحم الثابت، لا بالخيل والبغال والحمير عند المالكية. وتجوز عندهم بظهر الرجل الراضي،

رجاله ثلاثة

وفي جنبه وظهر المحرم قولان، ولا تجوز بالوجه مطلقًا، ولا بالأجنبية والزوجة والجارية، ولا بنائم ولا مجنون ولا مأبون في دُبُره ولا كافر. وقال أحمد: إن السترة تحصل بخط طويل إلى جهة القبلة. وقال به الشافعي في العِراق ورجع عنه، وأنكره غيره، وقال عياض وغيره: الحديث الدال عليه ضعيف، وتجعل السترة على الحاجب الأيمن أو الأيسر، ولا تصمد صمدًا، أي تقصد بالمواجهة. رجاله ثلاثة: الأول: المكيّ بن إبراهيم، وقد مرَّ في السابع والعشرين من كتاب العلم، ومر يزيد بن أبي عبيد وسلمة بن الأكوع في الخمسين منه. فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة والقول، وهو ثاني ثلاثيات البخاريّ، أخرجه مسلم أيضًا. ثم قال المصنف: باب الصلاة إلى الحربة

الحديث الحادي والتسعون

الحديث الحادي والتسعون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ أَخْبَرَنِي نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُرْكَزُ لَهُ الْحَرْبَةُ فَيُصَلِّي إِلَيْهَا. قوله: تركز، أي تغرز في الأرض، وهذا الحديث تقدم قبل باب. رجاله خمسة: الأول: مسدد، وقد مرّ هو ويحيى القطان في السادس من الإيمان، ومرَّ عُبيد الله بن عمر العمريّ في الرابع عشر من الوضوء، ومرَّ نافع في الثالث والسبعين من العلم، ومرَّ عبد الله بن عمر في أول كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه. ثم قال المصنف: باب الصلاة إلى العَنَزَة اعترض عليه في هذه الترجمة، بأن فيها تكرارًا، فإن العنزة هي الحربة، لكن قد قيل: إن الحربة إنما يقال لها عنزة إذا كانت قصيرة، ففي ذلك جهة مغايرة.

الحديث الثاني والتسعون

الحديث الثاني والتسعون حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا عَوْنُ بْنُ أَبِى جُحَيْفَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِالْهَاجِرَةِ، فَأُتِيَ بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ فَصَلَّى بِنَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَبَيْنَ يَدَيْهِ عَنَزَةٌ، وَالْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ يَمُرُّونَ مِنْ وَرَائِهَا. قوله: والمرأة والحمار يمرون من ورائها، ذكره بصيغة الجمع، فكأنه أراد الجنس، ويؤيده رواية "والناس والدواب يمرون" كما مرَّ، أو فيه حذف تقديره "وغيرهما" فتحصل المطابقة، كقوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} قال البيضاويّ وقُسيم: من أنفق محذوف لوضوحه، ودلالة ما بعده عليه، وتعقب العينيّ الوجه الأول الذي هو إرادة الجنس قائلًا إذا أريد به جنس المرأة وجنس الحمار، يكون تثنية؟ أيضًا فلا تحصل حينئذ مطابقة، وهذا الاعتراض باطل، لأن كونهما جنسين لا يمنع من جمعهما، كما في قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا}، وقوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا} وأراد المرأة والحمار وراكبه، فحذف الراكب لدلالة الحمار عليه، ثم غلب تذكير الراكب المفهوم على تأنيث المرأة، وذو العقل على الحمار، وقد وقع الإخبار عن مذكور ومحذوف في قولهم: راكب البعير طليحان، أي البعير والراكب. وهذا الحديث مرَّ قريبًا قبل بابين، ومرَّ هناك محل استيفاء الكلام عليه. رجاله أربعة: الأول: آدم بن أبي إياس.

والثاني: شعبة، وقد مرا في الثالث من الإيمان، ومرَّ عون بن أبي جحيفة في الثامن والعشرين من كتاب الصلاة، ومرَّ أبوه أبو جحيفة في الحادي والخمسين من كتاب العلم، ومرت مواضع إخراجه.

الحديث الثالث والتسعون

الحديث الثالث والتسعون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ بَزِيعٍ قَالَ حَدَّثَنَا شَاذَانُ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا خَرَجَ لِحَاجَتِهِ تَبِعْتُهُ أَنَا وَغُلاَمٌ وَمَعَنَا عُكَّازَةٌ أَوْ عَصًا أَوْ عَنَزَةٌ وَمَعَنَا إِدَاوَةٌ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ حَاجَتِهِ نَاوَلْنَاهُ الإِدَاوَةَ. قوله: ومعنا عُكّازة، بضم العين وتشديد الكاف، عصا ذات زُجّ. وقوله: أو عَنَزة، بالنون والزاي، وهي أطول من العصا وأقصر من الرمح، ولأبي الهيثم أو غيره بالغين المعجمة والياء والراء، أي غير المذكور من العكازة والعصا. قال في الفتح: والظاهر أنه تصحيف. وقوله: ناولناه الإداوة، فيستنجي بالماء أو بالحجر ويتوضأ بالماء، وينبش بالعنزة الأرض الصلبة عند قضاء الحاجة، خوف الرشاش، ويصلي إليها، وهذا الحديث تقدمت مباحثه مستوفاة، عند ذكره في باب حمل العنزة مع الماء من كتاب الوضوء. رجاله خمسة: الأول: محمد بن حاتم بن بَزيع البصريّ أبو بكر، ويقال أبو سعيد، نزيل بغداد. قال النَّسائيّ: ثقة، وذكره ابن حِبّان في الثقات والنسائي في أسماء شيوخه، والدارَقُطنِيّ والحبّال في أسماء شيوخ مسلم. قال صاحب الزّهرة: رأيت له في صحيح مسلم حديثًا واحدًا، روى عن أسود بن عامر وعبد الوهاب بن عطاء وزكرياء بن عديّ وأبي نعيم وغيرهم. وروى عنه البخاريّ وأبو داود وابن ماجه وابن أبي عاصم وابن أبي الدنيا وابن أبي داود وغيرهم. مات سنة تسع وأربعين ومئتين في رمضان، وفي الستة محمد بن حاتم سواه أربعة. الثاني: شاذان، وقد مرَّ في متابعة السابع عشر من كتاب العلم، ومرَّ شُعبة

باب السترة بمكة وغيرها

في الثالث من الإيمان، ومرَّ أنس في السادس منه، ومرَّ عطاء بن أبي ميمونة في السادس عشر من الوضوء. ثم قال المصنف: باب السترة بمكة وغيرها قال ابن المنير: إنما خص مكة بالذكر رفعًا لما يُتوهم من أن السترة قبلة، ولا ينبغي أن يكون لمكة قبلة إلا الكعبة، فلا يحتاج فيها إلى سترة. قال في الفتح: والذي أظنه أنه أراد أن ينكت على ما ترجم به عبد الرزاق، حيث قال في باب "لا يقطع الصلاة شيء"، ثم أخرج عن ابن جُريج عن كثير بن كثير بن المطّلب عن أبيه عن جده قال: "رأيت النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يصلّي في المسجد الحرام، ليس بينه وبينهم -أي الناس- سُترة" وأخرجه من هذا الوجه أيضًا أصحاب السنن. ورجاله موثوقون، إلا أنه معلول، فقد رواه أبو داود عن أبي عُيينة قال: كان ابن جريج أخبرنا به هكذا، فلقيت كثيرًا فقال: ليس من أبي سمعتُه، ولكن من بعض أهلي عن جَدِّي، فأراد البخاريّ التنبيه على ضعف هذا الحديث، وأن لا فرق بين مكة وغيرها في مشروعية السترة، وهذا هو المعروف عند الشافعية، وأنَّ لا فرق في منع المرور بين يدي المصلّي بين مكة وغيرها. وعن بعض الحنابلة جواز ذلك في جميع مكة، واغتفر بعض الفقهاء جواز ذلك للطائفين دون غيرهم، للضرورة. وحاصل مذهب مالك في المرور بين يدي المصلّي في المسجد الحرام أنه إنْ صلّى لغير سُترة جاز المرور بين يديه مطلقًا، وإن كان لسترة جاز المرور بين يديه للمصلي والمضطر، وكُرِه للطائف، وحرم على غير هؤلاء، ونظم ذلك شيخنا عبد القادر بن محمد بن محمد سالم بقوله: ومن بغير سترة قد صلّى ... في مسجد البيت الحرام حلاَّ مرورنا أمامه وإلا ... فالكره للطائف ليس إلا وغيره مروره محرم في ... غير صلاة واضطرار فاعرفِ

الحديث الرابع والتسعون

الحديث الرابع والتسعون حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِالْهَاجِرَةِ فَصَلَّى بِالْبَطْحَاءِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ، وَنَصَبَ بَيْنَ يَدَيْهِ عَنَزَةً، وَتَوَضَّأَ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَتَمَسَّحُونَ بِوَضُوئِهِ. وجه الدلالة منه قوله "بالبطحاء" فقد قدمنا أنها بطحاء مكة، وهذا الحديث مرَّ مرارًا، ومرَّ الكلام عليه مستوفى في باب استعمال فضل وضوء الناس، ومرَّ باقي الكلام عليه قريبًا. رجاله أربعة: الأول: سليمان بن حرب، وقد مرّ في الرابع عشر من الإيمان، ومرَّ شعبة في الثالث منه، ومرَّ الحكم بن عتيبة في الثامن والخمسين من كتاب العلم، ومرَّ أبو جحيفة في الحادي والخمسين منه. ثم قال المصنف: باب الصلاة إلى الأُسطوانة أي السارية، وهي بضم الهمزة وسكون السين المهملة وضم الطاء، بوزن أُفعوالة على المشهور، وقيل بوزن فُعْلوانة، والغالب أنها تكون من بناء بخلاف العمود، فإنه من حجر. قال ابن بطال: لما تقدم أنه صلّى الله تعالى عليه وسلم، كان يصلي إلى الحربة، كانت الصلاة إلى السارية أَولى؛ لأنها أشد سترة، ولكن أفاد ذكر ذلك التنصيص على وقوعه، والتنصيص أعلى من الفحوى.

ثم قال: وقال عمر: المصلون أحق بالسواري من المتحدثين إليها. ووجه الأحقية أنهما مشتركان في الحاجة إلى السارية المتخذة إلى الاستناد، والمصلي لجعلها سترة، لكن المصلي في عبادة محققة، فكان أحق، وهذا الأثر وصله أبو بكر بن أبي شيبة من طريق همدان، وكان بريد عمر إلى أهل اليمن عن عمر به، وعمر قد مرَّ في الأول من بدء الوحي. ثم قال: ورأى ابن عمر رجلًا يصلي بين أُسطُوانتين، فأدناه إلى سارية، فقال: صل إليها. كذا في رواية أبي ذَرٍّ والأصيليّ، وعند بعض الرواة "وأن عمر" بحذف ابن، وهو الصواب، لما يأتي قريبًا وأراد عمر بذلك أن تكون صلاته إلى سُترة، وأراد البخاريّ بإيراد أثر عمر هذا أن المراد بقول سلمة "يتحرّى الصلاة عندها" أي إليها، وكذا قول أنس "يبتدرون السواري" أي: يصلون إليها. وهذا الأثر وصله أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه من طريق معاوية بن قُرّة بن إياس عن أبيه قال: رآني عمر وأنا أصلي، فذكر مثله سواء، وعرف بذلك تسمية الرجل المبهم في التعليق، وابن عمر مرّ في أول كتاب الإيمان، قبل ذكر حديث منه.

الحديث الخامس والتسعون

الحديث الخامس والتسعون حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ قَالَ: كُنْتُ آتِي مَعَ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ فَيُصَلِّى عِنْدَ الأُسْطُوَانَةِ الَّتِي عِنْدَ الْمُصْحَفِ. فَقُلْتُ يَا أَبَا مُسْلِمٍ أَرَاكَ تَتَحَرَّى الصَّلاَةَ عِنْدَ هَذِهِ الأُسْطُوَانَةِ. قَالَ فَإِنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَتَحَرَّى الصَّلاَةَ عِنْدَهَا. قوله: التي عند المصحف، فيه دلالة على أنه كان للمصحف موضع خاص به، من عهد عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، وعند مسلم بلفظ "يصلّي وراء الصندوق" وكأنه كان للمصحف صندوق يوضع فيه، والأُسطوانة المذكورة المحقق فيها أنها المتوسطة في الروضة المكرمة، وأنها تعرف بأُسطوانة المهاجرين. وروي عن عائشة أنها كانت تقول: لو عرفها الناس لتضاربوا عليها بالسهام، وإنها أسرتها إلى ابن الزبير، فكان يكثر من الصلاة عندها. وروى هذا ابن النّجار في تاريخ المدينة، وزاد أن المهاجرين من قريش كانوا يجتمعون عندها، وذكره قبله محمد بن الحسن في أخبار المدينة. وقوله: يا أبا مُسلم، كنية سلمة، وقوله: يتحرّى، أي يقصد وقوله: عندها أي إليها كما مرَّ. رجاله ثلاثة: الأول: المكيّ بن إبراهيم، وقد مرَّ في السابع والعشرين من كتاب العلم، ومر يزيد بن أبي عبيد، وسلمة بن الأكوع في الخمسين منه. فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والقول، وهو ثالث ثلاثيات البخاريّ، أخرجه البخاريّ هنا، ومسلم وابن ماجه في الصلاة.

الحديث السادس والتسعون

الحديث السادس والتسعون حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ كِبَارَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- يَبْتَدِرُونَ السَّوَارِيَ عِنْدَ الْمَغْرِبِ. قوله: لقد رأيت، في رواية المستملي والحموي "لقد أدركت" وقوله: عند المغرب، أي عند أذان المغرب، وصرح بذلك الإسماعيليّ. وقوله: يبتدرون السواري؛ يتسارعون للصلاة إليها. رجاله أربعة: الأول: قبَيصة، وقد مرَّ هو وسُفيان الثَّوريّ في السابع والعشرين من كتاب الإيمان، ومرَّ أنس في السادس منه، ومرَّ عمرو بن عامر في الثامن والسبعين من كتاب الوضوء. فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة، ورواته كوفيون ما عدا أنسًا. أخرجه البخاري هنا والنسائيّ في الصلاة. ثم قال: وزاد شُعبة عن عمرو عن أنس "حتى يخرج النبي صلى الله عليه وسلم " وسيأتي الكلام عليه، إن شاء الله تعالى، عند ذكره موصولًا في كتاب الأذان في باب "كم بين الأذان والإقامة" وشعبة مرَّ في الثالث من الإيمان، وعمرو وأنس ذكرا هنا. ثم قال المصنف: باب الصلاة بين السواري في غير جماعة إنما قيدها بغير الجماعة، لأن ذلك يقطع الصفوف، وتسوية الصفوف في الجماعة مطلوبة الخ ما مرَّ.

الحديث السابع والتسعون

الحديث السابع والتسعون حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- الْبَيْتَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ وَبِلاَلٌ، فَأَطَالَ ثُمَّ خَرَجَ، وَكُنْتُ أَوَّلَ النَّاسِ دَخَلَ عَلَى أَثَرِهِ فَسَأَلْتُ بِلاَلاً أَيْنَ صَلَّى قَالَ: بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْمُقَدَّمَيْنِ. وقد استوفي الكلام على هذا الحديث بما لا مزيد عليه في باب "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلَّى". رجاله أربعة: وفيه ذكر أسامة وبلال وعثمان بن طلحة. الأول: موسى بن إسماعيل، وقد مرَّ في الحديث الخامس من بدء الوحي. الثاني: جُوَيرية بن أسماء بن عبيد بن مُخارق، ويقالَ مخراق، الضُّبَعِيّ أبو مخارق، ويقال أبو أسماء البصري. قال ابن مَعين: ليس به بأس. وقال أحمد: ثقة ليس به بأس. وقال أبو حاتم: صالح، وذكره ابن حبّان في الثقات. وقال ابن سعد: كان صاحب علم كثير. وذكره ابن المَدِينيّ في الطبقة السابعة من أصحاب نافع. روى عن أبيه ونافع والزهريّ ومالك بن أنس، وهو من أقرانه. وروى عنه موسى بن إسماعيل ومسدد والقطّان ويزيد بن هارون وغيرهم. مات سنة ثلاث وسبعين ومئة، وفي الستة جُويرية سواه واحد، وهو ابن قُدامة. الثالث: نافع، وقد مرَّ في الثالث والسبعين من كتاب العلم، ومرَّ عبد الله بن عمر أول كتاب الإيمان، قبل ذكر حديث منه، ومرَّ بلال بن حَمامة في التاسع والثلاثين من العلم، ومرَّ أسامة بن زيد في الخامس من الوضوء، ومرَّ عثمان بن

طلحة في الحادي والسبعين من أبواب القبلة. فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في موضعين، والقول، ونصف رواته مدنيّ والنصف الآخر بصريّ. وفيه من الغريب أن جُويرية وأباه أسماء أصلهما للمؤنث ثم اشترك فيهما الرجال والنساء، وقد مرَّ في الحادي والسبعين من أبواب القبلة مواضع إخراجه.

الحديث الثامن والتسعون

الحديث الثامن والتسعون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ الْكَعْبَةَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَبِلاَلٌ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ الْحَجَبِيُّ فَأَغْلَقَهَا عَلَيْهِ وَمَكَثَ فِيهَا، فَسَأَلْتُ بِلاَلاً حِينَ خَرَجَ مَا صَنَعَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ جَعَلَ عَمُودًا عَنْ يَسَارِهِ، وَعَمُودًا عَنْ يَمِينِهِ، وَثَلاَثَةَ أَعْمِدَةٍ وَرَاءَهُ، وَكَانَ الْبَيْتُ يَوْمَئِذٍ عَلَى سِتَّةِ أَعْمِدَةٍ، ثُمَّ صَلَّى. ومباحث هذا الحديث مرت أيضًا. رجاله أربعة: وفيه ذكر بلال وأسامة وعثمان، وقد ذكر الجميع في الذي قبله، ما عدا عبد الله بن يوسف ومالكًا، وقد مرا في الثاني من بدء الوحي. وقال إسماعيل: حدثني مالكٌ وقال "عمودين عن يمينه" في رواية أبي ذَرٍّ والأصيليّ قال: مجردة، وقال كريمة: قال لنا فوضح وصله، وقد ذكر الدارقطنيّ الاختلاف على مالك فيه، فوافق الجمهورَ عبدُ الله بن يوسف في قوله "عمودًا عن يمينه وعمودًا عن يساره" ومرَّ بقية مباحث هذا التعليق عند ذكر الحديث في المحل المذكور ثم قال: باب كذا للأكثر بلا ترجمة، وهو كالفصل من الباب الذي قبله، وكأنّه فصله عنه، لأنه ليس فيه تصريح يكون الصلاة وقعت بين السواري، لكن فيه بيان مقدار ما كان بينه وبين الجدار من المسافة، وسقط لفظ باب رواية الأصيلي.

الحديث التاسع والتسعون

الحديث التاسع والتسعون حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ قَالَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ كَانَ إِذَا دَخَلَ الْكَعْبَةَ مَشَى قِبَلَ وَجْهِهِ حِينَ يَدْخُلُ، وَجَعَلَ الْبَابَ قِبَلَ ظَهْرِهِ، فَمَشَى حَتَّى يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِدَارِ الَّذِى قِبَلَ وَجْهِهِ قَرِيبًا مِنْ ثَلاَثَةِ أَذْرُعٍ، صَلَّى يَتَوَخَّى الْمَكَانَ الَّذِى أَخْبَرَهُ بِهِ بِلاَلٌ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- صَلَّى فِيهِ. قَالَ وَلَيْسَ عَلَى أَحَدِنَا بَأْسٌ إِنْ صَلَّى فِي أَيِّ نَوَاحِي الْبَيْتِ شَاءَ. قوله: الجدار الذي قبل وجهه قريبًا، أي بالنصب على أنه خبر كان، واسمها محذوف، أي القدر أو المكان قريبًا. وفي رواية "قريب" بالرفع اسمها، والظرف المقدم خبرها. وقوله: من ثلاث أذرع، كذا لأبي ذَرٍّ، ولغيره ثلاثة بالتأنيث، والذراع يذكر ويؤنث. وقوله: يتوخّى، بالمعجمة، أي يقصد. وقوله: قال وليس على أحد بأس، أي ابن عمر، وقوله: أنْ يصلي، كذا للكشمينهي، ولغيره "إن صلّى" بلفظ الماضي، ومراد ابن عمر أنه لا يشترط في صحة الصلاة في البيت موافقة المكان الذي صلّى فيه النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم، بل موافقة ذلك أولى، وإن كان يحصل الغرض بغيره. وقد مرّ قريبًا أن هذا الحديث استوفيت مباحثه في باب "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى". رجاله خمسة: وفيه ذكر بلال. الأول: إبراهيم بن المنذر، وقد مرَّ في الأول من العلم، ومرَّ أبو ضمرة أنس بن عياض في الرابع عشر من الوضوء، ومرَّ موسى بن عقبة في الخامس منه، ومرَّ نافع في الثالث والسبعين من العلم، ومرَّ ابن عمر أول كتاب الإيمان

باب الصلاة إلى الراحلة والبعير والشجر والرحل

قبل ذكر حديث منه، ومرَّ بلال في التاسع والثلاثين من كتاب العلم. فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، والعنعنة في موضع واحد، وشيخ البخاريّ من أفراده. ثم قال المصنف: باب الصلاة إلى الراحلة والبعير والشجر والرحل قال الجوهري: الراحلة الناقة التي تصلح لأن يوضَع الرحل عليها. وقال الأزهريّ: الراحلة المركوب النجيب، ذكرًا كان أو أنثى، والهاء فيها للمبالغة، والبعير يقال لما دخل في الخامسة. وقوله: والشجر والرحل، المذكور في حديث الباب الراحلة والرحل، فكأنه ألحق البعير بالراحلة بالمعنى الجامع بينهما، ويحتمل أن يكون أشار إلى ما في بعض طرقه، فقد رواه أبو خالد الأحمر بلفظ "كان يصلي إلى بعيره" فإن كان هذا حديثًا آخر حصل المقصود، وإن كان مختصرًا من الأول، كأنْ يكون المراد يصلي إلى مؤخرة رحل بعيره، اتجه الاحتمال الأول، ويؤيد الاحتمال الثاني ما أخرجه عبد الرّزّاق أن ابن عمر كان يكره أن يصلي إلى بعير إلا وعليه رحله، وألحق الشجر بالرحل بطريق الأولوية، ويحتمل أن يكون أشار بذلك إلى حديث على "لقد رأيتنا يوم بدر وما فمنا إنسان إلا نام، إلا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فإنه كان يصلّي إلى شجرة، يدعو حتى يصبح" رواه النّسائيّ بإسناد حسن.

الحديث المائة

الحديث المائة حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ كَانَ يُعَرِّضُ رَاحِلَتَهُ فَيُصَلِّي إِلَيْهَا. قُلْتُ أَفَرَأَيْتَ إِذَا هَبَّتِ الرِّكَابُ. قَالَ كَانَ يَأْخُذُ هَذَا الرَّحْلَ فَيُعَدِّلُهُ فَيُصَلِّي إِلَى آخِرَتِهِ أَوْ قَالَ مُؤَخَّرِهِ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ -رضى الله عنه- يَفْعَلُهُ. قوله: يُعَرّض، أي بضم الياء وتشديد الراء المكسورة، أي يجعلها عرضًا، وفي رواية بسكون العين وكسر الراء. وقوله: قلت أفرأيت، ظاهره أنه كلام نافع، والمسؤول ابن عمر، لكن بيَّن الإسماعيليّ أنه كلام عُبيد الله، والمسؤول نافع فعلى هذا هو مرسل؛ لأن فاعل يأخذ هو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ولم يدركه نافع. وقوله: إذا هبت الرِّكاب أي هاجت الإبل. يقال: هب الفحل إذا هاج، وهب العَير في السير إذا نشط، والركاب الإبل التي يسار عليها، ولا واحد لها من لفظها. والمعنى أن الإِبل إذا هاجت شوّشت على المصلّي لعدم استقرارها؟ فيعدل عنها إلى الرحل فيجعله سترة. وقوله: فيَعدله، بفتح أوله وسكون العين وكسر الدال، أي يقيمه تلقاء وجهه، ويجوز التشديد من التعديل، وهو تقويم الشيء. وقوله: إلى أَخَرَته، بفتحات بلا مد، ويجوز المد لكن مع كسر الخاء، وقوله: أو قال مُؤخره، بضم أوله ثم همزة ساكنة بكسر الخاء، وجوز الفتح، وأنكر ابن قتيبة الفتح، وعكس مَكي فقال: لا يقال مُقدِم ومُؤخِر بالكسر إلا في العَير خاصة، وأما في غيرها فيقال بالفتح فقط، ويجوز فتح الهمزة والخاء مع تشديدها، والمراد بها العود الذي في آخر الرحل، الذي يستند إليه الراكب.

رجاله خمسة

وقوله: وكان ابن عمر يفعله، أي ما ذكر من التعديل والتعريض، وقد اعتبر الفقهاء مؤخرة الرحل في مقدار أقل السترة، واختلفوا في تقديرها، فقيل ذراع، وقيل ثلثا ذراع، وفي مصنف عبد الرزاق عن نافع أن مؤخرة رحل ابن عمر كانت قدر ذراع. وقد مرَّ أن ذلك هو المعتبر عند المالكية والحنفية، ومرَّ أن المالكية يجوز عندهم الاستتار بالحيوان المأكول اللحم، إذا كان ثابتًا، ولعل هذا الحديث هو مستندهم. ومرَّ كثير من مباحث هذا الحديث عند ذكره في باب الصلاة في مواضع الإبل. رجاله خمسة: الأول: محمد بن أبي بكر المقدميّ، وقد مرَّ في الرابع والثمانين من أبواب القبلة هذه، ومرَّ المعتمر بن سليمان في التاسع والستين من كتاب العلم، ومرَّ عُبيد الله العمريّ في الرابع عشر من الوضوء. ومرَّ نافع في الثالث والسبعين من العلم، ومرَّ ابن عمر في أول كتاب. الإيمان، وقبل ذكر حديث منه. فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في ثلاثة. أخرجه مسلم في الصلاة، والنَّسائيّ في غزوة تبوك. ثم قال المصنف: باب الصلاة إلى السرير وفي رواية لابن عساكر على السرير.

الحديث الحادي والمئة

الحديث الحادي والمئة حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنِ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ أَعَدَلْتُمُونَا بِالْكَلْبِ وَالْحِمَارِ لَقَدْ رَأَيْتُنِي مُضْطَجِعَةً عَلَى السَّرِيرِ، فَيَجِيءُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَيَتَوَسَّطُ السَّرِيرَ فَيُصَلِّي، فَأَكْرَهُ أَنْ أُسَنِّحَهُ فَأَنْسَلُّ مِنْ قِبَلِ رِجْلَي السَّرِيرِ حَتَّى أَنْسَلَّ مِنْ لِحَافِي. قوله: أعدلتمونا، هذا استفهام إنكار من عائشة، قالته لمن قال بحضرتها يقطع الصلاة الكلب والحمار والمرأة، كما يأتي في رواية مسروق بعد خمسة أبواب. وقوله: لقد رأيتُني، بضم المثناة الفوقية، أي لقد أبصرتُ نفسي، وقوله: فيتوسط السرير فيصلي، أي إليه كما في رواية مسروق عن عائشة عند المؤلف في الاستئذان، حيث قال "كان يصلي والسرير بينه وبين القبلة" أو يقال: إن قوله يتوسط السرير، شامل لما إذا كان فوقه أو أسفل منه. وقد بان من رواية مسروق عنها أن المراد الثاني، وبما قلنا يجاب عن اعتراض الإسماعيليّ بأن الحديث دال على الصلاة على السرير، لا إلى السرير، فلا يطابق الترجمة. وأجاب عنه الكرمانيّ بأن حروف الجر تتناوب، فمعنى قوله في الترجمة "إلى السرير" أي على السرير، ويدل على ذلك رواية ابن عساكر المارة، وما ذكرناه من الجواب أَوْلى. وقوله: إن اسْنَحَه، بفتح الهمزة وسكون السين ففتحتين، أي أظهر له من قدامه، وقال الخطابيّ: هو من قولك سنح لي الشيء إذا عرض لي، تريد أنها كانت تخشى أنْ تستقبله وهو يصلي ببدنها، أي منتصبة. وفي رواية "أُسَنِّحه" بضم الهمزة وفتح المهملة وتشديد النون المكسورة وفتح الحاء. وللأصيلي بضم ثم سكون فكسرة ففتح، ومن هذا المعنى سوانح

رجاله ستة

الظباء، وهو ما يعترض المسافرين فيجيء عن مياسرهم، ويجوز إلى ميامنهم. وقال ابن الجَوزيّ: السانح عند العرب ما يمر بين يديك عن يمينك، وكانوا يتيمنون به، ومنهم من قال: عن يسارك إلى يمينك، لأنه أمكن للرمي. والبارح عكسه، والعرب تتطير به. وقوله: فانسَلّ، بفتح السين المهملة، تشديد اللام عطفًا على فاكره، أي أخرج بخفية أو برفق. وقوله: من قِبَل رجلي السرير، بكسر القاف أي جهة، وإضافة رجلي بالتثنية. وقوله: من لحافي، بكسر اللام، وهو كالمرور بين يديه، فيستتبط منه أن مرور المرأة غير قاطع للصلاة، كما إذا كانت بين يدي المصلّي. وقد مرت مباحث هذا الحديث مستوفاة عند ذكره في باب الصلاة على الفراش. رجاله ستة: الأول: عثمان بن أبي شيبة، وقد مرّ هو وجرير بن عبد الحميد ومنصور بن المعتمر في الثاني عشر من العلم، ومرَّ إبراهيم بن يزيد النخعيّ في الخامس والعشرين من الإيمان، ومرَّ الأسود بن يزيد في السابع والستين من العلم، ومرت أم المؤمنين عائشة في الثاني من بدء الوحي. فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في أربعة، والقول. ورواته كلهم كوفيون، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ عن صحابية، أخرجه البخاريّ بعد خمسة أبواب. ومسلم في الصلاة. ثم قال المصنف: باب يرد المصلي من بين يديه أي سواء كان آدميًا أو غيره. ثم قال: ورد ابن عمر في التشهد، أي رد الماربين يديه في حال التشهد. وهذا الأثر وصله ابن أبي شيبة وعبد الرزاق، وعندهما أن المار هو عمرو بن دينار. ثم قال: وفي الكعبة، أي ورد المار بين يديه في الكعبة، وإنما خصص

الكعبة لئلا يتخيل أن يغتفر فيها المرور، لكونها محل المزاحمة. وفي بعض الروايات "وفي الركعة" قال ابن قرقول: وهو أشبه في المعنى، ولكن يقوي رواية الجمهور، التي هي الأَولى، أن الأثر المذكور أخرجه أبو نعيم شيخ المؤلف في كتاب الصلاة له عن صالح بن كيسان، بلفظ "الكعبة" قال: رأيت ابن عمر يصلّي في الكعبة، فلا يدع أحدًا يمر بين يديه يبادره. قال أي يرده. ثم قال: وإن أبى إلا أنْ يقاتله قاتَلَه. في رواية الأكثر بصيغة الفعل الماضي، وهو على سبيل المبالغة، ويأتي ما فيه قريبًا في الحديث، وللكشميهني، إلا أن تقاتله "بصيغة المخاطبة"، فقاتِلْه "بصيغة الأمر"، وهذه الجملة الأخيرة من كلام ابن عمر أيضًا. وقد وصلها عبد الرزاق ولفظه عن ابن عمر قال لا تدع أحدًا يمر بين يديك وأنت تصلي، فإنْ أبى إلا أن تقاتله فقاتله، وهذا موافق لسياق الكشميهني.

الحديث الثاني والمئة

الحديث الثاني والمئة حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلاَلٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَحَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ قَالَ حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ هِلاَلٍ الْعَدَوِىُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ السَّمَّانُ قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ يُصَلِّي إِلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ، فَأَرَادَ شَابٌّ مِنْ بَنِي أَبِى مُعَيْطٍ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَدَفَعَ أَبُو سَعِيدٍ فِي صَدْرِهِ، فَنَظَرَ الشَّابُّ فَلَمْ يَجِدْ مَسَاغًا إِلاَّ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَعَادَ لِيَجْتَازَ فَدَفَعَهُ أَبُو سَعِيدٍ أَشَدَّ مِنَ الأُولَى، فَنَالَ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَى مَرْوَانَ فَشَكَا إِلَيْهِ مَا لَقِيَ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَدَخَلَ أَبُو سَعِيدٍ خَلْفَهُ عَلَى مَرْوَانَ فَقَالَ مَا لَكَ وَلاِبْنِ أَخِيكَ يَا أَبَا سَعِيدٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ، فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلْيَدْفَعْهُ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ، فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ. قولهْ حدثنا يونس، هو ابن عبيد، وقد قرن البخاريّ روايته برواية سليمان بن المغيرة، وساق هنا لفظ سليمان لا لفظ يونس؛ لأنه ساق لفظ يونس في بَدء الخلق. وفيه مغايرة اللفظ المسوق هنا، وليس فيه تقييد الدفع بما إذا كان المصلي يصلي إلى سترة. قال في الفتح: والمطلق في هذا محمول على المقيد، لأن الذي يصلي إلى غير سترة مقصر بتركها، ولاسيما إن صلّى في مشارع المشاة. وقد روى عبد الرزاق التفرقة بين من يصلي إلى سترة وإلى غير سترة. وفي الروضة تبعًا لأصلها، ولو صلى إلى غير سترة أو كانت وتباعد منها، فالأصح أنه ليس له الدفع، لتقصيره، ولا يحرم المرور حينئذ بين يديه، ولكن

الأَولى تركه. قلت: تقصيره بعدم السترة لا يلزم منه جواز المرور بين يديه؛ لأن المار قد تكون له مندوحة عن المرور، فيحرم عليه المرورحينئذ. ويأتي استيفاء الكلام عليه في الباب الآتي بعد هذا الحديث. وقوله: شاب من بني أُبي مُعيط، في كتاب الصلاة لأبي نعيم وقوع القصة لأبي سعيد مع الوليد بن عقبة، وفي تفسير المبهم في المتن به نظر؛ لأن فيه أنه دخل على مروان، وزاد الإسماعيليّ "ومروان يومئذ على المدينة" وإنما كان مروان أميرًا على المدينة في خلافة معاوية، ولم يكن الوليد حينئذ بالمدينة، لأنه لما قتل عثمان تحول إلى الجزيرة، فسكنها حتى مات في خلافة معاوية، ولم يحضر شيئًا من الحروب التي بين علي ومن خالفه، وأيضًا فلم يكن الوليد يومئذ شابًا، بل كان في عمر الخمسين. وأيضًا في الحديث "ولابن أخيك" والوليد أبوه عقبة، قتل كافرًا، فلم يكن ابن أخ لأبي سعيد، فلعل ما في أبي نعيم، فأقبل ابن للوليد بن عقبة فيتجه، وللنَّسائيّ "فمر ابن لمروان" وسماه عبد الرزاق "داود". وجزمَ ابن الجوزيّ بتفسير المبهم في المتن به، وفيه نظر، لأن في المتن أنه من بني أبي مُعيط، وليس مروان من بنيه، بل أبو مُعيط ابن عم والدمروان، وليست أم داود ولا أم مروان ولا أم الحكم من ولد أبي معيط، لكن يحتمل أن يكون داود نسب إلى أبي مُعيط من جهة الرضاعة، أو لكون جده لأمه عثمان بن عفان كان أخا الوليد بن عقبة بن أبي مُعيط لأمه، فنسب داود إليه مجازًا، وفيه يُعد، والأقرب أن تكون الواقعة تعددت لأبي سعيد مع غير واحد، ففي مصنف ابن أبي شيبة عن أبي سعيد في هذه القصة، فأراد عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن يمر بين يديه ... الحديث، وعبد الرحمن مخزوميّ ما له من أبي معيط نسبة. وقوله: فلم يجد مساغًا، بالغين المعجمة، أي ممرًا. وقوله: فنال من أبي سعيد، أي الشاب أصاب من عرضه بالشتم. وقوله: ولابن أخيك أطلق الأُخُوة باعتبار الإِيمان، واستدل الرافعيّ بهذه القصة على مشروعية الدفع، ولو لم يكن هناك مسلك غيره، بل يقف حتى يفرغ المصلي من صلاته، وخالف إمام

الحرمين فقال: إن الدفع لا يشرع للمصلي في هذه الصورة، وتبعه الغزالي، وتعقب ابن الرفعة على الرافعي بما حاصله أن الشاب إنما استوجب من أبي سعيد الدفع، لكونه قصر في التأخر عن الحضور إلى الصلاة حتى وقع الزحام. وما قاله محتمل. لكن لا يدفع الاستدلال، لأن أبا سعيد لم يعتذر بذلك، ولأنه متوقف على أن ذلك وقع قبل صلاة الجمعة أو فيها، مع احتمال أن يكون ذلك وقع بعدها، فلا يتجه ما قاله من التقصير بعدم التبكير، بل كثرة الزحام حينئذ أوجه. وقوله: فليدفعه، ولمسلم "فليدفع في نحوه" قال القرطبيّ أي بالإِشارة ولطيف المنع. وقوله: فليقاتله، أي يزيد في دفعه الثاني أشد من الأول. قال: وأجمعوا على أنه لا يقاتل بالسلاح، لمخالفة ذلك لقاعدة الإِقبال على الصلاة، والاشتغال بها والخشوع فيها. وأطلق جماعة من الشافعية أنَّ له أنْ يقاتله حقيقة، واستبعد ابن العربى ذلك في القبس وقال: المراد بالمقاتلة المدافعة، وأغرب الباجيّ فقال: يحتمل أن يكون المراد بالمقاتلة اللَّعْن والتعنيف، وتعقب بأنه يستلزم التكلم في الصلاة، وهو بخلاف الفعل اليسير، ويمكن أن يكون أراد أنه يلعنه داعيًا لا مخاطبًا، لكن فعل الصحابي يخالفه، وهو أعلم بالمراد. وقد رواه الإسماعيلى بلفظ "فإنْ أبى فليجعل يده في صدره ويدفعه" وهو صريح في الدفع باليد. ونقل البيهقيّ عن الشافعيّ أن المراد بالمقاتلة دفع أشد من الدفع الأول، وما مرَّ عن ابن عمر يقتضي أن المقاتلة إنما تشرع إذا تعينت في دفعه. قال في الفتح: وبنحوه صرح أصحابنا فقالوا: يرده بأسهل الوجوه، فإن أبى شد، ولو أدّى إلى قتله، ولو قتله فلا شيء عليه؛ لأن الشارع أباح له مقاتلته، والمقاتلة المباحة لا ضمان فيها. ونقل عياض وغيره أن عندهم خلافًا في وجوب الدية في هذه الحالة، قلت: مشهور مذهب المالكية هو أن المصلي يدفع المار دفعًا خفيفًا لا يشغله، فإن كثر أبطل، ولو دفعه فسقط منه دينار أو انخرق ثوبه ضمن، ولو دفعًا مأذونًا فيه. قال ابن عرفة ولو مات كانت ديته على العاقلة عند أهل المذهب، وذلك

لأنه لما كان مأذوناً فيه في الجملة، كان كالخطأ، فلذلك لم يقتل به، وكانت الدية على العاقلة، والدفع عندهم مندوب لا غير. وقال النوويّ: لا أعلم أحدًا من الفقهاء قال بوجوب هذا الدفع، بل صرح أصحابنا بأنه مندوب. قال في الفتح: قد صرح بوجوبه أهل الظاهر، فكأنّ الشيخ لم يراجع كلامهم. فيه، أو لم يعتد بخلافهم. ونقل ابن بطال وغيره الاتفاق على أنه لا يجوز له المشي من مكان ليدفعه، ولا العمل الكثير في مدافعته، لأن ذلك أشد في الصلاة من المرور، وذهب الجمهور إلى أنه إذا مرّ ولم يدفعه، فإنه لا ينبغي له أن يرده، لأن فيه إعادة للمرور. وروى ابن شَيبة عن ابن مسعود وغيره أن له ذلك، ويمكن حمله على ما إذا رده فامتنع وتمادى. لا حيث يقصر المصلي في الرد. وقوله: فإنما هو شيطان، أي: فعله فعل الشيطان؛ لأنه أبى إلا التشويش على المصلّي، وإطلاق لفظ الشيطان على المار من الإنس سائغ شائع، وقد جاء في القرآن قوله تعالى: {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ}. وقال ابن بطال: في هذا الحديث جواز إطلاق لفظ الشيطان على من يفتن في الدين، وأن الحكم للمعاني دون الأسماء، لاستحالة أن يصير المار شيطانًا بمجرد مروره، وهو مبني على أن لفظ الشيطان يطلق حقيقة على الجِنّي، ومجاز على الإنسي. قال في الفتح: وفيه بحث، قلت: لا وجه للبحث فيه مع نص الآية المتقدمة، ويحتمل أن يكون المعنى: وإنما الحاصل له على ذلك الشيطان، وفي رواية للإسماعيليّ "فإن معه الشيطان" ونحوه لمسلم من حديث ابن عمر، بلفظ "فإنّ معه القَرين" واستنبط ابن أبي جَمرة من قوله "فإنما هو شيطان" أن المراد بقوله "فليقاتله" المدافعة اللطيفة لا حقيقة القتال؛ لأن مقاتلة الشيطان إنما هي بالاستعاذة، والتستر عنه بالتسمية ونحوها. وإنما جاز الفعل اليسير في الصلاة للضرورة، فلو قاتله حقيقة المقاتلة لكان أشد على صلاته من المار. قال: وهل المقاتلة لخلل يقع في صلاة المصلّي من المرور، أو لدفع الإثم

رجاله ثمانية

عن المار؟ الظاهر الثاني. وقال غيره: بل الأول أظهر، لأن إقبال المصلي على صلاته أولى من اشتغاله بدفع الإثم عن غيره، وقد روى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود أن المرور بين يدي المصلي يقطع نصف صلاته، وروى أبو نعيم عن عمر "لو يعلم المصلي ما ينقص من صلاته بالمرور بين يديه ما صلى إلا إلى شيء يستره عن الناس" فهذان الأثران مقتضاهما أن الدفع لخلل يتعلق بصلاة المصلي، وهما، وإن كانا موقوفين لفظًا، فحكمهما حكم الرفع؛ لأن مثلهما لا يقال بالرأي. رجاله ثمانية: وفيه ذكر شاب من بني مُعيط. الأول: أبو معمر، وقد مرَّ هو وعبد الوارث في السابع عشر من العلم، ومرَّ يونس بن عبيد في الرابع والعشرين من الإيمان، ومرَّ أبو صالح في الثاني منه، ومر آدم بن أبي إياس في الثالث منه، ومرَّ أبو سعيد الخُدريّ في الثاني عشر منه. الخامس: من السند حُميد بن هلال بن هُبيرة. ويقال ابن سُويد بن هبيرة العَدَويّ أبو نصر البَصريّ. قال القطان كان ابن سيرين لا يرضاه. قال أبو حاتم: لأنه دخل في عمل السلطان، وكان ثقة في الحديث. وقال ابن مَعين والنَّسانيّ: ثقة. وقال أبو هلال الراسبيّ: ما كان بالبصرة أعلم منه. وقال ابن عديّ: له أحاديث كثيرة. وقد حدث عنه الأئمة، وأحاديثه مستقيمة. وقال ابن سعد: كان ثقة. وذكره ابن حِبّان في الثقات، ووَثّقه العجليّ، وفي أحاديث القهقهة من السنن للدارقطني من طريق وهيب عن ابن عون عن ابن سيرين قال: كان أربعة يصدقون من حدثهم، ولا يبالون ممن يسمعون: الحسن وأبو العالية وحميد بن هلال، ولم يذكر الرابع، وفي بعض النسخ منه، وداود بن أبي هند. قال ابن حجر في مقدمته: بيّن أبو حاتم أن سبب عدم ارتضاء ابن سيرين له كونه دخل في شيء من عمل السلطان، وقد احتج به الجماعة. قلت: لكن ما مرّ قريبًا عن الدارقطنيّ من كون ابن سيرين قال: إنه لا يبالي بمن ينقل عنه،

ينافي ذلك. روى عن عبد الله بن مغفل وأنس بن مالك وأبي قتادة وهشام بن عامر الأنصاريّ. وقال أبو حاتم: لم يلقَ هشام بن عامر، والحفاظ لا يدخلون بينهما أحدًا حماد بن زيد وغيره. وروى عنه أيوب وعاصم الأحول، وحجّاج بن أبي عثمان، وقتادة ويونس بن عبيد وغيرهم. مات في ولاية خالد على العراق، وليس في الستة حميد بن هلال سواه. السادس: سُليمان بن المُغيرة القيسيّ، مولاهم أبو سعيد البصريّ، قال شُعبة: سليمان بن المغيرة سيد أهل البصرة. وقال أبو داود الطيالسيّ: حدثنا سليمان بن المغيرة، وكان خيارًا من الرجال. وقال عبد الله الخُريبيّ: ما رأيت بالبصرة أفضل منه ومن مرحوم بن عبد العزيز. وقال أحمد: ثَبْتٌ ثبت. وقال ابن مَعين: ثقة ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة ثبتًا. وقال ابن المَدِيني: لم يكن في أصحاب ثابت أثبت من حماد بن سلمة، ثم بعده سليمان بن المغيرة، ثم بعده حماد بن زيد. وقال النّسائيّ: ثقة. وقال سليمان بن حرب: حدثنا سليمان بن المغيرة الثقة المأمون. وقال عبد الله بن مسلمة: ما رأيت بصريًا أفضل منه. وقال عثمان بن أبي شيبة: ثقة، وذكره ابن حبّان في الثقات. وقال البزار: كان من ثقات البصرة، ووثَّقه العجليّ وابن نُمير. وقال أبو مسعود الدِّمشقيّ: ليس لسليمان بن المغيرة عند البخاري. إلا هذا الحديث الواحد، وقرنه بغيره. روى عن أبيه وثابت وحميد بن هلال وابن سيرين والجريريّ وغيرهم. وروى عنه الثّوري وشعبة، وماتا قبله، وأبو داود وأبو الوليد الطيالسيّان، وابن مهدي ومعمر بن سليمان وابن المبارك وخلق. مات سنة خمس وستين ومئة وفي الستة سليمان بن المغيرة العبسي أبو عبد الله الكوفي لا غير. والشاب الذي هو من بني أبي معيط قد مرّ ما قيل فيه من أنه الوليد بن عقبة بن أبي مُعيط، واسم أبي معيط أَبان بن أبي عمرو ذكوان بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وقيل إنّ ذكوان كان عبدًا لأمية، فاستلحقه، والأول

أكثر، وهو أخو عثمان بن عفان لأمه، أمهما أروى بنت كُرَيز، وأمها البيضاء بنت عبد المطلب، يكنى أبا وهب، قتل أبوه بعد الفراغ من غزوة بدر صبرًا، وكان شديدًا على المسلمين، كثير الأذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان ممن أُسر ببدر، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله. فقال: يا محمد من للصبية؟ قال: النار. وأسلم الوليد وأخوه عمارة يوم الفتح. قال ابن عبد البر: لا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن أن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ..} الآية، نزل فيه، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه مصدقًا إلى بني المصطلق، فعاد فأخبر عنهم أنهم ارتدوا، ومنعوا الصدقة، وكانوا خرجوا يتلقونه وعليهم السلاح، فظن أنهم خرجوا يقاتلونه. فرجع فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد، وأمره أن يتثبت فيهم، فلما دنا منهم بعث عيونًا ليلًا، فإذا هم ينادون بالصلاة ويصلون، فأتاهم خالد فلم ير منهم إلا طاعة وخيرًا، فرجع إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فأخبره، فنزلت هذه الآية. ويعارض هذا ما أخرجه أبو داود عن الوليد بن عقبة قال: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، جعل أهل مكة يأتونه بصبيانهم، فيمسح على رؤوسهم، فأُتي بي إليه وأنا مُخْلَق، فلم يمسني من أجل الخَلُوق. قال ابن عبد البر: أبو موسى مجهول. وهو من رواة الحديث. ومن يكون صبيًا لا يبعثه النبي صلى الله عليه وسلم مصدقًا بعد الفتح بقليل. وقد ذكر الزبير وغيره من أهل العلم بالسير أن أم كلثوم بنت عقبة لما خرجت إلى النبي صلى الله عليه وسلم مهاجرة في الهدنة سنة سبع، خرج أخواها الوليد وعمارة ليرداها. قال: فمن يكون صبيًا كيف يكون ممّن خرج ليرد أخته قبل الفتح؟ ومما يؤيد أنه كان في الفتح رجلًا أنه كان قدم في فداء عم أبيه الحارث بن أبي وَجْزة بن أبي عمرو بن أمية، وكان أسر يوم بدر، فافتداه بأربعة آلاف. حكاه أصحاب المغازي، ونشأ الوليد بعد ذلك في كنف عثمان إلى أن استخلف، فولاه الكوفة، وعزل عنها سعد بن أبي وقاص، واستعظم الناس ذلك، ولما قدم الوليد

على سعد قال له سعد: والله ما أدري أكِسْتَ بعدنا أم حمقنا بعدك؟ فقال: يا أبا إسحاق، لا تجزعنٌ فإنما هو المُلْك يتغداه قوم ويتعشاه آخرون. فقال سعد: أراكم، والله، ستجعلونها مُلكًا. وروي عن ابن سيرين أنه قال: لما قدم الوليد بن عُقبة أميرًا على الكوفة، أتاه ابن مسعود فقال: ما جاء بك؟ قال: جئت أميرًا. فقال ابن مسعود: ما أدري أصلحت بعدنا أم فسد الناس. وله أخبار فيها نَكارة وشناعة، تقطع على سره حاله وقبح أفعاله. قال الأصمعي وغيره: كان من رجال قريش ظرفًا وحِلمًا وشجاعة وأدبًا، وكان من الشعراء المطبوعين، وكان كريمًا تجاوز الله عنه. قال أبو عمر: أخباره في شرب الخمر ومنادمته أبي زبيد الطائي مشهورة كثيرة، فمنها ما روي عن ابن شَوْذب قال: صلى الوليد بن عقبة بأهل الكوفة الصبحَ أربعًا، ثم التفت إليهم فقال: أزيدكم؟ فقال ابن مسعود: ما زلنا معك في زيادة منذ اليوم. وفي ذلك يقول الحُطيئة: شهد الحطيئة يوم يلقى ربَّه ... أن الوليد أحق بالعذر نادى وقد تمت صلاتهم ... أأزيدكم سكرًا وما يدري فأبوا أبا وهب ولو إذ قد نَسُوا ... لقرنت بين الشفع والوتر كفوا عنانك إذ جريت ولو ... تركوا عنانك لم تزل تجري وقال أيضًا: تكلم في الصلاة وزاد فيها ... علانية وجاهر بالنفاق ومجَّ الخمر في ستر المصلى ... ونادى والجميع إلى افتراق أأزيدكم على أن تحمدوني ... فما لكم ومالي من خلاق ولما وقع هذا ركب حُصين بن المنذر بن أبي ساسان إلى عثمان، فأخبره بقصة الوليد، وقدم على عثمان رجلان فشهدا عليه بشرب الخمر، وأنه صلى الغداة بالكوفة أربعًا، ثم قال: أأزيدكم؟ فقال أحدهما: رأيته يشربها. وقال الآخر: رأيته يتقيأها، فقال عثمان: لم يتقيأها حتى شربها. وقال لعلي رضي الله

عنه: أقم عليه الحد، فقال علي لأبن أخيه عبد الله بن جعفر: أقم عليه الحد، فأخذ السوط وجلده وعثمان يَعُدّ حتى بلغ أربعين. فقال عليّ: أمسك جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر أربعين، وجلد أبو بكر أربعين. وجلد عمر ثمانين. وكل سُنة. وروي عن أبي جعفر محمد بن علي قال: جلد عليَّ، رضي الله تعالى عنه، الوليدَ بن عقبة في الخمر أربعين جلدة، بسوط له طَرَفان. قال أبو عمر: أضاف الجلد إلى عليّ لأنه أمره به على الوجه الذي تقدم في الخبر قبله. قال أبو عمر: لم يرو الوليد بنِ عقبة سنة يحتاج فيها إليه. وروى ابن إسحاق عنه أنه قال: ما كانت نبوّة إلا كان بعدها مُلْك. وقد روى الطبريّ أنه تعصب عليه قوم من أهل الكوفة بغيًا وحسدًا وشهدوا عليه زورًا أنه تقيأ الخمر، وذكر القصة، وفيها أن عثمان قال له: يا أخي اصبر، فإن الله تعالى يأجرك ويبوء القوم بإثمك. قال ابن عبد البر: وهذا الخبر من نقل أهل الأخبار، ولا يصح عند أهل الحديث، ولا له عند أهل العلم أصل. والصحيح عندهم ما مرّ، ولمّا عزله عن الكوفه ولّى عليها سعيد بن العاص، وفي ذلك يقول شاعرهم: فررت من الوليد إلى سعيد ... كأهل الحجر إذ جزعوا فباروا يلينا من قريش كل عام ... أميرٌ محدِثٌ أو مستثار لنا نار نُخوَّفها فنخشى ... وليس لهم، ولا يخشون، نار ولما قتل عُثمان اعتزل الوليد الفتنة، فلم يشهد مع علي ولا مع غيره، ونزل الرقة، ولكنه كان يحرض معاوية على قتال عليّ بكتبه وشعره، ومن ذلك ما كتب به إلى معاوية حين أرسل إليه عليٌّ جريرًا يأمره بأن يدخل في الطاعة، ويأخذ البيعة على أهل الشام، فبلغ ذلك الوليد، فكتب إليه من أبيات: أتاك كتاب من عليّ بخطه ... هي الفصل فاختر سلمه أو تحاربه فإن كنت تنوي أن تجيب كتابة ... فقبّح ممليه وقُبحّ كاتبه وكتب إليه أيضًا في أبيات:

فإنك والكتاب إلى عليّ ... كدابغة وقد حلم الأديم وهو القائل: فوالله ما هند بأمك إن مضى النـ ... ـهار ولم يثأر بعثمان ثائر أيقتل عبدُ القوم سيدّ أهله ... ولم يقتلوه، ليت أمك عاقر وإنا متى نقتلهم لا يقد بهم ... مقيد وقد دارت عليه الدوائر وهو القائل: أما من لليلي لا تغور كواكبه، ... إذا لاح نجم غار نجم يراقبه بني هاشم ردوا سلاح أخيكم ... ولا تنهبوه لا تحل مناهبه بني هاشم لا تعجلونا فإنه ... سواء علينا قاتلوه وسالبه فإنا وإياكم وما كان بيننا ... كصدع الصفا لا يرأب الصدع شاعبه بني هاشم كيف التقاعد بيننا ... وعند عليّ سيفه وحرائبه؟ لعمرك لا أنسى ابن أروى وقتله ... وهل ينسينَّ الماءَ، ما عاش، شاربُه هم قتلوه كي يكونوا مكانه ... كما فعلت يومًا بكسرى مرازبه فأجابه الفضل بن عباس بن عُتبة بن أبي لهب: فلا تسألونا بالسلاح فإنه ... أضيع وألقاه لدى الروع صاحبه وإني لمجتاب إليكم بجحفل ... يَصم السميعَ جرسُه وجلائبه وشهبّهته كسرى وما كان مثله ... شبيهًا بكسرى هديه وضرائبه وهو القائل في عثمان: ألأنّ خير الناس بعد ثلاثة ... قتيل التُّجَيبيّ الذي جاء من مصرِ ومالي لا أبكي وتبكي قرابتي ... وقد حجبت عنا فضول أبي عَمْرِو أقام بالرقة إلى أن مات بها. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم الحديث الذي مرّ في دخول مكة، وروى عن عثمان وغيره، وروى عنه حارثة بن مُضَرّب والشّعبيّ وأبو موسى الهمدانيّ وغيرهم. كانت ولايته على الكوفة سنة خمس

لطائف إسناده

وعشرين، وكان في سنة ثمان وعشرين، غزا أذربيجان وهو أمير القَوم، وعزل سنة تسع وعشرين وكان موته في خلافة معاوية. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع من الماضي في سبعة مواضع، والعنعنة في موضعين، والقول والرؤية، ورواية تابعيّ عن تابعيّ عن صحابيّ، ورواته كلهم بصريون إلا أبا صالح فإنه مدنيّ، وآدم فإنه عسقلاني. وآدم من أفراد البخاري. وفيه التحويل من إسناد إلى آخر، وقد مرّ الكلام عليه في السادس من بدء الوحي. أخرجه البخاريّ هنا وفي كتاب بدء الخلق بهذا السند، وفي صفة إبليس. ومسلم وأبو داود في الصلاة. ثم قال المصنف: باب إثم المار بين يدي المصلي

الحديث الثالث والمئة

الحديث الثالث والمئة حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ أَرْسَلَهُ إِلَى أَبِي جُهَيْمٍ يَسْأَلُهُ مَاذَا سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي الْمَارِّ بَيْنَ يَدَي الْمُصَلِّي فَقَالَ أَبُو جُهَيْمٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَي الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ. قَالَ أَبُو النَّضْرِ لاَ أَدْرِي أَقَالَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا أَوْ سَنَةً. قوله: إن زيد بن خالد أرسله إلى أبي جُهيم، هو كذلك في الموطأ، لم يختلف على مالك فيه أن المرسل هو زيد والمرسل إليه هو أبو جهيم، وتابعه سفيان الثَّوري عن أبي النضر عند مسلم، وابن ماجه وغيرهما، وخالفهما ابن عُيينة عن أبي النضر، فقال ابن بُسر بن سعيد: أرسلني أبو جُهيم إلى زيد بن خالد أسأله. قال ابن عبد البَرّ: رواية ابن عُيينة مقلوبة. وقال يحيى بن مَعين، حين سئل عنها: هي خطأ، إنما هو أرسلني زيد إلى أبي جُهيم، كما قال مالك. وتعقب ذلك ابن القطّان فقال: ليس خطأ ابن عُيينة بمتعيّن، لاحتمال أن يكون أبو جهيم بعث بُسرًا إلى زيد بن خالد، وبعثه زيد إلى أبي جُهيم يستثبت كل واحد منهما ما عند الآخر. قال في الفتح: تعليل الأئمة للأحاديث مبني على غلبة الظن، فإذا أخطأ فلان في كذا لم يتعين خطؤه في نفس الأمر، بل هو راجح الاحتمال، فيعتمد، ولولا ذلك لما اشترطوا انتفاء الشاذ، وهو ما يخالف الثقة فيه من هو أرجح منه في حد الصحيح. قلت: يجاب عن ابن القطّان بأن ما قاله صاحب الفتح محله

حيث لا يمكن الجمع بين الروايات، وما قاله ابن القطّان إنما هو إظهار لإمكان الجمع بين الروايتين، فليتأمل. وقوله: بين يدي المصلي، أي أمامه بالقرب منه، وعبر باليدين لكون أكثر الشغل يقع بهما، وقد مرَّ ما في تحديد ذلك من الخلاف. وقوله: ماذا عليه، زاد الكشميهنيّ "من الإثم" وهذه الزيادة شاذة ليست في شيء من الروايات عن مالك، ولا في السنن، ولا في المسانيد، ولا في المستخرجات، لكن في مصنف ابن أبي شيبة "يعني من الإثم" فيحتمل أن تكون ذكرت في حاشية على البخاري، فظنها الكشميهنيّ أصلا وقد قال النوويّ في شرح المهذَّب: رويناها في الأربعين لعبد القادر الهرويّ "ماذا عليه من الإثم". وقوله: لكان أن يقف أربعينَ، يعني أن المار لو علم مقدار الإثم الذي يلحقه من مروره بين يَدَي المصلي، لاختار أن يقف المدة المذكورة، حتى لا يلحقه ذلك الإثم. وقال الكرمانيّ: جواب ليس هو المذكور، بل التقدير: لو يعلم ما عليه لوقف أربعين، ولو وقف أربعين لكان خيرًا له، وما قاله ليس بمتعين. قال: وأبهم المعدود تفخيمًا للأمر وتعظيمًا له. قال في الفتح: ظاهر السياق أنه عيّن المعدود، ولكن شك الراوي فيه، وفي ابن ماجه وابن حبّان عن أبي هريرة "لكان أن يقف مئة عام خير له من الخطوة التي خطاها" وهذا يُشعر بأن إطلاق الأربعين للمبالغة في تعظيم الأمر، لا لخصوص عدد معين. وجنح الطحاويُ إلى أن التقييد بالمئة وقع بعد التقييد بالأربعين، زيادة في تعظيم الأمر على المار، لأنهما لم يقعا معًا، إذ المئة أكثر من الأربعين، والمقام مقام زجر وتخويف، فلا يناسب أن يتقدم ذكر المئة على الأربعين، بل المناسب أن يتأخر. ومميز الأربعين، إن كان هو السنة ثبت المدعى أوما دونها فمن باب الأولى، وفي مسند البزار عن ابن عُيينة "لكان أن يقف أربعين خريفًا" وجعل ابن القطّان الجزم في طريق ابن عُيينة، والشك في غيره، والأعلى على التعدد. ورواه أحمد وابن أبي شيبة وسعيد بن منصور، وغيرهم من الحفاظ، عن ابن عيينة عن أبي النضر، على الشك أيضًا، وزاد فيه "أو ساعة" فيبعد أن يكون

الجزم والشك وقعا معًا من راوٍ واحدة، إلا أنْ يقال: لعله تذكر في الحال فجزم، وفيه بُعد. وأبدى الكرمانيّ لتخصيص الأربعين بالذكر حكمتين: الأولى كون الأربعة أصل جمع الأعداد، فلما أريد التكثير ضربت في عشرة، والثانية كون كمال أطوار الإنسان بأربعين، كالنطفة والعلقة والمضغة، وكذا بلوغ الأَشُد، ويحتمل غير ذلك. درقوله: خيرًا له، بالنصب في رواية عليّ أنه خبر كان، ولبعضهم خير بالرفع، وهي رواية التِّرمذيّ، وأعربها ابن العربيّ على أنها اسم كان، وأشار إلى تسويغ الابتدا بالنكرة، لكونها موصوفة، ويحتمل أن يقال: اسمها ضمير الشأن، والجملة خبرها. وقوله: من أن يمر بين يديه، أي المصلي، لأن عذاب الدنيا، وإن عَظُم، يسيرٌ. وقوله: قال أبو النضر، وهو كلام مالك، وليس من تعليق البخاريّ، لأنه ثابت في الموطأ في جميع الطرق، وكذا ثبت في رواية الثَّوري وابن عُيينة. قال النوويّ: فيه دليل على تحريم المرور، فإن معنى الحديث النهي الأكيد والوعيد الشديد على ذلك. ومقتضى ذلك أن يعد في الكبائر. وفيه أخذ القرين عن قرينه ما فاته، أو استثباته فيما سمع معه، وفيه الاعتماد على خبر الواحد؛ لأن زيدًا اقتصر على النزول مع القدرة على العلو، واكتفاء رسوله المذكور. وفيه استعمال لو في باب الوعيد، ولا يدخل في ذلك في النهي، لأن محل النهي أن يُشعر بما يعاند المقدور، كما سيأتي إن شاء الله تعالى في كتاب القدر. واستنبط ابن بطال من قوله "لو يعلم" أن الإثم يختص بمن يعلم بالنهي، وارتكبه، وأخذه من ذلك فيه بعد، ولكنه معروف من أدلة أخرى. وظاهر الحديث أن الوعيد المذكور يختص بمن مرَّ، لا بمن وقف عامدًا مثلًا بين يدي المصلي، أو قعد أو رقد، لكنْ إن كانت العلة هي التشويش على المصلي فهو في معنى المار. قلت: مذهب مالك تناول المرور لكل مشوّش من تناول شيء بين يديه أو كلام نحو ذلك، وظاهره أيضًا عموم النهي في كل مصلٍ. وخصه بعض المالكية بالإمام والفَذّ، لأن المأموم لا يضره من مرَّ بين يديه، لأن سترة

رجاله ستة

إمامه سترة له، وإمامه حائل بينه وبين سترته. والتعليل المذكور لا يطابق المدعى، لأن السترة تفيد رفع الحرج عن المصلي لا عن المار، فاستوى الإمام والمأموم والمنفرد في ذلك. وقد قسمت المالكية أحوال المار والمصلي في الإِثم وعدمه على أربعة أقسام: يأثم المار دون المصلي، وعكسه، ويأثمان جميعًا، وعكسه. فالقسم الأول أن يصلي إلى سترة في غير مَشْرَع، وللمار مندوحة، فيأثم المار دون المصلي. الثاني أن يصلي في مشرع مسلوك دون سُترة أو متباعدًا عن السترة، ولا يجد المار مندوحة، فيأثم المصلي دون المار، الثالث مثل الثاني لكن المار يجد مندوحة، فيأثمان. الرابع مثل الأول لكن لم يجد المار مندوحة، فلا يأثمان جميعًا. وظاهر الحديث يدل على منع المرور مطلقًا، ولو لم يجد مسلكًا، بل يقف حتى يفرغ المصلي من صلاته، ويؤيده قصة أبي سعيد السابقة، فإن فيها "فنظر الشاب فلم تجد مساغًا" وفي رواية أبي السّراج عن أبي النضر "لو يعلم المار بين يدي المصلي والمصلي" فحمله بعضهم على ما إذا قصر المصلي في دفع المار، أو بأن صلى في الشارع، ويحتمل أن يكون قوله "والمصلَّى" بفتح اللام، أي بين يدي المصلَّى من داخل سترته، وهذا أظهر. رجاله ستة: الأول: عبد الله بن يوسف، وقد مرَّ هو ومالك في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ أبو النضر في السابع والستين من الوضوء، ومرَّ بُسر بن سعيد في التاسع والستين من أبواب القبلة، ومرَّ زيد بن خالد في الثالث والثلاثين من العلم، ومرَّ أبو الجهم في الثالث من التيمم. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع، والإخبار كذلك، والعنعنة في موضعين، وفيه تابعي وصحابيان. أخرجه البخاري هنا، وبقية الستة. ثم قال المصنف:

باب استقبال الرجل الرجل وهو يصلي

باب استقبال الرجل الرجل وهو يصلي في نسخة الصَّغانيّ استقبال الرجل صاحبه أو غيره في صلاته، أي هل يكره أو لا؟ أو يفرق بين ما إذا ألهاه أو لا؟ الرجل الأول مجرور باستقبال، والثاني مفعول به، ولفظ هو يحتمل عوده إلى الثاني، فيكون الرجلان متواجهين، وإلى الأول فلا يلزم التواجه، ثم قال: وكره عثمان أن يستقبل الرجل، وهو يصلي، يُستقْبَل، بضم الياء مبني للمجهول، والرجل نائب عن الفاعل، ويجوز فتح الياء على صيغة المعلوم. قال في الفتح: لم أر هذا الأثر إلى الآن عن عثمان، وإنما رأيته في مصنَّفيْ عبد الرزاق وابن أبي شيبة وغيرهما، عن عمر أنه زجر عن ذلك، وفيهما أيضا عن عثمان ما يدل على عدم كراهة ذلك، فليتأمل لاحتمال أن يكون فيما وقع في الأصل تصحيف عن عمر إلى عثمان. وقوله: وهو يصلي، جملة اسمية وقعت حالًا. ثم قال: وهذا إذا اشتغل به، فأما إذا لم يشتغل به، فقد قال زيد بن ثابت: ما باليت، إن الرجل لا يقطع صلاة الرجل. هذا التفصيل من كلام البخاريّ، جمع به بين ما ظاهره الاختلاف من الأثرين اللذين ذكرهما عن عثمان وزيد بن ثابت، وهو أن استقبال الرجلِ الرجلَ في الصلاة إنما يكره إذا شغل المصلي المُستقْبِل، لأن علة الكراهة هي كف المصلي عن الخشوع، وحضور القلب، وأما إذا لم يشغله فلا بأس به. وقول زيد: ما باليتُ، أي الاستقبال المذكور، يريد أنه لا حرج في ذلك. وقوله: إن الرجل بكسر إن، لأنه استئنافٌ ذكر لعدم تعليل المبالاة، وقد مرَّ عن مالك جواز الاستتار بظهر الرجل. وأن في جنبه قولين، ولا يجوز بوجهه، وأكثر العلماء على كراهة استقباله بوجهه. وقال نافع: كان ابن عمر إذا لم يجد سبيلًا إلى سارية المسجد قال لي: ولِّ ظهرك. وقال الحسن وقتادة: يستره، إذا كان جالسًا. وعن الحسن "يستره" ولم يشترط الجلوس، ولا تولية الظهر. وقال ابن سيرين: لا يكون الرجل سترة للمصلي. قال ابن بطال: وأجاز الكوفيون والثَّوريّ والأوزاعيّ الصلاة خلف المتحدثين، وكرهه ابن مسعود. وقد مرَّ في الحديث الذي قبله أنه من المرور

عند مالك، وكان ابن عمر لا يستقبل من يتكلم إلا بعد الجمعة، ولم أر مَن وصل أثر زيد بن ثابت أيضًا، والأثران فيهما ذكر عثمان وزيد بن ثابت، فأما عثمان، فقد مرَّ بعد الخامس من العلم في باب ما يذكر في المناولة، ومرَّ زيد بن ثابت في تعليق بعد الثالث من كتاب الصلاة.

الحديث الرابع والمئة

الحديث الرابع والمئة حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ خَلِيلٍ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمٍ يَعْنِي ابْنَ صُبَيْحٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ ذُكِرَ عِنْدَهَا مَا يَقْطَعُ الصَّلاَةَ فَقَالُوا يَقْطَعُهَا الْكَلْبُ وَالْحِمَارُ وَالْمَرْأَةُ. قَالَتْ قَدْ جَعَلْتُمُونَا كِلاَبًا، لَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي، وَإِنِّي لَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، وَأَنَا مُضْطَجِعَةٌ عَلَى السَّرِيرِ، فَتَكُونُ لِي الْحَاجَةُ، فَأَكْرَهُ أَنْ أَسْتَقْبِلَهُ فَأَنْسَلُّ انْسِلاَلاً. قوله: وأكره أن أستقبله، كذا للأكثر بالواو، وهي حالية، وللكشميهنيّ "فأكره" بالفاء. قال ابن المنير: الترجمة لا تطابق حديث عائشة، لكنه يدل على المقصود بالأَوْلى، لكن ليس فيه تصريح بأنها كانت مستقبلة، فلعلها كانت منحرفة أو مستدبرة. وقال ابن رشيد: قصد البخاريّ أن شغلَ المصلي بالمرأة، إذا كانت في قبلته، على أي حال كانت، أشدُّ من شغله بالرجل، ومع ذلك لم تضر صلاته صلى الله تعالى عليه وسلم، لأنه غير مشتغل بها، فكذلك لا تضر صلاة من لم يشتغل بها، والرجل من باب الأولى. واقتنع الكرمانيّ بأن حكم الرجل والمرأة واحد في الأحكام الشرعية. وهذا الحديث والأحاديث الأربعة المذكورة بعده قد استوفيت مباحثها في باب الصلاة على الفراش، عند ذكر الحديث من رواية مالك، إلا يسيرًا من الألفاظ أبينه عند ذكره. رجاله ستة: الأول: إسماعيل بن خليل، وقد مرَّ في السابع من الحيض. الثاني: علي بن مُسْهر، بضم الميم، القرشيّ أبو الحسن الكوفيّ، الحافظ قاضي الموصل، قال العجلي: قرشيّ من أنْفسِهم، كان ممن جمع الحديث

والفقه، ثقة في الحديث ثبت فيه، صاحب سنة، صالح الكتاب، كثير الرواية عن الكوفيين. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث. وذكره ابن حبّان في الثقات. وقال أبو زرعة: صدوق ثقة، وقال النسائيّ: ثقة، وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: صالح الحديث، أثبت من أبي معاوية. وقال عثمان الدارميّ: قلت لابن معين: هو أحب إليك أو أبو خالد الأحمر؟ فقال: ابن مسهر، فقلت: ابن مسهر أو إسحاق بن الأزرق؟ قال: ابن مسهر. قلت: ابن مسهر أو يحيى بن أبي زائدة؟ فقال: كلاهما ثقة. وقال يحيى بن معين: قال ابن نُمير: كان قد دَفَن كتبه. قال يحيى: وهو أثبت من ابن نُمير. وعن يحيى بن معين أنه ولي قضاء أرمينية، فاشتكى عينه، فدَسّ القاضي الذي كان بأرمينية إليه طبيبًا فكحله، فذهبت عينه، فرجع إلى الكوفة أعمى. وقال أحمد، لما سئل عنه: لا أدري كيف أقول، كان قد ذهب بصره، فذهب يحدثهم من حفظه. روى عن يحيى بن سعيد الأنصاري، وهشام بن عروة والأعمش وداود بن أبي هند وعاصم الأحول وغيرهم. وروى عنه أبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة وإسماعيل بن خليل وخالد بن مَخْلَد وزكرياء بن عديّ وهنّاد بن السَّريّ. وغيرهم. مات سنة تسع وثمانين ومئة، وليس في الستة علي بن مُسْهر سواه. الثالث: الأعمش، وقد مرّ في الخامس والعشرين من الإيمان، ومرَّ مسروق في السابع والعشرين منه، ومسلم: قيل: المراد به ابن صُبيح أبو الضحى، وقيل: المراد به ابن عمر البطين، وقد مر كل منهما في الخامس عشر من كتاب الصلاة، ومرت عائشة في الثاني من بدء الوحي. ثم قال: وعن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة نَحْوَه، أي بالنصب مفعول أخبرنا، أي نحو حديث مسلم عن مسروق عنها من جهة معناه، ونحو لا تقتضي المماثلة من كل وجه، وفي نسخة "مثله"، والحاصل أن علي بن مسهر روى هذا الحديث عن الأعمش بإسنادين إلى عائشة: عن مسلم عن مسروق عنها، وعن إبراهيم عن الأسود عنها بالمعنى، وقد تقدم لفظه في باب

باب الصلاة خلف النائم

الصلاة على السرير، فهذا ليس بتعليق، بل هو عطف على السند الأول، وإبراهيم بن يزيد مرّ مع الأعمش في الخامس والعشرين المذكور قريبًا، ومرَّ الأسود في السابع والستين من العلم. ثم قال المصنف: باب الصلاة خلف النائم أورد فيه حديث عائشة أيضًا من وجه آخر، بلفظ آخر، للإشارة إلى أنه قد يفرق بين كونها نائمة أو يقظى، وكأنه أشار أيضًا إلى تضعيف الحديث الوارد في النّهي عن الصلاة إلى النائم، وقد مرَّ الحديث المذكور، وما قيل في الصلاة خلف النائم، في الحديث المار في باب الصلاة على الفراش.

الحديث الخامس والمئة

الحديث الخامس والمئة حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِى عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي وَأَنَا رَاقِدَةٌ مُعْتَرِضَةٌ عَلَى فِرَاشِهِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُوتِرَ أَيْقَظَنِي فَأَوْتَرْتُ. الحديث مرَّ الكلام عليه. رجاله خمسة: الأول: مسدد، وقد مرَّ هو ويحيى بن سعيد في السادس من الإيمان، ومرَّ هشام بن عروة وأبوه عروة وعائشة في الثاني من بدء الوحي. ثم قال المصنف: باب التطوع خلف المرأة أورد فيه حديث عائشة من وجه آخر، وقد مرّ في باب الصلاة على الفراش من هذا الوجه، ودلالة الحديث على التطوع من جهة أن صلاته هذه في بيته بالليل، وكانت صلاته الفرائض بالجماعة في المسجد. وقال الكرمانيّ: لفظ الترجمة يقتضي أن يكون ظهر المرأة إليه، ولفظ الحديث لا تخصيص فيه بالظهر، ثم أجاب بأن السنة للنائم أن يتوجه إلى القبلة، والغالب من حال عائشة ذلك، ويرد هذا أن سنة ذلك للنائم إنما هو في ابتداء النوم، لا في دوامه؛ لأنه ينقلب، وهو لا يشعر. والذي يظهر أن معنى خلف المرأة وراءها، فتكون هي نفسها أمام المصلي لا خصوص ظهرها، ولو أراده لقال: خلف المرأة، والأصل عدم التقدير.

الحديث السادس والمئة

الحديث السادس والمئة حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهَا قَالَتْ: كُنْتُ أَنَامُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَرِجْلاَيَ فِي قِبْلَتِهِ، فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي فَقَبَضْتُ رِجْلَيَّ، فَإِذَا قَامَ بَسَطْتُهُمَا. قَالَتْ وَالْبُيُوتُ يَوْمَئِذٍ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيحُ. والظاهر أن هذه الحالة غير الحالة التي تقدمت في صلاته، صلى الله تعالى عليه وسلم، إلى جهة السرير، الذي كانت عليه، لأنه في تلك الحالة غير محتاج لأن يسجد مكان رجليها، ويمكن أن يوجه بين الحالتين بأن يقال: كانت صلاته فوق السرير لا أسفل منه، كما جنح إليه الإسماعيليّ فيما سبق، لكن حمله على الحالتين. والحديث هو المار في باب الصلاة على الفراش، واستوفيت مباحثه هناك. رجاله خمسة: الأول: عبد الله بن يوسف، وقد مرَّ هو ومالك وعائشة في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ أبو سلمة في الرابع منه، ومرَّ أبو النضر في السابع والستين من الوضوء. ثم قال المصنف: باب من قال إن الصلاة لا يقطعها شيء أي من فعل غير المصلي، والجملة المترجم بها، أوردها في الباب صريحًا من قول الزُّهريّ، ورواها مالك في الموطأ عن ابن عمر من قوله، وأخرجها الدارقطنيّ مرفوعة من وجه آخر عن سالم، لكن إسنادها ضعيف. ووردت أيضًا

مرفوعة عن أبي سعيد عند أبي داود، وعن أنس وعن أبي أمامة عند الدارقطني، وعن جابر عند الطبراني في الأوسط، وفي إسناد كل منها ضعف. وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن عليّ وعثمان وغيرهما. نحو ذلك، موقوفًا.

الحديث السابع والمئة

الحديث السابع والمئة حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنِ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ * قَالَ الأَعْمَشُ وَحَدَّثَنِي مُسْلِمٌ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ: ذُكِرَ عِنْدَهَا مَا يَقْطَعُ الصَّلاَةَ الْكَلْبُ وَالْحِمَارُ وَالْمَرْأَةُ فَقَالَتْ شَبَّهْتُمُونَا بِالْحُمُرِ وَالْكِلاَبِ، وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي، وَإِنِّي عَلَى السَّرِيرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ مُضْطَجِعَةً فَتَبْدُو لِي الْحَاجَةُ، فَأَكْرَهُ أَنْ أَجْلِسَ فَأُوذِيَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَأَنْسَلُّ مِنْ عِنْدِ رِجْلَيْهِ. قوله: قال الأعمش، هو مقول حفص بن غياث، وليس بتعليق، وهو نحو ما تقدم من رواية علي بن مُسهر. وقوله: ذكر عندها، أي أنه ذكر عندها، وقوله: الكلب .. الخ، فيه حذف بيانه في رواية علي بن مُسهر "ذكر عندها ما يقطع الصلاة، فقالوا يقطعها" ورواه مسلم عن عروة قالت عائشة: ما يقطع الصلاة؟ فقلت المرأة والحمار. ولسعيد بن منصور قالت عائشة: يا أهل العراق، قد عدلتمونا .. الحديث، وكأنها أشارت بذلك إلى ما رواه أهل العراق عن أبي ذَرٍّ وغيره في ذلك مرفوعًا، وهو عند مسلم وغيره عن أبي ذَرٍّ، وقيد الكلب في روايته بالأسود، وعند ابن ماجه، عن عبد الله بن مغفل، وعند الطبرانيّ عن الحكم بن عمر من غير تقييد، وعند مسلم عن أبي هريرة كذلك، وعند أبي داود وعن ابن عباس مثله، لكن قيد المرأة بالحائض. وأخرجه ابن ماجه كذلك، وفيه تقييد الكلب أيضًا بالأسود. وقوله: شبهتمونا، هذا لفظ رواية مسروق، ورواية الأسود عنها "أعدلتمونا" والمعنى واحد، ومر من طريق علي بن مُسْهر بلفظ "جعلتمونا كلابًا" وهذا على

رجاله ثمانية

سبيل المبالغة. قال ابن مالك: في هذا الحديث جواز تعدي شبه إلى المشبه به بالباء، وأنكره بعض النحويين، حتى بالغ فخّطأ سيبويه في قوله: شبه كذا بكذا، وزعم أنه لا يوجد في كلام من يوثق بعربيته، وقد وجد من هو فوق ذلك، وهي عائشة رضي الله عنها، والحق أنه جائز، وإن كان سقوطها أشهر في كلام المتقدمين، وثبوتها لازم في عرف العلماء المتأخرين. وقوله: فأكره أن أجلس فأوذي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، استدل به على أن التشويش بالمرأة وهي قاعدة، يحصل منه ما لا يحصل بها وهي راقدة، والظاهر أن ذلك من جهة الحركة والسكون وعلى هذا فمرورها أشد، وفي النَّسائيّ عن الأسود عنها في هذا الحديث "فأكره أن أقوم فأمر بين يديه، فأَنْسلُّ انسلالًا" فالظاهر أن عائشة إنما أنكرت إطلاق كون المرأة تقطع الصلاة في جميع الحالات، لا المرور بخصوصه. قاله في الفتح. قلت: مرورها كمرور غيرها لا يقطع الصلاة. وقوله: فانسل، بضم اللام، عطفًا على فأكره، وقد مرت مباحث هذا الحديث مستوفاة عن ذكر رواية مالك في باب الصلاة على الفراش. رجاله ثمانية: الأول: عمر بن حفص بن غياث. والثاني: أبوه حفص، وقد مرا في الثاني عشر من كتاب الغسل، ومرَّ ذكر محل الأعمش وإبراهيم ومسروق ومسلم والأسود وعائشة في الذي قبل هذا بحديثين. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في أربعة مواضع، وبصيغة الإفراد في موضع، والعنعنة في أربعة، وفيه إسنادان بتحويل.

الحديث الثامن والمئة

الحديث الثامن والمئة حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ سَأَلَ عَمَّهُ عَنِ الصَّلاَةِ يَقْطَعُهَا شَيْءٌ فَقَالَ لاَ يَقْطَعُهَا شَيْءٌ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَتْ: لَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُومُ فَيُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ، وَإِنِّي لَمُعْتَرِضَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ عَلَى فِرَاشِ أَهْلِهِ. وجه الدلالة من حديث عائشة هذا الذي استدل به ابن شهاب، هو أن حديث "يقطع الصلاة المرأة .. " الخ يشمل ما إذا كانت مارة أو قائمة أو قاعدة أو مضطجعة، فلما ثبت أنه صلى الله تعالى عليه وسلم صلى وهي مضطجعة أمامه، دل ذلك على نسخ الحكم في المضطجع، وفي الباقي بالقياس عليه. وهذا يتوقف على إثبات المساواة بين الأمور المذكورة، وقد مرَّ قريبًا ما فيه، فلو ثبت أن حديثها متأخر عن حديث أبي ذَرٍّ لم يدل إلا على نسخ الاضطجاع فقط، وقد نازع بعضهم في الاستدلال به مع ذلك من أوجه الخ ما مرَّ في الباب المذكور قريبًا، عند ذكر الحديث المذكور فيه. قوله: على فراش أهله، كذا للأكثر، وهو متعلق بقوله "فيصلي" وللمستملي "عن فراش أهله" وهو متعلق بقوله "يقوم" والأول يقتضي أن تكون صلاته كانت واقعة على الفراش، لخلاف الثاني، ففيه احتمال. رجاله ستة: الأول: إسحاق بن راهويه، وقد مرَّ في الحادي والعشرين من كتاب العلم، ومرَّ يعقوب بن إبراهيم في السادس عشر منه، ومرَّ ابن أخي ابن شهاب في التاسع عشر من الإِيمان، ومرَّ ابن شهاب في الثالث من بدء الوحي، ومرَّ عروة

لطائف إسناده

وعائشة في الثاني منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع، والإخبار كذلك في موضعين، وبصيغة الإفراد في موضع، والسؤال والقول، ورواية الرجل عن عمه، ورواية التابعيّ عن صحابية، ورواته مدنيون ما عدا إسحاق فإنه مروزيّ. باب إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة قال ابن بطّال: أراد البخاريّ إنْ حَمل المصلي الجارية، إذا كان لا يضر الصلاة، فمرورها بين يديه لا يضر، لأن حملها أشد من مرورها، وأشار إلى نحو هذا الاستنباط الشافعيّ، لكن تقييد المصنف بكونها صغيرة، قد يُشعر بأن الكبيرة ليست كذلك.

الحديث التاسع والمئة

الحديث التاسع والمئة حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيِّ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُصَلِّي وَهْوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَلأَبِي الْعَاصِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا، وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا. قوله عن أبي قتادة، في رواية عبد الرزاق عن مالك "سمعت أبا قتادة" وفي رواية أحمد عن عمرو بن سُليم "أنه سمع أبا قتادة" وقوله: وهو حامل أُمَامَةَ، المشهور في أدروايات بالتنوين، ونصب أمامة، وروي بالإضافة كما قرىء في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} بالوجهين، وتخصيص العمل في الترجمة بكونه على العنق مع أن السباق يشمل ما هو أعم من ذلك، مأخوذ من طريقة أخرى مصرحة بذلك، وهي لمسلم عن عمرو بن سليم، ورواه عبد الرزاق عن مالك بإسناد حديث الباب، وزاد فيه "على عاتقه"، وكذا لمسلم وغيره من طرق أخرى، ولأحمد عن ابن جريج "على رقبته". وقوله: بنت زينب، يجوز فيه الفتح والكسر. بالاعتبارين، وقوله: بنت رسول الله، وفي رواية "ابنة" بالجر خاصة، لأنها صفة لزينب المجرورة. وقوله: ولأبي العاص، أي وهي، أي أمامة ابنةٌ لأبي العاص. قال الكرمانيّ: الإضافة في قوله بنت زينب، بمعنى اللام، فأظهر في المعطوف، وهو قوله "ولأبي العاص" ما هو مقدر في المعطوف عليه. وقال ابن العطّار: إن الحكمة في ذلك، أي نسبتها إلى أُمها، كون والدها إذ ذاك كان مشركًا، فنسبت إلى أمها تنبيها على أن الولد ينسب إلى أشرف أبويه دينًا ونسبًا، ثم بيّن أنها من أبي

العاص، تبيينًا لحقيقة نسبها، وهذا السياق لمالك وحده، وعند مسلم وغيره، عن عامر بن عبد الله وغيره، نسبوها إلى أبيها، ثم بينوا أنها بنت زينب، ولأحمد عن عمرو بن سليم "يحمل أمامة بنت العاص، وأمها زينب بنت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، على عاتقه". وقوله: ابن ربيعة بن عبد شمس، كذا رواه الجمهور عن مالك، ورواه يحيى بن بكير ومعن بن عيسى وأبو صعب عن مالك "فقالوا ابن الربيع" وهو الصواب، وادّعى الأصيلي أنه ابن الربيع بن ربيعة، فنسبه مالك مرة إلى جده، وهذا مردود بإطباق النسابين على خلافه، على أنه ابن الربيع بن عبد العُزّى بن عبد شمس، ولكن مالكًا نسبه إلى جده في قوله "ابن عبد شمس". وقوله: فإذا سجد وضعها، كذا لمالك، ولمسلم والنّسائيّ وأحمد وابن حبّان عن عامر بن عبد الله شيخ مالك: إذا ركع وضعها، وقد اختلف العلماء في تأويل هذا الحديث. والذي أحوجهم إلى ذلك، هو أنه عمل كثير، فحمل الخطابيّ ذلك منه عليه الصلاة والسلام على عدم التعمد منه، لأنه عمل كثير في الصلاة، فقال: كانت أمامة أَلِفَته وأنسَت بقربه، فتعلقت به في الصلاة، ولم يدفعها عن نفسه، فإذا أراد أن يسجد وضعها على عاتقه حتى يكمل سجوده، فتعود إلى حالتها الأولى، فلا يدفعها، فإذا قام بقيت بعد محمولة، وَرُدَّ هذا بما رواه أبو داود عن عمرو بن سليم "حتى إذا أراد أن يركع أخذها فوضعها ثم ركع وسجد، حتى إذا فرغ من سجوده وقام، أخذها فردها في مكانها" فهذا صريح في أن فعل الحمل والوضع كان منه لا منها، بخلاف ما أوّله به الخطابيّ. ولأحمد عن ابن جريج "وإذا قام حملها فوضعها على رقبته" وروى ابن القاسم عن مالك أنه كان في النافلة، وهو تأويل بعيدٌ كما قال القرطبيّ، واستبعده المازريّ وعياض؛ لأن ظاهر الأحاديث أنه كان في الفريضة، فقد ثبت في مسلم "رأيت النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم يؤم الناس، وأُمامة على عاتقه". قال المازريّ: إمامته بالناس في النافلة ليست بمعهودة "ولأبي داود" بينما

نحن ننتظر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في الظهر أو العصر، وقد دعاه بلال إلى الصلاة، إذ خرج علينا، وأمامة على عاتقه، فقام في مُصَلاّه، فقمنا خلفه فكبر وهي في مكانها" وعند الزبير بن بكار وتبعه السهيليّ "الصبح" ووهم من عزاه للصحيحين. وقال القرطبي: روى أشهب وعبد الله بن نافع أن ذلك للضرورة، حيث لم يجد من يكفيه أمرها. وقال بعض أصحابه: لأنه لو تركها لبكت، وشغلت سره في صلاته، أكثر من شغله بحملها. وفرق بعض أصحابه بين الفريضة والنافلة. وقال الباجي: إن وجد من يكفيه أمرها جاز في النافلة دون الفريضة، وإن لم يجد جاز فيهما. قال القرطبيّ: روى عبد الله بن يوسف التَّنيسيّ عن مالك أن الحديث منسوخ، وروى ذلك الإسماعيلي، عن التنيسى، لكنه غير صريح، ولفظه: قال التنيسيّ: قال مالك: من حديث النبي صلى الله عليه وسلم ناسخ ومنسوخ، وليس العمل على هذا، وقال ابن عبد البر: لعله نسخ بتحريم العمل في الصلاة، وتعقب بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، وبأنّ هذه القصة كانت بعد قوله عليه الصلاة والسلام "إنّ في الصلاة لشغلًا"، لأن ذلك كان قبل الهجرة، وهذه القصة كانت بعد الهجرة بمدة مديدة، وذكر عياض عن بعضهم أن ذلك كان من خصائصه صلى الله تعالى عليه وسلم، لكونه معصومًا أن تبول وهو حاملها، ورد بأن الأصل عدم الاختصاص، وبأنه لا يلزم من ثبوت الاختصاص في أمر ثبوته في غيره بغير دليل، ولا مدخل للقياس في مثل ذلك، وحمل أكثر أهل العلم هذا الحديث على أنه عمل غير متوال، لوجود الطمأنينة في أركان صلاته. وقال النوويّ: ادْعى بعض المالكية أن هذا الحديث منسوخ، وبعضهم أنه من الخصائص، وبعضهم أنه كان لضرورة، وكل ذلك دعاوى مردودة لا دليل عليها، وليس في الحديث ما يخالف قواعد الشرع، لأن الآدمي طاهر، وما في جوفه معفو عنه، وثياب الأطفال وأجسادهم محمولة على الطهارة، حتى تتبين النجاسة. والأعماق في الصلاة لا تبطلها إذا قلت أو تفرقت، ودلائل الشرع

متظاهرة على ذلك، وإنما فعل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك لبيان الجواز. وقال الفاكهانيّ: وكان السر في حمله أمامة في الصلاة دفعًا لما كانت العرب تألفه من كراهة البنات وحملهنّ، فخالفهم في ذلك حتى في الصلاة، للمبالغة في ردعهم، والبيان بالفعل قد يكون أقوى من القول. قلت: ظاهر ما مرَّ من النقول يدل على أن العمل الكثير المفسد للصلاة أقل عند المالكية من غيرهم من أهل المذاهب، والذي تدل عليه نصوص المالكية وغيرهم من أهل المذاهب أن العمل في الصلاة يغتفر منه عند المالكية ما لا يغتفر عند غيرهم، أو مساوون لهم وها أنا أذكر لك نصوص المذاهب كلها. فالعمل الكثير عند المالكية موكول إلى العُرف، والصحيح في تحديده عندهم هو ما يتخيل للناظر إعراضه عن الصلاة، والعمل الكثير المفسد للصلاة عند أبي حنيفة هو ما قاله صاحب "البدائع"، فإنه قال: الكثير الذي يفسد الصلاة هو ما يحتاج فيه إلى استعمال اليدين، والقليل ما لا يحتاج فيه إلى ذلك، فإذا أخذ قوسًا ورمى به فسدت صلاته، وكذا لو حملت امرأة صبيًا فأرضعته، لوجود العمل الكثير. وأما حمل الصبيّ بدون الإرضاع فلا يفسدها. قاله العيني. وعند الشافعية، قال النووي في "شرح المهذب": اختلفوا في ضبط القليل والكثير على أربعة أوجه: أحدها: القليل ما لا يسع زمانه فعل ركعة، والكثير ما يسعها. حكاه الرافعي، وهو ضعيف أو غلط. الثاني: ما مرَّ عن الحنفية. والثالث: ما مرَّ عن المالكية، وضعفوه بأن من رآه يحمل صبيًا أو يقتل حية أو عقربًا أو نحو ذلك يظن أنه ليس في صلاة، وهذا القدر لا يبطلها بلا خلاف، قلت: هذا الذي قالوا إنه لا يبطلها هو كذلك عند المالكية لا يبطلها، فيرد على ما جعلوه ضابطًا للكثرة.

الرابع: وهو المشهور، الرجوع فيه للعادة، فلا يضر ما يعده الناس قليلًا كالإشارة برد السلام، وخلع النعل، ورفع العمامة، ولبس ثوب خفيف وأشباه ذلك، وما عده الناس كثيرًا لخطواتٍ كثيرة متوالية، وفعلات متتابعة، فتبطل الصلاة، والفعلة الواحدة كالخطوة والضربة قليل بلا خلاف، ما لم تتفاحش، كالوثبة الفاحشة، فتبطل بلا خلاف، والثلاث كثير بلا خلاف، لكن إنما يبطل الكثير إذا توالى، فإنْ تفرق بأن خطا خطوة أو ضرب ضربة وسكت زمنًا، ثُم عاد ولو إلى مئة لم يضر بلا خلاف. وحد التفريق أن يكون الثاني منقطعًا عن الأول. وقيل: بأن يكون بينهما ركعة، وهذا ضعيف، والثلاثة المتوالية التي تبطل إنما هي الخطوات والضربات ونحوها، فأما الحركات الخفيفة، كتحريك الأصابع في سبْحة أو حَكة أو حَل أو عَقد، ففيها وجهان؛ والمشهور لا تبطل وإن كثرت متوالية، لكن تكره، وفي الخطوتين والضربتين وجهان، أصحهما قليل لا تبطل. وعند الحنابلة قال في "دليل الطالب" ممزوجًا بشرحه "نيل المآرب": ويبطلها العمل المتوالي الكثير، لا القليل في العادة، من غير جنسها، كفتح باب ومشي ولف عمامة وكتابة وخياطة لغير ضرورة، فإن كان لضرورة كخوف وهرب من عدو لم تبطل. فبنقل كلام المذاهب يظهر لك أن ضابط الفعل الكثير المبطل للصلاة متساو عندهم، أو قريب من التساوي، واستدل بالحديث على ترجيح العمل بالأصل على الغالب، كما أشار إليه الشافعيّ، ولابن دقيق العيد هنا بحث من جهة أن حكايات الأحوال لا عموم لها، واستدل به على جواز إدخال الصبيان في المساجد، وعلى أن لمس الصبيان الصغار غير مؤثر في الطهارة ويشمل أن يفرق بين ذوات المحارم وغيرهن وعلى صحة صلاة مَنْ حمل آدميًا، وكذا مَنْ حمل حيوانًا طاهرًا. وللشافعية تفصيل بين المستجمر وغيره. وقد يجاب عن هذه القصة بأنها واقعةُ حالٍ، فيحتمل أن تكون أُمامة حينئذ قد غسلت، كما ثبت من أن بناتِ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كُن ينظفن صبيانهنّ للدخول عليه صلى الله تعالى عليه وسلم، كما يحتمل أنه صلى الله

رجاله خمسة

تعالى عليه وسلم كان يمسُّها بحائل، وفيه تواضعه صلى الله تعالى عليه وسلم، وشفقته على الأطفال، وإكرامه لهم جبرًا لهم ولوالديهم. رجاله خمسة: وفيه ذكر أبي العاص بن الربيع وأُمامة بنت زينب. الأول: عبد الله بن يوسف. والثاني: مالك، وقد مرَّا في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ عامر بن عبد الله بن الزبير في الثامن والأربعين من كتاب العلم، ومرَّ عمرو بن سليم في الثامن والأربعين من أبواب القبلة، ومرَّ أبو قتادة في التاسع عشر من الوضوء. وأبو العاص هو ابن الربيع بن عبد العزّى بن عبد شمس بن عبد مناف العَبْشميَّ أمه هالة بنت خُوَيلد. وكان يلقب بجرْوِ البطحاء، هو وأخوهُ كان يقال لهما جروا البطحاء، وقيل: كان ذلك أبوه قال الزبير بن بكّار: كان يقال له الأمين، واختلف في اسمهِ، فقيل لَقيط، وقيل مُهْشم، وقيل هُشيم، وقيل مِقْسَم، وقيل القاسم، وقيل ياسر، وقيل لُقَيم، والأكثر على أنه لقيط. وكان قبل البعثة مؤاخيًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يكثر غشاءه في منزله، وزوجه ابنته زينب أكبر بناته، وهي من خالته خديجة، ثم لم يتفق أنه أسلم إلا بعد الهجرة. قال ابن إسحاق: كان من رجال مكة المعدودين مالًا وأمانة وتجارة، وكان أبو العاص، رضي الله عنه، ممن حضر بدرًا مع كفار قريش، وأسره عبد الله بن جُبير بن النعمان الأنصاريّ، فلما بعث أهل مكة في فداء أسراهم قدم في فدائه أخوه عمرو بن الربيع بمال دفعته إليه زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، من ذلك قلادة لها كانت أمها خديجة قد أدخلتها بها على أبي العاص حين بني عليها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا الذي لها فافعلوا، فقالوا: نعم. وكان أبو العاص قد أبى أن يطلّق زينب، إذ مشى إليه مشركو قريش في

ذلك، فشكر له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مصاهرته، وأثنى عليه، ولم يزل مقيمًا على الشرك حتى كان قبل الفتح، فخرج بتجارة إلى الشام ومعه أموال قريش، فلما انصرف قافلًا لقيته سرية لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أميرهم زيد بن حارثة، وكان أبو العاص في جماعة عِير، وكان زيد في نحو سبعين ومئة راكب، فأخذوا ما في تلك العِير من الأثقال، وأسروا ناسًا منهم، وأفلتهم أبو العاص هربًا، وقيل: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث زيدًا في تلك السرية قاصدًا العِير التي كان فيها أبو العاص، فلما قدمت السرية بما أصابوا، أقبل أبو العاص ليلًا حتى دخل على زينب، رضي الله عنها، فاستجار بها، فأجارته، فلما خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكبّر وكبّر الناس معه، صرخت زينب: أيها الناس، إني قد أجرتُ أبا العاص بن الربيع، فلما سلّم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الصلاة أقبل على الناس فقال لهم: هل سمعتم ما سمعتُ؟ قالوا: نعم، قال: أما والذي نفسي بيده ما علمت بشيء حتى سمعتُ منه ما سمعتم، إنه يجير على المسلمين أدناهم، ثم انصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فدخل على ابنته فقال: أي بُنيّة أكرمي مثواه، ولا يخلص إليك، فإنك لا تحلين له، فقالت: إنه جاء في طلب ماله، فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبعث في تلك السرية، فاجتمعوا إليه ثم قال لهم: "إنّ هذا الرجل منا بحيث علمتم، وقد أصبتم له مالًا، وهو فيء أفاء الله عَزَّ وَجَلَّ عليكم به، وأنا أُحب أن تحسنوا وتردوا إليه ماله الذي له، وإن أبيتم فأنتم أحق به. قالوا: يا رسول الله، بل نرده عليه" فردوا عليه ماله ما فقد منه شيئًا. فاحتمل إلى مكة فأدى إلى كل ذي مال من قريش ماله الذي كان أبضع معه، ثم قال: يا معشر قريش: هل بقي لأحد منكم مال لم يأخذه؟ قالوا: جزاك الله خيرًا، فقد وجدناك وفيًا كريمًا. قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، والله ما منعني من الإِسلام إلا تخوُّف أن تظنوا أني آكل أموالكم، فلما أدّاها الله تعالى إليكم أسلمت، ثم خرج حتى قدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مسلمًا، وحسن أسلامه، ورد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ابنته عليه بالنكاح الأول. هذا كله خبر ابن إسحاق. وروي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول -صلى الله عليه وسلم- ردها

بنكاح جديد، وهو قول الشّعبيّ وطائفة من أهل العلم. قال ابن حجر: والعمل على حديث عمرو بن شعيب. وأخرج الحاكم أبو أحمد بسند صحيح عن الشعبى قال: كانت زينب بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تحت أبي العاص بن الربيع، فهاجرت، وأبو العاص على دينه، فاتفق أن خرج إلى الشام في تجارة، فلما كان بقرب المدينة أراد بعض المسلمين أن يخرجوا إليه، فيأخذوا ما معه، ويقتلوه، فبلغ ذلك زينب، فقالت: يا رسول الله، أليس عقد المسلمين وعهدهم واحدًا؟ قال: نعم، قالت: فاشهد أني أجرت أبا العاص، فلما رأى ذلك أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، خرجوا إليه عُزلًا بغير سلاح، فقالوا له: يا أبا العاص، إنك في شرف من قريش، وأنت ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فهل لك أن تسلم فتغتنم ما معك من أموال أهل مكة؟ قال: بئسما أمرتمؤني به أن أنسخ ديني بغَدْرَةٍ، فمضى حتى قدم مكة، فدفع إلى كل ذي حق حقه، ثم قام فقال: يا أهل مكة، أوفيت ذمتي؟ قالوا: اللهمَّ نعم. قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ثم قدم المدينة مهاجرًا، فدفع إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ابنته بالنكاح الأول، وهذا مع صحة سنده مرسل، وهو شاذ، والصحيح ما مرَّ عن ابن إسحاق. وقيل: إن الذي أسره في المرة الثانية أبو بصير الثقفيّ، ومن معه من المسلمين، لما أقاموا بالساحل يقطعون الطريق على تجّار قريش في مدة الهدنة بين الحديبية والفتح، وأسند البيهقيّ بسند قوي أن زينب قالت للنبي -صلى الله عليه وسلم-: إن أبا العاص إن قَرُب فابن عم، وان بَغد فأب ولد، وإني قد أجرته. وكانت زينب قد استأذنت أبا العاص أن تخرج إلى المدينة، فأذن لها، ثم خرج هو إلى الشام، فلما خرجت تبعها هشام بن الأسود ومن تبعه، حتى ردها إلى بيتها، فبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مَنْ حملها إلى المدينة. وسار أبو العاص مع عليّ إلى اليمن، فاستخلفه على اليمن لما رجع، ثم كان أبو العاص مع علي يوم بويع أبو بكر. قال ابن سعد: إنه لم يشهد مع النبي -صلى الله عليه وسلم- مشهدًا، وثبت في الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خطب، فأثنى عليه في مصاهرته خيرًا، وقال: حدثني فصدقني، ووعدني فوفى لي، وقال الواقديّ: كان رسول

الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما ذممنا صهر أبي العاص". مات أبو العاص في خلافة أبي بكر في ذي الحجة سنة اثنتي عشرة من الهجرة، وأوصى إلى الزبير بن العوام، وشذ أبو عبيد فقال: إنه مات سنة ثلاث عشرة، وأغرب منه قول ابن مَنْده: إنه قتل يوم اليمامة. وأما أمامة فهي بنت أبي العاص بن الربيع المذكور، قيل: وهي من زينب بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كانت تحت أبي العاص فولدت له أمامة وعليًا، وثبت في الصحيحين من حديث أبي قتادة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يحمل أمامة بنت زينب على عاتقه، فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها. أخرجاه من رواية مالك، وأخرجه ابن سعد من رواية الليث أن أبا قتادة قال: بينما نحن على باب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ خرج يحمل أمامة بنت أبي العاص، أمها زينب بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهي صبية، فصلَّى وهي على عاتقه إذا قام، حتى قضى صلاته يفعل ذلك بها. وأخرج ابن سعد عن عائشة أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أُهديت له هدية فيها قلادة من جَزْع، فقال: لأدفعنها إلى أحب أهلي إليّ، فقالت النساء، ذهبت بها ابنة أبي قُحافة، فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أُمامة بنت زينب، فعلقها في عنقها. وأخرج عن حماد بن زيد "لأعطيها أرحمكن، فدعا ابنته أبي العاص من زينب، فعقدها بيده، وكان على عينها غمصٌ فمسحه بيده" وأخرج أحمد عن عائشة أن النجاشيّ أهدى إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- حلية فيها خاتم من ذهب فَصُّه حبشيّ فأعطاه أُمامة. تزوجها علي بن أبي طالب بعد فاطمة، زوجها منه الزبير بن العوام، وكان أبوها أوصى بها إليه، ولما قتل عليّ وآمت منه أمامة، قالت أم الهيثم النَخعيّة: أشابَ ذوآبتي وأذلَّ رُكني ... أُمامة حين فارقت القرينا تطيف به لحاجتها إليه ... فلما استيأست رفعت رنينا وكان علي قد أمر المغيرة بن نوفل بن الحارث أن يتزوج أمامة بنت أبي العاص، فتزوجها المغيرة، فولدت له، وبه كان يكنى، وماتت عند المغيرة.

لطائف إسناده

وقيل: إنها لم تلد لعلي ولا للمغيرة. قال الزبير: ليس لزينب عقب. وروى عمر بن شبة أن عليًا لما حضرته الوفاة قال لأمامة بنت العاص: إني لا آمَن أن يخطبك هذا الطاغية بعد مؤتي، يعني معاوية، فإن كان لك في الرجال حاجة، فقد رضيت لك المغيرة بن نوفل عشيرًا، فلما انقضت عدتها، كتب معاوية إلى مروان أن يخطبها عليه، وبذل لها مئة ألف دينار، فأرسلت إلى المغيرة هذا قد أرسل أن يخطبني، فإن كان لك بنا حاجة فأقبِلْ، فخطبها إلى الحسن، فزوجها منه. وأخرج ابن سعد عن ابن أبي ذيب أن أُمامة بنت أبي العاص، قالت للمغيرة بن نوفل: إن معاوية خطبني. فقال: أتتزوجين ابن آكلة الأكباد؟ فلو جعلتِ ذلك إليَّ. قالت: نعم، قال: قد تزوجتك. قال ابن أبي ذيب: فجاز نكاحه، وقيل: إن الذي تزوجها بعده أبو الهياج بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع، والإخبار كذلك في موضع، والعنعنة في ثلاثة، ورواته كلهم مدنيون ما عدا شيخ البخاري، وفيه رواية تابعي عن تابعي عن صحابي، أخرجه البخاريّ هنا وفي الأدب، ومسلم وأبو داود والنَّسائيّ في الصلاة. ثم قال المصنف: باب إذا صلى إلى فراش وفيه حائض أي هل يكره أم لا؟ وحديث الباب يدل على أن لا كراهة قال الكرمانيّ: جواب إذا محذوف تقديره صحت صلاته، أو معناه: باب حكم المسألة الفلانية، وقد ترجم لهذا الحديث في أبواب ستر العورة، فقال: باب إذا أصاب ثوب المصلي امرأته، وهذه الترجمة أخصُّ من تلك

الحديث العاشر والمئة

الحديث العاشر والمئة حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ قَالَ: أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ عَنِ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ قَالَ: أَخْبَرَتْنِي خَالَتِي مَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ قَالَتْ: كَانَ فِرَاشِي حِيَالَ مُصَلَّى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَرُبَّمَا وَقَعَ ثَوْبُهُ عَلَيَّ وَأَنَا عَلَى فِرَاشِي. قوله: حِيال، بكسر المهملة بعدها ياء تحتانية، أي بجنبه كما ذكره في الطريق الأخرى، وقد مرَّ الكلام على الحديث آخر كتاب الحيض. رجاله خمسة: الأول: عمرو بن زُرارة، وقد مرَّ في التاسع والثمانين من أبواب القبلة هذه. والثاني: هُشيم بن بشير، وقد مرَّ في الثاني من كتاب التيمم. والثالث: أبو إسحاق الشيبانيّ، وقد مرَّ في السابع من الحيض، ومرَّ عبد الله بن شداد في الثامن منه، ومرَّت ميمونة بنت الحارث في الثامن والخمسين من العلم. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع، والإخبار كذلك في موضع، والإخبار بصيغة الإفراد في موضع، والعنعنة، وفيه القول. ورواته ما بين واسطيّ وكوفيّ، ومرَّ ذكر مَحالّ إخراجه عند ذكره في كتاب الحيض.

الحديث الحادي عشر والمئة

الحديث الحادي عشر والمئة حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ سُلَيْمَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ قَالَ: سَمِعْتُ مَيْمُونَةَ تَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي وَأَنَا إِلَى جَنْبِهِ نَائِمَةٌ، فَإِذَا سَجَدَ أَصَابَنِي ثَوْبُهُ، وَأَنَا حَائِضٌ. وَزَادَ مُسَدَّدٌ عَنْ خَالِدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ الشَّيْبَانِيُّ، وَأَنَا حَائِضٌ. قوله: فإذا سجد أصابني ثوبه، كذا للأكثر، وللمستملي والكشميهنيّ "ثيابه" وللأصيلي "أصابتني ثيابه" وقوله: وأنا حائض، كذا لأبي ذَرٍّ، وسقطت هذه الجملة لغيره، لكن في رواية كريمة بعد قوله "أصابني ثوبه" زاد مسدد عن خالد عن الشيبانيّ "وأنا حائض" ورواية مسدد هذه ساقها المصنف في باب "إذا أصاب ثوب المصلي" وفيها هذه الزيادة، وهي أصرح بمراد الترجمة. قال ابن بطال: هذا الحديث وشبهه من الأحاديث التي فيها اعتراض المرأة بين المصلي وقبلته، يدل على جواز القعود لا على جواز المرور، وتعقب بأن ترجمة الباب ليست معقودة للاعتراض، بل مسألة الاعتراض تقدمت، والظاهر أن المصنف قصد بيان صحة الصلاة، ولو كانت الحائض بجنب المصلي، ولو أصابتها ثيابه، لا كون الحائض بين المصلي والقبلة، وتعبيره بقوله: إلى أعم من أن تكون بينه وبين القبلة، فإن الانتهاء يصدق على ما إذا كانت أُمامه أو عن يمينه أو عن شماله، وقد صرح في الحديث بكونها كانت إلى جنبه. وهذا الحديث قد مرَّ في آخر كتاب الحيض، ومرَّ الكلام عليه هناك. رجاله خمسة: الأول: أبو النعمان، وقد مرَّ في الحادي والخمسين من الإيمان، ومرَّ

باب يغمز الرجل امرأته عند السجود لكي يسجد

عبد الواحد بن زياد في التاسع والعشرين منه، ومرَّ ذكر محل سليمان الشيبانيّ وابن شداد وميمونة في الذي قبله. ثم قال المصنف: باب يغمز الرجل امرأته عند السجود لكي يسجد في الترجمة التي قبلها "باب صحة الصلاة، ولو أصابت المرأة بعض ثياب المصلي" وفي هذه الترجمة بيان صحتها، ولو أصابها بعض جسده.

الحديث الثاني عشر والمئة

الحديث الثاني عشر والمئة حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ عَنْ عَائِشَةَ رضى الله عنها قَالَتْ: بِئْسَمَا عَدَلْتُمُونَا بِالْكَلْبِ وَالْحِمَارِ، لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي، وَأَنَا مُضْطَجِعَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ غَمَزَ رِجْلَيَّ فَقَبَضْتُهُمَا. قوله: بئسما عَدَلتمونا، بتخفيف الدال، وما نكرة مميزة لفاعل بيس، وقيل هي الفاعل، والمخصوص بالذم محذوف، تقديره عدلكم، أي تسويتكم إيانا بما ذكر، وقد مرَّ الكلام على جل مباحث هذا الحديث عند ذكر روايات منه في باب الصلاة على الفراش، ومرَّ باقيها في باب مَنْ قال إن الصلاة لا يقطعها شيء، قريبًا. رجاله خمسة: الأول: عمرو بن علي الفلاّس، وقد مرَّ في السابع والأربعين من كتاب العلم، ومرَّ يحيى القطّان في السادس من الإيمان، ومرَّ عُبيد الله العمريّ في الرابع عشر من كتاب الوضوء، ومرَّ القاسم بن محمد في الحادي عشر من كتاب الغسل، ومرّت عائشة في الثاني من بدء الوحي. فيه التحديث بصيغة الجمع في أربعة مواضع، وفيه العنعنة في موضع واحد، ورواته ما بين بصريّ ومدني. ثم قال المصنف: باب المرأة تطرح عن المصلي شيئًا من الأذى قال ابن بطّال: هذه الترجمة قريبة من التراجم التي قبلها، وذلك أن المرأة إذا تناولت ما على ظهر المصلّي، فإنها تقصد إلى أخذه من أي جهة أمكنها تناوله، فإنْ لم يكن هذا المعنى أشد من مرورها بين يديه، فليس بدونه.

الحديث الثالث عشر والمئة

الحديث الثالث عشر والمئة حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ السُّرْمَارِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَائِمٌ يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ، وَجَمْعُ قُرَيْشٍ فِي مَجَالِسِهِمْ إِذْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: أَلاَ تَنْظُرُونَ إِلَى هَذَا الْمُرَائِي أَيُّكُمْ يَقُومُ إِلَى جَزُورِ آلِ فُلاَنٍ، فَيَعْمِدُ إِلَى فَرْثِهَا وَدَمِهَا وَسَلاَهَا فَيَجِيءُ بِهِ، ثُمَّ يُمْهِلُهُ حَتَّى إِذَا سَجَدَ وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ فَانْبَعَثَ أَشْقَاهُمْ، فَلَمَّا سَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَثَبَتَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- سَاجِدًا، فَضَحِكُوا حَتَّى مَالَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ مِنَ الضَّحِكِ، فَانْطَلَقَ مُنْطَلِقٌ إِلَى فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلاَمُ وَهْيَ جُوَيْرِيَةٌ، فَأَقْبَلَتْ تَسْعَى وَثَبَتَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- سَاجِدًا حَتَّى أَلْقَتْهُ عَنْهُ، وَأَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ تَسُبُّهُمْ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الصَّلاَةَ قَالَ: اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ ثُمَّ سَمَّى اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِعَمْرِو بْنِ هِشَامٍ، وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَعُمَارَةَ بْنِ الْوَلِيدِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَوَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُهُمْ صَرْعَى يَوْمَ بَدْرٍ، ثُمَّ سُحِبُوا إِلَى الْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: وَأُتْبِعَ أَصْحَابُ الْقَلِيبِ لَعْنَةً. قوله: إلى هذا المرائي، مأخوذ من الرياء، وهو التعبد في الملأ دون الخلوة، ليرى. وقوله: جَزُور آل فلان، قال في الفتح: لم أقف على تعيينهم، لكن يشبه أن يكونوا آل أبي مُعيط، لمبادرة عقبة بن أبي مُعيط إلى إحضار ما طلبوه منه، وهو المعنيّ بقوله: "أشقاهم". وقوله: فانطلق منطلق، قال في الفتح: لم أقف على تسميته، ويحتمل أن يكون هو ابن مسعود الراوي، وهذا

رجاله ستة

الحديث استوفيت مباحثه عند ذكره في الوضوء في باب "إذا ألقي على ظهر المصلي قذر". رجاله ستة: وفيه ذكر فاطمة. الأول: أحمد بن إسحاق بن الحصين بن جابر السلمي، أبو إسحاق السورَماريّ، كان يضرب بشجاعته المثل. قال ولده أبو صفوان: وهب المأمون لأبي ثلاثين ألف درهم، فلم يقبلها. وأخباره في المغازي والشجاعة كثيرة. وذكره ابن حِبّان في الثقات، فقال: كان من الغَزَّائين، وكان من أهل الفضل والنُّسُك مع لزوم الجهاد. وقال البخاريّ: ما يعلم في الإِسلام مثله. وقال عُبيد الله بن واصل: سمعته يقول: أعلم يقينًا أني قتلت به ألف تركيّ، ولولا أن يكون بِدعة لأمرت أن يدفن معي، يعني سيفه. روى عن يعلي بن عبيد وعثمان بن عمر بن فارس وعبد الله بن موسى وغيرهم، وروى عنه البخاريّ وابنه أبو صفوان إسحاق بن أحمد، وبكر بن منير، وعُبيد الله بن واصل وعدة، والسورَماريّ في نسبه نسبة إلى سُوْرَمارِي بضم السين وسكون الواو وفتح الراء الأولى وكسر الأخيرة، وفيه حذف الواو وسكون الراء، وفيه ضم السين وفتحها وكسرها، قرية على ثلاثة فراسخ من بخارى، وضبطه الغَسّانيّ بفتح السين، والرَّشاطيّ بكسر السين، وفي الستة أحمد بن إسحاق سواه اثنان: الحضرميّ والأهوازيّ. الثاني من السند: عُبيد الله بن موسى، وقد مرَّ في الأول من الإيمان، ومرَّ إسرائيل في السابع والستين من العلم، ومرَّ أبو إسحاق الشيبانيّ في السابع من الحيض، ومرّ عمرو بن ميمون في الرابع والمئة من كتاب الوضوء، ومرّ عبد الله بن مسعود أول كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه، ومرت فاطمة الزهراء في الرابع والمئة من الوضوء.

خاتمة

خاتمة قال في فتح الباري: اشتملت أبواب استقبال القبلة، وما معها من أحكام المساجد، وسترة المصلّي من الأحاديث المرفوعة على ستة وثمانين حديثًا، المكرر منها ستة وثلاثون حديثًا، عشرة تقدمت، وستة وعشرون فيها الخالص، منها خمسون حديثًا وافقه مسلم على تخريج أصولها، سوى حديث أنس "من استقبل قبلتنا" وحديث ابن عباس في الصلاة في قُبُل الكعبة، لكن أوضحنا أن مسلمًا أخرجه عن ابن عباس عن أسامة، وحديث جابر في الصلاة على الراحلة، وحديث عائشة في قصة الوليدة صاحبة الوشاح، وحديث أبي هريرة "رأيت سبعين من أصحاب الصّفَّة" وحديث ابن عمر "كان المسجد مبنيًا باللَّبنِ" وحديث ابن عباس في قصة عمّار في بناء المسجد، وحديثه في الخطبة في خوخة أبي بكر، وحديث عمر في رفع الصوت في المسجد، وحديث ابن عمر في المساجد التي على طرق المدينة، وهو مشتمل على عشرة أحاديث، وحديث عائشة "لم أعقل أَبويّ إلا وهما يَدِينان الدِّين". وفيها من المعلقات ثمانية عشر حديثًا، كلها مكررة إلا حديث أنس في قصة العباس ومال البحرين، وهو من أفراده أيضًا عن مسلم، فجملة ما فيها من الأحاديث بالمكرر مئة وأربعة أحاديث، وفيها من الآثار ثلاثة وعشرون، كلها معلقات إلا أثر مساجد ابن عباس، وأثر عمر وعثمان أنهما كانا يستقبلان في المسجد، وأثرهما أنهما زادا في المسجد، فإن هذه موصولة، والله سبحانه وتعالى أعلم. ثم قال المصنف:

كتاب مواقيت الصلاة

كتاب مواقيت الصلاة بسم الله الرحمن الرحيم كذا للمستملي بعده البسملة، ولرفيقيه: الكشميهنيّ والحمويّ البسملة مقدَّمة وبعدها باب مواقيت الصلاة وفضلها. وكذا لكريمة لكن بلا بسملة، وكذا للأصيلي لكن بلا باب، وقد جرى رسمهم أن يذكروا الأبواب بعد الكتاب، فإنه يشمل الأبواب والفصول، والمواقيت جمع ميقات، وهو مِفعال من الوقت، وهو القدر المحدود للفعل من الزمان أو المكان. ثم قال: وقوله: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} وقته عليهم، كذا في أكثر الروايات، وسقط في بعضها لفظ "موقتًا" واستشكل ابن التين بتشديد القاف من وقّته، وقال: المعروف في اللغة التخفيف. وقال العيني: "إن التشديد موجود ذكره في المحكم، وفسر موقوتًا بقوله: وقته عليهم، أي: وقَّت الله تعالى الكتاب، أي: المكتوب الذي هو الصلاة عليهم، أي: على المسلمين". وأراد المصنف بقوله: موقتًا، بيان أن قوله موقوتًا من التوقيت، فقد جاء عن مجاهد في معنى قوله موقوتًا، قال: مفروضًا، وعن غيره: محدودًا. وقال "صاحب المنتهى": كل شيء جُعل له حين وغاية فهو موُقّت، يقال: وقّتَه ليوم كذا: أجّله.

الحديث الأول

الحديث الأول حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَخَّرَ الصَّلاَةَ يَوْمًا، فَدَخَلَ عَلَيْهِ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ أَخَّرَ الصَّلاَةَ يَوْمًا وَهْوَ بِالْعِرَاقِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا مُغِيرَةُ؟ أَلَيْسَ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ فَصَلَّى، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ صَلَّى، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، ثُمَّ صَلَّى، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ صَلَّى، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ صَلَّى، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، ثُمَّ قَالَ: بِهَذَا أُمِرْتُ. فَقَالَ عُمَرُ لِعُرْوَةَ: اعْلَمْ مَا تُحَدِّثُ أَوَ إِنَّ جِبْرِيلَ هُوَ أَقَامَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَقْتَ الصَّلاَةِ. قَالَ عُرْوَةُ: كَذَلِكَ كَانَ بَشِيرُ بْنُ أَبِى مَسْعُودٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ. قَالَ عُرْوَةُ: وَلَقَدْ حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ، وَالشَّمْسُ فِي حُجْرَتِهَا قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ. هذا الحديث أول شيء في "الموطأ"، وقوله: "أخر الصلاة يومًا"، للمصنف في "بدء الخلق" عن الليث: أخر العصر شيئًا. قال ابن عبد البر: ظاهر سياقه أنه فعل ذلك يومًا، لا أن ذلك كان عادة له، وإن كان أهل بيته معروفين بذلك، وفي رواية عبد الرزاق: "أخر الصلاة مرة" يعني العصر، وللطبراني أن عروة حدث عمر بن عبد العزيز وهو يومئذ أمير المدينة في زمان عبد الملك، وكان ذلك زمان تؤخِّر فيه بنو أمية الصلاة. قال ابن عبد البر: المراد أنه أخرها حتى خرج الوقت المستحب، لا أنه أخرها حتى غربت الشمس، ويؤيده رواية الليث السابقة، وأما ما رواه الطبرانيّ عن ابن شهاب في هذا الحديث، قال: دعا المؤذن لصلاة العصر فأمسى

عمر بن عبد العزيز قبل أن يصليها، فمحمول على أنه قارب المساء، لا أنه دخل فيه. وقد رجع عمر بن عبد العزيز عن ذلك، فيما رواه الأوزاعي أن عمر بن عبد العزيز في خلافته كان يصلي الظهر في الساعة الثامنة، والعصر في الساعة العاشرة حن تدخل. وقوله: أخر الصلاة يومًا، في رواية عبد الرزاق أن الصلاة المذكورة العصر أيضًا، ولفظه: "أمسى المغيرة بن شعبة بصلاة العصر". وقوله: "وهو بالعراق"، في "الموطأ" وغيره: "وهو بالكوفة"، والكوفة من جملة العراق، فالتعبير بها أخص من التعبير بالعراق. وكان المغيرة إذ ذاك أميرًا عليها من قبل معاوية بن أبي سفيان. وقوله: "ما هذا"، أي: التأخير. وقوله: "أليس كذا؟ " في الرواية، وهو استعمال صحيح، لكن الأكثر في مخاطبة الحاضر: ألست، وفي مخاطبة الغائب: أليس. وقوله: "قد علمت"، قال عياض: يدل ظاهره على علم المغيرة بذلك، ويحتمل أن يكون ذلك على سبيل الظن من أبي مسعود، لعلمه بصحبة المغيرة، ويؤيد الأول رواية الزُّهريِّ عند المصنف في غزوة بدر: لقد علمت بغير أداة استفهام، وقوله: "إن جبريل نزل"، بيَّن ابن إسحاق في "المغازي" أن ذلك كان في صبيحة الليلة التي فرضت فيها الصلاة، وهي ليلة الإسراء، فقد روى ابن إسحاق وعبد الرزاق، عن نافع بن جبير وغيره: لما أصبح النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من الليلة التي أُسري به، لم يرعه إلا جبريلِ، نزل حين زاغت الشمس، ولذلك سميت، أي: صلاة الظهر الأولى، فأمرَ فصِيح بأصحابه: الصلاةُ جامعة، فاجتمعوا، فصلى به جبريل، وصلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بالناس، فذكر الحديث. وفيه رد على من زعم أن بيان الأوقات إنما وقع بعد الهجرة، والحق أن ذلك وقع قبلها ببيان جبريل، ووقع بعدها ببيان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم. وقوله: "نزل فصلى"، فصلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، قال عياض: ظاهره أن صلاته كانت بعد فراغ صلاة جبريل، لكن المنصوص في غيره أن جبريل أَمَّ النبيَّ صلى الله تعالى عليه وسلم، فيحمل قوله صلى فصلى،

على أن جبريل كان كلما فعل جزءًا من الصلاة تابعه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بفعله، وبهذا جزم النووي. وقال: غيره: الفاء بمعنى الواو، واعترض بأنه يلزم أن يكون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يتقدم في بعض الأركان على جبريل، على ما يقتضيه مطلق الجمع، وأجيب بمراعاة الحيثية، وهي التبيين، فكان لأجل ذلك يتراخى عنه، وقيل: الفاء للسببية، كقوله تعالى: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ}، وفي رواية الليث عند المصنف: "نزل جبريل فأَمَّني، فصليت معه"، وفي رواية عبد الرزاق: "نزل فصلى، فصلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فصلى الناس معه"، وهذا يؤيد رواية نافع بن جبير المتقدمة، وإنما دعاهم إلى الصلاة بقوله: "الصلاة جامعة"، كما مرَّ، لأن الأذان لم يكن شُرع حينئذ. واستدل بهذا الحديث على جواز الائتمام بمن يأتم بغيره، ويجاب عنه بما يجاب به عن قصة أبي بكر في صلاته خلف النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وصلاة الناس خلفه، فإنه محمول على أنه كان مبلغًا فقط، كما يأتي تقريره في أبواب الإِمامة. واستدل به أيضًا على جواز صلاة المفترض خلف المتنفل، من جهة أن الملائكة ليسوا بمكلفين بمثل ما كلف به الإنس. قاله ابن العربيّ وغيره. وأجاب عنه عياض باحتمال أن لا تكون تلك الصلاة كانت واجبة على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حينئذ، وتعقبه بما تقدم من أنها كانت صبيحة ليلة فرض الصلاة، وأجاب باحتمال أن الوجوب عليه كان معلقًا على البيان، فلم يتحقق الوجوب إلا بعد تلك الصلاة. قال: وأيضًا لا نُسَلِّم أن جبريل كان متنفلًا، بل كانت تلك الصلاة واجبة عليه؛ لأنه مكلف بتبليغها، فهي صلاة مفترض خلف مفترِض. وقال ابن المنير: قد يتعلق به من يجوز صلاة مفترض بفرض، خلف مفترض بفرض آخر، قال في "الفتح": وهو مسلم له في صورة المؤداة مثلًا خلف المقضية، لا في صورة الظهر خلف العصر. قلت: مذهب مالك يشترط في صحة الاقتداء المساواة في عين الصلاة، فلا يصح ظهر خلف المصلي للعصر، وفي الصفة، فلا يصح الأداء خلف القضاء ولا العكس، وفي

الزمان، فلا يصح ظهر يوم بعد ظهر يوم آخر، وليس في الحديث ما يرد على مذهبهم. وقوله: "بهذا أمرت"، أي: بفتح المثناة على المشهور، والمعنى: هذا الذي أمرت به أن تصليه كل يوم وليلة، وروي بالضم، أي: هذا الذي أمرت بتبليغه لك، وعلى كلا الأمرين، فالضمير المرفوع عائد إلى جبريل عليه السلام، ولا يقال: إن الحديث ليس فيه بيان لأوقات هذه الصلوات، لأنه إحالة على ما يعرف المخاطب الذي هو عمر بن عبد العزيز من تفاصيل الأوقات. وفيه بُعد، لإنكار عمر على عروة، حيث قال لهُ: اعلمْ ما تحدث به يا عروة. ولكن ظاهر هذا الإنكارأنه لم يكن عنده علم من إمامة جبريل، ولا يلزم من كونه لم يكن عنده علم منها، أن لا يكون عنده علم بتفاصيل الأوقات من جهة العمل المستمر، لكن لم يكن يعرف أن أصله بتبيين جبريل بالفعل، فلهذا استثبت فيه وكأنه كان يرى أن لا مفاضلة بين أجزاء الوقت الواحد، وكذا يحمل عمل المغيرة وغيره من الصحابة. وقوله: "اعلم ما تحدث به"، بصيغة الأمر، وسقط لفظ به لغير أبي ذَرٍّ. وقوله: "أَوَ أنَّ جبريل" بفتح همزة الاستفهام والواو العاطفة، وبكسر همزة إن على الأشهر، وبفتحها على تقدير أو علمت بأن جبريل عليه السلام. وقوله: "وقوت الصلاة" كذا للمستملي بصيغة الجمع، وللباقين وقت الصلاة بالإفراد، وهو للجنس. وقوله: "كذلك كان بشير"، قال ابن عبد البر: هذا السياق منقطع عند جماعة من العلماء؛ لأن ابن شهاب لم يقل: حضرت مراجعة عروة لعمر، وعروة لم يقل: حدثني بشير، لكن الاعتبار عند الجمهور بثبوت اللقاء والمجالسة، لا بالصيغ. وقال الكرمانيُّ: اعلمْ أن الحديث بهذا الطريق ليس متصل الإسناد، إذ لم يقل أبو مسعود: شاهدت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، والحق أن هذا لا يسمى منقطعًا اصطلاحًا، وإنما هو مرسل صحابي، لأنه لم يدرك القصة، فاحتمل أن يكون

سمع ذلك من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، أو بلّغه عنه بتبليغ من شاهده، أو سمعه كصحابي آخر. على أن رواية الليث عند المصنف تزيل الإشكال كله، ولفظه: "فقال عروة: سمعت بشير بن أبي مسعود يقول: سمعت أبي يقول: سمعت رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم يقول ... " فذكر الحديث. وفي رواية عبد الرزاق، عن ابن شهاب، قال: كنا مع عمر بن عبد العزيز، فذكره، وفي رواية شعيب عنه: سمعت عروة يحدث عمر بن عبد العزيز الحديث، فهذا يرد ما قيل من أن الحديث ليس فيه التصريح بسماع ابن شهاب له من عروة، وأن ابن شهاب قد جرب عليه التدليس، ولم يبين في شيء من الروايات جواب المغيرة لأبي مسعود، والظاهر أنه رجع إليه، ويدل على أن عمر لم يكن يحتاط في الأوقات كثير احتياط، حتى حدثه عروة بالحديث المذكور، ما رواه عبد الرزاق عن الزهري في هذه القصة قال: فلم يزل عمر يعلِّم الصلاة بعلامة حتى فارق الدنيا. وما رواه أبو الشيخ عنه، قال: ما زال عمر بن عبد العزيز يتعلم مواقيت الصلاة حتى مات. وما رواه ابن إسحاق عنه، قال: فما أخّرها حتى مات. وقد ورد في هذه القصة من وجه آخر عن الزُّهريِّ بيان أبي مسعود للأوقات، وفي ذلك ما يرفع الإشكال، ويوضح احتجاج عروة به، فقد روى أبو داود وصححه ابن خزيمة، ورواه الطبرانيّ عن أسامة بن زيد، عن الزُّهريِّ هذا الحديث بإسناده، وزاد في آخره: قال أبو مسعود: "فرأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يصلي الظهر حين تزول الشمس ... " فذكر الحديث. وروى الباغنديّ في مسند عمر بن عبد العزيز أن البيان من فعل جبريل، ورواه البيهقي في "السنن الكبرى" عن أبي بكر بن حزم، أنه بلغه عن أبي مسعود، فذكره منقطعًا، لكن رواه الطبراني عن أبي بكر، عن عروة، فرجع الحديث إلى عروة، ووضح أن له أصلًا، وأن في رواية مالك ومن تابعه اختصارًا، وليس في رواية مالك ومن تابعه ما ينفي الزيادة، فلا توصف، والحالة هذه، بالشذوذ. وفي الحديث من الفوائد: دخول العلماء على الأمراء، وإنكارهم عليهم

ما يخالف السنة، واستثبات العالم فيما يستغربه السامع، والرجوع عند التنازع إلى السنة، وفيه فضيلة عمر بن عبد العزيز، وفضيلة المبادرة بالصلاة في الوقت الفاضل، وقبول خبر الواحد المثبت، واستدل به ابن بطال وغيره على أن الحجة بالمتصل دون المنقطع، لأن عروة أجاب عن استفهام عمر له، لما أرسل الحديث بذكر من حدثه به، فرجع إليه، فكأنَّ عمر قال له: تأمل ما تقول، فلعله بلغك من غير ثبت، فكأنّ عروة قال له: بل قد سمعته ممن سمع صاحب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، والصاحب له قد سمعه من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم. واستدل به عياض على جواز الاحتجاج بمرسل الثقة، كصنيع عروة حين احتج على عمر، قال: وإنما راجعه عمر لتثبته فيه، لا لكونه لم يرض به مرسلًا، كذا قال. وظاهر السياق يشهد لما قاله ابن بطال. وقال ابن بطال أيضًا: في هذا الحديث دليل على ضعف الحديث الوارد في أن جبريل أَمّ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في يومين لوقتين مختلفين، لكل صلاة، قال: لأنه لو كان صحيحًا لم ينكر عروة على عمر صلاته في آخر الوقت محتجًا بصلاة جبريل، مع أن جبريل قد صلى في اليوم الثاني في آخر الوقت، وقال: الوقت ما بين هذين. والحديث المشار إليه هو ما رواه أبو داود والتِّرمِذيّ وغيرهما من أصحاب السنن، والحاكم في "المستدرك"، وقال: هو حديث صحيح. وقال الترمذيّ: حديث حسن، واللفظ للترمذيّ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: "أمَّنِي جبريل عند البيت مرتين، فصلى الظهر في المرة الأُولى حين كان الفيء قَدْر الشِّراك، ثم صلى العصر حين كان كل شيء مثل ظله، ثم صلى المغرب حين وَجَبَت الشمس، وأفطر الصائم، ثم صلى العشاء حين غاب الشفق، ثم صلى الفجر حين برق الفجر، وحرم الطعام على الصائم، وصلَّى المرة الثانية الظهر حين كان ظل كل شيء مثله لوقت العصر بالأمس، ثم صلى العصر حين كان ظل كشيء مثليه، ثم صلى المغرب

لوقته الأول، ثم صلى العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل، ثم صلى الصبح حين أسفرت الأرض، ثم التفت إليّ جبريل فقال: يا محمد، هذا وقت الأنبياء قبلك، والوقت فيما بين هذين الوقتين". وأجيب عما قال ابن بطال باحتمال أن تكون صلاة عمر كانت خرجت عن وقت الاختيار، وهو مصير ظل الشيء مثليه، لا عن وقت الجواز، وهو مغيب الشمس، فيتجه إنكار عروة، ولا يلزم منه ضعف الحديث، أو يكون عروة أنكر مخالفة ما واظب عليه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو الصلاة في أول الوقت، ورأى أن الصلاة بعد ذلك إنما كانت لبيان الجواز، فلا يلزم منه ضعف الحديث أيضًا. قلت: الحديث لا يصح أن يوسف بالضعف مع ما قدمناه فيه، وإنما تكلم فيه بأن في إسناده عبد الرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة مختلف فيه، وقد توبع، كما أخرجه عبد الرزاق عن ابن عباس، وقال ابن دقيق العيد: هي متابعة حسنة، وصححه ابن العربيّ، وابن عبد البر، وحديث بُريدة عند مسلم قريب منه، إلا أن بينهما اختلافًا في ألفاظ، ويؤيد الاحتمال الأخير ما رواه سعيد بن منصور عن طَلْق بن حبيب مرسلًا: "إن الرجل ليصلِّي الصلاة وما فاته خير له من أهله وماله"، ورواه عن ابن عمر من قوله، ويؤيد ذلك احتجاج عروة بحديث عائشة في كونه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يصلي العصر والشمس في حُجرتها، وهي الصلاة التي وقع الإنكار بسببها، وبذلك تظهر مناسبة ذكره لحديث عائشة بعد حديث أبي مسعود، لأن حديث عائشة يشعر بمواظبته على صلاة العصر في أول الوقت، وحديث أبي مسعود يشعر بأن أصل بيان الأوقات كان بتعليم جبريل. وقوله: "قال عروة: ولقد حدثتني عائشة"، هذا من مقول ابن شهاب، وليس بتعليق، فقد ذكره مسندًا عن ابن شهاب، عن عروة في باب "وقت العصر". وقوله: "والشمس في حُجرتها" بضم الحاء، أي: بيتها، وقد سميت بذلك لمنعها الداخل من الوصول إليها، وتجمع حُجَر، كغرفة وغُرَف، وعلى

رجاله تسعة

حُجُرات. وقوله: "أن تظهر"، أي: ترتفع، وفي الرواية الآتية في باب وقت العصر: "والفيء لم يظهرْ بعدُ"، أي: في الموضع الذي كانت الشمس فيه، وهذا الظهور غير ذلك الظهور، ومُحَصِّلُه أن المراد بظهور الشمس خروجها من الحجرة، وبظهور الفيء انبساطه في الحجرة، وليس بين الروايتين اختلاف، لأن انبساط الفيء لا يكون إلا بعد خروج الشمس. ويأتي تحرير الكلام على هذا الحديث في باب وقت العصر. رجاله تسعة: الأول: عبد الله بن مسلمة، وقد مرَّ في الثاني عشر من كتاب الإيمان، ومرَّ مالك في الثاني من بدء الوحي، وكذلك عائشة، ومرّ عروة بن الزبير في الثاني من بدء الوحي، ومرّ المغيرة بن شعبة في آخر كتاب الإيمان في الحادي والخمسين منه، ومرّ أبو مسعود الأنصاريّ في الثامن والأربعين منه. والتاسع: بَشير، بفتح الباء، ابن أبي مسعود، وعقبة بن عمرو الأنصاريّ المدنيّ، قيل: إن له صحبة. قال العجلي: مدنيّ تابعيّ ثقة. وذكره ابن حِبّان والبخاريّ ومسلم وأبو حاتم الرازيّ في ثقات التابعين، وذكر ابن مَنْدَه أنه من الصحابة، وذكر مغُلَطاي أنه ولد في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- أو بعد وفاته بيسير، روى عن أبيه، وروى عنه ابنه عبد الرحمن وعروة بن الزبير وهلال بن جبر وغيرهم. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع، والإخبار بصيغة الإِفراد من الماضي، والقراءة على الشيخ، والعنعنة في موضع، ورواته كلهم مدنيون. وتكلم ابن عبد البر في اتصال سنده. أخرجه البخاريّ هنا، وفي بدء الخلق والمغازي، ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه في الصلاة. ثم قال المصنف: باب قول الله تعالى: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}

هكذا في رواية غير أبي ذَرٍّ بإضافة "باب" إلى قول الله تعالى، ولأبي ذَرٍّ "بابٌ منيبين إليه" بالتنوين، والمنيب التائب، من الإنابة، وهي الرجوع مرة بعد أخرى. وقيل: منقطعين، وهذه الآية مما استدل به من يرى تكفير تارك الصلاة، لما يقتضيه مفهومها. وأجيب بأن المراد أن ترك الصلاة من أفعال المشركين، فورد النهي عن التشبه بهم، لا أنَّ من وافقهم في الترك صار مشركًا، وقد تكلمنا على هذا المعنى في كتاب الإيمان عند حديث ابن عمر، وهي من أعظم ما ورد في القرآن من فضل الصلاة، ومناسبتها لحديث وفد عبد القيس أن في الآية اقتران نفي الشرك بإقامة الصلاة، وفي الحديث اقتران إثبات التوحيد بإقامتها. وقوله: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، أي: بل كونوا من الموحدين المخلصين له العبادة، لا يريدون بها سواه.

الحديث الثاني

الحديث الثاني حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبَّادٌ -هُوَ ابْنُ عَبَّادٍ-، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالُوا: إِنَّا مِنْ هَذَا الْحَيِّ مِنْ رَبِيعَةَ، وَلَسْنَا نَصِلُ إِلَيْكَ إِلاَّ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَمُرْنَا بِشَيْءٍ نَأْخُذْهُ عَنْكَ، وَنَدْعُو إِلَيْهِ مَنْ وَرَاءَنَا. فَقَالَ: "آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: الإِيمَانِ بِاللَّهِ، ثُمَّ فَسَّرَهَا لَهُمْ شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَأَنْ تُؤَدُّوا إِلَيَّ خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ، وَأَنْهَى عَنِ الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالْمُقَيَّرِ وَالنَّقِيرِ". قوله: "هو ابن عباد"، سقطت الواو لغير أبي ذَرٍّ، ولأبي ذَرٍّ، "وهو" بالواو، وقوله: "نأخذه عنك"، بالرفع على الاستئنافِ، وقيل: بالجزم جوابًا للأمر، وندعو معطوف عليه على كلا الاحتمالين. وقوله: "مَنْ وَراءَنا"، مفعول به لندعو، وقد ذكر رمضان في الرواية السابقة في باب "أداء الخُمس من الإيمان" ولم يذكره هنا، مع أنه فرض في السنة الثانية من الهجرة، ووفادة هؤلاء كانت عام الفتح، فقيل: هو إغفال من الرواة، لا أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قاله في موضع، ولم يقله في آخر. وقد مرّت مباحث هذا الحديث مستوفاة غاية الاستيفاء في باب "أداء الخُمس من الإيمان" في آخر كتاب الإيمان عند ذكره هناك. رجاله أربعة: الأول: قتيبة بن سعيد، وقد مرَّ في الحادي والعشرين من الإيمان. الثاني: عباد بن عباد بن حبيب بن المهلب بن أبي صفرة الأزْدِيّ العَتَكِيّ

أبو معاوية البصريّ، وهو ممن وافق اسمه اسم أبيه. قال أحمد: ليس به بأسٌ، وكان رجلًا عاقلًا أديبًا. وقال ابنُ مَعين: عباد بن عباد بن العوّام جميعًا ثقة، وعباد بن عباد أوثقهما، وكثرهما حديثًا. وقال يعقوب بن شيبة، وأبو داود، والنَّسائيّ، وابن خِراش: ثقة، ووثّقه العجليّ والعقيليّ وأبو أحمد المروزيّ وابن قتيبة. وقال أبو حاتم: صدوق لا بأس به. قيل له: يُحتج بحديثه؟ قال: لا. وقال قتيبة: ما رأيت مثل هؤلاء الفقهاء الأشراف: مالكاً والليث وعبد الوهاب الثقفيّ وعباد بن عباد، كنا نرضى أن نرجع من عند عباد كل يوم بحديثين. وقال ابن سعد: كان ثقة، وربما غلط. وقال في موضع آخر: كان معروفًا بالطلب، حسن الهيئة، ولم يكن بالقويّ، وكان ثقة، غير أنه كان يغلط أحيانًا. وذكره ابن حِبّان في الثقات. وأورد ابن الجَوزيّ في الموضوعات حديثَ أنس: "إذا بلغ العبد أربعين سنة" من طريق عباد، فنسبه إلى الوضع، وأفحش القول فيه، فوهم وَهْمًا شنيعًا، فإنه التبس عليه براوٍ آخر. قال في "تهذيب التهذيب": وقد تعقبت كلامه في الخصال المكفرة، قال في المقدمة: ليس له في البخاريّ سوى حديثين، أحدهما في الصلاة عن أبي جَمرة، عن ابن عباس، حديث وقد عبد القيس بمتابعة شُعبة وغيره. والثاني في الاعتصام عن عاصم الأحول بمتابعة إسماعيل بن زكريا، واحتج به الباقون. روى عن عاصم الأحول، وأبي جمرة نصر بن عمران، وهشام بن عروة، وعبد الله وعُبيد الله ابنَيْ عمر بن حفص وغيرهم. وروى عنه أحمد بن حنبل، ويحيى بن مَعين، ويحيى بن يحيى، وعبد الله بن عون وغيرهم. مات سنة ثمانين ومئة. وقيل قبل حماد بن زيد بستة أشهر. وفي الستة عباد بن عباد سواه اثنان: المازنيّ البصريّ، والرمليّ الأرسوفيّ. والثالث: أبو جمرة، وقد مرَّ في السادس والأربعين من كتاب العلم، ومرَّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في موضعين، والقول. وفيه من وافق اسمه اسم أبيه، وهو

باب البيعة على إقام الصلاة

من رباعيات البخاريّ، ورواته ما بين بَغْلاني وبصري، وقد مرَّ محلّ إخراجه. ثم قال المصنف: باب البيعة على إقام الصلاة وفي رواية كريمة: "إقامة الصلاة"، والمراد بالبيعة: المبايعة على الإسلام، وكان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أول ما يشترط بعد التوحيد إقامة الصلاة، لأنها رأس العبادات البدنية، ثم أداء الزكاة، لأنها رأس العبادات المالية، ثم يعلِّم كل قوم ما حاجتهم إليه أَمَسُّ، فبايع جريراً على النصيحة، لأنه كان سيد قومه، فأرشده إلى تعليمهم بأمره بالنصيحة لهم، وبايع وفد عبد القيس على أداء الخُمس، لأنهم كانوا أهل مُحاربة مع من يليهم من كفار مُضَرَ.

الحديث الثالث

الحديث الثالث حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَيْسٌ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى إِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ. هذا الحديث قد مرَّ آخر كتاب الإيمان في باب "الدين النصيحة"، واستوفى الكلام عليه هناك. رجاله خمسة: الأول: محمد بن المثنى، وقد مرَّ في التاسع من كتاب الإيمان، ومرّ يحيى القطّان في السادس منه، ومرّ إسماعيل بن أبي خالد في الثالث منه، ومرّ قيس بن أبي حازم وجرير بن عبد الله في الخمسين من الإيمان. ثم قال المصنف: باب الصلاة كفّارَةٌ كذا للأكثر، وللمستملي: باب تكفير الصلاة. والكفارة عبارة عن الفعلة والخصلة التي من شأنها أن تكفّر الخطيئة، أي: تسترها وتمحوها، وهي على وزن فَعّالة بالتشديد، للمبالغة، كضرّابة، وهي من الإسماء الغالبة في باب الاسمية، واشتقاقها من الكَفْر بالفتح، وهو تغطية الشيء بالاستهلاك، والتكفير مصدر من كفّر بالتشديد.

الحديث الرابع

الحديث الرابع حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنِ الأَعْمَشِ، قَالَ: حَدَّثَنِي شَقِيقٌ، قَالَ: سَمِعْتُ حُذَيْفَةَ، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ عُمَرَ رضى الله عنه، فَقَالَ: أَيُّكُمْ يَحْفَظُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي الْفِتْنَةِ؟ قُلْتُ: أَنَا، كَمَا قَالَهُ. قَالَ: إِنَّكَ عَلَيْهِ أَوْ عَلَيْهَا لَجَرِيءٌ. قُلْتُ: فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلاَةُ وَالصَّوْمُ وَالصَّدَقَةُ وَالأَمْرُ وَالنَّهْيُ. قَالَ: لَيْسَ هَذَا أُرِيدُ، وَلَكِنِ الْفِتْنَةُ الَّتِى تَمُوجُ كَمَا يَمُوجُ الْبَحْرُ. قَالَ: لَيْسَ عَلَيْكَ مِنْهَا بَأْسٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا. قَالَ: أَيُكْسَرُ أَمْ يُفْتَحُ؟ قَالَ: يُكْسَرُ. قَالَ: إِذًا لاَ يُغْلَقَ أَبَدًا. قُلْنَا: كَانَ عُمَرُ يَعْلَمُ الْبَابَ. قَالَ: نَعَمْ، كَمَا أَنَّ دُونَ الْغَدِ اللَّيْلَةَ، إِنِّي حَدَّثْتُهُ بِحَدِيثٍ لَيْسَ بِالأَغَالِيطِ. فَهِبْنَا أَنْ نَسْأَلَ حُذَيْفَةَ، فَأَمَرْنَا مَسْرُوقًا فَسَأَلَهُ فَقَالَ: الْبَابُ عُمَرُ. قوله: "كنا جلوسًا"، أي: جالسين. وقوله: "فقال: أيكم يحفظ"، المخاطب بذلك الصحابة، ففي رواية ربعي عن حذيفة عند مسلم وأحمد أنه قدم من عند عمر، فقال: سأل عمر أمس أصحابَ محمدٍ: أيكم سمع قول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في الفتنة؟. وقوله: "في الفتنة" فيه دليل على جواز إطلاق اللفظ العام، وإرادة الخامس، إذ تبين أنه لم يسأل إلا عن فتنة مخصوصة، ومعنى الفتنة في الأصل الاختبار والامتحان، ثم استعملت في كل أمر يكشفه الامتحان عن سوء، وتطلق على الكُفْر، والغلو في التأويل البعيد، وعلى الفضيحة والبلية والعذاب والقتال، والتحول من الحسن إلى القبيح، والميل إلى الشيء، والإعجاب به. وتكون في الخير والشر، كقوله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}.

وقوله: "قلت أنا كما قاله"، أي: أنا أحفظ ما قاله، والكاف زائدة للتأكيد، أو هي بمعنى "على"، ويحتمل أن يراد بها المثلية، أي: أقول مثل ما قاله. وفي رواية رِبعي المارَّة، قال: أنا أحفظُ كما قال. وفي رواية المصنف في الزكاة: "أنا أحفظه كما قاله". وقوله: "إنك عليه أو عليها لجريء"، أي: على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، أو على المقالة، والشك من أحد الرواة فاللام في: لَجَريء، لام التأكيد، وهو على وزن فعيل من الجَراءة، وهي الإقدام على الشيء. وقوله: "فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره"، المراد بالفتنة: ما يعرض للإنسان مع من ذكر من البشر أو الالتهاء بهم، أو أن يأتي لأجلهم بما لا يحل له، أو يخلّ بما يجب عليه، وقال الزين بن المنير: فتنة الرجل في أهله تقع بالميل اليهن، أو عليهن في القسمة، والإيثار حتى في أولادهن، ومن جهة التفريط في الحقوق الواجبة لهن، أو يريد ما يعرض له معهن من شرٍّ أو حزن أو شبهه. وفتنة الرجل في المال أن يأخذه من غير مأخذه، ويصرفه في غير مصرفه، أو التفريط بما يلزمه من حقوق المال، فتكثر عليه المحاسبة، أو يقع الاشتغال به عن العبادة، وبالأولاد تقع بفرط محبتهم، وشغله بهم عن كثير من الخير، أو التوغل في الاكتساب من أجلهم من غير اكتراث من أن يكون من حلال أو حرام، والفتنة بالجار تقع بالحسد والمفاخرة، والمزاحمة في الحقوق، وإهمال التعاهد، قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ}، وليست أسباب الفتن بمن ذكر منحصرة فيما ذكر من الأمثلة. وقوله: "تكفرها الصلاة والصوم والصدقة ... إلخ"، أي: تكفر فتنة الرجل في أهله، وما ذكر معه أداء الصلاة وما ذكر معها، قال بعض الشراح: يحتمل أن تكون كل واحدة من الصلاة وما معها مكفرة للمذكورات كلها، وأن يكون من باب اللف والنشر، بأن الصلاة مثلًا مكفرة

للفتنة في الأهل، والصوم في الولد، وتخصيص الصلاة وما ذكر معها بالتكفير دون سائر العبادات، فيه إشارة إلى تعظيم قدرها، لا نفي أن غيرها من الحسنات ليس فيها صلاحية التكفير، ثم إن التكفير المذكور يحتمل أن يقع بنفس الحسنات المذكورة، ويحتمل أن يقع بالموازنة، والأول أظهر. وقال ابن أبي جمرة: خص الرجل بالذكر، لأنه في الغالب صاحب الحكم في داره وأهله، وإلا فالنساء شقائق الرجال في الحكم، ثم أشار إلى أن التكفير لا يختص بالأربع المذكورات، بل نبه بها على ما عداها، والضابط أن كل ما يشغل صاحبه عن الله فهو فتنة له، وكذلك المكفرات لا تختص بما ذكر، وإنما حصل التعيين لهذه الخمس، لأن الحقوق في الأبدان والأموال والأقوال، فنبه بالمذكورات على ما عداها، فذكر من أفعال الأبدان أعلاها وهو الصلاة والصوم. قال الله تعالى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ}، وذكر من حقوق المال أعلاها، وهي الصدقة، ومن الأقوال أعلاها، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واستشكل ابن أبي جمرة وقوع التكفير بالمذكورات للوقوع في الحرمات، والإخلال بالواجب؛ لأن الطاعات لا تسقط ذلك، فإن حمل على الوقوع في المكروه والإخلال بالمستحب لم يناسب إطلاق التكفير، والجواب التزام الأول، وأن الممتنع من تكفير الحرام والواجب ما كان كبيرة، فهي التي فيها النزاع، وأما الصغائر، فلا نزاع أنها تكفِّر، لقوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}. وقوله: "الأمر والنهي"، أي: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، كما صرح به في الزكاة. وقوله: "ولكن الفتنة"، بالنصب بتقدير أريد، وبالرفع بتقدير مرادي الفتنة. وقوله: "تموج كموج البحر"، أي: تضطرب اضطراب البحر عند هيجانه، وكنى بذلك عن شدة المخاصمة، وكثرة المنازعة، وما ينشأ عن ذلك من المشاتمة والمقاتلة.

وقوله: "ليس عليك منها بأس يا أمير المؤمنين"، زاد في رواية ربعي: "تعرض الفتن على القلوب فأيّ قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى يصير أبيض مثل الصفاة، لا تضره فتنة، وأي قلب أُشرِبَها نكتت فيه نكتة سوداءَ، حتى يصير أسود كالكُوز منكوسًا لا يعرف معروفًا، ولا يُنكر منكرًا". وقوله: "إن بينك وبينها بابًا مغلقًا"، أي: لا يخرج منها شيء في حياتك. قال ابن المنير: آثر حذيفة الحرص على حفظ السر، ولم يصرح لعمر بما سأل عنه، وإنما كنى عنه كناية، وكأنَّه كان مأذونًا له في مثل ذلك. وقال النووي: يحتمل أن يكون حذيفة علم أن عمر يقتل، لكنه كره أن يخاطبه بالقتل؛ لأن عمر كان يعلم أنه الباب، فأتى بعبارة يحصل بها المقصود بغير تصريح بالقتل، ولكن في لفظ رواية ربعيّ ما يعكر على ذلك، ففيها: "وحدثته أن ذلك الباب رجل يقتل أو يموت"، فكأنه مثَّل الفتن بدار، ومثَّل حياة عمر بباب لها مغلق، ومثَّل موته بفتح ذلك الباب، فما دامت حياة عمر موجودة فهي الباب المغلق، لا يخرج مما هو داخل تلك الدار شيء، فإذا مات فقد انفتح ذلك الباب، فخرج ما في تلك الدار. وقوله: "مغلقًا"، من أغلق الرباعيّ، ويقال: غلّق، بتشديد اللام، وفي لغة رديئة: غَلَقَ بالتخفيف. وقوله: "قال: إذًا لا يُغلق أبدًا"، وفي رواية علامات النبوة، قال: "ذلك أحرى أن لا يغلق"، وفي الصيام: "ذلك أجدر أن لا يغلق إلى يوم القيامة"، وإذًا حرف ناصب، ولا يغلق منصوب به، لوجود ما اشترط في عملها، وهو التصدير، وكون الفعل مستقبلًا واتصاله بها. وانفصاله عنها بالقسم أو بلا النافية، لا يبطل عملها. وفي كتابتها بالنون خلاف، وللكشميهنيّ: لا يغلق بالرفع، بتقدير الباب لا يغلق، أو: هو لا يغلق. قال ابن بطال: إنما قال ذلك لأن العادة أن الغلق إنما يقع في الصحيح، فاما إذا انكسر فلا يتصور غلقه حتى يجبر، ويحتمل أن يكون كنى عن الموت بالفتح، وعن القتل بالكسر، ولهذا قال في رواية رِبعيّ: قال عمر: كسرًا لا أبا لك، وإنما قال عمر ذلك اعتمادًا على ما عنده من النصوص الصريحة في وقوع الفتن في هذه الأمة،

ووقوع البأس بينهم إلى يوم القيامة، ويأتي في الاعتصام حديث جابر في قوله تعالى: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} الآية. وقد وافق حذيفة على روايته هذه أبو ذَرٍّ، فروى الطبرانيّ بإسنادٍ رجاله ثقات أنه لقي عمر، فأخذ بيده فغمزها، فقال له أبو ذرٍّ: أرسل يدي يا قُفْل الفتنة ... الحديث، وفيه أن أبا ذَرٍّ، قال: لا تصيبنَّكم فتنة ما دام فيكم، وأشار إلى عمر، وروى البزار عن قُدامة بن مظعون، عن أخيه عثمان أنه قال لعمر: يا غَلَق الفتنة. فسأله عن ذلك، فقال: مررت ونحن جلوس عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: "هذا غَلَق الفتنة، لا يزال بينكم وبين الفتنة باب شديد الغَلَق ما عاش". وقوله: "قلنا: أكان عمر يعلم الباب؟ " هذا مقول شقيق. وقوله: "كما أن دون الغد الليلة"، أي: أن علمه به كعلمه بان ليلة غد أقرب إلى اليوم من الغد. وقوله: إني حدثته بحديث ليس بالأغاليط، هذا بقية كلام حذيفة، والأغاليط جمع أُغلوطة بضم الهمزة، وهو ما يغالط به، أي: حدثته حديثًا صدقه محققًا من حديث النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم، لا عن اجتهاد ولا رأي. وقال ابن بطال: إنما علم عمر أنه الباب، لأنه كان مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على حراء وأحد، هو وأبو بكر وعثمان، فرجف الجبل، فقال: أثبت فإنما عليك نبي وصدِّيق وشهيدان. أو فهم ذلك من قول حُذيفة: "بل يكسر" والذي يظهر أن عمر علم الباب بالنص، كما مرَّ عن عثمان بن مظعون وأبي ذَرٍّ، فلعل حذيفة حضر ذلك، ويأتي إن شاء الله تعالى في بدء الخلق حديث "أنه سمع خطبة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يحدث عن بدء الخلق، حتى دخل أهل الجنة منازلهم"، ويأتي في علامات النبوة عن حذيفة "أنه قال: أنا أعلم الناس بكل فتنة هي كائنة فيما بيني وبين الساعة"، وفيه أنه سمع ذلك معه من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم جماعة ماتوا قبله، فإن قيل: إذا كان عمر عارفًا بذلك فَلِمَ شكَّ فيه حتى سأل عنه؟ فالجواب أن ذلك يقع مثله من شدة الخوف، أو لعله خشي أن يكون قد نسي، فسأل من يذكِّره، وهذا هو المعتمد.

رجاله خمسة

وقوله: "فهِبنا" بكسر الهاء، أي: خفنا، وهذا مقول شقيق أيضًا، وهذا يدل على حسن تأدبهم مع كبارهم. وقوله: "فقال الباب عمر"، هذا لا يغاير قوله قبل هذا "إنّ بينه وبين الفتنة بابًا" فلا يقال: كيف يفسر الباب بعد ذلك بأنه عمر؟ لأنا نقول إن المراد بقوله: "بينك وبينها"، أي: بين زمانك وزمان الفتنة وجودُ حياتك، أو المراد بين نفسك وبين الفتنة بدنك، إذ الروح غير البدن، أو بين الإِسلام والفتنة. رجاله خمسة: الأول: مسدد. والثاني: يحيى القطان، وقد مرّا في السادس من الإيمان، ومرّ الأعمش في الخامس والعشرين منه، ومرّ أبو وائل شقيق بن سلمة في الحادي والأربعين منه، ومرّ عمر بن الخطاب في الأول من بدء الوحي، ومرّ حُذيفة بن اليمان في تعليق الثاني من كتاب العلم. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وبصيغة الإفراد في موضعين، والعنعنة في موضع واحد، وفيه بصريان: مسدد ويحيى، وكوفيان: الأعمش وشقيق. أخرجه البخاريّ هنا، وفي الزكاة، وعلامات النبوة، والصوم، ومسلم، والترمذي، وابن ماجه في الفتن.

الحديث الخامس

الحديث الخامس حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ رَجُلاً أَصَابَ مِنَ امْرَأَةٍ قُبْلَةً، فَأَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبَرَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}. فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِيْ هَذَا؟ قَالَ: "لِجَمِيعِ أُمَّتِي كُلِّهِمْ". قوله: "إن رجلًا أصاب من امرأة قُبلة"، وعند مسلم والإسماعيليّ: فذكر أنه أصاب من امرأة قبلة، أو مسًّا بيدٍ، أو شيئًا كأنه يسأل عن كفارة ذلك، وعند عبد الرزاق: ضرب رجل على كَفَل امرأة، الحديث، وعند مسلم وأصحاب السنن، عن ابن مسعود: جاء رجل إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إني وجدت امرأة في بستان، ففعلت بها كل شيء، كير أني لم أجامعها، قبلتها ولزمتها، فافعل بي ما شئت. وقد اختلف في اسم هذا الرجل اختلافًا كثيرًا، والأصح أن اسمه كعب بن عمرو، وهو أبو اليَسَر، بفتح التحتانية والمهملة، الأنصاريّ، فقد أخرج الترمذيّ والنسائيّ والبزار عنه أنه أتته امرأة، وزوجها قد بعثه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في بَعْثٍ، فقالت له: بعني تمرًا بدراهم، قال: فقلت لها، وأعجبتني: إن في البيت تمرًا أطيب من هذا، فانطلق بها معه، فغمزها وقبّلها، ثم فرغ فخرج، فلقي أبا بكر فأخبره، فقال: تُبْ ولا تَعُدْ، فلقيت عمرَ فذكرتُ له ذلك، فقال: استر على نفسك، وتُبْ ولا تُخبر أحدًا، فلم أصبر، فأتيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فذكرت له ذلك، فقال: "أخَلَفْتَ غازيًا في سبيل الله في أهله؟ " حتَّى تمنَّى أنه لم يكن أسلم إلى تلك الساعة، حتى ظن أنه من

أهل النار، فأطرق النبي صلى الله تعالى عليه وسلم طويلًا، حتى أُوحِي إليه: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ ...} الآية. وفي روايته أنه صلَّى مع النبيّ، صلى الله تعالى عليه وسلم العَصْرَ. وقيل: هو فلان بن مُعَتِّب. وقيل: معتب، فقد أخرج الطبري، عن إبراهيم النخعيّ، قال: جاء فلان بن معتب الأنصاريّ، فقال: يا رسول الله، دخلت على امرأة، فنلتُ منها ما ينال الرجل من أهله، إلا أني لم أجامعها .... الحديث. وأخرجه ابن أبي خَيْثمة، لكنه قال: إن رجلًا من الأنصار يقال له معتب، وفي رواية ابن مردويه عن أبي بُريدةَ، عن أبيه: "جاءت امرأة من الأنصار إلى رجل يبيع التمر بالمدينة، وكانت حسناء جميلة، فلما نظر إليها أعجبته، فذكر نحو حديث أبي اليَسَر، ولم يسم الرجل، ولا المرأة ولا زوجها. وقيل: اسمه نَبهان التَّمَّار، فقد أخرج الثعلبيّ وغيره أنّ نبهان التمَّار أتته امرأة حسناء تبتاع تمرًا منه، فضرب على عجيزتها، ثم ندم، فأتى النبيَّ صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال: "إياك أن تكونَ امرأةَ غازٍ في سبيلٍ الله"، فذهب يبكي ويصوم ويقوم، فأنزل الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً ...} الآية، فأخبره فحمد الله، وقال: يا رسول الله، هذه توبتي قُبِلَتْ، فكيف لي بأن يتقبل شكري؟ فنزلت: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ}، وهذا إن ثبت حمل على واقعة أخرى، لما بين السياقين من المغايرة. وقيل: اسمه عمرو بن غَزِيَّة، فقد أخرج ابن مَنْدَه من طريق الكلبي، عن ابن عباس في قوله: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ}، قال: نزلت في عمرو بن غَزِيَّة، وكان يبيع التمر، فأتته امرأة تبتاع تمرًا، فأعجبته .... الحديث. والكلبيّ ضعيف، فإنْ ثَبَتَ حُمِل أيضًا على التعدد. وقيل: هو أبو مقبل عامر بن قيس الأنصاريّ، ذكر ذلك مقاتل بن سليمان في تفسيره. وقيل: هو عبّاد، اسم جد أبي اليَسَر، حكى ذلك القرطبيُّ، ولم يعزه،

فلعله نسب أبا اليَسَر، ثم سقط شيء. وأما ما أخرجه أحمد وعبد بن حميد وغيرهما عن أبي أمامة، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال: إني أصبت حدًّا، فأقمه عليّ، فسكت عنه ثلاثًا، فأقيمت الصلاة، فدعا الرجل، فقال: "أرأيت حين خرجت من بيتك، ألست قد توضأت فأحسنت الوضوء؟ " قال: بلى، قال: "ثم شهدت الصلاة معنا؟ " قال: نعم، قال: "فإن الله قد غفر لك"، وتلا هذه الآية، فهي قصة أخرى، ظاهر سياقها أنها متأخرة عن نزول الآية، ولعل الرجل ظن أن كل خطيئة فيها حدٌّ، فأطلق على ما فعل حدًّا. وقوله: "فأتى النبيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم، فأخبره" في رواية عبد الرزاق أنه أتى أبا بكر وعمر، وقال فيها كل من سأله عن كفارة ذلك، قال: أمُعْزِبة هي؟ قال: نعم. قال: لا أدري. حتى أنزل قوله: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} الآية، واختلف في المراد بطرفي النهار، فقيل: الصبح والمغرب، وقيل: الصبح والعصر، وعن مالك وابن حبيب: الصبح طرف، والظهر والعصر طرف. وقوله: {وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ}، أي: ساعات بعد ساعات، ومنه سميت المزدلفة، الزُّلَف منزلة بعد منزلة، وأما الزُّلفى، فمصدر، قال أبو عبيدة في قوله: {وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ}: ساعات، واحدتها زُلْفة، أي: ساعة، ومنزلة وقربة. واختلف في المراد بالزلف، فعن مالك: المغرب والعشاء، واستنبط منه بعض الحنفية وجوب الوِتر، لأن زُلَفًا جمع أقلُّه ثلاثة، فيضاف إلى المغرب والعشاء الوِتر. وقوله: "فقال الرجل: يا رسول الله، أَلِيْ هذا؟ "، أي الآية، يعني خاصة بي بأن صلاتي مُذهبة لمعصيتي؟ وظاهر هذا أن صاحب القصة هو السائل عن ذلك، ولأحمد والطبرانيّ عن ابن عباس، قال: يا رسول الله، ألي خاصةً أم للناس عامّةً؟ فضرب عمر صدره، وقال: لا ولا نعمة عين، بل للناس عامة. فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: "صدق عمر". وفي حديث أبي اليَسَر: "فقال إنسان: يا رسول الله، له خاصة؟ " عند

رجاله خمسة

مسلم من رواية إبراهيم النخعي: "فقال معاذ: يا رسول الله، أله وحده أو للناس كافة؟ " وللدارقطني مثله من حديث معاذ نفسه، ويحمل على تعدد السائلين عن ذلك. وقوله: "ألي"، بفتح الهمزة استفهامًا، وقوله: هذا، مبتدأ تقدم خبره عليه، وفائدته التخصيص. وقوله: "لجميع أمتي كلهم"، وفي رواية: "لمن عمل بها من أمتي"، وتمسك بظاهر قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} المرجئة. وقالوا: إن الحسنات تكفر كل سيئة، كبيرة كانت أو صغيرة. وحمل الجمهور هذا المطلق على المقيد في الحديث الصحيح: "إن الصلاة إلى الصلاة كفّارة لما بينهما ما اجتُنِبَتِ الكبائر"، فقالت طائفة: إن اجتنبت الكبائر كانت الحسنات كفّارة لما عدا الكبائر، وكانت الحسنات كفّارة لما عدا الكبائر من الذنوب، وإن لم تُجتنب الكبائر لم تحطّ الحسنات شيئًا. وقال آخرون: إن لم تُجتنب الكبائر لم تَحُطُّ السيئاتُ شيئًا منها، وتحطّ الصغائر. وقيل: المراد أن الحسنات تكون سببًا في ترك السيئات، كقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} لا أنها تكفر شيئًا حقيقة. وهذا قول بعض المعتزلة. وقال ابن عبد البر: ذهب بعض أهل العصر إلى أن الحسنات تكفر الذنوب، واستدل بهذه الآية وغيرها من الآيات، وأحاديث الظاهرة في ذلك. قال: ويرده الحث على التوبة في أي كبيرة، فلو كانت الحسنات تكفر الذنوب، واستدل بهذه الآية وغيرها من الآيات، والأحاديث من هذا، في كتاب الإيمان، في باب "قيام ليلة القدر من الإيمان". واستدل بهذا الحديث على عدم وجوب الحد في اللمس والقبلة ونحوهما، وعلى سقوط التعزير عمن أتى شيئًا منها، وجاء تائبًا نادمًا. واستنبط منه ابن المنذر أنه لا حدّ على من وُجِدَ مع امرأة أجنبية في ثوب واحد. رجاله خمسة: الأول: قتيبة بن سعيد، وقد مرّ في الحادي والعشرين من الإيمان، ومرّ

يزيد بن زريع في الخامس والتسعين من كتاب الوضوء، ومرّ سليمان بن طَرْخان في التاسع والستين من كتاب العلم، ومرَّ عبد الله بن مسعود أول كتاب الإيمان، قبل ذكر حديث منه. الخامس من السيد: عبد الرحمن بن ملّ، بتثقيل اللام وتثليث الميم، ابن عمرو بن عديّ بن وهب بن ربيعة بن سعد بن خزيمة بن كعب بن رفاعة بن مالك بن نهد، أبو عثمان النهديّ، سكن الكوفة ثم البصرة، أدرك الجاهلية وأسلم على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهاجر إليه ولم يلقه. قال ابن المَدِينيّ: هاجر إلى المدينة بعد موت أبي بكر، ووافق استخلاف عمر، فسمع منه ولم يسمع من أبي ذرّ. وقال عبد القاهر بن السَّرِيِّ، عن أبيه، عن جده: كان أبو عثمان من قُضاعة، وأدرك النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم يره، وسكن الكوفة، فلما قتل الحسين تحول إلى البصرة، وحج ستين حجة ما بين حجة وعمرة، وكان يقول: أتت عليّ مئة وثلاثون سنة، وما مني شيء إلا وقد أنكرته، خلا أملي. وقال سليمان التيمي: إني لأحسب أن أبا عثمان كان لا يصيب ذنبًا، كان ليله قائمًا، ونهاره صائمًا. وقال أبو حاتم: كان ثقة، وكان عريف قومه. وقال أبو زرعة والنَّسائي وابن خِراش: ثقة، وقال أبو داود: أكبر تابعِي أهل الكوفة أبو عثمان. وقال ابن سعد: كان ثقة، روى عن: عمر وعلي وسعد وسعيد وطلحة وحذيفة وأبي مسعود وأسامة بن زيد وعمرو بن العاص وغيرهم. وروى عنه: ثابت البنانيّ وقتادة وعاصم الأحول وسليمان التيميّ وأبو التَّيَّاح وحُمَيد الطويل وغيرهم. مات سنة مئة وهو ابن أربعين ومئة، وهو معدود فيمن عاش في الجاهلية ستين وفي الإِسلام أكثر. وليس في الستة عبد الرحمن بن ملّ سواه. وقد مرَّ ما في الرجل المبهم من الخلاف، ولابد من تعريف من ذكر، فالأول أبو اليَسَر، بفتحتين، وقد مرَّ أن اسمه كعب بن عمرو، وعمرو بن عباد بن عمرو بن سواد بن غَنْم بن كعب بن سَلِمه، وقيل: كعب بن عمرو بن غنم بن كعب بن سلمة، وقيل: كعب بن عمرو بن غنم بن شداد بن غنم بن كعب بن سلمة الأنصاري السلميّ، مشهور باسمه وكنيته، شهد العقبة وبدرًا، وله فيها آثار كثيرة، وهو الذي أسر العباس. قال ابن إسحاق: شهد بدرًا والمَشاهد. وقال

لطائف إسناده

البخاريّ: له صحبة، وشهد بدرًا. وقال المدائنيّ: كان قصيرًا حدادًا عظيم البطن، ومات بالمدينة سنة خمس وخمسين. وقال ابن إسحاق: قد كان من آخر من مات من الصحابة، كأنَّه يعني أهل بدر. روى عنه عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، وحديثه مطول، وأخرجه مسلم. وأما نبهان التمّار، فليس له من التعريف غير الحديث الذي مرّ في شأنه. وأما عمرو بن غَزِيَّة، بغين معجمة مفتوحة، ثم زاي مكسورة وتحتانية ثقيلة، ابن عمرو بن ثعلبة بن خنساء بن مبذول بن عمر بن غَنْم بن مازن بن النجّار الأنصاريّ، يقال إنه شهد العقبة وبدرًا، ومرّ الحديث المذكور عن ابن عباس. وأما عامر بن قيس الأنصاريّ، فه وابن عم الجُلاَس بن سُويد، ذكره موسى بن عقبة في المغازي، وإنه أحد من سمع الجلاس بن سويد يقول: إن كان ما يقول محمد حقًا لنحن شرّ من الحمر، فبلغ ذلك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فحلف الجلاس ما قال ذلك، فنزلت: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ ...} الآية. وكذلك ذكره أبو الأسود عن عروة، ونقله الثعلبيّ عن قتادة، والقصة مشهورة لعمير بن سعد. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في ثلاثة، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ عن صحابي، ورواته بصريُّون ما خلا قتيبة. أخرجه البخاريّ هنا وفي التفسير، ومسلم في التوبة، والتِّرمذيّ والنَّسائي في التفسير، وابن ماجه في الصلاة. ثم قال المصنف: باب فضل الصلاة لوقتها كذا ترجم باللام، وأورده في الحديث بلفظ: "على وقتها" وهي رواية شعبة وأكثر الرواة. وأخرجه في التوحيد بلفظ الترجمة، وأخرجه مسلم باللفظين.

الحديث السادس

الحديث السادس حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: الْوَلِيدُ بْنُ الْعَيْزَارِ أَخْبَرَنِي، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَمْرٍو الشَّيْبَانِيَّ، يَقُولُ: حَدَّثَنَا صَاحِبُ هَذِهِ الدَّارِ، وَأَشَارَ إِلَى دَارِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: "الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا". قَالَ ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: "ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ". قَالَ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: "الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ". قَالَ: حَدَّثَنِي بِهِنَّ وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي. قوله: "أخبرني"، هو على التقديم والتأخير. قوله: "صاحب هذه الدار"، كذا رواه شعبة مبهمًا، وعند المصنف عن مالك بن مِغْوَل في الجهاد، وعن أبي إسحاق في التوحيد التصريح باسم عبد الله بن مسعود. قلت: بعد التصريح بصاحب الدار، والإشارة إلى دار عبد الله بن مسعود، لم يبق إبهام في الاسم. وقوله: "وأشار بيده "، فيه الاكتفاء بالإشارة المفهمة عن التصريح. وقوله: "أيُّ العمل أحبُّ إلى الله تعالى"، في رواية مالك بن مِغْوَل: "أي العمل أفضل"، وكذا لأكثر الرواة، فإن كان هذا اللفظ هو المسؤول به، فلفظ حديث الباب ملزوم عنه. ومحصل ما أجاب به العلماء عن هذا الحديث وغيره، مما اختلفت فيه الأجوبة، أنه من أفضل الأعمال، أن الجواب اختلف لاختلاف أحوال السائلين، بأنْ أعلم كل قوم بما يحتاجون إليه، أو بما لهم فيه رغبة، أو بما هو لائق بهم، أو كان الاختلاف باختلاف الأوقات، بأن يكون العمل في ذلك الوقت أفضل منه في غيره، فقد كان الجهاد في ابتداء الإِسلام أفضل الأعمال، لأنه الوسيلة إلى القيام بها، والتمكن من أدائها، وقد

تضافرت النصوص على أن الصلاة أفضل من الصدقة، ومع ذلك، ففي وقت مواساة المضطر تكون الصدقة أفضل، أو أن "أفضل" ليست على بابها، بل المراد بها الفضل المطلق، أو المراد "من أفضل" فحذفت "من" وهي مرادةٌ. وقال ابن دقيق العيد: الأعمال في هذا الحديث محمولة على البدنية، وأراد بذلك الاحتراز عن الإيمان؛ لأنه من أعمال القلوب، فلا تعارض حينئذ بينه وبين حديث أبي هريرة: "أفضل الأعمال إيمان بالله ... الحديث". وقد مرَّ هذا الكلام في باب "إطعام الطعام"، وباب "من قال إن الإيمان هو العمل". وقوله: "الصلاة على وقتها"، قد اتفق أصحاب شعبة على هذه اللفظة، وخالفهم علي بن حفص، فقال: "في أول وقتها". أخرجه الحاكم والدارقطنيّ والبيهقي. وقال النوويّ في "شرح المهذَّب" إن رواية: "في أول وقتها" ضعيفة، وكأنَّ من رواها كذلك ظن أن المعنى واحد، ويمكن أن يكون أخذه من لفظة: "على" لأنها تقتضي الاستعلاء على جميع الوقت، فيتعين أوله. قال القرطبيّ وغيره: قوله: "لوقتها" اللام للاستقبال، مثل قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}، أي: مستقبلات عدتهن عند من عد العدة بالحيض، أو هي لام التأنيث والتأريخ، كقوله تعالى: {لِعِدَّتِهِنَّ}، أي: وقتها، وهو الطهر، فإن اللام في الأزمان وما أشبهها للتأقيت. وقيل: للابتداء، نحو: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}، وقيل: بمعنى: "في"، أي: في وقتها، لأن الوقت ظرف لها، قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}، أي: فيه. وقيل: اللام بمعنى: "على" كقوله تعالى: {يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ}، أي: على الأذقان، {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ}، أي: عليه. وقيل: "على" بمعنى اللام، ففيه ما مرَّ، وقيل: لإرادة الاستعلاء على الوقت. وفائدته تحقق دخول الوقت ليتسع الأداء فيه.

قال ابن بطال: فيه أن البِدار إلى الصلاة في أول وقتها أفضل من التراخي فيها؛ لأنه إنما شرط فيها أن تكون أحب الأعمال إذا أقيمت لوقتها المستحب. قال ابن دقيق العيد: ليس في هذا الحديث ما يقتضي أولًا ولا آخرًا، وكأن المقصود به الاحتراز عما إذا وقعت قضاء. وتعقب بأن إخراجها عن وقتها محرم، ولفظ: "أحب" يقتضي المشاركة في الاستحباب، فيكون المراد الاحتراز عن إيقاعها آخر الوقت. وأجيب بأن المشاركة، إنما هي بالنسبة إلى الصلاة وغيرها من الأعمال، فإن وقعت الصلاة في وقتها كانت أحب إلى الله تعالى من غيرها من الأعمال، فوقع الاحتراز عما إذا وقعت خارج وقتها من معذور، كالنائم والناسي، فإنّ إخراجهما لها عن وقتها لا يوصف بالتحريم، ولا بكونه أفضل الأعمال، مع كونه محبوبًا، لكن إيقاعها في الوقت أحب. وقوله: "ثم أي"، قيل: الصواب أنه غير منوَّن؛ لأنه غير موقوف عليه في الكلام، والسائل ينتظر الجواب، والتنوين لا يوقف عليه، فتنوينه ووصله بما بعده خطأ، فيوقف عليه وقفة لطيفة، ثم يؤتى بما بعده. قاله الفاكهاني، وحكى ابن الجوزيّ عن ابن الخشاب الجزم بتنوينه، لأنه معرب غير مضاف، وتعقب بأنه مضاف تقديرًا، والمضاف إليه محذوف لفظًا، والتقدير: أي العمل أحب، فيوقف عليه بلا تنوين. وقد نص سيبويه على أنها تعرب وتبنى إذا أضيفت. وقوله: "قال: بر الوالدين"، كذا للأكثر، وللمستملي قال: "ثم برّ الوالدين" بزيادة "ثم". قال بعضهم: هذا الحديث موافق لقوله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} وكأنه أخذه من تفسير ابن عُيينة، حيث قال: من صلى الصلوات الخمس فقد شكر لله، ومن دعا لوالديه عقبها فقد شكر لهما. وقوله: "قال: الجهاد في سبيل الله"، قيل: المراد بالجهاد هنا ما ليس بفرض عين، لأنه يتوقف على إذن الوالدين، فيكون برهما مقدّمًا عليه. وقوله: "حدثني بهن"، هو مقول عبد الله بن مسعود، وفيه تقرير وتأكيد لما تقدم من أنه باشر السؤال وسمع الجواب. وقوله: "ولو استزدته لزادني"، يحتمل أن يريد من هذا النوع، وهو المراتب

رجاله خمسة

أفضل الأعمال، ويحتمل أن يريد من مطلق المسائل المحتاج إليها. وزاد التِّرمذيّ: وسكت عني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولو استزدته لزادني. فكأنَّه استشعر منه مشقة، ويؤيده ما في رواية لمسلم: "فما تركت أن أستزيده إلا ارعاء عليه"، أي: شفقة عليه، لئلا يسأم. وفي الحديث فضل تعظيم الوالدين، وأن أعمال البر يفضل بعضها بعضًا، وفيه السؤال عن مسائل شتى في وقت واحد، والرفق بالعالم، والتوقف عن الإكثار عليه ففيه مَلالُهُ، وما كان عليه الصحابة من تعظيم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، والشفقة عليه، وما كان هو عليه من إرشاد المسترشدين، ولو شق عليه. وفيه أن الإشارة تتنزل منزلة التصريح إذا كانت للمشار إليه مميزة له عن غيره. قال ابن بُزيزة: الذي يقتضيه النظر تقديم الجهاد على جميع أعمال البدن، لأن فيه بذل النفس، إلا أن الصبر على المحافظة على الصلوات في أوقاتها، والمحافظة على بر الوالدين أمر لازم متكرر دائم، لا يصبر على مراقبة أمر الله فيه إلا الصِّدِّيقون. رجاله خمسة: الأول: أبو الوليد الطيالسيّ، وقد مرَّ في العاشر من الإيمان، ومرّ شعبة في الثالث منه، ومرّ ابن مسعود، أوله قبل ذكر حديث منه. الثالث: الوليد بن العَيْزار بن حُريث العبديّ الكوفيّ. قال ابن مَعين وأبو حاتم: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال العجلى: كوفي ثقة. روى عن أبيه وأنس وعكرمة وأبي عمرو الشيبانيّ، وعنه يونس بن أبي إسحاق وأبو يعقوب الصغير ومالك بن مغول وغيرهم. وليس في الستة الوليد بن عيزار سواه. الرابع: سعيد بن إياس، أبو عمرو الشيبانيّ الكوفيّ، قال إسماعيل بن أبي خالد عنه: تكامل شبابي يوم القادسية، فكنت ابن أربعين سنة، وكانت وقعة القادسية سنة ستة عشر، وقال أيضًا: بُعث النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنا أرعى إبلًا لأهلي

لطائف إسناده

بكاظمة. وقال ابن معين: ثقة. وقال هبة الله بن الحسن الطبريّ: مجمع على ثقته، وسماه ابن حبان في "الثقات" سعيدًا، وقال: حج في الجاهلية، وليست له صحبة. وقال ابن سعد: كان ثقة، وله أحاديث، ووثقه العجليّ أيضًا. روى عن ابن مسعود وعلي وحذيفة وأبي مسعود البدريّ وزيد بن أرقم، وروى عنه أبو إسحاق السَّبيعي والوليد بن عَيْزار والأعمش ومنصور وغيرهم. مات سنة إحدى ومئة، وهو ابن عشرين ومئة سنة. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، والإخبار بالإفراد بالماضي، وفيه القول والسماع والسؤال، ورواته ما بين بصريّ وكوفيّ. أخرجه البخاريّ هنا وفي الأدب والتوحيد والجهاد، ومسلم في الإيمان، والترمذيّ في الصلاة وفي البر والصلة، والنَّسائيّ في الصلاة. ثم قال المصنف: بابٌ الصلوات الخمس كفارة باب بالتنوين، وهذه الترجمة أخص من السابقة على التي قبلها، وسقطت الترجمة من بعض الروايات، وعليه مشى ابن بطال ومن نبعه، وزاد الكشميهنيّ على قوله كفارة: "للخطايا إذا صلاَّهن لوقتهن في الجماعة وغيرها".

الحديث السابع

الحديث السابع حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي حَازِمٍ، وَالدَّرَاوَرْدِيُّ عَنْ يَزِيدَ بن عبد الله، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهَرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ، يَغْتَسِلُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسًا، مَا تَقُولُ ذَلِكَ يُبْقِى مِنْ دَرَنِهِ؟ ". قَالُوا: لاَ يُبْقِي مِنْ دَرَنِهِ شَيْئًا. قَالَ: "فَذَلِكَ مِثْلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، يَمْحُو اللَّهُ بِهَنّ الْخَطَايَا". قوله: "أرأيتم"، هو استفهام تقرير متعلق بالاستخباريّ، أي: أخبروني هل يبقى. وقوله: "لو أن نَهْرًا"، قال الطيبيّ: لفظ لو يقتضي أن يدخل على الفعل، وأن يجاب، لكنه وضع الاستفهام موضعه تأكيدًا وتقريرًا، والتقدير: لو ثبت نهر صفته كذا لما بقي كذا، والنهر بفتح الهاء وسكونها، ما بين جنبي الوادي، سمي بذلك لسعته، وكذلك سمي النهار لسعة ضوئه. وقوله: "ما تقول"، في النسخ المعتمدة بإفراد المخاطب، والمعنى: ما تقول أيها السامع، ولأبي نعيم في المستخرج على مسلم، وكذا للإسماعيليّ والجوزقيّ: "ما تقولون" بصيغة الجمع. قال ابن مالك: فيه شاهد على إجراء فعل القول مجرى فعل الظن. وشرطه عند غير سليم أن يكون مضارعًا مسندًا إلي المخاطب متصلًا باستفهام. وفي بعض النسخ "ما يقول" يالياء التحتانية، وزعم البعض أنه غلط، وأنه لا يصح من جهة المعنى. والصواب أن له وجهًا وجيهًا، والتقدير: ما يقول أحدكم في ذلك؟! والشرط الذي ذكره ابن مالك وغيره، إنما هو لإجراء فعل القول مجرى فعل الظن، وأما إذا ترك القول على حقيقته، وهذا ظاهر بديهي. وقوله: "ذلك" الإشارة فيه إلى الاغتسال. وقوله: "يُبقي" بضم الياء من الإبقاء. وقوله: "من درنه"، زاد مسلم

رجاله سبعة

شيئًا، والدرن بالتحريك الوسخ، وقد يطلق على الحَبّ الصغار التي تحصل في بعض الأجساد. وقوله: "لا يُبقي"، بضم أوله أيضًا، وشيئًا منصوب على المفعولية، ولمسلم: "لا يَبقى" بفتح أوله، وشيءٌ بالرفع على الفاعلية. وقوله: "فذلك مثل الصلوات"، الفاء في قوله "فذلك" جواب شيء محذوف، أي: إذا تقرر ذلك عندكم فهو مثل الصلوات، إلخ، وفائدة التمثيل التأكيد وجعل المفعول كالمحسوس. قال الطيبيّ: في هذا الحديث مبالغة في نفي الذنوب، لأنهم لم يقتصروا في الجواب على لا، بل أعادوا اللفظ تأكيدًا، وقال ابن العربيّ: وجه التمثيل أن المرء كما يتدنس بالأقذار المحسوسة في بدنه وثيابه، ويطهره الماء الكثير، فكذلك الصلوات تطهير العبد من أقذار الذنوب، حتى لا تُبقي له ذنبًا إلا أسقطته. وظاهره أن المراد بالخطايا في الحديث ما هو أعم من الصغيرة والكبيرة، لكن قال ابن بطال: يؤخذ من الحديث أن المراد الصغائر خاصة؛ لأنه شبه الخطايا بالدرن، والدرن صغير بالنسبة إلى ما هو أكبر من القروح والخُرَّاجات، وهذا مبنيٌّ على أن المراد بالدرن في الحديث الحَبّ، والظاهر أن المراد به الوسخ؛ لأنه هو يناسبه الاغتسال والتنظيف. وقد جاء من حديث أبي سعيد الخُدري التصريح بذلك، وهو ما أخرجه البزار والطبراني بإسناد لا بأس به عن عطاء بن يسار، أنه سمع أبا سعيد الخدريّ يحدث أنه سمع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، يقول: "أرأيت لو أن رجلًا كان له مُعْتَمل، وبين منزله ومعتمله خمسة أنهار، فإذا انطلق إلى معتمله عمل ما شاء الله، فأصابه وسخ أو عرق، فكلما مرَّ بنهر اغتسل منه ... الحديث. ولهذا قال القرطبي: ظاهر الحديث أن الصلوات الخمس تستقل بتكفير الذنوب، وهو مشكل، لكن روى مسلم قبله حديث العلاء عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعًا: "الصلوات الخمس كفّارة لما بينها ما اجتنبت الكبائر" إلى آخر ما مرَّ مستوفى في باب "قيام ليلة القدر" من كتاب الإيمان. رجاله سبعة: الأول: إبراهيم بن حمزة، وقد مرَّ في الرابع والأربعين من الإيمان، ومرَّ

عبد العزيز بن أبي حازم في الخامس، ومرّ أبو هريرة في الثاني من الإيمان. الخامس من السند: عبد العزيز بن محمد بن عبيد بن أبي عبيد الدراوَرْدِيّ، أبو محمد، مولى جُهينة. قال مصعب الزبيريّ: كان مالك يوثق الدراورديّ. وقال أحمد بن حنبل: كان معروفًا بالطلب، وإذا حدث من كتابه فهو صحيح، وإذا حدث من كتب الناس وَهِم. وكان يقرأ من كتبهم فيخطىء، وربما قلب حديث عبد الله بن عمر يرويه عن عُبيد الله بن عمر. وقال ابن مَعين: الدراورديّ أثبت من فليح، وابن أبي الزناد، وابن أبي أويس. وقال مرة: ليس به بأس. وقال مرة: ثقة حجة. وقال أبو زرعة: سيىء الحفظ، وربما حدث من حفظه الشيء فيخطىء، وسئل أبو حاتم عن يوسف بن الماجشون والدراوردي، فقال: عبد العزيز محدث، ويوسف شيخ. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال مرة: ليس به بأس، وحديثه عن عُبيد الله بن عمر منكر. وقال ابن سعد: ولد بالمدينة ونشأ بها، وسمع بها العلم والأحاديث حتى توفي، وكان ثقة كثير الحديث، يغلط. وقال العجليّ: هذا ثقة. وقال الساجي: كان من أهل الصدق والأمانة، إلا أنه كثير الوهم. وقال أحمد: حاتم بن إسماعيل أحب إلى منه. وقال عمرو بن علي: حدث عنه ابن مهدي حديثًا واحدًا. وقال عياش بن المغيرة بن عبد الرحمن: جاء الدراورديّ إلى أبي يعرض عليه الحديث، فجعل يلحن لحنًا منكرًا، فقال له أبي: ويحك، إنك كنت إلى لسانك أحوج منك إلى هذا. قال ابن حجر في مقدمته: روى له البخاري حديثين، قرنه فيهما بعبد العزيز بن أبي حازم وغيره، وأحاديث يسيره أفرده، ولكنه أورده بصيغة التعليق في المتابعات، واحتج به الباقون. روى عن زيد بن أسلم وهشام بن عروة وربيعة وسعد بن سعيد الأنصاري وغيرهم. وروى عنه شعبة والثوري، وهما أكبر منه، وابن إسحاق، وهو من شيوخه، والشافعي وغيرهم. مات سنة سبع وثمانين ومئة. والدراورديّ نسبة إلى قرية بخراسان، وقيل: نسبة إلى دراب جرو بكسر الجيم، موضع، على غير قياس، وقياسه درابي أو جروي، والأول أكثر.

السادس: يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهادي الليثيّ، أبو عبد الله المدني. قال أحمد: لا أعلم به بأسًا. وقال ابن مَعين والنَّسائيّ: ثقة. وقال ابن أبي حازم عن أبيه: ابن الهاد أحب إليّ من عبد الرحمن بن الحارث ومحمد بن عمر بن علقمة، وهو ومحمد بن عجلان متساويان، وهو في نفسه ثقة. وذكره ابن حِبّان في "الثقات". وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث. وقال يعقوب بن سفيان: مدنيّ ثقة حسن الحديث، يروي عن الصغار والكبار. وقال العجليّ: مدنيّ ثقة. روى عن ثعلبة بن أبي مالك القُرَظيّ، وله رؤية، وعمير مولى آبي اللحم وله صحبة، والصحيح أن بينهما محمد بن إبراهيم التيميّ، وعبد الله بن خَبّاب، وعبد الله بن دينار ويحيى بن سعيد الأنصاري وغيرهم. وروى عنه شيخه يحيى بن سعيد الأنصاريّ وإبراهيم بن سعيد ومالك وعبد العزيز الدراورديّ وحَيْوة بن شريح وغيرهم. توفي بالمدينة سنة تسع وثلاثين ومئة. السابع: محمد بن إبراهيم بن الحارث بن خالد بن صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مُرّة القرشيّ التيميّ، أبو عبد الله المدنيّ، كان جده الحارث من المهاجرين الأولين. قال ابن مَعين وأبو حاتم والنَّسائيّ وابن خراش: ثقة، وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث. وقال يعقوب بن شَيْبة: كان ثقة. وقال أحمد: في حديثه شيء، يروي أحاديث مناكير أو منكرة. قال ابن حَجَر: المنكر أطلقه أحمد وجماعة على الحديث الفرد الذي لا متابع له، فيحمل هذا على ذلك. وقد احتج به الجماعة. روى عن أبي سعيد الخُدريّ، ورأى سعد بن أبي وقّاص، وروى عن أنس وجابر وعائشة وبسر بن سعيد وعطاء بن يسار وغيرهم. وروى عنه ابنه موسى ويحيى وعبد ربه وسعد بنو سعيد الأنصاري، وهشام بن عروة، والأوزاعي وغيرهم. مات سنة عشرين ومئة، وفي الستة محمد بن إبراهيم جماعة. فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع، وبالإفراد في موضع، والعنعنة في

باب في تضييع الصلاة عن وقتها

أربعة، والسماع. وفيه اثنان اسم كل واحد منهما عبد العزيز، وفيه ثلاثة تابعيون، وهم أبو سلمة ويزيد بن عبد الله ومحمد بن إبراهيم، ورواته كلهم مدنيون، وشيخ البخاري من أفراده. أخرجه البخاريّ هنا، ومسلم والنَّسائيّ في الصلاة والتّرْمِذيّ في الأمثال. ثم قال المصنف: باب في تضييع الصلاة عن وقتها ثبتت هذه الترجمة في رواية الحموي والمستملي، وسقطت للباقين.

الحديث الثامن

الحديث الثامن حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَهْدِيٌّ، عَنْ غَيْلاَنَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: مَا أَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-. قِيلَ له: الصَّلاَةُ. قَالَ: أَلَيْسَ ضَيَّعْتُمْ مَا ضَيَّعْتُمْ فِيهَا. قوله: "قيل له الصلاة"، هي شيء مما كان على عهده صلى الله تعالى عليه وسلم، وهي باقية، فكيف يصح هذا السلب العام؟ فأجاب بانهم غيروها أيضًا بأن أخرجوها عن الوقت. وهذا الذي قال ذلك لأنس يقال له أبو رافع، بَيَّن ذلك أحمد في روايته لهذا الحديث عن عثمان بن سعد "فقال أبو رافع يا أبا حمزة، ولا الصلاة، فقال له أنس: قد علمتم ما صنع الحجاج في الصلاة". وأبو رافع الذي يظهر أنه الصائغ، وقد مرَّ في الثالث والثلاثين من الغسل. وقوله: "أليس صنعتم"، بالمهملتين والنون للأكثر، وللكشميهنيّ بالمعجمة وتشديد الياء، وهي أوضح في مطابقة الترجمة، ويؤيد الأول ما مرّ آنفًا عن عثمان بن سعد، وما رواه التِّرمذيّ عن أنس، فذكر نحو هذا الحديث، وقال في آخره: "أَوَلم يصنعوا في الصلاة ما قد علمتم؟ " وقد روى ابن سعد في الطبقات سبب قول أنس هذا القول، قال ثابت البناني: كنا مع أنس بن مالك، فأخر الحجاج الصلاة، فقام أنس يريد أن يكلمه، فنهاه إخوانه شفقة عليه منه، فخرج فركب دابته، فقال في مسيره ذلك: والله لا أعرف شيئًا مما كنا عليه على عهد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، إلا شهادة أن لا إله إلا الله.، فقال رجل: فالصلاة يا أبا حمزة؟ فقال: قد جعلتم الظهر عند المغرب، أفتلك كانت صلاة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم؟ رجاله أربعة: الأول: موسى بن إسماعيل، وقد مرَّ في الخامس من بدء الوحي، ومرَّ

مهدي بن ميمون في الحادي والأربعين من كتاب الصلاة، ومرَّ غيلان بن جرير في الثامن والمئة من الوضوء، ومرَّ أنس في السادس من الإيمان. فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع، وبالإفراد في موضع، والعنعنة في موضعين، ورواته كلهم بصريُّون، وهذا الحديث من أفراد البخاريّ.

الحديث التاسع

الحديث التاسع حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ وَاصِلٍ أَبُو عُبَيْدَةَ الْحَدَّادُ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ، أَخِي عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ: سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ: دَخَلْتُ عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ بِدِمَشْقَ وَهُوَ يَبْكِي، فَقُلْتُ: مَا يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ: لاَ أَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا أَدْرَكْتُ إِلاَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ وَقَدْ ضُيِّعَتْ. قوله: "أخو عبد العزيز" بالرفع، أي: هو أخو عبد العزيز، وللكشميهنيّ: "أخي عبد العزيز" وهو بدل من قوله: "عثمان". وقوله: "بدمشق"، هي بكسر الدال وفتح الميم وسكون الشين المعجمة، قيل: سميت بدمشق بن نمروذ بن كنعان، وهو الذي بناها، وكان مع إبراهيم عليه السلام، كان دفعه نمروذ إليه بعد أن نجّاه الله تعالى من النار. وقيل: بناها دماشق بن قانىء بن مالك بن أرْفَخْشَذْ بن سام بن نوح عليه السلام. وقيل فيها غير ذلك. وكان قدوم أنس دمشق في إمارة الحجاج على العراق، قدمها شاكيًا من الحجاج للخليفة، وهو إذ ذاك الوليد بن عبد الملك. وقوله: "مما أدركت"، أي: في عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. وقوله: "إلا هذه الصلاةَ" بالنصب، والمراد أنه لا يعرف شيئًا موجودًا من الطاعات معمولًا به على وجهه غير الصلاة. وقوله: "وهذه الصلاة قد ضيعت"، قال المهلب: المراد بتضييعها تأخيرها عن وقتها المستحب، لأنهم أخرجوها عن الوقت. وهذا مع عدم مطابقته للترجمة مخالف للواقع، فقد صح أن الحجاج وأميره الوليد وغيرهما، كانوا يؤخرون الصلاة عن وقتها، والآثار في ذلك مشهورة، فمنها ما رواه عبد الرزاق عن عطاء، قال: أخر الوليد الجمعة حتى أمسى، فجئت فصليت الظهر قبل أن أجلس، ثم صليت العصر وأنا جالس

رجاله خمسة

إيماءً وهو يخطب، وإنما فعل ذلك عطاء خوفًا على نفسه من القتل. ومنها ما رواه أبو نعيم شيخ البخاري عن أبي بكر بن عُتبة، قال: صليت إلى جنب أبي جُحيفة فمسّى الحجاج بالصلاة، فقام أبو جحيفة فصلى. ومن طريق ابن عمر أنه كان يصلي مع الحجاج، فلما أخر الصلاة ترك أن يشهدها معه. وعن محمد بن أبي إسماعيل قال: كنت بمِنىً وصحفٌ تُقرأ للوليد، فأخروا الصلاة، فنظرت إلى سعيد بن جبير وعطاء يومئان إيماءً وهما قاعدان. رجاله خمسة: الأول: عمرو بن زُرارة، وقد مرَّ في التاسع والثمانين من أبواب القبلة. والثاني: عبد الواحد بن واصل السَّدوسيّ، مولاهم أبو عُبيدة الحداد البصريّ، سكن بغداد. قال أحمد: لم يكن صاحب حفظ، كان صاحب شيوخ وكان كتابه صحيحًا. وقال ابن معين وأبو داود: ثقة، وذكره ابن حِبّان في "الثقات"، ووثقه الدارقطنيّ والخطيب، وحكى الأزديّ عن عبد الله بن أحمد، عن أبيه أنه ضعّفه. ثم قال الأزديّ: ما أقرب ما قال أحمد؛ لأن له أحاديث غير مرضية عن شعبة وغيره، إلا أنه في الجملة قد حمل عنه الناس، ويحتمل لصدقه. قال ابن حجر: له في الصحيح حديث واحد في الصلاة، من روايته عن عثمان بن أبي رواد، عن الزُّهريّ، عن أنس، تابعه فيه محمد بن بكر البرسانيّ عن عثمان. وروى له أبو داود والنَّسائيّ والتِّرمذيّ. روى عن ابن عون وعثمان بن سعد الكاتب وعثمان بن أبي رواد وبَهْز بن حكيم وغيرهم. وروى عنه أحمد وأبو خَيْثمة ويحيى بن مَعين وعمرو بن زُرارة وأبو عبيدة بن أبي السفر وغيرهم. مات سنة تسعين ومئة، وليس في الستة عبد الواحد بن واصل. وفي الرواة واحد يكنى أبا واصل، ذكره الأزديّ في "الضعفاء". الثالث: عثمان بن أبي رواد، واسمه ميمون الأزديّ العَتَكيّ مولاهم، أبو عبد الله البصريّ، أخو جَبلة وعبد العزيز. قال ابن مَعين: ثقة، وذكره ابن حبّان

في "الثقات". وقال أحمد والدارقطنيّ: ثقة. روى له البخاري حديثًا واحدًا في الصلاة، وهو هذا، روى عن الزُّهريّ وداود بن أبي هند، وروى عنه ابنه يحيى وشعبة وأبو عبيدة الحداد ومحمد بن بكر البرسانيّ. الرابع: ابن شهاب، وقد مرَّ في الثالث من الوحي، ومرَّ أنس في السادس من الإيمان، وفي البخاريّ ذكر عبد العزيز بن أبي رواد، فأذكره تتميمًا للفائدة، فهو عبد العزيز بن أبي رواد، واسم أبي رواد ميمون، وقيل أيمن بن بدر المكيّ، مولى المهلب بن أبي صفرة. قال القطان: عبد العزيز ثقة في الحديث، ليس ينبغي أن يترك حديثه لرأي أخطأ فيه. وقال أحمد: كان رجلًا صالحًا، وكان مرجئًا، وليس هو في التثبت مثل غيره. وقال ابن مَعين وأبو حاتم: صدوق ثقة في الحديث، متعبد. وقال النسائيّ: ليس به بأس. وقال يحيى بن سليم الطائفى: كان يرى الإِرجاء، وقال ابن المبارك: كان يتكلم ودموعه تسيل على خده. وقال شعيب بن حرب: كنت إذا نظرت إلى عبد العزيز رأيت كأنه يطَّلع إلى القيامة. وقال حفص بن عمرو بن رفيع: كنا عند ابن جريج، فطلع عبد العزيز، وكان ابن جريج يوقره ويعظمه، فقال له قائل: يا أبا عبد المجيد، من الرافضيّ؟ فقال: من كره أحدًا من الصحابة. فقال ابن جريج: الحمد لله، كان الناس يقولون في هذا الرجل، ولقد كنت أعلم. وقال الحاكم: ثقة عابد مجتهد شريف النسب. وقال العجلي: ثقة. وقال الساجى: صدوق يرى الإرجاء. وقال الدارقطني: متوسط في الحديث، وربما وَهِمَ في حديثه. وقال الجوزانيّ: كان غاليًا في الإرجاء. وقال ابن سعد: له أحاديث، وكان مرجئًا، وكان معروفًا بالورع والصلاح والعبادة، وخليفة في التاريخ والطبقات. وقال ابن عديّ: في بعض أحاديثه ما لا يتابع عليه، وقال ابن حبان في الضعفاء، يكنى أبا عبد الرحمن، يروي عن عطاء، كان يحدث على الوهم والحُسْبان فسقط الاحتجاج به. وقال علي بن الجُنيد: كان ضعيفًا وأحاديثه منكرات. روى عن نافع وعكرمة وسالم بن عبد الله وأبي سلمة والضحاك بن مزاحم. وروى عنه ابنه عبد المجيد وابن مهديّ والقطّان وابن المبارك وعبد الرزاق ووكيع وغيرهم. مات بمكة سنة تسع وخمسين ومئة.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع، والإخبار بصيغته في موضع، والعنعنة في موضع، والقول في خمسة، ورواته ما بين مدنيّ ونيسابوريّ وخراسانيّ وبصريّ. ثم قال: وقال بكر بن خلف: حدثنا محمد بكر البرسانيّ: أخبرنا عثمان بن أبي رواد نحوه. قوله: "نحوه"، أي: نحو سياق الذي قبله، إلا أن فيه زيادة: "لا أعرف شيئًا مما كنا عليه في عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم"، وإطلاق أنس محمول على ما شاهده من أمراء الشام والبصرة خاصة، وإلا فسيأتي في هذا الكتاب أنه قدم المدينة، فقال: ما أنكرت شيئًا إلا أنكم لا تقيمون الصفوف. والسبب فيه أنه قدم المدينة وعمر بن عبد العزيز أميرها حينئذ، وكان على طريقة أهل بيته حتى أخبره عروة عن بشير بن أبي مسعود، عن أبيه بالنص على الأوقات، فكان يحافظ بعد ذلك على عدم إخراج الصلاة عن وقتها، كما مرّ في الحديث الأول من مواقيت الصلاة، ومع ذلك فكان يراعي الأدب معهم، فيؤخر الظهر إلى آخر وقتها. وقد أنكر ذلك أنس أيضًا، كما في حديث أبي أمامة بن سهل، عنه. وهذا التعليق وصله الإِسماعيلي، ورواه أبو نعيم عن أبي بكر بن خلاد. ورجاله ثلاثة: الأول: بكر بن خلف البصريّ أبو بشر، خَتَن أبي عبد الرحمن المقري. قال ابن مَعين: ما به بأس. وفي رواية عنه: صدوق، وقال أبو حاتم: ثقة، وقال أبو داود: وأمرني أحمد أن أكتب عنه. وقال عُبيد الله بن واصل: رأيت محمد بن إسماعيل يختلف إلى محمد بن المهلب يروي عنه أحاديث أبي بشر بن خلف. وكنت أتوهم أن أبا بشر قد مات، فلما قدمت مكة إذا هو حيّ، فلزمته. وذكره ابن حبان في "الثقات". روى عن غندر ومحمد بن بكر البرسانيّ وابن عُيينة ومعمر بن سليمان وجماعة. وروى عنه البخاري تعليقًا، وأبو داود وابن ماجه وعبد الله بن أحمد وغيرهم. مات سنة أربعين ومئة.

باب المصلي يناجي ربه عز وجل

الثاني: محمد بن بكر بن عثمان البرسانيّ أبو عبد الله. ويقال: أبو عثمان البصريّ. قال أحمد: صالح الحديث. وقال ابن مَعين: حدثنا البرسانيّ، وكان والله ظريفًا صاحب أدب. وفي رواية عنه: ثقة، وقال أبو داود والعجليّ: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن سعد: كان ثقة. وقال ابن قانع: ثقة، وقال أبو حاتم: شيخ محله الصدق. وقال النَّسائيّ: ليس بالقوي. وقال ابن عمار: لم يكن صاحب حديث، تركناه، لم نكن نسمع منه. قال ابن حَجَر: ليس له في البخاريّ سوى حديث واحد في كتاب المغازي، وهو حديثه عن ابن جريج، عن عطاء، عن جابر، ذكره في موضعين. وقال في الصلاة: قال بكر بن خلف ... إلخ، فذكر حديثًا تابعه عليه عنده أبو عُبيدة الحداد عن عثمان، وعلق له آخر في الحج، قال فيه: وقال محمد بن بكر عن ابن جريج: .... فذكر حديثًا كان أخرجه عن مكيّ بن إبراهيم، عن ابن جريج. وروى له الباقون، وروى عن أيمن بن نابل، وعثمان بن سعد الكاتب وابن جريج وشعبة وحماد بن سَلمَة وعثمان بن أبي رواد وغيرهم. وروى عنه أحمد وعلي بن المَدِينيّ وإسحاق ويحيى بن معين وأبو بكر بن أبي شيبة وغيرهم. مات بالبصرة في ذي الحجة سنة ثلاث ومئتين. الثالث: عثمان بن أبي رواد، وقد مرَّ في الذي قبله. ثم قال المصنف: باب المصلي يناجي ربه عَزَّ وَجَلَّ والمناجي هو المخاطب لغيره والمحدِّث له. ومناسبة هذه الترجمة لما قبلها من جهة أن الأحاديث السابقة دلت على مدح من أوقع الصلاة في وقتها، وذمّ من أخرجها عن وقتها، ومناجاة الرب جل جلاله أرفع درجات العبد، فأشار المصنف بإيراد ذلك إلى الترغيب في المحافظة على الفرائض في أوقاتها لتحصيل هذه المنزلة السنية التي يُخشى فواتها على من قصّر في ذلك.

الحديث العاشر

الحديث العاشر حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا صَلَّى يُنَاجِي رَبَّهُ، فَلاَ يَتْفِلَنَّ عَنْ يَمِينِهِ، وَلَكِنْ تَحْتَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى". قوله: "إذا صلى يناجي ربه"، زاد الأصيلي: "عَزَّ وَجَلَّ"، واعلم أنه لا يتحقق المناجاة إلا إذا كان اللسان معبرًا عما في القلب، فالغفلة صدّ. ولا ريب أن المقصود من القراءة والأذكار مناجاته تبارك وتعالى، فإذا كان القلب محجوبًا بحجاب الغفلة، غافلًا عن جلال الله عَزَّ وَجَلَّ وكبريائه، وكان اللسان يتحرك بحكم الله تعالى، فما أبعد ذلك عن القبول، وعن بشر الحافي، رحمه الله تعالى، مما نقل الغزالي: من لم يخشع فسدت صلاته. وعن الحسن البصريّ، رضي الله تعالى عنه: صلاة لا يحضر فيها القلب فهي إلى العقوبة أسرع، سلّمنا أن الفقهاء صححوها، فهلاّ يأخذ بالاحتياط ليذوق لذة المناجاة؟ وقوله: "لا يتفلنَّ عن يمينه"، بكسر الفاء، ويجوز ضمُّها. رجاله أربعة: الأول: مسلم بن إبراهيم. والثاني: هشام الدستوائي، وقد مرّا في السابع والثلاثين من الإيمان، ومرّ قتادة وأنس في السادس منه. ثم قال: وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ: لاَ يَتْفِلُ قُدَّامَهُ أَوْ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمَيْهِ. أي: بالإسناد المذكور. وقوله فيها: "قدامه أو بين يديه"، شك من الراوي، وطريقه موصولة عند الإمام أحمد وابن حبّان. وسعيد: المراد به ابن

أبي عَروبة، وقد مرّ في الحادي والعشرين من الغُسل، وقتادة قد ذكر محل ذكره. ثم قال: وَقَالَ شُعْبَةُ: لاَ يَبْزُقُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلاَ عَنْ يَمِينِهِ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ. أي: عن قتادة بالإسناد أيضًا، وأراد بهذين التعليقين بيان اختلاف ألفاظ أصحاب قتادة في رواية هذا الحديث، ورواية شعبة أتم الروايات، لكن ليس فيها المناجاة، وهذا وصله البخاري فيما مرَّ عن آدم، عن شعبة، وشعبة قد مرّ في الثالث من الإيمان. ثم قال: وَقَالَ حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يَبْزُقْ فِي الْقِبْلَةِ وَلاَ عَنْ يَمِينِهِ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ"، وهذا التعليق أيضًا وصله البخاريّ في أبواب المساجد، وحميد المراد به الطويل، وقد مرّ في الثاني والأربعين من الإيمان.

الحديث الحادي عشر

الحديث الحادي عشر حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "اعْتَدِلُوا فِي السُّجُودِ، وَلاَ يَبْسُطْ ذِرَاعَيْهِ كَالْكَلْبِ، وَإِذَا بَزَقَ فَلاَ يَبْزُقَنَّ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلاَ عَنْ يَمِينِهِ، فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ". قوله: "اعتدلوا في السجود"، أي: كونوا متوسطين بين الافتراش والقَبْض، وقال ابن دقيق العبد: لعل المراد بالاعتدال هنا وضع هيئة السجود على وِفق الأمر، لأن الاعتدال الحسي المطلوب في الركوع لا يتأتّى هنا، فإنه هناك استواء الظهر والعنق، والمطلوب هنا ارتفاع الأسافل على الأعالي. قال: وقد ذكر الحكم هنا مقرونًا بعلته، فإن التشبه بالأشياء الخسيسة يناسب تركه في الصلاة، والهيئة المنهي عنها أيضًا مشعرة بالتهاون وقلة الاعتناء بالصلاة. وقوله: "ولا يبسط ذراعيه كالكلب"، وفي رواية: "ولا ينبسط" بنون ساكنة قبل الموحدة. وللحمويّ: "ولا يبتسط" بمثناة بعد موحدة، وفي الرواية الآتية في أبواب صفة الصلاة: "انبساط الكلب" بالنون، وهي ظاهرة في الثانية، وفي الثالثة: "ابتساط" بالمثناة، والتقدير في الأول: ولا يبسط ذراعيه. فينبسط انبساط الكلب. وقوله: "فإنما يناجي ربه". وقال الكرمانيّ ما حاصله: تقدم أن علة النهي عن البزاق عن اليمين أن عن اليمين مَلَكًا، وهنا علل بالمناجاة، ولا تنافي بينهما؛ لأن الحكم الواحد يجوز أن تكون له علّتان، سواء كانتا مجتمعتين أو منفردتين، والمناجي تارة يكون قدام من يناجيه، وهو الأكثر، وتارة يكون عن يمينه. رجاله أربعة: الأول: حفص بن عمر، وقد مرَّ في الثالث والثلاثين من كتاب الوضوء،

باب الإبراد بالظهر في شدة الحر

ومرّ يزيد بن إبراهيم في الثالث من كتاب الصلاة، ومرّ قتادة وأنس في السادس من الإيمان. ثم قال المصنف: باب الإبراد بالظهر في شدة الحر قدم المصنف باب الإبراد على باب وقت الظهر؛ لأن لفظ الإبراد يستلزم أن يكون بعد الزوال لا قبله، لأن وقت الإبراد هو ما إذا انحطت قوة الوهج من حر الظهيرة، فكأنه أشار إلى أول وقت الظهر، وأشار إلى حديث جابر بن سمرة، قال: كان بلال يؤذن الظهر إذا دحضت الشمس، أي: مالت.

الحديث الثاني عشر

الحديث الثاني عشر حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بن بلال، قَالَ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ: حَدَّثَنَا الأَعْرَجُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَنَافِعٌ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: "إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا عَنِ الصَّلاَةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ". قوله: "وغيره"، هو أبو سلمة بن عبد الرحمن على ما قاله في الفتح ظنًّا منه. وقوله: "ونافع"، هو بالرفع عطفًا على الأعرج. وقوله: "حدثاه"، أي: أبا هريرة وابن عمر حدثاه، أي: صالحًا، أي: حدثا مَنْ حَدَّث صالح بن كيسان، ويحتمل أن يكون ضمير "أنهما" يعود على الأعرج ونافع، أي: أن الأعرج ونافعًا حدثاه، أي: صالح بن كيسان عن شيخهما بذلك، وفي رواية الإسماعيلي أنهما حدثا بغير ضمير، فلا يحتاج إلى التقدير المذكور. وقوله: "إذا اشتد الحر"، أصله اشتدّ بوزن افتعل من الشدة، ثم أدغمت إحدى الدالين في الأُخرى، ومفهومه أن الحر إذا لم يشتد لم يشرع الإبراد، وكذا لا يشرع في البرد من باب أولى. وقوله: "فأبردوا" بهمزة قطع، أي: أخّروا إلى أن يبرد الوقت. يقال: أبْرَدَ إذا دخل في البرد، كأظهر إذا دخل في الظهيرة. ومثله في المكان، يقال: أنجد إذا دخل نجدًا، وأتهم إذا دخل تهامة، والأمر بالإبراد أمر استحباب، وقيل أمر إرشاد، وقيل للوجوب. حكاه عياض وغيره، وغفل الكرمانيّ فحكى الإجماع على عدم الوجوب. نعم قال جمهور أهل العلم: يستحب تأخير الظهر في شدة الحر إلى أن يبرد الوقت وينكسر الوهج، واختلف العلماء في غاية الإبراد،

فقيل: حتى يصير الظل ذراعًا بعد ظل الزوال، وقيل: ربع قامة، وقيل: نصفها، وقيل: ثلثها. وقال الباجيّ: نحو الذراعين بعد ظل الزوال. ابن حبيب: فوقهما بيسير، ابن عبد الحكم: أن لا يخرجها عن وقتها. ونزَّلها المازريّ على اختلاف الأوقات، والجاري على القواعد أنه يختلف باختلاف الأحوال، لكن يشترط أن لا يمتد إلى آخر الوقت. وأما ما عند المصنف في الأذان عن شعبة بلفظ: "حتى ساوى الظلُّ التلول"، فظاهره يقتضي أنه أخرها حتى صار ظل كل شيء مثله، ويحتمل أن يراد بهذه المساواة ظهور الظل بجنب التل بعد أن لم يكن ظاهرًا، فساواه في الظهور لا في المقدار، أو يقال: لعل ذلك في السفر، فلعله أخر الظهر حتى يجمعها مع العصر، وخص بعضهم الإبراد بالجماعة، فأما المنفرد فالتعجيل في حقه أفضل، وهذا مشهور مذهب المالكية، وبه قال الشافعيّ أيضًا، لكن خصه بالبلد الحار، وقيد الجماعة بما إذا كانوا ينتابون مسجدًا من بُعد، فلو كانوا مجتمعين أو كانوا يمشون في كِنّ، فالأفضل في حقهم التعجيل وعند أبي حنيفة وأحمد وإسحاق والكوفيين يؤخر حتى يذهب الحر من غير تخصيص، ولا قيد، وكذلك المالكية لم يقيدوا بهذا. واستدل التِّرمذيّ على عدم التخصيص بحديث أبي ذَرٍّ الآتي بعد هذا، لأن في روايته أنهم كانوا في سفر، وتأتي هذه الرواية قريبًا عند المصنف. قال: فلو كان على ما ذهب إليه الشافعي لم يأمر بالإِبراد، ولاجتماعهم في السفر، وكانوا لا يحتاجون إلى أن ينتابوا من البعد. قال الترمذي: والأول أَوْلى للاتباع، وتعقبه الكرمانيّ بأن العادة في العسكر الكثير تفرقتهم في أطراف المنزل للتخفيف، وطلب الرعي، فلا نسلم اجتماعهم في تلك الحالة، وأيضًا فلم تجر عادتهم باتخاذ خباء كبير تجمعهم، بل كانوا يتفرقون في ظلال الشجر، وليس هناك كِنّ يمشون فيه، فليس في سياق الحديث ما يخالف ما قاله الشافعيّ، وغايته أنه استنبط من النص العام، وهو الأمر بالإبراد معنى يخصه، وذلك جائز على الأصح في الأصول، لكنه مبني على أن العلة في ذلك تَأَذِّيهم بالحر في

طريقهم، وللمتمسك بعمومه أن يقول: العلة فيه تأذيهم بحر الرمضاء في جِباههم حالة السجود، ويؤيده حديث أنس: "كنا إذا صلينا خلف النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بالظهائر، سجدنا على ثيابنا اتقاء الحر" رواه أبو عَوانة في صحيحه بهذا اللفظ، وأصله في مسلم. وفي حديث أنس أيضًا في الصحيحين نحوه. ويأتي قريبًا. والجواب عن ذلك أن العلة الأُولى أظهر، فإن الإبراد لا يزيل الحر من الأرض، وذهب بعضهم إلى أن تعجيل الظهر أفضل مطلقًا. وقالوا: معنى أبردوا: صلوا في أول الوقت أخذًا من برد النهار، وهو أوله، وهذا تأويل بعيد، ويرده قوله: "فإن شدة الحر من فيح جهنم" إذ التعليل بذلك يدل على أن المطلوب التأخير. وحديث أبي ذَرٍّ الآتي قريبًا صريح في ذلك، حيث قال: انتظر، والحامل لهم على ذلك حديث خبَّاب: "شكونا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حر الرمضاء في جباهنا وأَكُفِّنا، فلم يَشْكُنا"، أي: بضم الكاف، يعني: فلم يُزِل شكوانا وهو حديث صحيح رواه مسلم. وتمسكوا بالأحاديث الدالة على فضيلة أول الوقت، وبأن الصلاة حينئذ أكثر مشقة، فتكون أفضل. والجواب عن حديث خبَّاب أنه محمول على أنهم طلبوا تأخيرًا زائدًا عن وقت الإبراد، وهو زوال حر الرمضاء، وذلك يستلزم خروج الوقت، فلذلك لم يجبهم. قال المازريّ، وهذا هو أحسن الأجوية. وقيل: إنه منسوخ بأحاديث الإبراد، فإنها متأخرة عنه، واستدل الطحاويّ لذلك بحديث المغيرة بن شعبة. قال: "كنا نصلي مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الظهر بالهاجرة، ثم قال لنا: "أبردوا بالصلاة ... " الحديث، وهو حديث رجاله ثقات، رواه أحمد وابن ماجه، وصححه ابن حبان، ونقل الخلاّل عن أحمد أنه قال: هذا آخر الأمرين من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. وجمع بعضهم بين الحديثين بأن الإبراد رخصة، والتعجيل أفضل. وهو قول من قال إنه أمر إرشاد، وعكسه بعضهم فقال: الإبراد أفضل، وحديث خبَّاب يدل على الجواز، وهو الصارف للامر عن الوجوب، وفيه نظر؛ لأن ظاهره

المنع من التأخير. وقيل: المعنى قول خبَّاب: فلم يُشْكِنا، أي: فلم يحوجنا إلى شكوى، بل أذن لنا في الإِبراد، ويردّه أن في الخبر زيادة رواها ابن المنذر بعد قوله: "فلم يشكنا"، وقال: إذا زالت الشمس فصلوا. قلت: يكفي من رد هذا قول خبّاب: "شكونا" فكيف يقال: لم يحوجهم إلى الشكوى؟ والجواب عن أحاديث أول الوقت أنها عامة أو مطلقة، والأمر بالإبراد خاص، فهو مقدم، ولا التفات إلى من قال التعجيل أكثر مشقة فيكون أفضل، لأن الأفضلية لم تنحصر في الأشق، بل قد يكون الأخف أفضل كما في قصر الصلاة في السفر. وقوله: "بالصلاة"، كذا للأكثر، والباء للتعدية، وقيل زائدة، وفي رواية الكشميهني: "عن الصلاة"، فقيل: زائدة أيضًا، أو عن بمعنى الباء، كقوله تعالى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا}، أو هي للمجاوزة، أي: تجاوزوا وقتها المعتاد إلى أن تنكسر شدة الحَر، أو ضَمَّن أبردوا معنى التأخير، فعدى بعن، أي: إذا اشتد الحر فتأخروا عن الصلاة مبردين، أو أبردوا متأخرين عنها. وحقيقة التضمين أن يقصد بالفعل معناه الحقيقي مع فعل آخر يناسبه، وقد استشكل هذا بأن الفعل المذكور إن كان في معناه الحقيقي، فلا دلالة على الفعل الآخر، وإن كان في معنى الفعل الآخر فلا دلالة على معناه الحقيقي، وان كان فيهما جميعًا لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز. وأجيب بأنه في معناه الحقيقي مع حذف حال مأخوذ من الفعل الآخر، بمعونة القرينة اللفظية. وقد يعكس كما مثلناه، ومنه قوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ}، أي: لتكبروه حامدين على ما هداكم، أو لتحمدوا الله مكبرين على ما هداكم، وكقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ}، أي: حال كونهم خارجين عن أمره، فإن قيل: صلة المتروك تدل على زيادة القصد إليه، فجعْله أصلًا، وجعْل المذكور حالًا وتبعًا أَوْلى، فالجواب أن ذكر صلته يدل على اعتباره في الجملة، لا على زيادة القصد إليه، إذ لا دلالة بدونه، فينبغي جعل الأول أصلًا، والتبع حالًا. وقوله: فإن شدة الحر من فيح جهنم،

رجاله ثمانية

تعليل لمشروعية التأخير المذكور، وهل الحكمة فيه دفع المشقة، لكونها قد تسلب الخشوع، وهذا أظهر، أو كونها الحالة التي ينتشر فيها العذاب؟ ويؤبده حديث عمرو بن عنبسة عند مسلم، حيث قال له: "اقصر عن الصلاة عند استواء الشمس، فإنها ساعة تسجر فيها جهنم"، وقد استشكل هذا بأن الصلاة سبب الرحمة، ففعلها مظنة لطرد العذاب، فكيف أمر بتركها؟ وأجيب عنه بأن التعليل إذا جاء من جهة الشارع وجب قبوله، وإن لم يفهم معناه. واستنبط الزين بن المنير معنى يناسبه، فقال: وقت ظهور الغضب لا ينجح فيه الطلب إلا ممن أذن له فيه، والصلاة لا تنفك عن كونها طلبًا ودعاء، فناسب الاقتصار عنها حينئذ، واستدل بحديث الشفاعة، حيث اعتذر الأنبياء كلهم للأمم بأن الله غضب غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله، سوى نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم، فلم يعتذر، بل طلب لكونه أذن له فيه. قلت: ما قاله يلزم منه أن وقت نزول العذاب، ليس وقت دعاء وتضرع إلى الله تعالى، بدفع العذاب والبلاء، وهذا لا يقوله أحد فليتأمل، ويمكن أن يقال: إن سجرهم جهنم سبب فيحها، وفيحها سبب وجود شدة الحر، وهي مظنة المشقة التي هي مظنة سلب الخشوع، فناسب أن لا يُصلّى فيها، لكنْ يرد عليه أن سَجْرها مستمر في جميع السنة، والإبراد مختص بشدة الحرّ فهما متغايران، فحكمة الإبراد دفع المشقة، وحكمة الترك وقت سجرها لكونه وقت ظهور أثر الغضب. وقوله: "من فيح جهنم"، أي: من سعة انتشارها وتنفسها، ومنه مكان أفيح، أي: متسع، وهذا كناية عن شدة استعارها، وظاهره أن مثار وهج الحر في الأرض من فيح جهنم حقيقة. وقيل: هو من مجاز التشبيه، أي: كأنه نار جهنم في الحر، والأول أولى، ويؤيده الحديث الآتي قريبًا: "اشتكت النار إلى ربها، فأذن له بنَفَسَيْنِ". رجاله ثمانية: الأول: أيوب بن سليمان بن بلال التيميّ، مولاهم أبو يحيى المدنيّ، ذكره

ابن حبان في "الثقات"، وقال: سمع مالكًا، وقال أبو داود: ثقة، وقال الدارقطني: ليس به بأس. وقال الساجي وأبو الفتح: يحدث بأحاديث لا يتابع عليها، ثم ساق الأزدي له أحاديث غرائب، قال ابن حجر والأزديّ: لا يعرج على قوله، وأفرط ابن عبد البر فقال في "التمهيد": إنه ضعيف، ولم يسبقه أحد من الأئمة إلى ذلك، روى عنه البخاري حديثين: أحدهما في الصلاة، والآخر في الاعتصام. روى له أصحاب السنن. وعن ابن أبي حازم حكاية. وروى عنه النجار، وروى له أبو داود والتِّرمذيّ والنَّسائيّ بواسطته، وروى عنه أبو حاتم والذهليّ. مات سنة أربع وعشرين ومئتين. الثاني: عبد الحميد بن أبي أُويس أبو بكر، وقد مرَّ في الحادي والستين من العلم، ومرَّ سليمان بن بلال في الثاني من الإيمان، وكذلك أبو هريرة، ومرَّ الأعرج في السابع منه، ومرَّ عبد الله بن عمر في أوله، قبل ذكر حديث منه. ومرّ صالح بن كيسان في السابع من بدء الوحي، ومرَّ نافع مولى ابن عمر في الثالث والسبعين من العلم. فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، وبصيغة التثنية من الماضي في موضع واحد، والعنعنة في أربعة، والقول في ثلاثة. ورواته كلهم مدنيون، وفيه ثلاثة من التابعين وصحابيان.

الحديث الثالث عشر

الحديث الثالث عشر حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْمُهَاجِرِ أَبِى الْحَسَنِ، سَمِعَ زَيْدَ بْنَ وَهْبٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ أَذَّنَ مُؤَذِّنُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- الظُّهْرَ، فَقَالَ: أَبْرِدْ أَبْرِدْ، أَوْ قَالَ: انْتَظِرِ انْتَظِرْ. وَقَالَ: شِدَّةُ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا عَنِ الصَّلاَةِ. حَتَّى رَأَيْنَا فَيْءَ التُّلُولِ. قوله: "عن أبي ذر" رواية عند المصنف في صفة النار: "سمعت أبا ذرٍّ"، وقوله: "أذن مؤذن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم" وهو بلال، فقد وقع التصريح به عن شعبة عند أبي بكر بن أبي شيبة والتِّرمذيّ وأبي عَوانة والطحاويّ. وقوله: "الظهرَ" بالنصب، أي: أذّن وقت الظهر، ورواه الإسماعيليّ، بلفظ: "أراد أن يؤذن بالظهر". وقوله: "أبردْ أبردْ"، ظاهره الأمر بالإِبراد، وقع بعد تقدم الأذان منه، وسيأتي في الباب الذي بعده: "فأراد أن يؤذن للظهر"، وظاهره أن ذلك وقع قبل الأذان، فيجمع بينهما على أنه شرع في الأذان، فقيل له: أبردْ، فترك الأذان، فمعنى أذَّنَ: شرع في الأذان، ومعنى أراد أن يؤذن، أي: يتم الأذان. وقوله: "حتى رأينا فيء التلول" هكذا وقع مؤخرًا عن قوله: "شدة الحر" إلى آخره، وفي غير هذه الرواية وقع ذلك عقب قوله: "أبردوا" وهو أوضح في السياق، لأن الغاية متعلقة بالإِبراد. والفيء بفتح الفاء وسكون الياء بعدها همزة، هو ما بعد الزوال من الظل، والظل أعم منه، يكون لما قبل الزوال ولما بعده، والتلول: جمع تلّ بفتح التاء وتشديد اللام، كل ما اجتمع على الأرض من تراب أو رمل أو نحو ذلك، وهي في الغالب منبطحة غير شاخصة، فلا يظهر لها ظل إلا إذا ذهب أكثر وقت الظهر، بخلاف الشاخص المرتفع، لكن دخول

رجاله ستة

وقت الظهر لابد فيه من فيء، فالوقت لا يتحقق دخوله إلا عند وجوده، فيحمل الفيء هنا على الزائد على هذا المقدار، والغاية في قوله: "حتى رأينا"، متعلقة بقوله: "فقال له"، أي: كان يقول له في الزمان الذي قبل الرؤية: أبرد، حتى رأينا، أو متعلقة بأبردْ، أي: قال له: أبردْ حتى ترى، أو متعلقة بمقدر، أي: قال له: أبردْ فأبردَ إلى أنْ رأينا. رجاله ستة: الأول: محمد بن بشّار، وقد مرَّ في الرابع عشر من العلم، ومرَّ غندر في الخامس والعشرين من الإيمان، ومرّ شعبة في الثالث منه، ومرّ أبو ذر في الثالث والعشرين منه. الخامس من السند: مهاجر، أبو الحسن التيميّ الكوفيّ الصائغ، مولى بني تيم الله، قال أحمد وابن معين والنَّسائيّ: ثقة، وقال أبو حاتم: لا بأس به، وحدث شعبة عنه، فأحسن الثناء عليه. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال العجليّ ويعقوب بن سفيان: كوفيّ ثقة. روى عن ابن عباس والبراء بن عازب ورجل من المخضرمين له صحبة، وزيد بن وهب وغيرهم. وروى عنه شُعبة والثَّوريّ وأبو معاوية النخعيّ ومسعر ومالك بن مغول وغيرهم. السادس: زيد بن وهب الجهنيّ أبو سليمان الكوفيّ، رحل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقبض وهو في الطريق. قال الأعمش: إذا حدثك زيد بن وهب عن أحد فكأنك سمعته من الذي حدثك عنه، وقال ابنُ معين: ثقة، وقال ابن خِراش: كوفي ثقة، دخل الشام، وروايته عن أبي ذَرٍّ صحيحة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن يحيى: قد كان ثقة كثير الحديث. قال العجلي: ثقة، وقال ابن عبد البر في الاستيعاب، وابن مَنده: أسلم في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهاجر إليه فلم يدركه. وقال يعقوب بن سفيان: في حديثه خلل كثير، ثم ساق من روايته قول عمر في حديثه: "يا حذيفة، بالله أنا من المنافقين؟ " قال الفَسَويّ: وهذا محال، قال ابن حَجَر: هذا تعنت زائد، وما بمثل هذا تُضَعّف الأثبات، ولا ترد الأحاديث الصحيحة، فهذا صدر من عمر عند غلبة الخوف، وعدم أمن المكر،

لطائف إسناده

فلا يلتفت إلى هذه الوساوس الفاسدة في تضعيف الثقات. روى عن عمر وعثمان وعلي وأبي ذَرٍّ وابن مسعود وحذيفة وأبي الدرداء وغيرهم. وروى عنه إسحاق السَّبيعيّ والأعمش والحكم بن عتيبة وطلحة بن مصرف وحبيب بن أبي ثابت وغيرهم. مات سنة ست وتسعين. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، والعنعنة في موضعين، والسماع، ورواته ما بين بصريّ وكوفيّ. أخرجه هنا وفي الصلاة أيضًا، وفي صفة النار، ومسلم وأبو داود والنَّسائيّ في الصلاة.

الحديث الرابع عشر

الحديث الرابع عشر حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَفِظْنَاهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلاَةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ. وَاشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا، فَقَالَتْ: يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا. فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ، نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ". قوله: "عن سعيد"، كذا رواه أكثر أصحاب سفيان عنه، ورواه أبو العباس السَّرَّاج، عنه، عن سعيد، أو أبي سلمة، أحدهما أو كلاهما، ورواه أبو العباس أيضًا عن أبي سلمة وحده، والطريقان محفوظان. وقوله: "واشتكت النار"، في رواية الإسماعيليّ قال: "واشتكت النار"، وفاعل قال هو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو بالإِسناد المذكور قبلُ، ووهم من جعله موقوفًا أو معلقًا. واختُلِف في هذه الشكوى هل هي بلسان القائل؟ ولا تحتاج إلى أكثر من وجود الكلام في الجسم، أم في محاجّة النار؟ فلابد من وجود العلم مع الكلام، لأن المحاجّة تقتضي التفطن لوجه الدلالة، أو بلسان الحال، واختار كلاًّ طائفة. وقال ابن عبد البر: لكلا القولين وجه ونظائر، والأول أرجح. وقال عياض: إنه أظهر، وقال القرطبيّ: لا إحالة في حمل اللفظ على حقيقته. قال: وإذا أخبر الصادق بأمر جائز لم يحتج إلى تأويله، فحمْلُه على حقيقته أولى. وقال النوويُّ نحو ذلك، ثم قال: حَمْلُه على حقيقته هو الصواب. ورجح البيضاويّ حمله على المجاز، فقال: شكواها مجاز عن غليانها، وأكلها بعضها بعضًا مجاز عن ازدحام أجزائها، وتنفسها مجاز عن خروج ما يبرز منها.

وقال الزين بن المنير: المختار حمله على الحقيقة، لصلاحية القدرة لذلك، وقد ورد مخاطبتها للرسول عليه الصلاة والسلام للمؤمنين بقولها: "جُزْ يا مؤمن، فقد أطفأ نورُكَ لهبي". ولأن استعارة الكلاه للحال، وإن عهدت وسمعت، لكن الشكوى وتفسيرها والتعليل له والإذن ولقبول والتنفس وقصره على اثنين فقط بعيدٌ من المجاز، خارج عما أُلف من استعماله. وقوله: "بنَفَسين"، بفتح الفاء، والنفس معروف، وهو ما يخرج من الجوف ويدخل فيه من الهواء. وقوله: "نَفَسٌ في الشتاء، ونفس في الصيف"، بالجر فيهما على البدل والبيان، ويجوز الرفع على الخبرية، النصب بفعل مقدر، أي: أعني، وقوله: "أشد ما تجدون من الحر"، يجوز في أشد الكسر على البدل، لكن الرواية بالرفع، على أنه خبر مبتدأ محذوف، تقديره: فذلك أشد. وقال الطيبىّ: جَعْل أشد مبتدأً محذوفَ الخبر أولى، والتقدير: أشد ما تجدون من الحرّ من ذلك النفس، ويؤيد الأول رواية الإسماعيلي من هذا الوجه بلفظ: "فهو أشد"، ويؤيد الثاني رواية النسائي بلفظ: "فأشد ما تجدون من الحر من حر جهنم". وقوله: "أشد ما تجدون من الزمهرير"، أي: من ذلك النفس، وفي أشد الأوجه الثلاثة السابقة، والزمهرير شدة البرد، واستشكل وجوده في النار، ولا إشكال ولا مانع من حصول الزمهرير من نَفَس النار، لأن المراد من النار محلها، وهي جهنم، وفيها طبقة زمهريرية، والذي خَلَق المَلَكَ من الثلج والنار، قادر على جمع الضدين في محل واحد، وفي سياق المصنف لف ونشر غير مرتب، وهو مرتب في رواية النَّسائيّ، وفي الحديث رد على من زعم، من المعتزلة وغيرهم، أن النار لا تُخلق إلا يوم القيامة، والتعليل المذكور يفهم منه مشروعية تأخير الصلاة في وقت شدة البرد، ولم يقل به أحد؛ لأنها تكون غالبًا في وقت الصبح، فلا تزول إلا بطلوع الشمس، فلو أخّرت لخرج الوقت، والتنفس المذكور ينشأ عنه أشد الحر في الصيف، وإنما لم يقتصر في الأمر بالإبراد على أشده، لوجود المشقة عند شديده أيضًا، فالأشدية تحصل عند التنفس، والشدة

رجاله خمسة

مستمرة بعد ذلك، فيستمر الإبراد إلى أن تذهب الشدة. رجاله خمسة: الأول: علي بن المَدِينيّ، وقد مرّ في الرابع عشر من العلم، ومرّ سفيان بن عُيينة في الأول من بدء الوحي، ومرَّ الزُّهريُّ في الثالث منه، ومرّ سعيد بن المسيب في التاسع عشر منه، ومرَّ أبو هريرة في الثاني منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في ثلاثة، والقول والحفظ. أخرجه البخاريّ والنَّسائيّ في الصلاة.

الحديث الخامس عشر

الحديث الخامس عشر حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، قالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَبْرِدُوا بِالظُّهْرِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ". قوله: "بالظهر"، دال على تخصيص الإبراد بالظهر، فهو مقيد للفظ السابق: "أبردوا بالصلاة"، ولم يقل أحد بالإبراد في غير الظهر إلا أشهب، قال: يبرد بالعصر كالظهر، وقال أحمد: تؤخر العشاء في الصيف كالظهر، وعكس ابن حبيب، فقال: إنما تؤخر في ليل الشتاء لطوله، وتعجل في الصيف لقصره، وقد يحتج بحديث الباب وحديث: "أبردوا بالصلاة" السابق على مشروعية الإبراد للجمعة، وبه قال بعض الشافعية. وهو مقتضى طبع المؤلف، وذلك لدخولها في مسمى الصلاة، ولأن العلة، وهي شدة الحر، موجودة في وقتها، والأصح أنه لا يُبْرَد بها؛ لأن المشقة في الجمعة ليست في التعجيل، بل في التأخير، والمستحب لها التعجيل، وسيأتي إن شاء الله تعالى استيفاء الكلام عليها في محلها. قال في "الفتح": رتب المصنف أحاديث هذا الباب ترتيبًا حسنًا، فبدأ بالحديث المطلق، وثنَّى بالحديث الذي فيه الإرشاد إلى غاية الوقت، الذي ينتهي إليه الإبراد، وهو ظهور فيء التلول، وثلَّث بالحديث الذي فيه بيان العلة في كون ذلك المطلق محمولًا على المقيد، وربَّع بالحديث المفصح بالتقييد. رجاله خمسة: الأول: عمر بن حفص بن غياث، والثاني أبوه، وقد مرا في الثاني عشر

باب الإبراد بالظهر في السفر

من الغُسل، ومرّ الأعمش في الخامس والعشرين من الإيمان، ومرّ أبو صالح ذكوان السّمّان في الثاني منه، ومرّ أبو سعيد الخُدري في الثاني عشر منه. فيه التحديث بصيغة الجمع في أربعة مواضع، والعنعنة في موضع، والقول. ورواية الابن عن الأب. ثم قال: تابعه سفيان ويحيى وأبو عَوانة عن الأعمش، والمتابعة الأولى فيها لفظ الصلاة لا لفظ الظهر، وسفيان المراد به الثَّوري، وقد مرّ في السابع والعشرين من الإيمان، ومرّ يحيى القطّان في السادس منه، ومرّ أبو عُوانة في الخامس من الوحي، ومتابعة سفيان وصلها البخاري في صفة الصلاة، ومتابعة يحيى وصلها أحمد في مسنده، وأما متابعة أبي عَوانة فقد قال ابن حَجَر: لم أقف على وَصْلِها عنه، وقد أخرجه السَّرّاج من طريق محمد بن عبيد، والبيهقيّ من طريق وكيع. ثم قال المصنف: باب الإِبراد بالظهر في السفر أراد بهذه الترجمة أن الإبراد لا يختص بالحَضر، لكن محل ذلك ما إذا كان المسافر نازلًا، أما إذا كان سائرًا أو على سير، ففيه جَمْع التقديم أو التأخير، كما سيأتي في بابه إن يشاء الله تعالى، وأورد فيه حديث أبي ذَرٍّ الماضي مقيدًا بالسفر، مشيرًا به إلى أن تلك الرواية المطلقة محمولة على هذه المقيدة.

كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري تأليف الامام المحدث العلامة الشيخ محمد الخضر الجكينى الشنقيطي (المتوفى سنة 1354هـ) الجزء الثامن مؤسسة الرسالة

بسم الله الرحمن الرحيم

كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1415هـ - 1995م مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع مؤَسَّسَة الرّسَالة بيروت - شارع سوريَا - بنَاية صَمَدي وَصَالحَة هَاتف: 603243 - 815112 - صَ. بَ: 7460 - بَرقيًا: بيُوشرَان

الحديث السادس عشر

الحديث السادس عشر حَدَّثَنَا آدَمُ، قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُهَاجِرٌ أَبُو الْحَسَنِ، مَوْلًى لِبَنِي تَيْمِ اللَّهِ، قَالَ: سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ وَهْبٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي سَفَرٍ، فَأَرَادَ الْمُؤَذِّنُ أَنْ يُؤَذِّنَ لِلظُّهْرِ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- "أَبْرِدْ". ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُؤَذِّنَ فَقَالَ لَهُ: "أَبْرِدْ". حَتَّى رَأَيْنَا فَيْءَ التُّلُولِ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلاَةِ". قوله: "فأراد المؤذن"، قد مرَّ في الرواية الماضية بيان من صرح بأنه بلال. وقوله: ثم أراد أن يؤذن فقال له: أبرد، زاد أبو داود عن شُعبة "مرتين أو ثلاثًا" وجزم مسلم بذكر الثالثة، فإن قيل الإبراد للصلاة، فكيف أمر المؤذن به للأذان؟ فالجواب أن ذلك مبني على أن الأذان هل هو للوقت أو للصلاة؟ وفيه خلاف مشهور، والأمر المذكور يقوي القول بأنه للصلاة. وأجاب الكرمانيّ بأن عادتهم جرت لا يتخلفون عند سماع الأذان عن الحضور إلى الجماعة، فالإبراد بالأذان لغرض الإبراد بالعبادة. قال: ويحتمل أن المراد بالتأذين هنا الإقامة، ويشهد له رواية التِّرمذيّ عن شُعبة بلفظ: "فأراد بلال أن يقيم" لكن رواه أبو عَوانة عن شعبة بلفظ: "فأراد بلال أن يؤذن"، وفيه: "ثم أمره فأذن وأقام"، ويُجمع بينهما بان إقامته كانت لا تتخلف عن الأذان، لمحافظته عليه الصلاة والسلام في أول الوقت، فرواية: "فأراد بلال أن يقيم" أي أن يؤذن، ثم يقيم. ورواية: "فأراد أن يؤذن"، أي: ثم يقيم. وقوله: "حتى رأينا فيء التلول"، إلخ، مرَّ الكلام عليه عند ذكره قبل حديثين. رجاله خمسة: الأول آدم بن أبي إياس، والثاني: شُعبة، وقد مرا في الثالث من الإيمان،

باب وقت الظهر عند الزوال

ومرَّ مهاجر وزيد بن وهب في الثالث من هذا الكتاب، ومرَّ أبو ذَرّ الغِفاريّ في الثالث والعشرين من الإيمان. ثم قال: وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: تتفيّأ: تتميل، كأنه أراد أن الفيء مسمى بذلك، لأنه ظل مائل من جهة إلى أخرى، و"تتفيأ" في الرواية بالمثناة الفوقانية، أي: الظلال، وقرىء أيضًا بالتحتانية، أي: الشيء، والقراءتان شهيرتان، وابن عباس مرّ في الخامس من بدء الوحي، وتعليقه هذا وصله ابن أبي حاتم في تفسيره. ثم قال المصنف: بابٌ وقت الظهر عند الزوال باب بالتنوين، أي: ابتداء وقت الظهر عند زوال الشمس، أي: ميلها إلى جهة المغرب، وأشار بهذه الترجمة إلى الرد على من زعم من الكوفيين أن الصلاة لا تجب بأول الوقت، ونقل ابن بطال أن الفقهاء بأسرهم على خلاف ما نُقل عن الكرخيّ، عن أبي حنيفة أن الصلاة في أول الوقت تقع نفلًا، والمعروف عند الحنفية تضعيف هذا القول، وأن الصلاة تجب في أول الوقت وجوبًا موسعًا فيه. ونقل بعضهم أن أول الظهر إذا صار الفيء قدر الشراك. ثم قال: وقال جابر: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي بالهاجرة، والهاجرة: اشتداد الحر في نصف النهار، سميت بذلك من الهَجْر، وهو الترك، لأن الناس يتركون التصرف حينئذ، ويَقيلون لشدة الحر. وجابر مرّ في الرابع من بدء الوحي، وهذا التعليق طرف من حديث جابر، ذكره البخاري موصولًا في باب وقت المغرب.

الحديث السابع عشر

الحديث السابع عشر حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- خَرَجَ حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ فَصَلَّى الظُّهْرَ، فَقَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَذَكَرَ السَّاعَةَ، فَذَكَرَ أَنَّ فِيهَا أُمُورًا عِظَامًا، ثُمَّ قَالَ: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ شَيْءٍ فَلْيَسْأَلْ، فَلاَ تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلاَّ أَخْبَرْتُكُمْ مَا دُمْتُ فِي مَقَامِي هَذَا". فَأَكْثَرَ النَّاسُ فِي الْبُكَاءِ، وَأَكْثَرَ أَنْ يَقُولَ "سَلُونِي". فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ السَّهْمِيُّ، فَقَالَ: مَنْ أَبِي؟ قَالَ: "أَبُوكَ حُذَافَةُ". ثُمَّ أَكْثَرَ أَنْ يَقُولَ: "سَلُونِي". فَبَرَكَ عُمَرُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، فَقَالَ: رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا. فَسَكَتَ، ثُمَّ قَالَ: "عُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ آنِفًا فِي عُرْضِ هَذَا الْحَائِطِ، فَلَمْ أَرَ كَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ". قوله: "حين زاغت الشمس"، أي: مالت، وللتِّرمذيّ: "زالت عن أعلى درجات ارتفاعها". قال أبو طالب في "القوت": الزوال ثلاثة: زوال لا يعلمه إلا الله تعالى، وزوال تعلمه الملائكة المقربون، وزوال يعلمه الناس. قال: وقد جاء في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام سأل جبريل عليه السلام: هل زالت الشمس؟ قال: لا نعم، قال: ما معنى: لا نعم؟ قال: يا رسول الله، قطعت الشمس فيما بين قولي لك لا نعم مسيرة خمس مئة عام". ثم إن الزوال الذي يعرفه الناس يعرف بمعرفة أقل الظل، وطريقه أن تنصب قائمًا معتدلًا في أرض معتدلة، وتنظر إلى ظله في جهة المغرب، وتعرف منتهاه، ثم كلما ارتفعت نقص الظل، حتى تنتهى إلى أعلى درجات ارتفاعها، فتقف وقفة ويقف الظل لا يزيد ولا ينقص، وذلك وقت نصف النهار، ووقت الاستواء. ثم تميل إلى أول درجات انحطاطها في الغروب، فذلك هو الزوال، وهو أول وقت الظهر.

وقوله: "فصلى الظهر"، أي: حين زالت الشمس، وهذا يقتضي أن زوال الشمس أول وقت الظهر، إذ لم ينقل أنه صلى قبله، وهذا هو الذي استقر عليه الإجماع، وكان فيه خلاف قديم عن بعض الصحابة أنه جوّز صلاة الظهر قبل الزوال. وعن أحمد وإسحاق مثله في الجمعة، لما يأتي، ولا يعارض هذا حديث الإبراد؛ لأنه ثبت بالفعل، وحديث الإبراد بالقول والفعل، فيرجح على ذلك. وقيل: إنه منسوخ بحديث الإبراد، لأنه متأخر عنه. وقال البيضاويّ: الإبراد تأخير الظهر أدنى تأخير، بحيث يقع الظل، ولا يخرج ذلك عن وقت التهجير، فإن الهاجرة تطلق على الوقت إلى أن يقرب العصر. قلت: ما قاله من قوله: بأدنى التأخير، مخالف لما مرَّ من حد الإبراد، فأدنى تأخير لا يحصل به إبراد، ولم يقل أحد إن الهاجرة تمتد إلى وقت العصر. وقوله: فقام على المنبر، يعني بعد فراغه من الصلاة، وذلك لما بلغه أن قومًا من المنافقين يسألونه ويعجزونه عن بعض ما يسألونه. وقوله: "فليسأل"، أي: فليسألني عنه. وقوله: "فلا تسألوني عن شيء"، بحذف نون الرفع، وبقاء نون الوقاية، وذلك جائز كما في قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي}، وقوله: "إلا أخبرتكم" فيه استعمال لفظ الماضي موضع الاستقبال، إشارةً لي أنه كالواقع لتحققه. وقوله: "في مَقامي هذا"، بفتح ميم مقامي، وسقط لفظ الإشارة عند أبي ذَرٍّ والأصيلي وغيرهما. وقوله: "فأكثر الناس في البكاء" خوفًا من نزول العذاب العام المعهود في الأمم السابقة، عند ردهم على أنبيائهم، بسبب تَغَيُّظه عليه الصلاة والسلام من مقالة المنافقين السابقة آنفًا، أو سبب بكائهم ما سمعوه من أهوال يوم القيامة، والأمور العظام، والبكاء بالمد، مد الصوت في البكاء، وبالقصر الدموع وخروجها. وقوله: "فبرك عمر على ركبتيه فقال: رضينا بالله ربًّا ... إلخ"، في رواية قتادة: "نعوذ بالله من شرّ الفتن"، وفي مرسل السدّي عند الطبريّ: "فقام إليه عمر فقبل رجله، وقال: رضينا بالله ربًّا ... " فذكر نحوه، وزاد: "وبالقرآن إمامًا، فاعف عما الله عنك" فلم يزل حتى رضي. وقد مرَّ بعض الكلام على هذا

رجاله أربعة

المحل من الحديث في باب من برك على ركبتيه من كتاب العلم، ومرَّ الكلام مستوفى على قوله: "ثم عُرضت عليّ الجنة والنار" في باب كفران العشير. وفي الحديث، غير ما يتعلق بالترجمة، مراقبة الصحابة أحوالَ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وشدّة إشفاقهم إذا غضب، خشية أن يكون لأمر يعم فيعمهم، وإدلال عمر عليه، وجواز تقبيل رجل الرجل، وجواز الغضب في الموعظة، وبروك الطالب بين يدي من يستفيد منه، وكذا التابع بين يدي المتبوع إذا سأله في حاجة، ومشروعية التعوذ من الفتن عند وجود شيء قد تظهر منه قرينة وقوعها، واستعمال المزاوجة في الدعاء في قوله: "اعف عفا الله عنك"، وإلا فالنبي عليه الصلاة والسلام معفو عنه قبل ذلك. وسُئِل مالك عن معنى النهي عن كثرة السؤال، فقال: لا أدري أنهى عن الذي أنتم فيه من كثرة السؤال عن النوازل، أو عن مسألة الناس المال، قال ابن عبد الظاهر: الأول، وأما الثاني فلا معنى للتفرقة بين كثرته وقلته، لا حيث يجوز، ولا حيث لا يجوز. قلت: بل للتفرقة معنى، فحيث لا يجوز الإكثارُ من المحرم أشد، وحيث يجوزُ ينهى عما بعد الحاجة. قال: وقيل: كانوا يسألون عن الشيء، ويلحون فيه إلى أن يُحرّم. قال: وأكثر العلماء على أن المراد كثرة السؤال عن النوازل، والأغلوطات والتوليدات. وقد مرَّ بعض هذا في أول كتاب العلم في حديث النخلة. رجاله أربعة؛ وفيه ذكر عمر وعبد الله بن حُذافة: الأول: أبو اليمان، والثاني شعيب، وقد مرّا في السابع من بدء الوحي، ومرَّ الزهريّ في الثالث منه، ومرّ عمر في الأول منه، ومرّ أنس في السادس من الإيمان، ومرّ عبد الله بن حُذافة في السادس من العلم.

الحديث الثامن عشر

الحديث الثامن عشر حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ، عَنْ أَبِي بَرْزَةَ كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي الصُّبْحَ وَأَحَدُنَا يَعْرِفُ جَلِيسَهُ، وَيَقْرَأُ فِيهَا مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى الْمِائَةِ، وَيُصَلِّي الظُّهْرَ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ، وَالْعَصْرَ وَأَحَدُنَا يَذْهَبُ إِلَى أَقْصَى الْمَدِينَةِ ثُمَّ يَرْجِعُ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ، وَنَسِيتُ مَا قَالَ فِي الْمَغْرِبِ، وَلاَ يُبَالِي بِتَأْخِيرِ الْعِشَاءِ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ. ثُمَّ قَالَ: إِلَى شَطْرِ اللَّيْلِ. قوله: "يعرف جليسه"، أي: الذي بجنبه، وفي رواية الجوزقي عن شعبة: "فينظر الرجل إلى جليسه إلى جنبه، فيعرف وجهه"، ولأحمد: "فينصرف الرجل فيعرف وجه جليسه"، ولمسلم: "فينظر إلى وجه جليسه الذي يعرف فيعرفه" وله في أخرى: "وننصرف حين يعرف بعضنا وجه بعض"، واستدل بهذا على التعجيل بصلاة الصبح، لأن ابتداء معرفة الإنسان وجه جليسه يكون في آخر الغَلَس، وقد صرح بأن ذلك كان بعد فراغ الصلاة، ومن المعلوم من عادته صلى الله تعالى عليه وسلم ترتيل القراءة، وتعديل الأركان، فمقتضى ذلك أنه كان يدخل فيها مغلسًا. وادّعى ابن المنير أنه مخالف لحديث عائشة، حيث قالت فيه: "لا يعرفن من الغَلس"، وتعقب بأن الفرق بينهما ظاهر، وهو أن حديث أبي برزة متعلق بمعرفة من هو مُسفر جالس إلى جنب المصلي، فهو ممكن. وحديث عائشة متعلق بمن هو متلفف، مع أنه على بعد، فهو بعيد، وقوله: "ويقرأ فيها ما بين الستين إلى المئة"، أي: في الصبح، وفي الرواية الآتية قريبًا، ويقرأ بالستين إلى المئة، يعني من الآي. وقدرها في رواية للطبراني بالحاقة ونحوها. وأشار الكرماني في قوله: "ما بين"، إلى أن القياس أن يقول ما بين الستين والمئة،

إن لفظ "بين" يقتضي الدخول على متعدد. قال: وتحتمل أن يكون التقدير: "ويقرأ ما بين الستين وفوقها إلى المئة" فحذف لفظ: فوق، لدلالة الكلام عليه. وفي السياق تأدب الصغير مع الكبير، ومسارعة المسؤول بالجواب إذا كان عارفًا به. وقوله: "والعصر"، أي: ويصلي العصر. وقوله: "وأحدنا يذهب إلى أقصى المدينة رجع والشمس حية"، ورجع يحتمل أن يكون بمعنى يرجع، وأن يكون بيانًا لقوله: "يذهب"، وأن يكون في موضع الحال، أي: يذهب راجعًا، ويحتمل أن أداة الشرط سقطت. إما "لو" أو"إذا"، والتقدير: لو يذهب أحدنا، إلخ. وجَوّز الكرمانيّ أن يكون "رجع" خبرًا للمبتدأ الذي هو "أحدنا"، و"يذهب" جملة حالية، وهو وإن كان محتملًا من جهة اللفظ، لكنه مخالف لرواية عوف الآتية. وقال أيضًا: يحتمل أن قوله: "رجع" عطف على قوله: "يذهب"، والواو مقدرة، و"رجع" بمعنى يرجع، وهذا الاحتمال جزم به ابن بطال، ويؤيده رواية أبي داود عن حفص بن عمر بلفظ: "وإن أحدنا ليذهب إلى أقصى المدينة، ويرجع والشمس حية". وقوله: "رجع" بلفظ الماضي، هو الذي في رواية أبي ذرٍّ والأصيلي، وفي رواية غيرهما: "ويرجع" بزيادة واو، وبصيغة المضارعة. وظاهره حصول الذهاب إلى أقصى المدينة، والرجوع من ثمّ إلى المسجد، لكن في رواية عوف الآتية، في باب "وقت العصر قريبًا": "ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية"، فليس فيه إلا الذهاب فقط. وطريق الجمع بينهما وبين رواية الباب أن يقال: يحتمل أن الواو في قوله: "وأحدنا" بمعنى "ثم" على قول من قال إنها تَرِد للترتيب، مثل ثمّ، وفيه تقديم وتأخير، والتقدير: ثم يذهب أحدنا، أي: ممن صلى معه، فرواية عوف أوضحت أن المراد بالرجوع الذهاب إلى المنزل من المسجد، وإنما سمي رجوعًا لأن ابتداء المجيء كان من المنزل إلى المسجد، فكان الذهاب منه إلى المنزل رجوعًا. وطرق الحديث يبين بعضها بعضًا، وقد رواه أحمد عن شعبة بلفظ: "والعصر يرجع الرجل إلى أقصى المدينة، والشمس حية"، ولمسلم

رجاله أربعة

والنّسائيّ عن شعبة مثله، لكن بلفظ: "يذهب" بدل يرجع. وقوله: "والشمس حية"، أي: بيضاء نقية. قال ابن المنير: المراد بحياتها قوة أثرها حرارة ولونًا وشعاعًا وإنارة، وذلك لا يكون بعد مصير الظل مثلَيْ الشيء. وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح عن خَيْثَمة، أحد التابعين، قال: حياتها أن تجد حرها. وقوله: "ونسيت ما قال في المغرب"، قائل ذلك هو أبو المنهال سيًار، بيّنه أحمد في روايته. رجاله أربعة: الأول: حفص بن عمر، وقد مرّ في الثالث والثلاثين من كتاب الوضوء وشعبة في الثالث من الإيمان. الثالث: سيّار بن سلامة أبو المنهال الرِّياحيّ البَصريّ. قال ابن مَعين والنَّسائيّ: ثقة، وقال أبو حاتم: صدوق صالح الحديث، وقال العجليّ: بصري ثقة. وذكره ابن حِبّان في "الثقات". وقال ابن سعد: كان ثقة روى عن أبيه سلامة وأبي برزة الأسلمي وأبي العالية الرياحي وغيرهم. وروى عنه سليمان التيميّ وخالد الحذاء ويونس بن عبيد وشعبة وحماد بن سلمة وغيرهم. مات سنة تسع وعشرين ومئة. الرابع: أبو برزة، اختلف في اسمه واسم أبيه، وأصح ما قيل في ذلك قول من قال: اسمه نَضْلَة بن عبيد بن الحارث بن ميال بن دعبل بن ربيعة بن أنس بن خُزيمة بن مالك بن سلامان بن أسلم بن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر الأسلمي، نزل البصرة وله بها دار، وهو مشهور بكنيته. أسلم قديمًا، وشهد فتح مكة وخيبر وحنينًا، وروي عنه أنه قال: قتلت ابن خطل. قال ابن سعد: كان من ساكني المدينة، ثم نزل البصرة وغزا خراسان. وقال غيره: شهد مع علي قتالَ الخوارج بالنَّهْرَوان، وغزا خُراسان بعد ذلك. ويقال إنه شهد صفّين والنهروان مع عليّ، وفي صحيح البخاريّ أنه عاب على مروان وابن الزبير

لطائف إسناده

والقرّاء بالبصرة، لما وقع الاختلاف بعد موت يزيد بن معاوية، فقال في قصة ذكرها، حاصلها أن الجميع يقاتلون على الدنيا. وفي صحيح البخاري أنه شهد قتال الخوارج بالأهواز زاد الإسماعيليّ في مستخرجه: "مع المهلّب بن أبي صفرة". له ستة وأربعون حديثًا، اتفقا على حديثين، وانفرد البخاري باثنين، ومسلم بأربعة. روى عن أبي بكر، وروى عنه ابنه المغيرة وابنةُ ابنه مُنية بنت عبيد، وأبو عثمان النهديّ وأبو المنهال وأبو العالية والأزرق وسواهم. مات بالبصرة، وقيل: مات بمَرْو، ودفن بها. وقيل: مات بمفازة سِجِسْتان وهَرَاة، وكان موته سنة خمس وستين، في ولاية عبد الملك بن مروان، وقيل: مات في خلافة معاوية. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في موضعين، والقول. ورواته ما بين بصريّ وواسطيّ، ويصح أن يقال: كلهم بصريون، لأن شُعبة، وإن كان من واسط، فقد سكن البصرة ونسب إليها. أخرجه البخاريّ في الصلاة أيضًا، ومسلم وأبو داود والنَّسائي وابن ماجه فيها، وفي متن الحديث. ثم قال: وقال معاذ: قال شعبة: ثم لقيته مرة، فقال: "أو ثُلُث الليل". وقوله: "قال شعبة"، أي: بإسناده المذكور، وجزم حماد بن سلمة عن أبي المنهال عند مسلم بقوله: "إلى ثلث الليل"، وكذا لأحمد عن حجاج، عن شعبة، ومعاذ المراد به معاذ بن معاذ، وهذا التعليق مسند في صحيح مسلم. وأما معاذ فهو ابن معاذ بن نصر بن حسان بن الحارث بن مالك بن الخشخاش، العنبريّ أبو المثنى التميميّ الحافظ البصريّ، قاضيها. قال أحمد: معاذ بن معاذ، قُرة عين في الحديث. وقال في موضع آخر: إليه المنتهى في البصرة في التثبت. وقال في موضع آخر: ما رأيت أفضل من حسين الجعفىّ، وسعيد بن عامر، وما رأيت أعقل من معاذ بن معاذ. وقال ابنُ مَعين وأبو حاتم: ثقة. وقال عثمان الدارميّ: قلت لابْن معين: أزهر السَّمَّان كيف

حديثه؟ قال: ثقة. قلت: فمعاذ بن معاذ؟ قال: ثقة. قلت: أيهما أثبت في ابن عون؟ قال: ثقتان. قلت: فمعاذ أثبت في شعبة أو غندر؟ قال: ثقة وثقة. وقال نفطويه: كان من الأثبات في الحديث. وقال النّسائيّ: ثقة ثبت. وقال يحى القطّان: طلبت الحديث مع رجلين: خالد بن الحارث، ومعاذ بن معاذ، وأنا مولى، فوالله ما استبَقَا إلى محدِّث قطُّ فكتبا شيثًا حتى أحضر، وما أبالي إذا تابَعاني من خالفني من الناس. قال: وكان شعبة يحلف لا يحدث فيستثنيهما. وقال أيضًا: ما بالبصرة ولا بالكوفة ولا بالحجاز أثبت من معاذ بن معاذ. وقال محمد بن عيسى الطَّبَّاع: ما علمت أن أحدًا قدِم بغداد إلا وقد تعلق عليه في شيء من الحديث، إلا معاذ العنبريّ، فإنه ما قدروا أن يتعلقوا عليه في شيء مع شغله بالقضاء. وقال ابن سعد: كان ثقة، ولي قضاء البصرة لهارون، ثم عزل. وذكره ابن حِبّان في "الثقات". وقال: كان فقيهًا عالمًا متقنًا، روى عن سليمان التيميّ وحُميد الطويل وابن عَون وبَهز بن حكيم وقرة بن خالد وشعبة وغيرهم. وروى عنه ابناه عُبيد الله والمُثنى وعبد الرحمن بن أبي الزناد، وهو من أقرانه وأحمد وإسحاق وابن مَعين وغيرهم. مات في ربيع الآخر سنة ست وتسعين ومئة.

الحديث التاسع عشر

الحديث التاسع عشر حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنِي غَالِبٌ الْقَطَّانُ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِالظَّهَائِرِ فَسَجَدْنَا عَلَى ثِيَابِنَا اتِّقَاءَ الْحَرِّ. قوله: "بالظهائر"، جمع ظَهِيرة، وهي الهاجرة، والمراد صلاة الظهر، وجمعها بالنظر إلى تعدد الأيام. وقوله: "سجدنا على ثيابنا"، كذا في رواية أبي ذرٍّ والأكثرين، وفي رواية كريمة: "فسجدنا" بزيادة فاء، وهي عاطفة على شيء مقدر. وقوله: "اتقاء الحرّ"، أي: للوقاية من الحرّ، وفيه المبادرة لصلاة الظهر، ولو كان في شدة الحر، ولا يخالف ذلك الأمر بالإبراد، بل هو لبيان الجواز، وان كان الإبراد أفضل، وقد مرَّ الكلام على هذا الحديث في باب السجود على الثوب في شدة الحر، حيث أخرجه هناك، ولفظه هناك مغاير للفظه هنا، والمعنى متقارب. رجاله ستة: الأول: محمد بن مقاتِل، وقد مرّ في السابع من العلم، ومرّ عبد الله بن المبارك في السادس من بدء الوحي، ومرّ غالب بن خَطّاف في السابع والثلاثين من كتاب الصلاة، ومرّ بكر بن عبد الله في الثالث والثلاثين من الغُسل، ومرّ أنس بن مالك في السادس من الإيمان. والسادس: خالد بن عبد الرحمن بن بكير السلميّ، أبو أمية البصري، قال أبو حاتم: صدوق، لا بأس به، وذكره ابن حبَّان في "الثقات"، وقال:

لطائف إسناده

يخطىء. وقال العقيليّ: يخالف في حديثه. وقال الحاكم عن الدارقطنيّ: لا بأس به. قال ابن حَجَر: أخرج له البخاريّ في الصلاة حديثًا واحدًا من روايته، عن غالب القطّان، عن بكر بن عبد الله المزنيّ، عن أنس، بمتابعة بشر بن المفضّل له، عن غالب بنحوه، وروى عن الحسن البصري وغالب القطّان ونافع وابن سيرين، وروى عنه ابن المبارك وابن مهدي ووكيع وبشر بن المفضل، وأبو داود الطيالسىّ وغيرهم. وفي الستة خالد بن عبد الرحمن سواه واحد، وهو الخراساني أبو الهيثم، وفي الرواة اثنان. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد، ويصيغة الإفراد في موضع، والإخبار بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في موضعين، وفيه محمد بن مقاتِل من أفراد البخاري، وفيه راويان مَرْوَزِيَّانِ، والبقية بصرِيُّون. أخرجه البخاري أيضًا في الصلاة، ومسلم وأبو داود والتِّرمذيّ والنَّسائيُّ وابنُ ماجه. ثم قال المصنف: باب تأخير الظهر إلى العصر أي إلى أول وقت العصر، والمراد أنه عند فراغه دخل وقت صلاة العصر، كما يأتي عن أبي الشعثاء راوي الحديث. وقال ابن المنير: أشار البخاري إلى إثبات القول بالاشتراك بين الظهر والعصر، لكن لم يصرح بذلك على عادته في الأمور المحتملة، لأن لفظ الحديث يحتمل ذلك، ويحتمل غيره. قال: والترجمة مشعرة بانتفاء الفاصلة بين الوقتين. وقد نقل ابن بطال عن الشافعي، وتبعه غيره أن الشافعيّ قال: بين وقت الظهر ووقت العصر فاصلة لا تكون وقتًا للظهر ولا للعصر، قال في "الفتح": ولا يعرف هذا في كتب المذهب عن الشافعي، وإنما المنقول عنه أنه كان يذهب إلى أن آخر وقت الظهر ينفصل من أول وقت العصر، ومراده نفي القول بالاشتراك. ويدل عليه أنه احتج بقول ابن عباس: وقت الظهر إلى العصر، ووقت العصر الى المغرب. فكما أنه لا اشتراك

بين العصر والمغرب، فكذلك لا اشتراك بين الظهر والعصر. قلت: مذهب مالك الاشتراك بين الظهر والعصر بقدر إيقاع إحداهما، واختلف هل هو في آخر الصلاة الأولى، فتكون العصر داخلة على الظهر، فتصبح العصر إنْ قدِّمت في آخر الأُولى، ويأثم من آخر الظهر إلى أول الثانية، أو هو في أول الثانية، فتكون الظهر داخلة على العصر، فلا يأثم من أخَّر الظهر إلى أوَّل الثانية، وتبطل العصر إن قُدِّمت في آخر الاولى!؟ وسبب الخلاف عندهم في ذلك حديثُ ابن عباس السابق عند الحديث الأول من كتاب المواقيت هذا، عند أبي داود والترمذيّ وغيرهما في صلاة جبريل بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، ففيه "في اليوم الأول صلى بي جبريل العصر حين صار ظل كل شيء مثله، وفي اليوم الثاني صلى جبريل الظهر حين صار ظل كل شيء مثله، فمن جعل "صلى" فيهما بمعنى "شرع" جعل الاشتراك في أول الثانية، ومن جعل "صلَّى" بمعنى "فرغ" جعله في آخر الأُولى. وقال ابن العربيّ من المالكية: لا اشتراك بينهما، وقال: إن صلّى في المرة الأولى بمعنى شرع، وفي الثانية بمعنى فرغ.

الحديث العشرون

الحديث العشرون حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- صَلَّى بِالْمَدِينَةِ سَبْعًا وَثَمَانِيًا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ. فَقَالَ أَيُّوبُ: لَعَلَّهُ كان فِي لَيْلَةٍ مَطِيرَةٍ. قَالَ: عَسَى. قوله: "سبعًا وثمانيًا الظهر والعصر والمغرب والعشاء"، أي: صلى المغرب والعشاء سبع ركعات جمعًا، وصلى الظهر والعصر ثمان ركعات جمعًا. فقوله: سبعًا، أي: جميعًا، وثمانيًا: أي: جميعًا. كما صرح به في باب وقت المغرب عن شعبة، ففيه لف ونشر غير مرتب، والظهر نصب بدلًا أو عطف بيان، أو بنزع الخافض. وقوله: "لعله كان في ليلة مطيرة"، بفتح الميم، أي: كثيرة المطر، يعني مع يومها، بقرينة الظهر والعصر. وقوله: "قال عسى"، أي: قال جابر: عسى أن يكون فيها، فحذف اسم عسى وخبرها، واحتمال المطر قال به مالك أيضًا عند إخراجه لهذا الحديث. فقال ابن عباس، بدل قوله بالمدينة: "من غير خوف ولا سفر". قال مالك: لعله كان في مطر، لكن رواه مسلم وأصحاب السنن عن سعيد بن جُبير بلفظ: "من غير خوف ولا مطر"، فانتفى أن يكون الجمع المذكور للخوف أو السفر أو المطر. وجَوَّز بعض العلماء أن يكون الجمع المذكور للمرض، وقوّاه النووي، وفيه نظر، لأنه لو كان جمعه صلى الله تعالى عليه وسلم بين الصلاتين لِعارضِ المرض، لما صلى معه إلا مَن به نحو ذلك العذر، والظاهر أنه صلى الله تعالى عليه وسلم جمع بأصحابه، وقد صرح بذلك ابن عباس في روايته. قال النوويّ: ومنهم من تأوله على أنه كان في غيم، فصلى الظهر ثم انكشف الغيم مثلًا، فبان أن وقت العصر دخل، فصلاها. قال: وهو باطل، لأنه وإن كان فيه أدنى

احتمال في الظهر والعصر، فلا احتمال فيه في المغرب والعشاء، وكأَنَّ نفيه الاحتمال مبنيّ على أنه ليس للمغرب إلا وقت واحد، والمختار عنده خلافه، وهو أن وقتها يمتد إلى العشاء، فعلى هذا فالاحتمال قائم. وقال: ومنهم من تأوله على أن الجمع المذكور صوريّ، بأن يكون أخَّر الظهر إلى آخر وقتها، وعجل العصر في أول وقتها. قال: وهو احتمال ضعيف أو باطل، لأنه مخالف للظاهر مخالفة لا تُحتمل، وهذا الذي ضعّفه استحسنه القرطبيّ، ورجحه قبله إمام الحرمين، وجزم به ابن الماجشون من القدماء، والطحاوي، وقوّاه ابن سَيّد الناس بأن أبا الشعثاء راوي الحديث عن ابن عباس قد قال به، وذلك فيما رواه الشيخان عن عمرو بن دينار، فذكر الحديث وزاد: "قلت: يا أبا الشعثاء" أظنه أخَّر الظهر وعجَّل العصر، وأخَّر المغرب وعجَّل العشاء؟ قال: وأنا أظنه" قال ابن سيد الناس: راوي الحديث أدرى من غيره بالمراد، لكن لم يجزم بذلك، بل يستمر عليه، فقد مر كلام لأيوب وتجويزه لأن يكون الجمع بعذر المطر، لكن يقوي ما ذكر من الجمع الصوري أن طرق الحديث كلها ليس فيها تعرض لوقت الجمع، فإما أن تحمل على مُطلقها، فتستلزم إخراج الصلاة عن وقتها المحدود بغير عذر، وإما أن تحمل على صفة مخصوصة لا تستلزم الإخراج، ويجمع بها بين مفترق الأحاديث. والجمع الصوري أولى. قال الخطابيّ: اختلف الناس في جواز الجمع بين الصلاتين للمطر في الحضر، فأجازه جماعة من السلف، منهم ابن عمر وعروة بن الزبير وعمر بن عبد العزيز وعامة فقهاء المدينة، وهو قول مالك والشافعي وأحمد بن حنبل، غير أن الشافعي اشترط في ذلك أن يكون المطر قائمًا في وقت افتتاح الصلاتين معًا، وكذلك أبو ثور، ولم يشترط ذلك غيرهما، وكان مالك يرى أن يجمع الممطور في الطين مع الظلمة، وهو قول عمر بن عبد العزيز. وقال الأوزاعيّ وأصحاب الرأي: يصلي الممطور كل صلاة في وقتها، وقد ذهب جماعة من الأئمة إلى الأخذ بظاهر هذا الحديث، فجوّزوا الجمع في الحضر للجماعة مطلقًا، لكن

رجاله خمسة

بشرط أن لا يتخذ ذلك عادة. وممن قاله ابن سيرين وربيعة وأشهب وابن المنذر والقفَّال الكبير، وحكاه الخطابيّ عن جماعة من أصحاب الحديث، واستدل لهم بما وقع عند مسلم في هذا الحديث، عن سعيد بن جبير، قال: فقلت لابن عباس، لِمَ فعل ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أحدًا من أمته، وللنَّسائي عن أبي الشعثاء أن ابن عباس صلَّى بالبصرة الأولى والعصر، ليس بينهما شيء، والمغرب والعشاء ليس بينهما شيء، فعل ذلك من شغل. وفيه رفعه إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم. وفي رواية لمسلم عن عبد الله بن شقيق أن شغل ابن عباس المذكور كان بالخطبة، وأنه خطب بعد صلاة العصر حتى بدت النجوم، ثم جمع بين المغرب والعشاء، وفيه تصديق أبي هريرة لابن عباس في رفعه، وما ذكره ابن عباس من التعليل بنفي الحرج ظاهر في مطلق الجمع، وقد جاء مثله عن ابن مسعود مرفوعًا. أخرجه الطبرانيّ ولفظه: "جمع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، فقيل له في ذلك، فقال: "صنعت هذا لئلاَّ تحرج أمتي"، وإرادة نفي الحرج يقدح في حمله على الجمع الصوريّ، لأن القصد إليه لايخلو من حرج. قال الترمذيّ: ليس في كتابي حديث أجمعت الأمة على ترك العمل به إلا حديث ابن عباس في الجمع بالمدينة من غير خوف ولا مطر، وحديث قتل شارب الخمر في المرة الرابعة. وأما الذي أخرجه الطبراني عن ابن مسعود، فيردُّه ما رواه البخاري ومسلم عنه، قال: "ما رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم صلَّى صلاة لغير وقتها إلا بِجَمْع، فإنه جمع بين المغرب والعشاء بجمع، وصلى صلاة الصبح من الغد وقتها". رجاله خمسة: الأول: أبو النعمان، وقد مرّ في الحادي والخمسين من الإيمان، ومرّ حماد بن زيد في الرابع والعشرين منه، ومرّ أنس في السادس منه، ومرّ عمرو بن

لطائف اسناده

دينار في الرابع والخمسين من العلم، ومرّ جابر بن زيد في السادس من الغُسل، وفي المتن، فقال أيوب إلخ، وأيوب المراد به السَّخْتيانيّ، وقد مرَّ في التاسع من الإيمان، وهذا التعليق أخرجه مسلم وأصحاب السنن ومالك. لطائف اسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في ثلاثة، ورواته بصريون، ما خلا عمرو بن دينار، فإنه مكّيّ. أخرجه البخاري أيضًا في صلاة الليل، ومسلم وأبو داود والنسائى في الصلاة. ثم قال المصنف. باب وقت العصر

الحديث الحادي والعشرون

الحديث الحادي والعشرون حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ لَمْ تَخْرُجْ مِنْ حُجْرَتِهَا. قوله: "والشمس لم تخرج من حجرتها"، هو مثل قوله في الذي بعده "والشمس في حجرتها"، أي: باقية لم تخرج. رجاله خمسة: الأول: إبراهيم بن المنذر، وقد مرّ في الأول من العلم، ومرّ أنس بن عياض في الرابع عشر من الوضوء، ومرّ هشام وأبوه وعائشة في الثاني من الوحي.

الحديث الثاني والعشرون

الحديث الثاني والعشرون حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- صَلَّى الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ فِي حُجْرَتِهَا، لَمْ يَظْهَرِ الْفَيْءُ مِنْ حُجْرَتِهَا. قوله: "لم يظهر الفيء"، أي: في الموضع الذي كانت فيه الشمس، وقد مرَّ في الحديث الأول من المواقيت في رواية مالك بلفظ: "والشمس في حجرتها قبل أن تظهر"، أي: ترتفع، فهذا الظهور غير ذلك الظهور، ومرَّ هناك إيضاح الجمع بين الروايتين. رجاله خمسة: الأول: قتيبة بن سعيد، وقد مرَّ في العشرين من الإيمان، ومرَّ الليث بن سعد وابن شهاب في الثالث من بدء الوحي، ومرَّ عروة وعائشة في الثاني منه، فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في ثلاثة، ورواته ما بين مدنيّ وبصريّ وبلخيّ. ثم قال: وقال أبو أسامة عن هشام: "من قعر حجرتها". وهذا التعليق وقع في رواية أبي ذرٍّ والأصيلي وكريمة بعد الباب، قبل الحديثين. والصواب ما هنا من تأخيره عن الإسناد الموصول، كما جرت به عادة المصنف، والحاصل أن أنس بن عياض وأبا أسامة رويا الحديث عن هشام، وزاد أبو أسامة التقييد بقعر الحجرة، وهو أوضح في تعجيل العصر من الرواية المطلقة، ورواه الإسماعيليّ بلفظ: "والشمس واقعة في حجرتي"، وقد عرف بذلك أن الضمير في قوله: "حجرتها" لعائشة، وفيه نوع التفات. وهذا التعليق أسنده الإسماعيليّ عن ابن

ماجه، وأبو أسامة قد مرَّ في الحادي والعشرين من كتاب العلم، ومرَّ هشام بن عروة في الثاني من بدء الوحي.

الحديث الثالث والعشرون

الحديث الثالث والعشرون حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي صَلاَةَ الْعَصْرِ وَالشَّمْسُ طَالِعَةٌ فِي حُجْرَتِي لَمْ يَظْهَرِ الْفَيْءُ بَعْدُ. قوله: "عن الزهريّ"، في مسند الحميديّ، عن ابن عيينة، حدثنا الزهري، وعند الإسماعيليّ، عن سفيان: سمِعَته أُذناي ووعاه قلبي من الزهري. وقوله: "والشمس طالعة"، أي: ظاهرة. وقوله: "بعدُ"، أي: بضم بلا تنوين، والمستفاد من هذه الأحاديث تعجيل صلاة العصر في أول وقتها، وهذا هو الذي فهمته عائشة، والراوي عنهما عروة، واحتج به على عمر بن عبد العزيز في تأخيره صلاة العصر كما مرّ. وشذّ الطحاويّ فقال: لا دلالة فيه على التعجيل، لاحتمال أن الحجرة كانت قصيرة الجدار، فلم تكن الشمس تحجب عنها إلا بقرب غروبها، فيدل على التأخير لا على التعجيل، لاحتمال أن الحجرة كانت قصيرة الجدار، فلم تكن الشمس تحجب عنها إلا بقرب غروبها، فيدل على التأخير لا على التعجيل. وتعقب بأن الذي ذكره من الاحتمال إنما يتصور مع اتساع الحجرة، وقد عرف بالاستفاضة والمشاهدة أن حُجر أزواج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لم تكن متسعة، ولا يكون الضوء باقيًا في قعر الحجرة الصغيرة إلا والشمس قائمة مرتفعة، وإلا فمتى مالت جدًا ارتفع ضوءها عن قاع الحجرة، ولو كانت الجدر قصيرة. وقول العيني: لا دخل لاتساع الحجرة ولا لضيقها، وإنما الكلام في قصر جدرها معلوم بطلانه، لأن الحجرة الواسعة معلوم طول بقاء الضوء فيها دون الضيقة، وقال النووي: كانت الحجرة ضيقة العرصة، قصيرة الجدار، بحيث كان طول جدارها أقل من مسافة العرصة بشيء يسير، فإذا صار ظل

رجاله خمسة

الجدار مثله، كانت الشمس أبعد في أواخر العرصة، وكأنّ المؤلف لم يقع له حديث على شرطه في تعيين أول وقت العصر وهو مصير ظل كل شيء مثله، فاستغنى بالحديث الدال على ذلك بالاستنباط. وقد أخرج مسلم عدة أحاديث مصرحة بالمقصود، ولم ينقل عن أحد من أهل العلم مخالفة في ذلك إلا عن أبي حنيفة، فالمشهور عنه أنه قال: أول وقت العصر مصير ظل كل شيء مثليه بالتثنية. قال القرطبيّ: خالفه الناس كلهم في ذلك حتى أصحابه، يعني الآخذين عنه، كأبي يوسف ومحمد، فإنهما قالا بقول الجمهور من كون أول وقته إذا صار ظل كل شيء مثله، بالإفراد، وقد انتصر له جماعة ممن جاء بعد الآخذين عنه، فقالوا: ثبت الأمر بالإبراد، ولا يحصل الإبراد إلا بعد ذهاب اشتداد الحر، ولا يذهب في تلك البلاد إلا بعد أن يصير ظل كل شيء مثليه، فيكون أول وقت العصر مصير ظل كل شيء مثليه، وحكاية مثل هذا تغني عن رده، والحق أن أبا حنيفة إنما احتج بحديث ابن عباس السابق في اقتداء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بجبريل، ففيه أنه صلى به العصر في المرة الثانية حين صار ظل كل شيء مثليه، ولكن هذا لا يقاوم ما في الصحيحين، ولا موجب لتقديم ما في المرة الثانية على المرة الأولى، مع أن المرة الأولى فيها المبادرة إلى أول الوقت، والثانية يحتمل أن يكون فعل ذلك فيها لبيان الجواز. رجاله خمسة: الأول: أبو نعيم، وقد مرَّ في الخامس والأربعين من الإيمان، ومرّ ابن عُيينة في الأول من بدء الوحي، ومرّ ابن شهاب في الثالث منه، ومرَّ عروة وعائشة في الثاني منه. ثم قال: قال أبو عبد الله، وقال مالك ويحيى بن سعيد وشعيب وابن أبي حفصة: "والشمس قبل أن تظهر"، وقد مرَّ معنى "قبل أن تظهر" قريبًا، وهذه التعاليق أما تعليق مالك، فقد وصله البخاري في باب المواقيت، وأما طريق

يحيى بن سعيد، فعند الذهلي موصولًا، وإما طريق شعيب، فعند الطبراني في مسند الشاميين، وأما طريق ابن أبي حفصة، فعند إبراهيم بن طهمان من طريق ابن عدي. ورجال التعليق أربعة، أما أبو عبد الله، فالمراد به البخاري نفسه، ومالك قد مرّ في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ يحيى بن سعيد في الأول منه، ومرَّ شعيب بن أبي حمزة في السابع منه. والرابع: ابن أبي حفصة، وهو محمد بن أبي حفصة ميسرة أبو سلمة البصريّ. قال ابن مَعين: ثقة، وقال مرة: صالح، وقال أبو داود: ثقة، غير أن يحيى بن سعيد لم يكن له فيه رأي. وقال النَّسائيّ: ضعيف، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يخطىء. وقال ابن المَديني: ليس به بأس، قال: وقلت ليحيى بن سعيد: هل كتبت عنه؟ فقال كتبت حديثه كله، ثم رميت به، وهو نحو صالح بن أبي الأخضر. قال: وسمعت معاذ بن معاذ يقول: كتبت عنه، ثم رغبت عنه، لأني رأيته يأتي أشعث بن عبد الملك، فإذا قام أتى الى صبيان فأمَلَّها عليهم. وقال ابن عديّ: هو من الضعفاء الذين يكتب حديثهم. قال ابن حجر: هو من أصحاب الزهريّ المشهورين. أخرج له البخاري حديثين من روايته عن الزهري، توبع فيهما وعلّق له غيرهما عن قتادة وأبي جمرة الضُّبَعِيّ وعمرو بن دينار والزُّهريّ وغيرهم. وروى عنه الثّوريّ وابن المبارك وحماد بن زيد وروح بن عبادة وغيرهم.

الحديث الرابع والعشرون

الحديث الرابع والعشرون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَوْفٌ، عَنْ سَيَّارِ بْنِ سَلاَمَةَ، قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَأَبِي عَلَى أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ، فَقَالَ لَهُ أَبِي: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ، فَقَالَ: كَانَ يُصَلِّي الْهَجِيرَ الَّتِي تَدْعُونَهَا الأُولَى حِينَ تَدْحَضُ الشَّمْسُ، وَيُصَلِّي الْعَصْرَ، ثُمَّ يَرْجِعُ أَحَدُنَا إِلَى رَحْلِهِ فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ، وَنَسِيتُ مَا قَالَ فِي الْمَغْرِبِ، وَكَانَ يَسْتَحِبُّ أَنْ يُؤَخِّرَ الْعِشَاءَ الَّتِي تَدْعُونَهَا الْعَتَمَةَ، وَكَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا، وَكَانَ يَنْفَتِلُ مِنْ صَلاَةِ الْغَدَاةِ حِينَ يَعْرِفُ الرَّجُلُ جَلِيسَهُ، وَيَقْرَأُ بِالسِّتِّينَ إِلَى الْمِائَةِ. قوله: "دخلت أنا وأبي"، زاد الإسماعيلي: "حين أخرج ابن زياد من البصرة" وكان ذلك في سنة أربع وستين، كما يأتي في الفتن. وقوله: "المكتوبة"، أي: المفروضة، واستدل به على أن الوتر ليس من المكتوبة، لكون أبي برزة لم يذكره، وفيه بحث. وقوله: "كان يصلي الهجير"، أي: صلاة الهجير، والهجير والهاجرة بمعنى وهو وقت شدة الحر، وسميت الظهر بذلك لأن وقتها يدخل حينئذ. وقوله: "تدعونها الأولى"، أنّث الضمير نظرًا إلى الصلوات الخمس، وقيل: لأنها أول صلاة صلاها جبريل بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، حين بيّن له الصلوات الخمس، وقيل: لأنها أول صلاة النهار، ورد بأن الصبح الصحيح أنها نهارية. وقوله: "حين تدحض الشمس"، أي: حين تزول عن وسط السماء، مأخوذ من الدحض وهو الزلق. وفي رواية لمسلم: "حين تزول الشمس"، ومقتضى هذا أنه كان يصلي الظهر في أول وقتها، ولا يخالف ذلك الأمرُ بالإبراد،

لاحتمال أن يكون ذلك في زمن البرد، أو قبل الأمر بالإبراد، أو عند فقد شروط الإبراد، لأنه يختص بشدة الحرّ، أو لبيان الجواز. وقد يتمسك بظاهره من قال إن فضيلة أول الوقت لا تحصل إلا بتقديم ما يمكن تقديمه، من طهارة وستر عورة وغيرهما، قبل دخول الوقت. ولكن الذي يظهر أن المراد بالحديث التقريب، فتحصل الفضيلة لمن لم يتشاغل عند دخول الوقت بغير أسباب الصلاة. وقوله: "إلى رَحله" بفتح الراء وسكون المهملة، أي: مسكنه. وقوله: والشمس حية، تقدم معناه عند ذكره أولًا في باب وقت الظهر عند الزوال. وقوله: "أن يؤخر من العشاء"، أي: من وقت العشاء. قال ابن دقيق العيد: فيه دليل على استحباب التأخير قليلًا، لأن التبعيض يدل عليه. وتعقب بأنه بعض مطلق لا يدل على قلة ولا كثرة. ويأتي في باب "وقت العشاء" عن جابر أن التأخير إنما كان لانتظار من يجيء لشهود الجماعة، ويأتي الكلام عليها هناك. وقوله: "التي تدعونها العتمة"، فيه إشارة إلى ترك تسميتها بذلك، وسيأتي الكلام عليه في باب مفرد. قال الطيبيّ: لعل تقييده الظهر والعشاء دون غيرهما للاهتمام بشأنهما، فتسمية الظهر بالأولى يشعر بتقديمها، وتسمية العشاء بالعَتمة يشعر بتأخيرها. وسيأتي إن شاء الله تعالى ما قيل فيها من التأخير في بابها. وقوله: "وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها، قال التِّرمذيّ: كره أكثر أهل العلم النوم قبل صلاة العشاء، ورخص بعضهم فيه في رمضان خاصة، ومن نقلت عنه الرخصة، قيدت عنه في أكثر الروايات، بما إذا كان له من يوقظه، أو عرف من عادته أنه لا يستغرق وقت الاختيار بالنوم، وهذا أجوب، حيث قلنا إن علته النهي خوف خروج الوقت، وحمل الطحاويّ الرخصة على ما قبل دخول وقت العشاء، والكراهة على ما بعد دخوله. وقيل: إن الكراهة مختصة بمن تعاطى ذلك اختيارًا، وقيل: ذلك مستفاد من ترك إنكاره صلى الله تعالى عليه وسلم على من رقد من الذين كانوا ينتظرون خروجه لصلاة العشاء. ولو قيل بالفرق بين من غلبه النوم، وهو في مثل هذه الحالة، وبين من غلبه وهو في منزله

رجاله ستة

مثلًا، لكان متجهًا. وإنما كره الحديث بعدها لأن السهر في الليل سبب للكسل من النوم عما يتوجه من حقوق النوم، والطاعات ومصالح الدين، فقد يؤدي إلى النوم عن الصبح، أو عن وقتها المختار، أو عن قيام الليل. وكان عمر بن الخطاب يضرب الناس على ذلك ويقول: أسَمَرًا أوَّل الليل، ونومًا آخره. واذا تقرر أن علة النهي ذلك، فقد يفرق فارق بين الليالي الطوال والقصار، ويمكن أن تحمل الكراهة على الإِطلاق حسمًا للمادة، لأن الشيء إذا شرع لكونه مظنة قد يستمر فيصير مَئنة، وقد قالوا: المكروه منه ما كان في الأمور التي لا مصلحة فيها، أما ما فيه مصلحة وخير، فلا كراهة فيه، وذلك كمدارسة العلم، وحكايات الصالحين، ومحادثة الضيف والعروس للتأنيس، ومحادثة الرجل أهله وأولاده للملاطفة والحاجة، ومحادثة المسافرين لحفظ متاعهم وأنفسهم، والحديث في الإصلاح بين الناس والشفاعة إليهم في خير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإرشاد إلى مصلحة، فكل هذا لا كراهة فيه. وقوله: "وكان ينفتل"، أي: ينصرف من الصلاة، أو يلتفت إلى المأمومين. وقوله: "من صلاة الغداة"، أي: الصبح، وفيه أنه لا كراهة في تسمية الصبح في ذلك. وقوله: حين يعرف الرجل جليسه، إلخ، تقدم الكلام على ما فيه عند ذكر الحديث في باب "وقت الظهر عند الزوال". رجاله ستة: الأول: محمد بن مقاتل، وقد مرَّ في السابع من العلم، ومرّ عبد الله بن المبارك في السادس من الوحي، ومرّ عوف الأعرابي في الأربعين من الإيمان، ومرّ سيار بن سلامة وأبو برزة في الثامن من هذا الكتاب. السادس: سلامة أبو سيار، ولم يذكره تهذيب التهذيب في رجاله الستة، مع أنه هو السائل هنا في هذا الحديث لأبي برزة، ولكن المروي عنه ولده لا هو، ولم أر من ترجمه، ووقعت لابنه عنه رواية في الطبراني الكبير، في ذكر الحوض.

الحديث الخامس والعشرون

الحديث الخامس والعشرون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي الْعَصْرَ، ثُمَّ يَخْرُجُ الإِنْسَانُ إِلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ فَنَجِدُهُمْ يُصَلُّونَ الْعَصْرَ. قوله: "إلى بني عمرو بن عوف"، أي: بقباء، لأنها كانت منازلهم، وكانت على ميلين من المدينة، وكانوا يصلون العصر في وسط الوقت، لأنهم كانوا يشتغلون بأعمالهم وحروثهم. وقوله: "فيجدهم يصلون"، وفي رواية: "فنجدهم" بالنون، ودلَّ هذا الحديث على تعجيل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بصلاة العصر في أول وقتها، وسيأتي عن الزهريِّ "أن الرجل كان يأتيهم والشمس مرتفعة"، وإخراج المصنف لهذا الحديث مشعر بأنه كان يرى أن قول الصحابي: "كنا نفعل كذا" مسند، ولو لم يصرح بإضافته إلى زمن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو اختيار الحاكم. وقال الدارقطني والخطيب وغيرهما: هو موقوف، والحق أنه موقوف لفظًا، مرفوع حكمًا، لأن الصحابيّ أورده في مقام الاحتجاج، فيحمل على أنه أراد كونه في زمن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم. وقد روى ابن المبارك هذا الحديث عن مالك، فقال: "كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يصلي العصر ... " الحديث. أخرجه النَّسائيّ. رجاله أربعة: الأول: عبد الله بن مسلمة، وقد مرّ في الثاني عشر من الإيمان، ومرّ مالك في الثاني من بدء الوحي، ومرّ إسحاق بن عبد الله في الثامن من العلم، ومرَّ أنس في السادس من الإيمان.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد، والعنعنة في ثلاثة، والقول أخرجه البخاري في الصلاة أيضًا، ومسلم والنَّسائيّ في الصلاة.

الحديث السادس والعشرون

الحديث السادس والعشرون حَدَّثَنَا ابْنُ مُقَاتِلٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ يَقُولُ: صَلَّيْنَا مَعَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الظُّهْرَ، ثُمَّ خَرَجْنَا حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، فَوَجَدْنَاهُ يُصَلِّي الْعَصْرَ، فَقُلْتُ: يَا عَمِّ، مَا هَذِهِ الصَّلاَةُ الَّتِي صَلَّيْتَ؟ قَالَ الْعَصْرُ، وَهَذِهِ صَلاَةُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الَّتِي كُنَّا نُصَلِّي مَعَهُ. قوله: "يا عم"، بضم الميم أو بكسرها بدون ياء، وهذا على التوقير، ولكونه أكبر سنًا منه، مع أن نسبهما مجتمع في الأنصار، لكنه ليس عمه حقيقة. وفي الحديث دلالة على أن عمر بن عبد العزيز كان يصلي الصلاة في آخر وقتها، وذلك إما تبعًا لسلفه إلى أن أنكر عليه عُروة، فرجع كما مرَّ، أو كان أخَّرَ لِعُذْرٍ عرض له. وفيه دليل على صلاة العصر في أول وقتها، وهو عند انتهاء وقت الظهر، ولهذا تشكك أبو أمامة في صلاة أنس، أهي الظهر أو العصر؟ ويدل أيضًا على عدم الفاصلة بين الوقتين. رجاله ستة: الأول: محمد بن مقاتل، وقد مرّ في السابع من العلم، ومرّ عبد الله بن المبارك في السادس من بدء الوحي، ومرّ عمر بن عبد العزيز أول كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه، ومرّ أنس في السادس منه، ومرّ أبو أمامة في السادس عشر من كتاب الإيمان. والسادس من السند: أبو بكر عثمان بن سهل بن حُنيف الأنصاريّ الأوسي المدنىّ. ذكره ابن حِبّان في "الثقات". روى عن عمه أبي أمامة بن سهل بن

لطائف إسناده

حنيف، وعنه الثَّوريّ، ومالك وابن المبارك، وأبو ضَمرة. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد، والإِخبار كذلك في موضعين، والقول والسماع. ورواية الصحابيّ عن الصحابيّ، وفيه راويان مروزيان، والبقية مدنيون. أخرجه البخاري هنا، ومسلم والنَّسائيّ في الصلاة. ثم قال المصنف: باب وقت العصر كذا وقع في رواية المستملي دون غيره، وهو خطأ، لأنه تكرار بلا فائدة.

الحديث السابع والعشرون

الحديث السابع والعشرون حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ حَيَّةٌ، فَيَذْهَبُ الذَّاهِبُ إِلَى الْعَوَالِي فَيَأْتِيهِمْ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ، وَبَعْضُ الْعَوَالِي عَلَى أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ أَوْ نَحْوِهِ. قوله: "والشمس مرتفعة حية"، قد مرَّ معنى حياتها في باب "وقت الظهر عند الزوال"، وفيه إشارة إلى بقاء حرها وضوئها. وقوله بعد ذلك: "فيأتيهم والشمس مرتفعة"، أي: دون ذلك الارتفاع، لكنها لم تصل إلى الحد الذي توصف به بأنها منخفضة، وفيه دليل على تعجيله عليه الصلاة والسلام لصلاة العصر، لوصف الشمس بالارتفاع بعد أن تمضي مسافة أربعة أميال. وروى النَّسائيّ والطحاويّ، واللفظ له، عن أنس، قال: "كان رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم يُصلي بنا العصر والشمس بيضاء مُحَلِّقة، ثم أرجع إلى قومي في ناحية المدينة، فأقول لهم قوموا فصلوا، فإن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد صلى". قال الطحاوي: نحن نعلم أن قوم أنس لم يكونوا يصلونها إلا قبل اصفرار الشمس، فدل ذلك على أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، كان يعجلها. وقوله: "وبعض العوالي"، أي: بين بعض العوالي والمدينة المسافة المذكورة، وروى البيهقيّ هذا الحديث، وقال في آخره: "وبُعد العوالي" بضم الموحدة، وبالدال المهملة، وكذا أخرجه المصنف في الاعتصام تعليقًا. ورواه البيهقيّ أيضًا عن الزُّهريّ، وقال: قال أربعة أميال أو ثلاثة. ورواه أبو عَوانة في صحيحه، وأبو العباس السرَّاج عن الزُّهريّ، ولفظه: "والعوالي من المدينة على

رجاله أربعة

ثلاثة أميال"، وأخرجه الدارقطنيّ عن المحامليّ بلفظ: "على ستة أميال"، ورواه عبد الرزاق عن الزُّهريّ بلفظ: "على ميلين أو ثلاثة" فتحصل من هذا أن أقرب العوالي من المدينة مسافة ميلين، وأبعدها مسافة ستة إن كانت رواية المحاملي محفوظة، وفي "المدونة" عن مالك: "أبعد العوالي مسافة ثلاثة أميال"، قال عياض: كأنَّه أراد معظم عمارتها، وإلا فأبعدها ثمانية أميال، وبذلك جزم ابن عبد البر وغير واحد، آخرهم صاحب "النهاية". ويحتمل أن يكون أراد أنه أبعد الأمكنة التي يذهب إليها الذاهب في هذه الواقعة، والعوالى عبارة عن القرى المجتمعة حول المدينة من جهة نجدها، وأما ما كان من جهة تهامتها فيقال لها: "السافلة". واعلم أن قوله: "وبعض العوالي"، إلخ، مُدْرَج من كلام الزهريّ في حديث أنس، بيّن ذلك عبد الرزاق، عن الزهريّ، فقال فيه بعد قوله: "والشمس مرتفعة": قال الزهري: والعوالي من المدينة على ميلين أو ثلاثة. ولم يقف الكرمانيّ على ذلك، فقال: هو إما كلام البخاريّ أو الزهريّ أو أنس، والميل ثلث الفرسخ، وهو ثلاثة آلاف ذراع بذراع محمد بن فرج الشاشي، ويعبر عنه أيضًا بالذراع الهاشميّ، وهو أربعة وعشرون أصبعًا بعدد حروف لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وعرض الأصبع ست حبات من شعير ملتصقة ظهرًا لبطن، والحبة عرضها ست شعرات من شعر البرذون، أو سبعون حبة خردل وزنًا، وقيل: الميل ثلاثة آلاف وخمس مئة ذراع إلى أربعة آلاف ذراع. وقيل: الميل أربعة آلاف خطوة، كل خطوة ذراع ونصف بالذراع المار. رجاله أربعة: الأول: أبو اليمان، والثاني: شعيب بن أبي حمزة، وقد مرا في السابع من بدء الوحي، ومرَّ الزهريّ في الثالث منه، ومرّ أنس في السادس من الإِيمان. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضح واحد، وبصيغة الإفراد في موضع،

والإِخبار بصيغة الجمع في موضع، والعنعنة في موضع، والقول. وفيه من الرواة حِمصيان ومدنيّ وبصريّ. أخرجه مسلم وأبو داود والنَّسائيّ وابن ماجة.

الحديث الثامن والعشرون

الحديث الثامن والعشرون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ الزُّهريِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي الْعَصْرَ، ثُمَّ يَذْهَبُ الذَّاهِبُ مِنَّا إِلَى قُبَاءٍ، فَيَأْتِيهِمْ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ. قوله: "كنا نصلي العصر"، أي: مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، كما يظهر من الطرق الأخرى، وقد أخرجه الدارقطني في غرائبه، عن خالد بن مَخْلَد، عن مالك، مصرحًا بذلك. وقوله: "ثم يذهب الذاهب منا إلى قباء"، كان أنسًا أراد بالذاهب نفسه، كما يشعر بذلك من الرواية الماضية عند النَّسائيّ والطحاويّ. قلت: لكن الرواية الماضية ليس فيها ذكر قباء، وإنما فيها: "ثم أرجع إلى قومي في ناحية المدينة" فالظاهر من عبارته هذه أنه في المدينة نفسها، مع ما هو معلوم من كون مسكن أنس الذي هو بيت أبي طلحة زوج أمه، كان بالمدينة، لا بقباء. قال ابن عبد البر: لم يختلف على مالك أنه قال في هذا الحديث إلى قباء، ولم يتابعه أحد من أصحاب الزُّهريّ، بل كلهم يقولون إلى العوالي، وهو الصواب عند أهل الحديث. قال: فلا شك في أن قوله هذا وهم، وما قاله مردود، فقد تابعه ابن أبي ذيب، عن الزُّهريّ، فقال: إلى قباء، كما قال مالك، نقله الباجيّ، عن الدارقطنيّ. وقد اختلف فيه على مالك، فقد رواه خالد بن مَخْلَد، عن مالك، فقال فيه: "إلى العوالي"، كما قال الجماعة، ونسبة الوهم فيه إلى مالك منتقدة، لأنه إن كان وهمًا احتمل أن يكون منه، وأن يكون من الزُّهريّ، حين حدث به مالكًا، وأيضًا المعنى في الروايتين متقارب، والجمع بينهما ممكن. فرواية مالك أخص، لأن قباء من العوالي، وليست العوالي كلاًّ قباء، فلعل مالكًا لما رأى أن في روإية الزُّهريّ إجمالًا، حملها على الرواية

رجاله أربعة

المفسرة، وهي روايته المتقدمة عن إسحاق، حيث قال فيها: ثم يخرج الإنسان إلى بني عمرو بن عوف، وقد مرَّ أنهم أهل قباء، فبنى مالك على أن القصة واحدة، لأنهما جميعًا حدثاه عن أنس. والمعنى متقارب، فما أحسنه من جمع. ولهذا قال ابن رشيد: قضى البخاريّ بالصواب لمالك بأحسن إشارة، وأوجز عبارة، لأنه قدم أولًا المجمل، ثم أتبعه بحديث مالك المفسر المعين، فما أبعد هذا من كلام ابن عبد البر الذي لم يلتمس فيه لشيخه مخرجًا حسنًا مع وضوحه، وبهذا الجمع يُستغنى عن البحث في كون الخطأ من مالك، أو من الزُّهريّ. وقوله: "إلى قباء فيأتيهم"، أي: أهل قباء، فهو على حد قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}، يعني قوله: إلى قباء. وأما قوله: "فيأتيهم" فالضمير راجع إلى أهل المقدر، ولذلك جمعه، ولو كان لقباء لقال: "فيأتيها" بالإفراد. وقد مرَّ ما في قباء من اللغات في الحديث الثالث من بدء الوحي. قال النووي: في الحديث المبادرة بصلاة العصر في أول وقتها، لأنه لا يمكن أن يذهب بعد صلاة العصر، ميلين أو أكثر، والشمس لم تتغير، ففيه دليل للجمهور في أن أول وقت العصر مصير ظل كل شيء مثله، خلافًا لأبي حنيفة. وقد مضى الكلام على هذا. رجاله أربعة: الأول: عبد الله بن يوسف، والثاني: مالك، وقد مرّا في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ ابن شهاب في الثالث منه، ومرّ أنس في السادس من الإيمان، وفيه التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد، والإخبار كذلك في موضع، والعنعنة في موضعين، والقول. أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه. ثم قال المصنف: باب إثم من فاته العصر أشار المصنف بذكر الإثم إلى أن المراد بالفوات تأخيرها عن وقت الجواز بغير عذر، لأن الإثم إنما يترتب على ذلك، ويأتي تمام الكلام على الفوات في الحديث.

الحديث التاسع والعشرون

الحديث التاسع والعشرون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ عبد الله بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "الَّذِى تَفُوتُهُ صَلاَةُ الْعَصْرِ كَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ". قوله: "الذي تفوته"، قال ابن بزيزة: فيه رد على من كره أن يقال فاتتنا الصلاة، ويأتي الكلام على ذلك في باب مفرد في كتاب الأذان، والمراد بتفويتها أن يخرجها متعمدًا عن وقتها بغروب الشمس، كما في رواية عبد الرزاق، فإنه أخرج الحديث عن ابن جريج، عن نافع، فذكر نحوه، وزاد: "قلت لنافع: حين تغيب الشمس؟ قال: نعم"، وتفسير الراوي اذا كان فقيهًا أولى من غيره. وروى ابن وهب أن المراد إخراجها عن الوقت المختار باصفرار الشمس، كما ورد مفسرًا من رواية الأوزاعي في هذا الحديث. قال فيه: وفواتها أن تدخل الشمس صُفرة. وظاهره إيراد أبي داود له في سننه أنه من كلام الأوزاعيّ، لا أنه من الحديث، لأنه ورد بإسناد منفرد عن الحديث عن الأوزاعي أنه قال: وذلك أن ترى ما على الأرض من الشمس أصفر، ولعله مبنيٌّ على مذهبه في خروج وقت العصر. وفي "العلل" لأبي حاتم: سألت أبي عن حديث رواه الأوزاعي، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعًا: "من فاتته صلاة العصر، وفواتها أن تدخل الشمس صفرة، فكأنما وُتِر أهله ومالَه"، قال أبي: التفسير قولُ نافع. وقال المهلب: إنما أراد فواتها في الجماعة، لا فواتها باصفرار الشمس أو مغيبها. قال: ولو كان لفوات وقتها كله لبطل اختصاص العصر، لأن ذهاب الوقت موجود في كل وقت صلاة، ونوقض بغير ما ادعاه، لأن فوات الجماعة موجود في كل صلاة، لكن

في صدر كلامه أن العصر اختصت بذلك، لاجتماع المتعاقبين من الملائكة فيها. وتعقبه ابن المنير بان الفجر أيضًا فيها اجتماع المتعاقبين، فلا يختص العصر بذلك. قال: والحق أن الله يختص ما يشاء من الصلوات بما شاء من الفضيلة، وبوّب التِّرمذيّ على حديث الباب ما جاء في السهو عن وقت العصر، فحمله على الساهي، وعلى هذا فالمراد بالحديث أنه يلحقه من الأسف عند معاينة الثواب لمن صلى، ما يلحق من ذهب منه أهله وماله. وقد رُوي بمعنى ذلك، عن سالم بن عبد الله بن عمر، ويؤخذ منه التنبيه على أن أسف العامد أشد، لاجتماع فقد الثواب، وحصول الإثم. ويؤيد القولَ الأوّلَ أن المراد إخراجها عن وقتها حديثُ ابن عمر، عند ابن أبى شيبة مرفوعًا: "من ترك العصر حتى تغيب الشمس"، أي: من غير عذر. وظاهر الحديث التغليظ على من تفوته العصر، وأن ذلك مختص بها. وقال ابن عبد البر: يحتمل أن يكون هذا الحديث خرج جوابًا لسائلٍ سأَل عن صلاة العصر، فأجيب. فلا يمنع ذلك إلحاق غيرها من الصلوات بها. وتعقبه النووي بأنه إنما يلحق المنصوص بالمنصوص، إذا عرفت العلة، واشتركا فيها، والعلة هنا لم تتحقق، فلا يلتحق غير العصر بها. وهذا لا يدفع الاحتمال، واحتج ابن عبد البر بما رواه ابن أبي شيبة، عن أبي قِلابة، عن أبي الدرداء مرفوعًا: "من ترك صلاة مكتوبة حتى تفوته ... " الحديث، لكن في إسناده انقطاع، لأن أبا قِلابة لم يسمع من أبي الدرداء. ورواه أحمد عن أبي الدرداء بلفظ: "من ترك العصر" فرجع حديث أبي الدرداء إلى تَعيين العصر. وقد روى ابن حبّان وغيره عن نوفل بن معاوية مرفوعًا: "من فاتته الصلاة فكأنما وتر أهله وماله" وهذا ظاهره العموم في الصلوات المكتوبة. وأخرجه عبد الرزاق من وجه آخر عن نوفل بلفظ: "لأن يوتر أحدكم أهله وماله خير له من أن تفوته صلاة"، وهذا أيضًا ظاهره العموم، فيحصل به الاحتجاج لما قاله ابن عبد البر. ورواه الطبرانيّ من وجه آخر، وزاد فيه: عن

الزهريّ، قلتُ لأبي بكر بن عبد الرحمن لما حدثه به: ما هذه الصلاة؟ قال: العصر. ورواه ابن أبي خيثمة من وجه آخر، فصرح بكونها العصر في نفس الخبر، والمحفوظ أن كونها العصر من تفسير أبي بكر بن عبد الرحمن. ورواه الطحاويّ والبيهقيّ من وجه آخر، وفيه أن التفسير من قول ابن عمر، فالظاهر اختصاص العصر بذلك. وقيل: إن صلاة العصر خصت بذلك لاجتماع المتعاقبين فيها من الملائكة، وعورض بأن صلاة الفجر كذلك يجتمع فيها المتعاقبان، وأجيب باحتمال أن التهديد إنما غلظ في العصر دون الفجر، لأنه لا عذر في تفويتها، لأنها وقت يقظة، بخلاف الفجر، فربَّما كان النوم عندها عذرًا. وقوله: "فكأنما"، كذا الكشميهنيّ، وسقط لفظ "صلاة" والفاء من قوله: "فكأنما". وقوله: "وتر أهله وماله"، أي: بالنصب عند الجمهور على أنه مفعول ثان لوُتِرَ، وأضمر في وتر مفعول لم يسم فاعله، وهو عائد على الذي فاتته. ووتر بمعنى سُلب، وهو يتعدى الى مفعولين، وقيل بالرفع على أن وتر بمعنى أُخذ، فيكون أهله هو المفعول الذي لم يسم فاعله، والمعنى على هذا أُخذ أهله وماله، فصار وَترًا. وقيل: وتر هنا بمعنى نقص، فعلى هذا يجوز رفعه ونصبه، فمن رد النقص إلى الرجل نصبهما، ومن رده إلى الأهل والمال رفعهما. وقيل: منصوب على نزع الخافض، أي: وتر في أهله وماله، فلما حذف الخافض انتصب. ويروى "أهلُه" بالرفع على أنه نائب الفاعل بدون إضمار، بل يقوم أهلُ مقام الفاعل، وماله عطف عليه، أي: انتزع منه أهله وماله، والمعنى أن من وُتر أهله وماله قد تُرك فردًا منها، وبقي بلا أهل ولا مال، فليحذر من تفويتها كحذره من ذهاب أهله وماله. ثم قال: قال أبو عبد الله: {يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} وترت الرجل، إذا قتلت له قتيلًا، أو أخذت له مالًا، وهذه الزيادة في رواية المستملي دون غيره، وأبو عبد

رجاله أربعة

الله المراد به البخاري. واستدل بالآية على نصب أهله لكونها مفعولًا ثانيًا، لنصب الآية لمفعولين الكاف وأعمالكم. وأشار بقوله: "وترت الرجل" إلى أن وتر يتعدى إلى مفعول واحد، وهو يؤيد رواية الرفع، وحقيقته الوتر كما قال الخليل هو الظلم في الدم، فعلى هذا فاستعماله في المال مجاز، لكن قال الجوهريّ: المَوْتور هو الذي قتل له قتيل فلم يدرك بدمه، تقول منه وُتِر، وتقول أيضًا وَتَرَه حقه، أي: نقصه. وقيل: المَوْتُور من أُخِذ أهله وماله وهو ينظر، وذلك أشد لغمّه، فوقع التشبيه بذلك لمن فاتته الصلاة، لأنه يجتمع عليه غمّان، غمّ الإثم، وغمّ فقد الثواب. كما يجتمع على الموتور غمّان، غمّ السلب، وغم الطلب بالثأر، وهذا المعنى تؤيده رواية أبي مسلم الكجّي عن نافع، فذكر نحو هذا الحديث، وزاد في آخره: "وهو قاعد". قال ابن عبد البر: في هذا الحديث إشارة إلى تحقير الدنيا، وأن قليل العمل خير من كثر منها. وقال ابن بطال: لا يوجد حديث يقوم مقام هذا الحديث، لأن الله تعالى قال: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ}، ولا يوجد حديث فيه تكييف المحافظة غير هذا الحديث. رجاله أربعة: الأول: عبد الله بن يوسف، والثاني: مالك، وقد مرّا في الثاني من بدء الوحي، ومرّ نافع في الثالث والسبعين من العلم، ومرّ عبد الله بن عمر أول كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه. أخرجه مسلم وأبو داود والنَّسائيّ. ثم قال المصنف: باب من ترك العصر أي: ما يكون حكمه. قال ابن رشيد: أجاد البخاريّ حيث اقتصر على صدر الحديث، فأبقى فيه محلاًّ للتأويل. وقال غيره: كان ينبغي أن يذكر حديث الباب في الباب الذي قبله، ولا يحتاج إلى هذه الترجمة. وتعقب بأن الترك أصرح في إرادة التعمد من الفوات.

الحديث الثلاثون

الحديث الثلاثون حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ، عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ، قَالَ: كُنَّا مَعَ بُرَيْدَةَ فِي غَزْوَةٍ فِي يَوْمٍ ذِي غَيْمٍ، فَقَالَ: بَكِّرُوا بِصَلاَةِ الْعَصْرِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ تَرَكَ صَلاَةَ الْعَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ". قوله: "ذي غيم"، قيل: خص يوم الغيم بذلك لأنه مظنة التأخير، إما لمتنطع يحتاط لدخول الوقت فيبالغ في التأخير حتى يخرج الوقت، أو لمتشاغل بأمر آخر فيظن بقاء الوقت فيَسْتَرسّ في شغله إلى أن يخرج الوقت. وقوله: "بكِّروا"، أي: عجِّلوا، والتبكير يطلق لكل من بادر بأي شيء كان، في أي وقت كان. وأصله المبادرة بالشيء أول النهار. وقوله: "فإن النبي -صلى الله عليه وسلم-"، الفاء للتعليل، وقد استشكل معرفة تيقن دخول أول الوقت مع وجود الغيم، لأنهم لم يكونوا يعتمدون فيه إلا على الشمس، وأجيب باحتمال أن بريدة قال ذلك عند معرفة دخول الوقت، لأنه لا مانع في يوم الغيم من أن تظهر الشمس أحيانًا، ثم إنه لا يشترط إذا احتجبت الشمس اليقين، بل يكفي الاجتهاد. قلت: مما تعرف به الأوقات معرفة تامة الأوراد والصنائع، فإن الأوقات تعرف بذلك عند أهل الأوراد والصنائع، كما نصت عليه الكتب، وكما جربناه. وقوله: "من ترك صلاة العصر"، زاد معمر في روايته: "متعمدًا"، وكذا أخرجه أحمد من حديث أبي الدرداء. وقوله: "فقد حَبِط عمله"، سقط "فقد" من رواية المستملي، وفي رواية معمر: "أحبط الله عمله"، وقد استدل بهذا الحديث من يقول بتكفير أهل المعاصي من الخوارج وغيرهم. وقالوا: هو نظير قوله تعالى: {ومَنْ يكفُرْ بالِإيمان فقَدْ حَبِطَ عَمَلُه}. وقال ابن عبد البر: مفهوم

رجاله ستة

الآية أن من لم يكفر بالإيمان لم يحبط عمله، فيتعارض مفهومها ومنطوق الحديث، فيتعين تأويل الحديث، لأن الجمع إذا أمكن كان أولى من الترجيح. وتمسك بظاهر الحديث أيضًا الحنابلة ومن قال بقولهم، من أن تارك الصلاة يكفر، وجوابهم ما تقدم. وأيضًا فلو كان على ما ذهبوا إليه لما اختصت العصر بذلك. وأما الجمهور فتأولوا الحديث فافترقوا في تأويله فرقًا، فمنهم من أوَّل سبب الترك، ومنهم من أوّل الحبط، ومنهم من أوَّل العمل، فقيل: المراد من تركها جاحدًا لوجوبها أو معترفًا، لكنه مستخف مستهزىء بمن أقامها، وتعقب بأن الذي فهمه الصحابي إنما هو التفريط، ولهذا أمر بالمبادرة إليها، وفهمه أولى من غيره. وقيل: المراد من تركها متكاسلًا، لكن خرج الوعيد مخرج الزجر الشديد، وظاهره غير مراد، كقوله: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن"، وهذا هو أقرب التأويلات. وقيل: هو من مجاز التشبيه، كأنَّ المعنى: فقد أشبه من حبط عمله. وقيل: معناه كاد أن يحبط، وقيل: المراد بالحبط نقصانُ العمل في ذلك الوقت الذي ترتفع فيه الأعمال إلى الله تعالى، فكأنَّ المراد بالعمل الصلاة خاصة، أي: لا يحصل على أجر من صلى العصر، ولا يرتفع له عملها حينئذ. وقيل: المراد بالعمل في الحديث عملُ الدنيا الذي بسبب الاشتغال فيه ترك الصلاة، يعني: أنه لا ينتفع به ولا يتمتع. وقيل: المراد بالحبط الإبطال، أي: يبطل انتفاعه بعمله في وقت ما، ثم ينتفع به كمن رجحت سيئاته على حسناته، فإنه موقوف في المشيئة، فإن غفر له فمجرد الوقوف إبطال لنفع الحسنة إذ ذاك، وإن عُذب ثم غفر له، فكذلك، وهذا من كلام ابن العربيّ، وقد مرّ كلامه مستوفى في باب "خوف المؤمن من أن يحبط عمله" في كتاب الإيمان. رجاله ستة: الأول: مسلم بن إبراهيم، والثاني: هشام بن أبي عبد الله الدستوائيّ، وقد مرّا في السابع والثلاثين من الإيمان، ومرّ أبو قِلابة في التاسع منه، ومرّ يحيى بن أبي كثير في الثالث والخمسين من العلم.

الخامس: أبو المَليح بن أسامة الهُذَلي، قيل: اسمه عامر، وقيل: زيد بن أسامة بن عمير، وقيل: ابن عامر بن عمير بن حُنيف بن ناجية بن عمرو بن الحارث بن كثير بن هند بن طابخة بن لَحْيان بن هُذيل. وقيل: ابن عمير بن عامر بن أُقيشر. اسمه عمير بن حنيف. روى عن أبيه ومعقل بن يسار وعائشة وابن عباس وغيرهم. وروى عنه أولاده عبد الرحمن ومحمد ومبشر، وروى عنه أيوب وخالد الحذاء وأبو قِلابة وقتادة وغيرهم. وأبو المليح سواه في الستة اثنان: الفارسيّ المدنيّ، والرَّقِّيّ. السادس: بُريدة بن الحُصَيب بالتصغير فيهما، ابن عبد الله بن الحارث بن الأعرج بن سعد بن رزاح بن عديّ بن سهم بن مازن الحارث بن سَلامان بن أسلم بن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر. يكنى أبا عبد الله، وقيل: أبا سهل، وقيل: أبا الخُصيب، وقيل: أبا ساسان، والمشهور الأول. أسلم قبل بدر ولم يشهدها ولا أُحدًا، وشهد الحديبية، وكان ممن بايع بيعة الرضوان تحت الشجرة، وذلك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما هاجر من مكة إلى المدينة فانتهى إلى الغَمِيم، أتاه بريدة بن الحُصيب، فأسلم هو ومن كان معه، وكانوا زهاء ثمانين بيتًا، فصلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العشاء فصلوا خلفه، ثم رجع بُريدة إلى بلاد قومه وقد تعلم شيئًا من القرآن ليلتئذ، ثم قَدِم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد أحد، فشهد معه مشاهده، وشهد الحديبية، وكان من ساكني المدينة، ثم تحول إلى البصرة، ثم خرج منها إلى خراسان غازيًا، فمات بمرو في إمرة يزيد بن معاوية. وبقي ولده بها. وفي الصحيحين أنه غزا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ست عشر غزوة. وروى عنه ولده عبد الله أنه قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يتطَيَّر، ولكن يتفاءل. فركب بُريدة في سبعين راكبًا من أهل بيته من بني سهم، فتلقى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من أنت؟ " قال: أنا بريدة. فالتفت إلى أبي بكر، فقال: "يا أبا بكر، برد أمرنا وصلح". قال: ثم قال لي: "ممن أنت؟ " قلت: من أسلم. قال لأبي بكر: "سلمنا". ثم قال لي: "من بني من أنت؟ " قلت: من بني سهم. قال: "خرج سهمك"، وروى البخاري عن عبد الله بن بُريدة أنه

لطائف إسناده

قال: مات والدي بمرو، وقبر بالحُصين، وهو قائد أهل المشرق ونورهم، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أيُّما رجل من أصحابي ببلدة، فهو قائدهم ونورهم يوم القيامة". كان موته سنة ثلاث وستين، وليس في الصحابة بريدة سواه، له مئة حديث وأربعة وستون حديثًا، اتفقا على حديث، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بأحد عشر. روى عنه ابنه عبد الله وأبو المليح والشّعبي وغيرهم. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع والإفراد والعنعنة والقول في ثلاثة مواضع، وفيه ثلاثة من التابعين على الولاء، ورواته كلهم بصريُّون. أخرجه النَّسائيّ في الصلاة، وابن ماجه وابن حبان. ثم قال المصنف: باب فضل صلاة العصر أي: على جميع الصلوات إلا العصر، لأن حديثي الباب لا يظهر منهما فضل العصر عليهما، ويحتمل أن يكون المراد أن العصر ذات فضيلة لا ذات أفضلية. وتعقب هذا بأن كل الصلوات ذوات فضيلة، فكان الأَوْلى للمصنف أن يقول: باب فضل صلاة الفجر والعصر، لاشتراكهما في المزية المذكورة في الحديثين. ويجاب عن المصنف بأنه إنما خصص العصر بالذكر للاكتفاء، كما في قوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ}، أي: والبرد.

الحديث الحادي والثلاثون

الحديث الحادي والثلاثون حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ جَرِيرٍ، قَالَ كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَنَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةً، يَعْنِي الْبَدْرَ، فَقَالَ: "إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لاَ تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لاَ تُغْلَبُوا عَلَى صَلاَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا". ثُمَّ قَرَأَ {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ}. قَالَ إِسْمَاعِيلُ: افْعَلُوا لاَ تَفُوتَنَّكُمْ. قوله: "حدثنا إسماعيل"، في رواية ابن مردويه التصريح بسماع إسماعيل من قيس، وقيس من جرير. وقوله: "نظر إلى القمر ليلة"، يعني البدر. زاد مسلم: "ليلة البدر"، وأخرجه المصنف من وجه آخر في باب "فضل صلاة الفجر" كذلك. وفي رواية إسحاق: "ليلة أربع عشرة"، وفي رواية بيان الآتية في التوحيد: "خرج علينا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليلة البدر"، ويجمع بينهما بأن القول لهم صدر منه بعد أن جلسوا عنده. وقوله: "إنكم سترون ربكم"، في رواية عبد الله بن نمير ووكيع وأبي أسامة عن إسماعيل عند مسلم: "إنكم ستعرضون على ربِّكم فترونه"، وفي رواية أبي شهاب عند المصنف في "التوحيد": "سترون ربكم عيانًا"، وعلى أن أبا شهاب تفرد بها، فتفرده غير ضار، لأنه حافظ متقن من ثقات المسلمين. وقد قال الهروي: إن ابن أبي أُنسية رواه أيضًا عن إسماعيل بهذا اللفظ، فلم يقع تفرد لأبي شهاب. وقوله: "لا تضامُّون في رؤيته"، أي: بضم التاء وتشديد الميم، وبفتح التاء مع التشديد، معناه: لا تجتمعون لرؤيته في جهة، ولا يضم بعضكم بعضًا. ومعناه بالفتح كذلك، والأصل لا تتضامون في رؤيته، بحذف إحدى التاءَين، أي: باجتماع في جهة. وفي رواية: "تُضامُون" بضم التاء وتخفيف الميم من

الضيم، وأصله الغلبة على الحق والاستبداد به، والمعنى: لا تُظلمون فيه برؤية بعضكم دون بعض، فإنكم ترونه في جهاتكم كلها، وهو متعال عن الجهة. وفي رواية عند المصنف في الرقاق: "هل تُضَارون" بضم أوله وبالضاد المعجمة وتشديد الراء بصيغة المفاعلة من الضر. وأصله "تضارَرون" بكسر الراء وفتحها، أي: لا تضرون أحدًا، ولا يضركم بمنازعة ولا مجادلة ولا مضايقة. وجاء بتخفيف الراء من الضير، وهو لغة في الضُّرّ، أي: لا يخالف بعض بعضًا، فيكذبه وينازعه، فيضيره بذلك، يقال: ضارَه يَضِيره. وقيل: المعنى لا تضايقون، أي: لا تزاحمون. كما جاء في الرواية السابقة لا تضامون، وقيل: المعنى لا يحجب بعضكم بعضًا عن الرؤية فيضره. وحكى الجوهري: ضرني فلان إذا دنا مني دنوًا شديدًا. قال ابن الأثير: فالمراد المضارة بازدحام. وفي رواية عند المصنف في باب "فضل صلاة الفجر": "لا تضامون أو تضاهون"، بالشك، ومعنى التي بالهاء: لا يشتبه عليكم، ولا ترتابون فيه، فيعارض بعضكم بعضًا. وفي رواية شعيب عنده في فضل السجود: "هل تُمارون" بضم أوله وتخفيف الراء، أي: يجادلون في ذلك، أو يدخلكم فيه شك، من المرية، وهو الشك. وجاء بفتح أوله وفتح الراء على حذف إحدى التاءين. وفي رواية للبيهقي: "تتمارون" بإثباتهما. والتشبيه برؤية القمر لتعين الرؤية دون تشبيه المرئي سبحانه وتعالى. وقال ابن الأثير: قد يتخيل بعض الناس أن الكاف كاف التشبيه للمرئي، وهو غلط، وإنما هي كاف التشبيه للرؤية، وهو فعل الرأي، ومعناه أنها رؤية يبعد عنها الشك، مثل رؤيتكم القمر، فالتمثيل واقع في تحقيق الرؤية لا في الكيفية، لأن الشمس والقمر متحيزان. والحق سبحانه منزه عن ذلك. قيل: الحكم في التمثيل بالقمر أنه تتيسر رؤيته للرائي بغير تكلف ولا تحديق يضر بالبصر، بخلاف الشمس. وقد ورد في بعض الروايات ذكر الشمس والقمر. كما أخرجه المصنف في الرقاق عن أبي هريرة بلفظ: "هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله. قال: هل تضارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله" وفي رواية أبي هُريرة أيضًا، عند المصنف

في "التوحيد"، تقديمُ القمر على الشمس. وقد قال ابن المنير عند ذكرهما: إنما خص الشمس والقمر بالذكر، مع أن رؤية السماء بغير سحاب أكبر آية، وأعظم خلقًا من مجرد الشمس والقمر، لما خصا به من عظيم النور والضياء، بحيث صار التشبيه بها فيمن يوصف بالجمال والكمال سائغًا شائعًا في الاستعمال. وقد قالوا: إن في عطف الشمس على القمر في الرواية الأخيرة، مع أن تحصيل الرؤية بذكره كافٍ، لأن القمر لا يدرك وصفَه الأعمى حسًّا، بل تقليدًا، والشمس يدركها الأعمى حسًا بوجود حرها إذا قابلها وقت الظهيرة مثلًا، فحسن التأكيد. وذكره للقمر في محل ذكره لهما في محل آخر، إن ثبت أن المجلس واحد، خدشٌ في الحكمة التي مرت في انفراد القمر. وقد أبدى ابن أبي جمرة حكمة في الرواية التي وقع فيها الابتداء بذكر القمر، فقال: في الابتداء بذكر القمر متابعة للخليل، فكما أمر باتباعه في الملة اتبعه في الدليل، فاستدل به الخليل على إثبات الوحدانية، واستدل به الحبيب على إثبات الرؤية، فاستدل كل منهما بمقتضى حاله، لأن الخلة تصح بمجرد الوجود، والمحبة لا تقع غالبًا إلا بالرؤية، وقد مرت الحكمة في تأخير الشمس غير هذه، ويأتي إن شاء الله تعالى الكلام على ما قيل في الرؤية قريبًا. وقوله: "فإن استطعتم أن لا تغلبوا" فيه إشارة إلى قطع أسباب الغلبة المنافية للاستطاعة، كالنوم والشغل، ومقاومة ذلك بالاستعداد له. وقوله: "فافعلوا"، أي: عدم الغلبة، وهو كناية عما ذكر من الاستعداد، وذلك كناية عن الإتيان بالصلاة، لأنه لازم الإتيان، فكأنّه قال: فأتوا بالصلاة فاعلين لها. وفي رواية شعبة المتقدمة: "فلا تغفلوا عن صلاة ... " الحديث. وقوله: "قبل طلوع الشمس وقبل غروبها"، زاد مسلم: "يعني العصر والفجر" ولابن مردويه عن إسماعيل: "قبل طلوع الشمس صلاة الصبح، وقبل غروبها صلاة العصر"، قال ابن بطال: قال المهلب: قوله: "فإن استطعتم أن لا تُغلبوا عن صلاة"، أي: في جماعة. قال: وخص هذين الوقتين لاجتماع الملائكة فيهما، ورفْعهم أعمال العباد لئلا يفوتهم هذا الفضل العظيم، وبهذا

تظهر مناسبة إيراد حديث: "يتعاقبون ... " عقب هذا الحديث، لكن لم يظهر وجه تقييد ذلك بكونه في جماعة، وإن كان فضل الجماعة معلومًا من أحاديث أُخر، بل ظاهر الحديث يتناول من صلاهما ولو منفردًا، إذ مقتضاه التحريض على فعلهما، وذلك أعم من كونه في جماعة أو لا. قال الخطابي: هذا يدل على أن الرؤية قد يرجى نيلها بالمحافظة على هاتين الصلاتين. وقوله: "ثم قرأ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} "، والمراد بالتسبيح الصلاة، وفي جميع روايات البخاري إبهام فاعل قرأ، وفي أكثر روايات غيره، وظاهر السياق أنه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وعليه حمله بعض الشرّاح، ولم يوجد ذلك صريحًا. وأخرجه مسلم بإسناد حديث الباب "ثم قرأ جرير"، أي: الصحابي، وكذلك أخرجه أبو عَوانة في صحيحه، فظهر أن في حديث الباب وما وافقه إدراجًا، ووجه مناسبة ذكر هاتين الصلاتين عند ذكر الرؤية أن الصلاة أفضل الطاعات، وقد ثبت لهاتين الصلاتين من الفضل على غيرهما ما ذكر من اجتماع الملائكة فيهما، ورفع الأعمال وغير ذلك، فهما أفضل الصلوات، فناسب أنْ يجازى المحافظ عليهما بأفضل العطايا، وهو النظر إلى الله تعالى. وقيل: لما حقق رؤية الله تعالى برؤية القمر والشمس، وهما آيتان عظيمتان، شرعت لخسوفهما الصلاة والذكر ناسب من يحب رؤية الله أن يحافظ على الصلاة عند غروبها، وفي هذا تكلف. اعلم أن رؤية المؤمنين لله تعالى في الآخرة ثابتة بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة وسلف الأمة. وقد رُوِيَ أحاديث أكثر من عشرين صحابيًا، ومنعتها المعتزلة والخوارج وبعض المرجئة، واحتجوا في ذلك بوجوه يأتي إبطالها إن شاء الله تعالى، ومن الأحاديث الواردة في ذلك المطربة للمؤمنين، من غير أحاديث الصحيحين، ما أخرجه عبد بن حُميد والتِّرمذيّ والطبريّ وغيرهم، وصححه الحاكم عن ابن عمر، عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، قال: "إن أدنى أهل الجنة منزلة لَمَن ينظر في ملكه ألف سنة، وإن أفضلهم منزلة لمن ينظر في وجه ربه عز وجل في كل يوم مرتين"، قال: ثم تلا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ}

بالبياض والصفاء، {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}، قال: تنظر كل يوم في وجه الله تعالى"، وفي رواية: "لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه وخدمه ونعيمه، وسرره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على الله تعالى من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية". وروى هذا الحديث عن ابن عمر موقوفًا، ولا يضر وقفه، لأنه لا يقال من قبل الرأي، فله حكم الرفع. وأخرج الطبري بسند صحيح عن عكرمة في هذه الآية، قال: تنظر إلى ربها نظرًا. وأخرج عن الحسن: تنظر إلى الخالق، وحق لها أن تنظر. وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة: انظروا ماذا أعطى الله عبده من النور في عينه من النظر إلى وجه ربه الكريم عيانًا، يعني في الجنة. ثم قال: لو جعل نور جميع الخلق في عيني عبد، ثم كشف عن الشمس ستر واحد، ودونها سبعون سترًا ما قدر على أن ينظر إليها، ونور الشمس جزء من سبعين جزءًا من نور الكرسي، ونور الكرسي جزء من سبعين جزءًا من نور العرش، ونور العرش جزء من سبعين جزءًا من نور الستر. وفيه إبراهيم بن الحكم بن أبان، وهو ضعيف. وأخرج عبد بن حميد، عن عكرمة من وجه آخر إنكار الرؤية، ويمكن الجمع بالحمل على غير أهل الجنة. قلت: ويؤيد الحمل المذكور ما مرَّ قريبًا في الأثر المروي عنه، "يعني في الجنة"، وأخرج أيضًا بسند صحيح عن مجاهد: ناظرة تنظر الثواب. وعن أبي صالح نحوه، ويأتي قريبًا رد هذا التأويل. وبالغ ابن عبد البر في رد ما نقل مجاهد، وقال: هو شذوذ، وقد تمسك به بعض المعتزلة، ويأتي في متمسكاتهم الواهية، وقد استدل البخاري وغيره من العلماء على ثبوت الرؤية يوم القيامة بقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}، قلت: وهي أقوى دليل. قال البيهقي: وجه الدليل من الآية أن لفظ ناضرة الأول، بالضاد المعجمة الساقطة من النضرة، بمعنى السرور. ولفظ ناظرة، بالظاء المعجمة المشالة يحتمل في كلام العرب أربعة أشياء: نظر التفكر والاعتبار كقوله تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ}، ونظر الانتظار كقوله تعالى: {مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً}، ونظر التعطف والرحمة كقوله تعالى: {لا ينظر الله إليهم}، ونظر الرؤية كقوله تعالى: {يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ

نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ}، والثلاثة الأُوَل غير مرادة، أما الأول فلأن الآخرة ليست بدار استدلال، وأما الثاني فلأن في الانتظار تنغيصًا وتكديرًا، والآية خرجت مخرج الامتنان والبشارة، وأهل الجنة لا ينتظرون شيئًا، لأنه مهما خطر لهم أُتوا به. قلت: يمكن الجواب عن هذا بأن الانتظار واقع في الموقف قبل دخول الجنة لا بعد دخولها، وسياق الكلام دال عليه، والآية الآتية بعدها دالة على ذلك، لأن فيها: {تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} فوقع التصريح بأن هذا قبل دخول أهل النارِ النارَ، وأهل الجنةِ الجنةَ. ثم قال: وأما الثالث فلا يجوز، لأن المخلوق لا يتعطف على خالقه، فلم يبق إلا نظر الرؤية، وانضم إلى ذلك أن النظر إذا ذكر مع الوجه انصرف إلى نظر العينين اللتين في الوجه، ولأنه هو الذي يتعدى بإلى، كقوله تعالى: {يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ}، وقوله في الرواية المارة: "سترون ربَّكم عيانًا" كالصريح في هذا، أو صريح وإذا ثبت أن ناظرة بمعنى رائية، اندفع قول من زعم أن المعنى ناظرة إلى ثواب ربها، لأن الأصل عدم التقدير. وأيد منطوق الآية في حق المؤمنين بمفهوم الآية الأخرى في حق الكافرين: {إنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}، وقيّدها بالقيامة في الآيتين إشارة إلى أن الرؤية تحصل للمؤمنين في الآخرة دون الدنيا. وهذا صريح حديث أبي امامة عند مسلم: "واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا". وقد أخرج أبو العباس السرّاج، شيخ شيخ البخاري في تاريخه، عن مالك، وقيل قيل له: يا أبا عبد الله، قول الله تعالى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}، يقول قوم: إلى ثوابه، قال: كذبوا، فأين هم من قوله: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}. ومن حيث النظر إن كل موجود يصح أن يرى، وهذا على سبيل التنزل، وإلا فصفات الله تعالى لا تقاس على صفات المخلوقين، وأدلة السمع طافحة بوقوع ذلك في الآخرة لأهل الإيمان دون غيرهم، ومنع من ذلك في الدنيا، إلا أنه اختلف في نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم، وما ذكروه من الفرق بين الدنيا والآخرة، من أن أبصار أهل الدنيا فانية، وأبصارهم في الآخرة باقية جيد. ولكن لا يمنع تخصيص ذلك بمن ثبت وقوعه له.

قلت: رؤيته عليه الصلاة والسلام لربه عز وجل ليلة الإسراء لا تدخل في الرؤية الدنيوية، لأن الدنيا على الصحيح ما على الأرض من الهواء والجو، والرؤية الواقعة في الملكوت الأعلى خارقة للعادة، فيمكن أن يعطى حينئذ قوة إبصار أهل الملكوت الأعلى، الذين هو فيهم الآن. واختلف من أثبت الرؤية في معناها، فقال قوم: يحصل للرائي العلم بالله تعالى برؤية العين، كما في غيره من المرئيات، وهو على وفق قوله في حديث الباب: "كما ترون القمر" إلا أنه منزه عن الجهة والكيفية، وذلك أمر زائد على العلم، وهذا هو الحق. وقال بعضهم: إن المراد بالرؤية العلم، وعبر عنها بعضهم بأنها حصول حالة في الإنسان نسبتها إلى ذاته المخصوصة نسبة الإبصار إلى المرئيات. وقال بعضهم: رؤية المؤمن لله نوع كشف وعلم، إلا أنه أتم وأوضح من العلم، وهذا أقرب إلى الصواب من الأول. وتعقب الأول بأنه حينئذ لا اختصاص لبعض دون بعض، لأن العلم لا يتفاوت وتعقبه ابن التين بأن الرؤية بمعنى العلم تتعدى لمفعولين، تقول: رأيت زيدًا فقيهًا، أي: علمته. فإن قلت: رأيت زيدًا منطلقًا، لم يفهم منه إلا رؤية البصر. ويزيده تحقيقًا قوله في الخبر: "إنكم سترون ربكم عيانًا" لأن اقتران الرؤية بالعيان لا يحتمل أن يكون بمعنى العلم، وتمسك المانعون لها من المعتزلة والخوارج، بقوله عليه الصلاة والسلام في حديث سؤال جبريل: "أن تعبد الله كأنَّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"، فقالوا: فيه إشارة إلى انتفاء الرؤية، وتعقب بأن المنفي فيه رؤيته في الدنيا، لأن العبادة خاصة بها، فلو قال قائل: إن فيه إشارة إلى جواز الرؤية في الآخرة لما أبعد، وتمسكوا بأن من شرط المرئي أن يكون في جهة، والله منزه عن الجهة. ويأتي رده، واتفقوا على أنه يرى عباده فهو راء لا من جهة، وتمسكوا بأن الرؤية تُوجب كون المرئي محدثًا وحالاًّ في مكان، وأوَّلوا قوله تعالى: {نَاظِرَةٌ} بمنتظرة، وهو خطأ، لأنه لا يتعدى. إلى آخر ما مرَّ. قال ابن بطال: وما تمسكوا به فاسد، لقيام الأدلة على أن الله تعالى موجود، والرؤية في تعلقها بالمرئي بمنزلة العلم في تعلقه بالمعلوم، فإذا كان تعلق العلم

بالمعلوم لا يوجب حدوثه، فكذلك المرئي، وتمسكوا بقوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ}، وبقوله تعالى لموسى: {لَنْ تَرَانِي}، فقالوا في الأول: يلزم من نفي الإدراك بالبصر نفي الرؤية، وقالوا في الثالث: إن "لن" للتأبيد، بدليل قوله تعالى: {لَنْ تَتَّبِعُونَا}، والجواب عن الأول أن المراد من الإدراك الإحاطة، ونحن نقول به، فنفي الإدراك لا يستلزم نفي الرؤية، لإمكان رؤية الشيء من غير إحاطة بحقيقته، وبأن المراد لا تدركه الأبصار في الدنيا، جمعًا بين دليلَي الآيتين. وعن الثاني بأنَّا لا نسلم أن "لن" تدل على التأبيد، بدليل قوله تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} مع أنهم يتمنونه في الآخرة في قوله تعالى: {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ}، وبان المراد: لن تراني في الدنيا جمعًا أيضًا، ولأن نفي الشيء لا يقتضي احالته مع ما جاء من الأحاديث الدالة على وفق الآية، وقد تلقاها المسلمون بالقبول من لدن الصحابة والتابعين، حتى حدث من أنكر الرؤية، وخالف السلف. وقال القرطبي: اشترط النفاة في الرؤية شروطًا عقلية، كالبينة المخصوصة، والمقابلة واتصال الأشعة، وزوال الموانع كالبعد والحجب، في خبط لهم وتحكم. وأهل السنة لا يشترطون شيئًا من ذلك سوى وجود المرئيّ، وأن الرؤية إدراك يخلقه الله تعالى للرائي فيرى المرئيّ وتقترن بها أحوال يجوز تبدلها. وقد أفرطت طائفة من المتكلمين، كالسالمية من أهل البصرة، فزعموا أن في الحديث دليلًا على أن الكفار يرون الله تعالى يوم القيامة من عموم اللقاء والخطاب، وقال بعضهم: يراه بعض دون بعض، واحتجوا بحديث أبي سعيد، حيث جاء فيه أن الكفار يتساقطون في النار إذا قيل لهم ألا تردون، ويبقى المؤمنون فيهم المنافقون، فيرونه لمّا ينصب الجسر، ويتبعونه، ويعطى كل إنسان منهم نوره، ثم يطفأ نور المنافقين. وأجابوا عن قوله: {إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} بأنه بعد دخول الجنة، وهو احتجاج مردود، فإن بعد هذه الآية: {ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ}، فدل على أن الحجب وقع قبل ذلك. وأجاب بعضهم بأن الحجب يقع عند

رجاله خمسة

إطفاء النور، ولا يلزم من كونه يتجلى للمؤمنين ومن معهم ممن أدخل نفسه فيهم أن تعمهم الرؤية، لأنه أعلم بهم، فينعم على المؤمنين برؤيته دون المنافقين، كما يمنعهم من السجود، والعلم عند الله تعالى. قلت: يكفي من بطلان قول هذه الطائفة أن رؤية الله تعالى لا نعيم في الجنة يقاربها، والكفار في الآخرة ليس لهم إلا العذاب، فكيف يعطون هذا النعيم الذي لا وراء وراءه. فقد أخرج مسلم عن صهيب حديثاً فيه: "فيكشف الحجاب، فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم الله تعالى شيئًا أحب إليهم من النظر إليه"، وفي "سنن اللالكائي"، عن أنس وأبيُّ بن كعب وكعب بن عجرة: "سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن "الزيادة" في كتاب الله تعالى، قال: "النظر إلى وجهه"، ومباحث الرؤية كثيرة جدًا، وقد استوفيناها استيفاء لا مزيد عليه في خاتمة كتابنا: "متشابه الصفات". رجاله خمسة: الأول: الحميديّ، وقد مرّ في الأول من بدء الوحي. والثاني: مروان بن معاوية بن الحارث بن أسماء بن خارجة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفَزَاريّ، أبو عبد الله الكوفيّ الحافظ، سكن مكة ودمشق، وهو ابن عم أبي إسحاق الفزاريّ، أحد شيوخ أحمد المشهورين. قال أحمد: كان ثقة حافظًا يحفظ حديثه كله كأنَّه نصب عينيه. وفي رواية عنه: ثبْت حافظ. في رواية: ما كان أحفظه. وقال ابن مَعين ويعقوب بن شيبة والنَّسائيّ: ثقة. وقال الدوريّ: سألت يحيى بن مَعين عن حديث مروان بن معاوية، عن عليّ بن أبي الوليد، قال: هذا علي بن غُراب، والله ما رأيت أميل للتدليس منه. وقال علي بن المَدِينيّ: ثقة فيما يروي عن المعروفين، وضعيف فيما يروي عن المجهولين. وقال ابن نمير: كان يلتقط الشيوخ من السكك. وقال العجليّ: ثقة، ثبت، ما حدّث عن المعروفين فصحيح، وما حدّث عن المجهولين ففيه ما فيه، وليس بشيء. وقال أبو حاتم: صدوق لا يدفع عن صدقه، ويكثر روايته

لطائف إسناده

عن الشيوخ المجهولين. وقال أبو داود: كان يقلب الأسماء. وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن مَعين: كان مروان يغيّر الأسماء، يُعَمِّي على الناس، كان يحدث عن الحكم بن أبي خالد، وإنما هو حكم بن ظهير. وقال عثمان الدارميّ، عن ابن مَعين: ثقة، ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة. وذكره ابن حِبّان في "الثقات". وفي "الميزان" قال ابنُ مَعين: وجدت بخط مروان: "وكيع رافضيٌّ"، فقلت له: وكيع خير منك، فسبني. قال الذهبي: كان به عالمًا، لكنه يروى عمن دب ودرج، وكان فقيرًا ذا عيال، فكانوا يبرونه، يعني الذين يروي عنهم، كأنَّه يجازيهم. احتج به الأئمة. قال ابن حجر: أخرج البخاريّ من حديثه عن خمسة من الشيوخ المعروفين، وهم: حميد وعاصم الأحول وأبو يعقوب العبديّ وإسماعيل بن أبي خالد وهاشم بن هاشم. روى عن إسماعيل بن أبي خالد وحميد الطويل وعاصم الأحول ويحى بن سعيد الأنصاريّ وعوف الأعرابيّ وغيرهم. وروى عنه أحمد بن حنبل وابنُ مَعين وإسحاق بن راهويه والحميدي وعلي بن المَدينيّ وداود بن رشيد ومحمد بن سلام البِيْكَنديّ وغيرهم. مات فجأة سنة ثلاث وتسعين ومئة قبل التروية بيوم. الثالث: إسماعيل بن أبي خالد، وقد مرّ في الثالث من الأول، ومرّ قيس بن أبي حازم، وجرير بن عبد الله في الخمسين من الإيمان. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، والعنعنة في موضعين، والقول. ورواته ما بين مكيّ وكوفيّ، وفيه رواية تابعي عن تابعي، وأحد الرواة من المخضرمين، وفيه الحميديّ من أفراد البخاري. أخرجه البخاريّ هنا وفي الصلاة وفي التفسير والتوحيد، ومسلم في الصلاة، وأبو داود وابن ماجه في السنة، والنسائي.

الحديث الثاني والثلاثون

الحديث الثاني والثلاثون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: أَخبرنا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلاَئِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلاَئِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ وَصَلاَةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ، وَهْوَ أَعْلَمُ بِهِمْ، كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ". قوله: "يتعاقبون"، أي: تأتي طائفة عقب طائفة، ثم تعود الأولى عقب الثانية. قال ابن عبد البر: وإنما يكون التعاقب بين طائفتين أو رجلين، بأن يأتي هذا مرة، ويعقبه هذا. ومنه تعقيب الجيوش: أن يجهز الأمير بعثًا إلى مدة، ثم يأذن لهم في الرجوع بعد أن يجهز غيرهم إلى مدة، ثم يأذن لهم في الرجوع بعد أن يجهز الأولين. قال القرطبي: الواو في قوله: "يتعاقبون" علامة الفاعل المذكر المجموع على لغة بلحارث، وهم القائلون: "أكلوني البراغيث". ومنه قول الشاعر: بحَوْرانَ يعصرنَ السليطَ أقاربه وهي لغة فاشية، وحمل الأخفش عليها قوله تعالى: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا}، وقد تعسف بعض النحاة في تأويلها وردها للبدل، وهو تكلف مستغنى عنه، فإن تلك اللغة مشهورة، ولها وجه من القياس واضح. وقال غيره في تأويل الآية: الضمير في أسروا عائد على الناس المذكورين أولًا، والذين ظلموا بدل من الضمير. وقيل: التقدير أنه لما قيل: "وأسروا النجوى"، قيل: ومن هم؟ قال: "الذين ظلموا". والأول أقرب إذ الأصل عدم التقدير. وقال جماعة من الشراح: إن حديث الباب من هذا القبيل، ووافقهم ابن مالك،

وناقشه أبو حيان زاعمًا أن هذه الطريق اختصرها الراوي، واحتج لذلك بما رواه البزار من وجه آخر عن أبي هريرة بلفظ: "إن لله ملائكةً يتعاقبون فيكم: ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار ... " الحديث. وقد أخرجه البخاري في بدء الخلق عن أبي الزناد بلفظ: "الملائكة يتعاقبون فيكم" فاختلف فيه على أبي الزناد، فالظاهر أنه كان تارة يذكر هكذا، وتارة هكذا، فيقوى بحديث أبي حيان، ويؤيد ذلك أن غير الأعرج من أصحاب أبي هريرة قد رووه تامًا، فأخرجه أحمد ومسلم عن هَمّام بن مُنبِّه، عن أبي هريرة مثل رواية البخاريّ بحذف "إن" من أوله، وأخرجه ابن خُزيمة والسَّرّاج عن أبي صالح، عن أبي هريرة، بلفظ: "إن لله ملائكة يتعاقبون"، وهذه هي التي أخرجها البزار. وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" بإسناد صحيح، عن أبي موسى، عن أبي هريرة، بلفظ: "إن الملائكة فيكم يتعاقبون"، فإذا عرف هذا، فالعزو إلى الطريق التي تتحد مع الطريق التي وقع فيها القول أولى من طريق مغاير لها، فليعزُ ذلك إلى طريق البخاريّ والنَّسائيّ عن أبي الزناد، لا إلى البزار وغيره، مما لا يتحد مع الطريق المذكورة في الباب. وقوله: "فيكم"، أي: المصلين أو المؤمنين مطلقًا. والأول أولى، لأن الفضيلة المذكورة للمصلين. وقوله: "ملائكة" بالتنكير في الموضعين، ليفيد أن الثانية غير الأُولى، كما قيل في قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}، إنه استئناف وعده تعالى، بأن العسر مشفوع بيسر آخر، لقوله: "لن يغلب عسر يسرين" فإن العسر معروف فلا يتعدد سواء كان للعهد أو للجنس، واليسر منكر فيحتمل أن يراد بالثاني يسر ما، يغاير ما أُريد بالأول. والمراد بالملائكة: الحَفَظَة، نقله عياض وغيره عن الجمهور، وتردد ابن بزيزة. وقال القرطبيّ: الأظهر عندي أنهم غيرهم، ويقويه أنه لم ينقل أن الحفظة يفارقون العبد، ولا أن حفظة الليل غير حفظة النهار، وبأنهم لو كانوا هم الحفظة، لم يقع الاكتفاء في السؤال منهم عن حالة الترك دون غيرها، في قوله: "كيف تركتم عبادي؟ ". وقوله: "ويجتمعون"، قال ابن المنير: التعاقب

مغاير للاجتماع، وأجيب بأن تعاقب الصنفين لا يمنع اجتماعهما، لأن التعاقب أعم من أن يكون معه اجتماع كهذا، أو لا يكون معه اجتماع، كتعاقب الضدَّين، أو المراد حضورهم معهم الصلاة في الجماعة، فينزل على حالين. وتخصيص اجتماعهم في الورود والصدور بأوقات العبادة تكرمه للمؤمنين، ولطف بهم، لتكون شهادتهم بأحسن الثناء وأطيب الذكر، ولم يجعل اجتماعهم معهم في حال خلواتهم بلذاتهم، وانهماكهم في شهواتهم، وفي هذا شيء على قول من رجح أنهم الحفظة، إذ لا شك أن الذين يصعدون كانوا مقيمين عندهم، مشاهدين لأعمالهم في جميع الأوقات، فالأَوْلى أن يقال: الحكمة في كونه تعالى لا يسألهم عن الحالة التي تركوهم عليها ما ذكر، ويحتمل أن يقال: إن الله تعالى يستر عنهم ما يعملونه فيما بين الوقتين، لكنه بناء على أنهم غير الحفظة. وفيه إشارة إلى الحديث الأخر: "الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما" فمن ثَمّ وقع السؤال من كل طائفة عن آخر شيء فارقهم عليه. وقوله: "ثم يعرج الذين باتوا فيكم"، العروج الصعود، واستدل به بعض الحنفية على استحباب تأخير وقت العصر، ليقع عروج الملائكة إذا فرغ منها آخر النهار، وتعقب بأن ذلك غير لازم، إذ ليس في الحديث ما يقتضي أنهم لا يصعدون إلا ساعة الفراغ من الصلاة، بل جائز أن تفرغ الصلاة ويتأخروا بعد ذلك إلى آخر النهار، ولا مانع أيضًا من أن تصعد ملائكة النهار وبعض النهار باق، وتقيم ملائكة الليل، ولا يرد على ذلك وصفهم بالمبيت بقوله: "باتوا فيكم" لأن اسم المبيت صادق عليهم ولو تقدمت إقامتَهم بالليل إقامتُهم قطعة من النهار. واختلف في سبب الاقتصار على سؤال الذين باتوا دون الذين ظلوا، فقيل: هو من باب الاكتفاء بذكر أحد المثلين عن الآخر، كقوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى}، أي: وإن لم تنفع. وقوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ}، أي: والبرد. قاله ابن التين وغيره. وقيل: الحكمة في الاقتصار على ذلك، أن حكم طرفَيْ النهار يُعلم من حكم طرفي الليل، فلو ذكره لكان تكرارًا،

وقيل: الحكمة في الاقتصار على ذلك الشق دون الآخر، أن الليل مظنة المعصية، فلما لم يقع منهم عصيان مع إمكان دواعي الفعل من إمكان الإخفاء ونحوه، واشتغلوا بالطاعة، كان النهار أَولى بذلك، فكان السؤال عن الليل أبلغ من السؤال عن النهار، لكون النهار محل الاشتهار. وقيل: الحكمة في ذلك أن ملائكة الليل إذا صلوا الفجر عرجوا في الحال، وملائكة النهار إذا صلوا العصر لبثوا إلى آخر النهار، لضبط بقية عمل النهار، وهذا ضعيف، لأنه يقتضي أن ملائكة النهار لا يسألون عن وقت العصر، وهو خلاف ظاهر الحديث. قلت: ليس في التأخير لضبط بقية عمل النهار ما يقتضي عدم سؤالهم عن وقت العصر، لإمكان سؤالهم بعد صعودهم عند انتهاء النهار. وقيل، بناء على أنهم الحفظة: إن ملائكة النهار هم الذين لا يبرحون عن ملازمة بني آدم، وملائكة الليل هم الذين يعرجون ويتعاقبون. ويؤيده ما رواه أبو نعيم عن الأسود بن يزيد النخعي، قال: "يلتقي الحارسان"، -أي: ملائكة الليل والنهار- عند صلاة الصبح، فيسلم بعضهم على بعض، فتصعد ملائكة الليل، وتلبث ملائكة النهار، وقيل: يحتمل أن يكون العروج إنما يقع عند صلاة الفجر خاصة، وأما النزول فيقع في الصلاتين معًا وفيه التعاقب، وصورته أن تنزل طائفة عند العصر وتبيت، ثم تنزل طائفة ثانية عند الفجر، فتجتمع الطائفتان في صلاة الفجر، ثم يعرج الذين باتوا فقط، ويستمر الذين نزلوا وقت الفجر إلى العصر، فتنزل الطائفة الأخرى فيحصل إجتماعهم عند العصر أيضًا، ولا يصعد منهم أحدٌ بل تبيت الطائفتان أيضًا، ثم تعرج إحدى الطائفتين، ويستمر ذلك، فتصح صورة التعاقب مع اختصاص النزول بالعصر، والعروج بالفجر، فلهذا خُصَّ السؤال بالذين باتوا. وقيل: يحمل قوله: "ثم يرجع الذين باتوا" على ما هو أعم من المبيت بالليل، والإقامة بالنهار، فلا يختص ذلك بليل دون نهار، ولا عكسه، بل كل طائفة منهم، إذا صعدت سئلت، وغاية ما فيه أنه استعمل لفظ "بات" في "أقام" مجازًا، ويكون قوله: "فيسألهم"، أي: كلاًّ من الطائفتين في الوقت الذي

يصعد فيه، ويدل على هذا الحمل رواية موسى بن عقبة عند النّسائيّ بلفظ: "ثم يعرج الذين كانوا فيكم" فعلى هذا لم يقع في المتن اختصار ولا اقتصار، وهذا أقرب الأجوبة. ووقع في هذا الحديث التصريح بسؤال كل من الطائفتين فيما رواه ابن خزيمة في صحيحه، وأبو العباس السّرّاج عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: "تجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر وصلاة العصر، فيجتمعون في صلاة الفجر، فتصعد ملائكة الليل، وتبيت ملائكة النهار، ويجتمعون في صلاة العصر، فتصعد ملائكة النهار، وتبيت ملائكة الليل، فيسألهم ربُّهم كيف تركتم عبادي ... " الحديث. وهذه الرواية تزيل الإشكال، وتغني عن كثير من الاحتمالات المتقدمة، فهي المعتمدة، ويحمل ما نقص منها على تقصير بعض الرواة. وقيل: إن قوله في الحديث: "ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر" وَهْمٌ، لأنه ثبت في كثير من الطرق أن الاجتماع في صلاة الفجر من غير ذكر صلاة العصر، كما في الصحيحين عن أبي هريرة في أثناء حديث قال فيه: "وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر"، قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}، وفي الترمذيّ والنَّسائيّ بإسناد صحيح عن أبي هريرة في قوله تعالى {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}، قال: تشهده ملائكة الليل والنهار. وروى ابن مردويه عن أبي الدرداء مرفوعًا نحوه. قال ابن عبد البر: ليس في هذا دفع الرواية التي فيها ذكر العصر، إذ لا يلزم من عدم ذكر العصر، في الآية والحديث الآخر، عدم اجتماعهم في العصر، لأن المسكوت عنه قد يكون في حكم المذكور بدليل آخر. قال: ويحتمل أن يكون الاقتصار وقع في الفجر لكونها جهرية، وبحثه الأول متجه، لأنه لا سبيل إلى ادعاء توهيم الراوي الثقة مع إمكان التوفيق بين الروايات، ولاسيما أن الزيادة من العدل الضابط مقبولة، وَلِمَ لا يُقال: إن رواية من لم يذكر الذين أقاموا في النهار، واقع من تقصير بعض الرواة؟ قلت: وقد

مرَّ ما يدل على هذا في رواية ابن خزيمة السابقة. وقوله: فيسألهم، قيل: الحكمة فيه استدعاء شهادتهم لبني آدم بالخير، واستنطاقهم بما يقتضي التعطف عليهم، وذلك لإظهار الحكمة فيه استدعاء شهادتهم لبني آدم بالخير، واستنطاقهم بما يقتضي التعطف عليهم، وذلك لإظهار الحكمة في خلق نوع الإنسان في مقابلة من قال من الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}، أي: وقد وجد فيهم من يسبح ويقدس مثلكم، بنص شهادتكم. قال عياض: هذا السؤال على سبيل التعبد للملائكة، كما أمرهم أن يكتبوا أعمال بني آدم، وهو سبحانه وتعالى أعلم من الجميع بالجميع. وقوله: "كيف تركتم عبادي؟ " قال ابن أبي جَمرة: وقع السؤال عن آخر الأعمال، لأن الأعمال بخواتيمها، والعباد المسؤول عنهم هم المذكورون في قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}. وقوله: "تركناهم وهم يصلُّون، وأتيناهم وهم يصلون"، لم يراعوا الترتيب الوجوديّ، لأنهم بدأوا بالترك قبل الإتيان، والحكمة فيه أنهم طابقوا السؤال، لأنه قال: كيف تركتم؟ ولأن المخبر به صلاة العباد، والأعمال بخواتيمها، فناسب ذلك إخبارهم عن آخر عملهم قبل أوله. وقوله: "تركناهم وَهم" ظاهره أنهم فارقوهم عند شروعهم في صلاة العصر، سواء تمت أم منع مانع من إتمامها، وسواء شرع الجميع فيها أم لا، لأن المنتظر في حكم المصلي. ويحتمل أن يكون المراد بقولهم: "وهم يصلون"، أي: ينتظرون صلاة المغرب. وقال ابن التين: الواو في قوله: "وهم يصلون" واو الحال، أي: تركناهم على هذه الحالة، ولا يلزم منه أنهم فارقوهم قبل انقضاء الصلاة، فلم يشهدوها معهم، والخبر ناطق بأنهم يشهدونها، لأنَّا نقول: هو محمول على أنهم شهدوا الصلاة مع من صلاها في أول وقتها، وشهدوا من دخل فيها بعد ذلك، ومن شرع في أسباب ذلك. قال ابن أبي جمرة: أجابت الملائكة بأكثر مما سئلوا عنه، لأنهم علموا أنه سؤال يقتضي

رجاله خمسة

التعطف على بني آدم، فزادوا في موجب ذلك. وفي صحيح ابن خزيمة، عن أبي هريرة في آخر هذا الحديث: "فاغفر لهم يوم الدين". واستنبط بعض الصوفية من الحديث أنه يستحب أن لا يفارق الشخص شىءٌ من أموره إلا وهو على طهارة، كشعره إذا حَلقه، وظفره إذا قلمه، وثوبه إذا أبدله، ونحو ذلك. ويستفاد منه أن الصلاة أعلى العبادات، لأن عنها وقع السؤال والجواب، وفيه الإشارة إلى عظم هاتين الصلاتين، لكونهما تجتمع فيهما الطائفتان، وفي غيرهما طائفة واحدة. والإشارة إلى شرف الوقتين المذكورين. وقد ورد أن الرزق يقسم بعد صلاة الصبح، وأن الأعمال ترفع آخر النهار، فمن كان حينئذ في طاعة بورك في رزقه وفي عمله. ويترتب عليه حكمة الأمر بالمحافظة عليهما، والاهتمام بهما. وفيه تشريف هذه الأمة على غيرها. ويستلزم تشريف نبيها على غيره. وفيه الإخبار بالغيوب، ويترتب عليه زيادة الإيمان، وفيه الإخبار بما نحن فيه من ضبط أحوالنا، حتى نتيقظ ونتحفظ في الأوامر والنواهي، ونفرح في هذه الأوقات بقدوم رسل ربنا، وسؤال ربنا عنا. وفيه إعلامنا بحب ملائكة الله لنا، لنزداد فيهم حبًّا، ونتقرب إلى الله نعالى بذلك. وفيه كلام الله تعالى مع ملائكته. رجاله خمسة: الأول: عبد الله بن يوسف، وقد مرّ هو ومالك في الثاني من بدء الوحي، ومرّ أبو الزناد والأعرج في السابع من الإيمان، ومرّ أبو هريرة في الثاني منه. فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع، والإخبار كذلك في موضع، والعنعنة في ثلاثة مواضع. ورواته مدنيُّون، ما خلا عبد الله بن يوسف، فإنه تَنيسيّ وهو من أفراد البخاري. أخرجه البخاريّ في التوحيد، ومسلم والنَّسائيّ في الصلاة. ثم قال:

باب من أدرك ركعة من العصر قبل المغرب

باب من أدرك ركعة من العصر قبل المغرب قيل: إنما لم يات المصنف في الترجمة بجواب الشرط، لما في لفظ المتن الذي أورده من الاحتمال، وهو قوله: "فليتم صلاته" لأن الأمر بالإتمام أعم من أن يكون ما يتمه أداء أو قضاء، فحذف جواب الشرط لذلك، ويحتمل أن تكون "مَنْ" في الترجمة موصولة. وفي الكلام حذف تقديره: "باب حكم من أدرك"، وسيأتي في حديث مالك في أبواب وقت الصبح بلفظ: "فقد أدرك الصلاة" وهو يقتضي أن تكون أداء، وسيأتي البحث في ذلك قريبًا إن شاء الله تعالى.

الحديث الثالث والثلاثون

الحديث الثالث والثلاثون حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا أَدْرَكَ أَحَدُكُمْ سَجْدَةً مِنْ صَلاَةِ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ، فَلْيُتِمَّ صَلاَتَهُ، وَإِذَا أَدْرَكَ سَجْدَةً مِنْ صَلاَةِ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلاَتَهُ". قوله: "سجدة من صلاة العصر"، قال الخطابيّ: المراد بالسجدة الركعة بركوعها وسجودها، والركعة إنما يكون تمامها بسجودها، فسميت على هذا المعنى سجدة، وكأن المصنّف أورد حديث أبي سلمة هذا في هذه الترجمة مريدًا تفسير الحديث بالترجمة، وأن المراد بقوله فيه: سجدة، أي: ركعة، وقد رواه الإسماعيليّ بلفظ: "من أدرك منكم ركعة" وتأتي رواية مالك في أبواب وقت الصبح بلفظ: "من أدرك ركعةً"، ولم يختلف على راويها في ذلك، فكان الاعتماد عليها، ودلّ ذلك على أن الاختلاف في الألفاظ. وقوله: "فليتمّ صلاته"، يعني فيهما، أي: في العصر والفجر، وبهذا قال الجمهور. وخالف أبو حنيفة في الفجر، فقال: من طلعت عليه الشمس وهو في صلاة الصبح بطلت صلاته، واحتج لذلك بالأحاديث الواردة في النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس، وادعى بعضهم أن أحاديث النهي ناسخة لهذا الحديث، وهي دعوى تحتاج إلى دليل، فإنه لا يُصار إلى النسخ بالاحتمال. والجمع بين الحديثين ممكن، بأن أحاديث النهي على ما لا سبب له من النوافل، عند من يخص النهي بما لا سبب له، ولا شك أن التخصيص أولى من ادعاء النسخ، أو تحمل أحاديث النهي على النفل دون الفرض، كما يأتي تقرير أنه هو الذي عليه الجمهور. وفي الرواية الآتية عن مالك: "من أدرك من

الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس، فقد أدرك الصبح"، والإدراك الوصول إلى الشيء بتمامه، وظاهره أن تلك الركعة تكفيه عن الصلاة، وليس ذلك مرادًا بالإجماع، لأنه لا يكون بالركعة الواحدة مدركًا لجميع الصلاة، بحيث تحصل براءة ذمته منها، فإذا فيه إضمار تقديره: "فقد أدرك وقت الصلاة أو حكم الصلاة أو نحو ذلك". ويلزمه إتمام بقيتها. وقد صرح بذلك زيد بن أسلم عند البيهقي، ولفظه: "من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس، وركعة بعدما تطلع الشمس، فقد أدرك الصلاة"، وأصرح منه رواية أبي غسّان، عن أبي هريرة بلفظ: "من صلى ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، ثم صلى ما بقي بعد غروب الشمس، فلم تفته العصر". وقال مثل ذلك في الصبح. وللنَّسائيّ: "من أدرك ركعة من الصلاة، فقد أدرك الصلاة كلها، إلا أنه يقضي ما فاته"، وللبيهقيّ: "من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فليصلِّ إليها أخرى"، ويؤخذ من هذا الرد على الطحاوي، حيث خص الإدراك باحتلام الصبي، وطهر الحائض، وإسلام الكافر ونحوها. وأراد بذلك نصرة مذهبه في أن من أدرك من الصبح ركعة تفسد صلاته، لأنه لا يكملها إلا في وقت الكراهة. وقد مرَّ ما قيل فيه قريبًا. واختلف في هذه الصلاة المدرك منها ركعة هل هي أداء أو قضاء، والمختار عند الكل أنها أداء، وعند المالكية والشافعية قول بأن الكل قضاء، وقول بأن ما في الوقت أداء وما بعده قضاء. وقيل: يكون كذلك، لكنه يلتحق بالأداء حكمًا. وفائدة التحاقه بالأداء حكمًا أنه لا يأثم، وتظهر فائدة الخلاف في مسافرٍ نوى العصرَ وصلى ركعة في الوقت. فإن قلنا: الجميع أداء فله قصرها. وإن قلنا: كلها قضاء، أو بعضها، وجب إتمامها أربعًا. إن قلنا: إن فائتة السفر إذا قضاها في السفر يجب إتمامها، وهذا ليس بمذهب مالك، وكذا تظهر فائدة الخلاف فيما لو حاضت امرأة، أو أُغمي على أحد في الركعة الثانية، فتسقط عنهما الصلاة بناء على أن الكل أداء. ويلزم قضاؤها بناء على أن الكل قضاء. ويتردد النظر على أن ما في الوقت أداء، وما كان خارجًا عنه قضاء. وأما إن أدرك أقل

من ركعة فالكل قضاء عند الجمهور. والفرق أن الركعة تشمل على معظم أفعال الصلاة، إذ معظم الباقي كالتكرير لها، فجعل ما بعد الوقت تابعًا لها، بخلاف ما دونها. وعلى القول بالقضاء يأثم المصلي بالتأخير إلى ذلك. ومفهوم قوله في الحديث: "أدرك ركعة" إنَّ من أدرك أقل من ركعة لا يكون مدركًا للوقت، وهو الذي استقر عليه الاتفاق. وكان فيه شذوذ قديم منها إدراك الإمام راكعًا يجزىء، ولو لم يدرك معه الركوع. وقيل: يدرك الركعة ولو رفع الإمام رأسه، ما لم يرفع بقية من ائتم به رؤوسهم، ولو بقي واحد. وعن الثوريّ وزُفَر: "إِذا كبّر قبل أن يرفع الإمام رأسه، أدرك إن وضع يديه على ركبتيه قبل رفع الإمام، وقيل: من أدرك تكبيرة الإحرام وتكبيرة الركوع أدرك الركعة. وعن أبي العالية: إذا أدرك السجود أكمل بقية الركعة معهم، ثم يقوم فيركع فقط، وتجزئه. وعن ابن عمر، رضي الله تعالى عنه، أنه كان إذا جاء والقوم سجود سجد معهم، فإذا رفعوا رؤوسهم سجد أخرى، ولا يعتد بها. وعن ابن مسعود: "إذا ركع ثم مشى فدخل فى الصف قبل أن يرفعوا رؤوسهم اعتد بها، وإن رفعوا رؤوسهم قبل أن يصل إِلى الصف فلا يعتد بها". ثم هذه الركعة التي يدرك بها الوقت، هي بقدر ما يكبر فيها للإحرام، ويقرأ أم القرآن قراءة معتدلة، ويركع، ويسجد سجدتين يفصل بينهما، ويطمئن في كل ذلك على قول من أوجب الطمأنينة، وعلى قول من لا يوجب قراءة أم القرآن في كل ركعة تكفيه تكبيرة الإحرام، والوقوف لها. وأشهب لا يراعي إدراك السجدة بعد الركوع. وسبب الخلاف هل المفهوم من اسم الركعة الشرعية أو اللغوية؟ وقال الرافعي: المعتبر فيها أخف ما يقدر عليه أحد، وهذا في حق غير أصحاب الأعذار، وأما أصحاب الأعذار، كمن أفاق من إغماء أو طهُرت من حيض، أو غير ذلك، فإن بقي من الوقت هذا القدر، كانت الصلاة في حقهم أداء. وللعلماء تفاصيل بين أصحاب الأعذار وغيرهم، وبين مدرك الجماعة ومدرك الوقت ومدرك الجمعة، فأما مدرك الوقت فهو ما مرَّ الكلام عليه، وأما

رجاله خمسة

التي تدرَك بها فضيلة الجماعة فحكمها بأن يكبر لإحرامها ثم يركع، ويمكِّن يديه من ركبتيه قبل رفع الإمام رأسه، وهذا مذهب الجمهور. ورُوي عن أبي هريرة أنه لا يعتد بالركعة ما لم يدرك الإمام قائمًا قبل أن يركع. وروي معناه عن أشهب، وروي عن جماعة من السلف أنه متى أحرم والإمام راكع أجزأَة، وإن لم يدرك الركوع وركع بعد الإمام. وقيل: يجزيه وان رفع الإمام رأسه ما لم يرفع الناس. ونقله ابن بزيزة عن الشعبيّ، قال: واذا انتهى إلى الصف الآخر، ولم يرفعوا رؤوسهم، أو بقي منهم واحد لم يرفع رأسه، وقد رفع الإمام رأسه، فإنه يرجع، وقد أدرك الصلاة، لأن الصف الذي هو فيه أمامه إلى غير هذا مما مرَّ. واختلفوا في الجمعة، فذهب مالك والثّوريّ واللَّيث والأوزاعيّ والشافعيّ وزُفَر ومحمد وأحمد إلى أن من أدرك ركعة منها يضيف إليها أخرى. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: إذا أحرم في الجمعة قبل سلام الإمام صلى ركعتين، وهو قول النخعيّ والحَكَم وحماد. وأغرب عطاء ومكحول وطاووس ومجاهد، فقالوا: إن فاتته الخطبة يوم الجمعة يصلي أربعًا، لأن الجماعة إنما قُصِرت من أجل الخطبة. رجاله خمسة: الأول: أبو نعيم، وقد مرّ في الخامس والأربعين من الإيمان، ومرّ أبو هريرة في الثاني منه، ومرّ شيبان النحويّ ويحيى بن أبي كثير في الثالث والخمسين من العلم، ومرّ أبو سلمة في الرابع من بدء الوحي. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في ثلاثة، والقول. ورواته ما بين مدنيّ وبصريّ وكوفيّ. أخرجه البخاريّ ومسلم والنَّسائي وابن ماجه.

الحديث الرابع والثلاثون

الحديث الرابع والثلاثون حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بن سعد، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "إِنَّمَا بَقَاؤُكُمْ فِيمَا سَلَفَ قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ كَمَا بَيْنَ صَلاَةِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، أُوتِيَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ التَّوْرَاةَ فَعَمِلُوا حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ النَّهَارُ عَجَزُوا، فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا، ثُمَّ أُوتِيَ أَهْلُ الإِنْجِيلِ الإِنْجِيلَ فَعَمِلُوا إِلَى صَلاَةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ عَجَزُوا، فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا، ثُمَّ أُوتِينَا الْقُرْآنَ فَعَمِلْنَا إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَأُعْطِينَا قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، فَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ: أَيْ رَبَّنَا، أَعْطَيْتَ هَؤُلاَءِ قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، وَأَعْطَيْتَنَا قِيرَاطًا قِيرَاطًا، وَنَحْنُ كُنَّا أَكْثَرَ عَمَلاً، قَالَ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ أَجْرِكُمْ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا: لاَ، قَالَ: فَهْوَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ". قوله: "إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس"، ظاهره أن بقاء هذه الأمة وقع في زمان الأمم السالفة، وليس ذلك مرادًا قطعًا، وإنما معناه أن نسبة مدة هذه الأمة إلى مدة مَنْ تقدم مِن الأمم، مثل ما بين صلاة العصر وغروب الشمس إلى بقية النهار، فكأنه قال: إنما بقاؤكم بالنسبة إلى ما سلف ... إلخ. وحاصله أن "في" بمعنى "إلى" وحذف المضاف، وهو لفظ "نسبة". وقوله: "أُوتي أهلُ التوراةِ التوراةَ"، ظاهره أن هذا كالشرح والبيان لما تقدم من تقدير مدة الزمانين، وقد زاد المصنف من رواية عبد الله بن دينار، عن ابن عمر في "فضائل القرآن": "وإن مَثَلَكم ومَثَل اليهود والنصارى ... " إلى آخره، وهو يشعر بأنهما قضيتان.

وقوله: "حتى إذا انتصف النهار عجزوا". قال الداوديّ: هذا مشكل، لأنه إن كان المراد من مات منهم مسلمًا، فلا يوصف بالعجز، لأنه عمل ما أمر به، وإن كان من مات بعد التبديل والتغيير، فكيف يعطى القيراط من حَبِط عمله بكفره؟ وأجيب بأن المراد من مات منهم مسلمًا قبل التبديل والتغيير، وعبر بالعجز لكونهم لم يستوفوا عمل النهار كله، وإن كانوا قد استوفوا عمل ما قدر لهم. فقوله: "عجزوا"، أي: عن إحراز الأجر الثاني دون الأول، لكن من أدرك منهم النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم، وآمن به، أُعطي الأجر مرتين، كما مرَّ في كتاب العلم. وقوله: "قيراطًا قِيراطًا"، كرر قيراطًا ليدل على تقسيم القراريط على العمال، لأن العرب إذا أرادت تقسيم الشيء على متعدد كررته، كما تقول: اقسم هذا المال على بني فلان درهمًا درهمًا، أي: لكل واحد درهم، والمراد بالقيراط النصيب، وهو في الأصل نصف دانق، والدانق سدس درهم. وقوله: "ونحن كنا أكثر عملًا"، تمسك به بعض الحنفية كأبي زيد في كتاب "الأسرار"، إلى أن وقت العصر من مصير ظل كل شيء مثليه، لأنه لو كان من مصير ظل كل شيء مثله لكان مساويًا لوقت الظهر، وقد قالوا: كنا أكثر عملًا، فدل على أنه دون وقت الظهر. وأجيب بمنع المساواة، وذلك معلوم عند أهل العلم بهذا الفن، وهو أن المدة التي بين الظهر والعصر أطول من المدة التي بين العصر والمغرب. وأما ما نقله بعض الحنابلة من الإجماع على أن وقت العصر ربع النهار، فمحمول على التقريب، إذا فرعنا على أن أول وقت العصر مصير الظل مثله، كما قال الجمهور. وأما على قول الحنفية، فالذي من الظهر إلى العصر أطول قطعًا، وعلى التنزل لا يلزم من التمثيل والتشبيه التسوية من كل جهة، وبأن الخبر إذا ورد في معنى مقصود لا تؤخذ منه المعارضة، لما ورد في ذلك المعنى بعينه مقصودًا في أمر آخر، وبأنه ليس فيه نص على أن كلاًّ من الطائفتين أكثر عملًا، لصدق أن كلهما مجتمعين أكثر عملًا من المسلمين، وباحتمال أن يكون

أطلق ذلك تغليبًا، وباحتمال أن يكون ذلك قول اليهود خاصة، فيندفع الاعتراض من أصله كما جزم به بعضهم، وتكون نسبة ذلك للجميع في الظاهر غير مرادةٍ، بل هو عمومٌ أُريد به الخصوص، أُطلق ذلك تغليبًا. ويؤيده ما وقع في التوحيد بلفظ: "فقال أهل التوراة"، وبأنه لا يلزم من كونهم أكثر عملًا أن يكونوا أكثر زمانًا، لاحتمال كون العمل في زمنهم كان أشق. ويؤيده قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا}، ومما يؤيد كون المراد كثرة العمل وقلته، لا بالنسبة إلى طول الزمان وقصره، كونُ أهلِ الأخبار متفقين على أن المدة التي بين عيسى ونبينا عليهما الصلاة والسلام، دون المدة التي بين نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم وقيام الساعة، لأن جمهور أهل المعرفة بالأخبار قالوا: إن مدة الفترة بين عيسى ونبينا عليهما الصلاة والسلام ست مئة، وثبت ذلك في صحيح البخاريّ عن سلمان. وقيل إنها دون ذلك، فذكر الحاكم في "الإكليل" أنها مئة وخمس وعشرون سنة، وذُكر أنها أربع مئة سنة. وقيل: خمس مئة وأربعون سنة، وعن الضحاك أربع مئة وبضع وثلاثون سنة. وهذه مدة المسلمين المشاهدة أكثر من ذلك، فلو تمسكنا بأن المراد التمثيل بطول الزمانين وقصرهما، للزم أن يكون وقت العصر أطول من وقت الظهر، ولا قائل به، فدل على أن المراد كثرة العمل وقلته، ويحتمل أن يكون كل من الفريقين قال ذلك، أما اليهود؛ فلأنهم أطول زمانًا، فيستلزم أن يكونوا أكثر عملًا، وأما النصارى، فلأنهم وزنوا كثرة أتباعهم بكثرة زمن اليهود، لأن النصارى آمنوا بموسى وعيسى جميعًا، عليهما الصلاة والسلام. ويحتمل أن تكون نسبة ذلك إليهم على سبيل التوزيع، فالقائل: نحن أكثر عملًا، اليهودُ، والقائلُ في الرواية الآتية في الإجارة: نحن أقل أجرًا، النصارى. وقوله: هل ظلمتكم من أجركم من شيء، في رواية الإجارة الآتية: "هل نقصتكم من حقكم"، وأطلق لفظ الحق في هذه الرواية لقصد المماثلة، وإلا فالكل من فضل الله تعالى. وقوله: "فذلك فضلي أوتيه من أشاء"، فيه حجة

رجاله خمسة

لأهل السنة على أن الثواب من الله تعالى على سبيل الإحسان منه جل جلاله. رجاله خمسة: الأول: عبد العزيز بن عبد الله الأُوَيْسِيّ، وقد مرَّ في الأربعين من العلم، ومرّ إبراهيم بن سعد في السادس عشر من الإيمان، ومرّ سالم بن عبد الله في السابع عشر منه، وأبوه عبد الله أوله قبل ذكر حديث منه، وابن شهاب في الثالث من الوحي. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع، وبالإفراد في موضع، والعنعنة في ثلاثة، والإخبار بصيغة الإفراد والقول والسماع. ورواته كلهم مدنيُّون، وفيه شيخ البخاريّ من أفراده، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. أخرجه البخاريّ أيضًا في باب الإجارة وفضل القرآن والتوحيد، وفي باب ما ذكر عن بني إسرائيل، ومسلم والترمذيِّ.

الحديث الخامس والثلاثون

الحديث الخامس والثلاثون حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "مَثَلُ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ قَوْمًا يَعْمَلُونَ لَهُ عَمَلاً إِلَى اللَّيْلِ، فَعَمِلُوا إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ، فَقَالُوا: لاَ حَاجَةَ لَنَا إِلَى أَجْرِكَ، فَاسْتَأْجَرَ آخَرِينَ. فَقَالَ: أَكْمِلُوا بَقِيَّةَ يَوْمِكُمْ، وَلَكُمُ الَّذِى شَرَطْتُ، فَعَمِلُوا حَتَّى إِذَا كَانَ حِينَ صَلاَةِ الْعَصْرِ، قَالُوا: لَكَ مَا عَمِلْنَا. فَاسْتَأْجَرَ قَوْمًا، فَعَمِلُوا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمْ حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ، وَاسْتَكْمَلُوا أَجْرَ الْفَرِيقَيْنِ". قوله: "مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل"، في السياق، حذف تقديره: مثل المسلمين مع نبيِّهم، ومثل اليهود والنصارى مع أنبيائهم، كمثل رجل استأجر. فالمثل مضروب للأمة مع نبيهم، والممثل به الأُجراء مع من استأجرهم. وقوله: "استأجر قومًا يعملون له عملًا إلى الليل"، هذا مغاير لحديث ابن عمر، لأن فيه أنه استأجرهم على أن يعملوا إلى نصف النهار. والظاهر أنهما حديثان سيقا في قضيتين، وقد حاول بعضهم الجمع بينهما فتعسف. وقال ابن رشد ما حاصله: إن حديث ابن عمر ذكر مثالًا لأهل الأعذار، لقوله "فعجزوا" فأشار إلى أن من عجز عن استيفاء العمل من غير أن يكون له صنيع في ذلك أن الأجر يحصل له تامًا بفضل الله تعالى. قال: وذكر حديث أبي موسى مثالًا لمن أخَّر بغير عذر، وإلى ذلك الإشارة بقولهم: "لا حاجة لنا إلى أجرك"، فأشار إلى أن مَن أخَّر عامدًا لا يحصل له ما حصل لأهل الأعذار، ولكن وقع في رواية سالم عند المصنف في التوحيد ما يوافق رواية أبي موسى. ورجحها الخطابيّ فيحتمل أن تكون القضيتان جميعًا كانتا عند ابن عمر،

فحدث بهما في وقتين، وجمع بينهما ابن التين باحتمال أن يكونوا غضبوا أولًا، فقالوا ما قالوا، طلبًا للزيادة، فلما لم يُعطوا قدرًا زائدًا تركوا، فقالوا: لك ما عملنا باطل، وفيه مع بُعده مخالفة لصريح ما وقع في رواية الزُّهريّ هنا وفي التوحيد، ففيها قالوا: ربنا أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين، وأعطيتنا قيراطًا قيراطًا، ونحن كنا أكثر عملًا، ففيه التصريح بأنهم أُعطوا ذلك إلا أن يُحمَلَ قولهم: "أعطيتنا": أمرت لنا، أو وعدتنا، ولا يلزم من ذلك أنهم أخذوه، ولا يخفى أن الجمع بكونهما قضيتين أوضح. وظاهر المثل الذي في حديث أبي موسى أن الله تعالى قال لليهود: آمنوا بي وبرسلي إلى يوم القيامة، فآمنوا بموسى إلى أن بعث عيسى، فكفروا به. وذلك قدر نصف المدة التي من بعث موسى إلى قيام الساعة. فقولهم: لا حاجة لنا إلى أجرك إشارة إلى أنهم كفروا وتولوا، واستغنى الله عنهم. وهذا من إطلاق القول وإرادة لازمه، لأن لازمه تَرْك العمل المعبر به عن ترك الإيمان. وقولهم: "وما عملنا باطل"، في الرواية الآتية في الإجارة إشارة إلى احباط عملهم بكفرهم بعيسى، إذ لا ينفعهم الإيمان بموسى وحده بعد بعثة عيسى، وكذلك القول في النصارى، إلا أن فيه إشارة إلى أن مدتهم كانت قدر نصف المدة، فاقتصروا على نحو الربع من جميع النهار. وقوله: "ولكم الذي شرطت"، زاد في رواية الإسماعيليّ: "ولكم الذي شرطت لهؤلاء من الأَجر"، يعني الذين قبلهم، وفي رواية الإجارة زيادة: "فإن ما بقي من النهار شيء يسير"، أي: بالنسبة لما مضى منه، والمراد ما بقي من الدنيا، وفيه إشارة الى قصر المدة التي بقيت من الدنيا، وسيأتي بعض الكلام على ذلك قريبًا إن شاء الله تعالى. وقوله: "واستكملوا أجر الفريقين، أي: بإيمانهم بالأنبياء الثلاثة، وفي رواية الإجارة زيادة: "فذلك مثلهم ومثل ما قبلوا من النور"، وفي رواية الإسماعيليّ: "فذلك مثل المسلمين قَبِلوا هُدى الله تعالى وما جاء به رسوله، ومثل اليهود والنصارى تركوا ما أمرهم الله به"، قال المهلب: أورد البخاريّ

حديث ابن عمر وحديث أبي موسى في هذه الترجمة، ليدل على أنه قد يستحق بعمل البعض أجر الكل، مثل الذي أعطى من العصر الى الليل أجر النهار كله، فهو نظير من يعطى أجر الصلاة كلها، ولو لم يدرك إلا ركعة، وبهذا تظهر مطابقة الحديثين للترجمة، وتكملة ما ذكر هي أن يقال: إن فضل الله الذي أقام به عمل ربع النهار مقام عمل النهار كله، هو الذي اقتضى أن يقوم إدراك الركعة الواحدة من الصلاة الرباعية، التي هي العصر، مقام إدراك الأربع في الوقت، فاشتركا فى كون كل منهما ربع العمل، وحصل بهذا التقرير جواب من استشكل وقوع الجميع أداءً، مع أن الأكثر إنما وقع خارج الوقت، فيقال: في هذا ما أجيب به أهل الكتاب: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ}، وكلام المهلب واضح لا استبعاد فيه. وقال ابن المنير: يستنبط من هذا الحديث أن وقت العمل ممتد الى غروب الشمس، وأقرب الأعمال المشهورة بهذا الوقت صلاة العصر، فهو من قبيل الإشارة لا من صريح العبارة، فإن الحديث مثال، وليس المراد العمل الخاص بهذا الوقت، بل هو شامل لسائر الأعمال من الطاعات في بقية الإمهال إلى قيام الساعة. وقال إمام الحرمين: إن الأحكام لا تؤخذ من الأحاديث التي تأتي لضرب الأمثال، واستُدل بالحديث على أن بقاء هذه الأئمة يزيد على الألف، لأنه يقتضي أن مدة اليهود نظير مدتي النصارى والمسلمين، وقد اتفق أهل النقل على أن مدة اليهود الى بعثة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كانت أكثر من ألفي سنة، ومدة النصارى من ذلك ست مئة، وقيل أقل من ذلك، فتكون مدة المسلمين أكثر من ألف قطعًا، وقد أخرج الطبري في "تاريخه"، عن ابن عباس: "الدنيا جمعة من جُمَعِ الآخرة، سبعة آلاف سنة"، وقد مضى ستة آلاف سنة، ومئة سنة، وأورد الطبريّ أيضًا عن كعب الأحبار: "الدنيا ستة آلاف سنة"، وعن وهب بن منبّه مثله، وزاد أن الذي مضى منها خمسة آلاف وست مئة سنة، وزيفهما وحق لهما ذلك، ورجح ما جاء عن ابن عباس، وقد تبين عدم صحة ما نسب اليه بالمشاهدة.

رجاله خمسة

وقد أخرج معمر في جامعه عن عِكرمة في قوله تعالى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ}، قال: الدنيا من أولها إلى آخرها يوم مقداره خمسون ألف سنة، لا يدري كم مضى، ولا كم بقي إلا الله تعالى. وهذا هو الحق في أن وقت الساعة لا يعلمه إلا الله. وأصح ما ورد فيها حديث الشيخين، عن أبي هريرة وأنس وغيرهما: "بُعِثْتُ أنا والساعة كهاتين"، يعني الوسطى والسبابة. وقد اختلف في معناه. ويأتي إن شاء الله تعالى الكلام عليه عند ذكره في كتاب الرقاق. وفي الحديث أن أجر النصارى كان أكثر من أجر اليهود، ولأن اليهود عملوا نصف النهار بقيراط، والنصارى نحو ربع النهار بقيراط، ولعل ذلك باعتبار ما حصل لمن آمن من النصارى بموسى وعيسى فحصل لهم تضعيف الأجر مرتين بخلاف اليهود، فإنهم لما بعث عيسى كفروا به. وفي الحديث تفضيل هذه الأمة، وتوفير أجرها مع قلة عملها، وفيه جواز استدامة صلاة العصر إلى أن تغيب الشمس. وفي قوله: "فإنما بقي من النهار شيء يسير"، إشارة إلى قصر مدة المسلمين بالنسبة إلى مدة غيرهم، وفيه إشارة إلى أن العمل في الطوائف كان مساويًا في المقدار. رجاله خمسة: الأول: أبو كريب، والثاني: أبو أسامة، وقد مرّا في الحادي والعشرين من العلم، ومرّ بريد وأبو بُردة وأبو موسى في الرابع من الإيمان. فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في أربعة، والقول. ورواية الابن عن الجد، ورواية الابن عن الأب، ورواته ما بين كوفيّ وبصريّ، وفيه ثلاثة بالكنى. أخرجه البخاري في الإمارة أيضًا. ثم قال المصنف:

باب وقت المغرب

باب وقت المغرب أي: باب في بيان وقت المغرب، ثم قال: وقال عطاء: يجمع المريض بين المغرب والعشاء. وأشار بهذا الأثر في هذه الترجمة إلى أن وقت المغرب يمتد إلى العشاء، وذلك أنه لو كان مضيقًا لانفصل عن وقت العشاء، ولو كان منفصلًا لم يجمع بينهما كما في الصبح والظهر، وبهذه النكتة ختم الباب بحديث ابن عباس الدال على أنه صلى الله تعالى عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر في وقت إحداهما، وبين المغرب والعشاء في وقت إحداهما. وأما الأحاديث التي أوردها في الباب، فليس فيها ما يدل على أن الوقت مضيق، لأنه ليس فيها إلا مجرد المبادرة إلى الصلاة في أول وقتها، وكانت تلك عادته عليه الصلاة والسلام في جميع الصلوات، إلا فيما ثبت فيه خلاف ذلك، كالإبراد، وكتأخير العشاء إذا أبطاوا، وما قاله عطاء من جمع المريض كالمسافر، وهو قول أحمد وإسحاق مطلقًا، واختاره بعض الشافعية كالنوويّ والقاضي الحسين الرويانيّ، وجوّزه مالك بشرطه، وهو أن يخاف الإغماء في أول الثانية، أو الحمى النافض أو الميد، والمشهور عن الشافعيّ وأصحابه المنعُ، وهذا التعليق وصله عبد الرزاق في مصنفه عن ابن جريج عنه، وعطاء المراد به ابن أبي رَباح، مرّ في التاسع والثلاثين من العلم.

الحديث السادس والثلاثون

الحديث السادس والثلاثون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِهْرَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو النَّجَاشِيِّ صُهَيْبٌ مَوْلَى رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وهو عطاء بن صهيب، قَالَ: سَمِعْتُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ يَقُولُ: كُنَّا نُصَلِّي الْمَغْرِبَ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَيَنْصَرِفُ أَحَدُنَا وَإِنَّهُ لَيُبْصِرُ مَوَاقِعَ نَبْلِهِ. قوله:"وإِنه ليُبصر مواقع نَبله"، أي: بضم ياء يبصر من الإبصار، وفتح نون نَبله، وسكون الموحدة، وهي السهام العربية، مؤنثة لا واحد لها من لفظها. وقيل: واحدها نبلة مثل تمر وتمرة، ومواقع المواضع التي تصل إليها سهامه إذا رمى بها، ومقتضاه المبادرة بالمغرب في أول وقتها، بحيث إن الفراغ منها يقع والضوء باق. وأخرج أحمد في مسنده عن ناس من الأنصار، قالوا: "كنَّا نصلِّي مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم المغربَ، ثم نرجع، فنترامى، حتى نأتي ديارنا، فما يخفى علينا مواقع سهامنا"، إسناده حسن. وعند النّسائيّ بسند صحيح عن رجل من أسلم "أنهم كانوا يصلّون مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم المغرب، ثم يرجعون إلى أهليهم إلى أقصى المدينة، ثم يرمون فيبصرون مواقع نبلهم". وذهب طاووس وعطاء ووهب بن منبه إلى أن أول وقتها حين طلوع النجم، واحتجوا لذلك بحديث أبي بصرة الغفاريّ، قال: "صلى بنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم العصر بالمَحْمَض، فقال: إن هذه الصلاة عرضت على من كان قبلكم فضيعوها، فمن حافظ عليها كان له أجره مرتين، ولا صلاة بعدها حتى يطلع الشاهد"، والشاهد النجم. والمَحْمَض، بفتح الميمين، الموضع الذي ترعى فيه الإبل الحمض، واختلف في وقت خروج المغرب، فعند الجمهور إذا غاب الشفق، وهو الحمرة، وخرج وقتها.

رجاله خمسة

وقال عمر بن عبد العزيز وابن المبارك والأوزاعيّ في رواية، ومالك في رواية، وهو مذهب أبي حنيفة: لا يخرج حتى يغيب الشفق الأبيض. رجاله خمسة: الأول: محمد بن مِهران، بكسر الميم، الجمّال، أبو جعفر الرازيّ الحافظ. قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن أبي جعفر الجمّال وإبراهيم بن موسى، فقال: كان أبو جعفر أوسع حديثًا، وكان إبراهيم أتقن. وقال أيضًا: سئل أبي عنه، فقال: صدوق، وقال أبو بكر الأعين: مشايخ خراسان ثلاثة، أولهم قتيبة، والثاني محمد بن مِهران، والثالث علي بن حجر. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال ابن مَعين: ليس به بأس، وقال مَسْلَمة بن قاسم: ثقة. روى عن عيسى بن يونس وابن علية والوليد بن مسلم وعبد الرزاق وغيرهم. وروى عنه البخاريّ ومسلم وأبو داود وأبو زرعة وأبو حاتم وأحمد بن عليّ الأَبّار وغيرهم. مات سنة تسع وثلائين ومئتين أو قريبًا منه. الثاني: الوليد بن مسلم القرشي، مولى بني أمية، وقيل مولى بني العباس، أبو العباس الدمشقيّ، عالم الشام. قال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث. وقال حماد كاتبه عنه: جالست ابن جابر سبع عشرة سنة، وعنه قال: كنت إذا أردت أن أسمع من شيخ سألت عنه الأوزاعيّ وسعيد بن عبد العزيز. وقال أحمد: ليس أحد أروى عن الشاميين من إسماعيل بن عياش والوليد. وقال أيضًا: ما رأيت أعقل منه. وقال إبراهيم بن المنذر: سألني عليّ بن المَدِينيّ أن أخرج له حديث الوليد، فقلت له: سبحان الله، وأين سماعي من سماعك؟ فقال: الوليد دخل الشام وعنده علم كبير، ولم أستمكن منه. قال: فأَخرجته له، فتعجب من فوائده، وجعل يقول: كان يكتب على الوجه. وقال ابن المدينى أيضًا: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن الوليد، ثم سمعت من الوليد، وما رأيت من الشاميين مثله. وقد أغرب بأحاديث صحيحة لم يشركه فيها أحد. وقال مروان بن محمد: إِذ! كتبت حديث الأوزاعيّ عن الوليد فما تبالي من فاتك. وقال أيضًا. كان الوليد عالمًا بحديث الأوزاعيّ. وقال أبو مسهر: كان

الوليد معتنيًا بالعلم. وقال أيضًا: كان من ثقات أصحابنا. وفي رواية: من حفاظ أصحابنا. وقال أبو زرعة الدمشقي: قال لي أحمد: عندكم ثلاثةُ أصحاب أصحابُ حديث: مروان بن محمد والوليد وأبو مسهر. وقال يعقوب بن سفيان، كنت أسمع أصحابنا يقولون: علم الناس عند أهل العلم متقنًا صحيحًا صحيح العلم. وقال العجليُّ ويعقوب بن شيبة: الوليد بن مسلم ثقة. وقال محمد بن إبراهيم: قلت لأبي حاتم: ما تقول في الوليد بن مسلم؟ قال: صالح الحديث. وقال أبو زرعة الرازيّ: كان الوليد أعلم من وكيع بأمر المغازي. وقال ابن جوصاء: لم نزل نسمع أنه مَن كتب مصنفات الوليد صَلُحَ أن يَلِيَ القضاء. قال: ومصنفات الوليد سبعون كتابًا. وقال صدقة بن الفضل: قدم الوليد مكة، فما رأيت أحفظ للطوال والملاحم منه، فجعلوا يسألونه عن الرأي ولم يكن يحفظ، ثم رجع وأنا بمكة، وإذا هو قد حفظ الأبواب، وإذا الرجل حافظ متقن. وقال الحميدي: قال لنا الوليد بن مسلم: إن تركتموني حدثتكم عن ثقات شيوخنا، وإن أبيتم فاسألوا نحدثكم بما تسألون. وقال أحمد: كان الوليد رفاعًا. وقال الفسويّ: سألت هشام بن عمار، عن الوليد، فأقبل يصف علمه وورعه وتواضعه، وقال ابن اليمان: ما رأيت مثله. وقال الدارقطنيّ: كان الوليد يروي عن الأوزاعيّ أحاديث عنده عن شيوخ ضعفاء، عن شيوخ ثقات قد أدركهم الأوزاعيّ، فيسقط الوليد الضعفاء ويجعلها عن الأوزاعيّ، عن الثقات. وقد قال أبو داود في صدقة بن خالد: اهو أثبت من الوليد، وإن الوليد قد روى عن مالك عشرة أحاديث ليس لها أصل. قال ابن حجر: ماله عن مالك في الكتب الستة شيء، وقد احتجوا به في حديثه عن الأوزاعيّ، بل لم يروِ له البخاريّ إلا من روايته عن الأوزاعيّ وعبد الرحمن بن نمر وثور بن يزيد وعبد الله بن العلاء بن زبر وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر ويزيد بن أبي مريم أحاديثَ يسيرة، واحتج به الباقون. روى عن الأوزاعيّ وابن جريج وابن عجلان وابن أبي ذيب وسعيد بن عبد العزيز والثوريّ وشيبان وخلق. وروى عنه الليث بن سعد، وهو من شيوخه،

وبقية بن الوليد، وهو من أقرانه، والحميديّ وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وابن المَدينيّ وغيرهم. مات سنة خمس وتسعين ومئة بعد انصرافه من الحج بذي المروة، وقبل أن يصل إلى دمشق. وفي الستة الوليد بن مسلم سواه واحد، وهو أبو بشر التميميّ العنبريّ. والثالث: الأوزاعيّ، وقد مرَّ في العشرين من العلم. والرابع: عطاء بن صهيب الأنصاريّ، أبو النجاشي، قالَ النَّسائيّ: ثقة، وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: كان صحب رافع بن خديج ست سنين. روى عن مولاه رافع بن خديج، وعنه الأوزاعيّ ويحيى بن أبي كثير وعكرمة وغيرهم، وهو من الطبقة الرابعة. الخامس: رافع بن خَديج بن رافع بن عديّ بن زيد بن جُشَم بن حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس، الأنصاريّ الحارثيّ الأوسيّ أبو عبد الله أو أبو خديج. أمه حليمة بنت مسعود بن سنان بن عامر، من بني بياضة. عرض على النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- يوم بدر، فاستصغره، وأجازه يوم أحد فشهد أحدًا والخندق وأكثر المشاهد. وأصابه يوم أحد سهم، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أنا أشهدُ لك يومَ القيامة". استوطن المدينة، وكان عريف قومه بالمدينة، وأخرج ابن شاهين: أصاب رافعًا سهم يوم أُحد، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن شئت نزعت السهم وتركت القُطْبة، وشهدت لك يوم القيامة أنك شهيد"، فلما كانت خلافة عثمان انتقض به ذلك الجرح فمات منه، والصواب خلافة معاوية. وقال الواقديّ: وقد ثبت أن ابن عمر صلى عليه، وابن عمر في سنة أربع كان بمكة عقب قتل ابن الزبير، فتأخّر رافع إلى أن قدم ابن عمر المدينة، فمات فصلى عليه، ثم مات ابن عمر بعده، وشهد ابن عمر جنازته، وخرج نسوة يصرخن، فقال ابن عمر: اسكتن، فإنه شيخ كبير لا طاقة له بعذاب الله. شهد صفين مع علي بن أبي طالب. له ثمانية وسبعون حديثًا، اتفقا على

لطائف إسناده

خمسة، وانفرد مسلم بثلاثة. روى عنه ابن عمرو ومحمود بن لبيد والسائب بن يزيد وأسيد بن ظهير، وروى عنه من التابعين من دون هؤلاء مجاهد وعطاء والشَّعبيّ وابن ابنه عباية بن رفاعة بن رافع، وعَمرة بنت عبد الرحمن، وليس في الصحابة رافع بن خديج سواه. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، وبصيغة الإفراد في موضع واحد، والقول في خمسة مواضع، والسماع، ورواته ما بين رازيّ وشاميّ ومدنيّ. أخرجه مسلم وابن ماجه في الصلاة.

الحديث السابع والثلاثون

الحديث السابع والثلاثون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، قَالَ: قَدِمَ الْحَجَّاجُ، فَسَأَلْنَا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ، وَالْعَصْرَ وَالشَّمْسُ نَقِيَّةٌ، وَالْمَغْرِبَ إِذَا وَجَبَتْ، وَالْعِشَاءَ أَحْيَانًا وَأَحْيَانًا، إِذَا رَآهُمُ اجْتَمَعُوا عَجَّلَ، وَإِذَا رَآهُمْ أَبْطَوْا أَخَّرَ، وَالصُّبْحَ كَانُوا أَوْ كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّيهَا بِغَلَسٍ. قوله: "قدم الحَجّاج"، بفتح الحاء المهملة وتشديد الجيم، وهو ابن يوسف الثقفي الآتي تعريفه قريبًا، وغلط من زعم أنه بضم الحاء جمع حاج، ويوضح رواية المصنف وسبب السؤال ما أخرجه أبو عَوانة في صحيحه عن شعبة: "سألنا جابر بن عبد الله في زمن الحجّاج، وكان يؤخر الصلاة عن وقت الصلاة"، وفي رواية مسلم عن شعبة: "كان الحجاج يؤخر الصلاة"، وكان قدوم الحجاج المدينة أميرًا عليها من قبل عبد الملك بن مروان سنة أربع وسبعين، وذلك عقب قتل ابن الزبير، فأمَّره عبد الملك على الحرمين وما معهما، ثم نقله بعد هذا إلى العراق. وقوله: "بالهاجرة"، قد مرَّ سبب تسميتها بالهاجرة، وظاهره يعارض حديث الإبراد المتقدم، لأن قوله: كان يفعل، يُشعر بالكثرة والدوام عرفًا، ويجمع بينهما بأن يكون أطلق الهاجرة على الوقت بعد الزوال مطلقًا، لأن الإبراد، كما تقدم، مقيدٌ بحال شدة الحر وغير ذلك كما مرَّ، فإن وُجدت شروط الإبراد أبردوا، وإلا عجل. فالمعنى كان يصلي الظهر بالهاجرة إلا إنْ احتاج إلى الإبراد، وتُعقب بأنه لو كان ذلك مراده، لفصل كما فصل في العشاء.

وقوله: "نقية"، بفتح النون، أوله، أي: خالصة صافية لم يدخلها صُفرة ولا تَغَيُّر. وقوله: "إذا وجبت"، أي: غابت، وأصل الوجوب السقوط، والمراد سقوط قرص الشمس. وفاعل وجبت مستتر وهو الشمس، وفي رواية أبي داود: "والمغرب إذا غربت الشمس"، ولأبي عَوانة: "والمغرب حين تجب الشمس"، وفيه دليل على أن سقوط قرص الشمس يدخل به وقت المغرب، ولا يخفى أن محله إذا كان لا يحول بين رؤيتها غاربة، وبين الرائي، حائلٌ. وقوله: "والعشاء أحيانًا وأحيانًا"، والعشاء بالنصب، أي: ويصلي العشاء، ولمسلم: "أحيانًا يؤخرها، وأحيانًا يعجل، كان إذا رآهم قد اجتمعوا"، إلخ. وللمصنف في باب العشاء عن مسلم بن إبراهيم: "إذا كثر الناس عجّل، وإذا قلّوا أخّر"، ونحوه لأبي عَوانة. والأحيان جمع حين، وهو اسم مبهم يقع على القليل والكثير من الزمان على المشهور. وقيل: الحين ستة أشهر، وقيل: أربعون سنة، وحديث الباب يقوّي المشهور. وقال ابن دقيق العيد: إذا تعارض في شخص أمران، أحدهما: أن يقدم الصلاة في أول الوقت منفردًا، أو يؤخرها في الجماعة أيهما أفضل. الأقرب أن التأخير لصلاة الجماعة أَفضل، وحديث الباب يدل عليه، لقوله: "واذا رآهم أبطاوا أخّر"، فيؤخر لأجل الجماعة، مع إمكان التقديم. ورواية مسلم بن إبراهيم المتقدمة تدل على أخص من ذلك، وهو أن انتظار من تكثر بهم الجماعة أَوْلَى من التقديم، ولا يخفى أن محل ذلك ما لم يفحش التأخير، ولم يشق على الحاضرين. قاله في الفتح. قلت: مذهب مالك أن الفَذّ ومن في حكمه كالجماعة لا تنتظر الأفضل له تقديمها مطلقًا، ولو كان عالمًا بجماعة في آخر الوقت. والجماعة المنتظرة غيرها الأفضل لها تقديم غير الظهر، وتأخير الظهر لربع القامة، ويزاد لشدة الحر على ما مرَّ مبينًا، وروي عن مالك تأخير العشاء قليلاً في حق مساجد القبائل بقدر اجتماع الناس، وقال الطحاوي: تأخير العشاء إلى ثلث الليل مستحب، وبه قال مالك وأحمد وأكثر الصحابة والتابعين ومن بعدهم. قاله الترمذي. وإلى النصف مباح، وبعده مكروه، وحكى ابن المنذر أن المنقول عن ابن مسعود وابن

رجاله ستة

عباس الى ما قبل ثلث الليل، وهو مذهب اسحاق والليث، وبه قال الشافعيّ في الجديد، وفي القديم تقديمها. قال النوويّ: وهو الأصح. قلت: ومشهور مذهب مالك امتداد مختار العشاء الى الثلث الأول. وقيل: إلى النصف. وقيل: إلى طلوع الفجر. وقوله: "كانوا أو كان النبيّ"، الخ، الشك من الراوي عن جابر، والمعنى فيهما متلازم، لأن أيهما كان يدخل فيه الآخر، ان أراد أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم صلى فالصحابة كانوا معه في ذلك، وإن أراد الصحابة، فالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان إمامهم، أي: كان شأنه التعجيل دائمًا، لا كما كان يصنع في العشاء من تعجيلها أو تأخيرها، وخبر كانوا محذوف يدل عليه قوله: "يصليها"، أي: كانوا يصلون. وقال ابن بطال: فيه حذفان، حذف خبر كانوا، وهو جائز، كحذف خبر المبتدأ في قوله: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ}، أي: فعدتهن مثل ذلك. والحذف الثاني حذف الجملة بعد أو، تقديره: أوْ لم يكونوا مجتمعين. وقال ابن المنير: يحتمل أن يكون تقديره: والصبح كانوا مجتمعين مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وحده يصليها بغلس، والتقدير الأول أوْلَى، لوجود ما يدل عليه. وقال ابن التين: يصح أن يكون: "كانوا" هنا تامة غير ناقصة، بمعنى الحضور والوقوع، فيكون المحذوف ما بعد "أو" خاصة. وقوله: "بغلس"، يتعلق بأي اللفظين كان هو الواقع، والمعنى في ذلك متلازم، كما مرَّ. والغَلَس، بفتح اللام، ظلمة آخر الليل. رجاله ستة: وفيه ذكر الحجاج. الأول: محمد بن بشار، وقد مرَّ في الحادي عشر من العلم، ومرَّ محمد بن جعفر في الخامس والعشرين من الإيمان، ومرَّ شعبة في الثالث فيه، ومرَّ سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف في السابع والأربعين من الوضوء، ومرَّ جابر بن عبد الله في الرابع من بدء الوحي. السادس من السند: محمد بن عمرو بن الحسن بن علي بن أبي طالب،

الهاشميّ، أبو عبد الله المدني، أمه رملة بنت عقيل بن أبي طالب. قال أبو زُرعة والنَّسائيّ وابن خِراش: ثقة، وقال أبو حاتم أيضًا: ثقة، وذكره ابن حبّان في "الثقات". روى عن عمة أبيه زينب بنت علي، وابن عباس وجابر. وروى عنه سعد بن ابراهيم وأبو الجحاف داود بن عوف، وعبد الله بن ميمون وغيرهم. والحجّاج المذكور في الحديث هو الحجاج بن يوسف بن أبي عقيل الثقفى، الأمير الشهير، نشأ بالطائف، وكان أبوه من شيعة بني أُمية، وحضر مع مروان حروبه، ونشأ ابنه مؤدب كتاب، ثم لحق بعبد الملك بن مروان، وحضر معه قتل مصعب بن الزبير، ثم انتدب لقتال عبد الله بن الزبير. وقال جماعة: انه دس على ابن عمر من سمه في زج رمح، وقد وقع بعض ذلك في "صحيح البخاري"، وولاه عبد الملك الحرمين مدة، ثم استقدمه وولاه الكوفة، وجمع له العراقَيْن، فسار بالناس سيرة جائرة، واستمر في الولاية نحوًا من عشرين سنة. وكان فصيحًا بليغًا فقيهًا، وكان يزعم أن طاعة الخليفة فرض على الناس في كل ما يرومه، ويجادل على ذلك. وخرج عليه ابن الأشعث ومعه أكثر الفقهاء والقراء من أهل البصرة، فحاربه حتى قتله، وتتبع من كان معه، فعرضهم على السيف، فمن أقر له أنه كفر بخروجه عليه أطلقه، ومن امتنع قتله صبرًا، حتى قال عمر بن عبد العزيز: لو جاءت كل أمة بخبيثها وجئنا بالحجاج لغلبناهم. وسبب تولية عبد الملك له ما روى ابن عبد ربه، أن الحجاج وأباه كانا يعلِّمان الصبيان بالطائف، ثم لحق الحجاج برَوح بن زنباع الجُذاميّ، وزير عبد الملك بن مروان، فكان في عديد شرطته، الى أن رأى عبد الملك انحلال عسكره، وأنّ الناس لا يرحلون برحيله، ولا ينزلون بنزوله، فشكا ذلك الى روح بن زنباع، فقال له: ان في شُرطتي رجلًا لو قلده أمير المؤمنين أمرَ عسكره، لأرحل الناس برحيله، وأنزلهم بنزوله، يقال له الحجاج بن يوسف. قال: إنا قد قلّدناه ذلك، فكان لا يقدر أحد أن يتخلف عن الرحيل والنزول إلا أعوان روح بن زنباع، فوقف عليهم يومًا وقد أرحل الناس وهم على الطعام يأكلون، فقال لهم: ما منعكم أن ترحلوا برحيل أمير المؤمنين؟ فقالوا له: انزل يا بن

اللَّخناء فكُل معنا، فقال لهم: هيهات، ذهب ذلك، ثم أمر بهم فجُلدوا بالسياط، وطوّفهم في العسكر، وأمر بفساطيط روح فأحرقت بالنار، فدخل روح على عبد الملك باكيًا، وقال: يا أمير المؤمنين، إن الحَجّاج الذي كان في شُرطتي ضرب غلماني، وأحرق فساطيطي. قال: عليّ به، فلما دخل عليه قال له: ما حملك على ما فعلت؟ قال: أنا ما فعلت. قال: ومن فعل؟ قال: أنت فعلت، إنما يدي يدك، وسوطي سوطك، وما على أمير المؤمنين أن يخلف لروح عوض الفسطاط فسطاطين، وعوض الغلام غلامين، ولا يكسرني فيما قدمني له، فأخلف لروح ما ذهب له، وتقدم الحجاج في منزلته، وكان ذلك أول ما عرف من كفايته. وكان للحجاج في القتل وسفك الدماء والعقوبات غرائب لم يسمع بمثلها. وقد أخرج الترمذي من طريق هشام بن حسان: أحصينا من قتله الحجاج صبرًا فبلغ مئة ألف وعشرين ألفًا، ويقال: إن سبب ولوعه بالدماء ما أخرجه المسعوديّ من أن أُم الحجاج الفارعة بنت همام بن عروة بن مسعود الثقفيّ، كانت تحت الحارث بن كَلَدة الثقفيّ الطائفيّ، حكيم العرب، فدخل عليها مرة في السَحَر، فوجدها تتخلل، فبعث إليها بطلاقها، فقالت: لِمَ بعثت إليّ بطلاقي؟ هل لشيءٍ رابك مني؟ قال: نعم، دخلت عليك في السحر وأنت تتخللين، فإن كنت بادرت الغداء، فأنتِ شرهة، وإن كنت بتِّ والطعام بين أسنانك فأنت قذرة. فقالت: كل ذلك لم يكن، لكني تخللت من شظايا السواك. فتزوجها بعده يوسف بن أبي عقيل الثَّقفيّ فولدت له الحجاج مشوهًا لا دُبر له، فنقب عن دبره، وأبى أن يقبل ثدي أمه وغيرها، فأعياهم أمره. ويقال: إن الشيطان تصور لهم في صورة الحارث بن كلدة المقدم ذِكْره، فقال: ما خبركم؟ قالوا: ولد ولدٌ ليوسف من الفارعة، وقد أبى أن يقبل ثدي أمه، فقال: اذبحوا جديًا أسود، وأولغوه دمه، فإذا كان في اليوم الثاني، فافعلوا به كذلك، فإذا كان في اليوم الثالث، فاذبحوا له تيسًا أسود وأولغوه دمه، ثم اذبحوا له أسود سالخًا وأولغوه دمه، واطلوا به وجهه، فإنه يقبل الثدي في اليوم الرابع،

ففعلوا به ذلك، فكان لا يصبر عن سفك الدماء لما كان منه في أول الأمر. وكان الحجاج يخبر عن نفسه أن أكبر لذّاته سفك الدماء، وارتكاب أمور لا يقدم عليها غيره. ويقال: إن زياد بن أبيه أراد أن يتشبه بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، في ضبط الأمور والحزم والصرامة وإقامة السياسات، إلا أنه أسرف وتجاوز الحد. وأراد الحجاج أن يتشبه بزياد فأهلك ودمر. وخطب يومًا فقال في أثناء كلامه: أيها الناس، إن الصبر عن محارم الله، أهون من الصبر على عذاب الله، فقام إليه رجل فقال: ويحك يا حجاج ما أصفق وجهك وأقل حياءك، فأمر به فحبس، فلما نزل عن المنبر دعا به فقال له: لقد اجترأت عليّ، فقال له: أتجترىء على الله فلا ننكره، ونجترىء عليك فتنكره؟ فخلى سبيله. قال شاذان: كان مفلسًا من دينه. وقال طاووس: عجبت لمن يسميه مؤمنًا. وكفّره جماعة منهم: سعيد بن جُبير ومجاهد والنخعي والشعبي وغيرهم. وقالت له أسماء بنت أبي بكر: أنت المُبير الذي أخبرنا به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وقال مالك بن دينار: سمعت الحجاج يخطب، فلم يزل بيانه وتخليصه بالحجج حتى ظننت أنه مظلوم. وروى ابن أبي الدنيا عن زيد بن أسلم بإسناد صحيح أن المِسْوَرَ بن مَخْرَمة أغمي عليه، ثم أفاق، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أحبّ إليَّ من الدنيا وما فيها، عبد الرحمن بن عوف في الرفيق الأعلى مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدِّيقين والشهداء والصالحين، وحَسُن أولئك رفيقًا، وعبد الملك والحجاج يجران أمعاءهما في النار. ولم يكن للحجاج حينئذ ذكر، ولا كان عبد الملك ولي الخلافة بعدُ، لأن المسور مات في اليوم الذي جاء نعي يزيد بن معاوية من الشام، وذلك في ربيع الأول سنة أربع وستين من الهجرة. وقال القاسم بن مخيمرة: كان الحجاج ينقض عرى الإِسلام عروة عروة. قال النسائيّ عن أبيه: ليس بثقة ولا مأمون. وقال الحاكم: أبو أحمد ليس بأهل أن يُروى عنه، ومما يحكى عنه من الموبقات قوله لأهل السجن: اخسؤوا فيها

ولا تكلمون. ولم يقصد الشيخان الرواية عن الحجاج، كما لم يقصد البخاريّ الرواية عن الحسن بن عمارة، فإما أن يتركا، واما أن يذكرا، وإلا فما الفرق بينهما؟ وفي الصحيح عن سلام بن مسكين، قال: بلغني أن الحجاج قال لأنس: حدثني عن أشد عقوبة عاقب بها النبي -صلى الله عليه وسلم-، فحدثه بحديث العرنيين. وقال أبو عمرو بن العلاء: لما مات الحجاج قال الحسن: اللهم أنت أمتَّه، فأَمِتْ سُنَّتَه، أتانا أُخَيفش أُعيمش قصير البنان، والله ما عرق له عذار في سبيل الله قط، فمدّ كفًّا كبره، وقال: بايعوني وإلا ضربت أعناقكم. ورُوي عن أشعث الحَدّانيّ، وكان يقرأ للحجاج في رمضان، قال: رأيته في منامي بحالة سيئة، فقلت: يا أبا محمد، ما صنعت؟ قال: ما قتلت أحدًا بقتلة، إلا قتلت بها. قلت: ثم مه؟ قال: ثم أمر به إلى النار. قلت: ثم مه؟ قال: أرجو ما يرجو أهل لا إله إلا الله، فبلغ ذلك ابن سيرين، فقال: إني لأرجو له، فبلغ قول ابن سيرين الحسن، فقال: أما والله ليخلفن الله رجاءَه فيه. وقد روى الحديث عن سَمُرة بن جندب وأنس وعبد الملك بن مروان وأبي بُردة. وروى عنه سعيد بن أبي عروبة ومالك بن دينار وحُميد الطويل وثابت البنانيّ والأعمش وأيوب السختيانيّ وغيرهم. وحكى أبو أحمد العسكريّ أن الناس غبروا يقرأون في مصحف عثمان بن عفان، رضي الله عنه، نيفًا وأربعين سنة، إلى أيام عبد الملك بن مروان، ثم كثر التصحيف، وانتشر بالعراق، ففزع الحجّاج بن يوسف إلى كتّابه، وسألهم أن يضعوا لهذه الحروف المشتبهة علامات، فيقال: إن نصر بن عاصم قام بذلك، فوضع النقط أفرادًا وأزواجًا، وخالف بين أماكنها، فغَبَر الناس بذلك زمانًا لا يكتبون إلا منقوطًا، فكان مع استعمال النقط أيضًا يقع التصحيف، فأحدثوا الإعجام، فكانوا يتبعون النقط، فإذا أغفل الاستقصاء عن الكلمة فلم توف حقوقها، اعترى التصحيف، فالتمسوا حيلة، فلم يقدروا فيها إلا على الأخذ من أفواه الرجال بالتلقين، وكان ينشد في مرضه هذين البيتين: يارب قد حلف الأعداء واجتهدوا ... أيمانهم أنني من ساكني النارِ أيحلفون على عمياء ويحهم ... ما ظنهم بعظيم العفو غَفَّارِ

لطائف إسناده

وكتب إلى الوليد بن عبد الملك كتابًا يخبره فيه بمرضه، وكان الوليد أبقاه وأقره على ما بيده بعد عبد الملك، وفي آخر الكتاب هذه الأبيات: إذا ما لقيت الله عني راضيًا ... فإن سرور النفس فيما هنا لكِ فحسبي حياة الله من كل ميت ... وحسبي بقاء الله من كل هالكِ لقد ذاق هذا الموت من كان قبلنا ... ونحن نذوق الموت من بعد ذلكِ ولما حضرته الوفاة أحضر منجمًا، فقال له: هل ترى في عِلمك مَلِكًا يموت؟ قال: نعم. ولست هو. فقال: وكيف ذلك؟ قال المنجّم: لأن من يموت اسمه كليب، فقال الحجاج: أنا هو والله، بذلك سمتني أمي، فأوصى عند ذلك، وكان مرضه بالأكلة وقعت في بطنه، ودعا بالطبيب لينظر إليها، فأخذ لحمًا وعلقه في خيط وسرحه في حلقه وتركه ساعة، ثم أخرجه وقد لصق به دود كثير، وسلّط الله عليه الزمهرير، فكانت الكوانين تجعل حوله مملوءة نارًا، وتُدنى منه حتى تحرق جلده، وهو لا يحس بها. وشكا ما يجده إلى الحسن البصريّ، فقال له: قد كنت نهيتك أن تتعرض إلى الصالحين، فلججت. فقال له: يا حسن، لا أسالك أن تسال الله أن يفرّج عني، ولكن أسالك أن تسأله أن يُعجِّل قبض روحي، ولا يطيل عذابي، فبكى الحسن بكاء شديدًا. وأقام الحجاج على هذه الحالة خمسة عشر يومًا، والذي قال غير الطبريّ: إنه لما جاء نعي الحجاج إلى الحسن البصريّ، سجد لله تعالى شكرًا، وقال: اللهم إنَّك قد أمتَّه ... إلخ. وكان قد رأى في منامه أن عَينيه قد قُلعتا، وكانت عنده هند بنت المهلب بن أبي صفرة الأزدي، وهند بنت أسماء بن خارجة، فطلق الهندين اعتقادًا منه أن رؤياه تتأوّل بهما، وكانت وفاته لتسع بقين من شهر رمضان سنة خمس وتسعين بمدينة واسط، ودفن بها، وعفا قبره، وأُجريَ عليه الماء. ومدينة واسط هو الذي بناها بين البصرة والكوفة في ثلاث سنين. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، والعنعنة في موضعين،

والقول في أربعة، وفيه السؤال، وتابعيان، ورواته ما بين بصريّ ومدنيّ وكوفيّ. أخرجه البخاريّ هنا وفي الصلاة أيضًا، ومسلم وأبو داود والنَّسائيّ فيها.

الحديث الثامن والثلاثون

الحديث الثامن والثلاثون حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ، قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- الْمَغْرِبَ إِذَا تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ. وقوله: "إذا توارت بالحجاب"، أي: استترت، والمراد الشمس، وأضمرها اعتمادًا على فهم السامعين، كقوله تعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ}، وذكر المغرب قرينة دالة على المقدّر، وقد رواه مسلم عن يزيد بن عبيد، بلَفظ: "إذا غربت الشمس وتواترت بالحجاب" فدل على أن الاختصار في المتن من شيخ البخاريّ. ورواه عبد بن حُميد والإسماعيليّ من وجه آخر، عن يزيد بن عبيد بلفظ: "كان يصلي المغرب ساعة تغرب الشمس، حين يغيب حاجبها"، والمراد الذي يبقى بعد أن يغيب أكثرها، والرواية التي فيها توارت أصرح في المراد. رجاله ثلاثة: الأول: المكي بن إبراهيم، وقد مرَّ في السابع والعشرين، ومرَّ يزيد بن عبيد وسلمة بن الأكوع في الخمسين منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والقول في موضعين، والعنعنة في موضع، وهو من ثلاثيّات البخاريّ. أخرجه مسلم وأبو داود والترمذيّ وابن ماجه في الصلاة.

الحديث التاسع والثلاثون

الحديث التاسع والثلاثون حَدَّثَنَا آدَمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ يَزيْدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ صَلَّى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- سَبْعًا جَمِيعًا، وَثَمَانِيًا جَمِيعًا. قوله: "سبعًا جميعًا، وثمانيًا جميعًا"، أي: صلى المغرب والعشاء سبعًا جمعًا، والظهر والعصر ثمانيًا، جمعًا، وقد استوفى الكلام على هذا الحديث في باب "الجمع بين الظهر والعصر، في وقت الظهر"، وقد استدل المصنف بهذه الأحاديث على ضعف حديث أبي بصرة المتقدم ذكره قبل هذا بحديثين. رجاله خمسة: الأول: آدم بن أبي إياس، والثاني: شُعبة، وقد مرّا في الثالث من الإيمان، ومرّ عمرو بن دينار في الرابع والخمسين من العلم، ومرّ جابر بن زيد في السادس من الغسل، ومرّ ابن عباس في الخاص من بدء الوحي. ثم قال المصنف: باب مَنْ كَرِهَ أن يقال للمغرب العشاء قال ابن المنير: عدل المصنف عن الجزم، كأن يقول: باب كراهية كذا، لا أن لفظ الخبر لا يقتضي نهيًا مطلقًا، لكن فيه النهي عن غلبة الأعراب على ذلك، فكأنَّ المصنف رأى أن هذا القدر لا يقتضي المنع من إطلاق العشاء عليه أحيانًا، بل يجوز أن يطلق على وجه لا تترك له التسمية الأخرى، كما ترك ذلك الأعراب وقوفًا مع عادتهم. قال: وإنما شرع لها التسمية بالمغرب لأنه اسم يشعر

بمسماها أو بابتداء وقتها، وكره إطلاق اسم العشاء عليها لئلا يقع الالتباس بالصلاة الأخرى، وعلى هذا لا يكره أن تسمى العشاء بقيد، كان يقول: العشاء الأُولى، ويؤيده قولهم العشاء الآخرة، كما ثبت في الصحيح من حديث أنس الآتي في الباب الذي يليه، ونقل ابن بطال عن غيره أنه لا يقال للمغرب العشاء الأُولى، ويحتاج إلى دليل خاص، أما من حديث الباب فلا حجة له. وقال المهلب: إنما كره أن يقال للمغرب العشاء لأن التسمية من الله تعالى ورسوله، قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}.

الحديث الأربعون

الحديث الأربعون حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرو، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لاَ تَغْلِبَنَّكُمُ الأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلاَتِكُمُ الْمَغْرِبِ". قَالَ: وَتَقولُ الأَعْرَابُ هِيَ الْعِشَاءُ. قوله: "حدثني عبدُ الله المزني"، كذا للأكثر لم يذكر اسم أبيه، وزاد في رواية: "هو ابن مغفل"، ووقع منسوبًا عند الإسماعيليّ وغيره في رواية عبد الصمد بن عبد الوارث عن أبيه. وقوله: "لا تغلبنكم الأعراب"، قال الطيبيّ: يقال غلبه على كذا: غَصَبَه منه، أو أخذه منه قهرًا. والمعنى: لا تتعرضوا لما هو من عادتهم من تسمية المغرب بالعشاء، والعشاء بالعتمة، فيغصب منكم الأعراب اسم العشاء الذي سماها الله به، فالنهي على الظاهر للأعراب، وعلى الحقيقة لهم. وقال غيره: معنى الغلبة أنكم تسمونها اسمًا وهم يسمونها اسمًا، فإن سميتموها بالاسم الذي يسمونها به، وافقتموهم. وإذا وافق الخصم خصمه صار كأنّه انقطع له حتى غلبه، ولا يحتاج إلى تقدير غصب ولا أخذ. وقال التوربشتيّ: المعنى لا تطلقوا هذا الاسم على ما هو متداول بينهم، فيغلب مصطلحهم على الاسم الذي شرعته لكم، والأعراب مَنْ كان مِن أهل البادية، وإن لم يكن عربيًا، والعربي من ينتسب إلى العرب، ولو لم يسكن البادية. وقوله: على اسم صلاتكم، التعبير بالاسم يبعد قول الزهريّ إن المراد بالنهي عن ذلك أن لا تؤخر صلاتها عن وقت الغروب، وكذا قول ابن المنير: السر في النهى سد الذريعة لئلا تسمى عشاءً، فيظن امتداد وقتها عن غروب الشمس أخذًا من لفظ العشاء، وكأنه أراد تقوية مذهبه في أن وقت المغرب

رجاله خمسة

مضيّق، وفيه نظر، إذ لا يلزم من تسميتها المغرب أن يكون وقتها مضيقًا، فإنَّ الظهر سميت بذلك لأن ابتداء وقتها عند الظهيرة، وليس وقتها مضيقًا بلا خلاف. وقوله: "قال: وتقول الأعراب: هي العشاء"، جزم الكرمانيّ بأن فاعل قال هو عبد الله المزنيّ راوي الحديث، ويحتاج إلى نقل خاص لذلك وإلا فظاهر إيراد الإسماعيليّ أنه من تتمة الحديث، فإنه أورده بلفظ: "فإن الأعراب تسميها"، والأصل في مثل هذا أن يكون كلامًا واحدًا، حتى يقوم دليل على إدراجه. وسر النهي عن موافقتهم على ذلك أن لفظ العشاء لغة هو أول ظلام الليل، وذلك من غيبوبة الشفق، فلو قيل للمغرب عشاء لأدى إلى أن وقتها غيبوبة الشفق، ولا يتناول النهي تسمية المغرب عشاء على سبيل التغليب، كمن قال مثلًا: صليت العشاء، إذا قلنا إن حكمة النهي عن تسميتها عشاء خوف اللبس، لزوال اللبس في الصيغة المذكورة. وقد روى أبو مسعود الرازيّ هذا الحديث عن عبد الصمد بن عبد الوارث بلفظ: "لا تغلبنَّكم الأعرَاب على اسم صلاتكم، فإن الأعراب تسميها عتمة"، ووافقه غيره، وجنح الإسماعيليّ إلى ترجيح رواية أبي مسعود لموافقته حديث ابن عمر عند مسلم الآتي في صدر الباب الذي يليه، والذي يظهر أنهما حديثان أحدهما في المغرب، والآخر في العشاء، كانا جميعًا عند عبد الوارث بسند واحد. رجاله خمسة: الأول: أبو معمر، والثاني: عبد الوارث، وقد مرا في السابع عشر من العلم، ومرَّ الحسين المعلم في السادس من الإيمان، ومرَّ عبد الله بن بريدة في الخامس والثلاثين من الحيض. الخامس: عبد الله بن مُغَفَّل بن عبد غنم، ويقال ابن عبد نهم بن عفيف بن سحيم بن ربيعة بن عداء بن عثمان بن عمرو المزني. كان من أصحاب الشجرة، سكن المدينة ثم تحول عنها إلى البصرة، وابتنى بها دارًا

لطائف إسناده

قرب المسجد الجامع. يكنى أبا سعيد، وقيل: أبا عبد الرحمن، وقيل: أبا زياد. قال الحسن: كان عبد الله بن مغفل أحد العشرة الذين بعثهم إلينا عمر يفقِّهون الناس، وكان من نقباء أصحابه، وكان له سبعة أولاد. وعن معاوية بن قرة، قال: أول من دخل من باب مدينة تُسْتَر عبد الله بن مغفل المزنيّ، يعني يوم فتحها. وروى عنه عنترة أنه قال: "إني لآخذ بغصن من أغصان الشجرة التي بايع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تحتها، أظله بها، فبايعناه على أن لا نَفِرّ"، وفي رواية: "إني لممن يرفع أغصان الشجرة عن وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو يخطب". له ثلاثة وأربعون حديثًا اتفقا على أربعة، وانفرد البخاريّ بحديث، ومسلم بآخر. روى عنه جماعة من التابعين بالكوفة والبصرة. وأروى الناس عنه الحسن البصريّ، وهو أحد البكّائين في غزوة تبوك. مات بالبصرة سنة تسع وخمسين أو ستين، وأوصى أن يصلي عليه أبو برزة الأسلمي، فصلى عليه، وليس في الصحابة عبد الله بن مغفل سواه. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، وبالإفراد في موضع، والعنعنة في موضع، والقول. ورواته كلهم بصريُّون. وهذا الحديث من أفراد البخاريّ. ثم قال المصنف: باب ذكر العشاء والعتمة ومن رآه واسعًا أي هذا باب في بيان ذكر العشاء والعتمة في الآثار، من رأى إطلاق اسم العتمة على العشاء واسعًا، أي: جائزًا، والعَتَمة بالتحريك صلاة العشاء الآخرة. وقال الخليل: هي بعد غيبوبة الشفق، وأَعْتَم إذا دخل في العتمة، والعتمة الإبطاء؛ يقال: أعتم الشيء، وعَتَمَه إذا أخّره، وقد غاير المصنف بين هذه الترجمة والتي قبلها، مع أن سياق الحديثين الواردين فيهما واحد، وهو

النهي عن غلبة الأعراب على التسميتين، وذلك لأنه لم يثبت عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إطلاق اسم العشاء على المغرب، وثبت عنه إطلاق اسم العَتَمة على العشاء، فتصرف المصنف في الترجمتين بحسب ذلك. والحديث الذي ورد في العشاء أخرجه مسلم عن ابن عمر، بلفظ: "لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم، فإنها في كتاب الله العشاء، وإنهم يعتمون بحلاب الإبل"، ولابن ماجه نحوه بإسناد حسن عن أبي هريرة، ولأبي يعلى والبيهقيّ عن عبد الرحمن بن عوف كذلك. زاد الشافعيّ في روايته عن ابن عمر: "وكان ابن عمر إذا سمعهم يقولون العَتَمة صاح وغضب". وأخرج عبد الرزاق الموقوف من وجه آخر عن ابن عمر، وروى ابن أبي شيبة عن ميمون بن مِهران، قال: قلت لابن عمر: من أول من سمى صلاة العشاء العَتَمة؟ قال: الشيطان. واختلف السلف في ذلك، فمنهم من كرهه كابن عمر راوي الحديث، ومنهم من أطلق جوازه، نقله ابن أبي شيبة عن أبي بكر الصِّديق وغيره، ومنهم من جعله خلاف الأولى، وهو الراجح، وسيأتي للمصنف قريبًا، وكذا نقله ابن المنذر عن مالك والشافعيّ، واختاره ونقل القرطبيّ: إنما نهى عن ذلك تنزيهًا لهذه العبادة الشرعية الدينية، عن أن يطلق عليها ما هو اسم لفِعلة دنيوية، وهي الحَلْبة التي كانوا يحلبونها في ذلك الوقت، ويسمونها العَتَمة، وذكر بعضهم أن تلك الحلبة إنما كانوا يعتمدونها في زمان الجدب خوفًا من السؤال والصعاليك، فعلى هذا فهي فعلة دنيوية مكروهة لا تطلق على فعلة دينية محبوية. وقال الطبري: العتمة بقية اللبن تغبق بها الناقة بعد هَوِيّ من الليل، فسميت الصلاة بذلك لأنهم كانوا يصلونها في تلك الساعة. ثم قال: وقال أبو هُريرة عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "أثقل الصلاة على المنافقين العشاء والفجر". وقال: "لو يعلمون ما في العتمة والفجر ... " شرع المصنف في إيراد أطراف أحاديث محذوفة الأسانيد، كلّها صحيحة مخرّجة في أمكنة أخرى، حاصلها ثبوت تسمية هذه الصلاة تارة عشاء، وتارة عتمة. وأما الأحاديث التي لا تسمية فيها، بل فيها إطلاق الفعل كقوله: "أعتم النبي صلى الله تعالى عليه

وسلم" ففائدة ايراده لها الإشارة الى أن النهي عن ذلك إنما هو لإطلاق الاسم، لا لمنع تأخير هذه الصلاة عن أول الوقت. وأبو هريرة مرّ في الثاني من الإيمان، والأول أسنده البخاريّ في فضل العشاء في جماعة، والثاني أسنده في باب الاستفهام في الأذان والشهادات. ثم قال: قال أبو عبد الله: والاختيار أن يقول: "العشاء"، لقوله تعالى: {وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ} أبو عبد الله هو المصنف، وقد قال ابن المنير: هذا لا يتناوله لفظ الترجمة، لأن لفظ الترجمة يشعر بالتسوية، وهذا ظاهر في الترجيح. وفيما قاله نظر، إذ لا تنافي بين الجواز والأولوية، فالشيئان، إذا كانا جائزي الفعل، قد يكون أحدهما أولى من الآخر، وإنما صار عنده أولى لموافقته لفظ القرآن، ويترجح أيضًا بأنه أكثر ما ورد عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وبأن تسميتها عشاء يُشعر بأول وقتها، بخلاف تسميتها عتمة، لأنه يُشعر بخلاف ذلك، وبأن لفظه في الترجمة لا ينافي ما ذكر أنه الاختيار، لأنه أشار بالترجمة إلى الخلاف، وما فيه الخلاف لا يمتنع فيه الاختيار. ثم قال: ويذكر عن أبي موسى، قال: "كنا نتناوب النبيّ -صلى الله عليه وسلم- عند صلاة العشاء، فأَعْتَم بها. كأنه لم يجزم به، لأنه اختصر لفظه، قد أجاب بذلك من اعترض على ابن الصلاح حيث فرق بين الصيغتين، وحاصل الجواب أن صيغة الجزم تدل على القوة، وصيغة التمريض لا تدل. ثم بين مناسبة العدول في حديث أبي موسى عن الجزم، مع صحته إلى التمريض، بأن البخاري قد يفعل ذلك لمعنى غير التضعيف، وهو ما ذكر من ايراد الحديث بالمعنى، وكذا الاقتصار على بعضه لوجود الاختلاف في جوازه، وإن كان المصنف يرى الجواز. وهذا التعليق وصله البخاريّ في باب فضل العشاء مطولًا بعد باب واحد، وأبو موسى مرَّ في الرابع من الإيمان. ثم قال: وقال ابن عباس وعائشة: "أعتم النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-". قوله: "أعتم"، أي:

دخل في وقت العَتَمة، ويطلق "أعتم" بمعنى "أَخَّر"، كما مرَّ. وحديث ابن عباس وصله في باب النوم قبل العشاء، وابن عباس مرَّ في الخامس من بدء الوحي، وحديث عائشة وصله في باب فضل العشاء، وباب النوم قبل العشاء، وعائشة مرت في الثاني من بدء الوحي. ثم قال: وقال بعضهم عن عائشة: "أعتم النبي -صلى الله عليه وسلم- بالعتمة" وهذا التعليق وصله البخاريّ في باب "خروح النساء إلى المساجد بالليل"، من طريق شعيب، عن الزهري، وأخرجه النّسائيّ أيضًا من هذا الطريق. وقال جابر: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي العشاء". وهذا التعليق طرف من حديث وصله في باب "وقت المغرب"، وفي باب "وقت العشاء"، الذي يلى هذا الباب، وجابر مرَّ في الرابع من بدء الوحي. ثم قال: وقال أبو برزة: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يؤخر العشاء"، وهذا التعليق طرف من حديث وصله البخاري في باب "وقت العصر"، الذي مضى، وأبو برزة مرَّ في الثامن عشر من كتاب المواقيت. ثم قال: وقال أنس: "أخَّر النبي -صلى الله عليه وسلم- العشاء الآخرة"، وهذا التعليق طرف من حديث وصله البخاري في باب "وقت العشاء" إلى نصف الليل، يأتي قريبًا إن شاء الله، وأنس مرَّ في السادس من الإيمان. ثم قال: وقال ابن عمر وأبو أيوب وابن عباس: "صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- المغرب والعشاء"، أما حديث ابن عمر وأبي أيوب، فقد وصلهما البخاري في لفظ الأول: "صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة جميعًا"، ولفظ الثاني: "جمع في حجة الوداع بين المغرب والعشاء"، وأما حديث ابن عباس، فقد وصله في باب "تأخير الظهر إلى العصر" فيما مرّ، وابن عمر مرّ أول كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه، ومرّ أبو أيوب الأنصاري في العاشر من الوضوء، ومرَّ ابن عباس في الخامس من الوحي.

الحديث الحادي والأربعون

الحديث الحادي والأربعون حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ سَالِمٌ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- صَلاَةَ الْعِشَاءِ، وَهْيَ الَّتِي يَدْعُو النَّاسُ الْعَتَمَةَ، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَأَقْبَلَ عَلَيْنَا، فَقَالَ: "أَرَأَيْتُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ، فَإِنَّ رَأْسَ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْهَا لاَ يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَحَدٌ". قوله: "صلى لنا"، أي لأجلنا، أو اللام بمعنى الباء، ومعنى اللام صلى إمامًا لنا، وإلا فالصلاة لله. وقوله: "وهي التي يدعو الناس العَتَمة"، تقدم نظير ذلك في حديث أبي برزة في قوله: "وكان يستحب أن يؤخر العشاء التي تدعونها العتمة"، وفي كل هذا إشعار بغلبة استعمالهم لها بهذا الاسم، فصار من عرف النهي عن ذلك يحتاج إلى ذكره لقصد التعريف. قال النووي وغيره: بين النهي عن تسميتها عتمة، وبيّن ما جاء من تسميتها عتمة بأمرين: أحدهما: أنه استعمل ذلك لبيان الجواز، وأن النهي للتنزيه لا للتحريم. والثاني: بأنه خاطب بالعتمة من لا يعرف العشاء، لكونه أشهر عندهم من العشاء، فهو لقصد التعريف لا لقصد التسمية، ويحتمل أنه استعمل لفظ العتمة في العشاء، لأنه كان مشتهرًا عندهم استعمال لفظ العشاء للمغرب، فلو قال: لو يعلمون ما في الصبح والعشاء، لتوهموا أنها المغرب، وهذا ضعيف، لأنه قد ثبت في نفس الحديث: "لو يعلمون ما في الصبح والعشاء" فالظاهر أن التعبير بالعشاء تارة، والعتمة تارة، من الرواة. وقيل: إن النهي عن تسمية العشاء عتمة نسخ بالجواز، وتُعقب بأن نزول الآية كان قبل الحديث المذكور، وفي كل من القولين نظر، للاحتياج في مثل

رجاله ستة

ذلك إلى التاريخ، ولا بعد في أن ذلك كان جائزًا، فلما كثر إطلاقهم له نهوا عنه، لئلا تغلب السنة الجاهلية على السنة الإسلامية، ومع ذلك فلا يحرم ذلك، بدليل أن الصحابة الذين رووا النهي استعملوا التسمية المذكورة، وأما استعمالها في حديث أبي هُريرة، فدفع الالتباس بالمغرب. وقوله: "فقال: أرأيتم ليلتكم هذه ... " إلخ، مرَّ الكلام عليه مستوفى في باب "السمر في العلم" من كتاب العلم. رجاله ستة: الأول: عبدان، والثاني: عبد الله بن المبارك، وقد مرّا في السادس من الوحي، ومرّ يونس بن يزيد في متابعات الرابع منه، ومرّ ابن شهاب في الثالث منه، ومرّ سالم بن عبد الله في السابع من الإيمان، ومرّ أبوه عبد الله قبل ذكر حديث منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع، والإخبار بصيغته في موضعين، وبصيغة الإفراد في موضع، والعنعنة في موضع، والقول. ورواية الابن عن أبيه بذكر اسمه، ورواته ما بين مروزيّ ومدنيّ وأيليّ، ورواية تابعيّ عن صحابيّ، ومرّ ذكر مواضعه عنده في باب "السمر في العلم". ثم قال المصنف: باب وقت العشاء إذ اجتمع الناس أو تأخروا أشار بهذه الترجمة إلى الرد على من قال إنها تسمى العشاء إذا عُجّلت، والعتمة إذا أُخِّرت أخذًا من اللفظين، وأراد هذا القائل الجمع بوجه غير الأربعة المتقدمة، فاحتج عليه المصنف بأنها قد سميت في حديث الباب، في حال التقديم والتأخير باسم واحد.

الحديث الثاني والأربعون

الحديث الثاني والأربعون حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْر، وهُوَ ابْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، قَالَ: سَأَلْنَا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ صَلاَةِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: كَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ، وَالْعَصْرَ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ، وَالْمَغْرِبَ إِذَا وَجَبَتْ، وَالْعِشَاءَ إِذَا كَثُرَ النَّاسُ عَجَّلَ، وَإِذَا قَلُّوا أَخَّرَ، وَالصُّبْحَ بِغَلَسٍ. وهذا الحديث مرَّ في باب وقت المغرب، ومرَّ الكلام عليه. رجاله خمسة: الأول: مسلم بن ابراهيم، وقد مرَّ في السابع والثلاثين من الإيمان، ومرَّ شعبة في الثالث منه، ومرّ سعد بن إبراهيم في السابع والأربعين من الوضوء ومرّ محمد بن عمرو بن الحسن في السابع والثلاثين من كتاب المواقيت هذا، ومرّ جابر بن عبد الله في الرابع من بدء الوحي، ومرّ الكلام على مواضع إخراجه عند ذكره في السابع والثلاثين. ثم قال المصنف: باب فضل العشاء قال في "الفتح": لم أر من تكلم على هذه الترجمة، فإنه ليس في الحديثين اللذين ذكرهما المؤلف في هذا الباب ما يقتضي اختصاص العشاء بفضيلة ظاهرة، وكأنَّه مأخوذ من قوله: ما ينتظرها أحد من أهل الأرض غيركم، فعلى هذا في الترجمة حذفٌ تقديره: "باب فضل انتظار العشاء".

الحديث الثالث والأربعون

الحديث الثالث والأربعون حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ، قَالَتْ: أَعْتَمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَيْلَةً بِالْعِشَاءِ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَفْشُوَ الإِسْلاَمُ، فَلَمْ يَخْرُجْ حَتَّى قَالَ عُمَرُ: نَامَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ. فَخَرَجَ فَقَالَ لأَهْلِ الْمَسْجِدِ: "مَا يَنْتَظِرُهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ غَيْرُكُمْ". قوله: "عن عروة"، عن مسلم في رواية يونس عن ابن شهاب: "أخبرني عروة"، وقوله: "وذلك قبل أن يفشو الإسلام"، أي: في غير المدينة، وإنما فشا الإسلام في غيرها بعد فتح مكة. وقوله: "حتى قال عمر"، زاد المصنف في رواية صالح عن ابن شهاب، في باب "النوم قبل العشاء": "حتى نادى عمر الصلاة" وهي بالنصب بفعل مضمر تقديره صل الصلاة مثلًا، وساغ هذا الحذف لدلالة السياق عليه. وقوله: "نام النساء والصبيان"، أي: الحاضرون في المسجد، وإنما خصهم بذلك لأنهم مِظنة قلة الصبر عن النوم، ومحل الشفقة والرحمة بخلاف الرجال. وسيأتي في حديث ابن عمر قريبًا: "حتى رقدنا في المسجد، ثم استيقظنا" ونحوه في حديث ابن عباس، وهو محمول على أن الذي رقد بعضهم لا كلهم، ونسب الرقاد إلى الجميع مجازًا. وقوله: "ما ينتظرها أحد غيركم"، وذلك إما لأنه لا يُصَلّى حينئذ إلا بالمدينة، أي: لا يصلّى بالهيئة المخصوصة، وهي الجماعة، إلا بها. وبه صرح الداووديّ، لأن من كان بمكة من المستضعفين لم يكونوا يصلُّون إلا سرًّا"، وأما غير مكة والمدينة من البلاد فلم يكن الإسلام دخلها. وقوله: "غيركم"، يحتمل الرفع على أنه نعت لأحد، أو بدل منه، والنصب على

رجاله ستة

الاستثناء. ودل لفظ: "أعتم ليلةً" على أن غالب أحواله عليه الصلاة والسلام كان تقديم العشاء. رجاله ستة: وفيه ذكر عمر. الأول: يحيى بن بكير، وقد مرَّ هو والليث وعقيل وابن شهاب في الثالث من الوحي، ومرّ عروة وعائشة في الثاني منه، ومرَّ عمر في الأول منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في ثلاثة، والإخبار بتأنيث الفعل، والقول، ورواية التابعيّ عن التابعيّ، عن الصحابية.

الحديث الرابع والأربعون

الحديث الرابع والأربعون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَأَصْحَابِي الَّذِينَ قَدِمُوا مَعِي فِي السَّفِينَةِ نُزُولاً فِي بَقِيعِ بُطْحَانَ، وَالنَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِالْمَدِينَةِ، فَكَانَ يَتَنَاوَبُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- عِنْدَ صَلاَةِ الْعِشَاءِ كُلَّ لَيْلَةٍ نَفَرٌ مِنْهُمْ، فَوَافَقْنَا النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَا وَأَصْحَابِي وَلَهُ بَعْضُ الشُّغْلِ فِي بَعْضِ أَمْرِهِ، فَأَعْتَمَ بِالصَّلاَةِ حَتَّى ابْهَارَّ اللَّيْلُ، ثُمَّ خَرَجَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَصَلَّى بِهِمْ، فَلَمَّا قَضَى صَلاَتَهُ، قَالَ لِمَنْ حَضَرَهُ: "عَلَى رِسْلِكُمْ أَبْشِرُوا، إِنَّ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ يُصَلِّي هَذِهِ السَّاعَةَ غَيْرُكُمْ". أَوْ قَالَ: "مَا صَلَّى هَذِهِ السَّاعَةَ أَحَدٌ غَيْرُكُمْ". لاَ يَدْرِى أَيَّ الْكَلِمَتَيْنِ قَالَ. قَالَ أَبُو مُوسَى: فَرَجَعْنَا فَفَرِحْنَا بِمَا سَمِعْنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. قوله: "في بقيع بطحان"، بفتح الموحَّدة وكسر القاف، المكانُ المتسع من الأرض، ولا يسمى بقيعًا إلا وفيه شجرٌ أو أُصولها. وبُطحان، بضم الموحدة وسكون الطاء، واد بالمدينة، وحكي فيه فتح الباء وكسر الطاء. وقوله: "نفر"، مرفوع لأنه فاعل يتناوب، والنفر عدة رجال من الثلاثة إلى عشرة. وقوله: "وله بعض الشغل في بعض أمره"، وروى الطبريّ من وجه صحيح عن جابر أن الشغل المذكور كان في تجهيز جيش. وقوله: "فأعتم في صلاة"، فيه دلالة على أن تأخير النبيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم إلى هذه الغاية لم يكن قصدًا، ومثله في حديث ابن عمر الآتي قريبًا "شغل عنها ليلة"، وكذا قول عائشة: "أعتم بالصلاة ليلةً" فهذا كلّه يدل على أن ذلك لم يكن من شأنه، والفصل في ذلك حديث جابر: "كانوا إذا اجتمعوا عجل، وإذا أبطأوا أخَّر".

وقوله: "حتى ابْهارَّ الليل"، أي: طلعت نجومه واشتبكت، والباهر: الممتلىء نورًا، وقيل: ابهارّ الليل: كَثُرَت ظُلمته، وابهارّ القمر: كَثُر ضوءُه. وقيل: ابهارٌ انتصف، مأخوذ من بهرة الشيء، وهو وسطه، ويؤيده أن في بعض الروايات: "حتى إذا كانَ قريبًا من نصف الليل، وتأتي عن أبي سعيد، ويأتي في حديث أنس عند المصنف: "إلى نصف الليل"، وفي الصحاح: "ابهار الليل: ذهب معظمه وأكثره، وعند مسلم من رواية أم كلثوم عن عائشة: "حتى ذهب عامة الليل". وقوله: "على رِسلِكم" بكسر الراء ويجوز فتحها، والمعنى تأنَّوا. وقوله: "أبشروا"، من الإبشار. يقال: بَشَر وبَشَّر وأبْشَر بمعنى. وقوله: "إنَّ من نعم الله أنه"، بكسر همزة إن، وفتح همزة أنه خبر إن. واستدل بذلك على فضل تأخير صلاة العشاء، ولا يعارض ذلك فضيلة أول الوقت لما في الانتظار من الفضل، لكن قال ابن بطال: ولا يصح ذلك الآن للأئمة، لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم أمر بالتخفيف، وقال: "إن فيهم الضعيف وذا الحاجة"، فتَرْكُ التطويل عليهم في الانتظار أَوْلى، وقد روى أبو داود والنَّسائيّ وابنُ خُزيمة وغيرهم، عن أبي سعيد: "صلينا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العَتَمة، فلم يخرج حتى مضى نحوٌ من شطر الليل، فقال: "إن الناس قد صلوا وأخذوا مضاجعهم، وإنكم لن تزالوا في صلاةٍ ما انتظرتم الصلاة، ولولا ضعف الضعيف، وسقم السقيم، وحاجة ذي الحاجة، لأخَّرتُ الصلاة إلى شطر الليل". ويأتي في حديث ابن عباس قريبًا: "لولا أن أَشُقَّ على أُمَّتي لأَمرتهم أن يصلُّوها هكذا"، وللتِّرمذيَّ وصححه، عن أبي هُريرة: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه"، فعلى هذا من وجد قوة على تأخيرها، ولم يغلبه النوم، ولم يشق على أحد من المأمومين، فالتأخير في حقه أفضل. وقال العيني: قال أصحابنا: إن كان القوم كسالى يستحب التعجيل، وإن كانوا راغبين يستحب التأخير، وقد مرّ باقي الكلام عليه في باب "وقت المغرب"، عند حديث جابر.

رجاله خمسة

وقوله: "فرجعنا فرحى"، جمع فرحان على غير قياس، ومثله: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى} في قراءة، أو تأنيث فَرِح، وهو نحو: الرجال فعلت، وللكشميهنيّ: "فرجعنا وفرحنا"، ولبعضهم: "فرجعنا فَرَحًا" بفتح الراء على المصدر. وعند مسلم كالرواية الأولى، وسبب فرحهم علمهم باختصاصهم بهذه العبادة التي هي نعمة عظمى، مستلزمة للمثوبة الحسنى، مع ما انضاف إلى ذلك من تجميعهم خلف النبي -صلى الله عليه وسلم-. وقد أخرج أبو داود عن معاذ بن جبل، قال: "بقينا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في صلاة العَتَمة، فتأخر حتى ظن ظان أنه ليس بخارج، والقائل منا يقول: صلَّى، وأنا كذلك، حتى خرج صلى الله تعالى عليه وسلم، فقالوا له كما قالوا، فقال: "أعتموا بهذه الصلاة، فإنكم قد فضلتم بها على سائر الأمم، ولم تصلها أمة قبلكم". وقوله: "بقَيْنا"، بفتح القاف، أي: انتظرناه. رجاله خمسة: الأول: أبو العلاء، والثاني: أبو أسامة، وقد مرّا في الحادي والعشرين من العلم، ومرّ بريد وأبو بردة وأبو موسى في الرابع من الإيمان. لطائف إسناده: ومواضع إخراجه تقدمت، عند ذكره في باب "من أدرك من العصر ركعة". ثم قال المصنف: باب ما يكره من النوم قبل العشاء

الحديث الخامس والأربعون

الحديث الخامس والأربعون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ، عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ، عَنْ أَبِي بَرْزَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَ الْعِشَاءِ، وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا. وهذا الحديث طرف من حديث أبي برزة المتقدم في باب وقت العصر، وقد مرَّ الكلام هناك على ما قيل في النوم قبلها والحديث بعدها. وقد رُوِي أن ابن عمر كان يسُبُّ من ينام قبلها فيما حكاه ابن بطال، ورُوي عنه أنه كان يرقد قبلها ويوكِّل من يوقظه. أخرجه عبد الرزاق. ويأتي قريبًا للمؤلف أنه كان يرقد قبلها. وكتب عمر أن لا ينام قبل أن يصليها، ومن نام فلا نامت عيناه. ورُوي عن عليّ أنه ربما أغفى قبل العشاء. وعن عروة وابن سيرين والحكم أنهم كانوا ينامون قبل العشاء، وكان أصحاب عبد الله يفعلون ذلك، وبه قال بعض الكوفيين. وقالوا: إنما كره ذلك لمن خشي فوات الوقت والجماعة، أما من وَكّل به ما يوقظه لوقته فمباح، فدل على أن النهي ليس للتحريم فعل الصحابة، لكن الأخذ بظاهر الحديث أحوط، وكره ذلك أبو هريرة وابن عباس وعطاء وابراهيم ومجاهد وطاووس ومالك والكوفيُّون. ورُوي عن أنس: "كنا نجتنب الفرش قبل العشاء". رجاله خمسة: الأول: محمد بن سلام، وقد مرّ في الثالث عشر من الإيمان، ومرّ عبد الوهاب الثقفيّ في التاسع منه، ومرّ خالد الحذّاء في السابع عشر من العلم،

لطائف إسناده

ومرّ أبو المنهال وأبو برزة في الثامن عشر من كتاب المواقيت. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، والعنعنة في موضعين. ثم قال المصنف: باب النوم قبل العشاء لمن غُلِب أي: هذا باب في بيان حكم النوم قبل العشاء لمن غُلب، بالبناء للمجهول، أي: غَلَب عليه النوم.

الحديث السادس والأربعون

الحديث السادس والأربعون حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ بن بلالٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ، هو ابن بلالٍ، قَالَ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ: أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَعْتَمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِالْعِشَاءِ حَتَّى نَادَاهُ عُمَرُ: الصَّلاَةَ، نَامَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ. فَخَرَجَ فَقَالَ: "مَا يَنْتَظِرُهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ غَيْرُكُمْ". قَالَ: وَلاَ تُصَلَّى يَوْمَئِذٍ إِلاَّ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانُوا يُصَلُّونَ فِيمَا بَيْنَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ الأَوَّلِ. قوله: "ولا تُصلَّى"، بضم المثناة الفوقية وفتح اللام المشددة مبنيًا للمجهول، أي: صلاة العشاء، والمراد أنها لا تُصلى بالهيئة المخصوصة، إلى آخر ما مرَّ في باب "فضل العشاء". وقوله: "وكانوا"، أي: النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه. وقوله: "إلى ثلث الليل"، في هذا بيان الوقت المختار لصلاة العشاء، لما يشعر به السياق من المواظبة على ذلك. وقد ورد هذا الحديث عند النَّسائيّ بصيغة الأمر، ولفظة: "صلوها فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل"، وليس بين هذا وبين حديث أنس: "أنَّه أخَّر الصلاة إلى نصف الليل" معارضة، لأن حديث عائشة محمول على الأغلب من عادته صلى الله تعالى عليه وسلم. وزاد مسلم في هذا الحديث: قال ابن شهاب: وذُكر لي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "وما كان لكم أن تَنْزُروا رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم للصلاة، وذلك حين صاح عمر"، وقوله: "أن تَنْزُروا"، بفتح الفوقانية وضم الزاي بعدها راء، أي: تُلِحُّوا عليه. وروي بضم أوله بعدها موحدة ثم راء مكسورة، ثم زاي، أي: تخرجوا.

رجاله سبعة

رجاله سبعة: الأول: أيوب بن سُليمان، وقد مرّ في الثاني عشر من كتاب المواقيت هذا، ومرّ أبو بكر عبد الحميد بن أبي أُويس في الحادي والستين من العلم، ومرّ سليمان بن بلال في الثاني من الإيمان، ومرّ صالح بن كيسان في السابع من بدء الوحي، ومرّ ابن شهاب في الثالث منه، ومرّ عروة وعائشة في الثاني منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وبالإفراد في موضع، وبصيغة الإخبار بالإفراد في موضع، والعنعنة في ثلاثة، والقول في أربعة، ورواية الرجل عمن روى عن أبيه، ورواية التابعي عن التابعي عن الصحابية، وشيخُ البخاريّ من أفراده.

الحديث السابع والأربعون

الحديث السابع والأربعون حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- شُغِلَ عَنْهَا لَيْلَةً، فَأَخَّرَهَا حَتَّى رَقَدْنَا فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ اسْتَيْقَظْنَا ثُمَّ رَقَدْنَا ثُمَّ اسْتَيْقَظْنَا، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ قَالَ: "لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ يَنْتَظِرُ الصَّلاَةَ غَيْرُكُمْ". وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ لاَ يُبَالِي أَقَدَّمَهَا أَمْ أَخَّرَهَا إِذَا كَانَ لاَ يَخْشَى أَنْ يَغْلِبَهُ النَّوْمُ عَنْ وَقْتِهَا، وَكَانَ يَرْقُدُ قَبْلَهَا. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ، فَقَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: أَعْتَمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَيْلَةً بِالْعِشَاءِ حَتَّى رَقَدَ النَّاسُ وَاسْتَيْقَظُوا، وَرَقَدُوا وَاسْتَيْقَظُوا، فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: الصَّلاَةَ. قَالَ عَطَاءٌ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَخَرَجَ نَبِيُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَقْطُرُ مَاءً، وَاضِعًا يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَالَ: "لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي، لأَمَرْتُهُمْ أَنْ يُصَلُّوهَا هَكَذَا". فَاسْتَثْبَتُّ عَطَاءً كَيْفَ وَضَعَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى رَأْسِهِ يَدَهُ كَمَا أَنْبَأَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَبَدَّدَ لِي عَطَاءٌ بَيْنَ أَصَابِعِهِ شَيْئًا مِنْ تَبْدِيدٍ، ثُمَّ وَضَعَ أَطْرَافَ أَصَابِعِهِ عَلَى قَرْنِ الرَّأْسِ، ثُمَّ ضَمَّهَا، يُمِرُّهَا كَذَلِكَ عَلَى الرَّأْسِ، حَتَّى مَسَّتْ إِبْهَامُهُ طَرَفَ الأُذُنِ مِمَّا يَلِي الْوَجْهَ عَلَى الصُّدْغِ، وَنَاحِيَةِ اللِّحْيَةِ، لاَ يُقَصِّرُ وَلاَ يَبْطُشُ إِلاَّ كَذَلِكَ، وَقَالَ: "لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ أَنْ يُصَلُّوا هَكَذَا". وقوله: "شغل عنها ليلة فأَخَّرها"، هذا التأخير مغاير للتأخير المذكور في حديث جابر وغيره، المقيد بتأخير اجتماع المصلين، وسياقه يشعر بأن ذلك لم يكن من عادته. قلت: الحديث هنا مصرح بأن التأخير كان لشغل، كما مرَّ في حديث أبي موسى، فيحتمل أن يكون للشغل الذي ذكره أبو موسى، ويحتمل أن يكون شغلًا آخر. وقوله: "حتى رقدنا في المسجد"، استدل به من ذهب الى

أن النوم لا ينقض الوضوء ولا دلالة فيه لاحتمال أن يكون الراقد منهم كان قاعدًا متمكنًا، أو لاحتمال أن يكون مضطجعًا لكنه توضأ، وإن لم ينقل اكتفاء بما عرف من أنهم لا يصلون على غير وضوء. وقوله: "وكان يرقد قبلها"، أي: ابن عمر، قبلها، أي: قبل صلاة العشاء، وهو محمول على ما إذا لم يخش أن يغلبه النوم عن وقتها، كما صرح به قبل هذا حيث قال: "وكان لا يبالي أَقَدَّمَها أَم أخَّرها". وروى عبد الرزاق فيما مرّ أن ابن عمر كان ربما رقد عن العشاء الآخرة، ويأمر أن يوقظوه، والمصنف حمل ذلك في الترجمة على ما إذا غلبه النوم، وهو اللائق بحال ابن عمر. وقوله: "قال ابن جريج"، هو بالإسناد الذي قبله، ووهم من زعم أنه معلق، وقد أخرجه عبد الرزاق في مصنفه بالإسنادين، وأخرجه من طريقه الطبرانيّ، وعنه أبو نعيم في مستخرجه. وقوله: "فقام عمر، فقال: الصلاة"، زاد في "التمني": "رقد النساء والصبيان"، وهو مطابق لحديث عائشة الماضي. وقوله: "واضعًا يده على رأسه"، كأنَّه كان اغتسل قبل أن يخرج. وقوله: "فاستثبت"، هو مقول ابن جريج. وقوله: "فبدد لي"، أي: فرق والتبديد التفريق. وقوله: "على قَرْن الرأس"، قَرْن الرأس بالفتح جانبه. وقوله: "ثم ضمّها"، كذا له بالضاد المعجمة والميم، ولمسلم "وصبها" بالصاد المهملة والموحدة، وصوَّبه عياض، قال: لأنه يصف عصر الماء في الشعر باليد. ورواية المصنف أوجه، لأن ضم اليد صفة للعاصر. وقوله: "حتَّى مسّت إبهامه طرفَ الأُذن"، كذا بإفراد الإبهام للكشميهنيّ، وهو فاعل، وطرف منصوب على المفعولية، ولغير الكشميهنيّ "إبهاميه" منصوب مفعول به، والفاعل طرف الأذن، ويؤيد الرواية الأُولى ما عند النَّسائيّ وأبي نعيم، عن ابن جريج: "حتى مست إبهاماه طرفَ الأذن". وقوله: "لا يقصر ولا يبطش"، أي: لا يبطىء ولا يستعجل، ويقصر بالقاف للأكثر، وعند الكشميهنيّ: لا يعصر بالعين، والأُولى أصوب وقوله: "لأَمرتهم

أن يصلوها هكذا"، أي: في هذا الوقت. بيّن ذلك المصنّف في كتاب التمني، عن ابن جريج في هذا الحديث، فال: إنه للوقت. وزاد الطبرانيّ عن ابن عباس، في هذا الحديث: "قال: وذهب الناسُ إلا عثمان بن مظعون، في ستة عشر رجلًا، فخرج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: ما صلَّى هذه الصلاة أمَّةٌ قبلَكُم". قلت: كيف يصح أن يكون ابن عباس حضر القصة كما في الحديث، كأني أنظر إليه، ويكون عثمان بن مظعون حاضرًا لها، مع كون عثمان توفي بكثيرٍ قبل قدوم ابن عباس المدينة؟ اللهمَّ إلا أن تكون القصة متعددة. وفي الحديث دلالة على أن النوم لا ينقض الوضوء، لأنه محال أن يذهب على أصحابه أن النوم ناقض، ويصلُّون معه، والجواب عنه ما مرّ، واختلف العلماء في النوم، فعند مالك: ينقض الثقيل مطلقًا، ولا ينقض الخفيف مطلقًا، من غير اعتبارٍ لهيئة النائم على المشهور في مذهبه. ومذهب الشافعي: أنه إذا نام جالسًا ممكنًا مقعدته من الأرض لم ينتقض، وإلا انتقض فسواء قلَّ أو كثر، وسواء كان في الصلاة أو خارجها. ومذهب أبي حنيفة: أنه إذا نام على هيئة من هيئات المصلين كالراكع والساجد والقائم والقاعد لم ينتقض وضوءه، سواء كان في الصلاة أو لم يكن، وإن نام مضطجعًا أو مستلقيًا على قفاه انتقض، وهو قول داود، وبه قال الشافعي في قول غريب. ومذهب أحمد: ينقض النوم الثقيل، إلا يسيرًا عرفًا من جالس وقائم، لا من راكع وساجد ومضطجع ومستند ومتكىء ومحتبٍ فناقض، ومذهب البعض أن النوم ينقض الوضوء على أي حال كان، وهذا محكي عن أبي موسى وسعيد بن المسيب وأبي مُجلز وشعبة وحُميد الأعرج. ومذهب البعض أنه ينقض بكل حال، وهو مذهب الحسن البصريّ والمُزنيّ وأبي عُبيد القاسم بن سَلاّم وإسحاق بن راهويه، وهو قولٌ غريبٌ للشافعيّ.

رجاله سبعة

وقال ابن المنذر: وبه أقول، وقد روي معناه عن ابن عباس وأبي هريرة، ومذهب البعض أن كثيره ينقض بكل حال، وقليله لا ينقض بكل حال، وهو مذهب الزُّهريّ وربيعة والأوزاعيّ ومالك في رواية عنه، وأحمد في رواية عنه أيضًا. وقد مرّ الكلام على ما قيل في النوم في باب "الوضوء من النوم" من كتاب الوضوء، وأَعدت الكلام عليه هنا لبعض زيادات لم تذكر هناك. رجاله سبعة: الأول: محمود بن غَيلان العدويّ، نزل بغداد، أبو أحمد المروزيّ. قال أحمد: أعرفه بالحديث صاحب سنّة، قد حُبس بسبب القرآن. وقال النَّسائيّ: ثقة، وذكره ابن حبّان في "الثقات"، سمع من إسحاق بن راهويه حديثين. وقال السّرّاج: رأيت إسحاق واقفًا على رأس محمود بن غيلان وهو يحدِّثنا. وقال مسلمة المروزيّ: ثقة. روى عن وكيع وابن عُيينة والنضر بن شميل وعبد الرزاق وغيرهم. وروى عنه الجماعة سوى أبي داود، وأبو حاتم وأبو زرعة والذهليّ وابن خزيمة وآخرون. مات في رمضان سنة تسع وثلائين ومئتين، وليس في الستة محمود بن غيلان سواه. الثاني: عبد الرزاق، وقد مرّ في الخامس والثلاثين من الإيمان، ومرّ ابن جُريج في الثالث من الحيض، ومرّ نافع في الثالث والسبعين من العلم، ومرّ عطاء بن أبي رباح في التاسع والثلاثين منه، ومرّ ابن عمر أول كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه، ومرّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، والإخبار بصيغة الجمع في موضع، وبالإفراد في موضع، والقول في أربعة، ورواته ما بين مروزيّ ويمانيّ ومكيّ ومدنيّ. أخرجه البخاريّ هنا، ومسلم في الصلاة، وأبو داود في الطهارة، والنَّسائيّ. ثم قال المصنف:

باب وقت العشاء إلى نصف الليل

باب وقت العشاء إلى نصف الليل في هذه الترجمة حديث صريح عند مسلم، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، في بيان أول الأوقات وآخرها، وفيه: "فإذا صلّيتم العشاء فإنه وقت إلى نصف الليل". قال النووي: معناه وقت لأدائها اختيارًا، وأما وقت الجواز فيمتد إلى طلوع الفجر، لحديث أبي قتادة عند مسلم: "إنَّما التفريط على من لم يصلّ الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى"، وقال الإصطخريّ: إذا ذهب نصف الليل صارت قضاء، ودليل الجمهور حديث أبي قتادة المذكور، وعمومه مخصوص بالإجماع في الصبح. ثم قال: وقال أبو برزة: "كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يستحبُّ تأخيرها، وليس فيه تصريح بقيد نصف الليل، ولكن أحاديث التأخير والتوقيت لما جاءت، مرّة مقيدة بالثلث، ومرّة بالنصف، كان النصف غاية التأخير، ولم يثبت في امتداد وقت العشاء إلى طلوع الفجر حديث صريح، وهذا طرف من حديث أبي برزة الذي تقدم في باب "وقت العصر"، ومرّ أبو برزة في الثامن عشر من كتاب المواقيت هذا.

الحديث الثامن والأربعون

الحديث الثامن والأربعون حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ الْمُحَارِبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَائِدَةُ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ أَخَّرَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- صَلاَةَ الْعِشَاءِ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ، ثُمَّ صَلَّى، ثُمَّ قَالَ: "قَدْ صَلَّى النَّاسُ وَنَامُوا، أَمَا إِنَّكُمْ فِي صَلاَةٍ مَا انْتَظَرْتُمُوهَا". قوله: "صلاة العشاء"، زاد مسلم: ليلة، وفيه إشعار بأنه لم يكن يواظب على ذلك. وقوله: "قد صلى الناس"، أي: المعهودون ممن صلى من المسلمين إذ ذاك. رجاله أربعة: الأول: عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن محمد بن زياد المحاربيّ أبو زياد الكوفيّ، قال أبو زرعة: شيخٌ فاضلٌ ثقةٌ. وقال أبو داود: رجلٌ صالحٌ أثبتُ من أبيه، كان سقام البدن. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال ابن سعد: كان ثقة صدوقًا. وفي "الزهرة" روى عنه البخاريّ خمسة أحاديث. روى عن أبيه وزائدة بن قدامة وسليمان بن المغيرة وغيرهم. وروى عنه البخاريّ وابن ماجه بواسطة أبي كريب عنه، وأبو بكر بن أبي شيبة وغيرهم. مات في رمضان سنة احدى عشرة ومئتين، وليس في الستة عبد الرحيم بن عبد الرحمن سواه. الثاني: زائدة، وقد مرّ في الثاني والعشرين من الغسل، ومرّ حُميد الطويل في الثاني والأربعين من الإيمان، ومرَّ أنس في السادس منه. فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والقول في موضعين، ورواته ما بين كوفيٍّ ويصريٍّ.

باب فضل صلاة الفجر

ثم قال: وزاد ابن أبي مريم: أخبرنا يحيى بن أيوب، قال: حدَّثني حُميد، سمع أنسًا: "كأني أنظر إلى وَبيصِ خاتمه ليلتئذٍ". قوله: "كأني أنظر إلى وبيص ... "، الجملة في موضع المفعول، لقوله زاد، وهذا التعليق وصله أبو طاهر المخلص في الجزء الأول من فوائده، وأوله: "سُئِل أنس: هل اتخذ النبيُّ صلى الله تعالى عليه وسلم خاتمًا؟ قال: نعم، أخّر العشاء، فذكره. وفي آخره: "وكأنِّي أنظر إلى وبيص خاتمه ليلتئذٍ". والوييص، بالموحدة والصاد المهملة: البريق، وقد مر استيفاء الكلام على الخاتم في باب "ما يذكر في المناولة"، وكتاب أهل العلم بالعلم للبلدان، ومرّ الكلام على فضل انتظار الصلاة في باب "من لم ير الوضوء إلا من المخرجين"، من كتاب الوضوء. وفي باب "الحديث في المسجد" من أبواب المساجد. رجاله أربعة: الأول: سعيد بن أبي مريم، وقد مرَّ في الرابع والأربعين من العلم، ومرّ يحيى بن أيوب في تعليق بعد الثاني من أبواب القبلة، وحميد وأنس قد ذكرا، وهذا التعليق أخرجه مسلم ووصله البغويّ. ثم قال المصنف: باب فضل صلاة الفجر وقع في رواية أبي ذر زيادة "والحديث"، وهي زيادة لم يظهر لها توجيه، وليست في شيء من المستخرجات، فالظاهر أنها وهم، ويدل لذلك أنه ترجم لحديث جرير أيضًا في باب فضل صلاة العصر بغير زيادة، ويحتمل أنه كان فيه باب "فضل صلاة الفجر والعصر"، فتحرفت الكلمة الأخيرة.

الحديث التاسع والأربعون

الحديث التاسع والأربعون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَيْسٌ، عَنْ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- إِذْ نَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، فَقَالَ: "أَمَا إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا، لاَ تُضَامُّونَ أَوْ لاَ تُضَاهُونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لاَ تُغْلَبُوا عَلَى صَلاَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَقَبْلَ غُرُوبِهَا، فَافْعَلُوا. ثُمَّ قَالَ: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا". وهذا الحديث مرَّ الكلام عليه مستوفى في باب "فضل صلاة العصر". رجاله خمسة: الأول: مسدد، والثاني: يحيى القطان، وقد مرّا في السادس من الإيمان، ومرّ إسماعيل بن أبي خالد في الثالث منه، ومرّ قيس بن أبي حازم وجرير بن عبد الله في الخمسين منه، وقد مرّ الكلام عليه في باب "فضل صلاة العصر".

الحديث الخمسون

الحديث الخمسون حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، قَالَ: حَدَّثَنِى أَبُو جَمْرَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ". قوله: "من صلى البَرْدين"، أي: بفتح الموحدة، وسكون الراء، تثنية بَرْد، والمراد صلاة الفجر والعصر، ويدل لذلك قوله في حديث جرير صلاة: "قبل طلوع الشمس وقبل غروبها"، وفي رواية مسلم: "يعني العصر والفجر". قال الخطابيّ: إنما سميت بردين لأنهما تصليان في بَرْدَي النهار، وهما طرفاه حين يطيب الهواء، وتَعْدَمُ سَوْرَةُ الحَرِّ. ونُقل عن أبي عُبيد أن صلاة المغرب تدخل في ذلك، وهو مردود بصريح التثنية، وقال البزار: إن "مَنْ" موصولة لا شرطية، والمراد الذين صلوهما أول ما فرضت الصلاة، ثم ماتوا قبل فرض الصلوات الخمس، لأنها فرضت أولًا ركعتين بالغداة، وركعتين بالعشي، ثم فرضت الصلوات الخمس، فهو خبر عن أناس مخصوصين لا عموم فيه، ولا يخفى ما في قوله من التكلف والبعد، والأوْجه أن "مَنْ" في الحديث شرطية. وقوله: "دخل" جواب الشرط، وعدل عن الأصل، وهو الفعل المضارع، كأنْ يقول: يدخل الجنة، إرادةً للتأكيد في وقوعه، بجعل ما سيقع كالواقع، كما في قوله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ}. وأما وجه التخصيص بهما فهو لزيادة شرفهما، وترغيبًا في حفظهما لشهود الملائكة لهما كما مرَّ، وقد روى الطبرانيّ وأبو القاسم الجوزيّ عن ابن مسعود موقوفًا، ينادي منادٍ عند صلاة الصبح، يا بني آدم، قوموا فأطفئوا ما أوقدتم على أنفسكم، وينادي عند العصر كذلك، فيتطهَّرون ويصلون وينامون، ولا ذنب عليهم".

رجاله خمسة

قلت: هذا، وإن كان موقوفًا، له حكم الرفع، إذ لا مجال للرأي فيه، ولا يقال إن مفهومه يقتضي أنَّ مَن لم يصلِّهما لم يدخل الجنة، لأنا نقول: المفهوم ليس بحجة، وأيضًا فإن قوله: "دخل الجنة" خرج مخرج الغالب، لأن الغالب أنَّ من صلاهما وراعاهما انتهى عما ينافيهما من الفحشاء والمنكر، لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، أو يكون آخر أمره دخول الجنة. رجاله خمسة: الأول: هُدبة بن خالد بن الأسود بن هُدبة القَيسيّ الثَّوبانيّ، أبو خالد البصريّ الحافظ، يقال له: هداب. قال ابن مَعين: ثقة، وقال أبو حاتم: صدوق، وقال عبدان: كنا لا نصلي خلف هُدبة من طول صلاته، يسبح نيفًا وثلاثين تسبيحة. وقال ابن عديّ: سمعت أبا يعلى وقد سُئل عن هُدبة وشيبان أيهما أفضل، فقال: هُدبة أفضلهما وأوثقهما وأكثرهما حديثًا. وكان حديث حماد بن سلمة عنده نسختين: نسخة على الشيوخ، ونسخة على المصنفين. وقال الحسن بن سفيان: سمعت هدبة يقول: صليت على شعبة. وقال ابن عديّ: لم أر له حديثًا منكرًا، وهو كثير الحديث، صدوق، لا بأس به. وقد وثَّقه الناس. وقال أبو داود: هدبة أعلى عندنا من شيبان. قيل له: في سماعه من أخيه من الشيوخ؟ فقال: لا ينكر سماعه. وقال مسلمة بن قاسم: بصريّ ثقة. وقال عباس بن عبد العظيم: الذي يحدِّث به هُدبة هي كتب أمية بن خالد، وقوّاه النَّسائيّ مرة وضعّفه أخرى. قال ابن حجر: لعله ضعّفه في شيء خاص، وقد أكثر عنه مسلم، ولم يخرج عنه البخاريّ سوى أحاديث يسيرة من روايته عن همام. روى عن أخيه أمية بن خالد وهمام بن يحيى والحمادَين وحمّاد بن الجَعْد وجرير بن حازم وغيرهم. وروى عنه البخاريّ ومسلم وأبو داود وأبو حاتم وحرب بن إسماعيل والبزار وغيرهم. مات سنة ثمان أو تسع وثلاثين ومئتين. وهدبة بن خالد فرد في الستة. الثاني: همام بن يحيى، وقد مرّ في الثالث والثمانين من الوضوء ومرّ أبو

لطائف إسناده

جمرة في السابع والأربعين من الإيمان، ومرّ أبو موسى في الرابع منه. والخامس: أبو بكر بن أبي موسى الأشعريّ الكوفيّ، يقال: اسمه عمرو، ويقال: عامر. قال الآجريّ: قلت لأبي داود: سمع أبو بكر من أبيه؟ قال: أراه قد سمع، وأبو بكر أرضى عندهم من أبي بُردة، وكان يذهب مذهب أهل الشام، جاءه أبو غاية الجُهنيّ قاتل عمار، فأجلسه إلى جانبه، وقال: مرحبًا. وقال محمد بن عبد الله بن نمير: كان أكبر من أبي بُردة. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: اسمه كنيته. وقال أبو بكر بن عياش: سمعت أبا إسحاق يقول: أبو بكر بن أبي موسى أفضل من أخيه أبي بردة. وقال العجليّ: كوفيّ تابعيّ ثقة. وقال عبد الله بن أحمد في "العلل": قلت لأبي: فأبو بكر بن أبي موسى سمع من أبيه؟ قال: لا. وقال ابن سعد: اسمه كنيته، وكان قليل الحديث يستضعف، وكان أكبر من أخيه أبي بردة. قال ابن حجر: هذا جرح مردود، وقد أخرج له الشيخان من روايته عن أبيه أحاديث، وقد صرح بسماعه منه في روايته. روى عن أبيه والبراء بن عازب وجابر بن سمرة وغيرهم. وروى عنه أبو جمرة وبدر بن عثمان وأبو إسحاق السَّبيعي. مات سنة ستة ومئة. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وبصيغة الإفراد في موضع، والعنعنة في موضع، والقول في موضعين. ورواية التابعيّ عن التابعيّ عن الصحابيّ، ورواية الابن عن أبيه، وفيه ثلاثة بصريُّون بالتوالي. ثم قال: وقال ابن رجاء: حدثنا همَّام، عن أبي جمرة: أنَّ أبا بكر بن عبد الله بن قيس أخبره بهذا. وهذا التعليق وصله محمد بن يحيى الذُّهلي، والمتن واحد. رجاله أربعة: الأول: عبد الله بن رجاء، وقد مرَّ في تعليق بعد الثالث من كتاب الصلاة، ومرّ ذكر محل همام وأبي جمرة وأبي بكر بن أبي موسى في الذي قبله.

الحديث الحادي والخمسون

الحديث الحادي والخمسون حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، عَنْ حَبَّانَ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، قالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَمْرَةَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، مِثْلَهُ. فاجتمعت الروايات عن همام، بأن شيخ أبي جمرة هو أبو بكر بن عبد الله، بخلاف من زعم أنه ابن عمارة بن رُويبة. وقد أخرج مسلم حديث عمارة عن أبيه، ولفظه: "لن يلج النار أحدٌ صلَّى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها"، وهذا اللفظ مغاير للفظ حديث أبي موسى، وإن كان معناهما واحدًا، فالصواب أنهما حديثان. رجاله ستة: الأول: إسحاق بن منصور، وقد مرَّ في الحادي والعشرين من العلم. والثاني: حِبّان بن هلال الباهليّ، ويقال الكِنانيّ أبو حبيب البصريّ. قال أحمد بن حنبل: إليه المنتهى في التثبت في البصرة. وقال ابن مَعين والتِّرمذيّ والنَّسائيّ: ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة ثبتًا حجةً، وكان امتنع من التحديث قبل موته. وقال العجليّ: ثقة لم أسمع منه. وكان عسرًا. وقال البزار: ثقة مأمون على ما يحدث به. وقال ابن قانع: بصريّ صالح. وقال الخطيب: كان ثقة ثبتًا، روى عن حماد بن سلمة وشعبة وداود بن أبي الفرات وجرير بن حازم وهمام وخلق. وروى عنه أحمد بن سعيد الرباطيّ وإسحاق بن منصور الكوسج وبندار وغيرهم. مات بالبصرة سنة ستة عشر ومئة، ومر محل ذكر همام وأبي جمرة وأبي موسى في الذي قبله. ومرّ تعريف أبي بكر فيه. ثم قال المصنف: باب وقت الفجر

الحديث الثاني والخمسون

الحديث الثاني والخمسون حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ حَدَّثَهُ أَنَّهُمْ تَسَحَّرُوا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، ثُمَّ قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ. قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: قَدْرُ خَمْسِينَ أَوْ سِتِّينَ، يَعْنِي آيَةً. قوله: "إن زيد بن ثابت حدثه"، رواية همام هذه جعلت الحديث من مسند زيد بن ثابت، ووافقه هشام، عن قتادة كما يأتي في الصيام، وترجح عند مسلم رواية همام، فإنه أخرجها وأعرض عن رواية سعيد الآتية. ويدل على رجحانها أيضًا أن الإسماعيليّ أخرج رواية سعيد، عن خالد بن الحارث، عن سعيد، فقال: عن أنس، عن زيد بن ثابت. رجاله خمسة: الأول: عمرو بن عاصم بن عُبيد الله بن الوازع الكلابيّ القيسيّ، أبو عثمان البصريّ الحافظ. قال ابن مَعين: ثقة، وقال ابن سعد: صالح، وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال إسحاق بن سيار: سمعته يقول: كتبت عن حماد بن سلمة بضعة عشر ألفًا. قال الآجريّ، عن أبي داود: لا أنشط لحديثه. قال: وسألته عنه وعن الحوضي في همام، فقدم الحوضي. قال: وقال بندار: لولا فَرَقي من آل عمرو بن عاصم لتركت حديثه. وقال النَّسائيّ: ليس به بأس. وفي "الزهرة" روى عنه البخاريّ لابنه أحاديث، وروى أيضًا عن واحد عنه. قال ابن حجر: احتج به أبو داود في السنن والباقون. روى عن جده وشعبة وحماد بن سلمة وهمام بن يحيى وحرب وعدة. وروى عنه البخاريّ، وروى هو والباقون له بواسطة، وأبو داود السجزيّ وأبو خَيثمة وغيرهم. مات سنة ثلاثة عشرة

لطائف إسناده

ومئتين، وفي الستة عمرو بن عاصم سواه اثنان: الحجازيّ أخو بشر بن عاصم، والأنصاريّ. ومرّ همام في الثالث والثمانين من الوضوء ومرّ قتادة وأنس في السادس من الإيمان، ومرّ زيد بن ثابت في التعاليق الكائنة بعد الثاني والعشرين من كتاب الصلاة. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وبالإفراد في موضع، والعنعنة في موضعين، والقول في موضع، ورواية الصحابي عن صحابي، ورواته كلهم بصريُّون. أخرجه البخاريّ هنا، وفي الصوم، ومسلم والترمذيّ والنسائيّ وابن ماجه فيه أيضًا.

الحديث الثالث والخمسون

الحديث الثالث والخمسون حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ صَبَّاحٍ، سَمِعَ رَوْحًا، قالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ تَسَحَّرَا، فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ سَحُورِهِمَا، قَامَ نَبِيُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى الصَّلاَةِ فَصَلَّى. قُلْنَا لأَنَسٍ: كَمْ كَانَ بَيْنَ فَرَاغِهِمَا مِنْ سَحُورِهِمَا وَدُخُولِهِمَا فِي الصَّلاَةِ؟ قَالَ: قَدْرُ مَا يَقْرَأُ الرَّجُلُ خَمْسِينَ آيَةً. ورواية سعيد هذه جعلت الحديث من مسند أنس، وقوله: "تسحرا" في رواية المستملي والسرخسيّ "تسحروا" بصيغة الجمع، وهي شاذة، والذي يظهر في الجمع بين الروايتين أن أنسًا حضر ذلك، لكنه لم يتسحر معهما، ولأجل ذلك سأل زيدًا عن مقدار وقت السحور، كما في رواية همام، ووقع ذلك صريحًا في رواية النَّسائيّ وابن حبّان، ولفظهما عن أنس، قال: "قال لي رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم: "يا أنس، انظر رجلًا يأكل معي"، فدعوتُ زيد بن ثابت، فجاء فتسحر معه، ثم قام فصلَّى ركعتين، ثم خرج إلى الصَّلاة" وعلى هذا، فقوله: "كم كان بين الأذان والسحور؟ " يعني في رواية هشام الآتية في الصيام، أي: أذان ابن أُمّ مكتوم، لأن بلالًا كان يؤذن قبل الفجر، والآخر يؤذن إذا طلع. قلت: وهذا أوضح منه ما في الرواية من قوله: "كم كان بين فراغهما ودخولهما في الصلاة؟ ". وقوله: "قلت لأنس"، هو قول قتادة، والروايتان صحيحتان، بأن يكون أنس سأل زيدًا في رواية همام، وقتادة سأل أنسًا في رواية سعيد. وقوله: "قام نبي الله إلى الصلاة فصليا"، كذا للكشميهنيّ، بصيغة التثنية، ولغيره: "فصلينا" بصيغة الجمع. وقوله: "قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية"، يعني متوسطة، لا

طويلة ولا قصيرة، لا سريعة ولا بطيئة، وقدر بالرفع على أنه خبر المبتدأ الذي هو "كم"، أو بالنصب على أنه خبر كان المقدرة. واستدل المصنف به على أن أول وقت الصبح طلوع الفجر، لأنه الوقت الذي يحرم فيه الطعام والشراب، والمدة التي بين الفراغ من السحور والدخول في الصلاة، وهي قراءة الخمسين آية أو نحوها قدر ثلث خمس ساعة، ولعلها مقدار ما يتوضأ، فأشعر ذلك بأن أول وقت الصبح أول ما يطلع الفجر. وفيه أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يدخل فيها بغَلَس، قال المهلبُ وغيره: فيه تقدير الأوقات بأعمال البدن، وكانت العرب تقدر الأوقات بالأعمال، كقولهم: قدر حَلْبِ شاةٍ، وقَدْر نحر جزور، فعدل زيد بن ثابت عن ذلك إِلى التقدير بالقراءة، إِشارة إِلى أن ذلك الوقت كان وقت العبادة بالتلاوة، ولو كانوا يقدرون بغير العمل لقال مثلًا: قدر درجة أو ثلث خمس ساعة. وقال ابن أبي جمرة: فيه إشارة إِلى أن أوقاتهم كانت مستغرقة بالعبادة، وفيه السحور، لكونه أبلغ في المقصود. وقال ابن أبي جمرة: كان صلى الله تعالى عليه وسلم ينظر إلى ما هو الأرفق بأمته، فيفعله، لأنه لو لم يتسحر لاتبعوه، فيشق على بعضهم، ولو تسحر في جوف الليل لشق أيضًا على بعضهم ممن يغلب عليه النوم، فقد يفضي إِلى ترك الصبح أو يحتاج إلى المجاهدة بالسهر. وقال: فيه أيضًا تقوية على الصيام لعموم الاحتياج إلى الطعام، ولو ترك لشق على بعضهم، ولاسيما من كان صفراويًا، فقد يُغشى عليه، فيفضي إِلى الإفطار في رمضان. قال: وفيه تأنيس الفاضل أصحابه بالمؤاكلة، وجواز المشي بالليل للحاجة، لأن زيد بن ثابت ما كان يبيت مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم. وفيه الاجتماع في السحور، وفيه حسن الأدب في العبارة، لقوله في رواية همام هنا: "تسحروا مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم"، وفي رواية هشام في الصيام: "تسحرنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم"، ولم يقل: "نحن ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم"، لما يشعر به لفظ المعية من التبعية.

رجاله خمسة

وقال القرطبي: فيه دلالة على أن الفراغ من السحور كان قبل طلوع الفجر، فهو معارض لقول حذيفة هو النهار، إلا أن الشمس لم تطلع. رواه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد الرزاق والطحاويّ، والجواب أن لا معارضة بل تحمل على اختلاف الحال، فليس في رواية واحد منهما ما يشعر بالمواظبة، فتكون قصة حذيفة سابقة. رجاله خمسة: الأول: الحسن بن الصباح، وقد مرّ في الثامن والثلاثين من الإيمان، ومرّ روح بن عبادة في الأربعين منه، ومرّ قتادة وأنس في السادس منه، ومرّ سعيد بن أبي عروبة في الحادي والعشرين من الغسل. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والسماع والعنعنة في موضعين، وهذا الحديث من مسانيده، والذي قبله من مسند زيد.

الحديث الرابع والخمسون

الحديث الرابع والخمسون حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، عَنْ أَخِيهِ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، أَنَّهُ سَمِعَ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ، يَقُولُ: كُنْتُ أَتَسَحَّرُ فِي أَهْلِي، ثُمَّ يَكُونُ سُرْعَةٌ بِي أَنْ أُدْرِكَ صَلاَةَ الْفَجْرِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. قوله: "ثم تكون سرعة بي"، بالرفع على أن كان تامة، ولفظ "بي" متعلق بسرعة، أو ليست تامة، وبي الخبر، أو قوله: "أن أدرك". ويجوز النصب على أنه خبر كان، والاسم ضمير يرجع إلى ما يدل عليه لفظ السرعة، وفي رواية عبد العزيز بن أبي حازم في الصيام: "ثم تكون سرعتي". وقوله: "أن أدرك صلاة الفجر"، وفي رواية النَّسفيّ والجمهور: "أن أدرك السجود"، وللإسماعيليّ: "صلاة الصبح"، وفي رواية أخرى: "صلاة الغداة"، وفي رواية الكشميهنيّ: "أن أدرك السحور"، وهي غير صواب. قال عياض: مراد سهل بن سعد أن غاية إسراعه أن سحوره لقربه من طلوع الفجر، كان بحيث لا يكاد أن يدرك صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، لشدة تغليسه عليه الصلاة والسلام بالصبح. وقال ابن المنير: إنهم كانوا يزاحمون بالسحور الفجرَ، فيختصرون فيه ويستعجلون خوف الفوات، وغرض البخاري منه هنا الإشارة إلى مبادرة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بصلاة الصبح في أول الوقت. رجاله خمسة: الأول: إسماعيل بن أبي أويس، وقد مرّ في الخامس من الإيمان، ومرّ أخوه عبد الحميد في الحادي والستين من العلم، ومرّ سليمان بن بلال في

لطائف إسناده

الثاني من الإيمان، ومرّ أبو حازم وسهل بن سعد في السابع والمئة من الوضوء. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع، والعنعنة والسماع، ورواته كلهم مدنيُّون، ورواية الأخ عن الأخ.

الحديث الخامس والخمسون

الحديث الخامس والخمسون حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عن عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ، قَالَتْ: كُنَّ نِسَاءُ الْمُؤْمِنَاتِ يَشْهَدْنَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- صَلاَةَ الْفَجْرِ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ، ثُمَّ يَنْقَلِبْنَ إِلَى بُيُوتِهِنَّ حِينَ يَقْضِينَ الصَّلاَةَ، لاَ يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الْغَلَسِ. هذا الحديث استوفيت مباحثه في باب "في كم تصلي المرأة من الثياب"، من أبواب ستر العورة، ولفظه أصرح في مراد البخاري في هذا الباب من جهة التغليس بالصبح، وأن سياقه يقتضي المواظبة على ذلك، وأصرح منه ما أخرجه أبو داود عن ابن مسعود: "أنه صلى الله تعالى عليه وسلم أسفر بالصبح مرة، ثم كانت صلاته بعد بالغَلَس حتى مات، لم يعد إلى أن يُسفر"، وأما ما رواه أصحاب السنن، وصححه غير واحد عن رافع بن خَديج، قال: "قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أسفروا بالفجر، فإنه أعظم للأجر" فقد حمله الشافعيّ وغيره على أن المراد بذلك تحقق طلوع الفجر، وحمله الطحاويّ على أن المراد الأمر بتطويل القراءة فيها، حتى يخرج من الصلاة مسفرًا. وأبعد من زعم أنه ناسخ للصلاة في الغَلَس، وتمسك الحنفية بحديث رافع بن خديج هذا، فقالوا: إن الأسفار بالصبح أفضل من التغليس، واستدلوا بأحاديث أُخر في معناه. وقالوا في التأويل المتقدم عن الشافعي وغيره: إن قوله أعظم للأجر، يقتضي حصول الأجر في الصلاة بالغَلَس، فلو كان الإسفار هو وضوح الفجر وظهوره لم يكن في وقت الغلس أجر، لخروجه عن الوقت. واستدلوا بأشياء أُخر واهية، ومن تأمل ما ورد في الصحيحين وغيرهما، من الأحاديث الصريحة في تغليسه في الصبح، علِمَ أن الإسفار بالصبح لم يرد من

رجاله خمسة

فعله عليه الصلاة والسلام إلا المرة المتقدمة عن ابن مسعود، وأنه عليه الصلاة والسلام كلان مداومًا على التغليس، ولا يمكن أن يدعي مسلم أنه عليه الصلاة والسلام يداوم على غير الأفضل، وما الصبح إلا كغيره من الأوقات المطلوب فيها التقديم في أول الوقت. وأما حديث ابن مسعود الذي أخرجه المصنف وغيره، أنه قال: "ما رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم صلَّى صلاةً في غير وقتها، غير ذلك اليوم"، يعني في الفجر يوم المزدلفة، فمحمول على أنه دخل فيها مع طلوع الفجر من غير تأخير، فإن في حديث زيد بن ثابت وسهل بن سعد ما يشعر بتأخير تيسير، لا أنه صلاها قبل أن يطلع الفجر. رجاله خمسة: الأول: يحيى بن بكير، مرّ هو والليث وعقيل وابن شهاب في الثالث من الوحي، ومرّ عُروة بن الزُّبير وعائشة في الثاني منه. ثم قال المصنف: باب من أدرك من الفجر ركعة تقدم الكلام على الحكمة في جواب الشرط من الترجمة في باب "من أدرك من العصر ركعة".

الحديث السادس والخمسون

الحديث السادس والخمسون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، وَعَنِ الأَعْرَجِ يُحَدِّثُونَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الصُّبْحِ رَكْعَةً قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ". قوله: "يحدثونه"، أي: يحدثون زيد بن أسلم، وقد مرت مباحث هذا الحديث مستوفاة عند ذكره في باب "من أدرك من العصر ركعة"، وأورده المصنف في الباب السابق من طريق أبي سلمة، عن أبي هُريرة، وفي هذا الباب من طريق عطاء بن يسار ومن معه، عن أبي هُريرة، لأنه قدّم في طريق أبي سلمة ذكرَ العصر، وقدم في هذا ذكر الصبح، فناسب أن يذكر في كل منهما ما قدّم لما يشعر به التقديم من الاهتمام. قلت: لكن هذا لا يمكن أن يكون جوابًا عن ذكر الترجمتين مفترقتين، مع أنه كان يمكنه ذكر الحديثين في محل واحد، اللهم إلا أن يقال إن التفريق سببه ذكر أوقات الصلوات متفرقة مترتبة. رجاله سبعة: الأول: عبد الله بن مسلمة، وقد مرّ في الثاني عشر من الإيمان، ومرّ مالك في الثاني من الوحى، ومرّ زيد بن أسلم وعطاء بن يسار في الثاني والعشرين من الإيمان، ومرّ الأعرج في السابع منه، ومرّ أبو هريرة في الثاني منه، ومرّ بسر بن سعيد في التاسع والستين من أبواب القبلة. ثم قال المصنف:

باب من أدرك من الصلاة ركعة

باب من أدرك من الصلاة ركعة هكذا ترجم وساق الحديث بلفظ: "من أدرك ركعةً من الصلاة فقد أدرك"، وقد رواه مسلم عن عبيد الله العمريّ، وأحال به على حديث مالك، وأخرجه البيهقيّ وغيره من الوجه الذي أخرجه منه مسلم. ولفظه كلفظ ترجمة هذا الباب، قدم قوله "من الصلاة" على قوله "ركعة"، وقد علم بالاستقراء أن جميع ما يقع في البخاري مما يترجم بلفظ الحديث، لا يقع فيه شيء مغاير للفظ الحديث، إلا وقد ورد من وجه آخر بذلك اللفظ المغاير، فلله دره ما أكثر اطّلاعه.

الحديث السابع والخمسون

الحديث السابع والخمسون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلاَةِ، فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلاَةَ". قوله: "من أدرك ركعة من الصلاة، فقد أدرك الصلاة"، الظاهر، أن هذا أعم من حديث الباب الماضي قبل عشرة أبواب، ويحتمل أن تكون اللام للعهد فيتحدا. ويؤيده أن كلاًّ منهما من رواية أبي سلمة، عن أبي هريرة، وهذا مطلق، وذاك مقيد، فيحمل المطلق على المقيد. وقال الكرمانيّ: الفرق بينهما أن الأول فيمن أدرك من الوقت قدر ركعة، وهذا فيمن أدرك من الصلاة ركعة. وقال بعد ذلك في الحديث: "إن من دخل الصلاة فصلى ركعة، وخرج الوقت، كان مدركًا لجميعها، وتكون كلها أداء" وهو الصحيح. وهذا يدل على اتحاد الحديثين عنده، لجعلهما متعلقين بالوقت، بخلاف الذي قال قبله. وقال التيميّ: معناه: من أدرك مع الإمام ركعة فقد أدرك فضل الجماعة. وقيل: المراد بالصلاة الجمعة. وقيل غير ذلك. وقد مرّت مباحثه عند الحديث السابق في باب "من أدرك من العصر ركعة". رجاله خمسة: الأول: عبد الله بن يوسف، وقد مرّ هو ومالك في الثاني من الوحي، ومرّ ابن شهاب في الثالث منه، ومرّ أبو سلمة في الرابع منه، ومرّ أبو هريرة في الثاني من الإيمان. ثم قال المصنف:

باب الصلاة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس

باب الصلاة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس يعني ما حكمها. قال الزين بن المنير: لم يثبت حكم النهي، لأن تعيّن المنهي عنه في هذا الباب مما كثر فيه الاختلاف. وخص الترجمة بالفجر مع اشتمال الأحاديث على الفجر والعصر، لأن الصبح هي المذكورة أولًا في سائر الأحاديث، أو لأنّ العصر ورد فيها كونه صلى الله تعالى عليه وسلم صلى بعدها بخلاف الفجر.

الحديث الثامن والخمسون

الحديث الثامن والخمسون حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: شَهِدَ عِنْدِي رِجَالٌ مَرْضِيُّونَ، وَأَرْضَاهُمْ عِنْدِي عُمَرُ، أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنِ الصَّلاَةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَشْرُقَ الشَّمْسُ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ. قوله: "شهد عندي"، أي: أعلمني أو أخبرني، ولم يرد شهادة الحكم. وقوله: "بعد الصبح"، أي: بعد صلاة الصبح، لأنه جائز أن يكون الحكم فيه معلقًا بالوقت، إذ لابد من أداء الصبح، فتعين التقدير المذكور. قال ابن دقيق العيد: هذا الحديث مفعول به عند فقهاء الأمصار، وخالف بعض المتقدمين وبعض الظاهرية من بعض الوجوه. قال في "الفتح": لم تقع لنا تسمية الرجال المرضيين الذين حدثوا ابن عباس بهذا الحديث. وقوله: "حتى تُشرق الشمس"، بضم أوله، من أشرق. يقال: أشرقت الشمس ارتفعت وأضاءت. ويؤيده حديث أبي سعيد الآتي في الباب بعده، بلفظ: "حتى ترتفع الشمس"، ويروى بفتح أوله وضم ثالثه، بوزن تَغْرب، يقال: شَرَقت الشمس، أي: طلعت. ويؤيده رواية البيهقيّ عن ابن عمر شيخ البخاري، بلفظ: "حتى تشرق الشمس أو تطلع" على الشك. ويأتي في رواية مسدد: "حتى تطلع الشمس" بغير شك، وكذا في حديث أبي هُريرة الآتي آخر الباب، بلفظ: "حتى تطلع الشمس" بالجزم. ويجمع بين الحديثين بأن المراد بالطلوع طلوع مخصوص، أي: حتى تطلع مرتفعة. قال النووي: أجمعت الأمة على كراهة صلاة لا سبب لها في الأوقات المنهي عنها، واتفقوا على جواز الفرائض المؤداة فيها، واختلفوا في النوافل التي لها سبب،

كصلاة تحية المسجد، وسجود التلاوة، والشكر، وصلاة العيد، والكسوف، وصلاة الجنازة، وقضاء الفائتة، فيذهب الشافعيّ وطائفة معه إلى جواز ذلك كله بلا كراهة، وذهب مالك إلى كراهة النافلة خاصة، كان لها سبب أم لا، بعد صلاة عصر نفسه وبعد الفجر إلى أن تصلى المغرب والى أن ترتفع الشمس قدر رمح من رماح العرب، وهي اثنا عشر شبرًا متوسطًا، وتحرم النافلة عند أول غروب الشمس، وأول طلوعها إلى أن تتكامل في الغروب أو الطلوع. ويُستثنى من النوافل بعد طلوع الفجر الشفع والوتر، وركعتا الفجر، والوِرْدُ لنائمٍ عنه قبل الفرض في هذا كله، فإن صلى الفرض سقط الجميع إلا الفجر، فيؤخرها محل النفل، ويستثنى أيضًا الجنازة التي لم يخش تغيرها، وسجود التلاوة، فيجوزان قبل الإسفار في الصبح، وقبل الاصفرار في العصر، وأما التي يُخشى عليها التغير فيصلى عليها في كل وقت، وكذلك الفرض من حاضر وفائت دون المنذور، ومن أحرم في النافلة في الأوقات المنهي عنها قطع وجوبًا في وقت التحريم، وندبًا في وقت الكراهة. وذهب أحمد إلى تحريم النافلة بعد العصر إلى أن تغيب الشمس، وبعد طلوع الفجر إلى أن ترتفع قيد رمح سواء كان لها سبب أم لا. واستثنى ركعتي الفجر وركعتي الطواف في الأوقات المنهي عنها، وكذا الصلاة المنذورة، والصلاة على الجنازة بعد الفجر والعصر، ما لم يخف عليها. فإن خيف عليها صلَّى عليها في كل وقت. وكذلك تجوز الفوائت عنده في كل وقت. وذهب أبو حنيفة إلى أن الجميع يحرم سوى عصر يومه، وتحرم المنذورة أيضًا، واحتج الشافعيّ بأنه صلى الله تعالى عليه وسلم قضي سنة الظهر بعد العصر، وهو صريح في قضاء السنة الفائتة، فالحاضرة أَوْلى، والفريضة المقضية أولى، ويلتحق ما له سبب. وعند المالكية: النهي لا يتناول الفرائض، وذهب أبو حنيفة إلى أن الفوائت داخلة في عموم النهي، وقد مرَّ عند حديث: "من دخل المسجد فليركع ركعتين" في أبواب المساجد، أن الأمر بالصلاة لكل داخل من غير تفصيل، والنهي عن

رجاله خمسة

الصلاة في أوقات مخصوصة، فلابد من تخصيص أحد العمومين، فذهب جمع إلى تخصيص النهي وتعميم الأمر، وهو الأصح عند الشافعية. وذهب جمع إلى عكسه وهو الحنفية والمالكية، على ما مرَّ تحريره قريبًا، وحُكي عن طائفة من السلف الإباحة مطلقًا، وأن أحاديث النهي منسوخة، وبه قال داود وغيره من أهل الظاهر، وبذلك جزم ابن حزم، واستندت الظاهرية في النسخ إلى حديث: "من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فليصلّ إليها أخرى"، فدلّ على إباحة الصلاة في الأوقات المنهي عنها. وقال غيرهم: ادعاء التخصيص أَولى من ادعاء النسخ، ولا سبيل إلى إثباته بثبوت تأخر هذا الحديث الذي هو شرط في النسخ، فيحمل النهي على غير الفرائض، أو على ما لا سبب له من النوافل، جمعًا بين الأدلة. رجاله خمسة: وفيه ذكر عمر بن الخطاب: الأول: حفص بن عمر، وقد مرَّ في الثالث والثلاثين من الوضوء ومرّ هشام الدستوائيّ في السابع والثلاثين من الإيمان، ومرّ قتادة في السادس منه، ومرّ أبو العالية في التعاليق الكائنة بعد الثاني من العلم، ومرّ ابن عباس في الخامس من الوحي، ومرّ عمر في الأول منه. فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والقول في موضعين، والعنعنة في ثلاثة. ورواية تابعي عن تابعي، وشيخ البخاري من أفراده. أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه.

الحديث التاسع والخمسون

الحديث التاسع والخمسون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ: سَمِعْتُ أَبَا الْعَالِيَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: حَدَّثَنِا نَاسٌ بِهَذَا. السر في إيراد المصنف طريق يحيى القطّان، مع أن طريق هشام أعلى منها، هو التصريح بسماع قتادة من أبي العالية، فأمن تدليسه. وقوله: "ناس بهذا"، أي: الحديث بمعناه، فإن مسددًا رواه في مسنده، ومن طريقه البيهقيّ، ولفظه: "حدثني ناس أعجبهم إليَّ عمر"، وقال فيه: "حتى تطلع الشمس"، وفي التِّرمذيّ عنه: "سمعت غير واحد من أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، منهم عمر، وكان من أحبهم إليَّ. رجاله ستة: الأول: مسدّد، والثاني: يحيى القطّان، وقد مرّا في السادس من الإيمان، وكذلك قتادة، ومرّ شعبة في الثالث منه، ومرّ أبو العالية بعد الثاني من العلم، ومرّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي.

الحديث الستون

الحديث الستون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ هِشَامٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ تَحَرَّوْا بِصَلاَتِكُمْ طُلُوعَ الشَّمْسِ وَلاَ غُرُوبَهَا". قوله: "لا تحَرُّوا"، أصله: لا تتَحرّوا، فحذفت إحدى التاءين، والمعنى: لا تقصدوا، واختلف أهل العلم في المراد بذلك، فمنهم من جعله تفسيرًا للحديث السابق، ومبينًا للمراد به. فقال: لا تكره الصلاة بعد الصبح ولا بعد العصر، إلا لمن قصد بصلاته طلوع الشمس وغروبها، وإلى ذلك جنح أهل الظاهر، وقواه ابن المنذر، واحتج له بما رواه مسلم عن عائشة، قالت: وهم ابن عمر "إنما نهى رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يتحرّى طلوع الشمس وغروبها". وسيأتي من قول ابن عمر بعد بابين ما يدل على ذلك. وربما قوى بعضهم ذلك بحديث: "من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فليضف إليها أخرى"، فأمر بالصلاة حينئذ، فدلَّ على أن الكراهة مختصة بمن قصد الصلاة في ذلك الوقت، لا من وقع له ذلك اتفاتًا، ومنهم من جعله نهيًا مستقلاً، وكره الصلاة في تلك الأوقات سواء قصد أم لم يقصد، وهو قول الأكثر، قال البيهقي: إنما قالت عائشة ذلك لأنها رأت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يصلي بعد العصر، فحملت نهيه على من قصد ذلك، لا على الإطلاق، وقد أجيب عن هذا بأنه صلى الله تعالى عليه وسلم إنما صلَّى حينئذ قضاءً، كما يأتي، وأما النهي فهو ثابت عن جماعة من الصحابة، غير ابن عمر، فلا اختصاص له بالوهم.

رجاله خمسة

رجاله خمسة: الأول: مسدّد، والثاني: يحيى القطّان، وقد مرّا في السادس من الإيمان، ومرّ هشام بن عروة وأبوه عُروة في الثاني من الوحي، ومرّ ابن عمر أول كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه، وفيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة والإخبار بصيغة الإفراد في موضعين، والقول في أربعة. ورواية الابن عن الأب. أخرجه البخاريّ هنا وفي صفة إبليس، ومسلم والنَّسائيّ في الصلاة.

الحديث الحادي والستون

الحديث الحادي والستون وَقَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا طَلَعَ حَاجِبُ الشَّمْسِ فَأَخِّرُوا الصَّلاَةَ حَتَّى تَرْتَفِعَ، وَإِذَا غَابَ حَاجِبُ الشَّمْسِ فَأَخِّرُوا الصَّلاَةَ حَتَّى تَغِيبَ". هذا مقول عُروة أيضًا، وهو حديث آخر، وقد أفرده الإسماعيليّ، فأخرج الأول عن عدة رجال، كلهم عن هشام، عن أبيه. وأخرج الثاني عن عبد الله بن نُمير، عن هشام. وقوله: "ترتفع"، جعل ارتفاعها غاية النهي، وقد مرَّ الجمع بين رواية حتى تطلع وحتى ترتفع. وقوله: "حاجب الشمس"، أي: طرف قُرصها، قال الجوهريّ: حواجب الشمس نواحيها. وقد مرَّ محل عروة وابن عمر في الذي قبله. ثم قال: تابعه عبدة، يعني ابن سليمان، والضمير يعود على يحيى بن سعيد، وهو القطّان، يعني تابعَ يحيى القطان على روايته لهذا الحديث عن هشام، ورواية عبدة هذه موصولة في بدء الخلق، وفيه الحديثان معًا. وقال فيه: "حتى تبرز" مكان "ترتفع". وقال فيه: "لا تحيَّنوا" بالياء التحتانية والنون، وزاد فيه: "فإنها تطلع بين قرني شيطان". وفيه إشارة إلى علة النهي عن الصلاة في الوقتين المذكورين، وزاد مسلم من حديث عمرو بن عنبسة: "وحينئذ يسجد لها الكفار". فالنهي حينئذ لترك مشابهة الكفار، وقد اعتبر ذلك الشارع في أشياء كثيرة، وفي هذا تعقب على أبي محمد البغويّ، حيث قال: إن النهي عن ذلك لا يدرك معناه، وجعله من قبيل التعبد الذي يجب الإيمان به. وقرنا الشيطان جانبا رأسه، يقال: إنه ينتصب في محاذاة مطلع الشمس، حتى إذا طلعت كانت بين جانبي رأسه، لتقع السجدة له إذا سجد عَبَدَةُ الشمس

لها، وكذا عند غروبها، وعلى هذا، فقوله: "تطلع بين قرني الشيطان"، أي: بالنسبة إلى من شاهد الشمس عند طلوعها، فلو شاهد الشيطان لرآه منتصبًا عندها. وقيل: معنى القرن القوة، أي: حين تطلع قوة الشيطان، فتكون التثنية للدلالة على قوة تلك القوة، كأنهما قوتان، واستعمال القَرْن في القوة من استعمال اسم السبب في المسبب، لأنه يتسبب عن القرن القوة، وهذا الاستعمال شائع في كلام العرب، والراجح الأول، لأن الأصل إبقاء اللفظ على ظاهره إلا لداعٍ، ولا داعيَ هنا. وعبدة بن سليمان مرّ في الثالث عشر من الإيمان، ومرّ معنى المتابعة في الرابع من الوحي.

الحديث الثاني والستون

الحديث الثاني والستون حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْ بَيْعَتَيْنِ، وَعَنْ لِبْسَتَيْنِ، وَعَنْ صَلاَتَيْنِ، نَهَى عَنِ الصَّلاَةِ بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، وَعَنِ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ، وَعَنْ الاِحْتِبَاءِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ يُفْضِي بِفَرْجِهِ إِلَى السَّمَاءِ، وَعَنِ الْمُنَابَذَةِ وَالْمُلاَمَسَةِ. قوله: "نهى عن بَيْعتين، وعن لبستين، وعن صلاتين"، البيعتان واللبستان قد مرَّ الكلام عليهما عند ذكر الجميع في باب ما يستر من العورة، و"الصلاتان"، هما اللتان بعد الفجر وبعد العصر، وقد مرَّ استيفاء الكلام عليهما في الأبواب التي قبله. رجاله ستة: الأول: عُبيد بن إسماعيل، وقد مرّ في الثاني والعشرين من الغُسل، ومرّ أبو أسامة في الحادي والعشرين من العلم، ومرَّ عُبيد الله العمريّ في الرابع عشر من الوضوء. الرابع: خُبيب بن عبد الرحمن بن خُبيب بن يَساف الأنصاريّ الخزرجيّ، أبو الحارث المَدينيّ. قال ابنُ مَعين والنَّسائيّ: ثقة، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وذكره ابن حبّان في "الثقات". وقال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث، روى عن حفص بن عاصم وعبد الرحمن بن مسعود بن نيار، وروى عنه مالك وإسحاق وشعبة ويحيى بن سعيد الأنصاريّ وغيرهم.

لطائف إسناده

الخامس: حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، ذكره مسلم في الطبقة الأولى من أهل المدينة، وقال النَّسائيّ وأبو زرعة والعجليّ: ثقة. وقال هبة الله: ثقة مُجْمَع على ثقته. وذكره ابن حبّان في "الثقات". روى عن أبيه وعمه عبد الله بن عمر وأبي هريرة وأبي سعيد الخدريّ. وروى عنه خبيب بن عبد الرحمن وسعد بن ابراهيم وسالم بن عبد الله بن عمر والقاسم بن محمد، وهما من أقرانه. وليس في الستة حفص بن عاصم سواه. السادس: أبو هريرة، وقد مرّ في الثاني من الإيمان. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد، والعنعنة في خمسة، وشيخ البخاريّ من أفراده، ورواته ما بين كوفيّ، وهو عبدة، والبقية مدنيون. أخرجه البخاريّ هنا وفي اللباس، ومسلم في البيوع، والنَّسائيّ فيها، وابن ماجه في الصلاة، وفي التجارات. ثم قال المصنف: باب لا تُتَحرَّى الصلاة قبل غروب الشمس قوله: "لا تُتَحرَّى"، بضم المثناة الفوقانية، والصلاةُ بالرفع نائب الفاعل، أو بفتح المثناة التحتية والصلاة بالنصب مفعول به، والفاعل مستتر، أي: المصلّي.

الحديث الثالث والستون

الحديث الثالث والستون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لاَ يَتَحَرَّى أَحَدُكُمْ فَيُصَلِّى عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَلاَ عِنْدَ غُرُوبِهَا". قوله: "لا يتحرى أحدكم"، أي بلفظ الخبر. قال السهيلي: يجوز الإخبار عن مستقر أمر الشرع، أي: لا يكون إلا هذا. وقوله: "فيصلي"، بالنصب، والمراد نفي التحري والصلاة معًا، ويجوز الرفع، أي: لا يتحرى أحدُكم الصلاة في وقت كذا فهو يصلي فيه. وقال ابن خروف: يجوز في يصلي ثلاثة أوجه: الجزم على العطف، أي: لا يتحرى ولا يصلي، والوجهان المتقدمان. قلت: الجزم هنا لا يصح، لو كانت الرواية بحذف حرف العلة في الفعلين، وأما مع إثباتها فلا احتمال للجزم، اللهم إلا أن يقال: إن الإثبات إشباع، كقراءة: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ}، وفي رواية القعنبيّ في "الموطأ": "لا يتحرى أحدكم أن يُصلي"، ومعناه: لا يتحرى الصلاة. وفي الحديث النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها، وهو مُجْمَعٌ عليه في الجملة، واقتصر فيه على حالتي الطلوع والغروب. وفي قوله: "في غيره بعد الصبح وبعد العصر"، أن النهي مستمر بعد الطلوع حتى ترتفع، وأن النهي يتوجه قبل الغروب من حين اصفرار الشمس وتغيرها. وقد مرَّ باقي الكلام على الحديث في الباب الذي قبله. رجاله أربعة: الأول: عبد الله بن يوسف، والثاني: مالك، وقد مرّا في الثاني من الوحي،

ومرّ نافع في الثالث والسبعين من العلم، ومرّ ابن عمر أول الإيمان قبل ذكر حديث منه.

الحديث الرابع والستون

الحديث الرابع والستون حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ الْجُنْدَعِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "لاَ صَلاَةَ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ، وَلاَ صَلاَةَ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ". قوله: "عن صالح"، هو ابن كيسان، ولم يخرج البخاريّ لصالح بن أبي الأخضر شيئًا. وقوله: "لا صلاة"، قال ابن دقيق العيد: صيغة النفي في ألفاظ الشارع، إذا دخلت على فعل، كان الأولى حملها على نفي الفعل الشرعيّ لا الحسيّ، لأنَّا لو حملناه على نفي الفعل الحسي لاحتجنا في تصحيحه إلى إضمار، والأصل عدمه. وإذا حملناه على الشرعي لا نحتاج إلى إضمار، فهذا وجه الأولوية، وعلى هذا فهو نفي بمعنى النهي، والتقدير: لا تُصلُّوا. وحكى أبو الفتح اليعمريّ عن بعض السلف أنهم قالوا: إن النهي عن الصلاة بعد الصبح والعصر إنما هو إعلام بأنهما لا يتطوع بعدهما، ولم يقصد الوقت بالنهي، كما قصد به وقت الطلوع ووقت الغروب، ويؤيد ذلك ما رواه أبو داود والنَّسائيّ بإسناد حسن عن علي، عن النبىّ صلى الله تعالى عليه وسلم، قال: "لا تصلُّوا بعد الصبح، ولا بعد العصر، إلا أن تكون الشمس نقية"، وفي رواية: "مرتفعة"، فدلَّ على أن المراد بالبعدية ليس على عمومه، وإنما المراد وقت الطلوع ووقت الغروب وما قاربهما. قلت: قد مرّ عند حديث ابن عباس عن عمران مذهبُ مالك: اختصاص التحريم بوقت الطلوع ووقت الغروب، وكره ما سواهما. وكأنَّ هذا هو المراد عند هذا البعض من السلف. وممن قال بقول مالك: محمد بن سيرين ومحمد بن

رجاله ستة

جرير الطبريّ، واحتجّ بما ثبت أنه صلى الله تعالى عليه وسلم صلى بعد العصر، فدلَّ على أنه لا يحرم، وكأنَّه يحمل فعله على بيان الجواز، وسيأتي ما فيه بعد باب. وروى ابن عمر تحريم الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وإباحتها بعد العصر حتى تصفرّ، وبه قال ابن حزم، واحتج بحديث عليّ المتقدم قريبًا. قال في "الفتح": والمشهور إطلاق الكراهة في الجميع، فقيل كراهة تحريم، وقيل كراهة تنزيه، ولعله عنى بذلك في مذهبه لما علمت. وقوله: "بعد الصبح"، أي: بعد صلاة الصبح، وصرح به مسلم من هذا الوجه في الموضعين، ومطابقة الحديث للترجمة من جهة أن الصلاة المنهية غير صحيحة، فلازمه أن لا يقصد لها الكلف، إذ العاقل لا يشتغل بما لا فائدة فيه. رجاله ستة: الأول: عبد العزيز بن عبد الله الأُويسيّ، وقد مرّ في الأربعين، ومرّ إبراهيم بن سعد في السادس عشر من الإيمان، ومرّ أبو سعيد الخُدري في الثاني عشر منه، ومرّ صالح بن كيسان في السابع من الوحي، ومرّ ابن شهاب في الثالث منه، ومرّ عطاء بن يزيد في العاشر من العلم. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وبالإِفراد في موضع، والعنعنة في موضعين، والسماع في موضعين، والقول في ثلاثة، ورواته كلُّهم مدنيُّون، وشيخ البخاري من أفراده، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، عن صحابيّ. أخرجه البخاريّ هنا، ومسلم والنَّسائيّ في الصلاة.

الحديث الخامس والستون

الحديث الخامس والستون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ، قَالَ: سَمِعْتُ حُمْرَانَ بْنَ أَبَانَ يُحَدِّثُ عَنْ مُعَاوِيَةَ، قَالَ: إِنَّكُمْ لَتُصَلُّونَ صَلاَةً لَقَدْ صَحِبْنَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَمَا رَأَيْنَاهُ يُصَلِّيهَا، وَلَقَدْ نَهَى عَنْهُمَا، يَعْنِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ. قوله: "عن معاوية"، في رواية الإسماعيليّ: خطبنا معاوية، واتفق أصحاب شعبة على أنه من رواية أبي التَّيّاح، عن حمران، وخالفهم عثمان بن عمر وأبو داود الطيالسيّ فقالا: عن أبي التّيّاح، عن مَعْبَد الجُهَنيّ، عن معاوية. والطريق التي اختارها البخاريّ أرجح، ويحتمل أن يكون لأبي التياح فيه شيخان. وقوله: "يصليهما"، أي: الركعتين، وللحمويّ: يصليها، أي: الصلاة، وكذا وقع الخلاف بين الرواة في قوله: "عنها" أو "عنهما" وكلام معاوية مشعر بأن من خاطبهم كانوا يصلون بعد العصر على سبيل التطوع الراتب، لها كما يصلى بعد الظهر، وما نفاه من رؤية صلاة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لهما، قد أثبته غيره، والمثبت مقدَّم على النافي، وسيأتي قول عائشة في الباب الذي بعده: "كان لا يصليهما في المسجد"، وليس في رواية الإثبات معارضة لأحاديث النهي، لأن رواية الإثبات لها سبب، كما سيأتي في الباب الذي بعده، فألحق بها ماله سبب عند من يحمل النهي على ما لا سبب له. وعند من يرى عموم النهي، يحمل إنكار معاوية على من تطوع، ويحمل الفعل على الخصوصية. رجاله ستة: الأول: محمد بن أبان بن وزير البلخيّ، أبو بكر بن إبراهيم المستملي

لطائف إسناده

الحافظ، ويعرف بحَمْدَويه، كان مستملي وكيع، يقال بضع عشرة سنة. قال النَّسائيّ: ثقة، وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: كان من المذاكرة ممن جمع وصنف، وكان مستملي وكيع، وقال الخليليّ: ثقة متفق عليه. وقال المروزيّ: قلت لأبي عبد الله: فأبو بكر مستملي وكيع تعرفه؟ قال: نعم، قد كان يكتب معنا الحديث. قلت: إنه حدّث بحديث أنكروه، ما أقل من هو عنده عن عبد الرزاق، وهو عندك وعند خلف، يعني ابن سالم. قال: قد كان معنا تلك السنة. وقال عمرو بن حماد: قدمت الكوفة، فأتيت أبا بكر بن أبي شيبة، فسألني عن محمد بن أبان المستملي، فقلت: قد خلفته على أنه يقدم. قال: ليته قدم حتى ننتفع به. وقال أبو حاتم: صدوق. وفي "الزهرة" روى عنه البخاريّ ثمانية وثلاثين، فانظروا كم بين هذا وبين قول أبي الوليد الباجي: حديث واحد. لكن يحتمل أن يكون مراده عن غندر. روى عن وكيع وابن عُيينة وابن علية وعبد الرزاق وابن مهدي وعبدة بن سليمان وغيرهم. وروى عنه الجماعة، سوى مسلم، فروى عنه في غير الجامع، وموسى بن هارون وابن خُزيمة والسّراج وغيرهم. مات سنة أربع وأربعين ومئتين في المحرم. وفي الستة محمد بن أبان سواه اثنان. الثاني من السند: غندر، وقد مرَّ في الخامس والعشرين من الإيمان، ومرّ شعبة في الثالث منه، ومرّ أبو التّيّاح في الحادي عشر من العلم، ومرّ معاوية في الثالث عشر منه، ومرّ حمران بن أبان في الخامس والعشرين من الوضوء. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، وبالإفراد في موضع، والعنعنة في موضعين، والقول في أربعة، والسماع، ورواته ما بين بلخيٍّ وواسطيٍّ وبصريٍّ ومدنيٍّ.

الحديث السادس والستون

الحديث السادس والستون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدَةُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ خُبَيْبٍ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ صَلاَتَيْنِ: بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ. قوله: "حتى تغرب الشمس"، سقط ذكر الشمس عند الأصيلي، واتفق من قال بالنهي فيما مرَّ، على أن النهي فيما بعد العصر متعلق بفعل الصلاة، فإن قدَّمها اتسع النهي، وان أخَّرها ضاق، وأما الصبح فاختلفوا فيه؛ فقال الشافعيّ: هو كالذي قبله، إنما تحصل الكراهة بعد فعله، كما هو مقتضى الأحاديث. وذهبت المالكية والحنفية والحنابلة إلى ثبوت الكراهة من طلوع الفجر، سوى ما مرَّ استئناؤه عندهم، وهو وجه عند الشافعية. قال ابن الصّبّاغ: إنه ظاهر المذهب، وقطع به المتولي في "التتمة"، وفي سنن أبي داود، عن يسار مولى ابن عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنهما، قال: رآني ابن عمر وأنا أصلي بعد طلوع الفجر، فقال: يا يسار، إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خرج علينا ونحن نصلي هذه الصلاة، فقال: "ليبلغ شاهدكم غائبكم، لا تصلوا بعد الفجر إلا سجدتين"، وفي لفظ الدارقطنيّ: "لا صلاة بعد طلوع الفجر إلا سجدتان"، واستثنى الشافعية من كراهية الصلاة في هذه الأوقات مكة، فلا تكره الصلاة فيها في شيء منها، لا ركعتا الطواف ولا غيرهما، لحديث جُبير مرفوعًا: "يا بني عبد مناف، لا تمنعوا أحدًا طاف بهذا البيت، وصلى أية ساعة شاء من الليل والنهار". رواه أبو داود وغيره. قال ابن حزم: إسلام جُبير متأخر، إنما أسلم بعد الفتح، فلا شك أن هذا بعد نهيه عليه

رجاله ستة

الصلاة والسلام عن الصلاة في الأوقات، فوجب استثناء ذلك من النهي. قلت: الحديث لا يدل على استئناء سوى ركعتي الطواف، ولأجل ذلك استثنتهما الحنابلة، مستدلين بهذا الحديث. ولعل من لم يستثنهما لم يتحقق عنده تأخر الحديث عن النهي، وقد مرَّ عن صاحب الفتح أن في حمل النهي على التنزيه أو التحريم قولين، وصحح في "الروضة" و"شرح المذهب" التحريم، وهو ظاهر النهي في قوله: "لا تصلوا"، أو النفي في قوله: "لا صلاة"، لأنه خبر معناه النهي. وقد نص الشافعى على هذا في الرسالة. وصحح النوويّ في تحقيقه أنه للتنزيه. وهل تنعقد لو فعلها أو باطلة؟ صحح في "الروضة"، كالرافعي بطلانها، وظاهره أنها باطلة، ولو قلنا بأنه للتنزيه كما صرح به النووي في "شرح الوسيط" كابن الصلاح، واستشكله الأسنوي بأنه كيف يباح الإقدام على ما لا ينعقد وهو تلاعب ولا إشكال فيه، لأن نهي التنزيه إذا رجع إلى نفس الصلاة كان كنهي التحريم كما هو مقرر في الأصول، وحاصله أن المكروه لا يدخل تحت مطلق الأمر، وإلا يلزم أن يكون الشيء مطلوبًا منهيًا، ولا يصح إلا ما كان مطلوبًا، وقد مرَّ عن المالكية أن القطع مطلوب وجويًا في الوقت المحرم، وندبًا في المكروه، وظاهر الطلب ولو بعد ركعة، وأما بعد تمام الركعتين فلا يقطع لخفة الأمر بالسلام، ولو لم يقطع وتمادى كانت منعقدة، لأن النهي عن الصلاة في الأوقات المذكورة لا لذات الوقت، ولا لمعنى في ذات العبادة يمنع من انعقاده، بل لمعنى خارج عن الذات، فلا يمنع الانعقاد، كالصلاة في الأرض المغصوبة، بخلاف ما لو كان النهي لمعنى في ذات العبادة، أو لذات الوقت، أو اليوم، كالنهي عن صوم زمن الحيض والليل، وصوم يوم العيد، فيمنع من انعقادها، فإن النهي عن صوم يوم العيد لذات اليوم، وهو الإعراض عن ضيافة الله تعالى، كذا قيل. وفيه بحث طويل في الأصول. رجاله ستة: الأول: محمد بن سلام البِيكنديّ، والثاني: عبدة بن سليمان، وقد مرا في

باب من لم يكره الصلاة إلا بعد العصر والفجر

الثالث عشر من الإيمان، ومرَّ عُبيد الله بن عمر العمريّ في الرابع عشر من الوضوء، ومرَّ خُبيب وحفص بن عاصم في الثاني والستين من هذا الكتاب، ومرّ أبو هريرة في الثاني من الإيمان. ثم قال المصنف: باب من لم يكره الصلاة إلا بعد العصر والفجر قيل: آثر البخاري الترجمة بذكر المذاهب على ذكر الحكم، للبراءة من عهدة بت القول في موضع كثر فيه الاختلاف، ومحصل ما ورد من الأخبار في تعيين الأوقات التي تكره فيها الصلاة، أنها خمسة: عند طلوع الشمس، وعند غروبها، وبعد صلاة الصبح، وبعد صلاة العصر، وعند الاستواء. وعند التحقيق ترجع إلى ثلاثة: من بعد صلاة الصبح إلى أن ترفع الشمس، فيدخل فيه الصلاة عند طلوع الشمس. ومن بعد صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس، وعند الاستواء، أي: استواء الشمس في كبد السماء، وكأنه لم يصح عند المصنف على شرطه، فترجم على نفيه. وفيه أربعة أحاديث: حديث عقبة بن عامر عند مسلم، ولفظه: "وحين يقوم قائم الظهيرة حتى ترتفع"، وحديث عمرو بن عَنْبَسة عند مسلم أيضًا، ولفظه: "حتى يستقل الظل بالرمح، فإذا أقبل الفيء فصلِّ". وفي لفظ لأبي داود: "حتى يعدل الرمح ظله"، وحديث أبب هريرة عند ابن ماجه والبيهقيّ، ولفظه: "حتى تستوي الشمس على رأسك كالرمح، فإذا زالت فصلِّ"، وحديث الصنابحيّ في "الموطأ"، ولفظه: "ثم إذا استوت قارنها، فإذا زالت فارقها"، وفي آخره: "ونهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن الصلاة في تلك الساعات"، وهو حديث مرسل مع قوة رجاله. وفي الباب أحاديث ضعيفة، وبقضية هذه الزيادة قال عمر بن الخطاب، فنهى عن الصلاة نصف النهار، وعن ابن مسعود، قال: "كنا نُنهى عن ذلك"، وعن أبي سعيد المَقْبَريّ، قال: أدركت الناس وهم يتقون ذلك. وهو مذهب

الأئمة الثلاثة والجمهور، وخالف مالك، فقال: ما أدركت أهل الفضل إلا وهم يجتهدون نصف النهار. وروى ابن أبي شيبة أن مسروقًا كان يصلي نصف النهار، فقيل له: إن أبواب جهنم تفتح نصف النهار، فقال: الصلاة أحق ما أستعيذ به من جهنم حين تفتح أبوابها. قال ابن عبد البر: قد روى مالك حديث الصنابحيّ، فإما أنه لم يصح عنده، وإما أنه ردّه بالعمل الذي ذكره، وقد استثنى الشافعيّ، ومن وافقه من ذلك، يوم الجمعة، وحجتهم أنه صلى الله تعالى عليه وسلم نَدَب الناس إلى التبكير يوم الجمعة، ورغب في الصلاة إلى خروج الإمام، كما يأتي في بابه، وجعل الغاية خروج الإمام، وهو لا يخرج إلا بعد الزوال، فدل على عدم الكراهة. وجاء فيه حديث عن أبي قتادة مرفوعًا: "أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كره الصلاة نصف النهار، إلا يوم الجمعة"، وفي إسناده انقطاع، وقد ذكر له البيهقيّ شواهد ضعيفة، إذا ضمت قوي الخبر. ثم قال: رواه عمر وابن عمر وأبو سعيد وأبو هُريرة، يريد أن أحاديث هؤلاء الأربعة ليس فيها تعرض للاستواء، ولكن لمن قال به أن يقول إنه زيادة من حافظ ثقة، فيجب قبولها، وأحاديثهم تقدمت في البابين الذين قبل هذا الباب، ومرَّ عند ذكرها ذكر محالّهم.

الحديث السابع والستون

الحديث السابع والستون حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: أُصَلِّي كَمَا رَأَيْتُ أَصْحَابِي يُصَلُّونَ، لاَ أَنْهَى أَحَدًا يُصَلِّي بِلَيْلٍ وَلاَ نَهَارٍ مَا شَاءَ، غَيْرَ أَنْ لاَ تَحَرَّوْا طُلُوعَ الشَّمْسِ وَلاَ غُرُوبَهَا. قوله: "أصلي"، زاد الإسماعيليّ في أوله: "كان لا يصلي من أول النهار حتى تزول الشمس، ويقول: أصلي ... "، إلخ. وقوله: "أنْ لا تَحَرَّوا"، أصله أن لا تتحروا كما مرَّ، أي: أن لا تقصدوا. زاد عبد الرزاق في آخر هذا الحديث: "فإن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نهى عن ذلك، وقال: "إنه يطلع قرن الشيطان مع طلوع الشمس". وقد مرَّ لك أن قوله هنا يؤيد قول من قال، كابن المنذر: إن النهي مختص بمن صلى قاصدًا بصلاته طلوع الشمس أو غروبها، وهو الذي فهمته عائشة من مواظبته صلى الله تعالى عليه وسلم على الركعتين بعد العصر، فلذلك قالت: ما يأتي نقله عنها، فكانت تتنفل بعد العصر. وأخرج المصنف في الحج أن ابن الزبير كان يصلي الركعتين بعد العصر، وأخبر أن عائشة حدثته أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لم يدخل بيتها إلا صلاهما، وكأنَّه فهم من ذلك ما فهمته خالته عائشة. وروى عبد الرزاق عن زيد بن خالد أن عمر رآه، وهو خليفة، ركع بعد العصر، فضربه، وقال له: يا زيد، لولا أني أخشى أن يتخذهما الناس الناس سُلّمًا إلى الصلاة حتى الليل، لم أضرب فيهما، فلعل عمر كان يرى أن النهي عن الصلاة بعد العصر، إنما هو خشية إيقاع الصلاة عند غروب الشمس، وقد روى يحيى بن بكير، عن تميم الداريّ نحو رواية زيد بن خالد، وجواب عمر له، وفيه: "ولكني أخشى أن يأتي

رجاله خمسة

بعدكم قوم يصلون ما بين العصر الى المغرب، حتى يمر بالساعة التي نهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنْ يصلّى فيها" وهذا كله يدل لما مرَّ عن ابن المنذر وغيره، من اختصاص النهي بتحرِّي وقت الطلوع والغروب. وقد قال بعض العلماء: إن المراد بحصر الكراهة في الأوقات المذكورة إنما هو بالنسبة الى الأوقات الأصلية، وإلا فقد ذكروا أنه يكره التنفل وقت إقامة الصلاة، ووقت صعود الإمام لخطبة الجمعة، وهاتان محرمتان عند المالكية، وفي حالة الصلاة المكتوبة جماعة، لمن لم يصلها. قلت: عند المالكية: يحرم ابتداء الصلاة عند اقامة الإمام الراتب، سواء كان صلاها أو لم يصلها، لخبر: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة الا المكتوبة". ويكره أيضًا التنفل عند المالكية بعد الجمعة حتى ينصرف الناس أو جلّهم، وعند الحنفية والمالكية كراهة النفل قبل صلاة المغرب، وسيأتي الكلام عليه في هذا الجامع. رجاله خمسة: الأول: أبو النعمان، وقد مرّ في الحادي والخمسين من الإيمان، ومرّ حماد بن زيد في الرابع والعشرين منه، ومرّ أيوب السَّختيانيّ في التاسع منه، ومرّ ابن عمر أوله قبل ذكر حديث منه، ومرّ نافع في الثالث والسبعين من العلم. فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والقول في موضعين، والعنعنة في ثلاثة، ورواته ثلاثة بصريُّون، ونافع مدنيّ، وابن عمر مكيّ ومدنيّ، وفيه رواية المولى عن سيده. باب ما يُصلى بعد العصر من الفوائت ونحوها قال الزين بن المنير: ظاهر الترجمة إخراج النافلة المحضة التي لا سبب لها، وقال: إنَّ السرّ في قوله: "ونحوها" ليدخل فيه رواتب النوافل وغيرها. ثم قال: وقال كريب عن أم سلمة: "صلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد

العصر ركعتين، وقال: شغلني ناس من عبد القيس عن الركعتين بعد الظهر"، وهذا التعليق أخرجه البخاري مسندًا في السهو قبيل كتاب الجنائز، وفي وفد عبد القيس، وكريب مرّ في الرابع من الوضوء ومرت أم سلمة في السادس والخمسين من العلم.

الحديث الثامن والستون

الحديث الثامن والستون حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَيْمَنَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّهُ سَمِعَ عَائِشَةَ، قَالَتْ: وَالَّذِى ذَهَبَ بِهِ مَا تَرَكَهُمَا حَتَّى لَقِىَ اللَّهَ، وَمَا لَقِىَ اللَّهَ تَعَالَى حَتَّى ثَقُلَ عَنِ الصَّلاَةِ، وَكَانَ يُصَلِّي كَثِيرًا مِنْ صَلاَتِهِ قَاعِدًا، تَعْنِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَكَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّيهِمَا، وَلاَ يُصَلِّيهِمَا فِي الْمَسْجِدِ مَخَافَةَ أَنْ يُثَقِّلَ عَلَى أُمَّتِهِ، وَكَانَ يُحِبُّ مَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ. قوله في هذه الرواية: "والذي ذهب به ما تركهما حتى لقي الله"، وفي الرواية الثانية: "ما ترك السجدتين بعد العصر عندي قط"، وفي الثالثة: "لم يكن يدعهما سرًا ولا علانية"، وفي الرابعة: "ما كان يأتيني في يوم بعد العصر إلا صلَّى ركعتين". تمسك بهذه الروايات من أجاز التنفل بعد العصر مطلقًا ما لم يقصد الصلاة عند غروب الشمس، وقد مرَّ ما قيل في ذلك، وأجاب عنه من أطلق الكراهة بأن فعله هذا يدل على جواز استدراك ما فات من الرواتب من غير كراهة، وأما مواظبته صلى الله تعالى عليه وسلم فهو من خصائصه. والدليل عليه ما رواه أبو داود عن ذكوان مولى عائشة أنها حدثته أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يُصلي بعد العصر، وينهى عنها، ويواصل وينهى عن الوِصال. وما رواه مسلم عن عائشة في نحو هذه القصة، وفي آخره: "وكان إذا صلَّى صلاةً أثبتها". قال البيهقيّ: الذي اختص به صلى الله تعالى عليه وسلم المداومة على ذلك، لا أصل القضاء. قلت: القضاء إنما أُخذ من هذا الفصل الذي فيه المداومة، فأين الحديث الدال على أصل القضاء؟ وأخرج الطحاويّ، واحتج به على أن ذلك كان من خصائصه صلى الله تعالى عليه وسلم، عن ذَكوان، عن أم سلمة، أنها قالت:

"قلت يا رسول الله: أنقضيهما إذا فاتتا؟ فقال: لا"، وروى التِّرمذيّ، وقال: حديث حسن، عن ابن عباس، قال: "إنما صلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الركعتين بعد العصر، لأنه أتاه مال فشغله عن الركعتين بعد الظهر، فصلاهما بعد العصر، ثم لم يعد"، وهذا شاهد لحديث أم سلمة. وروى النَّسائيّ أن معاوية سأل ابن الزبير عن ذلك، فرد الحديث إلى أم سلمة، فذكرت أم سلمة قصة الركعتين حيث شغل عنهما، فرجع الأمر إلى ما تقدم. وفي ظاهر قول ابن عباس: "ثم لم يعد" معارضة لأحاديث عائشة المذكورة في هذا الباب، فيحمل النفي على علم الراوي، فإنه لم يطلع على ذلك، والمثبت مقدم على النافي، وكذا ما رواه النَّسائيّ، عن أبي سلَمَة، عن أم سلمة: "أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، صلى في بيتها بعد العصر ركعتين مرة واحدة" الحديث. وفي رواية له عنها: "لم أره يصليهما قبل ولا بعد"، فيجمع بين الحديثين بأنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يكن يصليهما إلا في بيته، فلذلك لم يره ابن عباس، ولا أم سلمة. ويشير إلى ذلك قول عائشة في هذه الرواية: "وكان لا يُصليهما في المسجد مخافة أن يثقل على أمته". قلت: أما الجواب بالنسبة لابن عباس فواضح، وأما بالنسبة لأم سلمة فغير معقول، لأن بيت أم سلمة بيته عليه الصلاة والسلام، وكون المراد بالبيت بيت عائشة تخصيصٌ بلا مخصص، لا دلالة عليه، ومراد عائشة بقولها: "ما تركهما" وما معه من الروايات، أي من الوقت الذي شغل عن الركعتين بعد الظهر، فصلاهما بعد العصر، ولم ترو أنه كان يصلي بعد العصر ركعتين من أول ما فرضت الصلوات مثلًا إلى آخر عمره، بل في حديث أم سلمة ما يدل على أنه لم يكن يفعلها قبل الوقت الذي ذكرت أنه قضاهما. وقولها، والذي ذهب به في رواية البيهقي والإسماعيليّ أن أيمن دخل عليها، فسألها عن ركعتين بعد العصر، فقالت: والذي ذهب بنفسه، تعني النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وفي آخره زيادة: "فقال لها أيمن: إن عمر كان ينهى عنهما ويضرب عليهما، فقالت: صدقت، ولكن كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يصليهما، فذكره.

رجاله أربعة

والخبر بذلك عن عمر ثابت في رواية كريب عن أم سلمة المعلقة فى هذا الباب، الآتية في السهو في باب "إذا كلم وهو يصلي". ففي الخبر عن كريب أن ابن عباس والمِسْوَر بن مَخْرمة وعبد الرحمن بن أزهر أرسلوه إلى عائشة فقالوا: اقرأ عليها السلام منا جميعًا، وسلها عن الركعتين بعد صلاة العصر، وقل لها: إنَّا أُخبرنا أنك تصلينهما، وقد بلغنا أن النبيَّ صلى الله تعالى عليه وسلم نهى عنهما. وقال ابن عباس: وقد كنت أضرب الناس مع عمر عليهما الحديث، قد مرَّ في الحديث الذي قبل هذا سبب ضرب عمر الناس عليهما، وقوله: وكان يُحب ما يُخَفِّف عنهم، بضم أوله وتشديد الفاء مبنيًا للفاعل، ويجوز ضم الياء وفتح الفاء مشددًا مبنياً للمفعول، وللأصيلي وأَبوي ذرٍّ والوقت: "ما خفف عنهم" بصيغة الماضي. رجاله أربعة: الأول: أبو نعيم، وقد مرَّ في الخامس والأربعين من الإيمان، ومرّ عبد الواحد بن أيمن وأبوه أيمن في الثالث والخمسين من أبواب القبلة، ومرت عائشة في الثاني من بدء الوحي، فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وبالإفراد في موضع، والقول في ثلاثة، والسماع، ورواته ما بين كوفيّ ومكيّ، وأيمن من أفراد البخاريّ. أخرجه البخاريّ ومسلم والدارقطنيّ.

الحديث التاسع والستون

الحديث التاسع والستون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، قَالَتْ عَائِشَةُ: ابْنَ أُخْتِي مَا تَرَكَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- السَّجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ عِنْدِي قَطُّ. قوله: "ابن أختي"، بالنصب على النداء، وحرف النداء محذوف، وأثبته الإسماعيليّ في روايته، والكلام عليه مرّ في الذي قبله. رجاله خمسة: الأول: مسدّد، والثاني: يحيى القطّان، وقد مرّا في السادس من الإيمان، ومرَّ هشام بن عروة وأبوه عروة وعائشة في الثاني من الوحي. وهذا الحديث أخرجه النَّسائيّ.

الحديث السبعون

الحديث السبعون حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الأَسْوَدِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: رَكْعَتَانِ لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَدَعُهُمَا سِرًّا وَلاَ عَلاَنِيَةً، رَكْعَتَانِ قَبْلَ صَلاَةِ الصُّبْحِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْعَصْرِ. قوله: "يدعهما"، زاد النَّسائيّ: "في بيتي"، والكلام عليه مرَّ في الرواية الأولى. رجاله ستة: الأول: موسى بن إسماعيل المنقريّ، وقد مرّ في الخامس من بدء الوحي، ومرّ عبد الواحد بن زياد في التاسع والعشرين من الإيمان، ومرّ أبو إسحاق الشيبانيّ في السابع من الحيض، ومرّ عبد الرحمن بن الأسود في الثاني والعشرين من الوضوء ومرّ الأسود بن يزيد في السابع والستين من العلم، ومرت عائشة في الثاني من بدء الوحي.

الحديث الحادي والسبعون

الحديث الحادي والسبعون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: رَأَيْتُ الأَسْوَدَ وَمَسْرُوقًا شَهِدَا عَلَى عَائِشَةَ، قَالَتْ: مَا كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَأْتِينِي فِي يَوْمٍ بَعْدَ الْعَصْرِ إِلاَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ. مرَّ الكلامُ عليه أيضًا في الرواية الأولى. رجاله ستة: الأول: محمد بن عَرْعَرَة، وقد مرّ في الحادي والأربعين من الإيمان، ومرّ شُعْبَةُ في الثالث منه، ومرّ أبو إسحاق السّبيعيّ في الثالث والثلاثين منه، ومرّ مسروق في السابع والعشرين منه، ومرّ محل الأسود وعائشة في الذي قبله. ثم قال المصنف: باب التبكير بالصلاة في يوم غيم قال الإسماعيليّ: جعل البخاريّ الترجمة لقول بُرَيْدَة لا للحديث، وكان حق هذه الترجمة أن يورد فيها الحديث المطابق لها، ثم أورده من طريق الأوزاعيّ بلفظ: "بكِّروا بالصلاةِ في يومِ الغَيْمِ، فإن من ترك صلاة العصر حَبِط عمله" ومن عادة البخاريّ أنه يترجم ببعض ما اشتمل عليه ألفاظ الحديث، ولو لم يوردها، بل ولو لم يكن على شرطه، فلا إيراد عليه. وفي سنن سعيد بن منصور، عن عبد العزيز بن رفيع، قال: "بلغنا أن النبيَّ صلى الله تعالى عليه وسلم، قال: عجلوا صَلاةَ العصر في يوم الغيمِ". إسناده قوي مع إرساله.

الحديث الثاني والسبعون

الحديث الثاني والسبعون حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ يَحْيَى، هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ: أَنَّ أَبَا الْمَلِيحِ حَدَّثَهُ، قَالَ: كُنَّا مَعَ بُرَيْدَةَ فِي يَوْمٍ ذِي غَيْمٍ، فَقَالَ: بَكِّرُوا بِالصَّلاَةِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ تَرَكَ صَلاَةَ الْعَصْرِ حَبِطَ عَمَلُهُ". قوله: "بكروا": التبكير المبادرة إلى الصلاة في أول الوقت، وأصل التبكير فعل الشيء بُكرة، ثم استعمل في فعل الشيء في أول وقته، وقيل: المراد تعجيل العصر وجمعها مع الظهر، ورُوي ذلك عن عمر، قال: إذا كان يوم غيم فأخِّروا الظهر وعجِّلوا العصر. وقد ذكرت مباحث الحديث عند ذكره في باب "من ترك العصر" وأحيل هناك على ما لم يذكر منها. رجاله ستة: الأول: معاذ بن فضالة، مرّ في التاسع عشر من الوضوء، ومرّ هشام الدَّسْتَوائيّ في السابع والثلاثين من الإيمان، ومرَّ يحيى بن أبي كثير في الثالث والخمسين من العلم، ومرّ أبو قِلابة في التاسع من الإيمان، ومرّ أبو المَلِيح وبُريدة في الثلاثين من كتاب المواقيت هذا، وهذا الحديث بعينه قد مرّ في: "إثم من ترك العصر"، ومرّ هناك الكلام عليه. ثم قال المصنف: باب الأذان بعد ذهاب الوقت سقط لفظ: "ذهاب" من رواية المُسْتَملي، قال ابن المُنير: إنما صرح المؤلف بالحكم على خلاف عادته في المختلف فيه، لقوة الاستدلال من الخبر على الحكم المذكور.

الحديث الثالث والسبعون

الحديث الثالث والسبعون حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُصَيْنٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سِرْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- لَيْلَةً، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: لَوْ عَرَّسْتَ بِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "أَخَافُ أَنْ تَنَامُوا عَنِ الصَّلاَةِ". قَالَ بِلاَلٌ: أَنَا أُوقِظُكُمْ، فَاضْطَجَعُوا، وَأَسْنَدَ بِلاَلٌ ظَهْرَهُ إِلَى رَاحِلَتِهِ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ فَنَامَ، فَاسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَقَدْ طَلَعَ حَاجِبُ الشَّمْسِ، فَقَالَ: "يَا بِلاَلُ، أَيْنَ مَا قُلْتَ؟ ". قَالَ: مَا أُلْقِيَتْ عَلَيَّ نَوْمَةٌ مِثْلُهَا قَطُّ. قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ قَبَضَ أَرْوَاحَكُمْ حِينَ شَاءَ، وَرَدَّهَا عَلَيْكُمْ حِينَ شَاءَ، يَا بِلاَلُ، قُمْ فَأَذِّنْ بِالنَّاسِ بِالصَّلاَةِ". فَتَوَضَّأَ فَلَمَّا ارْتَفَعَتِ الشَّمْسُ وَابْيَاضَّتْ قَامَ فَصَلَّى. قوله: "سِرنا مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم" قد مرّ في باب "الصَّعيد الطَّيِّب"، من كتاب التيمم، ما جرى من الخلاف في تعيين تلك السفرة، ولأبي نعيم في "المُسْتخرج" من هذا الوجه في أوله: "كنا مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو يسير بنا" وزاد مُسلم، من طريق عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة في أول الحديث قصة له في مسيره مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وأنه صلى الله تعالى عليه وسلم نَعَس حتى مال عن راحلته، وأن أبا قتادة دعمه ثلاث مرات، وأنه في الأخيرة مال عن الطريق، فنزل في سبعة أنفس، فوضع رأسَه، ثم قال: "احفظوا علينا صلاتَنا"، ولم يذكر ما وقع عند البخاري من قول بعض القوم: لو عرست بنا، ولا قول بلال: أنا أوقظكم. ولم تعرف تسمية هذا السائل، والتعريس: نزول المسافر لغير إقامة، وأصله نزول آخر الليل، وجواب لو محذوف تقديره لكان أسهل علينا. وقوله: "أنا أوقظكم"، زاد مسلم في رواية: "فمن يوقظنا". وقوله: "فغلبته

عيناه"، في رواية السَّرخسي: "فغلبت" بغير ضمير. وقوله: "فاستيقظ النبيُّ صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد طلع حاجب الشمس"، في رواية مسلم: "فكان أول من استيقظ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والشمس في ظهره". وقوله: "يا بلال، أين ما قلت؟ "، أي: أين الوفاء بقولك: أنا أوقظكم؟. وقوله: "مثلها"، أي: مثل النومة التي وقعت له. وقوله: "إن الله قبض أرواحكم"، هو كقوله تعالى: {يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر: 42]، ولا يلزم من قبض الروح الموت، فالموت انقطاع تعلق الروح بالبدن ظاهرًا وباطنًا. والنوم انقطاعه عن ظاهره فقط. زاد مسلم: أما أنه ليس في النوم تفريط. والرُّوحُ يُذكَّر ويؤنَّث، وهو جوهر لطيف نورانيّ يكدره الغذاء والأشياء الردية الدنية، مدرك للجزئيات والكليات، حاصل في البدن، متصرف فيه، غني عن الاغتذاء، بريء من التحلل والنماء، ولهذا يبقى بعد فناء البدن، إذ ليست له حاجة إلى البدن، ومثل هذا الجوهر لا يكون من عالم العنصر، بل من عالم الملكوت. فمن شأنه أن لا يضره خلل البدن، ويلتذ بما لا يلائمه، ويتألم بما ينافيه، ودليل ذلك قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ...} [آل عمران: 169] الآية، وقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا وُضع الميت على نعشه رفرف روحه فوق نعشه، ويقول: يا ولدي ويا أهْلِي". فإن قيل: كيف يفسر الروح وقد قال تعالى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85]، أُجيب بأن معناه من الإبداعات الكائنة بـ"كن"، من غير مادة، وتولد من أصل، على أن السؤال كان عن قدمه وحدوثه، وليس فيه ما ينافي تفسيره. وقد استوفينا الكلام عليه في كتاب "متشابه الصفات". وقوله: "حين شاء"، حين في الموضعين ليست لوقت واحد، فإن نوم القوم لا يتفق غالبًا في وقت واحد، بل يتتابعون فيكون "حين" الأُولى خبرًا عن أحيان متعددة. وقوله: "قم فأَذِّن بالناس بالصلاة"، أي: بتشديد ذال أذِّن وبالموحدة فيهما. وللكشمَيهنيّ: "فأذّن" بالموحدة وحذف الموحدة من "بالناس"، وأذن

معناه: أَعْلِمْ. وقوله: "فتوضأ"، زاد أبو نعيم في "المستخرج": فتوضأ الناس، فلما ارتفعت ... ، وعند المصنف في "التوحيد": "فقضوا حوائجهم، فتوضأوا إلى أن طلعت الشمس"، وهو أبين سياقًا ونحوه لأبي داود. ويستفاد منه أن تأخير الصلاة إلى أن طلعت الشمس وارتفعت، كان بسبب الشغل بقضاء حوائجهم، لا لخروج وقت الكراهة، وقيل غير ذلك، لما مرّ في باب الصعيد الطيب. وقوله: "وابياضّت" وزنه افْعَالّ، بتشديد اللام، مثل: احْمارّ وابْهارّ، أي: صفت. وقيل: إنما يقال ذلك في كل لون بين لونين فأما الخالص من البياض مثلًا، فإنما يقال له أبيض. وقوله: "فصلى"، زاد أبو داود "بالناس". وفيه من الفوائد غير ما تقدم، جواز التماس الأتباع ما يتعلق بمصالحهم الدنيوية، والاحتراز عما يحتمل فوات العبادة عن وقتها بسببه، وجواز التزام الخادم القيام بمراقبة ذلك، والاكتفاء في الأمور المهمة بالواحد، وقبول العذر ممن اعتذر بأمر سائغ، وتسويغ المطالبة بالوفاء بالالتزام. وتوجهت المطالبة على بلال بذلك، تنبيهًا له على اجتناب الدعوى، والثقة بالنفس وحسن الظن بها، لاسيما في مظانّ الغلبة، وسلب الاختيار، وإنما بادر بلال إلى قوله: "أنا أوقظكم"، اتباعًا لعادته في الاستيقاظ في مثل ذلك الوقت، لأجل الأذان. وفيه خروج الإِمام بنفسه في الغزوات والسرايا، وفيه الرد على منكري القدر، وأنه لا واقع في الكون إلا بقدر. واستدل به بعض المالكية على عدم قضاء السنة الراتبة؛ لأنه لم يذكر فيه أنهم صلوا ركعتي الفجر، ولا دلالة فيه، لأنه لا يلزم من عدم الذكر عدم الوقوع، لاسيما وقد ثبت أنه ركعهما في حديث أبي قتادة هذا عند مسلم، ويأتي في باب مفرد لذلك في أبواب التطوع. قلت: مذهب مالك أن سنة الفجر خصوصًا من دون الرواتب كلها تقضى إلى الزوال، وبهذا قال محمد بن الحسن. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يقضيهما إذا فاتت وحدها وإذا فاتت مع الفرض قضاهما. واستدل به المهلب على أن الصلاة الوسطى هي الصبح. قال: لأنه عليه الصلاة والسلام لم يأمر

رجاله خمسة

أحدًا بمراقبة صلاة غيرها. قال: ويدل على أنها هي المأمور بالمحافظة عليها، أنه عليه الصلاة والسلام لم تفته صلاة غيرها لغير عذر شغله عنها. وهذا كلام متدافع، فأي عذر فوق النوم؟ وقد ورد في غزوة الأحزاب: "شغلونا عن صلاة الوسطى، حتى كادت الشمس تغرب". واستدل به على قبول خبر الواحد. قال ابن بُزَيزة: وليس بقاطع فيه، لاحتمال أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يرجع إلى قول بلال بمجرده، بل حتى ينظر إلى الفجر لو استيقظ مثلًا. وقد مرت بقية فوائده مستوفاة في باب "الصعيد الطيب" من كتاب التيمم، عند ذكر حديث عِمران بن حصين. رجاله خمسة، وفيه ذكر بلال. الأول: عِمران بن مَيْسَرة، وقد مرّ في الثاني والعشرين من العلم، ومرّ محمد بن فُضَيل في الحادي والثلاثين من الإيمان. الثالث: حُصَيْن بن عبد الرحمن السَّلمي، أبو الهُذَيل الكُوفيّ، ابن عم منصور بن المعتمر. قال أحمد: حصين بن عبد الرحمن الثقة المأمون من كبار أصحاب الحديث. وقال ابن مَعين: ثقة. وقال العجلى: ثقة ثبت في الحديث، والواسطيون أروى الناس عنه. وسُئِل أبو زرعة عنه فقال: ثقة، قيل له: يحتج بحديثه؟ قال: إي والله. وقال أبو حاتم: صدوق في الحديث ثقة. وفي آخر عمره ساء حفظه. وقال عبد الرحمن: هُشَيم عن حُصين: أحب إليّ من سفيان، وهُشيم أعلم الناس بحديث حُصَين. وقال علي بن عاصم: قدمت الكوفة يوم مات منصور بن المُعْتَمِر، فاشتد عليّ، فلقيت حُصَين بن عبد الرحمن وأنا لا أعرفه. فقال: أدلك على من يعرف يوم أهديت أم منصور إلى أبيه؟ قلت: من هو؟ قال: أنا. وقال علي بن عاصم: أتانا قتل الحسين، فمكثنا ثلاثًا كأنَّ وجوهنا طُلِيَتْ رمادًا. قلت: مثل من أنت يومئذ؟ قال: رجلٌ مُناهد، أي: مراهق. وقال يزيد بن هارون: اختلط. وأنكر ابن المَدينيّ أنه اختلط وتغير. وقال ابن عديّ: له أحاديث، وأرجو أنه لا بأس به. قال ابن حجر: أخرج له البخاريّ من حديث

لطائف إسناده

شعبة، والثّوريّ، وزائدة، وأبي عَوانة، وأبي بكر بن عياش، وأبي كُدينة، وحُصين بن نُمَير، وهُشيم، وخالد الواسِطيّ، وسُليمان بن كثير العَبديّ، وأبي زُبيد عَبْثر بن القاسم، وعبد العزيز العمّي، وعبد العزيز بن مسلم، ومحمد بن فُضيل، عنه. فأما شُعبةُ والثَّوريّ وزائدة وهُشيم وخالد، فسمعوا منه قبل تغيُّره، وأما حُصَين بن نُمير فلم يخرّج له البخاريّ من حديثه عنه سوى حديث واحد، وأما محمد بن فضيل ومن ذكر معه، فأخرج من حديثهم ما توبعوا عليه. روى عن جابر بن سَمُرة وزيد بن وهب وعمرو بن ميمون والشَّعبيّ وهِلال بن يَساف، وقيل: إنه روى عن ستة من الصحابة. وروى عنه شعبة والثَّوريّ وزائدة وهُشيم وأبو عَوانة وغيرهم. مات سنة ست وثلاثين ومئة، وفي الستة حُصين بن عبد الرحمن سواه واحد، روى عنه أبو داود والنَّسائيّ. الرابع: عبد الله بن أبي قَتادة، وقد مرّ هو وأبوه أبو قَتادة في التاسع عشر من الوضوء. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، والقول في ثلاثة، والعنعنة في موضعين، ورواته ما بين مدنيّ وكوفيّ. وفيه رواية الابن عن الأب، وشيخ البُخاري من أفراده. أخرجه البخاري هنا وفي التوحيد، وأبو داود والنَّسائيّ في الصلاة. ثم قال المصنف: باب من صلى بالناس جماعة بعد ذهاب الوقت قال ابن المنير: إنما قال البُخاري: "بعد ذهاب الوقت"، ولم يقل مثلًا: لمن صلى صلاةً فائتة، للإشعار بأن إيقاعها كان قرب خروج وقتها، لا كالفوائت التي جهل يومها أو شهرها.

الحديث الرابع والسبعون

الحديث الرابع والسبعون حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ جَاءَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ بَعْدَمَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَجَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا كِدْتُ أُصَلِّي الْعَصْرَ حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ تَغْرُبُ. قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "وَاللَّهِ مَا صَلَّيْتُهَا". فَقُمْنَا إِلَى بُطْحَانَ فَتَوَضَّأَ لِلصَّلاَةِ، وَتَوَضَّأْنَا لَهَا، فَصَلَّى الْعَصْرَ بَعْدَمَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى بَعْدَهَا الْمَغْرِبَ. قوله: "إن عمر بن الخطاب"، اتفق الرواة على أن هذا الحديث من مسند جابر إلا حجاج بن نصر، فإنه جعله من مسند عمر، تفرد بذلك، وهو ضعيف. وقوله: "يوم الخندق"، أي: يوم حَفْره، وهو لفظ أعجميّ تكلمت به العرب. وقوله: "بعدما غربت الشمس"، وفي رواية شيبان عند المصنف: "وذلك بعدما أفطر الصائم"، والمعنى واحد. وقوله: "يسب كفار قريش"، أي: لأنهم كانوا السبب في تأخيرهم الصلاة عن وقتها، إما المختار كما وقع لعمر، وإما مطلقًا كما وقع لغيره. وقوله: "ما كدت أصلي العصر"، لفظة "كاد" من أفعال المقاربة، فإذا قلت: كاد زيد يقوم، فهم منها أنه قارب القيام ولم يقم، والراجح فيها أن لا تقترن بأن، بخلاف عسى، فإن الراجح فيها أن تقترن بها، ووقع في مسلم في هذا الحديث: "حتى كادت الشمس أن تغرب". وفي البخاري في باب "غزوة تبوك" أيضًا، وهو من تصرف الرواة، وهل تسوغ الرواية بالمعنى في مثل هذا أو لا؟ الظاهر الجواز؛ لأن المقصود الإخبار عن صلاة العصر، كيف وقعت لا الإخبار عن عمر؟ هل تكلم بالراجحة أو المرجوحة؟ وإذا تقرر أن معنى كاد المقاربة، فقول عمر: ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب، قيل:

معناه أنه صلى العصر قرب غروب الشمس؛ لأن نفي الصلاة يقتضي إثباتها، وإثبات الغروب يقتضي نفيه، فيحصل من ذلك لعمر ثبوت الصلاة، ولم يثبت الغروب. قاله اليعمريّ، وهو مبنيّ على مرجوح من أن كاد إذا دخل عليها حرف النفي كانت للإثبات، وإذا جردت من النفي كانت للنفي. والراجح أنها كسائر الأفعال، معناها الإثبات عند تجردها من النفي، ومعناها النفي عند دخول النفي عليها، وعلى هذا فعمر لم يصل، لأن كاد هنا دخل عليها النفي، فصار معناها نفيًا، يعني نفي قرب الصلاة، كما في قولك: ما كاد زيد يفعل، نفي قرب الفعل، وإذا نفي قرب الصلاة فنفي الصلاة بطريق الأَوْلى، وعلى أن عمر، رضي الله تعالى عنه، كان صلى. يقال فيه إن عمر كان مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فكيف اختص بأن أدرك صلاة العصر قبل غروب الشمس دون بقية الصحابة والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم؟ فالجواب أنه يحتمل أن يكون الشغل وقع بالمشركين إلى قرب غروب الشمس، وكان عمر حينئذ متوضئًا، فبادر بالصلاة، ثم جاء إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فأعلمه بذلك في الحال التي كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فيها قد شرع يتهيأ للصلاة، ولهذا قام عند الإخبار هو وأصحابه إلى الوضوء. وقد اختلف في سبب تأخير النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الصلاة ذلك اليوم، فقيل: كان ذلك نسيانًا، واستبعد أن يقع ذلك من الجميع، ويمكن أن يستدل له بما رواه أحمد عن أبي جمعة، "أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم صلى المغرب يوم الأحزاب، فلما سلم قال: "هل علم رجل منكم أني صليت العصر؟ " قالوا: لا يا رسول الله، فصلى العصر، ثم صلى المغرب". وفي صحة هذا الحديث نظر؛ لأنه مخالف لما في الصحيحين من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم لعمر: "والله ما صليتها". وقيل: كان عمدًا، لكونهم شغلوه فلم يمكنوه من ذلك، وهو أقرب، لاسيما وقد وقع عند أحمد والنسائي عن أبي سعيد أن ذلك كان قبل أن يُنزل الله في صلاة الخوف: {فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا}.

وقوله: "إلى بُطحان"، بضم أوله وسكون ثانيه، واد بالمدينة، وقيل: هو بفتح أوله وكسر ثانيه. وقوله: فصلى العصر، وفي "الموطأ" من طريق أخرى أن الذي فاتهم الظهر والعصر. وفي حديث أبي سعيد المارّ قريبًا: الظهر والعصر والمغرب، وأنهم صلوا بعد هوي من الليل. وفي حديث ابن مسعود عند الترمذيّ والنسائيّ: "أنَّ المشركين شغلوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن أربع صلوات يوم الخندق، حتى ذهب من الليل ما شاء الله"، وفي قوله: "أربع، تجوز لأن العشاء لم تكن فاتت، ورجح ابن العربى ما في الصحيحين، وقال: إن الصحيح أن الصلاة التي شغل عنها واحدة، وهي العصر، ويؤيده حديث مسلم عن علي: "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر". ومنهم من جمع بأن الخندق كانت وقعته أيامًا، فكان ذلك في أوقات مختلفة في تلك الأيام، وهذا أولى. ويؤيده أن روايتَيْ أبي سعيد وابن مسعود ليس فيهما تعرض لقصة عمر، بل فيهما أن قضاءه للصلاة وقع بعد خروج وقت المغرب. وأما رواية حديث الباب، ففيها أن ذلك كان عقب غروب الشمس. ودلالة الحديث على صلاة الجماعة، إما أنه يحتمل أن في السياق اختصارًا من الراوي، ويدل عليه ما في رواية الإسماعيليّ بلفظ: "فصَلَّى بنا العَصْرَ"، وإمَّا أنه من إجراء الراوي الفائتة، التي هي العصر، والحاضرة التي هي المغرب، مجرى واحدًا، ولا شك أن المغرب كانت بالجماعة، كما هو معلوم من عادته، وبالاحتمال الأول جزم ابن المنير، قال: مقصود الترجمة مستفاد من قوله: "فقام وقمنا، وتوضأ وتوضأنا"، وهو الواقع في نفس الأمر. وفي الحديث من الفوائد ترتيب الفوائت، والأكثر على وجوبه مع الذكر لا مع النسيان. وقال الشافعيّ: لا يجب الترتيب. وقال بعضهم: إن الحديث غير دال على وجوبه، إلا إذا قلنا إن أفعاله عليه الصلاة والسلام المجردة للوجوب. نعم لهم أن يستدلوا بعموم قوله عليه الصلاة والسلام: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، واختلفوا فيما إذا تذكر فائتة في وقت حاضرة ضيق، هل يبدأ بالفائتة، وان خرج وقت الحاضرة؟ أو يبدأ بالحاضرة أو يتخيّر؟ أقوال. وبالأول قال مالك

وأبو حنيفة وأصحابه وأحمد وإسحاق، لكن مشهور مذهب مالك سقوط ترتيب بالنسيان. وعند الحنفية: لا يسقط بالنسيان ولا بكثرة الفوائت. وبالثاني قال الشافعيّ وأصحاب الرأي وأبو ثور وابن القاسم، وهو مذهب الظاهرية. وبالثالث قال أشهب. وقال عِياض: محل الخلاف إذا لم تكثر الصلوات، أما إذا كثرت فلا خلاف أنه يبدأ بالحاضرة، وهذا خلاف في حد القليل، فقيل: صلاة يوم. وقيل: أربع صلوات. ولو تذكر اليسير في أثناء الحاضرة قطع الفذ، وشفع ندبًا إن ركع. وإمام ومأمومه، وتمادى المأموم إن تذكر، وأعاد الصلاة الحاضرة بعد أن يصلي الفائت ندبًا إن كانت الفائتة غير مشركة مع الثانية كالظهر والعصر، وإلا أعاد الثانية وجوبًا أبدًا. وعند أحمد: لو تذكر الفائتة في الوقتين أتمّها، ثم يصلي الفائتة، ثم يعيد الوقتية، وظاهره من غير تفصيل. وفيه جواز الحلف من غير استحلاف إذا ثبت في ذلك مصلحة دينية. قال النوويّ: هو مستحب إذا كان فيه مصلحة من توكيد أمر، أو زيادة طمأنينة، أو نفي توهم نسيان، أو غير ذلك من المقاصد الحسنة، وإنما حلف صلى الله تعالى عليه وسلم تطييبًا لقلب عمر لما شق عليه تأخيرها. وفيه ما كان عليه صلى الله تعالى عليه وسلم من مكارم الأخلاق، وحسن التأني مع أصحابه، وتألفهم، وما ينبغي الاقتداء به في ذلك، وفيه دليل على عدم كراهية قول ما صليت. وروى البخاري عن ابن سيرين أنه كره أن يقال: فاتتنا، وليقل: لم ندرك. قال البخاريّ: وقول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أصحّ، واستدل به بعضهم على أن وقت المغرب متسع؛ لأنه قدم العصر عليها، فلو كان ضيقًا لبدأ بالمغرب، ولاسيما على قول الشافعي في قوله بتقديم الحاضرة، وهو قائل بأن وقت المغرب ضيق، فيحتاج إلى الجواب عن هذا الحديث، وهذا في حديث جابر. وأما حديث أبي سعيد، فلا يتأتى فيه هذا، لما تقدم أن فيه أنه عليه الصلاة والسلام صلى بعد مضي هَوي من الليل، وقد مرّ عند حديث عِمران بن حصين في باب "الصعيد الطيب"، من كتاب التيمم الكلام على الأذان للفائتة، وعلى صلاتها جماعة، وعلى غير ذلك مما لم يذكر هنا.

رجاله ستة

رجاله ستة: الأول: معاذ بن فَضالة، وقد مرّ في التاسع عشر من الوضوء. الثاني: هشام الدَّستوائيّ، وقد مرّ في السابع والثلاثين من الإيمان، ومرّ يحيى بن أبي كثير في الثالث والخمسين من العلم، ومرّ أبو سَلَمة وجابر بن عبد الله في الرابع من الوحي، ومرّ عمر في الأول منه. فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في ثلاثة، والقول في موضع، ورواته ما بين مدنيّ وبصريّ، وشيخ البخاريّ من أفراده. أخرجه البخاريّ هنا وفي صلاة الخوف والمغازي، ومُسلم والتِّرمذيّ والنِّسائيّ في الصلاة. ثم قال المصنف: باب من نسي صلاة فليصل إذا ذكر ولا يعيد إلا تلك الصلاة قال عليّ بن المنير: صرّح البخاريّ بإثبات هذا الحكم مع كونه مما اختلف فيه لقوة دليله، ولكونه على وفق القياس، إذ الواجب خمس صلوات لا أكثر، فمن قضى الفائتة كمل العدد المأمور به، ولكونه ظاهر الخطاب لقول الشارح، فليصلها، ولم يذكر زيادة. وقال أيضًا: لا كفارة لها إلا ذلك، فاستفيد من هذا الحصر أن لا يجب غير إعادتها. وذهب مالك، فيما مرّ عنه في الحديث السابق، إلى أن من ذكر بعد أن صلى صلاة أنه لم يصل التي قبلها، فإنه يصلي التي ذكر، ثم يصلي التي كان صلاّها مراعاة للترتيب. ويحتمل أن يكون البخاريّ أشار بقوله: ولا يعيد إلا تلك الصلاة، إلى تضعيف ما وقع في بعض طرق حديث أبي قتادة عند مسلم في قصة النوم عن الصلاة، حيث قال: فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها، فإن بعضهم زعم أن ظاهره إعادة المقضية مرتين: عند ذكرها، وعند حضور مثلها من الوقت الآتي. ولكن اللفظ المذكور ليس نصًا في ذلك؛ لأنه يحتمل أن يريد بقوله: "فليصلها عند وقتها"، أي: الصلاة التي تحضر؛ لأنه يريد أَن يعيد التي صلاها بعد خروج وقتها، لكن في رواية أبي

داود من حديث عمران بن حصين في قصة النوم: "من أدرك منكم صلاة الغداة من غد صالحًا، فليقض معها مثلها". قال الخطابيّ: لا أعلم أحدًا قال بظاهره وجوبًا. ويشبه أن يكون الأمر فيه للاستحباب، ليحوز فضيلة الوقت في القضاء، ولم يقل أحد من السلف باستحباب ذلك أيضًا، بل عدوا الحديث غلطًا من راويه، وحكى. ذلك التِّرمذيّ وغيره عن البُخاريّ، ويؤيد ذلك ما رواه النّسائيّ من حديث عِمران بن حصين أيضًا "قالوا: يا رسول الله، ألا نقضيها لوقتها من الغد؟ فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: لا ينهاكم الله عن الربا ويأخذه منكم". ثم قال: وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: مَنْ تَرَكَ صَلاَةً وَاحِدَةً عِشْرِينَ سَنَةً لَمْ يُعِدْ إِلاَّ تِلْكَ الصَّلاَةَ الْوَاحِدَةَ. مطابقة هذا الأثر للترجمة ظاهرة؛ لأن قوله: "من نسي صلاة فليصلِّ إذا ذكر"، أعم من أن يكون ذكره إياها بعد النسيان بعد سنة أو شهر أو أكثر من ذلك، وقيده بعشرين سنة للمبالغة، والمقصود أنه لا يجب عليه إلا إعادة الصلاة التي نسيها خاصة، في أي وقت ذكرها. وهذا التعليق وصله الثَّوريُّ في جامعه، وإبراهيم النَّخعيّ مرّ في الخامس والعشرين من الإيمان.

الحديث الخامس والسبعون

الحديث الخامس والسبعون حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ وَمُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالاَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ نَسِىَ صَلاَةً، فَلْيُصَلِّ إِذَا ذَكَرَهَا، لاَ كَفَّارَةَ لَهَا إِلاَّ ذَاكَ. وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي". قَالَ مُوسَى: قَالَ هَمَّامٌ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ بَعْدُ: وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي. قوله: "من نسي صلاة فليصلِّ"، وقع في جميع الروايات بحذف المفعول، ورواه مسلم بلفظ: "فليُصلِّها"، وهو أبين للمراد، وزاد مسلم في رواية: "أو نام عنها" وقد تمسك بدليل الخِطاب منه القائل: إن العامد لا يقضي الصلاة؛ لأن انتفاء الشرط يستلزم انتفاء المشروط، فيلزم منه أن مَن لم ينس لا يصلي، وقال: من قال: يقضي العامد، بأن ذلك مستفاد من مفهوم الخطاب، فيكون من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى؛ لأنه إذا أوجب القضاء على الناسي مع سقوط الإثم، ورفع الحرج عنه، فالعامد أولى. وادّعى بعضهم أن وجوب القضاء على العامد يؤخذ من قوله: "نسي" لأن النسيان يطلق على الترك سواء كان عن ذهول أم لا، ومنه قوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ}، {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ}، ويقول ذلك قوله: "لا كَفَّارَةَ لها"، والنائم والناسي لا إثم عليهما، ويرد هذا البحثَ أن الخبر بذكر النائم ثابتٌ، وقد قال فيه لا كفارة لها، والكفارة قد تكون عن الخطأ، كما تكون عن العمد في قتل الخطأ، والقائل بأن العامد لا يقضي لم يرد أنه أخف حالًا من الناسي، بل يقول إنه لو شرع القضاء لكان هو والناسي سواء، والناسي غير مأثوم بخلاف العامد، فالعامد أسوأ حالًا من الناسي، فكيف يستويان؟ ويمكن أن يقال: إن إثم العامد بإخراجه الصلاة عن وقتها باق عليه ولو

قضاها، بخلاف الناسي، فإنه لا إثم عليه مطلقًا، أو يقال: إن القائل بعدم وجوب القضاء على العامد، وهو داود، ويروى عن عمر وابنه وسعد بن أبي وقاص وابن مسعود وسلمان رضي الله تعالى عنهم، والقاسم بن محمد وابن سيرين وعمر بن عبد العزيز جعل إثمه أشد من الكفارة، كما قال مالك في يمين الغَموس، فإنه لا يكفر عنده، لعظم إثمه، ويمكن أن يجاب عن الحديث بأن القيد بالنسيان فيه لخروجه على الغالب، أو لأنه ورد على سبب خاص، مثل أن يكون ثمة سائل عن حكم قضاء الصلاة المنسية، وشرط اعتبار مفهوم المخالفة عدم الخروج على الغالب، وعدم وروده على السبب الخاص. وقد يقال: وجوب القضاء على العامد بالخطاب الأول؛ لأنه قد خوطب بالصلاة، وترتبت في ذمته، فصارت دينًا عليه، والدَّين لا يسقط إلا بأدائه، فيأثم بإخراجه لها عن الوقت المحدود لها، ويسقط عنه الطلب بأدائها، فمن أفطر في رمضان عامدًا فإنه يجب عليه أن يقضيه مع بقاء إثم الإفطار عليه. وفي الحديث دلالة على أن أحدًا لا يصلي عن أحد. قال العينيّ: وهو حجة على الشافعيّ، وفيه أيضًا أن الصلاة لا تجبر بالمال كما يجبر الصوم وغيره، اللهم إلا إذا كانت صلوات فائتة فحضره الموت، فأوصى بالفدية عنها، فإنه يجوز. قاله العينيّ. قلت: لعل هذا جائز في مذهبه لا في مذهبنا. وقوله: قال موسى، قال همام: سمعته يقول بعدُ للذكرى، أي: قال هذا موسى أحد الشيخين المذكورين دون أبي نعيم، وبعدُ بالضم، أي: في وقت آخر، والحاصل أن همامًا سمعه من قتادة مرة بلفظ للذكرى، بلامين وفتح الراء بعدها ألف مقصورة، وعند مسلم أن الزهري كان يقرؤها كذلك، ومرة كان يقولها قتادة بلفظ لذكري بلام واحدة وكسر الراء، وهي القراءة المشهورة. واختلف في ذكر هذه الآية، هل هو من كلام قتادة، أو من كلام النبي صلى الله تعالى عليه وسلم؟ وفي رواية لمسلم قال قتادة: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}، وفي رواية أخرى له عن قتادة، قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: "إذا

رجاله خمسة

رَقدَ أحدكم عن الصلاة، أو غَفَل عنها، فليصلها إذا ذكرها، فإن الله يقول: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}، وهذا ظاهر في أن الجميع من كلامه عليه الصلاة والسلام، واستدل به على أن شرع من قبلنا شرعٌ لنا؛ لأن المخاطب بالأية المذكورة موسى عليه الصلاة والسلام، وهو الصحيح في الأصول ما لم يرد ناسخ. واختلف في المراد بقوله: {لِذِكْرِي}، فقيل: المعنى لتذكرني فيها، وقيل: لأذكرك بالمدح، وقيل: إذا ذكرتها لتذكيري لك إياها، وهذا يعضد قراءة من قرأ للذكرى. وقال النخعيّ: اللام للظرف، أي: إذا ذكرتني، أي: إذا ذكرت أمري بعدما نسيت. وقيل: لا تذكر فيها غيري، وقيل: شكرًا لذكري، وقيل: ذكري ذكرُ أمري. وقيل: المعنى إذا ذكرت الصلاة فقد ذكرتني؛ لأن الصلاة عبادة الله تعالى، فمتى ذكرها ذكر المعبود، فكأنه أراد لذكر الصلاة. وقال التوربشتيّ: الأولين أن يقصد إلى وجه يوافق الآية والحديث، وكأنَّ المعنى: (أقم الصلاة لذكرها)؛ لأنه إذا ذكرها ذكر الله تعالى، أو يقدر مضاف، أي: لذكر صلاتي، أو ذكر الضمير فيه موضع الصلاة لشرفها. رجاله خمسة: الأول: أبو نعيم، وقد مرّ في الخامس والأربعين من الإيمان، ومرّ موسى بن إسماعيل في الخامس من الوحي، ومرّ همام في الثالث والثمانين من الوضوء ومرّ قتادة وأنس في السادس من الإيمان. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والقول في موضعين، والعنعنة في ثلاثة، ورواه البُخاريّ عن شيخين أحدهما كوفيّ وهو أبو نعيم، والبقية من الرواة بصريُّون أخرجه البخاريّ هنا، ومسلم وأبو داود في الصلاة. ثم قال: وقال حِبّان: حدثنا همام، حدثنا قتادة، حدثنا أنس، عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- نحوه. زاد بهذا التعليق بيان سماع قَتادة له من أنس، لتصريحه فيه

رجاله أربعة

بالتحديث، وفيه أن همَّامًا سمعه من قَتادة مرتين، وهذا التعليق وصله أبو عَوَانة في صحيحه. رجاله أربعة: الأول: حِبَّان، وقد مرّ في الحادي والخمسين من هذا الكتاب، ومرّ همَّام في الثالث والثمانين، ومرّ قتادة وأنس في السادس من الإيمان. ثم قال المصنف: باب قضاء الصلاة الأولى فالأُولى وللكشميهنيّ: الصَّلوات الأولى فالأُولى، وهذه الترجمة عبر عنها بعضهم بقوله: باب ترتيب الفوائت، وقد مرّ ما قيل فيه قبل هذا الباب بباب.

الحديث السادس والسبعون

الحديث السادس والسبعون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: جَعَلَ عُمَرُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ يَسُبُّ كُفَّارَهُمْ، وَقَالَ: مَا كِدْتُ أُصَلِّي الْعَصْرَ حَتَّى غَرَبَتْ. قَالَ: فَنَزَلْنَا بُطْحَانَ، فَصَلَّى بَعْدَمَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ. هذا الحديث أورده هنا مختصرًا، وقد مرّ مطولًا قريبًا في باب "من صلى بالناس جماعة"، واستوى الكلام عليه هناك. رجاله ستة: الأول: مُسدّد، وقد مرّ في السادس من الإيمان، ومرّ هِشام الدَّسْتَوائيّ في السابع والثلاثين منه، ومرّ يحيى بن أبي كثير في الثالث والخمسين، ومرّ أبو سَلَمة وجابر في الرابع من الوحي، ومرّ عمر في الأول منه، وهذا الحديث مرّ الكلام عليه في الذي قبله بحديث. ثم قال المصنف: باب ما يكره من السمر بعد العشاء أي: بعد صلاتها. قال عِيَاض: السَّمَر بفتح الميم. وقال أبو مَروان بن سِرَاج: الصواب سكونها؛ لأنه اسم الفعل، وأما بالفتح فهو اعتماد السمر للمحادثة، وأصله من لون ضوء القمر؛ لأنهم كانوا يتحدثون فيه، والمراد بالسمر في الترجمة ما يكون في أمر مباحٍ؛ لأن المحرم لا اختصاص لكراهته بما بعد صلاة العشاء، بل هو حرام في الأوقات كلها، وقد مرّ الكلام على السمر بأزيد

من هذا في باب "السمر في العلم" من كتاب العلم. وقوله: "السامر من السمر"، الخ، هكذا وقع في رواية أبي ذرٍّ وحده، واستشكل ذلك لأنه لم يتقدم للسامر ذكر في الترجمة، والذي يظهر أن المصنف أراد تفسير قوله تعالى: {سَامِرًا تَهْجُرُونَ} وهو المشار إليه بقوله هاهنا، أي: في الآية. والحاصل أنه لما كان الحديث بعد العشاء يسمى السمر، والسمر والسامر مشتقان من السمر، وهو يطلق على الجمع والواحد، ظهر وجه مناسبة ذكر هذه اللفظة هنا. وقد أكثر البخاريّ من هذه الطريقة إذا وقع في الحديث لفظة توافق لفظة في القرآن، يستغنى بتفسير تلك اللفظة من القرآن، وقد استُقري للبُخاريّ أنه إذا مرّ له لفظ من القرآن أن يتكلم على غريبه.

الحديث السابع والسبعون

الحديث السابع والسبعون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَوْفٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْمِنْهَالِ، قَالَ: انْطَلَقْتُ مَعَ أَبِي إِلَى أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ، فَقَالَ لَهُ أَبِي: حَدِّثْنَا كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ قَالَ: كَانَ يُصَلِّي الْهَجِيرَ، وَهْيَ الَّتِى تَدْعُونَهَا الأُولَى، حِينَ تَدْحَضُ الشَّمْسُ، وَيُصَلِّي الْعَصْرَ، ثُمَّ يَرْجِعُ أَحَدُنَا إِلَى أَهْلِهِ فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ، وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ، وَنَسِيتُ مَا قَالَ فِي الْمَغْرِبِ. وَكَانَ يَسْتَحِبُّ أَنْ يُؤَخِّرَ الْعِشَاءَ. قَالَ: وَكَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا، وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا، وَكَانَ يَنْفَتِلُ مِنْ صَلاَةِ الْغَدَاةِ حِينَ يَعْرِفُ أَحَدُنَا جَلِيسَهُ، وَيَقْرَأُ مِنَ السِّتِّينَ إِلَى الْمِائَةِ. وهذا الحديث قد مرّ في باب "وقت العصر"، ومرّ الكلام عليه هناك، وموضع الحاجة منه هنا قوله: "وكان يكره النوم قبلها، والحديث بعدها"، وقد مرّ هناك استيفاء الكلام على النوم قبلها، والحديث بعدها. رجاله ستة: الأول: مسدّد، والثاني: يحيى القطان، وقد مرّا في السادس من الإيمان، ومرّ عَوْف بن أبي جَميلة في الأربعين من الإيمان، ومرّ أبو المنهال وأبو بَرْزَة في الثامن عشر من كتاب المواقيت، وقد مرّ هذا الحديث في باب "وقت الظهر عند الزوال". ثم قال المصنف: باب السمر في الفقه والخير بعد العشاء قال عليّ بن المُنير: الفقه يدخل في عموم الخير، لكنه خصّه بالذكر تنويهًا

بذكره، وتنبيهًا على قدره. وقد مرّ لك الآن أن الكلام على السمر مرّ في باب "السمر في العلم"، ومرّ هناك حديث عُمر أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم "كان يسمر هو وأبو بكر في الأمر من أمور المسلمين وأنا معهما. أخرجه الترمذيّ، ومرّ ما فيه هناك.

الحديث الثامن والسبعون

الحديث الثامن والسبعون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الصَّبَّاحِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحَنَفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: انْتَظَرْنَا الْحَسَنَ وَرَاثَ عَلَيْنَا حَتَّى قَرُبْنَا مِنْ وَقْتِ قِيَامِهِ، فَجَاءَ فَقَالَ: دَعَانَا جِيرَانُنَا هَؤُلاَءِ. ثُمَّ قَالَ: قَالَ أَنَسٌ: نَظَرْنَا النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ لَيْلَةٍ حَتَّى كَانَ شَطْرُ اللَّيْلِ يَبْلُغُهُ، فَجَاءَ فَصَلَّى لَنَا، ثُمَّ خَطَبَنَا، فَقَالَ: "أَلاَ إِنَّ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا، ثُمَّ رَقَدُوا، وَإِنَّكُمْ لَمْ تَزَالُوا فِي صَلاَةٍ مَا انْتَظَرْتُمُ الصَّلاَةَ". قَالَ الْحَسَنُ: وَإِنَّ الْقَوْمَ لاَ يَزَالُونَ بِخَيْرٍ مَا انْتَظَرُوا الْخَيْرَ. قَالَ قُرَّةُ: هُوَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-. قوله: "وراث علينا"، الواو للحال، وراث، بمثلثة غير مهموز، أي: أبطأ علينا، وقوله: "من وقت قيامه"، أي: الذي جرت عادته بالقعود معهم فيه كل ليلة في المسجد، لأخذ العلم عنه. وقوله: "ثم قال"، أي: الحسن. وقوله: "قال أنس: نظرنا"، في رواية الكُشمَيهنيّ: "انتظرنا" وهما بمعنى. وقوله: "حتى كان شطرُ الليل" برفع شطر، وكان تامة. وقوله: "يبلغه"، أي: يقرب منه. وقوله: "ثم خطبنا"، هو موضع الترجمة، لما قررناه من أن المراد بقوله: "بعدها"، أي: بعد صلاتها، وأورد الحسن ذلك لأصحابه مؤنسًا لهم، ومعرفًا أنهم، وإن كانوا فاتهم الأجر على ما يتعلمونه منه في تلك الليلة على ظنهم، فلم يفتهم الأجر مطلقًا؛ لأن منتظر الخير في خير، فيحصل لهم الأجر بذلك. والمراد أنه يحصل لهم الخير من ذلك في الجملة، لا من جميع الجهات، وبهذا يجاب عمن استَشكَل قوله: "إنهم في صلاة"، مع أنهم جائز لهم الأكل والشرب، والحديث، وغير ذلك. واستدل الحسن على ذلك بفعل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فإنه آنس أصحابه بمثل ذلك، ولهذا قال الحسن بعد:

رجاله خمسة

"وإن القوم لا يزالون بخير ما انتظروا الخير". وقوله: "قال قُرة"، هو من حديث أنس، يعني: الكلام الأخير على ما يظهر؛ لأن الكلام الأول ظاهر كونه من النبي عليه الصلاة والسلام، والأخير هو الذي لم يصرح الحسن برفعه ولا بوصله، فأراد قُرَّة الذي اطلع على كونه في نفس الأمر موصولًا مرفوعًا أن يعلم من رواه عنه ذلك. رجاله خمسة: الأول: عبد الله بن صَبَّاح الهاشِميّ العَطّار المِرْبدي البَصريّ، مولى بني هاشم. قال أبو حاتم: صالح. وقال النِّسائيّ: ثقة، ذكره ابن حَبّان في "الثقات" وفي "الزهرة". روى عنه البخاريّ ستة، ومسلم ثلاثة. روى عن مُعتمر بن سليمان ومحبوب بن الحسن وأبي علي الحَنَفيّ ويزيد بن هارون وغيرهم. وروى عنه الجماعة سوى ابن ماجه وأبو زُرعة وأبو حاتم وابن خُزيمة وغيرهم. مات سنة خمسين ومئتين، وليس في الستة عبد الله بن صباح سواه. والمِرْبَدي في نسبه نسبة إلى مِرْبَد، كمنبر، موضع بالبصرة يسمى بذلك؛ لأنه كان تحبس فيه الإبل. الثاني: عُبيد الله بن عبد المجيد أبو علي الحَنَفيّ البصري. قال ابن مَعين وأبو حاتم: ليس به بأس. وذكره ابن حِبّان في "الثقات"، ووثقه العِجليّ والدارَقطنيّ، وابن قانع، وضَعَّفه العُقيلي وروى عن ابن مَعين أنه قال: ليس بشيء. وقد احتج به الجماعة. روى عن عِكرمة بن عمّار وإسرائيل بن مسلم ورَباح وقُرة بن خالد وغيرهم. وروى عنه عليّ بن المدينيّ وبندار وعبد الله بن صَبَّاح وخَيْثَمة وأبو موسى وغيرهم. مات سنة تسع ومئتين، وليس في الستة عُبيد الله بن عبد المجيد سواه. الثالث: قُرة بن خالد، أو أبو محمد السَّدوسيّ، البصري. قال: يحيى بن سعيد: كان قرة عندنا من أثبت شيوخنا. وقال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عن قُرة وعمران بن حدير، فقال: ما فيهما إلا ثقة، قال: وسئل أبي عن قرة وأبي

لطائف إسناده

خَلْدة، فقال: قُرَّة فوقه، وهو دون حَبيب الشَّهيد، قيل: قُرَّة والقاسم بن الفَضْل؟ قال: ما أقربه منه. وقال مرة: ثقة، وقال ابن مَعين: ثقة، وقال ابن أبي حاتم: قرة أحب اليَّ من جرير بن حازم ومن أبي خَلدة، وقُرّة ثَبْت عندي. وقال ابن أبي حاتم: سُئل أبو مسعود الرّازيّ: قرة أثبت عندك أو حُسين المُعلّم؟ فقال: قُرَّة. وقال الآجريّ: ذكره أبو داود فرفع شأنه. وقال أيضًا: سألت أبا داود عنه، وعن الصَّعِق بن حَزْن، فقال: قرة فوقه. وقال النَّسائيّ: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: كان متقنًا. وقال ابن سعد: كان ثقة. وقال الطَّحاويّ: ثبت متقن ضابط. روى عن أبي رَجاء العُطارديّ وحُميد بن هِلال وابن سيرين والحسن وعَمرو بن دينار وبُديل بن مَيسرة وغيرهم. وروى عنه شعبة، وهو من أقرانه، وابن مهدي ويحيى بن سعيد القَطّان وبشر بن المُفضّل وغيرهم. مات سنة خمس وخمسين ومئة. وليس في الستة قُرَّة بن خالد سواه. الرابع: الحَسَنُ البصريّ، وقد مرّ في الرابع والعشرين من الإيمان، ومرّ أنس في السادس منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، والقول في خمسة، ورواته كلهم بصريُّون. أخرجه البخاريّ هنا ومسلم.

الحديث التاسع والسبعون

الحديث التاسع والسبعون حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- صَلاَةَ الْعِشَاءِ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ، قَامَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ، فَإِنَّ رَأْسَ مِائَةٍ لاَ يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَحَدٌ". فَوَهِلَ النَّاسُ فِي مَقَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى مَا يَتَحَدَّثُونَ مِنْ هَذِهِ الأَحَادِيثِ عَنْ مِائَةِ سَنَةٍ، وَإِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ"، يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّهَا تَخْرِمُ ذَلِكَ الْقَرْنَ. قوله: "فوهل الناس"، أي: غلطوا أو توهموا، أو فزعوا أو نسوا، والأول أقرب هنا، وقيل: وهل، بالفتح، بمعنى وهم بالكسر، ووهل بالكسر مثله. وقيل بالفتح غلط، وبالكسر فزع. وقوله: "في مقالة"، وللكُشميهنيّ والمُستَملي: "من مقالة"، وقوله: "إلى ما يتحدثون في هذه"، وللكُشميهنيّ: "من هذه". وقوله: "عن مئة سنة"، لأن بعضهم كان يقول: إن الساعة تقوم عند تقضّي مئة سنة، كما روى ذلك الطّبرانيّ وغيره عن أبي مسعود البَدْريّ، وردّ ذلك عليه علي بن أبي طالب، وقد بيّن ابن عمر في هذا الحديث مراد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وأن مراده أن عند انقضاء مئة سنة من مقالته تلك، ينخرم ذلك القرن، فلا يبقى أحد ممن كان موجودًا حال تلك المقالة، إلى آخر ما مر مستوفى عند ذكر هذا الحديث في باب السمر في العلم من كتاب العلم. رجاله ستة: الأول: أبو اليّمَان، والثاني: شُعيب، وقد مرا في السابع من الوحي، ومرّ

باب السمر مع الأهل والضيف

ابن شِهاب في الثالث منه، ومرّ سالم بن عبد الله في السابع عشر من الإيمان، ومرّ أبوه عبد الله أوله، قبل ذكر حديث منه. ومرّ أبو بكر بن سُليمان بن أبي حَثْمة في السابع والخمسين من العلم، ومرّ هناك ذكر من أخرجه. ثم قال المصنف: باب السمر مع الأهل والضيف قال عليّ بن المُنير ما محصله: اقتطع البُخاريّ هذا الباب من باب السمر في الفقه والخير، لانحطاط رتبته عن مسمى الخير؛ لأن الخير متمحض للطاعة لا يقع على غيرها، وهذا النوع من السمر خارج عن أصل الضيافة والعلة المأمور بهما، فقد يكون مستغنىً عنه في حقهما، فيلتحق بالسمر الجائز، أو المتردد بين الإباحة والندب. ووجه الاستدلال من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر المذكور في الباب اشتغالُ أبي بكر بعد صلاة العشاء بمجيئه إلى بيته، ومراجعته لخبر الأضياف، واشتغاله بما دار بينهم، وذلك كله في معنى السمر؛ لأنه سمر مشتمل على ملاطفة ومخاطبة ومعاتبة.

الحديث الثمانون

الحديث الثمانون حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قال: حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّ أَصْحَابَ الصُّفَّةِ كَانُوا أُنَاسًا فُقَرَاءَ، وَأَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ فَلْيَذْهَبْ بِثَالِثٍ، وَإِنْ أَرْبَعٌ فَخَامِسٌ أَوْ سَادِسٌ". وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ جَاءَ بِثَلاَثَةٍ فَانْطَلَقَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِعَشَرَةٍ، قَالَ فَهْوَ أَنَا وَأَبِي وَأُمِّي، فَلاَ أَدْرِي، قَالَ وَامْرَأَتِي وَخَادِمٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَ بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ. وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ تَعَشَّى عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ لَبِثَ حَيْثُ صُلِّيَتِ الْعِشَاءُ، ثُمَّ رَجَعَ فَلَبِثَ حَتَّى تَعَشَّى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَجَاءَ بَعْدَ مَا مَضَى مِنَ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ، قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: وَمَا حَبَسَكَ عَنْ أَضْيَافِكَ، أَوْ قَالَتْ: ضَيْفِكَ؟ قَالَ: أَوَمَا عَشَّيْتِيهِمْ؟ قَالَتْ: أَبَوْا حَتَّى تَجِيءَ، قَدْ عُرِضُوا فَأَبَوْا، قَالَ: فَذَهَبْتُ أَنَا فَاخْتَبَأْتُ، فَقَالَ: يَا غُنْثَرُ فَجَدَّعَ وَسَبَّ، وَقَالَ: كُلُوا لاَ هَنِيئًا. فَقَالَ: وَاللَّهِ لاَ أَطْعَمُهُ أَبَدًا، وَايْمُ اللَّهِ مَا كُنَّا نَأْخُذُ مِنْ لُقْمَةٍ إِلاَّ رَبَا مِنْ أَسْفَلِهَا أَكْثَرُ مِنْهَا. قَالَ: يَعْنِي حَتَّى شَبِعُوا وَصَارَتْ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ، فَنَظَرَ إِلَيْهَا أَبُو بَكْرٍ فَإِذَا هِيَ كَمَا هِيَ أَوْ أَكْثَرُ مِنْهَا. فَقَالَ لاِمْرَأَتِهِ: يَا أُخْتَ بَنِي فِرَاسٍ: مَا هَذَا؟ قَالَتْ: لاَ وَقُرَّةِ عَيْنِي لَهِيَ الآنَ أَكْثَرُ مِنْهَا قَبْلَ ذَلِكَ بِثَلاَثِ مَرَّاتٍ. فَأَكَلَ مِنْهَا أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ، يَعْنِى يَمِينَهُ، ثُمَّ أَكَلَ مِنْهَا لُقْمَةً، ثُمَّ حَمَلَهَا إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَأَصْبَحَتْ عِنْدَهُ، وَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمٍ عَقْدٌ، فَمَضَى الأَجَلُ، فَفَرَّقَنَا اثْنَا عَشَرَ رَجُلاً، مَعَ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أُنَاسٌ، اللَّهُ أَعْلَمُ كَمْ مَعَ كُلِّ رَجُلٍ فَأَكَلُوا مِنْهَا أَجْمَعُونَ، أَوْ كَمَا قَالَ. قوله: "أن أصحاب الصُّفَّةِ"، الصُّفة بضم الصاد، مكان في مؤخر المسجد النبوي مظلل، أُعد لنزول الغرباء فيه، ممن لا مأوى له ولا أهل. وكانوا يكثرون

ويقلون بحسب من يتزوج منهم أو يموت أو يسافر، وقد سرد أبو نعيم أسماءهم في "الحلية" فزادوا على المئة. وقوله: "فليذهب بثالث"، أي: من أهل الصُّفة المذكورين، وفي رواية مسلم: "فليذهب بثلاثة". قال عياض: هو غلط، والصواب رواية البُخاريّ، لموافقتها لسياق باقي الحديث، وقال القُرطبيُّ: "إنْ حُمل على ظاهره فَسَد المعنى؛ لأن الذي عنده طعام اثنين إذا ذهب معه بثلاثة، لزم أن أكله في خمسة، وحينئذ لا يكفيهم ولا يسد رمقهم، بخلاف ما إذا ذهب بواحد، فإنَّه يأكله في ثلاثة، ويؤيده قوله في الحديث الآخر: "طعام الاثنين يكفي أربعة"، أي: القدر الذي يشبع الاثنين يسد رمق أربعة، ووجَّهها النووي بأن التقدير: فليذهب بمن يتم من عنده ثلاثة، أو: فليذهب بتمام ثلاثة. وقوله: "وإن أربع فخامس أو سادس"، أو، فيه للتنويع أو للتخيير، وفي الرواية الآتية في "علامات النبوة"، و"من كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس بسادس"، ومعنى هذه: فليذهب بخامس إن لم يكن عنده ما يقتضي أكثر من ذلك، وإلا فليذهب بسادس مع الخامس إن كان عنده أكثر من ذلك. والحكمة في كونه يزيد كل أحد واحدًا فقط، أن عيشهم في ذلك الوقت لم يكن متسعًا، فمن كان عنده مثلًا ثلاثة أنفس لا يضيق عليه أن يطعم الرابع من قوتهم، وكذلك الأربعة وما فوقها، بخلاف ما لو زيدت الأضياف بعدد العيال، فإنما ذلك إنما يحصل الاكتفاء فيه عند اتساع الحال. وقوله: "وإن أربع فخامس"، في رواية الباب بالجر فيهما، والتقدير: فإن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس أو بسادس، فحذف عامل الجر وأبقى عمله، كما يقال: مررت برجل صالح، وإن لا صالح فطالح، أي: إلا أمر بصالح، فقد مررت بطالح. ويجوز الرفع على حذف مضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، وهو أوجه. قال ابن مالك: تضمن هذا الحديث حذف فعلين، وعاملي جر مع بقاء عملهما بعد إن والفاء. والتقدير من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، وإن قام بأربعة فليذهب بخامس أو سادس. وهذا قاله في رواية الباب، وأما الرواية الأخرى، وهي بخامس بسادس، فيكون حذف منها شيء

آخر، والتقدير: أو إن قام بخمسة، فليذهب بسادس، ويحتمل أن يكون معنى قوله: "أو سادس" في رواية الباب: وإن كان عنده طعام خمس فليذهب بسادس، فيكون من عطف الجملة على الجملة. وقوله: "وإن أبا بكر جاء بثلاثة، وانطلق النبيُّ صلى الله تعالى عليه وسلم بعشرة"، عبر عن أبي بكر بلفظ المجيء لبعد منزله من المسجد، وعبر عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بالانطلاق لقربه، وفي رواية علامات النبوءة زيادة: "وأبو بكر ثلاثة"، أي: بالنصب للأكثر، أي: أخذ ثلاثة، فلا يكون قوله قبل ذلك جاء بثلاثة تكرارًا لأن هذا بيان لابتداء ما جاء في نصيبه، والأول بيان لمن أحضرهم إلى منزله، وأبعد من قال: "ثلاثة" بالرفع، وقدره أبو بكر أهله ثلاثة، أي: عدد أضيافه، وفي رواية الكُشْمَيهَنيّ: "وأبو بكر بثلاثة"، فيكون معطوفًا على قوله: "وانطلق النبيُّ"، أي: وانطلق أبو بكر بثلاثة، وهي رواية مسلم، والأول أوجه، ودلَّ هذا على أن أبا بكر كان عنده طعام أربعة، ومع ذلك فأخذ خامسًا وسادسًا وسابعًا، فكأنَّ الحكمة في أخذه واحدًا زائدًا عما ذكر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، أنه أراد أن يؤثر السابع بنصيبه، إذ ظهر له أنه لم يأكل أولًا معهم. قوله: "قال: فهو أنا وأبي"، زاد الكُشميهنيّ: "وأمي"، وللمستملي: "أنا وأمي"، القائل هو عبد الرحمن بن أبي بكر. وقوله: "فهو"، أي: الشأن. وقوله: "أنا"، مبتدأ وخبره محذوف يدل عليه السياق، وتقديره في الدار. وقوله: "فلا أدري، قال: وامرأتي وخادم بين بيتنا وبيت أبي بكر"، والقائل لا أدري، قال: هو أبو عثمان الراوي عن عبد الرحمن، كأنّه شك في ذلك. وقوله: "وخادم" بغير إضافة في رواية الكُشميهنيّ، ولغيره: "وخادمي"، بالإضافة. وقوله: "بين بيتنا"، أي: خدمتها مشتركة بين بيتنا وبيت أبي بكر، وهو ظرف للخادم، واسم امرأة عبد الرحمن أُمَيمَة بنت عَدي بن قَيْس السَّهْمِيَّة، والدة أكبر أولاده أبي عتيق ومحمد، والخادم لم يعرف اسمها. وقوله: "وإن أبا بكر تَعشَّى عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ثم لبث

حتى صلى العشاء، ثم رجع فلبث حتى تعشى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم"، في رواية: "حيث صليت العشاء"، وفي رواية: "حتى صليت العشاء"، في هذا المحل ارتباك في المعنى من جهة ما يقتضيه ظاهر اللفظ من التكرار بين أول الكلام وآخره، وقد شرحه الكرماني بما لا يشفي الغليل عندي، فقال: هذا، يعني آخر الكلام، يشعر بأنَّ تعشِّي أبي بكر كان بعد الرجوع إلى النبيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم، والذي تقدم بعكسه، والجواب أن الأول بيان حال أبي بكر في عدم احتياجه إلى الطعام عند أهله، والثاني فيه سياق القصة على الترتيب الواقع. قلت: يصح هذا الوجه بجعل "لبث" في داره، وجعل "حتى صلى العشاء"، أو "صليت" بمعنى حان وقت صلاتها؛ لأنها صليت بالفعل؛ لأن صلاتها بالفعل معه صلى الله تعالى عليه وسلم، ويكون قوله بعد: "ثم رجع"، أي: من منزله إلى النبي عليه الصلاة والسلام، أو يقال: إن الأول تعشِّي الصديق، والثاني تعشِّي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، والأول من العشاء بفتح العين، أي: الأكل، والثاني بكسرها، أي: الصلاة. قلت: وهذا لا يصح إلا بتقدير "بعد" ثم الأولى، والتقدير: ثم رجع إلى بيته، ولبث فيه حتى صلى العشاء، أي: حان وقتها، كما مرّ. وعلى هذا يكون قوله: "رجع"، أي: إلى النبي، صلى الله تعالى عليه وسلم، لا إلى منزله؛ لأنه كان فيه على ما قررنا. ويدل لما قررنا من كونه رجع إلى منزله ما في الرواية الماضية من قوله. "وأبو بكر بثلاثة"، وما رواه أبو داود عن عبد الرحمن بن أبي بكر، قال: نزل بنا أضياف، وكان أبو بكر يتحدث عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال: لا أرجع إليك حتى تفرغ من ضيافة هؤلاء، وما في رواية المصنف في الأدب عنه بلفظ: "إن أبا بكر تضيّف رهطًا، فقال لعبد الرحمن: دونك أضيافك، فإني منطلق إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فافرغ من قِراهم قبل أن أجيءَ. فهذا يدل على أن أبا بكر أحضرهم إلى منزله، وأمر أهله أن يُضَيِّفوهم، ورجع هو إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم. ووقع عند الإسماعيلي: "ثم ركع" بالكاف مكان: "ثم رجع"، أي: صلى النافلة بعد العشاء. قال في "الفتح": وعلى هذا فالتكرار في قوله: "فلبث حتى

تعشى" فقط. قلت: ينفي التكرار ما مرّ من جعل: "لبث" الأُولى في بيته، و"لبث" الثاني عند النبيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم، وعلى هذا يكون "تعشى" رسولُ الله الكائن بعد من العَشاء بالفتح، لا من العِشاء بالكسر. وفي رواية لمسلم والإِسماعيلي أيضًا: "فلبث حتى نَعَس" بعين وسين مهملتين مفتوحتين، من النعاس، وهو أوجه. قال عياض: إنه الصواب، وبه ينتفي التكرار من المواضع لها، إلا في قوله: "لبث"، وسببه اختلاف تعلق اللَّبْث، فالأول قال: لبث حتى صلى العشاء، ثم قال: فلبث حتى نعس. قلت: التكرار منتف بما مر من أن الأول في داره، والثاني عنده عليه الصلاة والسلام، والحاصل أنه تأخر عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، حتى صلى العشاء، ثم تأخر حتى نعس النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وقام لينام، فرجع أبو بكر حينئذ إلى بيته، ولم أقف على من حرر الكلام على هذا المحل، وقد أبديت فيه من التقرير ما أبديت، راجيًا من الله تعالى أن يكون هو الصواب. وقوله: "ما حبسك عن أضيافك؟ كذا في رواية الكشميهنيّ، ورواية مسلم، وفي رواية: "من أضيافك"، وقوله: "أو ضيفك"، شكٌّ من الراوي، والمراد به الجنس لأنهم كانوا ثلاثة، واسم الضيف يطلق على الواحد وما فوقه، وقيل: هو مصدر يتناول المثنى والجمع، وليس بواضح. وقوله: "أو عشيتهم"، في رواية الكُشميهنيّ: "أو ما عشيتهم" بزيادة ما النافية، وكذا في رواية مسلم والإسماعيلي، والهمزة للاستفهام، والواو للعطف على مقدر، وفي رواية: "عشيتيهم" بإشباع الكسرة. وقوله: "قد عُرّضوا فأبوا"، أي: بضم أوله وتشديد الراء، أي: أُطعموا من العراضة، وهي الهدية. قاله عياض: قلت: على هذا تكون الفاء في "فأبوا" سببية، أي: فبسبب ذلك أبوا. قال: وفي الرواية بتخفيف الراء، وتوجيهه، أي: عرض الطعام عليهم، فحذف الجار ووصل الفعل، أو هو من باب القلب، كعرضت الناقة على الحوض. وفي رواية: قد عرضوا عليهم، بفتح العين والراء، أي: الأهل من الابن والخادم والزوجة، يعني أن آل أبي بكر عرضوا على

الأضياف العشاء فأبوا، فعالجوهم فامتنعوا حتى غلبوهم. وفي رواية: "قد عرضنا عليهم فامتنعوا"، وفي رواية: "عرصوا" بصاد مهملة، ووجه بأنها من قولهم: "عرص"، إذا نشط، فكأنه يريد أن أهل البيت نشطوا في العزيمة عليهم، ولا يخفى بُعده. وفي رواية الجَريريّ: "فانطلق عبد الرحمن فأتاهم بما عنده، فقال: أطعموا، فقالوا: أين رب منزلنا؟ قال: اطعموا. قالوا: ما نحن بآكلين حتى يجيء. قال: اقبلوا عنا قِراكم، فإنه إن جاء ولم تطعموا لنلقينَّ منه، أي: شرًّا، فأبوا، وفي رواية مسلم: "ألا تقبلوا عنا قِراكم"، بتخفيف اللام على استفتاح الكلام. قال القُرطبيُّ: ويلزم عليه أن تثبت النون في "تقبلون" إذ لا موجب لحذفها، وضبطه أبو جعفر بتشديد اللام، وهو الأوجه. قلت: تكون هناك إن شرطية مدغمة في اللام، محذوف جوابها، تقديره يفعل بنا كذا. وقوله: "قال: فذهبت فاختبأت"، أي: خوفًا من خصام أبي بكر له، وتغيظه عليّ. وفي رواية الجريريّ: "فعرفت أنه يجِد عليّ"، أي: يغضب، فلما جاء تغيبت عنه، فقال: يا عبد الرحمن، فسَكتُّ، ثم قال: يا عبد الرحمن، فسكتُّ. وقوله: فقال يا غنثر، فجدع وسبّ. وفي رواية الجريريّ: "فقال يا غُنْثَر، أقسمت عليك إن كنت تسمع صوتي لما جئت، فخرجت فقلت: والله ما لي ذنب، هؤلاء أضيافُك فسلهم. قالوا: صدق، قد أتانا". وغُنْثَرْ بضم المعجمة وسكون النون وفتح المثلثة على الرواية المشهورة، وحُكي ضم المثلثة. وحكى عياض فتح أوله وثالثه، وحكاه الخطابيّ عنتر بلفظ اسم الشاعر المشهور، وهو بالمهملة والمثناة المفتوحتين، بينهما نون ساكنة. قيل: معناه الذباب، وأنه اسم ذباب أزرق، وأنه سمي بذلك لصوته، فشبهه به حيث أراد تحقيره وتصغيره. وقيل: معنى الرواية المشهورةِ الثقيلُ الوَخِمُ. وقيل: الجاهل، وقيل: السفيه، وقيل: اللئيم، وهو مأخوذ من الغَثَر، ونونه زائدة. وقوله: "فجدع وسبّ"، أي: دعا عليه بالجَدْع، وهو قطع الأذن والأنف أو

الشفة. وقيل: المراد به السب، والأول أصح. وسب، أي: شتم، وحذف المفعول للعلم به. وفي رواية الجريريّ: "فجزع" بالزاي بدل الدال، أىِ: نسبة إلى الجزع بفتحتين، وهو الخوف. وقيل: المجازعة المخاصمة، فالمعنى خاصم. قال القرطبيّ: ظن أبو بكر أن عبد الرحمن فرّط في حق الأضياف، فلمّا تبيّن له الحال أدبهم بقوله: كلوا لا هنيئًا. وقوله: "وقال: كلوا لا هنيئًا"، كذا في الرواية. وفي رواية مسلم: أي: لا أكلتم هنيئًا"، وهو دعاء عليهم. وقيل: خبر، أي: لم تتهنوا به في أول نضجه. ويستفاد من ذلك جواز الدعاء على من لم يحصل منه الإنصاف، ولاسيما عند الحرج والتغيظ، وذلك أنهم تحكموا على رب المنزل بالحضور معهم، ولم يكتفوا بولده مع إذنه لهم في ذلك. وكان الذي حملهم على ذلك رغبتهم في التبرك بمواكلته. ويقال: إنه خاطب بذلك أهله لا الأضياف. وأنه لم يرد الدعاء أيضًا، وإنما أخبر أنهم فاتهم الهناء به، إذ لم يأكلوه في وقته. وقوله: "فقال والله لا أطْعَمه أبدًا"، كذا في رواية مسلم. وفي رواية الجريري: "فقال: فإنما انتظرتموني، والله لا أطعمه أبدًا، فقال الآخرون: والله لا نَطْعَمه حتى تَطْعَمه"، وفي رواية أبي داود: "فقال أبو بكر: فما منعكم؟ قالوا: مكانك. قال: والله لا أطعمه أبدًا، ثم اتفقا، فقال: لم أر في الشر كالليلة، ويلكم مالكم لا تقبلون عنا قِراكم؟ هات طعامك، فوضع فقال: بسم الله الأول من الشيطان، فأكل وأكلوا"، وهذه الرواية ترد على ابن التين قوله: "لم يخاطب أبو بكر أضيافه بذلك إنما خاطب أهله". وقوله: "وايمُ الله"، همزته همزة وصل عند الجمهور، وقيل: يجوز القطع، وهو مبتدأ خبره محذوف، أي: أيم الله قَسَمي، وأصله أَيْمُنُ الله، فالهمزة حينئذ همزة قطع، لكنها لكثرة الاستعمال خففت فوصلت. وحكي فيها لغات، أيمن الله مثلثة النون، ومن الله مختصرة من الأولى مثلثة النون أيضًا، وأيم الله كذلك. ومُ الله كذلك، وبتثليث ميم أيمن أيضًا، مع تثليث نونها وبكسر همزة أيمن، وضم الميم، ومُن مثلث الميم والنون، وإم بكسر الهمزة، وتثليث الميم، وأيم

الله بزيادة الياء بعد الهمزة، وبفتح همزة أم أيضًا، وبإبدال همزة أم هاء، فيقال: هُم الله، وليست الميم في قولك م الله بدلًا من الواو، ولا أصلها "مُنْ" بضم الميم، وليست أيمن المذكور جمع يمين، خلافًا للكوفيين؛ لأن همزة أيمن همزة وصل، بخلاف أيمن جمع يمين، فإنها همزة قطع، ولأنها قد تكسر، ويجوز فتح ميمها وكسره كما مرّ. ولا تضاف غالبًا إلا إلى الله خاصة، وقد تضاف نادراً إلى الذي والكاف والكعبة، وقد جمع المختار بن بَوْن الجكنيّ جميع لُغاتها وما تضاف إليه في احمراره، نقال: وجرَّ بالبا وأضفه وأضف ... أَيمن لله وفيه قد أُلف أيُمن أيَمن كذا وأيمِنُ ... إِيمَنُ اثمُ ايمُ مٌ إمُ مُنُ وإمُ ثلث وافتح الهمز وزد ... همُ وتثليث مُن ومِ يَرِدْ وربما إلى الذي أُضيفا ... والكاف والكعبة لا تحيفا وقوله: "إلا ربا"، أي: زاد. وقوله: "من أسفلها"، أي: الموضع الذي أخذت منه. قلت: الظاهر أن القائل: "وايم الله"، أبو بكر، ولابد من تقديرٍ في الكلام دلت عليه رواية أبي داود المتقدمة، يعني أن أبا بكر بعد أن أقسم عن الأكل رجع فأكل معهم، ثم قال: وايم الله، الخ، ويحتمل أن يكون ابنه عبد الرحمن. وقوله: "فنظر إليها أبو بكر، فإذا هي كما هي أو أكثر"، أي: الجفنة، كما كانت أولًا أو أكثر، وهكذا رواية مسلم والإسماعيليّ، وفي رواية: "فنظر أبو بكر، فإذا شيء أو أكثر"، والتقدير: فإذا هي شيءٌ، أي: قدر الذي كان، والصواب الأولى. وقوله: "يا أخت بني فِراس، ما هذا"، خاطب أبو بكر بذلك امرأته أم رَومان، وبنو فراس بكسر الفاء وتخفيف الراء آخره مهملة ابن غَنْم بن مالك بن كنانة. قال النوويّ: التقدير: يا من هي من بني فِراس. وفيه نظر، فإن العرب تطلق على من كان منتسبًا إلى قبيلة أنه أخوهم، كما مرّ في العلم "ضِمام" أخو بني سعد بن بكر، وقد مرّ أن أم رومان من ذرية الحارث بن غنم، وهو أخو فراس، فلعل أبا بكر نسبها إلى بني فراس لكونهم أشهر من بني الحارث، ويقع

في النسب كثير من ذلك، وينسبون أحيانًا إلى أخي جدهم، أو المعنى: يا أخت القوم المنتسبين إلى بني فراس، ولا شك أن الحارث أخو فراس، فأولاد كل منهما إخوة للآخرين، لكونهم في درجتهم. وحكى عياض أنه قيل في أم رَومان إنها من بني فراس بن غنم لا من بني الحارث، وعلى هذا فلا حاجة إلى هذا التأويل، لكن ابن سَعْد لم يذكر لها نسبًا إلا إلى بني الحارث بن غنم. وقوله: "لا وقرة عيني"، قُرَّة العين يعبّر بها عن المسرّة، ورؤية ما يحبه الإنسان، ويوافقه. يقال: ذلك لأن عينه قَرّت، أي: سكنت حركتها من التلفّت لحصول غرضها، فلا تستشرق لشيء آخر، فكأنه مأخوذ من القرار. وقيل: أنام الله عينك، وهو يرجع إلى هذا. وقيل: بل هو مأخوذ من القُرّ، وهو البَرد، أي أن عينه باردة لسروره، ولهذا قيل: دمعة السرور باردة، ودمعة الحزن حارة. ومن ثم قيل في ضده: أسخن الله عينَه، وإنما حلفت أم رَومان بذلك، لما وقع عندها من السرور بالكرامة التي حصلت لهم ببركة الصّدِّيق رضي الله تعالى عنه. وزعم الداودي أنها أرادت بقرة عينها النبيَّ عليه الصلاة والسلام، فأقسمت به، وفيه بُعد. قلت: لا بعد فيه، لأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قرة عين كل مؤمن حاضر في ذهنه، فضلًا عن الصحابة. و"لا" في قوله: "لا وقرة عيني" زائدة، أو نافية، على حذف تقديره: "لا شيء غير ما أقول". وقوله: "لهي الآن"، أي: الجفنة أو البقية. وقوله: "أكثر مما قبل"، بالمثلثة للأكثر، ولبعضهم بالموحدة، وفي رواية مسلم: "أكثر منها قبل"، وهي أوجه. وقوله: "إنما كان الشيطان"، يعني يمينه، وقع هكذا وفيه حذف تقديره: وإنما كان الشيطان الحامل على ذلك، يعني على يمينه التي حلفها في قوله: والله لا أَطْعَمُه أبدًا. وعند مسلم والإسماعيلي: "وإنما كان ذلك من الشيطان"، يعني يمينه، وهو أوجه. وظاهر سياق رواية سُلَيمان التَّيْمي هذه مخالف لرواية الجَريريّ. قال

عِياض: والصواب ما في رواية الجَريريّ، وذلك أن رواية سُلَيمان التَّيْميّ هذه تقتضي أن سبب أكل أبي بكر من الطعام ما رآه من البركة فيه، فرغب في الأكل منه، وأعرض عن يمينه التي حلف، لما رجح عنده من التناول من البركة. ورواية الجريري تقتضي أن سبب أكله من الطعام لجاج الأضياف، وحلفهم أنهم لا يَطعَمون الطعام حتى يطعَمه أبو بكر، ولا شك في كونها أوجه. لكن يمكن رد رواية سليمان التيمي إليها بأن يكون قوله: "فأكل منها أبو بكر" معطوفًا على قوله: "والله لا أطعمه" لا على القصة التي دلت على بركة الطعام، وغايته أن حلف الأضياف أن لا يطعموه، لم يقع في رواية سليمان التيميّ، والظاهر أن ذلك من ابنه معتمر لا منه، لما في "الأدب" عند المصنف، عن ابن أبي عديّ، عن سليمان التيميّ: "فحلفت المرأة، لا تَطعمه حتى تَطعموه، فقال أبو بكر: هذه من الشيطان، فدعا بالطعام، فأكل، وأكلوا، فجعلوا لا يرفعون لقمة إلا ربا من أسفلها"، وعلى هذا الجمع يكون في رواية التيمي تقديم وتأخير، فيكون قوله: "وايم الله"، إلخ، معترضًا بين المعطوف عليه، الذي هو لا أطعمه أبدًا، والمعطوف الذي هو فأكل منها أبو بكر. ويحتمل أن يجمع بأن يكون أبو بكر أكل لأجل تحليل يمينهم شيئًا، ثم لما رأى البركة الظاهرة عاد للأكل منها لتحصل له. وقال كالمعتذر عن يمينه التي حلف: إنما كان ذلك من الشيطان، ولذلك كان أكله الأخير قليلًا، بيَّن ذلك بقوله: "ثم أكل لقمة" مفسرًا بها قوله السابق: "فأكل منها"، وبذلك ينتفي التكرار بين "فأكل منها، ثم أكل" وهذا الجمع يتنزل على ما قررناه سابقًا من الحذف قبل وايم الله. والحاصل أن الله أكرم أبا بكر، فأزال ما حصل له من الحرج، فعاد مسرورًا، وانفك الشيطان مدحورًا، واستعمل الصديق مكارم الأخلاق، فحنث نفسه زيادة في إكرام ضيفانه، ليحصل مقصوده من أكلهم، ولكونه أكثر قدرة منهم على الكفارة. وفي رواية الجَريريّ عند مسلم: "فقال أبو بكر: يا رسول الله، برُّوا وحنثت، فقال: بل أنت أبرُّهم وخيرهم. قال: ولم يبلغني كفارة، وسقط ذلك من رواية الجريري عند المصنف، وسبب حذفه لهذه الزيادة أن فيها إدراجًا بينته

رواية أبي داود، حيث جاء فيها: "فأُخبرت" بضم الهمزة أنه أصبح على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ... " إلخ. وقوله: "أبرُّهم"، أي: أكثرهم بِرًّا، أي: طاعة. وقوله: "خيرهم"؛ لأنك حنثت في يمينك حنثًا مندوبًا إليه مطلوبًا، فأنت أفضل منهم بهذا الاعتبار. وقوله: "ولم تبلغني كفارة"، اسْتُدِلَّ به على أنه لا تجب الكفارة في يمين اللجاج والغضب، ولا حجة فيه؛ لأنه لا يلزم من عدم الذكر عدم الوجود، فلمن أثبت الكفارة أن يتمسك بعموم قوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} الآية، ويحتمل أن يكون ذلك وقع قبل مشروعية الكفارة في الأيمان، لكن يعكر عليه ما يأتي عن عائشة أن أبا بكر لم يكن يحنث في يمين حتى نزلت الكفارة. وقال النوويّ: قوله: "ولم تبلغني كفارة" يعني أنه لم يكفِّر قبل الحنث، وأما وجوب الكفارة فلا خلاف فيه، وهذا المعنى بعيد، وقال غيره: يحتمل أن يكون أبو بكر لما حلف أن لا يطعمه، نوى وقتًا معينًا أو صفة مخصوصة، أي: لا أطعمه الآن، أو لا أطعمه معكم، أو عند الغضب، وهذا مبني على أن اليمين هل تقبل التقييد في النفس أم لا؟ ومذهب المالكية قبولها لذلك، وقول أبي بكر: لا أطْعَمه أبدًا، يمين مؤكدة لا تحتمل أن تكون من لغو الكلام، ولا من سبق اللسان. ثم حملها إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فأصبحت عنده، أي: الجفنة على حالها، وإنما لم يأكلوا منها في الليل لكون ذلك وقع بعد أن مضى من الليل مدة طويلة. وقوله: "فَفَرَقَنا" الفاء فيه الفصيحة، أي: فجاؤوا إلى المدينة، ففرقنا. وهو بتحريك القاف من التفريق، أي: جعلنا فرقًا، وضمير الفاعل المستتر راجع إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم. وقوله: اثنا عشر رجلًا، قال: من ضمير "نا" المفعول به، أي: حال كون المفرّق اثنا عشر، وجاء اثنا بالألف في حال النصب على طريق من يُلزم المثنى الألف في الأحوال الثلاثة، ومنه قوله تعالى: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ}، وعند مسلم اثني عشر، بالنصب، وهو ظاهر. وحكى الكرمانيّ في بعض الروايات: "فقرينا" من

القِرى، وهو الضيافة، ويحتمل أن يكون ففُرقنا، بضم أوله على البناء للمجهول. وفي رواية: "فعرفنا" ووقع عند الإسماعيليّ قولًا واحدًا، وسمي التعريف عريفًا لأنه يُعَرّف الإِمام أحوالَ العسكر. واختلف الرواة على مسلم، هل قال: فرقنا أو عرفنا؟ كما اختلف على البخاريّ. وقوله: "مع كل رجل منهم أناس"، يعني مع كل رجل من الاثني عشر أناسٌ من القادمين إلى المدينة. وقوله: "غير أنه بعث معهم"، يعني أنه تحقق أنه جعل كليهم اثني عشر عريفًا، لكنه لا يدري كم كان تحت يد كل عريف منهم، لأن ذلك يحتمل الكثرة والقلة، غير أنه يتحقق أنه بعث مع كل ناس عريفًا. وقوله: "قال أكلوا منها أجمعون"، أو كما قال، هو شك من أبي عثمان في لفظ عبد الرحمن، وأما المعنى، فالحاصل أن جميع الجيش أكلوا من تلك الجفنة التي أرسل بها أبو بكر إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وظهر بذلك أن تمام البركة في الطعام المذكور كانت عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، لأن الذي وقع في بيت أبي بكر أوائل البَرَكة، وأما انتهاؤها إلى أن تكفي الجيش كله، فما كان إلا بعد أن صارت عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، على ظاهر الخبر. وقد روى أحمد والتِّرمذيّ والنَّسائيّ عن سَمُرة، قال: "أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بقصعة فيها ثريد، فأكل وأكل القوم، فما زالوا يتداولونها إلى قريب من الظهر، يأكل قوم، ثم يقومون، ويجيء قوم فيتعاقبونه، فقال رجل: هل كانت تُمَدُّ بطعام؟ قال: أمّا من الأرض فلا، إلا أن تكون كانت تمد من السماء". قال بعض الشيوخ: يحتمل أن تكون هذه القصعة هي التي وقع فيها في بيت أبي بكر ما وقع. هذا غاية الجهد في إظهار معاني هذا الحديث. ولم أر حديثًا مثله في الصعوبة وتداخل المعنى. وفيه من الفوائد، غير ما تقدم، التجاء الفقراء إلى المساجد عند الاحتياج إلى المواساة، إذا لم يكن في ذلك إلحاف، ولا إلحاح ولا تشويش على المصلين. وفيه استحباب مواساتهم عند اجتماع هذه الشروط،

وفيه التطويف في المخمصة، وفيه جواز الغَيبة عن الأهل والولد والضيف، إذا أُعِدّت لهم الكفاية. وفيه تصرف المرأة فيما تقدم للضيف، والإطعام بغير إذن خاص من الرجل. وفيه جواز سب الوالد للولد على وجه التأديب، والتمرين على أعمال البِرّ وتعاطيه وفيه جواز الحلف على ترك المباح، وفيه توكيد الرجل الصادق لخبره بالقسم، وجواز الحنث بعد عقد اليمين. وفيه التبرك بطعام الأولياء والصُّلَحاء. وفيه عرض الطعام الذي تظهر فيه البركة على الكبار، وقولهم ذلك. وفيه العمل بالظن الغالب؛ لأن أبا بكر ظن أن ابنه عبد الرحمن فرّط في أمر الأضياف، فبادر إلى سبه. وقوّى القرينة عنده اختباؤه منه، وفيه ما يقع من لطف الله تعالى بأوليائه، وذلك أن خاطر أبي بكر تشوش، وكذلك ولده وأهله وأضيافه، بسبب امتناعهم من الأكل، وتكدر خاطر أبي بكر من ذلك حتى احتاج إلى ما تقدم ذكره من الحرج بالحلف وبالحنث وبغير ذلك، فتدارك الله ذلك، ورفعه عنه بالكرامة التي أبداها له، فانقلب ذلك الكدر صفاءًا، والنكد سرورًا، ولله الحمد والمنة. وفيه فضيلة الإيثار والمواساة، وأنه عند كثرة الأضياف يوزعهم الإِمام على أهل المحلة، ويعطي لكل واحد منهم ما يعلم أنه يتحمله، ويأخذ هو ما يمكنه، ومن هذا أخذ عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، فعمله في عام الرَّمَادة على أهل كل بيت مثلهم من الفقراء، ويقول لهم: لم يهلك امرؤ عن نصف قوته، وكانت الضرورة ذلك العام. وقد تأول سفيان بن عيينة في المواساة في المسغبة قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}، ومعناه: أن المؤمنين تلزمهم القربة في أموالهم لله تعالى، عند توجه الحاجة إليهم، ولهذا قال كثير من العلماء: إن في المال حقًا سوى الزكاة، وورد في التِّرمذيّ مرفوعًا، وفيه ما كان عليه الشارع من الأخذ بأفضل الأمور، والسبق إلى السخاء والجود، فإن عياله عليه الصلاة والسلام كانوا قريبًا من عدد ضيفانه هذه الليلة، فأتى بنصف طعامه أو نحوه، وأتى أبو بكر، رضي الله تعالى عنه بثلث طعامه أو أكثر.

رجاله خمسة

وفيه الأكل عند الرئيس، وإن كان عنده، أي: الأكل، ضيق إذا كان عنده من يقوم بخدمتهم، وفيه أن الولد والأهل يلزمهم من خدمة الضيف ما يلزم صاحب المنزل، وفيه أن الأضياف ينبغي لهم أن يتأدبوا، وينتظروا صاحب الدار، ولا يتهافتوا على الطعام دونه. قلت: في أخذ هذا من الحديث نظر؛ لأن أبا بكر لم يرض بفعلهم. وفيه أن آيات النبي عليه الصلاة والسلام تظهر على يد غيره، وفيه ما كان عليه أبو بكر، رضي الله تعالى عنه، من حب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، والانقطاع إليه وإيثاره في ليله أو نهاره على الأهل والأضياف. وفيه كرامة ظاهرة للصدِّيق، وفيه إثبات كرامة الأولياء، وهو مذهب أهل السنة، وفيه جواز العُرَفاء للعسكر ونحوهم، وفيه جواز الاختفاء عن الوالد إذا خاف منه على تقصير واقع منه، وفيه جواز الدعاء بالجدع والسب على الأولاد عند التقصير، وفيه جواز الخطاب للزوجة بغير اسمها، وفيه جواز القسم بغير الله تعالى، وفيه حمل المُضِيف المشقة على نفسه في إكرام الضيفان، والاجتهاد في رفع الوحشة، وتطييب قلوبهم. وفيه جواز ادخار الطعام للغد، وفيه مخالفة اليمين إذا رأى غيرها خيرًا منها، وفيه أن الراوي إذا شك، يجب عليه أن ينبه على ذلك، كما قال: لا أدري، هل قال، وامرأتي، ومثل لفظة: "أو كما قال"، ونحوها. وفيه أن الحاضر يرى ما لا يراه الغائب، فإن امرأة أبي بكر، رضي الله تعالى عنهما، لما رأت أن الضِّيْفان تأخروا عن الأكل، تألمت لذلك، فبادرت حين قدم تسأله عن سبب تأخره مثل ذلك، وفيه إباحة الأكل للضيف في غيبة صاحب المنزل، وأن لا يمتنعوا إذا كان قد أُذن في ذلك، لإنكار الصديق في ذلك. رجاله خمسة: وفيه ذكر أبي بكر وأم عبد الرحمن أم رَومان. الأول: أبو النعمان، وقد مرّ في الحادي والخمسين من الإيمان، ومرّ

لطائف إسناده

المُعتمِر بن سليمان وأبو سُليمان في التاسع والستين من العلم، ومرّ عُثمان النَّهديّ في الخامس من كتاب المواقيت هذا، ومرّ عبد الرحمن بن أبي بكر في الرابع من الغُسل، ومر أبو بكر في باب "من لم يتوضأ من لحم الشاة" بعد السبعين من الوضوء، ومرت أم رومان في التاسع والسبعين من أبواب القبلة. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في أربعة مواضع، والقول في ثلاثة، والعنعنة في موضع واحد، وفيه راوٍ من المخضرمين. أخرجه البخاري هنا وفي "علامات النبوة"، وفي "الأدب"، ومسلم في الأطعمة، وأبو داود في الإيمان والنذور.

خاتمة

خاتمة قال في "فتح الباري": اشتمل كتاب المواقيت على مئة حديث وسبعة عشر حديثًا، المعلق منها ستة وثلاثون حديثًا، والباقي موصول. الخالص منها ثمانية وأربعون حديثًا. والمكرر منها فيه، وفيما تقدم، تسعة وستون حديثًا، وافقه مسلم على جميعها سوى ثلاثة عشر حديثًا، وهي حديث أنس في السجود على الظَّهائر، وقد أخرج معناه، وحديثه: "ما أعرف شيئًا"، وحديثه في المعنى: "هذه الصلاة قد ضيعت"، وحديث ابن عمر: "أبردوا"، وكذا حديث أبي سعيد، وحديث ابن عمر: "إنَّما بقاؤكم فيما سلف قبلكم"، وحديث أبي موسى: "مثل المسلمين واليهود"، وحديث أنس: "كنا نصلي العصر"، وقد اتفقا على أصله، وحديث عبد الله بن مُغفل: "لا يَغْلِبَنكم الأعراب"، وحديث ابن عباس: "لولا أن أشقّ"، وحديث سَهْل بن سعد: "كنت أتسحر"، وحديث معاوية في الركعتين بعد العصر، وحديث أبي قتادة في النوم عن الصبح، على أن مسلمًا أخرج أصل الحديث من وجه آخر، لكن بيّنا في الشرح أنهما حديثان لقصتين، والله تعالى أعلم. وفيه من الآثار الموقوفة ثلاثة آثار، والله سبحانه وتعالى أعلم. ثم قال المصنف:

كتاب أبواب الأذان

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب أبواب الأذان سقطت التسمية في رواية القابسيّ وغيره، والأذان لغة: الإعلام. قال الله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} وَاشتقاقه من الأَذَن بفتحتين، وهو الإسماع، والأذان والأَذِين والتأذين بمعنى. وقيل: الأَذين المؤذِّن، فعيل بمعنى مفعل. وشرعًا: إعلامٌ مخصوصٌ، بألفاظ مخصوصة، في أوقات مخصوصة. قال القُرطبيُّ وغيره: الأذان على قلة ألفاظه مشتمل على مسائل العقيدة؛ لأنه بدأ بالأكبرية، وهي تتضمن وجود الله وكماله. قيل: معناه أكبر من كل شيء، فحذفت من كل شيء، كما في قول الشاعر: إذا ما ستُورَ البيتِ أَرخَيتَ لم يكن ... سِرَاجٌ لنا إِلا وَوَجهكَ أنورُ أي: منه، وقيل: معناه كبير، كما في قوله تعالى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}، أي: هين عليه. وكما في قول الشاعر: فتلك طريق لست فيها بأوحد أي: بواحد. وثنَّى بالتوحيد ونفي الشريك، ومعنى أشهد: أعلم وأبيّن، ومن ذلك شهد الشاهد عند الحاكم، ومعناه قد بيّن له وأخبره الخبر الذي عنده. وقيل: معناه: قضى، كما في: {شَهِدَ اللَّهُ} معناه: قضى الله. وقيل: حقيقة الشهادة هو تيقن الشيء، وتحققه من شهادة الشيء، أي: حضوره. ثم بإثبات الرسالة لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم، ثم دُعاء إلى الطاعة المخصوصة عقب الشهادة بالرسالة؛ لأنها لا تعرف إلا من جهة الرسول، ثم دُعاء إلى الفلاح، وهو البقاء الدائم. وفيه الإشارة إلى المعاد، ثم أعاد ما أعاد توكيدًا،

باب بدء الأذان

ويحصل من الأذان الإعلام بدخول الوقت، والدعاء إلى الجماعة، وإظهار شعائر الإِسلام، والحكمة في اختيار القول له دون الفعل، سهولةُ القول وتيسره لكل أحد في مكان وزمان، واختلف أيهما أفضل: الأذان أولًا أو الإِقامة. ثالثها: إنْ علم من نفسه القيام بحقوق الإمامة فهي أفضل، وإلا فالأذان. وفي كلام الشافعي ما يومىء إليه. واختلف أيضًا في الجمع بينهما، فقيل: يكره، وفي البيهقيّ، عن جابر مرفوعًا النهيُ عن ذلك، لكن سنده ضعيف. وصح عن عمر: "لو أطيق الأذان مع الخلافة لأذَّنت"، رواه سعيد بن منصور وغيره. وقيل: هو خلاف الأَوْلى، وقيل: يستحب، وصححه النووي. وقد كثر السؤال: هل باشر عليه الصلاة والسلام الأذان بنفسه؟ فعند السُّهَيليّ، أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أذّنَ في سفر، وصلّى بأصحابه وهم على رواحلهم، السماء من فوقهم، والبِلَّة من أسفلهم. أخرجه التِّرمِذيّ عن أبي هُريرة، وليس من حديث أبي هُريرة، وإنما هو من يَعلي بن مُرة، وكذا جزم النوويّ أن النبي عليه الصلاة والسلام أذّنَ مرة في السفر، وعزاه للتِّرمذيّ، وقوّاه. ولكن هذا في مسند أحمد من الوجه الذي أخرجه التِّرمذيّ منه، ولفظه: "فأمر بلالًا فأذَّن"، فعرف أن في رواية الترمذي اختصارًا، وأن معنى قوله: "أذَّن" أمر بلالًا به، كما يقال: أعطى الخليفةُ العالم الفلانيَ ألفًا، وإنما باشر العطاء غيره، ونسب للخليفة لكونه آمرًا. ثم قال: باب بدء الأذان أي: ابتداؤه، وسقط لفظ: "باب" من رواية أبي ذَرٍّ، ثم قال: وقول الله عز وجل: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ}، وقوله: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} يُشير بذلك إلى أن ابتداء الأذان كان بالمدينة؛ لأن الآية مدنية، وقد ذكر بعض أهل التفسير أن اليهود لما سمعوا الأذان قالوا: لقد ابتدعت شيئًا يا محمد، لم يكن فيما مضى،

فنزلت: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} الآية، يعني: إذا أذن المؤذِّن للصلاة، وإنّما أضاف النداء إلى جميع المسلمين؛ لأن المؤذن يؤذن لهم، ويناديهم، فأضافه إليهم. وقوله: {اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا}، يعني أن الكفار إذا سمعوا الأذان استهزؤوا بهم، وإذا رأوهم ركوعًا وسجودًا ضحكوا عليهم، واستهزؤوا بذلك. وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ}، أي: ذلك الاستهزاء بانهم قوم لا يعلمون ثوابهم. وروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن السّدّيّ، قال: كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع المنادي ينادي: أشهد أن محمدًا رسول الله، قال: حُرِقَ الكاذب، فدخلت أمَتُه ليلةً من الليالي بنار، وهو نائم وأهله نيام، فسقطت شرارة فأحرقت البيت، فاحترق هو وأهله. وقوله: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ}، يشير بذلك أيضًا إلى الابتداء، لأن ابتداء الجمعة إنما كان بالمدينة، كما يأتي في بابه. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس، أن فرض الأذان نزل مع هذه الآية، والفرق بين ما في الآيتين من التعدية بإلى واللام، أن صِلات الأفعال تختلف بحسب مقاصد الكلام، فقصد في الأولى معنى الانتهاء، وفي الثانية معنى الاختصاص. ويحتمل أن تكون اللام بمعنى إلى أو العكس. ويأتي عند حديث ابن عمر الآتي في الباب "إتمام الكلام على كونه شرع بالمدينة". وقد وردت أحاديث ضعيفة تدل على أنه شرع بمكة قبل الهجرة، منها ما أخرجه الطبرانيّ عن ابن عمر، قال: "لما أُسري بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، أوحى الله إليه الأذان، فنزل به، فعلَّمه بلالًا، وفي سنده طَلْحة بن زيد، متروك. وما أخرجه الدارقطني في الأطراف عن أنس: "أن جبريل أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بالأذان حين فرضت الصلاة"، وإسناده ضعيف. ولابن مردويه عن عائشة مرفوعًا: "لما أَسرى بي جبريل، فظنت الملائكة أنه يُصلي بهم، فقَدَّمني فصليت". وفيه من لا يُعرف، وللبزار وغيره عن عليّ رضي الله تعالى عنه، قال: لما أراد الله أن يعلِّم رسوله الأذان، أتاه

جبريل بدابة يقال لها البراق، فركبها. وفيه: إذا خرج مَلَكٌ من وراء الحجاب، فقال: الله أكبر الله أكبر"، وفي آخره: "ثم أخذ المَلَك بيده، فأمَّ بأهل السماء"، وفي سنده زياد بن المنذر أبو الجارود، وهو متروك أيضًا. ويمكن على تقدير الصحة أن يحمل على تعدد الإسراء، فيكون ذلك وقع بالمدينة، وقد مرّ القول بتعدد الإسراء عند حديث الإسراء أول كتاب الصلاة. وأما قول القُرطبيّ لا يلزم من كونه سمعه ليلة الإسراء أن يكون مشروعًا في حقه، ففيه نظر، لقوله في أوله: "لما أراد الله أن يعلِّم رسوله الأذان"، وكذا قول المُحبّ الطَّبريّ: يحمل الأذان ليلة الإسراء على المعنى اللُّغويّ، وهو الإعلام لتصريحه بالكيفية المشروعة فيه، والحق أنه لا يصح شيء من هذه الأحاديث، وقد جزم ابن المنذر بأنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي بغير أذان، منذ فرضت الصلاة بمكة، إلى أن هاجر إلى المدينة، وإلى أن وقع التشاور في ذلك، على ما في حديث ابن عمرو، وحديث عبد الله بن زيد الآتيين. ومن أغرب ما وقع في بدء الأذان ما رواه أبو الشيخ، بسند فيه مجهول، عن عبد الله بن الزُّبَير، قال: أخذ الأذان من أذان إبراهيم، من قوله: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ}، قال: فأذن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. وما رواه أبو نعيم في "الحلية" بسند فيه مجاهيل: "أن جبريل نادى بالأذان لآدم حين أُهبط من الجنة". قال الزَّين بن المُنير: "أعرض البخاريُّ عن التصريح بحكم الأذان، لعدم الإفصاح من الآثار الواردة فيه عن حكم معين، فأثبت مشروعيته، وسلم من الاعتراض". وقد اختلف في ذلك، ومنشأ الخلاف أن مبدأ الأذان، لمّا كان بمشورة أوقعها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بين أصحابه، حتى استقر برؤيا بعضهم فأقره، وكان ذلك بالمندوبات أشبه، ثم لما واظب على تقريره، ولم يُنقل أنه تركه، ولا أمر بتركه، ولا رخص في تركه، كان ذلك بالواجبات أشبه. وقد قال بوجوبه مطلقًا الأوزاعيُّ وداود وابن المنذر، وهو ظاهر قول مالك في "الموطأ" وبه قال مُحمّد بن الحسين، وقال الأوزاعي: يعيد تاركه في الوقت، واختلف

الظاهرية في صحة الصلاة بدونه، وقيل: واجب في الجمعة فقط، وقيل: فرض كفاية، ومشهور مذهب مالك أنه سنة في حق كل مسجد، فرض كفاية على أهل كل بلد، وإن تركوه قوتلوا، والجمهور على أنه من السنن المؤكدة. واستدل من قال بوجوبه بورود الأمر به، وتعقب بأن الأمر إنما ورد بصفة الأذان، كما يأتي، لا بنفسه. وأجيب بأنه إذا ثبت الأمر بالصفة، لزم أن يكون الأصل مأمورًا به.

الحديث الأول

الحديث الأول حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: ذَكَرُوا النَّارَ وَالنَّاقُوسَ، فَذَكَرُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، فَأُمِرَ بِلاَلٌ أَنْ يَشْفَعَ الأَذَانَ، وَأَنْ يُوتِرَ الإِقَامَةَ. قوله: "قال: ذكروا النار والناقوس، فذكر اليهود والنصارى"، كذا ساقه عبد الوارث مختصرًا، ورواية عبد الوهاب الآتية في الباب بعده، أوضح قليلًا، حيث قال: لما أكثر الناس ذكروا أن يُعَلِّموا صفة الصلاة بشيء يعرفونه، فذكروا أن يُوروا نارًا، أو يضربوا ناقوسًا، وأوضح من ذلك رواية روح بن عطاء عن أبي الشيخ، ولفظه: "فقالوا: لو اتخذنا ناقوسًا، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: "ذاك للنَّصَارَى"، فقالوا: لو اتَّخذنا بوقًا، فقال: "ذاك لليهودِ"، فقالوا: لو رفعنا نارًا، فقال: "ذاك للمجوسِ"، فعلى هذا، ففي رواية عبد الوارث اختصار، كأنه كان فيه: "ذكروا النار والناقوس والبوق، فذكروا اليهود والنصارى والمجوس"، فيكون فيه لف ونشر معكوس، فالنار للمجوس، والناقوس للنصارى، والبوق لليهود. وفي حديث ابن عمر الآتي التنصيصُ على أن البوق لليهود. وقال الكِرْمانيّ: يحتمل أن تكون النار والبوق جميعًا لليهود، وجمعًا بين حديثي أنس وابن عمر، ورواية روح تغني عن هذا الاحتمال، والناقوس خشبة تضرب بخشبة أصغر منها، فيخرج منها صوت، وهو من شعار النصارى، والبوق معروف، والمراد أنه يُنفخ فيه، فيجتمعون عند سماع صوته، وهو من شعار اليهود، ويسمى أيضًا الشَّبُّور، بالشين المعجمة المفتوحة والموحدة المضمومة الثقيلة. وقوله: "فأمر بلالًا"، في معظم الروايات على البناء للمفعول، وقد اختلف

أهل الحديث والأصول في اقتضاء هذه الصيغة للرفع، والمختار عند محققي الطائفتين أنها تقتضيه؛ لأن الظاهر أن المراد بالأمر من له الأمر الشرعيّ الذي يلزم اتباعه، وهو الرسول عليه الصلاة والسلام، ويؤيد ذلك هنا من حيث المعنى، أن التقرير في العبادة إنما يؤخذ من توقيف، فيقوى جانب الرفع جدًا. وفي رواية روح بن عطاء المذكورة: "فأمر بلالًا"، بالنصب، وفاعل أمر هو النبيُّ صلى الله تعالى عليه وسلم، وأصرح من ذلك رواية النَّسائيّ وغيره، عن قُتيبَة بلفظ أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أمر بلالًا. قال الحاكم: صرح برفعه إمام الحديث، بلا مدافعة، قُتيبة، ولم ينفرد به قُتيبة عن عبد الوهاب، بل أخرجه أبو عَوانة في صحيحه، والدارقطنيُّ عن يحيى بن مَعين، عن عبد الوهاب، ولم ينفرد به عبد الوهاب، بل رواه البَلاذُرِيّ، عن ابن شهاب الجنّاط، عن أبي قِلابة، وقضية وقوع ذلك عقب المشاورة في أمر النداء إلى الصلاة ظاهر في أن الآمر بذلك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لا غيره، كما استدل به ابن المنذر وابن حبَّان. وقوله: "أن يَشْفع الأذان"، بفتح أوله، وفتح الفاء، أي: يأتي بألفاظه شفعًا. قال الزَّين بن المُنِير: وصف الأذان بأنه شفع، يفسره قوله في الباب الآتي بعد هذا: "مثنى مثنى"، أي: مرتين مرتين، وذلك يقتضي أن تستوي جميع ألفاظه في ذلك، لكن لم يختلف في أن كلمة التوحيد التي في آخره مفردة، فيحمل قوله: "مثنى" على ما سواها. قال في "الفتح": وكأنه أراد بذلك تأكيد مذهبه في ترك تربيع التكبير في أوله، لكن لمن قال بالتربيع أن يدّعي نظر ما ادعاه لثبوت الخبر بذلك. وقوله: "وأن يُوتر الإقامة، أي: يجعلها وترًا، واستدل بهذا الحديث مالك، ومن قال بقوله، على أن الأذان مشفع جميعًا، أي: مثنى مثنى، تكبيره الأول وغيره، إلا كلمة التوحيد الأخيرة كما مر، إشارة إلى الانفراد بالربوبية، وعلى أن الإقامة مفردة، واستثنوا من ذلك التكبير أولًا وآخرًا، فإنه مثنى. وقالت المالكية بترجيع الشهادتين في الأذان بأن يشهد بالوحدانية ثنتين، ثم بالرسالة، ثم

يرجع، فيشهد كذلك، ويكون الصوت في الترجيح أرفع من الأول، وهو وإن كان في العدد مربعًا، فهو في الصورة مثنى، ويالترجيع هكذا قالت الشافعية، غير أنهم يجعلون الشهادتين الأُوليين سرًا، والترجيع جهرًا، ووافقت الشافعية أيضًا على تثنية التكبير في الإقامة، وإفراد غيره، إلا قد قامت الصلاة، فإنها تثنى عندهم أيضًا. وقالت الحنفيّة والشافعية: إن التكبير في أول الأذان مربع، وأجابوا عن لفظ: "وأن يشفع الأذان"، بأن لفظ الشفع يتناول التثنية والتربيع، فليس في لفظ حديث الباب ما يخالف ذلك، على أن تكرير تثنيته في الصورة مفردة في الحكم، ولذا يستحب أن يقالا بنَفَس واحد. واستدل مالك بظهور الشفع في الاثنين، ويرواية ذلك من وجوه صحيحة في أذان أبي محذورة، وأذان ابن زيد، والعمل على ذلك بالمدينة في آل سعد القَرَظ إلى زمانه. واحتج القائلون بتربيع التكبير بما رواه مسلم وأبو عوانة والحاكم، من حديث أبي محذورة، وهو المحفوظ عند الشافعي من حديث ابن زيد. واحتجت الشافعية على تكرير: "قد قامت الصلاة" في الإقامة، برواية سماك بن عطية الآتية عند المصنف، بلفظ: "وأن يُوتِر الإقامة" إلا الإقامة، وقد أجابت المالكية عنه مما قاله ابن منده، من أن قوله: "إلا الإقامة" من قول أيوب، غير مسند، ولذا لم يذكره إسماعيل بن علية في روايته. قال: ففي رواية سماك هذه إدراج، وكذا قال أبو محمد الأصيلي: قوله: "إلا الإقامة"، هو من قول أيوب، وليس من الحديث. وتعقب هذا في "الفتح"، بأن عبد الرزاق رواه عن أيوب بسنده متصلًا بالخبر مفسرًا. ولفظه: "كان بلال يثني الأذان ويوتر الإقامة، إلا قوله قد قامت الصلاة". وأخرجه أبو عوانة في صحيحه، والسراج في مسنده، وللإسماعيليّ من هذا الوجه، ويقول: قد قامت الصلاة، مرتين، والأصل أنَّ ما كان في الخبر فهو منه حتى يقوم دليل على خلافه، ولا دليل في رواية إسماعيل، لأنّه إنما يتحصل منها أن خالدًا كان لا يذكر الزيادة، وكان أيوب يذكرها، وكل منهما روى الحديث عن أبي قِلابة، عن أنس، فكأنّ في رواية أيوب زيادة من حَافظ، فتقبل.

قلت: على كل حال، الرواية التي لم يتكلم فيها أرجح، وعمل أهل المدينة مرجح، وهو عليها كما يأتي. وقول صاحب الفتح: إن عمل أهل مكة على تلك الزيادة، لم يذكر له مستندًا، وأيضًا ليس لأهل مكة عمل يرجح به، كعمل أهل المدينة، لفقدان المعنى الذي في عمل أهل المدينة فيها. وقد قالت الحَنفية بتثنية الإقامة كلها، إلا كلمة التوحيد الأخيرة، واحتجوا مما رواه التِّرمذيّ عن أبي مَحذورة: "أنه عليه الصلاة والسلام علَّمه الأذان مثنى مثنى، والإقامة مثنى مثنى"، وحديث أبي جُحَيْفة: "أن بلالًا رضي الله تعالى عنه كان يؤذن مثنى مثنى"، وهذا الذي احتجوا به لا يوازي ما في الصحيحين عن أنس. وأجاب بعضهم عما في الصحيح بدعوى النسخ، وأن إفراد الإقامة كان أولًا، ثم نسخ بحديثِ أبي مَحذورة، يعني الذي رواه أصحاب السنن، وفيه تثنية الإقامة، وهو متأخر عن حديث أنس، فيكون ناسخًا وعورض بأن في بعض طرق حديث أبي مَحذورة المُحسِّنة التربيع والترجيع، فكان يلزمهم القول به. وقد أنكر أحمد على من ادّعى النسخ بحديث أبي مَحذورة، واحتج بأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: "رجع بعد فتح مكة إلى المدينة، وأقر بلالًا على إفراد الإقامة، وعلّمه سعد القرظ، فأذَّن به بعده"، كما رواه الدارقطنيّ والحاكم. وقال ابن عبد البَرّ: ذهب أحمد وإسحاق وداود وابن جرير، إلى أن الأذان من الاختلاف المباح، فإن رَبَّع التكبير الأول في الأذان، أو ثناه، أو رجّع في التشهد، أو لم يرجع، أو ثنى الإقامة، أو أفردها كلها، أو "إلا قد قامت الصلاة"، فالجميع جائز. وعن ابن خُزَيمة: إن ربّع الأذان ورجّع فيه ثنَّى الإقامة، وإلا أفردها. وقيل: لم يقل بهذا التفضيل أحد قبله. قيل: الحكمة في تثنية الأذان وإفراد الإقامة أن الأذان لإعلام الغائبين، فيكرر ليكون أوصل إليهم، بخلاف الإقامة، فإنها للحاضرين، ومن ثَمَّ استُحب أن يكون الأذان في مكان عال، بخلاف الإقامة، وأن يكون الصوت في الأذان أرفع منه في الإقامة، وأن يكون الأذان مُرتلًا، والإقامة مسرعة، وإنما اختص الترجيح بالشهادتين؛ لأنهما أعظم ألفاظ الأذان، واختص التكرير في الإقامة

رجاله خمسة

بعد "قامت الصلاة" عند القائل به؛ لأنها المقصودة من الإقامة بالذات. رجاله خمسة، وفيه ذكر بلال. الأول: عمران بن مَيْسرة، وقد مرّ في الثاني والعشرين من العلم، ومرّ عبد الوارث وخالد الحَذَّاء في السابع عشر منه، ومرّ أبو قِلابة في التاسع من الإيمان، ومرّ أنس في السادس منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، والعنعنة في موضعين، والقول في موضعين، وشيخ البخاري من أفراده، ورواته كلهم بصريُّون. أخرجه البخاريّ هنا، وفي ذكر بني إسرائيل، ومسلم وأبو داود والتِّرمذيّ والنَّسائيّ وابن ماجه في الصلاة، ومرّ بلال في التاسع والثلاثين من العلم.

الحديث الثاني

الحديث الثاني حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلاَنَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَجْتَمِعُونَ فَيَتَحَيَّنُونَ الصَّلاَةَ، لَيْسَ يُنَادَى لَهَا، فَتَكَلَّمُوا يَوْمًا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: اتَّخِذُوا نَاقُوسًا مِثْلَ نَاقُوسِ النَّصَارَى. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ بُوقًا مِثْلَ قَرْنِ الْيَهُودِ. فَقَالَ عُمَرُ: أَوَلاَ تَبْعَثُونَ رَجُلاً يُنَادِي بِالصَّلاَةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "قُمْ يَا بِلاَلُ، قُمْ فَنَادِ بِالصَّلاَةِ". قوله: "إن ابن عمر كان يقول، في رواية مسلم عن عبد الله بن عمر أنه قال. وقوله: "حين قدموا المدينة"، أي: من مكة في الهجرة. وقوله: "فيتحينون"، بحاء مهملة بعدها مثناة تحتية، ثم نون، أي: يقدرون أحيانها ليأتوا إليها، والحين: الوقت والزمان. وقوله: "ليس يُنادَى لها"، بفتح الدال على البناء للمفعول. قال ابن مالك: فيه جواز استعمال ليس حرفًا لا اسم لها ولا خبر، وقد أشار إليه سِيبَوَيه. ويحتمل أن يكون اسمها ضمير الشأن، والجملة بعدها خبر. ورواية مسلم تؤيد هذا، فإن لفظه "ليس يُنادي بها أحد"، وقوله: "فقال بعضهم: اتخذوا"، لم يعلم المتكلمين في ذلك. واختصر الجواب في هذه الرواية. ووقع لابن ماجه من وجه آخر، عن ابن عمر أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم استشار الناس لما يَجْمعهم إلى الصلاة، فذكروا البوق فكرهه من أجل اليهود، ثم ذكروا الناقوس فكرهه من أجل النصارى، وقد مرت رواية روح بن عطاء نحوه. وقوله: "بل بوقًا"، أي: بل اتخذوا. وفي بعض النسخ: "بل قرنًا"، وهي

رواية مسلم والنَّسائيّ، والبوق والقرن معروفان. وقد مرّ ما يفعل به. وقوله: "فقال عمر: أولا تبعثون رجلًا"، زاد الكشميهنيّ: "منكم". وقوله: "أو" الهمزة للاستفهام، والواو للعطف على مقدر، كما في نظائره. قال الطيبيّ: الهمزة إنكار للجملة الأولى المقدرة، وتقرير للجملة الثانية. وقوله: "يُنادي بالصلاة"، قال القرطبي: يحتمل أن يكون عبد الله بن زيد لما أخبر برؤياه، وصدَّقه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، بادر عمر، فقال: أوَلا تبعثون رجلًا ينادي، أي: يؤذن للرؤيا المذكورة، فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: "قم يا بلال"، فعلى هذا فالفاء في سياق حديث ابن عمر هي الفصيحة، والتقدير: فافترقوا فرأى عبد الله بن زيد، فجاء إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فقص، فصدّقه، فقال عمر. لكن سياق حديث عبد الله بن زيد يخالف ذلك، فإن فيه أنه لما قص رؤياه على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، قال له: "ألقها على بلال فليؤذن بها". قال: فسمع عمر الصوت، فخرج، فأتى النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: لقد رأيت مثل الذي رأى، فدل على أن عمر لم يكن حاضرًا لما قَصّ عبد الله بن زيد رؤياه، والظاهر أن شارة عمر بإرسال رجل ينادي للصلاة، كانت عقب المشاورة فيما يفعلونه، وأن رؤيا عبد الله بن زيد كانت بعد ذلك. وقد أخرج أبو داود بسند صحيح عن أبي عمير بن أنس، عن عمومته من الأنصار، قالوا: اهتم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم للصلاة كيف يجمع الناس لها؟ فقيل: إنصب راية عند حضور وقت الصلاة، فإذا رأوها آذَنَ بعضُهم بعضًا، فلم يعجبه الحديث. وفيه ذكر القُنْع، بضم القاف وسكون النون، يعني البوق، وذكروا الناقوس، فانصرف عبد الله بن زيد وهو مهتم، فأُري الأذان، فغدا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، قال: وكان عمر رآه قبل ذلك، فكتمه عشرين يومًا، ثم أخبر به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال: "ما منعك أن تخبرنا؟ " فقال: سبقني عبد الله بن زيد فاستحييت. فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: "يا بلال، قم فانظر ما يأمرك به عبد الله بن زيد، فافعله". ترجم له أبو داود "بدء الأذان".

قال ابن عبد البَرّ: روى قصة عبد الله بن زيد جماعة من الصحابة بألفاظ مختلفة ومعان متقاربة، وهي من وجوه حسان، وهذا أحسنها، وهذا لا يخالف ما رواه ابن خُزيمة وابن حبَّان في حديث عبد الله بن زيد، من أنه لما قضى منامه، فسمع عمر الأذان، فجاء فقال: قد رأيت مثل ذلك؛ لأنه يحمل على أنه لم يخبر بذلك عقب إِخبار عبد الله، بل متراخيًا عنه، لقوله: "ما منعك أن تخبرنا؟ "، أي: عقب إخبار عبد الله، فاعتذر بالاستحياء، فدل على أنه لم يخبر بذلك على الفور، وليس في حديث أبي عمير التصريح بأن عمر كان حاضرًا عند قص عبد الله رؤياه، بخلاف ما وقع في روايته التي ذكرتها: "فسمع عمر الصوت، فخرج فقال"، فإنه صريح في أنه لم يكن حاضرًا عند قصّ عبد الله. وحديث ابن عمر هذا ظاهر في أن الأذان إنما شرع بعد الهجرة، فإنه نفى النداء بالصلاة قبل ذلك مطلقًا. وقوله في آخره: "يا بلال، قُمْ فنادِ بالصلاة"، كان ذلك قبل رؤيا عبد الله بن زيد، ويأتي تقريره قريبًا إن شاء الله تعالى، وسياق حديثه يدل على ذلك فيما أخرجه ابن خزيمة وابن حبان، ففيه نحو حديث ابن عمر، وفي آخره: "فبينما هم على ذلك أُري عبد الله النداء"، فذكر الرؤيا، وفيها صفة الأذان، لكن بغير ترجيع، وفيه تربيع التكبير، وإفراد الإقامة، وتثنية: "قد قامت الصلاة". وفي آخره قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: "إنها لرؤيا حق إِن شاء الله تعالى، فقم يا بلال فألقها عليه، فإنه أندى صوتًا منك". وفيه مجيء عمر وقوله إنه رأى مثل ذلك. وقد أخرج التِّرمذيّ في ترجمة بدء الأذان حديث ابن عمر، وإنما لم يخرجه المؤلف؛ لأنه ليس على شرطه، وقد روي عن عبد الله بن زيد من طرق، وحكى ابن خُزَيْمة عن الذُّهليّ أنه ليس في طرقه أصح من هذه الطريق، وشاهده حديث عبد الرزاق عن ابن المسيب مرسلًا، ومنهم من وصله عن سعيد، عن عبد الله بن زيد، والمرسل أقوى إسنادًا. قلت: روايةُ أبي داود لحديث عبد الله بن زيد ليس فيها تربيع التكبير، ولا تثنية: "قد قامت الصلاة"، فهي موافقة لمذهب مالك، إِلا أنه لم يذكر فيها الترجيح، وقد مر دليله. وفي "الأوسط" للطبرانيّ أن

أبا بكر أيضًا رأى الأذان، وفي "الوسيط" للغزاليّ أنه رآه بضعة عشر رجلًا، وعبارة الحيليّ: "أربعة عشر رجلًا"، وأنكره ابن الصَّلاح والنَّوويّ. ونقل مغلطاي عن بعض كتب الفقهاء أنه رآه سبعة، ولا يثبت شيء من ذلك إلا لعبد الله بن زيد، وقصة عمر جاءت في بعض طرقه كما مر. وفي مسند الحارث بن أبي أسامة بسند واهٍ، قال: "أول من أذّن بالصلاة جبريل في سماء الدنيا، فسمعه عمر وبلال، فسبق عمر بلالًا، فأخبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ثم جاء بلالٌ، فقال: سبقك بها عمر". واستشكل إثبات حكم الأذان برؤيا عبد الله بن زيد؛ لأن رؤيا غير الأنبياء لا ينبني عليها حكم شرعي. وأُجيب باحتمال مقارنة الوحي لذلك، أو بأنه صلى الله تعالى عليه وسلم أَمَرَ بمقتضاه، لينظر أيقر على ذلك أم لا، ولاسيما لما رأى نظمها يبعد دخول الوساوس فيه، وهذا ينبني على القول بجواز اجتهاده عليه الصلاة والسلام في الأحكام، وهو المنصور في الأصول، ويؤيد الأول ما رواه عبد الرزاق وأبو داود في "المراسيل" عن عُبَيد بن عُمَير اللَّيثي، أحد كبار التابعين، أن عمر لما رأى الأذان جاء ليخبر به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فوجد الوحي قد ورد بذلك، فما راعه إلا أذان بلال، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: "سبقك بذلك الوحي"، وهذا أصح مما حكى الداوديّ عن ابن إسحاق: "أن جبريل أتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بالأذان قبل أن يخبره عبد الله بن زيد وعمر بثمانية أيام". وذكر السُّهَيليّ أن الحكمة في إعلام الناس به على غير لسانه عليه الصلاة والسلام، التنويهُ بقدره، لذكره بلسان غيره، ليكون أقوى لأمره، وأفخم لشأنه. وبُني على صحة هذه الحكمة في مجيء الأذان على لسان الصحابة، أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم سمعه فوق سبع سموات، وهو أقوى من الوحي، فلما تأخر الأمر بالأذان عن فرض الصلاة، وأراد إعلامهم بالوقت، فرأى الصحابي المنام فقصها، فوافقت ما كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم سمعه، فقال: "إنها لرؤيا حق"، وعلم حينئذ أن مراد الله بما أراه في السماء

أن يكون سنّة في الأرض، وتقوّى ذلك بموافقة عمر؛ لأن السكينة تنطق على لسانه، ولم يكتف برؤيا عبد الله حتى أضيف إليه عمر للتقوية، ولم يقتصر على عمر ليصير في معنى الشهادة. وقد قيل إن مناسبة اختصاص بلال بالأذان دون غيره، هي لكونه كان لما عُذّب ليرجع عن الإِسلام يقول: أحد أحد، فجوزي بولاية الأذان المشتملة على التوحيد في ابتدائه وانتهائه، وهي مناسبة حسنة. وقوله: "يا بلال، قم فناد بالصلاة"، في رواية الإسماعيلي: "فأذَّن بالصلاة"، قال عياض: المراد الإعلام المحض بحضور وقتها، لا خصوص الأذان المشروع. وأغرب ابن العربيّ فحمل قوله: "أذّن" على الأذان المشروع، وطعن في صحة حديث ابن عمر، وقال: عجبًا لأبي عيسى كيف صححه؟ والمعروف أن شرع الأذان إنّما كان برؤيا عبد الله بن زيد، ولا تدفع الأحاديث الصحيحة بمثل ما قاله، مع إمكان الجمع كما مرّ. وقد قال ابن منده: إن حديث ابن عمر مُجْمَع على صحته، وقد قال عِياض وغيره: فيه حجة لمشروعية الأذان قائمًا، وكذا احتج به ابن خُزَيمة وابن المُنذر، وتعقبه النّوويّ بأن المراد بقوله: "قم"، أي: اذهب إلى موضع بارز فنادِ فيه بالصلاة، ليسمعك الناس. قال: وليس فيه تعرض للقيام في حال الأذان، وما نفاه ليس ببعيد من ظاهر اللفظ، فإن الصيغة محتملة للأمرين، وإن كان ما قاله أرجح. ونقل عِياض أن مذهب العلماء كافة أن الأذان قاعدًا لا يجوز، إلا عند أبي ثَوْر، ووافقه أبو الفَرَج المالكي. وتعقب بأن هذا خلاف المعروف عند الأئمة، وأن الصواب ما قال ابن المنذر، أنهم اتفقوا على أن القيام من السنة، ومذهب مالك أن القيام مستحب لا غير. وقد قال النَّوويّ: ومذهبنا الشهور أنه سُنّة، فلو أذن قاعدًا من غير عذر صحّ أذانه، لكن فاتته الفضيلة. وما قاله هو مذهب الحَنَفيّة، وكذلك الحنابلة، يسن عندهم القيام فيه. وأخرج ابن سعد من مراسيل سعيد بن المسيَّب أن اللفظ الذي كان ينادي به بلال للصلاة هو: "الصلاة جامعة". وفي حديث ابن عمر

رجاله خمسة

دليل على مشروعية طلب الأحكام من المعاني المستنبطة دون الاقتصار على الظواهر، يعني من قول عمر، وعلى مراعاة المصالح والعمل بها، وذلك أنه لما شق عليهم التبكير إلى الصلاة فتفوتهم أشغالهم، أو التأخير، فيفوتهم وقت الصلاة، نظروا في ذلك، وفيه مشروعية التشاور في الأمور المهمة، وأنه لا حرج على أحد من المتشاورين إذا أخبر بما أداه إليه اجتهاده. وفيه منقبة ظاهرة لعمر، وفيه التحين لأوقات الصلاة. رجاله خمسة: وفيه ذكر عمر، الأول محمود بن غيلان، وقد مرّ في السابع والأربعين من كتاب المواقيت، ومرّ عبد الرَّزَّاق في الخامس والثلاثين من الإيمان، ومرّ ابن جُرَيج في الثالث من الحيض، ومرّ نافع في الثالث والسبعين من العلم، ومرّ ابن عمر أول كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه، ومرّ عمر في الأول من بدء الوحي. فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والإخبار في موضعين: أحدهما بالجمع، والآخر بالإفراد. أخرجه مسلم والتِّرمذيّ والنَّسائيّ في الصلاة. ثم قال المصنف: باب الأذان مثنى وفي رواية الكُشْمَيهنيّ: "مثنى مثنى"، أي: مرتين مرتين، ومثنى معدول عن أثنين، أو هو بغير تنوين، فتحمل رواية الكُشمَيهنيّ على التوكيد؛ لأن الأول يفيد تثنية كل لفظ من ألفاظ الأذان، والثاني يؤكد ذلك، وثبت لفظ هذه الترجمة في حديث لابن عمر مرفوع، أخرجه أبو داود والطيالسيّ في مسنده، فقال: مثنى مثنى، وهو عند أبي داود والنَّسائيّ، وصححه ابن خُزيمة وغيره من هذا الوجه، لكن بلفظ مرتين مرتين.

الحديث الثالث

الحديث الثالث حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ عَطِيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِى قِلاَبَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: أُمِرَ بِلاَلٌ أَنْ يَشْفَعَ الأَذَانَ، وَأَنْ يُوتِرَ الإِقَامَةَ، إِلاَّ الإِقَامَةَ. قوله: "أمر بلال أن يشفع الأذان، مرّ الكلام عليهما في الحديث الأول. وقوله: "وأن يوتر الإقامة إلا الإقامة"، المراد بالمنفي غير المراد بالمثبت، فالمراد بالمثبت جميع الألفاظ المشروعة عند القيام إلى الصلاة، والمراد بالمنفي خصوص قوله: "قد قامت الصلاة" كما يأتي ذلك صريحًا. وحصل من ذلك جناس تام، وقد استوفي الكلامُ عليها في الحديث. رجاله ستة، وفيه ذكر بلال. الأول: سليمان بن حرب، وقد مرّ في الرابع عشر من الإيمان، ومرّ حماد بن زيد في الرابع والعشرين منه، ومرّ أيوب وأبو قِلابة في التاسع منه، ومرّ أنس في السادس منه. والسادس: سِماك بن عطية البَصريّ المِرْبديّ، قال ابن مَعين: ثقة، وقال حماد بن زيد: كان من جُلساء أيّوب. وقال النَّسائيّ: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات". روى عن الحسين البصريّ وعمرو بن دينار والقَهْرمانيّ وأيوب. وروى عنه حماد بن زيد وحَرْب بن ميمون والهَيْثَم بن الربيع. فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والقول في موضعين، والعنعنة في أربعة. ورواته كلّهم بصريُّون.

الحديث الرابع

الحديث الرابع حَدَّثَنَي مُحَمَّدٌ، وهو ابنُ سَلام، قَالَ: حَدَّثَنَي عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقفيّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ، عَنْ أَبِى قِلاَبَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: لَمَّا كَثُرَ النَّاسُ، قَالَ: ذَكَرُوا أَنْ يَعْلَمُوا وَقْتَ الصَّلاَةِ بِشَيْءٍ يَعْرِفُونَهُ، فَذَكَرُوا أَنْ يُورُوا نَارًا، أَوْ يَضْرِبُوا نَاقُوسًا، فَأُمِرَ بِلاَلٌ أَنْ يَشْفَعَ الأَذَانَ، وَأَنْ يُوتِرَ الإِقَامَةَ. قوله: "أن يوروا نارًا"، أي: يوقدوها، يقال: وَرَى الزَّنْد إذا خرجتْ ناره، وأوريته إذا أخرجتها. وفي رواية مسلم: "أن ينوروا نارًا"، أي: يظهروا نورها، وهذا هو الحديث الأول. وقد مرّ الكلام عليه. رجاله خمسة: الأول: محمَّد بن سَلام، وقد مرّ في الثالث عشر من الإيمان، ومرّ عبد الوهاب في التاسع منه، وكذلك أبو قِلابة وأنس في السادس منه، ومرّ خالد الحَذَّاء في السابع عشر من العلم، وقد مرّ في الحديث الأول ذكر مواضعه المخرج فيها. ثم قال المصنف: باب الإقامة واحدة إلا قوله قد قامت الصلاة قال الزَّينُ بنُ المُنير: خالف البخاريّ لفظ الحديث في الترجمة، فعدل عنه إلى قوله: "واحدة" لأن لفظ "الوتر" غير مختصر في المرة، فعدل عن لفظ فيه الاشتراك إلى ما لا اشتراك فيه، وإنما لم يقل واحدة واحدة مراعاة للفظ الخبر

الوارد في ذلك، وهو عند ابن حبّان، ولفظه: "الأذان مثنى، والإقامة واحدة"، وروى الدارقطنيّ وحسَّنه في حديث لأبي محذورة: "وأمره أن يقيم واحدة واحدة"، وقوله: "إلا قوله قد قامت الصلاة"، هو لفظ معمر، عن أيوب، كما مرّ في الحديث الأول، أعني حديث أنس.

الحديث الخامس

الحديث الخامس حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسٍ، قَالَ أُمِرَ بِلاَلٌ أَنْ يَشْفَعَ الأَذَانَ، وَأَنْ يُوتِرَ الإِقَامَةَ، قَالَ إِسْمَاعِيلُ: فَذَكَرْتُ لأَيُّوبَ فَقَالَ: إِلاَّ الإِقَامَةَ. قوله: "قال إسماعيل: ليس معلقًا، وإنما هو بالسند الأول. وقوله: "فذكرت، كذا للأكثر، بحذف المفعول، وللكُشمَيهنيّ والأصيلي: فذكرته، أي: حديثا خالد. واعترض الإسماعيليّ بأن إيراد حديث سماك بن عطية في هذا الباب أولى من إيراد حديث ابن علية. والجواب أن المصنف قصد رفع توهم من يتوهم أنه موقوف على أيوب؛ لأنّه أورده في مقام الاحتجاج به، ولو كان عنده مقطوعًا لم يحتج به، وقد مرت مباحث هذا الحديث في الرواية الأولى من هذا الكتاب. رجاله خمسة: الأول: عليّ بن عبد الله المَدِينيّ، وقد مرّ في الرابع عشر من العلم. والثاني: إسماعيل بن إبراهيم، وقد مرّ في الثامن من الإيمان، ومرّ أيّوب وأبو قِلابة في التاسع منه، ومرّ أنس في السادس منه، ومرّ خالد الحذاء في السابع عشر من العلم. ثم قال المصنف: باب فضل التأذين راعى المصنف لفظ التأذين، لوروده في حديث الباب، وقال الزَّيْن بن

المُنير: التأذين يتناول جميع ما يصدر عن المؤذِّن من قول وفعل وهيئة. وحقيقة الأذان تعقل بدون ذلك، والظاهر أن التأذين بمعنى الأذان، لقوله في الحديث: "حتى لا يسمع التأذين"، وفي مسلم: "حتى لا يسمع صوته"، فالتقييد بالسماع لا يدل على فعل ولا على هيئة، مع أن ذلك هو الأصل في المصدر.

الحديث السادس

الحديث السادس حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لاَ يَسْمَعَ التَّأْذِينَ، فَإِذَا قَضَى النِّدَاءَ أَقْبَلَ، حَتَّى إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلاَةِ أَدْبَرَ، حَتَّى إِذَا قَضَى التَّثْوِيبَ أَقْبَلَ، حَتَّى يَخْطُرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ، يَقُولُ: اذْكُرْ كَذَا، اذْكُرْ كَذَا. لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ لاَ يَدْرِي كَمْ صَلَّى؟ ". قوله: "إذا نودي للصلاة"، أي: لأجل الصلاة، وللنَّسائيّ ومسلم: "بالصلاة"، ويمكن حملها على معنى واحد، بجعل الباء للسببية، كقوله تعالى: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ}. وقوله: "له ضُراط"، جملة اسمية حالية بدون واو، لحصول الربط بالضمير، وللأصيليّ: "وله ضراط" بالواو. وللمصنف في بدء الخلق من وجه آخر كذلك. قال عياض: يمكن حمله على ظاهره؛ لأنّه جسم متغذ يصح منه خروج الريح، ويحتمل أنه عبارة عن شدة نفاره، وتقويه رواية لمسلم: "له حُصاص" بمهملات مضموم الأول، والحصاص: شدة العدو. قال الطّيبيّ: شبه شغل الشيطان نفسه عن سماع الأذان بالصوت الذي يملأ السمع، ويمنعه عن سماع غيره، ثم سماه ضراطًا تقبيحًا له، والظاهر أن المراد بالشيطان إبليس، وعليه يدل كلام كثير من الشراح. ويحتمل أن المراد جنس الشيطان، وهوكل متمرد من الجن والإنس، لكن المراد هنا شيطان الجن خاصة. وقوله: "حتى لا يسمع التأذين"، ظاهره أنه يتعمد إخراج ذلك، إما ليشتغل بسماع الصوت الذي يخرجه عن سماع المؤذن، أو يصنع ذلك استخفافًا كما

يفعله السفهاء. ويحتمل أن لا يتعمد ذلك، بل يحصل عند سماع الأذان شدة خوف يحدث له ذلك الصوت بسببها، ويحتمل أن يتعمد ذلك ليقابل ما يناسب الصلاة من الطهارة بالحدث. واستدل به على استحباب رفع الصوت بالأذان؛ لأن قوله: "حتى لا يسمع" ظاهر في أنه يبعد إلى غاية ينتفي فيها سماعه للصوت، وقد وقع بيان الغاية في رواية مسلم عن جابر، فقال: "حتى يكون مثل الروحاء"، وحكى الأعمش عن رواية أبي سفيان، عن جابر أن بين المدينة والروحاء ستة وثلاثين ميلًا، وهذه الرواية هي المعتمدة، وفي مسند إسحاق: "حتى يكون بالرَّوْحاء، وهي ثلاثون ميلًا من المدينة". وقوله: "فإذا قضي النداء"، أي: بضم أوله، والمراد بالقضاء الفراغ أو الانتهاء، ويروى بفتح أوله على حذف الفاعل، والمراد المنادي، واستدل به على أنه كان بين الأذان والإقامة فصل. وقوله: "حتى إذا ثُوِّب للصلاة"، بضم المثلثة وتشديد الواو المكسورة، قيل: هو من ثاب إذا رجع. قال القرطبيّ: ثوب بالصلاة إذا أقيمت، وأصله أنه رجع إلى ما يشبه الأذان، وكل من ردّد صوتًا فهو مثوِّب. ويدل عليه رواية مسلم عن أبي هريرة: "فإذا سمع الإقامة ذهب"، وقيل: من ثَوّب إذا أشار بثوبه عند الفراغ، لإعلام غيره. قال الجمهور: المراد بالتثويب هنا الِإقامة، وبذلك جزم أبو عَوانة في صحيحه، والبيهقيّ. وقد قال الخطابى: العامة لا تعرف التَّثْويب إلا قول المؤذن في الأذان: الصلاة خير من النوم. لكن المراد به في هذا الحديث الإقامة، وزعم بعض الكوفيين أن المراد بالتثويب قول المؤذن بين الأذان والإقامة: "حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة"، وحكى ذلك ابن المُنْذر عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة، وزعم أنه تفرد به، لكن في سنن أبي داود عن ابن عمر أنه كره التثويب بين الأذان والإقامة، وهذا يدل على أن له سلفًا في الجملة. وقوله: "أقبل"، زاد مسلم عن أبي هريرة: "فوسوس". وقوله: "حتى يَخطُر"، قال عياض: سمعناه من أكثر الرواة بضم الطاء، وضبطناه عن المتقنين

بالكسر، وهو الوجه، ومعناه يوسوس، وأصله من خطر البعير بذنبه إذا حركه فضرب به فخذيه، وأما الضم فهو من المرور، أي: يدنو منه، فيمر بينه وبين قلبه فيشغله. وضعف الهَجَريّ الضمّ وقال: هو بالكسر في كل شيء. وقوله: "بين المرء ونفسه"، أي: قلبه، وكذا هو عند المصنف في بدء الخلق من وجه آخر. والمعنى أنه يحول بين المرء وبين ما يريده من إقباله على صلاته وإخلاصه فيها. وقوله: "اذكر كذا، اذكر كذا"، هكذا بدون واو، وفي رواية كريمة: "واذكر كذا" بواو العطف، وهي لمسلم. زاد مسلم: "فهنّاه ومنّاه، وذكَّره من حاجاته ما لم يكن يذكر". وعند المصنف في صلاة السهو: "اذكر كذا وكذا". وقوله: "لما لم يكن يذكر"، أي: لشيء لم يكن على ذكره قبل دخوله في الصلاة، وفي مسلم: "لما لم يكن يذكر من قبل"، ومن ثم استنبط أبو حَنيفة للذي شكا إليه أنه دفن مالًا ثم لم يهتد لمكانه أن يصلي ويحرص أن لا يحدث نفسه بشيء من أمر الدنيا، ففعل، فذكر مكان المال في الحال. قيل: خصه بما يعلم دون ما لا يعلم؛ لأنه يميل لما يعلم أكثر لتحقق وجوده، والذي يظهر أنه لأعم من ذلك، فيذكره بما سبق له به علم ليشغل باله به، وبما لم يكن سبق ليوقعه في الفكرة فيه، وهذا أعم من أن يكون في أمور الدنيا أو في أمور الدين كالعلم، لكن هل يشمل ذلك التفكر في معاني الآيات التي يتلوها؟ لا يبعد ذلك؛ لأن غرضه نقص خشوعه وإخلاصه بأي وجه كان، وقد مرّ الكلام على هذا عند حديث عثمان: "لا يحُدِّثُ فيهما نَفْسَه" من كتاب الوضوء. وقوله: "حتى يظل الرجل"، بالظاء المشالة المفتوحة للجمهور، ومعنى يظل في الأصل اتصاف المخبر عنه بالخبر نهارًا، لكنها هنا بمعنى يصير أو يبقى. وعند الأصيليّ: "يَضِل" بكسر الساقطة، أي: ينسى. ومنه قوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا}، أو معناه يخطىء، ومنه: {لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى}، والمشهور الأول. وقوله: "لا يدري"، وفي رواية في صلاة السهو: "إن يدري" بكسر همزة إن، وهي نافية بمعنى لا، وحكى ابن عبد البر عن الأكثر في

"الموطأ" فتح الهمزة. وقال القرطبيّ: ليست رواية الفتح بشيء إلا مع رواية الضاد الساقطة، فيكون أن مع الفعل بتأويل المصدر، مفعول ضل بإسقاط حرف الجر، أي: يضل عن درايته. وقوله: "كم صلَّى"، للمصنف في بدء الخلق عن أبي هريرة: "حتى لا يدري، أثلاثًا صلى أم أربعًا؟ " وقد استوفى الكلام عليه في باب التوجه نحو القبلة، حيث كان من كتاب الصلاة عند ذكر حديث عبد الله بن مسعود هناك. وقد اختلف العلماء في الحكمة في هروب الشيطان عند سماع الأذان والإقامة، دون سماع القرآن والذكر في الصلاة، فقيل: يهرب حتى لا يشهد للمؤذن يوم القيامة، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن إنس ولا جن إلا شهد له، كما يأتي قريبًا، ولعل البخاريّ أشار إلى ذلك بإيراده الحديث المذكور عقب هذا الحديث، ونقل عياض أن اللفظ عام، والمراد به خاص، وهم المؤمنون من الجن والإنس؛ لأنهم هم الذين تصح شهادتهم، وأما الكفار فلا تقبل لهم شهادة، ورده لما جاء من الآثار بخلافه. وقيل: يهرب نفورًا عن سماع الأذان، ثم يرجع موسوسًا ليفسد على المصلي صلاته، فصار رجوعه من جنس فراره، والجامع بينهما الاستخفاف. وقيل: لأن الأذان دعاء إلى الصلاة المشتملة على السجود الذي أباه وعصى بسببه، واعترض بأنه يعود قبل السجود، فلو كان هربه لأجله لم يعد إلا بعد فراغه. وأجيب بأنه يهرب عند سماع الدعاء بذلك، ليغالط نفسه بأنه لم يخالف أمرًا، ثم يرجع ليفسد على المصلي سجوده الذي أباه. وقيل: إنّما يهرب لاتفاق الجميع على الإعلان بشهادة الحق، وإقامة الشريعة. واعترض بأن الاتفاق على ذلك حاصل قبل الأذان وبعده من جميع من يصلي. وأجيب بأن الإعلان أخص من الاتفاق، فإن الإعلان المختص بالأذان لا يشاركه فيه غيره من الجهر بالتكبير والتلاوة، ولهذا قال لعبد الله بن زيد: "ألقه على بلال، فإنه أندى صوتًا منك"، أي: أقصد في المد والإطالة والإسماع، ليعم الصوت ويطول أمد التأذين، فيكثر الجمع، ويفوت على الشيطان مقصوده من إلهاء الآدمي عن

رجاله خمسة

إقامة الصلاة في جماعة، أو إخراجها عن وقتها، أو وقت فضيلتها، فيفر حينئذ وقد يَئِسَ من أن يردهم عما أعلنوا به، ثم رجع لما طُبع عليه من الأذى والوسوسة. وقال ابن الجوزيّ: على الأذان هيبة يشتد انزعاج الشيطان بسببها؛ لأنه لا يكاد يقع في الأذان رياء، ولا غفلة عند النطق به، بخلاف الصلاة، فإن النفس تحضر فيها، فيفتح لها الشيطان أبواب الوسوسة، وقد ترجم عليه أبو عوانة في صحيحه الدليل على أن المؤذن في أذانه وإقامته منفى عنه الوسوسة والرياء، لتباعد الشيطان منه. وقيل: لأن الأذان إعلام بالصلاة التي هي أفضل الأعمال بألفاظ من أفضل الذكر، لا يزاد فيها ولا ينقص منها، بل تقع على وفق الأمر، فيفر من سماعها. وأما الصلاة، فلما يقع من كثير من الناس فيها من التفريط، فيتمكن الخبيث من المفرط، فلو قدر أن المصلي وفى بجميع ما أُمر به فيها، لم يقربه إذا كان وحده، وهو نادر. وكذا إذا انضم إليه من هو مثله، فإنه يكون أندر. قاله ابن أبي جمرة، نفعنا الله تعالى ببركته. قال ابن بطّال: يشبه أن يكون الزجر عن خروج المرء من المسجد بعد أن يؤذن المؤذن من هذا المعنى، لئلا يكون متشبهًا بالشيطان الذي يفرّ عند سماع الأذان. وقد فهم بعض السلف من الأذان في هذا الحديث الإتيان بصورة الأذان، وإن لم توجد فيه شرائط الأذان من وقوعه في الوقت وغير ذلك، ففي مسلم عن أبي صالح أنه قال: "إذا سمعت صوتًا فنادِ بالصلاةِ" واستدلّ بهذا الحديث. وروى مالك عن زيد بن أسلم نحوه، واقتصر المصنف في فضل الأذان على هذا الحديث هنا، وإن كانت فيه أحاديث كثيرة ذكر المصنف بعضها في مواضع أخرى، وسنذكر بعضها في الباب الذي يليه؛ لأن هذا الخبر تضمن فضلًا لا يُنال بغير الأذان، بخلاف غيره من الأخبار، فإن الثواب المذكور فيها يدرك بأنواع أخرى من العبادات. رجاله خمسة: الأول: عبد الله بن يوسُف، والثاني: مالك، وقد مرّا في الثاني من بدء

باب رفع الصوت بالنداء

الوحي، ومرّ أبو الزِّناد والأعرج في السابع من الإيمان، ومرّ أبو هُريرة في الثاني منه. أخرجه أبو داود والنَّسائيّ في الصلاة. ثم قال المصنف: باب رفع الصوت بالنداء قال الزَّينُ بنُ المُنير: لم ينص على حكم رفع الصوت؛ لأنه من صفة الأذان، وهو لم ينص في أصل الأذان على حكم كما مرّ. وقد ترجم عليه النَّسائيّ باب "الثواب على رفع الصوت بالأذان". ثم قال: وقال عُمر بن عبد العزيز: أذِّن أذانًا سمحًا، وإلا فاعتزلنا. الظاهر أنه خاف عليه من التطريب الخروجَ عن الخشوع، لا أنه نهاه عن رفع الصوت؛ لأن في لفظ الأثر أن مؤذنًا أذن فطرب في أذانه، فقال له عمر: ... ، إلخ. قال في "الفتح": لم أقف على اسم هذا المؤذن، وأظنه من بني سعد القَرَظ؛ لأن ذلك وقع حيث كان عمر بن عبد العزيز أميرًا على المدينة. وقد روى نحو هذا من حديث ابن عباس مرفوعًا، أخرجه الدارَقُطنيّ، وفيه إسحاق بن أبي يحيى الكعبيّ، وهو ضعيف عند الدارقطنيّ وابنَ عَدِيّ. وقال ابن حِبَّان: لا تحل الرواية عنه، ثم غفل فذكره في "الثقات". وعمر مرّ أول كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه، ووصل هذا التعليق ابن أبي شيبة في مُصنّفه.

الحديث السابع

الحديث السابع حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ الأَنْصَارِيِّ، ثُمَّ الْمَازِنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ، قَالَ لَهُ: "إِنِّي أَرَاكَ تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ، فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ أَوْ بَادِيَتِكَ فَأَذَّنْتَ بِالصَّلاَةِ فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ، فَإِنَّهُ لاَ يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلاَ إِنْسٌ وَلاَ شَيْءٌ إِلاَّ شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. قوله: "عن أبيه"، زاد ابن عُيينة: "وكان يتيمًا في حجر أبي سعيد، وكانت أمه عند أبي سعيد"، أخرجه ابن خُزيمة من طريقه. وقوله: "قال له"، أي: قال أبو سعيد لعبد الله بن عبد الرحمن. وقوله: "تُحِبُّ الغنم والبادية؟ " أي: لأجل الغنم؛ لأن محبها يحتاج إلى صلاحها بالمرعى، وهو في الغالب يكون في البادية، وهي الصحراء التي لا عمارة فيها. وقوله: "في غنمك أو باديتك"، يحتمل أن تكون "أو" شكًّا من الراوي، ويحتمل أن تكون للتنويع؛ لأن الغنم قد لا تكون في البادية، ولأنه قد يكون في البادية حيث لا غنم. وكلمة "في" تأتي بمعنى بين، كقوله تعالى: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي}. وقوله: "فأذنتَ للصلاة"، أي: لأجل الصلاة، وللمصنف في بدء الخلق "بالصلاة"، أي: أعلمت بوقتها. وقوله: "فارفع"، فيه إشعار بأن أذان من أراد الصلاة كان مقررًا عندهم لاقتصاره على الأمر بالرفع دون أصل الأذان، واستدل به الرافعي للقول الصائر إلى استحباب أذان المنفرد، وهو الراجح عند الشافعية، بناء على أن الأذان حق الوقت. وقيل: لا يستحب بناء على أن الأذان لاستدعاء الجماعة للصلاة. ومنهم من فصل بين من يرجو جماعة أو لا،

وعند المالكية: يندب للفذ المسافر خاصة دون الحاضر، وكذا للجماعة المسافرة التي لم تطلب غيرها يندب لها، لما رواه "الموطأ" عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول: "من صلى بأرض فلاة، صلى عن يمينه ملك، وعن شماله ملك، فإذا أذن وأقام صلى خلفه من الملائكة أمثال الجبال". قلت: هذا الحديث رواه النَّسائيّ مرفوعًا عن سَلْمان الفارسيّ، مع أن المرسل له حكم الرفع، إذ لا يعلم إلا بالتوقيف. وحديث الباب شاهد لمذهب المالكية؛ لأن السفر عندهم المراد به السفر اللغويّ لا الشرعيّ، والخروج في الغنم والبادية سَفَر لُغويّ، وليس في الحديث شاهد لما استدل به الرافعيّ من الندب مطلقًا في الحضر والسفر. وظاهر كلام العينيّ أن مذهبهم كمذهب الشافعية. وقوله: "مدى صوت المؤذن"، أي: غاية صوته. قال البَيضاويّ: غاية الصوت تكون أخفى من ابتدائه، فإذا شهد له من دنا منه وسمع مبادىء صوته أولى. وقوله: "جن ولا إنس ولا شيء"، ظاهره يشمل الحيوانات والجمادات، فهو من العام بعد الخاص، ويؤيده ما في رواية ابن خزيمة: "لا يسمع صوته شجر ولا مَدَر ولا حجر ولا إنس"، ولأبي داود والنَّسائيّ، عن أبي هُريرة بلفظ: "المؤذن يغفر له مدى صوته، ويشهد له كل رطب ويابسٍ"، ونحوه للنَّسائيّ وغيره من حديث البراء، وصححه ابن السكن. فهذه الأحاديث تبين المراد من قوله في حديث الباب: "ولا شيء"، وقد تكلم بعض من لم يطلع عليها في تأويله على غير ما يقتضيه ظاهره. قال القرطبي: قوله: ولا شيء، المراد به الملائكة، وتعقب بأنهم دخلوا في قوله: "جن" لأنهم يستخفون عن الأبصار، وقال غيره: المراد كل ما يسمع المؤذن من الحيوان حتى ما لا يعقل دون الجمادات. ومنهم من حمله على ظاهره، وذلك غير ممتنع عقلًا ولا شرعًا. قال ابن بُزَيزة: تقرر في العادة أن السماع والشهادة والتسبيح لا تكون إلا من حي، فهل ذلك حكاية عن لسان الحال؛ لأن الموجودات ناطقة بلسان حالها بجلال باريها، أو هو على ظاهره، وغير ممتنع عقلًا أن الله يخلق فيها الكلام؟

وقد مرَّ البحث في ذلك في قول النار: آكل بعضي بعضًا، وسيأتي في الحديث الذي فيه: "أن البقرة قالت: إنما خلقت للحرث". وفي مسلم عن جابر بن سمرة موفوعًا: "إني لأعرف حجرًا كان يسلم عليّ". ونقل ابن التين: أن قوله هنا: "ولا شيء" نظير قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}، ولم يختلف أن الآية على عمومها، وإنما اختلف في تسبيح بعض الأشياء؛ هل هو على الحقيقة أو المجاز. والظاهر مساواة الحديث والآية. وقوله: "إلا شهد له"، للكُشميهنيّ: "إلا يشهد له"، وتوجيههما واضح، والسر في هذه الشهادة مع أنها تقع عند عالم الغيب والشهادة، أن أحكام الآخرة جرت على نعت أحكام الخلق في الدنيا من توجيه الدعوى والجواب والشهادة. قاله الزَّيْن بن المُنير. وقال التوربشتي: المراد من هذه الشهادة اشتهار الشهود له بالفضل يوم القيامة، وعلوّ الدرجة، فكما أن الله يفضح بالشهادة قومًا، فكذلك يكرم بها آخرين. ومن أحاديث فضل الأذان، ما أخرجه أبو القاسم الجوزيّ، عن أبي سعيد وغيره: "ثلاثة يوم القيامة على كُثُب من مسك أسود، ولا يهولهم فزع، ولا ينالهم حساب ... " الحديث. وفيه: "رجل أذن ودعا إلى الله عَزَّ وَجَلَّ ابتغاء وجه الله"، وعند السراج، عن أبي هريرة بسند جيد: "المؤذنون أطول الناس أعناقًا لقولهم: لا إله إلا الله"، وفي لفظ: "يُعرَفُون بطول أعناقهم يوم القيامة". وأخرجه أيضًا ابن حبَّان في صحيحه. وعند أبي الشيخ: "من أذن خمس صلوات إيمانًا واحتسابًا، غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه"، وفي كتاب الصحابة لأبي موسى من حديث كثير بن مُرة الحضرميّ موفوعًا: "أو من يُكسى من حلل الجنة، بعد النبيين عليهم الصلاة والسلام والشهداء، بلالٌ وصالح المؤذِّنين". وفي "شعب الإيمان" للبيهقيّ، عن عُبادة بن نسي، يرفعه: "من حافظ على النداء بالأذان سنة أوجب الجنة"، وعند أبي الفرج: "يحشر المؤذنون على نُوقٍ من نُوق الجنة، يخاف الناس ولا يخافون، ويحزن الناس ولا يحزنون". وعن جابر رضي الله تعالى عنه: "قيل: يا رسول الله، من أول الناس دخولًا الجنة؟ قال: الأنبياء، ثم الشهداء، ثم

رجاله خمسة

مؤذنو الكعبة، ثم مؤذنو بيت المقدس، ثم مؤذنو مسجدي هذا، ثم سائر المؤذنين"، سنده صالح. وعند عبد الرزاق، عن أنس رفعه: "إذا أُذِّن في قرية أمَّنها الله تعالى من عذابه ذلك اليوم". وعند السراج بسند صحيح: "الإِمام ضامن والمؤذن مؤتمن، اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين". وقوله: "قال أبو سعيد: سمعته"، أي: هذا الكلام الأخير، وهو قوله: "إنه لا يسمع ... إلخ"، وقد رواه ابن خُزيمة من رواية ابن عُيينة بلفظ: "قال أبو سعيد: إذا كنت في البوادي فارفع صوتك بالنداء، فإني سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: لا يستمع ... "، فذكره، ورواه يحيى القطان عن مالك بلفظ إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا أذنت فارفع صوتك فإنه لا يستمع ... " فذكره، فالظاهر أن ذكر الغنم والبادية موقوف. وقد أورد الرافعي هذا الحديث في الشرح بلفظ: "إن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال لأبي سعيد: إنك رجل تحب الغنم" وساقه إلى آخره، وسبقه إلى ذلك الغزاليّ وإمامه، والقاضي حسين وابن داود، وتعقبه النوويّ، وأجاب الرفعة عنهم بأنهم فهموا أن قول أبي سعيد: "سمعته من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم" عائد على ما ذكر كله. وهذا لا يدفع التعقيب الواقع عليهم. وفي الحديث استحباب رفع الصوت بالأذان ليكثر من يشهد له، ما لم يجهده أو يتأذى به. وفيه أن حب الغنم والبادية، ولاسيما عند نزول الفتنة، من عمل السلف الصالح. وفيه جواز التَّبدّي ومساكنة الأعراب ومشاركتهم في الأسباب بشرط حظ من العلم، وأمنٍ من غلبة الجفاء. وفيه أن أذان الفذ مندوب إليه ولو كان في قفر، ولو لم يترج حضور من يصلي معه؛ لأنه إن فاته دعاء المصلين، فلم يفته استشهاد من سمعه من غيرهم، وقد مر تحرير هذا، وأنه لصلاة الملائكة معه. رجاله خمسة: الأول: عبد الله بن يوسف، والثاني: مالك، وقد مرّا في الثاني من الوحي، والثالث: عبد الرحمن بن أبي صَعْصعة، وقد مرّ هو وأبوه عبد الله، وأبو سعيد

باب ما يحقن بالأذان من الدماء

الخُدريّ في الثاني عشر من الإيمان. فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع، والإخبار كذلك في موضع، وبصيغة الإفراد في موضع، والعنعنة في موضعين. ورواته مدنيون ما خلا شيخ البُخاريّ، وعبد الرحمن من أفراده. أخرجه البخاريّ هنا، وفي ذكر الجن، وفي التوحيد، والنَّسائيّ وابن ماجه في الصلاة. ثم قال المصنف: باب ما يحقن بالأذان من الدماء قال الزَّيْنُ بن المُنير: قصد البخاريّ بهذه الترجمة واللتين قبلها استيفاءَ ثمرات الأذان، فالأُولى فيهما فضل التأذين لقصد الاجتماع للصلاة، والثانية فيها فضل أذان المنفرد لإيداع الشهادة له بذلك، والثالثة فيها حقن الدماء عند وجود الأذان. قال: وإذا انتفت عن الأذان فائدة من هذه الفوائد لم يُشرع إلا في حكايته عند سماعه، ولهذا عقبه بترجمة "ما يقول إذا سمع المنادي"، ووجه الاستدلال للترجمة من حديث الباب ظاهر.

الحديث الثامن

الحديث الثامن حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا غَزَا بِنَا قَوْمًا لَمْ يَكُنْ يَغْزُو بِنَا حَتَّى يُصْبِحَ وَيَنْظُرَ، فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا كَفَّ عَنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا أَغَارَ عَلَيْهِمْ، قَالَ: فَخَرَجْنَا إِلَى خَيْبَرَ فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهِمْ لَيْلاً، فَلَمَّا أَصْبَحَ وَلَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا، رَكِبَ، وَرَكِبْتُ خَلْفَ أَبِي طَلْحَةَ، وَإِنَّ قَدَمِي لَتَمَسُّ قَدَمَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-. قَالَ: فَخَرَجُوا إِلَيْنَا بِمَكَاتِلِهِمْ وَمَسَاحِيهِمْ، فَلَمَّا رَأَوُا النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالُوا مُحَمَّدٌ وَاللَّهِ، مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ. قَالَ فَلَمَّا رَآهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ". قوله: "لم يكن يغزو بنا"، اختلف في ضبطه، ففي رواية المُستَملي يغر من الإغارة، مجزوم على أنه بدل من قوله: "يكن"، وفي رواية الكُشميهنيّ: "يغْد" بإسكان الغين وبالدال المهملة، من الغدو، وفي رواية كريمة: "يغزو" بزاي بعدها واو من الغزو. وفي رواية الأصيليّ: "يغير" كالأول لكن بإثبات الياء، وفي رواية غيرهم بضم أوله وإسكان الغين، من الإغراء. ورواية مسلم تشهد لرواية من رواه من الإغارة. وقوله: "وينظر"، أي: ينتظر. وقوله: "بمكاتلهم"، جمع مِكْتل بكسر الميم، وهو القفّة، أي: الزَّنْبيل، والمَسَاحي: جمع مِسحاةٍ، بكسر الميم، وهي المَجْرَفَة إلا أنها من الحَديد، وهذا الحديث مرّ جُلّ مباحثه في أوائل كتاب الصلاة في باب "ما يذكر في الفخذ" عند ذكره هناك. وقد أخرج مسلم طرفه المتعلق بالأذان عن أنس، وسياقه أوضح، قال: "كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يغير إذا طلع الفجر، وكان يستمع الأذان، فإن سمع أذانًا أمسك وإلاَّ أغار". قال الخَطابيّ:

رجاله أربعة

فيه أن الأذان شعار الإِسلام، وأنه لا يجوز تركه، ولو أن أهل بلد اجتمعوا على تركه كان للسلطان قتالهم عليه. وهذا أحد أقوال العلماء المتقدمة. وقال الشافعية: إن من نطق بالتشهد في الأذان حكم بإسلامه إلا إذا كان عِيسويًّا؛ لأن العِيْسَوية طائفة من اليهود، أُحدثت في آخر دولة بني أمية، فاعترفوا بأن محمدًا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، لكن إلى العرب خاصة، وهم منسوبون إلى رجل يقال له أبو عيسى، أحدث لهم ذلك. وعند المالكية: أن الكافر لا يكون مسلمًا بأذانه. وقال ابن عطاء الله: إنه يكون به مسلمًا، ورجحه بعضهم، وعلى أنه يكون به مسلمًا لو رجع عن الإِسلام يكون مرتدًا إن وُقِف على الدعائم، أي: عرف أركان الإِسلام من صلاة وزكاة وصيام وحج، وإن لم يوقف على الدعائم لم يكن مرتدًا، وفي العينيّ أن كونه مسلمًا به مقيد يكون ذلك في حق المشرك وحق من لم يكن بين المسلمين، بخلاف الكتابيّ، والذي يخالط المسلمين، فلا يصير مسلمًا بذلك. رجاله أربعة: الأول: قُتيبة، وقد مرّ في العشرين من الإيمان، ومرّ إسماعيل بن جعفر في السادس والعشرين منه، ومرّ حُمَيد الطويل في الثاني والأربعين منه، ومرّ أَنس في السادس منه، ومرّ أبو طَلْحة في السادس والثلاثين من الوضوء. أخرجه البُخاريّ هنا وفي الأذان. ثم قال المصنف: باب ما يقول إذا سمع المنادي هذا لفظ رواية أبي داود الطَّيَالسيّ، عن يونس، عن الزُّهريّ في حديثِ الباب، وآثر المصنف عدم الجزم بحكم ذلك، لقوة الخلاف فيه، كما يأتي. فظاهر صنيعه يقتضي ترجيح ما عليه الجمهور، وهو أن يقول مثل ما يقول من الأذان، إلا الحَيْعَلَتين؛ لأن حديث أبي سعيد الذي بدأ به عام، وحديث معاوية الذي تلاه به خاص، والخاص مقدم على العام.

الحديث التاسع

الحديث التاسع حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا سَمِعْتُمُ النِّدَاءَ فَقُولُوا مِثْلَ ما يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ". في رواية ابن وَهْب عن مالك، ويونُس عن الزُّهريّ، أن عطاء بن يزيد أخبره. أخرجه أبو عوانة. وقد اختُلف على الزُّهريّ وعلى مالك في إسناد هذا الحديث، لكنه اختلاف لا يقدح في صحته. وقوله: "إذا سمعتم"، ظاهره اختصاص الإجابة بمن يسمع حتى لو رأى المؤذن على المنارة مثلًا في الوقت، وعلم أنه يؤذن، لكن لم يسمع أذانه لبعد أو صمم لا تشرع له المتابعة، وما هو ظاهره هو الحكم عند الأئمة الأربعة. وقوله: "مثل ما يقول المؤذن"، ادَّعى ابن وضّاح أن قوله: "المؤذن" مدرج، وأن الحديث انتهى عند قوله:"مثل ما يقول". وتعقب بأن الإدراج لا يثبت بمجرد الدعوى. وقد اتفقت الروايات في "الصحيحين" و"الموطأ" على إثباتها، ولم يصب صاحب العمدة في حذفها. وقوله: "ما يقول"، قال البخاريّ: ما يقول، ولم يقل: مثل ما قال ليشعر، بأنه يجيبه بعد كل كلمة مثل كلمتها، والصريح في ذلك ما رواه النَّسائيّ، عن أم حبيبة، أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقولُ كما يقول المؤذن حتى يسكت. وقال أبو الفتح اليَعْمُريّ: ظاهر الحديث أنه يقول مثل ما يقول عقب فراغ المؤذن، لكن الأحاديث التي تضمنت إجابة كل كلمة عقبها دلّت على أن المراد المساوقة يشير إلى حديث عمر بن الخطاب عند مسلم وغيره، فلو لم يجاوبه حتى فرغ، استحب له التدارك إن لم يَطُل الفصل. وظاهر قوله مثل أنه يقول مثل قوله في جميع الكلمات، لكن حديث عمر عند مسلم، وحديث

معاوية الآتي، يدلان على أنه يستثنى من ذلك: "حيّ على الصلاة"، و"حيّ على الفلاح"، فيقول بدلهما: لا حول ولا قوة إلا بالله، كذلك استدل به ابن خزيمة، وهو المشهور عند الجمهور. قلت: مشهور مذهب مالك أن الحكاية تنتهي عند منتهى الشهادتين، والراجح عنده مذهب الجمهور. وقال ابن المنذر: يحتمل أن يكون ذلك من الاختلاف المباح، فيقول تارة كذا، وتارة كذا. وحكى بعض المتأخرين عن أهل الأصول أن الخاص والعام إذا أمكن الجمع بينهما، وجب إعمالهما. قال: فلم لا يقال: يستحب للسامع أن يجمع بين الحَيْعلة والحَوْقَلَة، وهو وجه عند الحنابلة، وأجيب عن المشهور من حيث المعنى بأن الأذكار الزائدة على الحيعلة يشرك السامع والمؤذن في ثوابها، وأما الحَيْعَلَة فمقصودها الدعاء إلى الصلاة، وذلك يحصل من المؤذن، فعوض السامع عما يفوته من ثواب الحيعلة بثواب الحوقلة. ولقائل أن يقول: يحصل للمجيب الثواب لامتثاله الأمر، ويمكن أن يزاد إيقاظًا وإسراعًا إلى القيام إلى الصلاة إذا تكرر على سمعه الدعاء إليها من المؤذن، ومن نفسه. وقال الطَّيبيّ: معنى الحيعلتين هلمّ بوجهك وسريرتك إلى الهدى عاجلًا والفوز بالنعيم آجلًا، فناسب أن يقول: هذا أمر عظيم لا أستطيع مع ضعفي القيام به، إلا إذا وفقني الله تعالى بحوله وقوته، ومما لوحظت فيه المناسبة ما نقل عبد الرزّاق عن ابن جُريج، قال: حدَّثت أن الناس كانوا ينصِتون للمؤذن إنصاتهم للقراءة، فإذا قال شيئًا قالوا مثله، حتى إذا قال: حي على الصلاة، قالوا: لا حول ولا قوة إلا بالله، وإذا قال: حي على الفلاح، قالوا: ما شاء الله. وبهذا قالت الحنفية في المشهور عندهم، إلا أنهم يزيدون فيقولون: ماشاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. وروي عن سعيد بن جُبير، قال: في جواب الحَيْعَلة: "سمعنا وأطعنا"، وقيل: لا يجيبه إلا في التشهدين فقط، وقيل: هما والتكبير، وقيل: يضيف إلى ذلك الحوقلة دون ما في آخره، وقيل: مهما أتى به مما يدل على التوحيد

والإخلاص كفاه، وهو اختيار الطّحاوي، وحكوا أيضًا خلافًا: هل يجيب في الترجيع أو لا؟ وفيما أذّن مؤذّن آخر: هل يجيبه بعد إجابته للأول أو لا؟ قال النوويّ: لا أعلم فيه شيئًا لأصحابنا. وقال ابن عبد السلام: يجيب كل واحد بإجابة، لتعدد السبب. وإجابة الأول أفضل إلا في الصبح والجمعة، فإنهما سواء، لأنهما مشروعان. قلت: المشهور عند المالكية أنه لا يحكى الترجيع، وقيل: يحكيه. والمشهور عندهم أنه يكتفي بحكاية الأول مطلقًا. واختار اللخميّ تكرر الحكاية، واستدل به على جواز إجابة المؤذن في الصلاة، عملًا بظاهر الأمر، ولأن المجيب لا يقصد المخاطبة. وقيل: يؤخر الإجابة حتى يفرغ، والمشهور عند المالكية التفصيل بين النافلة، فتندب الحكاية في أثنائها، وبين الفريضة فتكره في أثنائها، ولا تبطل إلا إذا لم يبدل الحيعلتين بالحوقلتين، فتبطل إن فعل ذلك عمدًا أو جهلًا لا سهوًا. قال في "الفتح": وقيل: يجيب إلا في الحيعلتين؛ لأنهما كالخطاب للآدميين، والباقي من ذكر الله فلا يمنع، لكن قد يقال: من يبدل الحيعلتين بالحوقلة لا يمنع؛ لأنها من ذكر الله. وفرق ابن عبد السلام بين ما إذا كان يقرأ الفاتحة فلا يجيب بناء على وجوب موالاتها، وإلا فيجيب. وعلى هذا إن أجاب في الفاتحة استأنف. قال: والمشهور في المذهب كراهة الإجابة في الصلاة، بل يؤخرها حتى يفرغ، وكذا في حال الجماع والخلاء. لكن إن أجاب بالحيعلة بطلت. ونصّ الشافعيّ في "الأم" على عدم فساد الصلاة بذلك، واستدل به أيضًا على مشروعية إجابة المؤذن في الإقامة. قالوا: إلا في كلمتي قد قامت الصلاة، فيقول: أقامها الله وأدامها. وقياس إبدال الحيعلة بالحوقلة في الأذان أن يجيء هنا، لكن قد يفرق بأن الأذان إعلام عام، فيعسر على الجميع أن يكونوا دعاة إلى الصلاة، والإقامة إعلام خاص، وعدد من سمعها محصور، فلا يعسر أن يدعو بعضهم بعضًا، قاله في "لفتح". ومقتضى كلامه هذا أن الإبدال في

الإقامة غير منصوص عندهم. ونصت الحنفية والحنابلة على مساواة الإقامة للأذان في ابدال الحيعلتين بالحوقلة، وعلى إبدال لفظ الإقامة أقامها الله وأدامها كما مرّ. وأما المالكية فلا تندب عندهم حكاية الإقامة أصلًا، قلت: ولعل منشأ الخلاف بينهم ويين غيرهم أن غيرهم جعلها داخلة في قوله عليه الصلاة واللام: "إذا سمعتم المؤذن"، والمالكية لم يجعلوا الأذان شاملًا للإقامة، وحديث أبي هُريرة الماضي في فضل الأذان قال لهم في كون الإقامة غير متناول لها الأذان لتفريقه بينهما في الحديث، واستدل به أيضًا على وجوب اجابة المؤذن لدلالة الأمر على الوجوب، وبه قالت الحنفية والظاهرية وابن وهب من المالكية، قالوا: ألا ترى أن السامعين يتركون القراءة والكلام ورد السلام وكل عمل غير الإجابة؟ فهذا أمارة الوجوب. وقال الجمهور: أن الأمر في الحديث للاستحباب لا للوجوب، وهو اختيار الطحاوي من الحنفية، واستدل الجمهور بحديث أخرجه مسلم عن أنس: "أنه صلى الله تعالى عليه وسلم سمع رجلًا يقول: الله أكبر، الله أكبر، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: على الفطرة، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فقال: خرجت من النار، فنظروا فهذا هو راعي معزى"، فلما قال عليه الصلاة والسلام غير ما قال المؤذن، علمنا أن الأمر بذلك للاستحباب، وأجيب بأنه ليس في الحديث أنه لم يقل مثل ما قال، فيجوز أن يكون قاله ولم ينقله الراوي اكتفاء بالعادة، ونقل القول الزائد، وبأنه يحتمل أن يكون ذلك وقع قبل صدور الأمر، ويحتمل أن يكون الرجل لم يقصد الأذان، لكن يرد هذا الأخير أن في بعض طرقه أنه حضرته الصلاة، واستدل به على أن لفظ المثل لا يقتضي المساواة من كل وجه؛ لأن قوله: "مثل ما يقول" لا يقصد به رفع الصوت المطلوب، وفيه بحث؛ لأن المماثلة وقعت في القول لا في صفته، والفرق بين المؤذن والمجيب في ذلك أن المؤذن مقصوده الإعلام، فاحتاج إلى رفع الصوت، والسامع مقصوده ذكر الله، فيكتفي بالسر أو الجهر لا مع الرفع. نعم لا يكفيه أن يجريه

رجاله خمسة

على خاطره من غير تلفظ لظاهر الأمر بالقول. وأغرب ابن المنير حيث قال فيما مرّ عنه: أن حقيقة الأذان جميع ما يصدر عن المؤذن من قول وفعل وهيئة، وتعقب بأن الأذان معناه الإعلام لغة، وخصّه الشرع بألفاظ مخصوصة في أوقات مخصوصة، فإذا وجدت وجد الأذان، وما زاد على ذلك من قول أو فعل وهيئة يكون من مكملاته، ويوجد الأذان من دونها. ولو كان على ما أطلق لكان ما أحدث من التسبيح قبل الصبح وقبل الجمعة، ومن الصلاة على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من جملة الأذان، وليس كذلك لا لغةً ولا شرعًا. رجاله خمسة: الأول: عبد الله بن يوسف، والثاني: مالك، وقد مرا في الثاني من بدء الوحي، ومرّ عطاء بن يزيد في العاشر من الوضوء ومرَّ أبو سعيد في الثاني عشر من الإيمان، ومرّ ابن شِهاب في الثالث من الوحي. أخرجه البُخاريّ هنا ومسلم، والتِّرمذيّ، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه في الصلاة، والنَّسائيّ في "اليوم والليلة".

الحديث العاشر

الحديث العاشر حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ، قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عِيسَى بْنُ طَلْحَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ يَوْمًا، فَقَالَ مِثْلَهُ إِلَى قَوْلِهِ: "وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ". قوله: "فقال مثله، إلى قوله: وأشهد أن محمدًا رسول الله"، استشكل بعضهم قوله: "إلى" هنا، بأنها للغاية، وحكم ما بعدها خلاف ما قبلها، فيلزم أن لا يقول في أشهد أن محمدًا رسول الله مثله، وأجيب بأن "إلى" بمعنى "مع"، لقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ}، وقد أورد المصنف هذا المتن مختصرًا، وقد رواه أبو داود الطيالسيّ في مسنده عن هشام، ولفظه: "كنا عند معاوية، فنادى المنادي بالصلاة، فقال مثل ما قال، ثم قال: هكذا سمعت نبيّكم". رجاله ستة: الأول: معاذ بن فضالة، وقد مرّ في التاسع عشر من الوضوء، وهشام الدَّستوائيّ في السابع والثلاثين من الإيمان، ومرّ يحيى بن أبي كثير في الثالث والخمسين من العلم، ومرّ محمد بن إبراهيم التَّيميّ في الأول من الوحي، ومرّ عيسى بن طلحة في الخامس والعشرين من العلم، ومرّ معاوية في الثالث عشر منه. فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وبالإفراد في موضع، والعنعنة في موضعين، والقول في موضعين، والسماع. ورواته ما بين بَصريٍّ وأهوازيٍّ ومدنيٍّ ويمانيٍّ. أخرجه النسائي في "اليوم والليلة".

الحديث الحادي عشر

الحديث الحادي عشر حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ يَحْيَى نَحْوَهُ. وَقَالَ يَحْيَى: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ إِخْوَانِنَا أَنَّهُ قَالَ لَمَّا قَالَ حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ. قَالَ: لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ. وَقَالَ: هَكَذَا سَمِعْنَا نَبِيَّكُمْ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ. أحال بقوله: "نحوه" على الذي قبله، وقد عرفت أنه لم يسق لفظه كله، وقوله: "قال يحيى، وحدثني بعض إخواننا، أنه لما قال حي على الصلاة ... إلخ "، وهذا ليس تعليقًا من البخاريّ كما قال بعضهم، بل هو عنده بإسناد إسحاق، وأبدى الحافظ قطب الدين احتمالًا أنه عنده بإسنادين، وقد جاء هذا الحديث من طرق عن هشام المذكور تامًا، منها ما أخرجه الإسماعيلي عنه عن عيسى بن طلحة، قال: دخلنا على معاوية، فنادى منادٍ بالصلاة، فقال: الله كبر، الله أكبر، فقال معاوية: الله أكبر، الله أكبر، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، فقال معاوية: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، فقال: أشهد أن محمدًا رسول الله، فقال معاوية: وأنا أشهد أن محمدًا رسول الله. قال يحيى: فحدثني صاحب لنا أنه لما قال: حي على الصلاة، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: هكذا سمعنا نبيكم عليه الصلاة والسلام، فاشتمل هذا السياق على فوائد: أحدها: تصريح يحيى بن أبي كثير في هذه الرواية بالسماع له من محمد بن إبراهيم، فأُمِنَ ما يُخشى من تدليسه. ثانيها: بيان ما اختصر من روايتي البخاري. ثالثها: أن قوله في الرواية الأُولى أنه سمع معاوية يومًا فقال مثله، فيه حذف

تقديره أنه سمع معاوية يسمع المؤذن يومًا، فقال مثله. رابعها: أن الزيادة في رواية وَهْب بن جَرِير لم ينفرد بها لمتابعة معاذ بن هشام في هذه الرواية، وأما المبهم الذي حدث يحيى به عن معاوية، فقد قال في "الفتح": لم أقف على تعيينه، وما حكاه الكِرْمانيّ من أنه الأوزاعيّ فيه نظر، لأن قائل ذلك حدث به عن معاوية، وأين عصر الأوْزاعيّ من عصر معاوية؟ والظاهر أنه علقمة بن وقّاص أن كان يحيى بن أبي كثير أدركه، وإلا فأحد ابنيه عبد الله بن عَلْقَمة أو عمرو بن علقمة، لوروده عن كل منهما. فقد أخرجه النَّسائيّ، واللفظ له، وابن خزيمة وغيرهما، عن عبد الله بن علقمة بن وقّاص، عن أبيه، قال: إني لعند معاوية إذ أذن مؤذن، فقال معاوية كما قال، حتى قال: حي على الصلاة، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، فلما قال: حي على الفلاح، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، وقال بعد ذلك ما قال المؤذن، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول ذلك. ورواه ابن خُزَيْمة أيضًا عن عمرو بن علقمة، قال: كنت عند معاوية، فذكر مثله، وأوضح سياقًا منه، وقد تبين بهذه الرواية أن ذكر الحوقلة في جواب: حي على الفلاح اختُصر من رواية حديث الباب، بخلاف ما تمسك به بعض من وقف مع ظاهره. وقد أخرج مسلم من حديث عمر بن الخطاب نحو حديث معاوية، وإنما لم يخرجه البُخاريّ لاختلاف وقع في وصله وإرساله، كما أشار إليه الدارقطنيُّ، ولم يخرج مسلم حديث مُعاوية؛ لأن الزيادة المقصودة منه ليست على شرط الصحيح، للمبهم الذي فيها، لكن إذا انضم أحد الحديثين إلى الآخر قوي جدًا، وفي الباب أيضًا عن الحارث بن نوفل الهاشميّ وأبي رافع، وهما في الطبراني وغيره، وعن أنس في البزَّار وغيره. وقوله: "لا حول ولا قوة ... " إلخ، قيل: الحول الحركة، أي: لا حركة وإلا استطاعة إلا بمشيئة الله تعالى، وقيل: لا حول في دفع شر، ولا قوة في تحصيل خير إلا بالله. وقيل: لا حول عن معصية الله إلا بعصمته، ولا قوة على طاعته إلا بمعونته. رواه ابن مسعود عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، قال:

رجاله أربعة

"ثم ضَرَب بيديه على منكبيّ وقال: هكذا أخبرني جبريل عليه السلام". قال الأزهري: يقال في التعبير عن لا حول ولا قوة إلا بالله الحوقلة. وقال الجَوهَري: الحولقة، فعلى الأول: وهو الشهور، الحاء واللام من الحول، والقاف من القوة، واللام من اسم الله تعالى، وعلى الثاني: الحاء واللام من الحول، والقاف من القوة، قلت: وكذلك الواو من الحول أيضًا، فحروف الحول كاملة على الأخير، ومثلها الحَيْعَلَةُ والبَسمَلَة والحَمْدَلةُ والهَيْلَلَة والسَّبْحَلة، في حي على الصلاة، وحي على الفلاح، وبسم الله، والحمد الله، ولا إله إلا الله، وسبحان الله. رجاله أربعة: الأول: إسحاق بن راهويه، وقد مرّ في الحادي والعشرين من العلم، ومرّ وَهْب بن جرير في الخامس والأربعين من الوضوء ومرّ يحيى في الثالث والخمسين من العلم، ومرّ هِشام في السابع والثلاثين من الإيمان. ثم قال المصنف: باب الدعاء عند النداء أي: عند تمام النداء، وكأنّ المصنف لم يقيده بذلك اتباعًا لإطلاق الحديث، ويأتي البحث في ذلك إن شاء الله تعالى قريبًا.

الحديث الثاني عشر

الحديث الثاني عشر حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَيَّاشٍ، قَالَ حَدَّثَنَي شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلاَةِ الْقَائِمَةِ، آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِى وَعَدْتَهُ، حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ". قوله: "عن محمد بن المنكدر"، قال الترمذي: تفرد به شُعيب عن مُحمد بن المُنكدر، فهو غريب مع صحته، وقد توبع ابن المُنكدر عليه عن جابر، أخرجه الطَّبرانيّ في "الأوسط"، عن أبي الزبير، عن جابر نحوه، وفي زوائد الإسماعيليّ: "أخبرني ابن المُنكدر، وقوله: "من قال حين يسمع النداء"، أي: الأذان، واللام للعهد، ويحتمل أن يكون التقدير: من قال حين يسمع نداء المؤذن، وظاهره أنه يقول الذكر المذكور حال سماع الأذان، ولا يتقيد بفراغه، لكن يحتمل أن يكون المراد من النداء تمامه، إذ المطلق يحمل على الكامل، ويؤيده حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند مسلم بلفظ: "قولوا مثل ما يقول، ثم صلوا على، ثم سلوا الله لي الوسيلة"، ففي هذا أن ذلك يقال عند فراغ الأذان، واستدل به ابن بزيزة على عدم وجوب ذلك الظاهر إيراده، لكن لفظ الأمر في رواية مسلم المتقدمة، قد يتمسك به من يدعي الوجوب، وبه قال الحنفية وابن وهب من المالكية، وخالف الطَّحاويّ أصحابه، فوافق الجمهور. وقوله: "ربّ هذه الدعوة"، أي: بفتح الدال، زاد البيهقيّ: اللهمَّ إنِّي أسألك بحق هذه الدعوة التامة، والمراد بها دعوة التوحيد، كقوله تعالى: {دَعْوَةُ الْحَقِّ}، وقيل لدعوة التوحيد تامة لأن الشركة نقص، أو التامة التي لا يدخلها

تغيير ولا تبديل، بل هي باقية إلى يوم القيامة، وقيل: لأنها هي التي تستحق صفة التمام، وما سواها فمعرّض للفساد. وقيل: وصفت بالتامة لأن فيها أتم القول، وهو لا إله إلا الله. وقال الطيبيّ: من أوله إلى قوله محمد رسول الله، هي الدعوة التامة، والصلاة القائمة في قوله تعالى: {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ}، هي الحيعلة، ويحتمل أن يراد بالصلاة الدعاء، وبالقائمة الدائمة، مِن أقام على الشيء إذا داوم عليه، وعلى هذا فالصلاة القائمة بيان للدعوة التامة. ويحتمل أن يكون المراد بالصلاة المعهودة المدعو إليها حينئذ، وهذا أظهر. وقوله: "والوسيلة هي ما يُتقرب به إلى الكبير"، يقال: توسلت، أي: تقربت. وتطلق على المنزلة العلية. ووقع ذلك في حديث عبد الله بن عمرو وعند مسلم بلفظ: "فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون هو ... "، إلخ، ونحوه عند البزار عن أبي هريرة، ويمكن ردها إلى الأول، بأن الواصل إلى تلك المنزلة قريب من الله، فتكون كالقربة التي يتوسل بها. وقوله: "والفضيلة"، أي: المرتبة الزائدة على سائر الخلائق، ويحتمل أن تكون منزلة أخرى، أو تفسيرًا للوسيلة. وقوله: "مقامًا محمودًا"، أي: يحمد القائم فيه، وهو مطلق في كل ما يجلب الحمد من أنواع الكرامات، واختلف في فاعل الحمد من قوله: "مقامًا محمودًا"، فالأكثر على أن المراد به أهل الموقف، وقيل: النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، أي أنه هو يحمد عاقبة ذلك المقام، لتهجده في الليل، والأول أرجح لما ثبت في حديث عبد الله بن عمر الآتي في الزكاة بلفظ: "مقامًا محمودًا يحمده أهل الجمع كلهم"، ويجوز أن يحمل على ما هو أعم من ذلك، أي: مقامًا يحمده القائم فيه، وكل من عرفه، واستحسن هذا أبو حَيّان وأيّده بأنه نكرة، فدل على أنه ليس المراد مقامًا مخصوصًا، ونصب مقامًا على الظرفية، أي: ابعثه يوم القيامة، فأقمه مقامًا محمودًا، أو ضَمّن ابعثه، معنى أقمه، أو على أنه مفعول به، ومعنى ابعثه أعطه، ويجوز أن يكون حالًا، أي: ابعثه ذا مقام محمود.

قال النّوويّ: ثبتت الرواية بالتنكير، وكأنه حكاه للفظ القرآن، وقال الطَّيبيّ: إنما نكره لأنه أفخم وأجزل، كأنه قيل: مقامًا، أي: مقام محمود بكل لسان، وقد ورد معرفًا عند النسائي وصحيح ابن خزيمة وابن حِبّان وفي الطَّحاويّ والطبرانيّ في "الدعاء" والبيهقيّ. وقوله: "الذي وعدته"، زاد البيهقي: "إنك لا تخلف الميعاد"، وقال الطِّيبيّ: المراد بذلك قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} وأطلق عليه الوعد لأن عسى من الله واقع، لما صح عن ابن عُيينة وغيره، والموصول إما بدل أو عطف بيان أو خبر مبتدأ محذوف، وليس صفة للنكرة. وفي رواية تعريف المقام المحمود الماضية يصح وصفه بالموصول، قال ابن الجَوْزيّ: الأكثر على أن المراد بالمقام المحمود الشفاعة، وقيل: إجلاسه على العرش، فقد روى الطَّبريّ عن ابن نجِيح، عن مُجاهد: المقام المحمود: الشفاعة وروي عن ليث، عن مجاهد في قوله تعالى: {مَقَامًا مَحْمُودًا} يجلسه معه على عرشه، ثم أسنده وقال: الأول أَوْلي، على أن الثاني ليس بمدفوع، لا من جهة النقل ولا من جهة النظر. وقال ابن عَطِيّة: هو كذلك إذا حمل على ما يليق به، وبالغ الواحِديّ في رد هذا القول، وقال أبو داود، صاحب السنن: من أنكره فهو متهم، وقيل: هو إجلاسه على الكرسيّ، فقد أخرج الطَّبريّ، عن ابن مسعود عند الثَّعلبيّ، وعن ابن عباس عند أبي الشيخ، وعن عبد الله بن سَلام: "أنَّ محمدًا يوم القيامة على كُرسيّ الرب بين يدي الربّ"، ويحمل هذا وما جاء عن مجاهد، على أن الإضافة فيه إضافة تشريف، وحديث ابن مسعود، وأخرجه أحمد والنَّسائيّ والحاكم، وعلى تقدير صحة الإجلاس لا ينافي الأول، لاحتمال أن يكون الإجلاس هي المنزلة المعبر عنها بالوسيلة أو الفضيلة. وفي صحيح ابن حبان عن كعب بن مالك مرفوعًا: "يَبعث الله الناسَ فيكسونيّ حُلّة خضراء، فأقول ما شاء الله أن أقول، فذلك المقام المحمود"، ويظهر أن المراد بالقول المذكور هو الثناء الذي يقدمه بين يدي الشفاعة، ويظهر

أن المقام المحمود هو مجموع ما يحصل له في تلك الحالة، ويشعر قوله في آخر الحديث: "حلت له شفاعتي" بأن الأمر المطلوب له الشفاعة، وقيل: المقام المحمود هو إعطاؤه لواء الحمد يوم القيامة. قاله الماوردي. قال القرطبيّ: هذا لا يغاير القول الأول. وقيل: المقام هو ما أخرجه ابن أبي حاتم بسند صحيح عن سَعِيد بن أبي هِلال، أحد صغار التابعين، أنه بلغه أن المقام المحمود أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يكون يوم القيامة بين الجبار وجبريل، فيغبطه بمقامه ذلك أهل الجمع، ويمكن رد الأقوال كلها إلى الشفاعة العامة، فإن إعطاءه لواء الحمد، وثناءه على ربه، وكلامه بين يديه، وجلوسه على كرسيه، وقيامه أقرب من جبريل، كل ذلك صفات للمقام المحمود الذي يشفع فيه ليقضي بين الخلق. وأما شفاعة إخراج المذنبين من النار، فمن توابع ذلك. وقوله: "حلّت له شفاعتي"، أي: استحقت ووجبت أو نزلت عليه، يقال: حلّ يحُل بالضم، إذا نزل، واللام بمعنى على، ويؤيده رواية مسلم: "حلت عليه". وعند الطحاويّ، عن ابن مسعود: "وجبت له"، ولا يجوز أن تكون حلّت من الحِل؛ لأنها لم تكن قبل ذلك محرمة، واستشكل بعضهم جعل الشفاعة ثوابًا لقائل ذلك مع ما ثبت من أن الشفاعة للمذنبين، وأجيب بأن له عليه الصلاة والسلام شفاعات أخرى، كإدخال الجنة بغير حساب، وكرفع الدرجات إلى ما أذكره قريبًا إن شاء الله تعالى، فيعطى كل أحد ما يناسبه. ونقل عِياض عن بعض شيوخه أنه كان يرى اختصاص ذلك بمن قاله مخلصًا مستحضرًا إجلال النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم، لا من قصد بذلك مجرد الثواب، ونحو ذلك، وهو تحكم غير مرضي، ولو كان أخرج الغافل اللاهي لكان أشبه، وقد عبد العلماء له نحو إحدى عشرة شفاعة. الأولى: وهي خاصة به عليه الصلاة والسلام في الإراحة من هول الموقف، وقد وردت في حديث الشفاعة الكبرى.

والثانية: شفاعته في إدخال قوم الجنة بغير حساب، ويأتي حديثها في الرِّقَاق. والثالثة: في إدخال قوم حوسبوا فاستحقوا العذاب، أن لا يعذبوا. والرابعة: في إخراج من أدخل النار من العصاة، ويأتي دليلهما في الرقاق أيضًا. والخامسة: في رفع الدرجات. وأشار النّوويّ إلى أن هذه من خصائصه، ولم يذكر لذلك مستندًا. والسادسة: التخفيف عن أبي طالب كما يأتي في الرِّقاق وغيرها، وهذه من خصائصه قطعًا. والسابعة: شفاعته لأهل المدينة، لحديث سعد، رفعه: "لا يثبت على لأوائها أحد إلا كنت له شهيدًا أو شفيعًا"، أخرجه مسلم، ولحديث أبي هُريرة، أخرجه التِّرمذي مرفوعًا: "من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليفعل، فإني أشفع لمن مات بها"، قيل: إن هذه غير واردة لأن متعلقها لا يخرج عن واحدة من الخمس الأُوَل، ولو عد مثل هذا لعد حديث عبد الملك بن عباد: "سمعت النبيَّ صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: أول من أشفع له أهل المدينة، ثم أهل مكة، ثم أهل الطائف"، أخرجه البزَّار والطَّبرانيّ عن ابن عمر، رفعه: "أول من أشفع له أهل بيتي، ثم الأقرب، فالأقرب، ثم سائر العرب، ثم الأعاجم"، قاله في "الفتح". قلت: ما قاله من الحديثين غير وارد على اختصاص أهل المدينة بشفاعة خاصة؛ لأن الحديثين ليس فيهما اختصاص بشفاعة، كما ورد في المدينة، وإنما فيهما ترتيب الشفاعة. وذكر القزوينيّ ثامنة وهي شفاعته لجماعة من الصلحاء في التجاوز عن تقصيرهم، ولم يذكر لها مستندًا، ويمكن اندراجها في الخامسة. والتاسعة: شفاعته لأهل الكبائر من أمته، وهذه مندرجة في الثالثة أو الرابعة.

رجاله أربعة

والعاشرة: أنه أول شافع في دخول أمته الجنة قبل الناس، ودليلها في حديث الشفاعة الطويل. الحادية عشرة: الشفاعة فيمن استوت حسناته وسيئاته، أن يدخل الجنة، ودليلها ما أخرجه الطبرانيّ عن ابن عباس، قال: "السابق يَدْخُل الجنة بغير حساب، والمقتصد برحمة الله، والظالم لنفسه وأهل الأعراف يدخلونها بشفاعة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم"، والراجح في أصحاب الأعراف أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم. الثانية عشرة: شفاعته فيمن قال: لا إله إلا الله، ولم يعمل خيراً قط، ودليلها يأتي في الرقاق، ولا يمنع من عدها قول الله تعالى: {لَيْسَ ذلكَ إلَيكَ}، لأن النفي يتعلق بمباشرة الإخراج، وإلا فنفس الشفاعة منه صدرت، وقبولها قد وقع، وترتّب عليها أثرها. قلت: هذه عندي مندرجة في إخراج من أُدخل النار من العصاة، لشمول العصاة لهؤلاء؛ لأنهم لو كانوا كفّارًا ما أمكنت الشفاعة فيهم. وأما شفاعته عليه الصلاة والسلام في التخفيف عن صاحبي القبرين ونحو ذلك، فلا يعد من هذا، لكونه من جملة أحوال الدنيا. قال المُهلّب: في الحديث الحض على الدعاء في أوقات الصلوات؛ لأنه حال رجاء الإجابة، وقد جاء: "ساعتان لا يرد فيهما الدعاء: حضرة النداء بالصلاة، وحضرة الصف في سبيل الله"، وفيه إثبات الشفاعة للأمة صالحًا وطالحًا، لزيادة الثواب أو إسقاط العقاب؛ لأن لفظة "من" عامة، فهو حجة على المعتزلة، حيث خصصوها بالمطيع لزيادة درجاته فقط، وكذا جوزوا الشفاعة الكبرى. وفي كونهم أجازوا الأولى نظر، ويأتي استيفاء الكلام على هذا في كتاب الرقاق. رجاله أربعة: الأول: عليّ بن عَيّاش بن مسلم الإلْهانيّ أبو الحسين الحِمصيّ البَكّاء. قال أحمد: عليّ بن عياش من عصام بن خالد. وقال العِجليّ والنَّسائيّ: ثقة.

لطائف إسناده

وقال الدارقطني: ثقة حجة، وقال يحيى بن أكثم: أدخلت علي بن عياش على المأمون، فتبسم ثم بكى، فقال: يا يحيى أدخلت عليّ مجنونًا. فقلت: أدخلت عليك خير أهل الشام، وأعلمهم بالحديث، ما خلا أبا المغيرة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان متقنًا. وفي "الزُّهرة" روى عنه البخاريّ أربعة أحاديث، روى عن جرير بن عثمان وشعيب بن أبي حمزة والليث بن سعد وابن علية وغيرهم. وروى عنه البخاريّ، وروى له الأربعة بواسطة، ومحمود بن خالد ويحيى بن مَعين وغيرهم. ولد سنة ثلاث وأربعين ومئة، ومات سنة تسع عشرة ومئتين. ومرّ شعيب بن أبي حَمْزة في السابع من الوحي، ومرّ جابر في الرابع منه. ومرّ محمد بن المُنكَدِر في التاسع والخمسين من الوضوء. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في موضعين، والقول في موضع، ورواته ما بين حِمصيين ومَدنيين. وفيه شيخ البُخاريّ من أفراده. أخرجه البخاريّ هنا وفي التفسير، ومسلم والترمذي وابن ماجه في الصلاة، والنَّسائيّ فيها وفي اليوم والليلة. ثم قال المصنف: باب الاستهام في الأذان أي: الاقتراع، ومنه قوله تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ}، قال الخطابى وغيره: قيل له: الاستهام لأنهم كانوا يكتبون أسماءهم على سهام إذا اختلفوا في الشيء، فمن خرج سهمه غلب، والقرعة أصل من أصول الشريعة في حال من استوت دعواهم في الشيء، لترجيح أحدهم. وفيها تطييب القلوب. ثم قال: ويذكر أن قومًا اختلفوا في الأذان، فأقرع بينهم سعد رضي الله

عنه، وكان هذا التَّشاحّ في الأذان وقع في القادسية، وسعد بن أبي وقاص هو الأمير عليها حينئذ، وسبب التشاح إصابة المؤذن، فخرجت القرعة لرجل فأذَّنَ. والقادسية قرية على طريق الحاج على مرحلة من الكوفة، قيل: سبب تسميتها بذلك أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام مر بها فوجد هناك عجوزًا فغسلت رأسه، فقال: قدست من أرض، فسميتْ القادسية. وقيل: سميت بذلك لنزول قادس بها، وقادس قرية بمرو الرّوذِ. وهذا التعليق وصله سَعِيد بن منصور والبَيهقيّ والطَّبريّ، وفي رواية الأولين انقطاع، وسعد بن أبي وقاص قد مرّ في العشرين من الإيمان.

الحديث الثالث عشر

الحديث الثالث عشر حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلاَّ أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاَسْتَهَمُوا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لاَسْتَبَقُوا إِلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا". قوله: "لو يعلم الناس"، وضع المضارع موضع الماضي ليفيد استمرار العلم. وقوله: "ما في النداء"، أي: الأذان، وهي رواية بشر بن عمر، عن مالك، عند السراج. قال الطيبيّ: أطلق مفعول "يعلم" وهو "ما"، ولم يبين الفضيلة ما هي ليفيد ضربًا من المبالغة، وأنه مما لا يدخل تحت الوصف والإطلاق، إنما هو في قدر الفضيلة، وإلا فقد روى أبو الشيخ عن أبي هُريرة من "الخير والبركة". وقوله: "والصف الأول"، المراد به ما يلي الإِمام مطلقًا، وقيل: أول صف تام يلي الإِمام، لا ما تخلله شيء كمقصورة. وقيل: المراد به من سبق إلى الصلاة ولو صلى آخر الصف. قال ابن عبد البرّ: واحتج بالاتفاق على أن من جاء أول الوقت ولم يدخل في الصف الأول فهو أفضل ممن جاء في آخره وزاحم عليه، ولا حجة له في ذلك. قال النّوويّ: القول الأول هو الصحيح المختار، وبه صرح المحققون، والقولان الآخران غلط صريح، وكأنّ صاحب القول الثاني لحظ أن المطلق ينصرف إلى الكامل، وما فيه خلل، فهو ناقص. وصاحب القول الثالث لحظ المعنى في تفضيل الصف الأول دون مراعاة لفظه، وإلى القول الأول أشار البخاريّ حيث ترجم فيما يأتي بالصف الأول، وذكر فيه الحديث المعبر فيه

بالصف المتقدم، وهو الذي لا يتقدمه إلا الإِمام. وقد قال العلماء في الحض على الصف الأول: فيه المسارعة إلى خلاص الذمة، والسبق لدخول المسجد، والقرب من الإِمام، واستماع قراءته، والتعلم منه، والفتح عليه، والتبليغ عنه، والسلامة من اختراق المارة بين يديه، وسلامة البال من رؤية من يكون قدامه، وسلامة موضع سجوده من أذيال المصلين. وقوله: "ثم لم يجدوا"، في رواية المستملي والحموي: "ثم لا يجدون"، وحكى الكِرْمانيّ أن في بعض الروايات: "ثم لا يجدوا" ووجهه بجواز حذف النون تخفيفًا. قال في "الفتح": لم أقف على هذه الرواية. وقوله: "إلا أن يستهموا"، أي: يجدوا شيئًا من وجوه الأولوية، إما في الأذان فبأن استووا في معرفة الوقت وحسن الصوت ونحو ذلك من شرائط المؤذن وتكملاته، وإما في الصف الأول، فبأن يَصِلوا دفعة واحدة ويستووا في الفضل، فيقرع بينهم إذا لم يتراضوا فيما بينهم في الحالين، واستدل بعضهم لمن قال بالاقتصار على مؤذن واحد، وليس بظاهر، لصحة استهام أكثر من واحد، ولأن الاستهام على الأذان يتوجه من جهة التولية من الإِمام، لما فيه من المزية. وزعم بعضهم أن المراد بالاستهام هنا الترامي بالسهام، وأنه أخرج مخرج المبالغة، واستأنس بحديث لفظه: "لَتَجالَدُوا عليه بالسيوف"، لكن الذي فهمه البخاريّ منه أولى، ولذلك استشهد له بقصة سعد. ويدل عليه رواية لمسلم: "لكانت قرعة". وقوله: "عليه"، أي: على ما ذكر ليشمل الأمرين: الأذان والصف الأول، وبذلك يصح تبويب المصنف. وقال ابن عبد البر: الهاء عائدة على الصف الأول، لا على النداء، وهو حق الكلام؛ لأن الضمير يعود لأقرب مذكور. ونازعه القرطبيّ فقال: إنه يلزم منه أن يبقى النداء ضائعًا لا فائدة له. والضمير يعود على معنى الكلام المتقدم. ومثله قوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا}، أي: جميع ذلك. وقد رواه عبد الرزاق، عن مالك بلفظ: "لاستهموا عليهما"، وهذا مفصح بالمراد من غير تكلف.

رجاله خمسة

وقوله:"التهجير"، أي: التبكير إلى الصلاة. قاله الهَرَويّ وحمله الخَليل وغيره على ظاهره، فقالوا: المراد الإتيان إلى صلاة الظهر في أول الوقت؛ لأن التهجير مشتق من الهاجرة، وهي شدة الحر نصف النهار، وهو أول وقت الظهر، وإلي ذلك مال المصنف لما سيأتي عنه، ولا يرد على ذلك مشروعية الإبراد، لأنه أريد به الرفق، وأما من ترك قائلته وقصد المسجد لينظر الصلاة، فلا يخفى ما له من الفضل. وقوله: "لاستبقوا إليه"، قال ابن أبي جمرة: المراد بالاستباق معنىً لا حِسًّا؛ لأن المسابقة على الأقدام حسًا تقتضي السرعة في المشي، وهو ممنوع منه. وقوله: "لأتوهما ولو حبوًا"، أي: لو يعلمون ما فيها من مزيد الفضل لأتوهما، أي: الصلاتين. والمراد: لأتوا إلى المحل الذي يصليان فيه جماعة، وهو المسجد، ولو حبوًا، أي: يزحفون إذا منعهم مانع من المشي لما يزحف الصغير. ولابن أبي شيبة عن أبي الدرداء: "ولو حبوًا على المرافق والركب". وقد روى مسلم في فضل الصف الأول: "خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرّها أوّلها". وفي "الأوسط" للطبرانيّ: "استَغْفَر عليه الصلاة والسلام للصف الأول ثلاث مرات، وللثاني مرتين، وللثالث مرة". وعند مسلم عن جابر بن سمرة: "ألا تصفّون كما تصفّ الملائكة عند ربها، يتمون الصف الأول"، وعند ابن ماجه، عن عائشة رضي الله تعالى عنها: "لا يزال قوم يتأخرون عن الصف الأول حتى يؤخرهم الله إلى النار"، وعن عبد الرحمن بن عوف: "أن الله وملائكته يصلُّون على الصف الأول"، وعند ابن حبان، عن البراء بن عازب: "أن الله وملاتكته يصلُّون على الصف الأول". رجاله خمسة: الأول: عبد الله بن يوسف، والثاني: مالك، وقد مرّا في الثاني من بدء الوحي. الثالث: سُمَيّ مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هِشام

باب الكلام في الأذان

المَخْزومي، أبو عبد الله المَدَني. قال أحمد وأبو حاتم: ثقة، وقال عُثمان الدارميّ: قلت لابن مَعين: سُهَيلُ بن أبي صالح، عن أبيه أحب إليك أو سُميّ؟ فقال: سُميّ خيرٌ منه. وذكره ابن حِبَّان في "الثقات". وقال النسائي: ثقة. وقال ابن المَدِينيّ: قلت ليحيى بن سعيد: سُميّ أثبت عندك أو القَعْقَاع؟ فقال: القعقاع أحب إليَّ منه. روى عن مولاه وسعيد بن المسيَّب وأبي صالح ذَكوان والقَعقاع وغيرهم. وروى عنه ابنه عبد الملك ويحيى بن سعيد وسُهيل بن أبي صالح، وهما من أقرانه، والسفيانان ومالك ومحمد بن المنكدر وغيرهم. قتله الحَرَوْرِية يوم قُدَيد، وذلك سنة خمس وثلاثين ومئة، وفي الستة سميّ سواه واحد، وهو ابن قيس اليمانى. ومرّ أبو صالح وأبو هُريرة في الثاني من الإيمان. فيه التحديث بصيغته في موضع، وبصيغة الإخبار كذلك في موضع، والعنعنة في ثلاثة، ورواته مدنيُّون ما خلا شيخ البخاريّ. أخرجه البخاريّ هنا وفي الشهادات، ومسلم والتِّرمذيّ والنَّسائيّ في الصلاة. ثم قال المصنف: باب الكلام في الأذان أي: في أثنائه بغير ألفاظه، وجرى المصنف على عادته في عدم الجزم بالحكم الذي دلالته غير صريحة، لكن الذي أورده فيه يشعر بأنه يختار الجواز، وحكى ابن المنذر الجواز مطلقًا عن عُرْوة وعطاء والحسن وقتادة، وبه قال أحمد. وعن النَّخعيّ وابن سيرين والأوزاعيّ الكراهة، وعن الثَّوريّ المنع، وعن أبي حنيفة وصاحبيه أنه خلاف الأَوْلى، وعليه يدل كلام مالك والشافعي. قاله في "الفتح". قلت: مذهب مالك كراهية الفصل بين كلمات الأذان بكلام، بل ولو بإشارة لسلام وبأكل وشرب، وإذا لم يحصل الطول بنى، وإذا حصل ابتدأ الأذان، وعن إسحاق بن راهويه أنه يكره إلا إن كان مما يتعلق بالصلاة، واختاره ابن المنذر لظاهر حديث ابن عباس المذكور في الباب، وقد نازع في ذلك

الدَّاوديّ، فقال: لا حجة فيه على جواز الكلام في الأذان، بل القول المذكور من جملة الأذان في ذلك المحل، وتعقب هذا بأنه وإن ساغ ذكره في هذا المحل، لكنه ليس من ألفاظ الأذان المعهود. وبيان مطابقته للترجمة هو أن هذا الكلام، لما جازت زيادته في الأذان للحاجة إليه، دل على جواز الكلام في الأذان لمن يحتاج إليه. ثم قال: وتكلم سُلَيمان بن صُرَد في أذانه، ولفظه: "أنه كان يؤذن في العسكر، فيأمر غلامه بالحاجة في أذانه" وهذا التعليق أخرجه ابن أبي شَيْبَة، ووصله أبو نُعيم شيخ البخاريّ في كتاب الصلاة، وأخرجه البخاريّ في التاريخ عنه بإسناد صحيح. وسُليمان بن ورد قد مرّ في السابع من الغسل. ثم قال: وقال الحسين: لا بأس أن يضحك وهو يؤذن أو يقيم. قيل: مطابقته للترجمة من جهة أن الضحك إذا كان بصوت قد يظهر منه حرف مفهم أو أكثر، فتفسد الصلاة، ومن منع الكلام في الأذان أراد أن يساويه بالصلاة. وقد ذهب الأكثر إلى أن تعمد الضحك يبطل الصلاة، ولو لم يظهر منه حرف فاستوى مع الكلام في بطلان الصلاة بعمده. والحسن، المراد به: البصريّ، وقد مرّ في الرابع والعشرين من الإيمان، وهذا التعليق قال ابن حَجَر: لم أره موصولًا، والذي أخرجه ابن أبي شَيْبَة وغيره من طرق عنه، جواز الكلام بغير قيد الضحك.

الحديث الرابع عشر

الحديث الرابع عشر حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ وَعَبْدِ الْحَمِيدِ صَاحِبِ الزِّيَادِيِّ وَعَاصِمٍ الأَحْوَلِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: خَطَبَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ فِي يَوْمٍ رَدْغٍ، فَلَمَّا بَلَغَ الْمُؤَذِّنُ حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ. فَأَمَرَهُ أَنْ يُنَادِيَ الصَّلاَةُ فِي الرِّحَالِ. فَنَظَرَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَقَالَ: فَعَلَ هَذَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ، وَإِنَّهَا عَزْمَةٌ. قوله: "خطبنا"، استدل به الجَوْزيّ على أنَّ الصلاة المذكورة كانت الجمعة، وفيه نظر. نعم وقع التصريح بذلك في رواية ابن عُلَيَّة، ولفظه: "أن الجمعة عزمة". وقوله: "في يوم رَزْغٍ" بإضافة يوم. ورزغ بفتح الراء وسكون الزاي بعدها غين معجمة، كذا للأكثر هنا، ولابن السكن والكُشمَيهنيّ وأبي الوقت بالدال المهملة بدل الزاي. وقال القرطبي: انها أشهر. قال: والصواب الفتح، وإنه الاسم، وبالسكون المصدر، والفتح رواية القابسيّ. قال صاحب الحكم: الرزغ: الماء القليل في الثِّماد، وقيل: انه طين ووحل، وفي العين الرَّدْغَة الوحل، والرَّزْغَة أشد منها، وفي "الجمهرة": الردغة والرزغة الطين القليل من مطر أو غيره، وفي رواية الحجبيّ الآتية: "في يوم ذي رزغ" وهي أوضح. وفي رواية ابن عُلَيّة: "في يوم مطير". وقوله: "فلما بلغ المؤذن حي على الصلاة، فأمره أن ينادي"، كذا فيه، وكأنّ هنا حذفًا تقديره: أراد أن يقولها، فأمره. ويؤيده رواية ابن علية: إذا قلت أشهد أن محمدًا رسول الله، فلا تقل: حي على الصلاة. وبوّب عليه ابن خُزيمة، وتبعه ابن حِبَّان، ثم المُحبّ الطَّبَري؛ حذف حي على الصلاة في يوم المطر، وكأنه نظر إلى المعنى؛ لأن حي على الصلاة معناه: هلموا إلى الصلاة.

والصلاة في الرحال، وصلوا في بيوتكم يناقض ذلك. وعند الشافعية وجه أن يقول ذلك بعد الأذان، وآخر أنه يقوله بعد الحَيْعَلَتين، والذي يقتضيه الحديث هو ما تقدم، وقوله: "الصلاة في الرِّحال" بنصب الصلاة، والتقدير صلوا الصلاة. والرحال جمع رَحْل، وهو مسكن الرجل وما فيه من أثاثه. قال النَّوويّ فيه: أن هذه الكلمة تقال في نفس الأذان. وفي حديث ابن عمر الآتي في باب الأذان للمسافر، أنها تقال بعده. قال: والأمران جائزان كما نص عليه الشافعي، لكن بعده أحسن، ليتم نظم الأذان. قال: ومن أصحابنا من يقول: لا يقوله إلا بعد الفراغ، وهو ضعيف مخالف لصريح حديث ابن عباس. فكلامه يدل على أنها تزاد مطلقًا، إما في أثنائه وإما بعده، لا أنها بدل من حي على الصلاة. وقد مرَّ عن ابن خُزَيْمة وغيره ما يخالفه. وقد ورد الجمع بينهما في حديث آخر أخرجه عبد الرزاق وغيره بإسناد صحيح عن نُعَيْم النَّخَّام، قال: "أذّن مؤذن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم للصبح في ليلة باردة، فتمنيت لو قال: ومن قعد فلا حرج، فلما قال: الصلاة خير من النوم قالها". وقوله: "فقال فعل هذا"، كأنه فهم من نظرهم الإنكار، وفي رواية الحجبي: "كأنهم أنكروا ذلك"، وفي رواية ابن عُليّة: "فكأنَّ الناس استَنكروا ذلك". وقوله: "من هو خيرٌ منه"، وللكُشميهنيّ: "منهم"، وللحجبيّ: "مني" يعني النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، كذا في أصل الرواية، ومعنى رواية الباب: "من هو خير من المؤذن"، يعني فعله مؤذن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو خير من هذا المؤذن. وأما رواية الكشميهني ففيها نظر، ولعل من أذن كانوا جماعة إن كانت محفوظة، أو أراد جنس المؤذنين، أو أراد خير من المنكرين. وقوله: "وإنها عَزْمَة"، أي: الجمعة كما مرَّ، عزْمة بسكون الزاي، ضد الرخصة. زاد ابن عيينة: "وإني كرهت أن أخرجكم فتمشون في الطين". وفي رواية الحجبي: "إني أؤثمكم" وهي ترجح رواية من روى: "أحرجكم" بالحاء

رجاله سبعة

المهملة. وفي رواية جرير عند ابن خزيمة أن أحرج الناس وأكلفهم أن يحملوا الخبث من طرقهم الى مسجدكم. رجاله سبعة: الأول: مُسَدَّد، وقد مرّ في السادس من الإيمان، ومرّ أيوب في التاسع منه، ومرّ حمّاد بن زيد في الرابع والعشرين منه، ومرّ عاصم بن سُلَيمان الأحول في الخامس والثلاثين من الوضوء، ومرّ ابن عباس في الخامس من الوحي. السادس من السند: عبد الحميد بن دينار، هو ابن كرْدِيد، وقيل: ابن واصل البَصْريّ، صاحب الزِّيادي. ومنهم من جعلهما اثنين. قال أحمد وابن مَعين: ثقة، وذكره ابن حبان في ثقات أتباع التابعين، كأنه لم يصح عنده لأنس، وفَرَّق بين ابن دينار وابن كرديد تبعًا للبُخاريّ، وكذلك فعل ابن أبي حاتم، روى عن أنس وأبي رَجَاء العُطَارِديّ والحسن البَصْريّ وثابت البُنَانيّ وغيرهم. وروى عنه شُعْبَة والثَّوريّ وحمّاد بن زيد واسماعيل بن علية وغيرهم. السابع: عبد الله بن الحارث الأنصاري، أبو الوليد البصريّ، نسيب ابن سيرين وخَتَنُه. قال أبو زُرْعة والنَّسائيّ: ثقة، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه، وذكره ابن حِبّان في "الثقات". وقال ابن سعد: كان قليل الحديث. وقال سُليمان بن حرب: كان ابن عم ابن سيرين، ثقة، والصواب أنه خَتَنُه، اللهم إلا أن يكون ابن عمه من الأم أو من الرضاع. روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مُرسلًا، وعن أبي هُريرة وابن عباس وابن عمرو وأنس وزيد بن أرقم وغيرهم. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في موضعين، والقول في موضعين، ورجاله كلهم بصريُّون. وفيه أربعة من التابعين: عبد الحميد وعبد الله بن الحارث وأيوب وعاصم، ورواية الثلاثة عن عبد الله بن الحارث من رواية الأقران. أخرجه البُخاريّ هنا وفي الصلاة والجمعة، ومسلم وأبو داود وابن ماجه في الصلاة.

باب أذان الأعمى إذا كان له من يخبره

ثم قال المصنف: باب أذان الأعمى إذا كان له من يخبره أي: جواز أذانه، وليس البصير بأرجح منه، وقوله: "يخبره"، أي: بالوقت، لأن الوقت في الأصل مبني على المشاهدة فلابد للأعمى من شيء يعتمد عليه من إخبار ثقة له بذلك. وعلى هذا القيد يحمل ما روى ابن أبي شَيْبة وابن المُنذر عن ابن مسعود وابن الزُّبَير وغيرهما أنهم كرهوا أن يكون المؤذن أعمى. وأما ما نقله النوويّ عن أبي حنيفة وداود أن أذان الأعمى لا يصح، فقد تعقبه السُّرُوجيّ بأنه غلط على أبي حنيفة، نعم في "المحيط" للحنفية أنه يكره.

الحديث الخامس عشر

الحديث الخامس عشر حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّ بِلاَلاً يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِىَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ". ثُمَّ قَالَ وَكَانَ رَجُلاً أَعْمَى لاَ يُنَادِي حَتَّى يُقَالَ لَهُ أَصْبَحْتَ، أَصْبَحْتَ. قوله: "إن بلالًا يؤذن بليل"، فيه إشعار بأن ذلك كان من عادته المستمرة، وزعم بعضهم أن ابتداء ذلك كان باجتهاد منه، وعلى تقدير صحة ذلك، فقد أقره النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على ذلك، فصار في حكم المأمور به، ويأتي قريبًا إن شاء الله تعالى ما قيل في تعيين الوقت الذي يؤذن فيه من الليل، ومن قال به ومن منعه. وقوله: "فكلوا واشربوا"، فيه إشعار بأن الأذان كان علامة عندهم على دخول الوقت، فبين لهم أن أذان بلال بخلاف ذلك. وقوله: "وكان رجلًا أعمى"، ظاهره أن فاعل قال هو ابن عمرو، جزم بذلك الشيخ الموفق في "المغني"، ورواه جمع عن القَعْنَبِيّ، وفي روايتهم تعيين أنه ابن شهاب، وعلى هذا يكون في رواية البخاري إدراج، ويجاب عن ذلك بأنه لا يمنع كون ابن شهاب قاله أن يكون شيخه قاله، وشيخ شيخه، وقد رواه البَيهقيّ عن ابنِ شِهاب، وفيه: "قال سالم: وكان رجُلًا ضريرًا"، ففي هذا التصريح بأن شيخ البخاريّ قاله، ويأتي عند المصنف في الصيام عن ابن عمر ما يؤدي معناه، فثبت صحة وصله. وقوله: "أصبَحْتَ، أصبَحْتَ"، أي: دخلْتَ في الصبح، هذا ظاهره، وفيه إشكال لأنه جعل أذانه غاية للأكل، فلو لم يؤذن حتى دخل الصباح للزم منه جواز الأكل بعد طلوع الفجر. والإجماع على خلافه إلا من شذ كالأعمش.

وأجيب عنه بأنّ المراد قاربت الصباح؛ لأن قرب الشيء قد يعبر به عنه، كما في قوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ}، أي: قاربن؛ لأن العدة إذا تمت فلا رجعة، ويعكر على هذا الجواب أن في رواية الرَّبيع بن سُلَيمان عند البَيهقيّ: "ولم يكن يؤذن حتى يقول له الناس حين ينظرون إلى بزوغ الفجر أذِّنْ"، وأبلغ من ذلك أن لفظ رواية المصنف في الصيام: "حتى يؤذن ابن أم مكتوم، فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر"، وإنما كانت أبلغ لكون جميعه من كلام النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وأيضًا، فقوله: "إن بلالًا يؤذن بليل"، يشعر بأن ابن أم مكتوم بخلافه، ولأنه لو كان قبل الصبح لم يكن بينه وبين بلال فرق، ولصدق أن كلاًّ منهما أذَّن قبل الوقت. وهذا الموضع في غاية الإشكال، وأقرب ما يقال فيه أن أذانه جُعل علامة لتحريم الأكل والشرب، وكأنه كان له من يراعي الوقت، بحيث يكون أذانه مقارنًا لابتداء طلوع الفجر. وهو المراد بالبزوغ. وعند أخذه في الأذان يعترض الفجر في الأفق، أو يقال: إنه لا يلزم من كون المراد بقولهم: أصبحت، أي: قاربت الصباح وقوع أذانه قبل الفجر، لاحتمال أن يكون قولهم ذلك يقع في آخر جزء من الليل، وأذانه يقع في أول جزء من طلوع الفجر، وهذا وإن كان مستبعدًا في العادة، فليس بمستبعد من مؤذن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، المؤيد بالملائكة، فلا يشاركه فيه مَن لم يكن على تلك الصفة. وقد روى أبو قرة عن ابن عمر حديثًا فيه: "وكان ابن أم مكتوم يتوخى الفجر فلا يخطئه". قلت: مما يحكى عن العلماء أنه كان بجامع القيروان صاحب الوقت أعمى، وكان لا يخطىء. ويذكر أنه كان يشم لطلوع الفجر رائحة، وإذا كان هذا لغير صحابي، فما ظنك بصاحب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم؟ وفي هذا الحديث جواز الأذان قبل طلوع الفجر، وبه قال الجمهور، واختلف هل يكتفى به عن إعادة الأذان بعد الفجر أم لا؟ وإلى الاكتفاء مطلقًا ذهب مالك والشافعي وأحمد وأصحابهم، وخالف ابن خُزَيمة وابن المُنذر وطائفة من أهل الحديث. وقال به الغَزاليّ في "الإحياء"، وادعى بعضهم أنه لم يرد في شيء من الحديث ما يدل على الاكتفاء، وتعقب بحديث ابن مسعود

الآتي في باب الأذان قبل الفجر، وأجيب بأنه مسكوت عنه فلا يدل، وعلى التنزل فمحله فيما إذا لم يرد نطق بخلافه، وهنا قد ورد حديث ابن عمر وعائشة في الباب المذكور، بما يشعر بعدم الاكتفاء، وعند أبي داود عند زياد بن الحارث ما يدل على الاكتفاء، فإن فيه أنه أذن قبل الفجر بأمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وأنه استأذنه في الإقامة فمنعه إلى أن طلع الفجر، فأمره فأقام. لكنْ في إسناده ضعف، وأيضًا فهي واقعة عَيْن، وكانت في سفر، ومن ثمَّ قال القرطبيُّ: إنه مذهب واضح غير أن العمل المنقول بالمدينة على خلافه، فلم يرده إلا بالعمل على قاعدة المالكية. وحاصل مذهب المالكية فيه أربعة أقوال ليس لها إلا أذان واحد يقدم لها، أذانان كل منهما سنة. الأول سنة، والثاني مستحب، وعكسه، واعتمد كون الأول سنة، والثاني مستحبًا. ونظم هذا شيخنا عبد الله بن محمد سالم، فقال: الأذان للسُّدْسِ يُسَنُّ ونُدِبْ ... تقديمه وعند فجر استُحبْ وقيل لا أذانَ للصبح وقد ... قيل يُسَنُّ فيهما وقد عضد وقيل الأول أخو استحباب ... والثاني للسنة ذو استصحاب وقال النووي وأبو حنيفة ومحمد وزُفَر: لا يجوز أن يؤذن للفجر إلا بعد دخول وقتها، كما لا يجوز لسائر الصلوات إلا بعد دخول وقتها؛ لأنه للإعلام به. وقبل دخوله تجهيل، وليس بإعلام فلا يجوز. وأجيب عن هذا بأن الإعلام قبل الوقت أعم من أن يكون إعلامًا بأنه قد دخل أو قارب أن يدخل، وإنما اختصت الصبح بذلك من بين الصلوات؛ لأن الصلاة في أول وقتها مُرَغَّب فيها، والصبح يأتي غالبًا بعد نوم، فناسَبَ أن ينصب من يوقظ الناس قبل دخول وقتها، ليتأهبوا ويدركوا فضيلة أول الوقت، وتمسك الطَّحاويّ لمذهبه بما في حديث ابن مسعود الآتي من قوله: "ليرجع قائمكم ولينبه نائمكم"، فقال: قد أخبر أن ذلك النداء كان لما ذكر لا للصلاة، وتعقب بأن قوله: "لا للصلاة" زيادة في الخبر، وليس فيه حصر فيما ذكر. وادعى بعض الحنفية فيما حكاه السُّرُوجيّ منهم أن النداء قبل الفجر لم يكن بألفاظ الأذان، وإنما كان تذكيرًا أو تسحيرًا لما يقع للناس

اليوم، وهذا مردود، فإن الذي يفعله الناس اليوم محدَث قطعًا، وقد تضافرت الطرق على التعبير بلفظ الأذان، فحمله على معناه الشرعيّ مقدم، وأيضًا لو كان الأذان الأول بألفاظ مخصوصة غير ألفاظ الأذان، لما التبس على السامعين. وسياق الخبر يقتضي أنه خشي عليهم الالتباس. وادّعى ابن القَطّان أن ذلك كان في رمضان خاصة، وفيه نظر. وقد اختلف في الوقت الذي يؤذن للصبح فيه، فمشهور مذهب مالك أنه من سدس الليل الأخير، وعند الشافعي مختلف فيه، فالذي صححه النَّوويّ في أكثر كتبه أن وقته من أول نصف الليل الآخر؛ لأن صلاته تدرك الناس وهم نيام، فيحتاجون إلى التأهب لها، وهذا مذهب أحمد وأبي يُوسُف وابن حَبيب من المالكية، لكن يعكر على هذا قول القاسم بن محمد المَرْوزِيّ عند المؤلف في الصيام: لم يكن بين أذانهما، أي: بلال وابن أم مكتوم إلا أن يرقى هذا وينزل ذا، ولا يقال: إن هذا مرسل؛ لأن القاسم تابعي لم يدرك ما القصة المذكورة، لأنه ثبت في رواية النّسائيّ والطّحاويّ عن القاسم، عن عائشة، فذكر الحديث، وفيه: "فقالت: ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويصعد هذا"، وهذا ينفي كونه مرسلًا. ومن ثمّ اختار السُّبكيّ فى "شرح المنهاج"، وحكى تصحيحه عن القاضي حسين والمُتَولِّي، وقطع به البَغْويّ أن الوقت الذي يؤذن فيه قبل الفجر هو وقت السحر، وهو كما قال في "القاموس": قبيل الصبح. وكلام ابن دقيق العيد يشعر به، فإنه قال بعد أن حكاه: يرجح هذا بأنّ قوله إن بلالًا ينادي بليل، خبر تتعلق به فائدة للسامعين قطعًا، وذلك إذا كان وقت الأذان مشتبهًا محتملًا لأن يكون عند طلوع الفجر، فبيّن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن ذلك لا يمنع الأكل والشرب، بل الذي يمنعه طلوع الفجر الصادق، قال: وهذا يدل على تقارب وقت بلال من الفجر، ويقويه أيضًا ما تقدم من أن الحكمة في مشروعيته التأهب لإدراك الصبح في أول وقتها. واحتج الطَّحاويّ لعدم مشروعية الأذان قبل الفجر بقوله: لما كان بين

رجاله خمسة

أذانيهما ما ذكر في حديث عائشة، ثبت أنهما كانا يقصدان وقتًا واحدًا، وهو طلوع الفجر، فيخطئه بلال ويصيبه ابن أم مكتوم. وتعقب بأنه لو كان كذلك ما أقرّه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مؤذنًا، واعتمد عليه، ولو كان كما ادعى كان وقوع ذلك منه نادرًا، وظاهر حديث ابن عمر يدل على أن ذلك كان شأنه وعادته. وفي الحديث جواز اتخاذ مؤذنين في المسجد الوّاحد. قال ابن دَقيق العيد: وأما الزيادة على الاثنين فليس في الحديث تعرض لها، ونص الشافعي على جوازه، ونصه: ولا يتضيق إن أذن أكثر من واحد، وإذا كانوا متعددين جاز ترتيبهم واحدًا بعد واحد، إلا المغرب فيكره الترتيب فيها عند المالكية، لضيق وقتها، وإذا أدّى إلى خروج وقتها المختار حرم، وجاز جمع اثنين فأكثر على أذان واحد، ومنع منه قوم، ويقال: إن أول من أحدثه بنو أمية، ويشترط أن يكون كل واحد على أذان نفسه وإلا كره، وهذا إذا لم يؤد إلى تقطيع اسم الله أو اسم نبيه وإلا حرم، وحينئذ لا يحكى. وقالت الشافعية: لا يكره إلا إن حصل من ذلك تهويش. واستدل به على جواز تقليد الأعمى للبصير في دخول الوقت، وهو جائز كما مرّ. وقال في "الفتح": وفيه أوجه. واختلف فيه الترجيح، وصحح النووي في كتبه أن للأعمى والبصير اعتماد المؤذن الثقة، وعلى جواز شهادة الأعمى، وقيد بأنّ تكون في قول لا في فعل، وعلى جواز العمل بخبر الواحد، وعلى أن ما بعد الفجر من حكم النهار، وعلى جواز الأكل مع الشك في طلوع الفجر؛ لأن الأصل بقاء الليل، وخالف في ذلك مالك، ففي مذهبه يحرم عليه الأكل حينئذ، ويجب عليه القضاء، ولا كفارة اتفاقًا، وعلى جواز الاعتماد على الصوت في الرواية إذا كان عارفًا به، وإن لم يشاهد الراوي وخالف في ذلك شعبة، لاحتمال الاشتباه، وعلى جواز ذكر الرجل بما فيه من العاهة إذا كان بقصد التعريف ونحوه، وجواز نسبة الرجل إلى أمه إذا اشتهر بذلك واحتيج إليه. رجاله خمسة: وفيه ذكر بلال وابن أم مكتوم.

الأول: عبد الله بن مسلمة، وقد مرّ في الثاني عشر من الإيمان، ومرّ سالم بن عبد الله في السابع عشر منه، ومرّ عبد الله بن عمر أوله، قبل ذكر حديث منه، ومرّ بلال في التاسع والثلاثين من العلم. وأما ابن أم مكتوم القُرَشيّ، ويقال: اسمه عبد الله وعمرو أكثر، وهو ابن قَيْس بن زائدة بن الأصمّ، ومنهم من قال: عمرو بن زائدة، ولم يذكر قيسًا. ومنهم من قال قيسًا بدل زائدة. واسم الأصم جُندبُ بن هرم بن رَواحة بن حِمْير بن مَعيص بن عامر بن لُؤَيّ القُرشيّ العامريّ، واسم أمه أم مكتوم، عاتكة بنت عبد الله بن عَنْكَثَة، بمهملة ونون ساكنة، وبعد الكاف مثلثة، ابن عائذ بن مخزوم. وهو ابن خال خَديجة أم المؤمنين، فإن أم خديجة أخت قيس بن زائدة، واسمها فاطمة. أسلم قديمًا بمكة، وكان من المهاجرين الأولين مع مصعب، قدم المدينة قبل النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقيل بعده، وبعد وقعة بدر بيسير. وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستخلفه في عامّة غزواته يصلي بالناس. يقال: إنه استخلفه في ثلاث عشرة غزوة: في الأبواء وبُوَاط وذي العشيرة، وغزوته في طلب كُرْز بن جابر، وغزوة السَّويق، وغَطَفان، وغزوة أحد وحمراء الأسد، ونجران، وذات الرِّقاع، وفي خروجه في حجة الوداع، وفي خروجه إلى بدر، ثم استخلف أبا لُبابة لما رده من الطريق. وأما رواية قتادة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- استخلف ابن أم مكتوم على المدينة مرتين فلم يبلغه ما بلغ غيره. وهو المذكور في سورة عبس وتولى، ونزلت فيه: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ}، لما نزلت: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ}، لما قال ابن أم مكتوم: "يا رسول الله، رجل ضرير". خرج إلى القادسية، فشهد القتال، وكان معه اللواء حينئذ، واستشهد هناك. وقيل: بل رجع إلى المدينة فمات بها، ولم يسمع له بذكر بعد عمر بن الخطّاب. روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وحديثه في كتب السنن. وروى عنه عبد الله بن شَدّاد بن الهاد، وعبد الرحمن بن أبي ليلي وأبو رَزِين الأسديّ وآخرون. ثم قال المصنف:

باب الأذان بعد الفجر

باب الأذان بعد الفجر قال الزَّينُ بن المُنير: قدّم المصنف ترجمة الأذان بعد الفجر على ترجمة الأذان قبل الفجر، فخالف الترتيب الوجوديّ؛ لأن الأصل في الشرع أن لا يؤذن إلا بعد دخول الوقت، فقدم ترجمة الأصل على ما ندر عنه، واعترض ابن بطال على الترجمة بأنه لا خلاف فيه بين الأئمة، وإنما الخلاف في جوازه قبل الفجر، والذي يظهر أن المراد بالترجمتين عند المصنف أن يبين أن المعنى الذي كان يؤذن لأجله قبل الفجر، غير المعنى الذي كان يؤذن لأجله بعد الفجر، وأن الأذان قبل الفجر لا يكتفى به عن الأذان بعده، وأن أذان ابن أم مكتوم لم يكن يقع قبل الفجر. قلت: اعتراض ابن بطّال دالٌّ على أن البخاريّ عنده لا يذكر ترجمة إلا إذا كان فيها خلاف، وليس الأمر كذلك، بل يذكرها لإفادة الحكم.

الحديث السادس عشر

الحديث السادس عشر حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: أَخْبَرَتْنِي حَفْصَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا اعْتَكَفَ الْمُؤَذِّنُ لِلصُّبْحِ وَبَدَا الصُّبْحُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ تُقَامَ الصَّلاَةُ. قوله: "كان إذا اعتكف المؤذن للصبح"، هكذا وقع عند جمهور رواة البُخاريّ، وقد استشكله كثير من العلماء، والحديث في"المُوطَّأ" عند جميع رواته بلفظ: "كان إذا سكت المؤذن من الأذان لصلاة الصبح"، ورواه مسلم كذلك، وهو الصواب، وفي رواية الهَمْدانيّ: "كان إذا أذّن" بدل "اعتكف"، وهي تشابه الرواية المصوبة، وأطلق جماعة من الحُفَّاظ بأن الوهم فيه من شيخ البخاري، عبد الله بن يوسف، ووجه ابن بطال رواية المصنف بأن معنى اعتكف المؤذِّن: أي لازم ارتفاعه ونظره إلى أن يطلع الفجر، ليؤذن عند أول إدراكه. قالوا: وأصل العكوف لزوم الإقامة بمكان واحد، وتعقب بأنه يلزم منه أنه كان لا يصليهما إلا إذا وقع ذلك من المؤذن، لما يقتضيه مفهوم الشرط، وليس كذلك لمواظبته عليهما مطلقًا. قلت: يمكن أن يجاب عن التعقب المذكور بأنّ التعبير بذلك تعبير بالأغلب من حال المؤذن لا لإرادة الشرطية. قالوا: والحق أن لفظ اعتكف مُحَرَّف من لفظ سكت، وقد أخرجه المصنف في باب "الركعتين قبل الظهر" بلفظ: "كان إذا أذن المؤذن وطلع الفجر"، وقوله: "وبدا الصبح"، بغير همز، أي: ظهر. وأغرب الكرماني فقال: إنه من النداء بالنون المكسورة والهمزة بعد المد، وكأنّه ظن أنه معطوف على قوله: "للصبح" فيكون التقدير: واعتكف لنداء الصبح، وليس كذلك، فإن الحديث في جميع نسخ "الموطأ" والبخاريّ

ومسلم بالباء الموحّدة المفتوحة، وبعد الدال ألف، والواو فيه واو الحال، لا واو العطف، وبذلك تتم مطابقة الحديث للترجمة. وقوله: "صلى ركعتين خفيفتين"، وفي رواية عائشة عند المصنف في التهجد: "حتى إني لأقول: "هل قرأ بأم الكتاب؟ "، والمراد بالركعتين ركعتا الفجر، واختلف في حكمة تخفيفهما، فقيل: ليبادر إلى صلاة الصبح في أول الوقت، وبه جزم القُرطبيّ. وقيل: ليستفتح صلاة النهار بركعتين خفيفتين، كما كان يصنع في صلاة الليل ليدخل في الفرض، أو ما شابهه في الفضل بنشاط واستعداد تام. وقيل: إنهما قدر حساب الأمة المحَمَّديَّة، وقد تمسك بقول عائشة: هل قرأ بأم الكتاب؟ من زعم أنه لا قراءة في ركعتي الفجر أصلًا، وهو قول محكي عن أبي بكر الأصم وإسماعيل بن عُليّة. وتعقب هذا بما يأتي من الأحاديث في قراءته بالسورتين الآتيتين، وليس معنى هذا أنها شكت في قراءته صلى الله تعالى عليه وسلم الفاتحة، وإنما معناه أنه كان يطيل في النوافل، فلما خفف ركعتي الفَجر صار كانه لم يقرأ بالنسبة إلى غيرها من الصلوات، فلابد من القراءة، ولو وصفت الصلاة بكونها خفيفة، فكأنَّها أرادت قراءة الفاتحة فقط، أو قرأها مع شيء يسير. واقتصر المصنف على هذا، أعني في الباب الآتي؛ لأنه لم يثبت عنده على شرطه تعيين ما يقرأ به فيهما، وفي تخصيصهما أم القرآن بالذكر إشارة إلى مواظبته لقراءتها في غيرها من صلاته. وقد روى ابن ماجه بإسناد قوي عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يصلي ركعتين قبل الفجر، وكان يقول: "نِعْمَ السُّورتان يُقرأ بهما في ركعتي الفجر: قل يا أيُّها الكافرون، وقُلْ هو الله أحد"، ولابن أبي شَيبة عن ابن سِيرين عنها: "كان يقرأ فيهما بهما"، ولمسلم عن أبي هُريرة أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قرأ فيهما بهما"، وللتِّرمذيّ والنَّسائيّ عن ابن عمر: "رمقت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم شهرًا، فكان يقرأ فيهما بهما"، وللتِّرمذيّ عن ابن مسعود مثله بغير تقييد، وكذا للبزار عن أنس، ولابن حبَّان عن جابر ما يدل على الترغيب في قراءتهما بهما.

رجاله خمسة

واستدل بقولها: هل قرأ أم الكتاب؟ على أنه لا يزيد فيهما على أم القرآن، وهو قول مالك الشهور في مذهبه، وفي البُويطيّ عن الشافعيّ استحباب قراءة السورتين المذكورتين فيهما مع الفاتحة بالحديث المذكور، وبذلك قال الجمهور، وهو قول عند المالكية أيضًا. وقالوا: معنى قول عائشة: "هل قرأ بأم القرآن؟ " أي: مقتصرًا عليها، أو ضم إليها غيرها. وذاك لإسراعه بقراءتها. فكان من عادته أن يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها، وذهب بعضهم إلى إطالة القراءة فيهما، وهو قول أكثر الحنفية، ونقل عن النَّخعيّ، وأورد البيهقيّ فيه حديثًا مرفوعًا من مرسل سَعيد بن جُبير، وفي سنده راوٍ لم يسمَّ، وخصّ بعضهم ذلك بمن فاته شيء من قراءته في صلاة الليل، فيستدركها في ركعتي الفجر. ونقل ذلك عن أبي حنيفة، وأخرجه ابن أبي شيبة بسند صحيح عن الحسين البَصريّ، واستدل به على الجهر بالقراءة في ركعتي الفجر، ولا حجة فيه لاحتمال أن يكون ذلك عرف بقراءته بعض السورة كما يأتي في صفة الصلاة عن أبي قتادة في صلاة الظهر، يسمعنا الآية أحيانًا، ويدل على ذلك أن في رواية ابن سيرين المارة: "يسرٌ فيهما القراءة" وصححه ابن عبد البر. واستدل بالأحاديث المذكورة على أنه لا يتعين قراءة الفاتحة في الصلاة، لأنّه لم يذكرها مع سورتي الإِخلاص. وروى مسلم عن ابن عباس أنه صلى الله تعالى عليه وسلم: "كان يقرأ في ركعتي الفجر: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} التي في البقرة، وفي الأخرى التي في آل عمران"، وأُجيب بأنه ترك ذكر الفاتحة لوضوح الأمر فيها، ويؤيده أن قول عائشة: "هل قرأ الفاتحة؟ " يدل على أن الفاتحة كان مقررًا عندهم أنه لابد من قراءتها. رجاله خمسة: الأول: عبد الله بن يُوسُف، والثاني مالك، وقد مرّا في الثاني من الوحي، ومرّ نافع في الثالث والسبعين من العلم، ومرّ ابن عمر أول الإيمان قبل ذكر حديث منه. ومرت حفصة في الثالث والستين من الوضوء.

في الإسناد التحديثُ بصيغة الجمع في موضع، والإخبار كذلك في موضع، وبالإفراد من الفعل المؤنث في موضع، والعنعنة في موضعين، والقول في موضعين. ورواته مدنيُّون ما عدا عبد الله بن يوسف. أخرجه البُخاريّ هنا، وفي الصلاة، ومسلم والنَّسائيّ وابن ماجه فيها، والتّرمذيّ فيها، وفي الشمائل.

الحديث السابع عشر

الحديث السابع عشر حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ بَيْنَ النِّدَاءِ وَالإِقَامَةِ مِنْ صَلاَةِ الصُّبْحِ. قوله: "بين النداء والإقامة"، قال الزَّينُ بن المُنير: حديث عائشة أبعد في الاستدلال به للترجمة من حديث حفصة؛ لأن قولها: "بين النداء والإقامة" لا يستلزم كون الأذان بعد الفجر، ثم أجاب عن ذلك بما محصله أنها عنت بالركعتين ركعتي الفجر، وهما لا يصليان إلا بعد الفجر، فإذا صلاهما بعد الأذان استلزم أن يكون الأذان وقع بعد الفجر، وهذا فيه تكلف مع انتقاد فيه، والذي يظهر أن المصنف جرى على عادته في الإيماء إلى بعض ما ورد في طرق الحديث الذي يستدل به. وبيان ذلك فيما أورده بعد بابين من وجه آخر عن عائشة، ولفظه: "كان إذا سكت المؤذِّن قام فركع ركعتين خفيفتين قبل صلاة الصبح بعد أن يستبين الفجر. رجاله خمسة: الأول: أبو نَعيم، وقد مرّ في الخامس والأربعين من الإيمان، ومرّ شَيبان ويحيى بن أبي كثير في الثالث والخمسين من العلم، ومرّ أبو سلمة في الرابع من الوحي، ومرّت عائشة في الثاني منه.

الحديث الثامن عشر

الحديث الثامن عشر حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّ بِلاَلاً يُنَادِي بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ". قوله: "عن عبد الله بن دينار"، هذا إسناد آخر لمالك في هذا الحديث. قال ابن عَبْد البَر: لم يختلف عليه فيه، واعترض ابن التَّيْميّ، فقال: هذا الحديث لا يدل على الترجمة، لجعله غاية الأكل ابتداء أذان ابن أم مكتوم، فدل على أن أذانه كان يقع قبل الفجر بقليل. وجوابه ما مر تقريره في الباب الذي قبله، عند قوله: "أصبحت أصبحت". وقال الزين بن المنير: الاستدلال بحديث ابن عمر أوجه من غيره، فإن قوله: "حتى ينادي ابن أم مكتوم" يقتضي أنه ينادي حين يطلع الفجر؛ لأنّه لو كان ينادي قبله، لكان كبلال ينادي بليل. وحديث عبد الله بن دينار هذا مجمع على صحته، رواه من أصحابه عنه، ورواه شعبة فاختلف عليه فيه، فرواه يزيد بن هارون عنه على الشك أنَّ بلالًا، كما هو المشهور، أو أن ابن أم مكتوم ينادي بليل "فكلوا واشربوا حتى ينادي بلال". ورواه أبو داود الطَّيالسيّ عنه، جازمًا بالأول، ورواه أبو الوليد عنه، جازمًا بالثاني، وكذا أخرجه ابن خُزيمة وابن حَبّان، وابن المنذر، عنه جازمًا بالثاني، عن أنيسة بنت خُبَيْب، قالت:"قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا أذّن ابن أم مكتوم، فكلوا واشربوا، وإذا أذن بلال، فلا تأكلوا ولا تشربوا، وإن كانت المرأة منا ليبقى عليها شيء من سحورها فتقول لبلال: أمهل حتى أفرغ من سحوري". وادعى ابن عبد البرّ وجماعة، أن هذا الحديث مقلوب، ويُبعد ذلك أنه روي عن عائشة عند ابن خُزَيمة من طريقين. وفي بعض ألفاظه ما يبعد

الوهم، وهو قوله: "إذا أذّن عمرو، فإنه ضرير، فلا يغرنكم، وإذا أذن بلال، فلا يَطْعَمَنَّ أحدٌ". وأخرج البَيهقيّ عن عائشة أنها كانت تنكر حديث ابن عمر وتقول: كان بلال يبصر. وقد غلط ابن عمر، وقد جمع ابن خُزَيمة والضُّبَعيّ بين الحديثين بما حاصله أنه يحتمل أن يكون الأذان كان نوبًا بين بلال وابن أم مكتوم، فكان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يعلم الناس أن أذان الأول منهما لا يحرم على الصائم شيئًا، ولا يدل على دخول الوقت، بخلاف الثاني. وجزم ابن حبَّان بذلك، ولم يبده احتمالًا، وأنكر ذلك عليه الضِّيَاء وغيره. وقيل: لم يكن نوبًا، وإنما كانت لهما حالتان مختلفتان، فإن بلالًا كان في أول مّا شرع الأذن يؤذن وحده، ولا يؤذن للصبح حتى يطلع الفجر، وعلى ذلك تحمل رواية عروة، عن امرأة من بني النجار، قالت: "كان بلال يجلس على بيتي، وهو أعلى بيت في المدينة، فهذا رأى الفجر تَمَطّى، ثم أذن، أخرجه أبو داود بإسناد حسن. وأخرج النّسائيّ بإسناد صحيح عن أنس أن سائلًا سأل عن وقت الصلاة، فأمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بلالًا، فأذن حين طلع الفجر الحديث، ثم أردف بابن أم مكتوم، وكان يؤذن بليل، واستمر بلال على حالته الأولى، وعلى ذلك تنزل رواية أنيسة وغيرها. ثم في آخر الأمر أخّر ابن أم مكتوم لضعفه، ووكل به من يراعي الفجر، واستمر أذان بلال بليل، وكان سبب ما روي أنه كان ربما أخطأ الفجر، فأذن قبل طلوعه، وأنه أخطأ مرة، فأمره النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن يرجع فيقول: "ألا إن العبد نام"، أي: أن غَلَبة النوم على عينيه منعته من تبين الفجر. وهذا الحديث أخرجه أبو داود وغيره عن حماد بن سلمة، عن ابن عمر موصولًا مرفوعًا، ورجاله ثقات حفّاظ. قلت: لعل هذا الحديث هو مستند المالكية في وجوب إعادة المؤذن الذي أخطأ في الأذان، فأذن قبل الوقت، الأذانَ بنفسه دون أن يعيده غيره. ولكن اتفق أئمة الحديث: ابن المدينيّ وابن حَنْبَل والبُخاريّ وأبو داود والذُّهليّ والتِّرمذيّ وغيرهم، على أن حمادًا أخطأ في

رجاله أربعة

رفعه، وأنه تفرد بذلك، وأن الصواب وقفه على عمر بن الخطاب، وأنه هو الذي وقع له ذلك مع مؤذنه، ولكن له شواهد عند البَيْهَقي وعبد الرَّزَّاق والدَّارقطني وغيرهم. فهذه الطرق يقوّي بعضها بعضًا قوة ظاهرة، فلأجل ذلك استقر أن بلالًا يؤذن الأذان الأول. رجاله أربعة: الأول: عبد الله بن يوسف، والثاني: مالك، وقد مرّا في الثاني من الوحي، ومرّ عبد الله بن دينار في الثاني من الإيمان، وابن عمر أوله قبل ذكر حديث منه. ثم قال المصنف: باب الأذان قبل الفجر أي ما حكمه؟ هل يشرع أولًا؟ وإذا شرع هل يكتفى به عن إعادة الأذان بعد الفجر أو لا؟ إلى آخر ما مرّ مستوفى في باب "أذان الأعمى" قبل باب.

الحديث التاسع عشر

الحديث التاسع عشر حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لاَ يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ، أَوْ أَحَدًا مِنْكُمْ أَذَانُ بِلاَلٍ مِنْ سَحُورِهِ، فَإِنَّهُ يُؤَذِّنُ، أَوْ يُنَادِي بِلَيْلٍ، لِيَرْجِعَ قَائِمَكُمْ، وَلِيُنَبِّهَ نَائِمَكُمْ، وَلَيْسَ أَنْ يَقُولَ الْفَجْرُ أَوِ الصُّبْحُ". وَقَالَ بِأَصَابِعِهِ وَرَفَعَهَا إِلَى فَوْقُ وَطَأْطَأَ إِلَى أَسْفَلُ حَتَّى يَقُولَ هَكَذَا، وَقَالَ زُهَيْرٌ بِسَبَّابَتَيْهِ إِحْدَاهُمَا فَوْقَ الأُخْرَى، ثُمَّ مَدَّهَا عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ. قوله: "عن أبي عُثمان النَّهديّ"، قال في "الفتح": لم يُرو هذا الحديث عن ابن مسعود إلا من رواية أبي عُثمان عنه، ولم يُرو عن أبي عثمان إلا من رواية التيمي، وله شاهد عند مسلم من حديث سَمُرة بن جُندب. وقوله: "أحدكم أو أحدًا منكم"، شك من الرّاوي، وكلاهما يفيد العموم، وإن اختلفت الحيثية. وقوله: "من سَحوره"، أي: بفتح أوله اسم لما يؤكل في السحر، ويجوز الضم، وهو اسم الفعل. وقوله: "ليرجع قائمكم"، أي: بفتح الياء وكسر الجيم المخففة، يستعمل هكذا لازمًا ومتعديًا. يقال: رجع زيدٌ ورجعتُ زيدًا، ولا يقال في المتعدي بالتثقيل. فمن رواه بالضم أخطأ؛ لأنّه لا يصير من الترجيع، وهو الترديد، وليس مرادًا هنا، فإن معناه يرد القائم، أي: المتهجد إلى راحته، ليقوم إلى صلاة الصبح نشيطًا، أو تكون له حاجة إلى الصوم فيتسحر، ويوقظ النائم ليتاهب لها بالغسل ونحوه. فقوله: قائمكم ونائمكم، مفعولان. وقوله: "ليس أن يقول الفجر أو الصبح"، شك من الراوي، والفجر اسم ليس، وخبره أن يقول. وفيه إطلاق القول على الفعل، أي: يظهر. وهذا من

قول النبي عليه الصلاة والسلام. وقوله:"وقال بأصابعه ورفعها"، أي: أشار، فهو أيضًا من إطلاق القول على الفعل. وفي رواية الكُشمَيهنيّ "بأُصبعيه، ورفعهما". وقوله: "إلى فوق"، بضم القاف على البناء، وكذا أسفل لينة المضاف إليه دون لفظه، نحو: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ}، وقوله: "وطأْطَأَ" بوزن دحرج، أي: خفض أصابعه إلى أسفل. وقال أبو ذر: إلى فوقٍ، بالجر والتنوين، لأنه ظرف متصرف، وبالضم على البناء، وقطعه عن الإضافة. قال في "المصابيح": ظاهره أن قطعه عن الإضافة يختص بحالة البناء على الضم دون حال تنوينه، وقد ذهب إليه البعض ففرق بين جئت قبلًا، وجئت من قبلُ، بأنه أعرب الأول لعدم تضمين الإضافة، ومعناه جئت متقدمًا، وبنى الثاني لتضمنها، ومعناه جئت متقدمًا على كذا، والذي اختاره بعض المحققين أن التنوين عِوض عن المضاف إليه، وأنه لا فرق في المعنى بين ما أعرب من هذه الظروف المقطوعة، وما بُني منها. قال: وهو الحق، وما ذكر هنا إشارة منه عليه الصلاة والسلام إلى الفجر الكاذب، المسمى عند العرب بذَنَبِ السرحان، وهو الضوء المستطيل من العلو إلى السفل، وهو من الليل، فلا يدخل فيه وقت الصبح. ويجوز فيه التسحر. وقوله: "حتى يقول هكذا"، أي: حتى يظهر من إطلاق القول على الفعل كما مر. وقوله: "وقال زهير"، أي: الراوي. وقوله: "بسبابتيه"، أي: اللتين تليان الإبهام، وسميتا بذلك لأنهما يشار بهما عند السب، والمعنى أشار بهما، ففيه أيضًا إطلاق القول على الفعل. وقوله: "ثم مدهما عن يمينه وشماله"، يعني: أنه مد أصبعيه متفرقتين عن يمينه وشماله، أي: إحداهما ذاهبة إلى جهة اليمين، والأخرى ذاهبة إلى جهة الشمال. كأنه جمع بين أصبعيه ثم فرقهما ليحكي صفة الفجر الصادق؛ لأنّه يطلع معترضًا، ثم يعمم الأفق ذاهبًا يمينًا وشمالًا، بخلاف الفجر الكاذب كما مرّ. وفي رواية الإسماعيليّ: "فإن الفجر ليس هكذا ولا هكذا، ولكن الفجر

رجاله خمسة

هكذا"، فكأنّ أصل الحديث كان بهذا اللفظ، مقرونًا بالإشارة الدالة على المراد، وبهذا اختلفت عبارة الرواة، وأحصر ما وقع فيها رواية جرير عن سليمان عند مسلم: "لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال، ولا بياض الأفق المستطيل هكذا، حتى يستطير هكذا". رجاله خمسة: الأول: أحمد بن يُونُس، وقد مرّ في التاسع عشر من الإيمان، ومرّ زُهير بن مُعاوية في الثالث والثلاثين منه، ومرّ عبد الله بن مسعود أوله قبل ذكر حديث منه، ومرّ سُليمان بن طَرَخان في التاسع والستين من العلم، ومرّ أبو عثمان النَّهديّ في الخامس من كتاب المواقيت. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، والعنعنة في ثلاثة، والقول في موضعين، وأحد الرواة من المُخَضرمين، وهو أبو عثمان، ورواية تابعي عن تابعي، والأولان من الرواة كوفيّان، والاثنان الأخران بصريّان. أخرجه البخاريّ هنا وفي الطلاق، وفي خبر الواحد، ومسلم وأبو داود والنَّسائيّ في الصوم، وابن ماجه في الصلاة.

الحديث العشرون

الحديث العشرون حَدَّثَنَي إِسْحَاقُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو أُسَامَةَ، قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: حَدَّثَنَا عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ، وَعَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ، وَحَدَّثَنِي يُوسُفُ بْنُ عِيسَى الْمَرْوَزِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ بِلاَلاً يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ". قوله: "قال عبيد الله، حدثنا عن ابن القاسم"، فاعل قال أبو أسامة، وعُبيد الله هو الذي حدث أبا أسامة، والتقدير حدث أبا أسامة، والتقدير: قال أبو أسامة: حدَّثنا عُبيد الله. وقوله: "وعن نافع"، معطوف على عن القاسم بن محمد، والحاصل أنه أخرج الحديث عن عُبيد الله بن عمر من وجهين: الأول ذكر فيه إسنادين: نافع عن ابن عمر، والقاسم عن عائشة. وأما الثاني: فاقتصر فيه على الإسناد الثاني. وقوله: "حتى يؤذن"، في رواية الكُشمَيْهنيّ: "حتى ينادي"، وقد أورده في الصيام بلفظ: "يؤذن"، وزاد في آخره: "فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر"، قال القاسم: لم يكن بين أذانيهما إلا أن يرقى ذا، وينزل ذا. وفي هذا تقييد لما أطلق في الروايات الأخرى من قوله: "إن بلالًا يؤذن بليل"، ولا يقال إنه مرسل، إلى آخر ما مرّ مستوفى في باب "أذان الأعمى". رجاله تسعة: الأول: إسحاق، غير منسوب، يحتمل ابن راهَوَيه، أو ابن منصور، أو ابن نصر، وقد مرت الثلاثة هي وأبو أسامة في الحادي والعشرين من العلم، وعُبيد الله بن عبد الله بن عمر العمريّ في الرابع عشر من الوضوء ومرّ نافع في الثالث والسبعين من العلم، ومرّ القاسم بن محمد في الحادي عشر من الغسل، ومرّ

باب كم بين الأذان والإقامة ومن ينتظر إقامة الصلاة

يوسف بن عيسى والفضل بن موسى في السادس والعشرين منه، ومرّت عائشة في الثاني من الوحي، ومرّ عبد الله بن عمر أول كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه. فيه العنعنة في سبعة مواضع، والقول في أربعة، والتحديث بصيغة الجمع في ثلاثة، وفيه جاء التحويل. وقد مرَّ في الرابع من بدء الوحي. ثم قال المصنف: باب كم بين الأذان والإقامة ومن ينتظر إقامة الصلاة باب بلا تنوين، أو به، وهو خبر مبتدأ محذوف، أي: هذا باب. وكم استفهامية، ومميزها محذوف، وتقديره ساعة أو صلاة أو نحو ذلك. ولعله أشار بذلك إلى ما أخرجه التِّرمذيّ والحاكم بإسناد ضعيف عن جابر: "أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال لبلال: اجعل بين أذانك وإقامتك قدر ما يفرغ الآكل من أكله، والشارب من شربه، والمعتضر إذا دخل لقضاء حاجته"، وله شاهد من حديث أبي هُريرة، ومن حديث سُليمان أخرجهما أبو الشيخ، ومن حديث أبيّ بن كعب أخرجه عبد الله بن أحمد في زيادات المسند، وكلها واهيةٌ، فكأنّه أشار إلى أن التقدير بذلك لم يثبت. وقال ابن بطّال: لا حدّ لذلك غير تمكن دخول الوقت، واجتماع المصلين. ونَصَّت الحنَفية على أن الوصل بين الأذان والإقامة مكروه؛ لأن المقصود بالأذان إعلام الناس بدخول الوقت، ليتأهبوا للصلاة بالطهارة، فيحضروا المسجد لإقامة الصلاة. وبالوصل ينتفي هذا المقصود، واختلفوا في حد الفصل، فقيل: يقعد المؤذن مقدار ركعتين أو أربع أو مقدار ما يفرغ الآكل من أكله، والشارب من شربه والحاقن من قضاء حاجته. وقيل: مقدار ما يقرأ عشر آيات، ثم يثوِّب، ثم يقيم. وللطحاويّ: يفصل بينهما مقدار ركعتين، يقرأ في كل ركعة نحوًا من عشر

آيات، وينتظر المؤذن الناسَ، ويقيم للضعيف المستعجل، ولا ينتظر رئيس المحلة وكبيرها، وهذا كله إلا في غير صلاة المغرب عند أبي حنيفة؛ لأن تأخيرها مكروه، فيكتفي بأدنى الفصل، وهو سكتة يسكت قائمًا، ثم يقيم، ومقدار السكتة عنده قدر ما يتمكن فيه من قراءة ثلاث آيات قصار، أو آية طويلة. وروى عنه: "ما يخطو ثلاث خطوات"، وقال أبو يوسف ومحمد: يفصل بينهما بجلسة خفيفةٍ، مقدار الجلسة بين الخطبتين. ومذهب الشافعيّ: قال النوويّ: يستحب أن يفصل بين أذان المغرب وإقامتها فصلًا يسيرًا بقعدة أو سكوت أو نحوهما، ولم يختلف العلماء في التطوع بين الأذان والإقامة إلا في المغرب، كما سيأتي قريبًا. وقوله: "ومن ينتظر إقامة الصلاة" للكُشميهنيّ، وصوب عدمها؛ لأنها لفظ ترجمة تالية لهذه، ولذا ضرب عليها في فرع اليونينية.

الحديث الحادي والعشرون

الحديث الحادي والعشرون حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْوَاسِطِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلاَةٌ -ثَلاَثًا- لِمَنْ شَاءَ". قوله: "بين كل أذانين"، أي: أذان وإقامة، ولا يصح حمله على ظاهره، لأن الصلاة بين الأذانين مفروضة، والخبر ناطق بالتخيير، لقوله: "لمن شاء". وأجرى المصنف مجرى البيان للخبر، لجزمه بأن ذلك المراد، ويمكن حمله على ظاهره، بأن يكون التقدير بين كل أذانين صلاة نافلة غير المفروضة، وقد توارد الشُّرَّاح على أن هذا من باب التغليب، كقولهم: القمران للشمس والقمر، ويحتمل أن يكون أطلق على الإقامة الأذان؛ لأنها إعلام بحضور فعل الصلاة، كما أن الأذان إعلام بدخول الوقت. وقوله: "صلاة"، أي: وقت صلاة، أو المراد نافلة، ونُكِّرت لكونها تتناول كل عدد نواه المصلي من النافلة، كركعتين أو أربع أو أكثر، ويحتمل أن يكون المراد به الحث على المبادرة إلى المسجد عند سماع الأذان، لانتظار الإقامة، لأن منتظر الصلاة في صلاة. وقوله: "ثلاثًا"، أي: قالها ثلاثًا، وسيأتي بعد باب "بين كل أذانين صلاة". ثم قال في الثالثة: لمن شاء، وهذا يبين أنه لم يقل لمن شاء إلا في المرة الثالثة، بخلاف ما يشعر به ظاهر رواية الباب من أنه قيد كل مرة بقوله: "لمن شاء". ولمسلم والإسماعيلي قال في الرابعة: "لمن شاء". وكأن المراد بالرابعة في هذه الرواية المرة الرابعة، أي: أنه اقتصر فيها على قوله: "لمن شاء"، فأطلق عليها رابعة، باعتبار مطلق القول، وبهذا توافق رواية البخاري، وقد مر في العلم حديث أنس "أنه عليه الصلاة والسلام كان

رجاله خمسة

إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا"، وكأنه قال هنا: بعد الثلاث لمن شاء، ليدل على أن التكرار لتأكيد إلاستحباب. وقال ابن الجَوزي: فائدة هذا الحديث أنه يجوز أن يتوهم أن الأذان للصلاة يمنع أن يفعل سوى الصلاة التي أذن لها، فبين أن التطوع بين الأذان والإقامة جائز. وقد وقع في رواية أحمد: إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا التي أقيمت. وهذه أخص من الرواية المشهورة "إلا المكتوبة". رجاله خمسة: الأول: إسحاق بن شاهين، وقد مرّ في الرابع عشر من الحيض، ويحتمل أن يكون إسحاق بن وهب العَلّاف، أبو يعقوب الواسطيّ. قال أبو حاتم: صدوق، وذكره ابن حبَّان في "الثقات". وقال: كان هو والمدائنيّ جميعًا علّافَين صدوقَين. روى عن عمر بن يونس اليمامي، ويعقوب بن محمد الزُّهريّ وغيرهم. وروى عنه البُخاريّ وابن ماجه وأبو زُرعة وأبو حاتم وابنه عبد الرحمن، وبنته فاطمة. والثاني: خالد بن عبد الرحمن، وقد مرّ في السادس والخمسين من الوضوء. الثالث: سعيد بن إياس الجُريريّ، بالضم، أبو مسعود البصريّ. قال أبو طالب عن أحمد: كان محدث أهل البصرة. وقال أبو حاتم: تغير قبل موته، فمن كتب عنه قديمًا فسماعه صالح. وقال ابن أبي عَديّ: سمعنا منه بعدما تغير. وقال يحيى بن سعيد القَطان، عن كَهْمَس: أنكرنا الجُريريّ أيام الطاعون. وقال ابن حبان: اختلط قبل موته بثلاث سنين، ولم يفحش اختلاطه. قال ابن حجر: اتفقوا على ثقته حتى قال النّسائي: هو أثبت من خالد الحذّاء. وقال العِجليّ: بصريٌّ ثقة. وقال أيضًا: عبد الأعلى من أصحهم عنه حديثًا، سمع منه قبل أن يختلط بثمان سنين، وما أخرج البخاريّ من حديثه إلا عن عبد

لطائف إسناده

الأعلى وعبد الوارث وبشر بن المفضّل، وهؤلاء سمعوا منه قبل الاختلاط. وأخرج له البخاريّ أيضًا من رواية خالد الواسطيّ عنه، ولم يتحرر لي أمره إلى الآن، هل سمع منه قبل الاختلاط أو بعده؟ لكن بمتابعة بشر بن المفضل كلاهما عنه عن أبي بَكْرة، عن أبيه. وروى له الباقون. وروى عن أبي الطُّفَيل وأبي عُثمان النَّهديّ وعبد الرحمن بن أبي بَكرهَ وعبد الله بن بُريدة وغيرهم. وروى عنه بشر بن المفضل وابن عُليّة والحمّادان وشعبة والثَّوريّ وابن المبارك ويزيد بن زُرَيع وغيرهم. مات سنة أربع وأربعين ومئة، وليس في الستة سعيد بن إياس سواه، ومرَّ عبد الله بن بُريدة في الخامس والثلاثين من الحيض، وعبد الله بن مغفل في الأربعين من المواقيت. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في ثلاثة، والقول في موضع، والراويان الأولان واسطيان، والاثنان بصريان، وشيخ البخاريّ من أفراده. أخرجه البخاريّ هنا وفي الصلاة أيضًا، ومسلم وأبو داود والتِّرمذيّ والنَّسائيّ وابن ماجه فيها.

الحديث الثاني والعشرون

الحديث الثاني والعشرون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرٍ الأَنْصَارِيَّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ الْمُؤَذِّنُ إِذَا أَذَّنَ قَامَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- يَبْتَدِرُونَ السَّوَارِيَ حَتَّى يَخْرُجَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَهُمْ كَذَلِكَ يُصَلُّونَ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ الأَذَانِ وَالإِقَامَةِ شَيْءٌ. قوله: "كان المؤذن إذا أذَّن"، في رواية الإسماعيليّ: "إذا أخذ المُؤذِّن في أذان المغرب"، وقوله: "قام ناسٌ" في رواية النّسائيّ: "قام كبار أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم"، وكذلك تقدم للمؤلف في أبواب ستر العورة. وقوله: "يبتدرون"، أي: يستبقون والسَّوَاري جمع سارية، وكان غرضهم بالاستباق إليها للاستتار بها ممن يمر بين أيديهم لكونهم يصلون فرادى. وقوله: "وهم كذلك"، أي: في تلك الحال. زاد مسلم عن أنس: "فيجيء الغريب فيحسب أن الصلاة قد صليت من كثرة من يصليها". وقوله: "ولم يكن بينهما"، أي: الأذان والإقامة. وقوله: شيء، التنوين فيه للتعظيم، ونفي الكثير لا يستلزم نفي القليل. وبهذا يندفع قول من زعم أن الرواية المعلقة معارضة للرواية الموصولة، بل هي مبينة لها لأن نفي الكثير يقتضي إثبات القليل، وقد أخرجها الإسماعيليّ موصولة عن عُثمان بن عمر، عن شعبة، بلفظ: "وكان بين الأذان والإقامة قريب"، ولمحمد بن نصر عن أبي عامر، عن شُعبة نحوه. وقال ابن المُنير: يُجمع بين الروايتين بحمل الغني المطلق على المبالغة مجازًا، والإثبات للقليل على الحقيقة، وحمل بعض العلماء حديث الباب على ظاهره. فقال: دل قوله: "ولم يكن بينهما شيء" على

أنَّ عموم قوله: "بين كل أذانين صلاة" مخصوص بغير المغرب، فإنهم لم يكونوا يصلّون بينهما، بل كانوا يشرعون في الصلاة في أثناء الأذان، ويفرغون مع فراغه. قال: ويؤيد هذا ما رواه البَزَّار عن حَبّان بن عُبيد الله، بفتح المهملة والتحتانية مشددة، عن بُريدة مثل الحديث الأول، أي: حديث ابن مُغفَّل، وزاد في آخره: إلا المغرب. وفي قوله: "يفرغون مع فراغه"، نظر لأنه ليس في الحديث ما يقتضيه، ولا يلزم من شروعهم في أثناء الأذان ذلك، قاله في "الفتح". قلت: ظاهره أن شروعهم في أثناء الأذان في الحديث، وليس كذلك، بل هو جمع من بعض العلماء كما مر. وأما رواية حَيّان فشَاذّة؛ لأنّه وإن كان صَدوقًا عند البَزّار وغيره، فقد خالف الحفاظ من أصحاب ابن بُريدة في إسناد الحديث ومتنه. وعند الإسماعيليّ: "وكان بُريدةُ يُصلِّي ركعتين قبل صلاة المغرب"، فلو كان الاستثناء محفوظًا لم يخالف فيه بُريدة روايته. وقد نقل ابن الجَوزِيّ في الموضوعات عن الفَلَّاس أنه كذب حيّانَ المذكور. وقال القُرطبيُّ وغيره: ظاهر حديث أنس أن صلاة الركعتين بعد المغرب قبل صلاة المغرب، كان أمرًا قرر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أصحابه عليه، وعملوا به حتى كانوا يستبقون إليه، وهذا يدل على الاستحباب، وكان أصلُه قوله عليه الصلاة والسلام: "بين كل أذانين صلاة"، وأما كونه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يصلهما، فلا ينفي الاستحباب، بل يدل على أنهما ليستا من الرواتب. وإلى استحبابهما ذهب أحمد وإسحاق وأصحاب الحديث، وذهب مالك والشافعي في الشهور عنهما وأبو حنيفة إلى عدم استحبابها، بل عند المالكية مكروهتان تنزيهًا، وعن مالك قول باستحبابها، وكذا عند الشافعية وجه رجّحه النَّوويّ ومن تبعه. وقال في شرح مسلم: قول من قال إن فعلهما يؤدي إلى تأخير المغرب عن أول وقتها خيال فاسد منابذ للسنة، ومع ذلك فزمنهما يسير لا تتأخر به الصلاة عن أول وقتها. قال في "الفتح": مجموع الأدلة يدل على استحباب تخفيفهما

كما في ركعتي الفجر، قيل: الحكمة في الندب إليهما رجاء إجابة الدعاء، لأن الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد، وكلما كان الوقت أشرف كان ثواب العبادة فيه أكثر. وادعى بعض المالكية نسخهما، فقال: إنما كان ذلك في أول الأمر، حيث نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، فَبَيّن لهم بذلك وقت الجواز، ثم ندب إلى المبادرة إلى المغرب في أول وقتها، فلو استمرت المواظبة على الاشتغال بغيرها، لكان ذلك ذريعة إلى مخالفة إدراك أول وقتها. وتعقب هذا بأن دعوى النسخ لا دليل عليها. قلت: دليل النسخ ما رواه أبو داود عن ابن عمر، قال: ما رأيت أحدًا يصليهما على عهد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فأي دليل فوق هذا؟ فكيف تكون الصحابة داومت عليهما إلى موته عليه الصلاة والسلام، ولم يري ابن عمر أحدًا يصليهما؟ وهو قد بلغ في الأحزاب، وما رواه محمد بن نصر وغيره عن إبراهيم النَّخعيّ أن الخلفاء الأربعة كانوا لا يصلونهما، وهذا هو أقوى دليل على النسخ عند مالك. قال: لأن الخلفاء هم أعلم الناس بآخر فعله عليه الصلاة والسلام، فكانوا يتبعون الأحدث من فعله فالأحدث، فهذا دالٌّ على أنه لم يفعلهما، أو أن كان فعلهما تركهما أخيرًا. وقول صاحب "الفتح" فيما مرّ عنه: إن عدم فعله عليه الصلاة والسلام لهما لا ينافي الاستحباب، فيه نظر، فإنه شافعي، والمستحب عند الشافعية ما فعله صلى الله تعالى عليه وسلم من غير مداومة، والمستحب عندنا معاشر المالكية مرادف للندب، وهو ما أمر به أمرًا غير جازم، أو أعلم صلى الله تعالى عليه وسلم فيه بالثواب، ولم يثبت حديث فيه الأمر بهاتين الركعتين، والإخبار بثوابهما. وقد روى محمد بن نصر وغيره من طرق قوية عن عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وأبيّ بن كعب، وأبي الدرداء، وأبي موسى وغيرهم أنهم كانوا يواظبون عليهما، ويأتي في أبواب التطوع أن عقبة بن عامر سُئل عن الركعتين قبل المغرب، فقال: كنا نفعلهما على عهد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، قيل له: فما منعك الآن؟ قال: الشغل.

رجاله خمسة

وقال أبو بكر بن العربيّ: اختلف فيها الصحابة، ولم يفعلها أحد بعدهم، وخالف هذا محمد بن نصر، فقال: رَوَيْنا عن جماعة من الصحابة والتابعين أنهم كانوا يصلون الركعتين قبل المغرب، ثم أخرج ذلك بأسانيد متعددة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى وعبد الله بن بُريدة ويحيى بن عقيل والأعرج وعامر بن عبد الله بن الزبير وعِراك بن مالك، ومن طريق الحسين أنه سُئل عنهما، فقال: حَسَنَتين والله لمن أراد بهما. وعن سعيد بن المُسيَّب أنه كان يقول: حق على كل مؤمن إذا أذن المؤذن أن يركع ركعتين، ولكن هذا لفظ عام لا يستدل به لهاتين الركعتين؛ لأن الخلاف الحاصل في استثنائهما وعدمه. قلت: يمكن أن يجاب عما قاله ابن العربيّ بأنه لم يثبت عنده ما نقله محمد بن نصر، ومطابقة حديث أنس هذا للترجمة من جهة الإشارة إلى أن الصحابة إذا كانوا يبتدرون إلى الركعتين قبل صلاة المغرب مع قصر وقتها، فالمبادرة إلى التنفل قبل غيرها من الصلوات تقع من باب الأولى، ولا يتقيد بركعتين إلا ما ضاهى المغرب في قصر الوقت، كالصبح. قلت: الصبح وقته ليس بضيق، بل هو من أوسع الأوقات. رجاله خمسة: الأول: محمد بن بشّار، وقد مرّ في الحادي عشر من العلم، ومرّ غُندر في الخامس والعشرين من الإيمان، ومرّ شُعبة في الثالث منه، ومرّ أنس في السادس منه، ومرّ عمرو بن عامر في الثامن والسبعين من الوضوء. فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والإخبار كذلك في موضع، والعنعنة في موضع، والسماع والقول في أربعة، ورواته ما بين مدنى وبَصْريّ وواسطيِّ. أخرجه البُخاريّ في الصلاة أيضًا، والنَّسائيّ فيها. ثم قال: قال: وقال عثمان بن جبلة وأبو داود، عن شُعبة: لم يكن بينهما إلا قليل. قال ابن حجر: لم تتصل لنا رواية عثمان بن جَبَلَةَ ولا رواية أبي داود، وزعم مُغَلْطاي أن الإسماعيليّ وصلها في مستخرجه، وليس كذلك، وإنما

أخرجه الإسماعيليّ من رواية عثمان بن عمر، كما مرّ، ورجال التعليق ثلاثة: الأول: عثمان بن جبلة، وقد مرّ في الرابع والمئة من الوضوء. الثاني: أبو داود، يحتمل أن يكون الطَّيالسيّ، ويحتمل أن يكون الحَفَريّ، ولابد من تعريف ذين. فالأول: سُليمانُ بن داود بن الجارود أبو بكر الطَّيالسيّ البصريّ الحافظ، فارسيّ الأصل. قال ابن مَعين: هو مولى لآل الزُّبير، وأمه فارسية. قال عمرو بن علي الفَلّاس: ما رأيت في المحدثين أحفظ من أبي داود، سمعته يقول: أسرد ثلاثين ألف حديث ولا فخر، وهو ثقة. وقال ابن المَدِينيّ: ما رأيت أحفظ منه. وقال عمر بن شَبّة: كتبوا عن أبي داود بأصبهان أربعين ألف حديث عن أبي داود، وليس معه كتاب. وقال بندار: ما يكتب على أحد من المحدثين ما يكتب عليه، لما كان من حفظه ومعرفته وحسن مذاكرته. وقال ابن مَهْدي: أبو داود أصدق الناس، وقال النعمان بن عبد السلام: ثقة مأمون، وقال أبو مسعود الرازيّ: ما رأيت أحدًا أكثر في شعبة منه. قال: وسألت أحمد عنه، فقال: ثقة صَدوق. فقلت: إنه يخطىء. فقال: يحتمل له. وقال النَّسائيّ: ثقة من أصدق الناس لهجة. وقال وكيع: أبو داود جبل العلم، وقال العجليّ: بصريّ ثقة. وكان كثير الحفظ، رحلت إليه فأصبته قد مات قبل قدومي بيوم، وكان قد شرب البلاذُر هو وعبد الرحمن بن مهدي، فجَذِمَ هو، وبَرِصَ عبد الرحمن، فحفظ أبو داود أربعين ألفًا، وحفظ عبد الرحمن عشرة آلاف حديث. وقال عثمان الدارمي: قلت لابن مَعين: أبو داود أحب إليك في شُعبة، أو حرميّ؟ فقال: أبو داود صدوق، وأبو داود أحبّ إليّ. قلت: فأبو داود أحب إليك أو عبد الرحمن بن مهدي؟ قال: أبو داود أعلم به. قال عثمان: عبد الرحمن أحب إلينا في كل شيء، وأبو داود أكثر رواية عن شُعبة. وقال وكيع أيضًا: ما بقي أحفظ لحديث طويلٍ من أبي داود. وذكر يونُس بن حَبيب الزبيري أن أبا داود ذاكرهم بحضرة شُعبة، فقال شُعبة

له: يا أبا داود، لا نجيء بأحسن مما جئت به. وقال الخطيب: كان حافظًا متقنًا ثبتًا. وقال يونس بن حبيب: قدم علينا أبو داود، وأملى علينا من حفظه مئة ألف حديث، أخطأ في سبعين موضعاً، فلما رجع إلى البصرة كتب الينا بأني أخطأت في سبعين موضعًا، فأصلحوها. وقال عامر بن إبراهيم الأصبهانيّ: سمعت أبا داود قال: كتبت عن ألف شيخ. وقال سليمان بن حرب: كان شُعْبَة إذا قام أملى عليهم أبو داود ما مر لشُعبة. وقال أحمد بن سعيد الدَّارميّ: سألت أحمد بن حنبل عن من يكتب حديث شُعبة، قال: كلنا نقول: وأبو داود حتى يكتب عن أبي داود، ثم عن وهب، أما أبو داود فللسماع، وأما وهب فللإتقان. وذكره ابن حبَّان في "الثقات"، وقال ابن أبي حاتم: قيل أن أبا داود كان محله أن يذكر شُعبة. قال عبد الرحمن: وسمعت أبي يقول: أبو داود محدث صدوق، كان كثير الخطأ، وهو أحفظ من أبي. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، وربما غلط. وقال إبراهيم الجَوْهريّ: أخطأ أبو داود في ألف حديث. وقال ابن عديّ: قال محمد بن المنهال الضَّرير: قلت لأبي داود صاحب الطيالسة يومًا: سمعت من ابن عون شيئًا، قال: فتركته سنة، وكنت أتهمه بشيء قبل ذلك، حتى ينسى ما قال، فلما كان سنة قلت له: يا أبا داود، سمعت من ابن عون شيئًا؟ قال: نعم، قلت: كم؟ قال: عشرون حديثًا ونيف. قلت: عدّها عليّ، فعدّها كلها، فإذا هي أحاديث يَزيد بن زُرَيع ما خلا واحدًا له ما أعرفه. قال ابن عَديّ، وأبو داود الطَّيالسيّ في زمانه كان أحفظ من بالبصرة، مقدمًا على أقرانه لحفظه ومعرفته، وما أدري لأي معنى قال فيه ابن المنهال ما قال، وهو كما قال عمرو بن عليّ: ثقة، وإذا جاوزت في أصحاب شُعبة مُعاذ بن مُعاذ وخالد بن الحارث ويحيى القطّان وغندر، فأبو داود خامسهم. وله أحاديث يرفعها، وليس بعجب من يحدث بأربعين ألف حديث من حفظه أن يخطىء في أحاديث منها، يرفع أحاديث يوقفها غيره، ويوصل أحاديث يرسلها غيره، وإنّما أتى ذلك من حفظه. وأما أبو داود عندي وعند غيري إلا متيقظًا ثبتًا. روى عن أيمن بن نابل وإبراهيم بن سعد وشُعبة والثَّوريّ وزُهير بن

معاوية وشَيْبان النَّحويّ وغيرهم. وروى عنه أحمد بن حنبل وابن المَدِينيّ وعمرو بن علي الفَلّاس وبندار. وروى عنه جرير بن عبد الحميد الرّازيّ، وهو من شيوخه. مات بالبصرة سنة ثلاث أو أربع ومئتين وهو ابن اثنتين وسبعين سنة لم يستكملها. ذكر المزيّ أن البخاري استشهد به، وهو كما قال. ولكن وقع في الجامع في تفسير سورة المدَّثِّر: حدثنا محمد بن بشّار، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي وغيره، قالا: حدثنا حرب بن شداد، فذكر حديثًا، والمكنى عنه في هذا الحديث هو أبو داود الطَّيالسيّ، بيّنه أبو عَروبة الحَرّاني. الثاني المحتمل: عمر بن سعد بن عبيد أبو داود الحَفَري، بالتحريك نسبة إلى حَفَر، موضع بالكوفة. قال ابن مَعين: ثقة، وقدمه على قَبيصة وأبي أحمد ومحمد بن يوسف في حديث سُفيان. وقال وكيع: إن كان يدفع بأحد في زماننا فبأبي داود. وقال ابن المَدينيّ: لا أعلم أني رأيت بالكوفة أعبد منه. وقال أبو حاتم: صدوق، كان رجلًا صالحًا. وقال أبو داود: كان جليلًا جدًا. وقال ابن سَعْد: كان ناسكًا زاهدًا، له فضل وتواضع. وقال ابن حِبَّان في "الثقات": كان من العباد الخُنّس. وقال عثمان بن أبي شيبة: كنا عنده في غرفته وهو يملي، فلما فرغ قلت له: أترب الكتاب؟ قال: لا، الغرفة بالكراء. وقال العجلىّ: كان رجلًا صالحًا متعبدًا، حافظًا لحديثه، ثبتًا. وكان فقيرًا متعففًا، والذي يظهر له من الحديث ثلاثة آلاف أو نحوها. وكان أبو نُعيم يأتيه ويعظمه، وكان لا يتم الكلام من شدة توقّيه، ولم يكن بالكوفة بعد حُسين الجعفيّ أفضل منه. وقال ابن وضّاح: كان أبو داود أزهد أهل الكوفة. قال: وسمعت محمد بن مَسعود يقول: هو أحب إليَّ من حُسين الجُعفيّ، وكلاهما ثقة. روى عن الثَّوريّ ومِسعَر ومالك بن مغول وهشام بن سعد وشريك وغيرهم. وروى عنه أحمد وإسحاق بن راهويه وعليّ بن المَدينيّ وهارون الحَمّال وخلق. مات بالكوفة في جمادى الأولى سنة ثلاث ومئتين. والثالث: شعبة، وقد مرّ في الثالث من الإيمان.

باب من انتظر الإقامة

ثم قال المصنف: باب من انتظر الإقامة موضع الترجمة من الحديث قوله: "ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن"، وأوردها مورد الاحتمال تنبيهًا على اختصاص ذلك بالإمام؛ لأن المأموم مندوب إلى إحراز الصف الأول، ويحتمل أن يشارك الإِمام في ذلك من كان منزله قريبًا من المسجد، وقيل: يستفاد من حديث الباب أن الذي ورد من الحض على الاستباق إلى المسجد هو لمن كان على مسافة من المسجد، وأما من كان يسمع الإِقامة من داره، فانتظاره للصلاة إذا كان متهيئًا لها كانتظاره إياها في المسجد. وفي مقصود الترجمة أيضًا أخرجه مسلم عن جابر بن سمُرة، قال: كان بلال يؤذن، ثم لا يقيم حتى يخرج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم.

الحديث الثالث والعشرون

الحديث الثالث والعشرون حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُ بِالأُولَى مِنْ صَلاَةِ الْفَجْرِ قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ قَبْلَ صَلاَةِ الْفَجْرِ، ثُمَّ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ، حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمُؤَذِّنُ لِلإِقَامَةِ. قوله: "إذا سكت المؤذن"، أي: فرغ من الأذان بالسكوت عنه، بالمثناة الفوقية في الروايات المعتمدة، وحكى ابن التّين أنه رُوي بالموحدة، ومعناه صب الأذان وأفرغه في الأذان، ومنه أفرغ في أذني كلامًا حسنًا. والرواية المذكورة لم تثبت في شيء من الطرق، وإنما ذكرها الخَطّابيّ عن الأوزاعيّ، عن الزُّهريّ. وقال: إن سُويد بن نَصر، راويها عن ابن المبارك، عنه، ضبطها بالموحدة. وأفرط الصَّغانيّ فجزم بأنها الموحدة. وقال: إن المحدثين يقولونها بالمثناة، وأنها تصحيف. وقوله: "بالأولى"، أي: عن الأولى، فالباء بمعنى عن، كقوله تعالى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا}، أي: عنه، وهي متعلقة بسكت. يقال: سكت عن كذا إذا تركه، والمَراد بَالأولى الأذان الذي يؤذن به عند دخول الوقت، وهو أول باعتبار الإقامة، وثان باعتبار الأذان الذي قبل الفجر. وجاءه التأنيث إما من قبل مواخاته للإقامة، أو لأنه أراد المناداة أو الدعوة التامة. ويحتمل أن يكون صفة لمحذوف، والتقدير إذا سكت عن المرة الأولى أو في المرة الأولى. وقد أخرج البَيهقيّ "أن النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم، كان يخرج بعد النداء إلى المسجد، فإن رأى أهل المسجد قليلًا جلس حتى يجتمعوا، ثم يصلي"، وإسناده قوي مع إرساله، وليس بينه وبيّن حديث الباب تعارض؛ لأنه يحمل على غير الصبح، أو كان يفعل ذلك بعد أن يأتيه المؤذن، ويخرج معه إلى المسجد.

وقوله: "فركع ركعتين خفيفتين"، مرّ البحث فيه مستوفى عند حديث حَفصة في باب "الأذان بعد الفجر". وقوله: "يَسْتَبِين"، أي؛ بموحدة، وآخره نون، وفي رواية: "يستنير" بنون، وآخره راء. وقوله: "اضطجع على شقِّه الأيمن" بكسر الشين المعجمة، قيل: الحكمة في تخصيص الأيمن أن القلب في جهة اليسار، فلو اضطجع عليه لاستغرق نومًا، لكونه أبلغ في الراحة، بخلاف اليمين، فيكون القلب معلقًا فلا يستغرق، وأيضًا يكون انحدار المثقل إلى سفل أسهل وأكثر، فيكون سببًا لدغدغة قضاء الحاجة، فينبه أسرع. وهذا في حقه عليه الصلاة والسلام غير محتاج إليه؛ لأن قلبه لا ينام، ولا يكثر من الطعام، وإنما يفعله لأجل التعليم لأمته، وكان يحب التيامن في كل شيء، والنوم على اليمين نوم الصالحين، وعلى اليسار نوم الحكماء، وعلى الظهر نوم الجبارين، وعلى الوجه نوم الكفار. وفائدة هذه الضجعة الراحة والنشاط لصلاة الصبح، وعلى هذا فلا يستحب ذلك إلا للمتهجد، وبه جزم ابن العربيّ، ويشهد له ما أخرجه عبد الرزاق أن عائشة كانت تقول: "إن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لم يضطجع لِسِنة، ولكنه كان يدأب ليلته فيستريح"، وفي إسناده راوٍ لم يسم، وقيل: إن فائدتها الفصل بين ركعتي الفجر وصلاة الصبح، وعلى هذا فلا اختصاص. ومن ثَمّ قال الشافعي: تتأدى السُّنة بكل ما يحصل به الفصل من مشي وكلام وغيره. وقال النوويّ: المختار أنه سنة لظاهر حديث أبي هريرة. وقد قال أبو هريرة، راوي الحديث: إن الفصل بالمشي إلى المسجد لا يكفي، وعنى بحديثي أبي هُريرة ما أخرجه أبو داود والتِّرمذيّ بإسناد صحيح على شرط الشيخين، أنه قال: "قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع على يمينه". وأفرط ابن حزم فقال: يجب على كل واحد، وجعله شرطًا لصحة صلاة الصبح، ورد عليه العلماء حتى طعن بعضهم في صحة الحديث، والحق أنه تقوم به الحجة، ولكنه محمول على الاستحباب لما ورد في الأحاديث

الصحاح، من أنه عليه الصلاة والسلام لم يداوم عليها، ومن ذهب إلى أن المراد به الفصل لا يتقيد بالأيمن، ومن قيد بالأيمن قال: يختص ذلك بالقادر، وأما غيره فهل يسقط الطلب أو يومىء بالاضطجاع، أو يضطجع على الأيسر؟ وقال ابن حزم: يومىء ولا يضطجع على الأيسر، ولم ينقل عن غيره، وذهب بعض السلف إلى استحببها في البيت دون المسجد، وهو محكى عن ابن عمر، وقوّاه بعض الشيوخ بأنه لم ينقل عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه فعله في المسجد، وصح عن ابن عمر أنه كان يحصب من يفعله في المسجد. أخرجه ابن أبي شَيبة. ونقل عياض أن الاضطجاع على اليمين عند مالك، وجمهور العلماء وجماعة من الصحابة بدعة مكروهة، ولكن محل كراهته عند مالك إذا فعله على وجه السُّنِّة لا على وجه الاستراحة، ويدل لمالك ومن معه ما مرّ عن عائشة عند ابن أبي شَيبة، وقد ثبت في الصحيح أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يُصلي بالليل إحدى عشرة ركعة، يوتر منها بواحدة، فإذا فرغ منها اضطجع على شقه حتى يأتيه المؤذن فيصلي ركعتين خفيفتين، فهذا الاضطجاع كان بعد صلاة الليل، وقبل ركعتي الفجر، ولم يقل أحد إن الاضطجاع قبلهما سنة، فكذا بعدهما. وقد روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها، كما عند البخاريّ، أنها قالت: "إن كنت مستيقظة حدثني، وإلا اضطجع"، فهذا يدل على أنه ليس بسنة، وأنه تارة كان يضطجع قبل، وتارة بعد، وتارة لا يضطجع. وقد أخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود إنكار الاضطجاع، وأخرج أيضًا عن إبراهيم النخعيّ أنها ضجعة الشيطان. وما أجاب به القائل بسنيتها من أنهما لم يبلغهما الأمر بفعله بعيد جدًا في ابن مسعود؛ لأنّه صاحب السواد. وقد مرّ عن ابن عمر حصبه لفاعلها في المسجد. وروي عنه أنه بدعة. وأخرج ابن أبي شيبة أيضًا عن الحسين أنه كان لا يعجبه الاضطجاع.

رجاله خمسة

رجاله خمسة: الأول: أبو اليمان، والثاني: شُعيب، وقد مرّ في السابع من الوحي، ومرّ ابن شهاب في الثالث منه، ومرّ عُروة وعائشة في الثاني منه. فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة والقول في موضعين، ورواته حُمصيان ومدنيُّون. أخرجه البخاريّ هنا، والنَّسائيّ في الصلاة. ثم قال المصنف: باب بين كل أذانين صلاة لمن شاء ترجم لهذا الحديث قبل باب بقوله: كم بين الأذان والإقامة؟ فترجم هنا بلفظ الحديث، وترجم هناك ببعض ما دل عليه.

الحديث الرابع والعشرون

الحديث الرابع والعشرون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا كَهْمَسُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ، قَالَ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلاَةٌ، بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلاَةٌ"، ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ: "لِمَنْ شَاءَ". هذا الحديث مرّ الكلام عليه مستوفى عند ذكره في الترجمة المذكورة الآن. رجاله أربعة: الأول: عبد الله بن يزيد العدويّ، مولى آل عمر بن الخطاب أبو عبد الرحمن المُقري، القصير. أصله من ناحية البَصرة. وقيل: من ناحية الأهواز، سكن مكة. قال أبو حاتم: صدوق، وقال النَّسائيّ: ثقة، وقال الخَليليّ: ثقة، حديثه عن الثقات يحتج به، وينفرد بأحاديث. وقال محمد بن عبد الله بن يزيد المُقْرِي: كان ابن المُبارك إذا سُئل عن أبي، قال: زِر زده، يعني ذهبًا مضروبًا. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، وذكره ابن حبَّان في "الثقات". وقال ابن قانع: مكي ثقة، وقال محمد بن عاصم الأصبهاني: سمعت المقري يقول: أنا ما بين التسعين إلى المئة. وأقرأت القرآن بالبصرة ستًا وثلاثين سنة، وهاهنا بمكة خمسًا وثلاثين سنة، وذكر أبو العرب الحافظ أن ابن وهب روى عنه مع تقدمه، فلئن كان كذلك فبين وفاته ووفاة بشر بن موسى نيف وتسعون سنة. وفي "الزُّهرة" روى عنه البخاريّ اثني عشر حديثًا روى عن كَهْمَس بن الحسين وموسى بن علي بن رباح وأبي حنيفة وابن عون والليث وشعبة وغيرهم. وروى عنه البخاري، وروى له الباقون بواسطة، وإسحاق بن راهَوَيه وعلي بن المدينيّ وأبو خَيْثمة وأبو بكر بن أبي شيبة وغيرهم. مات بمكة سنة ثلاث عشرة ومئتين.

باب من قال ليؤذن في السفر مؤذن واحد

والثاني: كَهْمس بن الحسين التَّيميّ، أبو الحَسَنُ البصريّ. وقال أحمد وابن معين وأبو داود وابن سعد: ثقة، وقال أبو حاتم: لا بأس به، وذكره ابن حبَّان في "الثقات". وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ثقة ثقة. وقال السّاجيّ: صدوق يهم، ونقل أن ابن مُعين ضَعَّفه وتبعه الأزديّ في نقل ذلك. قال ابن حجر: أخرج له البخاريّ أحاديث يسيرة من روايته عن عبد الله بن بُريدة فقط. واحتج به الباقون. روى عن أبي الطُّفيل، وعبد الله بن بُريدة وسَيّار بن منظور وغيرهم. وروى عنه ابنه عَوْن والقَطّان وابن المبارك ووكيع ومُعتَمر بن سُليمان وغيرهم. مات سنة تسع وأربعين ومئة، وفي الستة كهمس بن المنهال السدوسيّ. الثالث: عبد الله بن بُريدة، وقد مرّ في الخامس والثلاثين من الحيض، ومرّ عبد الله بن مُغفَّل في الأربعين من المواقيت. ثم قال المصنف: باب من قال ليؤذن في السفر مؤذن واحد كان يشير إلى ما رواه عبد الرَّزَّاق، بإسناد صحيح، أن ابن عمر كان يؤذن للصبح أذانين، وهذا مصير منه إلى التسوية بين الحضر والسفر، وظاهر حديث الباب أن الأذان في السفر لا يتكرر؛ لأنه لم يفرق بين الصبح وغيرها، وقد قيل: لا مفهوم لقوله: مؤذن واحد في السفر؛ لأن الحضر أيضًا لا يؤذن فيه إلا واحد، ولو احتيج إلى تعددهم لتباعد أقطار البلد أذّن كل واحد في جهة، ولا يؤذنون جميعًا. وقد قال الشافعيّ في "الأم": واجب إلى أن يؤذن مؤذن بعد مؤذن، ولا يؤذن جماعة معًا، وإن كان مسجدًا كبيرًا، فلا بأس أن يؤذن في كل جهة منه مؤذن، يسمع من يليه في وقت واحد. وقد مرّ الكلام على هذا في باب "أذان الأعمى" بأزيد من هذا.

الحديث الخامس والعشرون

الحديث الخامس والعشرون حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ، عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ، أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِي، فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً، وَكَانَ رَحِيمًا رَفِيقًا، فَلَمَّا رَأَى شَوْقَنَا إِلَى أَهَالِينَا، قَالَ: "ارْجِعُوا فَكُونُوا فِيهِمْ، وَعَلِّمُوهُمْ وَصَلُّوا، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ فَلْيُؤَذِّنْ أَحَدُكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ". قوله: "في نفر"، هم من ثلاثة إلى عشرة. وقوله: "من قومي"، هم بنو ليث بن بكر بن عبد مناف بن كِنانة، وكان قدوم وفد بني لَيْثٍ فيما ذكره ابن سعد بأسانيد متعددة، أن واثلة الليثي قدم على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو يتجهز لتبوك. وقوله: "رفيقًا"، من الرِّفق، وفي رواية الأَصيليّ: قيل: والكُشميهنيّ بقافين، أي: رقيق القلب. وقوله: "وصلوا"، في الرواية التي في الباب بعده زيادة: "كما رأيتموني أصلي"، ويأتي الكلام هناك عليها. وقوله: "هذا حضرت الصلاة"، وجه مطابقته للترجمة، مع أن ظاهره يخالفها، لقوله: "فكونوا فيهم، وعلموهم، فإذا حضرت"، فظاهره أن ذلك بعد وصولهم إلى أهلهم وتعليمهم، لكن المصنف أشار إلى الرواية التي في الباب بعده، فإن فيها: "فإذا أنتما خرجتما فأذِّنا"، ولا تعارض بينهما أيضًا وبين قوله في هذه الترجمة: "مؤذن واحد"؛ لأن المراد بقوله: "أذّنا"، أي: من أحب منكما أن يؤذن فليؤذن، وذلك لاستوائهما في الفضل كما يأتي تقريره، ولا يعتبر في الأذان السن، بخلاف الإمامة، وهو واضح من سياق حديث الباب، حيث قال: "فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم"، واستدل بهذا على أفضلية الإقامة على الأذان، وعلى وجوب الأذان. وقد مرّ الكلام على هذا في أوائل الأذان.

رجاله خمسة

رجاله خمسة: الأول: مُعَلَّى بن أسد، وقد مرّ في الرابع والثلاثين من الحيض، ومرّ وهيب بن خالد في السادس والعشرين من العلم، ومرّ أيوب السَّختيانيّ وأبو قَلابة في التاسع من الإيمان، ومرّ مالك بن الحُويرث في باب تحريض وفد عبد القيس، بعد الثامن والعشرين من العلم. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع، والعنعنة في ثلاثة، والقول في موضعين، ورواته كلهم بصريُّون. وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ على قول من قال إن أيوب رأى أنَس بن مالك. أخرجه البُخاريّ هنا، وفي الصلاة، وفي خبر الواحد، وفي الأدب والجهاد. ومسلم وأبو داو والتِّرمذيّ والنَّسائيّ وابن ماجه في الصلاة. ثم قال المصنف: باب الأذان للمسافرين إذا كانوا جماعة والإقامة وكذلك بعرفة وجَمْعٍ وقوله المؤذن الصلاةِ في الرحال في الليلة الباردة أو المطيرة قوله: "للمسافرين"، للكُشميهنيّ، وللباقين: "للمسافر" بالإفراد، وهو للجنس. وقوله: "إذا كانوا جماعة"، هو مقتضى الأحاديث التي أوردها، لكن ليس فيها ما يمنع أذان المنفرد. وقد روى عبد الرَّزَّاق بإسناد صحيح عن ابن عُمَر أنه كان يقول: إنّما التأذين لجيش أو ركب عليهم أمير، فينادي بالصلاة ليجتمعوا لها، فأما غيرهم، فإنّما هي الإقامة. وحكى نحو ذلك عن مالك، وذهب الأئمة الثلاثة والثَّوريّ وغيرهم إلى مشروعية الأذان لكل أحد. وقد مرّ حديث أبي سعيد في باب "رفع الصوت بالنداء" وهو يقتضي استحباب الأذان للمنفرد، ومرّ هناك تحرير ما قيل فيه. وقال قاضي خان الحَنَفيّ: رجل صلى في سفر أو في بيته بغير أذان وإقامة يكره. قال: والكراهة مقصورة على المسافر، ومن صلى في بيته فالأفضل له أن يؤذن ويقيم، ليكون على هيئة الجماعة، ولهذا كان الجهر في

حقه أفضل. وبالغ عطاء، فقال: إذا كنت في سفر فلم تؤذن، ولم تُقِم فأعد الصلاة. ولعله كان يرى ذلك شرطًا في صحة الصلاة أو يرى استحباب الإعادة لا وجوبها. وقوله: "والإقامة"، بالخفض عطفًا على الأذان، ولم يختلف في مشروعية الإقامة في كل حال. وقال مجاهد: إذا نسي الإقامة أعاد. وقوله: "وكذلك بعرفة"، لعله يشير إلى حديث جابر الطويل، في صفة الحج، وهو عند مسلم، وفيه: "أن بلالًا أذن وأقام لما جمع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بين الظهر والعصر بعرفة". وقوله: "وجَمْع"، هو بفتح الجيم وسكون الميم المزدلفة، وكأنه أشار بذلك إلى حديث ابن مسعود الذي ذكره في كتاب الحج، وفيه أنه صلى المغرب بأذان وإقامة، والعشاء بأذان وإقامة، ثم قال: "رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يفعله". وقوله: "وقول المؤذن، الصلاة"، إلخ، هو بالخفض أيضًا، هو من حديث ابن عمر في الباب، ويأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى قريبًا.

الحديث السادس والعشرون

الحديث السادس والعشرون حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْمُهَاجِرِ أَبِي الْحَسَنِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي سَفَرٍ، فَأَرَادَ الْمُؤَذِّنُ أَنْ يُؤَذِّنَ، فَقَالَ لَهُ: "أَبْرِدْ"، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُؤَذِّنَ، فَقَالَ لَهُ: "أَبْرِدْ". ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُؤَذِّنَ، فَقَالَ لَهُ: "أَبْرِدْ". حَتَّى سَاوَى الظِّلُّ التُّلُولَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ". هذا الحديث مرّ الكلام عليه مستوفى في المواقيت، في باب الإبراد بالظهر، وبيّن هناك أن المؤذن هو بلال، وأنه أذن وأقام، فيطابق هذه الترجمة. رجاله خمسة: الأول: مسلم بن إبراهيم، وقد مرّ في السابع والثلاثين من الإيمان، ومرّ شُعْبة في الثالث منه، ومرّ أبو ذر في الثالث والعشرين منه. ومرّ مُهاجر وأبو الحسين وزيد بن وَهْب في الثالث عشر من المواقيت.

الحديث السابع والعشرون

الحديث السابع والعشرون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ، عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ قَالَ: أَتَى رَجُلاَنِ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يُرِيدَانِ السَّفَرَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا أَنْتُمَا خَرَجْتُمَا فَأَذِّنَا، ثُمَّ أَقِيمَا، ثُمَّ لِيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا". قوله: "محمد بن يوسُف"، هو الفريابيّ، وسفيان هو الثَّوريّ؛ لأن محمد بن يوسف البيْكَنديّ ليست له رواية عن الثَّوريّ والفِريابيّ، وإن كان يروي عن ابن عُيينة، لكنه إذا أطلق سفيان فإنّما يريد به الثَّوريّ، وإذا روى عن ابن عُيينة بيّنه. وقوله: "أتى رجلان"، هما مالك بن الحُويرث ورفيقه، ويأتي في كتاب الجهاد، في باب "سفر الاثنين"، بلفظ: "انصرفت من عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنا وصاحب لي"، قال في "الفتح": لم أر في شيء من طرقه تسمية صاحبه. وقوله: "فأذِّنا"، قال أبو الحسين القَصّار: أراد به الفضل، وإلا فأذان الواحد يجزي، وكأنه فهم أنه أمرهما أن يؤذنا جميعًا كما هو ظاهر اللفظ، فإن أراد أنهما يؤذنان معًا، فليس ذلك بمراد، وقد مرّ ما فيه في الباب الذي قبله، وفي باب أذان الأعمى، وإن أراد أن كلا منهما يؤذِّن على حدة، فهذا قد مرّ ما فيه في البابين المذكورين، وقد مرّ في الباب الذي قبله توجيهه بوجه آخر، وأن الحامل على صرفه عن ظاهره قوله فيه: "فليؤذن أحدكم". وللطبرانيّ في هذا الحديث: "إذا كنت مع صاحبك فأذّن وأقم، وليؤمكما أكبركما". واستروح القُرطبيّ فحمل اختلاف ألفاظ الحديث على تعدد القصة، وهذا بعيد، لاتحاد، المخرج. وقال الكِرماني: قد يطلق الأمر بالتثنية والجمع،

رجاله خمسة

والمراد واحد، كقولك: يا حرسي اضربا عنقه. وقولك: قتله بنو تميم، مع أن الضارب والقاتل واحد. وقوله: ثم أقيما، فيه حجة لمن قال باستحباب إجابة المؤذن بالإقامة إن حمل الأمر على ما مضى، وإلا فالذي يؤذن هو يقيم. رجاله خمسة: الأول: محمد بن يوسف الفِريابيّ، وقد مرّ في العاشر من العلم، وسُفيان المراد به الثَّوريّ، وقد مرّ في السابع والعشرين من الإيمان، ومرّ أيُّوب وأبو قُلابة في التاسع منه، ومرّ خالد الحَذَّاء في السابع عشر من العلم، ومرّ مالك بن الحُوَيرِث بعد الثامن والعشرين من العلم.

الحديث الثامن والعشرون

الحديث الثامن والعشرون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ: أَتَيْنَا إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَنَحْنُ شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ، فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَحِيمًا رَفِيقًا، فَلَمَّا ظَنَّ أَنَّا قَدِ اشْتَهَيْنَا أَهْلَنَا، أَوْ قَدِ اشْتَقْنَا، سَأَلَنَا عَمَّنْ تَرَكْنَا بَعْدَنَا، فَأَخْبَرْنَاهُ، قَالَ: "ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ، فَأَقِيمُوا فِيهِمْ وَعَلِّمُوهُمْ وَمُرُوهُمْ"، وَذَكَرَ أَشْيَاءَ أَحْفَظُهَا أَوْ لاَ أَحْفَظُهَا، "وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ، فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ". قوله: "ونحن شَبَبَة"، أي: بفتح المعجمة والموحدتين، جمع شاب. وقوله: "متقاربون"، المراد: تقاربهم في السنّ؛ لأن ذلك كان في حال قدومهم، أو في أعم من ذلك، فعند أبي داود: وكنا يومئذ متقاربين في العلم، ولمسلم: كنا متقاربين في القراءة، ومن هذه الزيادة يجاب عن كونه قدّم الأسنّ، فليس المراد تقديمه على الإقراء، بل في حال الاستواء في القراءة، ولم يستحضر الكِرْمانيّ هذه الزيادة، فقال: يؤخذ استواؤهم في القراءة من القصة، لأنهم أسلموا وهاجروا معًا، وصحبوا ولازموا عشرين ليلةً، فاستووا في الأخذ. وتعقب بأن ذلك لا يستلزم الاستواء في العلم، للتفاوت في الفهم، إذ لا تنصيص على الاستواء. وقوله: "فأقمنا عنده عشرين يومًا وليلة"، بالجزم، وفي بعض الروايات: "نحوًا من عشرين ليلة". وقوله: "فلما ظن أنّا قد اشتهينا أهلنا، أو قد اشتقنا، سألنا عمن تركنا بعدنا، فأخبرناه. قال: ارجعوا إلى أهليكم، فأقيموا فيهم، وعلموهم ... "، إلخ، وفي الرواية الآتية في أبواب الإمامة: "فقال أرجعتم إلى

بلادكم، فعلمتموهم، ويمكن الجمع بين الروايتين بأن يكون عرض ذلك عليهم على طريق الإيناس بقوله: لو رجعتم" إذ لو بدأهم بالأمر بالرجوع، لأمكن أن يكون فيه تنفيذ، فيحتمل أن يكونوا أجابوه بنعم، فأمرهم حينئذ بقوله: "ارجعوا"، واقتصار الصحابي على ذكر سبب الأمر برجوعهم بأنه الشوق إلى أهليهم، دون قصد التعليم، هو لما قام عنده من القرينة الدالة على ذلك، ويمكن أن يكون عرف ذلك بصريح القول منه صلى الله تعالى عليه وسلم، وإن كان سبب تعليمهم قومهم أشرف في حقهم، لكنه أخبر بالواقع، ولم يتزين بما ليس فيهم، ولما كانت نيتهم صادقة، صادف شوقهم إلى أهلهم الحظ الكامل في الدين، وهو أهلية التعليم، كما قال الإِمام أحمد في الحرص على طلب الحديث: حظ وافق حقًا. وقوله هنا: "ونحن شيبة"، وفي الذي قبله: "أتى رجلان النبي"، وفي رواية الجهاد: "أنا وصاحب لي" كما مرّ يجمع بينها بأنهم حين أذن لهم في السفر كانوا جميعًا، فلعل مالكًا ورفيقه عادا إلى توديعه، فأعاد عليهما بعض ما أوصاهم به تأكيدًا. وأفاد ذلك زيادة بيان أقل ما تنعقد به الجماعة. وقوله: "اشتهينا أهلنا"، في رواية الكُشميهنيّ: "أهلِينا" بكسر اللام وزيادة ياء، وهو جمع أهل، ويجمع مكسرًا على أَهال، بفتح الهمزة مخففًا، وفي رواية وهيب: "فلما رأى شوقنا إلى أهلنا" والمراد بأهل كل منهم زوجته أو أعم من ذلك. وقوله: "سأَلَنا"، بفتح اللام، أي: النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، سأل المذكورين. وقوله: "ارجعوا إلى أهليكم"، إنما أذن لهم في الرجوع؛ لأن الهجرة كانت قد انقطعت بفتح مكة، فكانت الإقامة بالمدينة باختيار الوافد، فكان منهم من يسكنها، ومنهم من يرجع بعد أن يتعلم ما يحتاج إليه. وقوله: "وعلموهم ومروهم"، بصيغة الأمر، ضد النهي، فالمراد به أعم من ذلك؛ لأن النهي عن الشيء أمر بفعل خلاف ما نهى عنه اتفاقًا، وعطف الأمر على التعليم لكونه أخص منه، أو هو استئناف كأنَّ سائلًا قال: ماذا نعلمهم؟ فقال: مروهم بالطاعات، وكذا وكذا.

وفي رواية حماد بن زيد في أبواب الإمامة: "مروهم فليصلوا صلاة كذا، في حين كذا، وصلاة كذا في حين كذا"، فعرف بذلك المأمور المبهم في رواية الباب، ولم ير في شيء من الطرق بيان الأوقات في حديث مالك بن الحُويرث، فكأنه ترك ذلك لشهرتها عندهم. وقوله: "وذكر أشياء أحفظها أو لا أحفظها" قائل هذا هو أبو قِلابة راوي الخبر. وفي رواية أخرى: "أو لا أحفظهما" وهو للتنويع لا للشك. وقوله: "وصلوا كما رأيتموني أصلي"، أي: ومن جملة الأشياء التي يحفظها أبو قِلابة عن مالك، قوله صلى الله تعالى عليه وسلم هذا، وفي رواية وهيب السابقة: "وصلوا" فقط، ونسبت إلى الاختصار، وتمام الكلام هو الذي وقع عنا. قال ابن دقيق العِيد: استدل كثير من الفقهاء على مواضع كثيرة، على الوجوب بالفعل مع هذا القول، وهو: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، قال: وهذا إذا أخذ مفردًا عن ذكر سببه وسياقه أشعر بأنه خطاب للأمة بأنّ يصلوا كما كان يصلي، فيقوي الاستدلال به على كل فعل ثبت أنه فعله في الصلاة، لكن هذا الخطاب إنّما وقع لمالك بن الحُويرث وأصحابه، بأنّ يوقعوا الصلاة على الوجه الذي رأوه صلى الله تعالى عليه وسلم يصليه، نعم يشاركهم في الحكم جميع الأمة بشرط أن يثبت استمراره صلى الله تعالى عليه وسلم على فعل ذلك الشيء المستدل به دائمًا، حتى يدخل تحت الأمر، ويكون واجبًا، وبعض ذلك مقطوع باستمراره عليه، وأما ما لم يدل دليل على وجوده في تلك الصلوات التي تعلق الأمر بإيقاع الصلاة على صفتها. فلا نحكم بتناول الأمر له. وقوله: "وليؤمكم أكبركم"، ظاهره تقديم الأكبر بكثير السن وقليله، وأما من جوز أن يكون مراده بالكبر ما هو أعم من السن أو القدر، كالتقديم في الفقه والقراءة والدِّين فبعيد، لما رواه ابن خُزيمة عن خالد راوي الحديث حيث قال لأبي قِلابة: فأين القراءة؟ قال: إنهما كانا متقاربين، فإنه دال على أن خالدًا فهم أن المراد كبر السن، ودعوى أن قوله: "وليؤمكم أكبركم"، مُعارض لقوله في حديث أبي مسعود الأنصاريّ عند مسلم مرفوعًا: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله،

فإن كانت قراءتهم سواء، فليؤمهم أقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء، فليؤمهم أكبرهم سنًا"، الحديث؛ لأن الأول يقتضي تقديم الأكبر على الأقرأ، والثاني عكسه، يجاب عنه بأن قصة مالك بن الحويرث واقعة عين قابلة للاحتمال، بخلاف الحديث الآخر، فإنه تقرير قاعدة تفيد التعميم، فيحتمل أن يكون الأكبر منهم كان يومئذ هو الأفقه، لكن التنصيص فيما مر على تقاربهم في العلم. هذا والأولى في الجمع ما قال الزين بن المنير، وحاصله: إن تساوى هجرتهم وإقامتهم وغرضهم بها مع ما في الشباب غالبًا من الفهم، ثم توجه الخطاب إليهم بأن يعلّموا من وراءهم من غير تخصيص بعضهم دون بعض، دال على استوائهم في القراءة والتفقه في الدين. قلت: فلم يبق إلا الكبر في السنن. وقيل: المراد بقوله في حديث أبي مسعود: "أقرؤهم"، أفقههم. وقيل: هو على ظاهره، وبحسب ذلك اختلف الفقهاء. قال النّوويّ: قال أصحابنا الأفقه مقدم على الأقرأ، فإن الذي يحتاج إليه من القراءة مضبوط، والذي يحتاج إليه من الفقه غير مضبوط. فقد يعرض في الصلاة أمر لا يقدر على مراعاة الصلاة فيه إلا كامل الفقه، ولهذا قدم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أبا بكر في الصلاة على الباقين، مع أنه عليه الصلاة والسلام نص على أن غيره أقرأ منه، يعني حديث: "أقرؤكم أُبيّ"، قال: وأجابوا عن الحديث، يعني حديث أبي مسعود بأن الأقرأ من الصحابة كان هو الأفقه، لكن هذا الجواب يلزم منه أن من نص النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على أنه أقرأ من أبي بكر يكون أفقه منه، فيفسد الاحتجاج بأنّ تقديم أبي بكر كان لأنه الأفقه. قلت: مذهب المالكية تقديم الأفقه على الأقرأ. ثم قال النَّوويّ بعد ذلك: أن قوله في حديث أبي مسعود: "فإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء، فأقدمهم في الهجرة" يدل على تقديم الأقرأ مطلقًا، وهو واضح للمغايرة، وهذه الرواية أخرجها مسلم أيضًا من وجه آخر على إسماعيل بن رجاء، ولا يخفى أن محل تقديم الأقرأ إنما

رجاله خمسة

هو حديث حيث يكون عارفًا بما يتعين معرفته من أحوال الصلاة، فأما إذا كان جاهلًا بذلك، فلا يقدم اتفاقًا والسبب فيه أن أهل ذلك العصر كانوا يعرفون معاني القرآن لكونهم أهل اللسان، فالأقرأ منهم بل القارىء كان أفقه في الدين من كثير من الفقهاء الذين جاؤوا بعدهم. وفي الحديث فضل الهجرة والرحلة في طلب العلم، وفضل التعليم، وما كان عليه صلى الله تعالى عليه وسلم من الشفقة، والاهتمام بأحوال الصلاة، وغيرها من أمور الدين. وإجازة خبر الواحد، وقيام الحجة. رجاله خمسة: الأول: محمد بن المُثنَّى، وقد مرّ هو وأيّوب وأبو قلابة في التاسع من الإيمان، وكذلك عبد الوهاب الثَّقفيّ، ومرّ محل ذكر مالك في الذي قبله.

الحديث التاسع والعشرون

الحديث التاسع والعشرون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ أَخْبَرَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ حَدَّثَنِي نَافِعٌ قَالَ أَذَّنَ ابْنُ عُمَرَ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ بِضَجْنَانَ ثُمَّ قَالَ صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ، فَأَخْبَرَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَأْمُرُ مُؤَذِّنًا يُؤَذِّنُ، ثُمَّ يَقُولُ عَلَى إِثْرِهِ، أَلاَ صَلُّوا فِي الرِّحَالِ. فِي اللَّيْلَةِ الْبَارِدَةِ أَوِ الْمَطِيرَةِ فِي السَّفَرِ. قوله: بضَجْنان. هو بفتح الضاد والمعجمة وبالجيم بعدها نون على وزن فَعْلَان غير مصروف، قيل: هو جبل بناحية مكة، وقيل: موضع أو جبل بين مكة والمدينة. وقيل: هو جبل على بريد من مكة، وقيل بينه وبيّن مكة خمسة وعشرون ميلًا، وبينه وبين وادي مريسة أميال، ويؤيد هذا ما حكاه أبو عُبَيْد البَكْرِيّ قال: وبيّن قديد وضَجْنان يوم، قال معبد الخزاعيّ: قد جعلتْ ماءَ قُديد مَوْعِدي ... وماءَ ضَجْنان لها ضحى الغَدِ وقوله: كان يأمر مؤذنًا. في رواية مسلم "كان يأمر المؤذِّن" وقوله: ثم يقول على إثره. صريح في أن القول المذكور كان بعد فراغ الأذان. وقال القرطبيّ: لما ذكر رواية مسلم بلفظ "يقول في آخر ندائه" يحتمل أن يكون المراد في آخره قُبيل الفراغ منه، جمعًا بينه وبين حديث ابن عباس. وقد مر في باب الكلام في الأذان عن ابن خُزيمة أنه حمل حديث ابن عباس على ظاهره، وأن ذلك يقال بدلًا من الحَيْعَلة نظرًا إلى المعنى؛ لأن معنى حيّ: على الصلاة: هلموا إليها، ومعنى: الصلاة في الرحال: تأخروا عن المجيء، ولا يناسب إيراد اللفظين معًا؛ لأن أحدهما نقيض الآخر. ويمكن الجمع بينهما، ولا يلزم منه ما ذكر بأن يكون معنى الصلاة في الرحال رخصة لمن أراد أن يترخص، ومعنى: هلموا إلى الصلاة ندب لمن أراد أن يستكمل الفضل، ولو تحمل المشقة.

رجاله خمسة

ويؤيد ذلك حديث جابر عند مسلم قال: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سفر، فمُطرنا فقال: "ليصل من شاء منكم في رحله". وقوله: في الليلة الباردة أو المطيرة. قال الكرمانيّ: فعيلة بمعنى فاعلة، وإسناد المطر إليها مجاز، ولا يقال: إنها بمعنى مفعولة، أي ممطورة فيها، لوجود الهاء في قوله "مطيرة" ولا يصح ممطورة فيها. وقوله: أو، للتنويع لا للشك، وفي رواية أبي عَوانة "ليلة باردة أو ذات صر أو ذات ريح" ودل ذلك على أن كلًا من الثلاثة عذر في التأخر عن الجماعة. ونقل ابن بطال فيه الإجماع، لكن المعروف عند المالكية والشافعية أن الريح عذر في الليل فقط، وظاهر الحديث اختصاص الثلاثة بالليل، لكن في السنن عن نافع في الحديث "في الليلة المطيرة، والغداة القرة". وفيها بإسناد صحيح عن أبي المُلَيْح عن أبيه "أنهم مُطروا يومًا، فرخص لهم". قال "في الفتح" لم أر في شيء من الأحاديث، الترخص بعذر الريح نهارًا صريحًا، لكن القياس يقتضي إلحاقه، وقد نقله ابن الرّفْعَة وجهًا. قلت: مذهب المالكية أن البرد والحر الشديدين يُبيحان التخلف عن الجُمُعة والجماعة، وقوله: في السفر، ظاهر اختصاص ذلك بالسفر، ورواية مالك عن نافع الآتية في أبواب صلاة الجماعة مطلقة، وبها أخذ الجمهور، ولكن قاعدة حمل المطلق على المقيد تقتضي أن يختص ذلك بالمسافر مطلقًا، ويلحق به من تلحقه بذلك مشقة في الحضر، دون من لا تلحقه. رجاله خمسة: الأول: مُسَدَّد. والثاني: يحيى القطّان، وقد مرا في السادس من الإيمان، ومرَّ عُبَيد الله بن عمر في الرابع عشر من الوضوء ومرَّ نافع في الثالث والسبعين من العلم، ومرَّ ابن عمر أول الإيمان قبل ذكر حديث منه.

الحديث الثلاثون

الحديث الثلاثون حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْعُمَيْسِ عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِالأَبْطَحِ فَجَاءَهُ بِلاَلٌ فَآذَنَهُ بِالصَّلاَةِ، ثُمَّ خَرَجَ بِلاَلٌ بِالْعَنَزَةِ حَتَّى رَكَزَهَا بَيْنَ يَدَىْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِالأَبْطَحِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ. قوله: "بالأبطح" موضع معروف خارج مكة، وقد بيناه في باب سترة الإِمام سترة لمن خلفه، وفهم بعضهم أن المراد بالأبطح موضع جمع لذكره لها في الترجمة، وليس بمراد، بل بين الأبطح وجمع مسافة طويلة، وإنما أورد حديث أبي جحيفة لأنه يدخل في أصل الترجمة، وهي مشروعية الأذان والإقامة للمسافرين، وفذا الحديث مرت مباحثه مستوفاة في كتاب الوضوء في باب "استعمال فضل وضوء الناس" وباب "الصلاة في الثوب الأحمر". رجاله خمسة: الأول: إسحاق، والمراد به ابن منصور، أو ابن إبراهيم، وقد مرَّ كل منهما في الحادي والعشرين من العلم، ومرَّ جَعْفَر بن عَوْن وأبو العُمَيس في الثامن والثلاثين من الإيمان، ومرَّ عَوْن بن أبي جُحَيْفَةَ في السابع والعشرين من الصلاة، ومرَّ أبو جُحَيْفةَ في الحادي والخمسين من العلم. ثم قال المصنف. باب هل يتتبع المؤذن فاه هاهنا وهاهنا وهل يلتفت في الأذان قوله: يَتَتبَّع، بياء تحتانيّة ثم بتاءين مفتوحتين ثم بموحدة مشدده من التتبع، وفي رواية الأصيليّ "يُتتبع" بضم أوله من الاتباع، والمؤذن بالرفع فاعل التتبع، وفاه منصوب على المفعولية، وهاهنا وهاهنا ظرف مكان، والمراد بهما جهة

اليمين والشمال، كما يأتي قريبًا إن شاء الله تعالى. وقال الكِرْمَانيّ: لفظ المُؤذِّن بالنصب، وفاعله محذوف تقديره الشخص، وفاه بالنصب بدل من المؤذن. قال: ليوافق قول أبي جُحَيْفَة في الحديث "فجعلت اتتبع فاه" وليس ذلك بلازم لما عرفت من طريقة المصنف، أنه لا يقف مع اللفظ الذي يورده غالبًا، بل يترجم له ببعض ألفاظه الواردة فيه، وكذا وقع هنا، فإن في رواية عبد الرحمن بن مَهْدِيّ عن سفيان عند أبي عَوانة في صحيحه "فجعل يتتبع بفيه يمينًا وشمالًا" وفي رواية وكيع عن سفيان عند الإسماعيلي "رأيت بلالًا يؤذن يتتبع بفيه" ووصف سفيان "يميل برأسه يمينًا وشمالًا" والحاصل أن بلالًا كان يتتبع بفيه الناحيتين، وكان أبو جُحَيْفَة ينظر إليه، فكل منهما متتبع باعتبار. وقوله: وهل يلتفت في الأذان، يشير إلى ما مرَّ في رواية وكيع، وعند النّسائي من رواية الأزرق "فجعل ينحرف يمينًا وشمالا" وعند مسلم من رواية وكيع عن أبي جُحَيْفَة "فجعلت أتتبع فاه هاهنا وهاهنا يمينًا وشمالًا، يقول حي على الصلاة، حي الفلاح" وهذا فيه تقييده للالتفات في الأذان، وأن محله عند الحَيْعَلَتين وبوب عليه ابن خزيمة باب "انحراف المؤذن عند قوله حيّ على الصلاة، حي على الفلاح" بفمه لا ببدنه كله "قال: وإنما يمكن الانحراف بالفم بانحراف الوجه، ثم ساقه عن وكيع أيضًا بلفظ "فجعل يقول في أذانه هكذا، ويحرف رأسه يمينًا وشمالًا" وعند التِّرْمِذِي من رواية عبد الرّزّاق عن الثّوريّ "رأيت بلالًا يؤذن ويدور، ويتبع فاه هاهنا وهاهنا، وأصبعاه في أذنيه" ففي هذا الحديث زيادتان، إحداهما الاستدارة، والأخرى وضع الأصبع في الأذن. وقوله: يدور، مُدْرَج في رواية سفيان عن عون، بيّن ذلك يحيى بن آدم عن سفيان عن عَوْن عن أبيه قال: رأيت بلالًا أذّن فاتبع فاه هاهنا وهاهنا، والتفت يمينًا وشمالًا". قال سفيان كان حجاج، يعني ابن أرطأة، يذكر لنا عون أنه قال "فاستدار في أذانه، فلما لقينا عونًا لم يذكر فيه الاستدارة"، أخرجه الطّبَرانيّ وأبو الشَّيْح، وأخرجه البَيْهَقيّ، لكنه لم يسم حجاجًا، ولم ينفرد به حَجَّاج، بل وافقه إدريس الأَوْدِي ومحمد العَرْزَميّ عن عَوْن، لكن الثلاثة ضُعَفاء، وقد خالفهم من هو أمثل منهم، قيس بن الربيع، فقد رواه أبو داود عنه عن عَوْن فقال في

حديثه "ولم يَسْتَدِر" ويمكن الجمع بأن من أثبت الاستدارة عني استدارة الرأس، ومن نفاها عني استدارة الجسد كله، ومشى ابن بَطال ومن تبعه على ظاهره، فاستدل به على جواز الاستدارة بالبدن كله، وما مشى عليه هو مذهب مالك، فإن الدوران عنده حالة الأذان جائز أو مندوب لإسماع الناس، وقيل عند الحَيْعَلة. وقال ابن دَقيق العيد: فيه دليل على استدارة المؤذنين للإسماع عند التلفظ بالحيعلتين، واختلف هل يستدير ببدنه كله، وهو المشهور عند المالكية، أو بوجهه فقط وقدماه قارّتان مستقبلَ القبلة؟ واختلف أيضًا هل يستدير في الحيعلتين الأوليين مرة، وفي الثانيتين مرة، أو يقول حي على الصلاة عن يمينه، حي على الفلاح عن شماله، وكذا في الأخرى؟ قال "في الفتح": ورجح الثاني لأنه يكون لكل جهة نصيب منهما، والأول أقرب إلى لفظ الحديث. وقال صاحب التوضيح من الشافعية: الالتفات في الحَيْعَلَتين سُنّة، ليعم الناس بإسماعه، وخص بذلك لأنه دعاء، وعند الحنابلة يلتفت يمينًا لحي على الصلاة، وشمالًا لحي على الفلاح، ولا يزيل قدميه سواء كان على منارة أو غيرها، أو على الأرض على المشهور. وفي "المغني" عن أحمد: ولا يدور إلا إذا كان على منارة، يقصد إسماع أهل الجهتين. ثم قال: ويُذكرُ عن بلالٍ أنَّهُ جعلَ أُصْبَعَيهِ في أُذنيهِ. يشير بذلك إلى ما مرَّ في رواية عبد الرَّزَّاق عن سفيان عند التِّرمذِيّ، وقد رواه مُؤَمِّلْ أيضًا عن سفيان عند أبي عَوانَةَ، وله شواهد أصحها ما رواه أبو داود وابن حِبّان، أن عبد الله الهَوْزيّ قال: قلت لبلال: كيف كانت نفقة النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ فذكر الحديث، وفيه قال بلال "فجعلت أصبعي في أذني، فأذنت" ولابن ماجه والحاكم من حديث سعد القرظ "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بلالًا أن يجعل أصبعيه في أذنيه" وفي إسناده ضعف، وبه قال الحسن وأحمد وإسحاق وأبو حنيفة ومحمد بن سيرين، أي قالوا بندبه. وقال مالك: ذلك واسع. قال العلماء: في ذلك فائدتان؛

إحداهما أن يكون أرفع لصوته، وفيه حديث ضعيف أخرجه أبو الشيخ عن سعد القَرَظ عن بلال، "أنه عليه الصلاة والسلام أمره أن يجعل أصْبَعَيه في أذنيه". ثانيتهما أنه علامة للمؤذن، يعرف من رآه على بعد أو كان به صمم أنه يؤذن. ومن ثم قال بعضهم: يجعل يده فوق أذنيه فحسب، وهو مَرْويٌّ عن أبي حنيفة. وقال التّرمذيّ: استحب أهل العلم أن يدخل المؤذن أصبعيه في أذنيه في الأذان، قال: واستحبه الأوزاعي في الإقامة أيضًا، وصرح الرَّوْيانيّ بأنه لا يستحب في الإقامة لفقد المعنى الذي علل به، ولم يبين في الحديث تعيين الأصبع التي يستحب وضعها. وجزم النووي بانها المُسَبحة، وإطلاق الأصبع مجاز عن الأنملة، على حد قوله تعالى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} [البقرة: 19] ولو كان في إحدى يديه علة جعل الأصبع الأخرى في صِماخه. وهذا التعليق أخرجه ابن ماجه، ووصله عبد الرَّزَّاق وغيره عن سُفيان، وبلال قد مرَّ في التاسع والثلاثين من العلم. ثم قال: وكانَ ابنُ عُمَرَ لا يجعلُ أصْبَعَيهِ في أُذُنيهِ. ذكر هذا التعليق بصيغة التصحيح، فكأنّ ميله إليه، وهذا التعليق أخرجه عبد الرَّزَّاق وابن أبي شَيْبَة من طريق نُسَير، وابن عمر مرَّ أول كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه. ثم قال: وقالَ إبراهيمُ: لا بأس أنْ يؤذِّن على غير وُضوءِ. يعني ثم يخرج فيتوضأ ثم يرجع فيقيم. وهذا وصله سَعيد بن مَنْصور وابن أبي شَيْبَة عن جرير، وإبراهيم النَّخَعِيُّ قدر في الخامس والعشرين من الإيمان. ثم قال: وقال عَطَاء: الوضوء حق وسنّةٌ. تمامه وسنة مسنونة ألا يؤذّن المُؤذِّن إلا متوضأً هو من الصلاة، وهو فاتحة الصلاة، ولابن أبي شَيْبَة والبَيْهقيّ عن أبي هُريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يؤذِّن

إلا متوضىء" وفي إسناده ضعف، والصحيح أنه مُرْسَل عن الزُّهريّ وعند ابن أبي شَيْبَة أمر مُجاهد مؤذِّنه أنه لا يؤذن حتى يتوضأ، وهذا التعليق وصله عبد الرَّزّاق عن جَرير، وعَطَاء هو ابن أبي رَبَاح وقد مرَّ في التاسع والثلاثين من العلم. ثم قال: وقالتْ عائشةُ رضي الله تعالى عنها "كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يذكرُ الله على كلِّ أحيانهِ". وفي إيراد البخاري له هنا إشارة إلى اختيار قول النَّخَعِي، وهو قول مالك والكوفيين؛ لأن الأذن ليس من جملة الأركان، فلا يشترط فيه ما يشترط في الصلاة والطهارة، ولا من استقبال القبلة، كما لا يستحب فيه الخشوع الذي ينافيه الالتفات، وجعل الأُصْبَعَ في الأذن، فعند مالك وأبي حَنيفة وأَحْمد: يكره أذان الْمُحْدِث حدثًا أكبر، وإقامته. والكراهة في الإقامة أشد، ولا يكره أذان المحدث حدثًا أصغر، وتكره إقامته لما فيه من الفصل بين الإقامة والصلاة بالاشتغال بأعمال الوضوء. وقال الكَرْخيّ من الحنفية: لا تكره الإقامة على غير وضوء وقال محمد بن الحَسَنُ: إذا أَذّن الجُنُبُ أحب إلى أن يعيد الأذان، وإن لم يعد أجزأه. وقال صالح "الهداية": الأشبه بالحق أن يعاد أذان الجنب، ولا تعاد الإقامة، لأن تكرر الأذان مشروع في الجملة. وقال عَطَاء والأوْزَاعيّ وبعض الشافعية: تشترط فيهما الطهارة، وفائدة شدة الكراهة في الإقامة، مع تقرر من أن المكروه لا ثواب في فعله ولا عقاب، وإنما يثاب على تركه هي أن ما اشتدت كراهته يكون الثواب في تركة أكثر من الثواب في ترك ما لم تشتد كراهة فعله، أو أن المعاتبة على ما اشتدت كراهته، آكد من المعاتبة على ما دونه. وقال الشافعيّ في "الأم": يكره الأذان بغير وضوء، ويجزىء إن فعل، وللجنب أشد كراهة، لغلظ الجنابة، والإقامة أغلظ من الأذان في الحدث والجنابة لقربها من الصلاة وبهذا تعرف مناسبة ذكره لهذه الآثار في هذه الترجمة، ولاختلاف نظر العلماء فيها أوردها بلفظ الاستفهام، ولم يجزم بالحكم. وهذا التعليق وصله مسلم، وقال التّرمذيّ حسن غريب، ومرت عائشة في الثاني من بدء الوحي.

الحديث الحادي والثلاثون

الحديث الحادي والثلاثون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ رَأَى بِلاَلاً يُؤَذِّنُ فَجَعَلْتُ أَتَتَبَّعُ فَاهُ هَاهُنَا وَهَاهُنَا بِالأَذَانِ. وهذا الحديث مرَّ ما فيه من المباحث في التعاليق قبله والترجمة. رجاله أربعة: وفيه ذكر بلال. الأول: محمد بن يُوْسُف الفِرْيابيّ، وقد مرَّ في العاشر من العلم، ومرَّ سُفْيان الثَّوريّ في السابع والعشرين من الإيمان، ومرَّ محل عَوْن بن أبي جُحَيْفَة وأبو جُحَيْفَةَ في الذي قبله، ومرَّ بلال في التاسع والثلاثين من العلم. ثم قال المصنف: باب قول الرجل فاتتنا الصلاة أي: هل يكره أم لا. ثم قال: وكرهَ ابنُ سِيرينَ أنْ يقولَ فاتتنا الصلاةُ، ولكنْ ليقُلْ: لمْ نُدْرِكْ. وهذا وصله ابن أبي شَيْبَة في مصنفه عن أزْهَر، وابن سيرين قد مرَّ في الأربعين من الإيمان. ثم قال: وقولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أصَحُّ، هو بالرفع مبتدأ، وخبره أصح، وهذا كلام المؤلف ردّ على ابن سيرين، ووجه الرد أنّ الشارع أطلق لفظ الفوات، فدل على الجواز، وابن سيرين مع كونه كرهه فإنما كرهه من جهة اللفظ؛ لأنه قال: وليقل لم ندرك، وهذا محصل معنى الفوات، لكن قوله لم

ندرك، فيه نسبة عدم الإدراك إليه، بخلاف فاتتنا، فلعل ذلك هو الذي لحظه ابن سيرين. وقوله: أصح، معناه صحيح بالنسبة إلى قول ابن سيرين، فإنه صحيح لثبوت النص بخلافه، وعند أحمد من حديث أبي قتادة في قصة نومهم عن الصلاة، "فقلت: يا رسول الله فاتتنا الصلاة" ولم ينكر عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-. وموقع هذه الترجمة، وما بعدها من أبواب الأذان والإقامة، أن المرء عند إجابة المؤذن يحتمل أن يدرك الصلاة كلها أو بعضها، أو لا يدرك شيئًا، فاحتيج إلى جواز إطلاق الفوات، وكيفية الإتيان إلى الصلاة، وكيفية العمل عند ذوات البعض ونحو ذلك.

الحديث الثاني والثلاثون

الحديث الثاني والثلاثون حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- إِذْ سَمِعَ جَلَبَةَ رِجَالٍ فَلَمَّا صَلَّى قَالَ: "مَا شَأْنُكُمْ". قَالُوا اسْتَعْجَلْنَا إِلَى الصَّلاَةِ. قَالَ: فَلاَ تَفْعَلُوا إِذَا أَتَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا. وفي رواية مسلم التصريح بإخبار عبد الله به ليحيى، وبإخبار أبي قتادة لعبد الله. وقوله: جلبة الرجال، بالألف واللام للعهد الذهني، وجَلَبَة الرجال بالتحريك: أصواتهم حال حركاتهم. وفي رواية كريمة والأصيلي "جلبة رجال" بغير ألف ولام، وقد سمي منهم أبو بكرة فيما رواه الطبراني عنه في نحو هذه القصة، وقد مرَّ أبو بكرة في الرابع والعشرين من الإيمان. واستدل به على أن التفات خاطر المصلي إلى الأمر الحادث لا يفسد صلاته، وأخرت الكلام على هذا الحديث إلى الجائي في الباب بعده؛ لأنه أوفى منه. رجال خمسة: الأول: أبو نُعيم، وقد مرَّ في الخامس والأربعين من الإيمان، ومرَّ شَيْبان ويحيى بن أبي كَثير في الثالث والخمسين من العلم، ومرَّ عبد الله بن أبي قَتَادَةَ وأبوه قَتَادَةَ في التاسع عشر من الوضوء. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في ثلاثة، والقول في موضعين، ورواته ما بين بَصري وكُوفي، والحديث أخرجه أيضًا مُسْلِم في الصلاة. ثم قال المصنف:

باب لا يسعى إلى الصلاة وليأت بالسكينة والوقار

باب لا يسعى إلى الصلاة وليأت بالسكينة والوقار وقالَ ما أدْركتمْ فصلُّوا وما فاتكمْ فأتِمُّوا، قالَه أبو قَتَادة عنْ النبيِّ صلى الله عليه وسلم. سقطت هذه الترجمة من رواية الأصِيليّ ومن رواية أبي ذر عن غير السَّرْخَسِيّ وثبوتها أصوب، لقوله فيها: قاله أبو قتادة؛ لأن الضمير يعود على ما ذكر في الترجمة، ولولا ذلك لعاد الضمير إلى المتن السابق، فيكون ذكر أبي قتادة تكرارًا بلا فائدة؛ لأنه ساقه عنده.

الحديث الثالث والثلاثون

الحديث الثالث والثلاثون حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَعَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إِذَا سَمِعْتُمُ الإِقَامَةَ فَامْشُوا إِلَى الصَّلاَةِ، وَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ وَلاَ تُسْرِعُوا، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا. قوله: وعن الزُّهْرِيّ، أي بالإسناد الذي قبله، وهو آدَمُ عن ابن أبي ذئب عنه، أي أن ابن أبي ذِئب حدث به عن الزُّهْرِيّ عن شيخين حدثاه به عن أبي هُرَيرة، وقد جمعهما المصنف في باب المشي إلى الجمعة عن آدم، فقال فيه: عن سَعيد وأبي سلمة، كلاهما عن أبي هُريرة. وأخرجه التّرمِذيّ عن الزُّهريّ عن أبي سَلَمة وحده، وأخرجه أيضًا عن الزُّهْريّ عن سَعيد وحده، والحق كما قال الدّارقُطنِيّ أنه عنده عنهما جميعًا. قال: وربما اقتصر على أحدهما. وقوله: إذا سمعتم الإقامة، وفي الرواية السابقة "إذا أتيتم الصلاة" وهذه أخص من السابقة، لكن الظاهر أنه من مفهوم الموافقة؛ لأن المسرع إذا أقيمت الصلاة يترجى إدراك فضيلة التكبيرة الأولى ونحو ذلك، فقد نهى عن الإسراع، فغيره ممن جاء قبل الإقامة لا يحتاج إلى الإسراع؛ لأنه يتحقق إدراك الصلاة كلها، فينهى عن الإسراع من باب أولى. وقد لحظ بعضهم فيه معنى غير هذا، فقال: الحكمة في التقييد بالإقامة أن المسرع إذا أقيمت الصلاة يصل إليها وقد انبهر، فيقرأ وهو في تلك الحالة، فلا يحصل له تمام الخشوع في الترتيل وغيره، بخلاف من جاء قبل ذلك، فإن الصلاة قد لا تقام حتى يستريح. وقضية هذا أنه لا يكره الإسراع لمن جاء قبل الإقامة، وهو مخالف لصريح قوله "إذا أتيتم

الصلاة" لأنه يتناول ما قبل الإقامة، وإنما قيد في الحديث الثاني بالإقامة؛ لأن ذلك هو الحامل في الغالب على الإسراع. وقوله: وعليكم بالسكينة، كذا في رواية أبي ذَرٍّ، ولغيره "وعليكُمُ السَكِينَة" بغير باء، وكذا في رواية مُسْلم. وأعربها القُرْطُبيّ بالنصب على الإغراء، والنَّوَويّ بالرفع على أنها جملة موضع الحال، واستشكل بعضهم دخول الباء. قال لأنه متعد بنفسه، كقوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة: 105] وفيه نظر، لثبوت زيادة الباء في الأحاديث "الصحيحة" كحديث "عليكم برخصة الله" وحديث "فعليه بالصوم فإن له وجاء" وحديث "فعليكَ بالمرأة" قاله لأبي طلحة في قصة صفية، وحديث "عليك بعيبتك" قالته عائشة لعمر، وحديث "عليكم بقيام الليل وحديث "عليك بخويصة نفسك" وغير ذلك. ثم إن الذي علل به هذا المعترض غير موف بمقصوده إذ لا يلزم من كونه يَتَعَدّى بنفسه امتناع تعديه بالباء، وإذا ثبت ذلك دل على أن فيه لغتين. والحكمة في هذا الأمر تستفاد من زيادة وقعت في مُسْلم عن أبي هُرَيرة، فذكر نحو حديث الباب وقال في آخره "فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في صلاة" أي أنه في حكم صلاة فينبغي له اعتماد ما ينبغي للمصلي اعتماده، واجتناب ما ينبغي للمصلي اجتنابه. وقوله: والوَقار، بفتح الواو، قال عِياض. والقُرْطُبيّ هو بمعنى السكينة، وذكر على سبيل التأكيد. وقال النَّوَوِيّ: الظاهر أن بينهما فرقًا. وأن السكينة الثاني في الحركات واجتناب العبث، والوقار في الهيئة كغض البصر وخفض الصوت وعدم الالتفات، ونظم بعض أشياخنا هذا المعنى فقال: وخفضُ صوتِ ثم غَضُّ البَصَرِ ... هو الوقار عندهم في الأشهرِ أما السكينة فبالتأني ... وعدم الفعل لما لا يعني وقوله: لا تسرعوا، فيه زيادة التأكيد، ويستفاد منه الرد على من أوّل قوله في حديث أبي قتادة السابق "لا تفعلوا" أي الاستعجال المفضي إلى عدم الوقار، وأما الإسراع الذي لا ينافي الوقار، كمن خاف فوت التكبيرة، فلا، وهو

محكي عن إسحاق بن راهَوَيه. قلت: وهو مذهب مالك، فإن الإسراع عنده جائز إذا لم تكن فيه هَرْوَلَة؛ لأن الهرولة تذهب السكينة والخشوع، وقد مرت رواية مسلم "فهو في صلاة". قال النّوَويّ: نبه على أنه لو لم يدرك من الصلاة شيئًا لكان محصلًا لمقصوده لكونه في صلاة، وعدم الإسراع أيضًا يستلزم كثرة الخطأ وهو معنى مقصود لذاته، ووردت فيه أحاديث، كحديث جابر عند مُسْلم "أن بكل خطوة درجة" وحديث أبي داود عن رجل من الأنصار مرفوعًا "إذا توضأ أحدكم فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لم يرفع قدمه اليُمنى إلا كتب الله له حسنة، ولم يضع قدمه اليُسرى إلا حط عنه سيئة، فإن أتى المسجد فصلى في جماعة غفر له، فإن أتى وقد صلوا بعضاً وبقي بعض فصلى ما أدرك، وأتم ما بقي كان كذلك، وإن أتى المسجد وقد صلوا فأتم الصلاة كان كذلك". وقلت: ما ذهبت إليه المالكية من التفصيل محصل لإدراك الصلاة والتزام الوقار. وقوله: فما أدركتم فصلوا، الفاء جواب شرط محذوف، أي إذا بينت لكم ما هو أولى بكم فما أدركتم فصلوا، أو التقدير: إذا فعلتم الذي أمرتكم به من السكينة وترك الإسراع فما أدركتم فصلوا، أو استدل بهذا الحديث على حصول فضيلة الجماعة بإدراك جزء من الصلاة، لقوله: "فما أدركتم فَصَلّوا" ولم يفصل بين القليل والكثير. قال "في الفتح": وهذا قول الجمهور. وقيل: لا تدرك الجماعة بأقل من ركعة، للحديث السابق من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك" وهذا هو مذهب مالك، وقد مرَّ الكلام عليه في باب "من أدرك ركعة من العصر" وفي غيره، واستدل به أيضًا على استحباب الدخول مع الإِمام في أي حالة وجده عليها، وفيه حديث أصرح منه، أخرجه ابن أبي شَيْبَة عن رجل من الأنصار مرفوعًا "من وَجَدني راكعًا أو قائمًا أو ساجدًا فليكن على حالتي التي أنا عليها". وقوله: فأتموا، هذا هو الصحيح في رواية الزُّهريّ، ورواه عنه ابن عُيَينة بلفظ "فاقضوا" وكذا رواه أحمد عن أبي هُريْرَة بلفظ "فاقضوا" وعند مسلم بلفظ "فأتموا" وحديث أبي قَتَادَةَ رواية الجمهور فيه "فأتموا" وعند ابن أبي شَيْبَة بلفظ

"فاقضوا" وعند مُسْلم من رواية ابن سِيْرين بلفظ "صل ما أدركت واقض ما سبقك" والحاصل أن أكثر الروايات بلفظ "فأتموا" وأقلها بلفظ "فاقضوا" وإنما تظهر فائدة ذلك إذا جعلنا بين الإتمام والقضاء مغايرة، لكن إذا كان مخرج الحديث واحدًا واختلف في لفظة منه، وأمكن رد الخلاف إلى معنى واحد، كان أولى. قلت: ومن هنا اختلف العلماء في هذا الحديث على ثلاثة مذاهب: فقالت المالكية: إنه يقضي الأقوال، يعنون القراءة خاصة، ويبني في الأفعال، فحملوا رواية "فاقضوا" على الأقوال، ورواية "فأتموا" على الأفعال جمعًا بين الروايتين، فما أدركه مع الإِمام هو أول صلاته بالنسبة إلى الأفعال، فيبني عليها، وآخرها بالنسبة إلى الأقوال، فيقضيها. واستدلوا أيضًا بما رواه البيهقيّ عن قتادة أن عليَّ بن أبي طالب قال: ما أدركت مع الإِمام فهو أول صلاتك، واقض ما سبقك به الإِمام من القراءة. وأخذت الشافعية برواية "فأتموا" وجعلوا ما أدرك مع الإِمام أول صلاته؛ لأن الإتمام لا يكون إلا للآخر؛ لأنه يستدعي سبق أول. وقد روى البَيْهَقِيّ عن عَلِيّ رضي الله تعالى عنه "ما أدركت فهو أول صلاتك" وبقول الشافعية قال إسحاق والأوَزْاعيّ وابن المُسَيِّبَ والحَسَن وعَطَاء ومَكْحُول، ورواية عن مالك وأحْمَد، وحملوا رواية "فاقضوا" على معنى الأداء أو الفراغ؛ لأن القضاء، وإن كان يطلق على الفائدة غالبًا، فإنه يطلق على الأداء وعلى الفراغ، كقوله {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا} [الجمعة: 10] وإذا حمل قوله هنا "فاقضوا" على معنى الأداء أو الفراغ، لم يغاير قوله "فأتموا" فلا حجة فيه لمن تمسك برواية "فاقضوا" على أن ما أدركه المأموم هو آخر صلاته، حتى استحب له الجهر في الركعتين الأخيرتين، وقراءة السورة وترك القنوت، بل هو أولها وإن كان آخر صلاة إمامه، لأن الآخر لا يكون إلا عن شيء تقدمه، وأوضح دليل على ذلك أنه يجب عليه أن يتشهد في آخر صلاته على كل حال، فلو كان ما يدركه مع الإمام آخرًا لما احتاج إلى إعادة التشهد، وأجاب ابن بطال عنه بأنه ما تشهد إلا لأجل السَلام،

لأن السلام يحتاج إلى سبق تشهد، واستدل ابن المنذر لذلك أيضًا على أنهم أجمعوا على أن تكبيرة الافتتاح لا تكون إلا في الركعة الأولى. وأخذت الحَنَفية برواية "فاقضوا" وقالوا إن ما أدركه هو آخر صلاته، وأن يكون قاضيًا في الأقوال والأفعال، وهو قول سُفيان ومُجَاهِد وابن سِيْرين. قال ابن الجَوْزِيّ: الأشبه بمذهبنا ومذهب أبي حَنِيفَة أنه آخر صلاته، ورواه ابن القاسم عن مالك، وهو قول أشْهَبُ وابن الماجِشُون، واختاره ابن حَبيب، وأجاب القائلون بهذا عن رواية "فأتموا" بأن صلاة المأموم مرتبطة بصلاة الإِمام، فحمل قوله فأتموا على أن من قضى ما فاته فقد أتم؛ لأن الصلاة تنقضي بما فات، فقضاؤه إتمام لما نقص، وتظهر ثمرة الخلاف فيمن أدرك أخيرة المغرب، فعلى ما ذهب إليه مالك يأتي بركعة بأم القرآن وسورة جهرًا لأنه قاضي القول، ويجلس؛ لأنه بان في الفعل، ثم بركعة بأم القرآن وسورة أيضًا جهرًا؛ لأنه قاضي القول، ويتشهد ويسلم. وعلى ما ذهب إليه الشافعيّ يأتي بركعة بأم القرآن وسورة جهراً ويجلس، ثم يأتي بركعة بأم القرآن فقط، هذا هو القياس. وهو قول المُزَنِي منهم، والمشهور في مذهبهم أنه يقضي مثل الذي فاته من قراءة السورة مع أم القرآن في الرباعية والثلاثية، إلا أنه لا تستحب له إعادة الجهر في الركعتين الباقيتين، وكأنَّ الحجة عندهم في ذلك قوله "ما أدركت مع الإِمام فهو أول صلاتك، واقض ما سبقك به من القراءة" وقد مرَّ أن البَيْهَقِيّ أخرجه. وعلى ما ذهب إليه أبو حَنِيفَة يأتي بركعتين بأم القرآن وسورة جهرًا، ولا يجلس بينهما؛ لأنه قاضٍ فيهما قولًا وفعلًا واستدل به على أن من أدرك الإِمام راكعًا لم تحسب له تلك الركعة، للأمر بإتمام ما فاته؛ لأنه فاته الوقوف والقراءة فيه، وهو قول أبي هُرَيرة وجماعة، بل حكاه البُخَاريّ في القراءة خلف الإِمام عن كل من ذهب إلى وجوب القراءة خلف الإِمام، واختاره ابن خُزَيْمَةَ والضُّبَعيّ وغيرهما من محدِّثي الشافعية، وقواه الشيخ تقيّ الدين السُّبْكيّ من المتأخرين. والجمهور على أنه تحسب له تلك الركعة بإدراك الركوع، وحجتهم حديث أبي بَكْرَة حيث ركع دون الصف، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم- "زادك الله حرصًا" ولم يأمره

رجاله ستة

بإعادة تلك الركعة أخرجه المصنف في صفة الصلاة، وحديث معاوية بن أبي سفيان عند أبي داود قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لا تبادروني بركوع ولا سجود، فإنه مهما أسبقكم به إذا ركعت تدركوني به إذا رفعت وإني قد بدنت". رجاله ستة: الأول: آدَمُ بن أبي إيَاس، وقد مرَّ في الثالث من الإيمان، ومرَّ ابن أبي ذِئبٍ في الستين من العلم، ومرَّ الزُّهريّ في الثالث من الوحي، ومرَّ ابن المُسَيِّب في التاسع عشر من الإيمان، ومرَّ أبو هُرَيْرة في الثاني منه، ومرَّ أبو سَلَمة في الرابع من الوحي. فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، والعنعنة في سبعة، ورواته كلهم مدنيون ما خلا شيخ البخاري. ورواه الزُّهريّ عن شيخين. أخرجه مسلم والتِّرمذيّ. ثم قال المصنف: باب متى يقوم الناس إذا رأوا الإِمام عند الإقامة قيل: أورد الترجمة بلفظ الاستفهام لأن قوله في الحديث "لا تقوموا" نهيٌ عن القيام، وقوله: حتى تروني، تسويغ للقيام عند الرؤية، وهو مطلق غير مقيد بشيء من ألفاظ الإقامة، ومن ثم اختلف السَّلَف في ذلك كما سيأتي قريبًا إن شاء الله تعالى.

الحديث الرابع والثلاثون

الحديث الرابع والثلاثون حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ كَتَبَ إِلَيَّ يَحْيَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَلاَ تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي". قوله: كتب إلى يَحيى بن أبي كَثير عن عبد الله، ظاهره أنه لم يسمعه منه، وقد صرح أبو نُعَيم في "المستخرج" بأن يحيى كتب إلى هِشام أن عبد الله بن أبي قَتَادَةَ حدّثه فأمن بذلك تدليس يحيى وقوله: إذا أقيمت الصلاة، أي إذا ذكرت ألفاظ الإقامة. وقوله: حتى تروني، أي خرجت كما صرح به مسلم عن عبد الرزاق، ولابن حِبَّان "حتى تَرَوْني خرجت إليكم" وفيه مع ذلك حذف تقديره: فقدموا. وقال مالك في المُوَطّأ: لم أسمع في قيام الناس حين تقام الصلاة بحد محدود، إلا أني أرى ذلك على طاقة الناس، فإن منهم الثقيل والخفيف. وذهب الأكثرون، ومنهم الشافعي إلى أنهم إذا كان الإِمام معهم في المسجد، لم يقوموا حتى تفرغ الإقامة، وعن أنس أنه كان يقوم إذا قال المُؤَذِّن "قد قامت الصلاة" رواه ابن المُنْذر وغيره، ورواه سَعيد بن منصور عن أصحاب عبد الله وعن سَعيد بن المُسَيِّب. قال: إذا قال المؤذن "الله أكبر" وجب القيام، وإذا قال حي على الصلاة عدلت الصفوف، فإذا قال لا إله إلا الله كبر الإِمام. وعن أبي حَنِيفَة، يقومون إذا قال حي على الفلاح. فإذا قال: قد قامت الصلاة كبَّر الإمام. وقال أحمد. يقوم إذا قال حي على الصلاة. وأما إذا لم يكن الإِمام في المسجد، فذهب الجمهور إلى أنهم لا يقومون حتى يروه، وخالف من ذكرنا على التفصيل السابق. وحديث الباب حجة

رجاله خمسة

عليهم، وفيه جواز الإقامة والإمام في منزله إذا كان يسمعها، وتقدم إذنه في ذلك. وقال القُرْطُبيُّ: ظاهر الحديث أن الصلاة كانت تقام قبل أن يخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- من بيته، وهو معارض بحديث جابر بن سمرة عند مسلم "أن بلالًا كان لا يقيم حتى يخرج النبي -صلى الله عليه وسلم-" ويجمع بينهما أن بلالًا كان يراقب خروج النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأول ما يراه يشرع في الإقامة قبل أن يراه غالب الناس، ثم إذا رأوه قاموا، فلا يقوم في مقامه حتى تعتدل صفوفهم، ويشهد لهذا ما رواه عبد الرَّزَّاق عن ابن شهاب "أن الناس كانوا ساعة يقول المؤذن "الله أكبر" يقومون إلى الصلاة، فلا يأتي النبي -صلى الله عليه وسلم- مقامه حتى تعتدل الصفوف. وأما حديث أبي هُرَيرة الآتي قريبًا بلفظ "أقيمت الصلاة فسوى الناس صفوفهم، فخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- ولفظه في "مستخرج" أبي نُعِيم "فصف الناس صفوفهم، ثم خرج علينا" ولفظه عند مُسْلِم "أقيمت الصلاة فقمنا فعدلنا الصفوف قبل أن يخرج إلينا النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأتى فقام مقامه ... " الحديث. وعنه عند أبي داود "أن الصلاة كانت تقام لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فيأخذ الناس مقامهم قبل أن يجىء النبي -صلى الله عليه وسلم-" فيجمع بينه وبين حديث أبي قتادة بأن ذلك ربما وقع لبيان الجواز، وبأن صنيعهم في حديث أبي هُرَيرة كان سبب النهي عن ذلك في حديث أبي قَتَادَةَ وأنهم كانوا ساعة تقام الصلاة، ولو لم يخرج النبي -صلى الله عليه وسلم-، فنهاهم عن ذلك لاحتمال أن يقع له شغل يبطىء فيه عن الخروج، فيشق عليهم انتظاره، ولا يرد على هذا حديث أنس الآتي "أنه قام مقامه طويلًا في حاجة بعض القوم" لاحتمال أن يكون ذلك وقع نادرًا أو فعله لبيان الجواز. رجاله خمسة: الأول: مُسْلِم بن إبراهيم. والثاني: هشام الدِّسْتَوَائي، وقد مرا في السابع والثلاثين من الإيمان، ومرَّ يحيى بن أبي كَثِير في الثالث والخمسين من العلم، ومرَّ عَبد الله بن أبي قَتَادَةَ وأبوه أبو قَتَادَةَ في التاسع عشر من الوضوء.

باب لا يقوم إلى الصلاة مستعجلا وليقم إليها بالسكينة والوقار

فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في موضعين، والقول في أربعة، وفيه الكتابة، وهي من طرق الحديث، وقد مرَّ الكلام عليها في التعاليق الكائنة بعد الخامس من العلم. أخرجه البُخَاريّ في الصلاة أيضًا، ومسلم والنسائي والتِّرمِذِيّ وأبو داود فيها. ثم قال المصنف: باب لا يقوم إلى الصلاة مستعجلًا وليقم إليها بالسكينة والوقار كذا في رواية الحَمَويّ، وسقط من رواية الكُشمِيْهَنيّ، وفي رواية المُسْتَملي "باب لا يسعى إلى الصلاة" وجمعا في رواية الباقين بلفظ "باب لا يسعى إلى الصلاة، ولا يقوم إليها مستعجلًا". وقوله: لا يسعى، كأنّه يشير إلى حديث أبي هُرَيْرة عند مُسلم بلفظ "إذا ثوّب بالصلاة فلا يسعى إليها أحدكم" وعند المصنف في باب المشي إلى الجمعة "من كتاب الجمعة" إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسْعَون" ووجه الجمع بين النهي عن السعي في الحديث، وبين قوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] هو أن السعي المأمور به في الآية غير السعي المنهي عنه في الحديث؛ لأن السعي في الآية فُسّر بالعمل الذي هو الطاعة والذهاب؛ لأنه لما قابل الله بين الأمر بالسعي والنهي عن البيع، دل على أن المراد بالسعي العمل الذي هو الطاعة؛ لأنه هو الذي يقابل بسعي الدنيا، كالبيع والصناعة، وفسرت أيضًا بالمضي، فاسعوا: فامضوا، والسعي في الحديث فسر بالعدو لمقابلته بالمشي، حيث قال: لا تأتوها تسعَون وأتوها تمشون.

الحديث الخامس والثلاثون

الحديث الخامس والثلاثون حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- "إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَلاَ تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي وَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ". قوله: وعليكم بالسكينة، في رواية أبي ذَرّ وكريمة بالباء، وفي رواية الأصيليّ وأبي الوقت "وعليكم السكينة" بحذف الباء، وكذا أخرجه أبو عَوَانَةَ عن شَيْبان. وقد مرت مباحث الحديث مستوفاة عند ذكر حديث أبي هريرة قبل باب. رجاله خمسة: الأول: أبو نُعَيم، وقد مرَّ في الخامس والأربعين من الإيمان، ومرَّ شَيْبان ويحيى بن أبي كثير في الثالث والخمسين من العلم، ومر ذكر محل عبد الله وأبيه في الذي قبله. ثم قال: تَابَعَهُ عليّ بنُ المُبَارك. أي تابع شَيْبان عَلِيّ بن المُبَارك عن يحيى قال أبو العَبّاس الطّرفيّ تفرد شَيْبانُ وعليّ بن المُبارَك عن يحيى بهذه الزيادة، وتعقب بان مُعاوية بن سَلَام تابعهما عن يحيى، كما رواه أبو داود. وكذا الإسماعيليّ، وهذه المتابعة وصلها البُخاريّ في كتاب الجمعة، وعلي بن المبارك الهُنائِيّ بضم الهاء وتخفيف النون، البَصْريّ، ذكره ابن حبَّان في الثقات وقال: كان ضابطًا متقنًا. وقال يحيى بن سعيد: أما ما رويناه عنه نحن فما سمع، وأما ما رواه عنه الكوفيون فمن الكتاب الذي لم يسمع. وقال الآجُرِيّ عن أبي داود: ثقة، وقال أيضًا: كان عنده كتابان: كتاب سماع وكتاب إرسال، قلت لعباس العَنْبريّ: كيف يعرف

باب هل يخرج من المسجد لعلة

كتاب الإرسال الذي عند وَكِيع عن عِكْرِمَة، من كتاب الإرسال؟ وكان الناس يكتبون كتاب السماع. وقال النَّسائيّ: ليس به بأس وقال ابن عَدِيّ: ولعلى أحاديث، وهو ثبت في يحيى متقدم فيه، وهو عندي لا بأس به، ووثقه العجلّي وابن نُمَير وابن مَعين. وقال ابن المَدِينيّ: هو أحب الي من أبان. وقال أحمد: ثقة كانت عنده كتب عن يحيى بن أَبي كثير، بَعضها سمعها وبعضها عرض. وقال ابن مَعِين: قال بعض البصريين: عرض عَلِيّ بن المُبارك على يحيى بن أبي كثير وهو ثقة، وليس أحد في يحيى مثل هِشام الدَّسْتَوَائيّ والأوْزاعيّ، وهو بعدهما. وقال يَعْقُوب بن أبي شَيْبَة: علي والأوْزَاعيّ ثقتان، والأوْزَاعي أثبتهما، ورواية الأوزاعي عن الزُّهري خاصة فيها شيء ورواية عليّ عن يحيى بن أبي كثير فيها وهاء. قال ابن حَجَرَ: أخرج البُخَاري من رواية البصريين عنه خاصة، وأخرج من رواية وَكِيع عنه حديثًا واحدًا توبع عليه، وروى له الباقون، روى عن عبد العزيز بن صُهيب وأيّوب ويحيى بن أبي كثير وهشام بن عُرْوَةَ وغيرهم. وروى عنه وَكِيع والقَطّان وابن المُبارك وابن عُلَيّة ومُسْلم بن قُتَيْبَة وغيرهم. وليس في الستة عليّ بن المُبارك سواه. ثم قال المصنف: باب هل يخرج من المسجد لعلة أي: لضَرورة، كأنه يشير إلى تخصيص ما رواه مسلم وأبو داود وغيرهما عن أبي هُرَيرة "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى رجلًا خرج من المسجد، بعد أن أذّن المؤذِّن، فقال: أمّا هذا فقد عصى أبا القاسم" فإن حديث الباب يدل على أن ذلك مخصوص بمن ليس له ضرورة، فيلحق بالجُنُب المُحْدِثِ والراعف والحاقن ونحوهم. وكذا من يكون امامًا لمسجد آخر، ومن في معناه. وقد أخرجه الطبرانيّ في الأوسط عن أبي هُرَيرة، فصرح برفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولفظه "لا يسمع النداء في مسجدي هذا ثم يخرج منه إلا لحاجة، ثم لا يرجع إليه إلا منافق".

الحديث السادس والثلاثون

الحديث السادس والثلاثون حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- خَرَجَ وَقَدْ أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ وَعُدِّلَتِ الصُّفُوفُ، حَتَّى إِذَا قَامَ فِي مُصَلاَّهُ انْتَظَرْنَا أَنْ يُكَبِّرَ انْصَرَفَ قَالَ: "عَلَى مَكَانِكُمْ". فَمَكَثْنَا عَلَى هَيْئَتِنَا حَتَّى خَرَجَ إِلَيْنَا يَنْطُفُ رَأْسُهُ مَاءً وَقَدِ اغْتَسَلَ. هذا الحديث مرت مباحثه مستوفاة عند ذكره في كتاب الغسل في باب "إذا ذكر في المسجد أنه جنب". رجاله ستة: الأول: عبد العزيز بن عبد الله الأويسيّ، وقد مرَّ في الأربعين من العلم، ومرَّ إبراهيم في السادس عشر من الإيمان، ومرَّ أبو هُرَيرة في الثاني منه، ومرَّ صالح بنَ كيْسان في السابع من الوحي، ومرَّ ابن شهاب في الثالث منه. وأبو سَلَمة في الرابع منه، فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في أربعة، والقول في موضع واحد، وفيه ثلاثة من التابعين: صالح وما بعده، وشيخ البُخَاريّ من أفراده. ثم قال المصنف: باب إذا قال الإِمام مكانكم حتى نرجع انتظروه هذا اللفظ في حديث الزُّهْرِيّ في الغسل في الباب المذكور آنفًا، وقوله: حتى نرجع، بالنون للكُشْمِيْهَنِيّ، وبالهمزة للأَصيليّ، وبالتحتانية للباقين.

الحديث السابع والثلاثون

الحديث السابع والثلاثون حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَسَوَّى النَّاسُ صُفُوفَهُمْ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَتَقَدَّمَ وَهْوَ جُنُبٌ ثُمَّ قَالَ: "عَلَى مَكَانِكُمْ". فَرَجَعَ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ خَرَجَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ مَاءً فَصَلَّى بِهِمْ. قوله: فتقدم وهو جُنُب، أي في نفس الأمر، لا أنهم اطلعوا على ذلك منه قبل أن يعلمهم، وقد مرَّ في الغسل "فلما قام في مصلاه ذكر أنه جنب" وفي رواية أبي نُعِيم ذكر أنه لم يغتسل، وهذا هو ما قبله، وقد مرت مباحثه في الغسل في الباب المذكور آنفًا. رجاله ستة: الأول: إسحاق بن منصور، وقد مرَّ في الحادي والعشرين من العلم، ومرَّ محمد بن يُوسُف الفِرْيابيّ في العاشر منه، ومرَّ الأوْزَاعيّ في العشرين منه، والزّهريّ وأبو سَلَمة وأبو هُريرة مرَّ محل ذكرهم في الذي قبله. ثم قال المصنف: باب قول الرجل للنبي -صلى الله عليه وسلم- ما صلينا قال ابن بطال: فيه رد لقول إبراهيم النَّخَعِيّ يكره أن يقول الرجل لم نصل، ويقول نصلي، وكراهة النّخَعي إنما هي في حق منتظر الصلاة، وقد صرح ابن بَطّال بذلك، ومنتظر الصلاة في صلاة كما ثبت بالنص، فإطلاق النظر "ما صلينا" يقتضي نفي ما أثبته الشارع، فلذلك كرهه. والإطلاق الذي في حديث "إنما كان من ناس لها أو مشتغل عنها بالحرب" كما مرَّ تقريره في باب "من صلى بالناس جماعة بعد خروج الوقت" في أبواب المواقيت، فافترق حكمهما

وتغايرا، والذي يظهر أن البُخَاريّ أراد أن ينبه على أن الكراهة المحكية عن النخعي ليست على إطلاقها، لما دل عليه حديث الباب. ولو أراد الرد على النَّخَعِيّ مطلقًا لأفصح به كما أفصح بالرد على ابن سيرين في ترجمته "فاتتنا الصلاة" ثم إن اللفظ الذي أورده المؤلف وقع النفي فيه من قول النبي -صلى الله عليه وسلم-، لا من قول الرجل، لكن في بعض طرقه وقوع ذلك من الرجل أيضًا، وهو عمر كما أورده في المغازي، وهذه عادة معروفة للمؤلف، يترجم ببعض ما وقع في طرق الحديث الذي يسوقه، ولو لم يقع في الطريق التي يوردها في تلك الترجمة، ويدخل في هذا ما في الطَّبراني من حديث "جُنْدُب" قصة النوم عن الصلاة فقالوا: يا رسول الله، سهونا فلم نصل حتى طلعت الشمس". قلت: اعتراض صاحب الفتح بأن لفظ "ما صلينا" صدر منه عليه الصلاة والسلام، لا من الرجل في غير محله، فإن البُخَاريّ لم يرد بقوله الرجل أن الرجل قال ذلك في الحديث، وإنما أراد أن الرجل من المسلمين، إذا قال لك: ما حكمه، ولكن هذا إنما يَتَمَشّى على نسخة باب قول الرجل فقط، دون قوله للنبى -صلى الله عليه وسلم-، وأما على هذه النسخة فالاعتراض وارد.

الحديث الثامن والثلاثون

الحديث الثامن والثلاثون حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ يَقُولُ أَخْبَرَنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- جَاءَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا كِدْتُ أَنْ أُصَلِّيَ حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ تَغْرُبُ، وَذَلِكَ بَعْدَمَا أَفْطَرَ الصَّائِمُ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- "وَاللَّهِ مَا صَلَّيْتُهَا" فَنَزَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى بُطْحَانَ وَأَنَا مَعَهُ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَلَّى يَعْنِى الْعَصْرَ بَعْدَمَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى بَعْدَهَا الْمَغْرِبَ. قوله: ما كدت أن أصلي حتى كادت الشمس تغرب، وذلك بعدما أفطر الصائم. قال الكِرْمَانيّ مستشكلًا كيف يكون المجيء بعد الغروب؛ لأن الصائم إنما يفطر حينئذ مع تصريحه بأنه جاء في اليوم، ثم أجاب بأن المراد بقوله "يوم الخندق" زمان الخندق، والمراد به بيان التاريخ لا خصوص الوقت، والذي يظهر أن الإشارة بقوله "وذلك بعدما أفطر الصائم" إشارة إلى الوقت الذي خاطب به عمر النبي -صلى الله عليه وسلم-، لا إلى الوقت الذي صلى فيه عمر العصر، فإنه كان قرب الغروب، كما تدل عليه، "كاد". وأما إطلاق اليوم وإرادة زمان الوقعة لا خصوص النهار، فهو كثير، وهذا الحديث قد استوفيت مباحثه في باب "من صلى بالناس جماعة بعد خروج الوقت" في أبواب المواقيت. رجاله خمسة: الأول: أبو نُعَيم، وقد مرَّ في الخامس والأربعين من الإيمان، ومرَّ شَيْبان ويحيى في الثالث والخمسين من العلم، ومرَّ أبو سَلَمة وجابر في الرابع من الوحي، ومرَّ عمر في الأول منه.

باب الإمام تعرض له الحاجة بعد الإقامة

فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والإخبار كذلك في موضع، والعنعنة في موضع، والسماع في موضع، والقول في ثلاثة، وقد مرَّ ذكر مواضع في باب من صلى بالناس جماعة. ثم قال المصنف: باب الإِمام تعرض له الحاجة بعد الإقامة أي هل يباح له التَّشَاغل بها قبل الدخول في الصلاة أو لا؟ وتَعْرِض بكسر الراء أي تظهر.

الحديث التاسع والثلاثون

الحديث التاسع والثلاثون حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ وَالنَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُنَاجِي رَجُلاً فِي جَانِبِ الْمَسْجِدِ، فَمَا قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ حَتَّى نَامَ الْقَوْمُ. في رواية "سمع أنسا"، وقوله أقيمت الصلاة أي صلاة العشاء، بيّنه حَمّاد بن ثابت عن أنس عند مسلم. وقوله: يناجي رجلًا، أي يحادثه، قال "في الفتح": لم أقف على اسم هذا الرجل، وذكر بعض الشراح أنه كان كبيرًا في قومه، فأراد أن يتألفه على الإِسلام، ولم يذكر مستندًا لذلك، ويحتمل أن يكون ملكًا من الملائكة، جاء بوحي من الله تعالى، ولا يخفى بعد هذا. وقوله: حتى نام بعض القوم، زاد شُعْبَةُ عن عبد العزيز "ثم قام فصلى" أخرجه مسلم، وهو عند المصنف في الاستئذان، وفي مسند إسحاق بن راهَوَيهِ "حتى نَعَسَ بعض القوم" وكذا ابن حِبَّان، وهذا يدل على أن النوم المذكور لم يكن مستغرقًا، وقد مرَّ تحرير المسألة في باب الوضوء من النوم من كتاب الوضوء. وفي الحديث جواز مناجاة الواحد غيره بحضور الجماعة، وترجم عليه في الاستئذان طول النجوى، وفيه جواز الفصل بين الإقامة والإحرام إذا كان لحاجة، وإلا فهو مكروه، واستدل به للرد على من أطلق من الحنفية أن المؤذن إذا قال: قد قامت الصلاة، وجب على الإِمام التكبير. قال الزَّيْن بن المُنِير: خص المصنف الإِمام بالذكر مع أن الحكم عام؛ لأن لفظ الخبر يشعر بأن المناجاة كانت لحاجة النبي -صلى الله عليه وسلم- لقوله "والنبي -صلى الله عليه وسلم- يناجي رجلا" ولو كان لحاجة الرجل لقال أنس "ورجل يناجي رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-" وهذا ليس بلازم؛ لأن المناجاة من الاثنين، سواء الحاجة لأيهما فيها. وفيه غفلة منه عما في صحيح مسلم

رجاله أربعة

بلفظ "أقيمت الصلاة فقال رجل: لي حاجة، فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- يناجيه" والذي يظهر أن الحكم إنما يتعلق بالإمام. لأن المأموم إذا عرضت له الحاجة لا يتقيد به غيره من المأمومين، بخلاف الإِمام. رجاله أربعة: الأول: أبو مَعْمَر. والثاني: عبد الوارِث، وقد مرا في السابع عشر من العلم، ومرَّ عبد العزيز بن صُهَيْب في الثامن من الإيمان، ومر أنَسَ في السادس منه. فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، والعنعنة في موضع، والقول في ثلاثة، ورواته كلهم بصريون. ثم قال المصنف: باب الكلام إذا أقيمت الصلاة لما كانت مسألة الكلام بين الإحرام والإقامة تشمل الإِمام والمأموم، أطلق المؤلف الترجمة ولم يقيدها بالإمام، وأشار بذلك إلى الرد على من كرهه مطلقًا.

الحديث الأربعون

الحديث الأربعون حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى قَالَ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ قَالَ سَأَلْتُ ثَابِتًا الْبُنَانِىَّ عَنِ الرَّجُلِ يَتَكَلَّمُ بَعْدَمَا تُقَامُ الصَّلاَةُ فَحَدَّثَنِي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَعَرَضَ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلٌ فَحَبَسَهُ بَعْدَمَا أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ. قوله: سألت ثابتًا، يشعر بأن الاختلاف في حكم المسألة كان قديماً، ثم إنه ظاهر في أنه أخذه عن أنس بواسطة ثابت، وقد رواه عامة أصحاب حُمَيد عنه عن أنَس بغير واسطة. أخرجه أحمد وابن حِبّان عن حُميد عن أنس. لكن ليس في شيء من طرقه تصريحه بسماعه له من أنس، وهو مدلّس، فالظاهر أن رواية عبد الأعلى هي المتصلة. وقوله: فحبسه، أي منعه من الدخول معه في الصلاة، وزاد هُشَيم في روايته "حتى نعس بعض القوم". لا يدخل في هذا الباب ما يأتي في الإمامة عن أنس. قال: أقيمت الصلاة فأقبل علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بوجهه. زاده ابن حبَّان قبل أن يكبر "فقال أقيموا صفوفكم، وتراصوا" لكن لما كان هذا يتعلق بمصلحة الصلاة كان الاستدلال بالأول أظهر في جواز الكلام مطلقًا. رجاله خمسة: الأول: عَيّاش بن الوليد وقد مرَّ في الخامس والثلاثين من الغُسل، ومرَّ عبد الأعلى في الثالث من الإيمان، ومرَّ حُمَيد الطويل في الثاني والأربعين منه، ومرَّ أنَس في السادس منه، ومرَّ ثابت البُنَاني في تعليق بعد الخامس من العلم.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، وبصيغة الإفراد في موضع، والعنعنة في موضع، والقول في ثلاثة، والسؤال في موضع، ورواته كلهم بصريون، والحديث أخرجه أبو داود في الصلاة.

خاتمة

خاتمة اشتمل كتاب الأذان وما معه من الأحاديث المرفوعة على سبعة وأربعين حديثًا، المعلق منها ستة أحاديث، المكرر فيه وفي ما مضى ثلاثة وعشرون حديثًا، والخالصُ أربعةٌ وعشرون، ووافقه مُسْلِم على تخريجها سوى أربعة أحاديث؛ حديث أبي سَعيد "لا يسمع مدى صوت المؤذن" وحديث معاوية وجابر في القول عند سماع الأذان، وحديث بلال في جعل أصبعيه في أذنيه، وفيه من الآثار عن الصحابة ومن بعدهم ثمانية آثار، والله أعلم. ثم قال المصنف: أبواب صلاة الجماعة والإمامة لم يفرده البخاري بكتاب، بل أتبع به كتاب الأذان لتعلقه به، لكن ترجم عليه أبو نُعيم في "المستخرج" كتاب صلاة الجماعة، فلعلها رواية شيخه أبي أحمد الجرجانيّ ثم قال: باب وجوب صلاة الجماعة هكذا بت الحكم في هذه المسألة، وكان ذلك لقوة دليلها عنده، لكن أطلق الوجوب وهو أعم من كونه وجوب عين أو كفاية، ويأتي ما قيل في ذلك. ثم قال: وقالَ الحَسَنُ: إن منعته أمه عن العشاء في الجماعة شَفَقَةً عليهِ لمْ يُطْعِها. ذكره لهذا الأثر مُشْعِرٌ باختياره أن وجوبها عيني، لما عرف من عاداته أنه يستعمل الآثار في التراجم لتوضيحها وتكميلها، وتعيين أحد الاحتمالات في

حديث الباب. وبهذا يجاب عمن اعترض عليه بأن قول الحسن يستدل له لا به. واللفظ المرويّ عن الحسن في رجل يصوم تطوعًا فتأمره أمه أن يفطر، قال: فليفطر ولا قضاء عليه، وله أجر الصوم وأجر البر. قيل: فتنهاه أن يصلي العشاء في جماعة؟ قال: ليس ذلك لها، هذه فريضة، وهذا المروي عنه اثم، وأصرح مما ذكره المصنف. والحسن المراد به البصريّ، وقد مرَّ في الرابع والعشرين من الإيمان، وهذا التعليق قال ابن حَجَر: لم ينبه أحد من الشُّرَّاح على من وصله، وقد وجدته بمعناه، وأتم منه وأصرح في كتاب الصيام للحسن بن الحسن المَرْوَزِيّ بإسناد صحيح عن الحسن في رجل يصوم تطوعًا إلخ.

الحديث الأول

الحديث الأول حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ فَيُحْطَبَ، ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلاَةِ فَيُؤَذَّنَ لَهَا، ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً فَيَؤُمَّ النَّاسَ، ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى رِجَالٍ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يَجِدُ عَرْقًا سَمِينًا أَوْ مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ لَشَهِدَ الْعِشَاءَ". قوله: عن الأعرج، في رواية السّراج عن أبي الزناد "سمع الأعرج". وقوله: والذي نفسي بيده، هو قسم كان النبي -صلى الله عليه وسلم- كثيرًا ما يقسم به، والمعنى أن أمر نفوس العباد بيد الله، أي بتقديره وتدبيره. وفيه جواز القسم على الأمر الذي لا شك فيه، تنبيهًا على عظم شأنه. وفيه الرد على من كره أن يحلف بالله مطلقًا. وقوله: لقد هممت، اللام جواب القسم، والهَمّ العزم، وقيل: دونه، وزاد مسلم في أوله "أنه -صلى الله عليه وسلم- فقد ناساً في بعض الصلوات، فقال: لقد هممت" فأفاد ذكر سبب الحديث. وقوله: بحطب ليحطب، كذا للحَمَويّ، والمُسْتَملي بلام التعليل، وللكُشْمِيْهَنِيّ والباقين "فيحطب" بالفاء، وكذا هو في "الموطأ" منصوبًا عطفًا على الذي قبله مبنيًا للمجهول. وفي روية وحطب واحتطب بمعنى واحد. قال "في الفتح": أي يكسر ليسهل اشتعال النار فيه، ويحتمل أن يكون أطلق ذلك عليه قبل أن يتصف به تجوزًا، بمعنى أنه سيتصف به. وقال العَيْنِيّ: لم يقل أحد من أهل اللغة أن معنى يحطب يكسر، بل المعنى يجمع. وقوله: ثم آمر بالصلاة، وقد اختلف في تعيين الصلاة التي وقع التهديد بسببها، قيل: هي العشاء، وقد يومىء إلى أنها العشاء حديث الباب، لقوله في

آخره "لشهد العشاء" وفي رواية مسلمًا "يعني العشاء" وفي رواية لهما الإيماء إلى أنها العشاء، وعينها السّراج في رواية أنها العشاء، حيث قال في صدر الحديث "أخّر العشاء ليلة، فخرج فوجد الناس قليلًا، فغضب" فذكر الحديث. ولابن حبَّان يعني الصلاتين العشاء والغداة. وعند أحمد التصريح بتعيين العشاء، وسائر الروايات عن أبي هُرَيرةَ على الإبهام. وأخرجه عبد الرَّزَّاق والبَيْهَقِيّ عن معمر فقال: الجمعة، ولكن قال البَيْهَقِيّ بشذوذ هذه الرواية، ويدل على ذلك ما رواه أبو داود والطَّبَرانيّ عن أبي هُرَيرة من هذا الوجه أن أبا هُرَيرة لم يذكر جمعة ولا غيرها. وفي حديث ابن مسعود وعند مسلم الجزم بأنها الجمعة، وهو حديث مستقل مخرجه مغاير لحديث أبي هُرَيرة، فلا يقدح أحدهما في الآخر، فيحمل على أنهما واقعتان. كما أشار إليه النوويّ والمُحبّ الطَّبَرِيّ، وقد وافق ابن أم مكتوم أبا هُرَيْرة على تعيين العشاء، وذلك فيما أخرجه ابن خُزَيْمَةَ وأحمد والحاكم عنه "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استقبل الناس في صلاة العشاء فقال: لقد هممت أني آتي هؤلاء الذين يتخلفون عن الصلاة فأُحَرِّق عليهم بيوتهم، فقام أم ابن مكتوم فقال: يا رسول الله، قد علمت ما بي وليس قائد" زاد أحمد "وأن بيني وبين المسجد شجرًا ونخيلًا، ولا أقدر على قائد كل ساعة، قال: أتسمع الإقامة؟ قال: أسمعها قال: فاحضرها" ولم يرخص له. ولابن حبان من حديث جابر قال: أتسمع الأذان؟ قال: نعم، قال: فأتها ولو حبوًا. وقد حمله العلماء على أنه كان لا يَشق عليه التصرف بالمشي وحده ككثير من العُميان، وعلل اختصاص العشاء والفجر بهذا بأن غيرها مظنة الشغل بالتكسب وغيره، أما العصران فظاهر، وأما المغرب فإنها في الغالب وقت الرجوع إلى البيت والأكل، ولاسيما للصائم مع ضيق وقتها بخلاف العشاء والفجر، فليس للمتخلف عنها عذر غير الكسل المذموم. وفي المحافظة عليهما أيضًا انتظام الألفة بين المتجاورين في طرفي النهار، وليختموا النهار بالاجتماع على الطاعة، ويختموه كذلك. وفي رواية عن أبي هريرة عند أحمد تخصيص التهديد بمن حول المسجد،

ويأتي في الحديث أن العشاء والفجر أثقل على المنافقين من غيرهما، وإنما كانتا أثقل عليهم من غيرهما لقوة الداعي إلى تركهما لأن العشاء وقت السكون والراحة، والصبح وقت لذة النوم. وقيل: وجهه كون المؤمنين يفوزون بما ترتب عليهما من الفضل لقيامهم بحقها دون المنافقين. وقوله: ثم أخالف إلى رجال، أي آتيهم ملأ خلفهم. قال الجَوْهَريّ: خالف إلى فلان، أي أتاه إذا غاب عنه، أو المعنى أُخالف الفعل الذي أظهرت من إقامة الصلاة، وأتركه وأسير إليهم، أو معنى أخالف ظنهم في أني مشغول بالصلاة عن قصدي إليهم، أو أخالف أتخلف، أي عن الصلاة إلى قصد المذكورين، والتقييد بالرجال يُخرج النساء والصبيان. وقوله: فَأُحَرِّقُ بالتشديد، والمراد به المبالغة، يقال: حرّقه إذا بالغ في تحريقه، وقوله: عليهم، يشعر بأن العقوبة ليست قاصرة على المال، بل المراد تحريق المقصودين والبيوت تبعًا للقاطنين فيها. وفي رواية مسلم "فأحرق بيوتًا على من فيها". وقوله: والذي نفسي بيده، فيه إعاده اليمين للمبالغة في التأكيد. وقوله: أنه يجد عرقًا، أي بفتح المهملة وسكون الراء بعدها قاف. قال الأَزْهَرِي: العَرْق بالفتح واحد العُراق، بالضم، وهي العظام التي يؤخذ منها هبر اللحم، ويبقى عليها لحم رقيق فيكسرويطبخ ويؤكل ما على العظام من لحم دقيق، ويتشمس العظام، يقال: عرقت العظم واعترقته وتعرقته إذا أخذت اللحم منه نهشًا. وقال الأصْمَعيّ: العَرْق بسكون الراء قطعة لحم، ونقل جمع العَرْق على العِراق بكسر العين، وهو أقيس. وقال الخليل: العِراق العظم بلا لحم، وإن كان عليه لحم فهو عَرْق. وقوله: ومِرمَاتين، تثنية بكسر الميم، مثل مِنسأة ومِيضأة، وهي ما بين ظلفي الشاة من اللحم أو الظلفان نفسهما. قال عِيَاض: فالميم على هذا أصلية. قلت: لم أفهم وجه أصالتها مع أنها شبهت بمِنسأة ومِيضأة والميم فيهما زائدة، وأيضًا القاعدة التصريفية أن الميم إذا سبقت ثلاثة أحرف أصلية يحكم عليها بالزيادة، وهي كذلك. وقيل: المِرماة لعبة كانوا

يلعبونها بنصال محددة يرمونها في كوم من تراب، فأيهم أثبتها في الكوم غلب، وهي المِرماة والمِدحاة، ويبعد أن تكون هذه مراد الحديث، لأجل التثنية، وقيل: المرماة سهم الهدف، ويؤيده ما في حديث أبي هُريرة "لو أن أحدهم إذا شهد الصلاة معي، كان له عظم من شاة سمينة، أو سهمان لفعل" وقيل: المرماة سهم يتعلم عليه الرميّ وهو سهم دقيق مستوي غير محدد، قال ابن المُنِير: ويدل على ذلك التثنية فإنها مشعرة بتكرار الرامي بخلاف السهام المحددة الحربية، فإنها لا يتكرر رميها. وقال الزَّمَخْشَريّ: تصير المِرْمَاة بالسهم ليس بوجيه، ويدفعه ذكر العرق معه، ووجهه ابن الأَثير بأنه لما ذكر العظم السمين، وكان مما يؤكل، أتبعه بالسهمين لأنهما مما يُلَهّى به، ووصف العَرْق بالسمين، والمِرماة بالحسن، ليكون ثَمّ باعثٌ نفسانيّ على تحصيلهما. وقوله: لشهد العشاء أي صلاتها، فالمضاف محذوف، والمعنى لو علم أنه لو حضر الصلاة يجد نفعًا دنيويا، وإن كان خسيسًا حقيرًا لحضرها، لقصور همته على الدنيا، ولا يحضرها لمالها من مثوبات الأخرى ونعيمها، فهو وصف بالحرص على الشيء الحقير من مطعوم أو ملعوب به، مع التفريط فيما يحصل به رفيع الدرجات ومنازل الكرامات، وحديث الباب ظاهر في كون الجماعة فرض عين؛ لأنها لو كانت سنة لم يهدد تاركها بالتحريق، ولو كانت فرض كفاية لكانت قائمة بالرسول ومن معه، ويحتمل أن يقال إن التهديد بالتحريق المذكور يمكن أن يقع في حق تاركي فرض الكفاية، كمشروعية قتال تاركي فرض الكفاية، وفيه نظر؛ لأن التحريق الذي قد يفضي إلى القتل أخص من المقاتلة، ولأن المقاتلة إنما تشرع فيما إذا تمالأ الجميع على الترك. وإلى القول بأنها فرض عين ذهب عَطَاء والأَوْزَاعيّ وأحمد وجماعة من محدِّثي الشافعية، كأبي ثَور وابن خُزَيْمَة وابن المُنذر وابن حِبّان، وبالغ داود ومن تبعه فجعلها شرطًا في صحة الصلاة، وهذا مبني على أن ما وجب في العبادة كان شرطًا فيها، وهذا هو الغالب، ولكن لما كان الوجوب قد ينفك عن الشرطية، قال أحمد، ومن قال بقوله: إنها واجبة غير شرط. وظاهر ما نص

الشافعي أنها فرض كفاية، وعليه جمهور المتقدمين من أصحابه، وصححه النَّوَوِيّ في "المنهاج" كأصل الروضة، وبه قال بعض المالكية، واختاره الطَّحَاويّ والكَرْخِيّ وغيرهما من الحنفية، لحديث أبي داود، وصححه ابن حَبّان وغيره، "ما من ثلاثة في قرية أو بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان" أي غلب. ومشهور مذهب مالك وأبي حنيفة أنها سنة مؤكدة، وهو وجه عند الشافعية، لقوله عليه الصلاة والسلام، فيما رواه الشيخان "صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة" ولمواظبته -صلى الله عليه وسلم-، وبما رواه الحاكم، وصححه عن أُبيّ بن كَعْب رضي الله تعالى عنه "صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع رجلين أزكى من صلاته مع رجل، وما كثر فهو أحب إلى الله عَزَّ وَجَلَّ" وبقوله -صلى الله عليه وسلم- للذين صليا في رحالهما من غير جماعة "إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما المسجد، فصليا فإنهما لكما نافلة، فلو كانت فرضًا لأمرهما بالإعادة" ومثل هذا جرى لمحجن الدُئليّ: ذكره في الموطأ. وعند المالكية قول بأنها ندب وجمع ابن رشد بين الأقوال الثلاثة، فقال: فرض في حق أهل البلد سنة في حق كل مسجد ندب في حق كل فصل. وأجابوا عن ظاهر حديث الباب بأجوبة: منها ما قال ابن بُزَيْزة أن بعضهم استنبط من نفس الحديث عدم الوجوب، لكونه -صلى الله عليه وسلم- هَمّ بالتوجه إلى المتخلفين، فلو كانت الجماعة فرض عين ما همّ بتركها إذا توجه، وتعقب بأن الواجب يجوز تركه لما هو أوجب منه، وليس فيه أيضًا دليل على أنه لو فعل ذلك لم يتداركها في جماعة آخرين. الثاني: قال ابن بطّال وغيره: لو كانت فرضًا لقال حين توعده بالإحراق: من تخلف عن الجماعة لم تجزئه صلاته؛ لأنه وقت البيان، وتعقب بأن البيان قد يكون بالتنصيص، وقد يكون بالدلالة، فلما قال -صلى الله عليه وسلم- "لقد هممت" إلخ دل على وجوب الحضور، وهو كاف في البيان.

ثالثها: أن الخبر ورد مورد الزجر، وحقيقته غير مرادة، وإنما المراد المبالغة، ويرشد إلى ذلك وعيدهم بالعقوبة، التي يعاقب بها الكفار، وقد انعقد الإجماع على منع عقوبة المسلمين بذلك، وأجيب بأن المنع وقع بعد نسخ التعذيب بالنار، وكان قبل ذلك جائزًا، كما يدل عليه حديث أبي هُريرة الآتي في الجهاد، الدال على جواز التحريق بالنار، ثم على نسخه، فحمل التهديد على حقيقته غير ممتنع. رابعها: كونه -صلى الله عليه وسلم- ترك تحريقهم بعد التهديد، فلو كان واجبًا ما عفا عنهم. وقال عياض ومن تبعه: ليس في الحديث حجة؛ لأنه عليه الصلاة والسلام هم ولم يفعل. زاد النَّوَوِيّ: ولو كان فرض عين ما تركهم، قال ابن دَقِيق العِيْد: هذا ضعيف؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لا يهم إلا بما يجوز له فعله، وأما الترك فلا يدل على عدم الوجوب، لاحتمال أن يكونوا انزجروا بذلك، وتركوا التخلف الذي ذمهم بسببه، على أنه قد جاء في بعض الطرق بيان سبب الترك، وهو ما رواه أحمد عن المَقْبريّ عن أبي هُريرة "لولا ما في البيوت من النساء والذرية، لأقمت صلاة العشاء، وأمرتُ فِتياتي يحرقون .. " الحديث. خامسها: أن المراد بالتهديد قوم تركوا الصلاة رأسًا، لا مجرد الجماعة، وهو متعقب بأن في رواية مسلم "لا يشهدون الصلاة" أي لا يحضرون، وفي رواية عجلان عن أبي هُرَيرة عند أحمد "لا يشهدون العشاء في الجميع" أي في الجماعة. وفي حديث أُسَامة بن زيد عند ابن ماجَه مرفوعًا "لَيَنْتَهِينَّ رجالٌ عن تركهم الجماعات أو لأحرِّقن بيوتهم". سادسها: أن الحديث ورد في الحث على مخالفة فعل أهل النفاق، والتحذير من التشبه بهم، لا لخصوص ترك الجماعة، فلا يتم الدليل، وهذا قريب من الثالث. سابعها: أن الحديث ورد في حق المنافقين، فليس التهديد لترك الجماعة بخصوصه، فلا يتم الدليل، وتعقب باستبعاد الاعتناء بتأديب المنافقين على

تركهم الجماعة، مع العلم بأنه لا صلاة لهم، وبأنه كان معرضًا عنهم وعن عقويتهم، مع علمه بطويتهم. وقد قال: "لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه" وتعقب ابن دَقيق العِيد هذا التعقب بأنه لا يتم إلا إذا ادعى أنّ ترك معاقبة المنافقين كان واجبًا عليه، ولا دليل على ذلك، فإذا ثبت أنه كان مخيرًا فليس في إعراضه عنهم ما يدل على وجوب ترك عقويتهم. والذي يظهر أن الحديث ورد في حق المنافقين، لقوله في صدر الحديث الآتي بعد أربعة أبواب "ليس صلاة أثقل على المنافقين من العشاء والفجر" ولقوله "لو يعلم أحدهم .. " إلخ لأن هذا الوصف لائق بالمنافقين لا بالمؤمن الكامل، لكن المراد به نفاق المعصية لا نفاق الكفر، بدليل قوله في رواية عَجْلاَن "لا يشهدون العشاء في الجميع" وقوله في حديث أُسامة "لا يشهدون الجماعة" ولما هو أصرح من ذلك في رواية يزيد بن الاسم عن أبي هُرَيرة عند أبي داود "ثم آتي قومًا يُصَلُّون في بيوتهم، ليست بهم علة" فهذا يدل على أن نفاقهم نفاق معصية لا نفاق كفر؛ لأن الكافر لا يصلي في بيته، إنما يصلي في المسجد رياء وسمعة، فإذا خلا في بيته كان كما وصفه الله به من الكفر والاستهزاء، قاله القرطبي. وأيضًا فقوله في رواية المقْبريّ "لولا ما في البيوت من النساء والذرية" يدل على أنهم لم يكونوا كفارًا؛ لأن تحريق بيت الكافر إذا تعين طريقًا إلى الغلبة عليه، لم يمنع ذلك وجود النساء والذرية في بيته. قلت: هذا خلاف مذهبنا معاشر المالكية، فإن تحريق الكافر وتغريقه يمنعه عندنا وجود النساء والذرية، إلا لخوف على المسلمين. وعلى تقدير أن يكون المراد بالنفاق في الحديث نفاق الكفر، فلا يدل على عدم الوجوب؛ لأنه يتضمن أن ترك الجماعة من صفات المنافقين، وقد نهينا عن التشبه بهم، وسياق الحديث يدل على الوجوب من جهة المبالغة في ذم من تخلف عنها، قال الطِّيبيّ: خروج المؤمن من هذا الوعيد، ليس من جهة أنهم إذا سمعوا النداء جاز لهم التخلف عن الجماعة، من جهة أن التخلف ليس من شأنهم، بل هو من صفات المنافقين، ويدل عليه قول ابن مسعود عند مسلم

"لقد رأيتنا وما يتخلف عن الجماعة إلا منافق" ويدل عليه ما رواه ابن أبي شَيْبَةَ وسَعِيد بن مَنْصور بإسناد صحيح عن ابن عُمَير بن أَنَس "حدثني عمومتي من الأنصار قالوا: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما يشهدها منافق" يعني العشاء والفجر، ولا يقال هذا يدل على ما ذهب إليه صاحب هذا الوجه لانتفاء أن يكون المؤمن قد تخلف، وإنما ورد الوعيد في حق من تخلف؛ لأنا نقول هذا يقوي ما هو الظاهر أولًا من أن المراد بالنفاق نفاق المعصية لا نفاق الكفر، فعلى هذا الذي خرج هو المؤمن الكامل، لا العاصي الذي يجوز إطلاق النفاق عليه مجازًا، لما دل عليه مجموع الأحاديث. ثامنها: ما ادَّعاه بعضهم من أن فرضية الجماعة كانت في أول الإِسلام لأجل سد باب التخلف عن الصلاة على المنافقين، ثم نسخ، حكاه عياض. ويمكن أن يتقوى بثبوت نسخ الوعيد المذكور في حقهم، وهو التحريق بالنار، كما يأتي في الجهاد. وكذا ثبوت نسخ ما يتضمنه التحريق من جواز العقوبة بالمال، ويدل على النسخ الأحاديثُ الواردة في تفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفذ، كما يأتي في الباب الذي بعد هذا، لأن الأفضلية تقتضي الاشتراك في أصل الفضل، ومن لازم ذلك الجواز. تاسعها: أن المراد بذلك الجمعة لا باقي الصلوات؛ لأن الجماعة فيها شرط صحة باتفاق، وقد مرت الأحاديث الواردة في تعيين الصلاة التي وقع التهديد بسببها، هل هي الجمعة، أو العشاء والفجر معًا؟ وقد اعتمد ابن خُزَيْمَةَ وغيره من القائلين بفرضية الجماعة حديث ابن أم مكتوم المتقدم. قالوا إنه دال على فرضية الجماعة في الصلوات كلها، ورجحوه بحديث الباب، وبالأحاديث الدالة على الرخصة في التخلف عن الجماعة، قالوا: لأن الرخصة لا تكون إلا عن واجب، وفيه نظر، ووراء ذلك أمر آخر ألزم به ابن دَقِيق العِيْد من يتمسك بالظاهر، ولا يتقيد بالمعنى. وهو أن الحديث ورد في صلاة معينة، فيدل على وجوب الجماعة فيها دون غيرها، وأشار للانفصال عنه بالتمسك بدلالة العموم، لكن نُوْزع في كون القول بما ذكر أولًا ظاهرية محضة، فإن قاعدة حمل المطلق

على المقيد تقتضيه، ولا يستلزم ذلك ترك اتباع المعنى؛ لأن غير العشاء والفجر مظنة الشغل بالتكسب وغيره، إلى آخر ما مرَّ بيانه. ولمشروعية الجماعة حكم منها قيام نظام الألفة بين المصلين، ولذا شرعت المساجد في المحال ليحصل التعاهد باللقاء في أوقات الصلوات بين الجيران، ومنها قد يتعلم الجاهل من العالم ما يجهله من أحكامها، ومنها مراتب الناس متفاوتة في العبادة فتعم بركة الكامل على الناقص، فتكمل صلاة الجميع. وفي الحديث من الفوائد أيضًا تقديمُ الوعيد والتهديد على العقوبة، وسره أن المفسدة إذا ارتفعت بالأهون من الزجر اكتفى به عن الأعلى من العقوبة عليه، وفيه جواز العقوبة بالمال، كذا استدل به كثير من القائلين بذلك من المالكية وغيرهم، وفيه نظر، لما مرَّ ولاحتمال أن التحريق من باب ما لا يتم الواجب إلا به، إذ الظاهر أن الباعث على ذلك أنهم كانوا يختفون في بيوتهم، فلا يتوصل إلى عقوبتهم إلا بتحريقها عليهم. وفيه جواز أخذ أهل الجرائم على غِرة؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- هَمّ بذلك في الوقت الذي عهد منه فيه الاشتغال بالصلاة بالجماعة، فأرادوا أن يبغتهم في الوقت الذي يتحققون أنه لا يطرقهم فيه أحد، وفي السياق إشعار بأنه تقدم منه زجرهم عن التخلف بالقول حتى استحقوا التهديد بالفعل، وترجم عليه البُخَاري في كتاب الأشخاص والأحكام باب "إخراج أهل المعاصي والريب من البيوت بعد المعرفة" يريد أن من طلب منهم بحق فاختفى أو امتنع في بيته لددًا ومطلًا أخرج منه بكل طريق يتوصل إليه بها، كما أراد -صلى الله عليه وسلم- إخراج المتخلفين عن الصلاة بإلقاء النار عليهم في بيوتهم. واستدل به ابن العَرَبيّ وغيره على مشروعية قتل تارك الصلاة متهاونًا بها، ونوزع في ذلك. ورواية أبي داود فيها أنهم كانوا يصلون في بيوتهم كما مرَّ، تعكر عليه، نعم يمكن الاستدلال منه بوجه آخر، وهو أنهم إذا استحقوا التحريق بترك صفة من صفات الصلاة خارجة عنها، سواء قلنا واجبة أو مندوبة، كان من تركها أصلًا رأسًا أحق بذلك لكن لا يلزم من التهديد بالتحريق حصول القتل، لا دائمًا ولا

رجاله خمسة

غالبًا؛ لأنه يمكن الفرار منه، أو الإخماد له بعد حصول المقصود من الزجر والإرهاب. وفي قوله في رواية أبي داود "وليست بهم علة" دلالة على أن الأعذار تبيح التخلف عن الجماعة، ولو قلنا إنها فرض، وكذا الجمعة، وفيه الرخصة للإمام أو نائبه في ترك الجماعة لإخراج من يستخفي في بيته. ويتركها، ولا بُعد في أن تلحق بذلك الجمعة، فقد ذكروا من الأعذار في التخلف عنها خوف فوات الغريم وأصحاب الجرائم في حق الإِمام، كالغُرَمَاء. واستدل به على جواز إمامة المفضول مع وجود الفاضل إذا كان في ذلك مصلحة، قال ابن بُزَيْزة: وفيه نظر، لأن الفاضل في هذه الصورة يكون غائبًا، وهذا لا يختلف في جوازه. واستدل به ابن العَرَبيّ علي جواز إعدام محل المعصية، كما هو مذهب مالك، وتعقب بأنه منسوخ كما قيل في العقوبة بالمال. رجاله خمسة: الأول: عبد الله بن يوسف. والثاني: مالك، وقد مرا في الثاني من الوحي، ومرَّ أبو الزِّناد والأعْرج في السابع من الإيمان، ومرَّ أبو هُريْرَةَ في الثاني منه. فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع، والإخبار كذلك في موضع، والعنعنة في ثلاثة، ورواته كلهم مدنيون ما خلا شيخ البخاريّ. أخرجه البخاري هنا وفي الأحكام، والنَّسائيّ في الصلاة. ثم قال المصنف: باب فضل الجماعة أشار الزَّيْنُ بن المُنِير إلى أن ظاهر هذه الترجمة ينافي الترجمة التي قبلها، ويكفي من الجواب عن ذلك أن كون الشيء واجبًا لا ينافي كونه ذا أفضلية، ولكن الفضائل تتفاوت، فالمراد منها بيان زيادة ثواب صلاة الجماعة على صلاة الفذ.

ثم قال: وكانَ الأسْودُ إذا فاتَتْهُ الجماعةُ ذهبَ إلى مسجدٍ آخَرَ. يعني أنه إذا فاتته الجماعة في مسجد قومه ذهب إلى مسجد آخر يطلب جماعة، ومناسبته للترجمة هي أنه لولا ثبوت فضيلة الجماعة عنده لما ترك فضيلة أول الوقت والمبادرة إلى خلاص الذمة، وتوجه إلى مسجد آخر. كذا قال المُنِير. والظاهر أن البُخَاريّ قصد الإشارة بأثر الأَسْود وأَنَسْ إلى أن الفضل الوارد في أحاديث الباب مقصور على من جمع في المسجد دون من جمع في بيته مثلًا، لأن التجميع لو لم يكن مختصًا بالمسجد لجمع الأسود في مكانه، ولم ينتقل إلى مسجد آخر لطلب الجماعة، ولما جاء أنس إلى مسجد آخر، كما يأتي قريبًا. وقد مرَّ الكلام على الجماعة في البيت في باب الصلاة في مسجد السوق، وهذا التعليق وصله أبو بكر بن أبي شَيْبَةَ بإسناد صحيح، والأَسْودُ بن يَزيد قد مرَّ في السابع والستين من العلم. ثم قال: وجاءَ أنسٌ إلى مسجد قد صُلَّي فيهِ، فأذّنَ وأقامَ وصلّى جماعةً. وصله أبو يَعْلى في مسنده عن الجَعْديّ أبي عثمان قال: مرَّ بنا أنَس بن مالك في مسجد بني ثَعْلَبَةَ نحوه، قال: وذلك في صلاة الصبح، فأمر رجلًا فأذّن وأقام وصلّى بأصحابه. وأخرجه ابن أبي شَيْبَةَ عن الجَعْد، وعند البَيْهَقِيّ عن الجَعْدِ نحوه. وقال: مسجد بني رِفاعة. وقال: فجاء أنَس في نحو عشرين من فتيانه، وهو يؤيد ما مر من إرادة التجميع في المسجد، وذكر الطَّحاوِيّ عن الكوفيين ومالك: إن شاء صلى في مسجده وحده، وان شاء أتى مسجدًا آخر يطلب فيه الجماعة، إلا أن مالكًا قال: إلا أن يكون في المسجد الحرام أو مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو القدس، فلا يخرج منه، ويصلي فيه وحده؛ لأن الصلاة في هذه المساجد أعظم أجرًا ممن صلى في جماعة. وقال الحسن: ما رأينا المهاجرين يبتغون المساجد، وقد اختلف العلماء في الجماعة بعد الجماعة في المسجد، فروي عن ابن مسعود أنه صلى بعلقمة والأسود في مسجد قد جمع فيه، وهو قول عطاء والحسن في رواية، وإليه ذهب أحمد وإسحاق وأشهب عملًا بظاهر قوله عليه الصلاة والسلام "صلاة الجماعة

تفضل على صلاة الفذ .. " إلخ وقال طائفة: لا يجمع في مسجد جمع فيه مرة أخرى. رُوي ذلك عن سالم والقاسم وأبي قِلابَة، وهو قول مالك واللَّيْث وابن المُبَارك والثّوريّ والأوْزَاعيّ وأبي حَنِيفة والشافعيّ إلا أن مالكًا قال: لا يعيد في جماعة إلا في أحد المساجد الثلاثة، وقد مرَّ ما عنده من التفضيل في ذلك، في باب الصلاة في مسجد السوق، وقال: مخالفة الجماعة، وقال مالك والشافعي: إذا كان المسجد على طريق الإِمام له أن يجمع فيه قوم بعد قوم، وحاصل مذهب الشافعي أن لا يكره في المسجد المطروق، وكذا غيره إنْ بَعُد مكان الإِمام، ولم يخف فيه. وقد مر أنَس في السادس من الإيمان

الحديث الثاني

الحديث الثاني حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلاَةَ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً. قوله: صلاة الفذ، بالمعجمة، أي المنفرد، ويقال: فذ الرجل من أصحابه إذا بقي منفردًا وحده، وقد رواه مسلم عن نافع بسياق أوضح، ولفظة "صلاة الرجل في الجماعة تزيد على صلاته وحده" هذا الحديث واللذان بعده تقدمت مباحثها مستوفاة غاية الاستيفاء في باب الصلاة في مسجد السوق، عند ذكر حديث أبي هُرَيرة هناك. رجاله أربعة: الأول: عبد الله بن يوسف. الثاني: مالك، مرَّ ذكر محلهما في الذي قبله، ونافع قد مرَّ في الثالث والسبعين من العلم، ومرَّ ابن عمر أول كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه. أخرجه مسلم والنَّسائيّ في الصلاة.

الحديث الثالث

الحديث الثالث حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ الْهَادِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلاَةَ الْفَذِّ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً. قوله: بخمس وعشرين، في رواية الأصيليّ "خمسًا وعشرين" زاد ابن حبَّان وأبو داود من وجه آخر، عن أبي سعيد "فإن صلاها في فلاة فأتم ركوعها وسجودها بلغت خمسين صلاة" إلى آخر ما مرَّ مستوفى في الباب المذكور. رجاله خمسة: الأول: عبد الله بن يوسف، وقد مرَّ في الثاني من الوحي، ومرَّ اللَّيْث بن سعد في الثالث منه، ومرَّ يَزِيد بن عبد الله اللَّيْثيّ في السابع من المواقيت، ومرَّ أبو سَعيد الخُدْرِيّ في الثاني عشر من الإيمان. الخامس: عبد الله بن خَبَّاب الأنصاري البُخّاري مولاهم، ويقال إنه أخو مُسْلم بن خَبَّاب، وليس بصحيح. ذكره ابن حبَّان في الثقات. وقال ابن عَديّ: أحد أئمة الناس، وهو صَدُوق لا بأس به، وقال أبو حاتم والنَّسائيّ: ثقة. وقال الجوزجاني: سألتهم عنه فلم أرهم يتفقون على جده ومعرفته. روى عن أبي سعيد الخُدريّ، وروى عنه القاسم بن محمد، وهو من أقرانه، ويزيد بن عبد الله اللَّيثيّ ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، وبُكَير بن عبد الله الأشجّ. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع وبصيغة الإفراد في موضعين، والعنعنة في موضعين، والقول في موضعين، ورواته ما بين مصري ومدني، وهذا الحديث من أفراد البخاريّ.

الحديث الرابع

الحديث الرابع حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ قَالَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ يَقُولُ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: صَلاَةُ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ تُضَعَّفُ عَلَى صَلاَتِهِ فِي بَيْتِهِ وَفِي سُوقِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ ضِعْفًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ لاَ يُخْرِجُهُ إِلاَّ الصَّلاَةُ، لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً إِلاَّ رُفِعَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ، وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ، فَإِذَا صَلَّى لَمْ تَزَلِ الْمَلاَئِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ مَا دَامَ فِي مُصَلاَّهُ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ. وَلاَ يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَةٍ مَا انْتَظَرَ الصَّلاَةَ. قوله خمسًا وعشرين ضعفًا. كذا في الروايات الموقوف عليها، وحكى الكِرْمَانيّ أن فيه خمسًا وعشرين درجة بتأويل الضعف بالدرجة أو الصلاة، قلت: ما حكاه الكِرْمَانيّ هو الرواية السابقة عن أبي هُرَيْرَةَ في باب الصلاة في مسجد السوق، وقوله: لا يخرجه إلا الصلاة، أي قصد الصلاة في جماعة، واللام فيها للعهد لما بيناه. وقوله: لم يَخْطُ خُطوة، بفتح أوله وضم الطاء، وخُطوة بضم أوله، ويجوز الفَتح. قال الجَوْهريّ: الخُطوة بالضم، ما بين القدمين، ويالفتح المرة الواحدة. وجزم اليَعْمُرِيّ أنها هنا بالفتح. وقال القُرْطُبيّ إنها في روايات مسلم بالضم. وقوله: فإذا صلى، قال ابن أبي جمرة أي: صلى صلاة تامة؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- قال للمسيء صلاته "ارجع فصل، إنك لم تصل" وقوله: في مصلَّاه، أي المكان الذي أوقع الصلاة فيه من المسجد، وكأنّه خرج مخرج الغالب، وإلا فلو قام إلى بقعة أخرى من المسجد مستمرًا على نية انتظار الصلاة، كان كذلك وقد مرَّ الكلام على هذا الحديث في باب "من لم ير الوضوء إلا من المَخْرَجَين" في

رجاله خمسة

كتاب الوضوء وفي باب "الحَدَث في المسجد" من أبواب المساجد وفي "باب الصلاة في مسجد السوق". رجاله خمسة: الأول: موسى بن إسماعيل، وقد مرَّ في الخامس من الوحي، ومرَّ عبد الواحد بن زِيَاد في التاسع من الإيمان، ومرَّ الأعْمَش في الخامس والعشرين منه، ومرَّ أبو صالح وأبو هُرَيرة في الثاني منه. فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، والسماع في موضعين، والقول في ستة، ورواته ما بين بصريّ وكوفيّ ومدنيّ. وفيه ورواية التابعيّ عن التابعيّ. باب فضل صلاة الفجر في جماعة هذه الترجمة أخص مما قبلها، ومناسبة حديث أبي هُرَيرة لها من قوله "وتجتمع ملاتكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر" فإنه يدل على مزية لصلاة الفجر على غيرها، وزعم ابن بطال أن في قوله "وتجتمع" إشارة إلى أن الدرجتين الزائدتين على خمس وعشرين تؤخذ من ذلك، ولهذا عقبها برواية ابن عمر التي فيها بسبع وعشرين.

الحديث الخامس

الحديث الخامس حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: تَفْضُلُ صَلاَةُ الْجَمِيعِ صَلاَةَ أَحَدِكُمْ وَحْدَهُ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا، وَتَجْتَمِعُ مَلاَئِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلاَئِكَةُ النَّهَارِ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ. ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}. قوله: بخمس وعشرين جزءًا، كذا في النسخ، ونقل الزَّرْكَشِيّ أنه وقع في الصحيحين "خمس" بحذف الباء من أوله والهاء من آخره. قال: وخفض خمس على تقدير الباء، كقول الشاعر: أشَارَتْ كُلَيْبٍ بالأكفِ الأصابعُ أي إلى كليب، وأما حذف الهاء، فعلى تأويل الجزء بالدرجة، وقد مرَّ الكلام على اجتماع الملائكة في باب فضل صلاة العصر، وقوله: إن قرآن الفجر كان مشهودًا، أي تشهده ملانكة الليل والنهار. وقد أورد المؤلف هذا الحديث في التفسير بلفظ "فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرين درجة". رجاله ستة: الأول: أبو اليَمَان. والثاني: شُعَيْب، وقد مرَّ في السابع من الوحي، ومرَّ ابن شِهاب في الثالث منه، ومرَّ أبو سَلَمة في الرابع منه، ومرَّ سَعِيد بن المُسَيِّب في التاسع عشر من الإيمان، ومرَّ أبو هُرَيْرَةَ في الثاني منه.

ثم قال: قال شُعَيْب: وحدّثني نافعٌ عن عبدِ اللهِ بن عُمر قال: تَفْضُلُها بسبعٍ وعشْرينَ درجةً. يعني أن نافعًا حدثه بالحديث مرفوعًا نحوه، إلا أنه قال "بسبع وعشرين درجة" وهو موافق لرواية مالك السابقة، وغيره عن نافع، وطريق شُعَيْب هذه موصولة معطوفة على الإسناد الأول، والتقدير حدثنا أبو اليَمَان قال شعيب: ونظائر هذا كثيرة في الكتاب. قال في الفتح: لكن لم أر طريق شُعَيب هذه إلا عند المصنف، ولم يستخرجها الإسْماعِيليّ ولا أبو نُعيم، ولا أوردها الطَّبرانيّ في مسند الشاميين في ترجمة شُعَيْب. وشُعَيب مرَّ في الأول، ونافع قد مرَّ في الثالث والسبعين من العلم، وعبد الله بن عمر قد مرَّ في أول كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه. فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع، والإخبار كذلك في موضع، وبصيغة الإفراد في موضع، والعنعنة في موضع، والسماع في موضع، والقول في ثلاثة، ورواته ما بين حمصيّ ومدنيّ، وفيه ثلاثة من التابعين.

الحديث السادس

الحديث السادس حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ سَمِعْتُ سَالِمًا قَالَ سَمِعْتُ أُمَّ الدَّرْدَاءِ تَقُولُ: دَخَلَ عَلَيَّ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَهْوَ مُغْضَبٌ فَقُلْتُ مَا أَغْضَبَكَ فَقَالَ وَاللَّهِ مَا أَعْرِفُ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- شَيْئًا إِلاَّ أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ جَمِيعًا. قوله: سمعت سالمًا، هو ابن أبي الجَعْد، وأم الدرداء هي الصغرى التابعيّة لا الكبرى الصحابية؛ لأن الكبرى ماتت في حياة أبي الدرداء، وعاشت الصغرى بعده زمانًا طويلًا، وقد جزم أبو حاتم بأن سالم بن أبي الجَعْد لم يدرك أبا الدرداء، فعلى هذا لم يدرك أم الدرداء الكبرى بالأولى، وفسرها الكِرْمَانيّ هنا بصفات الكُبرى، وهو خطأ، لقول سالم سمعت أم الدَّرْداء، ويأتي تعريفهما قريبًا في السند. وقوله: من أمّة محمد كذا في رواية كَرِيمَة وأبي ذَرٍّ، وللباقين "من محمد" بحذف المضاف، وعليه شرح ابن بطّال ومن تبعه، فقال: يريد من شَريعة محمد شيئًا لم يتغير عما كان عليه إلا الصلاة في جماعة، فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه، وفي رواية أبي الوقت "من أمْرِ محمد" بفتح الهمزة وسكون الميم بعدها راء، وكذا هو في جمع الحُمَيدِيّ ومسَند أحمد ومُسْتَخْرَج الإسماعيليّ وأبي نُعِيم من طرق عن الأعمش، وعندهم "ما أعرف فيهم" أي في أهل البلد الذي كان فيه، وكان لفظه "فيهم" لما حذفت من رواية البُخَاري صحّف بعض النقلة "أمر" بأمة، ليعود الضمير في أنهم على الأمة. وقوله: يصلون جميعًا، أي مجتمعين، وحذف المفعول وتقديره الصلاة أو الصلوات، ومراد أبي الدرداء أن أعمال المذكورين حصل في جميعها النقص والتغير إلا التجميع في الصلاة، وهو أمر نسبيّ لأن حال الناس في زمن النبوءة

رجاله ستة

كان أتم مما صار إليه بعدها، ثم كان في زمن الشيخين أتم مما صار إليه بعدهما، وكان ذلك صدر من أبي الدَّرْدَاء في آخر عمره، وكان ذلك في أواخر خلافة عثمان. قال في "الفتح" فيا ليت شعري إذا كان ذلك العصر الفاضل بالصفة المذكورة عند أبي الدَّرْداء، فكيف بمن جاء بعدهم من الطبقات إلى هذا الزمان؟ قلت: قال ابن حجر هذا، وكان في القرن الثامن والإِسلام ممتد الأطراف والبلاد ممتلئة بالعلماء وعليها أمراء المؤمنين، فما يقوله صار في زمن لا يرى فيه إلا كافرًا صريحًا أو ملحدًا تصريحًا؟ ونبه الزَّيْنُ بن المُنِير على مناسبة حديث أبي الدَّرْدَاء هذا للترجمة، فقال: تدخل صلاة الفجر في قوله "يصلُّون جميعًا" وهي أخص بذلك من باقي الصلوات، وذكر ابن رَشِيد نحوه، وزاد أن استشهاد أبي هُريْرَةَ في الحديث الأول بقوله تعالى: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] يشير إلى أن الاهتمام بها آكد. وفي هذا الحديث جواز الغضب عند تغيير شيء من أمور الدين، وانكار المنكر بإظهار الغضب، إذا لم يستطع أكثر منه، والقسم على الخبر لتأكيده في نفس السامع. رجاله ستة: الأول: عُمَر بن حَفْصٍ. والثاني: أبوه حَفْص، وقد مرا في الثاني عشر من الغُسل، ومر الأَعْمَشُ في الخامس والعشرين من الإيمان، ومرَّ سالم بن أبي الجَعْد في السابع من الوضوء ومرَّ أبو الدَّرْداء في باب "من حمل معه الماء لطهوره" بعد السادس عشر منه. والسادس: أم الدَّرْداء، واسمها خَيْرَة بنت أبي حَدْرَد، أم الدَّرْداء الكُبرى، واسم أبي حَدْرَد عبد، وأم الدرداء الصغرى اسمها هُجَيْمَة، وقيل جُهَيمة، قال أبو عمر: كانت أم الدرداء الكبرى من فضلى النساء، وعقلائهن وذوات الرأي فيهن، مع العبادة والنُّسُك، توفيت قبل أبي الدرداء، وذلك بالشام في خلافة عثمان. وكانت حفظت عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقد رُوي عن مَيْمون بن مِهْران أنه قال:

لطائف إسناده

قلت لأم الدرداء: سمعتِ من النبي -صلى الله عليه وسلم- شيئًا؟ قالت: نَعِم، "دخلت عليه وهو جالس في المسجد، فسمعته يقول: ما يوضع في الميزان أثقل من خُلُقٍ حَسن". وأخرج الطَّبَرانيّ عنها أنها قالت: "خرجت من الحمّام فلقيني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: من أين أقبلت يا أم الدرداء؟ قلت: من الحمام، قال: ما منكن امرأة تضع ثيابها في غير بيت إحدى أمهاتها أو زوج، إلا كانت هاتِكَةً سِتْر بينها وبين الله .. " الحديث، وسنده ضعيف جدًا. قال أبو عمر: وأم الدرداء الصغرى لا أعلم لها خبرًا يدل على صحبة ولا رؤية، ومن خبرها أن معاوية خطبها فأبت أن تتزوجه، وذلك كما روى أبو الزاهرة أنها قالت لأبي الدَّرْداء: إنك خطبتني إلى أبويّ في الدنيا فأنكحوني، وإني أخطبك إلى نفسك في الآخرة، قال: فلا تنكحي بعدي، فخطبها معاوية، فأخبرته بالذي كان، فقال لها: عليك بالصيام، وإنما تزوجها أبو الدرداء بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-. ويقال لها هُجَيْمة الوصابية، ووهم من جعلهما واحدة، فإن أبا الدرداء كانت عنده اثنتان كلتاهما يقال لهما أم الدرداء، إحداهما أدركت النبي -صلى الله عليه وسلم-، روت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كما مرَّ، وعن زوجها، روى عنها جماعة من التابعين، منهم مَيْمُون بن مِهران وصَفْوَان بن عبد الله وزَيْد بن أَسْلَم. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، والقول في سبعة، والسماع في موضعين، ورواية الابن عن الأب، ورواية التابعى عن الصحابية، ورواية الصحابية عن الصحابيّ، ورواته الأربعة كوفيون، وهذا من أفراد البخاريّ.

الحديث السابع

الحديث السابع حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: أَعْظَمُ النَّاسِ أَجْرًا فِي الصَّلاَةِ أَبْعَدُهُمْ فَأَبْعَدُهُمْ مَمْشًى، وَالَّذِى يَنْتَظِرُ الصَّلاَةَ حَتَّى يُصَلِّيَهَا مَعَ الإِمَامِ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الَّذِى يُصَلِّي ثُمَّ يَنَامُ. قوله: أبعدهم فأبعدهم مَمْشى، أي إلى المسجد، ويأتي في باب إتمام الكلام على هذا إن شاء الله تعالى، وقوله: مع الإِمام، زاد مسلم "في جماعة" وهي عند رواية محمد بن العلاء الذي أخرجه البخاري عنه. وقوله: من الذي يصلي ثم ينام، أي سواء صلى وحده أو في جماعة، ويستفاد منه أن الجماعة تتفاوت كما مرَّ، واستشكل إيراد حديث أبي موسى في هذا الباب؛ لأنه ليس فيه ذكر لصلاة الفجر، بل آخره يشعر بأنه في العشاء، ووجهه ابن المُنِير بأنه دل على أن السبب في زيادة الأجر وجود المشقة بالمشي إلى الصلاة، وإذا كان كذلك فالمشي إلى صلاة الفجر أشق من غيرها؛ لأنها، وإن شاركتها العشاء في المشي في الظلمة، فإنها تزيد عليها بمفارقة النوم المشتهى طبعًا. وقد قال في الفتح تفنن المصنف بإيراد الأحاديث الثلاثة في الباب، إذ تؤخذ المناسبة من حديث أبي هُرَيرة بطريق الخصوص، ومن حديث أبي الدَّرداء بطريق العموم، ومن حديث أبي موسى بطريق الاستنباط، ويمكن أن يقال لفظ الترجمة يحتمل أن يراد به فضل الفجر على غيرها من الصلوات، وأن يراد به ثبوت الفضل لها في الجملة، فحديث أبي هُرَيْرَةَ شاهد للأول، وحديث أبي الدَّرداء شاهد للثاني، وحديث أبي موسى شاهد لهما.

رجاله خمسة

رجاله خمسة: الأول: محمد بن العَلَاء. والثاني: أبو أسَامة، وقد مرّا في الحادي والعشرين من العلم، ومرَّ بُرَيْد وأبو بُرْدَة وأبو مُوسى في الرابع من الإيمان. ثم قال المصنف: باب فضل التهجير إلى الظهر كذا للأكثر شرح وعليه ابن التّين، وفي بعضها إلى الصلاة، وعليه شرح ابن بطّال، وقد مرَّ الكلام عليه في باب الاستفهام في الأذان.

الحديث الثامن

الحديث الثامن حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ، فَأَخَّرَهُ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ. ثُمَّ قَالَ الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ الْمَطْعُونُ وَالْمَبْطُونُ وَالْغَرِيقُ وَصَاحِبُ الْهَدْمِ وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَقَالَ لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلاَّ أَنْ يَسْتَهِمُوا لاَسْتَهَمُوا عَلَيْهِ. وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لاَسْتَبَقُوا إِلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا. ذكر المصنِّفُ في هذا المتن ثلاثة أحاديث، قصة الذي نحّى غصن الشوك، والشهداء، والترغيب في النداء، وكأنّ قتيبة حدث به عن مالك هكذا مجموعًا، فلم يتصرف فيه المصنف كعادته في الاختصار، وتكلف الزَّيْنُ بن المُنِير في إبداء مناسبة للأول من جهة أنه دالٌ على أن الطاعة، وإن قلَّتْ، فلا ينبغي أن تترك، واعترف بعدم مناسبة الثاني. أما حديث الترغيب في النداء، فقد مرَّ الكلام عليه في باب الاستهام في الأذان، وحديث تنحية غصن الشوك، أخرجه المؤلف في المظالم، وحديث الشهداء أخرجه في الجهاد، وها أنا أتكلم عليهما هنا. قوله: فأخذه في رواية الكُشْمِيْهَنيّ "فأخّره" يعني عن الطريق، قوله: فشكر له، أي رضي بفعله وقبل منه، يقال: شكرته، وشكرت له بمعنى واحد. وفي حديث أَنَس عند أحمد "أن شجرة كانت في طريق الناس تؤذيهم فأتى رجل فعزلها" وفي هذا الحديث "ولقد رأيته يتقلب في ظلها في الجنة" وقد ترجم المصنف لهذا الحديث في المظالم بقوله "باب من أخذ الغصن وما يؤذي الناس

في الطريق، فرمى به" قال الزَّيْنُ بن الْمُنِير: إنما ترجم لئلا يتخيل أن الرمي بالغصن، وغيره مما يؤذي، تصرف في ملك الغير بغير إذنه، فأراد أن يبين أن ذلك لا يمتنع لما فيه من الندب إليه. وقد روى مسلم عن أبي بَرْزَةَ قال: قلت: "يا رسول الله، دُلَّني على عمل انتفع به، قال: اعزل الأذى عن طريق المسلمين". ففي الحديث أن قليل الخير يحصل به كثير الأجر، وفيه فضيلة إماطة الأذى عن الطريق، وهي أدنى شُعَب الإيمان كما مرَّ في كتاب الإيمان، فإذا كان الله عَزَّ وَجَلَّ يشكر عبده، ويغفر له على إزالة غصن شوك من الطريق، فلا يدري ماله من الفضل والثواب إذا فعل ما فوق ذلك. وقوله: الشهداء خمس، كذا لأبي ذَرٍّ عن الحمويّ، وللباقين خمسة، وهو الأصل في المذكر، وجاز الأولُ لأن الأصل إذا كان غير مذكور يجوز الوجهان. فلذا جاز الأول هنا، والشهداء جمعٍ شهيد، وهو إما بمعنى فاعل، أو مفعول، وقد اختلف في سبب تسميته شهيدًا، فقيل: لأنه حيٌّ فكأنَّ أرواحهم شاهدة، أي حاضرة، فهو بمعنى فاعل على هذا، وقيل: لأنه يشهد عند خروج روحه ما أعد الله له من الكرامة. وقيل: لأنه هو الذي يشهد يوم القيامة بإبلاغ الرسل. وقيل: لأنه يشاهد الملائكة عند احتضاره. وقيل: لأنه يشاهد الملكوت من دار الدنيا ودار الآخرة، وهذه كلها بمعنى فاعل. وقيل لأن الله وملائكته يشهدون له بالجنة، وقيل لأنه مشهود له بالأمان من النار، وقيل لأنه عليه علامة شاهدة بأنه قد نجا، وقيل لأن عليه شاهدًا بكونه شهيدًا. وقيل لأنه لا يشهده عند موته إلا ملائكة الرحمة. وقيل لأن الملائكة تشهد له بحسن الخاتمة. وقيل الأنبياء تشهد له بحسن الاتباع لهم. وقيل لأن الله تعالى يشهد له بحسن نيته وإخلاصه، وهذه كلها بمعنى مفعول، وبعض هذه يختص بمن قُتل في سبيل الله، ويعضها يعم غيره، ويعضها قد ينازع فيه. وقوله: المطعون هو الذي يموت في الطاعون، أي الوباء، ولم يرد المطعون بالسِّنان؛ لأنه الشهيد في سبيل الله. والطاعون مرض عام يفسد له

الهواء فتفسد الأمزجة والأبدان، والمبطون هو صاحب الإسهال، وقيل هو الذي به الاستسقاء، وقيل هو الذي يشتكي بطنه، وقيل من مات بداء بطنه مطلقًا، وصاحب الهَدْم هو الذي يموت تحت الهَدَم. قال ابن الجَوْزِيّ: بفتح الدال المهملة، وهو اسم ما يقع. وأما بتسكين الدال فهو الفعل، والذي يقع هو الذي يقتل، ويجوز أن ينسب القتل إلى الفعل. وقوله: والشهيد في سبيل الله، هذا هو الخامس من الشهداء، وقد قال الطيبى: يلزم منه حمل الشيء على نفسه؛ لأن قوله "خمسة" خبر للمبتدأ، والمعدود بعده بيان له، وأجاب بأنه من باب "أنا أبو النجم وشعري شعري" ويحتمل أن يكون المراد بالشهيد في سبيل الله المقتولَ؛ فكأنّه قال: والمقتول، فعبر عنه بالشهيد، ويؤيده قوله في رواية جابر بن عتيك الآتية "الشهداء سبعة سوى القتيل في سبيل الله" ويجوز أن يكون لفظ الشهيد مكررًا في كل واحد منها، فيكون من التفصيل بعد الإجمال. والتقدير الشهداء خمسة، الشهيد كذا، والشهيد كذا إلى آخره. وقوله في الحديث: الشهداء خمسة، قد جاء في كثير من الأحاديث الجيدة ما يحصل من مجموعه أكثر من عشرين خصلة، فلعله -صلى الله عليه وسلم- أعلم بالأقل، ثم أعلم زيادة على ذلك فذكرها في وقت آخر، ولم يقصد الحصر في شيء من ذلك، وقد قال البخاريّ في الجهاد: باب الشهادة سبع سوى القتل، وعنى بالترجمة ما أخرجه مالك وأبو داود والنَّسائيّ وابن حبَّان عن جابر بن عَتيك، كأمير، "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جاء يعود عبد الله بن ثَابت ... " فذكر الحديث، وفيه "ما تعدون الشهيد فيكم؟ قالوا: من يقتل في سبيل الله" وفيه "الشهداء سبعة سوى القتل في سبيل الله" فذكر زيادة على حديث أبي هُرَيْرَةَ "الحريق، وصاحب ذات الجَنْب والمرأة تموت بجُمْع" فأما ذات الجَنْب فهو مرض معروف يقال له الشَّوصة. وأما المرأة تموت بجُمْع، فهو بضم الجيم وسكون الميم وقد تفتح الجيم وتكسر، وهي النُّفَساء، ويدل لهذا ما أخرجه النّسائيّ عن عقبة بن عامر، خمس

من قُبِض فيهنَّ فهو شهيد" فذكر فيهن النُّفَساء، وقيل هي التي يموت ولدها في بطنها ثم تموت بسبب ذلك، وقيل التي تموت بمزدلفة، وهو خطأ ظاهر، وقيل التي تموت عَذراء. ولأحمد من حديث راشد بن حُبَيْش نحو حديث جابر بن عَتِيك، وفيه والسِّل" وهو بكسر السين، وروى أصحاب السنن، وصححه التِّرْمِذيّ، عن سعيد بن زيد مرفوعًا "من قتل دون ماله فهو شهيد" قال في الدين والدم والأهل مثل ذلك، وللنَّسائيّ عن سُوَيد بن مُقَرّن مرفوعًا "من قتل دون مظلمته فهو شهيد" وأخرج أبو داود والحاكم والطَّبَرانيّ عن أبي مالك الأَشْعَريّ مرفوعًا "من وَقَصَه فرسه أو بعيره في سبيل الله، أو لدغته هامَّة، أو مات على أي حتف شاء الله فهو شهيد" وصحح الدارَقُطني من حديث ابن عمر "موت الغريب شهادة" ولابن حِبّان عن أبي هُريرة "من مات مرابطًا مات شهيدًا" وللطَّبَرانيّ عن ابن عباس مرفوعًا "المرء يموت على فراشه في سبيل الله شهيد". وقال ذلك أيضًا في المبطون واللَّديغ والغَريق والشَّرِيق والذي يفترسه السبع والخارّ عن دابته، وصاحب الهدم، وذات الجنب، ولأبي داود عن أم حَرام "المائد في البحر الذي يصيبه القيء له أجر شهيد" وأخرج الحاكم عن أنس "من سأل القتل في سبيل الله صادقًا ثم مات أعطاه الله أجر شهيد". وللحاكم أيضًا من حديث سهل بن حنيف مرفوعًا "من سأل الله الشهادة بصدق بلّغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه" وأخرج مسلم عن أنَس مرفوعًا "من طلب الشهادة صادقًا أُعطِيها ولو لم يصبها" أي أعطي ثوابها ولو لم يقتل. وفي كتاب الطِّب "من صبر على الطاعون فله أجر شهيد" أخرجه المؤلف، وعند الطَّبرانيّ عن ابن مسعود وبإسناد صحيح "أن من تردَّى من رؤوس الجبال، وتأكله السباع، ويغرق في البحار لشهيد عند الله" فهذه نحو سبع وعشرين وردت بالأسانيد الجيدة ووردت أحاديث أخرى في أمور أخرى لم يعرج عليها لضعفها. قال ابن التّين: هذه مِيتات فيها شدة تفضل الله تعالى على أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، بأن جعلها تمحيصًا لذنوبهم، وزيادة في أجورهم، فيبلغهم بها مراتب

رجاله خمسة

الشهداء، والذي يظهر أن المذكورين ليسوا في المرتبة سواء، ويدل عليه ما رواه أحمد وابن حبَّان في صحيحه عن جابر والدارِمِي وأحمد والطَّحاويّ، عن عبد الله بن حَبَشيّ، وابن ماجَه عن عَمرو بن عَنْبَسَة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "سئل أي الجهاد أفضل؟ قال: من عقر جواده، وأُهريق دمه". وفي كتاب المعرفة، للحسن بن عَلِيّ الحَلْوانيّ بإسناد حسن عن علي بن أبي طالب، قال: كل مَوْتة يموتها المسلم فهو شهيد، غير أن الشهادة تتفاضل. وتَحصَّلَ مما ذكر في هذه الأحاديث أن الشهداء قسمان: شهيد الدنيا والآخرة، وهو من يقتل في حرب الكفار مقبلًا غير مدبر، مخلصًا، وشهيد الآخرة، وهو من ذكر بمعنى أنهم يعطون من جنس أجر الشهداء، ولا تجري عليهم أحكامهم في الدنيا. وفي حديث العِربَاض بن سارِية عند أحمد والنّسائيّ مرفوعًا "يختصم الشهداء والمتوفون على الفرش في الذين يتوفون من الطاعون، فيقول: انظروا إلى جراحهم فإن أشبهت جراح المقتولين فإنهم معهم ومنهم، فإذا جراحهم قد أشبهت جراحهم" وإذا تقرر ذلك يكون إطلاق الشهداء على غير المقتول في سبيل الله في حديث "الشهداء خمسة" مجازًا، فيحتج به من يجيز استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، والمانع يجيب بأنه من عموم المجاز، فقد يطلق الشَّهيد على من قُتِل في حرب الكُفار، لكن لا يكون له ذلك في حكم الآخرة، لعارض يمنعه كالانهزام أو فساد النية. رجاله خمسة: الأول: قُتَيْبة، وقد مرَّ في الحادي والعشرين من الإيمان، ومرَّ مالك في الثاني من الوحي، ومرَّ سُمَيّ مولى أبي بَكْر في الثاني عشر من المواقيت، ومرَّ أبو صالح وأبو هُرَيرة في الثاني من الإِيمان. فيه التحديث بصيغة الإفراد في موضع واحد، والعنعنة في أربعة، ورواته مدنيون ما خلا قتيبة، فإنه بلخيّ. أخرجه البُخَاريّ هنا وفي الشهادة، ومسلم في

باب احتساب الآثار

الأدب والجهاد، والنَّسائيّ في الشهادات، والتِّرمذِيّ في البر، وقال حسن صحيح. ثم قال المصنف: باب احتساب الآثار أي إلى الصلاة، وكأنه لم يقيدها لتشمل كل مشي إلى طاعة.

الحديث التاسع

الحديث التاسع حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-" يَا بَنِي سَلِمَةَ أَلاَ تَحْتَسِبُونَ آثَارَكُمْ. قوله: يا بني سَلِمة، بكسر اللام، وهم بطن كبير من الأنصار، ثم من الخَزْرج، وقول من قال: ليس في العرب سَلِمة بكسر اللام غير هذا القبيل إن أراد من الأسماء مطلقًا فخطأ؛ لأن العلماء ذكروا عددًا كثيرًا من الأسماء كذلك، وإن أراد بقيد القبيلة أو البطن فله بعض اتجاه. وقوله: ألا تحتسبون، بإثبات النون وشرحه الكِرْمَانيّ بحذفها، ووجهه بأن النحاة أجازوا ذلك تخفيفًا. قال: والمعنى ألا تعدون خطاكم عند مشيكم إلى المسجد؟ فإن لكل خطوة ثوابًا، والاحتساب، وإن كان أصله العَد، لكنه يستعمل غالبًا في معنى طلب تحصيل الثواب بنية خالصة. رجاله أربعة: الأول: محمد بن عبد الله بن حَوْشَب الطائِفيّ ثم الكوفيّ، ذكره ابن شَاهِين في الثقات، وقال ابن مَعين: لا بأس به، روى عن عبد الوهاب الثّقَفيّ وإبراهيم بن سَعْد وأبي عيّاش وهُشَيم وغيرهم. وروى عنه البُخَاريّ ومحمد بن مُسْلِم بن وَارَة. الثاني: عبد الوهاب، وقد مرَّ في التاسع من الإيمان، ومرَّ حُمَيد الطَّويل في الثاني والأربعين من الإيمان، ومرَّ أَنَس في السادس منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وبالإفراد في موضع، والعنعنة

في موضع، والقول في أربعة، وشيخ البُخَاريّ من أفراده، ورواته ما بين طائفيّ وبصريّ. ثم قال: وقال مُجَاهد في قوله {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} قال: خُطاهُمْ. وفي رواية أبي ذَرٍّ الآتية قريبًا. قال مجاهد: "خطاهم: آثارهم، والمشي في الأرض على أرجلهم" ووصله عبد بن حميد عن أبي نجيح عنه على لفظ الرواية الأولى، قال في قوله تعالى: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا} [يس: 12] قال: أعمالهم. وفي قوله "وآثارهم" قال: خطاهم، وأشار المصنف بهذا التعليق، إلى أن قصة بني سَلِمَة كانت سبب نزول هذه الآية، وقد ورد مصرحًا به عن ابن عباس عند ابن ماجَه وغيره، بإسناد قوي، ومرَّ مُجَاهد في أول كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه.

الحديث العاشر

الحديث العاشر وَحدّثنا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ قَالَ حَدَّثَنِي أَنَسٌ أَنَّ بَنِي سَلِمَةَ أَرَادُوا أَنْ يَتَحَوَّلُوا عَنْ مَنَازِلِهِمْ فَيَنْزِلُوا قَرِيبًا مِنَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُعْرُوا الْمَدِينَةَ فَقَالَ: أَلاَ تَحْتَسِبُونَ آثَارَكُمْ. قَالَ مُجَاهِدٌ خُطَاهُمْ آثَارُهُمْ. قوله: وحدثنا ابن أبي مَرْيَم، كذا لأبي ذَرٍّ وحده، وفي رواية الباقين "وقال ابن أبي مَرْيَم" وفي رواية صاحب الأطراف بلفظ "وزاد ابن أبي مريم" وقال أبو نُعيم ذكره البُخاريّ مُعَلَّقًا، وهذا هو الصواب، وله نظائر في الكتاب في رواية يحيى بن أيّوب، لأنه ليس على شرطه في الأصول. وقوله: عن أنس، كذا لأبي ذَرٍّ وحده، وللباقين "حدثنا أَنَس" وكذا ذكره أبو نُعِيم أيضًا، وكذا هو في فوائد المخلص عن ابن أبي مَرْيم بلفظ "سمعت أنَسًا" وهذا هو السر في إيراد طريق يحيى بن أيّوب عقب طريق عبد الوهاب، ليبين الأمن من تدليس حُميد، وقد مرَّ نظيره في باب وقت العشاء، وقد أخرجه في الحج عن مروان الفَزَاريّ. عن حميد، وساق المتن. وقوله: فينزلوا قريبًا، يعني لأن ديارهم كانت بعيدة من المسجد، وقد صرح بذلك مُسْلم عن جابر بن عبد الله قال: كانت ديارنا بعيدة من المسجد، فأردنا أن نبتاع بيوتًا فنقرب من المسجد، فنهانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: "إن لكم بكل خطوة درجة" وفي مسند السّراج عنِ أبي نضرة عن جابر "أرادوا أن يقربوا من أجل الصلاة" ولابن مَرْدَوَيه عن أبي نضَرة عنه قال "كانت منازلنا بسَلْع" ولا يعارض هذا ما يأتي في الاستسقاء عن أنس "وما بيننا وبين سلع من دار" لاحتمال أن تكون ديارهم كانت من وراء سلع، وبين سلع والمسجد قدر ميل.

وقوله: أن يُعروا المدينة، في رواية الكُشْميْهنيّ "أن يُعْرُوا منازلهم" وهو بضم أوله وسكون العين المهملة وضم الراء، أي يتركوها خالية، يقال: أعراه إذا أخلاه، والعراء الأرض الخالية. وقيل: الواسعة، وقيل: المكان الذي لا يستتر فيه بشيء، ونبه بهذه الكراهة على السبب في منعهم من قرب المسجد، لتبقى جهات المدينة عامرة بساكنها. واستفادوا بذلك كثرة الأجر لكثرة الخطا في المشي إلى المسجد. وزاد في رواية الفَزَاريّ التي في الحج "فأقاموا" ومثله في رواية المخلص المتقدمة، وللتِّرمِذِيّ من حديث أبي سعيد "فلم ينتقلوا" ولمسلم "فقالوا ما يسرنا أنّا كنا تحوّلنا". وفي الحديث أن أعمال البِرّ إذا كانت خالصة تكتب آثارها حسنات، وفيه استحباب السكنى بقرب المسجد، إلا لمن حصلت به منفعة أخرى، أو أراد تكثير الأجر بكثرة المشي ما لم يحمل على نفسه، ووجهه أنهم طلبوا السكنى بقرب المسجد للفضل الذي علموه منه، فما أنكر النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك عليهم، بل رجح درء المفسدة بإخلائهم جوانب المدينة على المصلحة المذكورة، وأعلمهم بأن لهم في التردد إلى المسجد من الفضل ما يقوم مقام السكنى بقرب المسجد، أو يزيد عليه. واختلف فيمن كانت داره قريبة من المسجد فقارب الخطأ بحيث تساوي خُطا من داره بعيدة، هل يساويه في الفضل أو لا؟ وإلى المساواة جنح الطَّبرِيّ. وروى ابن أبي شيبة عن أنس قال: مشيت مع زيد بن ثابت إلى المسجد، فقارب بين الخُطا وقال: أردت أن تكثر خُطانا إلى المسجد. وهذا لا تلزم منه المساواة في الفضل، وإن دل على أن في كثرة الخطا فضيلة؛ لأن ثواب الخُطا الشاقة ليس كثواب الخُطا السهلة، وهو ظاهر حديث أبي موسى الماضي قبل باب، حيث جعل أبعدهم ممشى أعظمهم أجرًا، واستنبط منه بعضهم استحباب قصد المسجد البعيد، ولو كان بجنبه مسجد قريب، وهذا إنما يتم إذا لم يلزم من ذهابه إلى البعيد هجر القريب، وإلا فإحياؤه بذكر الله أولى، وكذا إذا كان في البعيد مانع من الكمال، كأنْ يكون إمامه مبتدعًا.

رجاله أربعة

وسُئل أبو عبد الله بن لُبَابة عن الذي يدع مسجده ويصلي في المسجد الجامع للفضل في كثرة الناس، قال: لا يدع مسجده، وإنما فضل المسجد الجامع الجمعة فقط، وعن أنس بن مالك أنه كان يجاوز المساجد المحدثة إلى المساجد القديمة؛ وفعله مُجَاهد وأبو وائل، وأما الحسن، فسئل أَيَدَعُ الرجلُ مسجدَ قومه ويأتي غيره؟ فقال: كانوا يحبون أن يُكَثّر الرجل قومه بنفسه. قال القُرْطبيّ: هذه الأحاديث تدل على أن البُعد من المسجد أفضل، فلو كان بجوار المسجد، فهل له أن يجاوزه للأبعد؟ فكرهه الحسن، وهو مذهبنا، وفي تخطي مسجده إلى المسجد الأعظم قولان. رجاله أربعة: الأول: سَعيد بن أبي مَرْيم، وقد مرَّ في الرابع والأربعين من العلم، ومرَّ يحيى بن أثوب في التعليق الكائن بعد الثاني من أبواب القبلة، ومرَّ حُمَيد الطَّويل في الثاني والثلاثين من الإيمان، ومرَّ أَنَس في السادس منه. ثم قال المصنف: باب فضل صلاة العشاء في الجماعة أورد فيه الحديث الدال على فضل العشاء والفجر، فيحتمل أن يكون مراد الترجمة إثبات فضل العشاء في الجملة، وإثبات أفضليتها على غيرها، والظاهر الثاني، ووجهه أن الفجر ثبتت أفضليتها كما مرَّ، وسوّى في هذا بينها وبين العشاء ومُساوي الأفضل يكون أفضل جزمًا.

الحديث الحادي عشر

الحديث الحادي عشر حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- لَيْسَ صَلاَةٌ أَثْقَلَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْفَجْرِ وَالْعِشَاءِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ الْمُؤَذِّنَ فَيُقِيمَ ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً يَؤُمُّ النَّاسَ ثُمَّ آخُذَ شُعَلاً مِنْ نَارٍ فَأُحَرِّقَ عَلَى مَنْ لاَ يَخْرُجُ إِلَى الصَّلاَةِ بَعْدُ. وهذا الحديث قد مرَّ الكلام عليه مستوفى في باب "وجوب صلاة الجماعة" وقوله في آخر هذا الحديث: "على من لم يخرج إلى الصلاة بعدُ" كذا للأكثر بلفظ "بعد" ضد قبل، وهي مبنية على الضم، ومعناه بعد أن يسمع النداء إليها، أو بعد أن يبلغه التهديد المذكور، وللكُشْمِيْهَنيّ بدلها "يقدر" أي لا يخرج، وهو يقدر على المجيء، ويؤيده ما مرَّ في الباب المذكور من رواية أبي داود "وليست بهم علة" وعند الداوُديّ هنا "لا لعذر" وهي أوضح من غيرها، لكن ليست في شيء من الروايات عند غيره. رجاله خمسة: الأول: عمر بن حَفْص. والثاني: حَفْص، وقد مرا في الثاني عشر من الغُسل، ومرَّ الأَعْمَش في الخامس والعشرين من الإيمان، ومرَّ أبو صالح وأبو هُرَيرة في الثاني من الإيمان أيضًا. ثم قال المصنف:

باب اثنان فما فوقهما جماعة

باب اثنان فما فوقهما جماعة هذه الترجمة لفظ حديث ورد من طرق ضعيفة في ابن ماجَه عن أبي موسى الأَشْعَرِيّ مرفوعًا "اثنان فما فوقهما جماعة" وفي معجم البَغَوِيّ عن الحَكَم بن عُمَير، وفي أفراد الدارَقُطنيّ عن عبد الله بن عمرو، وفي البَيْهَقِيّ عن أنس، وفي الأوسط للطَّبرانيّ، وعند أحمد عن أبي أُمامة "أنه -صلى الله عليه وسلم- رأى رجلًا يصلي وحده، فقال: ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه؟ فقام رجل فصلى معه فقال: هذان جماعة". والحديث أخرجه أبو داود والتِّرمِذِيّ من وجه آخر صحيح، بدون قوله "هذان جماعة".

الحديث الثاني عشر

الحديث الثاني عشر حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ فَأَذِّنَا وَأَقِيمَا ثُمَّ لِيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا. الحديث مرَّ في باب الأذان للمسافر من هذا الوجه، وأوله "أتى رجلان النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يريدان السفر، فقال لهما .. " إلخ ومرَّ الكلام عليه هناك، وقد اعترض على الترجمة بأنه ليس فيه تسمية صلاة الاثنين جماعة، وأجيب بأن ذلك مأخوذ بالاستنباط من لازم الأمر بالإمامة؛ لأنه لو استوت صلاتهما معًا مع صلاتهما منفردين، لاكتفى بأمرهما بالصلاة، كان يقول: أذِّنا وأقيما وصليا، وهما اثنان، فكان الاثنان جماعة، واعترض أيضًا على أصل الاستدلال بهذا الحديث بأن مالك بن الحُوَيْرث كان مع جماعة من أصحابه، فلعل الاقتصار على التثنية كان من تصرف الرواة، وأجيب بأنهما قضيتان كما مرَّ، واستدل به على أن أقل الجمع إمام ومأموم أعم من أن يكون المأموم رجلًا أو امرأة، أو صبيًا. رجاله خمسة: الأول: مُسَدَّد، وقد مرَّ في السادس من الإيمان، ومرَّ يزيد بن زريع في الخامس والتسعين من الوضوء، ومرَّ خالد الحذّاء في السابع عشر من العلم، ومرَّ أبو قِلَابَةَ في التاسع من الإيمان، ومرَّ مالك بن الحُوَيْرِثِ في تعليق الثامن والعشرين منه، ثم قال المصنف: باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد أي ليصليها جماعة.

الحديث الثالث عشر

الحديث الثالث عشر حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: الْمَلاَئِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلاَّهُ مَا لَمْ يُحْدِثْ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ لاَ يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَةٍ مَا دَامَتِ الصَّلاَةُ تَحْبِسُهُ لاَ يَمْنَعُهُ أَنْ يَنْقَلِبَ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ الصَّلاَةُ. قوله: لا يزال أحدكم .. إلخ، هذا القدر أفرده مالك في "الموطأ" عما قبله، وأكثر الرواة ضموه إلى الأول فَجعلوه حديثا واحدًا، ولا بأس في ذلك، هذا الحديث مرَّ الكلام عليه في محلين في باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين من كتاب الوضوء وفي باب الحدث في المسجد من أبواب المساجد. رجاله خمسة: الأول: عبد الله بن مسلمة، وقد مرَّ في الثاني عشر من الإيمان، ومرَّ مالك في الثاني من الوحي، ومرَّ أبو الزناد والأعرج في السابع من الإيمان، ومرَّ أبو هُريرة في الثاني من الإيمان.

الحديث الرابع عشر

الحديث الرابع عشر حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ الإِمَامُ الْعَادِلُ وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ. قوله عن أبي هُرَيرة لم تختلف الرواة عن عبيد الله في ذلك، ورواية مالك في الموطأ عن خُبَيْب بن عبد الرحمن فقال: عن أبي سَعيد أو أبي هُرَيرة على الشك، ورواه أبو قُرَّةَ عن مالك بواو العطف، فجعله عنهما، وتابعه مصعب الزُّبَيرِيّ، وشذ في ذلك عن أصحاب مالك، والظاهر أن عُبَيد الله حفظه لكونه لم يشك فيه، ولكونه من رواية خالد وجده؛ لأن خُبَيْبًا خاله، وحَفْص بن عاصم جده. وقوله: سبعة، ظاهرة اختصاص المذكورين بالثواب المذكور، ووجهه الكِرْمَانِيّ بما محصله أن الطاعة إِما أن تكون بين العبد وبين الرب، وبينه وبين الخلق، فالأول باللسان، وهو الذكر، أو بالقلب وهو المعلق بالمسجد، أو بالبدن وهو الناشىء على الطاعة، والثاني عامّ وهو العادل، أو خاص بالقلب وهو التّحَابّ، أو بالمال وهو الصدقة، أو بالبدن وهو العفة، وقد نظم السبعة المذكورة أبو شامة عبد الرحمن بن إسماعيل فقال: وقال النبي المصطفى إن سبعة ... يظلهم الله الكريم بظله

محب عفيف ناشىء متصدق ... وباك مصل والإمام بعدله وقد وردت زيادة على السبعة، ففي صحيح مسلم عن أبي اليَسَرَ مرفوعًا "من أنظر مُعْسرًا، أو وضع له، أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله" وروى ابن حبَّان وغيره عن عمر "إظلال المغازي" وروى أحمد والحاكم "إظلال مُعين المجاهد" عن سَهْل بن حُنَيْف، وفي هذا الحديث أيضًا زيادة "إرفاد الغارم وعون المكاتب". وروى البَغَويّ في السنة عن سَلْمان "التاجر الصدوق" وأخرج الطَّبَرانيّ عن أبي هُرَيرة بإسناد ضعيف زيادة "تحسين الخلق" وذيّل العَسْقَلاَنيّ البيتين بقوله: وزد سبعة إظلالُ غازٍ وعَوْنُه ... وإنظارُ ذي عُسْر وتخفيفُ حمله وإرفادُ ذي غُرْم وعَوْنُ مُكاتَبٍ ... وتاجرُ صِدْقٍ في المقال وفعله وزاد ابن حجر ببيتين آخرين فقال: وزد سبعةً حُزْنٌ ومَشْيٌ لمسجدِ ... ودوامُ وضُوْء ثم مُطْعِمُ فضله وآخدُ حقٍ باذِلٌ ثم كافلٌ ... وتاجرُ صدقِ في المقال وفعله وموجودة زيادة على ما ذكر ولكن بأحاديث ضعاف، وقد قال في الفتح: إنه أفرد هذا بجزء سماه معرفة الخصال الموصلة إلى الظلال. وقوله: في ظله، قال عياض: إضافة الظل إلى الله تعالى إضافة ملك، وكل ظل فهو ملكه، والحق أنها إضافة تشريف ليحصل امتياز هذا على غيره، كما قيل الكعبة بيت الله، مع أن المساجد كلها ملكه. وقيل: المراد بظله كرامته وحمايته، كما يقال فلان في ظل الملك، وهذا قول عيسى بن دينار، وقوّاه عِياض. وقيل: المراد ظل عرشه، ويدل عليه ما أخرجه سَعيد بن منصور عن سَلْمان بإسناد حسن "سبعة يظلهم الله بظل عرشه .. " الحديث، وإذا كان المراد ظل العرش استلزم ما ذكر من كونهم في كنف الله وكرامته من غير عكس، فهو أرجح وبه جزم القُرْطُبيّ، ويؤيده تقييد ذلك بيوم القيامة، كما صرح به ابن المبارك في روايته عند المصنف، في كتاب الحدود، وبهذا يندفع قول من قال: المراد ظل طوبى أو ظل الجنة؛ لأن

ظلهما إنما يحصل لهم بعد الاستقرار في الجنة، ثم إن ذلك مشترك لجميع من يدخلها، والسياق يدل على امتياز أصحاب الخصال المذكورة، فيترجح أن المراد ظل العرش. وروى التِّرمِذِيّ، وَحَسّنَهُ عن أبي سعيد مرفوعًا "أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأقربهم منه مجلساً إمام عادل". وقوله: الإِمام العادل، اسم فاعل من العدل، وذكر ابن عبد البر أن بعض الرواة رواه عن مالك بلفظ "العدل قال" وهو أبلغ؛ لأنه جعل المسمى نفسه عدلًا والمراد به صاحب الولاية العظمى ويلتحق به كل من ولي شيئًا من أمور المسلمين فعدل فيه، ويؤيده رواية مسلم عن عبد الله بن عمرو، ورفعه "أن المُقْسِطِين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا" وأحسن ما فسر به العادل "أنه الذي يتّبع أمر الله تعالى، بوضع كل شيء في موضعه من غير إفراط ولا تفريط، وقدمه في الذكر لعموم النفع به، فالإمام العادل يصلح الله به أمورًا عظيمة. وقوله: وشاب، خص الشاب، وهو مَن لم يبلغ الأربعين، لكونه مظنة غلبة الشهوة، لما فيه من قوة الباعث على متابعة الهوى، فإن ملازمة العبادة مع ذلك أشد، وأدل على غلبة التقوى. وقوله: في عبادة ربه، في رواية أحمد "بعبادة الله" وهي رواية مسلم، وهما بمعنى، وأخرجه الجَوْزَقيّ بزيادة "حتى توفي على ذلك" وفي حديث سلمان "أفنى شبابه ونشاطه في عبادة الله" وقوله: معلق في المساجد، هكذا هو في الصحيحين، وظاهره أنه من التعليق، كأنّه شبهه بالشيء المعلق في المسجد كالقنديل مثلًا، إشارة إلى طول الملازمة بقلبه، وإن كان جسده خارجًا عنه، ويدل عليه الجوزقيّ "كأنما قلبه معلق في المسجد" ويحتمل أن يكون من العلاقة، وهي شدة الحب. وتدل عليه رواية أحمد "معلق في المساجد" وكذا رواية سلمان "من حبها"وزاد مالك "إذا خرج منه يعود إليه" وفي رواية المُسْتَمِلْي والحَمَوِيّ، متعلقإ بزيادة مثناة بعد الميم وكسر اللام، وهذه الخصلة هي المقصودة من هذا الحديث للترجمة، ومناسبتها للركن الثاني من الترجمة، وهو فضل المساجد، ظاهرة. وللأول من جهة ما دل عليه من

الملازمة للمسجد، واستمرار الكون فيه بالقلب، وإن عرض للمسجد عارض. وقوله: تحابّا، بتشديد الباء، وأصله تحاببا، أي اشتركا في جنس المحبة، وأحب كل واحد منهما الآخر حقيقة، لا إظهارًا فقط. وفي رواية حماد بن زيد "ورجلان قال كل منهما للآخر أنا أحبك في الله، فصدرا على ذلك" وقوله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه، في رواية الكُشْمِيْهَنيّ "اجتمعا عليه" وهي رواية مسلم، أي على الحب المذكور، والمراد أنهما داما على المحبة الدينية، ولم يقطعاها بعارض دنيوي، سواء اجتمعا حقيقة أم لا، حتى فرّق بينهما الموت. وفي الجمع للحميدي "اجتمعا على خير" قال في الفتح: ولم أر ذلك في شيء من نسخ الصحيحين، ولا غيرهما من المستخرجات، وإنما عدت هذه الخصلة واحدة، مع أن متعاطيها اثنان؛ لأن المحبة لا تتم إلا باثنين، أو لما كان المتحابان بمعنى واحد، كان عد أحدهما مغنيًا عن عد الآخر؛ لأن الغرض عد الخصال لا عد من اتصف بها. وقوله: رجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال، ولمسلم والمصنف في الحدود عن ابن المبارك "دعته امرأة" وكذا في رواية أحمد ببيان المحذوف هنا، والمَنْصِب بفتح الميم وكسر الصاد المهملة، الأصل أو الشرف. وفي رواية مالك "دعته ذات حسب" وهو يطلق على الأصل وعلى المال أيضًا. وقد وصفها بأكمل الأوصاف التي جرت العادة بمزيد الرغبة لمن تحصل فيه، وهو المنصب الذي يستلزمه الجاه، والمال مع الجمال، وقيل من يجتمع ذلك فيها من النساء، زاد ابن المبارك "إلى نفسها". وللبَيْهَقِي في الشُّعَب عن أبي هُرَيرة "فعرضت نفسها عليه" والظاهر أنها دعته إلى الفاحشة، وبه جزم القرْطبيّ، ولم يحك غيره، وقيل: يحتمل أن تكون دعته إلى التزويج بها فخاف أن يشتغل عن العبادة بالافتتان بها أو خاف أن لا يقوم بحقها، لشغله بالعبادة عن التكسب بما يليق بها، والأول أظهر، ويؤيده وجود الكناية في قوله "إلى نفسها"، ولو كان المراد التزويج لصرح به، ويقوّيه جدًا قوله في جوابها: إني أخاف الله، فإن خوف الله لا يحصل من التزويج الذي هو سنة المرسلين، والصبر عن الموصوفة بما ذكر

من أكمل المراتب لكثرة الرغبة في مثلها وعسر تحصيلها، لاسيما وقد أغنت عن مشاق التوصل إليها بمراودة ونحوها. وقوله: إني أخاف الله، زاد في رواية كريمة "رب العالمين" والظاهر أنه يقول ذلك بلسانه، إما ليزجرها عن الفاحشة، أو ليعتذر إليها. ويحتمل أن يقوله بقلبه، قاله عِيَاض. قال القُرْطبيّ: إنما يصدر ذلك عن شدة خوف من الله تعالى، ومتين تقوى وحياء. وقوله: تصدق أخفى، بلفظ الماضي جملة حالية بتقدير "قد" وفي رواية أحمد "تصدق فأخفى" وكذا للمصنف في الزكاة بلفظ "تصدق بصدقة .. فأخفاها" ومثله لمالك في الموطأ، فالظاهر أن راوي الأُولى حذف العاطف، وفي رواية الأصيلي "تصدق إخفاء" بكسر الهمزة ممدودًا على أنه مصدر، أو نعت لمصدر محذوف، ويحتمل أن يكون حالًا من الفاعل أي مختفيًا. وقوله: بصدقة، نكّرها ليشمل كل ما يتصدق به من قليل أو كثير، وظاهره أيضًا يشمل المندوبة والمفروضة، لكن نقل النَّوويّ عن العلماء أن إظهار المفروضة أولى من إخفائها؛ لأنها من شعائر الإِسلام، وليقتدي به غيره. وقوله: حتى لا تعلمُ، بفتح الميم وضمها، نحو مرض حتى لا يرجونه، وسرت حتى تغيبُ الشمس. وقوله: شماله ما تنفق يمينه، شماله فاعل تعلم، هكذا وقع في معظم الروايات، ووقع في مسلم مقلوبًا "حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله" ووجه القلب هو أن السنة المعهودة في الصدقة إعطاؤها باليمين، وقد ترجم عليه البُخاريّ في الزكاة باب الصدقة باليمين، وهذا النوع الواقع في مسلم من أنواع علوم الحديث يسمّى بالمقلوب، وسماه بعضهم بالمعكوس، والأولى تسميته مقلوبًا، فيكون المقلوب تارة في الإسناد وتارة في المتن، كما قالوا في المدرج سواء. وقد أفرد ابن الصلاح المقلوب، ولكنه قصره على مقلوب الإسناد. قال "في الفتح": لم نجد هذا الحديث من وجه من الوجوه إلا عن أبي هُرَيْرَةَ، إلا ما وقع عند مالك من التردد: هل هو عنه أو عن أبي سعيد كما مرَّ، ولم نجده عن أبي هُريرة إلا من رواية حفص، ولا عن حفص إلا من رواية

خبيب. وأخرجه البيهقيّ في الشعب بإسناد حسن في المتابعات، ووافق في قوله "تصدق بيمينه" وفي مسند أحمد بإسناد حسن عن أنس مرفوعًا "أن الملائكة قالت: رب هل من خلقك شيء أشد من الجبال؟ قال: نعم، الحديد، قالت: فهل أشد من الحديد؟ قال: نعم، النار. قالت: فهل أشد من النار؟ قال: نعم، الريح. قالت: فهل أشد من الريح؟ قال: نعم، ابن آدم، يتصدق بيمينه فيخفيها عن شماله". ثم إن المقصود من الحديث المبالغة في إخفاء الصدقة بحيث إن شماله مع قربها من يمينه، وتلازمها، لو تصور أنها تعلم لما علمت ما فعلت اليمين، لشدة إخفائها، فهو على هذا من مجاز التشبيه. ويؤيده رواية حماد بن زيد عند الجوزقي "تصدق بصدقة كأنما أخفى يمينه عن شماله" ويحتمل أن يكون من مجاز الحذف، والتقدير: حتى لا يعلم ملك شماله، وأبعد من زعم أن المراد بشماله نفسه، وأنه من تسمية الكل باسم الجز، فإنه ينحل إلى أن نفسه لا تعلم ما تنفق نفسه. وقيل: هو من مجاز الحذف، والمراد بشماله من على شماله من الناس، كأنّه قال: مجاور شماله، وقيل المراد أنه لا يرائي بصدقته، فلا يكتبها كاتب الشمال. وحكى القرطبيّ أن معناه أن يتصدق على الضعيف المكتسب في صورة الشراء لترويج سلعته، أو رفع قيمتها واستحسنه، فإن أراد أن هذه الصورة مراد الحديث خاصة فغير صحيح، وإن أراد أنها من صور الصدقة المخفية فمسلم. وقوله: ذكر الله، أي بقلبه من التذكر، أو بلسانه من الذكر. وقوله: خاليًا، من الخلو؛ لأنه يكون حينئذٍ أبعد من الرياء، والمراد خاليًا من الالتفات إلى غير الله تعالى، ولو كان في ملأ ويؤيده رواية البَيْهَقِيّ "ذكر الله بين يديه" ويؤيد الأول رواية ابن المبارك وحماد بن زيد "ذكر الله في خلاء" أي في موضع خال، وهو أصح. وقوله: "ففاضت عيناه" أي فاضت الدموع من عينيه، وأسند الفيض إلى العين مبالغة كأنها هي التي فاضت. قال القُرْطُبيّ: فيض العين بحسب حال الذاكر، ويحسب ما يكشف له، ففي حال أوصاف الجلال يكون البكاء خشية الله، وفي حال أوصاف الجمال يكون البكاء من الشوق. وقد جاء في بعض

الروايات تخصيصه بالأول، فعند الجوزقيّ من رواية حماد بن زيد "ففاضت عيناه من خشية الله" ونحوه في رواية البَيْهَقِيّ، وعند الحاكم عن أنس مرفوعًا "من ذكر الله ففاضت عيناه من خشية الله حتى يصيب الأرض من دموعه لم يعذب يوم القيامة" وذكر الرجال في هذا الحديث لا مفهوم له، فإن النساء يشتركن معهم فيما ذكر، إلا إن كان المراد بالإمام العادل الإمامة العظمى، وإلا فيمكن دخول المرأة، حيث تكون ذات عيال فتعدل فيهم، وتخرج خصلة ملازمة المسجد لأن صلاة المرأة في بيتها أفضل من المسجد، وما عدا ذلك فالمشاركة حاصلة لهن، حتى الرجل الذي دعته المرأة، فإنه يتصور في امرأة دعاها مَلِك جميل مثلًا فامتنعت خوفًا من الله تعالى مع حاجتها، أو شاب جميل دعاه ملك إلى أن يزوجه ابنته مثلًا، فخشي أن يرتكب منه الفاحشة، فامتنع مع حاجته. وحكم الصوم كحكم الصدقة، إعلان الفريضة منه أفضل، وإخفاء النوافل أفضل، واختلف في السنن كالوتر وركعتي الفجر، هل إعلانهما أفضل أم كتمانهما؟ وفيه فضل ملازمة المسجد للصلاة مع الجماعة؛ لأن المسجد بيت الله وبيت كل تقي، وحقيق على المزور، إكرام الزائر، فكيف بأكرم الكرماء؟ وفيه فضيلة التحاب في الله، فإن الحب في الله، والبغض في الله تعالى، من الإيمان، وعند مالك من الفرائض. وروى ابن مسعود والبراء بن عازب مرفوعًا "أن ذلك من أوثق عُرى الإيمان" وروى ثابت عن أنس، رفعه "ما تحابَّ رجلان في الله إلا كان أفضلهما أشدهما حبًا لصاحبه" وروى أبو رزين قال قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يا أبا رزين: إذا خلوت حرك لسانك بذكر الله، وأحب في الله، وأبغض في الله، فإن المسلم إذا زار في الله شيعه سبعون ألف ملك، يقولون: اللهم وصله فيك فصله. ومن فضل المتحابين في الله أن كل واحد منهما إذا دعا لأخيه بظهر الغيب، أمَّن المَلَكُ على دعائه" رواه أبو داود مرفوعًا، وفيه فضيلة من يخاف الله، قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)} [النازعات: 40، 41]. وقال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)} [الرحمن: 46]. وروى أبو معمر عن كعب الأحبار قال: إن في الجنة لدارا، درة فوق درة،

رجاله ستة

ولؤلؤة فوق لؤلؤة، فيها سبعون ألف قصر، في كل قصر سبعون ألف دار، في كل دار سبعون ألف بيت، لا ينزلها إلا نبي أو صديق أو محكم في نفسه أو إمام عادل. قال سَلمة: فسألت عُبَيْدًا عن المحكم في نفسه، قال: هو الرجل يطلب الحرام من النساء أو من المال، فيعرض له، فإذا ظفر به تركه مخافة الله تعالى، فذلكم المحكم في نفسه، وفيه فضيلة ذكر الله تعالى في الخلوات مع فيضان الدمع من عينه. وروى أبو هُرَيرَة مرفوعًا "لا يلج النار أحدكم بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضَّرْع" وروى أبو عمران عن أبي الخُلد قال "قرأت في مسألة داود عليه الصلاة والسلام ربه تعالى: ما جزاء من بكى من خشيتك حتى تسيل دموعه على وجهه؟ قال: أسَلِّم وجهه من لفح النار". رجاله ستة: الأول: مُحَمَّد بن بَشار، وقد مرَّ في الحادي عشر من العلم، ومرَّ يحيى بن سَعيد القطّان في السادس من الإيمان، ومرَّ عُبيد الله بن عمر العُمَرِيّ في الرابع عشر من الوضوء، ومرَّ خُبَيْبُ بن عبد الرحمن، وحَفْص بن عاصم في الثاني والستين من المواقيت، ومرَّ أبو هُرَيْرَةَ في الثاني من الإيمان. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين والإفراد في أربعة مواضع، والقول في موضعين، ورواية الرجل عن خاله وجده، ورواته بصريان، وهما محمد ويحيى، والبقية مدنيون. أخرجه البُخَاريّ هنا وفي الزكاة والرِّقاق والمحاربين، ومسلم في الزكاة والتِّرمِذِيّ في الزُّهْد والنَّسائيّ في القضاء والرقاق.

الحديث الخامس عشر

الحديث الخامس عشر حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ سُئِلَ أَنَسٌ هَلِ اتَّخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- خَاتَمًا فَقَالَ نَعَمْ، أَخَّرَ لَيْلَةً صَلاَةَ الْعِشَاءِ إِلَى شَطْرِ اللَّيْلِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ بَعْدَمَا صَلَّى فَقَالَ: صَلَّى النَّاسُ وَرَقَدُوا وَلَمْ تَزَالُوا فِي صَلاَةٍ مُنْذُ انْتَظَرْتُمُوهَا. قَالَ فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ خَاتَمِهِ. قوله: سئل أَنَسٌ، تقدم التصريح بسماع حميد له من أنس في باب وقت العشاء. وقوله: صلى الناس، أي غير المخاطبين ممن صلى في داره ومسجد قبيلته، ويسأنس به لمن قال إن الجماعة غير واجبة، وهذا الحديث مرَّ الكلام عليه، ومرَّ الكلام على الخاتم في باب ما يذكر في المناولة، وكتاب أهل العلم بالعلم للبلدان، والكلام على فضل انتظار الجماعة في باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين، من كتاب الوضوء وفي باب الحدث في المسجد من أبواب المساجد. رجاله أربعة: الأول: قُتَيْبة، وقد مرَّ في الحادي والعشرين من الإيمان، ومرَّ حُمَيد في الثاني والأربعين منه، ومرَّ أَنَسٌ في السادس منه، ومرَّ إسماعيل بن أبي جَعْفر في السادس والعشرين منه. ثم قال المصنف: باب فضل من غدا إلى المسجد ومن راح هكذا للأكثر موافقًا للفظ الحديث في الغُدُوّ والرواح، ولأبي ذَرٍّ بلفظ "خرج" بدل غدا، وله عن المُسْتَمِلي والسَّرخَسِيّ بلفظ "من يخرج" بصيغة

المضارع، وعلى هذا فالمراد بالغدو الذهاب، وبالرواح الرجوع، والأصل في الغدو المضي من بُكرة النهار، والرواح بعد الزوال، ثم قد يستعملان في كل ذهاب ورجوع توسعًا.

الحديث السادس عشر

الحديث السادس عشر حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُطَرِّفٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ وَرَاحَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ نُزُلَهُ مِنَ الْجَنَّةِ كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ. قوله: أعد الله، أي هيأ له، وقوله: نزله من الجنة، للكُشْمِيْهَنِيّ "نزلا" بالتنكير، والنُّزُل بضم النون والزاي: المكان الذي يهيأ للنزول فيه، وبسكون الزاي ما يهيأ للقادم من الضيافة ونحوها، فعلى هذا "من" في قوله "من الجنة" للتبعيض على الأول، وللتبيين على الثاني. ورواه مسلم وابن خُزَيْمَةَ وأحمد بلفظ "نزلا" كرواية الكُشْمِيْهَنيّ، وهو محتمل للمعنيين، وقوله: كلما غدا أو راح، أي بكل غدوة وروحة، وفي بعض الروايات "وراح" بواو العطف، والفوق بين الروايتين أنه على الواو لابد له من الأمرين حتى يعدّ له النزاع، وعلى كلمة "أو" يكفي أحدهما في الإعداد. وقيل: الغُدُوّ والرَّواح في الحديث كالبكرة والعشي في قوله تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62] يراد بهما الدَّيْمُومة لا الوقتان المعينان. وظاهر الحديث حصول الفضل لمن أتى المسجد مطلقًا، لكن المقصود منه اختصاصه بمن يأتيه للعبادة والصلاة رأسها. رجاله ستة: الأول: عليّ بن عبد الله المَدِينيّ، وقد مرَّ في الرابع عشر من العلم، ومرَّ يزيد بن هارون في الخامس عشر من الوضوء. الثالث: محمد بن مُطَرِّف بن عبد الله بن سَارية التّيْمِيّ اللّيْثيّ أبو غسّان المَدَنِيّ. يقال إنه من موالي عمر، نزل عَسْقَلان، أحد الأثبات العلماء، كان

باب إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة

من أهل وادي القُرى، قدم بغداد أيام المَهْديّ، وقال يزيد بن هارون: حدثنا محمد بن مطرف وكان ثقة، وقال أحْمَد وأبو حاتم ويعقوب بن شَيْبَةَ: ثقة، وقال أبو حاتم: لا بأس به، وقال: ذكره أحمد فجعل يثني عليه. وقال ابن مَعين: ثقة ثبت شيخ، وفي رواية عنه: أرجو أن يكون ثقة. وقال أبو داود والنَّسائيّ: كان شيخًا صالحًا، وذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال: يغرب. روى عن زيد بن أسلم ومحمد بن الْمنكدِر وأبي حازم سَلَمة بن دينار وحسان بن عطية وغيرهم. وروى عنه إبراهيم بن أبي عَبْلة وهو أكبر منه، والثَّوْرِيّ، وهو من أَقْرانه، وابن المُبارك وابن وَهْب وعَلِي بن عياش وغيرهم، وليس في الستة مُحَمْد بن مُطَرِّف سواه. الرابع والخامس: زَيْد بن أَسْلَم، وعَطَاء بن يَسَار، وقد مرا في الثاني والعشرين من الإيمان، ومرَّ أبو هُرَيرة في الثاني منه. ثم قال المصنف: باب إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة هذه الترجمة لفظ حديث أخرجه مسلم وأصحاب السنن وابن خُزَيْمَةَ وابن حِبّان، عن عمرو بن دينار عن أبي هُريرة، واختلف على عمرو بن دينار في رفعه ووقفه، وقد قيل إن ذلك هو السبب في كون البخاري لم يخرجه، ولما كان الحكم صحيحًا ذكره في الترجمة، وأخرج في الباب ما يغني عنه، لكن حديث الترجمة أعم من حديث الباب، لأنه يشمل الصلوات كلها، وحديث الباب يختص بالصبح كما سنوضحه. ويحتمل أن تكون اللام في حديث الترجمة عهدية فيتفقان، هذا من حيث اللفظ، وأما من حيث المعنى فالحكم في جميع الصلوات واحد. وقد أخرجه أحمد من وجه آخر بلفظ "فلا صلاة إلا التي أقيمت". وقوله: إذا أقيمت، أي إذا شرع في الإقامة، كما أخرجه ابن حِبّان تصريحًا عن عمرو بن في ينار بلفظ "إذا أخذ المؤذن في الإقامة". وقوله: فلا صلاة، أي صحيحة، أي كاملة، والتقدير الأول أَولى لأنه أقرب إلى نفي الحقيقة، لكن لم

يقطع النبي -صلى الله عليه وسلم- صلاة المصلي، واقتصر على الإنكار، دل على أن المراد نفي الكمال، ويحتمل أن يكون النفي بمعنى النهي، أي فلا تصلوا حينئذ. ويؤيده ما رواه البُخاريّ في التاريخ، والبزار عن أنس مرفوعًا في نحو حديث الباب، وفيه "ونهى أن يصليا إذا أقيمت الصلاة" وورد بصيغة النَّهْي أيضًا عند أحمد عن ابن بُحينة في قصته هذه فقال: "لا تجعلوا هذه الصلاة مثل الظهر، واجعلوا بينهما فصلًا" والنهي المذكور للتنزيه، لما مرَّ من كونه لم يقطع صلاته. وقوله: إلا المكتوبة، فيه منع التنقل بعد الشروع في إقامة الصلاة، سواء كانت راتبة أم لا؛ لأن المراد بالمكتولة المفروضة، وزاد مسلم عن عمرو بن دينار في هذا الحديث "قيل: يا رسول الله، ولا ركعتي الفجر؟ قال: ولا ركعتي الفجر" والمفروضة تشمل الحاضرة والفائتة، لكن المراد الحاضرة، صرح بذلك أحمد والطحاويّ عن أبي هريرة بلفظ "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا التي أقيمت". والحكم عن المالكية هو ما ذكر في هذا الحديث، فإنه يحرم عندهم على المشهور ابتداء صلاة بعد إقامة الإِمام الراتب، وقيل يكره، وإن أقيمت على مُصَلٍّ وهو في صلاة قطع ما هو فيها إن خشي فوات ركعة من المقامة، وإن لم يخشَ ذوات ركعة أتم النافلة وفريضة غير المقامة، وان كان في المُقامة وهو لا يخشى ذوات ركعة إن كان عقد الركعة الأولى أضاف لها ثانية وانصرف عن شفع، وإن كان في الثالثة انصرف عن شفع إلا في المغرب، فإنه يتمها مغربًا لعدم مشروعية التنفل حينئذ، كما أنه إذا عقد ركعة منها أو من الصبح لا يكملها شفعاً للعلة المذكورة، بل يقطعها ويدخل مع الإِمام، والقطع لابد فيه من سلام أو مناف للصلاة.

الحديث السابع عشر

الحديث السابع عشر حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ ابْنِ بُحَيْنَةَ قَالَ مَرَّ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِرَجُلٍ. قَالَ وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ حَدَّثَنَا بَهْزُ بْنُ أَسَدٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ سَمِعْتُ حَفْصَ بْنَ عَاصِمٍ قَالَ سَمِعْتُ رَجُلاً مِنَ الأَزْدِ يُقَالُ لَهُ مَالِكٌ ابْنُ بُحَيْنَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَأَى رَجُلاً وَقَدْ أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لاَثَ بِهِ النَّاسُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الصُّبْحَ أَرْبَعًا، الصُّبْحَ أَرْبَعًا. قوله: مر النبي -صلى الله عليه وسلم- برجل، لم يسق المصنف لفظ رواية إبراهيم بن سعد، بل تحول إلى رواية شُعْبةَ، فأوهم أنهما متوافقتان، وليس كذلك، فقد ساق مسلم رواية إبراهيم بن سَعْد بالسند المذكور، ولفظه "مرَّ برجل يصلي وقد أقيمت صلاة الصبح" فكلمه بشيء لا ندري ما هو، فلما انصرفنا أحطنا به نقول: ماذا قال لك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال قال لي "يوشك أحدكم أن يصلي الصبح أربعًا" ففي هذا السياق مخالفة لسياق شعبة، في كونه -صلى الله عليه وسلم- كلم رجلًا وهو يصلي، ورواية شعبة تقتضي أنه كلمه بعد أن فرغ، ويمكن الجمع بينهما بأنه كلمه أولًا سرًا، فلهذا احتاجوا أن يسألوه، ثم كلمه ثانيًا جهرًا فسمعوه، وفائدة التكرار تأكيد الإنكار، ثم قال: وحدثني إلخ. هذا إسناد آخر في الحديث الأول، وفي بعض النسخ ذكر حاء التحويل، وقوله: سمعت رجلًا من الأزْد، في رواية الأصيلي "من الأسْد" بالمهملة الساكنة بدل الزاي الساكنة، وهي لغة صحيحة. وقوله: يقال له مالك بن بُحينة، هكذا يقول شُعْبَة في هذا الصحابيّ وتابعه على ذلك أبو عَوانةَ وحماد بن سلمة وحكم

الحفّاظ يحيى بن مَعين وأحمد والبخاريّ ومسلم والنَّسائيّ، وغيرهم عليهم بالوهم فيه في موضعين أحدهما أن بحينة والدة عبد الله لا مالك، والثاني أن الصحبة والرواية لعبد الله لا لمالك. قال ابن سعد قدم مالك بن القِشْب مكة، يعني في الجاهلية، فحالف بني المطلب بن عبد مناف، وتزوج بُحينة بنت الحارث بن المطلب واسمها عَبْدَة، وبُحيْنَةُ لقب، وأدركت بحيْنَةُ الإِسلام. وأسلمت وصحبت، وأسلم ولدها عبد الله. وعلى أنها أم عبد الله ينبغي أن يكتب ابن بُحَيْنَةَ بزيادة ألف، ويعرب إعراب عبد الله، كما في عبد الله بن أُبيّ بن سَلُول، ومحمد بن عَليّ بن الحَنَفية. وقوله: رأى رجلًا، هو عبد الله الراوي كما رواه أحمد عن محمد بن عبد الرحمن بن ثَوبان عنه "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرَّ به وهو يصلي" وفي رواية أخرى له "خرج وابن القِشْب يصلي" ووقع نحو هذه القصة لابن عباس أيضًا قال: "كنت أصلي وأخذ المؤذن في الإقامة، فجذبني النبيّ -صلى الله عليه وسلم- وقال: أتصلي الصبح أربعًا" أخرجه ابن خُزَيْمة وابن حِبَّان والبَزَّاز والحاكم وغيرهم، فيحتمل تعدد القصة. وقوله: لاث، مثلثة خفيفة، أي دار وأحاط. قال ابن قُتيبة: أصل اللوث الطي يقال لاث عمامته إذا أدارها. وقوله: به الناس، ظاهره أن الضمير للنبي -صلى الله عليه وسلم-، لكن طريق إبراهيم بن سعد المتقدمة تبين أن الضمير للرجل، وقوله: آلصبح أرْبعًا، بهمزة ممدودة في أوله، ويجوز قصرها، وهي استفهام إنكار، وأعاده تأكيدًا للإنكار، والصبحَ بالنصب بإضمار "أتصلي" الصبح، وأربعًا منصوب على الحال، وقيل على البدلية، ويجوز الرفع، أي الصبحُ تصلى أربعًا؟ واختلف في حكمة هذا الإنكار، فقال عياض: لئلا يتطاول الزمان فيظن وجوبها، ويؤيده قوله في رواية إبراهيم بن سَعْد "يوشك أحدكم أن يصلي الصبح أربعًا" وعلى هذا إذا حصل الأمن لا يكره ذلك، وهو متعقب بعموم حديث

الترجمة. وقال النوويّ: فيه أن يتفرع للفريضة من أولها، فيشرع فيها عقب شروع الإِمام، والمحافظة على مكملات الفريضة أَولى من التشاغل بالنافلة، وقيل لئلا تلتبس صلاة الفرض بالنفل، وقيل: الحكمة في الإنكار هي عدم الفصل بين الفرض والنفل، لئلا يلتبسا، وإلى هذا جنح الطَّحَاويّ، واحتج له بالأحاديث الواردة بالأمر بذلك، وتعقبه في الفتح قائلاً: لو كان المراد مجرد الفصل بين الفرض والنفل لم يحصل إنكار أصلًا؛ لأن ابن بحينة سلّم من صلاته قطعًا، ثم دخل في الفرض، وتعقب هذا الاستدلال بأن المراد فصل بغير السلام طويل، لا مجرد السلام. ثم قال: ويدل على ذلك حديث قيس بن عمر الذي أخرجه أبو داود وغيره "إذا صلى ركعتي الفجر بعد الفراغ من صلاة الصبح، فلما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- حين سأله، لم ينكر عليه قضاءها بعد الفراغ من صلاة الصبح" متصلًا فدل على أن الإنكار على ابن بُحَيْنَة إنما كان للتنفل حال صلاة الفرض، وهو موافق لعموم حديث الترجمة، وقد مرَّ عنده تحرير مذهب المالكية، وأنهم استدلوا به على أن لا تُبتدأ صلاة بعد الإقامة، واستدلوا بقوله أيضًا "فلا صلاة إلا المكتوبة" على قطع الصلاة التي هو فيها إذا أقيمت صلاة الراتب. قال ابن عبد البَرّ وغيره: الحجة عند التنازع السنة، فمن أدلى بها فقد أفلح وترك التنفل عند إقامة الصلاة، وتداركها بعد أداء الفرض أقرب إلى اتباع السنة، ويتأكد ذلك من حيث المعنى، بأن قوله في الإقامة "حي على الصلاة" معناه: هلموا على الصلاة التي يقام لها، فأسعد الناس بامتثال هذا الأمر من لم يتشاغل عنه بغيره. وقالت الشافعية والحنابلة بكراهة صلاة ركْعَتَي الفجر عند الإقامة، مستدلين بحديث الترجمة. وقال أبو حامد وكثير من الشافعية: إنه يقطع النافلة إذا أقيمت الفريضة، وخص آخرون منهم النَّهْيَ بمن ينشىء النافلة عملًا بعموم قوله تعالى: {وَلاَ تُبْطِلُوا أعْمَالَكُم} [محمد: 33] وقيل: يفرق بين من يخشى فوت الفريضة في الجماعة فيقطع، وإلا فلا. وقالت الحنفية: لا بأس أن يصليهما خارج المسجد عند بابه، إذا تيقن أنه يدرك الركعة الأخيرة مع الإِمام، لأنه أمكنه الجمع بين الفضيلتين، فضيلة السنة وفضيلة الجماعة، وإنما قيدوا

رجاله تسعة

بباب المسجد لأنه لو صلاهما في المسجد كان متنفلًا فيه مع اشتغال الإِمام بالفرض، وذلك مكروه لقوله عليه الصلاة والسلام "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوب" وخصت سنة الفجر بهذا لقوله -صلى الله عليه وسلم- "لا تدعوها وإن طردتكم الخيل" رواه أبو داود عن أبي هُرَيرة، وإذا لم يكن عند باب المسجد موضع يصليهما فيه، صلاهما في المسجد خلف سارية من سواريه، خلف الصف. وأشدها كراهة أن يصليهما مخالطًا للصف مخالفًا للجماعة، والذي يلي ذلك خلف الصف من غير حائل بينه وبين الصف، وفي "المحيط" قيل: يكره ذلك كله؛ لأنه بمنزلة مسجد واحد، وقد فهم ابن عمر اختصاص المنع بمن يكون في المسجد لا خارجًا عنه، فصح عنه أنه كان يحصب من يتنفل في المسجد بعد الشروع في الإقامة، وصح عنه "أنه قصد المسجد فسمع الإقامة، فصلى ركعتي الفجر في بيت حفصة، ثم دخل المسجد فصلى مع الإِمام" واستدل بقوله "التي أقيمت" على أن المأموم لا يصلي فرضًا ولا نفلًا خلف من يصلي فرضًا آخر، كالظهر مثلًا خلف من يصلي العصر، وإن جازت إعادة الفرض خلف من يصلي الفرض. رجاله تسعة: الأول: عبد العزيز الأُوَيْسِيّ، وقد مرَّ في الأربعين من العلم، ومرَّ إبراهيم بن سَعْد في السادس عشر من الإيمان، ومرَّ حَفْصُ بن عُمَر في الثاني والستين من المواقيت. ومرَّ عبد الله بن مالك في الثاني والأربعين من الصلاة، ومرَّ سعد بن إبراهيم أبو إبراهيم في السابع والأربعين من الوضوء، ومرَّ بَهْز بن أسَد في الرابع من الغُسل، ومرَّ شُعْبَةُ في الثالث من الإيمان. الثامن من السند: عبد الرحمن بن بِشر بن الحَكَم بن حَبيب بن مِهْران العَبْدِيّ، أبو محمد النَّيْسَابوريّ قال صالح بن محمد: صدوق، وقال أبو بكر الجَارُوديّ: كان يحيى بن سعيد يحله محل الولد، وقال الحاكم: العالم ابن العالم ابن العالم. وقال إبراهيم بن أبي طالب: سمعت عبد الرحمن بن بشر

يقول: حملني بِشْر بن الحَكَم على عاتقه في مجلس ابن عُيَيْنَة فقال: يا معشر أصحاب الحديث، أنا بِشر بن الحكم بن حبيب سمع أبي الحكم بن حَبيب من سُفيان، وقد سمعت أنا منه وحدثت عنه بخراسان، وهذا ابني عبد الرحمن قد سمع منه، وذكره في الثقات، وقال أبو جَعْفَر الزاهد: أمر عبد الله بن طاهر الأمير أن يكتب أسامي الأعيان بِنَيْسابُور، فكتبوا أسماء مئة مسن، وفيهم عبد الرحمن ثم قال: يختار من المئة عشرة، فكتبوهم وفيهم عبد الرحمن. ثم قال: يختار من العشرة أربعة، فاختيروا وفيهم عبد الرحمن، وقال ابن أبي حاتم: كتب إليّ ببعض فوائده، وكان صدوقًا ثقة. وقال مسدد بن قَطَن: لما مات محمد بن يحيى عقد مسلم مجلس الإملاء لخالي عبد الرحمن بن بشر، وانتقى عليه. وفي الزّهْرَة روى عنه البخاري ثلاثة أو أربعة، ومسلم ثلاثة وعشرين، روى عن ابن عُيَيْنَة وعبد الرّزّاق بن هَمّام، وبَهْز بن أسَد ويحيى القطّان والنضر بن شميل وغيرهم، وروى عنه البُخاريّ وأبو داود بن محمد الأَسَديّ وابن خُزَيْمَة وأبو عَوَانَةَ الأَسْفَرايِيني وغيرهم، مات سنة ستين ومئتين. التاسع: مالك بن بُحينة، قال ابن عبد البَرّ: لعبد الله ولأبيه مالك صحبه، وبحينة قيل: أم مالك، وقيل: أم ولده عبد الله، وتوفي عبد الله بن بُحينة أيام معاوية. وقال في الإصابة: لا أعرف لمالك شيئًا يتمسك به في أنه صحابي إلا حديثين اختلف بعض الرواة فيهما، هل هما لعبد الله أو لمالك؟ ولا ترجم البُخاري ولا ابن أبي حاتم ولا تبعهما لمالك في الصحابة قال: والصحيح أن الحديثين مرويان عن عبد الله، لا عن أبيه مالك، والحديثان أحدهما هذا، والثاني في السهو عن التشهد الأول، والحديثان كل منهما في الصحيحين. فيه التحديث بصيغة الجمع في أربعة مواضع، وبصيغة الإفراد في موضعين، والعنعنة في ثلاثة، والسماع في موضعين، والقول في سبعة، وفيه جاء التحويل، وقد مرَّ الكلام عليه في الرابع من الوحي، ورواته ما بين نَيْسابُوريّ وبَصْريّ ومَدَنيّ وواسِطيّ، وشيخ البخاريّ من أفراده، وفيه تابعيان: سَعْد بن

إبراهيم وحَفْص بن عاصم، وفيه صحابيان، على أن مالكًا صحابي راو هنا. أخرجه البُخاري هنا، ومسلم والنَّسائيّ وابن ماجَهَ في الصلاة. ثم قال: تابَعَهُ غُنْدَر ومُعَاذٌ عنْ شُعْبَة في مالكٍ. أي تابعا بَهْز بن أسَد في روايته عن شُعْبَة بهذا الإسناد، فقالا: عن مالك بن بُحينة، وفي رواية الكُشْمِيْهَنِيّ عن شُعْبَة عن مالك، أي بإسناده، والأول يقتضي اختصاص المتابعة بقوله: عن مالك بن بحينة، فقط. والثاني يشمل جميع الإسنادين والمتن، وهو الأَولى، لأنه الواقع في نفس الأمر. وغندر مرَّ في الخامس والعشرين من الإيمان، ومتابعته وصلها أحمد في مسنده، ومُعَاذ المراد به ابن مُعاذ، وقد مرَّ في تعليق بعد الثامن عشر من كتاب المواقيت، ومتابعته وصلها الإسماعيليّ من رواية عبيد الله بن مُعاذ عن أبيه. ثم قال: وقال ابن إسحاق: عن سَعْد عن حَفْص عن عبد الله بن بُحينَةَ. وهذه الرواية موافقة لرواية إبراهيم بن سعد عن أبيه، وهي الراجحة، وابن إسحاق هو محمد بن إسحاق بن يَسَار بن خيار، ويقال: كَوْمان المَدَنيّ أبو بكر، ويقال: أبو عبد الله المُطَّلِبيّ مولاهم، نزيل العراق، قال المُفَضَّل الفُلاحيّ: سألت ابن مَعين عنه فقال: كان ثقة وكان حسن الحديث، فقلت: إنهم يزعمون أنه رأى ابن المُسَيِّب؟ فقال: إنه لقديم. وقال ابن المَدِينيّ: مدار حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ستة فذكرهم، ثم قال: فصار علم السنة عند اثنين، فذكر ابن إسحاق فيهم. وقال ابن عُيينة: رأيت الزّهريّ قال لمحمد بن إسحاق: أين كنت؟ فقال: هل يصل إليك أحد؟ قال: فدعا حاجبه وقال: لا تحجبه إذا جاء وقال ابن شهاب: وسئل عن مَغَازِيه فقال: أعلم الناس بها. وقال عاصم بن عمر بن قتادة: لا يزال في الناس علم ما بقي ابن إسحاق. وقال أبو معاوية: كان ابن إسحاق من أحفظ الناس، فكان إذا كان عند الرجل خمسة أحاديث أو أكثر، فاستودعها ابن إسحاق. وقال عبد الله بن فائد: كنا إذا جلسنا إلى ابن إسحاق، فأخذ في فن من

العلم، قضى مجلسه في ذلك الفن. وقال الميْمُونيّ: حدثنا عبد الله بحديث استحسنته عن ابن إسحاق، فقلت له: يا أبا عبد الله، ما أحسن هذه القصص التي يجيىء بها ابن إسحاق، فتبسم إليّ متعجبًا. وقال عليّ بن المَدينيّ، عن ابن عُيينة قال: جالست ابن إسحاق منذ بضع وسبعين سنة، وما يتهمه أحد من أهل المدينة ولا يقول فيه شيئًا. قلت لسفيان: كان ابن إسحاق جالس فاطمة بنت المنذر؟ فقال: أخبرني ابن إسحاق أنها حدثته وأنه دخل عليها، وروى عن هشام بن عروة أنه قال: يحدث ابن إسحاق عن امرأتي فاطمة بنت المنذر، والله إنْ رآها قط. قال أحمد: لِمَ ينكر هشام، لعله جاء فاستأذن عليها فأذنت له ولم يعلم. وقال ابن الأَثْرَم عن أحمد: هو حسن الحديث. وقال مالك: دَجّال من الدجاجلة، وقال البخاريّ: رأيت علي بن عبد الله يحتج بحديث ابن إسحاق. قال: وقال عليّ: ما رأيت أحدًا يتهم ابن إسحاق. وقال يعقوب: سألت ابن المَدينيّ كيف حديث ابن إسحاق عندك؟ فقال: صحيح. قلت له: فكلام مالك فيه؟ قال: مالك لم يجالسه ولم يعرفه. ثم قال: على أي شيء حدث بالمدينة؟ قلت له: وهشام بن عروة قد تكلم فيه قال: على الذي قال هشام ليس بحجة، لعله دخل على امرأته وهو غلام فسمع منها. قال: على أن حديث ابن إسحاق لَيُتَبيَّنُ فيه الصدق، يروي مرة حدثني أبو الزّناد، وهو من أروى الناس عن سالم أبي النصر. وروى عن رجل عنه، وهو من أروى الناس عن عمرو بن شُعَيْب، وروى عن رجل عن أيوب عنه. وقال عمر بن عثمان: إن الزُّهْرِيّ، كان يتلقف المغازِي عن ابن إسحاق فيما يحدثه عن عاصم بن عمر بن قَتَادة، والذي يذكر عن مالك فيه لا يكاد يتبين، وكان إسماعيل بن أبي أُويس من اتبع من رأينا لمالك. أخرج إليّ كتب ابن إسحاق عن أبيه في المغازي وغيرها، فانتخبت منها كثيرًا، وكان عند إبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق نحو من سبعة عشر ألف في الأحكام، سوى المغازي، وإبراهيم بن سعد من أكثر أهل المدينة حديثًا في زمانه، ولو صح عن

مالك تناوله من ابن إسحاق فلربما تكلم الإنسان فيرمي صاحبه بشيء، ولا يتهمه في الأمور كلها، وقال محمد بن فُلَيْح: نهاني مالك عن شيخين من قريش، وقد أكثر عنهما في "الموطأ" وهما ممن يحتج بهما، قال: ولم ينج كثير من الناس من كلام بعض الناس فيهم، نحو ما يذكر عن إبراهيم من كلامه في الشعبى، وكلام الشَّعْبِيّ في عكرمة، ولم يلتفت أهل العلم في هذا النحو إلا ببيان وحجة، ولم تسقط عدالتهم إلا ببرهان وحجة. وقد قال شُعْبَةُ: ابن إسحاق أمير المؤمنين لحفظه، وفي رواية عنه: لو سُوِّد أحد في الحديث لَسُوِّد محمد بن إسحاق. وقال ابن سعد: كان ثقة، ومن الناس من تكلم فيه، وكان خرج من المدينة قديمًا فأتى الريّ والكوفة وبغداد، وأقام بها حتى مات، ورواته من أهل البلدان أكثر من رواته من أهل المدينة، لم يرو عنه منهم سوى إبراهيم بن سعد. وقال ابن عَدِيّ: ولمحمد بن إسحاق حديث كثير، وقد روى عنه أئمة الناس، ولو لم يكن له من الفضل إلا أنه صرف الملوك عن الاشتغال بكتب لا يحصل منها شيء، إلى الاشتغال بمغازي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومبعثه ومبدأ الخلق، لكانت هذه فضيلة سبق إليها. وقد صنف بعده قوم فلم يبلغوا مبلغه، وقد فتشت أحاديثه الكثيرة فلم أجد فيها ما يتهيأ أن يقطع عليه بالضعف، وربما أخطأ أو يهم في الشيء كما يخطىء غيره، وهو لا بأس به. وقال ابن المَدينيّ: لم أر لابن إسحاق إلا حديثين منكرين: نافع عن ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا نعس أحدكم يوم الجمعة" والزهري عن عروة عن زيد بن خالد "إذا مس أحدكم فرجه" والباقي، يعني المناكير، يقول في حديثه "ذكر فلان" ولكن هذا فيه حديثًا. وقال أيوب بن إسحاق: سألت أحمد إذا انفرد ابن إسحاق بحديث تقبله؟ قال: لا، والله، إني رأيته يحدث عن جماعة بالحديث الواحد، ولا يفصل كلام ذا من كلام ذا. قال أيوب: وكان ابن المدينيّ يثني عليه ويقدمه. وقال أبو داود: سمعت أحمد ذكر محمد بن إسحاق فقال: كان رجلًا يشتهي الحديث، فيأخذ كتب الناس فيضعها في كتبه. وقال أيضًا: كان ابن إسحاق يدلس إلا أن كتاب إبراهيم إذا

كان سماعًا قال: حدثني، وإذا لم يكن قال: قال. وقال: قدم ابن إسحاق بغدادَ، فكان لا يبالي عمن يحكي، عن الكلبي وغيره، فقيل له: أيما أحب إليك؟ ابن إسحاق أو موسى بن عُبَيْدة؟ فقال: ابن إسحاق. وقال أيضًا: ابن إسحاق ليس بحجة، وقال عبد الله بن أحمد: ما رأيت أبي أتقن حديثه قط، وكان يتتبعه بالعلو والنزول، قيل له: يحتج به؟ قال: لم يكن يحتج به في السنن. وقال عباس الدُّوريّ عن ابن مَعِين: ابن إسحاق ثقة، وليس بحجة. وقال يعقوب بن شَيْبَةَ: سألت ابن مَعين عنه فقلت: في نفسك من صدقه شيء؟ قال: لا، هو صدوق. وقال أبو زُرْعَة: قلت لابن مَعين، وذكرت له الحجة: محمد بن إسحاق منهم؟ فقال: كان ثقة، إنما الحجة مالك وعُبَيد الله بن عمر. وفي رواية عنه: ليس به بأس. وفي رواية: ليس بذلك ضعيف، وفي رواية: ليس بالقوي، وقال النَّسائي: ليس بالقويّ. وقال العِجْلي مدنيّ ثقة. وقال ابن يونس: قدم الإسكندربة، وروى عن جماعة من أهل مصر أحاديث لم يروها عنهم غيره فيما علمت، وقال ابن المدينيّ: ثقة لم يضعفه عندي إلا روايته عن أهل الكتاب، وكذبه سليمان التيميّ ويحيى القطّان، ووُهَيب بن خالد، فأما وُهَيب والقَطّان فقلدا فيه هشام بن عُرْوَة ومالكا وأما سليمان التيميّ فلم يتبين لي لأي شيء تكلم فيه، والظاهر أنه لأمر غير الحديث؛ لأن سليمان ليس من أهل الجرح والتعديل. قال ابن حِبّان في الثقات: تكلم فيه رجلان: هشام ومالك، فأما قول هشام فليس مما يجرح به الإنسان، وذلك أن التابعين سمعوا عن عائشة، من غير أن ينظروا إليها، وكذلك ابن إسحاق، كان سمع من فاطمة والستر بينهما مُسْبَل، وأما مالك، فإن ذلك كان منه مرة واحدة، ثم عاد له إلى ما يحب، ولم يكن يقدح فيه من أجل الحديث، إنما كان ينكر تتبعه غزوات النبي -صلى الله عليه وسلم- من أولاد اليهود الذين أسلموا، وحفظوا قصة خيبر وغيرها، وكان ابن إسحاق يتتبع هذا منهم من غير أن يحتج بهم، وكان مالك لا يرى الرواية إلا عن متقن، ولما سُئِل ابن المبارك عنه قال: إنّا وجدناه صدوقًا ثلاث مرات. قال ابن حبَّان: ولم يكن أحد

بالمدينة يقارب ابن إسحاق في علمه، ولا يوازيه في جمعه، وهو من أحسن الناس سياقًا للأخبار، إلى أن قال: وكان يكتب عن من هو فوقه ومثله ودونه، فلو كان ممن يستحل الكذب لم يحتج إلى النزول، فهذا يدلك على صدقه، وذكر عند يحيى بن يحيى فَوَثَّقه. وقال الدارقُطنيّ: اختلف الأئمة فيه، وليس بحجة، إنما يعتبر به. وقال أبو يَعْلى الخَليليّ: ابن إسحاق عالم كبير، وإنما لم يخرج له البُخاريّ من أجل رواياته المطولات. وقد استشهد به وأكثر عنه فيما يحكي في أيام النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفي أحواله، وفي التواريخ، وهو عالم واسع العلم ثقة. وقال ابن البَرْقيّ: لم أر أهل الحديث يختلفون في ثقته وحسن حديثه وروايته. وفي روايته عن نافع بعض الشيء وقال أبو حاتم: يكتب حديثه، وقال أبو زرعة: صدوق. وقال محمد بن يحيى: هو حسن الحديث عنده غرائب. وروى عن الزُّهريّ فأحسن الرواية. وقال البُوشَنْجيّ: هو عندنا ثقة ثقة، وقال البُخاريّ: محمد بن إسحاق ينبغي أن يكون عنده ألف حديث ينفرد بها، وقال مصعب: كانوا يطعنون عليه بشيء من غير جنس الحديث. وقال أبو زُرعة الدّمشقيّ: ابنُ إسحاق رجل أجمع الكبراء من أهل العلم على الأخذ عنه، وقد اختبره أهل الحديث مرارًا صدقًا وخيرًا مع مدحه ابن شهاب له، وقد ذاكرت دخيمًا قول مالك فيه، فرأى أن ذلك ليس للحديث، إنما هو اتهمه بالقدر. وقال الدَّراوَرْدِيّ: جلِدَ ابنُ إسحاق في القدر. وقال الجَوْزجَانيّ: الناس يشتهون حديثه، وكان يرمى بغير نوع من البدع، وقال محمد بن عبد الله بن نُمَير: كان محمد بن إسحاق يرمى بالقدر، وكان أبعد الناس منه. وقال: إذا حدث عمن سمع منه من المعروفين فهو حسن الحديث، صدوق، وإنما أُتي من أنه يحدث عن المجهولين أحاديث باطلة. رأى أَنسًا وابن سيرين وأبا سَلَمة عبد الرحمن، وروى عن أبيه وعَمَّيْه عبد الرحمن وموسى، والأعرج وعُبيد الله بن عمر والقاسم بن محمد والزُّهريّ وابن المُنكَدِر وغيرهم. وروى عنه يحيى بن سعيد الأنصاريّ ويزيد بن أبي حَبيب،

باب حد المريض أن يشهد الجماعة

وهما من شيوخه، وجرير بن حازم وابن عَوْن وأبو عَوَانة ويزيد بن زُرَيْع وغيرهم، مات سنة اثنتين أو ثلاث ومئة. ثم قال: وقالَ حمّادٌ: أخبرنا سَعْدٌ عنْ حَفْصٍ عَنْ مالكٍ. حماد: هو ابن سَلَمة كما جزم به المزيّ وآخرون، ووهم الكرماني في زعمه أنه حماد بن زيد، والمراد أن حمادًا وافق شعبة في قوله "عن مالك بن بُحيْنة" وقد وافقهما أبو عُوانة فيما أخرجه الإسماعيليّ عن قُتيبة عنه، لكن أخرجه مسلم والنَّسائيّ عن قُتيبة، فوقع في روايتهما عن ابن بُحَيْنَة مبهمًا، وكان ذلك وقع من قُتَيْبَة في وقت عمدًا ليكون أقرب إلى الصواب. قال أبو مسعود: أهل المدينة يقولون: عبد الله بن بُحينة، وأهل العراق يقولون: مالك بن بُحينة، والأول هو الصواب، فيحتمل أن يكون السهو فيه من سعد بن إبراهيم، لما حدث به بالطرق، وقد رواه القَعْنَبيّ عن إبراهيم بن سعد على وجه آخر من الوهم. قال: عن عبد الله بن مالك بن بُحينة عن أبيه قال مسلم في صحيحه قوله: عن أبيه، خطأ ظاهر، وكأنه لما رأى أهل العراق يقولون عن مالك بن بُحينة، ظن أن رواية أهل المدينة مرسلة، فوهم في ذلك، فليس يروي أبوه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- شيئًا. وهذا التعليق أخرجه الطَّحاويّ وابن مَنْدَه موصولًا. رجاله أربعة: الأول: حمّاد بن سَلَمة، وقد مرَّ في متابعة الثامن من الوضوء ومرَّ سَعْد بن إبراهيم في السابع والأربعين منه، ومرَّ حفْص بن عمر في الثاني والستين من المواقيت، ومالك بن بحينة قد مرَّ الذي قبل هذه التعاليق. ثم قال المصنف: باب حد المريض أن يشهد الجماعة باب بالتنوين، أي هذا باب في بيان حد المريض لأن يشهد الجماعة. قال ابن رَشيد: المعنى ما يحد للمريض أن يشهد معه الجماعة، فإذا جاوز ذلك

الحد لم يستحب له شهودها، ومناسبة ذلك من الحديث خروجه -صلى الله عليه وسلم- متوكئًا على غيره من شدة الضعف، فكأنّه يشير إلى أن من بلغ إلى تلك الحال لا يستحب له تكلف الخروج إلى الجماعة، إلا إذا وجد من يتوكأ عليه، وإن قوله في الحديث الماضي "لأتوهما ولو حبواً" وقع على طريق المبالغة. قال: ويمكن أن يقال: معناه باب الحد الذي للمريض أن يأخذ فيه بالعزيمة في شهود الجماعة. وقد قال ابن بطال ومن تبعه: الحد هاهنا الحِدّة، ومثله قول عمر في أبي بكر: كنت أرى منه بعض الحد، أي الحِدّة. قال: والمراد به هنا الحض على شهود الجماعة. قال ابن التّين: ويصح أن يقال هنا جد المريض، بكسر الجيم، وهو الاجتهاد في الأمر، وقد أثبت ابن قَرْقُول رواية الجيم، وعزاها للقابِسِيّ.

الحديث الثامن عشر

الحديث الثامن عشر حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ الأَسْوَدُ قَالَ كُنَّا عِنْدَ عَائِشَةَ رضى الله عنها فَذَكَرْنَا الْمُوَاظَبَةَ عَلَى الصَّلاَةِ وَالتَّعْظِيمَ لَهَا قَالَتْ لَمَّا مَرِضَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَحَضَرَتِ الصَّلاَةُ فَأُذِّنَ، فَقَالَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ فَقِيلَ لَهُ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ إِذَا قَامَ فِي مَقَامِكَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُصَلِّىَ بِالنَّاسِ وَأَعَادَ فَأَعَادُوا لَهُ فَأَعَادَ الثَّالِثَةَ فَقَالَ إِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ فَصَلَّى، فَوَجَدَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً، فَخَرَجَ يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ كَأَنِّى أَنْظُرُ رِجْلَيْهِ تَخُطَّانِ مِنَ الْوَجَعِ فَأَرَادَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَتَأَخَّرَ فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ مَكَانَكَ ثُمَّ أُتِيَ بِهِ حَتَّى جَلَسَ إِلَى جَنْبِهِ قِيلَ لِلأَعْمَشِ وَكَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِصَلاَتِهِ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاَةِ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ بِرَأْسِهِ نَعَمْ. وقوله: مرضه الذي مات فيه، وقد بيّن الزُّهريّ في روايته في الحديث الذي بعده، أن ذلك كان بعد أن اشتد به المرض، واستقر في بيت عائشة. وقد اختلف في سبب مرضه، وفي محل ابتدائه ووقت ابتدائه وقدره، أما سبب مرضه فالصحيح فيه ما أخرجه البخاريّ عن عائشة في باب وفاته، أنها قالت "إنه عليه الصلاة والسلام كان يقول في مرضه الذي مات فيه: ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بِخَيْبَرَ فهذا أوان وجدت انقطاع أَبْهَري من ذلك السم". وقوله: أوان، بالفتح عَلى الظرفية، والأبهر بفتح الهمزة، عرْق مُسْتَبْطِن بالظهر متصل بالقلب، إذا انقطع مات صاحبه، فكان -صلى الله عليه وسلم- شهيدًا. وأما ما رواه أبو يَعلى بسند فيه ابن لَهِيْعَة عن عائشة "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مات

بذات الجنب" فغير صحيح لهذا الحديث الصحيح، ولما أخرجه البخاري تعليقًا، ووصله محمد بن سعد عن عائشة قالت: "كانت تأخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- الخاصرة، فاشتدت به فأُغمي عليه، فلددناه، فلما أفاق قال: هذا من فعل نساء جئن من هنا، وأشار إلى الحبشة، وإن كنتم ترون أن الله يسلط عليّ ذات الجَنْب ما كان الله ليجعل لها عليّ سلطانًا، والله لا يبقى أحد في البيت إلا لُدّ، وَلَدَدْنا مَيْمونة وهي صائمة" وفي الصحيح "إلا العباس، فإنه لم يشهدكم". قال في الفتح، ويمكن الجمع بينهما بأن ذات الجنب تطلق بإزاء مرضين، أحدهما ورم حار يعرض في الغشاء المستبطن للأضلاع، والآخر ما يعرض في نواحي الجنب من رياح غليظة، تحتقن بين الصفاقات والعضل التي في الصدر والأضلاع، فتحدث وجعًا، فالأول هو ذات الجَنْب الحقيقيّ الذي تكلم عليه الأطباء، وهو المنفي في الحديث، وفي رواية للمستدرك "ذات الجَنْب من الشيطان". وقد قال الأطباء: يحدث بسببه خمسة أمراض: الحمّى والسعال والنَّخْس وضيق النفس والنَّبض المِنْشاريّ، ويقال لذات الجنْب أيضًا وجع الخاصرة، وهي من الأمراض المخوفة، لأنها تحدث بين القلب والكبد، وهي من سيّء الأسقام، ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم- "ما كان الله ليسلطها عليّ". والثاني هو الذي أثبت في حديث أبي يَعْلى، وليس فيه محذور كالأول قاله "في الفتح" قلت: كيف يمكن الجمع مع التصريح في حديث أبي يَعْلى أنه مات من ذات الجنب؟ والتصريح في حديث البُخاري بقوله انقطاع "أبهري" فالجمع مع التصريحين غير ممكن. وأما محل ابتدائه فالصحيح أنه كان في بيت مَيْمونة، لما رواه عبد الرزاق بإسناد صحيح عن أسماء بنت عُمَيْس قالت: إن أول ما اشتكى كان في بيت مَيْمونة، فاشتد مرضه حتى أُغمي عليه، فتشاورن في لَدّه، فلدوه، فلما أفاق .. إلخ الحديث، وأخرج مسلم أيضًا أنه أول ما اشتكى في بيت مَيْمُونة، وفي سيرة أبي مَعْشَر في بيت زَينب بنت جَحْش، وفي سيرة سليمان التَّيْميّ في بيت رَيحانة، وذكر الخَطّابيّ أنه ابتدأ يوم الاثنين، وقيل يوم السبت، وقال الحاكم

أبو أحمد: يوم الأربعاء. واختلف في مدة مرضه، فالأكثر على أنها ثلاثة عشر يومًا. وقيل: بزيادة يوم، وقيل بنقصه، والقولان في الروضة، وصدر بالثاني. وقيل عشرة أيام، وبه جزم سُلَيمان التَّيميّ في مغازيه، وأخرجه البَيْهَقِيّ بإسناد صحيح، وكانت وفاته يوم الاثنين، بلا خلاف، من ربيع الأول، وكاد يكون إجماعاً، لكن في حديث ابن مسعود عند البزار في حادي عشر رمضان، ثم عند ابن إسحاق والجمهور أنها في الثاني عشر منه، وعند موسى بن عُقْبَة واللَّيث والخَوارِزْميّ وابن زَبْر مات لهلال ربيع الأول، وعند أبي مخيف والكلبيّ في ثانيه، ورجحه السُّهَيليّ. وعلى القولين يتنزل ما نقله الرافعيّ من أنه عاش بعد حجته ثمانين يومًا، وقيل أحدًا وثمانين، وعلى ما جزم به في الروضة يكون عاش بعد حجته تسعين يومًا أو أحدًا وتسعين. وقد استشكل السُّهَيْليّ ومن تبعه كونه عليه الصلاة والسلام مات يوم الاثنين ثاني عشر شهر ربيع الأول، وذلك أنهم اتفقوا على أن ذا الحجة كان أوله يوم الخميس، فمهما فرضت الثلاثة توامّ "أو نواقص" أو بعضها لم يصح. قال "في الفتح": وهو ظاهر لمن تأمله. قلت تأملته فوجدته يصح على جعل الثلاثة كوامل، على القول بأنه كان في الثالث عشر في يوم الاثنين. وأجاب البارزيّ، ثم ابن كثير، باحتمال وقوع الأشهر الثلاثة كوامل، وكأنَّ أهل مكة والمدينة اختلفوا في رؤية هلال ذي الحجة، فرآه أهل مكة ليلة الخميس، ولم يره أهل المدينة إلا ليلة الجمعة، فحصلت الوقفة برؤية أهل مكة، ثم رجعوا إلى المدينة فأرخوا برؤية أهلها، فكان أول ذي الحجة الجمعة وآخره السبت، وأول المحرم الأحد، وآخره الاثنين، وأول صفر الثلاناء وآخره الأربعاء، وأول ربيع النبوي الخميس فيكون ثاني عشره الاثنين. قال "في الفتح": وهذا الجواب بعيد من حيث إنه يلزم توالي أربعة أشهر كوامل. قلت: هذا لا بعد فيه؛ لأن تتابع النقص أو الكمال في الأشهر لا تحديد له في الشريعة، وإنما التحديد فيه عند أهل النجوم، والذي قالوه هو عدم توالي

خمسة كاملة لا أربعة. قال عليّ الأجهوريّ ناظمًا لكلامهم: لا يتوالى النقضُ في أكثر من ... ثلاثة من الشهور يا فطن كذا توالى خمسة مكمله ... هذا الصواب وسواه أبطله وما نظمه لا عبرة به شرعًا. وجزم سُليمان التَّيْمِي أحد الثقات بأن ابتداء مرضه -صلى الله عليه وسلم- كان يوم السبت، الثاني والعشرين من صفر، ومات يوم الاثنين، لليلتين خلتا من ربيع الأول، وعلى هذا كان صفر ناقصًا، ولا يمكن أن يكون أول صفر السبت، إلا إن كان ذو الحجة والمحرم ناقصين، فيلزم منه نقص ثلاثة أشهر متوالية، وأما على قول من قال: مات أول يوم من ربيع الأول، فيكون اثنان ناقصين وواحد كاملًا، ولهذا رجحه السُّهَيْليّ. قلت: الذي مرَّ أن السُّهَيْليّ رجحه هو الثاني لا الأول، وفي المغازي لأبي مَعْشَر عن محمد بن قَيْس قال: "اشتكى النبيّ -صلى الله عليه وسلم- يوم الأربعاء لإحدى عشرة مضت من صفر" وهذا موافق لقول سُلَيمان التَّيميّ، المقتضي لأن أول صفر كان السبت. وأما ما رواه ابن سعد عن عمر بن عَلِيّ بن أبي طالب قال "اشتكى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الأربعاء لليلة بقيت من صفر، فاشتكى ثلاث عشرة ليلة، ومات يوم الاثنين لاثنتي عشرة مضت من ربيع الأول" فيرد على هذا الإشكال المتقدم، وكيف يصح أن يكون أول صفر الأحد فيكون تاسع عشرينه الأربعاء، والفرض أن ذا الحجة أوله الخميس، فلو فرض هو والمحرم كاملين، لكان أول صفر الإثنين، فكيف يتأخر إلى يوم الأربعاء؟ فالمعتمد ما قال أبو مخيف فيما مرَّ عنه، أنه ثاني ربيع الأول. وكان سبب غلط غيره أنهم قالوا: مات في ثاني شهر ربيع الأول، فتغيرت فصارت ثاني عشر، واستمر الوهم بذلك يتبع بعضهم بعضًا من غير تأمل. وقد أجاب القاضي بدر الدين بن جمَاعة بجواب آخر فقال: يحمل قول الجمهور لاثنتي عشرة ليلة خلت، أي بأيامها، فيكون موته في الثالث عشر،

وبفرض المشهور كوامل فيصح قول الجمهور، ويعكر عليه ما يعكر على الذي قبله مع زيادة مخالفة اصطلاح أهل اللسان في قولهم لاثنتي عشرة، فإنهم لا يفهمون منها إلا مضي الليالي، ويكون ما أرخ بذلك واقعًا في اليوم الثاني عشر. وقوله: فحضرت الصلاة، وقيل هي العشاء لما في رواية موسى بن أبي عائشة الآتية في باب "إنما جعل الإِمام ليؤتم به" من قول عائشة "ينتظرون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لصلاة العشاء الآخرة". وقيل: هي الظهر، لما في الحديث المذكور "فخرج بين رجلين أحدهما العباس، لصلاة الظهر" وقيل: إنها الصبح، واستدل هذا القائل بما في رواية أرْقَم بن شُرَحبيل عن ابن عباس "وأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القراءة من حيث بلغ أبو بكر" هذا لفظ ابن ماجَهْ، وإسناده حسن، لكن في الاستدلال به نظر، لاحتمال أن يكون عليه الصلاة والسلام لما قرب من أبي بكر سمع الآية التي كان انتهى إليها خاصة، وقد كان هو -صلى الله عليه وسلم- يسمع الآية أحيانًا في السرية، كما يأتي عن أبي قتادة، ثم لو سلم لم يكن فيه دليل على أنها الصبح، بل يحتمل أن تكون المغرب، فقد ثبت في الصحيحين عن أم الفضل بنت الحارث قالت "سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرأ في المغرب بالمرسلات عرفًا، ثم ما صلى لنا بعدها حتى قبضه الله" هذا لفظ البُخاريّ في آخر المَغازي، لكن في النَّسائيّ أن هذه الصلاة التي ذكرتها أم الفضل كانت في بيته. قلت: كونها في بيته يبعده قولها في الحديث، ثم ما صلى لنا بعدها لأن صلاته في بيته لا يقال فيها صلى لنا. وقد صرح الشافعي بأنه -صلى الله عليه وسلم- لم يصل بالناس في مرض موته في المسجد إلا مرة واحدة، وهي هذه التي صلى فيها قاعدًا، وكان أبو بكر فيها أولًا إمامًا، ثم صار مأمومًا يُسْمع التكبير. وقوله: فأُذِّن، بضم الهمزة على البناء للمفعول، وفي رواية الأصيليّ "وأذِّن" بالواو، وهو أوجه، والمراد به أذان الصلاة، ويحتمل أن يكون معناه أعلم، ويقويه رواية أبي معاوية الآتية في باب "الرجل يأتم بالإمام" ولفظه "جاء بلال يؤذنه بالصلاة" واستفيد منه تسمية المبهم، وسيأتي في رواية ابن أبي عائشة أنه صلى الله تعالى عليه وسلم بدأ بالسؤال عن حضور وقت

الصلاة، وأنه أراد أن يتهيأ للخروج إليها فأغمي عليه. وقوله: مُرُوا أبا بكر فليصل بالناس، استدل به على أن الأمر بالأمر بالشيء يكون أمرًا به، وهي مسألة معروفة في أصول الفقه، وأجاب المانعون بأن المعنى: بلغوا أبا بكرًا أني أمرته، وفصل النزاع أن النافي إن أراد أنه ليس أمرًا حقيقة فمسلم؛ لأنه ليس فيه صيغة أمر للثاني، وإن أراد أنه لا يستلزمه فمردود. قلت: محل الخلاف عند أهل الأصول إنما هو حيث لم تقم قرينة على أنه آمر للثالث، وإلا فهو آمر له اتفاقًا كما في حديث ابن عمر في الصحيحين "مره فليراجعها". فقوله: فليراجعها قرينة على أنه آمر له. وكما في هذا الحديث "فليصل بالناس" فإنه قرينة على أنه آمر له. وقوله: فقيل له، قائل ذلك عائشة كما يأتي، وقوله: أسِيف، بوزن فعيل، وهو بمعنى فاعل من الأسف، وهو شدة الحزن، والمراد أنه رقيق القلب. ولابن حِبان عن عاصم عن عائشة في هذا الحديث، قال عاصم: والأسِيف الرقيق الرحيم، وسيأتي في حديث ابن عمر في هذه القصة بعد ستة أبواب "فقالت له عائشة إنه رجل رقيق، إذا قرأ غلبه البكاء" ومن رواية مالك عنها قالت عائشة: "إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء، فمر عمر". وقوله: فأعادوا له، أي من كان في البيت، والمخاطب بذلك عائشة كما ترى، لكن جمع لأنهم كانوا في مقام الموافقين لها على ذلك. وفي رواية أبي موسى بالإفراد "فعادت" ولابن عمر "فعاودته". وقوله: إنكنّ صواحب يوسف فيه حذف بينه مالك في روايته المذكورة، وأن المخاطب له حينئذ حَفصة بنت عمر بأمر عائشة، وفيه أيضًا "فمر عمر" فقال "مه إنكن لأنتن صواحب يوسف" وصواحب جمع صاحبة، والمراد أنهن مثل صواحب يوسف في إظهار خلاف ما في الباطن، ثم إن هذا الخطاب، وإن كان بلفظ الجمع، فالمراد به واحدة، وهي عائشة فقط. كما أن صواحب جمع والمراد به زَلِيخا فقط. ووجه المناسبة بينهما في ذلك أن زليخا استدعت النسوة وأظهرت لهن الإكرام بالضيافة، ومرادها زيادة على ذلك، وهي أن ينظرن إلى حسن يوسف، ويعذرنها في

محبته، وأن عائشة أظهرت أن سبب إرادتها صرف الإمامة عن أبيها كونه لا يسمع المأمومين القراءة لبكائه، ومرادها زيادة على ذلك، وهي أن لا يتشاءم الناس، وقد صرحت بذلك فيما يأتي في آخر المغازي فقالت "لقد راجعته وما حملني على كثرة مراجعته إلا أنه لم يقع في قلبى أن يحب الناس بعده رجلًا قام مقامه أبدًا". وأخرجه مسلم أيضًا، وبهذا التقرير يندفع اشكال من قال إن صواحب يوسف لم يقع منهن إظهار يخالف ما في الباطن. وفي "أمالي" ابن عبد السلام أن النسوة أتين امرأة العزيز يُظهرن تعنيفها، ومقصودهن في الباطن أن يدعون يوسف إلى أنفسهن، كذا قال: وسياق الآية يخالف ما قال. وفي مُرْسَل الحسن عند ابن أبي خَيْثَمة أن أبا بكر أمر عائشة أن تكلم النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يصرف ذلك عنه، فأرادت التوصل إلى ذلك بكل طريق، فلم يتم، وكًذلك أخرج الدَّوْرَقيّ في مسنده عن حمّاد بن أبي سُليمان عن إبراهيم "أن أبا بكر هو الذي أمر عائشة أن تشير على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأن يأمر عمر بالصلاة" وزاد مالك في روايته: فقالت حَفْصة لعائشة: ما كنت لأصيب منك خيرًا. ومثله للإسماعيليّ، وإنما قالت حفصة ذلك لأن كلامها صادف المرة الثالثة من المعاوَدة، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يراجع بعد ثلاث، فلما أشار إلى الإنكار عليها بما ذكر من كونهن صواحب يوسُف، وجدت في نفسها من ذلك لكون عائشة هي التي أمرتها بذلك، ولعلها تذكرت ما وقع لها معها أيضًا في قصة المغافير المتقدمة في باب التناوب في العلم. وقوله: فليصلّ بالناس، في رواية الكُشْمَيْهَنِيّ "فليصل للناس" وقوله: فخرج أبو بكر، فيه حذف دل عليه سياق الكلام، وقد بينه في رواية موسى بن أبي عائشة، ولفظه فأتاه الرسول، أي بلال؛ لأنه هو الذي أعلم بحضور الصلاة كما مرَّ، فأجيب بذلك. وفي روايته: فقال له "إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمرك أن تصلي بالناس، فقال أبو بكر، وكان رجلًا رقيقًا: يا عمر، صل بالناس، فقال له عمر: أنت أحق بذلك" وقول أبي بكر هذا لم يرد به ما أضمرت عائشة. قال النَّوَوِيّ: تأوله بعضهم على أنه قال ذلك تواضعًا. وليس كذلك، بل قاله للعذر المذكور،

وهو كونه رقيق القلب كثير البكاء، فخشي أن لا يسمع الناس، ويحتمل أن يكون رضي الله تعالى عنه فهم من الإمامة الصغرى الإمامة العظمى، وعلم ما في تحملها من الخطر، وعلم قوة عمر على ذلك، فاختاره. ويؤيده أنه عند البيعة أشار عليهم أن يبايعوه أو يبايعوا أبا عُبَيدة بن الجَرّاح، والظاهر أنه لم يطلع على المراجعة المتقدمة، وفهم من الأمر له بذلك تفويض الأمر له في ذلك، سواء باشر بنفسه أو استخلف. قال القُرْطبي: ويستفاد منه أن للمستخلَف في الصلاة أن يستخلِف، ولا يتوقف على إذن خاص له في ذلك. وقوله: فصلى، في رواية المُسْتَملِي والسَّرْخَسِيّ "صلي" وظاهره أنه يشرع في الصلاة، ويحتمل أن يكون المراد أنه تهيأ للدخول فيها، ويأتي في رواية أبي معاوية الآتية في باب "الرجل يأتم بالإمام" بلفظ "فلما دخل في الصلاة" وهو محتمل أيضًا بأن يكون المراد دخل في مكان الصلاة، وحمله بعضهم على ظاهره، وقوله: فوجد النبي صلى الله عليه وسلم من نفسه خفة، ظاهره أنه صلى الله تعالى عليه وسلم وجد ذلك في تلك الصلاة بعينها، ويحتمل أن يكون ذلك بعد ذلك، وأن يكون فيه حذف كما تقدم مثله في قوله "فخرج أبو بكر" وأوضح منه رواية موسى بن أبي عائشة الآتية "فصلّى أبو بكر تلك الأيام، ثم إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجد من نفسه خفة" وعلى هذا لا يتعين أن تكون الصلاة المذكورة هي العِشاء، وقد مرَّ قريبًا ما قيل في تعيينها. وقوله: يُهادَى، بضم أوله وفتح الدال، أي يعتمد على الرجلين، إلى آخر ما مرَّ في باب الغسل والوضوء من المخضب. وقوله: فأراد أبو بكر، زاد أبو مُعاوية "فلما سمع أبو بكر حسّه". وفي رواية أرقم بن شُرحبيل عن ابن عباس "فلما أحس الناس به سبحوا" أخرجه ابن ماجه وغيره بإسناد حسن، وقوله: أنْ مكانك، في رواية عاصم أن أثبتْ مكانك، وفي رواية بن أبي عائشة "فأومأ إليه بأن لا يتأخر". وقوله: ثم، أتي به، كذا هنا بضم الهمزة، وفي رواية ابن أبي عائشة أن ذلك كان بأمره ولفظه. فقال "أجلساني إلى جنبه، فأجلساه" وعين أبو معاوية في

روايته المتقدمة محل ذكرها مكان الجلوس، فقال "حتى جلس عن يسار أبي بكر" وهذا هو مقام الإِمام. وقد أغرب القُرْطُبيّ فحكى الخلاف هل كان أبو بكر إمامًا أو مأمومًا؟ فقال: لم يقع في الصحيح بيان جلوسه -صلى الله عليه وسلم-، هل كان عن يمين أبي بكر أو عن يساره، ورواية أبي معاوية هذه عند مُسْلِم أيضًا، فالعجب منه كيف يغفل عن ذلك في حال شرحه. وقوله: فقيل للأعْمش: ظاهره الانقطاع؛ لأن الأعمش لم يسنده، لكن في رواية أبي معاوية عنه ذكر ذلك متصلًا بالحديث، وكذلك في رواية موسى بن أبي عائشة. وقوله: فقال برأسه نعم، يعني جوابًا عن كون أبي بكر كان يصلي بصلاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، والناس يصلون بصلاة أبي بكر. وقد وقع في هذا اختلاف كثير، ففي رواية أبي داود والطَّيَالِسيّ المعلقة عند المؤلف، فيما وصله البَزّار، بلفظ "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المقدم بين يدي أبي بكر" وهذا موافق لقضية حديث الباب، لكن رواه ابن خُزَيْمَة في صحيحه عن محمد بن بَشّار عن أبي داود عن عائشة قالت "من الناس من يقول كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المقدم بين يدي أبي بكر، ومنهم من يقول كان أبو بكر المقدم بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الصف". ورواه مسلم بن إبراهيم عن شعبة بلفظ "إن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى خلف أبي بكر" أخرجه ابن المنذر، وهذا عكس رواية أبي موسى، وهو اختلاف شديد، وفي رواية مسروق عنها أيضًا اختلاف، فأخرجه ابن حبَّان عن عاصم عن شقيق عنه بلفظ "كان أبو بكر يصلي بصلاته، والناس يصلون بصلاة أبي بكر" وأخرجه التِّرمِذِيّ والنَّسائيّ وابن خُزَيْمَة عن شقيق أيضًا بلفظ "إن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى خلف أبي بكر". وظاهر رواية محمد بن بَشّار أن عائشة لم تشاهد الهيئة المذكورة، ولكن تظاهرت الروايات عنها بالجزم مما يدل على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان هو الإِمام في تلك الصلاة، منها رواية موسى بن أبي عائشة المشار إليها سابقًا، ففيها "فجعل أبو بكر يصلي بصلاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، والناس بصلاة أبي بكر" وهذه رواية زائدة بن قُدَامة عن موسى، وخالفه شُعْبَةُ فرواه عن موسى بلفظ "إن أبا بكر صلى بالناس، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الصف خلفه" فمن العلماء من سلك الترجيح، فقدم الرواية

رجاله ستة

التي فيها أن أبا بكر كان مأمومًا للجزم بها، ولأن أبا معاوية أحفظ في حديث الأعمش من غيره، ومنهم من سلك عكس ذلك، ورجح أنه كان إماما، وقد جزم بذلك الضياء وابن ناصر وقال: إن صح وثبت أنه صلى الله تعالى عليه وسلم صلى خلف أبي بكر مقتديًا به في مرض موته، ولا ينكر هذا إلا جاهل، وقد ثبت في صحيح مسلم أنه صلى خلف عبد الرحمن بن عَوْف في غزوة تبوك صلاة الفجر، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد خرج لحاجته، فقدم الناسُ عبدَ الرحمن، فصلى بهم، فأدرك النبيّ -صلى الله عليه وسلم- إحدى الركعتين فصلى مع الناس الركعة الأخيرة، فلما سلم عبد الرحمن قام النبيّ -صلى الله عليه وسلم- يتم صلاته، فأفزع ذلك المسلمين، فأكثروا التسبيح، فلما قضى عليه الصلاة والسلام صلاته، أقبل عليهم ثم قال: "أحسنتم أو قد أصبتم" يغبطهم لأنهم صلوا لوقتها. ورواه أبو داود ونحوه. وقد روى الدارقُطنِيّ عن المُغيرة بن شُعْبَة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما مات نبي حتى يؤمه رجل من قومه" ومنهم من سلك الجمع فحمل القصة على التعدد، ويؤيده اختلاف النقل عن الصحابة عن غير عائشة، فحديث ابن عباس فيه أن أبا بكر كان مأمومًا كما في رواية موسى بن أبي عائشة الآتية، وكذا في رواية أرْقَم بن شُرحبيل عن ابن عباس السابقة. وفي حديث أنس أن أبا بكر كان إمامًا، أخرجه التِّرمِذِيّ وغيره، من رواية حُمَيد عن ثابت عنه بلفظ "آخر صلاة صلاها النبي -صلى الله عليه وسلم- خلف أبي بكر في ثوب" وأخرجه النَّسائيّ من وجه آخر عن حُميد عن أنس، فلم يذكر ثابتًا، وقد مرَّ بيان ما يترتب على هذا الاختلاف من الحكم مستوفى في باب الصلاة في السطوح، عند ذكر الحديث الذي فيه "إنما جُعل الإِمام ليوتم به" وتأتي بقية فوائده مستوفاة في الحديث الذي بعده، جمعًا بين فوائدهما لاتحادهما. رجاله ستة: وفيه ذكر أبي بكر، ولفظ رجلين مبهمين، وهما عليّ والعباس. وقيل أسامة بن زَيد والفَضْل بن العباس. أما رجاله الستة: فالأول: عُمَر بن حَفْص.

والثاني: أبو حفْص، وقد مرا في الثاني عشر من كتاب الغسل، ومرَّ الأعمش وإبراهيم بن زيد في الخامس والعشرين من الإيمان، ومرَّ الأسْوَد بن يزيد في السابع والستين من العلم، ومرَّ علي في السابع والأربعين منه، ومرت عائشة في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ العباس في الثالث والستين من الوضوء ومرَّ أسامة في الخامس منه، ومرَّ أبو بكر في باب من لم يتوضأ من لحم الشاة والسويق، بعد الحادي والسبعين منه. وأما الفضل، فهو الفضل بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي، ابن عم النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأمه أم الفضل، لُبابَةُ الكبرى بنت الحارث الهِلالية، أخت أم المؤمنين مَيْمونة بنت الحارث، كان أسن إخوته، وبه كُني أبوه وأمه، يكنى أبا العباس، وقيل أبا عبد الله، وقيل أبا محمد، وبه جزم ابن السكن، غزا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- مكة وحنينًا، وثبت معه حينئذ، وشهد معه حجة الوداع. ففي الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أرْدَفه في حجة الوداع، وفي حديثه هذا "لما حول وجهه عن الخَثْعَمية رأيتُ شابًا وشابة، فلم آمن عليهما الشيطان" وكان أجمل الناس وجهًا، وفي صحيح مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- زوجه وأَمْهَر عنه، وسمى البَغَوِيّ امرأته صفية بنت مَحْمِيَة بن جَزْء الزبيدي. شهد غسل النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو الذي كان يصب الماء عليه حينئذ، له أربعة وعشرون حديثًا اتفقا على اثنين، روى عنه أخواه وقُثَم، وأبو هُريرة وابن أخيه عباس بن عُبيد الله والشّعبيّ وغيرهم. وأخرج البَغَوِيّ عن ابن عباس عن أخيه الفَضْل فقال "جاءني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: خذ بيدي، وقد عصب رأسه، فأخذت بيده، فأقبل حتى جلس على المِنبر، فقال: نادِ في الناس، فصحت فيهم فاجتمعوا له، فذكر الحديث. واختلف في وقت موته، فقال ابن السّكْن: قتل يوم أجنادَين في خلافة أبي بكر سنة ثلاث عشرة، وقيل مات يوم مرج الصُّفَّر، وذلك أيضًا سنة ثلاث عشرة، إلا أن الأمير كان يوم الصفر خالد بن الوليد، وكان بأجنادَين أربعة أمراء، وكان عليهم جميعًا عمرو بن العاص يومئذ، وقيل: مات في طاعون عَمَوَاس بناحية

لطائف إسناده

الأرْدُن في خلافة عمر، سنة ثماني عشرة، وقيل في اليرموك في خلافة عمر أيضًا، سنة خمس عشرة. قال في الإصابة: والأول هو المعتمد، وبمقتضاه جزم البخاريّ فقال: مات في خلافة أبي بكر، ولم يترك ولدًا إلا أم كُلْثوم، تزوجها الحسن بن عَلي ثم فارقها وتزوجها أبو موسى الأشعريّ. لطائف إسناده: رواته كلهم كوفيون ما عدا عائشة، وفيه رواية الابن عن الأب، والتحديث والعنعنة والقول، وأخرجه المؤلف أيضًا في الصلاة، وكذا مسلم والنَّسائيّ وابن ماجَه. ثم قال: رواهُ أبو داودَ عن شُعبةَ عن الأعمشِ بَعْضَهُ. قوله: بعضَه، بالنصب بدل من الضمير، ثم قال: ورواه أبو معاوية عن الأعمش "جلس عن يسارِ أبي بكرٍ، فكانَ أبُو بكرٍ يُصلي قائمًا" يعني روى الحديث المذكور أبو معاوية عن الأعْمش، كما رواه حفْص بن غَيّاث مطولًا، وشُعْبَة مختصرًا، كلهم عن الأعمش بإسناده المذكور، فزاد أبو معاوية ما ذكر. رجاله ثلاثة: الأول: أبو داود الطَّيَالِسِيّ وقد مرٍ في التعليق الذي بعد الحادي والعشرين من كتاب أبواب الأذان، ومرَّ شُعْبَة في الثالث من الإيمان، ومرَّ ذكر محل الأعمش في الحديث الذي قَبل هذا. وهذا التعليق وصله البَزّار من رواية أبي داود كما مرَّ، وأما التعليق الثاني فقد وصله المصنف في باب "الرجل يأتم بالإمام ويأتم الناس بالمأموم"، وغفل مُغُلْطاي ومن تبعه، فنسبوا وصله إلى رواية ابن نُمَير عن أبي معاوية في صحيح ابن حِبّان، وليس بجيد من وجهين: أحدهما أن رواية ابن نمير ليس فيها عن يسار أبي بكر، والثاني أن نسبته إلى صاحب الكتاب فيه أولى من نسبته لغيره، وأبو معاوية المراد به محمد بن حازم الضرير، وقد مرَّ في التعليق الذي بعد الثالث من كتاب الإيمان.

الحديث التاسع عشر

الحديث التاسع عشر حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى قَالَ أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَتْ عَائِشَةُ لَمَّا ثَقُلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَاشْتَدَّ وَجَعُهُ اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِي فَأَذِنَّ لَهُ فَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ تَخُطُّ رِجْلاَهُ الأَرْضَ وَكَانَ بَيْنَ الْعَبَّاسِ وَرَجُلٍ آخَرَ. قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لاِبْنِ عَبَّاسٍ مَا قَالَتْ عَائِشَةُ فَقَالَ لِي وَهَلْ تَدْرِي مَنِ الرَّجُلُ الَّذِى لَمْ تُسَمِّ عَائِشَةُ قُلْتُ لاَ. قَالَ هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. هذا الحديث مرَّ في باب الغُسْل والوضوء من المخضب، ومرَّ هناك ما يتعلق بتفسير ألفاظه، ولنذكر هنا فوائده مجموعة مع فوائد الذي قبله، ففيه من الفوائد غير ما مرَّ، أن البكاء، وان كثر، لا يبطل الصلاة، لأنه -صلى الله عليه وسلم- بعد أن علم حال أبي بكر في رقة القلب وكثرة البكاء، لم يعدِل عنه، ولا نهاه عن البكاء، وحكمه عند الأئمة قال العَيْنيّ: قال أصحابنا: إذا بكى في الصلاة فارتفع بكاؤه، فإنْ كان من ذكر الجنة أو النار لم يقطع صلاته، وإن كان من وجع في بدنه أو مصيبة في ماله أو أهله أبطلها، وبه قال مالك وأحمد. وقال الشافعيّ: البكاء والأنين والتأوه يبطل الصلاة إذا كانت حرفين، سواء بكى للدنيا أو للآخرة، وتحرير القول في هذه المسألة عند المالكية هو ما نظمه شيخنا أحمد بن محمد سالم بقوله: بكاءَ مَن صَلّى بلا بُهتْانِ ... مُنْحَصِرٌ في صُوَرٍ ثمانِ لأنه إما بصوت أو لا ... غَلَبَةً أو اختيارًا حَلاَّ فالكُلُّ من حوادث المصائب ... أو الخُشوع من مُنِيب تائب ففي الجميع الصوت مهما فُقِدا ... فَعَدَمُ البُطلانِ عنهم وُجدا إلا إذا ما كثر اختيارا ... فيقع البطلان لا اضطرارا

كذا إذا بصوت، والنحيبِ ... غَلَبَة من خَشْيَة الرقيبِ وفي الثلاثة البواقي بطلت ... أقسامه محكمة هنا انتهت وفيه تقديم أبي بكر وترجيحه على جميع الصحابة، وفضيلة عمر بعده، وجواز الثناء في الوجه لمن أُمن عليه الإعجاب، وملاطفة النبي -صلى الله عليه وسلم- لأزواجه، وخصوصًا لعائشة، وجواز مراجعة الصغير الكبير، والمشاورة في الأمر العام، والأدب مع الكبير لِهَمِّ أبي بكر بالتأخر عن الصف، وإكرام الفاضل لأنه أراد أن يتأخر حتى يستوي مع الصف، فلم يتركه النبي -صلى الله عليه وسلم- يتزحزح عن مقامه، وفيه أن الإيماء يقوم مقام النطق. واقتصار النبي -صلى الله عليه وسلم- على الإشارة يحتمل أن يكون لضعف صوته، ويحتمل أن يكون للإعلام بأن مخاطبة من يكون في الصلاة بالإيماء أولى من النطق. وفيه تأكيد أمر الجماعة والأخذ فيها بالأشد، وإن كان المرض يرخص في تركها، ويحتمل أن يكون فعل ذلك لبيان جواز الأخذ بالأشد، وإن كانت الرخصة أولى، وقال الطّبريّ: إنما فعل ذلك لئلا يعذر أحد من الأئمة بعده نفسه بأدنى عذر، فيتخلف عن الإمامة، ويحتمل أن يكون قصد إفهام الناس أن تقديمه لأبي بكر كان لأهليته لذلك، حتى إنه صلى خلفه، واستدل به على جواز استخلاف الإِمام لغير ضرورة، لصنيع أبي بكر، وعلى جواز مخالفة موقف المأموم للضرورة، كمن قصد أن يبلغ عنه ويلتحق به من زحم عن الصف، وعلى جواز ائتمام بعض المأمومين ببعض، وهو قول الشَّعبيّ واختيار الطَّبريّ، وأومأ إليه البُخاري فيما يأتي، وتعقب بأن أبا بكر إما كان مبلغًا كما يأتي في باب "من أسمع الناس التكبير" من رواية أخرى عن الأعمش، وكذا ذكره مسلم، وعلى هذا فمعنى الاقتداء اقتداؤهم بصوته، ويؤيده أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان جالسًا، وكان أبو بكر قائمًا، فكان بعض أفعاله يخفى على بعض المأمومين، فمن ثمَّ كان أبو بكر كالإمام في حقهم، واستدل به الطَّبريّ على أن للإمام أن يقطع الاقتداء به، ويقتدي هو بغيره من غير أن يقطع الصلاة. وعلى جواز إنشاء القدوة في أثناء الصلاة، وعلى جواز تقدم إحرام المأموم على الإِمام بناء على أن أبا

رجاله ستة

بكر كان دخل في الصلاة ثم قطع القدوة وائتم برسول الله -صلى الله عليه وسلم-. ويؤيد هذا ما مرَّ في رواية أرْقَم بن شُرَحبيْل عن ابن عباس "ثم ابتدأ النبي -صلى الله عليه وسلم- القراءة من حيث انتهى أبو بكر" وفيه اتباع صوت المكبر، وصحة صلاة المستمع والسامع، ومنهم من شرط في صحته تقدم إذن الإمام، واستدل به على صحة صلاة القادر على القيام قائمًا خلف القاعد، خلافاً للمالكية مطلقًا، ولأحمد حيث أوجب القعود على من يصلي خلف القاعد، على ما مرَّ مستوفى في باب الصلاة على السطوح، في أبواب سَتْر العَورة. رجاله ستة: قد مروا جميعًا: الأول: إبراهيم بن موسى. والثاني: هِشام بن يوسُف، وقد مرا في الثالث من كتاب الحيض، ومرت عائشة في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ ابن شهاب في الثالث منه، ومرَّ مَعْمَر بن راشد في المتابعات التي بعد هذا الثالث منه، ومرَّ عُبيد الله في السادس منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع والعنعنة والإخبار بالإفراد، وفيه القول، وفيه هشام من أفراد البخاريّ، ورواية تابعيّ عن تابعيّ عن صحابية، ورواته ما بين رازيّ ويمانيّ وبَصْريّ ومَدَنيّ أخرجه البخاريّ هنا وفي الغسل وفي الوضوء وفي المِخْضَب والقَدَح والخشب والحجارة وفي المغازي والطِبّ والهِبَة والخُمس واستئذان أزواجه، ومسلم والنَّسائيّ وابن ماجَه. ثم قال المصنف: باب الرخصة في المطر والعلة أن يصلي في رحله ذكر العلة من عطف العام على الخاص، لأنها أعم من أن تكون بالمطر أو غيره، والصلاة في الرحل أعم من أن تكون بجماعة أو منفردًا، ولكنها مظنة الانفراد، والمقصود الأصْليّ في الجماعة إيقاعها في المسجد.

الحديث العشرون

الحديث العشرون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَذَّنَ بِالصَّلاَةِ فِي لَيْلَةٍ ذَاتِ بَرْدٍ وَرِيحٍ ثُمَّ قَالَ أَلاَ صَلُّوا فِي الرِّحَالِ ثُمَّ قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَأْمُرُ الْمُؤَذِّنَ إِذَا كَانَتْ لَيْلَةٌ ذَاتُ بَرْدٍ وَمَطَرٍ يَقُولُ أَلاَ صَلُّوا فِي الرِّحَالِ. وهذا الحديث مرَّ في باب الأذان للمسافر، ومرَّ الكلام عليه هناك مستوفى. رجاله أربعة: قد مروا، مرَّ عبد الله بن يوسف ومالك في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ عبد الله بن عمر في الأثر الرابع من كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه، ومرَّ نافع في الثالث والسبعين من كتاب العلم، والحديث مرَّ في الأذان وتكلم على مواضع إخراجه هناك.

الحديث الحادي والعشرون

الحديث الحادي والعشرون حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ الأَنْصَارِيِّ أَنَّ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ كَانَ يَؤُمُّ قَوْمَهُ وَهْوَ أَعْمَى وَأَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا تَكُونُ الظُّلْمَةُ وَالسَّيْلُ وَأَنَا رَجُلٌ ضَرِيرُ الْبَصَرِ فَصَلِّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي بَيْتِي مَكَانًا أَتَّخِذُهُ مُصَلًّى فَجَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ. فَأَشَارَ إِلَى مَكَانٍ مِنَ الْبَيْتِ، فَصَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. مناسبة الحديث للترجمة ظاهرة، والحديث مرَّ في باب المساجد في البيوت بأتم من هذا السياق، وقد مرَّ الكلام عليه هناك مستوفى وفي هذه الرواية هنا تكون وهي تامة لا تحتاج إلى خبر، وقوله هنا: اتخذه، بالرفع والجزم، وقوله: مُصَلّى، بضم الميم، أي موضعًا للصلاة، وجمع هنا بين الظلمة والسيل والعمى ليعلم أنه شديد الحرص على الجماعة، لا يتركها إلا عند كثرة الموانع. رجاله خمسة: قد مروا كلهم، مالك، مرَّ ذكر محله في الذي قبله، وابن شهاب مرَّ ذكر محله في الذي قبل ذلك، وإسماعيل المراد به إسماعيل بن أبي أُوَيْس، وقد مرَّ في الخامس عشر من كتاب الإيمان، ومرَّ محمود بن الربيع في التاسع عشر من كتاب العلم، ومرَّ عَتْبان بن مالك في التاسع والعشرين من أحاديث أبواب استقبال القبلة. ثم قال المصنف:

باب هل يصلي الإمام بمن حضر وهل يخطب يوم الجمعة في المطر

باب هل يصلي الإِمام بمن حضر وهل يخطب يوم الجمعة في المطر قوله: بمن حضر، يعني مع وجود العلة المرخصة للتخلف، فلو تكلف قوم الحضور فصلى بهم الإِمام لم يكره، فالأمر بالصلاة في الرحال على هذا للإباحة لا للندب، ومطابقة ذلك لحديث ابن عباس من قوله "فنظر بعضهم إلى بعض لما أمر المؤذن أن يقول الصلاة في الرحال" فإنه يدل على أن بعضهم حضر وبعضهم لم يحضر، ومع ذلك خطب وصلى بمن حضر، وأما قوله: وهل يخطب يوم الجمعة، فظاهر من حديث ابن عباس.

الحديث الثاني والعشرون

الحديث الثاني والعشرون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ صَاحِبُ الزِّيَادِيِّ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَارِثِ قَالَ خَطَبَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ فِي يَوْمٍ ذِي رَدْغٍ فَأَمَرَ الْمُؤَذِّنَ لَمَّا بَلَغَ حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ. قَالَ قُلِ الصَّلاَةُ فِي الرِّحَالِ، فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ فَكَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا فَقَالَ كَأَنَّكُمْ أَنْكَرْتُمْ هَذَا إِنَّ هَذَا فَعَلَهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي يَعْنِى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- إِنَّهَا عَزْمَةٌ وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أُحْرِجَكُمْ. قوله: أن أحْرجكم، بضم الهمزة وسكون الحاء المهملة وكسر الراء، من الإحراج، ومعناه أن أوثمكم من الإثم، وروي أن أخْرِجكم، من الإخراج بالخاء المعجمة، وقد مرَّ هذا الحديث في باب الكلام في الأذان، واستوفي الكلام عليه هناك. رجاله خمسة: قد مروا جميعًا: الأول: عبد الله بن عبد الوهاب الحجبيّ، وقد مرَّ في السادس والأربعين من العلم، ومرَّ حماد بن زيد في الرابع والعشرين من الإيمان، ومرَّ عبد الحميد صاحب الزِّياديّ وعبد الله بن الحارث في الثالث عشر من أبواب الأذان، ومرَّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي. ثم قال: وَعَنْ حَمَّادٍ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: كَرِهْتُ أَنْ أُؤَثِّمَكُمْ، فَتَجِيئُونَ تَدُوسُونَ الطِّينَ إِلَى رُكَبِكُمْ. قوله: وعن حماد، وهو معطوف على قوله حدثنا حماد، وليس بمعلق، وقد

مرَّ في باب الكلام في الأذان عن مسدد عن حماد عنهما معًا. وقوله: نحوه، أي بمعظم لفظه وجميع معناه، ولهذا استثنى لفظ "أحرجكم" وإن في هذا بدلها أُؤثكم إلى آخره، ويحتمل أن يكون المراد بالاستثناء أنهما متفقان في المعنى، وفي الرواية الثانية هذه الزيادة وهي قوله "فتجيئون" بإثبات النون، وهو على حذف مقدر، وفي رواية الكُشْمَيْهِنِيّ فتجيئوا بحذف النون، عى لغة حذف نون الجمع من غير ناصب ولا جازم، كما في الحديث "لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا .. " إلخ. وقوله: وتدوسون الطين، من الدَّوْس، وهو الوطء، والحديث مرَّ في الباب المذكور. رجاله ذكروا في الذي قبله: إلا عاصمًا، والمراد به عاصم بن سُلَيمان الأحْول، وقد مرَّ في الخامس والثلاثين من الوضوء.

الحديث الثالث والعشرون

الحديث الثالث والعشرون حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ فَقَالَ جَاءَتْ سَحَابَةٌ فَمَطَرَتْ حَتَّى سَالَ السَّقْفُ وَكَانَ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ فَأُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الطِّينِ فِي جَبْهَتِهِ. مطابقة حديث أبي سعيد هذا للترجمة من جهة أن العادة في يوم المطر أن يتخلف بعض الناس، وأما قول بعض الشُّرَّاح يحتمل أن يكون ذلك في الجمعة، فمردود لما يأتي في الاعتكاف من أنها كانت الصبح. وقوله: سألت أبا سعيد، أي عن ليلة القدر. وقوله: فَمَطَرت، بفتحتين، وفي رواية "فاسْتَهَلَّت السماء فأمطرت". وقوله: حتى سأل السقف، أي سقف المسجد، كما هو صريح رواية الاعتكاف، وفي رواية مالك "فوكف المسجد" أي قطر الماء من سقفه، وكان على عَريش، أي مثل العَرِيش، وإلا فالعريش هو نفس سقفه، والمراد أنه كان مظللاً بالجَريد والخُوص، ولم يكن محكم البناء، بحيث يُكِنّ من المطر الكثير. وقوله: حتى رأيت أثر الطين في جبهته، وفي رواية مالك "على جبهته أثر الماء والطين" وفي رواية أبي حازم الآتية في الاعتكاف "انصرف من الصبح ووجهه ممتلىء طينًا وماء" وهذا يشعر بأن قوله "أثر الماء والطين" لم يرد به محض الأثر، وهو ما يبقى بعد إزالة العين. وفي هذا الحديث ترك مسح جبهة المصلي، والسجود على الحائل، وحمله الجمهور على الأثر الخفيف، لكن يعكر عليه قوله في بعض طرقه كما مرَّ "ووجهه ممتلىء طينًا وماء" وأجاب النوويّ بأن الامتلاء المذكور لا يستلزم ستر جميع الجبهة، وفيه جواز السجود في

رجاله خمسة

الطين، وهذا الحديث يأتي في الاعتكاف مطولًا، ويأتي تمام الكلام عليه هناك حيث ذكر تامًا. رجاله خمسة: الأول: مُسْلِم بن إبراهيم. والثاني: هِشام بن أبي عبد الله، وقد مرا في السابع والثلاثين من الإيمان، ومرَّ يحيى بن أبي كثير في الثالث والخمسين من العلم، ومرَّ أبو سَلَمة في الرابع من بدء الوحي، ومرَّ أبو سَعيد الخُدْرِيّ في الثاني عشر من الإيمان. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع، والعنعنة، وفيه السؤال، وفيه القول، ورواته ما بين بصريّ وأهوازيّ ويمانيّ ومدنيّ. أخرجه البُخاريّ في الاعتكاف، وفي الصلاة أيضًا والصوم، وأخرجه مسلم في الصوم، وأبو داود في الصلاة، والنَّسائيّ في الاعتكاف، وابن ماجه في الصوم.

الحديث الرابع والعشرون

الحديث الرابع والعشرون حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ سِيرِينَ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ قَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ إِنِّي لاَ أَسْتَطِيعُ الصَّلاَةَ مَعَكَ وَكَانَ رَجُلاً ضَخْمًا، فَصَنَعَ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- طَعَامًا فَدَعَاهُ إِلَى مَنْزِلِهِ فَبَسَطَ لَهُ حَصِيرًا وَنَضَحَ طَرَفَ الْحَصِيرِ فَصَلَّى عَلَيْهِ رَكْعَتَيْنِ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ آلِ الْجَارُودِ لأَنَسٍ أَكَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّى الضُّحَى قَالَ مَا رَأَيْتُهُ صَلاَّهَا إِلاَّ يَوْمَئِذٍ. قوله: قال رجل من الأنصار، قيل إنه عِتْبان بن مالك، وهو محتمل لتقارب القصتين، لكن لم يوجد ذلك صريحًا. قلت: ويبعد كونه عِتبان أن عِتبان في الحديث السابق ذكر أن علته الظلمة والسيل والعمى، وهذا هنا ذكر أن علته الضخامة فقط وقوله: معك أي في الجماعة في المسجد، وقوله: وكان رجلًا ضخمًا، أي سمينًا، وفي هذا الوصف إشارة إلى علة تخلفه، وقد عده ابن حبان من الأعذار المرخصة في التأخر عن الجماعة، وزاد عبد الحميد عن أنس "وإني أحب أن تأكل في بيتي وتصلي فيه". وقوله: فبسط له حصير، سبق الكلام على الصلاة على الحصير في حديث أنس في أوائل الصلاة في باب الصلاة على الحصير. قلت: وهذا مما يدل على أنه غير عتبان، لعدم ذكره في قصة عتبان. وقوله: فصلى عليه ركعتين، زاد عبد الحميد "فصلى وصلينا معه". وقوله: فقال رجل من آل الجارود، في رواية علي بن الجعد الآتية للمصنف في صلاة الضحى "فقال فلان بن فلان بن الجارود" وكأنّه عبد الحميد بن المُنْذر بن الجارُود البَصْريّ، وذلك أن البخاريّ أخرج هذا الحديث من رواية شُعْبَة، وأخرجه في موضع آخر عن خالد الحَذّاء، كلاهما عن أَنَس بن سيرين عن عبد الحميد بن المُنْذر بن الجارُود عن أنَس،

رجاله أربعة

وأخرجه ابن ماجَه وابن حِبّان عن عبد الله بن عَوْن عن أَنَس بن سيرين عن عبد الحميد عن أَنَس، فاقتضى ذلك أنّ في رواية البخاريّ هنا انقطاعًا، وهو مندفع بتصريح أنس بن سيرين عنده هنا، بسماعه من أنس، وحينئذ رواية ابن ماجَه ومن معه إما من المزيد في متصل الأسانيد، وإما أن يكون فيها وهم، لكون ابن الجارود كان حاضرًا عنده لما حدث بهذا الحديث، وسأله عما سأله من ذلك، فظن بعض الرواة أن له فيه رواية. وقوله: ما رأيته صلاها إلا يومئذ، وقد مرَّ الكلام مستوفى غاية الاستيفاء على صلاة الضحى، عند حديث أم هانىء في باب الصلاة في الثوب الواحد، في أوائل الصلاة، ومطابقة هذا الحديث للترجمة، إما من جهة ما يلزم من الرخصة لمن له عذر أن يتخلف عن الحضور، فإن ضرورة مواظبته -صلى الله عليه وسلم- على الصلاة بالجماعة أن يصلي بمن بقي، وإما من جهة ما ورد في طريق عبد الحميد المذكورة سابقًا حيث قال أنس: فصلى وصلينا معه، فإنه مطابق لقوله "وهل يصلي بمن حضر" وليس فيه ذكر للخطبة، ولا يلزم أن يدل كل حديث في الباب على كل ما في الترجمة. رجاله أربعة: وفيه ذكر لفظ رجل مبهم مرتين، وقد مروا إلا أنَسَ بن سيرين، ومرآدَم وشُعْبَة في الثالث من الإيمان، ومرَّ أنَسُ بن مالك في السادس منه. وأنس بن سِيرين أخو محمد بن سِيرين مولى أنس بن مالك، كنيته أبو موسى، ولد لسنة أو سنتين بقيتا من خلافة عثمان. ودخل على زيد بن ثابت. قال ابن مَعين: وَلَدُ سيرين ستة أثبتهم محمد، وأنس دونه، ولا بأس به. وقال ابن مَعين وأبو حاتم والنَّسائيّ: ثقه. وقال ابن سَعْد: توفي بعد أخيه محمد، وكان ثقة قليل الحديث، وقال العِجْليّ: تابعيّ ثقة، وسئل ابن المَدينِيّ عن حديث رواه شُعبة عن أنَس بن سِيرين قال: رأيت القاسم يتطوع في السفر، قال: ليس هذا بشيء، لم يرو أنس عن القاسم شيئًا. روى عن مولاه وابن عباس وابن عمر وجُنْدُب البَجْليّ، وروى عنه شُعبة والحمّادان وابن عَوْن وخالد

لطائف إسناده

الحَذَّاء وهِشام بن حسّان ويونس بن عُبَيد وغيرهم. قيل: مات سنة مئة وثمانية عشرة سنة، وقيل: سنة عشرين ومئة. والرجل المبهم الذي قال إنه لا يستطيع، قيل: إنه عتبان بن مالك، وقد مرَّ في التاسع والعشرين من أبواب استقبال القبلة، وقد مرَّ ما قيل في ذلك، والرجل الآخر المبهم الذي هو من آل الجارود، قيل إنه عبد الحميد بن المنذر بن الجارود العَبْديّ البَصْريّ، قال النَّسائيّ: ثقة، وذكره ابن حبَّان في الثقات. روى له ابن ماجَه حديثًا واحدًا في السؤال عن صلاة الضحى. روى عن أنس، وروى عنه أنس بن سيرين. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع والسماع والقول، وشيخ البخاريّ من أفراده، ورواته ما بين عَسْقَلانيّ وواسطيّ وبَصْريّ. أخرجه البخاريّ أيضًا في صلاة الضحى، وأبو داود في الصلاة. ثم قال المصنف: باب إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة حذف جواب الشرط في الترجمة إشعارًا بعدم الجزم بالحكم لقوة الخلاف في ذلك كما ترى. ثم قال: وكانَ ابن عُمر يبدأ بالعَشَاء. وقال أبو الدَّرداء: مِنْ فقهِ المرءِ إقبالهُ على حاجتهِ حتى يُقبل على صلاته وقلبُهُ فارغٌ. وكأنه أشار بالأثرين المذكورين في الترجمة إلى منزع العلماء في ذلك، فإن ابن عمر حمله على إطلاقه، وأشار أبو الدَّرْدَاء إلى تقييده بما إذا كان القلب مشغولًا بالأكل، وأثر ابن عمر المذكور في الباب بمعناه، وابن عمر مرَّ في أول كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه، وأثر أبي الدرداء وصله ابن المبارك في كتاب الزهد، وأخرجه محمد بن نَصْر المَرْوَزِيّ في كتاب تعظيم قدر الصلاة، وأبو الدرداء مرَّ في باب من حمل معه الماء لطهوره، بعد السادس عشر من كتاب الوضوء.

الحديث الخامس والعشرون

الحديث الخامس والعشرون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ سَمِعْتُ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: إِذَا وُضِعَ الْعَشَاءُ وَأُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ. قوله: إذا وضع العشاء وأقيمت الصلاة، العَشاء بفتح العين والمد الطعام بعينه، وهو خلاف الغداء، وقد أخرجه المصنف هنا عن يحيى بن سعيد القَطّان بلفظ "إذا وضع العشاء" وأخرجه السّراج عن يحيى بن سعيد الأُمَويّ بلفظ "إذا حضر" وأخرجه المصنف في الأطعمة عن سفيان بلفظ "إذا حضر" أيضًا، وأخرجه مسلم بلفظ "إذا حضر" لكن الذين رووه بلفظ "إذا وضع" أكثر كما قال الإسماعيليّ، والفرق بين اللفظين أن الحضور أعم من الوضع، فيحمل قوله حضر أي بين يديه، لتأتلف الروايات لاتحاد المخرج. ويؤيده حديث أنس الآتي بلفظ "إذا قدم العشاء" ولمسلم "إذا قرب العشاء" وعلى هذا فلا يناط الحكم بما إذا حضر العشاء، لكنه لم يقرب للأكل، كما لو لم يفرغ ونحوه. وقوله: وأقيمت الصلاة، قال ابن دَقيق العيد: الألف واللام في الصلاة لا ينبغي أن تحمل على الاستغراق، ولا على تعريف الماهية، بل ينبغي أن تحمل على المغرب، لقوله: فابدؤا بالعشاء، ويترجح حمله على المغرب لقوله في الرواية الأخرى "فابدؤا به قبل أن تصلوا المغرب" والحديث يفسر بعضه بعضًا وفي رواية صحيحة، أخرجها ابن حِبّان والطبرانيّ "إذا وضع العشاء وأحدكم صائم" وقال الفاكهانيّ: ينبغي حمله على العموم نظرًا إلى العلة، وهي التشويش المفضي إلى ترك الخشوع، وذكر المغرب لا يقتضي حصرًا فيها لأن الجائع غير الصائم قد يكون أشوق إلى الأكل من الصائم،

وحمله على العموم إنما هو بالنظر إلى المعنى إلحاقًا للجائع بالصائم، وللغداء بالعشاء، لا بالنظر إلى اللفظ الوارد. وقوله: فابدؤا بالعَشاء، أي بفتح العين، وقد حمل الجمهور الأمر على الندب، ثم اختلفوا، فمنهم من قيده بمن كان محتاجًا للأكل، وهو المشهور عن الشافعية، وزاد الغزاليّ: ما إذا خشي فساد المأكول، ومنهم من لم يقيده، وهو قول الثَّوْريّ وأحمد وإسحاق، وعليه يدل فعل ابن عمر الآتي قريبًا. وأفرط ابن حَزْم فقال: تبطل الصلاة، ومنهم اختار البداءة بالصلاة إلا إن كان الطعام خفيفًا، نقله ابن المُنْذر عن مالك، وعند أصحابه تفصيل؛ قالوا: يبدأ بالصلاة إن لم يكن متعلق النفس بالأكل أو كان متعلقًا به لكنه لا يعجله عن صلاته، فإن كان يعجله عن صلائه بدأ بالطعام، واستحبت له الإعادة. قال النّوويّ: في هذه الأحاديث كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله، لما فيه من ذهاب كمال الخشوع، ويلتحق به ما في معناه مما يشغل القلب، وهذا إذا كان في الوقت سعة، فإن ضاق صلى على حاله، محافظة على حرمة الوقت، ولا يجوز التأخير. وحكى المتولي وجهًا أنه يبدأ بالأكل وإن خرج الوقت؛ لأن مقصود الصلاة الخشوع فلا يفوته، وهذا إنما يجيء على قول من يوجب الخشوع، وفيه نظر، لأن المفسدتين إذا تعارضتا اقتصر على أخفهما، وخروج الوقت أشد من ترك الخشوع، بدليل صلاة الخوف وغير ذلك، وإذا صلى لمحافظة الوقت صحت مع الكراهة، وتستحب الإعادة عند الجمهور. وادعى ابن حَزْم أن في الحديث دلالة على امتداد الوقت في حق من وضع له الطعام، ولو خرج الوقت المحدد، وقال مثل ذلك في حق النائم والناسي، واستدل النّوَوِيّ وغيره بحديث أنس الآتي بعد هذا، على امتداد وقت المغرب، واعترضه ابن دقيق بأنه إن أُريد بذلك التوسعة إلى غروب الشفق ففيه نظر، وإن أريد به مطلق التوسعة فمسلم. ولكن ليس محل الخلاف المشهور، فإن بعض من ذهب إلى ضيق وقتها جعله مقدرًا بزمن يدخل فيه مقدار ما يتناول فيه لقيمات يكسر بها سورة الجوع، واستدل به القُرْطُبيّ على أن شهود صلاة الجماعة ليس

بواجب، لأن ظاهره أنه يشتغل بالأكل، وإن فاتته الصلاة في الجماعة، وفيه نظر، لأن بعض من ذهب إلى الوجوب، كابن حبَّان، جعل حضور الطعام عذرًا في ترك الجماعة، فلا دليل فيه حينئذ على إسقاط الوجوب مطلقًا. وفيه دليل على تقديم فضيلة الخشوع في الصلاة على فضيلة أول الوقت، واستدل بعض الشافعية والحنابلة بقوله "فابدؤا" على تخصيص ذلك بمن لم يشرع في الأكل، وأما من شرع ثم أقيمت الصلاة، فلا يتمادى بل يقوم إلى الصلاة، لأنه قد أخذ منه ما يمنعه من شغل البال، وبحديث الحز من الكتف الآتي قريبًا قال ابن بطال: يرد هذا التأويل حديث ابن عمر الآتي قريبًا، ولا يعجل حتى يقضي حاجته، وقيل: لا رد عليه، لأنه يقول إنه قضى حاجته كما في الحديث، وليس من شرطه أن يستوفي أكل الكتف، لاسيما قلة أكله عليه الصلاة والسلام، وأنه يكتفي بحزة واحدة. وقد روى سعيد بن منصور وابن أبي شيبة بإسناد حسن، عن أبي هُرَيرة وابن عباس أنهما كانا يأكلان طعامًا شواء في التَّنُّور، فأراد المؤذن أن يقيم فقال له ابن عباس: لا تعجل، لئلا نقوم وفي أنفسنا منه شيء. وفي روايته ابن أبي شَيْبَةَ: لئلا يعرض لنا في صلاتنا، وله عن الحسن بن علي قال: العشاء قبل الصلاة يذهب النفس اللوامة، وفي هذا كله إشارة إلى أن العلة في ذلك تشوف النفس إلى الطعام، فينبغي أن يدار الحكم مع علته وجودًا وعدمًا ولا يتقيد بكل ولا بعض، ويستثنى من ذلك الصائم، فلا تكره صلاته بحضرة الطعام، إذ الممتنع بالشرع لا يشغل العاقل نفسه به. لكن إذا غلب استحب له التحول من ذلك المكان. وقد قال ابن الجوزيّ: ظن قوم أن هذا من باب تقديم حق العبد على حق الله، وليس كذلك، وإنما هو صيانة لحق الله ليدخل الخلق في عبادته بقلوب مقبلة، ثم إن طعام القوم كان يسيرًا لا يقطع عن إلحاق الجماعة غالبًا، وقد يقع في بعض كتب الفقه: إذا حضر العِشاء والعَشاء فابدؤا بالعَشاء، ولا أصل له في كتب الحديث بهذا اللفظ، وقد قال قطب الدين: إن ابن أبي شَيْبَةَ أخرج عن

رجاله خمسة

إسماعيل بن علية عن أم سلمة مرفوعًا "إذا حضر العَشاء، وحضرت العِشاء فابدؤا بالعِشاء" قال في الفتح: وقد رواه أحمد عن إسماعيل بلفظ "وحضرت الصلاة" قال: وراجعت مصنف ابن أبي شَيْبَةَ فوجدت الحديث فيه كما أخرجه أحمد، وقد نظم بعض العلماء الحكم في حضور الصلاة والطعام فقال: تَقْدِيْمُكَ الصّلاةَ للطعام ... هو الذي حُكِيْ عن الأعلام والشافعي للطعام قدَّما ... وابن حَبِيب حَبْر مَنْ تَقَدَّما وبعضهم مال إلى وفاق ما ... للشافعيّ مع إمام العُلَما فالشافعيّ قال ذا في حق من ... يشغَلُه حُبُّ الطعام فاعلمنْ ومالك في غيره تكلما ... وذاك في الحَطّاب جاء مسلمًا رجاله خمسة: وقد مروا، مرَّ مسدد ويحيى بن سعيد في السادس من الإيمان، ومرَّ هشام وعُرْوَة وعائشة في الثاني من بدء الوحي.

الحديث السادس والعشرون

الحديث السادس والعشرون حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إِذَا قُدِّمَ الْعَشَاءُ فَابْدَءُوا بِهِ قَبْلَ أَنْ تُصَلُّوا صَلاَةَ الْمَغْرِبِ وَلاَ تَعْجَلُوا عَنْ عَشَائِكُمْ. قوله: عن عُقيل: في رواية الإسماعيليّ "حدثني عقيل" وعنده أيضًا عن ابن شهاب "أخبرني أنس" وقوله: إذا قدم العشاء، زاد ابن حبَّان والطَّبَرانيّ في الأوسط، عن عمرو بن الحارث عن ابن شهاب "وأحدكم صائم" وأخرجه مسلم عن عمرو بن الحارث عن ابن شهاب بدون هذه الزيادة، وذكر الطَّبَرانيّ أن موسى بن أعْيَن تفرد بها، وموسى ثقة متفق عليه. وقوله: ولا تَعْجَلُوا، بفتح المثناة والجيم، ويروى بضم أوله وكسر الجيم. رجاله خمسة: مروا جميعًا، مرَّ يحيى بن بكير والليث وعقيل وابن شهاب في الثالث من بدء الوحي، ومرَّ أنس في السادس من الإيمان. أخرجه البخاريّ أيضًا في مواضع وأخرجه مسلم.

الحديث السابع والعشرون

الحديث السابع والعشرون حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: إِذَا وُضِعَ عَشَاءُ أَحَدِكُمْ وَأُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ وَلاَ يَعْجَلْ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُوضَعُ لَهُ الطَّعَامُ وَتُقَامُ الصَّلاَةُ فَلاَ يَأْتِيهَا حَتَّى يَفْرُغَ وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قِرَاءَةَ الإِمَامِ. قوله: إذا وضع عشاء أحدكم، هذا أخص من الرواية الماضية حيث قال: إذا وضع العشاء، فيحمل العشاء في تلك الرواية على عشاء من يريد الصلاة، فلو وضع عشاء غيره لم يدخل في ذلك، ويحتمل أن يقال بالنظر إلى المعنى لو كان جائعًا واشتغل خاطره بطعام غيره، كان كذلك، وسبيله أن ينتقل عن ذلك المكان أو يتناول مأكولًا يزيل شغل باله ليدخل في الصلاة وقلبه فارغ. ويؤيد هذا الاحتمال عموم قوله في رواية مسلم عن عائشة "لا صلاة بحضرة طعام" الحديث، وقول أبي الدَّرداء الماضي "إقباله على حاجته". وقوله: ولا يعجل، أي أحدكم المذكور أولًا، وقال الطّيبيّ: أفرد قوله "يعجل" نظرًا إلي لفظ أحد، وجمع قوله "فابدؤا" نظرًا إلى لفظ "كم" قال: والمعنى إذا وضع عشاء أحدكم فابدؤا أنتم بالعشاء، ولا يعجل هو حتى يفرغ معكم منه. وقوله: وكان ابن عمر، هو موصول عطفًا على المرفوع، وقد رواه السّراج عن نافع فذكر المرفوع ثم قال: قال نافع: وكان ابن عمر إذا حضر عشاؤه وسمع الإقامة وقراءة الإِمام، لم يقم حتى يفرغ، ورواه ابن حِبّان عن نافع أن ابن عمر كان يصلي المغرب إذا غابت الشمس، وكان أحيانا يلقاه وهو صائم، فيقدم له عشاؤه، وقد نودي للصلاة، ثم تقام وهو يسمع فلا يترك عشاءه، ولا يعجل حتى يقضي عشاءه، ثم يخرج فيصلي، وهذا أصرح ما ورد عنه في ذلك.

رجاله خمسة

وقوله: وإنه يسمع قراءة الإِمام في رواية الكُشمَيهَنِيّ "وإنه ليسمع" بزيادة لام التأكيد في أوله. رجاله خمسة: مروا كلهم، مرَّ عُبَيد بن إسماعيل في الثاني والعشرين من الحَيض، ومرَّ أبو أسامة في الحادي والعشرين من العلم، ومرَّ نافع في الثالث والسبعين منه، ومرَّ عبيد بن عمر بن حفص في الرابع عشر من الوضوء ومرَّ ابن عمر في كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه، أخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة. وَقَالَ زُهَيْرٌ وَوَهْبُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ عَلَى الطَّعَامِ فَلاَ يَعْجَلْ حَتَّى يَقْضِىَ حَاجَتَهُ مِنْهُ، وَإِنْ أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ". زهير هو ابن معاوية الجُعْفِيّ، وطريقه هذه موصولة عند أبي عَوانَةَ في مستخرجه. ورجاله خمسة: نافع وابن عمر ذكر محلهما الآن في الذي قبله، وزُهير بن معاوية مرَّ في الثالث والثلاثين من الإيمان، ومرَّ موسى بن عقبة في الخامس من الوضوء، وأما رواية وهب فقد ذكر المصنف قريبًا أن إبراهيم بن المُنذر رواها عنه، وإبراهيم من شيوخ البخاريّ، وقد وافق زهيرًا ووهبًا أبو ضمرة عند مسلم، وأبو بدر عند أبي عَوانة والدراوَرْديّ عند السّراج كلهم عن موسى بن عُقْبة. ووهب هو وَهْب بن عُثمان بن المُحْتَضِر المخزوميّ المَدَنيّ، ذكره ابن حبَّان في الثقات. روى عن موسى بن عقبة وأبي حازم بن دينار، وروى عنه إبراهيم بن حمزة الزُّبيريّ وإبراهيم بن المنذر ويعقوب بن حُمَيد بن كاسِب. ثم قال: وقال أبُو عبدِ اللهِ: رواهُ ابراهيمُ بنُ المنذرِ عنْ وَهْب بن عُثْمان. ووهب مَدَنيّ، والمراد بأبي عبد الله البُخاري نفسه، وإبراهيم بن المنذر

باب إذا دعى الإمام إلى الصلاة وبيده ما يأكل

مرَّ في الأول من العلم، ووهب ذكر الآن. ثم قال المصنف: باب إذا دعى الإِمام إلى الصلاة وبيده ما يأكل قيل: أشار بهذا إلى أن الأمر الذي في الباب قبله للندب لا للوجوب، وقد قدمنا قول من فصل بين ما إذا أقيمت الصلاة قبل الشروع في الأكل أو بعده، فيحمل أن المصنف كان يرى التفصيل، ولعل ذلك هو السر في إيراده حديث الباب عقب الذي قبله، ويحتمل تقييده في الترجمة بالإمام إن كان يرى تخصيصه به، وأما غيره من المأمومين فالأمر متوجه إليهم مطلقًا، ويؤيده قوله فيما سبق "إذا وضع عشاء أحدكم" وقد قدمنا تقريره قريبًا. وقال الزَّيْن بن المُنير: لعله صلى الله تعالى عليه وسلم أخذ في خاصة نفسه بالعزيمة، فقدم الصلاة على الطعام، وأمر غيره بالرخصة، لأنه لا يقوى على مدافعة الشهوة قوته، وأيكم يملك إربه. ويعكر على من استدل به على أن الأمر للندب احتمال أن يكون اتفق في تلك الحالة أنه قضى حاجته من الأكل، فلا تتم الدلالة به، وقد مرَّ هذا قريبًا.

الحديث الثامن والعشرون

الحديث الثامن والعشرون حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنْ صَالِحٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّ أَبَاهُ قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَأْكُلُ ذِرَاعًا يَحْتَزُّ مِنْهَا فَدُعِيَ إِلَى الصَّلاَةِ فَقَامَ فَطَرَحَ السِّكِّينَ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. وهذا الحديث قد مرَّ في باب "من لم يتوضأ من لحم الشاة" من كتاب الوضوء ومرَّ الكلام هناك مستوفى على مباحثه. رجاله ستة: كلهم مروا، مرَّ عبد العزيز بن عبد الله في الأربعبن من الوضوء، ومرَّ إبراهيم بن سعد في السادس عشر من الإيمان، ومرَّ ابن شِهاب في الثالث من بدء الوحي، ومرَّ صالح بن كَيْسان في السابع منه، ومرَّ جَعْفَر بن عمرو بن أمَيّة وأبوه عمرو في التاسع والستين من الوضوء. لطائف إسناده: فيه التحديث والإخبار والعنعنة والقول، ورواته كلهم مدنيون، وقد مرَّ الكلام عليه في باب من لم يتوضأ من لحم الشاة. ثم قال المصنف: باب من كان في حاجة أهله فأقيمت الصلاة فخرج كأنه أشار بهذه الترجمة إلى أنه لا يلحق بحكم الطعام كل أمر يكون للنفس تشوف إليه، إذ لو كان كذلك لم يبق للصلاة وقت في الغالب، وأيضًا فوضع الطعام بين يدي الأكل فيه زيادة تشوف، وكل ما تأخر تناوله ازداد بخلاف باقي الأمور، ومحل النص إذا اشتمل على وصف يمكن اعتباره يتعين عدم إلغائه.

الحديث التاسع والعشرون

الحديث التاسع والعشرون حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَكَمُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنِ الأَسْوَدِ قَالَ سَأَلْتُ عَائِشَةَ مَا كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ قَالَتْ: كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ تَعْنِي خِدْمَةَ أَهْلِهِ فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ خَرَجَ إِلَى الصَّلاَةِ. قوله: في مِهنة أهله، بكسر الميم وفتحها وسكون الهاء فيهما، وقد فسرها في الحديث بالخدمة، وهو من تفسير آدم بن أبي إيَاس شيخ المؤلف، لأنه أخرجه في الأدب والنفقات عن غيره، وأخرجه أحمد والإسماعيليّ والطّيَالِسِيّ عن غيره بدون هذه الزيادة، وفسر في الصحاح المهنة بالخدمة أيضًا، وفسرها صاحب المحكم بأخص من ذلك، فقال: المهنة الحذق بالخدمة والعمل. وفي رواية المُسْتَمِلي "في مِهنة بيت أهله" وهي مع شذوذها موجهة، فإن البيت تارة يضاف إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وتارة يضاف إلى أهله، وهو في الواقع إما له أو لهم، ففيما إذا ثبتت الملكية فالإضافة حقيقية، وفيما لم تثبت فالإضافة فيه بأدنى ملابسة، وهي كونه مسكنًا لمن أضيف إليه، والمراد بالأهل نفسه، أو ما هو أعم من ذلك، وقد وقع مفسرًا في الشمائل للتِّرمِذِيّ عن عائشة، بلفظ "ما كان إلا بشرًا من البشر يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه" ولأحمد وابن حبَّان عنها "يخيط ثوبه، ويَخْصِفُ نَعْلَه" زاد ابن حِبّان "ويَرْقَعُ دَلْوه" زاد الحاكم في "الإكليل" "وما رأيته ضَرَب بيده امرأَةً ولا خادمًا". وقوله: فإذا حضرت الصلاة في رواية ابن عَرْعَرَةَ "فإذا سمع الأذان" وهي أخص، وفي الترجمة فأقيمت الصلاة، وكان أخذه من حديثها المتقدم في باب من انتظر الإقامة، فإن فيه "حتى يأتيه المؤذن للإقامة" واستدل بحديث الباب على أنه لا يكره التشمير في الصلاة، وأن النهي عن كف الشعر والثياب للتنزيه،

رجاله ستة

لكونها لم تذكر أنه أزاح عن نفسه هيئة المهنة. قلت: وهي في الغالب فيها التشمير للخدمة، قالها ابن بطال ومن تبعه. قال في "الفتح": وفيه نظر، لأنه يحتاج إلى ثبوت أنه كان له هيئتان، ثم لا يلزم من ترك ذكر التهيئة للصلاة عدم وقوعه، وفيه الترغيب في التواضع وترك التكبر وخدمة الرجل أهله، وترجم عليه المؤلف في الأدب كيف يكون الرجل في أهله. وعند أبي سعيد عن عائشة قالت "كان ألين الناس وأكرم الناس، وكان رجلًا من رجالكم، إلا أنه كان بَسّامًا" قال ابن بطال: من أخلاق الأنبياء التواضع والبعد عن التنعم، وامتهان النفس ليستن بهم، ولئلا يخلدوا إلى الرفاهية المذمومة، وقد أشير إلى ذمها بقوله: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا} [المزمل: 11]. رجاله ستة: مروا جميعًا، مرَّ آدَمُ وشُعْبَةُ في الثالث من الإيمان، ومرَّ الحكم في السابع من بدء الوحي، ومرت عائشة في الثاني منه، ومرَّ إبراهيم بن يزيد في الخامس والعشرين من الإيمان، ومرَّ الأسود بن يزيد في السابع والستين من العلم. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع والعنعنة والسؤال والقول، ورواية الرجل عن خاله، وهو إبراهيم عن الأسود، أخرجه البخاريّ في الأدب أيضًا والنفقات، والتّرمذيّ في الزهد. ثم قال المصنف: باب من صلى بالناس وهو لا يريد إلا أن يعلمهم صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- وسنته الحديث مطابق للترجمة.

الحديث الثلاثون

الحديث الثلاثون حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ قَالَ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ قَالَ جَاءَنَا مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ فِي مَسْجِدِنَا هَذَا فَقَالَ إِنِّي لأُصَلِّي بِكُمْ وَمَا أُرِيدُ الصَّلاَةَ، أُصَلِّي كَيْفَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي. فَقُلْتُ لأَبِى قِلاَبَةَ كَيْفَ كَانَ يُصَلِّي قَالَ مِثْلَ شَيْخِنَا هَذَا. قَالَ وَكَانَ شَيْخًا يَجْلِسُ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ قَبْلَ أَنْ يَنْهَضَ فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى. قوله: وما أريد الصلاة، استشكل نفي هذه الإرادة، لما يلزم عليها من وجود صلاة غير قربة، ومثلها لا يصح، وأجيب بأنه لم يرد نفي القربة، وإنما أراد بيان السبب الباعث له على الصلاة في غير وقت صلاة معينة جماعة، وكأنه قال: ليس الباعث على هذا الفعل حضور صلاة معينة، من أداء أو إعادة أو غير ذلك وإنما الباعث لي عليه قصد التعليم، وكأنه كان تعين عليه حينئذ لأنه أحد من خوطب بقوله "صَلّوا كما رأيتموني أصلي" كما يأتي، ورأى أن التعليم بالفعل أوضح من القول، ففيه دليل على جواز مثل ذلك، وأنه ليس من باب التشريك في العبادة، لأن قصده كان التعليم وليس للتشريك فيه دخل، ويتعين حمل قوله في الرواية الآتية في باب المُكْث بين السجدتين "وذلك في غير حين الصلاة" على أن المراد به غير وقت صلاة من المفروضة، حتى لا يدخل فيه أوقات المنع من النافلة، لتنزيه الصحابيّ عن التنفل حينئذ، وليس في اليوم والليلة وقت أجمع على أنه غير وقت لصلاة من الخمس، إلا من طلوع الشمس إلى زوالها. وقوله: أصلي كيف رأيت، أي أصلي هذه الصلاة على الكيفية التي رأيت رسول الله في يصلي عليها، وفي الحقيقة كيف مفعول فعل مقدر تقديره أريكم كيف رأيت، وقد صرح بالمقدر في باب كيف يعتمد على الأرض عن وُهَيب،

ولكني أريد أن أريكم كيف رأيت إلخ. والمراد من الرواية لازمها، وهي كيفية صلاته -صلى الله عليه وسلم-، لأن كيفية الرؤية لا يمكن أن يريهم إياها. وقوله: فقلت لأبي قِلابَةَ القائل هو أيوب السَّختيانيّ. وقوله: مثل شيخنا هذا، هو عمرو بن سَلِمة كما صرح به في باب "اللَّبث بين السجدتين" ويأتي تعريفه قريبًا. وقوله: في الركعة الأُولى، يتعلق بقوله من السجود، أي السجود الذي في الركعة الأولى، لا بقوله قبل أن ينهض؛ لأن النهوض يكون منها لا فيها، ويجوز أن تكون الركعة الأولى خبر مبتدأ محذوف، أي هذا الجلوس أو هذا الحكم به كان في الركعة الأولى، ويجوز أن تكون كلمة "في" بمعنى "من" على حد قوله: ثلاثين شهرًا في ثلاثة أحوال أي من ثلاثة أحوال. وفي قوله يجلس، أن ينهض في الركعة الأولى مشروعية جلسة الاستراحة، وأخذ بها الشافعيّ وطائفة من أهل الحديث. وعن أحمد روايتان، وذكر الخَلاّل أن أحمد رجع إلى القول بها، ولم يستحبها الأكثر، بل في "العُتْبِيَّة" عن مالك كراهيتها. وقال الشافعي في الأم: يقوم من السجدة الثانية ولم يأمر بالجلوس. فقال بعض أصحابه: إن ذلك على اختلاف حالين، إن كان كبيرًا أو ضعيفًا جلس، وإلا لم يجلس، وقيل: إن أحمد أيضًا فَصّل بين الضعيف وغيره، وقال التِّرمِذِيّ: العمل عند أهل العلم على عدم الجلوس، وقال أبو الزِّناد: وتلك السنة، واحتج الأكثر النافي لها بخلو حديث أبي حُمَيد عنها، فإنه ساقه بلفظ "فقام ولم يتورّك" وأخرجه أبو داود أيضًا كذلك، قالوا: فلما تخالفا احتمل أن يكون ما فعله في حديث مالك بن الحويرث لعلة كانت به فقعد لأجلها، لا أن ذلك من سنة الصلاة، وتعقب هذا بأن الأصل عدم العلة، وبأن مالك بن الحُوَيْرث هو راوي حديث "صلوا كما رأيتموني أصلي" فحكاياته لصفات صلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- داخلة تحت هذا الأمر، واستدل الأكثرون أيضًا بقوله عليه الصلاة والسلام "لا تبادروني بالقيام والقعود، فإني قد بدنت" فدل على أنه كان يفعلها لهذا، فلا تشرع إلا في حق من اتفق له نحو ذلك.

رجاله خمسة

وقال أبو عبد الملك: كيف ذهب هذا الذي أخذ به الشافعيّ على أهل المدينة والنبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي بهم عشر سنين وصلى بهم أبو بكر وعمر وعثمان والصحابة والتابعون؟ فأين كان يذهب عليهم هذا المذهب؟ وقال الطَّحَاويّ والنظر يوجب أنه ليس بين السجود والقيام جلوس؛ لأن من شأن الصلاة التكبير فيها، والتحميد عند كل خفض ورفع وانتقال من حال، فلو كان بينهما جلوس لاحتاج أن يكبر عند قيامه من ذلك، الجلوس تكبيرة، كما يكبر عند قيامه من الجلوس في صلاته، إذا أواد القيام إلى الركعة التي بعد الجلوس. وأجاب الشافعية عن هذا بأنها جلسة خفيفة جدًا استغنى فيها بالتكبير المشروع للقيام، فإنها من جملة النهوض إلى القيام، ومن حيث المعنى فكذا ينبغي أن الساجد يضع يديه وركبتيه ورأسه مميزًا لكل عضو وضع، إذا رفع رأسه ويديه، أن يميز رفع ركبتيه، وإنما يتم ذلك بأن يجلس ثم ينهض قائمًا، وبأن الروايات عن أبي حميد لم تتفق على نفي هذه الجلسة، كما يفهم مما مرَّ، بل أخرجه أبو داود من وجه آخر عنه بإثباتها. وقال الأكثرون: إن عدم ذكر أبي حميد لها في أكثر الروايات عنه يدل على أن ذكرها لبيان الجواز لا للسنة، وأما قول بعضهم: لو كانت سنة لذكرها كل من وصف صلاته، فيقويّ أنه فعلها للحاجه، ففيه نظر، فإن السنن المتفق عليها لم يستوعبها كل واحد ممن وصف، وإنما أخذ مجموعها عن مجموعهم، وفيه دليل على أن الرجل يجوز له أن يعلم غيره الصلاة والوضوء عملًا وعيانًا، كما فعل جبريل عليه الصلاة والسلام، وفيه أن التعليم بالفعل أوضح عن القول. رجاله خمسة: مروا جميعًا، مرَّ موسى بن إسماعيل في الخامس من بَدْء الوحي، ومرَّ وُهَيب بن خالد في السادس والعشرين من العلم، ومرَّ أيّوب وأبو قِلابَة في التاسع من الإيمان، ومرَّ مالك بن الحُوَيْرث في باب تحريض النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وفد عبد الفيس، من العلم بعد الثامن والعشرين منه. لطائف إسناده:

باب أهل العلم والفضل أحق بالإمامة

فيه التحديث بصيغة الجمع والعنعنة والقول، ورواية تابعيّ عن تابعيّ عن صحابيّ، ورواته كلهم بصريون. أخرجه البخاريّ في الصلاة أيضًا، وأبو داود والنَّسائيّ. وقوله في الحديث مثل شيخنا هذا، المراد بالشيخ عمرو بن سَلِمة، بكسر اللام، ابن قَيْس الجَرْميّ، يكنى أبا يَزيد، بالزاي، على وزن عظيم، وقيل أبا بُرَيْد بموحدة ومهملة مصغرًا البَصري، وقد أبوه على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان عَمْرو يُصلي بقومه في عهده، وهو صغير، لأنه كان أكثرهم قرآنًا. أخرجه البُخاريّ ولم يصح له سماع ولا رواية وروي من وجه غريب أنه أيضًا وفد مع أبيه، وروى ابن مَنْدَه في كتاب الصحابة حديثه من طريق صحيح، وهي رواية الحَجَّاج بن مِنهال عن حمّاد بن سَلَمة عن أيّوب عن عمرو بن سَلِمة قال: "كنت في الوفد الذين وفدوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهذا تصريح بوفادته. وقد روى أبو نُعيم في الصحابة أيضًا من طرق ما يقتضي ذلك. وقال ابن حِبّان: له صحبة. روى عن أبيه، وروى عنه أبو قِلابة الجَرْميّ وعاصم الأحول وأبو الزبير ومِسْعَر بن حَبيبِ الجَرْميّ وغيرهم. ويلتبس هذا بعمرو بن سَلِمة بن الحارث، وقيل ابن الخَرب، بخاء مفتوحة ثم راء مكسورة، الهمدانيّ الكوفيّ. ذكره ابن حبَّان في الثقات، وقال: مات سنة خمس وثمانين، وهو أخو عبد الله بن سَلِمة، وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من أهل الكوفة، وقال: كان ثقة قليل الحديث، وهو الذي بعثه الحسن بن علِيّ في الصلح بينه وبين مُعاوية. قال أبو حاتم: أخطأ البُخاريّ، حيث جمع بينهما، ذاك جَرْميّ وهذا هَمْدانيّ. روى عن عليّ وأبي موسى الأشعريّ وسَلْمان بن رَبيعة الباهليّ، وروى عن ابنه يَحيى ويزيد بن أبي زياد وعامر الشَّعبيّ. ثم قال المصنف: باب أهل العلم والفضل أحق بالإمامة أي ممن ليس كذلك، ومقتضاه أن الأعلم والأفضل أحق من العالم والفاضل، وذكر الفضل بعد العلم من ذكر العام بعد الخاص.

الحديث الحادي والثلاثون

الحديث الحادي والثلاثون حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ عَنْ زَائِدَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ مَرِضَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَاشْتَدَّ مَرَضُهُ فَقَالَ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ. قَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّهُ رَجُلٌ رَقِيقٌ، إِذَا قَامَ مَقَامَكَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ. قَالَ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ، فَعَادَتْ فَقَالَ: مُرِي أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ، فَإِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ. فَأَتَاهُ الرَّسُولُ فَصَلَّى بِالنَّاسِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-. قوله: رقيق، أي رقيق القلب، وقوله: لم يستطع، أي من البكاء. وقوله: فأتاه الرسول، بلال. وقوله: في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أي إلى أن مات، كما صرح به موسى بن عُقْبَة في المغازي. وهذا الحديث وما بعده إلى باب، "من دخل ليؤم الناس استوفي الكلام عليها في باب حد المريض أن يشهد الجماعة، والظاهر أن حديث أبي موسى هذا من مراسيل الصحابة، ويحتمل أن يكون تَلَقّاه عن عائشة أو بلال. رجاله ستة: وفيه ذكر أبي بكر وعائشة رضي الله تعالى عنهما. الأول: إسحاق بن نصر، وقد مرَّ في التعليق الذي بعد الحادي والعشرين من العلم، ومرَّ زائدة بن قدامة في الثاني والعشرين من الغُسل، ومرَّ أبو بُرْدَةَ وأبوه أبو موسى في الرابع من الإيمان. والباقي مما لم يعرف اثنان:

الأول: حُسين بن عليّ بن الوليد الجُعْفِيّ مولاهم، أبو عبد الله، وقيل أبو محمد الكوفيّ المُقْري، قال أحمد: ما رأيت أفضل من حسين وسعيد بن عامر، وقال الهَرَويّ: ما رأيت أتقن منه، وقال قُتَيْبَة: قيل لسُفْيان بن عُيَينة: قدم حُسَين الجُعْفي، فوثب قائمًا، فقيل له: فقال: قدم أفضل رجل يكون قط، وقال موسى بن داود: كنت عند ابن عُيَينة فجاء حُسَين الجُعْفيّ، فقام سفيان وقبّل يده. وقال ابن عُيَينة: عجبت لمن مرَّ بالكوفة فلم يقبّل بين عَيْنَيْ حُسين الجُعْفي، وقال يحيى بن يحيى النَّيْسابُوريّ: إن بقي أحد من الأبدال فحُسين الجُعْفيّ. وقال أبو مسعود الرّازي: أفضل من رأيت الجَفْريّ وحُسَين الجَعْفِيّ. وقال الحَجّاج بن حَمْزة: ما رأيت حُسينًا الجُعْفيَّ ضاحكًا ولا مُبْتَسمًا، ولا سمعت منه كلمة ركن فيها إلى الدنيا. وقال الكِسَائيّ: قال لي هارون الرشيد: من أقرأ الناسُ قلت: حسين بن عَليّ الجُعْفيّ. وقال حُميد الربيع الخّزْار: كان لا يحدث، فرأى منامًا، فشرع يحدث حتى كتبنا عنه أكثر من عشرة آلاف، وقال العِجليّ: ثقة، وكان يقرىء الناس رأسًا فيه، وكان صالحًا، لم أر رجلًا قط أفضل منه، وكان صحيح الكتاب، يقال إنه لم يطأ أنثى قط، وكان جميلًا، وكان زائدة يختلف إليه إلى منزله يحدثه، فكان أروى الناس عنه، وكان الثَّوريّ إذا رآه عانقه، وقال: هذا راهب جُعْفِيّ. وقال عثمان بن أبي شَيْبَةَ بَخٍ بَخٍ ثقة صدوق، روى عن خاله الحَسَنُ بن الحُرّ، والأعْمَش وزائدة وحَمْزَة الزَّيَّات وفُضَيل بن عِياض وغيرهم. وروى عنه ابن مَعين وأحمد وإسحاق وكُريب وأبو بكر بن أبي شَيْبَةَ وعباس الدُّورِيّ وأبو مسعود الرّازيّ وغيرهم. ولد سنة مئة وتسعة عشر، ومات سنة ثلاثة أو أربعة ومئتين والمُقْرِي في نسبه نسبة إلى الإقراء، لأنه كان رأسًا في القراءة والثاني: عبد الملك بن عُمير بن سُويد بن حارثة القرَشَيّ، أو الفَرَسيّ بالتحريك، كما يأتي، أبو عمرو، ويقال أبو عمر الكوفي المعروف بالقُبْطيّ، قال في المقدمة: مشهور من كبار المحدثين، لقي جماعة من الصحابة وعُمّرِ. وثّقه العِجليّ وابن مَعين والنَّسائيّ وابن نُمير. وقال ابن مهدي: كان الثَّوْرِيّ

لطائف إسناده

يَعْجَبُ من حفظ عبد الملك، وقال أبو حاتم: ليس بحافظ، تغير حفظه قبل موته، وإنما عني ابن مَهْدِي عبد الملك بن أبي سليمان، وقال أحمد: مضطرب الحديث، تختلف عليه الحُفّاظ. وقال ابن البَرْقيّ عن ابن مَعين: ثقة إلا أنه أخطأ في حديث أو حديثين، احتج به الجماعة، وأخرج له الشيخان من رواية القدماء عنه في الاحتجاج، ومن رواية بعض المتأخرين عنه في المتابعات، وإنما عيب عليه أنه تَغَيَّر حفظه لكبر سنه، لأنه عاش مئة وثلاث سنين، ولم يذكره ابن عَدِيّ في "الكامل" ولا ابن حِبّان. رأى عليًا وأبا موسى، وروى عن الأشْعَث بن قَيْس وجابر بن سَمُرة والمُغِيرة بن شُعْبَة وغيرهم. وروى عنه ابنه موسى والأعمش وشَهْر بن حَوْشَب ومِسْعَر والثَّوريّ وشُعْبَة وجَرير بن أبي حازم وخلق، ولد لثلاث بقين من خلافة عثمان، ومات سنة ست وثلاثين ومئة وله حينئذ مئة وثلاث سنين. واختلف في ضبط القُرشي في نسبه، فقيل بالقاف والمعجمة نسبة إلى قُرَيش، ويدل عليه قول ابن سعد إنه حليف بني عَدِي بن كَعْب، وضبطه غير واحد بالفاء والمهملة نسبة إلى فرسه، ويدل عليه قول ابن عُيينة قال رجل لعبد الملك بن عبد الملك بن عمير القُبطيّ فقال: أما عبد الملك فأنا وأما القُبْطِيّ ففرس لنا سابق كان يقال له القُبْطِيّ، والصواب أنه يجوز في نسبته الأمران. ومرَّ أبو بكر في الوضوء في باب من لم يتوضأ من لحم الشاة والسويق، بعد الحادي والسبعين منه، ومرت عائشة في الثاني من بدء الوحي. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الإفراد والجمع والعنعنة والقول، ونسبة الراوي إلى جده، وهو شيخ البخاريّ، ورواية تابعيّ عن تابعيّ عن الصحابيّ، ورواته كلهم كوفيون ما عدا شيخ البخاريّ. أخرجه البخاريّ أيضًا في أحاديث الأنبياء عن الربيع ومسلم في الصلاة.

الحديث الثاني والثلاثون

الحديث الثاني والثلاثون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضى الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ فِي مَرَضِهِ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ. قَالَتْ عَائِشَةُ قُلْتُ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ إِذَا قَامَ فِي مَقَامِكَ لَمْ يُسْمِعِ النَّاسَ مِنَ الْبُكَاءِ، فَمُرْ عُمَرَ فَلْيُصَلِّ لِلنَّاسِ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ فَقُلْتُ لِحَفْصَةَ قُولِي لَهُ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ إِذَا قَامَ فِي مَقَامِكَ لَمْ يُسْمِعِ النَّاسَ مِنَ الْبُكَاءِ، فَمُرْ عُمَرَ فَلْيُصَلِّ لِلنَّاسِ. فَفَعَلَتْ حَفْصَةُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: مَهْ، إِنَّكُنَّ لأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ، مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ لِلنَّاسِ. فَقَالَتْ حَفْصَةُ لِعَائِشَةَ مَا كُنْتُ لأُصِيبَ مِنْكِ خَيْرًا. قوله: عن عائشة، كذا رواه جماعة عن مالك موصولًا، وهو في أكثر نسخ الموطأ مرسلًا، ليس فيه عائشة. وقوله: مَهْ كلمة زجر بنيت على السكون، أي اكففْ، فإن وصلت نونت، وقد مرَّ الكلام عليه في المحل المذكور آنفًا. رجاله خمسة: الأول: عبد الله بن يوسف إلى آخر السند، مرَّ بهذا النسق في الثاني من بدء الوحي، وفيه ذكر أبي بَكْر وحَفْصَة رضي الله تعالى عنهما، وأبو بكر مرَّ الآن في الذي قبله ذكر محله، وحفصة أم المؤمنين بنت عمر بن الخطاب، قد مرت في الثالث والستين من الوضوء.

الحديث الثالث والثلاثون

الحديث الثالث والثلاثون حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ الأَنْصَارِيُّ وَكَانَ تَبِعَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَخَدَمَهُ وَصَحِبَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يُصَلِّي لَهُمْ فِي وَجَعِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- الَّذِى تُوُفِّيَ فِيهِ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الاِثْنَيْنِ وَهُمْ صُفُوفٌ فِي الصَّلاَةِ، فَكَشَفَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- سِتْرَ الْحُجْرَةِ يَنْظُرُ إِلَيْنَا، وَهْوَ قَائِمٌ كَأَنَّ وَجْهَهُ وَرَقَةُ مُصْحَفٍ، ثُمَّ تَبَسَّمَ يَضْحَكُ، فَهَمَمْنَا أَنْ نَفْتَتِنَ مِنَ الْفَرَحِ بِرُؤْيَةِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَنَكَصَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى عَقِبَيْهِ لِيَصِلَ الصَّفَّ، وَظَنَّ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- خَارِجٌ إِلَى الصَّلاَةِ، فَأَشَارَ إِلَيْنَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ أَتِمُّوا صَلاَتَكُمْ، وَأَرْخَى السِّتْرَ، فَتُوُفِّيَ مِنْ يَوْمِهِ. قوله: تبع النبي -صلى الله عليه وسلم-، لم يذكر المتبوع فيه ليشعر بالعموم، أي تبعه في العقائد والأقوال والأفعال والأخْلَاق. وقوله: وخدمه، إنما ذكر خدمته لبيان زيادة شرفه، وهو كان خادمًا له عليه الصلاة والسلام عشر سنين، ليلًا ونهارًا وذكر صحبته معه -صلى الله عليه وسلم- لأن الصحبة معه عليه الصلاة والسلام أفضل أحوال المؤمنين، وأعلى مقاماتهم. وقوله: يوم الاثنين، بالنصب، أي كان الزمان يوم الاثنين، ويجوز أن تكون كان تامة، ويكون يوم الاثنين مرفوعًا. وقوله: وهم صفوف، جملة اسمية وقعت حالًا. وقوله: ينظر، كذلك، وروى "فنظر" وقوله: كأن وجهه ورقة مُصْحَف، الوَرَقة بفتح الراء والمصحف مثلث الميم، ووجه التشبيه عبارة عن الجمال البارع وحسن الوجه وصفاء البشرة. وقوله: يضحك، جملة حالية تقديره فتبسم ضاحكًا، وسبب تبسمه فرحه بما رأى من اجتماعهم على الصلاة، واتفاق كلمتهم وإقامتهم شريعته، ولهذا استنار وجهه، ويروى "فضحك" بالفاء، وقوله: فهممنا، أي قصدنا، وقوله:

رجاله أربعة

فنكص أبو بكر، أي رجع. وقوله: ليصل الصف، من الوصول لا من الوصل. وقوله: الصف، منصوب بنزع الخافض، أي إلى الصف. وقوله: فتوفي من يومه، ويروى وتوفي بالواو. وقد مرت مباحثه في المحل المذكور آنفًا. رجاله أربعة: وفيه ذكر أبي بكر، وقد مروا جميعًا، مرَّ أبو اليَمَان وشُعَيْب بن أبي حَمْزة في السابع من بدء الوحي، ومرَّ الزُّهريّ في الثالث منه، ومرَّ أَنَس في السادس من الإيمان، ومرَّ ذكر محل أبي بكر في الذي قبل هذا بحديث.

الحديث الرابع والثلاثون

الحديث الرابع والثلاثون حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ لَمْ يَخْرُجِ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- ثَلاَثًا، فَأُقِيمَتِ الصَّلاَةُ، فَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ يَتَقَدَّمُ فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِالْحِجَابِ فَرَفَعَهُ، فَلَمَّا وَضَحَ وَجْهُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- مَا نَظَرْنَا مَنْظَرًا كَانَ أَعْجَبَ إِلَيْنَا مِنْ وَجْهِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ وَضَحَ لَنَا، فَأَوْمَأَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِيَدِهِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ أَنْ يَتَقَدَّمَ، وَأَرْخَى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- الْحِجَابَ، فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَ. قوله: ثلاثًا، أي ثلاثة أيام، وقد مرَّ غير مرة أن المميز إذا كان محذوفًا يجوز تذكير العدد وتأنيثه، وكان ابتداؤها من حين خرج النبي -صلى الله عليه وسلم-، فصلّى بهم قاعدًا كما مرَّ. وقوله: فذهب أبو بكر يتقدم، وفي رواية "فتقدم" وقوله: فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- بالحجاب، أي أخذ الحجاب فرفعه، وهذا من إجراء "قال" مجرى "فعل"، وهو كثير. وقوله: فلما وضح، أي ظهر، قال ابن التين: أي ظهر لنا بياضه وحسنه، لأن الوضّاح عند العرب هو الأبيض اللون لحسنه. وقوله: ما رأينا، وفي رواية الكُشْمَيهنيّ: ما نظرنا. وقوله: فأومأ بيده إلى أبي بكر أن يتقدم، ليس مخالفًا لقوله في أوله "فتقدم أبو بكر" والحاصل أنه تقدم، ثم ظن أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- خرج، فتأخر، فأشار إليه حينئذ أن يرجع إلى مكانه. وفي حديث ابن عباس عند مسلم في نحو هذه القصة أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لهم في تلك الحالة: "ألا وإني نُهيت أن أقرأ راكعًا أو ساجدًا". وقوله: فلم يُقدر عليه، أي على النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويُقدر بضم أوله وفتح الدال، بلفظ المفرد والغائب مبني للمجهول، ويروى فلم "نَقْدِر" بفتح النون وكسر الدال، بلفظ المتكلم. وفي الحديث أن أبا بكر، رضي الله تعالى عنه، كان خليفته في الصلاة إلى موته عليه الصلاة والسلام، ولم يعزله عنها كما زعمت

رجاله أربعة

الشيعة أنه عزل بخروج النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتقدم النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وفيه أن الإشارة باليد تقوم مقام الأمر في هذا الموضع، وقد مرت مباحثه في المحل المذكور آنفًا. رجاله أربعة: قد مروا جميعًا، وفيه ذكر أبي بكر، مرَّ أبو مَعْمَر بن عبد الله بن عمرو، وعبد الوارث في السابع عشر من العلم، ومرَّ عبد العزيز بن صُهَيْب في الثامن من الإيمان، ومرَّ أنَس في السادس منه ومرَّ قريبًا ذكر محل أبي بكر، رواته كلهم بصريون، أخرجه مسلم أيضًا في الصلاة.

الحديث الخامس والثلاثون

الحديث الخامس والثلاثون حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ لَمَّا اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَجَعُهُ قِيلَ لَهُ فِي الصَّلاَةِ فَقَالَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ. قَالَتْ عَائِشَةُ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ رَقِيقٌ، إِذَا قَرَأَ غَلَبَهُ الْبُكَاءُ. قَالَ مُرُوهُ فَيُصَلِّي فَعَاوَدَتْهُ. قَالَ مُرُوهُ فَيُصَلِّي، إِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ. قوله: عن حَمْزَة بن عبد الله، أي ابن الخَطّاب، وفي كلام ابن بطال ما يوهم أنه حمزة بن عمرو الأسْلَمي، وهو خطأ. وقوله: فعاودَتْه، أي بفتح الدال وسكون المثناة، أي عائشة، وبسكون الدال وفتح النون، أي هي ومن معها من النساء. رجاله ستة: وفيه ذكر أبي بكر، قد مروا كلهم إلا شَيْخ البخاريّ مرَّ ابن وَهْب في الثالث عشر من العلم، ومرَّ يونُس بن يزيد في المتابعات بعد الرابع من بدء الوحي، ومرَّ ابن شِهاب في الثالث منه، ومرَّ حمزة بن عبد الله في الرابع والعشرين من العلم، ومرَّ أبوه عبد الله بن عمر في أول كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه، ومرَّ ذكر محل أبي بكر في الذي قبل هذا بثلاثة أحاديث. وأما شيخ البخاريّ يحيى بن سُليمان بن يحيى بن سَعيد بن مُسْلِم بن عبد الله بن مسلم الجُعْفِيّ، أبو سعيد الكُوفيّ المُقْرِىء، سكن مصر، قال أبو حاتم، شيخ، وقال النَّسائيّ: ليس بثقة، وذكره ابن حبَّان في الثقات. وقال: ربما أغرب، وقال الدارَقُطنيّ: ثقة، وقال مَسْلَمة بن قاسم: لا بأس به، وكان عند

لطائف إسناده

العَقِيليّ ثقة، وله أحاديث مناكير. قال في مقدمة الفتح: لم يكثر البخاريّ من تخريج أحاديثه، وإنما أخرج له أحاديث معروفة من حديث ابن وهب خاصة، روى عن عمه عمرو بن عثمان بن سعيد الجُعْفِيّ وعبد الله بن وهب وعبد الله بن نُمَير ووَكِيع وحَفْص بن غياث وغيرهم، وروى عنه البُخاريّ والتِّرمِذِيّ بواسطة، وأبو زُرْعَة وأبؤحاتم والذُّهْلِيّ وغيرهم، مات بمصر سنة سبع وثلاثين ومئتين وقيل سنة ثمان. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع والإفراد، والإخبار بصيغة الإفراد. وفيه العنعنة، وفيه القول، وشيخ البخاريّ من أفراده، ورواته ما بين كوفيّ وأيْليّ وبصريّ ومَدَنيّ، أخرجه النَّسائيّ. ثم قال: تَابَعَهُ الزُّبَيْدِيُّ وَابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ وَإِسْحَاقُ بْنُ يَحْيَى الْكَلْبِيُّ عَنِ الزُّهْرِيِّ. يعني موصولًا عنه، مرفوعًا كما يأتي لا موقوفًا، أما متابعة الزّبيديّ فقد وصلها الطَّبرانيّ في مسند الشاميين، من طريق عبد الله بن سالم الحُمصيّ مرفوعًا، وزاد فيه قولها "فمر عمر" وقال فيه: فراجعته عائشة، والزُّهريّ هو محمد بن الوليد أبو الهديل، وقد مرَّ في التاسع عشر من العلم، وأما متابعة ابن أخي الزُّبيديّ: فقد وصلها ابن عديّ من رواية الدراوَرْدِيّ عنه، وهو محمد بن عبد الله بن مُسْلم، وقد مرَّ في المتابعة بعد العشرين من الإيمان. وأما متابعة إسحاق بن يحيى، وصلها أبو بكر بن شاذَان البغداديّ في نسخة إسحاق بن يحيى في رواية يحيى بن صالح عنه، وإسحاق هو ابن يحيى بن علقمة الكلبيّ الحمصيّ المعروف بالعَوصِيّ، يروي عن الزُّهريّ، وعنه يحيى بن صالح الوُحَاظيّ، ذكره محمد بن يحيى الذُّهليّ في الطبقة الثانية من أصحاب الزُّهريّ، وقال: مجهول لم أعلم له راوية غير يحيى بن صالح الوُحَاظيّ، فإنه أخرج اليّ له أجزاء من حديث الزُّهريّ، فوجدتها متقاربة. قال

ابن عَون، يقال إن إسحاق قتل أباه، وقال الدارَقُطنيّ: أحاديثه صالحة، وذكره ابن حبَّان في الثقات، والعوصي في نسبه، بفتح العين، نسبة إلى عَوص بن عَوْف بن عُذْرَة بن زيد اللّات بن رُفَيْدَة بن ثَوْر بن كلْب بن وَبْرَة، بطن من كلب، يقول الشاعر: متى يفترشْ يومًا غُلَيْم بغارة ... تكونوا كعَوْصٍ أو أذلَّ وأضرعا ثم قال: وقال عُقِيل ومَعْمر، عن الزُّهرِيّ، عن حَمْزة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. قال الكِرْمانيّ: الفرق بين رواية الزّبيديّ وابن أخي الزُّهريّ وإسحاق بن يحيى، وبين رواية عُقِيل ومَعْمر، أن الأُولى متابعة والثانية مقاولة، ومراده بالمقاولة الإتيان فيها بصيغة "قال" وليس في اصطلاح المحدثين صيغة مقاولة، وإنما السر في تركه عطف رواية عُقيل ومَعْمَر على رواية يونُس ومن تابعه، أنهما أرسلا الحديث، وأولئك وصلوه، أي أنهما خالفا يونس ومن تابعه، فأرسلا الحديث. فأما رواية عُقيل فقد وصلها الذُّهليّ في الزُّهْرِيات، وعقيل مرَّ في الثالث من بدء الوحي. وأما رواية معمر فاختلف عليه، فرواه عبد الله بن المبارك عنه مرسلًا، كذلك أخرجه ابن سَعِيد وأبو يَعْلى من طريقه، ورواه عبد الرَّزَّاق عن مَعْمَر موصولًا، لكن قال "عن عائشة" بدل قوله "عن أبيه" كذلك أخرجه مسلم، وكأنّه رجح عنده، لكون عائشة صاحبة القصة، ولقاء حمزة لها ممكن، ورجح الأول عند البُخاريّ لأن المحفوظ في هذا عن الزُّهريّ من حديث عائشة روايته كذلك عن عبيد الله عنها، ومما يؤيده أن رواية عبد الرّزّاق عن معمر متصلًا بالحديث، أن عائشة قالت "وقد عاودته وما حملني على معاودته إلا أني خشيت أن يتشاءم الناس بأبي بكر" وهذه الزيادة إنما تحفظ من رواية عُبيد الله عنها، من رواية الزُّهريّ عن حمزة، ومعمر هو ابن راشد، وقد مرَّ في المتابعات بعد الرابع من بدء الوحي، وحمزة مرَّ قريبًا ذكر محله. ثم قال المصنف:

باب من قام إلى جنب الإمام لعلة

باب من قام إلى جنب الإِمام لعلة أي لسبب اقتضى ذلك وقد مرَّ ما فيه في باب حدِّ المريض.

الحديث السادس والثلاثون

الحديث السادس والثلاثون حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ يَحْيَى قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ قَالَ أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّي بِالنَّاسِ فِي مَرَضِهِ، فَكَانَ يُصَلِّي بِهِمْ. قَالَ عُرْوَةُ فَوَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي نَفْسِهِ خِفَّةً، فَخَرَجَ فَإِذَا أَبُو بَكْرٍ يَؤُمُّ النَّاسَ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ اسْتَأْخَرَ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ أَنْ كَمَا أَنْتَ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حِذَاءَ أَبِي بَكْرٍ إِلَى جَنْبِهِ، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِصَلاَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاَةِ أَبِي بَكْرٍ. قوله: قال عروة فوجد، هو بالإسناد المذكور، ووَهِم من جعله معلقًا، ثم إن ظاهره الإرسال من قوله "فوجد .. " إلى آخره، لكن رواه ابن أبي شَيْبَةَ عن ابن نُمَير بهذا الإسناد متصلًا بما قبله، وأخرجه ابن ماجَه عنه، وقد وصله المصنف عن عروة عنها فيما تقدم، ويحتمل أن يكون عُرْوة أخذه عن عائشة وعن غيرها، فلذلك قطعه عن القدر الأول الذي أخذه عنها وحدها، والأصل في الإِمام أن يكون متقدمًا على المأمومين إلا إن ضاق المكان، أو لم يكن إلا مأموم واحد، وكذا لو كانوا عُراة، وما عدا ذلك يجوز ويجزىء، ولكن تفوت الفضيلة. وقوله: كما أنت، كلمة ما موصولة، وأنت مبتدأ، وخبره محذوف، أي كما أنت عليه، أو فيه. الكاف للتشبيه أي كن مشابهًا لما أنت عليه، أي يكون مالك في المستقبل مشابهًا لحالك في الماضي، ويجوز أن تكون الكاف زائدة، أي التزمْ الحال التي أنت عليها، وهي الإمامة. وقوله: حذاء أبي بكر، أي محاذيًا من جهة الجَنْب لا من جهة القُدام والخلف، ولا منافاة بين قوله في الترجمة "قام إلى جنب الإِمام" وهنا قال: جلس إلى جنبه لأن القيام إلى جنب الإِمام قد يكون

رجاله خمسة

إنهاؤه بالجلوس في جَنْبه، ولا شك أنه كان قائمًا في الابتداء ثم صار جالسًا، أو قاس القيام على الجلوس في جواز كونه في الجَنْب، أو المراد قيام أبي بكر لا قيام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والمعنى قام أبو بكر بجنب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- محاذيًا له لا متخلفًا عنه، لغرض مشاهدة أحواله عليه الصلاة والسلام. وفي الحديث إشعار بصحة صلاة المأموم وإن لم يتقدم الإِمام عليه كما هو مذهب المالكية، وأجيب بأنه قد يكون بينهما المحاذاة مع تقدم العقب على عقب المأموم، أو جاز محاذاة العقبين لاسيما عند الضرورة أو الحاجة، وفيه جواز جلوس المأموم بجنب الإِمام عند الضرورة أو الحاجة. وفي قوله: استأخر، دليل واضح أنه لم يكن عنده مستنكرًا أن يتقدم الرجل عن مقامه الذي قام فيه في صلاته ويتأخر، وذلك عمل في الصلاة من غيرها، فكل ما كان نظير ذلك وفعله فاعل في صلاته لأمر دعاه إليه، فذلك جائز. وفيه أن العمل القليل لا يفسد الصلاة، وقد مرت مباحث هذا الحديث في باب حد المريض. رجاله خمسة: قد مروا جميعًا. وفيه ذكر أبي بكر. الأول: زكرياء بن يحيى، يحتمل أن يكون اللؤلؤيّ، ويحتمل أن يكون أبا السّكين، وقد مرَّ أيضًا في الثالث عشر من الوضوء ومرَّ عبد الله بن نُمَير في الثالث من التيمم، ومرَّ هِشام بن عُرْوَة وأبوه عُرْوَة وعائشة في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ أبو بكر في باب من لم يتوضأ من لحم الشاة والسويق من الوضوء، بعد الحادي والسبعين منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع، والإخبار كذلك، والعنعنة والقول. أخرجه مسلم في الصلاة، وابن ماجَه. ثم قال المصنف:

باب من دخل ليؤم الناس فجاء الإمام الأول فتأخر الأول أو لم يتأخر جازت صلاته

باب من دخل ليؤم الناس فجاء الإِمام الأول فتأخر الأول أو لم يتأخر جازت صلاته قوله: فجاء الإِمام الأول، أي الراتب. وقوله: فتأخر الأول، أي الداخل في الصلاة، فكل منهما أول باعتبار، والمعرفة إذا أعيدت كانت عين الأولى إلا بقرينة كونها غيرها هنا ظاهرة. ثم قال: فيه عائشةُ عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-. يشير بالشق الأول، وهو ما إذا تأخر إلى رواية عُرْوَة عنها في الباب الذي قبله، حيث قال "فلما رآه استأخر"، وبالثاني، وهو ما إذا لم يستاخر إلى رواية عبد الله عنها، حيث قال "فأراد أن يتأخر" وقد تقدمت في باب حد المريض، والجواز مستفاد من التقرير، وكلا الأمرين قد وقعا في حديث الباب، وقد مرَّ الآن محل تعريف عائشة.

الحديث السابع والثلاثون

الحديث السابع والثلاثون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي حَازِمِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَهَبَ إِلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمْ فَحَانَتِ الصَّلاَةُ فَجَاءَ الْمُؤَذِّنُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ أَتُصَلِّي لِلنَّاسِ فَأُقِيمَ قَالَ نَعَمْ. فَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَالنَّاسُ فِي الصَّلاَةِ، فَتَخَلَّصَ حَتَّى وَقَفَ فِي الصَّفِّ، فَصَفَّقَ النَّاسُ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ لاَ يَلْتَفِتُ فِي صَلاَتِهِ فَلَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ التَّصْفِيقَ الْتَفَتَ فَرَأَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَأَشَارَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنِ امْكُثْ مَكَانَكَ، فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ رضى الله عنه يَدَيْهِ، فَحَمِدَ اللَّهَ عَلَى مَا أَمَرَهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ اسْتَأْخَرَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى اسْتَوَى فِي الصَّفِّ، وَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَصَلَّى، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ يَا أَبَا بَكْرٍ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَثْبُتَ إِذْ أَمَرْتُكَ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مَا كَانَ لاِبْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يُصَلِّي بَيْنَ يَدَىْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: مَا لِي رَأَيْتُكُمْ أَكْثَرْتُمُ التَّصْفِيقَ مَنْ رَابَهُ شَىْءٌ فِي صَلاَتِهِ فَلْيُسَبِّحْ، فَإِنَّهُ إِذَا سَبَّحَ الْتُفِتَ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ. قوله: عن سَهْل بن سَعْد، في رواية النّسائيّ من طريق سُفْيان عن أبي حازم "سمعتُ سَهْلًا" وقوله: ذهب إلى بني عَمْرو بن عَوْف، أي ابن مالك بن الأوْس، والأوس أحد قبيلَتَيْ الأنصار، وهما الأوْس والخَزْرَج، وبنو عمرو بن عَوْف بطن كبير من الأوس، فيه عدة أحْياء كانت منازلهم بقباء، منهم بنو أمَيّة بن زيد بن مالك بن عَوْف بن عمرو بن عَوْف وبنو ضُبَيْعَة بن زَيْد، وبنو ثَعلبة بن عمرو بن عَوْف. والسبب في ذهابه -صلى الله عليه وسلم- إليهم ما في رواية سُفيان المذكورة قال: وقع بين حَيَّيْن من الأنصار كلام، وللمؤلف في الصلح عن أبي حازم أن أهل قباء اقتتلوا

حتى تراموا بالحجارة، فأخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذلك، فقال: اذهبوا بنا فأصلح بينهم. وله فيه من رواية أبي غسان عن أبي حازم "فخرج في أناس من أصحابه" وسمى الطبرانيّ منهم أُبَيّ بن كَعْب وسُهَيل بن بيضاء، وقد مرَّ تعريف أُبَيّ في السادس عشر من كتاب العلم، وجاء تعريف سُهيل بن بيضاء في الثاني والأربعين والمئة من التفسير، وللمؤلف في الأحكام عن أبي حازم أن توجهه كان بعد أن صلى الظهر، وللطبرانيّ أن الخبر جاء بذلك، وقد أذن بلال لصلاة الظهر. وقوله: فحانت الصلاة، أي صلاة العصر، وصرح به في الأحكام بلفظ "فلما حضرت صلاة العصر أذن وأقام وأمر أبا بكر فتقدم" ولم يسم فاعل ذلك، وأخرجه أحمد وأبو داود وابن حبَّان، فبيّن أن ذلك كان بأمر النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولفظه "إنْ حضرت الصلاة ولم آتك فمر أبا بكر فليصل بالناس، فلما حضرت العصر أذّن بلال ثم أقام، ثم أمر أبا بكر فتقدم" ونحوه للطَّبرانيّ، وعرف بهذا أن المؤذن بلال، وأما قوله: لأبي بكر أتصلي للناس، فلا يخالف ما ذكر، لأنه يحمل على أنه استفهمه هل يبادر أول الوقت أو ينتظر قليلًا، ليأتي النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ ورجح عند أبي بكر المبادرة، لأنها فضيلة متحققة، فلا تترك لفضيلة متوهمة. وقوله: فأقيم، بالنصب، ويجوز الرفع. وقوله: قال نعم، زاد في رواية أبي حازم عند المؤلف، في باب رفع الأيدي "إن شئت" وإنما فوض ذلك له لاحتمال أن يكون عنده زيادة علم من النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك في قوله: فصلى أبو بكر، أي دخل في الصلاة، ولفظ عبد العزيز المذكور "وتقدم أبو بكر فكبر"، وفي رواية المسعوديّ: "فاستفتح أبو بكر الصلاة" وهي عند الطَّبرانيّ، وبهذا يجاب عن الفرق بين المقامين، حيث امتنع أبو بكر هنا أن يستمر إمامًا، وحيث استمر في مرض موته -صلى الله عليه وسلم- حين صلى خلفه الركعة الثانية من الصبح، كما صرح به موسى بن عُتْبَة في المغازي، فكأنه لما أن مضى معظم الصلاة حسن الاستمرار، ولما أن لم يمض منها إلا اليسير لم يستمر، وكذا وقع لعبد الرحمن بن عوف، حيث صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- خلفه الركعة الثانية من الصبح، فإنه

استمر في صلاته إماما لهذا المعنى، وقصة عبد الرحمن عند مسلم من حديث المغيرة بن شُعْبَة كما مرَّ. وقوله: فتخلص، في رواية عبد العزيز "فجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- يمشي في الصفوف يشقها شقًا حتى قام في الصف الأول" ولمسلم "فخرق الصفوف حتى قام عند الصف المتقدم" وقوله: فصفق الناس، وفي رواية عبد العزيز "فأخذ الناس في التصفيح" قال سهيل: أتدرون ما التصفيح؟ هو التصفيق، وهذا يدل على ترادفهما عنده، وبه صرح الخَطّابيّ وأبو عليّ القالي والجَوْهَريّ، وادعى ابن حَزْم نفي الخلاف في ذلك، وتعقب بما حكاه عياض في الإكمال أنه بالحاء الضرب بظاهر إحدى اليدين على الأخرى، وبالقاف بباطنها على باطن الأخرى. وقيل: بالحاء الضرب بأصبعين للإنذار والتنبيه، وبالقاف بجميعها للهو واللعب، وأغرب الداوُدِيّ فزعم أن الصحابة ضربوا بأكفهم على أفخاذهم. قال عياض: كأنه أخذه من حديث معاوية بن الحكم الذي أخرجه مسلم، ففيها "فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم". وقوله: وكان أبو بكر لا يلتفت، قيل كان ذلك لعلمه بالنهي عن ذلك، وقد صح أنه اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد، كما يأتي للمصنف في باب الالتفات في الصلاة. وقوله: فلما أكثر الناس التصفيق، في رواية حماد بن زيد "فلما رأى التصفيح لا يمسك عنه التفت" والجمهور على أن النهي عن الالتفات للتنزيه. وقال المُتَوَلّي: يحرم إلا للضرورة، وهو قول أهل الظاهر، وورد في كراهية الالتفات صريحًا على غير شرطه، عدةُ أحاديث منها عند أحمد وابن خزيمة عن أبي ذَرٍّ، رفعه "لا يزال الله مقبلًا على العبد في صلاته ما لم يلتفت، فإذا صرف وجهه عنه انصرف" ومن حديث الحارث الأشعريّ نحوه، وزاد "فإذا صليتم فلا تلتفتوا" وأخرج أبو داود والنَّسائيّ الأول. والمراد بالالتفات المذكور ما لم يستدبر القبلة بصدره أو عنقه، وعند المالكية لا تبطل ما دامت رجلاه إلى القبلة، وسبب كراهة الالتفات يحتمل أن يكون لنقص الخشوع أو لترك استقبال القبلة ببعض البدن. وقيل: كونه يؤثر في

الخشوع كما وقع في قصة الخَمِيصة. وقوله: فأشار إليه أن امكث في رواية عبد العزيز "فأشار إليه يأمره أن صَلّ" وفي رواية عمر بن عَليّ "فدفع في صدره ليتقدم، فأبى". وقوله: فرفع أبو بكر يديه فحمد الله، ظاهره أنه تلفظ بالحمد، لكن في رواية الحُميْديّ "فرفع أبو بكر رأسه إلى السماء شكرًا لله، ورجع القَهْقرى" وادّعى ابن الجَوْزيّ أنه أشار بالشكر والحمد بيده، ولم يتكلم، وليس في رواية الحُمَيْديّ ما يمنع أن يكون تلفظ، ويقوي ذلك ما عند أحمد عن أبي حازم "يا أبا بكر لم رفعت يديك، وما منعك أن تثبت حين أشرت إليك؟ قال: رفعت يدي لأني حمدت الله على ما رأيت منك" زاد المسعوديّ "فلما تنحى تقدم النبي -صلى الله عليه وسلم-" ونحوه في رواية حمّاد بن زيد. وقوله: أن يصلي بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، في رواية الحمادين والماجشون "أن يؤم النبيّ -صلى الله عليه وسلم-". وقوله: أكثرتم التصفيق، ظاهره أن الإنكار، إنما حصل عليهم لكثرته لا لمطلقه، وسيأتي قريبًا ما في ذلك. وقوله: من نابه، أي أصابه. وقوله: فليسبح، في رواية يعقوب بن عبد الرحمن "فليقل سبحان الله" كما يأتي في باب الإشارة في الصلاة. وقوله: التفت إليه، بضم المثناة على البناء للمفعول، وفي رواية يعقوب المذكورة "فإنه لا يسمعه أحد حين يسبح إلا التفت إليه". وقوله: وإنما التصفيح للنساء، في رواية عبد العزيز وإنما التصفيق للنساء" زاد الحُمَيْديّ "والتسبيح للرجال" وفي رواية حمّاد بن زيد بصيغة الأمر، ولفظه "إذا نابكم أمر فليسبح الرجال وليصفق النساء" وبالتسبيح للرجال قال مالك والشافعيّ وأحمد وأبو يوسف والجمهور، وقال أبو حنيفة ومحمد متى أتى بالذكر جوابًا بطلت صلاته، وإن قصد به الإعلام بأنه في الصلاة لم تبطل، فحملا التسبيح المذكور على قصد الإعلام بأنه في الصلاة، وحملا قوله "من نابه" على نائب مخصوص، وهو إرادة الإعلام بأنه في الصلاة، والأصل عدم هذا التخصيص؛ لأنه عام لكونه في سياق الشرط، فيتناول كلا منهما، فالحمل على أحدهما من غير دليل لا يصار إليه، لاسيما التي هي سبب الحديث، لم يكن القصد فيها إلا تنبيه

الصديق على حضوره صلى الله عليه وسلم، فأرشدهم، صلاة الله وسلامه عليه، إلى أنه كان حقهم عند هذا النائب التسبيح. وعند أبي حنيفة لو حمد العاطس في نفسه من غير تحريك اللسان لم تفسد صلاته، ولو حرك فسدت. وإذا فتح على إمامه لم تفسد، وعلى غير إمامه فسدت، وهذا الأخير موافق لمذهب مالك، إلا أن المالكية يقولون من هو معه في الصلاة، سواء كان إمامًا أو مأمومًا على قول، والمشهور اختصاص الفتح بالإمام والحامد لعُطَاس أو بشارة، والمسترجع لمصيبة، صلاته صحيحة. وقوله: مكروه، على المشهور، والتسبيح واجب عند خوف وقوع أعمى في بئر أو نحو ذلك. وعند المالكية كل ذكر من قرآن أو غيره، إذا قصد التفهيم به في محله، كأنْ يرفع صوته بقوله {خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12] عند قراءة ذلك لم تبطل صلاته، وإذا قصد التفيهم به في غير محله بطلت، ولو خالف الرجل المشروع في حقه وصفق لم تبطل صلاته, لأن الصحابة صفقوا في صلاتهم ولم يأمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بالإعادة، لكن ينبغي أن يقيد بالقليل، فلو فعل ذلك ثلاث مرات متواليات بطلت صلاته, لأنه ليس مأذونا فيه، قاله القَسْطَلانيّ، وعند المالكية البُطلان يجري على ما مرَّ في حديث إمامه من تحديد العمل المبطل بما يخيل للناظر إعراضه عن الصلاة. وأما قوله عليه الصلاة والسلام "مالي رأيتكم أكثرتم التصفيق؟ " مع كونه لم يأمرهم بالإعادة، فلأنهم لم يكونوا علموا امتناعه، وقد لا يكون حينئذ ممتنعًا، أو أراد إكثار التصفيق من مجموعهم، ولا يضر ذلك إذا كان كل واحد منهم لم يفعله ثلاثًا، وعند مالك أن التسبيح عام للرجال والنساء, لأن كلمة "مَن" في الحديث تقع على الذكور والإناث، ومذهب الشافعيّ والأوزاعيّ تخصيص النساء بالتصفيق، وهو ظاهر الحديث، وكان منع النساء من التسبيح على هذا، لأنها مأمورة بخفض صوتها في الصلاة مطلقًا، لما يخشى من الافتتان، ومنع الرجال من التصفيق, لأنه من شأن النساء.

وقالوا إن التقييد بالرجال في الحديث لكون التسبيح لا يشرع للنساء، ووجهه أن دلالة العموم لفظية وضعية، ودلالة المفهم من لوازم اللفظ عند الأكثرين، وقد قال في الحديث "التسبيح للرجال والتصفيق للنساء" فكأنه قال: لا تسبيح إلا للرجال، ولا تصفيق إلا للنساء، وكأنه قدم المفهوم على العموم للعمل بالدليلين, لأن في أعمال العموم إبطالًا للمفهوم، ولا يقال إن قوله "للرجال" من باب اللقب, لأنا نقول: بل هو من باب الصفة, لأنه في معنى الذكور البالغين. وقال مالك في قوله "التصفيق للنساء" هو من شأنهن في غير الصلاة، وهو على جهة الذم له، ولا ينبغي فعله في الصلاة لرجل ولا امرأة، وتعقب برواية حماد بن زيد المار ذكرها بصيغة الأمر "فليسبح الرجال وليصفق النساء" فهذا نص يدفع ما تأوله أهل هذا القول. وقال القُرْطُبي: القول بمشروعية التصفيق للنساء هو الصحيح خبرًا ونظرًا، وقد مرَّ ما قيل في صفته في أول الكلام على الحديث. وفي الحديث من الفوائد، غير ما تقدم، فضل الإصلاح بين الناس، وجمع كلمة القبيلة، وحسم مادة القطيعة، وتوجه الإمام بنفسه إلى بعض رعيته لذلك، وتقديم مثل ذلك على مصلحة الإمامة بنفسه، واستنبط توجه الحاكم لسماع الدعوى بعض الخصوم إذا رجح ذلك على استحضارهم، وفيه جواز الصلاة الواحدة بإمامين أحدهما بعد الآخر، وأن الإمام الراتب إذا غاب استخلف غيره، وأنه إذا حَضر بعد أن دخل نائبه في الصلاة، يتخير بين أن يأتم به أو يؤم هو، ويصير النائب مأموما من غير أن يقطع الصلاة، ولا يبطل شيء من ذلك صلاة أحد من المأمومين، وادَّعى ابن عبد البَرّ أن ذلك من خصائص النبي -صلى الله عليه وسلم-, وادَّعى الإجماع على عدم جواز ذلك لغيره عليه الصلاة والسلام، ونوقض بأن الخلاف ثابت، فالصحيح المشهور عند الشافعية الجواز، وعن ابن القاسم في الإمام يُحْدِث فسيتخلِف، ثم يرجع فيخرج المستخلَف، ويتم الأول إن الصلاة صحيحة. قلت: ما استدل به من كلام ابن القاسم مع ضعفه في المذهب إن

كان موجودًا فيه، لي فيه دلالة؛ لأنّ ما قاله ابن القاسم، على تقرير وجوده، لا يشبه المسألة المستدل لها, لأن مسألة ابن القاسم تقدم فيها انعقاد الإمامة للأول، والمسألة المذكورة لم يقع فيها انعقاد إمامة للقادم في هذه الصلاة، فبينهما فرق، مع أن مذهب مالك أن المستخلَف إذا عاد لإتمام الصلاة تبطل، إلا إذا كان الإمام الأول خرج لأجل رُعاف بناء ولم يستخلف ولم يعملوا بعده عملًا، فيصح عوده حينئذ لإتمامها, لأنّ صلاته لم تبطل، وهم لم ينقطعوا عن الاقتداء به بسبب عمل عملوه بعد. وقال العَيْنيّ: إن قول الشافعية بهذا خرق للإجماع السابق قبلهم، وخرق الإجماع باطل، وفيه جواز إحرام المأموم قبل الإمام، وأن المرء قد يكون في بعض صلاته إماماً وفي بعضها مأموماً وأن من أحرم منفردًا ثم أقيمت الصلاة جاز له الدخول مع الجماعة من غير قطع لصلاته، كذا استنبطه الطَّبَرِيّ في من هذه القصة، وهو مأخوذ من لازم جواز إحرام الإمام بعد المأموم كما مرَّ. قال العينيّ: قوله فيه جواز إحرام المأموم قبل الإمام غير صحيح، يرده قوله عليه الصلاة والسلام "إذا كبر الإمام فكبروا" فقد رتب تكبير المأموم على تكبير الإمام، فلا يصح أن يسبقه. وقد قال ابن بطال: لا أعلم من يقول إن من كبر قبل إمامه صلاته تامة، إلا أن الشافعيّ بني على مذهبه أن صلاة المأموم غير مرتبطة بصلاة الإمام، وسائر الفقهاء لا يجيزون ذلك، وفيه أن أبا بكر عند الصحابة كان أفضلهم، لأنهم اختاروه دون غيره، وعلى جواز تقديم الناس لأنفسهم إذا غاب إمامهم، قالوا: ومحل ذلك إذا أمنت الفتنة والانكار من الإمام، وأن الذي يتقدم نيابة عن الإمام يكون أصلحهم لذلك الأمر وأقومهم به، وأن المؤذن وغيره يعرض التقدم على الفاضل، وأن الفاضل يوافقه بعد أن يعلم أن ذلك برضى الجماعة، وكل ذلك مبنيّ على أن الصحابة فعلوا ذلك بالاجتهاد، وقد مرَّ أنهم فعلوا ذلك بأمر النبي -صلى الله عليه وسلم-. وفيه أن الإقامة واستدعاء الإمام من وظيفة المؤذن، وأنه لا يقيم إلا بإذن

الإمام، وأن فعل الصلاة، لاسيما العصر، في أول الوقت مقدم على انتظار الإمام الأفضل. قلت: قد مرَّ مثل هذا في الصبح في صلاة عبد الرحمن بن عوف بالناس، في خروج النبي -صلى الله عليه وسلم- لقضاء الحاجة، فيدل على أن المبادرة لا تختص بصلاة دون صلاة، وفيه جواز التسبيح والحمد في الصلاة, لأنه من ذكر الله، ولو كان مراد المسبح إعلام غيره بما صدر منه، وقد مرَّ الكلام عليه مستوفى. وفيه رفع اليدين في الصلاة عند الدعاء والثناء، وفيه استحباب حمد الله تعالى لمن تجددت له نعمة، ولو كان في الصلاة، وفيه جواز الالتفات للحاجة، وقد مرَّ ما قيل فيه أن مخاطبة المصلي بالإشارة أَوْلي من مخاطبته بالعبارة، وأنها تقوم مقام النطق، لمعاتبة النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر على مخالفة إشارته. وفيه جواز شق الصفوف، والمشي بين المصلين لقصد الوصول إلى الصف الأول، لكنه مقصور على من يليق ذلك به، كالإمام أو من كان بصدد أن يحتاج الإمام إلى استخلافه، أو من أراد سد فرجة في الصف الأول، أو ما يليه مع ترك من يليه سدها، ولا يكون ذلك معدودًا من الأذى. قال المُهَلَّب: لا تَعَارُض بين هذا وبين النهي عن التخطي, لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ليس كغيره في أمر الصلاة ولا غيرها, لأن له أن يتقدم بسبب ما ينزل عليه من الأحكام، وأطال في تقرير ذلك، وتعقب بأن هذا ليس من الخصائص. وقد أشار هو إلى المعتمد في ذلك، فقال: ليس في ذلك شيء من الأذى، والجفاء الذي يحصل من التخطي. وليس كمن شق الصفوف والناس جلوس، لما فيه من تخطي رقابهم. وفيه الحمد والشكر على الوجاهة في الدين، وأن من أكرم بكرامة يتخير بين القبول والترك إذا فهم أن ذلك الأمر غير جهة اللزوم، وكان القرينة التي بينت لأبي بكر ذلك، هي كونه عليه الصلاة والسلام شق الصفوف إلى أن انتهى إليه، فكأنّه فهم من ذلك أن مراده أن يؤم الناس، وأن أمره إياه بالاستمرار في الإمامة من باب الإكرام له، والتنويه بقدره، فسلك هو طريق الأدب والتواضع، ورجح

رجاله أربعة

ذلك عنده احتمال نزول الوحي في حال الصلاة لتغيير حكم من أحكامها. وكأنّه لأجل هذا لم يتعقب -صلى الله عليه وسلم- اعتذاره برد عليه. قلت: اختلف العلماء في النقل، أي الامتثال والأدب أيهما المتبع، فاعتبر عليّ رضي الله تعالى عنه في قصة الحديبية الأدب، وكذلك أبو بكر اعتبر في هذه القصة أيضًا الأدب، واعتبر الامتثال في قصة مرضه الماضية، وقد مرَّ في أول الحديث الفرق في امتثاله في قصة المرض، وعدم امتثاله في هذه، وكذلك عبد الرحمن بن عوف اعتبر الامتثال في صلاته كما مرَّ، وقد قال سيدي عبد الله: النقل والأَدَابُ كُلٌّ يُتَّبَع ... وآخرٌ لدى عَليٍّ مُتَّبَع وفيه جواز إمامة المفضول للفاضل، وفيه سؤال الرئيس عن سبب مخالفة أمره قبل الزجر عن ذلك، وفيه إكرام الكبير بمخاطبته بالكنية، واعتماد ذكر الرجل لنفسه بما يشعر بالتواضع، من جهة استعمال أبي بكر خطاب الغيبة مكان الحضور، إذا كان حد الكلام أن يقول أبو بكر: ما كان لي، فعدل عنه إلى قوله: ما كان لابن أبي قُحَاَفَةَ, لأنه أدل على التواضع من الأول. وفيه جواز العمل القليل في الصلاة، لتأخر أبي بكر عن مقامه إلى الصف الذي يليه، وإن من احتاج إلى مثل ذلك يرجع القهقرى ولا يستدبر القبلة، ولا ينحرف عنها، واستنبط ابن عبد البَرّ منه جواز الفتح على الإمام, لأن التسبيح إذا جاز جازت التلاوة من باب الأَوْلي. وفيه دليل على جواز استخلاف الإمام إذا أصابه ما يوجب ذلك، وهو قول أبي حَنِيفة ومالك واحد قولي الشافعي، وهو قول عمر وعليّ والحسن وعَلْقَمة وعطاء والنَّخَعِي، والثَّوْرِيِّ وعن الشافعيّ وأهل الظاهر لا يستخلف الإمام. رجاله أربعة: وفيه ذكر أبي بكر، والمؤذن الذي هو بلال، وقد مرَّ الجميع، مرَّ عبد الله بن يوسف ومالك في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ أبو حازم وسَهْل بن سعد في الثامن

لطائف إسناده

والمئة من الوضوء ومرَّ بلال بن حمامة في التاسع والثلاثين من العلم، ومرَّ ذكر محل أبي بكر في الذي قبل هذا. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع، والإخبار بالإفراد والعنعنة والقول، أخرجه البخاريّ في سبعة مواضع هنا، وفي الصلاة فيما يجوز من التسبيح، والحمد للرجال، ورفع الأيدي ينزل به، والإشارة فيها والسهو والصلح والأحكام، وأخرجه مسلم في الصلاة، والنَّسائيّ. ثم قال المصنف: باب إذا استووا في القراءة فليؤمهم أكبرهم هذه الترجمة منتزعة من حديث أبي مسعود الأنصاريّ عند مسلم، مرفوعًا "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله تعالى، فإن كانت قراءتهم سواء، فليؤمهم أقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فليؤمهم أكبرهم سنا" ومداره على إسماعيل بن رجاء عن أوْس بن ضَمْعَج، بالعين المهملة على وزن جعفر، عنه، وليسا جميعًا على شرط البُخاريّ، ولكنه في الجملة صالح للاحتجاج به عنده، وقد علق منه طرفًا بصيغة الجزم فيما يأتي عنه، فاستعمله هنا في الترجمة، وأورد في الباب ما يؤدي معناه، وهو حديث مالك بن الحُوَيْرِث.

الحديث الثامن والثلاثون

الحديث الثامن والثلاثون حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ قَالَ قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَنَحْنُ شَبَبَةٌ، فَلَبِثْنَا عِنْدَهُ نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ لَيْلَةً، وَكَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- رَحِيمًا فَقَالَ لَوْ رَجَعْتُمْ إِلَى بِلاَدِكُمْ فَعَلَّمْتُمُوهُمْ، مُرُوهُمْ فَلْيُصَلُّوا صَلاَةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا، وَصَلاَةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا، وَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ. وهذا الحديث ليس فيه التصريح باستواء المخاطبين في القراءة، وقد مرَّ الجواب عن ذلك، وجميع مباحث الحديث مستوفاة غاية عند ذكره في باب الأذان للمسافرين إذا كانوا جماعة، وقد مرَّ هناك أن الأفقه مقدم على غيره، وهذا هو المستحب عند الجمهور، وأبين هنا مراتب التقديم عند الأئمة، فعند المالكية الأُولى بالتقديم في الإمامة السلطان أو نائبه، ولو كان غيرهما أفقه منهما، ثم يلي ذلك رب المنزل، بملك أصل أو منفعة، ومالك المنفعة مقدم على مالك الذات، ويستخلف رب المنزل غيره إذا كان لا يصلح للإمامة كامرأة أو ناقص عنها، ثم يلي ذلك الأب والعم، فيقدمان على الابن وابن الأخ ولو كانا أفقه منهما عند التَّشَاحي، وأما عند عدمه فالأَولى تقديمهما عند زيادة الفقه، ثم يلي ذلك زائد فقه، لأعلميته بأحكام الصلاة، وإن كان المحدث أفضل منه، ثم يلي ذلك زائد حديث، أي واسع الرواية والحفظ. ثم يلي ذلك زائد قراءة، أي أدرى بالقراءة وأمكن في الحروف، ويحتمل أن يكون أكثر قرآنا أو أشد إتقانًا, لأن القراءة مضمنة بالصلاة، وانظر لو وجد من يحفظ البعض وهو متقن من جهة المخارج، والثاني أكثر قرآناً، والظاهر تقديم الأول. وانظر لو كان كل يحفظ البعض، إلا أن أحدهما أكثر معرفة في

المخارج، والثاني أشد حفظًا، والظاهر تقديم الأول، ولو كان محفوظ الثاني أكثر، ثم يلي ذلك زائد عبادة من صوم وصلاة, لأن من هذا شأنه أشد خشية وورعًا وتنزهًا، ثم يلي ذلك زيادة سن إسلام لزيادة أعماله، ثم يلي ذلك شرف لدلالته على صيانة المتصف به عما ينافي دينه، ويوجب له أنفة عن ذلك، ثم يلي ذلك كمال الخَلْق بفتح الخاء وسكون اللام، أي حُسن الصورة, لأن العقل والخير يتبعانه غالبًا، ثم يلي ذلك حسن الخُلُق بضمتين، أي الطبع؛ لأنه من أعظم صفات الشرف، وقدمه بعضهم على كمال الصورة، ثم يلي ذلك جميل اللباس، لدلالته على شرف النفس والبعد عن المستقذرات، وإن تشاحّ المتساوون لغير كبر اقترعوا. والترتيب عند الحَنَفية قريب من المالكية. قال العَينِيّ: قال أصحابنا أَولى الناس بالإمامة أعلمهم بالسنة، أي الفقه والأحكام الشرعية إذا كان يحسن من القراءة ما تجوز به الصلاة، وهذا قول الجمهور، وبه قال مالك والشافعيّ وعطاء والأوزاعيّ، وعن أبي يُوسف أقرأ الناس أَولى بالإمامة، وهو أحد الوجوه عند الشافعية، فإن تساووا في العلم والقراءة فأولاهم أورعهم، والورع الاجتناب عن الشُّبُهات، والتقوى الاجتناب عن المحرمات، فإن تساووا في الورع فأسنهم أولى بالإمامة، وفي "المحيط" الأَسَنّ أَولى من الوَرِع إذا لم يكن فيه فسق ظاهر. وقال النَّوَوِيّ المراد بالسن سن من مضى في الإِسلام، فلا يقدم شيخ أسلم قريبًا على شاب نشأ في الإِسلام، أو أسلم قبله فإن تساووا في السن فأحسنهم خُلُقًا وزاد بعضهم: فإن تساووا فأحسنهم وجهًا، وفي "مختصر الجواهر": يرجح بالفضائل الشرعية والخلقية والمكانية وكمال الصورة، كالشرف في النسب والسن، ويلتحق بذلك حسن اللباس، وقيل: وبصباحة الوجه، وحسن الخلق، وبملك رقبة المكان، أو منفعته. قال المِرْغانيّ: المستأجر أولى من المالك. وفي "الخلاصة" فإن تساووا في هذه الخصال يقرع، أو الخيار إلى القوم، وقيل: إمامة المقيم أولى من العكس. قال الكِرْمانيّ: هما سواء.

رجاله خمسة

وللشافعيّ قولان في القديم، قيل: بتقديم الأشرف ثم الأقدم هجرة ثم الأسن وهو الأصح، والقول الثاني: يقدم الأسَنّ ثم الأشرف ثم الأقدم هجرة، وفي "تتمتهم" ثم بعد الكبر والشرف تقدم نظافة الثوب، والمراد به النظافة عن الوسخ لا عن النجاسات, لأنّ الصلاة مع النجاسة لا تصح، ثم بعد ذلك حسن الصوت, لأنه به تميل الناس إلى الصلاة خلفه فتكثر الجماعة، ثم حسن الصورة. والترتيب عند الحنابلة قالوا: الأَولى بها الأجود الأفقه، ثم الأجود قراءة الفقيه، ويقدم قارىء لا يعلم فقه صلاته على فقيه أمي، ثم الأسن، ثم الأشرف، وهو القُرَشِي، ثم الأتقى والأوْرع، وصاحب البيت وإمام المسجد ولو عبدًا أحق , والحر أولى من العبد، والحاضر والبصير والمتوضىء أولى من ضدهم، وتكره إمامة غير الأَولى بلا إذنه، وهذا الترتيب إنما هو في الأفضلية مع الاتفاق على الجواز على أي وجه كان، فإن قلت: قوله عليه الصلاة والسلام "فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة" بصيغة تدل على عدم جواز إمامة الثاني عند وجود الأول, لأن صيغته صيغة إخبار، وهي في اقتضاء الوجوب آكد من الأمر، وأيضًا فإنه ذكره بالشرط والجزاء، فكان اعتبار الثاني، إنما كان بعد وجود الأول لا قبله، فالجواب أن صيغة الإخبار لبيان الشرعية لا أنه لا يجوز غيره، كقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: "يمسح المقيم يومًا وليلة" ولئن سلمنا أن صيغة الإخبار محمولة على معنى الأمر لكن الأمر يحمل على الاستحباب لوجود الجواز بدون الاقتداء بالإجماع. رجاله خمسة: مروا كلهم، مرَّ سُلَيمان بن حَرْب في الرابع عشر من الإيمان, ومرَّ حماد بن زيد في الرابع والعشرين منه، ومرَّ أيوب وأبو قِلابَةَ في التاسع منه، ومرَّ مالك بن الحُوَيْرث بعد الثامن والعشرين من العلم، في باب تحريض النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قد عَبْد القَيْس. ثم قال المصنف:

باب إذا زار الإمام قوما فأمهم

باب إذا زار الإمام قوما فأمهم قيل: أشار بهذه الترجمة إلى أن حديث مالك بن الحُوَيْرِث الذي أخرجه أبو داود والتّرمِذِيّ، وحسنه مرفوعًا "من زار قومًا فلا يؤمهم، وليؤمهم رجل منهم" محمول على من عدا الإمام الأعظم. وقال الزَّيْنُ بن المُنير: مراده أن الإمام الأعظم، ومن يجري مجراه، إذا حضر بمكان مملوك لا يتقدم عليه مالك الدار أو المنفعة، ولكن ينبغي للمالك أن يأذن له ليجمع بين الحقين: حق الإمام في المتقدم، وحق المالك في منع التصرف بغير إذنه، ويحتمل أنه أشار إلى ما في حديث أبي مسعود المتقدم "ولا يؤم الرجل في سلطانه، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه" فإن مالك الشيء سلطان عليه، والإمام الأعظم سلطان على المالك. وقوله: إلا بإذنه، يحتمل عوده على الأمرين: الإمامة والجلوس، وبذلك جزم، كما حكاه التِّرمِذِيّ عنه فيحصل بالإذن مراعاة الجانبين.

الحديث التاسع والثلاثون

الحديث التاسع والثلاثون حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ أَسَدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ قَالَ سَمِعْتُ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ الأَنْصَارِيَّ قَالَ اسْتَأْذَنَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَأَذِنْتُ لَهُ فَقَالَ أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّي مِنْ بَيْتِكَ. فَأَشَرْتُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِى أُحِبُّ، فَقَامَ وَصَفَفْنَا خَلْفَهُ ثُمَّ سَلَّمَ وَسَلَّمْنَا. قوله: "وصففنا خلفه" بفتح الفاء الأولى وسكون الثانية، جمع المتكلم، ويروى بالتشديد أي صفنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- , وهذا الحديث قد مرَّ الكلام عليه مستوفى في باب إذا دخل بيتًا يصلي حيث شاء في باب المساجد في البيوت. رجاله ستة: مروا جميعًا، إلا شيخ البُخاريّ، مرَّ عبد الله بن المَبارَك في السادس من بدء الوحي، ومرَّ معْمَر بعد الرابع منه في المتابعات، ومرَّ ابن شِهاب في الثالث منه، ومرَّ محمود بن الربيع في التاسع عشر من كتاب العلم، ومرَّ عِتبان في التاسع والعشرين من أحاديث أبواب استقبال القبلة. وأما شيخ البُخاريّ فهو معاذ بن أسَدُ بن أبي سَنْجَرة الغَنَويّ، أبو عبد الله المَرْوَزِيّ، كاتب ابن المبارك، نزل البصرة، وليس أخا لمُعَلَّى بن أَسَد شيخ البُخاريّ أيضًا. ذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال أبو حاتِم وابن خِراش: ثقة. مات سنة بضع وعشرين ومئتين وحكى عنه البخاريّ أنه قال في سنة إحدى وعشرين ومئتين: أنا ابن إحدى وسبعين سنة. وقال ابن قانع: بَصريّ ثقة، والغَنَوِيّ في نسبه نسبة إلى غَنِيّ بن أعْصُر بن سَعْد بن قَيْس عَيْلان، فأعصر أخو غَطَفان، وما قاله صاحب القاموس من أنْ غنيًا حي من غَطَفَان خطأ. روى عن

لطائف إسناده

ابن المُبَارك وفُضيْل بن عِيَاض والنَّضْر بن شُمَيْل وغيرهم، وروى عنه البُخاريّ وأبو داود وأحمد بن حَنْبل وأبو حاتم وأبو زُرعة وغيرهم. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع، والإخبار بصيغة الجمع والإفراد، والقول والسماع، ورواية صحابي عن صحابي، وفيه شيخ البخاري من أفراده، ورواته ما بين مروزيي وبصريّ ومدنيّ، وقد مرَّ ذكر مواضعه. ثم قال المصنف: باب إنما جعل الإمام ليؤتم به هذه الترجمة قطعة من الحديث الآتي في الباب، والمراد بها أن الائتمام يقتضي متابعة المأموم لإمامه في أحوال الصلاة، فتنتفي المقارنة والمسابقة والمخالفة، إلا ما دل الدليل الشرعيّ عليه، ولهذا صَدّر المصنف الباب بقوله. "وصلى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في مرضهِ الذي تُوفيّ فيهِ بالناسِ وهو جالسٌ" يعني والناس خلفه قيامًا، ولم يأمرهم بالجلوس. كما يأتي، فدل على دخول التخصيص في عموم قوله "إنما جعل الإمام ليؤتم به" وهذا التعليق مر مسندًا من حديث عائشة. ثم قال: وقالَ ابنُ مسعودٍ: إذا رَفعَ قبلَ الإمام يعودُ ليمكثُ بقَدْر ما رَفعَ، ثم يَتْبَعُ الإِمامَ. وهذا وصله ابن أبي شيبة بإسناد صحيح، وسياقه أتم، ولفظه "لا تبادروا أئمتكم بالركوع ولا بالسجود، وإذا رفع أحدكم رأسه والإمام ساجد، فليسجد ثم ليمكث قدر ما سبق به الإمام"، وكأنه أخذه من قوله -صلى الله عليه وسلم- "إنما جعل الإمام ليؤتم به" ومن قوله "وما فاتكم فاتموا". وروى عبد الرَّزَّاق عن معمر نحو قول ابن مسعود، ولفظه "أيما رجل رفع رأسه قبل الإمام في ركوع أو سجود، فليضع رأسه بقدر رفعه إياه" وإسناده صحيح. قال الزَّيْنُ بن المُنير: إذا كان الرافع المذكور يؤمر عنده بقضاء القدر الذي خرج عن الإمام، فأولى أن يتبعه في جملة

السجود، فلا يسجد حتى يسجد، وظهرت بهذا مناسبة هذا الأثر للترجمة، ومذهب مالك إن خفض أو رفع قبل إمامه أن يرجع إن علم إدراك إمامه قبل الرفع، وإلا فلا يرجع إلا إذا كان لم يأخذ فرضه مع الإِمام، فيرجع مطلقًا. ويقول مالك: قال أحمد وإسحاق والحَسَن والنَّخَعِيّ، وروى نحوه عن عمر رضي الله عنه, وقال ابن عمر: من ركع أو سجد قبل إمامه لا صلاة له، وهو قول أهل الظاهر، وقال الشافعيُّ وأبو ثَوْر: إذا ركع أو سجد قبله فإن أدركه الإمام فيهما أساء, ويجزئه. قلت: وكذا عند المالكية. قال العينيّ: ولو أدرك الإمام في الركوع فكبر مقتديًا به، ووقف حتى رفع رأسه فركع لا يجزئه عندنا، خلافًا لِزُفَرْ. قلت: وكذلك لا يجزئه عندنا اتفاقًا، وابن مسعود مرَّ في كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه. ثم قال: وقالَ الحسنُ فيمنْ يركعُ مع الإمام ركعتين ولا يَقْدِرُ على السجودِ، يسجدُ للركعةِ الآخرةِ سجدتينِ، ثمّ يقضي الَركعةَ الأُوْلى بسجودِهَا، وفيمنْ نسيَ سجدةً حتَّى قامَ يسجدُ. قوله: يسجد، يعني يطرح القيام الذي فعله على غير نظم الصلاة، ويجعل وجوده كالعدم. وقوله: ولا يقدر على السجود، أي لزحام ونحوه عن السجود بين الركعتين. وقوله: الآخرة في رواية "الأخيرة" وإنما سجد للركعة الأخيرة دون الأولى لإتصال الركوع الثاني به، وفي كلام الحسن فرعان: الفرع الأول وصله ابن المنذر في كتابه الكبير، ورواه سعيد بن منصور عن هُشيم عن يونس عن الحسن، ولفظه في الرجل يركع يوم الجمعة، فيزحمه الناس فلا يقدر على السجود. قال: فإذا فرغوا من صلاتهم سجد سجدتين لركعته الأولى، ثم يقوم فيصلي ركعة وسجدتين. قلت: هذا اللفظ مخالف لما في المتن, لأن لفظ المتن يسجد للركعة الأخيرة سجدتين، ولفظ هذا سجد سجدتين لركعته الأولى، ومقتضى هذا الأثر أن الإمام لا يتحمل الأركان، فمن لم يقدر على السجود معه لم تصح له الركعة،

ومناسبته للترجمة من جهة أن المأموم لو كان له أن ينفرد عن الإمام لم يستمر متابعًا في صلاته التي اختل بعض أركانها حتى يحتاج إلى تداركه بعد فراغ إمامه. والفرع الثاني وصله ابن أبي شَيْبَة، وسياقه أتم، ولفظه في رجل نسي سجدة من أول صلاته فلم يذكرها حتى كان آخر ركعة من صلاته. قال: يسجد ثلاث سجدات، فإن ذكرها قبل السلام سجد سجدة واحدة، وإن ذكرها بعد انقضاء الصلاة استأنف. قلت: في المسألة التي هي مسألة الزحام. قال مالك: لا يسجد على ظهر أحد، فإن خالف يعيد أبدًا. قال العَيْنِيّ: قال أصحابنا والشافعيّ وأبو ثَوْر: يسجد ولا إعادة عليه، والحكم في مسألة الزحام عند معاشر المالكية، أنه إن زوحم عن الركوع فإن كان في الركعة الأُولى، أي بالنسبة للمأموم، تركه ولحق الإمام في أي محل كان من غير تفصيل، وإن كان في غير الأولى يمكنه فعله قبل عقد الإمام الركوع التي تليها ولحق الإمام وقضى تلك الركعة بعد فراغ الإمام، وإن زوحم عن سجدة أو سجدتين كان الحكم كذلك إن طمع في فعل ذلك قبل عقد الإمام للركوع فعل، وإلا تركه وقضى الركعة بعد فراغ الإمام، والحكم عندنا في الفرع الثاني أن من نسي سجدة يسجدها متى ذكرها، ما لم يعقد ركوع التي تليها برفع رأسه، فإن عقد تركها وألغى الركعة التي هي منها، وبنى على ما صح من الركعات، وإن كان سَلّم بني أيضًا على ما صح إن قرب السلام، ولم يخرج من المسجد، والحسن المراد به البَصْريّ، وقد مرَّ في الرابع والعشرين من الإيمان.

الحديث الأربعون

الحديث الأربعون حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ قَالَ حَدَّثَنَا زَائِدَةُ عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَقُلْتُ أَلاَ تُحَدِّثِينِي عَنْ مَرَضِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَتْ بَلَى، ثَقُلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ أَصَلَّى النَّاسُ. قُلْنَا لاَ، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ. قَالَ ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ. قَالَتْ فَفَعَلْنَا فَاغْتَسَلَ فَذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِي عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم- أَصَلَّى النَّاسُ. قُلْنَا لاَ، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ. قَالَتْ فَقَعَدَ فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِي عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ أَصَلَّى النَّاسُ. قُلْنَا لاَ، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ، فَقَعَدَ فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِي عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ أَصَلَّى النَّاسُ. فَقُلْنَا لاَ، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالنَّاسُ عُكُوفٌ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُونَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لِصَلاَةِ الْعِشَاءِ الآخِرَةِ فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى أَبِي بَكْرٍ بِأَنْ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَأَتَاهُ الرَّسُولُ فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَأْمُرُكَ أَنْ تُصَلِّي بِالنَّاسِ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَكَانَ رَجُلاً رَقِيقًا يَا عُمَرُ صَلِّ بِالنَّاسِ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ أَنْتَ أَحَقُّ بِذَلِكَ. فَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ تِلْكَ الأَيَّامَ، ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَجَدَ مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً فَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا الْعَبَّاسُ لِصَلاَةِ الظُّهْرِ، وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ ذَهَبَ لِيَتَأَخَّرَ فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِأَنْ لاَ يَتَأَخَّرَ. قَالَ أَجْلِسَانِي إِلَى جَنْبِهِ. فَأَجْلَسَاهُ إِلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ. قَالَ فَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي وَهْوَ يَأْتَمُّ بِصَلاَةِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَالنَّاسُ بِصَلاَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَالنَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- قَاعِدٌ. قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ فَدَخَلْتُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ لَهُ أَلاَ أَعْرِضُ عَلَيْكَ مَا حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ عَنْ مَرَضِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ هَاتِ. فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَدِيثَهَا، فَمَا أَنْكَرَ مِنْهُ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ أَسَمَّتْ لَكَ الرَّجُلَ الَّذِى كَانَ مَعَ الْعَبَّاسِ قُلْتُ لاَ. قَالَ هُوَ عَلِيٌّ.

رجاله خمسة

قوله: ضَعُوني ماء، كذا للمُسْتَملي والسَّرْخَسى، بالنون، وللباقين "ضعوا لي ماء" , وهو أوجه، وكذا أخرجه مسلم، والأول كما قال الكرمانيّ محمول على تضمين الوضع معنى الإعطاء، أو على نزع الخافض "ضعوني في ماء". وقوله: فذهب، في رواية الكُشْمِيْهنيّ "ثم ذهب". وقوله: ليَنُوء, بضم النون بعدها مدة، أي لينهض بجهد. وقوله: فأغمي عليه، فيه أن الإغماء جائز, لأنه شَبِيه بالنوم. قال النَّوَويّ: جاز عليهم لأنه مرض من الأمراض بخلاف الجنون، فلم يجز عليهم لأنه نقص. وقوله: لصلاة العشاء، كذا للأكثر بلام التعليل، وللمُسْتَمِلْي والسَّرَخْسِيّ "لصلاة العشاء الآخرة" وتوجيهه أن الراوي كأنّه فسر الصلاة المسؤول عنها في قوله -صلى الله عليه وسلم- "أصلى الناس" فذكره، أي الصلاة المسؤول عنها هي العشاء الآخرة. وقوله: فخرج بين رجلين، كذا للكُشْمِيهنيّ، وللباقين "وخرج" بواو، وقوله: لصلاة الظهر، قد مرَّ ما قيل في تعيينها عند ذكر الحديث في باب حَد المريض أن يشهد الجماعة، ومرت هناك، وفي الحديث بعده جميع مباحثه، ومرَّ الكلام على الرجلين اللذين خرج بينهما في باب الوضوء والغُسل في المِخْضَب من كتاب الوضوء. وقوله هنا: فجعل أبو بكر يصلي وهو قائم، كذا للأكثر وللمُسْتَملِي والسَّرَخْسِيّ "وهو يأتم" من الائتمام، واستدل بهذا الحديث على أن استخلاف الإمام الراتب إذا اشتكى أولى من صلاته بهم قاعدًا, لأنه صلى الله عليه وسلم استخلف أبو بكر ولم يصل بهم قاعدًا غير مرة واحدة. رجاله خمسة: وفيه ذكر أبي بكر وعمر وابن عبّاس والعبّاس، رضي الله تعالى عن الجميع، وقد مرَّ الجميع مرارًا، وأحمد بن يونس في التاسع عشر من الإيمان , ومرَّ زائدة بن قدامة في الثاني والعشرين من الغُسل، ومرَّ موسى بن أبي عائشة في الخامس من بدء الوَحْي، ومرَّ عُبَيْدُ الله بن عبد الله بن عُتبَة في السادس منه

لطائف إسناده

ومرت عائشة في الثاني منه، ومرَّ عمر في الأول منه، ومرَّ ابن عبّاس في الخامس منه أيضًا، ومرَّ محل ذكر أبي بكر في السادس والثلاثين قبل هذا بثلاثة أحاديث، ومرَّ علي في السابع والأربعين من العلم، ومرَّ العباس في الثالث والستين من الوضوء، ولم أر من ذكر الرسول الذي أرسله -صلى الله عليه وسلم- إلى الناس بأن يصلوا، ولعله بلال؛ لأنه هو الذي يعلمه عليه الصلاة والسلام بالصلاة، وقد مرَّ في التاسع والثلاثين من العلم. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع، وفيه العنعنة والقول، والثلاثة الأول من الرواة كوفيون، وشيخ البُخاري مذكور فيه باسم جده. أخرجه البُخاريّ في مواضع عديدة مُطَوّلاً ومُقَطَّعًا ومختصرًا، وأخرجه مسلم في الصلاة، والنَّسائيّ في الصلاة، وفي الوفاة.

الحديث الحادي والأربعون

الحديث الحادي والأربعون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي بَيْتِهِ وَهْوَ شَاكٍ، فَصَلَّى جَالِسًا وَصَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قِيَامًا، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنِ اجْلِسُوا، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا. قوله: في بيته، في المشْرُبة التي في حجرة عائشة، كما بَيَّنَه أبو سُفيان عن جابر، وهو دال على أن تلك الصلاة لم تكن في المسجد، وكأنَّه صلى الله عليه وسلم عجز عن الصلاة بالناس في المسجد، فكان يُصَلّي في بيته بمن حضر، لكنه لم ينقل أنه استخلف، ومن ثَمّ قال عِياض: إن الظاهر أنه صلى في حجرة عائشة وائتم به من حضر عنده ومن كان في المسجد، وهذا محتمل، ويحتمل أيضًا أن يكون استخلف وإن لم ينقل، ويلزم على الأول صلاة الإمام أعلى من المأمومين، ومذهب عِياض خلافه، لكن له أن يقول محل المنع ما إذا لم يكن مع الإمام في مكانه العالي أحد، وهنا كان معه بعض أصحابه. وقوله: وهو شاك، بتخفيف الكاف بوزن قاض من الشكاية، وهي المرض، وكان سبب ذلك ما في حديث أنس المذكور بعده، أنه سقط عن فرس. وقوله: فصلى جالسًا، قال عِيَاض: يحتمل أن أصابه من السقطة رض في الأعضاء منعه من القيام، وليس كما قال، وإنما كانت قدمه صلى الله تعالى عليه وسلم قد انفكت، كما للإسماعيليّ عن أنس، وكذا لأبي داود وابن خُزَيْمَة عن جابر. وأما

قوله في رواية الزُّهريّ عن أنَسَ "جُحِشْ شقه الأيمن" فقد مرَّ ما فيه في باب الصلاة على السطوح، وهو غير مناف لكون قدمه قد انفكت، لاحتمال وقوع الأمرين. وحاصل ما في القصة أن عائشة في هذا الحديث أبهمت الشكوى، وبيّن جابر وأنس السبب، وهو السقوط عن الفرس، وعين جابر العلة في الصلاة قاعدًا، وهي انفكاك القدم أو قوله: صلى وراءه قوم قيامًا، ولمسلم "فدخل عليه قوم من أصحابه يعودونه" الحديث، وقد سموه منهم أنس كما في الحديث الذي بعده، كما مرَّ قريبًا وأبو بكر كما في حديث جابر، وعمر كما في رواية الحسن مرسلًا عن عبد الرَّزَّاق، وكل هؤلاء قد مرَّ تعريفهم. مرَّ أنس في السادس من الإيمان، ومرَّ جابر في الرابع من بدء الوحي، وعمر في الأول منه، ومرَّ أبو بكر في باب من لم يتوضأ من لحم الشاة. وقوله: فأشار إليهم، كذا للأكثر هنا، من الإشارة، وكذا لجميعهم في الطب، وللحَمَوِي هنا فأشار عليهم من المَشُورة، والأول أصح، فقد رواه أيوب بلفظ "فأومأ إليهم" ورواه عبد الرزاق بلفظ "فأخلف بيده يومىء بها إليهم" وفي مرسل الحسن "ولم يبلغ بها الغاية" وقوله: إنما جعل الإمام ليؤتم به، قد تقدمت مباحثه مستوفاة غاية الاستيفاء عند ذكر حديث أنس في باب الصلاة على السطوح. وقوله: فقولوا ربنا ولك الحمد، أي بالواو، ولجميع الرواة في حديث عائشة وكذا لهم في حديث أبي هُريرة وأنس، إلا في رواية الليث عن الزّهري في باب إيجاب التكبير، فللكُشْمِيَهني، بحذف الواو ورجح إثبات الواو بأن فيها معنى زائدًا لكونها عاطفة على محذوف تقديره "ربنا استجيب لنا" أو ربنا أطعناك ولك الحمد، فيشتمل على الدعاء والثناء معًا وقد قال العلماء ثبوت الواو أرجح وهي عاطفة كما مرَّ، وقيل زائدة، وقيل هي واو الحال. قاله ابن الأثير، وضعف ما عداه، ورجح قوم حذفها لأنّ الأصل عدم التقدير، فتكون عاطفة على كلام غير تام، والأول أوجه.

قال النّوَويّ: ثبتت الرواية بإثبات الواو وحذفها، والوجهان جائزان بغير ترجيح، وليس في هذه الرواية زيادة، اللهم ربنا، وفي أبواب صفة الصلاة عن أبي هُرَيْرة "فقولوا اللهم ربنا" واستدل بحديث الباب وحديث أبي هُرَيرة الآتي على أن الإمام يقتصر "على سمع الله لمن حمده" وأن المأموم يقتصر "على ربنا ولك الحمد" وهذا قول مالك وأبي حَنِيفة، ورواية عن أحمد، واحتجوا من حيث المعنى بأن معنى "سمع الله لمن حمده" طلب التحميد، فيناسب حال الإمام، وأما المأموم فتناسبه الإجابة بقوله "ربنا ولك الحمد". ويقويه حديث أبي موسى الأشعريّ عند مسلم وغيره، ففيه "وإذا قال سمع الله لمن حمده، فقولوا ربنا ولك الحمد، يسمع الله لكم" وأجيب عن هذا بأنه لا يدل على أن الإمام لا يقول "ربنا ولك الحمد" إذ لا يمتنع أن يكون طالبًا ومجيبًا. وقال الشافعيّ وأحمد في رواية, وأبو يوسف ومحمد "إن الإِمام يجمعهما" وزاد الشافعيّ أن المأموم يجمع بينهما أيضًا، لكن لم يصح في ذلك شيء، ولم يثبت عن ابن المنذر أنه قال إن الشافعيّ انفرد بذلك, لأنه قد نقل في الإشراف عن عطاء وابن سِيريِن وغيرهما القولَ بالجمع للمأموم، وأما المنفرد فحكَى الطَّحاوِيّ وابن عبد البَرّ الإجماع على أنه يجمع بينهما، وجعله الطحاويّ حجة على كون الإمام يجمع بينهما للاتفاق على اتحاد حكم الإمام والمنفرد، لكن أشار صاحب الهداية إلى خلاف عندهم في المنفرد، واستدل الشافعيّ ومن معه بحديث أبي هُرَيرة عند المصنف في باب التكبير إذا قام من السجود، ففيه "ثم يقول سمع الله لمن حمده حين يرفع صلبه من الركوع، ثم يقول، وهو قائم: ربنا لك الحمد". فدل هذا الحديث على أن التسميع ذكر النهوض، وأن التحميد ذكر الاعتدال، وفيه دليل على أن الإمام يجمع بينهما, لأن صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- الموصوفة، محمولة على حال الإمامة، لكون ذلك هو أكثر الأغلب من أحواله، ويأتي باقي مباحثه في باب فضل: "اللهم ربنا لك الحمد" وتقدم باقي

رجاله خمسة

مباحث هذا الحديث في باب الصلاة على السطوح. رجاله خمسة: قد مروا بهذا النسق في الثاني من بدء الوحي، أخرجه البُخَاريّ أيضًا في التفسير عن قتيبة، وفي السهو عن إسماعيل وأبو داود في الصلاة.

الحديث الثاني والأربعون

الحديث الثاني والأربعون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَكِبَ فَرَسًا فَصُرِعَ عَنْهُ، فَجُحِشَ شِقُّهُ الأَيْمَنُ، فَصَلَّى صَلاَةً مِنَ الصَّلَوَاتِ وَهْوَ قَاعِدٌ، فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ قُعُودًا، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا، فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. فَقُولُوا رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ. وَإِذَا صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا، وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ. قوله: فصلى صلاة من الصلوات، في رواية سفيان عن الزّهريّ فحضرت الصلاة، وكذا في رواية أحمد عن أنس عند الإسماعيليّ. قال القُرْطُبيّ: اللام للعهد ظاهرًا، والمراد الفرض, لأنها التي عرف من عادتهم أنهم يجتمعون لها بخلاف النافلة، وحكى عياض عن ابن القاسم أنها كانت نفلًا، وتعقب بأن في رواية جابر عند ابن خُزَيْمَة وأبي داود الجزم بأنها فرض. قال في "الفتح" لم أقف على تعيينها إلا أن في حديث أنَس "فصلى بنا يومئذ" فكأنها نهارية الظهر أو العصر. وقوله: فصلينا وراءه قعودًا، ظاهره يخالف حديث عائشة الذي قبله، والجمع بينهما أن في رواية أنَسَ هذه اختصارًا، وكأنه اقتصر على ما آل إليه الحال بعد أمره بالجلوس، وقد مرَّ في باب الصلاة في السطوح من رواية حميد عن أنس بلفظ "فصلّى بهم جالسًا وهم قيام، فلما سلم قال: إنما جعل الإمام" وفيها أيضًا اختصار, لأنه لم يذكر فيه قوله لهم "اجلسوا". والجمع بينهما أنهم ابتدؤا الصلاة قيامًا، فأومأ إليهم بأن يقعدوا فقعدوا، فنقل كل من الزُّهْريّ وحُميد أحد أمرين، وجمعتهما عائشة، وكذا جمعهما جابر

رجاله خمسة

عند مسلم، وجمع القُرْطُبيّ بين الحديثين باحتمال أن يكون قعد من أول الحال، وهو الذي حكاه أنس, وبعضهم قام حتى أشار إليه بالجلوس، وهذا الذي حكته عائشة، وتعقب هذا باستبعاد قعود بعضهم بغير إذنه عليه الصلاة والسلام, لأنه يستلزم النسخ بالاجتهاد, لأنّ فرض القادر في الأصل القيام. وجمع آخرون بينهما باحتمال تعدد الواقعة، وفيه بُعد, لأن حديث أنس إن كانت القصة فيه سابقة، لزم منه ما ذكرنا من النسخ بالاجتهاد، وإن كانت متأخرة لم يحتج إلى إعادة قوله "إنما جعل الإمام ليؤتم به" إلى آخره, لأنهم قد امتثلوا أمره السابق، وصلوا قعودًا لكونه قاعدًا. وفي رواية جابر عند أبي داود "أنهم دخلوا يعودنه مرتين، فصلى بهم فيهما، لكن بين أن الأُولى كانت نافلة، وأقرهم على القيام وهو جالس، والثانية كانت فريضة، وابتدؤا قيامًا فأشار إليهم بالجلوس. وفي رواية بشر عن حُمَيد عن أنَس عند الإسماعيليّ نحوه، قلت: هذا الذي في أبي داود يجمع به ما مرَّ من الخلاف في الصلاة، هل هي فرض أو نفل. وقوله: أجمعون، كذا في جميع الطرق في الصحيحين بالواو، إلا أن الرواة اختلفوا في رواية همام عن أبي هُرَيرة الآتية في باب إقامة الصف، فمنهم من قال أجمعين بالياء، والأول تأكيد لضمير الفاعل في قوله "صلوا" وأخطأ من ضعفه، فإن المعنى عليه، والثاني نصب على الحال، أي جلوسًا مجتمعين، أو على التأكيد لضمير مقدر منصوب، كأنه قال: أعنيكم أجمعين، وقد مرت مباحث الحديث عند ذكره في باب الصلاة في السطوح. رجاله خمسة: مروا جميعًا، مرَّ عبد الله بن يوسف ومالك في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ ابن شهاب في الثالث منه، ومرَّ في السادس من الإيمان. ثم قال: قالَ أبو عبدِ اللهِ: قالَ الحُمَيدِيّ: قوله: إذا صلّى في جالسًا فصلّوا

باب متى يسجد من خلف الإمام

جُلوسًا، هو في مرضهِ القديمِ، ثمّ صلّي بعدَ ذلكَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- جالسًا والناسُ خلفهُ قيامأ، لم يأمرهمْ بالقعودِ، وإنما يؤخذُ بالآخِر، فالآخِرِ منْ فعلِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-. وما قاله البخاري هنا يفهم منه اختياره لما قاله شيخه الحميديّ من صلاة المأمومين قيامًا خلف الجالس عجزًا، وهو مذهب أبي حَنِيفة والشافعيّ وأبي ثَوْر وجمهور السلف، وقد مرَّ استيفاء الكلام على هذا في باب الصلاة على السطوح، عند ذكر حديث أنس هناك، وأبو عبد الله المراد به البُخَاريّ نفسه، والحميديّ شيخه، وقد مرَّ في أول الحديث الأول من الكتاب. ثم قال المصنف: باب متى يسجد من خلف الإمام يعني إذا اعتدل أو جلس بين السجدتين. ثم قال: وقال أنسٌ: فإذا سجدَ فاسْجُدُوا. ومناسبته لحديث الباب مما قدمناه أنه يقتضي تقديم ما يسمى ركوعًا من الإمام بناء على تقدم الشرط على الجزاء، وحديث الباب يفسره، وهذا التعليق أخرجه موصولًا في باب إيجاب التكبير، وهو حرف أيضًا من حديثه الماضي في الباب الذي قبل هذا، لكن في بعض طرقه دون بعض، ومرَّ أنس في السادس من الإيمان.

الحديث الثالث والأربعون

الحديث الثالث والأربعون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ سُفْيَانَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ قَالَ حَدَّثَنِي الْبَرَاءُ وَهْوَ غَيْرُ كَذُوبٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. لَمْ يَحْنِ أَحَدٌ مِنَّا ظَهْرَهُ حَتَّى يَقَعَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- سَاجِدًا، ثُمَّ نَقَعُ سُجُودًا بَعْدَهُ. قوله: حدثني أبو إسحاق، الخ أبو إسحاق معروف بالرواية عن البراء بن عازب، ولكنه سمع هذا عنه بواسطة. وقوله: وهو غير كذوب، الظاهر أنه من كلام عبد الله بن يَزِيد، وعلى ذلك جرى الحُميديّ في جمعه وصاحب العمدة، ويقوي كونه من كلام عبد الله بن يزيد قولُ أبي إسحاق في بعض طرقه: سمعت عبد الله بن يزيد وهو يخطب، يقول: حدثنا البراء، وكان غير كذوب. وهذا وإن كان محتملًا، لكنه أبعد من الأول، وأخرج أبو عوانة في صحيحه عن غير أبي إسحاق عن مُحَارِب بن دِثار عن عبد الله بن يزيد: حدثنا البراء، وهو غير كذوب. وأصله في مسلم، لكن ليس فيه قوله "وهو غير كذوب" لكن روى عياش الدُّوريّ عن ابن مَعِين أنه قال: قوله: "وهو غير كذوب" إنما يريد عبد الله بن يزيد الراويّ عن البراء لا البراء، إذ لا يقال لرجل من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غير كَذُوب؛ لأن هذه العبارة إنما تحسن في مشكوك في عدالته، والصحابة كلهم عدول لا يحتاجون إلى تزكية. وتعقبه الخَطّابيّ وغيره بأن هذا القول لا يوجب تهمة في الراوي، وإنما يوجب حقيقة الصدق له، وهذه عادتهم إذا أرادوا تأكيد العلم بالراوي، والعمل بما روى، وقد كان أبو هُريرة يقول: سمعت خليلي الصادق المصدوق. وقال ابن مسعود: حدثني الصادق المصدوق. وقال أبو مُسْلِم الخَولانيّ: حدثني

الحبيب الأمين. وقد قال ابن مسعود وأبو هُرَيرة، فذكرهما، فهذا قالوه تنبيهًا على صحة الحديث، لا أن قائله قصد به تعديل رواية، وأيضًا فتنزيه ابن مَعين للبراء عن التعديل لأجل صحبته، ولم ينزه عن ذلك عبد الله بن يزيد لا وجه له، فإن عبد الله بن يزيد معدود في الصحابة، والإلزام المذكور لابن مَعين ليس بلازم له, لأنّ يحيي بن مَعين لا يثبت صحبة عبد الله بن يزيد، وقد نفاها أيضاً مُصْعَبُ الزُّبَيريّ، وقد توقف فيها أحمد بن حنبل وأبو حَاتم وأبو داود، وأثبتها ابن البَرقيّ، والدارَقُطني، وآخرون. وقد اعترض بعض المتأخرين على التنظير المذكور، فقال: كأنه لم يلم بشيء من علم البيان، للفرق الواضح بين قولنا فلان صدوق، وفلان كذوب، لأن في الأول إثبات الصفة للموصوف، وفي الثاني نفي ضدها عنه، فهما مفترقان، والسر في ذلك أن نفي الضد كأنّه يقع جوابًا لمن أثبته، بخلاف إثبات الصفة، والظاهر أن الفرق بينهما أنه يقع في الإثبات بالمطابقة، وفي النفي بالالتزام، لكن التنظير صحيح بالنسبة إلى المعنى المراد باللفظين ,لأن كلا منهما يرد عليه أنه تزكية في حق مقطوع بتزكيته فيكون من تحصيل الحاصل، ويحصل الانفصال عن ذلك بما تقدم من أن المراد بكل منهما تفخيم الأمر، وتقويته في نفس السامع. قلت: جميع ما قالوه من أن قول القائل "غير كذوب" يفيد تأكيد العلم بالراوي، والتنبيه على صحة الحديث، وأن إثبات الصدق فيه يحصل بالالتزام غير موافق للفظ، ولا يعطيه عربية؛ لأن لفظ كذوب صيغة مبالغة فنفيها نفي للمبالغة في الكذب لا نفي للكذب من أصله حتى يثبت الصدق لمن لم يتصف به، فهو دال عربية على الاتصاف بقليل الكذب حين النفي، اللهم إلا أن يقال فيه ما قيل في قوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] من أن ظلامًا للنسبة لا للمبالغة، فنفيه على هذا نفي للظلم من أصله، أي: وما ربك بمنسوب للظلم. وقد قال ابن مالك:

رجاله ستة

ومع فاعل وفعال فعل ... في نسب أغنى عن اليا فقبل فيكون معنى غير كذوب، أي غير منسوب إلى الكذب، لكني لم أر بعد التتبع إلحاق فعول بفعال في كتب النحو، فيبقى الإشكال على بابه من كون اللفظ نفيًا للكذوبية لا نفيا للكاذبية، وكان الحق نفي الكذب من أصله سواء كان عن البراء وعبد الله بن يزيد وقد روى الطبراني ما يدل على سبب رواية عبد الله بن يزيد لهذا الحديث فإنه أخرج عنه أنه كان يصلي بالناس بالكوفة، فكان الناس يضعون رؤوسهم قبل أن يضع رأسه، ويرفعون قبل أن يرفع رأسه، فذكر الحديث في إنكاره عليهم. وقوله: إذا قال سمع الله لمن حمده، في رواية شعبة إذا رفع رأسه من الركوع، ولمسلم فإذا رفع رأسه من الركوع فقال "سمع الله لمن حمده" لم نزل قيامًا وقوله: لم يحن، بفتح التحتانية وسكون المهملة أي لم يثن يقال: حنيت العود إذا أثنيته، وفي رواية لمسلم "لا يحنو" وهي لغة صحيحة. يقال: حنيت وحنوت بمعنى. وقوله: حتى يقع ساجدًا، في رواية إسرائيل عن أبي إسحاق "حتى يضع جبهته على الأرض" ولمسلم وأحمد "حتى يسجد فيسجدون" واستدل به ابن الجَوْزِيّ على أنّ المأموم لا يشرع في الركن حتى يتمه الأمام، وتعقب بأنه ليس فيه إلا التأخر حتى يتلبس الإمام بالركن الذي ينتقل إليه، بحيث المأموم بعد شروعه وقبل الفراغ منه. وفي حديث عمرو بن حريث عند مسلم "فكان لا يحني أحد منّا ظهره حتى يستتم ساجدًا، ولأبي يَعلى عن أنس "حتى يتمكن النبي -صلى الله عليه وسلم- من السجود، وهو أوضح في انتفاء المقارنة، وعندنا المقارنة للإمام في الأفعال مكروهة، وفي الإحرام والسلام مبطلة، واستدل به على طول الطمأنينة، وفيه نظر، وعلى جواز النظر إلى الإمام لاتباعه في تنقلاته. رجاله ستة: مروا جميعًا. مرَّ مُسَدَّد ويحيى بن سعيد القطّان في السادس من الإيمان,

لطائف إسناده

ومرَّ سُفيان الثَّوريّ في السابع والعشرين منه، ومرَّ أبو إسحاق السِّبيعيّ والبراء بن عازب في الثالث والثلاثين منه، ومرَّ عبد الله بن يزيد الخَطَمى في الثامن والأربعين. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع والإفراد والعنعنة والقول، وفيه عبد الله بن يزيد صحابيّ من أفراد البخاريّ، وفيه رواية الصحابيّ بن الصحابي عن الصحابيّ. كلاهما من الأنصار، كلاهما من الأوس سكن الكوفة، أخرجه البخاريّ أيضًا عن أبي نُعيم. وعن حَجَّاج وأخرجه مسلم وأبو داود والتِّرمِذِيّ والنَّسَائيّ كلهم في الصلاة. ثم قال: حدّثنا أبو نُعيم عنْ سُفيان عن أبي إسحاقَ ونحوَهُ بهذا. هكذا في رواية المُسْتَملي وكريمة، وسقط للباقين، وقد أخرجه أبو عوانة عن الصَّغَانيّ وغيره، عن أبي نعيم: ولفظه "كنا إذا صلينا خلف النبي -صلى الله عليه وسلم-، لم يحن أحد منا ظهره حتى يضع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جبهته"، وأبو نُعيم المراد به الفضل بن دُكين، وقد مرَّ في الخامس والأربعين من الإيمان, وسفيان وأبو إسحاق مرَّ ذكر محلهما في الذي قبلة. ثم قال المصنف: باب إثم من رفع رأسه قبل الإمام أي من السجود أو الركوع.

كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري تأليف الامام المحدث العلامة الشيخ محمد الخضر الجكينى الشنقيطي (المتوفى سنة 1354هـ) الجزء التاسع مؤسسة الرسالة

بسم الله الرحمن الرحيم

كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1415هـ - 1995م مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع مؤَسَّسَة الرّسَالة بيروت - شارع سوريَا - بنَاية صَمَدي وَصَالحَة هَاتف: 603243 - 815112 - صَ. بَ: 7460 - بَرقيًا: بيُوشرَان

الحديث الرابع والأربعون

الحديث الرابع والأربعون حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ أَمَا يَخْشَى أَحَدُكُمْ أَوْ لاَ يَخْشَى أَحَدُكُمْ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ الإِمَامِ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ صُورَتَهُ صُورَةَ حِمَارٍ. قوله: أما يخشى أحدكم، في رواية الكُشْمِيَهنِيّ "أو لا يخشى" ولأبي داود عن حفص بن عمر "أما يخشى"، وألا يخشى بالشك، "وأما" بتخفيف الميم، حرف استفتاح، مثل ألا، وأصلها النافية، دخلت عليها همزة الاستفهام، وهو هنا استفهام توبيخ. وقوله: إذا رفع رأسَه قبل الإمام، زاد ابن خُزَيْمَة "في صلاته" وفي رواية حفص بن عمر المذكورة "الذي يرفع رأسه والإمام ساجد" قال في الفتح: فتبين أن المراد الرفع من السجود، ففيه تعقب علي من قال إن الحديث نص في المنع من تقدم المأموم على الإمام في الرفع من الركوع والسجود معاً، وإنما هو نص في السجود، ويلتحق به الركوع، لكونه في معناه. ويمكن أن يفرق بينهما بأن السجود له مزيد مزية, لأنّ العبد أقرب ما يكون فيه من ربه, لأنه غاية الخضوع المطلوب منه، فلذلك خص بالتنصيص عليه، ويحتمل أن يكون من باب الاكتفاء، وهو ذكر أحد الشيئين المشتركين في الحكم إذا كان للمذكور مزية. قلت: إنما احتاج صاحب الفتح لما ذكر لاتحاد المخرج في رواية البخاريّ وراوية أبي داود، فلابد من الجمع بينهما، ووجهه هو ما ذكره، وبهذا يعلم سقوط اعتراض العَيْنِيّ عليه، وأما المتقدم على الإِمام في الخفض للركوع والسجود، فقيل: يلتحق به من باب الأَولى, لأن الاعتدال والجلوس بين السجدتين من الوسائل، والركوع والسجود من المقاصد، وإذا دل الدليل على وجوب الموافقة فيما هو وسيلة، فأولى أن يجب فيما هو مقصد، ويمكن أن يقال: ليس هذا بواضح, لأن الرفع من الركوع والسجود يستلزم قطعه عن غاية كماله، ودخول النقص في المفاسد أشد من دخوله في الوسائل، وقد ورد الزجر عن الخفض والرفع قبل الإمام في حديث آخر أخرجه البزار عن أبي هريرة مرفوعًا "الذي يخفض ويرفع قبل الإمام إنما ناصيته بيد شيطان". وأخرجه عبد الرّزّاق من هذا الوجه موقوفًا، وهو المحفوظ. وقوله: أو يجعل الله صورته صورة حمار، الشك من شُعْبَة، فقد رواه الطَّيالسِيّ عن حماد بن سَلَمة وابن خُزَيْمة عن حماد بن زيد ومُسْلِم عن يونس بن عُبَيْد والربيع بن مسلم، كلهم عن

محمد بن زياد بغير تردد، فأما الحمادان فقالا: رأس حمار، وأما يونس فقال صورة، وأما الربيع فقال وجه. والظاهر أنه من تصرف الرواة، قال عِياض: هذه الروايات متفقة لأن الوجه في الرأس، ومعظم الصورة فيه، ولفظ الصورة يطلق على الوجه أيضًا. وأما الرأس فرواتها أكثر، وهي أشمل، فهي المعتمدة، وخص رقوع الوعيد عليها لأن بها وقعت الجناية، وهي أشمل، وظاهر الحديث يقتضي تحريم الرفع قبل الإمام، لكونه توعد عليه بالمسخ، وهو أشد العقوبات، وبذلك جزم النوويّ، ومع القول بالتحريم فالجمهور على أن فاعله يأثم، وتجزىء صلاته، وعن ابن عمر تبطل، وبه قال أحمد في رواية، وأهل الظاهر بناء على أن النهي يقتضي الفساد، وقد مرَّ الكلام على هذه المسألة بأطول من هذا في باب" إنما جعل الإمام ليؤتم به" عند أثر ابن مسعود. وفي المغني عن أحمد أنه قال: ليس لمن سبق الإمام صلاة، لهذا الحديث، قال: ولو كان له صلاة لرجي له الثواب، ولم يخش عليه العقاب، واختلف في معنى الوعيد المذكور، فقيل: يحتمل أن يرجع ذلك إلى أمر معنويّ، فإن الحمار موصوف بالبلادة، فاستعير هذا المعنى للجاهل بما يجب عليه من فرض الصلاة ومتابعة الإمام، ويرجح هذا المجاز أن التحويل لم يقع مع كثرة الفاعلين، لكن ليس في الحديث ما يدل على أن ذلك يقع ولابد، وإنما يدل على كون فاعله متعرضًا، وكون فعله ممكنًا, لأن يقع عنه ذلك الوعيد، ولا يلزم من التعرض للشيء وقوع ذلك الشيء، وقال ابن بُزَيْزَة: يحتمل أن يراد بالتحويل المسخ، أو تحويل الهيئة الحسية أو المعنوية أو هما معًا، وحمله آخرون على ظاهره، إذ لا مانع من جواز وقوع ذلك في هذه الأمة، ففي حديث أبي مالك الأشعريّ في الأشربة "ويمسخ آخرين قِرَدَة وخنازير إلى يوم القيامة". قال ابن العَرَبِيّ: يحتمل الحقيقة كما وقع للأمم السابقة، ويحتمل أن يكون كناية عن تبدل أخلاقهم. وللترمذيّ عن عائشة مرفوعًا "يكون في آخر هذه الأمة خسف ومسخ وقذف" ولابن أبي خَيْثَمة أيضًا مرفوعًا "يكون في أمتي الخسف والمسخ والقذف" ويقوي حمله على ظاهره، أن في رواية ابن حبان من وجه آخر عن محمد بن زياد "أن يحول الله رأسه رأس كلب" وهذا يبعد المجاز لانتفاء المناسبة التي ذكروها من بلادة الحمار، ومما يبعده أيضًا إيراد الوعيد بالأمر المستقبلى، وباللفظ الدال على تغيير الهيئة الحاصلة، ولو أريد تشبيهه بالحمار لأجل البلادة لقال مثلًا: فرأسه رأس حمار, لأن الصفة المذكورة، وهي البلادة، حاصلة في فاعل ذلك عند فعله المذكور، فلا يحسن أن يقال له: يخشى إذا فعلت كذا أن تصير بليدًا، مع أن فعله المذكور إنما نشأ عن البلادة. وقال ابن الجوزيّ في الرواية التي عبر فيها بالصورة: هذه اللفظة تمنع تأويل من قال: المراد رأس حمار في البلادة، ولم يبين وجه المنع. وقال ابن العربيّ في القبس: ليس للتقدم قبل الإمام سبب إلا طلب الاستعجال، ودواؤه أن يستحضر أنه لا يسلم قبل الإِمام، فلا يستعجل في هذه الأفعال. وفي الحديث كمال شفقته صلى الله تعالى وسلم بأمته، وبيانه لهم الأحكام، وما يترتب عليها

رجاله أربعة

من الثواب والعقاب، واستدل به على جواز المقارنة، ولا دلالة فيه لأنه دل بمنطوقه على منع المسابقة، وبمفهومه على طلب المتابعة، وأما المقارنة فمسكوت عنها، وقد قال ابن بزيزة: استدل بظاهره قوم لا يعقلون على جواز التناسخ، وهو مذهب ردىء مبنيّ على دعاوى بغير برهان، والذي استدل بذلك منهم إنما استدل بأصل النسخ لا بخصوص هذا الحديث. والقول بتناسخ الأرواح معدود من أنواع الردة أعاذنا الله تعالى من جميع أنواعها. قلت: حقيقة تناسخ الأرواح عند القائلين به هو انتقالها في الآدميين أو غيرهم، وأن تعذيبها وتنعيمها بحسب زكاتها وخبثها، فإن كانت شريرة أخرجت من قالبها الذي هي فيه، وألبست قالبًا يناسب شرها من كلب أو خنزير أو نحو ذلك، فإن أخذت جزاء شرها بقيت في ذلك القالب تنتقل من فرد إلى فرد، وإن لم تأخذه انتقلت إلى قالب أشر منه، وهكذا حتى تستوفي جزاء الشر. وفي الخير تنتقل إلى أعلى، وهكذا، حتى تستوفي جزاء خيرها. والقائل بهذا مُنْكِر للجنة والنار والنشر والحشر والصراط والحساب، مكذب للقرآن والرسل والإجماع. واختار ابن مرزوق، قتله بلا استتابة. رجاله أربعة: مروا كلهم، ومرَّ حَجّاج بن مِنْهال في الثامن والأربعين من الإيمان، ومرَّ شُعْبَة في الثالث منه، وأبو هُرَيْرة في الثاني منه، ومحمد بن زياد الجمحيّ في الثلاثين من العلم. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع والعنعنة والسماع والقول، وهو من رباعيات البخاريّ. أخرجه الأئمة الستة. ثم قال المصنف: باب إمامة العبد والمولى أي العتيق. قال الزين بن المنير: لم يفصح بالجواز، لكن لوح به لإيراده أدلته. ثم قال: وَكَانَتْ عَائِشَةُ يَؤُمُّهَا عَبْدُهَا ذَكْوَانُ مِنَ الْمُصْحَفِ. وَوَلَدِ الْبَغِيِّ وَالأَعْرَابِيِّ وَالْغُلاَمِ الَّذِى لَمْ يَحْتَلِمْ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- "يَؤُمُّهُمْ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ". ولا يُمنعُ العبدُ منَ الجماعةِ بغيرِ علَّة. وهذا التعليق وصله أبو داود في كتاب المصاحف عن أبي مَليكة أن عائشة كان يؤمها غلامها ذكوان في المصحف، ووصله ابن أبي شَيْبَةَ عن ابن أبي مَليكة عن عائشة أنها أعتقت غلامًا لها عن دبر فكان يؤمها في رمضان في المصحف، ووصله الشافعي وعبد الرّزّاق عن ابن أبي مَليكة أيضًا أنه كان يأتي عائشة بأعلى الوادي هو وأبوه وعُبَيْد بن عُمَيْر والمسور بن مَخْرَمَةَ وناس كثير، فيؤمهم أبو عمرو مَوْلى عائشة، وهو يومئذ غلام لم يعتق. وأبو عَمْرو المذكور هو ذكوان، وإلى صحة إمامة العبد ذهب الجمهور، وقال مالك: لا تصح

إمامته في الجمعة، وتبطل صلاته وصلاة من صلى خلفه, لأنها لا تجب عليه، وخالف أشْهَب واحتج بانها تُجْزئه إذا حضرها، وتكره إمامته راتباً، وتجوز إذا كان غير راتب، وكذا تكره عند الحَنَفِية. وقيل: جَائزة، وغيره أحب. وقوله: في المصحف، استدل به على جواز قراءة المصلي في المصحف، ومنع منه آخرون لكونه عملًا كثيرًا في الصلاة، ومذهب مالك كراهة القراءة فيه في صلاة الفرض، ولو دخل على ذلك من أوله، ويجوز ذلك في النافلة إذا ابتدأ القراءة في المصحف لا في الأثناء فيكره، وعند أبي حَنِيفَة القراءة فيه مُفْسدة للصلاة، وعند صاحبيه تجوزمع الكراهة، وعائشة مرت في الثاني من بدء الوحي. وذكوان مولى عائشة أبو عمرو المَدَنيّ. قال أبو زُرْعَة: ثقة، وذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال البُخاريّ في تاريخه من طريق ابن أبي مليكة: إنه أحسن على ذَكوان الثناء، وقال العِجْليّ: مدنيّ تابعيّ ثقة. وقال ابن أبي مُلَيكة: كان عبد الرحمن بن أبي بكر يؤم عائشة, ففتاها ذَكوان إذا لم يوجد، وقال الواقِديّ: كانت عائشة دبرته، وله أحاديث قليلة، ومات ليالي الحرة. وقال الهَيثم بن عَدِيّ: أحسبه قتل بالحرة سنة ثلاث وستين. روى عن عائشة، وروى عنه عبد الرحمن بن الحارث، وهوأكبر منه، وابن أبي مُلَيكة وعليّ بن الحُسَين وغيرهم. وقوله: وولد البغيّ، وهذا معطوف على قوله "والمولى" ولكن فصل بين المتعاطفين بأثر عائشة، وغفل القُرْطبيّ في مختصر البخاري فجعله من بقية الأثر المذكور، والبغِي، بفتح الموحدة وكسر المعجمة وتشديد المثناة، أي الزانية. ونقل ابن التين أنه رواه بفتح الموحدة وسكون المعجمة والتخفيف، والأول أولى، وإلى صحة إمامة ولد الزنى ذهب الجمهور أيضًا، وكان مالك يكره أن يتخذ إمامًا راتبًا، وعلته عنده أنه يصير معرضًا لكلام الناس فيأثمون بسببه. وقيل: لأنه ليس له في الغالب من يفقهه، فيغلب عليه الجهل، وكذا تكره إمامته عند الحَنَفِية. وقوله: والأعرابيّ، أي بفتح الهمزة، ساكن البادية. وإلى صحة إمامته ذهب لجمهور أيضًا وخالف مالك فقال بكراهة إمامته للحاضر ولو كان أقرأ منه. علته عنده غلبة الجهل على سكان البادية، وقيل: لأنهم يديمون نقص السنن ترك حضور الجماعة غالبًا، وكذا تكره عند الحَنَفِية أيضًا. وقوله: والغلام الذي لم يحتلم، ظاهر أنه أراد المراهق، وتحتمل الأعم، لكن يخرج منه من كان دون سن التمييز بدليل آخر، ولعل المصنف راعى اللفظ الوارد في النهي عن ذلك، وهو فيما رواه عبد الرزاق عن ابن عباس مرفوعًا "لا يؤم الغلام حتى يحتلم" إسناده ضعيف، وأخرج المصنف في غزوة الفتح حديث عمرو بن سَلِمَة بكسر اللام، أنه كان يؤم قومه وهو ابن سبع سنين. وقيل: إنما لم يستدل به هنا, لأن أحمد بن حنبل توقف فيه، فقيل: لأنه ليس فيه اطلاع النبي -صلى الله عليه سلم- على ذلك وقيل: لاحتمال أن يكون أراد أنه كان يؤمهم في النافلة دون الفريضة، وأجيب عن الأول بأن زمان نزول الوحي لا يقع فيه لأحد من الصحابة التقرير على ما لا يجوز فعله، ولهذا استدل أبو سعيد وجابر على جواز العَزْل، بأنهم كانوا يَعْزِلون والقرآن ينزل، كما يأتي، وأيضًا فالوفد الذين

قدموا عمرو بن سلمة كانوا جماعة من الصحابة، وقد نقل ابن حزم أنه لا يعلم لهم في ذلك مخالف منهم، وعن الثاني بأن سياق رواية المصنف تدل على أنه كان يؤمهم في الفرائض، لقوله فيه "صلوا كذا، فإذا حضرت الصلاة" الحديث وفي رواية أبي داود قال عمرو" فما شهدت مشهدًا في حرم إلا كنت إمامهم" وهذا يعم الفرائض والنوافل. واحتج ابن حزم على عدم الصحة بأنه صلى الله تعالى عليه وسلم أمر أن يؤمهم أقرؤهم. قال: فعلى هذا إنما يؤم من يتوجه إليه الأمر، والصبي ليس بمأمور, لأن القلم رفع عنه فلا يؤم، ولا يخفى فساد ما قال, لأنا نقول المأمور من يتوجه إليه الأمر من البالغين بأنهم يقدمون من اتصف بكونه أكثر قرآنا، فبطل ما احتج به. ومذهب الشافعية جواز إمامة الصبي في الفرض، وعندهم قولان في الجمعة. وقال الحنفية: لا تصح إمامته للرجال في فرض ولا نفل، وتصح لمثله. وقال المالكية: لا تصح في فرض وبغيره تصح، وإن لم تجز. وقال المرداويّ من الحنابلة: وتصح إمامة صبي بالغ وغيره في نفل، وفي فرض بمثله فقط، ولا تصح خلفه صلاة فرض للبالغ. وقوله: لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- "يَؤمُّهم أقْرَؤُهم لكتاب الله" أي فكل من اتصف بذلك جازت إمامته من عبد وصبي وغيرهما. وهذا طرف من حديث أبي مسعود الذي ذكرناه في باب "إذا استووا في القراءة" وقد أخرجه مسلم وأصحاب السنن بلفظ "يؤم أقرؤهم لكتاب الله" الحديث. وفي حديث عمرو بن سَلِمة المذكور عن أبيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "وليؤمكم أكثركم قرآنًا" وفي حديث أبي سعيد عند مسلم أيضًا "إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم وأحقهم بالإمامة أقرؤهم" واستدل بقوله "أقرؤهم" على أن إمامة الكافر لا تصح, لأنه لا قراءة له. وقوله: ولا يمنع من الجماعة بغير علة، هذا من كلام المصنف، وليس من الحديث المعلق. وقوله: بغير علة، أي بغير ضرورة لسيده، فلو قصد تفويت الفضيلة عليه بغير ضرورة لم يكن له ذلك، وسنذكر مستنده في الكلام على قصة سالم في أول حديثي الباب.

الحديث الخامس والأربعون

الحديث الخامس والأربعون حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ لَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الأَوَّلُونَ الْعُصْبَةَ مَوْضِعٌ بِقُبَاءٍ قَبْلَ مَقْدَمِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَؤُمُّهُمْ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَكَانَ أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا. قوله: لما قدم المهاجرون الأولون، أي من مكة إلى المدينة، وبه صرّح في رواية الطبرانيّ. وقوله: العُصْبَةَ، بالنصب على الظرفية، لقوله "قدم" كذا في جميع الروايات، وفي رواية أبي داود "نزلوا العصبة" أي المكان المسمى بذلك، وهو بإسكان الصاد المهملة بعدها موحدة، واختلف في أوله، فقيل بالفتح، وقيل بالضم، وفي النهاية ضبطه بعضهم بفتح العين والصاد المهملتين، وقيل المُعَصَّب بوزن محمد، وهو موضع بقُباء. وقوله: وكان يؤمهم سالم مولى أبي حُذَيْفَةَ، زاد في الأحكام عن نافع "وفيهم أبو بكر وعمر وأبو سَلَمة بن عبد الأسَد وزيد بن حَارِثَة وعامر بن رَبيعة" واستشكل ذكر أبي بكر فيهم، إذ في الحديث أن ذلك كان قبل مقدم النبي -صلى الله عليه وسلم- , وأبو بكر كان رفيقه، ووجهه البَيْهَقي، باحتمال أن يكون سالم المذكور استمر على الصلاة بهم، فيصح ذكر أبي بكر، ولا يخفى ما فيه. ووجه الدلالة منه إجماع كبار الصحابة القُرَشِيين على تقدم سالم عليهم، وكان سالم المذكور مولى امرأة من الأنصار فأعتقته، وكانت إمامته بهم قبل أن يعتق، وبذلك تظهر مناسبة قول المصنف: ولا يمنع العبد، وإنما قيل له مولى أبي حذيفة لأنه لازم أبا حُذَيْفَةَ بن عُتْبَة بن رَبيعة بعد أن عتق فتبناه، فلما نهوا عن ذلك قيل له مولاه، ويأتي تعريفهما قريبًا. وقوله: وكان أكثرهم قرآنًا إشارة إلى سبب تقديمهم له مع كونهم أشرف منه، وفي رواية الطَّبَرانيّ "لأنه كان أكثرهم قرآناً". رجاله خمسة: وفيه ذكر سَالم وأبي حُذَيْفَة، وقد مرت رجاله الخمسة، مرَّ إبراهيم بن المنذر في الأول من العلم، ومرَّ أنَسَ بن عِيَاض وعُبيد الله في الرابع عشر من الوضوء، ومر نافع في الثالث والسبعين من العلم، ومرَّ عَبْد الله في أول كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه.

وأما سالم، فهو سالم بن مَعْقِل على ما قال ابن أبي داود، مولى أبي حُذَيْفَةَ بن عُتْبَة بن ربيعة بن عَبْدِ شَمْس بن عبد مناف، يكنى أبا عبد الله، كان من أهل فارس من اصْطَخْر، وقيل من عَجَم الفُرسْ من كِرمان، كان من خيار الموالي، أحد السابقين الأولين، أعتقته امرأة من الأنصار زوجة أبي حُذَيفة، سائِبَة. فوالى أبا حُذَيفة، وتَبَنَّاه كما تبنى النبي -صلى الله عليه وسلم- زيدَ بن حَارِثة، فكان أبو حُذَيفة يظن أنه ابنه، فزوجه ابنة أخيه فاطمة بنت الوليد بن عتبة، فلما أنزل الله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5]، رد كل أحد تبنى ابنًا من أولئك إلى أبيه، ومن لم يعرف أبوه رد إلى مواليه، كما أخرجه مالك في الموطأ مع قصة إرضاعه الآتية. واختلف في اسم الأنصارية التي عتقته، مع الاتفاق على أنها بنت يَعار، زوجة أبي حُذَيفة، كما قال ابن عبد البَرّ. فقيل: اسمها ثُبَيَّة بنت يَعار بن زَيْد بن عبيد بن زَيْد الأنصاريّ الأوْسيّ. وقيل: بَثْنَة، وقيل عَمْرَة، وقيل سَلمى، وقيل ليلى، وقيل فاطمة، فهو معدود من المهاجرين لما مرَّ من تبني أبي حُذَيفة له، ومعدود من الأنصار في بني عبيد، لعتق مولاته الأنصارية له، ومعدود في العجم لما مرَّ، وفي القراء لما في هذا الحديث "كان يؤمهم سالم مولى أبي حذيفة، وكان أكثرهم قرآنًا" ولما رواه البُخَاريّ ومُسْلم والنَّسائيّ عن عبد الله بن عَمرو بن العاص، رفعه "خذوا القرآن من أربعة: من ابن مسعود، وسالم مولى أبي حُذَيفة، وأُبيّ بن كَعْب، ومُعاذ بن جَبَل" ومن طريق ابن المُبارك عن ابن سابِط "أن عائشة احتبست على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ما حبسك؟ قالت: سمعت قارئًا يقرأ، فذكرت من حسن قراءته فأخذ رداءه وخرج، فإذا هو سالم مولى أبي حُذَيفة، فقال: الحمد لله الذي جعل في أمتي مثلك". وأخرجه أحمدُ وابن ماجَه، والحاكم في المستدرك، من طريق الوَليد بن مُسْلم عن عائشة موصولًا، وابن المبارك أحفظ من الوليد، ولكنْ له شاهد أخرجه البَزَّار عن عائشة قالت: "سمع النبي-صلى الله عليه وسلم- سالمًا مولى أبي حذيفة يقرأ من الليل، فقال: الحمد لله الذي جعل في أمتي مثله". ورجاله ثقات، وقصته في الرضاع مشهورة، فعند مسلم عن عائشة "أن سالمًا كان مع أبي حُذَيفة، فأتت سَهْلَةُ بنت سُهَيل بن عمرو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: إن سالمًا بلغ ما يبلغ الرجال، وإنه يدخل عليّ، وأظن أن في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئاً، فقال: أرضعيه تحرمي عليه" الحديث. ومن طريق الزُّهريّ عن أم سَلَمة أن أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- قلن لعائشة: ما نرى هذا إلا رخصة رخصها

رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لسالم، وأخرج مالك في الموطأ عن عُروة بن الزُّبَير قال: جاءت سَهْلَة بنت سُهَيل وهي امرأة أبي حُذَيفة، فقالت: "يا رسول الله، إنا كنا نرى سالماً ولدًا، وكان يدخل عليّ وأنا فُضُل، فماذا ترى فيه؟ " فذكر الحديث، ووصله عبد الرزاق عن مالك، وكان عمر بن الخطّاب يُفْرط في الثناء عليه. وروي عنه أنه قال: لو كان سالم حيًا ما جعلتها شورى. قال ابن عبد البَرّ: وهذا عندي إن كان مما يصدر فيها عن رأيه. روى ابن المبارَك أن لواء المهاجرين كان مع سالم، فقيل له في ذلك، فقال: بئس حامل القرآن أنا إن فررت، فقطعت يمينه، فأخذه بيساره، فقطعت فاعتنقه إلى أن صرع. فقال لأصحابه: ما فعل أبو حُذَيفة؟ يعني مولاه، قيل: قتل. قال أضْجعِوني بجنبه. فأرسل عمر ميراثه إلى معتقته ثُبَيّة، فقالت: إنما أعتقته سائبة، فجعله في بيت المال. وذكر ابن سعد أن عمر أعطى ميراثه لأمه فقال كليه، هكذا قال في الإصابة، وقال ابن عبد البَرّ: قتل يوم اليمامة شهيدًا هو ومولاه أبو حُذَيْفَة، فوجد رأس أحدهما عند رجل الآخر، وذلك سنة اثنتي عشرة من الهجرة، وكان من البدريين، له حديثان أحدهما عند البَغَوِيّ من طريق عبدة بن أبي لُبابَة قال: "بلغني عن سالم مولى أبي حُذيفة قال: كان لي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حاجة، فقعدت في المسجد أنتظر، فخرج، فقمت إليه، فوجدته قد ركع، فقعدت قريبًا منه، فقرأ البقرة ثم النساء والمائدة والأنعام، ثم ركع ثانيهما" عند سمويه وابن شاهِين من طريق عَمرو بن دِيْنار قَهْرَمان آل الزُّبير "حدثني شيخ من الأنصار عن سالم مولى أبي حُذَيْفَة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ليجاء يوم القيامة بقوم لهم حسنات مثل جبال تِهَامة، فيجعل الله أعمالهم هباء، كانوا يصلون ويصومون، ولكن إذا عرض لهم شيء من الحرام وثبوا عليه. وفي السندين ضعف وانقطاع، فقول ابن أبي حاتم: أنه ما روي عنه شيء، يحمل على أنه لم يصح عنه شيء. وأما أبو حُذَيْفَة، فهو أبو حُذَيْفَة بن عُتْبَة بن رَبيعَةَ بن عَبْدِ شمس بن عبد مناف، القُرَشي العَبْشَميّ، كان من فضلاء الصحابة من المهاجرين الأولين، جمع الله له الشرف والفضل، صلى القبلتين، وهاجر الهجرتين، كان إسلامه قبل دخول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دار الأرقم للدعاء فيها إلى الإِسلام، هاجر مع امرأته سَهْلة بنت سُهَيل بن عمرو إلى الحبشة، ولدت له فيها محمد بن أبي حُذَيْفَة، ثم قدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو بمكة، فأقام بها حتى هاجر إلى المدينة، وشهد بدرًا وأحدًا والخَنْدَق والحُدَيْبيَة والمشاهد، وقتل يوم اليمامة شهيدًا، وهو ابن ثلاث أو أربع وخمسين سنة. يقال: اسمه مُهْشِم أو هُشَيم أو هشام، وكان رجلًا طُوالًا حسن الوجه أحول أشعل، والأشعل الذي

لطائف إسناده

له سن زائدة تدخل من أجلها الأخرى، وفيه تقول أخته هِنْد بنت عُتْبَة حين دعا أباه إلى البراز يوم بدر: فما شكرت أبًا رباك من صِغَر ... حتى شببتَ شبابًا غير مَمْجونِ الأحول الأشعل المشؤوم طائرُه ... أبو حُذَيْفَة شَرِّ الناس في الدينِ قال ابن عبد البَرّ: وكان خير الناس في الدين، وكانت هي، إذ قالت هذا، شر الناس في الدين. وكان أسلم بعد ثلاثة وأربعين نفسًا، ثبت ذكره في الصحيحين في قصة سالم من طريق الزُّهريّ عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن أبا حُذَيْفَة بن عُتْبَة كان ممن شهد بدرًا. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع والعنعنة والقول، وفيه أن شيخ البخاريّ من أفراده، ورواته كلهم مدنيون.

الحديث السادس والأربعون

الحديث السادس والأربعون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو التَّيَّاحِ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، وَإِنِ اسْتُعْمِلَ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ". قوله: اسمعوا وأطيعوا، أي في ما فيه طاعة لله، وقوله: استُعْمِل، بضم المثناة على البناء للمفعول، أي جعل عاملًا بأن أَمّر إمارة عامة على البلد مثلًا، أو ولي فيها ولاية خاصة، كالإمامة في الصلاة أو في جباية الخَرَاج أو مباشرة الحرب، فقد كان في زمن الخلفاء الراشدين من تجتمع له الأمور الثلاثة، ومن يختص ببعضها. وقوله: حَبَشِي، بفتح المهملة والموحدة بعدها معجمة، منسوب إلى الحَبَشة، وللمصنف في الأحكام وإن استعمل عليكم عبد حَبَشِيّ، وهو أصرح في مقصود الترجمة. وله في رواية بعد باب عن غندر بلفظ "قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي ذرٍ: اسمع وأطع، ولو لحبشيّ كأنَّ رأسه زبيبة". وأخرج مسلم عن أبي ذَرٍّ أنه انتهى إلى الرَّبذَة فإذا عبد يؤمهم، فذهب يتأخر لأجل أبي ذَرٍّ فقال أبو ذَرٍّ "إن خليلي صلى الله تعالى عليه وسلم أوصاني أنْ اسمعْ وأطعْ وإن كان عبدًا حَبَشيًا مُجدع الأطراف" وأخرجه الحاكم والبَيْهَقِيّ من هذا الوجه, وظهرت بهذه الرواية الحكمة في تخصيص أبي ذَرٍّ في هذه الرواية. وأخرج مسلم أيضًا عن أم الحُصين "أنها سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب في حِجَّة الوداع يقول: استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله". وفي هذه الرواية فائدتان: تعيين جهة الطاعة، وتأريخ الحديث وأنه كان في أواخر عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وقوله: كأنّ رأسه زبيبة، واحدة الزبيب المأكول. المعروف الكائن من العنب إذا جف، قيل: إنما شبه رأس الحَبَشي بالزبيبة لتجمعها، ولكون شعره أسود. وقيل شبهه بذلك لِصِغَر رأسه، وذلك معروف في الحبشة، وقيل لقصر شعر رأسه وتفلفله، وهو تمثيل في الحقارة وبشاعة الصورة، وعدم الاعتداد بها. ووجه الدلالة منه على صحة إمامة العبد أنه إذا أمر بطاعته فقد أمر بالصلاة خلفه، ويحتمل أن يكون مأخوذًا من جهة ما جرت به عادتهم، أن الأمير هو الذي يتولى الإمامة بنفسه أو نائبه، واستدل به على المنع من القيام على السلاطين, وإن جاروا؛ لأن القيام على السلاطين يفضي غالبًا إلى أشد مما ينكر عليهم، ووجه الدلالة منه أنه أمر بطاعة العبد الحبشيّ. والإمامة العُظْمى إنما تكون بالاستحقاق في قُرَيش، فيكون غيرهم متغلباً، فإذا أمر بطاعته استلزم النهي عن مخالفته والقيام عليه، ورده ابن الجَوْزِيّ بأن المراد بالعامل هنا من يستعمله الإمام، لا من يلي الإمامة العظمى. وقيل: المراد بالطاعة الطاعة فيما وافق الحق. قلت: هذا الحمل متعين إجماعًا،

رجاله خمسة

إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وقد قال الله تعالى في حق نبيه -صلى الله عليه وسلم- {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة: 12]. ولا مانع من حمله على أعم مما قال ابن الجَوْزِيّ، فقد وجد من ولي الإمامة العُظْمى من غير قُريش من ذوي الشوكة متغلبًا، ويأتي إنْ شاء الله تعالى بسط ذلك في غير هذا المحل، وقد عكسه بعضهم، فاستدل به على جواز الإمامة في غير قُرَيش، وهو متعقب إذ لا تلازم بين الإجزاء والجواز، ويحتمل أن يسمى عبدًا باعتبار ما كان قبل العتق، وهذا كله إنما هو فيما يكون بطريق الاختيار، وأما لو تغلب عبد حقيقة بطريق الشوكة، فإن طاعته تجب إخمادًا للفتنة ما لم يأمر بمعصية، كما مرَّ. وقيل: المراد أن الإمام الأعظم إذا استعمل العبد الحبشيّ على إمارة بلد مثلًا، وجبت طاعته. وليس فيه أن العبد الحبشيّ يكون هو الإمام الأعظم. وقال الخَطّابيّ: قد يضرب المثل بما لا يقع في الوجود، وهذا من ذاك، أطلق العبد الحبشيّ مبالغة في الأمر بالطاعة، وإن كان لا يتصور شرعاً أن يلي ذلك. رجاله خمسة: مروا جميعًا، مرَّ محمد بن بَشّار وأبو التَّيَّاح في الحادي عشر من العلم، ومرَّ شُعْبَة في الثالث من الإيمان، ومرَّ يحيي بن سَعيد القَطّان وأنس في السادس منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع والعنعنة والقول، ورواته بصريون إلا شعبة، فهو واسطيّ، وهو بَصريّ أيضًا أخرجه البُخاريّ في الصلاة أيضًا عن محمد بن أبان، وفي الأحكام عن مسدد، وأخرجه ابن ماجَه في الجهاد. ثم قال المصنف: باب إذا لم يتم الإمام وأتم من خلفه يأتي تفسير الترجمة في تفسير الحديث.

الحديث السابع والأربعون

الحديث السابع والأربعون حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى الأَشْيَبُ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ يُصَلُّونَ لَكُمْ، فَإِنْ أَصَابُوا فَلَكُمْ، وَإِنْ أَخْطَئُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ. وقوله: يصلون، أي الأئمة. وقوله: لكم، أي لأجلكم، فاللام للتعليل. وقوله: فإن أصابوا فلكم، أي ثواب صلاتكم. وقوله: ولهم، أي ثواب صلاتهم. وروى أحمد زيادة "لهم". وفي بعض الروايات بحذفها، وتمسك ابن بَطّال بظاهر الرواية المحذوفة، فزعم أن المراد بالإصابة هنا إصابة الوقت، مستدلًا بما أخرجه النَّسَائيّ وغيره من وجه حسن عن ابن مسعود مرفوعًا "لعلكم تدركون أقوامًا يصلون الصلاة لغير وقتها، فإذا أدركتموهم فصلوا في بيوتكم في الوقت، ثم صلوا معهم، واجعلوها سبحة" والتقدير على هذا: فإن أصابوا الوقت أو أخطؤا الوقت، فلكم، يعني الصلاة التي في الوقت. وغفل عن الزيادة المذكورة، وهي تدل على أن المراد صلاتهم معهم، لا عند الانفراد. وقد أخرج ابن حِبّان عن أبي هُرَيْرَة ما هو أصرح في مقصود الترجمة، ولفظه "يكون أقوام يصلون الصلاة فإن أتموا فلكم ولهم" وروى أبو داود عن عُقْبَة بن عامر "مَن أَمَّ الناسَ فأتم" وفي رواية "فأصاب، فالصلاة له ولهم، ومن انتقص من ذلك شيئًا فعليه ولا عليهم" وفي مسند ابن وَهْب عن أبي شُرَيح العَدَويّ "الإمام جُنّة، فإن أتم فلكم وله، وإن نقص فعليه النقصان ولكم التمام". وأخرج الدارَقُطنيّ عن أبي هُريرة "سيليكم بعدي وُلاة فاسمعوا وأطيعوا فيما وافق الحق، وصلوا وراءهم، فإن أحسنوا فلهم، وإن أساؤا فعليهم".وفي سنن أبي داود بإسناد حسن عن أبي هُريْرَة مرفوعًا "يكون عليكم أمراء من بعدي يؤخرون الصلاة، فهي لكم وهي عليهم، فصلوا معهم ما صلوا القبلة". وروى الحاكم مصححًا عن سَهْل بن سَعْد "الإمام ضامن، فإن أحسن فله ولهم، وإن أساء فعليه لا عليهم" وروى الشافعيّ عن أبي هُريرة مرفوعًا بلفظ "يأتي قوم فيصلون لكم، فإن أتموا كان لهم ولكم، وان نقصوا كان عليهم ولكم" وفي رواية أحمد في هذا الحديث "فإن صلوا الصلاة لوقتها وأتموا الركوع والسجود فهي لكم ولهم" فهذا يبين أن المراد ما هو أعم من ترك إصابة الوقت. وقوله: وإن اخطؤا، أي ارتكبوا الخطيئة، ولم يرد به الخطأ المقابل للعمد, لأنه لا إثم فيه.

وقوله: فلكم وعليهم، أي لكم ثوابها وعليهم عقابها, لأن "على" تستعمل في الشر واللام في الخير. وقيل: لكم ثواب الطاعة والسمع، وعليهم إثم ما صنعوا وأخطؤا. وقيل: إن صليتم أفذاذًا في الوقت فصلاتكم تامة إن أخطؤا في صلاتهم، وأتممتم أنتم بهم، ومعنى كون غير الصواب لهم مع أنه لا خير فيه حتى يكون لهم، هو أن صلاتكم لكم، وكذا ثواب الجماعة لكم. وقال المُهَلَّب: فيه جواز الصلاة خلف البَرّ والفاجر إذا خيف منه، يعني إذا كان صاحب شوكة. وفي "شرح السنة" للبَغَويّ فيه دليل على أنه إذا صلى بقوم محدثًا أنه تصح صلاة المأمومين خلفه، وعليه الإعادة، وهذا في مذهب الشافعيّ, لأنّ المؤتم عنده تبع الأمام في مجرد الموافقة لا في الصحة، فلأجل هذا قالوا إن خطأ الإمام في بعض غير مؤثر في صحة صلاة المأموم إذا أصاب، فلو ظهر بعد الصلاة أن الإمام جنب أو محدث أو في بدنه أو ثوبه نجاسة خفيفة، فلا تجب إعادة الصلاة على المؤتم به، بخلاف النجاسة الظاهرة لكن قطع صاحب التتمة والتهذيب وغيرهما بأن النجاسة كالحَدَث، ولم يفرقوا بين الخَفيفة وغيرها. واستدل به غير البَغَويّ على أعم من ذلك، وهو صحة الائتمام بمن يخل بشيء من الصلاة، ركنًا كان أو غيره، إذا أتم المأموم، وهو وجه عند الشافعية، بشرط أن يكون الإمام هو الخليفة أو نائبه، والأصح عندهم صحة الاقتداء إلا بمن علم أنه ترك واجبًا، ومنهم مَنْ استدل به على الجواز مطلقًا، بناء على أن المراد بالخطأ ما يقابل العمد. قال: ومحل الخلاف في الأمور الاجتهادية كمن يصلي خلف من لا يرى قراءة البَسْمَلة، ولا أنها من أركان القراءة، ولا أنها آية من الفاتحة، بل يرى أن الفاتحة تجزىء بدونها، فإن صلاة المأموم تصح إذا قرأ هو البَسْمَلة, لأن غاية الإمام في هذه الحالة أن يكون أخطأ، وقد دل الحديث على أن خطأ الإمام لا يوثر في صحة صلاة المأموم إذا أصاب. وقال ابن المُنْذِر: هذا الحديث يرد على من زعم أن صلاة الإمام إذا فسدت تفسد صلاة من خلفه، وقيل: إن أحمد مثل الشافعيّ في عدم ارتباط صلاة المأموم بصلاة الإمام، وعند المالكية والحنفية أن صلاة المأموم مرتبطة بصلاة الإمام، إذا فسدت صلاته تفسد صلاته، واستثنت المالكية من ذلك مسائل مجموعة في نظم ميارة وتذييله للشيخ البُنانيّ وهو: كل صلاة بطلتْ على الإمام ... تبطُلْ على من خلفه من الأنام إلا لدى عشرة مع اثنينْ ... فبطلها على الإمام دون مَيْن ذكر النجاسة سقوطها وزِدْ ... نسيانه الخبث سبق وقد يرد وكشفُ عَوْرةٍ سجودٌ غَفَلا ... إن عن ثلاثة وطال فاقْبَلا وإن على نفسٍ يخف أو مالِ ... أو ظهره فاعدد ولا تبالي مسافِرٌ لدى الصلاة قد نَرَى ... إقامةً ظَنّ الرُّعاف قل سوى مُقَهْقِه غُلِب وإذا نسيْ ... أبطلها للكلِ عامدٌ مُسِيْ

وذيلها الشيخ البنانيّ بقوله: ذكر الفوائت اليسيرة اعلما ... ترك الإمام سجدة لذا اضمما مُسْتَخْلَفًا لم ينوِ قُلْ وراعِفًا ... كَلَّمَ مُطْلقًا وزدْ مُنْحَرفًا فارَقَه الإمامُ نيةً وَعِي ... إمامُ خوفٍ بعد الاولى فاسْمَعِ وذيلها بعضهم: في كلها يستخلف الإمامُ ... إلا لدى السجودِ فالتمامُ أغنى ولكن مقهقهًا سما ... مسافرًا وذا الفوائتِ اعلَما مشهورُها البُطلانُ للكلِ فلا ... يَصِحّ الاستخلاف فصل مُجْمَلا واستدلت الحنفية والمالكية بما مرَّ عن سهل بن سعد "الإمام ضامن" يعني صلاتهم في ضمن صلاته صحة وفسادًا. مرَّ منهم زيد بن أسلم، وعطاء بن يسار في الثاني والعشرين من الإيمان، ومرَّ أبو هُرَيرة في الثاني منه. والرابع شيخ البُخَاريّ الفَضْل بن سَهْل بن إبراهيم الأعْرج، أبو العَبّاس، البغداديّ الحافظ، وقال ابن مَنْدَه: خُراسانيّ نزل بغداد. قال أبو داود: أنا لا أحدث عنه. قيل له: لم؟ قال: لأنه كان لا يفوته حديث جيد. وقال أحمد بن الحُسَين الصُّوفيّ: كان أحد الدَّواهي، يعني في الذكاء. وقال أبو حاتم: صَدُوق. وقال النَّسَائيّ: ثقة، وذكره ابن حِبّان، وقال: "مات سنة خمس وخمسين ومئتين وزاد السّراج في "صفر" وله نيف وسبعون سنة. روى عن شَبّابَة والحسن بن موسى الأشْيَب وزيد بن الحُبَاب ويَزيِد بن هارون وغيرهم. وروى عنه الجماعة سِوى ابن ماجَه. وأبو حاتم وعبد الله بن أحمد بن حنبل وابن أبي الدنيا والبَغَويّ وغيرهم. الثاني من السند الحَسَنُ بن موسى الأشيب، أبو عليّ البغداديّ، قاضي طَبَرسْتَان والموصل وحِمْص. قال أحمد: هو من مُتَثبّتي بغداد. وقال ابن مَعِين وابن المَدِينيّ: ثقة. وَقال ابن سعد: كان ثقة صدوقًا في الحديث. وذكره ابن حِبَّان في الثقات. وذكره مسلم في رجال شُعْبَة الثقات في الطبقة الثالثة. وقال أبو حاتم وصالح بن محمد وابن خِراش صَدُوق. زاد أبو حاتم: مات بالري، وحضرت جنازته. مات سنة ثمان أو تسع أو عشر ومئتين. روى عن الحمّادين وشُعْبَةَ وسُفيان وجَرير بن حازم واللَّيث بن سعد وغيرهم، وروى عنه أحمد بن حَنْبَل وحَجاج بن الشاعر والفَضْل بن سَهْل الأعْرَج وهارون الجَمّال وغيرهم. الثالث عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار العَدَوِيّ، وقد مرَّ في الثامن والثلاثين من الوضوء.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع والعنعنة والقول، ورواته ما بين بغداديّ وكُوفيّ ومَدَنيّ. قال العَيْنِيّ وعبد الرحمن: من أفراد البُخاريّ، وقد مرَّ لك قريبًا عن ابن حجر من روى عنه غيره من الستة، وهذا الحديث انفرد به البُخاريّ عن الستة، وأخرجه ابن حِبّان والدارَقُطنيّ عن أبي هُريرة. ثم قال المصنف: باب إمامة المفتون والمبتدع قوله المفتون، أي الذي دخل في الفتنة، فخرج على الإمام. ومنهم من فسره بما هو أعم من ذلك، وقوله: المبتَدع، أي الذي ارتكب البدعة وهو من اعتقد شيئًا مما يخالف أهل السنة والجماعة، والبدعة لغةً: كل شيء عمل على غير مثال سابق، وشرعًا إحداث ما لم يكن له أصل في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-, وهي على قسمين: بدعة ضلالة، وهي التي ذكرنا، وبدعة حسنة، وهي ما رآه المؤمنون حسنًا، ولا يكون مخالفًا للكتاب أو السنة أو الإجماع، والمراد هنا البدعة الضلالة، وقد أشبعنا الكلام عليها في كتابنا "مشتهى الخارِف الجاني". ثم قال: وقالَ الحسنُ: صلِّ وعليهِ بدْعَتُهُ. وهذا التعليق وصله سَعِيد بن منصور عن ابن المُبارك، ولفظه أن الحسن سُئل عن الصلاة خلف صاحب البدعة، فقال الحسن: صل خلفه وعليه بدعته، والحسن المراد به الحسن البصري، وقد مرَّ في الرابع والعشرين من الإيمان.

الحديث الثامن والأربعون

الحديث الثامن والأربعون قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَقَالَ لَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ خِيَارٍ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضى الله عنه وَهْوَ مَحْصُورٌ فَقَالَ إِنَّكَ إِمَامُ عَامَّةٍ، وَنَزَلَ بِكَ مَا تَرَى وَيُصَلِّي لَنَا إِمَامُ فِتْنَةٍ وَنَتَحَرَّجُ. فَقَالَ الصَّلاَةُ أَحْسَنُ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ، فَإِذَا أَحْسَنَ النَّاسُ فَأَحْسِنْ مَعَهُمْ، وَإِذَا أَسَاءُوا فَاجْتَنِبْ إِسَاءَتَهُمْ. قوله: وقال لنا محمد بن يوسف، يأتي في السند قريبًا ما قيل فيه، ووصله الاسماعيليّ عن محمد بن يحيي قال حدثنا محمد بن يوسف الفِرْيابي، وقوله: عن حُمَيد بن عبد الرحمن، أي ابن عوف، وفي رواية الإِسماعيليّ " أخبرني حميد"، وخالفه يونس بن يزيد فقال: عن الزُّهْرِيّ عن عُرْوَة، أخرجه الإسماعيليّ، وكذلك رواه معمر عن الزُّهْريّ، أخرجه عمر بن شَبَّةَ في كتاب مقتل عُثمان عن غندر عنه، ويحتمل أن يكون للزّهريّ فيه شيخان. وقوله: عن عُبَيد الله بن عَدِيّ، في رواية ابن المُبارَك عن الأوزاعيّ عند الِإسماعيليّ وأبي نُعيم: حدثني عُبيد الله بن عَديّ بن الخِيار من بني نَوْفل بن عبد مناف. وقوله: إنك إمام عامة، أي جماعة، وفي رواية يونس "وأنت الإمام" أي الأعظم. وقوله: ونزل بك ما نرى، بالنون أي من الحصار، وفي رواية "ما ترى" بتاء المخاطب، أي ما ترى من الحصار، وخروج الخوارج عليك. وقوله: ويصلي لنا، أي يؤمنا، وقوله: إمام فتنة، أي رئيس فتنة. وقال الدّاوديّ: أي إمام وقت فتنة. وعلى هذا الاختصاص له بالخارجي. قال: ويدل على صحة ذلك أن عثمان لم يذكر الذي أمهم بمكروه، بل ذكر أن فعله أحسن الأفعال، ولكن هذا مغاير لمراد المصنف من ترجمته، ولو كان كما قال لم يكن قوله "ونتحرج" مناسبًا. واختلف في المشار إليه، فقيل: هو عبد الرحمن بن عُدَيْس البَلَويّ، أحد رؤوس المصريين الذين حَصَروا عثمان، كما قاله ابن عبد البَرّ. زاد ابن الجَوْزيّ: وإن كَنانة بن بُسْر أحد رؤوسهم، صلى بالناس أيضًا، وهو المراد هنا, لأن سَيْف بن عمرو روى حديث الباب في كتاب "الفتوح" عن الزّهريّ بسنده فقال فيه: "دخلت على عثمان وهو محصور، وكنانة يصلي بالناس، فقلت: كيف ترى ... " الحديث، وذلك أن هؤلاء لما هجموا على المدينة كان عثمان يخرج فيصلي بالناس شهرًا، ثم خرج يومًا فحصبوه حتى وقع على المنبر، ولم يستطع الصلاة يومئذ، وصلى بالناس يوم حصر عثمان أبو أمَامة بن سَهْل بن حُنَيْفِ الأنصاريّ، لكن بإذن عثمان كما قال سَيْف بن عمر وفي "الفتوح". ورواه عمر بن شَبَّة بسند صحيح وكذلك صلّى بهم عَلِيّ بن أبي طالب فيما رواه إسماعيل

الخطيّ في تاريخ بغداد عن ثَعْلَبَة بن يَزِيد الحَمْانيّ، قال: فلما كان يوم عيد الأضحى جاء عليّ فصلى بالناس. وقال ابن المبارك فيما رواه الحسن الحَلْوانيّ: لم يصل بهم غيرها. وقال غيره: صلى بهم عدة صلوات، وصلى بهم، أيضًا سَهْل بن حُنَيف. رواه عمر بن شَبَّة بإسناد قويّ. وقيل: صلى بهم أيضًا أبو أيوب الأنصاريّ وطَلْحَة بن عُبَيد الله، وليس واحد من هؤلاء مرادًا بقوله "إمام فتنة" إلا على ما مرَّ من تقرير الداوديّ. وقد مرَّ ما فيه. وقوله: ونتحرج، في رواية ابن المبارك "وإنا لنتحرج من الصلاة معه" والتحرج التأثّم أي نخاف الوقوع في الإثم، وأصل الحرج الضيق، ثم استعمل للإثم لأنه يُضَيّق على صاحبه. وقوله: فقال الصلاة أحسن، في رواية ابن المبارك "إن الصلاة أحسن" وفي رواية مَعْقِل بن زِياد عن الأوزاعيّ عند الإسماعيليّ "من أحسن". وقوله: فإذا أحسن الناس، فأحسن معهم، ظاهره أنه رخص له في الصلاة معهم، كأنه يقول: لا يضرك كونه مفتونًا، بل إذا أحسن فوافقه على إحسانه، واترك ما افتتن به، وهو الموافق لسياق الباب، وهو الذي فهمه الداوديّ حتى احتاج إلى تقدير حذف في قوله "إمام فتنة" كما مرَّ. قلت: قد مرَّ أنه على كلام الداوديّ لا اختصاص له بالخارجيّ، وخالف ابن المُنير فقال: يحتمل أن يكون رأى أن الصلاة خلفه لا تصح، فحاد عن الجواب بقوله إن الصلاة أحسن, لأن الصلاة التي هي أحسن هي الصلاة الصحيحة، وصلاة الخارجيّ غير صحيحة, لأنه إما كافر أو فاسق، وفيما قاله نظر, لأنّ سيفًا روى في "الفُتَوح" عن سَهْل بن يوسف الأنصاريّ عن أبيه. قال: كره الناس الصلاة خلف الذين حصروا عثمان إلا عثمان، فإنه قال: من دعا إلى الصلاة فأجيبوه، فهذا صريح في أن مقصوده بقوله "الصلاة أحسن" الإشارة إلى الإذن بالصلاة خلفه، وفيه تأييد لما فهمه المصنف من قوله "إمام فتنة". وروى سعيد بن منصور عن مَكْحُول قال: قالوا لعثمان انا نتحرج أن نصلي خلف هؤلاء الذين حصروك، فذكر نحو حديث الزُّهريّ، وهذا منقطع، إلا أنه اعتضد. وقوله: وإذا أساؤا فاجتنب، فيه تحذير من الفتنة والدخول فيها، ومن جميع ما ينكر من قول أو فعل أو اعتقاد، وفيه الحض على شهود الجماعة، ولاسيما في زمن الفتنة لئلا يزداد تفرق الكلمة. وفيه أن الصلاة خلف من تكره الصلاة خلفه أولى من تعطيل الجماعة، ومذهب الشافعية أن الفاسق بجارحة أو اعتقاد تصح الصلاة خلفه إلا منكر العلم بالجزئيات وبالمعدوم ومن يصرح بالتجسيم، فلا يجوز الاقتداء بهم كسائر الكفار، وتصح خلف مبتدع يقول بخلق القرآن أو بغيره من البدع التي لا يكفر بها صاحبها، هذا ما عند الشافعية، والمشهور عند المالكية أن الفاسق الذي لا يتعلق فسقه بالصلاة، بل بالجوارح الظاهرة، كالزنى وشُرْب الخمر يحرم الاقتداء به، ويحرم عليه هو المتقدم، ولا تبطل صلاة المقتدي به، وأما الذي يتعلق بالصلاة، كالتهاون بأركان الصلاة وشروطها، فالصلاة به باطلة، وأما الفاسق بالاعتقاد كالبدعيّ المختلف في تكفيره وتفسيقه، كالخوارج والرَّوافض والجَهْمِية

رجاله خمسة

والمعتزلة، فالصلاة خلفه صحيحة، وتندب إعادتها في الوقت. وقال أصبغ يعيد أبداً، وأما المقطوع بكفره من أهل البدع، كالقائل إن اللهَ تعالى لا يعلم الأشياءُ مفصلةً، فالصلاة خلفه باطلة، وأما عند الحَنَفية، فقد قال العَيْنيّ: قال أصحابنا: تكره الصلاة خلف صاحب هوى وبدعة، ولا تجوز خلف الرافضيّ والجهميّ والقدريّ, لأنهم يعتقدون أن الله لا يعلم الأشياء قبل حدوثها، وهذا كفر، والمُشَبِّهَةُ ومن يقول بخلق القرآن. وكان أبو حَنِيفة لا يرى الصلاة خلف المبتدع، ومثله عن أبي يوسف. وأما الفاسق بجارحة، كالزاني وشارب الخمر، فزعم ابن الحبيب أن من صلى خلف شارب الخمر يعيد أبداً إلا أن يكون والياً، وقيل في رواية تصح، وفي المحيط: لو صلى خلف فاسق أو مبتدع يكون محرزًا لثواب الجماعة، ولا ينال ثواب من صلى خلف المتقي. وفي "المبسوط" يكره الاقتداء بصاحب البدعة. وقال أحمد: لا تصح صلاة بالفاسق مطلقًا، سواء كان فسقه من جهة الأفعال أو الاعتقاد، ولو مستورًا ولو بمثله، إلا في جمعة وعيد تعذرا خَلْف غيره، بأن يعدما خلف عدل, لأن الجمعة والعيد من شعائر الإِسلام، وتليهما الأئمة دون غيرهم، فتركهما خلفهم يفضي إلى تركهما بالكلية، ولا يعيد الجمعة. قال "في الفتح": وفي الأثر رد على من زعم أن الجمعة لا يجزىء أن تقام بغير إذن الإمام. قلت: وبيان ذلك هو أن علياً رضي الله تعالى عنه صلى يوم عيد الأضحى الذي من شرطه أنه لا يصليه إلا من يصلي الجمعة، ولم يثبت أنه حصل له إذن من عثمان رضي الله تعالى عنه، فعل ذلك لئلا تضاع السنة. قال العَيْنِي: وقد قال أصحابنا: لا تجوز إقامتها إلا للسلطان، وهو الإمام الأعظم، أو لمن أمره، كالنائب والقاضي والخطيب، مستدلين بما رواه ابن ماجه عن جابر بن عبد الله، قال: "خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ... " الحديث، وفيه "فمن تركها" أي الجمعة "في حياتي وبعدي وله إمام عادل أو جائر استخفافًا بها، وجحودا لها، فلا جمع الله شمله، ولا بارك له في أمره، ولا صلاة له، ولا زكاة ولا حج ولا صوم له، ولا بر له حتى يتوب .. " الحديث. لكن في سنده عبد الله بن محمد، وهو متكلم فيه. وقال العَيْنِي: إنه روي من طرق كثيرة مختلفة، فحصل له من ذلك قوة، فلا يمنع من الاحتجاج به. رجاله خمسة: وفيه ذكر عثمان رضي الله تعالى عنه، مرَّ محمد بن يوسُف الفِرْيابيّ في العاشر من العلم, ومرَّ الأوزاعيّ في العشرين منه، ومرَّ عثمان في أثر معلق بعد الخامس منه، ومرَّ ابن شِهاب في الثالث من بدء الوحي، ومرَّ حُمَيد بن عبد الرحمن في الثلاثين من الإيمان. وأما عُبَيد الله فهو عُبَيد الله بالتصغير، بن عَدِيّ بن الخِيار، بكسر الخاء، ابن عَديّ بن نَوْفل بن عبد مناف، النَّوفَليّ القُرَشِيّ المَدَنيّ. قال ابن حبَّان: له رؤية. وقال البَغَويّ: بلغني أنه ولد على عهد النبي-صلى الله عليه وسلم-. ويقال إن أباه قتل ببدر، حكاه ابن ماكولا. وقال ابن سعد: أسلم أبوه يوم الفتح.

لطائف إسناده

وذكر المَدَانيّ لعَديّ قصة مع عثمان، والجمع بين الكلامين أنهما اثنان عَدِيّ الأكبر وعَدِيّ الأصغر، فالذي أسلم في الفتح هو والد عُبيد الله هذا، والآخر قتل ببدر، وفي صحيح البخاري أن عثمان قال له: يا بني أدركت النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: لا، ولكن خلص إليّ من علمه. ومراده أنه لم يدرك السماع منه بقرينة، ولكن خلص. وقال ابن إسحاق: حدثني الزّهريّ عن عطاء بن يزيد عن عُبيد الله بن عدي، وكان من فقهاء قريش وعلمائهم، وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من التابعين، وقال: أمه أم قَتّال بنت أَسِيد بن أبي العِيص، أخت عَتّاب بن أَسِيد. وقال: تابعيّ ثقة من كبار التابعين، وهو ابن أخت عثمان، كذا قال، ولعل الصواب عتاب. روى عن عمر وعثمان وعلي والمقداد ووحشي بن حرب، وروى عنه عُروة وعطاء بن يَزِيد وحُمَيد بن عبد الرحمن وعُرْوَة بن عِيَاض وغيرهم، كانت وفاته بالمدينة في خلافة الوليد بن عبد الملك، قال ابن حِبّان في ثقات التابعين, مات سنة خمس وتسعين. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع والعنعنة والقول، ورواية ثلاثة من التابعين بعضهم عن بعضهم، وفيه أولا قال البخاريّ قال لنا محمد بن يوسف، وهو شيخه، قيل: عبر بهذه الصيغة لأنه مما أخذه عن شيخه في المذاكرة، فلم يقل فيه حدثنا. وقيل: إن ذلك مما تحمله بالإجازة أو المناولة أو العرض، وقيل: هو متصل من حيث اللفظ، منقطع من حيث المعنى. قال في "الفتح" والذي ظهر لي بالاستقراء خلاف ذلك، وهو أنه متصل، لكنه لا يعبر بهذه الصيغة إلا إذا كان المتن موقوفًا، أو كان فيه راوٍ ليس على شرطه. والذي هنا من قبيل الأول، هذا ما قاله في "الفتح". قال العَيْنِيّ: إذا كان الراوي على غير شرطه، كيف يذكره في كتابه؟ وهذا اعتراض باطل، فإنه ذكره مخافة فوات المصلحة، ونبه على ما فيه بقوله: هذا الذي لا يقوله فيما هو تام الصحة. ثم قال: وَقَالَ الزُّبَيْدِيُّ قَالَ الزُّهْرِيُّ لاَ نَرَى أَنْ يُصَلَّى خَلْفَ الْمُخَنَّثِ إِلاَّ مِنْ ضَرُورَةٍ لاَبُدَّ مِنْهَا. قوله: يُصَلّى بالبناء للمجهول. وقوله: المخنث، روى بكسر النون وفتحها، والأول المراد به من فيه تكسر وتثن وتشبه بالنساء، والثاني المراد به من يؤتى، وبه جزم أبو عبد الملك فيما حكاه ابن التِّين، محتجًا بأن الأول لا مانع من الصلاة خلفه إذا كان أصل خلقته، ورد بأن المراد من يتعمد ذلك فيتشبه بالنساء، فإن ذلك بدعة قبيحة، ولهذا جوز الداوديّ أن يكون كل منهما مرادًا. قال ابن بطال: ذكر البُخاريّ هذه المسألة هنا, لأن المخنث مفتتن في طريقته. وقوله: إلا من ضرورة، أي بأن يكون ذا شوكة، أو من جهة فلا تعطل الجماعة بسببه. وهذا التعليق رواه معمر عن الزّهريّ بغير قيد، أخرجه عبد الرزاق عنه، ولفظه "قلت: فالمخنث؟ قال: لا، ولا كرامة، لا يؤتم به" وهو محمول على حالة الاختيار. والزَّبيديّ المراد به أبو الهُذَيل، وقد مرَّ في التاسع عشر من العلم، ومرَّ الزُّهْرِيّ في الثالث من بَدْء الوَحي.

الحديث التاسع والأربعون

الحديث التاسع والأربعون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبَانَ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- لأَبِى ذَرٍّ اسْمَعْ وَأَطِعْ، وَلَوْ لِحَبَشِيٍّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ. هذا الحديث قد مرَّ استيفاء الكلام عليه قبل باب، قال ابن المُنير: وجه دخوله في هذا الباب أن الصفة المذكورة إنما توجد غالبًا في عجمي حديث عهد بالإِسلام، لا يخلو من جهل بدينه، ولا يخلو من هذه صفته عن ارتكاب البدعة، ولو لم يكن إلا افتتانه بنفسه حتى تقدم للإمامة، وليس من أهلها. رجاله خمسة: وفيه ذكر أبي ذَرٍّ، وقد مروا جميعًا. الأول: محمد بن أبَان، والمراد به البَلْخِيّ, لأن محمد بن أبَان الواسِطِيّ ليست له رواية عن غُنْدُر، والبَلْخيّ قد مرَّ في الخامس والستين من كتاب مواقيت الصلاة، ومرَّ غُنْدُر فى الخامس والعشرين من الإيمان، ومرَّ شُعْبَةُ في الثالث منه، ومرَّ أَنَس في السادس منه، ومرَّ أبو ذَرٍّ في الثالث والعشرين منه، ومرَّ أبو التّيّاح في الحادي عشر من العلم. ثم قال المصنف: باب يقوم عن يمين الإمام بحذائه سواء إذا كانا اثنين قوله: يقوم، أي المأموم، وقوله: بحذائه، بكسر المهملة وذال معجمة بعدها مدة، أي بجنبه، فأخرج بذلك من كان خلفه أو مائلًا عنه. وقوله: وسواء، أخرج به من كان إلى جنبه، لكن على بعد عنه، والظاهر أن قوله بحذائه يخرج هذا أيضًا. وقوله: سواء، أي لا يتقدم ولا يتأخر. في أكثر الروايات باب بالتنوين يقوم إلخ، وأورده الزَّين بن المُنير بلفظ "باب من يقوم" بالإضافة، وزيادة "مَن" وشرحه على ذلك، وتردد بين كونها موصولة أو استفهامية، ثم أطال في حكمة ذلك، وأن سببه كون المسألة مختلفًا فيها، والواقع أن من محذوفة، والسياق ظاهر في أن المصنف جازم بحكم المسألة لا متردد، وفي انتزاع هذا من الحديث الذي أورده بعد، وكأنّ المصنف أشار بذلك إلى ما وقع في بعض طرقه في الطهارة عن ابن عباس بلفظ "فقمت إلى جنبه" وظاهره المساواة. وروى عبد الرّزاق عن ابن جُرَيْح قال: قلت لعطاء: الرجل يصلي مع الرجل أين يكون منه؟ قال: إلى شِقَّه الأيمن. قلت: أيحاذي به حتى يصف معه لا يفوت أحدهما الآخر؟ قال: نعم.

قلت: أتحب أن يساويه حتى لا تكون بينهما فرجة؟ قال: نعم. وفي "الموطأ" عن عبد الله بن عُتْبَةَ بن مسعود قال: دخلت على عمر بن الخَطّاب بالهاجرة، فوجدته يسبح، فقمت وراءه، فقربني حتى جعلني حذاءه عن يمينه. وقوله: إذا كانا اثنين، أي إمامًا ومأمومًا، بخلاف ما إذا كانا مأمومين مع إمام، فإن الإمام يتقدم عليهما. وقد نقل بعضهم الاتفاق على أن المأموم الواحد يقف عن يمين الإمام إلا النَّخعَيّ فقال: إذا كان الإمام ورجل، قام الرجل خلف الإمام، فإن ركع الإمام قبل أن يجيء أحد قام عن يمينه. أخرجه سعيد بن منصور، ووجهه بعضهم بأن الإمامة مظنة الاجتماع، فاعتبرت في موقف المأموم حتى يظهر خلاف ذلك، وهو حسن، لكنه مخالف للنص، وهو قياس فاسد، ثم الظاهر أن إبراهيم إنما كان يقول بذلك حيث يظن ظنا قويًا مجيء ثان، وقد روى سعيد بن منصور أيضًا عنه قال: ربما قمت خلف الأسود وحدي حتى يجيء المؤذن. قال في "الفتح": قال أصحابنا: يستحب أن يقف المأموم دونه قليلًا. قلت: ومذهبنا أيضًا كذلك، فإنه يقف عن يمينه متاخراً عنه قليلًا.

الحديث الخمسون

الحديث الخمسون حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ الْحَكَمِ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضى الله عنهما قَالَ بِتُّ فِي بَيْتِ خَالَتِي مَيْمُونَةَ فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْعِشَاءَ، ثُمَّ نَامَ، ثُمَّ قَامَ فَجِئْتُ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ، فَصَلَّى خَمْسَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ نَامَ حَتَّى سَمِعْتُ غَطِيطَهُ أَوْ قَالَ خَطِيطَهُ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلاَةِ. مطابقته للترجمة في قوله "عن يمينه". وقوله "جاء" أي من المسجد إلى منزله. وقوله: فجئت، الفاء فيه فصيحة أي قام من النوم فتوضأ فأحرم في الصلاة فجئت، ويحتمل أن لا تكون فصيحة بأن يكون المراد ثم قام إلى الصلاة، والقيام على الوجه الأول بمعنى النهوض، وعلى الثاني بمعنى المنهوض، وفي الحديث أن الذكر يقف عن يمين الإمام بالغًا كان المأموم أو صبيًا، فإن حضر آخر في القيام أحرم عن يساره، ثم يتقدم الإمام أو يتأخران حيث أمكن المتقدم والتأخر، لسعة المكان من الجانبين، وتأخرهما أفضل. روى مسلم عن جابر قال: قام الرسول -صلى الله عليه وسلم- يصلي، فقمت عن يساره فأخذ بيدي حتى أدارني عن يمينه، ثم جاء جَبّار بن صَخْر فقام عن يساره، فأخذ بأيدينا جميعًا حتى أقامنا خلفه، وهذا الحديث مرَّ في باب السمر في العلم من كتاب العلم بأطول من هذا، ومرَّ الكلام عليه هناك. وقد ذكر البَيْهَقِيّ أنه يستفاد منه امتناع تقدم المأموم على الإمام خلافًا لمالك، لما في رواية مسلم "فقمت عن يساره فأدارني من خلفه حتى جعلني عن يمينه" وفيما قاله نظر ظاهر لا يحتاج إلى تأمل. رجاله خمسة: وفيه ذكر أُمِّنا مَيْمُونة، وقد مرَّ الجميع، مرَّ سُلَيمان بن حَرْب في الرابع عشر من الإيمان, ومرَّ شُعْبَةُ في الثالث منه، ومرَّ سعيد بن جُبَيْر وابن عبّاس في الخامس من بَدء الوَحْي، ومرَّ الحكم بن عُتَيْبة وأمُّنا مَيمونة في الثامن والخمسين من العلم. ثم قال المصنف: باب إذا قام الرجل عن يسار الإمام فحوله الإمام إلى يمينه لم تفسد صلاتهما وجه الدلالة من حديث ابن عباس المذكور أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يبطل صلاة ابن عباس، مع كونه قام عن يساره أولًا، وعن أحمد تبطل, لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يقره على ذلك، والأول هو قول الجمهور، بل قال سعيد بن المُسَيِّب: إن موقف المأموم الواحد يكون عن يسار الإمام، ولم يتابع على ذلك.

الحديث الحادي والخمسون

الحديث الحادي والخمسون حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَمْرٌو عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضى الله عنهما قَالَ نِمْتُ عِنْدَ مَيْمُونَةَ وَالنَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عِنْدَهَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَتَوَضَّأَ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، فَقُمْتُ عَلَى يَسَارِهِ، فَأَخَذَنِي فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ، فَصَلَّى ثَلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، ثُمَّ نَامَ حَتَّى نَفَخَ وَكَانَ إِذَا نَامَ نَفَخَ ثُمَّ أَتَاهُ الْمُؤَذِّنُ، فَخَرَجَ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. قَالَ عَمْرٌو فَحَدَّثْتُ بِهِ بُكَيْرًا فَقَالَ حَدَّثَنِي كُرَيْبٌ بِذَلِكَ. قوله: نمت، في رواية الكُشميهنيّ "بتُّ" وقوله: قال عمرو، أي ابن الحارث المذكور بالإسناد المذكور إليه، ووهم من زعم أنه من تعليق البُخاريّ، فقد ساقه أبو نُعيم مثل سياقه، وبكير المذكور في هذا هو ابن عبد الله بن الأشَجّ. وفي إسناد عمرو بن الحارث بهذه الرواية عنه العلو برجل، وهذا الحديث قد مرَّ بأطول من هذا في باب قراءة القرآن بعد الحدث من كتاب الوضوء، ومرَّ استيفاء الكلام عليه هناك. رجاله سبعة: وفيه ذكر ميمونة أيضًا، وقد مروا جميعًا إلا عَبْدَ رَبِّه. الأول: أحمد غير منسوب، والظاهر أنه أحمد بن صالح المِصْريّ، ويحتمل، كما قال بعضهم، أنه أحمد بن عيسى، ويحتمل أنه أحمد بن عبد الرحمن ابن أخي ابن وَهْب. قال العَيْنيّ: لم يخرج البخاريّ عن أحمد بن عبد الرحمن هذا في الصحيح شيئًا، وإذا حدث عن أحمد بن عيسى نسبه. وعلى كل حال أحمد بن صالح وأحمد بن عيسى قد مرا في الرابع والسبعين من أبواب استقبال القبلة. وأما أحمد بن عبد الرحمن بن وَهْب فهو أبو عُبَيد الله ابن أخي عبد الله بن وهب، لقبه نَحْشَل بفتح الموحدة وسكون المهملة بعدها شين، قلت: ومعناه كما في القاموس: رقص الزنجٍ، مختَلَفٌ في توثيقه، سأل ابن أبي حاتم عنه محَمد بن عبد الحكم فقال: ثقة ما رأينا منه إلا خيرًا. قال له: سمع من عمه؟ قال: إي والله، وقال عبد الملك بن شُعَيْب بن الليث: أبو عُبَيْد الله ابن أخي ابن وهب ثقة. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: كتبنا عنه، وأمره مستقيم، ثم خلط بعد ذلك، ثم جاء في خبره أنه رجع عن التخليط، وسئل عنه بعد ذلك، فقال: كان صدوقًا، وقيل لابن خزيمة: لم رويت عن ابن أخي ابن وهب وتركت سفيان بن وكيع؟ فقال: لأن أحمد لما أنكروا عليه تلك الأحاديث

رجع عنها إلا حديث مالك عن الزُّهريّ عن أنس إذا حضر العشاء فإنه ذكر أنه وجده في درج من كتب عمه في قرطاس، وأما سفيان بن وكيع فإن وراقه أدخل عليه أحاديث فكلمناه، فلم يرجع عنها، فاستخرت الله وتركته. وقال ابن عَدِيّ: رأيت شيوخ مصر مجمعين على ضعفه، ومن ضعفه، أنكر عليه أحاديث، وكثرة روايته عن عمه، وكل ما أنكروا عليه محتمل، وإن لم يروه غيره عن عمه، ولعله خصه به. وقال أبو سعيد بن يونس: لا تقوم بحديثه حجة، وعد الدارَقُطني الأحاديث التي أنكروا عليه، وهي حديثه عن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في الفريضة، وحديثه عن ابن عمر مرفوعًا "إذا كان الجهاد على باب أحدكم فلا فيخرج إلا بإذن أبويه" وحديثه عن أبي هُريرة مرفوعًا "يأتي على الناس زمان يرسل إلى القرآن فيرفع من الأرض" وحديثه عن ابن عمر مرفوعًا "إن الله زادكم صلاة على صلاتكم وهي الوتر" وهذا حديث موضوع على مالك، وحديثه عن عمه عن عيسى بن يونُس "تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة" فإن هذا الحديث إنما يعرف به نُعَيم بن حماد. ثم قال الدارَقُطنيّ: وقد صح رجوعه عن هذه الأحاديث التي أنكرت عليه، ولأجل ذلك اعتمده ابن خُزَيْمَةَ من المتقدمين، وابن القَطّان من المتأخرين، والله الموفق. روى عن عمه والشافعيّ وإسحاق بن الفُرَات وبِشر بن بَكر وغيرهم. وروى عنه مسلم وابن خُزَيْمة وأبو حاتم وابن جَرير والسَّاجيّ وغيرهم. مات في ربيع الآخر سنة أربع وستين ومئتين، وقد ذكرت تعريفه مع أن البُخاريّ لم يخرج له تكملة للفائدة، وقد وهم الحاكم من قال ان البخاريّ أخرج له. وأما عَبْدُ رَبِّة منه وابن سعيد بن قَيْس بن عمرو الأنصاريّ النّجّاريّ المدنيّ، أخو يحيى بن سعيد، ذكره ابن حبَّان في الثقات. وقال: هو الذي يقال له عبد ربه المَدَنيّ. وقال العِجْليّ: ثقة، وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث دون أخيه. وقال أبو عَوَانَةَ: هو أغر إخوانه حديثًا، وقال يحيي القطّان: كان رقاداً حيّ الفؤاد. وقال أحمد شيخ ثقة مَدَنيّ. وقال ابن مَعِين: ثقة مأمون، وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: لا بأس به، قلت: يحتج بحديثه؟ قال: هو حسن الحديث ثقة. وقال النَّسائيّ: ثقة روى عن جده قيس وأبي أمامة سَهْل بن حُنَيف وابن المُنْكِدر ومحمد بن يحيي بن حبّان وثابت البُنانيّ وغيرهم، وروى عنه عطاء وهو أكبر منه، وأبو أيوب السَّختيانيّ، وهو من أقرانه، ومالك والليث والسفيانان وحماد بن سلمة وغيرهم. مات سنة تسع وثلاثين ومئة. والباقون من السند عبد الله بن وهب، مرَّ في الثالث عشر من العلم، ومر كُرَيب في الرابع من الوضوء، ومخرمة في الثامن والأربعين منه، ومرَّ عمرو بن الحارث في السابع والستين منه، ومرَّ بُكَيْر بن الأَشَجّ في الخامس والسبعين منه، ومرَّ ذكر محل ابن عبّاس ومَيْمُونة في الذي قبله.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع والعنعنة والقول، ورواته ما بين بصريين وثلاثة مدنيين، وفيه رواية ثلاثة من التابعين عن بعضهم، وقد مرَّ في الوضوء من أخرجه. ثم قال المصنف: باب إذا لم ينو الإمام أن يؤم ثم جاء قوم فأمهم قوله: أن يؤم، أن مصدرية، أي الإمامة، ولم يجزم بحكم المسألة لما فيه من الاحتمال, لأنه ليس في حديث ابن عباس التصريح بأن النبي-صلى الله عليه وسلم- لم ينو الإمامة، كما أنه ليس فيه أنه نوى، لا في ابتداء صلائه ولا بعد أن قام ابن عباس فصلى فعه، لكن في إيقافه اياه منه موقف المأموم ما يشعر بالثاني، وأما الأول فالأصل عدمه، وهذه المسألة مختَلَف فيها. فمذهب المالكية أنه لا يشترط لصحة الاقتداء أن ينوي الإمام الإمامة إلا في الجمعة وفي الجمع ليلة المطر خاصة، فقيل: عند كل صلاة من الصلاتين، وهو المشهور وقيل عند الثانية فقط، لظهور أثر الجمع فيها، وإلا في صلاة الخوف الذي أديت فيه على هيئتها بطائفتين، وإلا الإمام المستخلَف, لأنه يلزمه أن ينوي الإمامة، ليميز بين نية الإمامية والمأمومية. وإنما وجبت نية الإمامة في هذه الأربعة لأن الجماعة شرط في صحتها, لكن قال بعضهم: إن النية الحكمية تكفي، فتقدُّم الإمام دال عليها، فاشتراط النية في صحة الصلاة في هذه الأربع لا فائدة فيه. واختلف عندهم في حصول فضل الجماعة، هل لابد فيه من نية أو لا؟ والمشهور الثاني. والأصح عند الشافعية أنها لا تشترط في صحة الاقتداء به، نعم تستحب له لينال فضيلة الجماعة. وقال القاضي حُسَين فيمن صَلّى منفردًا فاقتدى به جمع، ولم يعلم بهم: ينال فضل الجماعة لأنهم نالوها بسببه. واستدل ابن المنذر على عدم اشتراطها بحديث أنس "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، صلي في شهر رمضان، قال: فجئت فقمت إلى جنبه، وجاء آخر فقام إلى جنبي حتى كنا رهطًا، فلما أحسّ النبي -صلى الله عليه وسلم- بنا، تجوز في صلاته .. " الحديث، وهو ظاهر في أنه لم ينو الإمامة ابتداء، وائتموا هم به وأقرهم، وهو حديث صحيح أخرجه مسلم، وعلقه البخاريّ كما يأتي في كتاب الصيام، إن شاء الله تعالى. وذهب أحمد إلى التفرقة بين النافلة والفريضة، فشرط أن ينوي في الفريضة دون النافلة، وفيه نظر، لحديث أبي سعيد أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- رأى رجلًا يصلي وحده فقال: "ألا رجل يتصدق على هذا فَيُصلي معه؟ " أخرجه أبو داود وحَسَّنُه التِّرمِذِيّ وصححه ابن خُزَيْمَة وابن حِبّان، وعند الحنفية نية الإمام الإمامة في حق الرجال ليست بشرط, لأنه لا يلزمه باقتداء المأموم حكم، وفي حق النساء شرط عندنا، لاحتمال فساد صلاته بمحاذاتها إياه، وعن ابن القاسم مثل مذهب أبي حنيفة وقال الثَّورِي ورواية عن أحمد وإسحاق على المأموم الإعادة إذا لم ينوِ الإمام الإمامة.

الحديث الثاني والخمسون

الحديث الثاني والخمسون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونة فَقَامَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ، فَقُمْتُ أُصَلِّي مَعَهُ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَذَ بِرَأْسِي فَأَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ. قوله: فأقامني عن يمينه، فيه كيفية وقوف المأموم الواحد عن يمين الإمام، وقد مرت في باب يقوم عن يمين الإمام كيفيته عند المالكية والشافعية، وعند الحنفية يقف عن يمينه مساويًا له، وهو قول عمر وابنه وأنس وابن عباس رضي الله تعالى عنهم، وعن محمد بن الحسن يضع أصابع رجليه عند عقب الإمام، وهذا الحديث مرَّ الكلام عليه في باب قراءة القرآن بعد الحدث، وفي باب التخفيف في الوضوء وفي السمر في العلم. رجاله ستة: قد مروا كلهم إلا عبد الله بن سعيد، مرَّ مُسَدَّد في السادس من الإيمان, ومرَّ إسماعيل بن عُلَيَّة في الثامن منه، ومرَّ أيوب في التاسع منه، ومرَّ سَعيد بن جُبَير وابن عبّاس في الخامس من بدء الوحي، ومرت مَيْمُونة في الثامن والخمسين من العلم. وأما عَبد الله، فهو ابن سعيد بن جُبَير الأسَدِيّ، الوليّ، مولاهم الكوفي، قال النَّسائيّ: ثقة مأمون، وذكره ابن حِبّان في الثقات، وحكى التّرمِذِيّ عن أيّوب قال: كانوا يعدونه أفضل من أبيه. روى عن أبيه، وروى عنه أبو إسحاق السَّبيعيّ وأيوب السَّختيانيّ ومحمد بن أبي القاسم الطويل. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع والعنعنة والقول، ورواته كلهم بصريون، وفيه رواية عبد الله بن سعيد عن أيّوب، وهو من أقرانه، أخرجه النَّسائيّ في الصلاة. ثم قال المصنف: باب إذا طول الإمام وكان للرجل حاجة فخرج وصلى قوله: وكان للرجل، أي المأموم. وقوله: فخرج وصلى، وللكُشْمِيْهنيّ "فصلى" بالفاء، وهذه الترجمة عكس التي قبلها, لأن في الأولى جواز الائتمام بمن لم ينو الإمامة، وفي الثانية جواز قطع الائتمام بعد الدخول فيه. وقوله: فخرج، يحتمل أنه خرج من القدوة أو من الصلاة رأسًا أو من

المسجد. قال ابن رَشِيد: الظاهر ان المراد خرج إلى منزله فصلى فيه، وهو ظاهر قوله في الحديث "فانصرف الرجل" قال: وكان سبب ذلك قوله صلى الله تعالى عليه وسلم، للذي رآه يصلي: أصلاتان معًا؟ كما مر، وليس الواقع كذلك، فإن في رواية للنَّسائيّ فانصرف الرجل فصلى في ناحية المسجد، وهذا يحتمل ان يكون قطع الصلاة أو القدوة، لكن في مسلم "ثم صلى".

الحديث الثالث والخمسون

الحديث الثالث والخمسون حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ. وهذا الحديث رواه عن جابر عمرو بن دينار ومُحَارِب بن دِثار وأبو الزُّبَيْر وعُبَيْد بن مِقْسَم , فرواية عمرو للمصنف هنا عن شُعبة , وفي الأدب سليم بن حَيّان, ولمُسْلم عن ابن عُيَينة ثلاثتهم عنه, ورواية مُحارب بن دثار تأتي بعد بابين, وهي عند النَّسائيّ مقرونة بأبي صالح , ورواية أبي الزُّبير عند مسلم, ورواية عُبيد الله عند خُزَيْمة. وذكرت هذه الروايات لتسهل الحوالة عليها, وله الطرق أخرى غير هذه, سأذكر ما يحتاج إليه منها معزواً. ورواية مسلم بن إبراهيم هنا مختصرة. وقوله: كان يصلي مع النبي -صلى الله عليه وسلم-, زاد مسلم "عشاء الآخرة" فكأنّ العِشاء هي التي كان يواظب على صلاتها مرتين. وقوله: ثم يرجع فيؤم قومه، في رواية مسلم "فيصلي بهم تلك الصلاة" وللمصنف في الأدب "فيصلي بهم الصلاة" أي المذكورة، وفي هذا رد على من زعم أن المراد أن الصلاة التي كان يصليها مع النبي -صلى الله عليه وسلم- , غير الصلاة التي كان يصليها بقومه. وفي رواية ابن قُتيْبَةَ: "فصلى ليلة مع النبي -صلى الله عليه وسلم- العِشاء، ثم أتى قومه فأَمَّهُم". وفي رواية ابن عُيَيْنَةَ "ثم يرجع إلى بني سلمة فيصليها بهم" ولا مخالفة فيه, لأنّ قومه هم بنو سَلِمَةَ، وفهب رواية الشافعيّ عنه "ثم يرجع فيصليها بقومه في بني سَلِمة" ولأحمد "ثم يرجع فيؤمنا". رجاله أربعة: وفيه ذكر مُعاذ، وقد مروا جميعًا، مرَّ مسلم بن إبراهيم في السابع والثلاثين من الإِيمان، ومرَّ شُعْبَةُ في الثالث منه، ومرَّ عمرو بن دِينار في الرابع والخمسين من العلم، ومرَّ جابر بن عبد الله في الرابع من بدء الوحي، ومرَّ مُعَاذ بن جَبَل في الأثر الثاني أول كتاب الإِيمان قبل ذكر حديث منه.

الحديث الرابع والخمسون

الحديث الرابع والخمسون قال: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرٍو قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ، فَصَلَّى الْعِشَاءَ فَقَرَأَ بِالْبَقَرَةِ، فَانْصَرَفَ الرَّجُلُ، فَكَأَنَّ مُعَاذًا تَنَاوَلَ مِنْهُ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: فَتَّانٌ فَتَّانٌ فَتَّانٌ ثَلاَثَ مِرَارٍ أَوْ قَالَ: فَاتِنًا فَاتِنًا فَاتِنًا وَأَمَرَهُ بِسُورَتَيْنِ مِنْ أَوْسَطِ الْمُفَصَّلِ. قَالَ عَمْرٌو: لاَ أَحْفَظُهُمَا. قوله: فصلى العشاء، كذا في معظم الروايات، وفي رواية لأبي عَوَانَةَ والطَّحَاويّ عن مُحارِب "صلى بأصحابه المغرب" وكذا لعبد الرَّزَّاق عن أبي الزُّبَير، فإن حمل على تعدد القصة كما يأتي، أو على أن المراد بالمغرب العشاء مجازًا تم، وإلا فما في الصبح أصح. قال الكِرْمَانيّ: الظاهر من قوله "فصلى العشاء" إلى آخره، داخل تحت الطريق الأُولى، وكأنّ الحامل له على ذلك أنها لو خلت عن ذلك لم تطابق الترجمة ظاهرًا، لكن لقائل أن يقول إن مراد البخاريّ بذلك الإشارة إلى أصل الحديث على عادته، واستفاد بالطريق الأُولى علو الإسناد، كما أن في الطريق الثانية التصريح بسماع عمرو من جابر. وقوله: فقرأ بالبقرة، استدل به على من يكره أن يقول البقرة، بل يقول سورة: البقرة، لكن في رواية الإسماعيليّ عن محمد بن بَشّار شَيْخ البُخاريّ فيه "فقرأ سورة البقرة" ولمسلم عن ابن عُيَيْنَةَ نحوه، وللمصنف في "الأدب" "فقرأ بهم البقرة" فالظاهر أن ذلك من تصرفات الرواة، والمراد أنه ابتدأ في قراءتها، وبه صرح مسلم، ولفظه "فافتتح سورة البقرة" وفي رواية محارب "فقرأ بسورة البقرة أو النساء" على الشك، وللسراج عن محارب "فقرأ بالبقرة والنساء" فإن كان مضبوطًا احتمل أن يكون قرأ في الأولى بالبقرة، وفي الثانية بالنساء. وعند أحمد عن بُريدة بإسناد قويّ "فقرأ اقتربت الساعة" وهي شاذة، إلا إن حمل على التعدد. وقوله: فانصرف الرجل، اللام فيه للعهد الذهني، ويحتمل أن يراد به الجنس، فكأنّه قال واحد من الرجال, لأن المعرف تعريف الجنس كالنكرة في مواده. وفي رواية الاسماعيلى "فقام رجل فانصرف" وفي رواية سَلِيم بن حَيّان "فتجوز رجل فصلى صلاة خفيفة" ولابن عُيَيْنَة عند مسلم "فانحرف رجل فسلم ثم صلى وحده" وهو ظاهر في أنه قطع الصلاة، لكن ذكر البَيْهَقِيّ أن محمد بن عباد، شيخ مسلم، تَفَرَّد عن ابن عُيَيْنَة بقوله "ثم سلم" وأن الحفاظ من أصحاب ابن عُيينة، وكذا من أصحاب شيخه عمرو بن دينار، وكذا من أصحاب جابر، لم يذكروا السلام، وكأنه

فهم أن هذه اللفظة تدل على أن الرجل قطع الصلاة ,لأنّ السلام يتحلل به من الصلاة، وسائر الروايات تدل على أنه قطع القدوة، ولم يخرج من الصلاة، بل استمر فيها منفردًا. قال الرافعيّ في شرح المسند في الكلام على رواية الشافعيّ عن ابن عُيَيْنَة في هذا الحديث "فتنحى رجل من خلفه فصلى وحده" هذا يحتمل من جهة اللفظ أنه قطع الصلاة وتنحّى عن موضع صلاته، واستأنفها لنفسه لكنه، غير محمول عليه, لأن الفرض لا يقطع بعد الشروع فيه، ولهذا استدل به الشافعية على أن للمأموم أن يقطع القدوة، ويتم صلاته منفرداً، ونازع النَّوَوِي فقال: لا دلالة، فيه لأنه ليس فيه أنه فارقه وبنى على صلاته، بل في الرواية التي فيها أنه سلم دليلٌ على أنه قطع الصلاة من أصلها ثم استانفها، فيدل على جواز قطع الصلاة وإبطالها لعذر. ولم يقع في شيء من الطرق المتقدمة تسمية هذا الرجل، وجاء في روايات أخرى مختلفة تسميته يأتي في السند جلبها وتعريف من ذكر فيها، وجمع بعضهم بين الاختلاف الواقع فيها بأنهما قضيتان، وأيد ذلك بالاختلاف في الصلاة هل العشاء أو المغرب وبالاختلاف في السورة هل هي البقرة أو اقتربت، وبالاختلاف في عذر الرجل هل هو لأجل التطويل فقط، لكونه جاء من العمل وهو تعبان، أو لكونه أراد أن يسقي نخله إذ ذاك، أو لكونه خاف على الماء في النخل كما في حديث بُريدة، واستشكل هذا الجمع, لأنه لا يظن بمعاذ أنه صلى الله تعالى عليه وسلم يأمره بالتخفيف ثم يعود إلى التطويل، ويجاب عن ذلك باحتمال أن يكون قرأ أولًا بالبقرة، فلما نهاه قرأ اقتربت، وهي طويلة بالنسبة إلى السورة التي أمره يقرأ بها، كما يأتي. ويحتمل أن يكون النهي وقع أولًا لما يُخْشَى من تنفير بعض من يدخل في الإِسلام، ثم لما اطمأنت نفوسهم بالإسلام ظن أن المانع زال، فقرأ باقتربت لأنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ في المغرب {والطور} [الطور: 1] فصادف صاحب الشغل. وجمع النَّوَويّ باحتمال أن يكون قرأ في الأُولى بالبقرة، فانصرف رجل ثم قرأ اقتربت في الثانية، فانصرف آخر، وفي رواية أبي الزُّبَير عند مسلم "فانطلق رجل منا" وهذا يدل على أنه كان من بني سَلِمة، ويقوي رواية من سماه سليمًا الآتية. وقوله: فكان معاذ ينال منه، وللمستملي تناول منه، وللكُشْمِيْهَنيّ "فكأنَّ" بهمزة ونون مشددة، معاذًا تناول منه، والأُولى تدل على كثرة ذلك منه، بخلاف الثانية، ومعنى ينال منه: يذكره بسوء, وقد فسره في رواية سَلِيم بن حَيّان ولفظه "فبلغ ذلك مُعاذًا فقال: إنه منافق" وكذا لأبي الزُّبير ولابن عُيَيْنَةَ فقالوا: أنافقت يا فلان؟ فقال: لا والله، لآتين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلأخبرنه. وكأنَّ معاذًا قال ذلك أولًا. ثم قاله أصحابه للرجل. وقوله: فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم-، بيَّن ابن عُيَيْنَةُ في روايته، وكذا محارب وأبو الزُّبَير أنه الذي جاء فاشتكى من معاذ، وفي رواية النَّسائيّ "فقال معاذ: لئن أصبحت لأذكرن ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فذكر

ذلك له، فأرسل إليه فقال: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: يا رسول الله، عملت على ناضح لي بالنهار، فجئت وقد أقيمت الصلاة فدخلت المسجد، فدخلت معه في الصلاة، فقرأ بسورة كذا وكذا، فانصرفت فصليت في ناحية المسجد، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أفتانا يا معاذ، أفتانا يا معاذ". وقوله فتّان فتّان فتّان ثلاث مرار، ويروى ثلاث مرات، وفتان مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي أنت، والتكرير للتأكيد، وفي رواية ابن عُيَيْنَة: أفتّانٌ أنت؟ بهمزة الاستفهام على سبيل الإنكار. وقوله: أو قال فاتنًا، شك من الراوي، وهو منصوب على أنه خبر كان المقدرة، أي يكون فاتنًا. وفي رواية أبي الزبير أتريد أن تكون فاتنًا؟ ولأحمد عن مُعاذ بن رِفاعة "يا مُعاذ لا تكن فاتنًا" ويأتي حديثه، وفي حديث أنس "لا تطول بهم". ومعنى الفتنة هنا أن التطويل يكون محببًا لخروجهم من الصلاة، وللتكرة للصلاة في الجماعة، وروى البَيْهَقِيّ في الشعب بإسناد صحيح عن عمر قال: لا تبغِّضوا إلى الله عبادَه (1)، يكون أحدكم إماما فيطوِّل على القوم الصلاةَ حتى يُبِّغض إليهم ما هم فيه. وقال الداوديّ: يحتمل أن يريد بقوله فتّان أي معذّب, لأنه عذبهم بالتطويل، ومنه قوله تعالى: {إنَّ الذيْنَ فَتَنُوا المُؤمِنِيْنَ والمُؤْمِنَاتِ} [البروج: 10]، قيل: معناه عذبوهم. وقوله: وأمره بسورتين من أوسط المفصل الأوسط، يحتمل أن يريد به المتوسط والسُّوَر التي مثل بها من قصار المتوسط، ويحتمل أن يريد به المعتدل، أي المناسب للحال من المفصل، قيل سمي المفصّل مفصلًا لكثرة الفصول فيه، وقيل لقلة المنسوخ فيه، واختلف في المراد به مع الاتفاق على أن منتهاه آخر القرآن، هل هو من أول الصّافات أو الجاثية أو القتال أو الفَتح أو الحُجُرات أو "ق" أو الصف أو تبارك أو سبح أو الضحى إلى آخر القرآن؟ أقوال، والراجح الحجرات كما هو المذهب عند المالكية، وذكر النَّووَيّ أنه هو الراجح، ونقل بعضهم أن المفصل الراجح أنه من سورة "ق" إلى آخر القرآن. ونقل المُحِبّ الطَّبَري قولًا شاذًا، أن المفصل جميع القرآن، وأما ما أخرجه الطَّحَاويّ عن زُرارة بن أبي أوفى قال: أقرأني أبو موسى كتاب عمر إليه: اقرأ في المغرب آخر المفصل، وآخر المفصل مِن {لم يكن} [البقرة: 196] إلى آخر القرآن، فليس تفسيرًا للمفصل بل لآخره، فدل على أنه أوله قبل ذلك، وعند المالكية طوال المفصل من "الحجرات" إلى "عَبَس"، ومن "عَبَس" إلى "والضحى" وسط، ومن "والضحى" إلى آخر القرآن قِصار. وقال القَسْطَلَانِيّ: طواله من أوله على الأقوال المتقدمة إلى سورة عم، وأوساطه إلى الضحى، أو طواله إلى الصف وأوساطه إلى الانشقاق، والقصار إلى آخره. وفي العَيْنيّ: طوال المفصل من الحجرات إلى {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج: 1] قصاره من الضحى إلى آخر القرآن. وقوله: قال عمرو لا أحفظهما، كأنه قال ذلك في حال تحديثه لشُعبة، وإلا ففي رواية سليم بن حيان عن عمر "واقرأ والشمس وضحاها، وسبح اسم ربك الأعلى ونحوها" وقال في رواية

ابن عُيينة عند مسلم "اقرأ بكذا واقرأ بكذا" قال ابن عُيينة: قلت لعمر: وإن أبا الزبير حدثنا عن جابر أنه قال: اقرأ بالشمس وضحاها، والليل إذا يغشى، وبسبح اسم ربك الأعلى. فقال عمر: ونحو هذا. وجزم بذلك مُحارب في روايته عن جابر، وفي رواية أبي الزُّبَير عند مسلم مع الثلاثة اقرأ باسم ربك، زاد ابن جُرَيْج عن أبي الزُّبَير "والضحى" أخرجه عبد الرَّزَّاق، وفي رواية الحُمَيديّ عن ابن عُيَيْنَةَ مع الثلاثة الأول والسماء ذات البروج والطارق. واستدل بهذا الحديث على صحة اقتداء المفترض بالمتنفل، على أن معاذًا كان ينوي بالأُولى الفرض وبالثانية النفل، وهو مذهب الشافعية، وبه قال أحمد في رواية, واختاره ابن المُنذر، وهو قول عَطاء وطاوس وسُلَيمان بن حَرْب وداود. وقالت الحَنَفية والمالكية لا يصح، وهو رواية أبي الحارث عن أحمد. قال ابن قُدامة: اختار هذه الرواية أكثر أصحابنا، وهو قول الزُّهْريّ والحَسَنْ البَصريّ وسعيد بن المُسَيِّب وغيرهم. قال في "الفتح" محتجًا لمذهبه: يدل عليه ما رواه عبد الرَّزَّاق والشافعيّ والطّحاويّ والدارَقُطنيّ وغيرهم، عن ابن جُرَيْج عن عَمرْو بن دِينار عن جابر في حديث الباب، زاد "هي له تَطَوُّع ولهم فريضة" وهو حديث صحيح، رجاله رجال الصحيح، وقد صرح ابن جُرَيج في رواية عبد الرزاق بسماعه فيه فانتفت تهمة تدليسه، واعتماد القائلين بصحة الاقتداء على تلك الزيادة المذكورة. وتكلم القائلون بعدم صحة الاقتداء فيها بأوجه عديدة، منها ما رُوي عن الإمام أحمد أنه ضعّف هذه الزيادة، وقال: أخشى أن لا تكون محفوظة, لأن ابن عُيَيْنَة يزيد فيها كلامًا لا يقوله أحد، وقال ابن الجَوْزِيّ هذه الزيادة لا تصح، ولو صحت لكانت ظناً من جابر، وبنحوه قال ابن العَرَبيّ في العارضة، ومنها قول الطَّحَاوِيّ: إن ابن عُيينة ساقه عن عمرو بأتم من سياق ابن جُرَيْج، ولم يذكر هذه الزيادة، ومنها ما قاله ابن حَزْم من أن المخالفين لا يجيزون لمن عليه فرض إذا أقيم أن يصليه متطوعًا، فكيف ينسبون إلى معاذ ما لا يجوز عندهم؟ ومنها قول الطَّحَاويّ: لا حجة فيها، لأنها لم تكن بأمر النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا تقريره، ومنها ما قاله الطَّحَاويّ من احتمال أن تكون مدرجة، وهي جائز أن تكون من ابن جُرَيْج، وأن تكون من عمرو، وأن تكون من جابر، ومن أي هؤلاء كانت لم يكن فيها دليل على حقيقة ما كان يفعل مُعاذ، ولوثبت أنه عن مُعاذ لم يكن فيه دليل على أنه بأمره عليه الصلاة والسلام. ومنها ما قاله الطَّحاويّ: لو سلمنا جميع ذلك، لم يكن فيه حجة، لاحتمال أن ذلك كان في الوقت الذي كانت الفريضة تصلى فيه مرتين، أي: فيكون منسوخًا، واستدل على ذلك بما أخرجه عن ابن عمر، رفعه "لا تصلوا الصلاة في اليوم مرتين" ومن وجه آخر مرسل "أن أهل العالية كانوا يصلون في بيوتهم, ثم يصلون مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فبلغه ذلك فنهاهم". ومنها ما قاله بعضهم من كونه منسوخًا، مستدلًا بأن صلاة الخوف وقعت مرارًا على صفة فيها مخالفة ظاهرة بالأفعال المنافية في حال الأمن فلو جازت صلاة المفترض خلف المتنفل، لصلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بهم مرتين على وجه لا

تقع فيه منافاة، فلما لم يفعل دل ذلك على المنع، وجواب هذا أنه ثبت أنه صلى الله تعالى عليه وسلم صلى بهم صلاة الخوف مرتين، كما أخرجه أبو داود عن أبي بَكْرة صريحًا، ولمسلم عن جابر نحوه. وأجيب عما قبل هذا من كون ذلك كان قبل النهي عن صلاة الفريضة مرتين، باحتمال أن يكون النهي عن أن يصلوها مرتين على أنها فريضة، وبذلك جزم البَيْهَقِيّ جمعاً بين الحديثين، بل لو قال قائل: هذا النهي منسوخ بحديث مُعاذ لم يكن بعيدًا , ولا يقال القصة قديمة, لأن صاحبها استشهد بأُحُد، على أنه سليم كما يأتي, لأنا نقول كانت أحد في أواخر الثالثة، فلا مانع أن يكون النهي في الأول والإذن في الثالثة، وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم، للرجلين اللذين لم يصليا معه "إذا صَلَّيتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة، فصلياها معهم، فإنها لكما نافلة" أخرجه أصحاب السنن عن يزيد بن الأسود العامريّ، وصححه ابن خُزْيمَةَ وغيره، وكان ذلك في حجة الوداع، في آخر حياته عليه الصلاة والسلام. ويدل على الجواز أيضًا أمره صلى الله تعالى عليه وسلم لمن أدرك الأئمة الذين يأتون بعده، ويؤخرون الصلاة عن ميقاتها، أن صلوها في بيوتكم في الوقت ثم اجعلوها معهم نافلة. وأجاب القائلون بصحة الاقتداء عما مرَّ من الاعتراضات، ولكن قال في الفتح: أسلم الأجوبة التمسك بالزيادة المتقدمة. وفي الحديث أن الحاجة من أمور الدنيا عذر في تخفيف الصلاة، وفيه جواز إعادة الصلاة الواحدة في اليوم الواحد مرتين، ولكن على سبيل أنهما فرض، وفيه جواز خروج المأموم من الصلاة لعذر، وأما لغير عذر فاستدل به بعضهم، وتعقب وقال ابن المنير: لو كان كذلك لم يكن لأمر الأئمة بالتخفيف فائدة، وفيه نظر, لأن فائدة الأمر بالتخفيف المحافظةُ على صلاة الجماعة، ولا ينافي ذلك جواز الصلاة منفردًا، وفي "شرح المُهَذَّب": اختلف العلماء فيمن دخل مع إمام في صلاة فصلى بعضها، هل يجوز له أن يخرج منها؟ فاستدل أصحابنا بهذا على أن للمأموم أن يقطع القدوة، ويتم صلاته منفردًا وإن لم يخرج منها، وفي هذه المسألة ثلاثة أوجه أصحها أنه يجوز لعذر ولغير عذر، والثاني لا يجوز مطلقاً، والثالث يجوز لعذر ولا يجوز لغيره، وتطويل القراءة عذر على الأصح. قال العَيْنِيّ: أصحابنا لا يجيزون شيئًا من ذلك، وهو مشهور مذهب مالك، وعن أحمد روايتان, لأن فيه إبطال العمل، والقرآن قد منع من ذلك. لا أعلم قولًا عند المالكية بجواز قطع المأموم الاقتداء والإتمام لنفسه منفردًا لغير عذر, لأنه ألزم نفسه بحكم الاقتداء، وعندهم قولان, لأن إذا طّول الإمام في القراءة طولًا خاف المأموم بسببه فوات ما يلحقه بفوته ضرر شديد، هل يجوز له أن يخرج عنه بالنية، ويتم لنفسه، أو لا يجوز؟ وفيه جواز صلاة المنفرد في المسجد الذي يصلى فيه بالجماعة، قال في "الفتح": إذا كان لعذر، قال

رجاله خمسة

العَيْنِيّ: يجوز مطلقًا. قلت: وهذا هو مذهبنا، ولا أدري ما قاله صاحب الفتح مذهب له أم لا؟ وفيه الإنكار بلطف لوقوعه بصورة الاستفهام، ويؤخذ منه تعزير كل أحد بحسبه، والاكتفاء في التعزير بالقول، والإنكار في المكروهات، وأما تكراره فللتأكيد، وقد مرَّ في العلم أنه عليه الصلاة والسلام كان يعيد الكلمة ثلاثًا لتفهم عنه، وفيه اعتذار من وقع منه خطأ في الظاهر، وجواز الوقوع في حق من وقع في محذور ظاهر، وإن كان له عذر باطن للتنفير عن فعل ذلك، وأنه لا لوم على من فعل ذلك متأوِّلاً، وأن التخلف عن الجماعة من صفة المنافق. رجاله خمسة: وفيه ذكر مُعاذ أيضًا، وذِكْر رجل مُبْهَم، وقد مروا، وقد ذكر محلهم في الذي قبله، إلا محمد بن بَشّار وغُنْدُر، أما ابن بَشّار، فقد مرَّ في الحادي عشر من العلم، ومرَّ غندر في الخامس والعشرين من الإيمان، وأما الرجل المبهم فاختلف في اسمه، فقيل اسمه حَزْم بن أبي كَعْب، وقيل اسمه حَرام بن مِلحان، وقيل رجل من بني سَلِمة اسمه سُلَيم، وها أنا أتكلم على الجميع تتميمًا للفائدة. أما حزم بن أبي كَعْب الأنصاري، فقد قال في الإصابة: روى أبو داود الطَّيَالِسِيّ عن موسى بن إسماعيل عن طالب بن حَبِيب، سمعتُ عبد الرحمن بن جابر يُحَدِّث عن حَزْم بن أبي كعْب: أنه مرَّ على مُعاذ بن جَبَل وهو يُصلّي بقومه .. فذكر الحديثَ في تطويله بهم، وأمْرَ النبي-صلى الله عليه وسلم- له بالتخفيف، وهذا أخرجه البَزَّار من طريق الطيَالِسِيّ عن طالب عن ابن جابر عن أبيه، وهذا أشبه. قال: ولم أر مَن ترجم لحزم بن أبي كعْب من القدماء إلا ابن حِبّان، فذكره في الصحابة، ثم ذكره في ثقات التابعين، ولعل التابعيّ آخر وافق اسمه اسم أبيه، وإلا فالقصة صريحة في كونه صحابيًا، وقد ذكره ابن مَنْدَه وأبو نُعيم، وقد ذكر ابن عبد البَرّ في ترجمة حَزْم بن كَعْب بعد أن ساق قصته من تاريخ البُخاريّ، وفي غير هذه الرواية أن صاحب مُعاذ اسمه حرام بن أبي كَعب، وقال في ترجمة حرام، وقال عبد العزيز بن صُهَيب عن أنس: حَرام بن أبي كَعْب، قال في الإصابة: وليسَ في روايَة عبد العزيز تسمية أبيه، وقد مرت رواية أبي داود لهذه القصة، فيحتمل أن تكون القصة واحدة، ووقع في أحد الرجلين تصحيف، وهو واحد، وقد مرَّ له تعريف في باب الغضب في الموعظة من كتاب العلم. وحَرَام هو ابن مِلْحَان، بكسر الميم، واسم ملحان مالك بن خالد بن زَيد بن حَرام بن جُنْدُب بن عامر بن غَنْم بن مالك بن النَّجَّار الأنْصاريّ، شهد بدرًا مع أخيه سليم بن مِلْحان، وشهد أحدًا، وقتل يوم بئْر مَعُونة مع المنذر بن عمرو وعامر بن فُهَيرة، قتله عامر بن الطُّفَيْل، وهو الذي حمل كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى عامر بن الطُّفَيْل، أخو أم سُليم وأم حَرام بنتي مِلحان خال أنس بن مالك، قتل يوم بئر معونة، ضرب في رأسه فتلقى دمه بكفه ثم نضحه على رأسه ووجهه، وقال: فزتُ وَرَبِّ الكعبة. وقيل: إنه ارْتُثّ يوم بئر معونة، فقال الضّحّاك بن سُفْيان الكلَابيّ، وكان مسلمًا

باب تخفيف الإمام في القيام وإتمام الركوع والسجود

يكتم إسلامه لامرأة من قومه: هل لك في رجل إن صح كان نِعْم الراعي؟ فضمته إليها وعالجته، فسمعته يقول: أتت عامر ترجو الهوادة بيننا ... وهل عامر إلا عدو مداجن إذا ما رجعنا ثَمَّ لم تك وقعة ... بأسيافنا في عامر أو نطاعن وإلا رجونا أن يقاتل بعد ذا ... عشائرنا والمقربات الصوافن فوثبوا عليه فقتلوه رضي الله تعالى عنه، والأول أصح، وارتُثّ بالبناء للمجهول أي حمل من المعركة رثيثًا، أي جريحًا وبه رَمَق، قاله في القاموس. وعلى أنه سَلِيم فهو سَلِيم الأنصاري من رَهْط مُعاذ بن جبل، يقال اسم أبيه الحارث، روى أحمد والطَّبَرانيّ والبَغَوِيّ والطَّحَاوِيّ عن مُعاذ بن رِفاعة الزُّرَقيّ "أن رجلًا من بني سَلِمة يقال له سليم، أتى النبيّ -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، إنا نظل في أعمالنا، فيأتي معاذ بن جبل فيطيل بنا في الصلاة، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: يا مُعاذ، لا تكونن فتانًا" ثم قال: "يا سَلِيم، ما معك من القرآن؟ قال: معي أن أسال الله الجنة وأعوذ به من النار، ما أُحسن دندنتك (1)، ولا دندنة مُعاذ، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: هل تصير دَنْدَنتي ودندنة معاذ إلا إلى أن تسأل الله الجنة وتعوذ به من النار؛ فقال سَلِيم: سترون غدًا إذا لقينا العدوَ إن شاء الله، والناس يجهزون إلى أُحد، فخرج فكان أول الشهداء". وقد زعم ابن مَنْدَه أن صاحب هذه القصة هو سَليم بن الحارث بن ثَعْلَبَة النَّجَّاريّ. قال في الإِصابة وغاير بينهما ابن عبد البَرّ، والظاهر أنه أصوب، فإن ذاك من بني دينار بن النَّجَّار، فهو خَزْرَجيّ، وهذا من رَهْط سَعْد بن مُعَاذ، ومُعَاذ بن جَبَل فهو أوْسِيّ، وأما جَزْم الخَطِيب بأن صاحب مُعاذ بن جَبَل يقال له سَليم بن الحارث. فلا يدل على التوحد، إذ لا مانع من الاشتراك في اسم الأب، كما اشترك الابن والله تعالى أعلم. أخرجه البخاري هنا وفي باب من شكا إمامه، ومسلم في الصلاة، والنَّسائي في الصلاة وفي التفسير، وابن ماجَه فيه. ثم قال المصنف: باب تخفيف الإِمام في القيام وإتمام الركوع والسجود قال الكِرْمَانيّ: الواو بمعنى مع، كأنه قال: باب التخفيف بحيث لا يفوته شيء من الواجبات، فهو تفسير لقوله في الحديث "فليتجّوز" لأنه لا يأمر بالتجوز المؤدي إلى فساد الصلاة. قال ابن المُنير، وتبعه ابن رشيد وغيره: خص التخفيف في الترجمة بالقيام مع أن لفظ الحديث أعم حيث قال "فليتجوز" لأنّ الذي يطول في الغالب إنما هو القيام، وما عداه لا يشق إتمامه على أحد، وكأنّه حمل حديث الباب على قصة مُعاذ، فإن الأمر بالتخفيف فيها مختص بالقراءة، والذي يظهر أن البُخَاريّ أشار بالترجمة إلى بعض ما ورد في بعض طرق الحديث كعادته، وأما قصة مُعَاذ فمغايرة لحديث الباب, لأنّ قصة مُعَاذ كانت في العشاء، إلى آخر ما مرَّ في باب الغضب في الموعظة من كتاب العلم.

وفي قول ابن المُنير: إن الركوع والسجود لا يشق إتمامها، نظرٌ، فإنه إن أراد أقل ما يطلق عليه اسم تَمام، فذاك لابد منه، وإن أراد غاية التَّمَام فقد يشق كما يأتي في حديث البَرَاء قريبًا، أنه عليه الصلاة والسلام كان قيامه وركوعه وسجوده قريبًا من السواء، وفي الطَّبَرانيّ من حديث عَدِيّ بن حاتم "من أَمَّنا فَلْيُتِمَّ الركوع والسجود".

الحديث الخامس والخمسون

الحديث الخامس والخمسون حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ قَالَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ سَمِعْتُ قَيْسًا قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو مَسْعُودٍ أَنَّ رَجُلاً قَالَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلاَةِ الْغَدَاةِ مِنْ أَجْلِ فُلاَنٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا. فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي مَوْعِظَةٍ أَشَدَّ غَضَبًا مِنْهُ يَوْمَئِذٍ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيَتَجَوَّزْ، فَإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ وَالْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ. قوله: إن رجلًا، لم يعرف اسم ذلك الرجل، ووهم من زعم أنه حَزْم بن أبي كَعْب, لأن قصته كانت مع مُعاذ لا مع أُبيّ بن كَعْب كما مرَّ في الحديث الذي قبله. وقوله: لأتأخر عن صلاة الغداة، أي فلا أحضرها مع الجماعة لأجل التطويل. وفي رواية ابن المبارك في الأحكام "والله إني لأتاخر" بزيادة القسم، وفيه جواز مثل ذلك, لأنه لم ينكر عليه، واستدل به على تسمية الصبح بذلك، وفي رواية سُفيان الآتية قريبًا عن الصلاة في الفجر، وإنما خصها بالذكر لأنها تطول فيها القراءة غالبًا، ولأن الانصراف منها وقت الترجه لمن له حرفة إليها. وقوله: أشَدَّ، بالنصب، وهو نعت لمصدر محذوف، وقوله: فأيكم ما صلى، ما زائدة، وفي رواية سُفيان "فمن أم الناس" وقوله: فيهم، في رواية سُفيان "فإن خلفه" وهو تعليق الأمر المذكور. وهذا الحديث قد مرَّ في باب الغضب في الموعظة من كتاب العلم، ومرَّ هناك استيفاء الكلام عليه. رجاله خمسة: وقد مروا جميعًا، وفيه ذكر رجل مبهم، وذكر فلان، مرَّ أحمد بن يُوْنُس في التاسع عشر من الإيمان, ومرَّ زُهَير بن مُعَاوية في الثالث والثلاثين منه، ومرَّ إسماعيل بن أبي خالد في الثالث منه، ومرَّ قَيْس بن أبي حازم في الخمسين منه، ومرَّ أبو مَسْعود البَدْرِيّ في الثامن والأربعين منه، والرجل المبهم لم أقف على من سَمّاه. قال في "الفتح": وليس الرجل حزم بن أبي كعب المار؛ لأن قصته كانت مع مُعَاذ لا مع ابن بن كَعْب، كما أخرجه أبو يَعْلى بإسناد صحيح، وقد مرَّ في السادس عشر من العلم. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع والإخبار والسماع والقول، ورواته كلهم كوفيون، وفيه رواية تابعيّ

باب إذا صلي لنفسه فليطول ما شاء

عن تابعيّ عن صحابيّ، وقد مرَّ هذا الحديث في باب الغضب في الموعظة من كتاب العلم، ومرَّ هناك ما يتعلق به. ثم قال المصنف: باب إذا صلي لنفسه فليطول ما شاء يريد أن عموم الأمر بالتخفيف مختص بالأئمة، فأما المنفرد فلا حجر عليه في ذلك، لكن اختلف فيما إذا أطال القراءة حتى خرج الوقت كما سيذكر.

الحديث السادس والخمسون

الحديث السادس والخمسون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِلنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ، فَإِنَّ مِنْهُمُ الضَّعِيفَ وَالسَّقِيمَ وَالْكَبِيرَ، وَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ. قوله: فإن فيهم، كذا للأكثر، وللكُشْمِيْهَنيّ "فإن منهم". وقوله: الضعيف والسقيم، المراد بالضعيف هنا ضعيف الخلقة، وبالسقيم من به مرض. وقوله: فَلْيُطَوِّل ما شاء، ولمسلم "فَلْيُصَلِّ كيف شاء" مخففًا أو مطولًا، واستدل به على جواز إطالة القراءة ولو خرج الوقت، قال في "الفتح": وهو المصحح عند بعض أصحابنا، وفيه نظر, لأنه يعارضه عموم قوله في حديث أبي قَتَادة "إنما التفريط أن يؤخر الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى" أخرجه مسلم، وإذا تعارضت مصلحة المبالغة في الكمال بالتطويل، ومفسدة إيقاع الصلاة في غيرها، كانت مراعاة ترك المفسدة أولى، واستدل بعمومه أيضًا على جواز تطويل الاعتدال والجلوس بين السجدتين، ومقتضى الحديث أنه متى لم يكن فيهم متصف بصفة من المذكورات، لم يضر التطويل، وقد يشكل على هذا أن الإمام قد لا يعلم حال من يأتي فيأتم به بعد دخوله في الصلاة، كما وقع في حديث مُعَاذ، فعلى هذا يكره التطويل مطلقًا، إلا إذا فرض في مصلٍ بقوم محصورين راضين بالتطويل في مكان لا يدخله غيرهم. وقال اليَعْمُريّ: الأحكام إنما تُناط بالغالب لا بالصورة النادرة، فينبغي للأئمة التخفيف مطلقًا، وهذا كما شرع القصر في صلاة المسافر وعلل بالمشقة، وهو مع ذلك يُشْرع ولو لم يشق عملًا بالغالب, لأنه لا يدري ما يطرأ عليه، وهنا كذلك. وقال ابن عبد البَرّ: العلة الموجبة للتخفيف عندي غير مأمونة, لأن الإمام، وإن علم قوة من خلفه، فإنه لا يدري ما يحدث بهم من حادث شغل وعارض من حاجة وآفة من حدث بَوْل أو غيره، وتعقب بعضهم هذا بأن الاحتمال الذي لم يقم عليه دليل لا يترتب عليه حكم، فإذا انحصر المأمومون ورضوا بالتطويل، لا يؤمر إمامهم بالتخفيف لعارض لا دليل عليه، وحديث أبي قتادة "أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال: إني لأقوم في الصلاة وأنا أريد أن أطول فيها، فأسمع بكاء الصبى فأتجوز كراهة أن أشق على أمه" يدل على إرادته عليه الصلاة والسلام التطويل، فيدل على الجواز، وإنما تركه لدليل قام على تضرر بعض المأمومين، وهو بكاء الصبي الذي يشغل خاطر أمه.

رجاله خمسة

وذهب ابن عبد البَرّ وابن بَطال وابن حَزْم إلى وجوب التخفيف تمسكًا بظاهر الأمر في قوله "فَلْيُخَفِّف" وعبارة ابن عبد البَرّ في هذا الحديث أوضح الدلائل على أن أئمة الجماعة يلزمهم التخفيف، لأمره عليه الصلاة والسلام إياهم بذلك، ولا يجوز لهم التطويل, لأن في الأمر لهم بالتخفيف نهيًا عن التطويل، والمراد بالتخفيف أن يكون بحيث لا يخل بسننها ومقاصدها، وقد مرَّ قريبًا أن بعض الشافعية قالَ بجواز تطويل القراءة ولو خرج الوقت، ومرَّ عدم صحته، ولكن على تقدير صحته مقيد بما إذا وقع ركعة في الوقت، كما ذكر المَسْنَويّ أنه المتجه، وقيدوا التطويل أيضًا بما إذا لم يحوج إلى سهو، فإن أدّى إليه كره، ولا يكون إلا في الأركان التي تحتمل الطول، وهي القيام والركوع والسجود لا الاعتدال والجلوس بين السجدتين، قاله القَسْطَلانيّ. قلت: مشهور مذهب مالك أن الطول في المحل الذي لا يشرع فيه التطويل يسن فيه سجود البعديّ، كالرفع من الركوع والجلوس بين السجدتين، ومن استَوْفَز للقيام على يديه وركبتيه، والذي يشرع فيه التطويل لا يسن فيه السجود إلا إذا زاد على الحد، فيسجد، وكان سعد إذا صلّى في المسجد خفف الركوع والسجود وتجوّز، وإذا صلى في بيته أطال الركوع والصلاة، فقيل له، فقال: انا أئمة يُقتدى بنا. وصلى الزُّبَيْر بن العَوَّام صلاة خفيفة فقيل له: أنتم أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أخف الناس صلاة، فقال: إنا نبادر هذا الوسواس، وقالَ عمار: احذفوا هذه الصلاة قبل وسوسة الشيطان، وفي هذا المعنى آثار كثيرة ذكرها ابن أبي شَيْبَةَ في مصنفه. رجاله خمسة: وقد مروا جميعًا، مرَّ عبد الله بن يوسُف ومالك في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ أبو الزّناد والأعْرج في السابع من الإيمان, ومرَّ أبو هُرَيرة في الثاني منه. ثم قال المصنف: باب من شكا إمامه إذا طول فيه حديث أبي مسعود وجابر، وهما ظاهران في الترجمة. ثم قال أبو أُسَيد: طوّلت بنا يا بنيّ. والتعليق عن أبي أُسَيد وصله ابن أبي شَيْبَةَ من رواية المُنذر بن أبي أُسيد، قال: كان أَبيْ يصلي خلفي، فربما قال: طولت بنا يا بني اليوم. وفيه حجة على من كره للرجل أن يؤم أباه، وفي خط البدر الزَّرْكَشِيّ أنه رأى في بعض نسخ البُخاريّ، وكره عطاء أن يؤم الرجل أباه، فإن شئت ذلك فقد وصل ابن أبي شَيْبَةَ هذا التعليق، وكأنّ المنذر كان إمامًا راتبًا في المسجد، واستفيد من وصل التعليق تسمية الابن المبهم، وهو المنذر بن أبي أُسَيد السَّاعِدِيّ الأنصاريّ، ولد في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- فسماه المُنذر، روى عن أبيه وعنه ابنه الزُّبير وعبد الرحمن بن سُليمان بن الغَسيل، ذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال: يقال كان مولده في زمان النبي -صلى الله عليه وسلم-, وما قاله ثبت عند البُخاريّ ومسلم

في صحيحهما من حديث سَهْل بن سَعْد، وذكره كذلك ابن مَنْدَه وأبو نعِيم وغير واحد ممن ألف في الصحابة. وأما أبوه أبو أُسَيد، فاسمه مالك بن رَبِيْعَة بن البَدَن، بتحريك الدال، وقيل بسكونها، ابن عامر بن عَوْف بن حارِثَة بن عَمْروبن الخَزْرج بن ساعِدَةَ بن كَعْب بن الخَزْرج الأنصاريّ السّاعديّ، مشهور بكنيته، وهو بصيغة التصغير على الأصوب، وحكي فتح الهمزة، شهد بدرًا وأُحدًا وما بعدهما، وكانت معه راية بني ساعدة يوم الفتح. قال الواقِدِيّ: وكان قصيرًا أبيض الرأس واللحية، كثير الشعر، وكان قد ذهب بصره، عن ابن شهاب. قال أبو حازم عن سهل بن سعد قال: قال أبو أُسَيد السّاعِدِيّ بعدما ذهب بصره: لو أني كنت ببدر، ثم أَطلق الله لي بصري لأريتك الشعب الذي خرجت علينا منه الملائكة غير شك ولا تمار. له ثمانية وعشرون حديثًا، اتفقا على حديث وانفرد البُخاريّ بحديثين، ومسلم بواحد، روى عنه أولاده حُمَيد والزُّبَير والمُنْذِر ومولاه أبو سعيد، ومن الصحابة أَنَس وسَهْل بن سَعْد، ومن التابعين أبو سَلَمة وعبَاد بن سَهْل وعبد المَلِك بن سَعِيد بن سُوَيد، مات سنة ستين وهو ابن ثمان وقيل خمس وسبعين وقيل ثمانين. وهو آخر البَدْرِيّين موتًا، وقيل: مات سنة أربعين، وقيل مات في خلافة عثمان سنة ثلاثين. قال ابن عبد البَرّ: هذا خلاف مُتَبايِن جدًا.

الحديث السابع والخمسون

الحديث السابع والخمسون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لأَتَأَخَّرُ عَنِ الصَّلاَةِ فِي الْفَجْرِ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا فُلاَنٌ فِيهَا. فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَا رَأَيْتُهُ غَضِبَ فِي مَوْضِعٍ كَانَ أَشَدَّ غَضَبًا مِنْهُ يَوْمَئِذٍ ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَمَنْ أَمَّ النَّاسَ فَلْيَتَجَوَّزْ، فَإِنَّ خَلْفَهُ الضَّعِيفَ وَالْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ. هذا الحديث قد مرَّ في باب الغضب في الموعظة من كتاب العلم، ومرَّ الكلام عليه هناك. رجاله خمسة: وقد مروا جميعًا: الأول: محمد بن يوسُف، يحتمل أن يكون الفِرْيَابي، وأن يكون البيْكَنْدِيّ، والأول مرَّ في العاشر من العلم، والثاني مرَّ في التاسع عشر منه، وسُفْيان يحتمل أن يكون ابن عُيَيْنَة، وأن يكون الثَّوْرِيّ، والأول مرَّ في الأول من بدء الوَحْي، والثاني مرَّ في السابع والعشرين من الإيمان، والثلاثة الباقية مرَّ ذكر محلهم في الذي قبل هذا بحديث، وهو هو بعينه، ومرَّ فيه الكلام على الرجل وفلان.

الحديث الثامن والخمسون

الحديث الثامن والخمسون حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيَّ قَالَ أَقْبَلَ رَجُلٌ بِنَاضِحَيْنِ وَقَدْ جَنَحَ اللَّيْلُ، فَوَافَقَ مُعَاذًا يُصَلِّي، فَتَرَكَ نَاضِحَهُ وَأَقْبَلَ إِلَى مُعَاذٍ، فَقَرَأَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ أَوِ النِّسَاءِ، فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ، وَبَلَغَهُ أَنَّ مُعَاذًا نَالَ مِنْهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَشَكَا إِلَيْهِ مُعَاذًا، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَا مُعَاذُ أَفَتَّانٌ أَنْتَ أَوْ فَاتِنٌ ثَلاَثَ مِرَارٍ فَلَوْلاَ صَلَّيْتَ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى، فَإِنَّهُ يُصَلِّي وَرَاءَكَ الْكَبِيرُ وَالضَّعِيفُ وَذُو الْحَاجَةِ. قوله: بناضِحين، الناضح بالنون والضاد المعجمة والحاء المهملة، ما استعمل من الإبل في سقي النخل والزرع، وقوله: وقد جنح الليل, أي أقبل بظلمته، وهو يؤيد أن الصلاة المذكورة كانت العشاء كما مرَّ. وقوله: بسورة البقرة أو النساء، زاد أبو داود الطَّيَالِسِيّ عن شُعْبَة "شك مُحارِب" وفي هذا رد على من زعم أن الشك فيه من جابر. قوله: فلولا صليت، أي فهلا صليت. وقوله: فإنه يصلي وراءك، كان هذا هو الحامل لمن وجه بين القصتين، لكن في ثبوت هذه الزيادة في هذه القصة نظر، لقوله بعدها: أحسب هذا في الحديث، يعني هذه الجملة الأخيرة، فإنه يصلي الخ. وقائل ذلك هو شُعْبَةُ الراوي عن مُحَارِب، وقد رواه غير شُعْبَة من أصحاب مُحارِب عنه بدونها، وكذا أصحاب جابر. وهذا الحديث مرَّ قبل بابين، وقد مرَّ استيفاء الكلام عليه هناك. رجاله أربعة: وفيه ذكر رجل مبهم، ومُعاذ، وقد مروا جميعًا، مرَّ آدم وشُعْبَة في الثالث من الإيمان, ومرَّ محارب في السابع والأربعين من أبواب استقبال القبلة، ومرَّ جابر في الرابع من بَدْء الوَحي، ومرَّ مُعاذ في الأثر الثاني من كتاب الإيمان, قبل ذكر حديث منه، والرجل المبهم مرَّ ما فيه في الرابع والخمسين، قبل هذا بثلاثة أحاديث. تابعه سَعِيد بن مَسْرُوق ومِسْعَر والشَّيْبانِيّ. متابعة سعيد وصلها أبو عوانَةَ من طريق أبي الأحْوَص عنه، ومتابعة مِسْعَر وصلها السّراج من

رواية أبي نعيم عنه، ومتابعة الشَّيْبانيّ وصلها البَزّار من طريقه، كلهم عن مُحارِب، فكلهم تابعوا شُعبة عن مُحَارب في أصل الحديث، لا في جميع ألفاظه، ومِسْعَر مرَّ في السادس والستين من الوضوء ومرَّ أبو إسحاق الشَّيْباني في السابع من الحيض. وأما سَعِيد بن مَسْرُوق فهو والد سُفيان الثَّوْرِي، ذكره ابن حِبّان في الثقات. وقال ابن مَعين وأبو حاتم والعِجليّ والنّسائيّ: ثقة، روى عن إبراهيم التَّيمي والشَّعْبي وأبي الضُّحى وعِكْرِمَة وعَوْن بن أبي جُحَيْفَةَ وغيرهم. وروى عنه الأعمش وهو من أقرانه، وأولاده سفيان وعمرو، وروى عنه شُعْبَةُ وزائِدَةُ وأبو عوَانَةُ وغيرهم. مات سنة ست أو سبع أو ثمان وعشرين ومئة. ثم قال: قال عمرو وعُبَيد الله بن مِقْسَم وأبو الزُّبَير عن جابر: قرأ مُعاذ في العشاء بالبقرة. وإنما قال هنا: قال عمرو، ولم يقل تابعه مثل الأول, لأنّ هؤلاء الثلاثة لم يتابعوا أحدًا في ذلك، أما رواية عمرو فقد تقدمت في باب إذا طوّل الأمام، ورواية عُبَيد الله بن مِقْسم وصلها ابن خزيمة عن بندار، وهي عند أبي داود باختصار، ورواية أبي الزُّبَير وصلها عبد الرزاق عن ابن جُرَيْج عنه، وهي عَند مسلم من طريق الليث عنه، لكن لم يعين أن السورة البقرة. أما عمرو بن دينار فقد مرَّ في الرابع والخمسين من العلم، ومرَّ جابر في الثالث من بدء الوحي، وأما عُبيد الله فهو ابن مِقْسَم القُرَشِي، مولى ابن أبي نَمِر المَدَني، ذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال أبو داود والنَّسائيّ: ثقة، وقال أبو حاتم: ثقة لا بأس به، ووثقه يعقوب بن سُفْيان، روى عن جابر واين عمر وأبي هُرَيْرة والقاسم بن محمد وروى عنه إسحاق بن عبد الله بن أبي طَلْحة، وأبو حازم بن دينار وبُكير بن الأشج وغيرهم. وأبو الزُّبير محمد بن مُسْلم بن تَدْرس، بفتح المثناة، الأَسَدِيّ مولاهم المكيّ قال يَعْلى بن عَطَاء: حدثني أبو الزُّبَير، وكان أكمل الناس عقلًا وأحفظهم. وقال النَّسائيّ: ثقة، وقال ابن عَدِيّ: روى مالك عن أبي الزُّبير أحاديث، وكفى بأبي الزبير صدقًا أن يحدث عنه مالك، فإن مالكًا لا يروي إلا عن ثقة، وقال: لا أعلم أحدًا من الثقات تخلف عن أبي الزبير إلا وقد كتب عنه، وهو في نفسه ثقة، إلا إن رواه عنه بعض الضُّعَفَاء، فيكون ذلك من جهة الضعيف، وذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال: لم ينصف من قدح فيه, لأنّ من استرجح لنفسه في الوزن لم يستحق الترك لأجله. وقال عطاء: كنا نكون عند جابر فإذا خرجنا من عنده تذاكرنا حديثه، فكان أبو الزُّبَير أحفظنا. وقال ابن سَعْد: كان ثقة كثير الحديث، إلا أن شُعْبَةَ تركه شيء زعم أنه رآه في معاملة. وقال السّاجيّ صَدُوق حجة في الأحكام، وقد روى عنه أهل النقل، وقبلوه واحتجوا به. قال: وبلغني عن يحيي بن مَعِين أنه قال: استحلف شَيْبَة أبا الزُّبير بين الركن والمقام أنك سمعت هذه الأحاديث من جابر؟ فقال: والله إني سمعتها من جابر، يقول ذلك ثلاثًا. وضَعَّفه شُعْبَة كثيرًا فقد قال سُوَيد بن عبد العزيز: قال لي شعبة: تأخذ من أبي الزُّبَير وهو لا يحسن أن يصلي؟ وقال هُشَيم:

باب الإيجاز في الصلاة وإكمالها

سمعت من أبي الزُّبير فأخذ شُعْبة كتابي ومزّقه. وقال ورقاء: قلت لِشُعْبَة: مالك تركت حديث أبي الزُّبَير؟ قال: رأيته يزن ويسترجع في الميزان. وقال أبو داود الطَّيَاليسيّ: قال شُعْبَة: لم يكن في الدنيا أحب إلى من رجل يقدم فأسأله عن أبي الزُّبَير، فقدمت مكة، فسمعتُ منه، فبينما أنا جالس عنده، إذ جاءه رجل فسأله عن مسألة فرد عليه، فافترى عليه فقال له: يا أبا الزُّبَير، تفتري على رجل مسلم؟ قال: إنه أغضبني. قلت: ومن يغضبك تفتري عليه؟ لا رويت عنك شيئًا. وقال الشَّافعيّ: أبو الزُّبير يحتاج إلى دِعامة. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبا زُرْعَة عن أبي الزُّبَير فقال: روى عنه الناس. قلت: يحتج به؟ قال: إنما يحتج بحديث الثقات. قال في "المقدمة": هو أحد التابعين، مشهور وثقة قال: الجمهور، وضعفه بعضهم لكثرة التدليس وغيره، ولم يرو له البُخَاري سوى حديث واحد في البيوع، قرنه بعطاء عن جابر، وعلق له عدة أحاديث، واحتج به مُسْلم والباقون، روى عن العبادلة الأربعة، وعن جابر وسعيد بن جُبَير وعِكْرمَة وطاووس وغيرهم، وروى عنه عطاء، وهو من شيوخه، والزُّهْرِيّ وأيّوب والأعمش وابن جُرَيج وهِشَام بن عُرْوَة وغيرهم. مات سنة ست وعشرين ومئة. ثم قال: وتابعه الأعْمَش عن مُحارِب. وهذه المتابعة وصلها النَّسائيّ من طريق مُحَمَّد بن فُضَيل عن الأعمش وأبي صالح، كلاهما عن جابر بطوله، وقال فيه: فيطول بهم مُعاذ، ولم يعين السورة، والأعمش مرَّ في الخامس والعشرين من الإيمان, ومرَّ محل ذكر مُحارب في الثامن والخمسين قبل هذه المتابَعات. ثم قال المصنف: باب الإيجاز في الصلاة وإكمالها ثبتت هذه الترجمة عند المُسْتَمْلِي وكَرِيمة، وذكرها الإسماعيليّ، وسقطت عند الباقين، وعلى تقدير سقوطها فمناسبة حديث أَنَس للترجمة من جهة أن من سلك طريق النبي -صلى الله عليه وسلم- في الإيجاز والإتمام لا يُشْتَكى منه تطويل، وروى ابن أبي شَيْبَة عن أبي مُجْلِز قال: كان الصحابة يتمون ويوجزون ويبادرون الوسوسة، وقد مرت في الباب الذي قبل هذا بباب آثار دالة على هذا، فبين العلة في تخفيفهم، ولهذا عقب المصنف هذه الترجمة بالإشارة إلى أن تخفيف النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن لهذا السبب لعصمته، بل كان يخفف عند حدوث أمر يقتضيه، كبكاء صبي.

الحديث التاسع والخمسون

الحديث التاسع والخمسون حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُوجِزُ الصَّلاَةَ وَيُكْمِلُهَا. قوله: يوجز الصلاة، الإيجاز ضد الإطناب، والمراد به هنا الإتيان بأقل ما يمكن من الأركان والأبعاض، وفي لفظ عند مسلم "كان أتم الناس صلاة في إيجازه" وفي لفظ "كانت صلاته متقاربة، وكانت صلاة أبي بكر متقاربة، فلما كان عمر مد في صلاة الفجر". رجاله خمسة: قد مروا، مرَّ أبو مَعْمَر وعبد الوارث في السابع عشر من العلم، ومرَّ عبد العزيز بن صُهَيب في الثامن من الأيمان، ومرَّ أَنَس في السادس منه. أخرجه مسلم وابن ماجَه. ثم قال المصنف: باب من أخف الصلاة عند بكاء الصبي يجوز في باب التنوين على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هذا باب، والإضافة إلى من الموصولة. قال الزَّيْن بن المُنِير: التراجم السابقة بالتخفيف، تتعلق بحق المأمومين، وهذه الترجمة تتعلق بقدر زائد على ذلك، وهو مصلحة غير المأموم لكن حيث تتعلق بشيء يرجع إليه.

الحديث الستون

الحديث الستون حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى قَالَ أَخْبَرَنَا الْوَلِيدُ قَالَ حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ" إِنِّي لأَقُومُ فِي الصَّلاَةِ أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاَتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ. قوله: عن عبد الله، عند الإسماعيليّ: حدثني عبد الله بن أبي قتادة، وقوله: إني لأقوم في الصلاة أريد، في رواية بِشْر بن بَكْر "لأقوم إلى الصلاة وأنا أريد". وقوله: أن أطوّل، أن مصدرية، أي أريد التطويل في الصلاة. وقوله: بكاء الصبي، البكاء إذا مددت أردت به الصوت الذي يكون معه، وإذا قصرت أردت خروج الدمع، وهاهنا ممدود لا محالة، بقرينة "فأسمع" إذ السماع لا يكون إلا في الصوت. وقوله: فأتجوّز، أي فأخفف. بيّن مُسْلِم في رواية ثابت عن أَنَس محل التخفيف، ولفظه "فيقرأ بالسورة القصيرة" وبيّن ابن أبي شَيْبَة عن عبد الرحمن بن ساباط مقدارها، ولفظه "أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قرأ في الركعة الأولى بسورة طويلة نحو ستين آية، فسمع بكاء الصبيّ، فقرأ في الثانية بثلاث آيات" وهذا مرسل. وقوله: كراهية، بالنصب على التعليل، مضاف إلى أن المصدرية، واستدل بهذا الحديث على جواز إدخال الصبيان المساجد. وفيه نظر، لاحتمال أن يكون الصبي كان مخلفًا في بيت يقرب من المسجد بحيث يسمع بكاؤه، وعلى جواز صلاة النساء في الجماعة مع الرجال، وفيه شفقته صلى الله تعالى عليه وسلم على أصحابه، ومراعاة أحوال الكبير منهم والصغير. وقال ابن بَطّال: احتج به من قال يجوز للإمام إطالة الركوع إذا سمع بحس داخل ليدركه, وسبقه إلى ذلك الخَطّابيّ، ووجهه بأنه إذا جاز التخفيف لحاجة من حاجات الدنيا كان التطويل لحاجة من حاجات الدين أجوز، وتعقبه القُرْطُبِيّ بأن التطويل هنا زيادة عمل في الصلاة غير مطلوب، بخلاف التخفيف، فإنه مطلوب، وبأن الحكمة لا يعلل بها لخفائها، أو لعدم انضباطها، ولأنه لم يكن يدخل في الصلاة، يريد تقصير تلك الركعة. ثم يطيلها لأجل الآتي، وإنما كان يدخل فيها ليأتي بالصلاة على سننها من تطويل الأولى، فافترق الأصل والفرع، وامتنع الإلحاق. وذكر البُخَاريّ في جزء القراءة أنه لم يرو عن أحد من السلف في انتظار الداخل في الركوع شيء. وقال ابن المُنِير: التخفيف نقيض التطويل، فكف يقاس عليه؟ قال: ثم إن فيه مغايرة للمطلوب, لأن فيه ادخال مشقة على جماعة لأجل واحد، ويمكن أن يقال: محل ذلك ما لم يشق

رجاله ستة

على الجماعة، وبذلك قيده أحمد وإسحاق وأبو ثَوْر. وفي هذه المسألة خلاف عند الشافعية وتفصيل، وأطلق النَّوَوِيّ عن المذهب استحباب ذلك، وفي "التجريد" للمَحامِلِيّ نقل كراهيته عن "الجديد"، وبه قال الأوزاعيّ ومالك وأبو حَنيفة وأبو يوسف. وقال محمد بن الحسن: أخشى أن يكون شركًا. قلت: قيد بعض المالكية الكراهة بأن لا يكون الداخل عالمًا تُرجى بركته، أو ظالمًا تُخشى عقوبته، أو جاهلًا يَعْتَدّ بما دون الركعة، ولم يقل بعضهم القيود المذكورة، ومحلها قطعًا في الامام، وأما الفذ فلا يكره له التطويل. وقال أبو القاسم الصّفّار: إن كان الجائي غنيًا لا يجوز، وإن كان فقيرًا يجوز انتظاره. وقال أبو الليث: إن كان الإمام عرف الجائي لا ينتظره، وإن لم يعرفه فلا بأس به، إذ فيه إعانة على الطاعة. رجاله ستة: مروا جميعًا، مرَّ إبراهيم بن موسى في الثالث من الحَيْف، ومرَّ الوليد بن مسلم في السادس والثلاثين من كتاب مواقيت الصلاة، ومرَّ الأوْزَاعيّ في العشرين من العلم، ومرَّ يحيي بن أبي كَثير في الثالث والخمسين منه، ومرَّ عبد الله بن أبي قَتادة وأبوه في التاسع عشر من الوضوء. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع والعنعنة والقول، ورواته ما بين رازيّ ودمشقيّ ويمانيّ ومَدَنيّ، أخرجه البخاريّ أيضًا عن محمد بن مِسْكِين، وأبو داود في الصلاة، والنَّسائيّ وابن ماجَه فيها أيضًا. ثم قال: تابعه بِشْر بنُ بَكْر وابنُ المُبارَك، وبَقِّيةُ عن الأوْزَاعيّ. متابعة بشْر موصولة عند المؤلف في باب خروج النساء إلى المساجد، قُبَيل كتاب الجمعة، ومتابعة ابن المبارك وصلها النّسائيّ، ومتابعة بقية، قال في "الفتح": لم أقف عليها، والأوْزَاعيّ مرَّ ذكر محله في هذا الحديث السابق، وابن المبارك قد مرَّ في السادس من بدء الوحي. وأما بشر، فهو بكسر الباء الموحدة، ابن بكر، بفتحها، التَّنِيسيّ أبو عبد الله البَجَليّ، دمشقيّ الأصل، ذَكره ابن حِبّان في الثقات، وقال الحاكم: مأمون، وقال العِجْليّ والعَقِيليّ: ثقة، وقال أبو زُرْعَة أيضًا: ثقة. وقال الدارَقُطنيّ مرة: ثقة، وقالَ مرة: ليس به بأس، ما علمت إلا خيرًا. روى عن الأوْزاعيّ وجَرير بن عثمان وسعيد بن عبد العزيز وغيرهم. وروى عنه دُحَيم وابن السَّرح والحُمَيْدِيّ ومحمد بن مِسْكين، وابن وهَبْ ومات قبله والشافعيّ، ولد سنة أربع وعشرين ومئة، ومات سنة خمس وخمسين ومئتين، وقيل سنة خمس ومئتين. وأما بَقيّة فهو ابن الوليد بن صايد بن كَعْب بن جريز الكَلَاعيّ بفتح الكاف المَيْتَمِيّ، بفتح الميم، أبو يُحمد، بضم التحتانية، الحمصيّ. قال ابن المبارك: كان صدوقًا، ولكنه كان يحدث عمن أقبل وأدبر. وقال ابن مَعين: كان شُعْبَة مُبَجلًا لبقية حيث قَدِم بغداد. وقال أحمد ويحيى:

إذا حدث عن الثقات فاقبلوه، وإذا حدث عن أولئك المجهولين فلا. وقال ابن عُيَيْنَة: لا تسمعوا من بَقِيّةَ ما كان في سنة، واسمعوا منه ما كان في ثواب وغيره. وقال يعقوب: بقية ثقة حسن الحديث إذا حدث عن المعروفين، ويحدث عن قوم متروكي الحديث، وعن الضعفاء، ويحيد عن أسمائهم إلى كناهم، وعن كناهم إلى أسمائهم، ويحدث عمن هو أصغر منه. وقال ابن سعد: كان ثقة في روايته عن الثقات، ضعيفًا في روايته عن غير الثقات. وقال العِجْلِيّ: ثقة فيما يروي عن المعروفين، وما روى عن المجهولين فليس بشيء. وقال أبو مُسْهِر الغَسّانيّ: بقية ليست أحاديثه نقية، فكن منها على تقية، لم يرو عنه البخاري إلا استشهادًا، روى عن الأوزاعيّ وابن جرير ومالك والزبيديّ وغيرهم. وروى عنه ابن المبارك وشعبة والحمادان وابن عُيَينة، والأوزاعيّ وابن جُرَيج، وهما من شيوخه، ولد سنة خمس عشرة ومئة، ومات سنة سبع وتسعين ومئة والمَيْتَمِيّ في نسبه نسبة إلى ميتم قبيلة من حمير.

الحديث الحادي والستون

الحديث الحادي والستون حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ قَالَ حَدَّثَنَي شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ إِمَامٍ قَطُّ أَخَفَّ صَلاَةً وَلاَ أَتَمَّ مِنَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وَإِنْ كَانَ لَيَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِىِّ فَيُخَفِّفُ مَخَافَةَ أَنْ تُفْتَنَ أُمُّهُ. قوله: أخف صلاة ولا أتم، إلىِ هنا أخرجه مُسْلم عن إسماعيل بن جَعْفر عن شَريك، ووافق سليمان بن بلال على تكملته أبو ضَمْرَة عند الإسماعيليّ. وقوله: أن تَفتن أمه، بالبناء للفاعل، أي تنتهي عن صلائها لاشتغال قلبها ببكائه، زاد عبد الرزاق من مرسل عطاء "أو تتركه فيضيع" وفي رواية "أن يُفتِن" من أفتن الرباعيّ، وقد مرت مباحثه في الذي قبله. رجاله أربعة: مروا كلهم، مرَّ خالد بن مَخْلَد في الرابع من العلم، ومرَّ شريك بن عبد الله في الخامس منه، ومرَّ سلَيمان بن بلال في الثاني من الإيمان, ومرَّ أنس في السادس منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع والإفراد والسماع والقول، ورواته مدنيون ما عدا شيخ البخاريّ، فإنه كوفي، أخرجه مسلم في الصلاة أيضًا.

الحديث الثاني والستون

الحديث الثاني والستون حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ قَالَ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إِنِّي لأَدْخُلُ فِي الصَّلاَةِ وَأَنَا أُرِيدُ إِطَالَتَهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاَتِي مِمَّا أَعْلَمُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ مِنْ بُكَائِهِ. قوله: وأنا أريد إطالتها، فيه أن من قصد في الصلاة الإتيان بشيء مستحب لا يجب عليه الوفاء به، خلافًا لأشهب حيث ذهب إلى أن من نوى التطوع قائمًا ليس له أن يتمه جالسًا. وقوله: مما أعلم، في رواية الكُشْمِيْهَنيّ "لما أعلم" وقوله: وَجْد أمه، أي حزنها. قال صاحب "المُحكم": وَجَد يَجدِ وَجْدًا بالسكون والتحريك، أي حَزن، وكأنّ ذكر الأم هنا خرج مخرج الغالب، وإلا فمن كان في معناها ممن يحصل له اشتغال القلب، وإن لم يصل إلى درجتها، ملتحق بها. رجاله خمسة: مروا كلهم، مرَّ عَلِيّ بن المَدينيّ في الرابع عشر من العلم، ومرَّ يَزِيد بن زُرَيْع في السادس والتسعين من الوضوء، ومرَّ سعيد بن أبي عَرُوبَةَ في الحادي والعشرين من الغُسل، ومرَّ قتَادَةُ وَأَنَسُ في السادس من الإيمان. فيه التحديث بصيغة الجمع والإفراد والقول، ورواته كلهم بصريون. أخرجه مسلم وابن ماجَه في الصلاة أيضًا.

الحديث الثالث والستون

الحديث الثالث والستون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إِنِّي لأَدْخُلُ فِي الصَّلاَةِ فَأُرِيدُ إِطَالَتَهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَجَوَّزُ مِمَّا أَعْلَمُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ مِنْ بُكَائِهِ. هذا طريق آخر من الحديث الذي قبله. رجاله خمسة: مرَّ محمد بن بشار في الحادي عشر من العلم، ومرَّ في الذي قبله ذكر محل سعيد وقَتَادة وأَنَس، ومرَّ محمد بن أبي عَدِيّ في العشرين من الغسل. فيه التحديث بصيغة الجمع والعنعنة، ورواته كلهم بصريون. ثم ذكر البُخَارِيّ قال: وقال مُوسَى: حدّثنا أبانُ، حدّثنا قتادةُ، حدّثنا أنسٌ عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- مثلَهُ. والمراد من هذا التعليق بيان سماع قتادة له من أنس، وهذا التعليق وصله السراج عن عُبَيْد الله بن جَرير، وابن المُنْذر عن محمد بن إسماعيل، كلاهما عن موسى. وموسى المراد به إسْماعيل التَّبُوذَكِيّ، مرَّ في الخامس من بدء الوحي، ومرَّ أبان بن يزيد في التعليق الذي بعد السابع والثلاثين من الإيمان, ومرَّ قَتَادَةُ وأَنَس في السادس منه. ثم قال المصنف: باب إذا صلى ثم أمّ قومًا قال الزَّيْن بن المنُير: لم يذكر جواب "إذا" جريًا على عادته في ترك الجزم بالحكم المختلف فيه.

الحديث الرابع والستون

الحديث الرابع والستون حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ وَأَبُو النُّعْمَانِ قَالاَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ كَانَ مُعَاذٌ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ يَأْتِي قَوْمَهُ فَيُصَلِّي بِهِمْ. وهذا الحديث طريق من حديث جابر المتقدم، وقد مرَّ استيفاء الكلام عليه. رجاله ستة: وفيه ذكر مُعاذ، وقد مرَّ الجميع، مرَّ سُلَيمان بن حَرْب في الرابع عشر من الإيمان، ومرَّ أبو النُّعْمان في الحادي والخمسين منه، ومرَّ حماد بن زيد في الرابع والعشرين منه، ومرَّ أيّوب في التاسع منه، ومرَّ مُعَاذ في الأثر الثاني أول كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه، ومرَّ جابر في الرابع من بدء الوحي، ومرَّ عمرو بن دينار في الرابع والخمسين من العلم. ثم قال المصنف: باب من أسمع الناس تكبير الإمام

الحديث الخامس والستون

الحديث الخامس والستون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ قَالَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنِ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رضى الله عنها قَالَتْ لَمَّا مَرِضَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَتَاهُ بِلاَلٌ يُؤْذِنُهُ بِالصَّلاَةِ فَقَالَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ. قُلْتُ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ، إِنْ يَقُمْ مَقَامَكَ يَبْكِي فَلاَ يَقْدِرُ عَلَى الْقِرَاءَةِ. قَالَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ. فَقُلْتُ مِثْلَهُ فَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ إِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ، مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ. فَصَلَّى وَخَرَجَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَخُطُّ بِرِجْلَيْهِ الأَرْضَ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ ذَهَبَ يَتَأَخَّرُ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ أَنْ صَلِّ، فَتَأَخَّرَ أَبُو بَكْرٍ رضى الله عنه وَقَعَدَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى جَنْبِهِ، وَأَبُو بَكْرٍ يُسْمِعُ النَّاسَ التَّكْبِيرَ. وهذا الحديث قد مرَّ في باب حد المريض أن يشهد الجماعة، ومرَّ استيفاء الكلام عليه هناك، والشاهد فيه هنا قوله "وأبو بكر يُسْمع الناسَ التكبيرَ" وهذه اللفظة مفسرة عند الجمهور للمراد بقوله في الرواية الماضية "وكان أبو بكر يصلي بصلاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، والناس يصلون بصلاة أبي بكر" ووقع في بعض الروايات هنا "إن يقم مقامك يبكي، ومروا أبا بكر يصلي" بإثبات الياء فيهما، وهو من قبيل إجراء المعتل مجرى الصحيح، والاكتفاء بحذف الحركة ومنه قراءة من قرأ {إنه مَنْ يَتقِي وَيَصْبِرْ} [يوسف: 95]. رجاله ستة: وفيه ذكر أبي بَكر وبِلَال، وقد مرَّ الجميع، مرَّ مُسَدَّد في السادس من الإيمان, ومرَّ الأعْمَش وإبراهيم بن يَزيد في الخامس والعشرين منه، ومرَّ عبد الله بن داود الخُرَيْبيّ في الثاني والسبعين من العلم، ومرَّ الأسْوَد في السابع والستين منه، وبلال بن حَمَامة في التاسع والثلاثين منه، ومرت عائشة في الثاني من بَدء الوَحْي، ومرَّ أبو بكر في باب "من لم يتوضأ من لحم الشاة والسَّويق" بعد الحادي والسبعين من الوضوء. وفيه ذِكْرُ رَجُلَين مبهَمَين، ومرَّ بيانهما في الثلاثين من هذا الباب. ثم قال: تابعه مُحاضِر عن الأعْمَش. أي تابع عبد الله بن داود محاضر عن الأعمش، وهذه المتابعة لم أر من وصلها، والأعمش قد مرَّ الآن في الحديث ذكرُ محله.

باب الرجل يأتم بالإمام ويأتم الناس بالمأموم

ومحاضِر هو ابن المُوَرَّع، باسم المفعول، الهَمْدانيّ الياميّ السَّلُوليّ السَّكُونيّ الكُوفيّ، ذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال ابن سَعْد، كان ثقة صدوقًا ممتنعًا عن التحديث، ثم حدث بعد. وقال ابن قانع: ثقة، وقال مَسْلَمة بن قاسم: ثقة مشهور، وكان على رأي الكوفة في النَّبيذ، وقال أبو زُرْعَة: صَدُوق صَدُوق. وقال أحمد: لم يكن من أصحاب الحديث، كان مُغفلًا جدًا. وقال ابن المبارك: أعرفه قديمًا، وكان شريك إذا لم يَحضر صلى مُحاضر. وقال أبو سعيد الحدَّاد: محاضر لا يحسن أن يصدق، فكيف يحسن أن يكذب؟ كنا نوقفه على الخطأ في كتابه، فإذا بلغ ذلك الموضع أخطأ، وكان إمام الناس. وقال النَّسائيّ: ليس به بأس، وقال ابن عَدِيّ: روى عن الأعمش أحاديث صالحة مستقيمة، ولم أر في حديثه منكرًا فأذكره إذا روى عنه ثقة. قال في المقدمة: أخرج له البُخَاريّ حديثين مصورة التعليق الموصول عن بعض شيوخه عنه، أحدهما في الحج والآخر في البيوع، وعلق له غيرهما، وروى له مسلم حديثًا واحدًا، وأبو داود والنَّسائيّ. روى عن عاصم الأحول وهشام بن عُرْوَة والأعمش ومُجالِد بن سَعِيد وغيرهم. وروى عنه أحمد بن حنبل وأبو بكر، وعثمان ابنا أبي شَيْبَةَ، وحجاج الشاعر ومحمد بن يحيي الذُّهْلِيّ وغيرهم. مات سنة ست ومئتين. السَّلُوليّ نسبه نسبةً إلى سلول، فَخْذ من قَيْس بن هَوَازن، وهم بنو مُرَّة بن صَعْصَعَة بن مُعاوية بن بكر بن هَوَازن، وسَلُول اسم أمّهم، نُسِبوا إليها، وهي ابنة ذُهْل بن شيبان بن ثَعْلَبَةَ، منهم عبد الله بن همّام الشاعر السّلوليّ، من بني عمرو بن مُرّة بن صَعْصَعَة، وهم رَهْط أبي مريم السَّلولي الصحابيّ. والسَّكُونيّ في نسبه نسبة إلى سَكُون كصَبُور، حيٌّ من العرب، وهو ابن أشْرَس بن ثَوْر بن كِنْدَةَ، منهم أبو بَدْر، شُجاعُ بن الوليد بن قَيْس السَّكُونيّ الكُوفيّ المُحَدِّث. ثم قال المصنف: باب الرجل يأتم بالِإمام ويأتم الناس بالمأموم قال ابن بطّال: هذا موافق لقول مسروق والشَّعْبيّ إن الصفوف يؤم بعضها بعضًا، خلافًا للجمهور، وليس المراد أنهم يأتَمُّون بهم في التبليغ فقط، كما فهمه بعضهم، بل الخلاف معنويّ، لأنّ الشَّعْبيّ قالَ فيمن أحرم قبل أن يرفع الصف الذي يليه رؤوسهم من الركعة: إنه أدركها، ولو كان الإمام رفع قبل ذلك, لأنّ بعضهم أئمة لبعض، فهذا يدل على أنه يرى أنهم يتحملون عن بعضهم بعض ما يتحمل الإمام، وأثر الشَّعْبِيّ الأول وصله عبد الرَّزَّاق، والثاني وصله ابن أبي شَيْبَةَ، ولم يفصح البُخَاريّ باختياره، والظاهر أنه يذهب إلى رأي الشَّعْبيّ. وقوله في الرواية الأولى"يُسمع الناسَ التكبير" لا ينفي كونهم يأتمون به, لأنّ إسماعه لهم التكبَير جزء من أجزاء ما يأتَمْون به فيه، وليس فيه نفي لغيره. ثم قال: ويُذكَرُ عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- "ائتمُوا بي، وليأْتمَّ بكمْ مَنْ بَعْدكُمْ".

وهذا طرف من حديث أبي سَعِيد الخُدْريّ أخرجه مسلم وأصحاب السنن عن أبي نَضْرَة عنه، قال: "رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أصحابه تأخراً فقالَ لهم: تقدموا فائتموا بي وليأتم بكم من بعدكم، ولا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله تعالى" أي عن الصف الأول، حتى يؤخرهم الله عن عظيم فضله، ورفيع منزلته. وقوله: وليأتم بكم من بعدكم، معناه عند الجمهور: يقتدي بكم من خلفكم، مستدلين على أفعالي بأفعالكم. وقيل: معناه تعلموا مني أحكام الشريعة، وليتعلم منكم التابعون بعدكم، وكذلك أتباعُهم إلى انقراض الدنيا، وظاهره يدل لمذهب الشَّعْبيّ، ولكن تفسيره بما ذكر هو المتعين، ليوافق مذهب الجمهور، وإنما ذكره المصنف بصيغة التمريض, لأنّ أبا نَضْرَة ليس على شرطه، لضعف فيه. قال في "الفتح": وهذا عندي ليس بصواب, لأنه لا يلزم من كونه ليس على شرطه أنه لا يصلح عنده للاحتجاج به، بل قد يكون صالحًا للاحتجاج به، وليس هو على شرط صحيحه الذي هو أعلى شروط الصحة، والحق أن هذه الصيغة لا تختص بالضعف، بل قد تستعمل في الصحيح أيضًا، بخلاف صيغة الجزم، فإنها لا تستعمل إلا في الصحيح.

الحديث السادس والستون

الحديث السادس والستون حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنِ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ لَمَّا ثَقُلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- جَاءَ بِلاَلٌ يُؤْذِنُهُ بِالصَّلاَةِ فَقَالَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّىَ بِالنَّاسِ. فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ، وَإِنَّهُ مَتَى مَا يَقُمْ مَقَامَكَ لاَ يُسْمِعُ النَّاسَ، فَلَوْ أَمَرْتَ عُمَرَ. فَقَالَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ. فَقُلْتُ لِحَفْصَةَ قُولِي لَهُ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ، وَإِنَّهُ مَتَى يَقُمْ مَقَامَكَ لاَ يُسْمِعِ النَّاسَ، فَلَوْ أَمَرْتَ عُمَرَ. قَالَ إِنَّكُنَّ لأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ، مُرُوا أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّىَ بِالنَّاسِ. فَلَمَّا دَخَلَ فِي الصَّلاَةِ وَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي نَفْسِهِ خِفَّةً، فَقَامَ يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ، وَرِجْلاَهُ يَخُطَّانِ فِي الأَرْضِ حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَلَمَّا سَمِعَ أَبُو بَكْرٍ حِسَّهُ ذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ يَتَأَخَّرُ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى جَلَسَ عَنْ يَسَارِ أَبِي بَكْرٍ، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي قَائِمًا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي قَاعِدًا، يَقْتَدِى أَبُو بَكْرٍ بِصَلاَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَالنَّاسُ مُقْتَدُونَ بِصَلاَةِ أَبِي بَكْرٍ رضى الله عنه. قوله: مروا أبا بكر يُصَلّي، كذا فيه بإثبات الياء، وقد مرَّ في الحديث الذي قبله توجيهه، وقوله: متى يقوم، بإثبات الواو في الموضعين عند الأكثر، ووجهه ابن مالك بأنه شبّه متى بإذا فلم تجزم، كما شبه إذا بمتى في قوله "إذا أخذتما مضاجعكما تُكَبِّرا أربعًا وثلاثين" فحذف النون، وفي رواية الكُشْمِيْهَنِيّ "متى يقم" ولا إشكال فيها. وقوله: تخطان الأرض، في رواية الكُشْمِيْهَنِيّ: يخطان في الأرض، وقد تقدمت مباحث هذا الحديث في باب حد المريض. رجاله ستة: وقد مروا جميعًا، وفيه ذكر أبي بكر وعمر وبلال، ولفظ رَجُلين مُبْهَمَين، مرَّ قُتَيبة بن سعيد في الحادي والعشرين من الإيمان, ومرَّ أبو مُعَاوية في تعليق بعد الثالث من الإيمان, ومرَّ في الحديث الذي قبل هذا ذكر محل الأعمش وإبراهيم والأسْود وعائشة وأبو بكر وبلال، ومحل الرجلين المُبْهَمَين، ومرَّ عمر في الحديث الأول من بدء الوحي. ومرت حفْصة في الثالث والستين من الغُسل. ثم قال المصنف: باب هل يأخذ الإمام إذا شك بقول الناس قال ابن المُنِير: أراد أن محل الخلاف في هذه المسألة هو ما إذا كان الإمام شاكًا، أما إذا

كان على يقين من فعل نفسه، فلا خلاف أنه لا يرجع إلى قول أحد، وقال ابن التّين: يحتمل أن يكون صلى الله تعالى عليه وسلم شك بإخبار ذي اليدين، فسألهم إرادة تحقق أحد الأمرين، فلما صدّقوا ذا اليَدَين علم صحة قوله. قال: وهذا الذي أراد البُخاريّ بتبويبه، وقال ابن بَطّال، بعد أن حكى الخلاف في هذه المسألة: حمل الشافعي رجوعه عليه الصلاة والسلام على أنه ذُكِّر فَتَذَكّر، وفيه نظر, لأنه لو كان كذلك لبينه لهم، ليرتفع اللَّبس، ولو بينه لنُقل، ومن ادعى ذلك فليذكره. قال في "الفتح": قد ذكره أبو داود عن أبي هُرَيرة بهذه القصة. قال: ولم يسجد سجدتي السهو حتى يقنه الله ذلك.

الحديث السابع والستون

الحديث السابع والستون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ أَبِي تَمِيمَةَ السَّخْتِيَانِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- انْصَرَفَ مِنَ اثْنَتَيْنِ، فَقَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ أَقَصُرَتِ الصَّلاَةُ أَمْ نَسِيتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ. فَقَالَ النَّاسُ نَعَمْ. فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَصَلَّى اثْنَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ كَبَّرَ فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ. رجاله خمسة: وقد مروا، وفيه ذِكْرُ ذي اليدين، مرَّ عبد الله بن مَسْلَمَة في الثاني عشر من الإيمان" وأيّوب بن أبي تَمِيمة في التاسع منه، ومحمد بن سيرين في الأربعين منه، وأبو هُريرة في الثاني منه، ومرَّ مالك في الثاني من بَدء الوحي، ومرَّ ذو اليدين في الثالث والثمانين من استقبال القبلة، وقد مرَّ ما يتعلق به في أبواب القبلة، حيث ذكر ذو اليدين.

الحديث الثامن والستون

الحديث الثامن والستون حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ صَلَّى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ، فَقِيلَ صَلَّيْتَ رَكْعَتَيْنِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ. وهذا طريق من الحديث السابق، وقد مرَّ استيفاء الكلام عليه غاية الاستيفاء عند ذكر حديث ابن مسعود، في باب التوجه نحو القبلة، وذكرنا هناك ما قيل في رجوع الأمام إلى قول المأموين، وفي باب تشبيك الأصابع في المسجد، بحيث لم يبق شيء يحتاج للذكر هنا. رجاله خمسة: مروا جميعًا مرَّ أبو الوليد في العاشر من الإيمان" ومرَّ شُعْبَةُ في الثالث منه، ومرَّ أبو هُرَيْرَةَ في الثاني منه، ومرَّ سَعْد بن إبراهيم في السابع والأربعين من الوضوء، ومرَّ أبو سَلَمَة في الرابع من بَدء الوحي. ثم قال المصنف: باب إذا بكى الإمام في الصلاة أي هل تفسد أم لا, وقد مرَّ حكم البكاء في الصلاة عند الأئمة في باب حد المريض، إلا أنني هناك لم أذكر للشافعية إلا قولًا واحدًا، بأن الصلاة عندهم تبطل بالبكاء والأنين والتَّأوّه إذا كانت حرفين، سواء بكى للدنيا أو للآخرة، وهذا أحد أوجه ثلاثة عندهم، وهو أصحها. ثانيها: وهو محكيٌّ عن نصه في الإملاء، أنه لا يفسد مطلقًا, لأنه ليس من جنس الكلام، ولا يكاد يبين منه حرف محقق، فأشبه الصوت الغفل. ثالثها عن القَفّال: إن كان فمه مطبقًا لم يفسد، وإلا أفسد إن ظهر منه حرفان، وبه قطع المُتَوَلَيّ، والوجه الثاني أقوى دليلًا. قال في "الفتح": أطلق جماعة التسوية بين الضحك والبكاء، وقال المتولي: لعل الأظهر في الضحك البطلان، لما فيه من هتك حرمة الصلاة، وهذا أقوى من حيث المعنى. قلت: أما مذهب المالكية، فلا خلاف عندهم أن القهقهة، وهي الضحك بصوت، مبطلة للصلاة. ثم قال: وقالَ عبدُ اللهِ بنَ شَدّاد: سمعتُ نَشيجَ عمر وأنا في آخر الصفوف، فقَرَأ {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86].

النَّشيج: بفتح النون وكسر المعجمة وآخره جيم، قال ابن فارس: نَشَجَ الباكي يَنْشَج نَشِيجًا، إذا غَصّ بالبكاء في حلقه من غير انتحاب، وقال الهروي: النشيج صوت معه ترجيع، كما يردد الصبي بكاءه في صدره، وفي المحكم هو أشد البكاء، وقد أخرج أبو داود والنَّسائيّ والتِّرمذيّ في الشمائل، وإسناده قوي، وصححه ابن خُزَيْمَة وابن حِبّان والحاكم، عن عبد الله بن الشِّخير قال: "رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي بنا وفي صدره أزِيز كأزِيز المرجل من البكاء" وفي لفظ "كأزيز الرّحى". والمِرْجَل بكسر الميم وفتح الجيم: القِدْر إذا غَلَت، والأَزيز، بفتح الهمزة بعدها زاي ثم تحتانية ساكنة ثم زاي أيضًا، وهو صوت القِدر إذا غلت. وأما الأنين والتأوه، فقد قال ابن المُبَارَك: إذا كان غالبًا فلا بأس. وعند أبي حَنِيفَة: إذا ارتفع تأوُّهُهُ أو بكاؤه، فإنْ كان من ذكر الجنة والنار لم يقطعها، وإن كان من وجع أو مصيبة قطعها. وعن الشافعي وأبي ثَوْر: لا بأس به إلا أن يكون كلامًا مفهومًا، وعند النَّخَعِيّ والشَّعْبِيّ: يعيد صلاته، وعند المالكية: أنين الوجع لا يوصف بجواز ولا غيره, لأنه محل ضرورة، وأما أَنين غير الوجع فهو كلام يبطل عمدُه مطلقًا، وكثيره سهوًا، ويسجد لقليله السهو، وهذا التعليق وصله سعيد بن منصور عن ابن عُيَيْنة، وزاد "في صلاة الصبح". وأخرجه ابن المنُذر من طريق عبِيد بن عُمير، ومرَّ عبد الله بن شَدّاد في الثامن من الحيض، ومرَّ عمر في الأول من بدء الوحي.

الحديث التاسع والستون

الحديث التاسع والستون حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ فِي مَرَضِهِ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ. قَالَتْ عَائِشَةُ قُلْتُ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ إِذَا قَامَ فِي مَقَامِكَ لَمْ يُسْمِعِ النَّاسَ مِنَ الْبُكَاءِ، فَمُرْ عُمَرَ فَلْيُصَلِّ. فَقَالَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ لِلنَّاسِ. قَالَتْ عَائِشَةُ لِحَفْصَةَ قُولِي لَهُ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ إِذَا قَامَ فِي مَقَامِكَ لَمْ يُسْمِعِ النَّاسَ مِنَ الْبُكَاءِ، فَمُرْ عُمَرَ فَلْيُصَلِّ لِلنَّاسِ. فَفَعَلَتْ حَفْصَةُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَهْ، إِنَّكُنَّ لأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ، مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ لِلنَّاسِ. قَالَتْ حَفْصَةُ لِعَائِشَةَ مَا كُنْتُ لأُصِيبَ مِنْكِ خَيْرًا. وهذا الحديث قد استوفي الكلام عليه في باب حد المريض أن يشهد الجماعة. رجاله خمسة: وفيه ذكر أبي بكر. وعمر وحَفْصَة، وقد مرَّ الجميع، مرَّ إسماعيل بن أبي أوَيس الخامس عشر من الإيمان, ومرَّ باقي السند بهذا النَّسَق في الثاني من بدء الوحي، كما أن عمر مر في الأول منه، ومرَّ أبو بكر بعد الحادي والسبعين من الوضوء في باب من لم يتوضأ من لحم الشاة، ومرت أُمنا حَفْصَة في الثالث والستين من الغُسل. ثم قال المصنف: باب تسوية الصفوف عند الإقامة وبعدها ليس في حَدِيثَيْ الباب دلالة على تقييد التسوية بما ذكر، لكن أشار بذلك إلى ما في بعض الطرق كعادته، ففي حديث النّعمان عند مسلم: أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال ذلك عندما كاد أن يكبر، وفي حديث أنس في الباب الذي بعد هذا أقيمت الصلاة فأقبل علينا فقال ..

الحديث السبعون

الحديث السبعون حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ حَدَّثَنَي شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَي عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ قَالَ سَمِعْتُ سَالِمَ بْنَ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَقُولُ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ. قوله: لتُسَوُّنَّ, بضم المثناة وفتح السين وضم الواو المشددة وتشديد النون، وللمُسْتَمِلي "لتسوُّوْنَ" بواوين: قال البَيْضَاوِيّ: هذه اللام هي التي يتلقى بها القسم، والقسم هنا مقدرة، ولهذا أكد بالنون المشددة, وفي رواية أبي داود إبراز القسم في هذا الحديث. أخرجه عن النُّعمان بن بشير قال: "أقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الناس بوجهه، فقال: أقيموا صفوفكم ثلاثًا، والله لَتُقِيمُنَّ صفوفكم, أوليخالِفَنَّ الله بين قلوبكم". قال: فلقد رأيت الرجل منا بلزق منكبه بمنكب صاحبه، وكعبه بكعبه, والمراد بتسوية الصفوف اعتدال القائمين بها على سمت واحد، أو يراد بها سد الخَلَل الذي في الصف، فقد أخرج أبو داود، وصححه ابن خُزَيْمة والحاكم، عن ابن عمر "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب، وسُدُّوا الخلل، ولا تَذَروا فُرُجاتٍ للشيطان، ومن وصل صفًا وصله الله، ومن قطع صفًا قطعه الله". وقوله: أو لَيُخاِلفَنَّ الله بين وجوهكم، أي إن لم تسووا، واختلف في الوعيد المذكور. فقيل: هو علي حقيقته, والمراد تسوية الوجه بتحويل خلقه عن وضعه، بجعله موضع القفا، ونحو ذلك فهو نحو نظير ما تقدم من الوعيد فيمن رفع رأسه قبل الإمام؛ أن يجعل الله رأسه رأس حمار، وفيه من اللطائف وقوع الوعيد من جنس الجناية، وهي المخالفة، وعلى هذا فهو واجب، والتفريط فيه حرام, يأتي البحث في ذلك قريبًا في باب "إثم من لم يتم الصفوف" إن شاء الله تعالى. ويؤيد حمله عل ظاهره حديث أبي أُمَامة "لتسون الصفوت أو لَتُطْمَسَنَّ الوجوه" في إسناده ضعف، ولهذا قال ابن الجَوْزِيّ: الظاهر أنه مثل الوعيد المذكور في قوله {قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا} [النساء: 47] ومنهم حمله على المجاز. قال النّوَوِيّ: يوقع بينكم العداوة والبغضاء واختلاف القلوب، كما تقول: تَغَيّر وجه فلان عَلَيّ أي: ظهر لي من وجهه كراهية, لأنّ مخالفتهم في الصفوف في ظواهرهم، واختلاف الظواهر سبب لاختلاف البواطن. ويؤيده رواية أبي داود المارة "أو ليخالفن الله بين قلوبكم".

رجالة خمسة

وقال القُرْطُبى: معناه تفترقون فيأخذ كل واحد وجهًا غير الذي أخذ صاحبه, لأنّ تقدم الشخص على غيره مظنة الكبر المفسد للقلب، الداعي إلى القطيعة، والحاصل أن المراد بالوجه، إن حمل على العضو المخصوص، فالمخالفة إما بحسب الصورة الإنسانية أو الصفة أو جعل المقدام وراء، وإن حمل ذات الشخص، فالمخالفة بحسب المقاصد، ويحتمل أن تكون المخالفة في الجزاء، فيجازي المسوي بخير، ومن لا يسوي بشر. وروي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كان يُوَكّل رجلًا بإقامة الصفوف، فلا يكبر حتى يخبر أن الصفوف قد استوت. وعند مسلم عن النعمان بن بَشِير: كان يسوي صفوفنا، حتى كأنما يسوي بها القِداح، حتي رأى أنا قد عَقَلنا عنه، خرج يومًا حتى كاد أن يكبر، فرأى رجلًا بادياً صدره فقال: "عباد الله لَتُسَوُّنَّ صفوفكم" الحديث. رجالة خمسة: قد مروا إلا عمرو بن مُرَّة، مرَّ أبو الوليد في العاشر من الإيمان, ومرَّ شُعْبَةُ في الثالث منه، ومرَّ النّعمان بن بَشِير في الخاص والأربعين منه، ومرَّ سالم بن الجَعْد في السابع من الوضوء، وأخطأ العَيْنيّ في قوله إنه مرَّ في باب فضل من استبرأ لدينه من الإيمان, فإن ذلك عليّ بن الجَعْد. وأما عمرو فإنه ابن مُرّة بن عبد الله بن طارق بن الحارث بن سَلَمة بن كَعْب بن وائل بن جَمَل بن كِنانة بن ناجِيَة بن مُراد، الجَمَلِيّ المُراديّ، أبو عبد الله الكُوفي الأعمى، زكّاه أحمد بن حنبل. وقال ابن مَعِين: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق ثقة، كان يرى الإرجاء. وقال حَفْص بن غِيَاث: ما سمعت الأعمش يثني على أحد إلا على عمرو بن مُرة، فإنه كان يقول: كان مأمونًا على ما عنده. وقال شُعْبَةُ: كان أكثرهم علمًا. وقال أيضًا: ما رأيت أحدًا من أصحاب الحديث إلا يُدَلِّس، إلا ابن عون وابن مُرة. وقال أيضًا: ما رأيت عمرو بن مرة في صلاة قط إلا ظننت أنه لا ينفتل حتى يستجاب له. وقال عبد الملك بن مَيْسَرَة في جنازته: إني لأحسبه خير أهل الأرض. وقال مِسْعَر: لم يكن بالكوفة أحب إليّ ولا أفضل منه. وقال أيضًا: عمرو من معادن الصدق، وقال ابن مهدي: أربعة بالكوقة لا يختلف في حديثهم، فمن اختلف عليهم فهو يخطىء، منهم عمرو بن مُرَّة. وقال مُغيرة: لم يزل في الناس "بَقية" حتى دخل عمرو في الإرجاء، فتهافت الناس فيه. روى عن عبد الله بن أبي أوفى وأبي وائل وسعيد بن المُسَيِّب وسعيد بن جُبَيْر وغيرهم. وروى عنه ابنه عبد الله وأبو إسحاق السَّبيعيّ، وهو أكبر منه، والأعمش والثَّوري والأوزاعيّ وشُعْبَة وغيرهم. مات سنة ست عشر ومئة. وقيل ثمانية عشر، وأخطأ العَيْنيّ فجعل صاحب السند عمرو بن مُرَّةَ الجُهَنِي، أبو طَلْحة، وهذا خطأ كبير، فإن هذا صحابى، وصاحب السند من صغار التابعين. والجَمَلي في نسبه، بالتحريك، نسبة إلى جده المذكور في نسبه، جَمَل بن كِنانة رهط سَيْفَويه القاضي، وولده هِنْد بن

لطائف إسناده

عمرو بن مُرَّةَ، قتله عمرو بن يَثْرِبيّ الضّبِّيّ يوم الجَمَل، وكان مع علي رضي الله تعالى عنه، وقال قاتله: إن تنكروني فأنا ابن يثربيّ ... قتلتُ عِلباء وهند الجَمَليّ وابنًا لصوحان على دين عليّ لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع والسماع والقول، ورواته ما بين بصريّ وكوفيّ. أخرجه مسلم في الصلاة أيضًا.

الحديث الحادي والسبعون

الحديث الحادي والسبعون حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بن صُهيبٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: أَقِيمُوا الصُّفُوفَ فَإِنِّي أَرَاكُمْ خَلْفَ ظَهْرِي. قوله: أقيموا الصفوف، أي عدِّلوا، يقال: أقام العود إذا عدله وسواه. وقوله: فإني أراكم، فيه إشارة إلى سبب الأمر بذلك، أي إنما أمرت بذلك, لأني تحققت منكم خلافه. وقد مرَّ الكلام في المراد بهذه الرواية في باب عظة الإمام الناسَ في إتمام الصلاة، من أبواب المساجد، وأن المختار حملها على الحقيقة، خلافًا لمن زعم أن المراد بها خلق علم ضروري بذلك، ونحو ذلك: قال الزَّيْنُ بن المُنِير: لا حاجة إلى تأويلها, لأنه في معنى تعطيل لفظ الشارع من غير ضرورة. وقال القُرْطُبيّ: بل حملها على ظاهرها أولى, لأن فيه زيادة في كرامة النبي -صلى الله عليه وسلم-. رجاله أربعة: مروا كلهم، مرَّ أبو مَعْمَر وعبد الوارث في السابع عشر من العلم، ومرَّ عبد العزيز بن صُهيْب في الثامن من الإيمان, ومرَّ أنَس في السادس منه أيضًا. أخرجه مسلم والنسائي. ثم قال المصنف: باب إقبال الإمام على الناس عند تسوية الصفوف

الحديث الثاني والسبعون

الحديث الثاني والسبعون حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي رَجَاءٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ حَدَّثَنَا زَائِدَةُ بْنُ قُدَامَةَ قَالَ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ حَدَّثَنَا أَنَسٌ قَالَ أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَأَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِوَجْهِهِ فَقَالَ: أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ وَتَرَاصُّوا، فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي. هذا الحديث طريق من حديث أنس الذي في الباب قبله، وأبو معاوية شيخ المؤلف، وروى له هنا بواسطة، فكأنّه لم يسمعه منه، وإنما نزل فيه لما وقع في الإسناد من تصريح حُمَيد بتحديث أنس له، فأمن بذلك تدليسه. وقوله: وتراصّوا، بتشديد الصاد المهملة، أي تلاصقوا بغير خلل، ويحتمل أن يكون تأكيدًا لقوله "أقيموا صفوفكم" والمراد بأقيموا سووا، كما وقع عند الإسماعيليّ بدل أقيموا "اعتدلوا" وفيه جواز الكلام بين الإقامة والدخول في الصلاة، وقد مرَّ في باب مفرد، وفيه مراعاة الإمام لرعيته، والشفقة عليهم، وتحذيرهم من المخالفة، وفي سنن أبي داود وصحيح ابن حِبّان عن أنس "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: رُصّوا صفوفكم، وقاربوا بينها، وحاذوا بالأعناق، فوالذي نفسي بيده إني لأرى الشيطانَ يدخل من خَلَل الصفوف، كأنه الحَذفُ" والحَذَفُ بالحاء المهملة والذال المعجمة محركة، غَنَمٌ صغار سود تكون باليمن، وفُسِّر بالنَّقَد، بالتحريك، وهو جنس من الغنم قصار الأرجل قباح الوجوه. رجاله خمسة: مروا إلا معاوية بن عمرو، ومرَّ أحمد بن أبي رَجَاء في الثلاثين من الحَيْض، ومرَّ زائدة بن قُدَامَةَ في الثاني والعشرين من الغسل، ومرَّ حُمَيد الطَّويل في الثاني والأربعين من الإيمان، ومرَّ أنَسٌ في السادس منه. وأما معاوية فهو ابن عمرو بن المُهَلَّب بن عمرو بن شَبيب الأزْدِيّ المَعْنِيّ الكوفيّ، أبو عمرو البَغْداديّ. ذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال أحمد: صَدوق ثقة. وقال أبو حاتم: ثقة. وقال مُهَنّا بن يحيى: سألت أبا عبد الله عن خَلَف بن تميم، قلت له: كان مثل معاوية بن عمرو؟ قال: لا، فإنه أتقن في الحديث منه. وقال ابن مَعِين: كان شجاعًا، وكان يقال له ابن الكِرْمَانيّ. روى عن زائدة مصنفاته، وعن أبي إسحاق الفَزَاري كتابَ السير، ونزل بغداد. روى عن زائِدَةَ بن قُدامَةَ وزُهَير بن معاوية وجَرِير بن حازم والمَسْعُودِيّ وغيرهم. وروى عنه البُخاريّ، وروى هو والباقون بواسطة عبد الله بن محمد المُسْنَدِيّ وأحمد بن أبي رَجاء ومحمد بن

لطائف إسناده

عبد الرحيم البَزّار وأبو بكر بن أبي شَيْبَة وأبو خَيْثَمة وغيرهم. مات سنة أربع عشرة ومئتين عن ست وثمانين سنة، وكان مولده سنة ثمان وعشرين ومئة. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في جميع الإسناد، ولم يقع مثل هذا إلا هنا، وفيه القول، ورواته ما بين بغداديّ وهَرَويّ وكُوفيّ وبَصريّ، وفيه أن شيخه من أفراده، وأن معاوية من قدماء شيوخه، وروى عنه هنا بواسطة، وفيه تصريح حميد بالتحديث عن أَنَس، فأمِن تدليسه. ثم قال المصنف: باب الصف الأول

الحديث الثالث والسبعون

الحديث الثالث والسبعون حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ سُمَيٍّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- الشُّهَدَاءُ الْغَرِقُ وَالْمَطْعُونُ وَالْمَبْطُونُ وَالْهَدْمُ. وَقَالَ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لاَسْتَبَقُوا إِلَيْهِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الصَّفِّ الأول لاَسْتَهَمُوا. وهذا الحديث مرَّ الكلام على الشهداء المذكورة فيه مستوفى في باب فضل التهجير إلى الظهر، والكلام على الصف الأول وما يتعلق به في باب الاستهام في الأذان من كتاب الأذان، فراجع المحلين. رجاله خمسة: مروا كلهم، مرَّ أبو عاصم في أثر بعد الرابع من العلم، ومرَّ مالك في الثاني من بَدء الوحي، ومرَّ سُمَيّ في الثاني عثر من كتاب أبواب الأذان، ومرَّ أبو صالح وأبو هُريرة في الثاني من الإيمان. فيه التحديث بصيغة الجمع والعنعنة، ورواته مَدَنيون ما عدا شيخ البُخاريّ فإنه بَصريّ. أخرجه البُخاريّ أيضًا في باب فضل التهجير يأتم من هذا، وفي باب الاستهام على الأذان. ثم قال المصنف: باب إقامة الصف من تمام الصلاة لفظ هذه الترجمة أورده عبد الرزاق من حديث جابر.

الحديث الرابع والسبعون

الحديث الرابع والسبعون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلاَ تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ، فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. فَقُولُوا رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ. وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا، وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ، وَأَقِيمُوا الصَّفَّ فِي الصَّلاَةِ، فَإِنَّ إِقَامَةَ الصَّفِّ مِنْ حُسْنِ الصَّلاَةِ. المراد من الحديث عند المؤلف قوله: وأقيموا الصفوف إلخ، وهو المقصود بهذه الترجمة، وقد أفرده مسلم وأحمد وغيرهما من طريق عبد الرَّزَّاق المذكورة عما قبله، فجعلوه حديثين. وقوله: من حسن الصلاة؛ قال ابن رَشِيد: إنما قال البُخاريّ في الترجمة من تمام الصلاة، ولفظ الحديث "من حُسْن الصلاة", لأنه أراد أن يبين أن المراد بالحُسْن هنا، وأنه لا يعني به الظاهر المرئي من الترتيب، بل المقصود فيه الحسن الحُكْميّ بدليل حديث أَنَس، وهو الثاني من حديثَيْ الباب، حيث عبر بقوله "من إقامة الصلاة"، وهذا الحديث قد مرَّ استيفاء الكلام عليه، فقوله: إنما جُعل الإمام ليؤتم به الخ، مرَّ الكلام عليه مستوفى في باب الصلاة على السطوح، عند ذكر حديث أنس هناك. ومرَّ الكلام على قوله "وإذا قال سمع الله لمن حمده .. " إلخ في باب إنما جعل الإِمام ليؤتم به، عند ذكر حديث عائشة هناك. رجاله خمسة: مروا جميعًا، مرَّ عبد الله بن محمد المُسْنَدِيّ وأبو هُرَيرة في الثاني من الإيمان, ومرَّ عبد الرزاق وهمام في الخامس والثلاثين منه، ومرَّ مَعْمَر في المتابعات بعد الرابع من بَدء الوحي. فيه التحديث بصيغة الجمع والإخبار والعنعنة، ورواته ما بين بخارِيّ وبَصريّ ومَدَنيّ ويمانيين. أخرجه مسلم أيضًا في الصلاة.

الحديث الخامس والسبعون

الحديث الخامس والسبعون حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ سَوُّوا صُفُوفَكُمْ فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلاَةِ. قوله: فإن تسوية الصفوف، في رواية الأصيلي "الصف" بالإفراد، والمراد به الجنس، وقوله: من إقامة الصلاة، هكذا ذكره البُخاريّ عن أبي الوَلِيد، وذكره غيره عنه بلفظ "من تمام الصلاة" مُسْلِم وأبو داود والبَيْهَقيّ وغيرهم وأخرج أبو داود الطَّيَالسيّ قال: سمعت شُعْبَةَ يقول: داهنت في هذا الحديث، لم أسأل قتادة أسمعته من أنس أم لا، ولم يرو عن قتادة إلا معنعنًا، ولعل هذا السر هو في إيراد البُخاري لحديث أبي هُريرة معه في الباب تقوية له، وقد استدل ابن حَزْم بقوله "إقامة الصلاة" على وجوب تسوية الصفوف. قال: لأن إقامة الصلاة واجبة، وكل شيء من الواجب واجب، ولا يخفى ما فيه، لاسيما وقد بينا أن الرواة لم يتفقوا على هذه العبارة، وتمسك ابن بطال بظاهر لفظ حديث أبي هُريرة، فاستدل به على أن التسوية سنة. قال: لأن حسن الشيء زيادة على تمامه. وأورد عليه رواية "من تمام الصلاة". وأجاب ابن دقِيق العِيد فقال: قد يؤخذ من قوله "تمام الصلاة" الاستحباب, لأنّ تمام الشيء في العرف أمر زائد على حقيقته التي لا يتحقق إلا بها، وإن كان يطلق بحسب الوضع على بعض ما لا تتم الحقيقة إلا به، كذا قال. وهذا الأخذ بعيد, لأن لفظ الشارع لا يحمل إلا على ما دل عليه الوضع في اللسان العَربيّ، وإنما يحمل على العُرف إذا ثَبَت أنه عُرْف الشارع لا العُرْف الحادث. رجاله أربعة: قد مروا، مرَّ أبو الوليد في العاشر من الإيمان, ومرَّ شُعْبَةُ في الثالث منه، ومرَّ قَتَادةُ وأَنَسٌ في السادس منه. أخرجه مسلم وأبو داود وابن ماجَه. ثم قال المصنف: باب إثم من لم يتم الصفوف قال ابن رَشيد: أورد فيه حديث أنس "ما أنكرت شيئًا إلا أنكم لا تقيمون الصفوف" وتعقب بأن الإنكار قد يقع على ترك السنة، فلا يدل ذلك على حصول الإثم، وأجيب بأنه لعله حمل الأمر في قوله تعالى {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] على أن المراد بالأمر الشأن.

والحال، لا مجرد الصيغة، فيلزم منه أن من خالف شيئًا من الحال التي كان عليها صلى الله تعالى عليه وسلم يأثم , لما يدل عليه الوعيد المذكور في الآية، وإنكار أنَس ظاهر في كونهم خالفوا ما كانوا عليه في زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, من إقامة الصفوف، فعلى هذا تستلزم المخالفة التأثيم، وهو ضعيف؛ لأنه يفضي إلى أن لا يبقى شيء مسنون؛ لأن التأثيم إنما يحصل على ترك الواجب. وأما قول ابن بَطّال: إن تسوية الصفوف لما كانت من السنن المندوب إليها، التي يستحق فاعلها المدح عليها، دل على أن تاركها يستحق الذم -فهو متعقب من جهة أنه لا يلزم من ذم تارك السنة أن يكون إثمًا سَلّمنا، لكن يرد عليه التعقب الذي قبله، ويحتمل أن يكون البُخاريّ أخذ الوجوب من صيغة الأمر في قوله سووا، ومن عموم قوله "صلوا كما رأيتموني أصلي" ومن ورود الوعيد على تركه، فرجح عنده بهذه القرائن، أن إنكار أَنَس إنما وقع على ترك الواجب، وإن كان الإنكار قد يقع على ترك السنن, ومع القول بأن التسوية واجبة، فصلاة من خالف ولم يسو صحيحة لاختلاف الجهتين، ويؤيد ذلك أنَّ أنَسًا مع إنكاره عليهم لم يأمرهم بإعادة الصلاة. وأفرط ابن حَزْم فجزم بالبطلان، ونازع من ادعى الإجماع على عدم الوجوب بما صح عن عمر، أنه ضرب قدم أبي عثمان النَّهْدِيّ لإقامة الصف، وبما صح عن سُوَيد بن غَفَلَة قال: كان بلال يُسَوْي مناكبنا ويضرب أقدامنا في الصلاة. فقال: ما كان عمر ولا بلال يضربان أحدًا على ترك غير الواجب، وفيه نظر، لجواز أنهما كانا يريان التعزير على ترك السنة.

الحديث السادس والسبعون

الحديث السادس والسبعون حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ أَسَدٍ قَالَ أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى قَالَ أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ الطَّائِيُّ عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ الأَنْصَارِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَقِيلَ لَهُ مَا أَنْكَرْتَ مِنَّا مُنْذُ يَوْمِ عَهِدْتَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ مَا أَنْكَرْتُ شَيْئًا إِلاَّ أَنَّكُمْ لاَ تُقِيمُونَ الصُّفُوفَ. قوله: منذ يوم عهدت، وفي رواية المُسْتَمْلِي والكُشْمِيْهَنيّ: ما أنكرت منا منذ عَهِدْت، وهذه القدمة غير القدمة التي تقدم ذكرها في باب وقت العصر، فإن ظاهر الحديث فيها أنه أنكر تأخير الظهر إلى أول وقت العصر، كما مضى. وهذا الإنكار أيضًا غير الإنكار الذي تقدم ذكره في باب تضييع الصلاة عن وقتها، حيث قال: لا أعرف شيئًا مما كان على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا الصلاة، وقد ضُيِّعت، فإن ذاك كان بالشام، وهذا بالمدينة، وهذا يدل على أن أهل المدينة كانوا في ذلك الزمان أمثل من غيرهم في التمسك بالسنن. رجاله خمسة: مروا إلا سَعِيد بن عُبَيد، مرَّ مُعاذ بن أسَد في التاسع والثلاثين من أبواب الجماعة هذه، ومرَّ الفَضْل بن موسى في السادس والأربعين من الغُسْل، ومرَّ بشير بن يَسَار في الرابع والسبعين من الوضوء ومرَّ أَنَس في السادس من الإيمان. وأما سَعيد فهو ابن عُبَيد الطّائيّ، أبو الهُذَيل الكُوفيّ، ذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال أحمد وابن معِين: ثقة، ووثقه العِجّليّ ويعقوب بن سُفْيان وابن نُمَير وغيرهم. وقال أبو داود: كان شُعْبَةُ يتمنّى لقاءه، وقال يحيي: ليس به بأس، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه، روى عن أخيه عُقبة وبشير بن بَشَار وسعيد بن جُبَير وغيرهم، وروى عنه الثَّوْرِيّ وابن المُبارَك والفَضْل بن موسى ويحيى القَطّان وغيرهم. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع والإِخبار والعنعنة، وفيه أن شيخه من أفراده، ورواته ما بين مَرْوَزِيّ وكُوفيّ ومَدَنيّ، والحديث من أفراد البُخاري. قال العَيْنيّ: وفيه أن بشيرًا المذكور ليس له في الكتب الستة عن أنس غير هذا الحديث. وقال عُقْبَةُ بن عُبَيْد عن بشير بن يَسَار: قَدِم علينا أَنَسٌ المدينة بهذا.

باب إلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم في الصف

وأراد المؤلف بإيراد هذا التعليق بيان سماع يشعر بن يَسَار له من أنس، ولفظه قال عُقْبَة بن عُبَيد الطائيّ: حدثني يشعر بن يَسَار قال: جاء أنس إلى المدينة، فقلنا: ما أنكرت منا من عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: ما أنكرت منكم شيئًا غير أنكم لا تقيمون الصفوف. وقد وصل هذا التعليق أحمد في مسنده عن يحيي القَطّان .. الخ، وبشير وأنس مرَّ ذكر محلهما في الذي قبله، وعُقْبَة هو ابن عبيد أخو سَعِيد بن عُبَيد راوي الإسناد الذي قبله، يُكنى أبا الرَّحّال، بفتح الراء وتشديد الحاء المهملة، وليس له في البخاريّ إلا هذا الموضع المعلق، كوفيّ. قال عبد الله بن أحمد: قلت لأبي: هو ثقة؟ قال: كم يروي؟ إنما يروي حديثين أو ثلاثة، روى عن أَنَس وبشير بن يَسار، وروى عنه أخوه سَعيد بن عُبَيد وعُقبَة بن خالد ويحيى القَطّان. ثم قال المصنف: باب إلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم في الصف المراد بهذا المبالغة في تعديل الصف وسد خَلَله، وقد ورد الأمر بسد خَلَل الصف والترغيب فيبما في أحاديث كثيرة جمعها حديث ابن عمر المتقدم في باب تسوية الصفوف، عند قوله "لَتُسَوُّنَّ صُفوفَكم" ومنها ما رواه أبو داود عن محمد بن مُسْلِم بن السّائِب قال: صَلّيت إلى جنب أنس بن مالك يومًا، فقال: هل تدري لِمَ صُنع هذا العود؟ فقلت: لا والله، قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يضع يده عليه، ثم يقول: استووا وعدلوا صفوفَكم. ثم قال: كان إذا قام إلى الصلاة أخذه بيمينه، ثم التفت فقال: اعتدلوا صووا صفوفكم، ثم أخذه بيساره، وقال: اعتدلوا سووا صفوفكم، وفي لفظ "رصّوا صُفُوفَكم"، وفي لفظ "أتموا الصف المقدم ثم الذي يليه", فما كان من نقص فليكن في الصف المؤخر". ومنها ما رواه ابن حِبّان في صحيحه عن البَرَاء بن عَازِب قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتخلل الصف من ناحيته، يمسح صدورنا ومنكبنا، ويقول: "لا تختلفوا فتختلفَ قلوبكم" وفي لفظ "فَيَمْسَحُ عواتقنا وصدورنا". وفي لفظ كان يأتي من ناحية الصف إلى ناحيته القصوى يسوي بين صدور القوم ومناكبهم إلى غير ذلك من الأحاديث. ثم قال: وقال النُّعمان بن بَشِير: رأيت الرجل منا يُلزقُ كَعْبه بكعبِ صاحبهِ. وهذا طرف من الحديث المار عند قوله "أوَ لَيُخالِفَن الله بين قلوبكم" في باب تسوية الصفوف، واستدل به على أن المراد بالكَعْب في آية الوضوء العظم النَّاتىء في جانبي الرجل، كما مرَّ في باب مسح الرأس كله، وهذا التعليق طرف من حديث رواه أبو داود وَصَحَّحه ابن خُزَيْمَة، والنُّعمان مرَّ في الخامس والأربعين من الإيمان.

الحديث السابع والسبعون

الحديث السابع والسبعون حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي. وَكَانَ أَحَدُنَا يُلْزِقُ مَنْكِبَهُ بِمَنْكِبِ صَاحِبِهِ وَقَدَمَهُ بِقَدَمِهِ. رواه سَعِيد بن منصور, وصرح فيه بتحديث أنًس لِحُمَيْد , وصرح بأن الزيادة التي في آخره, وهي قوله: وكان أحدنا .. إلى آخره من قول أنس، وأخرجه الإِسماعيليّ بلفظ قال فلقد رأيت أحدنا إلى آخره وأفاد هذا التصريح أن الفعل المذكور كان في زمن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وبهذا يتم الاحتجاج به علي بيان المراد بإقامة الصف وتسويته، وزاد معمر في روايته: لو فعلت هذا اليوم بأحدهم لنفر كأنه بغل شموس، ومرَّ الكلام على أوله. رجاله أربعة: وقد مروا، مرَّ عمرو بن خالد في الخامس من الإيمان، وأنَس في السادس منه، وزُهَير في الثالث والثلاثين منه، وحُمَيد في الثاني والأربعين منه. ثم قال المصنف: باب إذا قام الرجل عن يسار الإمام وحوله الإمام خلفه إلى يمينه تمت صلاته قد مرت هذه الترجمة قبل بنحو عشرين بابًا، لكن ليس هناك لفظ خلفه، وقال هناك: لم تفسد صلاتهما بدل قوله "تمت صلاته" والضمير في صلاته يحتمل أن يكون للمأموم، أي فلا يضر وقوفه عن يسار الأمام أولا مع كونه في غير موقفه, لأنه معذور بعدم العلم بذلك الحكم، وتحتمل أن يكون الضمير للإمام، وتوجيهه أن الإمام وحدَه في مقام الصف، ومحاولته لتحويل المأموم فيه التفات ببعض بدنه، ولكن ليس ضارًا للمصلحة المذكورة، فصلاته على هذا لا نقص فيها من هذه الجهة، والظاهر كما في الفتح أن الحكمة في إعادة الترجمة هو أن حكمها مختلف لاختلاف الجوابين، فقوله في الأولى "لم تفسد صلاتهما" أي بالعمل الواقع منهما لكونه خفيفًا، وهو مصلحة الصلاة أيضًا. وقولة هنا: تمت صلاته، أي المأموم، ولا يضر وقوفه عن يسار الإمام أولًا إلى آخر ما مرَّ قريبًا.

الحديث الثامن والسبعون

الحديث الثامن والسبعون حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا دَاوُدُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضى الله عنهما قَالَ صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ لَيْلَةٍ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِرَأْسِي مِنْ وَرَائِي، فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ، فَصَلَّى وَرَقَدَ فَجَاءَهُ الْمُؤَذِّنُ، فَقَامَ وَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. وهذا الحديث مرَّ مرارًا عديدة، ومرَّ استيفاء الكلام عليه في باب قراءة القرآن بعد الحَدَث وغيره. وتكلم عليه أيضًا عند أول ذكره في باب السَّمَر في العلم، وفي باب التخفيف في الوضوء من كتاب الوضوء. رجاله خمسة: وقد مروا، إلا داود، مرَّ قُتَيْبة بن سَعِيد في الحادي والعشرين من الإيمان, ومرَّ عمرو بن دينار في الرابع والخمسين من العلم، ومر كَرِيب في الرابع من الوضوء، ومرَّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي. وأما داود فهو ابن عبد الرحمن العَطّار، أبو سُليمان المَكّيّ ذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال إبراهيم بن محمد الشافعيّ: ما رأيت أحدًا أعبد من الفُضَيل بن عِيّاض ولا أورع من داود بن عبد الرحمن، ولا أفرس في الحديث من ابن عُيَيْنة. وقال ابن حِبّان: كان متقنًا من فقهاء مكة وقال ابن سَعْد: كان كثير الحديث. وقال إسحاق بن منصور عن ابن مَعِين: ثقة, وقال أبو داود: ثقة. وقال العجليّ: مكيّ ثقة. وَوثّقَه البَزّار، قال في المقدمة: نقل الحاكم عن ابن مَعين تضعيفه، ولم يصح ذلك عن ابن معين، وقال الأزْدِيّ: يتكلمون فيه، والأزدي قد قررنا أنه لا يعتد به، ولم يخرج له البخاري سوى حديث واحد في الصلاة متابعةً، وروى له الباقون. روى عن هشام بن عُروة وعمرو بن دينار وابن جُريج وغيرهم. وروى عنه ابن المُبَارك وابن وَهْب والشافعيّ وقُتَيبةُ بن سعيد وغيرهم. ولد بمكة سنة مئة ومات سنة أربع أو خمس وسبعين ومئة. باب المرأة وحدها تكون صفا أي في حكم الصف، وبهذا يندفع اعتراض الإسماعيلي حيث قال: الشخص الواحد لا يسمى صفاً، وأقل ما يقوم الصف باثنين، ورد عليه أيضًا بأنه قيل في قوله تعالى {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا} [النبأ: 38]. إنّ الروح وحده صف، والملائكة صف، وأيضًا يُجاب بأن هذه الترجمة لفظ حديث أخرجه ابن عبد البَرّ عن عائشة مرفوعًا "المرأة وحدها صف".

الحديث التاسع والسبعون

الحديث التاسع والسبعون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ إِسْحَاقَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ صَلَّيْتُ أَنَا وَيَتِيمٌ فِي بَيْتِنَا خَلْفَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَأُمِّي أُمُّ سُلَيْمٍ خَلْفَنَا. قوله: عن إسحاق عن أَنَس وعند الإسماعيليّ "عن سفيان حدثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طَلْحة أنه سمع أَنَس بن مالك". وقوله: صَلّيت أنا ويتيم كذا للجميع، وما عند ابن فَتْحُون من قوله "صليت أنا وسُليم" بسين مُهملة ولام مصغرا تصحيف، واستدل بقوله: وصليت أنا واليتيم خلفه، على أن السنة في موقف الاثنين أن يصفا خلف الإمام، خلافًا لأبي يوسف القائل إن أحدهما يقف عن يمينه والآخر عن شماله، وحجته في ذلك حديث ابن مسعود، أخرجه أبو داود وغيره عنه أنه أقام علقمة عن يمينه، والأسود عن شماله، وأجاب عنه ابن سِيرين بأنَّ ذلك كان لضيق المكان، كما رواه الطّحاوي، أو أنه لم يبلغه حديث أنس. وقوله: وأمي أم سليم خلفنا، فيه أن المرأة لا تصف مع الرجال وأصله ما يخشى من الافتتان بها، فلو خالفت أجزأت صلاتها عند الجمهور، وعند الحَنَفِية تفسد صلاة الرجل دون المرأة، وهو عجيب واستدلوا له بقول ابن مسعود: "آخروهن من حيث آخرهن الله". أخرجه عبد الرَّزَّاق في مصنفه فقالوا في توجيهه: إن الأمر للوجوب، وحيث ظرف مكان، ولا مكان يجب تأخرهن فيه إلا مكان الصلاة، فإذا حاذت الرجل فسدت صلاته, لأنه ترك ما أمر به من تأخيرها. قال في "الفتح": وحكاية هذا تغني عن تكلف جوابه. قلت: ومن العجب بطلان صلاة الرجل في مذهبهم، دون المرأة التي هي الفاعلة للمخالفة. ثم قال: فقد ثبت النهي عن الصلاة في الثوب المغصوب، وأمر لابسه أن ينزعه، فلو خالف وصلى ولم ينزعه أثم, وأجزأته صلاته، فلم لا يقال في الرجل الذي حاذته المرأة ذلك؟ وأوضح منه لو كان لباب المسجد صفة مملوكة، فصلى فيها شخص بغير إذنه مع اقتداره على أن ينتقل عنها إلى أرض المسجد بخطوة واحدة، صحت صلاته وأثم. وكذا الرجل مع التي حاذته، ولاسيما إن جاءت بعد أن دخل في الصلاة فصلت بجنبه، وقال ابن رشيد: الأقرب أن البُخاري قصد أن يُبين أن هذا مستثنى من عموم حديث عَلِيّ بن شَيْبَان "استقبل صلاتك" وفي رواية "أعد صلاتك" فإنه لا صلاة لمنفرد خلف الصف وحده". أخرجه ابن حِبّان، يعني أن هذا مختص بالرجال، وأخرجه أيضًا ابن خُزَيْمَة. وفي صحته نظر, لأن رجاله غير مشهورين، واستدل به ابن بَطّال على

رجاله أربعة

صحة صلاة المنفرد خلف الصف قائلًا: لما ثبت ذلك للمرأة، كان للرجل أولى، لكن للمخالف أن يقول إنما ساغ لامتناع أن تصفّ مع الرجال بخلاف الرجل، فإن له أن يصف معهم وأن يزاحمهم، وأن يجذب رجلًا من حاشية الصف فيقوم معه، فافترقا، قاله في "الفتح". وقال ابن خُزَيْمَة: لا يصح الاستدلال به, لأن صلاة المرء خلف الصف وحده منهيّ عنها باتفاق، ممن يقول تجزئه أو لا تجزئه، وصلاة المرأة وحدها إذا لم تكن هناك امرأة أخرى مأمور بها باتفاق، فكيف يقاس مأمور على منهيّ، والظاهر أن الذي استدل به نظر إلى مطلق الجواز، حملًا للنهي على التنزيه والأمر على الاستحباب، وجواز صلاة المنفرد خلف الصف , هو قول مالك وأبي حَنِيفة والشافعيّ، واستدلوا بحديث أبي بكرة الآتي في باب "إذا ركع دون الصف" ففيه "أنه ركع قبل أن يصل إلى الصف"وفي ذلك إتيان بجزء من الصلاة خلف الصف, ولم يؤمر بالإعادة، لكن نهى عن العود إلى ذلك، فكأنه أرشد إلى ما هو الأفضل. وروى البَيْهَقيّ عن المُغِيرة عن إبراهيم، فيمن صَلّى خلف الصف وحده، فقال: صلاته تامة، وليس له تضعيف. وذهب إلى تحريمه أحمد وإسحاق وبعض محدِّثي الشافعية، كابن خُزَيْمَة، قائلين بإعادة الصلاة، واستدلوا بحديث أبي هُرَيرة، رواه الطَّبَرانيّ في الأوسط "أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- رأى رجلًا يصلّي خلف الصف وحده، فقال: أعد الصلاة" وبحديث وابِصَة بن مَعْبد، أخرجه أصحاب السنن، وصححه أحمد وابن خُزَيْمَةَ وغيرهما، "أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- رأى رجلاً يصلي خلف الصف وحده، فأمره أن يعيد الصلاة" وبحديث عليّ بن شَيبان المتقدم، وأجيب عن الأوَّلَين بأن الأمر فيهما للاستحباب، وبأن حديث واِبصَةَ قد قال أبو عمر إن فيه اضطرابًا، وقال الشافعيّ: في سنده اختلاف، وعن حديث شَيْبان بما مرَّ قريبًا. وجمع أحمد وغيره بين الأحاديث بوجه آخر، وهو أن حديث أبي بَكْرة مخصص لعموم حديث وابصة وما معه، فمن ابتدأ الصلاة منفردًا خلف الصف، ثم دخل في الصف قبل القيام من الركوع، لم تجب الإِعادة عليه، كما في حديث أبي بَكْرة، وإلا فتجب على عموم حديث وَابِصَة وغيره. وقول صاحب الفتح فيما مر "أو يجذب رجلًا من حاشية الصف" لعله مذهبه، وأما عندنا معاشر المالكية فجذبه لأحد مكروه، وإطاعة الجاذب له مكروهة أيضًا، ومحل جواز الانفراد خلف الصف إذا لم يجد فرجة في الصف وإلا كره الانفراد، وعند عدم الوجدان يحصل له فضل الجماعة وفضيلة الصف، وإلا حصل له فضل الجماعة دون الصف، وهذا الحديث قد مرَّ في باب الصلاة على الحصير، ومرجل مباحثه هناك. رجاله أربعة: وفيه ذكر اليتيم، وأم سلِيم، وقد مرَّ الجميع، مرَّ عبد الله بن محمد المسْنَدِيّ في الثاني من الإيمان, ومرَّ أنَس في السادس منه، ومرَّ سُفْيان بن عُيَيْنَة في الأول من بَدء الوحي، ومرَّ إسحاق بن

باب ميمنة المسجد والإمام

عبد الله بن أبي طَلْحَةَ في الثامن من العلم، ومرت أمُّ سُلَيم في السبعين منه، واليتيم ضُمَيْرَة بن أبي ضُمَيْرة، وقد مرَّ في الثاني والثلاثين من الصلاة. ثم قال المصنف: باب ميمنة المسجد والإمام

الحديث الثمانون

الحديث الثمانون حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا ثَابِتُ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا عَاصِمٌ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضى الله عنهما قَالَ قُمْتُ لَيْلَةً أُصَلِّي عَنْ يَسَارِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَأَخَذَ بِيَدِي أَوْ بِعَضُدِي حَتَّى أَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ، وَقَالَ بِيَدِهِ مِنْ وَرَائِي. أورد المصنف في هذه الترجمة حديث ابن عباس مختصرًا، وهو موافق لها إمّا للإمام, فبالمطابقة، وإما للمسجد فباللزوم، وتعقب بأن حديث الباب إنما ورد فيما إذا كان المأموم واحدًا، أما إذا كثروا، فلا دليل فيه على فضيلة ميمنة المسجد، وأجيب بأن البُخاريّ إنما وضع الترجمة على طبق ما في الحديث، وهو ما ذكرنا، ويدل على فضيلة ميمنة المسجد والإمام ما أخرجه النَّسائيّ بإسناد صحيح عن البراء، قال: "كنا إذا صلينا خلف النبي -صلى الله عليه وسلم- أحببنا أن نكون عن يمينه" ولأبي داود بإسناد حسن عن عائشة مرفوعًا "أن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف" وأما ما رواه ابن ماجَه عن ابن عمر قال: "قيل للنبي -صلى الله عليه وسلم-: إنّ مَيْسرة المسجد تعطلت، فقال: من عَمَر ميسرة المسجد كتب له كِفلان من الأجر" ففي إسناده مقال، وإن ثبت فلا يعارض الأول, لأنّ ما ورد لمعنى عارض يزول بزواله. وقوله: وقال بيده، أي تناول، ويدل عليه رواية الإسماعيلى "فأخذ بيدي"، وقوله: أو بعضدي، شك من الرّاوي، وقال الكِرْمَانيّ: الشك من ابن عبّاس، ويحتمل أن يكون من غيره، ووجه الجمع بين قوله "فأخذ بيدي" وبين قوله في باب إذا أَمَّ الرجل "فأخذَ برأسي" كون القضية متعددة، وإلا فوجهه أن يقال: أخذ أولًا برأسه ثم بيده، أو بعضده أو بالعكس، وقد مرَّ في باب "إذا قام الرجل" قريبًا المحال التي تكلم عليه فيها. رجاله خمسة: قد مروا إلا ثابت، مرَّ موسى بن إسماعيل في الخامس من بَدء الوحي، وابن عباس فيه أيضًا، ومرَّ الشَّعْبِيّ في الثالث من الإيمان, ومرَّ عاصم الأحول في الخامس والثلاثين من الوضوء. وأما ثابت، فهو ابن يَزيد الأحول أبو زَيد البَصْري، ذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال ابن مَعِين: ثقة، وقال أبو زُرْعَة: لا بأس به، وقال أبو حاتم: ثقة، أوثق من عبد الأعلى، وأحفظ من عاصم. وقال عَفّان: دلنا عليه شُعْبَةُ، وَوَثَّقَهُ أبو داود أيضًا، روى عن عاصم الأحْول وسُلَيمان التَّيْمِيّ

لطائف إسناده

وهلال بن خَبَّاب وغيرهم، وروى عنه أبو سَلَمة التَّبُوذَكِيّ ومُعَاوية بن عمرو وغارِم وغيرهم. مات سنة تسع وستين ومئة. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع والعنعنة والقول، وفي رواته من يلقب بالأحول عن الأحول، ورواته بصريون ما عدا الشَّعبيّ، فهو كُوفيّ. أخرجه ابن ماجَه. ثم قال المصنف: باب إذا كان بين الإمام وبين القوم حائط أو سترة أي هل يضر ذلك بالاقتداء؟ أم لا؟ والظاهر من تصرفه أنه لا يضر والمسألة ذات خلاف، ويأتي قريبًا تفصيله إن شاء الله. ثم قال: وقال الحسن لا بأسَ أنْ تُصلّي وبينكَ وبينهُ نهرٌ. قال في "الفتح": لم أره موصولًا بلفظه، وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح عنه ما يوافقه معنى، ولفظه "الرجل يصلي خلف الإمام أو فوق سطح يأتم به لا بأس بذلك" والحَسَن البَصْري قد مرَّ في الرابع والعشرين من الإيمان. ثم قال: وقالَ أبُو مِجْلَز: يأتمُّ بالإِمامِ وإنْ كانَ بينهما طريقٌ أو جدارٌ إذا سمعَ تكبيرَ الإمامِ. وحاصل ما في المسألة عند الأئمة هو أن فصل المأموم عن الأمام بنهر صغير أو طريق جائز عند المالكية، والمراد بالصغير ما يأمنون معه عدم سماع قول مأمومه أو رؤية فعل أحدهما، وكذلك السفن المتقاربة يكون الإمام في إحداهما تجزيهم الصلاة معه، وعند أبي حَنِيفة لا تجزئه إلا أن تكون الصفوف متصلة في الطريق، وبه قال اللَّيثُ والأوزاعيّ وأشْهَب. وفي الصحيح عند الشافعية يجوز الفصل بالنهر، سواء كان مُحْوجًا إلى سباحة أم لا، قال القَسْطَلانيّ: إذا جمعهما مسجد وعلم بصلاة الإمام بسماع تكبيره، أَو بتبليغ عنه جاز فأما النهر الصغير, وهو الذي يمكن العبور من أحد طرفيه إلى الآخر من غير سباحة، فلا يضر جزمًا. قال وَرَحبَةُ المسجد ملحقة به، وحكم المساجد المتلاصقة المتنافذة كمسجد على الأصح، وإن صلى خارج المسجد واتصلت به الصفوف جازت صلاته, لأن ذلك يعد جماعة، وإن انقطعت ولم يكن دونه حائل جازت إذا لم يزد ما بينهما على ثلاث مئة ذراع تقريبًا، وإن كانا في بناءين كصحن وصفة أو بيت فطريقان: أحدهما إن كان بناء المأموم يمينًا أو شمالًا وجب اتصال صف من أحد البناءين بالآخر, لأن اختلاف البناء يوجب كونهما متفرقين، فلابد من رابطة يحصل بها الاتصال، ولا تضر فرجة لا تسع واقفًا وإن كان بناء المأموم خلف بناء الإمام، فالصحيح صحة القُدوة، بشرط أن لا يكون بين الصفين أكثر من ثلاثة أذرع تقريباً. والطريق الثاني وصححها النَّوَوِيّ تبعًا لمعظم العِرَاقيين، لا يشترط إلا القرب، كالفضاء،

فيصح ما لم يزد ما بينه وبين آخر صف على ثلاث مئة ذراع إن لم يكن حائل، فإن كان بينهما حائل يمنع الاستطراق والمشاهدة، كالحائط، لم تصح باتفاق الطريقين, لأنّ الحائط مُعَدّ للفصل بين الأماكن، وإن منع الاستطراق دون المشاهدة بأنْ كان بينهما شُبّاك، فالأصح في أصل الروضة البطلان. وقالت الحنابلة: إن أمكن المأموم الاقتداء بإمامه، ولو كان بينهما فوق ثلاث مئة ذارع صح إن رأى الإمام، أو رأى من وراءه، وإن كان الإمام والمأموم في المسجد لم تشترط الرؤية، وكفى سماع التكبير، وإن كان بينهما نهر تجري فيه السفن، أو طريق، ولم تتصل فيه الصفوف، لم يصح الاقتداء، وألحق الآمِدِيّ بالنهر النار والبئر، وقيل: والسَّبعُ، وهذا التعليق وصله ابن أبي شَيْبَةَ عن لَيْث بن سُلَيم بمعناه، وليث ضعيف، وأَخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح، وأبو مِجْلَز بكسر الميم وسكون الجيم، اسمه لاحق بن حُمَيد بن سَعيد البَصريّ الأعور، من التابعين المشهورين، مات بظهر الكوفة سنة مئة أو إحدى ومئة.

الحديث الحادي والثمانون

الحديث الحادي والثمانون حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ فِي حُجْرَتِهِ، وَجِدَارُ الْحُجْرَةِ قَصِيرٌ، فَرَأَى النَّاسُ شَخْصَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَامَ أُنَاسٌ يُصَلُّونَ بِصَلاَتِهِ، فَأَصْبَحُوا فَتَحَدَّثُوا بِذَلِكَ، فَقَامَ اللَيْلَةَ الثَّانِيَةِ، فَقَامَ مَعَهُ أُنَاسٌ يُصَلُّونَ بِصَلاَتِهِ، صَنَعُوا ذَلِكَ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً، حَتَّى إِذَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَلَمْ يَخْرُجْ، فَلَمَّا أَصْبَحَ ذَكَرَ ذَلِكَ النَّاسُ فَقَالَ إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تُكْتَبَ عَلَيْكُمْ صَلاَةُ اللَّيْلِ. قوله: في حُجْرته، ظاهره أن المراد بيته، ويدل عليه ذكر جدار الحُجْرة في قوله "وجدار الحجرة قصير" وأوضح رواية حماد بن زَيْد عند أبي نُعيم بلفظ "كان يُصَلّي في حجرة من حجر أزواجه" والصحيح أنه ليس المراد بها بيته، وإنما المراد الحَصير التي كان يحتجرها بالليل في المسجد، فيجعلها على باب بيت عائشة، فيصلي فيه ويجلس عليه بالنهار، وورد هذا مبيناُ في كتاب اللباس عند المصنف عن عائشة بلفظ "كان يحتجر حصيرًا بالليل، فيصلي عليه، ويبسطه بالنهار فيجلس عليه"، ويحتمل أن يكون المراد الحجرة التي كان احتجرها في المسجد بالحصير، كما في الرواية التي بعد هذه، ورواية زيد بن ثابت التي بعدها. وقد قال النوويّ: معنى يحتجر، يحوّط موضعًا من المسجد بحصير يستره ليصلي فيه، ولا يمر بين يديه مار ليتفرغ قلبه، ويتوفر خشوعه، وتَعَقَّبَهُ الكِرْمَانيّ بأن لفظ الحديث لا يدل على أن احتجاره كان في المسجد. قال: ولو كان كذلك للزم أن يكون تاركًا للأفضل الذي أمر الناس به، حيث قال: "أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" ثم أجاب بأنه إن صح أنه كان في المسجد فهو إذا اعتبر صار كأنه بيت بخصوصيته أو أن السبب في كون صلاة التطوع في البيت أفضل عدم شوبه بالرياء غالبًا، والنبي -صلى الله عليه وسلم- منزه عن الرياء في بيته وغير بيته. ولأبي داود ومحمد بن نصر عن عائشة أنها هي التي نصبت له الحصير على باب بيتها، فإما أن يحمل على التعدد أو على المجاز في الجدار، وفي نسبة الحجرة إليها. وقوله: فقام ناس، في رواية الكُشْمِيْهَنيّ: فقام أناس، وهذا موضع الترجمة, لأن مقتضاه أنهم كانوا يصلون بصلاته، وهو داخل الحجرة، وهم خارجها. وقوله: فقام ليلة الثانية، كذا للأكثر بإضافة ليلة إلى الثانية، وفيه حذف تقديره ليلة الغداة الثانية، وقيل: هو من باب إضافة الموصوف إلى صفته. وفي رواية الأصيليّ "فقام الليلة الثانية".

وقوله: صنعوا ذلك ليلتين أو ثلاثًا، وفي رواية التهجد "ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة" رواه مالك بالشك، وفي رواية الجمعة "فصلى رجال بصلاته، فأصبح الناس فتحدثوا" وفي هذه الرواية التي هنا "فأصبحوا فتحدثوا بذلك" ولمسلم يتحدثون بذلك، ولأحمد "فلما أصبح تحدثوا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- في المسجد من جوف الليل، فاجتمع أكثر منهم" زاد يونس "فخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- في الليلة الثانية، فصلوا معه فأصبح الناس يذكرون ذلك، فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج فصلوا بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله" ولابن جريج "حتى كان المسجد يعجز عن أهله" ولأحمد "امتلأ المسجد حتى اغتص بأهله" وله أيضًا "فلما كانت الليلة الرابعة غص المسجد بأهله". وقوله: فلم يخرج زاد أحمد عن ابن جريج "حتى سمعت" يعني عائشة "ناسًا منهم يقولون: الصلاة"، وفي رواية فقالوا ما شابه، وفي حديث زيد بن ثابت في الاعتصام "فقدوا صوته وظنوا أنه قد نام، فجعل بعضهم يتنحنح ليخرج إليهم" وفي حديثه في الأدب "فرفعوا أصواتهم، وحصبوا الباب" وقوله: فلما أصبحَ ذكر ذلك الناس، أي له، وأفاد عبد الرزاق عن عُروة أن الذي خاطبه بذلك عمر بن الخَطّاب، رضي الله تعالى عنه. وفي رواية التهجد "فلما أصبح قال: قد رأيت الذي صنعتم" وفي رواية عقيل في الجمعة "فلما قضى صلاة الفجر أقبل على الناس، فتشهَّد ثمّ قال: أما بعد، فإنيّ لم يخف عليّ مكانكم" وفي رواية يونُس وابن جُرَيج "لم يخف عليّ شأنكم" وفي رواية أبي سلمة "اكلفوا من العمل ما تُطيقون" وليس في شيء من طرقه بيان عدد صلاته في تلك الليلة، لكن روى ابن خُزَيْمَة وابن حِبّان عن جابر قال: "صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رمضان ركعات، ثم أوتر، فلما كانت القابلة اجتمعنا في المسجد، ورجونا أن يخرج إلينا حتى أصبحنا، ثم دخلنا فقلنا: يا رسول الله .. " الحديث. فإن كانت القصة واحدة، احتمل أن يكون جابر ممن جاء في الليلة الثالثة، فلذلك اقتصر على وصف ليلتين. وعند مسلم عن أنس "كان رسول الله-صلى الله عليه وسلم- يصلي في رمضان، فجئت فقمت إلى جنبه، فجاء رجل فقام حتى كنا رهطًا، فلما أحس بنا تجوّز ثم دخل رحله" الحديث. والظاهر أن هذا كان في قصة أخرى. وقوله: إني خشيت أن تكتب عليكم صلاة الليل، وفي رواية التهجد، "إلَّا أني خشيت أن تفرض عليكم" وتكتب معناها تفرض، وهو ظاهر في أن عدم خروجه إليهم كان لهذه الخشية، لا لكون المسجد امتلأ وضاق على المصلين. وفي رواية عَقِيل وابن جُرَيج ويونُس زيادة "فتعجزوا عنها، أي تشق عليكم فتتركوها مع القدرة عليها، وليس المراد العجز الكليّ, لأنه يسقط التكليف من أصله، ثم إن ظاهر الحديث أنه عليه الصلاة والسلام توقع ترتب افتراض الصلاة بالليل جماعة على وجود المواظبة عليها، وفي ذلك إشكال، وقد بناه بعض المالكية على قاعدتهم في أن الشروع ملزم، وفيه نظر.

وأجاب المحب الطبريّ بأنه يحتمل أن يكون الله عَزَّ وَجَلَّ أوحى إليه أنك إن واظبت على هذه الصلاة معهم، افترضتها عليهم، فأحب التخفيف عنهم، فترك المواظبة. قال: ويحتمل أن يكون ذلك وقع في نفسه كما اتفق في بعض القُرَب التي داوم عليها، فافترضت. وقيل: خشي أن يظن أحد من الأمة من مداومته عليها الوجوب، وإلى هذا نحا القُرْطُبيّ فقال: قوله فتفرض عليكم، أي تظنونه فرضًا، فيجب على من ظن ذلك، كما إذا ظن المجتهد، حل شيء أو تحريمه فإنه يجب عليه العمل به. قلت: ما قاله القُرْطُبيّ مغاير لما قاله المحب الطَّبَريّ كما يفهم ذلك مَن تأمله، ثم قال القُرْطُبيّ: وقيل: كان حكم النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه إذا واظب على شيء من أعمال البر، واقتدى الناس به فيه أنه يفرض عليهم، ولا يخفى بعد هذا الأخير, لأنه عليه الصلاة والسلام قد واظب على رواتب الفرائض، وتابعه أصحابه، ولم تفرض. وقال ابن بَطّال: يحتمل أن يكون هذا القول صدر منه صلى الله عليه وسلم، لمّا كان قيام الليل فرضًا عليه دون أمته، فخشي إن خرج إليهم والتزموا معه قيام الليل أن يسوي الله بينه وبينهم في حكمه, لأنّ الأصل في الشرع المساواة بين النبيّ -صلى الله عليه وسلم- وبين أمته في العبادة. قال: ويحتمل أن يكون خشي من مواظبتهم عليها أن يضعفوا عنها، فيعصي من تركها بترك اتباعه عليه الصلاة والسلام، وقد استشكل الخطابيّ أصل هذه الخشية مع ما ثبت في حديث الإسراء، من أن الله تعالى قال: "هن خمس، وهن خمسون، لا يبدل القول لديّ" فإذا أمن التبديل، فكيف يقع الخوف من الزيادة؟ وهذا يدفع في صدور الأجوبة التي تقدمت. وقد أجاب عنه الخطابيّ بأن صلاة الليل كانت واجبة عليه صلى الله تعالى عليه وسلم، وأفعاله الشرعية يجب على الأمة الاقتداء به فيها، أي عند المواظبة، فترك الخروج إليهم لئلا يدخل ذلك في الواجب من طريق الأمر بالاقتداء به، لا من طريق إنشاء فرض جديد زائد على الخمس، وهذا كما يوجب المرء على نفسه صلاة نذر فتجب عليه، ولا يلزم من ذلك زيادة فرض في أصل الشرع. قلت: ما قاله الخَطّابيّ هنا هو ما مرَّ عن ابن بطال، إلا أنه هو زاد أن الأمة يجب عليها الاقتداء به عليه عليه الصلاة والسلام في أفعاله الشرعية، ولم أعلم أحدًا من العلماء قال: إن الأمة يجب عليها ما هو واجب عليه عليه الصلاة والسلام بالخصوص، ثمّ قال: وفيه احتمال الآخر، وهو أن الله فرض الصلاة خمسين، ثم حط معظمها بشفاعة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، فإذا عادت الأمة فيما استوهب لها والتزمت ما استعفى لهم نبيهم عليه الصلاة والسلام منه، لم يستنكر أن يثبت ذلك فرضًا عليهم، كما التزم ناس الرهبانية من قِبَل أنفسهم ثم عاب الله عليهم التقصير فيها، فقال: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: 27]، فخشي صلى الله تعالى عليه وسلم أن يكون سبيلهم سبيل أولئك، فقطع العمل شفقة عليهم من ذلك. قال في "الفتح": وقد تلقى هذين الجوابين من الخَطَّابِيّ جماعة من الشُّرَّاح كابن الجَوْزِيّ,

وهو مبني على أن قيام الليل كان واجبًا عليه صلى الله تعالى عليه وسلم، وعلى وجوب الاقتداء بأفعاله، وفي كل متن الأمرين نزاع قلت: أما قيام الليل فهو عندنا واجب عليه صلى الله تعالى وسلم من خصائصه، وأما وجوب اتباعه عليه الصلاة والسلام في جميع أفعاله فلم أر من قاله. وأجاب الكِرْمَانِيّ بأن حديث الإسراء يدل على أن المراد بقوله تعالى {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} [ق: 29] إلا من نقص شيء من الخمس، ولم يتعرض للزيادة، لكن في ذكر التضعيف بقوله "هن خمس وهن خمسون" إشارة إلى عدم الزيادة أيضًا, لأنّ التضعيف لا ينقص عن العشر، ودفع بعضهم في أصل السؤال بأن الزمان كان قابلًا للنسخ، فلا مانع من خشية الافتراض، وفيه نظر, لأنّ قوله {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} [ق: 29] خبر، والنسخ لا يدخله على الراجح. وذكر في "الفتح" ثلاثة أجوبة: أحدها: يحتمل أن يكون المخوف افتراض قيام الليل، بمعنى جعل التهجد في المسجد شرطًا في صحة التنفل بالليل، ويومىء إليه قوله في حديث زيد بن ثابت "حتى خَشِيْتُ أنْ يُكْتَبَ عليكم، ولو كُتِب عليكم ما قمتم به، فصلوا أيها الناس في بيوتكم" فمنعهم من التجميع في المسجد إشفاقًا عليهم من اشتراطه، وأمن مع إذنه في المواظبة على ذلك في بيوتهم من افتراضه عليهم. ثانيها: يحتمل أن يكون المخوف افتراض قيام الليل على الكفاية لا على الأعيان، فلا يكون ذلك زائداً على الخمس، بل هو نظير ما ذهب إليه قوم في العيد ونحوها. ثالثها: يحتمل أن يكون المَخُوف افتراض قيام رمضان خاصة، فقد وقع في رواية التهجد أن ذلك كان في رمضان، وفي رواية سُفيان بن حُسَين "خشيت أن يفرض عليكم قيام هذا الشهر" فعلى هذا يرتفع الإشكال, لأن قيام رمضان لا يتكرر كل يوم في السنة، فلا يكون ذلك قدرًا زائداً على الخمس. قال في "الفتح": وأقوى هذه الأجوبة في نظري الثلاثة الأُول. وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم، ندب قيام الليل، ولاسيما في رمضان جماعة؛ لأن الخشية المذكورة أمنت بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-, ولذلك جمعهم عمر بن الخطاب على أُبيّ بن كَعْب رضي الله تعالى عنهما، كما يأتي في الصيام إن شاء الله تعالى، وفيه جواز الفرار من قدر الله إلى قدر الله، وفيه أن الكبير إذا فعل شيئًا خلاف ما اعتاده أتباعه، أن يذكر لهم عذره وحكمه والحكمة فيه. وفيه ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه عليه من الزهد في الدنيا، والاكتفاء بما قل منها، والشفقة على أمته والرأفة بهم، وفيه ترك بعض المصالح خوف المَفْسَدَة، ونقديم أهم المصلحتين، وفيه جواز الاقتداء بمن لم ينو الإمامة، كما مرَّ مستوفى في باب إذا لم ينو الإمام أن يؤم، وفيه ترك الأذان والإقامة للنوافل إذا صليت جماعة.

رجاله خمسة

رجاله خمسة: مروا كلهم، مرَّ محمد بن سَلَام وَعَبْدَة بن سُلَيمان في الثالث عشر من الإيمان, ومرَّ يحيي بن سعيد في الأول من بَدء الوحي، ومرت عائشة في الثاني منه، ومرت عَمرة بنت عبد الرحمن في الثاني والثلاثين من الحيض. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الإفراد والإخبار بصيغة الجمع، والقول والعنعنة، ورواية التابعي عن التابعية عن الصحابية، ورواته ما بين بيْكَندِيّ وبُخاريّ وكوفيّ ومَدَنيّ. وشيخ البُخاريّ من أفراده. أخرجه أبو داود في الصلاة أيضًا. ثم قَال المصنف: باب صلاة الليل ليست هذه الترجمة في غير رواية المستملي، والوجه حذفها, لأن التراجم متعلقة بأبواب الصفوف وإقامتها، ولما كانت الصلاة بالحائل يتخيل أنها مانعة من إقامة الصفوف ترجم لها، وأورد ما عنده فيها، فأما صلاة الليل بخصوصها فلها كتاب مفرد، وسيأتي في أواخر الصلاة، وكأنّ النسخة وقع فيها تكرير لفظ صلاة الليل، وهي الجملة التي في آخر الحديث الذي قبله، فظن الراوي أنها ترجمة مستقلة، فصدرها بلفظ "باب" ويحتمل أن يكون المراد صلاة الليل جماعة، فحذف لفظ "جماعة". والذي يأتي في أبواب التهجد إنما هو حكم صلاة الليل وكيفيتها في عدد الرَّكَعَات، أو في البيت أو في المسجد أو نحو ذلك.

الحديث الثاني والثمانون

الحديث الثاني والثمانون حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنِ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ رضى الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ لَهُ حَصِيرٌ يَبْسُطُهُ بِالنَّهَارِ، وَيَحْتَجِرُهُ بِاللَّيْلِ، فَثَابَ إِلَيْهِ نَاسٌ، فَصَلَّوْا وَرَاءَهُ. قوله: ويحتجره بالليل، كذا للأكثر بالراء، أي يتخذه مثل الحجرة، وفي رواية الكُشْمِيْهَنيّ بالزايّ، أي يجعله حاجزاً بينه وبين غيره. وقوله: فثاب، أي بمثلثة موحدة، اجتمعوا، وعند الخَطّابيّ "آبوا" أي رجعوا وللكُشْمِيْهَنيّ والسرْخَسِيّ "فثار" بالثاء والراء، أي قاموا. وقوله: فصلوا وراءه، كذا أورده مختصرًا، وغرضه بيان أن الحجرة المذكورة في الرواية التي قبل هذه كانت حصيرًا، وقد مرَّ ما قيل في ذلك في الحديث الذي قبله، ومرت مباحثه مستوفاة فيه، وقد ساقه الإِسماعيليّ من وجه آخر عن ابن أبي ذِئْب تامًا. رجاله ستة: مروا جميعًا، مرَّ إبراهيم بن المُنْذر في الأول من العلم، ومرَّ محمد بن أبي الفُدَيْكَ ومحمد بن أبي ذِئْب في الستين منه، ومرَّ سَعيد بن أبي سَعيد المَقْبَريّ في الثاني والثلاثين من الإيمان، ومرَّ أبو سَلَمةَ في الرابع من بَدء الوحي، ومرت عائشة في الثاني منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع والعنعنة والقول، ورواته كلهم مدنيون، وشيخ البخاريّ من أفراده، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ عن الصحابية. أخرجه البُخاريّ في اللباس أيضًا عن محمد بن أبي بكر، ومُسْلم والتِّرمِذِيّ والنَّسائيّ وابن ماجَه في الصلاة.

الحديث الثالث والثمانون

الحديث الثالث والثمانون حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ قَالَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ قَالَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمٍ أَبِي النَّضْرِ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- اتَّخَذَ حُجْرَةً قَالَ حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ مِنْ حَصِيرٍ فِي رَمَضَانَ فَصَلَّى فِيهَا لَيَالِيَ، فَصَلَّى بِصَلاَتِهِ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا عَلِمَ بِهِمْ جَعَلَ يَقْعُدُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: قَدْ عَرَفْتُ الَّذِي رَأَيْتُ مِنْ صَنِيعِكُمْ، فَصَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ أَفْضَلَ الصَّلاَةِ صَلاَةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلاَّ الْمَكْتُوبَةَ. قوله: حجرة، للأكثر بالراء، وللكُشْمِيْهنيّ بالزاي. وقوله: من صنيعكم، كذا للأكثر، وللكُشْمِيْهَنيّ بضم الصاد وسكون النون، وليس المراد به صلاتهم فقط، بل كونهم رفعوا أصواتهم وسبحوا به ليخرج إليهم، وحصب بعضهم الباب لظنهم أنه نائم، كما في الباب الذي قبله مستوفى. وقوله: أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة، ظاهره يشمل جميع النوافل, لأنّ المراد بالمكتوبة المفروضة، لكنه محمول على ما لا يشرع فيه التجميع، وكذا على ما لا يخص المسجد، كركعَتَيْ التحية وركعَتَيْ الطواف، كما قاله بعض أئمة الشافعية ويحتمل أن يكون المراد بالصلاة ما يشرع في البيت وفي المسجد معًا، فلا تدخل تحية المسجد لأنها لا تشرع في البيت، وأن يكون المراد بالمكتوبة ما تشرع فيه الجماعة، وهل يدخل ما وجب بعارض كالمنذورة؟ فيه نظر. أو المراد بالمكتوبة الصلوات الخمس، لا ما وجب بعارض، كالمنذورة. ويستثنى من قوله: إلا المكتوبة، النِّساءَ فَفِعْلُها في البيت أفضل لهن، لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم، فيما أخرجه مسلم "لا تمنعوهُنَّ المساجدَ وبيوتهنَّ خَيْرٌ لهن" وظاهره أن فعلها في البيت أفضل من المساجد، ولو كان أحد المساجد الثلاثة. وقد ورد التصريح بذلك في إحدى روايتي أبي داود لحديث زبد بن ثابت، فقال فيه: صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا، وإسنادها صحيح. قال النّوَوِيّ: إنما حث على النافلة في البيت لكونه أخفى وأبعد من الرياء، وليتبرك البيت بذلك، فتنزل فيه الرحمة، وينفر منه الشيطان، وعلى هذا يمكن أن يخرج بقوله في بيته بيت غيره، لما فيه من الرياء، وقد مرَّ بعض مباحث هذا الحديث في باب كراهية الصلاة في المقابر عند ذكر حديث ابن عمر هناك.

رجاله ستة

رجاله ستة: قد مروا، مرَّ عبد الأعلي بن حَمّاد في الرابع والثلاثين من الغُسْل، ووُهَيب بن خالد في السادس والعشرين من العلم، ومرَّ موسى بن عُقْبة في الخامس من الوضوء , ومرَّ سالم أبو النَّضْر في السابع والستين من الوضوء ومرَّ بُسْر بن سعيد في التاسع والستين من أبواب استقبال القبلة، ومرَّ زَيْد بن ثابت في تعليق بعد الثاني والعشرين من كتاب الصلاة. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع والعنعنة، وفيه ثلاثة مدنيون على نَسَق واحد من التابعين، أولهم موسى بن عُقْبَة، ووُهَيْب بَصْريّ، وعبد الأعلى بَصْريّ، سكن بغداد. وأخرجه البُخاريّ أيضًا في الاعتصام عن إسحاق، وفي الأدب عن محمد بن زِيَاد. وأخرجه مسلم وأبو داود والتِّرمذيّ والنَّسائيّ في الصلاة.

الحديث الرابع والثمانون

الحديث الرابع والثمانون قَالَ عَفَّانُ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا مُوسَى سَمِعْتُ أَبَا النَّضْرِ عَنْ بُسْرٍ عَنْ زَيْدٍ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-. وهذا أخرجه المؤلف في كتاب الاعتصام بواسطة بينه وبين عفان، وفائدة هذه الطريق بيان سماع موسى بن عُقْبَةَ من أبي النَّضْر، وهذا هنا في رواية كَرِيمة وحدها، ولم يذكره الإسماعيليّ ولا أبو نعِيم. رجاله رجال الذي قبله، إلا شيخ البُخاريّ، فإنه عَفّان بن مُسْلِم، وقد مرَّ في الحادي والمئة من الوضوء.

خاتمة

خاتمة قال في "الفتح": اشتملت أبواب الجماعة والإِمامة من الأحاديث المرفوعة على مئة واثنين وعشرين حديثًا، الموصول منها ستة وتسعون، والمُعَلَّق ستة وعشرون، والمُكَرَّر منها ما فيه وفيما مضى تسعون حديثًا الخاص اثنان وثلاثون، وافقه مسلم على تخريجها سوى تسعة أحاديث، وهي حديث أبي سعيد في فضل الجماعة، وحديث أبي الدرداء "ما أعرف شيئًا" وحديث أَنَس "كان رجل من الأنصار ضخماً" وحديث مالك بن الحُوَيْرث في صفة الصلاة، وحديث ابن عمر "لمّا قَدِم المهاجرون" وحديث أبي هُريرة "يصلون فإن أصابوا" وحديث النعمان المُعَلَّق في الصفوف، وحديث أَنَس "كان أحدنا يلزِقْ مَنْكِبه" وحديثه في إنكاره إقامة الصفوف. وفيه من الآثار عن الصحابة والتابعين سبعة عشر أثرًا كلها معلقة، إلا أثر ابن عمر أنه كان يأكل قبل أن يصلي، وأثر عثمان "الصلاة أحسن ما يعمل الناس" فإنهما موصولان، والله تعالى أعلم، وما ذكره من عدد الأحاديث الموصولة عهدته عليه، فالذي هو مذكور من العدد في هذا الكتاب ما ترى، أربعة وثمانين. تم، ويليه كتاب أبواب صفة الصلاة

أبواب صفة الصلاة

بسم الله الرحمن الرحيم أبواب صفة الصلاة لما فرغ المؤلف رحمه الله تعالى من بيان أحكام الجماعة والأمامة وتسوية الصفوف، شرع في بيان صفة الصلاة وما يتعلق بذلك فقال: " باب إيجاب التكبير وافتتاح الصلاة" قيل أطلق الإيجاب والمراد الوجوب، تجوزًا لأنّ الإيجاب خطاب الشارع، والوجوب: ما يتعلق بالمكلف، وهو المراد هنا، والواو في قوله وافتتاح الصلاة قيل عاطفة إما على المضاف وهو إيجاب، أو على المضاف إليه وهو التكبير، والأول أولى إن كان المراد بالافتتاح الدعاء، لكنه لا يجب، وقيل الواو بمعنى: مع، والمراد بالافتتاح: الشروع في الصلاة أي: مع الشروع في الصلاة، ومجيء الواو بمعنى مع شائع ذائع، وقيل بمعنى: باء الجر كما في قولهم أنت أعلم ومالك، أي: بمالك، أو بمعنى لام التعليل أي: ايجاب التكبير لأجل افتتاح الصلاة، وقد يجوز إتيانها بمعنى لام التعليل الخارزنجي ويتعيّن على القادر الله أكبر فلا يقوم مقامه تسبيح ولا تهليل، وهذا مذهب المالكية والشافعية والحنابلة، فلا يكفي الله الكبير، ولا الرحمن أكبر، لكن عند الشافعية لا تضر زيادة لا تمنع الاسم كالله الجليل أكبر على الأصح، ومن عجز عن التكبير ترجم عنه بأي لغة شاء، ولا يعدل عنه إلى غيره من الأذكار. وقال الحنفية ينعقد بكل لفظ يقصد به التعظيم. وقال أبو يوسف: إن كان المصلّي يحسن التكبير لم تجز إلَّا الله أكبر أو الله الأكبر أو الله الكبير، وإن لم يحسن جاز، وهل تكبيرة الأحرام ركن أو شرط؟ قال بالأول الشافعية والمالكية والحنابلة، وقال الحنفية بالثانية، وهو وجه عند الشافعية وقيل سنّة. وقال ابن المنذر عن الزهري: تنعقد بالنية بلا تكبير. قال ابن المنذر: لم يقل به أحد غير الزهري، ونقله غيره عن سعيد بن المسيب، والأوزاعي، ومالك، ولم يثبت عن أحد منهم تصريحًا وإنما قالوا فيمن أدرك الإمام راكعًا تجزئه تكبيرة الركوع، نعم نقله الكرخي من الحنفية عن إبراهيم بن علية وأبي بكر الأصم ومخالفتهما للجمهور كثيرة،

ولم يختلف في ايجاب النية في الصلاة، وقد أشار المصنف إلى ذلك في أواخر كتاب الإيمان حيث قال: "باب ما جاء في قول النبي -صلى الله عليه وسلم- الأعمال بالنية"، فدخل فيه الإيمان والوضوء والصلاة والزكاة إلى آخر كلامه، قلت: تحرير مذهب مالك في تكبيرة الإحرام ان الإتيان بها واجب من قيام إلاَّ لمسبوق وجد إمامه راكعًا ففيه قولان. إذا فعل بعض تكبيرة الإحرام في حال قيامه، أو أتمّه في حال انحطاطه، أو بعده من غير فصل بين أجزائه، فهل يعتد بتلك الركعة بناء على أن القيام لها واجب في حق غير المسبوق؟ أو لا يعتد بها بناء على أنه واجب لها مطلقًا وصلاته صحيحة على كل حال؟ والقولان جاريان فيمن نوى بتكبيرة العقد أي: الدخول في الصلاة، أو نواه والركوع، أو لم ينوهما أي: لأنه إذا لم ينوهما ينصرف للأصل وهو العقد، وإذا لم ينو ناسيًا بطلت، ولكنه يتمادى على صلاة باطلة، وإن لم يكبّر رأسًا استانف الصلاة، وإذا كبّر في حال الانحطاط وأتمه في حال الانحطاط أو بعده بلا فصل أو مع فصل أي: طويل فهي صحيحة في الأوليين باطلة في الثالثة. واستدل الجمهور على تعين لفظ التكبير دون غيره من ألفاظ التعظيم بحديث عائشة: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يفتتح الصلاة بالتكبير"، وبحديث ابن عمر الآتي بعد بابين: "رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- افتتح التكبير في الصلاة"، وبحديث رفاعة في قصة المسيء صلاته، أخرجه أبو داود وبلفظ: "لا تتم صلاة أحد من الناس حتى يتوضأ، فيضع الوضوء مواضعه ثم يكبّر"، ورواه الطبراني بلفظ: "ثم يقول الله أكبر"، وبحديث أبي حميد: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قام إلى الصلاة اعتدل قائمًا، ورفع يديه ثم قال: الله أكبر". أخرجه ابن ماجه وصححه ابن خزيمة وابن حبان. وهذا فيه بيان المراد بالتكبير وهو قول الله أكبر. وروى البزار بإسناد صحيح على شرط مسلم، عن علي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا قام إلى الصلاة قال: الله أكبر. ولأحمد والنسائي عن واسع بن حيّان، أنه سأل ابن عمر عن صلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: الله أكبر كلما وضع ورفع. وبحديث البخاري المتقدم: "صلوا كما رأيتموني أصلي". وقال الحنفية مجيبين عن هذه الأحاديث: إن التكبير هو التعظيم من حيث اللغة، كما في قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} أي: عظّمنه، وربّك فكبّر: أي فعظّم. فكل لفظ دلّ على التعظيم وجب أن يجوز الشروع به.

الحديث الأول

الحديث الأول حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ الأَنْصَارِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَكِبَ فَرَسًا، فَجُحِشَ شِقُّهُ الأَيْمَنُ، قَالَ أَنَسٌ رضى الله عنه: فَصَلَّى لَنَا يَوْمَئِذٍ صَلاَةً مِنَ الصَّلَوَاتِ وَهْوَ قَاعِدٌ، فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ قُعُودًا، ثُمَّ قَالَ لَمَّا سَلَّمَ: إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. فَقُولُوا رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ. قد أورد المصنّف حديث أنس: إنما جعل الأمام ليؤتم به من وجهين، ثم حديث أبي هريرة في ذلك، واعترضه الإسماعيلي، فقال: ليس في الطريق الأول ذكر التكبير ولا في الثاني والثالث بيان إيجاب التكبير، وإنما فيه الأمر بتأخير تكبير المأموم عن الإمام. قال: ولو كان ذلك إيجاباً للتكبير لكان قوله: فقولوا ربنا ولك الحمد، إيجاباً لذلك على المأموم، وأجيب عن الأول بأن مراد المصنّف أن يبين أن حديث أنس من الطريقين واحد اختصره شعيب وأتمّه الليث، وإنما احتاج إلى ذكر الطريق المختصرة لتصريح الزهري فيها بأخبار أنس له، وعن الثاني بأنه -صلى الله عليه وسلم- فعل ذلك وفعله بيان لمحل الصلاة وبيان الواجب واجب، كذا وجهه ابن رشيد وتعقب بالاعتراض الثالث وليس بوارد على البخاري لاحتمال أن يكون قائلًا بوجوبه كما قال به شيخه إسحاق بن راهويه. وقيل في الجواب أيضًا، إذا ثبت إيجاب التكبير في حالة من الأحوال طابق الترجمة ووجوبه على المأموم ظاهر من الحديث وأما لإمام فمسكوت عنه، ويمكن أن في السياق إشارة إلى الإيجاب لتعبيره بإذا التي تختص بما يجزم بوقوعه، وأجاب العيني عن اعتراض الإسماعيلي بأن الكل من حديثي شعيب والليث عن الزهري عن أنس حديث واحد. وقد ذكر في حديث الليث: وإذا كبّر فكبّروا، وهو مقدر في حديث شعيب, لأنّ قوله إذا ركع فاركعوا يستدعي سبق التكبير بلا شك، والمقدر كالملفوظ فيظهر التطابق بين ترجمة الباب وحديثه لأن الأمر بالتكبير صريح في أحدهما مقدر في الآخر، والأمر به للوجوب فدل على الجزء الأول من الترجمة وهو قوله: باب إيجاب التكبير بالمطابقة، وعلى الثاني وهو قوله: وافتتاح الصلاة باللزوم لأن التكبير في أول الصلاة لا يكون إلا عند افتتاحها، وافتتاحها هو الشروع فيها، قال: فبهذا عرفت أن اعتراض الإسماعيلي على البخاري ليس بشيء، وعرفت أن قول صاحب التلويح وافتتاح

رجاله أربعة

الصلاة ليس في ظاهر الحديث ما يدل عليه ليس بشيء أيضًا، وفي رواية المستملى وحده في طريق شعيب عن الزهري: وإذا سجد فاسجدوا، وقد مرَّ الكلام على أول هذا الحديث مستوفى غاية الاستيفاء، سمع الله لمن حمده في باب: إنما جعل الإمام ليؤتم به. رجاله أربعة: قد مرّوا، مرَّ أبو اليمان وشعيب في السابع من بدء الوحي، ومرَّ الزهري في الثالث منه، ومرَّ أنس في السادس من الإيمان, فيه التحديث بالجمع والإخبار بالجمع والإفراد. ورواته حمصيان ومدنيان.

الحديث الثاني

الحديث الثاني حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّهُ قَالَ خَرَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ فَرَسٍ فَجُحِشَ فَصَلَّى لَنَا قَاعِدًا فَصَلَّيْنَا مَعَهُ قُعُودًا، ثُمَّ انْصَرَفَ فَقَالَ: إِنَّمَا الإِمَامُ أَوْ إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا. قوله: "فلما انصرف" في رواية الكشميهني ثم انصرف بدل فلما انصرف وكذلك زيادة الواو في قوله: "ربنا ولك الحمد" وهذا الحديث هو الذي قبله، وقد مرَّ ذكر محل الكلام عليه في الذي قبله. رجاله أربعة: قد مرّوا مرَّ ذكر محل الزهري وأنس في الذي قبله، ومرَّ قتيبة بن سعيد في الحادي والعشرين من الإيمان, ومرّ الليث في الثالث من الوحي.

الحديث الثالث

الحديث الثالث حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. فَقُولُوا رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ. وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا، وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ". قوله: "إنما جعل الإمام" سقط لفظ جعل عند السرخسي في هذا الحديث. ورجاله خمسة: قد مروا، مرّ أبو اليمان، وشعيب في السادس من بدء الوحي، ومرّ أبو الزناد والأعرج في السابع من الإيمان, ومرَّ أبو هريرة في الثاني منه، ثم قال المصنف: باب رفع اليدين في التكبيرة الأولى مع الافتتاح سواء: أي: حال كون رفع اليدين مع الافتتاح متساويين.

الحديث الرابع

الحديث الرابع حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلاَةَ، وَإِذَا كَبَّرَ لِلرُّكُوعِ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ رَفَعَهُمَا كَذَلِكَ أَيْضًا وَقَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ. وَكَانَ لاَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السُّجُودِ. قوله: في الترجمة سواء، هو ظاهر قوله في الحديث يرفع يديه إذا افتتح الصلاة، وفي رواية شعيب الآتية بعد باب يرفع يديه حين يكبر، وهذا دليل على المقارنة، وقد ورد تقديم الرفع على التكبير وعكسه، أخرجهما مسلم فروى حديث الباب عن ابن شهاب بلفظ رفع يديه ثم كبّر، وروى حديث مالك بن الحويرث كبّر ثم رفع يديه، وفي المقارنة وتقديم الرفع على التكبير خلافٌ بين العلماء، وأما تقديم التكبير على الرفع فلم أر من قال به، ورجح الأول حديث وائل بن حجر عند أبي داود بلفظ رفع يديه مع التكبير وهو المرجح عند الشافعية والمالكية. وقضية المعية أنه ينتهي بانتهائه، وهو الذي صححه النووي في شرح المهذب ونقله عن نص الشافعي وهو المرجح عند المالكية، وصحح في الروضة تبعًا لأصلها أنه لا حد له لانتهائه، وقال صاحبُ الهدايةِ: الأصح عندَ الحنفيةِ يرفعُ يَدَيْهِ، ثمَّ يكبّر, لأنّ الرفعَ نفيُ صفة الكبرياء عن عبد الله، والتكبيرُ إثباتُ ذلك له، والنفيُ سابقٌ على الإِثباتِ كما في كلمة الشهادة، وهذا مبني على أن الحكمة في الرفع ما ذُكر. وقد قيل: الحكمةُ في اقترانهما أن يراه الأصمّ ويسمعه الأعمى. وقيل: معناهُ الإشارة إلى طرح الدنيا، والإقبال بكليته على العبادة. وقيل: إشارة إلى الاستسلام والانقياد، ليناسب فعله قوله: الله أكبر. وقيل: إشارة إلى استعظام ما دخل فيه. وقيل إشارة إلى تمام القيام. وقيلَ إلى رفع الحجاب بين العبد والمعبود. وقيل: ليستقبل بجميع بدنه. قال القرطبي: هذا أَنسبها. وقال الربيع: قلت للشافعي: ما معنى رفع اليدين؟ قال: تعظيم الله واتباع سنة نبيه. وقيل: إن سبب مشروعية الرفع هو أن المنافقين كانوا يجيئون بأصنامهم تحت آباطهم فأمرت الناس برفع اليدين لتسقط الأصنام من تحت آباطهم، فزال السبب وبقي المسبَّب.

ونقل ابن عبد البر عن ابن عمر أنه قال: رفع اليدين من زينة الصلاة. وعن عقبة بن عامر قال: بكل رفع عشر حسنات، بكل إصبع حسنة، وقوله: كان يرفع يديه حذو منكبيه. قال النوويُّ: أجمعت الأمة على استحباب رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام. وقال ابنُ المنذر: لم يختلفوا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة. ونقل العبدريُّ عن الزيدية أنَّه لا يرفع. وخِلافهم لا يُعتد به وقال أبو جَوبة الأوزاعي والحميدي شيخ البخاري وابن خزيمة وداود وأحمد بن سيار بوجوبه. قال ابن عبد البر: كل من نقل عنه الإيجاب لا يُبطل الصلاة بتركه إلا في رواية عن الأوزاعي والحميدي. ونقل بعض الحنفية عن أبي حنيفة أنه يأثم بتركه. ونقل القفال عن أحمد بن سيار أنه أوجبه وأنه إذا لم يرفع لم تصح صلاته، وهو موافق لما مرَّ قريبًا عن الأوزاعي والحميدي. وحكى القاضي حسين أيضًا لوجوب عن الإِمام أحمد. ونقله القرطبي في أوائل تفسيره عن بعض المالكية، واحتج ابن حزم بمواظبة النبي -صلى الله عليه وسلم- على ذلك وقد قال: "صلّوا كما رأيتموني أصلّي". وقوله: حذْو منكبيه أي: بفتح المهملة وإسكان الذال المعجمة أي مقابلها. والمَنكِب مجمع عظم العضد والكتف، وبهذا أخذ الجمهور وهو أحد قولين مشهورين عند المالكية كما يأتي في تحرير مذهبهم. وذهبت الحنفية إلى أنه يرفع يديه حذاء أذنيه حتى يحاذي بإبهاميه شحمتيهما، وبرؤوس أصابعه فروع أذنيه، مستدلين بما رواه مسلم عن مالك بن الحويرث، كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه، وفي لفظ: حتى يحاذي بهما فروع أذنيه. وعند الطحاوي عن البراء: حتى يكون إبهاماه قريبًا من شحمتي أذنيه. وروى أبو ثور عن الشافعي أنه جمع بين حديث الباب وحديث مالك بن الحويرث فقال: يحاذي بظهر كفيه المنكبين وبأطراف أصابعه الأذنين. ويؤيده رواية عن وائل عند أبي داود بلفظ: حتى كانتا حيال منكبيه وحاذى بإبهاميه أذنيه. وبهذا قال المتأخرون من المالكية كما حكاه ابن عباس في الجواهر. لكن روى مالك عن نافع عن ابن عمر أنه كان يرفع يديه حذو منكبيه في الافتتاح وفي غيره دون ذلك. أخرجه أبو داود. ويعارضه قول ابن جريح قلنا لنافع: أكان ابن عمر يجعل الأولى أرفعهن؟ قال: لا. ذكره أبو داود أيضًا، وقال: لم يذكر رفعهما دون ذلك غير مالك. وكيفية اليدين حالة الرفع مختلفة عند العلماء. قال الطحاوي من الحنفية: يرفع ناشرًا أصابعه مستقبلًا بباطن كفّيه، لما في الأوسط للطبراني عن ابن عمر مرفوعًا: إذا استفتح أحدكم الصلاة فليرفع يديه وليستقبل بباطنهما القِبلة، فإن الله عز وجل أمامه. وفي المحيط: ولا يفرج بين الأصابع تفريجًا، لما في الترمذي عن أبي هريرة قال: ثلاث كان يعمل بهن فتركهن الناس: كان -صلى الله عليه وسلم- إذا قام أحدكم إلى الصلاة هكذا، وأشار أبو عامر العقدي بيده ولم يفرج بين أصابعه ولم يضمها، وضعّفه. وفي الحاوي للماوردي يجعل باطن كل كف إلى

الأخرى. وعن القاضي يقيمهما محنيتين شيئًا يسيرًا. ونقل المحاملي عن أصحابهم: يستحب تفريق الأصابع. وقال الغزالي لا يتكلف ضمًا ولا تفريقًا بل يتركهما على هيئتهما. وقال الرافعي: يفرق تفريقًا وسطًا. وفي المغني لابن قدامة يستحب أن يمد أصابعه ويضم بعضها إلى بعض. وتحرير ما قيل في رفعهما عند المالكية هو ما نظمه بعض علمائنا بقوله: ارفع يديك حيث كنت قائمًا ... بطنهما للأرض قيل للسما فالأول الجمهور قال المذهبُ ... وأصلها للفاكهانيْ ينسبُ رعيًا لحال راهب والثاني ... لراغب في نعم الديانِ وقيل بل قائمتين يجري ... كنابذ الدنيا وراء ظهرِ وقيل بل واحدة إلى السما ... والأخرى للتراب رعيًا لهما ومنتهى الرفع على المشهور ... إلى المناكب أو الصدور وقيل للأذْن وقيل بل إلى ... فوق الرؤوس رافعًا قد نُقلا والرفع مندوب وقيل سُنة ... وأصله أنّ النبيّ سَنَّه كي تسقط الأصنام من آباط ... من كان بالنفاق ذا ارتباط من الذي يزول منه السبب ... من بعده وبقي المسبَّب وقد رويت آثار مشهورة دالة على ما قالوه. فقد قال ابن عبد البر: روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- الرفع مداً مع الرأس وروي إلى صدره. وعن طاووس أنه كان يرفع يديه حتى يجاوز بهما رأسه. وقال رأيت ابن عباس يصنعه، ولا أعلم إلا أنه قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصنعه. وصححه ابن القطان. وقوله: وإذا كبر للركوع وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما، كذلك رواية القعنبي هذه عن مالك خلاف ما في روايته عنه في الموطأ، قال الدارقطني: رواه الشافعي والقعنبي وسرد جماعة من رواة الموطأ، فلم يذكروا فيه الرفع من الركوع، قال: وحدث به عن مالك في غير الموطأ ابن المبارك، وابن مهدي والقطان وغيرهم بإثباته، وقال ابن عبد البر: كل من رواه عن ابن شهاب أثبته غير مالك في الموطأ. ورفع اليدين عند تكبير الركوع وعند رفع رأسه من الركوع هو قول الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وابن جرير الطبري ورواية عن مالك والحسن البصري وابن سيرين وعطاء بن أبي رباح وابن المبارك وغيرهم. قال البخاري في كتابه: رفع اليدين في الصلاة بعد أن أخرجه من طريق علي رضي الله تعالى عنه، وكذلك روي عن تسعة عشر رجلًا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنهم كانوا يرفعون أيديهم عند الركوع، وعند أكثرهم. وزاد البيهقي جماعات.

وذكر ابن الأثير في شرحه أن ذلك روى عن أكثر من عشرين نفرًا، وزاد فيهم الخدري. وقال الحاكم: من جملتهم العشرةُ المشهودُ لهم بالجنة. وقال القاضي أبو الطيب: روى الرفع عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نيّف وثلاثون من الصحابة. وعند أبي حنيفة وأصحابه لا يرفع يديه إلا في التكبيرة الأولى، وبه قال الثوري والنخعي وابن أبي ليلى وعلقمة بن قيس وعامر الشعبي وأبو إسحاق السبيعي وهو رواية ابن القاسم عن مالك، وهو المشهور من مذهبه والمعمول به عند أصحابه. وقال الترمذي: وبه يقول غير واحد من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- والتابعين وهو قول سفيان وأهل الكوفة. وفي البدائع عن ابن عباس أنه قال: العشرةُ الذين شهد لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالجنة ما كانوا يرفعون أيدَيهم إلا في افتتاح الصلاة. وقد قال ابن عبد البر: لم يروِ أحد عن مالك ترك الرفع فيهما إلا ابن القاسم. والذي نأخذ به الرفع لحديث ابن عمر وهو الذي رواه ابن وهْب وغيره ولم يحك الترمذي عن مالك غيره. ونقل الخطابي وتبعه القرطبي في المفهم أنه آخر قولي مالك وأصحهما. قال: ولم أر للمالكية دليلًا عن تركه ولا متمسكًا إلا بقول ابن القاسم. قلت: دليل المالكية والحنفية ومن وافقهما النسخ. أما المالكية فيكلفيهم في نسخه كونه ليس عليه عمل أهل المدينة لكون عملها عندهم بمنزلة المتواتر مقدم على خبر الآحاد فلا يحتاجون إلى معارضة أحاديث الرفع بغيرها من الأدلة. وعارضتها الحنفية وغيرهم بغيرها من الأدلة الدالة على نسخ الرفع لكونهم غير متّمسكين بهذا الأصل المتمسكة به المالكية. فاستدلوا على النسخ بما رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: لأصلّين لكم صلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلم يرفع يديه إلا مرة واحدة. ورواه ابن عدي والدارقطني والبيهقي عن إبراهيم عن علقمة عنه بلفظ: صليت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وعمر فلم يرفعوا أيديهم إلا عند الاستفتاح وهذا الحديث حسّنه الترمذي وصححه ابن حزم. وقد قال إبراهيم النخعي للمغيرة حين قال له: إن وائلًا حدّث أنه رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرفع يديه إذا افتتح الصلاة وإذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع: إنْ كان وائل رآه مرة فقد رآه عبد الله بن مسعود خمسين مرة لا يفعل ذلك. ولا يقال إن خبر إبراهيم غير متصل لأنه لم يدرك عبد الله, لأنّا نقول إن عادة إبراهيم إذا أرسل حديثًا عن عبد الله لم يرسله إلا بعد صحته عنده من الرواة عنه وتكاثر الروايات عنه. ولا شك أن خبر الجماعة أقوى من خبر الواحد وأولى. وأخرج الطحاوي بإسناد صحيح عن مجاهد قال: صلّيت خلف ابن عمر فلم يكن يرفع يديه إلا عند التكبيرة الأولى من الصلاة. وأخرجه ابن أبي شَيبة في مصنَّفه عن مجاهد قال: ما رأيتُ ابنَ عمر يرفع يديه إلا في أول ما يفتتح.

قال الطحاوي: فهذا ابن عمر قد رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- يرفع، ثم ترك هو الرفع بعد النبي عليه الصلاة والسلام، فلا يكون ذلك إلا وقد ثبت عنده نسخ ما كان رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- فعله. وأجابوا عن هذا بأن في إسناده أبا بكر بن عيّاش قد ساء حفظه في آخره، وعلى تقدير صحته فقد أثبت ذلك سالم ونافع وغيرهما عنه، وستأتي رواية نافع بعد بابين، والعدد الكثير أولى من واحد لاسيّما وهم مثبتون، وهو ناف مع أن الجمع بين الروايتين ممكن، وهو أنه لم يكن يراه واجبًا، ففعله تارة وتركه أخرى. ومما يدل على ضعفه ما رواه البخاري في جزء رفع اليدين عن مالك: أن ابن عمر كان إذا رأى رجلًا لا يرفع يديه إذا ركع وإذا رفع رماه بالحصى. وأجابوا أيضًا بأن طاوسًا قد ذكر أنه رأى ابن عمر يفعل ما يوافق ما روي عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من ذلك. وأجيب عن هذا كلّه: بأنه يجوز أن يكون ابن عمر فعل ما رواه طاوس وغيره يفعله قبل أن تقوم الحجة عنده بنسخه، ثم قامت الحجة عنده بنسخه فتركه وفعل ما ذكره عنه مجاهد. وهذا الجواب في غاية الحسن والجمع. ومن دليل النسخ أيضًا ما روي أن عبد الله بن الزبير رأى رجلًا يرفع يديه في الصلاة عند الركوع وعند رفع رأسه منه، فقال له: لا تفعل. فإن هذا شيء فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم تركه. واحتج القائلون بالرفع بما أخرجه الأربعة عن علي رضي الله تعالى عنه، أنه رفع يديه حذو منكبيه، ويصنع مثل ذلك إذا قضى قراءته إذا أراد أن يركع، ويصنعه إذا ركع ورفع من الركوع. وهذا يعارضه ما أخرجه الطحاوي وأبو بكر بن أبي شَيبة عن عاصم بن كليب، وإسناده صحيح على شرط مسلم أن عليًا كان يرفع يديه في أول تكبيرة من الصلاة، ثم لا يرفع بعد. ومعلوم بديهة أن عليًا رضي الله تعالى عنه لا يجوزله أن يرى ذلك من النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم يترك هو ذلك إلا وقد ثبت عنده نسخ الرفع في غير تكبيرة الإحرام. ويدل على هذا ما روي عن ابن عبد البر المنتصر للرفع غاية فإنه قال: من روَى ترك الرفع في الركوع والرفع منه روي عنه فعلُه إلا ابنَ مسعود. وقد قال بعض الحنفية إنه يُبطل الصلاة. ونسب بعض متأخري المغاربة فاعله إلى البدعة. ولهذا مال بعض محققيهم كما حكاه ابن دقيق العيد إلى تركه درءًا لهذه المفسدة. قال في الفتح: قد قال البخاري في جزء رفع اليدين: من زعم أنه بدعة فقد طعن في الصحابة، فإنه لم يثبت عن أحد منهم تركه. قال: ولا أسانيد أصح من أسانيد الرفع. قلت: قوله: لم يثبت عن أحد منهم تركه، معارَض بما روي عن ابن مسعود، وابن عمر، وابن الزبير، وعلي -رضي الله تعالى عنهم-. وقوله إن كونه بدعة طعن في الصحابة، يجاب عن هذا بأنه مبني على أن الصحابة الفاعلين له رجَعوا عنه لثبوت النسخ عندهم. والمباحث هنا كثيرة، وقد أعرضنا عن باقيها اكتفاء بما ذكرنا. وقوله: وكان لا يفعل ذلك في

رجاله خمسة

السجود أي: لا في الهويّ إليه ولا في الرفع منه، كما في رواية شعيب الآتية بعد باب حيث قال: حين يسجد ولا حين يرفع رأسه من السجود. وهذا يشمل ما إذا نهض من السجود إلى الثانية والرابعة والتشهدين ويشمل ما إذا قام إلى الثانية أيضًا لكن بدون تشهد، لكونه غير واجب. وإذا قلنا باستحباب جلسة الاستراحة لم يدل هذا اللفظ على نفي ذلك عند القيام منها إلى الثالثة والرابعة. لكن روى يحيي القطّان عن مالك عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا هذا الحديث، وفيه: ولا يرفع بعد ذلك. أخرجه الدارقطني في الغرائب بإسناد حسن. وظاهره يشمل النفي عما عدا المواطن الثلاثة. وسيأتي إثبات ذلك في موطن رابع بعد بابين. وأصح ما روي من الأحاديث في الرفع في السجود ما رواه النسائي من رواية سعيد بن أبي عَروبة عن قتادة عن نضر بن عاصم عن مالك بن الحويرث أنه رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- يرفع يديه في صلائه إذا ركع، وإذا رفع رأسه من ركوعه، وإذا سجد، وإذا رفع رأسه، حتى يحاذي بهما فروع أذنيه. وقد تابع سعيدًا همامًا عن قتادة عند أبي عَوَانة في صحيحه. وفي الباب عن جماعة من الصحابة لا يخلو شيء منها عن مقال. وقد روى البخاري في جزء رفع اليدين في حديث علي المرفوع: ولا يرفع يديه في شيء من صلائه وهو قاعد، وأشار إلى تضعيف ما ورد في ذلك. وقد روى الطحاوي حديث ابن عمر الآتي في الباب الرابع عن نصر بن علي عن عبد الأعلى بلفظ: كان يرفع يديه في كل خفض ورفع وركوع وسجود وقعود وقيام وبين السجدتين، ويذكر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يفعل ذلك. وهذه رواية شاذة، فقد رواه الإسماعيلي عن جماعة من مشايخه الحفاظ عن نصر بن علي المذكور بلفظ عياش شيخ البخاري. وكذا رواه هو وأبو نعيم من طرق أخرى عن عبد الأعلى كذلك. واعلم أنه لم يرد ما يدل على التفرقة في الرفع بين الرجل والمرأة، وعن الحنفية يرفع الرجُلُ إلى الأذنين، والمرأة إلى المَنْكِبين, لأنه أستر لها. رجاله خمسة: قد مرّوا مرارًا، مرَّ عبد الله بن مَسْلَمة في الثاني عشر من الإيمان، ومرَّ سالم في السابع عشر منه، ومرَّ أبوه عبد الله في أول الكتاب قبل ذكر حديثٍ منه. ومرَّ مالك في الثاني من بدء الوحي. ومرَّ ابن شهاب في الثالث منه. لطائف إسناده: فيه التحديث والعنعنة. وأخرجه النّسائي في الصلاة، ثم قال المصنّف: باب رفع اليدين إذا كبر وإذا ركع وإذا رفع

الحديث الخامس

الحديث الخامس حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضى الله عنهما قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا قَامَ فِي الصَّلاَةِ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يَكُونَا حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَكَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ حِينَ يُكَبِّرُ لِلرُّكُوعِ، وَيَفْعَلُ ذَلِكَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ وَيَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. وَلاَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السُّجُودِ. قوله: عن أبيه، سمّاه غير أبي ذر فقال: عن عبد الله بن عمر. وقوله حين يكبّر للركوع أي: عن ابتداء الركوع وهو مقتضى رواية مالك بن الحويرث المذكورة في الباب حيث قال: وإذا أراد أن يركع رفع يديه، وسيأتي في باب التكبير، إذا قام من السجود من حديث أبي هريرة، ثم يكبّر حين يركع. وقوله ويفعل ذلك إذا رفعَ رأسه من الركوع أي: إذا أراد أن يرفع ويؤيده رواية أبي داود عن الزهري بلفظ إذا أراد أن يرفع صلبه رفعهما حتى يكونا حذو منكبيه. ومقتضاه أنه يبتدىء رفع يديه عند ابتداء القيام من الركوع. وأما رواية ابن عُيَينة عن الزهري التي أخرجها أحمد وأبو داود بلفظ: وبعدما يرفع رأسه من الركوع، فمعناه بعدما يشرع في الرفع لتتفق الروايات. وقوله: ولا يفعل ذلك في السجود قد مرّ ما قيل فيه في الذي قبله. ومرَّ الكلام فيه على رفع اليدين عند الركوع والرفع منه مستوفى غاية الاستيفاء. ومرّ الكلام على سمع الله لمن حمده في باب إنما جعل الإمام ليؤتم به. رجاله ستة: قد مرّوا: مرَّ محمد بن مقاتل في السابع من العلم. ومرَّ عبد الله بن المبارك في السادس من بدء الوحي. ومرّ يونس بن يزيد في المتابعات بعد الرابع منه. ومرَّ ذكر محل الزهري وسالم وأبيه في الذي قبله. فيه التحديث بالجمع، والإخبار بالجمع، والإفراد، والعنعنة، والقول، ورواته الستة ما بين مَروزيّ وأيليّ ومدنيّ. أخرجه مسلم والنّسائي في الصلاة.

الحديث السادس

الحديث السادس حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْوَاسِطِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ خَالِدٍ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ أَنَّهُ رَأَى مَالِكَ بْنَ الْحُوَيْرِثِ إِذَا صَلَّى كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَحَدَّثَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- صَنَعَ هَكَذَا. قوله: إذا صلّى كبّر ورفع يديه، في رواية مسلم ثم رفع وصلّى أي: شرع في الصلاة، وزاد مسلم حتى يحاذي بهما أذنيه كما مرَّ. ووهم المحبُّ الطبريُّ فعزاه للمتفق. وقوله: وحدّث أي: مالك بن الحويرث، وليس معطوفاً على قوله رأى، فيبقى فاعله أبو قِلابة فيصير مرسلًا. والحديث مرَّ الكلام عليه في الأول. رجاله خمسة: قد مرّوا. مرَّ إسحاق بن شاهين في الرابع عشر من الحيض. ومرَّ خالد بن عبد الله الطحان السادس والخمسين من الوضوء. ومرَّ خالد الحذاء في السابع عشر من العلم. ومرَّ أبو قِلابة في التاسع من الإيمان. ومرّ مالك بن الحويرث في تعليق بعد الثامن والعشرين من العلم. أهـ فيه التحديث بالجمع والإفراد والعنعنة والقول. وفيه راويان متّفِقان في الاسم، وفيه أن شيخ البخاري من أفراده. ثم قال المصنف: باب إلى أين يرفع يديه لم يجزم المصنّف بالحكم كما جزم به قبل وبعد جريًا على عادته فيما إذا قوي الخلاف. لكن الأرجحُ عنده محاذاةُ المنكِبين، لاقتصاره على إيراد دليله. وقد استوفينا ما قيل فيه عند جميع الأئمة، في الكلام على الحديث الأول. ثم قال: وقال أبو حميد في أصحابه: رفع النبي -صلى الله عليه وسلم- حذو منكبيه. هذا التعليق طرف من حديثه الذي أخرجه المؤلف في باب سنة الجلوس في التشهد ويأتي هناك الكلام عليه واستدلّ به البخاري هنا على رفع اليدين.

وأتكلم هنا على ما قيل فيه من هذه الجهة فأقول: احتجاج البخاري به يعارضه أن أبا داود أخرجه من وجوه كثيرة، أحدها عن أحمد بن حنبل، وليس فيه ذكر رفع اليدين عند الركوع. والطريق الذي فيه ذلك عن عبد الحميد بن جعفر، وهو ضعيف مطعون في حديثه، فكيف يُحتج به على الخصم؟ فإن قيل: هو من رجال مسلم، فالجواب أنه لا يلزم من ذلك أن لا يكون ضعيفًا عند غيره. ولئن سلّمنا صحة روايته فالحديث معلولٌ من جهة أخرى، وهي أن محمّد بن عمرو بن عطاء لم يسمع هذا الحديث من أبي حميد، ولا ممن ذكر معه في هذا الحديث مثل أبي قتادة. ولهذا قال ابن حزم: لعل عبد الحميد بن جعفر وهم فيه، يعني في روايته عن محمد بن عمرو بن عطاء فأقيل. قال البيهقي في المعرفة: حكم البخاري في تاريخه بأنه سمع أبا حميد، أجيب بأن القائل بأنه لم يسمع من أبي حميد هو الشعبي وهو حجة في الباب. ويأتي الكلام على هذا عند ذكر الحديث في الباب المذكور آنفًا. ويأتي هناك ذكر من سمي من أصحابه. وقد مرَّ أبو حميد في تعليق في أبواب استقبال القبلة قبل ذكر حديث.

الحديث السابع

الحديث السابع حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنَا سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضى الله عنهما قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- افْتَتَحَ التَّكْبِيرَ فِي الصَّلاَةِ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ حِينَ يُكَبِّرُ حَتَّى يَجْعَلَهُمَا حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَإِذَا كَبَّرَ لِلرُّكُوعِ فَعَلَ مِثْلَهُ، وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. فَعَلَ مِثْلَهُ وَقَالَ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ. وَلاَ يَفْعَلُ ذَلِكَ حِينَ يَسْجُدُ وَلاَ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ. قوله: وإذا قال سمع الله لمن حمده فعل مثله ظاهره أنه يقول التسميع في ابتداء ارتفاعه من الركوع، فيدلّ على أنه ذكر الانتقال، وهو المعروف. ويأتي في حديث رِفاعة بن رافع ما يدل على أنّه يقع بعد الرفع من الركوع فيكون من أذكار الاعتدال. ويمكن الجمع بينهما بأن معنى قوله في حديث رفاعة الآتي: فلمّا رفع رأسه أي: فلما شرع في رفع رأسه، ابتدأ القول المذكور وأتمّه بعد أن اعتدل. وقد مرَّ الكلام على الحديث عند الحديث الأول. رجاله خمسة: مرّوا قريبًا. مرَّ أبو اليمان وشعيب في السابع من بدء الوحي ومرّ الزهري في الثالث منه. ومرَّ سالم في السابع عثر من الإيمان. ومرَّ أبوه في أول الكتاب قبل ذكر حديث منه. وهذا الحديث أخرجه النَّسائي في الصلاة، ثم قال المصنّف: باب رفع اليدين إذا قام من الركعتين أي بعد التشهد، فيخرج ما إذا تركه ونهض قائمًا من السجود لعموم قوله في الرواية التي قبله، ولا حين يرفع رأسه من السجود. ويُحتمل حملُ النفي هاك على حالة رفع الرأس من السجود ولا على ما بعد ذلك حين يستوي قائمًا. وأبعد من استدل بقول سالم في روايته المارة، ولا يفعل ذلك في السجود على موافقة رواية نافع في حديث الباب، حيث قال: وإذا قام من الركعتين, لأنه لا يلزم من كونه لم ينفه أنه أثبته، بل هو ساكت عنه. وأبعد أيضًا من استدل برواية سالم على ضعف رواية نافع. والحق أنه ليس بين روايتي نافع وسالم تعارض، بل في رواية نافع زيادة لم ينفها سالم. وسيأتي قريبًا أن سالمًا أثبتها من وجه آخر.

الحديث الثامن

الحديث الثامن حَدَّثَنَا عَيَّاشٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا دَخَلَ فِي الصَّلاَةِ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذَا رَكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذَا قَامَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ رَفَعَ يَدَيْهِ. وَرَفَعَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ إِلَى نَبِىِّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. قوله: ورفع ذلك ابن عمر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في رواية أبي ذر إلى نبي الله -صلى الله عليه وسلم-. قال أبو داود: رواه الثقفي عبد الوهاب عن عبيد الله ولم يرفعه، وهو الصحيح. وكذا رواه الليث وابن جريج ومالك عن نافع موقوفًا. وحكى الدارقطني في العلل الاختلاف في وقفه ورفعه، وقال: الأشبه بالصواب قول عبد الأعلى. وحكى الإسماعيلي أن عبد الأعلى أخطأ في رفعه. قال: وقد خالفَهُ عبد الله بن إدريس وعبد الوهاب الثقفي والمعتمر عن عبيد الله عن نافع، فرووه موقوفًا على ابن عمر، لكن معتمراً وعبد الوهاب رفعاه عن سالم عن ابن عمر. أخرجهما البخاري في جزء رفع اليدين، وفيه الزيادة. وقد توبع نافع على ذلك عن ابن عمر فيما رواه أبو داود وصححه البخاري في الجزء المذكور عن محارب بن دِثار عن ابن عمر قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا قام في الركعتين كبّر ورفع يديه. وله شواهد منها حديث أبي حميد الساعدي، وحديث عليّ بن أبي طالب، أخرجهما أبو داود وصححهما ابن خُزَيمة وابنُ حبّان. وقال البخاري في الجزء المذكور ما زاده ابن عمر وعلي وأبو حميد في عشرة من الصحابة من الرفع عند القيام من ركعتين صحيح لأنهم لم يحكوا صلاة واحدة، فاختلفوا فيها، وإنما زاد بعضهم على بعض، والزيادة مقبولة من أهل العلم. وقال ابن بَطّال يجب قبولُها لمن يقولُ بالرَّفع. وقال الخطابي: لم يقل به الشافعي، وهو لازم على أصله في قبول الزيادة. وقال ابن خُزَيمة: هو سنة وإن لم يذكره الشافعي، فالإسناد صحيح. وقد قال قولوا بالسنة ودعوا قولي. وقال ابن دقيق العيد: قياس نظر الشافعي أنه يستحب الرفع فيه لأنه أثبت الرفع عند الركوع

رجاله خمسة

والرفع منه لكونه زائدًا على من اقتصر عليه عند الافتتاح والحجة في الموضعين واحدة والصواب إثباته. وأما كونه مذهبًا للشافعي لكونه قال إذا صحّ الحديث فهو مذهبي ففيه نظر, لأنّ محل العمل بهذه الوصية ما إذا عرف أن الحديث لم يطلع عليه الشافعي، أما إذا عرف أنه اطّلع عليه ورواه أو تأوّله بوجه من الوجوه فلا. والأمر هنا محتمل. واستنبط البيهقي من كلام الشافعي أنه يقول به، لقوله في حديث أبي حُميد المشتمِل على هذه السنّة وغيرها وبهذا نقول. قلت تمكن عدم صحة هذا الاستنباط لإمكان أن تكون رواية الشافعي لم يذكر فيها الرفع من القيام من الركعتين كما في رواية الليث الآتية عند المصنّف، وقد مرَّ أن الحديث مروي برواياتٍ كثيرةٍ ويأتي ذلك. وأطلق النووي في الروضة أن الشافعيّ نصّ عليه. قال في الفتح: لكن الذي رأيت في الأم خلافُ ذلك، فقال في باب رفع اليدين في التكبير في الصلاة، بعد أن أورد حديث ابن عمرَ عن سالم وتكلّم عليه لا يأمره أن يرفع يديه في شيء من الذكر في الصلاة التي لها ركوع وسجود إلا في هذه المواضع الثلاثة. وأما ما وقع في أواخر البُوَيطي يرفع يديه في كل خفض ورفع، فيحمل الخفض على الركوع والرفع على الاعتدال، وإلاّ فحمله على ظاهره يقتضي استحبابه في السجود أيضًا وهو خلاف ما عليه الجمهور، وقد نفاه ابن عمر. وأغرب الشيخ أبو حامد في تعليقه فنقل الإِجماع على أنه لا يُشرع الرفع في غير المواطن الثلاثة. وتُعُقب بصحة ذلك عن ابن عمر وابن عبّاس ونافع وطاوس، كما أخرجه عبد الرزاق وغيره عنهم بأسانيد قوية. وقد قال به من الشافعية ابن خزيمة وابن المنذر وأبو علي الطبري والبيهقي والبغوي. وحكاه ابن خُوَيز مَنداد عن مالك وهو شاذ. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ عيّاش بن الوليد في الخاص والثلاثين من الغُسل. ومرَّ عبد الأعلى السامي في تعليق بعد الثالث من الإيمان. ومرَّ عبيد الله بن عمر بن حفص في الرابع عشر من الوضوء. ومرّ نافع في الثالث والسبعين من العلم. ومرّ عبد الله أوّل كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه. فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول. والنصف الأول من الرواة بصري والثاني مدني. وشيخ البخاري من أفراده. وهذا الحديث أخرجه أبو داود. رواه حَمّاد بن سَلَمة عن أيوبَ عن نافع عن ابنِ عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. وهذا التعليق وصله المصنف في جزء رفع اليدين، ولفظه: كان إذا كبّر رفع يديه وإذا ركع وإذا رفع من الركوع. ووصله

باب وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة

البيهقي وحمّاد بن سَلَمة، وفي متابعة بعد الثامن من الوضوء. ومرَّ أيوب في التاسع من الإيمان. ومرّ ذكر محل نافع وابن عمر في الذي قبله. ثم قال: ورواه ابن طَهمان عن أيوب وموسى بن عُقْبة مختصرًا، يعني أن إبراهيم بن طَهمان رواه عن أيوب وموسى بن عقبة. وقد وصله البيهقي عن عمر بن عبد الله بن رَزين عن إبراهيم بن طَهمان بهذا السند موقوفًا نحو حديث حمّاد وقال آخره وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفعل ذلك. واعترض الإسماعيلي فقال: ليس في حديث حمّاد ولا ابنِ طَهمان الرفعُ من الركعتين المعقود لأجله الباب. قال: فلعلّ المحدّثَ عنه دخل عليه باب في باب، يعني أنّ هذا التعليق يليق بحديث سالم الماضي وأجيبَ بأن البخاري قصد الرد على من جزم بأن رواية نافع لأصل الحديث موقوفةٌ وأنه خالف في ذلك سالمًا. كما نقله ابن عبد البر وغيره، وقد تبين بهذا التعليق أنه اختُلف على نافع في رفعه ووقفه خصوص هذه الزيادة. والذي يظهر أن السبب في هذا الاختلاف أن نافعًا كان يرويه موقوفًا ثم يعقبه بالرفع، فكأنه كان أحيانًا يقتصر على الموقوف أو يقتصر عليه بعض الرواة عنه. وقد مرّ إبراهيم بن طهمان في التاسع والعشرين من الغسل، ومرّ موسى بن عقبة في الخامس من الوضوء ومرَّ ذكر محل أيوب في الذي قبله، ثم قال المصنف: باب وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة: أي في حال القيام

الحديث التاسع

الحديث التاسع حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: كَانَ النَّاسُ يُؤْمَرُونَ أَنْ يَضَعَ الرَّجُلُ الْيَدَ الْيُمْنَى عَلَى ذِرَاعِهِ الْيُسْرَى فِي الصَّلاَةِ. وقَالَ أَبُو حَازِمٍ لاَ أَعْلَمُهُ إِلاَّ يَنْمِي ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-. قَالَ إِسْمَاعِيلُ: يُنْمَى ذَلِكَ. وَلَمْ يَقُلْ يَنْمِي. قوله: كان الناس يؤمرون هذا حكمه الرفع على المشهور, لأنه محمول على أن الآمر لهم بذلك هو النبي -صلى الله عليه وسلم-. وقوله على ذراعه أبهم موضعه من الذراع. وفي حديث وائل عند أبي داود والنَّسائي ثم وضع يده اليمنى على ظهر كفّه اليسرى والرسغ من الساعد. وصحّحه ابن خزيمة وغيره، وأصله في صحيح مسلم بدون الزيادة. والرُّسْغ بضم الراء وسكون المهملة بعدها معجمة هو الفصل بين الساعد والكف. ولم يذكر أيضًا محلهما من الجسد. وقد روى ابن خزيمة من حديث وائل أنه وَضَعَهما على صدره، والبَزَّار عند صدره. وعند أحمد في حديث هِلْب الطائي نحوه وفي زيادات المسند من حديث علي أنه وضعهما تحت سرّته. واعترض الدالي في أطراف الموطأ هذا الحديث فقال: معلول لأنه ظنّ من أبي حازم، ورد بأن أبا حازم لو لم يقل لا أعلمه الخ. لكان في حكم المرفوع, لأن قول الصحابي كنا نؤمر بكذا يصرف بظاهره إلى من له الأمر، وهو النبي -صلى الله عليه وسلم- لأن الصحابي في مقام تعريف الشرع فيحمل على من صدر عنه الشرع. ومثله قول عائشة: كنّا نؤمر بقضاء الصوم، فإنه محمولٌ على أن الآمر بذلك هو النبي -صلى الله عليه وسلم-. وأطلق البيهقي أن لا خلاف في ذلك بين أهل العلم فإن قيل لو كان مرفوعًا ما احتاج أبو حازم إلى قوله لا أعلمه الخ، فالجواب أنه أراد الانتقال إلى التصريح، فالأول لا يقال له مرفوع وإنما يقال له حكم الرفع، قاله في الفتح، وفي كلّه بعض انتصار لمذهبه، فقول البيهقي إنه لا خلاف في ذلك هو كقول ابن عبد البر: إن قول الصحابي من السنة كذا له حكم الرفع اتفاقًا. وما قالاه مردود. فقد روي عن الشافعي في أصل المسألة قولان. وذهب إلى أنه غير مرفوع أبو بكر الصيرفي من الشافعية، وأبو بكر الرازي من الحنفية، وابن حزم من الظاهرية. وتمسكوا باحتمال أن يكون الأمر غيره عليه الصلاة والسلام كأمر القرآن أو الإِجماع أو بعض الخلفاء أو الولاة أو الاستنباط.

ولذا قال علي القاري الحنفي في شرح موطأ محمّد فقولُ سهلٍ كان الناس يؤمرون الخ، يعني يأمرهم الخلفاء الأربعة أو الأمراء أو النبي عليه الصلاة والسلام، يعني أنه محتمل لذلك. وقد نصّ أبو عمر بن عبد البر في التقصي على أن هذا الأثر موقوف على سهل ليس إلا. ويدل لما قاله المخالفون ما أخرجه ابن أبي شيبة عن حنظلة السَّدوسي قال: سمعت أنس بن مالك يقول: كان يؤمر بالسَّوط فتقطع ثمرته ثم يدق بين حَجَرين ثم يضرب به. فقلت: في زمن من كان هذا؟ قال: في زمن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه. وقوله: إن أبا حازم أراد الانتقال إلى التصريح فيه أن ما قاله ليس فيه تصريح لأن أبا حازم لم يقطع بأن الصحابي نَمَى ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم-, وإنّما أتى بكلمة غير مفيدة للقطع وهي قوله لا أعلمه، ولو كان جازمًا قاصدًا لتصريح لقال بدل هذه العبارة نمي ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم, وحذف قوله لا أعلمه. فبقي كلامه على ما قاله الدالي سابقًا من أنه ظنّ منه. وحيث إن المسألة خلافية يمكن أنه اعتمد شطر الخلافِ فلا يرد عليه بشطر الخلاف الذي لم يعتمده. وحيث كانت المسألة خلافية وإن كان الصحيح فيها أنَّ له حكم الرفع، فالحديث المروي بذلك لم يُقْطع بنسبته للنبي -صلى الله عليه وسلم -، لوجود الخلاف، ولذلك لم يَقْطع التابعيُّ أبوحازم بنسبتِه له عليه الصلاة والسلام. هذا القدر كافٍ في ثبوت إعلال هذا الحديث. وهو أحد الوجهين اللذين أُعلّ بهما، ويأتي الآخر قريبًا. ثم قال في الفتح: قد ورد في سُنن أبي داود وصحيح ابن السَّكَنِ شيءٌ يستأنسُ به على تعيين الآمر والمأمور، فروي عن ابن مسعود قال: رآني النبي -صلى الله عليه وسلم- واضعًا يديَ اليسرى على يديَ اليمنى فنزعها ووضع اليمنى على اليسرى. قال في الفتح: إسناده حسن. قلت: بل في إسناده ضعف لأن مداره على الحجاج بن أبي زينب، وقد ضعّفه أحمد وابن المديني والنَّسائي والدارقطني، وقال الشوكاني في نيل الأوطار: هذا الحديث ضعيف. وقوله قال أبو حازم يعني راوية بالسند المذكور إليه. وقوله لا أعلمه أي: سهل بن سعد. وقوله: إلاَّ يَنْمِي بفتح أوله وسكون النون وكسر الميم من نَمَى الثلاثي، يقال: نَمَيْتُ الحديث إلى غيري رفعته وأسندته. وصرح بذلك معن بن عيسى وابن يوسف عند الإسماعيلي والدارقطني. وزاد ابن وهْب ثلاثتهم عن مالك بلفظ يرفع ذلك. ومن اصطلاح أهل الحديث إذا قال الراوي ينميه فمراده يرفع ذلك إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-. ولو لم يقيّده يعني إذا كان النامي لذلك الصحابي. وكذا إذا قال التابعي عن الصحابي يرفعه أو يَبْلُغ به أو يرويه أو رواية, كحديث البخاري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: الشفاء في ثلاث: شَرْبة عسل وشرطة مِحجَمْ وكَيّة من نار، وأنهَى أمّتي عن الكيّ. رفع الحديث. وكحديث مسلم عن الأعرج عن أبي هريرة يبلغُ به: الناس تَبَع لقريش. وفي الصحيحين بهذا السند عن أبي هريرة رواية تقاتلون قوماً صغار الأعين.

وفيهما عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رواية الفطرة خمس. وكحديث الباب. قال أبو حازم: لا أعلمه إلا يَنْمِيْ ذلك. وقد جاء بعضُ ذلك بالتصريح. ففي رواية لحديث الصحيحين: الفطرةُ خمس يبلغُ به النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي رواية في حديث سهل يَنْمِي ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم-. والحامل على العدول عن التصريح بالرفع إما الشك في الصيغة التي سمع بها أهي قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ أو نبي الله أو نحو ذلك كسمعت أو حدثني. وهو ممن لا يرى الإبدال. وأما التخفيف والاختصار أو غير ذلك ولو وقع ذلك من صحابي بعد ذكره صحابيًا كان مرفوعًا أيضًا ولم أر له مثالًا. وقد يقع ذلك من الصحابي بعد ذكره للنبي -صلى الله عليه وسلم-، كأن يقول عن النبي -صلي الله عليه وسلم- يرفعه، فهذا في حكم قوله عن الله تعالى. ومثالُه حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله يرفعه: إن المؤمن عندي بمنزلة كل خير يحمدني وأنا أنزع نَفْسه من بين جَنْبيه. حديث حسن رواه البزّار في مسنده، وهو من الأحاديث الإلهية. وإن كان القائل لأحد الألفاظ المتقدمة راويًا عن تابعي كان ذلك الحديث مرسلًا مرفوعًا بلا خلاف. وقد نظّم القرافي أصل المسألة فقال: وقولهم يرفعه يبلغ بهْ ... رواية يَنمِيه رفعٌ فانتبهْ وإن يُقَلْ عن تابع فمرسل وحكى في المطالع أن رواية القعنبي هذه بضم أوله من أنمى قال وهو غلط. وتُعقب بأن الزَّجّاج ذكر في كتاب فعلتُ وأفعلتُ نَمَيْت الحديث وأنْمَيته. وهذا حكاه ابنُ دُرَيد وغيره. لكن الذي في البخاري عن القعنبي المضبوط به أنه بفتح أوله من الثلاثي، فلعلّ الضمَّ روايةُ القعبني في الموطأ. وقوله: وقال إسماعيل يُنمى ذلك، ولم يقل يَنْمِي. الأول بضم أوله وفتح الميم بلفظ المجهول، والثاني وهو المنفي بفتح أوله كرواية القعنبي الماضية، فعلى الأول الهاء في لا أعلمه ضمير الشأن، فيكون مرسلًا لأن أبا حازم لم يعين من نماه له، وعلى رواية القعنبي الضمير لسهل شيخه فهو متّصل، وإسماعيل هذا هو ابن أبي أُويس شيخ البخاري كما جزم به الحْميدي في الجمع. ووافق إسماعيل على هذه الرواية عن مالك سويد بن سعيد فيما أخرجه به الحُميدي في الغرائب. وفي خط مَغُلْطاي أن إسماعيل المذكور هنا هو إسماعيلُ بن إسحاق القاضي. وكأنه رأى الحديث عند الجوزقي والبيهقي وغيرهما من روايته عن القعنبي، فظن أنه المراد وليس كذلك, لأن رواية إسماعيل بن إسحاق موافقة لرواية البخاري. ولم يذكر أحد أن البخاري روى عنه وهو أصغر سنًا منه وأحدث سماعًا. وقد شاركه في كثير من مشايخه البَصريين القدماء. وما صرح به ابن حجر فيما مرّ عنه من أن الحديث على رواية إسماعيل بن أبي أويس يكون مرسلًا هو الوجه الثاني من وجهي الإعلال. وإذا قيل إن رواية القعنبي

مقدمة على رواية إسماعيل لكونه أوثق منه، فالجواب أن رواية إسماعيل اعتضدت برواية سويد بن سعيد. وعلى كل حال احتمال الإرسال لا يزيله تقديم رواية القعنبي على رواية إسماعيل والدليل إذا تطرَّقهُ الاحتمال سقط به الاستدلال. والقبض هو مذهب الجمهور، أخذ به الشافعي وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق والثوري وغيرهم. وقال ابن عبد البر: لم يأت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه خلاف وهو الذي ذكره مالك في الموطأ، ولم يحك ابن المنذر وغيره عن مالك غيره. وقال القائلون به إن الحكمة في هذه الهيئة أنه صفة السائل الذليل، وهي أمنع من العبث وأقرب إلى الخشوع. وكأن البخاري لحظ ذلك فعقبه بباب الخشوع. ومن اللطائف قولُ بعضهم: القلب موضع النيّة، والعادة أن من احترز على حفظ شيء جعل يديه عليه. ومن القائلين بالإرسال كما حكاه ابن المنذر عبد الله بن الزبير والحسن البصري وابن سِيرين وابن المسيّب وسعيد بن جبير، وهو رواية ابن القاسم عن مالك في المدونة، وعليه أكثرُ أصحابه، وهو مشهور مذهبه. ورويت عنه التفرقة بين الفريضة والنافلة فكره القبض في الفرض وأجازه في النافلة. فقد قال في المدونة وأنا أكرهه في الفرض. وهذه رواية ابن القاسم في المدونة عنه، وروايته في المدونة عنه مقدمة على جميع الروايات عند المالكية. قلت: لعل تفرقته بين الفرض والنفل حملا منه لما روي من القبض على النفل، ولما روي من تركه على الفرض. ولم يأت التصريح في أحاديث القبض بأنه في الفرض وإن كان هو المتبادر من الإطلاق. وقال الليث بن سعد: يرسلهما، فإن طال ذلك عليه وضع اليمنى على اليسرى. وكلامه هذا صريح في أن القبض ليس من السنة، وإنما هو من باب الاستراحة. وهذا هو عين ما علّل به مالك كراهيته لما فيه من الاعتماد. وقال الأوزاعي: غير بين الوضع والإرسال. وقد قال بعض علماء المالكية إن الإرسال أقرب إلى العبودية والذل من القبض, لأنه حالة الميت المكفن وحالة المصلوب. ولا شيء أشد في الذل من هذين، فالأول فعل له ذلك لوضعه بين يدي ربّه مرجوًا منه أن يتجاوز عن ذنبه. والثاني فعل له ذلك اهانة وإذلالاً له وزجرًا لغيره. وإنما رجح مالك الإرسال مع كونه عمل أهل المدينة لموافقته للأصل، ولما فيه من تقليل الأعمال. وقد استدل القائلون بالقبض بأحاديث كثيرة تتبعناها بالطعن وأبدينا أنها ليس فيها حديث

رجاله أربعة

صحيح سالم من الطعن في رسالتنا إبرام النقض لما قيل من أرجحية القبض. وأبديت فيها أدلة مشهور مذهب مالك من الإرسال مع أنّا معاشر المالكية لا نقول إن القبض لم يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، بل نعترف بأنه ثبت عنه عليه الصلاة والسلام لكثرة روايته عنه -صلى الله عليه وسلم- وإن كانت ضعيفة. ولكنا نقول إنه منسوخ بالإرسال لما بيناه في الرسالة المذكورة من عمل أهل المدينة والأحاديث الدالة على ذلك. وسنة الوضع عند الشافعية أن يجعلها تحت الصدر واضعًا يده اليمنى على ظهر كفّه اليسرى والرسغ من الساعد. وفي الحاوي أن الوضع يكون على الصدر ولم يذكر النووي في الخلاصة غيره. وعلى القول المرجوح عند المالكية الوضع تحت الصدر. والوضع عند الحنفية تحت السرّة واضعًا بطن كله اليمنى على رسغه اليسرى، فيكون الرسغ وسط الكف قائلين إن الوضع تحت السرّة أقرب إلى التعظيم، وأبعد من التشبه بأهل الكتاب، وأقرب إلى ستر العورة، وحفظ الإزار عن السقوط. وذلك كما يفعل بين يدي الملوك. وفي الوضع على الصدر تشبه بالنساء فلا يُسن. وعند الحنابلة الوضع تحت السُّرة. ويكون القبض عند كل قيام فيه ذكر مسنون، فيكون في حالة القنوت وصلاة الجنازة ولا يكون في القومة من الركوع وبين تكبيرات العيدين الزوائد. وعند أبي علي النَّسَفي والإمام أبي عبد الله يقبض في كل قيام سواءٌ كان فيه ذكر مسنون أم لا أهـ. ودليل الوضع تحت السرّة هو ما أخرجه أحمد في المسند والبيهقي والدارقطني عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال: من السنة في الصلاة وضع الأكف على الأكف تحت السرّة. قال النووي: في سنده عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي وهو ضعيف باتفاق. وقال أحمد: ليس بشيء، منكر الحديث. وروى ابن حزم عن أنس من أخلاق النبوة وضع اليمين على الشِّمال تحت السرّة. ويأتي مزيد في باب سُنَّةِ الجلوس في التشهد عند حديث أبي حميد. رجاله أربعة: قد مرّوا: مرّ عبد الله بن مَسْلَمة في الثاني عشر من الإيمان, ومرّ مالك في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ أبو حازم وسهل بن سعد في الثامن والمائة من الوضوء، فيه التحديث بالجمع والعَنْعَنَة وهو من أفراد البخاري. ثم قال: وقال إسماعيل ينمي ذلك ولم يقل ينمى. وإسماعيل المراد به ابن أبي أُويس. وقد مرّ في الخامس عشر من الإيمان. ثم قال المصنف:

باب الخشوع في الصلاة

باب الخشوع في الصلاة سقط لفظ باب من رواية أبي ذر. والخشوع تارة يكون من فعل القلب كالخشية. وتارة من فعل البدن كالسكون. وقيل لابد من اعتبارهما. حكاه الفخر الرازي في تفسيره. وقال غيره: هو معنى يقوم بالنفس يظهر عنه سكون في الأطراف يلايم مقصود العبادة ويدل على أنه من عمل القلب حديث علي الخشوع في القلب، وأن تلين للمسلم كتفك، ولا تلتفت. أخرجه الحاكم. وقال ابن عباس في قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ}: مخبتون أذلاء. وقال الحسن: خائفون. وقال مقاتل: متواضعون. وقال مجاهد: هو غض البصر وخفض الجناح. وقال عمرو بن دينار: ليس الخشوع الركوع والسجود، ولكنه السكون وحسن الهيئة في الصلاة. وقال ابن سيرين: هو أن لا ترفع بصرك عن موضع سجودك. وقال أبو بكر الواسطي: هو الصلاة لله تعالى على الخلوص من غير عِوَض. وقال أبو الدرداء: يحتاج المصلّي إلى أربع خلال حتى يكون خاشعًا: إعظام المقام، وإخلاص المقال، واليقين التام، وجمع الهم. وقيل: هو جمع الهمة لها والإعراض عمّا سواها. وفي حديث لو خشعت جوارحه إشارة إلى أن الظاهر عنوان الباطن.

الحديث العاشر

الحديث العاشر حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: هَلْ تَرَوْنَ قِبْلَتِي هَاهُنَا وَاللَّهِ مَا يَخْفَى عَلَىَّ رُكُوعُكُمْ وَلاَ خُشُوعُكُمْ، وَإِنِّي لأَرَاكُمْ وَرَاءَ ظَهْرِي. وقوله: هل ترون الاستفهام بمعنى الإنكار. والمراد من القبلة إما المقابلة وهي المواجهة أي: لا تظنوا مواجهتي هاهنا فقط، وإمّا إضمار أي: لا ترون بصري أو رؤيتي في طرف القبلة فقط، وأما أنه من باب لازم التركيب, لأن كون قبلته ثمة مستلزم لكون رؤيته أيضًا ثمة فكأنه قال: هل ترون رؤيتي هاهنا فقط؟ والله لأراكم من غيرها أيضًا. وهذا الحديث قد أخرجه في باب عظة الإِمام الناس في إتمام الصلاة من أبواب المساجد. قد استوفى الكلام عليه هناك من سائر الوجوه. وبقي ذكر وجه المطابقة بينه وبين الترجمة هنا، وهو من حيث إن في قوله ولا خشوعكم تنبيهًا على التلبيس بالخشوع في الصلاة, لأنه لم يقل ذلك إلا وقد رأى فيهم الالتفات وعدم السكون اللذين ينافيان الخشوع، والمصلّي لا يدخل في قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ في صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} إلا بالخشوع، ولا شك أن ترك الخشوع ينافي كمال الصلاة فيكون مستحبا. وقد حكى النووي الإِجماع على أن الخشوع ليس بواجب. ولا يرد عليه قول القاضي حسين لجواز أن يكون بعد الإجماع السابق. أو المراد بالإجماع أنه لم يصرح أحد بوجوبه. وكلامهما في أمر يحصل من مجموع المدافعة وترك الخشوع. وهذان الجوابان أحسن مما أجاب به العيني من أن المراد مدافعة شديدة أفضت إلى خروج شيء، فإن البطلان حينئذٍ بالخروج لا بالمدافعة، وما أجاب به عن هذا لا يلتفت إليه. وفي هذا تعقب على من نسب إلى القاضي وأبي زيد أنهما قالا إن الخشوع شرطٌ في صحة الصلاة. وقد حكاه المحب الطبري، وقال: هو محمول على أن يحصل في الصلاة لا في جميعها، والخلاف في ذلك عند الحنابلة أيضًا. وأما قول ابن بطال، فإن قال قائل إن الخشوع فرض في الصلاة، قيل له بحسب الإِنسان أن يُقبل على صلاته بقلبه ونيته. ويريد بذلك وجه الله تعالى، ولا طاقة له بما اعترضه من الخواطر، فحاصل كلامه أن القدْر المذكور هو الذي يجب من الخشوع، وما زاد على ذلك فلا.

رجاله خمسة

وأنكر ابن المنير إطلاق الفرضية وقال: الصواب أن عدم الخشوع تابع لما يظهر عنه من الآثار وهو أمر متفاوت، فإن أثر نقصًا في الواجبات كان حرامًا وكان الخشوع واجبًا وإلا فلا. قلت: مشهور مذهب مالكٍ أن الخشوع في الصلاة مندوب لا واجب، والمدافعة المذكورة عندنا تبطل الصلاة إذا حصل بها شغل عن فرض. وإن حصل الشغل عن سنّة أعاد الصلاة ندبًا في الوقت. وقد تتحرك اليد مع وجود الخشوع، لما في سنن البيهقي عن عمرو بن حُريث قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ربما مس لحيته وهو يصلّي. وقد سئل عن الحكمة في تحذيرهم من النقص في الصلاة برؤيته إياهم دون تحذيرهم برؤية الله تعالى لهم وهو مقام الإحسان المبين في سؤال جبريل، كما مرَّ في كتاب الإيمان أنْ تعبدَ الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. وأجيب بأن في التعليل برؤيته -صلى الله عليه وسلم- لهم تنبيهًا على رؤية الله تعالى لهم فإنهم إذا أحسنوا الصلاة لكون النبي -صلى الله عليه وسلم- يراهم أيقظهم ذلك إلى مراقبة الله تعالى مع ما تضمنه الحديث من المعجزة له -صلى الله عليه وسلم- بذلك، ولكونه يبعث شهيدًا عليهم يوم القيامة. فإذا علموا أنه يراهم تحفظوا في عبادتهم ليشهد لهم بحسنها. رجاله خمسة: قد مرّوا: إسماعيل قد مرّ محله في التعليق الذي قبله. ومرّ مالك في الثاني من بدء الوحي. ومرَّ أبو الزناد والأعرج في السابع من الإيمان. ومرَّ أبو هريرة في الثاني منه. وهذا الحديث قد مرّ ما يتعلق به في باب عظة الإمام الناس.

الحديث الحادي عشر

الحديث الحادي عشر حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: أَقِيمُوا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لأَرَاكُمْ مِنْ بَعْدِي وَرُبَّمَا قَالَ مِنْ بَعْدِ ظَهْرِي إِذَا رَكَعْتُمْ وَسَجَدْتُمْ. قوله: أقيموا الركوع والسجود أي: أكملوهما، وعند الإسماعيلي اتمّوا بدل أقيموا، وقوله: فوالله إني لأراكم من بعدي أي: من خلفي، وأغرب الداودي فحمل البعدية هنا على ما بعد الموت، يعني أن أعمال الأمة تعرض عليه ويرده قوله وربما قال من بعد ظهري وكأنه أيضًا لم يتأمل سياق حديث أبي هريرة حيث بيّن فيه سبب هذه المقالة ومقتضى صيغ البخاري في إيراده الحديثين في باب عظة الإمام الناس وإيراده لهما في هذا الباب على أنهما في قضية واحدة وكذا أوردهما مسلم معًا واستشكل إيراد البخاري لحديث أنس هنا لكونه لا ذكر فيه للخشوع الذي ترجم له. وأجيب بأنه أراد أن ينبه على أن الخشوع يدرك بسكون الجوارح إذ الظاهر عنوان الباطن كما مرّ وروى البيهقي بإسناد صحيح عن مجاهد قال: كان ابن الزبير إذا قام في الصلاة كأنه عود، وحدّث أنّ أبا بكر كان كذلك، وكان يقال ذلك الخشوع في الصلاة، واستدل بحديث الباب على أنه لا يجب إذ لم يأمرهم بالإعادة. وعند مسلم عن أبي هريرة: صلى رسول -صلى الله عليه وسلم- يومًا ثم انصرف فقال: يا فلان ألا تحسن صلاتك، وله في رواية أخرى أتمّوا الركوع والسجود، وفي أخرى أقيموا الصفوف، وفي أخرى لا تستبقوني بالركوع ولا بالسجود. وعند أحمد: صلى بنا الظهر وفي مؤخر الصفوف رجل فأساء الصلاة. وعنده عن أبي سعيد الخدري أن بعض الصحابة تعمد المسابقة لينظر هل يعلم به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أم لا، فلمّا قضى الصلاة نهاه عن ذلك. واختلاف هذه الأسباب يدل على أن جميع ذلك صدر من جماعة في صلاة واحدة وفي صلوات. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ محمّد بن بشّار في الحادي عشر من العلم، ومرّ غُندر في الخامس والعشرين من

باب ما يقول بعد التكبير

الإيمان، ومرّ شعبة في الثالث منه، ومرَّ قتادة وأنس في السادس منه. أخرجه مسلم في الصلاة أيضًا، ثم قال المصنّف: باب ما يقول بعد التكبير في رواية المستملي باب ما يقرأ بدل ما يقول وعليها اقتصر الإسماعيلي.

الحديث الثاني عشر

الحديث الثاني عشر حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رضى الله عنهما كَانُوا يَفْتَتِحُونَ الصَّلاَةَ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. قوله: كانوا يفتتحون الصلاة أي: القراءة في الصلاة، وكذا رواه ابن المنذر والجوزقي وغيرهما من طريق حفص بن عمر شيخ البخاري فيه بلفظ: كانوا يفتتحون بالحمد لله رب العالمين. وكذلك رواه البخاري في جزء القراءة خلف الإمام وقوله بالحمد لله رب العالمين أي: بضم الدال على الحكاية، واختلف في المراد بذلك فقيل المعنى كانوا يفتتحون بالفاتحة وهذا قول من أثبت البسملة في أولها وتعقب بأنها تسمى الحمد فقط. وأجيب بمنع الحصر ومستنده ثبوت تسميتها بهذه الجملة فيما أخرجه البخاري في فضائل القرآن عن أبي سعيد بن المعلى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: الا أعلمك أعظم سورة في القرآن. فذكر الحديث، وفيه قال الحمد لله رب العالمين: هي السبع المثاني، وقيل المعنى كانوا يفتتحون بهذا اللفظ تمسكًا بظاهر الحديث، وهذا هو الأقوى إذ لا يعدل عن حقيقة اللفظ وظاهره إلى مجازه إلا بدليل. وهذا قول من نفى قراءة البسملة. ولأجل اختلاف الأحاديث الواردة فيها اختلفت العلماء في قراءتها في أول الفاتحة. فذهب مالك وأصحابه إلى أنها ليست من الفاتحة، وتكره قراءتها في الفرض سرًا وجهرًا، وفي النافلة إن شاء قرأها وإن شاء ترك، والأفضل قراءتها. وبقوله قال الأوزاعي والطبري. وقال الشافعي هي آية من الفاتحة يخفيها إذا أخفى ويجهر بها إذا جهر واختلف قوله هل هي آية من كل سورة؟ على قولين: أحدهما نعم، وهو قول ابن المبارك. والثاني لا، وقال أبو حنيفة وأحمد والثوري وابن أبي ليلى: يقرأ بها وجوباً سرًا مع أم القرآن في كل ركعة، إلا ابن أبي ليلى فإنه قال: ان شاء جهر بها وإن شاء أخفاها. وعند أحمد قراءتها سنة واجبة. واحتج كل فريق بأحاديث ظاهرة في مذهبه. فاحتجت المالكية بحديث البخاري هذا فإن قوله كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين، نصّ في أنهم ما كانوا يبسملون أصلًا وقول المخالف لا يلزم من قوله كانوا يفتتحون بالحمد أنهم لم يقرؤوا بسم الله الرحمن الرحيم سرًا بعيد جدًا، إذ يبعد جدًا أنّ أنسًا صحب النبي -صلى الله عليه وسلم- مدة عشر سنين ثم يصحب أبا بكر وعمر وعثمان خمسًا وعشرين سنة، فلم يسمع الجهر منهم بها في صلاة واحدة.

وأخرج مسلم حديث البخاري هذا ولفظه: كانوا يستفتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا في آخرها. وهذا نصّ صريح دال على ما ذكرناه من أن المراد بالأول عدم البسملة أصلًا لا عدم الجهر بها. فالحديث بعضه يفسر بعضًا. ولحديث أنس طرق أخرى دون ما أخرجه أصحاب الصحاح في الصحة، وكل ألفاظه يرجع إلى معنى واحد يصدّق بعضها بعضًا: الأول: كانوا لا يستفتحون القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم. الثاني: فلم أسمع أحدًا منهم يقول أو يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم. الثالث: فلم يكونوا يقرؤون بسم الله الرحمن الرحيم. الرابع: فكانوا يستفتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين. وصحح الخطيب هذا اللفظ، وجعل ما سواه ضعيفًا، لرواية الحفاظ له عن قتادة ولمتابعة غير قتادة له عن أنس، وجعل اللفظ المحكم عن أنس وجعل غيره متشابهًا، وحقيقة هذا اللفظ الافتتاح بالآية من غير ذكر التسمية سرًا أو جهراً فكيف يجوز العدول عنه بغير موجب. ويؤكده قوله في رواية مسلم لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم لا في أول قراءة ولا في آخرها. وقَدْحُ بعضهم في صحة حديث مسلم هذا يكون الأوزاعي رواه عن قتادة مكاتبةً فيه نظر، فإن الأوزاعي لم ينفرد به، فقد رواه أبو يَعلَى عن أحمد الدَّورقي والسراج عن يعقوبَ الدَّورقي وعبد الله بن أحمد عن أحمد بن عبد اللة السُّلَمي، ثلاثتهم عن أبي داود الطيالسي عن شُعْبة بلفظ: فلم يكونوا يفتتحون القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم. واحتجوا أيضًا بما أخرجه مسلم عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: يقول الله تعالى قُسمتِ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفُها لي ونصفُها لعبدي ولعبدي ما سأل. فإذا قال: الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: حَمدني عبدي الخ. فهذا واضح في أن البسملة ليست من الفاتحة وإلا لابتدأ بها. وقال أبو عمر: حديث العلاء هذا قاطع لقلق المنازعين، وهو نص لا يحتمل التأويل، ولا أعلم حديثًا في سقوط البسملة أبين منه، والاعتراض على هذا الحديث بأن العلاء بن عبد الرحمن قد تُكلّم فيه مردود بأنه قد رواه عن العلاء الأئمة الثمَات الأثبات، كمالك، وابن عُيينة، وابن جُرَيح، وشُعيب، والوليد بن كَثير، وعبد العزيز الدراوردي وغيرهم. وكذلك الاعتراضَ عليه بأن الدارقطني أخرجه وفيه فإذا افتتح الصلاة ببسم الله الرحمن المرحيم، فإن هذه الرواية انفرد بها عن العلاء بن سمعان. وقد قال مالك فيه كان كذابًا. وكذا قال يحيى بن مَعين. وقال هشام بن عُروة: لقد كذب عليّ وحدّث عني بأحاديث لم أحدّثه بها. وقال أحمد متروك الحديث. واحتجوا أيضًا بما أخرجه الترمذي عن ابن عبد الله بن مغفَّل قال: سمعني أبي وأنا في الصلاة

أقول بسم الله الرحمن الرحيم فقال: أيْ بنيَّ محدَث إياك والحدث. قال: ولم أر أحدًا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان أبغض إليه الحدث في الإِسلام منه. قال: وقد صلّيت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ومع أبي بكر ومع عمر ومع عثمان فلم أسمع أحدًا منهم يقولها، فلا تقلْها، فإذا أنت صلّيت فقل الحمد لله رب العالمين. قال الترمذي حديث حسن، والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، منهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم، ومَن بعدهم من التابعين. وأخرجه النَّسائي وابنُ ماجَهْ أيضًا. قلت في نفي الصحابة للبسملة في الصلاة: وقوله فقل الحمد لله رب العالمين دلالة واضحة على ما ذكرناه من كون حديث البخاري دالاً على نفي البسملة في الصلاة رأسًا لا على نفي الجهر بها لأن قول الصحابي قل: الحمد لله رب العالمين مع نفيه للبسملة صريح في ذلك. وما روى عن أبي خزيمة وابن عبد البر والخطيب من تضعيف هذا الحديث بأن مداره على ابن عبد الله بن مغفَّل وهو مجهول، مردود بأنه رواه أبو نَعامة في مسند أحمد عن ابن عبد الله بن مغفَّل، ورواه الطبراني في معجمه عن عبد الله بن بُريدة عن ابن عبد الله بن مغفَّل. وأخرجه أيضًا عن أبي سفيان طريف بن شهاب عن يزيد بن عبد الله بن مغفَّل، فهؤلاء ثلاثة رووا الحديث عن ابن عبد الله بن مغفَّل وسمّاه الأخير منهم، ورواية اثنين عن راو تزيل عنه الجهالة فضلًا عن ثلاثة. وأيضًا عبد الله بن مغفَّل له ثلاثة من البنين يزيد وزياد ومحمّد وكلّهم مروي عنه الحديث مشهور بالرواية لم يرو أحد منهم حديثًا منكرًا ليس له شاهد ولا متابع حتى يجرح بسببه، وإنما رووا ما رواه غيرهم من الثقات، فبان أن هذا التضعيف مردود. واحتجوا أيضًا باستمرار عمل أهل المدينة في محراب النبي -صلى الله عليه وسلم- ومقاصد على تركها، كما دلّ عليه حديث أنس المتقدم وحديث عبد الله بن مغفَّل. ولا يظن عاقل أن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وأكابر التابعين وأكثر أهل العلم كانوا يواظبون على خلاف ما كان -صلى الله عليه وسلم- يفعله إلى غير هذا من الأدلة. وقالت الشافعية إن حديث البخاري المراد به الافتتاح بالفاتحة فلا تعرض فيه لكون البسملة منها أولًا. وقد مرَّ ما فيه. وقالوا إن حديث مسلم المار لم يكونوا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم محمول على نفي سماعها فيحتمل إسرارهم بها وقد مرَّ ما فيه أيضًا. قالوا: ويؤيده رواية النسائي وابن حِبّان فلم يكونوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم، فنفي القراءة محمول على نفي السماع، ونفي السماع على نفي الجهر. ويؤيده رواية ابن خزيمة كانوا يسرّون ببسم الله الرحمن الرحيم. قالوا: وقد قامت الأدلة والبراهين للشافعي على إثباتها، ومن ذلك حديث أم سَلَمة المروي في البيهقي وصحيح ابن خزيمة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قرأ بسم الله الرحمن الرحيم في أول الفاتحة وعدّها آية.

رجاله أربعة

وفي سنن البيهقي عن علي وأبي هريرة وابن عباس وغيرهم أن الفاتحة هي السبع المثاني وهي سبع، وأن البسملة هي السابعة. وعن أبي هريرة مرفوعًا: إذا قرأتم الحمد لله فاقرؤوا بسم الله الرحمن الرحيم، إنها أمّ القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني، وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها، وقال الدارقطني: رجال إسناده كلُّهم ثقات. وأحاديث الجهر بها كثيرة عن جماعة من الصحابة نحو عشرين صحابيًا كأبي وعلي وابن عبّاس وأبي هريرة وأمّ سلمة. وقد تتبّع العيني جميع أحاديث الجهر بالطعن فراجعه إن شئت. واحتجت الحنفية على قراءتها سرًا بأحاديث منها ما رواه النَّسائي وأحمد وابن حِبّان والدارقُطني، وقالوا فيه: فكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم، وزاد ابن حبّان ويجْهرون بالحمد لله رب العالمين. وفي لفظ للنَّسائي وابن حِبّان أيضًا فلم أسمع أحدًا منهم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم. وفي لفظ أبي يَعلَى في مسنده: فكانوا يفتتحون القراءة فيما يجهر فيه بالحمد لله رب العالمين. وفي لفظ للطبراني في معجمه وأبي نُعيم في الحلية وابن خُزيمة في مختصر المختصر: فكانوا يسرّون ببسم الله الرحمن الرحيم. قال العيني: ورجال هؤلاء الروايات كلّهم ثقات مخرج لهم في الصحيح. هذا ملخّص ما قيل فيها عند الأئمة. وإذا تأمّلت ما جلبه كل واحد علمتَ أنْ ليس لواحد منهم أدلة مثل أدلة المالكية، لكونها مذكورة في الصحيحين ولم يذكر واحد منهم حديثًا مستدلًا به في واحد من الصحيحين. رجاله أربعة: وفيه ذكر أبي بكر وعمر وقد مرَّ الجميع: مرّ حفص بن عمر الحوضي في الشاك والثلاثين من الوضوء. ومرّ ذكر محل شعبة وما بعد في الذي قبله. ومرَّ أبو بكر بعد الحادي والسبعين من الوضوء في باب من لم يتوضأ من لحم الشاة. ومرَّ عمر في الأول من بدء الوحي اهـ. أخرجه مسلم والنَّسائي في الصلاة.

الحديث الثالث عشر

الحديث الثالث عشر حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ قَالَ حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَسْكُتُ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَبَيْنَ الْقِرَاءَةِ إِسْكَاتَةً، قَالَ أَحْسِبُهُ قَالَ هُنَيَّةً فَقُلْتُ: بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِسْكَاتُكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ مَا تَقُولُ قَالَ أَقُولُ: اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنَ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ. استُشكلَ إيراد حديث أبي هريرة في ترجمة الباب، إذ لا ذكر للقراءة فيه. وقال الزين بن المنير ضمن قوله ما يقرأُ ما يقول من الدعاء قولًا متّصلًا بالقراءة. أوْ لما كان الدعاء والقراءة يُقصد بهما التقربُ إلى الله تعالى، استغنى بذكر أحدهما عن الآخر، كما جاء: عَلَفّتُها تِبنًا وماءً باردًا: وقال ابن رشد: دعاء الافتتاح يتضمن مناجاة الربّ والإقبال عليه بالسؤال، وقراءة الفاتحة يتضمن هذا المعنى، فظهرت المناسبة بين الحديثين. وهذا غير مفيد؛ لأن المقصود وجود المناسبة بين الترجمة وحديث الباب لا وجودها بين الحديثين. قوله: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يَسْكُت أي: بفتح أوّله من السكوت. وفي بعض الروايات بضم أوله من الإسكات، قال الجوهري: يقال تكلم الرجل ثم سكت، بغير ألف، فإذا انقطع كلامه فلم يتكلم قلت أُسْكت. وقوله: إسكاتة، بكسر أوله بوزن إفعالة من السكوت، وهي من المصادر الشاذّة نحو أثبته إثباتة. قال الخطابي: معناه سكوت يقتضي بعده كلامًا مع قصر المدة فيه. وسياق الحديث يدلّ على أنه أراد السكوت عن الجهر لا عن مطلق القول، أو السكوت عن القراءة لا عن الذكر. وقوله: أحسبه، قال هنية: هذه رواية عبد الواحد بن زياد بالظن، ورواية جرير عند مسلم وغيره، وابن فضيل عند ابن ماجه وغيره، بلفظ: سكت هنية بغير تردد، وإنما اختار البخاري رواية عبد الواحد لوقوع التصريح بالتحديث فيها في جميع الإسناد. قيل: المراد أنه قال: هنية بدل إسكاتة، والظاهر أنه شك هل وصف الإسكاتة بكونها هنية أم لا، وهنية بالنون بلفظ التصغير وهو عند الأكثر بتشديد الياء. وذكر عياض والقرطبي أن أكثر رواة مسلم قالوه بالهمز، وقال النووي: الهمز خطأ وأصله هنوة،

فلمّا صغر صار هنيوة، فاجتمعت الواو والياء وسكن السابق منهما، فقلبت الواو ياء، وادغمت فيها الياء السابقة. وفي رواية الكشميهني هنيهة بهاء بعد الياء، وقوله بأبي وأمي، الباء متعلقة بمحذوف اسم أو فعل تقديره أنت مفدى بأبي أو أفديك، وحذف تخفيفًا لكثرة الاستعمال، وعلم المخاطب واستدل به على جواز التفدية مطلقا بدون كراهة. وقيل: أنه من خصائصة عليه الصلاة والسلام. وقيل: تجوز تفدية العلماء الصالحين الأخيار دون غيرهم. وقوله: إسكاتك هو بالرفع في رواية الأكثر على الابتداء، وقيل: بالنصب على أنه منصوب بفعل مقدر أي: أسألك إسكاتَك، أو على تزع الخافض. وفي رواية المستملي والسرخسي بفتح الهمزة وضم السين عدى الاستفهام، وفي رواية الحميدي: ما تقول في سكتتك بين التكبير والقراءة. ولمسلم أرايت سكوتك؟ وكله مشعر بأن هناك قولًا لأنه قال ما تقول ولم يقل هل تقول؟ ولعلّه استدل على أصل القول بحركة الفم، كما استدلّ غيره على القراءة باضطراب اللحيةكما يأتي في حديث خبّاب بعد باب ونقل ابن بطّال عن الشافعي أن سبب هذه السكتة للإمام أن يقرأ المأموم فيها الفاتحة. وهذا النقل غير معروف عن الشافعي ولا عن أصحابه، إلاَّ أن الغزالي قال في الإحياء: إن المأموم يقرأ الفاتحة إذا اشتغل الإِمام بدعاء الافتتاح وخولف في ذلك، بل أطلق المتولي وغيره كراهة تقديم قراءة الفاتحة على الإِمام، وفي وجه أن فرغ منها قبله بطلت صلاته، والمعروف أن المأموم يقرؤها إذا سكت بين الفاتحة والسورة والسكتة التي بعد الفاتحة ثبت فيها حديث سمرة عند أبي داود ولفظه قال سمرة: حفظت سكتتين في الصلاة: سكتةٌ إذا كبّر الإِمام حين يقرأ، وسكتةٌ إذا فرغ من فاتحة الكتاب وسورة، عند الركوع. فأنكر ذلك عليه عمران بن الحصين. فكتبوا في ذلك إلى المدينة إلى أبي، فصدق سمع. قال الخطابي، وهذه السكتة يعني الأخيرة ليقرأ من خلف الإِمام ولا ينازعه في القراءة، وهو مذهب الشافعي. قال العيني: وعند أصحابنا لا يقرأ المقتدي خلف الإمام فتحمل هذه السكتة عندنا على الفصل بين القراءة والركوع بالثاني وترك الاستعجال بالركوع بعد الفراغ من القراءة، ولكن حدّ هذه السكتة قدر ما يقع الفصل بين الركوع والقراءة، حتّى إذا طال جدًّا، فإن كان عمدًا يكره، وإن كان سهوًا يجب عليه سجدة السهو؛ لأن فيه تأخير الركن، وقد حمل البعض هذه السكتة على ترك رفع الصوت بالقراءة دون السكوت عن القراءة. وعند المالكية قراءة المقتدي في الجهرية مكروهة، وفي السرية مستحبّة، ولا تطلب عند سكتة ولا دعاء الاستفتاح على المشهور، بل الدعاء قبل القراءة وبعد الفاتحة مكروه على المشهور مستدلًا على عدم السكتة وعدم الافتتاح بحديث البخاري السابق: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر

وعمر يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين، وبحديث المسيء صلاته أخرجه الشيخان عن أبي هريرة. وقول النووي: إنما علمه فيه الفرائض مردود بما أخرجه الحاكم في المستدرك على شرط الشيخين، وأبو داود عن رفاعة بن رافع، فقد علّمه فيه الفرائض والمندوبات، وذكر في الفتح روايات فيها ما ليس واجبًا كرواية محمد بن عمرو: فإذا رفعت رأسك فاجلس على فخذك اليسرى، ورواية إسحاق: فإذا جلست في وسط الصلاة فاطمئن جالسًا ثم افترش فخذك اليسرى ثم تشهّد. وفي رواية لأحمد: فإذا ركعت فاجعل راحتيك على ركبتيك، وامدُد ظهرك، فبما ذكر فيه من المندوبات يتجه الاستدلال به على عدم دعاء الافتتاح، واستدلوا أيضًا بأن هذه السكتة التي يقرأ فيها دعاء الافتتاح لو كانت فيما واظب عليه الشارع لنقلها أهل المدينة عيانًا وعملًا فيحتمل أنه عليه الصلاة والسلام فعلها في وقت ثم تركها، فتركها واسع. وأجيب عن هذا بأن لفظ: إذا قام إلى الصلاة، ولفظ: كان إذا قام يصلّي تطوعًا، ولفظ: كان إذا قام إلى الصلاة المكتوبة قاله، ولفظ: كان يشعر بالمداومة، وردّ هذا بأنه إذا ثبتت المداومة يثبت الوجوب، ولم يقل به أحد، وتأتي زيادة على هذا قريبًا. وقوله: باعد، المراد بالمباعدة هو ما حصل منها، والعصمة عمّا سيأتي منها وهو مجاز؛ لأن حقيقة المباعدة إنما هي في الزمان والمكان، وموقع التشبيه أن التقاء المشرق والمغرب مستحيل، فكأنه أراد أن لا يبقى لها منه اقتراب بالكلية. وقال الكرماني: كرّر لفظ بين؛ لأن العطف على الضمير المجرور يعاد فيه الخافض، ويردّ على هذا قوله السابق بين التكبير والقراءة. وقوله: نقّني: مجاز عن زوال الذنوب ومحو أثرها، ولمّا كان الدنس في الثوب الأبيض أظهر من غيره من الألوان وقع التشبيه به، وقوله بالماء والثلج والبرَد، قال الخطابي: ذكر الثلج والبرد تأكيدًا أو لأنهما ماءان لم تمسهما الأيدي ولم يمتهنهما الاستعمال، وقيل عبّر بذلك عن غاية المحو، فإن الثوب الذي يتكرر عليه ثلاثة أشياء منقية يكون في غاية النقاء، ويحتمل أن يكون المراد أن كل واحد من هذه الأشياء مجاز عن صفة يقع بها المحو، وكأنه كقوله تعالى: {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا} قال الطيبي: يمكن أن يكون المطلوب من الثلج والبرد بعد الماء شمول أنواع الرحمة والمغفرة بعد العفو لإطفاء حرارة عذاب النار التي هي في غاية الحرارة، ومنه قولهم: برّد الله مضجعه، أي: رحمه ووقاه، ويؤيده ورود وصف الماء بالبرودة في حديث عبد الله بن أبي أوفى عند مسلم. وكأنه جعل الخطايا بمنزلة جهنّم لكونها مسببة عنها، فعبّر عن إطفاء حرارتها بالغسل، وبالغ فيه باستعمال المبردات ترقيًا عن الماء إلى أبرد منه. وقيل: خصّ هذه الثلاثة بالذكر لأنها منزلة من السماء.

وقال الكرماني: يحتمل أن يكون في الدعوات الثلاث إشارة إلى الأزمنة الثلاثة، فالمباعدة للمستقبل، والتنقية للحال، والغسل للماضي. وكان تقديم المستقبل للاهتمام بدفع ما سيأتي قبل رفع ما حصل، واستدل بالحديث على مشروعية الدعاء بين التكبير والقراءة خلافًا للمشهور عن مالك، وورد فيه أيضًا حديث علي: وجّهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت ربي، وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعًا، لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدني لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبّيك وسعديك، والخير كلّه بيديك، والشرّ ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك. أخرجه مسلم. وفيه ألفاظ قليلة متفاوتة، لكن قيّده بصلاة الليل وأخرجه الشافعي وابن خزيمة وغيرهما بلفظ: إذا صلّى المكتوية. واعتمده الشافعي في الأم. وفي الترمذي وصحيح ابن حبّان عن أبي سعيد الخدري: الافتتاح سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك، وتعالى جدّك، ولا إله غيرك. ونقل الساجي عن الشافعي استحباب الجمع بين التوجّه والتسبيح، وهو اختيار ابن خزيمة وجماعة من الشافعية، وحديث أبي هريرة أصحّ ما ورد في ذلك. ومشهور مذهب الشافعية الافتتاح بحديث علي رضي الله تعالى عنه، وعند أبي حنيفة وأصحابه، وأحمد، والثوري، وإسحاق، والأوزاعي الافتتاح بسبحانك اللهم .. الخ. وقال أبو يوسف: يجمع بين التوجه والتسبيح، ويبدأ بأيّهما شاء، ومقابل المشهور عن مالك رواية ابن حبيب، أنّه يندب عنده الافتتاح، لكن بعد الإقامة وقبل الإِحرام، يقول: سبحانك اللهم إلى قوله ولا إله غيرك، وجّهت وجهي .. الآية، اللهم باعد بيني وبين خطاياي .. الخ الحديث. بجمع هذه الأذكار الثلاثة، واستدل بالحديث على جواز الدعاء في الصلاة بما ليس في القرآن خلافاً للحنفية، ثم هذا الدعاء صدر منه عليه الصلاة والسلام على سبيل المبالغة في إظهار العبودية. وقيل: قاله على سبيل التعليم لأمته، واعترض بأنه لو أراد ذلك لجهر به، وأجيب بورود ذلك في حديث عند البزار، وفيه ما كان عليه الصحابة من المحافظة على تتيع أحوال النبي -صلى الله عليه وسلم- في حركاته وسكناته وإسراره وإعلانه، حتى حفظ الله بهم الدين. واستدل بعض الشافعية على أن الثلج والبرَد مطهّران، واستبعده ابن عبد السلام. قلت: وهذا هو مذهبنا معاشر المالكية، وأبعد منه استدلال بعض الحنفية به على نجاسة الماء المستعمل.

رجاله خمسة

رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ موسى بن إسماعيل في الخامس من بدء الوحي، ومرَّ عبد الواحد، وعمارة، وأبو زرعة في التاسع والعشرين من الإيمان، ومرّ أبو هريرة في الثاني منه. فيه التحديث بصيغة الجمع في جميع الإسناد، وهو نادر، وفيه القول. والاثنان الأولان من الرواةِ بصريان، والأخران كوفيّان. أخرجه مسلم في الصلاة، وأبو داود والنَّسائي وابن ماجه في الصلاة كلهم. ثم قال المصنّف: باب كذا في رواية الأصيلي وكريمة بلا ترجمة، وفي رواية أبوي ذر والوقت ساقط، وكذا لم يذكره أبو نعيم، وعلى هذا فمناسبة الحديث للترجمة غير ظاهرة، وعلى تقدير ثبوت باب فهو كالفصل من الباب الذي قبله كما قرّرنا غير مرّة، فله به تعلّق أيضًا. قال الكرماني: وجه المناسبة أن دعاء الافتتاح مستلزم لتطويل القيام، وحديث الكسوف فيه تطويل القيام، فتناسبا، وأحسن منه ما قاله ابن رشيد: يحتمل أن تكون المناسبة في قوله حتى قلت أي رب أو أنا معهم أنه وإن لم يكن فيه دعاء ففيه مناجاة واستعطاف، فيجمعه مع الذي قبله جواز دعاء الله ومناجاته بكل ما فيه خضوع، ولا يختص بما ورد في القرآن خلافًا لبعض الحنفية. وقال العيني: المناسبة في قوله: فقام فأطال القيام؛ لأن إطالة النبي -صلى الله عليه وسلم- بحسب الظاهر كانت مشتملة على قراءة الدعاء والقرآن، وقد علم أن الدعاء عقيب الافتتاح قبل الشروع في القرآن، فصدق عليه باب: ما يقول بعد التكبير. قال: وهي مطابقة ظاهرة جدًا.

الحديث الرابع عشر

الحديث الرابع عشر حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ حدّثنا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- صَلَّى صَلاَةَ الْكُسُوفِ، فَقَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ، ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ، ثُمَّ قَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ، ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ، ثُمَّ رَفَعَ، ثُمَّ سَجَدَ فَأَطَالَ السُّجُودَ، ثُمَّ رَفَعَ، ثُمَّ سَجَدَ فَأَطَالَ السُّجُودَ، ثُمَّ قَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ، ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ، ثُمَّ رَفَعَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ، ثُمَّ رَفَعَ فَسَجَدَ فَأَطَالَ السُّجُودَ، ثُمَّ رَفَعَ، ثُمَّ سَجَدَ فَأَطَالَ السُّجُودَ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَقَالَ: قَدْ دَنَتْ مِنِّي الْجَنَّةُ حَتَّى لَوِ اجْتَرَأْتُ عَلَيْهَا لَجِئْتُكُمْ بِقِطَافٍ مِنْ قِطَافِهَا، وَدَنَتْ مِنِّي النَّارُ حَتَّى قُلْتُ أَيْ رَبِّ وَأَنَا مَعَهُمْ، فَإِذَا امْرَأَةٌ حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ تَخْدِشُهَا هِرَّةٌ قُلْتُ مَا شَأْنُ هَذِهِ قَالُوا حَبَسَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا، لاَ أَطْعَمَتْهَا، وَلاَ أَرْسَلَتْهَا تَأْكُلُ. قَالَ نَافِعٌ حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ مِنْ خَشِيشِ أَوْ خُشَاشِ الأَرْضِ. قوله: صلّى صلاة الكسوف: اختلف العلماء في الكسوف والخسوف هل هما مترادفان أم لا؟ قال البخاري في أبواب الكسوف: باب هل يقول كسفت الشمس أو خسفت؟ قال الزين بن المنير: أتي بلفظ الاستفهام اشعارًا منه بأنه لم يترجح عنده في ذلك شيء ولعلّه أشار به إلى ما رواه سعيد بن منصور عن عروة: لا تقولوا كسفت الشمس، ولكن قولوا خسفت، هو صحيح موقوف. وأخرجه مسلم عن يحيى. لكن الأحاديث الصحيحة تخالفه لثبوتها بلفظ الكسوف في الشمس من طرق كثيرة، والمشهور في استعمال الفقهاء أن الكسوف للشمس والخسوف للقمر. وقال ثعلب: إنه أفصح، وقيل: إنه يتعين ذلك، وحكى عياض عن بعضهم عكسهُ وغلطه لثبوته بالخاء في القمر في القرآن في قوله تعالى: {وَخَسَفَ الْقَمَرُ} وقيل: يقال بهما في كل منهما، وبه جاءت الأحاديث. ولا شك أن مدلول الكسوف لغة غير مدلول الخسوف؛ لأن الكسوف: التغير إلى سواد، والخسوف: النقصان أو الزوال، فإذا قيل في الشمس كسفت أو خسفت لأنها تتغير، ويلحقها النقص ساغ، وكذلك القمر، ولا يلزم من ذلك أن الكسوف والخسوف مترادفان، والمراد به في كل منهما ذهاب ضوئه كله أو بعضه. وقيل: بالكاف في الابتداء، وبالخاء

في الانتهاء. وقيل: بالكاف لذهاب جميع الضوء، وبالخاء لبعضه. وقيل: بالخاء لذهاب كل اللون، وبالكاف لتغيره. ومشروعيتها أمرٌ متفق عليه، لكن اختلف في الحكم وفي الصفة. فالجمهور على أنها سنة مؤكدة، وصرّح أبو عوانة في صحيحه بوجوبها، وحكى عن مالك أنه أجراها مجرى الجمعة، وأوجبها بعض الحنفية. قالوا للأمر بها في حديث: فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة، وقد دلّ عليها الكتاب في قوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} والكسوف آية من آيات الله يخوّف الله به عباده، ويأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى قريبًا. وأمّا صفتها فهي عند الجمهور على ما هو مصرّح به في حديث الباب من زيادة قيامين وركوعين، وقد وافقت عائشة أسماء فيما يأتي في أبواب الكسوف، وكذلك عبد الله بن عباس وابن عمر فيما اتفقا عليه، وكذلك جابر عند مسلم، وعلي عند أحمد، وأبو هريرة عند النَّسائي، وابن عمر عند البزّار، وأم سفيان عند الطبراني. ففي رواياتهم زيادة رواها الحفّاظ الثقات، فالأخذ بها أولى من إلغائها، وبذلك قال جمهور أهل العلم من أهل الفتيا. وقالت الحنفية إنها كهيئة النافلة بغير أذان ولا إقامة مثل: صلاة الفجر والجمعة في كل ركعة ركوع واحد. وبه قال النخعي والثوري وابن أبي ليلى وغيرهم. واحتجّوا بما أخرجه أبو داود والنَّسائي والترمذي في الشمائل عن عبد الله بن عمر. وقال: انكسفت الشمس على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يكد يركع، ثم ركع، فلم يكد يرفع، ثم رفع فلم يكد يسجد، ثم سجد فلم يكد يرفع، ثم رفع فلم يكد يسجد، ثم سجد فلم يكد يرفع، ثم رفع وفعل في الركعة الأخرى مثل ذلك. وبما أخرجه النسائي وأحمد والحاكم، وقال على شرطهما عن النعمان بن بشير قال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: إذا خسفت الشمس والقمر فصلّوا كأحدث صلاة صلّيتموها من المكتوبة. ورواه أبو داود والنَّسائي وابن ماجه بلفظ: كسفت الشمس على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فجعل يصلّي ركعتين ركعتين، ويسأل عنها حتى انجلت، لكن قال البيهقي أنه مرسل لأنه عن أبي قلابة عن النعمان بن بشير وأبو قلابة لم يسمع من النعمان وصرّح في الكمال بأنه سمع منه. وقال ابن حزم: أبو قلابة أدرك النعمان، وروى هذا الخبر عنه، وصرّح ابن عبد البر بصحّة هذا الحديث، وقال: من أحسن حديث ذهب إليه الكوفيون حديث أبي قلابة عن النعمان، وتأوّله بعضهم بأن قوله في ركعتين أي: ركوعين، وقد وقع التعبير عن الركوع بالركعة في حديث الحسن: خسف القمر وابن عبّاس بالبصرة، فصلّى ركعتين: في كل ركعة ركوعان. أخرجه الشافعي. وتحتمل أن يكون السؤال وقع بالإشارة فلا يلزم التكرار، وقد أخرج عبد الرزاق بإسناد صحيح عن أبي قلابة أنه -صلى الله عليه وسلم- كلّما ركع ركعة أرسل رجلًا ينظر هل انجلت، فتعين الاحتمال المذكور، وإن ثبت تعدد القصة زال الأشكال أصلًا، واستدلّوا أيضًا بما أخرجه البخاري عن أبي بكرة قال:

خسفت الشمس على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فخرج يجر رداءه حتى انتهى إلى المسجد، وثاب الناس فصلّى ركعتين، فانجلت الشمس. وأجيب عن هذا: بأن النَّسائي زاد فيه كما تصلّون، فحمله ابن حبّان والبيهقي على أن المعنى كما تصلّون في الكسوف؛ لأن أبا بكرة خاطب بذلك أهل البصرة، وقد كان ابن عبّاس علّمهم أنها ركعتان: في كل ركعة ركوعان، كما روى ذلك الشافعي وابن شيبة وغيرهما، ويؤيد هذا أن في رواية يونس الآتية في الكسوف أن ذلك وقع يوم موت إبراهيم ابن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد ثبت في حديث جابر عند مسلم مثله، وقال فيه أن في كل ركعة ركوعين، فدل ذلك على اتحاد القصة، وظهر أن رواية أبي بكرة مطلقة. وفي رواية جابر زيادة بيان صفة الركوع والأخذ بها، وعند ابن خزيمة عن عائشة أن ذلك كان يوم مات إبراهيم عليه السلام، وفي حديثها كما مرَّ أن في كل ركعة ركوعين. وقد قال الطحاوي أن قول أصحابه أجري على القياس في صلاة النافلة. واعترض هذا بأن القياس مع وجود النص يضمحل، وبأن صلاة الكسوف جاءت على صفة مخصوصة فلا مدخل للقياس فيها، بل كل ما ثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- فعله فيها كان مشروعًا؛ لأنها أصل برأسها، وبأنها أيضًا أشبه بصلاة العيد ونحوها مما يجمع فيه من النوافل، فامتازت صلاة الجنازة بترك الركوع والسجود، وصلاة العيد بزيادة التكبيرات، وصلاة الخوف بزيادة الأفعال الكثيرة واستدبار القبلة. فلذلك اختصت صلاة الكسوف بزيادة الركوع، فالأخذ به جامع بين العمل بالنصّ والقياس، بخلاف من لم يعمل به. وقد وردت الزيادة في ذلك من طرق أخرى. فعند مسلم من وجه آخر عن عائشة، وآخر عن جابر أن في كل ركعة ثلاث ركوعات، وبه قال قتادة وعطاء وإسحاق وابن المنذر، وعند مسلم من وجه آخر عن ابن عبّاس أنّ في كل ركعة أربع ركوعات، وبه قال طاووس، وحبيب بن أبي ثابت، وابن جريج، ولأبي داود عن أبيّ بن كعب والبزار عن علي أن في كل ركعة خمس ركوعات، ولا يخلو إسناد منها. ونقل صاحب الهدى عن الشافعي وأحمد والبخاري أنهم كانوا يعدّون الزيادة على الركوعين في كل ركعة غلطًا من بعض الرواة، فإن أكثر طرق الحديث يمكن ردّ بعضها إلى بعض، ويجمعها أن ذلك كان يوم مات إبراهيم عليه السلام. وإذا اتّحدت القصة تعين الأخذ بالراجح، وجمع بعضهم بين هذه الأحاديث بتعدد الواقعة، وأن الكسوف وقع مرارًا، فيكون كل من هذه الأوجه جائزًا. وإلى هذا نحا إسحاق، لكن لم تثبت عنده الزيادة على أربع ركوعات.

وقال ابن خزيمة وابن المنذر والخطابي وغيرهم من الشافعية: يجوز العمل بجميع ما ثبت من ذلك، وهو من الاختلاف المباح، وقوّاه النووي في شرح مسلم، وأبدى بعضهم أن حكمة الزيادة في الركوع والنقص كان بحسب سرعة الانجلاء وبطئه. فحين وقع الانجلاء في أول ركوع اقتصر على مثل النافلة. وحين أبطأ زاد ركوعًا، وحين زاد في الإبطاء زاد ثالثًا وهكذا إلى غاية ما ورد في ذلك وتعقبه النووي وغيره بأن إبطاء الانجلاء وعدمه لا يعلم في أول الحال ولا في الركعة الأولى. وقد اتفقت الروايات على أن عدد الركوع في الركعتين سواء، وهذا يدل على أنه مقصود في نفسه منوي من أول الحال، وأجيب باحتمال أن يكون الاعتماد على الركعة الأولى، وأمّا الثانية فهي تبع لها. فمهما اتفق وقوعه في الأولى بسبب بطء الانجلاء، يقع مثله في الثانية ليساوي بينهما. ومن ثم قال أصبغ من المالكية: إذا وقع الانجلاء في أثنائها يصلّي الثانية كالعادة، وعلى هذا يدخل المصلّي فيها على نية مطلق الصلاة، ويزيد في الركوع بحسب الكسوف، ولا مانع من ذلك، والقول الثاني عند المالكية أنه يتمّها على هيئتها. وأجاب بعض الحنفية عن زيادة الركوع بحمله على رفع الرأس لرؤية الشمس هل انجلت أم لا؟ فإذا لم يرها انجلت رجع إلى ركوعه ففعل ذلك مرّة أو مرتين أو مرارًا، فظن بعض من رآه يفعل ذلك ركوعاً زائدًا وتعقّب بالأحاديث الصحيحة الصريحة في أنه أطال القيام بين الركوعين، ولو كان الرفع لرؤية الشمس فقط لم يحتج إلى تطويل، ولاسيّما الأخبار الصريحة بأنه ذكر ذلك الاعتدال ثم شرع في القراءة، فكل ذلك يرد هذا العمل ولو كان كما زعم هذا القائل لكان فيه إخراجٌ لفعل الرسول عن العبادة المشروعة أو لزم منه إثبات هيئة في الصلاة لا عهد لها، وهذا هو ما فسرّ منه. وقد اختلف في الجهر فيها والإصرار أيهما أفضل؟ فقد وردت طرق كثيرة يعضد بعضها بعضًا، يفيد مجموعها الجزم بالجهر، وورد الجهر عن علي مرفوعاً وموقوفًا. أخرجه ابن خزيمة وغيره، وقال به صاحبا أبي حنيفة وأحمد وإسحاق وابن المنذر وابن خزيمة وغيرهما من محدثي الشافعية، وابن العربي من المالكية. وقال الطبري: يخيّر بين الجهر والإسرار. وقال الأئمة الثلاثة: يسرّ في الشمس ويجهر في القمر، واحتجوا بقول ابن عبّاس عند البخاري: قرأ نحوًا من سورة البقرة لأنه لو جهر لم يحتج إلى الحزر، وتعقْب بأنه يحتمل أن يكون بعيدًا منه. لكن ذكر الشافعي تعليقًا عن ابن عبّاس أنه صلّى بجنب النبي -صلى الله عليه وسلم- في الكسوف فلم يسمع حرفًا منه، ووصله البيهقي من ثلاثة طرق أسانيدها واهية، وعلى تقدير صحتها فمثبت الجهر معه قدر زائد، فالأخذ به أولى، وإن ثبت التعدد فيكون فعل ذلك ليان الجواز، وهكذا الجواب عن حديث سمرة عند ابن خزيمة، والترمذي لم يسمع له صوتًا أنه إن ثبت لا يدل على نفي الجهر. قال ابن العربي: الجهر عندي أولى لأنها صلاة جامعة ينادى لها وتخطب، فأشبهت العيد والاستسقاء.

والمحل الذي تصلّى فيه: قالت الحنفية: تصلّى في المسجد الجامع، أو في مصلّى. وقالت المالكية والشافعية والحنابلة: السنّة في المسجد لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- فعلها فيه، ولأن وقت الكسوف يضيق عن الخروج إلى المصلّى. وقوله: فأطال القيام. وفي رواية ابن شهاب في حديث عائشة الآتي في الكسوف فقرأ قراءة طويلة، وفي آخر الصلاة عنه من وجه آخر فقرأ سورة طويلة. وفي حديث ابن عبّاس في الكسوف: فقرأ نحواً من سورة البقرة في الركعة الأولى، ونحوه لأبي داود عن عروة، وزاد فيه أنه قرأ في القيام الأول من الركعة الثانية نحوًا من آل عمران. وقوله: ثم قام فأطال القيام في رواية ابن شهاب. ثم قال سمع الله لمن حمده وزاد من وجه آخر عنه في آخر الكسوف ربنا ولك الحمد، واستدل به على استحباب الذكر المشروع في الاعتدال في أول القيام الثاني من الركعة، واستشكله بعض متأخري الشافعية من جهة كونه قيام قراءة لا قيام اعتدال، بدليل اتفاق العلماء ممن قال بزيادة الركوع في كل ركعة على قراءة الفاتحة فيه، وإن كان محمد بن مسلمة المالكي خالف فيه. وأجيب بما مرَّ في الرد على الحنفية من أن صلاة الكسوف جاءت على صفة مخصوصة، فلا مدخل للقياس فيها .. الخ، وقوله فأطال الركوع قال في الفتح: لم أر في شيء من الطرق بيان ما قال فيه، إلا أن العلماء اتفقوا على أنه لا قراءة، وإنما فيه الذكر من تسبيح وتكبير ونحوهما، ولم يقع في هذه الرواية ذكر تطويل الاعتدال الذي يقع السجود بعده، ولا تطويل الجلوس بين السجدتين. وقد جاء في حديث جابر عن مسلم تطويل الاعتدال الذي يليه السجود ولفظه: ثم ركع فأطال، ثم سجد. وقال النووي: هي رواية شاذّة مخالفة، فلا يعمل بها، أو المراد زيادة الطمأنينة في الاعتدال لا إطالته نحو الركوع، وتعقب بما رواه النَّسائي واين خزيمة وغيرهما عن عبد الله بن عمر، وأيضًا ففيه ثم ركع فأطال حتى قيل لا يرفع ثم ريع فأطال حتّى قيل لا يسجد، ثم سجد فأطال حتّى قيل لا يرفع، ثم رفع فجلس فأطال الجلوس حتى قيل لا يسجد، واللفظ لابن خزيمة عن الثوري عن عطاء بن السائب، والثوري سمع من عطاء قبل الاختلاط، فالحديث صحيح. قال في الفتح: لم أقف في شيء من الطرق على تطويل الجلوس بين السجدتين إلا في هذا، وقد نقل الغزالي الاتفاق على ترك إطالته، فإن أراد الاتفاق المذهبي فلا كلام، وإلا فهو محجوج بهذه الرواية. قلت: الرواية إذا لم يثبت أخْذُ أحد من العلماء بها لا تكون ردًا عليه لأن الاتفاق اتفاق العلماء لا اتفاق روايات الحديث. ولم أر من أخذ بها، بل حكت المالكية الإجماع على ترك إطالته أيضًا. وقوله: فأطال السجود، كل الأحاديث ظاهرة في أن السجود في الكسوف يطول كما يطول القيام والركوع، وأبدى بعض المالكية فيه بحثًا فقال: لا يلزم من كونه أطال أن يكون بلغ به حد

الإطالة في الركوع، وكأنه غفل عمّا رواه مسلم عن جابر بلفظ: وسجوده نحو من ركوعه، وهذا مذهب مالك وأحمد وأحد قولي الشافعي. وبه جزم أهل العلم بالحديث من أصحابه واختاره ابن سريج ثم النووي. وتعقّبه صاحب المهذب بأنه لم ينقل في خبر ولم يقل به الشافعي، وردّ عليه في الأمرين معًا، فإن الشافعي نصّ عليه في البويطي ولفظه: ثم يسجد سجدتين طويلتين يقيم في كل سجدة نحوًا مما قام في ركوعه. وقد مرّ في حديث جابر قريبًا، وقوله ثم انصرف أي: من الصلاة. وفي رواية عائشة الآتية في الكسوف: ثم انصرف وقد تجلّت الشمس، فخطب النّاس، فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله وكبّروا وصلّوا وتصدّقوا. وفي رواية أبي مسعود الآتية فيه: فإذا رايتموها فقدموا فصلّوا. وفي رواية أبي بكرة فيه: ولكن الله يخوّف بهما عباده. وها أنا أتكلم على الزيادات حصرًا للكلام في محل واحد. قوله: وقد تجلّت الشمس في رواية ابن شهاب: انجلت الشمس، قبل أن ينصرف. وللنسائي ثم تشهّد وسلّم. وقوله: فخطب الناس فيه مشروعية الخطبة لكسوف، والعجب أن مالكًا روى هذا الحديث عن هشام وفيه التصريح بالخطبة، ولم يقل به أصحابه. وقد اختلف فيها فاستحبّها الشافعي وإسحاق وأكثر أصحاب الحديث، وقال ابن قدامة: لم يبلغنا عن أحمد ذلك. وقال صاحب الهداية من الحنفية: ليس في الكسوف خطبة؛ لأنه لم ينقل، وتعقب بأن الأحاديث ثبتت فيه، وهي ذات كثرة. والمشهور عن المالكية أن لا خطبة لها مع أن مالكًا روى الحديث وفيه ذكر الخطبة. وأجاب بعضهم بأنه عليه الصلاة والسلام لم يقصد لها خطبة بخصوصها، وإنّما أراد أن يبيّن لهم الردّ على من زعم أن الكسوف لموت بعض الناس. وتعقّب بما في الأحاديث الصحيحة من التصريح بالخطبة، وحكاية شرائطها من الحمد والثناء والموعظة وغير ذلك مما تضمنته الأحاديث. فلم يقتصر على الإعلام بسبب الكسوف. والأصل مشروعية الاتباع، والخصائص لا تثبت إلا بدليل. واستضعف ابن دقيق العيد التأويل المذكور. وقال إن الخطبة لا تنحصر مقاصدها في شيء معين بعد الإتيان بما هو المطلوب منها من الحمد والثناء والموعظة. وجميع ما ذكر من سبب الكسوف وغيره هو من مقاصد خطبة الكسوف، فينبغي التأسّي بالنبيّ عليه الصلاة والسلام. فيذكر ذلك الإِمام في خطبة الكسوف. نعم نازع ابن قدامة في كون خطبة الكسوف كخطبة الجمعة والعيدين، إذ ليس في الأحاديث المذكورة ما يقتضي ذلك. وإلى ذلك نحا ابن المنير في حاشيته، وردّ على من أنكر أصل الخطبة

لثبوت ذلك صريحًا في الأحاديث. وذكر أن بعض أصحابهم احتج على ترك الخطبة بأنه لم ينقل في الحديث أنه صعد المنبر، ثم زيفه بأن المنبر ليس شرطًا، ثم لا يلزم من أنه لم يذكر أنه لم يقع. قلت: الجواب الحق عن مالك في تركه الخطبة بعد صلاة الكسوف وجعله بدل الخطبة وعظًا غير منظّم على هيئة الخطبة مع روايته لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها المصرّح فيه بلفظ الخطبة هو: أنه لما رأى جماعة من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- منهم علي والنعمان بن بشير وابن عبّاس وأبو هريرة وغيرهم نقلوا صفة صلاة الكسوف ولم يذكر أحد منهم أنه عليه الصلاة والسلام خطب فيها، ولا يجوز أن يكون خطب وأغفل هؤلاء كلّهم ذلك مع نقل كل واحد منهم ما تعلق بتلك الحال، مع أنه لم ينقل عن عائشة ولا غيرها صفة لها كخطبة الجمعة والعيدين كما مرّ، فوجب حمل تسمية عائشة رضي الله تعالى عنها لها خطبة أو غيرها ممن نقل عنه ذلك على المجاز لكونه أتى بكلام منظوم فيه حمد الله والصلاة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على طريق الخطبة، فلذلك سمّتها خطبة. ولعلّ مالكًا أدرك عمل المدنية على ما ذكر من الوعظ، فحمل الخطبة المذكورة في الحديث الذي روي على ذلك، وعمل أهل المدنية عنده كما مرَّ كالمتواتر. واستدل بقوله: فخطب بعد قوله. وقد تجلّت من قال بالخطبة على أن الانجلاء لا يسقط الخطبة بخلاف انجلت قبل أن يشرع في الصلاة، فإنه يسقط الصلاة والخطبة. وقد مرّ حكم ما إذا انجلت في أثنائها عند المالكية. وظاهر كلام صاحب الفتح أنه يتمّها عندهم على الهيئة المذكورة. وقوله: آيتان من آيات الله أي: علامتان من آيات الله الدالة على وحدانية الله وعظيم قدرته أو على تخويف العباد من بأس الله وسطوته، ويؤيده قوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} وقد قال في الرواية المتقدمة: يخوّفُ الله بهما عباده. وفي قوله يخوّف الله بهما عباده ردٌ على من زعم من أهل الهيئة أن الكسوف أمر عادي لا يتأخر ولا يتقدم، إذ لو كان كما يقولون لم يكن في ذلك تخويف ويصير بمنزلة الجزر والمدّ في البحر. وقد ردّ ذلك عليهم ابن العربي وغيره من أهل العلم بما في حديث أبي موسى الآتي في الكسوف حيث قال: فقام فزعًا يخشى أن تكون الساعة. قالوا: فلو كان الكسوف بالحساب لم يقع الفزع، ولو كان بالحساب لم يكن للأمر بالعتق والصدقة والصلاة والذكر معنى، فإن ظاهر الأحاديث أن ذلك يفيد التخويف، وأن كل ما ذكر من أنواع الطاعة يرجى أن يدفع به ما يخشى من أثر ذلك الكسوف. وممّا نقض ابن العربي وغيره أنهم يزعمون أن الشمس لا تنكسف على الحقيقة، وإنما يجول القمر بينهما وبين أهل الأرض عند اجتماعهما في العقدتين. فقال: هم يزعمون أن الشمس أضعاف القمر في الجرم، فكيف يحجب الصغير الكبير إذا قابله أم كيف يظلم الكثير بالقليل ولا

سيّما وهو من جنسه، وكيف تحجب الأرض نور الشمس وهي في زاوية منها لأنهم يزعمون أن الشمس أكبر من الأرض بتسعين ضعفًا. وقد وقع في حديث النعمان بن بشير وغيره سبب آخر للكسوف غير ما يزعمه أهل الهيئة، وهو ما أخرجه أحمد والنَّسائي وابن ماجه وصحّحه ابن خزيمة والحاكم بلفظ أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما آيتان من آيات الله وأن الله إذا تجلّى لشيء من خلقه خشع له، وقد استشكل الغزالي هذه الزيادة وقال: إنها لم تثبت، فيجب تكذيب ناقلها ولو صحت لكان تأويلها أهون من مكابرة أمور قطعية لا تصادم أصلًا من أصول الشريعة. قال ابن بزيزة: هذا عجيب منه، كيف يسلّم دعوى الفلاسفة ويزعم أنها لا تصادم الشريعة مع أنّها مبنية على أن العالم كرويّ الشكل، وظاهر الشرع يعطي خلاف ذلك، والثابت من قواعد الشريعة أن الكسوف أثر الإرادة القديمة وفعل الفاعل المختار، فيخلق في هذين الجرمين النور متى شاء. والظلمة متى شاء من غير توقف على سبب أو ربط باقتراب. والحديث الذي ردّه الغزالي قد أثبته غير واحد من أهل العلم، وهو ثابت من حيث المعنى أيضًا لأن النورية والاضاءة من عالم الجمال الحسّي، فإذا تجلت صفة الجلال انطمست الأنوار لهيبته، ويؤيّده قوله تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} ويؤيد هذا الحديث ما روي عن طاووس أنه نظر إلى الشمس وقد انكسفت فبكى، حتّى كاد أن يموت. وقال: هي أخوف لله منّا. وقال ابن دقيق العيد: ربّما يعتقد بعضهم أن الذي يذكره أهل الحساب ينافي قوله: {يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ} وليس بشيء، لأن لله أفعالًا على حسب العادة، وأفعالًا خارجة عن ذلك، وقدرته حاكمة على كل سبب، فله أن يقتطع ما يشاء من الأسباب والمسببات بعضها عن بعض. وإذا ثبت ذلك فالعلماء بالله لقوة اعتقادهم في عموم قدرته على خرق العادة، وأنه يفعل ما يشاء إذا وقع شيء غريب حدث عندهم الخوف لقوة ذلك الاعتقاد، وذلك لا يمنع أن تكون هناك أسباب تجري عليها العادة إلى أن يشاء الله خرقها، وحاصله أن الذي يذكره أهل الحساب إن كان حقًا في نفس الأمر لا ينافي كون ذلك مخوفًا لعباد الله تعالى (¬1). وقوله: لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته قد جاء في رواية عبد الوارث الآتية في الكسوف بيان سبب هذا القول ولفظه: أن ابنًا للنبي -صلى الله عليه وسلم- يقال له إبراهيم مات، فقال الناس في ذلك. وفي رواية مبارك بن فضالة عند ابن حبّان، فقال الناس: إنما كسفت الشمس لموت إبراهيم. ولأحمد والنَّسائي وابن ماجه وصحّحه ابن خزيمة وابن حبّان عن النعمان بن بشير قال: انكسفت ¬

_ (¬1) يقول مصححه: ثبت علميًا قطعياً صحة قول الفلكيين في معرفة أوقات الكسوف والخسوف سلفًا. فقول ابن دقبق العيد والغزالى هو الأقرب للصواب، والله أعلم.

الشمس على عهد رسول -صلى الله عليه وسلم- فخرج فزعًا يجر ثوبه حتّى أتى المسجد، فلم يزل يصلّي حتى انجلت، فلمّا انجلت قال: إن الناس يزعمون أن الشمس والقمر لا ينكسفان إلا لموت عظيم من العظماء، وليس كذلك. الحديث. واستشكل قوله: ولا لحياته بأن السياق إنما ورد في حقّ من ظنّ ذلك لموت إبراهيم ولم يذكروا الحياة. والجواب أن فائدة ذكر الحياة دفع توهّم من يقول لا يلزم من نفي كونه سببًا للفقد أن لا يكون سببًا للإيجاد، فعمّم الشارع النفي لدفع هذا التوهم. وفي هذا الحديث إبطال ما كان أهل الجاهلية يعتقدونه من تأثير الكواكب في الأرض. وهو كقوله الآتي في الاستسقاء. يقولون مطرنا بنوء كذا. قال الخطابي: كانوا في الجاهلية يعتقدون أن الكسوف يوجب حدوث تغيّر في الأرض من موت أو ضرر، فأعلم النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه اعتقاد باطل، وأن الشمس والقمر خلقان مسخّران لله ليس لهما سلطان في غيرهما ولا قدرة على الدفع عن أنفسهما. وفيه ما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- من الشفقة على أمّته وشدة الخوف من ربّه. وقوله: فقوموا فصلّوا استدل به على أنه لا وقت لصلاة الكسوف معين؛ لأن الصلاة علّقت برؤيته، وهي ممكنة في كل وقت من النهار، وبهذا قال الشافعي ومن تبعه، ومذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد أنها لا تصلّى في أوقات الكراهة، وابتداؤها عندهم من حل النفل وآخرها عند مالك الزوال. وإذا طلعت مكسوفة لا يصلّى حتى يدخل وقت الجواز. واحتجت الشافعية بأن المقصود لإيقاع هذه العبادة قبل الانجلاء. وقد اتفقوا على أنها لا تقضى بعد الانجلاء، فلو انحصرت في وقت لأمكن الانجلاء قبله فيفوت المقصود. واعترفوا بأنه عليه الصلاة والسلام لم يصلّها إلاَّ ضحى ولكن قالوا: إن ذلك وقع اتفاقًا ولا يدل على منع ما عداه، واحتج الباقون بما رواه ابن عبد البر في الاستنكار عن الليث بن سعد قال: حججت سنة ثلاث عشرة ومائة، وعلى الموسم سليمان بن هشام، وبمكة شرّفها الله تعالى عطاء بن أبي رباح، وابن شهاب، وابن أبي مليكة، وعكرمة بن خالد، وعمرو بن شعيب، وأيوب بن موسى، وكسفت الشمس بعد فقاموا قيامًا يدعون الله في المسجد فقلت لأيوب: مالهم لا يصلّون؟! فقال: النهي قد جاء عن الصلاة بعد العصر، فلذلك لا يصلّون، إنّما يذكرون حتى تنجلي الشمس. وقال إسحاق: يصلّون بعد العصر ما لم تصفرّ الشمس، وبعد صلاة الصبح، ولا يصلّون في الأوقات الثلاثة، فلو كسفت عند الغروب لم يصلّ إجماعًا. وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم من المبادرة بالصلاة. وسائر ما ذكر عند الكسوف من صدقة وذكر وعتق وفيه تقديم الإِمام في الموقف وتعديل الصفوف والتكبير بعد الوقوف في موضع الصلاة والرد على من زعم أن للكواكب

تاثيرًا في الأرض لانتفاء ذلك عن الشمس والقمر. فكيف بما دونهما؟ وفيه بيان ما يخشى اعتقاده على غير الصواب واهتمام الصحابة بنقل أفعال النبي -صلى الله عليه وسلم- ليقتدى به فيها. ومن حكمة وقوع الكسوف تبيين أنموذج ما سيقع في القيمة وصورة عقاب من لم يذنب والتنبيه على سلوك طريق الخوف مع الرَّجاء لوقوع الكسوف بالكوكب. ثم كشف ذلك عنه ليكون المؤمن من ربّه على رجاء وخوف. وفي الكسوف إشارة إلى تقبيح رأي من يعبد الشمس أو القمر. وحمل بعضهم الأمر في قوله تعالى: {لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} على صلاة الكسوف لأنه الوقت الذي يناسب الإعراض عن عبادتهما لما يظهر فيهما من التغير والنقص المنزّه عنه المعبود جلّ وعلا. وقوله: دنت منيّ الجنة .. الخ، مرّ الكلام عليه مستوفى في باب كفران العشير من كتاب الإيمان. وقوله: أنا أوَ أنا معهم؟ كذا للأكثر بهمزة الاستفهام بعدها واو عاطفة على مقدر. وفي رواية كريمة بحذف الهمزة وهي مقدرة. وقوله: فإذا امرأة. وفي رواية ابن عمر عند المصنّف في آخر بدء الخلق: دخلت امرأة النار في هرّة، والمرأة لم تسمّ، وفي رواية أنّها حميْرية. وفي أخرى أنّها من بني إسرائيل وكذا عند مسلم، ولا تضاد بينهما لأن طائفة من حمير كانوا قد دخلوا في اليهودية فنسبت إلى دينها تارة وإلى قبيلتها أخرى. وفي كتاب البعث للبيهقي ما يدلّ على ذلك. وأبداه عيّاض احتمالًا. وأغرب النووي فأنكره. وقوله: حسبت أنه قال: تخدشها هرّة. قائل ذلك هو نافع بن عمر راوي الحديث بينه الإسماعيلي، فالضمير في أنّه لابن أبي مليكة وتخدشها من الخدش، وهو خدش الجلد وقشره بعود ونحوه، وهو من باب ضرب. وقوله في الرواية السابقة في هرّة أي: بسبب هرّة، فالفاء سببيّة. وفي رواية أبى هريرة عند مسلم من جَرّا هرّة وهو بمعناه، وجَرّا بفتح الجيم وتشديد الراء مقصور ويجوز فيه المدّ. والهرّة أنثى السنّور، والهرّ الذكر، ويجمع الهرّ على هررة، كقرد وقردة، وتجمع الهرّة على هرر، كقربة وقرب. وفي حديث جابر الآتي في الكسوف: وعرضت عليّ النار، فرأيت فيها امرأة من بني إسرائيل تعذّب في هرّة لها. وقوله: لا هي أطعمتها: سقط لفظ هي من رواية الكشميهني والحموي. وقوله: تأكل من خشيش أو خشاش كذا في هذه الرواية على الشك. وكل من اللفظين بمعجمات مفتوح الأول. وأنكر الخطابي رواية خشيش وضبطها بعضهم بضم أوّله على التصغير من

رجاله أربعة

لفظ خشاش. فعلى هذا لا إنكار، وفي الخشاش الضم والكسر فهو مثلّث والمراد به هوامّ الأرض وحشراتها من فأرة ونحوها. وحكى النووي أنه روي بالحاء المهملة، والمراد: نبات الأرض. قال: وهو ضعيف أو غلط. وظاهر هذا الحديث أن المرأة عذّبت بسبب قتل هذه الهرّة بالحبس. قال عياض: يحتمل أن تكون المرأة كافرة، فعذّبت بالنار حقيقة، أو بالحساب؛ لأن من نوقش الحساب عذّب. قلت: صريح الرواية الماضية أن العذاب وقع بالنار حقيقة لا بالحساب، فلا معنى للاحتمال، ولعلّه سها عن هذه الرواية، ويحتمل أن تكون المرأة كافرة، فعذبت بكفرها وزيدت بسبب ذلك عذابًا، أو مسلمة وعذّبت بسبب ذلك. قال النووي: يظهر أنها كانت مسلمة وإنما دخلت النار بهذه المعصية. كذا قال. ويؤيد كونها كانت كافرة ما أخرجه البيهقي في البعث والنشور، وأبو نعيم في تاريخ أصبهان عن عائشة وفيه قصة لها مع أبي هريرة، وهو بتمامه عند أحمد، وفيه جواز اتخاذ الهرّة ورباطها إذا لم يهمل إطعامها وسقيها ويلتحق بذلك غير الهرة مما في معناها. وفيه وجوب نفقة الحيوان على مالكه. كذا قال النووي. ويدل لما قاله رواية هرّة لها المتقدمة، فإنها دالة على ملكها لها، وعلى أن الهرّ يملك، فلا معنى لقول القرطبي إنه لا يملك، وإنما يجب إطعامه على من حبسه. ولم يجر في هذا الحديث ذكر لخسوف القمر. فلذا أخّرت الكلام عليه إلى قول المصنّف في الكسوف، باب الصلاة في كسوف القمر. رجاله أربعة: قد مرّوا: مرَّ سعيد بن أبي مريم، ونافع بن عمر في الرابع والأربعين من العلم، ومرّت أسماء في الثامن والعشرين منه، ومرَّ ابن أبي مليكة في متابعة في باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله بعد الأربعين من العلم. لطائف الإسناد: فيه التحديث بالجمع والإفراد والإخبار والعنعنة والقول. ورواته ما بين مصري ومكّي. وفيه رواية تابعي عن صحابية، أخرجه البخاري أيضًا في الشرب عن سعيد بن أبي مريم. وأخرجه الستة خلا الترمذي في الصلاة. ثم قال المصنّف: باب رفع البصر إلى الإِمام في الصلاة قال الزين بن المنير: نظر المأموم إلى الإِمام من مقاصد الائتمام، فإذا تمكن من مراقبته بغير

التفات كان ذلك من إصلاح صلاته. وقال ابن بطّال: فيه حجة لمالك في أن نظر المصلّي يكون إلى جهة القبلة. وأحاديث الباب شاهدة له لأنهم لو لم ينظروا إليه عليه الصلاة والسلام ما رأوا تأخّره حين عرضت عليه جهنّم، ولا رأوا اضطراب لحيته، ولا استدلّوا بذلك على قراءته، ولا نقلوا ذلك، ولا رأوا تناوله فيما تناوله في قبلته حين مثلت له الجنّة. وقال أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور: يستحب له أن ينظر إلى موضع سجوده؛ لأنه أقرب للخشوع، واستثنى بعض مشايخ الحنفية إذا كان مشاهدًا للكعبة، فإنه ينظر إليها. وقال القاضي حسين: ينظر إلى موضع سجوده في حال قيامه، وإلى قدميه في ركوعه، وإلى أنفه في سجوده، وإلى حجره في تشهده؛ لأن امتداد النظر يلهي، فإذا قصر كان أولى. وورد في ذلك حديث أخرجه سعيد بن منصور من مرسل محمد بن سيرين ورجاله ثقات. وأخرجه البيهقي موصولًا. وقال المرسل: هو المحفوظ، وفيه أن ذلك سبب نزول قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} ويمكن أن يفرق بين الإِمام والمأموم، فيستحب للإمام النظر موضع السجود. وكذا للمأموم إلا حيث يحتاج إلى مراقبة إمامه، وأما المنفرد فحكمه حكم الإمام. ثم قال: وقالت عائشة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في صلاة الكسوف: رأيت جهنّم يحطم بعضها بعضًا حين رأيتموني تأخّرت، وموضع الترجمة منه قوله حين رأيتموني. وهذا طرف من حديث وصله المؤلف في باب: إذا انفلتت الدابة وهو في أواخر الصلاة، وعائشة مرّت في الثاني من بدء الوحي.

الحديث الخامس عشر

الحديث الخامس عشر حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ قَالَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ قَالَ: قُلْنَا لِخَبَّابٍ أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ قَالَ نَعَمْ. قُلْنَا بِمَ كُنْتُمْ تَعْرِفُونَ ذَاكَ قَالَ بِاضْطِرَابِ لِحْيَتِهِ. وموضع الترجمة منه قوله: باضطراب لحيته. فيه الحكم بالدليل، لكونهم حكموا باضطراب لحيته على قراءته، لكن لابد من قرينة تعين القراءة دون الذكر والدعاء، مثلًا لأن اضطراب اللحية يحصل بكل منهما، وكأنهم نظروه بالصلاة الجهرية؛ لأن ذلك المحل منها هو محل القراءة لا الذكر والدعاء. وإذا انضمّ إلى ذلك قول أبي قتادة: كان يسمعنا الآية أحيانًا قوي الاستدلال. وقال بعضهم: احتمال الذكر ممكن، لكن جزم الصحابي بالقراءة مقبول لأنه أعرف بأحد المحتملين، فيقبل تفسيره. واستدل به المصنّف على رفع بصر الإمام إلى المأموم هنا، وعلى مخافتة القراءة في الظهر والعصر كما سيأتي. واستدل به البيهقي على أن الإسرار بالقراءة لابد فيه من إسماع المرء نفسه، وذلك لا يكون إلا بتحريك، للسان والشفتين، بخلاف ما لو أطبق شفتيه، وحرّك لسانه بالقراءة فإنه لا تضطرب بذلك لحيته، فلا يسمع نفسه. وفي هذا نظر لا يخفى. رجاله ستة: مرّت الثلاثة الأول منهم، مرّ موسى بن إسماعيل في الخامس من بدء الوحي، ومرّ عبد الواحد بن زياد في التاسع والعشرين من الإيمان، ومرّ الأعمش في الخامس والعشرين منه. الرابع: عُمارة بن عمير التيمي من بني تيم الله بن ثعلبة كوفي. قال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عنه فقال: ثقة وزيادة، أيسال عن مثل هذا. وقال ابن مَعين وأبو حاتم والنَّسائي: ثقة. وقال العجلي كوفي: ثقة. وكان خيارًا نظر إلى رجل فقال: ألست الذي كنت تجالسنا؟ قال: بلى. قال: فأخرج صرّة فيها خمسون دينارًا فدفعها إليه، وذكره ابن حبّان في الثقات. رأى عبد الله بن عمر. وروى عن الأسود وعبد الرحمن بن يزيد وأبي معمر عبد الله بن سَخْبَرة وغيرهم. وروى عنه إبراهيم النخعي والحكم بن عتيبة، والأعمش، ومنصور بن المعتمر وغيرهم مات في خلافة الوليد بن عبد الملك سنة ثمان وتسعين، وقيل سنة اثنتين وثمانين.

الخامس: أبو معمر عبد الله بن سَخْبَرة بفتح السين المهملة وسكون الخاء المعجمة وفتح الباء الموحدة الكوفي من أزد شنوءة. ذكره ابن حبّان في الثقات. وقال ابن سعد: ثقة وله أحاديث. وقال العجلي: تابعي ثقة، روى عن عمر وعلي والمقداد وابن مسعود وخبّاب وأبي موسى، وروى عنه عُمارة بن عمير ومجاهد وإبراهيم النخعي وغيرهم، توفي في ولاية عبيد الله بن زياد. السادس: خَبّاب بن الأرَتّ بتشديد المثناة ابن جندلة بن سعد بن خزيمة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم التميمي، ويقال الخزاعي أبو عبد الله سبي في الجاهلية فبيع بمكة، فكان مولى أم أنمار الخزاعية. وقيل غير ذلك، ثم حالف بني زهرة. وقال الطبري: إنما انتسب في بني زهرة لأن آل سباع حلفاء عمرو بن عبد عوف بن عبد الحارث بن زهرة، وآل سباع منهم سباع بن أم أنمار الخزاعية كان من السابقين الأوّلين، أسلم قديمًا وكان من المستضعفين. روى البارودي أنه أسلم سادس ستة، وهو أول من أظهر إسلامه، وعذب عذابًا شديدًا لذلك. روى أبو داود عن الشعبي قال: سأل عمر خبابًا عمّا لقي من المشركين؟ فقال: يا أمير المؤمنين: انظر إلى ظهري، فنظر فقال: ما رأيت كاليوم! قال خبّاب: لقد أوقدت لي نار وسحبت عليها، فما أطفاها إلا ودك ظهري. شهد المشاهد كلها، وآخى النبي -صلى الله عليه وسلم- بينه وبين تميم مولى خِرَاش بن الصَمّة. وقيل آخى بينه وبين جبير بن عتيك. قال ابن عبد البر: والأول أصح. واقتصر في الإصابة على الثاني. كان يعمل السيوف في الجاهلية، ثبت ذلك في الصحيحين، وثبت فيهما أيضًا أنه تمول وأنه مرض مرضًا شديدًا حتى كاد أن يتمنى الموت. وروى مسلم من طريق قيس بن أبي حازم قال: دخلنا على خبّاب وقد اكتوى فقال: لولا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به. وروى الطبراني من طريق زيد بن وهب قال: لمّا رجع علي من صفّين مرَّ بقبر خبّاب فقال: يرحم الله خبّابًا، أسلم راغبًا، وهاجر طائعًا، وعاش مجاهدًا، وابتلي في جسمه أحوالًا، ولن يضيع الله أجره. له اثنان وثلاثون حديثًا، اتفقا على ثلاثة، وانفرد البخاري باثنين، ومسلم بواحد. روى عنه علقمة، ومسروق، وقيس بن إبي حازم، وأبو أمامة وابنه عبد الله، وأبو معمر. مات بالكوفة سنة سبع وثلاثين، منصرف علي من صفّين، وصلّى عليه عليّ. ويقال إنّه أول من دفن بظهر الكوفة، وأنه عاش ثلاثًا وستين سنة. وقيل: مات سنة تسع وثلاثين بعد أن شهد مع علي صفين والنهروان، وصلّى عليه عليّ. وقيل: مات سنة تسع عشرة بالمدينة وصلّى عليه عمر رضي الله تعالى عنهما. والأول أصح.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع والعنعنة، والقول بالإفراد والجمع، ورواته ما بين بصري وكوفيّ. أخرجه البخاري في الصلاة أيضًا عن محمد بن يوسف، وأبو داود، والنَّسائي، وابن ماجه في الصلاة أيضًا.

الحديث السادس عشر

الحديث السادس عشر حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَنْبَأَنَا أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ يَخْطُبُ قَالَ حَدَّثَنَا الْبَرَاءُ وَكَانَ غَيْرَ كَذُوبٍ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا صَلَّوْا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَرَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَامُوا قِيَامًا حَتَّى يَرَوْنَهُ قَدْ سَجَدَ. وقوله: حتى يرونه قد سجد في رواية كريمة وأبي الوقت بإثبات النون، وفي رواية أبي ذر والأصيلي بحذفها، وهو أوجه، وجاز الأول على إرادة الحال، وقد مرَّ الكلام على هذا الحديث مستوفى في باب حتى يسجد من خلف الإِمام. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ حجّاج بن منهال، وعبد الله بن يزيد في الثامن والأربعين من الإيمان، ومرّ شعبة في الثالث منه، ومرَّ أبو إسحاق والبراء في الثالث والثلاثين منه. فيه التحديث والإنباء وبصيغة الجمع، وفيه السماع والقول ورواية صحابي عن صحابي.

الحديث السابع عشر

الحديث السابع عشر حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضى الله عنهما قَالَ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَصَلَّى، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْنَاكَ تَنَاوَلُ شَيْئًا فِي مَقَامِكَ، ثُمَّ رَأَيْنَاكَ تَكَعْكَعْتَ. قَالَ: إِنِّي أُرِيتُ الْجَنَّةَ، فَتَنَاوَلْتُ مِنْهَا عُنْقُودًا، وَلَوْ أَخَذْتُهُ لأَكَلْتُمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا. ومناسبة الترجمة في قوله: رأيناك تكعكعت فهو في موضع الترجمة، وما فيه من رؤية الجنّة والنّار تقدم الكلام عليه مستوفى في باب كفران العشير من كتاب الإيمان، ومرّ الكلام على صلاة الكسوف مستوفى في الباب الذي قبله. ويأتي الحديث في الكسوف. رجاله خمسة: قد مرّوا جميعًا: مرَّ إسماعيل في الخامس عشر من الإيمان، ومرَّ زيد بن أسلم، وعطاء بن يسار في الثاني والعشرين منه، ومرّ مالك في الثاني من بدء الوحي، وابن عبّاس في الخامس منه. أخرجه البخاري أيضًا مطولًا في باب صلاة الكسوف. وأخرجه مسلم وأبو داود والنَّسائي في الصلاة أيضًا، وأخرج الترمذي أيضًا قطعة منه.

الحديث الثامن عشر

الحديث الثامن عشر حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ قَالَ حَدَّثَنَا هِلاَلُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: صَلَّى لَنَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ رَقَيَ الْمِنْبَرَ بِيَدَيْهِ قِبَلَ قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ الآنَ مُنْذُ صَلَّيْتُ لَكُمُ الصَّلاَةَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ مُمَثَّلَتَيْنِ فِي قِبْلَةِ هَذَا الْجِدَارِ، فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ ثَلاَثًا. وهذا الحديث يأتي في الرقاق، وفيه التصريح بسماع هلال له من أنس، واعترض الإسماعيلي على إيراده له هنا فقال: ليس فيه نظر المأمومين إلى الإمام. وأجيب: بأن فيه أن الإِمام يرفع بصره إلى أمامه، وإذا ساغ ذلك للإمام ساغ للمأموم، ويحتمل أن يكون مأخوذًا من قوله فأشار بيده قبل المسجد، فإن رؤيتهم الإشارة تقتضي أنهم كانوا يراقبون أفعاله، لكن يطرق هذا احتمال أن يكون سبب رفع بصرهم إليه وقوع الإشارة منه لا أن الرفع كان مستمرًا قلت: هذا الاحتمال بعيد جدًا لأن الإشارة لا صوت لها، فلا يراها إلا من كان رافعًا رأسه مراقبًا لأفعال الإِمام. ويحتمل أن يكون المراد بالترجمة: أن الأصل نظر المأموم إلى موضع سجوده؛ لأنه المطلوب في الخشوع، إلا إذا احتاج إلى رؤية ما يفعله الإِمام ليقتدي به مثلًا. والذي يظهر أن حديث أنس مختصر من حديث ابن عبّاس، وأن القصة فيهما واحدة، فسيأتي في حديث ابن عباس أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: رأيت الجنّة والنّار كما قال في حديث أنس. وقوله: صلّى لنا يومًا الصلاة كما في رواية الرقاق وفي رواية الزهري عن أنس أنها الظهر. وقوله: ثم رَقِي المنبر بفتح أوله وكسر القاف: من الارتقاء أي: صعد وزنًا ومعنىً. وقوله: ممثلتين أي: مصورتين وزنًا ومعنىً. يقال: مثله، إذا صوره كأنّه ينظر إليه. وقوله: في قِبلة هذا الجدار، بكسر القاف. وفي رواية: في قُبُل بضم القاف والباء، والمراد بالجدار: جدار المسجد. وقوله: فلم أر كاليوم في الخير والشر: المراد باليوم: الوقت الذي هو فيه. وقد مرّ الكلام عدى هذه الجملة في باب من صلّى وقدّامه تنّور أو نار، من أبواب المساجد، ومرَّ الكلام على ما ذكر فيه

رجاله أربعة

من رؤية الجنّة والنّار مستوفى في باب كفران العشير من كتاب الإيمان. ومرّ الحديث في باب وقت الظهر من أبواب المواقيت. ومرّ هناك ذكر ما لم يذكر سابقًا. رجاله أربعة: قد مرّوا: مرّ الثلاثة الأول في الأول من العلم، ومرَّ أنس في السادس من الإيمان. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة، وشيخ البخاري من أفراده أخرجه البخاري أيضًا في الصلاة عن يحيى بن صالح. ثم قال المصنّف: باب رفع البصر إلى السماء في الصلاة قال ابن بطّال: أجمعوا على كراهة رفع البصر في الصلاة، واختلفوا فيه خارج الصلاة في الدعاء، فكرهه شريح وطائفة، وأجازه الأكثرون لأن السماء قبلة الدعاء، كما أن الكعبة قبلة الصلاة. قال عياض: رفع البصر إلى السماء في الصلاة فيه نوع إعراض عن القبلة، وخروج عن هيئة الصلاة.

الحديث التاسع عشر

الحديث التاسع عشر حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي صَلاَتِهِمْ. فَاشْتَدَّ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَالَ: لَيَنْتَهُنَّ عَنْ ذَلِكَ أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ. قوله: حدّثنا قتادة فيه ردّ لما قاله ابن عدي في الكامل من أن بين سعيد بن أبي عروبة وقتادة رجلًا فأعلّ به الحديث. وقد أخرجه عبد الأعلي بن عبد الأعلى عن سعيد -وهو من أثبت أصحابه- وليس بقادح فيه رواية عبد الرزاق له عن معمر عن قتادة مرسلًا لم يذكر أنسًا لأن سعيدًا أعلم بحديث قتادة من معمر، وقد تابعه همّام على وصله عن قتادة. وقوله: ما بال أقوام أي: ما حالهم وشأنهم يرفعون أبصارهم. وقد بيّن ابن ماجه سبب هذا الحديث ولفظه: صلّى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومًا بأصحابه، فلمّا قضى الصلاة أقبل عليهم بوجهه فذكره. وإنّما لم يبيّن الرافع من هو لئلا ينكسر خاطره إذ النصيحة على رؤوس الأشهاد فضيحة. وقوله: في صلاتهم، زاد مسلم عن أبي هريرة عند الدعاء. فإن حمل المطلق على هذا المقيّد اختصاص الكراهة بالدعاء الواقع في الصلاة. وقد أخرجه ابن ماجه وابن حبّان عن ابن عمر بغير تقييد ولفظه لا ترفعوا أبصاركم في السماء يعني: في الصلاة. وأخرجه مسلم عن جابر بن سمرة بغير تقييد أيضًا، والطبراني عن أبي سعيد الخدري وكعب بن مالك. وأخرج ابن أبي شيبة عن محمد بن سيرين: كانوا يلتفتون في صلاتهم حتى نزلت {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)} فأقبلوا على صلاتهم ونظروا أمامهم، وكانوا يستحبّون أن لا يجاوز بصر أحدهم موضع سجوده. وصله الحاكم بذكر أبي هريرة فيه، ورفعه إلى النبيّ -صلى الله عليه وسلم- وقال في آخره: فطأطأ رأسه. واعترض العيني على صاحب الفتح قوله السابق. فإن حمل المطلق على هذا المقيد اقتضى اختصاص الكراهة بالدعاء الواقع في الصلاة. فقال: ليس الأمر كذلك، بل المطلق يجري على إطلاقه والمقيد على تقييده، والحكم عام سواء كان رفع بصره في الصلاة عند الدعاء أو بدون الدعاء.

رجاله خمسة

قلت: العيني لم يتأمل اعتراضه، إذ كيف يصح أن يبقى المقيّد على تقييده، وتكون الكراهة عامّة. فإن التقييد منافٍ لعموم الكراهة، فمع اعتباره لا يصح عموم الكراهة. وقوله: ليُنْتَهَيَنَّ بضم الياء وسكون النون وفتح التاء المثناة والهاء والياء وتشديد نون التوكيد على البناء للمجهول في رواية الحموي والمستملي وللباقين بفتح أوله وضم الهاء على البناء للفاعل. وقوله: أو لتخطفنّ أبصارهم، ولمسلم عن جابر بن سمرة: أو لا ترجع إليهم يعني: أبصارهم، وكلمة أو هنا للتخيير تهديدًا نظير قوله تعالى: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} أي: يكون أحد الأمرين: إمّا المقاتلة، وإمّا الإِسلام. فهو خبر في معنى الأمر أي: ليكونن منكم انتهاء عن رفع البصر أو تخطف الأبصار عند الرفع من الله تعالى. واختلف في المراد بذلك فقيل: هو وعيد. وعلى هذا فالفعل المذكور حرام. وأفرط ابن حزم فقال: يبطل الصلاة. وقد مرَّ لك الإجماع على كراهته في الصلاة وقيل: المعنى أنه يخشى على الأبصار من الأنوار التي تنزل بها الملائكة على المصلّين كما في حديث أسيد بن حضير الآتي في فضائل القرآن إن شاء الله تعالى. أشار إلى ذلك الداودي ونحوه في جامع حمّاد بن سلمة عن أبي مِجْلَز أحد التابعين. وأمّا تغميض العينين: ففي مشهور مذهب مالك أنه مكروه إلا لخوف نظر محرّم أو ما يشغله عنها. وقال النووي: المختار أنه لا يكره إذا لم يخف ضررًا لأنه يجمع الخشوع ويمنع من إرسال البصر وتفريق الذهن. وقال الطحاوي: كرهه أصحابنا. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرّ عليّ بن المديني في الرابع عشر من العلم، ومرَّ سعيد بن أبي عروبة في الحادي والعشرين من الغسل، ومرّ يحيى القطّان، وقتادة وأنس في السادس من الإيمان. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإفراد والقول، ورواته كلّهم بصريّون. أخرجه أبو داود والنَّسائي وابن ماجه في الصلاة. ثم قال المصنف: باب الالتفات في الصلاة لم يبيّن المؤلّف حكمه. لكن الحديث الذي أورده دالّ على الكراهة وهو إجماع، لكن الجمهور: على أنّها للتنزيه إلى آخر ما مرّ عند حديث سهل بن سعد في باب من دخل ليؤمّ النّاس .. الخ.

الحديث العشرون

الحديث العشرون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ قَالَ حَدَّثَنَا أَشْعَثُ بْنُ سُلَيْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ الاِلْتِفَاتِ فِي الصَّلاَةِ فَقَالَ: هُوَ اخْتِلاَسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلاَةِ الْعَبْدِ. قوله: عن أبيه، أي: أبي الشعثاء. ووافق أبا الأحوص على هذا الإسناد شيبان عند ابن خزيمة، وزائدة عند النَّسائي ومسعر عند ابن حبّان وخالفهم إسرائيل فرواه عن أشعث عن أبي عطية عن مسروق. وعند البيهقي عن مِسْعَر عن أشعث عن أبي وائل. فهذا اختلاف على أشعث والراجح رواية أبي الأحوص. وقد رواه النَّسائي عن عمارة بن عمير عن أبي عطية عن عائشة ليس بينهما مسروق. ويحتمل أن يكون للأشعث فيه شيخان أبو وأبو عطية بناء على أن يكون أبو عطية حمله من مسروق. ثم لقي عائشة فحمله عنها. وأمّا الرواية عن أبي وائل فشاذة لأنه لا يعرف من حديثه. وقوله: هو اختلاس أي: اختطاف بسرعة. وفي النهاية: الاختلاس: افتعال من الخلسة وهو ما يؤخذ سلبًا مكابرة وفيه نظر. وقال غيره: المختلس: الذي يخطف من غيره غلبة ويهرب ولو مع معاينة المالك له، والناهب يأخذ بقوة، والسارق يأخذ بخفية. فلما كان الشيطان قد يشغل المصلّي عن صلاته بالالتفات إلىِ شيء ما بغير حجة يقيمها أشبه المختلس. وقال ابن بزيزة: أضيف إلى الشيطان لأن فيه انقطاعاً عن ملاحظة التوجّه إلى الحق سبحانه. وقال الطيبي: سمّي اختلاسًا تصويرًا لقبح الفعلة بالمختلس؛ لأن المصلّي يقبل عليه الربّ سبحانه وتعالى، والشيطان مرتصد له ينتظر ذوات ذلك عليه، فإذا التفت اغتنم الشيطان تلك الفرصة فسلبه تلك الحالة. وقوله: يختلس الشيطان كذا للأكثر بحذف المفعول، وللكشميهني يختلسه، وهي رواية أبي داود عن مسدد شيخ البخاري. وكان المصنّف أشار إلى أن علّة كراهة الالتفات كونه يؤثر في الخشوع كما وقع في قصة الخميصة. وكذا ذكر حديثها عقب حديث الالتفات، ويحتمل أن يكون أراد أن ما لا يستطاع دفعه معفو عنه؛ لأن لمح العين يغلب الإنسان. ولهذا لم يعد النبي -صلى الله عليه وسلم- تلك الصلاة. وقيل: الحكمة في جعل سجود السهو جابرًا للمشكوك فيه دون الالتفات وغيره مما ينقص الخشوع؛ لأن السهو لا يؤاخذ به المكلف، فشرع له الجبر دون العمد ليتيقظ العبد له فيجتنبه.

رجاله ستة

وقال القفال في فتاويه: إذا التفت في صلاته التفاتًا كثيرًا في حال قيامه إن كان جميع قيامه كذلك بطلت صلاته وإن كان في بعضه فلا؛ لأنه عمل يسير ولو حوّل أحد شقيه عن القبلة بطلت صلاته؛ لأنه عمل كثير وعندنا لا تبطل ما دامت رجلاه إلى القبلة كما مرَّ وهو مكروه كراهة تنزيه إن كان لغير حاجة وإلا فلا يكره، ورخص فيه طائفة. فقال ابن سيرين: رأيت أنس بن مالك يشرف في صلاته إلى الشيء ينظر إليه. وقال معاوية بن قرّة: قيل لابن عمر: ان ابن الزبير إذا قام إلى الصلاة لم يتحرك، ولم يلتفت. قال: لكنّا نتحرك ونلتفت، وكان إبراهيم يلتفت يمينًا وشمالاً، وكان ابن مغفل يفعله. وممن كان لا يلتفت فيها الصدّيق والفاروق. ونهى عنه أبو الدرداء وأبو هريرة. وفي المبسوط حدّ الالتفات المكروه أن يلوي عنقه حتّى يخرج من جهة القبلة والالتفات يمنة وشرة انحراف عن القبلة ببعض بدنه، فلو انحرف بجميع بدنه بطلت صلاته. ولو نظر بمؤخر عينيه يمنة أو يسرة من غير أن يلوي عنقه لا يكره. وكذلك عندنا لا يكره على المشهور. وفيه أحاديث كثيرة مرَّ منها البعض في باب من دخل ليؤم الناس ومنها حديث أنس. أخرجه الترمذي وقال حسن، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا بني إياك والالتفات في الصلاة فإن الالتفات في الصلاة هلكة. قال: فإن كان ولابد ففي التطوع لا في الفريضة. ومنها ما أخرجه البزّار في مسنده عن جابر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إذا قام الرجل في الصلاة أقبل الله عليه بوجهه، فإذا التفت قال: يا ابن آدم: إلى من تلتفت، إلى من هو خير لك مني. أقبل إليّ. فإذا التفت الثانية قال مثل ذلك، وإذا التفت الثالثة قال صرف الله وجهه عنه. وفيه الفضل بن عيسى وهو ضعيف ومنها ما أخرجه الطبراني عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: إياكم والالتفات في الصلاة، فإن أحدكم يناجي ربه ما دام في الصلاة. ومنها ما أخرجه ابن حبّان في كتاب الضعفاء عن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: المصلّي يتناثر على رأسه الخير من عنان السماء إلى مفرق رأسه وملك ينادي لو يعلم هذا العبد من يناجي ما انفتل. وفيه عبّاد بن كثير مختلف فيه. ومنها ما أخرجه الطبراني في الكبير عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول -فذكر حديثًا في آخره-: إياكم والالتفات في الصلاة فإنه لا صلاة لملتفت، فإن غلبتم في التطوع فلا تغلبوا في الفريضة. وفيه عطاء بن عجلان وهو ضعيف. رجاله ستة: قد مرّوا إلا أبا الأحوص، مرّ مسدد في السادس من الإيمان، ومرّ مسروق في السابع والعشرين منه، ومرّ أشعث وأبوه سليم في الثاني والثلاثين من الوضوء. وأمّا أبو الأحوص فهو سلَّام -بتشديد اللام- بن سُليم بالتصغير الحنفي مولاهم الكوفيّ الحافظ، ذكره ابن حبّان في الثقات. وقال ابن سعد: كان كثير الحديث صالحًا فيه. وقال ابن معين: ثقة متقن. وقال العجلي: كان ثقة صاحب

لطائف إسناده

سنة واتباع. وقال أبو زرعة والنّسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق دون زائدة وزهير في الإتقان، وقيل ليحيى: أبو الأحوص أحب إليك أو أبو بكر بن عيّاش قال: ما أقربهما. روى عن ابن إسحاق وعاصم والأعمش ومنصور وأشعث بن أبي الشعثاء وغيرهم. وروى عنه وكيع وابن مهدي وأبو نعيم ومسدد وقتيبة ومحمد بن سلام البيكندي وغيرهم. مات سنة تسع وسبعين ومائة. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول ورواته كلّهم كوفيّون ما عدا شيخ البخاري فإنه بصري. أخرجه البخاري أيضًا في صفة إبليس عن الحسن بن الربيع وأبو داود والنَّسائي في الصلاة.

الحديث الحادي والعشرون

الحديث الحادي والعشرون حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- صَلَّى فِي خَمِيصَةٍ لَهَا أَعْلاَمٌ فَقَالَ شَغَلَتْنِي أَعْلاَمُ هَذِهِ، اذْهَبُوا بِهَا إِلَى أَبِي جَهْمٍ وَأْتُونِي بِأَنْبِجَانِيَّةٍ (¬1). أورد هذا الحديث هنا وقد مرّ الكلام عليه مستوفى في باب إذا صلّى في ثوب له أعلام في أوائل الصلاة، ووجه دخوله في الترجمة أن أعلام الخميصة إذا لحظها المصلّي وهي على عاتقه كان قريبًا من الالتفات، ولذلك خلعها معللًا بوقوع بصره على أعلامها وسمّاه شغلًا عن صلاته. وقوله: شغلني في رواية الكشميهني شغلتني وهو أوجه وكذا اختلفوا في اذهبوا بها واذهبوا به. وقوله: إلى أبي جهم، كذا للأكثر وهو الصحيح وللكشميهني جهيم بالتصغير. رجاله خمسة: وفيه ذكر أبي جهم. وقد مرَّ الجميع: مرّ قتيبة في الحادي والعشرين من الإيمان، ومرّ سفيان بن عيينة في الأول من بدء الوحي، ومرّ عروة وعائشة في الثاني منه، ومرّ أبو جهم في الخامس والعشرين من كتاب الصلاة، ومرّ هناك الكلام على ما يتعلق به. ثم قال المصنف: باب هل يلتفت لأمر ينزل به أو يرى شيئاً أو بصاقًا في القبلة الظاهر أن قوله في القبلة يتعلق بقوله بصاقًا، وأمّا قوله شيئًا فهو أعمّ من ذلك، والجامع بين جميع ما ذكر في الترجمة حصول التأمل المغاير للخشوع، وأنه لا يقدح إلا إذا كان لغير حاجة. ثم قال وقال سهل: التفت أبو بكر رضي الله تعالى عنه فرأى النبيّ -صلى الله عليه وسلم- وجه الدلالة منه أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يأمر أبا بكر بالإعادة، بل أشار إليه أن يتمادى على إمامته، وكان التفاته لحاجة، وهذا التعليق طرف من حديث أخرجه البخاري في باب من دخل ليؤم الناس. وسهل بن سعد قد مرّ في الثامن والمائة من الوضوء، ومرّ أبو بكر بعد السبعين منه في باب: من لم يتوضأ من لحم الشاة. ¬

_ (¬1) في نسخة بأنبجانيته، والضمير يعود على أبي جهم (المصحح).

الحديث الثاني والعشرون

الحديث الثاني والعشرون حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ رَأَى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- نُخَامَةً فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ، وَهْوَ يُصَلِّي بَيْنَ يَدَىِ النَّاسِ، فَحَتَّهَا ثُمَّ قَالَ حِينَ انْصَرَفَ: إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا كَانَ فِي الصَّلاَةِ فَإِنَّ اللَّهَ قِبَلَ وَجْهِهِ، فَلاَ يَتَنَخَّمَنَّ أَحَدٌ قِبَلَ وَجْهِهِ فِي الصَّلاَةِ. قوله: بين يدي الناس يحتمل أن يكون متعلقًا بقوله وهو يصلّي أو بقوله رأى نخامة. وقوله: فحتها ثم قال حين انصرف ظاهره أن الحت وقع منه، داخل الصلاة. وقد أخرجه المؤلف في أوائل أبواب المساجد عن ابن عمر وأنس وعائشة وأبي هريرة وأبي سعيد من طرق كلها غير مقيدة بحال الصلاة. ومرَّ الكلام على مباحثه هناك مستوفى غاية. رجاله أربعة: قد مروا، مرّ قتيبة في الحادي والعشرين من الإيمان، ومرَّ ابن عمر في أوّله قبل ذكر حديث منه، ومرّ الليث في الثالث من بدء الوحي، ومرّ نافع في الثالث والسبعين من العلم. ثم ذكر البخاري تعليقين فقال: رواه موسى بن عقبة وابن أبي روّاد عن نافع، وتعليق موسى وصله مسلم، وتعليق ابن أبي رواد وصله أحمد في مسنده، وفيه أن الحك كان بعد الفراغ من الصلاة. فالغرض منه على هذا المتابعة في أصل الحديث، وموسى بن عقبة قد مرّ في الخامس من الوضوء ومرّ عبد العزيز بن أبي رواد في التاسع من مواقيت الصلاة، وكذلك مرّ معه عثمان بن أبي رواد.

الحديث الثالث والعشرون

الحديث الثالث والعشرون حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا لَيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَنَسٌ قَالَ: بَيْنَمَا الْمُسْلِمُونَ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ لَمْ يَفْجَأْهُمْ إِلاَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَشَفَ سِتْرَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ وَهُمْ صُفُوفٌ، فَتَبَسَّمَ يَضْحَكُ، وَنَكَصَ أَبُو بَكْرٍ رضى الله عنه عَلَى عَقِبَيْهِ لِيَصِلَ لَهُ الصَّفَّ فَظَنَّ أَنَّهُ يُرِيدُ الْخُرُوجَ، وَهَمَّ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَفْتَتِنُوا فِي صَلاَتِهِمْ، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَتِمُّوا صَلاَتَكُمْ، فَأَرْخَى السِّتْرَ، وَتُوُفِّيَ مِنْ آخِرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ. قال ابن بطال: وجه مناسبته للترجمة أن الصحابة لما كشف -صلى الله عليه وسلم- الستر التفتوا إليه، ويدل على ذلك قول أنس فأشار إليهم. ولولا التفاتهم لما رأوا إشارته ويوضحه كون الحجرة عن يسار القبلة، فالناظر إلى إشارة من هو فيها يحتاج إلى أن يلتفت، ولم يأمرهم عليه الصلاة والسلام بالإعادة بل أقرهم على صلاتهم بالإشارة المذكورة. وقد مرّ هذا الحديث في باب أهل العلم والفضل أحقّ بالإمامة. وقد تكلم على بعض ألفاظه هناك. ومرَّ استيفاء الكلام على مباحثه في باب حد المريض أن يشهد الجماعة. رجاله خمسة: وفيه ذكر أبي بكر وعائشة، وقد مرَّ الجميع: مرَّ ابن بكير والليث وعقيل والزهري في الثالث من بدء الوحي، ومرّت عائشة في الثاني منه، ومرّ أنس في السادس من الإيمان، ومرّ محل أبي بكر في الذي قبل هذا بحديث، والحديث أخرجه البخاري أيضًا في المغازي، وقد مرَّ الكلام عليه. ثم قال المصنف: باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها في الحضر والسفر وما يُجهر فيها وما يُخافَت لم يذكر المنفرد، لأن حكمه حكم الإِمام وذكر السفر لئلا يتخيّل أنه يترخص فيه بترك القراءة كما رخص فيه بحذف بعض الركعات. وقوله: وما يجهر فيه وما يخافت هو بضم أول كل منهما على البناء للمجهول، وتقدير الكلام وما يجهر به وما يخافت به.

قال ابن رشيد: قوله "وما يجهر" معطوف على قوله في الصلوات لا على القراءة، والمعنى وجوب القراءة فيما يجهر فيه، ويخافت، أي أن الوجوب لا يختص بالسرية دون الجهرية خلافًا لمن فرّق في المأموم. وقد ألّف البخاري في هذه المسألة جزءًا مفردًا. قال في الفتح: إنه يذكر ما يحتاج إليه من فوائده في هذا الشرح، وما نذكره إن شاء الله تعالى.

الحديث الرابع والعشرون

الحديث الرابع والعشرون حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: شَكَا أَهْلُ الْكُوفَةِ سَعْدًا إِلَى عُمَرَ رضى الله عنه فَعَزَلَهُ وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَمَّارًا، فَشَكَوْا حَتَّى ذَكَرُوا أَنَّهُ لاَ يُحْسِنُ يُصَلِّي، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا أَبَا إِسْحَاقَ إِنَّ هَؤُلاَءِ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ لاَ تُحْسِنُ تُصَلِّي قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: أَمَّا أَنَا وَاللَّهِ فَإِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي بِهِمْ صَلاَةَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَا أَخْرِمُ عَنْهَا، أُصَلِّي صَلاَةَ الْعِشَاءِ فَأَرْكُدُ فِي الأُولَيَيْنِ وَأُخِفُّ فِي الأُخْرَيَيْنِ. قَالَ: ذَاكَ الظَّنُّ بِكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ. فَأَرْسَلَ مَعَهُ رَجُلاً أَوْ رِجَالاً إِلَى الْكُوفَةِ، فَسَأَلَ عَنْهُ أَهْلَ الْكُوفَةِ، وَلَمْ يَدَعْ مَسْجِدًا إِلاَّ سَأَلَ عَنْهُ، وَيُثْنُونَ مَعْرُوفًا، حَتَّى دَخَلَ مَسْجِدًا لِبَنِى عَبْسٍ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ أُسَامَةُ بْنُ قَتَادَةَ يُكْنَى أَبَا سَعْدَةَ قَالَ أَمَّا إِذْ نَشَدْتَنَا فَإِنَّ سَعْدًا كَانَ لاَ يَسِيرُ بِالسَّرِيَّةِ، وَلاَ يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ، وَلاَ يَعْدِلُ فِي الْقَضِيَّةِ. قَالَ سَعْدٌ أَمَا وَاللَّهِ لأَدْعُوَنَّ بِثَلاَثٍ، اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ عَبْدُكَ هَذَا كَاذِبًا، قَامَ رِيَاءً وَسُمْعَةً فَأَطِلْ عُمْرَهُ، وَأَطِلْ فَقْرَهُ، وَعَرِّضْهُ بِالْفِتَنِ، وَكَانَ بَعْدُ إِذَا سُئِلَ يَقُولُ شَيْخٌ كَبِيرٌ مَفْتُونٌ، أَصَابَتْنِى دَعْوَةُ سَعْدٍ. قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ فَأَنَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ مِنَ الْكِبَرِ، وَإِنَّهُ لَيَتَعَرَّضُ لِلْجَوَارِي فِي الطُّرُقِ يَغْمِزُهُنَّ. قوله: عن جابر، قد صرّح ابن عيينة بسماع عبد الملك له من جابر، أخرجه أحمد وغيره. وقوله: شكا أهل الكوفة سعدًا: هو ابن أبي وقّاص، وهو خال جابر بن سمرة الراوي عنه. وفي رواية عبد الرزاق عن جابر بن سمرة قال: كنت جالسًا عند عمر إذ جاء أهل الكوفة يشكون إليه سعد بن أبي وقاص، حتى قالوا إنه لا يحسن الصلاة. وفي قوله: أهل الكوفة مجاز وهو إطلاق الكل على البعض لأن الذين شكوه بعض أهل الكوفة لا كلّهم. ففي صحيح أبي عوانة جعل ناس من أهل الكوفة، ونحوه لإسحاق بن راهويه، وسمّى منهم عند سيف والطبراني الجراح بن سنان وقَبيصة وأَربَد الأسديون. وفي الأوائل للعسكري أن منهم الأشعث بن قيس. والكوفة قد مرّ الكلام عليها مستوفى في الحديث الثالث من كتاب الإيمان. والرجال المذكررون، أما الجراح بن سنان وأَربَد الأسديان فلم أر لهما تعريفًا، وأما قبيصة فالظاهر أنه قبيصة بن جابر لأنه اختاره أهل الكوفة وافدًا على عثمان، وقد صحب عمر. وقد جاء معرّفًا في آخر

الكتاب في تعليق بعد الثامن عشر من كتاب المحاربين. وجاء تعريف الأشعث بن قيس في تعليق بعد الثالث من الحوالة. وقوله: فعزله، فكان عمر بن الخطاب أمّر سعد بن أبي وقاص على قتال الفرس في سنة أربع عشرة، ففتح الله العراق على يديه، ثم اختط الكوفة سنة سبع عشرة، واستمر آمِرًا عليها إلى سنة إحدى وعشرين في قول خليفة بن خياط. وعند الطبري سنة عشرين، فوقع له مع أهل الكوفة. وقوله: واستعمل عليهم عمّارًا قال خليفة: استعمل عمّارًا على الصلاة وابن مسعود على بيت المال، وعثمان بن حنيف علىْ مساحة الأرض. وكان تخصيص عمّار بالذكر لوقوع التصريح بالصلاة دون غيرها مما وقعت فيه الشكوى. وقوله: فشكوا ليست هذه الفاء عاطفة على قوله فعزله، بل هي تفسيرية عاطفة على قوله شكا عطف تفسير. وقوله: فعزله واستعمل .. الخ، اعتراض. إذ الشكوى كانت سابقة على العزل وبيّنته رواية عبد الرزاق الماضية. وقوله: حتّى ذكروا أنّه لا يحسن يصلّي ظاهره أن جهات الشكوى كانت متعددة ومنها: قصة الصلاة وصرّح بذلك في رواية ابن عون الآتية قريبًا فقال عمر: لقد شكوك في كل شيء حتى في الصلاة. وذكر ابن سعد وسيف أنهم زعموا أنه حابى في بيع خمس باعه وأنه صنع على داره بابًا مبوبًا من خشب. وكان السوق مجاورًا له، فكان يتأذى باصواتهم، فزعموا أنه قال: لينقطع التصويت، وذكر سيف أنّهم زعموا أنه كان يلهيه الصيد عن الخروج في السرايا. وقال الزبير بن بكار في كتاب النسب: رفع أهل الكوفة عليه أشياء كشفها عمر فوجدها باطلة. ويؤيده قول عمر في وصيته فإنيّ لم أعزله من عجز ولا خيانة. الآتي في مناقب عثمان. وقوله: فأرسل إليه فقال: فيه حذف، تقديره فوصل إليه الرسول فجاء إلى عمر فقال: وستأتي تسمية الرسول عند قوله فأرسل معه رجلًا الخ .. وقوله: يا أبا إسحاق كنية سعد، كني بذلك بأكبر أولاده، وهذا تعظيم من عمر له، وفيه دلالة على أنه لم تقدح فيه الشكوى عنده. وقوله: أما أنا والله، أمّا بالتشديد وهي للتقسيم، والقسم هنا محذوف تقديره وأما هم فقالوا ما قالوا وفيه القسم في الخبر لتأكيده في نفس السامع. وجواب القسم يدل عليه قوله: فإني كنت أصلّي بهم. وقوله: صلاة رسول الله .. الخ، بالنصب أي: مثل صلاة. وقوله: ما أَخْرِم عنها بفتح أوله وكسر الراء أي: لا أنقص. وحكى ابن التين أنه يضم أوله من

الرباعي، واستضعفه. وقوله: أصلّي صلاة العشاء بالمد للجميع غير الجرجاني فقال العشي: وفي الباب الذي بعده صلاتي العَشِيّ بالكسر والتشديد لهم إلاَّ الكشميهني فله صلاتي العشاء. ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن أبي عوانة بلفظ: صلاتي العشي وهو الأرجح، والمراد بهما الظهر والعصر. ولا يبعد أن يراد بالتثنية في الممدود المغرب والعشاء، لكن يعكّر عليه قوله الأخريين؛ لأن المغرب إنما له أخرى واحدة، وأبدى الكرماني لتخصيص العشاء بالذكر حكمة، وهو أنه لما أتقن فعل هذه الصلاة التي وقتها وقت الاستراحة كان ذلك في غيرها بطريق الأولى وهو حسن. ويقال مثله في الظهر والعصر لأنهما وقت الاشتغال بالقائلة والمعاش والأولى أن يقال لعلّ شكواهم كانت في هاتين الصلاتين خاصة. فلذلك خصّهما بالذكر. وقوله: فأركُد في الأوليين بضم الكاف أي: أثبت وأمكث طويلًا، ومنه الماء الراكد، والأوليين بتحتانيتين تثنية الأولى وكذا الأخريين، والمراد أطول فيهما القراءة، ويحتمل أن يكون التطويل بما هو أعم من القراءة كالركوع والسجود، لكن المعهود في التفرقة بين الركعات إنّما هو في القراءة. وقوله: وأخفّ بضم أوله وكسر الخاء المعجمة. وفي رواية الكشميهني واحذف بفتح أوله وسكون المهملة وكذا هو في رواية عثمان بن سعيد الدارمي فيما أخرجه البيهقي. وعند الإسماعيلي عن شعبة بالميم بدل الفاء من خدم يخدم خدمًا: إذا أسرع. ومنه حديث عمر إذا أقمت فاخدم أي: أسرع. والمراد بالحذف حذف التطويل لا حذف القراءة من أصلها، فكأنه قال: احذف الركود، ويأتي من قال بحذفها رأسًا في الأخريين. وقوله: ذلك الظن بك أي: هذا الذي كنّا نظنّه بك زاد مسعر عن عبد الملك وابن عون فيما أخرجه مسلم فقال: أتعلّمني الأعراب الصلاة وفيه دلالة على أن الذين شكوه لم يكونوا من أهل العلم، وكأنّهم ظنّوا مشروعية التسوية بين الركعات فأنكروا على سعد التفرقة. فيستفاد منه ذمّ القول بالرأي الذي لا يستند إلى أصل وفيه أن القياس في مقابلة النص فاسد الاعتبار. قال ابن بطال: وجه دخول حديث سعد في هذا الباب أنه قال: أركد وأخف أعلم أنه لا يترك القراءة في شيء من صلاته. وقد قال أنها مثل صلاته صلى الله تعالى عليه وسلّم، ولكن إنّما تتمّ الدلالة على الوجوب إذا ضمّ إلى ما ذكر قوله عليه الصلاة والسلام صلّوا كما رأيتموني أصلّي فيحصل التطابق بهذا لقوله: القراءة للإمام، وما ذكر من الجهر والمخافتة، فلا نزاع أنه عليه الصلاة والسلام كان يجهر في محل الجهر، ويخفي في محل الإخفاء، ويؤخذ الحضر والسفر من إطلاق قوله صلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنه لم يفصل بين الحضر والسفر، وأيضًا حديث عبادة يؤخذ منه وجوب القراءة على الإمام والمأموم في الحضر والسفر أو لعلّ البخاري أكتفى بقوله -صلى الله عليه وسلم- للمسيء صلاته وهو ثالث أحاديث الباب، وافعل ذلك في صلاتك كلّها، وبهذا التقرير يندفع اعتراض الإسماعيلي وغيره حيث قال:

لا دلالة في حديث سعد على وجوب القراءة وإنمّا فيه تخفيفها في الأخريين عن الأوليين. وقوله: فأرسل معه رجلًا أو رجالًا كذا لهم بالشك. وفي رواية ابن عيينة فبعث عمر رجلين، وهذا يدل على أنه أعاده إلى الكوفة ليحصل له الكشف عنه بحضرته ليكون أبعد من التهمة، لكن كلام سيف يدلّ على أن عمر إنّما سأله عن مسألة الصلاة بعدما عاد به محمد بن مسلمة من الكوفة، وذكر سيف والطبري أن رسول عمر بذلك محمد بن مسلمة قال: وهو الذي كان يقتص آثار من شكي من العمّال في زمن عمر. وحكى ابن التين أن عمر أرسل في ذلك عبد الله بن أرقم. وروى ابن سعد من طريق مليح بن عوف السلمي قال: بعث عمر محمد بن مسلمة، وأمرني بالمسير معه وكنت دليلًا بالبلاد فذكر القصة، وفيها وأقام سعدًا في مساجد الكوفة يسألهم عنه. وفي رواية إسحاق عن جرير فطيف به في مساجد الكوفة، ويأتي تعريف الثلاثة في رجال السند. وقوله: ويثنون عليه معروفًا في رواية ابن عيينة فكلّهم يثني عليه خيرًا. وقوله: لبني عبس بفتح المهملة وسكون الموحدة بعدها مهملة قبيلة كبيرة من قيس. وقوله: أبا سعدة بفتح المهملة بعدها مهملة ساكنة، زاد سيف في روايته فقال: محمد بن مسلمة أنشد الله رجلًا يعلم حقًا إلا قال، ويأتي في تعريفه أي: أبي سعدة في السند ما قيل فيه. وقوله: أمّا إذ نشدتنا بتشديد الميم وقسيمها محذوف أيضًا تقديره أمّا غيري إذ نشدتنا فأثنوا عليه، وأمّا نحن إذ نشدتنا فنقول كذا وكذا، ومعنى نشدتنا طلبت منّا القول سائلًا لنا بالله. وقوله: لا يسير بالسرية الباء للمصاحبة والسرية بفتح المهلمة وكسر الراء المخففة قطعة من الجيش يبلغ أقصاها أربعمائة تبعث إلى العدو، وسمّوا بذلك لأنهم يكونون خلاصة العسكر وخيارهم من الشيء السري أي: النفيس. وقيل سمّوا بذلك لأنهم ينفذون سرًا وخفية وليس بوجه، لأن لام السير راء ولام هذه ياء، ويحتمل أن تكون صفة لمحذوف أي: لا يسير بالطريقة السرية أي: العادلة. والأول أولى لقوله بعد ذلك ولا يعدل، والأصل عدم التكرار والتأسيس أولى من التأكيد ويؤيده رواية جرير وسفيان بلفظ ولا ينفر في السرية. وقوله: في القضية أي: الحكومة، ورواية سفيان وسيف في الرعية. وقوله: قال سعد في رواية جرير فغضب سعد، وحكى ابن التين أنه قال له: أعلي تسجع. وقوله: أما والله بتخفيف الميم: حرف استفتاح. وقوله: لأدعونّ بثلاث أي: عليك، والحكمة في ذلك أنّه نفى عنه الفضائل الثلاث وهي: الشجاعة: حيث قال لا ينفر، والعفة: حيث قال لا يقسم، والحكمة: حيث قال لا يعدل. فهذه الثلاثه تتعلق بالنفس والمال والدين فقابلها بمثلها فطول العمر يتعلق بالنفس، وطول الفقر يتعلق بالمال، والوقوع في الفتن يتعلق بالدين. ولمّا كان في الثنتين الأوليين ما يمكن الاعتذار عنه دون

الثالثة، قابلهما بأمرين دنيويين، والثالث بأمر ديني، وبيان ذلك أن قوله لا ينفر بالسرية يمكن أن يكون حقًا، لكن رأى المصلحة في إقامته ليرتب مصالح من يغزو ومن يقيم، أو كان له عذر كما وقع في القادسية. وقوله: لا يقسم بالسوية يمكن أن يكون حقًا، فإن للإمام تفضيل أهل العناء في الحرب والقيام بالمصالح. وقوله: لا يعدل في القضية هو أشدها؛ لأنه سلب عنه العدل مطلقًا، وذلك قدحٌ في الدين، ومن أعجب العجب أن سعدًا مع كون هذا الرجل واجهه بهذا وأغضبه حتى دعا عليه في حال غضبه راعى العدل والإنصاف في الدعاء عليه إذ علّقه بشرط أن يكون كاذبًا وأن يكون الحامل له على ذلك الغرض الدنيوي. وقوله: رياء وسمعة أي: ليراه النّاس ويسمعوه فيشهروا ذلك عنه، فيكون له بذلك ذكر. والرياء بكسر الراء وتخفيف التحتانية، والمد مشتق من الرؤية، والمراد به إظهار العبادة لقصد رؤية النّاس لها، فيحمدوا صاحبها، والسمعة بضم المهملة وسكون الميم مشتقة من السمع، والمراد بها نحو ما في الرياء لكنها تتعلق بحاسة السمع والرياء بحاسة البصر. وقال الغزالي: طلب المنزلة في قلوب الناس بأن يريهم الخصال المحمودة. والمرائي هو العامل. وقال ابن عبد السلام: الرياء أن يعمل لغير الله والسمعة أن يخفي عمله لله، ثم يحدّث به الناس. وقوله: وأطل: فقره في رواية جرير وشدّد فقره، وفي رواية سيف وأكثر عياله. قال الزين بن المنير في الدعوات الثلاثة مناسبة للحال. أما طول عمره فليراه من سمع بأمره فيعلم كرامة سعد، وأمّا طول فقره فلنقيض مطلوبه؛ لأن حاله يشعر بأنه طلب أمرًا دنيويًا، وأمّا تعرضه للفتن فلكونه قام فيها ورضيها دون أهل بلده. وقوله: وعرضه للفتن أي: اجعله عرضة للفتن أو أدخله في معرضها أي: أظهره بها. وقوله: فكان بعد أي: أبو سعدة، وقائل ذلك عبد الملك بن عمير بينه جرير في روايته. وقوله: إذا سئل في رواية ابن عيينة إذا قيل له كيف أنت. وقوله: شيخ كبير مفتون قيل: لم يذكر الدعوة الأخرى وهي الفقر، لكن عموم قوله أصابتني دعوة سعد تدلّ عليه. وقد وقع التصريح بذلك كما يأتي في تعريفه قريبًا دعوة سعد أفردها لإرادة الجنس وإن كانت ثلاث دعوات. وكان سعد معروفًا بإجابة الدعوة. روى الطبراني عن الشعبي قيل لسعد: متى أصبت الدعوة قال: يوم بدر، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: اللهم استجيب لسعد. وروى الترمذي وابن حبّان والحاكم عن قيس بن أبي حازم عن سعد: أن

رجاله أربعة

النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: اللهم استجيب لسعد إذا دعاك. وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدّم أن الأوليين من الرباعية متساويتان في الطول، ويأتي الكلام على ذلك في حديث أبي قتادة في الباب الذي بعد هذا لأنه هو المحل لذلك، وفيه جواز عزل الإِمام بعض عمّاله إذا شكي إليه، وان لم يثبت عليه شيء إذا اقتضت ذلك المصلحة. قال مالك: قد عزل عمر سعدًا وهو أعدل من يأتي بعده إلى يوم القيامة. والذي يظهر أن عمر عزله حسمًا لحالة الفتنة. ففي رواية سيف قال عمر: لولا الاحتياط وأن لا يتقى من أمير مثل سعد لما عزلته. وقيل عزله إيثارًا لقربه منه لكونه من أهل الشورى. وقيل: لأن مذهب عمر أنه لا يستمر العامل أكثر من أربع سنين. وقال المازري: اختلفوا هل يعزل القاضي بشكوى الواحد أو الاثنين، أو لا يعزل حتى يجتمع الأكثر على الشكوى منه وفيه استفسار العامل عما قيل فيه والسؤال عمّن شكى في موضع عمله، والاقتصار في المسألة على من يظن به الفضل لأن عمر رضي الله تعالى عنه كان يسأل عنه في المسجد أهل ملازمة الصلاة فيها، وفيه أن السؤال عن عدالة الشاهد ونحوه يكون ممّن يجاوره، وأن تعريض العدل للكشف عن حاله لا ينافي قبول شهادته في الحال. وفيه خطاب الرجل الجليل بكنيته والاعتذار لمن سمع في حقه كلام يسوءه. وفيه الفرق بين الافتراء والقول الذي يقصد به دفع الضرر فيعزّر قائل الأول دون الثاني، ويحتمل أن يكون سعد لم يطلب حقّه منهم أو عفا عنهم، واكتفى بالدعاء على الذي كشف قناعه في الافتراء عليه دون غيره، فإنه صار كالمنفرد بأذيته. وقد جاء في الخبر: من دعا على ظالمه فقد انتصر. فلعلّه أراد الشفقة عليه بأن عجّل له العقوبة في الدنيا فانتصر لنفسه، وراعى حال من ظلمه لما كان فيه من وفور الديانة. ويقال: إنّما دعا عليه لكونه انتهك حرمة من صحب صاحب الشريعة، وكان قد انتصر لصاحب الشريعة وفيه جواز الدعاء على الظالم المعين بما يستلزم النقص في دينه، وليس هو من طلب وقوع المعصية، ولكنّه من حيث أنه يؤدي إلى نكاية الظالم وعقوبته، ومن هذا القبيل مشروعية طلب الشهادة، وإن كانت تستلزم ظهور الكافر على المسلم، ومن الأول قول موسى عليه السلام: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} الآية، وفيه سلوك الورع في الدعاء. رجاله أربعة: قد مرّوا إلاَّ جابر، وفي ذكر سعد وه وابن أبي وقّاص وعمر وعمّار بن ياسر، وذكر أسامة بن قتادة. وفيه فأرسل معه رجلًا أو رجالًا بالإِبهام. قد مرّ موسى بن إسماعيل المنقري، وأبو عوانة في الخامس من بدء الوحي، ومرّ عمر في الأول منه، ومرَّ سعد في العشرين من الإِيمان، ومرّ عمّار في التعليقال في بعده، ومرّ عبد الملك بن عمير في الحادي والثلاثين من أبواب الجماعة والإمامة، وأمّا جابر فهو ابن سمرة بن جنادة بن

جندب بن حجير بن رئاب بن حبيب بن سواءة بن عامر بن صعصعة العامري السوائي يكنى أبا عبد الله. وقيل: أبا خالد حليف بني زهرة وأمّه خالدة بنت أبي وقّاص أخت سعد بن أبي وقاص له ولأبيه صحبة. أخرج له أصحاب الصحيح، أخرج الطبراني عنه قال: جالست النبي -صلى الله عليه وسلم- أكثر من مائة مرّة، وفي الصحيح عنه: صلّيت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- أكثر من ألفي مرّة، نزل الكوفة وابتنى بها دارًا له مائة وستة وأربعون حديثًا اتفقا على حديثين، وانفرد مسلم بثلاثة وعشرين منها. قوله: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في ليلة مقمرة وعليه حلّة حمراء، فجعلت انظر إليه وإلى القمر فلهو في عيني أحسن من القمر. ومنها قوله عليه الصلاة والسلام: المستشار مؤتمن. روى عنه الشعبي وتميم بن طرفة، توفي بالكوفة في إمارة بشر بن مروان على العراق سنة أربع وسبعين، وقيل سنة ست وسبعين أيام المختار. وأمّا أسامة بن قتادة أبو سعدة المفتون بدعوة سعد بن أبي وقاص، فليس له من التعريف إلا أنه -أعوذ بالله- أصابته دعوة سعد. قال عبد الملك بن عمير كما عند الطبراني وأبي يعلى فأنا رأيته يتعرض للإماء في السكك، فإذا سألوه قال: كبير فقير مفتون. وفي رواية إسحاق عن جرير: فافتقر وافتتن. وفي رواية سيف فعمي. واجتمع عنده عشر بنات، وكان إذا سمع بحس المرأة تعلق بها، فإذا أنكر عليه قال: دعوة المبارك سعد. وفي رواية ابن عيينة: ولا تكون فتنة إلا هو فيها، وأدرك فتنة المختار فقتل فيها. وفي رواية سيف أنه عاش إلى فتنة الجماجم، وكانت سنة ثلاث وثمانين، وكانت فتنة المختار حين غلب على الكوفة من سنة خمس وستين إلى أن قتل سنة سبع وستين. والرجل أو الرجال الذين أرسل عمر رضي الله تعالى عنه قال: في الفتح ذكر الطبري أن رسول عمر بذلك محمد بن مسلمة قال: هو الذي كان يقتص آثار من شكي من العمّال في زمن عمر. وحكى ابن التين أن عمر أرسل في ذلك عبد الله بن أرقم، وروى ابن سعد من طريق مليح بن عوف السلمي قال: بعث عمر محمد بن مسلمة، وأمرني بالمسير معه، وكنت دليلًا بالبلاد، فذكر القصة، وها أنا أذكر تعريف الصحابين الأول: محمّد بن مسلمة بن خالد بن عدي بن مجدعة بن حارثة بن الخزرج بن مالك بن الأوس الأنصاري الأوسي الحارثي أبو عبد الرحمن المدني حليف بني عبد الأشهل. ولد قبل البعثة باثنتين وعشرين سنة في قول الواقدي وهو ممن سمّي في الجاهلية محمدًا. وقيل: يكنى أبا عبد الله أو أبا سعيد، والأول أصح. قال ابن سعد: أسلم قديمًا على يد مصعب بن عمير قبل سعد بن معاذ، وآخى النبي -صلى الله عليه وسلم- بينه وبين أبي عبيدة، وشهد بدرًا وما بعدها إلّا تبوك فإنه تخلّف بإذن النبي -صلى الله عليه وسلم- له أن يقيم بالمدينة، وكان ممّن ذهب إلى قتل كعب بن الأشرف وإلى ابن أبي الحُقَيق. وقال ابن عبد البر: كان من فضلاء الصّحابة، واستخلفه النبي -صلى الله عليه وسلم- على المدينة في بعض غزواته، وكان ممن اعتزل الفتنة فلم يشهد الجمل ولا صفّين. وأخرج ابن شاهين أن محمد بن مسلمة قال: أعطاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سيفًا فقال: قاتل به المشركين، ما قوتلوا فإذا رأيت أمتي يضرب بعضهم بعضًا فائت به أحدًا فاضرب به حتى

ينكسر ثم اجلس في بيتك حتى تأتيك يد خاطئة أو منيّة قاضية ففعل. قال ابن عبد البر: اتخذ سيفًا من خشب وجعله في جفن، وذكر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمره بذلك. وقال حذيفة في حقّه: إني لأعلم رجلًا لا تضره الفتنة فذكره وصرّح بسماع ذلك من النبي -صلى الله عليه وسلم-. أخرجه البغوي وغيره. وقال ابن الكلبي: ولاّه عمر على صدقات جهينة. وقال غيره كان عند عمر معدًا لكشف الأمور المعضلة في البلاد. وكان هو رسوله في الكشف عن سعد بن أبي وقاص حين بني القصر بالكوفة. قال ابن المبارك في الزهد بسنده: بلغ عمر أن سعدًا بني قصراً وجعل عليه بابًا وقال: انقطع الصوت فأرسل محمد بن مسلمة، وكان عمر إذا أحبّ أن يعلى بالأمر كما يريد بعثه فقال له أئت سعدًا فأحرق عليه بابه. فقدم الكوفة فلمّا وصل الباب أخرج زنده فاستورى نارًا، ثم أحرق الباب فأخبر سعد فخرج إليه. فذكر القصة وقال محمد بن الربيع في صحابة مصر: بعثه عمر إلى عمرو بمصر فقاسمه ماله، وأسند ذلك في حديث. وقال ابن شاهين: كان من قدماء الصحابة سكن المدينة، ثم سكن الرَّبَذَة بعد قتل عثمان. روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أحاديث، وروى عنه ابنه والمسور بن مخرمة، وعروة، والأعرج، وأبو بردة بن أبي موسى، وقبيصة بن حصن وغيرهم. قال الواقدي: مات بالمدينة في صفر سنة ست وأربعين وهو ابن سبع وسبعين سنة، وأرّخه المدائني سنة ثلاث وأربعين. وقال ابن أبي داود: قتله أهل الشام وكذا قال يعقوب بن سفيان في تاريخه. دخل عليه رجل من أهل الشام من أهل الأردن وهو في داره فقتله. والثاني: عبد الله بن الأرقم بن أبي الأرقم واسمه عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب القرشي الزهري. قال البخاري: عبد يغوث جدّه، وكان خال النبي -صلى الله عليه وسلم- أسلم يوم الفتح، وكتب للنبي -صلى الله عليه وسلم- ولأبي بكر وعمر، وكان على بيت المال أيّام عمر، وكان أمينًا عنده. حدّثت حفصة أنه قال لها: لولا أن ينكر علي قومك لاستخلفت عبد الله بن الأرقم. وقال السائب بن يزيد: ما رأيت أخشى لله منه، وأخرج البغوي عن عبد الله بن الزبير: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- استكتب عبد الله بن الأرقم بن عبد يغوث وكان يجيب عنه الملوك، وبلغ من أمانته عنده أنه كان يأمره أن يكتب إلى بعض الملوك فيكتب ويختم، ولا يقرؤه لأمانته عنده، واستكتب أيضًا زيد بن ثابت، وكان يكتب الوحي، وكان إذا غاب ابن الأرقم وزيد بن ثابت واحتاج أن يكتب إلى أحد أمر من حضو أن يكتب. فمن هؤلاء عمر وعلي وخالد بن سعيد والمغيرة ومعاوية. ومن طريق محمد بن صدقة الفديكي عن مالك أن أسلم قال قال عمر: كتب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- كتاب، فقال لعبد الله بن الأرقم أجب هؤلاء عنّي، فأخذ عبد الله الكتاب فأجابهم، ثم جاء به فعرضه على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: أصبت. فقال عمر: قلت رضي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما كتبت، فما زالت في نفسي حتى جعلته على بيت المال. وقال مالك: بلغني أن عثمان أجاز عبد الله بن الأرقم ثلاثين ألفًا فأبى

أن يقبلها وقال: إنما عملت لله وأجري عليه. وأخرج البغوي أن عثمان استعمل عبد الله بن الأرقم على بيت المال، فأعطاه عمالة ثلاثمائة ألف دينار فأبى أن يقبلها. له أحاديث، وعندهم فرد حديث. روى عنه عبد الله بن عتبة بن مسعود، وأسلم مولى عمر ويزيد بن قتادة وعروة. قال ابن السكن: توفي في خلافة عثمان وهو مقتضى صنيع البخاري. ووقع في ثقات ابن حبّان أنه توفي سنة أربع وستين وهو وهم. قال في الإصابة: وأمّا مليح بن عوف فلم أطّلع على ترجمة له فيما وقفت من كتب الرجال إلاَّ ما في الإصابة من قوله له إدراك. وكان دليلًا في زمن عمر وساق حديث ابن سعد المار في ذهابه مع محمّد بن مسلمة. أخرجه البخاري في الصلاة أيضًا عن سليمان بن حرب، وأخرجه مسلم فيها أيضًا وأبو داود والنَّسائي.

الحديث الخامس والعشرون

الحديث الخامس والعشرون حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ. قوله: عن محمود بن الربيع في رواية الحميدي عن سفيان حدّثنا الزهري سمعت محمود بن الربيع، وعند الإسماعيلي لابن أبي عمر سمعت عبادة بن الصامت، ولمسلم عن ابن شهاب أن محمود بن الربيع أخبرني أن عبادة بن الصامت أخبره، وبهذا التصريح بالإخبار يندفع تعليل من أعلّه بالانقطاع لكون بعض الرواة أدخل بين محمود وعبادة رجلًا. وهي رواية ضعيفة عند الدراقطني. وقوله: لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب، زاد الحميدي في مسنده فيها وأخرجها البيهقي والإسماعيلي وأبو نعيم في المستخرج. وهذا يعين أن المراد القراءة في نفس الصلاة ويشمل القراءة في الظهر والعصر ويبيّن ضعف الأحاديث المروية عن ابن عبّاس في ترك القراءة في صلاة الظهر والعصر، وسيأتي إن شاء الله تعالى استيفاء الكلام على ذلك في باب القراءة في الظهر في الباب الذي يلي هذا، واستدل بهذا الحديث من قال بوجوب قراءة الفاتحة على كل مصلّ منفردًا أو إمامًا أو مأمومًا سواء أسرّ الإمام أو جهر وهو قول الشافعي وأحمد وأبي ثور وإسحاق، وعند المالكية الفاتحة واجبة على الفذ والإمام، وأما المأموم فتندب له القراءة في السرية، ويندب تركها في الجهرية ولو لم يسمع قراءة الإِمام. واختلف في وجوب قراءتها هل هي واجبة في كل ركعة أو واجبة في الجلّ سنة في الأقل والتارك لها سهوًا سواء كان تركه لها في جلّ الصلاة أو في نصفها أو في أقلّها يسجد قبل السلام لاحتمال أنها وجبت في كل ركعة، هذا مشهور ما قيل في تركها سهوًا ونظمه بعض علمائنا فقال: حاصل ما شهده بناني .... في السهو عن فاتحة القرآن إن كان تركه لها في الجل ... أو النصيف أو من الأقل إتمامه الصلاة ثم يسجد .... قبل السلام ويعيد أبدا وإن تركها عمدًا في ركعة على القول بوجوبها في الجلّ قيل تبطل وقيل لا تبطل. وعند الحنفية تجب القراءة في الركعتين الأوليين من الصلوات ولا تجب في الأخريين. قال صاحب الهداية: إن شاء قرأ في الأخريين، وإن شاء سبّح، وإن شاء سكت، إلاَّ أن الأفضل أن يقرأ. قالوا: المصلّي

مأمور بالقراءة بقوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} والأمر لا يقتضي التكرار فتتعين الركعة الأولى منها، وإنّما أوجبوها في الثانية لأنهما تتشاكلان من كل وجه. فالفاتحة لا فرضية لها عندهم في الصلاة مطلقًا لقوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} فتجب الصلاة بأي قراءة كانت. قالوا: الزيادة على النص تكون نسخًا لاطلاقه وذلك غير جائز، ولا يجوز أن يجعل الحديث بيانًا للآية لأنه لا إجمال فيها؛ لأن المجمل هو ما يتعذر العمل به قبل البيان، والآية ليست كذلك. وتعيين الفاتحة إنّما ثبت بالحديث فيكون واجبًا يأثم تاركه، وتجزىء الصلاة بدونه، والفرض آية قصيرة عند أبي حنيفة (كمدْهامّتان). وقال صاحباه: آية طويلة أو ثلاث آيات ووجوب القراءة عندهم في غير المسلم، وأما المؤتم عندهم فلا يجب أن يقرأ شيئًا لا من الفاتحة ولا من القرآن، وهذا هو ما مرَّ عن المالكية وبه قال الأوزاعي وابن المسيب وجماعة من التابعين وفقهاء الحجاز. قال في الفتح: في قولهم إن الفاتحة واجبة يأثم تاركها، لا ينقضي عجبي ممّن يتعمّد ترك قراءة الفاتحة منهم وترك الطمأنينة فيصلّي صلاة يريد أن يتقرّب إلى الله تعالى بها، وهو يتعمد ارتكاب الإثم فيها مبالغة في تحقق مخالفته لمذهب غيره. وقد قال جماعة: منهم الأحمر، وابن علية، والحسن بن صالح، والأصم أن القراءة في الصلاة مستحبة لا غير. وروى الشافعي عن مالك بإسناده أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه صلّى المغرب فلم يقرأ فيها شيئًا. فقيل له، فقال: كيف كان الركوع والسجود؟ قلنا: حسن. قال: لا بأس. وهذا فيه انقطاع. ولابن الأثير في شرح مسند الشافعي عن الشعبي صلّى عمر فلم يقرأ شيئًا فأعاد، ورواه أبو معاوية عن الأعمش مثله. وروى الشافعي عن علي رضي الله تعالى عنه قال له رجل: إني صلّيت فلم اقرأ قال: أتممت الركوع والسجود قال: نعم، قال: تمّت صلاتك. وروى ابن المنذر عن علي أنه قرأ في الأوليين وسبّح في الأخريين. وفي المصنّف عن أبي إسحاق عن عليّ وعبد الله بن مسعود أنّهما قالا: أقرأ في الأوليين وسبّح في الأخريين. وعن منصور قلت لإبراهيم: ما نفعل في الركعتين الأخريين من الصلاة قال: سبّح وأحمد الله وكبّر، وعن الأسود والثوري كذلك، وعن مالك رواية شاذّة أن الصلاة صحيحة بدون القراءة. وروى البيهقي عن زيد بن ثابت القراءة في الصلاة سُنّة، وعن الشافعي في القديم إن تركها ناسيًا صحّت صلاته. وقد اختلف العلماء في تأويل قوله لا صلاة .. الخ. فقيل أنّها لنفي الجنس والصحة وبهذا قال مَنْ جعلها ركنًا في الصلاة. وقيل إنها لنفي الكمال، وبهذا قال من لم يجعلها ركنًا في الصلاة. قال المازري: اختلف الأصوليون في معنى هذا اللفظ يعني: قوله لا صلاة .. الخ، فقيل: إنه مجمل لأنه حقيقة في نفي الذات، والذات واقعة، والواقع لا يرتفع فينصرف لنفي الحكم وهو متردد

بين نفي الكمال ونفي الصحة وليس أحدهما أولى، فيلزم الإجمال وهو خطأ لأن العرب لم تضعه لنفي الذات وإنّما تورده للمبالغة. ثم تذكر الذات ما أرادت من المبالغة. وقيل: هو عام مخصوص عام في نفي الذات وأحكامها ثم خصّ بإخراج الذات لأن الرسول لا يكذب. وقيل: هو عام غير مخصوص لأن العرب لم تضعه لنفي الذات بل لنفي أحكامها، وأحكامها في مسألتنا الصحة والكمال وهو عام فيهما ورده المحققون بأن العموم إنّما يحسن إذا لم يكن فيه تنافٍ، هو هنا لازم لأن نفي الكمال يصحّ معه الإجزاء ونفي الصحة لا يصح معه الإجزاء. وصار المحققون إلى الوقف وأنه تردد بين نفي الكمال والإجزاء، فإجماله من هذا الوجه لا ممّا قاله الأولون، وتعقبه الأبي فقال: ما رد به الأول لا يرفع الإجمال لأنه وإن سلم أنه لنفي الحكم فالأحكام متعددة وليس أحدها بأولى، وإنما الجواب ما قيل من أنه لا يمتنع، نفي الذات أي: الحقيقة الشرعية لأن الصلاة في عرف الشرع اسم للصلاة الصحيحة فإذا فقد شرط صحتها انتفت، فلابد من تعلق النفي بالمسمى الشرعي، ثم لو سلّم عوده للحكم لم يلزم الإجمال لأنه في نفي الصحة أظهر؛ لأن مثل هذا اللفظ يستعمل عرفًا لنفي الفائدة كقولهم لا علم إلا ما نفع، ونفي الصحة أظهر في بيان نفي الفائدة، وأيضًا اللفظ يشعر بالنفي العام، ونفي الصحة أقرب إلى العموم من نفي الكمال لأن الفاسد لا اعتبار له بوجه، ومن قال أنه عام مخصوص فالمخصص عنده الحسن؛ لأن الصلاة قد وقعت كقوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا ترَى (¬1) إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} فإن الحسّ يشهد بأنها لم تدمر الجبال. وقال في فتح القدير قوله: لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب هو مشترك الدلالة لأن النفي لا يرد إلا على النسب لا على نفس الفرد، والخبر الذي هو متعلق الجار محذوف، فيمكن تقديره صحيحة فيوافق قول الشافعي أو كاملة فيخالفه وفيه نظر؛ لأن متعلق المجرور الواقع خبرًا استقرار عام فالحاصل لا صلاة كائنة وعدم الوجود شرعًا هو عدم الصحة. هذا هو الأصل بخلاف لا صلاة لجار المسجد .. الخ، ولا صلاة للعبد الآبق فإن قيام الدليل على الصحة أوجب كون المراد كونًا خاصًا أي: كاملة، فعلى هذا يكون من حذف الخبر لا من وقوع الجار والمجرور خبرًا، ويؤيد حمله على نفي الصحة والإجزاء ما رواه الإسماعيلي عن العبّاس بن الوليد أحد شيوخ البخاري عن سفيان بهذا الإسناد بلفظ: لا تجزىء صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب. وأخرجه ابن حبّان وابن خزيمة وغيرهما بهذا اللفظ عن أبي هريرة، وأخرج أحمد بلفظ: لا تقبل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن، وقد أخرج ابن خزيمة عن محمد بن الوليد القرشي حديث الباب بلفظ لا صلاة إلاَّ بقراءة فاتحة الكتاب، فلا يمتنع أن يقال أن قوله لا صلاة نفي بمعنى النهي أي: لا تصلّوا إلا بقراءة فاتحة الكتاب، ونظيره ما رواه مسلم عن عائشة مرفوعًا لا صلاة بحضرة الطعام ¬

_ (¬1) هذه رواية ورش عن نافع وهي السائدة في بلاد المغرب. (المصحح).

فإنه في صحيح ابن حبّان بلفظ: لا يصلّي أحدكم بحضرة الطعام. وأخرجه مسلم وأخرج ابن حبّان شاهداً له عن أبي هريرة بهذا اللفظ، ومما هوكحديث الباب في الدلالة على ركنيتها في الصلاة ما أخرجه مسلم وأبو داود وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: "مَنْ صلّى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خِداج فهي خِداج فهي خِداج غير تمام"، واستدل بالحديث على وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة بناء على أن الركعة الواحدة تسمّى صلاة لو تجردت، وفيه نظر لأن قراءتها في ركعة واحدة من الرباعية مثلًا يقتضي حصول اسم قراءتها في تلك الصلاة، والأصل عدم وجوب الزيادة على المرّة الواحدة، والأصل أيضًا عدم إطلاق الكل على البعض لأن الظهر مثلًا كلها صلاة واحدة حقيقة كما صرّح به في حديث الإسراء حيث سمّى المكتويات خمسا، وكذا حديث عبادة خمس صلوات كتبهن الله على العباد وكير ذلك، فإطلاق الصلاة على ركعة منها يكون مجازًا. قال الشيخ تقي الدين: وغاية ما في هذا البحث أن يكون في الحديث دلالة مفهوم على صحة الصلاة بقراءة الفاتحة في كل ركعة واحدة منها، فإن دلّ دليل خارج منطوق على وجوبها في كل ركعة كان مقدمًا، ودليل الجمهور قوله -صلى الله عليه وسلم- للمسيء صلاته: وافعل ذلك في صلاتك كلّها -بعد أن أمره بالقراءة- وفي رواية لأحمد وابن حبّان وافعل ذلك في كل ركعة، ولعلّ هذا هو السرّ في إيراد البخاري له عقب حديث عبادة، واستدلّ به على وجوب قراءة الفاتحة على المأموم سواء أسرّ الإِمام أو جهر لأن صلاته صلاة حقيقة فتنتفي عند انتفاء القراءة إلى أن جاء دليل يقتضي تخصيص صلاة المأموم من هذا العموم فيقدّم، والمثبتون لركنية الفاتحة مطلقًا كالشافعية أو لغير المأموم كالمالكية يثبتونها لا على معنى الوجوب عند الحنفية، فانهم لا يقولون بوجولها قطعًا بل ظناً لأنهم يخصّون الفرضية والركنية بالقطعي، وإنما قال من قال بفرضيتها وركنيتها بالمعنى الذي سمّوه وجوبًا فلا زيادة. وأجاب القائلون بعدم فرضيتها عن حديث الباب قبول الزيادة بالخبر إنّما تصحّ إذا كان محكمًا، أمّا إذا كان محتملًا فلا. وهذا الحديث محتمل لأن مثله يستعمل لنفي الجواز ونفي الفضيلة كقوله عليه الصلاة والسلام: لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد، فالمراد به نفي الفضيلة كذا هو هنا. ويؤيد هذا التأويل قوله تعالى: {إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ} فمعناه أنهم لا أيمان لهم موثوقًا بها، ولم ينف وجود الأيمان منهم رأسًا لأنه قال: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ} وعقب ذلك أيضًا بقوله: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} فثبت أنه لم يرد بقوله أنهم لا أيمان لهم نفي الإيمان أصلًا، وإنما أراد ما ذكر، وهذا يدل على إطلاق لفظة لا والمراد بها نفي الفضيلة دون الأصل، وحملوا معنى قوله في حديث مسلم فهي خِداج على نقصان البركة؛ لأن النقصان في الوصف لا في الذات واستدلت المالكية ومن وافقهم في عدم وجوبها على المأموم بحديث: من صلّى خلف الإِمام فقراءة الإِمام قراءة له. وبما أخرجه مسلم وغيره عن أبي موسى: وإذا قرأ فأنصتوا. وهو

حديث صحيح وأجابت الشافعية ومن وافقهم عن الحديثين أجابوا عن الأول بأنه حديث ضعيف عند الحفاظ، وقد استوعب الدارقطني طرقة وعلله وردّ هذا الجواب بأن الحديث له طرق كثيرة وشواهد كثيرة، أقلّ أحواله أن يرتقي بها إلى درجة الحسن فقد أخرجه ابن ماجه عن جابر مرفوعًا وأخرجه الدارقطني في سننه عن ابن عمر وأبي هريرة مرفوعًا وأخرجه أيضًا عن ابن عبّاس مرفوعًا بلفظ يكفيك قراءة الإِمام خافت أو جهر وأخرجه الطبراني في الأوسط مرفوعًا عن أبي سعيد. وأخرجه ابن حبّان عن أنس مرفوعًا، ولحديث جابر طرق أخرى يشدّ بعضها بعضًا منها طريق صحيح، رواه محمد بن الحسن في موطئه عن أبي حنيفة بسنده عن جابر مرفوعًا، وأخرجه الدارقطني في سننه والبيهقي في سننه عن أبي حنيفة والحسن بن عمارة بالإسناد المذكور، وتعقّب الدارقطني لهذا الحديث بأن أبا حنيفة والحسن بن عُمارة ضعيفان، وأن الصواب أنه مرسل من عبد الله بن شدّاد مردود بان أبا حنيفة لم يرد أحد روايته، وبأن المرسل عندنا وعند الحنفية حجة، وكذلك الموقوف فما اعترض به الدارقطني حديث ابن عمر السابق بأنه موقوف لا اعتراض به لأن الموقوف حجة. وقد روي منع القراءة خلف الإِمام عن ثمانين من الصحابة الكبار منهم العبادلة الأربعة. وقد روى الإِمام عبد الله بن يعقوب الحارني في كشف الأسرار عن عبد الله بن زيد بن أسلم عن أبيه قال: كان عشرة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينهون عن القراءة خلف الإِمام اشدّ النهي أبو بكر الصديق، وعمر الفاروق، وعثمان، وعلي، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عمر، وابن عباس رضي الله تعالى عنهم. ولهذا قال صاحب الهداية: وعلى ترك القراءة خلف الإِمام إجماع الصحابة فسمّاه إجماعًا باعتبار اتفاق الأكثر. ومثل هذا يسمى إجماعًا، وأخرج عبد الرزاق في مصنفه عن موسى بن عقبة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا ينهون عن القراءة خلف الإِمام وأخرج عن موسى بن سعد بن أبي وقاص قال: ذكر لي أن سعد بن أبي وقاص قال: وَدِدْتُ أن الذي يقرأ خلف الإِمام في فيه حجر. وأخرج الطحاوي بسنده عن علي أنه قال: من قرأ خلف الإِمام فليس على الفطرة أي: ليس على شرائط الإِسلام، أو ليس على السنة. وأخرجه عنه ابن أبي شيبة بلفظ من قرأ خلف الإِمام فقد أخطأ الفطرة. وأخرجه الدارقطني كذلك من طرق. وأخرجه عبد الرزاق عنه بلفظ: من قرأ مع الإِمام فليس على الفطرة، وقال ابن مسعود: ملىء فوه ترابًا، قال: وقال عمر: وددت أن الذي يقرأ خلف الإِمام في فيه حجر، وفي التمهيد ثبت عن علي وسعد وزيد بن ثابت أنه لا قراءة مع الأمام لا فيما أسرّ ولا فيما جهر. وأخرج عبد الرزاق عن أبي وائل قال رجل إلى عبد الله: يا أبا عبد الرحمن أأقرأ خلف الإِمام؟ قال: أنصت للقرآن فإن في الصلاة شغلًا وسيكفيك ذلك الإِمام. وأخرجه الطبراني عن عبد الرزاق، وأخرجه ابن أبي شيبة عن منصور عن أبي وائل .. الخ.

وأخرج الطحاوي عن عبيد الله بن مِقْسَم أنه سأل عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت، وجابر بن عبد الله فقالوا: لا تقرأ خلف الإِمام في شيء من الصلوات. ثم قال الطحاوي: فهؤلاء جماعة من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أجمعوا على ترك القراءة خلف الإِمام، وقد وافقهم على ذلك ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مما قدمنا ذكره. قلت: وما روي عن هؤلاء الصحابة له حكم المرفوع، إذ لا مجال للرأي في القرآن في الصلاة، فما قالوه محمول على أنهم سمعوه منه -صلى الله عليه وسلم-. وقد روى أبو داود في حديث عبادة بن الصامت لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب، أن سفيان بن عيينة أحد رواته قال: هذا لمن يصلي وحده يعني: أنه في حق من يصلي وحده، وأما المقتدي فإن قراءة الإِمام قراءة له، وكذا قال الإسماعيلي في روايته إذا كان وحده وعلى هذا لا تبقى للشافعية ومن قال بقولهم دعوى للعموم في حق المأموم، وأجابوا عن حديث أبي موسى السابق وإذا قرأ فأنصتوا، ومثله ما رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه والطحاوي عن أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال: إنما جعل الإِمام ليؤتم به، وزاد فيه: وإذا قرأ فانصتوا، فإن هذين الحديثين حجة صريحة في أن المقتدي لا يجب عليه أن يقرأ خلف الإِمام في الجهرية بأنه لا دلالة فيما حكاه على الجمع بين الأمرين فينصت فيما عدا الفاتحة أو ينصت إذا قرأ الإِمام، ويقرأ إذا سكت. قالوا: وعلى هذا يتعين على الإِمام السكوت في الجهرية ليقرأ المأموم لئلا يوقعه في ارتكاب النهي حيث لا ينصت إذا قرأ الإِمام قلت: وهذا الجواب يكفي من رده أن مذهبهم لا يجب فيه هذا السكوت وإنما هو مندوب عندهم، فلابد من أن يقولوا بوجوب السكوت على الإِمام أو ترك المأموم للإنصات والقراءة مع الإِمام أو تركه القراءة، وهذا كله خلاف مذهبهم. وقد قال ابن عبد البر في التمهيد بسنده عن أحمد بن حنبل أنه صحّح الحديثين حديث أبي موسى وحديث أبي هريرة. وقد قال في الفتح: كان متفطنًا للاعتراض الذي قدمناه، قد ثبت الإذن بقراءة الفاتحة في الجهرية بغير قيد، وذلك فيما أخرجه البخاري في جزء القراءة والترمذي وابن حبّان وغيرهما عن عبادة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ثقلت عليه القراءة في الفجر، فلمّا فرغ قال: لعلّكم تقرؤون خلف إمامكم قلنا: نعم قال: فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها وله شاهد من حديث أبي قتادة عند أبي داود والنَّسائي ومن حديث أنس عند ابن حبّان. وروى عبد الرزاق عن سعيد بن جبير قال: لابد من أم القرآن، ولكن من مضى كان الإِمام يسكت قدر ما يقرأ المأموم بأم القرآن. قلت: ما ذكره من قراءة المأموم في الجهرية ليس في الحديث الأول الذي ذكر دلالة عليه، فإن قوله عليه الصلاة والسلام: لعلّكم تقرؤون قال على أنه لم يسمع قراءتهم ولو سمعها ما استفهمهم كما أن قوله إلا بفاتحة الكتاب ليس فيه إذن منه في قراءتها جهرًا. وقد أخرج النَّسائي وغيره عن الزهري في آخر حديث الباب فصاعدًا واستدل به على وجوب قدر زائد على الفاتحة، وتعقب بأنه ورد لدفع توهم قصر الحكم على الفاتحة.

رجاله خمسة

قال البخاري في جزء القراءة: هو نظير قوله تقطع اليد في ربع دينار فصاعدًا وادّعى ابن حبّان والقرطبي وغيرهما الإجماع على عدم وجوب قدر زائد عليها وفيه نظر لثبوته عن بعض الصحابة ومن بعدهم فيما رواه ابن المنذر وغيره، ولعلّهم أرادوا أن الأمر استقر على ذلك وسيأتي في حديث أبي هريرة بعد ثمانية أبواب وإن لم تزد على أم القرآن اجزأت ولابن خزيمة عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قام فصلّى ركعتين لم يقرأ فيهما إلا بفاتحة الكتاب. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ علي بن المديني في الرابع عشر من العلم، ومرَّ ابن عيينة في الأول من بدء الوحي، والزهري في الثالث منه، ومحمود بن الربيع في التاسع عشر من العلم، وعبادة بن الصامت في الحادي عشر من الإيمان. فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، ورواته ما بين بصري ومكّي ومدني، أخرجه باقي الستة في الصلاة أيضًا مسلم وأبو داود والترمذي والنَّسائي وابن ماجه.

الحديث السادس والعشرون

الحديث السادس والعشرون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَدَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَرَدَّ وَقَالَ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ. فَرَجَعَ يُصَلِّي كَمَا صَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ ثَلاَثًا. فَقَالَ وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ فَعَلِّمْنِي. فَقَالَ: إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، وَافْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاَتِكَ كُلِّهَا. قال في الفتح: موضع الحاجة منه هنا قوله: ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، وكأنه أشار بإيراده عقب حديث عبادة أن الفاتحة إنما تتحتم على من يحسنها، وأن من لم يحسنها يقرأ بما تيسر عليه. وأن إطلاق القراءة في حديث أبي هريرة مقيدة بالفاتحة كما في حديث عبادة. قلت: كان الأولى له الاقتصار على أن مناسبة الحديث للترجمة في قوله ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن فإن الترجمة إنما فيها وجوب القراءة للإمام والمأموم، وقد مرّ أن المنفرد حكمه حكم الإِمام والحديث دال على وجوب القراءة على المنفرد واعترضه العيني من وجه آخر وقال: إن مناسبته للترجمة بالاستيناس في قوله وما يخافت لأنه عليه الصلاة والسلام أمر الرجل المذكور في هذا الحديث بالقراءة في صلاته وكانت نهارية، وأصل صلاة النهار على الإسرار إلا ما خرج بدليل كالجمعة والعيدين. والأولى عندي في المناسبة الوجه الأول. قوله: عن أبيه قال الدارقطني خالفه يحيى القطّان وأصحاب عبيد الله كلّهم في هذا الإسناد فإنهم لم يقولوا عن أبيه ويحيى حافظ فيشبه أن يكون عبيد الله حدّث به على الوجهين. وقال البزار: لم يتابع يحيى عليه ورجح الترمذي رواية يحيى ولكل من الروايتين وجه مرجح، أما رواية يحيى فللزيادة من الحافظ، وأما الرواية الأخرى فللكثرة، ولأن سعيدًا لم يوصف بالتدليس، وقد ثبت سماعه من أبي هريرة، ومن ثم أخرج الشيخان الطريقين. فأخرج البخاري طريق يحيى هنا، وفي باب أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي لا يتم ركوعه بالإعادة الآتي، وأخرج في الاستيذان طريق عبيد الله بن نمير، وفي الأيمان والنذور عن أبي أسامة كلاهما عن عبيد الله ليس فيه عن أبيه.

وأخرجه مسلم من رواية الثلاثة وللحديث طريق أخرى من غير رواية أبي هريرة أخرجها أبو داود والنسائي عن إسحاق بن أبي طلحة ومحمد بن إسحاق، ومحمد بن عمرو، ومحمد بن عجلان وداود بن قيس كلّهم عن عليّ بن يحيى بن خلاد بن رافع الزرقي عن أبيه عن عمّه رفاعة بن رافع، فمنهم من لم يسمّ رفاعة وقال عن عم له بدري ومنهم من لم يقل عن أبيه. ورواه الترمذي والنَّسائي عن يحيى بن علي بن يحيى عن أبيه عن جدّه عن رفاعة، لكن لم يقل الترمذي عن أبيه، وفيه اختلاف آخر سيذكر قريبًا. وقوله: فدخل رجل في رواية ابن نمير ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس ونحن حوله، وهذا الرجل هو خلاد بن رافع ويأتي في السند ذكر محل تعريفه، وجعل أبو موسى في الذيل عن ابن عيينة الحديث من رواية خلاد بن رافع والمحفوظ أنه من رواية رفاعة كذلك أخرجه أحمد عن يحيى بن سعيد القطان وابن أبي شيبة عن أبي خالد الأحمر، وأمّا ما وقع عند الترمذي إذ جاء رجل كالبدوي فصلّى فأخف صلاته فهذا لا يمنع تفسيره بخلاد لأن رفاعة شبهه بالبدوي لكونه أخف الصلاة أو لغير ذلك. وقوله: فصلّى زاد النَّسائي من رواية داود بن قيس ركعتين، وفيه إشعار بأنه صلّى نفلًا، والأقرب أنها تحية المسجد، وفي الرواية المذكورة وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يرمقه في صلاته زاد في رواية إسحاق بن أبي طلحة: ولا ندري ما يعيب منها، وعند ابن أبي شيبة من رواية أبي خالد يرمقه ونحن لا نشعر، وهذا محمول على حالهم في المرّة الأولى وهو مختصر من الذي قبله كأنه قال: ولا يشعر بما يعيب منها. وقوله: ثم جاء فسلّم في رواية أبي أسامة، فجاء وسلّم وهي أولى لأنه لم يكن بين صلانه ومجيئه تراخ قلت: هذا يحتاج إلى ما يدل عليه صريحًا حتى تكون هذه هي الأولى. وقوله: فرد النبي -صلى الله عليه وسلم- في رواية مسلم ورواية ابن نمير في الاستيذان فقال: وعليك السلام، وفي تعقّب على ابن المنير حيث قال: إن الموعظة في وقت الحاجة أهم من رد السلام، ولأنه عليه الصلاة والسلام لم يرد عليه السلام تأديبًا له على جهله فيؤخذ منه التأديب بالهجر وترك السلام، والذي في نسخ الصحيحين ثبوت الرد في هذا الموضع وغيره إلا الذي في الأيمان والنذور، وقد ساق صاحب العمدة الحديث بلفظ الباب إلا أنه حذف منه الرد فلعل ابن المنير اعتمد على النسخة التي اعتمد عليها صاحب العمدة. وقوله: ارجع في رواية ابن عجلان أعد صلاتك. وقوله: فإنك لم تصل قال عياض: فيه أن أفعال الجاهل في العبادة على غير علم لا تجزىء وهو مبني على أن المراد بالنفي نفي الإجزاء وهو الظاهر، ومن حمله على نفي الكمال تمسك بأنه -صلى الله عليه وسلم- لم يأمره بعد التعليم بالإعادة فدل على اجزائها والإلزام تأخير البيان كذا قاله المهلب ومن تبعه من المالكية وفيه نظر لأنه عليه الصلاة والسلام قد أمره في المرة الأخيرة بالإعادة فسأله التعليم

فعلّمه، فكأنّه قال له: أعد صلاتك على هذه الكيفية. قال ابن المنير: وقوله ثلاثًا في رواية ابن نمير، فقال في الثالثة أو في التي بعدها، وفي رواية أبي أسامة فقال في الثانية أو الثالثة وتترجح الأولى لعدم وقوع الشك فيها، ولكونه -صلى الله عليه وسلم- كان من عادته استعمال الثلاث في تعليمه غالبًا. وقوله: فعلمني في رواية يحيى بن علي، فقال الرجل فأرني وعلّمني فإنما أنا بشر أصيب وأخطىء. فقال أجل. وقوله: إذا قمت إلى الصلاة فكبّر. في رواية ابن نمير إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبّر. وفي رواية يحيى بن علي فتوضأ كما أمرك الله، ثم تشهد، وأقم، وفي رواية إسحاق بن أبي طلحة عند النسائي: إنها لم تتم صلاة أحدكم حتى يسغ الوضوء كما أمره الله فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح رأسه ورجليه إلى الكعبين، ثم يكبّر الله ويحمده ويمجده، وعند أبي داود ويثني عليه بدل ويمجده. وقوله: ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن لم تختلف الروايات في هذا عن أبي هريرة، وأما رفاعة ففي رواية إسحاق المذكورة ويقرأ ما تيسر من القرآن ممّا علّمه الله. وفي رواية يحيى بن علي فإن كان معك قرآن فاقرأ وإلا فاحمد الله وكبّره وهلّله وفي رواية محمد بن عمرو عند أبي داود ثم اقرأ بأم القرآن أو بما شاء الله. ولأحمد وابن حبّان من هذا الوجه ثم اقرأ بأم القرآن ثم اقرأ بما شئت. ترجم له ابن حبَّان باب فرض المصلّي قراءة فاتحة الكتاب في كل ركعة. وقوله: حتى تطمئن راكعًا في رواية أحمد القريبة فإذا ركعت فاجعل راحتيك على ركبتيك وامدد ظهرك وتمكن لركوعك. وفي رواية إسحاق بن أبي طلحة ثم يكبّر فيركع حتى تطمئن مفاصله ويسترخي. وقوله: حتى تعتدل قائمًا في رواية ابن نمير عند ابن ماجه حتى تطمئن قائمًا. وقد أخرج مسلم إسناده بعينه في هذا الحديث لكنه لم يسق لفظه فهو على شرطه، وكذا أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده وأبو نعيم في مستخرجه والسراج كلهم عن أبي أسامة. فثبت ذكر الطمأنينة في الاعتدال على شرط الشيخين ومثله في حديث رفاعة عند أحمد وابن حبّان. وفي لفظ أحمد: فأقم صلبك حتى ترجع العظام إلى مفاصلها، وعرف بهذا أن قول إمام الحرمين: في القلب من إيجابها أي الطمأنينة في الرفع من الركوع شيء لأنها لم تذكر في حديث المسيء صلاته دال على أنه لم يقف على هذه الطرق الصحيحة. وقوله: ثم اسجد في رواية إسحاق بن أبي طلحة ثم يكبر فيسجد حتى يمكن وجهه أو جبهته حتى تطمئن مفاصله وتسترخي. وقوله: ثم ارفع في رواية إسحاق المذكورة ثم يكبر فيرفع حتى يستوي قاعدًا على مقعدته ويقيم صلبه. وفي رواية محمد بن عمرو: فإذا رفعت رأسك فاجلس على فخذك اليسرى، وفي

رواية إسحاق فإذا جلست في وسط الصلاة فاطمئن جالسًا ثم افترش فخذك اليسرى ثم تشهد. وقوله: ثم افعل ذلك في صلائك كلها في رواية محمد بن عمرو ثم اصنع ذلك في كل ركعة وسجدة، وفي رواية ابن نمير في الاستيذان بعد ذكر السجود الثاني، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا. وقد قال بعضهم: هذا يدل على إيجاب جلسة الاستراحة ولم يقل به أحد. وأشار البخاري إلى أن هذه اللفظة وهم فإنه عقبه بأن قال: قال أبو أسامة في الأخير حتى تستوي قائمًا، ويمكن أن يحمل إن كان محفوظًا على الجلوس للتشهد ويقويه رواية إسحاق المذكورة قريبًا، وكلام البخاري ظاهر في أن أبا أسامة خالف ابن نمير، لكن رواه إسحاق بن راهويه في مسنده عن أبي أسامة كما قال ابن نمير بلفظ: ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم اقعد حتى تطمئن قاعدًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم اقعد حتى تطمئن قاعدًا ثم افعل ذلك في كل ركعة. وأخرجه البيهقي من طريقه هكذا، والصحيح رواية عبيد الله بن سعيد بن أبي قدامة ويوسف بن موسى عن أبي أسامة بلفظ ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا ثم ارفع حتى تستوي قائمًا واستدل بهذا الحديث على وجوب الطمأنينة في أركان الصلاة. وبه قال الجمهور، وقال أبو حنيفة ومحمد إن الطمأنينة في الركوع والسجود واجبة وليست بفرض حتى قال في الخلاصة إنها سنة عندهما وقالا لأن الركوع هو الانحناء والسجود هو الانخفاض لغة، فتتعلق الركنية بالأدنى منهما، وقالا أيضًا قوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} أمر بالركوع والسجود وهما لفظان خاصان يراد بهما الانحناء والانخفاض فيتأدى ذلك بأدنى ما ينطلق عليه من ذلك وافتراض الطمأنينة فيهما بخبر الواحد زيادة على مطلق النص وهو نسخ، وذلك لا يجوز ويأتي الجواب عن هذا في آخر الكلام على الحديث، وأجابوا عن حديث الباب بأنه عليه الصلاة والسلام انما أمره بالإعادة على الكيفية الكاملة ولا يستلزم ذلك نفي ذات الصلاة، فالنفي راجع إلى الصفة لا إلى الذات والدليل عليه أن صلاته لو كانت فاسدة لكان الاشتغال بها عبثًا، والنبي -صلى الله عليه وسلم- لا يقرر أحدًا على الاشتغال بالعبث، ويأتي في آخر الكلام على الحديث الجواب عن هذا، لكن الطحاوي جعل الخلاف في المقدار الذي يجزىء السجو والركوع بدونه، فإنه لما ذكر الحديث الذي أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه عن ابن مسعود أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: إذا قال أحدكم ني ركوعه سبحان ربي العظيم ثلالًا فقد تم ركوعه وذلك أدناه، وإذا قال في سجودة سبحان ري الأعلى ثلاثًا فقد تم سجوده وذلك أدناه، قال ذهب إلى هذا إسحاق وداود وأحمد في رواية مشهورة وخالفهم في ذلك الشافعي ومالك وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد والأوزاعي والثوري وأحمد في رواته، فإنهم قالوا مقدار الركوع الذي لا تتم الصلاة إلا به إن ركع حتى يستوي ومقدار السجود إن سجد حتى يطمئن ساجداً وقال ابن دقيق العيد تكرر من الفقهاء الاستدلال بهذا الحديث على وجوب ما ذكر فيه وعلى عدم وجوب ما لم يذكر فيه أما الوجوب لتعلق الأمر به وأما عدمه فلكون الموضع موضع تعليم وييان للجاهل، وذلك يقتضي انحصار الواجبات فيما تعلقت به الإساءة من هذا المصلي وعا لم يتعلق به فدل على أنه لم يقصر

المقصود على ما وقعت به الإساءة قال: فكل موضع اختلف العلماء في وجوبه وكان مذكورًا في هذا الحديث فلنا التمسك به في وجوبه وبالعكس. قال في الفتح: لكن هذا يحتاج إلى جمع طرق هذا الحديث وإحصاء الأمور المذكورة فيه والأخذ بالترائد فالزائد ثم إن عارض الوجوب أو عدمه دليل أقوى منه عمل به وإن جاءت صيغة الأمر في حديث آخر بشيء لم يذكر في هذا الحديث قدمت قال وقد جمعت طرقه القوية عن أبي هريرة ورفاعة، وقد أمليت الزيادات التي اشتملت عليها قلت: قد اقتفيت أثره في ذلك فذكرت كل ما ذكره فمما لم يذكر فيه صريحًا من الواجبات المتفق عليها النية والقعود الأخير، ومن المختلف فيه التشهد الأخير والصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه والسلام في آخر الصلاة. قال النووي: وهو محمول على أن ذلك كان معلومًا عند الرجل. قلت: هذا مخالف لما مرّ قريبًا من أنه عليه الصلاة والسلام علمه ما تعلقت به الإساءة وما لم تتعلق به، وفيه دليل على أن الإقامة والتعوذ ودعاء الافتتاح ورفع اليدين في الإحرام وغيره ووضع اليمنى على اليسرى وتكبيرات الانتقالات وتسبيحات الركوع والسجود وهيئات الجلوس ووضع اليد على الفخذ ونحو ذلك مما لم يذكر في الحديث ليس بواجب وهو في معرض المنع لثبوت بعض ذكر في بعض الطرق كما مرّ بيانه فيحتاج من لم يقل بوجويه إلى دليل على عدم وجوبه كما مرّ تقريره واستدل به على تعين لفظ التكبير. قال ابن دقيق العيد: ويتأيد ذلك بأن العبادات محل التعبدات ولأن رتب هذه الأذكار مختلفة فقد لا يتأدى برتبة منها ما يقصد برتبة أخرى ونظيره الركوع، فإن المقصود به التعظيم بالخضوع فلو أبدل بالسجود لم يجزىء مع أنه في غاية الخضوع، وقد مرّت هذه المسألة في أول صفة الصلاة واستدل به الحنفية ومن وافقهم على أن قراءة الفاتحة لا تتعين في الصلاة، ووجهه أنه إذا تيسر فيه غير الفاتحة فقرأه يكون ممتثلاً فيخرج من العهدة، وأجاب الذين عينوها عن هذا الحديث بأجوبة منها: أن الدليل على تعينها تقييد المطلق في هذا الحديث وهو متعقب لأنه ليس بمطلق من كل وجه بل هو مقيد بقيد التيسير الذي يقتضي التخيير، وإنما يكون مطلقًا لو قال اقرأ قرآناً ثم قال: اقرأ فاتحة الكتاب، وقال بعضهم: هو بيان للمجمل أي: حديث الفاتحة بيان لما أجمل في حديث اقرأ ما تيسر، وتعقب هذا بأن المجمل هو ما لم تتضح دلالته. وقوله: ما تيسر متضح لأنه ظاهر في التخيير وإنما يقرب ذلك أن جعلت ما موصولة، وأريد بها شيء معين وهو الفاتحة لكثرة حفظ المسلمين لها فهي المتيسرة وتعقب هذا بأن سورة الإخلاص ميسرة وهي أقصر من الفاتحة، فلم ينحصر التيسير في الفاتحة، وقيل محمول على أنه عرف من حال الرجل أنه لا يحفظ الفاتحة. ومن كان كذلك كان الواجب عليه قراءة ما تيسر وقيل محمول على أنه منسوخ بالدليل على تعيين الفاتحة ولا يخفى ضعفهما لكنه محتمل ومع الاحتمال لا يترك الصريح، وهو قوله: لا تجزىء صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب، وقيل: إن قوله ما تيسر محمول

على ما زاد على الفاتحة جمعًا بينه وبين دليل إيجاب الفاتحة ويؤيده الرواية التي تقدمت لأحمد وابن حبّان حيث قال فيها اقرأ بأم القرآن، ثم اقرأ بما شئت وتعقب هذا بأنه ليس في ظاهر الحديث ما يدل على الفاتحة حتى يكون قوله ما تيسر وإلا على ما زاد على الفاتحة ومع هذا إِذا كان مأمورًا بما زاد على الفاتحة يجب أن تكون تلك الزيادة أيضًا فرضًا مثل الفاتحة ولم يقل بهذا من أوجب قراءة الفاتحة. قال في الفتح: والجواب القوي عن هذا أنه ورد في حديث المسيء صلاته تفسير ما تيسّر بالفاتحة كما أخرجه أبو داود عن رفاعة بن رافع رفعه، وإذا قمت فتوجهت فكبر، ثم اقرأ بأم القرآن وبما شاء الله أن تقرأ، وإذا ركعت فضع راحتيك على ركبتيك .. الحديث. وفي بعض طرقه كما مرّ ثم اقرأ إن كان معك قرآن فإن لم يكن فاحمد الله وكبّر وهلّل فإذا جمع بين ألفاظ الحديث كان تعين الفاتحة هو الأصل لمن معه قرآن فإن عجز عن تعلّمها وكان معه شيء من القرآن قرأ ما تيسر وإلاّ انتقل للذكر ويحتمل في طريق الجمع أيضاً أن يقال المراد بقوله: فاقرأ ما تيسر معك من القرآن أي: بعد الفاتحة ويؤيده رواية أبي سعيد عند أبي داود وبسند قوي أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر. وقال الخطابي في قوله: وافعل ذلك في صلاتك كللها دليل على أن عليه أن يقرأ في كل ركعة كما كان عليه أن يركع ويسجد في كل ركعة، وقد مرَّ الكلام على هذا في حديث عبادة بن الصامت، واستدل به على وجوب الطمأنينة في الأركان، واعتذر بعض من لم يقل به بأنه زيادة على النص لأن المأمور به في القرآن مطلق السجود فيصدق بغير طمأنينة، فالطمأنينة زيادة والزيادة على المتواتر بالآحاد لا تعتبر، وعورض بأنها ليست زيادة لكن لبيان المراد بالسجود وأنه خالف السجود اللغوي لأنه مجرد وضع الجبهة فبيّنت السنة أن السجود الشرعي ما كان بالطمأنينة ويؤيده أن الآية نزلت تأكيدًا لوجوب السجود لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن معه كانوا يصلّون قبل ذلك. ولم يكن النبي عليه الصلاة والسلام يصلّي بغير طمأنينة، وفي الحديث أيضًا من الفوائد وجوب الإعادة على من أخلّ بشيء من واجبات الصلاة، وفيه أن الشروع في النافلة ملزم لكن يحتمل أن تكون الصلاة فريضة فيقف الاستدلال، وقد مرّ أنها نافلة، ومرّ الكلام على هذه المسألة في كتاب الإيمان عند حديث الأعرابي السائل قال: لا إلا أن تطوع وفيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحسن التعليم بغير تعنيف وإيضاح المسألة وتخليص المقاصد وطلب المتعلم من العالم أن يعلمه وفيه تكرار السلام ورده وإن لم يخرج من الموضع إذا وقعت صورة انفصال، وفيه أن القيام في الصلاة ليس مقصودًا لذاته، وإنما يقصد للقراءة فيه، وفيه جلوس الإِمام في المسجد وجلوس أصحابه معه، وفيه التسليم للعالم والانقياد له والاعتراف بالتقصير والتصريح بحكم البشرية في جواز الخطأ، وفيه أن فرائض الوضوء مقصورة على ما ورد به القرآن لا ما زادته السنة فيندب، وفيه حسن خلقه -صلى الله عليه وسلم- ولطف معاشرته، وفيه تأخير البيان في المجلس للمصلحة، وقد استشكل تقرير النبي -صلى الله عليه وسلم- له على صلاته

رجاله ستة

وهي فاسدة بناء على القول بأنه أخل ببعض الواجبات. وأجاب المازري بأنه أراد استدراجه بفعل ما يجهله مرات لاحتمال أن يكون فعله ناسيًا أو غافلًا فيتذكره فيفعله من غير تعليم وليس ذلك من باب التقرير على الخطأ، بل من باب تحقق الخطأ. وقال النووي نحوه قال، وإنما لم يعلمه أولًا ليكون أبلغ في تعريفه وتعريف غيره بصفة الصلاة المجزئة. وقال ابن الجوزي: يحتمل أن يكون ترديده لتفخيم الأمر وتعظيمه عليه، ورأى أن الوقت لم يفته، فرأى إيقاظ الفطنة للمتروك، وقال ابن دقيق العيد: ليس التقرير بدليل على الجواز مطلقًا، بل لابد من انتفاء الموانع، ولا شك أن في زيادة قبول المتعلم لما يلقى إليه بعد تكرار فعله واستجماع نفسه وتوجه سؤاله مصلحة مانعة من وجوب المبادرة إلى التعليم لاسيما مع عدم خوف الفوات إما بناء على ظاهر الحال أو بوحي خاص. وقال التوربشتي: إنما سكت عن تعليمه أولًا لأنه لما رجع لم يستكشف الحال من مورد الوحي وكأنه اغتر بما عنده من العلم فسكت عن تعليمه زجرًا له وتأديبًا وإرشادًا إلى استكشاف ما استبهم عليه، فلما طلب كشف الحال من مورده أرشد إليه. لكن فيه مناقشة لأنه إن تم له في الصلاة الثانية والثالثة لم يتم له في الأولى؛ لأنه عليه الصلاة والسلام بدأه لما جاء أول مرة بقوله: ارجع فصل فإنك لم تصل فالسؤال وارد على تقريره له في الصلاة الأولى كيف لم ينكر عليه في أثنائها لكن الجواب يصلح بيانًا للحكمة في تأخير البيان بعد ذلك وفيه حجة على من أجاز القراءة بالفارسية يكون ما ليس بلسان العرب لا يسمى قرآنًا قاله عياض. قال العيني: هذا مبني على أن القرآن اسم للنظم، والمعنى جميعًا، وقيل إنه اسم للمعنى فقط بدليل قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} ولم يكن القرآن في زبر الأولين بلسان العرب. قلت: الأول هو ما درج عليه أهل الأصول من كون القرآن لفظًا منزلًا على النبي -صلى الله عليه وسلم- للإعجاز به وللتعبد به، فالقول الثاني ساقط لا عبرة به، وفيه أن المفتي إذا سئل عن شيء، وكان هناك شيء آخر يحتاج إليه السائل يستحب له أن يذكره له، وإن لم يسأله عنه، ويكون ذلك منه نصيحة وزيادة خير له من الكلام فيما لا معنى له. وموضع الدلالة منه قوله: علّمني أي: الصلاة، فعلمه الصلاة ومقدماتها. رجاله ستة: وفيه ذكر رجل مبهم، وقد مرَّ الجميع إلا أبا سعيد، مرّ محمد بن بشار في الحادي عشر من العلم، ومرّ يحيى القطان في السادس من الإيمان، ومرّ سعيد المقبري في الثاني والثلاثين منه، ومرّ أبو هريرة في الثاني منه، ومرَّ عبيد الله بن عمر العمري في الرابع عشر من الوضوء والرجل المبهم هو خلّاد بن رافع الأنصاري كما بيّنه ابن أبي شيبة، وقد مرَّ في الحادي عشر من التيمم، وأما أبو سعيد فهو كيسان المقبري صاحب العباء مولى أم شريك، ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من أهل المدينة.

لطائف إسناده

وقال الواقدي: كان ثقة كثير الحديث، وقال النِّسائي: لا بأس به، وقال إبراهيم الحربي: كان ينزل المقابر فسمي بذلك، وقيل إن عمر جعله على حفر القبور فسمي المقبري، وجعل نعيمًا على إجمار المسجد فسمّي المجمر، وفرّق ابن حبّان في الثقات بين كيسان صاحب العباء روى عن عمر وعنه أبو صخر، وبين كيسان مولى أم شريك يكنى أبا سعيد وهو المعروف بالمقبري لأن منزله كان بالقرب من المقابر. روى عن عمر، وعلي، وعبد الله بن سلام، وأسامة بن زيد، وأبي هريرة، وأبي شريح وغيرهم، وروى عنه ابنه سعيد وابن ابنه عبد الله بن سعيد وعمرو بن أبي عمر وأبو صخر حميد بن زياد وغيرهم، مات سنة مائة قال ابن سعد: توفي في خلافة الوليد بن عبد الملك، وزعم الطحاوي أنه مات سنةَ خمسٍ وعشرينَ ومائة وهم منه فإنَّ ذلك تاريخ ولدهِ. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع، والعنعنة، والقول ورواية تابعي ولد عن تابعي أب. أخرجه البخاري أيضًا في الصلاة عن مسدد وفي الاستيذان جمن محمد بن بشار ومسلم وأبو داود في الصلاة. وكذا الترمذي والنسائي وابن ماجه. ثم قال المصنف: باب القراءة في الظهر هذه الترجمة والتي بعدها يحتمل أن يكونَ المرادُ بهما إثباتَ القراءة في الظهر والعصر، وأن تكونَ سرًا إشارة إلى مَنْ خالفَ في ذلك كابن عباس. ويأتي قريبًا ما روي عنه وعن غيره في ذلك إن شاء الله تعالى. ويحتمل أن يُراد بهما تقدير المقروء وتعينه. والأول أظهر لكونه لم يتعرض في البابين لإخراج شيء مما يتعلق بالاحتمال الثاني. وقد أخرج مسلم وغيره أحاديثَ مختلقة في ذلك. سيأتي بعضها قريبًا ويأتي الجمع بين ما اختلف من الأحاديث في باب القراءة في المغرب بعد باب.

الحديث السابع والعشرون

الحديث السابع والعشرون حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قال: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ سَعْدٌ: كُنْتُ أُصَلِّي بِهِمْ صَلاَةَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- صَلاَةَ الْعَشِيِّ لاَ أَخْرِمُ عَنْهَا، أَرْكُدُ فِي الأُولَيَيْنِ وَأَحْذِفُ فِي الأُخْرَيَيْنِ. فَقَالَ عُمَرُ رضى الله عنه: ذَلِكَ الظَّنُّ بِكَ. قوله: وأحذف في الأخريين هذه رواية الكشميهني. وقد مرّ ما قيل فيها في الباب السابق. وقد استدل بهذه الرواية من قال: بعدم وجوب القراءة في الركعتين الأخريين كالحنفية. ومرّ في حديث عبادة بن الصامت بعض الآثار التي استدلوا بها. وهناك من قال إن القراءة مستحبة لا غير. وما روي عن ابن عباس منه ما جزم به. ومنه ما هو شك، فأما ما جزم به فهو ما أخرجه أبو داود في سننه عن عبد الله بن عبيد الله قال: دخلتُ على ابن عباس في شباب من بني هاشم فقلنا لشاب: سل ابن عبّاس أكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرأ في الظهر والعصر؟ فقال: لا لا، فقيل له: فلعلّه كان يقرأ في نفسه فقال: خمسًا هذه شر من الأولى، كان عبدًا مأمورًا بلغ ما أرسل به الحديث. وروى الطحاوي عن عكرمة عن ابن عبّاس أنه قيل له: إن ناسًا يقرؤون في الظهر والعصر فقال: لو كان لي عليهم سبيل لقطعت ألسنتَهم، إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قرأ وكانت قراءتُه لنا قراءةً وسكوتُه سكوتًا. وأخرجه البزار عن عكرمة أنَّ رجلًا سأل ابنَ عبّاس عن القراءة في الظهر والعصر فقال: قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في صلوات فنقرأ فيما قرأ فيه ونسكتُ فيما سكتَ فيه. فقلت: كان يقرأ في نفسه فغضبَ وقال: أتتهمون رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وأخرجه أحمد ولفظه: عن عكرمة قال ابن عبّاس: قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما أمر أن يقرأ فيه وسكت فيما أُمر أن يسكتَ فيه، وما كان ربك نسيًا. ولقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنة. وما روي عنه بالشك هو ما رواه أبو داود أيضًا والطبري عن عكرمة عن ابن عبّاس قال: ما أدري أكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرأ في الظهر والعصر أم لا؟. وإلى الأحاديث المروية عنه ذهب سويد بن غفلة، والحسن بن صالح، وإبراهيم بن

رجاله ستة

علية، ومالك في رواية وقالوا: لا قراءة في الظهر والعصر أصلًا. وما روي عنه يرده ما روي عن غيره مما هو أكثر. فقد روي عن خبّاب فيما مرّ وعن أبي قتادة فيما يأتي بعد هذا القراءة فيهما. وأخرج مسلم حديث أبي سعيد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر ثلاثين، وفي الأخريين قدر خمس عشرة آية أو قال: نصف ذلك، وفي العصر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر خمس عشرة آية، وفي الأخريين قدر نصف ذلك. وأخرج مسلم عن عمران بن حصين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلّى الظهر فجعل رجل يقرأ بسبّح اسم ربك الأعلى، فلمّا انصرف قال: أيّكم قرأ أو أيكم القارىء قال رجل: أنا قال: علمت أن بعضكم خالجنيها أي: نازعني قراءتها. وأخرج النَّسائي عن عطاء قال: قال أبو هريرة: كل صلاة يقرأ فيها فما أسمعنا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أسمعناكم وما أخفى عنّا أخفينا عنكم. وأخرج النَّسائي أيضًا عن أبي بكر بن النضر قال: كنّا بالطف عند أنس فصلّى بهم الظهر، فلمّا فرغ قال: إنِّي صلّيت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقرأ لنا بهاتين السورتين في الركعتين سبّح اسم ربك الأعلى، وبهل أتاكَ حديثُ الغاشية. فهذه الروايات مقدمة على مَنْ نفى فضلًا على من شك. وفي قوله: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة حجة عليه، فيقال له: قد ثبت أنه قرأ فيلزمك أن تقرأ، وقد جاء عن ابن عبّاس إثبات ذلك. روى ابن المنذر والطحاوي وغيرهما عن أبي العالية البراء قال: سألت ابنَ عباس أقرأ في الظهر والعصر قال: هو إمامك اقرأ منه ما قل أو كثر. وروى ابن أبي شيبة عنه أنه قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرأ في الظهر والعصر. وهذا يدل على أنه رجع عن ذلك القول لمّا بلغته قراءتُه عليه الصلاة والسلام. وهذا الحديث قد استوفيت مباحثه في الباب الذي قبله عند ذكره هناك تامًا. رجاله ستة: قد مرّوا جميعًا، مرّ أبو النعمان في الحادي والخمسين من الإِيمان، ومرّ أبو عوانة في الخامس من بدء الوحي، ومرَّ عبد الملك بن عمير في الحادي والثلاثين من أبواب الجماعة، ومرّ جابر بن سمرة في الرابع والعشرين من أبواب صفة الصلاة، ومرّ سعد في العشرين من الإيمان.

الحديث الثامن والعشرون

الحديث الثامن والعشرون حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ مِنْ صَلاَةِ الظُّهْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ، يُطَوِّلُ فِي الأُولَى وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ وَيُسْمِعُ الآيَةَ أَحْيَانًا وَكَانَ يَقْرَأُ فِي الْعَصْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ وَكَانَ يُطَوِّلُ فِي الأُولَى، وَكَانَ يُطَوِّلُ فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى مِنْ صَلاَةِ الصُّبْحِ، وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ. في رواية الجوزقي عن شيبان: التصريح بالإخبار ليحيى من عبد الله ولعبد الله من أبيه وكذا النَّسائي من رواية الأوزاعي عن يحيى لكن بلفظ التحديث فيهما، وكذا عنده من رواية أبي إبراهيم القتاد عن يحيى حدّثني عبد الله فأمن تدليس يحيى. وقوله: الأوليين بتحتانيتين، تثنية الأولى. وقوله: صلاة الظهر فيه جواز تسمية الصلاة بوقتها. وقوله: وسورتين أي: في كل ركعة سورة كما يأتي صريحًا في الباب الذي بعده، واستدل به على أن قراءة سورة أفضل من قراءة قدرها من طويلة قاله النووي، وزاد البغوي: ولو قصرت السورة عن المقروء كأنه مأخوذ من قوله: كان يفعل لأنها تدل على الدوام، وعند المالكية السنة قراءة شيء من القرآن بعد الفاتحة في الأولى والثانية، وإكمال السورة مستحب وترك إكمالها مكروه، وهذا في صلاة الفرض الوقتي المتسع وقته. وخرج بالفرض النفل، فإن قراءة ما زاد على أم القرآن فيه مستحب، وبالوقتي مالا وقت له كالجنازة، فلا فاتحة فيها عندهم فضلًا عن السورة وبالمتسع وقته مالًا يتسع وقته فلا سورة فيه خشية خروج الوقت. وفي العيني قال في شرح الهداية: إن قرأ بعض سورة في ركعة وبعضها في الثانية الصحيح أنه لا يكره وقيل يكره، ولا ينبغى أن يقرأ في الركعتين من وسط السورة ومن آخرها ولو فعل لا بأس به. وفي النسائي قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من سورة المؤمنين إلى ذكر موسى وهارون ثم أخذته سعلة فركع وفي المغني لا تكره قراءة آخر السورة وأوسطها في إحدى الروايتين عن أحمد، وفي الرواية الثانية مكروهة. وقوله: يطول في الأولى ويقصر في الثانية قال تقي الدين: كان السبب في ذلك أن النشاط في

الأولى يكون أكثر، فناسب التخفيف في الثانية حذرًا من الملل. وروى عبد الرزاق عن يحيى في آخر هذا الحديث فظننّا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس بذلك الركعة الأولى. ولأبي داود وابن خزيمة نحوه. وروى عبد الرزاق أيضًا عن عطاء قال: إني لأحب أن يطول الإِمام الركعة الأولى من كل صلاة حتى يكثر الناس، فإذا صلّيت لنفسي فإني أحرص على أن أجعل الأوليين سواء. واستدل بحديث الباب على استحباب تطويل الأولى على الثانية وجمع بينه وبين حديث سعد الماضي حيث قال: أودّ في الأوليين أن المراد تطويلهما على الأخريين لا التسوية بينهما في الطول. واستدل محمد بن الحسن به على تطويل الأولى على الثانية في جميع الصلوات وهو المذهب عند الشافعية. كما في المهذب وقال في الروضة: الأصح التسوية بينهما وبين الأخريين قال: والمختار تطويل أولى الفجر على الثانية وغيرها وهو قول الثوري وأحمد، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف لا يطيل الركعة الأولى على الثانية إلا في الفجر خاصة. واتفقوا على كراهة إطالة الثانية على الأولى، وكون مالك مخالفًا في هذا غير صحيح. وذهب بعض الأئمة إلى استحباب تطويل الأولى من الصبح دائمًا، وأما غيرها فإن كان يترجى كثرة المأمومين ويبادر هو أول الوقت فينظر وإلا فلا، وذكر في حكمة اختصاص الصبح بذلك عند من قال به أنها تكون عقب النوم والراحة، وفي ذلك الوقت يواطىء السمع واللسان القلب لفراغه، وعدم تمكن الاشتغال بأمور المعاش وغيرها منه. وقال البيهقي في الجمع بين أحاديث المسألة يطول في الأولى إن كان ينتظر أحدًا وإلا فليسو بين الأوليين. وقال: من استحب استواءهما إنما طالت الأولى بدعاء الافتتاح والتعوذ وأما في القراءة فهما سواء ويدل عليه حديث أبي سعيد عند مسلم كان يقرأ في الظهر في الأوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية. وفي رواية لابن ماجه أن الذين حزروا ذلك كانوا ثلاثين من الصحابة. وادّعى ابن حبّان أن الأولى إنما طالت على الثانية بالزيادة في الترسل فيها مع استواء المقدور فيهما. وقد روى مسلم عن حفصة أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها. وعند المالكية يندب تقصير قراءة الثانية عن الأولى مطلقًا، وتكره المبالغة في تقصيرها عنها فالأقلية بنقص الربع أو أقل منه. والمذهب عندهم أن تطويل الزمن محصل للندب بان يقرأ في الثانية أطول من السورة الأولى ولكنه يرتل في الأولى حتى تكون أطول زمنًا من الثانية. واختلف في المساواة هل تكره أو خلاف الأولى، واستدل به بعض الشافعية على جواز تطويل الإِمام في الركوع لأجل الداخل، وقد استوفينا الكلام على هذا الفرع في باب من أخف الصلاة عند بكاء الصبي ولم يقع في حديث أبي قتادة هذا ذكره القراءة في الأخريين فتمسك به بعض الحنفية على اسقاطها فيهما لكنه ثبت في حديثه من وجه آخر ما سيأتي بعد عشرة أبواب. وقوله: ويسمع الآية الآتية وشمعنا الآية، وللنسائي عن البراء كنّا نصلّي خلف النبي -صلى الله عليه وسلم-

رجاله خمسة

فنسمع منه بعض الآية من سورة لقمان والذاريات ولابن خزيمة عن أنس نحوه لكن قال بسبح اسم ربك الأعلى، وهل أتاك حديثُ الغاشية، وقوله أحيانًا: يدل على تكرر ذلك منه واستدل به على جواز الجهر في السرية، وأنه لا سجود سهو على مَنْ فعل ذلك، سواء قلنا كان يفعل ذلك لبيان الجواز أو بغير قصد للاستغراق في التدبر قاله في الفتح. ولعلّه مذهبه. وأما مذهب المالكية فسجود السهو سنة في ترك الجهر في الفاتحة ولو مرة أو في السورة مرتين قبل السلام ويسجد بعد السلام في ترك السر بأن جهر في الفاتحة، أو في السورة مرتين، ومحل الجهر الصبح وأوليا المغرب والعشاء وما عدا ذلك سر. وأقل الجهر أن يسمع نفسه ومن يليه وأدنى السر أن يسمع نفسه، وأعلاه حركة اللسان وجهر المرأة أن تسمع نفسها، ويسجد عند الحنفية أيضًا سجود السهو. قال العيني: فإن جهر فيما يخافت فيه أو خافت فيما يجهر فيه، فعند أبي حنيفة يسجد للسهو، وعند أبي يوسف إن جهر بحرف سجد، وفي رواية عنه إن زاد فيما يخافت فيه على ما يسمع أذنيه تجب سجدتا السهو والصحيح أنها تجب إذا جهر مقدار ما تجوز به الصلاة. وفي المصنّف ممن كان يجهر بالقراءة في الظهر والعصر خبّاب بن الأرت، وسعيد بن جبير، والأسود، وعلقمة. وعن جابر قال: سألت الشعبي وسالمًا وقاسمًا ومجاهدًا وعطاء عن الرجل الذي يجهر في الظهر والعصر فقالوا: ليس عليه سهو وقال قتادة: إن أنسًا جهر فيهما فلم يسجد، وكذا فعله سعيد بن العاص حين كان أميرًا بالمدينة، وفي التلويح ويستدل لمن قال بسجود السهو بما رواه ابن شاهين في كتابه بسند فيه كلام عن أبي هريرة قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: إذا رأيتم من يجهر بالقراءة في صلاة النهار فارجموه بالبعر. وفي المصنف عن يحيى بن كثير قالوا: يا رسول الله ان هنا قومًا يجهرون بالقراءة بالنهار. فقال ارموهم بالبعر، وعن الحسن وأبي عبيدة صلاة النهار. وقال صاحب التلويح: حديث ابن عبّاس صلاة النهار عجماء وإن كان بعض الأئمة قال هوحديث لا أصل له باطل فيشبه أن يكون ليس كذلك لما أسلفناه. قال ابن دقيق العيد: فيه دليل على جواز الاكتفاء بظاهر الحال في الأخبار دون التوقف على اليقين لأن الطريق إلى العلم بقراءة السورة في السرية لا يكون إلا بسماع كلها، وإنما يفيد يقين ذلك لو كان في الجهرية، وكأنه ماخوذ من سماع بعضها مع قيام القرينة على قراءة باقيها، ويحتمل أن يكون الرسول عليه الصلاة والسلام كان يخبرهم عقب الصلاة دائمًا أو غالبًا بقراءة السورتين وهو بعيد جدًا. رجاله خمسة: وقد مرّوا جميعًا: مرَّ أبو نعيم في الخامس والأربعين من الإيمان، ومرَّ شيبان بن عبد الرحمن، ويحيى بن أبي كثير في الثالث والخمسين من العلم، ومرّ عبد الله بن أبي قتادة وأبوه في التاسع عشر من الوضوء.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع، والعنعنة، والقول، ورواية الولد عن والده. أخرجه البخاري في الصلاة أيضًا عن مكي بن إبراهيم. وأخرجه مسلم وأبو داود والنَّسائي وابن ماجه في الصلاة أيضًا.

الحديث التاسع والعشرون

الحديث التاسع والعشرون حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَارَةُ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ قَالَ: سَأَلْنَا خَبَّابًا أَكَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ قَالَ نَعَمْ. قُلْنَا بِأَيِّ شَيْءٍ كُنْتُمْ تَعْرِفُونَ قَالَ بِاضْطِرَابِ لِحْيَتِهِ. وهذا الحديث قد مرّ في باب رفع البصر إلى الإِمام في الصلاة، ومرّ الكلام عليه هناك. رجاله ستة: قد مرّوا: مرَّ عمر بن حفص وأبوه في الثاني عشر من الغسل، ومرَّ الأعمش في الخامس والعشرين من الإيمان، ومرَّ عمارة، وأبو معمر، وخبّاب في الرابع والعشرين من أبواب صفة الصلاة هذه. ثم قال المصنف: باب القراءة في العصر

الحديث الثلاثون

الحديث الثلاثون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ قَالَ: قُلْتُ لِخَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ: أَكَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ قَالَ نَعَمْ. قَالَ قُلْتُ بِأَيِّ شَيْءٍ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ قِرَاءَتَهُ قَالَ بِاضْطِرَابِ لِحْيَتِهِ. وهذا قد مرّ في الذي قبله ومرّ محل الكلام عليه في الذي قبله. رجاله ستة: مرَّ ذكر محلّهم في الذي قبله إلا اثنين محمد بن يوسف الفريابي، وقد مرّ في العاشر من العلم، وسفيان الثوري، وقد مرّ في السابع والعشرين من الإيمان.

الحديث الحادي والثلاثون

الحديث الحادي والثلاثون حَدَّثَنَا مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَسُورَةٍ سُورَةٍ، وَيُسْمِعُنَا الآيَةَ أَحْيَانًا. وهذا الحديث ذكر هنا مختصراً وقد مرَّ الكلام عليه مستوفى في الذي قبله. رجاله خمسة: مرّ مكي بن إبراهيم في السابع والعشرين من العلم، ومرَّ هشام الدستوائي في السابع والثلاثين من الإيمان، ومرَّ يحيى بن أبي كثير في الثالث والخمسين من العلم، ومرَّ عبد الله بن أبي قتادة وأبوه في التاسع عشر من الوضوء. ثم قال المصنف: باب القراءة في المغرب المراد تقديرها لا إثباتها لكونها جهرية بخلاف ما تقدم في باب القراءة في الظهر من أن المراد إثباتها.

الحديث الثاني والثلاثون

الحديث الثاني والثلاثون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضى الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ أُمَّ الْفَضْلِ سَمِعَتْهُ وَهُوَ يَقْرَأُ وَالْمُرْسَلاَتِ عُرْفًا فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ وَاللَّهِ لَقَدْ ذَكَّرْتَنِي بِقِرَاءَتِكَ هَذِهِ السُّورَةَ إِنَّهَا لآخِرُ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقْرَأُ بِهَا فِي الْمَغْرِبِ. قوله: "إن أُم الفضل" هي والدة عبد الله بن عباس الراوي عنها ويأتي تعريفها قريبًا في السند. وقوله: "سمعته" أي: سمعت ابن عباس، وفيه التفات لأن السياق يقتضي أن يقول: سمعتني، وقوله: "لقد ذكّرتني" أي: شيئًا نسيته، وفي رواية عقيل عن ابن شهاب أنها آخر صلوات النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولفظه: ثم ما صلّى لنا بعدها حتى قبضه الله. أورده المصنف في باب الوفاة، ومرّ في باب حد المريض أن يشهد الجماعة الخلاف في الصلاة ما هي، ومرَّ هناك الجمع بأن الظهر التي في حديث عائشة هناك كانت في المسجد والتي حكتها أُم الفضل هنا كانت في بيته كما رواه النَّسائيّ لكن يعكر عليه رواية ابن إسحاق بلفظ: "خرج إلينا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- وهو عاصب رأسَه في مرضه فصلّى المغرب" الحديث. أخرجه التِّرمِذِيّ عن ابن شهاب، ويمكن حمل قولها: خرج إلينا أي: من مكانه الذي كان راقدًا فيه إلى مَنْ في البيت فصلّى بهم فتلتئم الروايات. قاله في "الفتح". قلت: هذا الحمل بعيد جدًا؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يكن له محل للنوم معروفًا يخرج منه إلى المحل الذي فيه أهل البيت، وقد مرت هناك زيادة على اعتراض كون هذه الصلاة في البيت. وقوله: "يقرأ بها" هو في موضع الحال أي: سمعته في حال قراءته. رجاله ستة: قد مرّوا إلاَّ أم الفضل، مرَّ عبد الله بن يوسف ومالك في الثاني من بدء الوحي، ومرّ ابن شهاب في الثالث منه، ومرَّ عبيد الله في السادس منه، وابن عباس في الخامس منه، وأمّا أُم الفضل فهي لبابة الكبرى بنت الحارث بن حزن الهلالية زوج العباس بن عبد المطلب وأُخت أُمنا ميمونة بنت الحارث، قال ابن سعد: إنها أوّل امرأة آمنت بعد خديجة. وأخرج الزبير بن بكار وغيره عن ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الأخوات الأربع مؤمنات أُم الفضل وميمونة وأسماء وسلمى". فأما ميمونة فهي أُم المؤمنين وهي شقيقة أُم الفضل، وكذلك لبابة الصغرى، وعصماء، وعزة، وهذيلة

فكلهن بنات الحارث وأخواتهن لأُمهن أسماء، وسلمى وسلامة بنات عميس الخثعميات وأختهن لأُمهن مَحْمِية بنت جَزْء الزُّبيدية فهذه ست أخوات لأب وأُم وعشر أخوات لأم. وقد قيل: إن زينب بنت خريمة الهلالية اختهن لأُمهن وأُمهن كلهن هند بنت عوف الكنانية، وقيل: الحميرية وهي العجوز التي قيل فيها: أكرم الناس أصهارًا ميمونة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأُم الفضل شقيقتها زوجة العباس، وسلمى زوجة حمزة بن عبد المطلب وشقيقتها أسماء زوجة جعفر بن أبي طالب، ثم تزوجها بعده أبو بكر ثم تزوجها بعده علي. قال ابن عبد البر: كانت أُم الفضل من المنجبات وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يزورها ويقيل عندها. ولدت للعباس ستة رجال لم تلد امرأة مثلهم: الفضل وبه كانت تكنّى ويكنى زوجها العباس، وعبد الله الحبر، وقُثَم، ومعبد، وعبد الرحمن، وعبيد الله، أُم حبيب سابعة وفيها يقول الشاعر: ماولدت نجيبة من فحل .... بجبل نعلمه وسهل كستة من بطن أُم الفضلى .... عم النبي المصطفى ذي الفضل وخاتم الرسل وخير الرسل وأخرج ابن سعد بسند جيد أن أُم الفضل قالت: يا رسول الله رأيت أن عضوًا من أعضائك في بيتي، قال: تَلِدُ فاطمة غلامًا وترضعينه بلبن قثم، فولدت حسينًا فبينما هو يقبله إذ بال عليه فقرصته فبكى فقال: "آذيتني في ابني، ثم دعا بماء فحدره حدرًا"، ومن طريق قابوس بن المخارق نحوه وفيه: فأرضعته حتى تحرك فجاءت به النبي -صلى الله عليه وسلم- فأجلسه في حجره فبال فضربته بين كتفيه فقال: "أوجعت ابني رحمك الله" حديث. وفي الصحيح أن الناس شكوا في صيام النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم عرفة فأرسلت إليه أم الفضل بقدح لبن فشرب وهو بالموقف فعرفوا أنه لم يكن صائمًا كانت تصوم الاثنين والخميس لها ثلاثون حديثاً اتفقا على حديث واحد وانفرد كل واحد منهما بحديث. روى عنها ابناها عبد الله وتمام ومولاها عمير بن الحارث، وكريب مولى ابنها عبد الله، وغيرهم، قال ابن حِبّان: ماتت في خلافة عثمان قبل زوجها العباس. أخرجه البخاري في "المغازي" عن يحيى بن بكير ومسلم في الصلاة وكذا أبو داود والتِّرْمذِيّ والنَّسائيّ وابن ماجه.

الحديث الثالث والثلاثون

الحديث الثالث والثلاثون حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ: قَالَ لِي زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ مَا لَكَ تَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِقِصَارٍ، وَقَدْ سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقْرَأُ بِطُولِ الطُّولَيَيْنِ. قوله: "عن ابن أبي مليكة" في رواية عبد الرزاق عن ابن جريج حدثني ابن أبي مليكة ومن طريقه أخرجه أبو داود وغيره. وقوله:"عن عروة" في رواية الإسماعيليّ عن ابن جريج سمعت ابن أبي مليكة أخبرني عروة أن مروان أخبره. وقوله: "قال لي زيد بن ثابت ما لَكَ تقرأ" كان مروان حينئذ أميرًا على المدينة من قبل معاوية. وقوله: "بقصار" كذا للأكثر بالتنوين وهو عوض عن المضاف إليه، وفي رواية الكشميهنيّ بقصار المفصل وكذا للطبراني، والبيهقيّ عن أبي عاصم شيخ البخاري فيه، وكذا عند أبي داود والنَّسائيّ وغيرهما لكن في رواية النَّسائيّ بقصار السور. وعند النَّسائيّ أيضًا عن زيد بن ثابت أنه قال لمروان: يا أبا عبد الملك أتقرأ في المغرب بقل هو الله أحد وإنا أعطيناك الكوثر؟ وصرح الطحاوي من هذا الوجه بالإخبار بين عروة وزيد فكأن عروة سمعه من مروان عن زيد ثم لقي زيدًا فأخبره. وقوله: "وقد سمعت" استدل به ابن المنير على أن ذلك وقع منه -صلى الله عليه وسلم- نادرًا قال: لأنه لو لم يكن نادرًا لقال: كان يفعل يشعر بأن عادته كانت كذلك، وغفل عمّا في رواية البَيْهَقيّ عن أبي عاصم شيخ البخاري بلفظ: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرأ، ومثله عند الإسماعيلىّ عن ابن جريج، وقوله: "بطولى الطوليين" أي: بأطول السورتين الطويلتين وطولى تأنيث أطول والطوليين بتحتانيتين تثنية طولى. وهذه رواية الأكثر، وفي رواية كريمة بِطُول بباء الجر وضم الطاء وسكون الواو. ووجه الكرماني بأنه أطلق المصدر وأراد الوصف أي: كان يقرأ بمقدار طول الطوليين وفيه نظر؛ لأنه يلزم منه أن يكون بقرأ بقدر السورتين وليس هو المراد وضبطه بعضهم بكسر الطاء وفتح الواو وليس بشيء لأن الطّوَل الحبل ولا معنى له هنا، وفي رواية الإسماعيليّ بأطول الطوليين بالتذكير ولم يقع تفسيرهما في رواية البخاري، وفي رواية أبي الأسود عند النَّسائيّ بأطول الطوليين المص. وفي رواية أبي داو قال: قلت: وما طول الطوليين؟ قال: الأعراف والتفسير من لفظ عروة كما قال النَّسائيّ والبَيْهَقيّ وعند أبي داود قال ابن جريج: وسألت ابن أبي مليكة فقال لي من قبل نفسه:

المائدة والأعراف، وللجوزقي عن عبد الرزاق مثله لكن قال: الأنعام بدل المائدة فحصل الاتفاق على تفسير الطولى بالأعراف. وفي تفسير الأخرى ثلاثة أقوال المحفوظ منها الأنعام قال ابن بطال: البقرة أطول السبع الطوال فلو أرادها لقال طولى الطوال فلما لم يردها دل على أنه أراد الأعراف لأنها أطول السور بعد البقرة، وتعقب بأن النساء أطول من الأعراف، وليس هذا التعقب بمرض لأنه اعتبر عدد الآيات وعدد آيات الأعراف أكثر من عدد آيات النساء، وغيرها من السبع بعد البقرة والمتعقب اعتبر عدد الكلمات لأن كلمات النساء تزيد على كلمات الأعراف بمئتين. وقال ابن المنير: تسميته الأعراف والأنعام بالطوليين إنما لعرف فيهما لا أنهما أطول من غيرهما، واستدل بهذين الحديثين على امتداد وقت المغرب وعلى استحباب القراءة فيها بغير قصار المفصل. أما امتداد وقت المغرب فقد مرَّ الكلام عليه في باب وقت المغرب، وباب تأخير الظهر إلى العصر، واستدل الخطابي على امتداد وقتها إلى غروب الشفق بهذا الحديث والذي بعده فيه نظر؛ لأن مَنْ قال: إن لها وقتًا واحدًا لم يحده بقراءة معينة بل قالوا: لا يجوز تأخيرها عن أول غروب الشمس بل له أن يمد القراءة فيها ولو غاب الشفق. قلت: هذا خلاف مذهب مالك فمالك لا يقرأ عنده فيها إلا بقصار المفصل كما يأتي قريبًا واستشكل المحب الطبري إطلاق هذا، وحمله الخطابي قبله على أن يوقع ركعة في أول الوقت ويديم الباقي ولو غاب الشفق ولا يخفى ما فيه لأن تعمد إخراج الصلاة عن الوقت ممنوع ولو أجزات فلا يحمل ما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- على ذلك، وقد مرَّ في الباب المذكور من الأحاديث ما يدل على انصرافه عليه الصلاة والسلام منها بسرعة، فقد مرَّ في حديث أنس قال: كنا نصلي المغرب مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم يرمي أحدنا ليرى موضع نبله. وروى عن جابر بن عبد الله أنهم كانوا يصلون المغرب ثم ينتضلون. وروي عن علي بن بلال قال: صليت مع نفر من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- من الأنصار فحدثوني أنهم كانوا يصلون مع النبي -صلى الله عليه وسلم- المغرب ثم ينطلقون فيرتمون لا يخفى عليهم موقع سمهامهم حتى يأتوا ديارهم وهو أقصى المدينة في بني سَلِمة. رواه أحمد كما مرّ، ورواه الطحاوي وإذا كان هذا وقت انصرافه عليه الصلاة والسلام من صلاة المغرب استحال أن يكون قد قرأ منها الأعراف ولا نصفها وقد أنكر على معاذ حين صلّى العشاء بالبقرة مع إتساع وقتها فالمغرب أولى بذلك فينبغي على هذا أن يقرأ بقصار المفصل في المغرب وهذا هو مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وإسحاق والثوري والنخعي وعبد الله بن المبارك. وذهب حميد وعروة بن الزبير وابن هشام والظاهرية إلى استحباب القراءة في المغرب بطولى الطوليين فقالوا: الأحسن أن يقول بالسورة التي قرأ بها النبي -صلى الله عليه وسلم- نحو الأعراف، والطور، والمرسلات

فعند المالكية والشافعية يقرأ في الصبح والظهر من طوال المفصل، وفي العصر والعشاء من أوساطه، وفي المغرب من قصاره؛ لأن الصبح وقت النوم، والظهر وقت القيلولة فطولا ليدرك المتأخر، والعصر وقت إتمام الأعمال فخفف، والعشاء وقت الاستراحة فخفف أيضًا. وأما المغرب فإنها تأتي عند إعياء الناس من العمل وحاجتهم إلى العشاء ولاسيما الصوام، وقال الحنابلة: يقرأ في الصبح من طوال المفصل وفي المغرب من قصاره وفي الباقي من أوساطه، ومحل سنية الطوال والأوساط إذا كان المصلى منفردًا إلى آخر ما مرَّ مستوفى في باب إذا صلّى لنفسه فليطول ما شاء من أبواب الجماعة، وفي باب الغضب في الموعظة من كتاب العلم ومرّت حقيقة المفصل وتفصيله من بيان الطوال والأوساط والقصار عند الأئمة في باب إذا طول الإِمام وكان للرجل حاجة من الجماعة. وأجاب القائلون بالاقتصار على المفصل عمّا ثبت من قراءته عليه الصلاة والسلام بطولى الطوليين في المغرب بأن قراءته -صلى الله عليه وسلم- ليست كقراءة غيره. ألا تسمع قول الصحابي: ما صليت خلف أحدٍ أخف صلاة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان يقرأ بالستين إلى المئة، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن داود عليه الصلاة والسلام كان يأمر بدوابه أن تسرج فيقرأ الزبور قبل إسراجها"، فإذا كان داود بهذه المثابة فسيدنا -صلى الله عليه وسلم- أحرى بذلك وأولى. وإما إنكاره على معاذ فظاهر؛ لأنه غيره، واستدلوا بما أخرجه النَّسائيّ وصححه ابن خزيمة وغيره عن أبي هريرة أنه قال: ما رأيت أحدًا أشبه صلاة برسول الله -صلى الله عليه وسلم- من فلان، قال سليمان بن يسار: فكان يقرأ في الصبح بطوال المفصل وفي المغرب بقصار المفصل الحديث. وهذا يشعر بالمواظبة على ذلك. وفي حديث رافع المتقدم في المواقيت وما معه من الأحاديث أنهم كانوا ينتضلون بعد صلاة المغرب دلالة على تخفيف القراءة فيها وعند ابن ماجه بسند صحيح عن ابن عمر كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرأ في المغرب قل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد، وكان الحسن يقرأ فيها إذا زلزلت والعاديات، ولا يدعهما، وروى ابن حِبّان عن جابر بن سمع أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ في صلاة المغرب ليلة الجمعة قل يا أيها الكافرون، وقيل هو الله أحد. وروى البزار في مسنده بسند صحيح عن بريدة: كان رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يقرأ في المغرب والعشاء والضحى، وكان يقرأ في الظهر، والعصر بسبح اسم ربك الأعلى، وهل أتاك. وروى الطحاوي عن عبد الله بن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قرأ في المغرب بالتين والزيتون. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" وفي سنده. فقال وقال التِّرمِذِيّ: ذكر عن مالك أنه كره أن يقرأ في المغرب بالسور الطوال نحو الطور والمرسلات. وقال الشافعي: لا أكره ذلك بل استحب وكذا نقله البغوي في شرح السنة عن الشافعي. والمعروف عند الشافعية أنه لا كراهة في ذلك ولا استحباب، وأما مالك فاعتمد عمل أهل المدينة بل وغيرها. قال ابن دقيق العيد: استمر العمل على تطويل القراءة في الصبح وتقصيرها في المغرب والحق عندنا أن ما صحّ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك وثبتت مواظبته عليه فهو وما لا تثبت مواظبته عليه فلا كراهة فيه، وقد مرّ تحقيق مذهب الشافعي، وقد وردت آثار

كثيرة عن الصحابة فيها ما كانوا يقرؤون به من قِصار المفصل منها ما أخرجه الطحاوي عن زرارة بن أوفى قال: أقرأني أبو موسى في كتاب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما إليه أقرأ في المغرب آخر المفصل وآخر المفصل من لم يكن إلى آخر القرآن، ومنها ما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه عن أبي عثمان النهدي قال: صلّى بنا ابن مسعود المغرب فقرأ: قل هو الله أحد فوددت أنه قرأ سورة البقرة من حسن صوته. وأخرجه أبو داود والبَيْهقيّ أيضًا ومنها ما أخرجه ابن أبي شيبة أيضًا عن أبي نوفل بن أبي عقرب عن ابن عباس قال: سمعته يقرأ في المغرب: إذا جاء نصر الله والفتح، ومنها ما أخرجه ابن أبي شيبة أيضًا عن الحسن قال: كان عمران بن حصين يقرأ في المغرب إذا زلزلت والعاديات، ومنها ما أخرجه عبد الرزاق عن أبي عبد الله الصنابحي أنه صلّى وراء أبي بكر الصديق في المغرب قرأ في الركعتين الأوليين بأُم القرآن وسورتين من قِصار المفصل، ثم قرأ في الثالثة قال: فدنوت منه حتى إن ثيابي لتكاد أن تمس ثيابه فسمعته يقرأ بأم القرآن وهذه الآية ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا إلى الوهاب. وعن مكحول أن قراءة هذه الآية كانت على سبيل الدعاء، ومرّت أحاديث صحاح من هذا المعنى في باب إذا طول الإِمام وكان للرجل حاجة. وروى أيضًا نحو هذا عن التابعين روى ابن أبي شيبة في مصنفه أن سعيد بن جبير كان يقرأ في المغرب مرّة بتنبىء أخبارها ومرّة تحدّث أخبارها. وروي عن الضحاك بن عثمان قال: رأيت عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه يقرأ في المغرب بقصار المفصل، وروي أيضًا عن محل قال: سمعت إبراهيم يقرأ في الركعة الأولى من المغرب لإيلاف قريش. وأخرج البيْهَقيّ في سننه عن هشام بن عروة أن أباه كان يقرأ في المغرب بنحو مما يقرؤون والعاديات ونحوها من السور. فهذه أحاديث وآثار كثيرة تدل على قراءة المفصل دون الطوال، والذي ذكره البخاري هنا في القراءة ثلاثة مختلفة المقادير؛ لأن الأعراف من السبع الطوال، والطور من طوال المفصل، والمرسلات من أوساطه. وفي ابن حِبّان عن ابن عمر أنه قرأ بهم في المغرب بالذين كفروا وصدوا عن سبيل الله. وطريق الجمع بين هذه الأحاديث أنه -صلى الله عليه وسلم- كان أحيانًا يطيل القراءة في المغرب. إما لبيان الجواز وإما لعلمه رضا المأمومين وليس في حديث جُبير بن مطعم الآتي قريبًا دليلٌ على أن ذلك تكرر منه. وأما حديث زيد بن ثابت ففيه اشعار بذلك لكونه أنكر على مروان المواظبة على القراءة بقصار المفصل ولو كان مروان يعلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- واظب على ذلك لاحتج على زيد، لكن لم يرد زيد منه فيما يظهر المواظبة على القراءة بالطوال، وإنما أراد منه أن يتعاهد ذلك كما رآه من النبي -صلى الله عليه وسلم-. وفي حديث أُم الفضل إشعار بأنه -صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ في الصحة بأطول من المرسلات لكونه كان في شدة مرضه، وهو مظنة التخفيف، وهو يرد على أبي داود إدعاء نسخ التطويل؛ لأنه روى عقيب حديث زيد بن ثابت عن عروة أنه كان يقرأ في المغرب بالقصار قال: وهذا يدل على نسخ حديث زيد، ولم

رجاله ستة

يبين وجه الدلالة، وكأنه لما رأى عروة راوي الخبر بخلافه حمله على أنه اطلع على ناسخه وكيف تصح دعوى النسخ وأُم الفضل تقول: إن آخر صلاة صلاّها بهم قرأ بالمرسلات؟ قال ابن خزيمة في صحيحه: هذا من الاختلاف المباح فجائز للمصلي أن يقرأ في المغرب وفي الصلوات كلها بما أحب إلا أنه إذا كان إمامًا استحب له أن يخفف في القراءة كما مرَّ، وهذا أولى من قول القرطبي ما ورد في مسلم وغيره من تطويل القراءة فيما استقر عليه التقصير أو عكسه، فهو متروك. واستدل ابن العربي باختلافها على عدم مشروعية سورة معينة في صلاة معينة. قال في "الفتح": وهو واضح فيما اختلف لا فيما لم يختلف كتنزيل وهل أتى في صلاة صبح الجمعة. قلت: هذا التقييد موافق لمذهبه ومن لم يقل بهذا كالمالكية الذين ابن العربي واحدٌ منهم لم يسلم هذا التقييد وادعى الطحاوي أنه لا دلالة في شيء من الأحاديث الثلاثة على تطويل القراءة لاحتمال أن يكون المراد أنه قرأ بعض السورة، ثم استدل لذلك بما رواه عن هشيم عن الزهري في حديث جبير بلفظ: سمعته يقول: إن عذاب ربك لواقع قال: فأخبر أن الذي سمعه من هذه السورة هي هذه الآية خاصة وليس في السياق ما يقتضي قوله خاصة مع كون رواية هشيم عن الزهري بخصوصها مضعفة بل جاء في روايات أُخرى ما يدل على أنه قرأ السورة كلها، فعند البخاري في التفسير سمعته يقرأ في المغرب بالطور فلما بلغ هذه الآية: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} الآيات، إلى قوله: {الْمُصَيْطِرُونَ} كاد قلبي يطير. ونحوه لقاسم بن أصبغ وفي رواية أُسامة بن زيد ومحمد بن عمرو الآتيتين "في الباب" الذي بعده سمعته يقرأ: والطور وكتاب مسطور، ومثله لابن سعد في أخرى ثم استمعت قراءته حتى خرجت من المسجد ثم ادعى الطحاوي أن الاحتمال المذكور يأتي في حديث زيد بن ثابت وكذا أبداه الخطابي احتمالًا، وفيه نظر لأنه لو كان قرأ بشيء منها يكون قدر سورة من قصار المفصل لما كان لإنكار زيد معنى. وقد روى حديث زيد هشام بن عروة عن أبيه عنه أنه قال لمروان: إنك لتخف القراءة في الركعتين من المغرب فوالله لقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرأ فيها بسورة الأعراف في الركعتين جميعًا أخرجه ابن خزيمة، واختلف على هشام في صحابيه والمعروف عن عروة أنه زيد بن ثابت وقال أكثر الرواة عن هشام عن زيد بن ثابت أو أبي أيوب وقيل: عن عائشة. أخرجه النَّسائيّ مقتصرًا على المتن دون القصة. رجاله ستة: قد مرّوا، مرّ أبو عاصم في أثر بعد باب القراءة والعرض على المحدث، ومرّ ابن جريج في الثالث من الحيض، ومرّ ابن أي مليكة في باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله بعد الأربعين من الإيمان، ومرّ عروة في الثاني من بدء الوحي، ومرّ مروان بن الحكم في الرابع والخمسين من الوضوء ومرّ زيد بن ثابت في تعليق بعد الثاني والعشرين من كتاب الصلاة.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، ورواته ما بين بصريّ ومكيّ ومدنيّ. أخرجه أبو داود والنَّسائيّ في الصلاة. ثم قال المصنف: باب الجهر في المغرب اعترض الزين بن المنير على هذه الترجمة والذي بعدها بأن الجهر فيهما لا خلاف فيه وهو عجيب لأن الكتاب موضوع لبيان الأحكام من حيث هي وليس مقصورًا على الخلافيات.

الحديث الرابع والثلاثون

الحديث الرابع والثلاثون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَرَأَ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ. قوله: "عن محمد بن جبير" في رواية ابن خزيمة عن الزهري حدّثني محمد بن جبير. وقوله: "قرأ في المغرب بالطُّور" في رواية ابن عساكر يقرأ وكذا في الموطأ ومسلم، وزاد المصنف في "الجهاد" عن محمد بن عمرو عن الزهري وكان جاء في أسارى بدر، ولابن حِبّان عن محمد بن عمرو عن الزهريّ أيضًا في فداء أهل بدر وزاد الإسماعيليّ عن معمر وهو يومئذ مشرك، وللمصنف في "المغازي" عن معمر أيضًا وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي. وللطبراني عن أُسامة بن زيد عن الزهريّ نحوه، وزاد فأخذني من قراءته الكرب. ولسعيد بن منصور عن الزهريّ فكأنما صدع قلبي حين سمعت القرآن. واستدل به على صحة أداء ما تحمله الراوي في حال الكفر وكذا الفاسق إذا أداه في حال العدالة. وقوله: "بالطّور" أي: بسورة الطور، وقال ابن الجوزي: يحتمل أن يكون الباء بمعنى من كقوله تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ}، وقد تأول الطحاوي فيما مرّ عنه في الذي قبله الحديث على ذلك ومرّ ما تعقب عليه به. رجاله خمسة: قد مرّوا إلاَّ محمد بن جبير، مرَّ عبد الله بن يوسف ومالك في الثاني من بدء الوحي، وابن شهاب في الثالث منه، وجبير بن مطعم في السابع من الغُسل. وأما محمد فهو ابن جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف بن قصي النوفلي. أبو سعيد المدني ذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث، وذكره في الطبقة الثانية من تابعي أهل المدينة، وقال العجلي: مدني تابعي ثقة، وقال ابن خراش: كان ثقة، وقال ابن إسحاق: كان أعلم قريش بأحاديثها وقد كان أبوه من أنسب قريش لقريش وللعرب قاطبة. روى عن أبيه وعمر وابن عباس ومعاوية، وروى عنه أولاده عمر وجبير وسعيد، وإبراهيم والزهري وعمرو بن دينار، وسعد بن إبراهيم وغيرهم. قال ابن سعد: توفي في خلافة سليمان بن عبد الملك، وقال خليفة بن خياط: مات في خلافة

لطائف إسناده

عمر بن عبد العزيز، وذكر ابن سعد أن أبا مالك الحميري قال: رأيت نافع بن جبير يوم مات أخوه قد ألقى رداءه وهو يمشي وهذا يدل على أنه لم يبق إلى خلافة عمر بن عبد العزيز، فإن نافعًا بقي بعده ولم يدركها. لطائف إسناده: فيه التحديث والإخبار بالجمع والعنعنة والسماع والقول، ورواته ما بين مصريّ ومدنيّ. أخرجه البخاري أيضًا في الجهاد عن محمود، وفي التفسير عن إسحاق بن منصور ومسلم في الصلاة وأبو داود فيها، وفي التفسير وابن ماجه فيه. ثم قال المصنف: باب الجهر في العشاء قد مرّ في الترجمة التي قبلها اعتراض ابن المنير والجواب عنه وقدم هنا ترجمة الجهر على ترجمة القراءة عكس ما صنع في المغرب والذي في المغرب أولى ولعل هذا هنا من النساخ.

الحديث الخامس والثلاثون

الحديث الخامس والثلاثون حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ بَكْرٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْعَتَمَةَ فَقَرَأَ إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ فَسَجَدَ فَقُلْتُ لَهُ: قَالَ: سَجَدْتُ خَلْفَ أَبِي الْقَاسِمِ -صلى الله عليه وسلم- فَلاَ أَزَالُ أَسْجُدُ بِهَا حَتَّى أَلْقَاهُ. قوله: "فقلت له" أي: في شأن السجدة يعني سألته عن حكمها وفي الرواية التي بعدها فقلت: ما هذه السجدة؟ وقوله: "سجدت" زاد غير أبي ذرٍّ بها أي: بالسجدة أو الباء للظرف يعني فيها أي: السورة، وفي الرواية الآتية لغير الكشميهنيّ سجدت فيها. وقوله: "خلف أبي القاسم -صلى الله عليه وسلم-" أي: في الصلاة وبه يتم استدلال المصنف لهذه الترجمة والتي بعدها وييان ذلك كونه علم محل السجود إذ لو لم يكن جهرًا لما علمه ونوزع المصنف في ذلك بأن سجوده في السورة أعم من أن يكون داخل الصلاة أو خارجها، فلا ينهض الدليل، ومشهور مذهب مالك أن تعمد قراءة سورة فيها سجدة مكروه في الفرض خاصة دون النفل، وإذا قرأها فيه ولو عمدًا سجد، ولو في وقت حرمة، لكن يقيد هذا بما إذا لم يتعمد قراءة السجدة في وقت النهي، وتجوز قراءتها في النفل. قال ابن المنير: لا حجة في الحديث على مالك حيث كره السجدة في الفريضة في المشهور عنه؛ لأنه ليس مرفوعًا وغفل عن رواية أبي الأشعث عن معتمر بهذا الإسناد بلفظ: صليت مع أبي القاسم فسجد فيها. ودليل المالكية الحق على كراهة قراءتها في الفرض هو أنها ليس عليها عمل أهل المدينة. وفي حديث الباب دلالةٌ على ذلك إذ لو كانت فاشيةً شائعةً لم ينكرْ أبو رافع التابعي الكبير فعلها، وما ذلك إلا لأنه لم ير أحدًا من الصحابة فعله، ويأتي في أبواب سجود القرآن إنكارُ أبي سَلَمة على أبي هريرة سجودها بقوله له في الحديث: فقلت: يا أبا هريرة ألم أرك تسجد فإنه استفهام إنكار من أبي سَلَمة مشعر بأن العمل استمر على خلاف ذلك وما نقل عن ابن عبد البر من أنه قال: أي: عمل يدعى مع مخالفة النبي -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء الراشدين بعده يجاب منه بأن هذا جرأة منه على إمام الأئمة وإمام المدينة الإِمام مالك فإن مالكًا لا يقبل من عمل أهل المدينة ويعتمد عليه إلا عمل الخلفاء الراشدين لأنهم يعلمون الأحدث فالأحدث من أفعاله -صلى الله عليه وسلم-، ويعملون بها. وقوله: "حتى ألقاه" كناية عن الموت لأن يحصل اللقاء معه عليه الصلاة والسلام.

رجاله ستة

رجاله ستة: قد مرّوا، مرّ أبو النعمان في الحادي والخمسين من الإيمان، ومرّ أبو هريرة في الثاني منه، ومرّ المعتمر وأبوه سليمان في التاسع والستين من العلم، ومرّ بكر بن عبد الله وأبو رافع في الثالث والثلاثين من الغُسل. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة، والقول وفيه أربعة بصريون واثنان مدنيان أبو رافع وأبو هريرة، وفيه ثلاثة من التابعين سليمان ومَنْ بعده. أخرجه البخاري أيضًا في سجود القرآن عن مسدد ومسلم في الصلاة وكذا أبو داود والنَّسائيّ.

الحديث السادس والثلاثون

الحديث السادس والثلاثون حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَدِيٍّ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ فِي سَفَرٍ فَقَرَأَ فِي الْعِشَاءِ فِي إِحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ. قوله: "في سفر" زاد الإسماعيليّ: فصلّى العشاء ركعتين، وقوله: "في أحدى الركعتين" في رواية النَّسائيّ في الركعة الأولى. وقوله: "بالتين" أي: بسورة التين، وفي الرواية الآتية والتين على الحكاية وإنما قرأ في العشاء بقصار المفصل لكونه كان مسافرًا والمسافر يطلب منه التخفيف. وحديث أبي هريرة محمول على الحضر فلذلك قرأ فيها بأوساط المفصل. رجاله أربعة: قد مرّوا، مرَّ أبو الوليد في العاشر من الإيمان، ومرَّ شعبة في الثالث منه، ومرّ عدي بن ثابت في الثامن والأربعين منه، ومرَّ البراء في الثالث والثلاثين منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة، والقول، والسماع. أخرجه البخاري أيضًا في التفسير عن حجاج بن منهال وعن أبي نعيم، وأخرجه مسلم في الصلاة وأبو داود والتِّرمِذِيّ وابن ماجه فيها والنَّسائيّ فيها وفي التفسير. ثم قال المصنف: باب القراءة في العشاء بالسجدة

الحديث السابع والثلاثون

الحديث السابع والثلاثون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ: حَدَّثَنِي التَّيْمِىُّ عَنْ بَكْرٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْعَتَمَةَ فَقَرَأَ إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ فَسَجَدَ فَقُلْتُ: مَا هَذِهِ؟ قَالَ: سَجَدْتُ بِهَا خَلْفَ أَبِي الْقَاسِمِ -صلى الله عليه وسلم- فَلاَ أَزَالُ أَسْجُدُ بِهَا حَتَّى أَلْقَاهُ. مرّ ما فيه في الباب الذي قبله. رجاله ستة: قد مرّ ذكر محلهم في الذي قبله بحديث إلا مسدد ويزيد بن زريع، ومسدد مرّ في السادس من الإيمان، ومرّ يزيد بن زريع في السادس والتسعين من الوضوء، والتيمي المراد به سليمان بن طرخان. ثم قال المصنف: باب القراءة في العشاء

الحديث الثامن والثلاثون

الحديث الثامن والثلاثون حَدَّثَنَا خَلاَّدُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ سَمِعَ الْبَرَاءَ رضى الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقْرَأُ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ فِي الْعِشَاءِ، وَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا أَحْسَنَ صَوْتًا مِنْهُ أَوْ قِرَاءَةً. الحديث مرّ قبل باب. وقوله فيه: "وما سمعت أحدًا أحسن صوتًا منه" هو من كلام البراء والضمير في منه للنبي -صلى الله عليه وسلم-. وقوله: "أو قراءة" شك من الراوي وإنما كرر هذا الحديث لتضمنه ما ترجم له ولاختلاف بعض الرواة فيه ولما فيه من زيادة قوله وسمعت إلخ، وشيخ البخاري فيه من أفراده. رجاله أربعة: قد مرّ ذكر محل عدي والبراء في الذي قبله بحديث، ومرّ خلاد بن يحيى في التاسع والعشرين من الغُسل، ومرّ مسعَر بن كدام في السادس والستين من الوضوء. ورجاله كلهم كوفيون ثم قال المصنف: باب يطول في الأوليين ويحذف في الأخريين

الحديث التاسع والثلاثون

الحديث التاسع والثلاثون حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي عَوْنٍ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ لِسَعْدٍ لَقَدْ شَكَوْكَ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى الصَّلاَةِ. قَالَ: أَمَّا أَنَا فَأَمُدُّ فِي الأُولَيَيْنِ، وَأَحْذِفُ فِي الأُخْرَيَيْنِ، وَلاَ آلُو مَا اقْتَدَيْتُ بِهِ مِنْ صَلاَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. قَالَ: صَدَقْتَ، ذَاكَ الظَّنُّ بِكَ، أَوْ ظَنِّي بِكَ. قوله: "لقد" باللام ولأبي الوقت والأصيلي قد. وقوله: "حتى الصلاة" بالجر على أن حتى جارة وتعقبه الدماميني بأن الجارة تكون بمعنى إلى وليست هنا كذلك، وإنما هي عاطفة فالجر بالعطف. وللأصيلي حتى في الصلاة بإعادة حرف الجر، وضبطها العيني بالرفع على أن حتى هنا غاية لما قبلها بزيادة كما في قولهم: مات الناس حتى الأنبياء. والمعنى حتى الصلاة شكوك فيها فيكون ارتفاعه على الابتداء وخبره محذوف. وقوله: "ولا آلو" بمد الهمزة وضم اللام أي: لا أقصر. وقوله: "ذلك الظن بك أو ظني بك" شك من الراوي، وهذا الحديث قد مرّ في باب وجوب القراءة للإمام والمأموم مطولاً ومرّت مباحثه هناك، ومرّ البعض منها عند ذكره في باب القراءة في الظهر مختصرًا، وأعاده هنا اما للإشارة إلى الروايتين في قوله: صلاتي العشاء أو العشي كما مرّ، وإما لإلحاق العشاء بالظهر والعصر لكون كل منهن رباعية ولغرض الترجمة مع ما بينهما من النقص والزيادة واختلاف رواة الإسناد. رجاله ستة: قد مرّوا إلا أبا عون. مرّ سليمان بن حرب في الرابع عشر من الإيمان، ومرّ شعبة في الثالث منه، ومرّ سعد بن أبي وقاص في العشرين منه، ومرّ عمر في الأول من بدء الوحي، ومرّ جابر بن سمرة في الرابع والعشرين من أبواب صفة الصلاة هذه، والباقي من الرجال أبو عون محمد بن عبيد الله بن سعيد الثقفي الكوفي الأعور، ذكره ابن حبّان في الثقات، وقال ابن معين وأبو زرعة والنسائيّ: ثقة، وقال ابن سعد: كان ثقة وله أحاديث، وقال ابن شاهين في "الثقات": هو أوثق من عبد الملك بن عمير روى عن أبيه وأبي الزبير وجابر بن سمرة وسعيد بن جبير وشريح القاضي وغيرهم، وروى عنه الأعمش وأبو حنيفة ومِسعَر وشعبة والثوري وغيرهم. مات سنة من عشرة ومائة قال ابن سعد: في ولاية خالد على العراق. ثم قال المصنف:

باب القراءة في الفجر

باب القراءة في الفجر يعني صلاة الصبح ثم قال: وقالت أُم سلمة: قرأ النبي -صلى الله عليه وسلم- بالطور وهذا التعليق ذكره أيضًا تعليقًا في الباب الآتي بعد هذا بلفظ: طفت وراء الناس والنبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي ويقرأ بالطور. وأخرجه المصنف مسندًا في باب إدخال البعير المسجد للعلة آخر أبواب المساجد قبيل أبواب سترة المصلى، وتكلمنا عليه هناك. وأخرجه في مواضع من الحج وأورده هنا مستدلًا به للقراءة في الصبح. وفي الباب الآتي للجهر بقراءة صلاة الصبح وليس فيه بيان أن الصلاة حينئذ كانت الصبح ولكن تبين ذلك من رواية أخرى أوردها بعد أبواب عن هشام بن عروة عن أبيه بلفظ: إذا أُقيمت الصلاة للصبح فطوفي. وكذلك أخرجه الإسماعيليّ، وأما ما أخرجه ابن التين بلفظ: فقالت وهو يقرأ في العشاء الأخرة فشاذ، ولعله من سياق ابن لهيعة لأن ابن وهب رواه في "الموطأ" عن مالك فلم يعين الصلاة. كما رواه أصحاب مالك كلهم. أخرجه الدارقطني في "الموطات" له من طرق كثيرة وإذا تقرر ذلك فابن لهيعة لا يحتج به إذا انفرد فكيف إذا خولف وعرف بذلك اندفاع الاعتراض الذي حكاه ابن التين عن بعض المالكية حيث أنكر أن تكون الصلاة المذكورة صلاة الصبح فقال: ليس في الحديث بيانها والأولى أن تحمل على النافلة؛ لأن الطواف يمتنع إذا كان الإِمام في صلاة الفريضة وهو رد للحديث الصحيح بغير حجة بل يستفاد من الحديث جوازه بل يستفاد منه التفصيل فنقول: إن كان الطائف يمر بين يدي المصلين فيمتنع، كما قال، وإلا فيجوز. وحال أُم سَلَمة الثاني لأنها طافت من وراء الصفوف، وقد مرّ الكلام على المرور بين يدي المصلى في المسجد الحرام مفصلًا في باب السترة بمكة وغيرها، ويستنبط منه أن الجماعة في الفريضة ليست فرضًا على الأعيان إلا أن يقال: إن أُم سَلَمة حينئذ كانت شاكية فهي معذورة أو الوجوب في حق الرجال، وقال ابن رشيد ليس في حديث أُم سَلَمة نص على ما ترجم له من الجهر بالقراءة إلا أن يؤخذ بالاستنباط من حيث إن قولها: طفت وراء الناس يستلزم الجهر بالقراءة؛ لأنه لا يمكن سماعها للقراءة من ورائهم إلا إنْ كانت جهرية ويستفاد منه إطلاق قرأ وإرادة جهر. ومرّت أُم سَلَمة في السادس والخمسين من العلم.

الحديث الأربعون

الحديث الأربعون حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَيَّارُ بْنُ سَلاَمَةَ قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَأَبِي عَلَى أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ فَسَأَلْنَاهُ عَنْ وَقْتِ الصَّلَوَاتِ فَقَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي الظُّهْرَ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ، وَالْعَصْرَ وَيَرْجِعُ الرَّجُلُ إِلَى أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ، وَنَسِيتُ مَا قَالَ فِي الْمَغْرِبِ، وَلاَ يُبَالِي بِتَأْخِيرِ الْعِشَاءِ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ وَلاَ يُحِبُّ النَّوْمَ قَبْلَهَا، وَلاَ الْحَدِيثَ بَعْدَهَا، وَيُصَلِّى الصُّبْحَ فَيَنْصَرِفُ الرَّجُلُ فَيَعْرِفُ جَلِيسَهُ، وَكَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ أَوْ إِحْدَاهُمَا مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى الْمِائَةِ. قوله: "عن الصلاة" في رواية غير أبي ذَرٍّ الصلوات، والمراد المكتوبات. وقوله: "وكان يقرأ في الركعتين أو إحداهما ما بين الستين إلى المئة" أي: من الآيات، وهذه الزيادة تفرد بها شعبة عن أبي المنهال والشك فيه منه، وقد مرَّ عند ذكر هذا الحديث في باب وقت الظهر عند الزوال، وفي باب وقت العصر في رواية الطبراني تقديرها بالحاقة ونحوها فعلى تقدير أن يكون ذلك في كل الركعتين فهو منطبق على حديث ابن عباس في قراءته في صبح الجمعة تنزيل السجدة وهل أتى هكذا قال في "الفتح". والأولى عندي أن يقول: حديث أبي هريرة؛ لأنه هو الذي روى هذا عنه المؤلف في الجمعة وعلى تقدير أن يكون في كل ركعة فهومنطبق على حديث جابر بن سمرة في قراءته في الصبح. أخرجه مسلم وفي رواية له بالصافات، وفي أخرى عند الحاكم بالواقعة، وكأن المصنف قصد بإيراد حديثي أُم سَلَمة وأبي برزة في هذا الباب بيان حالتي السفر والحضر ثم ثلّث بحديث أبي هريرة الدال على عدم اشتراط قدر معين، وحديث أبي برزة هذا قد مرّ الكلام عليه مستوفى في المواقيت في المحل المذكور آنفًا. رجاله أربعة: وقد مرّوا، مرَّ آدم وشعبة في الثالث من الإيمان، ومرّ سيار بن سلامة وأبو برزة في الثامن عشر من كتاب المواقيت وفيه ذكر أبي سيار الذي هو سلامة ولم أر له تعريفًا.

الحديث الحادي والأربعون

الحديث الحادي والأربعون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضى الله عنه يَقُولُ: فِي كُلِّ صَلاَةٍ يُقْرَأُ، فَمَا أَسْمَعَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَسْمَعْنَاكُمْ، وَمَا أَخْفَى عَنَّا أَخْفَيْنَا عَنْكُمْ، وَإِنْ لَمْ تَزِدْ عَلَى أُمِّ الْقُرْآنِ أَجْزَأَتْ، وَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ. قوله: "عن إسماعيل بن إبراهيم" هو المعروف بابن علية وقد تكلم يحيى بن معين في حديثه عن ابن جريج خاصة وقد تابعه عليه عبد الرزاق ومحمد بن بكر ويحيى بن أبي الحجاج عند أبي عوانة وغندر عند أحمد وخالد بن الحارث عند النَّسائيّ وابن وهب عند ابن خزيمة ستتهم عن ابن جريج منهم من ذكر الكلام الأخير ومنهم مَنْ لم يذكره، وتابع ابن جريج حبيب المعلم عند مسلم وأبي داود وحبيب بن الشهيد عند أحمد ومسلم ورقية بن مصقلة عند النّسائيّ وقيس بن سعد وعمارة بن ميمون عند أبي داود وحسين المعلم عند أبي نعيم في "المستخرج" ستتهم عن عطاء منهم من طوله، ومنهم مَنْ اختصره. وقوله: "في كل صلاة يُقْرأ" بضم أوله على البناء للمجهول، وفي رواية الأصيلي نقرأ بنون مفتوحة في أوله كذا هو موقوف وكذا عند مَنْ ذكرنا روايته إلا حبيب بن الشهيد فرواه مرفوعًا بلفظ: "لا صلاة إلاَّ بقراءة" رواه مسلم من رواية أي أُسامة عنه وقد أنكره الدارقطني على مسلم وقال: إن المحفوظ عن أبي أُسامة وقفه كلما رواه أصحاب ابن جريج وكذا رواه أحمد عن يحيى القطان وأي عبيدة الحداد كلاهما عن حبيب المذكور موقوفًا. وأخرجه أبو عوانة عن يحيى بن أبي الحجاج عن ابن جريج كرواية الجماعة لكن زاد في آخره، وسمعته يقول: لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب، وظاهر سياقه أن ضمير سمعته للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فيكوة مرفوعًا بخلاف رواية الجماعة نعم قوله: "ما أسمعنا وما أخفى عنا" يشعر بأن جميع ما ذكره متلقى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فيكون للجميع حكم الرفع وقوله: "وإن لم تزد" أي: بلفظ الخطاب ويينته رواية مسلم فقال له رجل: إن لم أزد. وكذا أخرجه البَيْهَقيّ عن يحيى بن محمد، وزاد أبو يعلى في أوله إذا كنت إمامًا فخفف وإذا كنت وحدك فطول ما بدا لك وفي كل صلاة قراءة الحديث. وقوله: "أجزأت" أي: كفت وحكى ابن التين رواية أُخرى جزت بغير ألف، وهي رواية

رجاله خمسة

القابسي واستشكله، ثم حكى عن الخطابي يقال جزى وأجزى مثل وفي وأوفى قال: فزال الإشكال. وقوله: "فهو خير" في رواية حبيب المعلم فهو أفضل، وفي هذا الحديث أن مَنْ لم يقرأ الفاتحة لم تصح صلاته، وهو شاهد لحديث عبادة المتقدم قاله في "الفتح". وفيه استحباب السورة أو الآيات مع الفاتحة، وهو قول الجمهور في الصبح والجمعة والأوليين من غيرهما، وصح إيجاب ذلك عن بعض الصحابة عثمان بن أبي العاص، وقال به بعض الحنفية وابن كنانة من المالكية، وحكاه القاضي الفراء الحنبلي في الشرح الصغير رواية عن أحمد، وقيل يستحب في جميع الركعات، وهو ظاهر حديث أبي هريرة هذا قاله في "الفتح". رجاله خمسة: مرّوا كلهم، مرّ مسدد في السادس من الإيمان، ومرّ إسماعيل بن علية في الثامن منه، وأبو هريرة في الثاني منه، ومرّ عطاء بن أي رباح في التاسع والثلاثين من العلم، ومرّ عبد الملك بن جريج في الثالث من الحيض. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإخبار بالجمع والإفراد والسماع والقول. أخرجه مسلم في الصلاة وأبو داو والنَّسائيّ. ثم قال المضنف: باب الجهر بقراءة صلاة الصبح ولغير أبي ذرٍّ صلاة الفجر وهو موافق للترجمة الماضية وعلى رواية أي ذرٍّ فلعله أشار إلى أنها تسمى بالأمرين، وقالت أُم سَلَمة: طفت وراء الناس والنبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي ويقرأ بالطور، وهذا قد مرّ في الباب الذي قبله، ومرّ الكلام عليه هناك ومرّ فيه محل أُم سَلَمة.

الحديث الثاني والأربعون

الحديث الثاني والأربعون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضى الله عنهما قَالَ: انْطَلَقَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ، وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمُ الشُّهُبُ، فَرَجَعَتِ الشَّيَاطِينُ إِلَى قَوْمِهِمْ. فَقَالُوا: مَا لَكُمْ؟ فَقَالُوا: حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَأُرْسِلَتْ عَلَيْنَا الشُّهُبُ. قَالُوا: مَا حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ إِلاَّ شَيْءٌ حَدَثَ، فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، فَانْظُرُوا مَا هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ فَانْصَرَفَ أُولَئِكَ الَّذِينَ تَوَجَّهُوا نَحْوَ تِهَامَةَ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَهْوَ بِنَخْلَةَ، عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ وَهْوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلاَةَ الْفَجْرِ، فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ اسْتَمَعُوا لَهُ فَقَالُوا: هَذَا وَاللَّهِ الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ. فَهُنَالِكَ حِينَ رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ فَقَالُوا: يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ -صلى الله عليه وسلم- قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ وَإِنَّمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ قَوْلُ الْجِنِّ. قوله: "انطلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" هكذا اختصره البخاري هنا، وفي التفسير. وأخرجه أبو نعيم في "المستخرج" فزاد في أوله ما قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الجن ولا رآهم انطلق الخ. وأخرجه مسلم بالسند الذي أخرجه به البخاري فكان البخاري حذف هذه اللفظة عمدًا؛ لأن ابن مسعود أثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قرأ على الجن فكان ذلك مقدمًا على نفي ابن عباس وقد أشار الى ذلك مسلم فأخرج عقب حديث ابن عباس هذا عقب حديث ابن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أتاني داعي الجن فانطلقت معه فقرأت عليه القرآن" وسيأتي الكلام في آخر الحديث على قول ابن عباس هنا. وقوله: "في طائفة من أصحابه" قد ذكر ابن إسحاق أنه لم يكن معه من أصحابه إلا زيد بن حارثة. والمصنف قال في طائفة من أصحابه فلعلها كانت وجهة أخرى ويمكن الجمع بأنه لما رجع لاقاه بعضُ أصحابه في أثناء الطريق، فرافقوه، وزيد بن حارثة يأتي تعريفه في التاسع من كتاب الجنائز، وقد ذكر ابن إسحاق وابن سعد أن هذا كان في ذي القعدة سنة عشر من المبعث لما خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الطائف، ثم رجع، ويؤيد قوله في هذا الحديث أن الجن رأوه يصلي باصحابه صلاة الفجر والصلاة المفروضة إنما شرعت ليلة الإسراء، والإسراء كان على الراجح قبل الهجرة بسنتين

أو ثلاث، فتكون القصة بعد الإسراء. وقوله: "عامدين" أي: قاصدين. وقوله: "إلى سوق عُكاظ" السوق مؤنثة، وربما ذكرت والتأنيث أغلب؛ لأنهم يحقرونها على سويقة واشتقاقها من سوق الناس إليها بضائعهم، وقيل سميت بذلك لقيام الناس فيها على سوقهم. وعُكاظ بضم العين وتخفيف الكاف وفي آخره ظاء معجمة. قال الليث: سميت عُكاظ لأن العرب كانت تجتمع فيها فيعكظ بعضهم بعضًا بالمفاخرة أي: يدعك، وقيل عُكاظ الرجل دابته إذا حبسها وتعكظ القوم تعكظًا إذا تحبسوا ينتظرون في أمرهم ومنه سميت عُكاظ وهي مصروفة لأهل الحجاز وغير مصروفة لتميم وهو موسم معروف للعرب بل كان من أعظم مواسمهم وهو نخل في وادي مكة والطائف وهو إلى الطائف أقرب بينهما عشرة أميال، وهو وراء قرن المنازل بمرحلة من طريق صنعاء اليمن في موضع يقال له الفُتُق بضم الفاء والمثناة بعدها قاف، وقيل: إن المكان الذي يجتمعون فيه منها يُقال له الابتداء، وكانت هناك صخور يطوفون بها، وقال البكري أول ما أحدثت قبل الفيل بخمس عشرة سنة، ولم تزل سوقًا إلي سنة تسع وعشرين ومائة، فخرج الخوارج فنهبوها فتركت إلى الآن، وكانوا يقيمون به جميع شوال يتبايعون ويتفاخرون وتنشد الشعراء ما تجدد لهم، وقد كثر ذلك في أشعارهم كقول حسان: سأنشر إن حييت لكم كلامًا ... ينشَّر في المجامع من عُكاظ وقال ابن التين: سوق عُكاظ من إضافة الشيء إلى نفسه، وعلى ما تقدم من أن السوق كانت تقام بمكان من عُكاظ يقال له الابتداء أو الفُتُق لا يكون كذلك، وأسند ابن الكلبي أن كل شريف كان إنما يحضر سوق بلده إلا سوق عُكاظ فإنهم كانوا يتوافون بها من كل جهة فكانت أعظم تلك الأسواق وفي حديث ابن عباس عند المؤلف في الحج كان ذو المجاز، وعُكاظ متجر الناس في الجاهلية فلما جاء الإِسلام كأنهم كرهوا ذلك حتى نزلت: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} في مواسم الحج، وذو المَجاز بفتح الميم ذكر الفاكهاني عن ابن إسحاق أنها كانت بناحية عرفة إلى جانبها، وعن ابن الكلبي أنه كان لهذيل على فرسخ من عرفة. وعن الكرماني أنه كان بمنى وليس بشيء لما رواه الطبراني عن مجاهد أنهم كانوا لا يبيعون ولا يتبايعون في الجاهلية بعرفة ولا بمنى، لكن أخرج الحاكم في "المستدرك" عن ابن عباس أن الناس في أول الحج كانوا يتبايعون بمنى، وعرفة، وسوق ذي المجاز ومواسم الحج فخافوا البيع، وهم حرم فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} في مواسم الحج. قال عطاء: فحدثني عبيد بن عمير أنه كان يقرؤها في المصحف. وأما مجنة فعن ابن إسحاق أنها كانت بمر الظهران إلى جبل يقال له الأصغر وعن ابن الكلبي كانت بأسفل مكة على بريد منها غربي البيضاء وكانت لكنانة، وقد مرَّ أنهم يقيمون بعُكاظ جميع شوال، ثم يأتون مجنة فيقيمون بها عشرين ليلة من ذي القعدة ثم يأتون ذا المجاز فيقيمون به إلى وقت الحج وروى الزبير بن بكار عن حكيم بن حزام أن عُكاظ كانت تقام صبح هلال ذي القعدة

إلى أن يمضي عشرون يوما، ثم يقام سوق مجنة عشرة أيام إلى هلال ذي الحجة، ثم يقام سوق ذي المجاز ثمانية أيام، ثم يتوجهون إلى مني للحج، ومن أسواق العرب في الجاهلية أيضًا حُباشة بضم المهملة وتخفيف الموحدة بعدها ألف، ثم معجمة وكانت في ديار بارق نحو قَنُونى بفتح القاف وضم النون الخفيفة وبعد الألف نون مقصورة من مكة إلى جهة اليمن على ست مراحل، وإنما لم يذكر هذه السوق في الحديث لأنها لم تكن من مواسم الحج، وإنما كانت تقام في شهر رجب. قال الفاكهاني: "ولم تزل هذه الأسواق قائمة في الإِسلام إلى أن كان أول ما ترك منها عُكاظ في زمن الخوارج سنة تسع وعشرين ومئة كما مرَّ وآخر ما ترك منها سوق حباشة في زمن داود بن عيسى بن موسى العباسي في سنة سبع وتسعين ومئة"، وفي حديث أبي الزبير عن جابر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لبث عشر سنين يتبع الناس في منازلهم في الموسم بمجنة، وعُكاظ يبلغ رسالات ربه الحديث أخرجه أحمد وغيره. وقوله في حديث ابن عباس: في مواسم الحج قال الكرماني: هو كلام الراوي ذكره تفسيرًا وفاته ما زاده المصنف في البيوع في حديث ابن عُيينة قرأها ابن عباس. ورواه ابن أبي عمر في مسنده عن ابن عُيينة، وقال في آخرها: وكذلك كان ابن عباس يقرؤها. وروى الطبري بإسناد صحيح عن أيوب عن عكرمة أنه كان يقرأها كذلك فهي على هذا من القراآت الشاذة وحكمها عند الأئمة حكم التفسير واستدل بحديث ابن عباس هذا على جواز البيع والشراء للمعتكف قياسًا على الحج والجامع بينهما العبادة وهو قول الجمهور، وعن مالك كراهة ما زاد على الحاجة كالخبز إذا لم يجد مَنْ يكفيه وكذا كرهه عطاء ومجاهد والزهري ولا ريب أنه خلاف الأولى والآية إنما نفت الجناح ولا يلزم من نفيه نفى أولوية مقابله وقوله: وقد حِيل بكسر الحاء المهملة وسكون التحتانية بعدها لام أي: حجز ومنع على البناء للمجهول. وقوله: "بين الشياطين وبين خبر السماء وأُرسلت عليهم الشُّهب" أي: بضمتين جمع شهاب وظاهر هذا أن الحيلولة وإرسال الشُّهب وقعا في هذا الزمان المتقدم ذكره. والذي تضافرت به الأخبار أن ذلك وقع لهم من أول البعثة النبوية وهذا مما يؤيد تغاير القصتين وأن مجيء الجن لاستماع القرآن كان قبل خروجه -صلى الله عليه وسلم- إلى الطائف بسنتين ولا يعكر على ذلك إلا قوله في هذا الخبر أنهم رأوه يصلي بأصحابه صلاة الفجر؛ لأنه يحتمل أن يكون ذلك قبل فرض الصلوات ليلة الإسراء فإنه -صلى الله عليه وسلم- كان قبل الإسراء يصلّي قطعًا وكذلك أصحابه، ولكن اختلف هل افترض قبل الخمس شيء أم لا؟ كما مرَّ محررًا في حديث الإسراء أول كتاب الصلاة، فيصح على هذا قول مَنْ قال: إن الفرض أولًا كان صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها والحجة فيه قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} ونحوها من الآيات فيكون إطلاق صلاة الفجر في حديث الباب باعتبار الزمان لا لكونها إحدى الخمس المفترضة ليلة الإسراء، فتكون قصة الجن

متقدمة من أول المبعث. وقد أخرج التِّرمِذِيّ والطبري حديث الباب بسياق سالم من الإشكال المذكور عن أبي إسحاق عن أبن جبير عن ابن عباس قال: كانت الجن تصعد إلى السماء الدنيا يستمعون الوحي فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها أضعافًا الكلمة تكون حقًا وما زادوا يكون باطلًا فلما بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- منعوا مقاعدهم ولم تكن النجوم قبل ذلك يرمى بها. وأخرجه الطبري أيضًا وابن مردويه مطولًا عن ابن جبير وأوله كان للجن مقاعد في السماء يستمعون الوحي فبينما هم كذلك إذ بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- فدحرت الشياطين من السماء ورموا بالكواكب فجعل لا يصعد أحد منهم إلاَّ احتراق وفزع أهل الأرض لما رأوا من الكواكب، ولم تكن قبل ذلك فقالوا: هلك أهل السماء، وكان أهل الطائف أوّل مَنْ تفطن لذلك فعمدوا إلى أموالهم فسيبوها وإلى عبيدهم فعتقوها فقال لهم رجل: ويلكم لا تهلكوا أموالكم فإن معالمكم من الكواكب التي تهتدون بها لم يسقط منها شيء فأقلعوا. وعند أبي داود في كتاب "المبعث" عن الشعبي أن الذي قال لأهل الطائف ما قال هو عبد يالِيْل بن عمرو وكان قد عمي فقال: لا تعجلوا وانظروا، فإن كانت النجوم التي يرمى بها هي التي تعرف فهي عند فناء الناس وإن كانت لا تعرف فهو من حدث فنظروا فإذا هي نجوم لا تعرف فلم يلبثوا أن سمعوا بمبعث النبي -صلى الله عليه وسلم-. وقد أخرجه الطبري عن السدي مطولًا وذكره ابن إسحاق في مختصر ابن هشام بغير إسناد مطولًا زاد في رواية يونس بن بكير فساق سنده بذلك عن يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أنه حدثه عن عبيد الله بن عبد الله أنه حدثه أن رجلًا من ثقيف يقال له عمرو بن أمية كان من أدهى العرب، وكان أوّل مَنْ فزع لما رمي بالنجوم من الناس فذكر نحوه. وأخرجه ابن سعد من وجه آخر عن يعقوب بن عتبة قال: أوّل العرب فزع من رمي النجوم ثقيف فأتوا عمرو بن أُمية وذكر الزبير بن بكار في النسب نحوه بغير سياقه ونسب القول المنسوب لعبد يا ليل لعتبة بن ربيعة فلعلهما تواردا على ذلك، وعند الطبري قال إبليس: حدث حدث في الأرض فأتى من كل أرض بتربة فشمها فقال لتربة تهامة هاهنا حدث الحدث فصرف نفرًا من الجن إليه فيهم الذين استمعوا القرآن فهذه الأخبار تدل على أن القصة وقعت أول البعثة وهو المعتمد وقد استشكل عياض وتبعه القرطبي، والنووي، وغيرهما من حديث الباب موضعًا آخر ولم يتعرضوا لما ذكرناه قال عياض: ظاهر الحديث أن الرمي بالشهب لم يكن قبل مبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- لإنكار الشياطين له وطلبهم سببه، ولهذا كانت الكهانة فاشية في العرب ومرجوعًا إليهم في حكمهم حتى قطع سببها بأن حِيل بين الشياطين وبين استراق السمع كما قال تعالى: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا} وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} وقد جاءت أشعار العرب باستغراب رميها وإنكاره إذ لم يعهدوه قبل المبعث وكان ذلك أحد دلائل نبوته ويؤيده ما ذكر في الحديث من إنكار الشياطين قال: وقال بعضهم: لم تزل النجوم يرمى بها مذ كانت الدنيا واحتجوا

بما جاء من ذلك في أشعار العرب قال: وهذا مروي عن ابن عباس والزهري، ورفع فيه ابن عباس حديثًا أخرجه مسلم عنه عن رجال من الأنصار قالوا: كنا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ رمى بنجم فاستنار فقال: "ما كنتم تقولون لهذا إذا رمي به في الجاهلية ... " الحديث. وأخرجه عبد الرزاق عن معمر قال: سئل الزهري عن النجوم أكان يرمى بها في الجاهلية؟ قال: نعم، ولكنه إذ جاء الإِسلام غلظ وشدد وهذا جمع حسن، وقال الزهري: هذا لمن اعترض عليه بقوله: "فمن يستمع الآن يجد له شهابًا رصدًا" ويحتمل أن يكون المراد بقوله عليه الصلاة والسلام إذا رمي بها في الجاهلية أي: جاهلية المخاطبين ولا يلزم أن يكون ذلك قبل المبعث فإن المخاطب بذلك الأنصار، وكانوا قبل إسلامهم في جاهلية فإنهم لم يسلموا إلا بعد المبعث بثلاث عشرة سنة. وقال السهيلي: لم يزل القذف بالنجوم قديمًا وهو موجود في أشعار العرب القدماء من أهل الجاهلية كأوس بن حجر وبشر بن أبي حازم وغيرهما. وقال القرطبي تجمع بأنها لم تكن يرمى بها قبل المبعث رميًا يقطع الشياطين عن استراق السمع، ولكن كانت ترمى تارة ولا ترمى تارة، وترمى من جانب ولا ترمى من جميع الجوانب، ولعل الإشارة إلى ذلك بقوله: {وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا}. وقد جاء عن وهب بن منبه ما يرفع الإشكال ويجمع بين مختلف الأخبار قال: كان إبليس يصعد إلى السماوات كلهن يتقلب فيهن كيف شاء لا يمنع منذ أخرج آدم إلى أن رفع عيسى فحجب حينئذ من أربع سماوات فلما بعث نبينا عليه الصلاة والسلام حجب عن الثلاث فصار يسترق السمع هو وجنوده ويُقذفون بالكواكب ويؤيده ما روى الطبري عن العوفي عن ابن عباس قال: لم تكن السماء تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد فلما بعث محمد عليه الصلاة والسلام حرست حرسًا شديدًا ورجمت الشياطين فأنكروا ذلك. ومن طريق السدي قال: إن السماء لم تكن تحرس إلا أن يكون في الأرض نبي أو دين ظاهر وكانت الشياطين قد اتخذت مقاعد يسمعون فيها ما يحدث فلما بُعث محمد رجموا. وقال الزين بن المنير ظاهر الخبر أن الشهب لم تكن يرمى بها وليس كذلك لما دل عليه حديث مسلم، وأما قوله تعالى: {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} فمعناه أن الشهب كانت ترمى فتصيب تارة ولا تصيب أُخرى، وبعد البعثة أصابتهم إصابة مستمرة فوضعوها لذلك بالرصد لأن الذي يرصد الشيء لا يخطئه فيكون المتجدد دوام الإصابة لا أصلها. وأما قول السهيلي: لولا أن الشهاب قد يخطىء الشيطان لم يتعرض له مرة أخرى فجوابه أن يجوزأن يقع التعرض مع تحقق الإصابة لرجاء اختطاف الكلمة وإلقائها قبل إصابة الشهاب، ثم لا يبالي المختطف بالإصابة لما طُبع عليه من الشر كما تقدم. وأخرج العقيلي وابن منده وغيرهما وذكره أبو عمر بغير سند عن لَهَب بفتحتين، ويُقال بالتصغير بن مالك الليثي قال: ذكرت عند النبي -صلى الله عليه وسلم- الكهانة فقلت: نحن أوّل من أدرك حراسة

السماء، ورجم الشياطين ومنعهم من استراق السمع عند قذف النجوم وذلك أنا اجتمعنا عند كاهن لنا يُقال له خطر بن مالك وكان شيخًا كبيرًا قد أتت عليه مائتا سنة وثمانون سنة فقلنا: يا خطر هل عندك علم من هذه النجوم التي يرمى بها فإنا فزعنا منها وخفنا سوء عاقبتها؟ الحديث، وفيه فانقضّ نجم عظيم من السماء فصرخ الكاهن رافعًا صوته: أصابه أصابه خامره عذابه أحرقه شهابه الأبيات. وفي الخبر أنه قال أيضًا: قد منع السمع عتاة الجان ... بثاقب يتلف ذي سلطان من أجل مبعوث عظيم الشان وفيه أنه قال: أرى لقومي ما أرى لنفسي ... أن يتبعوا خير بني الإنس الحديث بطوله قال أبو عمر: سنده ضعيف جدًا ولولا فيه حكم لما ذكرته لكونه علمًا من أعلام النبوءة والأصول فإن قيل إذا كان الرمي بها غلظ وشدد بسبب نزول الوحي فهلا انقطع بانقطاع الوحي بموت النبي -صلى الله عليه وسلم- ونحن نشاهدها الآن يرمى بها، فالجواب يؤخذ من حديث الزهري المتقدم ففيه عند مسلم قالوا: كنا نقول: ولد الليلة رجل عظيم ومات رجل عظيم فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فإنها لا ترمى لموت أحد ولا لحياته، ولكن ربنا إذا قضى أمرًا أخبر أهل السماوات بعضهم بعضًا حتى يبلغ الخبر السماء الدنيا فيخطف الجن السمع فيقذفون به إلى أوليائهم". فيؤخذ من ذلك أن سبب التغليظ والحفظ لم ينقطع لما يتجدد من الحوادث التي تلقى بأمره إلى الملائكة فإن الشياطين مع شدة التغليظ عليهم في ذلك بعد المبعث لم ينقطع طمعهم في استراق السمع في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- فكيف بما بعده. وقد قال عمر لغيلان بن سلمة لما طلق نساءه: إني أحسب أن الشياطين فيما تسترق السمع سمعت بأنك ستموت فألقت إليك ذلك الحديث. أخرجه عبد الرزاق وغيره. فهذا ظاهر في أن استراقهم السمع استمر بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- فكانوا يقصدون استماع الشيء مما يحدث فلا يصلون إلى ذلك إلا أن اختطف أحدهم بخفة حركته خطفة فيتبعه شهاب فإن أصابه قبل أن يلقيها لأصحابه فأتت وإلا سمعوها وتداولوها. وقوله: "ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث" القائل هو إبليس لعنه الله تعالى كما مرَّ. وقوله: "فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها" أي: سيروا فيها كلها. ومنه قوله تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}، وعند أحمد عن ابن عباس فشكوا ذلك إلى إبليس

فبث جنوده فإذا هم بالنبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي برحية في نخلة. وقوله: "فانطلق الذين توجهوا" قيل كان هؤلاء المذكورون من الجن على دين موسى، ولهذا قالوا: أُنزل من بعد موسى. وأخرج ابن مردويه عن عمر بن قيس عن ابن عباس أنهم كانوا تسعة وعنه أنهم كانوا سبعة من أهل نصيبين وقيل: إن نصيبين هذه قرية باليمن لا التي بالعراق، والصحيح أنها البلدة المشهورة بالجزيرة، وعند ابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه لكن قال: كانوا أربعة من نصيبين وثلاثة من حران وهم: حساونسا، وشاصر، وماضر، والأدرس، ووردان، والأحقب. ونقل السهلي في التعريف أن ابن دُرَيد ذكر منهم خمسة شاحر وماضر ومنشء وناشء والأحقب. قال: وذكر يحيى بن سلام وغيره قصة عمرو بن جابر وقصة سرق وقصة زوبعة قال: فإن كانوا سبعة فالأحقب لقب أحدهم لا اسمه، واستدرك ابن عسكر ما تقدم عن مجاهد قال: فإذا انضم إليهم عمرو وسرق وزوبعة وكان الأحقب لقباً كانوا تسعة وهو مطابق لرواية عمر بن قيس المارة، وقد روى ابن مردويه أيضًا عن عكرمة عن ابن عباس: كانوا اثني عشر ألفًا من جزيرة الموصل فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن مسعود: "انظرني حتى آتيك وخط عليه خطًا" الحديث. ويأتي تحرير هذا في آخر الحديث. وقوله: "نحو تِهامة" بكسر المثناة اسم لكل مكان غير عال من بلاد الحجاز سميت بذلك لشدة حرها اشتقاقًا من التَهَم بفتحتين وهو شدة الحر وسكون الريح وقيل: من تهم الشيء إذا تغير قيل لها ذلك لتغير هوائها قال البكري: حدها من جهة الشرق ذات عرق، ومن قبل الحجاز السرج بفتح المهملة وسكون الراء بعدها جيم قرية من عمل الفرع بينها وبين المدينة اثنان وسبعون ميلاً وقولهم: لتغير هوائها يخالفه ما في الصحيح من حديث النسوة حيث قالت الرابعة: زوجي كليل تهامة لا حر ولا قرّ فضربت المثل بطيب ليل تهامة وكانوا يضربون المثل بطيب ليله اللهم إلا أن يكون المراد تغير هواء ليلها عن هواء نهارها. وقوله: "إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-" في رواية أبي إسحاق فانطلقوا فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وقوله: "بنَخلة" بفتح النون وسكون المعجمة موضع بين مكة والطائف، قال البكري: على ليلة من مكة، وهي التي ينسب إليها بطن نخل وفي رواية مسلم بنخل بلا هاء والصواب إثباتها. وقوله: "عامدين إلى سوق عُكاظ" في رواية التفسير وهو عامد ذكرت هنا بالجمع منصوب على الحال من فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومن كان معه أو ذكر بلفظ الجمع تعظيمًا له وهو أظهر لمناسبة رواية التفسير له. وقوله: "يصلي باصحابه صلاة الفجر" لم يختلف على ابن عباس في ذلك وفي رواية عبد الرزاق عن عمرو بن دينار قال: قال الزبير أو ابن الزبير: كان ذلك بنخلة والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ في العشاء. وأخرجه ابن أبي شيبة عن عكرمة قال: قال الزبير فذكره وزاد: فقرأ كادوا يكونون عليه لبدا. وكذا أخرجه ابن أبي حاتم وهو منقطع والأول أصح. وقوله: "استمعوا له" وفي رواية تسمعوا

له أي: قصدوا سماع القرآن وأصغوا إليه. وقوله: "فهنالك" هو ظرف مكان والعامل فيه قالوا وفي رواية فقالوا والعامل فيه رجعوا. وقوله: "فقالوا إنا سمعنا قرآنًا عجبا" أي: بديعًا مباينًا لسائر الكتب في حسن نظمه وصحة معانيه قائمة فيه دلائل الإعجاز وانتصاب عجبًا على أنه مصدر وضع موضع التعجب وفيه مبالغة، والعجب ما خرج عن حد أشكاله ونظائره. وقوله: "يهدي إلى الرشد" أي: يدعو إلى الصواب وقيل: يدعو إلى التوحيد والإيمان. وقوله: "فآمنا به" أي: بالقرآن. وقوله: "ولن نشرك بربنا أحدا" يعني: لما كان الإيمان بالقرآن إيمانًا بالله عَزَّ وَجَلَّ وبوحدانيته وبراءة من الشرك قالوا: لن نشرك بربنا أحدًا، قال الماوردي: ظاهر هذا أنهم آمنوا عند سماع القرآن، قال: والإيمان يقع بأحد أمرين إما بأن يعلم حقيقة الإعجاز وشروط المعجزة فيقع له العلم بصدق الرسول، أو يكون عنده علم من الكتب الأولى فيها دلائل على أنه النبي المبشر به وكلا الأمرين في الجن محتمل. وقوله: "وأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ على نبيه {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} " زاد التِّرمِذِيّ قال ابن عباس: وقول الجن لقومهم: "لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا" قال: لما رأوه يصلي وأصحابه يصلون بصلاته يسجدون بسجوده قال: فتعجبوا من طواعية أصحابه له قالوا لقومهم ذلك، قال ابن عباس: لبدا أعوانًا. أخرجه التِّرمِذِيّ عنه في آخر الحديث المار قريبًا ووصله ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس هكذا، وقراءة الجمهور بكسر اللام وفتح الباء وهشام وحده بضم اللام وفتح الباء فالأولى جمع لبدة بكسر فسكون نحو قربة وقرب واللبدة واللبده الشيء الملبد أي: المتراكب بعضه على بعض وبه سمي اللبد المعروف والمعنى: كادت الجن يكونون عليه جماعة متراكبة مزدحمين عليه كاللبدة وأما التي بضم اللام فهي جمع لبدة بضم فسكون مثل غرفة وغُرف والمعنى: أنهم كانوا جمعًا كثيرًا كقوله تعالى: {مَالًا لُبَدًا} أي: كثيرًا، وروي عن أبي عمرو أيضًا بضمتين فقيل: هي جمع لَبُود مثل صُبُر وصَبُور، وهو بناء مبالغة وقرأ ابن محيض بضم فسكون وكأنها مخففة من التي قبلها، وقرأ الجحدري بضمة ففتحة مشددة جمع لابد كسُجَّد وساجد وهذه القراآت كلها راجعة إلى معنى واحد وهو أن الجن تزاحموا على النبي -صلى الله عليه وسلم- لما استمعوا القرآن، وهو المعتمد. وروى عبد الرزاق عن قتادة لما قام النبي -صلى الله عليه وسلم- تلبدت الإنس والجِن وحرصوا على أن يطفئوا هذا النور الذي أنزله الله تعالى، وهو في اللفظ واضح في القراءة المشهورة للغة مخالف في المعنى. وقوله: "وإنما أُوحي" قول الجن هذا كلام ابن عباس كأنه تقرر فيه ما ذهب إليه أولًا أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يجتمع بهم، وإنما أوحى الله إليه بانهم استمعوا ومثله قوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا} الآية، ولكن لا يلزم من عدم ذكر اجتماعه بهم أن لا يكون اجتمع بهم بعد ذلك كما تقدم من أن ابن مسعود أثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قرأ على الجن.

وعند المصنف في المبعث عن أبي هريرة: وأنه أتاني وقد جن نُصَيْبين ونعم الجن فسألوني الزاد فدعوت الله لهم أن لا يمروا بعظم ولا روثة إلا وجدوا عليها طعامًا. وهذا الحديث ظاهر في اجتماع النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجن وحديثه معهم لكنه ليس فيه أنه قرأ عليهم ولا أنهم الجن الذين استمعوا القرآن. لأن في حديث أبي هريرة أنه كان مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ليلتئذ. وأبو هريرة إنما قدم على النبي -صلى الله عليه وسلم- في السنة السابعة في المدينة، وقصة استماع الجن للقرآن كان بمكة قبل الهجرة، وحديث ابن عباس صريح في ذلك فيجمع بين ما نفاه وما أثبته غيره بتعدد وفود الجن على النبي -صلى الله عليه وسلم-. فأما ما وقع في مكة فكان لاستماع القرآن والرجوع إلى قومهم منذرين كما وقع في القرآن وأما في المدينة فللسؤال عن الأحكام، وذلك بيِّن في الحديثين المذكورين، ويحتمل أن يكون القدوم الثاني كان أيضًا بمكة وهو الذي يدل عليه حديث ابن مسعود كما سنذكره. وأما حديث أبي هريرة فليس فيه تصريح بأن ذلك وقع بالمدبنة، ويحتمل تعدد القدوم بمكة مرتين وبالمدينة أيضًا قال البيهقيّ: حديث ابن عباس حكى ما وقع في أول الأمر عندما علم الجن بحاله -صلى الله عليه وسلم-، وفي ذلك الوقت لمن يقرأ عليهم ولم يرهم، ثم أتاه داعي الجن مرة أخرى فذهب معه وقرأ عليه القرآن كما حكاه ابن مسعود وأشار بذلك إلى ما أخرجه أحمد والحاكم عن ابن مسعود قال: هبطوا على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يقرأ القرآن ببطن نخل، فلما سمعوه قالوا: أنصتوا وكانوا سبعة أحدهم زوبعة، وهذا يوافق حديث ابن عباس. وأخرج مسلم عن علقمة قال: قلت لعبد الله بن مسعود: هل صحب أحدٌ منكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة الجن؟ قال: لا، ولكنا فقدناه ذات ليلة فقلنا اغتيل استطير فبتنا شر ليلة فلما كان عند السحر إذا نحن به يجيء من نحو حراء فذكرنا له فقال: أتاني داعي الجن فأتيتهم فقرأت عليهم فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم. وقول ابن مسعود في هذا الحديث إنه لم يكن مع النبي -صلى الله عليه وسلم- أصح مما رواه الزهري. أخبرني أبو عثمان بن شيبة الخزاعي أنه سمع ابن مسعود يقول: "إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لأصحابه وهو بمكة: من أحب منكم أن ينظر الليلة أثر الجن فليفعل قال: فلم يحضر منهم أحد غيري فلما كنا بأعلى مكة خط لي برجله خطًا ثم أمرني أن أجلس فيه ثم انطلق ثم قرأ القرآن فغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته، ثم انطلقوا، وفرغ منهم مع الفجر ثم انطلق" الحديث. قال البيهقي: يحتمل أن يكون قوله في الصحيح: ما صحبه منا أحدٌ أراد به في حال إقرائه القرآن لكن قوله في الصحيح إنهم فقدوه يدل على أنهم لم يعلموا بخروجه إلاَّ أن يحمل على أن الذي فقده غير الذي خرج معه ولرواية الزهري متابع من طريق موسى بن علي بن رباح عن أبيه عن ابن مسعود قال: استتبعني النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إن نفرًا من الجن خمسة عشر بني إخوة وبني عم يأتونني الليلة فاقرأ عليهم القرآن فانطلقت معه إلى المكان الذي أراد فخط لي خطًا فذكر الحديث نحوه وأخرجه الدارقطني وابن مردويه وغيرهما، وقد مرَّ أن حراسة السماء من استراق الجن السمع كان قبل المبعث النبوي، ثم لما انتشرت الدعوة وأسلم مَنْ أسلم قدموا فسمعوا فأسلموا، وكان ذلك

رجاله خمسة

بين الهجرتين، ثم تعدد مجيئهم حتى في المدينة، وقد مرَّ في باب الأسير أو الغريم يربط في المسجد من أبواب المساجد كثير من مباحث الجن قل أن يبقى منها شيء بعدما هناك وما هنا. والمقصود عند البخاري من إخراجه لحديث ابن عباس هنا قوله: وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا له فإنه ظاهر في الجهر. وفي الحديث إثبات وجود الشياطين والجن وأنهما لمسمى واحد وإنما صارا صنفين باعتبار الإيمان والكفر فلا يقال لمن آمن منهم إنه شيطان. وفيه أن الصلاة في الجماعة شرعت قبل الهجرة، وفيه مشروعيتها في السفر والجهر بالقراءة في صلاة الصبح وأن الاعتبار بما قضى الله تعالى للعبد من حسن الخاتمة لا بما يظهر منه من الشر، ولو بلغ ما بلغ لأن هؤلاء الذين بادروا إلى الإيمان بمجرد استماع القرآن لو لم يكونوا عند إبليس في أعلى مقامات الشر ما اختارهم للتوجه إلى الجهة التي ظهر له أن الحدث الحادث منها وقع ذلك فغلب عليهم ما قضي لهم من السعادة بحسن الخاتمة، ونحو ذلك قصة سحرة فرعون. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ مسدد في السادس من الإيمان، ومرّ أبو عوانة وسعيد بن جبير وابن عباس في الخامس من بدء الوحي، ومرّ جعفر بن أبي وحشية في الثاني من العلم. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول ورواته ما بين بصريّ وواسطيّ وكوفيّ، أخرجه البخاري أيضًا في التفسير عن موسى بن إسماعيل والتِّرمِذِيّ والنّسائيّ فيه أيضًا ومسلم في الصلاة.

الحديث الثالث والأربعون

الحديث الثالث والأربعون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَرَأَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فِيمَا أُمِرَ، وَسَكَتَ فِيمَا أُمِرَ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}. وجه المناسبة منه ما مرّ في حديث أُم سلمة من إطلاق قرأ على جهر لكن يبقى خصوص تناول ذلك لصلاة الصبح فيستفاد ذلك من الذي قبله فكأنه يقول هذا الإجمال مفسر بالبيان الذي قبله لأن المحدث بهما واحد ويمكن أن يكون مراد البخاري بهذا ختم تراجم القراءة في الصلوات إشارة منه إلى أن المعتمد في ذلك هو فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأنه لا ينبغي لأحد أن يغير شيئًا مما صنعه. وقال الإسماعيليّ: إيراد حديث ابن عباس هنا يغاير ما مرّ من إثبات القراءة في الصلوات؛ لأن مذهب ابن عباس كان ترك القراءة في السرية وأجيب بأن الحديث الذي أورده البخاري ليس فيه دلالة على الترك، وأما ابن عباس فكان يشك في ذلك تارة وينفي القراءة أخرى وربما أثبتها. وقد مرّ ما روي عنه في ذلك مستوفى في باب القراءة في الظهر، ومرّ هناك ما يدل على رجوعه. وقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} بفتح النون وتشديد الياء أي: تاركًا؛ لأن النسيان في اللغة الترك، قال تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} و {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} قال الخطابي: مراده أنه لو شاء الله أن ينزل بيان أحوال الصلاة حتى تكون قرآنًا يتلى لفعل، ولم يتركه عن نسيان ولكنه وكل الأمر في ذلك إلى بيان نبيه -صلى الله عليه وسلم-، ثم شرع الاقتداء به ولا خلاف في وجوب أفعاله التي هي بيان لمجمل الكتاب كما أنه لا خلاف أيضًا في أن أفعاله التي هي من نوم وطعام وشبهها غير واجبة وإنما اختلفوا في أفعاله التي تتصل بأمر الشريعة مما ليس بيانًا لمجمل الكتاب والمختار أنها واجبة. وقوله "أُسوة" بضم الهمزة وكسرها أي قدوة. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ مسدد في السادس من الإيمان، ومرّ إسماعيل في الثامن منه، ومرّ أيوب في التاسع منه، ومرَّ عكرمة مولى ابن عباس في السابع عشر من العلم، ومرَّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة، والقول، ورواته ما بين بصريّ وكوفيّ ومدنيّ وهذا الحديث من أفراد البخاري. ثم قال المصنف: باب الجمع بين السورتين في ركعة والقراءة بالخواتيم وبسورة قبل سورة وبأول سورة اشتمل هذا الباب على أربع مسائل: الجمع بين السورتين، وهو ظاهر من حديث ابن مسعود وحديث أنس أيضًا، والقراءة بالخواتيم وفي رواية بالخواتم بغير ياء، وهي مأخوذة من الإلحاق بالقراءة بالأوائل والجامع بينهما أن كلاً منهما بعض سورة ويمكن أن يؤخذ من قوله: قرأ عمر بمئة من البقرة ويتأيد بقول قتادة: كلٌّ كتاب الله قلت: أما الأخذ من قراءة عمر فغير ظاهر إذ ليس فيها تعيين الخواتم والمتبادر من العبارة الأوائل وأخذ ذلك من قول قتادة ظاهر وتقديم السورة على السورة على ما في ترتيب المصحف العثماني وذلك مأخوذ من حديث أنس ومن فعل عمر في رواية الأحنف عنه والقراءة بأول سورة وهي مأخوذ من حديث عبد الله بن السائب وحديث ابن مسعود. ثم قال: ويذكر عن عبد الله بن السائب قرأ النبي -صلى الله عليه وسلم- المؤمنين في الصبح حتى إذا جاء ذكر موسى وهارون أو ذكر عيسى أخذته سعلة فركع، وحديثه هذا وصله مسلم عن ابن جريج ولفظه قال: صلّى لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصبح بمكة فاستفتح بسورة المؤمنين حتى جاء ذكر موسى وهارون أو ذكر عيسى شك محمد بن عباد وشيخ ابن جريج أخذت النبي -صلى الله عليه وسلم- سعلة فركع، وفي رواية بحذف فركع والسَعْلة بفتح السين وسكون العين من السعال. وعند ابن ماجه فلما بلغ ذكر عيسى وأُمه أخذته سعلة أو قال: شهقة وفي رواية شَرقة بفتح المعجمة وسكون ما بعدها، ورواية مسلم الصبح بمكة وفي رواية الطبراني يوم الفتح وإنما علقه البخاري بصيغة ويذكر مع أن إسناده مما تقوم به الحجة للاختلاف في سنده على ابن جريج فقال ابن عُيينة عنه عن ابن أبي مليكة عن عبد الله بن السائب أخرجه ابن ماجه، وقال أبو عاصم عنه عن محمد بن عباد عن أبي سلمة بن سفيان أو سفيان بن أبي سلمة ورواية لمسلم فحذف أي: ترك القراءة وفسره بعضهم برمي النخامة الناشئة عن السَعْلة والأول أظهر لقوله: فركع. ولو كان أزال ما عاقه عن القراءة لتمادى. وفي الحديث جواز قطع القراءة وجواز القراءة ببعض السورة وكرهه مالك وتعقب بأن الذي كرهه مالك أن يقتصر على بعض السورة مختارًا والمستدل به ظاهر في أنه كان للضرورة فلا يرد عليه وكذا ير على مَنْ استدل به على أنه لا يكره قراءة بعض الآية أخذًا من قوله: حتى جاء ذكر موسى وهارون أو ذكر عيسى لأن كلا من الموضعين يقع في وسط آية وفيه ما مرَّ. وجه الكراهة عند مالك للفاعل اختيارًا هو أن السورة مرتبط بعضها ببعض فإن موضع قطع فيه لم يكن كانتهائه إلى آخر السورة فإنه إن قطع في وقف غير تام كانت الكراهة ظاهرة وإن قطع في وقف تام، فلا يخفى أنه خلاف الأولى، وقد مرّ في الطهارة قصة الأنصاري الذي رماه العدو بسهم، فلم يقطع صلاته وقال:

كنت في سورة فكرهت أن أقطعها وأقره النبي -صلى الله عليه وسلم- على ذلك. مرّ في باب مَنْ لم ير الوضوء إلا من المخرجين قال في "الفتح" الكراهة لا تثبت إلابدليل، وأدلة الجواز كثيرة، وقد تقدم حديث زيد بن ثابت أنه قرأ الأعراف في الركعتين قلت: لعله تقدم في الشرح مع أني لم أطلع عليه وأما الذي تقدم في المتن عن زيد بن ثابت فإنما فيه أنه قرأ بطولى الطوليين، ثم قال: وروى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن أبي بكر الصديق أنه أمَّ الصحابة في صلاة الصبح بسورة فقرأها في الركعتين وهذا إجماع منهم، وروى محمد بن عبد السلام الخُشَني بضم الخاء المعجمة وفتح الشين المعجمة أيضًا عن الحسن البصري قال: غزونا خراسان ومعنا ثلاثمائة من الصحابة فكان الرجل منهم يصلي بنا فيقرأ الآيات من السورة ثم يركع. أخرجه ابن حزم محتجًا به. وروى الدارقطني بإسناد قوي عن ابن عباس أنه قرأ الفاتحة وآية من البقرة في كل ركعة، وما قاله مالك من الكراهة ذكرنا لك دليله العقلي والنقلي. فقدله: لا تثبت إلا بدليل جوابه أنها ثبتت بالدليل واستدل به على أن السعال لا يبطل الصلاة وهو واضح فيما إذا غلبه. وإن قطع القراءة لعارض السعال ونحوه أولى من التمادي في القراءة مع السعال أو التنحنح، ولو استلزم تخفيف القراءة فيما استحب فيه تطويلها وقال الرافعي في "شرح المسند" قد يستدل به على أن سورة المؤمنين مكية وهو قول الأكثر قال: ولمن خالف أن يقول يحتمل أن يكون قوله: بمكة أي: في الفتح أو في حجة الوداع، وقد صرّح بالاحتمال المذكور النَّسائي في روايته فقال: في فتح مكة وقد مرّت أول الحديث رواية الطبراني يوم الفتح. وعبد الله بن السائب هو ابن أبي السائب واسم أبي السائب صيفي بن عائذ بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي يكنى أبا عبد الرحمن وقيل أبا السائب يعرت بالقارىء وعليه قرأ مجاهد وغيره منْ قراء مكة قال ابن الكلبي كان شريك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الجاهلية عبد الله بن السائب. وأخرج البغوي عن مجاهد عن عبد الله بن السائب قال: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبايعه فقلت له: أتعرفني قال: نعم، ألم تكن شريكًا لي مرة؟ قال ابن حجر: والمحفوظ أن هذا الحديث لأبيه السائب، وقال الواقدي: الذي كان شريكًا للنبي -صلى الله عليه وسلم- في الجاهلية السائب بن أبي السائب، وقال غيرهما الذي كان شريكه -صلى الله عليه وسلم- قيس بن السائب قال ابن عبد البر: وقد جاء بذلك كله الأثر. له سبعة أحاديث انفرد له مسلم بحديث روى عنه عطاء وابن أبي مليكة، توفي بمكة قبل ابن الزبير بيسير، أخرج له أبو داو والنَّسائيّ من رواية عطاء عنه شهدت العيد مع النبي -صلى الله عليه وسلم-. وحديث سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول بين الركنين: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} الآية. ثم قال: وقرأ عمر في الركعة الأولى بمئة وعشرين آية من البقرة، وفي الثانية بسورة من المثاني والمثاني قيل ما لم يبلغ مئة آية أو بلغها وقيل ما عدا السبع الطوال إلى المفصل قيل: سميت مثاني لأنها ثنت السبع وسميت الفاتحة السبع المثاني لأنها تثنى في كل صلاة. وأما قوله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} فالمراد بها سورة الفاتحة وقيل غير ذلك وهذا التعليق وصله ابن أبي

شيبة في مصنفه عن أبي رافع قال: كان عمر رضي الله تعالى عنه يقرأ في الصبح بمئة من البقرة ويتبعها بسورة من المثاني، أو من صدور المفصل ويقرأ بمئة من آل عمران ويتبعها بسورة من المثاني، أو من صدور المفصل. وما ذكره البخاري فصل فيه بقوله: في الركعة الأولى وفي الثانية، وفي رواية ابن أبي شيبة لم يفصل فيحتمل أن تكون قراءته بمئة من البقرة واتباعها بسورة من المفصل في الركعة الأولى وحدها، وفي الثانية كذلك ويحتمل أن يكون هذا في الركعتين جميعًا فعلى الاحتمال تظهر المطابقة بينه وبين الجزء الأول من الترجمة فإن قيل الجزء الأول من الترجمة الجمع بين السورتين وهذا على ما ذكر جمع بين سورة ويعض سورة فالجواب أن المقصود من الجمع بين السورتين أعمّ من أن يكون بين سورتين كاملتين، أو بين سورة كلاملة، وبين شيء من سورة أخرى. وعمر مرّ في الأول من بدء الوحي. ثم قال: وقرأ الأحنف بالكهف في الأولى، وفي الثانية بيوسف، أو يونس وذكر أنه صلّى مع عمر رضي الله تعالى عنه الصبح بهما. وفي رواية وقال في الثانية: يونس ولم يشك وما روي عن الأحنف هنا من قراءة سورة في الركعة الأخيرة قبل السورة المقروءة في الأولى مكروه في مشهور مذهب مالك وعند أبي حنيفة وأحمد وكأنهم نظروا إلى أن رعاية الترتيب العثماني مستحبة واختلف هل رتبه الصحابة بتوقيف من النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو باجتهاد منهم. قال القاضي أبو بكر الباقلاني: الثاني الصحيح. وأما ترتيب الآي فتوقيفي اتفاقًا. وهذا التعليق وصله جعفر الفريابي في كتاب الصلاة له وأبو نعيم في المستخرج وقد مرّ الأحنف في الرابع والعشرين من الإيمان وفيه ذكر عمر وقد مرّ محله الآن. ثم قال: وقرأ ابن مسعود بأربعين آية من الأنفال وقرأ في الثانية بسورة من المفصل وهذا مطابق للجزء الأخير من الترجمة وهو قوله بأول سورة ويجاب عن كون هذه الرواية لا تدل على أنه قرأ من أول الأنفال بأنه في رواية عبد الرزاق من وجه آخر بلفظ فافتتح الأنفال حتى بلغ ونعم النصير. وهذا الموضع هو رأس أربعين آية، فالروايتان متفقتان وتبين بهذا أنه قرأ بأربعين من أولها فاندفع الاستدلال به على قراءة خاتمة السورة بخلاف الأثر عن عمر فإنه محتمل. قال ابن التين: إن لم تؤخذ القراءة بالخواتم من أثر عمر، أو أبن مسعود لم يأت البخاري بدليل على ذلك وفاته ما قدمناه عند الترجمة من أنه مأخوذ بالإلحاق مؤيد بقول قتادة. وهذا التعليق وصله عبد الرزاق بلفظه عن عبد الرحمن بن يزيد النخعي عنه وابن مسعود مرّ في أثر في أول كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه. ثم قال: وقال قتادة فيمن يقرأ بسورة واحدة يفرقها في ركعتين أو يردد سورة واحدة في ركعتين كلٌّ كتاب الله وصله عبد الرزاق. وقتادة تابعي صغير يستدل لقوله ولا يستدل به وإنما أراد البخاري منه قوله: كل كتاب الله فإنه يستنبط منه جواز جميع ما ذكر في الترجمة وأما قول قتادة في ترديد السورة فلم يذكره المصنف في الترجمة قال ابن رشيد: لعله لا يقول به لما روي فيه من الكراهة عن بعض العلماء وفيه نظر؛ لأنه لا يراعى هذا القدر إذا

صح له الدليل. وذكر هنا في هذا التعليق صورتين إحداهما أن يقرأ سورة واحده في ركعتين بأن يفرِّق السورة فيهما والثانية أن يكرر سورة واحده في ركعتين بأن يقرأ في الركعة الثانية السورة التي قرأ في الأولى أما الصورة الأولى فلما روى النسائي عن عائشة رضي اله تعالى عنها أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قرأ في المغرب بسورة الأعراف فرقها في ركعتين وروى ابن أبى شيبة عن أبي أيوب رضي الله تعالى عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قرأ في المغرب بالأعراف في ركعتين وعن أبى بكر رضي الله تعالى عنه أنه قرأ بالبقرة في الفجر في الركعتين وقرأ عمر رضي الله تعالى عنه في الركعتين الأوليين من العشاء قطعهما فيهما، وأما الصورة الثانية فلما روى أبو داود عن معاذ بن عبد الله الجهني أن رجلًا من جهينة أخبره أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرأ في الصبح إذا زلزلت في الركعتين كلتيهما فلا أدري أنسي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أم قرأ ذلك عمدًا، قال ابن المنير: ذهب مالك إلى أن يقرأ المصلي في كل ركعة بسورة كما قال ابن عمر لكل سورة حظها من الركوع والسجود قال: ولا تقسم السورة في ركعتين ولا يقتصر على بعضها ويترك البعض ولا يقرأ بسورة قبل سورة يخالف ترتيب المصحف قال: فإن فعل ذلك كله لم تفسد صلاته بل هو خلاف الأولى قال: وجميع ما استدل به البخاري لا يخالف ما قال مالك لأنه محمول على بيان الجواز وقد مرّ عند التعليق الأول من هذا الباب ما استدل به على كراهة تفريق السورة بين ركعتين. قال ابن المنير: والذي يظهر أن التكرير أخف من قسم السورة في ركعتين، وقال في "الفتح": نقل البيهقي في مناقب الشافعي عنه أن ذلك أي: الجمع بين سورتين مستحب وما عدا ذلك مما ذكر أنه خلاف الأولى هو مذهب الشافعي أيضًا وقالت الحنفية: إذا كرر سورة في ركعتين لا يكره، وقيل يكره، وفي "المبسوط" لا ينبغي أن يفعل وإن فعل فلا بأس به والأفضل أن يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وسورة كاملة في المكتوية. وقد قال الشعبي وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث وأبو العالية رفيع بن مهران: أنه لا ينبغي للرجل أن يزيد في كل ركعة من صلاته على سورة مع فاتحة الكتاب، واحتج القائلون بالكراهة بما رواه عبد الرزاق في مصنفه عن ابن لبيبة قال: قلت لابن عمر: أو قيل لابن عمر: إني قرأت المفصل في ركعة قال: أفعلتموها إن الله تعالى لو شاء لأنزله جملة واحدة فأعطوا كل سورة حظها من الركوع والسجود. وأخرجه الطحاوي أيضًا عن ابن لبيبة ولفظه: إن الله تبارك وتعالى لو شاء لأنزله جملة واحدة ولكن فصّله ليعطى كل سورة حظها من الركوع والسجود وأجيب عن هذا بأن حديث الرجل الأنصاري وحديث ابن مسعود الآتيين قريبًا وحديث عائشة وحذيفة نخالف هذا وإذا ثبتت المخالفة يصار إلى أحاديث هؤلاء لقوتها واستقامة طرقها. أما حديث عائشة فرواه الطحاوي عن عبد الله بن شقيق قال: قلت لعائشة: أكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرن السورة؟ قالت: المفصل أي: نعم يقرن المفصل. وأخرجه ابن أبي شيبة أيضًا في مصنفه. وأما حديث حذيفة أخرجه النسائي عن صلة بن زفر عن حذيفة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قرأ البقرة وآل عمران والنساء في ركعة واحدة الحديث. وأخرجه الطحاوي وقد مرَّ قتادة في السادس من الإيمان.

الحديث الرابع والأربعون

الحديث الرابع والأربعون وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ رضى الله عنه كَانَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ يَؤُمُّهُمْ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ، وَكَانَ كُلَّمَا افْتَتَحَ سُورَةً يَقْرَأُ بِهَا لَهُمْ فِي الصَّلاَةِ مِمَّا يَقْرَأُ بِهِ افْتَتَحَ بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهَا، ثُمَّ يَقْرَأُ سُورَةً أُخْرَى مَعَهَا، وَكَانَ يَصْنَعُ ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، فَكَلَّمَهُ أَصْحَابُهُ فَقَالُوا: إِنَّكَ تَفْتَتِحُ بِهَذِهِ السُّورَةِ، ثُمَّ لاَ تَرَى أَنَّهَا تُجْزِئُكَ حَتَّى تَقْرَأَ بِأُخْرَى، فَإِمَّا أَنْ تَقْرَأَ بِهَا وَإِمَّا أَنْ تَدَعَهَا وَتَقْرَأَ بِأُخْرَى. فَقَالَ: مَا أَنَا بِتَارِكِهَا، إِنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ أَؤُمَّكُمْ بِذَلِكَ فَعَلْتُ، وَإِنْ كَرِهْتُمْ تَرَكْتُكُمْ. وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْ أَفْضَلِهِمْ، وَكَرِهُوا أَنْ يَؤُمَّهُمْ غَيْرُهُ، فَلَمَّا أَتَاهُمُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ فَقَالَ: يَا فُلاَنُ مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَفْعَلَ مَا يَأْمُرُكَ بِهِ أَصْحَابُكَ وَمَا يَحْمِلُكَ عَلَى لُزُومِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ؟. فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّهَا. فَقَالَ: حُبُّكَ إِيَّاهَا أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ. وحديثه هذا وصله التِّرمِذِيّ، والبزار عن البخاري عن إسماعيل بن أبي أويس قال التِّرمِذِيّ: حسن صحيح غريب من حديث عبيد الله عن ثابت وأخرجه البَيْهَقيّ عن محرز بن سَلَمة كلاهما عن عبد العزيز الدراوردي عن عبيد الله وقد روى مبارك بن فضالة عن ثابت فذكر طرفًا من آخره وذكر الطبراني في الأوسط أن الدراوردي تفرد به عن عبيد الله وذكر الدارقطني في العلل أن حمّاد بن سَلَمة خالف عبيد الله في إسناده فرواه عن ثابت عن حبيب بن سبيعة مرسلًا قال: وهو أشبه بالصواب وإنما رجحه لأن رواية حمّاد بن سلمة تقدم في حديث ثابت لكن عبيد الله بن عمر حافظ حجة وقد وافقه مبارك في إسناده فيحتمل أن يكون لثابت فيه شيخان. وقوله: "كان رجل من الأنصار يؤمهم في مسجد قباء" ويأتي ما في الرجل المبهم من الخلاف في السند وعند المصنف في أول كتاب التوحيد عن عائشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث رجلًا على سرية وكان يقرأ لأصحابه في صلاته فيختم بقل هو الله أحد إلخ. وعلى هذا فالذي كان يؤم بقباء غير أمير السرية ويدل على تغايرهما أن في رواية الباب أنه كان يبدأ بقل هو الله أحد وأمير السرية كان يختم بها وفي هذا أنه كان يصنع ذلك في كل ركعة ولم يصرح بذلك في قصة الآخر وفي هذا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سأله وأمير السرية أمر أصحابه أن يسألوه وفي هذا أنه قال له أنه يحبها فبشره بالجنة وأمير السرية قال: إنها صفة الرحمن فبشره بأن الله يحبه والجمع بين

هذا التغاير كله ممكن لولا ما ثبت من كون كلثوم بن الهِدْم الذي قيل: إنه هو الإِمام في مسجد قباء مات قبل البعوث والسرايا وأما من فسره بأنه قتالة بن النعمان فأبعد جدًا فإن في قصة قتادة أنه كان يقرؤها في الليل يرددها ليس فيه أنه أمَّ بها لا في سفر ولا حضر ولا أنه سئل عن ذلك ولا بشر وسيأتي ذلك واضحًا في فضائل القرآن. وقوله: "مما يقرأ به" أي: من السورة بعد الفاتحة. وقوله: "افتتح بقل هو الله أحد" تمسك به من لا تشترط قراءة الفاتحة" وأجيب بأن الراوي لم يذكر الفاتحة اكتفاء بالعلم لأنه لابد منها فيكون معناه افتتح بسورة بعد الفاتحة، أو كان ذلك قبل ورود الدليل الدال على اشتراط الفاتحة ويدل لهذا أنها لو كانت مشروعة حينئذ وتركها لأنكروا عليه لأنهم أنكروا عليه في جمع السورتين فلو كانت قراءة الفاتحة مطلوبة وتركها لأنكروا عليه أو كانوا أعادوا صلاتهم فإما أن يكون قرأها، أو تكون لم تشترط حينئذ. وقوله: "فكلمه أصحابه" يظهر منه أن صنيعه ذلك خلاف ما ألفوه من النبي -صلى الله عليه وسلم- فيكون تقرير النبي -صلى الله عليه وسلم- له على ذلك بيانًا للجواز كما مرّ عن ابن المنير. وقوله: "وكرهوا أن يؤمهم غيره" إما لكونه من أفضلهم كما ذكر في الحديث، وإما لكون النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الذي قرره. وقوله: "ما يأمرك به أصحابك" أي: يقولون لك. ولم يرد إلأمر بالصيغة المعروفة لكنه لازم من التخيير الذي ذكروه كأنهم قالوا له: افعل كذا أو كذا. وقوله: "ما يمنعك وما يحملك" سأله على أمرين فأجابه بقوله: إني أحبها وهو جواب عن الثاني مستلزم للجواب عن الأول بانضمام شيء آخر وهو إقامة السُنّة المعهودة في الصلاة، فالمانع مركب من المحبة والأمر المعهود من الصلاة بقراءة سورة أخرى. قلت: هكذا قال في "الفتح"، وتابعوه عليه وفيه أن قراءة سورة أخرى في كل ركعة من الصلاة ليس معهودًا من السُنة ولو كان معهودًا فيها لما أنكروا عليه، وقالوا له ما قالوا. والحامل على الفعل المحبة وحدها ودل تبشيره له بالجنة على الرضى بفعله، وقوله: حبك إياها أي: سورة الإخلاص والحب مصدر مضاف لفاعله وارتفاعه بالابتداء وقوله: أدخلك الجنة خبره لأنها صفة الرحمن تعالى فحبها يدل على حسن اعتقاده في الدين وعبّر بالماضي وإن كان دخوله الجنة مستقبلًا لتحقق الوقوع، وفي الحديث جواز الجمع بين السورتين في ركعة واحدة وقد مرَّ الكلام عليه في تعليق قتادة، وفيه أن المقاصد تغير أحكام الفعل لأن الرجل لو قال: إن الحامل له على إعادتها أنه لا يحفظ غيرها لأمكن أن يأمره بحفظ غيرها لكنه اعتل بحبها فظهرت صحة قصده فصوبه. قلت: هذا إنما يتم لو كان يقرؤها وحدها وأما حيث إنه يقرأ معها غيرها فكان يمكنه أن يأمره بترك إعادتها والاقتصار على الغير ولكن حبه إياها سوغ له إعادتها عنده عليه الصلاة والسلام وفيه دليل على جواز تخصيص بعض القرآن بميل النفس إليه والاستكثار منه ولا يعد ذلك هجرانًا لغيره وفيه ما يشعر أن

رجاله ثلاثة

سورة الإخلاص مكية. قلت: لعل هذا فهم من قوله في الحديث فلما أتاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن يكون المراد إتيانه من مكة وإلا فلا إشعار فيه غير هذا وفيه ما يشعر بأن الذي ينبغي أن يكون الإِمام من أفضل القوم وقد مرّ مبوبًا له وفيه أن الصلاة تكره وراء من يكرهه القوم. رجاله ثلاثة: وقد مرّوا، مرّ عبيد الله في الرابع عشر من الوضوء، ومرَّ ثابت البناني في تعليق بعد الخامس من العلم، ومرّ أنس في السادس من الإيمان وفيه ذكر رجل مبهم واختلف فيه فقيل إنه كلثوم بن الهِدْم بكسر الهاء وسكون الدال كما رواه ابن منده. وقيل كلثوم بن زهدم وقيل كرز بن زهدم ذكر الأقوال الثلاثة في "الفتح"، ثم قال: وأبعد مَنْ قال: انه قتادة بن النعمان جدًا وها أنا أذكر تعريف من عثرت على تعريفه من الجميع تتميمًا للفائدة فالأول كلثوم بن الهِدْم بكسر الهاء بن امرىء القيس بن الحارث بن زيد بن عبيد بن زيد بن مالك بن عوف بن مالك بن الأوس الأنصاري الأوسي ذكر موسى بن عقبة وغيره من أهل المغازي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نزل عليه بقباء أول ما قدم المدينة، وقال بعضهم: نزل على سعد بن خيثمة، وقال الواقدي: كان نزوله على كلثوم وكان يتحدث في بيت سعد بن خيثمة؛ لأن منزله كان منزل القرآن وذكر الطبري وابن قتيبة أنه أول مَنْ مات من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة ثم مات بعده أسعد بن زرارة وأما كرز بن زهدم فقد قال في "الإصابة": ذكره الحافظ رشيد الدين بن العطار في حاشية المبهمات للخطيب وقال: هو الذي كان يصلي بقومه فيقرأ قل هو الله أحد الحديث، وفيه قوله: إنها صفة الرحمن فأنا أحب أن أقرأها وقرأت بخط شيخنا سراج الدين البلقيني أن اسم هذا كلثوم بن زهدم قال: ووهم مَنْ قال: كلثوم بن الهدم فإنه مات قديماً قبل هذه القصة فكأنه اعتمد على ما كتبه الرشيد العطار. ولم أرَ تعريفًا لكلثوم بن زهدم هذا ولابد من تعريف قتادة وان استبعد في "الفتح" أن يكون هو صاحب القصة قائلًا: إن في قصة قتادة أنه كان يقرؤها في الليل يرددها ليس فيه أنه أمَّ بها لا في حضر ولا في سفر ولا أنه سئل عن ذلك ولا بشر فأقول: قتادة هو ابن النعمان بن زيد بن عامر بن سواد بن كعب وكعب هو طريف بن الخزرج بن مالك بن أوس الظفري الأنصاري يكنى أبا عمرو وقيل أبا عبد الله أخو أبي سعيد الخدري لأمه أمهما أنيسة بنت قيس البخّارية شهد بدرًا والمشاهد كلها وحكى ابن شاهين عن ابن أبي داود أنه أول من دخل المدينة بسورة من القرآن وهي سورة مريم. وأخرج البغوي وأبو يعلى أن عينه أُصيبت يوم بدر فسألت حدقته على وجنته فأرادوا قطعها فقالوا: لا، حتى نستأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاستأمروه فقال: لا، ثم دعا به فوضع راحته على حدقته ثم غمزها وقال: "اللهم اكسه جمالًا" لا يدرى أي عينيه ذهبت فمات وإنها لأحسن عينيه وما مرضت بعد قال عمر بن عبد العزيز: كنا نتحدث إنها تعلقت بعرق فردها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: "اللهم اكسه الجمال"، وروى الأصمعي أن رجلًا من ولد قتادة وفد على عمر بن عبد العزيز بديوان أهل المدينة

فلما قدم عليه قال عمر ممن الرجل فقال: أنا ابن الذي سالت على الخد عينه ... فردت بكف المصطفى أحسن الرد فعادت كما كانت لأول أمرها ... فيا حسن ما عين ويا حسن ما رد فقال عمر رحمه الله: تلك المكارم لا قعبانِ من لبن ... شيبا بماء فعادا بعدُ أبوالا وقيل: إنها أُصيبت يوم أُحد قال عبد الله بن محمد بن عمارة أن قتادة رميت عينه يوم أُحد فسالت حدقته على وجهه فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: يا رسول الله إن عندي امرأة أحبها وإن هي رأت عيني خشيت أن تقذرني فردها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاستوت فكانت أقوى عينيه وأصحهما. وقيل يوم الخندق قال ابن عبد البر: والأول أصح وكانت معه يوم الفتح راية بني ظَفَر وكان من فضلاء الأنصار. وأخرج أحمد عن أبي سعيد الخدري في قصة ساعة الجمعة قال: هاجت السماء فخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- لصلاة العشاء فبرقت برقة فرأى قتادة بن النعمان فقال: ما السرى يا قتادة؟ قال: يا رسول الله إن شاهد العشاء قليل فأردت أن أشهدها قال: فإذا صليت فائتني فلما انصرف أعطاه عرجونًا فقال: خذ هذا فسيضيء أمامك عشرًا فإذا دخلت البيت ورأيت سوادًا في زاوية البيت فاضربه قبل أن يتكلم فإنه شيطان، وأخرج هذه القصة الطبراني من وجه آخر وقال: إنه كان في صورة قنفذ. له سبعة أحاديث انفرد له البخاري بحديث روى عنه أخوه لأُمه أبو سعيد الخدري وابنه عمر ومحمود بن لبيد وآخرون، مات في خلافة عمر فصلّى عليه ونزل في قبره وعاش خمسًا وستين سنة.

الحديث الخامس والأربعون

الحديث الخامس والأربعون حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ: قَرَأْتُ الْمُفَصَّلَ اللَّيْلَةَ فِي رَكْعَةٍ. فَقَالَ: هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ لَقَدْ عَرَفْتُ النَّظَائِرَ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَقْرِنُ بَيْنَهُنَّ فَذَكَرَ عِشْرِينَ سُورَةً مِنَ الْمُفَصَّلِ سُورَتَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ. قوله: "قرأت المفصل، قد مرّ في باب إذا طول الإِمام الخ حقيقة المفصل وما قيل فيه، ولقول هذا الرجل قرأت المفصل سبب بينه مسلم في أول حديثه عن أبي وائل قال: جاء رجل يقال له نهيك بن سنان إلى عبد الله فقال: يا أبا عبد الرحمن كيف تقرأ هذا الحرف من ماء غير آسن، أو غير ياسين؟ فقال عبد الله: كل القرآن أحصيت غير هذا؟ قال: إني لأقرأ المفصل في ركعة. وقوله: هَذّا كهذ الشعر بفتح الهاء وتشديد الذال المعجمة أي: سردًا وإفراطًا في السرعة وهو منصوب على المصدر وهو استفهام إنكار بحذف أداة الاستفهام وير ثابتة عند مسلم وقال ذلك لأن تلك الصفة كانت عادتهم في إنشاد الشعر وزاد فيه مسلم أن أقوامًا يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، وزاد أحمد وإسحاق عن الأعمش فيه ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع وهو في رواية مسلم دون قوله: نفع. قال المهلب: إنما أنكر عليه عدم التدبر وترك الترسل لا جواز الفعل. وقوله: "لقد عرفت النظائر" جمع نظيرة وهي السور التي يشبه بعضها بعضًا في الطول والقصر. وقيل المراد المماثلة في المعاني كالموعظة أو الحكم، أو القصص لا المماثلة في عدد الآي كما سيظهر عند تعيينها. قال المحب الطبري: كنت أظن أن المراد تساويها في العد حتى اعتبرتها فلم أجد فيها شيئًا متساويًا قلت: ما رجح به العيني المعنى الأول غير ظاهر؛ لأنه تقارب لا تساو والحديث إنما فيه النظائر، وهي المتساويات لا المتقاربات فتأمله. وقوله: "يقرُن" أي: بضم الراء وكسرها وقوله: "عشرين سورة من المفصل سورتين من آل حم في كل ركعة" وفي فضائل القرآن عن أبي وائل ثماني عثرة سورة من المفصل وسورتين من آل حم وإنما سمعه أبو وائل عن علقمة عن عبد الله، وقال علقمة على تأليف ابن مسعود آخرهن حم الدخان

وعم يتساءلون، ولابن خزيمة عن الأعمش مثله، وزاد فيه فقال الأعمش: أولهن الرحمن وآخرهن الدخان، ثم سردها كما سردها أبو داود فقال بعد قوله: كان يقرأ النظائر السورتين في كل ركعة الرحمن والنجم في ركعة واقتربت والحاقة في ركعة والذاريات والطور في ركعة والواقعة ونون في ركعة وسأل والنازعات في ركعة وويل للمطففين وعبس في ركعة والمدثر والمزمل في ركعة وهل أتى ولا أقسم في ركعة، وعم يتساءلون والمرسلات في ركعة، وإذا الشمس كورت والدخان في ركعة هذا لفظ أبي داود. ولابن خزيمة مثله إلا أنه لم يقل في ركعة في شيء منها وذكر السورة الرابعة قبل الثالثة والعاشرة قبل التاسعة ولم يخالفه في الاقتران. وعرف بهذا أن قوله في رواية واصل وسورتين من آل حم مشكل؛ لأن الروايات لم تختلف أنه ليس في العشرين من الحواميم غير الدخان فيحمل على التغليب، أو فيه حذف كأنه قال: وسورتين إحداهما من آل حم وكذا قوله: آخرهن حم الدخان وعم يتساءلون مشكل؛ لأن حم الدخان آخرهن في جميع الروايات، وأما عمّ فهي في رواية أبي خالد الأحمر عند ابن خزيمة الثامنة عشرة وفي رواية أبي إسحاق عند أبي داود السابعة عشرة فكان فيه تجوز لأن عمّ وقعت في الركعتين في الجملة ويتبين بهذا أن في قوله: في حديث الباب عشرين سورة من المفصل تجوزًا لأن الدخان ليست منه ولذلك فصلها من المفصل في رواية واصل نعم يصح ذلك على أحد الآراء في حد المفصل كما مرَّ في المحل المذكور آنفًا، وفيه من الفوائد كراهة الإفراط في سرعة التلاوة لأنه ينافي المطلوب من التدبر والتفكر في معاني القراءة ولا خلاف في جواز السرد بدون تدبر، لكن القراءة بالتدبر أعظم أجرًا، وفيه جواز تطويل الركعة الأخيرة على ما قبلها وقد مرّ الكلام على هذا في باب القراءة في الظهر. وهذا الحديث أوّل حديث موصول أورده في هذا الباب، فلهذا صدر الترجمة بما دل عليه، وفيه ما ترجم له، وهو الجمع بين السور؛ لأنه إذا جمع بين السورتين ساغ الجمع بين ثلاث فصاعدًا لعدم الفرق. وقد روى أبو داود وصححه ابن خزيمة عن عبد الله بن شقيق قال: سألت عائشة أكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجمع بين السور؟ قالت: نعم من المفصل. ولا يخالف هذا ما يأتي في التهجد أنه جمع بين البقرة وغيرها من الطوال لأنه يحمل على النادر، وقال عياض: حديث ابن مسعود هذا يدل على أن هذا القدر كان قدر قراءته غالبًا، وأما تطويله فإنما كان في التدبر، والترتيل، وما ورد غير ذلك من قراءة البقرة، وغيرها في ركعة فكان نادرًا. قال في "الفتح": لكن ليس في حديث ابن مسعود ما يدل على المواظبة، بل فيه أنه كان يقرن بين هذه السور المعنيات إذا قرأ من المفصل قلت: لفظة كان المذكورة في الحديث مما يدل على الدوام والاستمرار فتغير ما قاله عياض. فلعل صاحب "الفتح" غفل عن ذلك، وفيه موافقة لقول عائشة، وابن عباس أن صلاته بالليل كانت عشر ركعات غير الوتر، وفيه ما يقوي قول القاضي أبي بكر الباقلاني المار: إن تأليف السور كان عن اجتهاد من الصحابة لأن تأليف عبد الله المذكور مغاير لتأليف مصحف عثمان وسيأتي ذلك في باب

رجاله خمسة

مفرد في فضائل القرآن إن شاء الله تعالى. رجاله خمسة: قد مرّوا، وفيه ذكر رجل مبهم، مرَّ آدم وشعبة في الثالث من الإيمان، ومرّ أبو وائل في الحادي والأربعين منه، ومرَّ ابن مسعود في أوله قبل ذكر حديث منه، ومرّ عمرو بن مرة في السبعين من أبواب الجماعة، والرجل المبهم هو نَهِيك بفتح النون وكسر الهاء بن سِنان بكسر السين، ولم أر لنَهِيك هذا رواية ولا تعريفًا. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والسماع، والقول، ورواته ما بين عسقلانيّ، وواسطيّ وكوفيّ. أخرجه مسلم والنَّسائيّ في الصلاة. ثم قال المصنف: باب يقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب يعني بغير زيادة وسكت عن ثالثة المغرب رعاية للفظ الحديث مع أن حكمها حكم الأخريين من الرباعية ويحتمل أن يكون لم يذكرها لما رواه مالك عن الصنابحي أنه سمع أبا بكر الصديق يقرأ فيها: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا} الآية.

الحديث السادس والأربعون

الحديث السادس والأربعون حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ فِي الأُولَيَيْنِ بِأُمِّ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ، وَفِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُخْرَيَيْنِ بِأُمِّ الْكِتَابِ، وَيُسْمِعُنَا الآيَةَ، وَيُطَوِّلُ فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى مَا لاَ يُطَوِّلُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، وَهَكَذَا فِي الْعَصْرِ وَهَكَذَا فِي الصُّبْحِ. قوله: "بأُمِّ الكتاب" فيه ما ترجم له، وفيه التنصيص على قراءة الفاتحة في كل ركعة، وقد تقدم البحث فيه قال ابن خزيمة: قد كنت زمانًا أحسب أن هذا اللفظ لم يروه عن يحيى غير همام، وتابعه أبان إلى أن رأيت الأوزاعيّ قد رواه أيضًا عن يحيى يعني: أن أصحاب يحيى اقتصروا على قوله: كان يقرأ في الأوليين بأُمِّ الكتاب وسورة كما تقدم من طرق، وإن هَمّامًا زاد هذه الزيادة وهي الاقتصار على الفاتحة في الأخريين، فكان يخشى شذوذها إلى أن قويت عنده بمتابعة من ذكر لكنَّ أصحاب الأوزاعي لم يتفقوا على ذكرها كما يذكر ذلك بعد باب. وقوله: "ما لا يطيل" كذا للأكثر ولكريمة ما لا يطول، وما نكرة مرصوفة، أو مصدرية، وللمستملي، والحموي بما لا يطيل، وقد يستدل به على تطويل الركعة الأولى على الثانية، وقد مرّ البحث في ذلك في باب القراءة في الظهر عند ذكر هذا الحديث مرّت مباحث الحديث هناك. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ موسى بن إسماعيل في الخامس من بدء الوحي ومرَّ همام بن يحيى في الرابع والثمانين من الوضوء، ومرّ يحيى بن أبي كثير في الثالث والخمسين من العلم، ومرَّ عبد الله بن أبي قتادة وأبوه في التاسع عشر من الوضوء. ثم قال المصنف: باب مَنْ خافت القراءة في الظهر والعصر أي: أسرّ وفي رواية الكشميهني خافت بالقراءة وهي أوجه.

الحديث السابع والأربعون

الحديث السابع والأربعون حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ قَالَ: قُلْتُ لِخَبَّابٍ: أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْنَا: مِنْ أَيْنَ عَلِمْتَ؟ قَالَ: بِاضْطِرَابِ لِحْيَتِهِ. وهذا الحديث قد مرّ ما فيه في باب رفع البصر إلى السماء في الصلاة. رجاله ستة: قد مرّوا، مرّ قتيبة بن سعيد في الحادي والعشرين من الإيمان، ومرّ الأعمش في الخامس والعشرين منه، ومرّ جرير بن عبد الحميد في الثاني عشر من العلم، ومرّ عمارة وأبو معمر وخباب في الخامس عشر من أبواب صفة الصلاة هذه. ثم قال المصنف: باب إذا سمع الإِمام الآية بالهمز في أوله وللكشميهنيّ إذا سمْع بتشديد الميم أي: في السر.

الحديث الثامن والأربعون

الحديث الثامن والأربعون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقْرَأُ بِأُمِّ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ مَعَهَا فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ مِنْ صَلاَةِ الظُّهْرِ وَصَلاَةِ الْعَصْرِ، وَيُسْمِعُنَا الآيَةَ أَحْيَانًا، وَكَانَ يُطِيلُ فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى. والحديث واضح في الترجمة، وقد مرّ الكلام عليه عند ذكره في باب القراءة في الظهر. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ محمد بن يوسف الفريابي في العاشر من العلم، والأوزاعي في العشرين منه، ويحيى بن أبي كثير في الثالث والخمسين منه، وعبد الله بن أبي قتادة وأبوه في التاسع عشر من الوضوء. ثم قال المصنف: باب يطول في الركعة الأولى أي: في جميع الصلوات وهو ظاهر الحديث.

الحديث التاسع والأربعون

الحديث التاسع والأربعون حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُطَوِّلُ فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى مِنْ صَلاَةِ الظُّهْرِ، وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ، وَيَفْعَلُ ذَلِكَ فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ. الحديث مرّ ذكر محل الكلام عليه في الذي قبله. رجاله خمسة: مرّ ذكر الثلاثة الأخيرة في الذي قبله، ومرّ أبو نعيم في الخامس والأربعين من الإيمان، ومرّ هشام الدستوائي في السابع والثلاثين منه. ثم قال المصنف: باب جهر الإِمام بالتأمين أي: بعد الفاتحة في الجهر والتأمين مصدر أمّن بالتشديد أي: قال: آمين. وهي بالمد والتخفيف في جميع الروايات، وعن جميع القراء، وحكى الواحدي عن حمزة والكسائي الإمالة، وفيها ثلاث لغات أخرى شاذة القصر حكاه ثعلب وأنشد له شاهدًا وأنكره ابن درستويه، وطعن في الشاهد بأنه لضرورة الشعر، وحكى عياض، ومَنْ تبعه عن ثعلب أنه أجازه في الشعر خاصة والتشديد مع المد، والقصر وخطأهما جماعة من أهل اللغة، وهو خطأ في المذاهب الأربعة واختلفت الشافعية في بطلان الصلاة بذلك، واختلفت الحنفية أيضًا فعند أبي حنيفة تفسد الصلاة بذلك وعندهما لا تفسد؛ لأنه يوجد في القرآن مثله وهو قوله تعالى: {وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} وعلى قولهما الفتوى. وآمين من أسماء الأفعال مثل صه للسكوت، وتفتح في الوصل لأنها مبنية اتفاقًا مثل كيف، وإنما لم تكسر لثقل الكسرة بعد الياء، ومعناها: اللهم استجيب عند الجمهور وقيل غير ذلك مما يرجع جميعه إلى هذا المعنى كقول مَنْ قال: اللهم آمنا بخير وقيل كذلك يكون، وقيل درجة في الجنة تجب لقائلها، وقيل لمن استجيب له كما استجيب للملائكة، وقيل هو اسم من أسماء الله تعالى. رواه عبد الرزاق عن أبي هريرة بإسناد ضعيف. وعن هلال بن يساف التابعي مثله وأنكره جماعة ومن مد وشدد معناها قاصدين إليك، ونقل ذلك عن جعفر الصادق، وقال من قصر وشدد هي كلمة عبرانية، أو سريانية، وقيل هو كنز من كنوز

العرش لا يعلم تأويله إلا الله، وقيل طابع الله على عباده يدفع به عنهم الآفات. وروى أيوب داود عن أبي زهير النميري الصحابي أن آمين مثل الطابع على الصحيفة، ثم ذكر قوله -صلى الله عليه وسلم- أن ختم بآمين فقد أوجب، ولا خلاف أن آمين ليس من القرآن، حتى قالوا: بارتداد مَنْ قال: إنه منه. ثم قال: وقال عطاء: آمين دعاء أمن ابن الزبير ومَنْ وراءه حتى إن للمسجد للجة. وكان أبو هريرة ينادي الإِمام لا تفتني بآمين. هذا التعليق إلى قوله: بآمين. وصله عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء قال: قلت له: أكان ابن الزبير يؤمن على إثر أُم الكتاب؟ قال: نعم، ويؤمن مَنْ وراءه حتى إن للمسجد للجة. ثم قال: إنما آمين دعاء قال وكان أبو هريرة يدخل المسجد وقد قام الإِمام فيناديه فيقول: لا تسبقني بآمين وقوله: حتى ان للمسجد بكسر همزة إن أي: لأهل المسجد وقوله: بلام التأكيد واللجة بالفتح الصوت المرتفع وروي للجبة بالموحدة وسكون الجيم، وهي الأصوات المختلطة وروى البيهقيّ لرجة بالراء بدل اللام وقوله: لا تفُتني بضم الفاء وسكون المثناة من الفوات، وهي بمعنى ما مرَّ عن عبد الرزاق، ومراد أبي هريرة أن يؤمن مع الإِمام داخل الصلاة، وقد تمسك به بعض المالكية في أن الإِمام لا يؤمن، وقال معناه: لا تنازعني بالتأمين الذي هو من وظيفة المأموم وهذا تأويل بعيد قلت: مذهب المالكية أن الإِمام يؤمن في السر كما يأتي تحريره، وقد أخرج البيهقي عن أبي رافع قال: كان أبو هريرة يؤذن لمروان، فاشترط أن لا يسبقه بالضالين حتى يعلم أنه دخل في الصف وكأنه كان يشتغل بالإقامة، وتعديل الصفوف، وكان مروان يبادر إلى الدخول في الصلاة قبل فراغ أبي هريرة، وكان أبو هريرة ينهاه عن ذلك، وقد وقع له ذلك مع غير مروان فروى سعيد بن منصور عن ابن سيرين أن أبا هريرة كان مؤذنًا بالبحرين وأنه اشترط على الإِمام أن لا يسبقه بآمين، والإمام بالبحرين كان العلاء بن الحضرمي كما بينه عبد الرزاق عن أبي سلمة عنه. وأخرج أبو داود عن بلال نحو قول أبي هريرة فروى عن أبي عثمان عن بلال أنه قال: يا رسول الله لا تستبقني بآمين. ورجاله ثقات لكن قيل: إن أبا عثمان لم يلق بلالًا. وقد روى عنه بلفظ أن بلالًا قال وهو ظاهر في الإرسال، ورجحه الدارقطني، وغيره على الموصول. وهذا الحديث يضعف التأويل؛ لأن بلالًا لا يقع منه ما حمل هذا القائل كلام أبي هريرة عليه وتمسك به بعض الحنفية بأن الإمام يدخل في الصلاة قبل فراغ المؤذن من الإقامة، وفيه نظر؛ لأنهما واقعة عين وصببها محتمل فلا يصح التمسك بها قال ابن المنير: مناسبة قول عطاء للترجمة أنه حكم بأن التأمين دعاء فاقتضى ذلك أن يقوله الإِمام. لأنه في مقام الداعي بخلاف قول المانع أنها جواب للدعاء فيختص بالمأموم، وجوابه أن التأمين قائم مقام التلخيص بعد البسط، فالداعي فصل المفاسد بقوله: اهدنا الصراط المستقيم والمؤمن أتى بكلمة تشمل الجميع، فإن قالها الإِمام فكأنه دعا مرتين مفصلًا ومجملًا. وعطاء هو ابن أبي رباح، وقد مرّ في التاسع والثلاثين من العلم، ومرَّ عبد الله بن الزبير في الثامن والأربعين منه، ومرّ أبو هريرة في الثاني من الإيمان، وقال نافع: كان ابن عمر لا يدعه

ويحضهم وسمعت منه في ذلك خيرًا قوله: ويحضهم بالضاد المعجمة وقوله: خيرًا بسكون التحتانية أي: فضلًا وثوابًا وهي رواية الكشميهنيّ ولغيره خبرًا بفتح الموحدة أي: حديثًا مرفوعًا ويشعر به ما أخرجه البيهقي كان ابن عمر إذا أمن الناس أمن معهم ويرى ذلك من السنة ومناسبة أثر ابن عمر من جهة أنه كان يؤمن إذا ختم الفاتحة، وذلك أعم من أن يكون إمامًا أو مأمومًا. وهذا التعليق وصله عبد الرزاق عن ابن جريج بلفظ: كان إذا ختم أُم القرآن قال: آمين لا يدع أن يؤمن إذا ختمها الخ. ونافع مرّ في الثالث والسبعين من العلم، ومرّ ابن عمر في أول كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه.

الحديث الخمسون

الحديث الخمسون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُمَا أَخْبَرَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إِذَا أَمَّنَ الإِمَامُ فَأَمِّنُوا فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلاَئِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ. وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: آمِينَ. قوله: "عن ابن شهاب" في التِّرمِذِيّ عن مالك. أخبرنا ابن شهاب. وقوله: "أنهما أخبراه" ظاهره أن لفظهما واحد لكن سيأتي في رواية محمد بن عمرو عن أبي سلمة مغايرة يسيغ للفظ الزهري تأتي قريبًا في متابعة بعد باب وقوله: "إذا أمَّن الإِمام فأمنوا" ظاهر في أن الإمام يؤمن. وقيل معناه إذا دعا والمراد دعاء الفاتحة من قوله: "إهدنا الصراط" إلى آخره بناء على أن التأمين دعاء. وقيل معناه: إذا بلغ إلى موضع استدعى التأمين وهو قوله: "ولا الضالين" ويرد هذا التصريح الآتي بالمراد في حديث الباب واستدل به على مشروعية التأمين للإمام، وفيه نظر لكونها قضية شرطية. وأجيب بأن التعبير بإذا يشعر بتحقيق الوقوع، وخالف مالك في إحدى الروايتين عنه وهي رواية ابن القاسم فقال: لا يؤمن الإِمام في الجهرية، وفي رواية عنه لا يؤمن مطلقًا وحاصل مشهور مذهبه هو أن الفذَّ يؤمن مطلقًا في الجهرية والسرية، ويؤمن الإمام في السرية دون الجهرية، والمأموم في السرية وفي الجهرية أن سمع قراءة الإِمام لأنه مؤمن حينئذ على دعائه فإن لم يسمعه فلا على الأظهر عند ابن رشد لأنه ليس معه دعاء يؤمن عليه لا لنفسه لأنه لا يقرأ ولا لإمامه لعدم سماعه، والتأمين إجابة، وهي فرع السماع. وقال ابن عبدوس: يتحرى وعلى قوله إذا تحرى ربما أوقعه في غير موضعه، وربما صادف آية عذاب، وكل مَن طلب منه التأمين إمامًا كان أو غيره يستحب له الإسرار به لأنه دعاء. والأصل فيه الإخفاء لقوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} وأجاب المالكية عن حديث ابن شهاب هذا بأنه لم يروه في حديث غيره، وهي علة غير قادحة، فإن ابن شهاب إمام لا يضره التفرد مع ما سيذكر أن ذلك جاء في حديث غيره، ورجح بعض المالكية كون الإِمام لا يؤمن من جهة المعنى بأنه داع فناسب أن يختص المأموم بالتأمين وهذا يجيىء على قولهم: إنه لا قراءة على المأموم وأما من أوجبها فله أن يقول كما اشتركا في القراءة فينبغي أن يشتركا في التأمين. ومنهم من أول قوله: إذا

أمَّن الإِمام فقال معناه: دعا. قال: وتسمية الداعي مؤمنًا سائغًا لأن المؤمن يسمى داعيًا جاء في قوله تعالى: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} وكان موسى داعيًا وهارون مؤمنًا كما رواه ابن مردويه عن أنس وتعقب بعدم الملازمة، فلا يلزم من تسمية المؤمن داعيًا عكسه. قاله ابن عبد البر قلت: كيف يعقل هذا مع ما مرَّ عن عطاء من أن آمين دعاء وأجيب عن هذا بأن الحديث على تقدير صحته فإطلاق كون هارون داعيًا إنما هو للتغليب، وقال بعضهم: معنى قوله: إذا أمَّن بلغ موضع التأمين كما يقال أنجد إذا بلغ نجدًا وإن لم يدخلها. قال ابن العربي هذا بعيد لغة وشرعًا قلت: لم أدر ما قال فإن كونه سائغ لغة هو قول العرب: أنجد وكونه سائغ شرعًا هو العمل على المجاز ليوافق الحديث الآتي قريبًا. وقد قال ابن دقيق العيد: هذا مجاز، فإن وجد دليل يرجحه عمل به، وإلا فالأصل عدمه، والدليل هو رواية أبي صالح عن أبي هريرة الآتية بعد باب بلفظ إذا قال الإِمام: ولا الضالين فقولوا: آمين، فالجمع بين الروايتين يقتضي حمل قوله: إذا أمَّن على المجاز وأجاب الجمهور على تسليم المجاز المذكور بأن المراد بقوله: إذا أمَّن أي: أراد التأمين ليتوافق تأمين الإِمام والمأموم معًا. ولا يلزم من ذلك أن لا يقولها الإِمام، وقد ورد التصريح بأن الإِمام يقولها في رواية معمر عن ابن شهاب في هذا الحديث بلفظ: إذا قال الإِمام: "ولا الضالين" فقولوا آمين، فإن الملائكة تقول: آمين، وإن الإِمام يقول: آمين. الحديث أخرجه أبو داود والنَّسائيّ، والسراج، وهو صريح في كون الإِمام يؤمن وهذا غير وارد علينا. معاشر المالكية لأنّا قائلون بأن الإِمام يؤمّن في السرية وليس في هذا تصريح بالجهرية، وقيل في الجمع بينهما أن المراد بقوله: "إذا قال: "ولا الضالين" فقولوا: آمين، أي: ولو لم يقل الإِمام آمين. وقيل يؤخذ من الخبرين تخيير المأموم في قولها مع الإِمام، أو بعده. وقيل الأول لمن قرب من الإِمام، والثاني لمن تباعد عنه لأن جهر الإِمام بالتأمين أخفض من جهره بالقراءة، فقد يسمع قراءته من لا يسمع تأمينه فمن سمع تامينه أمَّن معه وإلا يؤمن إذا سمعه يقول: "ولا الضالين" لأنه وقت تأمينه وهذه الوجوه كلها محتملة، وليست بدون الوجه الذي ذكرناه، وقد قال ابن شهاب: وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: آمين كأنه استشعر التأويل المذكور، فبين أن المراد بقوله: إذا أمَّن حقيقة التأمين قال في "الفتح": وهو وإن كان مرسلًا فقد اعتضد بصنيع أبي هريرة راويه كما يأتي بعد باب. قلت: ليس في الحديث المذكور دلالة على ما قال. قال: وإذا ترجح أن الإِمام يؤمن فيجهر به في الجهرية كما ترجم به المؤلف فيما يأتي عنه قريبًا، وهو قول الجمهور خلافًا للكوفيين أبي حنيفة وغيره، ورواية عن مالك، وهي المشهورة في أنه يسر به مطلقًا. وذهب الشافعي في القديم إلى أن الجهر للمأموم، وعليه الفتوى، وقال الرافعي: قال الأكثر: في المسألة قولان أصحهما أنه يجهر، ووجه الدلالة عند القائلين بالجهر من الحديث أنه لو لم يكن التأمين مسموعًا للمأموم لم يعلم به، وقد علق تأمينه بتأمينه. وأجابوا بأن موضعه معلوم فلا يستلزم الجهر به، وفيه نظر لاحتمال أن يخل به فلا يستلزم علم المأموم به، وقد روى روح بن عبادة عن

مالك في هذا الحديث عن ابن شهاب قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قال:"ولا الضالين" جهر بآمين. أخرجه السراج ولابن حِبّان عن الزبيدي عن ابن شهاب في حديث الباب كان إذا فرغ من قراءة أُم القرآن رفع صوته وقال: آمين. وللحميدي عن أبي هريرة نحوه بلفظ إذا قال: "ولا الضالين" ولأبي داود عن أبي هريرة مثله، وزاد حتى يسمع من يليه من الصف الأول، ولأبي داود وصححه ابن حِبّان عن وائل بن حجر صليت خلف النبي -صلى الله عليه وسلم-، فجهر بآمين، وفيه رد على مَنْ أومأ إلى النسخ فقال: إنما كان -صلى الله عليه وسلم- يجهر بالتأمين في ابتداء الإِسلام ليعلمهم، فإن وائل بن حُجْر إنما أسلم في أواخر الأمر واستدل القائلون بالإسرار بقوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} مع ما مرّ عن عطاء وابن مردويه من أن التأمين دعاء فتتركب قضيته من الشكل الأول التأمين دعاء، والدعاء يسر به ينتج التأمين يسر به، دليل الصغرى ما روي عن عطاء وغيره، ودليل الكبرى الآية، والآية قطعية الدلالة فتقدم على غيرها. واستدلوا بما رواه أحمد وأبو داود الطيالسي وأبو يعلى والطبراني والدارقطني في سننه، والحاكم في مستدركه عن وائل بن حجر مما يخالف ما مرّ عنه من رواية شعبة ففي هذه الرواية أنه صلّى مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما بلغ "ولا الضالين" قال: آمين وأخفى بها صوته. قال بعض العلماء: الصواب أن الخبرين بالجهر بها وبالمخافتة صحيحان، وعمل بكل منهما جماعة من العلماء، واحتجوا أيضًا بما رواه محمد بن الحسن في كتاب الآثار عن إبراهيم النخعي قال: أربع يخفيهن الإِمام التعوذ وبسم الله الرحمن الرحيم وسبحانك اللهم وآمين. ورواه عبد الرزاق في مصنفه إلا أنه قال: عوض قوله سبحانك اللهم. اللهم ربنا لك الحمد، وبما رواه الطبراني في تهذيب الآثار عن أبي وائل قال: لم يكن عمر وعلي رضي الله تعالى عنهما يجهران ببسم الله الرحمن الرحيم ولا بآمين وقوله: "فأمنوا" استدل به بعض على تأخير تأمين المأموم عن تأمين الإِمام؛ لأنه رتب عليه بالفاء لكن مرّ في الجمع بين الروايتين عند معارضة المالكية أن المراد المقارنة وبذلك قال الجمهور. وقال أبو محمد الجويني: لا تستحب مقارنة الإِمام في شيء من الصلاة غيره قال إمام الحرمين: يمكن تعليله بأن التأمين لقراءة الإِمام لا لتأمينه فلذلك لا يتأخر عنه وهو واضح. وظاهر قوله: إذا أمَّن الإِمام فأمنوا إن المأموم إنما يؤمن إذا أمن الإِمام لا إذا ترك. وبه قال بعض الشافعية، وهو مقتضى إطلاق الرافعي الخلاف، وادعى النووي الاتفاق على خلافه، ونص الشافعي في "الأم" على أن المأموم يؤمن ولو ترك الإِمام عمدًا أو سهوًا، والمستحب الاقتصار على التأمين عقب الفاتحة من غير زيادة عليه اتباعًا للحديث. وأما ما رواه البيهقي عن وائل بن حجر أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قال: "ولا الضالين" قال رب اغفر لي آمين فإن في إسناده أبا بكر النهشلي، وهو ضعيف، وقال الإِمام الشافعي في "الأم" فإن قال: آمين رب العالمين كان حسنًا ونقله النووي في "زوائد الروضة".

ثم إن هذا الأمر عند الجمهور للندب، وحكى ابن بزيزه عن بعض أهل العلم: وجوبه على المأموم عملًا بظاهر الأمر قال: وأوجبه الظاهرية على كل فصل ثم في مطلق أمر المأموم بالتأمين أنه يؤمن ولو كان مشتغلًا بقراءة الفاتحة ويه قال أكثر الشافعية، ثم اختلفوا هل تنقطع بذلك الموالاة؟ على وجهين أصحهما لا تنقطع؛ لأنه مأمور بذلك لمصلحة الصلاة بخلاف الأمر الذي لا يتعلق بها كالحمد للعاطس. وقوله: فإنه من وافق زاد مسلم عن ابن شهاب فإن الملائكة تؤمن قبل قوله، فمن وافق، وكذا لابن عُيينة عن ابن شهاب كما يأتي في الدعوات وهو دال على أن المراد الموافقة في القول والزمان خلافًا لمن قال: المراد الموافقة في الإخلاص والخشوع كابن حِبّان، فإنه لما ذكر الحديث قال: يريد موافقة الملائكة في الإخلاص بغير إعجاب، وكذا جنح إليه غيره فقال: نحو ذلك من الصفات المحمودة، أو في إجابة الدعاء، أو في الدعاء بالطاعة خاصة، أو المراد بتأمين الملائكة استغفارهم للمؤمنين. وقال ابن المنير: الحكمة في إيثار الموافقة في القول والزمان أن يكون المأموم على يقظة للإتيان بالوظيفة في محلها لأن الملائكة لا غفلة عندهم، فمن وافقهم كان متيقظًا، ثم إن ظاهره أن المراد بالملائكة جميعهم. واختاره ابن بزيزة، وقيل الحفظة منهم، وقيل الذين يتعاقبون منهم إذا قلنا: إنهم غير الحفظة. والذي يظهر أن المراد بهم من يشهد تلك الصلاة من الملائكة ممن في الأرض، أو في السماء وسيأتي في رواية الأعرج بعد باب: وقالت الملائكة في السماء: آمين، وفي رواية محمد بن عمرو الآتية أيضًا فوافق ذلك قول أهل السماء، ونحوها لسهيل عن أبيه عند مسلم وروى عبد الرزاق عن عكرمة قال: صفوف أهل الأرض على صفوف أهل السماء، فإذا وافق آمين في الأرض آمين في السماء غفر للعبد. ومثله لا يقال من جهة الرأي فالأولى المصير إليه وقوله: غفر له ما تقدم من ذنبه وقع في أمالي الجرجاني عن ابن وهب عن يونس في آخر هذا الحديث، وما تأخر وهي زيادة شاذة لرواية مسلم وابن الجارود للحديث عن ابن وهب بدونها، وفي بعض النسخ عن ابن ماجه عن ابن عُيينة إثباتها ولا يصح؛ لأن حفاظ أصحاب ابن عُيينة الحميدي وابن المديني وغيرهما قد رووه عنه بدونها، وظاهر قوله: غفر له غفران جميع الذنوب الماضية، وهو محمول عند العلماء على الصغائر، وقد مرّت مباحثه مستوفاة، ومباحث تلك الزيادة في باب قيام ليلة القدر من كتاب الإيمان، وفي باب الوضوء ثلاثًا عند حديث عثمان رضي الله تعالى عنه. وقوله: "قال ابن شهاب" هو متصل إليه برواية مالك عنه وأخطأ مَنْ زعم أنه معلق ثم هو من مراسيل ابن شهاب وأخرجه الدارقطني في "الغرائب" موصولًا، وفي الحديث الرد على الإمامية في قولهم: إن التأمين يبطل الصلاة؛ لأنه ليس بلفظ قرآن ولا ذكر ويمكن أن يكون مستندهم ما نقل عن جعفر الصادق أن معى آمين أي: قاصدين إليك وبه تمسك من قال: إنه بالمد والتشديد، وقد مرّ هذا، وصرّح المتولي من الشافعية بأن مَنْ قاله هكذا بطلت صلاته، وقد مرّ ما قيل في ذلك في أول الباب. وفيه فضيلة الإِمام لأن تامين الإِمام يوافق تامين الملائكة ولهذا شرعت للمأموم موافقته

رجاله ستة

واستدل به القرطبي على تعيين قراءة الفاتحة للإمام، وعلى أن المأموم ليس عليه أن يقرأ فيما جهر به أمامه أما الأول فأخذه من أن التأمين مختص بالفاتحة فظاهر السياق يقتضي أن قراءة الفاتحة كانت أمرًا معلومًا، وأما الثاني فقد يدل على أن المأموم لا يقرأ الفاتحة حال قراءة الإِمام لها لا أنه لا يقرؤها مطلقًا قاله في "الفتح" دفعًا عن مذهبه. رجاله ستة: قد ذكروا، مرّ عبد الله بن يوسف ومالك في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ ابن شهاب في الثالث منه، وأبو سَلَمة في الرابع منه، ومرّ سعيد بن المسيب في التاسع عشر من الإيمان، ومرّ أبو هريرة في الثاني منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع، والإخبار بالجمع وبالتثنية في موضع والعنعنة. أخرجه مسلم والتِّرمِذِيّ والنَّسائيّ في الصلاة. ثم قال المصنف: باب فضل التأمين أورد فيه رواية الأعرج لأنها مطلقة غير مقيدة بحالة الصلاة قال ابن المنير: وأي فضل أعظم من كونه يسيرًا لا كلفة فيه، ثم قد ترتبت عليه المغفرة.

الحديث الحادي والخمسون

الحديث الحادي والخمسون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إِذَا قَالَ أَحَدُكُمْ آمِينَ. وَقَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ فِي السَّمَاءِ آمِينَ. فَوَافَقَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ. قد تؤخذ منه مشروعية التأمين لكل مَنْ قرأ الفاتحة سواء كان داخل الصلاة أو خارجها لقوله: إذا قال أحدكم لكن في رواية مسلم من هذا الوجه إذا قال أحدكم في صلاته فيحمل المطلق على المقيد لكن في رواية همام عن أبي هريرة عند أحمد وساق مسلم إسنادها إذا أمن القارىء فأمنوا فهذا يمكن حمله على الإطلاق فيستحب التأمين إذا أمن القارىء مطلقًا لكل مَنْ سمعه من فصل، أو غيره ويمكن أن يقال: المراد بالقارىء الإِمام إذا قرأ الفاتحة فإن الحديث واحد اختلفت ألفاظه واستدل به بعض المعتزلة على أن الملائكة أفضل من الآدميين وقد استوفينا الكلام على ذلك في كتابنا استحالة المعية بالذات. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ ذكر محل عبد الله ومالك في الذي قبله، ومرَّ أبو الزناد والأعرج في السابع من الإيمان، ومرَّ أبو هريرة في الثاني منه، ثم قال المصنف: باب جهر المأموم بالتأمين كذا للأكثر وفي رواية المستملي والحموي جهر الإِمام بالتأمين والأول هو الصواب لئلا يتكرر.

الحديث الثاني والخمسون

الحديث الثاني والخمسون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إِذَا قَالَ الإِمَامُ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ فَقُولُوا آمِينَ. فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلاَئِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ. قوله: إذا قال الإِمام: "غير المغضوب عليهم ولا الضالين" فقولوا: آمين قد مرّ الاستدلال به على أن الإِمام لا يؤمن ومرّ ما أجيب به عنه في الباب الذي قبل هذا بباب وقال ابن المنير: وجه مناسبة الحديث للترجمة من جهة أن في الحديث الأمر بقول آمين والقول إذا وقع به الخطاب مطلقًا حمل على الجهر ومتى ما أُريد به الإسرار، أو حديث النفس قيد بذلك. وما قاله غير ظاهر بل المطلق يتناول الجهر والإخفاء، وتخصيصه بالجهر، والحمل عليه تحكم من غير دليل، فلا يجوز، وقال ابن رشيد: تؤخذ المناسبة من جهة أنه قال: إذا قال الإِمام فقولوا فقابل القول بالقول والإمام إنما قال: ذلك جهرًا فكان الظاهر الاتفاق في الصفة وهذا أبعد من الأول وأشد تعسفًا؛ لأن ظاهر الكلام أن الإِمام لا يقولها كما مرَّ عن مالك لأنه قسم والقسمة تنافي الشركة. وقوله: "والإمام" إنما قال ذلك جهرًا لا يدل عليه معنى الحديث أصلًا فكيف يقول فكان الظاهر الاتفاق في الصفة، والحديث لا يدل على ذات التأمين من الإِمام فكيف يطلب الاتفاق في الصفة وهي مبنية على الذات والذات لم يدل عليها دليل. وقال ابن بطال في وجه المناسبة إن المأموم مأمور بالاقتداء بالإمام وقد تقدم أن الإِمام يجهر فلزم جهره بجهره وتعقب بأنه يستلزم أن يجهر المأموم بالقراءة؛ لأن الإِمام جهر بها ولم يقل به أحد لكن يمكن أن ينفصل عنه بأن الجهر بالقراءة خلف الإِمام قد نهى عنه فبقي التأمين داخلًا تحت عموم الأمر باتباع الإِمام، ويتقوى ذلك بما تقدم عن عطاء أن من خلف ابن الزبير كانوا يؤمنون جهرًا. وروى البيهقي من وجه آخر عن عطاء قال: أدركت مائتين من الصحابة في هذا المسجد إذا قال الإِمام ولا الضالين سمعت لهم رجة بآمين. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ عبد الله بن مسلمة في الثاني عشر من الإيمان، ومرَّ أبو صالح وأبو هريرة في الثاني

لطائف إسناده

منه، ومرّ مالك في الأول من بدء الوحي، ومرّ سميٍّ في الثاني عبر من أبواب الأذان. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة ورواته كلهم مدنيون قد مرّ أن مسلمًا وأبا داود والتِّرمِذِيّ والنَّسائيّ أخرجوه. ثم قال تَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَنُعَيْمٌ الْمُجْمِرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. وقال في روايته فوافق ذلك قول أهل السماء وهذه المتابعة أخرجها البَيهقي والدارميّ في مسنده وأحمد وابن خزيمة. رجاله ثلاثة: مرّ أبو سَلَمة في الرابع من بدء الوحي، ومرّ أبو هريرة في الثاني من الإيمان والثالث محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي أبو عبد الله ويقال أبو الحسن المدني قال النَّسائيّ: ليس به بأس وقال مرّة: ثقة، وقال ابن عدي: له حديث صالح، وقد حدث عنه جماعة من الثقات كل واحد ينفرد عنه بنسخة ويضرب بعضهم على بعض. وروى عنه مالك في الموطأ، وأرجو أنه لا بأس به، وذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال: يخطىء قال في المقدمة: مشهور من شيوخ مالك صدوق، تكلم فيه بعضهم من قبل حفظه. وأخرج له الشيخان أما البخاري فمقرونًا بغيره وتعليقًا، وأما مسلم فمتابعة وروى له الباقون. روى عن أبيه وأبي سَلَمة بن عبد الرحمن وعبيدة بن سفيان ومحمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي وغيرهم. وروى عنه موسى بن عقبة ومات قبله وشعبة والثوري، وحمّاد بن سَلمة، وغيرهم. مات سنة أربع أو خمس وأربعين ومائة. ثم قال: ونُعيم المُجْمر عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. قوله: ونعيم بالرفع عطف على محمد بن عمرو ولفظ نعيم صليت وراء أبي هريرة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قرأ بأُمِّ القرآن حتى بلغ "ولا الضالين" فقال: آمين، وقال الناس: آمين ويقول كلما سجد: الله أكبر وإذا قام من الجلوس في الاثنتين قال: الله أكبر ويقول إذا سلّم: والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بوّب النَّسائيّ عليه باب الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم وهو أصح حديث ورد في ذلك وتعقب استدلاله باحتمال أن يكون أبو هريرة أراد بقوله: أشبهكم أي: في معظم الصلاة لا في جميع أجزائها، وقد رواه جماعة غير نعيم عن أبي هريرة بدون ذكر البسملة كما يأتي قريبًا بعد باب والجواب أن نعيمًا ثقة فتقبل زيادته والخبر ظاهر في جميع الأجزاء فيحمل على عمومه حتى يثبت دليل يخصصه، وعلم مما ذكرناه أن متابعة نعيم في إثبات التأمين فقط دون ما زاد عليه بخلاف متابعة محمد بن عمرو ومتابعة نعيم هذه وصلها النسائي وابن خزيمة والسراج وابن حِبّان وغيرهم عن سعيد بن أبي هلال عن نعيم قال: صليت إلخ ونعيم مرّ في الثاني من الوضوء وأبو هريرة في الثاني من الإيمان، ثم قال المصنف:

باب إذا ركع دون الصف

باب إذا ركع دون الصف كان اللائق إيراد هذه الترجمة في أبواب الإمامة وقد سبق هناك ترجمة المرأة وحدها تكون صفًا وقد ذكرت هناك مباحث المصلي منفردًا خلف الصف بما لا مزيد عليه وقال ناصر الدين بن المنير: هذه الترجمة مما نوزع فيها البخاري حيث لم يأت بجواب إذ الإشكال الحديث واختلاف العلماء في المراد بقوله: ولا تَعُدْ.

الحديث الثالث والخمسون

الحديث الثالث والخمسون حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنِ الأَعْلَمِ وَهْوَ زِيَادٌ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ انْتَهَى إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَهْوَ رَاكِعٌ، فَرَكَعَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الصَّفِّ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا وَلاَ تَعُدْ. قوله: "عن الأعلم" في رواية عفان عن همام حدّثنا زياد الأعلم أخرجه ابن أبي شيبة ويأتي قريبًا تعريف الأعلم، وقوله: "عن أبي بكرة" قد أعله بعضهم بان الحسن عنعنه وقد قيل إنه لم يسمع من أبي بكرة وإنما يروي عن الأحنف عنه ورد هذا الإعلال برواية سعيد بن أبي عروبة عن الأعلم قال: حدّثني الحسن أن أبا بكرة حدّثه. أخرجه أبو داود والنسائي، وقوله: "انتهى إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-" في رواية سعيد المذكور أنه دخل المسجد زاد الطبراني من رواية عبد العزيز بن أبي بكرة عن أبيه، وقد أقيمت الصلاة فانطلق يسعى. وللطحاوي من رواية حماد بن سَلَمة عن الأعلم، وقد حفزه النفس. وقوله: فذكر ذلك في رواية حماد عند الطبراني فلما انصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: أيكم دخل الصف وهو راكع، وقوله: "زادك الله حرصًا" أي: على الخير. قال ابن المنير: صوب النبي -صلى الله عليه وسلم- فعل أبي بكرة من الجهة العامة، وهي الحرص على إدراك فضيلة الجماعة وخطأه من الجهة الخاصة حيث ركع منفردًا. وقوله: "ولا تَعُدْ" بفتح التاء وضم العين من العود أي: إلى ما صنعت من السعي الشديد ثم من المشي إلى الصف، وفي بعض شراح المصابيح أنه روي بضم أوله وكسر المعين المهملة من الإعادة، وقد ورد ما تقتضيه الرواية المشهورة في طرق الحديث ففي رواية عبد العزيز المذكورة، فقال من السعي، وفي رواية يونس بن عبيد عن الحسن عن الطبراني، فقال: أيكم صاحب هذا النفس؟ فقال: خشيت أن تفوتني الركعة معك، وله من وجه آخر عنه في آخر الحديث صل ما أدركت واقضِ ما سبقك، وفي رواية أبي داود وغيره عن حمّاد أيكم الراكع دون الصف، وقد تقدم من روايته قريبًا أيكم دخل المسجد وهو راكع؟ وتمسك المهلب بهذه الرواية الأخيرة فقال: إنما قال له لا تعد لأنه مثل بنفسه في مشيه راكعًا لأنها كمشية البهائم، ولم ينحصر النهي في ذلك كما حرر، ولو كان منحصرًا اقتضى ذلك عدم الكراهة في إحرام المنفرد خلف الصف، وقد مرَّ ما قيل فيه في باب المرأة وحدها تكون صفًا، ويرجح الرواية الأولى المشهور ما مرّ عن الطبراني صل ما أدركت. وما أخرج الطحاوي بسند حسن عن أبي هريرة مرفوعًا إذا أتى أحدكم الصلاة فلا يركع دون

الصف حتى يأخذ مكانه من الصف واستنبط بعضهم من قوله: لا تعد أن ذلك الفعل كان جائزًا فمم ورد النهي عنه بقوله: لا تعد فلا يجوز العود إلى ما نهى عنه النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذه طريقة البخاري في جزء القراءة خلف الإِمام وقد قيل: لِمَ لا دعا له بعدم العود إلى ذلك كما دعا له بزيادة الحرص. وأُجيب بأنه جوز أنه ربما تأخر في أمر يكون أفضل من إدراك الصلاة، وهذا مبني على أن النهي إنما وقع عن التأخير، وليس كذلك، واستدل بهذا الحديث على استحباب موافقة الداخل للإمام على أي حال وجده عليها، وقد ورد الأمر بذلك صريحًا في سنن سعيد بن منصور من رواية عبد العزيز بن رفيع عن أناس من أهل المدينة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ وجدني قائمًا أو ساجدًا أو راكعًا فليكن معي على الحال التي أنا عليها" وفي التِّرمِذِيّ نحوه عن علي ومعاذ مرفوعًا، وفي إسناده ضعف لكنه ينجبر بطريق سعيد بن منصور المذكورة. قلت: الركوع دون الصف والمشي إليه في حال الركوع مكروه كراهة تنزيه عند الشافعية والحنفية حملًا منهم للنهي على التنزيه لكونه عليه الصلاة والسلام لم يأمر أبا بكرة بالإعادة إلى أن أبا حنيفة كما في العيني قال: يكره ذلك للواحد وللجماعة وقال بالتحريم أحمد وإسحاق وابن خزيمة حملًا للنهي على التحريم وعند المالكية يندب له الركوع دون الصف إن خاف فوات الركعة وظن أنه إن ركع ودبَّ يدرك الإِمام قبل الرفع من الركوع فيدبُّ راكعًا في الركعة الأولى فإن تخلف ظنه دبَّ قائما في الركعة الثانية ولا يدبُّ في الجلوس، ولا في السجود لقبح الهيئة، وإذا ظن عدم إدراكه قبل الرفع من الركوع لم يركع وتمادى حتى يدخل الصف ويكون دبيبه قدر صفين، أو ثلاثة، ويكون للفرجة التي تلي الإِمام ان تعددت الفرج وحملوا الحديث على أن المراد بقوله: لا تعد أي: لا تعد أن تسعى إلى الصف سعيًا يحفزك به النفس كما في حديث أبي هريرة، فلا تأتوها وأنتم تسعون. وأيد هذا المعنى عندهم ما روي عن ابن مسعود وزيد بن ثابت أنهما فعلا ذلك ركعًا دون الصف، ومشيا إلى الصف ركوعًا، وفعله عروة بن الزبير وسعيد بن جبير، وأبو سلمة، وعطاء وفي الأوسط عن عطاء أن ابن الزبير قال على المنبر: إذا دخل أحدكم المسجد، والناس ركوع فليركع حين يدخل ثم يدبُّ راكعًا حتى يدخلَ في الصف فإن ذلك السنة. قال عطاء: ورأيته يصنع ذلك، وفي "المصنف" بسند صحيح عن زيد بن وهب قال: خرجت مع عبد الله من داره، فلما توسطنا المسجد ركع الإِمام فكبر عبد الله، ثم ركع وركعت معه، ثم مشينا إلى الصف راكعين حتى رفع القوم رؤوسهم فلما قضى الإِمام الصلاة قمت لأُصلي فأخذ بيدي عبد الله فأجلسني وقال: إنك قد أدركت. وروى في "المصنف" أيضًا أن أبا أُمامة فعل ذلك، وزيد بن ثابت، ومجاهد، والحسن، وسعيد بن جبير، وعروة بن الزبير فحديث أبي بكرة محتمل، وهذه الآثار ترجح المحمل الذي حملته عليه المالكية.

رجاله خمسة

رجاله خمسة: قد مرّوا إلاَّ الأعلم، مرّ موسى بن إسماعيل في الخامس من بدء الوحي، ومرّ همام بن يحيى في الرابع والثمانين من الوضوء، ومرّ الحسن البصري وأبو بكرة في الرابع والعشرين من الإيمان، والأعلم هو زياد بن حسان بن قرة الباهلي البصري المعروف بالأعلم قال أحمد: ثقة، وقال ابن معين وأبو داود والنَّسائيّ: ثقة. وقال أبو زرعة: شيخ، وقال أبو حاتم: هو من قدماء أصحاب الحسن، وقال ابن سعد: كان ثقة إن شاء الله تعالى، وقال الدارقطني: هو قليل الحديث، في ذكره ابن حِبّان في الثقات روى عن أنس والحسن البصري وابن سيرين وروى عنه ابن عون والحمادان وهمام بن يحيى وغيرهم والأعلم من العَلَم بفتحتين وهو من كان مشقوق الشفة العليا. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، ورواته كلهم بصريون، وفيه رواية تابعي عن تابعي عن صحابي أخرجه أبو داو والنَّسائيّ في الصلاة. ثم قال المصنف: باب إتمام التكبير في الركوع أي: مده بحيث ينتهي بتمامه، أو المراد إتمام عدد تكبيرات الصلاة بالتكبير في الركوع، ولعله أراد بلفظ الإشارة إلى تضعيف ما رواه أبو داود عن عبد الرحمن بن أبزى قال: صليت خلف النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يتم التكبير ونقل البخاري في التاريخ عن أبي داود الطيالسي أنه قال: هذا عندنا باطل، وقال الطبري والبزار: تفرد به الحسين بن عمران، وهو مجهول وأجيب على تقدير صحته بأنه فعل ذلك لبيان الجواز، أو المراد لم يتم الجهر به، أو لم يمده. ثم قال: قاله ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أي: الإتمام ومراده أنه قال ذلك بالمعنى لأنه أشار بذلك إلى حديثه الموصول في آخر الباب الذي بعده. وفيه قوله لعكرمة لما أخبره عن الرجل الذي كبّر في الظهر ثنتين وعشرين تكبيرة: أنها صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- فيستلزم ذلك أنه نقل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- إتمام التكبير؛ لأن الرباعية لا يقع فيها لذاتها أكثر من ذلك ومن لازم ذلك التكبير في الركوع وهذا يبعد الاحتمال الأول وابن عباس مرّ في الخامس من بدء الوحي. ثم قال: وفيه مالك بن الحويرث أي: يدخل في الباب حديث مالك وحديثه يأتي للبخاري في باب المكث بين السجدتين.

الحديث الرابع والخمسون

الحديث الرابع والخمسون حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْوَاسِطِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنِ الْجُرَيْرِيِّ عَنْ أَبِي الْعَلاَءِ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: صَلَّى مَعَ عَلِيٍّ رضى الله عنه بِالْبَصْرَةِ فَقَالَ: ذَكَّرَنَا هَذَا الرَّجُلُ صَلاَةً كُنَّا نُصَلِّيهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. فَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ كُلَّمَا رَفَعَ وَكُلَّمَا وَضَعَ. قوله: "صلّى" أي: عمران. وقوله: "مع علي" أي: ابن أبي طالب. وقوله: "بالبصرة" يعني: بعد وقعة الجمل. وقوله: "ذكَّرَنا" بتشديد الكاف وفتح الراء، وفيه إشارة إلى أن التكبير الذي قد ذكره كان قد ترك، وقد روى أحمد والطحاوي بإسناد صحيح عن أبي موسى الأشعري قال: ذكَّرنا علي صلاة كنا نصليها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إما نسيناها، وإما تركناها عمدًا. ولأحمد من وجه آخر عن مطرف قال: قلنا لعمران بن حصين: يا أبا نجيد هو بالنون والجيم مصغر من أول مَنْ ترك التكبير قال عثمان بن عفان حين كبّر وضعف صوته، وهذا يحتمل إرادة ترك الجهر وروى الطبراني عن أبي هريرة أن أول مَنْ ترك التكبير معاوية، وروى أبو عبيد أن أوّل مَنْ تركه زياد، وهذا لا ينافي الذي قبله؛ لأن زيادًا تركه بترك معاوية، وكأن معاوية تركه بترك عثمان. وقد حمل ذلك جماعة من أهل العلم على الإخفاء ويرشحه حديث أبي سعيد الآتي في باب يكثر وهو ينهض من السجدتين لكن حكى الطحاوي أن قومًا كانوا يتركون التكبير في الخفض دون الرفع. قال: وكذلك كانت بنو أُمية تفعل. وروى ابن المنذر نحوه عن ابن عمر وعن بعض السلف أنه كان لا يكِّبر سوى تكبيرة الإحرام وفرق بعضهم بين المنفرد، غيره، ووجهه بأن التكبير شرع للإيذان بحركة الإِمام، فلا يحتاج إليه المنفرد، لكن استقر الأمر على مشروعية التكبير في الخفض والرفع لكل مصلِّ، فالجمهور على ندبيته، أو سنيته ما عدا تكبيرة الإحرام، وعن أحمد في رواية والظاهر أنه يجب كله قال ناصر الدين بن المنير: الحكمة في مشروعية التكبير في الخفض والرفع أن المكلف أُمر بالنية أول الصلاة مقرونة بالتكبير، وكان من حقه أن يستصحب النية إلى آخر الصلاة، فأمر أن يجدد العهد في أثنائها بالتكبير الذي هو شعار النية. وقوله: "كلما رفع وكلما وضع" هو عام في جميع الانتقالات في الصلاة لكن خص منه الرفع من الركوع بالإجماع، فإنه شرع فيه التحميد، وقد جاء بهذا اللفظ العام أيضًا من حديث أبي هريرة في الباب ومن حديث أبي موسى الذي ذكرناه عند أحمد والنَّسائيّ ومن حديث ابن مسعود عند الدارمي والطحاوي ومن حديث ابن عباس في الباب الذي بعده، ومن

رجاله ستة

حديث ابن عمر عند أحمد والنَّسائيّ، ومن حديث عبد الله بن زيد عند سعيد بن منصور، ومن حديث وائل بن حجر عند ابن حِبّان، ومن حديث جابر عند البزار، وسيأتي مفسرًا من حديث أبي هريرة فيه، وقد قالت الشافعية والحنفية: لو ترك التكبير عمدًا، أو سهوًا حتى ركع، أو سجد لم يأت به لفوات محله، ولا سجود، وقالت المالكية: يسن السجود لترك تكبيرتين، أو ثلاث تكبيرات، وإذا لم يسجد، وطال الفصل بطلت الصلاة إن كان السجود لثلاث سنن وإلا لم تبطل، وفات السجود، والطول يحصل بالخروج من المسجد، أو بالطول عرفًا. رجاله ستة: وفيه ذكر علي، مرّ إسحاق بن شاهين في الرابع عشر من الحيض، ومرّ خالد الطحان في السادس والخمسين من الوضوء، ومرَّ سعيد بن إياس الجريري في العشرين من كتاب أبواب الأذان، ومرَّ عمران بن حصين في الحادي عشر من التيمم، ومرَّ علي في السابع والأربعين من العلم، والباقي من السند اثنان الأول: أبو العلاء يزيد بن عبد الله بن الشّخيّر كسكيت العامري البصري ذكره ابن حِبّان في الثقات وقال النَّسائيّ وقال العجلي: بصري متابعة ثقة، وقال ابن سعد: كان ثقة، وله أحاديث صالحة، وقال ثابت البُناني: نجاء أبو العلا إلى الحسن فقال له رجل: تكلم يا أبا العلا فقال: لا لست هناك. قال ثابت: فأعجبني إقراره على نفسه. وقال أبو صالح العقيلي: كان أبو العلا يقرأ في المصحف فخر مغشيًا عليه قال ابن منده: وأظنه رأى النبي -صلى الله عليه وسلم-. روى عن أبيه وأخيه مُطَرّف وسمرة بن جندب وعمران بن حصين وعائشة، وأبي هريرة، وروى عنه سليمان التيمي، وسعيد الجريري، وقتادة، وخالد الحذاء وغيرهم، مات سنة ثمان ومائة، وقيل سنة إحدى عشرة. الثاني: أخوه مطرف بن عبد الله الحَرَشي في العامري البصري أبو عبد الله ذكره ابن سعد في الطبقة الثالثة من أهل البصرة، وقال: روى عن أبي بن كعب وكان ثقة ذا فضل، وورع، وأدب، وقال ابن حِبّان في "الثقات": ولد في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان من عباد أهل البصرة، وزهادهم، وقال العجلي: بصريّ، ثقة من كبار التابعين رجل صالح ولم ينج بالبصرة من حسد ابن الأشعب إلا مُطَرّف وابن سيرين، وقال غيلان: ابن جرير كان بينه وبين رجل كلام فكذب عليه فقال مطرت: اللهم إن كان كاذبًا فأمته فخرَّ مكانه ميتًا. وقال قتادة: كان مطرف وصاحب له سائرين في ليلة مظلمة، فإذا طرف عصا أحدهما منيرة، فقال صاحبه: لو حدثت الناس بهذا لكذبونا، فقال مطرف: المكذِّب أكذب. وقال غيلان: إن مطرفًا كان يلبس المطارف ويركب الخيل، ويغشى السلطان، ولكن إذا أفضيت إليه أفضيت إلى قرة عين. وقال يزيد أخوه أنا أكبر من الحسن بعشر سنين، ومطرف أكبر مني بعشر سنين روى عن أبيه وعثمان، وعلي، وأبي ذرٍّ، وعمّار بن ياسر، وعمران بن حصين، وغيرهم. وروى عنه أخوه أبو العلا وابن أخيه عبد الله بن هانىء وغيلان بن جرير، وثابت البناني، وسعيد الجريري وغيرهم. مات في ولاية الحجاج سنة خمس وتسعين. والحرشي في نسبه بفتح المهملتين نسبة إلى حَرِيش كأمير أبي قبيلة من بني عامر وهو

لطائف إسناده

حريش بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة منهم ربيعة بن شكل بن كعب بن الحريش الذي عقد الحلف بين بني عامر وبني عبس، وذو الفضة عامر بن مالك، ومنهم مطرف هذا وسعيد بن عمرو وغيرهم. لطائف إسناده: فيه التحديث والإخبار بالجمع والعنعنة والقول ورواته كلهم بصريون وفيه رواية الأقران والإخوة.

الحديث الخامس والخمسون

الحديث الخامس والخمسون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بِهِمْ، فَيُكَبِّرُ كُلَّمَا خَفَضَ وَرَفَعَ، فَإِذَا انْصَرَفَ قَالَ: إِنِّي لأَشْبَهُكُمْ صَلاَةً بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. قوله: "يصلي بهم" في رواية الكشميهنيّ يصلّي لهم، وقد مرَّ الكلام على قوله: إني لأشبهكم صلاة في متابعة محمد بن عمرو قبل هذا بباب، والكلام على باقي الحديث كالكلام على الذي قبله. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ عبد الله، ومالك في الثاني من بدء الوحي، والزهري في الثالث منه وأبو سَلَمة في الرابع منه، وأبو هريرة في الثاني من الإيمان. ثم قال المصنف: باب إتمام التكبير في السجود فيه ما تقدم في الذي قبله.

الحديث السادس والخمسون

الحديث السادس والخمسون حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ غَيْلاَنَ بْنِ جَرِيرٍ عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ صَلَّيْتُ خَلْفَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضى الله عنه أَنَا وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، فَكَانَ إِذَا سَجَدَ كَبَّرَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ كَبَّرَ، وَإِذَا نَهَضَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ كَبَّرَ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلاَةَ أَخَذَ بِيَدِي عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ فَقَالَ: ذَكَّرَنِي هَذَا صَلاَةَ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-. أَوْ قَالَ: لَقَدْ صَلَّى بِنَا صَلاَةَ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-. قوله: "خلف علي بن أبي طالب أنا وعمران" استدل به كلى أن موقف الاثنين يكون خلف الإِمام خلافًا لمن قال: يجعل أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله، وفيه نظر؛ لأنه ليس فيه أنه لم يكن معه غيرهما وقد تقدم أن ذلك كان بالبصرة، وكذا رواه سعيد بن منصور عن عمران، وعند أحمد عن غيلان بالكوفة وكذا عند عبد الرزاق عن مطرف فيحتمل أن يكون ذلك وقع منه بالبلدين، وقد ذكره المصنف في رواية أبي العلاء بصيغة العموم، وهنا بذكر السجود والرفع، والنهوض من الركعتين فقط.، ففيه إشعار بأن هذه المواضع الثلاثة هي التي كان ترك التكبير فيها حتى تذكرها عمران بصلاة علي رضي الله تعالى عنهما. وقوله: "ذكرني" في رواية الكشميهني لقد ذكرني. وقوله: "أو قال" هو شك من أحد رواته ويحتمل أن يكون من حمّاد فقد رواه أحمد عن سعيد بن أبي عروبة بلفظ: "صلّى بنا" هذا مثل صلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولم يشك، وفي رواية قتادة عن مطرف قال عمران: ما صليت منذ حين، أو منذ كذا وكذا أشبه بصلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من هذه الصلاة. قال ابن بطال: ترك التكبير على مَنْ ترك التكبير يدل على أن السلف لم يتلقوه على أنه ركن من الصلاة وأشار الطحاوي إلى أن الإجماع استقر على أن من تركه صلاته تامة. وفيه نظر لما مرَّ عن أحمد، والخلاف في بطلان الصلاة به ثابت في مذهب الإِمام مالك إلا أن يريد إجماعًا سابقًا. رجاله خمسة: وفيه ذكر علي، وقد مروا. مرّ أبو النعمان في الحادي والخمسين من الإيمان، ومرّ حمّاد بن زيد في الرابع والعشرين منه، ومرّ غيلان بن جرير في التاسع والمئة من الوضوء، ومرّ مطرف في الذي قبل هذا بحديث، ومرّ فيه ذكر محل عمران وعلي.

الحديث السابع والخمسون

الحديث السابع والخمسون حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: رَأَيْتُ رَجُلاً عِنْدَ الْمَقَامِ يُكَبِّرُ فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ وَإِذَا قَامَ وَإِذَا وَضَعَ، فَأَخْبَرْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضى الله عنه قَالَ: أَوَلَيْسَ تِلْكَ صَلاَةَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- لاَ أُمَّ لَكَ. قوله: "عن أبي بشر" صرّح سعيد بن منصور عن هشيم بان أبا بشر حدّثه. وقوله: "رأيت رجلًا عند المقام" أي: مقام إبراهيم، وفي رواية الإسماعيلي صلّيت خلف شيخ بالابطح والأولى أصح إلا أن يكون المراد بالابطح البطحاء التي تفرش في المسجد، وسيأتي في أول الباب الذي بعده بلفظ صلّيت خلف شيخ بمكة وأنه سماه في بعض الطرق أبا هريرة واتفقت هذه الروايات على أنه رآه بمكة، وللسراج عن عكرمة رأيت رجلًا يصلي في مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم-. فإن لم تحمل على التجوز فهي شاذة. وقوله: "أوليس تلك صلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ " هو استفهام إنكار للإنكار المذكور ومقتضاه الإثبات لأنه نفي النفي. وقوله:"لا أُمَّ لك" هي تقولها العرب عند الزجر ولكنهم قد يطلقون ذلك ولا يريدون حقيقته. رجاله خمسة: وفيه لفظ رجل مبهم وقد مروا، مرّ عمرو بن عون في العاشر من أحاديث أبواب استقبال القبلة، ومرّ هشيم في الثاني من التيمم، ومرَّ أبو بشر جعفر بن أبي وحشية في الثاني من العلم، ومرّ عكرمة في السابع عشر منه، ومرّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي والرجل المبهم أبو هريرة كما صرّح به أحمد والطبراني والطحاوي وأبو هريرة مرّ في الثاني من الإيمان. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول كل واحد في موضعين وفيه ثلاثة واسطيون متوالية. ثم قال المصنف: باب التكبير إذا قام من السجود

الحديث الثامن والخمسون

الحديث الثامن والخمسون حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: أَخْبَرَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ شَيْخٍ بِمَكَّةَ فَكَبَّرَ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ تَكْبِيرَةً، فَقُلْتُ لاِبْنِ عَبَّاسٍ إِنَّهُ أَحْمَقُ. فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، سُنَّةُ أَبِي الْقَاسِمِ -صلى الله عليه وسلم-. زاد سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عند الإسماعيلي الظهر وبذلك يصح عدد التكبير الذي ذكره لأن في كل ركعة خمس تكبيرات فيقع في الرباعية عشرون تكبيرة مع تكبيرة الافتتاح وتكبيرة القيام من التشهد ولأحمد والطحاوي والطبراني عن عبد الله بن الداناج بالنون والجيم الخفيفتين عن عكرمة قال: صلّى الله بنا أبو هريرة. وقوله: "ثكلتك أُمك" دعاء عليه بأن يفقد أُمه وتفقده أُمه ولكنهم قد يطلقونه ولا يريدون حقيقته كما في الذي قبله وإنما دعا عليه ابن عباس بذلك؛ لأنه استحق ذلك لكونه نسب ذلك الرجل إلى الحمق الذي هو غاية الجهل وقد مرّ قريبًا أنه أبو هريرة. رجاله خمسة: مرّ موسى بن إسماعيل في الخامس من بدء الوحي، ومرَّ همام بن يحيى في الرابع والثمانين من الوضوء، ومرّ قتادة في السادس من الإيمان، ومرّ ذكر محل عكرمة وابن عباس في الذي قبله.

الحديث التاسع والخمسون

الحديث التاسع والخمسون وَقَالَ مُوسَى: حَدَّثَنَا أَبَانُ قال: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ قال: حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ. قوله: "وقال موسى" هو ابن إسماعيل راوي الحديث عن همام وهو عند متصل عن همام وأبان كلاهما عن قتادة وإنما أفردهما لكونه على شرطه في الأُصول بخلاف أبان فإنه على شرطه في المتابعات وأفادت رواية أبان تصريح قتادة بالتحديث عن عكرمة وقد وقع مثله عن سعيد بن أبي عروبة المذكورة عند الإسماعيلي. وقوله:"سنة إبي القاسم" بالرفع خبر مبتدأ محذوف تقديره تلك سنة وثبت ذلك في رواية عبيد الله بن موسى عن همام عند الإسماعيلي. رجاله رجال الذي قبله، إلا أبان بن يزيد وقد مرَّ في تعليق بعد السابع والثلاثين من الإيمان.

الحديث الستون

الحديث الستون حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ، ثُمَّ يَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لَمِنْ حَمِدَهُ. حِينَ يَرْفَعُ صُلْبَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ، ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ. كذا قال عقيل وتابعه ابن جريج عن ابن شهاب عند مسلم وقال مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن كما مرّ قبل بباب مختصرًا وكذا أخرجه مسلم والنَّسائيّ مطولًا من رواية يونس عن ابن شهاب وتابعه معمر عن ابن شهاب عند السراج وليس هذا الاختلاف قادحًا بل الحديث عند ابن شهاب عنهما معًا كما يأتي في باب: (يهوي بالتكبير) من رواية شعيب عنه عنهما جميعًا عن أبي هريرة. وقوله: "يكبَّرُ حين يقوم" فيه التكبير قائمًا وهو بالاتفاق في حق القادر. وقوله: "ثم يكبِّرُ حين يركع" قال النووي: فيه دليل على مقارنة التكبير للحركة وبسطه عليها فيبدأ بالتكبير حين يشرع في الانتقال إلى الركوع ويمده حتى يصل إلى حد الراكع وهذا هو مذهب المالكية والشافعية. وقالت الحنفية: إنه يكبِّر عند الخفض والرفع سواء لا يتقدمه ولا يتأخره متعلقين بقوله في الحديث السابق كلما رفع وكلما خفض لكن دلالة هذا اللفظ على البسط الذي ذكروه غير ظاهرة. وقوله: "حين يرفع" فيه أن التسميع ذكر النهوض وأن التحميد ذكر الاعتدال وفيه دليل على أن الإِمام يجمع بينهما خلافًا لمالك؛ لأن صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- الموصوفة محمولة على حال الإمامة لأن ذلك هو الأكثر الأغلب من أحواله وقد استوفى الكلام على هذه المسألة عند حديث عائشة في ياب إنما جعل الإِمام ليؤتم به من أبواب الجماعة. رجاله ستة: مرّت الأربعة الأولى متتابعة بهذا النسق في الثالث من بدء الوحي، ومرّ بو هريرة في الثاني من الإيمان. وأتى لهذا الحديث بسند آخر فقال: "وقال عبد الله بن صالح عن الليث ولك الحمد ثم يكبِّر حين يهوي ثم يكبِّر حين يرفع رأسه ثم يكبِّر حين يسجد ثم يكبِّر حين يرفع رأسه ثم يفعل ذلك وفي الصلاة لمحلها حتى يقضيها ويكبِّر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس" يعني أن ابن صالح زاد في

روايته عن الليث الواو في قوله:"ولك الحمد" وأما باقي الحديث فاتفقا فيه وإنما لم يسقه عنهما معًا وهما شيخاه لأن يحيى من شرطه في الأصول وابن صالح إنما يورد في المتابعات. وقوله: "ثم يكبّر حين يهوى" يعني ساجدًا وكذا هو في رواية شعيب ويَهوي بفتح أوله أي: يسقط. وقوله: "ويكبِّر حين يقوم من الثنتين" أي: الركعتين الأوليين. وقوله: "بعد الجلوس" أي: في التشهد الأول وهذا مفسر للأحاديث المتقدمة حيث قال فيها: كان يكبِّر في كل خفض ورفع وقد مرّ أن المالكية التكبير عندهم في حالة الرفع والخفض واختلف عن مالك في القيام إلى الثالثة من التشهد الأول فروى في الموطأ عن أبي هريرة وابن عمر وغيرهما أنهم كانوا يكبرون في حال قيامهم، وروى ابن وهب عنه أن التكبير بعد الاستواء أولى وفي "المدونة" لا يكبِّر حتى يستوى قائمًا وهذا هو مشهور مذهبه ووجهه بعض أصحابه بأن تكبير الافتتاح يقع بعد القيام فينبغي أن يكون هذا نظيره من حيث أن الصلاة فرضت أولًا ركعتين ثم زيدت الرباعية فيكون افتتاح المزيد كافتتاح المزيد عليه. قال في "الفتح": وكان ينبغي لصاحب هذا الكلام أن يستحب رفع اليدين حينئذ لتكمل المناسبة ولا قائل منهم به قلت: الأولى في المناسبة ما قالوه من عدم الرفع ليمتاز الأصل عن الفرع بزيادة الرفع في الأصل دون الفرع ويأتي مزيد الكلام على هذا المقام في باب: (يكبِّر وهو ينهض من السجدتين) وعبد الله بن صالح والليث قد مرّا، مرَّ عبد الله في متابعة بعد الرابع من الوحي فلم يبق من السند إلاّ أبو بكر وهو عبد الرحمن بن الحارث بن هشام القرشي المخزومي المدني أحد فقهاء المدينة السبعة قيل اسمه محمد وقيل اسمه أبو بكر وكنيته أبو عبد الرحمن والصحيح أن اسمه وكنتيه واحد قال الواقدي: اسمه كنيته وكان استصقر يوم الجمل فرد هو وعروة بن الزبير وكان ثقة فقيهًا عالماً شيخًا كثير الحديث، وكان يقال له: واهب قريش لكثرة صلاته، وكان مكفوفًا. وقال العجلي: مدني تابعي ثقة. وقال خراش: هو أحد أئمة المسلمين، وقال أيضًا أبو بكر وعكرمة وعبد الله وعمر بنو عبد الرحمن بن الحارث بن هشام كلهم أجلة ثقات يضرب بهم المثل. وقال أبو داود: كان أعمى وكان إذا سجد يضع يده في طست ماء من علة كانت به وذكره ابن حِبّان في "الثقات"، وقال الزبير بن بكار: كان قد كف بصره وكان يسمى الراهب وكان من سادات قريش. وقال أبو الزناد: أدركت من فقهاء المدينة وعلمائها مَنْ يرتضي وينتهي إلى قوله منهم ابن المسيب وعزوة بن قاسم بن محمد وأبو بكر بن عبد الرحمن وخارجة بن زيد وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وسليمان بن يسار في مشيخة من نظرائهم أهل فقه وفضل. وقال الشعبي عن عمر بن عبد الرحمن: أن أخاه أبا بكر كان يصوم ولا يفطر. روى عن أبيه وأبي هريرة وعمّار بن ياسر وعائشة وأُم سلمة وغيرهم، وروى عنه أولاده عبد الملك وعمر وعبد الله ومولاه سمى والزهري وعمر بن عبد العزيز وغيرهم، ولد في خلافة عمر ومات سنة ثلاث وتسعين وقيل أربع وقيل خمس. قال الواقدي: كانت تسمى سنة الفقهاء أي: موتهم.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإخبار بالأفراد والسماع والقول ورواية تابعي عن تابعي عن صحابي أخرجه مسلم في الصلاة وكذا أبو داو والنَّسائيّ ثم قال المصنف: باب وضع الأكف على الركب في الركوع أي: كل كف على ركبة ثم قال: وقال أبو حميد في أصحابه أمكن النبي -صلى الله عليه وسلم- يديه من ركبتيه وهذا التعليق أخرجه البخاري موصولًا مطولًا في باب سنة الجلوص في التشهد، وقد مرَّ معلقًا في باب إلى أين يرفع يديه، ومرَّ عليه قليل كلًا هناك ويأتي استيفاء الكلام عليه في الباب المذكور والفرض منه هنا بيان الصفة المذكورة في الركوع ويقويه ما أشار إليه سعد من نسخ التطبيق وأبو حميد قد مرّ في تعليق أول أبواب استقبال القبلة قبل ذكر حديث منه.

الحديث الحادي والستون

الحديث الحادي والستون حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي يَعْفُورٍ قَالَ: سَمِعْتُ مُصْعَبَ بْنَ سَعْدٍ يَقُولُ: صَلَّيْتُ إِلَى جَنْبِ أَبِي فَطَبَّقْتُ بَيْنَ كَفَّيَّ ثُمَّ وَضَعْتُهُمَا بَيْنَ فَخِذَيَّ، فَنَهَانِي أَبِي وَقَالَ: كُنَّا نَفْعَلُهُ فَنُهِينَا عَنْهُ، وَأُمِرْنَا أَنْ نَضَعَ أَيْدِيَنَا عَلَى الرُّكَبِ. قولة: "طبقت" أي: الصقت بين باطنيْ كفي في حال الركوع. وقوله: "كنا نفعله فنهينا عنه وأُمرنا" استدل به على نسخ التطبيق المذكور بناء على أن المراد بالآمر والناهي في ذلك هو النبي -صلى الله عليه وسلم- وهذه الصيغة مختلف فيها والراجح أن حكمها الرفع وهو مقتضى تصرف البخاري وكذا مسلم، إذ أخرجه في صحيحه وفي رواية إسرائيل المذكورة عند الدارمي كان بنو عبد الله بن مسعود إذا ركعوا جعلوا أيديهم بين أفخاذهم فصليت إلى جنب أبي فضرب يدي الحديث، فأفادت هذه الزيادة مستند مصعب في فعل ذلك وأولاد ابن مسعود وأخذوه عن أبيهم. قال الترمذي: التطبيق منسوخ عند أهل العلم لا خلاف بينهم في ذلك إلا ما روى عن ابن مسعود وبعض أصحابه أنهم كانوا يطبقون وقد ورد ذلك عن ابن مسعود متصلًا في صحيح مسلم وغيره. عن علقمة والأسود أنهما دخلا على عبد الله فذكر الحديث قالا: فوضعنا أيدينا على ركبنا فضرب أيدينا ثم طبق بين يديه فجعلهما بين فخذيه فلما صلّى قال: هكذا فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال في "الفتح" وحمل هذا على أن ابن مسعود لم يبلغه النسخ. قلت: هذا بعيد جدا لأن ابن مسعود كان صاحب السواد والوساد والسواك والنعل فكيف يخفى عليه النسخ مع شدة ملازمته، وقد روى ابن المنذر عن ابن عمر بإسناد قوي قال: إنما فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- مرة يعني التطبيق وروى ابن خزيمة من وجه آخر عن علقمة عن عبد الله قال: علمنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما أراد أن يركع طبق يديه بين ركبتيه فركع فبلغ ذلك سعدًا فقال: أخي كنّا نفعل هذا ثم أُمرنا بهذا يعني الإمساك على الركب فهذا شاهد قوي لطريق مصعب بن سعد. وروى عبد الرزاق عن معمر ما يوافق قول سعد أخرجه من وجه آخر عن علقمة والأسود قالا: صلينا مع عبد الله فطبق ثم لقينا عمر فصلينا معه فطبقنا فلما انصرف قال: ذلك شيءٌ كنّا بفعله ثم ترك.

وفي الترمذي عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: قال لنا عمر بن الخطاب: إن الركب سنت لكم فخذوا بالركب. ورواه البيهقي بلفظ: كنا إذا ركعنا جعلنا أيدينا بين أفخاذنا فقال عمران: من السنة الأخذ بالركب وهذا أيضًا حكمه حكم الرفع لأن الصحابي إذا قال السنة كذا أو سن كذا كان الظاهر انصراف ذلك إلى سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- ولاسيما إذا قاله مثل عمر. وقوله: "فنهينا عنه" استدل به ابن خزيمة على أن التطبيق غير جائز وفيه نظر لاحتمال حمل النهي على الكراهة فقد روى ابن أبي شيبة عن عاصم بن ضمرة عن علي رضي الله تعالى عنه قال: إذا ركعت فإن شئت فعلت هكذا يعني وضعت يديك على ركبتيك وإن شئت طبّقت. وإسناده حسن وهو ظاهر في أنه كان يرى التخيير فإما لم يبلغه النهي وإما حمله على كراهة التنزيه. قلت: كراهة التنزيه ليست من محال التخيير فالتخيير إنما يكون في الإباحة المستوية الطرفين فالأولى حمله على أنه لم يبلغه النهي وإنه رآه -صلى الله عليه وسلم- فعلهما من غير أن يسمع منه نهيًا، ويدل على أنه ليس بحرام كون عمر وغيره ممن أنكره لم يأمر من فعله بالإعادة وقد حكى ابن بطال عن الطحاوي وأقره أن طريق النظر يقتضي أن تفريق اليدين أولى من تطبيقهما لأن السنة جاءت بالتجافي في الركوع والسجود وبالمزاوجة بين القدمين قال: فلما اتفقوا على أولوية تفريقهما في هذا واختلفوا في الأول اقتضى النظر أن يلحق ما اختلفوا فيه بما اتفقوا عليه قال: فثبت انتفاء التطبيق ووجوب وضع اليدين على الركبتين قلت: مشهور مذهب مالك أن وضع على الركبتين مستحب لا واجب، والواجب قربهما من الركبتين وتعقب الزين بن المنير كلامه بأن الذي كره معارض بالمواضع التي سن فيها الضم كوضع اليمنى على اليسرى في حالة القيام قال: وإذا ثبت مشروعية الضم في بعض مقاصد الصلاة بطل ما اعتمده من القياس المذكور، نعم لو قال إن الذي ذكره يقتضي مزية التفريج على التطبيق لكان له وجه. وقد وردت الحكمة في إثبات التفريج على التطبيق عن عائشة -رضي الله عنها- أورده سيف في الفتوح عن مسروق أنه سألها عن ذلك فأجابت بما محصله أن التطبيق من صنيع اليهود وأنه -صلى الله عليه وسلم- نهى عنه لذلك وكان عليه الصلاة والسلام تعجبه موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل عليه ثم أمر في آخر الأمر بمخالفتهم. قلت: الضم في الصلاة من سنة النساء والتفريج من سنة الرجال عندنا معاشر المالكية والحكمة في ذلك هو أن شهوة الرجال في الانضمام وشهوة النساء في الانفراج فكان كل واحد منهما يسن له ما هو أبعد من ذلك. وقوله: "أن نضع أيدينا على أكفنا" من إطلاق الكل وإرادة الجزء رواه مسلم عن أبي عوانة بلفظ وأمرنا أن نضرب بالأكف وهو مناسب للترجمة. والمراد بالوضع أن يفعل شبه القابض عليها مع تفريق أصابعهما للقبلة حالة الوضع.

رجاله خمسة

رجاله خمسة: مرّ منهم هشام بن عبد الملك أبو الوليد في العاشر من الإيمان، ومرّ شعبة في الثالث منه، ومرَّ سعد بن أبي وقاص في العشرين منه والباقي من السند إثنان، الأول أبو يعفوَر واسمه قدان بفتح الواو العبدي الكوفي والد يونس بن أبي يعفور، وبقال اسمه واقد والأول أصح وهو يعفور الأكبر وهو الصحيح جزم به المزي وغيره. وزعم النووي أنه يعفور الأصغر عبد الرحمن بن عبيد بن نسطاس وليس بشيء لأن الصغير ليس مذكررًا في الآخذين عن مصعب ولا في أشياخ شعبة، والأول وهو الكبير روى عن ابن عمرو بن أبي أوفى، وأنس، ومصعب بن سعيد وغيرهم وروى عنه ابنه يونس، وإسرائيل، وشعبة، والثوري، وابن عُيينة وغيرهم. قال أحمد: أبو يعفور الكبير اسمه وقدان ويقال: واقد، ثقة. وقال ابن معين وعدي بن المديني: ثقة. وقال أبو حاتم: لا بأس به، وذكره ابن حِبّان في "الثقات"، مات سنة عشرين ومئة. قال ابن حجر: بل بعدها بسنين لأن ابن عُيينة سمع منه وكان ابتداء طلبه بعد العشرين وذكر مسلم في "الطبقات" أن اسمه واقد ولقبه وقدان وها أنا أذكر تعريف الصغير أيضًا تتميمًا للفائدة فهو عبد الرحمن بن عبيد بن نسطاس بن أبي صفية العامري البكائي، ويقال: البكالي، ويقال: السلمي أبو يعفور الصغير الكوفي. قال أحمد، وابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: ليس به بأس. وذكره ابن حِبّان في "الثقات" وقال يعقوب بن سفيان: ثقة، روى عن أبيه عبيد والسائب بن يزيد وأبي الضحى والوليد بن العيزار وأفاد ابن حِبّان أنه روى عن أنس وابن أبي أوفى وروى عنه الحسن بن صالح والسفيانان وابن المبارك وغيرهم. والبكائي في نسبه نسبة إلى بكاء ككتان لقب ربيعة بن عمرو بن عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة أبي قبيلة منهم زياد بن عبد الله البكائي راوي المغازي عن ابن إسحاق وهو أيضًا لقب لجماعة لقب الهيثم بن جماز الحنفي الكوفي لقب به لكثرة بكائه وعبادته روى عنه هيثم وخليد. ولقب أبي سليم يحيى بن سلمان مولى القاسم بن الفضل الأزدي البصري ضعيف روى عن ابن عمر ولقب أبي بكر محمد بن إبراهيم بن علي بن حسنويه الزاهد الوراق الحسنوي من شيوخ الحكم أبي عبد الله وقال: كان من البكائين من خشية الله ولقب على نزيل الخليل كان كثير البكاء وله زاوية وأتباع وكان المنصور قلاون يعظمه كثيرًا، توفي سنة سبعين وست ومئة. الثاني من السند مصعب بن سعد بن أبي وقاص الزهري أبو زرارة المدني ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من أهل المدينة وقال: كان ثقة كثير الحديث وذكره ابن حِبّان في "الثقات" وقال العجلي: تابعي ثقة، روى عن أبيه وعلي وطلحة وعكرمة بن أبي جهل وابن عمر وعدي بن حاتم وغيرهم. مات سنة ثلاث ومئة. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والسِماع والقول ورواته ما بين بصريَّ وكوفيَّ ومدنيَّ وفيه رواية

باب إذا لم يتم الركوع

تابعي عن تابعي عن صحابي ورواية الابن عن الأب أخرجه مسلم في الصلاة وكذا أبو داود والترمذيِّ والنسائيِّ وابن ماجه. ثم قال المصنف: باب إذا لم يتم الركوع أفرد الركوع بالذكر مع أن السجود مثله لكونه أفرده بترجمة تأتي وغرضه سياق صفة الصلاة على ترتيب أركانها واكتفى عن جواب إذا بما ترجم به بعد من أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي لم يتم ركوعه بالإعادة.

الحديث الثاني والستون

الحديث الثاني والستون حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ وَهْبٍ قَالَ: رَأَى حُذَيْفَةُ رَجُلاً لاَ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ فَقَالَ: مَا صَلَّيْتَ، وَلَوْ مُتَّ مُتَّ عَلَى غَيْرِ الْفِطْرَةِ الَّتِى فَطَرَ اللَّهُ مُحَمَّدًا -صلى الله عليه وسلم-. قوله: "رأى حذيفة رجلًا" قال في "الفتح": لم أقف على اسمه لكن عند ابن خزيمة وابن حِبّان عن الأعمش أنه كان عند أبواب كندة ومثله لعبد الرزاق عن الثوري قوله: لا يتم الركوع والسجود في رواية عبد الرزاق فجعل ينقر ولا يتم ركوعه زاد أحمد عن شعبة فقال: منذ كم صليت؟ فقال: منذ أربعين سنة. ومثله في رواية الثوري وللنسائي عن زيد بن وهب مثله، وفي حمله على ظاهره نظر وأظن ذلك هو السبب في كون البخاري لم يذكر ذلك، وذلك لأن حذيفة مات سنة ست وثلاثين فعلى هذا يكون ابتداء صلاة المذكور قبل الهجرة بأربع سنين أو أكثر ولعل الصلاة لم تكن فرضت بعد فلعله إطلق وأراد المبالغة أو لعله ممن كان يصلي قبل إسلامه ثم أسلم فحصلت المدة المذكورة من الأمرين. وقوله: "ما صليت" هو نظير قوله -صلى الله عليه وسلم- للمسيء صلاته: فإنك لم تصلِّ. وقد مضى في باب القراءة للإمام والمأموم وسيأتي بعد باب. وقوله: "التي فطر الله محمدًا" زاد الكشميهنيَّ عليها واستدل به على وجوب الطمأنينة في الركوع والسجود وعلى أن الإخلال بهما مبطل للصلاة وقد استوفى الكلام على حكم الطمأنينة في باب القراءة للإمام والمأموم عند حديث المسيء صلاته وعلى تكفير تارك الصلاة؛ لأن ظاهره أن حذيفة نفى الإِسلام عمّن أخلّ ببعض أركانها فيكون نفيه عمّن أخل بها كلها أولى وهذا بناء منه على أن المراد بالفطرة الدين وقد أطلق الكفر على مَنْ لم يصل كما رواه مسلم وهو إما على حقيقته عند قوم وإما على المبالغة في الزجر عند آخرين قال: الخطابي الفطرة الملة أو الدين قال: ويحتمل أن يكون المراد بها هنا السنة كما جاء خمس من الفطرة الحديث، ويكون حذيفة قد أراد توبيخ الرجل ليرتدع في المستقبل ويرجحه وروده من طريق آخر بلفظ سنة محمد كما يأتي بعد عشرة أبواب وهو مصير من البخاري إلى أن الصحابي إذا قال سنة محمد أو فطرته كان حديثًا مرفوعًا وخالف في ذلك قوم والراجح الأول.

رجاله خمسة

رجاله خمسة: وفيه لفظ رجل مبهم وقد مرّ الجميع، مرّ حفص بن عمر في الثالث والثلاثين في الوضوء ومرّ شعبة في الثالث من الإيمان، ومرَّ سليمان بن مهران في الخامس والعشرين منه، ومرَّ زيد بن وهب في الثالث عشر من مواقيت الصلاة، ومرَّ حذيفة في تعليق بعد الثاني من العلم والرجل المبهم قال في "الفتح" كما مرّ لم يعرف اسمه. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والسماع والقول أخرجه النسائي في الصلاة أيضًا. ثم قال المصنف: باب استواء الظهر في الركوع أي من غير ميل في الرأس عن البدن ولا عكسه. وقوله: وقال أبو حميد في أصحابه: ركع النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم هصر ظهره. قوله: "هَصر ظهَر" بفتح الهاء والصاد المهملة أي: أماله وفي رواية الكشميهني جنى بالمهملة والنون الخفيفة وهو بمعناه، ومرّ هذا الحديث معلقًا في باب إلى أين يرفع يديه وسيأتي حديث أبي حميد هذا موصولًا مطولًا في باب سنة الجلوس في التشهد بلفظ: ثم ركع فوضع يديه على ركبتيه ثم هصر ظهره زاد أبو داود من وجه آخر عن أبي حميد ووتر يديه فتجافى عن جنبيه وله من وجه آخر أمكن كفيه من ركبتيه وفرج بين أصابعه ثم هصر ظهره غير مقنع رأسه ولا صافح بخده. وقوله: "وحد إتمام الركوع والاعتدال فيه" وقع في بعض الروايات عند الكشميهني وهي للأصيلي هنا باب إتمام الركوع ففصله عن الباب الذي قبله بباب وعند الباقين الجميع في ترجمة واحدة إلا أنهم جعلوا التعليق عن أبي حميد في أثنائها لاختصاصه بالجملة الأولى ودلالة حديث البراء على ما بعدها وبهذا يجاب عن اعتراض ناصر الدين بن المنير حيث قال: حديث البراء لا يطابق الترجمة للاستواء في الركوع السالم من الزيادة في حنو الرأس دون بقية البدن أو العكس والحديث في تساوي الركوع مع السجود وغيره في الإطالة والتخفيف وكان لم يتأمل ما بعد حديث أبي حميد من بقية الترجمة ومطابقة حديث البراء لقوله: حد إتمام الركوع من جهة أنه دال على تسوية الركوع والسجود والاعتدال والجلوس بين السجدتين وقد ثبت في بعض طرقه عند مسلم تطويل الاعتدال فيؤخذ منه إطالة الجميع. وقوله: "والإطْمأنينة" هذا للأكثر بكسر الهمزة ويجوز الضم وسكون الطاء، وللكشميهني والطُمأنينة بضم الطاء وهي أكثر في الاستعمال والمراد بها السكون وحدها ذهاب الحركة التي قبلها كما سيأتي مفسرًا في حديث أبي حميد وفسرها الفقهاء بأنها استقرار الأعضاء زمنًا ما زيادة على ما يحصل به الواجب من اعتدال وانحناء.

الحديث الثالث والستون

الحديث الثالث والستون حَدَّثَنَا بَدَلُ بْنُ الْمُحَبَّرِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي الْحَكَمُ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: كَانَ رُكُوعُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَسُجُودُهُ وَبَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وَإِذَا رَفَعَ مِنَ الرُّكُوعِ، مَا خَلاَ الْقِيَامَ وَالْقُعُودَ، قَرِيبًا مِنَ السَّوَاءِ. قوله: "أخبرنا الحكم عن أبي ليلى" وقع التصريح بتحديثه له عند مسلم. وقوله: "وبين السجدتين" أي: وجلوسه بين السجدتين. وقوله: "وإذا رفع رأسه ورفعه إذا رفع" والمراد أن زمان ركوعه وسجوده واعتداله وجلوسه متقارب. وفي رواية لمسلم: فوجدت قيامه فركعته فاعتداله الحديث، ومدار الحديث على ابن أبي ليلى عن البراء وهذه الرواية التي فيها زيادة ذكر القيام عن هلال بن أبي حميد عنه ولم يذكره الحكم عنه وليس بينهما اختلاف إلا ما زاده بدل بن المحبر هنا عن شعبة عن الحكم من قوله: ما خلا القيام والقعود ولم يذكرها أبو الوليد عن شعبة في الرواية الآتية في باب الإطْمأنينة حين يرفع رأسه واختلف في المراد بالقيام والقعود والمستثنين فقيل: المراد بالقيام الاعتدال وبالقعود الجلوس بين الجسدتين وجزم به بعضهم وتمسك به في أن الاعتدال والجلوس بين السجدتين لا يطولان ورده ابن القيم في حاشيته على السنن فقال هذا سوء فهم من قائله؛ لأنه قد ذكرهما بعينهما يستثنيهما وهل يحسن قول القائل جاء زيد وبكر وعمرو إلا زيدًا وعمرًا فإنه متى أراد نفي المجيء عنهما كان تناقضًا وتعقب بأن المراد بذكرها إدخالها في الطمأنينة وباستثناء بعضها إخراج المستثنى من المساواة. وقيل: المراد بالقيام والقعود القيام للقراءة والجلوس للتشهد؛ لأن القيام للقراءة أطول من جميع الأركان في الغالب واستدل بالحديث على أن الاعتدال ركن طويل وحديث أنس الآتي في باب الطمأنينة حين يرفع رأسه فإذا رفع رأسه من الركوع قام حتى نقول قد نسى صريح الدلالة على ذلك نص صريح فيه فلا ينبغي العدول عنه لدليل ضعيف وهو قولهم لم يسن فيه تكرير التسبيحات كالركوع والسجود ووجه ضعفه أنه قياس في مقابلة النص وهو فاسد، وأيضًا فالذكر المشروع في الاعتدال أطول من المشروع في الركوع فتكرير سبحان ربي العظيم ثلالًا يجيىء قدر قوله: اللهم ربنا لك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وقد شرع في الاعتدال ذكر أطول كما أخرجه مسلم عن عبد الله بن أبي أوفى وأبي سعيد الخدري وعبد الله بن عبّاس بعد قوله: حمدًا كثيرًا طيبًا ملء

رجاله خمسة

السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد زاد في حديث ابن أبي أوفى اللهم طهرني بالثلج إلخ. وزاد في حديث الآخرين أهل الثناء والمجد إلخ. وجاء في حديث رفاعة الآتي بعد أبواب عدم إنكار النبي -صلى الله عليه وسلم- على مَنْ زاد في الاعتدال ذكرًا غير ما ندر، ثم اختار النووي تطويل الركن القصير بالذكر خلافًا للمرجح في المذهب واستدل لذلك أيضًا بحديث حذيفة في مسلم أنه -صلى الله عليه وسلم- قرأ في ركعة بالبقرة أو غيرها ثم ركع ركوعًا نحوًا مما قرأ ثم قام بعد أن قال: ربنا لك الحمد قيامًا طويلًا قريبًا مما ركع. قال النووي الجواب عن هذا الحديث صعب وإلا قوى جواز الإطالة بالذكر وقد أشار الشافعي في "الأم" إلى عدم البطلان فقال في ترجمة: كيف القيام من الركوع؟ ولو أطال القيام بذكر الله أو يدعو ساهيًا وهو لا ينوي به القنوت كرهت له ذلك ولا إعادة قال في "الفتح": فالعجب ممن يصح مع هذا بطلان الصلاة بتطويل الاعتدال وتوجيههم ذلك بأنه إذا أُطيل انتفت الموالاة معترض بأن معنى الموالاة أن لا يتخلل فصل طويل بين الأركان بما ليس منها وما ورد به الشرع لا يصح نفي كونه منها وأجاب بعضهم عن حديث البراء بأن المراد بقوله قريبًا من السواء ليس أنه كان يركع بقدر قيامه وكذا السجود والاعتدال بل المراد أن صلاته كانت قريبًا معتدلة فكان إذا أطال القراءة أطال بقية الأركان وإذا أخفها أخف بقية الأركان فقد ثبت أنه قرأ في الصبح بالصافات وثبت في السنن عن أنس أنهم حزروا في السجود قدر عشر تسبيحات فيحمل على أنه إذا قرأ بدون الصافات اقتصر على دون العشر وأقله كما ورد في السنن أيضًا ثلاث تسبيحات. وقوله في الحديث قريبًا من السواء فيه إشعار بأن فيها تفاوتًا لكنه لم يعينه وهو دال على الطمأنينة في الاعتدال وبين السجدتين لما علم من عادته من تطويل السجود والركوع فإذا قلنا إنهما المستثنيان فاستثناؤهما لا يأتي على ترك الطمأنينة فيهما وعند المالكية تطويل القيام بعد الرفع من الركوع غير مشروع ولكنه يندب فيه الدعاء فغير المشروع فيه من الطول هو ما زاد على الدعاء وقد مرّ في باب إذا صلّى لنفسه فليطول ما شاء الكلام على ما يلزم من طول بمحل لا يشرع فيه الطول وبيان الذي لا يشرع فيه الطول. رجاله خمسة: مرث منهم ثلاثة، مرّ شعبة في الثالث من الإيمان، ومرّ البراء في الثاني والثلاثين منه، ومرّ الحكم بن عتيبة في الثامن والخمسين من العلم والإثنان الباقيان الأول منهما بدل بن المحبَّر باسم المفعول من التحبير أي: التحسين ابن منبه التميمي اليربوعي أبو المنير البصري واسطي الأصل قال في المقدمة وثقه أبو زرعة وغيرهما وضعفه الدارقطني في روايته عن زائدة قاله الحاكم وذلك بسبب حديث واحد خالف فيه حسين بن علي الجعفي صاحب زائدة وهو في مسند ابن عمر من مسند البزار قال: وهذا تعنت ولم يخرج له البخاري سوى موضعين عن شعبة أحدهما في الصلاة

لطائف إسناده

والآخر في الفتن وروى له أصحاب السنن وكلامه قلت: وذكره ابن حِبّان في "الثقات" وقال ابن عبد البر هو عندهم ثقة حافظ والحديث المذكور هو حديث ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمره أن ينادي أن من شهد أن لا إله إلاّ الله دخل الجنة الحديث روى عن شعبة وحرب بن ميمون والخليل بن أحمد صاحب العروض وزائدة وغيرهم وروى عنه البخاري وروى له الأربعة بواسطة وروى عنه أبو قلابة وأبو الأزهر ويعقوب بن شبة وغيرهم. مات في حدود سنة خمسة عشر ومئتين. الثاني: عبد الرحمن بن أبي ليلى واسم أبي ليلى يسار، ويقال بلال، ويقال داود بن بلال بن بليل بن احيحة بن الجلاح بن الحريش بن جحجبان بن كلفة بن عوف بن عمرو بن مالك بن أوس الأنصاري الأوسي أبو عيسى الكوفي والد محمد. وُلِدَ لست بقين من خلافة عمر. قال عطاء بن السائب عن عبد الرحمن: أدركت مئة وعشرين من الأنصار صحابة وقال عبد الملك بن عمير: لقد رأيت عبد الرحمن في حلقة فيها نفر من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام فيهم البراء يسمعون لحديثه وينصتون له. وقال عبد الله بن الحارث بن نوفل: ما ظننت أن النساء ولدن مثله. وقال ابن معين: ثقة، وقال العجلي: كوفي تابعي ثقة كان أصحابه يعظمونه كالأمير، قال الأعمش: سمعت عبد الرحمن بن أبي ليلى يقول: أقامني الحجاج فقال: العن الكذابين. فقلت: لعن الكذابين علي بن أبي طالب وعبد الله بن الزبير والمختار بن أبي عبيد قال حفص بن غياث: وأهل الشام يظنون أنه يوقعها عليهم وهو قد أخرجهم منها ورفعهم. روى عن أبيه وعثمان وعلي وسعد وحذيفة والبراء بن عازب وغيرهم والصحيح أنه لم يرو عن عمر رضي الله تعالى عنه وقيل: روى عنه وروى عنه ابنه عيسى وابن ابنه عبد الله بن عيسى وعمرو بن ميمون الأودي وهو أكبر منه والشعبي وثابت البناني والحكم بن عتيبة وغيرهم، ذكر أبو عبيد أنه مات سنة واحد وسبعين وروى عن سفيان أنه هو وابن شداد فقدا بالجماجم وقد اتفقوا على أن الجماجم كانت سنة اثنين وثمانين ويقال إنه غرق بدجيل مع محمد بن الأشعث. لطائف إسناده: فيه التحديث والإخبار بالجمع والعنعنة والقول ورواته كوفيون ما عدى شيخ البخاري بدل فهو بصري وهو من إفراده وفيه رواية تابعي عن تابعي ورواية ابن صحابي عن صحابي أخرجه البخاري في الصلاة أيضًا عن سليمان بن حرب وغيره وأخرجه مسلم في الصلاة أيضًا وكذا الباقون ما عدى ابن ماجه. ثم قال المصنف: باب أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي لا يتم ركوعه بالإعادة قال الزين بن المنير: هذه من التراجم الخفية وذلك أن الخبر لم يقع فيه بيان ما قصده المصنف المذكور لكنه -صلى الله عليه وسلم- لما قال له ثم اركع حتى تطمئن راكعًا إلي آخر ما ذكره له من الأركان اقتضى ذلك تساويها في الحكم لتناول الأمر كل فرد منها فكل من لم يتم ركوعه أو سجوده أو غير

ذلك مما ذكر مأمور بالإعادة وفي حديث رفاعة بن رافع عند ابن أبي شيبة في هذه القصة دخل رجل فصلى صلاة خفيفة لم يتم ركوعها ولا سجودها فالظاهر أن المصنف أشار بالترجمة إلى ذلك.

الحديث الرابع والستون

الحديث الرابع والستون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَدَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَرَدَّ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَيْهِ السَّلاَمَ فَقَالَ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ. ثَلاَثًا. فَقَالَ وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ فَمَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ فَعَلِّمْنِي. قَالَ: إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاَتِكَ كُلِّهَا. وهذا الحديث قد استوفيت مباحثه بما لا مزيد عليه في باب وجوب القراءة للإمام والمأموم. رجاله ستة: وفيه لفظ رجل مبهم وقد مرّوا، مرّ مسدد ويحيى بن سعيد في السادس من الإيمان، ومرّ سعيد المقبري في الثاني والثلاثين منه، ومرَّ أبو هريرة في الثاني منه، ومرّ عبيد الله العمري في الرابع عشر من الوضوء ومرّ أبو سعيد المقبري في السادس والعشرين من أبواب صفة الصلاة والرجل المبهم قد مرّ أنه خلاد بن رافع وقد مرّ تعريفه في الحادي عشر من التيمم. ثم قال المصنف: باب الدعاء في الركوع ترجم بعد هذا بباب التسبيح والدعاء في السجود وساق حديث الباب فقيل الحكمة في تخصيص الركوع بالدعاء دون التسبيح مع أن الحديث واحد أنه قصد الإشارة إلى الرد على مَنْ كره الدعاء في الركوع كمالك وأما التسبيح فلا خلاف فيه فاهتم هنا بذكر الدعاء في الركوع لذلك ثم بعد هذا في ما يأتي في الباب المذكور الدعاء في السجود وحجة المخالف الحديث الذي أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي من رواية ابن عباس مرفوعًا وفيه فأما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقَمَن أن يستجاب لكم وقمن بفتح القاف والميم وقد تكسر معناه حقيق وأجاب المخالفون عن هذا الحديث بأنه لا مفهوم له فلا يمتنع الدعاء في الركوع كما لا يمتنع التعظيم في

السجود وظاهر حديث عائشة أنه كان يقول هذا الذكر كله في الركوع وكذا في السجود. قلت: على أن الحديث لا مفهوم له لا تبقى فائدة في القسمة المذكورة في الحديث فتأمل وأجيب أيضًا بأنه يمكن أن يحمل حديث الباب على الجواز وذلك على الأولوية ويحتمل أن يكون أمر في السجود بتكثير الدعاء لإشارة قوله فاجتهدوا والذي وقع في الركوع من قوله اللهم اغفر لي ليس كثيرًا فلا يعارض ما أمر به في السجود إلى آخر ما يأتي قريبًا قاله ابن دقيق العيد.

الحديث الخامس والستون

الحديث الخامس والستون حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رضى الله عنها قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي. في الرواية هنا كان يقول في ركوعه وفي الرواية الآتية في باب التسبيح والدعاء في السجود كان يكثر أن يقول في ركوعه إلخ. وبقول عائشة في هذه الرواية كان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده واعترض الفاكهاني على الاحتمال السابق عن ابن دقيق العيد من أن المأمور به في السجود تكثير الدعاء والذي في الركوع قليل قائلًا إن قولها صريح في أن ذلك وقع منه كثيرًا فلا يعارض ما أمر به في السجود وهو عجيب فإن ابن دقيق العيد أراد بنفي الكثرة عدم الزيادة على قوله: اللهم اغفر لي في الركوع الواحد فإنه قليل بالنسبة إلى السجود المأمور فيه بالاجتهاد في الدعاء المشعر بتكثير الدعاء ولم يرد أنه كان يقول ذلك في بعض الصلوات دون بعض حتى يعترض عليه بقول عائشة كان يكثر وقد جاء الأمر بالإكثار من الدعاء في السجود فيما أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة بلفظ أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا فيه من الدعاء والأمر بإكثار الدعاء في السجود يشمل الحث على تكثير الطلب لكل حاجة كما جاء في حديث أنس أخرجه الترمذي ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى شسع نعله ويشمل التكرار للسؤال الواحد والاستجابة تشمل استجابة الداعي بإعطاء سؤله واستجابة المثنى بتعظيم ثوابه. وقوله: "سبحانك" منصوب على المصدر بفعل محذوف تقديره اسبح وهو علم على التسبيح ومعناه التنزيه عن النقائص والعلم لا يضاف إلا إذا نُكِّر ثم أضيف. وقوله: "وبحمدك" أي وسبحتك بحمدك أي: بتوفيقك وهدايتك لا بحولي وقوتي والواو فيه إما للحال وإما لعطف الجملة على الجملة سواء قلنا إضافة الحمد إلى الفاعل والمراد من الحمد حينئذ لازمه وهو ما يوجب الحمد من التوفيق والهداية أو إلى المفعول ويكون معناه متلبسًا بحمدي لك. وقوله: "اللهم اغفر لي" أي: بالله اغفر لي وإنما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك وإن كان قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر لبيان الافتقار إلى الله تعالى والإذعان وإظهار العبودية والشكر وطلب الدوام

والاستغفار عن ترك الأولى أو التقصير في بلوغ حق عبادته مع أن نفس الدعاء عبادة وهذا منه عليه الصلاة والسلام عمل بما أمر به في قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} على أحسن الوجوه وحكمه الإتيان بالذكر في هذين المحلين من الصلاة أما كونه في حال الصلاة فلأنها أفضل من غيرها وإما في تلك الحالين فلما فيهما من زيادة خشوع وتواضع ليست في غيرهما واستفيد من الحديث إباحة الدعاء في الركوع وإباحة التسبيح في السجود خلافًا لما مرَّ عن مالك وقد اختلفوا في الأذكار في الركوع والسجود فقال مالك وأبو حنيفة والشافعي سنة فلو تركها لم يأثم وصلاته صحيحة سواء تركها سهوًا أو عمدًا لكن يكره عمدًا. وقال أحمد وإسحاق: هو واجب فإن تركه عمدًا بطلت صلاته وإن نسيه لم تبطل زاد أحمد ويسجد للسهو وفي رواية عنه أنه سُنّة، وقال ابن جزم: هو فرض فإن نسيه يسجد للسهو وقد مرَّ في باب وجوب القراءة للإِمام والمأموم عند حديث المسيء صلاته بعض الكلام على أقل ما يجزىء عند الحنفية من التسبيح. وقال البيهقي: قال الشافعي: يسبح كما أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث عقبة بن عامر قال: لما نزلت باسم ربك العظيم قال -صلى الله عليه وسلم-: اجعلوها في ركوعكم أخرجه أبو داود وابن حِبّان في صحيحه والطحاوي والمالكية والشافعية لا يشترط عندهم عدد معين كما مرّ في الباب المذكور والواجب عند الحنابلة سبحان ربي العظيم مرة في الركوع وسبحان ربي الأعلى مرة في السجود والثلاثة مستحبة والألفاظ الصادرة منه -صلى الله عليه وسلم- كثيرة منها ما أخرجه مسلم عن حذيفة صليت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكره وفيه ركع فجعل يقول سبحان ربي العظيم وفي سجوده سبحان ربي الأعلى وزاد ابن ماجه بسند ضعيف ثلاثًا وروى مسلم أيضًا عن علي -رضي الله عنه- فذكر صلاته قال: وإذا ركع قال: اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي وإذا سجد قال: لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه وصوّره وشق سمعه وبصره تبارك الله أحسن الخالقين وروى أحمد في مسنده عن ابن عباس بت عند ميمونة فرأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم وفي سجوده. وأخرج الأربعة والطحاوي والدارقطني عن حذيفة أنه صلّى مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة فكان يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم وفي سجوده سبحان ربي الأعلى وأخرج أبو داود عن مالك بن عوف قال: قمت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقام فقرأ سورة البقرة الحديث. وفيه يقول في ركوعه سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة الحديث. وأخرج البزار في سننه عن عائشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول في سجوده تعني في صلاة الليل سجد وجهي للذي خلقه فشق سمعه وبصره بحوله وقوته وروى الطحاوي عن عائشة قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم وبحمدك استغفرك وأتوب إليك فاغفر لي فإنك أنت التواب وروى عنها أيضًا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول في ركوعه وسجوده: سبّوح قدّوس رب الملائكة والروح وأخرجه مسلم والنسائي أيضًا، وأخرج مسلم أيضًا: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول وهو راكع أو ساجد: سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلاَّ أنت.

رجاله خمسة

رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ حفص بن عمر في الثالث والثلاثين من الوضوء ومرّ شعبة في الثالث من الإيمان, ومرّ مسروق في السابع والعشرين منه، ومرّ أبو الضحى في الخامس عشر من كتاب الصلاة، ومرّت أُم المؤمنين في الثاني من بدء الوحي وفي نسخة "الفتح" بين شعبة وأبي الضحى منصور وقد مرّ في الثاني عشر من العلم. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول ورواته ما بين بصري وواسطي وكوفي وشيخ البخاري من أفراده. أخرجه البخاري أيضًا في "المغازي" عن ابن بشار وفي الصلاة أيضًا عن مسدد وفي التفسير عن عثمان بن أبي شيبة وغيره، وأخرجه مسلم في الصلاة أيضًا وأبو داود وابن ماجه فيها والنسائي فيها وفي التفسير. ثم قال المصنف: باب ما يقول الإِمام ومَنْ خلفه إذا رفع رأسه من الركوع وقع في شرح ابن بطال هنا باب القراءة في الركوع وما يقول الإِمام ومن خلفه إلخ، وتعقبه بأن قال: لم يدخل فيه حديثًا لجواز القراءة ولا منعها وقال ابن رشيد: هذه الزيادة لم تقع فيما رويناه من نسخ البخاري قال في "الفتح": وكذلك أقول وقد تبع ابن المنير ابن بطال ثم اعتذر عن البخاري بأن قال: يحتمل أن يكون وضعها للأمرين فذكر أحدهما وأخلى للآخر بياضًا ليذكر فيه ما يناسبه ثم عرض له مانع فبقيت الترجمة بلا حديث. وقال ابن رشيد: يحتمل أن يكون ترجم بالحديث مشيرًا إليه ولم يخرجه؛ لأنه ليس على شرطه لأن في إسناده اضطرابًا وقد أخرجه مسلم عن ابن عباس في أثناء حديث وفي آخره إلا إني نهيت أن أقرأ القرآن راكعًا أو ساجدًا ثم تعقبه على نفسه بأن ظاهر الترجمة الجواز وظاهر الحديث المنع قال: فيحتمل أن يكون معنى الترجمة باب حكم القراءة وهو أعم من الجواز والمنع وقد اختلف السلف في ذلك جوازًا ومنعًا فلعله كان يرى الجواز لأن حديث النهي لم يصح عنده. ومال الزين بن المنير إلى هذا الأخير لكن حمله على وجه أخص منه فقال: لعله أراد أن الحمد في الصلاة لا حجر فيه وإذا ثبت أنه من مطالبها ظهر تسويغ ذلك في الركوع وغيره بأي لفظ كان فيدخل في ذلك آيات الحمد كمفتتح الأنعام وغيرها فإن قيل ليس في حديث الباب ذكر ما يقوله المأموم أجاب ابن رشيد بأنه أشار إلى التذكير بالمقدمات لتكون الأحاديث عند الاستنباط نصب عين المستنبط فقد تقدم إنما جعل الإِمام ليؤتم به وحديث صلوا كما رأيتموني أُصلي قال: ويمكن أن يكون قاس المأموم على الإِمام لكن فيه ضعف وقد ورد في ذلك حديث عن أبي هريرة أيضًا أخرجه الدارقطني بلفظ كنا إذا صلينا خلف النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال سمع الله لمن حمده قال مَنْ وراءه: سمع الله لمن حمده، ولكن قال الدارقطني المحفوظ في هذا فليقل مَنْ وراءه ربنا ولك الحمد.

الحديث السادس والستون

الحديث السادس والستون حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. قَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ. وَكَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا رَكَعَ وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ يُكَبِّرُ، وَإِذَا قَامَ مِنَ السَّجْدَتَيْنِ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ. قوله: "إذا قال سمع الله لمن حمده" في رواية أبي داود الطيالسي عن ابن أبي ذيب كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: اللهم ربنا لك الحمد ولا منافاة بينهما؛ لأن أحدهما ذكر ما لم يذكره الآخر. وقوله: "اللهم ربنا ثبت" في أكثر الطرق هكذا. وفي بعضها بحذف اللهم وثبوتها أرجح وكلاهما جائز وفي ثبوتها تكرير النداء كأنه قال ياالله يا ربنا. وقوله: "ولك الحمد" كذا ثبت زيادة الواو في طرق وفي بعضها كما في الباب الذي يليه بحذفها وقد مرّ الكلام على هاتين الجملتين عند حديث عائشة في باب إنما جعل الإِمام ليؤتم به. وقوله: "إذا ركع وإذا رفع رأسه" أي: من السجود وقد ساق البخاري هذا المتن مختصرًا. قلت: أخرجه البخاري مطولًا في باب يهوي بالتكبير قريبًا ورواه أبو يعلى عن شبابة وأوله عنده عن أبي هريرة قال: أنا أشبهكم صلاة برسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يكبر إذا ركع وإذا قال سمع الله لمن حمده قال: اللهم ربنا لك الحمد وكان يكبَّر إذا سجد وإذا رفع رأسه وإذا قام من السجدتين ورواه الإِسماعيلي عن ابن أبي ذيب بلفظ: وإذا قام من الثنتين كبّر ورواه الطيالسي بلفظ: كان يكبِّر بين السجدتين والظاهر أن المراد بالثنتين الركعتان والمعنى أنه كان يكبِّر إذا قام إلى الثالثة ويؤيده الرواية الماضية في باب التكبير إذا قام من السجود بلفظ ويكبِّر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس وأما رواية الطيالسي فالمراد بها التكبير للسجدة الثانية وكان بعض الرواة ذكر ما لم يذكر الآخر. وقوله: "قال الله أكبر" كذا وقع مغيرًا للأسلوب إذ عبّر أولًا بلفظ يكبِّر، قال الكرماني: هو للتفنن ولإِرادة التعميم؛ لأن التكبير يتناول التعريف ونحوه والذي يظهر أنه من تصرف الرواة فإن الروايات التي أشرنا لها جاءت كلها على أسلوب واحد ويحتمل أن يكون المراد به تعيين هذا اللفظ دون غيره من ألفاظ التعظيم وقد مرّ الكلام على بقية مباحثه في باب التكبير إذا قام من السجود وتكلم هناك على محل التكبير عند القيام من التشهد الأول.

رجاله أربعة

رجاله أربعة: قد مرّوا، ومرّ آدم في الثالث من الإِيمان, ومرَّ سعيد المقبريِّ في الثاني والثلاثين منه، ومرَّ أبو هريرة في الثاني منه، ومرَّ ابن أبي ذيب في الستين من العلم. ثم قال المصنف: باب فضل اللهم ربنا لك الحمد في رواية الكشميهني اللهم ربنا ولك الحمد بإثبات الواو وفيه رد على ابن القيم حيث جزم بأنه لم يرد الجمع بين اللهم والواو في ذلك وثبت لفظ باب عند مَنْ عدا أبا ذر والأصيلي والراجح حذفه كما يأتي في ترجمة الباب الذي بعده.

الحديث السابع والستون

الحديث السابع والستون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ سُمَيٍّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضى الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إِذَا قَالَ الإِمَامُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. فَقُولُوا اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ. فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلاَئِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ. قوله: "إذا قال الإِمام إلخ" استدل به على أن الإِمام لا يقول ربنا لك الحمد وعلى أن المأموم لا يقول سمع الله لمن حمده لكون ذلك لم يذكر في هذه الرواية وهو قول مالك وأبي حنيفة قال في "الفتح": وفيه نظر؛ لأنه ليس فيه ما يدل على النفي بل فيه أن قول المأموم ربنا لك الحمد يقع عقب قول الإِمام سمع الله لمن حمده والواقع في التصوير ذلك؛ لأن الإِمام يقول التسميع في حال انتقاله والمأموم يقول التحميد في حال اعتداله فقوله: "يقع عقب قول الإِمام" كما في الخبر وهذا الموضع يقرب من مسألة التأمين كما تقدم من أنه لا يلزم من قوله: إذا قال ولا الضالين فقولوا آمين إن الإِمام لا يؤمن بعد قوله ولا الضالين وليس فيه أن الإمام يؤمن كما أنه ليس في هذا أنه يقول ربنا لك الحمد لكنهما مستفادان من أدلة أخرى صحيحة صريحة كما مرّ في التأمين وكما مضى في الباب الذي قبله وفي غيره يأتي أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يجمع بين التسميع والتحميد منه. قلت: قوله: ليس فيه ما يدل على النفي إلخ غير مسلم؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- قسم التسميع والتحميد فجعل التسميع للإمام والتحميد للمأموم والقسمة تنافي الشركة وما قيل في هذا يجاب به عمّا قال في التأمين. وقوله: إن قول المأموم يقع عقب قول الإمام مخالف لما مرّ عنه في باب جهر الإِمام بالتأمين من أنهما متقارنان على الراجح والحديث الذي ذكر أنه يأتي وأن فيه جمع الإِمام لهما هو حديث أبي هريرة الآتي في باب يهوي بالتكبير حين يسجد ففيه أنه عليه الصلاة والسلام يقول: سمع الله لمن حمده ثم يقول: ربنا لك الحمد وهذا يجاب عنه بأنه كان قنوتًا وقد فعله ثم تركه؛ لأن فيه اللهم انج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن ربيعة والمستضعفين من المؤمنين ويجاب عن حديثه الآخر الذي ليس فيه قنوت الواقع فيه الجمع بينهما بأنه ليس فيه تصريح بأنه -صلى الله عليه وسلم- كان إمامًا فيحتمل أن يكون كان منفردًا وعلى ذلك حمله أبو حنيفة وغيره وقد مرّ كثير من مباحث هذا المنزع في باب إنما جعل الإِمام ليؤتم به.

رجاله خمسة

وقوله: "فإن أمن وافق قوله قول الملائكة" قد مرّ استيفاء الكلام عليه في باب جهر الإِمام بالتأمين. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ عبد الله بن يوسف ومالك في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ سميّ في الثاني عشر من كتاب الأذان، ومرَّ أبو صالح وأبو هريرة في الثاني من الإِيمان. ثم قال المصنف: باب كذا للجميع بغير ترجمة إلا للأصيلي فحذفه وعليه سرح ابن بطال ومن تبعه والراجح إثباته كما أن الراجح حذف باب من الذي قبله وذلك أن الأحاديث المذكورة فيه لا دلالة فيها على فضل اللهم ربنا لك الحمد إلا بتكلف فالأولى أن يكون بمنزلة الفصل من الباب الذي قبله كما مرّ في عدة مواضع وذلك أنه لما قال أولًا باب ما يقول الإِمام ومَنْ خلفه إذا رفع رأسه من الركوع وذكر فيه قوله عليه الصلاة والسلام: اللهم ربنا ولك الحمد استطرد إلى ذكر فضل هذا القول بخصوصه ثم فصل بلفظ باب لتكميل الترجمة الأولى فأورد بقية ما ثبت على شرطه مما يقال في الاعتدال كالقنوت وغيره وقد وجه الزين بن المنير دخول الأحاديث الثلاثة تحت ترجمة فضل اللهم ربنا لك الحمد فقال: وجه دخول حديث أبي هريرة أن القنوت لما كان مشروعًا في الصلاة كانت هي مفتاحه ومقدمته ولعل ذلك سبب تخصيص القنوت بما بعد ذكرها. ولا يخفى ما فيه من التكلف وقد تعقب من وجه آخر وهو أن الخبر المذكور في الباب لم يقع فيه قول ربنا لك الحمد لكن له أن يقول وقع في هذه الطريق اختصار وهي مذكورة في الأصل ولم يتعرض لحديث أنس لكن له أن يقول إنما أورده استطرادًا لأجل ذكر المغرب قال: وأما حديث رفاعة فظاهر في أن الابتداء الذي تنشأ عنه الفضيلة إنما كانت لزيادة قول الرجل لكن لما كانت الزيادة المذكورة صفة في التحميد جارية مجرى التأكيد له تعين جعل الأصل سببًا أو سببًا للسبب فثبتت بذلك الفضيلة وقد ترجم بعضهم له بباب القنوت قال في "الفتح" ولم أره في شيء من رواياتنا.

الحديث الثامن والستون

الحديث الثامن والستون حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لأُقَرِّبَنَّ صَلاَةَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-. فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ -رضى الله عنه- يَقْنُتُ فِي الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ مِنْ صَلاَةِ الظُّهْرِ وَصَلاَةِ الْعِشَاءِ، وَصَلاَةِ الصُّبْحِ، بَعْدَمَا يَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. فَيَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَلْعَنُ الْكُفَّارَ. قوله: "عن أبي سلمة" في رواية مسلم عن معاذ بن هشام عن أبيه عن يحيى حدّثني أبو سلمة. وقوله: "لاقربن صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم-" في رواية مسلم المذكورة لأقربن لكم وللإسماعيلي إني لأقربكم صلاة برسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وقوله: "فكان أبو هريرة إلخ" قيل المرفوع من هذا الحديث وجود القنوت لا وقوعه في الصلوات المذكورة فإنه موقوف على أبي هريرة ويوضحه ما يأتي في تفسير النساء من رواية شيبان عن يحيى من تخصيص المرفوع بصلاة العشاء ولأبي داود عن الأوزاعي عن يحيى قنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في صلاة العتمة شهرًا ونحوه لمسلم لكن لا ينافي في هذا كونه -صلى الله عليه وسلم- قنت في غير العشاء وظاهر سياق حديث الباب أن جميعه مرفوع لقوله فيه لأقربن صلاة النبي إلخ ولعل هذا هو السر في تعقب المصنف له بحديث أنس إشارة إلى أن القنوت في النازلة لا يختص بصلاة معينة واستشكل التقييد في رواية الأوزاعي بشهر؛ لأن المحفوظ أنه كان في قصة الذين قتلوا أصحاب بير معونة كما يأتي في آخر أبواب الوتر وسيأتي في تفسير آل عمران من رواية الزهري عن أبي سلمة في هذا الحديث أن المراد بالمؤمنين من كان مأسورًا بمكة وبالكافرين كفار قريش وأن مدته كانت طويلة فيحتمل أن يكون التقييد بشهر في حديث أبي هريرة يتعلق بصفة من الدعاء مخصوصة وهو قوله أشدد وطأتك على مضر قاله في "الفتح". قلت: التحديد بشهر ليس خاصًا برواية الأوزاعي بل جاء عند المصنف عن أنس في آخر أبواب الوتر من طريقين عن مسدد وأحمد بن يونس وما ذكره من أنه يأتي له في تفسير آل عمران أن مدته كانت طويلة لم أره فيه هناك بل الموجود فيه أنه دعا بذلك خمسة عشر آخر رمضان حتى إذا كان صبيحة يوم الفطر ترك الدعاء. وقوله: "في الركعة الأخرى" في رواية الكشميهني في الآخرة وسيأتي بعد باب عن الزهري عن أبي سلمة أن ذلك كان بعد الركوع.

رجاله خمسة

رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ معاذ بن فضالة في التاسع عشر من الوضوء، ومرَّ هشام الدستوائي في السابع والثلاثين من الإيمان وأبو هريرة في الثاني منه، ويحيى بن أبي كثير في الثالث والخمسين من العلم، ومرَّ أبو سلمة في الرابع من بدء الوحي. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول ورواته ما بين بصريَّ ودستوائيَّ ومدنيَّ ويمانيَّ وشيخ البخاري من أفراده أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي في الصلاة أيضًا.

الحديث التاسع والستون

الحديث التاسع والستون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الأَسْوَدِ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ الْقُنُوتُ فِي الْمَغْرِبِ وَالْفَجْرِ. قوله: "كان القنون" أي: في أول الأمر واحتج بهذا على أن قول الصحابي كنا نفعل كذا في حكم المرفوع وإن لم يقيده بزمن النبي -صلى الله عليه وسلم- كما هو قول الحاكم وقد اتفق الشيخان على إخراج هذا الحديث في المسند الصحيح وليس فيه تقييد وقد اختلف في محله من الصلاة وفي أي الصلوات شرع وهل استمر مطلقًا أو مدة معينة أو في حالة دون حالة فاستدل بهذين الحديثين من القنوت في الصلوات المذكورة وعند الظاهرية القنوت فعل حسن في جميع الصلوات وعند مالك والشافعي وأحمد وإسحاق القنوت في الفجر خاصة وكذلك روى عن ابن سيرين وابن أبي ليلى وروي عن أبي بكر الصديق وباقي الخلفاء الأربعة -رضي الله عنهم- في قول لكن عند مالك أن يكون قبل الركوع والذي في كتب الحنابلة أن القنوت مكروه في غير الوتر ويكون بعد الركوع ندبًا فلو كبر ورفع يديه بعد القراءة ثم قنت قبل الركوع جاز والذي مرَّ عنهم حكاه العيني وكذا قالت الحنفية أنه في الوتر خاصة قبل الركوع والراجح عند الشافعية أنه بعد الركوع فلو قنت شافعي قبل الركوع لم يجزه لوقوعه في غير محله فيعيده بعده ويسجد للسهو قال الشافعي في "الأم": لأن القنوت عمل من أعمال الصلاة فإذا عمله في غير محله أوجب سجود السهو واستدلت المالكية والشافعية على اختصاص الصبح بالقنوت وعلى استمراره فيه بما رواه البخاري عن أنس أنه سئل أقنت النبي -صلى الله عليه وسلم- في الصبح؟ قال: نعم، فقيل: أوقنت قبل الركوع؟ قال: قنت بعد الركوع يسيرًا، ومفهوم قوله بعد الركوع يسيرًا تحمل أن يكون وقبل الركوع كثيرًا ويحتمل أن يكون لا قنوت قبله أصلًا وبما أخرجه عنه أيضًا من أنه سئل عن القنوت فقال: قد كان القنوت فقلت: والقائل هو عاصم قبل الركوع أو بعده قال قبله قال: فإن فلانًا أخبرني عنك أنك قلت بعد الركوع فقال: كذب إلخ. ومعنى قوله كذب أي: أخطأ وهو لغة أهل الحجاز يطلقون الكذب على ما هو أعم من العمد والخطأ ويحتمل أن يكون أراد بقوله كذب أي: كان حكى أن القنوت دائمًا بعد الركوع وهذا يرجح الاحتمال الأول من احتمال مفهوم قوله بعد الركوع يسيرًا ويبينه ما أخرجه ابن ماجه عن حميد عن أنس أنه سئل عن القنوت فقال: قبل الركوع وبعده وإسناده قوي وروى ابن المنذر من وجه آخر عن أنس أن بعض أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- قنتوا في صلاة الفجر قبل الركوع وبعضهم بعد الركوع وروى

محمد بن نصر عن أنس أن أوّل مَنْ جعل القنوت قبل الركوع دائمًا عثمان لكي يدرك الناس الركعة وبما رواه البخاري أيضًا عن أبي هريرة كان إذا رفع رأسه من الركعة الأخرة بقول أنج عياش بن أبي ربيعة إلخ قال ابن أبي الزناد عن أبيه هذا كله في الصبح وبما رواه عبد الرزاق والدارقطني وصححه الحاكم عن أنس بن مالك قال: ما زال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا وثبت عن أبي هريرة أنه كان يقنت في الصبح في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- وبعد وفاته فإن قيل روى الخلفاء عن الأربعة أيضًا وغيرهم ما كانوا يقنتون أجيب بأنه إذا تعارض إثبات ونفي قدم الإثبات على النفي وتمسك الشافعية في كونه بعد الركوع بالرواية المتقدمة عن أبي هريرة من كونه كان يقنت بعد رفع رأسه من الركعة الأخرة وقالوا إن رواة القنوت بعده أكثر وأحفظ فهو أولى وعليه درج الخلفاء الراشدون في أشهر الروايات عنهم وأكثرها وتمسك المالكية في كونه بعد القراءة قبل الركوع برواية عاصم عن أنس المتقدمة ففيها التصريح بكونه قبل الركوع وقد وافق عاصمًا على روايته هذه عبد العزيز بن صهيب عن أنس كما سيأتي في "المغازي" بلفظ سأل رجل أنسًا عن القنوت بعد الركوع أو عند الفراغ من القراءة قال: لا، بل عند الفراغ من القراءة. قال في "الفتح": مجموع ما جاء عن أنس من ذلك أن القنوت للحاجة بعد الركوع لا خلاف عنه في ذلك وأما لغير الحاجة فالصحيح عنه أنه قبل الركوع وقد اختلف عمل الصحابة في ذلك والظاهر أنه من الاختلاف المباح. قلت: يكفي المالكية من تشهير ما قالوه ما قاله صاحب الفتح هنا وتمسك الحنابلة والحنفية لقولهم لا قنوت إلا عند نازلة تنزل على المسلمين أو في الوتر بأن القنوت منسوخ فقالوا: إنه قنت شهرًا يدعو على عصية وذكوان فلما ظهر عليهم ترك القنوت وكان ابن مسعود لا يقنت في صلاته وكذلك ابن عمر قد كان روى القنوت ثم أخبر أن الله عَزَّ وَجَلَّ نسخ ذلك بقوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} إلخ، وروى أبو داود عن أنس بن مالك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قنت شهرًا ثم تركه قالوا: قوله: ثم تركه يدل على أن القنوت كان في الفرائض ثم نسخ وأجيب عن هذا بأن الذي تركه هو الدعاء على هؤلاء القبائل المذكورة وتمسك الطحاوي بحديث أنس في الباب كان القنوت في الفجر والمغرب في ترك القنوت في الصبح قال: لأنهم أجمعوا على نسخه في المغرب فيكون في الصبح كذلك وقد عارضه بعضهم فقال: أجمعوا على أنه -صلى الله عليه وسلم- قنت في الصبح ثم اختلفوا هل ترك فيتمسك بما أجمعوا عليه حتى يثبت ما اختلفوا فيه وفي صحيح ابن خزيمة عن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان لا يقنت إلاَّ إذا دعا لقوم أو دعا على قوم. وأُجيب عن هذا بأنه محمول على ما بعد الركوع بناء على أن المراد بالحصر في قول أنس إنما قنت شهرًا أي متواليًا جمعًا بينه وبين الأحاديث الماضية وقال بعضهم في قول أنس في الحديث السابق كان القنوت في المغرب والفجر إنما خصهما لكونهما طرفي النهار لزيادة شرف وقتيهما رجاء إجابة الدعاء وكان تارة يقنت فيهما وتارة في جميع الصلوات حرصًا على إجابة الدعاء حتى نزلت

ليس لك من الأمر شيء فترك إِلاّ في الصبح كما روى أنس أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يزل يقنت في الصبح حتى فارق الدنيا كما مرَّ وتعقب هذا بأن قوله إلا في الصبح يحتاج لدليل وإلا فهو نسخ فيهما وقد ترجم البخاري في أبواب الوتر بقوله باب القنوت قبل الركوع وبعده والقنوت يطلق على معان يأتي ذكرها قريبًا والمراد به هنا الدعاء في الصلاة في محل مخصوص من القيام قال الزين بن المنير: أثبت بهذه الترجمة مشروعية القنوت ردًا على مَنْ روى عنه أنه بدعة كابن عمر. وفي "الموطأ" عنه أنه كان لا يقنت في شيء من الصلوات ووجه الرد عليه ثبوته من فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو مرتفع عن درجة المباح قال: ولم يقيده في الترجمة بصبح ولا غيره مع كونه مقيدًا في بعض الأحاديث بالصبح وأوردها في أبواب الوتر أخذًا من إطلاق أنس في بعض الأحاديث كذا قال والظاهر أنه أشار بذلك إلى قول أنس في الطريقة المذكورة في هذا الباب كان القنوت في الفجر والمغرب لأنه ثبت أن المغرب وتر النهار فإذا ثبت القنوت فيها ثبت في وتر الليل بجامع ما بينهما من الوترية مع أنه قد ورد الأمر به صريحًا في الوتر فروى أصحاب السنن وصححه الترمذي وغيره لكنه ليس على شرط البخاري من حديث الحسن بن علي قال: علمني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كلمات أقولهن في قنوت الوتر: "اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت فإنك تقضي ولا يقضى عليك، وأنه لا يذل مَنْ واليت تباركت ربنا وتعاليت" وبهذا الحديث تمسكت الحنفية والحنابلة في كون القنوت في الوتر في جميع السنة وروى البيهقي عن ابن عباس وغيره أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يعلمهم هذه الكلمات ليقنت بها في الصبح والوتر فإن نزل بالمسلمين نازلة من خوف أو قحط أو وباء أو جرادًا ونحوها استحب القنوت في سائر المكتوبات عند الشافعية والحنابلة والحنفية وإلاَّ ففي الصبح عندنا وعند الشافعية أو في أخيرة الوتر في النصف الأخير من رمضان عندهم أيضًا عملًا بما رواه البيهقي وفي القنوت عندنا خمس مناديب هو في نفسه مندوب على المشهور من أربعة أقوال نظمها شيخنا عبد الله بن محمد سالم بقوله: يندب ويسن أو لا يشرع ... قنوت أو يفسد تركه فعوا وكونه سرًا لأنه دعاء والدعاء يسر به وكونه في الصبح خاصة وكونه قبل الركوع لما فيه من الرفق بالمسبوق وعدم الفصل به بين ركني الصلاة المجمع عليهما الركوع والسجود وكونه باللفظ الراوي له مالك تقديمًا لرواية صاحب المذهب ووثوقًا به ولفظه المروي عنه: "اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونؤمن بك ونتوكل عليك ونخنع لك ونخلع ونترك من يكفرك اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخاف عذابك الجد إِن عذابك للكافرين مُلحِق" وقيل في سبب اختيار هذا عند المالكية أن أصله سورتان في مصحَف ابن مسعود -رضي الله عنه- فمن قوله: اللهم إِنّا نستعينك إلى قوله: ونترك من يكفرك سورة وباقيه سورة وقد ورد في القنوت عشرون رواية. وقوله: "اللهم" أصله يا الله حذفت الياء وعوض عنها الميم وهو مبني على ضمة مقدرة على الميم منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة الإِدغام وكانت فتحة للتخفيف.

وقوله: "إنّا نستعينك" أي: نطلب منك العون وحذف متعلقه ليعم. وقوله: "ونستغفرك" أي: نطلب، "مغفرتك" أي: سترك على معاصينا وترك مواخذتك والمتعلق محذوف للتعميم، "ونؤمن بك" أي: نصدق بما ظهر من آياتك، "ونتوكل عليك" أي: نفوض أُمورنا إليك، "ونخنع" أي: نخضع، "ونذل لك ونخلع" أي: الأديان كلها لدينك، "ونترك من يكفرك" أي: نترك موالاة من يجحد نعمتك، "اللهم إياك نعبد" أي: لا نعبد إلا إياك فقدم المعمول للتخصيص وكذا في قوله: "ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفِد" أي: لا نصلي ولا نسجد ولا نسعى أي: نبادر في طاعة وعبادة إلا لك وخص السجود وإن كان داخلًا في عموم الصلاة لشرفه إذ أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، ومعنى نحفِد بكسر الفاء وفتحها أي: نحذم ونبادر إلى طاعتك وعبادتك ومنه سمى الحذم حفدة لمسارعتهم ومثابرتهم على الحذمة نرجو رحمتك لأن أعمالنا لا تفي بشكر نعمتك فما لنا ملجأ إلا رجاء رحمتك، "ونخاف عذابك" أي: نحذر عقابك فنحن بين الرَّجاء والخوف لأن شأن القادر أن يرجى فضله ويخاف عذابه، الجد بكسر الجيم على المشهور الحق ضد الهزل أو الثابت أو الدائم أن عذابك بالكافرين ملحِق أي بَكسر الحاء أي لاحَق بهم الهوان بفتح الحاء اسم مفعول والفاعل هو الله أو الملائكة وزاد عبد الوهاب في التلقين اللهم اهدنا فيمن هديت إلى آخر ما مرَّ في الحديث وهو قنوت الشافعية والحنابلة وقنوت الحنفية قريب من قنوت المالكية وهو اللهم إنا نستعينك ونستهديك ونستغفرك ونتوب إليك ونؤمن بك ونتوكل عليك ونثني عليك الخير كله ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك اللهم إياك نعبد إلى آخر ما مرَّ إلا أنهم يبدلون ونخاف بلفظ ونخشى ويجعلون لفظ الجد بعد أن عذابك أي: الجد بالكافر ملحق. ومعنى قوله: اهدنا أي: وصلنا للمطلوب مع مَنْ هديت ففي بمعنى مع وكذا ما بعد وآثر التعبير بفي إشارة إلى قوة ارتباط هدايته بهدايتهم التي تفيده الظرفية أو المراد اهدنا حال كوننا داخلين في جملة مَنْ هديت وهو أبلغ وكذا يقال في قوله وعافنا وأصل الهدى الرشاد والبيان قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} والهداية من الله التوفيق والإرشاد وطلب الهداية من المؤمنين مع كونهم مهتدين بمعنى طلب التثبيت عليها أو بمعنى المزيد منها. وعافنا فيمن عافيت المراد بها العافية من الأَسقام والبلايا والعافية أن يعافيك الله من الناس ويعافيهم منك وحاصل هذا طلب العافية في الآخرة وفي الدنيا وقدم الأول لأنه أهم. وقولنا فيمن توليت الولي ضد العدو وهو مأخوذ من تليت الشيء إذا اعتنيت به ونظرت فيه نظر الولي في حال اليتم؛ لأنه سبحانه وتعالى ينظر في أمر موليه بالعناية ويجوز أن يكون من وليت الشيء إذا لم يكن بينك وبينه واسطة بمعنى أن الولي يقطع الوسائط بينه وبين الله تعالى حتى يصير في مقام المراقبة والمشاهدة وهو الإِحسان وبارك لنا فيما أعطيت البركة الزيادة وقيل هي حلول الخير الإلهي في الشيء والعطية الهبة والمراد بها هنا ما أنعم الله به وقنا شر ما قضيت معناه أن الله يقدر المكروه بعدم دعاء العبيد المستجاب فإذا استجاب دعاءهم لم يقطع القضاء لفوات شرطه وليس هو

رجاله خمسة

رد القضاء المبرم أو يراد به ما يشمل القضاء المبرم والمقصود من الدعاء التخفيف فيه ومنه صلة الرحم تزيد في العمر والرزق إنك تقضي الظاهر أن التعليل ليس مقصودًا بل القصد وصف المولى تبارك وتعالى بذلك على طريق التأكيد والتحقيق لأجل أن ينقطع العبد عمّا سواه ويلتجىء إليه التجاء غير مشوب بغيره تقضي أي تحكم على مَنْ تريد من عبادك بما تريد ولا يقضى عليك أي غيرك لا يمكن أن يقضي عليك بأمر؛ لأنه عاجز والعجز لازم له لا يذل مَنْ واليت أي: لا يهان مَنْ قمت بأمره وتدبيره ولا يعز مَنْ عاديت أي: لا يحصل له العز أي: القوة والغلبة مَنْ عاديت أي: لم تقم بأمره وتدبيره بل خذلته، تباركت أي: تعاظمت بالصفات الثبوتية والسلبية, وتعاليت أي: تنزهت عن كل ما لا يليق بك فهو من عطف الخاص على العام وزادت الحنابلة على هذا اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبعفوك من عقوبتك وبك منك لا نحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ثم يصلي على النبي -صلى الله عليه وسلم-. وفي قوله: "نعوذ برضاك من سخطك إلخ" معنى لطيف وذلك أنه سأل الله تعالى أن يجيره برضاه من سخطه وهما ضدان متقابلان وكذلك المعافاة والمواخذة ثم لجأ إلى ما لا ضد له وهو الله تعالى وأظهر العجز والانقطاع وفزع منه إليه فاستعاذ به منه لا نحصي ثناء عليك أي: لا نطيقه ولا نبلغه ولا تنتهي غايته لقوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} أي: تطيقوه. وقوله: "أنت كما أثنيت على نفسك" اعتراف بالعجز عن الثناء ورده إلى المحيط علمه بكل شيء جملة وتفصيلا فكما أنه تعالى لا نهاية لسلطانه وعظمته لا نهاية للثناء عليه؛ لأن الثناء تابع للمثنى عليه. قد مرّ لك أن لا خلاف أن القنوت للحاجة بعد الركوع قال في "الفتح": ظهر لي أن الحكمة في جعل قنوت النازلة في الاعتدال دون السجود مع أن السجود مظنة الإِجابة كما ثبت أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد وثبوت الأمر بالدعاء فيه هي أن المطلوب من قنوت النازلة أن يشارك المأموم في الدعاء ولو بالتأمين ومن ثم اتفقوا على أنه يجهر به بخلاف القنوت في الصبح فاختلفوا في محله وفي الجهر به وقد مرَّ أن القنوت يأتي لمعان وذكر ابن العربي أنه جاء لعشرة ونظمها الحافظ زين الدين العراقي فقال: ولفظ القنوت أعدد معانيه تجد ... مزيدًا على عشر معاني مرضية دعاء خشوع والعبادة طاعة ... إقامتها إقراره بالعبودية سكوت صلاة والقيام وطوله ... كذاك دوام الطاعة الرابح ألقينه رجاله خمسة: قد مرّوا إلاّ عبد الله بن محمد، مرَّ إسماعيل في الثامن من الإيمان, ومرّ أبو قلابة في التاسع منه، ومرَّ أنس في السادس منه، ومرّ خالد الحذاء في السابع عشر من العلم، وأما عبد الله فهو ابن

لطائف إسناده

محمد بن أبي الأسود حميد بن الأسود البصري الحافظ وقد ينسب إلى جده فيقال أبو بكر بن أبي الأسود. ذكره ابن حِبّان في "الثقات" وقال الخطيب: كان حافظًا متقنًا، وقال ابن معين: ما أرى به بأسًا ولكنه سمع من أبي عوانة وهو صغير وقال ابن أبي خيثمة كان ابن معين سيء الرأي فيه وفي الزهرة روى عنه البخاري عشرين حديثًا فقال في المقدمة روى عنه البخاري وأبو داود وروى الترمذي عن البخاري عنه لكن ما أخرج له عن أبي عوانة أحد منهم وهو ابن أخت عبد الرحمن بن مهدي روى عن جده أبي الأسود وخاله عبد الرحمن بن مهدي ومالك وحمّاد بن زيد وغيرهم وروى عنه البخاري وأبو داود كما مرّ ويعقوب بن شيبة وأبو الأحوص العكبري وغيرهم. مات سنة ثلاث وعشرين ومئتين. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول ورواته كلهم بصريون وشيخ البخاري من أفراده أخرجه البخاري أيضًا في الوتر عن مسدد.

الحديث السبعون

الحديث السبعون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُجْمِرِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَلاَّدٍ الزُّرَقِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ الزُّرَقِيِّ قَالَ: كُنَّا يَوْمًا نُصَلِّي وَرَاءَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. قَالَ رَجُلٌ وَرَاءَهُ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: مَنِ الْمُتَكَلِّمُ. قَالَ: أَنَا. قَالَ: رَأَيْتُ بِضْعَةً وَثَلاَثِينَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا، أَيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أَوَّلُ. قوله: "عن علي بن يحيى" في رواية ابن خزيمة أن علي بن يحيى حدّثه. وقوله: "فلما رفع رأسه من الركعة قال سمع الله لمن حمده" ظاهره أن قول التسميع وقع بعد رفع الرأس من الركوع فيكون من اذكار الاعتدال وقد مضى في حديث أبي هريرة وغيره ما يدل على أنه ذكر الانتقال وهو المعروف ويمكن الجمع بينهما بأن معنى قوله: فلما رفع رأسه أي: فلما شرع في رفع رأسه ابتدأ القول المذكور وأتمه بعد أن اعتدل ومباحث التسميع والتحميد مرَّ جلها في باب إنما جعل الإِمام ليؤتم به وبعضها في باب فضل اللهم ربنا لك الحمد قريبًا. وقوله: "قال رجل" زاد الكشميهني وراءه والرجل هو رفاعة بن رافع راوي الخبر واستدل على ذلك بما رواه النسائي عن رفاعة بن يحيى الزرقي عن رفاعة بن رافع قال: صليت خلف النبي -صلى الله عليه وسلم- فعطست فقلت الحمد لله الحديث. ونوزع في تفسيره به لاختلاف سياق السبب والقصة والجواب أنه لا تعارض بينهما بل يحمل على أن عطاسه وقع عند رفع رأس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا مانع أن يكني عن نفسه لقصد إخفاء عمله أو كنى عنه بعض الرواة لنسيان اسمه وأما ما عدا ذلك من الاختلاف فلا يتضمن إلاَّ زيادة لعل الراوي اختصرها كما سنبينه وأفاد بشر بن عمر الزهراني في روايته عن رفاعة بن يحيى أن تلك الصلاة كانت المغرب. وقوله: "مباركًا فيه" زاد رفاعة بن يحيى مباركًا عليه كما يحب ربنا ويرضى فأما قوله: "مباركًا عليه" فيحتمل أن يكون تأكيدًا وهو الظاهر وقيل الأول بمعنى الزيادة، والثاني بمعنى البقاء قال الله تعالى: {وَبَارَكَ فِيهَا} وقدر فيها أقواتها الآية وهذا يناسب الأرض؛ لأن المقصود به النماء والزيادة لا البقاء؛ لأنه بصدد التغير وقال تعالى: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ} وهذا يناسب الأنبياء؛ لأن

البركة باقية لهم ولما كان الحمد يناسبهما جمعهما. وأما قوله: "كما يحب ربنا ويرضى" ففيه من حسن التفويض إلى الله تعالى ما هو الغاية في القصد. وقوله: "مَنِ المتكلم" زاد رفاعة بن يحيى في الصلاة فلم يتكلم أحد ثم قالها الثانية فلم يتكلم أحد ثم قالها الثالثة فقال رفاعة بن رافع: أنا فقال: كيف قلت: قال: فقلت: الحمد لله إلخ، فقال: والذي نفسي بيده الحديث. وقوله: "بضعة وثلاثين" أي: بكسر الباء ورد على مَنْ زعم كالجوهري أن البضع يختص بما دون العشرين. وقوله: "أيهم يكتبها أول" في رواية رفاعة بن يحيى المذكورة أيهم يصعد بها أول، وللطبراني عن أبي أيوب أيهم يرفعها قال السهيلي: روى أول بالضم على البناء؛ لأنه ظرف قطع عن الإضافة أي أولهم وبالنصب على الحال وأما أيهما فروي بالرفع وهو مبتدأ وخبره يكتبها كما في قوله تعالى: {يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} وقيل هذا في موضع نصب والعامل فيه ما دل عليه يلقون وأي استفهامية والتقدير مقول فيهم أيهم تكتبها ويجوز في أيهم النصب بأن يقدر المحذوف فينظرون أيهم وعند سيبويه أي موصولة والتقدير يبتدرون الذي هو يكتبها أول وأنكر جماعة من البصريين ذلك ولا تعارض بين روايتي يكتبها ويصعد بها؛ لأنه يحمل على أنهم يكتبونها ثم يصعدون بها والظاهر أن هؤلاء غير الحفظة ويؤيده ما في الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعًا أن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر الحديث واستدل به على أن بعض الطاعات قد يكتبها غير الحفظة. قلت كتب غير الحفظة لها لا يمنع من كتب الحفظة لها فيكتبها الجميع تنويهًا بعظم قدرها عند الله تعالى وقد استشكل فأخبر رفاعة إجابة النبي -صلى الله عليه وسلم- حين كرر سؤاله ثلاثًا مع أن إجابته واجبة عليه وعلى كل مَنْ سمع رفاعة فإنه لم يسأل رفاعة وحده وأجيب بأنه لما لم يعين واحدًا بعينه لم تتعين المبادرة بالجواب من المتكلم ولا من واحد بعينه فكأنهم انتظر بعضهم بعضًا ليجيب وحملهم على ذلك خشية أن يبدو في حقه شيء ظنًا منهم أنه أخطأ فيما فعل ورجوا أن يقع العفو عنه وكأنه -صلى الله عليه وسلم- لما رأى سكوتهم فهم ذلك فعرفهم أنه لم يقل بأسًا ويدل على ذلك أنه في رواية سعيد بن عبد الجبار عن ابن قانع قال رفاعة: فوددت أني خرجت من مالي وأني لم أشهد مع النبي -صلى الله عليه وسلم- تلك الصلاة ولأبي داود عن عامر بن ربيعة قال: مَنْ القائل الكلمة فإنه لم يقل بأسًا فقال: أنا قلتها لم أرد بها إلاَّ خيرًا. وللطبراني عن أبي أيوب فسكت الرجل ورأى أنه قد هجم من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على شيء كرهه فقال: مَنْ هو فإنه لم يقل إلا صوابًا، فقال الرجل: أنا يا رسول الله قلتها أرجو بها الخير، ويحتمل

رجاله ستة

أن يكون المصلون لم يعرفوه بعينه إما لإِقبالهم على صلاتهم وإما لكونه في آخر الصفوف فلا يرد السؤال في حقهم والعذر عنه هو ما قدمناه والحكمة في سؤاله -صلى الله عليه وسلم- له عمن قال أن يتعلم السامعون كلامه فيقولوا مثله. وقد قيل إن الحكمة في اختصاص العدد المذكور من الملائكة بهذا الذكر أن عدد حروفه مطابق للعدد المذكور فإن البضع من الثلاث إلى التسع وعدد الذكر المذكور ثلاثة وثلاثون حرفًا ويعكر على هذا الزيادة المتقدمة في رواية رفاعة بن يحيى وهي قوله مباركًا عليه كما يحب ربنا ويرضى بناء على أن القصة واحدة ويمكن أن يقال المتبادر إليه هو الثناء الزائد على المعتاد وهو من قوله حمدًا كثيرًا إلى آخره دون قوله مباركًا عليه فإنه كما تقدم للتأكيد وعدد ذلك سبعة وثلاثون حرفًا. وأما ما وقع عند مسلم عن أنس لقد رأيت اثنى عشر ملكًا يبتدرونها وفي حديث أبي أيوب عند الطبراني ثلاثة عشر فهو مطابق لعدد الكلمات المذكورة في سياق رفاعة بن يحيى ولعددها أيضًا في سياق حديث الباب لكن على اصطلاح النحاة قاله في "الفتح" ولم أفهم المراد بقوله على اصطلاح النحاة وأخد من الحديث جواز إحداث ذكر في الصلاة غير مأثور إذا كان غير مخالف للمأثور وجواز رفع الصوت بالذكر ما لم يشوش على مَنْ معه واستدل به على أن العاطس في الصلاة يحمد الله تعالى بغير كراهة وأن المتلبس بالصلاة لا يتعين عليه تشميت العاطس. قلت: وعند المالكية يكره حمد العاطس على المشهور لاشتغاله بما هو أهم وقيل: خلاف الأولى وكذا يكره عند الحنابلة ولو شمت المصلى لعاطس بأن قال له: يرحمك الله بطلت صلاته عند الأئمة الأربعة وروي عن أبي حنيفة كما في المحيط أن العاطس يحمد الله تعالى في نفسه ولا يحرك لسانه ولو حرك تفسد صلاته والصحيح أنه يحمد الله بدون كراهة قاله العيني واستدل به على تطويل الاعتدال بالذكر وقد استوفى الكلام عليه في باب استواء الظهر في الركوع واستنبط منه ابن بطال جواز رفع الصوت بالتبليغ خلف الإِمام وتعقبه الزين بن المنير بأن سماعه -صلى الله عليه وسلم- لصوت الرجل لا يستلزم رفعه لصوته كرفع صوت المبلغ وفي هذا التعقب نظر لأن غرض ابن بطال إثبات جواز الرفع في الجملة وقد قال ابن عبد البر واستدل له بإجماعهم على أن الكلام الأجنبي يبطل عمده الصلاة ولو كان سرًا قال وكذلك الكلام المشروع في الصلاة لا يبطلها ولو كان جهرًا وقد مرَّ الكلام على مسألة المبلغ في باب حد المريض أن يشهد الجماعة. رجاله ستة: وفيه رجل مبهم، مرّت منهم الثلاثة الأول، مرّ عبد الله بن مسلمة في الثاني عشر من الإِيمان، ومرّ نعيم المجمر في الثاني من الوضوء، ومرّ مالك في الثاني من بدء الوحي. والثلاثة الأخر الأول منها: علي بن يحيى بن خلاد بن رافع بن مالك بن العجلان بن عمرو بن عامر بن زريق الزرقي الأنصاري. قال ابن معين والنسائي: ثقة، وذكره ابن حِبّان في

"الثقات" ووثقه ابن البرقي والدارقطني وغيرهما روى عن أبيه وعن عم أبيه رفاعة بن رافع وأبي السائب وروى عنه ابنه يحيى ونعيم المجمر وبكير بن الأشج وشريك بن أبي غر وإسحاق بن أبي طلحة وأبو طوالة وهم من أقرانه مات سنة تسع وعشرين ومئة. الثاني: أبو الأول يحيى بن خلاد الزرقي المدني قيل إنه ولد على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكره ابن حِبّان في "الثقات" روى عن رفاعة بن رافع وعن عمر بن الخطاب وروى عنه ابنه علي وابن ابنه يحيى قال أبو بكر بن أبي عاصم، مات سنة ثمان وعشرين ومئة وقال الواقدي مات سنة تسع وعشرين واعترض ابن حجر هذا قائلًا: "إنه يلزم عليه أن أحدًا ولد في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- بلغ مئة وعشرين سنة وأكثر وهذا مخالف للنص الصحيح الثابت في الصحيحين وإنما قيل هذا في تاريخ ولد ولده يحيى بن علي. الثالث: عم الذي قبله رفاعة بن رافع بن مالك بن العجلان بن عمرو بن عامر بن زريق الأنصاري الخزرجي الزرقي أبو معاذ وأُمه أُم مالك بنت أُبي بن سلول مشهورة شهد هو وأبوه العقبة وبقية المشاهد شهد معه بدرًا أخواه خلاد ومالك ابنا رافع واختلف في شهود أبيهم رافع بن مالك بدرًا وشهد رفاعة مع علي الجمل وصفين ففي ابن عبد البر عن عمر بن شبة أن الشعبي قال لما خرج طلحة والزبير: كتبت أُم الفضل بنت الحارث بخروجهم فقال علي: العجب لطلحة والزبير أن الله عَزَّ وَجَلَّ لما قبض رسوله -صلى الله عليه وسلم- قلنا: نحن أهله وأولياؤه لا ينازعنا سلطانه أحد فأبى علينا قومنا فولوا غيرنا وأيم الله لولا مخافة الفرقة وأن يعود الكفر ويبور الدين لغيرنا فصبرنا على بعض الألم ثم لم نر بحمد الله إلا خيرًا ثم وثب الناس على عثمان فقتلوه ثم بايعوني ولم أستكره أحدًا وبايعني طلحة والزبير ولم يصبرا شهرًا كاملًا حتى خرجا إلى العراق ناكثين اللهم خذهما بفتنتهما للمسلمين فقال رفاعة بن رافع: إن الله لما قبض رسوله عليه الصلاة والسلام ظننا أنا أحق الناس بهذا الأمر لنصرتنا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومكاننا من الدين فقلتم نحن المهاجرون الأولون وأولياء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأقربون وأنا نذكركم الله تعالى أن تنازعونا مقامه في الناس فخليناكم والأمر فأنتم أعلم وما كان بينكم غير أنا لما رأينا الحق معمولًا به والكتاب متبعًا والسنة قائمة رضينا ولم يكن لنا إلا ذلك فلما رأينا الأثرة أنكرنا لنرضي الله عَزَّ وَجَلَّ ثم بايعناك ولم نألُ وقد خالفك من أنت في أنفسنا خير منه وأرضى فمرنا بأمرك وقدم الحجاج بن غزية فقال: يا أمير المؤمنين: داركها داركها قبل الفوت ... لا وألت نفسي إن خفت الموت يا معشر الأنصار انصروا أمير المؤمنين أُخرى كما نصرتم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أُولى والله إن الآخرة لشبيهة بالأُولى إلاَّ إن الأُولى أفضلهما. له أربعة وعشرون حديثًا انفرد البخاري بثلاثة، روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وعبادة بن الصامت وروى عنه ابناه عبيد ومعاذ وابن أخيه يحيى وابنه علي بن يحيى مات في زمن معاوية سنة

لطائف إسناده

إحدى أو اثنتين وأربعين. والرجل المبهم هو رفاعة راوي الحديث كما أخرجه النسائي وقد أبهم نفسه لما له من التزكية في الحديث كما مرَّ. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول ورواته كلهم مدنيون وفيه رواية الأكابر عن الأصاغر لأن نعيمًا أكبر سنًا من علي بن يحيى وأقدم منه سماعًا وفيه ثلاثة من التابعين وهم من بين مالك والصحابي وفيه من وجه رواية الصحابي عن الصحابي لأن يحيى بن خلاد مذكور في الصحابة أخرجه أبو داود والنسائي. ثم قال المصنف: باب الاطمأنينة حين يرفع رأسه من الركوع قوله: الاطمأنينة كذا للأكثر وللكشميهني الطمأنينة وقد مرّ الكلام عليها في باب استواء الظهر ومرّ طول البحث فيها في باب وجوب القراءة للإمام والمأموم عند حديث المسيء صلاته. ثم قال: وقال أبو حميد: رفع النبي -صلى الله عليه وسلم- رأسه واستوى حتى يعود كل فقار مكانه. قوله: رفع رأسه أي: من الركوع، وقوله: فاستوى أي: قائمًا كما سيأتي بيانه عند ذكر الحديث موصولًا وهو ظاهر فيما ترجم له وفي رواية كريمة جالسًا بعد قوله فاستوى فإن كان محفوظًا حمل على أنه عبر عن السكون بالجلوس وفيه بعد، أو لعل المصنف أراد إلحاق الاعتدال بالجلوس بين السجدتين بجامع كون كل منهما غير مقصود لذاته فيطابق الترجمة وهذا التعليق قد مرّ معلقًا مرات، مرّ أوّل مرة في باب إلى أين يرفع يديه، ومرّ هناك بعض الكلام عليه ويأتي تمام الكلام عليه عند ذكره موصولًا في باب سنة الجلوس في التشهد إلخ.

الحديث الحادي والسبعون

الحديث الحادي والسبعون حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ ثَابِتٍ قَالَ: كَانَ أَنَسٌ يَنْعَتُ لَنَا صَلاَةَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَكَانَ يُصَلِّي وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَامَ حَتَّى نَقُولَ قَدْ نَسِيَ. قوله: "يَنْعَتُ" بفتح المهملة أي: يصف وهذا الحديث ساقه شعبة عن ثابت مختصرًا ورواه عنه حمّاد بن زيد مطولًا كما يأتي في باب المكث بين السجدتين فقال في أوله عن أنس قال: إني لا آلو أن أُصلي بكم كما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي بنا. وقوله: "لا آلو" بهمزة ممدودة بعد حرف النفي ولام مضمومة بعد واو خفيفة أي: لا أقصر وزاد حمّاد بن زيد قال ثابت: فكان أنس يصنع شيئًا لا أراكم تصنعونه وفيه إشعار بأن مَنْ خاطبهم كانوا لا يطيلون الجلوس بين السجدتين لقوله في تلك الرواية وبين السجدتين حتى نقول قد نسي لكن السنة إذا ثبتت لا يبالي من تمسك بها بمخالفة من خالفه وقد تقدم حديث أنس وإنكاره عليهم في أمر الصلاة في أبواب المواقيت في باب تضييع الصلاة عن وقتها. وقوله: "حتَّى نقولَ" بالنصب. وقوله: "قد نسي" أي: نسي وجوب الهوي إلى السجود ويحتمل أن يكون المراد أنه نسي أنه في صلاة أو ظن أنه وقت القنوت حيث يكون معتدلًا أو وقت التشهد حيث يكون جالسًا وعند الإسماعيلي عن شعبة قلنا: قد نسي من طول القيام أي لأجل طول قيامه. رجاله أربعة: قد مرّوا، مرّ الوليد في العاشر من الإِيمان, ومرّ شعبة في الثالث منه، ومرّ أنس في السادس منه، ومرّ ثابت في تعليق بعد الخامس من العلم. وهذا الحديث تفرد به البخاري ويأتي عن حمّاد بن زيد في باب المكث في المسجد مطولًا.

الحديث الثاني والسبعون

الحديث الثاني والسبعون حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ الْحَكَمِ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنِ الْبَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ كَانَ رُكُوعُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَسُجُودُهُ وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ وَبَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ قَرِيبًا مِنَ السَّوَاءِ. وهذا الحديث قد مرَّ استيفاء الكلام عليه في باب استواء الظهر. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ ذكر محل الوليد وشعبة في الذي قبله، ومرّ الحكم في الثامن والخمسين من العلم، ومرّ ابن أبي ليلى في الثالث والستين من أبواب صفة الصلاة هذه، ومرّ البراء في الثاني والثلاثين من الإِيمان.

الحديث الثالث والسبعون

الحديث الثالث والسبعون حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ قَالَ: كَانَ مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ يُرِينَا كَيْفَ كَانَ صَلاَةُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَذَاكَ فِي غَيْرِ وَقْتِ صَلاَةٍ، فَقَامَ فَأَمْكَنَ الْقِيَامَ، ثُمَّ رَكَعَ فَأَمْكَنَ الرُّكُوعَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَأَنْصَتَ هُنَيَّةً، قَالَ: فَصَلَّى بِنَا صَلاَةَ شَيْخِنَا هَذَا أَبِي يزيد وَكَانَ أَبُو يزيد إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السَّجْدَةِ الآخِرَةِ اسْتَوَى قَاعِدًا ثُمَّ نَهَضَ. قوله: "كان مالك" في رواية الكشميهني قام والأول يشعر بتكرير ذلك منه. وقوله: "فأنصت" في رواية الكشميهني بهمزة مقطوعة وآخره مثناة خفيفة أي: سكت فلم يكبر للهوي في الحال وهذا دال على حصول الطمأنينة في الاعتدال ويحتمل أن يقال هو كناية عن سكون أعضائه عبّر عن عدم حركتها بالإنصات وذلك دال على الطمأنينة والأول أولى وفي رواية الباقين فانصاب بألف موصولة وآخره موحدة مشددة وهي انفعل من الانصاب كأنه كنى عن رجوع أعضائه عن الانحناء إلى القيام وحكى ابن التين أن بعضهم ضبطه بالمثناة المشددة بدل الموحدة ولعل نقل التشديد عنه تصحيف فإن أصله انصوت تحركت الواو وانفتح ما قبلها فانقلبت ألفًا ومعنى إنصات استوت قامته بعد الإنحناء كأنه أقبل شبابه قال الشاعر: وعمرو بن دهمان الهنيدة عاشها ... وتسعين أُخرى ثم قوم فانصاتا وعاد سواد الرأس بعد بياضه ... وراجعه شرخ الشباب الذي فاتا وراجع أيدًا بعد ضعف وقوة ... ولكنه بعد ذا كله ماتا وعند الإسماعيلي فانتصب قائمًا وهي أوضح من الجميع. وقوله: "هُنَية" بضم الهاء وفتح النون زمنًا قليلًا وقد تقدم ضبطها في باب ما يقول بعد التكبير. وقوله: "صلاة شيخنا" هذا أبي يزيد وقع هنا للأكثر بالتحتانية والزاي وعند الحموي وكريمة بالموحدة والراء مصغرًا وكذا ضبطه مسلم في الكنى قال عبد الغني بن سعيد: لم أسمعه من أحد إلا بالزاي لكن مسلم أعلم وقد مرّ استيفاء الكلام على هذا الحديث في باب مَنْ صلى بالناس وهو لا يريد إلا أن يعلمهم ومرّ هناك تعريف أبي يزيد وهو عمرو بن سلمة الجرمي. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ سليمان في الرابع عشر من الإِيمان، ومرّ أيوب وأبو قلابة في التاسع منه، ومرّ

باب يهوى بالتكبير حين يسجد

حمّاد بن زيد في الرابع والعشرين منه، ومرّ مالك بن الحويرث في تعليق بعد الثامن والعشرين من العلم وفيه صلاة شيخنا هنا أبي يزيد وهو عمرو بن سلمة وقد مرّ في الثلاثين من أبواب الجماعة، ومرّ هناك ما يتعلق به. ثم قال المصنف: باب يهوى بالتكبير حين يسجد قال ابن التين: رويناه بالفتح وضبطه بعضهم بالضم والفتح أرجح وروى بالوجهين ثم قال: وقال نافع: كان ابن عمر يضع يديه قبل ركبتيه مطابقة هذا الأثر للترجمة من حيث اشتمالها عليه لأنها في الهوي بالتكبير إلى السجود فالهوي فعل والتكبير قول فكما أن حديث أبي هريرة المذكور في هذا الباب يدل على القول يدل أثر ابن عمر على الفعل؛ لأن للهوي إلى السجود صفتين قولية وصفة فعلية فأثر ابن عمر إشارة إلى الصفة الفعلية وحديث أبي هريرة إلى الصفة القولية والفعلية. وقال في "الفتح": يحتمل أن أثر ابن عمر من جملة الترجمة فهو مترجم به لا مترجم له وهذا لا يصح؛ لأنه إذا كان من جملة الترجمة يحتاج إلى شيء يذكره يكون مطابقًا لها وليس ذلك بموجود وهذا الأثر أخرجه ابن خزيمة والحاكم والدارقطني والبيهقي والطحاوي عن عبد العزيز الدراوردي عن عبيد الله بن عمر عن نافع بهذا وزاد في آخره ويقول: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يفعل ذلك قال البيهقي: كذا رواه عبد العزيز ولا أراه إلاّ وهمًا يعني رفعه قال والمحفوظ ما اخترنا ثم أخرج من طريق أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: إذا سجد أحدكم فليضع يديه وإذا رفع فليرفعهما. ولقائل أن يقول هذا الموقوف غير المرفوع فإن الأول وضع تقديم وضع اليدين على الركبتين والثاني في إثبات وضع اليدين في الجملة وهذه من المسائل المختلف فيها فقال مالك والأوزاعي والحسن الأفضل وضع اليدين قبل الركبتين؛ لأنه أحسن في خشوع الصلاة ووقارها وهو رواية عن أحمد واستدلوا له أيضًا بحديث أبي هريرة المروي في السنن بلفظ إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه وعورض بحديث عن أبي هريرة أيضًا أخرجه الطحاوي ولكن إسناده ضعيف وأبدى الزين بن المنير لتقديم اليدين مناسبة وهي أن يلقى الأرض عن جبهته ويعتصم بتقديمهما عن إيلام ركبتيه إذا جثى عليهما وعن مالك وأحمد رواية بالتخيير ومذهب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة وأصحابه وإسحاق وأهل الكوفة أن وضع الركبتين قبل اليدين أفضل وحكاه ابن بطال عن ابن وهب وهو رواية ابن شعبان عن مالك استدلوا من حيث النظر بأنه في الوضع يقدم الأقرب إلى الأرض الركبتين وفي الرفع يقدم الأقرب إلى السماء اليدين والوجه وفي "الاسبيجابي" عن أبي حنيفة إن كان لا بأس خف وضع يديه أولًا واستدل هؤلاء بحديث وائل بن حجر المروي في السنن وقال الترمذي: حديث حسن ولفظه قال: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه قال الخطابي: وهو أثبت من حديث تقديم اليدين وارفق بالمصلى وأحسن بالشكل ورأى العين وقال الدارقطني: قال ابن أبي داود: وضع الركبتين قبل اليدين تفرد به شريك القاضي عن عاصم بن كليب وشريك ليس بالقوي فيما ينفرد به.

وقال البيهقي: هذا الحديث يعد في إفراد شريك كما ذكره البخاري وغيره من حفّاظ المتقدمين وفي المعرفة رواه أبو الليث عن عاصم بن كليب عن أبيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذا مرسلًا وهو المحفوظ وعن سعد بن أبي وقاص قال: كنا نضع اليدين قبل الركبتين فأمرنا بالركبتين قبل اليدين رواه ابن خزيمة في صحيحه وادعى أنه ناسخ لتقديم اليدين قال في "المجموع" ولذا اعتمده أصحابنا ولكن لا حجة فيه؛ لأنه ضعيف ظاهر الضعف بين البيهقي وغيره ضعفه وهو من رواية يحيى بن سلمة بن كهيل وهو ضعيف باتفاق الحفاظ ولذا قال النووي لا يظهر ترجيح أحد المذهبين على الآخر من حيث السنة ولكن قال الحافظ بن حجر في "بلوغ المرام": حديث أبي هريرة إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه أقوى من حديث وائل رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه؛ لأن لحديث أبي هريرة شاهدًا من حديث ابن صححه ابن خزيمة ورواه البخاري معلقًا موقوفًا. ومراده بذلك قوله هنا: وقال نافع الخ. قلت: مع ما ذكر ومع ما مضى من أن وضع الركبتين قبل اليدين تفرد به القاضي شريك كيف يصح قول النووي لا يظهر ترجيح لأحد المذهبين على الآخر بل ترجيح وضع اليدين قبل الركبتين ظاهر. ونافع قد مرَّ في الثالث والسبعين من العلم، ومرّ عبد الله بن عمر في أثر أول كتاب الإِيمان قبل ذكر حديث منه.

الحديث الرابع والسبعون

الحديث الرابع والسبعون حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يُكَبِّرُ فِي كُلِّ صَلاَةٍ مِنَ الْمَكْتُوبَةِ وَغَيْرِهَا فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ، فَيُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ، ثُمَّ يَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. ثُمَّ يَقُولُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ. قَبْلَ أَنْ يَسْجُدَ، ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ أَكْبَرُ. حِينَ يَهْوِى سَاجِدًا، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَسْجُدُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ مِنَ الْجُلُوسِ فِي الاِثْنَتَيْنِ، وَيَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ حَتَّى يَفْرُغَ مِنَ الصَّلاَةِ، ثُمَّ يَقُولُ حِينَ يَنْصَرِفُ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لأَقْرَبُكُمْ شَبَهًا بِصَلاَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِنْ كَانَتْ هَذِهِ لَصَلاَتَهُ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا. قَالاَ: وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ يَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ. يَدْعُو لِرِجَالٍ فَيُسَمِّيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَيَقُولُ اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ. وَأَهْلُ الْمَشْرِقِ يَوْمَئِذٍ مِنْ مُضَرَ مُخَالِفُونَ لَهُ. قوله: "إن أبا هريرة كان يكبر" زاد النسائي عن الزهري حين استخلفه مروان على المدينة. وقوله: "ثم يقول: الله أكبر" إنما قال هنا الله أكبر بالجملة الاسمية وفي سائر المواضع ثم يكبر بالجملة الفعلية المضارعية لأن سياق الكلام يدل على ما يدل عليه عقد الباب على هذا التكبير فأراد أن يصرح بما هو المقصود نصًا على لفظه. قلت: إنما يصح هذا لو كان العاقد للباب راوي الحديث اللهم إلا أن يكون البخاري نظر إلى ما وقع في الحديث فبوب عليه. وقوله: "حين يهوي ساجدًا" فيه أن التكبير ذكر الهوي فيبتدىء به من حين يشرع في الهوي بعد الاعتدال إلى حين يتمكن ساجدًا. وقوله: "حين يقوم من الجلوس في الاثنتين" فيه أنه يشرع في التكبير حين ابتدأ القيام إلى

الثلاثة بعد التشهد الأول خلافًا لمالك وقد استوفى الكلام على هذا في باب التكبير إذا قام من السجود. وقوله: "إن كانت هذه لصلاته" كلمة إن هذه مخففة من الثقيلة وأصلها أنه أي الشان، وقوله: هذه اسم كانت إشارة إلى الصلاة التي صلاها أبو هريرة. وقوله: لصلاته خبر كانت واللام فيه للتأكيد وهي مفتوحة قال أبو داود في سننه بعد أن روى هذا الكلام الأخير: هذا يجعله مالك والزبيدي وغيرهما عن الزهري عن الحسين بن علي مرسلًا وكذا أخرجه سعيد بن منصور عن ابن عيينة عن الزهري لكن لا يلزم من ذلك أن لا يكون الزهري أيضًا رواه عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث وغيره عن أبي هريرة ويؤيد ذلك ما تقدم في باب التكبير إذا قام من السجود عن عقيل عن الزهري فإنه صريح في الصفة المذكورة مرفوعة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-. وقوله: "قالا" يعني أبا بكر بن عبد الرحمن وأبا سلمة وهو موصول بالإسناد المذكور إليهما. وقوله: يدعو قيل هو خبر آخر لكان أو عطف على يقول بدون حرف العطف والأوجه أن يكون حالًا من الضمير الذي في يقول من الأحوال المقدرة. وقوله: "فيسميهم" الفاء فيه للتفسير. وقوله: "أنج" بفتح الهمزة أمر من أنجى إنجاء والأمر في مثل هذا طلب والوليد وصاحباه يأتي تعريفهما قريبًا. وقوله: "والمستضعفين" أي: وأنج المستضعفين من المؤمنين وهو من عطف العام على الخاص. وقوله: "اشدد" بضم همزة الوصل أمر من شد. وقوله: "وَطأتك" بفتح الواو وسكون الطاء وفتح الهمزة من الوطء وهو الدوس بالقدم في الأصل ومعناه هنا خذهم أخذًا شديدًا ومنه قول الشاعر: ووطأتنا وطأً على حنق ... وطء المقيد ثابت القدم ومُضَر بضم الميم وفتح الضاد المعجمة ابن نزار بن معد بن عدنان وهو شعب عظيم فيه قبائل كثيرة كقريش وهذيل وأسد وتميم وهو شعب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واشتقاقه من اللبن المضير أي: الحامض. وقوله: "اجعلها" أي: الوطأة. وقوله: "كسني يوسف" أي: كالسنين التي كانت في زمن يوسف عليه الصلاة والسلام مقحطة ووجه التشبيه امتداد زمان المحنة والبلاء والبلوغ غاية الشدة والضراء وجمع السنة بالواو والنون شاذ من جهة أنه ليس لذوي العقول ومن جهة تغير مفرده بكسر أوله ولهذا جعل بعضهم حكمه كحكم المفردات وجعل نونه متعقب الإعراب قال الشاعر: دعاني من نجد فإن سنينه ... لعبن بنا شيبًا وشيبننا مروا واستدل به على أن محل القنوت بعد الرفع من الركوع وعلى أن تسمية الرجال بأسمائهم فيما

رجاله ستة

يدعى لهم وعليهم لا تفسد صلاته. رجاله ستة: قد مرّوا، مرّ أبو اليمان وشعيب في السابع من بدء الوحي، ومرّ الزهري في الثالث منه، ومرّ أبو سلمة في الرابع منه، ومرّ أبو بكر بن عبد الرحمن في الستين من أبواب صفة الصلاة هذه، ومرّ أبو هريرة في الثاني من الإيمان. وفي الحديث ذكر الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة وها أنا أذكر تعريفهم إن شاء الله تعالى. الأول: الوليد بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي أخو خالد بن الوليد أُسر يوم بدر كافرًا قيل أسره عبد الله بن جحش وقيل أسره سليط بن قيس المازني الأنصاري قدم في فدائه خالد وهشام وكان هشام شقيقه أُمهما آمنة أو عاتكة بنت حرملة وتمنع عبد الله بن جحش حتى افتكاه بأربعة آلاف درهم وجعل خالد يريد أن لا يبلغ ذلك فقال له هشام: إنه ليس بابن أُمك والله لو أني فيه إلا كذا وكذا لفعلت ويقال إن النبي -صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن جحش لا تقبل في فدائه إلا سكة أبيه الوليد وكانت السكة درعى فضفاضة وسيفًا وبيضة فأبى ذلك خالد وطاع هشام لأنه شقيقه فقومت السكة بمائة دينار فطاعا بها وسلماها إلى عبد الله بن جحش فلما افتدى أسلم وعاتبوه في ذلك وقيل له: هلاّ أسلمت قبل أن تفتدى وأنت مع المسلمين فقال: كرهت أن تظنوا بي أني جزعت من الأسر ولما أسلم حبسه أخواله فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو له في القنوت كما ثبت في الصحيح ثم أفلت من إسارهم ولحق بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وشهد عمرة القضية ويقال إن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما اعتمر خرج خالد من مكة حتى لا يرى المسلمين دخلوا مكة فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- للوليد: لو أتانا خالد لاكرمناه وما مثله سقط عليه الإِسلام في عقله فكتب الوليد بذلك إلى خالد فكان سبب هجرته حكاه الواقدي وأخرج الطبراني أن الوليد بن الوليد كان محبوسًا وأراد أن يهاجر فباع مالًا له بالطائف ثم وجد غفلة من القوم فخرج هو وعياش بن أبي ربيعة وسلمة بن هشام مشاة يخافون الطلب فسعوا حتى تعبوا وقصر الوليد فقال: يا قدمي ألحقاني بالقوم ... ولا تعداني كسلًا بعد اليوم فلما كان عند الأحراس نكب فقال: هل أنت إلا اصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت فدخل على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله حسرت وأنا ميت فكفني في فضل ثوبك واجعله مما يلي جلدك ومات فكفنه النبي -صلى الله عليه وسلم- في قميصه ودخل إلى أُم سلمة وبين يديها صبي وهي تقول: ابك الوليد بن الوليد بن المغيرة: فقال: إن كدتم لتتخذن الوليد حنانًا فسماه عبد الله وقيل: إنه لما فر من الأسر مات ببير أبي عتبة قبل أن يدخل المدينة على ميل منها قال ابن عبد البر: والصحيح الأول وذكر الزبير بن بكار أن أُم سلمة لما مات الوليد قالت:

يا عين فابكي للوليد ... بن الوليد بن المغيرة قد كان غيثًا في السنين ... ورحمة فينا وميرة ضخم الدسيعة ماجد ... يسمو إلى طلب الوتيرة مثل الوليد بن الوليد ... أبي الوليد كفى العشيرة وقد أخرج أحمد في مسنده له حديثًا أنه قال: يا رسول الله إني أجد وحشة في منامي فقال: "إذا اضطجعت للنوم فقل: بسم الله، أعوذ بكلمات الله من غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأعوذ بك ربِّ أن يحضرون" وقد أخرجه أبو داود من رواية ابن إسحاق. الثاني: سلمة بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي كان من مهاجرة الحبشة وكان من خيار الصحابة وفضلائهم وكانوا خمسة أُخوة أبو جهل والحارث والعاص وخالد وسلمة، فأما أبو جهل والعاص قتلا ببدر كافرين وأُسر خالد يومئذ ثم فدي ومات كافرًا وأسلم الحارث وسلمة وكانا من خيار الصحابة وكان سلمة قديم الإِسلام وحبس بمكة وعذب في الله وروى عبد الرزاق قال: فر عياش بن ربيعة وسلمة بن هشام والوليد بن الوليد من المشركين فعلم النبي -صلى الله عليه وسلم- بمخرجهم فدعا لهم لما رفع رأسه من الركوع وروى ابن سعد أن سلمة لما فرّ من قريش قالت أُم ضباعة بنت عامر بن قرط: لا هم رب الكعبة المحرمة ... أظهر على كل عدوٍ سلمة له يدان في الأُمور المبهمة ... كف بها يروي وكف منعنمة وروى ابن إسحاق من حديث أُم سلمة أنها قالت لامرأة سلمة بن هشام: مالي لا أرى سلمة يصلي مع النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ قالت: كلما خرج صاح به الناس يا فرار وكان ذلك عقب غزوة مؤتة وزاد الواقدي إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "بل هو الكرار" قال: ولما مات النبي -صلى الله عليه وسلم- خرج إلى الشام فاستشهد بمرج الصفر في المحرم سنة أربع عشرة في أول خلافة عمر وذكر موسى بن عقبة أنه استشهد بأجنادين وصوبه أحمد. الثالث: عياش بن أبي ربيعة واسم أبي ربيعة عمرو ويلقب ذا الرمحين بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم يكنى أبا عبد الرحمن قيل: يكنى أبا عبد الله ابن عم خالد بن الوليد وأخو أبي جهل لأُمه أُمهما الجلاس واسمها أسماء بنت مخربة وهو أخو عبد الله بن أبي ربيعة لأبيه وأُمه. كان إسلامه قديمًا قبل أن يدخل النبي -صلى الله عليه وسلم- دار الأرقم هاجر إلى الحبشة مع زوجته أسماء بنت سلمة بن مخربة وولدت له بها ابنه عبد الله ثم هاجر إلى المدينة حين هاجر عمر بن الخطاب فجمع بين الهجرتين فقدم عليه أخواه لأُمه أبو جهل والحارث ابنا هشام فذكرا له أن أُمه حلفت أن لا يمس رأسها دهن ولا تستظل حتى تراه فرجع معهما فأوثقاه رباطًا وحبساه بمكة وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو له قال أبو عمر: قنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شهرًا يدعو للمستضعفين بمكة ويسمي منهم الوليد وسلمة وعياش.

لطائف إسناده

روى عياش عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا تزال هذه الأُمة بخير ما عظموا هذه الحرمة حق تعظيمها فإذا صنعوا ما هلكوا" يعني الكعبة والحرم، روى عنه ابنه عبد الله وروى عنه أنس بن مالك وعبد الرحمن بن سابط وأرسل عنه عمر بن عبد العزيز ونافع مولى ابن عمر. ذكر ابن سعد أن عياش وعكرمة بن أبي جهل والحارث بن هشام قتلوا يوم اليرموك وقيل: استشهد باليمامة وقال الطبري: أنه مات بمكة. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإخبار بالجمع والإفراد والعنعنة وفيه ثلاثة بالكنى وقيل فيهم أن أسماءهم كناهم ورواته ما بين حمصيين ومدنيين أخرجه أبو داود والنسائي.

الحديث الخامس والسبعون

الحديث الخامس والسبعون حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ غَيْرَ مَرَّةٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: سَقَطَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ فَرَسٍ فَجُحِشَ شِقُّهُ الأَيْمَنُ، فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ نَعُودُهُ، فَحَضَرَتِ الصَّلاَةُ، فَصَلَّى بِنَا قَاعِدًا وَقَعَدْنَا وَقَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً صَلَّيْنَا قُعُودًا فَلَمَّا قَضَى الصَّلاَةَ قَالَ: إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. فَقُولُوا رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ. وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا. كَذَا جَاءَ بِهِ مَعْمَرٌ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: لَقَدْ حَفِظَ، كَذَا قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَلَكَ الْحَمْدُ. حَفِظْتُ مِنْ شِقِّهِ الأَيْمَنِ. فَلَمَّا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ الزُّهْرِيِّ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَأَنَا عِنْدَهُ فَجُحِشَ سَاقُهُ الأَيْمَنُ. قوله: "من فرس" فيه اشعار بتثبت علي بن عبد الله ومحافظته على الإتيان بألفاظ الحديث وقد تقدم بعض الكلام عليه في باب إنما جعل الإِمام ليؤتم به واستوفى الكلام عليه في باب الصلاة في السطوح في أوائل الصلاة. وقوله: "جحش" أي: خدش وفي قصر الصلاة عن أبي نعيم عن ابن عيينة فجحش أو خدش على الشك. وقوله: "كذا جاء به معمر" القائل المستفهم هو سفيان والمقول له هو على وهمزة الاستفهام كذا مقدرة. وقوله: "قلت: نعم" القائل هو علي وكان مستنده في ذلك عبد الرزاق عن معمر فإنه من مشائخه بخلاف معمر فإنه لم يدركه وإنما يروي عنه بواسطة. وقوله: "قال: لقد حفظ" أي: قال سفيان لقد حفظ أي: معمر حفظًا شديدًا وفيه إشعار بقوة حفظ سفيان بحيث يستجيد حفظ معمر إذا وافقه. وقوله: "كذا" قال الزهري ولك الحمد أي قال الزهري كما قال معمر ولك الحمد بالواو وفيه إشارة إلى أن بعض أصحاب الزهري لم يذكروا الواو وأراد سفيان بهذا الاستفهام تقدير روايته برواية معمر له. وقوله: "حفظت من شقه الأيمن" ولابن عساكر وحفظت بالواو أي: قال سفيان حفظت من

رجاله ستة

الزهري أنه قال فجحش من شقه الأيمن. وقوله: قال ابن جريج وأنا عنده فجحش ساقه الأيمن أي: بلفظ الساق بدل الشق. وقوله: "وأنا عنده" جملة حالية من فاعل قال مقدرة والضمير للزهري أي: قال ابن جريج أن الزهري قال ذلك مقدرًا كونه قال في حال كوني عنده ويحتمل أن يكون هو مقول سفيان والضمير لابن جريج ومقول ابن جريج هو فجحش إلخ أي: قال ابن جريج: والحال أني عنده فجحش وهذا الأخير أقرب إلى الصواب وفيه إشارة إلى ما ذكر من جودة ضبط سفيان لأن ابن جريج سمعه معهم من الزهري بلفظ شقه فحدث به عن الزهري بلفظ ساقه وهي أخص من شقه لكن هذا محمول على أن ابن جريج عرف من الزهري في وقت آخر أن الذي خدش هو ساقه لبعد أن يكون نسى الكلمة في هذه المدة اليسيرة وقد مرّ بيان الروايات في باب الصلاة على السطوح وباب إنما جعل الإِمام ليؤتم به. رجاله ستة: فيه ستة رجال قد مروا، مرّ ابن المديني في الرابع عشر من العلم، ومرّ سفيان في الأول من بدء الوحي، ومرّ الزهري في الثالث منه، ومرّ معمر في متابعة بعد الرابع منه، ومرّ أنس في السادس من الإِيمان, ومرّ عبد الملك بن جريج في الثالث من الحيض. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والسماع والقول وشيخ البخاري من أفراده ورواته ما بين بصري ومكي ومدني وقد مرّ الكلام عليه في باب إنما جعل الإِمام ليؤتم به. ثم قال المصنف: باب فضل السجود أورد فيه حديث أبي هريرة في صفة البعث والشفاعة والمقصود منه قوله هنا وحرم الله على النار أن تأكل آثار السجود.

الحديث السادس والسبعون

الحديث السادس والسبعون حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُمَا: أَنَّ النَّاسَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: هَلْ تُمَارُونَ فِي الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ؟. قَالُوا: لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فَهَلْ تُمَارُونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟. قَالُوا: لاَ. قَالَ: فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ، يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتَّبِعْه. فَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الشَّمْسَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الْقَمَرَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الطَّوَاغِيتَ، وَتَبْقَى هَذِهِ الأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا، فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا، فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ. فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ. فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا. فَيَدْعُوهُمْ فَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ جَهَنَّمَ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَجُوزُ مِنَ الرُّسُلِ بِأُمَّتِهِ، وَلاَ يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ إِلاَّ الرُّسُلُ، وَكَلاَمُ الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ. وَفِى جَهَنَّمَ كَلاَلِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، هَلْ رَأَيْتُمْ شَوْكَ السَّعْدَانِ؟. قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إِلاَّ اللَّهُ، تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُوبَقُ بِعَمَلِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُخَرْدَلُ ثُمَّ يَنْجُو، حَتَّى إِذَا أَرَادَ اللَّهُ رَحْمَةَ مَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، أَمَرَ اللَّهُ الْمَلاَئِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ، فَيُخْرِجُونَهُمْ وَيَعْرِفُونَهُمْ بِآثَارِ السُّجُودِ، وَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ فَيَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ، فَكُلُّ ابْنِ آدَمَ تَأْكُلُهُ النَّارُ إِلاَّ أَثَرَ السُّجُودِ، فَيَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ قَدِ امْتَحَشُوا، فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مَاءُ الْحَيَاةِ، فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ، ثُمَّ يَفْرُغُ اللَّهُ مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ، وَيَبْقَى رَجُلٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَهْوَ آخِرُ أَهْلِ النَّارِ دُخُولاً الْجَنَّةَ، مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ قِبَلَ النَّارِ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ اصْرِفْ وَجْهِي عَنِ النَّارِ، قَدْ قَشَبَنِي رِيحُهَا، وَأَحْرَقَنِي ذَكَاؤُهَا. فَيَقُولُ هَلْ عَسَيْتَ إِنْ فُعِلَ ذَلِكَ بِكَ أَنْ تَسْأَلَ غَيْرَ ذَلِكَ فَيَقُولُ: لاَ وَعِزَّتِكَ. فَيُعْطِى اللَّهَ مَا يَشَاءُ مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ، فَيَصْرِفُ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ، فَإِذَا أَقْبَلَ بِهِ عَلَى الْجَنَّةِ رَأَى بَهْجَتَهَا سَكَتَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ، ثُمَّ قَالَ: يَا رَبِّ قَدِّمْنِي عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ. فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ أَلَيْسَ

قَدْ أَعْطَيْتَ الْعُهُودَ وَالْمَوَاثِيقَ أَنْ لاَ تَسْأَلَ غَيْرَ الَّذِى كُنْتَ سَأَلْتَ فَيَقُولُ يَا رَبِّ لاَ أَكُونُ أَشْقَى خَلْقِكَ. فَيَقُولُ فَمَا عَسَيْتَ إِنْ أُعْطِيتَ ذَلِكَ أَنْ لاَ تَسْأَلَ غَيْرَهُ فَيَقُولُ لاَ وَعِزَّتِكَ لاَ أَسْأَلُ غَيْرَ ذَلِكَ. فَيُعْطِي رَبَّهُ مَا شَاءَ مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ، فَيُقَدِّمُهُ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ، فَإِذَا بَلَغَ بَابَهَا، فَرَأَى زَهْرَتَهَا وَمَا فِيهَا مِنَ النَّضْرَةِ وَالسُّرُورِ، فَيَسْكُتُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ، فَيَقُولُ يَا رَبِّ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ. فَيَقُولُ اللَّهُ وَيْحَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ، أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ أَنْ لاَ تَسْأَلَ غَيْرَ الَّذِى أُعْطِيتَ فَيَقُولُ يَا رَبِّ لاَ تَجْعَلْنِي أَشْقَى خَلْقِكَ. فَيَضْحَكُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهُ، ثُمَّ يَأْذَنُ لَهُ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ تَمَنَّ. فَيَتَمَنَّى حَتَّى إِذَا انْقَطَعَتْ أُمْنِيَّتُهُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ تَمَنَّ كَذَا وَكَذَا. أَقْبَلَ يُذَكِّرُهُ رَبُّهُ، حَتَّى إِذَا انْتَهَتْ بِهِ الأَمَانِيُّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ لأَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: قَالَ اللَّهُ لَكَ ذَلِكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَمْ أَحْفَظْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلاَّ قَوْلَهُ لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ إِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ ذَلِكَ لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ. قوله: "هل تمارون في القمر" بضم التاء والراء من المماراة من باب المفاعلة وهي المجادلة على وجه الشك والريبة وفي رواية الأصيلي بفتح التاء والراء وأصله تتمارون من التماري من باب التفاعل فحذفت إحدى التاءين كما في تلظى أصله تتظلى ومعنى التماري الشك من المُرية بكسر الميم وضمها وبها قرىء قوله تعالى: {فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ} وفي الرواية الاتية في كتاب الرقاق في باب الصراط جسر جهنم هل تضارون في القمر ليلة البدر وهو بضم أوله وبالضاد المعجمة وتشديد الراء بصيغة المفاعلة من الضُر، وقدْ مرّ هذا الطرف من الحديث في باب فضل صلاة العصر ومرّ الكلام عليه هناك. وقوله: "يحشر الله الناس يوم القيامة" وفي رواية الرقاق يجمع الله الناس والحشر والجمع بمعنى وزاد في رواية العلاء في صعيد واحد ومثله في رواية أبي زرعة عن أبي هريرة بلفظ يجمع الله يوم القيامة الأولين والآخرين في صعيد واحد فيسمعهم الداعي وينفذهم البصر قال النووي: الصعيد الأرض الواسعة المستوية وينفذهم بفتح أوله وسكون النون وضم الفاء بعدها ذال معجمة أي يخرقهم بمعجمة وقاف حتى يجوزهم وقيل بالدال المهملة أي يستوعبهم قال أبو عبيدة معناه ينفذهم بصر الرحمن حتى يأتي عليهم كلهم وقال غيره المراد بصر الناظرين وهو أولى وقال القرطبي معناه أنهم يجمعون في مكان واحد جتى لا يخفى منهم أحد لو دعاهم داع لسمعوه ولو نظر إليهم ناظر لأدركهم قال: ويحتمل أن يكون المراد بالداعي هنا من يدعوهم إلى العرض والحساب لقوله يوم يدع الداعي وزاد العلاء بن عبد الرحمن في روايته فيطلع عليهم رب العالمين قال ابن العربي لم يزل الله مطلعًا على خلقه وإنما المراد علامة باطلاعه عليهم

حينئذ وفي حديث ابن مسعود عند البيهقي وأصله عند النسائي إذا حشر الناس قاموا أربعين عامًا شاخصة أبصارهم إلى السماء لا يكلمهم والشمس على رؤوسهم حتى يلجم العرق كل بر منهم وفاجر وفي حديث أبي سعيد عند أحمد أنه يخفف الوقوف عن المؤمن حتى يكون كصلاة مكتوبة وسنده حسن ولأبي يعلى عن أبي هريرة كتدلي الشمس للغروب إلى أن تغرب وللطبراني عن عبد الله بن عمر ويكون ذلك اليوم أقصر على المؤمن من ساعة من نهار. وقوله: "مَنْ كان يعبد شيئًا فليتبع" أي: بحذف هاء الضمير وفي بعض النسخ إثباته. وقوله: "فمنهم مَنْ يتبع الشمس ومنهم يتبع القمر ومنهم يتبع الطواغيت" ورواية الرقاق فيتبع مَنْ كان يعبد الشمس ويتبع مَنْ كان يعبد القمر ويتبع مَنْ كان يعبد الطواغيت أي: بحذف المفعول في الثلاثة أي: يتبع الشمس مَنْ كان يعبد الشمس إلخ. قال ابن أبي جمرة في التنصيص على ذكر الشمس والقمر مع دخولهما فيمن عبد من دون الله التنويه بذكرهما لعظم خلقهما وفي حديث ابن مسعود ثم ينادي مناد من السماء أيها الناس أليس عدل من ربكم الذي خلقكم وصوركم ورزقكم ثم توليتم غيره أن يولي كل عبد منكم ما كان تولى قال: فيقولون: بلى ثم يقول لتنطلق كل أُمة إلى مَنْ كانت تعبد وفي رواية العلاء بن عبد الرحمن ألا ليتبع كل إنسان ما كان يعبد وفي رواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة في مسند أحمد وصحيح ابن خزيمة وأصله في مسلم بعد قوله: إلا كما تضارون في رؤيتهما فيلقي العبد فيقول ألم أكرمك وأزوجك وأُسخر لك؟ فيقول: بلى، أظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا، فيقول: إني أنساك كما نسيتني الحديث. وفيه ويلقي الثالث فيقول آمنت بك وبكتابك وبرسولك وصليت وصمت فيقول: ألا نبعث عليك شاهدًا فيختم على فيه وتنطق جوارحه وذلك المنافق ثم ينادي مناد ألا ليتبع كل أُمة ما كانت تعبد. وقوله: "ومَنْ كان يعبد الطواغيت" جمع طاغوت يكون جمعًا ومفردًا ومذكرًا ومؤنثًا وفيه خلاف قيل هو الشيطان والصنم وقال الطبري الصواب عندي أن كل طاغ طغى على الله تعالى يعبد من دونه إما بقهر منه لمن عبد وإما بطاعة ممن عبد إنسانًا كان أو شيطانًا أو حيوانًا أو جمادًا قال: فاتباعهم لهم حينئذ باستمرارهم على الاعتقاد فيهم ويحتمل أن يتبعوهم بأن يساقوا إلى النار قهرًا وفي حديث أبي سعيد الآتي في التوحيد فيذهب أصحاب الصليب مع صليبهم وأصحاب الأوثان مع أوثانهم وأصحاب كل آلهة مع آلهتهم وفيه إشارة إلى أن كل مَنْ كان يعبد الشيطان ونحوه ممن يرضى بذلك أو الجماد والحيوان داخلون في ذلك وأما مَنْ كان يعبد مَنْ لا يرضى بذلك كالملائكة والمسيح فلا يكن في حديث ابن مسعود فيتمثل لهم ما كانوا يعبدون فينطلقون، وفي رواية العلاء بن عبد الرحمن فيتمثل لصاحب الصليب صليبه ولصاحب التصاوير تصاويره فأفادت هذه الزيادة تعميم مَنْ كان يعبد غير الله إلا مَنْ سيذكر من اليهود والنصارى فإنه يخص من عموم ذلك بدليله الآتي ذكره وأما التعبير بالتمثيل فقال ابن العربي: يحتمل

أن يكون التمثيل تلبيسًا عليهم ويستحق أن يكون التمثيل لمن لا يستحق التعذيب وأما مَنْ سواهم فيحضرون حقيقة لقوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ}، وقال جابر: كانت الطواغيت التي يتحاكمون إِليها في جهينة واحد وفي أسلم واحد وفي كل حي واحد كهان ينزل عليهم الشيطان وفي هلال واحد وقال عمر: الجبت السحر والطاغوت الشيطان. وقال مجاهد: الطاغوت الشيطان في صورة إِنسان يتحاكمون إِليه، وقال عكرمة: الجبت بلسان الحبشة شيطان والطاغوت الكاهن وروى العوفي عن ابن عباس قال: الجبت الأصنام والطواغيت الذين كانوا يعبرون عن الأصنام بالكذب قال وزعم رجال أن الجبت الكاهن والطاغوت رجل من اليهود يدعى كعب بن الأشرف وعن ابن عباس أيضًا قال: الجبت حيي بن أخطب والطاغوت كعب بن الأشرف وفي الصحاح هو كل رأس في الضلال وقال الزجاج: الطاغوت مردة أهل الكتاب ووزنه فعلوت وأصله طغيوت قدمت الياء قبل الغين وقبلها فتحة فقُلبت ألفًا وقيل هو فاعول من طغوت وأصله طاغوه فحذفوا وجعلوا التاء كأنها عوض عن المحذوف فقالوا: طاغوت وإنما جاز فيه التذكير والتأنيث؛ لأن العرب تسمى الكاهن والكاهنة طاغوتًا قال تعالى في التذكير: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ}. وقال تعالى في التأنيث: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا}. وقوله: "وتبقى هذه الأُمة" قال ابن أبي جمرة: يحتمل أن يكون المراد بالأُمة أُمة محمد -صلى الله عليه وسلم- ويحتمل أن يحمل على أعم من ذلك فيدخل فيه جميع أهل التوحيد حتى من الجن ويدل عليه ما في بقية الحديث أنه يبقى مَنْ كان يعبد الله من بر أو فاجر ويؤخذ أيضًا من قوله في بقية هذا الحديث فأكون أوّل مَنْ يجيز فإن فيه إشارة إلى أن الأنبياء بعده يجيزون أُممهم. وقوله: "فيها منافقوها" كذا للأكثر وفي رواية إبراهيم بن سعد فيها شافعوها أو منافقوها شك إبراهيم والأول المعتمد وزاد في حديث أبي سعيد في التوحيد حتى يبقى مَنْ كان يعبد الله من بر أو فاجر وغُبرات أهل الكتاب بضم الغين المعجمة وتشديد الموحدة وفي رواية مسلم وغبر وكلاهما جمع غابر أو الغبرات جمع غبر وغبر جمع غابر ويجمع أيضًا على أغبار وغبر الشيء بقيته وجاء بسكون الموحدة والمراد هنا مَنْ كان يوحد الله منهم وصحفه بعضهم في مسلم بلَفظ غير التي للاستثناء وجزم عياض وغيره بأنه وهم قال ابن أبي جمرة لم يذكر في الخبر مآل المذكورين لكن لما كان من المعلوم أن استقرار الطواغيت في النار علم بذلك أنهم معهم في النار كما قال تعالى: {فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ}. وفي رواية سهيل المشار إليها قريبًا عند فيتبع مَنْ كان يعبد الشمس فتتبع الشياطين والصليب أولياءهم إلى جهنم وفي حديث أبي سعيد من الزيادة ثم يؤتى بجهنم كأنها سراب بمهملة ثم بموحدة فيقال لليهود: ما كنتم تعبدون الحديث، وفيه ذكر النصارى فيتساقطون في جهنم حتى يبقى مَنْ كان يعبد الله مَنْ بر أو فاجر وفي رواية هشام بن سعد عن زيد بن أسلم

عند ابن خزيمة وابن منده وأصله في مسلم فلا يبقى أحد كان يعبد صنمًا ولا وثنًا ولا صورة إلا ذهبوا حتى يتساقطوا في النار وفي رواية العلاء بن عبد الرحمن فيطرح منهم فيها فوج ويقال: هل امتلأت فتقول: هل من مزيد الحديث، وكان اليهود والنصارى ممن كان لا يعبد الصلبان لما كانوا يدعون أنهم يعبدون الله تعالى تأخروا مع المسلمين فلما حققوا على عبادة مَنْ ذكر من الأنبياء ألحقوا بأصحاب الأوثان ويؤيده قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} الآية، فأما مَنْ كان متمسكًا بدينه الأصلي فخرج بقوله الذين كفروا وعلى ما ذكر أيضًا من حديث أبي سعيد يبقى أيضًا مَنْ كان يظهر الإيمان من مخلص ومنافق قال ابن بطال في هذا الحديث: إن المنافقين يتأخرون مع المؤمنين رجاء أن ينفعهم ذلك بناء على ما كانوا يظهرونه في الدنيا فظنوا أن ذلك يستمر لهم فميز الله المؤمنين بالغرة والتحجيل إذ لا غرة ولا تحجيل للمنافق فقد ثبت أن الغرة والتحجيل خاص بالأُمة المحمدية فهم يتميزون بعدم السجود وبإطفاء نورهم بعد أن حصل لهم ويحتمل أن يحصل لهم الغرة والتحجيل ثم يسلبان عند إطفاء النور وقال القرطبي ظن المنافقون أن تسترهم بالمؤمنين ينفعهم في الآخرة كما كان نفعهم في الدنيا جهلًا منهم فتستروا بهم حتى ضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ويحتمل أنهم لما سمعوا التتبع كل أُمة مَنْ كانت تعبد والمنافق لم يكن يعبد شيئًا بقي حائرًا حتى ميز وهذا ضعيف لأنه يقتضي تخصيص ذلك بمنافق كان لا يعبد شيئًا وأكثر المنافقين كانوا يعبدون غير الله تعالى من وثن وغيره. وفي رواية أبي سعيد الآتية بعد قوله: كأنها سراب فيقال لليهود ما كنتم تعبدون قالوا: نعبد عزير بن الله فيقال كذبتم لم يكن لله صاحبة ولا ولد قدم اليهود بسبب تقدم ملتهم على ملة النصارى. وقوله: "فيقال لهم" قال في "الفتح": لم أقف على تسمية قائل ذلك لهم والظاهر أنه الملك الموكل بذلك. وقوله: "كنا نعبد عزير ابن الله" فيه إشكال؛ لأن المتصف بذلك بعض اليهود وأكثرهم ينكرون ذلك ويمكن أن يجاب بأن خصوص هذا الخطاب لمن كان متصفًا بذلك ومن عداهم يكون جوابهم بذكر مَنْ كفروا به كما وقع في النصارى فإن منهم مَنْ أجاب بالمسيح ابن الله مع أن فيهم مَنْ كان بزعمه يعبد الله وحده وهم الاتحادية الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم وفي الحديث المذكور ثم يقال للنصارى ما كنتم تعبدون فيقولون: كنا نعبد المسيح ابن الله فيقال: كذبتم لم يكن لله صاحبة ولا ولد ويقال فيه ما قيل في الذي قبله. وقوله: "في الموضعين كذبتم" قال فيه الكرماني التصديق والتكذيب لا يرجعان إلى الحكم الذي أشار إليه فإذا قيل جاء زيد بن عمرو بكذا فمن كذبه أنكر مجيئه بذلك الشيء

لا أنه ابن عمرو وهنا لم ينكر عليهم أنهم عبدوا وإنما أنكر عليهم أن عزيرًا أو المسيح ابن الله قال: والجواب عن هذا أن فيه نفي اللازم وهي كونه ابن الله ليلزم نفي الملزوم وهو عبادة ابن الله قال: ويجوز أن يكون الأول بحسب الظاهر وتحصل قرينة بحسب المقام تقتضي الرجوع إليهما جميعًا أو إلى المشار إليه فقط. قلت: مراد الكرماني أن مورد الصدق والكذب في الخبر النسبة الإِسنادية كقام زيد وعبدت الله لا التقييدية كغلام عمرو وهنا وقع رجوع الكذب للنسبة التقييدية وهذا خلاف المعروف وأجاب هو عنه بما أجاب به وأسهل مما أجاب به أن كون مورد الكذب والصدق الإسنادية هو المشهور عند أهل البلاغة وقيل إنهما يردان في التقييدية أيضًا واستدل القائل بذلك بهذا الحديث الذي فيه ورود الكذب على النسبة التقييدية دون الإِسنادية التي هي ثبوت عبادتهم لعيسى عليه السلام بدليل آخر الحديث لم يكن لله صاحبة ولا ولد. وقوله: "فيأتيهم الله عَزَّ وَجَلَّ فيقول أنا ربكم فيقولون هذا مكاننا حتى يأتينا فإذا جاء ربنا عرفناه" وفي رواية الرقاق فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون فيقول: أنا ربكم فيقولون: نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا أتانا ربنا عرفناه وفي حديث أبي سعيد الآتي في التوحيد في صورة غير الصورة التي رأوه فيها أول مرة ويأتي في حديث أبي سعيد من الزيادة ما يجلسكم من الجلوس أي يقعدكم عن الذهاب أو ما يحبسكم من الحبس أي يمنعكم وقد ذهب الناس فيقولون: فارقناهم ونحن أحوج منا إليه اليوم وأنا سمعنا مناديًا ينادي ليلحق كل قوم ما كانوا يعبدون وأننا ننتظر ربنا وفي رواية مسلم هنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم ورجح عياض رواية البخاري وقال غيره: الضمير لله والمعنى فارقنا الناس في معبوداتهم ولم نصاحبهم ونحن اليوم أحوج لربنا أي إنا محتاجون إليه وقال عياض: بل أحوج على بابها لأنهم كانوا محتاجين إليه في الدنيا فهم في الآخرة أحوج إليه وقال النووي: إنكاره لرواية مسلم معترض بل معناه التضرع إلى الله تعالى في كشف الشدة عنهم بأنهم لزموا طاعته وفارقوا في الدنيا من زاغ عنها من أقاربهم مع حاجتهم إليهم في معاشهم ومصالح دنياهم كما جرى لمؤمني الصحابة حين قطعوا من أقاربهم من حاد الله ورسوله مع حاجتهم إليهم والارتفاق بهم وهذا ظاهر في معنى الحديث لا شك في حسنه وأما نسبة الاتيان إليه تعالى فالمراد بالإتيان في حقه كشف الحجب التي بين أبصارنا وبين رؤيته تعالى لأن الحركة والانتقال لا تجوز على الله تعالى لأنها صفات الأجسام والله تعالى لا يوصف بشيء من ذلك فلم يكن معنى الإتيان إلا ظهوره عَزَّ وَجَلَّ لأَبصار لم تكن تراه ولا تدركه والعادة أن مَنْ غاب عن غيره لا تمكنه رؤيته إلا بالإِتيان فعبّر به عن الرؤية مجازًا لأن الإتيان مستلزم للظهور على المأتي عليه وقال القرطبي: التسليم الذي كان عليه السلف أسلم وقال عياض: الإتيان فعل من أفعال الله تعالى يجب الإيمان به مع تنزيهه سبحانه وتعالى عن سمات

الحدوث وقيل فيه حذف تقديره فيأتيهم بعض ملائكة الله ورجحه عياض قال: ولعل هذا الملك جاءهم في صورة أنكروها لما رأوا فيها من سمة الحدوث الظاهرة على الملك؛ لأنه مخلوق ويحتمل وجهًا رابعًا وهو أن المعني يأتيهم الله بصورة أي بصفة تظهر لهم من الصورة المخلوقة التي لا تشبه صفة الإله ليختبرهم بذلك فإذا قال لهم هذا الملك أو هذه الصورة أنا ربكم ورأوا عليه من علامات المخلوق ما ينكرونه ويعلمون أنه ليس ربهم استعاذوا منه لذلك. وفي رواية العلاء بن عبد الرحمن فيطلع عليهم رب العالمين وهو يقوي الاحتمال الأول وقال الخطابي الرؤية التي هي ثواب الأولياء وكرامات لهم في الجنة غير هذه الرؤية وإنما تعريضهم هذه الرؤية امتحان من الله تعالى ليقع التمييز بين مَنْ عبد الله ومَنْ عبد الشمس ونحوها فيتبع كل من الفريقين معبوده وليس ينكر أن يكون الامتحان إذ ذاك قائمًا وحكمه علي الخلق جارياً حتى يفرغ من الحساب ويقع الجزاء بالثواب والعقاب ثم ينقطع إذا حققت الحقائق واستقرت أمور المعاد وأما ذكر الصورة فإنها تقتضي الكيفية والله منزه عن ذلك بما مرّ من كون المراد بها صورة ملك أو صورة من الصور المخلوقة يظهرها الله تعالى للامتحان. وقوله: "نعوذ بالله منك" قال الخطابي: يحتمل أن يكون هذا الكلام صدر من المنافقين قال عياض: وهذا لا يصح ولا يستقيم الكلام به قال النووي: ما قاله القاضي صحيح ولفظ الحديث مصرح به أو ظاهر فيه ورجحه القرطبي في التذكرة وقال: إنه من الامتحان الثاني بتحقق ذلك فقد جاء في حديث أبي سعيد حتى إن بعضهم ليكاد ينقلب وقال ابن العربي: إنما استعاذوا منه أولًا لأنهم اعتقدوا أن ذلك الكلام استدراج لأن الله لا يأمر بالفحشاء ومن الفحشاء اتباع الباطل وأهله ولهذا وقع في الصحيح فيأتيهم الله في صورة أي بصورة لا يعرفونها وهي الأمر باتباع أهل الباطل فلذلك يقولون إذا جاء ربنا عرفناه أي: جاءنا بما عهدناه منه من قول الحق وقال ابن الجوزي: معنى الخبر يأتيهم الله بأهوال يوم القيام ومن صور الملائكة بما لم يعهدوا مثله في الدنيا فيستعيذون من تلك الحال ويقولون: إذا جاء ربنا عرفناه أي: إذا أتانا بما نعرفه من لطفه وهي الصورة التي عبّر عنها بقوله: يكشف عن ساق أي: عن شدة وقال القرطبي: هو مقام هائل يمتحن الله عباده ليميز الخبيث من الطيب وذلك أنه لما بقى المنافقون مختلطين بالمؤمنين زاعمين أنهم منهم ظانين أن ذلك يجوز في ذلك الوقت كما جاز في الدنيا امتحنهم الله بأن أتاهم بصورة هائلة قالت للجميع أنا ربكم فأجابه المؤمنون بإنكار ذلك لما سبق لهم من معرفته سبحانه وأنه منزه عن صفات هذه الصورة فلهذا قالوا: نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئًا حتى إن بعضهم ليكاد ينقلب أي يزل فيوافق المنافقين قال: وهؤلاء طائفة لم يكن لهم رسوخ بين العلماء ولعلهم الذين اعتقدوا الحق وحوموا عليه من غير بصيرة. وقوله: "هذا مكاننا" جملة من المبتدأ والخبر وإنما قالوا هذا مكاننا لأن معهم المنافقين

الذين لا يستحقون الرؤية وهم عن ربهم محجوبون فلما تميزوا عنهم ارتفع الحجب فقالوا عندما رأوه: أنت ربنا. وقوله: فيأتيهم الله في صورته التي يعرفونها المراد بالصورة الصفة والمعنى فيتجلى لهم الله بالصفة التي يعلمونه بها وإنما عرفوه بالصفة وإن لم تكن تقدمت لهم رؤيته لأنهم يرون حينئذ شيئًا لا يشبه المخلوقين وقد علموا أنه لا يشبه شيئًا من مخلوقاته فيعلمون أنه ربهم فيقولون أنت ربنا وعبّر عن الصورة بالصفة لمجانسته الكلام لتقدم ذكر الصورة. وفي رواية العلاء فيعرفهم نفسه أي يلقي في قلوبهم علمًا قطعيًا يعرفون به أنه ربهم سبحانه وتعالى. وقال الكلاباذي: عرفوه بأن أحدث فيهم لطائف عرفهم بها نفسه ويحتمل أن يكون أشار بقوله الصورة التي يعرفونها إلى ما عرفوه حين أخرج ذرية آدم من صلبه ثم أنساهم ذلك في الدنيا ثم يذكرهم في الآخرة ونقل ابن التين أن معنى الصورة الاعتقاد واستدل ابن قتيبة بذكر الصورة على أن لله صورة لا كالصور كما ثبت أنه شيء لا كالأشياء وتعقبوه وقال ابن بطال: تمسك به المجسمة فأثبتوا لله صورة ولا حجة لهم فيه لاحتمال أن يكون بمعني العلامة وضعها الله لهم دليلًا على معرفته كما يسمى الدليل والعلامة صورة وكما تقول صورة حديثك كذا وصورة الأمر كذا والحديث والأمر لا صورة لهما حقيقة. وقوله: "فإذا رأينا ربنا عرفناه" قال المهلب: إن الله يبعث لهم ملكًا ليختبرهم في اعتقاد صفات ربهم الذي ليس كمثله شيء فإذا قال لهم أنا ربكم ردوا عليه لما رأوا عليه من صفات المخلوق فقوله: فإذا جاء ربنا عرفناه إذا ظهر لنا في ملك لا ينبغي لغيره وعظمة لا تشبه شيئًا من مخلوقاته فحينئذ يقولون أنت ربنا قال الطيبي: لا يلزم من أن الدنيا دار بلاء والآخرة دار جزاء أن لا يقع في واحدة منهما ما يخص بالأخرى فإن القبر أول منازل الآخرة وفيه الابتلاء والفتنة بالسؤال وغيره والتحقيق أن التكليف خاص بالدنيا وما يقع في القبر والموقف هي آثار ذلك وفي حديث أبي سعيد زيادة هل بينكم وبينه آية تعرفونه؟ فيقولون: الساق فيكشف عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ويبقى مَنْ كان يسجد رياء وسمعة فيذهب كيما يسجد فيعود ظهره طبقًا واحدًا أي: يستوي فقار ظهره فلا ينثني للسجود وفي لفظ لمسلم فلا يبقى مَنْ كان يسجد من تلقاء نفسه إلا أذن له في السجود أي سهل له وهوّن عليه ولا يبقى مَنْ كان يسجد اتقاء ورياء إلا جعل الله ظهره طبقًا واحدًا كلما أراد أن يسجد خرَّ لقفاه. وفي حديث ابن مسعود ومثله لكن قال: فيقولون: إن اعترف لنا عرفناه قال: فيكشف عن ساق فيقعون سجودًا وتبقى أصلاب المنافقين كأنها صياصي البقر وفي رواية الزعراء عنه عند الحاكم وتبقى ظهور المنافقين طبقًا واحدًا كأنما فيها السفافيد بمهملة وفاءين جمع سفود بتشديد الفاء وهو الذي يجعل في الشاة إذا أريد أن تشوى.

وقوله: "فيعود ظهره طبقًا واحدًا" قال ابن بطال: تمسك به مَنْ أجاز تكليف ما لا يطاق من الأشاعرة واحتجوا أيضًا بقصة أبي لهب وأن الله كلفه الإِيمان به مع إعلامه بأنه يموت كافرًا ويصلى نارًا ذات لهب قال ومنع الفقهاء من ذلك وتمسكوا بقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} وأجابوا عن السجود بأنهم يدعون إليه تبكيتاً إذا دخلوا أنفسهم في المؤمنين الساجدين في الدنيا فدعوا مع المؤمنين إلى السجود فتعذر عليهم فأظهر الله بذلك نفاقهم وأخزاهم. قال: ومثله من التبكيت ما يقال لهم بعد ذلك ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورًا وليس في هذا تكليف ما لا يطاق بل إظهار خزيهم ومثله كلف أن يعقد شعيرة فإنها للزيادة في التوبيخ والعقوبة ولم يجب عن قصة أبي لهب وقد ادعى بعضهم أن مسألة تكليف ما لا يطاق لم تقع إلا بالإِيمان فقط وهي مسألة طويلة ليس هذا محل ذكرها ومحل بسطها أُصول الفقه وأُصول الدين. ومعنى كشف الساق زوال الخوف والهول الذي غيرهم حتى غابوا عن رؤية عوراتهم وفي رواية هشام بن سعد ثم نرفع رؤوسنا وقد عادلنا في صورته التي رأيناه فيها أول مرة فيقول أنا ربكم فنقول: نعم أنت ربنا قال في "الفتح": وهذا فيه إشعار بأنهم رأوه في أوّل ما حشروا قلت: هذا غير ظاهر بل الظاهر أن المراد برؤيته أولًا الرؤية الواقعة لهم عندما أخرج ذرية آدم من صلبه كما مرّ وقد جاء عن ابن عباس في قوله تعالى: يوم يكشف عن ساق قال عن شدة من إلا والعرب تقول قامت الحرب على ساق إذا اشتدت ومنه: قد سن أصحابك ضرب الأعناق ... وقامت الحراب بنا على ساق وجاء عن أبي موسى الأشعري في تفسيرها عن نور عظيم قال ابن فورك معناه ما يتجدد للمؤمنين من الفوائد والألطاف وقال المهلب: كشف الساق للمؤمنين رحمة ولغيرهم نقمة وقال الخطابي: تهيب كثير من الشيوخ الخوض في معنى الساق ومعنى قول ابن عباس إن الله يكشف عن قدرته التي تظهر بها الشدة وأسند البيهقي الأثر المذكور عن ابن عباس بسندين كل منهما حسن وزاد إذا خفي عليكم شيء من القرآن فاتبعوه من الشعر وذكر الرجز المشار إليه وأنشد الخطابي في إطلاق الساق على الأمر الشديد: في سنة قد كشفت عن ساقها. وأسند البيهقي من وجه آخر صحيح عن ابن عباس قال: يريد يوم القيامة قال الخطابي: وقد يطلق ويراد النفس. وقوله: "فيقولون الساق" هذا يحتمل إن الله عرفهم على ألسنة الرسل من الأنبياء أو الملائكة إن الله جعل لهم علامة تجلية الساق وذلك أنه يمتحنهم بإرسال مَنْ يقول لهم أنا ربكم وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} وهذا وإن كان واردًا في عذاب القبر فلا يبعد أن يتناول يوم الموقف أيضًا وفي حديث ابن مسعود من الزيادة

ثم يقال للمسلمين ارفعوا رؤوسكم إلى نوركم بقدر أعمالكم وفي لفظ فيعطون نورهم بقدر أعمالهم فمنهم مَنْ يعطى نوره مثل الجبل ودون ذلك ومثل النخلة ودون ذلك حتى يكون آخرهم مَنْ يعطى نوره على إبهام قدمه وفي رواية مسلم عن جابر: ويعطى كل إنسان منهم نورًا إلى أن قال: ثم يُطفأ نور المنافقين وفي حديث ابن عباس عند ابن مردويه فيعطى كل إنسان منهم نورًا ثم يوجهوا إلى الصراط فما كان من منافق طفىء نوره وفي لفظ فإذا استووا على الصراط سلب الله نور المنافقين فقالوا للمؤمنين: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} الآية. وفي حديث أبي أُمامة عند ابن حاتم وإنكم يوم القيامة في مواطن حتى يغشى الناس أمر من أمر الله فتبيض وجوه وتسود وجوه ثم ينتقلون إلى منزل آخر فتغشى الناس الظلمة فيقسم النور فيختص بذلك المؤمن ولا يعطى الكافر ولا المنافق منه شيئًا فيقول المنافقون للمؤمنين: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} الآية، فيرجعون إلى المكان الذي قسم فيه النور فلا يجدون شيئًا فيضرب بينهم بسور. وقوله: "فيدعوهم ويضرب الصراط بين ظهراني جهنم" وفي رواية الرقاق فيتبعونه ويضرب جسر جهنم وفي رواية أبي هريرة في التوحيد فيتبعونه ويضرب الصراط بين ظهري جهنم. وقوله: "فيتبعونه" قال عياض: أي: فيتبعون أمره أو ملائكته الذي وكلوا بذلك. وقوله: "ويضرب جسر جهنم" حذف من هذا السياق ما جاء في حديث أنس في الرقاق في ذكر الشفاعة لفصل القضاء كما حذف من حديث أنس ما ثبت هنا من الأُمور التي يقع في الموقف فينتظم من الحديثين أنهم إذا حشروا وقع ما في حديث الباب من تساقط الكفار في النار ويبقى مَنْ عداهم في كرب الموقف فيستشفعون فيقع الإذن بنصب الصراط فيقع الامتحان بالسجود وليتميز المنافق من المؤمن ثم يجوزون على الصراط والجسر هو الصراط وفي حديث أبي سعيد قلنا: وما الجسر؟ قال: مَدحضة مَزلة بفتح الميم فيهما وكسر الزاي ويجوز فتحها وبتشديد اللام أي موضع الزلل ويقال بالكسر في المكان وبالفتح في المقال وفي رواية أبي ذر الدحض الزلق ليدحضوا ليزلقوا زلقًا لا يثبت فيه قدم والصراط جسر ممدود على متن جهنم أدق من الشعر وأحد من السيف عليه ملائكة يحبسون العباد في سبع مواطن ويسألونهم عن سبع خصال في الأول عن الإيمان وفي الثاني عن الصلاة وفي الثالث عن الزكاة وفي الرابع عن شهر رمضان وفي الخامس عن الحج والعمرة وفي السادس عن الوضوء وفي السابع عن الغُسل من الجنابة وعند مسلم قال أبو سعيد بلغني أن الصراط أحد من السيف وأدق من الشعرة وفي رواية ابن منده من هذا الوجه قال سعيد بن أبي هلال: بلغني ووصله البيهقي عن أنس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مجزومًا به وفي سنده لين ولابن المبارك عن مرسل عبيد بن عمر أن الصراط مثل السيف وبجنبتيه كلاليب أنه ليؤخذ بالكلوب الواحد أكثر من ربيعة ومضر وأخرجه ابن أبي الدنيا من هذا الوجه وفيه والملائكة على جنبتيه يقولون: رب سلم سلم وجاء عن الفضيل ابن عياض

قال: بلغني أن الصراط مسيرة خمسة عشر ألف سنة خمسة آلاف صعود وخمسة آلاف هبوط وخمسة آلاف مستوى أدق من الشعرة وأحد من السيف على متن جهنم لا يجوز عليه إلا ضامر مهزول من خشية الله أخرجه ابن عساكر في ترجمته وهذا معضل لا يثبت وعن سعيد بن أبي هلال قال: بلغنا أن الصراط أدق من الشعر على بعض الناس ولبعض الناس مثل الوادي الواسع أخرجه ابن المبارك وابن أبي الدنيا وهو مرسل أو معضل وأخرج الطبري عن غنيم بن قيس أحد التابعين قال: تمثل النار للناس ثم يناديها مناد امسكي أصحابك ودعي أصحابي فتخسف بكل ولي لها فهي أعلم بهم من الرجل بولده ويخرج المؤمنون ندية ثيابهم. رجاله ثقات مع كونه مقطوعًا. وقوله: "بين ظهراني جهنم أو بين ظهري جهنم" قال ابن الجوزي أي: على وسطها يقال نزلت بين ظهريهم وظهرانيهم بفتح النون أي: في وسطهم متمسكًا بينهم لا في أطرافهم والألف والنون زيدتا للمبالغة وقيل لفظ الظهر مقحم ومعناه يمد الصراط عليها. وقوله: "وأكون أول مَنْ يجوز من الرسال بأُمته" وفي رواية فأكون أنا وأُمتي أوّل من يجيز وفي رواية إبراهيم بن سعد يجيزها قال الأصمعي: جاز الوادي مشى فيه وأجازه قطعه وقال غيره جاز وأجاز بمعنى واحد وقال النووي: أكون أنا وأُمتي أوّل مَنْ يمضي على الصراط ويقطعه يقال: جاز الوادي وأجازه إذا قطعه وخلفه وقال القرطبي: يحتمل أن تكون الهمزة هنا للتعدية لأنه لما كان هو وأُمته أوّل مَنْ يجوز على الصراط لزم تأخير غيرهم عنهم حتى يجوز فإذا جاز هو وأُمته فكأنه أجاز بقية الناس وعند الحاكم عن عبد الله بن سلام ينادي مناد أين محمد وأُمته فيقوم فتتبعه أُمته برها وفاجرها فيأخذون الجسر فيطمس الله أبصار أعدائه فيتهافتون من يمين وشمال وينجو النبي والصالحون وفي حديث ابن عباس يرفعه نحن آخر الأُمم وأول مَنْ يحاسب وفيه فيفرج لنا الأُمم عن طريقنا فنمر غُرًا محجلين من آثار الطهور فتقول الأُمم كادت هذه الأُمة أن يكونوا أنبياء. وقوله: "ولا يتكلم يومئذ أحد إلا الرسل وكلام الرسل يومئذ اللهم سلم سلم" وفي رواية إبراهيم بن سعد ولا يكلمه إلاَّ الأنبياء ودعوى الرسل يومئذ اللهم سلم سلم وفي رواية العلاء وقولهم: اللهم سلم سلم والضمير للرسل وللترمذي من حديث المغيرة شعار المؤمنين على الصراط رب سلم سلم ولا يلزم من كون هذا الكلام شعار المؤمنين أن ينطقوا به بل تنطق به الرسل يدعون للمؤمنين بالسلامة فسمى ذلك شعارًا لهم فبهذا تجتمع الأخبار ويؤيده قوله في رواية سهيل فعند ذلك حلت الشفاعة اللهم سلم سلم وفي حديث أبي سعيد من الزيادة فيمر المؤمن كطرف العين وكالبرق وكالريح وكأجاويد الخيل والركاب وفي حديث حذيفة وأبي هريرة معًا فيمر أولهم كمر البرق ثم كمر الريح ثم كمر الطير وشد الرحال تجري بهم أعمالهم وفي رواية العلاء بن عبد الرحمن ويوضع الصراط فيمر عليه مثل جياد الخيل والركاب وفي

حديث ابن مسعود ثم يقال لهم انجوا على قدر نوركم فمنهم مَنْ يمر كطرف العين ثم كالبرق ثم السحاب ثم كانقضاض الكوكب ثم كالريح ثم كشد الفرس ثم كشد الرجل حتى يمر الرجل الذي أعطي نوره على إبهام قدمه يحبو على وجهه ويديه ورجليه يجر بيد ويعلق يد ويجر برجل ويعلق رجل وتضرب جوانبه النار حتى يخلص وعند ابن أبي حاتم في التفسير عن أبي الزعراء عن ابن مسعود عمر البرق ثم الريح ثم الطير ثم أجود الخيل ثم أجود الإبل ثم كعدو الرجل حتى أن اخرهم رجل نوره على موضع إبهامي قدميه ثم يتكفا به الصراط. وعند هناد بن السري عن السري عن ابن مسعود بعد الريح ثم كأسرع البهائم حتى يمر الرجل سعيًا ثم مشيًا ثم آخرهم يتلبط على بطنه فيقول: يا ربِّ لم أبطأت بي فيقول أبطأ بك عملك ولابن المبارك من مرسل عبد الله بن شقيق فيجوز الرجل كالطرف وكالسهم وكالطائر السريع وكالفرس الجواد المضمر ويجوز الرجل يعدو عدوًا ويمشي مشيًا حتى يكون آخر مَنْ ينجو يحبو. وقوله: "وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان، هل رأيتم شوك السعدان؟ قالوا: نعم" وفي رواية وبه كلاليب والضمير للصراط وفي رواية حذيفة وأبي هريرة معًا وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة بأخذ مَنْ أمرت به وفي رواية سهيل وعليه كلاليب النار وفي حديث أبي سعيد عليه خطاطيف وكلاليب وحسكة مفلطحة لها شوكة عقيفة تكون بنجد يقال لها السعدان والكلاليب جمع كَلوب بفتح الكاف وضم اللام المشددة قال في المحكم الكلاب والكلوب السفود لأنه يعلق الشواء ويتخلله وقيل الكلاب والكلوب حديدة مقطوفة كالخطاف ولأبي المعالي الكلوب والكلاب المنشال والخطاف قال أبو بكر بن العربي هذه الكلاليب هي الشهوات المشار إليها في حديث حفت النار بالشهوات قال: فالشهوات موضوعة على جوانبها فمن اقتحم الشهوة سقط في النار لأنها خطا طيفها وفي حديث حذيفة وترسل الأمانة والرحم فيقومان جنبي الصراط يمينًا وشمالًا أي: يقفان في ناحيتي الصراط وهي بفتح الجيم والنون بعدها موحدة ويجوز سكون النون والمعنى أن الأمانة والرحم لعظم شأنهما وفخامة ما يلزم العباد من رعاية حقهما يوقفان هناك للأمين والخائن والمواصل والقاطع فيحاجان عن المحق ويشهدان على المبطل قال الطيبي: ويمكن أن يكون المراد بالأمانة ما في قوله تعالى: {عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الآية، وبصلة الرحم ما في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} فيدخل فيه معنى التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله فكأنهما اكتنفتا جنبتي الإِسلام الذي هو الصراط المستقيم وفطر في الإِيمان والدين القويم. وقوله: "وحَسَكة" بفتح الحاء والسين المهملتين قال صاحب التهذيب: الحسك نبات له ثمر خشن يتعلق بأصواف الغنم وربما اتخذ مثله من حديد وهو من آلات الحرب. وقوله: "مُفَلْطحة" بضم الميم وفتح الفاء وسكون اللام بعدها طاء ثم حاء مهملتان كذا

عند الأكثر وللكشميهني مطلفحة بتقديم الطاء ثم اللام ثم الفاء ولبعضهم فيه اتساع وهو عريض يقال فلطح القرص أي: بسطه وعرضه. وقوله: "شوكة عقيفة" بالقاف ثم الفاء وزن عظيمة وهي الملوية كالصنارة ولبعضهم عقيفاء بصيغة التصغير ممدود. وقوله: "مثل شوك السعدان" بالسين والعين المهملة بلفظ التثنية والسعدان جمع سعدانة وهو نبات ذو شوك يضرب به المثل في طيب مرعاه قالوا: مرعى ولا كالسعدان وهي غبراء اللون يأكلها كل شيء وليست كبيرة ولها إذا يبست شوكة مفلطحة كأنها درهم وهي شوكه ضعيفة ومنابت السعدان السهول قال الكرماني: هو نبت له شوك عظيم من كل الجوانب مثل الحَسَك وهو أفضل مراعي الإبل. وقوله: "هل رأيتم شوك السعدان" وفي رواية أما رأيتم شوك السعدان وهو استفهام تقرير لاستحضار الصورة المذكورة. وقوله: "غير أنها لا يعلم قدر عظمها إلا الله" أي: الشوكة والضمير للشان وفي رواية الكشميهني غير أنه وفي رواية مسلم لا يعلم ما قدر عظمها إلا الله قال القرطبي قيدناه أي: لفظ قدر عن مشائخنا بضم الراء على أن ما يكون استفهامًا وقدر مبتدأ خبره ما مقدم وينصبها على أن يكون ما زائدة وقدر مفعول يعلم وقال الزين بن المنير تشبيه الكلاليب بشوك السعدان خاص بسرعة اختطافها وكثرة الانتشاب فيها مع التحرز والتصون تمثيلًا لهم بما عرفوه في الدنيا وألفوه بالمباشرة ثم استثنى إشارة إلى أن التشبيه لم يقع في مقدارهما. وقوله: "فتخطِف الناس بأعمالهم" بكسر الطاء وبفتحها قال ثعلب: خطِف بالكسر في الماضي وبالفتح في المضارع وحكى عكسه والكسر في المضارع أفصح وفي الواعي الخطف الأخذ بسرعة على قدر ذنوبهم وفي رواية السدي وبحافتيه ملائكة معهم كلاليب من نار يختطفون بها الناس. وقوله: "فمنهم مَنْ يوبق بعمله ومنه مَنْ يخردل ثم ينجو" وفي رواية منهم الموبق بعمله ومنهم المخردل ثم ينجو والموبق بالموحدة بمعنى الهلاك وفي رواية لمسلم الموثق بالمثلثة من الوثاق وفي رواية إبراهيم بن سعد عند أبي ذر في التوحيد بالشك وللأصيلي ومنهم المؤمن مَنْ يقي بعمله من الوقاية أي يستره عمله والمخردل بالخاء المعجمة وللأصيلي بالجيم وكذا لأبي أحمد الجرجاني ووهاه عياض والدال مهملة للجميع والذي بالجيم معناه المشرف على السقوط والهلاك وحكى أبو عبيدة فيه إعجام الذال ورجح ابن قرقول الخاء المعجمة والدال المهملة قال الهروي: المعنى أن كلاليب النار تقطعه فيهوى في النار قال كعب بن زهير: يعدو فيلمم ضرغامين عيشهما ... لحم من القوم معفور خراديل

فقوله: معفور بالعين المهملة والفاء أي واقع في التراب وخراديل أي: هو قطع ويحتمل أن يكون من الخردل أي: جعلت أعضاؤه كالخردل وقيل معناه أنها تقطعهم عن لحوقهم بمن تجي وقيل: المخردل المصروع ورجحه ابن التين فقال: هو أنسب لسياق الخبر وفي رواية إبراهيم بن سعد عند أبي ذر فمنهم المخردل أو المجازى أو نحوه ولمسلم عنه المجازى من غير شك وهو بضم الميم وتخفيف الجيم من الجزاء. وقوله: "ثم ينجو" في رواية إبراهيم بن سعد ثم ينجلي أي: يتبين ويحتمل أن يكون بالخاء المعجمة أي: يخلى عنه فيرجع إلى معنى ينجو وفي حديث أبي سعيد فناج مسلم ومخدوش ومكدوس في جهنم حتى يمر أحدهم فيسحب سحبًا قال ابن أبي جمرة يؤخذ منه أن المارين على الصراط ثلاثة أصناف: ناج بلا خدش، وهالك من أول وهلة، ومتوسط بينهما، ثم ينجو وكل قسم منها ينقسم أقسامًا تعرف بقوله: بقدر أعمالهم في ضبط مكدوس ففي رواية مسلم بالمهملة ومعناه الراكب بعضه على بعض ورواه بعضهم بالمعجمة ومعناه السوق الشديد وقيل: مكردس والمكردس فقار الظهر وكردس الرجل خيله جعلها كراديس أي فرقها والمراد أنه يكفأُ في قعرها وعند ابن ماجه عن أبي سعيد رفعه يوضع الصراط بين ظهراني جهنم على حسك كحسك السعدان ثم يستجيز الناس فناج مسلم ومخدوش به ثم ناج ومحتبس به ومنكوس فيها. وقوله: "حتى إذا أراد الله رحمة مَنْ أراد من أهل النار" وفي رواية حتى إذا فرغ الله من القضاء بين عباده قال الزين بن المنير الفراغ إذا أضيف إلى الله تعالى معناه القضاء وحلوله بالمقضى عليه والمراد إخراج الموحدين من النار وإدخالهم الجنة واستقرار أهل النار في النار وحاصله أن المعنى يفرغ الله من القضاء بعذاب من يفرغ عذابه ومَنْ لا يفرغ فيكون إطلاق الفراغ بطريق المقابلة وإن لم يذكر لفظها. وقال ابن أبي جمرة: معناه وصل الوقت الذي سبق في علم الله أنه يرحمهم وفي حديث عمران بن حصين في الرقاق أن الإِخراج يقع بشفاعة محمد -صلى الله عليه وسلم- وعند أبي عوانة والبيهقي وابن حِبّان في حديث حذيفة يقول إبراهيم: يا رباه حرقت بنيّ فيقول اخرجوا، وعند الحاكم عن عبد الله بن سلام أن قائل ذلك آدم وفي حديث أبى سعيد فما أنتم بأشد مناشدة في الحق قد يتبين لكم من المؤمنين يومئذ للجبار إذا رأوا أنهمّ قد نجوا في إخوانهم المؤمنين يقولون ربنا إخواننا كانوا يصلون معنا الحديث الآتي في التوحيد وعند مسلم اختلاف في سياقه ويحمل على أن الجميع شفعوا وتقدم النبي -صلى الله عليه وسلم- قبلهم في ذلك وعند الطبراني بسند حسن عن عبد الله بن عمرو رفعه يدخل من أهل القبلة النار من لا يحصى عددهم إلاَّ الله بما عصوا الله واجترؤوا على معصيته وخالفوا طاعته فيوذن لي في الشفاعة فأثنى على الله ساجدًا كما أثنى عليه قائمًا فيقال لي: ارفع رأسك الحديث، ويؤيده أن في حديث أبي سعيد تشفع الأنبياء

والملائكة والمؤمنون وعند النسائي عن أنس ذكر سبب آخر لإِخراج الموحدين من النار ولفظه وفرغ من حساب الناس وأدخل مَنْ بقي من أُمتي النار مع أهل النار فيقول أهل النار ما أغنى عنكم أنكم كنتم تعبدون الله لا تشركون به شيئًا فيقول الجبار: فبعزتي لأعتقنهم من النار فيرسل إليهم فيخرجون وعند ابن أبي عاصم والبزار عن أبي موسى رفعه إذا اجتمع أهل النار في النار ومعهم مَنْ شاء الله من أهل القبلة يقول لهم الكفار: ألم تكونوا مسلمين؟ قالوا: بلى، قالوا: فما أغنى عنكم إسلامكم وقد صرتم معنا في النار؟ فقالوا: كانت لنا ذنوب فأخذنا بها فيأمر الله مَنْ كان من أهل القبلة فأُخرجوا فيقول الكفار: يا ليتنا كنّا مسلمين وفي حديث أبي بكر الصديق ثم يقال ادعوا الأنبياء فيشفعون ثم يقال: ادعوا الصديقين فيشفعون ثم يقال: ادعوا الشهداء فيشفعون وعند ابن أبي عاصم والبيهقي عن أبي بكرة مرفوعًا يحمل الناس على الصراط فينجي الله مَنْ شاء برحمته ثم يؤذن في الشفاعة للملائكة والنبيين والشهداء والصديقين فيشفعون ويخرجون. وقوله: "أمر الله الملائكة أن يخرجوا مَنْ كان يعبد الله فيخرجونهم ويعرفونهم بآثار السجود" وفي "الرقاق" قبل هذا ممن كان يشهد أن لا إله إلا الله قال القرطبي: لم يذكر الرسالة إما لأنهما لما تلازما في النطق غالبًا وشرعًا أكتفي بذكر الأولى أو لأن الكلام في حق جميع المؤمنين هذه الأُمة وغيرها ولو ذكرت الرسالة لتعدد ذكر الرسل كثيرًا والأول أولى ويرد الثاني أنه يكتفي بلفظ جامع كأن يقول مثلًا: ونؤمن برسله وقد تمسك بظاهره بعض المبتدعة ممن زعم أن مَنْ وحَّد الله من أهل الكتاب يخرج من النار ولو لم يؤمن بغير مَنْ أرسل إليه وهو قول في غاية البطلان فإن مَنْ جحد الرسالة كذّب الله ومَنْ كذب الله لم يوحده. وقوله: "أمر الملائكة أن يخرجوهم" في حديث أبي سعيد اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار فأخرجوه، وفي حديث أنس في الشفاعة في "الرقاق" فيحد لي حدًا فأخرجهم ويجمع بأن الملائكة يؤمرون على ألسنة الرسل بذلك فالذين يباشرون الإخراج هم الملائكة. وفي حديث أبي سعيد أيضًا بعد قوله: ذرة فيخرجون خلقًا كثيراً، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها خيرًا، وفيه فيقول الله: شفعت الملائكة وشفع النبيون ولم يبق إلاَّ أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قومًا لم يعملوا خيرًا قط وتمسك بعضهم بهذه الزيادة في تجويز إخراج غير المؤمنين من النار وهذا قول يخاف على صاحبه من الكفر أو هو مرتد حقيقة لمخالفته لصريح القرآن في أن الكافر مخلّد في النار والحديث معنى الخبر المنفي فيه هو ما زاد على أصل الإقرار بالشهادتين كما تدل عليه بقية الأحاديث وفي حديث معبد عن الحسن البصري عن أنس فأقول: يا رب ايذن لي فيمن قال لا إله إلا الله قال: ليس ذلك لك ولكن وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي وجبريائي لأخرجن من قال لا إله إلا الله. وسيأتي بطوله في التوحيد، وفي حديث جابر عند مسلم ثم يقول الله أنا أخرج بعلمي وبرحمتي.

وفي حديث أبي بكر أنا أرحم الراحمين أَدخِلوا جنتي مَنْ كان لا يشرك بي شيئًا قال الطيبي: هذا يؤذن بأن كل ما قدر قبل ذلك بمقدار شعيرة، ثم حبَّة ثم خردلة، ثم ذرة غير الإيمان الذي يعبر به عن التصديق والإقرار بل هو ما يوجد في قلوب المؤمنين من ثمرة الإيمان, وهو على وجهين: أحدهما: ازدياد اليقين وطمأنينة النفس؛ لأن تضافر الأدلة أقوى للمدلول عليه وأثبت لعدمه. والثاني: أن يراد العمل، وأن الإيمان يزيد وينقص بالعمل، وينصر هذا الوجه قوله في حديث أبي سعيد "لم يعملوا خيرًا". قال البيضاوي: وقوله: "ليس ذلك لك" أي: أنا أفعل ذلك تعظيمًا لاسمي وإجلالًا لتوحيدي، وهو مخصص لعموم حديث أبي هريرة المار في باب الحرص على الحديث من كتاب العلم "أسعد الناس بشفاعتي مَنْ قال: لا إله إلاَّ الله مخلصًا". قال: ويحتمل أن يجري على عمومه ويحمل على حال ومقام آخر. قال الطيبي: إذا فسرنا ما يختص بالله بالتصديق المجرد عن الثمرة وما يختص برسوله هو الإيمان مع الثمرة من ازياد اليقين، أو العمل الصالح، حصل الجمع. ويحتمل وجهًا آخر، وهو أن المراد بقوله: ليس ذلك لك مباشرة الإخراج لا أصل الشفاعة، وتكون هذه الشفاعة الأخيرة وقعت في إخراج المذكورين. فأجيب إلى أصل الإخراج ومنع من مباشرته فنسبت إلى شفاعته في حديث "أسعد الناس" لكونه ابتدأ بطلب ذلك. وقد استوفى الكلام عليه في الباب المذكور آنفًا. وقوله: "فيعرفونهم بآثارِ السجودِ" وفي رواية إبراهيم بن سعد "فيعرفونهم في النار بأثر السجود". قال الزين بن المنير تعرف صفة هذا الأثر مما ورد في قوله تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} لأن وجوههم لا تؤثر فيها النار فتبقى صفتها باقية. وقال غيره: بل يعرفونهم بالغرة والتحجيل، وفي هذا نظر؛ لأنها مختصة بهذه الأُمة، والذين يخرجون أكثر من ذلك. وقوله: وحرم الله على النار أن تأكل أثمر السجود، فكل ابن آدم تأكله النار إلاَّ أثر السجود هذا جواب عن سؤال مقدر تقديره كيف يعرفون أثر السجود مع قوله في حديث أبي سعيد عند مسلم فأماتهم الله إماتة حتى إذا كانوا فحمًا أذن الله بالشفاعة أي: فإذا صاروا فحمًا كيف يتميز محل السجود من غيره حتى يعرف أثره، وحاصل الحديث تخصيص أعضاء السجود من عموم الأعضاء التي دلّ عليها هذا الخبر، وأن الله منع النار أن تحرق أثر السجود من المؤمن. وهل المراد بأثر السجود نفس العضو الذي سجد أو المراد من سجد؟ في ذلك نظر، والثاني أظهر. قال عياض: فيه دليل على أن عذاب المؤمنين المذنبين مخالف لعذاب الكفار، وأنها لا تأتي على جميع أعضائهم إما إكرامًا لمواضع السجود وعظم مكانهم من الخضوع لله تعالى، أو لكرامة تلك الصورة التي خلق آدم والبشر عليها وفضلوا بها على سائر الخلائق. قال في "الفتح" الأول: منصوص، والثاني: محتمل، لكن يشكل عليه أن الصورة لا تختص بالمؤمنين فلو كان الإكرام لأجلها لشاركهم الكفار، وليس كذلك. قال النووي: وظاهر الحديث أن النار لا تأكل جميع أعضاء السجود السبعة: وهي الجبهة، واليدان، والركبتان، والقدمان، التي ورد الحديث الآتي قريبًا بالسجود عليها، وبهذا جزم بعض العلماء، وقال عياض: ذكر الصورة

ودارات الوجوه يدل على أن المراد بأثر السجود الوجه خاصة خلافًا لمن قال يشمل الأعضاء السبعة ويؤيد اختصاص الوجه أن في بقية الحديث أن منهم مَنْ غاب في النار إلى نصف ساقيه، وفي حديث سمرة عند مسلم: وإلى ركبتيه، وفي رواية هشام بن سعد في حديث أبي سعيد وإلى حقويه، قال النووي: وما أنكره هو المختار، ولا يمنع من ذلك قوله في الحديث الآخر في مسلم أن قومًا يخرجون من النار يحرقون فيها إلاَّ دارات وجوههم فإنه يحتمل على أن هؤلاء قوم مخصوصون من جملة الخارجين من النار، فيكون الحديث خاصًا بهم وغيره عامًا، فيحمل على عمومه إلا ما خصّ منه. قال في "الفتح": إن أراد أن هؤلاء يخصون بأن النار لا تأكل وجوههم كلها وأن غيرهم لا تأكل منهم محل السجود خاصة وهو الجبهة سلم من الاعتراض وإلا يلزمه تسليم ما قال القاضي في حق الجميع إلا هؤلاء. وإن كانت علامتهم الغرة كما مرّ النقل عمن قاله، وما تعقبه بأنها خاصة بهذه الأُمة فيضاف إليها التحجيل وهو في اليدين والقدمين مما يصل إليه الوضوء فيكون أشمل مما قال النووي من جهة دخول جميع اليدين والرجلين لا خصوص الكفين والقدمين، ولكن ينقص منه الركبتان وما استدل به عياض من بقية الحديث لا يمنع سلامة هذه الأعضاء مع الانغمار لأن تلك الأحوال الأخروية خارجة عن قياس أحوال أهل الدنيا. ودلّ التنصيص على دارات الوجوه أن الوجه كله لا تؤثر فيه النار إكرامًا لمحل السجود ويحمل الاقتصار عليها على التنويه بها لشرفها. وقد استنبط ابن أبي جمرة من هذا أن مَنْ كان مسلمًا ولكنه كان لا يصلّي لا يخرج إذ لا علامة له، لكن يحمل على أنه يخرج في القبضة لعموم قوله لم يعملوا خيرًا قط، وهو مذكور في حديث أبي سعيد الآتي في التوحيد وهل المراد بمن يسلم من الإحراق من كان يسجد أو أعم من أن يكون بالفعل أو القوة الثاني أظهر ليدخل فيه مَنْ أسلم مثلًا وأخلص فبغتة الموت قبل أن يسجد ولوالد صاحب "فتح الباري" علي بن محمد بن حجر ما يوافق مختار النووي. يا ربِّ أعضاءَ السجودِ عتقتَها ... مِنْ عبدِكَ الجاني وأنت الواقي والعتقُ يسري بالغنى يا ذا الغنى ... فامننْ على الفاني بعتقِ الباقي وقوله: "فيخرجون من النار قد امْتَحشوا" وفي رواية "الرقاق" فيخرجونهم قد امتحشوا، وعند أبي نعيم: فيخرجون من عرفوا ليس فيه قد امْتَحشوا، وإنما ذكرها بعد قوله فيقبض قبضة، وكذا أخرجه البيهقي وابن منده. قال عياض: ولا يبعد أن الامْتِحاش يختص بأهل القبضة والتحريم على النار تأكل صورة الخارجين أولًا قبلهم ممن عمل الخير على التفصيل السابق، وامتَحَشُوا بفتح المثناة والمهملة وضم المعجمة أي: احترقوا وزنه ومعناه. والمحش احتراق الجلد وظهور العظم، وعند بعضهم بضم المثناة وكسر الحاء، ولا يعرف في اللغة امْتَحَشة متعديًا وإنما سمع لازمًا مطاوع محشة. يقال: مَحَشْتُه وأَمْحَشْتُهُ وأنكر ابن السكيت الثلاثي وقال غيره: أمْحَشتُه فامْتَحش، وأَمْحَشه الحر أحرقه، والنار أحرقته وامْتَحش هو غضبًا. وقال الداووي: امْتَحشوا انقبضوا واسودوا، وقوله: فيصب عليهم ماء الحياة. وفي "الرقاق" ماء يقال له ماء الحياة في حديث أبي سعيد فيلقون في

نهر بأفواه الجنة يقال له ماء الحياة، والأفواه جمع فوهة على غير قياس والمراد بها الأوائل، ومرّ في "الإيمان" عن أبي سعيد في نهر الحياة أو الحياء بالشك، وفي رواية أبي نضرة عند مسلم على نهر يقال له الحيوان أو الحياة، وفي أخرى له فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة، وفي تسمية ذلك النهر به إشارة إلى أنهم لا يحصل لهم الفناء بعد ذلك. وقوله: فينبتون كما تنبت الحبة. وفي "الرقاق" نبات الحِبّة بكسر المهملة وتشديد الموحدة وقد مرّ في "كتاب الإيمان" أنها بذور الصحراء والجمع حِبَبَ بكسر المهملة وفتح الموحدة بعدها مثلها. وأما الحَبّة بفتح أوله وهو ما يزرعه الناس فجمعها حُبُوب بضمتين. وفي حديث أبي سعيد فينبتون في حافتيه، وفي رواية لمسلم كما تنبت الغُثاءةُ بضم الغين المعجمة بعدها مثلثة مفتوحة، وبعد الألف همزة ثم هاء تأنيث هو في الأصل كل ما حمله السيل من عيدان وورق وبذور وغيرها، والمراد به هنا ما حمله من البذور خاصة. وقوله في حَمِيل السيل بالحاء المفتوحة والميم المكسورة أي: ما يحمله السيل، وفي رواية يحيى بن عمارة إلى جانب السيل، والمراد أن الغُثاء الذي يجيء به السيل تكون فيه الحِبَّة فيقع في جانب الوادي، فتصبح من يومها نابتة، وفي رواية لمسلم في حمئة السيل بعد الميم همزة ثم هاء، وقد تشبع الميم فيصير بوزن عظيمة وهو ما تغير لونه من الطين؛ وخصّ بالذكر لأنه يقع فيه النبت غالبًا. قال ابن أبي جمرة: فيه إشارة إلى سرعة نباتهم لأن الحِبَّة أسرع في النبات من غيرها، وفي السيل أسرع لما يجتمع فيه من الطين الرخو الحادث مع الماء مع ما خالطه من حرارة الزبل المجذوب معه. قال: ويستفاد منه أنه -صلى الله عليه وسلم- كان عارفًا بجميع أمور الدنيا بتعليم الله تعالى له وإن لم يباشر ذلك. وقال القرطبي: اقتصر المازري على أن موقع التشبيه السرعة، وبقي عليه نوع آخر دلّ عليه قوله في الطريق الأخرى إلا ترونها تكون في الحجر ما يكون منها إلى الشمس أصفر وأخضر وما يكون منها إلى الظل يكون أبيض، وفيه تنبيه على أن ما يكون إلى الجهة التي تلي الجنة يسبق إليه البياض المستحسن، وما يكون منهم إلى جهة النار يتأخر النصوع عنه فيبقى أصيفر وأخيضر إلى أن يتلاحق البياض ويستوي الحسن. والنور ونضارة النعمة عليهم. وقال: ويحتمل أن يشير بذلك إلى أن الذي يباشر الماء يعني الذي يرش عليهم يسرع نصوعه، وأن غيره يتأخر عنه النصوع لكنه يسرع إليه، وقد مرَّ الكلام على هذه الجملة في (باب تفاضل الإِيمان) من "كتاب الإِيمان". وقوله: ويبقى رجل بين الجنة والنار وهو آخر أهل النار دخولًا الجنة مقبلًا بوجهه قِبَل النار. وفي وصف هذا الرجل أنه كان نبّاشًا، وذلك في حديث حذيفة الآتي في أخبار بني إسرائيل أن رجلًا كان يسيء الظن بعمله فقال لأهله: "أحرقوني" الحديث، وفي آخره كان نباشًا. وفي حديث أبي بكر الصديق عند أحمد وأبي عوانة وغيرهما ثم يقول الله: "انظروا هل بقيَ في النار أحدٌ عملَ خيرًا قط، فيجدونَ رجلًا، فيقولون له: هل عملتَ خيرًا قطُ؟ فيقول: لا، غير أني كنتُ أسامحُ الناسَ في البيعِ .. " الحديث، وفيه "ثمَّ يُخْرجون منَ النارِ رجلًا آخرَ فيقالُ لهُ: هلْ عملتَ خيرًا قطُ؟

فيقولُ: لا، غير أني أمرتُ ولدي إذا مِتُ فاحرقوني .. " الحديث. وجاء من وجه آخر أنه كان يسأل الله أن يجيره من النار، ولا يقول ادخلني الجنة، أخرجه الحسين المروزي في "زيادات الزهد" لابن المبارك عن عوف الأشجعي رفعه قد علمت آخر أهل الجنة دخولًا الجنة رجلٌ كانَ يسألُ الله أن يجيرَهُ مِن النارِ ولا يقول أدخلني الجنةَ فإذا دخلَ أهلُ الجنَّة الجنَّة، وأهلُ النارِ النارَ بقيَ بينَ ذلكَ، فيقولُ: يا ربِّ قرِّبني منْ باب الجنّةِ أَنظرُ إليها وأجدُ منْ ريحها، فيقرِّبهُ، فيرى الشجرة ... الحديث، وهو عند ابن أبي شيبة أيضًا، وهو يقوي التعدد لكن الإسناد ضعيف. قال عياض: جاء هذا في آخر من يجوز على الصراط، وجاء في حديث ابن مسعود في "الرقاق": "إني لأَعلمُ آخرَ أهل النَّارِ خروجًا منها، وآخرَ أَهل الجنَّةِ دخولًا فيها"، فيحتمل أنهما اثنان: إما شخصان، وإما نوعان أو جنسان، وعبّر فيه بالواحد عن الجماعة لاشتراكهم في الحكم الذي كان سبب ذلك. ويحتمل أن يكون الخروج هنا بمعنى الورود، وهو الجواز على الصراط فيتحد المعنى إما في شخص واحد أكثر. وعند مسلم من رواية أنس عن ابن مسعود ما يقوي الاحتمال الثاني ولفظه "آخرُ مَنْ يدخل الجنَّةَ رجلٌ فهو يمشي مرةً ويكبو مرةً وتسفعهُ النارُ مرةً، فإذا جاوزَها التفتَ إليها فقال: تباركَ الذي نجاني منكِ". وعند الحاكم عن مسروق عن ابن مسعود ما يقتضي الجمع. وفي "نوادر الأُصول" للحكيم الترمِذِيّ عن أبي هريرة: "أنَّ أطولَ أهلَ النارِ مكثًا مَنْ يمكثُ سبعةَ الآفِ سنة" وسنده واهٍ، وأشار ابن أبي جمرة إلى المغايرة بين آخر مَنْ يخرج من النار وهو المذكور في حديث ابن مسعود الماضي وأنه يخرج منها بعد أن يدخلها حقيقة، وبين آخر مَنْ يخرج ممن يبقى مارًا على الصراط، فيكون التعبير بأنه خرج من النار بطريق المجاز؛ لأنه أصابه من حرها وكربها ما يشارك به بعض مَنْ دخلها، وفي "غرائب مالك" للدارقطني عن عبد الملك بن الحكم وهو واهٍ عن مالك عن نافع عن ابن عمر رفعه أن آخر مَنْ يدخل الجنة رجل من جهينة يقال له جهينة، فيقول أهل الجنة عند جهينة الخبر اليقين، وحكى السهيلي أنه جاء أن اسمه هناد وجوّز غيره أن يكون أحد الاسمين لأحد المذكورين، والآخر للآخر. وقوله: فيقول: "يا ربِّ اصرف وجهي عن النار، فقد قشبني ريحها وأحرقني ذكاؤها". وفي رواية "الرقاق" تأخير فاصرف وجهي عن النار عن الجملتين، وقوله: فيقول: "يا ربِّ" في رواية إبراهيم بن سعد في التوحيد أي ربِّ، وقوله: "اصرفْ وجهي عن النار" استشكل وجهه إلى جهة النار، والحال أنه ممن يمرّ على الصراط طالبًا إلى الجنة، فوجهه إلى الجنة لكن في حديث أبي أُمامة أنه يتقلب على الصراط ظهرًا لبطن، فكأنه في تلك الحالة انتهى إلى آخره فصادف أن وجهه كان من قبل النار، ولم يقدر على صرفه عنها باختياره فسأل ربّه في ذلك. وقوله: "قد قَشَبني ريحها" بقاف وشين معجمة مفتوحتين مخففًا وحكي التشديد. قال الخطابي: قشبه الدخان إذا ملأ خياشمه، وجعل يكظمه، وأصل القَشْب خلط السم بالطعام.

يقال: قَشَبه إذا سمَّه، ثم استعمل فيما إذا بلغ الدخان والرائحة الطيبة منه غايته. وقال النووي: معنى قَشَبني سمّني، وآذاني وأهلكني، هكذا عند جماهير أهل اللغة. وقال الداودي: معناه غير جلدي وصورتي، والأحسن فيه ما قاله الخطابي، وما قاله الداودي تفسير باللازم، وهو كثير فيه قال ابن أبي جمرة: إذا فسّرنا القَشَب بالنتن والمستقذر، كانت فيه إشارة إلى طيب ريح الجنة، وهي من أعظم نعيمها وعكسها النار في جميع ذلك. قال ابن القطاع: قَشَب الشيء، خلطه بما يفسد من سم أو غيره، وقَشَب الإنسان، لطخه بسوء كاغتابه وأعابه، وأصله السم فاستعمل بمعنى أصابه المكروه إذا أهلكه أو أفسده، أو غيّره أو أزال عقله، أو تقذره هو، وقوله: وأحرقني ذكاؤها كذا للأصيلي وكريمة بالمد وفتح الذال وفي رواية أبي ذرٍّ ذكاها بالقصر، وهو الأشهر في اللغة. قال ابن القطاع: يقال: ذكت النار تذكو ذَكَاً بالقصر وذُكوًّا بالضم وتشديد الواو أي: كثر لهبها واشتد اشتعالها ووهجها وأما ذكا الغلام ذَكَاء بالمد فمعناه أسرعت فطنته. قال النووي: المد والقصر لغتان ذكره جماعة فيها وتعقبه مغلطاي بأنه لمن يوجد عن أحد من أهل اللغة المصنفين فيها حكاية المد إلا عن أبي حنيفة الدينوري، وتعقبه عليه علي بن حمزة الأصبهاني فقال: إن الذكاء بالمد لم يأتِ عنهم في النار، وإنما جاء في "الفهم" وفي "مسلم": "فقد أحرقني ذَكَاؤُها" بالمد. قال ابن قرقول: والمعروف في شدة حرّ النار القصر إلا أن الدينوري ذكر فيه المد، وخطأه علي بن حمزة فقال: الذَكَاء بالمد تمام الشيء، ومنه ذكاء القلب. وقال صاحب "الأفعال": ذَكَا الغلام والعقل أسرع في الفطنة، وذَكَا الرجل ذكاءً من حدة فكره، وذَكَت النار ذكًا بالقصر توقدت، وقوله: "فَيُصْرَف وجهُهُ عن النارِ" أي: بضم أوله على البناء للمفعول، وفي رواية الباب "فَيَصْرِف اللهُ وجهَهُ". وفي رواية أنَس عن ابن مسعود عند مسلم. وفي حديث أبى سعيد عند أحمد والبزار نحوه أنه يرفع له شجرة فيقول: "ربِّ أَدنُني من هذه الشجرةِ لأستظَلَّ بظلها، وأشربَ مِنْ مائِهَا، فيقولُ الله: لعلي إنْ أعطيتُكَ تسألْنِي غيرهَا، فيقولُ: لا يا ربِّ، ويعاهدُهُ أنْ لا يسألَ غيرَها، وربُّهُ يعذرُهُ لأنَّهُ يرى ما لا صبرَ عليه، ومنه أنّهُ يدنو منها، وأنّهُ ترْفَع له شجرةٌ أُخرى أحسنُ من الأُولى عند باب الجنةِ، ويقول في الثالثة: "ائذن لي في دخول الجنة". وكذا وقع في حديث أنس الآتي في "التوحيد" رفعه آخر من يخرج من النار ترفع له شجرة، ونحوه لمسلم عن أبي سعيد بلفظ: "أن أدنى أهلِ الجنّةِ منزلةً رجلٌ صرفَ اللهُ وجهَهُ عن النَّار قِبَلَ الجنَّةِ، ومَثُلَتْ لهُ شجرةٌ". ويجمع بأنه سقط من حديث أبي هريرة ذكر الشجرات كما سقطَ من حديث ابن مسعود ما ثبت في حديث الباب من طلب القرب من باب الجنة. وقوله: "ثم قال: يا ربِّ قدَّمني عندَ باب الجنَّةِ". وفي رواية "الرقاق": "يا ربِّ قرِّبني إلى بابِ الجنَّةِ"، وقوله: "فيقولُ اللهُ: أليسَ قَدْ أعطيتَ العهدَ والميثاق"، وفي "الرقاق": "أليسَ قَدْ زعمت" وقوله: "فيقول: يا ربِّ لا أكونُ أشقى خلقك" وفي "الرقاق": "لا تجعلني أشقى خلقك" المراد "بالخلق" هنا مَنْ دخل الجنة، فهو لفظ عام أُريد به خاص، ومراده أنه يصير إذا استمر خارجًا عن

الجنة أشقاهم، وكونه أشقاهم ظاهر لو استمر خارج الجنة وهم من داخلها. قال الطيبي: معناه يا رب قد أعطيت العهد والميثاق، ولكن تفكرت رحمتك وكرمك فسألت، وللقابسي "لأكونن"، قال ابن التين: معناه لئن أبقيتني على هذه الحالة ولم تدخلني الجنة لأكونن، قال: والألف في رواية "لا أكون" زائدة، وقال الكرماني: معناه لا أكون كافرًا، وقوله: "لا أكون" لَفْظُهُ لَفْظُ الخبرِ ومعناه الطلب، ودلّ عليه قوله: لا تجعلني، ووجه كونه "أشقى" أن الذي يشاهد ما يشاهده ولا يصل إليه يصير أشد حسرة ممن لا يشاهده، وقوله: "خلقك" مخصوص بمن ليس من أهل النار، وقوله: "مما عسيت إنْ أعطيتَ ذلكَ أنْ لا تسألَ غيرَهُ" وفي رواية "التوحيد": "فهل عسيتَ إنْ فعلتُ بكَ أنْ تسألَني غيرَهُ"، وفي سين عسيت الفتح والكسر وجملة أن تسألني هي خبر عسى، والمعنى هل يتوقع منك سؤال شيء غير ذلك، وهو استفهام تقرير؛ لأن ذلك عادة بني آدم والترجي راجع إلى المخاطب لا إلى الرب، وهو من باب إرخاء العِنانِ إلى الخصم ليبعثه ذلك على التفكير في أمره والإنصاف من نفسه. وقوله: "فيعطي ربَّهُ ما شاءَ من عهدٍ وميثاقٍ" يحتمل أن يكون فاعل شاء الرجل المذكور أو الله. قال ابن أبي جمرة: إنما بادر للحلف من غير استحلاف لما وقع له من قوة الفرح بقضاء حاجته، فوطّن نفسه على أن لا يطلب مزيدًا، وأكّده بالحلف، فإذا بلغ بابها فرأى زهرتها وما فيها من النضرة والسرور، وفي رواية إبرهيم بن أسعد من الحَبْرة بفتح المهملة وسكون الموحدة، ولمسلم الخير بمعجمة وتحتانيّة بلا هاء والمراد أنه يرى ما فيها من خارجها إما لأن جدارها شفّاف فيرى باطنها من ظاهرها لما جاء في وصف الغرف، وإما أن المراد بالرؤية العلم الذي يحصل له من سطوع رائحتها الطيبة وأنوارها المضيئة لما كان يحصل له أذى لفح النار وهو خارجها، وقوله: "فيقول الله تعالى: ويحكَ يابنَ آدمَ ما أغيركَ" وفي رواية "الرقاق": "ويلكَ". وقوله: "فيضحكُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ ثمَّ يأذنُ لهُ في دخولِ الجنَّةِ". وفي "الرقاق": ولا يزال يدعو حتى يضحك فإذا ضحك منه أذن له بالدخول فيها، وفي رواية ابن مسعود في "الرقاق" فيقول: أتسخرُ مني أو تضحكُ مني وأنتَ الملكُ فلقدْ رأيتُ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ضَحكَ حتى بدتْ نواجُذهُ". وفي رواية الأعمش: "أتسخرُ بي ولمْ يشكّ". وكذا لمسلم من رواية منصور، وله من رواية أنس عن ابن مسعود: "أتستهزىءُ بي وأنت ربُّ العالمين". قال المازري: هذا مشكل وتفسير الضحك بالرضى لا يتأتى هنا, ولكن لمّا كانت عادة المستهزىء أن يضحك من الذي استهزأ به ذكر معه، وأما نسبة السخرية إلى الله تعالى فهي على سبيل المقابلة وإنْ لم يذكره في الجانب الآخر لفظًا، لكنه لمّا ذكر أنّه عاهد مرارًا وغدر حلّ فعله فعل المستهزىء، وظنّ أنّ في قول الله له ادخل الجنة وتردده إليها وظنه أنها ملأى نوعًا من السخرية به جزاء على فعله، فسمى الجزاء على السخرية سخرية، ونقل عياض عن بعضهم أن ألف أتسخر

مني ألف النفي كهي في قوله تعالى: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} على أحد الأقوال، قال: وهو كلام متدلل علم مكانه من ربه وبسطه له بالإِعطاء وجوّز عياض أن الرجل قال ذلك وهو غير ضابط لما قال إذ وَلَهُ عقله من السهر وربما لم يخطر بباله ويؤيده أنه قال في بعض طرقه عند مسلم لما خلص من النار: "لقد أعطاني اللهُ شيئًا ما أعطاهُ أحدًا من الأولينَ والآخرينَ". وقال القرطبي في "المفهم": أكثروا في تأويله وأشبه ما قيل فيه أنه استخفه الفرح وأدهشه فقال ذلك، وقيل: قال ذلك لكونه خاف أن يجازى على ما كان منه في الدنيا من التساهل في الطاعات وارتكاب المعاصي كفعل الساخرين، فكأنه قال: أتجازيني على ما كان مني، فهو كقوله: سخر الله منهم، وقوله: الله يستهزىء بهم أي: ينزل بهم جزاء سخريتهم واستهزائهم، وقوله: "ضحك حتى بدتْ نواجذُهُ" بنون وجيم وذال معجمة جمع ناجذ، وفي رواية ابن مسعود فضحك ابن مسعود فقالوا: مِمّ تضحك؟ فقال: هكذا فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من ضحكِ ربِّ العالمينَ حينَ قالَ الرجلُ: أتستهزىءُ مني؟ قال: لا أستهزىءُ منْكَ، ولكنَّي على ما أشاءُ قادرٌ". قال البيضاوي: نسبة الضحك إلى الله تعالى مجاز بمعنى الرضى، وضحك النبي -صلى الله عليه وسلم- على حقيقته، وضحك ابن مسعود على سبيل التأسي. وقوله: فيقول له: تمنَّ فيتمنّى، حتى إذا انقطعتْ أمنيتهُ إلى قوله قال اللهُ تعالى: لكَ ذلكَ ومثلُهُ معهُ. قال أبو سعيد الخدري لأبي هريرة: "رضي الله تعالى عنهم" أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "قال اللهُ عزّ وجلّ لكَ ذلكَ وعشرةُ أمثالِه" وفي رواية إبراهيم بن سعد قال أبو سعيد: "وعشرةُ أمثالِ يا أبا هريرة" وفيه فقال أبو سعيد الخدري: أشهد أني حفظت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وفي حديث أنس عن ابن مسعود: "يرضيكَ أني أعطيتُكَ الدّنيَا ومثلَها معَها". وفي حديث حذيفة عن أبي بكر: "انظر إلى ملك أعظم ملك، فإنّ لكَ مثلَهُ وعشرَ أمثالِه، فيقولُ: أتسخرُ بي وأنتَ المَلِكُ؟ " وعند أحمد من وجه آخر عن أبي هريرة وأبي سعيد جميعًا في هذا الحديث فقال أبو سعيد: "ومثلُهُ مَعُه" فقال أبو هريرة: "وعشرةُ أمثالِه"، فقال أحدهما لصاحبه: حَدِّثْ بما سمعتَ وأحدِّثُ بما سمعتُ وهذا مقلوب، فإن الذي في "الصحيح" هو المعتمد، وعند البزار من الوجه الذي أخرجه منه أحمد على وفق ما في "الصحيح". وفي حديث أبي سعيد الطويل الآتي في "التوحيد" بعد ذكر من يخرج من عصاة الموحدين فقال في آخره: "فيُقالُ لهم: لكم ما رأيتُم ومثلُهُ معَهُ"، فهذا موافق لحديث أبي هريرة في الاقتصار على المثل، ويمكن أن يجمع بأن يكون عشرة الأمثال إنما سمعه أبو سعيد في حق آخر أهل الجنة دخولًا، والمذكور هنا في حق جميع مَنْ يخرج بالقبضة. وجمع عياض بين حديثي أبي سعيد وأبي هريرة باحتمال أن يكون أبو هريرة سمع أولًا قوله: "ومثلُهُ معهُ" فحدّث به، ثم حدّث النبي -صلى الله عليه وسلم- بالزيادة فسمعه أبو سعيد، وعلى هذا فيقال: سمعه أبو سعيد وأبو هريرة معًا أولًا، ثم سمع أبو سعيد الزيادة بعد، وظاهر قوله: "هذا لك وعشرةُ أمثالِه" أن العشرة زائدة على الأصل.

وفي رواية أنس عن ابن مسعود: "لَك الذي تمنيت وعشرةُ أضعافِ الدنيا" وحمل على أنه تمنى أن يكون له مثل الدنيا، فيطابق حديث أبي سعيد. وفي رواية لمسلم عن ابن مسعود: "لك مثلُ الدنيا وعشرةُ أمثالِها". قال الكلاباذي إمساكه أولًا عن السؤال حياء من ربه والله يحب أن يُسأل؛ لأنه يحب صوت عبده المؤمن، فيباسطه بقوله أولًا: لعلك إن أعطيت هذا تسأل غيره، وهذه حالة المقصر فكيف حالة المطيع؟ وليس نقض هذا العبد عهده وتركه ما أقسم عليه جهلًا منه ولا قلة مبالاة، بل علمًا منه بأن نقض هذا العهد أولى من الوفاء به؛ لأن سؤاله ربه أولى من ترك السؤال مراعاة للقسم. وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ حلفَ على يمينٍ فرأى خيرًا مِنْها فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يمينِهِ وَلْيَأتِ الذي هو خيرٌ". فيعمل هذا العبد على وفق هذا الخبر، والتكفير قد ارتفع عنه في الآخرة. قال ابن أبي جمرة -رحمه الله تعالى- في هذا الحديث من الفوائد جواز مخاطبة الشخص بما لا تدرك حقيقته، وجواز التعبير عن ذلك بما يفهم، وأن الأُمور التي في الآخرة لا تشبه بما في الدنيا إلاَّ في الأسماء. والأصل مع المبالغة في تفاوت الصفة والاستدلال على العلم الضروري بالنظم وأن الكلام إذا كان محتملًا لأمرين بات التكلم بشيء يتخصص به مراده عند السامع، وأن التكليف لا ينقطع إلا بالاستقرار في الجنة أو النار، وأن امتثال الأمر في الموقف يقع بالاضطرار وفيه فضيلة الإيمان؛ لأنه لما تلبس به المنافق ظاهرًا بقيت عليه حرمته إلى أن وقع التمييز بإطفاء النور وغير ذلك، وأن الصراط مع دقته وحدته يسع جميع المخلوقين منذ آدم إلى قيام الساعة، وفيه أن النار مع عظمها وشدتها لا تتجاوز الحد الذي أُمرت بإحراقه والآدمي مع حقارة جرمه يقدم على المخالفة ففيه معنى شديد من التوبيخ وهو كقوله تعالى في وصف الملائكة: {غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} وفيه إشارة إلى توبيخ العصاة والطغاة، وفيه فضل الدعاء وقوة الرجاء في إجابة الدعوة ولو لم يكن الداعي أهلًا لذلك في ظاهر الحكم، لكن فضل الكريم واسع. وفي قوله في آخره في بعض طرقه "ما أغدرك" إشارة إلى أن الشخص لا يوصف بالفعل الذميم إلا بعد أن يتكرر ذلك. وفيه إطلاق اليوم على جزء منه؛ لأن يوم القيامة في الأصل يوم واحد، وقد أطلق اسم اليوم على كثير من أجزائه، وفيه جواز سؤال الشفاعة خلافًا لمن منع محتجًا بأنها لا تكون إلا لمذنب. قال عياض وفات هذا القائل أنها قد تقع في دخول الجنة بغير حساب وغير ذلك مما مرّ بيانه عند حديث: "حلّتْ شفاعتي" في الأذانِ مع أن كل عاقل معترف بالتقصير فيحتاج إلى طلب العفو عن تقصيره وكذا كل عامل يخشى أن لا يقبل عمله فيحتاج إلى الشفاعة في قبوله. قال: ويلزم هذا القائل أن لا يدعو بالمغفرة ولا بالرحمة وهو خلاف ما درج عليه السلف في أدعيتهم، قلت: ومن أين لشخص غير نبي معصوم أنه لم يعص الله تعالى؟ وفي الحديث أيضًا تكليف ما لا يطاق؛ لأن المنافقين يؤمرون بالسجود وقد منعوا منه، كذا قيل وفيه نظر؛ لأن الأمر حينئذ للتعجيز والتبكيت وفيه إثبات رؤية الله تعالى في الآخرة. قال الطيبي: وقول مَنْ أثبت الرؤية ووكل علم حقيقتها إلى الله فهو الحق، وكذا قول مَنْ فسّر الإتيان بالتجلي هو الحق, لأن ذلك قد تقدمه قوله: هل تضارون

في رؤية الشمس والقمر وزِيدَ في تقدير ذلك وتأكيده، وكل ذلك يدفع المجاز عنه. واستدل به بعض السالبة ونحوهم على أن المنافقين وبعض أهل الكتاب يرون الله مع المؤمنين وهو غلط فاحش, لأن في سياق حديث أي سعيد أن المؤمنين يرونه سبحانه وتعالى بعد رفع رؤوسهم من السجود، وحينئذ يقولون: "أنت ربُّنا" ولا يقع ذلك للمنافقين ومن ذكر معهم. وأما الرؤية التي اشترك فيها الجميع قبل، فقد تقدم أنه صورة الملك أو غيره ولا مدخل أيضًا لبعض أهل الكتاب في ذلك؛ لأن في بقية الحديث أنهم يخرجون من المؤمنين ومن معهم ممن يظهر الإِيمان, ويقال لهم ما كنتم تعبدون وأنهم يتساقطون في النار، وكل ذلك قبل الأمر بالسجود وفيه أن جماعة من مذنبي هذه الأُمة يعذبون بالنار ثم يخرجون بالشفاعة والرحمة خلافًا لمن نفى ذلك عن هذه الأُمة وتأول ما ورد بضروب متكلفة والنصوص الصريحة متظافرة متظاهرة بثبوت ذلك، وأن تعذيب الموحدين بخلاف تعذيب الكفار لاختلاف مراتبهم من أخذ النار بعضهم إلى ساقه، وأنها لا تأكل أثر السجود وأنهم يموتون فيكون عذابهم فيها إحراقهم وحبسهم عن دخول الجنة سريعًا كالمسجونين بخلاف الكفار الذين لا يموتون أصلًا ليذوقوا العذاب ولا يحيون حياة يستريحون بها. على أن بعض أهل العلم أوّل ما وقع في حديث أبي سعيد من قوله: "يموتون فيها إماتة" بأنه ليس المراد أنه يحصل لهم الموت حقيقة، وإنما هو كناية عن غيبة إحساسهم وذلك للرفق بهم أو كنى عن النوم بالموت، وقد سمى الله النوم وفاة. وفي حديث أبي هريرة أنهم إذا دخلوا النار ماتوا، فإذا أراد الله إخراجهم أمسهم ألم العذاب تلك الساعة. قلت: تأويل حديث أبي سعيد السابق بعيد لتأكيده بالمصدر التي يقصد التأكيد به لرفع المجاز، وفيه أيضًا ما طبع عليه الآدمي من قوة الطمع وجودة الحيلة في تحصيل المطلوب فطلب أولًا أن يبعد من النار لتحصل له نسبة لطيفة بأهل الجنة، ثم طلب الدنو منهم وفي بعض طرقه طلب الدنو من شجرة بعد شجرة إلى أن طلب الدخول، ويؤخذ منه أن صفات الآدمي التي شرف بها على الحيوان تعود له كلها بعد بعثته كالفكر والعقل وغيرهما. تنبيه: في روايات أبي هريرة التي هنا والتي في "الرقاق" والتي في "التوحيد" تقديم "فيضحك الله عَزَّ وَجَلَّ قبل الإذن له في دخول الجنّة" وفي رواية ابن مسعود المشار إليها سابقًا الآتية في "الرقاق" تقديم الإذن في دخول الجنّة ووجوده لها ملأى وقول الله تعالى: "لك مثلُ الدُّنيا وعشرة أمثالِها على قوله أتسخرُ مني أو تضحكُ مني وأنت المَلِكُ" فكيف يمكن الجمع بين هذه الروايات؟ لم أرَ مَنْ تعرض لهذا وَنبَّه عليه، والظاهر عندي أن يكون أحد الراويين قدم الضحك عن محله أو أخره، أو يكون الضحك وقع مرتين، وحذف كل واحد من الراويين أحد اللفظين في محل وأبقى واحدًا، أو يكونا متعددين صدر من أحدهما ما صدر قبل أن يأذن له في الدخول، وصدر من الآخر ما صدر بعد الإذن في الدخول، والله تعالى أعلم.

رجاله ستة

رجاله ستة: وفيه ذكر أبي سعيد الخدري، وقد مرّ الجميع: مرّ أبو اليمان وشعيب في السابع من بدء الوحي، ومرّ الزهري في الثالث منه، ومرّ سعيد بن المسيب في التاسع عشر من الإِيمان, ومرّ أبو هريرة في الثاني منه، ومرّ أبو سعيد الخدري في الثاني عشر منه، ومرّ عطاء بن يزيد في العاشر من الوضوء. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإخبار بالجمع والإفراد والعنعنة والقول. ورواته ما بين حمصيين ومدنيين، وفيه ثلاثة من التابعين. أخرجه البخاري أيضًا في "صفة الجنّة"، ومسلم في "الإيمان". ثم قال المصنف: باب يُبْدي ضَبْعيه ويجافي في السجود أي: هذا باب يُبْدي بضم الياء وسكون الباء الموحدة من الإبداء وهو الإظهار، وقوله: ضَبْعيه بفتح الضاد المعجمة وسكون الباء الموحدة تثنية ضبع والضبع العضد. وقيل وسط العضد من داخل، وقيل هي لحمة تحت الإبط. وفي "المغرب" إبداء الضبعين تفريجهما، وقوله: ويجافي مفعوله محذوف أي: يجافي بطنه أي يباعده. قال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} أي: تتباعد. وفي "الفتح" أن هذه الترجمة والتي بعدها تقدمتا قبيل أبواب القبلة وأُعيَدتَا هنا، والصواب إثباتهما هنا وقد مرّ هناك توجيه ذكرهما هناك. وفي "الفتح" هنا تغيير، فقوله هذه والتي بعدها صوابه هذه والتي ما بعدها؛ لأنهما اللتان تقدمتا وقدم هناك الباب المتأخر هنا على هذا الباب الأول.

الحديث السابع والسبعون

الحديث السابع والسبعون حَدَّثَنَا يَحْيَى بن عبد الله بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي بَكْرُ بْنُ مُضَرَ عَنْ جَعْفَرٍ عَنِ ابْنِ هُرْمُزَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ ابْنِ بُحَيْنَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا صَلَّى فَرَّجَ بَيْنَ يَدَيْهِ حَتَّى يَبْدُوَ بَيَاضُ إِبْطَيْهِ. قوله: "فرّج بين يديه" أي: نحّى كل يد عن الجنب الذي يليها، وهذا الحديث قد مرّ الكلام عليه مستوفىً في باب "يُبْدي ضَبْعيه قبيل أبواب القبلة". رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ يحيى بن بكير في الثالث من بدء الوحي، ومرّ جعفر بن ربيعة في الرابع من التيمم، ومرّ ابن هرمز في السابع من الإيمان, ومرّ بكر بن مضر وعبد الله بن مالك بن بحينة في الثاني والأربعين من كتاب الصلاة، ومرّ هناك من أخرجه. ثم قال: وقال الليث: حدّثني جعفر بن ربيعة نحوه. وهذا التعليق وصله مسلم بلفظ: "كان إذا سجدَ فرّجَ يديهِ عن إِبطَيْهِ حتى أني لأرى بياضَ إبْطَيْهِ". وجعفر مرّ ذكر محله في الذي قبله، والليث قد مرّ في الثالث من بدء الوحي. ثم قال المصنف: باب يستقبل القبلة بأطراف رجليه قاله أبو حميد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال الزين بن المنير: المراد أن يجعل قدميه قائمتين على بطون أصابعهما وعقباه مرتفعان فيستقبل بظهور قدميه القبلة. قال أخوه: ومن ثم ندب ضم الأصابع في السجود؛ لأنها لو تفرجت انحرفت رؤوس بعضها عن القبلة، وهذا التعليق قد مرّ مرارًا، ومرّ أن المؤلف أخرجه في باب سنة الجلوس في التشهد يأتي وأن أبا حميد قد مرّ في تعليق أوّل أبواب استقبال القبلة قبل ذكر حديث منه، ثم قال المصنف: باب إذا لم يتم سجوده

الحديث الثامن والسبعون

الحديث الثامن والسبعون حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مَهْدِيٌّ عَنْ وَاصِلٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ حُذَيْفَةَ رَأَى رَجُلاً لاَ يُتِمُّ رُكُوعَهُ وَلاَ سُجُودَهُ، فَلَمَّا قَضَى صَلاَتَهُ قَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ: مَا صَلَّيْتَ؟ قَالَ: وَأَحْسِبُهُ قَالَ: وَلَوْ مُتَّ مُتَّ عَلَى غَيْرِ سُنَّةِ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-. وهذا الحديث مرّ الكلام عليه مستوفى في باب (إذا لم يتم الركوع). رجاله خمسة: قد مرّوا: مرّ الصلت بن محمد ومهدي بن ميمون في الحادي والأربعين من كتاب الصلاة، ومرّ واصل في الثالث والعشرين من الإِيمان, ومرّ أبو وائل في الحادي والأربعين منه، ومرّ حذيفة في تعليق بعد الثاني من العلم، ومرّ في ذكر هذا الحديث في الثاني والستين من أبواب صفة الصلاة إن الرجل لم يعرف اسمه، ومرّ هناك ما يتعلق به. ثم قال المصنف: باب السجود على سبعة أعظم أورد في هذا الباب لفظ المتن في حديثين: الأول على سبعة أعضاء، والثاني على سبعة أعظم. وأتى بالترجمة بلفظ الثاني، قال ابن دقيق العيد: يسمى كل واحد عظمًا باعتبار الجملة وإن اشتمل كل واحد على عظام ويجوز أن يكون من باب تسمية الجملة باسم بعضها.

الحديث التاسع والسبعون

الحديث التاسع والسبعون حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أُمِرَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْضَاءٍ، وَلاَ يَكُفَّ شَعَرًا وَلاَ ثَوْبًا الْجَبْهَةِ وَالْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ. قوله: "أُمر النبي -صلى الله عليه وسلم-" بضم همزة أمر بالبناء للمفعول، والآمر هو الله جل جلاله. قال البيضاوي: عرف ذلك بالعرف وذلك يقتضي الوجوب، قيل وفيه نظر؛ لأنه ليس فيه صيغة (أفعل) ولما كان هذا السياق يحتمل الخصوصية وإنْ كان الصحيح عند أهل الأُصول أن خطاب النبي -صلى الله عليه وسلم- خطاب لأُمته عقبه المصنف بلفظ آخر دال على أنه لعموم الأمة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أُمرنا" في الحديث التالي لهذا وعرف بهذا أن ابن عباس تلقاه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- إما سماعًا منه، وإما بلاغًا عنه وقد أخرجه مسلم عن العباس بن عبد المطلب بلفظ: "إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب" الحديث، وهذا يرجح أن النون في "أُمرنا" نون الجمع فيحتمل أن يكون ابن عباس تلقاه عن أبيه -رضي الله تعالى عنهما- والآراب بالمد جمع إرْب بكسر أوله وإسكان ثانيه وهو العضو. وقوله: "ولا يكفَ شعرًا ولا ثوبًا" ويكف بالنصب عطفا على المنصوب أي: وأن لا يكف، ويحتمل أن يكون جملة معترضة بين المجملة وهو سبعة أعضاء والمفسر وهو الجبهة إلى آخره، وذكره بعد باب بلفظ: ولا نكفت الثياب والشعر، والكفت بمثناة في آخره هو الضم وهو بمعنى الكف قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا} أي: تجمع الناس في حياتهم ومماتهم. والمراد أنه لا يجمع ثيابه ولا شعره، وظاهره يقتضي أن النهي عنه في حال الصلاة وإليه جنح الداودي. وترجم المصنف بعد قليل باب لا يكف ثوبه في الصلاة وهي تؤيد ذلك، وردّه عياض بأنه خلاف ما عليه الجمهور فإنهم كرهوا ذلك للمصلي سواء فعله في الصلاة أو قبل أن يدخل فيها واتفقوا على أن النهي محمول على التنزيه، وعلى أن النهي لكل مصل كذلك سواء تعمده للصلاة أو كان كذلك قبلها لمعنى آخر كشغل وخص مالك النهي بمن فعل ذلك لأجل الصلاة. أما لو كان ذلك لباسه أو كان لأجل شغل فحضرت الصلاة فصلّى به فلا كراهة فيه؛ لأن ذكر الكفت في الحديث مقترنًا بالسجود يؤذن بأن ذلك لأجل الصلاة، واتفقوا على أنه لا يفسد الصلاة لكن حكى ابن المنذر عن الحسن وجوب الإعادة والحكمة في ذلك أنه إذا رفع شعره وثوبه عن

مباشرة الأرض أشبه المتكبر، وقيل إن الشعر والثوب يسجدان معه وقد جاء عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنه- أنه قال لرجل رآه يسجد وهو معقوص الشعر: أرسله يسجد معك. وقوله: "الجبهةِ" بالكسر بدل من سبعة وهي مستدير ما بين الحاجبين إلى الناصية ويكفي السجود على أدنى جزء منها عند المالكية، ويستحب إلصاقها على أبلغ ما يمكنه بحيث تستقر متبسطة، وكره مالك شدّ الجبهة بالأرض وأنكره أبو سعيد الخدري ويكفي بعض الجبهة عند الحنفية أيضًا، وقد قال به كثيرٌ من الشافعية وكأنه أخذ من قول الشافعي في "الأم" أن الاقتصار على بعض الجبهة يكره. وقوله: "واليدين" قال ابن دقيق: المراد بهما الكفّان لئلا يدخل تحت المنهي عنه من افتراش السبع والكلب. وفي رواية عند مسلم بلفظ الكفين، وقوله: "والرجلين" في رواية ابن طاووس عند النسائي وأطراف القدمين وهو مبين للمراد من الرجلين، وقد تقدمت كيفية السجود عليهما بباب. وظاهر هذا الحديث يدلّ على وجوب السجود على هذه الأعضاء، ومذهب المالكية أن السجود على غير الجبهة من تلك الأعضاء سُنّة، وهل ما ذكر جميعًا سُنة في جميع الصلاة أو في كل ركعة أو في كل سجدة نظر؟ والظاهر أن كل ما ذكر سُنّة في كل ركعة وأن يكون من السنن غير الخفيفة وينبغي في ترك أحد أطراف القدمين أو أحد الركبتين أو اليدين عدم السجود؛ لأن المتروك بعض سنة وفي السجود على المذكورات غير الجبهة قولان عند الشافعية صحح النووي الوجوب لحديث الباب، وهو مذهب أحمد وإسحاق ويكفي وضع جزء من كل واحد منها. وصحح الرافعي الاستحباب، فلا يجب قائلًا: إنه لو وجب وضعها لوجب الإيماء بها عند العجز عن وضعها كالجبهة، ولا يجب الإِيماء فلا يجب وضعها واستدل له بعضهم بحديث المسيء صلاته حيث قال: ويمكن جبهته وأُجيب عن هذا بأن غايته أنه مفهوم لقب والمنطوق مقدم عليه، وليس هو من باب تخصيص العموم وأضعف من هذا استدلالهم بحديث سجد وجهي فإنه لا يلزم من إضافة السجود إلى الوجه انحصار السجود فيه وأضعف منه قولهم إن مسمى السجود يحصل بوضع الجبهة؛ لأن هذا الحديث يدل على إثبات زيادة على المسمى، وأضعف منه المعارضة بقياس شبهى كأن يقال أعضاء لا يجب كشفها فلا يجب وضعها. وفي "شرح الهداية" الحنفي السجود على اليدين والركبتين والقدمين غير واجب. وفي "الواقعات" لو لم يضع ركبتيه على الأرض عند السجود لا يجزئه، وظاهر الحديث أنه لا يجب كشف شيء من هذه الأعضاء؛ لأن مسمى السجود يحصل بوضعها دون كشفها, ولم يختلف في أن كشف الركبتين غير واجب لما يحذر فيه من كشف العورة. وأما عدم وجوب كشف القدمين فلدليل لطيف وهو أن الشارع وقت المسح على الخف بمدة تقع فيها الصلاة بالخف، فلو وجب كشف القدمين لوجب نزع الخف المقتضي لنقض الطهارة فتبطل الصلاة، وفيه نظر فللمخالف أن يقول: يخص لابس الخف لأجل الرخصة.

رجاله خمسة

وأما كشف اليدين فقد تقدم البحث فيه في باب السجود على الثوب في شدة الحر قبيل أبواب استقبال القبلة، وفيه أثر الحسن في نقله عن الصحابة ترك الكشف. وأما الجبهة فتوضع على الأرض مكشوفة، ومرّ في هذا الباب السجود على العمامة والقلنسوة والثوب المتصل والمنفصل. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ قبيصة في السابع والعشرين من الإِيمان, ومرّ سفيان في الأول من بدء الوحي، ومرّ ابن عباس في الخامس منه، ومرّ عمرو بن دينار في الرابع والخمسين من العلم، ومرّ طاووس بعد الأربعين من الوضوء في باب مَنْ لم يرَ الوضوء إلا من المخرجين. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول ورواته ما بين كوفي ومكي ويماني أخرجه البخاري أيضًا في غير هذا المحل، وأخرجه مسلم في الصلاة وكذلك أبو داود والتِّرمِذِيّ والنَّسائيّ وابن ماجه.

الحديث الثمانون

الحديث الثمانون حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: أُمِرْنَا أَنْ نَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ وَلاَ نَكُفَّ ثَوْبًا وَلاَ شَعَرًا. وهذا الحديث ليست فيه زيادة على ما قبله. رجاله خمسة: مرّ ذكر محل عمرو وطاووس وابن عباس في الذي قبله، ومرّ مسلم بن إبراهيم في السابع والثلاثين من الإيمان, ومرّ شعبة في الثالث منه.

الحديث الحادي والثمانون

الحديث الحادي والثمانون حَدَّثَنَا آدَمُ قال: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخَطْمِيِّ حَدَّثَنَا الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَهْوَ غَيْرُ كَذُوبٍ قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي خَلْفَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. لَمْ يَحْنِ أَحَدٌ مِنَّا ظَهْرَهُ حَتَّى يَضَعَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- جَبْهَتَهُ عَلَى الأَرْضِ. وهذا الحديث مرّ استيفاء الكلام عليه في باب "متى يسجد مَنْ خلف الإِمام" والغرض منه هنا قوله في آخره حتى يضع جبهته على الأرض. قال الكرماني: مناسبته للترجمة من حيث إن العادة أن وضع الجبهة إنما هو باستعانة الأعظم الستة غالبًا، والذي يظهر في مراده أن الأحاديث الواردة بالاقتصار على الجبهة كهذا الحديث لا تعارض الأحاديث المنصوص فيها على الأعضاء السبعة، بل الاقتصار على ذكر الجبهة إما لكونها أشرف الأعضاء المذكورة، أو أشهرها في تحصيل هذا الركن فليس فيه ما ينفي الزيادة التي في غيره. وقيل أراد أن يبين أن الأمر بالجبهة للوجوب وغيرها للندب؛ ولهذا اقتصر على ذكرها في كثير من الأحاديث والأول أليق بتصرفه. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ آدم في الثالث من الإيمان, ومرّ إسرائيل بن يونس في السابع والستين من العلم، ومرّ أبو إسحاق والبراء في الثالث والثلاثين من الإيمان, ومرّ عبد الله بن يزيد في الثامن والأربعين منه. وهذا الحديث قد مرّ ما فيه في باب "متى يسجد مَنْ خلف الإمام". ثم قال المصنف: باب السجود على الأنف

الحديث الثاني والثمانون

الحديث الثاني والثمانون حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ عَلَى الْجَبْهَةِ وَأَشَارَ بِيَدِهِ عَلَى أَنْفِهِ وَالْيَدَيْنِ، وَالرُّكْبَتَيْنِ وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ، وَلاَ نَكْفِتَ الثِّيَابَ وَالشَّعَرَ. قوله: "على سبعة أعظم على الجبهة" على الثانية من الأولى التي في حكم الطريح أو الأولى متعلقة بنحو حاصلًا أي: أسجد على الجبهة حال كون السجود حاصلًا على سبعة أعضاء. وقوله: "وأشار بيده على أنفه" كأنه ضمن أشار معنى أمرّ بتشديد الراء، فلذلك عدّاه بعلى دون إلى. وفي "العمدة" بلفظ إلى وهي في بعض النسخ عن كريمة. وعند النسائي، عن ابن عُيينة عن ابن طاووس فذكر هذا الحديث وقال في آخره قال ابن طاووس: ووضع على جبهته وأمرها على أنفه. قال: هذا واحد. هذه الرواية مفسرة، قال القرطبي: هذا يدل على أن الجبهة الأصل في السجود والأنف تبع. قال ابن دقيق العيد: معناه أنهما جعلا كعضو واحد وإلا لكانت الأعضاء ثمانية، قال: وفيه نظر؛ لأنه يلزم منه أن يكتفي بالسجود على الأنف كما يكتفي بالسجود على بعض الجبهة. وقد احتج بهذا لأبي حنيفة في الاكتفاء بالسجود على الأنف، قال: والحق أن مثل هذا لا يعارض التصريح بذكر الجبهة وإن أمكن أن يعتقد أنهما كعضو واحد فذاك في التسمية والعبارة لا في الحكم الذي دلّ عليه الأمر، وأيضًا فإن الإشارة قد لا تعين المشار إليه يقينًا وأما العبارة فإنها معينة لما وضعت له فتقديمه أولى. ونقل ابن المنذر إجماع الصحابة على أنه لا يجزىء السجود على الأنف وحده، وذهب الجمهور إلى أنه يجزىء على الجبهة وحدها. وعن الأوزاعي وأحمد وإسحاق وابن حبيب من المالكية وغيرهم يجب أن يجمعهما، وهو قول للشافعي والصحيح من مذهب أبي حنيفة أنه يجزئه أن يسجد على أنفه دون جبهته. وروى عنه وعن ابن القاسم من أصحاب مالك أن له أن يقتصر على أيهما شاء، واستدل أبو حنيفة ومَنْ معه بأن المأمور به في السجود وضع بعض الوجه على الأرض لا كله، إذ لا يمكن فيكون مأمورًا بالبعض والأنف بعضه، فلما أن الاقتصار على الجبهة يجوز بلا خلاف لكونها بعض الوجه ومسجدًا، فكذا الاقتصار على الأنف؛ لأنه بعض الوجه ومسجد. ومشهور مذهب مالك أن تارك

رجاله خمسة

السجود على الأنف يعيد في الوقت والشافعية السجود على الأنف عندهم مستحب قال الخطابي: لأنه إنما ذكر بالإشارة فكان مندوبًا. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ مُعلّى بن أسد في الرابع والثلاثين من الحيض، ومرّ وهيب بن خالد في السادس والعشرين من العلم، ومرّ عبد الله بن طاووس مع مُعلّى بن أسد، ومرّ طاووس بعد الأربعين من الوضوء, ومرّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي. ثم قال المصنف: باب السجود على الأنف في الطين كذا للأكثر وللمستملي السجود على الأنف والسجود على الطين، والأول أنسب لئلا يلزم التكرار، وهذه الترجمة أخص من التي قبلها وكأنه يشير إلى تأكد أمر السجود على الأنف بأنه لم يترك مع وجود عذر الطين الذي أثر فيه.

الحديث الثالث والثمانون

الحديث الثالث والثمانون حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: انْطَلَقْتُ إِلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فَقُلْتُ: أَلاَ تَخْرُجُ بِنَا إِلَى النَّخْلِ نَتَحَدَّثْ فَخَرَجَ. فَقَالَ: قُلْتُ: حَدِّثْنِي مَا سَمِعْتَ مِنَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. قَالَ اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَشْرَ الأُوَلِ مِنْ رَمَضَانَ، وَاعْتَكَفْنَا مَعَهُ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ. فَاعْتَكَفَ الْعَشْرَ الأَوْسَطَ، فَاعْتَكَفْنَا مَعَهُ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِى تَطْلُبُ أَمَامَكَ. فَقَامَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- خَطِيبًا صَبِيحَةَ عِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ فَقَالَ: مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَلْيَرْجِعْ، فَإِنِّي أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَإِنِّي نُسِّيتُهَا، وَإِنَّهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ فِي وِتْرٍ، وَإِنِّى رَأَيْتُ كَأَنِّي أَسْجُدُ فِي طِينٍ وَمَاءٍ. وَكَانَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ جَرِيدَ النَّخْلِ وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ شَيْئًا، فَجَاءَتْ قَزْعَةٌ فَأُمْطِرْنَا، فَصَلَّى بِنَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الطِّينِ وَالْمَاءِ عَلَى جَبْهَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَرْنَبَتِهِ تَصْدِيقَ رُؤْيَاهُ. قوله: "عن يحيى عن أَبي سَلَمة" يأتي في الاعتكاف عن يحيى سمعت أبا سَلَمة، وقوله: "انطلقتُ إلى أبي سعيد فقلت ألا تخرج بنا إلى النخل" وفي رواية علي في الاعتكاف سألت أبا سعيد هل سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يذكر ليلة القدر فقال: نعم، ولمسلم تذاكرنا ليلة القدر في نفرٍ من قريش فأتيت أبا سعيد فذكره وأفاد بحديث الباب بيان سبب السؤال وفيه تأنيس الطالب للشيخ في طلب الاختلاء به ليتمكن مما يريد من مسألته. وقوله: "العشرَ الأولَ مِنْ رمضانَ واعتكفنا معَهُ" وقوله: "واعتكفَ العشرَ الأوسطَ فاعتكفنا معَهُ"، المراد بالعشر الليالي ووصفها بلفظ الأوسط المذكر وكان من حقها أن توصف بلفظ التأنيث، لكن وصفت بالمذكر على إرادة الوقت أو الزمان أو التقدير الثلث كأنه قال: الليالي العشر التي هي الثلث الأوسط من الشهر. وفي "الموطأ" الوُسُط بضم الواو والسين جمع وسطى، ويروى بفتح السين مثل كبر وكبرى، ورواه الباجي في "الموطأ" بإسكانها على أنه جمع واسط كبازل وبزل، وهذا يوافق رواية "الأوسط" وفي رواية محمد بن إبراهيم في باب "صلاة التراويح" كان يجاور العشر التي في وسط الشهر.

ولمسلم عن أبي سعيد: "اعتكفَ العشرَ الأوسطَ مِنْ رمضانَ يلتمسُ ليلةَ القدرِ قبلَ أن تبانَ لهُ فلما انقضت أمر بالبناء فقوض، ثم أُبينت له أنها في العشرِ الأواخرِ فأمر بالبناءِ"، فأعيد. وقوله: "إنَّ الذي تطلبُ أمامَكَ" هو بفتح الهمزة والميم أي: قدّامك. قال الطيبي: وصف الأول والأوسط بالمفرد والأخير بالجمع إشارة إلى تصوير ليلة القدر في كل ليلة من ليالي العشر الأخير دون الأولين. وقوله: "فقامَ خطيبًا صبيحةَ عشرينَ مِنْ رمضانَ" في رواية مالك الآتية في الاعتكاف حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها من اعتكافه، وظاهره يخالف رواية الباب ومقتضاه أن خطبته وقعت في أول اليوم الحادي والعشرين، وعلى هذا، يكون أول ليالي اعتكافه الأخير ليلة اثنتين وعشرين، وهو مغاير لقوله في آخر الحديث فأبصرت عيناي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلى جبهته أثر الماء والطين من صبح إحدى وعشرين فإنه ظاهر في أن الخطبة كانت في صبح اليوم العشرين. ووقوع المطر كان في ليلة إحدى وعشرين وهو الموافق لبقية الطرق وعلى هذا، فكان قوله في رواية مالك المذكورة وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها أي: من الصبح الذي قبلها، ويكون في إضافة الصبح إليها تجوز. وقد أطال ابن دحية في تقرير أن الليلة تضاف لليوم الذي قبلها، ورد على من منع ذلك ولكن لم يوافق على ذلك، فقال ابن حزم: رواية حديث الباب مستقيمة ورواية مالك مشكلة وأشار إلى تأويلها بما تقدم، ويؤيده أن في رواية أبي سَلَمة في التراويح، فإذا كان حين يمسي من عشرين ليلة تمضي ويستقبل إحدى وعشرين رجع إلى مسكنه، وهذا في غاية الإيضاح. وأفاد ابن عبد البرَّ أن الرواة عن مالك اختلفوا عنه في لفظ الحديث فقال بعد ذكر الحديث: هكذا رواه يحيى بن يحيى، ويحيى بن بكير والشافعي عن مالك يخرج في صبيحتها من اعتكافه، ورواه ابن القاسم وابن وهب والقعنبي وجماعة وقالوا: وهي الليلة التي يخرج فيها من اعتكافه. قال: وقد روى ابن وهب وابن عبد الحكم عن مالك فقال: مَنْ اعتكف أول الشهر أو وسطه فإنه يخرج إذا غابت الشمس من آخر يوم من اعتكافه، ومن اعتكف في آخر الشهر فلا ينصرف إلى بيته حتى يشهد العيد، قال ابن عبد البر: ولا خلاف في الأول وإنما الخلاف فيمن اعتكف العشر الأخير هل يخرج إذا غابت الشمس أو لا يخرج حتى يصبح؟ قال: وأظن أن الوهم دخل من وقت خروج المعتكف. وما قاله بعيد لما قرره هو من بيان محل الاختلاف، ووجه البلقيني رواية مالك فقال: إن معنى قوله حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين أي: حتى إذا كان المستقبل من الليالي ليلة إحدى وعشرين. وقوله: "وهي الليلة التي يخرج" ضمير هي يعود على الليلة الماضية ويؤيد هذا قوله: "مَنْ كان اعتكفَ معي فليعتكفْ العشرَ الأواخرَ" لأنه لا يتم ذلك إلا بإدخال الليلة الأولى. وقوله: "فإنّي

أُريتُ ليلَة القدرِ" أي: بضم أوله على البناء لغير معين، وهي من الرؤيا أي: أُعلمت بها أو من الرؤية أي: أبصرتها، وإنما أري علامتها وهو السجود في الماء والطين كما أشار إليه آخر الحديث بلفظ: "حتى رأيتُ أَثرَ الماءِ والطينِ على جبهةِ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- تصديق رؤياه. وقوله: "وإني نسيتُها" وفي رواية التراويح "ثم أُنسيتُها" أو نسيتها وفي هذه شك من الراوي هل أنساه غيره إياها أو نسيها هو في غير واسطة، وليس في رواية الباب شك ومنهم مَنْ ضبط نُسّيتها بضم أوله والتشديد فهي بمعنى أُنسيتها، والمراد أنه أنسي علم تعيينها في تلك السنة وسيأتي أن سبب نسيانها تلاحي رجلين. وقوله: "وإنّي رأيتُ كأني أسجدُ في طينٍ وماءٍ" ورواية الكشميهنيّ أن أسجد. وفي قوله: "ومَنْ كان اعتكفَ مَع النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فليرجعْ" التفات. وقوله: "فجاءت قزعةٌ" بالتحريكِ أي: قطعة من سحاب رقيقة. وقوله: "فأُمطرنا" وفي رواية: "فمَطَرت" بفتحتين. وفي رواية: "فاستهلتِ السماءُ فأَمطرت". وفي رواية مالك: "فوكفَ المسجدُ" أي: قطر الماء من سقفه وكان على عريش أي: مثل العريش وإلا فالعريش هو نفس سقفه، والمراد أنه كان مظللًا بالجريد والخوص ولم يكن محكم البناء بحيث يكن من المطر الكثير. وقوله: "حتى رأيتُ أثرَ الطين والماءِ على جبهةِ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وأرنبته تصديق رؤياهُ". والأَرْنبة بفتح ثم سكون ثم حركتين طرف الأنف ويجمع على أرنب. وتصديق خبر مبتدأ محذوف أي: هو تصديق، وفي رواية مالك: "على جبهتهِ أثرُ الماءِ والطين". وفي رواية ابن أبي حازم في "التراويح": "انصرفَ من الصبحِ ووجهُهُ ممتلىءٌ طينًا وماءً". وهذا يشعر بأن قوله أثر الماء والطين لم يرد به محض الأثر وهو ما بقي بعد إزالة العين، وفي الحديث ترك مسح جبهة المصلي والسجود على الحائل وحمله الجمهور على الخفيف من الأثر لكن يعكر عليه ما مرّ قريبًا ووجهه ممتلىء طينًا وماء، وأجاب النووي بأن الامتلاء المذكور لا يستلزم ستر جميع الجبهة، وفيه جواز السجود في الطين ولا حجة فيه لمن استدل به على جواز الاكتفاء بالأنف لأن في سياقه أنه سجد على جبهته وأرنبته فوضح أنه إنما قصد بالترجمة ما قدمناه. وهو دال على وجوب السجود عليهما, ولولا ذلك لصانهما عن لوث الطين، قاله الخطابي وفيه نظر ووجه النظر هو أن الفعل لا يدل على الوجوب، فلعله أخذ بالأكمل وأخذه من قوله: "صلُّوا كما رأيتموني أُصلِّي" معارض بأن المندوب في أفعال الصلاة أكثر من الواجب، فعارض الغالب ذلك الأصل قال البخاري: كان الحميدي شيخه يحتج بهذا الحديث يقول: لا يمسح الساجد جبهته من أثر الأرض فيستحب ترك الإِسراع إلى إزالة ما يصيب جبهة الساجد من غبار الأرض ونحوه وعند المالكية لا يندب ترك الإِسراع إلى الإِزالة، بل تندب إزالته لئلا يحصل منه أذى للعين وليس في الحديث ما يدل على طلب الترك؛ لأن قوله رأيت على جبهته أثر الطين فيه أن يكون رأى ذلك عند مجرد السلام

رجاله خمسة

أو حال التفاته في السلام. ومشهور مذهب مالك أن المصلي إذا كان في خضخاض لا يجد أن يصلي إلاَّ فيه كان في أول الوقت أخر الصلاة حتى يجد مكانًا يصلي فيه، وإن كان آيسًا من وجوده أو خاف خروج الوقت صلَّى على دابته إيماء إن خشي الغرق أو خشي تلوث ثيابه خلافًا لابن عبد الحكم وأشهب وابن نافع القائلين أنه ينزل ويسجد وإن تلطخت ثيابه. وعلى المشهور هل تقيد الثياب بفسادها بالغسل أو لا؟ الثاني نقله ابن عرفة نصًا، والأول نقله تخريجًا وهو يفيد ضعفه وإن لم يخف الغرق ولا تلويث الثياب نزل وصلّى قائمًا يركع من قيام ويومىء للسجود. وفي الحديث أيضًا الأمر بطلب الأولى والإرشاد إلى تحصيل الأفضل وأن النسيان جائز على النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا نقص عليه في ذلك لاسيما فيما لم يؤذن له في تبليغه، وقد يكون في ذلك مصلحة تتعلق بالتشريع كما في السهو في الصلاة أو بالإجتهاد في العبادة كما في هذه القصة؛ لأن ليلة القدر لو عينت في ليلة بعينها حصل الاقتصار عليها، ففاتت العبادة في غيرها وكان هذا المراد بقوله: عسى أن يكون خيرًا لكم كما يأتي في "التراويح"، وفيه استعمال رمضان بدون شهر واستحباب الاعتكاف فيه وترجيح اعتكاف العشر الأواخر، وأن من الرؤيا ما يقع تعبيره مطابقًا وترتب الأحكام على رؤيا الأنبياء وفي أول قصة أبي سَلَمة المشي في طلب العلم وإيثار المواضع الخالية للسؤال، وإجابة السائل لذلك واجتناب المشقة في الاستفادة وابتداء الطالب بالسؤال، وتقديم الخطبة على التعليم وتقريب البعيد في الطاعة، وتسهيل المشقة فيها بحسن التلطف والتدريج إليها. وقيل ويستنبط منه جواز تغيير مادة الأنبياء من الأوقاف بما هو أقوى منها وأنفع. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ موسى بن إسماعيل في الخامس من بدء الوحي، ومرّ همام في الرابع والثمانين من الوضوء، ومرّ يحيى بن أبي كثير في الثالث والخمسين من العلم، ومرّ أبو سَلَمة في الرابع من بدء الوحي، ومرّ أبو سعيد الخدري في الثاني عشر من الإيمان. أخرجه البخاري في مواضع في الصلاة، وفي الصوم, والاعتكاف. وأخرجه مسلم وابن ماجه في الصوم، وأبو داود في الصلاة والنَّسائيّ في الاعتكاف. ثم قال المصنف: باب عقد الثياب وشدها ومن ضم إليه ثوبه إذا خاف أن تنكشف عورته كأنه يشير إلى أن النهي الوارد عن كف الثياب في الصلاة محمول على في حالة الاضطرار، ووجه إدخال هذه الترجمة في أحكام السجود من جهة أن حركة السجود والرفع منه تسهل مع ضم الثياب وعقدها لا مع إرسالها وسدلها قاله الزين بن المنير.

الحديث الرابع والثمانون

الحديث الرابع والثمانون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: كَانَ النَّاسُ يُصَلُّونَ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَهُمْ عَاقِدُو أُزْرِهِمْ مِنَ الصِّغَرِ عَلَى رِقَابِهِمْ فَقِيلَ لِلنِّسَاءِ: لاَ تَرْفَعْنَ رُءُوسَكُنَّ حَتَّى يَسْتَوِيَ الرِّجَالُ جُلُوسًا. وهذا الحديث مرّ في باب إذا كان الثوب ضيقًا في أوائل الصلاة، من وجه آخر عن سفيان، ومرّ الكلام عليه هناك. رجاله أربعة: قد مرّوا إلا شيخ البخاري، مرّ سفيان الثوري في السابع والعشرين من الإيمان, ومرّ أبو حازم وسهل بن سعد في الثامن والمائة من الوضوء. وأما شيخ البخاري فهو محمد بن كثير العبدي أبو عبد الله البصري. قال أبو حاتم: صدوق وذكره ابن حِبّان في الثقات وقال: كان تقيًا فاضلًا. وقال أحمد: ثقة، لقد مات على سنة. وقال ابن معين: لم يكن بثقة. قال في مقدمة "الفتح": روى عنه البخاري ثلاثة أحاديث في العلم والبيوع والتفسير قد توبع عليها. قلت: وما قاله غفلة منه عمّا ذكره في "تهذيب التهذيب" عن الزهرة من أن البخاري روى عنه ثلاثة وستين حديثًا فأين هذا من هذا؟ ولم يذكر هذا الحديث المروي عنه في الصلاة والكمال لله تعالى. روى عن أخيه سليمان وكان أكبر منه بخمسين سنة، وعن الثوري وشعبة وهمام وإسرائيل وغيرهم، وروى عنه البخاري وأبو داود وروى الباقون له بواسطة، وأبو حاتم وأبو زرعة وعلي بن المديني وغيرهم، مات سنة ثلاث وعشرين ومائتين، وكان له يوم مات تسعون وفي رواة الستة محمد بن كثير بن أبي عطاء الثقفي مولاهم أبو أيوب المصيصي يقال هو من صنعاء دمشق، روى عنه أبو داود والتِّرمِذِي والنَّسائيّ وفي رواة غير الستة ثلاثة محمد بن كثير القرشي الكوفي أبو إسحاق ومحمد بن كثير البصري السلمي القصاب، ومحمد بن كثير بن مروان الفهري الشامي. وقد مرّ هذا الحديث في باب إذا كان الثوب ضيقًا، ومرّ هناك ما يتعلق به. ثم قال المصنف: باب لا يكف شعرًا أي: المصلي ويكفُّ بضم الفاء على الراجح، ويجوز الفتح والمراد بالشعر شعر الرأس

ومناسبة هذه الترجمة لأحكام السجود من جهة أن الشعر يسجد مع الرأس إذا لم يكف أو يلف. وجاء في حكمة النهي عن ذلك أن غرزة الشعر يقعد فيها الشيطان حالة الصلاة، وفي "سنن أبي داود" وبإسناد جيد أن أبا رافع رأى الحسن بن علي يصلي قد غرز ضفيرته في قفاه فحلها، وقال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ذلك مقعدُ الشيطانِ أو كَفَلُ الشيطانِ". وفي "المعرفة" عن ابن عباس أنه رأى عبد الله بن الحارث يصلي ورأسه معقوص من ورائه، فجعل يحلّه وقال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنّما مثلُ هذا كمثلِ الذي يصلِّي وهو مكتوفٌ".

الحديث الخامس والثمانون

الحديث الخامس والثمانون حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ وَهْوَ ابْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُمِرَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ، وَلاَ يَكُفَّ ثَوْبَهُ وَلاَ شَعَرَهُ. وهذا الحديث مرّ استيفاء الكلام عليه في باب السجود على سبعة أعظم. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ أبو النعمان في الحادي والخمسين من الإِيمان, ومرّ حمّاد بن زيد في الرابع والعشرين منه، ومرّ عمرو بن دينار في الرابع والخمسين من العلم، ومرّ طاووس بعد الأربعين من الوضوء, ومرّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي، ثم قال المصنف: باب لا يكف ثوبه في الصلاة

الحديث السادس والثمانون

الحديث السادس والثمانون حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةٍ، لاَ أَكُفُّ شَعَرًا وَلاَ ثَوْبًا. وهذا الحديث مرّ الكلام عليه في الباب المذكور آنفًا. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ موسى بن إسماعيل وأبو عوانة في الخامس من بدء الوحي، ومرّ ذكر الثلاثة الأخيرة في الذي قبله. ثم قال المصنف: باب التسبيح والدعاء في السجود تقدم الكلام على هذه الترجمة في باب الدعاء في الركوع.

الحديث السابع والثمانون

الحديث السابع والثمانون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْصُورٌ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ. قوله: "يكثر أن يقول" كذا في رواية منصور وقد بيّن الأعمش في روايته في التفسير عن أبي الضحى ابتداء هذا الفعل، وأنه واظب عليه -صلى الله عليه وسلم- ولفظه: "ما صلَّى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- صلاةً بعدَ أنْ نزلتْ عليه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} إلا يقولُ فيها ... الحديث" قيل: اختار -صلى الله عليه وسلم- الصلاة لهذا القول؛ لأن حالها أفضل من غيرها, وليس في الحديث أنه لم يكن يقول ذلك خارج الصلاة أيضًا، بل في بعض طرقه عند مسلم ما يشعر بأنه -صلى الله عليه وسلم- كان يواظب على ذلك داخل الصلاة وخارجها، وفي رواية منصور هذه بيان المحل الذي كان -صلى الله عليه وسلم- يقول فيه من الصلاة وهو الركوع والسجود. وقوله: "يتأول القرآن" أن يجعل ما أمر به من التسبيح والتحميد والاستغفار في أشرف الأوقات والأحوال، وقد تبين من رواية الأعمش أن المراد بالقرآن بعضه وهو سورة {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ}. وفي رواية ابن السكن عن الفربري قال أبو عبد الله: يعني قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} الآية، وفي هذا تعيين أحد الاحتمالين في قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ}؛ لأنه يحتمل أن يكون المراد بسبح نفس الحمد لما تضمنه الحمد من معنى التسبيح الذي هو التنزيه لاقتضاء الحمد نسبة الأفعال المحمود عليها إلى الله سبحانه وتعالى، فعلى هذا يكفي في امتثال الأمر الاقتصار على الحمد. ويحتمل أن يكون المراد فسبح متلبسًا بالحمد، فلا يمتثل حتى يجمعهما وهو الظاهر. وقال صاحب "الهدي" كأنه أخذه من قوله تعالى واستغفره؛ لأنه كان يجعل الاستغفار في خواتم الأُمور فيقول إذا سلّم من الصلاة: "استغفر الله" ثلاثًا، وإذا خرج من الخلاء قال: "غُفْرَانَكَ" وورد الأمر بالاستغفار عند انقضاء المناسك: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ} الآية. ويؤخذ أيضًا من قوله تعالى أنه كان توابًا، فقد كان يقول عند انقضاء الوضوء: "اللهمَّ اجعلني من التّوابينَ". وأخرج النَّسائي عن ابن عباس أنّ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} آخر سورة نزلت من القرآن. وقد جاء عن البراء عند المصنف أن آخر سورة "براءة"، والجمع بينهما أن آخرية سورة "النصر" نزولها كاملة بخلاف "براءة"، فالمراد بنزولها نزول بعضها أو معظمها؛ لأن فيها آيات نزلت قبل سنة الوفاة النبوية. ويقال إن {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} نزلت يوم النحر وهو "بمِنى" في حجة الوداع وقيل عاش

رجاله سبعة

بعدها أحَدَ وثمانين يومًا وليس منافيًا للذي قبله بناء على بعض الأقوال في الوفاة النبوية. وعند ابن أبي حاتم عن ابن عباس عاش بعدها تسع ليال وعن مقاتل سبعًا، وعن بعضهم ثلاثًا، وقيل ثلاث ساعات وهو باطل. وأخرج ابن أبي داود في كتاب "المصاحف" بإسناد صحيح عن ابن عباس أنه كان يقرأ: {إذَا جَاءَ فتح الله والنصر}. وقد أخرج ابن مردويه الحديث عن عائشة وزاد فيه: "علامة في أُمتي أمرني ربي إذا رأيتها أكثرُ من قولِ سبحانَ اللهِ وبحمدِهِ، وأستغفرُ الله وأتوبُ إليه فقد رأيت: {جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فتح مَكة {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} واستشكل على أنها نزلت "بمِنى" كيف صُدرت بإذا الدالة على الاستقبال، وأجيب بضعف ذلك وعلى تقدير صحته فالشرط لم يتكمل بالفتح؛ لأن مجيء الناس أفواجًا لم يكن كمل فبقية الشرط مستقبل. وقد أورد الطيبي السؤال وأجاب عنه بجوابين: أحدهما أن (إذا) قد ترد بمعنى إذ كقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا} الآية. ثانيهما أن كلام الله قديم، وفي كل من الجوابين نظر في الفتح، وقد مرّت مباحث هذا الحديث مستوفاة في باب الدعاء في الركوع. رجاله سبعة: قد مرّوا، مرّ مسدد ويحيى بن سعيد في السادس من الإِيمان, ومرّ سفيان في السابع والعشرين منه، وكذلك مسروق، ومرّ منصور في الثاني عشر من العلم، ومرّ أبو الضحى في الخامس عشر من كتاب الصلاة، ومرّت عائشة في الثاني من بدء الوحي. ثم قال المصنف: باب المكث بين السجدتين في رواية الحميدي بين السجود.

الحديث الثامن والثمانون

الحديث الثامن والثمانون حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ أَنَّ مَالِكَ بْنَ الْحُوَيْرِثِ قَالَ لأَصْحَابِهِ: أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ صَلاَةَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ وَذَاكَ فِي غَيْرِ حِينِ صَلاَةٍ، فَقَامَ، ثُمَّ رَكَعَ فَكَبَّرَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَامَ هُنَيَّةً، ثُمَّ سَجَدَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ هُنَيَّةً، فَصَلَّى صَلاَةَ عَمْرِو بْنِ سَلِمَةَ شَيْخِنَا هَذَا. قَالَ أَيُّوبُ كَانَ يَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ أَرَهُمْ يَفْعَلُونَهُ، كَانَ يَقْعُدُ فِي الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ. قَالَ: فَأَتَيْنَا النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ فَقَالَ: لَوْ رَجَعْتُمْ إِلَى أَهْلِيكُمْ صَلُّوا صَلاَةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا، صَلُّوا صَلاَةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ فَلْيُؤَذِّنْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ. قوله: "ألا أُنبئكم صلاة رسول الله .. إلخ" الإِنباء يعدى بنفسه وبالباء قال تعالى: {مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا} وقال: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ} قوله: قال: أي: أبو قلابة، وذلك "في غير حين صلاة" أي: غير وقت صلاة من المفروضة. وقوله: "ثم رفع رأسه هنية" بعد قوله: "ثم سجد" يقتضي أن يجلس بين السجدتين قدر الاعتدال. وقوله: "كان يقعد في الثالثة أو الرابعة" هو شك من الراوي والمراد بيان جلسة الاستراحة، وهي تقع بين الثالثة والرابعة كما تقع بين الأولى والثانية، فكأنه قال: كان يقعد في آخر الثالثة أو في أول الرابعة، والمعنى واحد، فشك الراوي أيهما قال. ويأتي بعد باب واحد بلفظ فإذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعدًا، وهذا الحديث مرّ في باب مَنْ صلّى بالناس وهو لا يريد إلاّ أن يعلمهم، واستوفي عليه الكلام هناك وعلى جلسة الاستراحة. وقوله: قال: "فأتينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" هو مقول مالك بن الحويرث والفاء عاطفة على شيء محذوف تقديره أسلمنا فأتينا أو وأرسلنا قومنا فأتينا ونحو ذلك، ومرّ الكلام على آخره في باب ليؤذن في السفر مؤذن واحد. رجاله خمسة: وفيه ذكر عمرو بن سلمة وقد مرّ الجميع، مرّ محل ذكر أبي النعمان وحمّاد بن زيد في الذي قبله بحديثين، ومرّ أيوب وأبو قلابة في التاسع من الإِيمان، ومرّ مالك بن الحويرث في تعليق بعد الثامن والعشرين من العلم، ومرّ عمرو بن سلمة في الثلاثين من أبواب الجماعة، ومرّ هناك الكلام على ما يتعلق بالحديث.

الحديث التاسع والثمانون

الحديث التاسع والثمانون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: كَانَ سُجُودُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَرُكُوعُهُ، وَقُعُودُهُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ قَرِيبًا مِنَ السَّوَاءِ. وقد مرّ هذا الحديث في باب استواء الظهر في الركوع، واستوفى الكلام عليه هناك. رجاله ستة: قد مرّوا إلاَّ الزبيري، مرّ محمد بن عبد الرحيم في السادس من الوضوء ومرّ مِسعرَ في السادس والستين منه، ومرّ الحكم بن عتيبة في الثامن والخمسين من العلم، ومرّ عبد الرحمن بن أبي ليلى في الثالث والستين من أبواب صفة الصلاة، ومرّ البراء في الثالث والثلاثين من الإِيمان, وأما الزبيري فهو محمد بن عبد الله بن الزبير بن عمر بن درهم الأسدي مولاهم أبو أحمد الزبيري الكوفي. قال نصر بن علي: سمعت، أما أحمد الزبيري يقول: لا أبالي إن سرق مني كتاب سفيان إني أحفظه كله. وقال ابن خير: أبو أحمد الزبيري صدوق في الطبقة الثالثة من أصحاب الثوري ما علمت إلاَّ خيرًا مشهور بالطلب ثقة صحيح الكتاب. وكان صديق أبي نعيم أقدم سماعًا وأسن منه، وقال أحمد بن حنبل: كان كثير الخطأ في حديث سفيان، وقال ابن معين: ثقة، وقال مرة: ليس به بأس. وقال العجلي: كوفي ثقة يتشيع. وقال بندار: ما رأيت أحفظ منه، وقال أبو زرعة وابن خراش: صدوق، وقال أبو حاتم: عابد مجتهد حافظ للحديث له أوهام. وقال النَّسائيّ: ليس به بأس، وقال محمد بن يزيد: كان يصوم الدهر. وقال ابن سعد: كان صدوقًا كثير الحديث، وقال ابن قانع: ثقة روى عن سفيان الثوري ومِسعَر ومالك بن مغول ومالك بن أنس وإسرائيل وغيرهم، وروى عنه ابنه طاهر وأحمد بن حنبل وأبو خيثمة ومحمد بن عبد الرحيم وغيرهم، مات سنة ثلاث ومئتين.

الحديث التسعون

الحديث التسعون حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: إِنِّي لاَ آلُو أَنْ أُصَلِّيَ بِكُمْ كَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي بِنَا. قَالَ ثَابِتٌ: كَانَ أَنَسٌ يَصْنَعُ شَيْئًا لَمْ أَرَكُمْ تَصْنَعُونَهُ، كَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَامَ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ قَدْ نَسِيَ. وَبَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ قَدْ نَسِيَ. وهذا الحديث أيضًا مرّ الكلام عليه في باب الطمأنينة حين يرفع رأسه من الركوع. رجاله أربعة: قد مرّوا، مرّ سليمان بن حرب في الرابع عشر من الإِيمان, ومرّ حمّاد بن زيد في الرابع والعشرين منه، ومرّ أنس في السادس منه، ومرّ ثابت في تعليق بعد الخامس من العلم. ثم قال المصنف: باب لا يفترش ذراعيه في السجود يجوز في "يفترش" الجزم على النهي والرفع على النفي، وهو بمعنى النهي. قال ابن المنير: أخذ لفظ الترجمة من حديث أبي حميد والمعنى من حديث أنس، وأراد بذلك أن الافتراش المذكور في حديث أبي حميد بمعنى الانبساط من حديث أنس، والذي يظهر أنه أشار إليِ رواية أبي داود فإنه أخرج حديث الباب عن شعبة بلفظ: "ولا يفترش" بدل ينبسط وروى أحمد والتِّرمِذِيّ وابن خزيمة من حديث جابر نحوه بلفظ: "إذا سجدَ أحدُكم فليعتدلْ، ولا يفترشْ ذراعيهِ افتراشَ الكلبِ" وفي رواية "السبع". وروى مسلم عن عائشة نحوه، وروى الحاكم عن عبد الرحمن بن شبل قال: "نهى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- عن نقرة الغرابِ، وافتراشِ السبعِ، وأن يوطنَ الرجلُ المكانَ"، ثم قال: وقال أبو حميد: "سجدَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ووضعَ يديهِ غيرَ مفترشٍ ولا قابضِهمَا". قوله: "ولا قابضهما" أي: اليدين بأن يضمهما إليه، ولا يجافيهما عن جنبيه. وهذا التعليق علّقه البخاري فيما مرّ في أبواب عديدة، ومرّ بعض الكلام عليه فيها. وأخرجه في باب "سنة الجلوس في التشهد"، ومرّ أبو حميد في أبواب استقبال القبلة في تعليق قبل ذكر حديث منه.

الحديث الحادي والتسعون

الحديث الحادي والتسعون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: اعْتَدِلُوا فِي السُّجُودِ، وَلاَ يَبْسُطْ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ انْبِسَاطَ الْكَلْبِ. قوله: "عن أنس" عند التِّرمِذِيّ والإِسماعيليّ التصريح بسماع قتادة له من أنس، وقوله: "اعتدلوا في السجود" أي: كونوا متوسطين بين الافتراش والقبض. وقال ابن دقيق العيد: لعل الاعتدال هنا وضع هيئة السجود على وفق الأمر؛ لأن الاعتدال الحسّي المطلوب في الركوع لا يتأتى هنا، فإنه هناك استواء الظهر والعنق. والمطلوب هنا ارتفاع الأسافل على الأعالي. قال: وقد ذكر الحكم هنا مقرونًا بعلته فإن التشبه بالأشياء الخسيسة يناسب تركه في الصلاة والهيئة المنهي عنها أيضًا مشعرة بالتهاون وقلة الاعتناء بالصلاة. وقوله: "لا ينبسط" كذا للأكثر بنون ساكنة قبل الموحدة، وفي رواية ابن عساكر بموحدة ساكنة فقط، وعليها اقتصر صاحب "العمدة" وللحموي "يبسط" بمثناة بعده موحدة. وقوله: "انبساط" بالنون في الأولى والثانية وبالمثناة في الثالثة، وهي ظاهرة والثانية تقديرها ولا يبسط ذراعيه فينبسط انبساط الكلب، وهذا الحديث قد مرّ في معناه حديث عبد الله بن مالك ابن بحينة في باب يُبدي بضبعيه ويجافي في السجود قبيل أبواب استقبال القبلة، ومرّ استيفاء الكلام عليه هناك، وجاء قبل هذا قريبًا. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ محمد بن بشار في الحادي عشر من العلم، ومرّ محمد بن جعفر في الخامس والعشرين من الإِيمان. ومرَّ شعبة في الثالث منه، ومرّ قتادة وأنس في السادس منه. أخرجه مسلم في الصلاة، وكذا أبو داود والتِّرمِذِيّ والنَّسائيّ. ثم قال المصنف: باب مَنْ استوى قاعدًا في وتر من صلاته ثم نهض مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة.

الحديث الثاني والتسعون

الحديث الثاني والتسعون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ قَالَ: أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ اللَّيْثِيُّ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي، فَإِذَا كَانَ فِي وِتْرٍ مِنْ صَلاَتِهِ لَمْ يَنْهَضْ حَتَّى يَسْتَوِي قَاعِدًا. الغرض من الحديث بيان مشروعية جلسة الاستراحة، وقد مرّ الحديث في باب مَنْ صلّى بالناس وهو لا يريد إلا أن يعلمهم، ومرّ هناك استيفاء الكلام عليه. رجاله خمسة: قد مرّوا إلا شيخ البخاري، مرّ هشيم في الثاني من التيمم، ومرّ خالد الحذاء في السابع عشر من العلم، ومرّ محل ذكر أبي قلابة ومالك بن الحويرث في الذي قبله بثلاثة أحاديث، وأما شيخ البخاري فهو محمد بن الصباح الدُّولابي أبو جعفر البغدادي البزار مولى مزينة صاحب "السنن" ذكره ابن حِبّان في الثقات وقال: ولد "بالري" بقرية يقال لها "دولاب" وسئل عنه أحمد فقال: شيخنا ثقة، وقال ابن معين: ثقة مأمون. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة صاحب حديث، وقال في موضع آخر: كان ثقة عالمًا يهم. وقال أبو حاتم: ممن يحتج بحديثه. وكان أحمد يعظمه، وقال تمتام: حدّثنا محمد بن الصباح الدولابي الثقة المأمون والله وقال ابن عدي: شيخ سني من الصالحين. وقال مسلمة في "الصلة": ثقة مشهور، وفي "الزهرة" روى عنه البخاري اثني عشر حديثًا. ومسلم عشرين روى عن حفص بن غياث وهشيم وابن المبارك وابن عُيينة وغيرهم. وروى عنه البخاري ومسلم وأبو داود وروى الباقون عنه بواسطة البخاري وأبو زرعة وأبو حاتم الرازيان، وأبو زرعة الدمشقي وأحمد بن حنبل وابن معين وغيرهم قال ابن سعد: مات في آخر المحرم سنة سبع وعشرين ومئتين. وقال ابن حِبّان: لأربع عشرة خلت من المحرم. والدولابي في نسبه نسبة إلى "دولاب" بالضم قرية من "الري" وفي المراصد أن الفتح أعرف من الضم وفي مشترك ياقوت أنه مواضع أربعة أو خمسة منها ابن الصباح هذا ومنها الحافظ أبو بكر بن الدولابي محدث مشهور له ذكر في "شروح البخاري" و"الشفاء" و"المواهب". ويشتبه صاحب الترجمة بمحمد بن الصباح الجرجرائي أبو جعفر مولى عمر بن عبد العزيز معاصر صاحب الترجمة، لكن البخاري ومسلمًا لم يرويا عنه. روى عنه أبو داود وابن ماجه.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: فيه التحديث والإخبار بالجمع والعنعنة والقول، ورواته ما بين بغداديّ وواسطيّ وبصريّ، أخرجه أبو داود والتِّرمِذِيّ والنَّسائيّ في الصلاة. ثم قال المصنف: باب كيف يعتمد على الأرض إذا قام من الركعة قوله: من الركعة: أي: ركعة كانت وفي رواية المستملي والكشميهنيّ من الركعتين أي: الأولى والثالثة.

الحديث الثالث والتسعون

الحديث الثالث والتسعون حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ قَالَ: جَاءَنَا مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ فَصَلَّى بِنَا فِي مَسْجِدِنَا هَذَا فَقَالَ: إِنِّي لأُصَلِّى بِكُمْ، وَمَا أُرِيدُ الصَّلاَةَ، وَلَكِنْ أُرِيدُ أَنْ أُرِيَكُمْ كَيْفَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي. قَالَ أَيُّوبُ: فَقُلْتُ لأَبِى قِلاَبَةَ: وَكَيْفَ كَانَتْ صَلاَتُهُ؟ قَالَ مِثْلَ صَلاَةِ شَيْخِنَا هَذَا يَعْنِى عَمْرَو بْنَ سَلِمَةَ. قَالَ أَيُّوبُ: وَكَانَ ذَلِكَ الشَّيْخُ يُتِمُّ التَّكْبِيرَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ عَنِ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ جَلَسَ وَاعْتَمَدَ عَلَى الأَرْضِ، ثُمَّ قَامَ. قوله: "عن السجدة" في رواية المذكورين في السجدة وفي بعض نسخ أبي ذرٍّ من السجدة وهي رواية الإسماعيليّ، وقد مرّ الكلام على حديث مالك بن الحويرث هذا في الباب المذكور آنفًا. والغرض منه هنا ذكر الاعتماد على الأرض عند القيام من السجود أو الجلوس والإشارة إلى ردّ ما روي بخلاف ذلك، فعند سعيد بن منصور بإسناد ضعيف عن أبي هريرة أنه "-صلى الله عليه وسلم- كان ينهضُ على صدورِ قدميهِ". وعن ابن مسعود مثله بإسناد صحيح. وعن إبراهيم أنه كره أن يعتمد على يديه إذا نهض، فإن قيل ترجم على كيفية الاعتماد والذي في الحديث إثبات الاعتماد فقط، أجاب الكرماني بأن بيان الكيفية مستفاد من قوله: جلس واعتمد على الأرض، ثم قال: فكأنه أراد بالكيفة أن يقوم معتمدًا على جلوس لا عن سجود، وقال ابن رشيد: أفاد في الترجمة التي قبل هذه إثبات الجلوس في الأولى والثالثة، وفي هذه أن ذلك الجلوس جلوس اعتماد على الأرض بتمكن بدليل الإتيان بحرف ثم الدال على المهملة وأنه ليس جلوس استيفاز، فأفاد في الأولى مشروعية الحكم وفي الثانية صفته، وفي هذا شيء إذ لو كان ذلك المراد لقال: كيف يجلس مثلًا؟ وقيل يستفاد من الاعتماد أنه يكون باليد؛ لأنه افتعال من العماد والمراد به الاتكاء، وهو باليد. وروى عبد الرزاق عن ابن عمر أنه كان يقوم إذا رفع رأسه من السجدة معتمدًا على يديه قبل أن يرفعهما. رجاله خمسة: وفيه ذكر عمرو بن سَلَمة وقد مرّ الجميع، مرّ مُعلّى بن أسد في الرابع والثلاثين من الحيض، ومرّ وهيب بن خالد في السادس والعشرين من العلم، ومرَّ أيوب وأبو قلابة في التاسع من الإِيمان, ومرّ مالك بن الحويرث في تعليق بعد الثامن والعشرين من العلم، ومرَّ عمرو بن سَلَمة في الثلاثين من أبواب الجماعة. ثم قال المصنف:

باب يكبر وهو ينهض من السجدتين

باب يُكَبِّر وهو ينهض من السجدتين ذهب أكثر العلماء إلى أن المصلِّي يشرع في التكبير أو غيره عند ابتداء الخفض والرفع، وقد مرّ الكلام على ذلك وعلى تأخير التكبير عند القيام من التشهد الأول عند مالك. وفي باب التكبير إذا قام من السجود مستوفىً. ثم قال: وكان ابن الزبير يكبِّر في نهضته وهذا التعليق وصله ابن أبي شيبة في مصنفه وابن الزبير عبد الله. وقد مرّ في الثامن والأربعين من العلم.

الحديث الرابع والتسعون

الحديث الرابع والتسعون حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: صَلَّى لَنَا أَبُو سَعِيدٍ فَجَهَرَ بِالتَّكْبِيرِ حِينَ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ، وَحِينَ سَجَدَ، وَحِينَ رَفَعَ، وَحِينَ قَامَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ وَقَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-. قوله: "أبو سعيد" أي: الخدري بالمدينة وبيّن الإسماعيلي في روايته عن فليح سبب ذلك ولفظه: "اشتكى أبو هريرةَ أو غابَ فصلَّى أبو سعيدٍ فجهرَ بالتكبير حينَ افتتحَ، وحينَ ركعَ " الحديث وزاد في آخره أيضًا: "فلمّا انصرفَ قيلَ له: قدِ اختلفَ الناسُ علَى صلاِتكَ فقامَ عندَ المنبرِ فقالَ: إنَّي واللهِ ما أُبالي أَختلفتْ صلاتُكم أم لم تختلفْ إني رأيت رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- هكذا يصلِّي". والذي يظهر أن الاختلاف بينهم كان في الجهر بالتكبير والإسرار به، وكان مروان وغيره من بني أمية يسرونه كما تقدم في باب إتمام التكبير في الركوع. وكان أبو هريرة يصلي بالناس في إمارة مروان على المدينة. وأما مقصود الباب فالمشهور عن أبي هريرة أنه كان يكبّر حين يقوم، ولا يؤخره حتى يقوم كما مرّ عن "الموطأ" في باب التكبير إِذا قام من السجود. وأما ما تقدم في باب ما يقول الإِمام ومن خلفه من حديثه بلفظ: "وإذا قام من السجدتين قال: اللهُ أكبرُ" فيحمل على أن المعنى إذا شرع في القيام قاله في "الفتح" قلت: حمله على ما قالت المالكية من أن القائم من اثنتين يؤخر التكبير حتى يستوي قائمًا أولى بظاهر اللفظ. قال الزين بن المنير: أجرى البخاري الترجمة وأثر ابن الزبير مجرى التبيين لحديثي الباب؛ لأنهما ليسا صريحين في أن ابتداء التكبير يكون مع أول النهوض، وقال ابن رشيد في هذه الترجمة إشكال؛ لأنه ترجم فيما مضى باب التكبير إذا قام من السجود وأورد فيه حديث ابن عباس وأبي هريرة وفيهما التنصيص على أنه يكبر في حالة النهوض وهو الذي اقتضته هذه الترجمة، فكان ظاهرها التكرار. ويحمل قوله من السجدتين على أنه أراد من الركعتين؛ لأن الركعة تسمى سجدة مجازًا واستبعده ورجح أن المراد بهذه الترجمة بيان محل التكبير حين ينهض من السجدة الثانية بأنه إذا قعد على الوتر يكون تكبيره في الرفع إلى القعود ولا يؤخره إلى ما بعد القعود، ويتوجه ذلك بأن الترجمتين اللتين قبله فيهما بيان الجلوس ثم بيان الاعتماد، فبيّن في هذه الثالثة محل التكبير، ويحتمل أن يكون مراده بقوله من السجدتين ما هو أعم من ذلك فيشمل ما قيل أو لا وثانيًا ويؤيد ذلك اشتمال حديثي الباب على ذلك ففي حديث أبي سعيد حين رفع رأسه من السجود وحين قام من الركعتين، وفي حديث عمران بن

رجاله أربعة

حصين وإذا رفع كبّر وإذا نهض من الركعتين كبّر، وأما أثر ابن الزبير فيمكن شموله الأمرين؛ لأن النهضة تحتملهما لكن استعمالها في القيام أكثر، وهذا يرجح الحمل الأول الذي استبعده ابن رشيد ولا بعد فيه، فقد تقدم أن خلاف مالك إنما هو في النهوض من الركعتين بعد التشهد الأول، وحديث عمران مرّ استيفاء الكلام عليه في باب إتمام التكبير في الركوع. رجاله أربعة: قد مرّوا، مرّ يحيى بن صالح وسعيد بن الحارث في الثالث عشر من كتاب الصلاة، ومرّ فليح في الأول من العلم، ومرّ أبو سعيد الخدري في الثاني عشر من الإيمان. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول ورواته ما بين حمصيّ ومدنيّ. وهذا الحديث تفرد به البخاري عن أصحاب الكتب.

الحديث الخامس والتسعون

الحديث الخامس والتسعون حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا غَيْلاَنُ بْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُطَرِّفٍ قَالَ: صَلَّيْتُ أَنَا وَعِمْرَانُ صَلاَةً خَلْفَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه فَكَانَ إِذَا سَجَدَ كَبَّرَ، وَإِذَا رَفَعَ كَبَّرَ، وَإِذَا نَهَضَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ كَبَّرَ، فَلَمَّا سَلَّمَ أَخَذَ عِمْرَانُ بِيَدِي فَقَالَ: لَقَدْ صَلَّى بِنَا هَذَا صَلاَةَ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-. أَوْ قَالَ: لَقَدْ ذَكَّرَنِي هَذَا صَلاَةَ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-. وهذا الحديث مرّ استيفاء الكلام عليه في باب إتمام التكبير في الركوع. رجاله ستة: قد مرّوا، مرّ سليمان بن حرب في الرابع عشر من الإِيمان, ومرّ حمّاد بن زيد في الرابع والعشرين منه، ومرّ غيلانَ بن جرير في التاسع والمئة من الوضوء ومرّ مطرف بن عبد الله بن الشخير في الرابع والخمسين من أبواب صفة الصلاة، ومرّ عمران بن الحصين في الحادي عشر من التيمم، ومرّ علي في السابع والأربعين من العلم. ثم قال المصنف: باب سنة الجلوس في التشهد أي: السُّنّة في الجلوس الهيئة الآتي ذكرها ولم يرد أن نفس الجلوس سُّنّة، ويحتمل إرادته على أن المراد بالسُّنّة الطريقة الشرعية التي هي أعم من الواجب والمندوب، وقال الزين بن المنير ضمن هذه الترجمة: سُنّة أحكام وهي أن هيئة الجلوس غير مطلق الجلوس، والتفرقة بين الجلوس للتشهد الأول وبينهما وبين الجلوس بين السجدتين وأن ذلك كله سُنّة وأنْ لا فرق بين الرجال والنساء وأنّ ذا العلم يحتج بعمله، وهذا الأخير إنما يتم إذا ضم أثر أم الدرداء إلى الترجمة. ثم قال: وكانت أم الدرداء تجلس في صلاتها جلسة الرجل، وكانت فقيهة قوله: جلسة الرجل بكسر الجيم؛ لأن الفِعلة بالكسر إنما هي للنوع، فدلّ هذا على أن المستحب للمرأة أن تجلس في التشهد كما يجلس الرجل، وسيأتي ما في ذلك. قوله: "وكانت فقيهة" جزم بعض الشرّاح بأن ذلك من كلام البخاري لا من كلام مكحول الراوي عنها. فقال مغلطاي: القائل وكانت فقيهة هو البخاري فيما أرى وتبعه ابن الملقن. فقال: الظاهر أنه قول البخاري، قال في "الفتح": وليس كما قالا فقد رويناه تامًا في مسند الفريابي أيضًا بسنده إلى مكحول ومن طريقة البخاري أن الدليل إذا كان عامًا وعمل بعمومه بعض العلماء رجّح

به، وإن لم يحتج به بمجرده وعلم من رواية مكحول أن المراد بأم الدرداء الصغرى التابعية لا الكبرى الصحابية؛ لأنه أدرك الصغرى ولم يدرك الكبرى, وعمل التابعي بمفرده، ولو لم يخالف لا يحتجّ به، وإنما وقع الاختلاف في العمل بقول الصحابي كذلك. ولم يورد البخاري أثر أم الدرداء ليحتج به، بل للتقوية. وهذا التعليق وصله ابن أبي شيبة عن وكيع لكن لم يقع عنده قول مكحول في آخره: وكانت فقيهة ووصله المصنف في "التاريخ الصغير" من طريق مكحول باللفظ المذكور، وأم الدرداء مرّت في السادس من أبواب الجماعة سواء أُريد بها الكبرى أو الصغرى.

الحديث السادس والتسعون

الحديث السادس والتسعون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ كَانَ يَرَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يَتَرَبَّعُ فِي الصَّلاَةِ إِذَا جَلَسَ، فَفَعَلْتُهُ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ حَدِيثُ السِّنِّ، فَنَهَانِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَقَالَ: إِنَّمَا سُنَّةُ الصَّلاَةِ أَنْ تَنْصِبَ رِجْلَكَ الْيُمْنَى وَتَثْنِىَ الْيُسْرَى. فَقُلْتُ: إِنَّكَ تَفْعَلُ ذَلِكَ. فَقَالَ: إِنَّ رِجْلَيَّ لاَ تَحْمِلاَنِي. قوله: "إنه أخبره" صريح في أن عبد الرحمن بن القاسم حمله عنه بلا واسطة، وقد اختلف فيه الرواة عن مالك فأدخل معن بن عيسى وغيره عنه فيه بين عبد الرحمن بن القاسم وعبد الله بن عبد الله القاسم بن محمد والد عبد الرحمن، فكأن عبد الرحمن سمعه من أبيه عنه ثم لقيه أو سمعه منه معه وثبته فيه أبوه. وقوله: "وثنى اليسرى" لم يبيّن في هذه الرواية ما يفعل بعد ثنيها هل يجلس فوقها أو يتورك؟ وفي "الموطأ" عن يحيى بن سعيد أن القاسم بن محمد أراهم الجلوس في التشهد فنصب رجله اليمنى، وثنى اليسرى على وركه اليسرى ولم يجلس على قدمه، ثم قال: أراني هذا عبد الله بن عبد الله بن عمر. وحدّثني أن أباه كان يفعل ذلك فتبيّن من رواية القاسم ما أجمل في رواية ابنه. وإنما اقتصر البخاري على رواية عبد الرحمن لتصريحه فيها بأن ذلك هو السُّنَّة لاقتضاء ذلك الرفع بخلاف رواية القاسم. ورجّح ذلك عنده حديث أبي حميد المفصل بين الجلوس الأول والثاني على أن الصفة المذكورة قد يقال إنها لا تخالف حديث أبي حميد؛ لأن في "الموطأ" أيضًا عن عبد الله بن دينار التصريح بأن جلوس ابن عمر المذكور كان في التشهد الأخير. وروى النسائي عن عمرو بن الحارث عن يحيى بن سعيد أن القاسم حدّثه عن عبد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: "من سُنّة الصلاة أن ينصب رجله اليمنى ويجلس على اليُسرى"، فإذا حملت هذه الرواية على التشهد الأول ورواية مالك على التشهد الأخير، انتفى عنهما التعارض ووافق ذلك التفصيل المذكور في حديث أبي حميد الذي بعد هذا. وقوله: "فقلت إنك تفعل ذلك" أي: التربع. وقوله: "إن رجليّ" بتشديد الياء تثنية رجل، ولأبي الوقت وابن عساكر "رجلاى" بالألف على إجراء المثنى مجرى المقصور كقوله: فأطرق إطراقَ الشجاعِ ولو رأى ... مساغًا لناباهُ الشجاعُ لصمما

رجاله خمسة

أو على أن "إنّ" بمعنى نعم ثم استأنف فقال: "رجلاى" كقول عبد الله بن الزبير لمن قال: "لعَنَ اللهُ ناقةً حملتني اليكَ. قال: "إنّ وراكِبَها" أي: نعم، ولَعن راكبها، وقوله: "لا تحملاني" روى بتشديد النون وتخفيفها والذي في الحديث من أنه ينصب رجله اليمنى ويثني رجله اليسرى ويقعد بالأرض. ويكون إبهام اليمنى قائمًا على الأرض هو مذهب مالك ويحيى بن سعيد الأنصاري والقاسم بن محمد وابنه عبد الرحمن في جميع الجلوس في التشهدين وبين السجدتين، وهذا الجلوس يسمى (بالتَّوَرُّك). وعند الشافعية يجلس في التشهد الأول على رجله اليسرى وينصب اليمنى. وهذا هو الافتراش. ويفعل في التشهد الأخير مثل ما مرّ عن مالك من (التَّوَرُّك)، واستدلوا على مغايرة الأخير للأول بحديث أبي حميد الآتي قريبًا، وعند الحنفية يفترش في كل جلوس. والمشهور عن أحمد اختصاص (التَّوَرُّك) بالصلاة التي فيها تشهدان، فلا توَرُّك عنده في الصبح وهو قول داود. واستدلت الحنفية بحديث عائشة عند مسلم قالت: "كان رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يفتتحُ الصلاة إلى أنْ قالت: وكان يفرشُ رجلَهُ اليسرى، وينصبُ رجلَهُ اليمنى". وقال الطبري: إن فعل هذا فحسن، وإن فعل هذا فحسن؛ لأن ذلك كله قد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. وقال النووي: الجلسات عند الشافعي أربع: الجلوس بين السجدتين، وجلسة الاستراحة عقيب كل ركعة يعقبها قيام، والجلسة للتشهد الأول، والجلسة للتشهد الأخير فالجميع يجلس مفترشًا إلا الأخيرة، فلو كان مسبوقًا وجلس أمامه في آخر الصلاة متوركًا جلس المسبوق مفترشًا في تشهده، فإذا سجد سجدتي السهو تورَّك ثم سلّم. وجلوس المرأة عند الجميع التَّورُّك. قال النووي: وجلوس المرأة كجلوس الرجل. قال مالك: وتكون المرأة منضمة منزوية في سجودها وجلوسها وأمرها كله، وقال قوم: تجلس كيف شاءت إذا تجمعت، وبه قال عطاء والشعبي. وكانت صفية -رضي الله تعالى عنها- تصلي متربعة ونساء ابن عمر كن يفعلنه، وقال عياض عن بعض السلف: كن النساء يؤمرن أن يتربعن إذا جلسن في الصلاة ولا يجلسن جلوس الرجال على أوراكهن، وقال الشافعية: الحكمة في أخذ الشافعي بالتغاير في الجلوس الأول والثاني هما أنه أقرب إلى عدم اشتباه عدد الركعات؛ ولأن الأول تعقبه الحركة بخلاف الثاني؛ ولأن المسبوق إذا رآه علم قدر ما سبق به، وعند المالكية يندب التربع في الفريضة للمصلي جالسًا وفي النافلة للرجل والمرأة، ولكن يندب تغيير الجلسة بين السجدتين، وفي جلوس التشهد. وقال ابن عبد البر: اختلفوا في التربع في النافلة، وفي الفريضة للمريض وأما الصحيح فلا يجوز له التربع في الفريضة بإجماع العلماء كذا قال وروى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود قال: لأن أقعد على رضفتين أحب إلى من أن أقعد متربعًا في الصلاة، وهذا يشعر بتحريمه عنده، ولكن المشهور عن أكثر العلماء أن هيئة الجلوس في التشهد سُنَّة فلعل ابن عبد البر أراد بنفي الجواز إثبات الكراهة. رجاله خمسة: قد مرّوا إلاَّ عبد الله بن عبد الله، مرّ عبد الله بن مسلمة في الثاني عشر من الإِيمان, ومرّ ابن عمر

في أثر أوله قبل ذكر حديث منه، ومرّ مالك في الثاني من بدء الوحي، ومرّ عبد الرحمن بن القاسم في السادس عشر من الغُسل وعبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب أبو عبد الرحمن العدوي المدني يسمى باسم أبيه ويكنى بكنيته ذكره ابن حِبّان في الثقات. وقال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث، وقال العجلي: تابعي ثقة. وقال وكيع: كان ثقة، وقال أبو زرعة والنَّسائي: ثقة، وقال الزبير بن بكار: كان من أشراف قريش ووجوهها. وقال يزيد بن هارون. كان أكبر ولد عبد الله بن عمر، وذكره ابن عاصم في الصحابة من أجل حديث أرسله. قال ابن حجر وصفية بنت أبي عبيد أُم عبد الله هذا كانت في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- صغيرة فيكون مولده هو بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-. روى عن أبيه، وكان وصيه وعن أخيه حمزة وأبي هريرة وأسماء بنت زيد بن الخطاب، وروى عنه ابنه عبد العزيز وابن أخيه عبد الله بن واقد والقاسم بن محمد وعبد الرحمن بن القاسم والزهري وغيرهم، مات سنة خمس ومئة، وقيل مات أول خلافة هشام. أخرجه أبو داود في الصلاة وكذلك النَّسائيّ.

الحديث السابع والتسعون

الحديث السابع والتسعون حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ خَالِدٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ. وَحَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ وَيَزِيدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا مَعَ نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَذَكَرْنَا صَلاَةَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ: أَنَا كُنْتُ أَحْفَظَكُمْ لِصَلاَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَأَيْتُهُ إِذَا كَبَّرَ جَعَلَ يَدَيْهِ حِذَاءَ مَنْكِبَيْهِ، وَإِذَا رَكَعَ أَمْكَنَ يَدَيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ هَصَرَ ظَهْرَهُ، فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ اسْتَوَى حَتَّى يَعُودَ كُلُّ فَقَارٍ مَكَانَهُ، فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَ يَدَيْهِ غَيْرَ مُفْتَرِشٍ وَلاَ قَابِضِهِمَا، وَاسْتَقْبَلَ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ الْقِبْلَةَ، فَإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَلَسَ عَلَى رِجْلِهِ الْيُسْرَى وَنَصَبَ الْيُمْنَى، وَإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ قَدَّمَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَنَصَبَ الأُخْرَى وَقَعَدَ عَلَى مَقْعَدَتِهِ. وَسَمِعَ اللَّيْثُ يَزِيدَ بْنَ أَبِي حَبِيبٍ وَيَزِيدُ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَلْحَلَةَ وَابْنُ حَلْحَلَةَ مِنَ ابْنِ عَطَاءٍ. قَالَ أَبُو صَالِحٍ عَنِ اللَّيْثِ كُلُّ فَقَارٍ. وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ قَالَ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَمْرٍو حَدَّثَهُ كُلُّ فَقَارٍ. قوله: "قال: حدّثنا الليث" قائل ذلك هو يحيى بن بكير المذكور، والحاصل أن بين الليث وبين محمد بن عمرو بن حلحلة في الرواية الأولى اثنين، وبينهما في الرواية الثانية واسطة واحدة وأردف الرواية النازلة بالرواية العالية على عادة أهل الحديث، وربما وقع لهم ضد ذلك لمعنى مناسب. وقوله: "إنه كان جالسًا في نفر من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" في رواية كريمة مع نفر وكذا اختلف على عبد الحميد بن جعفر عن محمد بن عمرو بن عطاء ففي رواية عاصم عنه عند أبي داود وغيره: "سمعت أبا حميد في عشرة". وفي رواية هشيم عنه عند سعيد بن منصور: "رأيت أبا حميد مع عشرة". ولفظ مع يرجح أحد الاحتمالين في لفظ في لأنها تحتمل أن يكون أبو حميد من العشرة أو زائدًا عليهم، ثم إِن رواية الليث ظاهرة في اتصاله بين محمد بن عمرو وأبي حميد ورواية عبد الحميد صريحة في ذلك، وزعم ابن القطان تبعًا للطحاوي أنه غير متصل لأمرين: أحدهما أن عيسى بن عبد الله بن مالك رواه عن محمد بن عمرو بن عطاء فأدخل بينه وبين الصحابة عباس بن سهل أخرجه أبو داود وغيره. ثانيهما أن في بعض طرقه تسمية أبي قتادة في الصحابة المذكورين، وأبو قتادة قديم لصغر سن محمد بن عمرو بن عطاء عن إدراكه. والجواب عن ذلك أما الأول فلا يضر الثقة المصرح بسماعه أن يدخل بينه ويين شيخه واسطة. إما لزيادة في الحديث، وإما للتثبت فيه. وقد صرّح محمد بن عمرو المذكور بسماعه فتكون رواية

عيسى عنه من المزيد في متصل الإسناد. وأما الثاني فالمعتمد عند أهل التاريخ أن أبا قتادة مات في خلافة علي وصلّى عليه علي وكان قتل علي سنة أربعين، وأن محمد بن عمرو بن عطاء مات سنة عشرين ومائة وله نيف وثمانون سنة، فعلى هذا لم يدرك أبا قتادة ولكن يجاب بأن أبا قتادة اختلف في وقت موته، فقيل مات سنة أربع وخمسين، وعلى هذا فلقاء محمد له ممكن وعلى الأول فلعل من ذكر مقدار عمره أو وقت وفاته وهم، أو الذي سمى أبا قتادة في الصحابة المذكورين وهم في تسميته ولا يلزم من ذلك أن يكون الحديث الذي رواه غلطًا؛ لأن غيره ممن رواه معه عن محمد بن عمرو بن عطاء أو عن عباس بن سهل قد وافقه. وقد مرّ بعض الكلام على هذا في باب "إلى أين يرفع يديه" حيث ذكره هناك معلقًا ويأتي في السند ذكر مَنْ سمى من النفر. وقوله: "فقال أبو حميد الساعدي" سياق الليث هذا فيه حكاية أبي حميد لصفة الصلاة بالقول، وكذا في رواية كل مَنْ رواه عن محمد بن عمرو بن حلحلة ونحوه رواية عبد الحميد بن جعفر عن محمد بن عمرو بن عطاء ووافقهما فليح عن عباس بن سهل، وخالف الجميع عيسى بن عبد الله، عن محمد بن عمر بن عطاء، عن عباس، فحكى أن أبا حميد وصفها بالفعل ولفظه عند الطحاوي وابن حِبّان قالوا: فأَرِنا، فقامَ يصلّي وهم ينظرون فبدأ فكبّر .. الحديث. ويمكن الجمع بين الروايتين بأن يكون وصفها مرة بالقول ومرة بالفعل، وهذا يؤيد ما أجيب به أولًا فإن عيسى المذكور هو الذي زاد عباس بن سهل بين محمد بن عمرو بن عطاء وأبي حميد، فكأن محمدًا شهد هو وعباس حكاية أبي حميد بالقول فحملها عنه من تقدم ذكره وكأن عباسًا شهدها هو وحده بالفعل فسمع ذلك منه محمد بن عمرو بن عطاء، فحدث بها كذلك وقد وافق عيسى أيضًا عنه عطاف بن خالد لكنه أبهم عباس بن سهل أخرجه الطحاوي أيضًا ويقوي ذلك أن ابن خزيمة أخرج عن ابن إسحاق أن عباس بن سهل حدّثه فساق الحديث بصفة الفعل. وقوله: "أنا كنتُ أحفظَكُم" زاد عبد الحميد قوله فوالله ما كنت بأكثرنا له اتباعًا وفي رواية التِّرمِذِيّ إتيانًا ولا أقدمنا له صحبة. وفي رواية عيسى بن عبد الله قالوا: فكيف؟ قال: اتبعت ذلك منه حتى حفظته زاد عبد الحميد: قالوا: فاعرض وفي روايته عن ابن حِبّان استقبل القبلة، ثم قال: "الله أكبر" وزاد فليح عند ابن خزيمة فيه ذكر الوضوء قوله: جعل يديه حذو منكبيه زاد ابن إسحاق ثم قرأ بعض القرآن ونحوه لعبد الحميد. وقوله: "ثم هَصَرَ ظَهْرَهُ" بالهاء والصاد المهملة المفتوحتين أي: ثناه في استواء من غير تقويس. وفي رواية عيسى غير مُقْنع رأسه ولا مصوّبه ونحوه لعبد الحميد. وفي رواية فليح عند أبي داود فوضع يديه على ركبتيه كأنه قابض عليهما ووتر يديه فتجافى عن جنبيه، وله في رواية ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب وفرّج بين أصابعه. وقوله: "فإذا رفع رأسه استوى" زاد عيسى عند أبي داود فقال: "سَمَع اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، اللَّهمَّ ربَّنا لكَ الحمدُ ورفعَ يديه"، ونحوه لعبد الحميد، وزاد حتى يحاذي بهما منكبيه.

وقوله: "حتى يعودَ كلُّ فَقَارٍ مكانَهُ" الفَقَار بفتح الفاء والقاف جمع فقارة وهي عظام الظهر وهي العظام التي يقال لها خرز الظهر. قاله القزاز وقال ابن سيده: هي من الكاهل إلى العَجْب. وحكى ثعلب عن ابن الأعرابي أن عدتها سبعة عشر وفي "أمالي الزجاج" أصولها سبع غير التوابع. وعن الأصمعي هي خمس وعشرون: سبع في العنق، وخمس في الصُّلب وبقيتها في أطراف الأضلاع. وحكى في "المطالع" أنه وقع في رواية الأصبلي بفتح الفاء وكسرها ولابن السكن بكسرها، والصواب بفتحها وفي رواية ابن بكير هذه إشكال فكأنه ذكر الضمير؛ لأنه أعاده على لفظ الفقار، والمعنى حتى يعود كل عظام مكانها أو استعمل الفقار للواحد تجوزًا، وفي رواية الكشميهنيّ وجده حتى يعود كل فقاره واختلف في ضبطه فقيل بهاء الضمير وقيل بتاء التأنيث أي: حتى تعود كل عظمة من أعظام الظهر مكانها. والأول معناه حتى يعود جميع عظام ظهره والمراد بهذا كمال الاعتدال. وفي رواية هشيم عن عبد الحميد ثم يمكث قائمًا حتى يقع كل عظم موقعه. وقوله: "وضعَ يديهِ غيرَ مفترشٍ" أي: لهما ولابن حِبّان عن عتبة بن أبي حكيم عن عباس بن سهل غير مفترش ذراعيه. وقوله: "ولا قابضهِما" بأن يضمهما إليه وفي رواية عيسى: "فإذا سجَدَ فرَّجَ فخذيهِ غيرَ حاملٍ بطنَهُ على شيءٍ منهما". وفي رواية عتبة المذكورة: "ولا حاملٍ بطنَهُ على شيءٍ مِنْ فخذيهِ". وفي رواية عبد الحميد: "جافى يديه عن جنبيه". وفي رواية فليح: "ونحّى يديه عن جنبيه ووضع يديه حذو منكبيه"، وفي رواية ابن إسحاق: "فاعلولى على جنبيه وراحتيه وركبتيه وصدور قدميه حتى رأيت بياض إبطيه ما تحت منكبيه، ثم ثبت حتى اطمأن كل عظم منه ثم رفع رأسه فاعتدل"، وفي رواية عبد الحميد: "ثم يقول اللهُ أكبر ويرفع رأسه ويثني رجله اليسرى فيقعد عليها حتى يرجع كل عظم إلى موضعه". ونحوه في رواية عيسى بلفظ: "ثم كبّر فجلس فتورَّك، ونصب قدمه الأخرى ثم كبّر فسجد"، وهذا يخالف رواية عبد الحميد في صفة الجلوس ويقول رواية عبد الحميد رواية فليح عند ابن حِبّان بلفظ: "كان إذا جلس بين السجدتين افترش رجله اليسرى وأقبل بصدر اليمنى على قبلته" أورده مختصرًا في كتاب الصلاة له. وفي رواية ابن إسحاق خلاف الروايتين ولفظه: "فاعتدل على عقبيه وصدور قدميه فإن لم يحتمل التعدد وإلا فرواية عبد الحميد أرجح. وقوله: "فإذا جلس في الركعتين" أي: الأوليين ليتشهد، وفي رواية فليح: "ثم جلس فافترش رجله اليسرى وأقبل بصدر اليمنى على قبلته، ووضع كفه اليمنى على ركبته اليمنى وكفه اليسرى على ركبته اليسرى، وأشار بإصبعه". وفي رواية عيسى: "ثم جلس بعد الركعتين حتى إذا هو أراد أن ينهض إلى القيام قام بتكبيرة". وهذا يخالف في الظاهر رواية عبد الحميد حيث قال: "ثم إذا قام من الركعتين كبّر ورفع يديه كما كبّر عند افتتاح الصلاة". قلت: هذه الرواية ظاهرة فيما ذهبت إليه المالكية من أن التكبير عند القيام من اثنتين لا يقع إلا بعد الاستواء في القيام، ويبطل الجمع الآتي قوله في هذه الرواية كما كبّر عند افتتاح الصلاة، فإنه لا يمكن أن يكون كافتتاح الصلاة إلا إذا كان

رجاله تسعة

بعد الاستواء في القيام، وقال في "الفتح" انتصارًا لمذهبه ويمكن الجمع بينهما بأن التشبيه واقع على صفة التكبير لا على محله، ويكون معنى قوله: إذا قام أي: أراد القيام أو شرع فيه، وهذا الجمع يبطله قوله كما كبّر عند افتتاح الصلاة. وقوله: "وإذا جلس في الركعة الأخيرة" في رواية عبد الحميد حتى إذا كانت السجدة التي يكون فيها التسليم. وفي رواية عند ابن حِبّان التي تكون خاتمة الصلاة أخرج رجله اليسرى، وقعد متوركًا على شقه الأيسر زاد ابن إسحاق في روايته، ثم سلّم وفي رواية عيسى عند الطحاوي فلما سلَّم سلَّم عن يمينه سلام عليكم ورحمة الله، وعن شماله كذلك. وفي رواية عبد الحميد عند أبي داود وغيره. قالوا: أي الصحابة المذكورون: "صدقت، هكذا كان يصلي". وقد مرّ في الحديث الذي قبله أن الشافعية استدلت بهذا الحديث على ما ذهبت إليه فيما مرّ من المغايرة بين هيئة الجلوس في التشهد الأول والأخير، واستدلوا به على أن تشهد الصبح كالتشهد الأخير من غيره لعموم قوله في الركعة الآخرة خلافًا لأحمد فيما مرّ عنه من اختصاص التورك بالصلاة التي فيها تشهدان. قلت: وهذا الحديث هو أقوى دليل تتمسك به المالكية للإِرسال؛ لأنه بجميع طرقه لم يترك شيئًا من مستحبات الصلاة ولا سننها ولم يذكر في طريق من الطرق المروية عنه القبض، وذكر فيه ما هو صريح في الإرسال من قوله في رواية أبي داود: إذا قام إلى الصلاة يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم يكبّر حتى يقر كل عظم في موضعه معتدلًا. وفي رواية عبد الحميد السابقة: ثم يمكث قائمًا حتى يقع كل عظم موقعه، ثم يقرأ فغير خافٍ على عامي فضلًا عن عالم أن معنى يقع ويقر في الروايتين يثبت ويستقر في محله، ولا شك أن محل اليدين من الإِنسان جنباه، وذلك هو الإرسال بعينه لا ينازع في ذلك إلا مجنون أو مكابر في المحسوس، وقد استوفينا تقرير هذا في رسالتنا إبرام النقض. وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم جواز وصف الرجل نفسه بكونه أعلم من غيره إذا أمن الإعجاب وأراد تأكيد ذلك عند مَنْ سمعه لما في التعليم والأخذ عن الأعلم من الفضل، وفيه أنّ كان تستعمل فيما مضى وفيما يأتي لقول أبي حميد: "كنت أحفظكم" وأراد استمراره على ذلك. قاله ابن التين وفيه أنه كان يخفى على الكثير من الصحابة بعض الأحكام المتلقاة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وربما تذكره بعضهم إذا ذكر. رجاله تسعة: وفيه لفظ نفر مرّت منهم ستة: مرّ يحيى بن بكير والليث في الثالث من بدء الوحي، ومرّ خالد بن يزيد وسعيد بن أبي هلال في الثاني من الوضوء، ومرّ يزيد بن أبي حبيب في الخامس من الإِيمان, ومرّ أبو حميد في تعليق في أول أبواب استقبال القبلة قبل ذكر حديث منه والثلاثة الباقية: الأول منها: يزيد بن محمد بن قيس بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف القرشي المطلبي البصري مدني الأصل نزيل مصر، ذكره ابن حِبّان في الثقات وقال الدارقطني: ثقة، روى عن

لطائف إسناده

محمد بن عمرو بن حلحلة والمغيرة بن أبي بردة وعلي بن رباح ومحمد بن جعفر بن الزبير وغيرهم، وروى عنه يزيد بن أبي حبيب ويزيد بن عبد العزيز الرعيني والليث بن سعد وغيرهم. الثاني: محمد بن عمرو بن حلحلة الديكي المدني ذكره ابن حِبّان في الثقات وقال: كان ذا هيئة ملازمًا للمسجد، وكذا قال ابن سعد وقال ابن معين وأبو حاتم والنَّسائيّ. روى عن عطاء بن يسار ومحمد بن عمرو بن عطاء والزهري ووهب بن كيسان وغيرهم. وروى عنه يزيد بن أبي حبيب ويزيد بن محمد القرشي وسعيد بن أبي هلال وغيرهم. الثالث: محمد بن عمرو بن عطاء بن عباس بن علقمة بن عبد الله بن أبي قبيس بن عبدود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي العامري أبو عبد الله القرشي المدني، وقيل إنه من مواليهم. قال أبو زرعة والنّسائيّ: ثقة، وقال أبو حاتم: ثقة صالح الحديث. وقال أبو الزناد: حدّثني محمد بن عمرو بن عطاء وكان امرأ صدق، وقال ابن سعد: كانت له هيئة ومروءة، وكان ثقة، وله أحاديث، وقال أبو الحسن بن القطان الفاسي: جملة رواته من أهل الصدق، وقد ضعفه يحيى في رواية ووثقه في أخرى. وكان الثوري يحمل عليه من أجل القدر. روى عن أبي حميد في عشرة من الصحابة وعن ابن عباس وابن الزبير وأبي هريرة وسعيد بن المسيب وعبد الله بن شداد وعطاء بن يسار وغيرهم مات بالمدينة سنة عشرين ومئة، وله نيف وثمانون سنة والنفر المذكور حضورهم مع أبي حميد عشرة، كما صرّح به في رواية أبي داود يحتمل بالراوي أبي حميد، ويحتمل زيادة عليه وقال في "الفتح" إنه لم يقف على أسماء سوى خمسة منهم أبي قتادة وأبي هريرة ومحمد بن مسلمة وسهل بن سعد، وأبي أسيد الساعدي، وقد مرّ تعريف الجميع، مرّ أبو قتادة في التاسع عشر من الوضوء ومرّ سهل بن سعد في الثامن والمئة منه، ومرّ أبو هريرة في الثاني من الإِيمان, ومرّ محمد بن مسلمة في الرابع والعشرين من أبواب صفة الصلاة هذه، ومرّ أبو أسيد في تعليق بعد السادس والخمسين من أبواب الجماعة. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول ورواته ما بين مصريين ومدنيين فالثلاثة الأول والسابع مصريون والباقون مدنيون أخرجه أبو داود في الصلاة، وكذا التِّرمِذِي والنَّسائيّ وابن ماجه. ثم قال: وسمع الليث يزيد بن أبي حبيب ويزيد محمد بن عمرو بن حلحلة وابن حلحلة من ابن عطاء، وهذا إعلام منه بأن العنعنة الواقعة في إسناد هذا الحديث بمنزلة السماع وهو كلام المصنف، ووهم مَنْ جزم بأنه كلام يحيى بن بكير وقد وقع التصريح بتحديث ابن حلحلة ليزيد في رواية ابن المبارك ورجاله الأربعة هم المذكورون في الذي قبله. ثم قال: وقال أبو صالح عن الليث: كل قَفَار يعني بإسناده الثاني عن اليزيدين قوله كل قَفَار ضبط بتقديم القاف على الفاء في رواية الأصيلي. وجزم جماعة بأن تقديم القاف تصحيف، وقال ابن التين: لم يتبين لي وجهها، وهذا التعليق وصله

باب من لم ير التشهد الأول واجبا؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قام من الركعتين ولم يرجع

الطبراني وابن عبد البر والليث مرّ في الذي قبله ذكر محله وأبو صالح كاتب الليث مرّ في متابعة بعد الرابع من الوحي. ثم قال: وقال ابن المبارك عن يحيى بن أيوب قال: حدّثني يزيد بن أبي حبيب أن محمد بن عمرو حدّثه كل فقار، وهذا التعليق وصله الفريابي في صفة الصلاة له والجوزقي في جمعه وإبراهيم الحربي في غريبه ورجاله أربعة مرّ محمد بن عمرو في الذي قبله، ومرّ فيه ذكر محل يزيد بن أبي حبيب، ومرّ ابن المبارك في السادس من بدء الوحي. ومرّ يحيى بن أيوب في تعليق بعد الثاني من أحاديث أبواب القبلة هذا المقابري وإن كان المراد الغافقي وهو الظاهر؛ لأنه هو الذي روى عنه ابن المبارك، فقد مرّ في تعليق بعد العاشر من أبواب استقبال القبلة أيضًا. ثم قال المصنف: باب مَنْ لم يرَ التشهد الأول واجبًا؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قام من الركعتين ولم يرجع قوله: "التشهد" المراد تشهد الصلاة وهو التحيات، وهو تفعّل من الشهادة سمي بذلك لاشتماله على النطق بشهادة الحق تغليبًا لها على بقية أذكارها لشرفها من حيث إنه يصير الشخص بها مؤمنًا، ويرتفع عنه السيف وينتظم في سلك الموحدين الذي به النجاة في الدنيا والآخرة. قال الزين بن المنير: ذكر في هذه الترجمة الحكم ودليله ولم يثبت الحكم مع ذلك كان يقول: باب لا يجب التشهد الأول وسببه ما يطرق الدليل المذكور من الاحتمال، وقد أشار إلى معارضته في الترجمة التي تلي هذه حيث أوردها بنظير ما أورد به الترجمة التي بعدها، وفي لفظ حديث الباب فيها ما يشعر بالوجوب حيث قال: وعليه جلوس ووجه الدلالة من حديث الباب أنه لو كان واجبًا لرجع إليه لما سبحوا به بعد أن قام كما يأتي في أبواب سجود السهو. ويعرف منه أن قول ناصر الدين بن المنير في الحاشية: لو كان واجبًا لسبحوا به، ولم يسارعوا إلى الموافقة على الترك غفلة منه عن الرواية الآتية المنصوص فيها على أنهم سبحوا به. قال ابن بطال: والدليل على أن سجود السهو لا ينوب عن الواجب أنه لو نسي تكبيرة الإحرام لم تجبر، فكذلك التشهد؛ ولأنه ذكر لا يجهر به بحال، فلم يجب كدعاء الافتتاح. واحتج غيره بتقريره -صلى الله عليه وسلم- الناس على متابعته بعد أن علم أنهم تعمدوا تركه، وفيه نظر. وممن قال بوجوبه: الليث وإسحاق وأحمد في المشهور عنه وهو قول للشافعي وعند مالك كل تشهد سُنّة، وعند أبي حنيفة قال في "شرح الهداية": ان المختار والصحيح عنده وجوبه، وقيل سُنّة وهو الأقيس، ولكنه خلاف ظاهر الرواية وحجة القائلين بالوجوب أنه عليه الصلاة والسلام فعله وداوم عليه وأمر به في حديث ابن عباس بقوله: "قولوا: التحياتُ للهِ". وقال: "صلُّوا كما رأيتموني أُصلِّي". واحتج الطبري لوجوبه بأن الصلاة فرضت أولًا ركعتين، وكان التشهد فيها واجبًا فلما زيدت لم تكن الزيادة مزيلة لذلك الواجب، وأجيب بأن الزيادة لم تتعين في الأخيرتين، بل يحتمل أن يكونا هما الفرض الأول والمزيد هما الركعتان الأوليان بتشهدهما ويؤيده استمرار التشهد الأخير كما كان واحتج أيضًا بأن مَنْ تعمد ترك الجلوس الأول بطلت صلاته. وهذا غير وارد؛ لأن من لا يوجبه لا يبطل الصلاة بتركه.

الحديث الثامن والتسعون

الحديث الثامن والتسعون حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ هُرْمُزَ مَوْلَى بَنِى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَقَالَ مَرَّةً مَوْلَى رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ ابْنَ بُحَيْنَةَ وَهْوَ مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ وَهْوَ حَلِيفٌ لِبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-. أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- صَلَّى بِهِمُ الظُّهْرَ فَقَامَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ لَمْ يَجْلِسْ، فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ حَتَّى إِذَا قَضَى الصَّلاَةَ، وَانْتَظَرَ النَّاسُ تَسْلِيمَهُ، كَبَّرَ وَهْوَ جَالِسٌ، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ ثُمَّ سَلَّمَ. قوله: "وقال مرة مولى ربيعة بن الحارث" ولا تنافي بينهما؛ لأنه مولى ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، فذكره أولًا بجد مواليه الأعلى. وثانيًا بمولاه الحقيقي. وقوله: "أزد شنوءة" بفتح الهمزة وسكون الزاي بعدها مهملة، ثم معجمة مفتوحة ثم نون مضمومة وهمزة مفتوحة وزن فَعُولَة قبيلة مشهورة. وقوله: "حليف لبني عبد مناف" صواب؛ لأن جده حالف المطلب بن عبد مناف. وقوله: "فقام في الركعتين الأوليين لم يجلس" أي للتشهد وفي رواية ابن عساكر: "ولم يجلس" بزيادة واو. وفي "مسلم" فلم يجلس بالفاء قال ابن رشيد إذا أطلق في الأحاديث الجلوس في الصلاة من غير تقييد فالمراد به جلوس التشهد، وبهذا يظهر وجه مناسبة الحديث للترجمة. وقد مرّت مباحث السهو مستوفاة في باب التوجه نحو القبلة حيث كان، وفي الباب الذي بعده قبيل أبواب المساجد، وفي باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره قبيل أبواب سترة المصلي. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ أبو اليمان وشعيب في السابع من بدء الوحي، ومرّ الزهري في الثالث منه، ومرّ الأعرج في السابع من الإِيمان, ومرّ عبد الله بن مالك بن بحينة في الثاني والأربعين من كتاب الصلاة. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإفراد والإخبار بالجمع وفيه العنعنة والقول والاثنان الأولان من رواته حمصيان، والآخران مدنيان أخرجه البخاري في الصلاة أيضًا عن عبد الله بن يوسف، وفي السهو عن قتيبة وفي النذر عن آدم، وأخرجه مسلم في الصلاة وكذا أبو داود والتِّرمِذِيّ والنَّسائيّ وابن ماجه. ثم قال المصنف:

باب التشهد في الأولى

باب التشهد في الأولى أي: الجلسة الأول من ثلاثية أو من رباعية. قال الكرماني: الفرق بين هذه الترجمة والتي قبلها أن الأولى لبيان عدم وجوب التشهد الأول، والثانية لبيان مشروعيته والمشروعية أعم من الواجب والمندوب، ولا خلاف في أن ألفاظ التشهد في الأولى كالتي في الأخيرة إلا ما روى الزهري عن سالم، قال: وكان ابن عمر لا يسلّم في التشهد الأول، كان يرى ذلك نسخًا لصلاته. قال الزهري: فأما أنا فأسلّم يعني قوله: "السلامُ عليكَ أيّها النبيُّ إلى الصالحين" أخرجه عبد الرزاق.

الحديث التاسع والتسعون

الحديث التاسع والتسعون حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا بَكْرٌ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ ابْنِ بُحَيْنَةَ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الظُّهْرَ فَقَامَ وَعَلَيْهِ جُلُوسٌ، فَلَمَّا كَانَ فِي آخِرِ صَلاَتِهِ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَهْوَ جَالِسٌ. وعبد الله بن مالك ابن بحينة هو عبد الله بن بحينة المذكور في السند الذي قبله وبحينة والدة عبد الله على المشهور، فينبغي أن يثبت الألف في ابن بحينة إذا ذكر مالك ويعرب إعراب عبد الله، وإذا لم يذكر مالك لا يكتب. وهذا الحديث هو الذي قبله فمباحثه قد مرّت. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ قتيبة بن سعيد في الحادي والعشرين من العلم، ومرّ بكر بن مضر وعبد الله بن مالك في الثاني والأربعين من كتاب الصلاة، ومرّ جعفر بن ربيعة في الرابع من التيمم، ومرّ الأعرج في السابع من الإِيمان, ثم قال المصنف: باب التشهد في الآخرة أي: الجلسة الآخرة، قال ابن رشيد: ليس في حديث الباب تعيين محل القول لكن يؤخذ ذلك من قوله، فإذا صلّى أحدكم فليقل فإن ظاهر قوله إذا صلّى أي: أتم صلاته لكن تعذر الحمل على الحقيقة؛ لأن التشهد لا يكون بعد السلام، فلما تعيّن المجاز كان حمله على آخر جزء من الصلاة أولى؛ لأنه الأقرب إلى الحقيقة، وهذا التقدير على مذهب الجمهور من أن السلام جزء من الصلاة لا أنه للتحلل منها فقط، والأشبه بتصرف البخاري أنه أشار بذلك إلى ما ورد في بعض طرق الحديث من تعيين المحل، ففي رواية حفص بن غياث في الاستيذان فإذا جلس أحدكم في الصلاة.

الحديث المئة

الحديث المئة حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قُلْنَا السَّلاَمُ عَلَى جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، السَّلاَمُ عَلَى فُلاَنٍ وَفُلاَنٍ. فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلاَمُ، فَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلِ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ. فَإِنَّكُمْ إِذَا قُلْتُمُوهَا أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ لِلَّهِ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. قوله: "عن شقيق" في رواية يحيى الآتية بعد باب عن الأعمش حدّثني شقيق، وقوله: "كنَّا إذا صلّينا" في رواية يحيى المذكورة كنّا إذا كنا مع النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- في الصلاة ولأبي داود عن مسدد إذا جلسنا، ومثله للإِسماعيلي ولابن إسحاق في مسنده عن الأعمش نحوه: "قلنا السلام على جبريل" في هذه الرواية اختصار ثبت في رواية يحيى المذكورة، وهو: "قلنا السلام على الله من عباده" وأخرجه أبو داود عن مسدد كذلك وكذا المصنف في "الاستئذان" عن حفص بن غياث ولفظه في رواية يحيى المذكورة: "لا تقولوا السَّلامُ على اللهِ فإنّ اللهَ هو السَّلامُ". وبهذه الزيادة يتبيّن موقع قوله -صلى الله عليه وسلم- إن الله هو السلام. وقوله: "السلام على فلانٍ وفلان" في رواية عبد الله بن نمير عند ابن ماجه يعنون الملائكة، وللإِسماعيلي عن علي بن مسهر فنعدّ الملائكة. ومثله للسراج عن محمد بن فضيل، فنعدّ من الملائكة ما شاء الله. وقوله: "فالتفت إلينا" ظاهره أنه كلمهم بذلك في أثناء الصلاة ونحوه في رواية حصين عن أبي وائل عند المصنف في أواخر الصلاة بلفظ فسمعه النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "قولوا" لكن بيّن حفص بن غياث في روايته المذكورة المحل الذي خاطبهم فيه بذلك، وأنه بعد الفراغ من الصلاة ولفظه: "فلما انصرف النبي -صلى الله عليه وسلم- أقبل علينا بوجهه". وفي رواية عيسى بن يونس أيضًا: "فلما انصرف من الصلاة" قال وقوله: "إن الله هو السلام" قال البيضاوي: ما حاصله أنه -صلى الله عليه وسلم- أنكر التسليم على الله، وبيّن أن ذلك عكس ما يجب أن يقال، فأن كل سلام ورحمة له ومنه وهو مالكها ومعطيها. وقال

التوربشتي: وجه النهي عن السلام على الله تعالى؛ لأنه هو المرجوع إليه بالمسائل المتعالي عن المعاني المذكورة فكيف يدعى له وهو المدعو على الحالات؟ وقال الخطابي: المراد أن الله هو ذو السلام، فلا تقولوا السلام على الله فإن السلام منه بدأ وإليه يعود ومرجع الأمر في إضافته إليه أنه ذو السلام من كل آفة وعيب، ويحتمل أن يكون مرجعها إلى حفظ العبد فيما يطلبه من السلامة من الآفات والمهالك. وقال النووي معناه أن السلام اسم من أسماء الله تعالى يعني السالم من النقائص. ويقال المسلم أولياءه وقيل المسلم عليهم قال ابن الأنباري: أمرهم أن يصرفوه إلى الخلق لحاجتهم إلى السلامة وغناه سبحانه وتعالى عنها. وقوله: "فإذا صلّى أحدكم فليقل" في رواية حفص في الاستيذان: "فإذا جلس أحدكم في الصلاة" وفي رواته حصين في أواخر الصلاة: "إذا قعد أحدكم في الصلاة". وللنسائي عن أبي الأحوص عن عبد الله كنا لا ندري ما نقول في كل ركعتين وأن محمدًا عَلِم فواتح الخير وخواتمه فقال: "إذا قعدتم في كل ركعتين فقولوا" وله من طريق الأسود عن عبد الله: "فقولوا في كل جلسة"، ولابن خزيمة عن الأسود عن عبد الله "علّمني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التشهد في وسط الصلاة وفي آخرها". وزاد الطحاوي في أوله: "وأخذت التشهد من في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولقنيه كلمة كلمة". وللمصنف في الاستيذان عن أبي معمر عن ابن مسعود: "علمني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التشهد وكفي بين كفيه كما يعلمني السورة من القرآن". وقد قال الشافعي إن التشهد الأول سنة والثاني واجب. وقال أحمد: الأول واجب يجبر تركه بالسجود، والثاني ركن تبطل الصلاة بتركه، وقد مرّ أن التشهد كله سنة عند المالكية، ومرّ الخلاف فيه عند الحنفية في باب مَنْ لم يرَ التشهد الأول واجبًا. واستدل القائل بوجوبه يحمل قوله هنا فليقل على الوجوب. وأجاب النافون للوجوب بأن التسبيح في الركوع والسجود مندوب، وقد وقع الأمر به في قوله -صلى الله عليه وسلم- لما نزلت: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} اجعلوها في ركوعكم .. الحديث، فكذلك التشهد. وأجاب الكرماني بأن الأمر حقيقته الوجوب فيحمل عليه إلا إذا دلّ دليل على خلافه، ولولا الإِجماع على عدم وجوب التسبيح في الركوع والسجود لحملناه على الوجوب، وفي دعوى هذا الإِجماع نظر فإن أحمد يقول بوجوبه وبوجوب التشهد الأول أيضًا ورواية أبي الأحوص المتقدمة تقوية. وقد جاء عن ابن مسعود التصريح بفرضية التشهد، وذلك فيما رواه الدارقطني وغيره بإسناد صحيح عن علقمة عنه قال: كنّا لا ندري ما نقول قبل أن يفرض علينا التشهد. قلت: حديث ابن مسعود في أكثر طرقه التصريح بأن التشهد في كل ركعتين كرواية أبي الأحوص ورواية الأسود فقولوا في كل جلسة ولابن خزيمة في وسط الصلاة وفي آخرها، فلم خصصت الشافعية الوجوب بالتشهد الأخير؟ وقوله: "التحيّات" جمع تحية ومعناها السلام، وقيل البقاء، وقيل العظمة، وقيل السلامة من الآفات والنقص، وقيل الملك. وقال أبو سعيد الضرير: ليست التحية الملك نفسه، لكنها الكلام الذي يحيى به الملك. وقال ابن قتيبة: لم يكن يحيى إلا الملك خاصة، وكان لكل ملك تحية

تخصه؛ فلهذا جمعت فكان المعنى التحيات التي كانوا يسلمون بها على الملوك كلها مستحقة لله. وقال الخطابي ثم البغوي: ولم يكن في تحياتهم شيء يصلح للثناء على الله؛ فلهذا أبهمت ألفاظها واستعمل منها معنى التعظيم، فقال: "قولوا التحيات لله" أي: أنواع التعظيم له. وقال المحب الطبري: يحتمل أن يكون لفظ التحية مشتركًا بين المعاني المقدم ذكرها وكونها بمعنى السلام أنسب. وقوله: "والصلوات" قيل المراد الخمس أو ما هو أعم من ذلك من الفرائض والنوافل في كل شريعة. وقيل المراد العبادات كلها، وقيل الدعوات وقيل المراد الرحمة. وقيل التحيات العبادات القولية والصلوات العبادات الفعلية. و"الطيبات" الصدقات المالية. وقوله: "والطيبات" أي: ما طاب من الكلام وحسن أن يثنى به على الله دون ما لا يليق بصفاته مما كان الملوك يحيون به. وقيل الطيبات ذكر الله وقيل الأقوال الصالحة كالدعاء والثناء. وقيل الأعمال الصالحة وهو أعم، قال ابن دقيق العيد: إذا حمل التحية على السلام فيكون التقدير التحيات التي تعظم بها الملوك مستمرة لله، وإذا حمل على البقاء فلا شك في اختصاص الله به، وكذلك الملك الحقيقي والعظمة التامة، وإذا حملت الصلاة على الجنس أو العهد كان التقدير أنها لله واجبة لا يجوز أن يقصد بها غيره، وإذا حملت على الرحمة فيكون معنى قوله لله أنه المتفضل بها؛ لأن بها الرحمة التامة لله يؤتيها من يشاء، وإذا حملت على الدعاء فظاهر. وأما الطيبات فقد فسرت بالأقوال، ولعل تفسيرها بما هو أعم أولى فتشمل الأقوال والأفعال والأوصاف وطيبها كونها كاملة خالصة عن الشوائب. وقال القرطبي: قوله: "لله" فيه تنبيه على الإِخلاص في العبادة أي أن ذلك لا يفعل إلا الله، ويحتمل أن يراد به الاعتراف بأنه ملك الملوك وغير ذلك مما ذكر كله في الحقيقة لله تعالى. وقال البيضاوي: ويحتمل أن يكون والصلوات والطيبات عطفا على التحيات، ويحتمل أن يكون الصلوات مبتدأ وخبره محذوف والطيبات معطوفة عليها والواو الأولى لعطف الجملة على الجملة، والثانية لعطف المفرد على الجملة. وقال ابن مالك: إذا جعلت التحيات مبتدأ ولم تكن صفة لموصوف محذوف، كان قولك والصلوات مبتدأ لئلا يعطف نعت على منعوته، فيكون من باب عطف الجمل بعضها على بعض، وكل جملة مستقلة بفائدتها وهذا المعنى لا يوجد عند إسقاط الواو؛ لأن الواو تقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، فتكون كل جملة ثناء مستقلًا بخلاف ما إذا حذفت فإنها تكون صفة لما قبلها، وتعدد الثناء صريح في الأول فيكون أولى. ولو قيل إن الواو مقدرة في الثاني. وقوله: "السلام عليك أيها النبي" قال النووي: يجوز فيه وفيما بعده حذف اللام وإثباتها والإِثبات أفضل وهو الموجود في روايات "الصحيحين". قال في "الفتح": لم يقع في شيء من طريق حديث ابن مسعود حذف اللام وإنما اختلف ذلك في حديث ابن عباس وهو من أفراد مسلم.

قال الطيبي: أصل سلام عليك سلمت سلامًا عليك ثم حذف الفعل وأقيم المصدر مقامه، وعدل عن النصب إلى الرفع على الابتداء للدلالة على ثبوت المعنى واستقراره، ثم التعريف إما للعهد التقديري أي ذلك السلام الذي وجه إلى الرسل والأنبياء عليك أيها النبي، وكذلك السلام الذي وجه إلى الأُمم السالفة علينا وعلى إخواننا. وأما للجنس والمعنى أن حقيقة السلام الذي يعرفه كل واحد وعمن يصدر وعلى مَنْ ينزل عليك وعلينا ويجوز أن يكون للعهد الخارجي إشارة إلى قوله تعالى: {وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} قال: ولا شك أن هذه التقادير أولى من تقدير النكرة، وحكى عن أبي حامد أن التنكير فيه للتعظيم وهو وجه من وجوه الترجيح لا يقصر عن الوجوه المتقدمة. وقال البيضاوي: علمهم أن يفردوه -صلى الله عليه وسلم- بالذكر لشرفه ومزيد حقه عليهم، ثم علمهم أن يخصصوا أنفسهم أولًا؛ لأن الاهتمام بها أهم ثم أمرهم بتعميم السلام على الصالحين إعلامًا منه بأن الدعاء للمؤمنين ينبغي أن يكون شاملًا لهم. وقال التوربشتي: السلام بمعنى السلامة كالمقام والمقامة، والسلام من أسماء الله تعالى وضع المصدر موضع الاسم مبالغة، والمعنى سالم من كل عيب وآفة ونقص وفساد. ومعنى قولنا: السلام عليك كأنه تبرك عليه باسم الله تعالى فإن قيل كيف شرع هذا اللفظ وهو خطاب بشر مع كونه منهيًا عنه في الصلاة؟ فالجواب أن ذلك من خصائصه عليه الصلاة والسلام، فإن قيل ما الحكمة في العدول عن الغيبة إلى الخطاب في قوله عليك أيها النبي مع أن لفظ الغيبة هو الذي يقتضيه السياق كأَن يقول السلام على النبي فينتقل من تحية الله إلى تحية النبي، ثم إلى تحية النفس، ثم إلى الصالحين. أجاب الطيبي بما محصله نحن نتبع لفظ الرسول بعينه الذي كان علمه الصحابة ويحتمل أن يقال على طريق أهل العرفان أن المصلين لما استفتحوا باب الملكوت بالتحيات أذن لهم بالدخول في حريم الحي الذي لا يموت، فقرت أعينهم بالمناجاة فنبهوا على أن ذلك بواسطة نبي الرحمة وبركة متابعته فالتفتوا فإذا الحبيب في حرم الحبيب حاضر، فأقبلوا عليه قائلين السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. وقد ورد في بعض طرق حديث ابن مسعود هذا ما يقتضي المغايرة بين زمانه -صلى الله عليه وسلم- فيقال بلفظ الخطاب وما بعده، فيقال بلفظ الغيبة ففي "الاستئذان" عند المصنف عن أبي معمر عن ابن مسعود بعد أن ساق حديث التشهد قال: وهو بين ظهرانينا فلما قبض قلنا السلام يعني على النبي. وأخرجه أبو عوانة في صحيحه والسراج والجوزقي وأبو نعيم الأصبهاني والبيهقي من طرق متعددة إلى أبي نعيم شيخ البخاري بلفظ: "فلما قبض قلنا السلام على النبي" بحذف لفظ يعني، وكذلك رواه أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي نعيم. قال السبكي: إن صحت رواية أبي عوانة عن الصحابة دلّت على أن الخطاب في السلام بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- غير واجب فيقال: السلام على النبي. قال في "الفتح": الرواية صحيحة ولها متابع قوي، أخرجه عبد الرزاق عن عطاء أن الصحابة كانوا يقولون: والنبي -صلى الله عليه وسلم- حي السلام عليك أيها النبي، فلما مات قالوا: السلام على النبي. وهذا إسناد صحيح. وأما ما روى سعيد بن منصور عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- علمهم التشهد

فذكره قال، فقال ابن عباس: "إنما كنا نقول السلام عليك أيها النبي إذا كان حيًا". فقال ابن مسعود: هكذا علّمنا، وهكذا نعلّم. فظاهره أن ابن عباس قاله بحثًا وأن ابن مسعود لم يرجع إليه، لكن رواية أبي معمر أصح؛ لأن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه والإسناد إليه ضعيف. فإن قيل: لم عدل عن الوصف بالرسالة إلى الوصف بالنبوءة مع أن الوصف بالرسالة أعم في حق البشر؟ أجاب بعضهم بأن الحكمة في ذلك أن يجمع له الوصفين لكونه وصفه بالرسالة في آخر التشهد وإن كان الرسول البشري يستلزم النبوءة لكن التصريح بهما أبلغ. قيل: والحكمة في تقديم الوصف للنبوءة أنها كذلك وجدت في الخارج لنزول قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} قبل قوله: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ}. وقوله: "ورحمة الله" أي: إحسانه، "وبركاته" أي: زيادته من كل خير. وقوله: "السلام علينا" استدل به على استحباب البداءة بالنفس في الدعاء، وفي "الترمذيّ" مصححًا من حديث أُبي بن كعب: "أنّ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- كان إذا ذكرَ أحدًا فدعا لهُ بدأ بنفسهِ". وأصله في "مسلم"، ومنه قول نوح وإبراهيم عليهما السلام كما في التنزيل. وقوله: "وعلى عباد الله الصالحين" الأشهر في تفسير الصالح أنه القائم بما يجب عليه من حقوق الله وحقوق عباده، وتتفاوت درجاته قال الترمذِيّ الحكيم: مَنْ أراد أن يحظى بهذا السلام الذي يسلمه الخلق في الصلاة، فليكن عبدًا صالحًا وإلا حُرم هذا الفضل العظيم. وقال الفاكهاني: ينبغي للمصلي أن يستحضر في هذا المحل جميع الأنبياء والملائكة والمؤمنين ليتوافق لفظه مع قصده. وقوله: "فإنكم إذا قلتموها" أي كلمة: "وعلى عباد الله الصالحين" وهو كلام معترض بين قوله الصالحين وقوله: "أشهد أن لا إله إلاَّ الله" إلخ، وإنما قدمت للاهتمام بها لكونه أنكر عدّ الملائكة واحدًا واحدًا، ولا يمكن استيعابهم لهم مع ذلك فعلَّمهم لفظًا يشمل الجميع مع غير الملائكة من النبيين والمرسلين والصدّيقين وغيرهم بغير مشقة، وهذا من جوامع الكلم التي أوتيها -صلى الله عليه وسلم- وإلى ذلك الإِشارة يقول ابن مسعود: "وأن محمدًا عُلِّم فواتح الخير وخواتمه" كما تقدم. وقد ورد في بعض طرقه سياق التشهد متواليًا وتأخير الكلام المذكور بعد، وهو من تصرف الرواة وسيأتي في أواخر الصلاة. وقوله: "أصابت كل عبد لله صالح" استدل به على الجمع المضاف، والجمع المحلى بالألف واللام يعمّ لقوله أولًا عباد الله الصالحين، ثم قال: أصابت كل عبدٍ صالح، واستدل به على أن للعموم صيغة. قال ابن دقيق العيد: وهو مقطوع به عندنا في لسان العرب وتصرفات ألفاظ الكتاب والسنة والاستدلال بهذا فرد من أفراد لا تحصى لا للاقتصار عليه قوله: "في السماء والأرض" في رواية مسدد عن يحيى أو بين السماء والأرض، والشك فيه من مسدد وإلا فقد رواه غيره عن يحيى

بلفظ من أهل السماء والأرض أخرجه الإسماعيلي وغيره. قلت: استنبط الفقهاء من هذا أن من قال لعبد صالح فلان يسلم عليك من غير أن يأمره المسلم بذلك لا يكون كاذبًا فيما قال؛ لشمول اللفظ له، وقد رأيت في بعض كتب المالكية أن التشهد كان وقوعه ليلة الإسراء فإن النبي عليه الصلاة والسلام عند مفاتحة التكليم تفكر فيما يحيى به الله جل جلاله لكونه داخلًا في حضرة القدس، فألهمه الله تعالى التحيات لله إلخ، ثم حيّاه الله تعالى بقوله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فتذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته فقال السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين جامعًا مع أُمته كل عبد لله صالح، فلما سمعت الملائكة هذه المراجعة قالت: أشهد أن لا إله إلا الله إلخ لما رأوا من تعظيم الله تعالى لنبيّه وثبات جنان نبيّه عليه الصلاة والسلام في هذا الموقف العظيم حيث تذكر أمته ولم يذهل عنهم. وهذا المعنى في غاية الحسن إلاَّ أنني لم أقف على سنده، وهو لا يكون من جهة الرأي. وقوله: "أشهد أن لا إله إلاّ الله" زاد ابن أبي شيبة عن أبي عبيدة عن أبيه وجده: "لا شريكَ له" وسنده ضعيف، لكن ثبتت هذه الزيادة في حديث أبي موسى عند مسلم، وفي حديث عائشة الموقوف في "الموطأ" وفي حديث ابن عمر عند الدارقطني إلا أن سنده ضعيف. وقد روى أبو داود من وجه آخر صحيح عن ابن عمر في التشهد: "أشهد أن لا إله إلاَّ الله"، قال ابن عمر: زدت فيها: "وحده لا شريك له"، وهذا ظاهره الوقف. وقوله: "وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله" لم تختلف الطرق عن ابن مسعود في ذلك، وكذا هو في حديث أبي موسى وابن عمر وعائشة المذكور وجابر وابن الزبير عند الطحاوي وغيره. وروى عبد الرزاق عن عطاء قال: "بينا النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يعلمُ التشهدَ إذ قال رجل: وأشهد أن محمدًا رسولُهُ وعبدُه، فقال عليه الصلاة والسلام: "لقد كنتُ عبدًا قبلَ أن أكونَ رسولًا، قُلْ عبدُهُ ورسولُهُ"، ورجاله ثقات إلا أنه مرسل. وفي حديث ابن عباس عند مسلم وأصحاب السنن: "وأشهد أن محمدًا رسول الله" ومنهم مَنْ حذف وأشهد، ورواه ابن ماجه بلفظ ابن مسعود. قال التِّرمِذِيّ: حديث ابن مسعود عنه من غير وجه وهو أصح حديث روي في التشهد والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من الصحابة، ومن بعدهم وأخذ به أبو حنيفة وأحمد من الأئمة، ولما سُئل البزار عن أصح حديث في التشهد قال: هو عندي حديث ابن مسعود روي من نيف وعشرين طريقًا، ثم سرد أكثرها وقال: لا أعلم في التشهد أثبت منه ولا أصح أسانيدًا. ولا أشهر رجالًا. ولا اختلاف بين أهل الحديث في ذلك وممن جزم بذلك البغوي في "شرح السنة"، ومن رجحانه أنه متفق عليه دون غيره، وأن الرواة عنه من الثقات لم يختلفوا في ألفاظه بخلاف غيره، وأنه تلقاه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- تلقيًا كما مرّ عن الطحاوي وعن أبي معمر وروى ابن أبي شيبة عن أبي وائل عنه قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعلِّمُنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآنِ، وقدْ وافقَهُ على هذا اللفظِ أبو سعيدٍ الخدري، وساقَهُ بلفظِ ابن مسعودٍ" أخرجه الطحاوي لكن هذا الأخير ثبت مثله في

حديث ابن عباس عند مسلم كما يأتي قريبًا عند ذكر لفظه ورجح أيضًا بثبوت الواو في الصلوات والطيبات؛ لأنها تقتضي المغايرة إلخ ما مرّ، ورجّح أيضًا بأنه ورد بصيغة الأمر بخلاف غير فإنه مجرد حكاية. ولأحمد عن ابن مسعود: "أن رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- علَّمَهُ التشهدَ وأمرَهُ أن يعلِّمه الناسَ". ولم ينقل ذلك لغيره، ففيه دليل على مزيته. وذهب جماعة من محدثي الشافعية كابن المنذر إلى اختياره، وذهب بعضهم كابن خزيمة إلى عدم الترجيح، واختار الشافعي لفظ حديث ابن عباس المخرج عند الجماعة إلا البخاري ولفظه: "كان رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يعلِّمُنا التشهدَ كما يعلِّمُنا السورةَ مِنَ القرآنِ، وكانَ يقولُ: التحيّاتُ المباركاتُ الصلواتُ الطيباتُ لله، السَّلامُ عليكَ أيها النَّبيُّ ورحمةُ اللهِ وبركاتُهُ، السَّلامُ علينا وعلى عبادِ اللهِ الصالحينَ، أشهدُ أنَّ لا إِلهَ إلاَّ الله، وأشهدُ أنَّ محمدًا رسولُ اللهِ". أي: بالإضافة إلى الاسم الظاهر وهو الذي رجحه الشيخان: النووي، والرافعي، وأن الإضافة للضمير لا تكفي لكن المختار أنه يجوز ورسوله لما ثبت في "مسلم" ورواه البخاري هنا، وإنما اختاره الشافعي لزيادة لفظ "المباركات" فيه وهي موافقة لقوله تعالى: {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} وأجيب بأن الزيادة مختلف فيها. وحديث ابن مسعود متفق عليه، وقال الشافعي: رويت أحاديث في التشهد مختلفة وكان هذا أحب إليّ؛ لأنه أكملها. وقال في موضع آخر وقد سئل عن اختياره تشهد ابن عباس: لما رأيتُه واسعًا وسمعته عن ابن عباس صحيحًا كان عندي أجمع وأكثر لفظًا من غيره، وأخذت به غير معنف لمن يأخذ بغيره مما صح. قال الشافعي: هو فرض لكن لو لم يزد رجل على قوله: "التحيات لله سلام عليك أيها النبي" إلخ كرهت ذلك له ولم أرَ عليه إعادة. هذا لفظه في "الأم". وقال صاحب "الروضة" تبعًا لأصله: وأما أقل التشهد فقال الشافعي: وأكثر الأصحاب أنه فذكره لكنه قال: "وأن محمدًا رسول الله" قال ونقله ابن كج والصيدلاني فقالا وأشهد أن محمدًا رسول الله لكن اسقطا وبركاته وقد استشكل جواز حذف الصلوات مع ثبوتها في جميع الروايات الصحيحة, وكذلك "الطيبات" مع جزم جماعة من الشافعية بأن المقتصر عليه هو الثابت في جميع الروايات، ومنهم من وجه الحذف بكونهما صفتين كما هو الظاهر من سياق ابن عباس، لكن يعكر على هذا ما تقدم من البحث في ثبوت العطف فيهما في سياق غيره وهو يقتضي المغايرة. واختار مالك وأصحابه لفظ التشهد المروي عن عمر بن الخطاب أخرجه الطحاوي وابن أبي شيبة وعبد الرزاق في مصنفهما عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه سمع عمر بن الخطاب يعلَّم الناس التشهد على المنبر وهو يقول: "التحيّاتُ للهِ الزّاكياتُ للهِ الطيّباتُ للهِ الصلواتُ للهِ السَّلامُ عليك أَيُّها النبيُّ ورحمةُ اللهِ وبركاتُهُ، السَّلامُ علينا وعلى عبادِ اللهِ الصالحين أشهدُ أنَّ لا إِلهَ إِلاّ اللهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ". وإنما اختاره مالك لكونه علّمه للناس وهو على المنبر ولم ينكروه، فيكون إجماعًا وتعقب بأنه موقوف فلا يلحق بالمرفوع وأُجيب بأن ابن مردويه رواه في كتاب "التشهد" مرفوعًا، وصححه الحاكم مع كونه موقوفًا. وجاءت عن الشافعي زيادة "باسم الله" في أول التشهد

ووقع ذلك في رواية عمر المذكورة لكن من غير الطريق التي أخرجها مالك منه، ولم تصح هذه الزيادة. وقد ترجم البيهقي عليها من استحب أو أباح التسمية قبل التحية وهو وجه لبعض الشافعية وضعف. ويدل على عدم اعتبارها أنه ثبت في حديث أبي موسى المرفوع في التشهد وغيره: "فإذا قعد أحدُكُم فليكن أولَ قوله التحياتُ للهِ" الحديث رواه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة بسنده، وأخرجه مسلم عن عبد الرزاق بهذه الطريق. وقد أنكر ابن مسعود وابن عباس وغيرهما على من زادها أخرجه البيهقي وغيره ثم إن هذا الاختلاف إنما هو في الأفضل، وكلام الشافعي المتقدم من قوله: وأخذت به غير مصنف لمن يأخذ بغيره مما صح يدل على ذلك، ونقل جماعة من العلماء الاتفاق على جواز التشهد بكل ما ثبت لكن كلام الطحاوي يشعر بأن بعض العلماء يقول بوجوب التشهد المروي عن عمر. وعندنا معاشر المالكية في لفظه قولان: بالسنة، والندب. ويندب عند المالكية في كل تشهد أن يعقد الخنصر والبنصر والوسطى ويمد السبابة والإبهام جاعلًا أطراف أصابعه الثلاثة على طرف الكف وهذه صفة تسعة وعشرين، أو جاعلًا لها وسط الكف وهذه صفة ثلاث وعشرين، ويحرك السبابة دائمًا يمينًا وشمالًا إلى السلام أو القيام ناصبًا حرفًا إلي وجهه كالمدية وفائدة تحريكها أنها تذكره أحوال الصلاة، فلا يوقعه الشيطان في سهو وإنما اختصت السبابة بالإشارة دون غيرها؛ لأن عروقها متصلة بنياط القلب وإذا حركت انزعج القلب فينتبه لذلك. واستدلوا على تحريكها بما رواه أبو داود والنَّسائيّ والدارمي عن وائل بن حجر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "وضعَ يَدُه اليسرى على فخذِهِ اليسرى وحدّ مرفقَهُ اليمنى على فخذِهِ اليمنى (أي جعله منفردًا عن فخذه) وقبضَ ثنتين مِنَ الأصابعِ والخنصرَ والبنصرَ، وحلقَ حلقةً أخذ إبهامها بإصبعِهِ الوسطى كالحلقةِ ثمَّ رفعَ إصَبعَهُ المُسَبَّحَةَ وَرأيتُهُ يحركُها"، فهذا نص في أصل التحريك. واستدلوا على دوام التحريك بما رواه مالك في "الموطأ" ومسلم وأبو داود والنَّسائي عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- قال: "كان -صلى الله عليه وسلم- إذا جلسَ في الصلاةِ وضعَ كفَّهُ اليمنى على فخذِهِ، وقبضَ أصابعَهُ كلَّها وأشارَ بإصبعِهِ التي تلي الإِبهامَ، ووضعَ يَدهُ اليسرى على فخذِهِ اليسرى". قال الباجي روى سفيان بن عيينة هذا الحديث عن مسلم بن أبي مريم وزاد فيه، وقال: "هي مَذَبَّةُ للشيطانِ لا يسهو أحدُكم ما دامَ يشيرُ بإصبعهِ" قال الباجي: ففيه أن معنى الإشارة رفع السهو وقمع الشيطان الذي يوسوس. قلت: هذا مأخوذ من لفظ المذبة وهي مشتقة من "الذَّبِّ" فهو يحركها دائمًا ذبًّا للشيطان لما مرّ مِن اتصالها بنياط القلب. وأخرج ابن السكن في "صحاحه" عن ابن عمر أيضًا أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الإِشارةُ بالإِصبعِ أشدُّ على الشيطانِ من الحديدِ". وعنه أيضًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "هي مذعرةٌ للشيطانِ". فعلم من هذه الأحاديث أن العلة في الإِشارة بالإصبع وتحريكها طرد الشيطان؛ فلهذا كان الأفضل

رجاله أربعة

عند المالكية دوام تحريكها لما مرّ وعند الشافعية يقبض اليمنى مثل ما مرَّ، ويرفع السبابة مشيرًا بها مع إمالتها قليلًا عند قوله في التشهد: "لا إله إلا الله" ويديم رفعها ويقصد من ابتدائه بهمزة إلا الله أن المعبود واحد، فيجمع في توحيده بين اعتقاده وقوله وفعله ولا يحركها، فلو حركها كره ولم تبطل صلاته. وكذلك عند الحنابلة يشير بسبابتها من غير تحريك عند ذكر الله تعالى. وعند الحنفية قولان مصححان بالإشارة وعدمها: أي يشير عند النفي برفعها، وعند الإثبات بوضعها، قال ابن عابدين في ذيل رسالته المختار عند جمهور أصحابنا أنه يضع كفيه على فخذيه ثم عند وصوله إلى كلمة التوحيد يعقد الخنصر والبنصر، ويحلق الوسطى والإبهام، ويشير بالمسبّحة رافعًا لها عند النفي وواضعًا لها عند الإثبات، ثم يستمر على ذلك؛ لأنه ثبت العقد عند الإشارة بلا خلاف ولم يوجد أمر بتغييره، والأصل بقاء الشيء على ما هو عليه واستصحابه إلى آخر أمره. فعند هذه الأئمة الثلاثة الإِشارة عندهم لا تحريك معها إلا عند النفي والإثبات، ودليلهم ما رواه أبو داود والنَّسائيّ. وقال النووي: إسناده صحيح عن عبد الله بن الزبير، قال: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يشيرُ بإصبعهِ إذا دعا ولا يحركُها". أي: فاكتفوا بالإشارة جاعلين معناها التوحيد، والمالكية أولوها بما مرّ عنهم. تنبيه: قال القفال في "فتاويه": ترك الصلاة يضر بجميع المسلمين؛ لأن المصلي يقول: "اللهمّ اغفر لي وللمؤمنينَ والمؤمناتِ" ولابد أن يقول في التشهد: "السلامُ علينا وعلى عبادِ اللهِ الصالحين" فيكون مقصرًا في خدمة الله وفي حق رسوله وفي حق نفسه وفي حق كافة المسلمين؛ ولذلك عظمت المعصية بتركها، واستنبط منه السبكي أن في الصلاة حقًا للعباد مع حق الله تعالى، وأن مَنْ تركها أخلَّ بحق جميع المسلمين من مضى ومن يجيىء إلى يوم القيامة؛ لوجوب قوله فيها: "السَّلامُ علينا وعلى عبادِ اللهِ الصالحين". رجاله أربعة: قد مرّوا، مرّ أبو نعيم في الخامس والأربعين من الإِيمان، ومرّ الأعمش في الخامس والعشرين منه، ومرّ شقيق بن سلمة في الحادي والأربعين منه، ومرّ عبد الله بن مسعود في أثر أوله قبل ذكر حديث منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، ورجاله كلهم كوفيون. أخرجه البخاري في الصلاة أيضًا عن قبيصة وغيره. وأخرجه مسلم في الصلاة وكذا أبو داود والتِّرمِذِيّ والنَّسائيّ وابن ماجه. ثم قال المصنف: باب الدعاء قبل السلام أي: بعد التشهد هذا الذي يتبادر من ترتيبه لكن قوله في الحديث كان يدعو في الصلاة لا تقييد فيه بما بعد التشهد، وأجاب الكرماني فقال: من حيث إن لكل مقام ذكرًا مخصوصًا فتعيّن

أن يكون محلّه بعد الفراغ من الكل وهو آخر الصلاة وفيه نظر؛ لأن التعيين الذي ادّعاه لا يختص بهذا المحل لورود الأمر بالدعاء في السجود، فكما أن للسجود ذكرًا مخصوصًا ومع ذلك أمر فيه بالدعاء، فكذلك الجلوس في آخر الصلاة له ذكر مخصوص وأمر فيه مع ذلك بالدعاء إذا فرغ منه. وأيضًا فإن هذا هو ترتيب البخاري لكنه مطالب بدليل اختصاص هذا المحل بهذا الذكر، ولو قطع النظر عن ترتيبه لم يكن بين الحديث والترجمة منافاة؛ لأن قبل السلام يصدق على جميع الأركان، وبذلك جزم الزين بن المنير وأشار إليه النووي فقال: استدلال البخاري صحيح؛ لأن قوله في صلاتي في حديث أبي بكر يعم جميعها، ومن مظانَّه هذا الموطن، ويحتمل أن يكون سؤال أبي بكر عن ذلك الآتي في الحديث كان عند قوله لما علمهم التشهد، ثم ليختر من الدعاء ما شاء. ومن ثم أعقب المصنف الترجمة بذلك. وقال ابن دقيق العيد في الكلام على حديث أبي بكر وهو ثاني حديثي الباب: هذا يقتضي الأمر بهذا الدعاء في الصلاة من غير تعيين محلّه، ولعل الأول أن يكون في أحد موطنين: السجود أو التشهد؛ لأنهما أمر فيهما بالدعاء، ولعلة ترجح كونهِ فيما بعد التشهد لظهور العناية بتعليم دعاء مخصوص في هذا المحل ونازعه الفاكهاني فقال: الأولى الجمع بينهما في المحلين المذكورين أي السجود والتشهد والذي يظهر أن البخاري أشار إلى ما ورد في بعض الطرق من تعيينه بهذا المحل ففي بعض طرق حديث ابن مسعود بعد ذكر التشهد، ثم ليختر من الدعاء ما شاء وسيأتي البحث فيه قريبًا. وقد أخرج ابن خزيمة عن ابن جريج عن عبد الله بن طاووس عن أبيه أنه كان يقول بعد التشهد كلمات يعظمهن جدًا قلت: في المثنى كليهما؟ قال: بل في التشهد الأخير. قلت: ما هي؟ قال: "أعوذُ باللهِ من عذابِ القبرِ" الحديث. قال ابن جريج أخبرنيه عن أبيه عن عائشة مرفوعًا ولمسلم عن أبي هريرة مرفوعًا "إذا تشهد أحدكم فليقل". فذكر نحوه، وله من وجه آخر: "إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير" فذكره وصرّح بالتحديث في جميع الإِسناد، فهذا فيه تعيين هذه الاستعاذة بعد الفراغ من التشهد فيكون سابقًا على غيره من الأدعية، وما ورد الإِذن فيه أن المصلي يتخير من الدعاء ما شاء يكون بعد هذه الاستعاذة وقبل السلام.

الحديث الحادي والمئة

الحديث الحادي والمئة حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنَا عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلاَةِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَفِتْنَةِ الْمَمَاتِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ. فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنَ الْمَغْرَمِ؟ فَقَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ. وَعَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَسْتَعِيذُ فِي صَلاَتِهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ. قوله: "من عذاب القبر" فيه رد على مَنْ أنكره من المعتزلة وغيرهم وقد مرّ استيفاء الكلام عليه في باب الفتيا بإشارة اليد والرأس من كتاب العلم. وقوله: "من فتنة المسيح الدجال" قال أهل اللغة: الفتنة الامتحان والاختبار. قال عياض: واستعمالها في العرف لكشف ما يكره، وتطلق على القتل والإِحراق والنميمة وغير ذلك. والمَسيح بفتح الميم وتخفيف المهملة المسكورة وآخره حاء مهملة يطلق على (الدَّجَّال) وعلى عيسى بن مريم -عليه السلام- لكن إذا أريد الدجال قُيّد به. وقال أبو داود في "السنن": "المسيح" مثقل الدجال ومخفف عيسى، والمشهور الأول وأما ما نقل الفربري في رواية المستملي وحده عنه عما خلف بن عامر الهمداني أحد الحفاظ أن "المسيح" بالتشديد والتخفيف واحد يقال لعيسى -عليه السلام- وللدّجال وأنه لا فرق بينهما بمعنى لا اختصاص لأحدهما بأحد الأمرين، فهو رأي ثالث. وقال الجوهري: مَنْ قاله بالتخفيف فلمسحه الأرض، ومَنْ قاله بالتشديد فلكونه ممسوح العين، وحكى بعضهم أنه قال بالخاء المعجمة في الدّجال ونسب قائله إلى التصحيف في تلقيب الدّجال بذلك فقيل: لأنه ممسوح العين وقيل: لأن أحد شقي وجهه خلق ممسوحًا لا عين فيه ولا حاجب، وقيل: لأنه يمسح الأرض إذا خرج. وقيل: لأن الخير مُسح منه فهو مسيح الضلالة، وسمي الدّجال لأنه خدّاع ملبس من الدجل وهو الخلط، ويقال الطلي والتغطية ومنه البعير المدجل أي: المدهون بالقطران، ودجلة نهر ببغداد سميت بذلك؛ لأنها تغطي الأرض بمائها وهذا المعنى أيضًا في الدّجال؛ لأنه يغطي الأرض بكثرة أتباعه أو يغطي الحق بباطله. وقيل: لأنه مطموس العين من قولهم دجل الأثر إذا عفا ودرس، وقيل من

دجل أي: كذب والدّجال الكذاب. وأما عيسى فقيل سمي المسيح لأنه خرج من بطن أُمه ممسوحًا بالدهن، وقيل لأن زكرياء مسحه، وقيل لأنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برىء، وقيل لأنه كان يمسح الأرض بسياحته، وقيل لأن رجله كانت لا أخمص لها، وقيل للبسه المسوح وهو بالعبرانية ما شيخا فعرب المسيح، وقيل المسيح الصديق. وذكر مجد الدين صاحب "القاموس" أنه جمع في سبب تسمية عيسى بذلك خمسين قولًا أوردها في "شرح المشارق". وقول: "فتنة المحيا وفتنة الممات" قال ابن دقيق العيد: فتنة المحيا ما يعرض للإِنسان مدة حياته من الافتتان بالدنيا والشهوات والجهالات وأعظمها والعياذ بالله أمر الخاتمة عند الموت. وفتنة الممات يجوز أن يراد بها الفتنة عند الموت أضيفت إليه لقربها منه، ويكون المراد بفتنة المحيا على هذا ما قبل ذلك ويجوز أن يراد بها فتنة القبر، وقد صح في حديث أسماء الماضي في كتاب العلم: "أنكم تفتنونَ في قبورِكم مثلَ أو قريبًا من فتنةِ الدَّجالِ". ولا يكون مع هذا متكررًا مع قوله عذاب القبر؛ لأن العذاب مرتب على الفتنة والسبب غير المسبب، وقيل أراد "بفتنة المحيا" الابتلاء مع زوال الصبر وبفتنة الممات السؤال في القبر مع الحيرة، وهذا من العام بعد الخاص؛ لأن عذاب القبر داخل تحت فتنة الممات وفتنة الدَّجال داخلة تحت فتنة المحيا. وأخرج الحكيم الترمذي في "نوادر الأُصول" عن سفيان الثوري: "أنَّ الميتَ إذا سُئِلَ مَنْ ربُّكَ تراءى له الشيطانُ فيشيرُ إلى نفسِهِ أنّي أنا ربُّك"؛ فلهذا ورد سؤال التثبيت حين يسأل. ثم أخرج بسند جيد إلى عمرو بن مرة كانوا يستحبون إذا وضع الميت في القبر أن يقولوا اللهم أعذه من الشيطان. وقوله: "والمغرم" أي: الدين يقال غرِم بكسر الراء أي: أدان. قيل والمراد به ما يستدان فيما لا يجوز أو فيما يجوز، ثم يعجز عن أدائه، ويحتمل أن يراد به ما هو أعم من ذلك وقد استعاذ -صلى الله عليه وسلم- من غلبة الدين وقال القرطبي: المغرم الغرم وقد نبه في الحديث على الضرر اللاحق من المغرم، وإنما استعاذ منه لأنه يشين في الدنيا والآخرة. وعن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "الدينُ رايةُ اللهِ في الأرض، فإذا أرادَ اللهُ أنْ يذلَ عبدًا وضعَهُ في عُنقِهِ". رواه الحاكم وقال صحيح على شرط مسلم. وما في الحديث من التعوذ من المغرم يعارضه ما رواه جعفر بن محمد عن أبيه عن عبد الله بن جعفر يرفعه أن الله تعالى مع المدين حتى يقضى دينه ما لم يكن فيما يكرهه الله تعالى. وكان ابن جعفر يقول لخادمه: اذهب فخذ لي بدين فإني أكره أن أبيتَ الليلة إلا والله معي. قال الطبراني: وكلا الحديثين صحيح ويجمع بينهما بأن يكون الحديث فيمن استدان من غير حاجة طمعًا في مال أخيه ونحو ذلك. وحديث جعفر فيمن يستدين لاحتياجه احتياجًا شرعيًا ونيته القضاء، وإن لم يكن له سبيل إلى القضاء في ذلك الوقت؛ لأن الأعمال بالنيّات ونيّة المؤمن خيرٌ من عمله.

رجاله خمسة

وقوله: "فقال له قائل" يأتي في السند أن القائل هو عائشة، وقوله: "ما أكثر" أي: بفتح الراء على التعجب. وقوله: "إذا غرم" بكسر الراء. وقوله: "ووعد فأخلف" كذا للأكثر. وفي رواية الحموي: "وإذا وعد أخلف"، والمراد أن ذلك شأن من يستدين غالبًا. وقوله: "وعن الزهري" الظاهر أنه معطوف على الإسناد المذكور فكأن الزهري حدث به مطولًا ومختصرًا لكن قال في "الفتح" لم أرَ في شيء من المسانيد والمستخرجات من طريق شعيب عنه إلا مطولًا، ورأيته باللفظ المختصر المذكور سندًا ومتنًا عند المصنف في كتاب "الفتن" عن صالح بن كيسان عن الزهري. وكذلك أخرجه مسلم عن صالح وقد استشكل دعاؤه -صلى الله عليه وسلم- بما ذكر مع أنه معصوم مغفور له ما تقدم وما تأخر وأجيب بأجوبة أحدها: أنه قصد التعليم لأُمته. ثانيها: أن المراد السؤال منه لأُمته، فيكون المعنى هنا أعوذ بك لأُمتي. ثالثها: سلوك طريق التواضع وإظهار العبودية وإلزام خوف الله تعالى وإعظامه والافتقار إليه وامتثال أمره في الرغبة إليه، ولا يمتنع تكرار الطلب مع تحقق الإجابة؛ لأن ذلك يحصل الحسنات ويرفع الدرجات، وفيه تحريض لأُمته على ملازمة ذلك؛ لأنه إذا كان مع تحقق المغفرة لا يترك التضرع فمن لم يتحقق ذلك أحرى بالملازمة. وأما الاستعاذة من فتنة الدّجال مع تحققه أنه لا يدركه فلا إشكال فيه على الوجهين الأولين، وقيل على الثالث يحتمل أن يكون ذلك قبل تحقق عدم إدراكه. ويدل عليه قوله في الحديث الآخر عند مسلم أن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه الحديث، ويأتي الكلام على ما يدعى به عند قوله في حديث الباب الذي بعده ثم ليختر من الدعاء أعجبه إليه. رجاله خمسة: وفيه ذكر محمد بن يوسف وخلف بن عامر، ولفظ قائل مبهم وقد مرّ الجميع، مرّ أبو اليمان وشعيب في السابع من بدء الوحي، ومرّ الزهري في الثالث منه، ومرّ عروة وعائشة في الثاني، ومرّ محمد بن يوسف الفربري في العاشر من العلم. وأما خلف بن عامر فقد قال في "تهذيب التهذيب" شيخ للفربري حكى عنه في صفة الصلاة في الصحيح، وليس له تعريف غير هذا، وأما القائل المبهم فقد قال في "الفتح" إن في رواية النَّسائيّ أن السائل عن ذلك عائشة ولفظها فقلت: "يا رسولَ اللهِ ما أكثرَ ما تستعيذُ إلخ" وعائشة قد مرّت الآن. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإخبار بالجمع والإِفراد والعنعنة والقول ورواية التابعي عن التابعي عن الصحابية، والاثنان الأولان من الرواة حمصيان والآخران مدنيان. أخرجه البخاري أيضًا في الاستقراض عن أبي اليمان ومسلم في الصلاة وكذا أبو داود والنَّسائيّ.

الحديث الثاني والمئة

الحديث الثاني والمئة حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه. أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلاَتِي. قَالَ: قُلِ اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. مقتضى هذه الرواية أن الحديث من مسند الصديق -رضي الله تعالى عنه- وأوضح من ذلك رواية أبي الوليد الطيالسي عن الليث عن أبي بكر قال: "قلت: يا رسول الله" أخرجه عبد الرزاق. قلت: لم أر أيضًا ما في هذه الرواية عن رواية الباب وخالف عمرو بن الحارث الليث فجعله من مسند عبد الله بن عمرو ولفظه عن أبي الخير أنه سمع عبد الله بن عمرو يقول: إن أبا بكر قال للنبي -صلى الله عليه وسلم- هكذا رواه ابن وهب عن عمرو، ولا يقدح هذا الاختلاف في صحة الحديث. وقد أخرج المصنف طريق عمرو معلقة في الدعوات وموصولة في التوحيد. وأخرج مسلم الطريقين طريق الليث وطريق عمرو، وزاد مع عمرو بن الحارث رجلًا مبهمًا وبيّن ابن خزيمة في روايته أنه ابن لهيعة. وقوله: "ظلمت نفسي" أي: بملابسة ما يستوجب العقوبة أو ينقص الحظ، وفيه أن الإنسان لا يخلو عن تقصير ولو كان صديقًا. وقوله: "ظلمًا كثيرًا" أي: بالمثلثة، ويروى بالموحدة وكذا هو في رواية مسلم. قال النووي: فينبغي أن يقول "ظلمًا كبيرًا كثيرًا". وقوله: "ولا يغفِرُ الذنوبَ إلا أنت" فيه إقرار بالوحدانية واستجلاب للمغفرة. وهو كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} الآية، فأثنى على المستغفرين، وفي ضمن ثنائه عليهم بالاستغفار لوّح بالأمر به كما قيل إن كل شيء أثنى الله على فاعله، فهو آمر به وكل شيء ذم فاعله فهو ناه عنه، وقوله: "مغفرة من عندك" قال الطيبي: دلّ التنكير على أن المطلوب غفران عظيم لا يدرك كنهه ووضعه بكونه من عنده سبحانه وتعالى مريدًا لذلك العظم؛ لأن الذي يكون من عند الله لا يحيط به وصف. وقال ابن دقيق العيد: يحتمل وجهين: أحدهما: الإِشارة إلى التوحيد المذكور كأنه قال لا يفعل هذا إلا أنت فافعله لي أنت. والثاني: وهو أحسن أنه إشارة إلى طلب مغفرة متفضل بها لا يقتضيها سبب من العبد من عمل حسن ولا غيره، وبهذا الثاني جزم ابن الجوزي فقال: المعنى هب لي

رجاله ستة

المغفرة تفضلًا وإن لم أكن لها أهلًا بعملي. وقوله: "إنّك أنت الغفورُ الرحيم" هما صفتان ذكرتا ختمًا للكلام على جهة المقابلة لما تقدم، فالغفور مقابل لقوله اغفر لي، والرحيم مقابل لقوله ارحمني وهي مقابلة مرتبة. وفي الحديث استحباب التعليم من العالم خصوصًا في الدعوات المطلوب فيها جوامع الكلم، وفيه الاعتراف بالتقصير ونسبة الظلم إلى نفسه، وفيه الاعتراف بأن الله تعالى هو المتفضل المعطي من عنده رحمة على عباده من غير مقابلة عمل حسن، ولم يصرح بتعيين محل الدعاء وقد مرّ في أول الباب. رجاله ستة: قد مرّوا، مرّ قتيبة بن سعيد في الحادي والعشرين من الإِيمان, ومرّ يزيد بن أبي حبيب وأبو الخير في الخامس منه، ومرّ عبد الله بن عمرو بن العاص في الثالث منه، ومرّ الليث بن سعد في الثالث من بدء الوحي، ومرّ أبو بكر في باب "مَنْ لم يتوضأ من لحم الشاة والسويق" بعد الحادي والسبعين من الوضوء. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول ورجاله مصريون سوى طرفيه وفيه رواية تابعي عن تابعي وصحابي عن صحابي. أخرجه البخاري أيضًا في "الدعوات" عن عبد الله بن يوسف. ومسلم في "الدعوات" وكذا الترمِذِيّ وابن ماجه والنَّسائيّ في الصلاة وفي القنوت. ثم قال المصنف: باب ما يتخير من الدعاء بعد التشهد وليس بواجب قوله: "وليس بواجب" يشير إلى أن الدعاء السابق في الباب الذي قبله لا يجب وإن كان قد ورد بصيغة الأمر لقوله في آخر حديث التشهد في هذا الباب، ثم ليتخير والمنفي وجوبه يحتمل أن يكون الدعاء أي: لا يجب دعاء مخصوص، وهذا واضح مطابق للحديث وإن كان التخيير مأمورًا به ويحتمل أن يكون المنفي التخيير ويحمل الأمر الوارد به على الندب ويحتاج إلى دليل. قال ابن رشيد: ليس التخيير في آحاد الشيء بدال على عدم وجوبه، فقد يكون أصل الشيء واجبًا ويقع التخيير في وصفه. وادعى بعضهم الإجماع على عدم الوجوب، وفيه نظر فقد أخرج عبد الرزاق بإسناد صحيح عن طاووس ما يدل على أنه يرى وجوب الاستعاذة المأمور بها في حديث عائشة المذكور في الباب قبله، وذلك أنه سأل ابنه: "هل قالها بعد التشهد؟ فقال: لا، فأمره أن يعيد الصلاة". وبه قال بعض الظاهرية. وأفرط ابن حزم فقال بوجوبها في التشهد الأول أيضًا، وقال ابن المنذر لولا حديث ابن مسعود ثم ليختر من الدعاء لقلت بوجوبها.

الحديث الثالث والمئة

الحديث الثالث والمئة حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنِ الأَعْمَشِ حَدَّثَنِي شَقِيقٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا إِذَا كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي الصَّلاَةِ قُلْنَا السَّلاَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ عِبَادِهِ، السَّلاَمُ عَلَى فُلاَنٍ وَفُلاَنٍ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: لاَ تَقُولُوا السَّلاَمُ عَلَى اللَّهِ. فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلاَمُ، وَلَكِنْ قُولُوا التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ. فَإِنَّكُمْ إِذَا قُلْتُمْ أَصَابَ كُلَّ عَبْدٍ فِي السَّمَاءِ أَوْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنَ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إِلَيْهِ فَيَدْعُو. وقوله: "ثم ليخترْ من الدعاءِ أعجبه إليه فيدعو" زاد أبو داود عن مسدد شيخ البخاري فيه فيدعو به. ونحوه للنَّسائيّ بلفظ: "فليدعُ به". ولإسحاق عن الأعمش: "ثم ليتخيرْ من الدعاءِ ما أحبَّ". وفي رواية منصور عند المصنف في "الدعوات": "ثم ليتخيرْ من الثناءِ". ونحوه لمسلم بلفظ: "من المسألة". قال ابن المنير قوله: "ثم ليتخيرْ" وإن كانت بصيغة الأمر لكنها كثيرًا ما ترد للندب، ثم إن قوله: "ثم ليتخيرْ من الدعاء أعجبَهُ" شامل لكل دعاء مأثور وغيره مما يتعلق بالآخرة كقوله: "اللهمَّ أدخلني الجنةَ"، أو الدنيا مما يشبه كلام الناس كقوله: "اللَّهمَّ ارزقني زوجةً جميلةً ودراهمَ جزيلةً"، وبهذا أخذت المالكية والشافعية ما لم يكن إثمًا. وعند أبي حنيفة وأحمد لا يجوز الدعاء إلا بالأدعية المأثورة أو الموافقة للقرآن العظيم؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ صلاتَنا هذه لا يصلحُ فيها شيءٌ من كلام الناسِ إنّما هو التسبيحُ والتكبيرُ وقراءةُ القرآنِ" رواه مسلم وذكره ابن أبي شيبة عن أبي هريرةَ وطاووس ومحمد بن سيرين. واحتج الأولون بقوله عليه الصلاة والسلام: "سلوا الله تعالى حوائجَكُمْ حتى الشِّسْع لنعالِكُم والملحَ لقدورِكُم". وقال ابن عمر: "لأدعو في صلاتي حتى بشعير حماري وملحِ بيتي". ويمكن أن يُجاب عن حديث: "إنّ صلاتنا هذه" إلخ بأن المراد بالصلاحية لها ما يكون مطلوبًا فيها من فرائض أو سنن أو آداب كما يشعر به آخر الحديث. وقد استثنت الشافعية ما يقبح من أمر الدنيا قال في "الفتح": فإن أراد الفاحش من اللفظ فمحتمل وإلا فلا شك أن الدعاء بالأمور المحرمة مطلقًا لا يجوز، وهذا الاستثناء ذكره أبو عبد الله الأبي وعبارته: واستثنى بعض الشافعية من مصالح الدنيا ما فيه سوء أدب كقوله: "اللَّهمَّ أعطني امرأةً جميلةً ههنا كذا" ثم

يذكر أوصاف أعضائها. وقال ابن المنير الدعاء بأمور الدنيا في الصلاة خطر، وذلك أنه قد تلتبس عليه الدنيا الجائزة بالمحظورة فيدعو بالمحظورة فيكون عاصيًا متكلمًا في الصلاة فتبطل صلاته وهو لا يشعر، ألا ترى أن العامة يلتبس عليها الحق بالباطل، فلو حكم حاكم على عامي بحق فظنه باطلًا فدعا على الحاكم باطلًا بطلت صلاته. وتمييز الحظوظ الجائزة من المحرمة عسر جدًا، فالصواب أن لا يدعو بدنياه إلا على تثبت من الجواز، قلت: ابن المنير مالكي وظاهر كلامه هذا الجزم بأن المالكية تبطل عندهم الصلاة بالدعاء المحرم فيها، ومشهور مذهبهم هو أن الدعاء في الصلاة بالممتنع شرعًا أو عادة فنظر فيه عندهم، هل تبطل الصلاة به مطلقًا أو تبطل بالممتنع شرعًا لا عادة؟ والظاهر كما في "العدوي" صحة الصلاة مطلقًا سواء كان ممتنعًا عقلًا كالجمع بين الضدين أو عادة أو شرعًا، وقد يجوز الدعاء على الظالم بعزله كان ظالمًا له أو لغيره والأولى عدم الدعاء على مَنْ لم يعم ظلمه، فإن عمّ فالأولى الدعاء، وينهى عن الدعاء عليه بذهاب أولاده وأهله أو بالوقوع في معصية؛ لأن إرادة الوقوع في المعصية معصية أو بمؤلمات تحصل له فوق ما يستحقه. وفي جواز الدعاء بسوء الخاتمة قولان الراجح كما قاله ابن ناجي وغيره المنع خلافًا للبرزلي. قلت: المنع هو مقتضى ما مرّ من حرمة الدعاء بالوقوع في المعصية، فإن سوء الخاتمة أشد المعاصي؛ لأنه كفر فلا يجوز الدعاء به قطعًا، لكن التقييد بمن لم يعم ظلمه لا يحتاج إليه في هذا الزمان؛ لأن الحكام في هذا الزمان ابتداء تحكيمهم مبني على الظلم والقوانين الكفرية، فكل مَنْ دخل في حكم كان ظلمه عامًا. وقد استدل البيهقي على جواز الدعاء بغير المأثور بقوله في حديث الباب المتفق عليه "ثم ليتخيرْ من الدعاءِ أعجبَهُ إليه فيدعو به"، وبحديث أبي هريرة رفعه "إذا فرغَ أحدُكم من التشهدِ فليعوذْ باللهِ" الحديث وفي آخره "ثم ليدعو لنفسِهِ بما بدا له"، هكذا أخرجه البيهقي وأصل الحديث في "مسلم" وهذه الزيادة صحيحة؛ لأنها من الطريق التي أخرجها مسلم، والحديث راد على ابن سيرين في قوله: "لا يدعو في الصلاة إلا بأمر الآخرة" وقد ورد فيما يقال بعد التشهد أخبار من أحسنها ما رواه سعيد بن منصور وأبو بكر بن أبي شيبة عن عمر بن سعد قال: كان عبد الله بن مسعود يعلمنا التشهد في الصلاة ثم يقول: "إذا فرغ أحدُكم من التشهدِ فليقلْ: اللَّهُمَّ إني أسألُكَ من الخير كلَّهِ ما علمتُ مِنْهُ وما لم أعلمْ وأعوذُ بكَ من الشر كلَّهِ ما علمتُ مِنْهُ وما لم أعلمْ. اللَّهُمَّ إنّي أسألُكَ من خيرِ ما سألَكَ مِنْهُ عبادُكَ الصالحونَ وأَعوذُ بكَ من شرّ ما استعاذَكَ منه عبادُكَ الصالحونَ. ربَّنا آتِنا في الدنيا حسنةً" الآية. قال ويقول: لم يدع نبي ولا صالح بشيء إِلا دخل في هذا الدعاء، وهذا من المأثور غير مرفوع وليس هو مما ورد في القرآن. وقد قال الشافعي بوجوب الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد التشهد وادعى أبو الطيب الطبري من اتباعه والطحاوي وآخرون أنه لم يسبق إلى ذلك، واستدلوا على نّدبيتها بحديث الباب مع دعوى الإجماع وفيه نظر؛ لأنه ورد عن أبي جعفر الباقر والشعبي وغيرهما ما يدل على الوجوب، وأعجب من ذلك أنه صح عن ابن مسعود راوي

الحديث ما يقتضيه، فعند سعيد بن منصور وأبي بكر بن أبي شيبة والحاكم بإسناد صحيح عن أبي الأحوص قال: قال عبد الله: يتشهد الرجل في الصلاة ثم يصلي على النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم يدعو لنفسه بعد، قلت: ليس فيما ذكر دلالة على وجوب الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- فالحديث إنما يدل على مطلق الطلب، ومن لم يوجبها من العلماء تطلب عنده. فعند المالكية فيها قولان: هل تسن، أو تندب؟ وقد وافق الشافعي أحمد في إحدى الروايتين عنه وبعض المالكية، فقد ذكر ابن الحاجب الصلاة عليه -صلى الله عليه وسلم- في سنن الصلاة ثم قال على الصحيح فقال شارحه ابن عبد السلام يريد أن في وجوبها قولين، وهو ظاهر كلام ابن المواز منهم. وقال إسحاق بن راهويه بالوجوب أيضًا، لكن قال: إن تركها ناسيًا رجوت أن يجزئه. فقيل: إن له في المسألة قولين كأحمد، وقيل بل كان يراها واجبة لا شرطًا وألزم بعض الشافعية من قال من الحنفية بوجوب الصلاة عليه كلما ذكر كالطحاوي. ونقله السروجي في "شرح الهداية" عن أصحاب "المحيط" و"العقد" و"التحفة" و"المغيث" من كتبهم أن يقولوا بوجوبها في التشهد لتقدم ذكره في آخر التشهد، لكن لهم أن يلتزموا ذلك لكن لا يجعلونه شرطًا في صحة الصلاة، ومنهم من قيد تفرد الشافعي بكونه عيّنها بعد التشهد لا قبله ولا فيه حتى لو صلَّى على النبي -صلى الله عليه وسلم- في أثناء التشهد لم يجزىء عنده. فقد روى الطحاوي أن حرملة انفرد عن الشافعي بإيجاب ذلك بعد التشهد وقبل سلام التحلل. قال: لكن أصحابه قبلوا ذلك وانتصروا له وناظروا عليه. واستدل له ابن خزيمة ومن معه بما أخرجه أبو داود والنَّسائيُّ والتِّرمِذِيّ وصححه، وكذا ابن خزيمة وابن حِبّان والحاكم عن فضالة بن عبيد قال: "سمعَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- رجلًا يدعو في صلاتهِ لمْ يحمدِ اللهَ، ولم يصلِّ على النَّبيِّ فقال: عجل هذا ثم دعاه، فقال: إذا صلَّى أحدُكُم فليبدأ بتحميد ربِّهِ والثناءِ عليه، ثم يصلي على النَّبيِّ ثم يدعو بما شاء". وهذا يدل على أن قول ابن مسعود المار قريبًا مرفوع، فإنه بلفظه وقد طعن ابن عبد البر في الاستدلال بحديث فضالة للوجوب فقال: لو كان كذلك لأمر المصلي بالإعادة كما أمر المسيء صلاته، وكذا أشار إليه ابن حزم وأجيب باحتمال أن يكون الوجوب وقع عند فراغه، ويكفي التمسك بالأمر في دعوى الوجوب. وقال الجرجاني من الحنفية: لو كانت فرضًا للزم تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ لأنه علمهم التشهد، وقال: "فليتخيرْ من الدعاءِ ما شاءَ" ولم يذكر الصلاة عليه، وأجيب باحتمال أن لا تكون فرضت حينئذ. وقال البلقيني في "شرح الترمذي" قد ورد هذا في "الصحيح" بلفظ: "ثم ليتخيرْ" وثم للتراخي فدل على أنه كان هناك شيء بين الدعاء والتشهد، واستدل بعضهم بما وقع من الزيادة عن ابن مسعود فيما أخرجه أصحاب "السنن" وصححه الترمذي وابن خزيمة والحاكم عن محمد بن إسحاق بلفظ: "فكيفَ نصلي عليكَ إذا نحنُ صلَّينا عليكَ في صلاتنا؟ " وقال الدارقطني: إسناده حسن متصل. وقال البيهقي: إسناده حسن صحيح، وتعقبه ابن التركماني بأنه قد قال الحفاظ: يتوقون ما ينفرد به ابن إسحاق وهذه الزيادة قد تفرد بها, لكن قال في "الفتح": ما ينفرد به وإن لم

يبلغ درجة الصحيح فهو في درجة الحسن إذا صرّح بالتحديث وهو هنا كذلك، وإنما يصححه من لا يفرق بين الصحيح والحسن ويجعل كلما يصلح للحجة صحيحًا. وهذه طريقة ابن حِبّان ومن ذكر معه واستدلال ابن خزيمة والبيهقي بهذه الزيادة على إيجاب الصلاة عليه -صلى الله عليه وسلم- في التشهد بعد التشهد وقبل السلام متعقب بأنه لا دلالة فيه على ذلك، بل إنما يفيد إيجاب الإتيان بهذه الألفاظ على مَنْ صلّى على النبيِّ -عليه الصلاة والسلام- في التشهد وعلى تقدير أن يدل على إيجاب أصل الصلاة، فلا يدل على هذا المحل المخصوص. قلت: هذه الزيادة ليس فيها شيء يدل على أصل الوجوب، بل غاية ما فيها أنها تدل على طلب الصلاة عليه -صلى الله عليه وسلم- في الصلاة. قال في "الفتح": وقرب البيهقي ذلك بأن الآية أي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} لما نزلت. وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد علمهم كيفية السلام عليه في التشهد، والتشهد داخل الصلاة فسألوا عن كيفية الصلاة فعلّمهم دل على أن المراد بذلك إيقاع الصلاة عليه في التشهد بعد الفراغ من التشهد الذي تقدم تعليمه لهم. وأما احتمال أن يكون ذلك خارج الصلاة كما قال عياض وغيره فهو بعيد. قلت: لم يظهر لي وجه بعده فإن اللفظ محتمل للأمرين على حد السواء. وقرر بعضهم الاستدلال بأن الصلاة عليه واجبة بالإِجماع وليست الصلاة عليه خارج الصلاة واجبة بالإِجماع فتعين أن تجب في الصلاة. وهذا ضعيف جدًا؛ لأن قوله لا تجب في غير الصلاة بالإجماع إن أراد به عينًا، فهو صحيح لكن لا يفيد المطلوب؛ لأنه يفيد أن تجب في أحد الموضعين لا بعينه، والذي قاله الشافعي في "الأُم": فرض الله الصلاة على رسوله بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} فلم يكن فرض الصلاة عليه في موضع أولى منه في الصلاة. قال: ووجدنا الدلالة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي هريرة أنه قال: "يا رسولَ اللهِ كيفَ نُصلِّي عليكَ -يعني في الصلاة- قال: تقولون: اللَّهُمَّ صَلِّ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ كما صليتَ على إبراهيمَ" الحديث. وفي حديث كعب بن عجرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يقول في الصلاة: "اللَّهُمَّ صلِّ على محمدٍ وآلِ محمد كما صليتَ على إبراهيمَ وآلِ إبراهيمَ" الحديث. قال: فلما روى أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان يعلمهم التشهد في الصلاة، وروي عنه أنه علمهم كيف يصلون عليه في الصلاة لم يَجُزْ أن نقول التشهد في الصلاة واجب، والصلاة عليه فيه غير واجبة. وقد تعقب بعض المخالفين هذا الاستدلال من أوجه: أحدها: ضعف إبراهيم بن أبي يحيى الراوي عنه الحديثين. الثاني: على تقدير صحته فقوله في الأول يعني في الصلاة لم يصرح بقائل يعني فهو مجهول. الثالث: قوله في الثاني إنه كان يقول في الصلاة وإن كان ظاهره أن الصلاة المكتوبة، لكنه يحتمل أن يكون المراد بقوله في الصلاة أي في صفة الصلاة عليه وهو احتمال قوي؛ لأن أكثر الطرق عن كعب بن

رجاله خمسة

عجرة تدل على أن السؤال وقع عن صفة الصلاة لا عن محلها. الرابع: ليس في الحديث ما يدل على تعين ذلك في التشهد خصوصًا بينه وبين السلام من الصلاة، وقد أطنب قوم في نسبة الشافعي في ذلك إلى الشذوذ منهم أبو جعفر الطبري وأبو جعفر الطحاوي كما مرّ عنهما وأبو بكر بن المنذر والخطابي، وأورد عياض في "الشفاء" مقالاتهم وعاب عليه ذلك غير واحد؛ لأن موضوع كتابه يقتضي تصويب ما ذهب إليه الشافعي؛ لأنه من جملة تعظيم المصطفى -عليه الصلاة والسلام- وقد استحسن هو القول بطهارة فضلاته مع أن أكثر على خلافه، لكنه استجاده لما فيه من الزيادة في تعظيمه. قلت: هذا الاعتراض فيه على القاضي عياض؛ لأن كتابه وإن كان موضوعه تعظيم المصطفى -عليه الصلاة والسلام- لم يأتِ فيه إلا بما ثبت من تعظيمه بالأدلة الثابتة عنده، فلم يأت فيه بتعظيم لا دلالة عليه. وما قاله من طهارة فضلاته -عليه الصلاة والسلام- قاله غيره من أئمة المالكية والشافعية وكذلك غيره من جميع الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-. وانتصر ابن القيم للشافعي فقال: قد أجمعوا على مشروعية الصلاة عليه في التشهد، وإنما اختلفوا في الوجوب والاستحباب وفي تمسك من لم يوجبه بعمل السلف الصالح نظر؛ لأن عملهم كان بوفاقه إلا إن كان يريد بالعمل الاعتقاد فيحتاج إلى نقل صريح عنهم بأن ذلك ليس بواجب، وأنى يوجد ذلك؟ وأما قول عياض إن الناس شنعوا على الشافعي فلا معنى له، فأي شناعة في ذلك؟ لأنه لم يخالف نصًا ولا إجماعًا ولا قياسًا ولا مصلحة راجحة، بل القول بذلك من محاسن مذهبه واستدلوا بما رواه الترمِذِيّ عن عمر موقوفًا: "الدعاءُ موقوفٌ بين السماءِ والأرض لا يصعدُ منهُ شيءٌ حتى يُصَلَّى على النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-". وقال ابن العربي: ومثل هذا لا يقال من قِبل الرأَي فله حكم الرفع، وورد له شاهد مرفوع في جزء الحسن بن عرفة. وأخرج العمري في "عمل يوم وليلة" عن ابن عمر بسند جيد قال: "لا تكونُ صلاة إلا بقراءةٍ وتشهدٍ وصلاةٍ عليه. وأخرج البيهقي في "الخلافيات" عن الشعبي قال: "مَنْ لم يصلِّ على النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- في التشهدِ فَلْيُعِدْ صلاَتَهُ". وأخرج الطبري بسند صحيح عن مطرف بن عبد الله بن الشخير قال: "كنا نُعَلَّمُ التشهدَ، فإذا قالَ وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ يحمدُ ربَّهُ ويثني عليهِ ثم يصلِّي على النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- ثم يسألُ حاجَتَهُ". وقد مرّ من وافقه من فقهاء الأمصار هذا ملخص ما ذكره في "الفتح" من حجج الشافعية على وجوب الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد التشهد الأخير من الصلاة، ولم أرَ لهم دليلًا دالًا على الوجوب ينشرح له الصدر والله تعالى أعلم. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ مسدد ويحيى بن سعيد في السادس من الإيمان, ومرّ الأعمش في الخامس

باب من لم يمسح جبهته وأنفه حتى صلى

والعشرين منه، ومرّ شقيق في الحادي والأربعين منه، ومرّ ابن مسعود أوله قبل ذكر حديث منه في أثر، وهذا الحديث قد مرّ قريبًا في المئة، ومرّ ما فيه هناك. ثم قال المصنف: باب مَنْ لم يمسح جبهته وأنفه حتى صلى قال أبو عبد الله: رأيت الحميدي يحتج بهذا الحديث: "أن لا يمسح الجبهةَ في الصلاةِ". قال الزين بن المنير ما حاصله: ذكر البخاري المستدل ودليله، ووكل الأمر فيه لنظر المجتهد هل يوافق الحميدي أو يخالفه، وإنما فعل ذلك لما يتطرق إلى الدليل من الاحتمالات؛ لأن بقاء أثر الطين لا يستلزم نفي مسح الجبهة إذ يجوز أن يكون مسحها وبقي الأثر بعد المسح، ويحتمل أن يكون ترك المسح ناسيًا أو تركه عامدًا لتصديق رؤياه، أو لكونه لم يشعر ببقاء أثر الطين في جبهته، أو لبيان الجواز أو لأن ترك المسح أولى؛ لأن المسح عمل وإن كان قليلًا. وإذا تطرقت هذه الاحتمالات لم ينهض الاستدلال لاسيما وهو فعل من الجبلِّيات لا من القُرَب. وقوله بهذا الحديث أي حديث الباب وفيه إشارة إلى أنه يوافقه على ذلك ومن ثم لم يتعقبه. ومن احتج به على المنع جملة لم يسلم من الاعتراض، والترك أولى. وأبو عبد الله المراد به البخاري نفسه والحميدي شيخه قد مرّ في أول حديث من بدء الوحي.

الحديث الرابع والمئة

الحديث الرابع والمئة حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ فَقَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَسْجُدُ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الطِّينِ فِي جَبْهَتِهِ. قوله: "حتى رأيتُ أثرَ الطين" هو محمول على أثر خفيف لا يمنع مباشرة الجبهة للسجود، وقد مرّ استيفاء الكلام على هذا الحديث في باب "السجود على الأنف في الطين". رجاله خمسة: مرّوا، مرّ مسلم بن إبراهيم وهشام الدستوائي في السابع والأربعين من الإِيمان, ومرّ أبو سعيد في الثاني عشر منه، ومرّ يحيى بن أبي كثير في الثالث والخمسين من العلم، ومرّ أبو سلمة في الرابع من بدء الوحي. ثم قال المصنف: باب التسليم أي: من الصلاة، قيل لم يذكر المؤلف حكمه لتعارض الأدلة عندي في الوجوب وعدمه كما يأتي قريبًا.

الحديث الخامس والمئة

الحديث الخامس والمئة حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ هِنْدٍ بِنْتِ الْحَارِثِ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا سَلَّمَ قَامَ النِّسَاءُ حِينَ يَقْضِى تَسْلِيمَهُ، وَمَكَثَ يَسِيرًا قَبْلَ أَنْ يَقُومَ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَأُرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ مُكْثَهُ لِكَيْ يَنْفُذَ النِّسَاءُ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُنَّ مَنِ انْصَرَفَ مِنَ الْقَوْمِ. قوله: "قام النساء حين يقضي"، ولابن عساكر "حتى يقضي" أي: يتم تسليمه ويفرغ منه. وقوله: "فأُرى" بضم الهمزة أي: أظن. وقوله: "لكي ينفُذ النساء" بفتح المثناة التحتية وضم الفاء آخره ذال معجمة أي: يخرجن. وقوله: "قبل أن يدركهن" أي: بنون النسوة، ولأبي ذرٍ في نسخة "قبل أن يدركهم". وقوله: "مَنْ انصرفَ من القوم" أي: المصلين، وموضع الترجمة قوله كان إذا سلم، ويمكن أن تستنبط الفرضية من التعبير بلفظ كان المشعر بتحقق مواظبته عليه الصلاة والسلام على ذلك وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "صلُّوا كما رأيتموني أُصلِّي". وبفرضية التسليم قال مالك والشافعي وأحمد وأصحابهم: إذا انصرف المصلي من صلاته بغير لفظ التسليم فصلاته باطلة. حتى قال النووي: ولو اختل حرف من حروف السلام عليكم لم تصح صلاته. واحتجوا بما أخرجه أبو داود والترمِذِيّ، وقال هذا أصَحُ شيء في هذا وأحسن وابن ماجه والحاكم في "مستدركه"، وقال صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه عن علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- قال: "قال رسول اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مفتاحُ الصلاةِ الطهورُ وتحريمُها التكبيرُ، وتحليلُها التسليمُ". وذهب عطاء بن أبي رباح وسعيد بن المسيب وقتادة وأبو حنيفة وصاحباه وابن جرير الطبري إلى أن التسليم ليس بفرض حتى لو تركه لا تبطل صلاته؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا قعدَ الإمامُ في آخر صلاتِهِ ثم أحدثَ قبلَ أن يسلمَ، فقد تمتْ صلاتُهُ". قال ابن حجر هذا الحديث ضعفه الحفاظَ، واستدلوا أيضًا بما رواه الجماعة بطرق متعددة وألفاظ مختلفة عن ابن مسعود: "أنَّ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- صلَّى الظهرَ خمسًا، فلما سلَّمَ أخبر بصنيعه فثنى رجلَهُ فسجَد سجدتين". ففي هذا الحديث أنه أدخل في الصلاة ركعة من غيرها قبل السلام، ولم يرد ذلك مفسدًا للصلاة، فدل ذلك أن السلام ليس من أصلها ولو كان واجبًا كوجوب السجدة في الصلاة لكان حكمه أيضًا كذلك،

ولكنه بخلافه فهو سنة. قلت: لا دليل لهم في هذا الحديث؛ لأن السلام لم يترك وإنما أُخر عن محله نسيانًا، وكذلك كل ركن إذا ترك نسيانًا يتدارك بالإِتيان به. وأجاب الطحاوي عن حديث تحليلها التسليم بأنه من الآحاد، فلا يثبت به الفرض، وأورد عليه إثبات فرضيته تكبيرة الإحرام بالآحاد، وأجابوا عن ذلك بأن فرضية التكبير في أول الصلاة وهو قوله تعالى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}. غاية ما في الباب أن الحديث يكون بيانًا لما يراد من النص، والبيان به يصح كما في مسح الرأس. قلت: غير خافٍ أن ما ذكروه في معنى الآيتين غير متحتم، بل لهما تأويل غير ذلك ولاسيما الأخيرة ولم يذكر في الحديث عدد التسليم، وقد اختلف العلماء فيه فذهب عمر بن عبد العزيز والحسن البصري وابن سيرين ومالك والأوزاعي إلى أن التسليم في آخر الصلاة مرة واحدة. وروي عن عائشة وابن عمر وأنس واستدلوا بالحديث المار قريبًا: "تحريمُها التكبيرُ وتحليلُها التسليمُ" فحيث كان التحريم حاصلًا بالإجماع بتكبيرة واحدة كذلك التحليل يحصل بتسليمة واحدة فأي فرق بينهما؟ بل لو كان بينهما فرق لكان التكبير أولى بالتكرير؛ لأنه دخول في الشيء، والدخول آكد من الخروج؛ ولأجل هذا لم توجب الحنفية السلام كما مرّ قريبًا. واحتجوا أيضًا بحديث عائشة المروي في "السنن": "أنه -صلى الله عليه وسلم- كانَ يسلمُ تسليمةً واحدةً السَّلامُ عليكم يرفعُ بها صوتَهُ حتى يوقظنا بها". وأخذ الشافعي وأبو حنيفة وصاحباه والثوري والشعبي وإسحاق وابن المنذر بأن التسليم في آخر الصلاة اثنتان: مرة عن يمينه، ومرّة عن شماله. وروى عن أبي بكر وعلي وابن مسعود وعمّار -رضي الله تعالى عنهم- واحتجوا بما رواه مسلم من حديث ابن مسعود وسعد بن أبي وقاص أنه كان يسلم تسليمتين: تسليمة عن يمينه، وتسليمة عن يساره، بل ذكرهما الطحاوي من حديث ثلاثة عشر صحابيًا وزاد غيره سبعة، وأجابوا عن حديث عائشة بأنه معلول كما ذكره العُقيلي وابن عبد البر، وبأنه في قيام الليل والذين رووا عنه التسليمتين رووا ما شهدوه في الفرض والنفل. وحديث عائشة ليس صريحًا في الاقتصار على تسليمة واحدة بل أخبرت أنه كان يسلم تسليمة يوقظهم بها ولم تنفِ الأخرى؛ بل سكتت عنها وليس سكوتها عنها مقدمًا على رواية من حفظها وضبطها وهم أكثر عددًا وأحاديثهم أصح. قلت: انظر كيف يصح هذا الكلام مع أن عائشة مصرحة في حديثها السابق بلفظ: "تسليمة واحدة" فأي صريح بعد لفظ واحدة؟ وأجاب مالك ومن معه عن حديث سعد بن أبي وقاص بأنه وهم، وإنما الحديث كما رواه ابن المبارك بسنده عنه "أنه -صلى الله عليه وسلم- كانَ يسلِّمُ عن يمينِهِ ويسارِهِ". وهذا اللفظ ليس صريحًا في تسليمتين، بل معناه أنه كان يسلِّم تارة عن يمينه، وتارة عن شماله، أي غير ملتزم للسلام على اليمين كما يدل عليه حديث ابن مسعود الآتي في باب "الانفتال والانصراف عن اليمين والشمال" فعلى هذا، لا يكون في الحديثين دليل على التسليمتين المذكورتين وفي

"المغني" لابن قدامة التسليم واجب لا يقوم غيره مقامه والواجب تسليمة واحدة والثانية سُنّة. وقال ابن المنذر أجمع العلماء على أن صلاة من اقتصر على تسليمة واحدة جائزة. وقال الطحاوي: قال الحسن بن مرَّ: هما واجبتان، وهي رواية عن أحمد، وبه قال بعض أصحاب مالك. وفي "المغني" أيضًا السُّنَّة أن يقول: "السَّلامُ عليكُمْ ورحمةُ اللهِ" وإن قال: "وبركاتُهُ" أيضًا فحسن، والأول أحسن وإن قال: "السَّلامُ عليكُم" ولم يزد فظاهر كلام أحمد أنه يجزئه. وقال ابن عقيل: الأصح أنه لا يجزئه وإن نكس السلام فقال: "وعليكمُ السَّلامُ" لم يجزئه. وقال القاضي: فيه وجه أنه يجوز ويجزىء عند الشافعية لكن مع الكراهة كما في "المجموع" وأكمله عندهم "السَّلامُ عليكُم ورحمةُ اللهِ" لأنه المأثور ولا تسن زيادة وبركاته كما صححه في "المجموع". ولا يجزىء سلام بتنوين، أو دونه ولا "سلامي"، أو "سلام الله عليكم"، أو "عليك" أو "عليكما"، وتبطل صلاته في صورة الخطاب إن تعمد ذلك. وفي "المجموع" قال الشافعي والأصحاب: إذا اقتصر الإِمام على تسليمة سن للمأموم تسليمتان؛ لأنه خرج من المتابعة بالأولى بخلاف التشهد الأول لو تركه الإِمام لزم المأموم تركه؛ لأن المتابعة واجبة عليه قبل السلام، وعند الشافعية تسن التسليمة الثانية على المشهور إلا أن يعرض له عقب الأولى ما ينافي صلاته كأن تخرّق خفه، أو انكشفت عورته أو سقطت عليه نجاسة فيجب الاقتصار على الأولى ويسن له الفصل بين التسليمتين. وعند المالكية صفة السلام الواجب هي ما مرّت عند الشافعية بأن يكون السلام معرفًا بأل لا بالإضافة "كسلامي عليكم" أو "سلام الله"، وأن يكون بلفظ الجمع والخطاب إذ لا يخلو المصلي من مصحوب أقلهم الحفظة، ولا يضر زيادة "ورحمة الله وبركاته"؛ لأنها خارجة من الصلاة وظاهر كلام أهل المذهب أنها ليست بسنة وإن ورد بها الحديث؛ لأنه لم يصحبها عمل أهل المدينة. والظاهر أنها خلاف الأولى كالتسليمة الثانية للإمام والفذ فلو نكّر السلام ففيه ثلاثة أقوال: المشهور عدم الإجزاء، وقيل يجزىء، وقيل هو الأفضل؛ لأنه سلام أهل الجنة ولو عرّفه ونوّنه بطلت صلاته على المشهور، ونظم هذا شيخنا عبد الله بن محمد سالم بقوله: منكِّرُ السلامِ فيه اختلفا ... فقيل يجزىءُ ومشهورٌ نفى وقيل راجحٌ ومنْ قدْ عَرّفا ... مُنونًا فالبطلُ فيه عرفا وقيل لا القلشاني بالحكم وفي واختلف عند المالكية والشافعية هل تجب نيّة الخروج من الصلاة أو لا تجب فقيل تجب تجديد نيّة الخروج من الصلاة بالسلام لتميزه عن جنسه كافتقار تكبيرة الإحرام إليها لتميزها عن غيرها، وعلى الاشتراط لو سلم من غير نيّة مقارنة للسلام بطلت صلاته واختلف التشهير عند المالكية. والمشهور عند الشافعية عدم الاشتراط؛ لأن النيّة الأولى منسحبة على جميع الصلاة، ولكن تُسنُّ خروجًا من الخلاف وعلى عدم الاشتراط، فافرق بينه وبين تكبير الإحرام حيث اشترطت

رجاله خمسة

معها نيّة الصلاة بلا نزاع هو أن التكبير لما وجد في الصلاة بغير الإحرام لم يكن بذاته كافيًا بخلاف السلام، فإنه لما لم يوجد في الصلاة إلا في هذا المحل صار دالًا بذاته على التحلل. وعند الحنابلة نيّة الخروج من الصلاة سُنّة. وعند الحنفية قال في "الهداية": ثم أصابة لفظ السلام عندنا واجبة وليست بفرض خلافًا للشافعي، واللفظ المطلوب عندهم هو "السلام عليكم ورحمة الله" ولا يقول "وبركاته". وصرّح الحدادي بكراهته، والسنّة أن تكون الثانية اخفض من الأولى فإن قال: "السلام" ولم يزد عليه أجزأه ولم يكن آتيًا بالسنّة. وإن قال: "سلام عليكم" أو "سلامي عليكم" لم يكن آتيًا بها أيضًا. ويكره ذلك، والتسليمة الأولى للخروج من الصلاة والثانية للتسوية وترك الجفاء، وفي الحديث خروج النساء إلى المساجد وسبقهن بالانصراف والاختلاط بهن مظنة للفساد، ويمكث الإِمام في مصلاهُ والحالة هذه، فإن لم يكن هناك نساء فالمستحب للإمام أن يقوم من مصلاه عقيب صلاته وسيأتي استيفاء الكلام على هذا المعنى في باب "مكث الإِمام في مصلاه بعد السلام ". رجاله خمسة: مرّوا، مرّ موسى بن إسماعيل في الخامس من بدء الوحي، ومرّ الزهري في الثالث منه، ومرّ إبراهيم بن سعد في السادس عشر من الإِيمان, ومرّت هند بنت الحارث وأُم سلمة في السادس والخمسين من العلم. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول ورواته مدنيون ما عدا شيخ البخاري فإنه بصري، ورواية تابعي عن تابعية عن صحابية. أخرجه البخاري أيضًا عن أبي الوليد وغيره، وأخرجه أبو داود والنَّسائيّ. ثم قال المصنف: باب يُسلِّم حين يُسلِّم الإِمام قوله: يسلِّم أي: المأموم قال الزين بن المنير: ترجم بلفظ الحديث وهو محتمل لأن يكون المراد أنه يبتدىء السلام بعد ابتداء الإِمام له فيشرع المأموم فيه قبل أن يتمه الإِمام، ويحتمل أن يكون المراد أن المأموم يبتدىء السلام إذا أتمه الإِمام. قال: فلما كان محتملًا للأمرين وكل النظر فيه إلى المجتهد، ويحتمل أن يكون أرد أن الثاني ليس بشرط لأن اللفظ يحتمل الصورتين فأيهما فعل المأموم جاز وكأنه أشار إلى أنه يندب أن لا يتأخر المأموم في سلامه بعد الإِمام متشاغلًا بدعاء أو غيره. ويدل على ذلك ما ذكره عن ابن عمر، وفي هذا عن أبي حنيفة روايتان: في رواية يسلّم مع الإِمام كالتكبير، وفي رواية يسلّم بعد سلام إمامه. وقال الشافعي: المصلي المقتدي يسلّم بعد فراغ الإِمام من التسليمة الأولى، فلو سلّم مقارنًا بسلامه قلنا نيّة الخروج بالسلام شرط لا يجزئه كما لو كبّر مع الإِمام لا تنعقد له صلاة الجماعة فعلى هذا، تبطل صلاته. وإن قلنا: إن نية الخروج غير

واجبة فيجزئه كما لو ركع معه. وقد مرّ قريبًا أن في نيّة الخروج عندهم قولين. وذكر في "المبسوط" المقتدي يخرج من الصلاة بسلام الإِمام، وقيل هو قول محمد أما عندهما يخرج بسلام نفسه وتظهر ثمرة الخلاف في انتقاض الوضوء بسلام الإِمام قبل سلام نفسه بالقهقهة، فعنده لا تبطل خلافًا لهما. وحاصل مذهب مالك هو أن سبق المأموم للإِمام ومساواته في تكبيرة الإحرام والسلام مبطل لصلاته، وقد نظم بعضهم جملة ما قيل في ذلك فقال: فسابقٌ في البدءِ أبطلْ مطلقًا ... كذاكَ في التمام أيضًا حققا ومبتدٍ بعدُ ومعه قد كملْ ... أو بعدَهُ صحتْ لَهُ نلتَ الأملْ والخلفُ إنْ معَهُ وبعدَهُ أتمّ ... وقد بدا معهُ وصحة تؤم وعندهم يكره للمأموم التأخير بعد سلام الإِمام إن كان في الدعاء لا في التشهد، فإنه يفعله بعد سلامه إن بقي في مكانه أو تحوّل تحوّلًا يسيرًا. ثم قال: وكان ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- يستحب إذا سلَّم الإِمام أن يسلِّم من خلفه. مطابقته للترجمة ظاهرة ولا يقال إنها غير ظاهرة؛ لأن المفهوم من الترجمة أن يسلم المأموم؛ لأن سلامه إذا كان حين سلام الإِمام يكون معه بالضرورة، والمفهوم من الأثر أن يسلم المأموم عقيب سلام الإِمام؛ لأنا نقول إن كلمة إذا ليست للشرط حتى يكون عقيبه، بل هي لمجرد الظرف على الأصل فيها، وحينئذ يحصل التطابق بين الأثر والترجمة. وهذا الأثر قال في "الفتح": لم أقف على مَنْ وصله، لكن عند ابن أبي شيبة عن ابن عمر ما يعطي معناه، وابن عمر في أول كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه. ثم قال:

الحديث السادس والمئة

الحديث السادس والمئة حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ عِتْبَانَ قَالَ: صَلَّيْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَسَلَّمْنَا حِينَ سَلَّمَ. قوله: "فسلمنا" أي: معه بحيث كان ابتداء سلامهم بعد ابتداء سلامه، وهذا الحديث أورد هنا مختصرًا جدًا. وفي الباب الذي يليه أتم منه، وقد أورده مطولًا في أوائل الصلاة في باب "إذا دخل بيتًا يصلي"، وفي باب "المساجد في البيوت". ومرّ استيفاء الكلام عليه هناك. رجاله ستة: قد مرّوا إلاَّ حبّان، مرّ عبد الله بن المبارك في السادس من بدء الوحي، ومرّ ابن شهاب في الثالث منه، ومرّ معمر في متابعة بعد الرابع منه، ومرّ محمود بن الربيع في التاسع عشر من العلم، ومرّ عتبان بن مالك في التاسع والعشرين من أحاديث أبواب استقبال القبلة، وأما حبّان فهو ابن موسى بن سوار السلمي أبو محمد المروزي الكُشْمِيهَني ذكره ابن حِبّان في "الثقات"، وقال إبراهيم بن الجنيد: ليس صاحب حديث ولا بأس به. روى عن ابن المبارك وأبي حمزة السكري وداود بن عبد الرحمن العطاردي وغيرهم. وروى عنه البخاري ومسلم، وروى له الترمذيّ والنَّسائيّ بواسطة وأبو زرعة وابن دارة وغيرهم. مات سنة ثلاث وثلاثين ومئتين. والكشْميهَني في نسبه بالضم وسكون الشين والكسر وتحتانية وفتح الهاء والنون نسبة إلى "كشميهن" قرية "بمرو" القديمة خربت وقد تفتح الميم، وقد تمد بألف فيقال: "كشماهن" منها أبو الهيثم محمد بن مكي بن زُرَاع كغراب بن هارون بن زراع. روى عن أبوي العباس الدخول واللأمم وعنه القاضي المحسن بن أحمد الخالدي وأبو عبد الله محمد بن أحمد غنجار وأشهر برواية البخاري عن الفربري. وروى عنه أبو ذر عبد الرحيم بن أحمد الهروي كتاب البخاري قراءة عليه "بكشميهن" في المحرم سنة تسع وثمانين وثلاثمئة. ومات بهذه السنة بقريته يوم عرفة، ومنها أم الكرام كريمة بنت أحمد بن محمد المروزية روت البخاري عن محمد بن مكي المذكور، وعنها أبو الحسن علي بن الحسين بن عمر الفراء وأبو عبد الله محمد بن بركات بن هلال النحوي. وفي رواة غير الستة حبّان بن موسى بن حبّان الكلابي أبو محمد الدمشقي. وقد مرّ في الثالث والعشرين من الإِيمان مبحث حبّان المكسور والمفتوح.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: فيه التحديث والإخبار بالجمع والعنعنة والقول وفيه مروزيان ثم مصريّ ثم مدنيّ، ورواية صحابي عن صحابي وقد مرّ من أخرج هذا الحديث. ثم قال المصنف: باب مَنْ لم يرد السلام على الإِمام واكتفى بتسليم الصلاة أورد فيه حديث عتبان واعتماده فيه على قوله ثم سلّم وسلّمنا حين سلم فإن ظاهره أنهم سلّموا نظير سلامه وسلامه إما واحدة وهي التي يتحلل بها من الصلاة، وإما هي وأخرى معها فيحتاج من استحب تسليمة ثالثة على الإِمام بين التسليمتين كما تقوله المالكية إلى دليل خاص. وإلى رد ذلك أشار البخاري وقال ابن بطال: أظنه قصد الرد على مَنْ يوجب التسليمة الثانية، وقد نقله الطحاوي عن الحسن بن الحسن، وفيه هذا الظن بعد قاله في "الفتح" قلت: الظاهر أن البخاري قصد بالترجمة الرد على مَنْ أوجب التسليمة الثانية، وعلى مَنْ قال برد المأموم على الإِمام ولفظ الحديث يوافق الترجمة حيث قال فيه: ثم سلّم وسلّمنا حين سلّم. فظاهر الحديث أن الجميع ما سلّموا إلا تسليمة واحدة، وهو موافق لما ذهب إليه مالك ومن معه فيما مرّ من أن الواجب تسليمة واحدة. وأما قول صاحب "الفتح" أن المالكية تطلب عندهم تسليمة ثالثة، فذلك من عدم إتقان مذهب مالك، فالمالكية لا تطلب عندهم من الإِمام والفذ إلا تسليمة واحدة، وتطلب عندهم من المأموم تسليمة يرد بها على الإِمام وعلى مَنْ بيساره من المأمومين إن كان به أحد. واختلف فيهما عندهم هل هما سنتان أو فضيلتان أو سنة واحدة كما أنه اختلف أيضًا هل الأفضل البداءة بالإمام أو اليسار أو متساويان، ونظم شيخنا عبد الله بن محمد سالم -رحمه الله تعالى- كلًا من الحكمين في بيت فقال: ردَّ الإِمام واليسار سنتان ... أو سُنّةٌ فحسبُ أو فضيلتان في البدءِ باليسارِ والإمام ... أو استوى تخالفُ الإِعلامِ وقد قال بالرد مع مالك ابن عمر في أحد قوليه والشعبي وسالم وسعيد بن المسيب وعطاء، وقال إبراهيم النخعي: إن شاء رد وإن شاء لم يرد.

الحديث السابع والمئة

الحديث السابع والمئة حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ عَقَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَعَقَلَ مَجَّةً مَجَّهَا مِنْ دَلْوٍ كَانَ فِي دَارِهِمْ. قَالَ سَمِعْتُ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ الأَنْصَارِيَّ ثُمَّ أَحَدَ بَنِي سَالِمٍ قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي لِقَوْمِي بَنِي سَالِمٍ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقُلْتُ: إِنِّي أَنْكَرْتُ بَصَرِي، وَإِنَّ السُّيُولَ تَحُولُ بَيْنِى وَبَيْنَ مَسْجِدِ قَوْمِي، فَلَوَدِدْتُ أَنَّكَ جِئْتَ فَصَلَّيْتَ فِي بَيْتِي مَكَانًا، حَتَّى أَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا فَقَالَ: أَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَغَدَا عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَبُو بَكْرٍ مَعَهُ بَعْدَمَا اشْتَدَّ النَّهَارُ، فَاسْتَأْذَنَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَأَذِنْتُ لَهُ، فَلَمْ يَجْلِسْ حَتَّى قَالَ: أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ. فَأَشَارَ إِلَيْهِ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِى أَحَبَّ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ، فَقَامَ فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ ثُمَّ سَلَّمَ، وَسَلَّمْنَا حِينَ سَلَّمَ. قوله: "وزعم" الزعم يطلق على القول المحقق، وعلى القول المشكوك فيه، وعلى الكذب وينزل في كل موضع على ما يليق به، والظاهر أن المراد به هنا الأول, لأن محمود بن الربيع موثوق عند الزهري وغيره، ولكونه صحابيًا فقوله عنده مقبول، وقوله: "من دلو كانت في دارهم" قيل كانت صفة لموصوف محذوف أي من بئر كانت في دارهم. ولفظ: "الدلو" يدل عليه. وقيل الدلو يذكر ويؤنث فلا يحتاح إلى تقدير. وقوله: "سمعت عتبان بن مالك الأنصاري ثم أحد بني سالم" أي: بنصب أحد عطفًا على قوله الأنصاري، وهو بمعنى قوله الأنصاري ثم السالمي هذا الذي يقطع به من له أدنى ممارسة بمعرفة الرجال. وقال الكرماني يحتمل أن يكون عطفًا على عتبان يعني سمعت عتبان ثم سمعت أحد بني سالم أيضًا، والمراد به فيما يظهر الحصين بن محمد، فكان محمود أسمع من عتبان ومن الحصين، وهذا مخالف لما مرّ في باب "المساجد في البيوت" من أن الزهري هو الذي سمع محمودًا والحصين، ولعله حمله على ما ذكر ما جاء في الرواية السابقة عن الزهري. ثم سألت الحصين بن محمد الأنصاري وهو أحد بني سالم فكأنه ظن أن المراد بقوله: "أحد بني سالم" هنا هو المراد بقوله بني سالم هناك ولا حاجة لذلك، فإن عتبان من بني سالم اتفاقًا. ويرد على ما ذكر إشكال؛ لأنه يلزم منه أن يكون الحصين بن محمد هو صاحب القصة المذكورة، أو أنها تعددت له ولعتبان وليس كذلك، فإن الحصين المذكور لا صحبة له بل لم يوجد من ذكر أباه في الصحابة ولم يذكر له ابن أبي حاتم شيخًا غير عتبان. ونقل عن أبيه أن روايته عنه مرسلة، ولم يذكر

رجاله ستة

أحد ممن صنف في الرجال لمحمود بن الربيع رواية عن الحصين. وقوله: "فلوددت" أي: فوالله لوددت. وقوله: "اشتد النهار" أي: ارتفعت الشمس. وقوله: "فأشار إليه من المكان الذي أحب أن يصلي فيه" قال الكرماني: فاعل أشار النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومن للتبعيض. قال: ولا ينافي هذا ما تقدم أنه قال: فأشرت إلى المكان لإمكان وقوع الإشارتين منه ومن النبي -صلى الله عليه وسلم- إما معًا، وإما سابقًا ولاحقًا. قلت: التبعيض هنا لا معنى له، فلا يستقيم معه الكلام، والظاهر ما قاله في "الفتح" من أن فاعل أشار هو عتبان لكن فيه التفات إذ ظاهر السياق أن يقول فأشرت إلخ. وبهذا تتفق الروايات وهذا الحديث قد مرّ استيفاء الكلام عليه في باب "المساجد في البيوت". رجاله ستة: قد مرّوا، مرّ ذكر محلهم في الذي قبله إلا عبدان وهو قد مرّ في السادس من بدء الوحي. ثم قال المصنف: باب الذكر بعد الصلاة أورد فيه أولًا حديث ابن عباس من وجهين: أحدهما أتم من الآخر وأغرب المزي فجعلهما حديثين والذي يظهر أنهما حديث واحد.

الحديث الثامن والمئة

الحديث الثامن والمئة حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرٌو أَنَّ أَبَا مَعْبَدٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنَ الْمَكْتُوبَةِ كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُنْتُ أَعْلَمُ إِذَا انْصَرَفُوا بِذَلِكَ إِذَا سَمِعْتُهُ. قوله: "كان على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" فيه أن مثل هذا يحكم له بالرفع خلافًا لمن شذ ومنع ذلك، ووافقه مسلم والجمهور على ذلك. ويأتي ما فيه قريبًا إن شاء الله تعالى، وفيه دليل على جواز الجهر بالذكر عقب الصلاة. قال الطبري: فيه الإبانة عن صحة ما كان يفعله بعض الأمراء من التكبير عقب الصلاة، وتعقبه ابن بطال بأنه لم يقف على ذلك عن أحد من السلف إلا ما حكاه ابن حبيب في الواضحة أنهم كانوا يستحبون التكبير في العساكر عقب الصبح والعشاء تكبيرًا ثلاثًا عاليًا. قال: وهو قديم من شأن الناس. قال ابن بطال وفي العتبية عن مالك أن ذلك محدث، وفي قوله كان على عهد إلخ إشعار بأن ذلك لم يكن يفعل في الوقت الذي حدث فيه؛ لأنه لو كان يفعل لم يكن لقوله معنى فكان التكبير في أثر الصلوات لم يواظب الرسول -عليه الصلاة والسلام- عليه طول حياته، وفهم أصحابه أن ذلك ليس بلازم فذكره خشية أن يظن أنه مما لا تتم الصلاة إلا به، فلذلك كرهه من كرهه من الفقهاء. قال ابن بطال: أصحاب المذاهب المتبوعة وغيرهم متفقون على عدم استحباب رفع الصوت بالتكبير والذكر حاشا ابن حزم قال النووي: حمل الشافعي هذا الحديث على أنهم جهروا به وقتًا يسيرًا لأجل تعليم صفة الذكر لا أنهم داوموا على الجهر به. والمختار أن الإِمام والمأموم يخفيان الذكر إلا إن احتيج إلى التعليم. وقوله: "قال ابن عباس كنت أعلم" هو موصول بالإسناد المبدأ به كما عند مسلم عن إسحاق بن منصور عن عبد الرزاق به وفيه إطلاق العلم على الأمر المستند إلى الظن الغالب. وقوله: "إذا انصرفوا" أي: أعلم انصرافهم بذلك، أي: برفع الصوت "إذا سمعته" أي: الذكر والمعنى كنت أعلم بسماع الذكر انصرافهم. وظاهره أن ابن عباس لم يكن يحضر الصلاة في الجماعة في بعض الأوقات لصغره أو كان حاضرًا لكنه كان في آخر الصفوف، فكان لا يعرف انقضاءها بالتسليم وإنما كان يعرفه بالتكبير. قال الشيخ تقي الدين: ويؤخذ منه أنه لم يكن هناك

رجاله ستة

مبلغ جهير الصوت يسمع من بعد وسقط للأصيلي قوله: "وقال ابن عباس" إلخ. قلت: قد مرّ قريبًا أن من المرفوع كان على ما قيل من الرفع في كان وكذا الصحابي على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفي هذه المسألة سبعة أقوال: الرفع مطلقًا، الوقف مطلقًا، التفصيل بين ما قيد بالعصر النبوي وما لم يقيد به. الرابع: إن كان الفعل مما لا يخفى غالبًا فمرفوع وإلا فموقوف. الخامس: إن ذكره في معرض الاحتجاج فمرفوع وإلا فموقوف. السادس: إن كان قائله مجتهدًا فموقوف وإلا فمرفوع. السابع: إن قال كنا نرى فموقوف أو كنا نفعل ونحوه فمرفوع؛ لأن نرى من الرأي فيحتمل أن يكون مستنده استنباطًا لا توقيفًا، ثم محل الخلاف إذا لم يكن في القصة اطلاعه -صلى الله عليه وسلم- على ذلك وإلا فحكمة الرفع قطعًا كقول ابن عمر: "كنّا نقولُ -ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيٌّ- أفضلُ هذه الأُمةِ بعد نبيَّها أبو بكرٍ وعمر وعثمانُ، ويسمعُ ذلكَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فلا ينكرُهُ" رواه الطبراني في "معجمه الكبير". وبالجملة ما قيد من ذلك بالعصر النبوي حكمه الرفع إما قطعًا أو على الأصح ونظم العراقي أصل المسألة فقال: وقولهُ كنّا نرى إنْ كان معْ ... عصر النَّبيِّ مِنْ قبيل ما رفعْ وقيلَ لا أو لا فلا كذاكَ لهْ ... وللخَطيب قلتُ لكن جعلَهْ مرفوعًا الحاكمُ والرازيُّ ... ابنُ الخَطيبِ وهُو القويُّ لكنْ حديثُ كان بابُ المصطفى ... يقرعُ بالأظفارِ مما وقفا حكمًا لدى الحاكمِ والخطيبِ ... والرفعُ عندَ الشيخِ ذو تصويبِ رجاله ستة: قد مرّوا إلاَّ أبا معبد، مرّ إسحاق بن نصر في تعليق بعد الحادي والعشرين من العلم، ومرّ عمرو بن دينار في الرابع والخمسين منه، ومرّ عبد الرزاق في الخامس والثلاثين من الإِيمان, ومرّ ابن جريج في الثالث من الحيض، ومرَّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي. وأما أبو معبد فهو مولى ابن عباس واسم نافذ بالنون وبكسر الفاء في آخره ذال معجمة ذكره ابن حِبّان في "الثقات". وقال أحمد وابن معين وأبو زرعة: سعد كان ثقة حسن الحديث روى عن مولاه وعنه عمرو بن دينار وأبو الزبير وسليمان الأحول وغيرهم. مات بالمدينة سنة أربع ومئة. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإِخبار بالجمع والإِفراد والقول، وشيخ البخاري من أفراده ورواته ما بين بخاريّ ويمانيّ ومكيّ ومدنيّ، وفيه رواية تابعي عن تابعي أخرجه مسلم في الصلاة وأبو داود.

الحديث التاسع والمئة

الحديث التاسع والمئة حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو مَعْبَدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كُنْتُ أَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلاَةِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- بِالتَّكْبِيرِ. قال علي: حدّثنا سفيان عن عمرو قال: كان أبو معبد أصدق موالي ابن عباس. قوله: "كنت أعرف انقضاء صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بالتكبير" في رواية الحميدي عن سفيان بصيغة الحصر ولفظه: "ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا بالتكبير"، وكذا أخرجه مسلم عن ابن أبي عمر عن سفيان، واختلف في كون ابن عباس قال ذلك فقال عياض: الظاهر أنه لم يكن يحضر الجماعة؛ لأنه كان صغيرًا ممن لا يواظب على ذلك إلى آخر ما مرّ قريبًا. وقوله: "بالتكبير" هو أخص من الرواية التي قبلها؛ لأن الذكر أعم من التكبير، ويحتمل أن تكون هذه مفسرة لذلك، فكان المراد أن رفع الصوت بالذكر أي بالتكبير وكأنهم كانوا يبتدئون بالتكبير بعد الصلاة قبل التسبيح والتحميد، وسيأتي الكلام على ذلك في الحديث الذي بعده. وقوله: "قال علي" هو ابن المديني وثبتت هذه الزيادة في رواية المستملي والكشميهني، وزاد مسلم في روايته المذكورة. قال عمرو يعني ابن دينار وذكرت ذلك لأبي معبد بعد فأنكره وقال: لم أحدثك بهذا قال عمرو: قد أخبرتنيه قبل ذلك. قال الشافعي بعد أن رواه عن سفيان: كأنه نسيه بعد أن حدّثه به وهذا يدل على أن مسلمًا كان يرى صحة الحديث ولو أنكره راويه إذا كان الناقل عدلًا؛ ولأهل الحديث فيه تفصيل. قالوا: إما أن يجزم برده أو لا، وإذا جزم فإما أن يصرح بتكذيب الراوي عنه أو لا، فإن لم يجزم بالرد كأن قال لا أذكره، فهو متفق عندهم على قبوله؛ لأن الفرع ثقة والأصل لم يطعن فيه. وإن جزم وصرّح بالتكذيب فهو متفق عندهم علي رده لأن جزم الفرع بكون الأصل حدّثه يستلزم تكذيبه في دعواه أنه كذب عليه وليس قبول قول أحدهما بأولى من الآخر. وإن جزم بالرد ولم يصرح بالتكذيب فالراجح عندهم قبوله. وأما الفقهاء فاختلفوا، فذهب الجمهور في هذه الصورة إلى القبول وعن بعض الحنفية ورواية عن أحمد لا يقبل قياسًا على الشاهد واليمين حيث رواه سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة فحدث به ربيعة ثم نسيه، فكان بعد ذلك يحدث به عن ربيعة عن نفسه، وللإِمام فخر الدين في هذه المسألة تفصيل نحو ما تقدم، وزاد فإن كان الفرع مترددًا في سماعه والأصل جازمًا بعدمه سقط

رجاله خمسة

لوجود التعارض. ومحصل كلامه آنفًا أنهما إن تساويا فالرد وإن رجح أحدهما عمل به. وهذا الحديث من أمثلته وأبعد من قال إنما نفى أبو معبد التحديث، ولا يلزم منه نفي الإخبار وهو الذي وقع ولا مخالفة، وترده الرواية التي فيها فأنكره ولو كان كما زعم لم يكن هناك إنكار ولا الفرق بين التحديث والإخبار إنما حدث بعد ذلك. وفي كتب الأُصول حكاية الخلاف في هذه المسألة عن الحنفية ونظم العراقي أصل المسألة فقال: ومَنْ روى عن ثقةٍ فكذَّبَهْ ... فقد تعارضا ولكنْ كذَّبهْ لا تثبتنّ بقولِ شيخهِ فقدْ ... كذَّبهُ الآخرُ وارددْ ما جحدَ وإن يردُّهُ بلا اذكروا ... ما يقتضي نسيانه فقدْ رأوا الحكم للذاكرِ عندَ المعظم ... وحكى الإسقاط عندَ بعضهِم كقصةِ الشاهدِ واليمين إذْ ... نسيَهُ سهيلٌ الذي أَخَذْ عنه فكانَ بعدُ عنْ ربيعهْ ... عن نفسهِ يرويهِ لنْ يضيعهْ والشافعيّ نهى ابنَ عبدِ الحكمِ ... يروي عن الحيِّ لخوفِ التُّهمِ رجاله خمسة: مرّ منهم أبو معبد في الذي قبله، وفيه ذكر محل عمرو بن دينار وابن عباس، ومرّ علي بن المديني في الرابع عشر من العلم، ومرّ سفيان بن عيينة في الأول من بدء الوحي.

الحديث العاشر والمئة

الحديث العاشر والمئة حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ سُمَيٍّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ" جَاءَ الْفُقَرَاءُ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالُوا" ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ مِنَ الأَمْوَالِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلاَ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَلَهُمْ فَضْلٌ مِنْ أَمْوَالٍ يَحُجُّونَ بِهَا، وَيَعْتَمِرُونَ، وَيُجَاهِدُونَ، وَيَتَصَدَّقُونَ قَالَ: أَلاَ أُحَدِّثُكُمْ بِأَمْرٍ إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ أَدْرَكْتُمْ مَنْ سَبَقَكُمْ وَلَمْ يُدْرِكْكُمْ أَحَدٌ بَعْدَكُمْ، وَكُنْتُمْ خَيْرَ مَنْ أَنْتُمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِ، إِلاَّ مَنْ عَمِلَ مِثْلَهُ تُسَبِّحُونَ وَتَحْمَدُونَ، وَتُكَبِّرُونَ خَلْفَ كُلِّ صَلاَةٍ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ. فَاخْتَلَفْنَا بَيْنَنَا فَقَالَ بَعْضُنَا: نُسَبِّحُ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، وَنَحْمَدُ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، وَنُكَبِّرُ أَرْبَعًا وَثَلاَثِينَ. فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ: تَقُولُ سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، حَتَّى يَكُونَ مِنْهُنَّ كُلِّهِنَّ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ. قوله: "جاء الفقراء" سمّي في رواية محمد بن أبي عائشة عن أبي هريرة أبو ذر الغفاري أخرجه أبو داود وجعفر الفريابي في كتاب "الذكر" له عن أبي ذرٍ نفسه، وسمي منهم أبو الدرداء عند النَّسائيّ وغيره من طرق عنه ولمسلم من رواية سهل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أنهم قالوا: "يا رسول الله" فذكر الحديث، والظاهر أن أبا هريرة منهم وفي رواية النَّسائيّ عن زيد بن ثابت قال: "أمرنا أن نسبّح" الحديث كما سيأتي لفظه. وهذا يمكن أن يقال فيه إن زيد بن ثابت كان منهم ولا يعارضه قوله في رواية ابن عجلان عن سمي عند مسلم "جاء فقراء المهاجرين" لكن زيد بن ثابت أنصاري من الأنصار لاحتمال التغليب، والمذكورون قد مرّوا مرَّ أبو ذرٍّ الغفاري في الثالث والعشرين من الإِيمان, ومرّ أبو الدرداء في باب "مَنْ حمل معه الماء لطهوره"، ومرّ أبو هريرة في الثاني من الإِيمان، ومرّ زيد بن ثابت في تعليق بعد الثاني والعشرين من كتاب الصلاة. وقوله: "الدُثور" بضم المهملة والمثلثة جمع دَثْر بفتح ثم سكون وهو المال العظيم، ومن في قوله من الأموال للبيان وعند الخطابي: "ذهب أهل الدور من الأموال". وقال كذا وقع الدور جمع دار والصواب الدثور. وذكر صاحب "المطالع" من رواية أبي زيد المروزي أيضًا الدور. وقوله: "بالدرجات العُلا بضم العين جمع العلياء تأنيث الأعلى يحتمل أن تكون حسيّة، والمراد درجات الجنات أو معنوية والمراد علو القدر عند الله تعالى. قلت: المعنوية لازمة عليها الحسيّة.

وقوله: "والنعيم المقيم" وصفه بالإِقامة إشارة إلى ضده وهو النعيم العاجل، فإنه قلَّ ما يصفو وإن صفا فهو بصدد الزوال. وفي رواية محمد بن أبي عائشة المذكورة: "ذهب أصحاب الدثور بالأجور" وكذا لمسلم عن أبي ذرٍّ، وزاد المصنف في "الدعوات" من رواية ورقاء عن سمي قال: كيف ذلك؟ ونحوه لمسلم من رواية ابن عجلان عن سمي. وقوله: "ويصومون كما نصوم" زاد في حديث أبي الدرداء المذكور "ويذكرون كما نذكر"، وللبزار عن ابن عمر "صدقوا تصديقنا وآمنوا إيماننا". وقوله: "ولهم فضل أموال" كذا للأكثر بالإضافة وفي رواية الأصيلي "فضل الأموال" وللكشميهنيّ "فضل من أموال". وقوله: "ويحجون" أي: ولا نحج يشكل عليه ما في رواية جعفر الفريابي عن أبي الدرداء: "ويحجون كما نحج". ونظيره ما وقع هنا "ويجاهدون وفي الدعوات" من رواية ورقاء عن سمي: "وجاهدوا كما جاهدنا" لكن الجواب عن هذا الثاني ظاهر وهو التفرقة بين الجهاد الماضي، فهو الذي اشتركوا فيه وبين الجهاد المتوقع، فهو الذي تقدر عليه أصحاب الأموال غالبًا ويمكن أن يقال مثله في الحج، ويحتمل أن يقرأ "يُحجون" بها بضم أوله من الرباعي أي يعينون غيرهم على الحج بالمال. وقوله: "ويتصدقون" عند مسلم من رواية ابن عجلان عن سمي: "يتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق". وقوله: فقال ألا أحدثكم بما إن أخذتم به" في رواية الأصيلي بأمر "إن أخذتم به"، وكذا للإسماعيلي. وسقط قوله بما من أكثر الروايات وكذا قوله به، وقد فسر الساقط في الرواية الأخرى. وفي رواية مسلم: "أفلا أعلمكم شيئًا"، وفي رواية أبي داود فقال: "يا أبا ذر ألا أعلمك كلماتٍ تقولُهنَّ". وقوله: "أدركتم من سبقكم" أي: من أهل الأموال الذين امتازوا عليكم بالصدقة، والسبقية هنا تحتمل أن تكون معنوية وأن تكون حسيّة. قال الشيخ تقي الدين والأول أقرب، قلت: قد مرّ أن المعنوية تستلزم الحسيّة، وسقط قوله من سبقكم من رواية الأصيلي. وقوله: "وكنتم خير من أنتم بين ظهرانَيهم" بفتح النون وسكون التحتانية، وفي رواية كريمة وأبي الوقت ظهرانيه بالإفراد وكذا للإسماعيلي. وعند مسلم "ولا يكون أحد أفضل منكم" قيل ظاهره يخالف ما سبق لأن الإِدراك ظاهره المساواة، وهذا ظاهره الأفضلية. قلت: هذا اللفظ لا يقتضي الأفضلية تعيينًا، بل يحتمل المساواة والأفضلية وأجاب بعضهم بأن الإدراك لا يلزم منه المساواة، فقد يدرك ثم يفوق، وعلى هذا، فالتقرب بهذا الذكر راجح على التقرب بالمال ويحتمل أن يقال الضمير في كنتم للمجموع من السابق والمدرك، وكذا قوله: "إلا من عمل مثل عملكم" أي: من الفقراء فقال الذكر أو من الأغنياء فتصدق، أو أن الخطاب للفقراء خاصة لكن يشاركهم الأغنياء في الخيرية المذكورة، فيكون كل من الصنفين خيرًا ممن لا يتقرب بذكر ولا صدقة، ويشهد له قوله في حديث ابن عمر عند البزار أدركتم مثل فضلهم. ولمسلم عن أبي ذرٍّ: "أوليس قد جعلَ لكم ما تتصدقون أنّ بكلِّ تسبيحةٍ

صدقة، وبكلِّ تكبيرةٍ صدقة" الحديث واستشكل تساوي فضل هذا الذكر بفضل التقرب بالمال مع شدة المشقة فيه. وأجيب بأنه لا يلزم أن يكون الثواب على قدر المشقة في كل حالة واستدل لذلك بفضل كلمة الشهادة مع سهولتها على كثير من العبادات الشاقة. وقوله: "تسبّحون وتحمّدون وتكبّرون" كذا وقع في أكثر الروايات تقديم التسبيح على التحميد وتأخير التكبير، وفي رواية ابن عجلان تقديم التكبير على التحميد خاصة، وفيه أيضًا قول أبي صالح يقول: "الله أكبر وسبحانَ اللهِ والحمدُ للهِ"، ومثله لأبي داود من حديث أُم الحكم. وله من حديث أبي هريرة "تكبّر وتحمّد وتسبّح" وكذا في حديث ابن عمر وهذا الاختلاف دال على أن لا ترتيب فيها، ويستأنس لذلك بقوله في حديثه: "الباقياتُ الصالحاتُ لا يضرّكَ بأيهِنَّ بدأتَ" لكن يمكن أن يقال الأولى البداءة بالتسبيح؛ لأنه يتضمن نفي النقائص عن الباري سبحانه وتعالى ثم التحميد؛ لأنه يتضمن إثبات الكمال له إذ لا يلزم من نفي النقائص إثبات الكمال، ثم التكبير إذ لا يلزم من نفي النقائص وإثبات الكمال أن لا يكون هناك كبير آخر، ثم يختم بالتهليل الدال على انفراده سبحانه وتعالى بجميع ذلك. وقوله: "خلف كل صلاة" هذه الرواية مفسرة للرواية التي عند المصنف في الدعوات وهي قوله: "دُبُر كل صلاة" ولجعفر الفريابي عن أبي ذرٍّ "إثر كل صلاة" ورواية "دبر" بضمتين قال الأزهري: "دُبُر الأمر" بضمتين، و"دَبْره" بفتح ثم سكون، وادعى أبو عمرو الزاهد أنه لا يقال بالضم إلا للجارحة، ورد بمثل قولهم أعتق غلامه عن دُبُر. وقوله: "كل صلاة" يشمل الفرض والنفل لكن حمله أكثر العلماء على الفرض، وقد وقع في حديث كعب بن عجرة عند مسلم التقييد بالمكتوبة وكأنهم حملوا المطلقات عليها، وعلى هذا فهل يكون التشاغل بعد المكتوبة بالراتبة بعدها فصلًا بين المكتوبة والذكر أو لا؟ محل اختلاف بين العلماء فمقتضى الحديث أن الذكر المذكور يكون عند الفراغ من الصلاة، فلو تأخر ذلك عن الفراغ فإن كان يسيرًا بحيث لا يعد معرضًا أو كان ناسيًا أو متشاغلًا بما ورد أيضًا بعد الصلاة كآية الكرسي، فلا يضر. وتقديم الذكر المأثور قبل النافلة هو الذي عليه الجمهور. وعند الحنفية يبدأ بالتطوع ويكره عندهم تأخيره عن أداء الفريضة فيتقدم أو يتأخر أو ينحرف يمينًا أو شمالًا، وعن الحلواني من الحنفية جواز تأخير السنن بعد المكتوبة والنص: أن التأخير مكروه، وحجة الجمهور في تقديمه تقييده في الأخبار الصحيحة بدُبُر الصلاة، وزعم بعض الحنابلة أن المراد بدُبُر الصلاة ما قبل السلام، وتعقب بحديث: "ذهب أهل الدثور" فإن فيه تسبّحون دبر كل صلاة وهو بعد السلام جزمًا فكذلك ما شابهه. واستدلوا أيضًا بما أخرجه مسلم عن السائب بن يزيد: "أنه صلَّى مع معاويةَ الجمعةَ فتنفَّلَ بعدها، فقال له معاويةُ: إذا صلَّيتَ الجمعةَ فلا تصلْها بصلاة حتى تتكلم أو تخرجَ فإنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أمرنا بذلكَ أنْ لا نوصل صلاة حتى نتكلَم أو نخرج". وقال البعض يمكن أن يقال لا يتعيّن الفصل بين الفريضة والنافلة بالذَّكر، بل إذا تنحى من

مكانه كفى، فإن قيل لم يثبت الحديث في التنحي قلنا قد ثبت في حديث معاوية أو تخرج ونصت المالكية على أنه يكره للمصلي إمامًا أو مأمومًا أو منفردًا القيام للنافلة بعد السلام من غير فصل بالمعقبات وآية الكرسي. واحتجوا بما ورد: "أن رجلًا قامَ يتنفلُ بعدَ الفريضةِ غيرَ فصلٍ فَأمسكَ عمرَ بيدهِ وجذبَهُ بالأرض، وقالَ لهُ: ما أهْلَكَ مَنْ كان قبلَكُم مِنَ الأُمم إلا أنهُم كانوا لا يفصلُونَ بين الفرضِ والنفلِ، فقاَل له النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: أصبتَ يا عمرُ، أصابَ اللهُ بك". وقوله: "ثلاثًا وثلاثين" يحتمل أن يكون المجموع للجميع، فإذا وزع كان بكل واحد إحدى عشرة، وهو الذي فهمه سهيل بن أبي صالح كما رواه مسلم عنه، لكنه لم يتابع على ذلك وليس في شيء من الطرق التصريح بإحدى عشرة إلا في حديث ابن عمر عند البزار وإسناده ضعيف، والأظهر أن المراد أن المجموع لكل فرد فرد، فعلى هذا ففيه تنازع ثلاثة أفعال في ظرف وهو خلف ومفعول مطلق، وهو ثلاثًا وثلاثين والتقدير (تسبّحون خلف كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، وتحمّدون كذلك، وتكبّرون كذلك). وقوله: "فاختلفنا بيننا" ظاهره أن أبا هريرة هو القائل. وكذا قوله: "فرجعت إليه" وأن الذي رجع أبو هريرة إليه هو النبي -صلى الله عليه وسلم- وعلى هذا، فالخلاف واقع بين الصحابة لكن بين مسلم عن سمي أن القائل فاختلفنا هو سمي وأنه هو الذي رجع إلى أبي صالح، وأن الذي خالفه بعض أهله ولفظه قال سمي: فحدثت بعض أهلي هذا الحديث فقال: وهمت. فذكر كلامه قال: فرجعت إلى أبي صالح لكن مسلم لم يوصل هذه الزيادة، وتبين بهذا أن في حديث عبيد الله بن عمر عن سمي في حديث الباب إدراجًا. ورواه ابن حِبّان عن معتمر بن سليمان بالإسناد المذكور، فلم يذكر قوله: "فاختلفنا" إلخ. وقوله: "ونكبّر أربعًا وثلاثين" هذا قول بعض أهل سمي كما مرّ التنبيه عليه من رواية مسلم. وقد تقدم احتمال كونه من كلام بعض الصحابة، وقد جاء مثله في حديث أبي الدرداء عند النَّسائيّ وكذا عنده من حديث ابن عمر بسند قوي، ومثله لمسلم عن كعب بن عجرة، ونحوه لابن ماجه عن أبي ذرٍّ، لكن شك بعض رواته في أنهنّ أربع وثلاثون، ويخالف هذا ما عند أبي داود من رواية محمد بن أبي عائشة عن أبي هريرة ففيه: "وتختم المائةَ بلا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ" إلخ. وكذا لمسلم في رواية عطاء بن يزيد عن أبي هريرة، ومثله لأبي داود عن أُم الحكم ولجعفر الفريابي في حديث أبي ذرٍّ. قال النووي: ينبغي أن يجمع بين الروايتين بأن يكبّر أربعًا وثلاثين ويقول معها: "لا إله إلا الله وحده" إلخ. وقال غيره بل يجمع بأن يختم مرة بزيادة تكبيرة ومرة بزيادة لا إله إلا الله على وفق ما وردت به الأحاديث. وقوله: "حتى يكون منهنّ كلهنّ" بكسر اللام تأكيد للضمير المجرور. وقوله: "ثلاث وثلاثون" بالرفع وهو اسم كان. وفي رواية كريمة والأصيلي وأبي الوقت ثلاثًا وثلاثين وتوجه بأن اسم كان محذوف والتقدير: (حتى يكون العدد منهنّ كلهنّ ثلاثًا وثلاثين). وفي قوله: "منهنّ كلهنّ"

الاحتمال السابق هل العدد للجميع والمجموع. وفي رواية ابن عجلان ظاهرها أن العدد للجميع، لكن يقول ذلك مجموعًا وهذا اختيار أبي صالح، لكن الرواية الثانية عن غيره الإفراد قال عياض: وهو أولى، ورجح بعضهم الجمع للإتيان فيه بواو العطف، والذي يظهر أن كلًا من الأمرين حسن إلا أن الإفراد يتميز بأمر آخر وهو أن الذاكر يحتاج إلى العدد، وله على كل حركة لذلك سواء كان بأصابعه أو بغيرها ثواب لا يحصل لصاحب الجمع منه إلا الثلث. وفي رواية ورقاء عن سمي عند المصنف في "الدعوات" في هذا الحديث: "تسبّحون عشرًا وتحمدون عشرًا وتكبّرون عشرًا" وليس في شيء من طرق حديث أبي هريرة من تابع ورقاء على ذلك لا عن سمي ولا عن غيره، ويحتمل أن يكون تأول ما تأول سهيل من التوزيع، ثم ألغى الكسر ويعكر عليه أن السياق صريح في كونه كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- ولرواية العشر شواهد منها عن علي عند أحمد وعن سعد بن أبي وقاص عند النَّسائيّ، وعن عبد الله بن عمرو عنده، وعند أبي داود والترمذِيّ، وعن أُم سلمة عند البزار، وعن أُم مالك الأنصارية عند الطبراني. ويجمع بين هذا الاختلاف باحتمال أن يكون ذلك صدر في أوقات متعددة أولها عشرًا عشرًا، ثم إحدى عشرةَ إحدى عشرةَ، ثم ثلاثًا وثلاثين، ثلاثًا وثلاثين، ويحتمل أن يكون ذلك على سبيل التخيير أو يفترق بافتراق الأحوال. وقد جاء عن زيد بن ثابت وابن عمر أنه "عليه الصلاة والسلام أمرهم أن يقولوا كلَّ ذِكرٍ منها خمسًا وعشرينَ، ويزيدوا فيها لا إلهَ إلاَّ اللهُ خمسًا وعشرينَ". ولفظ زيد بن ثابت "أُمرنا أن نسبِّحَ في دُبُر كلِّ صلاةٍ ثلاثًا وثلاثينَ ونحمدَ ثلاثًا وثلاثينَ ونكبِّرَ أربعًا وثلاثينَ، فأتي رجلٌ في المنام فقيلَ لهُ أَمرَكم محمدٌ أنْ تسبِّحُوا فذكرهُ قال: نعم، قال: اجعلُوها خمسًا وعشرينَ، واجعلوا فيها التهليلَ، فلّما أَصبحَ أتى النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- وأخبَرهُ. فقال: فافعلُوه". أخرجه النَّسائي وابن خزيمة وابن حِبّان. ولفظ ابن عمر: "رأى رجلٌ منَ الأنصارِ فيما يرى النائمُ فذكَر نحوَهُ، وفيه فقيل له: سبِّحْ خمسًا وعشرينَ، واحمدْ خمسًا وعشرينَ وكبِّرْ خمسًا وعشرينَ وهللْ خمسًا وعشرينَ فتلكَ مائةٌ فأمرهمُ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أن يفعلوا كما قال" أخرجه النَّسائيّ وجعفر الفريابي. واستنبط من هذا أن مراعاة العدد المخصوص في الأذكار معتبرة، وإلا لكان يمكن أن يقال لهم أضيفوا لها التهليل ثلاثًا وثلاثين. وقد كان بعض العلماء يقول: إن الأعداد الواردة كالذِكر عقب الصلواتِ إذا رتب عليها ثواب مخصوص، فزاد الآتي بها على العدد المذكور لا يحصل له ذلك الثواب المخصوص لاحتمال أن يكون لتلك الأعداد حكمة وخاصية تفوت بمجاوزة ذلك العدد. قال الحافظ زين الدين العراقي: وفيه نظر؛ لأنه أتى بالمقدار الذي رتب الثواب على الإتيان به، فحصل له الثواب بذلك، فإذا زاد عليه من جنسه كيف تكون الزيادة مزيلة لذلك الثواب بعد حصوله؟ ويمكن أن يفترق الحال فيه بالنية، فإن نوى عند الانتهاء إليه امتثال الأمر الوارد ثم أتى بالزيادة فالأمر كما قال العراقي، وإن زاد بغير نية بأن يكون الثواب رتب على عشرة مثلًا، فرتبه هو على مائة مثلًا فيتجه القول الماضي. وقد قال العراقي في "القواعد" من البِدع المكروهة الزيادة في

رجاله ستة

المندوبات المحدودة شرعًا؛ لأن شأن العظماء إذا حدوا شيئًا أن يوقف عنده، ويعد الخارج عنه مسيئًا للأدب. وقد مثله بعض العلماء بالدواء يكون مثلًا فيه أوقية سكر، فلو زيد فيه أوقية أخرى لتخلف الانتفاع به، ولو اقتصر على الأوقية في الدواء ثم استعمل من السكر بعد ذلك ما شاء لم يتخلف الانتفاع، ويؤيد ذلك أن الأذكار المتغايرة إذا ورد لكل منها عدد مخصوص مع طلب الإِتيان بجميعها متوالية لم تحسن الزيادة على العدد المخصوص لما في ذلك من قطع الموالاة لاحتمال أن يكون للموالاة في ذلك حِكمة خاصة تفوت بفواتها. وعند الطبراني في "الكبير" من حديث زميل الجهني قال: "كانَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إذا صلَّى الصبحَ قال وهو ثانٍ رجليهِ: سبحانَ اللهِ وبحمدِهِ، وأستغفرُ الله إنَّه كان توابًا سبعينَ مرةً، ثم يقولُ سبعينَ سبعمائةٍ" الحديث. وعند النَّسائيّ في اليوم والليلة عن أبي هريرة مرفوعًا: "مَنْ سبَّحَ دُبُرَ كلِّ صلاةٍ مكتوبة مائةً، وكبَّر مائةً، وحمدَ مائةً غُفرتْ ذنوبُهُ وإنْ كانت أكثرَ مِنْ زَبَدِ البحر". وقد زاد مسلم في رواية ابن عجلان عن سمي قال أبو صالح: "فرجعَ فقراءُ المهاجرينَ إلى رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: سمعَ إخوانُنا أهلُ الأموالِ بما فعلنا فقالوا مثلَهُ فقال رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ذلك فضلُ اللهِ يؤتيهِ مَنْ يشاءُ". وهذه الزيادة مدرجة من كلام سهيل فهي مرسلة، وقد رواها جعفر الفريابي عن حرام بن حكيم عن أبي ذرٍّ، ونقل الخطيب أن حرام بن حكيم يرسل الرواية فلم يصح بهذه الرواية إسناد إلا أن هذه الطريق وطريقة البزار عن ابن عمر الضعيفة يقوى بهما مرسل أبي صالح. ومن فوائد هذا الحديث ما جرى بين العلماء من الخلاف في فضل الغني الشاكر والفقير الصابر أيهما أفضل، وهو بحث طويل وقد استوفينا الكلام عليه غاية الاستيفاء عند حديث ابن مسعود "لا حسد إلا في اثنتين" في باب (الاغتباط في العلم والحكمة) من كتاب "العلم" وفيه أن العالم إذا سئل عن مسألة يقع فيها الخلاف أن يجيب بما يلحق به المفضول درجة الفاضل، ولا يجيب بنفس الفاضل لئلا يقع الخلاف. كذا قال ابن بطال وكأنه أخذه من كونه -صلى الله عليه وسلم- أجاب بقوله: "ألا أدلُّكم على أمرٍ تساوونهم فيهِ" وعدل عن قوله: "نعم هم أفضلُ منكم بذلك" وفيه التوسعة في الغبطة، وقد مرّ تفسيرها والفرق بينها وبين الحسد المذموم في الباب المذكور آنفًا من كتاب "العلم" وفيه المسابقة إلى الأعمال المحصلة للدرجات العالية لمبادرة الأغنياء إلى العمل بما بلغهمِ، ولم ينكر عليهم -صلى الله عليه وسلم- فيؤخذ منه أن قوله: "إلا مَنْ عمل" عامٌّ للفقراء والأغنياء خلافًا لمن أوّله بغير ذلك، وفيه أن العمل السهل قد يدرك به صاحبه فضل العمل الشاق، وفيه فضل الذِّكر عقب الصلوات. واستدل به البخاري على فضل الدعاء عقيب الصلاة كما يأتي في "الدعوات"؛ لأنه في معناها ولأنها أوقات فاضلة يرتجى فيها إجابة الدعاء، وفيه أن العمل القاصر قد يساوي المتعدي خلافًا لمن قال إن المتعدي أفضل مطلقًا. رجاله ستة: قد مرّوا، مرّ محمد بن أبي بكر المقدمي في الرابع والثمانين من أحاديث استقبال القبلة، ومرّ

لطائف إسناده

معتمر بن سليمان في التاسع والستين من "العلم"، ومرّ عبيد الله العمري في الرابع عشر من الوضوء, ومرّ سمي في التاسع عشر من الأذان, ومرّ أبو صالح وأبو هريرة في الثاني من الإِيمان. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، والأولان من رجاله بصريان والبقية مدنيون. أخرجه مسلم في "الصلاة" والنَّسائيّ في "اليوم والليلة".

الحديث الحادي عشر والمئة

الحديث الحادي عشر والمئة حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ وَرَّادٍ كَاتِبِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: أَمْلَى عَلَيَّ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ فِي كِتَابٍ إِلَى مُعَاوِيَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهْوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ. قوله: "عن وراد" عند الإسماعيلي من رواية سليمان بن المعتمر حدّثنا ورّاد. وقوله: "في كتاب إلى معاوية" كان المغيرة إذ ذاك أميرًا على الكوفة من قِبل معاوية ويأتي في "الدعوات" عن ورّاد بيان السبب في ذلك، وهو أن معاوية كتب إليه: اكتب إليَّ حديثًا سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وفي "القدر" عن وراد قال: كتب معاوية إلى المغيرة اكتب إليَّ ما سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول خلف الصلاة، وقد قيّدها في رواته الباب بالمكتوبة، وكأن المغيرة فهم ذلك من قرينة في السؤال، واستدل به على العمل بالمكاتبة وأجرائها مجرى السماع في الرواية ولو لم تقترن بالإجازة، وعلى الاعتماد على خبر الشخص الواحد. وقيل إن معاوية كان قد سمع الحديث المذكور وإنما أراد استثبات المغيرة، واحتج القائل بما في "الموطأ" أن معاوية كان يقول على المنبر: "أيّها الناسُ إنه لا مانعَ لما أعطى الله، ولا معطيَ لما منعَ الله، ولا ينفعُ ذا الجدِّ منه الجدُّ، من يُرِدِ اللهُ به خيرًا يفقهْهُ في الدينِ، ثم يقول سمعتهُ مِنْ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- على هذه الأعواد". وقوله: "في دُبُر كلِّ صلاة" بضمتين وبسكون الباء الموحدة أي: عُقْب كلّ صلاة. وقوله: "لا إله إلا الله" بالرفع على الخبرية (للا) أو على البدل من الضمير المستتر في الخبر، أو من اسم (لا) باعتبار محله قبل دخولها، أو أن (إلا) بمعنى غير (أي لا إله غير الله في الوجود)؛ لأنا لو حملنا (إلا) على الاستثناء لم تكن الكلمة توحيدًا محضًا. قلت: لم يظهر لي معنى لم تكن توحيدًا محضًا، وعورض ما ذكر بأنه على تأويل (إلا) بغير يصير المعنى نفي إله مغاير له، ولا يلزم من نفي مغاير الشيء إثباته هو، فيعود الإشكال. وأجيب بأن إثبات الإله كان متفقًا عليه بين العقلاء إلا أنهم كانوا يثبتون الشركاء والأنداد، فكان المقصود بهذه الكلمة نفي ذلك وإثبات الإِله من لوازم المعقول. سلّمنا أن لا إله دلّت على نفي سائر الآلهة وعلى إثبات الإِلهية لله تعالى إلا أنها بوضع الشرع لا بمفهوم أصل اللغة. وقد يجوز النصب على الاستثناء أو الصفة لاسم (لا) إذا كانت بمعنى غير،

لكن المسموع الرفع. قال البيضاوي في آية: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ} أي: غير الله وصف بإلا لما تعذر الاستثناء لعدم شمول ما قبلها لما بعدها، ودلالة على ملازمة الفساد لكون الآلهة فيهما دونه، والمراد ملازمته لكونها مطلقًا أو معه حملًا لها على غير كما استثنى بغير حملًا لها عليها. ولا يجوز الرفع على البدل لأنه متفرغ على الاستثناء ومشروط بأن يكون في كلام غير موجب، ثم اعلم أنه لا خلاف أن في قولك قام القوم إلا زيدًا مخرجًا ومخرجًا منه، وأن المخرج ما بعد (إلا) والمخرج منه ما قبلها, ولكن قبل (إلا) شيئان: القيام، والحكم به. والقاعدة أن ما خرج من نقيض دخل في النقيض الآخر، واختلفوا هل زيد مخرج من القيام أو من الحكم به، والذي عليه محققو النحاة والفقهاء أنه مخرج من القيام فيدخل في عدم القيام، فهو غير قائم. وقيل هو مخرج من الحكم بالقيام فيدخل في عدم الحكم، فهو غير محكوم عليه وهو قول قوم من الكوفيين ووافقهم الحنفية. فعند غير الحنفية أن الاستثناء من النفي إثبات ومن الإِثبات نفي، وعندهم أن المستثنى غير محكوم عليه بشيء، ومن حجج الجمهور الاتفاق على حصول التوحيد بقول (لا إله إلاَّ الله) وذلك إنما يتمشى على القول بأن المستثنى محكوم عليه لا على قولهم إنه مسكوت عنه. واحتج الحنفية بحديث: "لا نكاحَ إلاَّ بولي، ولا صلاةَ إلا بطهورٍ"، فإنه لا يجب تحقق الصلاة عند الطهور لتوقفه على شرائط أخر. وأورد عليه أنه على هذا التقدير لا تكون كلمة التوحيد توحيدًا تامًا؛ لأنه يكون المراد منها نفي الألوهية عن غير الله تعالى، ولا يلزم منه إثبات الألوهية له تعالى، وهذا ليس بتوحيد. وأجابوا عن هذا بما مرّ من أن إثبات الإله كان متفقًا عليه إلخ. وقد مرّ بعض مباحث (لا إله إلاّ الله) في أول كتاب "الإِيمان" عند حديث: "بُنيَ الإِسلامُ على خمسٍ: شهادةِ أنْ لا إِلهَ إِلاّ اللهُ". وقوله: "وحده" منصوب على الحال أي: (لا إلَه منفردًا). وقوله: "لا شريك له" تأكيد لقوله وحده؛ لأن المتصف بالوحدانية لا شريك له، وكونه لا شريك له ثابت عقلًا ونقلًا: أما عقلًا فلأن وجود إلهين محال إذ لو فرضنا وجودهما لكان كل واحد منهما قادرًا على كل المقدورات، فلو فرضنا أن أحدهما أراد تحريك زيد والآخر تسكينه فإما أن يقع المرادان وهو محال لاستحالة الجمع بين الضدين، أو لا يقع واحد منهما وهو محال؛ لأن المانع من وجود مراد كل واحد منهما حصول مراد الآخر، ولا يمتنع وجود مراد هذا إلا عند وجود مراد الآخر أو بالعكس، فلو لم تنفذ الإِرادتان لزم وجود الفعل بهما وعدم وجوده بهما، وبيان ذلك أن إحدى الإِرادتين إذا لم تنفذ فلم يوجد الفعل بها وجد بالأخرى إذ لا وجود له إلا بأحدهما، لكن الأخرى لم تنفذ أيضًا فيلزم نفوذ الأولى إذ لا مانع لها فيوجد بها، فقد لزم وجود الفعل بهما وعدم وجوده بهما. وأما نقلًا، فلقوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} هو الأول والأخر، والأول هو الفرد السابق وذلك يقتضي أن لا شريك له، وبسط هذا الدليل محله كتب التوحيد. وقوله: "له المُلك" المُلك بضم الميم يعم وبكسرها يخص؛ فلأجل ذلك قيل الملك بكسر

اللام من الملك بالضم، والمالك من الملك بالكسر وقوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قرىء بكسر اللام ويمد الميم واختلف أي القرائتين أبلغ قيل: (مَلِك) أعم وأبلغ من (مالك) إذ كل (مَلِك) (مالك) ولا عكس؛ ولأن أمر (المُلْك) نافذ على (المالك) في ملكه حتى لا يتصرف (المالك) إلا عن تدبير (المَلِك). وقيل المالك أبلغ؛ لأنه يقال مالك الدار ومالك الدابة، ولا يقال (مَلِك) إلا لملك من الملوك، ولما فيها من زيادة البناء. وقال قطرب: الفرق بينهما أن ملكًا من الملوك، وأما مالك فهو مالك الملوك. وقد فُسر الملك في القرآن بمعان مختلفة، والمعنى هاهنا له جميع أصناف المخلوقات. وقوله: "وله الحمد" أي: جميع حمد أهل السموات والأرض، وجميع أصناف المحامد التي بالأعيان والأعراض بناء على أن الألف واللام لاستغراق الجنس، ولما كان الله تعالى مالك المُلك كله استحق أن يكون جميع المحامد له دون غيره، فلا يُحمد غيره. وأما قولهم: حمدت فلانًا على صنيعه أو الجوهرة على صفائها، فذلك حمد للخالق في الحقيقة؛ لأن حمد المخلوق على فعل أو صفة حمد لخالقه الموجد لذلك. وقوله: "وهو على كلّ شيء قدير" من باب التتميم والتكميل؛ لأن الله تعالى لما كانت الوحدانية له والمُلك له، والحمد له، فبالضرورة يكون قادرًا على كلّ شيء وذكره يكون للتتميم والتكميل. والقدير اسم من أسماء الله تعالى، كالقادر والمقتدر وله القدرة الكاملة الباهرة. زاد الطبري عن المغيرة: "يحيي ويميتُ وهو حيٌّ لا يموتُ، بيدهِ الخيرُ وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ" ورواته موثقون. وثبت عند البزار عن عبد الرحمن بن عوف بسند ضعيف لكن في القول إذا أصبح وإذا أمسى وأخرجه التِّرمِذِيّ عن عمر رفعه: "من قال حينَ يدخلُ السوقَ لا إِله إلاَّ الله بتمامه" وفي سنده لين. وقوله: "اللَّهمَّ لا مانعَ لما أَعطيتَ" أي: للذي أعطيته. وقوله: "ولا معطيَ لما منعتَ" أي: للذي منعته. وفي مسند عبد بن حميد من رواية معمر عن عبد الملك بن عمير بهذا الإسناد زيادة: "ولا رادَ لما قضيتَ" لكن حُذف. قوله: "ولا معطيَ لما منعتَ" ووقع عند الطبراني تامًا من وجه آخر، وعند أحمد والنَّسائيّ وابن خزيمة عن عبد الملك بن عمير بالإِسناد المذكور أنه كان يقول الذكر المذكور أو ثلاث مرات، وقد أجاز البغداديون ترك تنوين الاسم المطول فأجازوا (لا طالع جبلًا) أجروه في ذلك مجرى المضاف كما أجري مجراه في الإعراب. قال ابن هشام: وعلى ذلك يتخرج الحديث. قال الدماميني: بل يتخرج الحديث على قول البصريين أيضًا بأن يجعل مانع اسم (لا) مفردًا مبينًا معها، إما لتركيبه معها تركيب خمسة عشر, وإما لتضمنه معنى (من) الاستغراقية على الخلاف المعروف في المسألة والخبر محذوف أي: (لا مانع مانع لما أعطيت) واللام للتقوية. ذلك أن تقول تتعلق، ولك أن تقول لا تتعلق. وكذا القول في "ولا معطي لما منعت" وجوز الحذف ذكر مثل المحذوف وحسنه دفع

التكرار، فظهر بذلك أن التنوين على رأي البصريين ممتنع، ولعل السر في العدول عن تنوينه، إرادة التنصيص على الاستغراق ومع التنوين يكون الاستغراق ظاهرًا لا نصًا، فإن قيل إذا نون الاسم كان مطولًا ولا عاملة، وقد تقرر أنها عند العمل ناصة على الاستغراق. أجيب بأن بعضهم خص الاستغراق بحالة البناء من جهة تضمن معنى (من) الاستغراقية، ولو سلم ما قيل لم يتعين عملها في هذا الاسم المنصوب حتى يكون النصب على الاستغراق حاصلًا لاحتمال أن يكون بفعل محذوف، أي: لا نجد ولا نرى مانعًا ولا معطيًا فعدل إلى البناء لسلامته من هذا الاحتمال. وقوله: "ولا ينفع ذا الجَدَّ منك الجَدُّ" أي: بفتح الجيم فيهما الغنى أي: لا ينفع ذا الغنى عندك غناه إنما ينفعه العمل الصالح وعلى هذا تكون (من) في قوله منك بمعنى عند. وقيل بمعنى بدل كما في قوله تعالى: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ} أي: بدل الآخرة وكقول الشاعر: فليتَ لنا مِنْ ماءِ زمزمَ شربةً ... مبردةً باتتْ على الطَّهَيانِ والطهيان بحركات خشبة يبرَّد عليها الماء. وقال ابن التين ليست بمعنى عند ولا بدل بل هي كقولك: (ولا ينفعُكَ مني شيءٌ إنْ أنا أردتُكَ بسوءٍ) ومقتضى قوله: أنها بمعنى عند أو فيه حذف تقديره (من قضائي أو سطوتي أو عذابي) واختار في المغني الأول. قال ابن دقيق العيد: قوله "منك" تجب أن يتعلق بينفع وينبغي أن يضمن ينفع معنى يمنع وما قاربه، ولا يجوز أن يتعلق "منك" بالجد كما يقال (حظي منك كثير)؛ لأن ذلك نافع (والجد) مضبوط بالفتح في جميع الروايات. ومعناه الغنى والحظ، وحكى الراغب أن المراد به هنا أبو الأب أي: لا ينفع أحداً نسبه. ورواه أبو عمرو الشيباني بالكسر ومعناه: لا ينفع ذا الاجتهاد اجتهاده وأنكره الطبري. ووجه القزاز إنكاره بأن الاجتهاد في العمل نافع؛ لأن الله تعالى دعا الخلق إلى ذلك فكيف لا ينفع عنده؟ قال فيحتمل أن يكون المراد أنه لا ينفع الاجتهاد في طلب الدنيا وتضييع الآخرة. قلت: هذا الاحتمال بعيد جدًا؛ لأنه أوضح من أن ينفى. وقال غيره: لعل المراد أنه لا ينفع بمجرده ما لم يقارنه القبول وذلك لا يكون إلا بفضل الله ورحمته كما يأتي في "الرقاق" في باب: (القصد والمداومة على العمل) عند حديث: "لا يُدخلُ أحدًا منكم الجنَةَ عملُهُ". وقيل المراد على رواية الكسر السعي التام في الحرص أو الإِسراع في الهرب. قال النووي: المشهور الذي عليه الجمهور أنه بالفتح وهو الحظ في الدنيا بالمال أو الولد أو العظمة أو السلطان، والمعنى لا ينجيه حظه منك وإنما ينجيه فضلك ورحمتك، وفي الحديث استحباب هذا الذكر عقيب الصلوات لما اشتمل عليه من ألفاظ التوحيد ونسبة الأفعال إلى الله والمنع والإِعطاء وتمام القدرة، وفيه المبادرة إلى امتثال السُّنن وإشاعتها. وروى ابن خزيمة عن أبي بكرة: "أنَّ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- كان يقولُ في دُبُرِ الصلوات: "اللَّهُمَّ إنِّي أعوذ بكَ مِنَ الكفرِ والفقرِ وعذاب القبرِ". وروى أيضًا عن عقبة بن عامر قال: "قال لي رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "اقرأْ المعوذاتِ في دُبُرِ كلِّ صلاةٍ". وعند النَّسائيّ: "اقرأ بالمعوذتين". وعند ابن السني عن أبي أمامة: "مَنْ قرأ آية الكرسي، وقُلْ هو اللهُ أحدٌ دُبُرَ كلِّ صلاةٍ مكتوبةٍ لم يمنعه من دخولِ الجنَّةِ

رجاله خمسة

إلاَّ الموتُ". وفي كتاب "اليوم والليلة" لأبي نعيم الأصبهاني: "مَنْ قال حين ينصرفُ من صلاةِ الغداة قبلَ أن يتكلمَ: لا إلهَ إلاَّ الله وحدَهُ لا شريكَ لهُ، لهُ المُلكُ ولهُ الحمدُ، وهو على كلِّ شيءٍ قديرٍ أُعطيَ سبعَ خصالٍ، وكُتبَ لهُ عشرُ حسناتٍ، ومُحي عنه عشرُ سيئاتٍ، ورفعَ له بهنَّ عشرُ درجاتٍ، وكُنَّ لهُ عدلُ عشر نسماتٍ، وكُنَّ له عصمةً مِنَ الشيطانِ وحِرْزًا من المكروهِ، ولا يلحقُهُ في يومِهِ ذلكَ ذنبٌ إلا الشرك باللهِ، ومَنْ قالهنَّ حين ينصرفُ من صلاةِ المغرب أُعطي مثلَ ذلكَ". وفي لفظ: "مَنْ قال بعدّ الفجر ثلاثَ مراتٍ أستغفرُ الله العظيمَ الذي لا إلهَ إلاَّ هَو وأتوب إليه كُفِّرتْ ذنوبُهُ وإن كانتْ مثلَ زَبَدِ البحَرِ". وفي كتاب "عمل اليوم والليلة" لأبي نعيم أيضًا عن أبي أُمامة ما يفوتُ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- في دُبر صلاةٍ مكتوبةٍ ولا تطوع إلا سمعتُهُ يقولُ: "اللَّهُمَّ اغفرْ لي خطاياي كلَّها، اللَّهُمَّ اهدني لصالح الأَعمالِ والأخلاقِ إنّه لا يهدي لصالِحها ولا يصرفُ سيئَها إلا أنت". وروى الثعلبي في تفسيره عن أنس بن مالك قال: "قال رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: أوحى الله تعالى إلى موسى -عليه الصلاة والسلام- مَنْ داومَ على قراءة الكرسي دُبُرَ كلِّ صلاة أَعطيتُهُ أجرَ المتقينَ وأعمالَ الصديقينَ". رجاله خمسة: وفيه ذكر معاوية، مرّ الجميع إلاَّ ورادًا، مرّ محمد بن يوسف الفريابي في العاشر من العلم، ومرّ الثوري في السابع والعشرين من الإِيمان, ومرّ المغيرة في الحادي والخمسين منه، ومرّ عبد الملك بن عمير في الحادي والثلاثين من أبواب الجماعة، ومرّ معاوية في الثالث عشر من العلم. وأما ورّاد بتشديد الراء فهو أبو سعيد الثقفي، ويقال أبو ورد الكوفي كاتب المغيرة ومولاه، ذكره ابن حِبّان في الثقات روى عن المغيرة، ووفد على معاوية وروى عنه عبد الملك بن عمير والشعبي ورجاء بن حَيْوة وعطاء بن السائب وغيرهم. لطائف إسناده: فيه التحديث بالعنعنة والقول، ورواته كوفيون ما عدا محمد بن يوسف فإنه فريابي أخرجه البخاري أيضًا في "الاعتصام" وفي "الرقاق" وفي "القدر" وفي "الدعوات". ومسلم في "الصلاة" وكذا أبو داود والنَّسائيّ. وأخرجه النَّسائيّ أيضًا في "اليوم والليلة". ثم قال: وقال شعبة عن عبد الملك بن عمير بهذا ولفظه عن عبد الملك بن عمير سمعت ورّادًا كاتب المغيرة بن شعبة أن المغيرة كتب إلى معاوية فذكره وفي قوله كتب يجوز لما تبين في رواية سفيان المذكورة أن الكاتب هو ورّاد لكنه كتب بأمر المغيرة وإملائه عليه. وعند مسلم كتب المغيرة إلى معاوية كتب ذلك الكتاب له ورّاد فجمع بين الحقيقة والمجاز، وهذا التعليق وصله السّراج في مسنده والطبراني في الدعاء وابن حِبّان وشعبة، ومرّ في الثالث من الإيمان وعبد الملك ذكر محله في الذي قبله. ثم قال: وقال الحسن: جد غنى الأولى في قراءة هذا الحرف أن يقرأ بالرفع بغير تنوين على الحكاية وهو

باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم

مبتدأ وخبره غنى، ويظهر ذلك من لفظ الحسن في رواية سليمان التيمي عنه في قوله تعالى: {جَدُّ رَبِّنَا}. قال غنى ربنا، وعادة البخاري إذا وقع في الحديث لفظة غريبة ووقع مثلها في القرآن يحكي قول أهل التفسير فيها، وهذا منها وفي رواية كريمة قال الحسن: الجد غنى، وسقط هذا الأثر من أكثر الروايات، وهذا الأثر وصله ابن أبي حاتم وعبد بن حميد والحسن مرّ في الرابع والعشرين من الإيمان. ثم قال: وعن الحكم عن القاسم بن مخيمرة عن ورّاد بهذا وقع في رواية أبي ذرٍّ هذا التعليق عن الحكم مؤخرًا عن أثر الحسن، وفي رواية كريمة بالعكس وهو الأصوب؛ لأن قوله عن الحكم معطوف على قوله عن عبد الملك، فهو من رواية شعبة عن الحكم أيضًا ولفظه كلفظ عبد الملك السابق إلا أنه قال فيه كان إذا قضى صلاته وسلم قال فذكره ووقع نحو هذا التصريح لمسلم عن المسيب بن رافع عن ورّاد به، وهذا التعليق أخرجه السّراج والطبراني وابن حِبّان. وورّاد مرّ في الذي قبله والحكم بن عتيبة مرّ في الثامن والخمسين من العلم، والقاسم بن مُخَيمَرة بضم الميم الأولى وفتح الخاء المعجمة وفتح الميم الثانية الهمداني أبو عروة الكوفي سكن دمشق. ذكره ابن حِبّان في "الثقات" وقال: ما أحسبه سمع من أبي موسى وكان من خيار الناس ومن صالحي أهل الكوفة، انتقل منها إلى الشام مرابطًا. وقال ابن سعد: كان ثقة وله أحاديث. وقال ابن معين: ثقة ولم يسمع من أحد من الصحابة، وقال أبو حاتم: صدوق ثقة كوفي الأصل كان معلمًا بالكوفة، ثم سكن الشام. وقال إسماعيل بن أبي خالد: كنّا في كُتّابه وكان يعلمنا ولا يأخذ منا. وقال العجلي وابن خراش: ثقة. وقال الأوزاعي أتى القاسم بن مخيمرة عمر بن عبد العزيز ففرض له وأمر له بغلام، فقال: الحمد لله الذي أغناني عن التجارة. قال وكان له شريك كان إذا ربح قاسمه، ثم قعد في بيته فلا يخرج حتى يأكله. روى عن عبد الله بن عمرو بن العاص وأبي سعيد الخدري وأبي أمامة وعلقمة بن قيس وورّاد كاتب المغيرة وغيرهم. وروى عنه أبو إسحاق السبيعي وسماك بن حرب والحكم بن عتيبة وإسماعيل بن أبي خالد وحسّان بن عطية وغيرهم قال خليفة: مات في خلافة عمر بن عبد العزيز، وقيل مات سنة مئة، وقيل سنة إحدى ومئة. ثم قال المصنف: باب يستقبل الإِمام الناس إذا سلَّم قيل الحكمة في استقبال المأمومين أن يعلّمهم ما يحتاجون إليه، فعلى هذا يختص بمن كان في مثل حاله -صلى الله عليه وسلم- من قصد التعليم والموعظة، وقيل الحكمة فيه تعريف الداخل بأن الصلاة انقضت إذ لو استمر الإِمام على حاله لأوهم أنه في التشهد مثلًا. وقال الزين بن المنير: استدبار الإِمام المأمومين إنما هو لحق الإمامة، فإذا انقضت الصلاة زال السبب فاستقبالهم حينئذ يرفع الخُيلاء والترفع على المأمومين، وستأتي في الباب الذي بعد هذا زيادة.

الحديث الثاني عشر والمئة

الحديث الثاني عشر والمئة حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا صَلَّى صَلاَةً أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ. ومطابقة الحديث للترجمة في قوله: "أقبل علينا بوجهه". ومعنى قوله: "إذا صلّى صلاة أقبل علينا بوجهه" أنه إذا صلّى صلاة ففرغ منها أقبل علينا لضرورة أنه لا يتحول عن القبلة قبل فراغ الصلاة، وسياق حديث سمرة ظاهره أنه كان يواظب على ذلك. رجاله أربعة: مرّوا، مرّ موسى بن إسماعيل في الخامس من بدء الوحي، ومرّ جرير بن حازم في السبعين من أحاديث أبواب استقبال القبلة، ومرّ أبو رجاء في الحادي عشر من التيمم، ومرّ سمرة بن جندب في الخامس والثلاثين من الحيض. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، أخرجه البخاري مقطعًا في "الصلاة" وفي "الجنازة" و"البيوع" و"الجهاد" و"بدء الخلق" وفي "الأدب" وفي أحاديث الأنبياء. ومسلم في "الرؤيا" والتِّرمِذِيّ فيها والنَّسائيّ فيها وفي التفسير.

الحديث الثالث عشر والمئة

الحديث الثالث عشر والمئة حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- صَلاَةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلَةِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟. قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي وَمُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ. وهذا أصرح في مطابقة الترجمة من الذي قبله؛ لقوله فيه "فلما انصرف" قوله عن زيد بن خالد لم يختلف على صالح في ذلك، وخالفه الزهري فرواه عن شيخهما عبيد الله عن أبي هريرة. أخرجه مسلم عقب رواية صالح فصحح الطريقين؛ لأن عبيد الله سمع من زيد بن خالد وأبي هريرة جميعًا عدة أحاديث منها حديث العسيف وحديث الأَمة إذا زنت فلعله سمع منهما هذا فحدّث به تارة عن هذا وتارة عن هذا، وإنما يجمعهما لاختلاف لفظهما كما نشير إليه وقد صرّح صالح بسماعه له من عبيد الله عن أبي عوانة، وروى صالح عن عبيد الله بواسطة الزهري عدة أحاديث منها ابن عباس في شاة ميمونة كما مرّ في الطهارة وحديثه عنه في قصة هرقل كما مرّ في بدء الوحي. وقوله: "صلّى لنا" أي (لأجلنا) أو اللام بمعنى الباء أي: صلى (بنا) وفيه جواز إطلاق ذلك مجازًا وإنما الصلاة لله تعالى. وقوله: "بالحديبية" بالمهملة والتصغير وتخفيف يائها وتثقل وقال ابن المديني الحجازيون يخففون الياء، والعراقيون يشددونها وأكثر المحدثين يشددونها وهي قرية على مرحلة من مكة. قيل سميت ببير هناك، وقيل سميت بشجرة هناك حدباء بعضها في الحل وبعضها في الحرم وهي أبعد أطراف الحرم عن البيت. وقوله: "على إثر" بكسر الهمزة وسكون المثلثة على المشهور وهو ما يعقب الشيء. وقوله: "سماء" أي: مطر وأطلق عليه سماء؛ لأنه ينزل من جهة السماء وكل جهة علو تسمى سماء. وقوله: "كانت من الليل" كذا للأكثر وللمستملي والحموي من الليلة بالإِفراد. وقوله: "فلما انصرف من صلاته أو من مكانه"، وقوله: "هل تدرون" لفظ استفهام معناه التنبيه وفي رواية سفيان عن صالح عند النسائي "ألم تسمعوا ما قال ربُّكم الليلة". وهذا من الأحاديث

الإِلهية وهي يحتمل أن يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- أخذها عن الله تعالى بلا واسطة أو بواسطة. وقوله: "أصبح من عبادي" هذه إضافة عموم بدليل التقسيم إلى مؤمن وكافر بخلاف مثل قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} فإنها إضافة تشريف. وقوله: "فذلك مؤمنٌ بي وكافرٌ بالكوكب" بالتنوين فيهما وللأربعة مؤمن بغير تنوين، وثبت قوله (بي) لأبي ذرٍّ وسقطت لغيره وسقطت (واو) وكافر لأبي ذرٍّ وابن عساكر. وقوله: "وأما مَنْ قال بنَوء كذا وكذا" النَوء بفتح النون وسكون الواو في آخره همزة. قال ابن قتيبة معنى النوء سقوط نجم في المغرب من النجوم الثمانية والعشرين التي هي منازل القمر، وهو مأخوذ من ناء إذا سقط. وقال آخرون بل النوء طلوع نجم منها، وهو مأخوذ من ناء إذا نهض ولا تخالف بينهما في الوقت؛ لأن كل نجم منها إذا طلع في المشرق سقط حال طلوعه آخر في المغرب لا يزال ذلك مستمرًا إلى أن تنتهي الثمانية والعشرون بانتهاء السنة، فإنّ لكل منها ثلاثة عشر تقريبًا، فالنوء هو السقوط أو الطلوع، وتسمية الكوكب بالنوء تسمية للفاعل بالمصدر. وقوله: "كذا وكذا" قد عرف أن كذا يرد على ثلاثة أوجه: الأول أن تكون كلمتين باقيتين على أصلهما مركبتين من (كاف) التشبيه و (ذا) الإِشارة نحو رأيت عمرًا فاضلًا، ورأيتُ زيدًا كذا وتدخل عليها حينئذ هاء التنبيه نحو هكذا عرشك. الثاني: أن تكون كلمة واحدة مركبة من كلمتين مكنيًا بها عن غير عدد كما في الحديث: "أنه يُقالُ للعبدِ يومَ القيامةِ أتذكرُ يومَ كذا وكذا فعلتَ كذا وكذا" وكما في هذا الحديث فإنه كناية عن الكوكب. والثالث: أن تكون كلمة واحدة مركبة مكنيًا بها عن العدد كما تقول لي عليه كذا درهمًا. وقوله: "فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب" يحتمل أن يكون المراد بالكفر هنا كفر الشرك بقرينة مقابلته بالإِيمان. ولأحمد عن معاوية الليثي مرفوعًا "يكونُ الناسُ مجدبينَ فَيُنزلُ الله عليهم رزقًا من السماءِ من رزقهِ فيصبحونَ مشركينَ يقولونَ مطرنَا بنوءِ كذا". ويحتمل أن يراد به كفر النعمة ويرشد إليه ما في رواية معمر عن صالح: "فأما مَنْ حمدني على سُقياي وأثنى عليَّ فذلكَ آمنَ بي". وفي رواية سفيان عند النَّسائيّ والإِسماعيليّ نحوه. وقال في آخره: "وكفر بي"، وقال: "كفرَ نعمتي". وفي رواية أبي هريرة عند مسلم "قال الله: ما أنعمتُ على عبادي من نعمةٍ إلاَّ أصبحَ فريقٌ منهم كافرينَ بها". وله في حديث ابن عباس: "أصبحَ مِنَ الناس شاكرٌ ومنهم كافرٌ". وحمله على الأول كثير من أهل العلم وقال الشافعي في "الأُم" من قال: "مطرناَ بنوءِ كذا وكذا" على ما كان بعض أهل الشرك يعنون من إضافة المطر إلى أنه مطر نوء كذا، فذلك كفر كما قال عليه الصلاة والسلام؛ لأن النوء وقت، والوقت مخلوق لا يملك لنفسه ولا لغيره شيئًا. ومَنْ قال: "مطرنا بنوء كذا" على معنى مطرنا في وقت كذا فلا كفر أو غيره من الكلام أحب إليّ منه حسمًا للمادة، وعلى ذلك يحمل إطلاق الحديث. وحكى ابن قتيبة أن العرب كانت في ذلك على مذهبين على نحو ما ذكره الشافعي قال: وكانوا في الجاهلية يظنون أن نزول الغيث بواسطة النوء إما بصنعه على زعمهم، وإما بعلامته فأبطل

رجاله خمسة

الشرع قولهم وجعله كفرًا، فإن اعتقد قائل ذلك أن للنوء صنعًا في ذلك فكفره كفر تشريك، وإن اعتقد أن ذلك من قبيل التجربة فليس بشرك لكن يجوز إطلاق الكفر عليه وإرادة كفر النعمة؛ لأنه لم يقع في شيء من طرق الحديث بين الكفر والشرك واسطة، فيحمل الكفر فيه على المعنيين لتناول الأمرين ولا يرد الساكت؛ لأن المعتقد قد يشكر بقلبه أو يكفر وعلى هذا، فالقول في قوله، فأما قال لما هو أعم من النطق والاعتقاد كما أن الكفر فيه لما هو أعم من كفر الشرك وكفر النعمة وإنما كان النطق بهذا للمعتقد أن الله تعالى هو الخالق منهيًا عنه؛ لأن فيه مخالفة الشرع في تشبهه بأهل الكفر في قولهم وذلك لا يجوز, لأنا أُمرنا بمخالفتهم فقال: "خالفوا المشركينَ وخالفوا اليهودَ" ونهينا عن التشبه بهم وذلك يقتضي الأمر بمخالفتهم في الأفعال والأقوال، فلو قال نظير هذا الممنوع منه يريد الإِخبار عما أجرى الله به سنته جاز كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا نشأتَ بحربةٍ ثم تشاء متَ فتلك عينٌ غديقةٌ". وقال صاحب "المطالع": أجاز العلماء أن يقال: (مطرنا في نوء كذا)، ولا يقال: (بنوء كذا) ويحكى عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- أنه كان يقول: "مطرنا بنوء الله تعالى" وفي رواية مطرنا بنوء الفتح ثم يتلو {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا} وفي الإِنواء الكسر لأبي حنيفة الذي عندي في الحديث أن المطر كان من أجل أن الكوكب ناء وأنه هو الذي هاجه. وأما مَنْ زعم أن الغيث يحصل عند سقوط الثريا فهذا وما أشبهه إنما هو إعلام للأوقات والفصول، وليس من وقت ولا زمن إلا وهو معروف بنوع من مرافق العباد يكون فيه دون غيره. وفي حديث أبي سعيد عند النَّسائيّ "مطرنا بنوءِ المِجْدَح" بكسر الميم وسكون الجيم وفتح الدال بعدها مهملة. ويقال بضم أوله وهو الدَّبران بحركات قيل سمي بذلك لاستدباره الثريا، وهو نجم أحمر منير صغير. قال ابن قتيبة: كل النجوم المذكورة له نوء غير أن بعضها أحمد وأغزر من بعض. ونوء الدبران غير محمود عندهم وكان ذلك ورد في الحديث تنبيهًا على مبالغتهم في نسبة المطر إلى النوء، ولو لم يكن محمودًا أو اتفق وقوع ذلك المطر في ذلك الوقت إن كانت القصة واحدة. وفي "مغازي الواقدي" أن الذي قال في ذلك الوقت مطرنا بنوء الشعرى هو عبد الله ابن أبي سلول أخرجه عن أبي قتادة. وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم طرح الإِمام المسألة على أصحابه وإن كانت لا تدرك إلا بدقة النظر، ويستنبط منه أن للولي المتمكن من النظر في الإشارة أن يأخذ منها عبارات ينسبها إلى الله تعالى، وكأنه أخذ هذا من استنطاق النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه عمّا قال ربهم وحمل الاستفهام فيه على حقيقته، لكنهم -رضي الله تعالى عنهم- فهموا خلاف ذلك؛ ولهذا لم يجيبوا إلا بتفويض الأمر إِلى الله ورسوله. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ عبد الله بن مسلمة في الثاني عشر من الإِيمان, ومرّ مالك في الثاني من بدء الوحي، ومرّ صالح بن كيسان في السابع منه، ومرّ عبيد الله في السادس منه، ومرّ زيد بن خالد في

لطائف إسناده

الثالث والثلاثين من العلم. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة أخرجه البخاري أيضًا في "الاستسقاء" وفي "المغازي" و"التوحيد"، ومسلم في "الإيمان"، وأبو داود في "الطب" والنَّسائيّ في "الصلاة" وفي "اليوم والليلة".

الحديث الرابع عشر والمئة

الحديث الرابع عشر والمئة حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ سَمِعَ يَزِيدَ قَالَ: أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: أَخَّرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الصَّلاَةَ ذَاتَ لَيْلَةٍ إِلَى شَطْرِ اللَّيْلِ ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا، فَلَمَّا صَلَّى أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا وَرَقَدُوا، وَإِنَّكُمْ لَنْ تَزَالُوا فِي صَلاَةٍ مَا انْتَظَرْتُمُ الصَّلاَةَ. ومطابقة الترجمة للحديث في قوله: "فلما صلّى أقبل علينا بوجهه" ويأتي فيه ما مرّ في حديث سمرة من أن المعنى إذا صلّى صلاة ففرغ منها أقبل علينا لضرورة أنه لا يتحول عن القبلة قبل فراغ الصلاة. وهذا الحديث مرَّ عند ذكره في باب (مَنْ جلس في المسجد ينتظر الصلاة) محل الكلام عليه. وقوله هنا: "ذات ليلة" لفظ ذات مقحم أو هو من باب إضافة المسمى إلى اسم، والألف واللام في الناس للعهد عن غير الحاضرين في المسجد النبوي. رجاله أربعة: قد مرّوا، مرّ عبد الله بن المنير في الستين من الوضوء، ومرّ يزيد بن هارون في الخامس عشر، ومرّ حميد الطويل في الثاني والأربعين من الإيمان، ومرّ أنس في السادس منه، وقد مرّ الكلام على هذا الحديث. ثم قال المصنف: باب مكث الإِمام في مصلاه بعد السلام أي: وبعد استقبال القوم فيلايم ما تقدم ثم إنّ المكث لا يتقيد بحال من ذكر أو دعاء أو تعليم أو صلاة نافلة؛ ولهذا ذكر في الباب مسألة تطوع الإِمام في مكانه.

الحديث الخامس عشر والمئة

الحديث الخامس عشر والمئة وَقَالَ لَنَا آدَمُ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّي فِي مَكَانِهِ الَّذِى صَلَّى فِيهِ الْفَرِيضَةَ. قال في "الفتح" هو موصول وإنما عبّر بقوله: "قال لنا" لكونه موقوفًا مغايرة بينه وبين المرفوع. وقيل إنه لا يقول ذلك إلا فيما حمله مذاكرة، وهو محتمل لكنه غير مطرد؛ لأني وجدت كثيرًا مما قال فيه "قال لنا في الصحيح" قد أخرجه في تصانيف أخرى بصيغة "حدّثنا". وقد روى ابن أبي شيبة أثر ابن عمرّ من وجه آخر عن أيوب عن نافع قال: "كان ابن عمرّ يصلّي سبحته مكانه" وقد مرّ الكلام على قول البخاري قال لي في الخامس من كتاب العلم وفي أبواب الجماعة. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ آدم وشعبة في الثالث من الإيمان، ومرّ أيوب في التاسع منه، ومرّ ابن عمر في أوله قبل ذكر حديث منه، ومرَّ نافع في آخر حديث من العلم. وفي هذا الحديث: "قال لنا آدم" وقد مرّ الكلام على هذا المعنى في الثامن والأربعين من أبواب الجماعة. ثم قال: وفعله القاسم وهذا التعليق وصله ابن أبي شيبة عن معتمرّ عن عبيد الله بن عمر قال: رأيت القاسم وسالمًا يصليان الفريضة، ثم يتطوعان في مكانهما، والقاسم المراد به ابن محمد بن أبي بكر وقد مرّ في الحادي عشر من الغُسل. ثم قال: ويذكر عن أبي هريرة رفعه "لا يتطوع الإِمام في مكانه" ولم يصح ذكره بالمعنى. ولفظه عند أبي داود "أيعجز أحدكم أن يتقدم أو يتأخر أو عن يمينه أو عن شماله في الصلاة". ولابن ماجه "إذا صلّى أحدكم زاد أبو داود" يعني في السبحة. وللبيهقي "إذا أراد أحدكم أن يتطوع بعد الفريضة فليتقدم" الحديث. وقوله: "لم يصح" هو من كلام البخاري وذلك من ضعف إسناده واضطرابه تفرد به ليث بن أبي سليم وهو ضعيف. وقال البخاري في تاريخه: لم يثبت هذا الحديث. وفي الباب عن المغيرة بن شعبة مرفوعًا بلفظ: "لا يصلي الإِمام في الموضع الذي صلّى فيه حتى يتحوّل" رواه أبو داود وإسناده منقطع وروى ابن أبي شيبة بإسناد حسن عن علي قال: "من السُّنَّة أن لا يتطوع الإِمام حتى يتحوّل من مكانه". وحكى ابن قدامة في "المغني" عن أحمد أنه كره ذلك، وقال: لا أعرفه عن غير علي فكأنه لم يثبت عنده حديث أبي هريرة ولا المغيرة وكان المعنى في ذلك خشية التباس النافلة بالفريضة، وللإمام في هذه المسألة حالتان؛ لأن الصلاة إما أن تكون مما يتطوع بعدها أو لا. الأول

اختلف فيه هل يتشاغل قبل التطوع بالذِّكر المأثور ثم يتطوع؟ وهذا الذي عليه عمل الأكثر، وقد مرّ الكلام عليه في حديث الذكر بعد الصلاة عند قوله خلف كل صلاة. وأما التي لا يتطوع فيتشاغل الإِمام ومَنْ معه بالذِّكر المأثور، ولا يتعين له مكان إن شاؤوا انصرفوا وذكروا، وإن شاؤوا مكثوا وذكروا، وعلى الثاني إن كان للإمام عادة أن يعلمهم أو يعظهم فيستحب أن يُقْبل عليهم بوجهه جميعًا، وإن كان لا يزيد على الذكر المأثور فهل يُقبل عليهم جميعًا أو ينتقل فيجعل يمينه من قبل المأمومين ويساره من قبل القبلة ويدعو؟ الثاني هو الذي جزم به أكثر الشافعية، ويحتمل أن قصر زمن ذلك أن يستمر مستقبلًا للقبلة من أجل أنها أليق بالدعاء، ويحمل الأول على ما لو طال الذِّكر والدعاء. وفي "المختصر" عن الشافعي أنه يستحب للإمام إذا لم يكن هناك نساء أن يقوم من مصلاه عقيب صلاته. وفي "الإحياء" للغزالي أن ذلك فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وعمر -رضي الله تعالى عنهما- وصححه ابن حِبّان في غير صحيحه. وقال النووي وعللوا قول الشافعي بعلّتين: إحداهما: لئلا يشك من خلفه هل سلّم أم لا. الثانية: لئلا يدخل غريب فيظنه بعد في الصلاة. قلت: لكن العلّتان يكفي منهما أن يشرّق أو يغرّب بوجهه من غير انتقال كما هو المشهور عند جميع الأئمة، وقد مرّ تشهيره عن الشافعية. وقد قالت المالكية: يكره للإمام تنفله بمحرابه أي: موضع صلاته، وكذا جلوسه فيه على هيئته الأولى فيشرّق أو يغرّب والأفضل أن يجعل وجهه جهة المغرب، ويمينه جهة المصلين، ويساره جهة القبلة، وما عدا ذلك من الهيئات فهو خلاف الأفضل، ومحل هذا فيمن يصلي في غير الروضة الشريفة. أما المصلي بها فإنه يجعل وجهه قبالة القبر الشريف، ويساره جهة المصلّين، ويمينه جهة القبلة، ولا يفعل ما يراه بعض أهل التشديد من قيامه بمجرد فراغه كأنما ضرب بشيء يؤلمه، ويفوت بذلك استغفار الملائكة له ما دام في مصلاه الذي صلّى فيه. وفي "العيني" الأفضل أن يجعل يمينه إليهم ويساره إلى المحراب، وقيل عكسه ويه قال أبو حنيفة. وقال صاحب "التوضيح": ظاهر حديث البراء بن عازب "رمقتُ صلاةَ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فوجدت قيامَهُ فركعتَهُ فاعتدالَهُ بعدَ ركوعِهِ فسجدَتَهُ فجلستَهُ بينَ السجدتين فسجدتَة فجلستَهُ ما بينَ التسليم والانصرافِ قريبًا مِنَ السواءِ" رواه مسلم أنه لم يكن يثب ساعة ما يسلم، بل كان يجلس بعد السلام جلسة قريبة من السجو. وفي "الذخيرة" أجمعوا على أنه إذا فرغ من صلاته لا يمكث في مكانه مستقبل القبلة وجميع الصلوات في ذلك سواء، فإن لم يكن بعدها تطوع إن شاء انحرف عن يمينه أو يساره، وإن شاء استقبل الناس بوجهه إذا لم يكن أمامه من يصلي. وقال الشافعي في "الأُم": وللمأموم أن ينصرف إذا قضى الإِمام السلام قبل قيام الإِمام، لان أخر ذلك حتى ينصرف بعد الإِمام أو معه كان ذلك أحب إلي. والجمهور على أن الإِمام لا يتطوع في مكانه الذي صلّى فيه الفريضة، وكرهه ابن عمر للإمام ولم يرَ به بأسًا لغيره. وعن عبد الله بن عمرو مثله وعن القاسم أن الإِمام إذا سلّم فواسع أن يتنفل في مكانه. قال ابن بطال: ولم أجده لغيره من

العلماء قال العيني: ذكر ابن التين أنه قول أشهب وما مرّ من أن قيام الإمام عن محله بمجرد السلام مكروه هو قول الجمهور، وقد مرّ أنه مروي عن الشافعي، وقد مرَّ ما قاله فيه الغزالي في "الإحياء"، وقال أبو محمد من المالكية ينتقل في الصلوات كلها ليتحقق المأموم أنه لم يبق عليه شيء من سجود السهو ولا غيره وحكى قطب الدين الحلبي هذا عن محمد بن الحسن وذكره ابن التين أيضًا، وذكر ابن أبي شيبة عن ابن مسعود وعائشة -رضي الله تعالى عنهما- قالا: "كان النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- إذا سلَّم لم يقعدْ إلا مقدارَ ما يقولُ اللَّهُمَّ أنتَ السلامُ ومنكَ السَّلامُ تباركتَ يا ذا الجلالِ والإكرامِ". وقال ابن مسعود: "كان -صلى الله عليه وسلم- إذا قضى صلاَتَهُ انتقلَ سريعًا إمّا أنْ يقومَ وإمّا أنْ ينحرف". وقال قتادة: كان الصديق إذا سلّم كان على الرضف حتى ينهض. وقال ابن عمر: الإِمام إذا سلّم قام. وقال مجاهد: قال عمر -رضي الله تعالى عنه-: جلوس الإِمام بعد السلام بدعة. وذهب جماعة من الفقهاء أن الإِمام إذا سلم قام، ومن صلّى خلفه من المأمومين يجوز لهم القيام قبل قيامه إلا رواية عن الحسن والزهري ذكرها عبد الرزاق، وقال: لا تنصرفوا حتى يقوم الإمام قال الزهري: إنما جُعل الإِمام ليُؤتم به، وجماعة الناس على خلافهما. وروى ابن شاهين في كتاب "المنسوخ" عن جابر: "كان النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- إذا صلَّى الغداة لم يبرحْ من مجلسهِ حتى تطلعَ الشمسُ حسناء". وفي حديث ابن جريج عن ابن عباس: "صليتُ مع النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فكان ساعةَ يسلّمُ يقومُ، ثم صلّيتُ معَ أبي بكرٍ -رضيَ الله تعالى عنه- فكانَ إذا سلَّمَ وثبَ مِنْ مكانِهِ وكأنهُ يقومُ عن رضفةٍ" ثم حملَ ابن شاهين الأول على صلاة لا تعقبها نافلة، والثاني على مقابلة. وهذا التعليق أخرجه أبو داود وابن ماجه بالمعنى، وأبو هريرة مرَّ في الثاني من الإيمان.

الحديث السادس عشر والمئة

الحديث السادس عشر والمئة حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قال: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ قال: حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ هِنْدٍ بِنْتِ الْحَارِثِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا سَلَّمَ يَمْكُثُ فِي مَكَانِهِ يَسِيرًا. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَنُرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ لِكَيْ يَنْفُذَ مَنْ يَنْصَرِفُ مِنَ النِّسَاءِ. قوله: "قال ابن شهاب" هو الزهري وهو موصول بالأسناد المذكور، وقوله: "فنُرى" بضم النون أي: نظن. وقوله: "من النساء" زاد في باب التسليم المار من هذا الوجه قبل أن يدركهن من انصرف من القوم أي الرجال وهو لفظه في رواية يحيى بن قزعة الآتية بعد أبواب. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ أبو الوليد في العاشر من الإيمان، ومرّ إبراهيم بن سعد في السادس عشر منه، ومرّ الزهري في الثالث من بدء الوحي، ومرّت هند بنت الحارث وأُم سلمة في السادس والخمسين من العلم. ثم قال: وقال ابن أبي مريم: أخبرنا نافع بن يزيد قال: حدّثني جعفر بن ربيعة أن ابن شهاب كتب إليه قال: "حدّثتني هند ابنة الحارث الفراسية عن أُم سلمة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- وكانت من صواحباتها قالت: كانَ يسلَّمْ فينصرفُ النساءُ فيدخلْن بيوتَهنَّ مِنْ قَبلِ أنْ ينصرفَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-. قوله: "من صواحباتها" جمع صاحبة وهي لغة والمشهور صواحب كضوارب وضاربة، وقيل هو جمع صواحب وهو جمع صاحبة. وقوله: "كان يسلم" أي: النبي -صلى الله عليه وسلم- وأفادت هذه الرواية الإشارة إلى أقل مقدار كان يمكثه -صلى الله عليه وسلم-. رجاله ستة: مرّ ذكر محل الثلاثة الأخيرة في الذي قبله، ومرّ سعيد بن أبي مريم في الأربعين من العلم، ومرّ جعفر بن ربيعة في الرابع من كتاب التيمم والباقي من السند نافع بن يزيد الكَلاعي بفتح الكاف أبو يزيد المصري يقال إنه مولى شرحبيل بن حسنة. قال أحمد بن صالح المصري: كان من ثقات الناس، وقال أبو حاتم والنَّسائيّ: ليس به بأس. وقال ابن يونس: كان ثبتًا في الحديث لا يُختلف

فيه. وقال العجلي: مصري ثقة، وقالَ الحاكم: ثقة مأمون، وذكره ابن حِبّان في "الثقات" وقال ابن أبي مريم: حدّثنا نافع بن يزيد وكان من خيار أُمة محمد -صلى الله عليه وسلم-. روى عن هشام بن عروة وجعفر بن ربيعة وحيوة بن شريح وخالد بن يزيد وغيرهم، وروى عنه ابن وهب وبقية وسعيد بن أبي مريم وأبو صالح كاتب الليث وغيرهم. مات سنة ثمان وستين ومئة، وهذا الحديث رواه البخاري معلقًا وقد وصله محمد بن يحيى الذهلى في الزهريات. ثم قال: وقال ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب: أخبرتني هند الفراسية وصله النَّسائيّ عن محمد بن مسلمة بالإسناد المذكور ولفظه: "أن النساءَ كنَّ إذا سلَّمن قمنَ وثبتَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ومَنْ صلَّى مِنَ الرجالِ ما شاءَ اللهُ فإذا قامَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قامَ الرجالُ". وقوله: "الفِراسية" بكسر الفاء وتخفيف الراء نسبة إلى (بني فراس) بطن من كنانة ومراد البخاري بيان الاختلاف في نسب هند فمنهم من قال الفراسية كما في هذه الرواية، ومنهم مَنْ قال القرشية كما في غيرها فمن قال من أهل النسب إن كنانة جماع قريش فلا مغايرة بين النسبتين، ومن قال إن جماع قريش فهر بن مالك فيحتمل أن يكون اجتماع النسبتين لهند على أن إحداهما بالأصالة والأخرى بالمحالفة. رجاله ثلاثة: مرّوا، مرّ ابن وهب في الثالث عشر من العلم، ومرَّ يونس في متابعة بعد الرابع من بدء الوحي، ومرَّ ابن شهاب في الثالث منه. ثم قال: وقال عثمان بن عمر: أخبرنا يونس عن الزهري حدّثتني هند القرشية، وهذا التعليق وصله البخاري فيما يأتي قريبًا في باب "خروج النساء إلى المساجد بالليل". ورجاله أربعة مرّ ذكر محل يونس والزهري في التعليق الذي قبله، ومرّ ذكر محل هند في أول روايته قبل حديث. وأما عثمان بن عمر فهو ابن فارس بن لقيط العبدي أبو محمد وقيل أبو عدي، وقيل أبو عبد الله البصري قيل أصله من بخارى أحد الأثبات، وثّقه أحمد. وابن معين والعجلي وابن سعد وآخرون. وذكره ابن حِبّان في "الثقات" وقال أبو حاتم: كان يحيى بن سعيد لا يرضاه قال في المقدمة: قد نقل البخاري عن علي بن المديني أن يحيى بن سعيد احتج به ويحيى بن سعيد شديد التعنت في الرجال ولاسيما من كان من أقرانه، وقد احتج به الجماعة روى عن ابن عون ويونس بن يزيد وابن أبي ذيب وشعبة ومالك بن أنس وهشام بن حسّان وغيرهم. وروى عنه أحمد وإسحاق وبندار وأبو موسى وعبد الله بن محمد المسندي وغيرهم. مات سنة ثمان أو تسع ومئتين. ثم قال: وقال الزبيدي: أخبرني الزهري أن هندًا بنت الحارث القرشية أخبرته وكانت تحت معبد بن المقداد وهو حليف بني زهرة، وكانت تدخل على أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- وصله الطبراني في مسند الشاميين عن عبد الله بن سالم عنه بتمامه وفيه: "أنَّ النساءَ كنَّ يشهدنَ الصلاةَ معَ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فإذا سلَّم قامَ النساءُ فانصرفنَ إلى بيوتهن قبلَ أنْ يقومَ الرجالُ".

رجاله ثلاثة: وفيه ذكر معبد بن المقداد. مرّ الزبيدي وهو محمد بن الوليد أبو الهذيل في التاسع عشر مع العلم، ومرّ ذكر محل الزهري وهند في التعليقين اللذين قبله، وأما معبد فهو ابن المقداد بن الأسود الكندي بن عمرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة بن عامر بن مطرود النهراني، وقيل الحضرمي كان يكنى به أبوه المقداد أخرج الدولابي عن هلال بن سياق قال: "بعثَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- سرية وأَمَّرَر عليها المقدادَ، فلما رجعَ قال: كيف رأيت الإمارةَ يا أبا معبدٍ؟ قال: خرجت يا رسولَ اللهِ وأنا أحدُهم ورجعتُ أبنائُهم كالعبيد لي قال: كذلك الإمارةُ يا أبا معبدٍ إلا مَنْ وقاهُ الله شرَّها. قال: لا جرمَ والذي بعثَكَ بالحقِّ لا أتأمرُ على رجلين". ثم قال: وقال شعيب: حدثتني هند القرشية وهذا التعليق وصله محمد بن يحيى في الزهريات. رجاله ثلاثة: مرّ شعيب في السابع من بدء الوحي، ومرّ الزهري في الثالث منه، ومرّت هند في السادس والخمسين من العلم. ثم قال: وقال ابن أبي عتيق عن الزهري عن هند الفراسية، وهذا التعليق موصول في الزهريات أيضًا والزهري وهند ذكرا الآن وابن أبي عتيق هو محمد بن عبد الله بن أبي عتيق، واسم أبي عتيق محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق القرشي التيمي المدني. ذكره ابن حِبّان في "الثقات" وقال الذهلي: هو حسن الحديث عن الزهري، كثير الرواية مقارب الحديث لولا أن سليمان بن بلال يحدث عنه لذهب حديثه وقال ابن أبي ذيب وابن أبي عتيق مقاربان في الرواية عن الزهري، فأما ابن أبي ذيب فمشهور، وأما ابن أبي عتيق فهو مدني لم يروِ عنه فيما علمت غير سليمان بن بلال، وسمعت أيوب بن سليمان سئل عن نسبه فذكره. وقال ما علمت أحدًا روى عنه بالمدينة غير أبي روى عن أبيه ونافع مولى ابن عمر وأبي يونس مولى عائشة والزهري وغيرهم. وروى عنه سليمان بن بلال وعبد العزيز بن أبي ساعة الماجشون ومحمد بن إسحاق ويزيد بن زريع وحمّاد بن سلمة وغيرهم. ثم قال: وقال الليث: حدّثني يحيى بن سعيد حدّثه ابن شهاب عن امرأة من قريش حدّثته عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أشار البخاري برواية الليث هذه إلى الردّ على مَنْ زعم أن قول مَنْ قال القرشية تصحيف من الفراسية لقوله فيه عن امرأة من قريش. وفي رواية الكشميهني أن امرأة. وقوله: فيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- غير موصول؛ لأنها تابعية، وكان التقصير فيه من يحيى بن سعيد الأنصاري. وروايته عن ابن شهاب من رواية الأقران، وفي الحديث مراعاة الإِمام أحوال المأمومين والاحتياط في اجتناب ما قد يفضي إلى المحذور، وفيه اجتناب مواضع التهم وكراهة مخالطة الرجال للنساء في الطرق فضلًا عن البيوت، ومقتضى التعليل المذكور أن المأمومين إذا كانوا رجالًا فقط أن لا يستحب هذا المكث، وعليه حمل ابن قدامة حديث عائشة أنه -صلى الله عليه وسلم-: "كانَ إذا سلَّم لم يقعد إلا مقدار ما يقول اللَّهُمَّ أنت السَّلامُ ومنك السَّلامُ تباركت يا ذا الجلالِ والإِكرامِ". أخرجه مسلم وفيه: "أن النساءَ كنَّ يحضرنَ الجماعةَ في المسجدِ" وستأتي المسألة

باب من صلي بالناس فذكر حاجة فتخطاهم

قريبًا وهذا التعليق لم أره موصولًا. ورجاله أربعة: مرّوا، مرّ الليث والزهري في الثالث من بدء الوحي، ومرّ يحيى بن سعيد في الأول منه، ومرّت هند في السادس والخمسين من العلم. ورواية يحيى عن الزهري من رواية الأقران. ثم قال المصنف: باب مَنْ صلَّي بالناس فذكر حاجة فتخطاهم الغرض من هذه الترجمة بيان أن المكث المذكور في الباب قبله محله إذا لم يعرض ما يحتاج معه إلى القيام.

الحديث السابع عشر والمئة

الحديث السابع عشر والمئة حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عُقْبَةَ قَالَ: صَلَّيْتُ وَرَاءَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- بِالْمَدِينَةِ الْعَصْرَ فَسَلَّمَ ثُمَّ قَامَ مُسْرِعًا، فَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ إِلَى بَعْضِ حُجَرِ نِسَائِهِ، فَفَزِعَ النَّاسُ مِنْ سُرْعَتِهِ فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ، فَرَأَى أَنَّهُمْ عَجِبُوا مِنْ سُرْعَتِهِ فَقَالَ ذَكَرْتُ شَيْئًا مِنْ تِبْرٍ عِنْدَنَا فَكَرِهْتُ أَنْ يَحْبِسَنِي، فَأَمَرْتُ بِقِسْمَتِهِ. وللمصنف في الزكاة عن عمر بن سعيد أن عقبة بن الحارث حدّثه، وقوله: "فسلم" فقام للكشميهني ثم قام. وقوله: "ففزع الناس" أي: خافوا وكانت تلك عادتهم إذا رأوا منه غير ما يعهدونه خشية أن ينزل فيهم شيء يسوءهم. وقوله: "فرأَى أنهم قد عجبوا" في رواية أبي عاصم في الزكاة. فقلت أو فقيل له وهو شك من الراوي فإن كان قوله: فقلت: محفوظًا فقد تعين الذي سأله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك من الصحابة. وقوله: "ذكرت شيئًا من تِبْر" في أواخر الصلاة عن سعيد بن عمر فذكرت وأنا في الصلاة وفي رواية أبي عاصم تبرًا من الصدقة والتِبْر بكسر المثناة وسكون الموحدة الذهب الذي لم يصف ولم يضرب. وقال الجوهري: لا يقال إلا للذهب، وقد قاله بعضهم في الفضة وأطلقه بعضهم على جميع جواهر الأرض قبل أن تصاغ. حكاه الأصمعي وكذا ابن دريد، وقيل: هو الذهب المكسور والفضة المكسورة ولكل ما كان مكسورًا من الصفر والنحاس والحديد، وإنما سمي ذهب المعدن تبرًا؛ لأنه هناك بمنزلة التبرة وهي عروق تكون بين ظهري الأرض مثل النورة، وفيها صلابة. وزعم أصحاب المعدن أن الذهب في المعدن بهذه المنزلة. وقيل: سمي تبرًا من التبير وهو الهلاك فكأنه قيل له ذلك لافتراقه في أيدي الناس، وتبديده عندهم. وقيل: سمي بذلك؛ لأن صاحبه يلحقه من التغرير ما يوجب هلاكه، وقيل: هو فعل من التبار أي: الهلاك. وقوله: "يحبسني" أي: يشغلني التفكر فيه عن التوجه والإقبال على الله تعالى، وفهم منه ابن بطال معنى آخر فقال فيه: إن تأخير الصدقة يحبس صاحبها يوم القيامة. وقوله: "فأمرت بقسمته" في رواية أبي عاصم "فقسمته". وفي الحديث أن المكث بعد الصلاة ليسَ بواجب، وأن التخطي للحاجة مباح، وأن التفكر في الصلاة في أمر لا يتعلق بها لا يفسدها ولا

رجاله خمسة

ينقص من كمالها، وأن إنشاء العزم في أثناء الصلاة على الأمور الجائزة لا يضر، وفيه إطلاق الفعل على ما يأمر به الإنسان وجواز الاستنابة مع القدرة على المباشرة. رجاله خمسة: مرّت منهم الثلاثة الأخيرة، مرّ عبد الله بن أبي مليكة في تعليق بعد الأربعين من الإيمان، ومرّ عمر بن سعيد بن أبي حسن وعقبة بن الحارث في الثلاثين من العلم، والباقيان محمد بن عبيد بن ميمون المدني التبان التيمي، يقال إنه مولى ابن جدعان أبو عبيد بن أبي عباد. ذكره ابن حِبّان في "الثقات" وقال: ربما أخطأ، وقال أبو حاتم: شيخ. وفي "الزهرة" روى عنه البخاري ثلاثة عشر حديثًا روى عن أبيه وعيسى بن يونس والدراوردي ومسكين بن بكير وغيرهم. وروى عنه البخاري وابن ماجه وأبو زرعة وأبو حاتم وأبو إسماعيل الترمذِيّ وغيرهم. الثاني عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي أبو عمرو ولقال أبو محمد الكوفي أحد الأعلام. قال ابن المديني بخ بخ ثقة مأمون. جاء يومًا إلى ابن عُيينة فقال: مرحبًا بالفقيه ابن الفقيه ابن الفقيه، كان يغزو سنة ويحج سنة، وقال جعفر بن يحيى البرمكي: ما رأينا في القُراء مثله عرضت عليه مئة دينار، فقال لا والله لا يتحدث أهل العلم أني أكلت للسنة ثمنًا ألا كان قبل أن يسألوني أما على الحديث، فلا ولا شربة ماء. وقال ابن المديني: عيسى حجة وهو أفضل من إسرائيل. وقال العجلي: كوفي ثقة وكان يسكن الثغر، وكان ثبتًا في الحديث. وقال الوليد بن مسلم: ما أبالي من خالفني في الأوزاعي ما خلا عيسى بن يونس فإني رأيت أخذه أخذًا محكمًا. وقال محمد بن عبيد: كان عيسى بن يونس إذا أتى الأعمش ينظرون إلى هديه وسَمْته، وقال أيضًا: كان عيسى من أصحاب الأعمش الذين لا يفارقونه، وقال عيسى: حدّثني الأعمش أربعين حديثًا فيها ضرب الرقاب لم يشركني فيها أحد عن ابن إسحاق، وكان يسأله عن أحاديث الفتن وقال أبو همام: حدثنا عيسى بن يونس الثقة الرضي. وقال أبو زرعة: كان حافظًا، وقيل لأحمد إن أبا قتادة الحراني كان يتكلم في وكيع وعيسى بن يونس وابن المبارك فقال: مَنْ كذّب أهل الصدق فهو الكذاب. وقال ابن معين: عيسى بن يونس يسند حديثًا عن عائشة "أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان يقبلُ الهديةَ ولا يأكلُ الصدقةَ". والناس يرسلونه. رأى جده أبا إسحاق وروى عن أبيه وأخيه إسرائيل وابن عمه يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق وهشام بن عروة وعمر بن سعيد بن أبي حسن والأوزاعي وغيرهم. وروى عنه أبوه يونس وابنه عمرو وحمّاد بن سلمة وهو أكبر منه ومسدد وإسحاق بن راهويه وغيرهم. مات سنة تسع وثمانين ومئة بالحدث موضع بالثغر. لطائف إسناده: فيه التحديث والإخبار بالجمع والعنعنة والقول وشيخ البخاري من أفراده ورواته ما بين مكي

باب الانفتال والانصراف عن اليمين والشمال

وكوفي أخرجه البخاري أيضًا في الزكاة وفي "الاستئذان" عن أبي عاصم وفي "الصلاة" عن إسحاق بن منصور والنَّسائيّ في "الصلاة" أيضًا. ثم قال المصنف: باب الانفتال والانصراف عن اليمين والشمال يقال: فتلت الرجل عن وجهه فانفتل أي: صرفته فانصرف، قال الجوهري: هو قلب لفت والانصراف أعم من الانفتال؛ لأن الانفتال لابد فيه من لفتة بخلاف الانصراف، فإنه يكون بلفتة وبغيرها والألف والام في اليمين والشمال عوض عن المضاف إليه أي: عن يمين المصلي وعن شماله. وقال الزين بن المنير جمع في الترجمة بين الانفتال والانصراف للإشارة إلى أنه لا فرق في الحكم بين الماكث في مصلاّه إذا انفتل لاستقبال المأمومين وبين المتوجه لحاجته إذا انصرف إليها. ثم قال: وكان أنس بن مالك ينفتل عن يمينه وعن يساره ويعيب على مَنْ يتوخى، أو مَنْ يعمد الانفتال عن يمينه، وصله مسدد في "مسنده الكبير" عن قتادة قال: كان أنس فذكره وقال فيه: ويعيب على مَنْ يتوخى ذلك أن لا ينفتل إلا عن يمينه، ويقول: يدور كما يدور الحمار. وقوله: "يتوخى" بخاء معجمة مشددة أي: يقصد. وقوله: "أو مَنْ يعمد" شك من الراوي وظاهر هذا الأثر عن أنس يخالف ما رواه مسلم عن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي. قال: سألت أنسًا كيف أنصرف إذا صلّيت عن يميني أو عن يساري؟ قال: أما أنا فأكثر ما رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- ينصرف عن يمينه، ويجمع بينهما بان أنسًا عاب مَنْ يعتقد تحتم ذلك ووجوبه، وأما إذا استوى الأمران فجهة اليمين أولى.

الحديث الثامن عشر والمئة

الحديث الثامن عشر والمئة حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ: أخبرنا شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ عَنِ الأَسْوَدِ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لاَ يَجْعَلْ أَحَدُكُمْ لِلشَّيْطَانِ شَيْئًا مِنْ صَلاَتِهِ، يَرَى أَنَّ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ لاَ يَنْصَرِفَ إِلاَّ عَنْ يَمِينِهِ، لَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَثِيرًا يَنْصَرِفُ عَنْ يَسَارِهِ. قوله: "عن عمارة" في رواية أبي داود الطيالسي عن شعبة عن الأعمش سمعت عمارة. وقوله: "لا يجعل" في رواية الكشميهني "لا يجعلن" بزيادة نون التأكيد. وقوله: "شيئًا" من صلاته في رواية وكيع عند مسلم "جزءًا من صلاته". وقوله: "يرى" بفتح أوله أي: يعتقد ويجوز الضم أي يظن. وقوله: "أن حقًا عليه" بيان للجعل في قوله لا يجعل. وقوله: "أن لا ينصرف" خبر أنّ أي: يرى أن واجبًا عليه عدم الانصراف إلا عن يمينه. وقال الكرماني يرى أن عدم الانصراف حق عليه، فهو من باب القلب. وهذا جواب عن استشكاله الابتداء بالنكرة مع أن الخبر معرفة؛ لأن تقديره عدم الانصراف. أو يجاب بأن النكرة المخصوصة كالمعرفة. وقوله: "كثيرًا ينصرف عن يساره" انتصب كثيرًا على أنه صفة لمصدر رأيت محذوفًا وفي رواية مسلم: "أكثر ما رأيتُ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ينصرفُ عن شمالهِ". فأما رواية البخاري هذه فلا تعارض حديث أنس المتقدم عند مسلم، وأما رواية مسلم فظاهرة التعارض؛ لأنه عبّر في كل منهما بصيغة (أفعل). قال النووي يجمع بينهما بأنه -صلى الله عليه وسلم- كان يفعل تارة هذا وتارة هذا، فأخبر كل منهما بما اعتقد أنه الأكثر، وإنما كره ابن مسعود أن يعتقد وجوب الانصراف عن اليمين وهو موافق للأثر المذكور أولاً عن أنس، ويمكن أن يجمع بينهما بوجه آخر وهو أن يحمل حديث ابن مسعود على حالة الصلاة في المسجد؛ لأن حجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت من جهة يساره ويحمل حديث أنس على ما سوى ذلك كحال السفر، ثم إذا تعارض اعتقاد ابن مسعود وأنس رجح ابن مسعود؛ لأنه أعلم وأسن وأجل وأكثر ملازمة للنبي -صلى الله عليه وسلم- وأقرب إلى موقفه في الصلاة من أنس، وبأن في إسناد حديث أنس من تكلم فيه وهو السّدي، وبأن حديث ابن مسعود متفق عليه بخلاف حديث أنس في الأمرين، وبأن رواية ابن مسعود توافق ظاهر الحال؛ لأن حجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت على جهة يساره كما مرّ. ويمكن الجمع بين الحديثين أيضًا بوجه وهو أن مَنْ قال كان أكثر انصرافه عن يساره نظر إلى هيئته في حال الصلاة، ومَنْ قال كان أكثر انصرافه عن يمينه نظر إلى هيئته في حال استقباله القوم بعد سلامه من الصلاة فعلى هذا، لا يختص الانصراف بجهة معينة،

رجاله ستة

ومن ثم قال العلماء يستحب الانصراف إلى حاجته لكن قالوا: إذا استوت الجهتان في حقه، فاليمين أفضل لعموم الأحاديث المصرحة بفضل التَيَامُنْ كحديث عائشة المار في "الطهارة". قال ابن المنير فيه: إن المندوبات قد تنقلب مكروهات إذا رفعت عن رتبتها؛ لأن التَيامُن مستحب في كل شيء من أمور العباد، لكن لما خشي ابن مسعود أن يعتقدوا وجوبه أشار إلى كراهته. رجاله ستة: مرّوا، مرّ أبو الوليد في العاشر من الإيمان، ومرّ شعبة في الثالث منه، ومرّ سليمان بن مهران في الخامس والعشرين منه، ومرّ ابن مسعود في الآثار أوله قبل ذكر حديث منه، ومرّ الأسود في السابع والستين من العلم، ومرّ عمارة في الخامس عشر من أبواب صفة الصلاة. لطائف إسناده: فيه التحديث والإخبار بالجمع والقول والعنعنة، وفيه ثلاثة تابعيون كوفيون وشعبة واسطي وشخ البخاري بصري. أخرجه مسلم في الصلاة وكذا أبو داود والنَّسائيّ وابن ماجه. ثم قال المصنف: باب ما جاء في الثوم النِّيء والبصل والكُرَّاث هذه الترجمة والتي بعدها من أحكام المساجد، وأما التراجم التي قبلها فكلها على صفة الصلاة لكن مناسبة هذه الترجمة وما بعدها لذلك من جهة أنه بني صفة الصلاة على الصلاة في الجماعة؛ ولهذا لم يفرد ما بعد كتاب "الأذان" بكتاب؛ لأنه ذكر فيه أحكام الإقامة ثم الإمامة ثم الصفوف، ثم الجماعة، ثم صفة الصلاة، فلما كان ذلك كله مرتبطًا بعضه ببعض واقتضى فضل حضور الجماعة بطريق العموم ناسب أن يورد فيه مَنْ قام به عارض كأكل الثوم، ومَنْ لا يجب عليه ذلك كالصبيان ومَنْ تندب له في حالة دون حالة كالنساء، فذكر هذه التراجم وختم بها صفة الصلاة وقوله: الثُوم بضم المثلثة، والنِيء بكسر النون بعدها تحتانية ثم همزة، وقد تدغم وتقييده بالنيء حمل منه للأحاديث المطلقة في الثوم على غير النضيج منه. وقوله: "والكُرّاث" بضم الكاف وتشديد الراء، ولم يقع ذكره في أحاديث الباب التي ذكرها لكنه أشار به إلى ما وقع في بعض طرق حديث جابر الآتي قريبًا، فقد أخرجه مسلم في "صحيحه" عن جابر قال: "نهى النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- عن أكلِ البصلِ والكُراّثِ فغلبتنا الحاجةُ فأكلْنا منه، فقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- مَنْ أكلَ مِنْ هذهِ الشجرةِ المنتنةِ فلا يقربنَّ مسجِدَنَا". وفي "مسند الحميدي" بإسناد على شرط الصحيح سئل جابر عن الثوم، فقال ما كان بأرضنا يومئذ ثوم إنما الذي نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن البصل والكُرّاث. وفي مسند "السراج": "نهى رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- عن أكلِ الكُرّاثِ ثم لم ينتهوا، فلم يجدوا بُدَّاً من أكلها فوجدَ ريحهَا فقال: ألم أنْهَكُم" الحديث فالكراث إن لم يذكر صريحًا في أحاديث الباب، فإنه مذكور دلالة فإن حديث جابر الآتي

في الباب فيه أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أتى بقدرٍ فيه خُضَراتٌ من بقولٍ فوجدَ لها ريحًا". فالكُرّاث من جملة الخُضَرات وله رائحة فتقع المطابقة بينه وبين قوله في الترجمة، ووجود التطابق بين التراجم وأحاديث لا يلزم أن يكون صريحًا دائمًا يظهر ذلك بالتأمل، ثم قال: وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أكلَ الثومَ والبصلَ مِنَ الجوع أو غيرِهِ فلا يقربنَّ مسجدَنَا"، بجر قول عطفًا على في الثوم أي وما جاء في قول النبي فهو من تمام الترجمة. وقوله: "من الجوع أو غيره" ليس التقييد بالجوع وغيره صريحًا، لكنه مأخوذ من كلام الصحابي كما مرّ في حديث جابر عند مسلم وعنده أيضًا عند أبي سعيد "لم نعد إن فتحت خيبر فوقعنا في هذه البفلة والناس جياع" الحديث. وقال ابن المنير: ألحق بعض أصحابنا المجذوم وغيره بآكل الثوم في المنع من المسجد قال: وفيه نظر؛ لأن آكل الثوم أدخل على نفسه هذا المانع باختياره والمجذوم علته سماوية قال: لكن قوله -صلى الله عليه وسلم- من جوع وغيره يدل على التسوية بينهما. قلت: مذهب مالك منع المجذوم ونحوه من الجماعة مخافة العدوى. قال في "الفتح" كأن ابن المنير رأى قول البخاري في الترجمة، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى آخره فظنه حديثًا وليس كذلك، بل هو من تفقه البخاري وتجويزه لذكر الحديث بالمعنى. قلت: علم من كلامه أن هذا ليس بتعليق، فلا يحتاج إلى وصل ويأتي الكلام على ما قيل في إباحة أكله عند آخر الأحاديث.

الحديث التاسع عشر والمئة

الحديث التاسع عشر والمئة حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ: مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ يَعْنِي الثُّومَ فَلاَ يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا. قوله: "في غزوة خيبر" قال الداودي: أي حين أراد الخروج أو حين قدم وتعقبه ابن التين بأن الصواب أنه قال ذلك وهو في الغزاة نفسها. قال: ولا ضرورة تمنع أن يخبرهم بذلك في السفر فكان الذي حمل الداودي على ذلك قوله في الحديث: "فلا يقربنَّ مسجدَنَا"؛ لأن الظاهر أن المراد به مسجد المدينة؛ فلهذا حمل الخبر على ابتداء التوجه إلى خيبر أو الرجوع إلى المدينة لكن حديث أبي سعيد المار دال على أن القول المذكور صدر منه -صلى الله عليه وسلم- عقب فتح خيبر فعلى هذا، فقوله: "مسجدنا" يريد المكان الذي أعد ليصلي فيه مدة إقامته هناك، أو المراد بالمسجد الجنس والإضافة إلى المسلمين أي: فلا يقربنَّ مسجد المصلين، ويؤيده رواية أحمد عن يحيى القطان فيه بلفظ: "فلا يقربنَّ المساجدَ" ونحوه لمسلم. وهذا يدفع قول مَنْ خص النهي بمسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد حكاه ابن بطال عن بعض أهل العلم ووهّاه. وفي مصنف عبد الرزاق عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: هل النهي للمسجد الحرام خاصة أو في المساجد؟ قال: لا بل في المساجد. قوله: "من هذه الشجرة" فيه مجاز؛ لأن المعروف في اللغة أن الشجرة ما كان لها ساق وما لا ساق لها نجم، وبهذا فسّر ابن عباس وغيره قوله تعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ}. ومن أهل اللغة من قال كل ما ثبتت له أرومة أي أصل في الأرض يخلف ما قطع منه، فهو شجر وإلا فنجم. وقال الخطابي في هذا الحديث إطلاق الشجر على الثوم والعامة لا تعرف الشجر إلا ما كان له ساق، ومنهم مَنْ قال بين الشجر والنجم عموم وخصوص مطلق، فكل نجم شجر من غير عكس كالشجر والنخل فكل نخل شجر من غير عكس. وقوله: "يعني الثوم" قال في "الفتح": لم أعرف قائله يعني ويحتمل أن يكون عبيد الله بن عمر فقد رواه السّراج عن يزيد بن الهادي عن نافع بدونها ولفظه: "نهى رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عن أكلِ الثومِ يوم خيبر". وزاد مسلم عن ابن نمير عن عبيد الله "حتى يذهبَ ريحُها". وقوله: "فلا يقربنَّ مسجدَنَا" بفتح الراء والموحدة وتشديد النون.

رجاله خمسة

رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ مسدد ويحيى في السادس من الإيمان، ومرّ عبيد الله العمري في الرابع عشر من الوضوء، ومرّ نافع في آخر حديث من العلم، ومرّ ابن عمر في أول كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه. أخرجه مسلم في الصلاة وأبو داود في "الأطعمة".

الحديث العشرون والمئة

الحديث العشرون والمئة حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ يُرِيدُ الثُّومَ فَلاَ يَغْشَانَا فِي مَسَاجِدِنَا. قُلْتُ مَا يَعْنِي بِهِ قَالَ: مَا أُرَاهُ يَعْنِى إِلاَّ نِيئَهُ. قوله: "يريد الثوم" قال في "الفتح": لم أعرف الذي فسّره أيضًا وأظنه ابن جريج فإن في الرواية التي تلي هذه عن الزهري عن عطاء الجزم بذكر الثوم على أنه قد اختلف في سياقه عن ابن جريج فرواه مسلم عنه بلفظ: "مَنْ أكلَ مِنْ هذهِ البقلةِ -الثوم- وقال مرة: منْ أكل البصلِ والثوم والكُرّاثِ". وقال أبو نعيم في "المستخرج" عن ابن جريج مثله، وقال مرة ولفظه قال ابن جريج وقال عطاء في وقت آخر: الثوم والبصل والكُرّاثِ. ورواه أبو الزبير عن جابر بلفظ: "نهى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- عن أكلِ البصلِ والكُرّاثِ. قال: ولم يكن ببلدنا يومئذ الثوم" أخرجه ابن خزيمة وعبد الرزاق، وهذا لا ينافي التفسير المتقدم إذ لا يلزم من كونه لم يكن بأرضهم أن لا يجلب إليهم حتى لو امتنع هذا الحمل لكانت رواية المثبت مقدمة على رواية النافي. قلت: هذا الأخير أولى وأما العمل الأول فغير ظاهر؛ لأن قوله لم يكن ببلدنا ظاهر في نفي وجوده في البلد لم يخص إنباتًا عن غيره، فيحمل على عمومه. وقوله: "فلا يغشانا" أي: بصيغة النفي التي يراد بها النهي. قال الكرماني أو على لغة من يجري المعتل مجرى الصحيح أو أشبع الراوي الفتحه فظن أنها ألف قال الشاعر: إذا العجوزُ غضبتْ فطلَّقِ ... ولا ترضّاها ولا تملِّقِ والمراد بالغشيان الإتيان أي: فلا يأتنا قوله في مسجدنا في رواية الكشميهني وأبي الوقت مساجدنا بصيغة الجمع. وقوله: "قلت" ما يعني به قال في "الفتح": لم أقف على تعيين القائل والمقول له وأظن السائل ابن جريج والمسؤول عطاء. وفي مصنف عبد الرزاق ما يرشد له، وجزم الكرماني بأن القائل عطاء والمسؤول جابر. وقوله: "ما أراه إلا نيئه" على ما قال الكرماني الضمير في أراه للنبي -صلى الله عليه وسلم- وعلى الأول يكون لجابر، وأُرى بضم الهمزة أي: أظنه، ونيئه مرّ ضبطه. ومقتضى قوله: "إلاّ نيئه" أنه لا يكره

رجاله خمسة

المطبوخ، وفي حديث علي المروي عند أبي داود قال: "نهى عن أكل الثوم إلا مطبوخًا". وفي حديث معاوية بن قرة عن أبيه أنه -صلى الله عليه وسلم- "نهى عن هاتين الشجرتين، وقالَ: مَنْ أكلَهما فلا يقربنَّ مسجدَنا، وقال: إنْ كنتُم لابدّ أكليهما فاميتوهما طبخًا" رواه أبو داود أيضًا ثم قال: وقال مخلد بن يزيد عن ابن جريج: "إلا نتنه" أي: بنونين مفتوحتين بينهما مثناة ساكنة أي: قال نتنه بدل نيئه، والمراد به الرائحة الكريهة. قال في " الفتح" لم أجد طريق مخلد هذه موصولة بالإسناد المذكور، وقد أخرج السَّراج هذا الحديث عن مخلد لكن عن أبي الزبير بدل عطاء عن جابر، ولم يذكر المقصود من التعليق المذكور إلا أنه قال فيه: "ألمْ أنهَكُم عن هذه البقلةِ الخبيثةِ أو المنتنةِ" فإن كان أشار إلى ذلك وإلا فما أظنه إلا تصحيفًا. فقد رواه أبو عَوانة في "صحيحه" عن ابن جريج كما قال أبو عاصم ورواه عبد الرزاق عن ابن جريج بلفظ أراه يعني النيئة التي لم تطبخ وكذا لأبي نعيم في "المستخرج" عن ابن جريج بلفظ: "يريد النيء الذي لم يطبخ" وهو تفسير للنيء بأنه الذي لم يطبخ، وهو حقيقته كما مرّ وقد يطلق على أعم من ذلك وهو ما لم ينضج، فيدخل فيه ماطبخ قليلاً ولم يبلغ النضج، وقد وقع حديث جابر هذا مقدمًا على سابقه في بعض الأصول وعليه "شرح العيني". رجاله خمسة: قد مروا، وفيه ذكر مخلد بن يزيد، مرّ عبد الله بن محمد المسندي في الثاني من الإيمان، ومرّ عاصم النبيل في أثر بعد الرابع من العلم، ومرَّ عطاء بن أبي رباح في التاسع والثلاثين منه، ومرّ ابن جريج في الثالث من الحيض، ومرّ جابر بن عبد الله في الرابع من بدء الوحي، ومَخلد بفتح الميم بن يزيد القرشي الحراني أبو يحيى، ويقال أبو خداس، ويقال أبو الحسن، ويقال أبو خالد. ذكره ابن حِبّان في "الثقات" وقال ابن معين وأبو داود: ثقة، وقال أبو حاتم: صدوق وسئل علي بن ميمون عنه فقال: كان قرشيًا نعم الشيخ. وقال أحمد: لا بأس به وكان يهم، وكذا قال الساجي وزاد قدم عليه أحمد مسكين بن بكير، وأنكر له أبو داود حديثًا وصله قال في المقدمة أخرج له البخاري أحاديث قليلة من روايته عن ابن جريج توبع عليها وروى له مسلم والباقون سوى الترمذيّ. روى عن يحيى بن سعيد الأنصاري وابن جريج والأوزاعي ومسعر وغيرهم. وروى عنه أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ومحمد بن سلام البيكندي وابنا أبي شيبة وغيرهم. مات سنة ثلاث وتسعين ومئة. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإخبار بالجمع والإفراد والقول والسماع. ورواته ما بين مكيّ وبخاريّ وبصريّ أخرجه مسلم في "الصلاة" والنسائي فيها وفي "الوليمة" والتِّرمِذِيّ في "الأطعمة".

الحديث الحادي والعشرون والمئة

الحديث الحادي والعشرون والمئة حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ زَعَمَ عَطَاءٌ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ زَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلاً فَلْيَعْتَزِلْنَا أَوْ قَالَ: فَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا، وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ. وَأَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أُتِىَ بِقِدْرٍ فِيهِ خَضِرَاتٌ مِنْ بُقُولٍ، فَوَجَدَ لَهَا رِيحًا فَسَأَلَ فَأُخْبِرَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْبُقُولِ فَقَالَ: قَرِّبُوهَا إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ كَانَ مَعَهُ، فَلَمَّا رَآهُ كَرِهَ أَكْلَهَا قَالَ: كُلْ فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لاَ تُنَاجِي. قوله: "زعم عطاء" في رواية الأصيلي عن عطاء ولمسلم حدّثني عطاء. وقوله: "أن جابر بن عبد الله زعم" قال الخطابي: لم يقل زعم على وجه التهمة، لكنه لما كان أمر مختلفًا فيه أتى بلفظ الزعم؛ لأن هذا اللفظ لا يكاد يستعمل إلا في أمر يرتاب فيه أو يختلف فيه، وقد يستعمل في القول المحقق أيضًا كما مرّ مرارًا. وكلام الخطابي لا ينفي ذلك، وفي رواية أحمد بن صالح الآتية عن جابر، ولم يقل زعم. وقوله: "فليعتزلنا أو فليعتزل مسجدنا" شك من الراوي وهو الزهري ولم تختلف الرواة عنه في ذلك. وقوله: "أو ليقعد في بيته" كذا لأبي ذرٍّ بالشك أيضًا، ولغيره "وليقعد في بيته" بواو العطف. وكذا لمسلم وهو أخص من الاعتزال؛ لأنه أعم من أن يكون في البيت أو غيره. وقوله: "وأن النبي -صلى الله عليه وسلم-" هذا حديث آخر وهو معطوف على الإِسناد المذكور والتقدير. وحدّثنا سعيد بن عفير بإسناده أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أتي وقد تردد البخاري فيه هل هو موصول أو مرسل كما يأتي قريبًا في قوله، فلا أدري هو من قول إلخ. وهذا الحديث الثاني كان متقدمًا على الذي قبله بست سنين؛ لأن الأول تقدم في حديث ابن عمر وغيره أنه وقع منه -صلى الله عليه وسلم- في غزوة خيبر، وكانت سنة سبع وهذا وقع في السنة الأولى عند قدومه -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة ونزوله في بيت أبي أيوب الأنصاري لما سنبينه قريبًا. وقوله: "أُتي بقِدر" بضم الهمزة وبكسر القاف والقِدر هو ما يطبخ فيه يذكر ويؤنث والتأنيث أشهر لكن الضمير في قوله فيه خضرات يعود على الطعام الذي في القِدر، فالتقدير أتى بقِدر من طعام فيه خضرات؛ ولهذا لما أعاد الضمير على القدر أعاده بالتأنيث حيث قال: فأخبر بما فيها، وحيث قال: "قرّبوها" قلت: أيسر من التقدير المذكور كون الضمير رجع إلى القدر بالتذكير طورًا

رجاله ستة

والتأنيث أخرى حيث أنها تذكر وتؤنث. وقوله: "خُضَرات" بضم أوله وفتح الضاد جمع خُضرة ويجوز مع ضم الخاء ضم الضاد وتسكينه. ولغير أبي ذرٍّ بفتح أوله وكسر ثانيه. وقوله: "إلى بعض أصحابه" فيه النقل بالمعنى إذ الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يقله بهذا اللفظ بل قال: "قربوها إلى فلان" مثلًا أو فيه حذف أي: قال قربوها مشيرًا أو أشار إلى بعض أصحابه، والمراد بالبعض أبو أيوب الأنصاري. ففي "صحيح مسلم" من حديث أبي أيوب في قصة نزول النبي -صلى الله عليه وسلم- عليه قال: فكان يصنع للنبي -صلى الله عليه وسلم- طعامًا فإذا جيء به إليهِ بعدَ أن يأكلَ مِنهُ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- سألَ عَن موضعِ أصابعِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فصنعَ ذلكَ مرةً فقيلَ لهُ: لم يأكلْ وكانَ الطعامُ فيه ثومٌ، فقال: أحرامٌ هو يا رسولَ اللهِ؟ فقال: لا، ولكني أكرهُهُ. وقوله: "قال كلْ فإني أُناجي مَنْ لا تناجي" أي: الملائكة وفي حديث أبي أيوب عند ابن خزيمة وابن حِبّان من وجه آخر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أرسل إليه بطعامٍ مِنْ خُضرة فيه بصلٌ أو كُرّاثٌ فلم يرَ فيه أثرَ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فأبى أن يأكلَ، فقال له: ما منعكَ؟ فقال: لم أرَ أثرَ يدِكَ قال: "أستحي من ملائكِةِ اللهِ وليس بمحرم". ولهما من حديث أُم أيوب قالت: نزلَ علينا رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فتكلفنا له طعامًا فيه بعضُ البقولِ. فذكر الحديث نحوه وقال فيه: "كلوا فإني لستُ كأحدٍ منكم إني أخاف أن أوذي صاحبي". رجاله ستة: وفيه لفظ بعض أصحابه مبهمًا، مرَّ سعيد بن عفير وابن وهب في الثالث عشر من العلم، ومرّ عطاء في التاسع والثلاثين منه، ومرّ ابن شهاب في الثالث من بدء الوحي، وجابر في الرابع منه، ويونس في متابعة بعد هذا الرابع، والمراد بالبعض المبهم أبو أيوب كما في "الفتح"، وقد مرَّ في العاشر من الوضوء. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة ورواته ما بين مصريّ ومدنيّ ومكيّ أخرجه البخاري أيضًا في "الاعتصام" عن علي بن عبد الله، ومسلم في "الصلاة"، وأبو داود في "الأطعمة"، والنَّسائيّ في "الوليمة".

الحديث الثاني والعشرون والمئة

الحديث الثاني والعشرون والمئة وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ أُتِيَ بِبَدْرٍ. قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: يَعْنِى طَبَقًا فِيهِ خُضَرَاتٌ. قوله: "ببَدر" بفتح الموحدة وهو الطبق سمي بذلك لاستدارته تشبيهًا له بالقمر عند كماله مراد البخاري أن أحمد بن صالح خالف سعيد بن عفير في هذه اللفظة فقط وشاركه في سائر الحديث عن ابن وهب بإسناده المذكور. وقد أخرجه البخاري في الاعتصام قال: حدثنا أحمد بن صالح فذكره بلفظ: "أتي ببدر وفيه قول ابن وهب يعني طبقًا فيه خُضَرات" وكذا أخرجه أبو داود عن أحمد بن صالح لكن أخر تفسير ابن وهب فذكره بعد فراغ الحديث. وأخرجه مسلم عن أبي طاهر وحرملة عن ابن وهب فقال: "بقِدر" بالقاف، ورجح جماعة من الشّراح رواية أحمد بن صالح لكون ابن وهب فسر البدر بالطبق، فدل على أنه حدث به كذلك وزعم بعضهم أن لفظة بقدر تصحيف؛ لأنها تشعر بالطبخ. وقد ورد الإذن بأكل البقول مطبوخة بخلاف الطبق، فظاهره أن البقول كانت نيئة والذي يظهر أن رواية القدر أصح لما مرَّ من حديث أبي أيوب وأُم أيوب جميعًا، فإن فيه التصريح بالطعام ولا تعارض بين امتناعه -صلى الله عليه وسلم- من أكل الثوم وغيره مطبوخًا، وبين إذنه لهم في أكله مطبوخًا. فقد علّل ذلك بقوله: "إني لستُ كأحدٍ منكمٍ" وترجم ابن خزيمة على حديث أبي أيوب ذكر ما خص الله به نبيه من ترك أكل الثوم وغيره مطبوخًا. وقد جمع القرطبي في "المفهم" بين الروايتين بأن الذي كان في القدر لم ينضج حتى تضمحل رائحته فبقي في حكم النيء. وأحمد بن صالح قد مرّ في الرابع والسبعين من أحاديث أبواب القبلة، ومرَّ ابن وهب في الثالث عشر من العلم. ثم قال: ولم يذكر الليث وأبو صفوان عن يونس قصة القِدر، فلا أدري هو من قول الزهري أو في الحديث. قوله: "فلا أدري" إلخ هو من كلام البخاري ووهم من زعم أنه كلام أحمد بن صالح أو من فوقه، وقد قال البيهقي: الأصل أن ما كان من الحديث متصلًا به، فهو منه حتى يجيء البيان الواضح بأنه مدرج فيه. في التعليقين ذكر الزهري، أما رواية الليث فقد وصلها الذهلي في "الزهريات"، وأما رواية أبي صفوان فقد وصلها البخاري في "الأطعمة" عن علي بن المديني عنه واقتصر على الحديث الأول، وكذلك اقتصر عقيل عن الزهري كما أخرجه ابن خزيمة.

ورجاله أربعة

ورجاله أربعة: مرّ الليث والزهري في الثالث من بدء الوحي، ومرّ يونس في متابعة بعد الرابع منه، وأبو صفوان هو عبد الله بن سعيد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص الأُموي الدمشقي أبو صفوان ذهبت به أُمه أُم جميل بنت عمرو بن عبد الله بن صفوان بن أمية إلى مكة حين قُتل أبوه مع مروان بن محمد. ذكره اجن حِبّان في "الثقات"، وقال ابن معين: ثقة، وقال أبو زرعة: لا بأس به صدوق، وقال ابن المديني: ثقة وكان أفقه قرشي رأيته. روى عن أبيه وابن جريج ويونس بن يزيد وابن أبي ذيب وغيرهم. وروى عنه أحمد والشافعي وابن المديني وقتيبة بن سعيد وغيرهم. مات في حدود المئتين.

الحديث الثالث والعشرون بعد المئة

الحديث الثالث والعشرون بعد المئة حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ أَنَسًا مَا سَمِعْتَ نَبِيَّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يذكر فِي الثُّومِ؟ فَقَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ فَلاَ يَقْرَبْنَا، أَوْ لاَ يُصَلِّيَنَّ مَعَنَا. قوله: "من هذه الشجرة" قد مرَّ الكلام على إطلاق الشجرة على الثوم، وعلى ضبط يقربنّ وحكم رحبة المسجد وما قرب منها حكمه؛ ولذلك كان -صلى الله عليه وسلم- إذا وجد ريحها في المسجد أمر بإخراج مَنْ وجدت منه إلى البقيع، كما ثبت في مسلم عن عمر -رضي الله تعالى عنه- وفي حديث حذيفة عند ابن خزيمة: "مَنْ أكلَ مِنْ هذهِ البقلةِ الخبيثةِ فلا يقربنَّ مسجدَنَا ثلاثًا" وبوب عليه بوقت النهي عن إتيان الجماعة لآكل الثوم، وفيه نظر لاحتمال أن يكون قوله ثلاثًا يتعلق بالقول أي: قال ذلك ثلاثًا؛ بل هذا هو الظاهر؛ لأنه علة المنع وجود الرائحة وهي لا تستمر هذه المدة، وليس في هذا الحديث تقييد النهي بالمسجد فيستدل بعمومه على إلحاق المجامع بالمساجد كمصلى العيد والجنازة ومكان الوليمة. وقد ألحقها بعضهم بالقياس، والتمسك بهذا العموم أولى ونظيره قوله: "وليقعد في بيته" كما مرَّ، لكن قد علّل المنع في الحديث بترك أذى الملائكة وترك أذى المسلمين، فإن كان كل منهما جزء علة اختص النهي بالمساجد، وما في معناها وهذا هو الأظهر وإلاّ لعمّ النهي كل مجمع كالأسواق. ويؤيد هذا البحث قوله في حديث أبي سعيد عند مسلم: "مَنْ أكلَ مِنْ هذهِ الشجرةِ شيئًا فلا يقربنا في المسجدِ". قال القاضي ابن العربي ذكر الصفة في الحكم يدل على التعليل بها، ومن ثم رد على المازري حيث قال: لو أن جماعة مسجد أكلوا كلهم ما له رائحة كريهة لم يمنعوا منه بخلاف ما إذا أكل بعضهم؛ لأن المنع لم يختص بهم بل بهم وبالملائكة وعلى هذا، يتناول المنع من تناول شيئًا من ذلك ودخل المسجد مطلقًا ولو كان وحده. واستدل بأحاديث الباب على أن صلاة الجماعة ليست فرض عين قال ابن دقيق العيد: لأن اللازم من منعه أحد أمرين: إما أن يكون أكل هذه الأُمور مباحًا فتكون صلاة الجماعة فرضًا وجمهور الأُمة على إباحة أكلها، فيلزم أن لا تكون الجماعة فرض عين وتقريره أن يقال أكل هذه الأمور جائز ومن لوازمه ترك صلاة الجماعة وترك الجماعة في حق آكلها جائز ولازم الجائز جائز وذلك ينافي الوجوب ونقل عن أهل الظاهر أو بعضهم تحريمها بناء على أن الجماعة فرض عين، وتقريره أن يقال صلاة الجماعة فرض عين ولا تتم إلا بترك أكلها. وما لا يتم الواجب إلا به فهو

واجب، فترك هذا واجب فيكون حرامًا، وكذا نفله غيره عن أهل الظاهر، لكن صرّح ابن حزم منهم بأن أكلها حلال مع قوله إن الجماعة فرض عين وانفصل عن اللزوم المذكور بأن المنع من أكلها مختص بمن علم بخروج الوقت قبل زوال الرائحة. ونظيره أن صلاة الجماعة فرض عين بشروطها، ومع ذلك تسقط بالسفر وهو في أصله مباح لكن يحرم على مَنْ أنشاه بعد سماع النداء. وقال ابن دقيق العيد أيضًا: قد يستدل بهذا الحديث على أن أكل هذه الأمور من الأعذار المرخصة في ترك حضور الجماعة، وقد يقال إن هذا الكلام خرج مخرج الزجر عنها فلا يقتضي ذلك أن يكون عذرًا في تركها إلا أن تدعو إلى أكلها ضرورة. قال: ويبعد هذا من وجه تقريبه إلى بعض أصحابه فإن ذلك ينفي الزجر، ويمكن حمله على حالتين والفرق بينهما أن الزجر وقع في حق من أراد إتيان المسجد، والإذن في التقريب وقع في حالة لم يكن فيها ذلك بل لم يكن المسجد النبوي إذ ذاك، فقد قدمت أن الزجر متأخر عن قصة التقريب بست سنين. وقال الخطابي: توهم بعضهم أن أكل الثوم عذر في التخلف عن الجماعة، وإنما هو عقوبة لأكله على فعله إذ حُرم فضل الجماعة، وكأنه يخص بما لا سبب للمرء فيه كالمطر مثلًا، لكن لا يلزم من ذلك أن يكون أكلها حرامًا ولا أن الجماعة فرض عين. ونقل ابن التين عن مالك قال: الفِجل إن كان يظهر ريحه فهو كالثوم وقيده عياض بالجشاء. وفي "الطبراني الصغير" في حديث أبي الزبير التنصيص على ذكر الفِجل في الحديث لكن في إسناده يحيى بن راشد وهو ضعيف، ويلحق بما نص عليه في الحديث كل ما له رائحة كريهة من المأكولات وغيرها، وإنما خص الثوم هنا بالذكر وفي غيره أيضًا بالبصل والكُرّاث لكثرة أكلهم لها، وكذلك ألحق بذلك بعضهم من بفيه بخر أو به جرح له رائحة كريهة، وكذلك القصاب والسمّاك والمجذوم والأبرص. وصرّح بالمجذوم ابن بطال وقد مرّ أن مذهب مالك سقوط الجمعة عنه. وألحق بالحديث كل مَنْ آذى الناس بلسانه في المسجد وبه أفتى ابنِ عمر -رضي الله تعالى عنهما- وهو أصل في نفي كل ما يتأذى به ولا يبعد أن يعذر من كان معذورًا بأكل ما له ريح كريهة لما ووى ابن حِبّان في "صحيحه" عن المغيرة بن شعبة قال: "انتهيتُ إلى رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فوجدَ مني ريحَ الثومِ فقالَ: مَنْ أكلَ الثومَ؟ قال: فأخذتُ يدَهُ فأدخلتُها فوجدَ صدري معصوبًا فقالَ: إنَّ لكَ عذرًا". وفي رواية الطبراني في "الأوسط" أَشتكيتُ صدري فأكلته وفيه فلم يعنّفْهُ -صلى الله عليه وسلم- واختلف هل كان أكل ذلك حرامًا على النبي -صلى الله عليه وسلم- أو لا، والراجح الحل لعموم قوله -صلى الله عليه وسلم-: "وليسَ بمحرمٍ" لما مرّ في حديث أبي أيوب عند ابن خزيمة. واستدل المهلب بقوله: "فإني أُناجي مَنْ لا تُناجي" على أن الملائكة أفضل من الآدميين، وتحقب بأنه لا يلزم من تفضيل بعض الأفراد على بعض تفضيل الجنس على الجنس. قلت: ليس في الحديث دلالة على التفضيل أصلًا؛ لأن استعمال هذه الأشياء التي لها رائحة كريهة من أوصاف البشرية التي يحتاجون لها، فهم محتاجون للتوسعة عليهم في ذلك والملائكة لا بشرية لهم، ولا حاجة لهم إلى هذه الأشياء فيستعمل معهم الأدب في ترك

رجاله أربعة

ما يؤذيهم. رجاله أربعة: مرّوا، مرّ أبو معمر عبد الله بن عمرو وعبد الوارث في السابع عشر من العلم، ومرّ عبد العزيز بن صهيب في الثامن من الإيمان، ومرّ أنس في السادس منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، ورجاله كلهم كوفيون والرجل السائل أنس لم يعرف اسمه. أخرجه البخاري أيضاً في "الأطعمة" عن مسدد، ومسلم في "الصلاة". ثم قال المصنف: باب وضوء الصبيان، ومتى يجب عليهم الغسل والطهور، وحضورهم الجماعة والعيدين والجنائز وصفوفهم قال الزين بن المنير: لم ينص على حكمه لأنه لو عبّر بالندب لاقتضى صحة صلاة الصبي بغير وضوء ولو عبّر بالوجوب لاقتضى أن الصبي يعاقب على تركه كما هو حدّ الواجب فأتي بعبارة سالمة من ذلك ثم أردفه بذكر الوقت الذي يجب عليهم فيه ذلك فقال: ومتى يجب عليهم الغُسل والطهور له. وقوله: والطهور من عطف العام على الخاص، وليس في أحاديث الباب تعيين وقت الإيجاب إلا في حديث أبي سعيد فإن مفهوم قوله الغُسل يوم الجمعة على كل محتلم أن غُسل الجمعة لا يجب على غير المحتلم فيؤخذ منه أن الاحتلام شرط لوجوب الغُسل. وأما ما رواه أبو داود والترمِذِيّ وصححه، وكذا ابن خزيمة والحاكم عن عبد الملك بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جَدّه مرفوعًا: "علِّموا الصبي الصلاة ابنَ سبعٍ واضربُوهُ عليها ابنَ عشرةٍ " فهو وإن اقتضى تعيين وقت الوضوء لتوقف الصلاة عليه فلم يقل بظاهره إلا بعض أهل العلم. قالوا: تجب الصلاة على الصبي للأمر بضربه على تركها وهذه صفة الوجوب. وبه قال أحمد في رواية وحكى البندنيجي أن الشافعي أومأ إليه. وذهب الجمهور إلى أنها لا تجب عليه إلا بالبلوغ، وقالوا الأمر بضربه للتدريب، وجزم البيهقي بأنه منسوخ بحديث: "رُفعَ القلمُ عن الصبيِّ حتى يحتلمَ"؛ لأن الرفع يستدعي سبق وضع. قلت: لا حاجة للنسخ لحمل الأمر في شأن الصبيان على الندب ويؤخذ من إطلاق الصبي على ابن سبع الرد على مَنْ زعم أنه لا يسمى صبيًا إلا إذا كان رضيعًا، ثم يقال له غلام إلى أن يصير ابن سبعٍ، ثم يصير يافعًا إلى عشر ويوافق الحديث قول الجوهري الصبي الغلام. وقوله: "وحضورهم" بالجر عطفًا على قوله: "وضوء الصبيان" وكذا ما بعده. وقوله: "وصفوفهم" استشكل بأنه يقتضي أن يكون للصبيان صفوف تخصعهم وليس في الباب ما يدل على ذلك. وأجيب بأن المراد بصفوفهم وقوفهم في الصف مع غيرهم وفاقه ذلك هل يخرج مَنْ وقف معه

الصبي في الصف عن أن يكون فردًا حتى يسلَم من بطلان صلاته عند مَنْ يمنعه أو كراهته، وظاهر حديث أنس الآتي في الباب تقتضي الأخير فهو حجة فإن منع ذلك من الحنابلة مطلقًا. وقد نص أحمد على أنه يجزىء في النفل لون الفرض، وفيه ما فيه وقد مرّ الكلام على هذا البحث في باب "المرأة" وحدها تكون صفًا.

الحديث الرابع والعشرون بعد المئة

الحديث الرابع والعشرون بعد المئة حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنِي غُنْدَرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ الشَّيْبَانِيَّ قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ مَرَّ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى قَبْرٍ مَنْبُوذٍ، فَأَمَّهُمْ وَصَفُّوا عَلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَمْرٍو مَنْ حَدَّثَكَ؟ فَقَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ. قوله: "مَنْ مرّ" في رواية التِّرمِذِيّ أخبرني "مَنْ رأى النبي -صلى الله عليه وسلم-". وقوله: "قبر مَنبوذ" بفتح الميم اسم مفعول من نبذ أي: على قبر منفرد عن القبور، وروى "على قبر منبوذ" بإضافة قبر إلى منبوذ. وفسروه باللقيط والرواية الأولى أصح؛ لأن في بعض الألفاظ أتى "قَبرًا منبوذًا" وفي رواية الترمذيّ "ورأى قبرًا منتبذًا فصف أصحابه". وهذا الميت المقبور وقع في شرح الشيخ سراج الدين عمر بن الملقن أنه الميت المذكور في حديث أبي هريرة الذي كان يقم المسجد وهو وهم منه لتغير القضيتين، فقد تقدم أن الصحيح في الأول أنها امرأة وأنها أُم محجن، وأما هذا فهو رجل واسمه طلحة بن البراء بن عمير البلوي حليف الأنصار، "فقد روى أبو داود حديثه مختصرًا والطبراني عن حسين بن وحوح الأنصاري لجعفر أن طلحة بن البراء مرضَ فأتاهُ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- فقال: إني لا أرى طلحةَ إلا قد حدثَ فيه الموتُ قآذنوني به وعجلوا، فلم يبلغ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بني سالَم بن عوفٍ حتى توفيَ وكان قال لأهلِهِ لما دخلَ الليلُ إذا متُّ فادفنوني، ولا تدعوا رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فإني أخافُ عليه يهودًا أن يصابَ بسببي فَأُخبَر النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- حينَ أصبحَ فجاءَ حتى وقفَ على قبرِهِ فصفَ الناسُ معَهُ ثم رفعَ يديهِ فقال: اللَّهُمَّ القَ طلحةَ يضحكُ إليكَ وتضحكُ له". وقد اخْتُلفَ في الوقت الذي صلّى فيه -صلى الله عليه وسلم- ففي "الأوسط" للطبراني عن إسماعيل بن زكرياء أنه صلّى عليه بعد دفنه بليلتين وقال: إن إسماعيل تفرد بذلك. ورواه الدارقطني بعد موته بثلاث، وروي بعد شهر. وهذه روايات شاذة وسياق الطرق الصحيحة يدل على أنه صلّى عليه في صبيحة دفنه. وقوله: "وصفوا عليه" أي: على القبر. وقوله: "فقلت: يا با عمرو" أصله يا أبا عمرو حذفت الهمزة للتخفيف، وأبو عمرو كنية الشعبي. وقوله: "قال ابن عباس" أي: قال: حدّثني ابن عباس، وفي الحديث جواز الصلاة على القبر. قال ابن المنذر، قال بمشروعيته الجمهور ومنعه النخعي ومالك وأبو حنيفة، وعنهم إن دُفن قبل أن يصلى عليه شرع وإلا فلا وهل يشترط في جواز الصلاة على قبره كونه مدفونًا بعد الغُسل؟ الصحيح أنه يشترط. وروي عن محمد أنه لا يشترط، وإذا دفنوه بعد الصلاة عليه ثم تذكروا أنهم لم يغسلوه، فإن لم يهيلوا التراب عليه يُخرج ويُغسل ويُصلى عليه

رجاله ستة

وان أهالوا التراب عليه لم يُخرج، ثم هل يصلى عليه ثانيًا في القبر؟ ذكر الكرخي أنه يصلى عليه. وفي "النوادر" عن محمد القياس أنه لا يصلى عليه، وفي الاستحسان أن يصلى عليه. وقد مرّ باقي مباحث هذا الحديث عند حديث أبي هريرة في باب (كنس المسجد من أبواب المساجد). رجاله ستة: قد مرّوا، مرّ محمد بن المثنى في التاسع من الإيمان، وغُندر في الخامس والعشرين منه، وشعبة في الثالث منه، والشعبي كذلك، ومرّ أبو إسحاق الشيباني في السابع من الحيض، ومرّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي، وأبو عمرو في الحديث كنية الشعبي. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإخبار بالإفراد والسماع والقول، وفيه رواية التابعي عن التابعي، ورواته ما بين بصريّ وكوفيّ وواسطيّ. أخرجه البخاري في "الجنائز" عن جماعة، وأخرجه مسلم في "الجنائز"، وكذلك أبو داود والتِّرمِذِيّ والنّسائيّ وابن ماجه.

الحديث الخامس والعشرون بعد المئة

الحديث الخامس والعشرون بعد المئة حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنِي صَفْوَانُ بْنُ سُلَيْمٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: الْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ. قد مرّ قريبًا وجه إيراده هنا ومطابقته للترجمة، وقوله: "الغُسلُ يوم الجمعةِ واجبٌ على كلِّ محتلمٍ" وفي الرواية الآتية في "الجمعةِ" غسلُ يوم الجمعةِ واجبٌ على كلِّ محتلمٍ. واستدل بهذه الرواية الأخيرة من قال الغُسل لليوم للإضافة إليه ويأتي ما فيه من أول الجمعة واستنبط منه أيضًا أن ليوم الجمعة غُسلًا مخصوصًا حتى لو وجدت صورة الغُسل فيه لم يجز عن غُسل الجمعة إلا بالنيّة وقد أخذ به أبو قتادة: "فقال لابنه وقد رآه يغتسل يوم الجمعة: إن كان غسلك عن جنابة، فأعدْ غسلًا آخر للجمعة" أخرجه الطحاوي وابن المنذر وغيرهما. وعند المالكية إن نوى غُسل الجنابة والجمعة أو قصد نيابة الجنابة عن الجمعة حصل الغسلان، وإن نسي الجنابة أو قصد نيابة الجمعة عنها انتفيا. ورواية مسلم كرواية حديث الباب الغُسل يوم الجمعة وظاهره أن الغُسل حيث وجد فيه كفى لكون اليوم جعل ظرفًا للغسل، ويحتمل أن يكون اللام للعهد فتتفق الروايتان. وقوله: "على كلّ محتلم" أي: بالغ، وإنما ذكر الاحتلام لكونه الغالب، واستدل به على دخول النساء في ذلك ويأتي في الجمعة ما قيل في ذلك، واستدل بقوله واجب على فرضية غُسل الجمعة. وقد حكاه ابن المنذر عن أبي هريرة وعمّار بن ياسر وغيرهما وهو قول أهل الظاهر ورواية عن أحمد، وحكاه ابن حزم عن عمر وجم الصحابة ومَنْ بعدهم، ثم ساق الرواية عنهم لكن ليس فيها عن أحد منهم التصريح بذلك إلا نادرًا وإنما اعتمد في ذلك على أشياء محتملة كقول سعد: ما كنت أظن مسلمًا يدع غسل يوم الجمعة. وحكاه ابن المنذر والخطابي عن مالك. وقال عياض وغيره: ليس ذلك بمعروف في مذهبه. وقال ابن دقيق العيد: قد نص مالك على وجوبه فحمله من لمن يمارس مذهبه على ظاهره، وأبى ذلك أصحابه والرواية عن مالك في "التمهيد"، وفيه أيضًا من طريق أشهب عن مالك أنه سئل عنه فقال: حسن بواجب. قلت: مشهور مذهب مالك أنه سنة على مَنْ يريد حضور الجمعة ولو لم تلزمه، وسن أيضًا اتصاله بالذهاب إلى الجمعة. وقيل إنه مندوب، وقيل واجب، وقيل واجب في ذوي الرائحة دون غيره، ونظم شيخنا عبد الله الأقوال المذكورة فقال:

يسنُ غسلُ جمعةٍ أو يجبُ ... أو في ذوي رائحةٍ أو يُندبُ وحكى بعض المتأخرين الوجوب عن ابن خزيمة وهو غلط عليه، فقد صرّح في "صحيحه" أنه على الاختيار، واحتج لكونه مندوبًا بعدة أحاديث في عدة تراجم، وحكاه شارح "الغُنية" لابن سريج قولًا للشافعي، واستغرب وقد قال الشافعي في "الرسالة" بعد أن أورد حديثي ابن عمر وأبي سعيد احتمل قوله معنيين الظاهر منهما أنه واجب، فلا تجزىء الطهارة لصلاة الجمعة إلا بالغسل، واحتمل أنه واجب في الاختيار ومكارم الأخلاق والنظافة، ثم استدل للاحتمال الثاني بقصة عثمان مع عمر الآتية في الجمعة قال: فلما لم يترك عثمان الصلاة للغُسل ولم يأمره عمر بالخروج للغُسل دلّ ذلك على أنهما قد علما بأن الأمر بالغُسل للاختيار، وعلى هذا الجواب عوّل كثير من المصنفين في هذه المسألة كابن خزيمة والطبري والطحاوي وابن حِبّان وابن عبد البر وهلّم جرا. وزاد بعضهم أن مَنْ حضر من الصحابة وافقهما على ذلك، فكان إجماعًا منهم على أن الغسل ليس شرطًا في صحة الصلاة، وهو استدلال قوي. وقد نقل الخطابي وغيره الإجماع على أن صلاة الجمعة بدون الغُسل مجزئة، لكن حكى الطبري عن قوم أنهم قالوا بوجوبه ولم يقولوا إنه شرط بل هو واجب مستقل تصح الصلاة بدونه كأن أصله قصد التنظيف وإزالة الروائح الكريهة التي يتأذى بها الحاضرون من الملائكة والناس، وهو موافق لقول مَنْ قال يحرم أكل الثوم على مَنْ قصد الصلاة في الجماعة، ويرد عليه أنه يلزم من ذلك تأثيم عثمان. والجواب أنه كان معذورًا؛ لأنه إنما تركه ذاهلًا عن الوقت مع أنه يحتمل أن يكون قد اغتسل في أوّل النهار لما ثبت في "مسلم" عن حمران أن عثمان لم يكن يمضي عليه يوم حتى يفيض عليه الماء، وإنما لم يعتذر بذلك لعمر كما اعتذر عن التأخر؛ لأنه لم يتصل غسله بذهابه إلى الجمعة كما هو الأفضل. وعن بعض الحنابلة التفصيل بين ذي النظافة فيجب على الثاني دون الأول نظرًا إلى العلة وحكى ابن المنذر عن إسحاق بن راهويه أن قصة عمر وعثمان تدل على وجوب الغُسل لا على عدم وجوبه من جهة ترك عمر الخطبة واشتغاله بمعاتبة عثمان وتوبيخ مثله على رؤوس الناس، فلو كان ترك الغُسل مباحًا لما فعل عمر ذلك وإنما لم يرجع عثمان للغُسل لضيق الوقت أو لو فعل لفاتته الجمعة أو لكونه كان اغتسل كما مرّ. وقال ابن دقيق العيد: ذهب الأكثرون إلى استحباب غُسل الجمعة وهم محتاجون إلى الاعتذار عن مخالفة هذا الظاهر، وقد أوّلوا صيغة الأمر على الندب وصيغة الوجوب على التأكيد كما يقال (إكرامك عليّ واجب) وهو تأويل ضعيف إنما يصار إليه إذا كان المعارض راجحًا على هذا الظاهر، وأقوى ما عارضوا به هذا الظاهر حديث: "مَنْ توضأَ يومَ الجمعةِ فيها ونعمتْ وَمنْ اغتسلَ فالغُسلُ أفضلُ" فعوّل على المعارضة به كثير من المصنفين، ووجه الدلالة منه قوله: "فالغُسلُ أفضل" فإنه يقتضي اشتراك الوضوء والغُسل في أصل الفضل، فيستلزم إجزاء الوضوء ولهذا الحديث طرق أشهرها وأقواها رواية الحسن عن سمرة أخرجها أصحاب "السنن" الثلاثة وابن خزيمة وابن حِبّان وله علتان: إحداهما أنه من عنعنة الحسن. والأخرى أنه

اختلف عليه فيه، وعلى كل حال سنده لا يعارض سند هذه الأحاديث. وأخرجه ابن ماجه عن أنس والطبراني عن عبد الرحمن بن سمرة والبزار عن أبي سعيد وابن عدي عن جابر وكلها ضعيفة، وقد تأولوا حديث الباب بتأويل مستنكر وهو ما نقله ابن دحية عن القدوري من الحنفية فحمل لفظ الوجوب على السقوط فقال: قوله: "واجب" أي: ساقط، وقوله: "على" بمعنى (عن) فيكون المعنى أنه غير لازم ولا يخفى ما فيه من التكلف. وقال الزين بن المنير: أصل الوجوب في اللغة السقوط، فلما كان في الخطاب على غث ثقيل كان كل ما أكد طلبه منه يسمى واجبًا كأنه سقط عليه، وهم أعم من كونه فرضًا أو ندبًا، وتعقب هذا بأن اللفظ الشرعي خاص بمقتضاه شرعًا لا وضعًا. وكأن الزين استشعر هذا الجواب فزاد أن تخصيص الواجب بالفرض اصطلاح حادث. وأجيب بأن لفظ وجب في اللغة لم ينحصر في السقوط، بل ورد بمعنى مات واضطرب ولزم وغير ذلك والذي يتبادر إلى الفهم منها في الأحاديث أنها بمعنى لزم لاسيما إذا سيقت لبيان الحكم، وفي بعض طرق حديث ابن عمر الآتي في الجمعة "الجمعة واجبة على كل مُحتلمٍ" وهو بمعنى اللزوم وأجاب عنه بعض القائلين بالندبية بأن التشبيه في الكيفية لا في الحكم. وقال ابن الجوزي يحتمل أن يكون لفظة الوجوب مغيرة من بعض الرواة أو ثابتة، ونسخ الوجوب وردّ بأن الطعن في الروايات الثابتة بالظن الذين لا مستند له لا يقبل، والنسخ لا يصار إليه إلابدليل، ومجموع الأحاديث يدل على استمرار الحكم فإن في حديث عائشة أن ذلك كان في أول الحال حيث كانوا مجهودين وأبو هريرة وابن عباس إنما صحبا النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد أن حصل التوسع بالنسبة إلى ما كانوا فيه أولًا، ومع ذلك فقد سمع كل منهما منه -صلى الله عليه وسلم- الأمر بالغُسل والحث عليه والترغيب فيه، فكيف يدعى النسخ بعد ذلك وقد عارضوا حديث الباب أيضًا بأحاديث منها الحديث الآتي في الجمعة عن أبي سعيد فإن فيه "وأن يستن وأن يمسّ طيبًا". قال القرطبي: ظاهره وجوب الاستنان والطيب كذلك قال: وليسا واجبين اتفاقًا فدل على أن الغُسل ليس بواجب إذ لا يصح تشريك ما ليس بواجب مع الواجب بلفظ واحد، وتعقب بأنه لا يمتنع عطف ما ليس بواجب على الواجب لاسيما ولم يقع التصريح بحكم المعطوف. وقال ابن المنير: إن سلم أن المراد بالواجب الفرض لم ينفع دفعه بعطف ما ليس بواجب عليه؛ لأن للقائل أن يقول أخرج بدليل فبقي ما عداه على الأصل وعلى أن دعوى الإِجماع في الطيب مردود ففي "جامع سفيان بن عُيينة" عن أبي هريرة "أنه كان يُوجبُ الطيبَ يومَ الجمعةِ" وإسناده صحيح، وكذا قال بوجوله بعض أهل الظاهر. قلت: يجاب عن هذا بأن الإجماع انعقد بعد عصر أبي هريرة، وبأن خلاف بعض أهل الظاهر لا يبطل الإجماع كما هو مقرر عند أهل الأُصول ومنها حديث أبي هريرة مرفوعًا أخرجه مسلم: "مَنْ توضأ فأحسنَ الوضوءَ ثم أتى الجمعةَ فاستمعَ وأنصتَ غُفرَ له". وقال القرطبي: ذكر الوضوء وما معه مرتبًا عليه الثواب المقتضي للصحة، فدل على أن الوضوء كاف وأجيب بأنه ليس فيه نفي الغُسل، وقد ورد من وجه آخر في "الصحيحين"

رجاله خمسة

بلفظ: "مَنْ اغتسل" فيحتمل أن يكون ذكر الوضوء لمن تقدم غُسله على الذهاب فاحتاج إلى إعادة الوضوء. ومنها حديث ابن عباس: "أنه سُئلَ عن غُسلِ يومِ الجمعةِ أواجبٌ هو فقال: لا ولكنَّه أطهرُ لمَنْ اغتسلَ، وَمَنْ لمْ يغتسلْ فليسَ بواجبٍ عليهِ وسأخبرُكم عن بدءِ الغُسلِ: كان الناسُ مجهودينَ يلبسونَ الصوفَ ويعملونَ وكان مسجدُهم ضيقًا فلما آذى بعضهُم بعضًا قالَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "أيُّها الناسُ إذا كان هذا اليومُ فاغتسلوا". قال ابنُ عباس ثم جاءَ الله بالخير فلبسوا غيرَ الصوفِ وكفوا العملَ ووسعَ المسجدُ" أخرجه أبو داو والطحاوي وإسناده حسن لكن الثابت عن ابن عباس هو ما مرّ عنه قريبًا، وعلى تقدير الصحة فالمرفوع منه ورد بصيغة الأمر الدالة على الوجوب. وأما نفي الوجوب فهو موقوف من استنباط ابن عباس وفيه نظر إذ لا يلزم من زوال السبب زوال المسبب كما في الرمل والجمار، وعلى تقدير تسليمه فلمن قصر الوجوب على مَنْ به رائحة كريهة أن يتمسك به، ومنها حديث طاووس قلت لابن عباس: "زعموا أنَّ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قال اغتسلوا يومَ الجمعةِ واغسلُوا رؤوسَكم إلاَّ أنْ تكونوا جُنبًا" الحديث. قال ابن حِبّان بعد أن أخرجه فيه: إنّ غُسل الجمعة يجزىء عنه غسل الجنابة، وإن غُسل الجمعة ليس بفرض، إذ لو كان فرضًا لم يجز عنه غيره، وهذه الزيادة "إلاّ أن تكونوا جُنُبًا" وهذا هو المحفوظ عن الزهري. ومنها حديث عائشة الآتي في الجمعة بلفظ "لو اغتسلتم" فميما عرض وتنبيه لا حتم ووجوب. وأجيب بأنه ليس فيه نفي الوجوب وبأنه سابق على الأمر به والإعلام بوجوبه، ونقل الزين بن المنير بعد قول الطحاوي لما ذكر حديث عائشة فدل على أن الأمر بالغُسل لم يكن للوجوب وإنما كان لعلة ثم ذهبت تلك العلة فذهب الغُسل، وهذا من الطحاوي ويقتضي سقوط الغُسل أصلًا فلا يعد فرضًا ولا مندوبًا لقوله زالت العلة إلخ، فيكون مذهبًا ثالثًا في المسألة، ولا يلزم من زوال العلة سقوط الندب تعبدًا ولاسيما مع احتمال وجود العلة المذكورة. ثم إن هذه الأحاديث كلها لو سلمت لما دلت إلا على نفي اشتراط الغُسل لا على الوجوب المجرد كما مرّ. وقد حكى ابن العربي وغيره أن بعض أصحابهم قالوا: يجزىء عن الاغتسال للجمعة التطيب؛ لأن المقصود النظافة. وقال بعضهم لا يشترط له الماء المطلق، بل يجزىء بماء الورد ونحوه. وقد عاب ابن العربي ذلك وقال: هؤلاء وقفوا مع المعنى وأغفلوا المحافظة على التعبد بالمعين، والجمع بين التعبد والمعين أولى. وعكس ذلك قول بعض الشافعية بالتيمم فإنه تعبد دون نظر إلى المعنى، وأما الاكتفاء بغير الماء المطلق فمردود؛ لأنها عبادة لثبوت الترغيب فيها يحتاج إلى النيّة ولو كان لمحض النظافة لم تكن كذلك. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ علي بن المديني في الرابع عشر من العلم، ومرَّ سفيان بن عُيينة في الأول من بدء الوحي، ومرّ صفوان بن سليم في التاسع والعشرين من الغُسل، ومرّ عطاء بن يسار في الثاني والعشرين من الإيمان، ومرّ أبو سعيد الخدري في الثاني عشر من الإيمان.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإفراد والعنعنة والقول، ورواته ما بين مكي ومدني وبصري. أخرجه البخاري أيضًا فيا الصلاة، وفي "الشهادات"، وكذلك مسلم وأبو داود في "الطهارة"، والنَّسائيّ وابن ماجه في "الصلاة".

الحديث السادس والعشرون بعد المئة

الحديث السادس والعشرون بعد المئة حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو قَالَ: أَخْبَرَنِي كُرَيْبٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ لَيْلَةً، فَنَامَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَتَوَضَّأَ مِنْ شَنٍّ مُعَلَّقٍ وُضُوءًا خَفِيفًا يُخَفِّفُهُ عَمْرٌو وَيُقَلِّلُهُ جِدًّا ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، فَقُمْتُ فَتَوَضَّأْتُ نَحْوًا مِمَّا تَوَضَّأَ، ثُمَّ جِئْتُ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَحَوَّلَنِي فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ، ثُمَّ صَلَّى مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ اضْطَجَعَ فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ، فَأَتَاهُ الْمُنَادِي يُؤْذِنُهُ بِالصَّلاَةِ فَقَامَ مَعَهُ إِلَى الصَّلاَةِ، فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. قُلْنَا لِعَمْرٍو إِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ إِنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- تَنَامُ عَيْنُهُ وَلاَ يَنَامُ قَلْبُهُ. قَالَ عَمْرٌو: سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ: إِنَّ رُؤْيَا الأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ ثُمَّ قَرَأَ {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ}. وجه الدلالة من هذا الحديث على الترجمة هو ان فيه وضوء ابن عباس وصلاته مع النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم- وتقريره له على ذلك بأن حوّله فجعله عن يمينه وهو صبي، وهذا الحديث قد مرّ مرارًا تامًا ومختصرًا، ومرّ الكلام عليه متفرقًا. مرّ الكلام على حقيقة الرؤيا وأنواعها في كتاب العلم عند حديث "مَنْ رآني في المنام". ومرّ الكلام على نومه -صلى الله عليه وسلم- في كتاب العلم في باب (السمر في العلم وفي التيمم) في باب (الصعيد الطيب وضوء المسلم). ومرّ الكلام على أحكام الوتر مستوفى إلاَّ اليسير في باب (قراءة القرآن بعد الحدث وغيره) وفي باب (الحلق والجلوس في المسجد من أبواب المساجد). رجاله خمسة: وفيه لفظ "ميمونة" ولفظ "وأتى المنادي يأذنه" وهم قد مرّوا، مرّ ذكر محل علي وسفيان في الذي قبله، ومرَّ عمرو بن دينار في الرابع والخمسين من العلم، ومرّت أُمنا ميمونة في الثامن والخمسين منه، ومرّ كريب في الرابع من الوضوء ومرّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي. والمنادي للصلاة الظاهر أنه بلال بن حمامة وقد مرّ في التاسع والثلاثين من العلم، وقد مرّ ما يتعلق بهذا الحديث في الرابع من الوضوء.

الحديث السابع والعشرون بعد المئة

الحديث السابع والعشرون بعد المئة حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لِطَعَامٍ صَنَعَتْهُ، فَأَكَلَ مِنْهُ فَقَالَ: قُومُوا فَلأُصَلِّيَ بِكُمْ. فَقُمْتُ إِلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدِ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ، فَنَضَحْتُهُ بِمَاءٍ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَالْيَتِيمُ مَعِي، وَالْعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا، فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ. وجه مطابقته للترجمة من جهة أن اليتم دال على الصبا إذ لا يتم بعد احتلام، وقد أقره -صلى الله عليه وسلم- على ذلك. وهذا الحديث قد مرَّ في باب (الصلاة على الحصير) ومرَّ الكلام عليه هناك مستوفى. رجاله أربعة: وفيه ذكر مُليكة واليتيم، وقد مرّ الجميع، مرَّ إسماعيل بن أبي أويس في الخامس عشر من الإيمان، ومرّ أنس في السادس منه، ومرّ مالك في الثاني من بدء الوحي، ومرّ إسحاق بن عبد الله في الثامن من العلم، ومرّت مُليكة واليتيم وهو ضميرة بن أبي ضميرة في الثاني والثلاثين من الصلاة، ومرَّ هناك ما يتعلق بهذا الحديث.

الحديث الثامن والعشرون بعد المئة

الحديث الثامن والعشرون بعد المئة حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: أَقْبَلْتُ رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ أَتَانٍ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الاِحْتِلاَمَ وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي بِالنَّاسِ بِمِنًى إِلَى غَيْرِ جِدَارٍ، فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ، فَنَزَلْتُ وَأَرْسَلْتُ الأَتَانَ تَرْتَعُ وَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ، فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيَّ أَحَدٌ. وجه مطابقته للترجمة في مروره بين يدي بعض الصفوف ودخوله معهم وتقريره على ذلك. وقال فيه إنه قد "ناهز الاحتلام" أي: قاربه. وهذا الحديث قد مرّ في باب (متى يصح سماع الصغير) من كتاب العلم وفي باب (سترة الإِمام سترة من خلفه). وقد استوفى الكلام عليه في المحل الأول وما لم يذكر في المحل الأول ذكر في المحل الثاني. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ عبد الله بن مسلمة في الثاني عشر من الإيمان، ومرّ مالك في الثاني من بدء الوحي، ومرّ ابن شهاب في الثالث منه، ومرّ عبيد الله بن عبد الله في السادس منه وابن عباس في الخامس منه، وقد مرّ الكلام عليه في باب (متى يصح سماع الصغير).

الحديث التاسع والعشرون بعد المئة

الحديث التاسع والعشرون بعد المئة حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَعْتَمَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-. وَقَالَ عَيَّاشٌ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: أَعْتَمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي الْعِشَاءِ حَتَّى نَادَاهُ عُمَرُ قَدْ نَامَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ. فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ يُصَلِّي هَذِهِ الصَّلاَةَ غَيْرُكُمْ. وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَوْمَئِذٍ يُصَلِّي غَيْرَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وهذا الحديث قد مرّ الكلام عليه في كتاب المواقيت في باب (فضل العشاء) وباب (النوم قبل العشاء) لمن غلب. ومطابقته للترجمة هنا هي ما قال ابن رشيد فإنه قال فهم منه البخاري أن النساء والصبيان الذين ناموا كانوا حضورًا في المسجد، وليس الحديث صريحًا في ذلك إذ يحتمل أنهم ناموا في البيوت لكن الصبيان جمع محلى باللام فيعم من كان منهم مع أمه أو غيرها في البيوت، ومَنْ كان مع أُمه في المسجد. وقد مرّ حديث أبي قتادة في الجماعة ويأتي في الباب الذي يلي هذا رفعه: "أني لأقومُ إلى الصلاةِ فأسمعُ بكاءَ الصبيِّ فأتجوزُ في صلاتي كراهيةَ أنْ أشقَ على أُمِّهِ". والظاهر في هذا الحديث أن الصبي كان مع أُمه في المسجد، وأن احتمال أنها كانت تركته نائمًا في بيتها وحضرت الصلاة فاستيقظ في غيبتها فبكى بعيد، فالظاهر الذي فهمه البخاري أن القضاء بالمرئي أولى من القضاء بالمقدر. وقوله: "وقال عياش" في بعض الروايات "قال لي عياش" وتحول الإِسناد عبد الأكبر من بعد الزهري وأتمه في رواية المستملي. رجاله ثمانية: وفيه ذكر عمر وقد مرّ الجميع، مرَّ أبو اليمان وشعيب في السابع من بدء الوحي، والزهري في الثالث منه، وعروة وعائشة في الثاني منه، ومرّ عمر في الأول منه، ومرّ معمر في متابعة بعد الرابع منه، ومرّ عياش بن الوليد في الخامس والثلاثين من الغُسل، ومرّ عبد الأعلي بن حماد في الرابع والثلاثين منه أيضًا. وهذا الحديث قد مضى الكلام عليه في باب (فضل العشاء).

الحديث الثلاثون والمئة

الحديث الثلاثون والمئة حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قال: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَابِسٍ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ لَهُ رَجُلٌ: شَهِدْتَ الْخُرُوجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: نَعَمْ، وَلَوْلاَ مَكَانِي مِنْهُ مَا شَهِدْتُهُ يَعْنِي مِنْ صِغَرِهِ. أَتَى الْعَلَمَ الَّذِي عِنْدَ دَارِ كَثِيرِ بْنِ الصَّلْتِ، ثُمَّ خَطَبَ ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ أَنْ يَتَصَدَّقْنَ فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تُهْوِى بِيَدِهَا إِلَى حَلْقِهَا تُلْقِى فِي ثَوْبِ بِلاَلٍ، ثُمَّ أَتَى هُوَ وَبِلاَلٌ الْبَيْتَ. وجه مطابقته للترجمة في شهود ابن عباس صلاة العيد مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد صرّح فيه بأنه كان صغيرًا. قوله: "شهدت العيد مع النبي" أي: حضرت الخروج إلى مصلى العيد مع النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- "قال: نعم، شهدته". وقوله: "ولولا مكاني منه" أي: من النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- يعني لولا قربي ومنزلتي منه -عليه الصلاة والسلام- ما شهدت. وقال بعضهم الضمير في (منه) يرجع إلى غير مذكور وهو الصغر، ويؤيد هذا العمل الرواية الآتية في العيدين (ولولا مكاني من الصغر شهدته) والأول متجه لكن هذا السياق يخالفه وفيه نظر؛ لأن الغالب أن الصغر في مثل هذا يكون مانعًا لا مقتضيًا، فلعل فيه تقديمًا وتأخيرًا ويكون قول من الصغر متعلقًا بما بعده، فيكون المعنى لولا منزلتي من النبي -صلى الله عليه وسلم- ما حضرت من أجل صغري. ويمكن حمله على ظاهره، وأراد بشهوده ما وقع من شهود وعظه للنساء؛ لأن الصغير يقتضي أن يغتفر له الحضور معهن بخلاف الكبير. وقال ابن بطال: خروج الصبيان إلى المصلى إنما هو إذا كان الصبي ممن يضبط نفسه من اللعب ويعقل الصلاة ويتحفظ مما يفسدها، ألا ترى إلى ضبط ابن عباس القصة وفيه نظر: لأن مشروعية حضور الصبيان للمصلى إنما هو للتبرك وإظهار شعار الإِسلام بكثرة من يحضر منهم؛ ولذلك شرع للحائض كما مرَّ في كتاب الحيض فهو شامل لمن تقع منهم الصلاة أو لا وعلى هذا، إنما يحتاج أن يكون مع الصبيان من يضبطهم عمّا ذكر من اللعب ونحوه سواء صلّوا أم لا. وأما ضبط ابن عباس القصة فلعله كان لفرط ذكائه. قلت: مذهب مالك أن الصبي يجوز إحضاره للمسجد إذا كان لا يعبث أو يكف إذا نهي عن العبث. قوله: "أتى العلم الذي عند دار كثير بن الصلت" وفي رواية العيدين حتى "أتى العلم" وفي

رجاله خمسة

هذه الرواية ذكر الغاية بغير ابتداء، والمعنى خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو شهدت الخروج معه حتى أتى وكأنه حذف لدلالة السياق عليه والعَلَم بالتحريك الشيء الشاخص يقال للمنار وللجبل وللراية وللعلامة، وإنما بنى كثير بن الصلت. داره بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- بمدة لكنها لما صارت شهيرة في تلك البقعة وصف المصلى بمجاورتها. قال ابن سعد: كانت دار كثير بن الصلت قبلة المصلى في العيدين، وهي تطل على بطن بطحان الوادي الذي في وسط المدينة. وقوله: "تهوي بيدها إلى حلَقها" أي: تمدها نحوها وتميها إليها. يقال: أهوى يده وييده إلى الشيء ليأخذه، وحلَقها بفتح اللام جمع حلقة وهي الخاتم لا فص له. وقوله: "في ثوب بلال" من الإلقاء وهو الرمي وفي رواية أبي داود "فجعلن النساء يشرن إلى آذانهن وحلوقهن". وهذا الحديث قد مرّت مباحثه مستوفاة في باب (عظة الإِمام النساء) من كتاب العلم. رجاله خمسة: وفيه لفظ رجل مبهم وكثير بن الصلت وقد مرّت رجاله إلا عبد الرحمن، مرّ عمرو بن علي الفلاس في السابع والأربعين من الوضوء ومرّ يحيى القطان في السادس من الإيمان، وسفيان الثوري في السابع والعشرين منه، ومرّ ابن عباس من بدء الوحي. وعبد الرحمن هو ابن عابس بن ربيعة النخعي الكوفي ذكره ابن حِبّان في "الثقات" وقال ابن معين وأبو حاتم والنَّسائيّ: ثقة. وقال العجلي: ثقة، ووثقه ابن نمير وابن وضاح روى عن أبيه وعمه مخرمة وابن عباس وعبد الرحمن بن أبي ليلى وغيرهم. وروى عنه الثوري وشعبة وحجاج بن أرطأة وغيرهم. مات سنة تسع عشرة ومئة. وكثير بن الصلت بن معدي كرب بن وليعة الكندي يكنى أبا عبد الله حليف قريش وعدادهم في بني جمح، ثم تحولوا إلى العباس. قال ابن سعد: وقد عمومته إلى النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم- فأسلموا ثم رجعوا إلى اليمن فارتدوا وقتلوا يوم النحر، ثم هاجر كثير وزبيد وعبد الرحمن بنو الصلت إلى المدينة. قال ابن سعد: ولد كثير في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان له شرف وحال جميلة. وأورده ابن حِبّان في التابعين، وأخرج ابن سعد بسند صحيح إلى نافع أن اسم كثير بن الصلت كان قليلًا فسماه عمر كثيرًا. وروى أبو عوانة أن الذي سمّاه كثيرا النبي عليه الصلاة والسلام والأول أصح فكأنه كان ولد قبل أن يهاجر أبوه وهاجر به معه، ثم رجع إلى بلده ثم هاجر كثير. وقال محمد بن سلام الجمحي اختصم الشماخ وزوجته إلى كثير بن الصلت وكان عثمان أقعده للنظر بين الناس حديثه في النَّسائيّ، وله ذكر في "الصحيح". روى عن أبي بكر وعمر وزيد بن ثابت وروى عنه يونس بن جبير وأبو علقمة. والرجل المبهم لم يسم. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإفراد والسماع والقول. ورواته ما بين بصريّ وكوفيّ. أخرجه البخاري

باب خروج النساء إلى المساجد بالليل والغلس

أيضًا في "العيدين" وفي "الاعتصام" وأبو داو والنَّسائيّ في "الصلاة". ثم قال المصنف: باب خروج النساء إلى المساجد بالليل والغلس أورد فيه أحاديث بعضها مطلق في الزمان وبعضها مقيد بالليل أو الغلس؛ فحمل المطلق في الترجمة على المقيد، وللفقهاء في ذلك تفاصيل وأقوال.

الحديث الحادي والثلاثون والمئة

الحديث الحادي والثلاثون والمئة حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: أَعْتَمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِالْعَتَمَةِ حَتَّى نَادَاهُ عُمَرُ نَامَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ. فَخَرَجَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: مَا يَنْتَظِرُهَا أَحَدٌ غَيْرُكُمْ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ. وَلاَ يُصَلَّي يَوْمَئِذٍ إِلاَّ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانُوا يُصَلُّونَ الْعَتَمَةَ فِيمَا بَيْنَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ الأَوَّلِ. مطابقته للترجمة في قوله: "نام النساء" ولولا فهم البخاري أن النساء كنّ حضورًا في المسجد لما وضعه في هذا الباب بهذه الترجمة. وقوله: "أَعتَمَ بالعَتَمَةِ" بفتحتين أي: أبطأ بها وأخرها. وهذا الحديث قد مرَّ الكلام عليه في باب (فضل العشاء) وباب (النوم قبل العشاء). رجاله خمسة: وفيه ذكر عمر، وقد مرّ ذكر محل الجميع في الذي قبله بحديث.

الحديث الثاني والثلاثون والمئة

الحديث الثاني والثلاثون والمئة حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ حَنْظَلَةَ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إِذَا اسْتَأْذَنَكُمْ نِسَاؤُكُمْ بِاللَّيْلِ إِلَى الْمَسْجِدِ فَأْذَنُوا لَهُنَّ. مطابقته للترجمة من حيث تقييده بالليل وهو ظاهر قوله نساؤكم بالليل لم يذكر أكثر الرواة عن حنظلة قوله: "بالليل" وفي رواية مسلم بهذا القيد. وقد اختلف فيه على الزهري عن سالم أيضًا فرواه المصنف بعد بابين عن معمر عن الزهري بغير تقييد. وأخرجه أيضًا في "النكاح" بغير قيد، وبيّن ابن خزيمة أن سفيان بن عُيينة هو القائل يعني، وله من وجه آخر عن ابن عُيينة قال: قال نافع: "بالليل" وكان اختصاص الليل بذلك لكونه أستر، ولا يخفى أن محل ذلك إذا أمنت الفتنة منهن وعليهن. قال النووي: "استدل به على أن المرأة لا تخرج من بيت زوجها إلا بإذنه لتوجه الأمر إلى الأزواج بالاذن، وتعقبه ابن دقيق العيد بأنه إن أخذ من المفهوم فهو مفهوم لقب وهو ضعيف، لكن يتقوى بأن يقال: إن منع الرجال نساءهم أمر مقرر وإنما علّق الحكم بالمساجد لبيان محل الجواز فيبقى ما عداه على المنع، وفيه إشارة إلى أن الإذن المذكور لغير الوجوب؛ لأنه لو كان واجبًا لانتفى معنى الاستئذان؛ لأن ذلك إنما يتحقق إذا كان مخيرًا في الإجابة والرد، ويأتي بقية البحث عند حديث عائشة. رجاله أربعة: قد مرّوا، مرّ عبيد الله بن موسى وحنظلة بن أبي. سفيان في الأول من الإيمان، ومرّ سالم في السابع عشر منه، ومرّ عبد الله في أوله قبل ذكر حديث منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة، ورواته ما بين مدنيّ ومكيّ وكوفيّ. أخرجه مسلم في "الصلاة". ثم قال تابعه شعبة عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهذه المتابعة وصلها أحمد بزيادة تأتي قريبًا. وقد قال المزي في "الأطراف" تبعًا لخلف وأبي مسعود إن هذه المتابعة وقعت بعد رواية ورقاء عن عمرو بن دينار عن مجاهد عن ابن عمر، وهذه الرواية أخرجها المصنف في "الجمعة" بلفظ: "ائذنوا للنساءِ بالليل إلى المساجدِ". ولم يذكر أحد من الرواة بعدها هذه المتابعة ولا غيرها. ووافقه مسلم على إخراجها من هذا الوجه، وزاد فيه فقال لهُ ابنٌ يُقالُ لهُ

(واقدٌ) إذا يتخذنه دغلًا، قال: فضرب في صدره وقال: أحدثك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتقول: لا. وليس في شيء من طرق هذا الحديث التي أخرجها البخاري ذكر لهذه القصة وكأن البخاري اختصرها للاختلاف في تسمية ابن عبد الله بن عمر. فقد رواه مسلم من وجه آخر عن بلال بن عبد الله بن عمر عن أبيه بلفظ: "لا تمنعوا النساءَ حظوظهنَّ من المساجدِ إذا استأذنّكُم". فقال بلال: "واللهِ لنمنعهنَّ" الحديث فسمى الابن هنا بلالًا من روايته. وللطبراني عن بلال نحوه وفيه فقلت: أما أنا فسأمنع أهلي، فمَنْ شاء فليسرّح أهله. وفي رواية يونس عن ابن شهاب عن سالم في هذا الحديث قال: قال بلال بن عبد الله: والله لنمنعهن. ومثله في رواية عقيل عند أحمد وعنده في رواية شعبة عن الأعمش فقال سالم أو بعض بنيه: "والله لا ندعهنَّ يتخذنَهُ دغلا" الحديث. والراجح أن صاحب القصة بلال لورود ذلك من روايته نفسه ومن رواية أخيه سالم، ولم يختلف عليهما في ذلك. وأما هذه الرواية الأخيرة فمرجوحة لوقوع الشك فيها ولم يقع في شيء من الروايات عن الأعمش ولا عن شيخه مسمى، فإن كانت رواية عمرو بن دينار عن مجاهد محفوظة في تسميته واقدًا فيحتمل أن يكون كل من بلال وواقد وقع منه ذلك إما في مجلس أو مجلسين. وأجاب ابن عمر كلًا منهما بجواب يليق به ويقويه اختلاف النقلة في جواب ابن عمر، ففي رواية بلال عند مسلم فأقبل عليه عبد الله فسبّه سبًّا سيئًا ما علمته سبّه مثله قط. وفسّر عبد الله بن هبيرة في رواية الطبراني السبّ المذكور باللعن ثلاث مرات. وفي رواية زائدة عن الأعمش فانتهره وقال: أف لك وله عن ابن نمير عن الأعمش فعل الله بك وفعل. قلت: انظر هذا مع ما مرّ قريبًا عن صاحب "الفتح" من أن الأعمش لم ترو عنه التسمية لأحد، فإن قوله: "فانتهره"، وقوله: "فعل الله بك" لا يمكن إلا مع التسمية. ولمسلم من رواية أبي معاوية "فزبره". ولأبي داود عن جرير فسبه وغضب. فيحتمل أن يكون بلال البادىء؛ فلذلك أجابه بالسبّ المفسر باللعن وإن يكون واقد بدأه؛ فلذلك أجابه بالسبّ المفسر بالتأفيف مع الدفع في صدره، وكان السر في ذلك أن بلالًا عارض الخبر برأيه، ولم يذكر علّة المخالفة، ووافقه واقد لكن ذكرها بقوله: "يتخذنه دَغَلًا" وهو بفتح المهملة والمعجمة وأصله الشجر الملتف ثم استعمل في المخادعة لكون المخادع يلف في ضميره أمرًا ويظهر غيره وكأنه قال ذلك لما رأى من فساد بعض النساء في ذلك الوقت وحملته على ذلك المغيرة، وإنما أنكر عليه ابن عمر لتصريحه بمخالفة الحديث وإلا فلو قال مثلًا: إن الزمان قد تغير، وإن بعضهن ربما ظهر منه قصد المسجد وإضمار غيره لكان يظهر أن لا ينكر عليه وإلى ذلك أشارت عائشة بما ذكر في الحديث الأخير. وأخذ من إنكار عبد الله على ولده تأديب المعترض على السنن برأيه وعلى العالم بهواه وتأديب الرجل ولده وإن كان كبيرًا إذا تكلّم بما لا ينبغي له، وجواز التأديب بالهجران. ففي رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد عند أحمد فما كلّمه عبد الله حتى مات، وهذا إن كان محفوظًا

رجال المتابعة أربعة

يحتمل أن يكون أحدهما مات بعد هذه القصة بيسير. رجال المتابعة أربعة: مرّوا، مرّ شعبة في الثالث من الإيمان، ومرّ الأعمش في الخاص والعشرين منه، ومرّ مجاهد وابن عمر في آثار أوله قبل ذكر حديث منه.

الحديث الثالث والثلاثون والمئة

الحديث الثالث والثلاثون والمئة حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَتْنِي هِنْدُ بِنْتُ الْحَارِثِ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَخْبَرَتْهَا أَنَّ النِّسَاءَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كُنَّ إِذَا سَلَّمْنَ مِنَ الْمَكْتُوبَةِ قُمْنَ، وَثَبَتَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَمَنْ صَلَّى مِنَ الرِّجَالِ مَا شَاءَ اللَّهُ، فَإِذَا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَامَ الرِّجَالُ. مطابقته للترجمة من حيث إنه يدل على أن النساء كنّ يخرجن إلى المساجد، ودلالته على ذلك أعم من أن يكون ذلك بالليل أو بالنهار. وهذا الحديث مرّ الكلام عليه مستوفى في باب التسليم. رجاله ستة: قد مرّوا، مرّ عبد الله بن محمد المسندي في الثاني من الإيمان، ومرّ عثمان بن عمر في السابع والعشرين من الغُسل، ومرّ يونس في متابعة بعد الرابع من بدء الوحي، ومرّ الزهري في الثالث منه، ومرّت هند بنت الحارث وأُم سلمة في السادس والخمسين من العلم.

الحديث الرابع والثلاثون والمئة

الحديث الرابع والثلاثون والمئة حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ ح وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَيُصَلِّي الصُّبْحَ، فَيَنْصَرِفُ النِّسَاءُ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ، مَا يُعْرَفْنَ مِنَ الْغَلَسِ. مطابقته للترجمة ظاهرة وهي خروج النساء إلى المساجد بالليل، وقوله: "متلفعات" حال من النساء أي: متلحفات من التلفع، وهو شد اللفاع وهو ما يغطي الوجه ويلتحف به. والمُروط جمع مِرط بكسر الميم وهو كساء من صوف أو خز يؤتزر به. والغلَس بفتح اللام بقية ظلمة الليل. وهذا الحديث مرّ الكلام عليه في باب (في كم تصلي المرأة من الثياب) وفي باب (وقت الفجر). رجاله ستة: قد مرّوا، مرّ عبد الله بن مسلمة في الثاني عشر من الإيمان، ومرَّ عبد الله بن يوسف ومالك وعائشة في الثاني من بدء الوحي، ومرّ يحيى بن سعيد في الأول منه، ومرّت عمرة بنت عبد الرحمن في الثاني والثلاثين من الحيض. وفي هذا الحديث حاء التحويل، وقد مرّ الكلام عليه في السادس من بدء الوحي، وقد مرّ ما يتعلق بهذا الحديث.

الحديث الخامس والثلاثون والمئة

الحديث الخامس والثلاثون والمئة حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِسْكِينٍ قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قال: أَخْبَرَنَا الأَوْزَاعِيُّ قال: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِنِّي لأَقُومُ إِلَى الصَّلاَةِ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاَتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ. مطابقته للترجمة تفهم من قوله: "كراهية أن أَشق على أُمِّه"؛ لأنه يدل على حضور النساء إلى المساجد مع النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وهو أيضًا أعم من أن يكون بالليل أو بالنهار. وهذا الحديث قد مرّ الكلام عليه في باب (مَنْ أخف الصلاة عند بكاء الصبي). وقوله: "فأتجوّز" أي: أخفف. وقوله: "كراهية" نصب على التعليل أي: لأجل كراهية أن أشق. ويروى "مخافةَ أن أشقَ" وكلمة (أنْ) مصدرية. رجاله ستة: قد مرّوا إلّا محمد بن مسكين، مرّ بشر بن بكر في متابعة بعد الستين من "الجماعة"، ومرّ الأعمش في العشرين من العلم، ومر يحيى بن أبي كثير في الثالث والخمسين منه، ومرّ عبد الله بن أبي قتادة وأبوه في التاسع عشر من الوضوء. ومحمد بن مسكين بن نُمَيْلة بالتصغير أبو الحسن اليمامي نزيل بغداد. قال البخاري: حدّثنا محمد بن مسكين اليمامي ثقة مأمون. وقال أبو داود: كان ثقة -رحمه الله تعالى- وذكره ابن حِبّان في "الثقات"، وقال الخطيب: ثقة، وقال مسلمة: لا بأس به. وقال الحاكم: روى عنه مسلم حديثًا واحدًا. وذكره الدارقطني في أفراد البخاري، وذكره النَّسائيّ في "مشيخته" وقال: لا بأس به، روى عن بشر بن بكر وصفان وعباد بن عمر اليمامي وأبو مسهر وغيرهم. وروى عنه البخاري ومسلم وأبو داود والنَّسائيّ وابن أبي عاصم ومحمد بن أبي عتاب الأعين. ومات قبله، مات ببغداد سنة تسع وثمانين ومئتين واليمامي في نسبه نسبة إلى اليمامة، وهي بلاد الجو سميت باسم اليمامة جارية زرقاء كانت تبصر الراكب من مسيرة ثلاثة أيام، كانت بلاد الجو أحسن بلاد الله أرضًا وأكثرها خيرًا وشجرًا ونخيلًا، وسبب التسمية هو أن تبعًا لما فتح حصون الجو امتنع عليه الحصين الذي كانت فيه زرقاء اليمامة فحاصره حتى اقتحمه، وقبض على زرقاء اليمامة، وأمر بقلع عينيها فوجد عروقها كلها محشوة بالأثمد، وأمر بصلبها على باب جو

وأن تسمى باسمها، وفي ذلك يقول تبّع: وسميتْ جوًّا باليمامةِ بعدما ... تركتْ عيونًا باليمامةِ هملا فلا تدع جَوًّا ما بقيتْ باسمها ... ولكنّها تُدعى اليمامةَ مقبلا وهي في وسط الشرق على ستة عشر مرحلة من البصرة وعن الكوفة مثلها. وقال ياقوت: بين اليمامة والبحرين عشرة أيام، وهي معدودة من نجد وقاعدتها حجر وبها تنبأ مسيلمة الكذّاب وفتحها خالد بن الوليد -رضي الله تعالى عنه-.

الحديث السادس والثلاثون والمئة

الحديث السادس والثلاثون والمئة حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: لَوْ أَدْرَكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ لَمَنَعَهُنَّ كَمَا مُنِعَتْ نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ. قُلْتُ لِعَمْرَةَ أَوَ مُنِعْنَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قوله: "كما مُنعت نساء بني إسرائيل" يحتمل أن تكون شريعتهم المنع، ويحتمل أن تكون منعن بعد الإباحة، ويحتمل غير ذلك مما لا طريق لنا إلى معرفته إلا بالخبر. وقوله: "قلت لعمرة" القائل هو يحيى بن سعيد. وقوله: "أو منعن" بهمزة الاستفهام وواو العطف والفعل المجهول والضمير الذي فيه يعود على نساء بني إسرائيل، والذي يظهر أن عمرة تلقت ذلك عن عائشة، ويحتمل أن يكون ذلك عن غيرها. وقد ثبت ذلك عن عروة على عائشة موقوفًا أخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح ولفظه: "قال: كنّ نساءَ بني إسرائيلَ يتخذنَ أرجلًا مِنْ خشبٍ يتشرفن للرجالِ في المساجدِ فَحرَّمَ اللهُ عليهن المساجدَ، وسُلطتْ عليهنَّ الحيضةُ". وهذا وإن كان موقوفًا حكمه حكم الرفع؛ لأنه لا يقال بالرأي، وروى عبد الرزاق أيضًا نحوه بإسناد صحيح عن ابن مسعود. وقد مرت الزيادة على هذا في أول كتاب "الحيض"، وأحاديث الباب المذكورة دالة على جواز الخروج إلى المساجد لعموم النساء لكن الفقهاء خصوه بشروط منها: أن لا تطيّبَ، وهو في بعض الروايات "وليخرجنَ تَفِلات" وهو بفتح المثناة وكسر الفاء أي: غير متطيبات، ويقال امرأة تَفِلة إذا كانت متغيرة الريح وهو عند أبي داود وابن خزيمة عن أبي هريرة، وعند ابن حِبّان عن زيد بن خالد وأوله: "لا تمنعو إِمَاءَ اللهِ مساجد اللهِ". ولمسلم عن زينب امرأة ابن مسعود "إذا شهدتْ إحداكُنَّ المسجدَ فلا تمسنَّ طيبًا". ويلحق بالطيب ما في معناه؛ لأن سبب المنع منه ما فيه من تحويك داعية الشهوة كحسن الملبس والحلي الذي يظهر والزينة الفاخرة، وكذا الاختلاط بالرجال. وفرق كثير من الفقهاء المالكية وغيرهم بين الشابة وغيرها وفيه نظر إلا إن أخذ الخوف عليها من جهتها؛ لأنها إذا عريت مما ذكر وكانت مستترة حصل الأمن ولاسيما إذا كان ذلك بالليل. وقد ورد في بعض طرق هذا الحديث وغيره ما يدل على أن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد وذلك فيما أخرجه أبو داود وصححه ابن خزيمة عن ابن عمر بلفظ: "لا تمنعوا نساءَكُم

رجاله خمسة

المساجدَ، وبيوتُهُنَّ خيرٌ لهنَّ". ولأحمد والطبراني عن "أُم حميد الساعدية أنها جاءتْ إلى رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسولَ اللهِ إني أحب الصلاةَ معكَ قال: قد علمتُ، وصلاتُكِ في بيتِكِ خيرٌ لك من صلاتِكِ في حجرتِكِ، وصلاتُكِ في حجرتِكِ خيرٌ لكِ من صلاتِكِ في دارِكِ، وصلاتُكِ في دارِكِ خيرٌ لكِ من صلاتِكِ في مسجدِ قومِكِ، وصلاتُكِ في مسجدِ قومِكِ خيرٌ لكِ من صلاتِكِ في مسجدِ الجماعةِ". وله شاهد من حديث ابن مسعود عند أبي داود، وقال ابن مسعود: "والمرأةُ عورةٌ وأقربُ ما تكونُ إلى اللهِ في قعرِ بيتِها، فإذا خرجتْ استشرفَها الشيطانُ". وكان ابن عمر -رضي الله تعالى عنه- يقوم بحصب النساء يوم الجمعة يخرجهن من المسجد. وقال أبو عمرو الشيباني: "سمعت ابنَ مسعودٍ حلفَ فبالغَ في اليمين ما صلّتْ امرأةٌ صلاةً أحبَ إلى اللهِ تعالى من صلاتِها في بيتها إلا في حجةٍ أو عمرة إلا امرأةً قدَ يئستْ مِنَ البعولةِ". وكان إبراهيم يمنع نساءه الجمعة والجماعة. وسئل الحسن البصري عن امرأة حلفت إن خرج زوجها من السجن أن تصلي في كل مسجد تجمع فيه الصلاة بالبصرة ركعتين. فقال الحسن: تصلي في مسجد قومها؛ لأنها لا تطيق ذلك لو أدركها عمر -رضي الله تعالى عنه- لأوجع رأسها ووجه كون صلاتها في الإخفاء أفضل تحقق الأمن فيه من الفتنة. ويتأكد ذلك بعد وجود ما أحدث النساء من التبرج والزينة. ومن ثم قالت عائشة ما قالت في هذا الحديث، وتمسك بعضهم بقول عائشة في منع النساء مطلقًا، وفيه نظر إذ لا يترتب على ذلك تغير الحكم؛ لأنها علقته على شرط لم يوجد بناء على ظن ظنته، فقالت: "لو رأى لمنع" فيقال لم ير ولم يمنع فاستمر الحكم حتى إن عائشة لم تصرح بالمنع وإن كان كلامها يشعر بأنها كانت ترى المنع، وأيضًا فقد علم الله سبحانه ما سيحدثن مما أوحى إلى نبيّه بمنعهن، ولو كان ما أحدثن يستلزم منعهن من المساجد لكان منعهن من غيرها كالأسواق أولى، وأيضًا فالإحداث إنما وقع من بعض النساء لا من جميعهن، فإن تعيّن المنع فليكن لمن أحدثت والأولى أن ينظر إلى ما يخشى منه الفساد فيجتنب لإشارته -صلى الله عليه وسلم- إلى ذلك بمنع التطيب والزينة، وكذلك التقييد بالليل. قلت: قوله: "فليكن لمن أحدثت" غير لازم؛ لأن نساء بني إسرائيل لم يثبت في حديث أنهن فعلن جميعًا، ومع ذلك عمهن المنع وإنما عم المنع سدًّا لذريعة الفساد، وقد مرّ الكلام مستوفىً على خروج النساء في الأعياد وإلى المساجد في باب (شهود الحائض العيدين) من كتاب الحيض فليراجع. وذكر العيني هنا أُمورًا كثيرة مما أحدثته نساء مصر في زمانه، ولو حضر هذا الزمان ورأى ما أحدثن في مصر وغيرها من المناكر لعد تلك المناكر الموجودة في زمنه معروفًا. وفي الحديث الصحيح عند البخاري ما من يوم إلا والذي بعده شرّ منه رجاله خمسة: مرّ ذكر محلهم في الذي قبله بحديث. أخرجه مسلم في "الصلاة" وكذا أبو داود. ثم قال المصنف: باب صلاة النساء خلف الرجال

الحديث السابع والثلاثون والمئة

الحديث السابع والثلاثون والمئة حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ هِنْدٍ بِنْتِ الْحَارِثِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا سَلَّمَ قَامَ النِّسَاءُ حِينَ يَقْضِي تَسْلِيمَهُ، وَيَمْكُثُ هُوَ فِي مَقَامِهِ يَسِيرًا قَبْلَ أَنْ يَقُومَ. قَالَ: نَرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِكَيْ يَنْصَرِفَ النِّسَاءُ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الرِّجَالِ. مطابقته للترجمة من جهة أن صف النساء لو كان أمام الرجال أو بعضهم للزم من انصرافهن قبلهم أن يتخطينهم وذلك منهي عنه. وهذا الحديث قد مرّ في باب (التسليم) ومرّ الكلام عليه هناك. رجاله خمسة: قد مرّوا إلا يحيى بن قزعة: مرّ إبراهيم بن سعد في السادس عشر من الإيمان، ومرّ ابن شهاب في الثالث من بدء الوحي، ومرّت هند بنت الحارث وأُم سلمة في السادس والخمسين من العلم. ويحيى بن قزَعة بفتح الزاي وقد تسكن المكي المؤذن ذكره ابن حِبّان في "الثقات". روى عن مالك وسليمان بن بلال وإبراهيم بن سعد وغيرهم، وروى عنه البخاري وأحمد بن صالح المصري والذهلي وغيرهم، وقد مضى ما يتعلق بهذا الحديث في باب (التسليم).

الحديث الثامن والثلاثون والمئة

الحديث الثامن والثلاثون والمئة حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ إِسْحَاقَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فِي بَيْتِ أُمِّ سُلَيْمٍ، فَقُمْتُ وَيَتِيمٌ خَلْفَهُ، وَأُمُّ سُلَيْمٍ خَلْفَنَا. مطابقته للترجمة ظاهرة في قوله: "وأُم سُلَيم خلفنا". وقوله: "فقمت ويتيم خلفه" فيه شاهد لمذهب الكوفيين في إجازة العطف على الضمير المرفوع المتصل بدون التأكيد. وهذا الحديث قد مرّ الكلام عليه في باب (الصلاة على الحصير). رجاله أربعة: وفيه ذكر أُم سُلَيم ويتيم، وقد مرّ الجميع، مرّ أبو نعيم في الخامس والأربعين من الإيمان، ومرّ أنس في السادس منه، ومرّ إسحاق بن عبد الله في الثامن من العلم، ومرّ سفيان في الأول من بدء الوحي، ومرّت أُم سُلَيم في السبعين من العلم. واليتيم ضميرة بن أبي ضميرة. وقد مرّ في الثاني والثلاثين من كتاب "الصلاة"، ومرّ هناك ما يتعلق بهذا الحديث. ثم قال المصنف: باب سرعة انصراف النساء من الصبح وقلة مقامهن في المسجد قوله: "من الصبح" قيده بالصبح؛ لأن طول التأخير فيه يفضي إلى الإسفار فناسب الإسراع بخلاف العشاء فإنه يفضي إلى زيادة الظلمة فلا يضر المكث.

الحديث التاسع والثلاثون والمئة

الحديث التاسع والثلاثون والمئة حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى قال: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ قال: حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضى الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُصَلِّي الصُّبْحَ بِغَلَسٍ فَيَنْصَرِفْنَ نِسَاءُ الْمُؤْمِنِينَ، لاَ يُعْرَفْنَ مِنَ الْغَلَسِ، أَوْ لاَ يَعْرِفُ بَعْضُهُنَّ بَعْضًا. قوله: "فينصرفن" على لغة أكلوني البراغيث وهي لغة بني الحارث وكذا قوله: "لا يعرفن بعضهن بعضًا". وهذا في رواية الحموي والكشميهني ولغيرهما لا يعرف بالإفراد على الجادة. وقوله: "نساء المؤمنين" وفي بعض النسخ "نساء المؤمنات" أي: الأنفس المؤمنات أو الإضافة بيانية نحو شجر الأراك، وقيل إن النساء بمعنى الفاضلات أي: فاضلات المؤمنات، وفيه دليل على وجوب قطع الذرائع الداعية إلى الفتنة وطلب إخلاص الفكر لاشتغال النفس بما جبلت عليه من أمور النساء. وقد مرّ الكلام على هذا الحديث في باب (في كم تصلي المرأة من الثياب) وباب (وقت الفجر). رجاله ستة: قد مرّوا إلا سعيد بن منصور مرّ يحيى بن موسى البلخي في التاسع عشر من الحيض، ومرّ فليح في الأول من العلم، ومرّ القاسم في الحادي عشر من الغُسل، ومرّ ابنه عبد الرحمن في السادس عشر منه، ومرّت عائشة في الثاني من بدء الوحي. وأما سعيد فهو ابن منصور بن شعبة الخراساني أبو عثمان المروزي، ويُقال الطالقاني، يُقال ولد (بجوزجان) ونشأ (ببلخ) وطاف البلاد وسكن (مكة) ومات بها. قال حرب: سمعت أحمد يحسن الثناء عليه، وقال سَلَمة بن شبيب: ذكرته لأحمد فأحسن الثناء عليه وفخم أمره، وقال حنبل عن أحمد: هو من أهل الفضل والصدق. وقال ابن نمير وابن خراش: ثقة، وقال أبو حاتم: ثقة من المتقنين الأثبات ممن جمع وصنف وكان محمد بن عبد الرحيم إذا حدّث أثنى عليه وكان يقول: حدّثنا سعيد وكان ثبتًا، وكان يحيى بن حسان يقدمه ويرى له حفظه وكان حافظًا. وقال الحاكم: سكن (مكة) مجاورًا وكان راوية ابن علية وأحد أئمة الحديث. له مصنفات وقال حرب: أملى علينا نحوًا من عشرة آلاف حديث من حفظه، ثم صنّف بعد ذلك. وذكره ابن حِبّان في "الثقات"، وقال: كان ممن جمع وصنّف وكان من المتقنين الأثبات. وقال ابن قانع: ثقة ثبت، وقال الخليلي: ثقة

باب استئذان المرأة زوجها بالخروج إلى المسجد

متفق عليه. روى عن مالك وحمّاد بن زيد وفليح وابن أبي حازم والدراوردي وغيرهم، وروى عنه مسلم وأبو داود والباقون بواسطة يحيى بن موسى وأبو زرعة وأحمد بن حنبل وغيرهم. مات (بمكة) على الصحيح سنة سبع أو ست أو تسع وعشرين ومئتين، وقيل مات (بمصر) والطالقاني في نسبه بمد الطاء وفتح اللام والقاف وبنون نسبة إلى (طالقان) بلدة بين (بلخ) ومروالروذ مما يلي الجبل منها أبو محمد محمود بن خداش الطالقاني. سكن بغداد وروى عن يزيد بن هارون وابن المبارك والفضل وعنه إبراهيم الحربي وأبو يعلى الموصلي. مات في شعبان سنة خمسين ومئتين عن تسعين سنة و (طالقان) أيضًا بلد أو كورة بين (قزوين) و (أبهر) منها الصاحب إسماعيل بن عباد بن العباس بن عبّاد مؤلف كتاب "المحيط في اللغة". وقد جمع فيه فأوعى ووالده كان من المحدثين سمع من جعفر الفريابي وعنه أبو الشيخ توفي سنة (335 هـ)، وكان وزيرًا لدولة آل بويه. ومن (طالقان) هذه أيضًا أبو الخير أحمد بن إسماعيل بن يوسف الطالقاني القزويني الشافعي أحد المدرسين بالنظامية ببغداد سمع بنيسابور أبا عبد الله الفزاري، مات (بقزوين) سنة خمسين وخمسمئة. ثم قال المصنف: باب استئذان المرأة زوجها بالخروج إلى المسجد

الحديث الأربعون والمئة

الحديث الأربعون والمئة حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قال: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-. إِذَا اسْتَأْذَنَتِ امْرَأَةُ أَحَدِكُمْ فَلاَ يَمْنَعْهَا. أورد هذا الحديث المار في باب خروج النساء إلى المساجد بالليل من طريق يزيد بن زريع وليس فيه تقييد بالمسجد، لكن أخرجه الإسماعيلي من هذا الوجه بذكر المسجد، ويمكن أن يجاب يحمل الحديث المطلق هنا على الحديث السابق المقيد أو يقال إنه لما كان جائزًا على الإطلاق فالخروج إلى موضع العبادة بالطريق الأولى. والكلام على هذا الحديث قد مرَّ عند ذكره في الباب السابق. رجاله ستة: قد مرّوا، مرّ مسدد في السادس من الإيمان، ومرّ يزيد بن زريع في السادس والتسعين من الوضوء، ومرّ الزهري في الثالث من بدء الوحي، ومرّ معمر في متابعة بعد الرابع منه، ومرّ سالم في السابع عشر من الإيمان، ومرّ أبوه عبد الله في أول الإيمان قبل ذكر حديث منه.

خاتمة

خَاتِمَة قال في "الفتح" اشتملت أبواب صفة الصلاة إلى هنا من الأحاديث المرفوعة على مائة وثمانين حديثًا المعلّق منها ثمانية وثلاثون حديثًا، والبقية موصولة، المكرر منها فيها وفيما مضى مائة حديث وخمسة أحاديث، وهي جملة المعلّق إلا ثلاثة منه وسبعون أخرى موصولة، فالخالص منها خمسة وسبعون، منها الثلاثة المعلّقة وافقه مسلم على تخريجها سوى ثلاثة عشر حديثًا وهي: حديث ابن عمر في الرفع عند القيام من الركعتين، وحديث أنس في النهي عن رفع البصر في الصلاة، وحديث عائشة في أن الالتفات اختلاس من الشيطان، وحديث زيد بن ثابت في قراءة الأعراف في المغرب، وحديث أنس في قراءة الرجل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وهو معلّق، وحديث أبي بكرة في الركوع دون الصف، وحديث أبي هريرة في جمع الإِمام بين التسميع والتحميد، وحديث رفاعة في الاعتدال، وحديث أبي سعيد في الجهر بالتكبير، وحديث ابن عمر في سنة الجلوس في التشهد، وحديث أُم سَلَمة في سرعة انصراف النساء بعد السلام، وحديث أبي هريرة لا يتطوع الإِمام في مكانه وهو معلق، وحديث عقبة بن الحارث في قسمة التبر، وفيه من الآثار الموقوفة على الصحابة وغيرهم ستة عشر أثرًا: منها ثلاثة موصولة وهي حديث أبي يزيد عمرو بن سَلَمة في مواقيته في صفة الصلاة لحديث مالك بن الحويرث وقد كرره، وحديث ابن عمر في صلاته متربعًا ذكره في أثناء حديثه في سنة الجلوس في التشهد، وحديثه في تطوعه في مكانه الذي صلّى فيه الفريضة والبقية معلقات -والله أعلم بالصواب-. وإليه المرجع والمآب. سبحان ربِّ العزة عمّا يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. ثم قال المصنف:

كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري تأليف الامام المحدث العلامة الشيخ محمد الخضر الجكينى الشنقيطي (المتوفى سنة 1354هـ) الجزء العاشر مؤسسة الرسالة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

كوثر المعاني الدراري فيد كشف خبايا صحيح البخاري

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1415هـ - 1995م مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع مؤَسَّسَة الرّسَالة بيروت - شارع سوريَا - بنَاية صَمَدي وَصَالحَة هَاتف: 603243 - 815112 - صَ. بَ: 7460 - بَرقيًا: بيُوشرَان

كتاب "الجمعة"

كتاب "الجمعة" ثبتت هذه الترجمة للأكثر، ومنهم مَنْ قدمها على البسملة وسقطت الكريمة وأبي ذرٍّ عن الحموي، وقد تقدم في أول كتاب "الإيمان" توجيه تقديم البسملة على الترجمة وتقديم الترجمة عليها. والجمُعة بضم الميم على المشهور وقد تسكن، وقرأ بها الأعمش، وحكى الواحدي عن الفراء فتحها، وحكى الزجاج الكسر أيضًا. والمراد بيان أحكام صلاة الجمعة، ثم الذي بسكون الميم بمعنى المفعول أي: اليوم المجموع فيه، وبفتحها بمعنى الفاعل أي: اليوم الجامع للناس، والذي بالسكون يجمع على جمع، وبالضم يجمع على جمعات. واختلف في تسمية اليوم بذلك مع الاتفاق على أنه كان يسمى في الجاهلية "العَرُوبة" بفتح العين المهملة وضم الراء وبالموحدة، فقيل سمي بذلك؛ لأن كمال الخلائق جمع فيه ذكره أبو حنيفة البخاري في "المبتدأ" عن ابن عباس بإسناد ضعيف. وقيل: لأن خلق آدم جمع أخرجه أحمد وابن خزيمة وغيرهما عن سلمان، وله شاهد عن أبي هريرة ذكره ابن أبي حاتم موقوفًا بإسناد قوي وأحمد مرفوعًا بإسناد ضعيف، وهذا أصح الأقوال ويليه ما أخرجه عبد بن حميد عن ابن سيرين بسند صحيح في قصة تجميع الأنصار مع أسعد بن زرارة وكانوا يسمّون يوم الجمعة يوم "العروبة" فصلّى بهم وذكرهم فسمّوه الجمعة حين اجتمعوا إليه ذكره ابن أبي حاتم موقوفًا. وقيل: لأن كعب بن لؤي كان يجمع قومه فيه فيذكرهم ويأمرهم بتعظيم الحرم ويخبرهم بأنه سيبعث منه نبي، ذكره الزبير في كتاب "النسب" عن أبي سلمة بن عبد الرحمن مقطوعًا، وبه جزم الفراء وغيره. وقيل: إن قُصيًا هو الذي كان يجمعهم، ذكره ثعلب في "أماليه". وقيل: سُمي بذلك؛ لاجتماع الناس للصلاة فيه، وبهذا جزم ابن حزم فقال: اسم إسلامي لم يكن في الجاهلية وإنما كان يُسمى "العَروبة"، وفيه نظر فقد قال أهل اللغة إن "العَروبة" اسم قديم كان للجاهلية، وقالوا في الجمعة هو يوم "العَروبة" فالظاهر أنهم غيروا أسماء الأيام السبعة بعد أن كانت تسمى: أول، أهون، جبار، دبار، مؤنس، عروبة، شبار، فأول يوم الأحد وهكذا. وقال الجوهري: كانت العرب تسمي يوم الاثنين أهون في أسمائهم القديمة، وهذا يشعر بأنهم أحدثوا لها أسماء وهي هذه المتعارفة الآن كالسبت والأحد إلى آخرها. وقيل: إن أول مَنْ سمى الجمعة "العروبة" كعب بن لؤي، وبه جزم الفراء وغيره فيحتاج من قال إنهم غيروها إلى الجمعة فأبقوه على تسميته العَروبة إلى نقل خاص، وذكروا أن ليوم الجمعة اثنين وثلاثين خصوصية

باب فرض الجمعة لقول الله تعالى: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع}

منها: أنها يوم عيد ولا يصام منفردًا وقراءة: {الم تَنْزِيلُ} و {هَلْ أَتَى} في صبيحتها والجمعة، والمنافقين فيها، والغُسل لها، والتطيب، والسواك، ولبس أحسن الثياب، وتبخير المسجد، والتبكير، والاشتغال بالعبادة حتى يخرج الخطيب والخطبة، والإِنصات، وقراءة الكهف، ونفي كراهية النافلة وقت الاستواء، ومنع السفر قبلها، وتضعيف أجر الذاهب إليها بكل خطوة أجر سنة، ونفي تسجير جهنم يومها، وساعة الإجابة، وتكفير الآثام، وأنها يوم المزيد والشاهد والمدخر لهذه الأُمة، وخير أيام الأسبوع، وتجتمع فيها الأرواح، إن ثبت الخبر فيه. قلت: هكذا سردها ابن حجر تبعًا لابن القيم وبعضها غير موافق لمذهب مالك ككراهة صوم يومها وقراءة السورتين المذكورتين في صبيحتها، وعدم كراهة النفل فيها في الاستواء، فلا خصوصية لها بذلك عندنا كما مرّ فلا كراهة في ذلك مطلقًا، ومنع السفر يومها فلا يمنع عنده إلاَّ بعد الزوال. ثم قال المصنف: باب فرض الجمعة لقول الله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} فاسعوا: فامضوا. رواية الأكثر إلى {وَذَرُوا الْبَيْعَ} وسياق بقية الآية في رواية كريمة وأبي ذرٍّ. وقوله: {فَاسْعَوْا} فامضوا في رواية أبي ذرٍّ عن الحموي وحده، وهو تفسير منه للمراد بالسعي هنا بخلاف قوله في الحديث المتقدم، فلا تأتوها تسعون فالمراد به الجري. وفي "تفسير النسفي" {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} فامضوا إليه واعملوا له. وعن ابن عمر -رضي الله تعالى عنه- سمعت عمر -رضي الله عنه- يقرأ: "فامضوا إلى ذكر الله"، وعنه ما سمعت عمر يقرؤها قط إلا "فامضوا إلى ذكر الله" وروي عن إبراهيم كان عبد الله يقرؤها "فامضوا إلى ذكر الله"، ويقول لو قرأتها "فاسعوا" لسعيت حتى يسقط ردائي. وعن الحسن "ليس السعي على الأقدام، ولقد نهوا أن يأتوا المسجد إلا وعليهم السكينة والوقار ولكن بالقلوب والنيّة والخشوع". وعن قتادة أنه كان يقول في هذه الآية "فاسعوا" أن تسعى بقلبك وعملك وهي المشي إليها واستدلال البخاري بهذه الآية على فرضية الجمعة سبقه إليه الشافعي في "الأم". وكذلك حديث أبي هريرة، ثم قال: فالتنزيل ثم السنة يدلان على إيجابها، قال: وعلم بالإجماع أن يوم الجمعة هو الذي بين الخميس والسبت. وقال الشيخ الموفق: الأمر بالسعي يدل على الوجوب إذ لا يجب السعي إلا إلى واجب. وقال الزين بن المنير: وجه الدلالة من الآية الكريمة مشروعية النداء لها إذ الأذان من خواص الفرائض، وكذا النهي عن البيع؛ لأنه لا ينهى عن المباح نهي تحريم إلا إذا أفضى إلى ترك واجب، ويضاف إلى ذلك التوبيخ على قطعها. قال: وأما وجه الدلالة من الحديث فهو من التعبير بالفرض؛ لأنه للإلزام وإن أطلق على غير الإلزام كالتقدير، لكنه متعين له لاشتماله على ذكر الصرف لأهل الكتاب عن اختياره وتعيينه لهذه الأمة سواء كان ذلك وقع لهم بالتنصيص أو بالاجتهاد. وفي سياق القصة إشعار بأن فرضيتها على الأعيان لا على الكفاية، وهو من جهة إطلاق

الفرضية ومن التعميم في قوله: فهدانا الله له والناس لنا فيه تبَع. وقول الخطابي: أكثر الفقهاء أنها من فروض الكفاية غلط، وحكى أبو الطيب عن بعض أصحاب الشافعي غلط من قال: إنها فرض كفاية وهو ابن كج. وفي "الدراية" صلاة الجمعة فريضة محكمة جاحدها كافر بالإجماع، وقد أجمعت الأُمة من لدن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى يومنا هذا على فرضيتها من غير إنكار، ووجوبها من جهة المعنى هو أنّا أُمرنا بترك الظهر لإِقامة الجمعة، والظهر فريضة ولا يجوز ترك الفرض إلا لفرض آكد منه وأولى، فدلّ على أن الجمعة آكد من الظهر في الفريضة، فصارت الجمعة فرض عين لكن اختلفوا في أصل الفرض في هذا الوقت. فقال الشافعي في "الجديد" وزفر ومالك وأحمد ومحمد في رواية فرض الوقت: الجمعة والظهر بدل منها. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف والشافعي في "القديم": الفرض هو الظهر، وإنما أمر غير المعذور بإسقاطه بأداء الجمعة. وقال محمد في رواية فرضه أحدهما غير عين والتعيين إليه. وفائدة الخلاف تظهر في حر مقيم أدى الظهر في أول وقته يجوز مطلقًا حتى لو خرج بعد أداء الظهر إليها، ولم يخرج لم يبطل فرضه لكن عند أبي حنيفة تبطل بمجرد السعي مطلقًا، وعندهما لا تبطل إلا إذا أدرك. وعند الشافعي ومالك لا يجوز ظهره سواء أدرك الجمعة أو لا خرج إليها أم لا. وقوله: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ} أراد بهذا النداء الأذان عند قعود الإمام على المنبر للخطبة يدل لذلك ما روى الزهري عن السائب بن يزيد: "كان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- مؤذنٌ واحدٌ لم يكنِ له مؤذنٌ غيرُهُ، وكانَ إذا جلسَ -صلى الله عليه وسلم- على المنبرِ أذّنَ على المسجدِ فإذا نزلَ أقامَ الصلاةَ، ثم كان أبو بكرٍ -رضي الله تعالى عنه- كذلكَ وعمرُ -رضي الله تعالى عنه- كذلكَ حتى إذا كان عثمانُ -رضي الله تعالى عنه- وكثرتْ الناسُ وتباعدتْ المنازلُ زادَ إذانًا فأمر بالتاذين الأول على دارٍ له بالسوقِ يقالُ لها "الزوراءُ" فكانَ يؤذَّنُ له عليها، فإذا جلسَ عثمانُ -رضي الله تعالى عنه- أذّنَ مؤذنُهُ الأولُ، فإذا نزلَ أقامَ الصلاةَ فلمْ يعبْ ذلكَ عليهِ أحدٌ". وقوله: {مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} بيان (لإذا) وتفسير له وقيل من يوم الجمعة في يوم الجمعة كقوله تعالى: {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} أي: في الأرض. وقوله: {إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} أي: إلى الصلاة. وعن سعيد بن المسيب {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} موعظة الإمام. وقيل: {إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} إلى الخطبة والصلاة. وقوله: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} اتركوا البيع والشراء؛ لأن البيع يتناول المعنيين جميعًا وإنما يحرم البيع عند الأذان. وقال الزهري عند خروج الإمام، وقال سماك: إذا زالت الشمس حرم البيع والشراء، وقيل: أراد الأمر بترك ما يذهل عن ذكر الله من شواغل الدنيا وإنما خص البيع من بينها؛ لأن يوم الجمعة يوم يهبط الناس فيه من قراهم وبواديهم وينصبون إلى المصر من كل أوب ووقت هبوطهم

واجتماعهم واغتصاص الأسواق بهم إذا انتفخ النهار وتعالى الضحى ودنا وقت الظهيرة، وحينئذ تمر التجارة ويتكاثر البيع والشراء، فلما كان ذلك مظنة الذهول بالبيع عن ذكر الله والمضي إلى المسجد قيل لهم: بادروا تجارة الآخرة واتركوا تجارة الدنيا واسعوا إلى ذكر الله الذي لا شيء أنفع منه وأربح، وذروا البيع الذي نفعه يسير وربحه متقارب. وقوله: {ذَلِكُمْ} الكاف فيه الخطاب كالتاء في (أنت) وذلك للدلالة على أحوال المخاطبين وعدوهم، فإذا أشرف إلى واحد مذكر وخاطبت مثله قلت: (ذلك) وإذا خاطبت اثنين قلت: (ذلكما) وإذا خاطبت جمعًا قلت: (ذلكم) للمذكر، و (ذلكن) للمؤنث.

الحديث الأول

الحديث الأول حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ هُرْمُزَ الأَعْرَجَ مَوْلَى رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا، ثُمَّ هَذَا يَوْمُهُمُ الَّذِى فُرِضَ عَلَيْهِمْ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَانَا اللَّهُ، فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ، الْيَهُودُ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ. قوله: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة" هذه الجملة قد تقدم الكلام عليها عندما ذكرت في باب (البول في الماء الدائم) من كتاب "الوضوء". وقوله: "بيد أنهم" بموحدة ثم تحتانية ساكنة مثل غير وزنًا ومعنى، وبه جزم الخليل والكسائي، وروى ابن أبي حاتم عن الشافعي أن معنى "بيد" من أجل، واستبعده عياض ولا بعد فيه بل معناه أنا سبقنا بالفضل إذ هدينا للجمعة مع تأخرنا في الزمان بسبب أنهم ضلّوا عنها مع تقدمهم، ويشهد لذلك ما في "موطأ" سعيد بن عفير عن مالك بلفظ: "ذلك بأنهم أوتوا الكتاب". وقال الداودي هي بمعنى (على) أو (مع) قال القرطبي: إن كانت بمعنى (غير) فنصب على الاستثناء، وإن كانت بمعنى (مع) فنصب على الظرف. وقال الطيبي: هي للاستثناء وهو من باب تكيد المدح بما يشبه الذم والمعنى: نحن السابقون للفضل غير أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ووجه التأكيد فيه ما ادمج فيه من معنى النسخ؛ لأن الناسخ هو السابق في الفضل وإن كان متأخرًا في الوجود، وبهذا التقرير يظهر موقع قوله: "نحن الآخرون" مع كونه أمرًا واضحًا. ويقال (ميد) بالميم وهو ملازم للإضافة إلى أن وصلتها ولا يقع مرفوعًا ولا مجرورًا بل منصوبًا ولا يقع صفة ولا استثناء متصلًا، وإنما يستثنى به في الانقطاع خاصة ومنه الحديث. وقوله: "أوتوا الكتاب من قبلنا" سقط في الأصل قوله وأوتيناه من بعدهم وهي ثابتة في رواية أبي زرعة الدمشقي عن أبي اليمان شيخ البخاري فيه. أخرجه الطبراني في "مسند الشاميين"، وكذلك مسلم عن ابن عُيينة وسيأتي تامًا عند المصنف بعد أبواب. من وجه آخر عن أبي هريرة، واللام في "الكتاب" للجنس والمراد التوراة والإنجيل، والضمير في أوتيناه للقرآن. وقال القرطبي المراد "بالكتاب" التوراة وفيه نظر لقوله: "وأوتيناه من بعدهم" فأعاد الضمير على الكتاب، فلو كان المراد

التوراة لما صح الإخبار؛ لأنا إنما أوتينا القرآن. وقوله: "ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم" كذا للأكثر وللحموي الذي فرض الله عليهم، والمواد باليوم يوم الجمعة، والمواد بفرضه فرض تعظيمه وأشير إليه بهذا لكونه ذكر في أول الحديث كما عند مسلم من وجه آخر عن أبي هريرة وعن حذيفة قالا: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أضل اللهُ عن الجمعةِ مَنْ كانَ قبلَنا" الحديث. قال ابن بطال: ليس المراد أن يوم الجمعة فرض عليهم بعينه فتركوه؛ لأنه لا يجوز لأحد أن يترك ما فرض الله عليه وهو مؤمن، وإنما يدل -والله أعلم- على أنه فرض عليهم يوم من الجمعة وكل إلى اختيارهم ليقيموا فيه شريعتهم فاختلفوا في أي الأيام هو، ولم يهتدوا ليوم الجمعة. وقال عياض: بهذا ورشحه بأنه لو كان فرض عليهم بعينه لقيل: فخالفوا بدل فاختلفوا. وقال النووي: يحتمل أن يكونوا أُمروا به صريحًا فاختلفوا هل يلزم تعيينه أم يسوغ إبداله بيوم آخر؟ فاجتهدوا في ذلك فأخطؤا، ويشهد له ما رواه الطبراني بإسناد صحيح عن مجاهد في قوله تعالى: {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ}. قال: أرادوا الجمعة فأخطؤا، وأخذوا السبت مكانه، ويحتمل أن يراد بالاختلاف اختلاف اليهود والنصارى في ذلك، وقد روى ابن أبي حاتم عن السدي التصريح بأنهم فرض عليهم يوم الجمعة بعينه فأبوا. ولفظه: "إنّ اللهَ فرض على اليهودِ الجمعَة فأَبوا، وقالوا يا موسى إنَّ اللهَ لم يخلقْ يومَ السبتِ شيئًا فاجعلْهُ لنا، فجعلَ عليهم"، وليس ذلك بعجيب من مخالفتهم كما وقع لهم في قوله تعالى: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} وغيروا ذلك، وكيف لا وهم القائلون: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا}. وقوله: "فهدانا الله له" بأن نص لنا عليه ولم يكلنا إلى اجتهادنا لاحتمال أن يكون -صلى الله عليه وسلم- علمه بالوحي وهو (بمكة) فلم يتمكن من إقامتها بها. وفيه حديث عن ابن عباس عند الدارقطني؛ ولذلك جمع بهم أول ما قدم (المدينة) كما ذكره ابن إسحاق وغيره؛ ولذا قال أبو حامد: فرضت (بمكة)، قال في "الفتح": وهو غريب. قلت: لا غرابة فيه، بل هو الظاهر من جهة المعنى؛ لأنها من الصلوات الخمس إما فرض يومها أو بدل من ظهره، والصلوات فرضت ليلة الإسراء ولم تمكن إقامتها (بمكة)؛ لأن الحكم فيها حينئذ لكفار والمسجد محجور لهم لا يمكن فيه الجماعة فشروطها غير حاصلة هناك، ويدل لهذا ما مرَّ من أنه -صلى الله عليه وسلم- عندما جاء (للمدينة) ورأى توفر شروطها صلّاها من غير نزول وحي طارىء وما ذلك إلا لعلمه بوجوبها قبل ذلك، ولا يقدح في ذلك كون آية إذا نودي للصلاة نزلت بالمدينة؛ لأن الآيات المقتضية لوجوب الصلاة تأخر نزولها عن ليلة الإسراء التي فرضت فيها الصلوات بالإجماع كقوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ}، وقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ}. فقد قال المفسرون: إن هذه الآيات مدنية وهي دالة على وجوب الفرائض فكذلك آية الجمعة، فهذا القول هو الذي يجب المصير إليه فلم يكن في الفرائض فريضة مبنية على اجتهاد من الصحابة، ويحتمل أن يراد بقوله فهدانا الله إليه الهداية إليه بالاجتهاد، ويشهد لذلك ما رواه عبد الرزاق بإسناد صحيح

رجاله خمسة

عن ابن سيرين قال: جمّع أهلِ المدينة قبل أن يقدمها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وقبل أن تنزلَ الجمعةُ فقالتْ الأنصارُ: إنّ لليهودِ يومًا يجتمعون فيه كلَّ سبعةِ أيامٍ وللنصارى كذلك، فهلمَ فلنجعلْ فيهِ فنذكرَ الله تعالى، ونصلّيَ ونشكرَهُ فجعلوهُ يومَ العَروبةِ، واجتمعوا إلى أسعدَ بن زرارةَ فصلّى بهم يومئذٍ ركعتينِ وذبحَ لهمْ شاةً فتغدوا وتعشوا منها، وذلكَ لقلتِهم وأنزلَ اللهُ تعالى بعد ذلك: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} الآية. وهذا وإن كان مرسلًا فله شاهد بإسناد حسن أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه، وصححه ابن خزيمة وغيره عن كعب بن مالك. قال: "كان أولَ مَنْ صلّى بنَا الجمعة قبل مَقْدمِ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- (المدينة) أسعدُ بن زرارةَ". فمرسل ابن سيرين يدل على أن أولئك الصحابة اختاروا يوم الجمعة بالاجتهاد وعلى هذا، تكون حصلت الهداية للجمعة بجهتي البيان والتوفيق في الحكمة في اختيارهم الجمعة وقوع خلق آدم فيه والإنسان انما خلق للعبادة، فناسب أن يشتغل بالعبادة فيه، ولأن الله تعالى أكمل فيه الموجودات، وأوجد فيه الإنسان الذي ينتفع بها، فناسب أن يشكر على ذلك بالعبادة فيه. وقوله: "اليهود غدًا والنصارى بعد غد" عند ابن خزيمة فهو لنا، ولليهود يوم السبت، وللنصارى يوم الأحد، والمعنى أنه لنا بهداية الله تعالى ولهم باعتبار اختيارهم وخطئهم في اجتهادهم. قال القرطبي: "غدًا" هنا منصوب على الظرف متعلق بمحذوف تقديره يعظمون غدًا، وكذلك قوله: "بعد غد" أي: والنصارى يعظمون بعد غد ولابد من هذا التقدير؛ لأن ظرف الزمان لا يكون خبرًا عن الحبشة. وقال ابن مالك: الأصل أن يقدر هنا مضافان يكون ظرفا الزمان خبرين عنهما أي: تعييد اليهود غدًا وتعييد النصارى بعد غد، ووجه اختيار اليهود يوم السبت لزعمهم أنه يوم فرغ الله فيه من الخلق فقالوا: نحن نستريح فيه من العمل ونشتغل بالعبادة والشكر. والنصارى الأحد؛ إنه أول يوم بدأ الله فيه بالخلق فاستحق التعظيم، وقد مرّت الحكمة في اختياره لنا من قبل الله تعالى، وفي الحديث دليل على فرضية الجمعة. قال النووي لقوله: "فرض عليهم فهدانا الله" فإن التقدير (فرض عليهم وعلينا فضلوا وهدانا). وعند مسلم بلفظ: "فكتب علينا" وفيه أن الهداية والإضلال من الله تعالى عليه كما هو قول أهل السنة، وأن سلامة الإجماع من الخطأ مخصوص بهذه الأُمة، وأن استنباط معنى من الأصل يعود عليه بالإبطال باطل، وأن القياس مع وجود النص فاسد، وأن الاجتهاد في زمن نزول الوحي جائز، وأن الجمعة أول الأسبوع شرعًا ويدل على ذلك تسمية الأسبوع كله جمعة، وكانوا يسمون الأسبوع سبتًا كما سيأتي في الاستسقاء في حديث أنس وذلك أنهم كانوا مجاورين لليهود فتبعوهم في ذلك، وفيه بيان واضح لمزيد فضل هذه الأُمة على الأُمم السابقة زادها الله تعالى. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ أبو اليمان وشعيب في السابع من بدء الوحي، ومرّ أبو الزناد وعبد الرحمن بن هرمز

لطائف إسناده

في السابع من الإيمان، ومرّ أبو هريرة في الثاني منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإفراد والإخبار بالجمع والسماع والقول ورواته ما بين حمصيّ ومدنيّ، أخرجه مسلم والنسائي. ثم قال المصنف: باب فضل الغُسل يوم الجمعة، وهل على الصبي شهر يوم الجمعة أو على النساء؟ قال الزين بن المنير: لم يذكر الحكم لما وقع فيه من الخلاف واقتصر على الفضل؛ لأن معناه الترغيب فيه وهو القدر الذي تتفق الأدلة على ثبوته واعترض أبو عبد الملك على الشق الثاني من الترجمة وهل على الصبي إلخ فقال: ترجم هل على الصبي أو النساء جمعة، وأورد "إذا جاءَ أحدُكم يومَ الجمعةِ فليغتسلْ وليسَ فيهِ ذكرُ وجوب شهودٍ ولا غيره". وأجاب ابن التين بأنه أراد سقوط الوجوب عنهم، أما الصبيان فبالحديث الثالث في الباب حيث قال: "على كلِّ محتلمٍ" فدل على أنه غير واجب على الصبيان. وقال الداودي: فيه دليل على سقوطها على النساء؛ لأن الفروض تجب عليهن في الأكثر بالحيض لا بالاحتلام وتعقب بأن الحيض في حقهن علامة للبلوغ كالاحتلام وليس الاحتلام مختصًا بالرجال، وإنما ذكر في الخبر لكونه الغالب وإلا فقد لا يحتلم الإنسان أصلًا. ويبلغ بالإنزال أو السن وحكمه حكم المحتلم. وقال الزين بن المنير: إنما أشار إلى أن الغُسْل شرع للرواح إليها كما دلت عليه الأخبار فيحتاج إلى معرفة من يطلب رواحه، فيطلب غسله واستعمل الاستفهام في الترجمة للإشارة إلى وقوع الاحتمال في حق الصبي في عموم قوله: "أحدكم" لكن تقييده "بالمحتلم" في الحديث الآخر يخرجه. وأما النساء فيقع فيهن الاحتمال بأن يدخلن في "أحدكم" بطريق التبع، وكذا احتمال عموم النهي في منعهن المساجد لكن تقييده بالليل يخرج الجمعة، ولعل البخاري أشار بذكر النساء إلى ما في بعض طرق حديث نافع عن عثمان بن واقد عند أبي عوانة وابن خزيمة وابن حِبّان في صحاحهم بلفظ: "مَنْ أتى الجمعة مِنَ الرجالِ والنساءِ فليغتسل، ومَنْ لم يأتها فليس عليه غُسل". ورجاله ثقات لكن قال البزار: أخثى أن يكون عثمان بن واقد وهم فيه، وإلى الحديث المصرّح بأن: "لا جمعة على امرأةٍ ولا صبي" لكونه ليس على شرطه، وإن كان الإسناد صحيحًا وهو عند أبي داود عن طارق بن شهاب عن النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم-، ورجاله ثقات لكن قال أبو داود لم يسمع طارق من النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا أنه رآه وقد أخرجه الحاكم في"المستدرك" عن طارق عن أبي موسى الأشعري. قال الزين بن المنير: نقل عن مالك "أن مَنْ حضرَ الجمعةَ لابتغاءِ الفضلِ شرعَ له الغُسلُ وسائرُ آدابِ الجمعةِ ومَنْ حضرَها لأمر اتفاقي فلا".

الحديث الثاني

الحديث الثاني حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمُ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ. قوله: "فليغتسل" الفاء للتعقيب، وظاهره أن الغُسل يعقب المجيء وليس ذلك بمراد، وإنما التقدير (إذا أراد أحدكم). وقد جاء مصرحًا به في رواية الليث عن نافع عند مسلم ولفظه: "إذا أرادَ أحدُكم أن يأتي الجمعةَ فليغتسلْ" ونظير ذلك قوله تعالى: {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} فإن المعنى إذا أردتم المناجاة بلا خلاف، ويقوي رواية الليث حديث أبي هريرة الآتي قريبًا بلفظ: "مَنْ اغتسلَ يومَ الجمعةِ ثم راحَ" فهو صريح في تأخير الرواح عن الغُسل وعرف بهذا فساد قول مَنْ حمله على ظاهره واحتج به على أن الغُسل لليوم لا للصلاة، فإن الحديث واحد ومخرجه واحد وقد بيّن الليث المراد في روايته، وحكى ابن عبد البر الإجماع على أن مَنْ اغتسل بعد الصلاة لم يغتسل للجمعة، ولا فعل ما أمر به وادعى ابن حزم أنه قول جماعة من الصحابة والتابعين، ولم يأتِ عن أحد بالتصريح بإجزاء الاغتسال بعد صلاة الجمعة، وإنما أورد ما يدل على أنه لا يشترط اتصال الغُسل بالذهاب إلى الجمعة فأخذ هو منه أنه لا فرق بين ما قبل الزوال وما بعده، والفرق بينهما كالشمس. وقال ابن دقيق العيد: قد أبعد الظاهري إبعادًا يكاد أن يكون مجزومًا ببطلانه حيث لم يشترط تقدم الغُسل على إقامة صلاة الجمعة حتى لو اغتسل قبل الغروب كفى عنده تعلقًا بإضافة الغُسل إلى اليوم، وقد تبين من بعض الروايات أن الغسل لإزالة الروائح الكريهة كما يأتي في حديث عائشة بعد أبواب، وكما في رواية إسماعيل بن أمية عند أبي عوانة عن نافع: "كان الناسُ يغدون في أعمالهِم فإذا كانت الجمعةُ جاؤوا وعليهم ثيابٌ متغيرةٌ فشكوا ذلك لرسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فقالَ: "مَنْ جاءَ الجمعةَ فليغتسلْ". وفهم منه أن المقصود عدم تأذي الحاضرين وذلك لا يتأتى بعد إقامة الجمعة، وكذا لو قدمه بحيث لا يتحصل هذا المقصود لم نعتد به، والمعنى إذا كان معلومًا كالنص قطعًا أو ظنًا مقارنًا للقطع فاتباعه وتعليق الحكم به أولى من اتباع مجرد اللفظ. وقد علم من تقييد الغسل بالمجيء أن الغسل للصلاة لا لليوم، وهو مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة -رحمهم الله- فلو اغتسل بعد الصلاة لم يكن للجمعة، ولو اغتسل بعد الفجر أجزأه عند الشافعية خلافًا للمالكية والأوزاعي والليث. وقد مرّ في حديث إسماعيل بن أُمية بيان سبب مشروعية الغُسل فاستدل به

رجاله أربعة

المالكية على أنه يعتبر أن يكون الغُسل متصلًا بالذهاب؛ لئلا يفوت الغرض وهو رعاية الحاضرين من التأذي بالروائح حال الاجتماع، وهو غير مختص بمن تلزمه. قالوا: ومَنْ اغتسل ثم اشتغل عن الرواح إلى أن بعدما بينهما عرفا فإنه يعيد الغُسل لتنزيل البعد منزلة الترك، وكذا إذا نام اختيارًا بخلاف من غلبه النوم أو أكل كثيرًا وهو ما يذهب نداوة الغسل بخلاف الأكل القليل ومقتضى النظر أنه إذا عرف أن الحكمة في الأمر بالغُسل يوم الجمعة التنظيف رعاية للحاضرين كما مرّ، فمن خشي أن يصيبه في أثناء النهار ما يزيل تنظيفه استحب له أن يؤخر لوقت ذهابه كما قالت المالكية، وبه صرّح في "الروضة" وغيرها والأثرم سمعت أحمد سئل عمن اغتسل ثم أحدث هل يكفيه الوضوء؟ فقال: نعم، ولم أسمع فيه أعلى من حديث ابن أبزى وهو ما أخرجه ابن أبي شيبة عن أبزى وله صحبة أنه كان يغتسل يوم الجمعة ثم يحدث فيتوضأ ولا يعيد الغُسل. وفي "العيني" قال صاحب "الهداية": ثم هذا الغُسل أي: غُسل الجمعة للصلاة عند أبي يوسف أي لا يحصل له الثواب إلا إذا صلّى صلاة الجمعة بهذا الغُسل حتى لو اغتسل بعد الجمعة أو أول اليوم وانتقض ثم توضأ وصلّى لا يكون مدركًا لثواب الغُسل، وهو الصحيح. واحترز به عن قول الحسن بن زياد فإنه قال لليوم إظهارًا لفضيلته، وبقوله قال داود. وفي "المبسوط" وهو قول محمد. وفي "المحيط" وهو رواية عن أبي يوسف، فعلى هذا عن أبي يوسف روايتان، وقيل تظهر الفائدة أيضًا في هذا الخلاف فيمن اغتسل بعد الصلاة قبل الغروب إن كان مسافرًا أو عبدًا أو امرأة أو ممن لا تجب عليه الجمعة، وهذا بعيد؛ لأن المقصود منه إزالة الرائحة الكريهة كيلا يتأذى الحاضرون بها، وذلك لا يتأتى بعدها ولو اتفق يوم الجمعة ويوم العيد أو يوم عرفة وجامع، ثم اغتسل ينوب عن الكل وفي صلاة الجلابي لو اغتسل يوم الخميس أو ليلة الجمعة استن بالسنة لحصول المقصود، وهو قطع الرائحة الكريهة. واستدل من مفهوم الحديث على أن الغُسل لا يشرع لمن لم يحضر الجمعة، وقد تقدم التصريح بمقتضاه في حديث عثمان بن واقد عن نافع، وهذا هو الأصح عند الشافعية، وبه قال الجمهور خلافًا لأكثر الحنفية. قلت: قد مرّ قريبًا مذهب الحنفية عن العيني. وقوله في الحديث "الجمعة" المراد به الصلاة أو المكان الذي تقام فيه، وذكر المجيء لكونه الغالب وإلا فالحكم شامل لمن كان مجاورًا للجامع أو مقيمًا فيه، واستدل به على أن الأمر لا يحمل على الوجوب إلا بقرينة لقوله: كان يأمرنا مع أن الجمهور حملوه على الندب كما يأتي في الحديث الثالث، وهذا بخلاف صيغة (أفعل) فإنها على الوجوب حتى تظهر قرينة على الندب. رجاله أربعة: قد مرّوا، مرّ عبد الله بن يوسف ومالك في الثاني من بدء الوحي، ومرّ نافع في آخر حديث من العلم، ومرّ ابن عمر في أول كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه، وهذا الحديث أخرجه الستة إلا أبا داود وأخرجه غيرهم.

الحديث الثالث

الحديث الثالث حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ قَالَ: أَخْبَرَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ مَالِكٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بَيْنَمَا هُوَ قَائِمٌ فِي الْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَنَادَاهُ عُمَرُ أَيَّةُ سَاعَةٍ هَذِهِ؟ قَالَ: إِنِّي شُغِلْتُ فَلَمْ أَنْقَلِبْ إِلَى أَهْلِى حَتَّى سَمِعْتُ التَّأْذِينَ، فَلَمْ أَزِدْ أَنْ تَوَضَّأْتُ. فَقَالَ: وَالْوُضُوءُ أَيْضًا وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَأْمُرُ بِالْغُسْلِ. أورد هذا الحديث من رواية جويرية بن أسماء عن مالك موصولًا عن ابن عمر وهو عند رواة "الموطأ" من مالك ليس فيه ذكر ابن عمر فلم يذكر في هذا الحديث أحد عن مالك عبد الله بن عمر غير روح بن عبادة وجويرية، وقد تابعهما أيضًا عبد الرحمن بن مهدي أخرجه أحمد بن حنبل عنه بذكر ابن عمر ووصله عن مالك أيضًا القعنبي في رواية إسماعيل بن إسحاق القاضي عنه. ورواه عن الزهري موصولًا يونس بن يزيد عند مسلم ومعمر عند أحمد وأبو أويس عند قاسم بن أصبغ. وقوله: "بينا" أصله بين وأشبعت الفتحة، وقد تبقى بلا إشباع، وقد تزاد فيها ما فتصير بينما، وهي رواية يونس وهي ظرف زمان فيه معنى المفاجأة. وقد مرّ استيفاء الكلام عليها في بدء الوحي عند حديث جابر. وقوله: "إذا جاء" في رواية المستملي والأصيلي وكريمة إذ دخل رجل. وقوله: "من المهاجرين الأولين" قيل في تعريفهم مَنْ صلّى إلى القبلتين، وقيل مَنْ شهد بدرًا، وقيل مَنْ شهد بيعة الرضوان، ولا يشك أنها مراتب نسبية والأول أولى في التعريف لسبقه، فمن هاجر بعد تحويل القبلة وقبل وقعة بدر هو آخر بالنسبة إلى مَنْ هاجر قبل التحويل والرجل المذكور هو عثمان بن عفان كما في رواية ابن وهب وابن القاسم عن مالك في "الموطأ" وقد سماه الأوزاعي عند مسلم قال ابن عبد البر: لا أعلم خلافًا في ذلك. وقوله: "فناداه" أي: قال له: يا فلان، وقوله: "أية ساعة هذه" أيّة بتشديد التحتانية تأنيث أي يستفهم بها والساعة اسم لجزء من النهار مقدر وتطلق على الوقت الحاضر وهو المراد هنا وهذا الاستفهام استفهام توبيخ وإنكار وكأنه يقول: تأخرت إلى هذه الساعة؟ وقد ورد التصريح بالإِنكار

في رواية أبي هريرة الآتية: فقال عمر: "لِمَ تحتبسونَ عن الصلاةِ؟ " وعند مسلم فعرض عنه عمر فقال: ما بالُ رجال يتأخرونَ بعدَ النداءِ" والذي يظهر أن عمر قال ذلك كله، وحفظ بعض الرواة ما لم يحفظ الآخر، ومراد عمر التلميح إلى ساعات التبكير التي وقع الترغيب فيها، وأنها إذا انقضت طوت الملائكة الصحف كما يأتي قريبًا، وهذا من أحسن التعريضات وأرشق الكنايات. وفهم عثمان ذلك فبادر إلى الاعتذار عن التأخر. وقوله: "إني شُغلت" أي: بضم أوله، وقد بيّن جهة شغله في رواية عبد الرحمن بن مهدي حيث قال: "انقلبتُ من السوقِ فسمعتُ النداءَ" والمراد به الأذان بين يدي الخطيب كما مرّ، ويأتي بعد أبواب. وقوله: "فلم أزد على أن توضأتُ" أي: لم اشتغل بشيء بعد أن سمعت النداء إلا بالوضوء، وهذا يدل على أنه دخل المسجد في ابتداء شروع عمر في الخطبة. وقوله: "والوضوء" أيضًا فيه إشعار بأنه قبل عذره في ترك التبكير لكنه استنبط منه معنى آخر اتجه له عليه فيه إنكار ثانٍ مضاف إلى الأول، و"الوضوءَ" بالنصب وعليه اقتصر النووي في شرح مسلم، وبالواو عطفًا على الإنكار الأول أي: (والوضوءَ اقتصرت عليه) واخترته دون الغسل أي: أما اكتفيت بتأخير الوقت وتفويت الفضيلة حتى تركت الغُسل واقتصرت على الوضوء. وقال القرطبي: يجوز الرفع على أنه مبتدأ حذف خبره أي: (والوضوءُ أيضًا يقتصر عليه) أو على أنه خبر مبتدأ محذوف أي: (كفايتُك الوضوءُ). وقال القرطبي: الواو عوض عن همزة الاستفهام كقراءة ابن كثير. قال فرعون: {وآمَنْتُمْ بِهِ} في الأعراف وتعقبه في المصابيح بأن تخفيف الهمزة بإبدالها واوًا صحيح في الآية لوقوعها مفتوحة بعد ضمة، وأما في الحديث فليس كذلك لوقوعها مفتوحة بعد فتحة فلا وجه لإبدالها فيه واوًا، ولو جعله على حذف الهمزة أي: "أو تخص الوضوء" لجرى على مذهب الأخفش في جواز حذفها قياسًا عند أمن اللبس والقرينة الحالية المقتضية للإنكار شاهدة بذلك، فلا لبس ولأبي ذرٍّ عن الحموي والمستملي قال: "والوضوءَ" وهو بالنصب أيضًا أي: أتتوضأ الوضوء فقط، ويجوز الرفع على نحو ما مرّ قريبًا ونقل البرماوي والزركشي أنه يروى عن ابن السيد بالرفع على لفظ الخبر. والصواب أن "آلوضوء" بالمد على لفظ الاستفهام كقوله تعالى: {آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ} وتعقبه البدر ابن الدماميني بأن نقل كلام ابن السيد بقصد توجيه ما في البخاري به غلط، فإن كلام ابن السيد في حديث "الموطأ" وليس فيه واو إنما هو فقال له عمر: "الوضوء أيضًا". وهذا يمكن فيه المد بجعل همزة الاستفهام داخلة على همزة الوصل. وأما في حديث البخاري فالواو داخلة على همزة الوصل، فلا يمكن الإتيان بعدها بهمزة الاستفهام. والظاهر أن البدر لم يطلع على رواية الحموي والمستملي السابقة. قال الوضوء بحذف الواو حينئذ، فلا اعتراض.

وقوله: "أيضًا" منصوب على أنه مصدر من آض يئيض أي: عاد ورجع والمعنى ألم يكفك أن فاتك فضل التبكير حتى أضفت إليه ترك الغُسل المرغب إليه. قال في "الفتح": ولم أقف في شيء من الروايات على ما أجاب به عثمان، والظاهر أنه سكت عنه اكتفاء بالاعتذار الأول؛ لأنه قد أشار إلى أنه كان ذاهلًا عن الوقت، وأنه بادر عند سماع النداء وإنما ترك الغُسل؛ لأنه تعارض عنده إدراك سماع الخطبة والاشتغال بالغُسل وكل منهما مرغب فيه فآثر الخطبة ولعله كان يرى فرضيته؛ فلذلك آثره. وقوله: "كان يأمر بالغُسل" لم يذكر في جميع الروايات المأمور إلا أن في رواية جُويرية عن نافع: "كنّا نُؤْمر". وفي حديث ابن عباس عند الطحاوي في هذه القصة أن عمر قال له: "لقد علم أنّا أُمرنا بالغسلِ قلت: أنتم المهاجرونَ الأولون أم الناس جميعًا؟ قال: لا أدري". رواته ثقات إلا أنه معلول وفي رواية أبي هريرة في هذه القصة أن عمر قال: "ألم تسمعوا أن رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قال: إذا راحَ أحدُكم إلى الجمعةِ فليغتسلْ" كذا هو في "الصحيحين". وغيرهما وهو ظاهر في عدم التخصيص بالمهاجرين الأولين. وفي هذا الحديث من الفوائد القيام في الخطبة وعلى المنبر، وتفقد الإِمام رعيته وأمره لهم بمصالح دينهم، وإنكاره على مَنْ أخل بالفضل وإن كان عظيم المحل ومواجهته بالإنكار ليرتدع من هو دونه بذلك، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أثناء الخطبة لا يفسدها وسقوط منع الكلام عن المخاطب بذلك، وفيه الاعتذار إلى ولاة الأمر وإباحة الشغل والتصرف يوم الجمعة قبل النداء ولو أفضى إلى ترك فضيلة البكور إلى الجمعة؛ لأن عمر لم يأمر برفع السوق بعد هذه القصة واستدل به مالك على أن السوق لا تمنع يوم الجمعة قبل النداء لكونها كانت في زمن عمر، ولكون الذاهب إليها مثل عثمان، وفيه شهود الفضلاء السوق ومعاناة المتجر فيها، وفيه أن فضيلة التوجه إلى الجمعة إنما تحصل قبل التأذين. وقال عياض: فيه حجة لكون السعي إنما يجب بسماع الأذان، وأن شهود الخطبة لا يجب وهو مقتضى قول أكثر المالكية، وتعقب بأنه لا يلزم من التأخر إلى سماع النداء فوات الخطبة، بل تقدم أن عثمان لم يفته شيء من الخطبة وعلى تقدير أن يكون فاته منها شيء، فليس فيه دليل على أنه لا يجب شهودها على مَنْ تنعقد به الجمعة. قلت مشهور مذهب مالك أن الجماعة التي تنعقد بها الجمعة لابد من حضورها للخطبتين، واستدل به على أن غسل الجمعة واجب لقطع عمر الخطبة وإنكاره على عثمان تركه وهو متعقب؛ لأنه أنكر عليه ترك السنة المذكور وهي التبكير إلى الجمعة، فيكون الغُسل كذلك، وعلى أن الغُسل ليس شرطًا لصحة الجمعة. وقد مرّ البحث في ذلك في باب (وضوء الصبيان).

رجاله سبعة

رجاله سبعة: وفيه لفظ رجل مبهم وقد مرّوا إلا شيخ البخاري: مرّ جويرية بن أسماء في السابع والتسعين من أحاديث استقبال القبلة، ومرّ مالك في الثاني من بدء الوحي، وابن شهاب في الثالث منه، وعمر في الأول منه، وسالم في السابع عشر من الإيمان، وابن عمر في أوله قبل ذكر حديث منه. والرجل المبهم هو عثمان بن عفان سمّاه ابن وهب وابن القاسم في روايتهما عن مالك في "الموطأ". وقد مرّ في باب (ما يذكر في المناولة) بعد الخامس من العلم. وشيخ البخاري هو عبد الله بن محمد بن أسماء بن عبيد بن مخارق الضبعي أبو عبد الرحمن البصري ذكره ابن حِبّان في "الثقات" وابن قانع وقال: ثقة، وقال أبو زرعة: لا بأس به شيخ فاضل. وقال أبو حاتم: ثقة، وقال ابن دارة: قيل لي إنه أفضل أهل البصرة فذكرته لابن المديني فعظم شأنه. وقال أحمد بن إبراهيم الدورقي: لم أر بالبصرة أفضل منه وفي الزهرة: روى عنه البخاري اثنين وعشرين حديثًا ومسلم سبعة عشر حديثًا. روى عن عمه جويرية بن أسماء وابن المبارك وحفص بن غياث وغيرهم. وروى عنه البخاري ومسلم وأبو داود وأبو حاتم وابن دارة وغيرهم. مات سنة إحدى وثلانين ومئتين. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة وفيه رواية التابعي عن التابعي ورواية الابن عن أبيه عن جدّه ورواته مدنيون ما عدا الأولَيْن فهما بصريان. أخرجه الترمِذِيّ في "الصلاة" أيضًا. الحديث الرابع حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ. لم يختلف رواة "الموطأ" على مالك في إسناده، وقد تابع مالكًا على روايته الدراوردي عن صفوان عند ابن حِبّان، وخالفهما عبد الرحمن بن إسحاق فرواه عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة. أخرجه أبو بكر المروزي في كتاب "الجمعة" له. وقوله: "واجب على كل محتلم" أي: بالغٍ. وهذا الحديث قد مرّ في باب (وضوء الصبيان) من وجه آخر، ومرّ استيفاء الكلام عليه هناك استيفاء لا مزيد عليه. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ عبد الله بن يوسف ومالك في الثاني من بدء الوحي، ومرّ صفوان بن سليم في التاسع والعشرين من الغُسل، ومرّ عطاء بن يسار في الثاني والعشرين من الإيمان، ومرّ أبو سعيد الخدري في الثاني عشر منه. قد مرّ ما في هذا الحديث. ثم قال المصنف:

باب الطيب للجمعة

باب الطيب للجمعة لم يذكر حكمه أيضًا لوقوع الاحتمال فيه. الحديث الخامس حَدَّثَنَا عَلِيٌّ بن عبد الله بن جعفر قَالَ: حَدَّثَنَا حَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ سُلَيْمٍ الأَنْصَارِيُّ قَالَ: أَشْهَدُ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: أَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: الْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ، وَأَنْ يَسْتَنَّ وَأَنْ يَمَسَّ طِيبًا إِنْ وَجَدَ. قَالَ عَمْرو: أَمَّا الْغُسْلُ فَأَشْهَدُ أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَأَمَّا الاِسْتِنَانُ وَالطِّيبُ فَاللَّهُ أَعْلَمُ أَوَاجِبٌ هُوَ أَمْ لاَ، وَلَكِنْ هَكَذَا فِي الْحَدِيثِ. قوله: "أشهد علي أبي سعيد" ظاهر في أنه سمعه منه. قال ابن التين: أراد بهذا اللفظ التأكيد للرواية، وقد أدخل بعضهم بين عمرو بن سليم القائل "أشهد" وبيّن أبي سعيد الخدري رجلًا وهو عبد الرحمن بن أبي سعيد، فقد أخرجه مسلم وأبو داود والنَّسائيّ عن عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال عن عبد الرحمن عن أبيه أبي سعيد، وانفرد سعيد بذكر عبد الرحمن ولم يذكره بكير بن الأشج ولا غيره. وقوله: "وأن يستنّ" أي: يدلك أسنانه بالسواك، فهو عطف على معنى الجملة السابقة (وأنْ) مصدرية. وقوله: "وأن يمَسّ" بفتح الميم على الأفصح. وقوله: "إن وجد" متعلق بالطيب أي: إن وجد الطيب مسَّهُ، ويحتمل تعلقه بما قبله أيضًا. وفي رواية مسلم: "ويمسَّ من الطيبِ ما يقدرُ عليه". وفي روايةٍ "ولو مِنْ طيب المرأةِ". قال عياض: يحتمل قوله: "ما يقدر عليه" إرادة التأكيد ليفعل ما أمكنه، ويحتمل إرادة الكثرة والأول أظهر، ويؤيده قوله: "ولو من طيب المرأة"؛ لأنه يكره استعماله للرجل، وهو ما ظهر لونه وخفي ريحه فإباحته للرجل لأجل عدم غيره يدل على تأكد الأمر في ذلك ويؤخذ من اقتصاره على المسّ الأخذ بالتخفيف في ذلك قال الزين بن المنير: فيه تنبيه على الرفق وعلى تيسير الأمر في التطيب بأن يكون بأقل ما تمكن حتى أنه يجزىء منه من غير تناول قدر ينقصه تحريضًا على امتثال الأمر فيه. وقوله: "قال عمرو" أي: ابن سليم راوي الخبر، وهو موصول بالإسناد المذكور إليه. وقوله: "وأما الاستئذانُ والطيبُ فاللهُ أعلمُ أواجبٌ هو أم لا ولكن هكذا في الحديث" أشار به إلى أن العطف لا يقتضي التشريك من جميع الوجوه، فكان القدر المشترك تأكيد الطلب للثلاثة، وجزم بوجوب الغُسل دون غيره للتصريح به في الحديث، وتوقف فيما عداه لوقوع الاحتمال فيه.

رجاله ستة

وقوله: "واجب" أي: مؤكد كالواجب كما مرّ، فقد حمله الأكثر على ذلك بدليل عطف الاستئذان والطيب عليه المتفق على عدم وجوبهما فالمعطوف عليه كذلك. قال الزين بن المنير: يحتمل أن يكون قوله: "وأن يستنّ" معطوفًا على الجملة المصرحة بوجوب الغُسل، فيكون واجبًا أيضًا، ويحتمل أن يكون مستانفًا فيكون التقدير (وأن يستنّ ويتطيَب استحبابًا) ويؤيد الأول ما يأتي في آخر الباب من رواية الليث عن خالد بن زيد حيث قال فيها: إن الغُسل واجب، ثم قال فيها: والسواك "وأن يمسّ من الطيب" ويأتي في شرح باب (الدهن يوم الجمعة) حديث ابن عبّاس "وأصيبوا من الطيب"، وفيه تردد ابن عبّاس في وجوب الطيب، ويلتحق بالاستنان والتطيب التزين باللباس وسيأتي استعمال الخمس التي عدت من الفطرة. وصرّح ابن حبيب من المالكية به فقال: يلزم الآتي الجمعة جميع ذلك. رجاله ستة: قد مرّوا إلّا أبا بكر، مرّ حرمي في الثامن عشر من الإيمان، ومرّ ابن المدينى في الرابع عشر من العلم، ومرّ شعبة في الثالث من الإيمان، وأبو سعيد في الثاني عشر منه، ومرّ عمرو بن سليم في الثامن والأربعين من أحاديث استقبال القبلة. وأما أبو بكر فهو ابن المنكدر بن عبد الله بن الهدير التيمي أخو محمد، أسنّ منه لم يسم كما قال البخاري. قال أبو داود: كان من ثقات الناس، وقال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث روى عن عمه ربيعة بن عبد اللة بن الهدير وجابر بن عبد الله وعمرو بن سليم وعطاء بن يسار وغيرهم. وروى عنه أخوه محمد ويحيى بن سعيد الأنصاري وشعبة وغيرهم. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإِفراد والعنعنة والقول ورواته ما بين بصري وواسطي ومدني أخرجه مسلم في "الطهارة" وكذا أبو داود والنَّسائيّ، ثم قال: قال أبو عبد الله: هو أخو محمد بن المنكدر ولم يسم أبو بكر هذا. روى عنه بكير بن الأشج وسعيد بن أبي هلال وعدة وكان محمد بن المنكدر يكنى بأبي بكر وأبي عبد الله. قوله: "قال أبو عبد الله" أي: البخاري ومراده بما ذكر أن محمد بن المنكدر وإن كان يكنى أيضًا أبا بكر لكنه ممن كان مشهورًا باسمه دون كُنيته بخلاف أخيه أبي بكر راوي هذا الخبر فإنه لا اسم له إلا كُنيته، وقد مرّ تعريفه قريبًا. وقوله: "روى عنه بكير بن الأشج" كذا في رواية أبي ذرٍّ ولغيره رواه عنه وكان المراد أن شعبة لم ينفرد برواية هذا الحديث عنه لكن قد مرّ ما بين رواية بكير وسعيد من المخالفة في السند، وذكر المصنف ثلاثة رجال قد مرّوا، مرّ محمد بن المنكدر في التاسع والخمسين من الوضوء، ومرّ بكير بن الأشج في الخامس والسبعين منه، ومرّ سعيد بن أبي هلال في الثاني منه. وأبو عبد الله

باب فضل الجمعة

المراد به البخاري نفسه، ورواته بكير وسعيد عن أبي بكر. أخرجها مسلم وأبو داود والنَّسائيّ. ثم قال المصنف: باب فضل الجمعة أورد فيه حديث مالك. ومناسبته للترجمة من جهة ما اقتضاه الحديث من مساواة المبادر إلى الجمعة للمتقرب بالمال. فكأنه جمع بين عبادتين بدنية ومالية، وهذه خصوصية للجمعة لم تثبت لغيرها من الصلوات.

الحديث السادس

الحديث السادس حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ حَضَرَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ. قوله: "مَنْ اغتسل" يدخل فيه كل مَنْ يصح التقرب منه ذكر أو أُنثى أو عبد. وقوله: "غُسلَ الجنابة" بالنصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي: غسلًا كغُسل الجنابة وهو كقوله تعالى: {مَرَّ السَّحَابِ} ويشهد بذلك رواية ابن جريج عن سمى عند عبد الرزاق "فاغتسلَ أحدُكم كما يغتسلُ من الجناَبةِ" فظاهره أن التشبيه للكيفية لا للحكم، وهو قول الأكثر. وقيل المراد غسل الجنابة حقيقة ففيه إشارة إلى الجِماع يوم الجمعة ليغتسل فيه من الجنابةِ، والحِكمة فيه أن تسكن نفسه في الرواح إلى الصلاةِ ولا تمتد عينه إلى شيء يراه، وفيه حمل المرأة أيضًا على الاغتسال ذلك اليوم، وعليه حَمَل قائل ذلك حديث أوس الثقفي قال: "سمعتُ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يقولُ مَنْ غَسّل يومَ الجمعةِ واغتسلَ، ثم بكر وابتكرَ ومشى ولم يركبْ ودنا من الإِمام واستمعَ ولم يلغُ كان له بكلِّ خطوةٍ عملُ سنةٍ أجرُ صيامِها وقيامِها" أخرجه أصحاب "السنن"، وقالَ الترمذِيّ: حديث أوس حديث حسن، وقال أيضًا: معنى "غسل" وطىء امرأته قبل الخروج إلى الصلاة، يقال غسّل الرجل امرأته وغسلها مشددًا ومخففًا إذا جامعها، وفحل غسلة إذا كان كثير الضراب. قال النووي: ذهب بعض أصحابنا إلى هذا وهو ضعيف أو باطل والصواب الأول. وقد حكاه ابن قدامة عن أحمد وثبت أيضًا عن جماعة من التابعين وقال القرطبي: إنه أنسب الأقوال، فلا وجه لادعاء بطلانه وإن كان الأول أرجح، ولعله عني أنه باطل في مذهبه. وقوله: "ثم راح" أي: ذهب زاد في "الموطأ" في "الساعة الأولى" وصحح النووي أنها من طلوع الفجر؛ لأنه أول اليوم شرعًا، لكن يلزم منه أن يكون التأهب قبل طلوع الفجر. وقد قال الشافعي: يجزىء الغُسل إذا كان بعد الفجر، وليس المراد من الساعات الفلكية الأربعة والعشرين

التي قسم عليها الليل والنهار، بل المراد ترتيب درجات السابقين على مَنْ يليهم في الفضيلة؛ لئلا يستوي فيه رجلان جاءا في طرفي ساعة؛ ولأنه لو أُريد ذلك لاختلف الأمر في اليوم الشاتي والصائف. وفي "شرح المهذب" و"مسلم" المراد الفلكية لكن بَدَنة الأول أكمل من بَدَنَة الأخير، وبَدَنَة المتوسط متوسطة، فمراتبهم متفاوتة وإن اشتركوا في البَدَنَة مثلًا كما في درجات صلاة الجماعة الكثيرة والقليلة، وحينئذٍ فمراده بساعات الفلكية اثنتا عشرة زمانية صيفًا أو شتاء، وقد روى أبو داود والنسائي وصححه الحاكم عن جابر مرفوعًا "يومُ الجمعةِ اثنتا عشرةَ ساعةً"، وهذا وإن لم يرد في حديث التبكير فيستأنس به في المراد بالساعات. وقال الماوردي: إن الرواح من طلوع الشمس موافقة لأهل الميقات ليكون ما قبل ذلك من طلوع الفجر زمان غسل وتأهب، واستشكل بأن الساعات ست لا خمس، والجمعة لا تصح في السادسة، بل في السابعة. وأجيب بأن عند النَّسائيّ بإسناد صحيح بعد الكبش بطة، ثم دجاجة، ثم بيضة. وفي أخرى دجاجة، ثم عصفورًا، ثم بيضة، ومعلوم أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يخرج إلى الجمعة متصلًا بالزوال، وهو بعد انقضاء الساعة السادسة فيكون خروج الإمام عند انتهاء السادسة، وفي حديث وائلة عند الطبراني في الكبير مرفوعًا أن الله تعالى يبعث الملائكةَ يومَ الجمعةِ على أبواب المسجدِ يكتبونَ القومَ الأولَ والثاني والثالثَ والرابعَ والخامسَ والسادسَ، فإذا بلغوا السابعَ كانواَ بمنزلةِ من قرَّبَ العصافير". وللروياني والبغوي وجه ثالث أن التبكير من الزوال كقول مالك. وحكى الصيدلاني وجهًا رابعًا وهو أنه من ارتفاع النهار وهو وقت الهجير. وانفصل المالكية إلا قليلًا منهم وبعض الشافعية عن الإِشكال بأن المراد بالساعات الخمس لحظات لطيفة أولها زوال الشمس وآخرها قعود الخطيب على المنبر، واستدلوا على ذلك بأن الساعة تطلق على جزء من الزمان غير محدود تقول: جئت ساعة كذا. وقالوا: إن حملها على الزمانية التي يقسم النهار فيها إلى اثني عشر جزءًا يبعد إحالة الشرع عليه لاحتياجه إلى حساب ومراجعة آلات تدل عليه؛ ولأنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "إِذا كانَ يومُ الجمعةِ قامَ على كلِّ بابٍ من أبوابِ المسجدِ ملائكةٌ يكتبونَ الأولَ فالأولَ فالمتهجر إلى الجمعةِ كالمُهدي بَدَنَةً" الحديث فإن قيل: قد تستعمل الهاجرة في غير موضعها فيجب العمل عليه جمعًا، فالجواب: أنه ليس إخراجها عن ظاهرها بأولى من إخراج الساعة الأولى عن ظاهرها، فإذا تساويا على ما زعمت فما أرجح؟ قلت: عمل الناس جيلًا بعد جيل لم يعرف أن أحدًا من الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- كان يأتي المسجد عند طلوع الشمس لصلاة الجمعة، ولا يمكن حمل حالهم على ترك هذه الفضيلة العظيمة، واستدلوا أيضًا بأن قوله في الحديث "ثم راح" يدل على أنه أول الذهاب إلى الجمعة من الزوال؛ لأن حقيقة الرواح من الزوال إلى آخر النهار، والغدو من أوله إلى الزوال. قال المازري: تمسك مالك بحقيقة الرواح، وتجوّز في الساعة وعكس غيره. وأنكر الأزهري على مَنْ زعم أن الرواح لا يكون إلا بعد الزوال، ونقل أن العرب تقول راح في جميع الأوقات بمعنى ذهب.

قال: وهي لغة أهل الحجاز، ونقل أبو عبيد في "الغريبين" نحوه. وفيه رد على الزين بن المنير حيث أطلق أن الرواح لا يستعمل في المضي في أول النهار بوجه، وحيث قال: إن استعمال الرواح بمعنى الغدو لم يسمع ولا ثبت ما يدل عليه. وقد قال في "الفتح": إن التعبير بالرواح ليس في شيء من طرق هذا الحديث إلا في رواية مالك هذه عن سمي وقد رواه ابن جريج عن سمي بلفظ: "غدا"، ورواه أبو سلمة عن أبي هريرة بلفظ: "المتعجلُ إلى الجُمعةِ كالمُهدي بَدَنَةً" الحديث، وصححه ابن خزيمة. وفي حديث سمرة: "ضربَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مثلَ الجُمعةِ في التبكيرِ كناحر البَدَنَة" الحديث، أخرجه ابن ماجه. ولأبي داود عن علي مرفوعًا: "إذا كان يومُ الجُمعةِ غدتِ الشَياطينَ براياتِها إلى الأسواقِ وتغدو الملائكةُ فتجلسُ على بابِ المسجدِ فتكتَب الرجلَ مِنْ ساعةٍ والرجلَ مِنْ ساعتينِ" الحديث. قال: فدل مجموع هذه الأحاديث على أن المراد بالرواح الذهاب، ولعل النكتة في التعبير بالرواح الِإشارة إلى أن الفعل المقصود إنما يكون بعد الزوال، فيسمى الذاهب إلى الجُمعة رائحاً وإن لم يجىء وقت الرواح كما سمي المقاصد إلى مكة حاجًا. قلت: هذه الأحاديث المذكورة ليس فيها ذكر للرواح، وإنما فيها الغدو أو التبكير، فكيف يصح قوله إن المراد بالرواح فيها الذهاب؟ واحتج بعض المالكية أيضًا بقوله في رواية الزهري: مثل المهجر؛ لأنه مشتق من التهجير وهو السير وقت الهاجرة. وأجيب بأن المراد بالتهجير هنا التبكير كما تقدم نقله عن الخليل في "المواقيت". قلت: الذي مرّ عن الخليل في باب (الاستهام في الأذان) هو محل التهجير على ظاهره من أنه الإتيان إلى الصلاة وقت الهاجرة وهي شدة الحر نصف النهار، والذي فسر التهجير بالتبكير هو الهروي. وقال ابن المنير: يحتمل أن يكون مشتقًا من الهِجيّر بالكسر وتشديد الجيم وهو ملازمة ذكر الشيء. وقيل: هو من هجير المنزل وهو ضعيف؛ لأن مصدره الهجر لا التهجير. وقال القرطبي: الحق أن التهجير هنا من الهاجرة وهو السير في وقت الحر وهو صالح لما قبل الزوال وبعده، فلا حجة فيه لمالك. وقال التوربشتي: جعل الوقت الذي يرتفع فيه النهار ويأخذ الحر في الازدياد من الهاجرة تغليبًا بخلاف ما بعد الزوال، فإن الحرّ يأخذ في الانحطاط. ومما يدل على استعمالهم التهجير في أول النهار ما أنشده ابن الأعرابي: يهجرون تهجير النجر. واحتجوا أيضًا بأن الساعة لو لم تطل للزم تساوي الآيتين فيها، والأدلة تقتضي رجحان السابق بخلاف ما إذا قلنا إنها لحظة لطيفة، وأجابوا عن هذا بما مرّ مما قاله النووي من أن التساوي وقع في مسمى البَدَنَة والتفاوت في صفاتها، ويؤيده أن في رواية ابن عجلان تكرير كل من المتقرب به مرتين حيث قال: "كرجل قرّب بَدَنَة، وكرجل قرّب بَدَنَة" الحديث. ولا يرد على هذا أن في رواية ابن جريج "وأول الساعة وآخرها سواء"؛ لأن هذه التسوية بالنسبة إلى البَدَنة كما تقرر واحتج من كره التبكير أيضًا بأنه يستلزم تخطي الرقاب في الرجوع لمن عرضت له حاجة فخرج ثم رجع وتعقب بأنه لا حرج عليه في هذه الحالة؛

لأنه قاصد للوصول لحقه، وإنما الحرج على مَنْ تأخر عن المجيء ثم جاء فتخطى. وقوله: "فكأنما قرَّب بَدَنَةً" أي: تصدق بها متقربًا إلى الله تعالى. وقيل: المراد أن للمبادرة في أول ساعة نظير ما لصاحب البَدَنة من الثواب ممن شرع له القربان لم يشرع لهذه الأُمة على الكيفية التي كانت للأُمم السالفة. وفي رواية ابن جريج المذكورة "فلهُ من الأجر مثلُ الجزورِ" وظاهره أن المراد أن الأجر لو تجسد لكان قدر الجزور. وقيل: ليس المراِد بالحديث إلاَّ بيان تفاوت المبادرين إلى الجُمُعة، وأن نسبة الثاني من الأول نسبة البقرة إلى البَدَنة في القيمة مثلًا، ويدل عليه أن في مرسل طاووس عند عبد الرزاق "كفضلِ صاحب الجزورِ على صاحب البقرةِ". وفي رواية الزهري الآتية في باب (الاستماع إلى الخطبة) بلفظ: "كمثل الذي يهدي بَدَنَة" فكان المراد بالقربان في رواية الباب الإِهداء إلى الكعبة. قال الطيبي: في لفظ الإِهداء إدماج بمعنى التعظيم للجمعة، وأن المبادر إليها كمن ساق الهدي، والبَدَنة تقال للبعير ذكرًا كان أو انثى، والهاء فيها للوحدة لا للتأنيث، وكذا في باقي ما ذكر. وحكى ابن التين عن مالك أنه كان يتعجب ممن يخص البَدَنَة بالأُنثى. وقال الأزهري: لا تكون إلا من الإبل، وصح ذلك عن عطاء. وأما الهدي فمن الإبل والبقر والغنم هذا لفظه. وحكى النووي عنه قال: البَدَنَة تكون من الإبل والبقر والغنم، وكأنه خطأ نشأ عن سقط. وفي "الصحاح" البَدَنة ناقة أو بقرة تنحر بمكة سميت بذلك؛ لأنهم كانوا يسمنونها، والمراد بالبَدَنَة هنا الناقة بلا خلاف، واستدل به على أن البَدَنَة تختص بالإبل؛ لأنها قوبلت بالبقرة عند الإطلاق، وقسم الشيء لا يكون قسيمه. وقال إمام الحرمين: البَدَنَة من الإبل، ثم الشرع قد يقيم مقامها البقرة وسبعًا من الغنم، وتظهر ثمرة هذا فيما إذا قال: لله عليّ بدنة، وفيه خلاف الأصح أنه يتعيّن الإبل إن وجدت، وإلا فالبقرة، ثم سبع شياه. وقيل: يتعيّن الإبل مطلقًا، وقيل: يتخير. وقوله: "فكأنما قرّب دجاجة" بتثليث الدال. وعن محمد بن حبيب أنها بالفتح من الحيوان وبالكسر من الناس، واستشكل التعبير في الدجاجة والبيضة بقوله في رواية الأزهري "كالذي يهدي"؛ إن الهدي لا يكون منهما، وأجاب عياض تبعًا لابن بطال بأنه لما عطفه على ما قبله أعطاه حكمه في اللفظ فيكون من الإتباع: متقلدًا سيفًا ورمحًا. وتعقبه ابن المنير بأن شرط الإتباع لا يصرح باللفظ في الثاني فلا يسوغ أن يقال: متقلدًا سيفًا ومتقلدًا رمحًا، والذي يظهر أنه من باب المشاكلة، وإلى ذلك أشار ابن العربي بقوله: هو من باب تسمية الشيء باسم قرينه. وقال ابن دقيق العيد: قوله: "قرّب بيضة" وفي الرواية الأخرى كالذي يهدي يدل على أن المراد بالتقريب الهدي وينشأ منه أن الهدي يطلق على مثل هذا حتى لو التزم هديًا يكفيه ذلك أولًا. وهو الصحيح عند الشافعية وكذا عند الحنفية والحنابلة. قلت: وكذا المالكية، وهذا ينبني على أن النذر هل يسلك به مسلك جائز الشرع أو واجبه، فعلى الأول يكفي أقل ما يتقرب به، وعلى الثاني يحمل على أقل ما يتقرب به من ذلك الجنس، ويقوي الصحيح أيضًا أن المراد بالهدي هنا التصدق كما يدل عليه

لفظ التقرب، وهذا يجاب به عن الإشكال المتقدم فيكون المراد بالتقرب والهدي التصدق، والتصدق بالدجاجة والبيضة جائز. وقوله: "حضرتِ الملائكةُ يستمعونَ الذكرَ" استنبط منه الماوردي أن التبكير لا يستحب للإمام قال: ويدخل إلى المسجد من أقرب أبوابه إلى المنبر وما قاله غير ظاهر لإِمكان أن يجمع الأمرين بالتبكير، ولا يخرج من المكان المعد له في الجامع إلا إذا حضر الوقت أو يحمل على مَنْ ليس له مكان معد وزاد في رواية الزهري الآتية "طووا صحفَهم". ولمسلم من طريقه "فإذا جلسَ الإِمامُ طووا الصحفَ، وجاؤوا يستمعون الذكر". وكان ابتداء طي الصحف عند ابتداء خروج الإِمام وانتهاؤه بجلوسه على المنبر وهو أول سماعهم للذكر، والمراد به ما في الخطبة من المواعظ وغيرها، وأول حديث الزهري إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة على باب المسجد يكتبون الأول فالأول، ونحوه في رواية ابن عجلان عن سمي عند النسائي، وفي رواية العلاء عن أبي هريرة عند ابن خزيمة "على كلِّ بابٍ من أبوابِ المسجدِ ملكانِ يكتبانِ الأولَ فالأولَ"، فكان المراد بقوله في رواية الزهري: "على باب المسجد" جنس الباب، ويكون من مقابلة المجموع بالمجموع، فلا حجة فيه لمن أجاز التعبير عن الاثنين بلفظ الجمع. وأخرج أبو نعيم في "الحلية" عن ابن عمر مرفوعًا صفة الصحف المذكورة بلفظ "إذا كانَ يومُ الجمعةِ بعثَ الله ملائكةً بصحفٍ من نورٍ وأقلامٍ من نورٍ" الحديث، وهو دال على أن الملائكة المذكورين غير الحفظة. والمراد "بطي الصحف" طي صحف الفضائل المتعلقة بالمبادرة إلى الجمعة دون غيرها من سماع الخطبة وإدراك الصلاة والذكر والدعاء والخشوع ونحو ذلك، فإنه يكتبه الحافظان قطعًا. وفي رواية ابن عُيينة عن الزهري في آخر حديثه المشار إليه عند ابن ماجه "فمَنْ جاءَ بعدَ ذلكَ فإنما يجيِءُ لحقّ الصلاةِ". وفي رواية ابن جريج عن سمي من الزيادة في آخره "ثم إذا استمعَ وأنصتَ غُفَر لهُ ماَ بينَ الخطبتيْنِ وزيادة ثلاثة أيام". وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند ابن خزيمة "فيقول بعضُ الملائكةِ لبعضٍ ما حبسَ فلانًا فتقولُ اللَّهُمَّ إن كانَ ضالًا فاهدهِ وإن كانَ فقيرًا فأغنْهُ، وإن كان مريضًا فعافِهِ". وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم: الحض على الاغتسال يوم الجمعة وفضله، وفضل التبكير إليها أو التهجير عند المالكية، وإن الفضل المذكور إنما يحصل لمن جمعها وعليه يحمل ما أطلق في باقي الروايات من ترتب الفضل على التبكير من غير تقييد بالغُسل. وفيه أن مراتب الناس في الفضل بحسب أعمالهم، وأن القليل من الصدقة غير محتقر في الشرع، وأن التقرب بالإبل أفضل من التقرب بالبقر وهو بالاتفاق في الهدي. واختلف في الضحايا والجمهور على أنها كذلك خلافًا للمالكية القائلين بأن الغنم أفضل في الضحايا. قال الزين بن المنير: فرّق مالك بين التقربين باختلاف المقصودين؛ لأن أصل مشروعية الأضحية التذكير بقصة الذبيح، وهو قد فدي بالغنم والمقصود بالهدي التوسعة على المساكين فناسب البُدْنَ. وأيضًا المقصود من الضحية طيب

رجاله خمسة

اللحم لفاعليها ومن الهدي كثرته للمساكين، واستدل به على أن الجمعة تصح قبل الزوال ويأتي ما قيل في ذلك من الخلاف في باب (وقت الجمعة إذا زالت الشمس) ووجه الدلالة منه تقسيم الساعات إلى خمس، ثم عقب بخروج الإِمام وخروجه عند أول وقت الجمعة فيقتضي أن يخرج في أول الساعة السادسة وهي قبل الزوال. والجواب أنه ليس في شيء من طرق هذا الحديث ذكر الإتيان من أول النهار، فلعل الساعة الأولى منه جعلت للتأهب بالاغتسال وغيره ويكون بعد المجيء من أول الثانية فهي أولى بالنسبة للمجيء ثانية بالنسبة للنهار وعلى هذا، فآخر الخامسة أول الزوال فيرتفع الإشكال. وقد قيل: إن المراد بالساعات بيان مراتب المبكرين من أول النهار إلى الزوال وإنها تنقسم إلى خمس. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ عبد الله بن يوسف ومالك في الثاني من بدء الوحي، ومرّ سمي في الثاني عشر من كتاب الأذان، ومرّ أبو صالح وأبو هريرة في الثاني من الإيمان. أخرجه مسلم في الصلاة، وكذلك أبو داود والترمِذِيّ والنسائي وابن ماجه.

باب

باب كذا في الأصل بغير ترجمة، وهو كالفصل من الباب الذي قبله، ووجه تعلقه به أن فيه إشارة إلى الرد على مَنْ ادعى إجماع أهل المدينة على ترك التبكير بمحضر من الصحابة وكبار التابعين من أهل المدينة. قلت: ليس في الحديث رد على مَنْ أنكر التبكير؛ لأن التبكير المنكر إنما هو ما كان أول النهار قبل القائلة، وأما ما بعد القائلة فهو الرواح، وهو مطلوب عند جميع الأئمة، وعمر إنما أنكر التأخير إلى الشروع في الخطبة فلا دلالة فيه على ما ذكر، ووجه دخوله في فضل الجمعة ما يلزم من إنكار عمر على الداخل لاحتباسه مع عظم شأنه، فإنه لولا عظم الفضل في ذلك لما أنكر عليه، وإذا ثبت الفضل في التبكير إلى الجمعة ثبت الفضل لها. الحديث السابع حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه بَيْنَمَا هُوَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ فَقَالَ عُمَرُ: لِمَ تَحْتَبِسُونَ عَنِ الصَّلاَةِ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: مَا هُوَ إِلاَّ سَمِعْتُ النِّدَاءَ تَوَضَّأْتُ. فَقَالَ: أَلَمْ تَسْمَعُوا النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إِذَا رَاحَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ. قوله: "إذ دخل رجل" قد مرّ في باب (فضل الغُسل يوم الجمعة) عند ذكر هذا الحديث أن الرجل عثمان بن عفان، ومرّت هناك مباحثه مستوفاة. وصرّح مسلم في روايته بالتحديث في جميع الإسناد. رجاله ستة: وفيه رجل مبهم، وقد مرّوا، مرّ أبو نعيم الفضل بن دكين في الخامس والأربعين من الإيمان، ومرّ شيبان النحوي ويحيى بن أبي كثير في الثالث والخمسين من العلم، ومرّ أبو سلمة بن عبد الرحمن في الرابع من بدء الوحي، وعمر في الأول منه، ومرّ أبو هريرة في الثاني من الإيمان، والرجل المبهم عثمان بن عفان، وقد مرّ في تعليق بعد الخامس من كتاب العلم. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في ثلاثة مواضع، والقول في موضع واحد، وفيه أن الراويين الأولين كوفيان، والثالث يماني، والرابع مدني. أخرجه مسلم في الصلاة، وأبو داود في الطهارة. ثم قال المصنف:

باب الدهن للجمعة

باب الدهن للجمعة أي استعمال الدهن، ويجوز أن يكون بفتح الدال فلا يحتاج إلى تقدير. الحديث الثامن حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي عَنِ ابْنِ وَدِيعَةَ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: لاَ يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَيَتَطَهَّرُ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ، وَيَدَّهِنُ مِنْ دُهْنِهِ، أَوْ يَمَسُّ مِنْ طِيبِ بَيْتِهِ ثُمَّ يَخْرُجُ، فَلاَ يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، ثُمَّ يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ، ثُمَّ يُنْصِتُ إِذَا تَكَلَّمَ الإِمَامُ، إِلاَّ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الأُخْرَى. قوله: "عن ابن وديعة" هو عبد الله سمّاه أبو علي الحنفي عن ابن أبي ذيب بهذا الإِسناد عند الدارمي، ويأتي تعريفه في السند. وهذا من الأحاديث التي تتبعها الدارقطني على البخاري وذكر أنه اختلف فيه عن سعيد المقبري فرواه ابن أبي ذيب عنه هكذا، ورواه ابن عجلان عنه عند ابن ماجه فقال: "عن أبي ذر" بدل سلمان، وأرسله أبو معشر عنه عند سعيد بن منصور فلم يذكر سلمان ولا أبا ذر. ورواه عبيد الله العمري عنه عند أبي يعلى فقال: "أبي هريرة". والجواب عن هذا هو أن ابن عجلان دون ابن ذيب في الحفظ، فروايته مرجوحة مع أنه يحتمل أن يكون ابن وديعة، سمعه من سلمان وأبي ذر جميعًا، ويرجح كونه من سلمان وروده من وجه آخر عنه. أخرجه النسائي وابن خزيمة عن علقمة بن قيس عن قَرْثع الضبي، قال: وكان من القراء الأولين عن سلمان نحوه ورجاله ثقات، وقرثع بقاف مفتوحة وراء ساكنة ثم مثلثة. وأما أبو معشر فضعيف، وقد قصر فيه بإسقاط الصحابي. وأما العمري فحافظ وقد تابعه صالح بن كيسان عن سعيد عند ابن خزيمة، وكذا عبد الرزاق عن ابن جريج عن رجل عن سعيد. وأخرجه ابن السكن من وجه آخر عن عبد الرزاق، وزاد فيه مع أبي هريرة عمارة بن عامر الأنصاري. وقوله: "ابن عامر" خطأ فهو ابن عمرو بن حزم كما أخرجه ابن خزيمة وبين الضحاك بن عثمان عن سعيد أن عمارة إنما سمعه من سلمان ذكره الإسماعيلي وأفاده في هذه الرواية أن سعيدًا حضر أباه لما سمع هذا الحديث من ابن وديعة، وساقه الإِسماعيلي عن ابن أبي ذيب عن سعيد عن ابن وديعة ليس فيه عن أبيه، فكأنه سمع مع أبيه من ابن وديعة ثم استثبت أباه فيه فكان يرويه على الوجهين. وإذا تقرر ذلك علم أن الطريق التي اختارها البخاري أتقن الروايات وبقيتها، أما موافقة لها أو قاصرة عنها أو يمكن الجمع بينهما.

وقوله: "ويتطهر ما استطاع من الطُهر" وللكشميهني من طُهْرٍ بالتنكير، والمراد منه المبالغة في التنظيف، ويؤخذ من عطفه على الغُسل إن إفاضة الماء تكفي في حصول الغُسل أو المراد به التنظيف بأخذ الشارب والظفر والإبط والعانة، أو المراد بالغُسل غسل الجسد، وبالتطهير غسل الرأس. وقوله: "ويدّهن" المراد به إزالة شعث الشعر به، وفيه إشارة إلى التزين يوم الجمعة. وقوله: "أو يمس من طيب بيته" أي: إن لم يجد دهنًا. ويحتمل أن يكون (أو) بمعنى الواو وإضافته إلى الميت تؤذن بأن السنة أن يتخذ المرء لنفسه طيبًا ويجعل استعماله له عادة فيدخره في البيت، وهذا بناء على أن المراد بالبيت حقيقته. لكن في حديث عبد الله بن عمرو عند أبي داود "أو يمسّ من طيب إمرأتهِ" فعلى هذا، فالمعنى إن لم يتخذ لنفسه طيبها، فليستعمل من طيب امرأته وهو موافق لحديث أبي سعيد الماضي ذكره عند مسلم حيث قال فيه: "ولو من طيب المرأة" مرّ في باب الطيب للجمعة وفيه أن بيت الرجل يطلق وتراد به امرأته. وفي حديث عبد الله بن عمرو المذكور من الزيادة "ويلبس من صالحِ ثيابهِ" وسيأتي الكلام عليه في الباب الذي بعد هذا. وقوله: "ثم يخرج" زاد في حديث أبي أيوب عند ابن خزيمة "إلى المسجد"، ولأحمد من حديث أبي الدرداء: "ثم يمشي وعليه السكينة". وقوله: "فلا يفرق بين اثنين" في حديث عبد الله بن عمرو المذكور "ثم لم يتخط رقابَ الناسِ" وفي حديث أبي الدرداء "ولم يتخط أحدًا ولم يؤذِهِ". وقوله: "ثم يصلّي ما كتب له" في حديث أبي الدرداء "ثم يركع ما قضي له". وفي حديث أبي أيوب "فيركع إن بدا له". وقوله: "ثم ينصت إذا تكلم الإِمام" زاد في رواية قرثع الضبي "حتى يقضي صلاته"، ونحوه في حديث أبي أيوب. وقوله: "غُفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى" في رواية قاسم بن يزيد "حطَّ عنه ذنوبَ ما بينه وبين الجمعة" والمراد بالأخرى التي مضت كما في رواية ابن عجلان عند ابن خزيمة بلفظ: "غُفر له ما بينه وبين الجمعة التي قبلها". ولابن حِبّان عن أبي هريرة: "غُفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام من التي بعدها" وهذه الزيادة أيضًا في رواية سعيد عن عمارة عن سلمان، لكن لم يقل من التي بعدها، وأصله عند مسلم وزاد ابن ماجه عن أبي هريرة "ما لم تغش الكبائر"، ونحوه لمسلم. وفي الحديث من الفوائد أيضًا: كراهة التخطي يوم الجمعة قال الشافعي: أكره التخطي إلا لمن لا يجد السبيل للمصلى إلا بذلك، وهذا يدخل فيه الإمام ومن يريد وصل الصف المنقطع إن أبى السابق من ذلك ومن يريد الرجوع إلى موضعه الذي قام عنه لضرورة، واستثنى المتولي من الشافعية من يكون معظمًا لدينه أو علمه أو ألف مكانًا يجلس فيه إذ لا كراهة في حقه، وفيه نظر. وكان مالك يقول: لا يكره التخطي إلا إذا كان الإمام على المنبر، وفيه مشروعية النافلة قبل صلاة الجمعة لقوله: "صلّى ما كُتب له" ثم قال: "ثم ينصت إذا تكلّم الإمام"

رجاله ستة

فدل على تقدم ذلك قبل الخطبة. وقد بيّنه أحمد من حديث نُبيشة الهذلي بلفظ "فإن لم يجد الإِمام خرج صلّى ما بدا له". وفيه جواز النافلة نصف النهار يوم الجمعة، واستدل به على أن التبكير ليس من ابتداء الزوال؛ لأن خروج الإِمام يعقب الزوال، فلا يسع وقتًا يتنفل فيه وتبيّن بمجموع ما ذكرنا أن تكفير الذنوب من الجمعة إلى الجمعة مشروط بوجود جميع ما تقدم من غسل، وتنظف، وتطيب أو دهن، ولبس أحسن الثياب، والمشي بالسكينة، وترك التخطي. والتفرقة بين اثنين، وترك الأذى والتنفل والإِنصات، وترك اللغو. وفي حديث عبد الله بن عمرو "فمن تخطى أو لغا كانت له ظهرًا" وقد يكون اللغو بغير الكلام كمس الحصى وتقليبه بحيث يشغل سمعه وفكره. وفي بعض الأحاديث "ومَنْ مسَّ الحصى فقد لغا" ومنها الاستماع وهو إلقاء السمع لما يقوله الخطيب، ولا يغني عنه الإِنصات؛ لأن الإِنصات ترك الكلام والاستماع ما ذكرنا، وقد يستمع ولا ينصت بأن يلقى سمعه لما يقوله وهو يتكلم بكلام يسير أو يكون قوي الحواس بحيث لا يشتغل بالاستماع عن الكلام ولا بالكلام عن الاستماع، فالكمال الجمع بين الإِنصات والاستماع. واختلف العلماء في الكلام هل هو حرام أو مكروه كراهة تنزيه وهما قولان للشافعي: قديم، وجديد. ومذهب مالك أنه حرام، واختلفوا إذا لم يسمع الإِمام هل يلزمه الإِنصات كما لو سمعه فقال الجمهور: يلزمه. وقال النخعي وأحمد والشافعي في أحد قوليه: لا يلزمه، ولو لغا الإِمام هل يلزمه الإِنصات أم لا فيه قولان: والراجح من مذهب الإِمام مالك أنه لا يلزمه، ودل التقييد بعدم غشيان الكبائر على أن الذي يكفر من الذنوب الصغائر فتحمل المطلقات كلها على هذا المقيد وذلك أن معنى قوله "ما لم تغشَ الكبائر" أي: فإنها إذا غشيت لا تكفر وليس المراد أن تكفير الصغائر شرطه اجتناب الكبائر إذ اجتناب الكبائر بمجرده يكفرها كما نطق به القرآن، ولا يلزم من ذلك أن لا يكفرها إلا اجتناب الكبائر، وإذا لم يكن للمرء صغائر تكفر رجي له أن يكفر عنه بمقدار ذلك، وهو جار في جميع ما ورد في نظائر ذلك. وقد مرّ الكلام على هذا المعنى مستوفىً في باب (قيام ليلة القدر) من كتاب الإِيمان وفي كتاب الوضوء في باب (الوضوء ثلاثًا ثلاثًا). رجاله ستة: مرّ منهم آدم بن أبي إياس في الثالث من الإِيمان، وسعيد بن أبي سعيد في الثاني والثلاثين منه، ومرّ أبوه كيسان أبو سعيد في السادس والعشرين من أبواب (صفة الصلاة)، ومرّ ابن أبي ذيب في الستين من العلم، والباقي من السند اثنان ابن وديعة وسلمان الفارسي. أما ابن وديعة فهو عبد الله بن وديعة بن خِدام بكسر الخاء أو ابن حرام الأنصاري المدني. ذكره ابن سعد في الصحابة، وكذا ابن منده وعزاه لابن أبي حاتم ومستندهم أن بعض الرواة لم يذكر بينه وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث أحدًا لكنه لم يصرح بسماعه فالصواب إثبات الواسطة، وهو تابعي جليل ذكره ابن حِبّان في "الثقات". وقال الدارقطني: إنه ثقة وذكره الواقدي فيمن قتل يوم الحرة. روى له

البخاري وابن ماجه هذا الحديث لا غير. روى عن أبي ذر الغفاري إن كان محفوظًا وعن سلمان الفارسي، وروى عنه أبو سعيد المقبري. الثاني: سلمان الفارسي أبو عبد الله ويقال له سلمان بن الإِسلام، وكان إذا قيل له مَنْ أنت؟ قال: أنا سلمان بن الإِسلام من بني آدم. ويقال له سلمان الخير أصله من فارس من (رام هرمز) وقيل من أصبهان، وكان من أبناء أساورة فارس، وسمع بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- سيبعث، فخرج في طلب ذلك فأسر وبيع إلى أن وصل للمدينة. وروى البخاري في "صحيحه" عنه أنه تناوله بضعة عشر سيدًا، قيل: كان اسمه مابِه بكسر الباء بن بود. وقيل إن اسمه بهبود يقال: إنه أدرك عيسى بن مريم، وقيل بل أدرك وصي عيسى. قال أبو الشيخ عن العباس بن يزيد: أهل العلم يقولون: عاش سلمان ثلاثمئة وخمسين سنة، وأما مئتان وخمسون فلا يشكون فيها، وكذا قال الذهبي الأقوال كلها دالة على أنه جاوز مئتين وخمسين، والاختلاف إنما هو في الزائد. قال: ثم رجعت عن ذلك وظهر لي أنه ما زاد على الثمانين وتعقبه في الإصابة قائلًا لم يذكر مستندًا لذلك، وإنما أخذه من شهوده الفتوح بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- وتزوجه امرأة من (كِندة) وغير ذلك مما يدل على بقاء بعض النشاط، وإن ثبت ما ذكر يكون ذلك من خوارق العادات في حقه، وما المانع من ذلك مع ما ذكره أبو الشيخ؟ وروى أبو ربيعة الإِيادي من حديث أبي موسى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنّ اللهَ يحبُّ من أصحابي أربعةً: عليٌ، والمقدادُ، وأبو ذرٍّ، وسلمانُ". وروى قتادة عن خيثمة عن أبي هريرة قال: سلمان صاحب الكتابين يعني الإنجيل والفرقان. وروى ابن عبد البر بسنده عن علي أنه سئل عن سلمان فقال: علم علم الأول والآخر، بحر لا ينزف فهو منًا أهل البيت. وفي رواية عنه سلمان الفارسي مثل لقمان الحكيم، وقال كعب الأحبار: سلمان حُشي علمًا وحكمة. وروى مسلم عن عائذ بن عمرو أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال فقالوا: "ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها؟ فقال أبو بكر: تقولون هذا لشيخِ قريش وسيدهم؟ وأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخبره فقال: يا أبا بكر لعلّك أغضَبتَهم لئن أغضبتَهُم لقد أغضبتَ ربّكَ، فأتاهم أبو بكرٍ فقال: يا إخوتاهُ أغضبتُكُم؟ قالوا: لا يا أبا بكرٍ، يغفرُ اللهُ لكَ". وروي عن عائشة أنها قالت: "كان لسلمانَ مجلسٌ عندَ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بالليلِ حتى كان يغلبنا على رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-" وروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لو كانَ الدِّينُ في الثريا لناله سلمانُ". وفي رواية "لناله رجال من فارس". وروي "أن سلمان أتى النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- بصدقةٍ فقالَ: يا رسولَ اللهِ هذه صدقةٌ عليكَ وعلى

أصحابِكَ؟ فقال: يا سلمانُ إنّا لا تحلِّ لنا الصدقةُ فرفعها، ثم جاءهُ من الغدِ بمثليها فقال: هذه هديةٌ فقال لأصحابه: كلُوا وكان هذا في أول قدومهِ -عليه الصلاة والسلام- يريدُ اختبارَهُ بذلك ثم اشتراه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- من اليهودِ بكذا وكذا درهمًا إلى أن يغرسَ لهم كذا وكذا من النخلِ يعملُ فيها سلمانُ إلى أن تدركَ، فغرسَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- النخلَ كلَّه إلاَّ نخلة غرسها عمرُ فأطعمَ النخل كله إلا تلكَ النخلَة. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: مَنْ غرسَها؟ قالوا: عمرُ، فقلعَه -عليه الصلاة والسلام- وغرسَها فأطعمت من عامِها. وكان سلمانُ يطلبُ دينَ اللهِ تعالى ويتتبّعُ من يرجو ذلكَ عندَهُ، فدانَ بالنصرانيةِ وغيرِها وقرأ الكتبَ وصبرَ في ذلكَ على مشقّاتٍ نالتْهُ". وذلك كله مذكور في خبر إسلامه والأكثر على أن أول مشاهده الخندق شغله الرّق قبله وهو الذي أشار بحفره. وقد قال أبو سفيان وقومه لما رأوه: هذه مكيدة ما كانت العرب تكيدها. وقيل: شهد بدرًا وأُحدًا إلّا أنه كان عبدًا يومئذٍ كان - رضي الله تعالى عنه- خيّرًا فاضلًا عالمًا زاهدًا متقشفًا. قال الحسن: كان عطاء سلمان خمسة آلاف، وكان إذا خرج عطاؤه تصدّق به ويأكل من عمل يده، وكانت له عباءة يفترش بعضها ويلبس بعضها، وكان يخطب بثلاثين ألفًا لابسًا تلك العباءة. دخل قوم عليه وهو أمير على المدائن وهو يعمل حفر الخُوْص. فقيل له: لِمَ تعمل هذا وأنت أمير ويجري عليك رزق؟ فقال: إني أحبُّ أن آكل من عمل يدي، وذكر أنه تعلّم حفر الخُوْص (بالمدينة) من الأنصار بعض مواليه. وذكر ابن وهب عن مالك قال: كان سلمان يعمل الخوص بيده فيعيش به، ولا يقبل من أحد شيئًا. قال: ولم يكن له بيت وإنما كان يستظل بالجدار والشجر وإن رجلًا قال له: ألا أبني لك بيتًا تسكن فيه؟ قال: ما لي به حاجة فما زال الرجل حتى قال: إني أعرف البيت الذي يوافقك، قال فصف لي، قال: أنا أبني لك بيتًا إذا أنت قمت فيه أصاب رأسك سقفه وإذا أنت مددت رجليك فيه أصابها الجدار. قال: نعم، فبنى له. آخى النبي -صلى الله عليه وسلم- بينه وبين أبي الدرداء. وقال لأبي الدرداء: سلمان أفقه منك. وكان إذا نزل الشام نزل على أبي الدرداء وروى أبو جحيفة أن سلمان جاء يزور أبا الدرداء فرأى أُم الدرداء متبذلة قال: "ما شانكِ؟ قالت: إن أخاك ليس له حاجة في الدنيا، فلما جاء أبو الدرداء رحّب بسلمان وقدّم له طعامًا فقال سلمان: اطعم؟ فقال: إني صائم. فقال: أقسمت عليك إلا طَعِمْت إني لست بآكل حتى تطعم. قال وبات سلمان عند أبي الدرداء، فلما كان الليل قام أبو الدرداء فأحس به سلمان فقال: يا أبا الدرداء إن لربك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، ولجسدك عليك حقًا فأعط كلّ ذي حقّ حقّه، فلما كان وجه الصبح قال: قم الآن. قال: فقاما ثم صلّيا ثم خرجا إلى الصلاة، فلما صلّى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قام إليه أبو الدرداء فأخبره بما قال له سلمان. فقال رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مِثلَ ما قال سلمانُ"، له ستون حديثًا تفقا على ثلاثةٍ وانفرد البخاري بواحد ومسلم بثلاثة. روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وعنه أنس وابن عباس وأبو سعيد الخدري وأم الدرداء الصغرى وغيرهم: كان واليًا على المدائن ومات بها في عِلّية لأبي قُرّة الكِنْدي في خلافة عثمان سنة ست وثلاثين،

لطائف إسناده

وقيل سبع، وقيل ثلاث وهو الأشبه لما روى عبد الرزاق عن أنس قال: دخل ابن مسعود على سلمان عند الموت وقد مات ابن مسعود قبل سنة أربع وثلاثين باتفاق. لطائف إسناده: فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والإخبار بصيغة الإِفراد في موضع، والعنعنة في ثلاثة مواضع، والقول في أربعة مواضع. ورجاله كلهم مدنيون، وفيه ثلاثة من التابعين متوالية على أن ابن وديعة تابعي، وعلى أنه صحابي فيه تابعيان وصحابيان.

الحديث التاسع

الحديث التاسع حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ طَاوُسٌ: قُلْتُ: لاِبْنِ عَبَّاسٍ ذَكَرُوا أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: اغْتَسِلُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاغْسِلُوا رُءُوسَكُمْ وَإِنْ لَمْ تَكُونُوا جُنُبًا، وَأَصِيبُوا مِنَ الطِّيبِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَمَّا الْغُسْلُ فَنَعَمْ، وَأَمَّا الطِّيبُ فَلاَ أَدْرِي. قوله: "اغتسلوا يوم الجمعة وإن لم تكونوا جنبًا" معناه اغتسلوا يوم الجمعة إن كنتم جنبًا للجنابة وإن لم تكونوا جنبًا للجمعة. ولفظ الجُنب يستوي فيه المذكر والمؤنث والجمع؛ ولذلك وقع خبرًا لقوله: "وإن لم تكونوا جنبًا" وأخذ منه أن الاغتسال يوم الجمعة للجنابة يجزىء عن الجمعة سواء نوى الجمعة أم لا، وفي الاستدلال به على ذلك نظر، نعم روى ابن حِبّان عن الزهري: "اغتسلوا يوم الجمعة إلا أن تكونوا جنبًا". وهذا أوضح في الدلالة على المطلوب، لكن روايه شعيب عن الزهري أصح. قال ابن المنذر: حفظنا الإجزاء عن أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين والخلاف في هذه المسألة منتشر في المذاهب. قلت: مذهب مالك كما مرّ أنه إن نوى الجنابة والجمعة أو نوى نيابة الجنابة عن الجمعة حصلا، وإن نسي الجنابة أو قصد نيابة عنها انتفيا. وقوله: "واغسلوا رؤوسكم هو من عطف الخاص على العام للتنبيه على أن المطلوب الغُسل التام؛ لئلا يظن أن إفاضة الماء دون حل الشعر مثلًا يجزىء في غسل الجمعة، وهو موافق لقوله في حديث أبي هريرة كغُسل الجنابة، ويحتمل أن يراد بالثاني المبالغة في التنظيف. وقوله: "وأصيبوا من الطيب" ليس في هذه الرواية ذكر الدهن المترجم به، لكن لما كانت العادة تقتضي استعمال الدهن بعد غسل الرأس أشعر ذلك به. كذا وجهه الزين بن المنير جوابًا لقول الداودي ليس في الحديث دلالة على الترجمة، والذي يظهر أن البخاري أراد أن حديث طاووس عن ابن عباس واحد ذكر فيه إبراهيم بن ميسرة الدهن، ولم يذكره الزهري وزيادة الثقة الحافظ مقبولة، وكأنه أراد بإيراد حديث ابن عباس عقب حديث سلمان الإشارة إلى أن ما عند الغُسل من الطيب والدهن والسواك وغيرها ليس هو في التأكيد كالغسل وإن كان الترغيب ورد في الجميع، لكن الحكم يخالف إما بالوجوب عند مَنْ يقول به أو بتأكيد بعض المندوبات على بعض. وقوله: "وأما الطيب فلا أدري" هذا يخالف ما رواه عبيد بن السباق عن ابن عباس مرفوعًا "مَنْ

رجاله خمسة

جاء إلى الجمعة فليغتسل وإن كان له طيب فليمسَّ منه" أخرجه ابن ماجه من رواية صالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن عبيد وصالح ضعيف. وقد خالفه مالك فرواه عن الزهري عن عبيد بمعناه مرسلًا فإن كان صالح حفظ فيه ابن عباس فيحتمل أن يكون ذكره بعدما نسبه أو عكس ذلك. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ أبو اليمان. وشعيب في السابع من بدء الوحي، والزهري في الثالث منه، وابن عباس في الخامس منه، وطاووس في باب (مَنْ لم ير الوضوء إلا من المخرجين) بعد الأربعين من الوضوء. وفي الحديث لفظ: "ذكروا عن طاووس" ولم يسم مَنْ حدّثه به والظاهر أنه أبو هريرة لما أخرجه الطحاوي عنه، وقد مرّ أبو هريرة في الثاني من الإيمان، وهذا الحديث أخرجه النسائي في الصلاة أيضًا.

الحديث العاشر

الحديث العاشر حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى قَالَ: أَخْبَرَنَا هِشَامٌ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ: أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَيْسَرَةَ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ ذَكَرَ قَوْلَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي الْغُسْلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقُلْتُ لاِبْنِ عَبَّاسٍ: أَيَمَسُّ طِيبًا أَوْ دُهْنًا إِنْ كَانَ عِنْدَ أَهْلِهِ فَقَالَ: لاَ أَعْلَمُهُ. وهذا الحديث رواية من الذي قبله. رجاله ستة: قد مرّوا إلا إبراهيم بن ميسرة، مرّ إبراهيم بن موسى وهشام بن يوسف وابن جريج في الثالث من الحيض، ومرّ محل ذكر طاووس وابن عباس في الذي قبله، وإبراهيم بن ميسرة الطائفي نزيل (مكة) قال البخاري عن علي: له نحو ستين حديثًا أو أكثر، وقال ابن عُيينة: أخبرني إبراهيم بن ميسرة من لم تر عيناك والله مثله. وقال أيضًا: كان من أوثق الناس وأصدقهم. وقال العجلي والنَّسائيّ: ثقة، وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، وقال ابن المديني: قلت لسفيان: أين كان حفظ إبراهيم عن طاووس من حفظ ابن طاووس؟ قال: لو شئت أن أقول لك إني أقدم إبراهيم عليه في الحفظ لقلت. وقال أبو حاتم: صالح. وذكره ابن حِبّان في "الثقات"، روى عن عبد الله بن قارب وله صحبة وعن طاووس وسعيد بن جبير وعمرو بن الشريد وغيرهم. وروى عنه أيوب وشعبة والسفيانان وابن جريج وغيرهم. مات قريبًا من سنة اثنين وثلاثين ومئة. والطائفي في نسبه نسبة إلى (الطائف) بلاد ثقيف في واد أول قراها لقيم وآخرها الوهط سميت بذلك؛ لأنها طافت على الماء في الطوفان؛ أو لأن جبريل طاف بها على البيت سبعًا؛ أو لأنها كانت بالشام فنقلها الله تعالى إلى الحجاز اقتلاعًا من تخوم الثرى بعيونها وثمارها ومزارعها بدعوة إبراهيم عليه السلام لما قال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} إلى قوله: {لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} نقله أبو داود الأزرقي في "تاريخ مكة" وأبو حذيفة إسحاق بن بشر في كتاب "المبتدأ"، وهو قول الزهري. وقال القسطلاني على المواهب: "إن جبريل -عليه السلام- اقتلع الجنة التي كانت لأصحاب الصريم فسار بها إلى (مكة) فطاف بها حول البيت ثم أنزلها حيث (الطائف) فسمي الموضع بها"، وكانت أولًا بنواحي

لطائف إسناده

(صنعاء) واسم الأرض (وج) وهي بلدة كبيرة على ثلاث مراحل أو اثنتين من مكة من جهة الشرق كثيرة الأعناب والفواكه. وروى الحافظ ابن عائشة في "مجالسه": "أن هذه الجنة كانت بالطائف فاقتلعها جبريل وطاف بها البيت سبعًا ثم ردّها إلى مكانها فوضعها في مكانها اليوم". وقيل: إن الدمون بن الصدف، واسم الصدف مالك بن مرتع بن كِندة من (حضرموت) أصاب دمًا في قومه في (حضرموت) نفر إلى (وج) ولحق بثقيف وحالف مسعود بنِ مُعَتِّب الثقفي، وكان له مال عظيم فقال: هل لكم في أن أبني لكم طوفًا عليكم يكون لكم ردءًا من العرب؟ فقالوا: نعم، فبناه وهو الطائف المطيف به"، وهذا القول نقله السهيلي في "الروض" عن البكري وأعرض عنه وذكر ابن الكلبي ما يوافقه، وقد ألف ابن فهد الهاشمي "تاريخًا" خصه بالطائف، وألف فيها غيره. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإِخبار بالجمع والإِفراد والقول والعنعنة، ورواية التابعي عن التابعي ورواته ما بين رازيّ وصنعانيّ ومكيّ وطائفيّ ويمانيّ على نسق مذكور فيه. أخرجه مسلم في الصلاة أيضًا. ثم قال المصنف: باب يلبس أحسن ما يجد أي: يوم الجمعة من الجائز أورد فيه حديث ابن عمر ووجه الاستدلال به من جهة تقريره -صلى الله عليه وسلم- لعمر على أصل التجمل للجمعة، وقصر الإنكار على لبس مثل تلك الحلة لكونها كانت حريرًا، وتعقبه الداودي بأنه ليس في الحديث دلالة على الترجمة، وأجاب ابن بطال بأنه كان معهودًا عندهم أن يلبس الرجل أحسن ثيابة للجمعة، وتبعه ابن التين. قلت: ما قالاه لا تؤخذ منه دلالة الحديث على الترجمة: والمتقدم أولى، وقد ورد الترغيب في ذلك في حديث أبي أيوب وعبد الله بن عمرو عند ابن خزيمة بلفظ "ولبس من خير ثيابه"، ولأبي داود عن أبي سعيد وأبي هريرة نحو حديث سلمان وفيه "ولبس من أحسن ثيابه". وفي "الموطأ" عن يحيى بن سعيد الأنصاري أنه بلغه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما على أحدكم لو اتخذ ثوبين لجمعته سوى ثوبي مهنته" ووصله ابن عبد البر في "التمهيد" عن عمرة عن عائشة، ولحديث عائشة طريق عند ابن خزيمة وابن ماجه.

الحديث الحادي عشر

الحديث الحادي عشر حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَأَى حُلَّةَ سِيَرَاءَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوِ اشْتَرَيْتَ هَذِهِ فَلَبِسْتَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلِلْوَفْدِ إِذَا قَدِمُوا عَلَيْكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ فِي الآخِرَةِ. ثُمَّ جَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْهَا حُلَلٌ، فَأَعْطَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه مِنْهَا حُلَّةً فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَسَوْتَنِيهَا وَقَدْ قُلْتَ فِي حُلَّةِ عُطَارِدٍ مَا قُلْتَ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: إِنِّي لَمْ أَكْسُكَهَا لِتَلْبَسَهَا. فَكَسَاهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَخًا لَهُ بِمَكَّةَ مُشْرِكًا. قوله: "إن عمر بن الخطاب رأى حلّة سيراء" هكذا رواه أكثر أصحاب نافع، وأخرجه النَّسائيّ عن نافع عن ابن عمر عن عمر أنه رأى حلّة فجعله في مسند عمر. قال الدارقطني: المحفوظ أنه من مسند ابن عمر. وقوله: "حُلة" بضم الحاء قال أبو عبيد: الحلل برود اليمن، والحُلّة إزار ورداء إذا كان من جنس واحد. وحكى عياض أن أصل تسميته الثوبين حُلّة أنهما يكونان جديدين كما حُلّ طيهما. وقيل: لا يكون الثوبان حُلّة حتى يلبس أحدهما فوق الآخر، فإذا كان فوقه فقد حُلّ عليه، والأول أشهر. والسِيَراء بكسر المهملة وفتح التحتانية والراء مع المد. قال الخليل: ليس في الكلام (فعلاء) بكسر أوله مع المد سوى سِيَراء (وحِوَلاء) وهو الماء الذي يخرج على رأس الولد، وعِنَباء لغة في العنب، قال مالك: هو الوشي من الحرير. وقال الأصمعي: ثياب فيها خطوط من حرير أو قز. قال ابن قرقول: ضبطناه عن المتقنين بالإِضافة كما يقال ثوب خز وعن بعضهم بالتنوين على البدل والصفة. قال الخطابي: يقال حُلْة سِيرَاء كناقة عُشَراء، ووجهه ابن التين فقال: يريد أن عشراء مأخوذ من عشرة أي: أكملت الناقة عشرة أشهر فسميت عشراء، وكذلك الحُلّة سميت سِيَراء؛ لأنها مأخوذة من السيور أنما قيل لها سيراء لتسيير الخطوط فيها، وقيل: مختلف الألوان فيه خطوط ممتدة كأنها السيور. وقوله: "عند باب المسجد" وعند النسائي عن نافع "أن عمر كان مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في السوق فرأى الحلة" ولا تخالف بين الروايتين؛ لأن طرف السوق كان يصل إلى قرب باب المسجد، وفي رواية

جرير بن حازم عن نافع عند مسلم "رأى عمر عطارد التميمي يقيم حُلّة في السوق وكان رجلًا يغشى الملوك ويصيب منهم". وأخرج الطبراني عن حفصة بنت عمر "أن عطارد بن حاجب جاء بثوب من ديباج كساه إياه كسرى فقال عمر: ألا أشتريه لك يا رسول الله". وعن عبد الرحمن بن عمرو بن معاذ "عن عطارد نفسه أنه أهدى إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ثوب ديباج كساه إياه كسرى" والجمع بينهما أن عطاردًا لما أقامه في السوق ليباع لم يتفق له بيعه فأهداه للنبي -صلى الله عليه وسلم-. وقوله: "فقال: يا رسول الله لو اشتريت هذه فلبستها" وفي رواية اللباس "لو ابتعتها فلبستها". وفي رواية سالم عن ابن عمر في العيدين "ابْتَعْ هذه فتجمل بها"، وكان عمر أشار بشرائها وتمناه. وقوله: "فلبستها يوم الجمعة وللوفد إذا قدموا عليك" في رواية اللباس "للوفد إذا أتوك والجمعة" وفي رواية جرير بن حازم لوفود العرب، وكأنه خصه بالعرب؛ لأنهم كانوا إذ ذاك الوفود في الغالب؛ لأن (مكة) لما فتحت بادر العرب بإسلامهم، فكان كل قبيلة ترسل كبراءها لي سلموا ويتعلموا ويرجعوا إلى قومهم، فيدعوهم إلى الإِسلام ويعلموهم. وفي رواية سالم "العيد" بدل الجمعة وجمع ابن إسحاق عن نافع ما تضمنته الروايتان، أخرجه النسائي بلفظ "فتجمل بها لوفود العرب إذا أتوك وإذا خطبت الناس في يوم عيد غيره". وقوله: "إنما يلبس هذه من لا خَلَاقَ له في الآخرة" وفي رواية جرير بن حازم "إنما يلبس الحرير" والخَلَاق النصيب، وقيل الحظ وهو المراد هنا، ويطلق أيضًا على الحرمة وعلى الدين ويحتمل أن يراد من لا نصيب له في الآخرة أي: مَنْ لبس الحرير. ويؤيده ما في حديث عمر في "اللباس" في باب (لبس الحرير) ولفظه "لا يلبس الحرير إلا مَنْ ليس له في الآخرة منه شيء". وقوله: "فأعطى منها عمر حُلّة" زاد الإِسماعيلي "بحُلّة سِيَراء من حرير" ومن بيانية وهي تقتضي أن السِيَراء قد تكون من غير حرير، وفي رواية "اللباس" كساها إياه وذلك باعتبار ما فهمه عمر من ذلك وإلا فقد ظهر من بقية الحديث أنه لم يبعث إليه بها ليلبسها، أو المراد بقوله،: "كساه" أي: أعطاه ما يصلح أن يكون كسوة وفي رواية جرير بن حازم، فلما كان بعد ذلك أتي، رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحلل سيراء فبعث إلى عمر بحُلّة وبعث إلى أُسامة بن زيد بحُلّة وأعطى علي بن أبي طالب حُلّة. وقوله: "فقال عمر: يا رسول الله كسوتنيها وقد قلت في حلّة عطارد ما قلت" وفي رواية جرير بن حازم: "فجاء عمر بحُلّته يحملها فقال: بعثت إليّ بهذه وقد قلت بالأمس في حلّة عطارد ما قلت" والمراد بالأمس هنا يحتمل الليلة الماضية أو ما قبلها بحسب ما اتفق من وصول الحُلل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد قصة حُلّة عطارد. وفي رواية محمد بن إسحاق "فخرجت فزعًا فقلت: يا رسول الله ترسل بها إليّ وقد قلت فيها ما قلت". وقوله: "إني لم أكسكها لتلبسها" وفي "اللباس": "إنما بعثت بها إليك لتبيعها أو تكسوها". وفي رواية جرير: "لتصيب بها". وفي رواية سالم في "العيدين" تبيعها وتصيب بها حاجتك". وفي

رجاله خمسة

الأدب": "لتصيب بها مالًا". وقوله: "فكساها عمر أخًا له (بمكة) مشركًا" زاد عبيد الله العمري عند النسائي: "أخًا له من أُمه". ويأتي في البيوت عن ابن عمر "فأرسل بها عمر إلى أخٍ له من أهل (مكة) قبل أن يسلم". قال النووي: هذا يشعر بأنه أسلم بعد ذلك، ويحتمل أن يكون قوله: قبل أن يسلم لا مفهوم له، بل المراد أن البعث إليه كان في حال كفره مع قطع النظر عمّا وراء ذلك. وقد قال الدمياطي: هو أخو زيد بن الخطاب لأُمه، فمن أطلق عليه أنه أخو عمر لأُمه لم يصب. قال في "الفتح": بل له وجه بطريق المجاز، ويحتمل أن يكون عمر ارتضع من أُم أخيه زيد، فيكون عثمان أخا عمر لأُمه من الرضاع، وأخا زيد لأُمه من النسب. وفي حديث جابر الذي أوله: "إن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلّى في قَباء حرير ثم نزعه فقال: نهاني عنه جبريل" كما مرّ التنبيه عليه في أوائل كتاب "الصلاة" في باب مَنْ صلّى في فَرُّوْج حرير زيادة عند النسائي وهي: "فأعطاه لعمر فقال: لم أعطكه لتلبسه بل لتبيعه فباعه عمر" وسنده قوي. وأصله في مسلم. قال في "الفتح": فإن كان محفوظًا أمكن أن يكون عمر باعه بإذن أخيه بعد أن أهداه. قلت: هذا الإِمكان بعيد جدًا فكيف يبيعه عمر بالمدينة بعد أن أهداه إلى أخيه بمكة؟ وأهون من هذا أن تحمل القضية على التعدد. رجاله خمسة: قد مرّوا، وفيه ذكر عطارد ولفظ أخ مبهم، مرّ عبد الله بن يوسف ومالك في الثاني من بدء الوحي، ومرّ نافع في آخر حديث من العلم، ومرّ عبد الله أوّل كتاب الإِيمان قبل ذكر حديث منه، ومرّ عمر في أول بدء الوحي. وأما عطارد فهو ابن حاجب بن زرارة بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم التميمي أبو عروة وفد على النبي -صلى الله عليه وسلم- واستعمله على صدقات بني تميم، ثبت ذكره في هذا الحديث وفي حديث مسلم، وروى الطبراني "أنه أهدى إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ثوب ديباج كساه إياه كسرى، فدخل أصحابه فقالوا: نزل من السماء عليك؟ فقال: وما تعجبون من ذا لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من هذا، قال أبو عبيدة: كان حاجب بن زرارة يقال له: ذو القوس، وذلك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما دعا على مضر بالقحط فأقحطوا ارتحل حاجب إلى كسرى فسأله أن يأذن له أن ينزل حول بلاده، فقال: إنكم أهل غدر، فقال: أنا ضامن، فقال: ومَنْ لي بأن تفي؟ قال: أرهنك قوسي فأذن لهم في دخول الريف، فلما استسقت مضر بالنبي -صلى الله عليه وسلم- دعا الله تعالى فرفع عنهم القحط، وكان حاجب مات فرحل عطارد بن حاجب إلى كسرى يطلب قوس أبيه فردها عليه وكساه حُلّة". وذكر الواقدي في "المغازي" "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث بشر بن سفيان العدوي على صدقات خزاعة فجمعوا له فمنعهم بنو تميم فبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- إليهم عُيينة بن حصن في خمسين فارسًا فأغار

عليهم وسبى منهم أحد عشر رجلًا وإحدى عشرة امرأة، وثلاثين صبيًا، فوفد بعد ذلك رؤساء بني تميم منهم عطارد بن حاجب، فذكر القصة وأنهم أسلموا وأجارهم وارتد عطارد بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- مع مَنْ ارتد من بني تميم، وتبع سجاح ثم عاد إلى الإِسلام وهو الذي قال فيها: أضحت نبيّتنا أنثى نطيفُ بها ... وأصبحتْ أنبياءُ الناسِ ذُكرانا فلعنةُ اللهِ ربّ الناسِ كلِّهم ... على سجاحَ ومَنْ بالكفرِ أغوانا وأما أخو عمر المبهم فهو عثمان بن حكيم بن أبي الأوقص السلمي أخوه لأُمه، سمّاه ابن بشكوال في المبهمات، وفي البخاري ما يدل على أن له صحبة فقد أخرج عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: "رأى عمر حُلّة على رجل تباع" الحديث بطوله، وفي آخره: "فأرسل بها عمر إلى أخ له من أهل (مكة) قبل أن يسلم". ثم قال المصنف:

باب السواك يوم الجمعة

باب السواك يوم الجمعة ثم قال: وقال أبو سعيد عن "النبي -صلى الله عليه وسلم- يستنُّ" أي: يدلك أسنانه بالسواك، وهذا التعليق طرف من حديث وصله البخاري في باب (الطيب للجمعة) وأبو سعيد مرّ في الثاني عشر من الإِيمان. الحديث الثاني عشر حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي أَوْ عَلَى النَّاسِ لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلاَةٍ. مطابقة هذا الحديث للترجمة من جهة اندراج الجمعة في عموم قوله "كل". وقال الزين بن المنير: لما خص الجمعة بطلب تحسين الظاهر من الغسل والتنظيف والتطيب ناسب ذلك تطييب الفم الذي هو محل الذكر والمناجاة وإزالة ما يضر الملائكة وبني آدم. وقوله: "أو لولا أن أشق على الناس" هو شك من الراوي وليس هذا اللفظ في شيء من الرواية، عن مالك ولا غيره. وأخرجه الدارقطني في "الموطئات" بهذا الإسناد بلفظ: "أو على الناس" لم يعد قوله: "لولا أن أشق" ورواه أكثر رواة "الموطأ" بلفظ: "المؤمنين" بدل أُمتي. ورواية يحيى بن يحيى الليثي بلفظ "على أُمتي" دون شك و"لولا" كلمة لربط امتناع الثانية لوجود الأولى نحو لولا زيد لأكرمتك أي: لولا زيد موجود، والمعنى هاهنا لولا مخافة أن أشق لأمرتهم أمر إيجاب، وإلا لانعكس معناها إذ الممتنع المشقة والموجود الأمر. وقال البيضاوي: "لولا" كلمة تدل على انتفاء الشيء لثبوت غيره، والحق أنها مركبة من (لو) الدالة على انتفاء الشيء لانتفاء غيره و (لا) النافية، فدل الحديث على انتفاء الأمر لثبوت المشقة؛ لأن انتفاء الأمر ثبوت، فيكون الأمر منفيًا لثبوت المشقة. وقوله: "أن أشق" كلمة (أن) مصدرية وهي في محل الرفع على الابتداء، وخبره واجب الحذف والتقدير (لولا المشقة موجودة لأمرتهم). وقوله: "لأمرتهم بالسواك" أي: استعمال السواك؛ لأن السواك هو الآلة وقد قيل إنه يطلق على الفعل أيضًا فعلى هذا لا تقدير، والسواك مذكر على الصحيح وحكى في المحكم تأنيثه، وأنكر ذلك الأزهري وقوله: "مع كل صلاة" ليست في روايات "الموطأ" إلا عن معن بن عيسى، لكن

بلفظ عند كل صلاة، وكذا النسائي عن قتيبة عن مالك وكذا رواه مسلم عن أبي الزناد، وخالفه سعيد بن أبي هلال عن الأعرج فقال: "مع الوضوء" بدل الصلاة أخرجه أحمد. والتوفيق بين الروايتين بأن السواك الواقع عند الوضوء واقع للصلاة؛ لأن الوضوء شرع لها وفيه دليل على أن الأمر للوجوب من وجهين. أحدهما: أنه نفى الأمر مع ثبوت الندبية ولو كان للندب لما جاز النفي. ثانيهما: أنه جعل الأمر مشقة عليهم وذلك إنما يتحقق إذا كان الأمر للوجوب إذ الندب لا مشقة فيه؛ لأنه جائز الترك. وقال أبو إسحاق: في هذا الحديث دليل على أن الاستدعاء على جهة ليس بأمر حقيقة؛ لأن السواك عند كل صلاة مندوب إليه، وقد أخبر الشارع أنه لم يأمر به، ويؤكده قوله في رواية سعيد المقبري عن أبي هريرة عند النسائي بلفظ: "لفرضت عليهم" بدل لأمرتهم. وقال الشافعي: فيه دليل على أن السواك ليس بواجب؛ لأنه لو كان واجبًا لأمرهم به شق عليه أو لم يشق، وإلى القول بعدم وجوبه صار أكثر أهل العلم بل ادّعى بعضهم فيه الإِجماع، لكن حكى أبو حامد والماوردي عن إسحاق بن راهويه أنه قال: هو واجب لكل صلاة فمن تركه عامدًا بطلت صلاته. وعن داود أنه قال: واجب لكن ليس شرطًا، واحتج مَنْ قال بوجوبه بورود الأمر به، فعند ابن ماجه عن أبي أمامة مرفوعًا "تَسَوَّكُوا". ولأحمد نحوه عن العباس. وفي "الموطأ" في أثناء حديث "عليكم بالسواك" ولا يثبت شيء منها، وعلى تقدير الصحة فالمنفي في حديث الباب الأمر به مقيدًا بكل صلاة لا مطلق الأمر، ولا يلزم من نفي المقيد نفي المطلق، ولا من ثبوت المطلق التكرار كما يأتي، واستدل بقوله كل صلاة على استحبابه للفرائض والنوافل، ويحتمل أن يكون المراد الصلوات المكتوبة، وما ضاهاها من النوافل التي ليست تبعًا لغيرها كصلاة العيد، وهذا اختيار أبي شامة ويتأيد بقوله في حديث أُم حبيبة عند أحمد بلفظ: "لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة كما يتوضؤون". وله عن أبي هريرة بلفظ: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم عند كل صلاة بوضوء ومع كل وضوء بسواك" فسوّى بينهما. وكما أن الوضوء لا يندب للراتبة التي بعد الفريضة إلا أن طال الفصل مثلًا فكذلك السواك. ويمكن أن يفرق بينهما بأن الوضوء أشق من السواك. ويتأيد بما رواه ابن ماجه عن ابن عباس قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلّي ركعتين ثم ينصرف فيستاك" وإسناده صحيح، لكنه مختصر من حديث طويل أورده أبو داود. وبيّن فيه أنه تخلل بين الانصراف والسواك نوم، وأصل الحديث في "مسلم" أيضًا مبيتًا واستدل به على أن الأمر يقتضي التكرار؛ لأن الحديث دلّ على كون المشقة هي المانعة من الأمر بالسواك ولا مشقة في وجوبه مرة، وإنما المشقة في وجوب التكرار. وفي هذا البحث نظر؛ لأن التكرار لم يؤخذ هنا من مجرد الأمر وإنما أخذ من تقييده بكل

رجاله خمسة

صلاة. وقال المهلب فيه: إن المندوبات ترتفع إذا خشي منها الحرج، وفيه ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- من الشفقة على أُمته، وفيه جواز الاجتهاد منه -عليه الصلاة والسلام - فيما لم ينزل عليه في نص؛ لكونه جعل المشقة سببًا لعدم أمره، فلو كان الحكم متوقفًا على النص لكان انتفاء سبب الوجوب عدم ورود النص لا وجود المشقة. وقال ابن دقيق العيد: وفيه بحث ووجهه أنه يجوز أن يكون إخبارًا منه -صلى الله عليه وسلم- بأن سبب عدم ورود النص وجود المشقة، فيكون معنى قوله: "لأمرتهم" أي: عن الله بأنه واجب. واستدل به النسائي لاستحباب السواك للصائم بعد الزوال لعموم قوله: "كل صلاة". واختلف في السواك فقيل هو سُنة من سنن الدين وهو قول أبي حنيفة، وقيل من سُنن الوضوء وقيل من سُنن الصلاة. ووردت أحاديث تدل على أنه من سنن الدين. منها ما رواه أحمد والترمذي عن أبي أيوب "أربع من سنن المرسلين الختان والتعطر والسواك والنكاح". ومنها ما رواه مسلم عن عائشة "عشر من الفطرة فذكر فيها السواك". ومنها ما رواه البزار عن أبي هريرة "الطهارات أربع قص الشارب، وحلق العانة، وتقليم الأظفار والسواك" ووقته وقت الوضوء إلا أن المنقول عند أبي حنيفة أنه من سنن الدين وحينئذ يستوي فيه كل الأحوال. وفي "كفاية المنتهى" أنه يستاك قبل الوضوء. وعند الشافعي هو سنة القيام إلى الصلاة، وعند الوضوء، وعند كل حال يتغير فيها الفم. قال ابن دقيق العيد: الحكمة في استحباب السواك عند القيام إلى الصلاة كونها حالًا تقرب إلى الله تعالى فاقتضى أن يكون حال كمال ونظافة إظهارًا لشرف العبادة، وقد ورد عن علي عند البزار ما يدل على أنه لأمر يتعلق بالملك الذي يستمع القرآن من المصلي، فلا يزال يدنو منه حتى يضع فاه على فيه، لكنه لا ينافي ما تقدم. وروى أبو نعيم عن جابر برواة ثقات "إذا قام أحدكم من الليل يصلي" فليستك فإنه إذا قام يصلي أتاه ملك فيضع فاه على فيه فلا يخرج شيء من فيه إلا وقع في في الملك". وقد مرّ كثير من مباحث السواك في آخر كتاب "الوضوء" في باب (السواك). رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ عبد الله بن يوسف ومالك في الثاني من بدء الوحي، ومرّ أبو الزناد والأعرج في السابع من الإيمان، ومرّ أبو هريرة في الثاني منه، وأخرج هذا الحديث الترمِذِيّ والنسائي وغيرهم.

الحديث الثالث عشر

الحديث الثالث عشر حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ الْحَبْحَابِ حَدَّثَنَا أَنَسٌ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: أَكْثَرْتُ عَلَيْكُمْ فِي السِّوَاكِ. قال ابن رشيد: مناسبته للذي قبله من جهة أن سبب منعه من إيجاب السواك واحتياجه إلى الاعتذار عن إكثاره عليهم فيه وجود المشقة، ولا مشقة في فعل ذلك في يوم واحد وهو يوم الجمعة. وقوله: "أكثرت" في رواية الإِسماعيلي "لقد أكثرت" إلخ أي: بالغت في تكرير طلبه منكم أو في إيراد الإخبار في الترغيب. وقال ابن التين: معناه أكثرت عليكم، وحقيق أن أفعل وحقيق أن تطيعوا، وحكى الكرماني أنه روى بضم أوله أي: "بولغت من عند الله بطلبه منكم". في "الفتح": ولم أقف على هذه الرواية إلى الآن صريحة، وذكره ابن المنير بلفظ "عليكم بالسواك" ولم يقع ذلك في شيء من الروايات في "صحيح البخاري". رجاله أربعة: قد مرّوا، إلاَّ شعيبًا، مرّ أبو معمر وعبد الوارث في السابع عشر من العلم، ومرّ أنس في السادس من الإيمان. وأما شعيب فهو ابن الحبحاب الأزدي المعولي مولاهم أبو صالح البصري. ذكره ابن حِبّان في "الثقات" وقال أحمد والنسائي: ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة، وله أحاديث روى عن أنس وأبي العالية وإبراهيم النخعي وغيرهم، وروى عنه أبناه أبو بكر وعبد السلام وعبد الوارث والحمادان وغيرهم. مات سنة ثلاثين أو واحد وثلاثين ومائة وغسله أيوب. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع في كل الإِسناد والقول ورواته كلهم بصريون أخرجه النسائي في "الطهارة".

الحديث الرابع عشر

الحديث الرابع عشر حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ وَحُصَيْنٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَشُوصُ فَاهُ. وجه مناسبته للترجمة أنه شرع في الليل لتجمل الباطن فيكون في الجمعة أحرى؛ لأنها شرع لها التجمل في الظاهر والباطن، وقد مرّ هذا الحديث في آخر كتاب الوضوء في باب السواك. ومرّ الكلام عليه هناك. رجاله ستة: قد مرّوا، مرّ محمد بن كثير في الثاني والثلاثين من العلم، ومرّ منصور في الثاني عشر منه، ومرّ حذيفة في تعليق بعد الثاني منه، ومرّ الثوري في السابع والعشرين من الإِيمان، ومرّ حصين بن عبد الرحمن في الثالث والسبعين من كتاب مواقيت الصلاة، ومرّ أبو وائل في الحادي والأربعين من الإِيمان. لطائف إسناده: فيه التحديث والإخبار بالجمع والعنعنة والقول، ورواته كلهم كوفيون إلا شيخ البخاري فهو بصريّ، وقد أخرجه البخاري في آخر كتاب الوضوء ومرّ هناك الكلام عليه. ثم قال المصنف: باب مَنْ تسوّك بسواك غيره كأنه يشير بحديث الباب إلى جواز ذلك وطهارة ريق بني آدم، وقد أورد الزين بن المنير على مطابقة الترجمة بأن عائشة أزالت موضع الاستياك بالقطع. وأجاب بأن استعماله بعد أن مضغته واف بالمقصود، وتعقب بأنه إطلاق في موضع التقييد، فينبغي تقييد الغير بأن يكون ممن لا يعاب أثر فيه إذ لولا ذلك ما غيرته عائشة، ولا يقال لم يتقدم فيه استعمال؛ لأن في نفس الخبر يستنُّ به.

الحديث الخامس عشر

الحديث الخامس عشر حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ قَالَ: قَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: دَخَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَمَعَهُ سِوَاكٌ يَسْتَنُّ بِهِ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقُلْتُ لَهُ: أَعْطِنِي هَذَا السِّوَاكَ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ. فَأَعْطَانِيهِ فَقَصَمْتُهُ ثُمَّ مَضَغْتُهُ، فَأَعْطَيْتُهُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَاسْتَنَّ بِهِ وَهْوَ مُسْتَسْنِدٌ إِلَى صَدْرِي. قوله: "فقصمته" بقاف وصاد مهملة للأكثر أي: كسرته، ولكريمة وابن السكن بضاد معجمة والقضم بالمعجمة الأكل بأطراف الأسنان قال ابن الجوزي وهو أصح، وقد يحمل الكسر على كسر موضع الاستياك، فلا ينافي الثاني. وحكى ابن التين رواية بالفاء والمهملة، والفصم القطع بدون إبانة بخلاف القصم كما مرّ في بدء الوحي. وقوله: "يستن به" أي: يستاك. قال الخطابي: أصله من السَّن بالفتح ومنه المسن الذي يسن عليه الحديد. وفي الرواية الآتية في مرضه -عليه الصلاة والسلام- زيادة ومع عبد الرحمن سواك رطب. وفي رواية وفي يده جريدة رطبة. وفي الرواية المذكورة "فقضمته ونقضته وطيبته ثم دفعته إلى النبي" الخ. وقوله: "ليّنته" أي: بالماء وتحتمل أن يكون طيبته تأكيدًا للينته. وقال المحب الطبري: إن كان بالضاد المعجمة فيكون قوله: فطيبته تكرارًا، وإن كان بالمهملة فلا؛ لأنه يصير بالمعنى كسرته لصوله أو لإزالة المكان الذي تسوك به عبد الرحمن. وقوله: "وهو مستند" جملة اسمية وقعت حالًا ويروى "وهو مستسند" والأول من الاستناد من باب (الافتعال)، والثاني من الاستسناد من باب (الاستفعال) فيه دليل على طهارة ريق بني آدم. وعن النخعي نجاسة البصاق وفيه دليل على جواز الدخول في بيت المحارم وفيه إصلاح السواك وتهيئته وفيه الاستياك بسواك الغير، وفيه العمل بما يفهم عند الإشارة والحركات، وفيه دليل على تأكيد السواك؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- لم يخلّ به مع ما هو فيه من شاغل المرض. رجاله خمسة: وفيه ذكر عبد الرحمن بن أبي بكر، وقد مرّ الجميع، مرّ إسماعيل بن أبي أويس في الخامس عشر من الإِيمان، ومرّ سليمان بن بلال في الثاني منه، ومرّ هشام وعروة وعائشة في الثاني من بدء

لطائف إسناده

الوحي، ومرّ عبد الرحمن في الرابع من الغُسل. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإِفراد والإخبار بالإفراد والعنعنة والقول، ورواته كلهم مدنيون أخرجه البخاري في "فضائل أبي بكر" وفي "الجنائز" وفي "المغازي" وفي "الخمس" وفي "مرضه -صلى الله عليه وسلم-" وفي "فضل عائشة". ومسلم في "فضل عائشة". ثم قال المصنف: باب ما يُقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة أي: بضم الياء ويجوز فتحها أي: الرجل، ولم يقع قوله يوم الجمعة في أكثر الروايات في الترجمة وهو مراد قال الزين بن المنير: ما في قوله: "ما يقرأ" الظاهر أنها موصولة لا استفهامية، قال: ومناسبة ترجمة الباب لما قبلها أن ذلك من جملة ما يتعلق بفضل يوم الجمعة لاختصاص صبحها بالمواظبة على قراءة هاتين السورتين.

الحديث السادس عشر

الحديث السادس عشر حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ هُوَ ابْنُ هُرْمُزَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَقْرَأُ فِي الْجُمُعَةِ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ {الم (1) تَنْزِيلُ} السَّجْدَةَ و {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ}. قوله: "حدّثنا أبو نعيم" وفي نسخة من رواية كريمة حدّثنا محمد بن يوسف أي: الفريابي وذكرا في بعض النسخ جميعًا. وقوله: {الم تَنْزِيلُ} أي: بضم اللام على الحكاية زاد في رواية كريمة "السجدة" وهو بالنصب. وقوله: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} زاد الأصيلي: {حِينٌ مِنَ الدَّهْر} والمراد أن يقرأ في كل ركعة بسورة كما بينه مسلم ولفظه: "الم تنزيل في الركعة الأولى وفي الثانية هل أتى على الإنسان" وفيه دليل على استحباب قراءة هاتين السورتين في هذه الصلاة من هذا اليوم لما تشعر الصيغة به من مواظبته -صلى الله عليه وسلم- على ذلك أو إكثاره منه، بل قد ورد عن ابن مسعود فيما أخرجه الطبراني التصريح بمداومته -صلى الله عليه وسلم- على ذلك. ولفظه: "يديم ذلك" لكن صوب أبو حاتم إرساله والصحيح أن كان لا تقتضي المداومة بدليل ما رواه مسلم يقرأ في العيدين وفي الجمعة: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} الحديث. وروى أيضًا عن الضحاك بن قيس أنه سأل النعمان بن بشير ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ به في يوم الجمعة؟ قال: سورة الجمعة، و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}. وروى الطحاوي عن أبي هريرة عن النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يقرأ في الجمعة بسورة الجمعة {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} فهذه الأحاديث فيها لفظة كان ولم تدل على المداومة، بل كان عليه الصلاة والسلام قرأ بهذا مرة وبهذا مرة، فحكى عنه كل فريق ما حضره. ففيه دليل على أن لا توقيت للقراءة في ذلك، وأن للإِمام أن يقرأ في ذلك مع فاتحة الكتاب أي القرآن شاء؛ ولأجل أنها لا تقتضي المداومة. قال ابن دقيق العيد: ليس في الحديث ما يقتضي فعل ذلك دائمًا اقتضاء قويًا. قيل: إن الحكمة في قراءة هاتين السورتين الإشارة إلى ما فيهما من ذكر خلق آدم وأحوال يوم القيامة؛ لأن ذلك كان وسيقع يوم الجمعة. وحكى الباجي أبو الوليد الطعن في سعد بن إبراهيم لروايته لهذا

الحديث، وأن مالكًا امتنع من الرواية عنه لأجله، وأن الناس تركوا العمل به لاسيما أهل المدينة، لكن سعد لم ينفرد به مطلقًا. فقد أخرجه مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مثله. وكذا ابن ماجه والطبراني عن ابن مسعود وابن ماجه عن سعد بن أبي وقاص والطبراني في "الأوسط" عن علي وقوله: "إن الناس تركوا العمل به" غير صحيح؛ لأن أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين قد قالوا به، كما نقله ابن المنذر وغيره. ومشهور مذهب مالك أن تعمد قراءة سورة فيها (سجدة) في الفريضة أو الخطبة مكروه سواء (ألم السجدة) أو غيرها؛ لأنه إن لم يسجد دخل في الوعيد في قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} وإن سجد زاد في أعداد سجودها. وإذا تعمد قراءتها سجدها إن كان في الفريضة دون الخطبة لإِخلاله بنظامه، وهل تبطل الخطبة بالسجود؟ والظاهر عدم البطلان ويسجد في الفريضة ولو في وقت نهي ما لم يتعمد قراءتها عالمًا أنه وقت نهي فلا يسجد والصحيح في علة النهي عند المالكية كونها ليس عليها عمل أهل المدينة. قال ابن العربي: وهو أمر لم يعلم بالمدينة، وقيل النهي عنها خشية التخليط على المصلين، ومن ثم فرّق بعضهم بين الجهرية والسرية؛ لأن الجهرية يؤمن معها التخليط، لكن صح من حديث ابن عمر أنه -صلى الله عليه وسلم- قرأ سورة فيها (سجدة) في صلاة الظهر، فسجد بهم فيها أخرجه أبو داود والحاكم، فبطلت التفرقة. ومنهم مَنْ علّل الكراهة بخشية اعتقاد العوام أنها فرض، قال ابن دقيق العيد: أما القول بالكراهة مطلقًا، فالحديث يأباه لكن إذا انتهى الحال إلى وقوع هذه المفسدة، فينبغي أن تترك أحيانًا لتندفع، فإن المستحب قد يترك لدفع المفسدة المتوقعة وهو يحصل بالترك في بعض الأوقات، وإلى ذلك أشار ابن العربي بقوله: ينبغي أن يفعل ذلك في الأغلب ويقطع أحيانًا؛ لئلا تظنه العامة سُنة. ومذهب الكوفيين كراهة قراءة شيء من القرآن موقتة لشيء من الصلوات، وأن يقرأ سورة (السجدة) و (هل أتى) في الفجر في كل جمعة. وقال الطحاوي: معناه إذا رآه حتمًا واجبًا لا يجزىء غيره أو رأى القراءة بغيرها مكروهة. أما لو قرأها في تلك الصلاة تبركًا أو تأسيًا بالنبي -عليه الصلاة والسلام- أو لأجل التيسير، فلا كراهة. وفي "المحيط" بشرط أن يقرأ غير ذلك أحيانًا؛ لئلا يظن الجاهل أنه لا يجوز غيره، وهل يقرأ فيها (سجدة) غير الم منع منه ابن عبد السلام. وقال: إنه مبطل للصلاة، وقال النووي في "زيادات الروضة": لم أرَ فيه كلامًا لأصحابنا، وقياس مذهبنا أنه يكره في الصلاة إذا قصده ومقتضاه عدم البطلان. وفي "المهمات" مقتضى كلام القاضي الحسين الجواز. وفي "فوائد المهذب" للفارقي: لا تستحب قراءة (سجدة) غير تنزيل، فإن ضاق الوقت عن قراءتها قرأ بما أمكن منها، ولو بآية (السجدة) منها، ووافقه ابن أبي عصرون في كتاب "الانتصار". وعند ابن أبي شيبة بإسناد قوي عن إبراهيم النخعي أنه قال: يستحب أن يقرأ في صبح الجمعة

رجاله ستة

بسورة فيها (سجدة). قال: وسألت محمد بن سيرين عنه فقال: لا أعلم به بأسًا، وليس في شيء من طرق حديث الباب التصريح بأنه عليه الصلاة والسلام سجد لما قرأ سورة (السجدة) في هذا المحل إلا في كتاب "الشريعة" لابن أبي داود، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "غدوت على النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الجمعة في صلاة الفجر، فقرأ سورة فيها (سجدة) فسجد" الحديث. وفي إسناده من ينظر في حاله. وللطبراني في "الصغير" عن علي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سجد في صلاة الصبح في تنزيل (السجدة) وفي إسناده ضعف. وأما صلاة الجمعة، فقد قال أبو عمر: اختلف الفقهاء فيما يقرأ به في صلاة الجمعة، فقال مالك: أحب إلى أن يقرأ الإِمام في الجمعة {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} مع سورة (الجمعة)، وقال مرة أخرى: أما الذي جاء به الحديث {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} مع سورة (الجمعة) والذي أدركت عليه الناس {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}. قال أبو عمر: مذهب مالك أن كلتا السورتين قراءتهما حسنة مستحبة مع سورة (الجمعة). وقال الشافعي وأبو ثور يقرأ في الركعة الأولى بسورة (الجمعة) وفي الثانية {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ}. واستحب مالك والشافعي وأبو ثور أن لا تترك سورة (الجمعة) على كل حال. رجاله ستة: قد مرّوا، مرّ أبو نعيم في الخامس والأربعين من الإِيمان، ومرّ سفيان الثوري في السابع والعشرين منه، ومرّ ابن هرمز في السابع منه، ومرّ أبو هريرة في الثاني منه، ومرّ سعد بن إبراهيم في السابع والأربعين من الوضوء. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، وفيه رواية التابعي عن التابعي، ورواته ما بين مدني وكوفي. أخرجه مسلم في الصلاة أيضًا، وكذا النسائي وابن ماجه. ثم قال المصنف: باب الجمعة في القرى والمدن والقرية واحدة القرى كل مكان اتصلت فيه الأبنية، واتخذ قرارًا ويقع ذلك على المدن وغيرها والأمصار المدن الكبار واحدها مصر، والكفور القرى الخارجة عن المصر واحدها كَفر بفتح الكاف والمُدْن بضم الميم وسكون الدال وقد تضم جمع مدينة. وللأصيلي والمَدَائن بفتح الميم والدال جمع مدينة أيضًا. قال أبو علي الفسوي بالهمز إن كان من مدن وبتركه إن كان من دان أي: ملك وفي هذه الترجمة إشارة إلى خلاف من خص الجمعة بالمدن دون القرى، وهو مذهب الحنفية ويأتي قريبًا استيفاء الكلام على ذلك.

الحديث السابع عشر

الحديث السابع عشر حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ الضُّبَعِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ بَعْدَ جُمُعَةٍ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي مَسْجِدِ عَبْدِ الْقَيْسِ بِجُوَاثَى مِنَ الْبَحْرَيْنِ. كذا رواه الحفاظ من أصحاب إبراهيم بن طهمان عنه وخالفهم المعافى بن عمران فرواه عنه محمد بن زياد عن أبي هريرة أخرجه النَّسائيّ والخطأ فيه من المعافى ولا ذنب فيه على إبراهيم، ويحتمل أن يكون لإبراهيم فيه إسنادان. وقوله: "جُمِّعت" بضم الجيم وتشديد الميم المكسورة، وزاد وكيع عن ابن طهمان "في الإِسلام" أخرجه أبو داود. وقوله: "بعد جمعة" زاد المصنف في أواخر "المغازي" "جمعت". وقوله: "في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" في رواية وكيع بالمدينة، وفي رواية المعافى المذكورة (بمكة) وهو خطأ. وقوله: "في مسجد عبد القيس" قبيلة كانوا ينزلون البحرين موضع قريب من (عُمان) بقرب (القطيف) و (الأَحساء). وقوله: "بجُواثى من البحرين" بضم الجيم وتخفيف الواو. وقد تهمز ثم مثلثة خفيفة في رواية وكيع قرية من قرى (البحرين) وفي أخرى عنه من قرى عبد القيس. وكذا للإسماعيلي عن ابن طهمان، وبه يتم مراد الترجمة وحكى الجوهري والزمخشري وابن الأثير أن جؤاثى اسم حصن (بالبحرين)، وهذا لا ينافي كونها قرية. وحكى ابن التين عن أبي الحسن اللخمي أنها مدينة، وما ثبت في الحديث من كونها قرية أصح مع احتمال أن تكون في الأول قرية ثم صارت مدينة. واستدل به الشافعي وأحمد على أن الجمعة تقام في القرية إذا كانت فيها أربعون رجلًا أحرارًا بالغين مقيمين لا يظعنون عنها صيفًا ولا شتاء إلا لحاجة سواء كانت أبنيتها من حجر أو طين أو خشب أو قصب أو نحوها، فلو انهدمت أبنيتها فأقام أهلها على العمارة لزمتهم الجمعة فيها؛ لأنها وطنهم سواء كانوا في مظالٍ أم لا، وسواء فيها المسجد والدار والفضاء بخلاف الصحراء ووجه الدلالة منه أن الظاهر أن عبد القيس لم يجمعوا إلا بأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- لما عرف من عادة الصحابة من عدم الاستبداد بالأُمور الشرعية في زمن نزول الوحي؛ ولأنه لو كان ذلك لا يجوز لنزل فيه القرآن. كما استدل جابر وأبو سعيد على جواز العزل بأنهم فعلوه، والقرآن ينزل فلم ينهوا عنه، وعند

المالكية يشترط في صحة الجمعة الاستيطان وهو العزم على الإقامة على نية التأبيد في غير الخيام ولو في الاختصاص، وتكون في جامع مبني بناء معتادًا لأهل ذلك البلد، وإذا تعددت المساجد صحت في العتيق وبطلت في غيره إلا إذا عظم البلد (كمصر) و (بغداد). ويشترط أن يكون في ذلك البلد جماعة يأمن بهم الدفع عن أنفسهم في الأمور الكثيرة لا النادرة، وذلك يختلف بحسب الجهات من كثرة الخوف والفتن وقلتها، وليس للجماعة حدّ محصور من خمسين أو أربعين أو ثلاثين كما قيل بكل، وهذا الشرط هو المعتبر عندهم من غير نظر إلى قرية أو مصر، وكل الأحاديث توافقه ولا ينافيه حديث. قلت: المطلوب دفعه والأمن منه هو المحاربون قطاع الطريق أو الكفار، وهم الذين يطلب عند أهل الإِسلام دفعهم حقيقة فإذا ملكت الكفار بلدًا من بلاد الإِسلام بعد عجز أهله عنهم، وصاروا مالكين له وهم المدافعون عنه لم يوجد هذا الشرط الذي هو المدار في وجوب الجمعة. عند المالكية فلا تجب في ذلك البلد المملوك للكفار الجارية فيه أحكامهم، فيكون حكمه حكم (مكة) حيث لم يصلِّ فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الجمعة قبل الهجرة؛ لكون الحكم فيها للكفار، وعندما هاجروا للمدينة صلّوها لعدم حكم الكفار كما مرّ في أول الجمعة. وجؤاثى أهلها عبد القيس ذابون عن أنفسهم يقاتلون من حولهم من الكفار، هذا ما ظهر لي وما ذكره الدسوقي من كونها تصلى في البلاد المحتلة للكفار غير ظاهر. ومذهب أبي حنيفة لا تصح الجمعة إلا في مصر جامع أو في مصلى العصر، ولا يجوز في القرى وتجوز في (مني) إذا كان الأمير أمير الحاج أو كان الخليفة مسافرًا، وقال محمد: لا جمعة (بمنى) ولا تصح بعرفات في قولهم جميعًا، واختلف أصحابه في العصر الذي تجوز فيه الجمعة فعن أبي يوسف: هو كل موضع يكون فيه كل محترف، ويوجد فيه جميع ما يحتاج إليه الناس من معائشهم عادة، وبه قاض يقيم الحدود، وأمير كذلك. وقيل: إذا بلغ سكانه عشرة آلاف، وقيل عشرة آلاف مقاتل، وقيل بحيث أن لو قصدهم عدو لأمكنهم دفعه. وقيل: كل موضع فيه منبر وقاضٍ يقيم الحدود، وقيل: أن لو اجتمعوا إلى أكبر مساجدهم لم يسعهم. وقيل: أن يكون بحال يعيش كل محترف بحرفته من سنة من غير أن يشتغل بحرفة أخرى. وعن محمد موضع مصّره الإِمام فهو مصر حتى أنه لو بعث إلى قرية نائبًا لإقامة الحدود والقصاص يصير مصرًا، فإذا عزله ودعاه تلحق بالقرى. واستدل أبو حنيفة على أنها لا تجوز في القرى بما رواه عبد الرزاق في مصنفه عن علي -رضي الله تعالى عنه- قال: "لا جمعةَ ولا تشريقَ إلا في مصرٍ جامعٍ" ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن علي أيضًا بلفظ: "لا جمعة ولا تشريق ولا صلاة فطرٍ ولا أضحى إلا في مصرٍ جامعٍ أو مدينة عظيمةٍ". وأجابوا عن قوله في حديث الباب جؤاثى بأنها مدينة كما قاله البكري، وقال امرؤ القيس:

رجاله خمسة

ورحنا كأنا من جؤاثى عشيةً ... نعالي النعاج بين عدلٍ ومحقب يريد كأنا من تجار جؤاثى لكثرة ما معهم من الصيد، وأراد كثرة أمتعة تجار جؤاثى وكثرة الأمتعة تدل غالبًا على كثرة التجار، وكثرة التجار تدل على أن جؤاثى مدينة قطعًا؛ لأن القرية لا يكون فيها تجار غالبًا. ولئن سلّمنا أنها قرية، فليس في الحديث أنه -عليه الصلاة والسلام- اطلع على ذلك وأقرهم عليه. وقد مرّ ما يرد عليهم، فقد مرّ في نفس الحديث أنها قرية من قرى البحرين، ومرّ أن الظاهر أنهم لم يجمعوا إلا بأمره -عليه الصلاة والسلام- إلى آخر ما مرّ وقال النووي: حديث علي ضعيف متفق على ضعفه، وهوموقوف عليه بسند ضعيف منقطع. وعن عمر "أنه كتب إلى (البحرين) أن جمعوا حيثما كنتم، وهذا يشمل المدن والقرى" أخرجه ابن شيبة بسند صحيح وصححه ابن خزيمة. وروى البيهقي عن الوليد بن مسلم سألت الليث بن سعد فقال: كل مدينة أو قرية فيها جماعة أمروا بالجمعة، فإن أهل مصر وسواحلها كانوا يجمعون الجمعة على عهد عمر وعثمان بأمرهما، وفيهما رجال من الصحابة. وعند عبد الرزاق بإسناد صحيح عن ابن عمر أنه كان يرى أهل المياه يجمعون بين (مكة) و (المدينة) فلا يعيب عليهم فلما اختلفت الصحابة وجب المصير إلى المرفوع. وقال أبو بكر الرازي في كتابه "الأحكام" اتفق فقهاء الأمصار على أن الجمعة مخصوصة بموضع لا يجوز فعلها في غيره؛ لأنهم مجمعون على أنها لا تجوز في البوادي ومناهل العرب، وتجوز عند الحنفية في فناء المصر وهو ما أعد لقضاء حوائج المصر من ركض الخيل والخروج للرمي وغيرهما، وفي "الخانية" لابد أن يكون متصلًا بالمصر حتى لو كان بينه وبين المصر فرجة من المزارع والمراعي لا يكون فناء له ومقدار التباعد أربعمائة ذراع، وعند أبي يوسف ميلان. وفي الحديث إشعار بتقديم إسلام عبد القيس على غيرهم من أهل القرى، وهو كذلك كما مرّ في أواخر كتاب الإيمان. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ محمد بن المثنى في التاسع من الإِيمان، ومرّ أبو عامر العقدي في الثاني منه، ومرّ أبو جمرة في السادس والأربعين منه، ومرّ إبراهيم بن طهمان في التاسع والعشرين من الغسل، ومرّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، ورواته بصريون إلا الثالث فهو هروي. أخرجه النَّسائيّ وأبو داود.

الحديث الثامن عشر

الحديث الثامن عشر حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنَا سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: كُلُّكُمْ رَاعٍ. وَزَادَ اللَّيْثُ قَالَ يُونُسُ: كَتَبَ رُزَيْقُ بْنُ حُكَيْمٍ إِلَى ابْنِ شِهَابٍ وَأَنَا مَعَهُ يَوْمَئِذٍ بِوَادِي الْقُرَى هَلْ تَرَى أَنْ أُجَمِّعَ. وَرُزَيْقٌ عَامِلٌ عَلَى أَرْضٍ يَعْمَلُهَا، وَفِيهَا جَمَاعَةٌ مِنَ السُّودَانِ وَغَيْرِهِمْ، وَرُزَيْقٌ يَوْمَئِذٍ عَلَى أَيْلَةَ، فَكَتَبَ ابْنُ شِهَابٍ وَأَنَا أَسْمَعُ يَأْمُرُهُ أَنْ يُجَمِّعَ، يُخْبِرُهُ أَنَّ سَالِمًا حَدَّثَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ: الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ قَالَ: وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ: وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ. وجه الاحتجاج بالحديث ومطابقته للترجمة من قوله -صلى الله عليه وسلم-: "كلكم راعٍ"، فإنه دال على أنَّ على مَنْ كان أميرًا إقامة الأحكام الشرعية والجمعة منها، وكان رزيق عاملًا على الطائفة التي ذكرها، وكان عليه أن يراعي حقوقهم، ومن جملتها إقامة الجمعة وقوله: "كلكم راعٍ"، في الرواية الآتية في الأحكام"ألا كلَّكم راعٍ" و (ألا) بتخفيف اللام حرف استفتاح، وسقطت من رواية سالم هنا ورواية نافع، والراعي هو الحافظ المؤتمن الملتزم صلاح ما اؤتمن على حفظه، فهو مطلوب بالعدل فيه والقيام بمصالحه في دينه ودنياه، فإن وفي بما عليه من الرعاية حصل له الحظ الأوفر والجزاء الأكبر، وإن كان غير ذلك طالبه كل أحد من رعيته بحقه. وقوله: "وزاد الليث" فيه إشارة إلى أن رواية الليث متفقة مع ابن المبارك إلا في القصة، فإنها مختصة برواية الليث، ورواية الليث معلقة، وقد وصلها الذهلي عن أبي صالح كاتب الليث عنه، وقد ساق المصنف رواية ابن المبارك بهذا الإِسناد في كتاب "الوصايا" فلم يخالف رواية الليث إلا في إعادة قوله في آخره "وكُلُّكم راعٍ". وقوله: "وكتب رزيق بن حكيم" يأتي ضبطه في السند. وقوله: "وأنا معه" جملة اسمية وقعت

حالًا. وقوله: "بوادي القرى" هو من أعمال المدينة. وقال ابن السمعاني: وادي القرى مدينة بالحجاز مما يلي الشام، وفتحها النبي -صلى الله عليه وسلم- في جمادى الآخرة سنة سبع من الهجرة منصرفه من خيبر بعد أن امتنع أهلها وقاتلوا. وذكر بعضهم أنه -عليه الصلاة والسلام- قاتل فيها، ولما فتحها عنوة قسّم أموالها وترك الأرض والنخل في أيدي اليهود على مثل ما عامل عليه أهل خيبر، وأقام عليها أربع ليال. وقوله: "أن أجمع" أي: أصلي بمن معي الجمعة. وقوله: "على أرض يعملها" أي: يزرع فيها. وقوله: "ورزيق يومئذ على أيلة" بفتح الهمزة وسكون التحتانية بعدها لام بلدة معروفة في طريق الشام بين المدينة ومصر على ساحل (القلزم) كانت مدينة كبيرة ذات قلعة، وهي الآن خراب يمرّ بها الحاج من مصر فتكون شماليهم، ويمرّ بها الحاج من غزة فتكون أمامهم، ويجلبون إليها إلمبرة من الكرك والشوبك وغيرهما يتلقون بها الحاج ذهابًا وإيابًا وإليها تنسب العقبة المشهورة عند المصريين، وبينها وبين المدينة النبوية نحو الشهر يسير الأثقال إن اقتصروا كل يوم على مرحلة، وإلا فدون ذلك وهي من (مصر) على أكثر من النصف من ذلك. وقال البكري: سميت (بأيلة) بنت مدين بن إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- وقد روي أن (أيلة) هى القرية التي كانت حاضرة البحر، وقد ورد صاحب أيلة على النبي -صلى الله عليه وسلم- (بتبوك) وأعطاه الجزية. وكان رزيق أميرًا عليها من قِبَل عمر بن عبد العزيز والذي يظهر أن الأرض التي كان يزرعها من أعمال (أيلة) ولم يسأل عن (أيلة) نفسها؛ لأنها كانت مدينة عظيمة ذات قلعة كما مرّ. وقوله: "فكتب ابن شهاب" فيه تجوز كأن ابن شهاب أملاه على كاتبه فسمعه يونس منه، ويحتمل أن يكون الزهري كتبه بخطه وقرأه بلفظه، فيكون فيه حذف تقديره (فكتب ابن شهاب وقرأه وأنا أسمع). وقوله: "وأنا أسمع" هو قول يونس والجملة حالية، وقوله: "يأمره" حالية أخرى. وقوله: "يخبره" حال من فاعل يأمره، والمكتوب هو الحديث والمسموع المأمور به قاله الكرماني والذي يظهر أن المكتوب هو عين المسموع، وهو الأمر والحديث معًا. وقوله: "الإِمام راعٍ" في رواية "الأحكام" في العتق فالأمير بدل الإِمام، وكذا في رواية موسى بن عقبة في النكاح، ولم يقل على الناس. وقوله: "ومسؤول عن رعيته" أي: بحذف هو وهي مقدرة وكذا في أكثر الروايات، وثبتت في "الأحكام" والاستقراض. وقوله: "والرجل راعٍ في أهله" وفي رواية الأحكام: "والرجل راعٍ على أهلِ بيتهِ". وقوله: "والمرأة راعية في بيت زوجها" وفي رواية "الأحكام": والمرأة راعية على أهلِ بيتِ زوجها وولدِهِ"، وفي رواية عبيد الله بن عمر "على بيتِ بعلِها". وقوله: "والخادم راعٍ في مالِ سيِّده" وفي رواية الأحكام: "وعبدُ الرجلِ راعٍ على مالِ سيدِه"

وفي رواية عبيد الله "والعبد" بدل الخادم. قال الخطابي: اشتركوا أي: الإِمام والرجل ومن ذكر في التسمية أي: في الوصف بالراعي ومعانيهم مختلفة، فرعاية الإِمام الأعظم حياطة الشريعة بإقامة الحدود والعدل في الحكم. ورعاية الرجل أهله سياسته لأمرهم وإيصالهم حقوقهم. ورعاية المرأة تدبير أمر البيت والأولاد والخدم والنصيحة للزوج في كل ذلك. ورعاية الخادم حفظ ما تحت يده والقيام بما يجب عليه من خدمته. وقوله: "قال وحسبت أن قد قال" جزم الكرماني بأن فاعل قال هنا هو يونس وفيه نظر، والظاهر أن فاعله سالم بن عبد الله الراوي. وكلمة (أن) مخففة من المثقلة والتقدير (وحسبت أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: والرجلُ راعٍ في مال أبيه). إلخ. وقوله: "وكلُّكم راعٍ ومسؤولٌ عن رعيتهِ" وفي رواية الأحكام: "ألا فكلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيتِهِ". وفي رواية أيوب في "النكاح" مثله وفي الاستقراض "فكلُّكم" ومثله في رواية نافع. قال الطيبي في هذا الحديث: إن الراعي ليس مطلوبًا لذاته، وإنما أقيم لحفظ ما استرعاه المالك فينبغي أن لا يتصرف إلا بما أذن الشارع فيه، وهو تمثيل ليس في الباب ألطف ولا أجمع ولا أبلغ منه، فإنه أجمل أولًا ثم فصّل، وأتى بحرف التنبيه مكررًا. قال: (والفاء) في قوله: "ألا فكلُّكم" جواب شرط محذوف. وختم بما يشبه الفذلكة إشارة إلى استيفاء التفصيل. وقال غيره دخل في العموم المنفرد الذي لا زوج له ولا خادم ولا ولد، فإنه يصدق عليه أنه راع على جوارحه حتى يعمل المأمورات ويجتنب المنهيات فعلًا ونطقًا واعتقادًا، فجوارحه وقواه وحواسه رعيته ولا يلزم من اتصافه بكونه راعيًا أن لا يكون مرعيًا باعتبار آخر. وجاء في حديث أنس مثل حديث ابن عمر وزاد في آخره فأعدوا للمسألة جوابًا قالوا: وما جوابها؟ قال: أعمال البر أخرجه ابن عدي والطبراني في "الأوسط" بسند حسن، وله عن أبي هريرة "ما من راعٍ إلا يسأل يوم القيامة أقام أمر الله أم ضيعه؟ ". ولابن عدي بسند صحيح عن أنس أن الله سائل كل راع بما استرعاه حفظ ذلك أو ضيعه. واستدل به على أن المكلف يؤاخذ بالتقصير في أمر من هو في حكمه وترجم له في النكاح باب {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} وعلى أن للعبد أن يتصرف في مال سيده بإذنه. وكذا المرأة والولد وفي هذا الحديث بيان كذب الخبر الذي افتراه بعض المتعصبين لبني أمية ففي كتاب "القضاء" لأبي علي الكرابيسي عن الشافعي عن عمه محمد بن علي قال: دخل ابن شهاب على الوليد بن عبد الملك فسأله عن حديث "إن الله إذا استرعى عبدًا الخلافةِ كتبَ له الحسناتِ، ولم يكتبْ له السيئاتِ" فقال له: هذا كذب، ثم تلا: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} إلى قوله: {بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} فقال له الوليد: إن الناس ليغروننا عن ديننا. قال الزين بن المنير في هذه القصة -أي قصة رُزَيْق-: إيماء إلى أن الجمعة تنعقد بغير إذن

رجاله سبعة

الإِمام إذا كان في القوم من يقوم بمصالحهم، وهذا هو مشهور مذهب مالك فإن استئذان الإمام عنده مستحب، وتجب عليهم إن منع منها وأمنوا منه على أنفسهم وأموالهم وإلا لم تُجْزِ، ولم تَجُزْ. ومذهب الشافعية أيضًا أن إذن السلطان ليس شرطًا لصحتها اعتبارًا بسائر الصلوات، وهو رواية عن أحمد. وقالت الحنفية وهو رواية عن أحمد أيضًا أن إذنه شرط لقوله عليه الصلاة والسلام: "مَنْ تركَ الجُمُعة وله إمام جائرٌ أو عادلٌ لا جمعَ اللهُ شملَه" رواه ابن ماجه والبزار وفي سنديهما مقال. فشرط فيه أن يكون له إمام ويقوم مقامه نائبه، وهو الأمير أو القاضي، وحينئذ فلا دلالة في حديث الباب؛ لأن رزيقًا كان نائب الإِمام واستدل من لم يشترط إذنه بما روي أن عثمان -رضي الله تعالى عنه- لما كان محصورًا بالمدينة صلّى علي -رضي الله تعالى عنه- الجمعة بالناس، ولم يرو أنه صلّى بأمر عثمان وكان الأمر بيده. وأجيب عن هذا باحتمال أن عليًا فعل ذلك بأمر عثمان، أو لم يتوصل إلى إذنه واجتمع الناس على تقديمه، وهذا يجيزه المشترط لإِذن السلطان. وقد قال ابن المنذر: مضت السنة بأن الذي يقيم الجمعة السلطان أو من قام بها بأمره، فإذا لم يكن ذلك صلوا الظهر. وقال يحيى بن عمر المالكي باشتراطه، فقال الذي أجمع عليه مالك وأصحابه أنها لا تقام إلا بثلاثة شروط: العصر، والجماعة، والإِمام الذي تخاف مخالفته، فإذا عدم شيء من ذلك لم تكن جمعة، وذكر صاحب البيان قولًا قديمًا للشافعي أنها لا تقام إلا خلف السلطان أو من إذن له وفيه إقامة الجمعة في القرى خلافًا لمن شرط المدن وتعقب بأنه لا دليل فيه؛ لأن الموضع المذكور صار حكمه حكم المدينة بوجود المتولي عليهم من جهة الإِمام. وقد مرّ أن الإِمام إذا بعث إلى قرية نائبًا لإِقامة الأحكام تفسير مصرًا مع أن قول المجتهد ليس بحجة على مجتهد آخر. رجاله سبعة: وفيه ذكر رُزَيق بن حكيم، وقد مرّوا إلا رزيقًا، مرّ عبد الله بن المبارك وبشر في السادس من بدء الوحي، ومرّ يونس في متابعة بعد الرابع منه، ومرّ الزهري والليث في الثالث منه، ومرّ سالم في السابع عشر من الإِيمان، ومرّ أبوه عبد الله في أوله قبل ذكر حديث منه. رزيق بن حكيم أبو حكيم ووهم من قدم الزاي على الراء، مولى بني فَزَارة الأيْلي والي أيلة لعمر بن عبد العزيز وقال ابن الحذاء: كان حاكمًا بالمدينة. ذكره ابن حِبّان في "الثقات"، وقال: النسائيّ: ثقة، وقال ابن ماكولا: كان عبدًا صالحًا، وذكره البخاري في باب (الجمعة في القرى). وأخرج له النَّسائيّ حديثًا واحدًا في القطع في ربع دينار، ووثقه العجلي وابن سعد. روى عن سعيد بن المسيب والقاسم بن محمد وعمر بن عبد العزيز وعمرة بنت عبد الرحمن. وروى عنه مالك وابن عُيينة ويونس بن يزيد وعقيل وغيرهم.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإخبار بالجمع والإفراد والسماع والعنعنة والقول، وشيخ البخاري من أفراده ورواته ما بين مروزي وأيلي ومدني ومصري أخرجه البخاري أيضًا في "الوصايا"، ومسلم في "المغازي"، وأخرج مسلم والترمِذِيّ أيضًا حديث "كلُّكم راعٍ" بغير هذه القصة. ثم قال المصنف: باب هل على مَنْ لم يشهد الجمعة غسل من النساء والصبيان وغيرهم؟ تقدم التنبيه على ما تضمنته هذه الترجمة في باب (فضل الغُسل) ويدخل في قوله وغيرهم العبد والمسافر والمعذور، وكأنه استعمل الاستفهام في الترجمة للاحتمال الواقع في حديث أبي هريرة "حق على كلّ مسلم أن يغتسل" فإنه شامل للجميع. والتقييد في حديث ابن عمر بمن جاء منكم يخرج من لم يجىء. والتقييد في حديث أبي سعيد بالمحتلم يخرج الصبيان. والتقييد في النهي عن منع النساء المساجد بالليل يخرج الجمعة، وعرف بهذا وجه إيراد هذه الأحاديث في هذه الترجمة. ثم قال: وقال ابن عمر: "انما الغُسل على مَنْ تجب عليه الجمعة" وصله البيهقي بإسناد صحيح عنه، وزاد "والجمعة على مَنْ يأت أهله" ومعنى هذه الزيادة أن الجمعة عنده تجب على مَنْ يمكنه الرجوع إلى موضعه قبل دخول الليل، فمن كان فوق هذه المسافة لا تجب عليه عنده وسيأتي البحث فيه بعد باب. وقد تقرر أن الآثار التي يوردها البخاري في التراجم تدل على اختيار ما تضمنته عنده، فهذا مصير منه إلى أن الغسل للجمعة لا يشرع إلا لمن وجبت عليه. وابن عمر مرّ في أول كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه.

الحديث التاسع عشر

الحديث التاسع عشر حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: مَنْ جَاءَ مِنْكُمُ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ. مطابقته للترجمة من حيث المفهوم؛ لأن مفهومه عدم وجوب الغُسل على مَنْ لم يجىء الجمعة ومَنْ لم يجىء لم يشهدها. وهذا الحديث مرّ في باب (فضل الغُسل يوم الجمعة) ومرّ استيفاء الكلام عليه هناك. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ أبو اليمان وشعيب في السابع من بدء الوحي، والزهري في الثالث منه، وسالم في السابع عشر من الإِيمان، وأبوه أوله قبل ذكر حديث منه. الحديث العشرون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ. مطابقته للترجمة من حيث المفهوم؛ لأن مفهومه عدم وجوب الغُسل على كل من لم يحتلم، ومَنْ لم يحتلم لا يشهد الجمعة. وقد مرّ الحديث في باب (وضوء الصبيان)، ومرّ الكلام عليه هناك. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ عبد الله بن مسلمة وأبو سعيد في الثاني عشر من الإيمان؛ ومرّ عطاء في الثاني والعشرين منه، ومرّ مالك في الثاني من بدء الوحي، ومرّ صفوان بن سليم في التاسع والعشرين من الغُسل. اهـ

الحديث الحادي والعشرون

الحديث الحادي والعشرون حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا، وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ، فَهَذَا الْيَوْمُ الَّذِى اخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّهُ، فَغَدًا لِلْيَهُودِ وَبَعْدَ غَدٍ لِلنَّصَارَى. فسكت ثُمَّ قَالَ: حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا يَغْسِلُ فِيهِ رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ. وقوله: "فسكت" فاعل سكت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد أورده المصنف في ذكر بني إسرائيل من وجه آخر عن وهيب بهذا الإسناد دون قوله: "فسكت"، ثم قال: ويؤكد كونه مرفوعًا رواية مجاهد عن طاووس المقتصرة على الحديث الثاني؛ ولهذه النكتة أورده بعده فقال: رواه أبان بن صالح إلخ. وقوله: "في كل سبعة أيام يومًا" أبهم اليوم في هذه الطريق، وعيّنه جابر في حديثه عند النَّسائيّ بلفظ: "الغُسل واجب على كل مسلم في كل أسبوع يومًا وهو يوم الجُمُعة"، وصححه ابن خزيمة، ولسعيد بن منصور وأبي بكر بن أبي شيبة عن البراء بن عازب مرفوعًا نحوه ولفظه: "إن من الحقّ على المسلمِ أن يغتسلَ يومَ الجُمُعة". وروى الطحاوي نحوه مرفوعًا عن رجل من الصحابة أنصاري. وقوله: "وجسده" أي: يغسل جسده وإنما ذكر الرأس وإن كان ذكر الجسد يشمله للاهتمام به من حيث إنه قِوام البدن والعمدة فيه. وحديث "نحن الآخرون" إلخ قد مرّ في باب (فرض الجمعة)، ومرّ الكلام عليه هناك مستوفى. رجاله خمسة: مرّوا، مرّ مسلم بن إبراهيم في السابع والثلاثين من الإيمان" ومرّ أبو هريرة في الثاني منه، ومرّ وهيب في السادس والعشرين من العلم، ومرّ عبد الله بن طاووس في الرابع والثلاثين من الحيض، ومرّ أبوه طاووس بعد الأربعين من الوضوء في باب (مَنْ لم يرَ الوضوء إلا من المخرجين). لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإفراد والعنعنة والقول، ورواته ما بين بصريّ ويمانيّ. أخرجه

البخاري فيما مضى ومسلم والنَّسائيّ في الجُمُعة. ثم قال: رواه أبان بن صالح في مجاهد عن طاووس عن أبي هريرة قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: على كلِّ مسلم حق أن يغتسلَ في كلِّ سبعةِ أيامٍ يومًا"، وهذا التعليق وصله البيهقي عن أبان. وأخرجه الطحاوي من وجه آخر عن طاووس وصرّح فيه بسماعه له من أبي هريرة، وزاد فيه: "ويمسّ طيبًا إن كان لأهله". رجاله أربعة: قد مرّوا إلاَّ أبان، مرّ مجاهد في الأثر الخامس أول كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه، ومرّ ذكر محل طاووس وأبي هريرة في الذي قبله، وأبان هو ابن صالح بن عمير بن عبيد القرشي مولاهم قال ابن معين والعجلي وأبو زرعة وأبو حاتم: ثقة. وقال النَّسائيّ: ليس به بأس، وذكره ابن حِبّان في "الثقات". وأخرج في "صحيحه" حديثه عن مجاهد عن جابر في النهي عن استقبال القبلة. قال في "تهذيب التهذيب": فقول ابن عبد البر وابن حزم بضعفه غفلة منهما وخطأ تواردا عليه، فلم يضعف أبانًا هذا أحد قبلهما، ويكفي فيه قول ابن معين ومَنْ معه، روى عن أنس ومجاهد وعطاء والحسن البصري وغيرهم، وروى عنه محمد بن إسحاق وابن جريج وأسامة بن زيد وغيرهم. مات سنة بضع عشرة ومئة وهو ابن خمس وخمسين سنة (بعسقلان).

الحديث الثاني والعشرون

الحديث الثاني والعشرون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا شَبَابَةُ حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: ائْذَنُوا لِلنِّسَاءِ بِاللَّيْلِ إِلَى الْمَسَاجِدِ. هكذا ذكره مختصرًا، وأورده مسلم مطولًا. وقوله: "بالليل" فيه إشارة إلى أنهم ما كانوا يمنعونهن بالنهار؛ لأن الليل مظنة الريبة فالإذن بالنهار أولى؛ ولأجل ذا قال ابن عبد الله بن عمر: "لا نأذن لهن يتخذنه دَغلا" كما مرّ. وقال الكرماني عادة البخاري إذا ترجم بشيء ذكر ما يتعلق به وما يناسب التعلق؛ فلذلك أورد حديث ابن عمر هذا في ترجمة (هل على مَنْ لم يشهد الجمعة غُسل؟) قال: فإن قيل مفهوم التقييد بالليل يمنع النهار والجُمُعة نهارية، وأجاب بأنه من مفهوم الموافقة؛ لأنه إذا أذن لهن بالليل مع أن الليل مظنة للريبة فالإذن بالنهار بطريق الأولى، وقد عكس هذا بعض الحنفية فجرى على ظاهر الخبر فقال: التقييد بالليل لكون الفساق فيه في شغلهم بفسقهم أو نومهم بخلاف النهار، فإنه ينتشرون فيه. وهذا وإن كان ممكنًا فإنه بعيد جدًا فإن مظنة الريبة بالليل أشد، وليس لكلهم بالليل ما يجد ما يشغله به وأما النهار فالغالب أنه يفضحهم غالبًا ويصدهم عن التعرض لهن ظاهرًا لكثرة انتشار الناس ورؤية من يتعرض فيه لما لا يحل له فينكر عليه. وهذا الحديث قد مرّ في باب (خروج النساء إلى المساجد) قبيل كتاب الجمعة واستوفى الكلام عليه هناك، وقد مرّ الكلام على خروج النساء إلى المساجد والأعياد في باب (شهود الحائض العيدين) من كتاب الحيض. ومرّ بعض الكلام أيضًا عند حديث عائشة في الباب المذكور آنفًا. رجاله ستة: قد مرّوا، مرّ عبد الله بن محمد في الثاني من الإيمان، ومرّ مجاهد وابن عمر في أوله قبل ذكر حديث منه، ومرّ شبابة في الخامس والثلاثين من الحيض، ومرّ ورقاء في التاسع من الوضوء، ومرّ عمرو بن دينار في الرابع والخمسين من العلم. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، وشيخ البخاري من أفراده ورواته ما بين بخاري ومدائني ومكي أخرجه البخاري فيما مضى.

الحديث الثالث والعشرون

الحديث الثالث والعشرون حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَتِ امْرَأَةٌ لِعُمَرَ تَشْهَدُ صَلاَةَ الصُّبْحِ وَالْعِشَاءِ فِي الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ، فَقِيلَ لَهَا: لِمَ تَخْرُجِينَ وَقَدْ تَعْلَمِينَ أَنَّ عُمَرَ يَكْرَهُ ذَلِكَ وَيَغَارُ قَالَتْ: وَمَا يَمْنَعُهُ أَنْ يَنْهَانِي؟ قَالَ: يَمْنَعُهُ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: لاَ تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ. قوله: "كانت امرأة لعمر" هي عاتكة بنت زيد، ويأتي تعريفها قريبًا في السند سمّاها الزهري فيما أخرجه عبد الرزاق عن معمر عنه قال: كانت عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل عند عمر بن الخطاب، وكانت تشهد الصلاة في المسجد، "وكان عمر يقول لها: والله إنك لتعلمين أني لا أحب هذا. قالت: والله لا أنتهي حتى تنهاني. قال: فلقد طُعن عمر وإنها لفي المسجد" كذا ذكره مرسلًا ووصله عبد الأعلى عن معمر يذكر سالم بن عبد الله عن أبيه لكنه أبهم المرأة. أخرجه أحمد عنه وسمّاها أحمد عن سالم من وجه آخر قال: "كان عمر رجلًا غيورًا، وكان إذا خرج إلى الصلاة اتبعته عاتكة بنت زيد" الحديث. وهو مرسل أيضًا، وعرف من هذا أن قوله في حديث الباب فقيل لها: "لِمَ تخرجين؟ " إلى آخره أن قائل ذلك كله هو عمر بن الخطاب، ولا مانع من أن يعبر عن نفسه بقوله: إن عمر إلخ فيكون من باب التجريد وعلى هذا، فالحديث من مسند عمر كما صرّح به في رواية سالم المرسلة، ويحتمل أن تكون المخاطبة دارت بينها وبين ابن عمر أيضًا؛ لأن الحديث مشهور من روايته، ولا مانع أن يعبر عن نفسه بقيل لها، وهذا مقتضى ما صنع الحميدي وأصحاب الأطراف فإنهم أخرجوا هذا الحديث من هذا الوجه في مسند ابن عمر. أورد البخاري حديث مجاهد عن ابن عمر بلفظ "ائذنوا للنساء بالليل إلى المساجد" وأراد بذلك أن الإِذن إنما وقع لهن بالليل، فلا تدخل فيه الجمعة. ورواية أبي أُسامة التي أوردها بعد ذلك تدل على خلاف ذلك؛ لقوله فيها: "لا تمنعوا إماءَ اللهِ مساجد الله" والذي يظهر أنه جنح إلى أن هذا المطلق يحمل على ذلك المقيد. والحديث مرّ قبيل كتاب "الجمعة" ما هو بمعناه، ومرّ محل الكلام عليه هناك. رجاله خمسة: وفيه ذكر عمر ولفظ امرأة مبهم، وقائل مبهم، وقد مرّت رجاله إلا شيخ البخاري، مرّ أبو أُسامة في الحادي والعشرين من العلم، ومرّ نافع في آخر حديث منه، ومرّ عبيد الله العمري في الرابع عشر

من الوضوء، ومرّ ابن عمر في أول كتاب الإِيمان قبل ذكر حديث منه، ومرّ عمر في الأول من بدء الوحي. وشيخ البخاري يوسف بن موسى بن راشد بن بلال القطان الكوفي أبو يعقوب سكن (الري) فقيل له الرازي، ثم انتقل إلى (بغداد) ومات بها. قال الخطيب: وصفه غير واحد بالثقة، وذكره ابن حِبّان في "الثقات"، وقال مسلمة: كان ثقة. وقال أبو سعيد اليشكري: كتب عنه ابن معين، وكتبت معه عنه، وسئل عنه فقال: صدوق. وقال أبو حاتم: صدوق، وقال النَّسائيّ: لا بأس به. روى عن جرير بن عبد الحميد وابن نمير وابن عُيينة ووكيع وغيرهم. وروى عنه البخاري وأبو داود والتِّرمِذِيّ والنَّسائيّ في مسند علي وابن ماجه وغيرهم. مات في صفر سنة ثلاث وخمسين ومئتين. وامرأة عمر المبهمة عيّنها الزهري في رواية عبد الرزاق عن معمر عنه فقال: إنها عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل العدوية أخت سعيد بن زيد أحد العشرة، وأُمها أُم كرز بنت عبد الله بن عمار بن مالك الحضرمية، كانت عاتكة من المهاجرات، تزوجها عبد الله بن أبي بكر الصديق، وكانت حسناء جميلة فأولع بها وشغلته عن مغازيه فأمره أبو بطلاقها فقال: يقولونَ طلِّقها وخيم مكانها ... مقيمًا تمني النفسَ أحلامُ نائمِ وإن طلاقيَ أهل بيت جمعتهم ... على كبرة مني لإحدى العظائمِ ثم عزم عليه أبوه حتى طلَّقها فتبعتها نفسه، فسمعه أبو يومًا يقول: ولم أرَ مثلي اليومَ طلَّقَ مثلَها ... ولا مثلُها من غير جرمٍ تطلَّقُ لها خلقٌ جزلٌ ورأيٌ ومنصبٌ ... وخلقٌ سويٌّ في الحَياءِ ومنصبُ فرّقَ له أبوه فأذن له فارتجعها، ثم لما كان حصار الطائف أصابه سهم فكان فيه هلاكه فمات بالمدينة فقالت ترثيه: رزيتُ بخير الناسِ بعد نبيِّهم ... وبعد أبي بكر وما كان قصرا فآليتُ لاتنفكُ عيني حزينةً ... عليكَ ولا ينفك جلدي أغبرا فلّلهِ عينا مَنْ رأىِ مثلَهُ فتًى ... أكرَّ وأحمى في الهياجِ وأصبرا إذا شرعتْ فيه الأسنَّةُ خاضها ... إلى الموتِ حتى يتركَ الرمحَ أحمرا ثم تزوجها زيد بن الخطاب فاستشهد باليمامة. وأخرج ابن سعد بسند حسن قال: كانت عاتكة تحت عبد الله بن أبي بكر فجعل لها طائفة من ماله على أن لا تتزوج بعده ومات، فأرسل عمر إلى عاتكة أن قد حرمت ما أحل الله لك، فردي إلى أهله المال الذي أخذتيه ففعلت، فخطبها عمر وتزوجها، ولما تزوجها أوْلَم عليها ودعا أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفيهم علي بن أبي طالب، فقال: يا أميرَ المؤمنين دعني أكلم عاتكة قال: نعم، فأخذ علي بجانب الخِدر ثم قال: يا عدوة نفسها قآليت لا تنفك عيني حزينة البيت، فبكت فقال عمر: ما دعاك إلى هذا يا أبا الحسن كل النساء

لطائف إسناده

يفعلن هذا، ثم قتل عنها عمر -رضي الله تعالى عنه- فقالت تبكيه: يا عينُ جودي بعبرةٍ ونحيبِ ... لا تملي على الجوادِ النجيبِ فجعتني المنونُ بالغارِ المعـ ... ـلمِ يومَ الهياجِ والتثويبِ قل لأهلِ الضَّرّاء والبؤسِ موِتوا ... قد سقتهُ المنونُ كأسَ شَعوبِ ثم تزوجها الزبير بن العوام، وشرطت عليه ما شرطت على عمر من أنه لا يضربها ولا يمنعها من الحق ولا من الصلاة في المسجد النبوي، ثم تحيّل الزبير بأن كمن لها لما خرجت إلى صلاة العشاء، فلما مرّت به ضرب على عجيزتها، فلما رجعت قالت: إنا لله فسد الناس، فلم تخرج بعد، ولما مات الزبير قالت أيضًا ترثيه: غدرَ ابنُ جرموزٍ بفارسِ بهمةٍ ... يومَ اللقاءِ وكانَ غيرَ معددِ يا عمرو لو نبهتهُ لوَجدتَهُ ... لا طائشًا رعشَ الجَنانِ ولا اليدِ كم غمرةً قد خاضَها لم يثنهِ ... عنها طراؤكَ يا بنَ فقع القرددِ يا ويحَ أمكَ إن ظفرتَ بمثله ... فيما مضى ممن يروحُ ويغتدي واللهِ ربِّك إن قتلتَ لمسلمًا ... حلّتْ عليكَ عقوبةُ المتعمّدِ ثم خطبها علي بن أبي طالب بعد الزبير فأرسلت إليه إني لأضن بك يا بن عم رسول الله عن القتل، وكان عبد الله بن الزبير بعد أن قتل أبوه أرسل إلى عاتكة يقول: يرحمك الله أنت امرأة من بني عدي، ونحن قوم من بني أسد وإن دخلت علينا في أموالنا أفسدتيها وأضررت بنا فقالت: رأيك يا أبا بكر ما كنت لتبعث إليّ بشيء إلا قبلته، فبعث إليها بثمانين ألف درهم فقبلتها وصالحت عليها. والقائل المبهم في قوله: فقيل لها: قالوا: إنه عمر بن الخطاب، وعمر قد مرّ ذكر محله في هذا الحديث. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، وشيخ البخاري من أفراده، ورواته ما بين كوفيّ ومدنيّ. ثم قال المصنف: باب الرخصة إنْ لم يَحْضُرْ الجمعة في المطر بكسر (إنْ) الشرطية ويحضر بفتح أوله أي: الرجل، وضبطه الكرماني بفتح الهمزة وببناء يحضر للمجهول أي: في إن "لم يحضر" والرخصة لغة اللين والسهولة قال الشاعر: بمخضبِ رخصٍ كان بنانَهُ ... عَنَمٌ يكادُ من اللطافةِ يعقدُ وشرعًا قال في "جمع الجوامع" الحكم الشرعي إن تغير من صعوبة إلى سهولة لعذر مع بقاء السبب للحكم الأصلي رخصة وإلا فعزومة.

الحديث الرابع والعشرون

الحديث الرابع والعشرون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ صَاحِبُ الزِّيَادِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ ابْنُ عَمِّ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِمُؤَذِّنِهِ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ إِذَا قُلْتَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. فَلاَ تَقُلْ حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ. قُلْ صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ. فَكَأَنَّ النَّاسَ اسْتَنْكَرُوا، قَالَ: فَعَلَهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي، إِنَّ الْجُمُعَةَ عَزْمَةٌ، وَإِنِّيكَرِهْتُ أَنْ أُخْرِجَكُمْ، فَتَمْشُونَ فِي الطِّينِ وَالدَّحْضِ. قوله: "صلوا في بيوتكم" هذا مذهب ابن عباس أن من جملة الأعذار لترك الجمعة المطر، وهو قول الجمهور. وعند مالك المطر المبيح للتخلف هو الذي يحمل أوساط الناس على تغطية رؤوسهم لا لما كان أقل من ذلك. وكذلك عند الشافعية والحنابلة مقيد بما يؤذي ببل الثوب، فإن كان خفيفًا أو وجد كنًّا يمشي فيه، فلا عذر. وقال الزين بن المنير: الظاهر أن ابن عباس لا يرخص في ترك الجُمُعة. وأما قوله: "صلوا في بيوتكم" فإشارة منه إلى العصر فرخص لهم في ترك الجماعة فيها وأما الجمعة، فقد جمعهم لها فالظاهر أنه جمع بهم فيها. قال: ويحتمل أن يكون جمعهم للجمعة ليعلمهم بالرخصة في تركها في مثل ذلك ليعملوا به في المستقبل. والذي يظهر أنه لم يجمعهم وإنما أراد بقوله: "صلوا في بيوتكم" مخاطبة مَنْ لم يحضر وتعليم مَنْ حضر. وقوله: "الجمعة عزمة" استشكله الإِسماعيلي بأن أكثر الروايات بلفظ إنها "عزمة" أي: كلمة المؤذن حيّ على الصلاة؛ لأنها دعاء إلى الصلاة تقتضي لسامعه الإجابة، ولو كان معنى الجمعة عزمة لكانت العزيمة لا تزول بترك بعض الأذان. والذي يظهر أنه لم يترك بقية الأذان وإنما أبدل قوله: "حيّ على الصلاة" بقوله: "صلّوا في بيوتكم" والمراد بقوله: "إن الجمعة عزمة" أي: فلو تركت المؤذن يقول: "حيّ على الصلاة" لبادر مَنْ سمعه إلى المجيء في المطر فيشق عليهم، فأمرته أن يقول: "صلّوا في بيوتكم" لتعلموا أن المطر من الأعذار التي تفسير العزيمة رخصة. وقوله: "والدَحْض" أي: بفتح الدال المهملة وسكون الحاء المهملة ويجوز فتحها وآخره ضاد معجمة هو الزلق، وعند مالك الطين المبيح للتخلف هو الذي يحمل أوساط الناس على ترك المدارس. وفي رواية القابسي بالراء بدل الدال وهو الغُسل. قال ابن التين: لا معنى له هنا إلا إن

رجاله خمسة

حمل على أن الأرض حين أصابها المطر صارت كالمغتسل والجامع بينهما الزلق. وهذا الحديث قد مرّ في كتاب الأذان في باب الكلام على الأذان واستوفى الكلام عليه هناك. رجاله خمسة: وفيه لفظ مؤذن مبهم وقد مرّوا، مرّ مسدد في السادس من الإيمان، ومرّ إِسماعيل بن علية في الثامن منه، ومرّ عبد الحميد وعبد الله بن الحارث في الثالث عشر من كتاب الأذان، ومرّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي. والمؤذن لم أقف على مَنْ سماه. ثم قال المصنف: باب من أين تؤتى الجمعة وعلى مَنْ تجب لقول الله عَزَّ وَجَلَّ: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}. يعني أن الآية ليست صريحة في وجوب بيان الحكم المذكور فلذلك أتى في الترجمة بصيغة الاستفهام والذي ذهب إليه الجمهور أنها تجب على مَنْ سمع الأذان وكان في قوة السامع سواء كان داخل البلد أو خارجه، ومحله عند الشافعية ما إذا كان المنادي صيتًا والأصوات هادئة والنداء على الأرض، والسامع من طرف قريته الذي يلي بلد الجمعة مع اعتدال السمع وسكون الرياح والمراد أن الوجوب يتعلق بمحل السماع لا بنفس السامع وإلا لسقطت عن الاسم. وقالت المالكية: تجب على من بينه وبين المنار أربعة أميال إذا كان خارج البلد، وأما من هو في البلد فتجب عليه ولو كان من المنارة على ستة أميال أو أزيد، ومذهب أبي حنيفة وهو قول طائفة لا تجب على مَنْ كان خارج العصر سمع النداء أو لم يسمعه. ورجحه القاضي ابن العربي وهو رواية عن أبي يوسف وعنه من ثلاثة فراسخ وعنه إذا شهد الجمعة وأمكنه المبيت في منزله لزمته الجمعة، واختاره كثير من المشايخ. وعن محمد إذا كان بينه وبين المصر ميل أو ميلان أو ثلاثة أميال فعليه الجمعة. وقول الشافعية: إن الوجوب على مَنْ سمع النداء، قال ابن العربي: تعليق الوجوب بمن سمع النداء يسقطه عمن كان في المصر الكبير إذا لم يسمعه. قلت: يجاب عن هذا بأن الوجوب متعلق بالمحل لا بنفس السماع كما مرّ، لكن قولهم: سواء كان داخل البلد لا يجاب عنه. واستدلت الشافعية بما رواه أبو داود في "سننه" عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا إنما الجمعة على مَنْ سمع النداء. وقال: إنه اختلف في رفعه ووقفه. وأخرجه الدارقطني من وجه آخر عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا ويؤيده قوله -صلى الله عليه وسلم- لابن أُم مكتوم: "أتسمعُ النداءَ؟ قال: نعم، قال: فأجبْ". وقد تقدم في صلاة الجماعة ذكر مَنْ احتج به على وجوبها فتكون الجمعة أولى لثبوت الأمر بالسعي إليها. وأما حديث الجمعة على أواه الليل إلى أهله فأخرجه الترمذي ونقل عن أحمد أنه لم يره شيئًا. وقال لمن ذكره له: "استغفر ربك". وقد تقدم قبل بباب من قول ابن عمر نحوه. والمعنى أنها تجب على مَنْ يمكنه الرجوع إلى أهله قبل

دخول الليل، واستشكل بأنه يلزم منه أنه يجب السعي من أول النهار، وهو بخلاف الآية، ثم قال: وقال عطاء: إذا كنت في قرية جامعة نودي بالصلاة من يوم الجمعة فحق عليك أن تشهدها سمعت النداء أو لم تسمعه. وقوله: "سمعت النداء أو لم تسمعه" يعني إذا كنت داخل البلد. وبهذا صرّح أحمد ونقل النووي أنه لا خلاف فيه، وزاد عبد الرزاق في هذا الأثر عن ابن جريج أيضًا قلت لعطاء: ما القرية الجامعة؟ قال: ذات الجماعة والأمير والقاضي والدور المجتمعة الآخذ بعضها ببعض كجدة. وهذا التعليق وصله عبد الرزاق عن ابن جريج عنه وعطاء قد مرّ في التاسع والثلاثين من العلم. ثم قال: "وكان أنسٌ -رضي الله تعالى عنه- في قصرِه أحيانًا يجمّعُ وأحيانًا لا يجمّعُ وهو بالزاوِيةِ على فرسخين". قوله: "يجمع" أي: يصلي بمن معه الجمعة أو يشهد الجمعة بجامع البصرة. وقوله: "هو بالزاوية" أي: القصر، والزاوية موضع ظاهر (البصرة) معروف كانت فيه وقعة كبيرة بين الحجّاج وابن الأشعث وهي بكسر الواو. وقوله: "على فرسخين" أي: من (البصرة). وهذا وصله ابن أبي شيبة من وجه آخر عن أنس أنه كان يشهد الجمعة من الزاوية وهي على فرسخين من البصرة. وهذا يرد على مَنْ زعم أن الزاوية موضع (بالمدينة المنورة) كان فيه قصر لأنس على فرسخين منها وعرف بهذا أن التعليق المذكور ملفق من أثرين، ولا يعارض ذلك ما رواه عبد الرزاق عن معمر عن ثابت قال: كان أنس يكون في أرضه وبينه وبين (البصرة) ثلاثة أميال فيشهد الجمعة بالبصرة لكون الثلاثة أميال فرسخًا واحدًا؛ لأنه يجمع بأن الأرض المذكورة غير القصر، وبأن أنسًا كان لا يرى التجميع حتمًا إن كان على فرسخين أو أكثر، ويراه حتمًا إن كان أقل من ذلك؛ ولهذا لم يقع في رواية ثابت التخيير الذي في رواية حميد. وهذا التعليق وصله مسدد في "مسنده الكبير" عن أبي عوانة عن حميد بهذا. وأنس مرّ في السادس من "الإِيمان".

الحديث الخامس والعشرون

الحديث الخامس والعشرون حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ حَدَّثَهُ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَتْ: كَانَ النَّاسُ يَنْتَابُونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ مَنَازِلِهِمْ وَالْعَوَالِي، فَيَأْتُونَ فِي الْغُبَارِ، يُصِيبُهُمُ الْغُبَارُ وَالْعَرَقُ، فَيَخْرُجُ مِنْهُمُ الْعَرَقُ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِنْسَانٌ مِنْهُمْ وَهْوَ عِنْدِي، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: لَوْ أَنَّكُمْ تَطَهَّرْتُمْ لِيَوْمِكُمْ هَذَا. قوله: "أحمد بن صالح" كذا في رواية أبي ذر وابن السكن، وعند غيرهما حدّثنا أحمد غير منسوب وجزم أبو نعيم في "المستخرج" بأنه ابن عيسى، والأول أصوب. وقوله: "ينتابون الجمعة" أي: يحضرونها نوبًا أي: نوبة لهذا ونولة لهذا، والانتياب (افتعال) من النوبة. وفي رواية "يتناوبون". وقوله: "والعوالي" تقدم تفسيرها في "المواقيت" وأنها على أربعة أميال فصاعدًا من المدينة. وقوله: "لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا" (لو) للتمني فلا تحتاج إلى جواب، أو للشرط والجواب محذوف تقديره (لكان حسنًا). وعند أبي داود عن ابن عباس أن هذا كان مبدأ الأمر بالغُسل للجمعة ولأبي عوانة عن ابن عمر نحوه. وقد صرّح في آخره بأنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "مَنْ جاءَ مكم الجمعةَ فليغتسلْ" وقد استدلت به عمرة على أن غُسل الجمعة شرع للتنظيف لأجل الصلاة كما سيأتي في الباب الذي بعده. وعلى هذا، فمعنى قوله: "ليومكم هذا" أي في يومكم هذا. وفي هذا الحديث من الفوائد رفق العالم بالمتعلم، واستحباب التنظيف لمجالسة أهل الخير، واجتناب أذى المسلم بكل طريق، وحرص الصحابة على امتثال الأمر ولو شق عليهم. وقال القرطبي فيه رد على الكوفيين لم يوجبوا الجمعة على مَنْ كان خارج العصر، وفيه نظر؛ لأنه لو كان واجبًا على أهل العوالي ما تناوبوا، ولكانوا يحضرون جميعًا. رجاله سبعة: وفيه لفظ إنسان مبهم، مرّت منهم خمسة: مرّ أحمد بن صالح في الرابع والسبعين من أحاديث استقبال القبلة، ومعه أحمد بن عيسى، ومرّ ابن وهب في الثالث عشر من العلم، ومرّ عمرو بن الحارث في السابع والستين من الوضوء، ومرّ عروة وعائشة في الثاني من بدء الوحي والباقيان اثنان

لطائف إسناده

الأول عبيد الله بن أبي جعفر المصري أبو بكر الفقيه مولى بني كنانة ويقال مولى بني أُمية، واسم أبي جعفر يسار. قال أحمد: كان يتفقه ليس به بأس، وقال أبو حاتم: ثقة مثل يزيد بن أبي حبيب. وقال النسائي: ثقة، وقال ابن خراش: صدوق، وقال ابن سعد: ثقة فقيه زمانه. وقال ابن يونس: كان عالمًا عابدًا زاهدًا، وقال أبو شريح عن عبيد الله بن أبي جعفر: غزونا القسطنطينية فانكسر بنا مركبنا فألقانا الموج على خشبة في البحر، وكنا خمسة أو ستة فأنبت الله لنا بعددنا ورقة لكل رجل منا، فكنا نمصها فتشبعنا وتروينا، فإذا أفنينا أثبت الله لنا مكانها أخرى حتى مرّ بنا مركب فحملنا. وقال العجلي عبيد الله بن أبي جعفر: بصري ثقة، وأخوه عبيد الكه لا بأس به، ونقل في "الميزان" عن أحمد أنه قال: ليس بقوي، قال في "المقدمة" إن صح ذلك عن أحمد فلعله في شيء مخصوص. وقد احتج به الجماعة، رأى عبد الله بن الحارث بن جَزْء، وروى عن حمزة بن عبد الله بن عمر ومحمد بن جعفر بن الزبير وأبي سلمة بن عبد الرحمن ونافع وغيرهم. وروى عنه ابن إسحاق وعمرو بن الحارث والليث وحَيْوة بن شُرَيح وغيرهم. ولد سنة ستين ومات سنة خمس أو ست وثلاثين وهذا مكرر، مرّ في الثامن والثلاثين من الغُسل. الثاني: محمد بن جعفر بن الزبير بن العوام الأسدي المدني. قال ابن سعد: كان عالمًا وله أحاديث. وقال ابن إسحاق: كان من فقهاء المدينة وقرائهم. وقال الدارقطني: مدني ثقة روى عن عميه عبد الله ولم يسمع منه وعروة، وعن عبد الله بن عبد الله بن عمر وغيرهم. وروى عنه ابن إسحاق وابن جريج وعبيد الله بن أبي جعفر وغيرهم. قال البخاري في "الأوسط": إنه في عداد مَنْ مات بين عشر ومائة إلى عشرين ومائة. والإِنسان المذكور في الحديث قال في "الفتح" لم أقف على اسمه وفي الإِسماعيلي أناس. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإِفراد والإِخبار بالإفراد والعنعنة والقول، والأربعة الأولون من رواته بصريون، والباقون مدنيون. أخرجه مسلم في "الصلاة" وكذا أبو داود. ثم قال المصنف:

باب وقت الجمعة إذا زالت الشمس

باب وقت الجمعة إذا زالت الشمس جزم بهذه المسألة مع وقوع الخلاف فيها لضعف دليل المخالف عنده، ويأتي قريبًا من خالف في ذلك. ثم قال وكذا يذكر عن عمر وعلي والنعمان بن بشير وعمرو بن حريث -رضي الله تعالى عنهم- قيل إنما اقتصر على هؤلاء من الصحابة دون غيرهم؛ لأنهم نقل عنهم خلافه وفيه نظر؛ لأنه لا خلاف عن علي ومن بعده في ذلك وأغرب ابن العربي فنقل الإجماع على أنها لا تجب حتى تزول الشمس إلا ما نقل عن أحمد بن حنبل أنه إن صلّاها قبل الزوال أجزأ. وقد نقل ابن قدامة وغيره عن جماعة من السلف، ويأتي قريبًا من نقل عنه أما أثر عمر، فقد روى ابن أبي شيبة عن سويد بن غفلة "أنه صلّى مع أبي بكر وعمر حين زالت الشمس" إسناده قوي. وفي "الموطأ" عن مالك بن أبي عامر قال: "كنت أرى طنفسة لعقيل بن أبي طالب تطرح يوم الجمعة إلى جدار المسجد الغربي فإذا غشيها ظل الجدار، خرج عمر" وإسناده صحيح وهو ظاهر في أن عمر كان يخرج بعد زوال. والظاهر أنها كانت تفرش له داخل المسجد، وعليه كان عمر يتأخر بعد الزوال قليلًا. وفي حديث السقيفة عن ابن عباس قال: "فلما كان يوم الجمعة وزالت الشمس، خرج عمر فجلس على المنبر". وأما علي فروى ابن أبي شيبة عن أبي إسحاق "أنه صلّى خلف علي الجمعة بعدما زالت الشمس" إسناده صحيح. وروى أيضًا عن أبي رزين قال: "كنا نصلّي مع علي الجمعة أحيانًا نجد فيئًا وأحيانًا لا نجد"، وهذا محمول على المبادرة عند الزوال أو التأخير قليلًا. وأما النعمان بن بشير فرواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن سماك بن حرب قال: "كان النعمان بن بشير يصلّي بنا الجمعة بعدما تزول الشمس" وكان النعمان أميرًا على الكوفة في أول خلافة يزيد بن معاوية، وأما عمرو بن حريث فأخرجه ابن أبي شيبة أيضًا عن الوليد بن العيزار قال: "ما رأيت إمامًا كان أحسن صلاة للجمعة من عمرو بن حريث، فكان يصلّيها إذا زالت الشمس" إسناده صحيح. وكان عمرو ينوب عن زياد وولده بالكوفة وأما ما يعارض ذلك من الصحابة، فروى أبو نعيم شيخ البخاري في كتاب "الصلاة" له وابن أبي شيبة عن عبد الله بن سيدان قال: "شهدت الجمعة مع أبي بكر فكانت صلاته وخطبته قبل نصف النهار وشهدتها مع عمر -رضي الله تعالى عنه- فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول قد انتصف النهار".

ورجاله ثقات إلا عبد الله بن سِيدان وهو بكسر السين المهملة بعدها تحتانية ساكنة، فإنه تابعي كبير إلا أنه غير معروف العدالة. قال ابن عدي: شبه المجهول، وقال البخاري: لا يتابع على حديثه بل عارضه ما هو أقوى منه يعني ما مرّ قريبًا. وروى ابن أبي شيبة عن عبد الله بن سلِمة بكسر اللام قال: "صلّى بنا عبد الله بن مسعود الجمعة ضحى، وقال: خشيت عليكم الحر"، وعبد الله صدوق إلا أنه تغير لما كبر، قاله شعبة. وعن سعيد بن سويد قال: "صلّى بنا معاوية الجمعة ضحى" وسعيد ذكره ابن عدي في "الضعفاء" واحتج بعض الحنابلة بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إنّ هذا يومَ جعلَه الله عيدًا للمسلمينَ". قال: فلما سماه عيدًا جازت الصلاة فيه في وقت العيد كالفطر والأضحى وتعقب هذا بأنه لا يلزم من تسمية يوم الجمعة عيدًا أن يشتمل على جميع أحكام العيد بدليل أن يوم العيد يحرم صومه مطلقًا سواء صام قبله أو بعده بخلاف يوم الجمعة. ورجاله قد مرّوا إلا عمرو بن حريث، مرّ عمر في الأول من بدء الوحي، ومرّ علي في السابع والأربعين من العلم، ومرّ النعمان في الخامس والأربعين من الإيمان. وعمرو هو ابن حريث بن عمرو بن عثمان بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي الكوفي له ولأبيه صحبة. قال ابن حِبّان: ولد في أيام بدر، وقال غيره: ولد قبل الهجرة بسنتين، وعند أبي داود عنه: "خط لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دارًا بالمدينة"، وهذا يدل على أنه كان كبيرًا في زمانه نزل الكوفة وابتنى بها دارًا وسكنها وولده بها. وزعموا أنه أول قرشي اتخذ دارًا وكان له فيها قدر وشرف. وكان قد ولي إمارتها لزياد وولده عبيد الله. له ثمانية عشر حديثًا انفرد مسلم له بحديثين. روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبى بكر وعمر وعلي وابن مسعود وعن أخيه سعيد. وروى عنه ابنه جعفر وآخرون من أهل الكوفة آخرهم فطر بن خليفة. مات بالكوفة سنة خمس وثمانين، وقيل سنة ثمان وتسعين ولم يثبت.

الحديث السادس والعشرون

الحديث السادس والعشرون حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ أَنَّهُ سَأَلَ عَمْرَةَ عَنِ الْغُسْلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَتْ: قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: كَانَ النَّاسُ مَهَنَةَ أَنْفُسِهِمْ، وَكَانُوا إِذَا رَاحُوا إِلَى الْجُمُعَةِ رَاحُوا فِي هَيْئَتِهِمْ فَقِيلَ لَهُمْ لَوِ اغْتَسَلْتُمْ. قوله: "كان الناس مهنة" بنون وفتحات جمع ماهن كخادم وخدمة أي: خدمة أنفسهم. وحكى ابن التين أنه روي بكسر الميم وسكون الهاء ومعناه بإسقاط محذوف أي: ذوي مهنة. ولمسلم عن يحيى بن سعيد كان الناس أهل عمل ولم يكن لهم كُفاة أي: لم يكن لهم مَنْ يكفيهم العمل من الخدم. وقوله: "وكانوا إذا راحوا إلى الجمعة راحوا في هيئتهم" استدل البخاري بقوله راحوا على أن ذلك كان بعد الزوال؛ لأنه حقيقة الرواح كما مرّ عن أكثر أهل اللغة ولا يعارض هنا ما مرّ عن الأزهري أن المراد بالرواح في قوله: "مَنْ اغتسل يوم الجمعة، ثم راح" الذهاب مطلقًا؛ لأنه إما أن يكون مجازًا أو مشتركًا، وعلى كل من التقديرين فالقرينة مخصصة وهي في قوله: "مَنْ راح في الساعة الأولى" قائمة في إيراده مطلق الذهاب. قلت: هذا إنما هو عند الشافعية كما مرّ لا عندنا معاشر المالكية، فإن الرواح عندنا محمول على حقيقته كما مرّ، وفي هذا قائمة في الذهاب بعد الزوال لما جاء في حديث عائشة المذكور في الطريق التي في آخر الباب الذي قبل هذا حيث قالت: "يصيبهم الغبار والعرق"؛ لأن ذلك غالبًا إنما يكون بعدما، يشتد الحر وهذا في حال مجيئهم من العوالي، فالظاهر أنهم لا يصلون إلى المسجد إلا حين الزوال أو قريبًا من ذلك، وعرف بهذا توجيه إيراد حديث عائشة في هذا الباب. وقد رواه أبو نعيم في الباب الذي قبله، وعليه فلا إشكال فيه أصلًا. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ عبدان وعبد الله في السادس من بدء الوحي، ومرّ يحيى بن سعيد في الأول منه، ومرت عائشة في الثاني منه، ومرّت عمرة في الثاني والثلاثين من الغُسل. لطائف إسناده: فيه التحديث والإِخبار بالجمع والسؤال والقول، ورواية تابعي عن تابعية عن صحابية والأولان من رواته مروزيان، والباقون مدنيون. أخرجه مسلم في الصلاة وأبو داود في الطهارة.

الحديث السابع والعشرون

الحديث السابع والعشرون حَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ النُّعْمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضى الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ حِينَ تَمِيلُ الشَّمْسُ. قوله: "عن أنس" في رواية الإِسماعيلي التصريح عن فليح بسماع عثمان له من أنس. وقوله: "كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس" وفي هذا الحديث رد على ما حكاه ابن التين عن ابن عبد الملك أنه إنما أورد البخاري الآثار عن الصحابة؛ لأنه لم يجد حديثًا مرفوعًا في ذلك؛ لأن حديث أنس هذا مرفوع وفيه إشعار بمواظبته -صلى الله عليه وسلم- على صلاة الجمعة إذا زالت الشمس. رجاله أربعة: مرّ منهم فليح في الأول من العلم، ومرّ أنس في السادس من الإِيمان وسريج هو ابن النعمان بن مروان الجوهري اللؤلوي أبو الحسين ويقال أبو الحسن البغدادي: أصله من خراسان من كبار شيوخ البخاري، وثقه ابن معين والعجلي وابن سعد والنسائي والدارقطني. وقال أبو داود: ثقة غلط في أحاديث، قال في "المقدمة": لم يكثر عنه البخاري بل أخرج عنه في الجمعة عن فليح، وذلك الحديث قد تابعه عليه عند أحمد أبو عامر العقدي ويونس بن محمد المؤدب وغير واحد هذا ما له عنده بلا واسطة، وله عنه بواسطة ثلاثة أحاديث: أحدها في "المغازي" وفي باب عمرة القضاء، والآخر في باب حجة الوداع، والثالث في باب الرمل في الحج والعمرة. والأحاديث الثلاثة بسند واحد عنه عن فليح عن نافع عن ابن عمر هذا جميع ماله عنده. وروى له أصحاب السنن الأربعة روى عن فليح بن سليمان والحمادين ونافع بن عمر الجمحي وغيرهم. وروى له الأربعة بواسطة وأبو زرعة وأبو حاتم وأحمد بن حنبل وغيرهم. مات يوم الأضحى سنة سبع عشرة ومائتين. الرابع: عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان بن عبد الله التيمي. ذكره ابن حِبّان في "الثقات" وقال أبو حاتم: ثقة روى عن أبيه وله صحبة وعن أخيه معاذ وعن أنس بن مالك وغيرهم، وروى عنه أبو بكر بن أبي مليكة وفليح وسعيد بن زياد المؤذن وغيرهم. أخرجه أبو داود والتِّرمِذِيّ في الصلاة وقال الترمِذِيّ: حسن صحيح.

الحديث الثامن والعشرون

الحديث الثامن والعشرون حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كُنَّا نُبَكِّرُ بِالْجُمُعَةِ، وَنَقِيلُ بَعْدَ الْجُمُعَةِ. لم يقع التصريح عند المصنف برفع حديث أنس هذا، وقد أخرجه الطبراني في "الأوسط" عن فضيل بن عياض عن حميد فزاد فيه مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وكذا أخرجه ابن حِبّان في "صحيحه" وله شاهد في حديث سهل بن سعد يأتي في آخر الجمعة. وقوله: "كنا نبكر بالجمعة ونقيل بعد الجمعة" ظاهره أنهم كانوا يصلون الجمعة باكر النهار، وهذا يخالف الذي قبله ولكن طريق الجمع أولى من التعارض، وقد تقرر فيما مرّ أن التبكير يطلق على فعل الشيء في أول وقته أو تقديمه على غيره وهو المراد هنا، والمعنى أنهم كانوا يبدؤون بالصلاة قبل القيلولة بخلاف ما جرت به عادتهم في صلاة الظهر في الحر فإنهم كانوا يقيلون ثم يصلون لمشروعية الإبراد؛ ولهذه النكتة أورد البخاري طريق حميد عن أنس عقب طريق عثمان بن عبد الرحمن عنه، وسيأتي في حديث الترجمة التي بعدها التعبير بالتبكير، والمراد به الصلاة في أول الوقت وهو يؤيد ما قلناه. قال الزين بن المنير: فسر البخاري حديث أنس الثاني بحديثه الأول إشارة منه إلى أنه لا تعارض بينهما. قال في "الفتح" وفيه ردٌ على مَنْ زعم الساعات المطلوبة في الذهاب إلى الجُمُعة من عند الزوال؛ لأنهم كانوا يتبادرون إلى الجمعة قبل القائلة. قلت: هذا غير صحيح؛ لأن المراد بالساعة عند القائل بذلك اللحظات، فهي مجاز كما مرّ. رجاله أربعة: مرّوا، مرّ عبدان وعبد الله في السادس من بدء الوحي، ومرّ حميد في الثاني والأربعين من الإِيمان، ومرّ أنس في السادس منه. ثم قال المصنف:

باب إذا اشتد الحر يوم الجمعة

باب إذا اشتد الحر يوم الجُمُعة لما اختلف ظاهر النقل عن أنس وتقرر أن طريق الجمع أن يحمل الأمر على اختلاف الحال بين الظهر والجمعة كما مرّ قريبًا، جاء عن أنس حديث آخر يوهم خلاف ذلك فترجم المصنف هذه الترجمة لأجله. الحديث التاسع والعشرون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا حَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو خَلْدَةَ هُوَ خَالِدُ بْنُ دِينَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا اشْتَدَّ الْبَرْدُ بَكَّرَ بِالصَّلاَةِ، وَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ أَبْرَدَ بِالصَّلاَةِ، يَعْنِي الْجُمُعَةَ. قوله: "يعني الجمعة" لم يجزم المصنف بحكم الترجمة للاحتمال الواقع في قوله: "يعني الجمعة" لاحتمال أن يكون من كلام التابعي أو مَنْ دونه، وهو ظن ممن قاله والتصريح عن أنس في رواية حميد الماضية أنه كان يبكر بها مطلقًا من غير تفصيل، ويؤيده الرواية المعلقة الثانية فإن فيها البيان بأن قوله: "يعني الجمعة" إنما أخذه قائله مما فهم من التسوية بين الظهر والجمعة عند أنس حيث استدل لما سئل عن الجمعة بقوله: "كان يصلي الظهر" وأوضح من ذلك رواية الإسماعيلي عن حرميٌّ ولفظه: "سمعتُ أنسًا وناداه يزيدُ الضبي يومَ جُمعةٍ يا أبا حمزةَ قد شهدتَ الصلاةَ مع رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فكيفَ كان يصلّي الجُمُعَةَ؟ " فذكره ولم يقل بعده يعني الجمعة. وقال الزين بن المنير: نحا البخاري إلى مشروعية الإبراد بالجمعة ولم يثبت الحكم بذلك؛ لأن قوله: "يعني الجمعة" يحتمل أن يكون قول التابعي مما فهمه، ويحتمل أن يكون من نقله مرجح عنده إلحاقها بالظهر؛ لأنها إما ظهر أو زيادة أو بدل من الظهر، وأيد ذلك قول أمير البصرة لأنس يوم الجمعة: "كيف كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلّي الظهر". وجواب أنس من غير إنكار ذلك، وعلم أن الإبراد عند أنس بالجمعة إنما هو بالقياس على الظهر لا بالنص؛ لأن يوم الجمعة يوم اجتماع الناس وازدحامهم، فإذا أخرت يشق عليهم. قال ابن قدامة؛ ولذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلّيها إذا زالت الشمس صيفًا وشتاء على ميقات واحد.

رجاله أربعة

رجاله أربعة: قد مرّوا إلا أبا خلدة، مرّ محمد بن أبي بكر المقدمي في الرابع والثمانين من أحاديث استقبال القبلة، ومرَّ حرَميُّ في الثامن عشر من الإِيمان، ومرّ أنس في السادس منه. وأبو خلدة هو خالد بن دينار التميمي البصري الخياط. قال ابن معين: ثقة، وقال مرة: صالح، وقال يزيد بن زريع: حدّثنا أبو خلدة وكان ثقة. وقال رجل لابن مهدي: كان ثقة؟ قال: كان مأمونًا خيارًا، الثقة شعبة وسفيان، وفي رواية عنه كان خيارًا مسلمًا صدوقًا. وقال ابن حِبّان في "الثقات": كان ابن مهدي يحسن الثناء عليه. وقال ابن عبد البر: هو ثقة عند جميعهم وكلام ابن مهدي لا معنى له في اختيار الألفاظ. وقال النسائي: ثقة، وقال ابن سعد: كان ثقة وله سن ولقد لقي. وقال العجلي والدارقطني: ثقة، وقال الترمذي: ثقة عند أهل الحديث روى عن أنس والحسن وابن سيرين وأبي العالية وغيرهم. وروى عنه ابن مهدي ويحيى القطان وابن المبارك وحرَميُّ بن عمارة وغيرهم. مات سنة اثنين وخمسين ومائة. ويشتبه بهذا خالد بن دينار النبلي أبو الوليد روى عنه ابن ماجه. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والسماع والقول، ورواته كلهم بصريون والبخاري لم يروِ عن أبي خلدة إلا هذا الحديث. أخرجه النَّسائيّ. ثم قال: وقال يونس بن بكير: أخبرنا أبو خلدة، وقال: "بالصلاة" ولم يذكر الجمعة وصله المصنف في "الأدب المفرد" ولفظه: "سمعت أنس بن مالك وهو مع الحكم أمير البصرة على السرير يقول: كان النبيّ -صلى الله عليه وسلم- إذا كان الحر أبرد بالصلاة، وإذا كان البرد بكّر بالصلاة". وأخرجه الإسماعيلي عن يونس وزاد "يعني الظهر". وقد أورد أبو علي قصة يزيد الضبي وإنكاره على الحكم هذا الصنيع الذي يذكر عند ذكره في سند الذي بعد هذا واستشهاده بأنس واعتذار أنس عن الحكم بأنه أخر للإِبراد فساقها مطولة في نحو ورقة. وسند التعليق اثنان: أبو خلدة مرّ في الذي قبله، ويونس هو ابن بكير بن واصل الشيباني أبو بكر، ويقال أبو بكير الجمال الكوفي الحافظ. قال ابن معين: ثقة، وقال مرة: كان صدوقًا ثقة إلا أنه كان مع جعفر بن يحيى وكان موسرًا فقال له رجل: إنهم يرمونه بالزندقة فقال: كذب، ثم قال يحيى: رأيت ابني أبي شيبة أتياه فأقصاهما وسألاه كتابًا، فلم يعطهما فذهبا يتكلمان فيه. وسئل أبو زرعة: أي شيء ينكر عليه؟ فقال: أما في الحديث فلا أعلمه. وسئل عنه أبو حاتم فقال: محله الصدق، وقال محمد بن عبد الله بن نمير: ثقة رضي. وقال عبيد بن يعيش: حدّثنا

يونس بن بكير وكان ثقة، وقال ابن عمار: هو اليوم ثقة عند أصحاب الحديث، وقال الساجي: كان صدوقًا إلا أنه كان يتبع السلطان وكان مرجئًا. روى عن أبي خلدة خالد بن دينار وهشام بن عروة ومحمد بن إسحاق وأسباط بن نصر وغيرهم. وروى عنه ابنه عبد الله ويحيى بن معين وسعيد بن سليمان وأبو خيثمة وغيرهم. مات سنة تسع وتسعين ومائة. ثم قال: وقال بشر بن ثابت: حدّثنا أبو خلدة قال: صلّى بنا أمير الجمعة، ثم قال لأنس -رضي الله عنه- كيف كان النبيّ -صلى الله عليه وسلم- يصلّي الظهر؟ ". وصله الإِسماعيلي والبيهقي بلفظ: "كان إذا كان الشتاء بكّر بالظهر وإذا كان الصيف أبرد بها". قال ابن المنير: إذا قرر أن الإبراد يشرع في الجمعة أخذ منه أنها لا تشرع قبل الزوال؛ لأنه لو شرع لما كان اشتداد الحر سببًا لتأخيرها، بل كان يستغنى عنه بتعجيلها قبل الزوال. واستدل به ابن بطال على أن وقت الجمعة وقت الظهر؛ لأن أنسًا سوّى بينهما في وجوبه خلافًا لمن أجاز الجمعة قبل الزوال. وقد مرّ الكلام عليه في الباب الذي قبله، وفيه إزالة التشويش عن المصلي بكل طريق محافظة على الخشوع؛ لأن ذلك هو السبب في مراعاة الإبراد في الحر دون البرد. رجاله ثلاثة: وفيه لفظ أمير الجمعة، مرّ أبو خلدة في الحديث الذي قبل هذا بتعليق، ومرّ أنس في السادس من الإيمان. وبشر هو ابن ثابت البصري أبو محمد البزار. ذكره ابن حِبّان في "الثقات" وقال بشر بن آدم الأصغر: كان ثقة، وقال الدارقطني: ثقة وليس من الأثبات من أصحاب شعبة. روى عن أبي خلدة وشعبة وموسى بن علي بن رباح وغيرهم. وروى عنه الدارمي والخلال وأبو داود الحراني وغيرهم. وأمير الجمعة سمّاه البخاري في "الأدب المفرد" الحكم بن أبي عقيل الثقفي كان نائبًا عن ابن عمه الحجاج بن يوسف، وكان على طريقته في تطويل الخطبة يوم الجمعة حتى كاد الوقت أن يخرج. ثم قال المصنف:

باب المشي إلى الجمعة وقوله الله جل ذكره {فاسعوا إلى ذكر الله} ومن قال السعي العمل والذهاب لقوله تعالى: {وسعى لها سعيها}.

باب المشي إلى الجمعة وقوله الله جلّ ذِكره {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} ومَنْ قال السعي العمل والذهاب لقوله تعالى: {وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا}. قال ابن المنير: لما قابل الله بين الأمر بالسعي والنهي عن البيع: دلّ على أن المراد بالسعي العمل الذي هو الطاعة؛ لأنه هو الذي يقابل بسعي الدنيا كالبيع والصناعة، والحاصل أن المأمور به سعي الآخرة، والمنهي عنه سعي الدنيا. وفي "الموطأ" عن مالك أنه سأل ابن شهاب عن هذه الآية فقال: كان عمر يقرؤها إذا نودي للصلاة فامضوا وكأنه فسر السعي بالذهاب. قال مالك: وإنما السعي العمل لقوله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ} و {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى} فليس المراد بالسعي الاشتداد. ثم قال: وقال ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- يحرم البيع حينئذ أي: إذا نودي بالصلاة. والأثر ذكره ابن حزم من طريق عكرمة عن ابن عباس بلفظ: "لا يصح البيع يوم الجمعة حين ينادى للصلاة، فإذا قضيت الصلاة فاشتِر وبعْ". ورواه ابن مردويه من وجه آخر عن ابن عباس، وإلى القول بالتحريم ذهب الجمهور وابتداؤه عندهم من حين الأذان بين يدي الإِمام؛ لأنه الذي كان في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- كما يأتي قريبًا. وقد روى عمر بن شبة في أخبار المدينة عن مكحول "أن النداء كان على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- يؤذن يوم الجمعة مؤذن واحد حين يخوج الإِمام وذلك النداء هو الذي يحوم عنده البيع" وهو مرسل يعتضد بشواهد تأتي، وأما الذي عند الزوال فيجوز عندهم البيع فيه مع الكراهة قاله في "الفتح"، لكن مذهب مالك لا كراهة، وهل يصح البيع مع القول بالتحريم؟ قولان مبنيان على أن النهي هل يقتضي الفساد مطلقًا أو لا، ومشهور مذهب مالك أن كل معاملة وقعت في ذلك الوقت تفسخ إلا النكاح والهبة والصدقة، فتمضي مع المنع وتلزم قيمة المبيع عند فواته. وقد مرّ بعض الكلام على هذا المنزع عند باب فرض الجمعة أول الكتاب، ومرّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي. ثم قال: وقال عطاء: وتحرم الصناعات كلها وصله عبد بن حميد في تفسيره بلفظ إذا نودي بالأذان حرم اللهو والبيع والصناعات كلها والرقاد، وأن يأتي الرجل أهله، وأن يكتب كتابًا، وبهذا قال الجمهور أيضًا. ومرّ عطاء في التاسع والثلاثين من العلم. ثم قال: وقال إبراهيم بن سعد عن الزهري إذا أذن المؤذن يوم الجمعة وهو مسافر فعليه أن يشهد قوله وهو مسافر أي: الرجل قال في "الفتح": لم أره من رواية إبراهيم وقد ذكره ابن المنذر عن

الزهري، وقال: إنه اختلف عليه فيه فقيل عنه هكذا وقيل عنه مثل قول الجماعة: "إنه لا جمعة على مسافر" رواه الأوزاعي عن الزهري. وقال ابن المنذرت وهو كالإِجماع من أهل العلم على ذلك؛ لأن الزهري اختلف عليه فيه، ويمكن حمل كلام الزهري على حالين فحيث قال: "لا جمعة على مسافر" أراد على طريق الوجوب، وحيث قال: "فعليه أن يشهد" أراد على طريق الاستحباب، ويمكن أن تحمل رواية إبراهيم هذه على صورة مخصوصة وهو إذا اتفق حضوره في موضع تقام فيه الجمعة، فسمع النداء لها لا أنها تلزم المسافر مطلقًا حتى يحرم عليه السفر قبل الزوال من البلد الذي يدخلها مجتازًا مثلًا، وكأن ذلك رجح عند البخاري ويتأيد عنده بعموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} فلم يخص مقيمًا من مسافر. وأما ما احتج به ابن المنذر على سقوط الجمعة عن المسافر بكونه "-صلى الله عليه وسلم- صلّى الظهر والعصر (بعرفة) وهو يوم جمعة" فدل ذلك من فعله أنه لا جمعة على مسافر، فهو عمل صحيح إلا أنه لا يدفع الصورة التي ذكرت. وقال الزين بن المنير: قرر البخاري في هذه الترجمة إثبات المشي إلى الجمعة مع معرفته بقول من فسرها بالذهاب الذي يتناول المشي والركوب، وكأنه حمل الأمر بالسكينة والوقار على عمومه في الصلوات كلها، فتدخل الجمعة كما هو مقتضى حديث أبي هريرة، وأما حديث أبي قتادة فيؤخذ من قوله: "وعليكم بالسكينة" فإنه يقتضى عدم الإِسراع في حال السعي إلى الصلاة أيضًا. قلت: المشي الذي في الترجمة أخذه واضح من قوله في حديث أبي هريرة: "وأتوها تمشون"، فإنه صريح في الترجمة، ويحرم على الذي تلزمه الجمعة السفر بعد الزوال إن لم يخف فوات رفقة، ولم يصل الجمعة في طريقه. وجوّزه أبو حنيفة وسفره قبل الزوال جائز عند عمر وابنه عبد الله والزبير بن العوام وأبي عبيدة بن الجراح، وكرهه مالك كراهة تنزيه من بعد الفجر وفي شرح "المهذب" الأصح تحريمه، وبه قالت عائشة ومعاذ بن جبل وعمر بن عبد العزيز. وأما السفر ليلة الجمعة قبل الفجر فهو جائز إلا ما رواه ابن أبي شيبة عن عائشة قالت: "إذا أدركتك ليلة الجمعة فلا تخرج حتى تصلي الجمعة". وإبراهيم بن سعد مرّ في السادس عشر من الإيمان، ومرّ الزهري في الثالث من بدء الوحي.

الحديث الثلاثون

الحديث الثلاثون حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَايَةُ بْنُ رِفَاعَةَ قَالَ: أَدْرَكَنِي أَبُو عَبْسٍ وَأَنَا أَذْهَبُ إِلَى الْجُمُعَةِ فَقَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ. قوله: "وأنا أذهب" جملة حالية كذا وقع عند البخاري أن القصة وقعت لعباية مع أبي عبس وعند الإِسماعيلي أن القصة وقعت ليزيد بن أبي مريم مع عباية، وكذا أخرجه النسائي عن الوليد ولفظه: "حدّثني يزيد قال: لحقني عباية بن رفاعة وأنا ماشٍ إلى الجمعة". زاد الاسماعيلي "وهو راكب، فقال: احتسب خطاك هذه". وفي رواية النسائي: "فقال: أبشر فإن خطاك هذه في سبيل الله، سمعت أبا عبس بن جبر" فذكر الحديث فإن كان محفوظًا احتمل أن تكون القصة وقعت لكل منهما. وأورده هنا لعموم قوله: "في سبيل الله فدخلت فيه الجمعة؛ ولكون راويه استدل به على ذلك. وقال ابن المنير: وجه دخول حديث أبي عبس في الترجمة من قوله: "أدركني أبو عبس"؛ لأنه كان يعدو لما احتمل وقت المحادثة لتعذرها مع الجري؛ ولأن أبا عبس جعل حكم السعي إلى الجمعة حكم الجهاد، وليس العدو من مطالب الجهاد فكذلك الجمعة. وقوله: "اغبرت قدماه" أي: أصابها الغبار وإنما ذكر القدمين وإن كان الغبار يعم جميع البدن عند ثورانه؛ لأن أكثر المجاهدين في ذلك الزمان كانوا مشاة، والأقدام تتغبر على كل حال سواء كان الغبار قويًا أو ضعيفًا؛ ولأن أساس ابن آدم على القدمين، فإذا سلمت القدمان من النار سلم سائر أعضائه منها، وكذلك الكلام في ذكر الوجه في سبيل الله وفي الرواية الآتية في الجهاد "ما اغبرتْ قدما عبدٍ في سبيل اللهِ فتمسَّهُ النارُ". زاد أحمد عن أبي هريرة "ساعة من نهار". وقوله: "فتمسه النار" بالنصب والمعنى أن المس ينتفي بوجود الغبار المذكور، وفي ذلك إشارة إلى عظيم قدر التصرف في سبيل الله، فإذا كان مجرد مسّ الغبار للقدم يحرم عليها النار فكيف بمن سعى وبذل جهده واستنفد وسعه؟ وللحديث شواهد منها ما أخرجه الطبراني في "الأوسط" عن أبي الدرداء مرفوعًا "من اغبرتْ قدماهُ في سبيلِ اللهِ باعدَ اللهُ منه النارَ مسيرة ألفِ عامٍ للراكبِ المستعجلِ".

رجاله خمسة

وأخرج ابن حِبّان عن جابر: "أنه كان في غزاة فقال: سمعتُ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يقولُ" فذكر نحو رواية الجهاد، قال: فتواثب الناس عن دوابهم فما رؤي أكثر ماشيًا من ذلك اليوم. وعند المخلص بسند جيد عن عبادة يرفعه: "لا يجتمعُ غبارٌ في سبيل اللهِ ودخانُ جهنم في جوفِ امرىءٍ مسلمٍ". وعن أبي سعيد الخدري مثله عند أبي نعيم وعند الطبرَاني عن أبي الدرداء: "لا تلثّموا منَ الغبارِ في سبيلِ اللهِ فإنَّه مسكُ الجنَّةِ". وعن أنس عنده أيضًا: "الغبارُ في سبيلِ اللهِ إسفارُ الوجوه يومَ القيامةِ". وعند الخلعي عن عائشة -رضي الله تعالى عنها-: "من اغبرتْ قدماهُ في سبيل اللهِ فلنْ يلجَ النارَ أبدًا". وعند ابن عساكر عن معاذ يرفعه "والذي نفسي بيده ما اغبرتْ قدما عبدٍ ولا وجهُهُ في عملٍ أفضلَ عندَ اللهِ يومَ القيامةِ بعدَ المكتوبةِ من جهادٍ في سبيلِ اللهِ" والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. رجاله خمسة: مرّ منهم علي بن المديني في الرابع عشر من العلم، ومرّ الوليد بن مسلم في السادس والثلاثين من كتاب المواقيت. الثالث: يزيد بن أبي مريم، ويقال يزيد بن ثابت بن أبي مريم بن أبي عطاء أبو عبد الله الدمشقي مولى سهل بن الحنظلية الأنصاري إمام الجامع بدمشق، وثقه الأئمة وابن معين ودحيم وأبو زرعة وأبو حاتم. وقال الدارقطني: ليس بذاك، قال في "المقدمة" هذا جرح غير مفسر فهو مردود وليس له في البخاري سوى حديث واحد. أخرجه في الجهاد والجمعة من رواية الوليد بن مسلم عنه. روى عن أبيه وعباية بن رافع بن خَدِيج وقزعة بن يحيى ومجاهد وغيرهم. وروى عنه الأوزاعي والوليد بن مسلم ويحيى بن حمزة وغيرهم. مات سنة أربع أو خمس وأربعين ومئة. الرابع: عَباية بفتح العين وبعد الألف ياء خفيفة ابن رفاعة بن رافع بن خديج أبو رفاعة الأنصاري الزرقي المدني ذكره ابن حِبّان في "الثقات". وقال ابن معين والنَّسائيّ: ثقة روى عن جده وعن أبيه عن جده على خلاف في ذلك وعن الحسين بن علي بن أبي طالب وأبي عبس. وروى عنه سعيد بن مسروق الثوري ويزيد بن أبي مريم ومحارب بن دثار وغيرهم. الخامس: أبو عَبس بفتح المهملة وسكون الموحدة ابن جبر بن عمرو بن زيد بن جشم بن مجدعة بن حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس الأنصاري الأوسي. قيل: كان اسمه في الجاهلية عبد العزى، وقيل: معبد فسماه النبي -صلى الله عليه وسلم- عبد الرحمن قال ابن الكلبي: هو أحد مَنْ قتل كعب بن الأشرف وكذا قال ابن منده، وذكره موسى بن عقبة وغيره فيمن شهد بدرًا، وقيل كان عمره يومئذ ثمانيًا وأربعين سنة وكان هو وأبو بردة يكسران أصنام بني حارثة حين أسلما.

لطائف إسناده

وقال الزبير بن بكار: أعطى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا عبس بن جبر بعدما ذهب بصره عصا. فقال: "تنّور بهذه، فكانت تضيء له ما بين كذا وكذا". قال ابن سعد: آخى النبي -صلى الله عليه وسلم- بينه وبين حبيش بن حذافة. له خمسة أحاديث انفرد له البخاري بحديث، وليس له عندهما سواه. روى عنه ولده زيد وحفيده أبو عبس بن محمد بن أبي عبس وعباية بن رفاعة مات سنة أربع وثلاثين وهو ابن سبعين سنة وصلّى عليه عثمان. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والسماع والقول والأولان من رواته مدنيان، والآخران دمشقيان، وفيه رواية تابعي عن تابعي أخرجه البخاري أيضًا في الجهاد وكذلك الترمِذِيّ والنَّسائيّ.

الحديث الحادي والثلاثون

الحديث الحادي والثلاثون حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ قَالَ: الزُّهْرِيُّ: عَنْ سَعِيدٍ وَأَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-. وَحَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَلاَ تَأْتُوهَا تَسْعَوْنَ، وَأْتُوهَا تَمْشُونَ عَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا. مطابقته للترجمة من حيث وجود لفظ السعي في كل مهما مع الإشارة إلى أن بين لفظي السعي فيهما مغايرة؛ لأن السعي المذكور في قوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} المذكور في الترجمة غير السعي المذكور في الحديث، فإن المذكور في الآية المأمور به مُفسر بالمضي والذهاب والمذكور في الحديث مفسر بالعدو وحيث قابله بالمشي في قوله وأتوها تمشون. وهذا الحديث قد مرّ في آخر كتاب "الأذان" في باب (لا يسعى إلى الصلاة وليأتها بالسكينة والوقار). وقد استوفى الكلام عليه هناك. رجاله ثمانية: قد مرّوا، مرّ أبو اليمان وشعيب في السابع من بدء الوحي، ومرّ الزهري في الثالث منه وأبو سلمة في الرابع منه وآدم في الثالث من الإيمان وسعيد بن المسيب في التاسع عشر منه وأبو هريرة في الثاني منه، ومرّ ابن أبي ذيب في الستين من العلم. وهذا الحديث مرّ الكلام عليه في آخر كتاب الأذان.

الحديث الثاني والثلاثون

الحديث الثاني والثلاثون حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِىٍّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو قُتَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ لاَ أَعْلَمُهُ إِلاَّ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: لاَ تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي، وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ. قوله: "قال أبو عبد الله" هو المصنف، وهذا في رواية المستملي وحده وكأنه وقع عنده توقف في وصله: لكونه كتبه من حفظه أو لغير ذلك وهو في الأصل موصول لا ريب فيه، فقد أخرجه الإسماعيلي عن عمرو بن علي شيخ البخاري فيه عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه ولم يشك، وأصله في رواية ابن عساكر عن عبد الله بن قتادة عن أبيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تقوموا حتى تروني وعليكم السكينةُ". والحديث قد مرّ في آخر كتاب "الأذان" في باب (متى يقوم الناس إذا رأوا الإِمام عند الإقامة) واستوفيت مباحثه هناك، وموضع الحاجة منه. قوله هنا: "وعليكم السكينةُ" قال ابن رشيد: كأن البخاري استشعر إيراد الفرق بين الساعي إلى الجمعة وغيرها بأن الساعي إلى الصلاة غير الجمعة منهي؛ لأجل ما يلحق الساعي من التعب وضيق النفس فيدخل في الصلاة وهو منبهر فينافي ذلك خوعه بخلاف الساعي إلى الجمعة فإنه في العادة يحضر قبل إقامة الصلاة، فلا تقام حتى يستريح مما يلحقه من الانبهار وغيره، وكأنه استشعر هذا الفرق فأخذ يستدل على أن كل ما آل إلى إذهاب الوقار منع منه، فاشتركت الجمعة مع غيرها في ذلك. رجاله ستة: قد مرّوا إلْا أبا قتيبة، مرّ عمرو بن علي في السابع والأربعين من الوضوء ومرّ عبد الله بن أبي قتادة وأبوه في التاسع عشر منه، ومرّ علي بن المبارك في متابعة بعد الرابع والثلاثين من كتاب الأذان، ومرّ يحيى بن أبي كثير في الثالث والخمسين من العلم، وأبو قتيبة هو سَلم بفتح السين بن قتيبة الشعيري الخراساني الفريابي نزيل البصرة، وثقه ابن معين وأبو داود والدارقطني وأبو زرعة وغيرهم. وقال يحيى بن سعيد ليس هو من جمال المحامل، وقال أبو حاتم: كان كثير الوهم، قال في "المقدمة" له في البخاري ثلاثة أحاديث أو أربعة. وروى له أصحاب "السنن" روى عن يونس بن أبي إسحاق وإسرائيل بن يونس، وعلي بن المبارك ومالك وشعبة وغيرهم. وروى عنه

باب لا يفرق بين اثنين

عمرو بن علي الفلاّس وعقبة بن مكرم وبندار وأبو موسى وغيرهم. مات في جمادى الأولى سنة مائتين والشعيري في نسبه نسبة إلى إقليم الشعيرة بلد بحمص. ثم قال المصنف: بابٌ لا يفرق بين اثنين باب بالتنوين ولا ناهية والفعل من التفريق مبني للفاعل والمفعول. قال الزين بن المنير: التفرقة بين اثنين تتناول القعود بينهما وإخراج أحدهما والقعود مكانه، وقد يطلق على مطلق التخطي وفي التخطي زيادة رفع رجليه على رؤوسهما أو أكتافهما، وربما تعلق بثيابهما شيء مما برجليه. وقد نقل ابن المنذر عن الجمهور كراهة التخطي واختار التحريم، وبه جزم النووي في "زوائد الروضة" والأكثر على أنها كراهة تنزيه ونقله الشيخ أبو حامد عن نص الشافعي. والمشهور عند الشافعية الكراهة كما جزم به الرافعي، نعم لا يكره للإِمام إن لم يبلغ المحراب إلا بالتخطي لاضطراره إليه ومَنْ وجد فرجة لا يبلغها إلا بتخطي صف أو صفين لا يكره وإن وجد غيرها؛ لتقصير القوم بإخلاء الفرجة لكن يستحب له إن وجد غيرها أن لا يتخطى. وعند مالك يجوز التخطي قبل جلوس الخطيب إن كان لفرجة وإلا كره كراهة تنزيه، وبعد جلوسه على المنبر يحرم ولو لفرجة. والتخطي المراد به تخطي الرقاب من صف إلى صف، وأما المشي بين الصفوف فجائز ولو في حال الخطبة. وبقول مالك: قال الأوزاعي: والأحاديث الواردة في الزجر عن التخطي مخرجة في "المسند" و"السنن" وفي غالبها ضعف وأقوى ما ورد فيه ما أخرجه أبو داود والنسائي عن أبي الزاهر قال: "كنا مَع عبدِ اللهِ بن بسرٍ صاحب النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فذكرَ أنَّ رجلًا جاءَ يتخطى، والنَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يخطبُ فقال: اجلسْ فقد آذيت". وزاد ابن ماجَه والحاكم "وآنيت" أي: تأخرت وأبطأت. ولأبي داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رفعه: "مَنْ تخطى رقابَ الناس كانتْ له ظهرًا" أي: لا تكون له كفارة لما بينهما. وفي الطبراني: "أنه عليه الصلاة والسلام قال لرجلٍ: رأيتُكَ تخطى رقابَ الناس وتؤذيهمْ، مَنْ آذى مسلمًا فقد آذاني، ومَنْ آذاني فقد آذى اللهَ". وللتِّرمِذِيّ: "مَنْ تخطى رقابَ الناسِ يومَ الجُمعةِ اتخذَ جسرًا إلى جهنّمَ". قال العراقي المشهور اتخذ مبنيًا للمفعول أي: (ويجعل جسرًا على طريق جهنم) ليوطأ ويتخطى كما تخطى رقاب الناس فإن الجزاء من جنس العمل، ويحتمل أن يكون مبنيًا للفاعل أي: (اتخذ لنفسه جسرًا يمشي عليه إلى جهنم) بسبب ذلك. ويستدل على ما ذهب إليه مالك من التفرقة بما أخرجه أحمد في "مسنده" عن الأرقم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إنّ الذي يتخطى رقابَ الناس ويفرّقُ بين خروجِ الإِمام كالجارِّ قُصبهُ في النارِ". والقصب بضم القاف المِعَى جمعه أقصاب. وقيل: اسم للأمعاء كلها، وقيل: اسم لما كان أسفل

الحديث الثالث والثلاثون

البطن من الأمعاء. وعند الحنفية لا بأس بالتخطي والدنو من الإِمام إذا لم يؤذِ الناس، وقيل: لا بأس به إذا لم يأخذ الإِمام في الخطبة، ويكره إن أخذ واقتصر أصحاب أحمد على الكراهة فقط. وأما تزحزح رجلين عن مكانهما والجلوس بينهما، فيأتي إن شاء الله تعالى في الباب الثاني. الحديث الثالث والثلاثون حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ وَدِيعَةَ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَتَطَهَّرَ بِمَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ، ثُمَّ ادَّهَنَ أَوْ مَسَّ مِنْ طِيبٍ، ثُمَّ رَاحَ فَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ اثْنَيْنِ، فَصَلَّى مَا كُتِبَ لَهُ، ثُمَّ إِذَا خَرَجَ الإِمَامُ أَنْصَتَ، غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الأُخْرَى. رجاله سبعة: مرّوا، مرّ عبدان وابن المبارك في السادس من بدء الوحي، ومرّ ابن أبي ذيب في الستين من العلم، ومرّ سعيد المقبريَّ في الثاني والثلاثين من الإيمان، ومرّ أبوه كيسان في السادس والعشرين من صفة الصلاة، ومرّ عبد الله بن وديعة وسلمان الفارسي في الثامن من كتاب الجمعة هذا. ثم قال المصنف: باب لا يقيم الرجل أخاه يوم الجمعة ويقعد مكانه (لا) نافية والفعل مرفوع، والخبر في معنى النهي. "ويقعد" بالرفع عطف على يقيم أو على أن الجملة حالية أي: (وهو يقعد) أو بالنصب بتقدير أن، فعلى الأول كل من الإقامة والقعود منهي عنه، وعلى الثاني والثالث النهي عن الجمع بينهما حتى لو أقامة ولم يقعد لم يرتكب النهي. قلت: بعيد جدًا إذ كيف يسلم من ارتكاب النهي في إقامته لمسلم من مكانه بدون فائدة، وهذه الترجمة المقيدة بيوم الجمعة ورد فيها حديث صحيح لكنه ليس على شرط البخاري. أخرجه مسلم عن جابر بلفظ: "لا يقيمن أحدُكم أخاه يومَ الجمعةِ ثم يخالفُ إلى مقعدِهِ فيقعَد فيه، ولكن يقولُ: "تفسحوا" لكنه أشار إليه بالقيد المذكور في الترجمة على عادته، ويؤخذ منه أن الذي يتخطى بعد الاستئذان خارج عن حكم النهي.

الحديث الرابع والثلاثون

الحديث الرابع والثلاثون حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: سَمِعْتُ نَافِعًا يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: نَهَى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُقِيمَ الرَّجُلُ أَخَاهُ مِنْ مَقْعَدِهِ وَيَجْلِسَ فِيهِ. قُلْتُ لِنَافِعٍ: الْجُمُعَةَ؟ قَالَ: الْجُمُعَةَ وَغَيْرَهَا. قوله: "أن يقيم الرجل أخاه" أي: نهى عن إقامة الرجل أخاه (فأن) مصدرية. وقوله: "أخاه" لا مفهوم له، بل ذكر لمزيد التنفير عن ذلك لفتحة؛ لأنه إن فعله من جهة الكبر كان قبيحًا، وإن فعله من جهة الأثرة كان أقبح. قلت: المراد بأخاه إخوة الإيمان، فلا يحتاج لما ذكر ويكون مفهومه جواز إقامة الكافر ونحوه كما يأتي. وفي نسخة لأبوي ذرٍّ والوقت: "أن يقيم الرجلُ الرجلَ" وقد أخرجه مسلم عن عبيد الله بن عمر بلفظ: "لا يقيم الرجلُ الرجلَ من مقعده ثم يجلس فيه". وقوله: "ويجلسَ فيه" بالنصب عطفًا على "أن يقيم" أي: (وأن يجلسَ). والمعنى أن كل واحد منهى عنه وظاهر النهي التحريم، فلا يصرف عنه إلا بدليل، فلا يجوز أن يقيم أحدًا من مكانه ويجلس فيه؛ لأن من سبق إلى مباح فهو أحق به. وقيل: النهي للأدب إذ الذي يجب للعالم أن يليه أهل الفهم والنهى. واحتج الحامل على ظاهره بالحديث الذي أخرجه مسلم عن أبي هريرة رفعه: "إذا قام أحدكم من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به" قالوا: فلما كان أحق به بعد رجوعه ثبت أنه حقه قبل أن يقوم، ويتأيد ذلك بفعل ابن عمر الراوي للحديث وهو أعلم بالمراد منه فقد روى البخاري عنه في "الأدب المفرد" بلفظ: "وكان ابن عمر إذا قام له رجل من مجلسه لم يجلس فيه". وأخرجه البخاري في "الاستئذان". وأخرجه مسلم عن ابن عمر، وورد مرفوعًا عن ابن عمر أخرجه أبو داود عنه قال: "جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقام له رجلٌ من مجلسه، فذهب ليجلس فنهاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-". وله أيضًا: "عن سعيد بن أبي الحسن جاءنا أبو بكرة فقام له رجلٌ من مجلسه فأبى أنْ يجلس فيه وقال: إن النبي نهى عن هذا"، وأخرجه الحاكم وصححه من هذا الوجه لكن لفظه كلفظ ابن عمر الذي في "الصحيح" وهو: وكان ابن عمر يكره أن يقوم الرجل من مجلسه ثم يجلس مكانه، فكأن أبا بكرة حمل النهي على المعنى الأعم وأجاب من حمله على الأدب بأن الموضع في الأصل

ليس ملكه قبل الجلوس، ولا بعد المفارقة فدل على أن المراد بالحقية في حالة الجلوس الأولوية، فيكون من قام تاركًا له قد سقط حقه جملة، ومَنْ قام ليرجع يكون أولى. وقد سئل مالك عن حديث أبي هريرة فقال: ما سمعت به، وإنه لحسن إذا كانت أوبته قريبة وأن بعد فلا أرى ذلك له، ولكنه من محاسن الأخلاق. وقال القرطبي في "المفهم": هذا الحديث يدل على صحة القول بوجوب اختصاص الجالس بموضعه إلى أن يقوم منه، وما احتج به من حمله على الأدب لكونه ليس ملكًا له لا قبل ولا بعد ليس بحجة؛ لأنا نسلّم أنه غير مالك له لكن يختص به إلى أن يفرغ غرضه منه كأنه ملك منفعته، فلا يزاحمه غيره عليه. قال النووي: قال أصحابنا: هذا في حق مَنْ جلس في موضع من المسجد أو غيره لصلاة مثلًا، ثم فارقه ليعود إليه كإرادة الوضوء مثلًا أو لشغل يسير، ثم يعود لا يبطل اختصاصه به، وله أن يقيم مَنْ خالفه وقعد فيه وعلى القاعد أن يطيعه، واختلف هل يجب عليه؟ على وجهين أصحهما الوجوب. وقيل: يستحب، وهو مذهب مالك. قال أصحابنا: وإنما يكون أحق به في تلك الصلاة دون غيرها. وقال عياض: اختلف العلماء فيمن اعتاد موضعًا من المسجد للتدريس والفتوى، فحكى عن مالك أنه أحق به إذا عرف به قال: والذي عليه الجمهور أن هذا استحسان وليس بحق واجب، ولعله مراد مالك، وكذا قالوا في مقاعد الباعة من الأفنية والطرق التي هي غير متملكة. قالوا: مَنْ اعتاد الجلوس في شيء منها فهو أحق به حتى يتم غرضه. قال: وحكاه الماوردي عن مالك قطعًا للتنازع. قال القرطبي: الذي عليه الجمهور أنه غير واجب. وقال النووي: استثنى أصحابنا من عموم قوله: "لا يقيمن أحدكم الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه من ألف من المسجد موضعًا يفتي فيه أو يقرىء فيه قرآنًا أو علمًا فله أن يقيم مَنْ سبقه إلى القعود فيه". وفي معناه مَنْ سبق إلى موضع من الشوارع ومقاعد الأسواق لمعاملة ولو قام الجالس باختياره وأجلس غيره، فلا كراهة في جلوس غيره فيه، ولو بعث مَنْ يقعد له في مكان ليقوم عنه إذا جاء هو جاز أيضًا من غير كراهة، ولو فرش له نحو سجادة فلغيره تنحيتها والصلاة مكانها؛ لأن السبق بالأجسام لا بما يفرش، ولا يجوز له الجلوس عليها بغير رضاه نعم لا يرفعها بيده أو غيرها لئلا تدخل في ضمانه. قال النووي: وأما ما نسب إلى ابن عمر فهو ورع منه وليس قعوده فيه حرامًا إذا كان ذلك برضى الذي قام لكنه تورع منه لاحتمال أن يكون الذي قام لأجله استحيى منه، فقام عن غير طيب نفسه فسد الباب ليسلم من هذا أو رأى أن الإِيثار بالقرب مكروه أو خلاف الأولى، فكان يمتنع لأجل ذلك لئلا يرتكب أحد ذلك بسببه. قال علماؤنا: وإنما يحمد الإِيثار بحظوظ النفس وأُمر الدنيا. وقال ابن أبي جمرة: هذا اللفظ عام في المجالس، ولكنه مخصوص بالمجالس المباحة إما على العموم كالمساجد ومجالس الحكام والعلم، وإما على الخصوص كمن يدعو قومًا بأعيانهم

رجاله خمسة

إلى منزله لوليمة ونحوها، وإما المجالس التي ليس للشخص فيها ملك ولا إذن له فيها فإنه يقام ويخرج منها، ثم هو في المجالس العامة وليس عامًا في الناس بل هو خاص بغير المجانين. ومن يحصل منه الأذى كآكل الثوم التي إذا دخل المسجد والسفيه إذا دخل مجلس العلم أو الحكم. قال: والحكمة في هذا النهي منع استنقاص حق المسلم المؤدي للضغائن والحث على التواضع المقتضي للموادة، وأيضًا فالناس في المباح كلهم سواء فمن سبق إلى شيء استحقه، ومن استحق شيئًا فأخذ منه بغير حق فهو غصب، والغصب حرام، فعلى هذا قد يكون بعض ذلك على سبيل الكراهة، وبعضه على سبيل التحريم وفي رواية نافع في الاستئذان زيادة، ولكن تفسحوا وتوسعوا ومعنى الأول أن يتوسعوا فيما بينهم، ومعنى الثاني أن ينضم بعضهم إلى بعض حتى يفضل من الجمع مجلس للداخل. وقوله: "قلت لنافع: الجمعة؟ قال: الجمعةَ وغيرها" بالنصب في الثلاثة على نزع الخافض أي: في الجمعة وغيرها، ولأبي ذرٍّ بالرفع في الثلاثة على الابتداء وغيرها عطف عليه والخبر محذوف أي: الجمعة وغيرها متساويان في النهي عن التخطي في مواضع الصلوات. قال في "الفتح": كأن البخاري اغتنى عن حديث مسلم المار في الترجمة المصرح فيه بالجمعة بعموم حديث ابن عمر المذكور في الباب وبالعموم المذكور احتج نافع حين سأله ابن جريج عن الجمعة. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ محمد بن سلام في الثالث عشر من الإِيمان، ومرّ مخلد بن يزيد في المئة والعشرين من صفة الصلاة، ومرّ ابن جريج في الثالث من الحيض، ومرَّ نافع في الأخير من العلم، ومرّ ابن عمر في أول كتاب الإِيمان قبل ذكر حديث منه. لطائف إسناده: فيه التحديث والإخبار بالجمع وفيه السماع والقول. وشيخ البخاري من أفراده ورواته ما بين بخاري وحرانيَّ ومكيّ ومدنيّ أخرجه مسلم في الاستئذان ثم قال المصنف:

باب الأذان يوم الجمعة

باب الأذان يوم الجمعة أي متى يشرع. الحديث الخامس والثلاثون حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: كَانَ النِّدَاءُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوَّلُهُ إِذَا جَلَسَ الإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ رضي الله عنه وَكَثُرَ النَّاسُ زَادَ النِّدَاءَ الثَّالِثَ عَلَى الزَّوْرَاءِ. قوله: "عن السائب بن يزيد" في رواية عقيل عن الزهري أن السائب بن يزيد أخبره. وفي رواية يونس عنه سمعت السائب وسيأتيان بعد هذا، وقوله: "كان النداء يوم الجمعة" أي: الأذان في رواية أبي عامر عن ابن أبي ذيب عند ابن خزيمة كان ابتداء النداء الذي ذكره الله في القرآن يوم الجمعة، وله عن وكيع عن ابن أبي ذيب: "كان الأذان على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وعمر أذانين يوم الجمعة" يريد الأذان والإقامة تغليبًا أو لاشتراكهما في الإِعلام كما في الحديث السابق بين كل أذانين صلاة لمن شاء. وقوله: "أوله" بالرفع بدل من النداء. وقوله: "إذا جلس الإِمام على المنبر" في رواية أبي عامر المذكورة إذا خرج الإِمام وإذا أقيمت الصلاة، وكذا للبيهقي عن ابن أبي فديك عن ابن أبي ذيب وكذا في رواية الماجشون الآتية عن الزهري ولفظه: "وكان التأذين يوم الجمعة حين يجلس الإِمام على المنبر" وأخرجه الإِسماعيلي عن الماجشون بدون قوله يعني. وللنسائي من رواية سليمان التيمي عن الزهري: "كان بلال يؤذن إذا جلس النبي -صلى الله عليه وسلم- على المنبر فإذا نزل أقام" قال المهلب: الحكمة في جعل الأذان في هذا المحل ليعرف الناس جلوس الإِمام على المنبر فينصتون له إذا خطب وفيه نظر، فإن في سياق ابن إسحاق عند الطبراني وغيره عن الزهري في هذا الحديث: "أن بلالًا كان يؤذن على باب المسجد"، فالظاهر أنه كان لمطلق الإِعلام لا لخصوص الإنصات نعم، لما زيد الأذان الأول كان للإعلام وكان الذي بين يدي الخطيب للإِنصات. وقوله: "فلما كان عثمان" أي: خليفة. وقوله: "وكثر الناس" أي: بالمدينة صرّح به في رواية الماجشون وظاهره أن عثمان أمر بذلك في ابتداء خلافته لكن عند أبي نعيم في المستخرج أن ذلك كان بعد مضي مدة من خلافته وفي رواية وكيع عن ابن أبي ذيب فأمر عثمان بالأذان الأول ونحوه للشافعي من هذا الوجه ولا منافاة بينهما؛ لأنه باعتبار كونه جعل مقدمًا على الأذان والإقامة يسمى أولًا وباعتبار كونه مزيدًا يسمى ثالثًا، وكانت مشروعية عثمان له باجتهاده وموافقة سائر الصحابة له

بالسكوت وعدم الإِنكار، فصار إجماعًا سكوتيًا، ولفظ رواية عقيل الآتية بعد بابين أن التأذين بالثاني أمر به عثمان وتسميته ثانيًا أيضًا متجهة بالنظر إلى الأذان الحقيقي لا الإِقامة. وقوله: "على الزَوراء" أي: بفتح الزاي وسكون الواو بعدها راء ممدودة. وقوله: "قال أبو عبد الله" هو المصنف، وهذا في رواية أبي ذرٍّ وحده وما فسر به الزوراء هو المعتمد وجزم ابن بطال بأنه حجر كبير عند باب المسجد، وفيه نظر لما في رواية ابن إسحاق عن الزهري عند ابن خزيمة وابن ماجه بلفظ زاد النداء الشاك على دار في السوق يقال لها الزوراء. وفي رواية عند الطبراني: "فأمر بالنداء الأول على دار له يقال لها الزوراء فكان يؤذن له عليها فإذا جلس على المنبر أذن مؤذنه الأول فإذا نزل أقام الصلاة". وفي رواية من هذا الوجه أذن بالزوراء قبل خروجه ليعلم الناس أن الجمعة قد حضرت، وفي مسلم عن أنس "أن نبي الله وأصحابه كانوا بالزوراء، والزوراء بالمدينة عند السوق". زاد أبو عامر عن ابن أبي ذيب "فثبت ذلك حتى الساعة" وسيأتي قريبًا نحوه عن يونس بلفظ: "فثبت الأمر كذلك" والذي يظهر أن الناس أخذوا بفعل عثمان في جميع البلاد إذ ذاك لكونه خليفة مطاع الأمر، لكن ذكر الفاكهاني أن أول مَنْ أحدث الأذان الأول (بمكة) الحجاج و (بالبصرة) زياد قال في "الفتح": بلغني أن أهل (المغرب) الأدنى الآن لا تأذين عندهم سوى مرة. قلت: وهم إلى الآن كذلك، وروى ابن أبي شيبة عن ابن عمر قال: الأذان الأول يوم الجمعة بدعة فيحتمل أن يكون قال ذلك على سبيل الإنكار، ويحتمل أنه يريد أنه لم يكن في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- وكل ما لم يكن في زمنه يسمى بدعة، لكن منها ما يكون حسنًا ومنها ما يكون بخلاف ذلك، وتبيّن بما مضى أن عثمان أحدثه لإِعلام الناس بدخول وقت الصلاة قياسًا على بقية الصلوات فألحق الجمعة بها وأبقى خصوصيتها بالأذان بين يدي الخطيب، وفيه استنباط معنى من الأصل لا يبطله. وأما ما أحدث قبل وقت الجمعة من الدعاء إليها بالذكر والصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو في بعض البلاد دون بعض واتباع السلف الصالح أولى، وقد ورد ما يخالف حديث الباب من أن عمر هو الذي زاد الأذان، ففي تفسير جويبر عن مكحول عن معاذ أن عمر أمر مؤذنين أن يؤذنا خارج المسجد للناس الجمعة حتى يسمع الناس، وأمر أن يؤذن بين يديه كما كان في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر، ثم قال عمر نحن ابتدعناه لكثرة المسلمين وهذا منقطع بين مكحول ومعاذ، ولا يثبت. وقد تواردت الروايات بأن عثمان هو الذي زاد فهو المعتمد. وقد أخرج أيضًا عبد الرزاق عن ابن جريج. قال سليمان بن موسى: أول من زاد الأذان بالمدينة عثمان فقال عطاء: كلا إنما كان يدعو الناس دعاء ولا يؤذن غير أذان واحد وعطاء لم يدرك عثمان فرواية مَنْ أثبت ذلك عنه مقدمة على إنكاره، ويمكن الجمع بأن الذي ذكره عطاء هو الذي كان في زمن عمر واستمر على عهد عثمان ثم رأى أن يجعله أذانًا وأن يكون على مكان عالٍ، ففعل

رجاله أربعة

ذلك فنسب إليه لكونه بألفاظ الأذان، وترك ما كان فعله عمر؛ لكونه مجرد إعلام. وقد تواردت الشراح على أن معنى قوله الأذان الثالث أن الأولين: الأذان، والإقامة، لكن نقل الداودي أن الأذان أولًا كان في سفل المسجد، فلما كان عثمان جعل من يؤذن على الزوراء، فلما كان هشام بن عبد الملك جعل من يؤذن بين يديه فصاروا ثلاثة، فسمى فعل عثمان ثالثًا لذلك. وهذا الذي قاله مردود، وليس له فيه سلف وهو خلاف الظاهر فتسمية ما أمر به عثمان ثالثًا يستدعي سبق اثنين قبله، وهشام إنما كان بعد عثمان بثمانين سنة. واستدل البخاري بهذا الحديث أيضًا على الجلوس على المنبر قبل الخطبة خلافًا لبعض الحنفية، قاله في "الفتح" ورده العيني قائلًا: إن مذهبه هو ما ذكره صاحب "الهداية": وإذا صعد الإِمام على المنبر جلس وأذن المؤذنون بين يدي المنبر بذلك جرى التوارث واختلف في جلوس الإِمام على المنبر قبل الخطبة هل هو للأذان أو لراحة الخطيب، فعلى الأول يسن في العيد؛ لأنه لا أذان له، وعلى أن الأذان قبل الخطبة، وعلى أن الخطبة قبل الصلاة؛ لأن الأذان لا يكون إلا قبل الصلاة، وإذا كان يقع حين يجلس الإِمام على المنبر دلّ على سبق الخطبة للصلاة ودلّ على أن الذي يؤذن بين يدي الخطيب واحد. ونقله ابن عبد الحكم عن مالك، ونص عليه الشافعي، ويشهد له حديث السائب الآتي قريبًا "لم يكن لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- غير مؤذن واحد". وروى ابن القاسم عن مالك ما يدل على التعدد، وحكاه الطحاوي. وعن أبي حنيفة وأصحابه ويشهد له ما في حديث ثعلبة بن أبي مالك القرظي أنهم كانوا في زمن عمر بن الخطاب يصلّون يوم الجمعة حتى يخرج عمر -رضي الله عنه- ويجلس على المنبر ويؤذن المؤذنون. رجاله أربعة: وفيه ذكر أبي بكر وعمر وعثمان، وقد مرّ الجميع، ومرّ ابن أبي ذيب في الستين من العلم، ومرّ عثمان في تعليق بعد الخامس منه، ومرّ السائب في الخامس والخمسين من الوضوء وأبو بكر بعد الحادي والسبعين منه في باب (من لم يتوضأ من لحم الشاة). أخرجه البخاري في الجمعة أيضًا عن أبي نعيم وأبو داود في الصلاة، وكذا الترمِذِيّ والنَّسائيّ وابن ماجه. ثم قال المصنف:

باب المؤذن الواحد يوم الجمعة

باب المؤذن الواحد يوم الجمعة أشار بهذه الترجمة إلى الرد على ما ذكره ابن حبيب أنه كان -صلى الله عليه وسلم- إذا رَقِيَ المنبر وجلس أذّنَ المؤذنونَ وكانوا ثلاثةً واحدًا بعد واحد فإذا فرغ الثالث قام فخطب فإنه دعوى تحتاج لدليل ولم يَر ذلك صريحًا في طريق متصلة يثبت مثلها. قال في "الفتح" ثم وجدته في مختصر البويطي عن الشافعي. الحديث السادس والثلاثون حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّ الَّذِي زَادَ التَّأْذِينَ الثَّالِثَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ -رضي الله عنه- حِينَ كَثُرَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- مُؤَذِّنٌ غَيْرَ وَاحِدٍ، وَكَانَ التَّأْذِينُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حِينَ يَجْلِسُ الإِمَامُ، يَعْنِي عَلَى الْمِنْبَرِ. زاد في هذه الرواية عن التي قبلها "ولم يكن للنبي -صلى الله عليه وسلم- مؤذن غير واحد". ومثله للنسائي وأبي داود من رواية صالح بن كيسان، ولأبي داود وابن خزيمة من رواية ابن إسحاق كلاهما عن الزهري وهو ظاهر في إرادة نفي تأذين اثنين معًا، والمراد أن الذي كان يؤذن هو الذي كان يقيم، والمؤذن الراتب هو بلال وأما أبو مَحْذورة وسعد القرظ فكان كل منهما بمسجده الذي رتب فيه، فكان سعد القرظ مؤذنًا (بقباء)، وأبو مَحْذورة مؤذنًا (بمكة)، وأما ابن أم مكتوم فلم يرد أنه كان يؤذن إلا في الصبح، وأما الحارث الصدائي فإنه تعلم الأذان ليؤذن لقومه. رجاله أربعة: وفيه ذكر عثمان وقد مرّوا، مرّ ذكر محل الزهري والسائب وعثمان في الذي قبله، ومرّ أبو نعيم في الخامس والأربعين من الإيمان، ومرّ عبد العزيز الماجشون في الأربعين من العلم. ثم قال المصنف:

باب يجيب الإمام على المنبر إذا سمع النداء

باب يجيب الإمام على المنبر إذا سمع النداء في رواية كريمة يؤذن بدل يجيب، فكأنه سماه أذانًا لكونه بلفظه. الحديث السابع والثلاثون حَدَّثَنَا ابْنُ مُقَاتِلٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى الْمِنْبَرِ، أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ. قَالَ مُعَاوِيَةُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ. قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: وَأَنَا. فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: وَأَنَا. فَلَمَّا أَنْ قَضَى التَّأْذِينَ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى هَذَا الْمَجْلِسِ حِينَ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ يَقُولُ مَا سَمِعْتُمْ مِنِّي مِنْ مَقَالَتِي. قوله: "عن أبي أُمامة" في رواية الإسماعيلي: "سمعت أبا أمامة". وقوله: "وأنا" أي: أشهد أو أقوله مثله. وقوله: "فلما أن قضى" أي: فرغ و (أن) زائدة، سقطت في رواية الأصيلي. وللكشميهني "فلما أن انقضى" أي: انتهى. وفي هذا الحديث من الفوائد: تعلم العلم وتعليمه من الإِمام وهو على المنبر، وأن الخطيب يجيب المؤذن وهو على المنبر، وأن قول المجيب وأنا كذلك ونحوه يكفي في إجابة المؤذن، وفيه إباحة الكلام قبل الشروع في الخطبة، وأن التكبير في أول الأذان غير مرجع. قال في "الفتح": وفيها نظر، ولم أفهم وجه النظر فإن أخذهما من الحديث ظاهر، وفيه الجلوس قبل الخطبة وقد مرّت مباحثه في الأذان في باب (ما يقول إذا سمع المنادي). رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ محمد بن مقاتل في السادس من العلم، ومرَّ معاوية في الثالث عشر منه، ومرّ عبد الله بن المبارك في السادس من بدء الوحي، ومرّ أبو بكر بن عثمان في السادس والعشرين من كتاب مواقيت الصلاة، ومرّ أبو أُمامة في السادس عشر من الإيمان. لطائف إسناده: فيه التحديث والإخبار بالجمع والعنعنة والسماع والقول، ورواته ما بين مروزي ومدني. أخرجه البخاري فيما مضى في المواقيت، وتكلمنا عليه هناك. وأخرجه النسائي في الصلاة وفي اليوم والليلة. ثم قال المصنف:

باب الجلوس على المنبر عند التأذين

باب الجلوس على المنبر عند التأذين أشار الزين بن المنير إلى أن مناسبة هذه الترجمة الإشارة إلى خلاف من قال الجلوس على المنبر عند التأذين غير مشروع، وهو عن بعض الكوفيين. وقد مرَّ في باب (الأذان يوم الجمعة). رد العيني على مَنْ عزاه لأبي حنيفة وهو سنة عند الجمهور، والحكمة فيه سكون اللغط والتهيؤ للإنصات والاستنصات لسماع الخطبة وإحضار الذهن للذكر. الحديث الثامن والثلاثون حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ أَخْبَرَهُ أَنَّ التَّأْذِينَ الثَّانِيَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَمَرَ بِهِ عُثْمَانُ حِينَ كَثُرَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ التَّأْذِينُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حِينَ يَجْلِسُ الإِمَامُ. وهذه رواية من حديث السائب، وقد مرّت مباحثه عند الرواية الأولى. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّت الأربعة الأول في الثالث من بدء الوحي بهذا النسق، ومرَّ السائب في الخامس والخمسين من الوضوء. ثم قال المصنف:

باب التأذين عند الخطبة

باب التأذين عند الخطبة أي عند إرادتها. الحديث التاسع والثلاثون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ يَقُولُ: إِنَّ الأَذَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ كَانَ أَوَّلُهُ حِينَ يَجْلِسُ الإِمَامُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ -رضي الله عنهما- فَلَمَّا كَانَ فِي خِلاَفَةِ عُثْمَانَ رضي الله عنه وَكَثُرُوا، أَمَرَ عُثْمَانُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِالأَذَانِ الثَّالِثِ، فَأُذِّنَ بِهِ عَلَى الزَّوْرَاءِ، فَثَبَتَ الأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ. هذه رواية قريبة من الرواية الأولى وقد مرّت مباحثه عند الرواية الأولى. رجاله خمسة: وفيه ذكر أبي بكر وعمر وعثمان، وقد مرَّ ذكر محل أكثرهم في الثالث والثلاثين قبله، ومرّ محمد بن مقاتل في السادس من العلم، وابن المبارك في السادس من بدء الوحي، ويونس في متابعة بعد الرابع منه. ثم قال المصنف:

باب الخطبة على المنبر

باب الخطبة على المنبر أي: مشروعيتها، ولم يقيدها بالجمعة ليتناولها ويتناول غيرها، ثم قال: وقال أنس خطب النبي -صلى الله عليه وسلم- على المِنْبَر، وهذا التعليق طرف من حديث مطول وصله البخاري في الاعتصام وفي الفتن وفي الاستسقاء في قصة الذي قال: "هلك المال"، ويأتي الكلام عليه ثم، وأنس مرّ في السادس من الإيمان. الحديث الأربعون حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيُّ الْقُرَشِيُّ الإِسْكَنْدَرَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمِ بْنُ دِينَارٍ أَنَّ رِجَالاً أَتَوْا سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ، وَقَدِ امْتَرَوْا فِي الْمِنْبَرِ مِمَّ عُودُهُ فَسَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لأَعْرِفُ مِمَّا هُوَ، وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ أَوَّلَ يَوْمٍ وُضِعَ، وَأَوَّلَ يَوْمٍ جَلَسَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى فُلاَنَةَ امْرَأَةٍ قَدْ سَمَّاهَا سَهْلٌ مُرِي غُلاَمَكِ النَّجَّارَ أَنْ يَعْمَلَ لِي أَعْوَادًا أَجْلِسُ عَلَيْهِنَّ إِذَا كَلَّمْتُ النَّاسَ. فَأَمَرَتْهُ فَعَمِلَهَا مِنْ طَرْفَاءِ الْغَابَةِ ثُمَّ جَاءَ بِهَا، فَأَرْسَلَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَمَرَ بِهَا فَوُضِعَتْ هَاهُنَا، ثُمَّ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- صَلَّى عَلَيْهَا، وَكَبَّرَ وَهْوَ عَلَيْهَا، ثُمَّ رَكَعَ وَهْوَ عَلَيْهَا، ثُمَّ نَزَلَ الْقَهْقَرَي فَسَجَدَ فِي أَصْلِ الْمِنْبَرِ ثُمَّ عَادَ، فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا صَنَعْتُ هَذَا لِتَأْتَمُّوا وَلِتَعَلَّمُوا صَلاَتِي. قوله: "قد امتروا" من المماراة وهي المجادلة، وقيل: من الامتراء وهو الشك ويؤيد الأول قوله في رواية عبد العزيز بن أبي حازم عند مسلم أن تماروا فإن معناه تجادلوا. قال الراغب: الامتراء والمماراة المجادلة ومنه {فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ} إلا مراء ظاهرًا" وقال أيضًا: المرية التردد في الشيء، ومنه فلا تكُ في مرية من لقائه. وقوله: "والله إني لأعرف مما هو" فيه القسم على الشيء لإرادة تأكيده للسامع. وفي قوله: "ولقد رأيته أول يوم وضع وأول يوم جلس عليه" زيادة على السؤال لكن فائدته إعلامهم بقوة معرفته بما سألوه عنه. وقد مرّ في باب (الصلاة في السطوح والمنبر) أن سهلًا قال: ما بقي أحدٌ أعلم به مني.

وقوله: "أرسل" إلى آخره هو شرح الجواب. وقوله: "إلى فلانة امرأة من الأنصار" في رواية أبي غسان كما سيأتي في الهبة امرأة من المهاجرين، وهو وَهْم من أبي غسان لإطباق أصحاب أبي حازم على قولهم من الأنصار، وكذا قال أيمن عن جابر كما سيأتي في "علامات النبوءة". وقد مرّ الكلام على اسمها في الباب المذكور آنفًا. وقوله: "مُري غلامَكَ النجار" قد مرَّ في الباب المذكور ما في اسمه من الخلاف. وقوله: "فعملها من طرفاء الغابة" في رواية سفيان عن أبي حازم كما مرَّ في الباب المذكور من "أثل الغاب" ولا مغايرة بينهما فإن الأثل هو الطرفاء، وقيل: يشبه الطرفاء وهو أعظم منه والغابة بالمعجمة وتخفيف الموحدة موضع من عوالي المدينة من جهة الشام، وهي اسم قرية بالبحرين أيضًا، وأصلها كلها شجر ملتف. وقوله: "فأرسلت" أي: المرأة تعلم بأنه فرغ. وقوله: "فأمر بها فوضعت" أنث لإرادة الدرجات والأعواد ففي رواية مسلم عن عبد العزيز بن أبي حازم فعمل له هذه الدرجات الثلاث. وقوله: "ثم رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلّى عليها" أي: على الأعواد، وكانت صلاته على الدرجة العليا من المنبر. وقوله: "وكبِّر وهو عليها ثم ركع وهو عليها ثم نزل القهقرى" لم يذكر في هذه الرواية القراءة بعد التكبيرة ولا القيام بعد الركوع. وقد تبيّن ذلك في رواية سفيان عن أبي حازم الماضية في الباب المذكور. ولفظه: "كبّر فقرأ وركع ثم رفع رأسه ثم رجع القهقرى". والقهقرى بالقصر المشي إلى خلف والحامل عليه المحافظة على استقبال القبلة. وعند الطبراني عن هشام بن سعد عن أبي حازم: "فخطب الناس عليه ثم أقيمت الصلاة فكبّر وهو على المنبر" فأفادت هذه الرواية تقدم الخطبة على الصلاة. وقوله: "في أصل المنبر" أي: على الأرض إلى جنب الدرجة السفلى منه. وقوله: "ثم عاد" زاد مسلم من رواية عبد العزيز: "حتى فرغ من صلاته". وقوله: "ولتعلَّموا" بكسر اللام وفتح المثناة وتشديد اللام أي: لتتعلموا، وعرف منه أن الحكمة في صلاته في أعلى المنبر ليراه مَنْ قد تخفى عليه رؤيته إذا صلّى على الأرض. ويستفاد منه أن مَنْ فعل شيئًا يخالف العادة يبين حكمته لأصحابه، وفيه مشروعية الخطبة على المنبر لكل خطيب خليفة كان أو غيره، وفيه جواز قصد تعليم المأمومين أفعال الصلاة بالفعل، وجواز العمل اليسير في الصلاة، وكذا الكثير أن تفرق. وقد مرّ البحث فيه عند حديث أُمامة في باب: (إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة). وفيه جواز ارتفاع الإمام في باب (الصلاة في السطوح) وفيه استحباب اتخاذ المنبر؛ لكونه أبلغ في مشاهدة الخطيب والسماع منه، واستحباب لافتتاح بالصلاة في كل شيء جديد إما شكرًا وإما تبركًا.

رجاله أربعة

وقال ابن بطال: إن كان الخطيب هو الخليفة فسنته أن يخطب على المنبر وإن كان غيره يخير بين أن يقوم على المنبر وعلى الأرض، وتعقبه الزين بن المنير بأن هذا خارج عن مقصود الترجمة؛ ولأنه إخبار عن شيء أحدثه بعض الخلفاء فإن كان من الخلفاء الراشدين فهو سنة، وإن كان من غيرهم فهو بالبدعة أشبه منه بالسنة. قال في "الفتح": ولعل هذا هو حكمة هذه الترجمة أشار بها إلى أن هذا التفضيل غير مستحب، ولعل مراد مَنْ استحبه أن الأصل أن لا يرتفع الإمام على المأمومين ولا يلزم من مشروعية ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- ثم لمن وليَ الخلافة أن يشرع لمن جاء بعدهم، وحجة الجمهور وجود الاشتراك في وعظ السامعين وتعليمهم بعض أمور الدين. وهذا الحديث قد مرَّ كثير من مباحثه في باب (الصلاة في السطوح والمنبر). رجاله أربعة: قد مرّوا إلا يعقوب، وفيه ذكر رجال وفلانة امرأة من انصار وغلامك. مرّ قتيبة في الحادي والعشرين من الإيمان، ومرّ أبو حازم وسهل بن سعد في الثامن والمئة من الوضوء وأما يعقوب فهو ابن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبدٍ القاري القرشي الإسكندراني ذكره ابن حِبّان في "الثقات"، وقال أحمد وابن معين: ثقة روى عن أبيه وزيد بن أسلم وأبي حازم وسهل بن أبي صالح، وروى عنه ابن وهب وقتيبه بن سعيد ويحيى بن بكير ويحيى بن يحيى وغيرهم. مات سنة إحدى وثمانين ومئة. والقاري في نسبه نسبة إلى (القارة) قبيلة وهم عضل والديش ابنا الهون بن خزيمة بن كنانة سموا قارة لاجتماعهم والتفاتهم لما أراد ابن الشداخ أن يفرقهم في بني كنانة وقريش، قال الشاعر: دعونا قارةً لا تذعرونا ... فنجفلَ مثلَ إجفالِ الظليمِ وهم رماة الحدق في الجاهلية، وهم اليوم في اليمن ينسبون إلى أسد، والنسبة إليهم قاري وفي المثل أنصف القارة من راماها زعموا أن رجلين التقيا أحدهما قاري والآخر أسدي فقال القاري: إن شئت صارعتك وإن شئت سابقتك وإن شئت راميتك. فقال: اخترت المراماة فقال القاري: انصفتني وأنشد: قد أنصفَ القارةَ من راماها ... إنّا إذا ما فئةٌ نلقاها نرد أولاها على أُخراها ثم انتزع له سهمًا وشك فؤاده قال السهيلي: فمعنى المثل أن لا تنفد حجارتنا إذا رمي بها فمن راماها فقد أنصف منهم يعقوب هذا وأخواه إبراهيم ومحمد ابنا عبد الرحمن، ومنهم عبد الرحمن بن عبد القاري سمع عمر وابن أخيه إبراهيم بن عبد الله سمع علياً وإياس بن عبد حليف بني زهرة شهد فتح مصر وعبد الله بن خشيم القاري حدث هو وجده.

لطائف إسناده

وقد مرّ في التاسع والعشرين من الصلاة الخلاف في اسم الغلام النجار واسم المرأة مولاته. والرجال السائلون قال ابن حجر: لم أقف على أسمائهم. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والقول، وشيخ البخاري بلخي وما عدا ذلك مدني أخرجه مسلم وأبو داود والنَّسائي. الحديث الحادي والأربعون حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَنَسٍ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانَ جِذْعٌ يَقُومُ إِلَيْهِ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَلَمَّا وُضِعَ لَهُ الْمِنْبَرُ سَمِعْنَا لِلْجِذْعِ مِثْلَ أَصْوَاتِ الْعِشَارِ حَتَّى نَزَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ. قوله: "أخبرني ابن أنس" هو حفص بن عبيد الله بن أنس كما يأتي في الرواية المعلقة ونسب في هذه إلى جده. قال أبو مسعود الدمشقي في "الأطراف": إنما أبهم البخاري حفصًا؛ لأن محمد بن جعفر بن أبي كثير يقول: عبيد الله بن حفص فيقلبه كذا رواه أبو نعيم في "المستخرج" عن ابن أبي مريم شيخ البخاري، لكن أخرجه الإسماعيلي عن ابن أبي مريم فقال عن حفص بن عبيد الله على الصواب، وأخرجه الإسماعيلي عن عبد الله بن يعقوب بن إسحاق عن يحيى بن سعيد مقلوبًا. وقال: الصواب فيه حفص بن عبيد الله وفي "تاريخ البخاري" حفص بن عبيد الله بن أنس، ولا يصح عبيد الله بن حفص. وقوله: "أصوات العِشار" بكسر المهملة بعدها معجمة، قال الجوهري: العِشار جمع عُشراء بضم ففتح وهي الناقة الحامل التي مضت لها عشرة أشهر، ولا يزال ذلك اسمها إلى أن تلد. وقال الخطابي: العِشار الحوامل من الإبل التي قاربت الولادة، ويقال: اللواتي أتى على حملهن عشرة أشهر، يقال: ناقة عشراء ونوق عُشار على غير قياس. ونقل ابن التين أنه ليس في الكلام (فعلاء) على (فعال) غير عشراء ونُفَساء وتجمع على عشراوات ونفساوات. وفي رواية عبد الواحد بن أيمن في "علامات النبوءة": "فصاحت النخلة صياح الصبي". وفي حديث الزبير عن جابر عند النسائي في الكبير اضطربت تلك السارية كحنين الناقة الخلوج والخلوج كصبور الناقة التي انتزع منها ولدها. وفي حديث أنس عند ابن خزيمة "فحنت الخشبة حنين الوالد". وفي رواية الأخرى عند الدارمي: "خار ذلك الجذع كخوار الثور". وفي حديث أُبي بن كعب عند أحمد والدارمي وابن

رجاله خمسة

ماجه: "فلما جاوزه خار الجذع حتى تصدع وانشق". وفي حديثه فأخذ أُبيّ بن كعب: "ذلك الجذع لما هدم المسجد، فلم يزل عنده حتى بلي وصار رفاتًا"، وهذا لا ينافي ما في حديث أنس عند أبي عوانة وابن خزيمة، ثم أمر به فدفن. وفي حديث أبي سعيد عند الدارمي: "فأمر به أن يحفر له ويدفن" لاحتمال أن يكون ظهر بعد الهدم عند التنظيف، فأخذه أُبي بن كعب وعند الدارمي عن بريدة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: "اختر أن أغرسك في المكان الذي كنت فيه فتكون كما كنت قبل أن تصير جذعًا، وإن شئت أن أغرسك في الجنة فتشرب من أنهارها فيحسن نبتك وتثمر فيأكل منك أولياء الله، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- اختار أن أغرسه في الجنة". وقوله: "فوضع يده عليه". وفي "علامات النبوءة": "فأتاه فمسح يده عليه. وفي رواية الإِسماعيلي: "فأتاه فاحتضنه فسكن فقال: لو لم أفعل لما سكن"، ونحوه عند الدارمي عن ابن عباس بلفظ: "لو لم أحتضنه لحن إلى يوم القيامة". ولأبي عوانة وابن خزيمة وأبي نعيم عن أنس: "والذي نفسي بيده لو لم ألتزمه لما زال هكذا إلى يوم القيامة حزنًا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم أمر به فدفن". وأصله في الترمِذِيّ دون الزيادة، وعند أبي نعيم عن سهل بن سعد: "فقال: ألا تعجبون من حنين هذه الخشبة، فأقبل الناس عليها فسمعوا من حنيها حتى كثر بكاؤهم"، ووقع في حديث الحسن عن أنس: كان الحسن إذا حدّث بهذا الحديث يقول: يا معشر المسلمين الخشبة تحن إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شوقًا إلى لقائه فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه. قال البيهقي: قصة حنين الجذع من الأُمور الظاهرة التي حملها الخلف عن السلف، ورواية الأخبار الخاصة فيها كالتكلف، وفي الحديث دلالة على أن الجمادات قد يخلق الله لها إدراكًا كالحيوان بل كأشرف الحيوان، وفيه تأييد لقول مَنْ يحمل: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} على ظاهره. وقد نقل ابن أبي حاتم في "مناقب الشافعي" عنه أنه قال: ما أعطى الله تعالى نبيًا ما أعطى محمدًا، فقال له عمرو بن سواد: أعطى عيسى إحياء الموتى قال له: أعطى محمدًا حنين الجذع حخى سمع صوته فهذا أكبر من ذلك. رجاله خمسة: قد مرّوا إلا ابن أنس، مرَّ سعيد بن أبي مريم في الرابع والأربعين من العلم، ومرَّ محمد بن جعفر في التاسع من الحيض، ومرّ يحيى بن سعيد في الأول من بدء الوحي، ومرّ جابر في الرابع من بدء الوحي، وأما ابن أنس فهو حفص بن عبيد الله بن أنس بن مالك، ذكره ابن حِبّان في "الثقات" وقال أبو حاتم: هو أحب إليَّ من حفص بن عمر، ولا ندري أسمع من جابر وأبي هريرة أم لا. روى عن جده وجابر وابن عمر وأبي هريرة وقال أبو حاتم: لا يثبت له السماع إلا من جده، وروى عنه يحيى بن سعيد ويحيى بن كثير وأُسامة بن زيد الليثي وغيرهم. ومَنْ قال إنه عبيد الله بن

لطائف إسناده

حفص فقد غلط. وليس له في "البخاري" إلا هذا الحديث كما قاله الحميدي في جمعه. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإخبار بالإفراد والقول والسماع، رواته ما بين مصري ومدني وبصري. ثم قال: وقال سليمان عن يحيى: أخبرني حفص بن عبيد الله بن أنس أنه سمع جابر بن عبد الله وسليمان هو ابن بلال، وزعم بعضهم أنه سليمان بن كثير؛ لأنه رواه عن يحيى بن سعيد لكن فيه نظر؛ لأن سليمان بن كثير قال فيه عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن جابر كذلك أخرجه الدارمي، فإن كان محفوظًا فليحيى بن سعيد فيه شيخان. وصله البخاري في علامات النبوءة بهذا الإسناد. ورجاله أربعة: مرَّ ذكر محل جابر ويحيى بن سعيد وتعريف حفص في الذي قبله وسليمان الصحيح أن المراد به سليمان بن بلال، وقد مرَّ في الثاني من الإيمان. وقيل: المراد به سليمان بن كثير العبدي أبو داود، ويقال: أبو محمد البصري. قال النسائي: لا بأس به إلا في الزهري فإنه يخطىء عليه. وقال ابن معين: ضعيف، وقال الذهلي والعقيلي: مضطرب الحديث عن الزهري، وفي غيره أثبت. وقال ابن عدي: لم أسمع أحدًا قال شيئًا في روايته عن غير الزهري، وله عن الزهري أحاديث صالحة ولا بأس به. قال في "المقدمة": روى له البخاري من حديث عن حصين وعلّق له عن الزهري متابعة. وروى له مسلم والباقون. روى عن حصين بن عبد الرحمن وحميد الطويل والزهري وعمرو بن دينار ويحيى بن سعيد وغيرهم. وروى عنه أخوه محمد بن كثير وعبد الرحمن بن مهدي وأبو الوليد الطيالسي وغيرهم. مات سنة ثلاث وثلاثين ومئة. الحديث الثاني والأربعون حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: مَنْ جَاءَ إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ. قوله: "يخطب على المنبر" هذا القدر هو المقصود إيراده في هذا الباب. وقد مرّ الكلام على المتن في باب (فضل الغُسل يوم الجُمُعة) ويستفاد منه أن للخطيب تعليم الأحكام على المنبر. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ آدم في الثالث من الإيمان، ومرّ سالم بن عبد الله في السابع عشر منه، ومرّ أبوه عبد الله في أوله قبل ذكر حديث منه، ومرَّ ابن أبي ذيب في الستين من العلم، ومرَّ الزهري في الثالث من بدء الوحي. ثم قال المصنف:

باب الخطبة قائما

باب الخطبة قائمًا يأتي الكلام عليه مستوفى عند الحديث ثم قال: وقال أنس: بينا النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب قائمًا، هذا طرف من حديث أنس الآتي في الاستسقاء، وأنس مرّ في السادس من الإيمان. الحديث الثالث والأربعون حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَخْطُبُ قَائِمًا ثُمَّ يَقْعُدُ ثُمَّ يَقُومُ، كَمَا تَفْعَلُونَ الآنَ. قوله: "يخطب" زاد أحمد والبزار في روايتهما "يوم الجمعة". وقوله: "قائمًا" حال، وللنسائي والدارقطني من هذا الوجه: "كان يخطب خطبتين قائمًا يفصل بينهما بجلوس"، وغفل "صاحب العمدة" فعزا هذا اللفظ "للصحيحين". ورواه أبو داود بلفظ: "كان يخطب خطبتين كان يجلس إذا صعد المنبر حتى يؤذن المؤذن ثم يقوم فيخطب ثم يجلس فلا يتكلم ثم يقوم فيخطب". واستدل علماء الأمصار بقوله: "قائمًا" على مشروعية القيام في الخطبة وهومن شروطها التسعة عند الشافعية وعند المالكية فيه قولان: بالوجوب، والسنية. قال القاضي عياض: المذهب وجوبه من غير اشتراط. وقال القاضي عبد الوهاب: السنة القيام فإن خطب جالسًا أساء وصحت والظاهر أنه أراد الكراهة، وأن المتبادر الحرمة، وظاهر عبارة المازري أنه شرط. ومذهب أبي حنيفة أن القيام في الخطبة سنة وليس بواجب، وعند أحمد روايتان: بالشرطية كالشافعي، وبالسنية كأبي حنيفة. واحتجت الشافعية بما أخرجه مسلم عن جابر بن سمرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "كان يخطب قائمًا ثم يجلس ثم يقوم فيخطب قائمًا فمن نبأك أنه كان يخطب جالسًا فقد كذب". وبما أخرجه مسلم أيضًا عن كعب بن عجرة أنه دخل المسجد وعبد الرحمن بن أبي الحكم يخطب قاعدًا فأنكر عليه وتلا: {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا}. وفي رواية ابن خزيمة: "ما رأيت كاليوم قط إمامًا يؤم المسلمين يخطب وهو جالس" يقول ذلك مرتين. وأخرج ابن أبي شيبة عن طاووس: "خطب النبي -صلى الله عليه وسلم- قائمًا وأبو بكر وعمر وعثمان وأوّل مَنْ جلس على المنبر معاوية". وأخرج ابن أبي شيبة عن الشعبي أن معاوية إنما خطب جالسًا لما كثر شحم بطنه ولحمه. وأخرج نحوه عند طاووس ويعضد المرسلين ما روى سعيد بن منصور عن الحسن قال: أول مَنْ استراح في الخطبة يوم الجمعة عثمان، وكان إذا أعيى جلس ولم يتكلم حتى يقوم، وأول مَنْ خطب جالسًا معاوية. وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر

رجاله خمسة

وعمر وعثمان كانوا يخطبون يوم الجمعة قيامًا حتى شق على عثمان القيام فكان يخطب قائمًا ثم يجلس، فلما كان معاوية خطب الأولى جالساً والأخرى قائمًا، واحتجوا أيضًا بمواظبته -صلى الله عليه وسلم- على القيام. وحديث جابر بن سمرة المتقدم أصرح في المواظبة من حديث الباب إلا أن إسناده ليس على شرط البخاري، واحتجوا بمشروعية الجلوس بين الخطبتين قالوا: فلو كان القعود مشروعًا في الخطبتين ما احتاج إلى الفصل بالجلوس؛ ولأن الذي نقل عنه الجلوس كان معذورًا كما مرّ قريبًا، نعم تصح خطبة العاجز عنه قاعدًا ثم مضطجعًا كالصلاة، ويجوز الاقتداء بمن خطب من غير قيامٍ سواء قال: لا أستطيع أم سكت؛ لأن الظاهر أنه إنما قعد أو اضطجع لعجزه فإن ظهر أنه كان قادرًا فكإمام ظهر أنه كان جنبًا، وأجاب من لم يشترط القيام عن آية: {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} بأنه إخبار عن حالته التي كان عليها عند انفضاضهم، وبأن حديث الباب لا دلالة فيه على الاشتراط، وبأن إنكار كعب على عبد الرحمن إنما كان لتركه السنة ولو كان شرطًا لما صلوا معه مع تركه له. وأجيب بأنه صلى معه مع تركه القيام الذي هو شرط خوف الفتنة، أو أن الذي قعد إن لم يكن معذورًا فقد يكون قعوده نشأ عن اجتهاد منه كما قالوه في إتمام عثمان الصلاة في السفر وقد أنكر ذلك ابن مسعود ثم أنه صلّى خلفه فأتم معه واعتذر بأن الخلاف شر، وعن مواظبته بأنه عليه الصلاة والسلام كان يواظب على الشيء الفاضل مع جواز غيره، ونحن نقول به. واستدل من لم يشترط بحديث أبي سعيد الآتي قريبًا: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جلس ذات يوم على المنبر وجلسنا حوله" وبحديث سهل الماضي قبل "مُري غلَامَك يعمل لي أعوادًا أجلس عليها". وأجيب عن الأول بأنه كان في غير خطبة الجمعة، وعن الثاني باحتمال أن تكون الإشارة إلى الجلوس أول ما يصعد وبين الخطبتين ويأتي بعد بابين الكلام على القعدة بين الخطبتين. رجاله خمسة: قد مرّوا إلا عبيد الله القواريري، مرَّ خالد بن الحارث في تعليق بعد الثاني من أحاديث استقبال القبلة، ومرّ عبيد الله العمري في الرابع عشر من الوضوء، ومرّ نافع في الأخير من العلم، ومرَّ محل عبد الله الآن والباقي عبيد الله بن عمر بن ميسرة الجشمي مولاهم القواريري أبو سعيد البصري نزيل بغداد. قال ابن سعد: ثقة كثير الحديث. وقال أبو حاتم: صدوق. وقال أحمد بن سيار: لم أرَ في جميع مَنْ رأيت مثل مسدد بالبصرة والقواريري ببغداد وصدقة بمرو. قال أحمد بن يحيى ثعلب: سمعت من عبيد الله القواريري مئة ألف حديث. وقال ابن معين والعجلي والنَّسائيّ ومسلمة: ثقة. وقال صاحب جزرة: ثقة صدوق أوثق من الزهراني وأشهر وأعلم بحديث البصرة. وذكره ابن حِبّان في "الثقات" قال في "الزهرة": روى عنه البخاري خمسة، ومسلم أربعين. روى عن حماد بن زيد وعبد الوارث بن سعيد وابن عُيينة وخالد بن الحارث وغيرهم. وروى عنه

لطائف إسناده

البخاري ومسلم وأبو داود وروى عنه بواسطة وأبو حاتم وأبو زُرْعة وغيرهم. مات في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين ومئتين. والقواريري في نسبه نسبة لمن يعمل القوارير أو يبيعها، والقارورة ما قرّ فيه الشراب ونحوه أو يخص بالزجاج. وقوله تعالى: {قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ} قال بعض أهل العلم: أي من زجاج في بياض الفضة وصفاء القوارير. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول والنصف الأول من رواته بصري، والنصف الآخر مدني أخرجه مسلم والترمِذِي في الصلاة. ثم قال المصنف:

باب استقبال الناس الإمام إذا خطب

باب استقبال الناس الإِمام إذا خطب في رواية كريمة باب يستقبل الإمام القوم واستقبال الناس الإِمام إذا خطب ولم يبت الحكم قال في "الفتح": هو مستحب عند الجمهور وفي وجه يجب جزم به أبو الطيب الطبري من الشافعية. قلت: مشهور مذهب مالك أنه يجب على الناس استقبال الإِمام بوجوههم على أهل الصف الأول وغيرهم ممن يسمعه ومَنْ لا يسمعه ومَنْ يراه ومَنْ لا يراه. وقيل: إن استقباله سنة، وقيل: إن أهل الصف الأول يستقبلون جهته وغيرهم يستقبل ذاته وعلى هذا درج خليل في مختصره، ومن لازم الاستقبال استدبار الإمام القبلة واغتفر ذلك؛ لئلا يصير مستدبر القوم الذين يعظهم، وهو قبيح خارج عن عُرف المخاطبات. ومن حكمة استقبالهم للإمام التهيؤ لسماع كلامه أو سلوك الأدب معه في استماع كلامه فإذا استقبله بوجهه وأقبل عليه بجسده وقلبه وحضور ذهنه كان أدعى لتفهيم موعظته وموافقته فيما شرع له القيام لأجله. ولو خالف الخطيب فاستدبرهم واستقبل القبلة كره وصحت خطبته. وحكى الشاشي وجهًا شاذًا أنها لا تصح. واستنبط الماوردي وغيره من الحديث أن الخطيب لا يلتفت يمينًا وشمالًا حالة الخطبة. وفي "شرح المهذب" اتفق العلماء على كراهة ذلك، وهو معدود في البدع المنكرة خلافًا لأبي حنيفة فإنه قال: يلتفت يمنة ويسرة كالأذان. قال العيني في هذا النقل عن أبي حنيفة نظر ولا يصح ذلك منه. قال: ومن السنة عندنا أن يترك الخطيب السلام والكلام من وقت خروجه إلى دخوله في الصلاة، وبه قال مالك وليس كما قال، بل مذهب مالك أنه يندب حين خروجه على الناس ويكره تأخيره إلى انتهاء صعوده على المنبر. وقال الشافعي وأحمد: السنة إذا صعد المنبر أن يسلم على القوم إذا استقبلهم بوجهه، كذا روي عن ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهذا الحديث أورده ابن عدي، وضعفه وكذا ضعفه ابن حِبّان، وروى ابن أبي شيبة عن الشعبي قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا صعدَ المنبَر يومَ الجمعةِ استقبلَ الناسَ فقال: السلامُ عليكم" الحديث، وهذا مرسل لا يحتج به عندهم. وقال عبد الحق في "الأحكام": هو مرسل وإن أسنده أحمد عن عبد الله بن لَهِيعة، فهو معروف في الضعفاء فلا يحتج به وقال البيهقي: الحديث ليس بالقوي. ثم قال: واستقبل ابن عمر وأنس الإِمام مطابقته للترجمة ظاهرة أما أثر ابن عمر فرواه البيهقي عن نافع "أن ابن عمر كان يفرغ من سبحته يوم الجمعة قبل خروج الإمام فإذا خرج لم يقعد الإِمام حتى يستقبله". وأما أثر أنس فأخرجه

الحديث الرابع والأربعون

ابن أبي شيبة عن المستمر بن ريان قال: "رأيت أنسًا إذا أخذ الإمام يوم الجمعة يستقبله بوجهه حتى يفرغ الإمام من خطبته". ورواه ابن المنذر من وجه آخر "عن أنس أنه جاء يوم الجمعة فاستند إلى الحائط واستقبل الإمام" قال ابن المنذر: ولا أعلم في ذلك خلافًا عن العلماء. وحكى غيره عن سعيد بن المسيب: "أنه كان لا يستقبل هشام بن إسماعيل إذا خطب، فوكل به شرطيًا يعطفه إليه" وفي "المغني" روى الحسن: "أنه استقبل القبلة ولم ينحرف إلى الإمام". وفي "المبسوط": كان أبو حنيفة إذا فرغ المؤذن من أذانه أدار وجهه إلى الإمام". قال الترمذيِّ: العمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وغيرهم يستحبون استقبال الإمام إذا خطب، ولا يصح في الباب عن النبي -صلى الله عليه وسلم- شيء. وابن عمر مرّ في أول كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه، ومرّ أنس في السادس منه. الحديث الرابع والأربعون حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ هِلاَلِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- جَلَسَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى الْمِنْبَرِ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ. وجه الدلالة منه أن جلوسهم حوله لسماع كلامه يقتضي نظرهم إليه غالبًا، وإذا كان هذا في غير حال الخطبة كما مرّ كان حال الخطبة أولى لورود الأمر بالاستماع لها والإنصات عندها، وهذا الحديث ذكره المصنف مطولًا في "الزكاة" في باب (الصدقة على اليتامى) وسيأتي استيفاء الكلام عليه عند أول ذكره مطولًا في الزكاة. رجاله ستة: مرّوا، مرّ معاذ بن فضالة في التاسع عشر من الوضوء، ومرّ هشام الدستوائي في السابع والثلاثين، ومرَّ عطاء بن يسار في الثاني والعشرين منه، وأبو سعيد الخدري في الثاني عشر منه، ومرّ يحيى بن أبي كثير في الثالث والخمسين من العلم، ومرّ هلال بن أبي ميمونة في الأول منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والسماع والقول، ورواته ما بين أهوازيّ ويمانيّ ومدنيّ أخرجه البخاري أيضًا في الجهاد والزكاة ومسلم في الزكاة وكذا الترمِذِيّ والنَّسائيّ وابن ماجه. ثم قال المصنف:

باب من قال في الخطبة بعد الثناء "أما بعد"

باب مَنْ قال في الخطبة بعد الثناء "أما بعد" قال الزين بن المنير: يحتمل أن تكون (من) موصولة بمعنى الذي والمراد به النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في أخبار الباب، ويحتمل أن تكون شرطية والجواب محذوف والتقدير (فقد أصاب السنة) وعلى التقديرين فينبغي للخطباء أن يستعملوها تأسياً واتباعًا. ولم يجد البخاري في صفة خطبة النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الجمعة حديثًا على شرطه، فاقتصر على ذكر الئناء واللفظ الذي وضع للفصل بينه وبين ما بعده من موعظة ونحوها قال سيبويه: "أما بعد" معناها (مهما يكُ من شيء بعد). وقال الزجاج: إذا كان الرجل في حديث فأراد أن يأتي بغيره قال: "أما بعد". وقيل التقدير: (أما الثناء على الله فهو كذا وأما بعد فكذا) ولا يلزم في قسمه أن يصرح بلفظ بل يكفي ما يقوم مقامه. وقد مرّ الكلام على أول مَنْ نطق بها وعلى معناها في الحديث الأخير من كتاب الإيمان. ثم قال: رواه عكرمة عن ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. وهذا التعليق وصله البخاري في آخر هذا الباب، وعكرمة مرّ في السابع عشر من العلم، ومرّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي.

الحديث الخامس والأربعون

الحديث الخامس والأربعون وَقَالَ مَحْمُودٌ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ قَالَ: أَخْبَرَتْنِي فَاطِمَةُ بِنْتُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ قُلْتُ: مَا شَأْنُ النَّاسِ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا إِلَى السَّمَاءِ. فَقُلْتُ آيَةٌ؟ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا أَىْ نَعَمْ. قَالَتْ: فَأَطَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- جِدًّا حَتَّى تَجَلاَّنِي الْغَشْيُ وَإِلَى جَنْبِي قِرْبَةٌ فِيهَا مَاءٌ فَفَتَحْتُهَا فَجَعَلْتُ أَصُبُّ مِنْهَا عَلَى رَأْسِي، فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَقَدْ تَجَلَّتِ الشَّمْسُ، فَخَطَبَ النَّاسَ، وَحَمِدَ اللَّهَ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ. قَالَتْ: وَلَغِطَ نِسْوَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَانْكَفَأْتُ إِلَيْهِنَّ لأُسَكِّتَهُنَّ فَقُلْتُ لِعَائِشَةَ: مَا قَالَ؟ قَالَتْ: قَالَ: مَا مِنْ شَيْءٍ لَمْ أَكُنْ أُرِيتُهُ إِلاَّ قَدْ رَأَيْتُهُ فِي مَقَامِي هَذَا حَتَّى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَإِنَّهُ قَدْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ مِثْلَ أَوْ قَرِيبَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، يُؤْتَى أَحَدُكُمْ، فَيُقَالُ لَهُ: مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ أَوْ قَالَ: الْمُوقِنُ شَكَّ هِشَامٌ فَيَقُولُ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ، هُوَ مُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم- جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى فَآمَنَّا وَأَجَبْنَا وَاتَّبَعْنَا وَصَدَّقْنَا. فَيُقَالُ لَهُ: نَمْ صَالِحًا، قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ إِنْ كُنْتَ لَتُؤْمِنُ بِهِ. وَأَمَّا الْمُنَافِقُ أَوْ قَالَ الْمُرْتَابُ شَكَّ هِشَامٌ فَيُقَالُ لَهُ: مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ فَيَقُولُ: لاَ أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُ. قَالَ هِشَامٌ: فَلَقَدْ قَالَتْ لِي فَاطِمَةُ فَأَوْعَيْتُهُ، غَيْرَ أَنَّهَا ذَكَرَتْ مَا يُغَلِّظُ عَلَيْهِ. هذا الحديث قد مرّ في كتاب العلم في باب (مَنْ أجاب الفُتيا بإشارة اليد والرأس) وقد استوفى الكلام عليه هناك غاية الاستيفاء. وأخرجه هناك عن موسى بن إسماعيل وهنا قال: قال محمود وهو ابن غيلان: أحد شيوخه، وكلام أبي نعيم في "المستخرج" يشعر بأنه قال حدّثنا محمود، وذكر هنا ألفاظًا لم تكن في السابق منها: قوله هنا: "أما بعد" قالت: ولغط نسوة من الأنصار، فأنكفأت إليهن لأسكتهن، فقلت لعائشة: ما قال؟ قالت: قال: ... " إلخ. وقوله: "لغط نسوة من الأنصار" اللغط بالتحريك الأصوات المختلفة التي لا تفهم. وقوله: "فانكفأت" أي: ملت بوجهي ورجعت إليهن لأسكتهن وأصله من كفأت الإناء إذا أملته وكببته، ومنها قوله قال هشام: فلقد قالت فاطمة فأوعيته غير أنها ذكرت ما يغلظ عليه الأصل في مثل هذا

رجاله خمسة

أن يقال وعيته. يقال وعيت الحديث أعيه وعيًا فأنا واعٍ له إذا فهمته وحفظته، وفلان أوعى من فلان أي أحفظ وأفهم، وأما أوعيته إن صحت الرواية فمعناها أدخلته في وعاء قلبي يقال أوعيت الشيء في الوعاء أي: أدخلته، وفي بعض النسخ فوعيته على الأصل. وقوله: "غير أنها ذكرت ما يغلظ عليه" يروى ما يغلظ فيه ولم أفهم حقيقة المراد بهذا اللفظ ولم أجد مَنْ فسره. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرّ محمود بن غيلان في السابع والأربعين من مواقيت، ومرّ حمّاد بن أسامة في الحادي والعشرين من "العلم"، ومرّت فاطمة بنت المنذر وأسماء في الثامن والعشرين منه، ومرّ هشام وعائشة في الثاني من "بدء الوحي". لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإخبار بالإفراد والعنعنة والقول ورواية التابعية عن الصحابية، ورواية الصحابية عن الصحابية، وفيه شيخ البخاري مروزي وشيخ شيخه كوفي والبقية مدنية. وقد مرّ في باب "مَنْ أجاب الفتيا بإشارة اليد من العلم" جميع ما يتعلق به في الثامن والعشرين.

الحديث السادس والأربعون

الحديث السادس والأربعون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أُتِيَ بِمَالٍ أَوْ سَبْيٍ فَقَسَمَهُ، فَأَعْطَى رِجَالاً وَتَرَكَ رِجَالاً فَبَلَغَهُ أَنَّ الَّذِينَ تَرَكَ عَتَبُوا، فَحَمِدَ اللَّهَ ثُمَّ أَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لأُعْطِي الرَّجُلَ، وَأَدَعُ الرَّجُلَ، وَالَّذِى أَدَعُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الَّذِي أُعْطِي وَلَكِنْ أُعْطِي أَقْوَامًا لِمَا أَرَى فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْجَزَعِ وَالْهَلَعِ، وَأَكِلُ أَقْوَامًا إِلَى مَا جَعَلَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْغِنَى وَالْخَيْرِ، فِيهِمْ عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ. فَوَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِكَلِمَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حُمْرَ النَّعَمِ". قوله: "أتي بمال أو بشيء" بالشين، وروي "بسَبْيٍ" بفتح السين المهملة وسكون الباء الموحدة. ويروى "أو سبي" بدون حرف الباء. وفي رواية الإسماعيلي "أتي بمال من البحرين". وقوله: "فبلغه أن الذين ترك" وفي رواية "أن الذي ترك" والضمير في ترك راجع إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- ومفعوله محذوف تقديره (تركهم) ووجّه أن الذي ترك بإفراد الموصول على تقدير أن الصنف الذي تركه. وقوله: "عتبوا" حيث حرموا من العطاء. وقوله: "أعطي الرجل وأدع الرجل" بلفظ المتكلم فيهما. وقوله: "من الجزع" بالتحريك ضد الصبر. وقوله: "والهلع" بالتحريك أيضًا وهو أفحش الفزع. وقيل لأحمد بن يحيى ما الهلوع؟ قال: قد فسره الله تعالى حيث قال: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} وقال الحسن: الهلوع الشر. وقوله: "من الغنى والخير" بالقصر ضد الفقر أي: غنى النفس، فصبروا وتعففوا عن المسألة. وفي رواية من "الغناء" بفتح الغين والمد وهو الكفاية. وقوله: "بكلمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" أي: التي قالها في حقه وهي إدخاله إياه في أهل الخير والغناء، وقيل: المراد الكلمة التي قالها في حق غيره، فالمعنى لا أحب أن يكون لي حُمر النَّعَمِ بدلًا من الكلمة المذكورة أو يكون لي ذلك وتقال تلك الكلمة في حق غيري، وكيف لا والآخرة خير وأبقى. والحُمر بضم الحاء المهملة وسكون الميم.

رجاله خمسة

رجاله خمسة: وفيه لفظ رجال مبهمة لم يسموا، قد مرّ منهم أبو عاصم الضحاك في أثر بعد الرابع من "العلم"، ومرّ جرير بن حازم في السبعين من أحاديث استقبال الفبلة، ومرّ الحسن البصري في الرابع والعشرين من "الإيمان"، والباقي اثنان الأول محمد بن معمر بن ربعي القيسي أبو عبد الله البصري المعروف بالبحراني. قال أبو داود: صدوق ليس به بأس، وقال النسائي: ثقة، وقال مرَّة: لا بأس به. وقال أبو حاتم: صدوق، وقال البزار: كان من خيار عباد الله. وقال الخطيب: ثقة وذكره ابن حِبّان في "الثقات". وقال أبو عروبة: كبير من أهل الصناعة. وفي الزهرة روى عنه البخاري أربعة ومسلم ثمانية. روى عن روح بن عبادة وأبي عامر العقدي وأبي عاصم وغيرهم، وروى عنه الجماعة وأحمد بن منصور الرمادي وأبو حاتم والبزار وغيرهم. مات بعد سنة خمسين ومائتين، ويشتبه هذا بمحمد بن معمر الحضرمي. روى عنه أبو داود والنسائي. والبحراني في نسبه نسبة إلى (البحرين) بلد بين (البصرة) و (عُمان) وهو من بلاد (نجد) ويعرب إعراب المثنى ويجوز أن تجعل النون محل الإعراب مع لزوم الياء مطلقًا، وهي لغة مشهورة واقتصر عليها الأزهري، لأنه صار علمًا مفرد الدلالة فأشبه المفردات، والنسبة إليه بحراني؛ لئلا يشتبه بالمنسوب إلى البحر وإنما ثنَّوا البحرين؛ لأن في ناحية قراها بحيرة على باب الأحساء وقرى هجر بينها وبين البحر الأخضر عشرة فراسخ. وقدرت البحيرة بثلاثة أميال في مثلها ولا يفيض ماؤها، وماؤها راكد زعاق وقد ذكرها الفرزدق فقال: كأن ديارًا بينَ أسنمةِ النقا ... وبين هَذَاليلِ البحيرةِ مصحفُ والهذاليل جمع هذلول وهو المكان الوطيء في الصحراء لا يشعر به الإنسان حتى يشرف عليه منها محمد بن معمر هذا والعباس بن يزيد بن أبي حبيب حدث عن يزيد بن زريع، روى عنه الباغندي وابن مخلد ومنها زكرياء بن عطية البحراني سمع أبا المنذر سلامًا وهارون بن أحمد بن داود البحراني وعلي بن مقرب وغيرهم. الثاني: عمرو بن تغلب بفتح المثناة وسكون المعجمة وكسر اللام النمري بفتحتين العبدي الجؤاثي صحابي معروف نزل البصرة روى عن النبي أحاديث منها أنه أثنى على عمرو بن تغلب في إسلامه وذلك في "صحيح البخاري"، ولم يذكر الأكثرون له راويًا غير الحسن البصري وذكر ابن أبي حاتم أن الحكم بن الأعرج روى عنه أيضًا. عاش إلى خلافة معاوية وقالوا: ما له إلا حديثان رواهما عنه البخاري (والجؤاثي) في نسبه بضم الجيم آخره مثلثة نسبة إلى (جؤاثى) قرية من قرى (البحرين) حصن لعبد القيس ضبطت بالهمز، وبالواو بدل الهمز وهي أول قرية اديت فيها الجمعة بعد (المدينة) كما في "الصحيح" وفيها يقول امرؤ القيس:

لطائف إسناده

ورحنا كأنا من جُؤاثَى عشية ... نعالي النعاجَ بين عدلٍ ومحقبِ لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والسماع والقول، ورواته كلهم بصريون، وهنا الحديث من أفراد البخاري أخرجه في الخمس أيضًا عن موسى بن إسماعيل وفي "التوحيد". ثم قال تابعه يونس وهذه المتابعة وصلها أبو نعيم بإسناده عنه ويونس المراد به يونس بن عبيد. وقد مرّ في الرابع والعشرين من "الإيمان". الحديث السابع والأربعون حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: خَرَجَ ذَاتَ لَيْلَةٍ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ، فَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ، فَصَلَّى رِجَالٌ بِصَلاَتِهِ فَأَصْبَحَ النَّاسُ فَتَحَدَّثُوا، فَاجْتَمَعَ أَكْثَرُ مِنْهُمْ فَصَلَّوْا مَعَهُ، فَأَصْبَحَ النَّاسُ فَتَحَدَّثُوا فَكَثُرَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَصَلَّوْا بِصَلاَتِهِ، فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الرَّابِعَةُ عَجَزَ الْمَسْجِدُ عَنْ أَهْلِهِ حَتَّى خَرَجَ لِصَلاَةِ الصُّبْحِ، فَلَمَّا قَضَى الْفَجْرَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَتَشَهَّدَ ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ لَمْ يَخْفَ عَلَيَّ مَكَانُكُمْ، لَكِنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ فَتَعْجِزُوا عَنْهَا". هذا الحديث قد مرّ استيفاء الكلام عليه في باب (إذا كان بين الإمام وبين القوم حائط أو سترة من أبواب الجماعة)، بحيث لا يحتاج إلى زيادة. رجاله ستة: قد مرّوا: مرّت الأربعة الأُوَل في الثالث من "بدء الوحي"، ومرّ عروة وعائشة في الثاني منه. وفيه لفظ رجال لم يسموا. أخرجه فيما مضى، وأخرجه في باب الصوم وفي التهجد، ثم قال تابعه يونس. كلام المزي في الأطراف يدل على أن المتابعة في "أمّا بعد"، فقط والصحيح أنه روى جميع الحديث فلا يختص "بأما بعد"، وقد وصلها مسلم وأخرجه النسائي ويونس المراد به ابن يزيد. وقد مرَّ في متابعة بعد الرابع من "بدء الوحي".

الحديث الثامن والأربعون

الحديث الثامن والأربعون حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَامَ عَشِيَّةً بَعْدَ الصَّلاَةِ، فَتَشَهَّدَ وَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ". وهذا الحديث أورده هنا مختصرًا، وقد ذكره بتمامه في كتاب "الأحكام" وفي "الإيمان" و"النذور" وفيه قصة ابن اللتبية، ويأتي الكلام عليه مستوفى -إن شاء الله تعالى- عند ذكره في الزكاة متوسطًا. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرّ أبو اليمان وشعيب في السابع من "بدء الوحي" والزهري في الثالث منه، وعروة في الثاني منه، وأبو حميد في تعليق أول أبواب استقبال القبلة وهذا طرف من حديث أخرجه في الزكاة وترك الحيل والاعتكاف والنذور ومسلم في المغازي وأبو داود في الجراح. ثم قال تابعه أبو معاوية وأبو أسامة عن هشام عن أبيه عن أبي حميد الساعدي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أما بعد"، أما متابعة أبي معاوية فأخرجها مسلم في "المغازي" ومتابعة أبي أُسامة أخرجها البخاري في "الزكاة". رجالهما أربعة: مرّوا: مرّ أبو معاوية في تعليق بعد الثالث من "الإيمان"، ومرّ أبو أُسامة في الحادي والعشرين من "العلم"، ومرَّ هشام في الثاني من "بدء الوحي"، ومرّ ذكر محل أبي حميد في الذي قبله. ثم قال وتابعه العدني عن سفيان في "أما بعد". وأخرج مسلم متابعة العدني على أنه محمد بن يحيى وعلى أنه عبد الله بن الوليد فمتابعته وصلها الإسماعيلي وعلى الأول سفيان المراد به ابن عيينة، وقد مرّ الأول من "بدء الوحي" وعلى الثاني المراد به الثوري، وقد مرَّ في السابع والعشرين من "الإيمان" وأما العدني الأول فهو محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني أبو عبد الله الحافظ نزيل (مكة)، وقد ينسب إلى جده قال أبو حاتم: كان رجلًا صالحًا، وكان به غفلة وكان صدوقًا، ورأيت عنده حديثًا موضوعًا حدّث به عن ابن عيينة. وقال الحسن بن أحمد الرازي كان قد حج سبعًا وسبعين حجة وذكره ابن حِبّان في "الثقات".

وقال الترمذي في "الجامع": سمعت ابن أبي عمر يقول: كان الحميدي أكبر مني بسنة، واختلفت إلى ابن عيينة ثمانية عشرة سنة، وحججت سبعين حجة ماشيًا. وفي "الزهرة" روى عنه مسلم مائتي حديث وستة عشر حديثًا روى عن أبيه وابن عيينة وعبد الرزاق وفضيل بن عياض وغيرهم، وروى عنه مسلم والترمذي وابن ماجه والنسائي بواسطة وغيرهم. مات في ذي الحجة سنة ثلاث وأربعين ومائتين. وعلى أنه الثاني فهو عبد الله بن الوليد بن ميمون الأُموي مولاهم أبو محمد المكي المعروف بالعدني. ذكره ابن حِبّان في "الثقات"، وقال مستقيم الحديث. وقال الدارقطني: ثقة مأمون. وقال العجلي: ثقة معروف، وقال حرب عن أحمد: سمع من سفيان وجعل يصحح سماعه، ولكن لم يكن صاحب حديث وحديثه حديث صحيح، وربما أخطأ في الأسماء. كتب عنه أبي كثيراً وقال ابن معين: لا أعرفه، لم أكتب عنه شيئًا. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال الأزدي: يهم في أحاديث، وهو عندي وسط. وقال ابن عدي: روى عن الثوري "جامعه"، وروى عن الثوري غرائب غير "الجامع" وعن غير الثوري وما رأيت في حديثه شيئًا منكرًا فاذكره. روى عن الثوري وإبراهيم بن طهمان والقاسم بن معن وغيرهم، وروى عنه أحمد بن حنبل والحسن بن عمر والسدوسي وسعيد بن عبد الرحمن المخزومي وغيرهم. والعدني في نسبيهما نسبة إلى (عدن) بالتحريك جزيرة (باليمن) تضاف إلى أبين رجل من حمير نسبت إليه؛ لأنه أقام بها وقيل أبين اسم قصبة بينها وبين عدن ثمانية فراسخ أضيفت إليها لأدنى ملابسة، وقيل: إن (عدنا) نسبت إلى عدن بن سبأ بن نغثان أو نغيشان بن إبراهيم أوّل مَنْ نزلها قال في "تاج العروس": (وعدن) اليوم فرضة اليمن ومقر كل فضل مستحسن. قلت لعل هذا كان قبل احتلال النصارى لها وإلا فلا يمكن أن يبقى لها فضل بعد الاحتلال وطوله.

الحديث التاسع والأربعون

الحديث التاسع والأربعون حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَسَمِعْتُهُ حِينَ تَشَهَّدَ يَقُولُ: "أَمَّا بَعْدُ". وهذا طرف من حديثه في قصة خطبة علي بن أبي طالب بنت أبي جهل وسيأتي بتمامه في "المناقب"، ويأتي الكلام عليه هناك، وإنما خطب -صلى الله عليه وسلم- ليشيع الحكم المذكور بين الناس ويأخذوا به إما على سبيل الإيجاب، وإما على سبيل الأولوية وغفل الشريف المرتضى عن هذه النكتة، فزعم أن هذا الحديث موضوع؛ لأنه من رواية المسور وكان فيه انحراف عن علي وجاء من رواية ابن الزبير وهو أشد في ذلك. ورد كلامه بإطباق أصحاب "الصحيح" على تخريجه. رجاله خمسة: مرّوا: مرّ أبو اليمان وشعيب في السابع من "بدء الوحي" ومرَّ الزهري في الثالث منه، ومرّ علي بن الحسين في الخامس من "الغسل"، ومرّ المسوّر في الرابع والخمسين من "الوضوء". وهذا الحديث سيأتي بتمامه في "المناقب" وأخرجه مسلم أيضًا، ثم قال: تابعه الزبيدي عن الزهري وهذه المتابعة وصلها الطبراني في مسند الشاميين والزيدي وهو محمد بن الوليد، وقد مرّ في التاسع عشر من "العلم".

الحديث الخمسون

الحديث الخمسون حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْغَسِيلِ قَالَ: حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: صَعِدَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- الْمِنْبَرَ وَكَانَ آخِرَ مَجْلِسٍ جَلَسَهُ مُتَعَطِّفًا مِلْحَفَةً عَلَى مَنْكِبَيْهِ، قَدْ عَصَبَ رَأْسَهُ بِعِصَابَةٍ دَسِمَةٍ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ إِلَيَّ". فَثَابُوا إِلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ هَذَا الْحَيَّ مِنَ الأَنْصَارِ يَقِلُّونَ، وَيَكْثُرُ النَّاسُ، فَمَنْ وَلِيَ شَيْئًا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- فَاسْتَطَاعَ أَنْ يَضُرَّ فِيهِ أَحَدًا أَوْ يَنْفَعَ فِيهِ أَحَدًا، فَلْيَقْبَلْ مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَيَتَجَاوَزْ عَنْ مُسِيِّهِمْ". قوله: "وكان آخر مجلس جلسه" وفي حديث أنس في "المناقب" "ولم يصعده بعد ذلك اليوم" وعرف منه أن ذلك كان في مرض موته -صلى الله عليه وسلم- وصرّح به في "علامات النبوءة". وقوله: "متعطفًا ملحفة على منكبيه" وفي رواية "المناقب" "وعليه ملحفة متعطفًا بها على منكبيه" المِلحفة بكسر أوله، وقوله: متعطفًا أي: متوشحًا مرتديًا، والعطاف الرداء سُمي بذلك لوضعه على العطفين وهما ناحيتا العنق، ويطلق على الأردية معاطف. وقوله: "بعصابة" بكسر أوله وهي ما يشد به الرأس وغيرها وقيل في الرأس بالتاء وفي غير الرأس يقال عصاب فقط، وهذا يرده قوله في حديث مسلم عصب بطنه بعصابة. وقوله: "دَسِمَة" أي: بكسر السين وفي رواية دسماء أي: لونها كون الدسم وهو الدهن، وقيل المراد أنها سوداء لكن ليست خالصة السواد، ويحتمل أن تكون اسودّت من العرق أو من الطيب كالغالية وقد تبين من حديث أنس أنها كان حاشية برد حيث قال: وقد عصب على رأسه حاشية برد والحاشية غالبًا تكون من لون غير لون الأصل، وقيل: المراد بالعصابة العمامة ومنه حديث "مسح على العصائب". وقوله: "فإن هذا الحي من الأنصار يقلّون ويكثر الناس. قوله: "من الأنصار" من بيانية أي: الذي هو الأنصار وفي قوله: "يقلّون" إشارة إلى دخول قبائل العرب والعجم في الإِسلام، وهم أضعاف أضعاف قبيلة الأنصار فمهما فرض في الأنصار من الكثرة كالتناسل فرض في كل طائفة من أولئك فهم أبدا بالنسبة إلى غيرهم قليل، ويحتمل أن يكون -صلى الله عليه وسلم- اطلع على أنهم يقلّون مطلقًا فأخبر بذلك، فكان كما أخبر؛ لأن الموجودين الآن من ذرية علي بن أبي طالب ممن يتحقق نسبه إليه

أضعاف مَنْ يوجد من قبيلتي الأوس والخزرج ممن يتحقق نسبه، وقسْ على ذلك ولا التفات إلى كثرة مَنْ يدعي أنه منهم بغير برهان، وفي رواية "المناقب" حتى يكونوا كالملح في الطعام وفي "علامات النبوءة" بمنزلة الملح في الطعام أي في القلة؛ لأنه جعل غاية قلتهم الانتهاء إلى ذلك والملح بالنسبة إلى جملة الطعام جزء يسير منه والمراد بذلك المعتدل. وقوله: "فاستطاع أن يضر فيه أحدًا أو ينفع فيه أحدًا" قيل فيه إشارة إلى أن الخلافة لا تكون في الأنصار؛ لأن مَنْ فيهم الخلافة يوصون ولا يوصى بهم. قال في "الفتح": ليس صريحًا في ذلك إذ لا تمتنع التوصية على تقدير أن يقع الجور ولا التوصية للمتبوع سواء كان منهم أو من غيرهم. وقوله: "ويتجاوز عن مسيئهم" أي: في غير الحدود وحقوق الناس وفي حديث أنس في "المناقب" زيادة "أوصيكم بالأنصار فإنهم كرشي وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم". وقوله: "كرشي وعيبتي" أي: بطانتي وخاصتي. قال القزاز: ضرب المثل بالكرش؛ لأنه مستقر غذاء الحيوان الذي يكون فيه نماؤه، ويقال لفلان كرش منثورة أي عيال كثيرة. والعيبة بفتح المهملة وسكون المثناة التحتية بعدها موحدة ما يخرز فيه الرجل أنفس ما عنده، يريد أنهم موضع سره وأمانته قال ابن دريد: هذا من كلامه -صلى الله عليه وسلم- الموجز الذي لم يسبق إليه. قال غيره ة الكرش بمنزلة المعدة للإنسان والعيبة مستودع الثياب، والأول أمر باطن والثاني أمر ظاهر فكأنه ضرب المثل بهما في إرادة اختصاصهم بأموره الظاهرة والباطنة. والأول أولى وكل من الأمرين مستودع لما يخفى فيه. قلت: لم يظهر لي فرق بين التفسيرين حتى يكون الأول أولى. وقوله: "وقد قضوا الذي عليهم" إلخ يشير به إلى ما وقع لهم ليلة العقبة من المبايعة فإنهم بايعوا على أن يؤووا النبي -صلى الله عليه وسلم- وينصروه على أن لهم الجنة، فوفوا بذلك. وفي الحديث الإخبار بالغيب؛ لأن الناس كثروا وقلت الأنصار، فهو من معجزاته عليه الصلاة والسلام، وإخباره بالمغيبات، وفيه من جوامع الكلم أن الحال منحصر في الضر والنفع والمحسن والمسيء، وفي الحديث مما لم يذكره عن عائشة في قصة الإفك وعن أبي سفيان في الكتاب إلى هرقل متفق عليها، وعن جابر قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا خطب أحمرّت عيناه وعلا صوته" الحديث وفيه فيقول: "أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله تعالى" أخرجه مسلم وفي رواية له عنه "كانت خطبة النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الجمعة يحمد الله ويثني عليه، ثم يقول على إثر ذلك، وقد علا صوته" فذكر الحديث. وفيه يقول: "أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله تعالى" وهذا أليق بمراد المصنف للتنصيص فيه على الجمعة لكنه ليس على شرطه كما تقدم ويستفاد من هذه الأحاديث أن "أما بعد" لا تختص بالخطب بل تقال أيضًا في صدور الرسائل والمصنفات، ولا اقتصار عليها في إرادة الفصل بين الكلامين، بل ورد في القرآن في ذلك لفظ هذا، وإن وقد كثر استعمال المصنفين لها

رجاله أربعة

بلفظ ولعد ومنهم مَنْ صدر بها كلامه فيقوله: في أوله كتابه "أما بعد حمد الله فإن الأمر كذا"، ولا حجر في ذلك، وقد تتبع طرق الأحاديث التي وقع فيها "أما بعد" الحافظ عبد القادر الرهاوي في خطبة الأربعين المتباينة له فأخرجه عن اثنين وثلاثين صحابيًا منها ما أخرجه عن ابن جريج عن ابن سيرين عن المسور بن مخرمة "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا خطب خطبة قال: أما بعد". ورجاله ثقات وظاهره المواظبة على ذلك. رجاله أربعة: مرّ منهم عكرمة في السابع عشر من "العلم" وابن عباس في الخامس من "بدء الوحي" والباقي اثنان الأول إسماعيل بن أبان الوراق الأزدي أبو إسحاق، ويقال أبو إبراهيم الكوفي قال أحمد بن حنبل وأبو داود وابن معين ومطين ثقة وزاد ابن معين وإسماعيل بن أبان الغنوي كذاب. وقال البخاري: صدوق. وقال الجوزجاني: إسماعيل الوراق كان مائلًا عن الحق، ولم يكن يكذب في الحديث، قال ابن عدي: يعني ما عليه الكوفيون من التشيع، وأما الصدق فهو صدوق في الحديث قال البزار: إنما كان عيبه شدة تشيعه لا أنه غير عليه في السماع. وقال الدارقطني: ثقة مأمون، وقال في سؤالات الحاكم عنه: أثنى عليه أحمد وليس هو عندي بالقوي. وقال عثمان بن أبي شيبة: إسماعيل الوراق ثقة صحيح الحديث، قيل له فإن إسماعيل بن أبان عندنا غير محمود فقال: كان هاهنا إسماعيل آخر يقال له ابن أبان غير الوراق، وكان كذابًا. وقال الحاكم: ثقة، وذكره ابن حِبّان في "الثقات" قال في "المقدمة" من شيوخ البخاري، ولم يكثر عنه والجوزجاني القائل أنه مائل عن الحق كان ناصبيًا منحرفًا عن علي فهو ضد الشيعي المنحرف عن عثمان والصواب موالاتهما جميعًا ولا ينبغي أن يسمع قول مبتدع في مبتدع، وأما قول الدارقطني فيه فقد اختلف ولهم شيخ يقال له إسماعيل بن أبان الغنوي أجمعوا على تركه، فلعله اشتبه به. روى عن عبد الرحمن بن الغسيل وإسرائيل ومسعر وابن المبارك وغيرهم. وروى عنه البخاري وروى له أبو داود والترمذي بواسطة وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهم. مات سنة ستة عشرة ومائتين. الثاني: عبد الرحمن بن سليمان بن عبد الله بن حنظلة الأنصاري الأوس في أبو سليمان المعروف بابن الغسيل والغسيل جد أبيه حنظلة بن أبي عامر غسلته الملائكة يوم أحد؛ لأنه استشهد وهو جُنب من صغار التابعين وثقه ابن معين والنسائي وأبو زرعة والدارقطني وقال النسائي مرة: ليس به بأس، ومرة: ليس بالقوي. وقال ابن حِبّان: كان يهم ويخطىء كثيرًا مرض القول فيه أحمد ويحيى وقالا: صالح. وقال الأزدي: ليس بالقوي عندهم، وقال ابن عدي: هو ممن يعتبر حديثه ويكتب، قال في "المقدمة": تضعيفهم له بالنسبة إلى غيره ممن هو أثبت منه من أقرانه، وقد احتج به

لطائف إسناده

الجماعة سوى النسائي. رأى أنس بن مالك وسهل بن سعد وروى عن حمزة والمنذر والزبير وعاصم بن عمر بن قتادة وغيره وروى عنه وكيع بن الجراح وأبو عامر العقدي وإسماعيل بن أبان الوراق، وأبو الوليد الطيالسي وغيرهم. مات سنة اثنتين وسبعين ومائة، وقد أتى عليه مائة وسنة أو سنتان. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول وشيخ البخاري من أفراده، ورواته مدنيون إلا شيخ البخاري فإنه كوفي. أخرجه البخاري أيضًا في "علامات النبوءة" وفي "فضائل الأنصار" والترمذي في "الشمائل". ثم قال المصنف:

باب القعدة بين الخطبتين

باب القعدة بين الخطبتين قال الزين بن المنير: لم يصرح بحكم الترجمة؛ لأن مستند ذلك الفعل ولا عموم له ولا اختصاص بذلك لهذه الترجمة فإنه لم يصرح بحكم غيرها من أحكام الجمعة، وظاهر صنيعه أنه يقول بوجوبها كما يقول في أُصول الخطبة. الحديث الحادي والخمسون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ يَقْعُدُ بَيْنَهُمَا. قوله: "يخطب خطبتين يقعد بينهما" مقتضاه أنه كان يخطبهما قائمًا. وقد مرّ في باب (الخطبة قائمًا) الأحاديث المصرّح فيها بالقعود مثل هذا، وفيها حديث أبي داود وفيه: "ثم يجلس فلا يتكلم ثم يقوم فيخطب" واستفيد منه أن حال الجلوس بين الخطبتين لا كلام فيه، لكن ليس فيه نفي أن يذكر الله أو يدعوه سرًا. ودلّ هذا الحديث وغيره على مشروعية الجلوس بين الخطبتين، ولكن هل هو على سبيل الوجوب أو على سبيل الندب؟ فذهب الشافعي إلى أن ذلك على سبيل الوجوب. وذهب أبو حنيفة ومالك في مشهور مذهبه إلى أنها سُنة وليست بواجبة وقيل ندب. واستدل الشافعي على وجوبها بمواظبته -صلى الله عليه وسلم- عليها مع قوله: "صلّوا كما رأيتموني أُصلي". قال ابن دقيق العيد: يتوقف ذلك على ثبوت أن إقامة الخطبتين داخلة تحت كيفية الصلاة، وإلا فهو استدلال بمجرد الفعل، وزعم الطحاوي إلى أن الشافعي تفرد بذلك وتعقب بأنه محكي عن مالك أيضًا في رواية، وهو المشهور عن أحمد نقله العراقي في "شرح الترمذي". وحكى ابن المنذر أن بعض العلماء عارض الشافعي بأنه -صلى الله عليه وسلم- واظب على جلوس قبل الخطبة الأولى فإن كانت مواظبته دليلًا على شرطية الجلسة الوسطى، فلتكن دليلًا على شرطهية الجلسة الأولى، وهذا متعقب بأن كل الروايات عن ابن عمر ليست فيها هذه الجلسة الأولى وهي من رواية عبد الله العمري المضعف فلم تثبت المواظهبة عليها بخلاف التي بين الخطبتين. وقال صاحب "المغني" لم يوجبها أكثر أهل العلم؛ لأنها جلسة ليس فيها ذكر مشروع فلم

رجاله خمسة

تجب، وقدّرها مَنْ قال بها بقدر جلسة الاستراحة أو الجلسة بين السجدتين أو بقدر ما يقرأ سورة الإخلاص، واختلف في حكمتها فقيل للفصل بين الخطبتين، وقيل للراحة. وعلى الأول وهو الأظهر يكفي السكوت بقدرها ويظهر أثر الخلاف أيضًا فيمن خطب قاعدا لعجزه عن القيام، وقد ألزم الطحاوي من قال بوجوب الجلوس بين الخطبتين أن يقول بوجوب القيام في الخطبتين؛ لأن كلًا منهما اقتصر على فعل شيء واحد وتعقبه ابن المنير. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرّ مسدد في السادس من "الإيمان"، ومرّ عبد الله بن عمر في أوله قبل ذكر حديث منه، مرّ بشر بن المفضل في التاسع من "العلم"، وعكرمة في السابع منه، ونافع في آخر حديث منه، وعبيد الله العمري في الرابع عشر من "الوضوء". رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه. ثم قال المصنف:

باب الاستماع إلى الخطبة

باب الاستماع إلى الخطبة أي: الإصغاء للسماع، فكل مستمع سامع من غير عكس. الحديث الثاني والخمسون حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الأَغَرِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَقَفَتِ الْمَلاَئِكَةُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ يَكْتُبُونَ الأَوَّلَ فَالأَوَّلَ، وَمَثَلُ الْمُهَجِّرِ كَمَثَلِ الَّذِي يُهْدِي بَدَنَةً، ثُمَّ كَالَّذِى يُهْدِي بَقَرَةً، ثُمَّ كَبْشًا، ثُمَّ دَجَاجَةً، ثُمَّ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ طَوَوْا صُحُفَهُمْ، وَيَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ". هذا الحديث مرّ الكلام عليه مستوفى عند حديث أبي هريرة المشابه له في باب (فضل الجمعة) وموضع الاستشهاد منه على الترجمة قوله: "ويستمعون الذكر" قال التيمي: في استماع الملائكة حض على استماعها والإنصات إليها، وعبّر بصيغة المضارع في "ويستمعون" لاستحضار صورة الحال اعتناء بهذه المرتبة وحملًا علي الاقتداء بالملائكة. وقد ذكر كثير من المفسرين أن قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} ورد في الخطبة، وسميت قرآنًا لاشتمالها عليه. والانصات السكوت والاستماع شغل السمع بالسماع فبينهما عموم وخصوص من وجه. وقد مرّ عند حديث سلمان في باب (الدهن للجمعة) الكلام على هذا المعنى، وعلى الكلام في حال الخطبة ولكن لابد من إعادته هنا لاستيفاء الناقص منه. وقد اختلف العلماء في الكلام حال الخطبة فعند الشافعية يكره الكلام حال الخطبة من ابتدائها لظاهر الآية. وحديث مسلم عن أبي هريرة: "إذا قلتَ لصاحبك أنصتْ والإمامُ يخطبُ فقد لغوت" ولا يحرم عندهم للأحاديث الدالة على ذلك كحديث أنس عند "الصحيحين" "بينما النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يخطبُ الجُمعَة قامَ أعرابيٌ فقال: يا رسولَ اللهِ هلَك المالُ وجاعَ العيالُ فادعُ اللهَ لنا، فرفعَ يديهِ ودعا" الحديث. وحديث أنس المروي بسند صحيح عند البيهقي "أن رجلًا دخلَ والنبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يخطبُ يومَ الجُمعةِ فقال: متى الساعةُ؟ فأومأ الناسُ إليه بالسكوتِ فلم يقبلْ وأعاد الكلامَ. فقال له النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في الثالثةِ ما أعددتَ لها؟ قال: حُبُّ اللُهِ وحُبُّ رسولهِ. قال: إنك مَع مَنْ أحببت". وجه الدلالة منه أنه لم ينكر عليه الكلام، ولم يبين له وجه السكوت والأمر في الآية للندب. ومعنى لغوت تركت الأدب جمعًا بين الأدلة. وقالت المالكية والحنفية والحنابلة بالمنع لحديث إذا قلت لصاحبك أنصت، وأجابوا عن حديث أنس السابق وما في معناه بأنه غير محل النزاع؛ لأن محل النزاع الإنصات والإمام يخطب، وأما سؤال الإِمام وجوابه فهو قاطع لكلامه فيخرج عن ذلك. وقد بني بعضهم القولين على الخلاف

رجاله خمسة

في أن الخطبتين بدل من الركعتين، وبه صرّح الحنابلة وعزوه لنص إمامهم أو هي صلاة على حيالها لقول عمر -رضي الله تعالى عنه-: "الجمعةُ ركعتانِ تمامٌ غيرُ قصر على لسانِ نبيِّكم -صلى الله عليه وسلم- وقد خابَ مَنْ افترى" رواه أحمد وغيره وهو حديث حسن كما قاله في "المجموع"، فعلى الأول يحرم لا على الثاني، ومن ثم أطلق من أطلق منهم إباحة الكلام ولو كان به صمم أو بُعد عن الإِمام بحيث لا يسمع. وقال المالكية: يحرم عليه أيضًا لعموم وجوب الإنصات، ولما روي عن عثمان -رضي الله تعالى عنه-: "مَنْ كان قريبًا استمع وأنصت، ومَنْ كان بعيدًا أنصت". وقال الحنفية: الأحوط السكوت. واختلف في وقت الإنصات فعند مالك والشافعي وأبي يوسف ومحمد بن الحسن والأوزاعي والثوري عند ابتداء الخطبة. واستدلوا بقوله عليه الصلاة والسلام: "خروجُ الإمام يقطعُ الصلاةَ وكلامُهُ يقطعُ الكلامَ" وعند أبي حنيفة خروج الإِمام يقطع الكلام والصلاة جميعًا لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث الباب: "فإذا خرج الإِمام طووا صحفهم ويستمعون الذكر" والحديث إذا خرج الإِمام لا صلاة ولا كلام حتى يفرغ الإمام أخرجه الطبراني عن ابن عمر، وهذا ضعيف. وأما الكلام بعد الخطبة وفي جلوسه بينهما وللداخل في أثنائها ما لم يجلس، فعند الحنابلة والشافعية وأبي يوسف يجوز من غير كراهة. وقال المالكية: يحرم بينهما لا في جلوسه قبل الشروع فيها ولو سلم داخل على مستمع الخطبة وجب الرد عليه بناء على أن الإنصات سُنّة. وصرّح في "المجموع" وغيره مع ذلك بكراهة السلام، ونقلها عن النص وغيره لكن إذا قلنا لا يشرع السلام فكيف يجب الرد؟ وعند المالكية قال في "المدونة": لا يسلم الداخل وإن سلم فلا يرد عليه؛ لأنه سكوت واجب فلا يقطع بسلام ولا برده كالسكوت في الصلاة، وكذا قال الحنفية. قلت: عند المالكية يكره الرد بعد تمام الخطبة مع بقاء المسلم وحاصل ما يكره عندهم فيه السلام والرد وما يطلب جمعه بعضهم بقوله: على المؤذنِ مقيم والملبّ ... وواطىءٍ وسامعٍ لمن خَطَبْ والقاضي للحاجةِ يكرهُ السلامْ ... كردِّ الآخرين لو بعد التمامْ وردُّ الاولينِ شرعًا يلزمُ ... إن تمّموا وبقي المسلّم وهو على غيرهم استنانُ ... إلا لذي البدع فالهجرانُ ولو مصليًا وبالإشارةِ ... ردوا ولا كل كغَيرِ السُّنَّةِ رجاله خمسة: قد مرّوا إلا الأغر: مرّ آدم بن أبي إياس في الثالث من "الإيمان"، وأبو هريرة في الثاني منه،

لطائف إسناده

وابن أبي ذيب في الستين من "العلم"، والزهري في الثالث من "بدء الوحي". والأغر هو سلمان الأغر أبو عبد الله المدني مولى جهينة، أصله من (أصبهان). قال شعبة: كان الأغر قاصًا لأهل المدينة وكان رضي. وقال الواقدي: سمعت ولده يقولون لقي عمر بن الخطاب ولا أثبت ذلك عن أحد غيرهم، وكان ثقة قليل الحديث. وذكره ابن حِبّان في "الثقات"، وقال ابن عبد البر: هو من ثقات تابعي الكوفة، ووثقه الذهلي، وهو غير الأغر بن سليك وغير الأغر أبي مسلم الذي يروي عنه أهل الكوفة. روى عن أبي هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص وعمّار وأبي أيوب وغيرهم. روى عنه بنوه عبيد الله وعبد والزهري وبكير بن الأشج وغيرهم. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول وأحد الرواة مذكور بكنيته، ولقبه، والآخر بنسبته إلى جده، والآخر بنسبته إلى قبيلته. ورواته مدنيون إلا شيخ البخاري خراساني سكن عسقلان وهو من أفراده. أخرجه البخاري أيضًا في "بدء الخلق"، ومسلم في "الجمعة"، والنسائي في "الصلاة" وفي "الملائكة". ثم قال المصنف:

باب إذا رأى الإمام رجلا وهو يخطب أمره أن يصلي ركعتين

باب إذا رأى الإِمام رجلًا وهو يخطب أمره أن يصلي ركعتين أي: إذا كان لم يصلهما قبل أن يراه. الحديث الثالث والخمسون حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ وَالنَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- يَخْطُبُ النَّاسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ: أَصَلَّيْتَ يَا فُلاَنُ؟. قَالَ: لاَ. قَالَ: قُمْ فَارْكَعْ ركعتين". قوله: "عن جابر بن عبد الله" صرّح في الباب الذي يليه بسماع عمرو بن دينار من جابر. وقوله: "جاء رجل" هو سُلَيْك بن هُدْبَة الغَطَفاني كما وقع مسمى في هذه القصة عند مسلم عن أبي الزبير عن جابر بلفظ: "جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائم على المنبر فقعد سليك قبل أن يصلي فقال له: أصليت ركعتين: قال: لا، فقال: قمْ فاركعهما". ومن طريق أبي سفيان عن جابر نحوه وفيه: "فقال له: يا سليك قم فاركع ركعتين" وتجوز فيهما هكذا رواه أصحاب الأعمش عنه ووهم منصور بن أبي الأسود عنه، فقال: جاء النعمان بن نوفل أخرجه الطبراني. وأخرج الطبراني عن أبي أنه: "أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يخطب، فقال لأبي ذر: صلّيت ركعتين: قال: لا"، الحديث. وفي إسناده ابن لهيعة وشذ بقوله يخطب فإن الحديث مشهور عن أبي ذر أنه "جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو جالس في المسجد" أخرجه ابن حِبّان وغيره. وأما ما رواه الدارقطني عن أنس "قال: دخل رجل من قيس المسجد" فذكر نحو قصة سليك فلا يخالف كونه سليكًا؛ لأن غطفان من قيس، وأما تجويز أن الواقعة تعددت فغير ظاهر. وقد اختلف فيه على الأعمَش اختلافًا آخر، فقد رواه الثوري عنه عن جابر عن سليك فجعل الحديث من مسند سليك، وهذا لم يقله أحد عن الثوري غير الفريابي وإبراهيم بن خالد. وقد قاله عنه أيضًا عبد الرزاق أخرجه في مصنفه هكذا وأحمد عنه وأبو عوانة والدارقطني من طريقه. وروى ابن عدي عن النسائي أنه قال: هذا خطأ، والذي يظهر أنه ما عني أن أحمل القصة عن سليك وإنما معناه أن جابراً حدّثهم عن قصة سليك؟ ولهذا نظير سيذكر إن شاء الله تعالى في كتاب "البيوع" في قصة أبي شعيب اللحام، فإنه هناك روى عن أبي مسعود "جاء رجل من الأنصار يكنى أبا شعيب فقال لغلام له قصاب: اجعل لي طعامًا يكفي خمسة" إلخ، فقد اتفقت الطرق على أنه من مسند أبي مسعود إلا ما روى عن أحمد عن الأعمَش بسنده فقال: "فيه عن رجل من الأنصار يكنى أبا شعيب قال: أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعرفت في وجهه الجوع" إلخ.

ومن المستغربات ما حكاه ابن بشكوال في "المبهمات" أن الداخل المذكور يقال له: "أبو هدبة" فإن كان محفوظًا فلعلها كنية سليك صادفت اسم أبيه. وقوله: "فقال صليت؟ " كذا للأكثر بحذف همزة الاستفهام، وثبتت في رواية الأصيلي. وقوله: "قم فاركع" زاد المستملي والأصيلي "ركعتين"، وكذا في رواية سفيان في الباب بعد فصل ركعتين. وذهب الشافعي وأحمد وإسحاق إلى أنه إذا دخل الجامع يوم الجمعة والإمام يخطب يستحب أن يصلي ركعتين تحية المسجد، ويكره الجلوس قبل أن يصليهما. وذهب مالك وأبو حنيفة والليث والثوري وجمهور السلف من الصحابة والتابعين وقال الأولون: يندب صلاتهما إلا إذا كان في آخر الخطبة، فلا يصلي لئلا يفوته أول الجمعة قال في "المجموع": إن غلب على ظنه إن صلاّهما فاتته تكبيرة الإحرام مع الإمام لم يصلهما بل يقف حتى تقام الصلاة ولا يقعد، لئلا يكون جالسًا في المسجد قبل التحية. قال ابن الرفعة: ولو صلاّها في هذه الحال استحب للإمام أن يزيد في كلام الخطبة بقدر ما يكمل التحية، فإن لم يفعل ذلك قال في "الأم": كرهته له، فإن صلاّها وقد أقيمت الصلاة كرهت ذلك له، ويخففها وجوبًا ليسمع الخطبة. قال الزركشي: والمراد بالتخفيف فيما ذكر الاقتصار على الواجبات لا الإسراع. قال: ويدل له ما ذكروه من أنه إذا ضاق الوقت وأراد الوضوء اقتصر على الواجبات. واستدلت الشافعية والحنابلة لما ذهبوا إليه بحديث الباب وبما أخرجه الشيخان عن جابر قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يخطب: إذا جاء أحدكم والإمام يخطب أو قد خرج فليصلِ ركعتين". ولمسلم عن أبي سفيان عن جابر أنه قال ذلك في قصة سليك ولفظه بعد قوله: "فاركعهما وتجوز فيهما"، ثم قال: "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإِمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما". قال النووي: هذا نص لا يتطرق إليه التأويل، ولا أظن عالمًا يبلغه هذا اللفظ ويظنه صحيحًا ويخالفه. وقال ابن أبي جمرة: هذا الحديث لم يقل بتأويله وإنما عمل بمعارضته؛ لكونه أقوى عنده منه فقد تمسك القائلون بالمنع بما قاله ابن العربي قصة سليك ما هو أقوى منها كقوله: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغوت" متفق عليه. قال: فإذا امتنع الأمر بالمعروف وهو أمر اللاغي بالإِنصات مع قصر زمنه فمنع التشاغل بالتحية مع طول زمنها أولى، وعارضوا أيضًا بقوله عليه الصلاة والسلام وهو يخطب للذي دخل يتخطى رقاب الناس: "اجلس فقد آذيت" أخرجه أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة. وغيره عن عبد الله بن بشر قالوا: "فأمره بالجلوس ولم يأمره بالتحية". وبما أخرجه الطبراني عن ابن عمر رفعه "إذا دخل أحدكم والإمام على المنبر فلا صلاة ولا كلام حتى يفرغ الإِمام" وتأولوا حديث سليك بأنه

واقعة عين لا عموم فيها فيحتمل اختصاصها بسليك لما رأى من بذاذته لتتفطن له الناس فتتصدق عليه. ويدل على هذا التأويل حديث أبي سعيد الذي أخرجه أصحاب "السنن" وغيرهم "جاء رجل والنبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب والرجل في هيئة بذة فقال له: أصليت؟ قال: لا، قال: صلِ ركعتين وحضِ الناس على الصدقة" الحديث، فأمره أن يصلي ليراه الناس وهو قائم فيتصدقون عَليه، ويؤيده أن في هذا الحديث عند أحمد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن هذا الرجل دخل المسجد في هيئة بذة فأمرته أن يصلي ركعتين وأنا أرجو أن يفطن له رجل فيتصدق عليه" وعرف بهذه الرواية الرد على مَنْ طعن في هذا التأويل فقال: لو كان كذلك لقال لهم: إذا رأيتم ذا بذة فتصدقوا عليه أو إذا كان أحد ذا بذة فليقم فليركع حتى يتصدق الناس عليه، والذي يظهر أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يعتني في مثل هذا بالإجمال دون التفصيل كما كان يصنع عند المعاتبة. ومما يضعف الاستدلال به أيضًا على جواز التحية في تلك الحالة أنهم أطلقوا أن التحية تفوت بالجلوس، وورد ما يؤكد الخصوصية أيضًا وهو قوله -صلى الله عليه وسلم- لسليك في آخر الحديث: "لا تعودن لمثل هذا" أخرجه ابن حِبّان. وأجابوا عن هذا التأويل بأن الأصل عدم الخصوصية، والتعليل بكونه عليه الصلاة والسلام قصد التصدق عليه لا بمنع القول بجواز التحية، فإن المانعين منها لا يجيزون التطوع لعلة التصدق. وقال ابن المنير: لو ساغ ذلك لساغ مثله في التطوع عند طلوع الشمس وسائر الأوقات المكروهة ولا قائل به. قلت: هذا الجواب كله غفلة من قائله أما أن الأصل عدم الخصوصية فمحله عند عدم القرينة، وهنا قامت القرينة على الخصوصية بما تقدم من تصريحه عليه الصلاة والسلام بأنه أمره أن يصلي رجاء أن يفطن له رجل فيتصدق. وبقوله له: "لا تعودن لمثل هذا" وبما دل عليه الحديث الذي كاد أن يكون متواترًا "إذا قلت لصاحبك أنصت" إلخ فإذا منعه من الأمر بالمعروف الذي هو فرض في هذه الحالة فمنعه من إقامة السُّنة أو الاستحباب بطريق الأول، وإذا ثبتت الخصوصية لسليك بطل بديهة قول القائل المار: لا يمنع القول بجواز التحية، فإن المانع هو النهي الوارد عنها في هذا الوقت. والحديث لكونه خصوصية لا يعارض النهي لا يرفعه. وقول الآخر: "لساغ مثله في التطوع عند طلوع الشمس" إلخ فإن هذا خصوصية من الشارع والشارع لا يلزم بشيء والخصوصية لا يقاس عليها. وأجابوا أيضًا بأن أحمد وابن حِبّان أخرجا بأنه كرر أمره بالصلاة ثلاث مرات في ثلاث جُمع، وكان ذلك كما أخرجه النسائي وابن خزيمة بعد أن حصل له في الجمعة الأولى ثوبين فدخل بهما في الثانية فتصدق بأحدهما فنهاه النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك. قالوا: فدل على أن قصد التصدق عليه جزء علة لا علة كاملة.

قلت: هذا لا يجدي مع ثبوت الخصوصية وتكرر الأمر له هو دون غيره من جميع الصحابة لما مرّ أن هذه القصة لم تثبت عن أحد من الصحابة سواه قال على معنى فيه غيره موجود في غيره إذ لا يمكن أن أحدًا من الصحابة يؤمر بحكم شرعي مرتين ويتمادى، هذا ما ظهو لي والله تعالى أعلم. وأجابوا عن كون التحية تفوت عندهم بالجلوس بأن النووى نقل عن المحققين أن ذلك في العامد العالم، أما الجاهل أو الناسي فلا وحال هذا الداخل محمولة في الأولى على أحدهما، وفي المرتين الأخريين على النسيان. وما قالوه في أمر الصحابي إنما هو تجوز عقلي لا يعول عليه. وأجابوا عمّا مرّ عن ابن العربي بأن المعارضة التي تؤول إلى إسقاط الدليلين إنما يعمل بها عند تعذر الجمع، والجمع هنا ممكن أما الآية فليست الحطبة كلها قرآنًا، وأما ما فيها من القرآن فالجواب عنه كالجواب عن الحديث، وهو تخصيص عمومه بالداخل قلت: مع النهي الصريح للداخل عنها وثبوت الخصوصية وثبوب القاعدة الأصولية المتفق عليها من "تقديم درء المفاسد على جلب المصالح" لا يستقيم هذا الجواب. وأجابوا أيضًا بأن مصلي التحية يجوز أن يطلق عليه أنه منصت، فقد تقدم في افتتاح الصلاة من حديث أبي هريرة أنه قال: "يا رسول الله سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول فيه؟ فأطلق على القول سرًا السكوت". قلت: هذا الجواب ساقط؛ لأن المطلوب في الجمعة اصغاء والاستماع كما مرّ في الباب السابق لا مجرد السكوت، حتى يستدل بالحديث. وأما حديث ابن بشر فهو أيضًا واقعة عين لا عموم فيها فيحتمل أن يكون ترك أمره بالتحية قبل مشروعيتها، ويحتمل أن يجمع بينهما بأن قوله له: "اجلس" أي: بشوطه، وقد عرف قوله للداخل "فلا تجلس حتى تصلي ركعتين" فمعنى قوله: "اجلس" لا تتخط أو ترك أمره بالتحية لبيان الجواز، فإنها ليست واجبة؛ أو لكون دخوله وقع في آخر الخطبة بحيث ضاق الوقت عن التحية. وقد اتفقوا على استثناء هذه الصورة، ويحتمل أن يكون صلى التحية في مؤخر المسجد، ثم تقدم ليقرب من سماع الخطبة فوقع منه التخطي فأنكر عليه والجواب عن حديث ابن عمر بأنه ضعيف فيه أيوب بن نهيك وهو منكر الحديث قاله أبو زرعة وأبو حاتم، والأحاديث الصحيحة لا تعارض بمثله. والجواب عن هذا أنها لم تعارض بهذا الحديث وحده بل عورضت بما هو أقوى منها. وقد أجابوا عن حديث ابن بشر بما مرَّ من الاحتمالات. وقد قال الترمذي: إن قصة سليك هي أصح شيء روي في هذا الباب. وقد مرّ ما تطرقها من الاحتمال والقاعدة الأصولية أن "الدليل إذا تطرقه الاحتمال سقط به الاستدلال".

وأجيب عنه أيضًا بأنه عليه الصلاة والسلام أنصت له حتى فرغ من صلاته، ويدل عليه ما رواه الدارقطني في "سننه" عن أنس قال: "دخل رجل المسجد ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "قم فاركع ركعتين، وأمسك عن الخطبة حتى فرغ من صلاته" فعلى هذا، فقد جمع سليك سماع الخطبة وصلاة التحية. فإن قيل إن الدارقطني قال أسنده عبيد بن محمد والصواب أنه مرسل وقد أخرجه أحمد من رواية سليمان التيمي مرسلًا، فالجواب أن المرسل حجة عند المانعين ويؤيد هذا ما أخرجه ابن أبي شيبة عن محمد بن قيس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما أمره أن يصلي أمسك عن الخطبة حتى فرغ من ركعتيه، ثم عاد إلى خطبته. وأجيب عنه أيضًا بأن ذلك كان قبل شروعه عليه الصلاة والسلام في الخطبة. وقد بوّب النسائي في "سننه الكبرى" على حديث سليك فقال باب "الصلاة قبل الخطبة" ثم أخرج حديث سليك عن جابر قال: "جاء سليك الغطفاني ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاعد على المنبر فقعد سليك قبل أن يصلي" الحديث، ومثله عند مسلم. وأجيب عن هذا بأن القعود على المنبر لا يختص بالابتداء، بل يحتمل أن يكون بين الخطبتين، فيكون كلمه بذلك وهو قاعد فلما قام ليصلي قام النبي -صلى الله عليه وسلم- للخطبة؛ لأن زمن الخطبة لا يطول، ويحتمل أن يكون الراوي تجوّز في قوله وهو قاعد؛ لأن الروايات الصحيحة كلها مطبقة على أنه دخل والنبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب. ويرد هذا الجواب أن الأصل ابتداء قعوده وقعوده بين الخطبتين محتمل، فلا يحكم به على الأصل على أن أمره -صلى الله عليه وسلم- إياه بأن يصلي ركعتين وسؤاله إياه هل صليت وأمره للناس بالصدقة وامتثال الناس يضيق عنه القعود بين الخطبتين؛ لأن زمن هذا القعود لا يطول كما مرّ عند ذكره. واحتمال تجوز الراوي احتمال عقلي لا دليل عليه وتوهين للرواية الصحيحة بدون سبب. وأجيب عنه أيضًا بما قاله ابن العربي قال: لما تشاغل النبي -صلى الله عليه وسلم- بمخاطبة سليك سقط فرض الاستماع عنه إذ لم تكن منه حينئذ خطبة؛ لأجل تلك المخاطبة وادعى أنه أقوى الأجوبة قال في "الفتح": وهو من أضعفها؛ لأن المخاطبة لما انقضت رجع النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى خطبته وتشاغل سليك بامتثال ما أمره به من الصلاة، فصح أنه صلى في حالة الخطبة. وما قاله مردود، فإن رجوعه عليه الصلاة والسلام إلى الخطبة حال صلاة سليك لم يأت عليه بدليل. وما مرّ عن الدارقطني وغيره يبطله. وأجيب عنه أيضًا بأن ذلك كان منه قبل أن ينسخ الكلام في الصلاة ثم لما نسخ في الصلاة نسخ أيضًا في الخطبة؛ لأنها شطر صلاة الجمعة أو شرطها. قال الطحاوي: تواترت الروايات عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن مَنْ قال لصاحبه "انصت والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغا" فإذا كان قول الرجل والإمام يخطب لصاحبه أنصت لغوًا كان قول الإمام للرجل قم فصل لغوًا أيضًا، فثبت بذلك أن

الوقت الذي كان فيه الأمر من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لسليك جاء أمره به إنما كان قبل النهي، وكان الحكم منه في ذلك بخلاف الحكم في الوقت الذي جعل مثل ذلك لغوًا. وقد قال ابن العربي: الصلاة حين ذلك حرام من ثلاثة أوجه: الأول: قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} فكيف بترك الفرض الذي شرع الإِمام فيه إذا دخل عليه فيه ويشتغل بغير فرض. وقد مرَّ جوابهم عن هذا. الثاني: صح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إذا قلت لصاحبك أنصت فقد لغوت"، فإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الأصلان المفروضان الركنان في الإِسلام يحرمان في حال الخطبة، فالنفل أولى أن يحرم. الثالث: لو دخل والإمام في الصلاة لم يركع والخطبة صلاة إذ يحرم فيها ما يحرم في الصلاة من الكلام والعمل. وأما حديث سليك فلا يعترض به على هذه الأصول من أربعة أوجه: الأول: هو خبر آحاد. الثاني: يحتمل أنه كان في وقت كان الكلام فيه مباحًا في الصلاة؛ لأنا لا نعلم تاريخه، فكان مباحًا في الخطبة فلما حرم في الخطبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو آكد فرضية من الاستماع، فأولى أن يحرم ما ليس بفرض. الثالث: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كلّم سليكاً وقال له: "قم فصل"، فلما كلّمه وأمره يسقط عنه فرض الاستماع إلى آخر ما مرّ. الرابع: أن سليكًا كان ذا بذاذة إلخ. وأجابوا عمّا قيل من أن الكلام كان مباحًا في الصلاة بأن سليكًا متأخر الإِسلام جدًا، وتحريم الكلام متقدم جدًا، فكيف يدعى نسخ المتأخر بالمتقدم مع أن النسخ لا يثبت بالاحتمال؟ هكذا قال في "الفتح". وقد مرَّ قول ابن العربي: إن التاريخ غير معلوم. وقول صاحب "الفتح": إن تحريم الكلام متقدم جدًا غير مُسَلّم لما يأتي عنه في أبواب العمل في الصلاة هل كان التحريم (بمكة) أو (المدينة)؟ والذي يظهر أنه المعتمد كونه (بالمدينة)، وما قاله من تأخير إسلام سليك جدًا لم يذكر هو في "الإصابة" ولا ابن عبد البر في "الاستيعاب" وقت إسلام سليك حتى يكون متقدمًا أو متأخرًا فبان سقوط ما اعترض به، وتعقبوا ما مرّ من كون الداخل والإمام في الصلاة تسقط عنه التحية والخطبة صلاة إلخ بأن الخطبة ليست صلاة من كل وجه، والفرق بينها ظاهر من وجوه كثيرة، والداخل في حال الخطبة مأمور بشغل البقعة بالصلاة قبل الجلوس بخلاف الداخل في حال الصلاة، فإن إتيانه بالصلاة التي أقيمت يحصل المقصود هذا مع تفريق الشارع بينهما. فقال: إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوية، وفي بعض طرقه فلا صلاة إلا التي أقيمت،

ولم يقل ذلك في حال الخطبة بل أمر فيها بالصلاة، وهذا التعقيب متعقب فإن قوله: "إن الخطبة ليست صلاة من كل وجه". يقال فيه: إن القائل لم يدّع أنها صلاة من كل وجه بل قال: إنها صلاة من حيث إنها يحرم فيها ما يحرم في الصلاة من الكلام والعمل وكون الداخل مأمورًا بشغل البقعة بالصلاة مصادرة، فإن هذا هو محل النزاع، فالمانعون قالوا إنه منهي عن الصلاة في ذلك الوقت، وأنه مطلوب بشغل البقعة بالإنصات الواجب عليه كون الشارع فرّق بينهما إلخ. لم يفرق بينهما بل نهى عن الصلاة في الحالتين. وأجيب أيضًا بأن قضية سليك كانت في حال إباحة الأفعال في الخطبة قبل أن ينهى عنها، ألا ترى أن في حديث أبي سعيد الخدري "فألقى الناسُ ثيابَهم". وقد أجمع المسلمون على أن نزع الرجل ثوبه والإمام يخطب غير جائز وكذلك مس الحصى. وقول الرجل لصاحبه: أنصت كل ذلك لا يجوز، فدل ذلك على أن ما أمر به سليكًا، وما أمر به الناس من الصدقة عليه كان في حال إباحة الأفعال في الخطبة، ولما أمر -صلى الله عليه وسلم- بالإنصات عند الخطبة وجعل حكم الخطبة كحكم الصلاة، وجعل الكلام فيها لغوًا كما كان لغوًا في الصلاة، ثبت بذلك أن الصلاة فيها ممنوعة. وأجيب أيضًا بأنا لا نُسَلّم أن المراد بالركعتين المأمور بهما في حديث سليك تحية المسجد، بل يحتمل أن تكون صلاة فائتة كالصبح مثلًا. قال ابن المنير: لعله -صلى الله عليه وسلم- كشف له عن ذلك، وإنما استفهم ملاطفة له في الخطاب. قال: ولو كان المراد بالصلاة التحية لم يحتج إلى استفهامه؛ لأنه قد رآه لما دخل وقد روى هذا ابن حِبّان فقال: لو كان كذلك لم يتكرر أمره له بذلك مرة بعد أخرى، وما استدل به ابن حِبّان غير ظاهر؛ لأنه يقال فيه كذلك لو كان للتحية لم يتكرر أمره له بذلك، ولا يحتاج الصحابي إلى التكرار وكون التكرار واقعًا في الواجب أولى من كونه واقعًا في النفل. وأجيب أيضًا بأنا لا نسلم أن الخطبة المذكورة كانت للجمعة، ويدل على أنها كانت لغيرها قوله للداخل: أصليت؛ لأن وقت الصلاة لم يكن دخل، وهذا ينبني على أن الاستفهام عن صلاة الفرض فيحتاج إلى ثبوت ذلك، وقد وقع في حديث الباب وفي الذي بعده أن ذلك كان يوم الجمعة، فهو ظاهر في أن الخطبةكانت لصلاة. وأقوى ما اعتمده المالكية في هذه المسألة عمل أهل المدينة خلفًا عن سلف من لدن الصحابة إلى عهد مالك أن التنفل في حال الخطبة ممنوع مطلقًا. وقد قال عياض: كان أبو بكر وعمر وعثمان يمنعون من الصلاة عند الخطبة. وقال ابن شهاب: خروج الإِمام يمنع الصلاة، وكلامه يقطع الكلام. وأخرج الطحاوي عن ثعلبة بن أبي مالك كان عمر -رضي الله تعالى عنه- "إذا خرج للخطبة أنصتنا".

وفي رواية: "إن جلوس الإمام على المنبر يقطع الصلاة". وأخرج ابن أبي شيبة عنه في مصنفه قال: "أدركت عمر وعثمان -رضي الله تعالى عنهما- فكان الإمام إذا خرج تركنا الصلاة، وإذا تكلم تركنا الكلام". وتعقب في "الفتح" هذا بمنع اتفاق أهل المدينة على ذلك. قال: فقد ثبت فعل التحية عن أبي سعيد الخدري، وهو من فقهاء الصحابة من أهل المدينة، وحمله عنه أصحابه من أهل المدينة. فقد روى الترمذي وابن خزيمة وصححاه "أن أبا سعيد الخدري دخل ومروان يخطب فصلّى ركعتين فأراد حرس مروان أن يمنعوه فأبى حتى صلاّهما ثم قال: "ما كنت لأدعهما بعد أن سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمر بهما". قال: ولم يثبت عن أحد من الصحابة صريحًا ما يخالف ذلك. وأما ما نقله ابن بطال عن عمر وعثمان وغير واحد من الصحابة من المنع مطلقًا، فاعتماده في ذلك على روايات عنهم فيها احتمال كقول ثعلبة بن أبي مالك: "أدركت عمر وعثمان وكان الإمام إذا خرج تركنا الصلاة". وجه الاحتمال أن يكون ثعلبة عني بذلك من كان داخل المسجد خاصة. وقال الحافظ أبو الفضل في "شرح الترمذي": كل مَنْ نقل عنه من الصحابة منع الصلاة والإمام يخطب محمول على مَنْ كان داخل المسجد؛ لأنه لم يقع عن أحد منهم التصريح بمنع التحية. وقد ورد فيها حديث يخصها فلا يترك بالاحتمال. قلت: هذا التعقب كله متعقب فإن حديث أبي سعيد نفسه دال على أن عملهما في المدينة لم يكن متعارفًا وإلا لما أراد حرس مروان منع أبي سعيد من صلاتهما، فإرادتهما سمعه دليل واضح على أن الأمراء كانوا يوكلون من يمنع من صلاتهما، وانفراد أبي سعيد لا يمنع من الاتفاق كانفراد عبد الله بن مسعود بالقراءة وغيره من الصحابة. وما قاله من الاحتمال في كلام ثعلبة بن أبي مالك بعيد جدًا، فإن تعليقه لترك الكلام على خروج الإمام ظاهر أو صريح في عموم الداخل والسابق، وكذلك الروايات السابقة عنه. وما قاله أبو الفضل من أنها ورد فيها حديث يخصها فلا يترك بالاحتمال يجاب عنه بأن الوارد فيها أقواه حديث سليك كما مرَّ، وفيه من الاحتمالات ما يوجب سقوط الاستدلال به قطعًا وقوله: "أنه لم يثبت عن أحد من الصحابة صريحًا ما يخالف ذلك" يقال فيه: إنه قد ورد عنهم ما يخالف ذلك، فقد روي عن أبي سعيد الخدري رفعه: "لا تصلُّوا والِإمام يخطب". ودعوى أن عمومه يخص بالأمر بصلاة التحية دعوى لا دليل عليها، ولم لا يقال إن إطلاق الأمر بالتحية يقيد بالنهي وقت الخطبة.

وأخرج الطحاوي عن عقبة بن عامر أنه قال: الصلاة والإمام على المنبر معصية، فأي تصريح فوق هذا؛ فإن قيل في سنده ابن لهيعة. أُجيب عنه بأنه قد وثّقه أحمد، وروى عنه كثيرًا، ووثّقه ابن وهب وأحمد بن صالح. وأخرج الطحاوي عن عطاء قال: "كان ابن عمر وابن عباس -رضي الله تعالى عنهم- يكرهان الكلام والصلاة إذا خرج الإِمام يوم الجمعة". وأخرج الطحاوي مثل هذا عن الشعبي والزهري وعلقمة وأبي قلابة ومجاهد من التابعين. واحتج المانعون أيضًا بأنهم اتفقوا على أن منع الصلاة في الأوقات المكروهة يستوي فيه مَنْ كان داخل المسجد أو خارجه. وقد اتفقوا على أن مَنْ كان داخل المسجد يمتنع عليه التنفل حال الخطبة، فليكن الآتي كذلك، قاله الطحاوي ووافقه الماوردي من الشافعية على ما نقل من الاتفاق. وتعقب هذا بأنه قياس في مقابلة النص فهو فاسد، ورد هذا بأن الطحاوي لم يبن كلامه على القياس حتى يكون ما قاله قياسًا في مقابلة النص، بل الطحاوي روى أحاديث عن سليمان وأبي سعيد وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص وأوس بن أوس -رضي الله تعالى عنهم- كلها تأمر بالإنصات إذا خطب الإمام، فتدل على أن موضع كلام الإمام ليس بموضع للصلاة، فبالنظر على ذلك يستوي الداخل والآتي. وأيضًا إنما يكون القياس في مقابلة النص فاسدًا إذا كان ذلك النص سالمًا من المعارض، ولم يسلم حديث سليك عن أمور كثيرة مرَّ ذكرها. واحتجوا أيضًا بأنهم اتفقوا على سقوط التحية عن الإِمام مع كونه يجلس على المنبر مع أن له ابتداء الكلام في الخطبة دون المأموم، فيكون ترك المأموم التحية بطريق الأولى، وتعقب بأنه أيضًا قياس في مقابلة النص فهو فاسد؛ ولأن الأمر وقع مقيدًا بحال الخطبة، فلم يتناول الخطيب، وهذا التعقب مردود بما مرّ قريبًا من أن القياس في مقابلة النص إنما يكون فاسدًا إلخ، وبأن الخطيب إذا لم يتناوله الحديث المقيد بحال الخطبة يتناوله الحديث المتفق عليه الذي فيه الأمر للداخل بأن لا يجلس حتى يصلي ركعتين، فلولا أن دخوله هو للمسجد مانع من التحية لكان هو مطالبًا بالتحية. واحتج المانحون بأن عمر لم يأمر عثمان بصلاة التحية مع أنه أنكر عليه الاقتصار على الوضوء. وأجيب باحتمال أن يكون صلاّهما. واحتجوا أيضًا بما أخرجه الطحاوي "عن عبد الله بن صفوان أنه دخل المسجد وابن الزبير يخطب فاستلم الركن، ثم سلم ثم جلس ولم يركع. وعبد الله بن صفوان وعبد الله بن الزبير صحابيان صغيران، فقد استدل به الطحاوي فقال: لما لم ينكر ابن الزبير على ابن صفوان ولا من حضرهما من الصحابة ترك التحية، فدل على صحة ما قلناه. وتعقب بأن تركهم النكير لا يدل على

رجاله أربعة

تحريمها بل يدل على عدم وجوبها، ولم يقل به مخالفوهم. وهذا التعقيب متعقب؛ لأنه ما ادّعى تحريمها حتى يرد ما استدل به الطحاوي، ولم يقل هو ولا غيره بالحرمة وإنما دعواهم أن الداخل ينبغي أن يجلس ولا يصلي شيئًا، والحال أن الإمام يخطب وهو الذي ذهب إليه الجمهور من الصحابة والتابعين. قال في "الفتح": وهذه الأجوبة التي قد مرّت يندفع من أصلها بعموم قوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي قتادة: "إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس" متفق عليه. فهذا عام يتناول كل داخل في المسجد سواء كان يوم الجمعة والإمام يخطب أو غيره. ويجاب عن هذا بأن الحديث في حق مَنْ دخل المسجد في حال تحل فيه الصلاة لا مطلقًا ألا ترى أن مَنْ دخل المسجد عند طلوع الشمس وغروبها أو عند قيامها في كبد السماء عند مَنْ منع الصلاة في ذلك الوقت لا يصلّي في هذه الأوقات للنهي الوارد فيه؟ فكذلك لا يمشي والإمام يخطب يوم الجمعة لورود وجوب الإِنصات فيه، والصلاة حينئذ مما يخل بالإنصات. قلت: هذا لا يرد على مَنْ يخص النهي في هذه الأوقات بالنافلة التي لا سبب لها كالشافعية وفي الحديث أن للخطيب أن يأمر في خطبته وينهى، ويبيّن الأحكام المحتاج إليها ولا يقطع ذلك التوالي المشترط فيها، بل لقائل أن يقول كل ذلك يعد من الخطبة. واستدل به على أن المسجد شرط للجمعة للاتفاق على أنه لا تشرع التحية لغير المسجد، واستثنى المحاملي المسجد الحرام؛ لأن تحيته الطواف، وفيه نظر لطول زمان الطواف بالنسبة إلى الركعتين. قال في "الفتح": والذي يظهر من قولهم إن تحية مسجد (مكة) الطواف إنما هو في حق القادم ليكون أول شيء يفعله الطواف، وأما المقيم فحكم المسجد الحرام وغيره في ذلك سواء، ولعل قول مَنْ أطلق أنه يبدأ في المسجد الحرام بالطواف لكون الطواف يعقبه صلاة الركعتين، فيحصل شغل البقعة بالصلاة غالبًا وهو المقصود، ويختص المسجد الحرام بزيادة الطواف. وحاصل مذصب مالك أن مَنْ طلب بالطواف ولو ندبًا كطواف الوداع أوأراده عند دخوله، فتحيته الطواف لا فرق بين كونه آفاقيًا أم لا. وكذا إن لم يرده وهو آفاقي فهذه خمس. وأما إذا كان لم يرده وهو مقيم فتحيته ركعتان. رجاله أربعة: قد مرّوا، وفيه ذكر رجل مبهم، مرَّ أبو النعمان في الحادي والخمسين من الإيمان، ومرّ حمّاد بن زيد في الرابع والعشرين منه، ومرَّ عمرو بن دينار في الرابع والخمسين من "العلم"، ومرّ جابر في الرابع من "بدء الوحي".

والرجل المبهم صرّح مسلم وغيره بأنه سُليك بضم السين مصغر ابن عمرو، أو ابن هدبة الغطفاني. أخرجه مسلم في "الصلاة" وأبو داود والنسائي والترمذي، وقال حسن صحيح. ثم قال المصنف:

باب من جاء والإمام يخطب صلى ركعتين خفيفتين

باب مَنْ جاء والِإمام يخطب صلّى ركعتين خفيفتين لم يقع في الحديث الذي ذكره التقييد بكونهما خفيفتين، لكن المصنف جرى على عادته في الإِشارة إلى ما في بعض طرق الحديث. فقد أخرجه أبو قرة في "السنن" عن أبي سفيان عن جابر بلفظ: "قم فاركع ركعتين خفيفتين". وقد تقدم أنه عند مسلم بلفظ: "فتجوّز فيهما". وقال الزين بن المنير ما ملخصه في الترجمة الأولى: "أن الأمر بالركعتين يتقيد برؤية الإِمام الداخل في حال الخطبة بعد أن يستفسره هل صلّى أم لا". وذلك كله خاص بالخطيب. وأما حكم الداخل، فلا يتقيد بشيء من ذلك، بل يستحب له أن يصلي تحية المسجد. فأشار المصنف إلى ذلك كله بالترجمة الثانية بعد الأولى مع أن الحديث فيهما واحد. الحديث الرابع والخمسون حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو سَمِعَ جَابِرًا قَالَ: "دَخَلَ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالنَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- يَخْطُبُ فَقَالَ: أَصَلَّيْتَ؟. قَالَ: لاَ. قَالَ: فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ". قوله: "عن عمرو" وقع التصريح بسماع سفيان منه في هذا الحديث في "مسند الحميدي"، وهو عند أبي نعيم في "المستخرج". وقوله: "صلّيت" كذا للأكثر أيضًا بحذف الهمزة، وثبتت لكريمة وللمستملي. وقوله: "قال: فصلِّ" زاد في رواية أبي ذر "قال: قمْ فصلِّ"، وهذا الحديث هو نفس الحديث السابق، وقد استوفيت مباحثه في السابق. رجاله أربعة: قد مرّوا، مرّ علي بن المديني في الرابع عشر من "العلم"، ومرّ سفيان في الأول من "بدء الوحي"، ومرّ محل عمرو وجابر في الذي قبله، والرجل المبهم. ثم قال المصنف:

باب رفع اليدين في الخطبة

باب رفع اليدين في الخطبة أورد فيه طرفًا من حديث أنس في قصة الاستسقاء، وقد ساقه المصنف بتمامه في "علامات النبوءة" من هذا الوجه وهو مطابق للترجمة، وفيه إشارة إلى أن حديث عمارة بن رويثة أخرجه مسلم في إنكاره ذلك ليس على إطلاقه، لكن قيد مالك الجواز بدعاء الاستسقاء كما في هذا الحديث، ويأتي استيفاء الكلام على هذا في الباب الذي يليه. الحديث الخامس والخمسون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ أَنَسٍ. وَعَنْ يُونُسَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "بَيْنَمَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِذْ قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَ الْكُرَاعُ، وَهَلَكَ الشَّاءُ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَسْقِيَنَا. فَمَدَّ يَدَيْهِ وَدَعَا". قوله: "وعن يونس عن ثابت" يونس هو ابن عبيد وهو معطوف على الإِسناد المذكور والتقدير وحدّثنا مسدد أيضًا عن حماد بن زيد عن يونس، وقد أخرجه أبو داود عن مسدد أيضًا بالإسنادين معًا. وأخرجه البزار أيضًا من طريق مسدد، وقال تفرد به حماد بن زيد عن يونس بن عبيد. وقوله: "بينما" أصله (بين) فزيدت فيه الألف والميم وأضيف إلى الجملة بعده، وجوابه إذ قام وقد مرّ إشباع الكلام عليه في بدء "الوحي" في حديث جابر بن عبد الله. وقوله: "هلك الكُراع" هو بضم الكاف يطلق على الخيل وغيرها. وقوله: "هلك النساء" جمع شاة، وأصل الشاة شاهة لتصغيرها على شويهة، والجمع شياه بالهاء، وجمع شياه شوى. وقوله: "فمدّ يديه ودعا" في الحديث الذي بعده "فرفع يديه" كلفظ الترجمة وكأنه أراد أن يبّين أن المراد بالرفع هنا المدّ لا كالرفع الذي في الصلاة، وسيأتي إن شاء الله تعالى في الحديث الذي بعده صفة رفع اليدين في الاستسقاء وغيره. والرجل السائل يأتي الكلام عليه في الحديث من الاستسقاء. رجاله ستة: قد مرّوا، وفيه ذكر رجل مبهم، مرّ مسدد وأنس في السادس من "الإيمان"، وحمّاد في الرابع والعشرين منه وابن صهيب في الثامن منه، ويونس بن عبيد مع حمّاد وثابت في تعليق بعد الخامس من "العلم". والرجل المبهم يأتي ما قيل فيه في الثامن من "الاستسقاء". أخرجه في "علامات النبوءة" أيضًا في "الاستسقاء" مطولًا ومختصرًا. وأخرجه أبو داود والنسائي ورجال الطريقين كلهم بصريون. ثم قال المصنف:

باب الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة

باب الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة أورد فيه الحديث المذكور مطولًا من وجه آخر عن أنس، وهو مطابق للترجمة أيضًا. الحديث السادس والخمسون حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: "أَصَابَتِ النَّاسَ سَنَةٌ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَبَيْنَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَخْطُبُ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَ الْمَالُ وَجَاعَ الْعِيَالُ، فَادْعُ اللَّهَ لَنَا. فَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ قَزَعَةً، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا وَضَعَهَا حَتَّى ثَارَ السَّحَابُ أَمْثَالَ الْجِبَالِ، ثُمَّ لَمْ يَنْزِلْ عَنْ مِنْبَرِهِ حَتَّى رَأَيْتُ الْمَطَرَ يَتَحَادَرُ عَلَى لِحْيَتِهِ -صلى الله عليه وسلم- فَمُطِرْنَا يَوْمَنَا ذَلِكَ، وَمِنَ الْغَدِ، وَبَعْدَ الْغَدِ وَالَّذِى يَلِيهِ، حَتَّى الْجُمُعَةِ الأُخْرَى، وَقَامَ ذَلِكَ الأَعْرَابِيُّ أَوْ قَالَ غَيْرُهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَهَدَّمَ الْبِنَاءُ وَغَرِقَ الْمَالُ، فَادْعُ اللَّهَ لَنَا. فَرَفَعَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا، وَلاَ عَلَيْنَا. فَمَا يُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ السَّحَابِ إِلاَّ انْفَرَجَتْ، وَصَارَتِ الْمَدِينَةُ مِثْلَ الْجَوْبَةِ، وَسَالَ الْوَادِى قَنَاةُ شَهْرًا، وَلَمْ يَجِيءْ أَحَدٌ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلاَّ حَدَّثَ بِالْجَوْدِ". قوله: "أصابت الناس سَنة" أي: بفتح السين أي: شدة جهد من الجدب وهو من قوله: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ} وأصل سنة سَنْهَة بوزن جَبْهَة، حذفت اللام ونقلت حركتها إلى النون، وقيل أصلها سنوة بالواو فحذفت كما حذفت الهاء. وقوله: "على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-" أي: على زمنه. وقوله: "فبينا" مرّ في الباب الذي قبله. وقوله: "قام أعرابي" الأعرابي نسبة إلى الأعراب؛ لأنه لا واحد له، وليس هو جمعًا لعرب وإنما الأعراب سكان البادية خاصة، والعرب الجيل المعروف والنسبة إليه عربي، ويأتي في رواية يحيى بن سعيد عن أنس في "الاستسقاء": "أتى رجل من أهل البدو". وأما قوله في رواية ثابت الآتية في باب "الدعاء" (إذا كثر المطر) عن أنس "فقام الناس فصاحوا" فلا يعارض ذلك؛ لأنه يحتمل أن يكونوا سألوه بعد أن سأل، ويحتمل أنه نسب ذلك إليهم لموافقة سؤال السائل ما كانوا يريدونه من طلب دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- لهم. وعند أحمد من رواية ثابت "إذ قال بعض أهل المسجد" وهي ترجح الاحتمال الأول.

وفي رواية شريك عن أنس في "الاستسقاء": "أن رجلًا دخل يوم الجمعة من باب وجاه المنبر" أىِ: بكسر واو وجاه، ويجوز ضمها أي: مواجهة. وفي "شرح ابن التين" أن معناه مستدبر القبلة، وهو وهم. وكأنه ظن أن الباب المذكور كان مقابل ظهر المنبر، وليس الأمر كذلك. وفي رواية إسماعيل بن جعفر "من باب كان نحو دار القضاء"، وفسر بعضهم دار القضاء بأنها دار الإمارة وليس كذلك، وإنما هي دار عمر بن الخطاب وسميت (دار القضاء)؛ لأنها بيعت في قضاء دينه فكان يقال لها (دار قضاء دين عمر)، ثم طال ذلك فقيل لها (دار القضاء) ذكره الزبير بن بكار بسنده إلى ابن عمر وذكر عمر بن شبة عن ابن أبي فديك عن عمه كانت (دار القضاء) لعمر فأمر عبد الله وحفصة أن يبيعاها عند وفاته في دين كان عليه فباعوها من معاوية، وكانت تسمى (دار القضاء). قال ابن أبي فديك: سمعت عمي يقول: إن كانت لتسمى (دار قضاء الدين). قال: وأخبرني عمي أن الخوخة الشارعة في (دار القضاء) غربي المسجد، وهرب خوخة أبي بكر الصديق التي قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تبقى في المسجدِ خوخةٌ إلا خوخةُ أبي بكرٍ". وقد صارت بعد ذلك إلى مروان وهو أمير المدينة، فلعلها شبهة من قال إنها دار الإمارة، فلا يكون غلطًا كما قال صاحب "المطالع" وغيره وجاء في تسميتها (دار القضاء) قول آخر رواه عمر بن شبة عن أم الحكم بنت عبد الله عن عمتها سهلة بنت عاصم قالت: كانت (دار القضاء) لعبد الرحمن بن عوف وإنما سميت (دار القضاء)؛ لأن عبد الرحمن بن عوف اعتزل فيها ليالي الشورى حتى قضى الأمر فيها فباعها بنو عبد الرحمن من معاوية بن أبي سفيان. قال عبد العزيز بن عمران: فكانت فيها الدواوين وبيت المال، ثم صيّرها السفاح رحبة للمسجد، وزاد أحمد في رواية ثابت عن أنس: "أني لقائم عند المنبر" فأفاد بذلك قوة ضبطه للقصة لقربه، ومن ثم لم يرد هذا الحديث بهذا السياق كله إلا من روايته. وقوله: "فقال: يا رسول الله" هذا يدل على أن السائل كان مسلمًا، فانتفى أن يكون أبا سفيان؛ لأنه حين سؤاله لذلك كان لم يسلم كما يأتي في "الاستسقاء". وقوله: "هلك المال وجاع العيال". وفي رواية شريك: "هلكت الأموال وانقطعت السبل". وفي رواية كريمة وأبي ذر عن الكشميهني: "المواشي" وهو المراد بالأموال هنا لا الصامت. وقد مرّ في الحديث السابق الكُراع والعيال قال الجوهري: عيال الرجل من يعوله، وواحد العيال عيّل والجمع عيايل مثل جيد وجياد وجدايد. وفي رواية يحيى بن سعيد الآتية في "الاستسقاء": "هلكت الماشية، هلك العيال، هلك الناس" وهو من ذكر العام بعد الخاص والمراد بهلاكهم عدم وجود ما يعيشون به من الأقوات

المفقودة بحبس المطر. "وانقطاع السبل" المراد به أن الإبل ضعفت لقلة القوت عن السفر، أو لكونها لا تجد في طريقها من الكلأ ما يقيم أودها. وقيل: المراد نفاد ما عند الناس من الطعام أو قلته فلا يجدون ما يحملونه ويجلبونه إلى الأسواق. وفي رواية قتادة عن أنس الآتية في "الاستسقاء": "قَحَطَ المطر" أي: قَل وهو بفتح القاف والحاء، وحكي بضم ثم كسر. وفي رواية ثابت عن أنس الآتية أيضًا و"احمرت الشجر" واحمرارها كناية عن يبس ورقها لعدم شربها الماء أو لانتشاره فتصير الشجر أعوادًا بغير ورق. ولأحمد في رواية قتادة: "وأمحلت الأرض" وهذه الألفاظ يحتمل أن يكون الرجل قالها كلها، ويحتمل أن يكون بعض الرواة روى شيئًا مما قاله بالمعنى؛ لأنها متقاربة فلا تكون غلطًا كما قال صاحب "المطالع" وغيره. وقوله: "فادعُ الله لنا"، وفي رواية شريك في الاستسقاء "فادعُ الله يغيثنا" أي: فهو يغيثنا وهذه رواية الأكثر ولأبي ذر "أن يغيثنا". وفي رواية إسماعيل بن جعفر الآتية للكشميهني "يغثنا" بالجزم ويجوز الضم في يغيثنا على أنه من الإغاثة والفتح على أنه من الغيث، ويرجح الأول قوله في رواية إسماعيل بن جعفر "اللهمّ أغثنا". وفي رواية قتادة "فادعُ الله أن يسقينا" وله في "الأدب": "فاستسقِ ربَّك". قال قاسم بن ثابت رواه لنا موسى بن هارون: "اللهمّ أغثنا". وجائز أن يكون من الغَوْث أو من الغَيْث، والمعروف من كلام العرب غِثْنَا؛ لأنه من الغَوْث. وقال ابن القعقاع: غَاثَ الله عباده غَيْثًا وغِيَاثًا سقاهم المطر، وأَغَاثَهم أجاب دعاءهم. ويقال غَاثَ وأَغَاثَ بمعنى والرباعي أعلى. وقال ابن دريد: الأصل غَاثَه الله يَغُوثِه غَوْثًا فأُغِيثَ، واستعمل أغَاثَه ومن فتح أوله فمن الغَيْث، ويحتمل أن يكون معنى "أَغِثْنا" أعطنا غَوْثًا وغَيْثًا. وقوله: "فرفع يديه" زاد النسائي في رواية يحيى بن سعيد: "ورفع الناس أيديهم مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعون". وزاد في رواية شريك "حِذاء وجهه". ولابن خزيمة عن حميد عن أنس: "حتى رأيت بياض إبطيه". وقد مرّ في الحديث الذي قبل هذا "فمدّ يديه ودعا"، زاد في رواية قتادة في "الأدب" "فنظر إلى السماء". وقوله: "وما نرى في السماء قَزَعة". وفي رواية شريك الآتية "اللَّهمَّ اسقنا أعادها ثلاثًا".

وفي رواية ثابت الآتية عن أنس "اللَّهمَّ اسقنا مرتين" والأخذ بالزيادة أولى ويرجحه ما مرّ في "العلم" من "أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا دعا دعا ثلاثًا". وفي الرواية المذكورة قال أنس: "ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة ولا شيئًا" والمراد بالسحاب المجتمع والقزعة بالقاف بالتحريك سحاب متفرق رقاق كأنها ظل إذا مرت من تحت السحاب الكثير. قال أبو عبيدة: وأكثر ما يجيء في الخريف. وقوله: "ولا شيئًا" بالنصب عطفًا على موضع الجار والمجرور أي ما نرى شيئًا، والمراد نفي علامات المطر من ريح وغيره، وفي الرواية المذكورة "وما بيننا وبين سَلْع من بيت ولا دار" وسَلْع بفتح المهملة وسكون اللام جبل معروف (بالمدينة المنورة). وقد حكي أنه بفتح اللام. وقوله: "من بيت ولا دار" أي: يحجبنا عن رؤيته وأشار بذلك إلى أن السحاب كان مفقودًا لا مستترًا ببيت ولا غيره. وفي رواية ثابت "في علامات النبوءة" قال أنس: "وإن السماء لفي مثل الزجاجة" أي: لشدة صفائها، وذلك مشعر بعدم السحاب أيضًا. وفي الرواية المذكورة لشريك قال: "فطلعت من ورائه سحابة مثل التُرس". وقوله: "طلعت" أي ظهرت. وقوله: "من ورائه" أي سَلْع وكأنها نشأت من جهة البحر؛ لأنه وضع يقتضي ذلك. وقوله: "مثل التُرس" وهو بضم التاء ما يترس به، والمراد أنها مستديرة ولم يرد أنها مثله في القدر؛ لأن في رواية حفص بن عبيد الله عند أبي عوانة: "فنشأت سحابة مثل رجل الطائر وأنا انظر إليها" فهذا يشعر بأنها كانت صغيرة. وفي رواية ثابت المذكورة: "فهاجت ريح أنشات سحابًا ثم اجتمع". وفي رواية قتادة في "الأدب": "فنشأ السحاب بعضه إلى بعض" وفيها أي رواية شريك "فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت" وهذا يشعر بأنها استمرت مستديرة حتى انتهت إلى الأفق فانبسطت حينئذ، وكان فائدته تعميم الأرض بالمطر. وقوله: "وضعهما حتى ثار السحاب أمثال الجبال" ثار بالثاء المثلثة أي: هاج. يقال: ثار الشيء يثور إذا ارتفع وانتشر. وقوله: "أمثال الجبال" أي: لكثرتها وإطباقها وجه السماء. وقوله: "ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر عن لحيته" أي: ينزل ويقطر، وهو (يتفاعل) من الحدور وهو ضد الصعود وأصل باب (التفاعل) للمشاركة بين قوم وهنا ليس كذلك؛ لأن (تفاعل) قد تجيء بمعنى (فعل) مثل توانيت أي: ونيت، وهذا كذلك ومعناه يحدر، وهذا يدل على أن السقف وكف لكونه كان من جريد النخل. وقوله: "فمُطرنا يومنا ذلك ومن الغد ومن بعد

الغد والذي يليه حتى الجمعة الأخرى" بضم ميم مطرنا مبنيًا للمفعول، "ويومنا" منصوب على الظرفية يعني في يومنا، وكلمة (من) في قوله: "من الغد" إما بمعنى (في) أي: في الغد، وإما تبعيضية. "وحتى الجمعة" يجوز فيها الحركات الثلاث كما في أكلت السمكة حتى رأسِها. وفي رواية شريك الآتية "ما رأينا الشمس سبتًا" وهو كناية عن استمرار الغيم الماطر، وهذا في الغالب وإلا فقد يستمر المطر والشمس بادية، وقد تحجب الشمس بغير مطر ورواية الباب أصرح من هذه. وقوله: "سبتاً" هو رواية الأكثر والمراد به أحد الأيام والمراد به الأسبوع، وهو من تسمية الشيء باسم بعضه كما يقال جمعة، ويقال أراد قطعة من الزمان. وقال الزين بن المنير: قوله: "سبتًا" أي: من السبت إلى السبت أي جمعة. وقال المحب الطبري مثله، وزاد أن فيه تجوّزًا لأن السبت لم يكن مبدأ ولا الثاني منتهى وإنما عبر أنس بذلك؛ لأنه كان من الأنصار وكانوا قد جاوروا اليهود فأخذوا بكثير من اصطلاحهم، وإنما سموا الأسبوع سبتًا؛ لأنه أعظم الأيام عند اليهود كما أن الجمعة عند المسلمين كذلك. وحكى النووي تبعًا لغيره كثابت في الدلائل أن المراد بقوله: "سبتًا" قطعة من الزمان، ولفظ ثابت يقولون معناه من سبت إلى سبت وإنما السبت قطعة من الزمان، وأن الداودي رواه بلفظ "ستًا" وهو تصحيف، وتعقب بأن الداودي لم ينفرد بذلك. ففي رواية الحموي والمستملي هنا "ستًا"، وكذا رواه سعيد بن منصور عن الدراوردي عن شريك، ووافقه أحمد من رواية ثابت عن أنس، وكان من ادّعى أنه تصحيف استبعاد اجتماع قوله: "ستًا" مع قوله في رواية إسماعيل بن جعفر الآتية سبعًا وليس بمستبعد؛ لأن مَنْ قال: "ستًا" أراد ستة أيام تامة ومَنْ قال سبعًا أضاف أيضًا يومًا ملفقًا من الجمعتين. وفي رواية للنسفي فدامت جمعة، وفي رواية عبدوس والقابسي فيما حكاه عياض سبتنا كما يقال جمعتنا. ووهم من عزى هذه الرواية لأبي ذر وفي رواية قتادة الآتية "فمطرنا فما كدنا نصل إلى منازلنا" أي: من كثرة المطر. وفي رواية "فخرجنا نخوض الماء حتى أتينا منازلنا" ولمسلم من رواية ثابت "فأمطرنا حتى رأيت الرجل تهمه نفسه أن يأتي أهله". ولابن خزيمة في رواية حميد "حتى أهم الشاب القريب الدار الرجوع إلى أهله". وللمصنف في "الأدب" عن قتادة "حتى سالت مثاعب المدينة" ومثاعب جمع مثعب بالمثلثة وآخره موحدة مسيل ماء. وقوله: "وقام ذلك الأعرابي أو قال". وفي رواية شريك الآتية "ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة"، وظاهر هذه الرواية أنه غير الأول؛ لأن النكرة إذا تكررت دلت على التعدد.

وقد قال شريك في آخر حديثه سألت أنسًا: أهو الرجل الأول؟ قال: لا أدري. وهذا يقتضي أنه لم يجزم بالتغاير فالظاهر أن القاعدة المذكورة كانت أغلبية؛ لأن أنسًا كان من أهل اللسان. وقد تعددت ورواية الباب ومثلها رواية قتادة في "الأدب" تقتضي أنه كان يشك فيه، وسيأتي في "الاستسقاء" من رواية يحيى بن سعيد "فأتى الرجل فقال: يا رسول الله". ومثله لأبي عوانة عن أنسر بلفظ فما زلنا نمطر حتى جاء ذلك الأعرابي في الجمعة الأخرى". وأصله في "مسلم" وهذا يقتضي الجزم بكونه واحدًا، فلعل أنسًا تذكره بعد أن نسيه أو نسيه بعد أن كان تذكره. ويؤيد ذلك رواية البيهقي في "الدلائل" عن يزيد أن عبيدًا السلمي قال: لما قفل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من غزوة تبوك أتاه وفد بني فزارة وفيه خارجة بن حصن أخو عيينة بن حصن قدموا على إبل عجاف فقالوا: يا رسول الله أدعُ لنا ربك أن يغيثنا" فذكر الحديث وفيه: "اللهمّ اسقِ بلدَكَ وبهيمتَكَ وانشرْ بركتَكَ، اللهمّ اسقِنا غيثًا مغيثًا مريئًا مريعًا طبقًا واسعًا عاجلًا غير آجل نافعًا غير ضار، اللهمّ سقيا رحمةٍ لا سقيا عذاب، اللهمّ اسقنا الغيثَ وانصرنا على الأعداءِ". وفيه: "فقال: واللهِ ما نرى في السماء من قَزَعَةٍ ولا سحاب، وما بين المسجدِ وسَلْعٍ من بناءٍ" فذكر نحو حديث أنس بتمامه. وفيه قال الرجل يعني الذي سأله أن يستسقي لهم: "هلكتِ الأموالُ" الحديث. والظاهر أن السائل هو خارجة المذكور؛ لكونه كان كبير الوفد ولذلك سمي من بينهم، وأفادت هذه الرواية صفة الدعاء المذكور والوقت الذي وقع فيه الدعاء. وقوله: "فقال: يا رسولَ اللهِ تهدَّمَ البناءُ وغرقَ المال فادعُ اللهَ لنا فرفعَ يديهِ" وفي رواية حميد عند ابن خزيمة "واحتبسَ الركبانُ". وفي رواية شريك الآتية "هلكتِ الأموالُ وانقطعتِ السبلُ" أي بسبب غير السبب الأول، والمراد أن كثرة الماء انقطع المرعى بسببها فهلكت المواشي من عدم الرعي؛ أو لعدم ما يكنها من المطر. ويدل على ذلك قوله في رواية شريك عند النسائي "من كثرة الماء"، وأما انقطاع السبل، فلتعذر سلوك الطرق من كثرة الماء. وفي رواية شريك الآتية "فادعُ اللهَ يمسكها" يجوز في يمسكها الضم والسكون، وللكشميهني "أن يمسكَها" والضمير يعود على الأمطار أو على السحاب أو على السماء، والعرب تطلق على المطر سماء. وفي رواية سعيد عن شريك "أن يمسكَ عنا الماء". وعند أحمد عن ثابت "أن يرفعها عنا". وفي رواية قتادة في "الأدب": "فادعُ ربَّك أن يحبسَها عنا، فضحك".

وفي رواية ثابت "فتبسم". وزاد في رواية حميد "لسرعة ملال بن آدم". وقوله: "فقال: اللَّهُمَّ حوالينا" بفتح اللام. وفي "مسلم": "حولنا" وكلاهما صحيح أي: مطبقين به من جوانبه، وهو ظرف متعلق بمحذوف تقديره (اجعل أو أمطر) والمراد به صرف المطر عن الأبنية والدور، وقد مرّت لغاته في حديث هرقل في "بدء الوحي". وقوله: "ولا علينا" أي: ولا تمطر علينا فيه بيان للمراد بقوله حوالينا؛ لأنها تشمل الطرق التي حولهم فأراد إخراجها بقوله ولا علينا. قال الطيبي في إدخال الواو هنا معنى لطيف، وذلك أنه لو أسقطها لكان مستسقيًا للآكام وما معها المذكورة في رواية شريك الآتي ذكرها قريبًا. ودخول الواو يقتضي أن طلب المطر على المذكورات ليس مقصودًا لعينه، ولكن ليكون وقاية من أذى المطر، فليست الواو مخلصة للعطف ولكنها للتعليل، وهو كقولهم (تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها) فإن الجوع ليس مقصودًا لعينه، ولكن لكونه مانعًا عن الرضاع بأجرة إذ كانوا يكرهون ذلك أنفة. وقوله: "فما يشيرُ بيديهِ إلى ناحيةٍ من السحاب إلا انفرجتْ وصارتْ المدينة مثلَ" وفي رواية مالك: "فانجابتْ عن المدينةِ انجيابَ الثوبِ" أي: خرجت عنها كما يخرج الثوب عن لابسه. وقوله: "إلا انفرجت" أي: إلا انكشفت. وقال ابن القاسم معناه تدورت كما يدور جيب القميص. وقال ابن وهب: معناه انقطعت عن المدينةِ كما ينقطع الثوب. وقوله: "مثلَ الجَوْبَةِ" وهي بفتح الجيم والباء بينهما واو ساكنة الحفرة المستديرة الواسعة والمراد بها هنا الفرجة في السحاب. وقال الخطابي: المراد بالجوبة هنا الترس. وضبطها الزين بن المنير تبعًا لغيره بنون بدل الموحدة، ثم فسرها بالشمس إذا ظهرت في خلال السحاب، لكن جزم عياض بأن من قاله بالنون فقد صحف. وقوله: "وسالَ الوادي قَناةُ شهرًا" وقَناة بفتح القاف والنون الخفيفة علم على أرض ذات مزارع بناحية (أُحد) وواديها أحد أودية المدينة المشهورة، قاله الحازمي. وذكر محمد بن الحسن المخزومي: "في أخبار المدينة" بإسناده "أن أول مَنْ سمّاه وادي قناة تُبَّع اليماني لمّا قدم المدينة قبل الإِسلام. وفي رواية له "أن تُبَّعًا بعث رائدًا ينظر إلى مزارع المدينة فقال: نظرت فإذا قناة حب ولا تبن، والجرف حب وتبن، والحرار جمع حرة بمهملتين لا حب ولا تبن". وأعرب قناة بالرفع على البدل من الوادي على أن قناة اسم الوادي ولعله من تسمية الشيء باسم ما جاوره، وأعرب بالنصب والتنوين فهو بمعنى السير المحفور أي سال الوادي مثل القناة. وفي رواية قناة بالجر بإضافة الوادي إليها. وقوله: "إلا حدّثَ بالجَودِ" بفتح الجيم وسكون الواو وهو المطر الغزير. الواسع، وهذا يدل على

أن المطر استمر فيما سوى المدينة وقد يشكل بأنه يستلزم أن قول السائل: "هلكت الأموال وانقطعت السبل" لم يرتفع الإهلاك ولا القطع وهو خلاف مطلوبه. ويمكن الجواب بأن المراد أن المطر استمر حول المدينة من الآكام والظِّراب وبطون الأودية لا في الطرق المسلوكة ووقوع المطر في بقعة دون بقعة كثير ولو كانت تجاورها، وإذا جاز ذلك جاز أن يوجد للماشية أماكن تكنها وترعى فيها بحيث لا يضرها ذلك المطر فيزول الإشكال. وفي رواية شريك الآتية زيادة: "اللَّهمُّ على الآكام والجبالِ والظِّرَاب والأوديةِ ومنابتِ الشجر، قال: فانقطعتْ وخرجنا نمشي في الشمس". قوله: "على الآكام" فيه بَيانَ للمراد بقوله حوالينا، والآكام بكسر الهمزة وقد تفتح وتمد جمعَ أكمة بفتحات. قال ابن البرقي: هو التراب المجتمع. وقال الداودي: هي أكبر من الكدية. وقال القزاز: هي التي من حجر واحد. وقال الخطابي: هي الهضبة الضخمة. وقيل الجبل الصغير، وقيل ما ارتفع من الأرض. وقال الثعالبي: الأكمة أعلى من الرابية، وقيل دونها. "والظِّرَاب" بكسر المعجمكة وآخره موحدة جمع ظرِب بكسر الراء وقد تسكن. وقال القزاز: هو الجبل المنبسط ليس بالعالي. وقال الجوهري: الرابية الصغيرة. وقوله: "الأودية"، في رواية مالك "بطون الأودية" والمراد بها ما يتحصل فيه الماء لينتفع به. قالوا ولم نسمع (أفعلة) جمع (فاعل) إلا الأودية جمع وادٍ، وفيه نظر. وزاد مالك في روايته "رؤوس الجبال". وقوله "فانقطعت" أي السماء أو السحابة الماطرة، والمعنى أنها أمسكت عن المطر على المدينة. وفي رواية سعيد عن شريك "فما هو إلا أن تكلمَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بذلك حتى تمزقَ السحابُ حتى ما نرى منه شيئًا" أي: في (المدينة). ولمسلم في رواية حفص "فلقد رأيتُ السحابَ يتمزقُ كأنّه المُلا حينَ تُطوى" والملا بضم الميم والقصر، وقد تمد جمع ملاءة وهو ثوب معروف. وعند المصنف عن قتادة "فلقد رأيتُ السحابَ يتقطعُ يمينًا وشمالًا يمطرون" أي: أهل النواحي "ولا يمطر أهل المدينة". وله في "الأدب": فجعلَ السحابَ يتصدعُ عن المدينةِ يريهمُ الله كرامة نبيِّهِ وإجابةَ دعوتِه".

وله في رواية ثابت عن أنس فتكشطت" أي: تكشفت فجعلتْ تمطُر حولَ (المدينةِ) ولا تمطُر (بالمدينة) قطرةً فنظرتُ إلى (المدينةِ) وإنها لمثلُ الإكليلِ". ولأحمد "فتقور ما فوق رؤوسنا من السحابِ حتى كأنا في إكليل" والإكليل بكسر الهمزة وسكون الكاف كل شيء دار من جوانبه واشتهر لما يوضع على الرأس فيحيط به. وهو من ملابس الملوك كالتاج. وفي الحديث فوائد جمة غير ما تقدم: فيه جواز مكالمة الإمام في الخطبة للحاجة. وفيه القيام في الخطبة وأنها لا تنقطع بالكلام، ولا تنقطع بالمطر. وفيه قيام الواحد بأمر الجماعة، وإنما لم يباشر ذلك بعض أكابر الصحابة؛ لأنهم كانوا يسلكون الأدب بالتسليم، وترك الابتداء بالسؤال، ومنه قول أنس: "كان يعجبنا أن يجيء الرجل من البادية فيسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، وسؤال الدعاء من أهل الخير ومن يرجى منه القبول وإجابتهم لذلك ومن أدبه بث الحال لهم قبل الطلب لتحصيل الرقة المقتضية لصحة التوجه، فترجى الإجابة. وفيه تكرار الدعاء ثلاثًا وإدخال دعاء الاستسقاء في خطبة الجمعة والدعاء به على المنبر ولا تحويل ولا استقبال، والاجتزاء بصلاة الجمعة عن صلاة الاستسقاء وليس في السياق ما يدل على أنه نواها مع الجمعة. وفيه علم من أعلام النبوءة في إجابة الله دعاء نبيه عليه الصلاة والسلام عقبه أو معه ابتداء في الاستسقاء وانتهاء في الاستصحاء وامتثال السحاب أمره بمجرد الإشارة. وفيه الأدب في الدعاء حيث لم يدع برفع المطر مطلقًا لاحتمال الاحتياج إلى استمراره فاحترز فيه بما يقتضي رفع الضرر وإبقاء النفع، واستنبط منه أن من أنعم الله عليه بنعمة لا ينبغي له أن يسخطها لعارض يعرض فيها بل يسأل الله تعالى رفع ذلك العارض وإبقاء النعمة. وفيه أن الدعاء برفع الضرر لا ينافي التوكل، وإن كان مقام الأفضل التفويض؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- كان عالمًا بما وقع لهم من الجدب وأخر السؤال في ذلك تفويضًا لربه ثم أجابهم إلى الدعاء لما سألوه في ذلك بياناً للجواز وتقريرًا لسنة هذه العبادة الخاصة، قاله ابن أبي جمرة. وفيه جواز تبسم الخطيب على المنبر تعجبًا من أحوال الناس، وجواز الصياح في المسجد بسبب الحاجة المقتضية لذلك. وفيه اليمين لتأكيد الكلام ويحتمل أن يكون ذلك جرى على لسان أنس من غير قصد اليمين، واستدل به على الاكتفاء بدعاء الإمام في الاستسقاء، قاله ابن بطال، وتعقب بما مرّ في رواية يحيى بن سعيد "ورفع الناس أيديهم مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعون".

وفيه جواز الدعاء بالاستصحاء للحاجة وقد ترجم البخاري في "الاستسقاء" واستدل به على جواز الاستسقاء بغير صلاة مخصوصة، وعلى أن الاستسقاء لا تشرع فيه صلاة. أما الأول: فهو قول مالك والشافعي وغيرهما، وكرهه الثوري. وأما الثاني: فقد قال به أبو حنيفة فإنه قال: إن الاستسقاء دعاء واستغفار وليس فيه صلاة مسنونة في جماعة. وقال صاحب "الهداية": فإن صلى الناس وحدانًا جاز، وعند أبي يوسف ومحمد السُّنة أن يصلي الإِمام ركعتين بجماعة كهيئة صلاة العيد، وهو قول مالك والشافعي وأحمد. وذكر في "المحيط" قول أبي يوسف مع أبي حنيفة. وقال النووي: لم يقل أحد غير أبي حنيفة هذا القول. ونقل أبو بكر الرازي عن أبي حنيفة التخيير بين الفعل والترك. وحكى ابن عبد البر الإجماع على استحباب الخروج إلى الاستسقاء والبروز إلى ظاهر العصر، لكن حكى القرطبي عن أبي حنيفة أيضًا أنه لا يستحب الخروج وكأنه اشتبه عليه بقوله في الصلاة. وقال العيني: إن إبراهيم النخعي قائل بقول أبي حنيفة، ولا حجة لأبي حنيفة في الحديث؛ لأن الذي وقع في هذه القصة مجرد دعاء، وذلك لا ينافي مشروعية الصلاة له، وقد بينت في واقعة أخرى وفي الحديث رفع اليدين في الدعاء. وقد استدل به المصنف في "الدعوات" على رفع اليدين في كل دعاء وفي ذلك عدة أحاديث جمعها المنذري في جزء مفرد وأورد منها النووي في "شرح المهذب" في صفة الصلاة قدر ثلاثين حديثًا. وعقد لها البخاري في "الأدب المفرد" بابًا منها ما أخرجه البخاري "عن أبي موسى الأشعري في غزوة حنين دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم رفع يديه حتى رأيتُ بياضَ إبطيه". وأخرج أيضًا عن ابن عمر بعد غزوة الفتح "رفعَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يديهِ وقال اللَّهُمَّ إني أبراُ إليك مما فعلَ خالدٌ". وأخرج من رواية شريك "عن أنس رفعَ يديه حتى رأيتُ بياضَ إبطيهِ". وأخرج في "الأدب المفرد" حديث أبي هريرة "قدمَ الطفيلُ بنُ عمروٍ على النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فقالَ إنّ دوسًا عصتْ فادعُ اللهَ عليها، فاستقبلَ القبلةَ ورفعَ يديهِ فقالَ: اللَّهمَّ اهدِ دوسًا". وهو في "الصحيحين" دون قوله "ورفع يديه". وحديث "جابر أن الطفيل بن عمرو هاجر فذكر قصة الرجل الذي هاجر معه وفيه فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: اللَّهمَّ وليديه فاغفر ورفع يديه" وسنده صحيح وأخرجه مسلم. وحديث عائشة "أنها رأتِ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يدعو رافعًا يديه يقول: اللَّهمَّ إنما أنا بشرٌ" الحديث وهو

صحيح الإسناد. ومن الأحاديث الصحيحة في ذلك ما أخرجه المصنف في جزء "رفع اليدين": "رأيت النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- رافعًا يديه يدعو لعثمان". ولمسلم من حديث عبد الرحمن بن سمرة في "قصة الكسوف": "فانتهيت إلى النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- هو رافعٌ يديه يدعو". وعنده في حديث عائشة "في الكسوف" أيضًا: "ثم رفع يديه يدعو". وفي حديثها عنده في دعائه لأهل البقيع "فرفع يديه ثلاث مرات" الحديث. ومن حديث أبي هريرة الطويل في (فتح مكة): "فرفع يديه وجعل يدعو". وفي "الصحيحين" من حديث أبي حميد في قصة ابن اللتبية: "ثم رفع يديه حتى رأيت عفرة إبطيه يقول: اللَّهمَّ هل بلّغت؟ ". ومن حديث عبد الله بن عمرو "أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- ذكرَ قولَ إبراهيمَ وعيسى فرفعَ يديهِ وقال: "اللَّهمَّ أُمتي". وفي حديث عمر: "كان رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إذا نزل عليه الوحي يُسمع عند وجههِ كدوي النحلِ فأنزلَ اللهُ عليه يومًا ثم سري عنه، فاستقبلَ القبلةَ ورفعَ يديه ودعا" الحديث. أخرجه الترمذي واللفظ له والنسائي والحاكم. ورفع بديهِ لمّا بعثَ جيشًا فيهم عليٌّ قائلًا: "اللَّهمَّ لا تمتني حتى تريني عليًا" رواه الترمذي. ولما جمع أهل بيته وألقى عليهم الكساءَ قائلًا: "اللَّهمَّ هؤلاء أهلُ بيتي" رواه الحاكم. وفي حديث أسامة كنتُ ردفَ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- بعرفات فرفعَ يديهِ يدعو، فمالتْ به ناقتُهُ فسقطَ خطامُها فتناولَهُ بيدهِ وهو رافعٌ اليدِ الأخرى"، أخرجه النسائي بسند جيد. وفي حديث قيس بن سعد عند أبي داود "ثم رفعَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يديهِ وهو يقولُ: اللَّهمَّ صلواتُكَ ورحمتُكَ على آلِ سعد بن عبادة" الحديث، وسنده جيد. وأخرج أبو داود والترمذي وحسنه وغيرهما عن سلمان رفعه "إنَّ ربَّكُم حييٌ كريمٌ يستحي من عبدِهِ إذا رفعَ يديه إليه أن يردهَما صِفرًا" أي بكسر المهملة وسكون الفاء أي خالية وسنده جيد. ولمسلم والترمذي عن ابن عباس عن عمر لما كانَ يومُ بدرٍ نظرَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إلى المشركينَ فاستقبلَ القبلةَ ثم مدَّ يديهِ فجعلَ يهتفُ بربهِ" الحديث. وأخرج أبو عوانة في "صحيحه" عن ابن مسعود: "رأيتُ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- في قبرِ عبد اللهِ ذي البجادين" الحديث، وفيه "فلما فرغ من دفنِهِ استقبلَ القبلةَ رافعًا يديه".

وهذه الأحاديث وكثير مثلها ترد على من قال لا ترفع اليدان في الدعاء أصلًا إلا في الاستسقاء، وتمسك بحديث أنس "لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء" وهو صحيح أخرجه البخاري وغيره، لكن يجمع بينه وبين الأحاديث المذكورة وما في معناها بأن المنفي صفة خاصة لا أصل الرفع، وحاصله أن الرفع في الاستسقاء يخالف غيره، إما بالمبالغة إلى أن تصير اليدان في الاستسقاء حذو الوجه مثلًا. وفي الدعاء إلى حذو المنكبين، ولا يعكر على ذلك أنه ثبت في كل منهما حتى يرى بياض إبطيه، بل يجمع بأن تكون رؤية البياض في الاستسقاء أبلغ منها في غيره. ويؤيد هذا أن غالب الأحاديث التي وردت في رفع اليدين في الدعاء إنما المراد به مدّ اليدين وبسطهما عند الدعاء، وكأنه عند الاستسقاء مع ذلك زاد فرفعهما إلى جهة وجهه حتى حاذتاه. وإما في صفة اليدين في ذلك بأن تكون الكفان في الاستسقاء تليان الأرض، وفي الدعاء تليان السماء لما رواه مسلم عن ثابت عن أنس: "أن رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- استسقى فأشارَ بظهر كفيهِ إلى السماءِ". ولأبي داود من حديث أنس "كان يستسقي هكذا ومدّ يديه، وجعلَ بطونهما مما يلي الأرض حتى رأيتُ بياضَ إبطيه". قال النووي: قال العلماء: السُّنة في كل دعاء لرفع البلاء أن يرفع يديه جاعلًا ظهور كفيه إلى السماء، وإذا دعا بسؤال شيء أن يجعل كفيه إلى السماء. وقال غيره الحكمة في الإِشارة بظهور الكفين في الاستسقاء دون غيره للتفاؤل بتقلب الحال ظهرًا لبطن، كما قيل في تحويل الرداء، وقيل هو إشارة إلى صفة المسؤول وهو نزول السحاب إلى الأرض، أو يحمل حديث أنس على نفي رؤيته، وذلك لا يستلزم نفي رؤية غيره. قال المنذري وبتقدير تعذر الجمع فجانب الإثبات أرجح لكثرة الأحاديث الواردة في ذلك. وأما ما أخرجه مسلم عن عمارة بن رويبة براء وموحدة مصغر أنه رأى بشر بن مروان يرفع يديه فأنكر ذلك وقال: "لقد رأيتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- وما يزيدُ على هذا يشيرُ بالسبابة". فقد حكى الطبري عن بعض السلف أنه أخذ بظاهره، وقال: السنة أن الداعي يشير بإصبع واحدة، ورده بأنه إنما ورد في الخطيب حال الخطبة وهو ظاهر في سياق الحديث، فلا معنى للتمسك به في منع رفع اليدين في الدعاء مع ثبوت الأخبار بمشروعيتها. قال الطبري: وكره رفع اليدين في الدعاء ابن عمر وجبير بن مطعم، ورأى شريح رجلًا يرفع يديه داعيًا فقال: من تتناول بهما لا أم لك. وساق الطبري ذلك بأسانيده عنهم. وذكر ابن التين: أنه نقل عن مالك أن رفع اليدين في الدعاء ليس من أمر الفقهاء قال: وقال في "المدونة": ويختص الرفع بالاستسقاء ويجعل بطونهما إلى الأرض. وأما ما نقله الطبري عن

رجاله خمسة

ابن عمر فإنما أنكر رفعهما إلى حذو المنكبين. وقال ليجعلهما حذو صدره، كذلك أسنده الطبري عنه أيضًا. وعن ابن عباس أن هذه صفة الدعاء. وأخرج أبو داود والحاكم عنه من وجه آخر قال: المسألة أن ترفع يديك حذو منكبيك، والاستغفار أن تشير بإصبع واحدة، والابتهال أن تمدّ يديك جميعًا. وأخرج الطبري عنه من وجه آخر قال: يرفع يديه حتى يجاوز بهما رأسه، وقد صحّ عن ابن عمر خلاف ما تقدم أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" عن القاسم بن محمد رأيت ابن عمر يدعو عند القاضي يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه باطنهما مما يليه، وظاهرهما مما يلي وجهه. وعن مالك بن يسار أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا سألتم اللهَ فاسألوهُ ببطونِ أكفّكم ولا تسألوهُ بظهورِها. وعن أبي يوسف: إن شاء رفع يديه في الدعاء، وإن شاء أشار بإصبعيه. وفي "المحيط" بإصبعه السبابة. وفي التجريد من يده اليمنى. وقال ابن بطال: رفع اليدين في الخطبة في معنى الضراعة إلى الجليل والتذلل له. وقال الزهري: رفع الأيدي يوم الجمعة محدث. وقال ابن سيرين: أول من رفع يديه في الجمعة عبيد الله بن عبد الله بن معمر. وقال الروياني: يكره رفع اليد النجسة في الدعاء، قال: ويحتمل أن يقال لا يكره بحائل. بحمد الله تعالى وعونه. رجاله خمسة: قد مرّوا، وفيه ذكر أعرابي لم بسم، مرّ إبراهيم بن المنذر في الأول من العلم، ومرّ الأوزاعي في العشرين منه، ومرَّ إسحاق بن عبد الله في الثامن، ومرَّ أنس في السادس من "الإيمان"، ومرّ الوليد بن مسلم في السادس والثلاثين من "مواقيت الصلاة". لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإفراد والعنعنة والقول، وشيخ البخاري من أفراده. ورواته ما بين مدني ودمشقي. أخرجه البخاري أيضًا في "الاستسقاء" و"الاستئذان"، ومسلم في "الصلاة" وكذا النسائي. ثم قال المصنف:

باب الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب، وإذا قال لصاحبه أنصت فقد لغا

باب الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب، وإذا قال لصاحبه أنْصِت فقد لغا قيل أشار بهذا إلى الرد على من جعل وجوب الإنصات من خروج الإمام؛ لأن قوله في الحديث والإمام يخطب جملة حالية تخرج ما قبل خطبته من حين خروجه وما بعده إلى أن يشرع في الخطبة. وقد مرَّ الكلام على هذا في باب (الاستماع إلى الخطبة). وقوله "وإذا قال لصاحبه انصتْ فقد لغا" وهذا كلفظ الباب في بعض طرقه في رواية النسائي من الليث بالإِسناد المذكور. ولفظه "من قال لصاحبه يوم الجمعة والإِمام يخطب انصت فقد لغا" والمراد بالصاحب من يخاطبه بذلك مطلقًا، وإنما ذكر الصاحب لكونه الغالب. ثم قال: "وقال سلمانُ عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- ينصتُ إذا تكلَّمَ الِإمامُ". وقوله "ينصت" بضم أوله على الأفصح ويجوز فيه الفتح. وقال الأزهري: يقال أنْصت ونَصَتَ وانْتَصَتَ. قال ابن خزيمة المراد بالإنصات السكوت عن مكالمة الناس دون ذكر الله، وتعقب بأنه يلزم منه جواز القراءة والذكر حال الخطبة، فالظاهر أن المراد السكوت مطلقًا، ومَنْ فرّق احتاج إلى دليل. قال في "الفتح": ولا يلزم من تجويز التحية لدليلها الخامس جواز الذكر مطلقًا. ومذهب مالك جواز الذكر القليل سرًا وحمد العاطس سرًا ولا يشمته غيره، وهذا التعليق طرف من حديث سلمان المار الحادي والثلاثين من كتاب "الجمعة" هذا، ومرّ هناك تعريف سلمان.

الحديث السابع والخمسون

الحديث السابع والخمسون حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ أَخْبَرَنِي ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَنْصِتْ. وَالإِمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْتَ". قوله "أخبرني ابن شهاب" هكذا رواه يحيى بن بكير عن الليث، ورواه شعيب بن الليث عن أبيه فقال: عن عقيل عن ابن شهاب عن عمر بن عبد العزيز عن عبد الله بن إبراهيم بن قارظ عن أبي هريرة، أخرجه مسلم والنسائي والطريقان صحيحان، وقد رواه أبو صالح عن الليث بالإِسنادين معًا أخرجه الطحاوي، وكذا رواه ابن جريج وغيره عن الزهري بهما أخرجه عبد الرزاق وغيره، ورواه مالك عند أبي داود وابن أبي ذيب عند ابن ماجه كلاهما عن الزهري بالإسناد الأول. وقوله "يوم الجمعة" مفهومه أن غير يوم الجمعة بخلافه، وفيه بحث. وقوله "فقد لغوت" قال الأخفش: اللغو الكلام الذي لا أصل له من الباطل وشبهه. وقال ابن عرفة: اللغو السقط، وقيل الميل عن الصواب، وقيل اللغو الإِثم كقوله تعالى {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا}. وقال الزين بن المنير: اتفقت أقوال المفسرين على أن اللغو ما لا يحسن من الكلام، وأغرب أبو عبيد الهروي فقال: معنى لغا تكلم كذا أطلق والصواب التقييد. وقال النضر بن شُمَيل: معنى لغوت خبت من الأجر، وقيل بطلت فضيلة جمعتك، وقيل صارت جمعتك ظهرًا. قال في "الفتح": أقوال أهل اللغة متقاربة المعنى، ويشهد للقول الأخير ما رواه أبو داود وابن خزيمة عن عبد الله بن عمر مرفوعًا "ومنْ لغا وتخطى رقابَ الناس كانت له ظهرًا". قال ابن وهب أحد رواته معناه أجزأت عنه الصلاة وحرم فضيلة الجمعة. ولأحمد عن علي مرفوعًا "مَنْ قال صهْ، فقد تكلمَ ومَنْ تكلمَ فلا جمعة له". ولأبي داود نحوه ولأحمد والبزار عن ابن عباس مرفوعًا "مَنْ تكلمَ يومَ الجمعة والإمامُ يخطبُ فهو كالحمارِ يحملُ أسفارًا. والذي يقولُ له أنصِتْ ليستْ له جمعةٌ"، وله شاهد قوي في "جامع" حماد بن سلمة عن ابن عمر موقوفًا قال العلماء: معناه لا جمعة له كاملة للإِجماع على إسقاط فرض الوقت عنه.

وحكى ابن التين عن بعض من جوز الكلام في الخطبة أنه تأول قوله: فقد لغوت أي أمرت بالإنصات من لا يجب عليه، وهو جمود شديد؛ لأن الإصات لم يختلف في مطلوبيته، فكيف يكون من أمر بما طلبه الشرع لاغيًا؛ بل النهي عن الكلام مأخوذ من حديث الباب بدلالة الموافقة؛ لأنه إذا جعل قوله "أنصِتْ" مع كونه أمرًا بمعروف لغوًا فغيره من الكلام أولى أن يسمى لغوًا. وعند أحمد من رواية الأعرج عن أبي هريرة آخر هذا الحديث بعد قوله فقد لغوت "عليك بنفسك"، واستدل به على منع جميع الكلام حال الخطبة، وبه قال الجمهور وفي حق من سمعها وكذا الحكم في حق من لم يسمعها عند الأكثر قالوا: وإذا أراد الأمر بالمعروف، فليجعله بالإِشارة. قلت: قد مرّ وجوب الإنصات وحرمة الكلام على من لم يسمع عند المالكية، ويحرم عندهم نهي اللاغي بالكلام أو رميه بالحصى والإِشارة إليه بما يفهم النهي حسمًا للمادة. وعند الشافعية لغير السامع أن يشتغل بالتلاوة والذكر، وكلام المجموع يقتضي أن الاشتغال بهما أولى. وأغرب ابن عبد البر فنقل الإجماع على وجوب الإنصات على من سمعها إلا عن قليل من التابعين، ولفظه لا خلاف علمته بين فقهاء الأمصار في وجوب الإنصات في الخطبة على من سمعها في الجمعة، وأنه غير جائز أن يقول لمن سمعه من الجهال يتكلم والإمام يخطب أنصت ونحوها أخذا بهذا الحديث، وروي عن الشعبي وناس قليل أنهم كانوا يتكلمون حين الخطبة إلا حين القراءة في الخطبة خاصة قال وفعلهم في ذلك مردود عند أهل العلم، وأحسن أحوالهم أن يقال إنهم لم يبلغهم الحديث. وقد مرّ باب "الاستماع" إلى الخطبة حكم الكلام ساعة الخطبة عند الشافعية وما بنوا عليه الخلاف عندهم. وروي عن الشافعية والحنابلة أيضًا التفرقة بين من يسمع الخطبة ومن لا يسمعها، ولبعض الشافعية التفرقة بين من تنعقد بهم الجمعة، فيجب عليهم الإنصات دون من زاد فجعله شبيهًا بفروض الكفاية. واختلف السلف إذا خطب بما لا ينبغي من القول، وعلى ذلك يحمل ما نقل عن السلف من كلام حال الخطبة، والذي يظهر أن من نفى وجوبه أراد أنه لا يشترط في صحة الجمعة بخلاف غيره. ويدل على الوجوب في حق السامع أن في حديث علي المشار إليه آنفًا "ومن دنا فلم ينصت كان عليه كفلان من الوزر"؛ لأن الوزر لا يترتب على من فعل مباحًا، ولو كان مكروهًا كراهة تنزيه. ونقل صاحب "المغني" الاتفاق على أن الكلام الذي يجوز في الصلاة يجوز في الخطبة كتحذير الضرير من البئر وعبارة الشافعي وإذا خاف على أحد لم أر بأسًا إذا لم يفهم عنه بالإيماء أن يتكلم، وقد استثني من الإنصات في الخطبة ما إذا انتهى الخطيب إلى كل ما لم يشرع مثل

رجاله ستة

الدعاء للسلطان مثلًا، بل جزم صاحب "التهذيب" بأن الدعاء للسلطان مكروه. وقال النووي: محله إذا جازف، وإلا فالدعاء لولاة الأمور مطلوب. ومحل الترك إذا لم يخف الضرر وإلا فيباح للخطيب إذا خشي على نفسه. وقد نصّت المالكية على جواز الكلام إذا لغا الخطيب كدعائه للسلطان، أو مدح من لا يستحق المدح. وقد مرّت بقية مباحث هذا الحديث في باب (الاستماع إلى الخطبة). رجاله ستة: قد مرّوا: مرّ الأربعة الأول بهذا النسق في الثالث من "بدء الوحي"، ومرّ سعيد في التاسع عشر من الإِيمان، وأبو هريرة في الثاني منه. أخرجه الخمسة الباقون. ثم قال المصنف:

باب الساعة التي في يوم الجمعة

باب الساعة التي في يوم الجمعة أي التي يجاب فيها الدعاء. الحديث الثامن والخمسون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَكَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ فِيهِ سَاعَةٌ لاَ يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ، وَهْوَ قَائِمٌ يُصَلِّي، يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى شَيْئًا إِلاَّ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ. وَأَشَارَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا. قوله "عن أبي الزناد" كذا رواه أصحاب مالك في "الموطأ"، ولهم فيه إسناد آخر إلى أبي هريرة وفيه قصة له مع عبد الله بن سلام. وقوله "فيه ساعة" كذا فيه مبهمة وعينت في أحاديث أخر كما سيأتي. وقوله "لا يوافقها" أي: يصادفها، وهو أعم من أن يقصد لها أو يتفق له وقوع الدعاء فيها. وقوله "وهو قائم يصلي يسأل الله" هي صفات لمسلم أعربت حالًا، ويحتمل أن يكون يصلي حالًا منه لاتصافه بقائم. ويسأل حال مترادفة أو متداخلة، وأفاد ابن عبد البر أن قوله "وهو قائم" سقط من رواية أبي مصعب وابن أبي أويس ومطرف والتنيسي وقتيبة وأثبتها الباقون. قال: وهي زيادة محفوظة عن أبي الزناد من رواية مالك وورقاء وغيرهما عنه. وحكى أبو محمد بن السيد عن محمد بن وضاح أنه كان يأمر بحذفها من الحديث، وكان السبب في ذلك أنه يشكل على أصح الأحاديث الواردة في تعيين هذه الساعة وهما حديثان: أحدهما: حديث مخرمة بن بكير عن أبيه عن أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه مرفوعًا "أنها ما بين أن يجلس الإمام على المنبر إلى أن يقضي الصلاة" رواه مسلم وأبو داود. والثاني: قول عبد الله بن سلام المروي عند مالك وأبي داود والترمذي والنسائي وابن خزيمة وابن حبّان من حديث أبي هريرة أنه قال لعبد الله بن سلام: أخبرني ولا تضنَّ عليّ فقال عبد الله بن سلام: هي آخر ساعة في يوم الجمعة. قال أبو هريرة: فقلت: كيف تكون آخرَ ساعةٍ في يوم الجمُعة وقد قال رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لا يصادفها عبدٌ مسلمٌ وهو يصلي فيها؟ فقال عبدُ الله بن سلامٍ ألمْ يقلْ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مَنْ جَلَس مجلسًا ينتظرُ الصلاةَ فهو في صلاة حتى يصلي، فلو كان قوله وهو قائم ثابتًا عند أبي هريرة لاحتج عليه به، لكنه سلم له الجواب وارتضاه وصار يفتي به بعده. وأما إشكاله على الحديث الأول فمن جهة أنه يتناول حال الخطبة كله وليست صلاة عل الحقيقة وقد أجيب عن هذا الإشكال يحمل الصلاة على الدعاء أو الانتظار وبحمل القيام على الملازمة والمواظبة، ويؤيد

ذلك أن حال القيام في الصلاة غير حال السجود والركوع والتشهد مع أن السجود مظنة إجابة الدعاء، فلو كان المراد بالقيام حقيقته لأخرجه فدل على أن المراد فجاز القيام وهو المواظبة ونحوها، ومنه قوله تعالى {إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} فعلى هذا يكون التعبير عن المصلي بالقائم من باب التعبير عن الكل بالجزء. والنكتة فيه أنه أشهر أحوال الصلاة، واختلف السلف في أي القولين المذكورين أرجح فروى البيهقي أن مسلمًا قال: حديث أبي موسى أجود شيء في هذا الباب وأصحه، وبذلك قال البيهقي وابن العربي وجماعة، وقال القرطبي: هو نص في موضع الخلاف، فلا يلتفت إلى غيره. وقال النووي "هو الصحيح وجزم في "الروضة" بأنه الصواب، ورجحه أيضًا بكونه مرفوعًا صريحًا، وفي أحد "الصحيحين". وذهب آخرون إلى ترجيح قول عبد الله بن سلام، فحكى الترمذي عن أحمد أنه قال أكثر الأحاديث على ذلك، وقال ابن عبد البر: إنه أثبت شيء في هذا الباب. وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن ناسًا من الصحابة اجتمعوا فتذاكروا ساعة الجمعة، ثم افترقوا فلم يختلفوا أنها آخر ساعة من يوم الجمعة، ورجحه كثير من الأئمة كأحمد وإسحاق، ومن المالكية الطرطوشي. وكان ابن الزملكاني شيخ الشافعية في وقته يختاره ويحكيه عن نص الشافعي ميلًا إلى أن هذه رحمة من الله تعالى للقائمين بحق هذا اليوم فأوان إرسالها عند الفراغ من تمام العمل، وأجابوا عن كونه ليس في أحد "الصحيحين" بأن الترجيح بما في "الصحيحين" أو أحدهما إنما هو حيث لا يكون مما انتقده الحفاظ كحديث أبي موسى هذا، فإنه أعل بالانقطاع والاضطراب أما الانقطاع؛ فلأنّ مخرمة بن بكير لم يسمع من أبيه كما قاله أحمد عن مخرمة نفسه. وكذا قال سعيد بن أبي مريم وزاد "إنما هي كتب كانت عندنا". ولا يقال مسلم يكتفي في المعنعن بإمكان اللقاء مع المعاصرة وهو كذلك هنا؛ لأنا نقول وجود التصريح من مَخْرمة بأنه لم يسمع من أبيه كاف في دعوى الانقطاع. وأما الاضطراب فقد رواه أبو إسحاق وواصل الأحدب ومعاوية بن قرة وغيرهم عن أبي بردة من قوله وهؤلاء كوفيون وأبو بردة كوفي فهم أعلم بحديثه من بكير المدني وهم عدد وهو واحد، وأيضًا فلو كان عند أبي بردة مرفوعًا لم يفت فيه برأيه بخلاف المرفوع كما يأتي عنه في القول الثاني والعشرين وفي الثالث والثلاثين؛ ولهذا جزم الدارقطني بأن الموقوف هو الصواب الهدى مسلكًا آخر فاختار أن ساعة الإجابة منحصرة في أحد الوقتين المذكورين، وأن أحدهما لا يعارض الآخر لاحتمال أن يكون -صلى الله عليه وسلم- دل على أحدهما في وقت وعلى الآخر في وقت، أو هذا كقول ابن عبد البر الذي ينبغي الاجتهاد في الدعاء في الوقتين المذكورين. وسبق إلى نحو ذلك الإمام أحمد وهو أولى

في طريق الجمع. قال المحب الطبري: أصح الأحاديث فيها حديث أبي موسى وأشهر الأقوال فيها قول عبد الله بن سلام وما عداهما إما موافق لهما أو لأحدهما أو ضعيف الإِسناد أو موقوف استند قائله إلى اجتهاد دون توقيف، ولا يعارضهما حديث أبي سعيد الآتي في كونه عليه الصلاة والسلام أنسيها بعد أن علمها لاحتمال أن يكونا سمعا ذلك منه قبل أن أنسي قاله البيهقي وغيره، ويأتي ما فيها من الأقوال. وقوله "يسأل الله شيئاً" أي مما يليق أن يدعو به المسلم، ويسأل ربه تعالى. وفي رواية سلمة بن علقمة عن ابن سيرين عن أبي هريرة عند المصنف في الطلاق، ولمسلم عن أبي هريرة مثله، وعند ابن ماجه عن أبي لبابة "ما لم يسأل حرامًا". وعند أحمد عن سعد بن عبادة "ما لم يسأل إثمًا أو قطيعةَ رحمٍ" وهو نحو الأول، وقطيعة الرحم من جملة الإثم وهو من عطف الخاص على العام للاهتمام به. وقوله "وأشار بيده" كذا هنا بإبهام الفاعل. وفي رواية مصعب عن مالك "وأشارَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-". وفي رواية سلمة بن علقمة المشار إليها "ووضع أنملته على بطن الوسطى أو الخنصر قلنا يزهدها". وبيّن أبو مسلم الكجي أن الذي وضع هو بشر بن المفضَّل رواية عن سلمة بن علقمة، وكأنه فسر الإشارة بذلك وأنها ساعة لطيفة تنتقل ما بين وسط النهار إلى قرب آخره، وبهذا يحصل الجمع بينه وبين قوله يزهدها أي يقللها. ولمسلم عن محمد بن زياد عن أبي هريرة "وهي ساعة خفيفة". وللطبراني في "الأوسط" عن أنس "وهي قدر هذا يعني قبضة". قال الزين بن المنير: الإشارة لتقليلها هو للترغيب فيها والحض عليها ليسارة وقتها وغزارة فضلها، واستشكل حصول الإجابة لكل داع بشرطه المتقدم مع اختلاف الزمان باختلاف البلاد والمصلي، فيتقدم بعض على بعض وساعة الإجابة متعلقة فكيف يتفق مع الاختلاف؟ وأجيب باحتمال أن تكون ساعة الإجابة متعلقة بفعل كل فصل قبل نظيره في ساعة الكراهة، ولعل هذا فائدة جعل الوقت الممتد مظنة لها وإن كانت هي خفيفة، ويحتمل أن يكون عبر بالوقت عن الفعل فيكون التقدير وقت وقوع الخطبة أو الصلاة ونحو ذلك. واختلف أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم هل باقية أو رفعت وعلى البقاء هل هي في كل جمعة أو في جمعة واحدة من كل سنة؟ وعلى الأول هل هي وقت من اليوم معين أو مبهم؟ وعلى

التعيين هل تستوعب الوقت أو تبهم فيه؟ وعلى الإبهام ما ابتداؤه وما انتهاؤه؟ وعلى كل ذلك، هل تستمر أو تنتقل؟ وعلى الانتقال، هل تستغرق اليوم أو بعضه؟ وها أنا أذكر ما روى فيها من الأقوال مع أدلتها والجمع بينهما والترجيح. الأول أنها رفعت حكاه ابن عبد البر عن قوم وزيفه. وقال عياض: رده السلف على قائله. وروى عبد الرزاق عن عبد الله بن نخس مولى معاوية قال: "قلت لأبي هريرة: إنهم زعموا أن الساعة التي في يوم الجمعة يستجاب فيها الدعاء رفعت، فقال كذب من قال ذلك، فقلت: هي في كل جمعة؟ قال: نعم"، إسناده قوي قال: صاحب "الهدى": إن أراد قائله إنها كانت معلومة فرفع علمها عن الأمة فصارت مبهمة، احتمل، وإن أراد حقيقتها فهو مردود على قائله. قلت: هذا الاحتمال بعيد لا فائدة فيه؛ لأن الكلام في رفعها من أصلها والذي قاله راجع إلى كونها مبهمة. القول الثاني: إنها موجودة لكن في جمعة واحدة من كل سنة قاله كعب الأحبار لأبي هريرة، ورده عليه فرجع لما راجع التوراة إليه رواه مالك وأصحاب "السنن". الثالث: إنها مخفية في جميع اليوم كما أخفيت ليلة القدر في العشر، والاسم الأعظم، والرجل الصالح حتى تتوفر الدواعي على مراقبة ذلك اليوم، وقد روي "أنّ لربِّكم في أيام دهرِكم نفحات، ألا فتعرضوا لها" ويوم الجمعة من جملة تلك الأيام فينبغي أن يكون العبد في جميع نهَاره متعرضًا لها بإحضار القلب وملازمة الذكر والدعاء والنزوع عن وساوس الدنيا، فعساه يحظى بشيء من تلك النفحات. روى ابن خزيمة والحاكم عن أبي سلمة سألت أبا سعيد عن ساعة الجمعة فقال: سألتُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- عنها فقال: قد أُعْلِمْتُها ثم أُنْسِيتها لما أُنْسِيتُ ليلةَ القدر". وروى عبد الرزاق عن معمر أنه سأل الزهري فقال: لم أسمع فيها بشيء إلا أن كعبًا كان يقول: إن إنسانًا قسم جمعة في جمع لأتى على تلك الساعة. قال ابن المنذر معناه أنه يبدأ فيدعو في جمعة من أول النهار إلى وقت معلوم، ثم في جمعة أخرى يبتدىء من ذلك الوقت إلى وقت آخر حتى يأتي على آخر النهار. قال: وروينا عن ابن عمر أنه قال: "إن طلب الحاجة في يوم ليسير" قال معناه إنه ينبغي المداومة على الدعاء يوم الجمعة كله ليمر بالوقت الذي يستجاب فيه الدعاء، والذي قاله ابن عمر يصلح لمن يقوى عليه، وإلا فالذي قاله كعب سهل على كل أحد وقضية ذلك أنهما كانا يريان أنها غير معينة، وهو قضية كلام جمع من العلماء كالرافعي وصاحب "المغني" وغيرهما حيث قالوا: يستحب أن يكثر من الدعاء يوم الجمعة رجاء أن يصادف ساعة الإجابة، ومن حجة هذا القول تشبيهها بليلة القدر والاسم الأعظم في الأسماء الحسنى، والحكمة في ذلك بعث العباد على الاجتهاد في الطلب واستيعاب الوقت

بالعبادة بخلاف ما لو تحقق الأمر في شيء من ذلك لكان مقتضيًا للاقتصار عليه وإهمال ما عداه. الرابع: أنها تنتقل في يوم الجمعة ولا تلزم ساعة معينة لا ظاهرة ولا مخفية. قال الغزالي: وهذا أشبه الأقوال، وذكره الأثرم احتمالًا، وجزم به ابن عساكر وغيره. وقال المحب الطبري: إنه الأظهر. وعلى هذا، لا يتأتى ما قاله كعب في الجزم بتحصيلها. الخامس: إذا أذن المؤذن لصلاة الغداة، ذكره أبو الفضل الحافظ في شرح الترمذي وسراح الدين بن الملقن في "شرح البخاري" ونسباه لتخريج ابن أبي شيبة عن عائشة، وقد رواه الروياني في "مسنده" عنها فأطلق الصلاة ولم يقيدها، ورواه ابن المنذر فقيدها "بصلاة الجمعة". السادس: من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس رواه ابن عساكر عن مجاهد عن أبي هريرة، وحكاه القاضي أبو الطيب الطبري وأبو نصر بن الصباغ وعياض والقرطبي وغيرهم. وعبارة بعضهم ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس. السابع: مثله، وزاد ومن العصر إلى الغروب رواه سعيد بن منصور عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن أبي هريرة تابعه فضيل بن عياض عن ليث عند ابن المنذر وليث ضعيف. الثامن: مثله، وزاد وما بين أن ينزل الإمام من المنبر إلى أن يكبر. رواه حميد بن زنجويه في "الترغيب" له عن أبي هريرة: "قال التمسوا الساعة التي يجاب فيها الدعاء يوم الجمعة في هذه الأوقات الثلاثة" فذكرها. التاسع: أنها أول ساعة بعد طلوع الشمس حكاه الجبلي في "شرح التنبيه"، وتبعه المحب الطبري في شرحه. العاشر: عند طلوع الشمس حكاه الغزالي في "الإحياء". وعبر عنه الزين بن المنير بقوله: "هي ما بين أن ترتفع الشمس شبرًا إلى ذراع". وعزاه لأبي ذر. الحادي عشر: أنها في آخر الساعة الثالثة من النهار، حكاه صاحب "المغني"، وهو في "مسند الإمام أحمد" عن علي بن طلحة عن أبي هريرة مرفوعًا "يوم الجمعة فيه طبعت طينة آدم وفي آخر ثلاث ساعات منه ساعة من دعا الله فيها استجيب له". وفي إسناده فَرَج بن فضالة ضعيف وعلي لم يسمع من أبي هريرة، قال المحب الطبري: "قوله في آخر ثلاث ساعات" يحتمل أمرين: أحدهما: أن يكون المراد الساعة الأخيرة من الثلاثة الأُول ثانيهما: أن يكون المراد أن في آخر كل ساعة من الثلاثة ساعة إجابة، فيكون فيه تجوّز لإطلاق الساعة على بعض الساعة.

الثاني عشر: من الزوال إلى أن يصير الظل نصف ذراع حكاه المحب الطبري في "الأحكام" وقبله الزكي المنذري. الثالث عشر: مثله، لكن قال: إلى أن يصير الظل ذراعًا حكاه عياض والقرطبي والنووي. الرابع عشر: بعد زوال الشمس بشبر إلى ذراع. رواه ابن المنذر وابن عبد البر بإسناد قوي عن أبي ذر أن امرأته سألته عنه فقال ذلك، ولعله مأخذ القولين اللذين قبله. الخامس عشر: إذا زالت الشمس، حكاه ابن المنذر عن أبي العالية، وورد نحوه في أثناء حديث عن علي. وروى عبد الرزاق عن الحسن أنه كان يتحراها عند زوال الشمس بسبب قصة وقعت لبعض أصحابه في ذلك. وروى ابن عساكر عن قتادة قال: كانوا يرون الساعة المستجاب فيها الدعاء إذا زالت الشمس وكان مأخذهم في ذلك أنها وقت اجتماع الملائكة، وابتداء دخول وقت الجمعة وابتداء الأذان ونحو ذلك. السادس عشر: إذا أذن المؤذن لصلاة الجمعة، رواه ابن المنذر عن عائشة قالت: "يومُ الجمعَة مثلُ يوم عرفةَ تُفتحُ فيه أبوابُ السماءِ، وفيه ساعةٌ لا يسألُ اللهَ فيها العبدُ شيئاً إلا أعطاهُ قيل: أي ساعةٍ؟ قالت إذا أذّنَ المؤذنُ لصلاةِ الجمعة" وهذا يغاير الذي قبله من حيث إن الأذان قد يتأخر عن الزوال. وقال الزين بن المنير: ويتعين حمله على الأذان الذي بين يدي الخطيب. السابع عشر: من الزوال إلى أن يدخل الرجل في الصلاة، حكاه ابن المنذر عن أبي السوار العدوي، وحكاه ابن الصباغ بلفظ إلى أن يدخل الإمام. الثامن عشر: من الزوال إلى خروج الإمام، حكاه القاضي أبو الطيب الطبري. التاسع عشر: من الزوال إلى غروب الشمس، حكاه العباس أحمد بن علي بن كشاسب الدزماري بزاي ساكنة وقبل ياء النسب راء مهملة في نكته على التنبيه عن الحسن وهو في عصر ابن الصلاح. العشرون: ما بين خروج الإمام إلى أن تقام الصلاة، رواه ابن المنذر عن الحسن. الحادي والعشرون: عند خروج الإمام، رواه حميد بن زنجويه في كتاب "الترغيب" عن الحسن أن رجلًا مرت به وهو ينعس في ذلك الوقت. الثاني والعشرون: ما بين خروج الإمام إلى أن تنقضي الصلاة، رواه ابن جرير عن الشعبي قوله، وعن أبي بردة عن أبي موسى قوله وفيه أن ابن عمر استصوب ذلك.

الثالث والعشرون: ما بين أن يحرم البيع إلى أن يحل، رواه سعيد بن منصور وابن المنذر عن الشعبي قوله أيضًا. قال الزين بن المنير: وجهه أنه أخص أحكام الجمعة؛ لأن العقد باطل عند الأكثر، فلو اتفق ذلك في غير هذه الساعة بحيث ضاق الوقت فتشاغل اثنان بعقد البيع فخرج وفاتت تلك الصلاة لأثما ولم يبطل البيع. الرابع والعشرون: ما بين الأذان إلى انقضاء الصلاة، رواه حميد بن زنجويه عن ابن عباس وحكاه البغوي في "شرح السنة" عنه. الخامس والعشرون: ما بين أن يجلس الإمام على المنبر إلى أن تنقضي الصلاة، رواه مسلم وأبو داود من حديث أبي موسى عن مخرمة بن بكير، قد مرّ ما فيه وهو يمكن أن يتخذ من القولين اللذين قبله. السادس والعشرون: عند التأذين وعند تذكير الإِمام وعند الإِقامة، رواه حميد بن زنجويه عن عوف بن مالك الأشجعي الصحابي. السابع والعشرون: مثله، لكن قال إذا أذن وإذا رقيَ المنبر وإذا أقيمت الصلاة، رواه ابن أبي شيبة وابن المنذر عن أبي أمامة الصحابي قوله، قال الزين بن المنير: ما ورد عند الأذان من إجابة الدعاء فيتأكد يوم الجمعة، وكذلك الإقامة وأما زمان جلوس الإمام على المنبر، فلأنه وقت اجتماع الذكر والابتداء في المقصود من الجمعة. الثامن والعشرون: من حين يفتتح الإمام الخطبة حتى تفرغ، رواه ابن عبد البر عن ابن عمر مرفوعًا وإسناده ضعيف. التاسع والعشرون: إذا بلغ الخطيب المنبر وأخذ في الخطبة، حكاه الغزالي في "الإحياء". الثلاثون: عند الجلوس بين الخطبتين، حكاه الطيبي عن بعض شراح المصابيح. الحادي والثلاثون: أنها عند نزول الإِمام من المنبر، رواه ابن أبي شيبة وحميد بن زنجويه وابن جرير وابن المنذر بإسناد صحيح عن أبي بردة قوله، وحكاه الغزالي قولًا بلفظه: إذا قام الناس إلى الصلاة. الثاني والثلاثون: حين تقام الصلاة حتى يقوم الإِمام في مقامه، حكاه ابن المنذر عن الحسن أيضًا، وحكى الطبري من حديث ميمونة بنت سعد نحوه مرفوعًا بإسناد ضعيف. الثالث والثلاثون: من إقامة الصف إلى تمام الصلاة، رواه الترمذي وابن ماجه مرفوعًا، وفيه "قالوا أية ساعة يا رسولَ اللهِ؟ قال حينَ تُقامُ الصلاةُ إلى الانصرافِ" وقد ضعف كثير رواية هذا الحديث؛ لكونه عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، ورواه البيهقي في الشعب من هذا الوجه بلفظ ما بين أن ينزل الإمام من المنبر إلى أن تنقضي الصلاة، ورواه ابن أبي شيبة عن مغيرة عن واصل الأحدب عن أبي بردة قوله. وإسناده قوي إليه وفيه أن ابن عمر استحسن ذلك منه وبرك عليه

ومسح على رأسه، وروى ابن جرير وسعيد بن منصور عن ابن سيرين مثله. الرابع والثلاثون: هي الساعة التي كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي فيها الجمعة، رواه ابن عساكر بإسناد صحيح عن ابن سيرين، وهذا يغاير الذي قبله من جهة إطلاق ذاك وتقييد هذا، وكأنه أخذه من جهة أن صلاة الجمعة أفضل صلوات ذلك اليوم، وأن الوقت الذي يصلي فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- أفضل الأوقات. وأن جميع ما تقدم من الأذان والخطبة وغيرهما وسائل، وصلاة الجمعة هي المقصودة بالذات، ويؤيده ورود الأمر في القرِآن بتكثير الذكر حال القتال. وذلك في قوله تعالى: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وفي قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} إلى أن ختم الآية بقوله تعالى {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. وليس المراد إيقاع الذكر بعد الانتشار وإن عطف عليه، وإنما المراد تكثير الذكر المشار إليه أول الآية. الخامس والثلاثون: من صلاة العصر إلى غروب الشمس، رواه ابن جرير عن ابن عباس موقوفًا وعن أبي سعيد مرفوعًا بلفظ: "فالتمسوها بعد العصر"، وذكر ابن عبد البر أن قوله "فالتمسوها" إلى آخره مدرج في الخبر من قول أبي سلمة، ورواه ابن منده من هذا الوجه أغفل ما يكون الناس، ورواه أبو نعيم في "الحلية" عن عون بن عبد الله بن عتبة عن أخيه عبيد الله كقول ابن عباس. ورواه الترمذي عن أنس مرفوعًا بلفظ "بعد العصر إلى غيبوبة الشمس" وإسناده ضعيف. السادس والثلاثون: في صلاة العصر، رواه عبد الرزاق عن يحيى بن إسحاق بن أبي طلحة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرسلًا وفيه قصة. السابع والثلاثون: بعد العصر إلى آخر وقت الاختيار، حكاه الغزالي في الإحياء". الثامن والثلاثون: بعد العصر كما مرّ عن أبي سعيد مطلقًا، ورواه ابن عساكر عن أبي هريرة وأبي سعيد مرفوعًا بلفظ: وهي بعد العصر، وروى عبد الرزاق عن ابن طاووس عن أبيه أنه كان يتحراها بعد العصر، وعن ابن جريج عن بعض أهل العلم قال: لا أعلمه إلا عن ابن عباس مثله، فقيل له لا صلاة بعد العصر فقال: بلى لكن من كان في مصلاه لم يقم منه فهو في صلاة. التاسع والثلاثون: من وسط النهار إلى قرب آخر النهار كما مرّ أول الباب عن سلمة بن علقمة. الأربعون: من حين تصفر الشمس إلى أن تغيب، رواه عبد الرزاق عن طاووس قوله وهو قريب من الذي بعده. الحادي والأربعون: آخر ساعة بعد العصر، رواه أبو داود والنسائي والحاكم بإسناد حسن عن أبي سلمة عن جابر مرفوعًا في أوله أن النهار اثنتا عشر ساعة، ورواه مالك وأصحاب "السنن" فيما مرّ أول الباب عن أبي هريرة عن عبد الله بن سلام من قوله وفيه مناظرة أبي هريرة له، ورواه ابن جرير عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعًا، ولم يذكر عبد الله بن سلام قوله ولا القصة

وعن ابن أبي ذيب عن أبي هريرة عن كعب الأحبار قوله: وروى ابن أبي خيثمة عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة وأبي هريرة وأبي سعيد، فذكر الحديث وفيه قال أبو سلمة: فلقيت عبد الله بن سلام فذكرت له ذلك، فلم يعرض بذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- بل قال: النهار ثنتا عشر ساعة وإنها لفي آخر ساعة من النهار ولابن خزيمة عن أبي سلمة عن عبد الله بن سلام قال: "قلتُ ورسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- جالسٌ إنا لنجدُ في كتاب اللهِ أن في الجُمعة ساعة" قال رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أو بعضَ ساعةٍ. قلتُ: نعم أو بعضَ ساعةٍ" الحديث وفيه "قلت أي ساعة" فذكر الحديث، وهذا يحتمل أن يكون القائل، قلت عبد الله بن سلام فيكون مرفوعًا أو يكون أبا سلمة فيكون موقوفًا وهو الأرجح لتصريحه في رواية يحيى بن أبي كثير بأن عبد الله بن سلام لم يذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- في الجواب. الثاني والأربعون: من حين يغيب نصف قرص الشمس أو من حين تدلي الشمس للغروب إلى أن يتكامل غروبها، رواه الطبراني في "الأوسط" والدارقطني في "العلل"، والبيهقي في "الشعب" و"فضائل الأوقات" عن زيد بن علي بن الحسين بن علي حدثتني مرجانة مولاة فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالت: حدثتني فاطمة عليها السلام عن أبيها فذكر الحديث، وفيه "قلت للنبي -صلى الله عليه وسلم-: أي ساعةٍ هي قال: إذا تدلّى نصفُ الشمس للغروب فكانت فاطمةُ إذا كان يومُ الجمعةِ أرسلت غلامًا لها يُقال له زيدٌ ينظرُ لها الشمسَ فإذا أخبرها أنها تدلتْ أقبلتْ على الدعاءِ إلى أن تغيبَ " في إسناده اختلاف على زيدٌ بن علي، وفي بعض رواته من لا يعرف حاله، وأخرجه إسحاق بن راهويه عن زيد بن علي عن فاطمة لم يذكر فيه مرجانة وقال فيه: "إذا تدلت الشمس للغروب"، وقال فيه "تقول لغلام يقال له: أربد اصعد على الظربِ فإذا تدلتِ الشمسُ للغروبِ فأخبرني" والباقي نحوه، وفي آخره ثم تصلي المغرب. الثالث والأربعون: ما استنبطه الجزري وذكره في "حصن الحصين" في الأدعية لما ذكر الاختلاف في ساعة الجمعة، واقتصر على ثمانية أقوال مما تقدم، ثم قال ما نصه والذي اعتقده أنها وقت قراءة الإمام الفاتحة في صلاة الجمعة إلى أن يقول: آمين جمعًا بين الأحاديث التي صحت كذا قال: ويخدش فيه بأنه يفوت على الداعي حينئذ الإنصات لقراءة الإمام. هذا ما وقفت عليه من الأقوال في ساعة الجمعة مع ذكر أدلتها وبيان حالها في الصحة والضعف والرفع والوقف والإشارة إلى مأخذ بعضها، وليست كلها متغايرة من كل وجه بل كثير منها يمكن أن يتحد مع غيره. قال الزين بن المنير يحسن جمع الأقوال، وكان قد ذكر مما تقدم عشرة أقوال فتكون ساعة الإجابة منها لا بعينها، فيصادفها من اجتهد في الدعاء في جميعها، وليس المراد من أكثرها أنها تستوعب جميع الوقت الذي عين، بل المعنى أنها تكون في أثنائه لقوله فيما مرّ "يقللها". وقوله "وهي ساعة خفيفة" وفائدة ذكر الوقت أنها تنتقل فيه فيكون ابتداء مظنتها ابتداء الخطبة مثلًا، وانتهاؤه انتهاء الصلاة، وكأن كثيراً من القائلين عيّن ما اتفق له وقوعها فيه من ساعة في أثناء وقت من الأوقات المذكورة، فبهذا التقرير يقل الانتشار جدًا.

رجاله خمسة

وقد مرّ أول الباب أن أرجح الأقوال حديث أبي موسى وعبد الله بن سلام، ومرّ تقرير ذلك مبسوطًا، وقد قال ابن المنير: إذا علم أن فائدة الإبهام لهذه الساعة ولليلة القدر بعث الداعي على الإكثار من الصلاة والدعاء، ولو بيّن لاتكل الناس على ذلك وتركوا ما عداها، فالعجب بعد ذلك ممن يجتهد في طلب تحديدها. وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما مرّ فضل يوم الجمعة لاختصاصه بساعة الإجابة. وفي "مسلم" أنه خير يوم طلعت عليه الشمس، وفيه فضل الدعاء واستحباب الإكثار منه واستدل به على بقاء الإجمال بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتعقب بأن الاختلاف في بقاء الإجمال في الأحكام الشرعية لا في الأمور الوجودية كوقت الساعة؛ فهذا لا خلاف في إجماله والحكم الشرعي المتعلق بساعة الجمعة وليلة القدر، وهو تحصيل الأفضلية يمكن الوصول إليه والعمل بمقتضاه باستيعاب اليوم أو الليلة، فلم يبقَ في الحكم الشرعي إجمال. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرّ عبد الله بن مسلمة في الثاني عشر من "الإيمان"، ومرّ أبو الزناد والأعرج في السابع منه، وأبو هريرة في الثاني منه، ومرّ مالك في الثاني من "بدء الوحي". أخرجه مسلم في الجمعة والنسائي. ثم قال المصنف: باب إذا نفر الناس عن الإِمام في صلاة الجمعة فصلاة الإمام ومَنْ بقي جائزة قوله "جائزة" بالرفع خبر المبتدأ الذي هو فصلاة الإِمام، وللأصيلي تامة وظاهر الترجمة أن استمرار الجماعة الذين تنعقد به الجمعة إلى تمامها ليس بشرط في صحتها، بل يشترط أن تبقى منهم بقية ما، ولم يتعرض المؤلف لعددمن تنعقد بهم الجمعة؛ لأنه لم يجد فيه شيئًا على شرطه. وقد مرّ في باب الجمعة في القرى والمدن أن مذهب الشافعية والحنابلة اشتراط أربعين منهم الإِمام بشروطها المارة في الباب المذكورة، واستدلوا بحديث ابن عباس المذكور هناك، وبحديث كعب بن مالك قال: "أول من جمّع بنا في المدينة أسعد بن زرارة قبل مقدمه عليه الصلاة والسلام في نقيع الخضمات، وكنا أربعين رجلًا" رواه البيهقي وغيره وصححوه. وروى البيهقي أيضًا أنه -صلى الله عليه وسلم- جمع بالمدينة وكانوا أربعين رجلًا وعورض بأنه لا يدل على شرطيته، وأجيب بما قاله في "المجمع" من أن وجه الدلالة من حديث كعب بن مالك أن الأمة أجمعوا على اشتراط العدد والأصل الظهر، فلا تصح الجمعة إلا بعدد ثبت فيه توقيت. وقد ثبت جوازها بأربعين، وثبت "صلُّوا كما رأيتموني أُصلِّي" ولم تثبت صلاته لها بأقل من ذلك، فلا تجوز بأقل منه. وقد مرّ في الباب المذكور أن مشهور مذهب مالك عدم التحديد بعدد محصور، ومرّ هناك ما تجب به عندهم، ولكن أقل ما تصح به اثنا عشر باقين إلى سلامها مع الإمام حتى إن بطلت على واحد منهم بطلت على الجميع بشرط أن يكونوا مستوطنين.

وأما الإِمام فيكفي فيه كونه مقيمًا غير مسافر، واستدلت المالكية بحديث الباب. وقد مرّ في الباب المذكور شرط وجوب الجمعة عند الحنفية، وأقل العدد الذي تصح به ثلاثة مع الإِمام عند أبي حنيفة؛ لأن الجمع الصحيح إنما هو الثلاث؛ لأنه جمع تسمية ومعنى والجماعة شرط على حدة، وكذا الإِمام فلا يعتبر منهم. وقال أبو يوسف ومحمد: ثلاثة بالإمام؛ لأن في الاثنين معنى الاجتماع، وهي منبئة عنه وجملة ما للعلماء في العدد خمسة عشر قولًا: الأول: تصح من الواحد، نقله ابن حزم. الثاني: اثنان كالجماعة، وهو قول النخعي وأهل الظاهر والحسن بن حي. الثالث: اثنان مع الإِمام عند أبي يوسف ومحمد. الرابع: ثلاثة معه عند أبي حنيفة. الخامس: سبعة عند عكرمة. السادس: تسعة عند ربيعة. السابع: اثنا عشر عنه في رواية. الثامن: مثله غير الإِمام عند مالك وإسحاق. التاسع: عشرون في رواية ابن حبيب عن مالك. العاشر: ثلاثون كذلك. الحادي عشر: أربعون بالإمام عند الشافعي وأحمد. الثاني عشر: غير الإِمام عن الشافعي، وبه قال عمر بن عبد العزيز وطائفة. الثالث عشر: خمسون عن أحمد في رواية وحكي عن عمر بن عبد العزيز. الرابع عشر: ثمانون حكاه المازري. الخامس عشر: جمع كثير بغير عدد، ولعل هذا الأخير أرجحها من حيث الدليل، ويمكن أن يزداد العدد باعتبار زيادة شرط كالذكورة والحرية والبلوغ والاستيطان، فيكمل بذلك عشرين قولًا.

الحديث التاسع والخمسون

الحديث التاسع والخمسون حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا زَائِدَةُ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- إِذْ أَقْبَلَتْ عِيرٌ تَحْمِلُ طَعَامًا، فَالْتَفَتُوا إِلَيْهَا حَتَّى مَا بَقِيَ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- إِلاَّ اثْنَا عَشَرَ رَجُلاً، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} ". قوله "عن حصين" هو ابن عبد الرحمن ومدار هذا الحديث في "الصحيحين" عليه، وقد رواه تارة عن سالم بن أبي الجعد وحده كما هنا وهي رواية أكثر أصحابه، وتارة عن أبي سفيان طلحة بن نافع وحده وهي رواية قيس بن الربيع وإسرائيل عند ابن مردويه، وتارة جمع بينهما عن جابر وهي رواية خالد بن عبد الله عند المصنف في التفسير، وعند مسلم وكذا رواه هشيم عنده أيضًا. وقوله "بينا نحن نصلي" في رواية خالد المذكورة عند أبي نعيم في المستخرج "بينما نحن مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الصلاة" وهذا ظاهر في أن انفضاضهم وقع بعد دخولهم في الصلاة، لكن وقع عند مسلم عند عبد الله بن إدريس عن حصين "ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطبُ". وله في رواية هشيم: "والنبي -صلى الله عليه وسلم- قائمٌ" زاد أبو عوانة في "صحيحه" والترمذي والدارقطني من طريقه "يخطب". ومثله لأبي عوانة عن عباد بن العوام، ولعبد بن حميد عن سليمان بن كثير كلاهما عن حصين، وكذا في رواية قيس بن الربيع وإسرائيل، ومثله عند البزار عن ابن عباس وعند الطبراني في "الأوسط" عن أبي هريرة وعند الطبراني أيضًا، وغيره من مرسل قتادة فعلى هذا، فقوله "يصلي" أي: ينتظر الصلاة. وقوله "في الصلاة" أي في الخطبة مثلًا، وهو من تسمية الشيء باسم ما قاربه، فبهذا يجمع بين الروايتين. ويؤيده استدلال ابن مسعود على القيام في الخطبة بالآية المذكورة كما أخرجه ابن ماجه بإسناد صحيح، وكذا استدل به كعب بن عُجْرة في "صحيح مسلم"، وحمل ابن الجوزي قوله "يخطب قائمًا" على أنه خبر (لكان) آخر غير خبر كونهم كانوا معه في الصلاة. فقال التقدير (صلينا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان يخطب قائمًا) الحديث، ولا يخفى تكلفه. وقوله "إذ أقبلت عير" أي بكسر العين المهملة. وهي الإبل التي تحمل التجارة طعامًا كانت أو غيره، وهي مؤنثة لا واحد لها من لفظها، ونقل عبد الحق أن البخاري لم يخرج قوله "إذ أقبلت عير

تحمل طعامًا" وهو ذهول منه، نعم سقط ذلك في التفسير، وثبت هنا وفي أوائل البيوع. وزاد فيه "أنها أقبلت من الشام". ولمسلم مثله عن جرير عن حصين وعند الطبري عن أبي مالك ومرة فرقهما أن الذي قدم بها من الشام دحية بن خليفة الكلبي، ونحوه عند البزار عن ابن عباس وعند ابن مردويه عن ابن عباس "جاءت عير لعبد الرحمن بن عوف" وجمع بين هاتين الروايتين بأن التجارة كانت لعبد الرحمن، وكان دحية السفير أو كان مشاركًا له وفي رواية ابن وهب عن الليث أنها كانت لوبرة الكلبي، وتجمع بأنه كان رفيق دحية. وقوله "فالتفتوا إليها" وفي رواية ابن فضيل في البيوع "فانفض الناس"، وهو موافق للفظ القرآن ودال على أن المراد بالالتفات الانصراف، وفيه رد على من حمل الالتفات على ظاهره فقال لا يفهم من هذا الانصراف عن الصلاة وقطعها، وإنما يفهم منه التفاتهم بوجوههم أو قلوبهم. وأما هيئة الصلاة المجزئة فباقية، ثم هو مبني على أن الانفضاض وقع في الصلاة، وقد ترجح مما مضى أنه إنما كان في الخطبة. فلو كان كما قيل لما وقع هذا الإنكار الشديد، فإن الالتفات فيها لا ينافي الاستماع وقد غفل قائله عن بقية ألفاظ الخبر. وفي قوله "فالتفتوا" الحديث التفات؛ لأن السياق يقتضي أن يقول التفتنا، وكان الحكمة في عدول جابر عن ذلك أنه هو لم يكن ممن التفت كما سيأتي. وقوله "إلا اثنا عشر" ليس الاستثناء مفرغًا حتى يجب رفعه، بل هو من ضمير بقي الذي يعود على المصلي، فيجوز فيه الرفع على البدل والنصب على الاستثناء، وقد جاءت بها الرواية. وفي "تفسير الطبري" وابن أبي حاتم بإسناد صحيح إلى أبي قتادة قال: "قال لهم رسول الله كم أنتم فعدوا أنفسهم فإذا هم اثنا عشر رجلًا وامرأة". وفي تفسير إسماعيل بن أبي زياد الشامي "وامرأتان". ولابن مردويه عن ابن عباس وسبع نسوة، لكن إسناده ضعيف واتفقت هذه الروايات كلها على اثني عشر رجلًا إلا ما رواه علي بن أبي عاصم عن حصين بالإسناد المذكور. فقال إلا أربعين رجلًا أخرجه الدارقطني، وقال تفرد به علي بن أبي عاصم وهو ضعيف الحفظ. وخالفه أصحاب حصين كلهم ويأتي في السند ما قيل في تسمية الباقين معه وتعريف من لم يمضِ تعريفه منهم، وذكر محل من عرف منهم. وقد اختلف فيما إذا انفضوا فقال الشافعية والحنابلة: لو انفض الأربعون أو بعضهم في أثناء الخطبة أو بينها وبين الصلاة أو في الركعة الأولى ولم يعودوا أو عادوا بعد طول الفصل استأنف الإمام الخطبة والصلاة، ولو انفض السامعون للخطبة بعد إحرام تسعة وثلاثين لم يسمعوا الخطبة أتم بهم الجمعة؛ لأنهم إذا لحقوا والعدد تام صار حكمهم واحدًا فسقط عنهم سماع الخطبة، أو انفضوا قبل إحرامهم استأنف الخطبة بهم، لأنه لا تصح الجمعة بدونها وقال المالكية أن انفضوا وبقي مع

الإمام اثنا عشر صحت ويتم بهم جمعة إذا بقوا معه إلى السلام بحيث لو انفض منهم واحد قبل السلام بطلت على الجميع إعطاء للدوام حكم الابتداء. وبهذا قال ربيعة وإسحاق بن راهويه مستدلين بحديث الباب، وتعقبه المخالفون بأنها واقعة عين لا عموم فيها، وبأنه يحتمل أنه تمادى حتى عادوا أو عاد من تجزىء بهم إذ لم يرد في الخبر أنه أتم الصلاة، وتحتمل أيضًا أنه أتمها ظهرًا. وأيضًا قد فرق كثير من العلماء بين الابتداء والدوام فيها فقيل إذا انعقدت لم يضر ما طرأ بعد ذلك ولو بقي الإمام وحده. وقال أبو حنيفة: إذا نفر الناس قبل أن يركع الإِمام ويسجد إلا النساء استقبل الظهر. وقال صاحباه: إذا نفروا عنه بعدما افتتح الصلاة صلى الجمعة، وإن نفروا عنه بعدما ركع وسجد سجدة بني على الجمعة في قولهم جميعًا خلافًا لزفر فإنه قال يتمها ظهرًا. وقيل تصح إن بقي واحد، وقيل اثنان، وقيل ثلاثة، وقيل إن كان صلى بهم الركعة الأولى صحت لمن بقي، وقيل يتمها ظهرًا مطلقًا وهذا الخلاف كله أقوال مخرجة في مذهب الشافعي إلا الأخير فهو قوله في الجديد، قاله في "الفتح" وقد مرَّ عند الترجمة أن ظاهرها يقتضي أن لا يتقيد الجمع الذي يبقى مع الإِمام بعدد معين. وقوله في الترجمة: "فصلاة الإمام ومن بقي جائزة يؤخذ منه أنه يرى أن الجميع لو انفضوا في الركعة الأولى ولم يبق إلا الإِمام وحده أنه لا تصح له، وهو كذلك عند الجمهور كما مرّ. وقوله: "فنزلت هذه الآية" الخ ظاهر في أنها نزلت بسبب قدوم العِير المذكورة. والمراد باللهو على هذا ما ينشأ من رؤية القادمين وما معهم. وعند الشافعي عن جعفر بن محمد عن أبيه مرسلًا "كانَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يخطبُ يومَ الجمعةِ وكانتْ لهم سوقٌ كانت بنو سليم يجلبونَ إليها الخيلَ والإبلَ والسمنَ فقدموا، فخرج إليهم الناسُ وتركوهُ وكان لهم لهوٌ يضربونهُ فنزلت". ووصله أبو عوانة في "صحيحه" والطبري بذكر جابر فيه "أنهم كانوا إذا نكحوا تضربُ الجواري بالمزامير، فتشتدُ الناسُ إليهم ويَدَعُون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائمًا فنزلت هذه الآية". وفي مرسل عبد بن حميد "كان رجالٌ يقومونَ إلى نواضحهم وإلى السفر يقدمون يبتغونَ التجارة واللهو" ولا بعد في أن تنزل في الأمرين معًا وأكثر. وفي تفسير إسماعيل بن أبي زياد الشامي عن أنس: "بينما نحنُ مع رسول اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يخطبُ يومَ الجمعةِ إذ سمعَ أهلُ المسجدِ صوتَ الطبول والمزاميرِ وكان أهلُ المدينةِ إذا قدمت عليهم العيرُ من الشامِ بالبُرِّ والزبيب استقبلوها فرحًا بالمعازفِ فقدمت عيرٌ لدحيةَ والنبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يخطبُ فتركوا النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- وخرجوا، فقال النبىُّ عليه الصلاة والسلام - مَنْ هنا؟ فقالوا: أبو بكر وعمرُ وعثمانُ وعليُّ وابنُ مسعودٍ وسالمُ مولى أبي حذيفة فإذا اثنا عشر رجلًا وامرأتان، فقال عليه الصلاة والسلام: لو اتبع آخركُم أولكم لاضطرم الوادي عليكم نارًا، ولكن تطول علي فرفعَ العقوبةَ بكمْ عمن خرجَ فنزلتِ الآيةُ".

وفي "تفسير النسفي" "بينا رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يخطبُ يومَ الجمعةِ إذ قَدمَ دحيةُ بنُ خليفةَ الكلبي ثم أحدُ بني الخزرج ثم أحدُ بني زيد بن مناة من الشام بتجارةٍ. وكان إذا قدمَ لم تبقَ بالمدينةِ عاتقٌ، وكان يقدمُ إذا قدمَ بكلِّ ما يحتاجُ إليه من دقيقٍ أو بُرٍّ وغيره، فنزلَ عند أحجارِ الزيتِ وهو مكان بسوق المدينةِ ثم يضربُ الطبلُ ليؤذنَ الناسَ بقدومِه فيخرجَ إليه الناسُ ليبتاعوا منه، فقدمَ ذاتَ يومِ جمعةٍ وكانَ ذلكَ قبلَ أن يسلمَ ورسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قائم على المنبرِ يخطبُ. فخرجَ إليهِ الناسُ فلم يبقَ في المسجدِ إلا اثنا عشر رجلًا وامرأةً، فقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- لولا هؤلاء لقد سومتْ لهم الحجارةُ من السماءِ وأنزل اللهُ تعالى هذه الآية". وقال في "الفتح": ذكر الحميدي في الجمع أن أبا مسعود الدمشقي ذكر في آخر حديث جابر هذا أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لو تتابعتم لم يبقَ منكم أحدٌ لسالَ بكُم الوادي نارًا". قال: وهذا لم أجده في الكتابين ولا في مستخرجي الإسماعيلي والبرقي. قال صاحب "الفتح": لم أرَ هذه الزيادة في الأطراف لأبي مسعود ولا هي في شيء من طرق حديث جابر المذكورة وإنما وقعت في مرسل الحسن وقتادة وكذا في حديث ابن عباس عند ابن مردويه، وفي حديث أنس عند إسماعيل بن أبي زياد وسنده ساقط. والنكتة في قوله، انفضوا إليها" دون قوله إليهما أو إليه أن اللهو لم يكن مقصودًا لذاته وإنما كان تبعًا للتجارة أو حذف لدلالة أحدهما على الآخر، وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها، وإذا رأوا لهوًا انفضوا إليه أو أعيد الضمير إلى مصدر الفعل المتقدم وهو الرؤية. أي انفضوا إلى الرؤية الواقعة على التجارة أو اللهو والترديد للدلالة على أن منهم من انفض لمجرد سماع الطبل ورؤيته. واستشكل الأصيلي حديث الباب فقال: إن الله تعالى وصف أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- بأنهم لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، ثم أجاب باحتمال أن يكون هذا الحديث كان قبل نزول الآية. وهذا الذي يتعيّن المصير إليه مع أنه ليس في آية النور التصريح بنزولها في الصحابة، وعلى تقدير ذلك فلم يكن تقدم لهم نهي عن ذلك، فلما نزلت آية الجمعة وفهموا منها ذم ذلك اجتنبوه في الخطبة لا في الصلاة، وهو اللائق بالصحابة تحسينًا للظن بهم، وعلى تقدير أن يكون في الصلاة حمل على أن ذلك وقع قبل النهي كآية {لَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} وقبل النهي عن الفعل الكثير في الصلاة. ولو ثبت قول مقاتل بن حيان الذي أخرجه أبو داود في المراسيل إن الصلاة كانت حينئذ قبل الخطبة، زال الإشكال لكنه مع شذوذه مفصل ولفظه قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي الجمعةَ قبلَ الخطبةِ مثلَ العيدين حتى كان يومَ جمعةٍ والنبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يخطبُ وقد صلّى الجمعةَ فدخلَ رجلٌ فقالَ إنّ دحيةَ قدمَ بتجارتِه، وكان دحيةُ إذا قدم تلقاهُ أهلهُ بالدفوفِ فخرجَ الناسُ لم يظنوا إلا أنّه ليس في تركِ الخطبةِ شيء، فأنزلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} فقدّمَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-

رجاله خمسة

الخطبةَ يومَ الجمعةِ وأخرَ الصلاةَ فكان أحدٌ لا يخرجُ لرعافٍ أو حدثٍ بعدَ النهي حتى يستأذنَ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يشيرُ إليه بإصبعهِ التي تلي الإبهامَ فيأذن له -صلى الله عليه وسلم- ثم يشيرُ إليه بيدهِ". قال السهيلي هذا وإن لم ينقل من وجه ثابت، فالظن الجميل بالصحابة يوجب أن يكون صحيحًا، وقال عياض: قد أنكر بعضهم كونه -صلى الله عليه وسلم- خطب قط بعد صلاة الجمعة. وفي هذا الحديث غير ما تقدم أن الخطبة تكون عن قيام كما مرّ، وأنها مشترطة في الجمعة حكاه القرطبي واستبعده، وأن البيع وقت الجمعة ينعقد ترجم عليه سعيد بن منصور وكأنه أخذه من كونه -صلى الله عليه وسلم- لم يأمرهم بفسخ ما تبايعوا فيه من العير المذكورة ولا يخفى ما فيه. رجاله خمسة: قد مرّوا، وفيه إلاَّ اثنا عشر رجلًا بالإبهام. مرّ معاوية بن عمرو في الثاني والسبعين من "الجماعة"، ومرَّ زائدة بن قدامة في الثاني والعشرين من "الغسل"، ومرّ حصين في الثالث والسبعين من "مواقيت الصلاة"، ومرَّ سالم بن أبي الجعد في السابع من "الوضوء"، ومرّ جابر في الرابع من "بدء الوحي". والاثنا عشر التي بقيت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- اختلف في تسميتهم فحكى السهيلي أنهم العشرة المبشرة، وبلال وابن مسعود. وفي رواية عمار بدل ابن مسعود. وفي رواية عند "مسلم" أن جابرًا قال: أنا فيهم. وله في رواية فيهم أبو بكر وعمر. وفي "تفسير إسماعيل" بن أبي زياد الشامي أن سالمًا مولى أبي حذيفة منهم، وعند العقيلي أن منهم الخلفاء الأربعة وابن مسعود وأناسًا من الأنصار. هذا حاصل ما قيل في تسميتهم وجميع المسمين قد مرّ تعريفهم إلا ثلاثة من العشرة وهم أبو عبيدة وعبد الرحمن وسعيد، فالسبعة المارة من العشرة: مرّ أبو بكر بعد الحادي والسبعين من "الوضوء" في باب (من لم يتوضأ من لحم الشاة)، ومرّ عمر في الأول من "بدء الوحي"، ومرّ عثمان في تعليق بعد الخامس من "العلم"، وعلي في السابع والأربعين منه، والزبير في الثامن والأربعين منه، وطلحة في التاسع والثلاثين من "الإيمان"، وسعد في العشرين منه، وعمار في تعليق بعد العشرين منه، وابن مسعود في أوله قبل ذكر حديث منه، وجابر مرَّ هنا، وبلال في التاسع والثلاثين من "العلم"، وسالم مولى أبي حذيفة في الخامس والأربعين من "الجماعة والإمامة". هذا ما مرّ وها أنا أذكر تعريف الثلاثة الباقية من العشرة المبشرة الأُول: أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال بن أهيب، ويقال وهيب بن ضبة بن الحارث بن

فهو القرشي الفهري أبو عبيدة بن الجراح مشهور بكنيته والنسبة إلى جده، ومنهم من لم يذكر بين عامر والجراح عبد الله، والأكثر على إثباته. وأمه أميمة بنت غنم بن جابر بن عبد العزى بن عامر بن عميرة، أحد العشرة السابقين إلى الإِسلام. هاجر الهجرتين، وشهد بدرًا وما بعدها، كان إسلامه هو وعثمان بن مظعون وعبيدة بن الجون بن المطلب وعبد الرحمن بن عوف وأبو سلمة بن عبد الأسد في ساعة واحدة قبل دخول النبي -صلى الله عليه وسلم- (دار الأرقم). وقال الزبير كان أبو عبيدة هو الذي انتزع الحلقتين اللتين دخلتا في وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- من المغفر يوم (أُحد) فانتزعت ثنيتاه فحسنتا فاه. فيقال إنه ما رؤي أهتم قط أحسن من هتم أبي عبيدة. وكان أبو عبيدة يدعى في الصحابة القوي الأمين لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأهل نجران "لأُرسلنَّ معهم القوي الأمين"، ولقوله عليه الصلاة والسلام كما في "الصحيحين": "لكلِّ أمَّة أمين وأمين أُمتي هذه أبو عبيدة". وأخرج أحمد عن أنس "أن أهل اليمن لما وفدوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالوا: أبعث معنا رجلًا يعلمنا السُّنَّةَ والِإسلام فأخذَ بيدِ أبي عبيدةَ بن الجراحِ وقال: هذا أمينُ هذهِ الأمَّةِ". وقال فيه أبو بكر الصديق يوم السقيفة: قد رضيت لكم أحد الرجلين فبايعوا أيهما شئتم عمر وأبا عبيدة. وأخرج ابن أبي شيبة أن رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قال ما مِنْ أصحابي أحدٌ إلا لو شئتُ وجدتُ عليه إلا أبا عبيدة". وفي رواية "إلا لو شئتُ لأخذتُ عليه في خلقهِ ليسَ أبا عبيدة". وقد قتل أباه يوم بدر ونزل فيه {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية. فقد خرج الطبراني بسند جيد قال: جعل والد أبي عبيدة يتصدى لأبي عبيدة يوم بدر فيحيد عنه، فلما أكثر قَصَده فقتله فنزلت. وذكر عنه جابر في "الصحيح" قوله للجيش الذين أكلوا من العنبر: "نحن رسل رسول الله وفي سبيل الله فكلوا آخى رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بينه وبينَ سعدِ بنِ معاذٍ، وهو الذي قال لعمرَ أتفرُّ من قدرِ اللهِ؟ فقال عمر: لو غيرُكَ قالها يا أبا عبيدة، نعم نفرُّ من قضاء إلى قدر الله تعالى". وذلك دال على جلالة أبي عبيدة عند عمر. وقال أبو يعلى عن عبد الله بن شقيق: "سألت عائشةَ مَنْ كان أحبَّ إلى رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-؟ قالت: أبو بكرٍ ثم عمرُ ثم أبو عبيدة بن الجراح". وأخرجه أحمد بلفظ: "من كان أحبَّ إليه؟ قالت: أبو بكر، قلت: ثم مَنْ؟ قالت: عمر.

قلت: ثم مَنْ؟ قالت: أبو عبيدة". وأخرج الطبراني عن عبد الله بن عمرو "قال: ثلاثةٌ من قريشٍ أصبحُ الناسِ وجوهًا وأحسنُهم خلقًا وأشدُّهم حياءً: أبو بكرٍ وعثمانُ وأبو عبيدةَ". وسنده ابن ربيعة. وفي "مغازي موسى بن عقبة": "أمّر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- عمرو بنَ العاصِ في غزوة ذاتِ السلاسلِ وهي مِنْ مشارفِ الشام في بَليّ ونحوهم من قضاعة، فخشيَ عمرو فبعثَ يستمدُّ فندبَ النبي -صلى الله عليه وسلم- الناسَ من المهاجريَنَ الأولينَ فانتدبَ أبو بكرٍ وعمرُ في آخرين، فأَمَّرَ عليهم أبا عبيدة بن الجراح مددًا لعمرو بن العاص، فلما قدموا عليه قال: أنا أميرُكم، فقال المهاجرون: بل أنت أميرُ أصحابكَ، وأبو عبيدة أمير المهاجرينَ. فقال عمرو إنما أنتم مددي فلما رأى ذلك أبو عبيدة وكان حسن الخلق متبعًا لأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعهده قال: تعلم يا عمرو أن رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قال لي: إذا قدمت إلى صاحبكَ فتطَاوعا وإنّك إنْ عصيتني أطعتُك". وفي فوائد ابن أخي سُمَيٍّ بسند صحيح أن المغيرة قال لأبي عبيدة "إنَّ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أمَّرَكَ علينا وأن ابنَ النابغةِ يعني عمرو بنَ العاص ليس لك معه أمرٌ، فقال أبو عبيدة: إنَّ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أمَرنا أن نطّاوعَ فأنا أطيعه لقوله عليه الصلاة والسلام". وأخرج ابن سعيد بسند حسن أن معاذ بن جبل بلغه أن بعض أهل الشام استعجز أبا عبيدة أيام حصار الشام، ورجح خالد بن الوليد فغضب معاذ وقال أفبأبي عبيدة يظن، والله إنه لمن خيرة من يمشي على الأرض". ولابن المبارك في كتاب "الزهد" قدم عمر الشام فتلقاه أمراء الأجناد، فقال اين أخي أبو عبيدة؟ فقالوا الآن يأتي فجاء على ناقة مخطومة بحبل فسلم عليه وساءله حتى أتى منزله، فلم ير فيه شيئًا إلا سيفه وترسه ورحله فقال له عمر: لو اتخذت متاعًا فقال: يا أمير المؤمنين، إن هذا يبلغنا المقيل. وأخرج يعقوب بن سفيان أن أبا عبيدة كان يسير في الركب فيقول: ألا ربّ مبيض لثيابه، وهو مدنس لدينه ألا ربّ مكرم لنفسه، وهو مهين لها غدًا ادفعوا السيئات القديمات بالحسنات الحادثات. وأخرج ابن أبي الدنيا بسند جيد، قال كان أبو عبيدة أميرًا على الشام فخطب فقال: والله ما منكم أحد يفضلني بتقى إلاَّ وَدِدت أني في مِسْلاخه. وأخرج الحاكم قال: لما طُعن أبو عبيدة قال: يا معاذ صلّ بالناس، فصلى، ثم مات أبو عبيدة، فخطب معاذ فقال في خطبته: وإنكم فُجعتم برجل ما أزعم، والله إنني رأيت من عباد الله قط أقل حقدًا، ولا أبر صدرًا، ولا أبعد غائلة، ولا أشد حياء للعاقبة، ولا أنصح للعامة منه فترحموا عليه. وأخرج ابن أبي شيبة قال: لما بعث عمر أبا عبيدة على الشام وعزل خالد بن الوليد قال خالد:

بعث عليكم أمين هذه الأمة، فقال أبو عبيدة: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقولُ: خالدٌ سيفٌ مِنْ سيوفِ اللهِ ونعمَ فتى العشيرةِ". وذكر خليفة عن ابن سيرين قال: لما ولي عمر عزل خالدًا وولى أبا عبيدة حين فتح الشام يزيد بن أبي سفيان على فلسطين، وشرحبيل بن حسنة على الأردن، وخالد بن الوليد على دمشق، وحبيب بن مسلمة على حمص، ثم عزله وولى عبد الله بن قرط، ثم وقع طاعون عَمَوَاس فمات أبو عبيدة، واستخلف معاذًا فمات معاذ، واستخلف يزيد بن أبي سفيان فمات يزيد، واستخلف أخاه معاوية فأقره عمر وكان موت أبي عبيدة ومعاذ ويزيد في طاعون عمواس بأرض الأردن وفلسطين سنة ثمان عشرة، مات فيه نحو خمسة وعشرين ألفًا، ويقال: إن عمواس قرية بين الرملة والمقدس، وقيل إن ذلك كان لقولهم عم واس ذكره الأصمعي. وكان عمر أبي عبيدة يوم مات ثمانيًا وخمسين سنة. وقيل عاش إحدى وأربعين سنة. وكان أوصى أن يدفن حيث قضى وذلك بفِحْل من أرض الأردن، وقيل: إن قبره ببيسان. وأخرج ابن سعد في وصفه قال: كان رجلًا نحيفًا معروق الوجه خفيف اللحية طوالًا أجنا أثرم، وقيل إنه كان يخضب بالحناء والكتم، له أربعة عشر حديثًا انفرد له مسلم بحديث. الثاني: عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد الحارث بن زهرة بن كلاب القرشي الزهري يكنى أبا محمد كان اسمه عبد عمرو، وقيل عبد الكعبة فغيره -صلى الله عليه وسلم- وسمّاه عبد الرحمن. أمه الشفا، وقيل صفية بنت عوف بن عبد الحارث بن زهرة. ولد بعد الفيل بعشر سنين، وأسلم قبل دخول النبي -صلى الله عليه وسلم- (دار الأرقم). هاجر الهجرتين، وشهد بدرًا وسائر المشاهد. أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، واحد الستة أصحاب الشورى الذين أخبر عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مات وهو عنهم راض، وأسند رفقته أمرهم إليه حتى بايع عثمان، ثبت ذلك في "الصحيح". وروى ابن عمر بسند ابن عبد البر أن عبد الرحمن بن عوف قال لأصحاب الشورى: هل لكم أن اختار لكم وأنتهي منها، فقال علي: أنا ممن رضي فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول أنت أمين في أهل السماء أمين في أهل الأرض. وروى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "عبدُ الرحمنِ سيدٌ من ساداتِ المسلمينَ". وأخرج علي بن حرب في فوائده أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الذي يحافظُ على أزواجي من بعدي هو الصادق البارُ فكانَ عبد الرحمن يخرج بهنَّ ويحجُّ معهنَّ ويجعلُ على هوادجهنَّ الطيالسةَ، وينزلُ بهنَّ في الشعبِ الذي ليس لهَ منفذٌ". وأخرج الترمذي وابن السراج في "تاريخه" عن نوفل بن إياس قال: كان عبد الرحمن لنا جليسًا

ونعم الجليس، فانقلب بنا ذات يوم إلى منزله فدخل فاغتسل ثم خرج، فإذا بقصعة فيها خبز ولحم ثم بكى، فقلنا ما يبكيك يا أبا محمد؟ قال مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يشبع هو وأهله من خبز الشعير ولا أرانا أخذنا لما هو خير لنا. وأخرج ابن المبارك عن الزهري قال: تصدق عبد الرحمن بن عوف على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشطر ماله، ثم تصدق بعد بأربعين ألف دينار، ثم حمل على خمسمائة فرس وخمسمائة راحلة وكان أكثر ماله من التجارة وكان تاجرًا مجدودًا. وأخرج أبو نعيم في "الحلية" أن عبد الرحمن بن عوف أعتق ثلاثين ألف نسمة، ومن وجه آخر عن حفص بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف، قال: كان عبد الرحمن حرم الخمر في الجاهلية. وذكر البخاري في "تاريخه" أن عبد الرحمن أوصى لكل من شهد بدرًا بأربعمائة دينار فكانوا مائة رجل. آخى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بينه وبين سعد بن الربيع كما في "الصحيح" من حديث أنس. وبعثه عليه الصلاة والسلام إلى دومة الجندل إلى كلب وعممه بيده وأسدلها بين كتفيه وقال: سر "بسم الله" وأوصاه بوصايا لأمراء سراياه، ثم قال له: إن فتح الله عليك فتزوج بنت ملكهم الأصْبَغ بن ثعلبة الكلبي، ففتح عليه فتزوجها وهي تُمَاضِر أم ابنه أبي سلمة. وأخرج أحمد في "مسنده" عن أنس قال كان بين خالد بن الوليد وعبد الرحمن كلام فقال خالد: تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: دعوا لي أصحابي الحديث. وروى الزهري أن عبد الرحمن أغمي عليه فصاحت امرأته، فلما أفاق قال أتاني رجلان فقالا انطلق نحاججك إلى العزيز الأمير فلقيهما رجل فقال لا تنطلقا به، فإنه ممن سبقت له السعادة في بطن أمه. وأخرج ابن المبارك في "الزهد" قال: كان عبد الرحمن يصلي قبل الظهر صلاة طويلة، فإذا سمع الأذان شد عليه ثيابه وخرج، وهو الذي رجع عمر بحديثه عن سَرْغ ولم يدخل الشام من أجل الطاعون. وحديثه في "الصحيحين" بتمامه: ورجع عمر إليه في أخذ الجزية من المجوس رواه البخاري. "وصلى رسولُ اللهِ خلفهُ في سفرةٍ سافرها ركعةً "من صلاةِ الصبحِ" أخرجه البخاري عن المغيرة بن شعبة. وذكر خليفة بسند قوي عن ابن عمر قال: استخلف عمر عبد الرحمن بن عوف على الحج سنة ولي الخلافة، ثم حج عمر بقية عمره. جُرح يوم (أُحد) إحدى وعشرين جراحة. وروى ابن عبد البر بسنده عن شقيق عن أم سلمة

قالت: دخل عليها عبد الرحمن بن عوف فقال: يا أمه، قد خشيت أن يهلكني كثرة مالي أنا أكثر قريش كلهم مالًا، قالت يا بني: تصدق، فإني سمعت رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يقول إن مِنْ أصحابي من لا يلقاني بعد أن أفارقَهُ. فلقي عمر فأخبره بما قالت أم سلمة، فجاء عمر فدخل عليها فقال: بالله منهم أنا؟ قالت: لا ولن أبرىء أحدًا بعدك. ولما حضرته الوفاة بكى بكاء شديدًا فسئل عن بكائه فقال: إن مصعب بن عمير كان خيرًا مني توفي على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم يكن له ما يكفن به، وأن حمزة بن عبد المطلب كان خيرًا مني لم نجد له كفنًا، وإني أخشى أن أكون ممن عجلت له طيباته في حياته الدنيا، وأخاف أن أحبس عن أصحابي بكثرة المال". وكان عبد الرحمن أبيض أعين أهدب أقنى طويل النابين الأعليين، له جمة، ضخم الكفين غليظ الأصابع رقيق البشرة، حسن الوجه لا يغير لحيته ولا رأسه، جرح في رجله يوم (أُحد) فكان أعرج. روى قبيصة عن جابر قال: دخلت على عمر وعلى يمينه رجل كأنه قُلْب فضة وهو عبد الرحمن بن عوف. له نحو عشرين ولدًا بين ذكر وأنثى. مات سنة اثنتين وثلاثين وقيل سنة ثلاث، وعاش اثنين وسبعين سنة أو خمسًا أو ثمانيًا، ودفن بالبقيع، وصلّى عليه عثمان، وقيل الزبير بن العوام خلف ألف بعير وثلاثة آلاف شاة ومائة فرس ترعى بالبقيع وكان يزرع بالجرف على عشرين ناضحًا، فكان يدخر من ذلك قوت أهله سنة صولحت امرأته التي طلقها في مرضه عن ثلث الثمن أو ربعه بثلاثة وثمانين ألفًا. وأوصى لنساء النبي -صلى الله عليه وسلم- بحديقة قومت بأربعمائة ألف. له خمسة وستون حديثًا اتفقا على حديثين، وانفرد البخاري بخمسة. الثالث: سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى العدوي أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأمه فاطمة بنت بعجة بن مليح الحزاعية، كان من السابقين إلى الإِسلام، أسلم قبل دخول النبي -صلى الله عليه وسلم- (دار الأرقم) وهاجر، وشهد (أُحدًا) وما بعدها من المشاهد، ولم يشهد بدرًا؛ لأنه كان غائبًا بالشام. وضرب له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسهمه وأجره في أهل بدر. وقال الواقدي "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد بعث قبل أن يخرج من المدينة إلى بدر طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد إلى طريق الشام يتجسسان الأخبار، ثم رجعا إلى المدينة فقدماها يوم وقعة بدر، فضرب لهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسهميهما وأجرهما". وقيل إنه شهد بدرًا. كان إسلامه قديمًا قبل عمر، وكان إسلام عمر عنده في بيته؛ لأنه زوج فاطمة. قال سعيد بن حبيب كان مقام أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة وسعد وسعيد والزبير وعبد الرحمن بن عوف مع النبي -صلى الله عليه وسلم- واحدًا كان أمامه في القتال وخلفه في الصلاة أخرجه البخاري ومسلم. وقصته مع أروى بنت أنيس إجابة دعائه مشهورة، وذلك أنها قالت: إنه ظلمها وبنى ضفيرة

لطائف إسناده

في حقها من الأرض وشكته إلى مروان، فقال سعيد: تروني ظلمتها وقد سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من ظلمَ من الأرض شبرًا طوقهُ اللهُ تعالى من سبعِ أرضين يومَ القيامةِ" ثم أعطاها ما ادعت ولم يرض باليمين. وقال اللهم إنها زعمت أني قد ظلمتها فإن كانت كاذبة فأعْمِ بصرها وألقها في بئرها وأظهر من حقي نورًا بين المسلمين أني لم أظلمها فبينما هم على ذلك إذ سال العقيق سيلًا لم يسل مثله قط فكشف عن الحد الذي كانا يختلفان فيه، فإذا سعيد بن زيد في ذلك قد كان صادقًا ثم لم تلبث إلا يسيرًا حتى عميت، فبينما هي تطوف في أرضها تلك سقطت في بئرها. قال أبو بكر بن حزم فكنا ونحن غلمان نسمع الإنسان يقول للآخر إذا تخاصما أعماك الله عمى أروى، فكنا نظن أنه يريد الوحشية وهو كان يريد ما أصاب أروى بدعوة سعيد بن زيد. وروى البخاري عنه أنه قال لقد رأيتني وإن عمر لموثقي على الإِسلام. شهد سعيد اليرموك وفتح دمشق، وأقطعه عثمان أرضًا بالكوفة فنزلها وسكنها من بعده ابنه الأسود بن سعيد، وكان له أربعة بنين. وأخبار أبيه زيد في تطلب دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام وعدم أكله لما ذبح للأصنام معلوم. له ثمانية وثلاثون حديثًا اتفقا على حديثين وانفرد البخاري بواحد. روى عنه عمرو بن حريث وعروة وأبو عثمان النهداني وغيرهم. مات سنة إحدى وخمسين بالعقيق، وحمل إلى المدينة وعاش بضعًا وسبعين سنة. وكان طوالاً آدم أشعر، وزعم الهيثم بن عدي أنه مات بالكوفة، صلى عليه المغيرة بن شعبة، وعاش ثلاثًا وسبعين سنة. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع العنعنة والقول، ورواته ما بين بغدادي وكوفي وواسطي. أخرجه البخاري في "البيوع" وفي "التفسير". ومسلم في "الصلاة"، والترمذي في "التفسير" والنسائي فيه وفي "الصلاة". ثم قال المصنف:

باب الصلاة بعد الجمعة وقبلها

باب الصلاة بعد الجمعة وقبلها قدم البعد على القبل خلافًا لعادته لورود الحديث في البعد صريحًا دون القبل. الحديث الستون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ رَكْعَتَيْنِ، وَبَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ، وَبَعْدَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ فِي بَيْتِهِ، وَبَعْدَ الْعِشَاءِ رَكْعَتَيْنِ وَكَانَ لاَ يُصَلِّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ حَتَّى يَنْصَرِفَ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ. في الحديث أنه لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلي ركعتين، ولم يذكر شيئًا في الصلاة قبلها. قال ابن المنير: كأنه يقول الأصل استواء الظهر والجمعة؛ لأن الجمعة بدل الظهر وكانت عنايته بحكم الصلاة بعدها أكثر لورود الخبر في البعد صريحًا دون القبل. وقال ابن بطال: إنما أعاد ابن عمر ذكر الجمعة بعد الظهر من أجل أنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي سُنة الجمعة في بيته بخلاف الظهر، والحكمة فيه أن الجمعة لما كانت بدل الظهر واقتصر فيها على ركعتين ترك التنفل بعدها في المسجد خشية أن يظن أنها التي حذفت. وعلى هذا، فينبغي أن لا يتنفل قبلها ركعتين متصلتين بها في المسجد لهذا المعنى. وقال ابن بطال: لم يقع ذكر الصلاة قبل الجمعة في هذا الحديث، فلعل البخاري أراد إثباتها قياسًا على الظهر، وقواه الزين بن المنر بأنه قصد التسوية بين الجمعة والظهر في حكم التنفل كما قصد التسوية بين الإِمام والمأموم في الحكم، وذلك يقتضي أن النافلة لهما سواء، والذي يظهر أن البخاري أشار إلى ما وقع في بعض طرق حديث الباب وهو ما رواه أبو داود وابن حبان عن نافع قال: كان ابن عمر يطيل الصلاة قبل الجمعة، ويصلي بعدها ركعتين في بيته ويحدّث أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كان يفعل ذلك احتج به النووي في الخلاصة على إثبات سنة الجمعة التي قبلها، وتعقب بأن قوله "وكان يفعل ذلك" عائد على قوله "ويصلي" بعد الجمعة ركعتين في بيته، ويدل عليه رواية الليث عن نافع عن عبد الله أنه كان إذا صلى الجمعة انصرف فسجد سجدتين في بيته ثم قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصنع ذلك" أخرجه مسلم. وأما قوله "كان يطيل الصلاة قبل الجمعة" فإن كان بعد دخول الوقت فلا يصح أن يكون مرفوعًا؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- كان يخرج إذا زالت الشمس فيشتغل بالخطبة ثم بصلاة الجمعة، وإن كان قبل دخول الوقت فذلك مطلق نافلة لا صلاة راتبة، فلا حجة فيه لسنة الجمعة التي قبلها بل هو تنفل مطلق. وقد ورد الترغيب فيه كما مرّ في حديث سلمان وغيره حيث قال فيه، ثم صلى ما كتب له

وورد في سنة الجمعة التي قبلها أحاديث أخر ضعيفة منها ما رواه البزار عن أبي هريرة بلفظ: "كان يصلى قبل الجمعة ركعتين وبعدها أربعًا، وفي إسناده ضعف. وعن علي مثله، رواه الأثرم والطبراني في الأوسط بلفظ: "كان يصلي قبل الجمعة أربعًا وبعدها أربعًا" وفيه محمد بن عبد الرحمن السهمي وهو ضعيف. وقال الأثرم: إنه حديث واهٍ. ومنها عن ابن عباس مثله وزاد: "لا يفصل في شيء منهن" أخرجه ابن ماجه بسند واهٍ. وقال النووي في الخلاصة: إنه حديث باطل، وعند الطبراني عن ابن مسعود مثله وفي إسناده ضعف وانقطاع، ورواه عبد الرزاق عن ابن مسعود موقوفًا وهو الصواب. وروى ابن سعد عن صفية زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- نحو حديث أبي هريرة موقوفًا، وقد مرَّ في أثناء الكلام على حديث جابر في قصة سليك قبل سبعة أبواب قول مَنْ قال: إن المراد بالركعتين اللتين أمره النبي -صلى الله عليه وسلم- بهما سنة الجمعة والجواب عن ذلك. وقد تقدم نقل المذاهب في كراهة التطوع نصف النهار، ومن استثنى يوم الجمعة دون بقية الأيام في باب (من لم يكره الصلاة إلا بعد العصر والفجر في آخر المواقيت). وأقوى ما يتمسك به في مشروعية ركعتين قبل الجمعة عموم ما صححه ابن حبان من حديث عبد الله ابن الزبير مرفوعًا: "ما من صلاة مفروضة إلا وبين يديها ركعتان". ومثله حديث عبد الله بن مغفل الماضي في وقت المغرب بين كل أذانين صلاة، ومذهب المالكية جواز التنفل قبلها لغير الإِمام وكراهته للإمام إذا جاء وقد حان وقت الخطبة وليرقَ المنبر إلا إن بكر قبل ذلك فلا بأس أن يركع ويجلس مع الناس. قال ابن عبد السلام ويمتد وقت الكراهة بعد الجمعة في الجامع حتى ينصرف أكثر المصلين لا كلهم أو يجيء وقت انصرافهم، وإن لم ينصرفوا أو يحتمل أنه يكره لكل مُصلٍ أن يتنفل بعد الجمعة في الجامع حتى ينصرف، وهذا هو المنصوص، وهو للإمام أشد كراهة. وقال الشافعي ما أكثر المصلي بعد الجمعة من التطوع فهو أحب إلى لكن ينبغي أن يفصل بين الصلاة التي بعد الجمعة وبينها ولو بنحو كلام أو تحول؛ لأن معاوية أنكر على من صلى سنة الجمعة في مقامها، وقال له: إذا صليت الجمعة فلا تصلها بصلاة حتى تخرج أو تتكلم فإن "رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمرنا بذلك أن لا نوصل صلاة حتى نخرج أو نتكلم" رواه مسلم. وقال أبو حنيفة: يصلي بعدها أربعًا لا يفصل بينهن بسلام واستدل بحديث أبي هريرة عند الترمذي قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: من كان منكم مصليًا بعد الجمعة فليصل أربعًا". وعند أبي يوسف يصلي أربعًا ثم اثنتين، واستدل بما رواه حرشة بن الحر أن عمر رضي الله تعالى عنه كره أن يصلي بعد صلاة مثلها وعند الحنابلة لا راتبة قبلها نصًا وأقل الراتبة بعدها ركعتان وأكثرها ستة.

رجاله أربعة

وأما سنة المغرب فقد روى الترمذي عن ابن مسعود أنه قال: ما أحصي ما سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرأ في الركعتين بعد المغرب، وفي الركعتين قبل صلاة الفجر بـ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. وأخرج الترمذي عن ابن عمر قال: "حفظت من النبي -صلى الله عليه وسلم- عشر ركعات الحديث، وفيه ركعتين بعد المغرب في بيته" واتفق عليه الشيخان عن ابن عمر وروى أبو الشيخ بن حبان عن عائشة مرفوعًا "ما من صلاة أحب إلى الله من المغرب" الحديث، وفيه فمن صلاها ثم صلى بعدها ركعتين قبل أن يتكلم جليسه رفعت صلاته في أعلى عليين. وروى ابن أبي شيبة عن ابن عمر من صلى بعد المغرب أربعًا كان كالمعقب غزوة بعد غزوة وبالغ بعض التابعين، فروى ابن أبي شيبة عن سعيد ابن جبير قال: لو تركت الركعتين بعد المغرب لخشيت أن لا يغفر لي. وقد شذ الحسن البصري فقال بوجوبهما، وأما سنة العشاء وهما الركعتان بعدها فمن السنن المؤكدة، وقد صح أنه "-صلى الله عليه وسلم- كان لا يدعهما". وعن أنس قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: من صلّى ركعتين بعد العشاء الآخرة يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب، وعشرين مرة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} بني الله عزّ وجلّ له قصرًا في الجنة" رواه أبو الشيخ بن حبان. ويأتي إن شاء الله تعالى الكلام على سنة الظهر في أبواب التطوع. رجاله أربعة: قد مرّوا: مرّ عبد الله بن يوسف ومالك في الثاني من "بدء الوحي". ومرّ نافع في الأخير من "العلم"، ومرّ ابن عمر في أول "الإيمان" قبل ذكر حديث منه. أخرجه الخمسة الباقون ثم قال المصنف:

باب قول الله عز وجل {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله}

باب قول الله عزّ وجلّ {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} قيل أراد بهذه الآية الكريمة الإِشارة إلى أن الأمر في قوله "فانتشروا" "وابتغوا" للإباحة لا للوجوب؛ لأنهم منعوا عن الانتشار في الأرض للتكسب وقت النداء يوم الجمعة لأجل إقامة صلاة الجمعة، فلما صلّوا وفرغوا أُمروا بالانتشار في الأرض والابتغاء من فضل الله، وهو رزقه والصارف للأمر هنا عن الوجوب وروده بعد الحظر كقوله تعالى {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}. والإجماع الدال على أنه للإباحة، وجنح الداودي إلى أنه على الوجوب في حق من يقدر على الكسب، وهو قول شاذ نقل عن بعض الظاهرية وقيل وهو في حق من لا شيء عنده ذلك اليوم، فأمر بالطلب بأي صورة اتفقت ليفرح عياله ذلك اليوم؛ لأنه يوم عيد والذي يترجح أن في قوله انتشروا، وابتغوا إشارة إلى استدراك ما فاتكم مما انفضضتم إليه فتنحل إلى أنها قضية شرطية أي من وقع له في حال خطبة الجمعة وصلاتها زمان يحصل فيه ما يحتاج إليه من أمر دنياه ومعاشه، فلا يقطع العبادة لأجله، بل يفرغ منها ويذهب حينئذ لتحصل حاجته. وروي عن أنس مرفوعًا ليس لطلب دنياكم، ولكن عيادة مريض وحضور جنازة وزيارة أخ في الله، وقيل صلاة تطوع. وقال الحسن وسعيد بن جبير ومكحول "وابتغوا من فضل الله" هو طب العلم. الحديث الحادي والستون حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلٍ قَالَ: "كَانَتْ فِينَا امْرَأَةٌ تَجْعَلُ عَلَى أَرْبِعَاءَ فِي مَزْرَعَةٍ لَهَا سِلْقًا، فَكَانَتْ إِذَا كَانَ يَوْمُ جُمُعَةٍ تَنْزِعُ أُصُولَ السِّلْقِ فَتَجْعَلُهُ فِي قِدْرٍ، ثُمَّ تَجْعَلُ عَلَيْهِ قَبْضَةً مِنْ شَعِيرٍ تَطْحَنُهَا، فَتَكُونُ أُصُولُ السِّلْقِ عَرْقَهُ، وَكُنَّا نَنْصَرِفُ مِنْ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ فَنُسَلِّمُ عَلَيْهَا، فَتُقَرِّبُ ذَلِكَ الطَّعَامَ إِلَيْنَا فَنَلْعَقُهُ، وَكُنَّا نَتَمَنَّى يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِطَعَامِهَا ذَلِكَ". وجه مطابقته للترجمة من حيث إن في الآية الانتشار بعد الفراغ من الصلاة وهو الانصراف منها. وفي الحديث أيضًا كانوا ينصرفون بعد فراغهم من صلاة الجمعة، وفي الآية الابتغاء من فضل الله الذي هو الرزق، وفي الحديث أيضًا كانوا بعد انصرافهم منها يبتغون ما كانت تلك المرأة

رجاله أربعة

تهيئه من أصول السِّلْق وهو رزق ساقه الله إليهم. وقوله "أبو حازم" المراد به سلمة بن دينار ووهم من زعم أنه سلمان مولى عزة صاحب أبي هريرة. وقوله "تجعل" بالجيم وفي رواية الكشميهني "تحقل" بمهملة بعدها قاف أي تزرع. وقوله "على أربعاء" جمع ربيع كأنصباء ونصيب، والربيع الجدول وقيل الصغير، وقيل الساقية، وقيل الصغيرة، وقيل حافات الأحواض والمزرعة بفتح الراء. وحكى ابن مالك جواز تثليثها. والسِّلْق بكسر المهملة معروف منصوب بتجعل أو تحقل. وحكى الكرماني أنه سلق بالرفع وتكلف في توجيهه. وقوله "تطحنها" في رواية المستملي "تطبخها" بتقديم الموحدة بعدها معجمة، وكلاهما صحيح. وقوله "فتكون أصول السِّلق عرقه بفتح المهملة وسكون الراء بعدها قاف ثم هاء ضمير أي عرق الطعام، والعرق اللحم الذي على العظم والمراد أن السلق يقوم مقامه عندهم، وسيأتي في الأطعمة من وجه آخر في آخر الحديث والله ما فيه شحم ولا ودك وفي رواية الكشميهني غَرِقة بفتح المعجمة وكسر الراء وبعد القاف هاء التأنيث، والمراد أن السِّلق يغرق في المرقة لشدة نضجه. وقوله "فنلعقه" من لعق يلعق من باب علم يعلم وفي هذا الحديث جواز السلام على النسوة الأجانب واستحباب التقرب بالخير ولو بالشيء الحقير وبيان ما كان الصحابة عليه من القناعة، وشدة العيش والمبادرة بالطاعة رضي الله تعالى عنهم. رجاله أربعة: قد مرّوا: وفيه لفظ امرأة لم يعلم اسمها، مرّ سعيد بن أبي مريم في الرابع والأربعين من العلم، ومرّ أبو غسان في السادس عشر من الجماعة، ومرَّ أبو حازم وسهل بن سعد في الثامن والمائة من "الوضوء". لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول وفيه راويان مذكوران بالكنية. ورواته مدنيون ما عدا شيخ البخاري فإنه مصري.

الحديث الثاني والستون

الحديث الثاني والستون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَهْلٍ بِهَذَا، وَقَالَ: مَا كُنَّا نَقِيلُ وَلاَ نَتَغَدَّى إِلاَّ بَعْدَ الْجُمُعَةِ. قوله بهذا أي: بالحديث الذي قبله وظاهره أن أبا غسان وعبد العزيز بن أبي حازم اشتركا في رواية هذا الحديث عن أبي حازم وزاد عبد العزيز الزيادة المذكورة وهي قوله "ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة" وقد رواها أبو غسان مفردة كما في الباب الذي بعده لكن ليس فيه ذكر الغداء. وقوله "نَقيل". بفتح النون من قال يقيل قيلولة فهو قائل والقيلولة الاستراحة نصف النهار وإن لم يكن معها نوم، وكذلك المقيل. وقوله "ولا نتغدى" بالغين المعجمة والدال المهملة وهو الطعام الذي يؤكل أول النهار، واستدل بهذا الحديث لأحمد على جواز صلاة الجمعة قبل الزوال. وترجم عليه ابن أبي شيبة باب من كان يقول الجمعة أول النهار، وأورد فيه حديث سهل هذا وحديث أنس الذي بعده وعن ابن عمر مثله وعن عمر وعثمان وسعد وابن مسعود مثل قومهم وتعقب بأنه لا دلالة يه على أنهم كانوا يصلون الجمعة قبل الزوال، بل فيه أنهم كانوا يتشاغلون عن الغداء والقائلة بالتهيؤ للجمعة ثم بالصلاة ثم ينصرفون فيتذاكرون ذلك، بل ادعى الزين بن المنير أنه يؤخذ منه أن الجمعة تكون بعد الزوال؛ لأن العادة في القائلة أن تكون قبل الزوال فأخبر الصحابي أنهم كانوا يشتغلون بالتهيؤ للجمعة عن القائلة، ويؤخرون القائلة حتى تكون بعد صلاة الجمعة. رجاله أربعة: قد مروا: مرَّ عبد الله بن سلمة في الثاني عشر من "الإِيمان"، ومرّ عبد العزيز بن أبي حازم في الخامس والأربعين من أحاديث استقبال القبلة، ومرَّ ذكر محل أبيه وسهل في الذي قبله. ثم قال المصنف:

باب القائلة بعد الجمعة

باب القائلة بعد الجمعة الحديث الثالث والستون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُقْبَةَ الشَّيْبَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِىُّ عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ: "سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ كُنَّا نُبَكِّرُ إِلَى الْجُمُعَةِ ثُمَّ نَقِيلُ". وهذا الحديث قد مرّ في باب وقت الجمعة إذا زالت الشمس، ومرَّ الكلام عليه هناك. رجاله أربعة: قد مرَّ منهم حميد الطويل في الثاني والأربعين من "الإيمان" ومرّ أنس في السادس منه ومحمد هو ابن عقبة بن المغيرة، وقيل ابن كثير الشيباني أبو عبد الله ويقال أبو جعفر الكوفي أخو الوليد ذكره ابن حبان في "الثقات"، ووثقه ابن عدي وقال أبو حاتم ليس بالمشهور وما له في البخاري سوى حديثين: أحدهما في الجمعة متابعة، والآخر في الاعتصام مقرونًا وفي الزهرة روى عنه البخاري ثلاثة أحاديث. روى عن أبي إسحاق الفزاري وسوار بن مصعب وعبادة بن أبي روق وغيرهم. وروى عنه البخاري وأبو كريب وعثمان بن أبي شيبة وغيرهم. مات سنة خمس عشرة ومائتين. الثاني: إبراهيم بن محمد بن الحارث بن أسماء بن خارجة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري أبو إسحاق الكوفي المصيصي. قال ابن معين: ثقة، ثقة، وقال أبو حاتم: الثقة المأمون الإمام. وقال النسائي: ثقة مأمون أحد الأئمة. وقال العجلي: كان ثقة رجلًا صالحًا صاحب سنة، وهو الذي أدب أهل الثغر وعلمهم السنة، وكان يأمر وينهى وإذا دخل الثغر رجل مبتدع أخرجه وكان كثير الحديث، وكان له فقه. وقال ابن عيينة: كان إمامًا، وقال عطاء الخفاف: كنت عند الأوزاعي فأراد أن يكتب إلى أبي إسحاق فقال للكاتب ابدأ به فإنه والله خير مني. وقال أبو مسهر: قدم علينا أبو إسحاق فاجتمع الناس يستمعون منه فقال لي اخرج إلى الناس فقل لهم من كان يرى القدر، فلا يحضر مجلسنا ففعلت. وقال ابن سعد: كان ثقة صاحب سنة وغزو كثير. وقال إسحاق بن إبراهيم: أخذ الرشيد زنديقًا فأراد قتله. فقال: أين أنت من ألف حديث وضعتها؟ فقال له: أين أنت يا عدو الله من أبي إسحاق

لطائف إسناده

وابن المبارك ينخلانها حرفًا حرفًا. وقال ابن مهدي: رجلان من أهل الشام إذا رأيت رجلًا يحبهما فاطمئن إليه الأوزاعي وأبو إسحاق كانا إمامين في السنة. وقال ابن عيينة في قصة: والله ما رأيت أحدًا أقدمه عليه وقال لأبي إسامة أيهما أفضل أبو إسحاق أم فضيل بن عياض؟ قال: كان الفضيل رجل نفسه وأبو إسحاق رجل عامة. وقال الخليلي أبو إسحاق إمام يقتدى به، وهو صاحب كتاب "السير" نظر فيه الشافعي وأملى كتابًا على ترتيبه ورضيه. وقال الحميدي قال لي الشافعي: لم يصنف أحد في "السير" مثله. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ولد (بواسط) وابتدأ بكتابة الحديث وهو ابن ثمانية وعشرين سنة. وكان من الفقهاء والعُبّاد. وذكر ابن النديم في "الفهرست" أنه أول من عمل في الإِسلام إصطرلابًا وله فيه تصنيف. روى عن حميد الطويل وأبي إسحاق السَّبيعي والأعمش ومالك وشعبة والثوري وغيرهم. وروى عنه الأوزاعي وهو من شيوخه ومعاوية بن عمرو الأزدي وابن المبارك وغيرهم. مات سنة خمس أو ست أو ثمان وثمانين ومائة، حدث عنه سفيان الثوري وعلي بن بكار المصيصي وبين وفاتيهما مائة سنة أو أكثر. والمصيصي في نسبه نسبة إلى (مصيص) بلد بالشام ولا تشدد، وقيل ثغور الروم منه هو هذا ومنه الإِمام أبو الفتح نصر الدين محمد بن عبد القوي المصيصي آخر من حدث عن الخطيب السمعاني. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، وشيخ البخاري من أفراده، ورواته ما بين مصيصي وكوفي وبصري.

الحديث الرابع والستون

الحديث الرابع والستون حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلٍ بن سعد قَالَ: "كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- الْجُمُعَةَ ثُمَّ تَكُونُ الْقَائِلَةُ". وهذا الحديث قد مرَّ في الباب الذي قبله، ومرّ الكلام عليه. رجاله أربعة: قد مرّوا: مرّ ذكر محلهم في الذي قبله بحديثين. خاتمة اشتمل كتاب "الجمعة" من الأحاديث المرفوعة على تسعة وسبعين الموصول منها أربعة وستون حديثًا، والمعلق والمتابعة خمسة عشر حديثًا، المكرر منها فيها وفيما مضى ستة وثلاثون حديثًا، والخالص ثلاثة وأربعون حديثًا كلها موصولة وافقه مسلم على تخريجها إلا حديث سلمان في الاغتسال والدهن والطيب، وحديث عمر وامرأته في النهي عن منع النساء المساجد، وحديث أنس في صلاة الجمعة حين تميل الشمس، وحديثه في القائلة بعدها، وحديث كان إذا اشتد البرد بكر بالصلاة، وحديث أبي عيسى من اغبرت قدماه، وحديث السائب بن يزيد في النداء يوم الجمعة، وحديث أنس في الجذع، وحيث عمرو بن تغلب إلى أكل أقوامًا، وحديث ابن عباس في الوصية بالإنصات، وحديث سهل بن سعد الأخير في قصة المرأة والقائلة بعد الجمعة. وفيه من الآثار عن الصحابة والتابعين أربعة عشر أثرًا. وانظر قوله "إن الموصول أربعة وستون". وأنا ما رأيت إلا ما ذكرت ستة وخمسين فأين جاء ما ذكره من الزيادة؟ ثم قال المصنف:

أبواب صلاة الخوف

أبواب صلاة الخوف وقول الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} إلى قوله {إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا}. ثبت لفظ أبواب للمستملي وأبي الوقت، وفي رواية الأصيلي وكريمة باب بالإفراد وسقط للباقين، وثبت سياق الآيتين بلفظهما إلى قوله {مُهِينًا} في رواية كريمة، واقتصر في رواية الأصيلي على إلى أن تقصروا من الصلاة، وقال إلى "قولهَ {عَذَابًا مُهِينًا}. وأما أبو ذر فساق الأولى بتمامها. ومن الثانية إلى قوله معك، ثم قال إلى قوله: {عَذَابًا مُهِينًا}. قال الزين بن المنير: ذكر صلاة الخوف إثر صلاة الجمعة؛ لأنها من جملة الخمس، لكن خرج كل منهما عن قياس حكم باقي الصلوات، ولما كان خروج الجمعة أخف قدمه تلو الصلوات الخمس وعقبه بصلاة الخوف؛ لكثرة المخالفة ولاسيما عند شدة الخوف، وساق الآيتين في هذه الترجمة مشيرًا إلى أن خروج صلاة الخوف عن هيئة بقية الصلوات ثبت بالكتاب قولًا وبالسُّنة فعلًا، ولما كانت الآيتان قد اشتملتا على مشروعية القصر في صلاة الخوف وعلى كيفيتها، ساقهما معًا وآثر تخريج حديث ابن عمر لقوة شبه الكيفية التي ذكرها بالآية. ومعنى قوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ} أي سافرتم. ومفهومه أن القصر مختص بالسفر، هو كذلك. وقوله: {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} أي: بتنصيف ركعاتها ونفي الحرج فيه يدل على جوازه لا على وجوله، ويؤيده أنه عليه الصلاة والسلام أتم في السفر، وإلى كونه جائزًا ذهب الشافعي، وأوجبه أبو حنيفة، واستدل الشافعي بما رواه مسلم والأربعة عن يعلي بن أمية قال: "قلت لعمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- قال الله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ} فقد أمن الناس، قال: عجبت مما عجبت منه فسألتُ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فقال: صدقةٌ تصدَّقَ اللهُ بها عليكم فاقبلوا صدقتَهُ". فقد علق القصر بالقبول وسماه صدقة والمتصدق عليه غير في قبول الصدقة، فلا يلزمه القبول حتمًا واستدل الحنفية بقول عمر المروي في النسائي وابن ماجه وابن حبان صلاة السفر ركعتان تام غير قصر على لسان نبيكم وبقول عائشة -رضي الله تعالى عنها- المروي عند الشميخين: "أولُ ما فرض الصلاة فُرضتْ ركعتين فأُقرتْ في السفر وزيدتْ في الحضر". وبحديث ابن عباس عند مسلم قال: "فرضَ اللهُ الصلاةَ على لسانِ نبيِّكُم في الحضرِ أربعَ ركعاتٍ، وفي

السفرِ ركعتينِ، وفي الخوفِ ركعة". وأجابوا عن حديث يعلى بأنه أمر بالقبول، والأمر للوجوب، وأجاب الآخرون عن الأحاديث المذكورة بأن الأول مؤول بأنه كالتام في الصحة والإجزاء، وعن الأخيرين بأنهما لا ينفيان جواز الزيادة. وقوله: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: بالقتال والتعرض لما يكره، وهو شرط باعتبار الغالب في ذلك الوقت وإنما لم يعتبر مفهومه الذي هو اختصاص القصر بالخوف، لحديث يعلي بن أمية السابق، فقد قال فيه: "فاقبلوا صدقته" فثبت القصر في الأمن ببيان السنة، وبأن الإجماع على جواز القصر في السفر من غير خوف. وقوله: {وَإِذَا كُنْتَ} أيها الرسول علمه طريق صلاة الخوف ليقتدي به الأئمة بعده عليه الصلاة والسلام وقوله: {فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} تمسك بمفهومه أبو يوسف في إحدى الروايتين عنه والحسن بن زياد اللؤلؤي من أصحابه وإبراهيم بن علية. وحكي عن المزني صاحب الشافعي فقالوا: ليس هذا لغيره؛ لأنها إنما شرعت بخلاف القياس لإِحراز فضيلة الصلاة معه -صلى الله عليه وسلم-، وهذا المعنى انعدم بعده واحتج عليهم بإجماع الصحابة على فعل ذلك بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وبقوله عليه الصلاة والسلام: "صلُّوا كما رأيتموني أُصلّي" فعموم منطوقه مقدم على ذلك المفهوم. وادعى المزني نسخها لتركه عليه الصلاة والسلام لها يوم الخندق. وأجيب بتأخر نزولها عنه، لأنها نزلت سنة ست والخندق كانت سنة أربع أو خمس على الصحيح فيهما. وقال ابن العربي وغيره شرط كونه عليه الصلاة والسلام فيهم إنما ورد لبيان الحكم لا لوجوده، والتقدير (بيّن لهم بفعلك لكونه أوضح من القول) ثم إن الأصل أن كل عذر طرأ على العبادة فهو على التساوي كالقصر، والكيفية وردت لبيان الحذر من العدو وذلك لا يقتضي التخصيص بقوم دون قوم. وقال الزين بن المنير: الشرط إذا خرج مخرج التعليم لا يكون له مفهوم كالخوف في قوله تعالى {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ}. وقال الطحاوي: كان أبو يوسف قد قال مرة: لا تصلى صلاة الخوف بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وزعم أن الناس إنما صلوها لفضل الصلاة معه عليه الصلاة والسلام. قال: وهذا القول ليس بشيء عندنا، وكان محمد بن شجاع يعيبه ويقول: إن الصلاة خلف النبي -صلى الله عليه وسلم- وإن كانت أفضل من الصلاة مع الناس جميعًا إلا أنه يقطعها ما يقطع الصلاة خلف غيره. وقوله: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} أي فاجعلهم طائفتين، فلتقم إحداهما معك يصلون وتقوم الطائفة الأخرى في وجه العدو.

وقوله: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} أي: المصلون حزمًا، وقيل الضمير للطائفة الأخرى، وذكر الطائفة الأولى يدل عليهم {فَإِذَا سَجَدُوا} يعني المصلين. وقوله: {فَلْيَكُونُوا} أي: غير المصلين. وقوله: {مِنْ وَرَائِكُمْ يحْرُسُونَكُمْ} يعني النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن يصلي معه، فغلب المخاطب على الغائب. وقوله {طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا} لاشتغالهم بالحراسة. وقوله {فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} ظاهره أن الإِمام يصلي مرتين بكل طائفة مرة، كما فعله عليه الصلاة والسلام ببطن نخل. وقوله: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} جعل الحذر وهو التحرز والتيقظ آلة يستعملها المغازي، فجمع بينه وبين الأسلحة في الأخذ. وقوله: {أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} رخصة لهم في وضعها إذا ثقل عليهم أخذها بسبب مطر أو مرض، وهذا يؤيد أن الأمر للوجوب دون الاستحباب. وقوله: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} أمرهم مع ذلك بأخذ الحذر كي لا يهجم عليهم العدو. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} وعد للمؤمنين بالنصر وإشارة إلى أن الأمر بالحزم ليس لضعفهم وغلبة عدوهم، بل لأن الواجب في الأمور التيقظ.

الحديث الأول

الحديث الأول حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: سَأَلْتُهُ هَلْ صَلَّى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَعْنِى صَلاَةَ الْخَوْفِ؟ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمٌ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: "غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قِبَلَ نَجْدٍ، فَوَازَيْنَا الْعَدُوَّ فَصَافَفْنَاهُمْ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي لَنَا، فَقَامَتْ طَائِفَةٌ مَعَهُ تُصَلِّي، وَأَقْبَلَتْ طَائِفَةٌ عَلَى الْعَدُوِّ فَرَكَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِمَنْ مَعَهُ، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا مَكَانَ الطَّائِفَةِ الَّتِى لَمْ تُصَلِّ فَجَاءُوا فَرَكَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِهِمْ رَكْعَةً، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، فَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَرَكَعَ لِنَفْسِهِ رَكْعَةً وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ. قوله: "قال سألته" أي: قال شعيب: سألته أي: الزهري بإثبات "قال" كما في بعض النسخ فأثبت قال ظنًا أنها حذفت خطأ على العبادة وهو محتمل، ويكون حذف فاعل قال لا أن الزهري هو الذي قال والمتجه حذفها، وتكون الجملة حالية أي: أخبرني الزهري حال سؤالي إياه. وأخرجه السراج عن أبي اليمان شيخ البخاري فيه ولفظه "سألته هل صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- صلاة الخوف أم لا؟ وكيف صلاّها إن كان صلاها؟ وفي أي مغازيه كان ذلك؟ " فأفاد بيان المسؤول عنه وهو صلاة الخوف. وقوله: "قِبَل نجد" بكسر القاف وفتح الموحدة أي جهة (نجد) و (نجد) كل ما ارتفع من بلاد العرب من (تهامة) إلى (العراق) وكانت الغزوة ذات الرقاع، وأول ما صليت صلاة الخوف فيها سنة أربع أو خمس أو ست أو سبع، وقول الغزالي في "الوسيط" وتبعه عليه الرافعي أن غزوة ذات الرقاع آخر الغزوات غير صحيح، وقد أنكر عليه ابن الصلاح في "مشكل الوسيط" وقال: ليست آخرها ولا من أواخرها وإنما آخر غزواته تبوك وإن أراد أنها آخر غزوة صلّى فيها صلاة الخوف فليس بصحيح أيضًا، فقد صلّى معه صلاة الخوف أبو بكرة وإنما نزل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزوة الطائف تدلى ببكرة فكنى بها، وليس بعد غزوة الطائف إلا غزوة تبوك؛ ولهذا قال ابن حزم: إن صفة صلاة الخوف في حديث أبي بكرة أفضل صلاة الخوف؛ لأنها آخر فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- لها. وقوله: "فوازينا" بالزاي أي قابلنا. قال صاحب "الصحاح" يقال آزيت بهمزة ممدودة لا بالواو، والذي يظهر أن أصله الهمزة فقلبت واوًا.

وقوله: "فصاففناهم" في رواية المستملي والسرخسي "فصاففنا لهم" ويروى "فصففناهم". وقوله: "فصلى لنا" أي: لأجلنا أو بنا. وقوله: "ثم انصرفوا مكان الطائفة التي لم تصلِّ" أي: فقاموا في مكانهم، وصرح به في رواية بقية عند النسائي ولمالك في "الموطأ" عن ابن عمر "ثم استأخروا مكان الذين لم يصلّوا ولا يسلمون". وقوله: "ركع وسجد سجدتين" زاد عبد الرزاق عن الزهري "مثل نصف صلاة الصبح". وفي قوله: "مثل نصف صلاة الصبح" إشارة إلى أن الصلاة المذكورة كانت غير الصبح، فعلى هذا فهي رباعية ويأتي في "المغازي" ما يدل على أنها كانت العصر، وفيه دليل على أن الركعة المقضية لابد فيها من القراءة لكل من الطائفتين خلافًا لمن أجاز للثانية ترك القراءة. وقوله: "فقام كل واحد فركع لنفسه" لم تختلف الطرق عن ابن عمر في هذا، وظاهره أنهم أتموا لأنفسهم في حالة واحدة، ويحتمل أنهم أتموا على التعاقب وهو الراجح من حيث المعنى، وإلا فيستلزم تضييع الحراسة المطلوبة وإفراد الإمام وحده. ويرجحه ما رواه أبو داود عن ابن مسعود ولفظه: "ثم سلم فقام هؤلاء -أي: الطائفة الثانية- فقضوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا ثم ذهبوا ورجع أولئك إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا" وظاهره أن الطائفة الثانية والت بين ركعتيها ثم أتمت الطائفة الأولى بعدها. وفي الرافعي تبعًا لغيره من كتب الفقه أن في حديث ابن عمر هذا أن الطائفة الثانية تأخرت وجاءت الأولى فأتموا ركعة، ثم تأخروا وعادت الطائفة الثانية فأتموا. قال في "الفتح": ولم أقف على ذلك في شيء من الطرق. وأخذ أبو حنيفة بحديث الباب وحديث ابن مسعود. وأخذ مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور بحديث صالح بن خوات عن سهل بن أبي حثمة المروي عند مسلم والترمذي وعند المصنف في "المغازي" عن صالح بن خوات عمن شهد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم ذات الرقاع صلاة الخوف، وفسر المبهم بأبيه خوات. وسهل بن أبي حثمة ولفظه: "أن طائفة صفت معه، وطائفة وجاه العدو، فصلى بالتي كانت معه ثم ثبت قائمًا وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلّى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالسًا فأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم" أي: بالطائفة الثانية بعد التشهد. قال مالك: هذا أحسن ما سمعت في صلاة الخوف، لكنه خالف في قوله: ثم ثبت جالسًا، فمشهور مذهبه أنه يسلم ولا يتحرى إتمامهم كما في حكم المسبوق، وإنما اختاروا هذه الكيفية لسلامتها من كثرة المخالفة؛ ولأنها أحوط لأمر الحرب، فإنها أخف على الفريقين. واستدل بقوله طائفة على أنه لا يشترط تساوي الفريقين في العدد، لكن لابد أن تكون التي تحرس تحصل الثقة

بها في ذلك، والطائفة تطلق على الكثير والقليل حتى على الواحد، فلو كانوا ثلاثة ووقع لهم الخوف جاز لأحدهم أن يصلّي بواحد ويحرس واحد ثم يصلّي الآخر وهو أقل ما يتصور في صلاة الخوف جماعة على القول بأقل الجماعة مطلقًا، لكن قال الشافعي: أكره أن تكون كل طائفة أقل من ثلاثة؛ لأنه أعاد عليهم ضمير الجمع في قوله: {أسْلِحَتَهُمْ} وأقله ثلاثة، فأقل الطائفة هنا ثلاثة، وهذا النوع بكيفيتها حيث يكون العدو في غير القبلة أو فيها لكن حال دونهم حائل يمنع رؤيتهم لو هجموا. قال القسطلاني: ويجوز للإِمام أن يصلِّي مرتين كل مرة بفرقة فتكون الثانية له نافلة، وهذه صلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ببطن نخل رواها الشيخان، لكن الأولى أفضل من هذه؛ لأنها أعدل بين الطائفتين ولسلامتها عما في هذه من اقتداء المفترض بالمتنفل فيه. قلت: هذه على مذهبه، وأما على مذهبنا معاشر المالكية فصلاة المفترض بالمتنفل باطلة. قال: وتتأتى في تلك أي: الصلاة الأولى صلاة الجمعة بشرط أن يخطب بجميعهم ثم يفرقهم فرقتين أو يخطب بفرقة ثم يجعل منها مع كل من الفرقتين أربعين، فلو خطب بفرقه وصلّى بأخرى لم يجز، وكذا لو نقصت الفرقة الأولى عن الأربعين وإن نقصت الثانية فطريقان أصحهما لا يضر للحاجة والمسامحة في صلاة الخوف، ذكره في "المجموع". وأما إن كانوا في جهة القبلة فيأتي قريبًا في باب (يحرس بعضهم بعضًا) إن شاء الله تعالى، وإن كانت الصلاة رباعية وهم في الحضر أو في السفر وأتموا صلّى بكل فرقة ركعتين وتشهد بهما، وانتظر الثانية في جلوس التشهد أو قيام الثالثة وهو أفضل؛ لأنه محل التطويل بخلاف جلوس التشهد الأول وإن كانت مغربًا صلّى بفرقة ركعتين وبالثانية ركعة وهو أفضل من عكسه لسلامته من التطويل في عكسه بزيادة تشهد في أول الثانية وينتظر الثانية في الركعة الثالثة أي في القيام لها. وهذا كله إذا لم يشتد الخوف، أما إذا اشتد الخوف فيأتي حكمه في الباب التالي إن شاء الله تعالى. واستدل به على عظم الجماعة، بل على ترجيح القول بوجوبها لارتكاب أمور كثيرة لا تغتفر في غيرها، ولو صلّى كل امرىء منفردًا لم يقع الاحتياج إلى معظم ذلك، وقد وردت في كيفية صلاة الخوف صفات كثيرة، ورجح ابن عبد البر الكيفية الواردة في حديث ابن عمر هذا على غيرها لقوة الإِسناد ولموافقة الأصول في أن المأموم لا يتم صلاته قبل سلام إمامه. وعن أحمد قال: ثبت في صلاة الخوف ستة أحاديث أو سبعة أيها فعل المرء جاز، ومال إلى ترجيح حديث سهل بن أبي حثمة المار قريبًا، ولم يختر إسحاق شيئًا على شيء وبه قال الطبري وغير واحد منهم ابن المنذر، وسرد ثمانية أوجه وكذا ابن حبان في "صحيحه" وزاد تاسعًا. وقال ابن حزم: صح فيها أربعة عشر وجهاً وبينها في جزء مفرد. وقال ابن العربي في القبس: جاءت فيها روايات كثيرة أصحها ستة عشر رواية مختلفة، ولم

رجاله خمسة

يبينها وبينها الحافظ أبو الفضل في "شرح الترمذي" وزاد وجهًا آخر فصارت سبعة عشر وجهًا، لكن يمكن أن تتداخل كما قال هو قال صاحب "الهدى" أصولها ست صفات وبلغها بعضهم أكثر وهؤلاء كلما رأوا اختلاف الرواة في قصة جعلوا ذلك وجهًا من فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- وإنما هو من اختلاف الرواة. قال في "الفتح": وهذا هو المعتمد كما أشار إليه أبو الفضل بقوله السابق يمكن تداخلها. وحكى ابن القصار المالكي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلاّها عشر مرات. وقال ابن العربي صلاّها أربعًا وعشرين مرة. وقال الخطابي: صلاّها النبي -صلى الله عليه وسلم- في أيام مختلفة بأشكال متباينة يتحرى فيها ما هو الأحوط للصلاة والأبلغ للحراسة فهي على اختلاف صورها متفقة المعنى، ومحل تفاصيل الأوجه كتب الفقه. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرّ أبو اليمان وشعيب في السابع من "بدء الوحي"، والزهري في الثالث منه، وسالم في السابع عشر من "الإيمان" وأبوه في أوله قبل ذكر حديث منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإِخبار بالجمع والإفراد والعنعنة والقول، واثنان من رواته حمصيان وثلاثة مدنيون، أخرجه البخاري في المغازي أيضًا، وأخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي. تم قال المصنف: باب صلاة الخوف رجالًا وركبانًا راجل قائم قيل مقصوده أن الصلاة لا تسقط عند العجز عن النزول عن الدابة ولا تؤخر عن وقتها بل تصلّى على أي وجه حصلت القدرة عليه بدليل الآية. وقوله: "راجل قائم" يريد به أن قوله رجالًا جمع راجل، والمراد به هنا القائم ويطلق على الماشي وهو المراد في سورة الحج بقوله تعالى: {يَأْتُوكَ رِجَالًا} أي مشاة. وفي "تفسير الطبري" بسند صحيح عن مجاهد {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} إذا وقع الخوف فليصلِّ الرجل على كل جهة قائمًا أو راكبًا.

الحديث الثاني

الحديث الثاني حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقُرَشِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوًا مِنْ قَوْلِ مُجَاهِدٍ: إِذَا اخْتَلَطُوا قِيَامًا. وَزَادَ ابْنُ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَلْيُصَلُّوا قِيَامًا وَرُكْبَانًا. قوله: "نحوًا من قول مجاهد" الموقوف عليه مما صدر منه عن رأيه لا عن روايته عن ابن عمر. وقوله "إذا اختلطوا" أي: اختلط المسلمون بالكفار يصفون حال كونهم قيامًا أي قائمين. أورد البخاري هذا الحديث مختصرًا وأحال على قول مجاهد، ولم يذكره هنا ولا في موضع آخر. وقد رواه الطبري عن سعيد بن يحيى شيخ البخاري فيه بإسناده المذكور عن ابن عمر قال: "إذا اختلطوا" يعني في القتال فإنما هو الذكر وإشارة الرأس. قال ابن عمر "قال النبي -صلى الله عليه وسلم-": فإن كانوا أكثر من ذلك فيصلون قيامًا وركبانًا" هكذا اقتصر على حديث ابن عمر وأخرجه الإِسماعيلي عن سعيد المذكور مثل ما ساقه البخاري سواء، وزاد بعد قوله "اختلطوا" "فإنما هو الذكر وإشارة الرأس" فتبّين من هذا أن قول البخاري قيامًا الأولى تصحيف من قوله "فإنما"، وقد ساقه الإسماعيلي عن ابن جريج عن عبد الله بن كثير عن مجاهد قال: "إذا اختلطوا فإنما هو الإشارة بالرأس". قال ابن جريج عن ابن عمر بمثل قول مجاهد "إذا اختلطوا فإنما هو الذكر وإشارة الرأس"، وزاد عن "النبي -صلى الله عليه وسلم- فإن كثروا فليصلُّوا ركبانًا أو قيامًا على أقدامهم". وأخرج مسلم حديث ابن عمر عن موسى بن عقبة وقال في آخره قال ابن عمر: "فإذا كان خوف أكثر من ذلك فليصلّ راكبًا أو قائمًا يومىء إيماء". وزاد مالك في "الموطأ" في آخره "مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها". وقال: قال نافع: لا أرى عبد الله بن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخرجه المصنف في تفسير البقرة عن ابن عمر مرفوعًا كله بغير شك. وأخرجه ابن ماجه بسند جيد مرفوعًا وقال في آخره "فإن كان خوف أشد من ذلك فرجالًا وركبانًا" والحاصل أنه اختلف في قوله فان كان خوف أشد من ذلك هل هو مرفوع أو موقوف على ابن عمر، والراجح رفعه. وقوله: "وإن كانوا أكثر من ذلك" أي: إن كان العدو أكثر من ذلك أي من الخوف الذي

رجاله سبعة

لا يمكن معه القيام في موضع ولا إقامة صف. وقوله: "فليصلوا قيامًا وركبانًا" أي على أقدامهم وعلى دوابهم؛ لأن فرض النزول قد سقط، والمعنى أن الخوف إذا اشتد والعدو إذا كثر فخيف من الانقسام لذلك جازت الصلاة حينئذ بحسب الإمكان، جاز ترك مراعاة ما لا يقدر عليه من الأركان فينتقل عن القيام إلى الركوع وعن الركوع والسجود إلى الإيماء، ويكون السجود أخفض من الركوع ليتميز، أو لهم ترك الاستقبال إذا كان بسبب القتال، ويعذر في العمل الكثير كالركض والطعن وفي الكلام لحاجة كتحذير وتشجيع لا في الصياح لعدم الحاجة إليه، وبهذا قال الجمهور، لكن المالكية قالوا: لا يصنعون ذلك حتى يخشى فوات الوقت الاختياري، وسيأتي مذهب الأوزاعي بعد باب. وقالت الشافعية: لو انحرف عن القبلة لجماح الدابة وطال الزمان بطلت صلاته، ويجوز اقتداء بعضهم ببعض مع اختلاف الجهة كالمصلين حول الكعبة قاله القسطلاني، والتأخير عند المالكية إلى آخر الاختياري إنما هو على جهة الاستحباب مع رجاء انكشاف العدو وإلا صلّوا في أول الوقت. وظاهر نصوصهم أنهم في هذه الحالة لا يجوز اقتداء بعضهم ببعض، وحكم الخوف على نفس أو منفعة من سبع أو حية أو حرق أو غرق أو على مال ولو لغيره كالخوف في القتال ولا إعادة في الجميع قاله القسطلاني نقلًا عن المجموع. والحكم عند المالكية كالمذكور عند الشافعية. رجاله سبعة: قد مروا: مرّ سعيد بن يحيى بن سعيد وأبوه في الرابع من "الإيمان"، ومرّ مجاهد وابن عمر في آثار أوله قبل ذكر حديث منه، ومرّ ابن جريج في الثالث من "الحيض"، ومرّ موسى بن عقبة في الخامس من الوضوء، ومرَّ نافع في الأخير من "العلم". لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإفراد والقول والعنعنة، ورواته ما بين بغدادي وكوفي ومكي ومدني. أخرجه مسلم والنسائي. ثم قال المصنف: باب يحرس بعضهم بعضًا في صلاة الخوف قال ابن بطال: محل هذه الصورة إذا كان العدو في جهة القبلة، فلا يفترقون والحالة هذه بخلاف الصورة الماضية في حديث ابن عمر. وقال الطحاوي: ليس هذا بخلاف القرآن لجواز أن يكون قوله تعالى {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى} إذا كان العدو في غير القبلة وذلك ببيانه -صلى الله عليه وسلم- ثم بين كيفية الصلاة إذا كان العدو في جهة القبلة.

الحديث الثالث

الحديث الثالث حَدَّثَنَا حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ عَنِ الزُّبَيْدِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: "قَامَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، فَكَبَّرَ وَكَبَّرُوا مَعَهُ، وَرَكَعَ وَرَكَعَ نَاسٌ مِنْهُمْ، ثُمَّ سَجَدَ وَسَجَدُوا مَعَهُ، ثُمَّ قَامَ لِلثَّانِيَةِ فَقَامَ الَّذِينَ سَجَدُوا وَحَرَسُوا إِخْوَانَهُمْ، وَأَتَتِ الطَّائِفَةُ الأُخْرَى فَرَكَعُوا وَسَجَدُوا مَعَهُ، وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ فِي صَلاَةٍ، وَلَكِنْ يَحْرُسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا". قوله: "عن الزبيدي" في رواية الإسماعيلي حدثنا الزبيدي وهذا الحديث لم يوجد عن الزبيدي إلا من رواية محمد بن حرب عنه، وقد وافقه عليه النعمان بن راشد عن الزهري أخرجه البزار وقال: لا نعلم رواه عن الزهري إلا النعمان ولا عنه إلا وهيب بن خالد. ورواية الزبيدي ترد عليه. وقوله: "وركع ناس منهم" زاد الكشميهني "معه". وقوله: "ثم للثانية فقام الذين سجدوا معه" في رواية النسائي والإسماعيلي، "ثم قام إلى الركعة الثانية فتأخر الذين سجدوا معه". وقوله: "فركعوا وسجدوا" في روايتهما أيضًا "فركعوا مع النبي -صلى الله عليه وسلم-". وقوله: "كلهم في صلاة" زاد الإسماعيلي "يكبِّرُون". وقوله: "ولكن يحرس بعضهم بعضًا هذا موضع الترجمة ولم يقع في رواية الزهري هذه هل أكملوا الركعة الثانية أم لا؟. وقد رواه النسائي عن عبيد الله فزاد في آخره "ولم يقضوا" وهذا كالصريح في اقتصارهم على ركعة. ولمسلم وأبي داود والنسائي عن مجاهد عن ابن عباس قال: "فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعًا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة وبالاقتصار في الخوف على ركعة واحدة". قال به إسحاق والثوري ومن تبعهما، وقال به أبو هريرة وأبو موسى الأشعري وغير واحد من

رجاله ستة

التابعين ومنهم من قيد ذلك بشدة الخوف، وسيأتي عن بعضهم في شدة الخوف أسهل من ذلك. وقال الجمهور: قصر الخوف قصر هيئة لا قصر عدد، وتأولوا رواية مجاهد السابقة على أن المراد به ركعة مع الإِمام وليس فيه نفي الثانية. وقالوا: يحتمل أن يكون قوله في الحديث السابق لم يقضوا أي لم يعيدوا الصلاة بعد الأمن. وقال القسطلاني عند قوله "ولكن يحرس بعضهم بعضًا": هذا السياق صادق بأن تسجد الطائفة الأولى معه في الركعة الأولى والثانية في الثانية كما في رواية الباب وعكسه بأن تسجد الثانية معه في الأولى والأولى في الثانية مع تحول كل منهما إلى مكان الأخرى، فتكون صفتين والذي في "مسلم" و"أبي داود" وهو الصفة الأولى مع التحول أيضًا. ولفظ أبي داود عن أبي عياش الزُرَقي قال: "صلينا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- العصر بعسفان فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمشركون أمامه واصطفوا صفًا خلفه وخلف الصف صف آخر، فركع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وركعوا جميعًا، ثم سجد فسجد الصف الذي يليه، وقام الآخرون يحرسونهم فلما جلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سجد الآخرون وجلسوا جميعًا فسلم بهم"، ولمسلم نحوه. وهذا السياق مغاير لحديث الباب فإن فيه أن الصفين ركعوا معه عليه الصلاة السلام وسجدت معه الأولى وقامت الأخرى من الركوع تحرس، ثم سجدت الحارسة بعد فراغ أولئك. وفي حديث الباب أنه ركع طائفة منهم وسجدوا معه، ثم جاءت الطائفة الأخرى كذلك. وقد مرّ قريبًا أن رواية الباب لم يقع فيها هل أكملوا الركعة الثانية أم لا؟ الخ. رجاله ستة: قد مرّوا إلاَّ اثنين: مرّ محمد بن الوليد الزبيدي في التاسع عشر من "العلم"، ومرّ ابن شهاب في الثالث من "بدء الوحي"، وعبيد الله المسعودي في السادس منه، وابن عباس في الخامس منه، والباقيان: الأول منهما: حَيْوَة بفتح الحاء والواو وسكون الياء ابن شُريح بضم الشين مصغر بن يزيد أبو العباس الحضرمي الحمصي وهو حيوة الأصغر، ذكره ابن حبان في "الثقات" وقال يعقوب بن شيبة: ثقة. روى عن أبيه وبقية ومحمد بن حرب الأبرش وغيرهم. وروى عنه البخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجه عنه بواسطة. مات سنة أربع وعشرين ومائتين. الثاني: محمد بن حرب الخولاني أبو عبد الله المعروف بالأبرش، ذكره ابن حبان في "الثقات". قال ابن سعد ولي قضاء دمشق. وقال عثمان الدارمي قلت: لابن معين فبقية كيف حديثه؟ قال: ثقة، قلت: هو أحب إليك أم محمد بن حرب؟ قال: ثقة وثقة.

لطائف إسناده

وقال عثمان: وهو الأبرش الحمصي ثقة. وقال العجلي ومحمد بن عوف والنسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال خشنام بن الصديق: كان من خيار الناس روى عن محمد بن الوليد وكان كاتبًا له، وعن الأوزاعي وابن جريج وعبيد الله العمري وغيرهم. وروى عنه أبو مسهر وحيوة بن شريح وإسحاق بن راهويه وكثير بن عبيد وغيرهم. مات سنة اثنين وتسعين ومائة. ويشتبه هذا بمحمد بن حرب بن حرمان النشائى بكسر النون والمد. روى عنه البخاري ومسلم وأبو داود. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، ورواته بين حمصي ومدني، أخرجه النسائي في "الصلاة" ثم قال المصنف: باب الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو أي: عند إمكان فتحها وغلبة الظن على القدرة على ذلك. وقوله "ولقاء العدو" وهو من عطف الأعم على الأخص. قال الزين بن المنير: كان المصنف خص هذه الصورة لاجتماع الرجاء والخوف في تلك الحالة فإن الخوف يقتضي مشروعية صلاة الخوف والرجاء بحصول الظفر يقتضي اغتفار التأخير لأجل احتمال مصلحة الفتح؛ ولهذا خالف الحكم في هذه الصورة الحكم في غيرها عند من قال به. ثم قال: وقال الأوزاعي: إن كان تهيأ الفتح ولم يقدروا على الصلاة صلّوا إيماء كل امرىء لنفسه، فإن لم يقدروا على الإيماء أخروا الصلاة حتى ينكشف القتال أو يأمنوا فيصلوا ركعتين، فإن لم يقدروا صلوا ركعة وسجدتين فلا يجزيهم التبكير ويؤخروها حتى يناموا. قوله: "إن كان تهيأ الفتح" أي تمكن. وللقابسي "إن كان بها الفتح" بموحدة وهاء ضمير وهو تصحيف. وقوله: "فإن لم يقدروا على الإيماء" الخ فيه إشكال؛ لأن العجز عن الإيماء لا يتعذر مع حصول العقل إلا أن تقع الدهشة فيعزب استحضار ذلك وتعقب بما قاله ابن رشيد قال: من باشر الحرب واشتغال القلب والجوارح إذا اشتغلت عرف كيف يتعذر الإيماء. وأشار ابن بطال إلى أن عدم القدرة على ذلك يتصور بالعجز عن الوضوء أو التيمم للاشتغال بالقتال، ويحتمل أن يكون الأوزاعي كان يرى استقبال القبلة شرطًا في الإيماء فيتصور العجز عن الإيماء إليها حينئذ. وقوله: "حتى ينكشف القتال أو يأمنوا" استشكل كونه جعل الإيماء مشروطًا بتعذر القدرة والتأخير مشروطًا بتعذر الإيماء وجعل غاية التأخير انكشاف القتال، ثم قال "أو يأمنوا فيصلوا

ركعتين" فجعل الأمن قسيم الانكشاف، وبالانكشاف يحصل الأمن فكيف يكون قسيمه؟ وأجيب عن هذا بأن الانكشاف قد يحصل ولا يحصل الأمن لخوف المعاودة، كما أن الأمن يحصل بزيادة القوة واتصال المدد من غير انكشاف، فعلى هذا فالأمن قسيم الانكشاف أيهما حصل اقتضى صلاة ركعتين. وقوله: "فإن لم يقدروا صلوا ركعة" الخ أي لم يقدروا على صلاة ركعتين بالفعل، أو بالإيماء صلوا واحدة. وقوله: "فلا يجزيهم التكبير" فيه إشارة إلى خلاف من قال يجزىء كالثوري. وروى ابن شيبة عن عطاء وسعيد بن جبير وأبي البختري في آخرين قالوا: إذا التقى الزحفان وحضرت الصلاة فقالوا: "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر" فتلك صلاتهم بلا إعادة. وعن مجاهد والحكم إذا كان عند الطراد والمسايفة يجزىء أن تكون صلاة الرجل تكبيرًا فإن لم يمكن إلا تكبيرة واحدة أجزأته أين كان وجهه. وقال إسحاق بن راهويه يجزىء عند المسايفة ركعة واحدة يومىء بها إيماء، فإن لم يقدر فسجدة، فإن لم يقدر فتكبيرة. وهذا الأثر وصله الوليد بن مسلم عنه في كتاب "السير" والأوزاعي قد مرّ في العشرين من "العلم". ثم قال: وبه قال مكحول، وهذا يحتمل أن يكون بقية من كلام الأوزاعي ويحتمل أن يكون من تعليق البخاري وقد وصله عبد بن حميد في تفسيره عنه من غير طريق الأوزاعي بلفظ "إذا لم يقدر القوم أن يصلوا على الأرض صلوا على ظهر الدواب ركعتين، فإن لم يقدروا فركعة وسجدتين، فإن لم يقدروا أخروا الصلاة حتى يأمنوا فيصلوا بالأرض". ومكحول هو الشامي أبو عبد الله، ويقال أبو أيوب، ويقال أبو مسلم ذكر أنه من أهل مصر، ويقال كان لرجل من هذيل من أهل مصر فأعتقه فسكن الشام، ويقال كان من آل فارس ويقال كان اسم أبيه سهراب. قال أبو وهيب الكلاعي عن مكحول عتقت بمصر فلم أدع فيها علمًا إلا احتويت عليه فيما أدري، ثم أتيت العراق والمدينة والشام وذكر كذلك. وقال الزهري العلماء أربعة فذكرهم فقال: ومكحول بالشام. وقال ابن إسحاق: سمعت مكحولًا يقول طفت الأرض كلها في طلب العلم. وقال سعيد بن عبد العزيز: كان سليمان بن موسى يقول إذا جاء العلم من الشام عن مكحول

فبلناه. وقال سعيد لم يكن في زمان مكحول أبصر منه بالفتيا. وقال ابن عمار: كان مكحول إمام أهل الشام. وقال عثمان بن عطاء: كان مكحول أعجميًا، وكل ما قال بالشام قُبل منه. وقال العجلي: تابعي ثقة. وقال أبو حاتم ما أعلم بالشام أفقه من مكحول. وقال ابن يونس: كان مكحول يكنى أبا مسلم، وكان فقيهًا عالمًا رأى أبا أمامة وأنسًا وسمع واثلة. وقال ابن خراش: شامي صدوق وكان يرى القدر. وقال ابن سعد: قال بعض أهل العلم: كان مكحول من أهل كابل وكان فيه لكنة، وكان يقول بالقدر، وكان ضعيفا في حديثه ورأيه. وقال أبو داود: سألت أحمد هل أنكر أهل النظر على مكحول شيئًا؟ قال أنكروا عليه مجالسة علان، ورموه به فبرأ نفسه بأن نحاه عنه. وقال الجوزجاني: يتوهم عليه القدر، وهو سعي عليه. وقال ابن معين: كان قدريًا ثم رجع. وقال الأوزاعي لم يبلغنا أن أحدًا من التابعين تكلم في القدر إلا هذين الرجلين الحسن ومكحولًا فكشفنا عن ذلك فإذا هو باطل، وقع ذكره في البخاري ضمنًا في مواضع معلقة روى عن أنس وواثلة وأبي هند الداري ويقال إنه لم يسمع من أحد من الصحابة إلا منهم. وقال الحاكم أكثر روايته عن الصحابة. روى عن جبير بن نفير وطاوس وخلق، وروى عنه الأوزاعي وثور بن يزيد الحمصي والحجاج بن أرطأة وعكرمة بن عمار وغيرهم. مات سنة ثماني عشرة ومائة أو اثنتي عشرة أو ثلاث عشرة أو ست عشرة. ثم قال: وقال أنس بن مالك: "حضرت عند مناهضة حصن تستر عند إضاءة الفجر واشتد اشتعال القتال فلم يقدروا على الصلاة، فلم نصل إلا بعد ارتفاع النهار فصليناها ونحن مع أبي موسى ففتح لنا. وقال أنس: وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها". وقوله "عند مناهضة" أي: مقاومة. وقوله "تُسْتَر" بضم المثناة الفوقية وسكون المهملة وفتح المثناة أيضًا وهي مدينة مشهورة من كور الأهواز (بخوزستان) هي بلسان العامة (ششتر) بشينين الأولى مضمومة، والثانية ساكنة ثم تاء مفتوحة وقد فتحت مرتين الأولى صلحاً والثانية عنوة. قال ابن جرير كان ذلك في سنة سبع عشرة في قول سيف. وقال غيره سنة ست عشرة.

قال الواقدي لما فرغ أبو موسى الأشعري من فتح (السوس) صار إلى (تستر) فنزل عليها وبها يومئذ (الهرمزان) وفتحت على يديه ومسك (الهرمزان) وأرسل به إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه. وقوله: "اشتعال القتال" بالعين المهملة. وقوله: "فلم يقدروا على الصلاة" يحتمل أن يكون للعجز عن النزول، ويحتمل أن يكون للعجز عن الإيماء أيضًا فيوافق ما مرّ عن الأوزاعي وجزم الأصيلي بأن سببه أنهم لم يجدوا إلى الوضوء سبيلًا من شدة الخوف. قلت: كان من حقه أن يقول ولا للتيمم؛ لأن التيمم قام مقام الماء عند عدمه. وقوله: "إلا عند ارتفاع النهار" في رواية عمر بن شبة "حتى انتصف النهار". وقوله: "ما يسرني بتلك الصلاة" أي بدل تلك الصلاة، وللكشمهيني "من تلك الصلاة". وقوله: "الدنيا وما فيها" في رواية خليفة "الدنيا كلها"، والذي يتبادر إلى الذهن من هذا أن مراده الاغتباط بما وقع، فالمراد بالصلاة على هذا هي المقضية التي وقعت، ووجه اغتباطه كونهم لم يشتغلوا عن العبادة إلا بعبادة أهم منها عندهم، ثم تداركوا ما فاتهم منها فقضوه، وهو كقول أبي بكر الصديق: "لو طلعت لم تجدنا غافلين". وقيل مراد أنس الأسف على التفويت الذي وقع لهم والمراد بالصلاة على هذا الفائتة، ومعناه لو كانت في وقتها كانت أحب إلي. وممن جزم بهذا ابن المنير فقال: إيثار أنس الصلاة على الدنيا وما فيها يشعر بمخالفة لأبي موسى في اجتهاده المذكور وإن أنسًا كان يرى أن يصلي للوقت وإن فات الفتح. وقوله: هذا موافق لحديث "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها" وكأنه أراد الموافقة في اللفظ وإلا فقصة أنس في المفروضة والحديث في النافلة، ويخدش فيما ذكره عن أنس من مخالفة اجتهاد أبي موسى أنه لو كان كذلك لصلّى أنس وحده ولو بالإِيماء، لكنه وافق أبا موسى ومن معه فكيف يعد مخالفًا؟ وتعليق أنس هذا رواه البخاري بغير لفظ عمر بن شبة، ولفظ عمر سئل قتادة عن الصلاة إذا حضر القتال فقال: "حدثني أنس بن مالك أنهم فتحوا تُسْتَر وهو يومئذ على مقدمة الناس وعبد الله بن قيس يعني أبا موسى الأشعري أميرهم"، وهذا التعليق وصله ابن سعد وابن أبي شيبة من طريق قتادة عنه وذكره خليفة في "تاريخه" وعمر بن شبة في "أخبار البصرة" من وجهين آخرين عن قتادة وأنس. قد مرَّ في السادس من "الإِيمان" وفيه ذكر أبي موسى، وقد مرَّ في الرابع منه.

الحديث الرابع

الحديث الرابع حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُبَارَكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: جَاءَ عُمَرُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَجَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ وَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَلَّيْتُ الْعَصْرَ حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ أَنْ تَغِيبَ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَأَنَا وَاللَّهِ مَا صَلَّيْتُهَا بَعْدُ. قَالَ فَنَزَلَ إِلَى بُطْحَانَ فَتَوَضَّأَ، وَصَلَّى الْعَصْرَ بَعْدَمَا غَابَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ بَعْدَهَا. هذا الحديث مرّ الكلام عليه مستوفى في آخر المواقيت في باب (مَنْ صلى بالناس جماعة) ومرّ هناك الاختلاف في سبب تأخير الصلاة يوم الخندق هل كان نسيانًا أو عمدًا. وعلى الثاني هل كان للشغل بالقتال أو لتعذر الطهارة أو قبل نزول آية الخوف. وإلى الأول وهو لشغل جنح البخاري في هذا الموضع، ونزل عليه الآثار التي ترجم لها بالشروط المذكورة، ولا يرده ما مرّ من كون آية الخوف نزلت قبل الخندق؛ لأن وجهه أنه أقر على ذلك. وآية الخوف التي في البقرة لا تخالفه؛ لأن التأخير مشروط بعدم القدرة على الصلاة مطلقًا. وإلى الثاني جنح المالكية والحنابلة؛ لأن الصلاة لا تبطل عندهم بالشغل الكثير إذا احتيج إليه. وإلى الثالث جنح الشافعية وعكس بعضهم فادعى أن تأخيره -صلى الله عليه وسلم- للصلاة يوم الخندق دال على نسخ صلاة الخوف. قال ابن القصار وهو قول من لا يعرف السنن؛ لأن صلاة الخوف أنزلت بعد الخندق فكيف ينسخ المتقدم المتأخر؟ قال العيني: وأما القتال في الصلاة فإنه يبطل الصلاة عندنا يعني الحنفية. رجاله سبعة: قد مرّوا: فشيخ البخاري يحيى يحتمل أنه يحيى بن جعفر بن أعين وأنه يحيى بن موسى البلخي، وقد مرّ كل منهما في السابع عشر من "الحيض"، ومرّ علي بن المبارك في متابعة بعد الرابع والثلاثين من كتاب الأذان ومرّ يحيى بن أبي كثير في الثالث والخمسين من "العلم"، ومرّ وكيع في الحادي والخمسين منه. وأبو سلمة وجابر في الرابع من "بدء الوحي"، ومرّ عمر في الأول منه. ثم قال المصنف:

باب صلاة الطالب والمطلوب راكبا وإيماء

باب صلاة الطالب والمطلوب راكبًا وإيماء كذا للأكثر، وفي رواية الحموي وقائمًا قال ابن المنذر: كل من أحفظ عنه من أهل العلم يقول: إن المطلوب يصلي على دابته يومىء إيماء، وإن كان طالبًا نزل فصلى على الأرض. قال الشافعي: إلا أن ينقطع عن أصحابه فيخاف عود المطلوب عليه فيجزئه ذلك، وعرف بهذا أن الطالب فيه التفصيل بخلاف المطلوب، ووجه الفرق أن شدة الخوف في المطلوب ظاهرة لتحقق السبب المقتضي لها. وأما الطالب، فلا يخاف استيلاء العدو عليه وإنما يخاف أن يفوته العدو وما نقله ابن المنذر متعقب بكلام الأوزاعي فإنه قيده بخوف الفوت، ولم يستثن طالبًا من مطلوب. وذكر أبو إسحاق الفزاري في كتاب "السير" عن الأوزاعي قال: إذا خاف الطالبون إن نزلوا بالأرض فوت العدو صلّوا حيث وجهوا على كل حال؛ لأن الحديث جاء أن النصر لا يرفع ما دام الطلب. قلت: مشهور مذهب مالك أنهم يصلّون إيماء ولو كانوا طالبين قالوا؛ لأن أمرهم إلى أن مع عدوهم لم ينقص ولا يأمنوا رجوعهم فهم خائفون فوت العدو، ولحصول الخوف في المستقبل. وقال ابن عبد الحكم: إن كانوا طالبين لا يصلّون إلا بالأرض صلاة أمن وفاقًا للأئمة الثلاثة. ثم قال: وقال الوليد ذكرت للأوزاعي صلاة شرحبيل بن السمط وأصحابه على ظهر الدابة فقال كذلك الأمر عندنا إذا تخوف الفوت. واحتج الوليد بقول النبي -صلى الله عليه وسلم- "لا يُصَلِّيَنَّ أحدٌ العصرَ إلا في بني قريظة". قوله: "شُرَحْبيل بن السَّمِط" بضم الشين المعجمة وفتح الراء وسكون الحاء المهملة وكسر الموحدة، والسمط بوزن كتف، ويأتي تعريف شرحبيل قريبًا في السند. وقوله: "فقال" أي الأوزاعي ولابن عساكر "قال". كذلك الأمر: أي أداء الصلاة على ظهر الدابة بالإِيماء هو الشأن والحكم.

وقوله: "إذا تَخوف الفوت" بفتح أول تخوف مبنيًا للفاعل، والفوت نصب على المفعولية وضبط بالبناء للمفعول، ورفع الفوت نائبًا عن الفاعل، وزاد المستملي في الوقت وفي رواية الطبري وابن عبد البر عن الأوزاعي قال: "قال شُرَحْبيل بن السمط لأصحابه لا تصلّوا الصبح إلا على ظهر فنزل الأشتر النخعي فصلّى على الأرض. فقال شرحبيل: مخالف الله به". وأخرجه ابن أبي شيبة عن رجاء بن حيوة قال: "كان ثابت بن السمط في خوف فحضرت الصلاة، فصلوا ركبانًا فنزل الأشتر فقال: مخالف خولف به فلعل ثابتًا كان مع أخيه شرحبيل في ذلك الوجه". وقد احتج الوليد لمذهب الأوزاعي في مسألة الطالب بهذه القصة، ووجه الاستدلال من القصة بطريق الأولوية؛ لأن الذين أخروا الصلاة حتى وصلوا إلى بني قريظة لم يُعنفوا مع كونهم فوتوا الوقت، فصلاة من لا يفوت الوقت بالإيماء أو كيف ما يمكن أولى من تأخير الصلاة حتى يخرج وقتها؟ وقال ابن بطال: لو وجد في بعض طرق الحديث أن الذين صلوا في الطريق صلوا ركبانًا، لكان بينا في الاستدلال فإن لم يوجد ذلك فذكر ما حاصله أن وجه الاستدلال يكون بالقياس، فكما ساغ لأولئك أن يؤخروا الصلاة عن وقتها المفترض كذلك يسوغ للطالب ترك إتمام الأركان والانتقال إلى الإيماء. قال ابن المنير: والأبين عندي أن وجه الاستدلال من جهة أن الاستعجال المأمور به يقتضي ترك الصلاة أصلًا كما جرى لبعضهم أو الصلاة على الدواب كما وقع للآخرين؛ لأن النزول ينافي مقصود الجد الأصول، فالأولون بنوا على أن النزول معصية لمعارضته للأمر الخاص بالإسراع، وكان تأخيرهم لها لوجود المعارض. والأخرون جمعوا بين دليلي وجوب الإسراع ووجوب الصلاة في وقتها فصلوا ركبانًا. فلو فرضنا أنهم نزلوا، لكان ذلك مضادًا للأمر بالإسراع وهو لا يظن بهم لما فيه من المخالفة وهذا الذي حاوله ابن المنير، قد أشار له ابن بطال بقوله السابق: لو وجد في بعض طرق الحديث الخ، فلم يستحسن الجزم في النقل بالاحتمال. وأما قوله: "لا تظن بهم المخالفة" فمعترض بمثله بأن يقال لا تظن بهم المخالفة بتغيير هيئة الصلاة من غير توقيف والوجه الأول أولى. وقد أخرج أبو داود في صلاة الطالب حديث عبد الله بن أنيس "إذ بعثه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى سفيان الهذلي قال فرأيته وحضرت العصر فخشيت فوتها فانطلقت أمشي وأنا أصلي أومىء إيماء" وإسناده حسن. وهذا التعليق ذكر هكذا الوليد في كتاب "السير" له، ورواه الطبراني وابن عبد البر من وجه آخر عن الأوزاعي.

رجاله ثلاثة: مرّ الوليد بن مسلم في السادس والثلاثين من "مواقيت الصلاة"، ومرَّ الأوزاعي في العشرين من "العلم": والثالث: شُرَحْبيلِ بن السَمط على وزن كتف، وقيل بكسر السين وسكون الميم ابن الأسود بن جبلة بن عدي بن ربيعة بن معاوية الأكرمين بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتع بن كندة الكندي أبو يزيد، ويقال أبو السمط الشامي مختلف في صحبته. قال ابن سعد: جاهلي إسلامي وقد إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وشهد القادسية وافتتح حمص وقسمها منازل، وجزم البخاري في تاريخه بأن له صحبة. وذكره ابن حبان في الصحابة وقال: كان عاملًا على حمص، ومات بها ثم أعاده في ثقات التابعين. وقال الحاكم: أبو أحمد له صحبة. وذكره ابن السكن وابن زبر في الصحابة، وذكره خليفة أنه كان عاملًا لمعاوية على حمص نحوًا من عشرين سنة. وقال ابن عبد البر: شهد صفين مع معاوية، وله بها أثر عظيم، وثقه النسائي. قال البغوي: ذكر في الصحابة ولم يذكر له حديث أسنده عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وذكر له سيف بسنده أن سعد بن أبي وقاص استعمل شرحبيل بن السمط وكان شابًا وكان قاتل في الردة، وغلب الأشعث على الشرف، وكان أبوه قدم الشام مع أبي عبيدة، وشهد اليرموك، وكان شرحبيل من فرسان القادسية روى عن عمر وسلمان وعبادة بن الصامت وغيرهم. وروى عنه جبير بن نفسير وسالم بن أبي الجعد ومحكول وغيرهم. له في "البخاري" ذكر في "صلاة الخوف" في هذا الأثر المعلق. قال أبو داود: مات بصفين. وقال يزيد بن عبد ربه: مات سنة أربعين. وقال غيره سنة اثنتين وأربعين. وقال صاحب "تاريخ حمص" سنة ست وثلاثين. قال في "الإصابة" وهذا غلط فإنه ثبت أنه شهد صفين وكانت سنة سبع وثلاثين، وفي ذلك يقول النجاشي الشاعر يخاطبه: شرحبيل ماللدين فارقت أمرنا ... ولكن لبغض المالكي جرير يعني جرير بن عبد الله البجلي كان الذي بينه وبين شرحبيل متباعدًا.

الحديث الخامس

الحديث الخامس حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ قَالَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنَ الأَحْزَابِ: لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلاَّ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ. فَأَدْرَكَ بَعْضُهُمُ الْعَصْرَ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ. فَذُكِرَ لِلنَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ". قوله: "لما رجع من الأحزاب" أي من الموضع الذي كان يقاتل فيه الأحزاب إلى منزله بالمدينة، وغزوة الأحزاب هي غزوة الخندق، وقد أنزل الله فيها سورة الأحزاب، وكانت في شوال سنة خمس من الهجرة كما قال ابن إسحاق، وقيل في شوال سنة أربع كما قال موسى بن عقبة، والجمهور على قول ابن إسحاق. وسميت بالأحزاب؛ لأن الكفار تألفوا من قبائل العرب وهم عشرة آلاف نفس، وكانوا ثلاثة عساكر وجناح والأمر إلى أبي سفيان، وسميت بغزوة الخندق؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما سمع بهم وما جمعوا، ضرب الخندق على المدينة قال ابن هشام: يقال إن الذي أشار به سلمان الفارسي -رضي الله تعالى عنه-. وقال الطبري والسهيلي إن أول من حفر الخنادق منوجهر بن أيرج وكان في زمن موسى عليه الصلاة والسلام. وذكر ابن إسحاق "لما انصرفَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عن الخندقِ راجعًا إلى المدينةِ والمسلمونَ قد وضعوا السلاح، فلما كان الظهرُ أتى جبريلُ النبيَّ عليهما الصلاة والسلام فقال له: ما وضعت الملائكة السلاح بعدُ وإنّ الله يأمرُك أن تسيرَ إلى بني قريظة، فإنّي عائدٌ إليهم، فأمر رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بلالًا فأذن في الناس: مَنْ كانَ سامعًا مطيعًا فلا يُصَلِّيَنَّ العصرَ إلا في بني قريظة. وقال ابن سعد: ثم سار إليهم في ثلاثة آلاف، وكان مع المسلمين ستة وثلاثون فارسًا. وكان ذلك يوم الأربعاء لسبع بقين من ذي القعدة عقيب الخندق. وقوله: لا يُصَلِّيَنَ أحد العصر" بالنون الثقيلة المؤكدة، وفي رواية التنصيص على العصر، وكذا في رواية الإسماعيلي. وأصحاب "المغازي" متفقون على أنها العصر كما مرّ عن ابن إسحاق.

وكذلك أخرجه الطبراني والبيهقي في "الدلائل" بإسناد صحيح إلى عبد الله بن كعب بن مالك "أن رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- لما رجعَ من طلب الأحزاب وجمع عليه اللأمةَ واغتسلَ واستجمرَ تبدّى له جبريلُ فقال: عذيركَ من محارب فوثبَ فزعًا فعزمَ على الناس أنْ لا يصلُّوا العصر حتى يأتوا بني قريظةَ. قال: فلبسَ الناسُ السلاح فلمْ يأتوا قريظةَ حتى غربَتِ الشمسُ. قال: فاختصموا عند غروبِ الشمس، فصلَّتْ طائفةٌ العصرَ، وتركتها طائفةٌ وقالت: إنا في عزمةِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فليسَ علينا إثمٌ، فلم يعنفْ واحدًا من الفريقين". وأخرجه الطبراني من هذا الوجه موصولًا بذكر كعب بن مالك فيه، وللبيهقي عن القاسم بني محمد عن عائشة -رضي الله تعالى عنها- مطولًا "وفيه فصلتْ طائفة إيمانًا واحتسابًا. وتركتْ طائفةٌ إيمانًا واحتسابًا، وهذا كله يؤيد رواية البخاري أنها العصر، وفي جميع النسخ عند "مسلم" أنها الظهر مع اتفاق البخاري ومسلم على روايته من شيخ واحد بإسناد واحد. وقد وافق مسلمًا أبو يعلى وآخرون، وكذا أخرجه ابن سعد عن أبي عتبان مالك بن إسماعيل عن جويرية بلفظ "الظهر" وابن حبان عن أبي عتبان كذلك. قال في "الفتح": ولم أره من رواية جويرية إلا بلفظ "الظهر" غير أن أبا نعيم في "المستخرج" أخرجه عن أبي حفص السلمي عن جويرية فقال: "العصر". وقد جمع بعض العلماء بين الروايتين باحتمال أن يكون بعضهم قبل الأمر كان صلى الظهر، وبعضهم لم يصلّها فقيل لمن لم يصلّها لا يصلّينّ أحد الظهر، ولمن صلّاها لا يصلّينَّ أحد العصر. وجمع بعضهم باحتمال أن تكون طائفة منهم راحت بعد طائفة، فقيل للطائفة الأولى الظهر وللطائفة الأخرى العصر، وكلاهما جمع لا بأس به، لكن يبعده اتحاد مخرج الحديث الذي عند الشيخين بإسناد واحد من مبدئه إلى منتهاه كما مرّ فيبعد أن يكون كل من رجال إسناده قد حدث به على الوجهين إذ لو كان كذلك لحمله واحد منهم عن بعض رواته على الوجهين، ولم يوجد ذلك والذي يتأكد أن الاختلاف في اللفظ المذكور من حفظ بعض رواته، فإن سياق البخاري وحده مخالف لسياق كل من رواه عن عبد الله بن محمد بن أسماء وعن عمه جويرية. ولفظ البخاري هنا قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: لا يُصلِّيَنَّ أحدٌ العصر. ولفظ مسلم ومن رواه "نادى فينا رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يومَ انصرف عن الأحزابِ أنْ لا يُصلِّينَّ أحد الظهر إلا في بني قريظةَ فتخوفَ ناسٌ فوتَ الوقتِ فصلَّوا دونَ بني قريظةَ. وقال آخرون: لا نصلِّي إلا حيث أمرنا رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وإن فاتنا الوقت. قال: فما عنّفَ واحدًا من الفريقين"، فالذي يظهر من تقارير اللفظين أن عبد الله بن محمد بن أسماء شيخ الشيخين فيه لما حدث به البخاري حدث به على هذا اللفظ، ولما حدث به الباقين حدثهم به على اللفظ الأخير وهو اللفظ الذي حدث به جويرية بدليل موافقة أبي عتبان له عليه، بخلاف اللفظ الذي حدث به

البخاري أو أن البخاري كتبه من حفظه، ولم يراع اللفظ كما عرف من مذهبه في تجويز ذلك بخلاف مسلم، فإنه يحافظ على اللفظ كثيرًا وإنما لم أجوز عكسه لموافقة من وافق مسلمًا على لفظه بخلاف البخاري، لكن موافقة أبي حفص السلمي له تؤيد الاحتمال الأول، وهذا كله من حيث حديث ابن عمر، أما بالنظر إلى غيره فالاحتمال؛ لأن المتقدم أن في كونه قال الظهر لطائفة والعصر لطائفة متجه فيحتمل أن تكون رواية الظهر هي التي سمعها ابن عمر ورواية العصر هي التي سمعها كعب بن مالك. وقوله: "إلا في بني قريظة" بضم القاف وفتح الراء وسكون الياء آخر الحروف وفتح الظاء المعجمة وفي آخره هاء، وهم فرقة من اليهود. وقريظة والنضير والنحام وعمرو وهو هدل بنو الخزرج بن الصريح بن تومان بن السمط ينتهي إلى إسرائيل بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام. وقال ابن دريد: القَرَظ ضرب من الشجر يدبغ به يقال أديم مقروظ، وتصغيره قريظة، وبه سمي البطن من اليهود. وقوله: "فأدرك بعضهم" الضمير فيه يرجع إلى لفظ أحد وفي بعضهم الثاني والثالث إلى البعض. وقوله: "لم يرد منا" بالبناء للمجهول أو للفاعل أي المراد من قوله: "لا يصلِّينَّ أحد" لازمه وهو الاستعجال في الذهاب إلى بني قريظة لا حقيقة ترك الصلاة أصلًا. ولم يعنفهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على مخالفة النهي؛ لأنهم فهموا منه الكناية عن العجلة، ولا التاركين للصلاة المؤخرين عن وقتها لحملهم النهي على ظاهره. وقال السهيلي وغيره في هذا الحديث من الفقه: أنه لا يعاب على من أخذ بظاهر حديث أو آية، وعلى من استنبط من النص معنى يخصصه وفيه ما استنبطه منه ابن حبان وهو معنى حسن حيث قال: لو كان تأخير المرء للصلاة عن وقتها إلى أن يدخل وقت الصلاة الأخرى يلزمه بذلك اسم الكفر لما أمر المصطفى -عليه الصلاة والسلام- بذلك، وفيه كما قال السهيلي دليل على أن كل مختلفين في الفروع من المجتهدين مصيب إذ لا يستحيل أن يكون الشيء صوابًا في حق إنسان خطأً في حق غيره، وإنما المحال أن تحكم في النازلة بحكمين متضادين في حق شخص واحد، والأصل في ذلك أن الحظر والإباحة صفات أحكام لا أعيان، فكل مجتهد وافق اجتهاده وجهًا من التأويل فهو مصيب، وإنما عسر فهم هذا الأصل على طائفتين: الظاهرية، والمعتزلة. أما الظاهرية فهم علقوا الأحكام بالنصوص فاستحال عندهم أن يكون النص يأتي بحظر وإباحة معًا إلا على وجه النسخ. وأما المعتزلة، فإنهم علقوا الأحكام بتقبيح العقل وتحسينه، فصار حسن الفعل عندهم أو قبحه

صفة عين فاستحال عندهم أن يتصف فعل بالحسن في حق زيد وبالقبح في حق عمرو، كما يستحيل ذلك في الألوان وغيرها من الصفات القائمة بالذوات. وأما ما عدا هاتين الطائفتين، فليس الحظر عندهم والإباحة بصفات أعيان، وإنما هي صفات أحكام كما مرّ، والمشهور أن الجمهور ذهبوا إلى أن المصيب في القطعيات واحد، وخالف الجاحظ والعنبري. وأما ما لا قطع فيه فقال الجمهور أيضًا: المصيب واحد، وقد ذكر ذلك الشافعي وقرره، ونقل عن الأشعري أن كل مجتهد مصيب وأن حكم الله تعالى تابع لظن المجتهد، وقال بعض الحنفية وبعض الشافعية: هو مصيب باجتهاده وإن لم يصب ما في نفس الأمر فهو مخطىء وله أجر واحد، وقد أشبعنا الكلام على هذه المسألة في كتابنا "قمع أهل الزيغ والإلحاد". وقد قيل إن الاستدلال بهذه القصة أن كل مجتهد مصيب على الإطلاق ليس بواضح، وإنما فيه ترك تعنيف من بذل وسعه واجتهد فيستفاد منه عدم تأثيمه. وحاصل ما وقع في القصة أن بعض الصحابة حملوا النهي على حقيقته ولم يبالوا بخروج الوقت ترجيحًا للنهي الثاني على النهي الأول وهو ترك تأخير الصلاة عن وقتها، واستدلوا بجواز التأخير لمن اشتغل بأمر الحرب بنظير ما وقع في تلك الأيام بالخندق، فقد تقدم حديث جابر المصرح بأنهم صلّوا العصر بعدما غربت الشمس وذلك لشغلهم بأمر الحرب، فجوّزوا أن يكون ذلك عامًّا في كل شغل يتعلق بأمر الحرب ولاسيما والزمان زمان التشريع. والبعض الآخر حملوا النهي على غير الحقيقة، وأنه كناية عن الحث والاستعجال والإسراع إلى بني قريظة. وقد استدل به الجمهور على عدم تأثيم من اجتهد؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يعنف أحدًا من الطائفتين، فلو كان هناك إثم لعنف من أثم. واستدل به على جواز الصلاة على الدواب في شدة الخوف، وفيه نظر لما مرَّ عند احتجاج الوليد السابق من أن الحديث لا يدل على أنهم صلوا ركبانًا؛ ولذا قال العلماء: إن ابن المنير أغرب حيث قال إن الطائفة الذين صلوا العصر لما أدركتهم في الطريق إنما صلوها وهم على الدواب، واستند إلى أن النزول إلى الصلاة ينافي مقصود الإسراع في الوصول، قال: فإن الذين لم يصلّوا عملوا بالدليل الخاص وهو الأمر بالإسراع، فترك عموم إيقاع العصر في وقتها إلى أن فات، والذين صلوا جمعوا بين دليلي وجوب الصلاة ووجوب الإسراع فصلوا ركبانًا؛ لأنهم لو صلوا نزولًا لكان مضادة لما أمروا به من الإسراع، ولا يظن ذلك بهم مع ثقوب إفهامهم، وفيه نظر؛ لأنه لم يصرح لهم بترك النزول فلعلهم فهموا أن المراد بأمرهم أن لا يصلوا العصر إلا في بني قريظة المبالغة في الأمر بالإسراع فبادروا إلى امتثال أمره، وخصوا وقت الصلاة من ذلك لما تقرر عندهم من تأكيد أمرها،

رجاله أربعة

فلا يمتنع أن ينزلوا فيصلّوا ولا يكون في ذلك مضادة لما أمروا به، ودعوى أنهم صلّوا ركبانًا يحتاج إلى دليل وليس موجودًا صريحًا في شيء من طرق هذه القصة، وقد مرّ بعث ابن بطال قبيل هذا الحدث. وقال ابن القيم في "الهدي" ما حاصله كل من الفريقين مأجور بقصده إلا أن مَنْ صلّى حاز الفضيلتين: امتثال الأمر في الإسراع، وامتثال الأمر بالمحافظه على الوقت ولاسيما ما في هذه الصلاة بعينها من الحث على المحافظة عليها. وإن من فاتته حبط عمله وإنما لما يعنف الذين أخروها لقيام عذرهم في التمسك بظاهر الأمر؛ ولأنهم اجتهدوا فأخروا لامتثالهم الأمر لكنهم لم يصلوا إلى أن يكون اجتهادهم أصوب من اجتهاد الطائفة الأخرى، وأما من احتج لمن أخر بأن الصلاة حينئذ كانت تؤخر كما في الخندق، وكان ذلك قبل صلاة الخوف فليس بواضح أن يكون التأخير في الخندق كان عن نسيان وذلك بين في قوله عليه الصلاة والسلام لعمر لما قال له: "ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس أن تغرب، فقال: والله ما صليتها" لأنه لو كان ذاكرًا لها لبادر إليها كما فعل عمر. وقد مرّ تأخير الصلاة في الخندق في أواخر مواقيت الصلاة بما يغني عن إعادته هنا، واستدل به على أن الذي يتعمد تأخير الصلاة حتى يخرج وقتها يقضيها بعد ذلك؛ لأن الذين لم يصلّوا العصر صلّوها بعد ذلك كما عند ابن إسحاق أنهم صلوها في وقت العشاء، وعند موسى بن عقبة أنهم صلّوها بعد أن غابت الشمس، وكذا في حديث كعب بن مالك وفيه نظر؛ لأنهم لم يؤخروها إلا لعذر تأولوه والنزاع إنما هو فيمن أخر عمدًا بغير تأويل. رجاله أربعة: قد مرّوا: مرَّ عبد الله بن محمد بن أسماء في الثالث من "الجمعة"، ومرّ جويرية بن أسماء في السابع والتسعين من أحاديث استقبال القبلة، ومرّ نافع في الأخير من "العلم"، ومرَّ ابن عمر في أول "الإيمان" قبل ذكر حديث منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، والنصف الأول من الرواة بصري، والثاني مدني أخرجه البخاري في "المغازي" أيضًا ومسلم فيها. ثم قال المصنف: باب التكبير والغَلَس بالصبح والصلاة عند الإغارة والحرب قوله: "التكبير" كذا للأكثر وللكشميهني التبكير بتقديم الموحدة وهو أوجه والغَلَس بفتحتين ظلمة آخر الليل، والمراد منه التغليس بصلاة الصبح. وقوله: "عند الإغارة" بكسر الهمزة بعدها معجمة متعلقة بالصلاة وبالتبكير أيضًا وهي في الأصل الإسراع في العدو والمراد به هنا الهجوم على العدو على وجه الغفلة، ووجه دخول هذه الترجمة في أبواب صلاة الخوف الإشارة إلى أن صلاة الخوف لا يشترط فيها التأخير إلى آخر الوقت

الحديث السادس

كما شرطه من شرطه في صلاة شدة الخوف عند التحام المقاتلة، ويحتمل أن يكون للإشارة إلى تعيين المبادرة إلى الصلاة في أول وقتها قبل الدخول في الحرب والاشتغال بأمر الحرب. وأما التكبير؛ فلأنه ذكر مأثور عند كل أمر مهول وعند كل حادث سار شكرًا لله تعالى وتبرئة له من كل ما نسبه إليه أعداؤه ولاسيما اليهود قبحهم الله تعالى. الحديث السادس حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ بن زيد عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ وَثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- صَلَّى الصُّبْحَ بِغَلَسٍ ثُمَّ رَكِبَ فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ. فَخَرَجُوا يَسْعَوْنَ فِي السِّكَكِ وَيَقُولُونَ: مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ. قَالَ: وَالْخَمِيسُ: الْجَيْشُ فَظَهَرَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَتَلَ الْمُقَاتِلَةَ وَسَبَى الذَّرَارِيَّ، فَصَارَتْ صَفِيَّةُ لِدِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ، وَصَارَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ تَزَوَّجَهَا وَجَعَلَ صَدَاقَهَا عِتْقَهَا. فَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ لِثَابِتٍ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، أَنْتَ سَأَلْتَ أَنَسًا مَا أَمْهَرَهَا؟ قَالَ: أَمْهَرَهَا نَفْسَهَا. فَتَبَسَّمَ. وهذا الحديث قد مرّ في أوائل الصلاة في باب ما يذكر في الفخذ، واستوفى الكلام عليه هناك. وقوله: "ويقولون محمد والخميس" فيه حمل لرواية عبد العزيز بن صهيب على رواية ثابت، فقد مرّ في الباب المذكور أن عبد العزيز لم يسمع من أنس قوله والخميس، وأنها في رواية ثابت عند مسلم. وقوله: "فصارت صفية لدحية الكلبي، وصارت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-" ظاهره أنها صارت لهما معًا، وليس كذلك بل صارت لدحية أولًا ثم صارت بعده لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما تقدم إيضاحه في الباب المذكور. رجاله خمسة: قد مرّوا وفيه ذكر أُمنا صفية، مرَّ مسدد وأنس في السادس من "الإيمان"، ومرّ حماد بن زيد في الرابع والعشرين منه، ومرَّ عبد العزيز بن صهيب في الثامن منه، ومرّ ثابت البناني في تعليق بعد الخامس من العلم، ومرت أُمنا صفية في الثالث والثلاثين من "الحيض". وهذا الحديث قد مرَّ في باب (ما يذكر في الفخذ).

خاتمة

خاتمة اشتملت أبواب صلاة الخوف على ستة أحاديث مرفوعة موصولة تكرر منها فيما مضى حديثان والأربعة خالصة، وافقه مسلم على تخريجها إلا حديث ابن عباس وفيها من الآثار عن الصحابة والتابعين ستة آثار، منها واحد موصول وهو أثر مجاهد والله تعالى أعلم. ثم قال المصنف:

كتاب العيدين

كتاب العيدين باب في العيدين والتجمل فيه كذا في رواية أبي علي شبويه، ونحوه لابن عساكر وسقطت البسملة لأبي ذر وله في رواية المستملي أبواب بدل كتاب، واقتصر في رواية الأصيلي والباقين على قوله باب الخ، والضمير في فيه راجع إلى جنس العبد. وفي رواية الكشميهني فيهما "والعيدان عيد الفطر، والأضحى". وأصل العيد عِوْد؛ لأنه مشتق من عاد يعود عودًا، وهو الرجوع قلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها كالميزان والميقات من الوزن والوقت ويجمع على أعياد وكان من حقه أن يجمع على أعواد؛ لأنه من العود كما ذكرنا، ولكن جمع بالياء للزومها في الواحد، وللفرق بينه وبين أعواد الخشبة وسميا عيدين لكثرة عوائد الله تعالى فيهما. وقيل: لأنهما يعودان مرة بعد مرة؛ أو لأنهما يعودان على الناس بالفرح والسرور. الحديث الأول حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: أَخَذَ عُمَرُ جُبَّةً مِنْ إِسْتَبْرَقٍ تُبَاعُ فِي السُّوقِ، فَأَخَذَهَا فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْتَعْ هَذِهِ تَجَمَّلْ بِهَا لِلْعِيدِ وَالْوُفُودِ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: إِنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ. فَلَبِثَ عُمَرُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَلْبَثَ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِجُبَّةِ دِيبَاجٍ، فَأَقْبَلَ بِهَا عُمَرُ، فَأَتَى بِهَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّكَ قُلْتَ إِنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ. وَأَرْسَلْتَ إِلَيَّ بِهَذِهِ الْجُبَّةِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: تَبِيعُهَا أَوْ تُصِيبُ بِهَا حَاجَتَكَ. قوله: "أخذ عمر جبة" كذا للأكثر أخذ بهمزة وخاء وذال معجمتين في الموضعين، وفي بعض النسخ وجد بواو وجيم في الأول وهو أوجه، وكذا أخرجه الإسماعيلي والطبراني في "مسند الشاميين". ووجه الكرماني الأول بأنه أراد ملزوم الأخذ وهو الشراء، وفيه نظر؛ لأنه لم يقع منه ذلك فلعله أراد السوم.

رجاله ستة

وقوله: "ابتع هذه تجمل بها" كذا للأكثر بصيغة الأمر مجزومًا، وكذا جوابه. وفي رواية أبي ذر عن المستملي والسرخسي "ابتاع هذه تجمل". وضبط في نسخة معتمدة بهمزة استفهام ممدودة ومقصورة وضم لام تجمل على أن أصله تتجمل، فحذفت إحدى التائين كان عمر استأذن أن يبتاعها ليتجمل بها النبي -صلى الله عليه وسلم- ويحتمل أن يكون بعض الرواة أشبع فتحة التاء فظنت ألفًا. وقال الكرماني: قوله: "هذه" إشارة إلى نوع الجبة والذي يظهر أنها إشارة إلى عينها ويلتحق بها جنسها. وقوله: "للعيد والوفود تقدم في كتاب "الجمعة" بلفظ للجمعة بدل للعيد، وهي رواية نافع وهذه رواية سالم وكلاهما صحيح. وكأن ابن عمر ذكرهما معًا فاقتصر كل راو على أحدهما. وقوله: "تبيعها وتصيب بها حاجتك" في رواية الكشميهني أو تصيب، ومعنى الأول وتصيب بثمنها والثاني يحتمل أو بمعنى الواو فهو كالأول أو التقسيم، والمراد المقايضة أو أعم من ذلك. وهذا الحديث تقدم في أوائل الجمعة في باب (يلبس أحسن ما يجد) من رواية نافع. ومرّ الكلام عليه هناك. رجاله ستة: قد مرّوا: مرَّ أبو اليمان وشعيب في السابع من "بدء الوحي"، ومرّ الزهري في الثالث منه، ومرّ عمر في الأول منه ومرّ سالم في السابع عشر من "الإيمان"، ومرّ أبو عبد الله في أوله قبل ذكر حديث منه. أخرجه النسائي أيضًا في الزينة، وقد مرّ في كتاب "الجمعة". ثم قال المصنف: باب الحراب والدرق يوم العيد الحراب بكسر المهملة جمع حربة، والدَّرَق بالتحريك جمع دَرَقة وهي الترس. قال ابن بطال حمل السلاح في العيد لا مدخل له في سنة العيد ولا في صفة الخروج إليه، ويمكن أن يكون -صلى الله عليه وسلم- كان محاربًا خائفًا فرأى الاستظهار بالسلاح لكن ليس في حديث الباب أنه عليه الصلاة والسلام خرج بأصحاب الحراب معه يوم العيد ولا أمر أصحابه بالتأهب بالسلاح فلا يطابق الحديث الترجمة. وأجاب ابن المنير: بأن مراد البخاري الاستدلال على أن العيد يغتفر فيه من الانبساط ما لا يغتفر في غيره، وليس في الترجمة أيضًا تقييده بحال الخروج إلى العيد، بل الظاهر أن لعب الحبشة إنما كان بعد رجوعه -صلى الله عليه وسلم- من المصلى؛ لأنه كان يخرج أول النهار فيصلي ثم يرجع.

الحديث الثاني

الحديث الثاني حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَمْرٌو أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَسَدِيَّ حَدَّثَهُ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثَ، فَاضْطَجَعَ عَلَى الْفِرَاشِ وَحَوَّلَ وَجْهَهُ، وَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَانْتَهَرَنِي وَقَالَ: مِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ الصلاة والسَّلاَمُ فَقَالَ: دَعْهُمَا. فَلَمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُمَا فَخَرَجَتَا. وَكَانَ يَوْمَ عِيدٍ يَلْعَبُ السُّودَانُ بِالدَّرَقِ وَالْحِرَابِ، فَإِمَّا سَأَلْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَإِمَّا قَالَ: تَشْتَهِينَ تَنْظُرِينَ؟. فَقُلْتُ: نَعَمْ. فَأَقَامَنِي وَرَاءَهُ خَدِّي عَلَى خَدِّهِ، وَهُوَ يَقُولُ: دُونَكُمْ يَا بَنِي أَرْفِدَةَ. حَتَّى إِذَا مَلِلْتُ قَالَ: حَسْبُكِ؟. قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَاذْهَبِي". قوله: "دخل علي رسول الله" الخ زاد في رواية الزهري عن عروة في أيام مني، وسيأتي بعد نحو ثلاثة وعشرين بابًا. وقوله: "جاريتان" تثنية جارية والجارية في النساء كالغلام في الرجال، ويقال على من دون البلوغ منهما وزاد في الباب الذي بعده من جواري الأنصار. وللطبراني عن أم سلمة أن إحداهما كانت لحسان بن ثابت، وفي الأربعين للسلمي أنهما كانتا لعبد الله بن سلام. وفي العيدين لأبي الدنيا عن فليح عن هشام بن عروة "وحمامة وصاحبتها تغنيان" وإسناده صحيح ويأتي في السند زيادة لهذا. وقوله: "تغنيان" جملة في محل الرفع على أنها صفة لجاريتين. زاد في رواية الزهري تدففان بفاءين أي: تضربان بالدف ولمسلم في رواية هشام تغنيان بدف. وللنسائي "بدفين" والدف بضم الدال على الأشهر، وقد تفتح ويقال له الكِرْبال بكسر الكاف وهو الذي لا جلاجل فيه فإن كانت فيه فهو المِزْهَر. وفي حديث الباب الذي بعده بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث أي: قال بعضهم لبعض من فخر أو هجاء وللمصنف في الهجرة بما تعازفت بمهملة وزاي وفاء من العزف وهو الصوت الذي له دوي. وفي رواية تقاذفت بقاف بدل العين وذال معجمة بدل الزاي وهو من القذف وهو هجاء بعضهم لبعض.

وقوله: "بغناء بعاث" بكسر الغين المعجمة وبالمد، قال الجوهري: الغناء بالكسر من السماع وبالفتح النفع وبُعاث بضم الموحدة وبعدها مهملة وآخره مثلثة. قال عياض ومن تبعه: أعجمها أبو عبيد وحده. وقال ابن الأثير أعجمها الخليل وحده. وجزم أبو موسى بأنه تصحيف، وتبعه صاحب "النهاية". ولأحمد عن هشام يذكر أن يوم بعاث يوم قتل فيه صناديد الأوس والخزرج. وقال البكري هو موضع من المدينة على ليلتين. وقال أبو موسى وصاحب النهاية هو حصن للأوس. وفي كتاب أبي الفرج الأصفهاني هو موضع في دار بني قريظة فيه أموال لهم، وكان موضع الوقعة في مزرعة لهم هناك ولا منافاة بين القولين، والأشهر فيه ترك الصرف. وقال الخطابي: يوم بعاث يوم مشهور من أيام العرب كانت فيه مقتلة عظيمة للأوس على الخزرج وبقيت الحرب قائمة مائة وعشرين سنة إلى الإِسلام على ما ذكر ابن إسحاق، وتبعه غيره من شراح "الصحيحين". قال في "الفتح": وفيه نظر لإيهامه أن الحرب التي وقعت يوم بعاث دامت هذه المدة، وليس كذلك لما يأتي في أوائل الهجرة عن عائشة قالت: "كانَ يومُ بعاثَ يومًا قدمهُ اللهُ لرسولِه فقدمَ المدينةَ وقد افترقَ ملؤهم وقتلتْ سراتُهم". وكذا ذكره ابن إسحاق وغيره من أصحاب الأخبار. وقد روى ابن سعد بأسانيده أن النفر الستة أو الثمانية الذين لقوا النبي -عليه الصلاة والسلام- (بمِنى) أول من لقيه من الأنصار، وكانوا قد قدموا إلى مكة ليحالفوا قريشًا كان في جملة ما قالوه له لما دعاهم إلى الإِسلام والنصر له أعلم إنما كانت وقعة بعاث عام الأول فموعدك الموسم القابل، فقدموا في السنة التي تليها فبايعوه وهي البيعة الأولى، ثم قدموا الثانية فبايعوه وهم سبعون نفسًا، وهاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- في أوائل السنة التي تليها، فدل ذلك على أن وقعة بعاث كانت قبل الهجرة بثلاث سنين وهو المعتمد، وهو أصح من قول ابن عبد البر في ترجمة زيد بن ثابت من "الاستيعاب" أنه كان يوم بعاث ابن ست سنين وحين قدم النبي -عليه الصلاة والسلام- كان ابن إحدى عشرة. فيكون يوم بعاث قبل الهجرة بخمس سنين. نعم، دامت الحرب بين الحيين: الأوس، والخزرج المدة التي ذكرها في أيام كثيرة شهيرة، وكان أولها فيما ذكره ابن إسحاق وهشام بن الكلبي وغيرهما أن الأوس والخزرج لما نزلوا المدينة وجدوا اليهود مستوطنين لها فحالفوهم وكانوا تحت قهرهم، ثم غلبوا اليهود في قصة طويلة بمساعدة أبي جبيلة ملك غسان، فلم يزالوا على اتفاق بينهم حتى كانت أول حرب وقعت بينهم حرب (سُمَير) بالمهملة مصغر بسبب رجل يقال له كعب من بني ثعلبة نزل على مالك بن عجلان الخزرجي فحالفه فقتله رجل من الأوس يقال له سمير، فكان ذلك سبب الحرب بين الحيين. ثم كانت بينهم وقائع من أشهرها يوم (السرارة) بمهملات ويوم (فارع) بفاء ومهملة، ويوم (الفجار)

الأول والثاني، وحرب (حصين بن الأسلت)، وحرب (حاطب بن قيس) إلى أن كان آخر ذلك يوم (بعاث) وكان رئيس الأوس فيه حُضَير والد أُسَيد، وكان يقال له حضير الكتائب وجرح يومئذ ثم مات بعد مدة من جراحته، وكان رئيس الخزرج عمرو بن النعمان، وجاءه سهم في القتال فصرعه فهزموا بعد أن كانوا قد استظهروا. ولحسان وغيره من الخزرج وكذا لقيس بن الحطيم وغيره من الأوس في ذلك أشعار كثيرة مشهورة في دواوينهم. وقوله: "فاضطجع على الفراش" في رواية الزهري المذكورة أنه "تغَشَّى بثوبه". وعند مسلم "تسجّى" أي التف بثوبه. وقوله: "وجاء أبو بكر" في رواية هشام بن عروة في الباب الذي بعده "دخل على أبو بكر" وكأنه جاء زائرًا لها بعد أن دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- بيته. وقوله: "فانتهرني" في رواية الزهري "فانتهرهما" أي: الجاريتين، ويجمع بأنه شرك بينهن في الانتهار والزجر، أما عائشة فلتقريرها وأما الجاريتان فلفعلهما. وقوله: "مِزمارة الشيطان" بكسر الميم يعني الغناء أو الدف، لأن المزمارة والمزمار مشتق من الزمير وهو الصوت الذي له الصفير، ويطلق على الصوت الحسن وعلى الغناء، وسميت به الآلة المعروفة التي يزمر بها. وإضافتها إلى الشيطان من جهة أنها ملهى فقد تشغل القلب عن الذكر. وفي رواية حماد بن سلمة عند أحمد "فقال: يا عباد الله أبمزمور الشيطان عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. قال القرطبي المزمور الصوت ونسبته إلى الشيطان ذم على ما ظهر لأبي بكر. وضبطه عياض بضم الميم، وحكى فتحها. وقوله: "فأقبل عليه" في رواية الزهري "فكشف النبي -صلى الله عليه وسلم- عن وجهه". وفي رواية فليح "فكشف عن رأسه"، وقد مرّ أنه كان ملتفًا. وقوله: زاد في رواية هشام "يا أبا بكر إن لكل قوم عيدًا، وهذا عيدنا" ففيه تعليل الأمر بتركهما وإيضاح خلاف ما ظنه الصديق من أنهما فعلتا ذلك بغير علمه عليه الصلاة والسلام؛ لكونه دخل فوجده مغطى بثوبه فظنه نائمًا، فتوجه له الإنكار على ابنته من هذه الأوجه مستصحبا لما تقرر عنده من منع الغناء واللهو فبادر إلى إنكار ذلك قيامًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك مستندًا إلى ما ظهر له، فأوضح له النبي -صلى الله عليه وسلم- الحال وعرفه الحكم مقرونًا ببيان الحكمة بأنه يوم عيد أي: يوم سرور شرعي، فلا ينكر فيه مثل هذا، كما لا ينكر في الأعراس، وبهذا يرتفع الإشكال عن من قال كيف ساغ للصديق إنكار شيء أقره النبي -صلى الله عليه وسلم- وتكلف جوابًا لا يخفى تعسفه؟ وقوله: "لكل قوم" أي: من الطوائف.

وقوله: "عيد" أي: كالنيروز والمهرجان. وفي النسائي وابن حبان بإسناد صحيح عن أنس "قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال: قد أبدلكم الله تعالى بهما خيرًا منهما يوم الفطر والأضحى". واستنبط منه كراهة الفرح في أعياد المشركين والتشبه بهم، وبالغ الشيخ أبو حفص الكبير النسفي من الحنفية فقال من أهدى فيه بيضة إلى مشرك تعظيمًا لليوم فقد كفر بالله تعالى، واستدل جماعة من الصوفية بحديث الباب على إباحة الغناء وسماعه بآلة وبغير آلة، ويكفي في رد ذلك تصريح عائشة في الحديث الذي في الباب بعده بقولها "وليستا بمغنيتين" فنفت عنهما عن طريق المعنى ما أثبته لهما باللفظ؛ لأن الغناء يطلق على رفع الصوت وعلى الترنم الذي تسميه العرب (النَصْب) بفتح النون وسكون المهملة، وعلى (الحداء) ولا يسمى فاعله مغنياً، وإنما يسمى بذلك من ينشد بتمطيط وتكسير وتهييج وتشويق بما فيه تعريض بالفواحش أو تصريح. قال القرطبي قولها "ليستا بمغنيتين" أي: ليستا ممن يعرف الغناء كما يعرفه المغنيات المعروفات بذلك، وهذا منها تحرز عن الغناء المعتاد عند المشتهرين به وهو الذي يحرك الساكن ويبعث الكامن، وهذا النوع إذا كان في شعر فيه وصف محاسن النساء والخمر وغيرهما من الأمور المحرمة لا يختلف في تحريمه. قال: وأما ما ابتدعته الصوفية من ذلك، فمن قبيل ما لا يختلف في تحريمه، لكن النفوس الشهوانية غلبت على كثير ممن ينسب إلى الخير حتى لقد ظهرت من كثير منهم فعلات المجانين والصبيان حتى رقصوا بحركات متطابقة وتقطيعات متلاحقة، وانتهى التواقح بقوم منهم إلى أن جعلوها من باب القرب وصالح الأعمال وأن ذلك يثمر سني الأحوال، وهذا على التحقيق من آثار الزندقة وقول أهل الخرقة وينبغي أن يعكس مرادهم، ويقرأ سيّء عوض النون الخفيفة المكسورة بغير همز بمثناة تحتانية مكسورة ثقيلة مهموزًا. وأما ما يسلم من المحرمات، فيجوز القليل منه في الأعياد والأعراس. قال الماوردي: اختلف العلماء فيه فأباحه قوم مطلقًا، ومنعه قوم مطلقًا، وكرهه مالك والشافعي في أصح القولين، ونقل عن أبي حنيفة المنع، وكذا أكثر الحنابلة ونقل ابن طاهر في كتاب "السماع" الجواز عن كثير من الصحابة، لكن لم يثبت من ذلك شيء إلا في النَصْب المشار إليه أولًا وهو ضرب من النشيد بصوت فيه تمطيط. قال ابن عبد البر: الغناء الممنوع ما فيه تمطيط وإفساد لوزن الشعر طلبًا للضرب، وخروجًا من مذاهب العرب، وإنما وردت الرخصة في الضرب الأول دون ألحان العجم. قال الماوردي: هو الذي لم يزل أهل الحجاز يرخصون فيه من غير نكير إلا في حالتين: أن يكثر منه جدًا، أو أن يصحبه ما يمنعه منه. واحتج من أباحه بأن فيه ترويحًا للنفس، فإن فعله ليقوى على الطاعة فهو مطيع أو على المعصية فهو عاص، وإلا فهو مثل التنزه في البستان والتفرج على المارة.

وأطنب الغزالي في الاستدلال، ومحصله أن الحداء بالرجز والشعر لم يزل يفعل بالحضرة النبوية وربما التمس ذلك، وليس هو إلا أشعار توزن بأصوات طيبة وألحان موزونة، وكذلك الغناء أشعار موزونة تؤدى بأصوات مستلذة وألحان موزونة. وقال الحليمي ما تعين طريقًا للدواء أو شهد به طبيب عدل عارف جاز، ونظم بعض علماء المالكية هذا الفرع فقال: الفكر في المسائل الصعاب ... يورث داء في الجسوم رابي دواؤه سماع صوت يحسن ... وذاك في المواق حكم بيّن ولا يلزم من إباحة الضرب بالدف في العرس ونحوه إباحة غيره من الآلات كالعود ونحوه، وقد حكى قوم الإجماع على تحريم الآلات، وحكى بعضهم عكسه. وفي "العيني" قال بعض مشايخنا: مجرد الغناء والاستماع إليه معصية حتى قالوا استماع القرآن بالألحان معصية والتالي والسامع آثمان. واستدلوا في ذلك بقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} جاء في التفسير أن المراد به الغناء. وفي "فردوس الأخبار" عن جابر رضي الله تعالى عنه أنه قال: احذروا الغناء فإنه من قبل الشيطان إبليس، وهو شرك عند الله لا يغني إلا الشيطان، وقد كرهه في غير العرس مثل المرأة في منزلها والصوت قال لا كراهة وأما الذي يجيء منه اللعب الفاحش والغناء فإني أكرهه، وقد أشبعت الكلام على الغناء بما لا مزيد عليه في كتابي "تصوف السعادة والفلاح"، وأما التفافه عليه الصلاة السلام بثوبه ففية إعراض عن ذلك؛ لكون مقامه يقتضي أن يرتفع عن الإصغاء إلى ذلك، لكن عدم إنكاره قال على تسويغ مثل ذلك على الوجه الذي أقره إذ لا يقر على باطل، والأصل التنزه عن اللعب واللهو فيقتصر على ما ورد فيه النص وقتًا وكيفية تقليلًا لمخالفة الأصل، وقوله: "غمزتهما" جواب "لما"، والغمز بمعنى الإشارة بالعين والحاجب أو اليد والرمز كذلك. في الحديث مشروعية التوسعة على العيال في أيام الأعياد بأنواع ما يحصل لهم: بسط النفس، وترويح البدن من كلف العبادة. وأن الإعراض عن ذلك أولى. وفيه أن إظهار السرور في الأعياد من شعار الدين. وفيه جواز دخول الرجل على ابنته وهي عند زوجها إذا كان له بذلك عادة، وتأديب الأب بحضرة الزوج وإن تركه الزوج إذ التأديب وظيفة الآباء، والعطف مشروع من الأزواج للنساء. وفيه الرفق بالمرأة واستجلاب مودتها، وأن مواضع أهل الخير تنزه عن اللهو واللغو وإن لم يكن فيه إثم إلا بإذنهم. وفيه أن التلميذ إذا رأى عند شيخه ما يستكره مثله بادر إلى إنكاره، ولا يكون في ذلك افتيات

رجاله ستة

على شيخه بل أدب منه ورعاية لحرمته وإجلال لمنصبه. وفيه فتوى التلميذ بحضرة شيخه بما يعرف من طريقته، ويحتمل أن يكون أبو بكر ظن أن النبي عليه الصلاة والسلام نام فخشي أن يستيقظ فيغضب على ابنته فبادر إلى سد هذه الذريعة، وفي قول عائشة: "فلما غفل غمزتهما" دلالة على أنها مع ترخيص النبي -صلى الله عليه وسلم- لها في ذلك راعت خاطر أبيها وخشيت غضبه عليها فأخرجتهما واقتناعها في ذلك بالإشارة فيما يظهر للحياء من الكلام بحضرة من هو أكبر منها. واستدل به على جواز سماع صوت الجارية بالغناء ولو لم تكن مملوكة؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- لم ينكر على أبي بكر سماعه بل أنكر إنكاره واستمرتا حتى أشارت لهما عائشة بالخروج ولا يخفى أن محل الجواز ما إذا أمنت الفتنة بذلك. وقوله: "وكان يوم عيد" هذا حديث آخر، وقد جمعهما بعض الرواة وأفردهما بعضهم، وقد تقدم هذا الحديث. الثاني من وجه آخر عن الزهري عن عروة في أبواب المساجد ووقع عند الجوزقي، وحديث الباب هنا "وقالت" أي: عائشة "كان يوم عيد" فتبين بهذا أنه موصول كالأول، وقد استوفي الكلام على هذا الحديث في باب (أصحاب الحراب في المسجد) من أبواب المساجد. رجاله ستة: قد مرّوا، وفيه ذكر أبي بكر ولفظ جاريتان مبهمتان، وأحمد شيخ البخاري يحتمل أن يكون أحمد بن صالح المصري وأن يكون أحمد بن عيسى، وقد مرّ كل منهما في الرابع والسبعين من أحاديث استقبال القبلة، ومرّ ابن وهب في الثالث عشر من "العلم"، ومرَّ عمرو بن الحارث في السابع والستين من "الوضوء"، ومرَّ محمد بن عبد الرحمن الأسدي في الثامن والثلاثين من "الغسل"، ومرَّ عروة وعائشة في الثاني من "بدء الوحي"، ومرَّ أبو بكر في باب (من لم يتوضأ من لحم الشاة) بعد الحادي والسبعين من "الوضوء". والجاريتان المبهمتان قيل إن اسم إحداهما حمامة ولم يذكر أحد من مصنفي أسماء الصحابة حمامة هذه، وقيل اسم الأخرى زينب احتمالًا عند صاحب "الفتح"، ولم يذكر لها تعريفًا ولا نسبًا ولعله أخذه من حديث ابن طاهر في كتاب "الصفوة" أن في الأنصار امرأة يقال لها زينب كانت تغني بالمدينة. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع وإِفراد والإخبار بالجمع والعنعنة والقول، والشطر الأول من الرواة مصريون والثاني مدنيون، أخرجه البخاري في سبعة أبواب في "الجهاد" وفي "حسن العشرة مع الأهل" وفي غير ذلك ومسلم في الصلاة. ثم قال المصنف:

باب سنة العيدين لأهل الإسلام

باب سنة العيدين لأهل الإِسلام كذا للأكثر، وقد اقتصر عليه الإِسماعيلي في "المستخرج" وأبو نعيم، وزاد أبو ذر عن الحموي في أول الترجمة الدعاء في العيد قال ابن رشيد: أراه تصحيفًا، وكأنه كان فيه اللعب في العيد يعني فيناسب حديث عائشة وهو الثاني من حديثي الباب، ويحتمل أن يوجه بأن الدعاء بعد صلاة العيد يؤخذ حكمه من جواز اللعب بعدها بطريق الأولى. وقد روى ابن عدي عن واثلة أنه لقي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يوم عيد فقال: "تقبّل اللهُ منا ومنك، فقال: نعم تقبّل اللهُ منا ومنك" وفي إسناده محمد بن إبراهيم الشامي وهو ضعيف. وقد تفرد به مرفوعًا وخولف فيه فروى البيهقي عن عبادة بن الصامت أنه سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك فقال: "ذلك فعلُ أهلِ الكتابين" وإسناده ضعيف أيضًا وكأنه أراد أنه لم يصح فيه شيء لكن في المحامليات عن جبير بن نفير قال: كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا التقوا يوم العيد يقول بعضهم لبعض: تقبّل الله منا ومنك. الحديث الثالث حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي زُبَيْدٌ قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَخْطُبُ فَقَالَ: "إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ مِنْ يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ، ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ، فَمَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا". وهذا الحديث طرف من حديث سيأتي بتمامه بعد باب، واستشكل الزين بن المنير مناسبته للترجمة من حيث إنه قال فيها العيدين بالتثنية مع أنها لا تتعلق إلا بعيد النحر. وأجاب بأن في قوله: "إن أول ما تبدأ به في يومنا هذا أن نصلي" إشعارًا بأن الصلاة ذلك اليوم هي الأمر المهم، وأن ما سواها من الخطبة والنحر والذكر وغير ذلك من أعمال البر يوم النحر فبطريق التبع، وهذا القدر مشترك بين العيدين فحسن أن لا تفرد الترجمة بعيد النحر. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرّ حجاج بن منهال في الثامن والأربعين من "الإيمان"، ومرّ شعبة في الثالث منه، ومرّ زبيد في الحادي والأربعين منه، ومرّ عامر الشعبي في الثالث منه، ومرّ البراء في الثالث والثلاثين منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإخبار بالإفراد والعنعنة والسماع والقول. والأول من الرواة بصري، والثاني واسطي والباقيان كوفيان. أخرجه البخاري في "العيدين" أيضًا وفي "الأضاحي" وفي "النذور"، ومسلم في "الذبائح". وأبو داود والترمذي في "الأضاحي" والنسائي في "الأضاحي" وفي "الصلاة".

الحديث الرابع

الحديث الرابع حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ مِنْ جَوَارِي الأَنْصَارِ تُغَنِّيَانِ بِمَا تَقَاوَلَتِ الأَنْصَارُ يَوْمَ بُعَاثَ قَالَتْ: وَلَيْسَتَا بِمُغَنِّيَتَيْنِ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَمَزَامِيرُ الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَذَلِكَ فِي يَوْمِ عِيدٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَهَذَا عِيدُنَا. ومناسبة هذا الحديث للترجمة التي اقتصر عليها أنها من قوله، "وهذا عيدنا" لإشعاره بالندب إلى ذلك وفيه نظر؛ لأن اللعب لا يوصف بالندبية لكن يقربه أن المباح قد يرتفع بالنية إلى درجة ما يثاب عليه. ويحتمل أن يكون المراد أن تقديم العبادة على اللعب سنة، أو تحمل السنة في الترجمة على المعنى اللغوي. وقد تقدم الكلام على حديث عائشة مستوفى في الباب الذي قبله. رجاله خمسة: قد مرّوا. مرّ عبيد بن إسماعيل في الثاني والعشرين من "الحيض"، ومرّ أبو أسامة في الحادي والعشرين من "العلم"، ومرَّ هشام وعروة وعائشة في الثاني من "بدء الوحي"، ومرّ الكلام على الجاريتين وعلى أبي بكر في الثاني قبل هذا بحديث. ثم قال المصنف:

باب الأكل يوم الفطر قبل الخروج

باب الأكل يوم الفطر قبل الخروج أي: إلى صلاة العيد. الحديث الخامس حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَنَسٍ بن مالك قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لاَ يَغْدُو يَوْمَ الْفِطْرِ حَتَّى يَأْكُلَ تَمَرَاتٍ. قوله: "أخبرنا عبيد الله" في نسخة الصغاني حدثنا عبيد الله هكذا رواه سعيد بن سليمان عن هشيم وتابعه أبو الربيع الزهراني عند الإسماعيلي جبارة بن المغلس عند ابن ماجه، ورواه عن هشيم قتيبة عند الترمذي، وأحمد بن منيع عند ابن خزيمة، وأبو بكر بن أبي شيبة عند ابن حبان، والإسماعيلي وعمر بن عون عند الحاكم، وقالوا كلهم عن هشيم عن محمد بن إسحاق عن حفص بن عبيد الله بن أنس عن أنس قال الترمذي: صحيح غريب. وأعله الإسماعيلي بأن هشيمًا مدلس، وقد اختلف عليه فيه وابن إسحاق من شرط البخاري وهذه علة غير قادحة، لأن هشيمًا قد صرح فيه بالإخبار فأمن من تدليسه؛ ولهذا أنزل فيه البخاري درجة؛ لأن سعيد بن سليمان من شيوخه وقد أخرجه، وقد أخرج هذا الحديث عنه بواسطة لكونه لم يسمعه منه ولم يلق من أصحاب هشيم مع كثرة من لقيه منهم من يحدث به مصرحًا عنه بالإخبار. وقد جزم أبو مسعود الدمشقي بأنه كان عند هشيم على الوجهين، وأن أصحاب هشيم القدماء كانوا يروونه عنه على الوجه الأول، فلا تضر طريق ابن إسحاق المذكورة. قال البيهقي: ويؤكد ذلك أن سعيد بن سليمان قد رواه عن هشيم على الوجهين، ثم ساقه من رواية معاذ بن المثنى عنه عن هشيم بالإسنادين المذكورين، فرجح صنيع البخاري هنا. وقوله: "حتى يأكل تمرات" عند الإسماعيلي وابن حبان والحاكم عن عبيد الله بن أبي بكر بلفظ "ما خرج يوم فطر حتى يأكل تمرات ثلاثًا أو خمسًا أو سبعًا أو أقل من ذلك أو أكثر وترًا" وهي أصرح في المداومة على ذلك. وأخرجه أحمد عن مُرَجّي بلفظ "ويأكلهن إفرادًا"، وعن هذا الوجه أخرجه البخاري في "تاريخه"، قال المهلب: الحكمة في الأكل قبل الصلاة أن لا يظن ظان لزوم الصوم حتى يصلي العيد، فكأنه أراد سدّ هذه الذريعة، وقال غيره: لما وقع وجوب الفطر عقب وجوب الصوم استحب تعجيل الفطر مبادرة إلى امتثال أمر الله تعالى ويشعر بذلك اقتصاره على القليل من ذلك، ولو كان لغير الامتثال لأكل قدر الشبع.

رجاله خمسة

وقال بعض المالكية: لما كان المعتكف لا يتم اعتكافه حتى يغدو إلى المصلى قبل انصرافه إلى بيته خشي أن يعتمد في هذا الجزء من النهار باعتبار استصحاب الصائم ما يعتمد من استصحاب الاعتكاف ففرق بينهما بمشروعية الأكل قبل الغدو. وقيل: لأن الشيطان الذي يحبس في رمضان لا يطلق إلا بعد صلاة العيد، فاستحب تعجيل الفطر بدارًا إلى السلامة من وسوسته. وقال ابن قدامة: لا نعلم في استحباب تعجيل الأكل يوم الفطر اختلافًا. وقد روى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود التخيير فيه، وعن النخعي أيضًا مثله، والحكمة في استحباب التمر لما في الحلو من تقوية البصر الذي يضعفه الصوم؛ ولأن الحلو مما يوافق الإيمان ويعبر به المنام ويرق به القلب وهو أيسر من غيره، ومن ثم استصحب بعض التابعين أنه يفطر على الحلو مطلقًا كالعسل رواه ابن أبي شيبة عن معاوية بن قرة وابن سيرين وغيرهما. وروى فيه معنى آخر عن ابن عون أنه سئل عن ذلك فقال: إنه يحبس البول هذا كله في حق من يقدر على ذلك، وإلا فينبغي أن يفطر ولو على الماء ليحصل له شبه ما من الاتباع أشار إليه ابن أبي جمرة. وأما جعلهن وترًا فقال المهلب: فللإِشارة إلى وحدانية الله تعالى، وكذلك كان -صلى الله عليه وسلم- يفعله في جميع أموره تبركًا بذلك. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرّ محمد بن عبد الرحيم في السادس من "الوضوء"، ومرّ سعيد بن سليمان في السادس والثلاثين منه، ومرّ هشيم في الثاني من التيمم، ومرّ عبيد الله بن أبي بكر في الثالث والعشرين من "الحيض" ومرّ أنس في السادس من "الإيمان". لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإخبار به والعنعنة والقول وشيخ البخاري من أفراده، ورواته بين بغدادي وواسطيين ومدني قيل إن هذا الحديث من أفراده. وقال العيني: رواه ابن ماجه. ثم قال: وقال مرجي بن رجاء: حدثني عبيد الله قال: حدثني أنس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- "ويأكلهن وترًا" ومتابعة مرجي بن رجاء هذه لهشيم على روايته له عن عبيد الله بن أبي بكر تؤيد ما مرّ من عدم القدح في رواية هشيم، وأفادت هذه المتابعة ثلاث فوائد: الأولى: هذه. والثانية: تصريح عبيد الله فيه بالإخبار عن أنس. والثالثة: تقييد الأكل بكونه وترًا. وهذه المتابعة وصلها ابن خزيمة والإسماعيلي عن أبي النضر عن مرجي بلفظ "يخرج" بدل "يغدو" والباقي مثل لفظ هشيم، وفيه الزيادة وأخرجه الإِمام أحمد والبخاري في "تاريخه". وأخرجه

باب الأكل يوم النحر

أبو نعيم وعبيد الله وأنس، مرّ محلهما في الذي قبله، ومُرَجّي بضم الميم وفتح الراء وتشديد الجيم ابن رجاء اليشكري، ويقال العدوي البصري قال ابن معين مرة ضعيف، وقال مرة: ليس حديثه بشيء. وقال أبو داود: مرة ضعيف، ومرة صالح. وذكره العقيلي في الضعفاء، وذكره عن ابن معين أنه قال مرجي بن وداع ضعيف، ومرجي بن رجاء أصلح حديثًا. وقال أبو زرعة: ثقة وهو خال أبي عمر الحوضي. وقال الدارقطني: ثقة وليس له في البخاري سوى هذا التعليق روى عن عبيد الله بن أبي بكر بن أنس وحميد الطويل وهشام بن عروة وغيرهم وروى عنه أبو النضر وأبو عمر الضرير وأبو عمر الحوضي وشبابة بن سوار وغيرهم. ثم قال المصنف: باب الأكل يوم النحر قال الزين بن المنير ما محصله: لم يقيد المصنف الأكل يوم النحر بوقت معين كما قيده في الفطر، ووجه ذلك من حديث أنس قول الرجل هذا يوم يشتهى فيه اللحم. وقوله في حديث البراء: "إن اليوم يوم أكل وشرب" ولم يقيد ذلك بوقت، ولعل المصنف أراد الإشارة إلى تضعيف ما ورد في بعفر طرق الحديث الذي قبله من مغايرة يوم الفطر ليوم النحر من استحباب البداءة بالصلاة يوم النحر قبل الأكل؛ لأن في حديث البراء أن أبا بردة أكل قبل الصلاة يوم النحر فبيّن له -صلى الله عليه وسلم- أن التي ذبحها لا تجزىء عن الأضحية، وأقره على الأكل منها. وأما ما ورد في الترمذي والحاكم عن بريدة قال: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم، ولا يطعم يوم الأضحى حتى يصلي" ونحوه عند البزار عن جابر بن سمرة. وروى الطبراني والدارقطني عن ابن عباس قال: من السنة أن لا يخرج يوم الفطر حتى تخرج الصدقة ويطعم شيئاً قبل أن يخرج، وفي كل من الأسانيد الثلاثة مقال. وقد أخذ أكثر الفقهاء بما دلت عليه قال الزين بن المنير: وقع أكله -صلى الله عليه وسلم- في كل من العيدين في الوقت المشروع لإخراج صدقتهما الخاصة بهما، فإخراج صدقة الفطر قبل الغدو إلى المصلى، وإخراج صدقة الأضحية بعد ذبحها فاجتمعا من جهة، وافترقا من جهة واختار بعضهم تفصيلًا آخر فقال: من كان له ذبح استحب له أن يبدأ بالأكل يوم النحر منه، ومن لم يكن له ذبح تخير.

الحديث السادس

الحديث السادس حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ بن سيرين عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاَةِ فَلْيُعِدْ. فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: هَذَا يَوْمٌ يُشْتَهَى فِيهِ اللَّحْمُ. وَذَكَرَ مِنْ جِيرَانِهِ فَكَأَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- صَدَّقَهُ، قَالَ: وَعِنْدِي جَذَعَةٌ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ، فَرَخَّصَ لَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَلاَ أَدْرِي أَبَلَغَتِ الرُّخْصَةُ مَنْ سِوَاهُ أَمْ لاَ. قوله: "من ذبح قبل الصلاة فليعد" أي قبل صلاة العيد. وقوله: "فقام رجل" هو أبو بردة بن نيار كما يأتي التصريح به قريبًا في حديث البراء. وقوله: "هذا يوم يشتهى فيه اللحم" في رواية داود بن أبي هند عند مسلم "فقال: يا رسول الله إن هذا يوم اللحم فيه مكروه". وفي لفظ "مقروم" بسكون القاف. قال عياش: رويناه في "مسلم" عن الفارسي والسجزي "مكروه"، وعن العذري "مقروم". وقد صوب بعضهم الرواية الثانية، وقال معناه يشتهى فيه اللحم يقال: قَرَمْتُ إلى اللحم، وَقَرَمْتُه إذا اشتهيته فهو موافق للرواية الأولى "هذا يوم يشتهى فيه اللحم" قال: وقال بعض الشيوح: صواب الرواية "اللحم فيه مكروه" بفتح وهو اشتهاء اللحم، والمعنى ترك الذبح والتضحية وإبقاء أهله فيه بلا لحم حتى يشتهوه مكروه. قال: وقيل معناه ذبح ما لا يجزىء في الأضحية مما هو لحم، وبالغ ابن العربي فقام: إن الرواية بسكون الحاء هنا غلط، وإنما هو اللحم بالتحريك يقال، لحم الرجل بكسر الحاء يلحم بفتحها إذا كان يشتهي اللحم. وقال القرطبي: تكلف بعضهم ما لا يصح رواية أي اللحم بالتحريك ولا معنى، وهو قول الآخر معنى المكروه أنه مخالف للسنة وهو كلام من لم يتأمل سياق الحديث، فإن هذا التأويل لا يلائمه إذ لا يستقيم أن يقول إن هذا اليوم اللحم فيه مخالف للسنة وإني عجلت لأطعم أهلي. قال: وأقرب ما يتكلف لهذه الرواية أن معناه اللحم فيه مكروه التأخير فحذف لفظ التأخير لدلالة قوله عجلت. وقال النووي: معناه هذا يوم طلب اللحم فيه مكروه شاق يعني طلبه من الناس كالصديق والجار فاختار هو أن لا يحتاج أهله إلى ذلك فأغناهم بما ذبحه عن الطلب، وهذا معنى حسن، ويؤيد هذا ما يأتي قريبًا في رواية البراء فعرفت "أن اليوم يوم أكل وشرب، فأحببت أن تكون شاتي أول ما يذبح في بيتي"، ويظهر أن بهذه الرواية يحصل الجمع بين الروايتين المتقدمتين وأن وصفه

اللحم بكونه مشتهى وبكونه مكروهًا لا تناقض فيه، وإنما هو باعتبارين: فمن حيث إن العادة جرت فيه بالذبائح فالنفس تتشوق له يكون مشتهى، ومن حيث توارد الجميع عليه حتى يكثر يصير مملولًا فاطلقت عليه الكراهة، لذلك فحيث وصفه بكونه مشتهى أراد ابتداء حاله، وحيث وصفه بأنه مكروه أراد انتهاءه، ومن ثم استعجل بالذبح ليفوز بتحصيل الصفة الأولى. وعند مسلم عن الشعبي فقال خالي: "يا رسول الله قد نسكت عن ابن لي" وقد استشكل هذا والظاهر أن مراده أنه ضحى لأجله للمعنى الذي ذكره في أهله وجيرانه فخص ولده بالذكر؛ لأنه أخص بذلك عنده حتى يستغنى ولده بما عنده عن التشوف إلى ما عند غيره. وقوله: "وذكر جيرانه" وفي رواية "وذكر هَنَة من جيرانه" وهي بفتح الهاء والنون الخفيفة بعدها هاء تأنيث حاجة من جيرانه إلى اللحم. وقوله: "فكأنه -صلى الله عليه وسلم- صدّقه" وفي رواية "عذره" بتخفيف الذال المعجمة من العُذْر أي قبل عذره، ولكن لم يجعل ما فعله كافيًا، وكذلك أمره بالإعادة قال ابن دقيق: فيه دليل على أن المأمورات إذا وقعت على خلاف مقتضى الأمر لم يعذر فيها بالجهل، والفرق بين المأمورات والمنهيات أن المقصود من المأمورات إقامة مصالحها وذلك لا يحصل بالفعل، والمقصود من المنهيات الكف عنها بسبب مفاسدها، ومع الجهل والنسيان لم يقصد المكلف فعلها فيعذر. وفي رواية عند مسلم "وإني عجلت فيه نسيكتي لأطعم أهلي وجيراني وأهل داري". وقوله: "فقال وعندي جَذَعة أحبّ إلى من شاتي لحم" وعندي جذعة معطوف على كلام الرجل الذي عني الراوي بقوله، وذكر "هنة من جيرانه" تقديره هذا يوم يشتهى فيه اللحم ولجيراني حاجة فذبحت قبل الصلاة، وعندي جذعة أي بالتحريك، والجذعة المذكورة من المعز كما هو مصرح به في حديث البراء في "الأضاحي" فقال: "عندي داجنًا جذعة من المعز" والداجن التي تألف البيوت وتستأنس، وليس لها سن معين ولما صار هذا الاسم علمًا على ما تألف البيوت اضمحل الوصف عنه فاستوى فيه المذكر والمؤنث. والجَذَعة بالتحريك وصف لسن معين من بهيمة الأنعام. فمن الضأن ما أكمل السنة وهو قول الجمهور، وهو قول مالك، والأصح عند الشافعي والأشهر عند أهل اللغة. وقيل دونها ثم اختلف في تقديره فقيل نصف سنة وهو قول الحنفية والحنابلة. وقيل سبعة أشهر وحكاه صاحب "الهداية" من الحنفية عن الزعفراني. وقيل ستة أو سبعة حكاه الترمذي عن وكيع. وقيل بالتفرقة بين ما تولد بين شابين فيكون له نصف سنة أو بين هرمين فيكون ابن ثمانية. سادسها ابن عشرة.

سابعها لا يجزىء حتى يكون عظيمًا حكاه ابن العربي وقال: إنه مذهب باطل. وقد قال صاحب "الهداية": إنه إذا كانت عظيمة بحيث لو اختلطت بالثنيات اشتبهت على الناظر من بعيد أجزأت. وقال العبادي من الشافعية: لو أجذع قبل السنة أي سقطت أسنانه أجزأ كما لو تمت السنة قبل أن يجذع ويكون ذلك كالبلوغ. إما بالسن وإما بالاحتلام. وهكذا قال البغوي: الجذع ما استكمل السنة أو أجذع قبلها. وأما الجذع من المعز فهو ما دخل في السنة الثانية، ومن البقر ما أكمل الثالثة، ومن الإبل ما دخل في الخامسة. ودلت الرواية المذكورة أن الجذع من المعز لا يجزىء وهو قول الجمهور، وعن عطاء والأوزاعي تجوز مطلقًا وهو وجه لبعض الشافعية حكاه الرافعي وقال النووي وهو شاذ أو غلط. وأغرب عياض فحكى الإجماع على عدم الإجزاء قيل: والإجزاء مصادر للنص ولكن يحتمل أن يكون قائله قيد ذلك بمن لم يجد غيره، ويكون معنى نفي الإجزاء عن غير من أذن له في ذلك محمولًا على من وجد. وأما الجذع من الضأن فقال الترمذي: إن العمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وغيرهم، لكن حكى غيره عن ابن عمر والزهري أن الجذع لا يجزىء مطلقًا كان من الضأن أو من غيره، وممن حكاه عن ابن عمر ابن المنذر، وبه قال ابن حزم وعزاه لجماعة من السلف، وأطنب في الرد على من أجازه. ويحتمل أن يكون ذلك أيضاً مقيدًا بمن لم يجد، وقد صح فيه حديث جابر رفعه "لا تذبحوا إلا مُسِنَّة إلا أن يعسرَ عليكم فتذبحوا جَذَعةً من الضأن" أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وغيرهم. لكن نقل النووي عن الجمهور أنهم حملوه على الأفضل والتقدير يستحب لكم أن لا تذبحوا إلاَّ مسنّة فإن عجزتم فاذبحوا جذعة من الضأن. قال: وليس فيه تصريح بمنع الجذعة من الضأن وأنها لا تجزىء. قال: وقد أجمعت الأمة على أن الحديث ليس على ظاهره؛ لأن الجمهور يجوزون الجذع من الضأن مع وجود غيره وعدمه وابن عمر والزهري يمنعانه مع وجود غيره وعدمه فتعين تأويله. ويدل للجمهور ما أخرجه ابن ماجه عن أم هلال بنت هلال عن أبيها رفعه "يجوز الجذع من الضأن أضحية". وبما أخرجه أبو داود وابن ماجه عن رجل من بني سليم يقال له مجاشع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الجذع يُوفي ما يُوفي منه الثني". وأخرجه النسائي من وجه آخر لكن لم يسم الصحابي، بل وقع عنده "أنه رجل من مزينة". وبما أخرجه النسائي بسند قوي عن عقبة بن عامر قال: "ضحّينا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بجذاع من الضأن".

وبما أخرجه الترمذي عن أبي هريرة رفعه "نعمت الأضحية الجذعة من الضأن" وفي سنده ضعف. وقوله: "أحب إلى من شاتي لحم" المعنى أنها أطيب لحمًا وأنفع للآكلين لسمنها ونفاستها، وقد استشكل هذا بما ذكر في العتق أن عتق نفسين أفضل من عتق نفس واحدة، ولو كانت أنفس منهما وأجيب بالفرق بين العتق والأضحية أن الأضحية يطلب فيها كثرة اللحم فتكون الواحدة السمينة أولى من الهزيلتين والعتق يطلب فيه التقرب إلى الله تعالى بفك الرقبة، فيكون عتق الاثنين أولى من عتق الواحدة. نعم، إن عُرض للواحد وصف يقتضي رفعته على غيره كالعلم وأنواع الفضل المتعدي، فقد جزم بعض المحققين بأنه أولى لعموم نفعه للمسلمين. وفي رواية شعبة في حديث البراء الآتي هي خير من مسنة التي سقطت أسنانها للبدل. وقال أهل اللغة: المسن الثني الذي يلقي سنه ويكون في ذات الخف في السنة السادسة، وفي ذات الظلف والحافر في السنة الثالثة. وقال ابن فارس: إذا دخل ولد الشاة في السنة الثالثة فهو ثني وحسن. وقوله: "فلا أدري أبلغت الرخصة من سواه أم لا" قد وقع في حديث البراء الآتي قريبًا اختصاصه بذلك، ويأتي الكلام عليه. وكأن أنسًا لم يسمع ذلك، وقد روى ابن عون عن الشعبي حديث البراء وعن ابن سيرين حديث أنس، فكان إذا حدث حديث البراء يقف عند قوله: ولن تجزىء عن أحد بعدك ويحدث بقول أنس "لا أدري أبلغت الرخصة من سواه أم لا"، ولعله استشكل الخصوصية بذلك لما جاء من ثبوت ذلك لغير أبي بردة كما يأتي بيانه في الحديث الذي بعده. واستدل من قال بوجوب الأضحية بقوله في هذا الحديث: "فَلْيُعِدْ"، وبقوله في حديث جندب بن سفيان: "فَلْيُعِدْ مكانها أخرى". وفي رواية "اذبحْ مكانها أخرى"، وفي لفظ "أَعِدْ نسكًا" وغير ذلك من الألفاظ المصرحة بالأمر بالضحية والقائل بوجوبها أبو حنيفة فإنه قال: إنها تجب على الموسر المقيم. وقال مالك إنها سنة عين على كل حر لا تجحف به وإن يتيمًا. وعند الشافعية والجمهور سُنّة مؤكدة على الكفاية، وفي وجه للشافعية من فروض الكفاية. وقال أحمد يكره تركها مع القدرة، وعنه واجبة، وعن محمد بن الحسن هي سُنّة غير مرخص في تركها. قال الطحاوي: وبه نأخذ، وليس في الآثار ما يدل على وجوبها، وأقرب ما يتمسك به للوجوب بحديث أبي هريرة رفعه "مَنْ وجد سعة فلم يُضحِ فلا يَقْرَبَنَّ مصلانا" أخرجه ابن ماجه وأحمد، ورجاله ثقات لكن اختلف في رفعه ووقفه، والموقوف أشبه بالصواب قاله الطحاوي وغيره ومع ذلك فليس صريحًا في الإيجاب. وأما الاستدلال بالألفاظ المتقدمة، فقد قال القرطبي: لا حجة في شيء من ذلك وإنما

رجاله خمسة

المقصود بيان كيفية مشروعية الأضحية، لمن أراد أن يفعلها أو من أوقعها على غير الوجه المشروع خطأ أو جهلًا، فبين له وجه تدارك ما فرط منه، وهذا معنى قوله الآتي: "لا تجزىء عن أحد بعدك" أي: لا يحصل له مقصود القربة ولا الثواب كما يقال في صلاة النفل لا تجزىء إلا بطهارة وستر عورة قال: وقد استدل بعضهم للوجوب بأن الأضحية من شريعة إبراهيم الخليل وقد أمرنا باتباعه ولا حجة فيه لأنا نقول بموجبه ويلزمهم الدليل على أنها كانت في شريعة إبراهيم واجبة ولا سبيل إلى علم ذلك، ولا دلالة في قصة الذبح للخصوصية التي فيها. وأجيب أيضًا بأن الأمر بالإعادة لا دليل فيه على الوجوب؛ لأنه ولو كان ظاهر الأمر الوجوب إلا أن قرينة إفساد الأولى تقتضي أن يكون الأمر بالإعادة لتحصيل المقصود وهو أعم من أن يكون في الأصل واجبًا أو مندوبًا. وقال الشافعي يحتمل أن يكون الأمر بالإعادة للوجوب، ويحتمل أن يكون للإشارة إلى أن التضحية قبل الصلاة لا تقع أضحية، فأمره بالإعادة ليكون في عداد من ضحى، فلما احتمل ذلك وجدنا الدلالة على عدم الوجوب في حديث أم سلمة المرفوع "إذا دخل العشر فأراد أحدكم أن يضحي" قال فلو كانت الأضحية واجبة لم يكل ذلك إلى الإرادة. وأجاب من قال بالوجوب بأن التعليق على الإرادة لا يمنع القول بالوجوب فهو كما لو قيل من أراد الحج فليكثر من الزاد فإن ذلك لا يدل على أن الحج لا يجب، وتعقب بأن كونه لا يدل على الوجوب لا يلزم منه ثبوت الوجوب بمجرد الأمر بالإعادة لما مرَّ من احتمال إرادة الكمال، وهو الظاهر. وقال ابن دقيق العيد: صيغة (مَنْ) في قوله: "مَنْ ذبح قبل أن يصلي فَلْيُعِدْ مكانها أخرى" صيغة العموم إذا وردت لذلك على الصورة النادرة يستنكر، فإذا بعد تخصيصه بمن نذر أضحية معينة بقي التردد هل الأول حمله على من سبقت له أضحية معينة أو حمله على ابتداء أضحية من غير سبق تعيين، فعلى الأول يكون حجة لمن قال بالوجوب على من اشترى الأضحية كالمالكية، فإن الأضحية عندهم تجب بالتزام اللسان وبنية الشراء وبنية الذبح، وعلى الثاني يكون حجة لمن أوجب الضحية مطلقًا لكن حصل الانفصال ممن لم يقل بالوجوب بالأدلة الدالة على عدم الوجوب، فيكون الأمر للندب قاله في "الفتح". قلت لكن قوله: "إنها عند المالكية تجب بنية الشراء وبنية الذبح" غير صحيح فإنها عندهم لا تجب إلا بالذبح خاصة وفي النذر قولان: هل تجب به أو لا تجب. رجاله خمسة: قد مرّوا، وفيه لفظ رجل مبهم مرّ مسدد وأنس في السادس من الإِيمان، ومرَّ ابن علية في الثامن منه، ومرّ أيوب في التاسع منه، ومحمد بن سيرين في الأربعين منه. والرجل المبهم هو أبو بردة بن نيار كما جاء في الحديث الآتي بعده واسمه هاني، وقيل اسمه مالك، وقيل الحارث بن نيار بن عمرو بن عبيد بن كلاب بن دهمان بن غنم بن ذئبان بن هميم بن كاهل بن ذهل بن بلي البلوي

حليف الأنصار خال البراء بن عازب مشهور بالكنية، شهد بدرًا وما بعدها، له عشرون حديثًا اتفقا على حديث روى عنه البراء وجابر بن عبد الله وكعب بن عمير. مات في أول خلافة معاوية بعد أن شهد مع علي رضي الله تعالى عنه حروبه كلها ثم قيل سنة إحدى، وقيل اثنتين، وقيل خمس وأربعين ولم يعقب. أخرجه البخاري أيضًا في "العيدين" وفي "الأضاحي" ومسلم في "الذبائح" والنسائي في "الصلاة" وفي "الأضاحي" وابن ماجه في "الأضاحي".

الحديث السابع

الحديث السابع حَدَّثَنَا عُثْمَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما قَالَ: خَطَبَنَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ الأَضْحَى بَعْدَ الصَّلاَةِ فَقَالَ: مَنْ صَلَّى صَلاَتَنَا وَنَسَكَ نُسُكَنَا فَقَدْ أَصَابَ النُّسُكَ، وَمَنْ نَسَكَ قَبْلَ الصَّلاَةِ، فَإِنَّهُ قَبْلَ الصَّلاَةِ، وَلاَ نُسُكَ لَهُ. فَقَالَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ خَالُ الْبَرَاءِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنِّي نَسَكْتُ شَاتِي قَبْلَ الصَّلاَةِ، وَعَرَفْتُ أَنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ، وَأَحْبَبْتُ أَنْ تَكُونَ شَاتِي أَوَّلَ مَا يُذْبَحُ فِي بَيْتِي، فَذَبَحْتُ شَاتِي وَتَغَدَّيْتُ قَبْلَ أَنْ آتِيَ الصَّلاَةَ. قَالَ: شَاتُكَ شَاةُ لَحْمٍ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّ عِنْدَنَا عَنَاقًا لَنَا جَذَعَةً أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ شَاتَيْنِ، أَفَتَجْزِي عَنِّي؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَنْ تَجْزِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ. قوله: "خطبنا النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يوم الأضحى بعد الصلاة. فقال مَنْ صلّى صلاتنا ونسكَ نُسكَنا فقد أصابَ النُسكَ، ومَنْ نَسكَ قبلَ الصلاةِ فإنَّهُ قبلَ الصلاةِ، ولا نُسكَ له" وفي الرواية التي قبل هذا بباب "يخطبُ. فقال: إنَّ أولَ ما نبدأ به في يومنا هذا أنْ نَصليَ ثم نرجعَ فننحرَ فَمَنْ فعلَ فقد أصابَ سنتُنا". وقوله: "ومَنْ نسكَ قبل الصلاةِ فإنه قبلَ الصلاةِ ولا نُسكَ له" أي: بإثبات الواو في ولا نسك له، وحذفها النسائي وهو أوجه، ويمكن توجيه إثباتها بتقدير لا يجزىء ولا نسك له، وهو قريب من حديث "فَمَنْ كانت هجرتُهُ إلى اللهِ ورسولِه فهجرتُهُ إلى اللهِ ورسولِه"، وقد أخرجه مسلم عن عثمان بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم عن جرير بلفظه، وأخرجه الإسماعيلي عن أبي خيثمة عن جرير بلفظ "ومَنْ نسكَ قبلَ الصلاةِ فشاتُهُ شاةُ لحم". وأخرجه أبو يعلى عن أبي خيثمة بهذا اللفظ، والظن أن التصرف فيه من عثمان رواه بالمعنى، ومعنى "من نسك نسكنا" ضحى مثل ضحيتنا، والنُسكة الذبيحة، والنُسك العبادة. وقد قيل لثعلب هل يسمى الصوم نسكًا؟ قال كل حق لله عزّ وجلّ يسمى نُسكًا. وقوله: "أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلّي ثم نرجع" إلخ وقد وقع هذا منه في الخطبة بعد الصلاة، وعلى هذا فمعنى قوله: "أن نصلّي صلاة العيد" أي أول ما يكون الابتداء به في هذا اليوم الصلاة التي بدأنا بها، فعبر بالمستقبل عن الماضي وذلك مثل قوله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا

أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ} المعنى إلا الإيمان المتقدم منهم. وفي رواية محمد بن طلحة الآتية إن شاء الله تعالى في هذا الحديث بعينه "خرجَ عليه الصلاةُ والسلامُ يومَ أضحى إلى البقيعِ فصلّى ركعتين، ثم أقبلَ علينا بوجههِ الشريفِ وقال: إن أولَ نُسكِنا في يومِنا هذا أن نبدأ بالصلاةِ ثم نرجعَ فننحرَ". وأول عيد صلاّه النبي -صلى الله عليه وسلم- عيد الفطر في السنة الثانية من الهجرة. وقد اختلف في حكم صلاة العيد بعد إجماع الأمة على مشروعيتها فقال أبو حنيفة وأصحابه: واجبة على الأعيان. قال صاحب "الهداية": تجب صلاة العيد على من تجب عليه الجمعة. وقالت المالكية والشافعية: سُنة مؤكدة. وقال أحمد وجماعة: فرض على الكفاية. واستدل الأولون بمواظبته -صلى الله عليه وسلم- عليها من غير ترك. واستدل المالكية والشافعية في حديث الأعرابي في "الصحيحين" هل عليَّ غيرها؟ قال: لا إلا أن تطّوّع"، وحديث "خمس صلوات كتبهنّ الله في اليوم والليلة" وحملوا ما نقله المزني عن الشافعي أن من وجبت عليه الجمعة وجب عليه حضور العيدين على التأكيد فلا إثم ولا قتال بتركها. واستدلت الحنابلة بقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} وهو يدل على الوجوب، وحديث الأعرابي يدل على أنها لا تجب على كل أحد فتعين أن تكون فرضًا على الكفاية. وأجيب بأنا لا نسلم أن المراد بقوله: فصل صلاة العيد سلمنا ذلك لكن ظاهره يقتضي وجوب النحر وأنتم لا تقولون به سلمنا أن المراد من النحر ما هو أعم، لكن وجوبه خاص به فيختص وجوب صلاة العيد به سلمنا الكل وهو أن الأمر الأول غير خاص به، والأمر الثاني خاص، لكن لا نسلم أن الأمر للوجوب فنحمله على الندب جمعًا بينه وبين الأحاديث الآخر سلمنا جميع ذلك، لكن صيغة صلّ خاصة به فإن حملت عليه وعلى أمته وجب إدخال الجميع، فلما دل الدليل على إخراج بعضهم كما زعمتم كان ذلك قادحًا في القياس قاله البساطي. من القسطلاني. واختلف فيمن يخاطب بصلاة العيد فمشهور مذهب مالك: ليس ذلك إلا على من تجب عليه الجمعة وهو قول الليث وأكثر أهل العلم فيما حكاه ابن بطال. وقال ربيعة: كانوا يرون الفرسخ وهو ثلاثة أميال. وقال الأوزاعي: من آواه الليل إلى أهله فعليه الجمعة والعيد. وقال ابن القاسم وأشهب: إن شاء من لا تلزمهم الجمعة أن يصلوها بإمام فعلوا ولكن لا خطبة، فإن خطب فحسن. وقوله: "ولا نسك له" استدل به من اشترط تقدم الذبح من الإمام بعد صلاته وخطبته؛ لأن قوله: "من ذبحَ قبلَ أن يصلِّي فليذبح مكانها أخرى" إنما صدر منه بعد صلاته وخطبته وذبحه فكأنه قال: من ذبح قبل فعل هذه الأمور فليعد أي: فلا يعتد بما ذبحه، وهذا هو قول مالك. واختلف أصحابه في الإمام الذي لا يجوز أن يضحى قبل تضحيته فقيل هو أمير المؤمنين، وقيل هو الإِمام الذي يصلي بالناس صلاة العيد. وعند الشافعية إن أول وقت الأضحية قدر فراغ الصلاة والخطبة وإنما شرطوا فراغ الخطيب؛

لأن الخطبتين مقصودتان مع الصلاة في هذه العبادة فيعتبر مقدار الصلاة والخطبتين على أخف ما يجزىء بعد طلوع الشمس، فإذا ذبح بعد ذلك أجزأه الذبح عن الأضحية سواء صلى العيد أم لا، وسواء ذبح الإمام أضحيته أم لا ويستوي في ذلك أهل العصر والحاضر والبادي، وقال الأوزاعي بمثل قول مالك. قال القرطبي: ظواهر الأحاديث تدل على تعليق الذبح بالصلاة، لكن لما رأى الشافعي أن من لا صلاة عيد عليه مخاطب بالتضحية حمل الصلاة على وقتها. وقال أبو حنيفة والليث: "لا ذبح قبل الصلاة، ويجوز بعدها ولو لم يذبح الإمام. وهذا خاص بأهل العصر وأما أهل القرى والبوادي فيدخل وقت الأضحية عندهم إذا طلع الفجر الثاني. وقال مالك: يذبحون إذا نحر أقرب الأئمة إليهم فإن نحروا قبل أجزأهم. وقال عطاء وربيعة: يذبح أهل القرى بعد طلوع الشمس. وقال أحمد وإسحاق: إذا فرغ الإمام من الصلاة جازت الأضحية، وهو وجه للشافعية قوي من حيث الدليل وإن ضعفه بعضهم. ومثله قول الثوري: يجوز بعد صلاة الإمام قبل خطبته وفي أثنائها، ويحتمل أن يكون قوله في بعض روايات حديث البراء، فلا يذبح حتى ينصرف أي من الصلاة كما في الروايات الآخر وأصرح من ذلك ما وقع عند أحمد عن يزيد بن البراء عن أبيه رفعه "إنما الذبح بعد الصلاة". وفي حديث جندب عند مسلم "منْ ذبحَ قبل أن يصلِّيَ فليذبحْ مكانها أخرى". قال ابن دقيق العبد: هذا اللفظ أظهر في اعتبار فعل الصلاة من حيث البراء أي حيث جاء فيه "مَنْ ذبحَ قبلَ الصلاةِ" لكن قال: إن أجريناه على ظاهره اقتضى أن لا تجزىء الأضحية في حق من لم يصل العيد، فإن ذهب إليه أحد فهو أسعد الناس بظاهر هذا الحديث، وإلا وجب الخروج عن هذا الظاهر في هذه الصورة، ويبقى ما عداها في محل البحث وتعقب بأنه قد وقع في "صحيح مسلم" في ش واية أخرى قبل أن يصلي أو نصلي بالشك. قال النووي: الأولى بالياء، والثانية بالنون، وهو شك من الراوي؛ فعلى هذا إذا كان بلفظ يصلي ساوى لفظ حديث البراء في تعليق الحكم بفعل الصلاة. وعند البخاري في حديث جندب في الذبائح بمثل لفظ البراء، وهو خلاف ما يوهمه سياق صاحب "العمدة" فإنه ساقه على لفظ مسلم وهو ظاهر في اعتبار فعل الصلاة، فإن إطلاق لفظ الصلاة وإرادة وقتها خلاف الظاهر، وأظهر من ذلك قوله: "قبل أن نصلي" بالنون وكذا قوله قبل أن ننصرف سواء قلنا من الصلاة أم من الخطبة. وادعى بعض الشافعية أن قوله عليه الصلاة والسلام: "مَنْ ذبَح قبل أنْ يصلِّي فليذبحْ مكانها أخرى" أي: بعد أن يتوجه من مكان هذا القول؛ لأنه خاطب بذلك من حضره فكأنه قال من ذبح قبل فعل هذا من الصلاة والخطبة فليذبح أخرى أي: فلا يعتد بما ذبحه.

وأورد الطحاوي ما أخرجه مسلم عن جابر بلفظ "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى يوم النحر بالمدينة، فتقدم رجال فنحروا وظنوا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد نحر فأمرهم أن يعيدوا". قال ورواه حماد بن سلمة عن جابر بلفظ "أن رجلًا ذبحَ قبلَ أن يصلّي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنهى أن يذبحَ أحدٌ قبلَ الصلاةِ" وصححه ابن حبان، ويشهد لذلك قوله في حديث البراء: "إنّ أوّلَ ما نصنعُ أنْ نبدأ بالصلاةِ ثم نرجعَ فننحرَ" فإنه دال على أن وقت الذبح يدخل بعد فعل الصلاة، ولا يشترط التأخير إلى نحر الإمام، ويؤيده من طريق النظر أن الإمام لو لم ينحر لم يكن ذلك مسقطًا عن الناس مشروعية النحر. ولو أن الإمام نحر قبل أن يصلي لم يجزئه نحره فدل على أنه هو والناس في وقت الأضحية سواء. وقال المهلب: إنما كره الذبح قبل الإمام لئلا يشتغل الناس بالذبح عن الصلاة. وقوله: "شاتك شاة لحم" أي: ليست أضحية بل هو لحم ينتفع به كما في رواية زبيد الآتية في الضحايا، فإنما هو لحم يقدمه لأهله. وفي رواية فراس عند "مسلم" قال: "ذلك شيءٌ عجلتهُ لأهلِكَ". وقد استشكلت الإضافة في قوله: "شاة لحم" وذلك أن الإضافة قسمان: معنوية، ولفظية. فالمعنوية إما مقدرة (بمنْ) كخاتم حديد أو (باللام) كغلام زيد أو (بقي) كضرب اليوم معناه ضرب في اليوم. وأما اللفظية فهي صفة مضافة إلى معمولها كضارب زيد وحسن الوجه ولا يصح شيء من هذه الأقسام الخمسة في شاة لحم. قال الفاكهاني: والذي يظهر لي أن أبا بردة لما اعتقد أن شاته شاة أضحية أوقع -صلى الله عليه وسلم- الجواب قوله: "شاة لحم" موقع قوله: "شاة غير أضحية". وقوله: "فإن عندنا عَنَاقًا"، وفي رواية "عناق لبن" العَناق بفتح العين وتخفيف النون الأنثى من ولد المعز عند أهل اللغة، ولم يصب الداودي في زعمه أن العَناق هي التي استحقت أن تحمل، وأنها تطلق على الذكر والأنثى، وأنه بيّن بقوله لبن أنها أنثى. قال ابن التين: غلط في نقل اللغة وفي تأويل الحديث فإن معنى "عَناق لبن" أنها صغيرة سن ترضع أمها. وعند الطبراني "أن أبا بردة ذبح ذبيحته بسحر فذكر ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال إنما الأضحية ما ذُبحَ بعد الصلاةِ اذهبْ فضحِ. فقال ما عندي إلا جَذَعة مِنَ المعز" الحديث. وقوله: "هي أحب إليّ من شاتين" مرّ الكلام عليه في الحديث الذي قبله. وقوله: "ولن تجزىء عن أحد بعدك" وفي حديث سهل بن أبي حثمة "ليست فيها رخصة لأحد بعدك". وقوله: "تَجزي" بفتح أوله غير مهموز أي: تقضي. يقال جزى عن فلان كذا أي: قضى، ومنه {لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} أي: لا تقضي عنها. قال ابن بري: الفقهاء يقولون لا تُجزىء بالضم والهمز في موضع لا تقضي والصواب بالفتح وترك الهمز، لكن يجوز الضم والهمز بمعنى الكفاية يقال أجزأ عنك، وبنو تميم يقولون البدنة تُجزىء عن سبعة بضم أوله وأهل الحجاز تجزي بفتح أوله وبهما

قرىء {لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} وفي هذا تعقب على من نقل الاتفاق على منع ضم أوله. وفي هذا الحديث تخصيص أبي بردة بإجزاء الجذع من المعز في الأضحية عنه، لكن وقع في عدة أحاديث التصريح بنظير ذلك لغير أبي بردة ففي حديث عقبة بن عامر المخرج عند المصنف في الضحايا زيادة، ولا رخصة فيها لأحد بعدك. قال البيهقي: "إن كانت هذه الزيادة محفوظة كان هذا رخصة لعقبة كما رخص لأبي بردة، وفي هذا الجمع نظر؛ لأن في كل منهما صيغة عموم فأيهما تقدم على الآخر اقتضى انتفاء الوقوع للثاني وأقرب ما يقال فيه إن ذلك صدر لكل منهما في وقت واحد أو تكون خصوصية الأول فسخت بثبوت الخصوصية للثاني، ولا مانع من ذلك؛ لأنه لم يقع في السياق استمرار المنع لغيره صريحًا. وقد انفصل ابن التين وتبعه القرطبي عن هذا الإشكال باحتمال أن يكون العتود المذكور في حديث عاقبة كان كبير السنن بحيث يجزىء، لكنه قال ذلك بناء على أن الزيادة التي في آخره لم تقع له، لا يتم مراده عمر وجودها مع مصادمته لقول أهل اللغة في العتود، وتمسك بعض المتأخرين بكلام ابن التين فضعف الزيادة وليس بجيد فإنها خارجة من مخرج الصحيح، فإنها عند البيهقي عن عبد الله البوشنجي أحد الأئمة الكبار في الحفظ والفقه وسائر فنون العلم رواها عن يحيى بن بكير عن الليث بالسند الذي شاقه البخاري، ولكن وقع الحديث في المتفق للجوزقي عن يحيى بن بكير، وليست الزيادة فيه فهذا هو السر في قول البيهقي إن كانت محفوظة فكأنه لما رأى التفرد خشي أن يكون دخل على راويها حديث في حديث. وفي كلام بعضهم أن الذين ثبتت لهم الرخصة أربعة أو خمسة، واستشكل الجمع وليس بمشكل؛ لأن الأحاديث التي ورد فيها ذلك ليس فيها التصريح بالنفي إلا في قصة أبي بردة في "الصحيحين" وفي قصة عاقبة بن عامر في البيهقي، وأما ما عدا ذلك فقد أخرج أبو داود وأحمد، وصححه ابن حبان عن زيد بن خالد "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أعطاه عتودًا جذعًا فقال ضحِ فقلت: إنه جذعٌ أفأضحي به؟ قال: نعم، ضحِ به. فضحيتُ به" لفظ أحمد وفي صحيح ابن حبان وابن ماجه، عن عويمر بن أشاقر "أنه ذبح أضحيته قبل أن يغدو يوم النحر فأمره النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يعيدَ أضحية أخرى". وفي "الطبراني "الأوسط" عن ابن عباس "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أعطى سعد بن أبي وقاص جذعًا من المعز فأمره أن يضحي به". وأخرجه الحاكم عن عائشة وفي سنده ضعف، ولأبي يعلى والحاكم عن أبي هريرة "أن رجلًا قال يا رسولَ الله هذا جذعٌ مِنَ الضأنِ مهزولٌ، وهذا جذعٌ من المعزِ سمينٌ وهو خيرُهما أفأضحي به؟ قال: ضح به فإنَّ لله الخيرَ"، وفي سنده ضعف والحق أنه لا منافاة بين هذه الأحاديث وبين حديثي أبي بردة وعقبة لاحتمال أن يكون ذلك في ابتداء الأمر، ثم تقرر الشرع بأن الجذع من المعز لا يجزىء، وأختص أبو بردة وعقبة بالرخصة في ذلك وإنما قيل هذا؛ لأن بعض الناس قالوا: إن هؤلاء شاركوا عقبة وأبا بردة في ذلك، إنما وقعت في مطلق الإجزاء لا في خصوص منع الغير، ومنهم من

زاد فيهم عويمر بن أشقر وليس في حديثه إلا مطلق الإعادة؛ لكونه ذبح قبل الصلاة. وأما ما أخرجه ابن ماجه عن أبي زيد الأنصاري "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لرجل من الأنصار اذبحها ولن تجزىء جذعةٌ عن أحدٍ بعدك" فهذا يحمل على أنه أبو بردة بن نيار؛ لأنه من الأنصار. وكذا ما أخرجه أبو يعلى والطبراني عن أبي جحيفة "أن رجلًا ذبحَ قبلَ الصلاةِ فقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- لا تجزىء عنكَ. قال إن عندي جَذعةً. قال: تجزىء عنك ولا تجزىء بعد" فلم يثبت الإجزاء لأحد ونفيه عن الغير إلا لأبي بردة وعقبة فإن تعذر الجمع الذي قد مرّ فحديث أبي بردة أصح مخرجًا. قال الفاكهاني: ينبغي النظر في اختصاص أبي بردة بهذا الحكم وكشف السر فيه. وأجاب الماوردي بأن فيه وجهين: أحدهما: أن ذلك كان قبل استقرار الشرع فاستثني. والثاني: أنه علم من طاعته وخلوص نيته ما ميزه عمن سواه. وفي الأول نظر؛ لأنه لو كان سابقًا لامتنع وقوع ذلك لغيره بعد التصريح بعدم الإجزاء لغيره والغرض ثبوت الإجزاء لعدد غيره كما مرّ. قلت الظاهر عندي في الجواب هو أن المرجع في الأحكام إنما هو إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنه قد يخص بعض أمته بحكم ويمنع غيره منه. ولو كان بغير عذر وهذا الحكم متقرر عند العلماء أخذوه من هذا الحديث وغيره، وفي الحديث أن خطابه للواحد يعم جميع المكلفين حتى يظهر دليل الخصوصية؛ لأن السياق يشعر بأن قوله لأبي بردة ضح به أي بالجذع ولو كان يفهم منه تخصيصه بذلك لما احتاج إلى أن يقوله له: "ولن تجزىء عن أحد بعدك" ويحتمل أن يكون قائدة ذلك قطع إلحاق غيره به في الحكم المذكور لا أن ذلك مأخوذ من مجرد اللفظ وهو قوي. وفيه أن الإمام يعلم الناس في خطبة العيد أحكام النحر. وفيه جواز الاكتفاء في الضحية بالشاة الواحدة عن الرجل وعن أهل بيته، وبه قال الجمهور وعن أبي حنيفة والثوري يكره. وقال الخطابي: لا يجوز أن يضحي بشاة واحدة عن اثنين، وادعى نسخ ما دل عليه حديث عائشة الآتي في الضحايا في باب (من ذبح ضحية غيره) وتعقب بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال. قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: وفيه أن العمل وإن وافق نية حسنة لم يصح إلا إذا وقع على وفق الشرع. وفيه جواز أكل اللحم يوم العيد من غير لحم الأضحية لقوله إنما هو لحم قدمه لأهله. وفيه كرم الرب سبحانه وتعالى لكونه شرع لعبيده الأضحية مع ما لهم فيها من الشهوة بالأكل والادخار، ومع ذلك فأثبت لهم الأجر في الذبح، ثم من تصدق أثيب وإلا لم يأثم.

رجاله خمسة

وفيه تأكيد أمر الأضحية وأن المقصود منها طيب اللحم وإيثار الجار على غيره، وأن المفتي إذا ظهرت له من المستفتي أمارة الصدق كان له أن يسهل عليه حتى لو استفتاه اثنان في قضية واحدة جاز أن يفتي كلاً منهما بما يناسب حاله وجواز إخبار المرء عن نفسه بما يستحق به الثناء عليه بقدر الحاجة. رجاله خمسة: وفيه ذكر أبي بردة، وقد مرّ الجميع: مرّ عثمان بن أبي شيبة وجرير ومنصور في الثاني عشر من "العلم"، ومرَّ عامر الشعبي في الثالث من "الإيمان"، ومرّ البراء في الثالث والثلاثين منه، ومرّ أبو بردة في الذي قبله. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، ورواته كلهم كوفيون، وقد مرّ الآن من أخرجه. ثم قال المصنف: باب الخروج إلى المصلى بغير منبر يشير إلى ما ورد في بعض طرق حديث أبي سعيد الذي ساقه في هذا الباب وهو ما أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه عن الأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن أبيه قال: "أخرج مروان المنبر يوم عيد وبدأ بالخطبة قبل الصلاة، فقام إليه رجل فقال: يا مروان خالفت السُّنة" الحديث.

الحديث الثامن

الحديث الثامن حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي زَيْدٌ بن أسلم عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالأَضْحَى إِلَى الْمُصَلَّى، فَأَوَّلُ شَيْءٍ يَبْدَأُ بِهِ الصَّلاَةُ ثُمَّ يَنْصَرِفُ، فَيَقُومُ مُقَابِلَ النَّاسِ، وَالنَّاسُ جُلُوسٌ عَلَى صُفُوفِهِمْ، فَيَعِظُهُمْ وَيُوصِيهِمْ وَيَأْمُرُهُمْ، فَإِنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَقْطَعَ بَعْثًا قَطَعَهُ، أَوْ يَأْمُرَ بِشَيْءٍ أَمَرَ بِهِ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَلَمْ يَزَلِ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى خَرَجْتُ مَعَ مَرْوَانَ وَهْوَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ فِي أَضْحًى أَوْ فِطْرٍ، فَلَمَّا أَتَيْنَا الْمُصَلَّى إِذَا مِنْبَرٌ بَنَاهُ كَثِيرُ بْنُ الصَّلْتِ، فَإِذَا مَرْوَانُ يُرِيدُ أَنْ يَرْتَقِيَهُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ، فَجَبَذْتُ بِثَوْبِهِ فَجَبَذَنِي فَارْتَفَعَ، فَخَطَبَ قَبْلَ الصَّلاَةِ، فَقُلْتُ لَهُ: غَيَّرْتُمْ وَاللَّهِ. فَقَالَ: يا أَبَا سَعِيدٍ، قَدْ ذَهَبَ مَا تَعْلَمُ. فَقُلْتُ مَا أَعْلَمُ وَاللَّهِ خَيْرٌ مِمَّا لاَ أَعْلَمُ. فَقَالَ: إِنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَجْلِسُونَ لَنَا بَعْدَ الصَّلاَةِ فَجَعَلْتُهَا قَبْلَ الصَّلاَةِ". قوله عن أبي سعيد في رواية عبد الرزاق عن عياض قال: "سمعت أبا سعيد"، وكذا أخرجه أبو عوانة عن ابن وهب. وقوله: "إلى المصلى" هو موضع بالمدينة معروف بينه وبين باب المسجد ألف ذراع قاله عمر بن شبة في "أخبار المدينة" عن أبي غسان الكناني صاحب مالك. وقوله: "فيقوم مقابل الناس" في رواية ابن حبان "فينصرفُ إلى الناسِ قائمًا في مُصلاّه". ولابن خزيمة "خطب يوم عيد على رجليه"، وهذا مشعر بأنه لم يكن بالمُصلى في زمانه عليه الصلاة والسلام منبر، ويدل على ذلك قول أبي سعيد "فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان" ومعنى ذلك أن أول من اتخذه مروان. وروى عمر بن شبة عن أبي غسان عن مالك قال: "أول من خطب الناس في المصلى على المنبر عثمان بن عفان كلمهم على منبر من طين بناه كثير من الصلت"، وهذا معضل وما في "الصحيحين" أصح ويحتمل أن يكون عثمان فعل ذلك مرة ثم تركه حتى أعاده مروان، ولم يطلع على ذلك أبو سعيد وإنما اختص كثير بن الصلت ببناء المنبر بالمصلى؛ لأن داره كانت مجاورة

للمصلى إلى آخر ما مرّ في باب (وضوء الصبيان) آخر كتاب "صفة الصلاة" عند حديث ابن عباس. وقوله: "فإن كان يريد ان يقطع بَعْثًا" أي: يخرج طائفة من الجيش إلى جهة من الجهات. وقوله: "خرجت مع مروان" زاد عبد الرزاق "وهو بيني وبين أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري". وقوله: "فجبذته بثوبه" أي: ليبدأ بالصلاة قبل الخطبة على العادة. وقوله: "فقلت له غيرتم والله" صريح في أن أبا سعيد هو الذي أنكر. وعند مسلم عن طارق بن شهاب قال: "أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبْل الصلاة مروان فقام إليه رجل فقال: الصلاة قبل الخطبة. فقال: قد ترك ما هنالك، فقال أبو سعيد أما هذا فقد قضى ما عليه" وهذا ظاهر في أنه غير أبي سعيد، وكذا في رواية رجاء عن أبي سعيد التي تقدمت في أول الباب فيحتمل أن يكون هو أبا مسعود الذي في رواية عبد الرزاق أنه كان معهما، ويحتمل أن تكون القصة تعددت، ويدل على ذلك المغايرة الواقعة بين روايتي عياض ورجاء. ففي رواية عياض أن المنبر بُني بالمُصلى. وفي رواية رجاء "أن مروان أخرج المنبر معه"، فلعل مروان لما أنكروا عليه إخراج المنبر ترك إخراجه بعد وأمر ببنائه من لبن وطين بالمصلى، ولا بعد في أن ينكر عليه تقديم الخطبة على الصلاة مرة بعد أخرى، ويدل على التغاير أيضًا أن إنكار أبي سعيد وقع بينه وبينه، وإنكار الآخر وقع على رؤوس الناس. وقوله: "إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة فجعلتها قبل الصلاة" أي: الخطبة وكون مروان هو أول من جعل الخطبة قبل الصلاة هو الصحيح، فقد مرّ حديث مسلم عن طارق بن شهاب الذي هو صريح في أن مروان هو أول من فعل ذلك. وقيل معاوية رواه عبد الرزاق، وقيل زياد، والظاهر أن مروان وزيادًا فعلا ذلك تبعًا لمعاوية؛ لأن كلًا منهما كان عاملًا له. وقيل بل سبقه إليه عثمان؛ لأنه رأى ناسًا لم يدركوا الصلاة فصار يقدم الخطبة رواه ابن المنذر بإسناد صحيح إلى الحسن البصري وهذه العلة غير التي اعتل بها مروان، فإنه ادعى أنه راعى مصلحتهم باستماع الخطبة لكن قيل إنهم كانوا في زمنه يتعمدون ترك سماع خطبته لما فيها من سب من لا يستحق السب والإِفراط في مدح بعض الناس، فعلى هذا إنما راعى مصلحة نفسه. وأما عثمان فراعى مصلحة الجماعة في إدراكهم الصلاة على أنه يحتمل أن يكون عثمان فعل ذلك أحيانًا بخلاف مروان فواظب على ذلك فنسب إليه. وقيل عمر بن الخطاب رواه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق بسند صحيح، لكن يعارضه حديث ابن عباس المذكور في باب (الخطبة بعد الصلاة) التالي لهذا الباب، وكذا حديث ابن عمر فإن جمع بوقوع ذلك نادرًا وإلا فما في "الصحيحين" أصح واستدل بالحديث على استحباب الخروج إلى الصحراء؛ لأجل صلاة العيد، وأن ذلك أفضل من صلاتها في المسجد لمواظبته عليه الصلاة

رجاله خمسة

والسلام على ذلك مع فضل مسجده، وهذا مذهب الحنفية. وقالت المالكية والحنابلة تسن بالصحراء إلا بمكة فبالمسجد الحرام لكون نظر الكعبة عبادة فيجمع بين العبادتين. وقال الشافعية: فعلها في المسجد الحرام وبيت المقدس أفضل من الصحراء تبعًا للسلف والخلف؛ ولشرفهما ولسهولة حضورهما ولوسعهما وفعلها في سائر المساجد إن اتسعت أو حصل مطر أو نحره كثلج أولى لشرفها ولسهولة الحضور إليها مع وسعها في الأول ومع العذر في الثاني، فلو صلى في الصحراء كان تاركًا للأولى مع الكراهة في الثاني دون الأول وإن ضاقت المساجد ولا عذر، كره فعلها فيها للمشقة بالزحام وخرج إلى الصحراء واستخلف في المسجد من يصلي بالضعفاء كالشيوخ والمرضى ومن معهم من الأقوياء؛ لأن عليًا رضي الله تعالى عنه استخلف أبا مسعود الأنصاري في ذلك رواه الشافعي بإسناد صحيح. من القسطلاني. وفي الحديث من الفوائد: بنيان المنبر، قال ابن المنير: إنما اختاروا أن يكون من اللبن لا من الخشب؛ لكونه يترك في الصحراء في غير حزر فيؤمن عليه النقل بخلاف منبر الخشب. وفيه أن الخطبة على الأرض عن قيام في المصلى أولى من القيام على المنبر، والفرق بينه وبين المسجد أن المصلي يكون بمكان فيه فضاء فيتمكن من رؤيته كل من حضر بخلاف المسجد فإنه يكون في مكان محصور فقد لا يراه بعضهم. وفيه إنكار العالم على الأمراء إذا صنعوا ما يخالف السنة. وفيه حلف العالم على صدق ما يخبر به، والمباحثة في الأحكام، وجواز عمل العامل بخلاف الأولى إذا لم يوافقه الحاكم على الأولى؛ لأن أبا سعيد حضر الخطبة ولم ينصرف، فيستدل به على أن البداءة بالصلاة فيها ليس بشرط في صحتها. قال ابن المنبر: حمل أبو سعيد فعل النبي عليه الصلاة والسلام على التعيين، وحمله مروان على الأولوية، واعتذر عن ترك الأولى بما ذكره من تغير حال الناس فرأى أن المحافظة على أصل السنة وهو إسماع الخطبة أولى من المحافظة على هيئة فيها ليست من شرطها. رجاله خمسة: وفيه ذكر مروان وكثير بن الصلت وقد مرّ الجميع: مرّ سعيد بن أبي مريم في الرابع والأربعين من "العلم" ومرّ محمد بن جعفر وعياض في التاسع من الحيض، ومرّ زيد بن أسلم في الثاني والعشرين من "الإيمان"، ومرّ أبو سعيد في الثاني عشر منه، ومرّ مروان بن الحكم في الرابع والخمسين من "الوضوء"، ومرّ كثير بن الصلت في الثلاثين والمائة من كتاب "صفة الصلاة". ثم

باب المشي والركوب إلى العيد والصلاة قبل الخطبة وبغير أذان ولا إقامة

قال المصنف: باب المشي والركوب إلى العيد والصلاة قبل الخطبة وبغير أذان ولا إقامة في هذه الترجمة ثلاثة أحكام: صفة التوجه إلى الصلاة، وتأخير الخطبة عن الصلاة، وترك النداء فيها. فأما الأخيران فظاهران من أحاديث الباب كما يأتي، وأما الأول فقد اعترض عليه ابن التين فقال ليس فيما ذكره من الأحاديث ما يدل على مشي ولا ركوب، وأجاب ابن التين بأن عدم ذلك مشعر بتسويغ كل منهما وأن لا مزية لأحدهما على الآخر، ولعله أشار بذلك إلى تضعيف ما ورد في الندب إلى المشي. ففي "الترمذي" عن علي قال: "السنة أن يخرج إلى العيد ماشيًا. وفي "ابن ماجه" عن سعد القرظ: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يأتي العيد ماشيًا، وفيه عن أبي رافع نحوه، وأسانيد الثلاثة ضعاف. وقال الشافعي في "الأم" بلغنا عن الزهري قال: "ما ركب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في عيد ولا جنازة". والأحب عند المالكية والشافعية المشي في الذهاب إليها لحديث "إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وأنتم تمشون". ولا بأس بركوب العاجز للعذر؛ وكذا الراجع منها ولو كان قادرًا ما لم يتأذ به أحد لانقضاء العبادة، ويندب أن يرجع في طريق غير الطريق التي ذهب منها.

الحديث التاسع

الحديث التاسع حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسٌ بن عياض عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ. "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُصَلِّي فِي الأَضْحَى وَالْفِطْرِ، ثُمَّ يَخْطُبُ بَعْدَ الصَّلاَةِ". صرح بتقديم الصلاة على الخطبة فهو مطابق للجزء الثاني من الترجمة، ومرَّ الباب الذي قبله أول من قدم الخطبة على الصلاة، ومذهب الشافعية أنه لا يعتد بالخطبة إذا تقدمت على الصلاة فهو كالسنة الراتبة بعد الفريضة إذا قدمها عليها، فلو لم يعد الخطبة لم تلزمه إعادة ولا كفارة. وقالت المالكية: إن كان قريبًا أمر بالإعادة ندبًا أو سنة، وإن بعد فات التدارك. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرّ إبراهيم بن المنذر في الأول من "العلم"، ومرّ نافع في آخر حديث منه، ومرّ أنس بن عياض، وعبيد الله العمري في الرابع عشر من "الوضوء"، ومرَّ ابن عمر في أول كتاب "الإيمان" قبل ذكر حديث منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، وشيخ البخاري من أفراده ورواته لهم مدنيون، وأخرجه مسلم أيضًا.

الحديث العاشر

الحديث العاشر حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى قَالَ: أَخْبَرَنَا هِشَامٌ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "سَمِعْتُهُ يَقُولُ: إِنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- خَرَجَ يَوْمَ الْفِطْرِ، فَبَدَأَ بِالصَّلاَةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ. قَالَ: وَأَخْبَرَنِي عَطَاءٌ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَرْسَلَ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي أَوَّلِ مَا بُويِعَ لَهُ إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُؤَذَّنُ بِالصَّلاَةِ يَوْمَ الْفِطْرِ، إِنَّمَا الْخُطْبَةُ بَعْدَ الصَّلاَةِ. وَأَخْبَرَنِي عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالاَ: لَمْ يَكُنْ يُؤَذَّنُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَلاَ يَوْمَ الأَضْحَى. وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: إِنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَامَ فَبَدَأَ بِالصَّلاَةِ، ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ بَعْدُ، فَلَّمَا فَرَغَ نَبِيُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- نَزَلَ فَأَتَى النِّسَاءَ، فَذَكَّرَهُنَّ وَهْوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى يَدِ بِلاَلٍ، وَبِلاَلٌ بَاسِطٌ ثَوْبَهُ، يُلْقِى فِيهِ النِّسَاءُ صَدَقَةً. قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَتَرَى حَقًّا عَلَى الإِمَامِ الآنَ أَنْ يَأْتِيَ النِّسَاءَ فَيُذَكِّرَهُنَّ حِينَ يَفْرُغُ؟ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ عَلَيْهِمْ، وَمَا لَهُمْ أَنْ لاَ يَفْعَلُوا". قوله: "قال وأخبرني عطاء" إلخ القائل هو ابن جريج في الموضعين، وهو معطوف على الإِسناد المذكور. وقوله: "في أول ما بويع له" أي: لابن الزبير بالخلافة سنة أربع وستين عقب موت يزيد بن معاوية. وقوله: "إنه لم يكن يؤذن بالصلاة يوم الفطر" ذال يؤذن بالفتح مبنيًا للمفعول خبر (كان) واسمها ضمير الشأن، وكذا اسم (إن) المذكورة قبلها. وقوله: "وإنما الخطبة بعد الصلاة" أي: لا قبلها ولغير أبوي ذر والوقت إنما بغير واو. وللمستملي و"أما" بدل "إنما" قيل إنه تصحيف. وأجيب بأنه لا وجه لادعاء تصحيفه ومعناه، وأما الخطبة فتكون بعد الصلاة. وقوله: "وأخبرني عطاء" الخ القائل أخبرني هو ابن جريج أيضًا بالسند المذكور. وقوله: "وعن جابر بن عبد الله" الخ هو معطوف أيضًا مروي بالسند المتقدم. وقوله: "نزل" يشعر بأنه كان يخطب على مكان مرتفع، وقد مرَّ أنه عليه الصلاة والسلام كان يخطب في المصلى

على الأرض. وأجيب باحتمال أن الراوي ضمن النزول معنى الانتقال أي: انتقل. وقوله: "وهو يتوكأ على يد بلال" جملة حالية. قيل يحتمل أن يكون البخاري استنبط من قوله هذا: "وهو يتوكأ" مشروعية الركوب لمن احتاج إليه، وكأنه يقول الأولى المشي حتى يحتاج إلى الركوب. كما خطب النبي -صلى الله عليه وسلم- قائمًا على رجليه فلما تعب من الوقوف توكأ على بلال والجامع بين الركوب والتوكؤ الارتفاق بكل منهما قاله ابن المرابط، وأما عدم الأذان والإقامة فليس في أحاديث الباب ما يدل عليه إلا حديث ابن عباس في ترك الأذان وأحد طريقي جابر، والذي يظهر أنه أشار إلى ما ورد في بعض طرق الأحاديث التي ذكرها. أما حديث ابن عمر ففي رواية النسائي "خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في يوم عيد فصلى بغير أذان ولا إقامة" الحديث. وأما حديث ابن عباس وجابر ففي رواية عطاء عن جابر عند مسلم: "فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة"، وعنده عن جابر أيضًا قال: "لا أذان للصلاة يوم العيد ولا إقامة ولا شيء". وفي رواية يحيى القطان عن ابن جريج عن عطاء أن ابن عباس قال لابن الزبير: "لا تؤذن لها ولا تُقمْ" أخرجه ابن أبي شيبية عنه. ولأبي داود عن ابن عباس "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلّى العيد بلا أذان ولا إقامة" إسناده صحيح. وفي الحديث عن جابر بن سمرة عند مسلم وعن سعد بن أبي وقاص عند البزار وعن البراء عند الطبراني في "الأوسط" وقال مالك في "الموطأ": سمعت غير واحد من علمائنا يقول: لم يكن في الفطر ولا في الأضحى نداء ولا إقامة منذ زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى اليوم وتلك السنة التي لا خلاف فيها عندنا وعرف بهذا توجيه أحاديث الباب ومطابقتها للترجمة. واستدل بقول جابر المار "ولا إقامة ولا شيء" على أنه لا يقال أمام صلاتها شيء من الكلام وهذا هو الذي مرَّ قريبًا عن مالك وهو قوله وقول الجمهور فلا يقال قبلها: الصلاة جامعة ولا الصلاة. وذهب الشافعي إلى طلب ذلك قبلها واحتج بما رواه عن الثقة عن الزهري قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمر المؤذن في العيدين أن يقول الصلاة جامعة". وهذا مرسل يعضده القياس على صلاة الكسوف، لثبوت ذلك فيها كما سيأتي. قال الشافعي: أحب إلى أن يقول الصلاة أو الصلاة جامعة، فإن قال: هلموا إلى الصلاة لم أكرهه وإن قال حيّ على الصلاة أو غيرها من ألفاظ الأذان أو غيرها كرهت له ذلك. واختلف في أول من أحدث الأذان فيها أيضًا فروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن سعيد بن المسيب أنه معاوية، وروى الشافعي عن الثقة عن الزهري مثله، وزاد فأخذ به الحجاج حين أُمر على المدينة. وروى ابن المنذر عن حصين بن عبد الرحمن قال: أول من أحدثه زياد بالبصرة.

رجاله سبعة

وقال الداودي: أول من أحدثه مروان، وكل هذا لا ينافي أن معاوية أحدثه كما مرَّ في البداءة بالخطبة. وقال ابن حبيب: أول من أحدثه هشام، وروى ابن المنذر عن أبي قلابة قال: أول من أحدثه عبد الله بن الزبير. وفي حديث الباب أن ابن عباس أخبره أنه لم يكن يؤذن لها لكن في رواية يحيى القطان أنه لما ساء ما بينهما أذن ابن الزبير وأقام. وقوله: "في حديث جابر قلت لعطاء: أترى حقًا على الإمام الآن أن يأتي النساء" الخ وقوله: "إنه لحق عليهم" ظاهره أن عطاء كان يرى وجوب ذلك، ولهذا قال عياض: لم يقل بذلك غيره. وأما النووي فحمله على الاستحباب وقال: لا مانع من القول به إذا لم تترتب على ذلك مفسدة. رجاله سبعة: وفيه ذكر بلال، وقد مرّ الجميع: مرّت الثلاثة الأُول بهذا النسق في الثالث "من الحيض"، ومرَّ عطاء بن أبي رباح وبلال في التاسع والثلاثين من "العلم"، ومرّجابر في الرابع من "بدء الوحي" وابن عباس في الخامس منه وعبد الله بن الزبير في الثامن والأربعين من "العلم". لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإخبار بالجمع والإفراد والعنعنة والقول والسماع، ورواته بين رازي ويماني ومكي. أخرجه مسلم في "الصلاة" ثم قال المصنف: باب الخطبة بعد الصلاة أي: صلاة العيد، وهذا مما يرجح رواية الذين أسقطوا قوله: "والصلاة قبل الخطبة" من الترجمة التي قبل هذا وهم الأكثر. وقال ابن رشيد: أعاد هذه الترجمة؛ لأنه أراد أن يخص هذا الحكم بترجمة اعتناء به لكونه وقع في التي قبلها بطريق التبع.

الحديث الحادي عشر

الحديث الحادي عشر حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ -رضي الله عنهم- فَكُلُّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ قَبْلَ الْخُطْبَةِ". والحديث صريح فيما ترجم له، وسيأتي في باب "عظة الإِمام النساء" بأتم مما هنا. رجاله خمسة: وفيه ذكر أبي بكر وعمر وعثمان، وقد مرّ الجميع: مرَّ أبو عاصم في أثر بعد الرابع من العلم، ومرّ ابن جريج في الثالث من "الحيض"، ومرَّ حسن بن مسلم في التاسع والعشرين من"الغسل"، ومرَّ طاووس بعد الأربعين من "الوضوء" في باب (من لم يرَ الوضوء إلا من المخرجين)، ومرَّ ابن عباس في الخامس من "بدء الوحي"، وعمر في الأول منه، وأبو بكر في "الوضوء" في باب (من لم يتوضأ من لحم الشاة) بعد الحادي والسبعين منه، وعثمان في تعليق بعد الخامس من "العلم" لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإخبار بالجمع والإفراد والعنعنة والقول، ورواته بين بصري ومكي ويماني. أخرجه البخاري أيضًا في التفسير ومسلم في "الصلاة" وكذا أبو داود. الحديث الثاني عشر حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ -رضي الله عنهما- يُصَلُّونَ الْعِيدَيْنِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ". وهذا أيضًا صريح فيما ترجم له. رجاله خمسة: قد مرّوا، وفيه ذكر أبي بكر وعمر، مرّ يعقوب بن إبراهيم في الثامن من "الإيمان"، ومرّ أبو أسامة في الحادي والعشرين من "العلم"، ومرّ نافع في الأخير منه، ومرَّ عبيد الله العمري في الرابع عشر من "الوضوء"، ومرّ ذكر محل الخلفاء الثلاثة قبله، ومرَّ ابن عمر في أول "الإيمان" قبل ذكر حديث منه. أخرجه مسلم.

الحديث الثالث عشر

الحديث الثالث عشر حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- صَلَّى يَوْمَ الْفِطْرِ رَكْعَتَيْنِ، لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهَا وَلاَ بَعْدَهَا، ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ وَمَعَهُ بِلاَلٌ، فَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ، فَجَعَلْنَ يُلْقِينَ، تُلْقِي الْمَرْأَةُ خُرْصَهَا وَسِخَابَهَا. ومطابقة هذا للترجمة من جهة أن أمره للنساء بالصدقة كان من تتمة الخطبة كما يرشد إلى ذلك حديث جابر الذي في الباب قبله، ويحتمل أن يكون ذكره لتعلقه بصلاة العيدين في الجملة فهو كالتتمة للفائدة. وقوله: "ركعتين" قال ابن بزيزة: انعقد الإِجماع على أن صلاة العيد ركعتان لا أكثر إلا ما روي عن علي في الجامع أربع فإن صليت في المصلى فهي ركعتان كقول الجمهور. وقوله: "لم يصل قبلها ولا بعدها" قد اختلف السلف في حكم ما ذكر في الحديث، فذكر ابن المنذر عن أحمد أنه قال: الكوفيون يصلون بعدها لا قبلها، والبصريون يصلون قبلها لا بعدها، والمدنيون لا قبلها ولا بعدها. وبالأول قال الأوزاعي والثوري والحنفية. في "شرح الهداية" كان محمد بن مقاتل يقول: لا بأس بصلاة الضحى قبل الخروج إلى المصلى وإنما يكره في الجبانة وعامة المشايخ على الكراهة مطلقًا. وبالثاني قال الحسن البصري وجماعة. وبالثالث قال الزهري وابن جريج وأحمد، وأما مالك فكرهه في المصلى مطلقًا وعنه في المسجد روايتان الراجح جوازه مطلقًا. وقال ابن حبيب: هي سبحة ذلك اليوم يقتصر عليها إلى الزوال. وقال الشافعي في "الأم"، ونقله البيهقي عنه في "المعرفة" بعد أن روى حديث ابن عباس حديث الباب ما نصه: وهكذا يجب للإمام أن لا يتنفل قبلها ولا بعدها، وأما المأموم فمخالف له في ذلك. وقال الرافعي: يكره للإمام التنتفل قبل العيد وبعدها، وقيده البويطي بالمصلى، وجرى على ذلك الصيمري فقال: لا بأس بالنافلة قبلها وبعدها مطلقًا إلا للإمام في موضع الصلاة. وأما النووي فقد قال في "شرح مسلم" قال الشافعي وجماعة من السلف: لا كراهة في الصلاة

رجاله خمسة

قبلها ولا بعدها فإن حمل كلامه على المأموم وإلا فهو مخالف لنص الشافعي المذكور، ويؤيد ما في البويطي حديث أبي سعيد "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان لا يصلّي قبل العيد شيئًا فإذا رجع إلى منزله صلى ركعيتن" أخرجه ابن ماجه بإسناد حسن، وقد صححه الحاكم، وبهذا قال إسحاق ونقل بعض المالكية الإجماع على أن الإمام لا يتنفل في المصلى. وقال ابن العربي: التنفل في المصلى لو فعل لنقل، ومن أجازه رأى أنه وقت مطلق للصلاة، ومن تركه رأى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يفعله، ومن اقتدى فقد اهتدى، والحاصل أن صلاة العيد لم تثبت لها سنة قبلها ولا بعدها خلافًا لمن قاسها على الجمعة، وأما مطلق النفل فلم يثبت فيه منع بدليل خاص إلا إن كان ذلك في وقت الكراهة الذي في جميع الأيام. وقوله: "تلقي المرأة خُرصها" بضم المعجمة وحكي كسرها وسكون الراء بعدها صاد مهملة هو الحلقة من الذهب والفضة، وقيل القرط إذا كان بحبة واحدة. وقوله: "وسِخابها" بكسر المهملة ثم معجمة ثم موحدة هو قلادة من عنبر أو قرنفل أو غيره، ولا يكون فيه خرز، وقيل هو خيط فيه خرز، وسمي سِخابًا لصوت خرزه عند الحركة مأخوذ من السَخب وهو اختلاط الأصوات يقال بالصاد والسين. وقد مرّ كثير من مباحث هذا الحديث في باب عظة الإمام النساء من كتاب "العلم". رجاله خمسة: قد مرّوا: مرّ سليمان بن حرب في الرابع عشر من "الإيمان"، ومرّ شعبة في الثالث منه، ومرَّ عدي بن ثابت في الثامن والأربعين منه، ومرَّ سعيد بن جبير وابن عباس في الخامس من "بدء الوحي". أخرجه البخاري أيضًا في "العيدين" وفي "الزكاة". ومسلم في "الصلاة" وكذا أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه.

الحديث الرابع عشر

الحديث الرابع عشر حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا زُبَيْدٌ قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبيَّ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: "قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ، ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا، وَمَنْ نَحَرَ قَبْلَ الصَّلاَةِ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لأَهْلِهِ، لَيْسَ مِنَ النُّسْكِ فِي شَيْءٍ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَبَحْتُ وَعِنْدِي جَذَعَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُسِنَّةٍ. فَقَالَ: اجْعَلْهُ مَكَانَهُ، وَلَنْ تُوفِيَ أَوْ تَجْزِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ". ظاهر هذا الحديث يخالف الترجمة؛ لأن قوله "أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر" مشعر بأن هذا الكلام وقع قبل إيقاع الصلاة فيستلزم تقديم الخطبة على الصلاة بناء على أن هذا الكلام من الخطبة؛ ولأنه عقب الصلاة بالنحر. والجواب أن المراد أنه -صلى الله عليه وسلم- صلى العيد ثم خطب فقال هذا الكلام، وأراد بقوله "إن أول ما نبدأ" به أي: في يوم العيد تقديم الصلاة في أي عيد كان، والتعقيب بـ (ثم) لا يستلزم عدم تخلل أمر آخر بين الأمرين. قال ابن بطال: غلط النسائي فترجم بحديث البراء فقال: باب الخطبة قبل الصلاة. قال: وخفي عليه أن العرب قد تضع الفعل المستقبل مكان الماضي، وكأنه قال عليه الصلاة والسلام: أول ما يكون به الابتداء في هذا اليوم الصلاة التي قدمنا فعلها. قال: وهو مثل قوله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا} أي: إلا الإيمان المتقدم، ويؤيد صحة هذا التأويل رواية محمد بن طلحة الآتية في هذا الحديث بعينه بلفظ "خَرجَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يوم أضحى إلى البقيع، فصلَّى ركعتين، ثم أقبلَ علينا بوجههِ وقال: إنَّ أولَ نُسكِنَا في يومِنا هذا أنْ نبدأ بالصلاةِ ثم نرجعَ فننحر" الحديث فتبين بهذه الرواية أن ذلك الكلام وقع منه بعد الصلاة وقد مرّ هذا الكلام مع مباحث الحديث بالاستيفاء قبل بابين. رجاله خمسة: قد مرّوا وفيه أبو بردة، وقد مرّ آدم وشعبة في الثالث من "الإيمان"، ومرّ زبيد في الحادي والأربعين منه، ومرّ الشعبي في الثالث منه أيضًا، ومرَّ البراء في الثالث والثلاثين، ومرّ أبو بردة بن نيار في السادس من هذا الكتاب، ومرَّ هناك من أخرجه. ثم قال المصنف:

باب ما يكره من حمل السلاح في العيد والحرم

باب ما يكره من حمل السلاح في العيد والحرم هذه الترجمة تخالف في الظاهر الترجمة المتقدمة وهي باب (الحراب والدرق يوم العيد)؛ لأن تلك دائرة بين الإباحة والندب على ما دل عليه حديثها، وهذه دائرة بين الكراهة والتحريم لقول ابن عمر في يوم لا يحل فيه حمل السلاح، ويجمع بينهما يحمل الحالة الأولى على وقوعها ممن حملها بالدربة وعهدت منه السلامة من إيذاء أحد من الناس بها. وحمل الحالة الثانية على وقوعها ممن حملها بطرا وأشرًا، ولم يتحفظ حال حملها وتجريدها من أصابتها أحدًا من الناس ولاسيما عند المزاحمة أو في المسالك الضيقة. ثم قال: وقال الحسن: نهوا أن يحملوا السلاح يوم عيد إلا أن يخافوا عدوًا فيه تقييد لإطلاق قول ابن عمر الآتي أنه لا يحمل، وقد ورد مثله مرفوعًا مقيدًا وغير مقيد فروى عبد الرزاق بإسناد مرسل قال: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يخرج بالسلاح يوم العيد". وروى ابن ماجه بإسناد ضعيف عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى أن يلبس السلاح في بلاد الإِسلام في العيدين إلا أن يكونوا بحضرة العدو". وهذا كله في العيدين، وأما في الحرم فروى مسلم عن أبي الزبير عن جابر قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يحملَ السلاح بمكة". قال في "الفتح" هذا الأثر لم أقف عليه موصولًا إلا أن ابن المنذر روى نحوه عن الحسن والحسن المراد به البصري، وقد مرّ في الرابع والعشرين من الإيمان.

الحديث الخامس عشر

الحديث الخامس عشر حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى أَبُو السُّكَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُوقَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: "كُنْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ حِينَ أَصَابَهُ سِنَانُ الرُّمْحِ فِي أَخْمَصِ قَدَمِهِ، فَلَزِقَتْ قَدَمُهُ بِالرِّكَابِ، فَنَزَلْتُ فَنَزَعْتُهَا وَذَلِكَ بِمِنًى، فَبَلَغَ الْحَجَّاجَ فَجَعَلَ يَعُودُهُ، فَقَالَ الْحَجَّاجُ: لَوْ نَعْلَمُ مَنْ أَصَابَكَ. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَنْتَ أَصَبْتَنِي. قَالَ: وَكَيْفَ؟ قَالَ حَمَلْتَ السِّلاَحَ فِي يَوْمٍ لَمْ يَكُنْ يُحْمَلُ فِيهِ، وَأَدْخَلْتَ السِّلاَحَ الْحَرَمَ وَلَمْ يَكُنِ السِّلاَحُ يُدْخَلُ الْحَرَمَ". قوله: "أخمص قدمه" الأخمص بإسكان الخاء المعجمة وفتح الميم بعدها مهملة باطن القدم وما رق أسفلها، وقيل هو خصر باطنها الذي لا يصيب الأرض عند المشي. وقوله: "بالركاب" أي: وهي في راحلته. وقوله: "فنزعتها" أنث الضمير مع أنه عائد على السنان وهو مذكر؛ لأنه أراد الحديدة ويحتمل أنه راجع على القدم ويكون من باب القلب كما في أدخلت الخف في الرجل. وقوله: "فبلغ الحجاج" أي: ابن يوسف الثقفي، وكان إذ ذاك أميرًا على الحجاز ذلك بعد قتل عبد الله بن الزبير. وقوله: "فجعل يعوده" في رواية المستملي "فجاء" ويؤيده رواية الإِسماعيلي "فأتاه". وجعل من أفعال المقاربة الموضوعة للشروع في العمل، ويعوده خبره. وقوله: "لو نعلم من أصابك" في أبي ذر عن الحموي والمستملي "ما أصابك" وحذف الجواب لدلالة السياق عليه، أو هي للتمني فلا حذف، ويرجح الأول أن ابن سعد أخرجه عن أبي نعيم فقال فيه: "لو نعلم من أصابك عاقبناه" وهو يرجح رواية الأكثر أيضًا. وله من وجه آخر قال: "لو أعلم الذي أصابك لضربت عنقه". وقوله: "أنت أصبتني" فيه نسبة الفعل إلى الأمر بشيء يتسبب منه ذلك الفعل وإن لم يعن الأمر ذلك، لكن حكى الزبير في "الأنصاب": "أن عبد الملك لما كتب إلى الحجاج أن لا يخالف ابن عمر شق عليه فأمر رجلًا معه حربة يقال إنها كانت مسمومة، فلصق ذلك الرجل به فأمر الحربة على قدمه فمرض منها أيامًا ثم مات، وذلك في سنة أربع وسبعين". وفي كتاب "الصريفيني": "لما أنكر عبد الله على الحجاج نصب المنجنيق على الكعبة وقتل عبد الله بن الزبير أمر الحجاج بقتله فضربه رجل من أهل الشام ضربة، فلما أتاه الحجاج يعوده قال

رجاله خمسة

له عبد الله: تقتلني ثم تعودني كفى الله حكمًا بيني وبينك، فصرح بأنه أمر بقتله وأنه قاتله. بخلاف ما حكاه الزبيري فإنه غير صريح، وعلى هذا ففيه نسبة الفعل إلى الأمر به فقط وهو كثير وفي هذه القصة تعقب على المهلب حيث استدل به على سدّ الذرائع؛ لأن ذلك مبني على أن الحجاج لم يقصد ذلك قلت: المهلب بني استدلاله على رواية البخاري التي هي أصح فلا يعترض عليه بما رواه غيره مما لم تثبت عنده صحته. وقولى: "حملت السلاح" أي أمرت بحمله فتبعك أصحابك في حمله. وقوله: "في يوم لم يكن يُحمل فيه" هذا هو موضع الترجمة وهو بالبناء للمجهول وهو مصير من البخاري إلى أن قول الصحابي كان يفعل كذا على البناء لما لم يسَّم فاعله يحكم برفعه. وقوله: "ولم يكن السلاح يُدخل الحرم" بضم المثناة التحتية مبنيا للمفعول أي فخالفت السنة في الزمان والمكان وإنما منع من حمل السلاح في الحرم للأمن الذي جعله الله لجماعة المسلمين فيه، لقوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} وحمل السلاح في المشاهد التي لا يحتاج إلى الحرب فيه مكروه؛ لما يخشى فيها من الأذى والعقر عند تزاحم الناس. وقد قال -صلى الله عليه وسلم- للذي رآه يحمله: "أمسكْ بنصالِها لا تعقرنّ بها مسلمًا" فإن خافوا عدوًا فمباح حملها كما قال الحسن. وقد أباح الله تعالى حمل السلاح في الصلاة عند الخوف. رجاله خمسة: وفيه ذكر الحجاج مرّ منهم زكرياء بن يحيى أبو السكين في الثالث عشر من "الوضوء"، ومرّ سعيد بن جبير في الخامس من "بدء الوحي"، ومرّ ابن عمر في أول "الإيمان" قبل ذكر حديث منه، ومرّ الحجاج بن يوسف في السابع والثلاثين من "مواقيت الصلاة"، ومرّ عبد الرحمن بن محمد المحاربي في الثامن والثلاثين من "العلم" والباقي محمد بن سوقة الغنوي أبو بكر الكوفي العابد. قال محمد بن عبيد: سمعت الثوري يقول حدثني الرضى محمد بن سوقة قال: ولم أسمعه يقول ذلك لعربي ولا لمولى. وقال الثوري: أخرج إليكم كتاب خير رجل بالكوفة، فأخرج كتاب محمد بن سوقة وقال طلحة بن مصرف ما بالكوفة رجلان يزيدان على محمد بن سوقة وعبد الجباربن وائل بن حُجْر، وقال ابن عيينة كان بالكوفة ثلاثة لو قيل لأحدهم إنك تموت غدًا ما كان يقدر أن يزيد في عمله محمد بن سوقة وعمرو بن قيس الملائي وأبو حبان التيمي. قال: وكان محمد بن سوقة لا يحسن أن يعصي الله. وقال العجلي كوفي ثبت، وكان خزازًا جمع من الخز مائة ألف ثم أتى مكة فقال: ما اجتمعت هذه لخير فتصدق بها، وكان صاحب سنة وعبادة وخير كثير في عداد الشيوخ وليس بكثير الحديث. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال النسائي: ثقة مرضي وذكره ابن حبان في "الثقات".

لطائف إسناده

وقال: كان من أهل العبادة والفضل والدين والسخاء. وقال يعقوب بن سفيان: محمد بن سوقة من خيار أهل الكوفة وثقاتهم. وقال الدارقطني: كوفي فاضل ثقة، روى عن أنس وسعيد بن جبير وعبد الله بن دينار وجبير بن مطعم وغيرهم. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، وشيخ البخاري من أفراده، ورواته كلهم كوفيون وفيه رواية التابعي عن التابعي أخرجه البخاري في العيدين أيضًا.

الحديث السادس عشر

الحديث السادس عشر حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَعْقُوبَ قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "دَخَلَ الْحَجَّاجُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ وَأَنَا عِنْدَهُ فَقَالَ: كَيْفَ هُوَ؟ فَقَالَ: صَالِحٌ. فَقَالَ: مَنْ أَصَابَكَ؟ فَقَالَ: أَصَابَنِي مَنْ أَمَرَ بِحَمْلِ السِّلاَحِ فِي يَوْمٍ لاَ يَحِلُّ فِيهِ حَمْلُهُ، يَعْنِي الْحَجَّاجَ". وقوله: "أصابني من أمر" هذا فيه تعريض بالحجاج، ورواية سعيد بن جبير التي قبلها مصرحة بأنه الذي فعل ذلك، وتجمع بينهما بتعدد الواقعة أو السؤال فلعله عرض به أولًا، فلما أعاد عليه السؤال صرح. وقد روى ابن سعد من وجه آخر رجاله لا بأس بهم "أن الحجاج دخل على ابن عمر يعوده لما أصيبت رجله، فقال له: يا أبا عبد الرحمن هل تدري من أصاب رجلك؟ قال: لا. قال: أما والله لو علمت من أصابك لقتلته. قال: فأطرق ابن عمر فجعل لا يكلمه ولا يلتفت إليه، فوثب كالمغضب"، وهذا محمول على أمر ثالث كأنه عرض به ثم عاوده فصرح ثم عاوده فأعرض عنه. وقوله: "يعني الحجاج" أي: بالنصب على المفعول به وفاعله القائل وهو ابن عمر. زاد الإسماعيلي في هذه الطريق قال: لو عرفناه لعاقبناه قال وذلك لأن الناس نفروا عشية ورجل من أصحاب الحجاج عارض حربته، فضرب ظهر قدم ابن عمر فأصبح وهنا منها حتى مات. رجاله أربعة: وفيه ذكر الحجاج مرّت منهم ثلاثة: مرّ محل ابن عمر والحجاج في الذي قبله، ومرّ سعيد بن عمرو بن سعيد في الحادي والعشرين من "الوضوء" والباقي اثنان: الأول: أحمد بن يعقوب المسعدي أبو يعقوب، ويقال أبو عبد الله الكوفي. قال العجلي: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال الحاكم كوفي قديم جليل، وقال أبو زرعة وأبو حاتم أدركناه ولم نكتب عنه، روى عن عبد الرحمن بن الغسيل وإسحاق بن سعيد بن عمرو بن سعيد ويزيد بن المقدام بن شريح، وروى عنه البخاري وهو من قدماء شيوخه ومحمد بن عبد الله بن نمير وأبو سعيد الأشج وغيرهم. مات سنة بضع عشرة ومائتين.

باب التبكير للعيد

الثاني: إسحاق بن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس الأموي السعيدي الكوفي. ذكره ابن حبان في "الثقات" في الطبقة الرابعة. قال أحمد والدارقطني: ليس به بأس. وقال أبو حاتم: وهو أحب إلى من أخيه خالد. وقال النسائي: ثقة. روى عن أبيه وعكرمة بن خالد ويحيى بن الحكم بن أبي العاص، وروى عنه ابن عيينة وأبو داود الطيالسي، ووكيع وغيرهم. مات سنة سبعين ومائة أو ست وسبعين. ثم قال المصنف: باب التبكير للعيد كذا للأكثر بتقديم الموحدة من البكور، وعلى ذلك جرى شارحوه ومن استخرج عليه، وللمستملي التكبير بتقديم الكاف وهو تحريف، ثم قال وقال عبد الله بن بسر: إن كنا فرغنا في هذه الساعة، وذلك حين التسبيح. قوله: "إن كنا فرغنا" إن هذه هي المخففة من الثقيلة، وهذا التعليق وصله أحمد وصرح برفعه وسياقه أتم، أخرجه عن يزيد بن حمير مصغرا قال خرج عبد الله بن بسر صاحب النبي -صلى الله عليه وسلم- مع الناس يوم عيد فطر أو أضحى فأنكر إبطاء الإِمام وقال: "إن كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد فرغنا ساعتنا هذه"، وكذا رواه أبو داود عن أحمد والحاكم عنه أيضًا وصححه. وقوله: "وذلك حين التسبيح" أي وقت صلاة السبحة وهي النافلة، وذلك إذا مضى وقت الكراهة وفي رواية صحيحة للطبراني وذلك حين تسبيح الضحى. قال ابن بطال: أجمع الفقهاء على أن العيد لا تصلى قبل طلوع الشمس ولا عند طلوعها، وإنما تجوز عند جواز النافلة ويعكر عليه إطلاق من أطلق إن أول وقتها عند طلوع الشمس، واختلف هل يمتد وقتها إلى الزوال أم لا. واستدل ابن بطال على المنع بحديث عبد الله بن بسر وليست دلالته على ذلك بظاهرة. قلت: حديث عبد الله بن بسر فيه دلالة على ما قال ابن بطال؛ لأن قوله وذلك حين التسبيح معناه وقت حل النفل، وهو مراد ابن بطال ووقتها عند المالكية والحنفية والحنابلة من ارتفاع الشمس قيد رمح إلى الزوال ووقتها عند الشافعية ما بين طلوع الشمس وزوالها وإن كان فعلها عقب الطلوع مكروهًا؛ لأن مبنى المواقيت على أنه إذا خرج وقت صلاة دخل وقت غيرها وبالعكس، لكن الأفضل إقامتها من ارتفاعها قِيْدَ رمح للاتباع وليخرج وقت الكراهة وللخروج من الخلاف احتج الأولون بفعله عليه الصلاة والسلام ونهيه عن الصلاة وقت طلوع الشمس. وأجابوا عن حديث بسر هذا بأنه أي الإِمام كان قد تأخر عن الوقت، وبأن الأفضل ما عليه الجمهور وهو فعلها بعد الارتفاع قيد رمح، فيكون ذلك الوقت أفضل بالإجماع. واستدلت الشافعية بحديث عبد الله بن بسر هذا حيث قال: "إن كنا قد فرغنا ساعتنا هذه" وذلك حين صلاة التسبيح. ومذهب الشافعية والحنابلة أن المأموم يذهب بعد صلاة الصبح، وأما الإِمام فعند إرادة الإحرام بها للاتباع رواه الشيخان. وقالت المالكية: بعد طلوع الشمس في حق الإِمام والمأموم أما الإِمام

فلفعله عليه الصلاة والسلام، وأما المأموم فلفعل رافع بن خديج وعروة بن الزبير وغيرهما. وهذا التعليق وصله أبو داود وابن ماجه. وعبد الله بن بسر بضم الباء المازني أبو بسر، وقيل أبو صفوان السلمي المازني من مازن بن منصور أخو بني سليم، وقيل من مازن الأنصار. له ولأبويه ولأخويه عطية وصماء صحبة. وروى البخاري في "الصحيح" عن حريز بن عثمان سأله عبد الله بن بسر "رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال كان في عنفقته شعرات بيض". وفي "سنن أبي داود وابن ماجه" عن سليم بن عامر عن عبد الله بن بسر قال: "دخل علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقدمنا له تمراً وزبدًا وكان يحب الزبد والتمر". وفي النسائي عن صفوان بن عمرو عن عبد الله بن بسر قال: "قال أبي لأمي: لو صنعت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- طعامًا" الحديث. وروى مسلم والثلاثة من طريق يزيد بن عمير الرحبي عنه قال: "نزل النبي -صلى الله عليه وسلم- على أبي فقربنا إليه طعامًا". له أحاديث انفرد البخاري بحديث ومسلم بآخر. روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وعن أبيه وأخيه. وقيل عن عمته وروى عنه أبو الزاهرية وخالد بن معدان وصفوان بن عمرو وجرير بن عثمان وغيرهم. مات بالشام وقيل بحمص منه سنة ثمان وثمانين وهو ابن أربع وتسعين وهو آخر من مات بالشام من الصحابة وقال أبو القيم بن سعد: مات سنة ست وتسعين وهو ابن مائة وكذا قال أبو نعيم وساق ما رواه البخاري في "التاريخ الصغير" عن عبد الله بن بسر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: "يعيش هذا الغلام قرنا" فعاش مائة سنة وفي البخاري في "التاريخ" أيضًا قال علي بن عبد الله سمعت سفيان قلت للأحوص أكان أبو أمامة آخر من مات عندكم من الصحابة قال: كان بعده عبد الله بن بسر.

الحديث السابع عشر

الحديث السابع عشر حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ زُبَيْدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: خَطَبَنَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ النَّحْرِ قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا، وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ عَجَّلَهُ لأَهْلِهِ، لَيْسَ مِنَ النُّسُكِ فِي شَيْءٍ. فَقَامَ خَالِي أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أُصَلِّيَ وَعِنْدِى جَذَعَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُسِنَّةٍ. قَالَ: اجْعَلْهَا مَكَانَهَا أَوْ قَالَ: اذْبَحْهَا وَلَنْ تَجْزِيَ جَذَعَةٌ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ. مطابقة هذا الحديث للترجمة من جهة قوله: "إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلِّي" فإنه قال على أنه لا ينبغي الاشتغال فى يوم العيد بشيء غير التأهب للصلاة والخروج إليها، ومن لازمه أن لا يفعل قبلها شيء غيرها فاقتضى ذلك التبكير إليها. وهذا الحديث قد مرّ في باب الأكل يوم النحر، ومرَّ الكلام عليه هناك والاختلاف في متنيهما قليل، ففي حديث هذا الباب "ومنْ ذبح" وهناك "ومن نحر" والفرق بينهما أن المشهور أن النحر في الإبل والذبح في غيرها، وقالوا النحر في اللبب مثل الذبح في الحلق وهنا أطلق النحر على الذبح باعتبار أن كلاً منهما إنهار الدم. رجاله خمسة: وفيه ذكر أبي بردة، وقد مرّ الجميع: مرّ سليمان بن حرب في الرابع عشر من "الإيمان"، ومرَّ شعبة والشعبي في الثالث منه، ومرّ زبيد في الحادي والأربعين منه، والبراء في الثالث والثلاثين منه، ومرّ أبو بردة في السادس من هذا الكتاب. ثم قال المصنف: باب فضل العمل في أيام التشريق أيام التشريق عند أهل اللغة والفقه هي ما بعد يوم النحر، واختلف هل هي ثلاثة أو يومان، لكن ما ذكروه من سبب تسميتها بذلك يقتضي دخول يوم العيد فيها، فقد ذكروا قولين في سبب تسميتها بذلك: قيل لأنهم كانوا يشرقون فيها لحوم الأضاحي يقددونها ويبرزونها للشمس.

وقيل لأنها كلها أيام تشريق لصلاة يوم النحر، فصارت تبعًا ليوم النحر والمعنى أن أيام التشريق سميت بذلك؛ لأن صلاة العيد إنما تصلى بعد أن تشرق الشمس. وقال ابن السكيت: هو من قول الجاهلية أشْرِقْ ثَبِير كيما نُغير ثبير بوزن أمير جبل (بمنى) أي أدخل أيها الجبل في الشروق كي ما نغير، أي ندفع فننحر. ولعلهم أخرجوا يوم العيد منها لشهرته بلقب يخصه وهو يوم العيد، وإلا فهي في الحقيقة تبع له في التسمية كما تبين من كلامهم، ومن ذلك حديث علي "لا جمعة ولا صلاة عيد". قال وكان أبو حنيفة يذهب بالتشريق في هذا إلى التكبير في دبر الصلاة يقول: لا تكبير إلا على أهل الأمصار. قال: وهذا لم نجد أحدًا يعرفه ولا وافقه عليه صاحباه ولا غيرهما. ومن ذلك حديث من ذبح قبل التشريق أي قبل صلاة العيد "فَلْيعِدْ" رواه أبو عبيد من مرسل الشعبي، ورجاله ثقات. وهذا كله يدل على أن يوم العيد من أيام التشريق. ثم قال: وقال ابن عباس: "ويذكروا اسم الله في أيام معلومات أيام العشر" والأيام المعدودات أيام التشريق. كذا لأبي ذر عن الكشميهني بوفاق التلاوة، وفي رواية كريمة وشبويه وقال ابن عباس: "واذكروا الله" إلى آخره وللحموي والمستملي "ويذكروا الله في أيام معدودات" واعترض على الروايتين الأخيرتين بأن التلاوة "ويذكروا اسم الله في أيام معلومات" أو واذكروا الله في أيام معدودات. وأجيب بأنه لم يقصد التلاوة، وإنما حكى كلام ابن عباس وابن عباس أراد تفسير المعلومات والمعدودات. وقد وصله عبد بن حميد عن عمرو بن دينار عنه وفيه الأيام المعدودات أيام التشريق والأيام المعلومات أيام العشر، وروى ابن مردويه عن ابن عباس قال: الأيام المعلومات التي قبل يوم التروية، ويوم التروية ويوم عرفة، والمعدودات أيام التشريق وإسناده صحيح وظاهره إدخال يوم العيد في أيام التشريق. وقد روى ابن أبي شيبة من وجه آخر عن ابن عباس أن المعلومات يوم النحر وثلاثة أيام بعده ورجح الطحاوي هذا لقوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} فإنه مشعر بأن المراد أيام النحر وهذا لا يمنع تسمية أيام العشر معلومات ولا أيام التشريق معدودات، بل تسمية أيام التشريق معدودات متفق عليه لقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ}. وقد قيل إنها إنما سميت معدودات؛ لأنها إذا زيد عليها شيء عد ذلك حصرًا أي في حكم حصر العدد. وعند مالك المعلومات أيام النحر، والأيام المعدودات أيام (مني) وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر، فيوم العيد معلوم غير معدود واليوم الرابع معدود غير معلوم، وهذا هو قول علي وابن عمر، وبهذا قال أبو يوسف ومحمد قيل سميت معدودات لقلتهن، ومعلومات لجزم الناس على علمها؛ لأجل فعل المناسك في الحج.

وعند أبي حنيفة الأيام المعلومات العشر والمعدودات أيام التشريق، وهي ثلاثه أيام بعد يوم النحر. وقد مرّ ابن عباس في الخامس من "بدء الوحي". ثم قال: وكان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبّران ويكبّر الناس بتكبيرهما. وقال الطحاوي: كان مشايخنا يقولون بذلك أي بالتكبير في أيام العشر. وقد اعترض على البخاري في ذكر هذا الأثر في ترجمة العمل في أيام التشريق. وأجاب الكرماني بأن عادته أن يضيف إلى الترجمة ما له بها أدنى ملابسة استطرادًا، والذي يظهر أنه أراد تساوي أيام التشريق بأيام العشر لجامع ما بينهما مما يقع فيها من أعمال الحج، ويدل على ذلك أن أثر أبي هريرة وابن عمر صريح في أيام العشر، والذي بعده في أيام التشريق، وهذا الأثر قال فى"الفتح" لم أره موصولًا عنهما. وقد ذكره البيهقي أيضًا معلقًا عنهما، وكذا البغوي وابن عمر مرّ في أول كتاب "الإِيمان" قبل ذكر حديث منه، ومرّ أبو هريرة في الثاني منه. ثم قال: وكبّر محمد بن علي خلف النافلة ولفظ أبي وهنه فريق عند الدارقطني قال رأيت أبا جعفر محمد بن علي يكبر بمنى في أيام التشريق خلف النوافل. وفي سياق هذا الأثر تعقب على الكرماني حيث جعله يتعلق بتكبير أيام العشر كالذي قبله. قال ابن التين: لم يتابع محمدًا على هذا أحد كذا قال والخلاف ثابت عند المالكية والشافعية هل يختص التكبير الذي بعد الصلاة في العيد بالفرائض أو يعم. واختلف الترجيح عند الشافعية، والراجح عند المالكية الاختصاص. ويأتي استيفاء الكلام على هذا في الباب بعد هذا، وهذا الأثر وصله الدارقطني في "المؤتلف". ومرّ محمد بن علي الباقر في الأربعين من "الوضوء" في باب (من لم يرَ الوضوء إلا من المخرجين).

الحديث الثامن عشر

الحديث الثامن عشر حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: "مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ أَفْضَلَ مِنَ الْعَمَلِ فِي هَذِهِ". قَالُوا: وَلاَ الْجِهَادُ؟ قَالَ: "وَلاَ الْجِهَادُ، إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ". قوله: "عن سليمان" هو الأعمش، وقد رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة فصرح بسماع الأعمش له من مسلم ولفظه عن الأعمش قال: "سمعت مسلمًا"، وهكذا رواه الثوري وأبو معاوية وغيرهما من الحفاظ عن الأعمش. وأخرجه أبو داود عن وكيع عن الأعمش فقال: "عن مسلم ومجاهد وأبي صالح عن ابن عباس". فأما طريق مجاهد فقد رواها أبو عوانة عن موسى بن أبي عائشة عن مجاهد فقال: "عن ابن عمر" بدل "عن ابن عباس". وأما طريق أبي صالح فقد رواها أبو عوانة أيضًا عن موسى بن أعين عن الأعمش فقال: "عن أبي صالح عن أبي هريرة" والمحفوظ في هذا حديث ابن عباس، وفيه اختلاف آخر عن الأعمش رواه أبو إسحاق الفزاري عن الأعمش فقال: "عن أبي وائل عن ابن مسعود" أخرجه الطبراني. وقد وافق الأعمش على روايته له عن مسلم البطين سلمة بن كهيل عن أبي عوانة أيضًا، ورواه عن سعيد بن جبير أيضًا القاسم بن أبي أيوب عند الدارمي وأبو عوانة وأبو جرير السختياني عند أبي عوانة وعدي بن ثابت عند البيهقي، وسيأتي ما في رواياتهم من الفوائد والزوائد. وقوله: "ما العمل في أيام أفضل منه في هذه" كذا لأكثر الرواة بالإبهام. وفي رواية كريمة عن الكشميهني "ما العمل في أيام العشر أفضل من العمل في هذه" وهذا يقتضي نفي أفضلية العمل في أيام العشر على العمل في هذه الأيام إن فسرت بأنها أيام التشريح. وعلى ذلك جرى بعض شراح "البخاري"، وحمله على ذلك ترجمة البخاري المذكورة فزعم أن البخاري فسر الأيام المبهمة في هذا الحديث بأنها أيام التشريق، وفسر العمل بالتكبير، لكونه أورد الآثار المذكورة المتعلقة بالتكبير فقط. وقال ابن أبي جمرة الحديث دال على أن العمل في أيام التشريق أفضل من العمل في غيره.

قال: ولا يعكر على ذلك كونها أيام عيد كما روي عن عائشة ولا ما صح من قوله عليه الصلاة والسلام: "أنها أيام أكل وشرب"، كما رواه مسلم؛ لأن ذلك لا يمنع العمل فيها، بل قد شرع فيها أعلى العبادات وهو ذكر الله تعالى، ولم يمنع فيها منه إلا الصيام. قال وسرّ كون العبادة فيها أفضل من غيرها أن العبادة في أوقات الغفلة فاضلة على غيرها وأيام التشريق أيام غفلة في الغالب، فصار للعابد فيها مزيد فضل على العابد في غيرها كمن قام في جوف الليل وأكثر الناس نيام. وفي أفضلية أيام التشريق نكتة أخرى وهي أنها وقعت فيها محنة الخليل بولده، ثم مَنَّ عليه بالفداء فثبت لها الفضل بذلك، وهو توجيه حسن إلا أن المنقول يخالف والسياق الذي في رواية كريمة شاذ مخالف لما رواه أبو ذر، وهو من الحفاظ عن الكشميهني شيخ كريمة بلفظ "ما العمل في أيام أفضل منه في هذا العشر" وكذا أخرجه أحمد وغيره عن شعبة بالإسناد المذكور، ورواه أبو داود الطيالسي في "مسنده" عن شعبة فقال: "في أيام أفضل منه في عشر ذي الحجة" وكذا رواه الدارمي عن شعبة، وفي رواية وكيع المقدم ذكرها ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام يعني أيام العشر، وكذا رواه ابن ماجه عن أبي معاوية عن الأعمش ورواه الترمذي عن أبي معاوية فقال: من هذه الأيام العشر بدون يعني، وقد ظن قوم أن قوله يعني أيام العشر تصير من بعض رواته لكن ما مرّ عن الطيالسي وغيره ظاهر في أنه من نفس الخبر. وكذا في رواية القاسم بن أبي أيوب بلفظ "ما من عمل أزكى عند الله تعالى ولا أعظم أجرًا من خير يعمله في عشر الأضحى". وفي حديث جابر في "صحيحي" أبي عوانة وابن حبان "ما من أيام أفضل عند الله من أيام عشر ذي الحجة" فظهر أن المراد بالأيام في حديث الباب أيام عشر ذي الحجة، لكنه مشكل على ترجمة البخاري بأيام التشريق ويجاب عنه بأجوبة: أحدها: أن الشيء يشرف بمجاورته للشيء الشريف، وأيام التشريق تقع تلو أيام العشر، وقد ثبتت الفضيلة لأيام العشر بهذا الحديث فثبتت بذلك الفضيلة لأيام التشريق. ثانيها: أن عشر ذي الحجة إنما شرف لوقوع أعمال الحج فيه، وبقية أعمال الحج تقع في أيام التشريق كالرمي والطواف وغير ذلك من تتماته، فصارت مشتركة معها في أصل الفضل؛ ولذلك اشتركت معها في مشروعية التكبير في كل منها، وبهذا تظهر مناسبة إيراد الآثار المذكورة في صدر الترجمة لحديث ابن عباس. ثالثها: أن بعض أيام التشريق هو بعض أيام العشر وهو يوم العيد، وكما أنه خاتمة أيام العشر فهو مفتتح أيام التشريق فهي ثبت لأيام العشر من الفضل شاركتها فيه أيام التشريق؛ لأن يوم العيد بعض كل منهما بل هو رأس كل منها وشريفه وعظيمه وهو يوم الحج الأكبر كما يأتي في الحج. وقوله: "قالوا: ولا الجهاد" في رواية سَلَمَةَ بنِ كُهَيل المذكورة فقال رجل: ولم يوجد في شيء

من طرف هذا الحديث تعيين هذا السائل وعند الإسماعيلي قال ولا الجهاد في سبيل الله مرتين. في رواية سلمة بن كهيل أيضًا حتى أعادها ثلاثًا. ودل سؤالهم هذا على تقرر أفضلية الجهاد عندهم وكأنهم استفادوه من قوله عليه الصلاة والسلام في جواب من سأله عن عمل يعدل الجهاد فقال: "لا أجده". وقوله: "إلا رجل خرج" كذا للأكثر. والتقدير إلا عمل رجل. وللمستملي "إلا من خرج" وقوله: "يخاطر بنفسه" أي: يقصد قهر عدوه ولو أدى ذلك إلى قتل نفسه. وقوله: "فلم يرجع بشيء" أي: فيكون أفضل من العامل في أيام العشر أو مساويًا له. قال ابن بطال: هذا اللفظ يحتمل أمرين أن لا يرجع بشيء من ماله وإن رجع هو، ولا أن يرجع هو ولا ماله بأن يرزقه الله الشهادة. وتعقبه ابن المنير بأن قوله: "فلم يرجع بشيء" يستلزم أن يرجع بنفسه ولابد، وهو تعقب مردود فإن قوله: "فلم يرجع بشيء" نكرة في سياق النفي فتعم ما ذكر. وفي رواية الطيالسي وغُنْدر وغيرهما عن شعبة "فلم يرجع من ذلك بشيء" والحاصل أن نفي الرجوع بالشيء لا يستلزم إثبات الرجوع بغير شيء؛ بل هو على الاحتمال كما قال ابن بطال، ويدل على الثاني وروده بلفظ تقتضيه فعند أبي عوانة عن شعبة بلفظ "إلاَّ من عقر جواده وأهريق دمه"، وعنده في رواية القاسم بن أبي أيوب "إلا من لا يرجع بنفسه ولا ماله". وفي طريق سلمة بن كهيل فقال: "لا إلا أن لا يرجع". وفي حديث جاير "إلا من عفر وجهه في التراب" فظهر بهذه الطرق ترجيح ما رده. وفي الحديث تعظيم قدر الجهاد وتفاوت درجاته، وأن الغاية القصوى فيه بذل النفس لله، ويجمع بين حديث الباب وحديث أبي هريرة الآتي في أول الجهاد "أن رجلًا جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-فقال دُلّني على عملٍ يعدلُ الجهادَ قال: لا أجدهُ قال: هل تستطيعُ إذا خرجَ المجاهدُ أن تدخلَ مسجدَكَ فتقوم ولا تفترُ وتصومَ ولا تفطر؟ قال: ومن يستطيع ذلك" بأن يكون عموم حديث أبي هريرة خص بما دل عليه حديث ابن عباس هذا، ويحتمل أن يكون الفضل الذي في حديث أبي هريرة مخصوصًا بنفسه وماله فلم يرجع بشيء" فمفهومه أن من رجع بذلك لا ينال الفضيلة المذكورة، لكن يشكل عليه ما وقع في حديث أبي هريرة الآخر وتكفل الله للمجاهد في سبيله. ويمكن أن يجاب بأن الفضل المذكور أولًا خاص بمن لم يرجع، ولا يلزم من ذلك أن لا يكون لمن يرجع أجر في الجملة. وقد مرّ استيفاء الكلام على هذا في باب (الجهاد من الإيمان) من كتاب "الإيمان" وأشد مما تقدم في الإشكال ما أخرجه الترمذي وابن ماجه وأحمد وصححه الحاكم عن أبي الدرداء مرفوعًا "ألا أُنبئُكم بخير أعمالِكُم وأزكاها عندَ مليكِكُم وأرفعها في درجاتِكم، وخيرٌ لكم من إنفاقِ الذهب والوَرِقِ، وخيرٌ لكم من أن تلقوا عَدوكم فتضربوا أعناقَهم ويضربوا أعناقكم. قالوا: بلى، قال: ذكرُ اللهِ". فإنه ظاهر في أن الذكر بمجرده أفضل من أبلغ ما يقع للمجاهد وأفضل

من الإِنفاق مع ما في الجهاد والنفقة مع النفع المتعدي، وفيه أيضًا تفضيل بعض الأزمنة على بعض كالأمكنة وفضل أيام عشر ذي الحجة على غيرها من أيام السنة. وتظهر فائدة ذلك فيمن نذر الصيام أو علق عملًا من الأعمال بأفضل الأيام، فلو أفرد يومًا منها تعين يوم عرفة؛ لأنه على الصحيح أفضل أيام العشر المذكور فإن أراد أفضل أيام الأسبوع تعين يوم الجمعة جمعًا بين حديث الباب وبين حديث أبي هريرة مرفوعًا "خيرُ يوم طلعتْ فيه الشمسُ يومُ الجمعةِ" رواه مسلم قاله النووي. وقال الداودي لم يرد عليه السلام أن هذه الأيام خير من يوم الجمعة؛ لأنه قد يكون فيها يوم الجمعة فيلزم تفضيل الشيء على نفسه وتعقب بأن المراد أن كل يوم من أيام العشر أفضل من غيره من أيام السنة سواء كان يوم الجمعة أم لا، ويوم الجمعة فيه أفضل من يوم الجمعة في غيره. لاجتماع الفضلين فيه. واستدل به على فضل صيام عشر ذي الحجة لاندراج الصوم في العمل، واستشكل بتحريم الصوم يوم العيد. وأجيب بأنه محمول على الغالب، ولا يرد على ذلك ما رواه أبو داود وغيره عن عائشة قالت: "ما رأيت رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- صائمًا العشرَ قط" لاحتمال أن يكون ذلك لكونه كان يترك العمل وهو يحب أن يعمله خشية أن يفرض على أمته" كما رواه "الصحيحان" عن عائشة أيضًا والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج ولا يتأتى ذلك في غيره وعلى هذا، فهل يختص الفضل بالحاج أو يعم المقيم فيه احتمال. وقال ابن بطال وغيره: المراد بالعمل في أيام التشريق التكبير فقط؛ لأنه ثبت أنها أيام أكل وشرب وبِعَال وثبت تحريم صومها، وورد فيه إباحة اللهو بالحراب ونحو ذلك، فدل على تفريغها لذلك مع الحض على الذكر أن المشروع منه فيها التكبير فقط، ومن ثم اقتصر المصنف على إيراد الآثار المتعلقة بالتكبير وتعقبه الزين بن المنير بأن العمل إنما يفهم منه عند إطلاق العبادة وهي لا تنافي استيفاء حظ النفس من الأكل وسائر ما ذكر، فإن ذلك لا يستغرق اليوم والليلة. وقال الكرمانيّ: الحث على العمل في أيام التشريق لا ينحصر في التكبير، بل المتبادر إلى الذهن منه أنه المناسك من الرمي وغيره الذي يجتمع مع الأكل والشرب. قال: مع أنه لو حمل على التكبير وحده لم يبق لقول المصنف بعده باب التكبير أيام (مني) معنى، ويكون تكرارًا محضًا. والذي يجتمع مع الأكل والشرب لكل أحد من العبادة هو الذكر المأمور به. وقد فسر بالتكبير كما قال ابن بطال وأما المناسك فمختصة بالحاج وجزمه بأنه تكرار متعقب؛ لأن الترجمة الأولى لفضل التكبير والثانية لمشروعيته وصفته أو أراد تفسير العمل المجمل في الأولى بالتكبير المصرح في الثانية فلا تكرار. وفي رواية ابن عمر من الزيادة في آخره "أكثروا فيهن من التهليل والتحميد". وللبيهقي في الشعب عن عدي بن ثابت عن ابن عباس "فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير"،

رجاله ستة

وهذا يؤيد ما ذهب إليه ابن بطال. وفي رواية عدي من الزيادة "وأن صيام يوم منها يعدل صيام سنة والعمل بسبعمائة ضعف". وللترمذي عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة "يعدل صيام كل يوم منها بصيام سنة وقيام كل ليلة منها بقيام ليلة القدر" لكن إسناده ضعيف، وكذا الإسناد إلى عدي بن ثابت. رجاله ستة: قد مرّوا: مرّ محمد بن عرعرة في الحادي والأربعين من "الإيمان" ومرّ شعبة في الثالث منه، ومرَّ سليمان الأعمش في الخامس والعشرين منه، ومرّ مسلم البطين في الخامس عشر من كتاب "الصلاة"، ومرّ سعيد بن جبير وابن عباس في الخامس من "بدء الوحي". لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة، ورواته بين بصري وبسطامي وكوفيين. أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه في "الصلاة". ثم قال المصنف: باب التكبير أيام مِنى وإذا غدا إلى عرفة أيام (مِنى) أي: يوم العيد والثلاثة بعده. وقوله: "وإذا غدا إلى عرفة" أي: صبح يوم التاسع قال الخطابي: حكمة التكبير في هذه الأيام أن الجاهلية كانوا يذبحون لطواغيتهم فيها فشرع التكبير فيها إشارة إلى تخصيص الذبح له وعلى اسمه عَزَّ وَجَلَّ. ثم قال: "وكان عمر -رضي الله عنه- يكبر في قُبَّتِهِ (بمِنى) فيسمعهُ أهلُ المسجدِ فيكبرونَ ويكبِّرُ أهلُ الأسواقِ حتى ترتجَّ (مِنى) تكبيرًا. وهذا لفظ أبي عبيد ومن طريقه البيهقي، ولفظ سعيد بن منصور "كان عمر يكبر في قبته (بمِنى) ويكبّر أهل المسجد، ويكبّر أهل السوق حتى ترتجّ (مِنى) تكبيرًا" والقبة بضم القاف وتشديد الموحدة من الخيام بيت صغير مستدير، وهو من بيوت العرب. وقوله: "ترتج" بتثقيل الجيم أي تضطرب وتتحرك وهي مبالغة في رفع الأصوات، وهذا التعليق وصله سعيد بن منصور من رواية عبيد بن عمير. وعمر مرّ في الأول من "بدء الوحي". ثم قال: "وكان ابن عمر يكبّر (بمِنى) تلك الأيام وخلفَ الصلوات، وعلى فراشِه وفي فُسْطَاطِهِ وممشاهُ تلك الأيام جميعًا" وفي الفسطاط ست لغات بضم الفاء ويجوز كسرها وهو بطاءين وبتاء بدل الطاء الأولى وبإبدال التاء سينًا وإدغام السين في السين. قال الكرماني: بيت من الشعر. وقال الزمخشري: هو ضرب من الأبنية في السفر دون السرادق وبه سميت المدينة التي فيها مجتمع الناس وكل مدينة فسطاط، ويقال لمصر والبصرة الفسطاط، ويقال الفسطاط الخيمة الكبيرة. وقوله: "تلك الأيام جميعًا" أراد بذلك التأكيد وفي رواية أبي ذر بدون واو على أنها ظرف لما تقدم ذكره، وهذا الأثر وصله ابن المنذر والفاكهاني في أخبار مكة.

وابن عمر مرّ في أول كتاب "الإيمان" قبل ذكر حديث منه. ثم قال: "وكانت ميمونة تكبّرُ يومَ النحر" قال فى "الفتح": لم أقف على أثرها هذا موصولاً. قال العيني: وقد روى البيهقي أيضًا تكبير ميمونة، وقد مرّت ميمونة في الثامن والخمسين من "العلم". ثم قال: "وكان النساءُ يكبّرنَ خلف أبان بن عثمانَ وعمرَ بن عبد العزيز ليالي التشريق مع الرجالِ في المسجدِ". في رواية غير أبي ذر "وكنّ النساء" على اللغة القليلة وأبان المذكور كان أميرًا على المدينة في زمن ابن عم أبيه عبد الملك بن مروان، وحديث أم عطية الآتي في الباب سلفهن في ذلك، وقد اشتملت هذه الآثار على وجود التكبير في تلك الأيام عقب الصلوات وغير ذلك من الأحوال. وفيه اختلاف بين العلماء في مواضع: فمنهم مَنْ قصر التكبير على أعقاب الصلوات. ومنهم مَنْ خص ذلك بالمكتوبات دون النوافل. ومنهم من خصه بالرجال دون النساء وبالجماعة دون المنفرد وبالوقتية دون المقضية وبالمقيم دون المسافر وبساكن المصر دون القرية. وظاهر اختيار البخاري شمول ذلك للجميع، والأثار التي ذكرها تساعده. وللعلماء اختلاف أيضًا في ابتدائه وانتهائه: فقيل من صبح يوم عرفة، وقيل من ظهره، وقيل من عصره، وقيل من صبح يوم النحر، وقيل من ظهره، وقيل في الانتهاء إلى ظهر يوم النحر، وقيل إلى عصره، وقيل إلى ظهر ثانية، وقيل إلى صبح آخر أيام التشريق، وقيل إلى ظهره، وقيل ولم يثبت في شيء من ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- حديث. وأصح ما ورد فيه عن الصحابة قول علي وابن مسعود "أنه من صبح يوم عرفة إلى آخر أيام (مني) " أخرجهما ابن المنذر وغيره. والصحيح من مذهب الشافعية أن استحبابه يعم الصلاة فرضًا ونفلًا ولو جنازة ومنذورة ومقضية في زمن استحبابه لكل مصلٍّ حاج أو غيره مقيم أو مسافر ذكر أو أنثى منفرد أو غيره من صبح عرفهَ إلى عقب عصر آخر أيام التشريق للاتباع رواه الحاكم وصححه لكن ضعفه البيهقي. قال في "المجموع": البيهقي أتقن من شيخه الحاكم وأشد تحريًا، وهذا في غير الحج وعليه العمل كما قال النووي وصححه في "الأذكار". وقال في "الروضة": إنه الأظهر عن المحققين، لكن صحح في "المنهاج" كأصله أن غير الحاج كالحاج يكبر من ظهر يوم النحر إلى صبح آخر أيام التشريق. وخص المالكية استحبابه بالفرائض الحاضرة وهو عندهم من ظهر يوم النحر إلى عقب صبح اليوم الرابع. وقال أبو حنيفة: يجب من صلاة صبح يوم عرفة، وينتهي بعصر يوم النحر.

وقال صاحباه: يختم عقيب صلاة العصر من آخر أيام التشريق وهو عنده واجب على المقيمين بالمصر خلف الفرائض في جماعة مستحبة، فلا يجب على أهل القرى ولا بعد النوافل والوتر ولا على منفرد ونساء إذا صلين في جماعة. وقال صاحباه: يجب على من يصلي المكتوبة مقيمًا كان أو مسافرًا أو نساء؛ لأنه شرع تبعًا لها. وعند الحنابلة، يسن عقب كل فريضة صلاها في جماعة حتى الفائتة في عام ذلك العيد إذا صلّاها جماعة من صلاة فجر عرفة إلى آخر عصر أيام التشريق إلا المحرم، فإنه يكبر من صلاة ظهر النحر إلى آخر أيام التشريق. وأما صفة التكبير، فقال المالكية: "الله أكبر ثلاثًا" وإن قال بعد تكبيرتين "لا إله إلا الله"، ثم تكبيرتين "ولله الحمد" كان حسنًا، وهذا هو مذهب الإمام أحمد ومذهب الحنفية، وقالوا: هذا هو المأثور عن الخليل. وقال الشافعية "يكبر ثلاثًا" نسقًا اتباعًا للخلف والسلف ويزيد "لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد". قال الشافعي: وما زاد من ذكر الله فحسن واستحسن في "الأم" أن تكون زيادته "الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرة وأصيلًا، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، لا إله إلا الله وحده صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله والله أكبر"، وأن يرفع بذلك صوته. وأصح ما ورد في صفته ما أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عن سليمان قال: "كبروا الله الله أكبر الله أكبر كبيرًا" وقد وصل هذا الأثر أبو بكر بن أبي الدنيا في كتاب "العيدين". وقد مرّ عمر بن عبد العزيز في الأثر الأول من كتاب "الإيمان" وأبان هو ابن عثمان بن عفان الأموي أبو سعيد، ويقال أبو عبد الله. قال عمرو بن شعيب: ما رأيت أعلم بحديث ولا فقه منه، وعده يحيى القطان في فقهاء المدينة. وقال العجلي: ثقة من كبار التابعين. وقال ابن سعد: مدني تابعي ثقة وله أحاديث، وكان به صممٌ واضح وأصابه الفالج قبل أن يموت بسنة. وقال مالك: إنه "قد علم أشياء من قضاء أبيه وكان معلم عبد الله بن أبي بكر. أُمه أُم عمرو بنت جندب الدوسية. روى عن أبيه كما صرح به مسلم وزيد بن ثابت وأسامة بن زيد، وروى عنه ابنه عبد الرحمن وعمر بن عبد العزيز والزهري وغيرهم. مات قبل يزيد بن عبد الملك سنة خمس ومائة.

الحديث التاسع عشر

الحديث التاسع عشر حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الثَّقَفِيُّ قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسًا وَنَحْنُ غَادِيَانِ مِنْ (مِنًى) إِلَى (عَرَفَاتٍ) عَنِ التَّلْبِيَةِ كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-؟ قَالَ: "كَانَ يُلَبِّي الْمُلَبِّي لاَ يُنْكَرُ عَلَيْهِ، وَيُكَبِّرُ الْمُكَبِّرُ فَلاَ يُنْكَرُ عَلَيْهِ". قوله: "سألت أنسًا" ولأبي ذر "سألت أنس بن مالك". وقوله: "ونحن غاديان" أي: والحال أنا سائران. وقوله: "فلا ينكر عليه" هذا موضع الجزء الأخير من الترجمة وهو قوله: "وإذا غدا إلى عرفة"، وظاهره أن أنسًا احتج به على جواز التكبير في موضع التلبية، أو المراد أنه يدخل شيئًا من التكبير خلال التلبية لا أنه يترك التلبية بالكلية؛ لأن السنة أن لا يقطع التلبية إلا عند رمي جمرة العقبة عند أبي حنيفة والشافعي. وقال مالك: إذا زالت الشمس من يوم عرفة. وقوله: "يُنكر" مبني للمفعول في الموضعين، وروي بالبناء للفاعل فيهما والضمير فيهما يرجع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقوله: "لا ينكر" الأول بغير فاء، والثاني فلا ينكر بإثباتها. رجاله أربعة: قد مرّوا إلا ابن أبي بكر، مرّ أبو نعيم في الخامس والأربعين من "الإيمان"، ومرّ أنس في السادس منه، ومرّ مالك في الثاني من "بدء الوحي"، ومحمد هو ابن أبي بكر بن عوف بن رياح الثقفي حجازي، ذكره ابن حبان في الثقات وقال النسائي: ثقة. وقال العجلي: مدني تابعي ثقة. روى عن أنس في التهليل والتكبير في الغدو من (مِنى) إلى (عرفات). وروى عنه أبو بكر ابنه وموسى بن عقبة وأخوه محمد بن عقبة وشعبة ومالك وغيرهم. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإفراد والسؤال والقول. أخرجه البخاري في "الحج" أيضًا ومسلم في "المناسك" وكذا النسائي وابن ماجه.

الحديث العشرون

الحديث العشرون حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ عَاصِمٍ عَنْ حَفْصَةَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: "كُنَّا نُؤْمَرُ أَنْ نَخْرُجَ يَوْمَ الْعِيدِ، حَتَّى نُخْرِجَ الْبِكْرَ مِنْ خِدْرِهَا، حَتَّى نُخْرِجَ الْحُيَّضَ فَيَكُنَّ خَلْفَ النَّاسِ، فَيُكَبِّرْنَ بِتَكْبِيرِهِمْ، وَيَدْعُونَ بِدُعَائِهِمْ يَرْجُونَ بَرَكَةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَطُهْرَتَهُ". قوله: "حدثنا عمر بن حفص" كذا في بعض النسخ عن أبي ذر، وكذا لكريمة وأبي الوقت حدثنا محمد غير منسوب، وسقط من رواية ابن شبويه وابن السكن وأبي زيد المروزي وأبي أحمد الجرجاني. وفي رواية الأصيلي عن بعض مشايخه "حدثنا محمد البخاري" فعلى هذا لا واسطة بين البخاري وبين عمر بن حفص فيه، وقد حدث البخاري عنه بالكثير بغير واسطة وربما أدخل بينه وبينه الواسطة أحيانًا، والراجح بسقوط الواسطة بينهما في هذا الإِسناد، وبذلك جزم أبو نعيم في "المستخرج" وفي حاشية بعض النسخ لأبي ذر محمد هذا يشبه أن يكون هو الذهلي. وقوله: "كنا نؤمر" في الرواية الآتية "أمرنا نبينا". وقوله: "حتى نُخرج" بضم النون وحتى للغاية، والتي بعدها للمبالغة. وقوله: "من خِدرها" بكسر المعجمة أي سترها. وفي رواية الكشميهني "من خِدرتها" بالتانيث. وقوله: "فيكبرن بتكبيرهم" هذا هو موضع الترجمة؛ لأن ذلك في يوم العيد وهو من أيام (مِنى) ويلتحق به بقية الأيام لجامع ما بينهما من كونهن أيامًا معدودات. وقد ورد الأمر بالذكر فيهن، وذكر التكبير في حديث أم عطية من هذا الوجه من غرائب الصحيح، وقد أخرجه مسلم أيضًا. وقوله: "وطُهْرته" بضم الطاء المهملة وسكون الهاء لغة في الطهارة، والمراد بها التطهر من الذنوب وهذا الحديث استوفيت مباحثه غاية الاستيفاء في باب شهود الحائض العيدين من كتاب الحيض. رجاله ستة: قد مرّوا إلا شيخ البخاري مرّ عمر بن حفص وأبوه حفص في الثاني عشر من "الغسل"، ومرّ

عاصم الأحول في الخامس والثلاثين من "الوضوء"، ومرّت حفصة بنت سيرين وأم عطية في الثاني والثلاثين منه، وشيخ البخاري محمد غير منسوب والمراد به كما قال الكرماني: محمد بن يحيى بن عبد الله بن خالد بن فارس بن ذويب الذهلي الحافظ أبو عبد الله النيسابوري الإمام. قال محمد بن سهل: كنا عند أحمد بن حنبل فدخل الذهلي فقام إليه أحمد فتعجب الناس منه، ثم قال لبنيه وأصحابه: اذهبوا إلى أبي عبد الله واكتبوا عنه. وقال الجوزجاني: دخلت على أحمد فقال لي: تريد البصرة؟ قلت: نعم، قال: فإذا أتيتها فالزم محمد بن يحيى فليكن سماعك منه فإني ما رأيت خراسانيًا أو قال: ما رأيت أحدًا أعلم بحديث الزهري منه ولا أصح كتابًا منه. وقال محمد بن داود المصيصي: كنا عند أحمد فذكر محمد بن يحيى حديثًا فيه ضعف فقال له أحمد: لا تذكر مثل هذا فخجل، فقال له أحمد: إنما قلت هذا إجلالاً لك يا أبا عبد الله. وقال إبراهيم بن هانىء: سمعت أحمد يقول ما قدم علينا رجل أعلم بحديث الزهري من محمد بن يحيى. قال أبو بكر بن زكرياء: هو عندي أمام في الحديث. وقال عبد الله بن عبد الوهاب الخوارزمي: سألت أحمد عن محمد بن يحيى ومحمد بن رافع فقال: محمد بن يحيى أحفظ ومحمد بن رافع أورع. وقال أبو عمرو المستحلي: سمعت أحمد يقول لو أن محمد بن يحيى عندنا لجعلناه إمامًا في الحديث، وقيل لابن معين: ألا تجمع حديث الزهري؛ فقال كفانا محمد بن يحيى حديث الزهري. وقال زنجويه بن محمد: كنت أسمع مشايخنا يقولون الحديث الذي لا يعرفه محمد بن يحيى لا يُعبأ به. وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: محمد بن يحيى إمام زمانه. قال: وكتب عنه أبي (بالري) وهو ثقة صدوق إمام من أئمة المسلمين سئل أبي عنه فقال: ثقة. وقال النسائي: ثقة مأمون، وقال ابن أبي داود: حدثنا محمد بن يحيى النيسابوري وكان أمير المؤمنين في الحديث، وقال ابن خراش: كان محمد بن يحيى من أئمة العلم. وقال الخطيب: كان أحد الأئمة، وقال أبو عمرو الخفاف: رأيت الذهلي في النوم فقلت: ما فعل بك ربك؟ قال: غفر لي. قال فما فعل علمك؟ قال: كتب بماء الذهب ورفع في عليين. وقال النسائي في مشيخته: ثقة ثبت أحد الأئمة في الحديث. وقال ابن خزيمة: حدثنا محمد بن يحيى الذهلي إمام أهل عصره بلا مدافعة، وقال الذهلي: قال لي علي بن المديني: أنت وارث الزهري.

لطائف إسناده

وقال إبراهيم بن موسى الرازي: من أراد الزهري لم يستغن عن محمد بن يحيى. وقال الدارقطني: من أحب أن يعرف قصور علمه عن علم السلف فلينظر في علل حديث الزهري لمحمد بن يحيى. وكان سعيد بن منصور يقول: حدثني محمد بن يحيى الزهري يعني لشهرته بحديث الزهري. وقال ابن الأخرم: ما أخرجت خراسان مثله. وقال أبو أحمد الفراء: محمد بن يحيى عندنا إمام ثقة مبرز. وقال: فضلك الرازي لم يخطّأ في حديث قط. وقال أبو علي النيسابوري كان أجل من عباس بن عبد العظيم. وقال أحمد بن سيار: كان ثقة، كتب الكثير ودون الكتب. وقال مسلمة: ثقة. وقال صالح جَزْرة: لما خرجت من الري قلت: لفضلك الرازي عمن أكتب، قال: إذا قدمت (نيسابور) فاكتب عن محمد بن يحيى فإنه من قرنه إلى قدمه فائدة. قال: فلما قدمت انتخبت عليه مجلسًا وقرأته عليه فلما فرغت قلت: أفادني الفضل بن عباس حديثًا عنك عند الدراع لأسمعه عن الشيخ. قال: هات، فقلت: حدثكم سعيد بن عامر ثنا شعبة عن عبيد الله بن صبح عن محمد بن سيرين عن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "هذا خالي فليرني امرؤ خاله" فقال: من ينتخب مثل هذه الأصحاب ويقرأ مثل هذه القراءة يعلم أن سعيد بن عامر لا يحدث بمثل هذا. فقال صالح: نعم، حدثكم سعيد بن واصل قال الخطيب: قصد صالح امتحان محمد بن يحيى في هذا الحديث لينظر أيقبل التلقين أم لا فوجده ضابطًا حافظًا. وفي "الزهرة" روى عنه البخاري أربعة وثلاثين حديثًا. روى عن عبد الرحمن بن مهدي ووهب بن جرير وأبي داود الطيالسي ويعقوب بن إبراهيم بن سعد وغيرهم، وروى عنه الجماعة سوى مسلم، ولم يصرح البخاري به بل يقول تارة حدثنا محمد وتارة حدثنا محمد بن عبد الله وتارة محمد بن خالد، وأبو صالح المصري ومحمود بن غيلان وغيرهم. والذهلي في نسبه نسبة إلى ذهل بن شيبان بن ثعلبة بن عكابة قبيلة من بكر بن وائل وفيهم قال الشاعر: لو كنت من مازن لم تستبح إبلي ... بنو اللَّقِيطة من ذُهْل بن شيبانا منهم محمد بن يحيى هذا وأبوه يحيى إماما الحديث (بنيسابور) ومنهم صاحب المذهب الإمام أحمد بن حنبل، وأما القاضي أبو الطاهر الذهلي فسدوسي، وسدوس هو ابن شيبان بن ذهل. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، ورواية تابعية عن صحابية، ورواته نيسابوري وكوفيان

باب الصلاة إلى الحربة

وبصريان قد مرّ أن بقية الستة أخرجوه. ثم قال المصنف: باب الصلاة إلى الحربة زاد الكشميهني "يوم العيد"، وقد تقدمت هذه الترجمة بهذا الحديث دون زيادة الكشميهني في أبواب السترة. الحديث الحادي والعشرون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ تُرْكَزُ الْحَرْبَةُ قُدَّامَهُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالنَّحْرِ ثُمَّ يُصَلِّي. هذا الحديث قد مرّ الكلام عليه في أبواب السترة. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرّ محمد بن بشار في الحادي عشر من "العلم"، ونافع في الأخير منه، وعبد الوهاب الثقفي في التاسع من "الإيمان"، وابن عمر فى أوله قبل ذكر حديث منه، وعبيد الله العمري في الرابع عشر من "الوضوء" ثم قال المصنف:

باب حمل العنزة أو الحربة بين يدي الإمام يوم العيد

باب حمل العنزة أو الحربة بين يدي الإِمام يوم العيد أورد فيه حديث ابن عمر المذكور من وجه آخر وكأنه أفرد له ترجمة ليشعر بمغايرة الحكم؛ لأن الأولى تبين أن سترة المصلي لا يشترط فيها أن تواري جسده، والثانية تثبت مشروعية المشي بين يدي الإمام بآلة من السلاح، ولا يعارض ذلك ما تقدم من النهي عن حمل السلاح يوم العيد؛ لأن ذلك إنما هو عند خشية التأذي به كما مرّ قريبًا. الحديث الثاني والعشرون حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو قَالَ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَغْدُو إِلَى الْمُصَلَّى، وَالْعَنَزَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ، تُحْمَلُ وَتُنْصَبُ بِالْمُصَلَّى بَيْنَ يَدَيْهِ فَيُصَلِّي إِلَيْهَا. وقد صرّح الوليد هنا بتحديث الأوزاعي وبتحديث نافع للأوزاعي فأمن تدليس الوليد وتسويته، وليس للأوزاعي عن نافع عن ابن عمر موصولًا في "الصحيح" غير هذا الحديث، وهذا الحديث مرّ الكلام عليه مستوفى في باب (سترة الإِمام). رجاله خمسة: قد مرّوا: مرّ إبراهيم بن المنذر في الأول من "العلم"، ومرّ الأوزاعي في العشرين منه، ومرّ الوليد بن مسلم في السادس والثلاثين من "مواقيت الصلاة"، ونافع وابن عمر ذكر محلهما في الذي قبله. ثم قال المصنف:

باب خروج النساء والحيض إلى المصلى أى يوم العيد

باب خروج النساء والحُيّض إلى المُصلّى أى يوم العيد الحديث الثالث والعشرون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: أُمِرْنَا أَنْ نُخْرِجَ الْعَوَاتِقَ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ. وَعَنْ أَيُّوبَ عَنْ حَفْصَةَ بِنَحْوِهِ. وَزَادَ فِي حَدِيثِ حَفْصَةَ قَالَ: أَوْ قَالَتِ: الْعَوَاتِقَ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ، وَيَعْتَزِلْنَ الْحُيَّضُ الْمُصَلَّى. قوله: "حدثنا حماد" كذا لكريمة ونسبه الباقون ابن زيد. وقوله: "أَمرنا نبيّنا" -صلى الله عليه وسلم- كذا لأبي ذر عن الحموي والمستملي وللباقين "أمرنا" بالبناء المفعول وحذف لفظ "نبينا". ولمسلم عن حماد "قالت أمرنا" تعني النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي رواية سليمان بن حرب عن حماد عند الإسماعيلي قالت "أمرنا بأَبا" بكسر الموحدة بعدها همزة مفتوحة ثم موحدة ممالة وعلى هذا، فكأنه كان في رواية الحجبي كذلك، لكن بإبدال الهمزة تحتانية فيصير صورتها "بيبا" فكأنها تصحيف فصارت "نبينا" وأضاف إليها بعض الكتاب الصلاة بعد التصحيف. وأما رواية مسلم فكأنها كانت "أمرنا" على البناء كما وقع عند الكشميهني وغيره فأفصح بعض الرواة بتسمية الأمر وإنما قيل ذلك؛ لأن سليمان بن حرب أثبت الناس في حماد بن زيد. وقوله: "وعن أيوب" وهو معطوف على الإسناد المذكور والحاصل أن أيوب حدث به حمادًا عن محمد عن أم عطية وعن حفصة عن أم عطية وعن أيوب عن حفصة عن امرأة تحدث عن امرأة أخرى، وزاد أبو الربيع في رواية حفصة ذكر الجلباب وتبين بذلك أن سياق محمد بن سيرين مغاير لسياق حفصة إسنادًا ومتنًا ولم يصب من حمل إحدى الروايتين على الأخرى. وقد مرّت مباحث هذا الحديث في باب شهود الحائضى العيدين من كتاب "الحيض". رجاله ستة: وقد مرّوا: مرّ عبد الله بن عبد الوهاب في السادس والأربعين من "العلم"، ومرَّ حماد بن زيد في الرابع والعشرين من "الإيمان" وأيوب في التاسع منه، وابن سيرين في الأربعين منه وحفصة بنت سيرين وأم عطية في الثاني والثلاثين من "الوضوء". ثم قال المصنف:

باب خروج الصبيان إلى المصلى

باب خروج الصبيان إلى المُصلّى أي: في الأعياد وإن لم يصلوا قال الزين بن المنير: آثر المصنف في الترجمة قوله: "إلى المصلى" على قوله: "صلاة العيد" ليعم من تتأتى منه الصلاة ومن لا تتأتى. الحديث الرابع والعشرون حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ فِطْرٍ أَوْ أَضْحَى، فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ، ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ، وَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ. قوله: "يوم فطر أو أضحى" شك من الراوي عن ابن عباس، وسيأتي بعد بابين وجه عن ابن عباس الجزم بأنه يوم الفطر، وليس في هذا السياق بيان كونه كان صبيًا حينئذ ليطابق الترجمة، لكن جرى المصنف على عادته في الإشارة إلى ما ورد في بعض طرق الحديث الذي يورده، وسيأتي بعد باب ولولا مكاني من الصغر ما شهدته. وهذا الحديث قد مرّ الكلام عليه عند ذكره آخر أبواب صفة الصلاة في باب وضوء الصبيان. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرّ عمرو بن عباس وعبد الرحمن بن مهدي في الأول من أحاديث "استقبال القبلة"، ومرَّ الثوري في السابع والعشرين من "الإيمان"، ومرَّ عبد الرحمن بن عابس في الثلاثين والمائة من "صفة الصلاة"، ومرَّ ابن عباس في الخامس من "بدء الوحي". لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول والسماع، وشيخ البخاري من أفراده والاثنان الأولان من الرواة بصريان والآخران كوفيان. أخرجه البخاري أيضًا في "العيدين" وفي "الاعتصام"، وأبو داود والنسائي في "الصلاة". ثم قال المصنف:

باب استقبال الإمام الناس في خطبة العيد

باب استقبال الإِمام الناس في خطبة العيد قال الزين بن المنير: ما حاصله: إن إعادة هذه الترجمة بعد أن تقدم نظيرها في الجمعة لرفع احتمال من يتوهم أن العيد يخالف الجمعة في ذلك، وأن استقبال الأمام في الجمعة يكون ضروريًا لكونه يخطب على منبر بخلاف العيد فإنه يخطب على رجليه كما تقدم في باب خطبة العيد فأراد أن يبيّن أن الاستقبال سنة على كل حال. ثم قال: قال أبو سعيد: "قام النبي -صلى الله عليه وسلم- مقابل الناس" وهذا وصله البخاري في باب الخروج إلى المصلى بغير منبر قبل عشرة أبواب، وأبو سعيد مرّ في الثاني عشر من "الإيمان". الحديث الخامس والعشرون حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ عَنْ زُبَيْدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ خَرَجَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ أَضْحًى إِلَى الْبَقِيعِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ وَقَالَ إِنَّ أَوَّلَ نُسُكِنَا فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نَبْدَأَ بِالصَّلاَةِ، ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ وَافَقَ سُنَّتَنَا، وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ عَجَّلَهُ لأَهْلِهِ، لَيْسَ مِنَ النُّسُكِ فِي شَيْءٍ. فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي ذَبَحْتُ وَعِنْدِي جَذَعَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُسِنَّةٍ. قَالَ اذْبَحْهَا، وَلاَ تَفِي عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ. وهذا الحديث قد مرّ الكلام عليه مستوفى في باب (الأكل يوم النحر). رجاله خمسة: قد مرّوا إلاَّ محمد بن طلحة، مرّ أبو نعيم في الخامس والأربعين من "الإيمان"، ومرَّ زبيد في الحادي والأربعين منه، ومرَّ الشعبي في الثالث منه، ومرّ البراء في الثالث والثلاثين منه. ومحمد بن طلحة بن مُصَرّف باسم الفاعل مع تشديد الراء اليامي الكوفي قال بشر بن الوليد: كان سيدًا كريمًا. وقال العجلي: ثقة إلا أنه سمع من أبيه وهو صغير. وقال ابن سعد: كانت له أحاديث منكرة. قال: وقال عفان: كان يروي عن أبيه وأبوه قديم الموت، وكان الناس كأنهم يكذبونه ولكن من يجترىء أن يقول له أنت تكذب، كان من فضله وكان

وقال أبو داود: كان يخطىء، ووثقه أحمد بن حنبل قال: إلا أنه لا يكاد يقول حدثنا في شيء من حديثه. وقال أبو كامل مظفر بن مدرك: كان يقال ثلاثة يُتقى حديثهم: محمد بن طلحة، وفليح بن سليمان، وأيوب بن عتبة. وقال ابن معين: صالح، وقال مرة: ضعيف، وقال النسائي: ليس بالقوي، قال في "المقدمة" له في البخاري ثلاثة أحاديث: أحدها: في المغازي عنه عن حميد عن أنس قال: غاب عمى عن قتال بدر الحديث وهو عنده بمتابعة عبد الأعلى السامي وغير واحد عن حميد. ثانيهما: في العيدين عنه عن زبيد عن الشعبي عن البراء في الذبح قبل الصلاة وهو عنده بمتابعة شعبة عن زبيد. ثالثها: في الجهاد عنه عن أبيه عن مصعب بن سعد عن أبيه في الانتصار بالضعفاء وهو فرد إلا أنه في فضائل الأعمال، وروى له الباقون روى عن أبيه وحميد الطويل وزبيد اليامي والأعمش وغيرهم، وروى عنه ابنه عبد الرحمن وعبد الرحمن بن مهدي، وإسماعيل بن عياش وأبو داود الطيالسي وغيرهم. مات سنة سبع وستين ومائة. ثم قال المصنف:

باب العلم الذي بالمصلى

باب العَلَم الذي بالمصلّى الحديث السادس والعشرون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَابِسٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ قِيلَ لَهُ: أَشَهِدْتَ الْعِيدَ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ نَعَمْ، وَلَوْلاَ مَكَانِي مِنَ الصِّغَرِ مَا شَهِدْتُهُ، حَتَّى أَتَى الْعَلَمَ الَّذِي عِنْدَ دَارِ كَثِيرِ بْنِ الصَّلْتِ فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ، وَمَعَهُ بِلاَلٌ، فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ، وَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ، فَرَأَيْتُهُنَّ يُهْوِينَ بِأَيْدِيهِنَّ يَقْذِفْنَهُ فِي ثَوْبِ بِلاَلٍ، ثُمَّ انْطَلَقَ هُوَ وَبِلاَلٌ إِلَى بَيْتِهِ. وهذا الحديث مرّ في باب (وضوء الصبيان) آخر أبواب (صفة الصلاة). وقوله: "ومعه بلال" فيه أن الأدب في مخاطبة النساء في الموعظة أو الحكم أن لا يحضر من الرجال إلا من تدعو الحاجة إليه من شاهد ونحوه؛ لأن بلالًا كان خادم النبي -صلى الله عليه وسلم- ومتولي قبض الصدقة. وأما ابن عباس فقد تقدم أن ذلك اغتفر له بسبب صغره. وقوله: "يُهوين" بضم أوله أي يلقين. وقوله: "يقذفنه" أي: يلقين الذي يهوين به. رجاله خمسة: وفيه ذكر كثير بن الصلت، وقد مرّ الجميع. مرّ مسدد ويحيى القطان في السادس من "الإِيمان"، ومرَّ سفيان الثوري في السابع والعشرين منه، ومرَّ عبد الرحمن بن عابس وكثير بن الصلت في الثلاثين والمائة من "صفة الصلاة"، ومرَّ ابن عباس في الخامس من "بدء الوحي". وفي الحديث ذكر بلال وقد مرّ في التاسع والثلاثين من "العلم". ثم قال المصنف:

باب موعظة الإمام النساء يوم العيد إذا لم يسمعن الخطبة مع الرجال

باب موعظة الإمام النساء يوم العيد إذا لم يسمعن الخطبة مع الرجال الحديث السابع والعشرون حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَصْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ قَامَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ الْفِطْرِ، فَصَلَّى فَبَدَأَ بِالصَّلاَةِ ثُمَّ خَطَبَ، فَلَمَّا فَرَغَ نَزَلَ فَأَتَى النِّسَاءَ، فَذَكَّرَهُنَّ وَهْوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى يَدِ بِلاَلٍ وَبِلاَلٌ بَاسِطٌ ثَوْبَهُ، يُلْقِي فِيهِ النِّسَاءُ الصَّدَقَةَ. قُلْتُ لِعَطَاءٍ زَكَاةَ يَوْمِ الْفِطْرِ قَالَ لاَ وَلَكِنْ صَدَقَةً يَتَصَدَّقْنَ حِينَئِذٍ، تُلْقِى فَتَخَهَا وَيُلْقِينَ. قُلْتُ أَتُرَى حَقًّا عَلَى الإِمَامِ ذَلِكَ وَيُذَكِّرُهُنَّ قَالَ إِنَّهُ لَحَقٌّ عَلَيْهِمْ، وَمَا لَهُمْ لاَ يَفْعَلُونَهُ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَأَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: شَهِدْتُ الْفِطْرَ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رضي الله عنهم يُصَلُّونَهَا قَبْلَ الْخُطْبَةِ، ثُمَّ يُخْطَبُ بَعْدُ، خَرَجَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ حِينَ يُجْلِسُ بِيَدِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ يَشُقُّهُمْ حَتَّى جَاءَ النِّسَاءَ مَعَهُ بِلاَلٌ فَقَالَ {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} الآيَةَ ثُمَّ قَالَ حِينَ فَرَغَ مِنْهَا آنْتُنَّ عَلَى ذَلِكَ. قَالَتِ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ لَمْ يُجِبْهُ غَيْرُهَا نَعَمْ. لاَ يَدْرِي حَسَنٌ مَنْ هِيَ. قَالَ فَتَصَدَّقْنَ فَبَسَطَ بِلاَلٌ ثَوْبَهُ ثُمَّ قَالَ هَلُمَّ لَكُنَّ فِدَاءٌ أَبِي وَأُمِّي، فَيُلْقِينَ الْفَتَخَ وَالْخَوَاتِيمَ فِي ثَوْبِ بِلاَلٍ. قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ الْفَتَخُ الْخَوَاتِيمُ الْعِظَامُ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وقوله: "فلما فرغ نزل" فيه إشعار بأنه عليه الصلاة والسلام كان يخطب على مكان مرتفع لما يقتضيه قوله: "نزل"، وقد مرّ في باب (الخروج إلى المُصلّى) أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يخطب في المُصلّى على الأرض فلعل الراوي ضمن النزول معنى الانتقال. وزعم عياض أن وعظه للنساء كان في أثناء الخطبة وأن ذلك كان في أول الإِسلام وأنه خاص به -صلى الله عليه وسلم-. وتعقبه النووي بهذه الرواية المصرحة بأن ذلك كان بعد الخطبة وهو قوله: "فلما فرغ أتى النساء". وقوله: "قلت لعطاء" القائل هو ابن جريج وهو موصول بالإسناد المذكور، ودلَّ هذا السؤال على أن ابن جريج فهم من قوله الصدقة أنها صدقة الفطر بقرينة كونها يوم الفطر. وأخذ من قوله: "وبلال باسط ثوبه" لأنه يشعر بأن الذي يلقي فيه شيء يحتاج إلى ضم فهو لائق بصدقة الفطر المقدرة بالكيل، لكن بيّن له عطاء أنها كانت صدقة تطوع وأنها كانت مما لا يجزىء في صدقة

الفطر من خاتم ونحوه. وقوله: "تلقي" أي: المرأة، والمراد جنس النساء؛ لذلك عطف عليه بصيغة الجمع فقال ويلقين أو المعنى تلقي الواحدة وكذلك الباقيات يلقين. وقوله: "فتَخَهَا" بالتحريك آخره خاء معجمة، وللمستملي والحموي "فَتَخَتَها" بتاء التأنيث ويأتي تفسيره عن قريب حذف مفعول يلقين اكتفاء وكرر الفعل المذكور في رواية مسلم إشارة إلى التنويع، وسيأتي في حديث ابن عباس "فيلقين الفَتَخَ والخواتيم". وقوله: "قلت" القائل هو ابن جريج أيضًا والمسؤول هو عطاء. وقوله: "إنه لحق عليهم" ظاهره أن عطاء كان يرى وجوب ذلك؟ ولهذا قال عياض: لم يقل بهذا غيره. وأما النووي فحمله على الاستحباب وقال: لا مانع من القول به إذا لم يترتب على ذاك مفسدة. وقوله: "قال ابن جريج وأخبرني الحسن بن مسلم" هو معطوف على الإِسناد الأول، وقد أفرد مسلم الحديث من طريق عبد الرزاق وساق الثاني قبل الأول فقدم حديث ابن عباس على حديث جابر، وقد تقدم من وجه آخر عن ابن جريج مختصرًا في باب (الخطبة). وقوله: "خرج النبي -صلى الله عليه وسلم-" كذا فيه بغير أداة عطف، وسيأتي في تفسير الممتحنة من وجه آخر عن ابن جريج بلفظ "فنزل نبي الله -صلى الله عليه وسلم-" وكذا المسلم من طريق عبد الرزاق هذه. وقوله: "ثم يُخطبُ" بضم أوله على البناء للمفعول. وقوله: "حين يجلِّس" بتشديد اللام المكسورة وحذف مفعوله، وهو ثابت في رواية مسلم بلفظ "يجلس الرجال بيده" وكأنهم لما انتقل من محل خطبته أرادوا الانصراف فأمرهم بالجلوس حتى يفرغ من حاجته ثم ينصرفوا جميعًا، أو لعلهم أرادوا أن يتبعوه فمنعهم. وقوله: "فقالت امرأة واحدة منهن لم يجبْه غيرها: نعم"، زاد مسلم "يا نبي الله" وفيه دلالة على الاكتفاء في الجواب بنعم وتنزيلها منزلة الإِقرار، وأن جواب الواحد عن الجماعة كاف إذا لم ينكروا ولم يمنع مانع من إنكارهم. وقوله: "لا يدري حسن من هي" حسن هو الراوي له عن طاووس. وفي مسلم وحده "لا يدرى حينئذ" وجزم جمع من الحفاظ بأنه تصحيف، ووجهه النووي بأمر محتمل لكن اتحاد المخرج قال على ترجيح رواية الجماعة، والفرق بين الروايتين أن في رواية الجماعة تعيين الذي لم يدر مَنْ المرأة بخلاف رواية مسلم، ويحتمل أن تكون هذه المرأة هي أسماء بنت يزيد بن السكن؛ لأنها روت أصل هذه القصة في حديث أخرجه البيهقي والطبراني عنها "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرجَ إلى النساءِ وأنا معهنَّ فقال يا معشرَ النساءِ إنكنَّ أكثرُ حطب جهنمَ، فناديتُ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وكنتُ عليه جريئة لمَ

رجاله ثمانية

يا رسول الله؟ قال: لأنكنَّ تُكثرنَ اللعنَ وتكفرَنَ العشيرَ"، فلا يبعد أن تكون هي التي أجابته أولاً بنعم فإن القصة واحدة فلعل بعض الرواة ذكر ما لم يذكره الآخر. وقد روى الطبراني من وجه آخر عن أم سلمة الأنصارية وهي أسماء المذكورة أنها كانت في النسوة اللاتي أخذ عليهن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن لا نشرك بالله شيئًا ولا نسرق" الآية. ويأتي تعريفها قريبًا في السند. وقوله: "قال فتصدقن" هو فعل أمر لهن بالصدقة والفاء سببية أو داخلة على جواب شرط محذوف تقريره إن كنتن على ذلك فتصدقن، ومناسبته للآية من قوله: "ولا يعصينك في معروف" فإن ذلك من جملة المعروف الذي أمرن به. وقوله: "ثم قال هلمّ" القائل هو بلال وهو على اللغة الفصحى في التعبير بها للمفرد والجمع. وقوله: "لكن فدى" بضم الكاف وتشديد النون، وفدى بكسر الفاء والقصر. وقوله: "قال عبد الرزاق الفَتَخ الخواتيم العظام كانت في الجاهلية" لم يذكر عبد الرزاق في أي شيء كانت تلبس، وقد ذكر ثعلب أنهن كن يلبسنها في أصابع الأرجل ولهذا عطف عليها الخواتيم؛ لأنه عند الإطلاق تنصرف إلى ما يلبس في الأيدي، وفي بعض طرقه عند مسلم هنا ذكر الخلاخيل، وحكى في الأصمعي أن الفَتَخ الخواتيم التي لا فصوص لها. فعلى هذا، هو من عطف الأعم على الأخص. وفي الحديث جواز التفدية بالأب والأم وملاطفة العامل على الصدقة بمن يدفعها إليه. وفيه بذل النصيحة والإغلاظ لمن احتيج فيه حقه إلى ذلك، والعناية بذكر ما يحتاج إليه لتلاوة آية الممتحنة، لكونها خاصة بالنساء. وقد تقدمت فوائد هذا الحديث عند ذكره في باب (عظة الإمام النساء) من كتاب "العلم". رجاله ثمانية: وفيه ذكر أبي بكر وعمر وعثمان وبلال، وقد مرّ الجميع وفيه لفظ امرأة مبهمة، مرّ إسحاق بن نصر في تعليق بعد الحادي والعشرين من "العلم"، ومرَّ عطاء بن أبي رباح وبلال في التاسع والثلاثين منه، ومرَّ عثمان في تعليق بعد الخامس منه، ومرَّ ابن جريج في الثالث من الحيض، ومرَّ الحسن بن مسلم في التاسع والعشرين من الغسل، ومرَّ جابر في الرابع من بدء الوحي، وعمر في الأول مه، وعبد الله بن عباس في الخامس منه، وعبد الرزاق في الخامس والثلاثين من "الإيمان"، ومرَّ طاووس في باب (من لم ير الوضوء إلا من المخرجين) بعد الأربعين من "الوضوء"، ومرَّ أبو بكر في باب (من لم يتوضأ من لحم الشاة) بعد الحادي والسبعين منه. والمرأة المبهمة في الحديث نفسه أن الراوي قال لا يدرى من هي، لكن قال في "الفتح"

لطائف إسناده

يحتمل أنها أسماء بنت يزيد بن السكن بن رافع الأنصارية الأوسية ثم الأشهلية، وكانت تعرف بخطيبة النساء؛ لأنها روت أصل هذه القصة في حديث أخرجه البيهقي والطبراني عن شهر بن حوشب عنها "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرجَ إلى النساءِ وأنا معهنَّ فقال: يا معشرَ النساءِ إنكنَّ أكثرَ حطب جهنمَ فناديتُ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وكنتُ عليه جريئة لِمَ يا رسولَ اللهِ؟ قال: لأنكنَّ تكثرنَ اللعنَ وتكفرن العشيرَ" الحديث فلا يبعد أن تكون هي التي أجابته أولًا بنعم، فإن القصة واحدة فلعل بعض الرواة ذكر ما لم يذكره الآخر. وهي بنت عم معاذ بن جبل وكانت تُكنّى أم سلمة روى الترمذي عن شهر بن حوشب قال: حدثتنا أم سلمة الأنصارية قالت: "قالت امرأة من النسوة اللاتي بايعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما هذا المعروف الذي لا ينبغي لنا أن نعصيك فيه" الحديث. وعند أحمد وابن سعد أنها بايعت النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفيه أنه لا يصافح النساء. وروى ابن عبد البر أنها أتت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت إني رسول مَنْ ورائي مِنْ جماعةِ نساءِ المؤمنين كلُّهنَّ يقلنَ بقولي وعلى رأي مثلِ رأي إنّ اللهَ بعثكَ إلى الرجالِ والنساءِ فآمنا بك واتبعناك ونحنُ معشرَ النساءِ مقصوراتٌ مخدراتٌ قواعد بيوتٍ وموضعُ شهواتِ الرجالِ وحاملات أولادِهم، وإنَّ الرجالَ فضلوا بالجماعاتِ وشهودِ الجنائز والجهادِ، وإذا خرجوا للجهاد حفظنا لهم أموالَهم، افنشاركهم يا رسولَ الله؟ فالتفتَ رسول اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بوجههِ إلى أصحابه وقال سمعتُم مقالَ امرأةٍ ما أحسنَ سؤالًا عن دينِها من هذه. قالوا: بلى واللهِ يا رسولَ اللهِ، فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- انصرفي يا أسماءُ وأعلمي من وراءَك من النساءِ أنّ حسن ما تفعلُ إحداكُنَّ لزوجها وطلبَها لرضائه واتباعها لموافقته يعدل كل ما ذكرتِ للرجالِ، فانصرفتْ أسماء وهي تهلّلُ وتكبّرُ استبشارًا بما قال لها رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-". شهدت اليرموك وقتلت يومئذ تسعة من الروم بعمود فسطاطها، وعاشت بعد ذلك دهرًا، لها أحاديث انفرد لها البخاري بحديثين. روى عنها ابن أخيها محمود بن عمرو الأنصاري ومهاجر بن أبي أسلم مولاها وشهر بن حوشب وهو أروى الناس عنها. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإخبار بالجمع والإفراد والعنعنة والسماع والقول، وشيخ البخاري من أفراده ورواته بين بخاري ويماني ومكي وأخرجه البخاري أيضًا في "التفسير" ومسلم في "الصلاة" وكذا أبو داود وابن ماجه. ثم قال المصنف:

باب إذا لم يكن لها جلباب في العيد

باب إذا لم يكن لها جلباب في العيد بكسر الجيم وسكون اللام وموحدتين، وقد تقدم تفسيره في كتاب "الحيض" في باب شهود الحائض العيدين. قال الزين بن المنير: لم يذكر جواب الشرط في الترجمة حوالة على ما ورد في الخبر. الحديث الثامن والعشرون حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ قَالَتْ: كُنَّا نَمْنَعُ جَوَارِيَنَا أَنْ يَخْرُجْنَ يَوْمَ الْعِيدِ، فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ فَنَزَلَتْ قَصْرَ بَنِي خَلَفٍ فَأَتَيْتُهَا فَحَدَّثَتْ أَنَّ زَوْجَ أُخْتِهَا غَزَا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- ثِنْتيْ عَشْرَةَ غَزْوَةً فَكَانَتْ أُخْتُهَا مَعَهُ فِي سِتِّ غَزَوَاتٍ. فَقَالَتْ فَكُنَّا نَقُومُ عَلَى الْمَرْضَى وَنُدَاوِي الْكَلْمَى، فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلَى إِحْدَانَا بَأْسٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا جِلْبَابٌ أَنْ لاَ تَخْرُجَ فَقَالَ لِتُلْبِسْهَا صَاحِبَتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا فَلْيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَتْ حَفْصَةُ فَلَمَّا قَدِمَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ أَتَيْتُهَا، فَسَأَلْتُهَا أَسَمِعْتِ فِي كَذَا وَكَذَا قَالَتْ نَعَمْ، بِأَبِي وَقَلَّمَا ذَكَرَتِ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- إِلاَّ قَالَتْ بِأَبِي قَالَ لِيَخْرُجِ الْعَوَاتِقُ ذَوَاتُ الْخُدُورِ أَوْ قَالَ الْعَوَاتِقُ وَذَوَاتُ الْخُدُورِ شَكَّ أَيُّوبُ وَالْحُيَّضُ، وَيَعْتَزِلُ الْحُيَّضُ الْمُصَلَّى، وَلْيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَتْ فَقُلْتُ لَهَا الْحُيَّضُ قَالَتْ نَعَمْ، أَلَيْسَ الْحَائِضُ تَشْهَدُ عَرَفَاتٍ وَتَشْهَدُ كَذَا وَتَشْهَدُ كَذَا. قوله: قالت نعم بأبا بموحدتين بينهما همزة مفتوحة والثانية خفيفة والحديث قد مرّ استيفاء الكلام عليه في الباب المذكور آنفًا. رجاله خمسة: قد مرّوا وفيه لفظ امرأة مبهمة، قال في "الفتح": لم أقف على اسمها. مرّ أبو معمر وعبد الوارث في السابع عشر من "العلم" وأيوب في التاسع من "الإيمان" وحفصة وأم عطية في الثاني والثلاثين من "الوضوء". ثم قال المصنف:

باب اعتزال الحيض المصلى

باب اعتزال الحُيَّض المُصلَّى مضمون هذه الترجمة بعض ما تضمنه الحديث الذي في الباب الماضي وكأنه أعاد هذا الحكم للاهتمام به. وقد تقدم مضمومًا إلي الباب المذكور في كتاب "الحيض". الحديث التاسع العشرون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ قَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ: أُمِرْنَا أَنْ نَخْرُجَ فَنُخْرِجَ الْحُيَّضَ وَالْعَوَاتِقَ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ. قَالَ ابْنُ عَوْنٍ: أَوِ الْعَوَاتِقَ ذَوَاتِ الْخُدُورِ، فَأَمَّا الْحُيَّضُ فَيَشْهَدْنَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَدَعْوَتَهُمْ، وَيَعْتَزِلْنَ مُصَلاَّهُمْ. وهذا الحديث قد تقدمت مباحثه مستوفاة عند ذكره في باب (شهود الحائض العيدين). رجاله خمسة: قد مرّوا: مرّ محمد بن المثنى في التاسع من"الإيمان" وابن سيرين في الأربعين منه، وابن أبي عدي في العشرين من "الغسل"، وعبد الله بن عون في التاسع من "العلم"، ومرّ محل أم عطية في الذي قبله. ثم قال المصنف:

باب النحر والذبح بالمصلى يوم النحر

باب النحر والذبح بالمصلى يوم النحر أورد فيه حديث ابن عمر في ذلك قال الزين بن المنير: عطف الذبح على النحر في الترجمة وإن كان حديث الباب ورد (بأو) المقتضية للتردد إشارة إلى أنه لا يمتنع أن يجمع يوم النحر بين تسكين أحدهما مما ينحر والآخر مما يذبح، وليفهم اشتراكهما في الحكم. ويحتمل أنه أشار إلى أنه ورد في بعض طرقه (بواو) الجمع كما سيأتي في كتاب "الأضاحي". الحديث الثلاثون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي كَثِيرُ بْنُ فَرْقَدٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَنْحَرُ أَوْ يَذْبَحُ بِالْمُصَلَّى. قوله: "كان ينحر أو يذبح بالمُصلى" يوم العيد للإعلام؛ ليترتب عليه ذبح الناس؛ ولأن الأضحية من القرب العامة فإظهارها أفضل إحياء لسنتها. قال ابن التين: مذهب مالك أن الإمام يبرز أضحيته للمُصلّى فيذبح هناك، وبالغ بعض أصحابه وهو أبو مصعب فقال: من لم يفعل ذلك لم يُؤْتم به. وقال ابن العربي: قال مالك وأبو حنيفة: لا يذبح حتى يذبح الإمام إن كان ممن يذبح، قال: ولم أر له دليلًا. وأجمعوا على أن الإِمام لو لم يذبح حل الذبح للناس إذا دخل وقت الذبح، فالمدار على الوقت لا الفعل، ومرّ وقت الذبح عند الأئمة في الكلام على حديث البراء. رجاله خمسة: قد مرّوا إلا كثير: مرّ عبد الله بن يوسف في الثاني من "بدء الوحي"، والليث في الثالث منه ونافع في الأخير من "العلم" وابن عمر في أول "الإيمان" قبل ذكر حديث منه، وكثير هو ابن فرقد المدني سكن مصر قال ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح كان من أقران الليث وكان ثبتا. وقال مالك: كان يؤكد لهذا الأمر أربعة بعد ربيعة فذكره فيهم، وذكره ابن حبان في "الثقات" روى عن نافع مولى ابن عمر وعبد الله بن مالك بن حذافة وعبيد بن السابق وغيرهم. وروى عنه عمرو بن الحارث ومالك والليث وغيرهم. أخرجه البخاري أيضًا في "الأضاحي" والنسائي في "الصلاة" وفي "الأضاحي". ثم قال المصنف:

باب كلام الإمام والناس في خطبة العيد وإذا سئل الإمام عن شيء وهو يخطب

باب كلام الإمام والناس في خطبة العيد وإذا سئل الإِمام عن شيء وهو يخطب في هذه الترجمة حكمان، وظن بعضهم أن فيها تكرارًا وليس كذلك بل الأول أعم من الثاني ولم يذكر المصنف الجواب استغناء بما في الحديث. الحديث الحادي والثلاثون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ قَالَ حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ الصَّلاَةِ فَقَالَ مَنْ صَلَّى صَلاَتَنَا وَنَسَكَ نُسْكَنَا فَقَدْ أَصَابَ النُّسُكَ، وَمَنْ نَسَكَ قَبْلَ الصَّلاَةِ فَتِلْكَ شَاةُ لَحْمٍ. فَقَامَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ لَقَدْ نَسَكْتُ قَبْلَ أَنْ أَخْرُجَ إِلَى الصَّلاَةِ، وَعَرَفْتُ أَنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ فَتَعَجَّلْتُ وَأَكَلْتُ وَأَطْعَمْتُ أَهْلِي وَجِيرَانِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- تِلْكَ شَاةُ لَحْمٍ. قَالَ فَإِنَّ عِنْدِي عَنَاقَ جَذَعَةٍ، هِىَ خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ، فَهَلْ تَجْزِي عَنِّي قَالَ نَعَمْ، وَلَنْ تَجْزِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ. وجه مطابقة حديث الباب للترجمة الصادرة بين أبي بردة وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- دالة على الحكم الأول، وسؤال أبي بردة عن حكم العَنَاق قال على الحكم الثاني، والحديث مرّ الكلام عليه في باب (الأكل يوم النحر) مستوفى. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرّ مسدد في السادس من "الإيمان"، ومرّ الشعبي في الثالث منه، ومرَّ البراء في الثالث والثلاثين منه، ومرّ منصور بن المعتمر في الثاني عشر من "العلم"، ومرّ أبو الأحوص في العشرين من "صفة الصلاة"، وقد مرّ هذا الحديث مرارًا ومرّ ما فيه.

الحديث الثاني والثلاثون

الحديث الثاني والثلاثون حَدَّثَنَا حَامِدُ بْنُ عُمَرَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: "إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- صَلَّى يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ خَطَبَ فَأَمَرَ مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاَةِ أَنْ يُعِيدَ ذَبْحَهُ فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جِيرَانٌ لِي إِمَّا قَالَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ، وَإِمَّا قَالَ بِهِمْ فَقْرٌ، وَإِنِّي ذَبَحْتُ قَبْلَ الصَّلاَةِ وَعِنْدِي عَنَاقٌ لِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ. فَرَخَّصَ لَهُ فِيهَا". قوله: "أن يعيد ذبحه" أي: بفتح الذال المعجمة قصد ذَبَحَ، وفي نسخة بكسر الذال: اسم للشيء المذبوح. وقوله: "بهم خصاصة" بالتخفيف جوع. وقوله: "وإما قال فقر" ولأبوي ذر والوقت والأصيلي عن الكشميهني "وإما قال بهم فقر". والحديث مرّ استيفاء الكلام عليه في الباب المذكور آنفًا. رجاله خمسة: قد مرّوا وفيه رجل مبهم، مرّ حماد بن زيد في الرابع والعشرين من "الإيمان"، ومرّ أيوب في التاسع منه، ومرّ محمد بن سيرين في الأربعين منه، وأنس في السادس منه، وحامد هذا مرّ في الحادي الثمانين من "استقبال القبلة"، والرجل المبهم أبو بردة وقد مرّ في السادس من هذا الكتاب.

الحديث الثالث والثلاثون

الحديث الثالث والثلاثون حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ الأَسْوَدِ عَنْ جُنْدَبٍ قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ النَّحْرِ ثُمَّ خَطَبَ، ثُمَّ ذَبَحَ فَقَالَ مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ فَلْيَذْبَحْ أُخْرَى مَكَانَهَا، وَمَنْ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ اللَّهِ. قوله: "وقال من ذبح" هو من جملة الخطبة وليس معطوفًا على قوله: "ثم ذبح"، لئلا يلزم تخلل الذبح بين الخطبة وهذا القول، وليس الواقع ذلك على ما بينه حديث البراء الذي قبله. وقوله: "باسم الله" أي: لله (فالباء) بمعنى (اللام) أو متعلقة بمحذوف أي: بسنة أو تبركًا باسم الله. رجاله أربعة: مرّ منهم مسلم بن إبراهيم في السابع والثلاثين من الإيمان، ومرّ شعبة في الثالث منه. والثالث: الأسود بن قيس العبدي وقيل البجلي أبو قيس الكوفي، قال ابن معين والنسائي: ثقة، وقال العجلي: ثقة حسن الحديث، وقال شريك بن عبد الله النخعي: إن كان لصدوق الحديث عظيم الأمانة مكرمًا للضيف. وقال الفسوي في "تاريخه": كوفي ثقة. وقال أبو حاتم: ثقه. وذكره ابن حبان في "الثقات" فجعله اثنين، فالذي يروي عن جندب جعله في التابعين، والذي يروي عن نبيح ذكر في أتباع التابعين وهذا غلط. روى عن أبيه وثعلبة بن عباد وجندب بن عبد الله البجلي وغيرهم. وروى عنه شعبة والثوري وابن عيينة وشريك وغيرهم. الرابع جندب بضم الجيم وسكون النون وفتح الدال وضمها ابن عبد الله بن سفيان البجلي ثم العلقي وقد ينسب إلى جده، ويقال له جندب الخير وجندب الفاروق وجندب بن أم جندب، وقيل إنه جندب بن خالد بن سفيان والأول أصح سكن الكوفة ثم البصرة قدمها مع مصعب بن الزبير وروى عنه أهل المصرين، وفي الطبراني عن أبي عمران الجوني قال: قال لي جندب؛ كنت على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غلامًا حزورًا. وفي "صحيح مسلم" عن صفوان بن محرز أن جندب بن عبد الله البجلي بعث إلى عسعس بن سلامة زمن فتنة ابن الزبير قال: اجمع لي نفرًا من إخوانك، له ثلاثة وأربعون حديثًا اتفقا على سبعة

لطائف إسناده

وانفرد مسلم بخمسة روى عنه الحسن وابن سيرين وأبو مِجْلَز. مات بعد المائتين، والعَلَقي في نسبه نسبة إلى عَلَقَة بالتحريك بن عَبْقَر بن أنمار بن أراش بن عمرو بن الغوث بطن من بجيلة من ولده جندب هذا. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، ورواته بصري وواسطي وكوفي، أخرجه البخاري أيضًا في "الأضاحي" وفي "النذور" وفي "التوحيد"، ومسلم في "الأضاحي" وفي "القنوت"، وابن ماجه في "الأضاحي". ثم قال المصنف:

باب من خالف الطريق إذا رجع يوم العيد أي التي توجه منها إلى المصلى

باب من خالف الطريق إذا رجع يوم العيد أي التي توجه منها إلى المصلى الحديث الرابع والثلاثون حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نُمَيْلَةَ يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ عَنْ فُلَيْحِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا كَانَ يَوْمُ عِيدٍ خَالَفَ الطَّرِيقَ. قوله: "حدثنا محمد" كذا للأكثر غير منسوب، وفي رواية أبي علي بن السكن "حدثنا محمد بن سلام" وهذا هو المعتمد وفي نسخة من أطراف خلف أنه محمد بن مقاتل، وأبو نميلة قيل إن البخاري ذكره في الضعفاء ولم يوجد ذلك له مع أنه لم ينفرد به كما يأتي، لكن تفرد به شيخه فليح وهو مضعف عند ابن معين والنسائي وأبي داود ووثقه آخرون، فحديثه من قبيل الحسن، لكن له شواهد من حديث ابن عمر وسعد القرظ وأبي رافع وعثمان بن عبيد الله التيمي وغيرهم يعضد بعضها بعضًا. فعلى هذا، فهو من القسم الثاني من قسمي الصحيح. قوله: "إذا كان يوم عيد خالف الطريق" كان تامة أي: إذا وقع، وللإسماعيلي كان "إذا خرج إلى العيد رجع من غير الطريق التي ذهب فيها". قال الترمذي أخذ بهذا بعض أهل العلم فاستحبه للإمام، وبه يقول الشافعي. والذي في "الأم" له أنه يستحب للإمام والمأموم، وبه قال أكثر الشافعية. وقال الرافعي: لم يتعرض في "الوجيز" إلا للإمام وبالتعميم قال أكثر أهل العلم، وهو قول مالك وأبي حنيفة وأحمد من غير فرق بين إمام ومأموم، ومنهم من قال إن علم المعنى وبقيت العلة بقي الحكم وإلا انتفى بانتفائها وإن لم يعلم المعنى بقي الاقتداء. وقال الأكثر: يبقى الحكم ولو انتفت العلة للاقتداء كما في الرَّمَل أي: في الطواف وغيره. وقد اختلف في معنى ذلك على أقوال كثيرة قال القاضي عبد الوهاب المالكي: ذكر في ذلك فوائد بعضها قريب وبعضها دعاوى فارغة، فمن ذلك أنه فعل ذلك ليشهد له الطريقان وقيل سكانهما من الإنس الجن، وقيل ليسوي بينهما في مزية الفضل بمروره وفي التبرك به، أو ليشم رائحة المسك من الطريق التي يمر بها, لأنه كان معروفًا بذلك، وقيل؛ لأن طريقه للمصلَّى كانت على اليمين فلو رجع منها لرجع على جهة الشمال فرجع من غيرها، وهذا يحتاج إلى دليل. وقيل لإظهار شعار الإِسلام فيهما، وقيل لإظهار ذكر الله، وقيل ليغيظ المنافقين أو اليهود. وقيل ليرهبهم بكثرة من معه ورجحه ابن بطال. وقيل حذرًا من كيد الطائفتين أو إحداهما وفيه نظر؛ لأنه لو كان كذلك لم يكرره قاله ابن التين وتعقب بأنه لا يلزم من مواظبته على مخالفة الطريق المواظبة على

رجاله خمسة

طريق منها معين، لكن في رواية الشافعي عن المطلب بن عبد الله بن حنطب مرسلا "أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يغدو يومَ العيد إلى المُصلَّى من الطريق الأعظم ويرجعُ من الطريق الأخرى" وهذا لو ثبت قوي بحث ابن التين، وقيل فعل ذلك ليعمهم في المرور به أو التبرك بمروره وبرؤيته والانتفاع به في قضاء حوائجهم في الاستفتاء أو التعلم والاقتداء والاسترشاد أو الصدقة أو السلام عليهم أو غير ذلك. وقيل ليزور أقاربه الأحياء والأموات، وقيل ليصلَ رحمه، وقيل ليتفاءل بتغير الحالة إلى المغفرة والرضى، وقيل كان في ذهابه يتصدق فإذا رجع لم يبق معه شيء فيرجع في طريق أخرى؛ لئلا يرد من يسأله وهذا ظاهر الفساد ويحتاج إلى دليل، وقيل فعل ذلك لتخفيف الزحام وهذا رجحه أبو حامد وأيده المحب الطبري بما رواه البيهقي في حديث ابن عمر فقال فيه "ليسع الناس" وتعقب بأنه ضعيف وبأن قوله: "ليسع الناس" يحتمل أن يفسر ببركته وفضله وهذا هو الذي رجحه ابن التين. وقيل كان طريقه التي يتوجه منها أبعد من الطريق التي يرجع فيها فأراد تكثير الأجر بتكثير الخُطا في الذهاب وأما في الرجوع فأراد السرعة إلى منزله وهذا اختيار الرافعي وتعقب بأنه يحتاج إلى دليل وبأن أجر الخطى يكتب في الرجوع أيضًا كما ثبت في حديث أبي بن كعب عند الترمذي وغيره، فلو عكس ما قال لكان له اتجاه فيكون سلوك الطريق القريب للمبادرة إلى فعل الطاعة وإدراك فضيلة أول الوقت، وقيل لأن الملائكة تقف في الطرقات فأراد أن يشهد له فريقان منهم وقال ابن أبي جمرة هو في معنى قول يعقوب لبنيه لا تدخلوا من باب واحد فأشار إلى أنه فعل ذلك حذر إصابة العين. وقيل إنه فعل ذلك بجميع ما ذكر من الأشياء المحتملة القريبة. رجاله خمسة: قد مرّوا إلا أبا نُمَيلة، مرّ محمد بن سلام في الثالث عشر من "الإيمان"، وقيل إنه محمد بن مقاتل وقد مرّ في السابع من كتاب "العلم"، مرّ سعيد بن الحارث في الثالث عشر من كتاب "الصلاة"، ومرّ فليح في الأول من "العلم"، ومرّ جابر في الرابع من "بدء الوحي". وأبو نميلة بالتصغير هو يحيى بن واضح الأنصاري مولاهم الحافظ قال ابن سعد والنسائي: ثقة وكذا قال أحمد. وقال صالح جزرة: ثقة في الحديث وكان محمود الرواية. وقال أبو حاتم: ثقة في الحديث أدخله البخاري في الضعفاء فحقه أن يحول من هنا. قال صاحب "الميزان" لم أرَ له في الضعفاء للبخاري ذكرًا وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال العباس بن مصعب المروزي كان أبو نميلة عالمًا بأيام الناس، وقال زنيج عن أبي نميلة كان أبي والمبارك والد عبد الله تاجرين وكانا قد جعلا لنا من حفظ منا قصيدة فله درهم قال أبو غسان فخرجا شاعرين، وقال ابن خراش: صدوق، وقال ابن معين مرة: ثقة ومرة ليس به بأس ومرة لا يحسن شيئًا. روى عن حسين بن واقد وأبي ظبية عبد الله بن مسلم ومحمد بن إسحاق والأوزاعي وغيرهم. وروى عنه أحمد وإسحاق ومحمد بن سلام البيكندي وغيرهم.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول والإخبار بالجمع، ورواته ما بين مروزي ومدني. ثم قال "تابعه يونس بن محمد عن فليح وحديث جابر أصح" كذا عند جمهور رواة البخاري عن الفربري وهو مشكل؛ لأن قوله: "أصح" يباين قوله: "تابعه"؛ لأن المتابعة تقتضي المساواة فكيف تتجه الأصَحِّية الدالة على عدم المساواة. وذكر أبو علي الجياني أنه سقط قوله، وحديث جابر أصح من رواية إبراهيم بن معقل النسفي عن البخاري فلا إِشكال فيها. وفي رواية ابن السكن "تابعه يونس بن محمد عن فليح عن سعيد عن أبي هريرة" وفي هذا توجيه قوله: "أصح" ويبقى الإشكال في قوله: "تابعه" فإنه لم يتابعه بل خالفه، وقد أزال الإشكال أبو نعيم في "المستخرج" فقال: أخرجه البخاري "عن محمد عن أبي نميلة وقال تابعه يونس بن محمد عن فليح"، وقال محمد بن الصلت: "عن فليح عن أبي هريرة" وحديث جابر أصح؛ وبهذا جزم أبو مسعود في "الأطراف" فيكون معنى قوله: "وحديث جابر أصح" أي: من حديث من قال فيه عن أبي هريرة وذكر أبو مسعود أن الهيثم بن جميل رواه عن فليح كما قال ابن الصلت عن أبي هريرة، والذي يغلب على الظن أن الاختلاف فيه من فليح فلعل شيخه سمعه من جابر ومن أبي هريرة، ويقوي هذا اختلاف اللفظين، وقد رجح البخاري أنه عن جابر وخالفه أبو مسعود والبيهقي فرجحا أنه عن أبي هريرة. قال في "الفتح" ولم يظهر لي في ذلك ترجيح. وهذه المتابعة وصلها الإسماعيلي من طريق ابن أبي شيبة، ورجالها قد مرّوا: مرّ محل سعد وفليح في الذي قبله، ومرّ يونس بن محمد في الرابع والعشرين من "الوضوء"، ومرّ أبو هريرة في الثاني من "الإيمان". ثم قال المصنف:

باب إذا فاته العيد يصلي ركعتين وكذلك النساء

باب إذا فاته العيد يصلّي ركعتين وكذلك النساء ومن كان في البيوت والقرى لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- "هذا عيدنا أهل الإِسلام". قوله: "فاته العيد"، أي: مع الإمام، وفي هذه الترجمة حكمان: مشروعية استدراك صلاة العيد إذا فاتت مع الجماعة سواء كانت بالاضطرار أو بالاختيار. والثاني كونها تقضى ركعتين كأصلها. وخالف في الأول جماعة منهم المزني فقال: لا تقضى أصلًا، وعند الحنفية كما في قاضيخان إذا تركها بغير عذر لا يقضيها أصلًا وبعذر يقضيها في اليوم الثاني في وقتها، وبه قال الأوزاعي والثوري وأحمد وإسحاق. قال ابن المنذر وبه أقول فإن تركها في اليوم الثاني بعذر أو بغير عذر لا يصليها وقال الشافعي من فاتته صلاة العيد يصلي وحده كما يصلي مع الإمام، وهذا بناء عنده على أن المنفرد يصلي صلاة العيد. وقال السروجي للشافعي قولان: الأصح قضاؤها. وأما الوجه الثاني فقالت طائفة إذا فاتت صلاة العيد يصلي ركعتين وهو قول مالك والشافعي وأبي ثور إلا أن مالكًا استحب له ذلك من غير إيجاب. وقال أحمد والثوري إن صلى وحده صلى أربعًا ولهما في ذلك سلف. قال ابن مسعود: مَنْ فاته العيد مع الإِمام فليصل أربعًا أخرجه سعيد بن منصور بإسناد صحيح. وقال إسحاق: إن صلاّهما في الجماعة فركعتين، وإلا فأربعًا. قال الزين بن المنير: كأنهم قاسوها على الجمعة لكن الفرق ظاهر؛ لأن من فاتته الجمعة يعود لفرضه من الظهر بخلاف العيد. وقال أبو حنيفة يتخير بين القضاء والترك وبين الثنتين والأربع. وقوله: "وكذلك النساء" أي اللاتي لم يحضرن المُصلَّى مع الإمام يصلين صلاة العيد. وقوله: "ومن كان في البيوت" أي وكذلك يصلي العيد من كان في البيوت من الذين لا يحضرون المُصلّى. وقوله: "والقرى" أي: وكذلك يصلي العيد من كان في القرى وكأنه يشير إلى مخالفة ما روي عن علي: "لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع" وقد تقدم في فضل العمل في أيام التشريق عن الزهري ليس على المسافر صلاة عيد. ووجه مخالفته كون عموم الحديث المذكور يخالف ذلك. وقوله: "لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا عيدنا أهل الإِسلام" قال في "الفتح" هذا الحديث لم أره هكذا وإنما

أوله في حديث في قصة المغنيتين، وقد تقدم في ثالث الترجمة من كتاب "العيد" بلفظ "إنَّ لكلِّ قوم عيدًا وهذا عيدُنا" وأما باقيه فلعله مأخوذ من حديث عقبة بن عامر مرفوعًا "أيامُ (مني) عيدُنا أهلَ الإِسلام" وهو في "السنن" وصححه ابن خزيمة. وقوله: "أهل الإِسلام" بالنصب على أنه منادى مضاف حذف منه حرف النداء أو بإضمار أعني أو أخص، وجوز فيه الجر على أنه بدل من الضمير في عيدنا، قيل وجه الدلالة منه على الترجمة أن قوله هذا إشارة إلى الركعتين وعمم بأهل من كان مع الإِمام أو لم يكن كالنساء وأهل القرى وغيرهم. ثم قال: "وأمر أنس بن مالك مولاهُمُ ابنَ أبي عتبة بالزاوية فجمعَ أهله وبنيه وصلَّى كصلاة أهل المصر وتكبيرهم". قوله: "مولاهم" في رواية "مولاه". وقوله: "ابن أبي عتبة" بضم المهملة وسكون التاء المثناة للأكثر، ولأبي ذر بالمعجمة والنون بعدها تحتانية مثقلة. وقوله: "بالزاوية" أي: بالزاي موضع على فرسخين من البصرة كان به لأنس قصر وأرض وكان يقيم هناك كثيرًا، وكانت بالزاوية وقعة عظيمة بين الحجاج وابن الأشعث. وقوله: "وصلى" أي: بهم وهذا وصله ابن أبي شيبة والبيهقي في "السنن" وابن أبي عتبة عبد الله الأنصاري مولى أنس. ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال أبو بكر البزار: ثقة مشهور له في الكتب حديثان: أحدهما عند البخاري في "الحج" بعد يأجوج ومأجوج، والآخر عندهم في "الحياء" روى عن أنس وأبي سعيد الخدري وأبي الدرداء وعائشة، وروى عنه ثابت البناني وقتادة وحميد وغيرهم. ثم قال "وقال عكرمة: أهلُ السَّوادِ يجتمعون في العيدِ يصلُّون ركعتين كما يصنعُ الإِمام"، يعني أنهم يؤمهم أحدهم ويصلّون كصلاة الحضر، وهذا وصله ابن أبي شيبةَ عن غندر. وعكرمة مرّ في السابع عشر من العلم. ثم قال: "وقال عطاء: إذا فاتهُ العيدُ صلَّى ركعتين" في رواية الكشميهني "وكان عطاءُ والأول" وزاد ابن جريج في روايته "ويكبر"، وهذه الزيادة تشير إلى أنها تقضى كهيئتها إلاَّ أن الركعتين مطلق نفل، وهذا وصله الفريابي في مصنفه وابن أبي شيبة. وقد مرّ عطاء في التاسع والثلاثين من "العلم".

الحديث الخامس والثلاثون

الحديث الخامس والثلاثون حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا جَارِيَتَانِ فِي أَيَّامِ مِنًى تُدَفِّفَانِ وَتَضْرِبَانِ، وَالنَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- مُتَغَشٍّ بِثَوْبِهِ، فَانْتَهَرَهُمَا أَبُو بَكْرٍ فَكَشَفَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ وَجْهِهِ وَقَالَ دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ فَإِنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ. وَتِلْكَ الأَيَّامُ أَيَّامُ مِنًى. وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَسْتُرُنِي، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الْحَبَشَةِ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي الْمَسْجِدِ، فَزَجَرَهُمْ عُمَرُ فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- دَعْهُمْ، أَمْنًا بَنِي أَرْفِدَةَ. يَعْنِي مِنَ الأَمْنِ. أشكلت على جماعة مطابقة هذا الحديث للترجمة، وأجاب ابن المنير بأن ذلك يؤخذ من قوله عليه الصلاة والسلام: "إنها أيام عيد" فأضاف نسبة العيد إلى اليوم فيستوي في إقامتها الفذ والجماعة والنساء والرجال. قال ابن رشيد: وتتمته أن يقال "إنها أيام عيد لأهل الإِسلام" بدليل قوله في الحديث الماضي: "عيدنا أهل الإِسلام"؛ ولذا ذكره البخاري في صدر الباب، وأهل الإِسلام شامل لجميعهم فردًا وجمعًا، وهذا يستفاد منه الحكم الثاني لا مشروعية القضاء، والذي يظهر أن مشروعية القضاء تؤخذ من قوله: "فإنها أيام عيد" أي أيام (مِنى) فلما سماها أيام عيد كانت محلًا لأداء هذه الصلاة؛ لأنها شرعت ليوم العيد، فيستفاد من ذلك أنها تقع أداء وأن لوقت الأداء آخر وهو آخر أيام (مِنى). وفي خط أبي القاسم بن الورد لما سوغ النبي -صلى الله عليه وسلم- للنساء راحة العيد المباحة كان آكد أن يندبهن إلى صلاته في بيوتهن فيلتئم قوله في الترجمة: "وكذلك النساء" مع قوله في الحديث: "دعهما فإنها أيام عيد". وقوله: "وقالت عائشة" معطوف على الإسناد المذكور. وقوله: "فزجرهم فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- دعهم" كذا في الأصول بحذف فاعل فزجرهم. وفي رواية كريمة "فزجرهم عمر" كذا هنا. وسيأتي هذا الإسناد في أوائل المناقب بحذفه للجميع وضبب النسفي بين زجرهم وبين فقال إشارة إلى الحذف، وقد ثبت بلفظ عمر في طرق أخرى كما تقدم في أوائل العيدين. وقوله: "أمْنًا بني أَرفِدة" أي بسكون الميم من الأمن يشير إلى أن المعنى اتركهم من جهة أنا أمناهم أمنًا أو أراد أنه مشتق من الأمن لا من الأمان الذي للكفار.

رجاله ستة

وهذا الحديث مرّ الكلام عليه مستوفى في أوائل كتاب "العيدين". رجاله ستة: وفيه ذكر أبي بكر وعمر وجاريتين، وقد مرّ الجميع مرّت الأربعة الأول بهذا النسق في الثالث من "بدء الوحي"، ومرّ عروة وعائشة في الثاني منه، ومرّ عمر في الأول منه، ومرَّ أبو بكر في باب (من لم يتوضأ من لحم الشاة) بعد الحادي والسبعين من "الوضوء" ومرّ الكلام على الجاريتين في الثاني من كتاب "العيدين" هذا. ثم قال المصنف: باب الصلاة قبل العيد وبعدها ثم قال: وقال أبو المعلى: سمعت سعيدًا عن ابن عباس كره الصلاة قبل العيد قال فى "الفتح" لم أقف على هذا الأثر موصولًا. رجاله ثلاثة: مرّ سعيد بن جبير وابن عباس في الخامس من "بدء الوحي". وأبو المعلَّى هو يحيى بن ميمون الضبي العطار الكوفي قال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، وزعم ابن الجوزي أن ابن حبان قال فيه يروي عن الثقات ما ليس من أحاديثهم وإنما قال ذلك في أيوب، وقال يحيى والنسائي: ثقة، وقال أبو حاتم: صالح الحديث وقال ابن معين: ليس به بأس روى عن أبي عثمان النهدي وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وغيرهم، وروى عنه شعبة ووهيب بن سالم وحماد بن زيد وابن علية وغيرهم وليس له في البخاري سوى هذا الموضع. مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة.

الحديث السادس والثلاثون

الحديث السادس والثلاثون حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنِي عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- خَرَجَ يَوْمَ الْفِطْرِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهَا وَلاَ بَعْدَهَا وَمَعَهُ بِلاَلٌ. وحديث ابن عباس هذا قد تقدم بأتم من هذا السياق في باب الخطبة بعد العيد ومرّ الكلام هناك مستوفى على ما ترجم له المصنف. رجاله خمسة: وفيه ذكر بلال وقد مرّ الجميع: مرّ أبو الوليد في العاشر من الإيمان, ومرّ شعبة في الثالث منه، ومرّ عدي بن ثابت في الثامن والأربعين منه، ومرّ سعيد بن جبير وابن عباس في الخامس من "بدء الوحي" ومرّ بلال في التاسع والثلاثين من "العلم". خاتمة قال في "الفتح" اشتمل كتاب العيدين من الأحاديث المرفوعة على خمسة وأربعين حديثًا المعلق منها أربعة، والبقية موصولة المكرر منها فيه وفيما مضى ستة وعشرون، والبقية خالصة وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث أنس في أكل التمر قبل صلاة عيد الفطر، وحديث ابن عمر في قصته مع الحجاج، وحديث ابن عباس في العمل في ذي الحجة، وحديث ابن عمر في الذبح بالمُصلّى، وحديث جابر في مخالفة الطريق. وأما حديث عقبة بن عامر المشار إليه في الباب الماضي فإن كان مرادًا زادت العدة واحدًا معلقًا وليس هو في "مسلم"، وفيه من الآثار عن الصحابة والتابعين ثلاثة وعشرون معلقة إلا أثر أبي بكر وعمر وعثمان في الصلاة قبل الخطبة فإنها موصولة في حديث ابن عباس والله الهادي للصواب. وانظر ما ذكره في عدد الموصول من الأحاديث فإنه مخالف لما ذكرناه مع تحرير ما ذكرناه فلعله ينقل هذا اعتمادًا على غيره. ثم قال المصنف:

أبواب الوتر

أبواب الوِتر كذا عند المستملي وعند الباقين باب ما جاء فى الوتر وسقطت البسملة عند ابن شبويه والأصيلي وكريمة، والوتر بالكسر الفرد وبالفتح الثأر، وفي اللغة مترادفان وقرىء: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} بالوجهين ولم يتعرض البخاري لحكمه لكن أفرده بترجمة عن أبواب التطوع والتهجد يقتضي أنه غير ملحق بها عنده، ولولا أنه أورد الحديث الذي فيه إيقاعه على الدابة، لكان في ذلك إشارة إلى أنه يقول بوجوبه. واختلف في الوتر في أشياء في وجوبه وعدده واشتراط النية فيه واختصاصه بقراءة واشتراط شفع قبله، وفي آخر وقته وصلاته في السفر على الدابة، وفي قضائه والقنوت فيه، وفي محل القنوت منه، وفيما يقال فيه وفي فصله ووصله، وهل تسن ركعتان بعده وفي صلاته من قعود لكن هذا الأخير ينبني على كونه مندوبًا أو لا. واختلفوا في أول وقته أيضًا، وفي كونه أفضل صلاة التطوع والرواتب أفضل منه، أو خصوص ركعتي الفجر. وقد ترجم البخاري لبعض ما ذكرناه، ويأتي الكلام على ما لم يترجم له في أثناء الكلام على أحاديث الباب وما بعدها. الحديث الأول حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ صَلاَةِ اللَّيْلِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: صَلاَةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً، تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى. هذا الحديث أخرجه في "الموطأ" ولم يختلف على مالك في إسناده إلا أن في رواية مكي بن إبراهيم عن مالك أن نافعًا وعبد الله بن دينار أخبراه كذا في "الموطآت" للدارقطني، وأورده الباقون بالعنعنة. وقوله: "إن رجلًا" يأتي في السند ما قيل فيه. وقوله عن "صلاة الليل" في رواية أيوب عن نافع في باب (الحلق في المسجد) أن رجلًا جاء إلى النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وهو يخطبُ فقال كيفَ صلاةُ الليل؟ " ونحوه في رواية سالم في أبواب (التطوع) وقد

تبين من الجواب أن السؤال وقع عند عددها أو عن الفصل والوصل. وفي رواية محمد بن نصر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: قال رجلٌ يا رسولَ اللهِ كيف تأمرنا أن نصليَ من الليل". وأما قول ابن بزيزة جوابه بقوله: "مثنى" يدل على أنه فهم من السائل طلب كيفية العدد لا مطلق الكيفية، ففيه نظر وأولى ما فسر الحديث من الحديث، واستدل بمفهومه على أن الأفضل في صلاة النهار أن تكون أربعًا وهو قول أبي حنيفة وإسحاق وتعقب بأنه مفهوم لقب وليس بحجة على الراجح وعلى تقدير الأخذ به فليس بمنحصر في أربع وبأنه خرج جوابًا للسؤال عن صلاة الليل فقيد الجواب بذلك مطابقة للسؤال، وبأنه قد تبين من رواية أخرى أن حكم المسكوت عنه حكم المنطوق به ففي "السنن" وصححه ابن خزيمة وغيره عن علي الأزدي عن ابن عمر مرفوعًا "صلاة الليل والنهار مثنى مثنى". وقد تعقب هذا الأخير بأن أكثر أئمة الحديث أعلوا هذه الزيادة وهي قوله: "والنهار" بأن الحفاظ من أصحاب ابن عمر لم يذكروها عنه، وحكم النسائي على راويها بأنه أخطأ فيها. وقال يحيى بن معين: مَنْ علي الأزدي حتى أقبل منه؟ وادعى يحيى بن سعيد الأنصاري عن نافع "أن ابن عمر كان يتطوع بالنهار أربعًا لا يفصل بينهن"، ولو كان حديث الأزدي صحيحًا لما خالفه ابن عمر مع شدة اتباعه رواه عنه محمد بن نصر في سؤالاته. لكن روى ابن وهب بإسناد قوي عن ابن عمر قال: "صلاة الليل والنهار مثنى مثنى" موقوف أخرجه ابن عبد البر، فلعل الأزدي اختلط عليه الموقوف بالمرفوع، فلا تكون هذه الزيادة صحيحة على طريقة من يشترط في الصحيح أن لا يكون شاذًا. وقد روى ابن أبي شيبة من وجه آخر عن "ابن عمر أنه كان يصلي بالنهار أربعًا أربعًا وهذا موافق لما قاله ابن معين. وعند أبي حنيفة صلاة الليل والنهار أربعًا أربعًا. وعند صاحبيه: الليل مثنى مثنى والنهار أربعًا أربعًا. وقوله: "مثنى مثنى" أي: اثنين اثنين وهو غير منصرف لتكرار العدل فيه قاله صاحب "الكشاف". وقال الآخرون للعدل والوصف، وأما إعادة "مثنى" فللمبالغة في التأكيد، وقد فسره ابن عمر راوي الحديث فعند مسلم عن عقبة بن حريث قال: "قلت لابن عمرما معنى مثنى مثنى؟ قال تسلم من كل ركعتين". وفيه رد على من زعم من الحنفية أن معنى "مثنى" أن يتشهد بين كل ركعتين؛ لأن راوي الحديث أعلم بالمراد منه، وما فسره به هو المتبادر إلى الفهم؛ لأنه لا يقال في الرباعية مثلًا إنها مثنى، واستدل بهذا على تعيين الفصل بين كل ركعتين من صلاة الليل قال ابن دقيق العيد: وهو ظاهر السياق لحصر المبتدأ في الخبر، وحمله الجمهور على أنه لبيان الأفضل لما صح من فعله

رجاله خمسة

-صلى الله عليه وسلم- بخلافه، ولم يتعين أيضًا كونه لذلك بل يحتمل أن يكون للإرشاد إلى الأخف إذ السلام بين كل ركعتين أخف على المصلي من الأربع فما فوقها لما فيه من الراحة غالبًا وقضاء ما يعرض من أمرهم ولو كان الوصل لبيان الجواز فقط لم يواظب عليه -صلى الله عليه وسلم-. ومن ادعى اختصاصه به فعليه البيان، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام كما صح عنه الوصل فعند أبي داود ومحمد بن نصر عن الأوزاعي وابن أبي ذيب كلاهما عن الزهري عن عروة عن عائشة "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يصلّي ما بينَ أن يفرغَ من العشاءِ إلى الفجر إحدى عشرةَ ركعة يسلّمُ من كل ركعتين" وإسنادهما على شرط الشيخين. وقد مرّت مباحث هذا الحديث مستوفاة غاية عند ذكره في باب (الحلق في المسجد)، وحديث ابن عباس في باب (قراءة القرآن بعد الحدث) وغيره من كتاب "الوضوء"، وذكرت هناك مباحث الوتر جميعًا فراجعه. رجاله خمسة: قد مرّوا وفيه رجل مبهم. مرّ عبد الله بن يوسف ومالك في الثاني من "بدء الوحي"، ومرّ نافع في الأخير من "العلم"، ومرَّ عبد الله بن دينار في الثاني من "الإيمان"، ومرَّ ابن عمر في أوله قبل ذكر حديث منه. والرجل المبهم في "معجم الطبراني" أنه ابن عمر، ولكن يعكر عليه رواية عبد الله بن شقيق عن "ابن عمر أن رجلًا سأل النبيّ -صلى الله عليه وسلم- وأنا بينه وبين السائل" فذكر الحديث وفيه "ثم سأله رجل على رأس الحول وأنا بذلك المكان منه فما أدري أهو ذلك الرجل أو غيره. وعند النسائي أن السائل المذكور من أهل البادية، وفي رواية "أن أعرابيًا سأل" فيحتمل أن يجمع بتعدد من سأل، وقد سبق في باب الحلق في المسجد، أن السؤال المذكور وقع في المسجد والنبى -صلى الله عليه وسلم- على المنبر. أخرجه مسلم في "الصلاة" وكذا أبو داود والنسائي. ثم قال: "وعن نافع أن عبد الله بن عمر كان يسلّم بين الركعة والركعتين في الوتر حتى يأمر ببعض حاجته" هو معطوف على الإِسناد الأول وهو في "الموطأ" كذلك إلا أنه ليس مقرونًا في سياق واحد بل بين المرفوع والموقوف عدة أحاديث، ولذا فصله البخاري عنه. وقوله: "حتى يأمر ببعض حاجته" ظاهره أنه كان يصلي الوتر موصولًا فإن عرضت له حاجة فصل ثم بني على ما مضى وما في هذا الأثر من المباحث قد مرت في البابين المذكورين آنفًا، وهذا الأثر قيل إنه معطوف على الإِسناد الأول، وقيل إنه معلق، وهذا الأثر رواه مالك وأخرجه الطحاوي.

الحديث الثاني

الحديث الثاني حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ كُرَيْبٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ بَاتَ عِنْدَ مَيْمُونَةَ، وَهْىَ خَالَتُهُ، فَاضْطَجَعْتُ فِي عَرْضِ وِسَادَةٍ، وَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَهْلُهُ فِي طُولِهَا، فَنَامَ حَتَّى انْتَصَفَ اللَّيْلُ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ، فَاسْتَيْقَظَ يَمْسَحُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ، ثُمَّ قَرَأَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ آلِ عِمْرَانَ، ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى شَنٍّ مُعَلَّقَةٍ، فَتَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي فَصَنَعْتُ مِثْلَهُ فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى رَأْسِي، وَأَخَذَ بِأُذُنِي يَفْتِلُهَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَوْتَرَ، ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى جَاءَهُ الْمُؤَذِّنُ فَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ، خَرَجَ فَصَلَّى الصُّبْحَ. هذا الحديث قد تقدم للبخاري في مواضع في "العلم" و"الطهارة" و"المساجد" و"الإمامة"، وتقدم شرحه مستوفى في باب (السمر في العلم) من كتاب "العلم"، وفي باب (تخفيف الوضوء) وباب (قراءة القرآن بعد الحدث) وغيره من كتاب "الوضوء"، وأذكر هنا ما لم يذكر من مباحثه فيما مضى. وقوله: "إنه بات عند ميمونة" زاد شريك بن أبي نمر عن كريب عند مسلم "فرقبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كيف يصلّي. زاد أبو عوانة في "صحيحه" من هذا الوجه "بالليل". ولمسلم عن عطاء عن ابن عباس قال: "بعثني العباس إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-" زاد النسائي عن حبيب بن أبي ثابت عن كريب "في إبلٍ أعطاهُ إياها من الصدقةِ". ولأبي عوانة عن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه "أن العباس بعثه إلى النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- في حاجة، قال: فوجدته جالسًا في المسجد فلم استطعْ أنْ أُكلمهُ، فلما صلى المغربَ قامَ فركعَ حتى أُذِّنَ بصلاةِ العشاءِ". ولابن خزيمة عن طلحة بن نافع عنه "كان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- وعدَ العباسَ ذودًا من الإبل فبعثني إليه بعدَ العشاء وكان في بيت ميمونة". ولمحمد بن نصر عن محمد بن الوليد عن كريب من الزيادة "فقال لي: يا بنيّ بتْ الليلةَ عندنا" وفي رواية حبيب المذكورة "فقلت: لا أنامُ حتى انظر ما يصنعَ في صلاة الليل". ولمسلم عن الضحاك بن عثمان بن مخرمة "فقلت لميمونة إذا قامَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فأيقظيني وكان

عزمَ في نفسه على السهر ليطَّلعَ على الكيفية التي أرادها ثم خشيَ أن يغلبَة النومُ فوصَّى ميمونةَ أن توقظهُ. وقوله: "في عَرْض وسادة" في رواية محمد بن نصر المذكورة "وسادة من أدم حشوها ليف". وفي رواية طلحة بن نافع المذكورة "ثم دخل على امرأتِه في فراشِها وزاد أنها كانت ليلتئذٍ حائضًا". وفي رواية شريك عن كريب في التفسير "فتحدث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع أهله ساعة". وقد سبقت الإشارة إليه في كتاب "العلم" في باب (السمر في العلم) وتقدم الكلام على الاضطجاع والعرض ومسح النوم والعشر الآيات في باب (قراءة القرآن بعد الحدث) وكذا على الشن. وقوله: "حتى انتصف الليل أو قريبًا منه" جزم شريك بن أبي نمر في روايته المذكورة "بثلث الليل الأخير" ويجمع بينهما بأن الاستيقاظ وقع مرتين ففي الأولى "نظر إلى السماء ثم تلا الآيات ثم عاد إلى مضجعه فنام". وفي الثانية "أعاد ذلك ثم توضأ وصَلّى". وقد بيَن ذلك محمد بن نصر في روايته المذكورة. وفي رواية الثوري عن سلمة بن كهيل عن كريب في "الصحيحين": "فقام رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- من الليل فأتى حاجَتَه ثم غسلَ وَجهَهُ ويديه ثم نامَ ثم قامَ فأتى القربة" الحديث. وفي رواية سعيد عن مسروق عن سلمة عن مسلم "ثم قامَ قومة أخرى"، وعنده من رواية شعبة عن سلمة "فبال" بدل "فأتى حاجته". وقوله: "ثم قام إلى شن" زاد محمد بن الوليد "ثم استفرغ من الشن في إناء ثم توضأ". وقوله: "فاحسنَ الوضوء" في رواية محمد بن الوليد وطلحة بن نافع جميعًا "ثم أسبغَ الوضوءَ". وفي رواية عمرو بن دينار عن كريب "فتوضأ وضوءًا خفيفًا"، وقد تقدمت في باب (تخفيف الوضوء) ويجمع بين هاتين الروايتين برواية الثوري فإن لفظه "فتوضأ وضوءاً بين وضؤين لم يكثر وقد أبلغ" ولمسلم عن مخرمة "فأسبغَ الوضوءَ ولم يمسَّ من الماءِ إلا قليلًا". وزاد فيها "فتسوَّكَ" وكذا لشريك عن كريب "فاستنَّ" كما تقدمت الإشارة إليه قبل كتاب "الغسل". وقوله: "ثم قامَ يصلّي" في رواية محمد بن الوليد "ثم أخذَ بُردًا له حضرميًا فتوشحة ثم دخلَ البيتَ فقامَ يصلّي". وقوله: "فصنعتُ مثلَهُ" يقتضي أنه صنع جميع ما ذكر من القول والنظر والوضوء والسواك والتوشح، ويحتمل أن يحمل على الأغلب. وزاد سلمة عن كريب في "الدعوات" في أوله "فقمتُ فتمطيتُ كراهيةَ أن يرى أني كنتُ أرقبُه" وكأنه خشي أن يترك بعض عمله لما جرى من عادته -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يترك بعض العمل خشية أن يفرض على أمته. وقوله: "وقمتُ إلى جنبهِ" تقدم الكلام عليه مستوفى في أبواب الإمامة.

وقوله: "وأخذ بأذني" زاد محمد بن الوليد في روايته "فعرفتُ أنه إنما صنع ذلك ليؤنسني بيدهِ في ظلمة الليل". وفي رواية الضحاك بن عثمان "فجعلتُ إذا أغفيتُ أخذ بشحمة أذني" وفي هذا رد على من زعم أن أخذ الأذن إنما كان في حالة إدارته له من اليسار إلى اليمين متمسكًا برواية سلمة بن كهيل الآتية في التفسير حيث "قال: فأخذ بأذني فأدارني عن يمينه" لكن لا يلزم من إدارته على هذه الضفة أن لا يعود إلى مسك أذنه لما ذكره من تأنيسه وإيقاظه؛ لأن حاله كانت تقتضي ذلك لصغر سنه. وقوله: "فصلّى ركعتين ثم ركعتين" الخ كذا في هذه الرواية" وظاهره أنه فصل بين كل ركعتين، ووقع التصريح بذلك في رواية طلحة بن نافع حيث قال فيها "يسلِّمُ مِنْ كلِّ ركعتين". ولمسلم عن علي بن عبد الله بن عباس التصريح بذكر الركعتين ست مرات. ثم قال: "ثم أوتر" ومقتضاه أنه صلّى ثلاث عشرة ركعة، وصرح بذلك في رواية سلمة الآتية في "الدعوات" حيث قال:"فتتامت". ولمسلم "فتكاملتْ صلاتُه ثلاثَ عشرةَ ركعة" وفي رواية محمد بن الوليد المذكورة مثله وزاد وركعتين بعد طلوع الفجر قبل صلاة الصبح، وهي موافقة لرواية الباب, لأنه قال بعد قوله: "ثم أوترَ فقامَ فصلَّى ركعتين" فاتفق هؤلاء على الثلاث عشرة، وصرح بعضهم بأن ركعتي الفجر من غيرهما، لكن رواية شريك بن أبي نمر الآتية في التفسير عن كريب تخالف ذلك ولفظه: "فصلّى إحدى عشرة ركعة ثم أذَّنَ بلالٌ فصلّى ركعتين ثم خرجَ" فهذا ما في رواية كريب من الاختلاف. وقد عرف أن الأكثر خالفوا شريكًا فيها وروايتهم مقدمة على روايته لما معهم من الزيادة؟ ولكونهم أحفظ منه، وقد حمل بعضهم هذه الزيادة على سنة العشاء ولا يخفى بعده ولاسيما في رواية مخرمة في حديث الباب إلا إن حمل على أنه أخر سنة العشاء حتى استيقظ لكن يعكر عليه رواية المنهال الآتية قريبًا. وقد اختلف على سعيد بن جبير أيضًا ففي التفسير عن شعبة عن الحكم عنه "فصلى أربع ركعاتٍ ثم نامَ ثم صلى خمسَ ركعاتٍ". وقد حمل محمد بن نصر هذه الأربعة على أنها سنة العشاء، لكونها وقعت قبل النوم، لكن يعكر عليه ما رواه هو عن المنهال بن عمرو عن علي بن عبد الله بن عباس فإن فيه "فصلى العشاءَ ثم صلّى بعدَه أربعَ ركعاتٍ حتى لم يبق في المسجدِ غيرهُ ثم انصرف" فإنه يقتضي أن يكون صلّى الأربع في المسجد لا في البيت. ورواية سعيد بن جبير أيضًا تقتضي الاقتصار على خمس ركعات بعد النوم، وفيه نظر، وقد رواها أبو داود من وجه آخر عن الحكم وفيه "فيصلي سبعًا أو خمسًا أوتَر بهن لم يسلِّمْ إلا في آخرهن". وقد ظهر من رواية أخرى عن سعيد بن جبير ما يرفع هذا الإشكال ويوضح أن رواية الحاكم وقع فيها تقصير، فعند النسائي عن يحيى بن عباد عن سعيد بن جبير "فصلّى ركعتين ركعتين حتى صلّى ثمانِ ركعاتٍ ثم أوتَر بخمس لم يجلس بينهن". فبهذا يجمع بين رواية سعيد ورواية كريب.

وأما ما في روايتهما من الفصل والوصل، فرواية سعيد صريحة في الوصل ورواية كريب محتملة، فتحمل على رواية سعيد. وأما قوله في رواية طلحة بن نافع "يسلم من كل ركعتين" فيحتمل تخصصه بالثمان فيوافق رواية سعيد ويؤيده رواية يحيى بن الجزار الآتية، وليس في شيء من طرق حديث ابن عباس مما يخالف ذلك؛ لأن أكثر الرواة عنه لم يذكروا عددًا ومن ذكر منهم عددًا لم يزد على ثلاث عشرة، ولم ينقص عن إحدى عشرة إلا أن في رواية علي بن عبد الله بن عباس عند مسلم ما يخالفه فإن فيه "فصلّى ركعتين أطالَ فيهما ثم انصرف فنامَ حتى نفخَ ففعلَ ذلكَ ثلاثَ مراتٍ بست ركعاتٍ كلُّ ذلك يستاكُ ويتوضأ ويقرأ هؤلاءِ الآيات يعني آخر آل عمران ثم أوترَ بثلاثٍ فأذَّنَ المؤذن فخرجَ إلى الصلاة". فزاد على الرواية تكرير الوضوء وما معه ونقص عنه ركعتين أو أربعًا، ولم يذكر ركعتي الفجر أيضًا ولعل ذلك من الراوي عنه حبيب بن أبي ثابت فإن فيه مقالًا، وقد اختلف عليه فيه في إسناده ومتنه اختلافًا تقدم ذكر بعضه، ويحتمل أن يكون لم يذكر الأربع الأول كما لم يذكر حكم الثمان كما مرّ، وأما سنة الفجر فقد ثبت ذكرها من طريق أخرى عن علي بن عبد الله عند أبي داود، والحاصل أن قصة مبيت ابن عباس يغلب على الظن عدم تعددها؛ فلهذا ينبغي الاعتناء بالجمع بين مختلف الروايات فيها, ولا شك بأن الأخذ بما اتفق عليه الأكثر والأحفظ أولى مما خالفهم فيه من هو دونهم ولاسيما إن زاد أو نقص والمحقق من عدد صلاته في تلك الليلة إحدى عشرة ركعة. وأما رواية ثلاث عشرة فيحتمل أن يكون منها سُنَّة العشاء، ويوافق سُنَّة العشاءِ ويوافق ذلك رواية أبي جمرة عن ابن عباس الآتية في صلاة الليل بلفظ "كانت صلاةُ النبي -صلى الله عليه وسلم- ثلاثَ عشرةَ يعني بالليل، ولم يبين هل سُنة الفجر منها أم لا، وبيّنها يحيى بن الجزار عن ابن عباس عند النسائي بلفظ: "كان يصلِّي ثمانِ ركعاتٍ ويوترُ بثلاثٍ ويصلّي ركعتين قبل صلاةِ الصبح"، ولا يعكر على هذا الجمع إلا ظاهر سياق الباب، فيمكن أن يحمل قوله: "صلّى ركعتين ثم ركعتين" أي: قبل أن ينام ويكون منها سُنة العشاء. وقوله: "ثم ركعتين بعد أن قام" وسيأتي نحو هذا الجمع في حديث عائشة في أبواب صلاة الليل -إن شاء الله تعالى- وجمع الكرماني بين ما اختلف من روايات قصة ابن عباس هذه باحتمال أن يكون بعض رواته ذكر القدر الذي اقتدى ابن عباس به فيه، وفصله عما لم يقتدِ به فيه وبعضهم ذكر الجميع مجملًا. وقوله: "ثم اضطجعَ حتى جاءَه المؤذّن فقام فصلَّى ركعتين" المؤذن هو بلال كما مرّ وسيأتي قبيل أبواب التطوع ما قيل في الاضطجاع هل كان قبل ركعتي الفجر أو بعدهما. وقوله: "ثم خرج فصلّى الصُّبح" أي بالجماعة. وزاد سلمة بن كهيل عن كريب كما يأتي في

رجاله خمسة

"الدعوات" وكان من دعائه اللهم اجعل في قلبي نورًا الحديث. وفوائد هذا الحديث باعتبار طرقه المذكورة قد تقدم منها طرف عند ذكره في باب (السمر في العلم) من كتاب "العلم" والباقي منها: فيه جواز إعطاء بني هاشم من الصدقة، وهو محمول على التطوع ويحتمل أن يكون إعطاؤه العباس ليتولى صرفه في مصالح غيره ممن يحل له أخذ ذلك. وفيه جواز تقاضي الوعد وإن كان من وعد به مقطوعًا بوفائه. وفيه مشروعية التنفل بين المغرب والعشاء، وفضل صلاة الليل ولاسيما في النصف الثاني. والبداءة بالسواك واستحبابه عند كل وضوء وكل صلاة وتلاوة آخر آل عمران عند القيام إلى صلاة الليل. واستحباب غسل الوجه واليدين لمن أراد النوم وهو محدث ولعله المراد بالوضوء للجُنب قلت: ليس في شيء من طرق هذا الحديث أنه عليه الصلاة والسلام كان جُنبًا. وفيه جواز الاغتراف من الماء القليل؛ لأن الإناء المذكور كان قصعة أو صحفة. واستحباب التقليل من الماء في التطهير مع حصول الإسباغ وجواز التصغير والذكر بالصفة كما مرّ في باب (السمر في العلم) حيث قال: نام الغليم. وفيه اتخاذ مؤذن راتب للمسجد وإعلام المؤذن الإمام بحضور وقت الصلاة واستدعاؤه لها، والاستعانة باليد في الصلاة وتكرار ذلك. فيه مشروعية الجماعة في النافلة الائتمام بمن لم ينو الإمامة، وبيان موقف الإمام والمأموم. وقد مرّ ذلك في أبواب الإمامة، واستدل به على أن الأحاديث الواردة في كراهية قراءة القرآن على غير وضوء ليست على العموم في جميع الأحوال. وأجيب بأن نومه كان لا ينقض وضوءه كما ورد بحثه مستوفى في باب (السمر في العلم) فلا يتم الاستدلال به إلا أن يثبت أنه قرأ الآيات بين قضاء الحاجة والوضوء. رجاله خمسة: وفيه ذكر أُمنا ميمونة مرّ الجميع: مرّ عبد الله بن مسلمة في الثاني عشر من "الإيمان"، ومرَّ مالك في الثاني من بدء "الوحي" وابن عباس في الخامس منه، ومرَّ مخرمة بن سليمان في الثامن والأربعين من "الوضوء"، ومرَّ كريب في الرابع من "الوضوء"، ومرّت أُمنا ميمونة في الثامن والخمسين من "العلم"، وهذا الحديث تكرر كثيرًا ومرَّ الكلام عليه في "العلم".

الحديث الثالث

الحديث الثالث حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرٌو أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْقَاسِمِ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- صَلاَةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَنْصَرِفَ فَارْكَعْ رَكْعَةً تُوتِرُ لَكَ مَا صَلَّيْتَ. قَالَ الْقَاسِمُ وَرَأَيْنَا أُنَاسًا مُنْذُ أَدْرَكْنَا يُوتِرُونَ بِثَلاَثٍ، وَإِنَّ كُلاًّ لَوَاسِعٌ أَرْجُو أَنْ لاَ يَكُونَ بِشَيْءٍ مِنْهُ بَأْسٌ. قوله: "قال القاسم" هو بالإسناد المذكور كذلك أخرجه أبو نعيم في "مستخرجه"، ووهم من زعم أنه معلق. وقوله: "منذ أدركنا" أي: بلغنا الحلم أو عقلنا، وهذا الحديث قد استوفيت مباحثه عند ذكر حديث ابن عباس في باب (قراءة القرآن بعد الحدث) وغيره من كتاب "الوضوء". رجاله ستة: قد مرّوا: مرّ يحيى بن سليمان في الخامس والخمسين من "العلم"، ومرّ عبد الله بن وهب في الثالث عشر منه، ومرّ عمرو بن الحارث في السابع والستين من "الوضوء"، ومرّ عبد الرحمن في السادس عشر من "الغسل" وأبوه القاسم في الحادي عشر منه، ومرّ ابن عمر في أول "الإيمان" قبل حديث منه.

الحديث الرابع

الحديث الرابع حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُصَلِّي إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، كَانَتْ تِلْكَ صَلاَتَهُ تَعْنِي بِاللَّيْلِ فَيَسْجُدُ السَّجْدَةَ مِنْ ذَلِكَ قَدْرَ مَا يَقْرَأُ أَحَدُكُمْ خَمْسِينَ آيَةً قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ، وَيَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلاَةِ الْفَجْرِ، ثُمَّ يَضْطَجِعُ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمُؤَذِّنُ لِلصَّلاَةِ. أراد البخاري بإيراد الحديث هنا بيان أن لا معارضة بينه وبين حديث ابن عباس إذ ظاهر حديث ابن عباس فصل الوتر وهذا محتمل الأمرين. وهذا الحديث أخرجه هنا وأعاده إسنادًا ومتنًا في كتاب "صلاة الليل"، وأخرج هناك حديثها عن مسروق "قال: سألت عائشة عن صلاةِ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: سبعٌ وتسعٌ وإحدى عشرة سوى ركعتي الفجر"، وحديثها عن القاسم قالت: "كانَ يصلِّي من الليلِ ثلاثَ عشرةَ منها الوترُ وركعتا الفجر". وفي رواية لمسلم من هذا الوجه "كانت صلاتُهُ عشرَ ركعات ويوتُر بسجدةٍ، ويركعُ ركعتي الفجرِ فتلك ثلاث عشرةَ". فأما ما أجابت به مسروقًا فمرادها أن ذلك وقع منه في أوقات مختلفة فتارة كان يصلي سبعًا، وتارة تسعًا، وتارة إحدى عشرة. وأما حديث القاسم عنها فمحمول على أن ذلك كان غالب حاله وسيأتي في التهجد عن أبي سلمة عنها أن ذلك كان أكثر ما يصليه في الليل ولفظه: "ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة" الحديث وفيه ما يدل على أن ركعتي الفجر من غيرها فهو مطابق لرواية القاسم. وأما مارواه الزهري عن عروة عنها كما سيأتي في التهجد في باب ما يقرأ في ركعتي الفجر بلفظ "كان يصلي بالليل ثلاثَ عشرةَ ركعة" ثم يصلي إذا سمعَ النداء بالصُّبحِ ركعتين خفيفتين فظاهره يخالف ما تقدم فيحتمل أن تكون أضافت إلى صلاة الليل سُنّة العشاء، لكونه كان يصليها في بيته أو ما كان يفتتح به صلاة الليل، فقد ثبت عند مسلم عن سعد بن هشام عنها أنه كان يفتتحها بركعتين خفيفتين وهذا أرجح؛ لأن رواية أبي سلمة التي دلت على الحصر في إحدى عشرة جاء في صفتها عند المصنف وغيره يصلي أربعًا ثم أربعًا ثم ثلاثًا، فدل على أنها لم تتعرض للركعتين الخفيفتين وتعرضت لهما في رواية الزهري والزيادة من الحافظ مقبولة، وبهذا يجمع بين الروايات

رجاله خمسة

وينبغي ان يستحضر ما ذكر من الاختلاف في الركعتين بعد الوتر هل هما الركعتان بعد الفجر أو صلاة مفردة بعد الوتر؟ ويؤيده ما وقع عند أحمد وأبي داود عن عبد الله بن أبي قيس عن عائشة بلفظ "كان يوتر بأربع وثلاثٍ وستٍ وثلاثٍ وثمانٍ وثلاث وعشر وثلاثٍ، ولم يكن يوترُ بأكثر منْ ثلاثَ عشرةَ ولا بأنقصَ مِنْ سبع"، وهذا أصح ما قيل في ذلك وبه يجمع بين ما اختلف عن عائشة من ذلك. قال القرطبي: أشكلت روايات عائشة على كثير من أهل العلم حتى نسب بعضهم حديثها إلى الاضطراب، وهذا إنما يتم لو كان الراوي عنها واحدًا أو أخبرت عن وقت واحد، والصواب أن كل شيء ذكرته من ذلك محمول على أوقات متعددة وأحوال مختلفة بحسب النشاط وبيان الجواز، ويظهر أن الحكمة في عدم الزيادة على إحدى عشرة أن التهجد والوتر مختص بصلاة الليل وفرائض النهار الظهر وهي أربع والعصر وهي أربع والمغرب وهي ثلاث وتر النهار، فناسب أن تكون صلاة الليل كصلاة النهار في العدد جملة وتفصيلًا. وأما مناسبة ثلاث عشرة فبضم صلاة الصبح لكونها نهارية إلى ما بعدها. قلت: ما ذكر من جعل المغرب وتر النهار وهي ليلية بعيد جدًا. وقوله في الحديث: "قدر ما يقرأ أحدكم خمسينَ آية" قد تقدم من حديثها في أبواب صفة الصلاة أنه عليه الصلاة والسلام "كان يكثرُ أنْ يقولَ: في ركوعِهِ وسجودِهِ سبحانكَ اللَّهُمَّ وبحمدِكَ، اللَّهُمَّ اغفرْ لي". وفي "مسند أحمد" عنها قالت: "كان رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يقولُ في صلاةِ الليل في سجودِهِ: سبحانكَ لا إله إلا أنتَ". وقوله: "ثم يضطجعُ على شقه الأيمن حتى يأتيهِ المنادي للصلاة" قد مرّ استيفاء الكلام على الضجعة بعد ركعتي الفجروعلى تخفيف ركعتي الفجر بما يكفي عند حديث عائشة في باب (منْ انتظر الإِقامة) من كتاب "الأذان". رجاله خمسة: قد مرّوا: مرّ أبو اليمان وشعيب في السابع من "بدء الوحي"، والزهري في الثالث منه، وعروة وعائشة في الثاني منه، والمؤذن بلال وقد مرّ في التاسع والثلاثين من "العلم". أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي. ثم قال المصنف:

باب ساعات الوتر

باب ساعات الوتر أي: أوقاته، ومحصل ما ذكره أن الليل كله وقت للوتر، لكن أجمعوا على أن ابتداءه مغيب الشفق بعد صلاة العشاء نقله ابن المنذر، لكن أطلق بعضهم أنه يدخل بدخول العشاء قالوا: ويظهر أثر الخلاف فيمن صلى العشاء وبان أنه كان بغير طهارة ثم صلّى الوتر متطهرًا أو ظن أنه صلّى العشاء فصلَّى الوتر، فإنه يجزىء على هذا القول دون الأول. ثم قال: "وقال أبو هريرة: أوصاني رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بالوتر قبلَ النوم". ولا معارضة بين وصية أبي هريرة بالوتر قبل النوم، وبين قول عائشة الآتي قريبًا وانتهى وتره إلى السحر؛ لأن الأول لإرادة الاحتياط والآخرة لمن علم من نفسه قوة لما ورد في حديث جابر عند مسلم ولفظه: "من طمعَ منكم أن يقومَ آخرَ الليل فليوترْ من آخرِهِ فإن صلاة آخر الليلِ مشهودةٌ وذلكَ أفضلُ، ومنْ خافَ منكم أن لا يقومَ مِنْ آخرِ اللَيلِ فليوترْ مِنْ أوله"، ويأتي قريبًا تمام هذا. وهذا التعليق طرف من حديث أورده البخاري من طريق أبي عثمان عن أبي هريرة في أبواب التطوع، وأخرجه إسحاق بن راهويه في "مسنده" من هذا الوجه، وأخرجه أحمد من وجه آخر عن أبي هريرة، وقد مرّ أبو هريرة في الثاني من "الإيمان".

الحديث الخامس

الحديث الخامس حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ سِيرِينَ قَالَ: قُلْتُ لاِبْنِ عُمَرَ: أَرَأَيْتَ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلاَةِ الْغَدَاةِ أُطِيلُ فِيهِمَا الْقِرَاءَةَ؟ فَقَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، وَيُوتِرُ بِرَكْعَةٍ وَيُصَلِّي الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلاَةِ الْغَدَاةِ وَكَأَنَّ الأَذَانَ بِأُذُنَيْهِ. قَالَ حَمَّادٌ: أَيْ سُرْعَةً. قوله: "أرأيت" أي أخبرني. وقوله: "يصلي من الليل مثنى مثنى" استدل به على فضل الفصل، لكونه أمر بذلك وفعله، وأما الوصل فورد من فعله فقط. وقوله: "ويوتر بركعة" لم يعين وقتها، وبيّنت عائشة أنه فعل ذلك في جميع أجزاء الليل، والسبب في ذلك ما سيذكر في الباب الذي بعده. وقوله: "وكأنَّ الأذان" بتشديد نون (كأنّ). وقوله: "بأذنيه" أي: لقرب صلاته من الأذان، والمراد به هنا الإقامة فالمعنى أنه كان يسرع بركعتي الفجر إسراع من يسمع إقامة الصلاة خشية فوات أول الوقت، ومقتضى ذلك تخفيف القراءة فيهما فيحصل به الجواب عن سؤال أنس بن سيرين عن قدر القراءة فيهما. وفي رواية مسلم أن أنسًا قال لابن عمر: "إني لست عن هذا أسألك، قال: إنك لضخم ألا تدعني أستقري لك" الحديث، ويستفاد من هذا جواب السائل بأكثر مما سأل عنه إذا كان مما يحتاج إليه. ومن قوله: "إنك لضخم" أن السمين في الغالب يكون قليل الفهم. قوله: "قال حماد" أي: ابن زيد الراوي وهو بالسند المذكور. وقوله: "بسرعة" كذا لأبوي ذر والوقت وابن شبويه ولغيرهم "سرعة" بغير موحدة وهو تفسير من الراوي لقوله: "كأنَّ الأذان بأذنيه". رجاله أربعة: قد مرّوا: مرّ أبو النعمان في الحادي والخمسين من "الإيمان" ومرّ حماد بن زيد في الرابع والعشرين منه، ومرّ ابن عمر في أول كتاب "الإيمان" قبل ذكر حديث منه، ومرّ أنس ابن سيرين في

لطائف إسناده

الرابع والعشرين من "الجماعة". لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والقول، ورواته كلهم بصريون. أخرجه مسلم في "الصلاة" وكذا الترمذي وابن ماجه.

الحديث السادس

الحديث السادس حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ: حَدَّثَنِي مُسْلِمٌ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُلَّ اللَّيْلِ أَوْتَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَانْتَهَى وِتْرُهُ إِلَى السَّحَرِ. قوله: "كل الليل" بنصب كل على الظرفية وبالرفع على أنه مبتدأ والجملة خبره والتقدير أوتر فيه. ولمسلم عن مسروق "مِنْ كلِّ الليل قد أوترَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مِنْ أولِ الليلِ وأوسطه وآخرهِ فانتهى وترُهُ إلى السَّحَرِ" والمراد بأول الليل بعد صلاة العشاء كما مرّ. وقوله: "إلى السحر" زاد أبو داود والترمذي "حين مات" ويحتمل أن يكون اختلاف وقت الوتر باختلاف الأحوال فحيث أوتر في أوله لعله كان وجعًا، وحيث أوتر وسطه لعله كان مسافرًا، وأما وتره في آخره فكأنه كان غالب أحواله لما عرف من مواظبته على الصلاة في أكثر الليل، والسحر قبيل الصبح. وحكى الماوردي أنه السدس الأخير، وقيل أوله الفجر الأول. وفي رواية طلحة بن نافع عن ابن عباس عند ابن خزيمة "فلما انفجرَ قامَ فأوترَ بركعةٍ" قال ابن خزيمة المراد به الفجر الأول. وروى أحمد عن معاذ مرفوعًا زادني ربي صلاةً وهي الوترُ ووقتُها من العشاءِ إلى طلوع الفجر" وفي إسناده ضعف إلى آخر ما مرّ في باب (قراءة القرآن بعد الحدث) وغيره من كتاب "الوضوء". وقد قال عليه الصلاة والسلام لأبي بكر: "متى توترُ؟ قال: أولَ الليلِ. وقال لعمر: متى توتر؟ قال آخرَ الليلِ. فقال لأبي بكر: أخذت بالحزم وقال لعمر أخذت بالقوة". واستشكل اختيار الجمهور لفعل عمر في ذلك مع أن أبا بكر أفضل منه. وأجيب بأنهم فهموا من الحديث ترجيح فعل عمر؛ لأن وصفه بالقوة وهي أفضل من الحزم لمن أعطيها. وقد قال المحاملي: وقتها المختار إلى نصف الليل، وقال القاضي أبو الطيب وغيره: إلى نصفه أو ثلثه، والأقرب فيهما أن يقال إلى بعيد ذلك ليجامع وقت العشاء المختار مع أن ذلك منافٍ لقولهم: يُسن جعله آخر صلاة الليل وقد علم أن التهجد في النصف الثاني أفضل فيكون مستحبًا ووقته مختار إلى ما ذكر. وحمل البلقيني ذلك على من لا يريد التهجد. قلت: ومذهب مالك أن وقته المختار بعد عشاء صحيحة وشفق إلى الفجر الصادق وما بعد ذلك إلى طلوع الشمس ضروري، لكن لابد أن يؤدى قبل صلاة الصبح فانتهاء ضروريه هو

رجاله ستة

الشروع في صلاة الصبح. رجاله ستة: قد مرّوا: مرّ عمر بن حفص وأبوه حفص في الثاني عشر من "الغسل"، ومرّ الأوزاعي في العشرين من "العلم"، ومرّ أبو الضحى مسلم في الخامس عشر من كتاب "الصلاة"، ومرّ مسروق في السابع والعشرين من "الإيمان"، ومرّت عائشة في الثاني من "بدء الوحي"، ومرّ الأعمش في الخامس والعشرين من "الإِيمان". لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإفراد والعنعنة والقول، ورواته كلهم كوفيون وفيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض. أخرجه مسلم وأبو داود في "الصلاة". ثم قال المصنف: باب إيقاظ النبي -صلى الله عليه وسلم- أهله بالوتر في رواية الكشميهني للوتر الحديث السابع حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي، وَأَنَا رَاقِدَةٌ مُعْتَرِضَةً عَلَى فِرَاشِهِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُوتِرَ أَيْقَظَنِي فَأَوْتَرْتُ. قوله: "أيقظني فأوترت" أي: فقمت فتوضأت فأوترت، واستدل به على استحباب جعل الوتر آخر الليل سواء المتهجد وغيره، ومحله إذا وثق أن يستيقظ بنفسه أو بإيقاظ غيره. وهذا الحديث قد مرّ بعينه في باب (الصلاة خلف النائم) من أبواب "سترة المصلّي"، وقد مرّ الكلام عليه هناك وفي باب (الصلاة على الفراش). رجاله خمسة: قد مرّوا: مرّ مسدد ويحيى القطان في السادس من "الإيمان"، ومرّ هشام وأبوه عروة وعائشة في الثاني من "بدء الوحي". ثم قال المصنف: باب ليجعلْ آخر صلاته وترًا

الحديث الثامن

الحديث الثامن حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قال: حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: اجْعَلُوا آخِرَ صَلاَتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا. وهذا الحديث قد مرّ الكلام عليه مستوفى في أثناء الحديث الأول في باب (الحلَق في المسجد) عند أول ذكره هناك، وفي باب (قراءة القرآن بعد الحدث) وغيره من كتاب "الوضوء". رجاله خمسة: قد مرّوا: مرّ محل مسدد ويحيى في الذي قبله، ومرّ عبيد الله العمري في الرابع عشر من "الوضوء"، ومرّ نافع في الأخير من "العلم"، ومرّ ابن عمر في أول الإيمان قبل ذكر حديث. أخرجه مسلم وأبو داود في "الصلاة". ثم قال المصنف: باب الوتر على الدابة لما كان حديث عائشة في إيقاظها للوتر وحديث ابن عمر في الأمر بالوتر آخر الليل قد تمسك بهما بعض من ادعى وجوب الوتر، عقبهما المصنف بحديث ابن عمر الدال على أنه ليس بواجب فذكره في ترجمتين: إحداهما تدل على كونه نفلًا، والثانية تدل على أنه آكد من غيره. الحديث التاسع حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَسِيرُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بِطَرِيقِ مَكَّةَ فَقَالَ سَعِيدٌ: فَلَمَّا خَشِيتُ الصُّبْحَ نَزَلْتُ فَأَوْتَرْتُ، ثُمَّ لَحِقْتُهُ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: أَيْنَ كُنْتَ؟ فَقُلْتُ: خَشِيتُ الصُّبْحَ، فَنَزَلْتُ فَأَوْتَرْتُ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أَلَيْسَ لَكَ فِي رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ؟ فَقُلْتُ: بَلَى وَاللَّهِ. قَالَ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُوتِرُ عَلَى الْبَعِيرِ. قوله: "أما لك في رسول الله أسوة" فيه إرشاد العالم لرفيقه ما قد يخفى عليه من السُّنن. وقوله: "بلى والله" فيه الحلف على الأمر الذاتيّ أو تأكيده. وقوله: "كان يوتر على البعير" قال الزين بن المنير ترجم بالدابة تنبيهًا على أن لا فرق بينها وبين البعير في الحكم، والجامع بينهما أن الفرض لا يجزىء على واحد منهما, ولعل البخاري أشار إلى ما في بعض طرقه فسيأتي في قصر الصلاة "عن سالم عن أبيه أنه كان يصلي من الليل على دابته وهو مسافر".

رجاله خمسة

وروى محمد بن نصر عن ابن جريج قال: "حدثنا نافع أن ابن عمر كان يوتر على دابته". قال وأخبرني "موسى بن عقبة عن نافع أن ابن عمر كان يخبر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يفعل ذلك". رجاله خمسة: مرّ منهم إسماعيل بن أبي أويس في الخامس عشر من "الإيمان" ومالك في الثاني من "بدء الوحي"، وابن عمر ذكر الآن محله الرابع أبو بكر بن عمر بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي المدني. قال الخليلي: لا يوقف له على اسم وهو مدني ثقة. وقال أبو حاتم: لا بأس به لا يسمى، وقال القاسم اللالكائي: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات" له عندهم حديث واحد في الوتر على الدابة. أرسل عن جد أبيه. وروى عن عم أبيه سالم وأبي الحباب سعيد بن يسار ونافع وغيرهم، وروى عنه مالك وإبراهيم بن طهمان وعبيد الله بن عمر العمري وغيرهم الخامس سعيد بن يسار أبو الحُباب بضم الحاء المدني مولى ميمونة وقيل مولى شقران أو مولى الحسن بن علي. وقيل مولى بني النجار والصحيح أنه غير سعيد بن مرجانة. قال ابن معين وأبو زرعة والنسائي. ثقة، وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، وقال ابن عبد البر: لا يختلفون في توثيقه. روى عن أبي هريرة وعائشة وابن عباس وابن عمر وغيرهم، وروى عنه سعيد المقبري وسهيل بن أبي صالح ويحيى بن سعيد وأبو طوالة وربيعة وغيرهم. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول ورواته كلهم مدنيون. آخرجه مسلم في "الصلاة" وكذا الترمذي والنسائي وابن ماجه. ثم قال المصنف: باب الوتر في السفر أشار بهذه الترجمة إلى الرد على من قال إنه لا يُسن في السفر، وهو منقول عن الضحاك وأما قول ابن عمر "لو كنت مسبحًا في السفر لأتممت" كما أخرجه مسلم وأبو داود عن حفص بن عاصم عنه فإنما أراد به راتبة المكتوبة لا النافلة المقصودة كالوتر وذلك بين من ساق الحديث المذكور. فقد رواه الترمذي من وجه آخر بلفظ: "سافرتُ مع النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وعمرَ وعثمانَ فكانوا يصلُّونَ الظهرَ والعصرَ ركعتينِ لا يصلُّون قبلَها ولا بعدها فلو كنت مصلّيًا قبلَها أو بعدَها لأتممتُ". ويحتمل أن تكون التفرقة بين نوافل النهار ونوافل الليل فإن ابن عمر كان يتنفل على راحلته وعلى دابته في الليل وقد قال مع ذلك ما قال.

الحديث العاشر

الحديث العاشر حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي فِي السَّفَرِ عَلَى رَاحِلَتِهِ، حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ، يُومِىءُ إِيمَاءً، صَلاَةَ اللَّيْلِ إِلاَّ الْفَرَائِضَ، وَيُوتِرُ عَلَى رَاحِلَتِهِ". قوله: "إلا الفرائض" أي: لكن الفرائض بخلاف ذلك فكان لا يصلّيها على الراحلة، واستدل به على أن الوتر ليس بفرض إلى آخر ما مرّ في باب (قراءة القرآن بعد الحدث) وغيره. رجاله أربعة: قد مرّوا: مرّ موسى بن إسماعيل المنقري في الخامس من "بدء الوحي"، ومرّ جويرية بن أسماء في الأربعين من "الغسل"، ومرّ نافع في الأخير من العلم، ومرّ ابن عمر في أول الإيمان قبل ذكر حيث منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والقول والعنعنة، والاثنان الأولان من الرواة بصريان والآخران مدنيان وهو من أفراد البخاري ومن الرباعيات أيضًا. ثم قال المصنف: باب القنوت قبل الركوع وبعده القنوت يطلق على معان، والمراد به هنا الدعاء في الصلاة في محل مخصوص من القيام، وقد مرّت منظومة مع جميع مباحث القنوت عند ذكر حديث أنس كان القنوت في المغرب والفجر في باب بلا ترجمة بعد باب (فضل اللهم ربنا لك الحمد) من أبواب (صفة الصلاة). الحديث الحادي عشر حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ بن سيرين قَالَ: سُئِلَ أَنَسٌ بن مالكٍ: "أَقَنَتَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فِي الصُّبْحِ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقِيلَ: أَوَقَنَتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ؟ قَالَ: بَعْدَ الرُّكُوعِ يَسِيرًا". قوله: "سئل أنس" في رواية إسماعيل عن أيوب عن مسلم "قلت لأنس" فعرف بذلك أنه أبهم نفسه. وقوله: "فقيل أَوَقنت" في رواية الكشميهني "بغير واو"، وللإسماعيلي "هل قنت". وقوله: "قبل الركوع" زاد الإسماعيلي "أو" بعد الركوع. وقوله: "بعد الركوع يسيرًا" قد بيّن عاصم في روايته مقدار هذا اليسير حيث قال فيها: "إنما

رجاله خمسة

قنت بعد الركوع شهرًا، وهذا الحديث والثلاثة بعده قد مرّت مباحثها مستوفاة في الباب المذكور آنفًا. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرّ مسدد في السادس من "الإيمان" وكذلك أنس، ومرّ حماد بن زيد في الرابع والعشرين منه، ومرّ أيوب في التاسع منه، وابن سيرين في الأربعين منه. الحديث الثاني عشر حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَاصِمٌ قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنِ الْقُنُوتِ. فَقَالَ: قَدْ كَانَ الْقُنُوتُ. قُلْتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَهُ؟ قَالَ: قَبْلَهُ. قَالَ: فَإِنَّ فُلاَنًا أَخْبَرَنِي عَنْكَ أَنَّكَ قُلْتَ: بَعْدَ الرُّكُوعِ. فَقَالَ كَذَبَ، إِنَّمَا قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَعْدَ الرُّكُوعِ شَهْرًا أُرَاهُ كَانَ بَعَثَ قَوْمًا يُقَالُ لَهُمُ الْقُرَّاءُ زُهَاءَ سَبْعِينَ رَجُلاً إِلَى قَوْمٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ دُونَ أُولَئِكَ، وَكَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَهْدٌ فَقَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- شَهْرًا يَدْعُو عَلَيْهِمْ. مرّ الكلام عليه. رجاله أربعة: قد مرّوا: مرّ محل مسدد وأنس في الذي قبله، ومرّ عبد الواحد في التاسع والعشرين من "الإيمان"، ومرّ عاصم في الخامس والثلاثين من "الوضوء". لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والسؤال والقول، ورجاله كلهم بصريون وهو من الرباعيات أخرجه البخاري أيضًا في "الجنائز" وفي "المغازي" و"الجزية" و"الدعوات" ومسلم في "الصلاة". وفي الحديث لفظ فلان وهذا الفلان لم يعرف، ويحتمل أن يكون محمد بن سيرين؛ لأنه هو السائل في الحديث السابق، وقد مرّ محله فيه. الحديث الثالث عشر حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ قَالَ: حَدَّثَنَا زَائِدَةُ عَنِ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ عَنْ أَنَسٍ بن مالك قَالَ: "قَنَتَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- شَهْرًا يَدْعُو عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ". قوله: "على رِعْلٍ وذَكْوَانَ" حيان من بني سُلَيم غدروا بأصحاب بير معونة وتأتي قصتهم في الغزوات.

رجاله خمسة

رجاله خمسة: قد مرّوا: مرّ أحمد بن يونس في التاسع عشر من الإيمان، وأنس في السادس منه، وزائدة في الثاني والعشرين من "الغسل"، وسليمان بن طرخان التيمي في التاسع والستين من "العلم"، ومرَّ أبو مجلز في تعليق بعد الثمانين من "الجماعة والإمامة". لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، والأولان من الرواة كوفيان والباقون بصريون، وفيه رواية تابعي عن تابعي أخرجه البخاري أيضًا في "المغازي"، ومسلم والنسائي في "الصلاة". الحديث الرابع عشر حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "كَانَ الْقُنُوتُ فِي الْمَغْرِبِ وَالْفَجْرِ". قد مرّ في الباب المذكور آنفًا عند ذكر هذا الحديث توجيه ذكر المغرب والفجر. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرّ مسدد وأنس في السادس من "الإيمان"، ومرّ إسماعيل بن عُلَيَّة في الثامن منه، وأبو قلابة في التاسع منه، وخالد الحذاء في السابع عشر من "العلم". لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإِفراد والعنعنة والقول، ورواته بصريان وواسطي وشامي، أخرجه البخاري في "الصلاة"، ومسلم والترمذي والنسائي. خاتمة اشتملت أبواب الوتر من الأحاديث المرفوعة على خمسة عشر حديثًا منها واحد معلق، المكرر منها فيه وفيما مضى ثمانية أحاديث والخالص سبعة، وافقه مسلم على تخريجها وفيه من الآثار ثلاثة موصولة، والله تعالى أعلم. ثم قال المصنف:

أبواب الاستسقاء

بسم الله الرحمن الرحيم أبواب الاستسقاء باب الاستسقاء وخروج النبي -صلى الله عليه وسلم- في الاستسقاء هكذا في رواية ابن شبويه بإثبات البسملة، وكذا للمستملي دون البسملة، وسقط ما قبل باب من رواية الحموي والكشميهني، وللأصيلي كتاب "الاستسقاء" فقط. والاستسقاء لغة طلب سقي الماء من الغير للنفس أو الغير. وشرعًا طلبه من الله تعالى عند حصول الجدب أو العطش على وجه مخصوص. الحديث الأول حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ قَالَ: "خَرَجَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَسْتَسْقِي وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ". قوله: "عن عبد الله" سيأتي في باب (تحويل الرداء) التصريح بسماع عبد الله له من عباد. وقوله: "عن عمه" هو عبد الله بن زيد بن عاصم كما سيأتي صريحًا في الباب المذكور وسياقه أتم. وقوله: "خرج النبي -صلى الله عليه وسلم-" أي: إلى الُمصلّى كما يأتي التصريح به أيضًا فيه، ويأتي الكلام فيه على كيفية تحويل الرداء. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرّ أبو نعيم في الخامس والأربعين من الإيمان، ومرّ سفيان الثوري في السابع والعشرين منه، ومرّ عبد الله بن أبي بكر الأنصاري في الرابع والعشرين من "الوضوء"، ومرّ عباد بن تميم وعمه في الثالث منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، والأولان من الرواة كوفيان والبقية مدنيون، وفيه رواية الرجل عن عمه ورواية التابعي عن التابعي، أخرجه البخاري في مواضع في "الاستسقاء" وفي "الدعوات"، ومسلم في "الصلاة" وأخرجوه خلا ابن ماجه من رواية عباد، وأخرجه ابن ماجه عن

باب دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- اجعلها عليهم سنين كسني يوسف

محمد بن الصباح. ثم قال المصنف: باب دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- اجْعَلْها عليهم سنينَ كسني يُوسفَ أورد فيه حديث أبي هريرة في دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- في القنوت للمؤمنين والدعاء على الكافرين، وفيه معنى الترجمة.

الحديث الثاني

الحديث الثاني حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قال: حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَنْجِ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، اللَّهُمَّ أَنْجِ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، اللَّهُمَّ أَنْجِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ. وَأَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: غِفَارُ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا، وَأَسْلَمُ سَالَمَهَا اللَّهُ". وجه إدخال هذا الحديث في أبواب الاستسقاء التنبيه على أنه كما شرع الدعاء بالاستسقاء للمؤمنين كذلك شرع الدعاء بالقحط على الكافرين لما فيه من نفع الفريقين بإضعاف عدو المؤمنين أو رقة قلوبهم؛ ليذلوا للمؤمنين. وقد ظهر من ثمرة ذلك التجاؤهم للنبي -صلى الله عليه وسلم- أن يدعو لهم برفع القحط كما في الحديث الثاني ويمكن أن يقال إن المراد أن مشروعية الدعاء على الكافرين في الصلاة تقتضي مشروعية الدعاء للمؤمنين فيها، فثبت بذلك صلاة الاستسقاء خلافًا لمن أنكرها. والمراد "بسني يوسف" ما وقع في زمانه عليه السلام من القحط في السنين السبع كما وقع في التنزيل، وقد بيّن ذلك في الحديث الثاني حيث قال: سبعًا كسبعِ يُوسُف" وأضيفت إليه، لكونه الذي أنذر بها أو لكونه الذي قام بأمور الناس فيها. وقوله: "اللَّهُمَّ اجعلْها سنينَ" في الرواية الماضية في باب يهوي بالتكبير من صفة الصلاة "اللهم اجْعلْها عليهم" والضمير في قوله: "اجعلها" يعود على المدة التي تقع فيها الشدة المعبر عنها بالوطأة وزاد بعد قوله فيها: "كسني يوسف" وأهل المشرق من مضر يومئذ مخالفون له. وقد مرّ الكلام على هذا الطرف من الحديث في الباب المذكور آنفًا. وقوله: "وأنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: غفار غفر الله لها" الخ هذا حديث آخر، وهو عند المصنف بالإسناد المذكور وكأنه سمعه هكذا فأورده كما سمعه. وقد أخرجه أحمد عن قتيبة كما أخرجه البخاري، ويحتمل أن يكون له تعلق بالترجمة من جهة أن الدعاء على المشركين بالقحط ينبغي أن يخص بمن كان محاربًا دون من كان مسالمًا. وفي قوله: "غفار غفر الله لها" الخ الدعاء بما يشتق من الاسم كان يقول لأحمد أحمدَ الله

رجاله خمسة

عاقبتك، ولعلي أعلاك الله وهو من جناس الاشتقاق الذي يلذ على السمع لسهولته وانسجامه، وهو من الاتفاقات اللطيفة ولا يختص بالدعاء بل يأتي مثله في الخبر ومنه قوله تعالى: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ} وهذا اللفظ خبر يراد به الدعاء، ويحتمل أن يكون خبرًا على بابه ويؤيده قوله في آخره كما يأتي في أول المناقب وعصية عصت الله ورسوله، وإنما اختصت القبيلتان بهذا الدعاء؛ لأن غفارًا أسلموا قديمًا وأسلم سالموا النبي -صلى الله عليه وسلم-وعصية بطن من بني سليم، وإنما قال فيهم ذلك، لأنهم عاهدوه فغدروا كما يأتي في غزوة بير معونة. وحكى ابن التين أن بني غفار كانوا يسرقون الحاج في الجاهلية، فلما أسلموا دعا لهم النبي عليه الصلاة والسلام ليمحى عنهم ذلك العار. رجاله خمسة: قد مرّوا إلا المغيرة: مرّ قتيبة في الحادي والعشرين من الإيمان، ومرَّ أبو الزناد والأعرج في السابع منه، وأبو هريرة في الثاني منه، وفيه ذكر عياش وسلمة والوليد وقد مرّوا جميعًا في الرابع والسبعين من "صفة الصلاة". وأما المغيرة فهو ابن عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشي الأسدي الحزامي المدني، لقبه قصي وقيل إنه من ولد حكيم بن حزام، ذكره ابن حبان في "الثقات". وقال أحمد: ما بحديثه بأس، وقال أبو داود: رجل صالح كان ينزل (بعسقلان) وقال مرة: لا بأس به، وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال ابن معين: ليس بشيء، وقال ابن عدي: ينفرد بأحاديث عامتها مستقيمة، وقال الخطيب: كان علامة بالنسب يسمى قصيا. وقال أبو زرعة: هو أحب إليّ من ابن أبي الزناد وشعيب في حديث أبي الزناد. روى عن أبي الزناد وموسى بن عقبة وربيعة وغيرهم، وروى عنه ابنه عبد الرحمن وأبو عامر العقدي وابن مهدي وغيرهم. ثم قال: "قال ابنُ أبي الزنادِ عن أبيه هذا كلُّهُ في الصُّبح" يعني أن عبد الرحمن بن أبي الزناد روى هذا الحديث عن أبيه بهذا الإِسناد فبيّن أن الدعاء المذكور كان في الصبح، وهذا ليس بتعليق بل هو رواية للحديث بالإسناد المذكور. وأبو الزناد مرّ في سند الحديث وولده عبد الرحمن بن أبي الزناد عبد الله بن ذكوان القرشي مولاهم المدني. قال مصعب: كاد أبو الزناد أحب أهل المدينة وابنه وابن ابنه، وقال موسى بن سلمة: قدمت المدينة فأتيت مالك بن أنس فقلت له إني قدمت إليك لأسمع العلم منك وممن تأمرني، فقال: عليك بابن أبي الزناد. وقال أبو داود: كان عالمًا بالقرآن عالمًا بالأخبار. وقال الترمذي والعجلي: ثقة، وصححَ

الترمذي عدة من أحاديثه وقال في اللباس: ثقة حافظ. وقال الواقدي: كان نبيلًا في علمه وولي خراج المدينة، وكان يستعين بأهل الخير والورع، وكانَ كثير الحديث عالمًا وقال ابن المديني ما حدّث بالمدينة فهو صحيح وما حدّث ببغداد أفسده البغداديون، ورأيت بأن مهدي يخط على أحاديثه. وقال صالح بن محمد: تكلم فيه مالك لروايته عن أبيه كتاب "السبعة الفقهاء" وكان يقول أين كنا. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة صدوق وفي حديثه ضعف. وقال الساجي عن ابن معين: حجة. وقال ابن سعد: قدم في جامعه فسمع منه البغداديون وكان كثير الحديث، وكان يضعف لروايته عن أبيه وكان يفتي. روى عن ابن معين أيضًا ليس ممن يحتج به أصحاب الحديث ليس بشيء، وفي رواية عنه ضعيف يروى عن أبيه وهشام بن عروة وسهيل بن أبي صالح وغيرهم، وروى عنه ابن جريج وزهير بن معاوية وهما أكبر منه، ومعاذ بن معاذ العنبري وأبو داود الطيالسي وغيرهم. ولد سنة مائة، ومات ببغداد سنة أربع وسبعين ومائة.

الحديث الثالث

الحديث الثالث حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: "كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا رَأَى مِنَ النَّاسِ إِدْبَارًا قَالَ: اللَّهُمَّ سَبْعٌ كَسَبْعِ يُوسُفَ. فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ حَصَّتْ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى أَكَلُوا الْجُلُودَ وَالْمَيْتَةَ وَالْجِيَفَ، وَيَنْظُرَ أَحَدُهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فَيَرَى الدُّخَانَ مِنَ الْجُوعِ، فَأَتَاهُ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ تَأْمُرُ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَبِصِلَةِ الرَّحِمِ وَإِنَّ قَوْمَكَ قَدْ هَلَكُوا، فَادْعُ اللَّهَ لَهُمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} إِلَى قَوْلِهِ {إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} فَالْبَطْشَةُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقَدْ مَضَتِ الدُّخَانُ وَالْبَطْشَةُ وَاللِّزَامُ وَآيَةُ الرُّومِ". قوله: "لما رأى من الناس إدبارًا" أي: عن الإِسلام وسيأتي في تفسير (سورة الدخان) أن قريشًا لما استعصوا على النبي -صلى الله عليه وسلم-. وقوله: "فأخذتهم سَنَةٌ" أي: بفتح المهملة بعدها نون خفيفة. وقوله: "حصَّت" بفتح الحاء والصاد المهملتين أي استأصلت النبات حتى خلت الأرض منه، يقال سنة حصاء أي جرداء لا غيث فيها. وقوله: "حتى أكلنا الجلود والميتة والجيف" وفي رواية حتى "أكلوا العظام والجلود" وفي جمهور الروايات الميتة بفتح الميم وبالتحتانية ثم المثناة وضبطها بعضهم بنون مكسورة ثم تحتانية ساكنة وهمزة وهو الجلد أول ما يدبغ، والأول أشهر. وقوله: "وينظر أحدكم إلى السماء فيرى الدخان من الجوع"، وفي رواية فكان يرى بينه وبين السماء مثل الدخان من الجوع، وفي رواية "وجعل يخرج من الأرض كهيئة الدخان" ولا تدافع بين الروايات؛ لأنه يحمل على أنه كان مبدؤه من الأرض ومنتهاه ما بين السماء والأرض ولا معارضة بين قوله: "يخرج من الأرض" وبين قوله: "كهيئة الدخان" لاحتمال وجود الأمرين بأن يخرج من الأرض بخار كهيئة الدخان من شدة حرارة الأرض ووهجها من عدم الغيث، وكانوا يرون بينهم وبين السماء مثل الدخان من فرط حرارة الجوع أو الذي كان يخرج من الأرض بحسب تخيلهم ذلك من غشاوة أبصارهم من فرط الجوع أو لفظ من الجوع صفة الدخان أي يرون مثل الدخان الكائن من الجوع. وقوله: "حتى أكلنا" في رواية المستملي والحموي "حتى أكلوا" وهو الوجه، وكذا قوله: "ينظر أحدكم" عند الأكثر "ينظر أحدهم" وهو الصواب.

وقوله: "وإن قومك قد هلكوا فادع الله لهم" وفي الرواية الآتية في سورة الدخان "استسق الله لمضر فإنها قد هلكت" ولا منافاة بين الروايتين؛ لأن مضر أيضًا قومه، وعلى الرواية الآتية إنما قال لمضر؛ لأن غالبهم كان بالقرب من مياه الحجاز، وكان الدعاء بالقحط على قريش وهم سكان مكة فسرى القحط إلى من حولهم فحسن أن يطلب الدعاء لهم، ولعل السائل عدل عن التعبير بقريش لئلا يذكرهم فيذكر بحرمهم فقال لمضر ليندرجوا فيهم ويشير أيضًا إلى أن غير المدعو عليهم قد هلكوا بجريرتهم، وفي الرواية الآتية فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "لمضر، إنك لجريء" أي: أتأمرني أن أستسقي لمضر مع ما هم عليه من المعصية والإشراك، فاللام في قوله: "لمضر" متعلقة بمحذوف كما قرر لك، وجعله الكرماني متعلقًا بقوله فقال: "وقال لمضر" أي: لأبي سفيان فإنه كان كبيرهم في ذلك الوقت هو كان الآتي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المستدعي منه الاستسقاء والعرب يضيفون الأمر إلى القبيلة، والأمر في الواقع مضاف إلى واحد منهم تقول قتلت قريش فلانًا ويريدون شخصًا منهم. وأفاد الدمياطي أن ابتداء دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- على قريش بما مرّ كان عقب طرحهم على ظهره سلى الجزور الذي تقدمت قصته في "الطهارة" وكان ذلك (بمكة) قبل الهجرة، وقد دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- عليهم بذلك بعدها (بالمدينة) كما، في حديث أبي هريرة الذي هنا. ولا يلزم من ذلك اتحاد هذه القصص إذ لا مانع أن يدعو بذلك عليهم مرارًا. وقوله: "فقد مضت الدخان والبطشة والفزام وآية الروم" وقد جاء في سورة الروم من وجه آخر عن الأعمش ولفظه "عن مسروف قال: بينما رجلٌ يحدث في كندةَ فقال: يجيء دُخانٌ يومَ القيامةِ فيأخذُ بأسماع المنافقينَ وأبصارِهم ويأخذُ المؤمنَ كهيئةِ الزكام ففزعنا فأتيتُ ابنَ مسعودٍ وكانَ متكئًا فغضبَ فجَلسَ فقالَ: مَنْ علمَ فليقلْ ومنْ لم يعلم فليقلْ الله أعْلم". وهذا الذي أنكره ابن مسعود قد جاء عن علي فأخرج عبد الرزاف وابن أبي حاتم عنه "قال: آيةُ الدخانِ لم تمض بعدُ يأخذُ المؤمنَ كهيئةِ الزكام وينفخ الكافر حتى ينفد". ثم أخرج عبد الرزاق عن ابن أبي مليكة قال: "دخلتُ على ابن عباسٍ يوماً فقال لي: لم أنمْ البارحةَ حتىِ أصبحتُ قالوا: طلعَ الكوكبُ ذو الذنبِ فخشينا الدخانَ قد خرجَ" وهذا يخشى أن يكون تصحيفًا، وإنما هو الدجال بالجيم الثقيلة واللام ويؤيد كون آية الدخان لم تمض ما أخرجه مسلم عن أبي شريحة رفعه "لا تقومُ الساعةُ حتى تروا عشرَ آياتٍ: طلوع الشمسِ من مغربها، والدخانَ والدابةَ" الحديث. وروى الطبري عن ربعي عن حذيفة مرفوعًا في خروج الآيات والدخان قال حذيفة: يا رسول اللهِ وما الدخانُ فتلا هذه الآية، قال أما المؤمنُ فيصيبُهُ منهُ كهيئةِ الزكمةِ وأما الكافرُ فيخرجُ من منخريهِ وأذنيهِ ودبرهِ" وإسناده ضعيف. وروى ابن أبي حاتم عن أبي سعيد نحوه وإسناده ضعيف أيضاً، وأخرجه مرفوعًا بإسناد أصلح منه، وللطبري عن أبي مالك الأشعري رفعه: "إنّ ربَّكم أنذرَكم ثلاثًا: الدخانَ يأخذُ المؤمنَ

رجاله ستة

كالزكمةِ" الحديث. ومن حديث ابن عمر نحوه وإسنادهما ضعيف أيضًا، لكن تظاهر هذه الأحاديث يدل على أن لذلك أصلًا، ولو ثبت طريق حديث حذيفة لاحتمل أن يكون هو القاص المراد في حديث ابن مسعود. رجاله ستة: وفيه ذكر أبي سفيان وقد مرّ الجميع: مرّ عثمان بن أبي شيبة وجرير ومنصور في الثاني عشر من "العلماء، ومرّ أبو الضحى في الخامس عشر من كتاب الصلاة، ومرّ مسروق في السابع والعشرين من "الإيمان"، ومرّ ابن مسعود في أثر أول كتاب "الإيمان"، ومرَّ أبو سفيان في السابع من "بدء الوحي". لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، ورواته كلهم كوفيون ما خلا جريرًا فإنه رازي. أخرجه البخاري في "الاستسقاء" أيضًا وفي التفسير، ومسلم في "التوبة"، والترمذي والنسائي في "التفسير". ثم قال المصنف: باب سؤال الناس الإِمام الاستسقاء إذا قحطوا قال ابن رشيد لو أدخل تحت هذه الترجمة حديث ابن مسعود الذي قبله لكان أوضح لما ذكر، ويأتي الجواب عن هذا. وقوله: "سؤال" مصدر فضاف لفاعله "والإمام" مفعوله وتاليه نصب على نزع الخافض أي عن الاستسقاء يقال سألته الشيء وعن الشيء، قلت: الظاهر أنه مفعول ثان إذ لا معنى (لِعَنْ) هنا إذ يقال سأله كذا فأعطاه السُؤْل. وقوله: "قَحَطوا" بفتح القاف والحاء مبنيًا للفاعل يقال قحط المطر إذا احتبس، فيكون من باب القلب؛ لأن المحتبس المطر لا الناس أو يقال إذا كان محتبسًا عنهم فهم محبوسون عنه، وحكى الفراء قحط بالكسر وللأصيلي وأبي ذر "قُحطوا" بضم القاف مبنيًا للمفعول، وقد سمع قحط القوم.

الحديث الرابع

الحديث الرابع حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو قُتَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَتَمَثَّلُ بِشِعْرِ أَبِي طَالِبٍ". وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ ... ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلأَرَامِلِ. وما مرّ من أن الأولى إدخال حديث ابن مسعود الذي قبله تحت هذه الترجمة أجاب عنه في الفتح بأن الذي يظهر أنه لما كان من سأل قد يكون مسلمًا وقد يكون مشركًا وقد يكون من الفريقين، وكان في حديث ابن مسعود أن الذي سأل كان مشركًا ناسب أن يذكر في الذي بعده ما يدل على ما إذا كان الطلب من الفريقين، ولذلك ذكر لفظ الترجمة عامًا لقوله سؤال الناس، وذلك أن المصنف أورد في هذا الباب حديث تمثل ابن عمر بشعر أبي طالب وقول أنس "إن عمر كان إذا قحطوا استسقى بالعباس" وقد اعترضه الإسماعيلي فقال: حديث ابن عمر خارج عن الترجمة إذ ليس فيه أن أحدًا سأله أن يستسقى له، ولا في قصة العباس التي أوردها أيضًا. وأجاب ابن المنير عن حديث ابن عمر بأن المناسبة تؤخذ من قوله فيه: "يستسقى الغمام"؛ لأن فاعله محذوف وهم الناس، وعن حديث أنس بأن في قول "عمر كنا نتوسل إليك بنبيك" دلالة على أن للإمام مدخلًا في الاستسقاء وتعقب بأنه لا يلزم من كون فاعل يستسقي الناس أن يكونوا سألوا الإمام أن يستسقي لهم كما في الترجمة، وكذلك ليس في قول عمر إنهم كانوا يتوسلون به دلالة على أنهم سألوه أن يستسقي لهم إذ يحتمل أن يكونوا في الحالين طلبوا السقيا من الله مستشفعين به عليه الصلاة والسلام. وقال ابن رشيد: يحتمل أن يكونوا أرادوا بالترجمة الاستدلال بطريق الأولى؛ لأنهم إذا كانوا يسألون الله به فيسقيهم فأحرى أن يقدموه للسؤال وهو حسن، ويمكن أن يكون أراد من حديث ابن عمر سياق الطريق الثانية عنه وأن يبين أن الطريق الأولى مختصرة منها وذلك أن لفظ الثانية ربما ذكرت قول الشاعر "وأنا انظر إلى وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- يستسقي" فدل ذلك على أنه هو الذي باشر الطلب عليه الصلاة والسلام وأن ابن عمر أشار إلى قصة وقعت في الإِسلام حضرها هو لا مجرد ما دل عليه شعر أبي طالب، وقد علم من بقية الأحاديث أنه عليه الصلاة والسلام إنما استسقى إجابة لسؤال من سأله في ذلك كما في حديث ابن مسعود الماضي وحديث أنس الآتي وغيرهما من الأحاديث. وأوضح من ذلك ما أخرجه البيهقي في الدلائل عن مسلم الملائي عن أنس قال: "جاء أعرابي إلى

النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسولَ اللهِ أتيناكَ وما لنا بعيرٌ يئطُ ولا صبي يغطُ ثم أنشدَ: أتيناك والعذراء يدمَى لَبانُها ... وقد شغلت أم الصبي عن الطفل وألقى بكفيه الصبي استكانة ... من الجوع ضعفًا ما يُمر وما يُحلي ولا شيء مما يأكل الناس عندنا ... سوى الحنظل العاهي والعِلْهَز الفَسل وليس لنا إلا إليك فرارنا ... وأين فرار الناس إلا إلى الرسل فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجر رداءَهُ حتى صعدَ المنبرَ فحمدَ الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: اللَّهُمَّ اسقنا" الحديث. وفيه "فجاء أهلُ البطانةِ يصيحونَ الغرقَ الغرقَ فضحك رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- حتى بدتْ نواجذُه ثم قال: لله درُّ أبي طالب لو كان حاضرًا لقرتْ عينُهُ ثم قال من ينشدنا؟ فقال علي: يا رسولَ اللهِ كأنكَ أردتَ قوله: وأبيضَ يُستسقى الغمامُ بوجههِ .. الأبيات فظهرت بذلك مناسبة حديث ابن عمر للترجمة وإسناد حديث أنس وإن كان فيه ضعف، لكنه يصلح للمتابعة. وقد ذكره ابن هشام في زوائده في "السير" عمن يثق به تعليقًا. وقوله: "يئط" بفتح أوله وكسر الهمزة وكذلك"يغط" بالمعجمة. والأطيط صوت البعير المثقل والغطيط صوت النائم، وكنى بذلك عن شدة الجوع؛ لأنهما إنما يقعان غالبًا عند الشبع واللبان بفتح اللام الصدر أي يدمى لامتهانها في الخدمة. وقوله: "ما يُمر" بضم أوله وكذلك "يُحلى" والأول من المرارة كناية عن الشر، والثاني من الحلاوة كناية عن الخير. "العاهي" من العاهة وهي الأفة، و"العِلْهَز" بكسر أوله وسكون ثانيه وفتح ثالثه وهو شيء يتخذونه في سني المجاعة يخلطون الدم بأوبار الإبل ثم يشوونه بالنار ويأكلونه. "والفَسل" بفتح الفاء الردي. وقوله: "يتمثل" أي ينشد شعر غيره. وقوله: "وأبيض" بفتح الضاد وهو مجرور برب مقدرة أو منصوب بإضمار أعني أو أخص، والراجح أنه منصوب عطف على قوله سيدًا في البيت الذي قبله وهو: وما ترك قومٍ لا أبا لك سيدًا ... يحوط الذمار بين بكر بن وائل وقوله: "ثمال" بكسر المثلثة وتخفيف الميم هو العماد والملجأ والمطعم والمغيث والمعين والكافي قد أطلق على كل من ذلك قوله: "عصمة للأرامل" أي: يمنعهم مما يضرهم. والأرامل جمع أرملة وهي الفقيرة التي لا زوج لها، وقد يستعمل في الرجل أيضًا مجازًا قال: هذي الأرامل قد قضّيتَ حاجتَها ... فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر قال في "الفتح": ومن ثم لو أوصى للأرامل خص النساء دون الرجال. قلت: هذا لعله

مذهبه، أما مذهب مالك فالأرامل عنده شاملة للذكر والأنثى، وهذا البيت من قصيدة لأبي طالب ذكرها ابن إسحاق في السيرة بطولها وهي مائة بيت وعشرة أبيات قالها لما تمالأت قريش على النبي -صلى الله عليه وسلم- ونفروا عنه من يريد الإِسلام أولها: ولما رأيت القوم لا ود فيهم ... وقد قطعوا كل العُرى والوسائل وقد جاهرونا بالعداوة والأذى ... وقد طاوعوا أمر العدو المزايل يقول فيها: أعبد مناف أنتم خير قومكم ... فلا تشركوا في أمركم كل واغل فقد خفت إن لم يصلح الله أمركم ... تكونوا كما كانت أحاديث وائل ويقول فيها: أعوذ برب الناس من كل طاعن ... علينا بسوء أو ملح بباطل وثورٍ ومن أرسى ثَبيرًا مكانه ... وراق لبر في حراء ونازل وبالبيت حق البيت من بطن مكة ... وبالله إن الله ليس بغافل ويقول فيها: كذبتم وبيتِ الله نبزى محمدًا ... ولما نطاعنْ دونَه ونناضل ونُسْلِمَه حتى نُصرَّع حَوله ... وندهلَ عن أبنائنا والحلائلِ وما تَرْكُ قوم لا أبا لك سيدًا ... يحوطُ الذمارَ بين بكر بن وائل وأبيض يَستسقى الغمامُ بوجهِه ... ثِمَالُ اليتامى عصمةٌ للأرامل يلوذ به الهلّاك من آل هاشم ... فهم عنده في نعمة وفواضل وقد أتى بها صاحب "خزانة الأدب الكبرى" مشروحة قال السهيلي: فإن قيل كيف قال أبو طالب يستسقى الغمام بوجهه ولم يره قط استسقى إنما كان ذلك منه بعد الهجرة؟ وأجاب بما حاصله أن أبا طالب أشار إلى ما وقع في زمن عبد المطلب حيث استسقى لقريش والنبي -صلى الله عليه وسلم- معه غلام أو أشار بهذا إلى ما أخرجه ابن عساكر عن جلهمة بن عرفطة قال: "قدمتُ مكةَ وهم في قحطٍ فقالت قريشُ: يا أبا طالبٍ أقحطَ الوادي وأجدبَ العيالُ فهلُّمَ فاستسق فخرجَ أبو طالب معه غلامٌ -يعني النبي -صلى الله عليه وسلم- كأنَّه شمسُ دجنٍ تجلتْ في سحابةٍ قتماءَ وحولَهُ أغيَلمةٌ فأخذَهُ أبو طالب فألصقَ ظهرهُ بالكعبة ولاذَ الغلامُ وما في السماءِ قَزَعة فأقبلَ السحابُ من هاهنا وهاهنا، وأغدقَ واغدودقَ وانفجرَ الوادي وأخصبَ النادي والبادي". وفي ذلك يقول أبو طالب: وأبيضَ يُستسقى الغمامُ بوجهه .. ويحتمل أن يكون أبو طالب مدحه بذلك لما رأى من مخايل ذلك فيه وإن لم يشاهد وقوعه. قال في "الفتح": والظاهر أن مجيء أبي سفيان المذكور في حديث ابن مسعود كان قبل الهجرة؛ لقول ابن مسعود في حديثه الآتي في باب (إذا استشفع المشركون) الخ ثم عادوا فذلك قوله تعالى:

رجاله خمسة

{يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} يوم بدر، ولم ينقل أن أبا سفيان قدم المدينة قبل بدر وعلى هذا، فيحتمل أن يكون أبو طالب كان حاضرًا ذلك، فلذلك قال: وأبيضَ يُستسقى الغمامُ بوجهه .. البيت لكن سيأتي في الباب المذكور ما يدل على أن القصة المذكورة وقعت (بالمدينة) فإن لم يحمل على التعدد، وإلا فهو مشكل جدًا وسيأتي إتمام الكلام على ذلك في الباب المذكور. وقد ذكر ابن التين أن في شعر أبي طالب هذا دلالة على أنه كان يعرف نبوة النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يبعث لما أخبره به بحَيْرَى أو غيره من شأنه. وفيه نظر، لما ذكر ابن إسحاق أن إنشاد أبي طالب لهذا الشعر كان بعد المبعث. قال في "الفتح": ومعرفة أبي طالب لنبوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جاءت في الكثير من الأخبار، وتمسك بها الشيعة في أنه كان مسلمًا، ورأيت لعلي بن حمزة جزأ فيه شعر أبي طالب، وزعم في أوله أنه كان مسلمًا وأنه مات على الإِسلام، وأن الحشوية تزعم أنه مات على الكفر، وأنهم لذلك يستجيزون لعنه وسبه، ثم بالغ في سبهم والرد عليهم واستدل لدعواه بما لا دلالة فيه. وقد بينت فساد ذلك كله في ترجمة أبي طالب الآتية قريبا في سند هذا الحديث. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرّ عمرو بن علي في السابع والأربعين من "الوضوء"، ومرّ عبد الرحمن بن عبد الله في الثامن والثلاثين منه، ومرّ أبو قتيبة في الثلاثين من الجمعة، ومرّ عبد الله بن دينار في الثاني من "الإيمان"، ومرّ ابن عمر في أوله قبل ذكر حديث منه. وفي الحديث ذكر أبي طالب، وها أنا أذكر تعريفه تبعًا للإصابة فأقول: أبو طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي القرشي الهاشمي عم النبي -صلى الله عليه وسلم- شقيق أبيه، أمهما فاطمة بنت عمرو بن عائذ المخزومية، اشتهر بكنيته واسمه عبد مناف على المشهور، وقيل عمران. وقال الحاكم: أكثر المتقدمين على أن اسمه كنيته، ولد قبل النبي -صلى الله عليه وسلم- بخمس وثلاثين سنة، ولما مات عبد المطلب أوصى بمحمد -صلى الله عليه وسلم- إلى أبي طالب، فكفله وأحسن تربيته وسافر به صحبته إلى الشام وهو شاب ولما بعث قام في نصرته وذبَّ عنه من عاداه ومدحه في عدة مدائح منها قوله لما استسقى لأهل (مكة) فسقوا: وأبيضَ يُستسقى الغمامُ بوجههِ ... ثمالُ اليتامى عصمةٌ للأراملِ ومنها قوله من قصيدة: وشَقَّ له من إسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد قال ابن عيينة عن علي بن زيد: "ما سمعت أحسن من هذا البيت". وأخرج أحمد من طريق حبة العرني قال: "رأيت عليًا ضحك على المنبر حتى بدت نواجده تذكر قول أبي طالب، وقد ظهر علينا وأنا أصلي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ببطن نخلة فقال: ماذا يصنعان فدعاه إلى الإِسلام، فقال ما بالذي تقول من بأس ولكن والله لا يعلو استي أبدًا". وأخرج البخاري في "التاريخ" عن عقيل بن أبي طالب قال: "قالت قريش لأبي طالب إن ابن

أخيك هذا قد آذانا. فقال: يا عقيل ايتني بمحمد. قال: فجئت به في الظهيرة فقال: إن بني عمك هؤلاء زعموا أنك تؤذيهم فانتهِ عن أذاهم. فقال: أترون هذه الشمس؟ فما أنا بأقدر على أن أدع ذلك. فقال أبو طالب والله ما كذب ابن أخي قط". وأخرج عبد الرزاق عن حبيب بن أبي ثابت عن من سمع ابن عباس في قوله تعالى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} قال نزلت في أبي طالب كان ينهى عن أذى النبي -صلى الله عليه وسلم- وينأى عما جاء به. وأخرج ابن عدي عن أنس قال: "مرض أبو طالب فعاده النبي عليه الصلاة والسلام فقال: يا ابن أخي ادعُ ربك الذي بعثك يعافيني. فقال: اللهم اشفِ عمي فقام كأنما نشط من عقال، فقال يا ابن أخي إن ربك ليطيعك فقال وأنت يا عماه لو أطعته ليطيعك". وفي زيادات يونس بن بكير عن أبي السفر قال: بعث أبو طالب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال أطعمني من عنب جنتك. فقال إن الله حرمها على الكافرين". وذكر جمع من الرافضة أنه مات مسلمًا وتمسكوا بما نسب إليه قوله: ودعوتني وعلمت أنك صادق ... ولقد صدقت وكنت قبل أمينا ولقد علمت بأنّ دين محمد ... من خير أديان البرية دينا ولا دلالة لهم في هذين البيتين، فإن العلم وحده لا يثبت به الإيمان فلابد معه من الإذعان فقد قال الله تعالى إخبارًا عن اليهود {يَعْرفونَهُ كلمَا يَعْرفُونَ أبْنَاءَهُمْ} وقال تعالى في مخاطبة موسى عليه السلام لفرعون {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فلو كان العلم وحده كافيًا في الإيمان كانت اليهود وفرعون مسلمين، فكفره كفر عناد لا كفر إنكار. وقال ابن عساكر في ترجمته قيل إنه أسلم ولا يصح إسلامه، وألف بعض الروافض تأليفًا أثبت فيه إسلام أبي طالب مستدلًا على ذلك بأحاديث منها: ما رواه يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق عن العباس بن عبد الله بن سعيد بن العباس عن بعض أهله عن ابن عباس قال: "لما أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا طالب في مرضه قال: يا عم "قلْ لا إله إلا الله كلمة استحل لك بها الشفاعة يوم القيامة. قال يا ابن أخي: والله لولا أن تكون مشقة عليّ وعلى أهلي من بعدي يرون أني قلتها جزعًا عند الموت لقلتها لا أقولها إلا لأسرك بها، فلما ثقل أبو طالب رؤي يحرك شفتيه فأصغى إليه العباس فسمع قوله، فرفع رأسه فقال قد قال والله الكلمة التي سأل عنها" وهذا الحديث سنده واهٍ جدًا وفيه الجهالة في قوله عن بعض أهله، وهذا كاف في بطلانه وعلى تقدير ثبوته فقد عارضه ما هو أصح منه ففي "الصحيحين" عن سعيد بن المسيب عن أبيه "أن أبا طالب لما حضرتْهُ الوفاة دخلَ عليه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وعندَهُ أبو جهل وعبدُ الله بنُ أبي أميةَ فقال: يا عمُّ قلْ لا إله إلاَّ الله كلمةً أُحاج لكَ بها عندَ الله، فقال له أبو جهل وعبدُ الله بنُ أبي أميةَ: أترغبُ عن ملةِ عبدِ المطلب، فلم يزالا به حتى قال آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب. فقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- لأستغفرنَّ لك ما لم أُنْهَ عنك، فنزلت {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} وقوله تعالى: {إنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أحْبَبْتَ} الخ الآية، فهذا الصحيح يرد الرواية التي ذكرها ابن إسحاق إذ لو كان قال كلمة التوحيد ما نهى الله تعالى نبيه

عن الاستغفار له، ويرده أيضًا ما أخرجه الشيخان عن أبي سعيد الخدري "أنه سمعَ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وذكرَ عندَهُ عمُّهُ فقال: لعلَّه تنفعُهُ شفاعتي يوم القيامة فيجعلَ في ضحضاحٍ من النارِ يبلغُ كعبيه يغلي منه أمُ دماغِهِ" وما أخرجه البخاري في "صحيحه" عن العباسٍ نفسه المزور عليه الحديث السابق "أنه أي العباس قال للنبيِّ -صلى الله عليه وسلم- ما أغنيتَ عن عمِّكَ أبي طالب فإنَّه كان يحوطك ويغضبُ لكَ فقال: هو في ضحضاحٍ منَ النارِ ولولا أنا لكان في الدركِ الأسفلِ"، فهذا شأن من مات على الكفر فلو كان مات على التوحيد لنجا من النار أصلًا، ولو كان العباس رضي الله تعالى عنه سمع نطقه بالشهادة ما احتاج إلى سؤاله عليه الصلاة والسلام بما ينفعه. وأجاب الرافضي المذكور عن قوله: "هو على ملة عبد المطلب" بأن عبد المطلب مات على الإِسلام واستدل بأثر مقطوع عن جعفر الصادق وما أجاب به جهل وحماقة وسهو عن الحديث نفسه، فإن القائل له "أترغب عن ملة عبد المطلب" أبو جهل، فلو كانت ملة عبد المطلب إسلامًا منجيه من النار كان أبو جهل الطالب منه الثبوت عليها مسلمًا ناجيًا من النار، وكذلك جميع أهل القليب؛ لأن كل واحد منهم يقول إنه على ملة عبد المطلب وبطلان هذا واضح لا يحتاج معه إلى بطلان الأثر المذكور، الأثر المذكور هو ما ذكره الرافضي عن راشد الحماني قال: "سئل أبو عبد الله يعني جعفر الصادق عن أهل الجنة فقال: الأنبياء في الجنة، والصالحون في الجنة، والأسباط في الجنة، وأجمل العالمين مجدًا محمد -صلى الله عليه وسلم- يقدم آدم فمن بعده من آبائه، وهذه الأصناف يحدثون به، ويحشر عبد المطلب به نور الأنبياء وجمال الملوك، ويحشر أبو طالب في زمرته فإذا ساروا بحضرة الحساب وتبوأ أهل الجنة منازلهم ودخل أهل النار، ارتفع شهاب عظيم لا يشك من رآه أنه غيم من النار فيحضر كل من عرف ربه ولم يعرف نبيه، والشيخ الفاني والطفل فيقال لهم: إن الجبار تبارك وتعالى يأمركم أن تدخلوا هذه النار، فكل من اقتحمها خلص من النار إلى أعلى الجنان، ومن كع عنها غشيته"، أخرجه عن أبي بشر أحمد بن إبراهيم بن يعلي بن أسد عن صالح الحمادي عن أبيه عن جده سمعت راشد الحماني فذكره. وهذه سلسلة من غلاة الروافض. قلت: الأثر ظاهر الوضع فإن فيه إبطال وجوب التصديق بالأنبياء؛ لقوله فيه كل من عرف ربه بصيغة العموم، فكل من كذب الأنبياء وصدق بالله لا يقطع بدخوله في النار ولا مزية فيه لأبي طالب على أبي جهل، وأي خصوصية له عليه في التصديق بملة عبد المطلب حتى يكون هو الذي في زمرته، فجميع كفار قريش كلهم على ملته، وأيضًا هذا الأثر المزور ليس فيه تصريح بأن عبد المطلب ومن تبعه ممن اقتحمها أو كع عنها مزورا، ولم يأتوا بمرادهم وأبطلوا بتزويرهم وجوب التصديق بعذاب من كذب الرسل. قال في "الإصابة": قد ورد في عدة طرق استوفيتها في حق الشيخ الهرم، ومن مات في الفترة ومن ولد أكمه أعمى أصم، ومن ولد مجنونًا أو طرأ عليه الجنون قبل البلوغ ونحو ذلك أن كلاً منهم يدلي بحجة لو عقلت أو ذكرت لآمنت فترفع لهم نار، ويقال لهم: ادخلوها، فمن دخلها كانت عليه

بردًا وسلامًا، ومن امتنع أُدخلها كرهًا، فأي حجة لأبي طالب مع طول دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- آناء الليل وأطراف النهار. ومما يرد حديث العباس أيضًا افتخار أبي جعفر المنصور في كتابته لمحمد بن عبد الله الحسن لما خرج عليه (بالمدينة) ففي كتابه له "قد بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- وله أربعة أعمام فآمن به اثنان أحدهما أبي وكفر به اثنان أحدهما أبوك". ومن شعر عبد الله بن المعتز يخاطب الفاطميين: وأنتم بنو بنته دوننا ... ونحن بنو عمه المسلم ومما استدل به الرافضي ما رواه عن إسحاق بن عيسى الهاشمي بسنده إلى أبي رافع قال: "سمعت أبا طالب يقول: سمعت ابن أخي يقول: إن ربه بعثه بصلة الرحم وأن يعبد الله وحده لا يعبد معه غيره ومحمد الصدوق الأمين" وهذا مع ضعف سنده لا دلالة فيه على إيمان أبي طالب فيجاب عنه وعما ورد في إشعاره بأن علمه بصدقه من غير إذعان وقبول لما جاء به لا يكون إيمانًا، وهو نظير ما قاله تعالى في كفار قريش {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} فكان كفرهم عناداً ومنشؤه من الأنفة والكِبر، وإلى ذلك أشار أبو طالب بقوله: "لولا أن تعيرني قريش". ومما استدل به أيضًا ما رواه عن أبي عامر الهوازني بسند ضعيف جدًا "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج معارضًا جنازة أبي طالب وهو يقول: وصلتك رحم" فهذا مع ضعفه وإرساله لا حجة فيه إذ لو كان مسلمًا لمشى معه وصلى عليه ولا يكتفى بالمعارضة، وقد ورد ما هو أصح منه مما يبطله وهو ما أخرجه أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة عن ناجية بن كعب عن علي "لما مات أبو طالب أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلت إن عمك الضال قد مات. قال: اذهب فوارِهِ قلت: إنه مات مشركًا فقال: اذهب فوارِهِ ولا تحدث شيئًا حتى تأتيني ففعلت فأتيته، فدعا لي بدعوات". وقد أخرج الرافضي هذا الحديث بدون قوله: "الضال" لمنافاتها لغرضه. وقد أخرج هذا الرافضي قصة وفاة أبي طالب عن علي رضي الله تعالى عنه قال: "تبع أبو طالب عبد المطلب في كل أحواله حتى خرج من الدنيا وهو على ملته، وأوصاني أن أدفنه في قبره فأخبرت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال اذهب فوارِهِ وأتيته لما أنزل به فغسلته وكفنته وحملته إلى الحجون، فنبشت عن قبر عبد المطلب فوجدته متوجهًا إلى القبلة فدفنته معه. قال متيم ما عبد علي ولا أحد من آبائه إلا الله إلى أن ماتوا" أخرجه عن أبي بشر المتقدم بسلسلة من غلاة الروافض. وقد مرّ قريبًا ما هو أصح منه وأقوى فهو المعتمد. ومما استدل به أيضًا ما رواه عن علي أنه لما أسلم قال له أبو طالب: "الزم ابن عمك"، وبما رواه أيضًا عن عمران بن حصين "أن أبا طالب قال لجعفر بن أبي طالب لما أسلم: صِلْ جناح ابن عمك فصلّى جعفر مع النبي -صلى الله عليه وسلم-". وهذان الحديثان مع شدة ضعف سندهما لا حجة فيهما؛ لأن أمره لولديه من حسن نصرته له وذبَّه عنه ومعاداته لقومه بسببه، وتركه هو للإسلام إنما هو من باب العناد كما مرّ.

واستدل أيضًا بما رواه عن ابن عباس قال: "جاء أبو بكر بأبي قحافة هو شيخ قد عمي فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ألا تركت الشيخ حتى آتيه. قال أردت أن يأجره الله، والذي بعثك بالحق لأنا كنت أشد فرحًا بإسلام أبي طالب مني بإسلام أبي ألتمس بذلك قرة عينك" والسند الذي أخرج به هذا الحديث واهٍ جدًا، وعلى تقدير ثبوته ليس معناه ما أراد، بل معناه إني كنت أشد فرحًا بإسلام أبي طالب لو أسلم مني بإسلام أبي. ويبيّن ذلك ما أخرجه أبو قرة موسى بن طارق عن ابن عمر قال: "جاء أبو بكر بأبي قحافة يقوده يوم فتح مكة فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ألا تركت الشيخ حتى آتيه. قال أبو بكر أردت أن يأجره الله، والذي بعثك بالحق لأنا كنت أشد فرحًا بإسلام أبي طالب لو كان أسلم مني بإسلام أبي". وأخرج عمر بن شيبة في كتاب مكة وأبو يعلى وأبو بشر بسند صحيح والحاكم وقال على شرط الشيخين عن أنس في قصة إسلام أبي قحافة قال: فلما مد يده يبايعه بكى أبو بكر فقال النبي-صلى الله عليه وسلم-: ما يبكيك؟ قال: لئن تكون يد عمك مكان يده ويسلم ويقر الله عينك أحب إلى من أن يكون". وذكر ابن إسحاق "أن عمر لما عارض العباس في أبي سفيان لما أقبل به ليلة الفتح فقال له العباس: "لو كان من بني عدي ما أحببت أن يقتل. فقال عمر: أنا بإسلامك إذا أسلمت أفرح مني بإسلام الخطاب" يعني لو أسلم. واستدل الرافضي أيضًا بقوله تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} قال: وقد عزره أبو طالب بما اشتهر وعلم ونابذ قريشًا وعاداهم بسببه مما لا يدفعه أحد من نقلة الأخبار فيكون مفلحًا. وهذا مبلغهم من العلم ونحن نسلم أنه نصره وبالغ في ذلك، لكنه لم يتبع النور الذي أنزل معه، وهو الكتاب العزيز الداعي إلى التوحيد، ولا يحصل الفلاح إلا بحصول ما رتب عليه من الصفات كلها كما حصل لأبي بكر وعمر اللذين تبغضونهما وتؤذونهما أذية له -صلى الله عليه وسلم-. ومما لم يذكره الرافضي من الأحاديث في هذا الباب ما أخرجه تمام الرازي في فوائده من طريق الوليد بن مسلم عن عبد الله بن عمر رفعه "أنه إذا كان يوم القيامة شفعت لأبي وأمي وعمي أبي طالب وأخ لي كان في الجاهلية" قال تمام الوليد منكر الحديث. وأخرج الخطيب في كتاب "رواية الآباء عن الأبناء" عن "الحسن بن علي أن عليًا قال: سمعت أبا طالب يقول حدثني محمد ابن أخي وكان والله صدوقًا قال: قلت له: بمَ بعثت يا محمد؟ قال بصلة الرحم وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة". قال الخطيب لم أكتبه بهذا الإِسناد إلا عن دبيس وهو صاحب غرائب وكثير الرواية للمناكير. وأخرج الخطيب أيضًا عن أبي رافع أنه سمع أبا طالب يقول حدثني محمد أن الله أمره بصلة الأرحام وأن يعبد الله وحده لا يعبد معه أحدًا وهو عندي الصدوق الأمين. قال الخطيب: لا يثبت

هذا الحديث عند أهل العلم بالنقل، وفي إسناده غير واحد من المجهولين وجعفر ذاهب الحديث، وروى ابن سعد في "الطبقات" عن عمرو بن سعيد "أن أبا طالب قال: كنت بذي المجاز مع ابن أخي فأدركني العطش فشكوت إليه ولا أرى عنده شيئًا، قال: فثنى وركه فنزل فأهوى بعصاه إلى الأرض فإذا بالماء فقال اشرب يا عمّ فشربت". فهذه الأحاديث قيل إنها رويت عن أبي طالب، ولا غرابة في تسميته له بالصادق الأمين فإن كفار قريش كانوا يسمونه بالأمين ويقرون له بالصدق كما ثبت في الأحاديث الصحاح، وإنما كتبت ما كتبت إثباتًا لما هو الحق في هذه الشريعة المحمدية من عدم إسلام أبي طالب مع أني أود أن كل من كان بينه مع النبي -صلى الله عليه وسلم- قرابة يدخل الجنة بلا حساب ولا عقاب، ولكن الشرع لابد من تبيينه. مات أبو طالب في نصف شوال من السنة العاشرة، وكان له يوم مات بضع وثمانون سنة. ثم قال: "وقال عمرُ بنُ حمزةَ حدثنا سالمٌ عن أبيه ربّما ذكرتُ قولَ الشاعرِ وأنا أنظرُ إلى وجهِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- يستسقي حتى يجيشَ كلُّ ميزاب". وأبيضَ يُسْتَسقى الغمامُ بوجهِهِ ... ثِمَالُ اليتامى عِصمةٌ للأراملِ وهو قولُ أبي طالبٍ". قوله: "يَستسقي" بفتح أوله زاد ابن ماجه في روايته "على المنبر" وفي روايته أيضًا "في المدينة". وقوله: "يَجِيش" بفتح أوله وكسر الجيم وآخره شين معجمة يقال جاش الوادي إذا زخر بالماء، وجاشت القدر إذا غلت، وجاش الشيء إذا تحرك وهو كناية عن كثرة المطر. وقوله: "كل ميزاب" بكسر الميم وبالزاي معروف وهو ما يسيل منه الماء من موضع عال. وفي رواية الحموي "حتى يجيش لك" بتقديم لام الجر على الكاف وهو تصحيف. وعمر بن حمزة المذكور في هذا التعليق وعبد الرحمن بن عبد الله بن دينار المذكور في الطريق السابقة الموصولة مختلف في الاحتجاج بهما, ولكن اعتضدت إحدى الطريقين بالأخرى، وهذا من أمثلة أحد قسمي "الصحيح" كما تقرر في علوم الحديث. وهذا التعليق وصله أحمد وابن ماجه والإسماعيلي من رواية أبي عَقِيل عبد الله بن عَقِيل الثقفي عنه بالتكبير فيهما. ورجاله ثلاثة: مرّ سالم في السابع عشر من "الإيمان" وذكر أبيه الآن، وأما عمر فهو ابن حمزة بن عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي العمري المدني. ذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: كان ممن يخطىء، وقال ابن عدي: هو ممن يكتب حديثه وأخرج الحاكم حديثه في "المستدرك" وقال: أحاديثه كلها مستقيمة. وقال أحمد: أحاديثه مناكير، وقال النسائي ضعيف. وقال ابن معين: عمر بن حمزة

أضعف من عمر بن محمد بن زيد. روى عن عمه سالم بن عبد الله وحصين بن مصعب ومحمد بن كعب القرظي وغيرهم. وروى عنه مروان بن معاوية وأحمد بن بشير الكوفي وأبو عقيل الثقفي وغيرهم.

الحديث الخامس

الحديث الخامس حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُثَنَّى عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَنَسٍ "أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه كَانَ إِذَا قَحَطُوا اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا. قَالَ فَيُسْقَوْنَ. قوله: "الحسن بن محمد" هو الزعفراني والأنصاري شيخه يروي عنه البخاري كثيرًا، وربما أدخل بينهما واسطة كهذا الموضع، ووهم من زعم أن البخاري أخرج هذا الحديث عن الأنصاري نفسه. وقوله: "كانوا إذا قُحطوا" أي: بضم القاف وكسر المهملة أي: أصابهم قحط، وأشار المصنف بحديث أنس هذا عن عمر إلى ما ورد في بعض طرقه، وهو عند الإسماعيلي عن محمد بن المثنى عن الأنصاري بإسناد البخاري إلى أنس قال: "كانوا إذا قُحطوا على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- استسقوا به فيستسقي لهم فيُسقون، فلما كان في إمارة عمر" فذكر الحديث. وقد أشار إلى ذلك الإسماعيلي فقال: هذا الذي رويته يحتمل المعنى الذي ترجمه بخلاف ما أورده هو وليس ذلك بمبتدع لما عرف بالاستقراء من عادته من الاكتفاء بالإشارة إلى ما ورد في بعض طرق الحديث الذي يورده. وقد روى عبد الرزاق عن عبد الله بن عباس "أن عمر استسقى بالمُصلّى فقال للعباس: قمْ فاستسقِ فقامَ العباسُ" فذكر الحديث فتبين بهذا أن في القصة المذكورة أن العباس كان مسؤولًا، وأنه ينزل منزلة الإِمام إذا أمره الإِمام بذلك وهذا جواب عما مرّ من اعتراض الإسماعيلي أن قصة العباس خارجة عن موضع الترجمة. وقد بيّن الزبير بن بكار صفة ما دعا به العباس في هذه الواقعة والوقت الذي وقع فيه ذلك فأخرج بإسناد له "أن العباس لما استسقى به عمر قال: اللَّهُمَّ انه لم ينزلْ بلاءٌ إلا بذنبٍ ولمْ يكشفْ إلا بتوبةٍ وقد توجه القومُ بي إليكَ لمكاني من نبيكَ وهذه أيدينا إليك بالذنوب ونواصينا إليك بالتوبة فاسقنا الغيثَ فأرختِ السماءُ مثلَ الجبالِ حتى اخصبتِ الأرضُ وعاشَ الناسُ". وأخرج أيضًا عن زيد بن أسلم عن ابن عمر قال: "استسقى عمرُ بنُ الخطاب عامَ الرمادةِ

رجاله ستة

بالعباس بن عبدِ المطلب" فذكر الحديث وفيه "فخطبَ الناسَ عمرُ فقال: إن رسوَل اللهِ -صلى الله عليه وسلم- كان يرى للعباسِ ما يرى الولَدُ للوالدِ فاقتدوا أيُّها الناسُ برسول اللهِ -صلى الله عليه وسلم- في عمّه العباسِ واتخذوهُ وسيلةً إلى اللهِ، وفيه فما برحوا حتى سقاهمُ الله". وأخرجه البلاذري عن زيد بن أسلم فقال عن أبيه بدل ابن عمر، فيحتمل أن يكون لزيد فيه شيخان، وذكر ابن سعد وغيره أن عام الرمادة كان سنة ثمان عشرة وكان ابتداؤه مصدر الحاج منها، ودام تسعة أشهر، والرمادة بفتح الراء وتخفف الميم سمي العام بها لما حصل من شدة الجدب فاغبرت الأرض جدًا من عدم المطر، وعن كعب الأحبار أن بني إسرائيل كانوا إذا قحطوا استسقوا بأهل بيت نبيهم. وذكر سيف في كتاب "الرّدة" عن أبي سلمة "كان أبو بكر الصديق إذا بعث جندًا إلى أهل الردة خرج ليشيعهم، وخرج بالعباس معه قال يا عباس استنصر وأنا أؤمن. قال أرجو أن لا تخيب دعوتك لمكانك من نبي الله -صلى الله عليه وسلم-". وذكر أبو القاسم بن عساكر في كتاب "الاستسقاء" عن ابن عباس أن العباس قال ذلك اليوم: "اللهم إنَّ عندَكَ سحابًا وإنَّ عندَك ماءً فانشر السحابَ ثم أنزلْ منه الماءَ ثم أنزلْه علينا واشدُدْ بهِ الأصلَ وأطلْ به الفرعَ وأدرَّ به الضرعَ، اللَّهمَّ شفعنا إليك عمن لا منطقَ له من بهائمنا وأنعَامِنا، اللَّهُمَّ اسقنا سقيًا وادعةً بالغةً طبقًا مجيبًا، اللَّهُمَّ لا نرغبُ إلا إليكَ وحدَكَ لا شريكَ لكَ، اللَّهُمَّ إنا نشكو إليك سغبَ كلِّ ساغبٍ وعُدْم كلِّ عادمٍ وجوعَ كلِّ جائعٍ وعري كلِّ عارٍ وخوفَ كلِّ خائفٍ". وقد ذكرت ما يتعلق باستسقاء العباس في ترجمته في كتاب "الوضوء" وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن أبي صالح السمان عن مالك الداري وكان خازن عمر قال: "أصابَ الناسَ قحطٌ في زمنِ عمرَ فجاءَ رجلٌ إلى قبرِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فقال: يارسولُ اللهِ استسقِ لأمتكَ فإنهم قد هلكوا فأتي الرجلُ في المنامِ فقيل لهُ إئتِ عمر، فقل له يستسقي للناس" الحديث. وقد روى سيف في "الفتوح" أن الذي رأى المنام المذكور بلال بن الحارث المزني أحد الصحابة، وظهر بهذا كله مناسبة الترجمة لأصل هذه القصة. ويستفاد من قصة العباس استحباب الاستشفاع بأهل الخير والصلاح وأهل بيت النبوة، وفيه فضل العباس وفضل لتواضعه للعباس ومعرفته بحقه. قال ابن بطال: وفيه أن الخروج إلى الاستسقاء والاجتماع لا يكون إلا بإذن الإمام لما في الخروج والاجتماع من الآفات الداخلة عل السلطان، وهذه سنن الأمم السالفة قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ}. رجاله ستة: مرّ منهم عبد الله بن المثنى وثمامة بن عبد الله في السادس والثلاثين من "العلم"، ومرَّ أنس في

السادس من الإيمان، ومرّ عمر في الأول من "بدء الوحي" والاثنان الباقيان: الأول منهما: الحسن بن محمد بن الصبّاح بتشديد الباء الزعفراني أبو علي البغدادي صاحب الشافعي. قال النسائي (ثقة) قال الزعفراني: لما قرأت كتاب "الرسالة" على الشافعي قال لي: من أي العرب أنت؟ فقلت ما أنا بعربي وما أنا إلا من قرية يقال لها (الزعفرانية) قال: أنت سيد هذه القرية. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان يحضر أحمد وأبو ثور عند الشافعي وهو الذي يتولى القراءة عليه. وقال ابن أبي حاتم. كتبت عنه مع أبي وهو ثقة، وسئل عنه أبي فقال: صدوق، وقال أبو عمر الصدفي: سألت العقيلي عنه فقال: ثقة من الثقات مشهور لم يتكلم فيه أحد بشيء، قال: وسألت عنه أبا علي صالح الطرابلسي فقال: ثقة ثقة. وقال ابن عبد البر: يقال إنه لم يكن في وقته أفصح منه ولا أبصر باللغة، ولذلك اختاروه لقراءة كتب الشافعي وكان يذهب إلى مذهب أهل العراق فتركه وتفقه بالشافعي، وكان نبيلًا ثقة مأمونًا، وكان يقول أصحاب الحديث كانوا رقودًا حتى أيقظهم الشافعي وما حمل أحد محبرة إلا وللشافعي عليه منة، وهو أحد رواة الأقوال القديمة عن الشافعي رواتها أربعة: هو، وأبو ثور، وأحمد بن حنبل، والكرابيسي، ورواة الأقوال الجديدة ستة المزني، والربيع بن سليمان الجيزي، والربيع بن سليمان المرادي، والبوطي، وحرملة، ويونس بن عبد الأعلى. روى عن ابن عيينة وأبي معاوية وابن علية ووكيع وغيرهم. وروى عنه الجماعة سوى مسلم وابن خزيمة وأبو عوانة وغيرهم. مات يوم الاثنين سنة تسع وخمسين ومائتين وقيل سنة ستين في شهر ربيع الآخر، وقيل في رمضان. والزعفراني في نسبه بفتح الزاي وسكون العين نسبة إلى (الزعفرانية) قرية بقرب (بغداد) والمحلة التي (ببغداد) وتسمى (درب الزعفراني) منسوية إلى هذا الإِمام؛ لأنه أقام بها، وفيها مسجد الشافعي. الثاني: محمد بن عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن يونس بن مالك الأنصاري أبو عبد الله البصري القاضي. قال أبو حاتم: صدوق، وقال مرة: لم أرَ من الأئمة إلا ثلاثة: أحمد بن حنبل، وسليمان بن داود الهاشمي، ومحمد بن عبد الله الأنصاري. وقال ابن معين: ثقة. وقال مرة: كان محمد بن عبد الله الأنصاري يليق به القضاء فقيل له يا أبا زكرياء فالحديث قال: للحديث رجال. وقال الساجي: رجل جليل عالم لم يكن عندهم من فرسان الحديث مثل يحيى القطان ونظرائه غلب عليه الرأي. وقال الخطيب: كان الأنصاري قد جالس في الفقه سوار بن عبد الله بن الحسن العنبري، وعثمان البتي وولي قضاء البصرة أيام الرشيد بعد معاذ بن معاذ وذكر عمر بن شبة في أخبار البصرة أنه ذكر للقضاء أيام المهدي فقال عثمان بن الربيع للفضل بن الربيع إنه فقيه عفيف، ولكنه يأتم بفقه أبي حنيفة، ولنا في مصرنا أحكام تخالفه فلا يصلحنا إلا من أجاز أحكامنا، فتركوا ولايته إذ ذاك.

لطائف إسناده

وقال بشر بن آدم: سمعت الأنصاري يقول: قد وليت القضاء مرتين، والله ما حكمت (بالرأي) ولقد بعت مدبَّرًا. وقال محمد بن عبد الله الزيادي سألت الأنصاري عن شيء قضى به علينا معاذ بن معاذ فأفتى بخلافه، فلما ولي القضاء قضى في تلك المسألة بما قضى به معاذ، فسألته فقال لي: كنت انظر في كتب أبي حنيفة فإذا جاء دخول الجنة والنار لم نجد القول إلا ما قال معاذ. وقال ابن سعد: لم يزل الأنصاري يحدث بالبصرة إلى أن مات بها، وكان صدوقًا. وقال معاذ: ما رأيته عند الأشعث قط. وروى محمد بن المثنى عنه أنه كان يقول من زعم من أصحاب أشعث ممن كان يلزمه أنه كان لا يراني إلى جنبه، فهو من الكذابين كأنه يعرض بمعاذ بن معاذ، روى عن أبيه وسليمان التيمي وابن عون وحميد الطويل وابن جريج وغيرهم، وروى عنه البخاري وروى هو والباقون عنه بواسطة وروى عنه أحمد وقتيبة بن سعيد وغيرهم. مات بالبصرة في رجب سنة خمسة عشر ومائتين، وكان يقول: قد أشرفت على أربع وتسعين سنة وفي الحديث ذكر العباس بن عبد المطلب، قد مرّ في الثالث والستين من "الوضوء". لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإفراد والعنعنة والقول، وفيه رواية الابن عن الأب، ورواية الرجل عن عمه، ورواية الرجل عن جده هذا الحديث تفرد به البخاري عن الستة. ثم قال المصنف:

باب تحويل الرداء في الاستسقاء

باب تحويل الرداء في الاستسقاء ترجم لمشروعيته خلافًا لمن نفاه، ثم ترجم بعد ذلك لكيفيته. الحديث السادس حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا وَهْبٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- اسْتَسْقَى فَقَلَبَ رِدَاءَهُ. قوله: "عن محمد بن أبي بكر" أي: ابن محمد بن عمرو بن حزم وهو أخو عبد الله بن أبى، بكر المذكور في الطريق الثانية من هذا الباب، وقد حدث به عن عاد أبوهما أو بكر بن محمد بن عمرو كما سيأتي بعد خمسة عشر بابًا. وقوله: "فقلب رداءه" ذكر الواقدي أن طول ردائه -صلى الله عليه وسلم- كان ستة أذرع في ثلاثة أذرع، وطول إزاره أربعة أذرع وشبرين في ذراعين وشبر، وكان يلبسهما في الجمعة والعيدين. وفي "شرح الأحكام" لابن بزيزة ذرع الرداء كالذي ذكره الواقدي في ذرع إلازار، والأول أولى، ولم يتحرر في طول عمامته عليه الصلاة والسلام وعرضها شيء، وقد نقل عن عائشة أنها سبعة أذرع في عرض ذراع. وقد ترجم المصنف بلفظ التحويل والذي في الطريق الأولى لفظ "القلب"، ورواية أبي ذر في الطريق الثانية حول وكذا هو في أول حديث في الاستسقاء وكأنه أراد أنهما بمعنى واحد، ووقع بيان المراد من ذلك عن المسعودي عن أبي بكر بن محمد ولفظه "قلبَ رداءَهُ جعلَ اليمينَ على الشمالِ". وزاد فيه ابن ماجه وابن خزيمة "والشمالَ على اليمين" وله شاهد أخرجه أبو داود عن الزهري عن عباد بلفظ "فجعلَ عطافَهُ الأيمنَ على عاتقِهِ الأيسر وعطافَهُ الأيسرَ على عاتِقِه الأيمن". وله عن عمارة بن غزية "استسقى وعليه خميصة سوداءُ فارادَ أنْ يأخذَ بأسفلها فيجعلَهُ أعلاها، فلما ثقلتْ عليه قلبَها على عاتقِهِ". وقد استحب الشافعي في الجديد فعل ما هم به عليه الصلاة السلام من تنكيس الرداء مع التحويل الموصوف. وزعم القرطبي وغيره أن الشافعي اختار في الجديد استحباب تنكيس الرداء لا تحويله، والذي في "الأم" ما ذكرته، والجمهور على التحويل فقط قال في "الفتح": ولا شك أن الذي استحبه الشافعي أحوط قلت: لم أدرِ وجه أحوطيته. ومشهور مذهب مالك أنه بعد تمام الخطبة الثانية يستقبل القبلة ثم يحول رداءه ثم يدعو، ويكون التحويل بلا تنكيس وصفته أن يبدأ بيمينه فيأخذ ما على عاتقه الأيسر، ويمره من ورائه ليضعه على منكبه الأيمن وما على الأيمن على الأيسر، فيصير ما يلي ظهره للسماء وما يليها على

رجاله ستة

ظهره، والتحويل خاص بالرجال دون النساء؛ لأن التحويل يؤدي إلى كشفهن، ويكون تحويل الرجال في حال القعود. وقد استحب الجمهور أن يحول الناس بتحويل الإِمام ويشهد له ما رواه أحمد عن عباد في هذا الحديث بلفظ "وحوّل الناسُ معهُ". وقال الليث وأبو يوسف: يحوّل الإِمام وحده. وأما أبو حنيفة، فلا يستحب عنده التحويل؛ لأنه وقع لأجل التفاؤل لا للسنة وظاهر قوله: "فقلب رداءه" أن التحويل وقع عنده فراغ الاستسقاء وليس كذلك بل المعنى فقلب رداءه في أثناء الاستسقاء، وقد بينه مالك في روايته ولفظه "حول رداءه حين استقبل القبلة". ولمسلم عن أبي بكر بن محمد "وأنه لما أراد أن يدعو استقبل القبلة وحوّل رداءه". وأصله للمصنف كما يأتي بعد أبواب وله من رواية الزهري عن عباد "فقام فدعا الله قائمًا ثم توجه قِبل القبلة وحوّله رداءه" فعرف بذلك أن التحويل وقع في أثناء الخطبة عند إرادة الدعاء. واختلف في حكمة التحويل فجزم المهلب بأنه للتفاؤل بتحويل الحال عما هي عليه، وتعقبه ابن العربي بأن من شرط الفأل أن لا يقصد إليه قال: وإنما التحويل أمارة بينه وبين ربه، قيل له حوّلْ رداءك ليتحول حالك، وتعقب بأن الذي جزم به يحتاج إلى نقل والذي رده ورد فيه حديث. رجاله ثقات، أخرجه الحاكم والدارقطني عن جعفر بن محمد بن علي عن أبيه عن جابر بلفظ "حول رداءه ليتحول القحط"، ورجح الدارقطني إرساله. وعلى كل حال، فهو أولى من القول بالظن، وقال بعضهم: إنما حول رداءه ليكون أثبت على عاتقه عند رفع يديه في الدعاء فلا يكون سنة في كل حال. وأجيب بأن التحويل من جهة إلى جهة لا يقتضي الثبوت على العاتق، فالحمل على المعنى الأول أولى فإن الاتباع أولى من تركه لمجرد احتمال الخصوص. رجاله ستة: قد مرّوا إلا محمد بن أبي بكر، مرّ إسحاق بن نصر أو ابن راهويه في تعليق بعد الحادي والعشرين من "العلم"، ومرَّ وهب بن جرير في الخامس والأربعين من الوضوء، ومرَّ عباد وعمه عبد الله بن زيد في الثالث منه، ومرَّ شعبة في الثالث من "الإيمان"، والباقي محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري النجّاري الحزمي أبو عبد الملك المدني القاضي أخو عبد الله بن أبي بكر. ذكره ابن حبان في "الثقات". وقال أبو حاتم: صالح ثقة، وقال النسائي: ثقة، وقال الواقدي: كان ثقة وله أحاديث، وقال أحمد: ليس به بأس. روى عن أبيه وخالة أبيه عمرة بنت عبد الرحمن وعباد بن تميم، وروى عنه السفيانان ووهيب وأبو أويس وغيرهم. مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة وهو ابن اثنتين وسبعين سنة، وهذا الحديث مرّ أول الباب ومرَّ هناك الكلام عليه.

الحديث السابع

الحديث السابع حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ سَمِعَ عَبَّادَ بْنَ تَمِيمٍ يُحَدِّثُ أَبَاهُ عَنْ عَمِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- خَرَجَ إِلَى الْمُصَلَّى فَاسْتَسْقَى، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، وَقَلَبَ رِدَاءَهُ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ". قوله: "قال عبد الله بن أبي بكر" أي قال: قال ويجوز أن يكون ابن عيينة حذف الصيغة مرة وجرت عادتهم بحذف إحداهما من الخط، وفي حذفها من اللفظ بحث، وعند الحموي والمستملي بلفظ عن عبد الله، وصرح ابن خزيمة في روايته بتحديث عبد الله به لابن عيينة. وقوله: "يحدث أباه" الضمير في قوله: "أباه" يعود على عبد الله بن أبي بكر لا على عباد، وضبطه الكرماني بضم الهمزة وراء بدل الموحدة أي: أظنه قال في "الفتح": ولم أرَ ذلك في شيء من الروايات التي اتصلت لنا، ومقتضاه أن الراوي لم يجزم بأن رواية عباد له عن عمه. وفي بعض نسخ ابن ماجه "عن عبد الله بن أبي بكر عن عباد بن تميم عن أبيه عن عبد الله بن زيد". وقوله: "عن أبيه" زيادة وهم، والصواب ما وقع في النسخ المعتمدة من ابن ماجه "عن محمد بن الصباح" وكذا لابن خزيمة عن عبد الجبار بن العلاء كلاهما عن سفيان "قال حدثنا المسعودي"، ويحيى هو ابن سعيد عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم. قالَ سفيان: "فقلت لعبد الله بن أبي بكر حديث حدثناه يحيى والمسعودي عن أبيك عن عباد بن تميم، فقال عبد الله بن أبي بكر: سمعته أنا من عباد يحدث أبي عن عبد الله بن زيد" الحديث. وقوله: "خرج إلى المُصلّى فاستسقى" في رواية الزهري المذكورة "خرج بالناس يستسقي". قال في "الفتح": لم أقف في شيء من طرق حديث عبد الله بن زيد على سبب ذلك، ولا على صفته -صلى الله عليه وسلم- حال الذهاب الى المصلى, ولا على وقت ذهابه. وقد وقع ذلك في حديث عائشة عند أبي داود وابن حبان قالت: "شكا الناسُ إلى رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فوضعَ له بالمُصلّى ووعَدَ الناسَ يخرجونَ فيه، فخرج حينَ بدا حاجبُ الشمس فقعدَ على المنبر فكبَّرَ وحمدَ اللهَ ثم قال: إنْ شكوتُمْ جدبَ ديارِكم واستئخارَ المطر عن إبّان زمانه عليكم، وقد أمرَكُم الله تعالى أن تدعوهُ ووعدَكم أن الله يستجيبُ لكم، ثم قال: الحمدُ للهِ رَب العَالَمِينَ، الرَّحْمَن الرَّحيم، مالِكِ يوْم الدِّين، لا إله إلا الله يفعل ما يريدُ اللَّهُمَّ أنتَ اللهُ لا إله إلا أنت الغنيُّ ونحنُ الفقراءُ أنزِلْ علينا الغيَثَ واجعلْ ما أنزلتَ لنا قوةً وبلاغًا إلى حينٍ، ثم رفعَ يديهِ فلمْ يزلْ في الرفعِ حتى بدا

بياضُ إبطيه ثم حوّلَ إلى الناسِ ظهرَهُ وقلبَ أو حول رداءَه وهو رافعٌ يديه ثم أقبلَ على الناسِ ونزلَ فصلَّى ركعتينَ فانشأ الله سحابةً فرعدتْ وبرقتْ ثم أمطرتْ بإذنِ اللهِ تعالى، فلمْ يأت مسجدَهُ حتي سالتِ السيولُ فلما رأى سرعتهم إلى الكن ضحكَ حتى بدتْ نواجذُهُ فقال أشهدُ أنّ اللهِ على كلِّ شيءٍ قديرٌ وأني عبدُ اللهِ ورسولُه. وبهذا أخذ الحنفية والمالكية والحنابلة فقالوا: إن وقت صلاتها وقت العيد، والراجح عند الشافعية أنه لا وقت لها معين وإن كان أكثر أحكامها كالعيد، لكنها تخالفه بأنها لا تختص بيوم معين، بل جميع الليل والنهار وقت لها؛ لأنها ذات سبب فدارت مع سببها كصلاة الكسوف، لكن وقتها المختار وقت صلاة العيد كما صرح به الماوردي وابن الصلاح لهذا الحديث. وعند أحمد وأصحاب "السنن" عن ابن عباس "خَرجَ -صلى الله عليه وسلم- متبذلًا متواضعًا متضرعًا حتى أتى، المُصلّى فَرَقِيَ المنبرَ لابسًا ثيابَ بذلة" بكسر الموحدة وسكون المعجمة المهنة؛ لأنه اللائق بالحال، وفارق العيد بأنه يوم عيد وهذا يوم مسألة واستكانة، وهل تصنع بالليل استنبط بعضهم من كونه -صلى الله عليه وسلم- جهر بالقراءة فيها بالنهار أنها نهارية كالعيد، وإلا فلو كانت تصلى بالليل لأسرّ فيها بالنهار وجهر بالليل كمطلق النوافل، ونقل ابن قدامة الإجماع على أنها لا تصلّى في وقت الكراهة. وأفاد ابن حبان أن خروجه عليه الصلاة والسلام إلى المصلى للاستسقاء كان في رمضان سنة ست من الهجرة. وقوله: "فاستقبل القبلة وحول رداءه" تقدم ما فيه في الحديث الذي قبله. وقوله: "وصلى ركعتين" في رواية يحيى بن سعيد المذكورة عند ابن خزيمة "وصلى بالناس ركعتين"، وفي رواية الزهري الآتية في باب (كيف حول ظهره ثم صلى لنا ركعتين) استدل به على أن الخطبة في الاستسقاء قبل الصلاة وهو مقتضى حديث عائشة وابن عباس المذكورين، لكن وقع عند أحمد في حديث عبد الله بن زيد التصريح بأنه بدأ بالصلاة قبل الخطبة، وكذا في حديث أبي هريرة عند ابن ماجه حيث قال: "فصلى بنا ركعتين بغير أذان ولا إقامة". والمرجح عند المالكية والشافعية والحنابلة الخطبة بعد الصلاة، وليس في شيء من طرق حديث عبد الله بن زيد صفة الصلاة المذكورة ولا ما يقرأ فيها. وقد أخرج الدارقطني عن ابن عباس أنه يكبر فيهما سبعًا وخمسًا كالعيد، وأنه يقرأ فيهما {سبّح} و {هَلْ أتَاكَ} ووفي إسناده مقال لكن أصله في "السنن" بلفظ ثم "صلى ركعتين" كما يصلي في العيد. وأخذ بظاهره الشافعي فقال: يكبر فيهما كما سبق. واستدل أبو إسحاق في "المهذب" له بما رواه الدارقطني "أن مروان أرسل إلى ابن عباس يسأله عن سنة الاستسقاء فقال: سنة الاستسقاء الصلاة كالصلاة في العيدين إلا أنه -صلى الله عليه وسلم- قلب رداءه فجعل يمينه يساره ويساره يمينه، وصلى ركعتين كبر في الأولى سبع تكبيرات وقرأ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبكَ

رجاله خمسة

الأعْلَى} وقرأ في الثانية: {هَلْ أتَاكَ} وكبر خمس تكبيرات". لكن قال في "المجموع" إنه ضعيف، وذهب الجمهور إلى أنه يكبر فيهما تكبيرة واحدة للإحرام كسائر الصلوات، وبه قال مالك وأحمد وأبو يوسف ومحمد لحديث الطبراني الأوسط عن أنس "أنه -صلى الله عليه وسلم- استسقى فخطبَ قبلَ الصلاة واستقبل القبلةَ وحوَّلَ رداءَهُ ثم نزل فصلَّى ركعتين ولم يكبِّر فيهما إلا تكبيرة". وأجابوا عن قوله في حديث "السنن" كما يصلي في العيدين يعني في العدد والجهر بالقراءة، وكون الركعتين قبل الخطبة قال في "الفتح": ويمكن الجمع بين ما اختلف من الروايات في تقديم الخطبة أو الصلاة بأنه عليه الصلاة السلام بدأ بالدعاء، ثم صلى ركعتين، ثم خطب فاقتصر بعض الرواة على شيء وبعضهم على شيء. وعبر بعضهم عن الدعاء بالخطبة؛ فلذلك وقع الاختلاف. وأما قول ابن بطال إن رواية أبي بكر بن محمد دالة على تقديم الصلاة على الخطبة وهو أضبط من ولديه عبد الله ومحمد فليس ذلك بالبين من سياق البخاري ومسلم. وقال القرطبي: يعتضد القول بتقديم الصلاة على الخطبة لمشابهتها للعيد، وكذا ما تقرر من تقديم الصلاة أمام الحاجة، وقد ترجم المصنف لهذا الحديث أيضًا الدعاء في الاستسقاء قائمًا واستقبال القبلة فيه، وحمله ابن العربي على حال الصلاة ثم قال: يحتمل أن يكون ذلك خاصًا بدعاء الاستسقاء، ولا يخفى ما فيه. وقد ترجم له المصنف في الدعوات بالدعاء مستقبل القبلة من غير قيد بالاستسقاء وكأنه ألحقه به؛ لأن الأصل عدم الاختصاص، وترجم أيضًا لكونها ركعتين وهو إجماع عند من قال بها. وقد مرّ عند حديث أنس في باب (الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة) من كتاب "الجمعة" أن أبا حنيفة قال: إن الاستسقاء لا صلاة فيه وإنما هو دعاء وتضرع واستغفار، وقد استوفينا الكلام على ذلك هناك. وقد قيل: إنه استدل بقوله تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} قال: إنه علق نزول الغيث بالاستغفار لا بالصلاة، فكان الأصل فيه الدعاء والتضرع دون الصلاة. واستدل بظواهر أحاديث يجب ردها إلى ما ثبت في الأحاديث الصريحة من الصلاة. وترجم المصنف أيضًا لكونها في المصلى. وقد استثنى الخفاف من الشافعية مسجد مكة كالعيد قلت: وكذلك عند المالكية فإن أهلها يستسقون بالمسجد كالعيد. رجاله خمسة: قد مرّوا وفيه لفظ "أباه": مرّ علي بن المديني في الرابع عشر من "العلم"، ومرّ سفيان بن عيينة في الأول من "بدء الوحي"، ومرّ عبد الله بن أبي بكر في الرابع من الوضوء، ومرَّ في الذي قبله ذكر

باب انتقام الرب عز وجل من خلقه بالقحط إذا انتهكت محارمه

محل عبّاد وعمه. ولفظ: "أباه" الضمير فيه راجع إلى عبد الله بن أبي بكر لا إلى عباد أي أبي عبد الله وهو أبو بكر، وقد مرّ أبو بكر في تعليق بعد الأربعين من "العلم". ثم قال: "قال أبو عبدِ الله كان ابنُ عيينةَ يقولُ: هو صاحبُ الأذانِ ولكنَّه وَهم؛ لأنَّ هذا عبدُ الله بنُ زيد بن عاصمٍ المازنى مازنِ الأنصارِ". وقوله: "كان ابن عيينة" يحتمل أن يكون تعليقًا، ويحتمل أن يكون سمعه من شيخه علي بن عبد الله المذكور، ويرجح الثاني أن الإسماعيلي أخرجه عن جعفر الفريابي عن علي بن عبد الله بهذا الإسناد، وكذا أخرجه النسائي. وقوله: "لأن هذا" أي: راوي حديث الاستسقاء عبد الله بن زيد بن عاصم أي: وذاك الذي هو عبد الله بن زيد رائي الأذان عبد الله بن زيد بن عبد ربه. وقد اتفقا في الاسم واسم الأب والنسبة إلى الأنصار ثم إلى الخزرج والصحبة والرواية وافترقا في الجد والبطن الذي من الخزرج؛ لأن حفيد عاصم من مازن وحفيد عبد ربه من بلحارث بن الخزرج. وقد بينا هذا وأوضحناه، غاية عند تعريف عبد الله بن عاصم في كتاب "الوضوء" في الحديث الثالث منه. وقوله: "مازن الأنصار" احتراز من مازن غير الأنصار كمازن تميم ومازن قيس بن عيلان ومازن بكر بن هوازن ومازن شبة ومازن شيبان ومازن في القبائل كثير، والمازن في اللغة بيض النمل، وأبو عبد الله هو البخاري نفسه، وابن عيينة قد مرَّ الآن. ثم قال المصنف: باب انتقام الرّب عَزَّ وَجَلَّ من خلقه بالقحط إذا انتهكت محارمه هكذا وقعت هذه الترجمة في رواية الحموي وحده خالية من حديث ومن أثر قال ابن رشيد: كأنها كانت في رقعة مفردة فاهملها الباقون، وكأنه وضعها ليدخل تحتها حديثًا وأليق شيء بها حديث ابن مسعود المذكور في ثاني باب من "الاستسقاء"، وأخر ذلك ليقع له تغيير في بعض سنده كما جرت عادته غالبًا بذلك فعاقه عن ذلك عائق. ثم قال المصنف: باب الاستسقاء في المسجد الجامع أشار بهذه الترجمة إلى أن الخروج إلى المُصلّى ليس بشرط في الاستسقاء؛ لأن الملحوظ في الخروج المبالغة في اجتماع الناس وذلك حاصل في المسجد الأعظم بناء على المعهود في ذلك الزمان من عدم تعدد الجامع بخلاف ما حدث في هذه الأعصار في بلاد مصر والشام وغيرهما. وقد ترجم له المصنف بعد هذا باب من اكتفى بصلاة الجمعة في خطبة الاستسقاء، وترجم له أيضًا الاستسقاء وصلاتها في الجمعة، ومدار الطرق الثلاثة على شريك فالأولى عن أبي حمزة، والثانية عن مالك، والثالثة عن إسماعيل بن جعفر ثلاثتهم عن شريك، وفيه طرق أخرى عن أنس وقع التنبيه عليها في أثناء تفسير الحديث.

الحديث الثامن

الحديث الثامن حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو ضَمْرَةَ أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَذْكُرُ أَنَّ رَجُلاً دَخَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ بَابٍ كَانَ وُجَاهَ الْمِنْبَرِ، وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَائِمٌ يَخْطُبُ فَاسْتَقْبَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَائِمًا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَتِ الْمَوَاشِي وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ يُغِيثُنَا. قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَدَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اسْقِنَا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا. قَالَ أَنَسٌ: وَلاَ وَاللَّهِ مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ وَلاَ قَزَعَةً وَلاَ شَيْئًا، وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلْعٍ مِنْ بَيْتٍ وَلاَ دَارٍ، قَالَ: فَطَلَعَتْ مِنْ وَرَائِهِ سَحَابَةٌ مِثْلُ التُّرْسِ، فَلَمَّا تَوَسَّطَتِ السَّمَاءَ انْتَشَرَتْ ثُمَّ أَمْطَرَتْ. قَالَ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا الشَّمْسَ سِتًّا، ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ فِي الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ، وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَهُ قَائِمًا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَتِ الأَمْوَالُ وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ يُمْسِكْهَا، قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى الآكَامِ وَالْجِبَالِ وَالآجَامِ وَالظِّرَابِ وَالأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ. قَالَ: فَانْقَطَعَتْ وَخَرَجْنَا نَمْشِي فِي الشَّمْسِ. قَالَ شَرِيكٌ: فَسَأَلْتُ أَنَسًا أَهُوَ الرَّجُلُ الأَوَّلُ؟ قَالَ: "لاَ أَدْرِي". وقد استوفى الكلام على حديث أنس هذا عند حديثه في كتاب "الجمعة" في باب (الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة)، ومرّ هناك استيفاء الكلام على رفع الأيدي في الدعاء فراجعه. رجاله أربعة: قد مرّوا، وفيه لفظ رجل مبهم: مرّ محمد بن سلام في الثالث عشر من الإيمان, ومرَّ أنس في السادس منه، ومرَّ أبو ضمرة أنس بن عياض في الرابع عشر من الوضوء، ومرّ شريك بن عبد الله في الخامس من العلم. والرجل المبهم قال في "الفتح": لم أقف على تسميته، ويحتمل عندي أنه كعب بن مُرّة لما جاء في حديث أحمد مما يمكن أن يفسره، ويحتمل أنه خارجة بن حصن بن حذيفة، وها أنا أذكر تعريف الاثنين المحتملين لتتم الفائدة. الأول: كعب بن مرة البَهْزي، وقيل مرة بن كعب البهزي السُّلَمي بضم المهملة والأول أصح،

لطائف إسناده

وأخرج البغوي عن شرحبيل بن السمط قال: قلت لكعب: حدثنا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يا كعبُ قال: كنا عندَ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- فجاءَهُ رجلٌ فقالَ: يا رسولَ الله استسقِ لمضر. قال: فرفعَ يديهِ وقال: اللَّهُمَّ اسقنا غيثًا مُغيثًا، وفيه فأتوه فشكوا إليه المطر فقالوا: انهدمتِ البيوتُ. قال فى "الفتح": فهذا الحديث يدل على أن السائل في حديث البخاري غير كعب سكن كعب (البصرة) ثم (الأردن) ويقال إن الذي سكن (البصرة) وروى عنه أهلها غير الذي سكن (الشام) وروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فهما اثنان روى عنه شرحبيل لما قال له: "يا كعب حدثنا واحذر" قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول مَنْ شابَ شيبةً في الإِسلام كانت له نورًا يوم القيامة" أخرجه الترمذي. روى عنه أبو الأشعث وشرحبيل بن السمط. مات (بالأردن) سنة سبع أو تسع وخمسين. الثاني: خارجة بن حصن بن حذيفة بن بدر أخو عيينة بن حصن وهو والد أسماء بن خارجة الذي كان بالكوفة، له وفادة ذكر ابن شاهين عن يزيد بن رومان قال قدم خارجة بن حصن وجماعة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فشكوا الجدب والجهد وقالوا: اشفع لنا إلى ربك فقال: "اللهم اسقنا" الحديث، وفيه: "فأسلموا ورجعوا". وذكر الواقدي في الردة أنه كان ممن منع صدقة قومه، وأورد الحطيئة في ذلك شعرًا ومدحه به وأنه لقي نوفل بن معاوية الدؤلي فاستعاد منه الصدقة فردها على من أخذها منهم. قال ثم مات خارجة بعد ذلك، وورى الواقدي أنه قدم على أبي بكر حين فرغ خالد بن الوليد من قتال بني أسد فقال أبو بكر: اختاروا إما سلمًا مخزية وإما حربًا مجلية. فقال له خارجة بن حصن هذه الحرب قد عرفناها فما السلم؟ ففسرها له فقال: رضيت يا خليفة رسول الله. وقال المرزباني هو مخضرم وأنشد له أبياتًا قالها في الجاهلية يفتخر بها على الطائيين يوم عوارض، وذكر أن زيد الخيل أجابه عنها. لطائف إسناده: فيه التحديث والإخبار بالجمع والسماع والقول وهو من الرباعيات وشيخ البخاري من أفراده. أخرجه البخاري في "الاستسقاء" أيضًا، ومسلم وأبو داود والنسائي فيه. ثم قال المصنف:

باب الاستسقاء في خطبة الجمعة غير مستقبل القبلة

باب الاستسقاء في خطبة الجمعة غير مستقبل القبلة ذكر فيه حديث أنس المذكور عن إسماعيل بن جعفر. الحديث التاسع حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شَرِيكٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلاً دَخَلَ الْمَسْجِدَ يَوْمَ الجُمُعَةٍ مِنْ بَابٍ كَانَ نَحْوَ دَارِ الْقَضَاءِ، وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَائِمًا ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَتِ الأَمْوَالُ وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ يُغِيثُنَا فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا. قَالَ أَنَسٌ: وَلاَ وَاللَّهِ مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ، وَلاَ قَزَعَةً، وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلْعٍ مِنْ بَيْتٍ وَلاَ دَارٍ. قَالَ: فَطَلَعَتْ مِنْ وَرَائِهِ سَحَابَةٌ مِثْلُ التُّرْسِ، فَلَمَّا تَوَسَّطَتِ السَّمَاءَ انْتَشَرَتْ ثُمَّ أَمْطَرَتْ، فَلاَ وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا الشَّمْسَ سِتًّا، ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ فِي الْجُمُعَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَهُ قَائِمًا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَتِ الأَمْوَالُ وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ يُمْسِكْهَا عَنَّا. قَالَ فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى الآكَامِ وَالظِّرَابِ وَبُطُونِ الأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ. قَالَ: فَأَقْلَعَتْ وَخَرَجْنَا نَمْشِي فِي الشَّمْسِ. قَالَ شَرِيكٌ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ أَهُوَ الرَّجُلُ الأَوَّلُ؟ فَقَالَ: مَا أَدْرِي. وهذا الحديث مرّ الكلام عليه في الباب المذكور من الجمعة. رجاله أربعة: مرّ شريك وأنس في الذي قبله، ومرّ قتيبة في الحادي والعشرين من "الإيمان"، وإسماعيل بن جعفر مرّ في السادس والعشرين من "الإيمان". وهذا الحديث أيضًا من الرباعيات. ثم قال المصنف:

باب الاستسقاء على المنبر

باب الاستسقاء على المنبر الحديث العاشر حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَحَطَ الْمَطَرُ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَسْقِيَنَا. فَدَعَا فَمُطِرْنَا، فَمَا كِدْنَا أَنْ نَصِلَ إِلَى مَنَازِلِنَا فَمَا زِلْنَا نُمْطَرُ إِلَى الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ. قَالَ: فَقَامَ ذَلِكَ الرَّجُلُ أَوْ غَيْرُهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَصْرِفَهُ عَنَّا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا. قَالَ فَلَقَدْ رَأَيْتُ السَّحَابَ يَتَقَطَّعُ يَمِينًا وَشِمَالاً يُمْطَرُونَ وَلاَ يُمْطَرُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ". وهذا هو الحديث السابق. رجاله أربعة: قد مرّوا: مرّ مسدد وقتادة وأنس في السادس من "الإيمان"، ومرَّ أبو عوانه فى الخامس من "بدء الوحي"، ومرَّ الكلام على الرجل السائل في الذي قبله بحديث. ثم قال المصنف:

باب من اكتفى بصلاة الجمعة في الاستسقاء

باب من اكتفى بصلاة الجمعة في الاستسقاء الحديث الحادي عشر حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ هَلَكَتِ الْمَوَاشِي وَتَقَطَّعَتِ السُّبُلُ. فَدَعَا، فَمُطِرْنَا مِنَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ تَهَدَّمَتِ الْبُيُوتُ وَتَقَطَّعَتِ السُّبُلُ، وَهَلَكَتِ الْمَوَاشِي فَادْعُ اللَّهَ يُمْسِكْهَا. فَقَامَ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: اللَّهُمَّ عَلَى الآكَامِ وَالظِّرَابِ وَالأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ. فَانْجَابَتْ عَنِ الْمَدِينَةِ انْجِيَابَ الثَّوْبِ. وهذه رواية من الحديث السابق. وقد مرّ الكلام عليه في الباب المذكور. وقوله فيه: "فدعا فمطرنا" في رواية الأصيلي "فادع الله" بدل فدعا وكل من اللفظين مقدر فيما لم يذكر فيه وفيه تعقب على من استدل به لمن يقول لا تشرع الصلاة للاستسقاء؛ لأن الظاهر ما تضمنته الترجمة. رجاله أربعة: مرّوا مرّ عبد الله بن مسلمة في الثاني عشر من "الإيمان"، ومرَّ مالك في الثاني من "بدء الوحي"، ومرَّ شريك في الخامس من "العلم"، ومرَّ أنس الآن، والحديث من الرباعيات أيضًا. ثم قال المصنف:

باب الدعاء إذا انقطعت السبل من كثرة المطر

باب الدعاء إذا انقطعت السبل من كثرة المطر قوله: "من كثرة المطر" أي وسائر ما ذكر في الحديث مما يشرع الاستصحاء عند وجوده وظاهره أن الدعاء بذلك متوقف على سبق السقيا، وكلام الشافعي في "الأم" يوافقه، وزاد أنه لا يسن الخروج للاستصحاء ولا الصلاة ولا تحويل الرداء، بل يدعى بذلك في خطبة الجمعة أو في أعقاب الصلاة وفي هذا تعقب على من قال من الشافعية إنه ليس قول الدعاء المذكور في أثناء خطبة الاستسقاء؛ لأنه لم ترد به السنة. الحديث الثاني عشر حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَتِ الْمَوَاشِي وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَمُطِرُوا مِنْ جُمُعَةٍ إِلَى جُمُعَةٍ، فَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَهَدَّمَتِ الْبُيُوتُ وَتَقَطَّعَتِ السُّبُلُ وَهَلَكَتِ الْمَوَاشِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: اللَّهُمَّ عَلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ وَالآكَامِ وَبُطُونِ الأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ. فَانْجَابَتْ عَنِ الْمَدِينَةِ انْجِيَابَ الثَّوْبِ. وهذا الحديث أيضًا طريق من السابق، ومرَّ الكلام عليه في الباب المذكور. رجاله أربعة: مرّوا: مرّ إسماعيل بن أبي أويس في الخامس عشر من الإيمان، وأنس في السادس منه، وذكر مالك وشريك في الذي قبله. ثم قال المصنف:

باب ما قيل إن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يحول رداءه في الاستسقاء يوم الجمعة

باب ما قيل إن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يحوّل رداءه في الاستسقاء يوم الجمعة إنما عبر عنه بلفظ قيل مع صحة الخبر؛ لأن الذي قال في الحديث ولم يذكر أنه حول رداءه يحتمل أن يكون هو الراوي عن أنس أو من دونه فلأجل هذا التردد لم يجزم بالحكم وأيضًا فسكوت الراوي عن ذلك لا يقتضي نفي الوقوع، وأما تقييده بقوله: "يوم الجمعة" فليبين أن قوله فيما مضى باب تحويل الرداء في الاستسقاء أي: الذي يقام في المُصلّى. الحديث الثالث عشر حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ بِشْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَافَى بْنُ عِمْرَانَ عَنِ الأَوْزَاعِيِّ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بن أبي طلحة عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلاً شَكَا إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- هَلاَكَ الْمَالِ وَجَهْدَ الْعِيَالِ، فَدَعَا اللَّهَ يَسْتَسْقِي، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ حَوَّلَ رِدَاءَهُ وَلاَ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ. أي في استسقائه يوم الجمعة وتعقب الإِسماعيلي المؤلف فقال: لا أعلم أحدًا ذكر في حديث أنس تحويل الرداء وإذا قال المحدّث لم يذكر أنه حوّل لم يجز أن يقال إنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يحوّل؛ لأن عدم ذكر الشيء لا يوجب عدم ذلك الشيء، فكيف يقول البخاري: لم يحوّل؟ وأجيب عنه بما مرّ في الترجمة من أنه لم يجزم بعدم التحويل لما ذكر، وتمسك بهذا الحديث أبو حنيفة لما ذهب إليه من أنه لا صلاة ولا تحويل في الاستسقاء، ولعله لم تبلغه الأحاديث المصرحة بذلك وهذا السياق الذي أورده المصنف بهذا الحديث في هذا الباب مختصر جدًا، وسيأتي مطولًا من الوجه المذكور بعد اثني عشر بابًا، وفيه يخطب على المنبر يوم الجمعة. رجاله خمسة: مرّ منهم الأوزاعي في العشرين من "العلم"، ومرَّ إسحاق بن عبد الله في الثامن منه، ومرَّ أنس في السادس من "الإيمان" والباقي اثنان: الأول الحسن بن بشر بن سلم بن المسيب الهمداني البجلي أبو علي الكوفي قال أحمد: ما أرى كان به بأس، وروى عن زهير أشياء مناكير، وقال أبو حاتم: صدوق، وقال ابن عدي: ليس هو بمنكر الحديث، وقال النسائي: ليس بالقوي قال في المقدمة روى عنه البخاري موضعين لا غير أحدهما في الصلاة، والآخر في المناقب. أما الذي في الصلاة فحديثه في الاستسقاء عن معافى بن عمران وهو عنده من غير وجه عن إسحاق بن عبد الله.

والثاني حديثه أنه أوتر بركعة عن معافى أيضًا، وهذا عنده أيضًا من حديث نافع فلم يخرج له شيئًا من أفراده ولا من أحاديثه عن زهير التي استنكرها أحمد. روى عن المعافى بن عمران وأبي خيثمة الجعفي وشريك القاضي وغيرهم، وروى عنه البخاري، وروى عنه الترمذي والنسائي بواسطة. مات سنة إحدى وعشرين ومائتين. الثاني: معافى باسم المفعول بن عمران بن نفيل بن جابر بن جبلة بن عبيد بن لبيد بن مجاشع بن سلمة بن فهم الأزدي الفهمي أبو مسعود النفيلي الموصلي الفقيه الزاهد. قال أبو زكرياء: إلا الأزدي رحل في طلب العلم إلى الآفاق وجالس العلماء، ولزم الثوري وتأدب بآدابه وتفقه به وأكثر عنه وعن غيره، وصنف حديثه في "السنن" وغير ذلك وكان زاهدًا فاضلًا شريفًا كريمًا عاقلًا. وقال: كان من العباد المتقشفين في الزهد، وقال ابن سعد: كان ثقة خيرًا فاضلًا صاحب سنة. قال وكيع: حدثنا المعافى وكان ثقة، وكان ابن المبارك يقول: حدثنا ذاك الرجل الصالح يعني المعافى، وكان الثوري يقول للمعافى: أنت معافى كاسمك وكان يسميه الياقوتة. وقال بشر بن الحارث: كان المعافى محشوًا بالعلم والفهم والخير، قال: وكان المعافى لا يأكل وحده وذكر من سخائه ومناقبه، وفضائله كثيرة جدًا. وقال ابن عمار: لم أر بعده أفضل منه قال، وكنت عند عيسى بن يونس فقال لي: رأيت المعافى؟ قلت: نعم، ما أحسب أحدًا رأى المعافى وسمع من غيره يريد الله تعالى بعلمه. وقال الثوري امتحنوا أهل الموصل بالمعافى، وقال: أهدى إلى المعافى كتبًا فقبلت منه وكان المعافى أهلًا لذلك، وقال أحمد شيخ له قدر وحال وجعل يعظم أمره وكان رجلًا صالحًا. وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: كان صادق اللهجة، وقال ابن معين وأبو حاتم والعجلي وأبو خراش: ثقة، وقال أبو زرعة: كان عبدًا صالحًا. وقال إبراهيم بن جنيد: قلت لابن معين أيما أحب إليك؟ أكتب جامع سفيان عن فلان أو فلان أو عن رجل عن المعافى؟ فقال عن رجل عن رجل حتى عد خمسة أو ستة عن المعافى أحب إلى. روى عن ابن جريج ومالك بن مِغْوَل والثوري والأوزاعي وخلف، وروى عنه بقية وموسى بن أعين وابن المبارك وهم أكبر منه ووكيع وهو من أقرانه وابناه أحمد وعبد الكبير وبشر الحافي وغيرهم. مات سنة أربع ومائتين أو خمس وثمانين ومائة. والنفيلي في نسبه نسبة إلى جده نفيل المذكور والموصلي في نسبه نسبة إلى (الموصل) كمجلس بلد، ويسمى أثور بالمثلثة وهو إلى الجانب الغربي من دجلة بناه محمد بن مروان إذ ولي الجزيرة في خلافة أخيه عبد الملك أو أرض بين العراق والجزيرة وزعم ابن الأنباري أنها سميت بذلك؛ لأنها وصلت بين الفرات ودجلة. وقال ابن الأثير:

(الموصل) من الجزيرة قيل لها الجزيرة؛ لأنها بين دجلة والفرات، وتسمى (الموصل) الحديثة وبينها وبين القديمة فراسخ والموصلان في قول الشاعر: وبصرة الأزد منا والعراق لنا ... والموصلان ومنا العصر والحرم هي والجزيرة وقد نسب إليها كثير من المحدثين قديمًا وحديثًا. أخرج البخاري هذا الحديث أيضًا في "الاستسقاء" وفي "الاستئذان"، ومسلم في "الصلاة" وكذا النسائي. ثم قال المصنف:

باب إذا استشفعوا إلى الإمام ليستسقي لهم لم يردهم

باب إذا استشفعوا إلى الإِمام ليستسقي لهم لم يردهم قال الزين بن المنير: تقدم له باب سؤال الناس الإمام إذا قحطوا، والفرق بين الترجمتين أن الأولى لبيان ما على الناس أن يفعلوه إذا احتاجوا إلى الاستسقاء، والثانية لبيان ما على الإِمام من إجابة سؤالهم. الحديث الرابع عشر حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَتِ الْمَوَاشِي، وَتَقَطَّعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ. فَدَعَا اللَّهَ، فَمُطِرْنَا مِنَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ، فَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَهَدَّمَتِ الْبُيُوتُ وَتَقَطَّعَتِ السُّبُلُ وَهَلَكَتِ الْمَوَاشِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: اللَّهُمَّ عَلَى ظُهُورِ الْجِبَالِ وَالآكَامِ وَبُطُونِ الأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ. فَانْجَابَتْ عَنِ الْمَدِينَةِ انْجِيَابَ الثَّوْبِ". وهذا الحديث هو المذكور في السابق أورده من وجه آخر عن مالك، وأجاب ابن المنير عن السر في كونه عليه الصلاة والسلام لم يبدأ بالاستسقاء حتى سألوه مع أنه عليه الصلاة والسلام أشفق عليهم منهم وأولى بهم من أنفسهم بأن مقامه عليه الصلاة والسلام التوكل على البأساء والضراء، وكذلك كان أصحابه الخواص يقتدون به، وهذا المقام لا تصل إليه العامة وأهل البوادي، ولهذا والله أعلم كان السائل في الاستسقاء بدويًا، فلما سألوه أجاب رعاية لهم وإقامة لسنة هذه العبادة فيمن بعده من أهل الأزمنة التي يغلب على أهلها الجزع وقلة الصبر على اللأواء أو بسفينة الصبر والتسليم للقضاء؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قبل السؤال فوض ولم يستسق. رجاله أربعة: قد مرّوا: مرّ عبد الله بن يوسف ومالك في الثاني من "بدء الوحي"، ومرّ شريك في الخامس من "العلم"، ومرّ أنس في السادس من "الإيمان"، وقد مرّ هذا الحديث كثيرًا. ثم قال المصنف:

باب إذا استشفع المشركون بالمسلمين عند القحط

باب إذا استشفع المشركون بالمسلمين عند القحط قال الزين بن المنير: ظاهر هذه الترجمة منع أهل الذمة من الاستبداد بالاستسقاء، ولا يظهر وجه المنع من هذا اللفظ. قلت: ما قاله هو مذهب مالك فإن الذمي عنده لا يمنع من الاستسقاء وينفرد بمكان عن المسلمين لا بيوم، وأخذه من هذه الترجمة بعيد جدًا، واستشكل بعض الشيوخ مطابقة حديث ابن مسعود للترجمة؛ لأن الاستشفاع إنما وقع عقب دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- عليهم بالقحط، ثم سئل أن يدعو برفع ذلك ففعل فنظيره أن يكون إمام المسلمين هو الذي دعا على الكفار بالجدب فجاءه الكفار يسألونه الدعاء بالسُّقيا، ومحصله أن الترجمة أعم من الحديث ويمكن أن يقال هي مطابقة لما وردت فيه، ويلحق بها بقية الصور إذ لا يظهر الفرق بين ما إذا استشفعوا بدعائه أو بابتلاء الله لهم بذلك فإن الجامع بينهما ظهور الخضوع منهم والذلة للمؤمنين في التماسهم الدعاء لهم منهم، وذلك من مطالب الشرع. ويحتمل أن يكون ما ذكره بعض الشيوخ هو السبب في حذف المصنف جواب إذا من الترجمة ويكون التقدير في الجواب مثلًا أجابهم مطلقًا أو أجابهم بشرط أن يكون هو الذي دعا عليهم، أو لم يجبهم إلى ذلك أصلًا ولا دلالة فيما وقع من النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه القصة على مشروعية ذلك لغيره إذ الظاهر أن ذلك من خصائصه لاطلاعه على المصلحة في ذلك بخلاف من بعده من الأئمة ولعل حذف جواب إذا لوجود هذه الاحتمالات. قلت: الاحتمالان الأولان ممكنان في تقدير كلام البخاري، وأما الثالث الذي هو عدم الإجابة أصلًا فلا يمكن في كلامه؛ لأن البخاري استدل على الترجمة بالحديث، والحديث فيه الإجابة قطعًا فعلم أن مراده الإجابة إما مطلقًا أو على الشرط المذكور. ويمكن أن يقال إذا رجا إمام المسلمين رجوعهم عن الباطل أو وجود نفع عام للمسلمين شرع دعاؤه لهم.

الحديث الخامس عشر

الحديث الخامس عشر حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ وَالأَعْمَشُ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: أَتَيْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ إِنَّ قُرَيْشًا أَبْطَئُوا عَنِ الإِسْلاَمِ، فَدَعَا عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ حَتَّى هَلَكُوا فِيهَا وَأَكَلُوا الْمَيْتَةَ وَالْعِظَامَ، فَجَاءَهُ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، جِئْتَ تَأْمُرُ بِصِلَةِ الرَّحِمِ، وَإِنَّ قَوْمَكَ هَلَكُوا، فَادْعُ اللَّهَ. فَقَرَأَ {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} الآية ثُمَّ عَادُوا إِلَى كُفْرِهِمْ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} يَوْمَ بَدْرٍ. قوله: "قال: أتيت ابن مسعود" قد مرّ عند هذا الحديث في أول الاستسقاء أن في تفسير سورة (الروم) بينما رجل يحدث في كندة الخ، ومرَّ الكلام عليه هناك، ومرَّ الكلام على ما قيل في (الدخان) هناك. وقوله: "فدعا عليهم" قد مرّ عند الحديث المذكور صفة ما دعا به عليهم وهو "اللَّهُمَّ سبعًا كسبعِ يُوسُفَ" وهو منصوب بفعل تقديره أسألك أو سلط عليهم ويأتي في تفسير سورة (يوسف) بلفظ "اللَّهُمَّ اكفنيهم بسبع كسبع يُوسُفَ". وفي سورة (الدخان) "اللَّهُمَّ أعني عليهم إلى آخره"، ومرّ عند الحديث المذكور ابتداء دعائه عليه الصلاة والسلام عليهم. قوله: "فجاء أبو سفيان" قد مرّ عند حديث ابن عمر في تمثله بشعر أبي طالب ما قيل في وقت مجيء أبي سفيان إليه -صلى الله عليه وسلم-. وقوله: "تأمر بصلة الرحم" أي والذين هلكوا بدعائك من ذوي رحمك فينبغي أن تصل رحمك بالدعاء لهم، ولم يقع في هذا السياق التصريح بأنه دعا لهم وسيأتي هذا الحديث في تفسير سورة (ص) بلفظ "فكشف عنهم ثم عادوا". وفي سورة (الدخان) من وجه آخر بلفظ "فاستسقى لهم فسقوا" ونحوه في رواية أسباط المعلقة. رجاله سبعة: وفيه ذكر أبي سفيان وقد مرّ الجميع: مرّ محمد بن كثير في الثاني والثلاثين من "العلم"، ومرَّ منصور في الثاني عشر منه، ومرّ الأعمش في الخاص والعشرين من "الإيمان"، ومرَّ سفيان ومسروق في السابع والعشرين منه، ومرّ ابن مسعود أوله قبل ذكر حديث منه، ومرَّ أبو الضحى في

الخامس من كتاب "الصلاة"، ومرّ أبو سفيان في السابع من "بدء الوحي". ثم قال: قال وزادَ أسباطٌ عن منصور فدعا رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فسُقُوا الغيثَ فأطبقَتْ عليهم سبعًا، وشكا الناسُ كثرة المطر. فقال: اللَّهُمَّ حوالينا ولا علينا فانحدرت السحابةُ عن رأسِه فسُقوا الناسُ حولهم". قوله: "قال" أي البخاري، ولابن عساكر "قال أبو عبد الله"، وسقط ذلك كله لأبي ذر واقتصر على قوله: "وزاد أسباط" وأسباط هو ابن نصر، ووهم من زعم أنه أسباط بن محمد ويأتي تعريفهما قريبًا في السند. وقوله: "عن منصور" يعني بإسناده المذكور قبله إلى ابن مسعود، وقد وصله الجوزقي والبيهقي عن علي بن ثابت عن أسباط بالسند المذكور عن ابن مسعود قال: "لما رأى رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- مِنَ الناس إدبارًا" فذكر نحو الذي قبله، وزاد "فجاء أبو سفيانَ وناسٌ من أهل مكةَ فقالوا: يا محمدُ إنّكَ تزَعمُ أنّكَ بُعثت رحمةً، وإنّ قومَكَ قد هلَكُوا فادعُ اللهَ لهم، فدعا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فسُقوا الغيث" الحديث. وأشاروا بقولهم: "بعثت رحمة" إلى قوله تعالى: {وَمَا أرْسَلْناكَ إلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}. وقوله: "فسقوا الناس حولهم" كذا في جميع الروايات في "الصحيح" بضم السين والقاف وهو على لغة بني الحارث، وفي رواية البيهقي المذكورة: "فأسقي الناس حولَهم". وزاد بعد هذا فقال؛ يعني ابن مسعود لقد مرّت آية (الدخان) وهو الجوع الخ، وتعقب الداودي وغيره هذه الزيادة ونسبوا أسباط بن نصر إلى الغلط في قوله: "وشكا الناس كثرة المطر" الخ، وزعموا أنه أدخل حديثًا في حديث وأن الحديث الذي فيه شكوى كثرة المطر. وقوله: "اللهم حوالينا ولا علينا" لم يكن في قصة قريش وإنما هو في القصة التي رواها أنس، وهذا التعقب مردود بأنه لا مانع من أن يقع ذلك مرتين والدليل على أن أسباط بن نصر لم يغلط ما أخرجه البيهقي في الدلائل عن شرحبيل بن السمط عن كعب بن مرة أو مرة بن كعب قال: دعا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- على مضرَ فأتاهُ أبو سفيانَ فقال ادعُ اللهَ لقومِكَ فإنَّهم قد هَلكُوا. ورواه أحمد وابن ماجه عن الأعمش عن عمر بن مرة عن كعب بن مرة، ولم يشك فأبهم أبا سفيان، قال: "جاءَهُ رجلٌ فقال: استسق اللهِ لمضرَ، فقال إنَّكَ لجريء ألمضر. قال: يا رسولَ الله استنصرت الله فنصركَ، ودعوتَ اللهَ فأجابَكَ فرفعَ يديهِ فقال: اللَّهُمَّ اسقنا غيثًا مغيثًا مريعًا مريئًا طبقًا عاجلًا غيرَ رائثٍ نافعًا غيرَ ضارٍ قال: فأجيبوا فما لبثوا أن أتوه فشكوا إليه كثرةَ المطر فقالوا: قد تهدمتِ البيوت فقال: اللَّهُمَّ حوالينا ولا علينا فجعلَ السحابُ ينقطعُ يمينًا وشمالًا". فظهر بذلك أن هذا الرجل المبهم المقول له إنك لجريء هو أبو سفيان، لكن الظاهر أن فاعل "قال: يا رسول الله استنصرت الله" الخ هو كعب بن مرة راوي هذا الخبر؛ لما أخرجه أحمد أيضًا والحاكم عن شعبة عن عمرو بن مرة بالإسناد إلى كعب قال: "دعا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- على مضرَ فأتيتهُ فقلتُ: يا رسولَ الله

إن اللهَ قد نصركَ وأعطاكَ واستجابَ لكَ وإنَّ قومَكَ قد هلَكُوا" الحديث. فعلى هذا كأن أبا سفيان وكعبًا حضرا جميعًا فكلمه أبو سفيان بشيء وكعب بشيء، فدل ذلك على اتحاد قصتهما، وقد ثبت في هذه ما ثبت في تلك من قوله: "إنك لجريء" ومن قوله: "فقال: اللهم حوالينا ولا علينا" وغير ذلك، وظهر بذلك أن أسباط بن نصر لم يغلط في الزيادة المذكورة ولم ينتقل من حديث إلى حديث وسياق كعب بن مرة يشعر بأن ذلك وقع في المدينة، لقوله: "استنصرت الله فنصرك"؛ لأن كلًا منهما كان بالمدينة بعد الهجرة، لكن لا يلزم من ذلك اتحاد هذه القصة مع قصة أنس بن مالك بل قصة أنس واقعة أخرى؛ لأن في رواية أنس "فلم يزل على المنبر حتى مطروا" وفي هذه فما كان إلا جمعة أو نحوها حتى مطروا، والسائل في هذه غير السائل في تلك فهما قصتان وفي كل منهما طلب الدعاء بالاستسقاء ثم طلب الدعاء بالاستصحاء وإن ثبت أن كعب بن مرة أسلم قبل الهجرة حمل قوله: "استنصرت الله فنصرك" على النصر بإجابة دعائه عليهم، وزال الإشكال المتقدم. ومنصور مرّ الآن ذكر محله وأسباط قيل إنه أسباط بن نصر، وقيل أسباط بن محمد وعلى كل حال لابد من تعريف الاثنين الأول، والصحيح أنه هو المراد عند البخاري أسباط بن نصر الهمداني أبو يوسف أو أبو نصر. ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال البخاري في "تاريخه الأوسط": صدوق، وقال ابن معين مرة: ثقة، وقال مرة: ليس بشيء، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال موسى بن هارون: لم يكن به بأس. وقال أبو حاتم سمعت أبا نعيم يضعفه علق له البخاري حديثًا في الاستسقاء لا غير. وقال الساجي في الضعفاء ,وروى أحاديث لا يتابع عليها روى عن سِمَاك بن حرب ومنصور بن المعتمر وإسماعيل السدي وغيرهم، وروى عنه عمرو بن حماد القناد وأبو غسان النهدي ويونس بن بكير وغيرهم. الثاني: أسباط بن محمد بن عبد الرحمن بن خالد بن ميسرة القرشي مولاهم أبو محمد قال محمد بن عبد الله بن عمار، قال لنا وكيع: اسمعوا منه فسمعنا منه وكان حديثه ثلاثة آلاف. وقال ابن معين: ثقة، وقال مرة: ليس به بأس وكان يخطىء عن سفيان، وقال أبو حاتم: صالح. وقال يعقوب بن شيبة: كوفي ثقة صدوق، وقال النسائي والعجلي: ليس به بأس، وقال ابن سعد: كان ثقة صدوقًا إلا أن فيه بعض الضعف. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال البرقي عن ابن معين: الكوفيون يضعفونه وهو عندنا ثبت فيما يروي عن مطرف والشيباني، وقد سمعت أنا منه قال في المقدمة له في "صحيح البخاري" حديث واحد في تفسير قوله تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} في سورة (النساء). روى عن الأعمش ومطرف بن طريف والثوري وغيرهم، وروى عنه أحمد بن حنبل وابنه

عبيد بن أسباط وابن أبي شيبة وابن نمير وغيرهم. مات بالكوفة في المحرم سنة مائتين، وقيل في أيام أبي السرايا سنة تسع وتسعين ومئة وولد سنة خمس ومائة. ثم قال المصنف:

باب الدعاء إذا كثر المطر حوالينا ولا علينا

باب الدعاء إذا كثر المطر حوالينا ولا علينا كان التقدير أن يقول حوالينا وتكلف له الكرماني إعرابًا آخر. الحديث السادس عشر حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَخْطُبُ يَوْمَ جُمُعَةٍ، فَقَامَ النَّاسُ فَصَاحُوا فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَحَطَ الْمَطَرُ وَاحْمَرَّتِ الشَّجَرُ وَهَلَكَتِ الْبَهَائِمُ، فَادْعُ اللَّهَ يَسْقِينَا. فَقَالَ اللَّهُمَّ اسْقِنَا. مَرَّتَيْنِ، وَايْمُ اللَّهِ مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ قَزَعَةً مِنْ سَحَابٍ، فَنَشَأَتْ سَحَابَةٌ وَأَمْطَرَتْ، وَنَزَلَ عَنِ الْمِنْبَرِ فَصَلَّى، فَلَمَّا انْصَرَفَ لَمْ تَزَلْ تُمْطِرُ إِلَى الْجُمُعَةِ الَّتِى تَلِيهَا، فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَخْطُبُ صَاحُوا إِلَيْهِ تَهَدَّمَتِ الْبُيُوتُ وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ يَحْبِسُهَا عَنَّا. فَتَبَسَّمَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا. فَكُشِطَتِ الْمَدِينَةُ، فَجَعَلَتْ تُمْطِرُ حَوْلَهَا وَلاَ تَمْطُرُ بِالْمَدِينَةِ قَطْرَةً، فَنَظَرْتُ إِلَى الْمَدِينَةِ وَإِنَّهَا لَفِي مِثْلِ الإِكْلِيلِ". هذا الحديث أورده هنا من طريق ثابت عن أنس، وقد مرّ الكلام عليه مستوفى في باب (الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة) من كتاب "الجمعة" وإنما اختار لهذه الترجمة رواية ثابت؛ لقوله فيها: "وما تمطر بالمدينة قطرة"؛ لأن ذلك أبلغ في انكشاف المطر وهذه اللفظة لم تقع إلا في هذه الرواية. وقوله فيها: "وانكشطت" كذا للأكثر ولكريمة: "فكُشطت" على البناء للمجهول. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرّ محمد بن أبي بكر المقدمي في الرابع والثمانين من أحاديث استقبال القبلة، ومرَّ المعتمر بن سليمان في التاسع والستين من "العلم"، ومرّ ثابت البناني في تعليق بعد الخامس منه، ومرّ عبيد العمري في الرابع عشر من "الوضوء"، ومرّ أنس في السادس من "الإيمان" ثم قال المصنف: باب الدعاء في الاستسقاء قائمًا أي في الخطبة وغيرها قال ابن بطال: الحكمة فيه كونه حال خشوع وإنابة فيناسبه القيام، وقال غيره: القيام شعار الاعتناء والاهتمام، والدعاء أهم أعمال الاستسقاء فناسبه القيام، ويحتمل أن يكون قام ليراه الناس فيقتدوا به فيما يصنع.

الحديث السابع عشر

الحديث السابع عشر وَقَالَ لَنَا أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ زُهَيْرٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ خَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الأَنْصَارِيُّ وَخَرَجَ مَعَهُ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ رضي الله عنهم فَاسْتَسْقَى، فَقَامَ بِهِمْ عَلَى رِجْلَيْهِ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ وَلَمْ يُؤَذِّنْ، وَلَمْ يُقِمْ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَرَأَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى غَيْرِ مِنْبَرٍ فَاسْتَغْفَرَ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ وَلَمْ يُؤَذِّنْ، وَلَمْ يُقِمْ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَرَأَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-. قوله: "وقال لنا أبو نعيم" قال الكرماني تبعًا لغيره: الفرق بين قال لنا وحدثنا أن القول يستعمل فيما يسمع من الشيخ في مقام المذاكرة والتحديث فيما يسمع في مقام التحمل، لكن ليس استعمال البخاري لذلك منحصرًا في المذاكرة فإنه يستعمل فيما يكون ظاهره الوقف، وفيما يصلح للمتابعات لتخلص صيغة التحديث فيما وضع الكتاب لأجله من الأصول المرفوعة والدليل على ذلك وجود كثير من الأحاديث التي عبر فيها في الجامع بصيغة القول معبرًا فيها بصيغة التحديث في تصانيفه الخارجة عن الجامع. وقد مرّ الكلام على هذا في أول كتاب "العلم". وقوله: "خرج عبد الله بن يزيد الأنصاري" يعني إلى الصحراء يستسقي وذلك حين كان أميرًا على الكوفة من جهة عبد الله بن الزبير في سنة أربع وستين قبل غلبة المختار بن أبي عبيد عليها ذكر ذلك ابن سعد وغيره. وروى هذا الحديث قبيصة عن الثوري عن أبي إسحاق قال: "بعث ابن الزبير إلى عبد الله بن يزيد الخطمي أن استسقِ بالناس فخرج وخرج الناس معه وفيهم زيد بن أرقم والبراء بن عازب" أخرجه يعقوب بن سفيان في "تاريخه". وخالفه عبد الرزاق عن الثوري فقال فيه: "إن ابن الزبير خرج يستسقي بالناس" الحديث. وقوله: "إن ابن الزبير" هو الذي فعل ذلك وهم وإنما الذي فعله هو عبد الله بن يزيد بأمر ابن الزبير، وقد وافق قبيصة عبد الرحمن بن مهدي عن الثوري على ذلك. وقوله: "فقام بهم" في رواية أبوي ذر والوقت "لهم". وقوله: "فاستسقى" في رواية أبي الوقت "فاستغفر". وقوله: "ثم صلى ركعتين" ظاهره أنه أخر الصلاة عن الخطبة، وصرح بذلك الثوري في رواية، وخالفه شعبة فقال: في روايته عن أبي إسحاق: "إن عبد الله بن يزيد خرج يستسقي بالناس فصلى

ركعتين ثم استسقى" أخرجه مسلم. وقد تقدم في باب (تحويل الرداء في الاستسقاء) ذكر الاختلاف في ذلك وأن الجمهور ذهبوا إلى تقديم الصلاة، وممن قال بتقديم الخطبة ابن المنذر، وصرح الشيخ أبو حامد وغيره بأن هذا الاختلاف في الاستحباب لا في الجواز. وقوله: "ولم يؤذن، ولم يقم" قال ابن بطال: أجمعوا على أن لا أذان ولا إقامة للاستسقاء. وقوله: "قال أبو إسحاق ورأى عبد الله بن يزيد النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-" كذا للأكثر وللحموي وحده، وروى عبد الله بن يزيد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو في نسخة الصغاني فإن كانت محفوظة احتمل أن يكون المراد أنه رأى هذا الحديث بعينه، والأظهر أن مراده أنه رأى في الجملة فيوافق قوله رأى؛ لأن كلًا منهما ثبت له الصحبة، أما سماع هذا الحديث فلا. وقوله: "قال أبو إسحاق" هو موصول، وقد رواه الإسماعيلي عن أحمد بن يونس وعلي بن الجعد عن زهير وصرحا باتصاله إلى أبي إسحاق. وكان في إيراد هذا الموقوف هنا كونه يفسر المراد بقوله في الرواية المرفوعة بعده: "فدعا الله قائمًا" أي: كان على رجليه لا على المنبر. فيه ستة قد مرّوا إلا زيد بن أرقم: مرّ أبو نعيم في الخامس والأربعين من "الإيمان"، ومرّ زهير وأبو إسحاق والبراء في الثالث والثلاثين منه، ومرّ عبد الله بن يزيد في الثامن والأربعين منه. وأما زيد بن أرقم بن زيد بن قيس بن النعمان بن مالك الأغر بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي من بني الحارث بن الخزرج، اختلف في كنيته كثيرًا قيل أبو عمر أو أبو عامر أو أبو سعيد أو أبو سعد، غزا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- سبع عشرة غزوة ثبت ذلك في "الصحيح"، استصغر يوم (أحد) وأول مشاهده الخندق، وقيل المريسيع يعد في الكوفيين، نزل (الكوفة) وابتنى بها دارًا في كبره وهو الذي رفع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قول عبد الله بن أبي لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فأكذبه عبد الله وحلف فأنزل الله تعالى تصديق زيد بن أرقم فتبادر أبو بكر وص ممر إلى زيد لبشراه فسبق أبو بكر فأقسم عمر أن لا يبادره بعد هذا إلى شيء. "وجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى زيد فأخذ بأذنه وقال وفت أذنك يا غلام". روى ابن إسحاق كان زيد بن أرقم يتيمًا في حجر عبد الله بن رواحة فخرج به معه إلى مؤتة يحمله على حقيبة رحله فسمعه زيد بن أرقم من الليل وهو يتمثل بأبياته التي يقول فيها: إذا أدنيتِني وحملتِ رحلي .... مسيرة أربع بعد الحِساء فشأنك فانعمي وخلاك ذم .... ولا أرجعْ إلى أهلي ورائي وقد جاء المنون وغادروني .... بأرض الشام مشتهي الثَّواءِ فبكى زيد فخفقه عبد الله بالدَّرة وقال له: ما عليك يا لكع أن يرزقني الله الشهادة وترجع بين شعبتي الرحل. ولزيد بن أرقم يقول عبد الله بن رواحة: يا زيدُ زيدَ اليَعْمُلاتِ الذُّبَّلِ .... تطاول الليلُ هُديتَ فانزلِ وقيل بل قال ذلك في غزوة مؤتة لزيد بن حارثة. وقال أبو المنهال: سألت البراء عن الصرف

لطائف إسناده

فقال: سل زيد بن أرقم فإنه خير مني شهد مع علي صفين وهو معدود في خاصة أصحابه، له تسعون حديثًا اتفقا على أربعة وانفرد البخاري بحديثين ومسلم بستة. روى عنه عبد الرحمن بن أبي ليلى وطاووس ومحمد بن كعب والنضر بن أنس وخلق. مات (بالكوفة) أيام المختار سنة ست وستين، وقيل سنة ثمان وستين. لطائف إسناده: فيه قال لنا، وقد مرّ الكلام عليها، وفيه العنعنة أخرجه مسلم أيضًا في "المغازي".

الحديث الثامن عشر

الحديث الثامن عشر حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبَّادُ بْنُ تَمِيمٍ أَنَّ عَمَّهُ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَخْبَرَهُ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- خَرَجَ بِالنَّاسِ يَسْتَسْقِي لَهُمْ، فَقَامَ فَدَعَا اللَّهَ قَائِمًا، ثُمَّ تَوَجَّهَ قِبَلَ الْقِبْلَةِ، وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ فَأُسْقُوا. قد مرّت مباحثه في غير ما حديث، ومرّ قريبًا المراد بقوله: "قائمًا". رجاله خمسة: قد مرّوا: مرّ أبو اليمان وشعيب في السابع من "بدء الوحي" والزهري في الثالث منه، وعباد وعمه في الثالث من "الوضوء". ثم قال المصنف: باب الجهر بالقراءة في الاستسقاء أي: في صلاته، وحكى ابن بطال الإجماع أيضًا عليه. الحديث التاسع عشر حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ قَالَ: "خَرَجَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَسْتَسْقِي فَتَوَجَّهَ إِلَى الْقِبْلَةِ يَدْعُو، وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ جَهَرَ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ". قوله: "ثم صلى ركعتين يجهر" في رواية كريمة والأصيلي "جهر" بلفظ الماضي. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرّ في الذي قبله محل الزهري، وعباد وعمه، ومرّ أبو نعيم في الخامس والأربعين من "الإيمان"، ومرّ ابن أبي ذيب في الستين من "العلم". ثم قال المصنف:

باب كيف حول النبي -صلى الله عليه وسلم- ظهره إلى الناس

باب كيف حوّل النبي -صلى الله عليه وسلم- ظهره إلى الناس الحديث العشرون حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ قَالَ: "رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ خَرَجَ يَسْتَسْقِي قَالَ: فَحَوَّلَ إِلَى النَّاسِ ظَهْرَهُ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ يَدْعُو، ثُمَّ حَوَّلَ رِدَاءَهُ، ثُمَّ صَلَّى لَنَا رَكْعَتَيْنِ جَهَرَ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ". وقد استشكل إيراد هذا الحديث في هذه الترجمة؛ لأن الترجمة لكيفية التحويل والحديث قال على وقوع التحويل فقط، وأجاب الكرماني بأن المراد حوّله حال كونه داعيًا، وحمل الزين بن المنير قوله: "كيف" على الاستفهام فقال: لما كان التحويل المذكور لم يتبيّن كونه من ناحية اليمين أو اليسار احتاج إلى الاستفهام عنه، والظاهر أنه لما لم يتبيّن من الخبر ذلك كأنه يقول هو على التخيير، لكن المستفاد من خارج أنه التفت بجانبه الأيمن لما ثبت أنه كان يعجبه التيمن في شأنه كله، ثم إن محمل هذا التحويل بعد فراغ الموعظة وإرادة الدعاء. وقوله: "ثم حوّل رداءه" ظاهره أن الاستقبال وقع سابقًا لتحويل الرداء، وهو ظاهر كلام الشافعي وفي كلام كثير من الشافعية أنه يحوّله حال الاستقبال، والفرق بين تحويل الظهر والاستقبال أنه في ابتداء التحويل وأوسطه يكون منحرفًا حتى يبلغ الانحراف غايته، فيكون مستقبلًا. وقد مرّ في باب (تحويل الرداء) إتمام البحث في هذا المنزع. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرّ محل الزهري وعباد وعمه في الذي قبله بحديث، ومحل ابن أبي ذيب في الذي قبله، ومرّ آدم في الثالث من الإيمان. ثم قال المصنف:

باب صلاة الاستسقاء ركعتين

باب صلاة الاستسقاء ركعتين هو مجرور على البدل من صلاة المجرور بالإضافة والتقدير صلاة ركعتين في الاستسقاء، أو هو عطف بيان، أو منصوب بمقدر. الحديث الحادي والعشرون حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- اسْتَسْقَى فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَقَلَبَ رِدَاءَهُ. قوله: "فصلى ركعتين" قال القسطلاني: كصلاة العيد فيما لها إلا في تسع في المناداة قبلها بأن يأمر الإِمام من ينادي بالاجتماع لها في وقت معين وفي صوم يومها؛ لأن له أثرًا في رياضة النفس وفي إجابة الدعاء، وصوم ثلاثة قبله وترك الزينة فيها بأن يلبس عند خروجه لها ثياب بذلة، وهي التي تلبس حال الشغل للاتباع رواه الترمذي وصححه وينزعها بعد فراغه من الخطبة وإكثار الاستغفار في الخطبة بدل إكثار التكبير الذي في خطبة العيد، وقراءة آية الاستغفار {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} الآية في الخطبة، ويسر ببعض الدعاء فيها، ويستقبل القبلة بالدعاء، ويرفع ظهر يديه إلى السماء ويحول رداءه. وقوله: "وقلب رداءه" عطف على قوله: "فصلى ركعتين" بالواو وهي لا تدل على الترتيب بل لمطلق الجمع. وهذا الحديث قد مرّ في باب (تحويل الرداء). وقوله فيه: "عن عمه أن النبي -صلى الله عليه وسلم-" في رواية أبي الوقت: "سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- ... ". رجاله خمسة: قد مرّوا: مرّ محل عباد وعمه في الذي قبله بحديثين، ومرّ قتيبة في الحادي والعشرين من الإيمان، ومرّ سفيان بن عيينة في الأول من "بدء الوحي"، ومرّ عبد الله بن أبي بكر في الرابع والعشرين من "الوضوء". ثم قال المصنف:

باب الاستسقاء في المصلى

باب الاستسقاء في المصلى هذه الترجمة أخص من الترجمة المتقدمة أول الأبواب وهي باب (الخروج إلى الاستسقاء)؛ لأنه أعم من أن يكون إلى المُصلّى. وفي رواية هذا الباب تعيين الخروج إلى الاستسقاء إلى المُصلّى بخلاف تلك فناسب كل رواية ترجمتها. الحديث الثاني والعشرون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ سَمِعَ عَبَّادَ بْنَ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ قَالَ: "خَرَجَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْمُصَلَّى يَسْتَسْقِي، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَقَلَبَ رِدَاءَهُ. قَالَ سُفْيَانُ فَأَخْبَرَنِي الْمَسْعُودِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: جَعَلَ الْيَمِينَ عَلَى الشِّمَالِ". وقوله: "قال سفيان" هو ابن عيينة وهو متصل بالإسناد الأول، ووهم من زعم أنه معلق كالمزي حيث علم على المسعودي في "التهذيب" علامة التعليق فإنه عند ابن ماجه من وجه آخر عن سفيان عن المسعودي، وكذا قول ابن القطان: لا ندري عمن أخذه البخاري، قال: ولهذا لا يعد أحد المسعودي في رجاله، وقد تعقبه ابن المواق بأن الظاهر أنه أخذه عن عبد الله بن محمد شيخه فيه، ولا يلزم من كونهم لم يعدّوا المسعودي في رجاله أن لا يكون وصل هذا الموضع عنه؛ لأنه لم يقصد الرواية عنه وإنما ذكر الزيادة التي زادها استطرادًا. وقوله: "عن أبي بكر" يعني ابن محمد بن عمرو بن حزم بإسناده وهو عن عباد بن تميم عن عمّه، وزعم ابن القطان أيضًا أنه لا يدري عمن أخذ أبو بكر هذه الزيادة، وقد بين ذلك ما أخرجه ابن ماجه وابن خزيمة عن سفيان بن عيينة ففيه بيان كون أبي بكر رواه عن عباد بن تميم عن عمه، وكذا أخرجه الحميدي في "مسنده" عن سفيان بن عيينة مبينًا. قال ابن بطال: حديث أبي بكر يدل على أن الصلاة قبل الخطبة؛ لأنه ذكر أنه صلى قبل قلب ردائه، قال: وهذا أضبط للقصة من ولده عبد الله بن أبي بكر حيث ذكر الخطبة قبل الصلاة. رجاله سبعة: قد مرّوا إلا المسعودي مرّ محل سفيان وعبد الله بن أبي بكر في الذي قبله، ومحل عباد وعمه

في الذي قبله بثلاثة، ومرّ عبد الله بن محمد المسندي في الثاني من الإيمان، ومرّ أبو بكر بن حزم في تعليق بعد الأربعين من "العلم". والمسعودي هو عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود الكوفي المسعودي، قال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث إلا أنه اختلط في آخر عمره ورواية المتقدمين عنه صحيحة. وقال النسائي ليس به بأس، وقال ابن عيينة، ما أعلم أحد أعلم بعلم ابن مسعود من المسعودي. وقال ابن عمار: كان ثبتًا قبل أن يختلط، ومن سمع منه (ببغداد) فسماعه ضعيف. وقال أبو النضر هاشم بن القاسم: إني لأعرف اليوم الذي اختلط فيه المسعودي كنا عنده وهو يعزى في ابن له إذ جاءه إنسان فقال له: إن غلامك أخذ من مالك عشرة آلاف وهرب، ففزع وقام ودخل في منزله ثم خرج إلينا وقد اختلط ليس له في "البخاري" إلا حديث الاستسقاء هذا، والظاهر أن البخاري لم يقصد التخريج له وإنما وقع اتفاقًا، وقد وقع نظير ذلك عن عمرو بن عبيد المعتزلي وعبد الكريم أبي المخارق وغيرهما. روى عن أبي إسحاق السبيعي وأبي إسحاق الشيباني وعلي بن الأقمر وغيرهم. وروى عنه السفيانان وشعبة وهم من أقرانه ووكيع وجعفر بن عون وغيرهم. مات سنة ستين ومائة. ثم قال المصنف:

باب استقباله القبلة في الاستسقاء

باب استقباله القبلة في الاستسقاء أي: في أثناء الخطبة الثانية التي تقع من أجله في المُصلّى؛ لأن الدعاء مستقبلها أفضل فإن استقبل له في الأولى لم يعده في الثانية. قال النووي: يلحق باستحباب استقبال القبلة للدعاء والوضوء والغسل والأذكار والقراءة وسائر الطاعات إلا ما خرج بدليل كالخطبة. الحديث الثالث والعشرون حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدٍ أَنَّ عَبَّادَ بْنَ تَمِيمٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ الأَنْصَارِيَّ أَخْبَرَهُ "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- خَرَجَ إِلَى الْمُصَلَّى يُصَلِّي، وَأَنَّهُ لَمَّا دَعَا أَوْ أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: ابْنُ زَيْدٍ هَذَا مَازِنِيٌّ، وَالأَوَّلُ كُوفِيٌّ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ". قوله: "حدثنا محمد" بين أبو ذر في روايته أنه ابن سلام قوله: "خرج إلى المصلى يصلي" في رواية المستملي "يدعو". وقوله: "إنه لم دعا، أو أراد أن يدعو" الشك من الراوي ويحتمل أنه يحيى بن سعيد فقد رواه السراج عن يحيى بن أيوب عنه بالشك أيضًا، وروه مسلم عن سليمان بن بلال عنه فلم يشك كما مرّ في باب (تحويل الرداء) وكأنه يشك فيه تارة ويجزم به أخرى. وقد مرّ الكلام على بقية فوائده مستوفاة هناك. رجاله ستة: قد مرّوا: مرّ محمد بن سلام في الثالث عشر من الإيمان, ومرّ عبد الوهاب الثقفي في التاسع منه، ومرّ يحيى بن سعيد في الأول من بدء الوحي، ومرّ محل أبي بكر في الذي قبله، ومرّ عباد وعمّه عبد الله في الثالث من "الوضوء"، ومرّ هناك الكلام على الفرق بين هذا الذي هو صاحب الوضوء وعبد الله بن زيد الذي هو صاحب الأذان. وأما ذكر البخاري هنا لعبد الله بن يزيد فلا محل له إذ ليس في هذا الحديث ذكر لعبد الله بن يزيد فكان الأولى جعله في باب (الدعاء في الاستسقاء قائمًا) حيث ذكر هناك عبد الله بن يزيد. وقد مرّ تعريفه في الثامن والأربعين من الإيمان, ولعل جعل هذه الزيادة هنا من تصرف الراوي الكشميهني، ويمكن أن يكون قوله: "والأول" أي: الذي مضى في باب (الدعاء في الاستسقاء) هو ابن يزيد بزيادة الياء في أول اسم أبيه. ثم قال المصنف:

باب رفع الناس أيديهم مع الإمام في الاستسقاء

باب رفع الناس أيديهم مع الإِمام في الاستسقاء تضمنت هذه الترجمة الرد على من زعم أنه يُكتفى بدعاء الأمام وحده في الاستسقاء. الحديث الرابع والعشرون قَالَ أَيُّوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلاَلٍ قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ أَتَى رَجُلٌ أَعْرَابِيٌّ مِنْ أَهْلِ الْبَدْوِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَتِ الْمَاشِيَةُ هَلَكَ الْعِيَالُ هَلَكَ النَّاسُ. فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَدَيْهِ يَدْعُو، وَرَفَعَ النَّاسُ أَيْدِيَهُمْ مَعَهُ يَدْعُونَ، قَالَ: فَمَا خَرَجْنَا مِنَ الْمَسْجِدِ حَتَّى مُطِرْنَا، فَمَا زِلْنَا نُمْطَرُ حَتَّى كَانَتِ الْجُمُعَةُ الأُخْرَى، فَأَتَى الرَّجُلُ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَشِقَ الْمُسَافِرُ، وَمُنِعَ الطَّرِيقُ. قوله: "وقال أيوب بن سليمان" أي: ابن بلال وهو من شيوخ البخاري إلا أنه ذكر هذه الطريق عنه بصيغة التعليق، وقد وصلها الإسماعيلي وأبو نعيم والبيهقي عن أبي إسماعيل الترمذي عن أيوب. وهذا الحديث قد مرّ في باب (الاستسقاء في المسجد الجامع) ومرَّ الكلام عليه مستوفى في باب (الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة) من كتاب "الجمعة"، ومرّ هناك استيفاء الكلام على رفع الأيدي في الدعاء. وقوله: "يا رسول الله بَشِق المسافر" بفتح الموحدة وكسر المعجمة وبالقاف كذا قيده كراع في المنضد، ولأبوي ذر والوقت "بَشَق" بفتح المعجمة وقيده به الأصيلي أي: مل أو تأخر أو اشتد عليه الضرر أو حبس ويقال بشق الثوب وبشكه قطعه في خفة، فعلى هذا يكون معنى بشق أي قطع به عن السير. وقال الخطابي: بشق ليس بشيء وإنما هو لثق بلام ومثلثة وقاف يقال لثق الطريق أي: صار ذا وحل، ولثق الثوب إذا أصابه ندا المطر، وهذه رواية أبي إسماعيل التي ذكرناها آنفًا. قال الخطابي: ويحتمل أن تكون مشق بالميم بدل الموحدة أي: صارت الطريق زلقة ومنه مشتق الخط والميم والباء متقاربان. وفي "نوادر" اللحياني نشق بالنون أي نشب. وفي "الصحاح" نشق الظبي في الحبالة أي: علق فيها، ورجل نشق إذا كان ممن يدخل في أمور لا يتخلص منها،

رجاله خمسة

ورواية البخاري صحيحة وقد مرّ توجيهها. وقال أبو موسى في "ذيل الغريب" الباشق طائر معروف ولو اشتق منه فعلَ فقيل بشق لما امتنع وما وقع في بعض الروايات بثق بموحدة ومثلثة، فهو تصحيف فإن البثق الانفجار، ولا يعلم له معنى هنا. رجاله خمسة: وفيه لفظ رجل أعرابي، وقد مرّ الجميع: مرَّ أيوب بن سليمان في الثاني عشر من "مواقيت الصلاة"، ومرّ أبو بكر الأويسى في عبد الحميد في الحادي والستين من "العلم"، ومرّ سليمان بن بلال في الثاني من "الإيمان"، وأنس في السادس منه ويحيى بن سعيد في الأول من "بدء الوحي"، والرجل الأعرابي في الثامن من "الاستسقاء" هذا. ثم قال: "وقال الأويسى: حدثني محمد بن جعفر عن يحيى بن سعيد وشريك سمعا أنسًا عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أنه رفعَ يديهِ حتى رأيتُ بياضَ إبطيهِ". هذا التعليق ثبت هنا للمستملي وثبت لأبي الوقت وكريمة في آخر الباب الذي بعده، وسقط للباقين رأسًا؛ لأنه مذكور عند الجميع في كتاب "الدعوات"، وقد مرّ في باب (يبدي ضبعيه ويجافي في السجود). رجاله خمسة: مرّ الأويسى عبد العزيز في الأربعين من "العلم"، ومحمد بن جعفر في التاسع من "الحيض"، ومرّ شريك في الخامس من "العلم"، ومرّ محل يحيى بن سعيد وأنس في الذي قبله. ثم قال المصنف:

باب رفع الإمام يده في الاستسقاء

باب رفع الإِمام يده في الاستسقاء ثبتت هذه الترجمة للحموي والمستملي قال ابن رشيد: مقصوده بتكرير رفع الإِمام يده وإن كانت الترجمة التي قبلها تضمنته لتفيد فائدة زائدة وهي أنه لم يكن يفعل ذلك إلا في الاستسقاء قال ويحتمل أن يكون قصد التنصيص بالقصد الأول في هذه الترجمة على رفع الإِمام يده كما قصد التخصيص في الترجمة الأولى بالقصد الأول على رفع الناس، وإن اندرج معه رفع الإِمام قال: ويجوز أن يكون قصد بهذه كيفية رفع الإِمام يده لقوله: "حتى يرى بياض إبطيه". وقال الزين بن المنير: لا تكرار في هاتين الترجمتين؛ لأن الأولى لبيان اتباع المأمومين الإِمام في رفع اليدين، والثانية لإثبات رفع اليدين للإمام في الاستسقاء. الحديث الخامس والعشرون أخبرنا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى وَابْنُ أَبِي عَدِىٍّ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- لاَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ دُعَائِهِ إِلاَّ فِي الاِسْتِسْقَاءِ، وَإِنَّهُ يَرْفَعُ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إِبْطَيْهِ". قوله: "عن أنس" في رواية يزيد بن زريع "أن أنسًا حدثهم". وقوله: "إلا في الاستسقاء" ظاهره نفي الرفع في كل دعاء غير الاستسقاء، وقد مرّ استيفاء الكلام على هذا في باب الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة من كتاب "الجمعة". رجاله ستة: قد مرّوا: مرّ محمد بن بشار في الحادي عشر من "العلم"، ومرّ ابن أبي عدي في العشرين من "الغسل"، ومرَّ سعيد بن أبي عروبة في الحادي والعشرين منه، ومرَّ يحيى القطان وقتادة وأنس في السادس من "الإيمان". ثم قال المصنف:

باب ما يقال إذا مطرت

باب ما يقال إذا مطرت يحتمل أن تكون (ما) موصولة أو موصوفة أو استفهامية. وقوله: "إذا مطرت" كذا لأبي ذر من الثلاثى وللباقين "أمطرت" من الرباعى وهما بمعنى عند الجمهور. وقيل يقال: مطر في الخير وأمطر في الشر. وقال "ابنُ عباس: كصيِّبِ المطرِ". وهذا هو قول الجمهور، وقال بعضهم: الصيب السحاب، ولعله أطلق ذلك مجازًا. قال ابن المنير: مناسبة أثر ابن عباس لحديث عائشة لما وقع في حديث الباب المرفوع قوله: "صيبا" قدم المصنف تفسيره في الترجمة، وهذا يقع له كثيرًا، وقال أخوه الزين: وجه المناسبة أن "الصيب" لما جرى ذكره في القرآن قرن بأحوال مكروهة، ولما ذكر في الحديث وصفه بالنفع أراد أن يبيّن بقول ابن عباس أنه المطر وأنه ينقسم إلى نافع وضار. وهذا التعليق وصله أبو جعفر الطبري عن علي بن أبي طلحة عنه بذلك. وابن عباس مرّ في الخامس من "بدء الوحي". ثم قال: وقال غيره صابَ وأصابَ يصُوبُ. كذا وقع في الروايات وقد استشكل من حيث أن يصوب مضارع صاب، وأما أصاب فمضارعه يصيب. قال أبو عبيدة: الصيب تقديره من الفعل سيد وهو من صاب يصوب، فلعله كان في الأصل صاب وانصاب كما حكاه صاحب "المحكم" فسقطت النون كما سقطت ينصاب بعد يصوب، أو المراد ما حكاه صاحب "الأفعال" صاب المطر يصوب إذا نزل فأصاب الأرض فوقع فيه تقديم وتأخير، فقدم الناسخ لفظة أصاب على يصوب. ولم أر من سمى الغير المذكور.

الحديث السادس والعشرون

الحديث السادس والعشرون حَدَّثَنَا الْمَرْوَزِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا رَأَى الْمَطَرَ قَالَ: "صَيِّبًا نَافِعًا". قوله: "عن نافع عن القاسم" قد سمع نافع من عائشة ونزل في هذه الرواية عنها، وكذا سمع، عبيد الله من القاسم، ونزل في هذه الرواية عنه مع أنَّ معمرًا قد رواه عن عبيد الله بن عمر، عن القاسم نفسه بإسقاط نافع من السند أخرجه عبد الرزاق عنه. وقوله: "اللهم صيبًا نافعًا" كذا في رواية المستملي، وسقط اللهم لغيره، "وصيبًا" منصوب بفعل مقدَّر أي: اجعله، والصيب: هو المطر الذي يصوب أي: ينزل ويقع، وفيه مبالغات من جهة التركيب والبناء والتكثير، فدل على أنه نوع من المطر شديد هائل، ولذا تتمه بقوله: "نافعًا"، وكأنه احترز به عن الصيب الضَّار كقول الشاعر: فسقى ديارك غير مفسدها .... صوب الربيع وديمة تهمى لكن نافعًا في الحديث أوقع وأحسنَ وأنفع من قوله: غير مفسدها. قال في المصابيح، وهذا أي: قوله: "صيِّبًا نافعًا"، كالخبر الموطىء في قولك: "زيد رجل فاضلٌ" إذْ الصفة هي المقصودة بالإِخبار بها, ولولا هي لم تحصل الفائدة. هذا إنْ بنينا على قول ابن عباس أنَّ الصيب هو المطر وإنْ بنينا على أنه المطر الكثير، كما نقله الواحدي. فكلٌ من: "صيبًا ونافعًا" مقصود، والإقتصار عليه مُحصل للفائدة وللمستملي اللهم صبًا بالموحدة من غير مثناة من الصِّيب أي: يا الله اصببه صبًا نافعًا. وهذا الحديث من هذا الوجه مختصر، وقد أخرجه مسلم عن عطاء عن عائشة تامًا، ولفظه: "كان إذا كان يوم ريحٍ عُرف ذلك في وجهه" ويقول: إذا رأى المطر "رحمةُ". وأخرجه أبو داود والنسائي عن شريح بن هانىء عن عائشة أوضح منه، ولفظه: كان إذا رأى ناشئًا في أفق السماءِ ترك العمل، فإن كشفَ حمدَ الله، فإنْ أُمطرتْ قال: "اللهم صيبًا نافعًا". وسيأتي للمصنف في أوائل بدء الخلق عن عطاء أيضًا عن عائشة مُقْتَصراً علي معنى الشِّق الأول، وفيه أقبلَ وأدبر وتغير وجهه، وفيه وما أَدري لعله كما قال قوم عادٍ: {هَذَا عَارِضٌ} الآية، وعُرِفَ برواية شريح أَنَّ الدعاء المذكور يُستحب بعد نزوله للازدياد من الخير والبركة مقيدًا بدفع ما يحذر من الضرر.

رجاله ستة

رجاله ستة: قد مرّوا، مرّ محمد بن مقاتل في السابع من العلم، ومرَّ عبد الله بن المبارك في السادس من بدء الوحي، ومرَّتْ عائشة في الثاني منه، ومرَّ عُبيد الله العمري في الرَّابع عشر من الوضوء، ومرَّ نافع في الأخير من العلم، ومرَّ القاسم في الحادي عشر من الغُسل. لطائف إسناده: فيه التحديث والإخبار بالجمع والعنعنة والقول، ورواية التابعي عن التابعي. والاثنان الأَوَّلانِ من الرواة رازيّان، والبقية مدنيون، وشيخ البخاري من أفراده. أخرجه النسائي في "اليوم والليلة" وابن ماجه في "الدعاء". ثم قال تابعه القاسم بن يحيى عن عبيد الله، ورواه الأوزاعي وعقيل عن نافع. قال الكرماني ": قال أولًا تابعه القاسم، ثم قال: رواه الأوزاعي فكان تغير الأسلوب لإفادة العموم في الثاني؛ لأن الرواية أعم من أن تكون على سبيل المتابعة، أم لا؟ فيُحتمل أنْ يكونا روياه عن نافع كما رواه عبيد الله، ويحتمل أنْ يكونا روياه على صفةٍ أُخرى. قلت: رواية دحيم في "الفيلانيات" عن الوليد وشعيب بن إسحاق قالا: حدّثنا الأوزاعي حدّثني نافع صريحة في أن الأوزاعي رواه عن نافع فلا وجه للاحتمال الثاني فيه، ويستفاد من رواية دحيم هذه صحة سماع الأوزاعي من نافع خلافًا لمن نفاه، وترك الكرماني احتمال أنَّه صنع ذلك للتَّفَنن في العبارة، مع أنه الواقع في نفس الأَمر لَمَّا بيَّن مِنْ أنَّ رواية الجميع متفقة؛ لأن الاختلاف الذي ذكره الدارقطني على الأوزاعي إنما يرجع إلى إدخال واسطة بين الأوزاعي ونافع أولًا، والبخاري قد قيَّد رواية الأوزاعي بكونها عن نافع، والرواة لم يختلفوا في أن نافعًا رواه عن القاسم عن عائشة، فظهر بهذا كونه متابعةً لا مخالفة، وكذلك رواية عقيل لكن لمَّا كانت متابعة القاسم أقرب من متابعتهما لأنه تابع في عُبيد الله، وهما تابعا في شيخه حسن أن يفردهما منهما، ولمَّا أفردها تَفَنَّنَ في العبارة. قال في "الفتح": لم أقف على رواية القاسم هذه موصولة، وزعم مغلطاي أنَّ الدارقطني وصلها في "غرائب الأفراد" عن يحيى عن عبيد الله، وليس ذلك مطابقًا إلاَّ إن كان بنسخته سقط منها من متن البخاري لفظ القاسم بن يحيى، ومتابعة الأوزاعي أخرجها النسائي في "عمل اليوم والليلة"، ولفظه: "هنيئًا بدل نافعًا"، ومتابعة عقيل وصلها الدارقطني. ورجال المتابعات خمسة: قد مرَّوا إلاَّ القاسم بن يحيى مرّ محل عبيد الله ونافع في الذي قبله، ومرّ الأوزاعي في العشرين من العلم، ومرّ عقيل بن خالد في الثالث من بدء الوحي. والقاسم هو ابن يحيى بن عطاء بن مقدم بن مقدم بن مطيع الهلالي المقدمي أبو محمد الواسطي. ذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال: مستقيم الحديث، وقال الدارقطني: ثقة روى عن جده عطاء وعبيد الله بن عمر العمري والأعمش، وغيرهم. وروى عنه ابن أخيه مقدم بن يحيى ومحمد بن موسى الدولابي وأبو سعيد وغيرهم. مات سنة سبع وتسعين ومائة. ثم قال المصنف:

باب من تمطر في المطر حتى يتحادر على لحيته

باب مَنْ تمطَّر في المطر حتى يتحادر على لحيته قوله: "تمطَّر" بتشديد الطاء، أي: تعرض لوقوع المطر عليه، وتَفَعَّل يأتي لمعانٍ أليقها هنا أنه بمعنى: مواصلة العمل في مهلة نحو: تفكَّر، ولعلَّه أشار إلى ما أخرجه مسلم عن أنس قال: حَسَرَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثوبه حتى أصابه المطر وقال: "إنه حديث عهد بربه" أي: قريب العهد بتكوين ربه، وكأن المصنف أراد أنْ يبين أنَّ تحادر المطر على لحيته -عليه الصلاة والسلام- لم يكن اتفاقًا، وإنما كان قصدًا، ولذلك ترجم بقوله: مَنْ تمطَّر أي: قصد نزول المطر عليه؛ لأنه لو لم يكن باختياره لنزل عن المنبر أول ما وكف السقف، لكنه تمادى في خطبته، حتى كثر نزوله بحيث تحادر على لحيته -صلى الله عليه وسلم-. الحديث السابع والعشرون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ قَالَ: أَخْبَرَنَا الأَوْزَاعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الأَنْصَارِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: أَصَابَتِ النَّاسَ سَنَةٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَبَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَ الْمَالُ وَجَاعَ الْعِيَالُ، فَادْعُ اللَّهَ لَنَا أَنْ يَسْقِيَنَا. قَالَ فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَدَيْهِ، وَمَا فِي السَّمَاءِ قَزَعَةٌ، قَالَ فَثَارَ سَحَابٌ أَمْثَالُ الْجِبَالِ، ثُمَّ لَمْ يَنْزِلْ عَنْ مِنْبَرِهِ حَتَّى رَأَيْتُ الْمَطَرَ يَتَحَادَرُ عَلَى لِحْيَتِهِ، قَالَ فَمُطِرْنَا يَوْمَنَا ذَلِكَ، وَفِى الْغَدِ وَمِنْ بَعْدِ الْغَدِ وَالَّذِي يَلِيهِ إِلَى الْجُمُعَةِ الأُخْرَى، فَقَامَ ذَلِكَ الأَعْرَابِيُّ أَوْ رَجُلٌ غَيْرُهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَهَدَّمَ الْبِنَاءُ وَغَرِقَ الْمَالُ، فَادْعُ اللَّهَ لَنَا. فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَدَيْهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا. قَالَ فَمَا جَعَلَ يُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ السَّمَاءِ إِلاَّ تَفَرَّجَتْ حَتَّى صَارَتِ الْمَدِينَةُ فِي مِثْلِ الْجَوْبَةِ، حَتَّى سَالَ الْوَادِي وَادِي قَنَاةَ شَهْرًا. قَالَ فَلَمْ يَجِيءُ أَحَدٌ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلاَّ حَدَّثَ بِالْجَوْدِ. هذا الحديث قد مرّ استيفاء الكلام عليه غاية في "باب الاستسقاء" في الخطبة يوم الجمعة، من كتاب الجمعة.

رجاله خمسة

رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ في الذي قبله محل محمد بن مقاتل وابن المبارك والأوزاعي، ومرّ إسحاق بن عبد الله في الثامن من العلم وأنس في السادس من الإيمان، وقد مرّ هذا الحديث مرارًا، ومرَّ الكلام عليه. ثم قال المصنف:

باب إذا هبت الريح

باب إذا هبت الريح أي: ما يصنع من قول أو فعل. قيل: وجه دخول هذه الترجمة في أبواب الاستسقاء أنَّ المطلوب بالاستسقاء المطر، والريح في الغالب تعقبه، وقد سبق قريبًا التنبيه على إيضاح ما يصنع عند هبوبها. الحديث الثامن والعشرون حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي حُمَيْدٌ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسًا يَقُولُ: كَانَتِ الرِّيحُ الشَّدِيدَةُ إِذَا هَبَّتْ عُرِفَ ذَلِكَ فِي وَجْهِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-. وعند أبي يعلى بإسناد صحيح عن قتادة عن أنس أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان إذا هاجت ريح شديدة قال: "اللهم إنِّي أسأَلُكَ مِنْ خير ما أَمِرَتْ به وأعوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ ما أُمِرَتْ به". وهذه زيادة على رواية حميد يجب قبولها لثقة رواتها، وإنما ظهر في وجهه ذلك، مخافة أن يكون في ذلك الريح ضرر. وحَذَرًا من أنْ يُصيب أُمَّتَة العقوبة بذنوب العاصين منهم، رأفةً ورحمةً منه عليه الصلاة والسلام. ولمسلم عن عائشة كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا عصفت الريح قال: "اللهم إنّي أسأَلُكَ خَيْرَهَا وخَيْرَ ما فيها وخَيْرَ ما أُرسِلَتْ به، وأَعوذُ بكَ مِنْ شَرها وشَرِّ ما فيها وشَرِّ ما أُرِسَلتْ به". قالت: وإذا تخيلت السماء تغير لونه وخرج ودخل وأقبل وأدبر، فإذا أمطرت سُري عنه، فعرفت ذلك عائشة فسألته فقال: "لعله يا عائشة كما قال قوم عاد فلما رأَوهُ مستقبل أوديتهم، قالوا هذا عارض ممطرنا". وعصف الريح: اشتداد هبوبها، وريح عاصف شديدة الهبوب، وتخيل السماء هنا بمعنى السحاب، وتخيلت إذا ظهر في السحاب أثر المطر، وسُرَّيَ عنه أي: كُشف عنه الخوف وأُزيلَ. والتشديد فيه للمبالغة، وعارض سحاب: عرض يمطر. وروى الطبراني عن ابن عباس والشافعي كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا هاجت ريح استقبلها بوجهه وجثا على ركبتيه وقال: "اللهم إنِّي أسأَلُكَ مِنْ خَيْرِ هذهِ وخَير ما أُرسِلَتْ بهْ وأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّها وشَرِّ ما أُمرت بِهْ اللَّهُمَّ اجعلها رحمةً ولا تَجْعلها عذابًا اللَّهم اجْعَلْها رياحًا ولا تجعلها ريحًا". والتعبير

رجاله أربعة

في وصف الريح بالشديدة يخرج الريح الخفيفة، وفيه الاستعداد بالمراقبة لله، والالتجاء إليه عند اختلاف الأحوال، وحدوث ما يخاف بسببه. رجاله أربعة: قد مرّوا، مرّ سعيد بن أبي مريم في الرابع والأربعين من العلم، ومرّ محمد بن جعفر في التاسع من الحيض، ومرّ حميد الطويل في الثاني والأربعين من الإيمان، وأنس في السادس منه. ثم قال المصنف:

باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم- نصرت بالصبا

باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم- نُصرتُ بالصَّبَا قال الزين بن المنير في هذه الترجمة إشارة إلى تخصيص حديث أنس الذي قبله بما سوى الصَّبا من جميع أنواع الريح؛ لأن قضية نصرها له أن تكون مما يسر بها دون غيرها، ويحتمل أن يكون حديث أنس على عمومه. إمّا بأن يكون نَصْرُها له متأخرًا عن ذلك لأن ذلك وقع في غزوة الأحزاب وهو المراد بقوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} كما جزم به مجاهد وغيره وإما بأنْ يكون نصرها له بسبب إهلاك أعدائه، فيخشى من هبوبها أن تُهلك أحدًا من عُصاة أُمَّتِه، وهو كان بهم رؤوفًا رحيمًا. وأيضًا فالصَّبا تولف السحاب وتجمعه، فالمطر في الغالب يقع حينئذٍ. وقد وقع في الخبر الماضي أنَّه كان إذا أَمطرت سُرِّيَ عنه. وذ لك يقتضي أن تكون الصَّبا أيضًا مِمَّا يقع التخوف عند هبوبها، فيعكر ذلك على التخصيص المذكور. الحديث التاسع والعشرون حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "نُصِرْتُ بِالصَّبَا، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ". قوله: "بالصَّبا" بفتح المهملة بعدها موحدة مقصورة، يقال لها القَبول بفتح القاف؛ لأنها تقابل باب الكعبة. إذْ مهبها من مشرق الشمس، وضدها الدبور، وهي التي أُهلكت بها قوم عاد. ومن المناسبة كون القبول "نصرت" أهل القبول وكون الدِبور "أَهلكت" أهل الإدبار، وأن الدبور أشد من الصبا. لما ذكر في قصة عاد أنها لم يخرج منها إلاَّ قدر يسير مقدار الخاتم، ومع ذلك استأصلهم، قال الله تعالى: {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ}. وسيأتي قريبًا وصفها, ولما عَلِم الله تعالى رأفةَ نبيَه عليه الصلاة والسلام بقومه رجاء أن يسلموا سلّط عليهم الصَّبا، وكان باردة في ليلةٍ شاتية فسفَّت التراب في وجوههم، وأطفأَت نيرانهم وقَطَّعت خيامهم، فكانت سبب رحيلهم عن المسلمين لما أصابهم بسببها من الشدة، ومع ذلك فلم تُهلك منهم أحدًا، ولم تستأصلهم، ومن الرياح الجنوب وهي التي تهب عن يمين البيت، والشمال وهي التي تهب عن شماله، وأي ريح هبت من بين جهتين منها يقال لها "النَكْباء" بفتح النون وسكون الكاف بعدها موحدة. ولكل من الأربعة طبع فالصَّبا: حارة يابسة، والدبور: باردة رطبة، والجنوب: حارة رطبة، والشمال: باردة يابسة، وهي ريح أهل الجنة التي تهب عليهم. رواه مسلم. وقال ابن الأَعرابي: مهب الصبا من مطلع الثُّريا إلى بنات نعش. وفي التفاسير: أنها هي التي حملت ريح يوسف إلى

رجاله خمسة

يعقوبَ عليهما الصلاة والسلام قبل البشير إليه فإليها يستريح كل محزون، وقال ابن الأعرابي أيضًا: إنَّ مهب الدبور من مسقط النِّسر الطائر إلى سهيل، وهي الريح العقيم. وسمِّيت عقيمًا لأنها أهلكتهم وقَطَعَتْ دابرهم. وروى شهر بن حوشب مما ذكره السَّمرقندي عن ابن عباس قال: ما أَنزل الله قطرة من ماءٍ إلاَّ بمثقال، ولا سفوة من ريح إلاَّ بمكيال إلا قوم نوح وقوم عاد. فأمَّا قوم نوح طغى على خُزّانه الماء، فلم يكن لهم عليه سبيل، وعتت الريح يوم عاد على خزّانها، فلم يكن لهم عليها سبيل، وقال غيره: كانت تقلع الشجر وتهدم البيوت. وترفع الظعينة بين السماء والأرض حتى ترى كأنها جرادة، وترميهم بالحجارة فَتَدُق أعناقهم، وعن ابن عباس دخلوا البيوت وأَغلقوها فجاءت الريح، ففتحت الأبواب، وسَفَّت عليهم الرمل فبقوا تحته سبع ليالٍ وثمانية أيام، فكان يسمع أنينهم تحت الرَّمل، واستنبط منه ابن بطَّال تفضيل بعض المخلوقات على بعض من جهة إضافة النصر للصبا، والإهلاك للدبور، وتعقب بأنَّ كل واحدةٍ منهما أهلكت أعداء الله، ونصرت أنبياءه وأولياءه، وعاد هو ابن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه الصلاة والسلام، فتفرعت أولاده، فكانوا ثلاث عشرة قبيلة ينزلون الاحقاف، وبلادها، وكانت ديارهم بالدهناء وعالج ودبار إلى حضرموت، وكانت أخصب البلاد ولمَّا سخط الله تعالى عليهم جعلها مفاوز واعتزل هود نبي الله -عليه السلام- ومَنْ معه من المؤمنين في حظيرة لا يصيبهم منها إلاَّ ما يليِّن الجلود، وتلذُّ الأَعين. وقال مجاهد: وكان قد آمن معه أربعة آلاف، وذلك قوله تعالى: {ولَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} وفي الحديث: إخبار المرء عن نفسهِ بما فضَّلَهُ الله بهِ على سَبيل التحديث بالنعمة لا على سبيل الفخر، وفيه الإخبار عن الأمم الماضية وإهلاكها. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ مسلم بن إبراهيم في السابع والثلاثين من الإيمان, ومرّ شعبة في الثالث منه، ومرَّ مجاهد في أثر أوَّله قبل ذكر حديث منه، ومرَّ الحكم في الثامن والخمسين من العلم، ومرَّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي. ثم قال المصنف:

باب ما قيل في الزلازل والآيات

باب ما قيل في الزلازل والآيات قيل لمَّا كان هبوب الريح الشديدة يوجب التخوّف المفضي إلى الخشوع والإنابة، كانت الزَّلْزَلة ونحوها من الآيات أولى بذلك، لاسيما وقد نصَّ في الخبر على أنَّ أكثر الزّلازل من أشراط الساعة، وقال الزين بن المنير: وجه إدخال هذه الترجمة في أبواب الاستسقاء: أن وجود الزَّلزلة ونحوها يقع غالبًا مع نزول المطر، وتقدم لنزول المطر دعاء يخصه، فأراد المصنف أن يبيّن أنه لم يثبت عنده على شرطه في القول عند الزلازل ونحوها شيء، وهل يصلى عند وجودها. حكى فيه ابن المنذر الاختلاف، وبه قال أحمد وإسحاق وجماعة، وعلَّق الشافعي القول به على صحة الحديث عن علي أنه صلّى في زلزلة جماعة. قال النووي: لم يصح ولو جمح قال أصحابنا محمول على الصلاة منفردًا لندب الصلاة عندها منفردًا لئلا يكون غافلًا. وقد حثَّ عمر على الصلاة عند الزلزلة. قال الحليمي: وصِفَتُها عند ابن عباس وعائشة كصلاة الكسوف ويحتمل أنْ لا يغير عن المعهود إلاَّ بتوقيف. قال الزركشي: وبهذا الاحتمال جزم ابن أبي الدنيا فقال: تكون كهيئة الصلوات، ولا تصلَّى على هيئة الخسوف قولًا واحدًا ويُسن الخروج إلى الصحراء وقت الزَّلزلة، قاله العبادي، ويقاس بها نحوها. وقد أخرج عبد الرزاق عن ابن عباس الصلاة عندها. وروى ابن حبان في صحيحه عن عائشة مرفوعًا: "صلاة الآيات ست ركعات وأربع سجدات". ويستحب لكل أحدٍ أن يتضرع بالدعاء عند الزلازل ونحوها كالصواعق، والريح الشديدة، والخسف لأن ظهور الزلازل والآيات وعيد من الله تعالى لأهل الأرض قال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا}. والوعيد والتخويف بهذه الآيات إنّما يكون عند المجاهرة والإعلان بالمعاصي. ألا ترى أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه حين زلزلت المدينة في زمنه قال: "يا أهل المدينة ما أَسرع ما أَحدثتم والله لئن عادت لأَخرجنَّ من بين اظهركم". فخشي أن تصيبه العقوبة معهم. كما قيل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم، إذا كَثُر الخبث ويَبْعَثُ الله الصَّالحين على نِيّاتهم". قلت: عند المالكية يكره السجود عند الزَّلزلة وتندب الصلاة عندها ولدفع البَلاء والطاعون فيُصَلَّون أفرَادًا أو جماعة إذا لم يجمعهم الإِمام أو يحملهم على ذلك، والذي يُظهر الوجوب إذا جمعهم الإمام على ذلك، وهل يصلون ركعتين أو أكثر، ذكر بعضهم عن اللخمي أنه تستحب ركعتان قال العدوي: ولم أره.

الحديث الثلاثون

الحديث الثلاثون حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ، وَتَكْثُرَ الزَّلاَزِلُ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ، وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ وَهْوَ الْقَتْلُ حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ الْمَالُ فَيَفِيضُ". قوله: "حتى يقبض العلم" بموت العلماء وكثرة الجهلاء. وقوله: "وتكثر الزلازل" جمع زلزلة، وهي حركة الأرض واضطرابها حتى ربما سقط البناء القائم عليها. وقوله: "ويتقارب الزمان" فتكون كما في الترمذي عن أنس مرفوعًا: "السنةُ كالشَّهر والشهر كالجمعة والجمعة كاليوم واليوم كالساعة والساعة كالضرمة بالنار" أي كزمان اتّقاد الضرمة، وهي ما توقد به النار أولًا كالقضب والكبريت. وقد مرَّت مباحث هذا الحديث مستوفاة غاية عند ذكره مختصرًا في باب من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس من كتاب العلم. وقوله: "فيفيض" بفتح حرف المضارعة بالرفع خبر مبتدأ محذوف. أي: هو يفيض ولأَبي ذر بالنصب عطفًا على يكثر. ويفيض استعارة من فيض الماء لكثرته يقال: "فاض الماء" إذا كثر حتى سال على ضفة الوادي أي: جانبه، وأفاض الرجل إناه أي: مَلأه حتى فاض، والمعنى: يفيض المال حتى يكثر، فيفضل منه في أيدي مالِكيه ما لا حاجة لهم به، وقيل: بل ينتشر في النَّاس ويعمهم. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ أبو اليمان وشعيب في السابع من بدء الوحي، ومرَّ أبو الزناد وعبد الرحمن في السابع من الإيمان، وأبو هريرة في الثاني منه. الحديث الحادي والثلاثون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا وَفِى يَمَنِنَا". قَالَ: قَالُوا: وَفِى نَجْدِنَا؟ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا وَفِى يَمَنِنَا". قَالَ: قَالُوا: وَفِى نَجْدِنَا؟ قَالَ: قَالَ: "هُنَاكَ الزَّلاَزِلُ وَالْفِتَنُ، وَبِهَا يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ". قوله: "قال: اللهم بارك إلخ" قال في "الفتح": هكذا وقع في هذه الروايات بصورة الموقوف عن ابن عمر لم يذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال القابسي: سقط ذكره عليه الصلاة والسلام من النسخة ولابد منه لأن مثله لا يقال بالرأي. وقد رواه أزهر السمان عن ابن عون مصرحًا فيه بذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- كما يأتي في الفتن. قلت: هذا مع ما في الحديث من قوله عن ابن عمر، قال: قال: "اللهم بارك" لا يصح أنه

على صورة الوقف لأن ابن عمر أسند القول إلى غيره، فلا يصح أن يكون من قوله ومن أسنده إليه معلوم أنه النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه هو الذي يسند إليه الصحابي ويَرْوي عنه، وإذا كان لم يذكره. فإنّما لم يذكره للعلم به على حد قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى}، وقوله تعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ}، وقوله: "في شامنا ويمننا" المراد بهما: الإقليمان المعروفان، أو البلاد التي عن يميننا وشمالنا أعم منهما. وقوله "في نجدنا؟ " هو خلاف الغور وهو تهامة وكل ما ارتفع من بلاد تهامة إلى أَرض العراق. ذكر هنا "وفي نجدنا" بعد قوله: "في شامِنا وَيَمننا" مرتين، وفي رواية ولد ابن عون فلما كان الثالثة أو الرابعة قالوا: يا رسول الله وفي نجدنا؟ قال: بها الزلازل والفتن ومنها يطلع قرن الشيطان". وقرن الشيطان أُمته وحزبه. قال الداودي: للشمس قرن حقيقة، ويحتمل أن يريد بالقرن قوة الشيطان وما يستعين به على الإِضلال، وهذا وجه وقيل: إن الشيطان يقرن رأسه بالشمس عند طلوعها ليقع سجود عبدتها له، قيل: ويحتمل أن يكون للشمس شيطان تطلع الشمس بين قرنيه، وقال الخطابي: القرن الأُمة من الناس يحدثون بعد فناء آخرين، وقرن الحية أن يضرب المثل فيما لا يحمد من الأُمور. وقال غيره: كان أهل المشرق يومئذٍ أهل كفر فاخبرَ -صلى الله عليه وسلم- أن الفتنة تكون من تلك النَّاحية، فكان كما أُخبروا. وأول الفتن كان من قبل المشرق، فكان ذلك سببًا للفرقة بين المسلمين وذلك مما يحبه الشيطان ويفرح به، وكذلك البِدع نشأَت من تلك الجهة. قال المهلب: إنما ترك -عليه الصلاة والسلام- الدعاء لأهل المشرق ليضعفوا عن البشر الذي هو موضوع في جهتهم لاستيلاء الشيطان بالفتن، وقال القسطلاني: إنما ترك الدعاء لأهل المشرق لأنه علم العاقبة، وأن القدر سبق بوقوع الفتن فيها والزلازل ونحوها من العقوبات. والأدب أن لا يدعى بخلاف القدر مع كشف العاقبة بل يحرم حينئذ. وقد مرَّ أن نجد ما ارتفع من بلاد تهامة إلى العراق، وتهامة كلها من الغور، ومكة من تهامة. وقال الخطابي: نجد من جهة المشرق، ومن كان بالمدينة كان نجده بادية العراق ونواحيها، وهي مشرق أهل المدينة. وقد ذكرت حدود نجد في رسالتي المسماة: "بالقول القاضي" بمبانيه، وأما الشام فقد قال أبو القاسم الزجاجي: سميت بذلك لكثرة قراها وتداني بعضها من بعض فشبهت بالشامات، وقيل سميت بذلك؛ لأن قومًا من كنعان بن حام خرجوا عند التفرق فتشاءموا إليها أي: أخذوا ذات الشمال. وقال ابن عساكر: سميت الشام بسام بن نوح -عليه السلام- وسام اسمه بالسريانية شام، وبالعبرانية شيم وقيل: سميت شامًا لأنها عن شمال الأرض، وقيل: إن اسم الشام أولًا سورية، وكانت أرض بني إسرائيل قسمت على اثني عشر سهمًا فصار لسهم منهم مدينة شامرين. وهي من فلسطين فصار إليها متجر العرب في ذلك، ومنها كانت ميرتهم فَسَمَوا الشام بشامرين. ثم حذفوا فقالوا: الشام، قال البكري: الشام مهموز الألف، وقد لا يهمز، وقال الفراء: فيها لغتان: شأم، وشام والنسب إليها شأمي، وشامي على الحذف. وقال الجوهري: يذكر ويؤنث.

رجاله خمسة

رجاله خمسة: قد مرّوا، إلاَّ حسين. مرّ محمد بن المثنى في التاسع من الإيمان, وابن عمر في أوله قبل ذكر حديث منه، وعبيد الله بن عون في التاسع من العلم، ومرّ نافع في الأخير منه، وحسين هو ابن الحسن بن يسار، ويقال ابن يسار، ويقال ابن بشر بن مالك بن يسار النصري أبو عبد الله من آل مالك بن يسار. قال أحمد: الحسين بن الحسن من أصحاب ابن عون من المعدودين في الثقات دلهم عليه ابن مهدي كان يحفظ عن ابن عون، وكان حسن الهيئة ما علمته ثقة. كتبنا عنه. وقال النسائي: ثقة، وذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال الساجي: ثقة صدوق مأمون تكلم فيه أزهر بن سعد فلم يلتفت إليه، ومثله يجل عن كتاب الضعفاء. روى عن ابن عون وزيد بن أبي هاشم مولى بشر بن مالك بن يسار، وروى عنه أحمد بن حنبل والزعفراني والفلاس وبندار. مات سنة ثمان وثمانين ومائة. والنصري في نسبه نسبة إلى نصر بن معاوية. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، ورواته بصريون، ما خلا نافعًا. أخرجه البخاري في "الفتن" مرفوعًا. والترمذي وقال: صحيح حسن، وخرّجه الإسماعيلي مسندًا. ثم قال المصنف:

باب قول الله تعالى: {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون}

باب قول الله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} ثم قال: قال ابن عباس: "شكركم" يُحتمل أن يكون مراده أن ابن عباس قرأها كذلك، وشهد له ما رواه سعيد بن منصور عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه كان يقرأ {وتجعلون شكركم أنكم تكذبون} وهذا إسناد صحيح. ومن هذا الوجه أخرجه ابن مردويه في التفسير المسند. وروى مسلم عن ابن عباس قال: مطر الناس على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكر نحو حديث زيد بن خالد في الباب وفي آخره فأنزلت هذه الآية: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} إلى قوله: {تُكَذِّبُونَ}. وعرف بهذا مناسبة الترجمة وأثر ابن عباس لحديث زيد بن خالد، وقد روى نحو أثر ابن عباس المعلّق مرفوعًا من حديث علي. لكن سياقه يدل على التفسير لا على القراءة. أخرجه عبد بن حميد عن علي مرفوعًا {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} قال: "تجعلون شكركم" تقولون: مُطرنا بنوء كذا، وقد قيل في القراءة المشهورة حذفٌ تقديره: "وتجعلون شكر رزقكم". وقال الطبري: المعنى "وتجعلون الرزقال في وجب عليكم به الشكر تكذيبكم به" وقيل: بل الرزق بمعنى "الشكر" في لغة أزدشنوءة. نقله الطبري. وابن عباس مرّ في الخامس من بدء الوحي. الحديث الثاني والثلاثون حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- صَلاَةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلَةِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: "هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ ". قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ. فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا. فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ". هذا الحديث مرّ الكلام عليه مستوفى في باب يستقبل الإِمام الناس من أبواب صفة الصلاة. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ إسماعيل بن أبي أويس في الخامس عشر من الإيمان، ومرّ مالك في الثاني من بدء الوحي، وعبيد الله المسعودي في السادس منه، وصالح بن كيسان في السابع منه، وزيد بن خالد في الثالث والثلاثين من العلم. ثم قال المصنف:

باب لا يدري متى يجيء المطر إلا الله تعالى

باب لا يدري متى يجيء المطر إلاَّ الله تعالى عقب الترجمة الماضية بهذه لأن تلك تضمنت أن المطر إنما ينزل بقضاء الله، وأنه لا تأثير للكواكب في نزوله. وقضية ذلك أنه لا يعلم أحد متى يجيء إلا هو. ثم قال: وقال أبو هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "خمسٌ لا يعلمهنَّ إلا الله". وقد مرّ استيفاء الكلام على هذا الطرف من الحديث عند ذكر حديث سؤال جبريل في كتاب الإيمان وفي تفسير ابن مردويه: "خمسٌ من الغيب لا يعلمهن إلا الله": {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} الآية. وهذا قطعة من حديث وصله المؤلف في الإيمان، وفي تفسير سورة لقمان وأبو هريرة مرّ في الثاني من الإيمان. الحديث الثالث والثلاثون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مِفْتَاحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ اللَّهُ لاَ يَعْلَمُ أَحَدٌ مَا يَكُونُ فِي غَدٍ، وَلاَ يَعْلَمُ أَحَدٌ مَا يَكُونُ فِي الأَرْحَامِ، وَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، وَمَا يَدْرِي أَحَدٌ مَتَى يَجِيءُ الْمَطَرُ". قوله: "مفتاح" في رواية الكشميهني مفاتح. وقوله: "متى يجيء المطر" زاد الإسماعيلي "إلاَّ الله". أخرجه عن الثوري. وفيه رد على مَنْ زعم أن لنزول المطر وقتًا معينًا لا يختلف عنه. وقد مرت مباحث هذا الحديث عند محل ذكر الحديث الذي قبله في باب سؤال جبريل النبي -صلى الله عليه وسلم-. رجاله أربعة: قد مرّوا، مرّ محمد بن يوسف الفريابي في العاشر من العلم، ومرّ سفيان الثوري في السابع والعشرين من الإيمان، ومرّ عبد الله بن دينار في الثاني منه، وابن عمر في أوله قبل ذكر حديث منه.

خاتمة

خاتمة اشتملت أبواب الاستسقاء من الأحاديث المرفوعة على أربعين حديثًا. المعلق منها تسعة، والبقية موصولة، المكرر منها فيها، وفيما مضى سبعة وعشرون حديثًا، والخالص ثلاثة عشر وافقه مسلم على تخريجها. سوى حديث ابن عمر الذي فيه شعر أبي طالب، وحديث أنس عن عمر في الاستسقاء بالعباس. وحديث عبد الله بن زيد في الاستسقاء على رجليه، وحديث عبد الله بن زيد في صفة تحويل الرِّداء وإن أخرج أصله، وحديث عائشة في قوله: "صيبًا نافعًا"، وأصله أيضًا فيه، وحديث أنس كان إذا هبت الريح الشديدة، وفيه من الآثار عن الصحابة وغيرهم أثران. من الفتح وقد رأيت ما قاله في الموصول من الأحاديث ورأيت ما كتبناه مما هو محقق بالنص. ثم قال المصنف:

أبواب الكسوف

بسم الله الرحمن الرحيم أبواب الكسوف ثبتت البسملة في رواية كريمة، والترجمة في رواية المستملي وفي بعض النسخ كتاب بدل أبواب والكسوف لغة: التغير إلى سواد، ومنه كسف وجهه وحاله، وكسفت الشمس اسودت وذهب شعاعها. واختلف في الكسوف والخسوف هل هما مترادفان أم لا؟ الخ ما مرّ مستوفى عند حديث أسماء بنت أبي بكر في باب ما يقال بعد التكبير. ثم قال المصنف: باب الصلاة في كسوف الشمس أي: مشروعيتها وهو أمر متفق عليه إلى آخر ما مرّ عند الحديث المذكور. الحديث الأول حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ يُونُسَ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَانْكَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَقَامَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَجُرُّ رِدَاءَهُ حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَدَخَلْنَا فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ، حَتَّى انْجَلَتِ الشَّمْسُ فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لاَ يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَصَلُّوا، وَادْعُوا، حَتَّى يُكْشَفَ مَا بِكُمْ". قوله: "فانكسفت" يقال: كَسَفَت الشمس بفتح الكاف وانكسفت بمعنى وأنكر القزاز انكسفت. وكذا الجوهري حيث نسبه للعامة. والحديث يرد عليه، وحكى كُسفت بضم الكاف وهو نادر. وقوله: "فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجر رداءه" زاد في اللباس من وجه آخر عن يونس مستعجلًا وللنسائي عنه من العجلة، ولمسلم عن أسماء كُسفت الشمس على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ففزع فأخطا بدرع حتى أدرك بردائه، يعني أنه أراد لبس ردائه فلبس الدرع من شغل خاطره بذلك، واستدل به على أن جر الثوب لا يذم إلاَّ ممن قصد به الخيلاء. وقوله: "حتى انجلت" استدل به على إطالة الصلاة حتى يقع الانجلاء، وأجاب الطحاوي بأنه قال فيه: "فصلوا وادعوا" فدل على أنه أنَّ المسلم من الصلاة قبل الانجلاء يتشاغل بالدعاء حتى تنجلي. وقرره ابن دقيق العيد بأنه جعل الغاية لمجموع الأمرين ولا يلزم من ذلك أن يكون غاية لكل منهما على انفراده، فجاز أن يكون الدعاء ممتدًا إلى غاية الإِنجلاء بعد الصلاة، فيصير غاية

رجاله خمسة

للمجموع، ولا يلزم منه تطويل الصلاة، ولا تكريرها. وقوله: "فقال النبي - أن الشمس" زاد ابن خزيمة في روايته فلما كشف عنا خطبنا فقال: واستدل به على الانجلاء لا يسقط الخطبة، وقد مرّ ما في ذلك عند الحديث المذكور، ومرّت مباحث الحديث مستوفاة هناك. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ ابن عون في العاشر من استقبال القبلة، ومرّ خالد الطحان في السادس والخمسين من الوضوء، ومرّ يونس بن عبيد والحسن البصري وأبو بكرة في الرابع والعشرين من الإيمان. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة. والإسناد كله بصريون غير خالد أخرجه البخاري أيضًا في الكسوف والنسائي في الصلاة وفي التفسير. الحديث الثاني حَدَّثَنَا شِهَابُ بْنُ عَبَّادٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مَسْعُودٍ يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لاَ يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَقُومُوا فَصَلُّوا". قوله: "شهاب بن عباد" هو العبدي الكوفي الآتي تعريفه قريبًا، ولهم شيخ آخر يقال له شهاب بن عباد العبدي لكنه بصري، وهو أقدم من الكوفي يكون في طبقة شيوخ شيوخه أخرج له البخاري وحده في "الأدب المفرد". وقوله: "إبراهيم بن حميد" شيخه هو ابن عبد الرحمن الرُّؤاسي بضم الراء وتخفيف الهمزة الآتي تعريفه قريبًا، وفي طبقته إبراهيم بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري ولم يخرجوا له. وقوله: "فإذا رأيتموها" أي: الآية وفي رواية الكشميهني رأيتموهما بالتثنية، وكذا رواية الإسماعيلي، والمعنى: إذا رأيتم كسوف كل منهما لاستحالة وقوع ذلك فيهما معًا في حالة واحدة عادة، وإن كان ذلك جائزًا في القدرة الإلهية، وفي رواية ابن المنذر حتى ينجلي كسوف أيهما انكسف وهو أصرح في المراد، واستدل به على مشروعية الصلاة في كسوف القمر ويأتي الكلام إن شاء الله تعالى عليه في باب مفرد. وقوله: "فقوموا فصلوا" استدل به على أنه لا وقت لصلاة الكسوف معينًا إلى آخر ما مرّ في حديث أسماء في الباب المذكور آنفًا.

رجاله خمسة

رجاله خمسة: مرّت الثلاثة الأخيرة، مرّ إسماعيل بن أبي خالد في الثالث من الإيمان، وقيس بن أبي حازم في الخمسين منه، وأبو مسعود في الثامن والأربعين منه، والاثنان الباقيان: الأول منهما شهاب بن عباد العبدي أبو عمر الكوفي. ذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال ابن عدي: كان من خيار الناس. وقال العجلي: كوفي ثقة. وقال أبو حاتم: ثقة رضي. وقال عبد الرحمن بن محمد الجزري: كان ثقة روى عن الحمادين، وإبراهيم بن حميد، وخالد بن عمرو القرشي وغيرهم. وروى عنه البخاري ومسلم، وروى له الترمذي وابن ماجه بواسطة وأحمد بن حنبل وغيرهم. مات لِلَيْلَتَيْنِ خلتا من جمادى الأولى سنة أربع وعشرين ومائتين. الثاني: إبراهيم بن حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي أبو إسحاق الكوفي. ذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال أبو حاتم والنسائي: ثقة. وقال ابن معين: ثقة ولم أدركه ووثقه أيضًا أحمد وأبو داود والعجلي. روى عن إسماعيل بن أبي خالد وهشام بن عروة وثور بن يزيد الدمشقي وغيرهم، وروى عنه شهاب بن عباد ويحيى بن آدم وزكرياء بن عدي وغيرهم. مات سنة ثمان وسبعين ومائة. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول ورواته كلهم كوفيون. وفيه رواية تابعي عن تابعي أخرجه البخاري أيضًا في الكسوف ومسلم في الخسوف، وكذا النسائي وابن ماجه. الحديث الثالث حَدَّثَنَا أَصْبَغُ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرٌو عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ كَانَ يُخْبِرُ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لاَ يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهَا فَصَلُّوا. قوله: "لا يَخسفان" أي: بفتح أوله ويجوز الضم، وحكى ابن الصلاح منعه، وروى ابن خزيمة والبزار عن نافع عن ابن عمر قال: خسفت الشمس يوم مات إبراهيم الحديث. وفيه فافزعوا إلى الصلاة وإلى ذكر الله وادعوا وتصدقوا. وقوله: "ولا لحياته" استُشكلت هذه الزيادة إلى آخر ما مرّ عند حديث أسماء في الباب المذكور من أبواب صفة الصلاة. رجاله ستة: قد مرّوا، مرّ اصبغ بن الفرج وعمرو بن الحارث في السابع والستين من الوضوء ومرّ ابن وهب

لطائف إسناده

في الثالث عشر من العلم، ومرّ عبد الرحمن بن القاسم في السادس عشر من الغسل، وأبوه القاسم في الحادي عشر فهو ابن عمر في أول الإيمان قبل ذكر حديث منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإفراد والإخبار بالإفراد والعنعنة والقول. والرواة الثلاثة الأُول مصريون والبقية مدنيون أخرجه البخاري أيضًا في بدء الخلق ومسلم والنسائي في الصلاة. الحديث الرابع حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ قَالَ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلاَقَةَ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: كَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ، فَقَالَ النَّاسُ كَسَفَتِ الشَّمْسُ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لاَ يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ فَصَلُّوا وَادْعُوا اللَّهَ". قوله: "يوم مات إبراهيم" يعني ابن النبي -صلى الله عليه وسلم-. وقد ذكر جمهور أهل السير أنه مات في السنة العاشرة من الهجرة. فقيل ربيع الأول. وقيل في رمضان. وقيل في ذي الحجة، والأكثر على أنها وقعت في عاشر الشهر. وقيل في رابعه، وقيل في رابع عشرة، ولا يصح شيء منها على قول ذي الحجة؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان إذْ ذاك بمكة في الحج. وقد ثبت أنه حضر وفاته وكانت بالمدينة. وسيأتي قريبًا في السند تعريفه. رجاله خمسة: قد مرّوا، وفيه ذكر إبراهيم ابن النبي -صلى الله عليه وسلم-. مرّ عبد الله المسندي في الثاني من الإيمان, وزياد بن علاقة والمغيرة بن شعبة في الأخير منه، ومرّ هاشم بن القاسم في التاسع من الوضوء، ومرّ شيبان النحوي في الثالث والخمسين من العلم. وأما إبراهيم فهو ابن سيد البشر محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم وأُمه مارية القبطية أهداها إلى رسول لله- صلى الله تعالى عليه وسلم- هي وأختها سيرين المقوقس صاحب الإسكندرية ومصر فوهب سيرين لحسان بن ثابت الشاعر، فولدت له ولده عبد الرحمن. ولد إبراهيم ليلة الثلاثاء لعشر خلون من ربيع الأول في ذي الحجة سنة ثمان، ولد كما قال الزبير بالعالية في المحل الذي يقال له اليوم مشربة إبراهيم بالقف، وكانت قابلتها سلمى مولاة النبي -صلى الله عليه وسلم- وزوجة أبي رافع فبشر به أبو رافع النبي -صلى الله عليه وسلم- فوهب له عبدًا، وعق عنه يوم سابعه بكبش وحلق رأسه أبو هند وسمّاه يومئذ وتصدق بوزن شعره ورقًا على المساكين، وأخذوا شعره ودفنوه في الأرض. هكذا قال الزبير: أنه سماه يوم سابعه والصحيح ما أخرجه الشيخان عن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ولد لي الليلة غلام فسميته باسم أبي إبراهيم". قلت: يمكن عندي التوفيق بين الحديثين

بأن يكون معنى سميته أردت تسميته. لا أنه وضع الاسم عليه الآن، ويكون وضع الاسم عليه تأخر إلى السابع. كما قال الزبير. ثم دفعه إلى أُم سيف امرأة قين بالمدينة يقال له أبو سيف وتنافست الأنصار فيمن يرضعه، وأحبوا أن يفرغوا مارية للنبي -صلى الله عليه وسلم- لما يعلمون من هواه فيها وكانت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- قطعةً من ضأن ترعى بالقف ولقاح بذي الجدر تروح عليها. فكانت توتى بلبنها كل ليلة، فتشرب وتسقي ابنها. فجاءت أم بردة بنت المنذر بن زيد الأنصاري زوجة البراء بن أوس، فكلمت النبي -صلى الله عليه وسلم- في أن ترضعه بلبان ابنها في بني مازن بن النجار، وترجع به إلى أمها وأعطى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أم بردة قطعةً من النخل، فناقلت بها إلى مال عبد الله بن زمعة، واختلف في سنه يوم مات وهل صلّى عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ ففي صحيح البخاري أنه عاش سبعة عشر شهرًا، أو ثمانية عشر شهرًا على الشك، وأخرج ابن منده عن أنس قال: توفي إبراهيم ابن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو ابن ستة عشر شهرًا وقال: "ادفنوه في البقيع فإن له مرضعًا تتم رضاعه في الجنة". وروى ابن إسحاق عن عائشة قالت: توفي إبراهيم ابن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو ابن ثمانية عشر شهرًا. وأخرجه أحمد في مسنده عنها. وزاد فلم يصل عليه. وروى ابن سعد وأبو يعلى عن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلّى على ابنه إبراهيم وكبّر عليه أربعًا. وروى أحمد عن البراء قال: صلَّى النبي -صلى الله عليه وسلم- على ابنه إبراهيم ومات وهو ابن ستة عشر شهرًا. قال الخطابي: حديث عائشة أحسن اتصالًا من الرواية التي فيها أنه صلى عليه، ولكن هي أولى. وقال ابن عبد البر: حديث عائشة لا يصح لأن الجمهور قد أجمعوا على الصلاة على الأطفال إذا استهلوا عملًا مستفيضًا عن الخلف والسلف، ولم يخالف فيه أحد إلا سمرة بن جندب فيما علمت. وقد يحتمل أن يكون معنى حديثها أي: لم يصل عليه في جماعة أو أمر أصحابه فصلوا عليه ولم يحضرهم، فلا يكون مخالفًا لما عليه العلماء في ذلك، وهو أولى ما حمل عليه حديثها غسلته أم بردة وحمل من بيتها على سرير صغير وصلّى عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالبقيع. وقال: "ندفنه عند فرطنا عثمان بن مظعون". وقد قيل: إن الفضل بن العباس غسله ونزل في قبره مع أُسامة بن زيد ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس على شفير القبر. قال الزبير: ورش قبره وأعلم فيه بعلامة قال: وهو أول قبر رش عليه. وروى ابن ماجه عن ابن عباس قال: لما مات إبراهيم ابن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ له مرضعًا في الجنة فلو عاش لكان صديقًا نبيًا ولو عاش لأعتقت أخواله من القبط وما استرق قبطي" وفي سنده ضعف، وفي الحديث: "إذا دخلتم مصر فاستوصوا بالقبط خيرًا فإن لهم ذمة ورحمًا" وأخرج البخاري عن إسماعيل بن أبي خالد قلت لعبد الله بن أبي أُوفى: رأيت إبراهيم ابن النبي -صلى الله عليه وسلم- أكبر. قال: مات صغيرًا ولو قضى أن يكون بعد محمد نبي عاش ابنه إبراهيم، ولكن لا نبي بعده. وأخرجه أحمد عن إسماعيل سمعت ابن أبي أوفى يقول: لو كان بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- نبي ما مات ابنه إبراهيم.

وأخرج إسماعيل السدي عن أنس كان إبراهيم قد ملأ المهد، ولو عاش لكان نبيًا، ولكن لم يكن ليبقى فإن نبيكم آخر الأنبياء. وأخرج ابن منده عن إسماعيل قلت لابن أبي أَوفى: رأيت إبراهيم ابن النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: نعم. كان أشبه الناس به، مات وهو صغير. وقد استنكر ابن عبد البر حديث أنس وابن أبي أوفى. فقال بعد نقلهما: لا أدري ما هذا؟ فقد ولد نوح غير نبي ولو لم يلد النبي إلا نبيًا لكان كل أحد نبيًا؛ لأنهم من ولد نوح -عليه السلام- وآدم -عليه السلام- لا أعلم في ولده لصلبه نبيًا غير شيث. فكما يلد غير النبي نبيًا، فكذلك يجوز أن يلد النبي غير نبي. قال في "الإصابة": ولم يلزم من الحديثين المذكورين ما ذكره لما لا يخفى. قلت: بيانه هو أن هذا إذا كان ورد في إبراهيم وحده لا يلزم منه أن يكون شائعًا في كل ولد وُلِدَ لنبي، فيكون خصوصيته له من الله تعالى. ويدل لذلك حديث ابن عباس المرفوع، فهو مثل ما روي عن أنس وابن أبي أوفى وقال النووي في ترجمة إبراهيم من تهذيبه: وأما ما روي عن بعض المتقديمن لو عاش إبراهيم لكان نبيًا فباطل وجسارة على الكلام على المغيبات ومجازفة، وهجوم على عظيم. قال في "الإصابة": وهو عجيب من وروده عن ثلاثة من الصحابة، وكأنه لم يظهر له وجه تأويله. فبالغ في إنكاره. وجوابه أن القضية شرطية لا تستلزم الوقوع ولا يظن بالصحابي أنه يهجم على هذا بظنه. قلت: مرّ عن ابن عباس رفع ما قاله أنس وابن أبي أوفى، ومعلوم أن ما قالاه في حكم المرفوع؛ لأنه لا مجال للرأي فيه، وما كان كذلك من آثار الصحابة له حكم المرفوع، كما هو مقرر عند أهل الحديث؛ لأنهم لا يهجمون على الغيب بدون إخبار منه -صلى الله عليه وسلم- وما روي ليس فيه ما ينكر، إذ غاية ما فيه التنويه بقدر إبراهيم وأنه أهل لهذا المنصب لو عاش، وقد قال -صلى الله عليه وسلم- في حق عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: "لو كان بعدي نبي لكان عمر". فهذا من المعنى، ومَنْ تأمل ما ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من محبته سلم لهذا. فقد أخرج مسلم عن أنس ما رأيت أرحم بالعيال من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. كان إبراهيم مسترضعًا له في عوالي المدينة، وكان ينطلق ونحن معه فيأخذه ويقبله، فذكر قصة موته أخرجها هو والبخاري. وفيها أنه دخل عليه وهو يجود بنفسه فجعلت عيناه تذرفان وهو يقول: "العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنّا بك يا إبراهيم لمحزونون". وأخرج ابن عبد البر بسنده عن عطاء بن جابر قال: أخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- بيد عبد الرحمن بن عوف فأتى به النخل فإذا ابنه إبراهيم في حجر أُمه وهو يجود بنفسه فأخذه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوضعه في حجره، ثم قال: "يا إبراهيم إنا لن نغني عنك من الله شيئًا" ثم ذرفت عيناه. ثم قال: "يا إبراهيم لولا أنه أمر حق ووعد صدق وأن آخرنا سيلحق أولنا لجدنا عليك حزنًا هو أشد من هذا وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون تبكي العين ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب". إلى غير هذا من الأحاديث كانت وفاته في ربيع الأول وقيل: في رمضان وقيل: في ذي الحجة، وهذا الثالث باطل على القول أنه مات سنة عشر لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان في حجة الوداع إلاَّ إذا كان مات في آخر ذي الحجة. وقد حكى البيهقي قولًا بأنه عاش سبعين يومًا فقط. فعلى هذا يكون مات سنة ثمان، والله

لطائف إسناده

تعالى أعلم. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول ورواته بخاريّ وخراساني وبغدادي وبصري وكوفي. أخرجه البخاري في "الأدب" ومسلم في الصلاة. ثم قال المصنف:

باب الصدقة في الكسوف

باب الصدقة في الكسوف أورد فيه حديث عائشة، من رواية هشام بن عروة عن أبيه عنها ثم أورده بعد باب من رواية ابن شهاب عن عروة، ثم بعد بابين من رواية عمرة عن عائشة، وعند كل منهم ما ليس عند الآخر، وورد الآخر في الأحاديث التي أوردها في الكسوف بالصلاة والصدقة والذكر والدعاء. وقد قدم منها الأهم فالأهم، ووقع الأمر بالصدقة في رواية هشام دون غيرها. فناسب أن يترجم بها ولأن الصدقة تالية للصلاة، فلذلك جعلها تلو ترجمة الصلاة في الكسوف. الحديث الخامس حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِالنَّاسِ، فَقَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ، ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ، ثُمَّ قَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ وَهْوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ، وَهْوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ سَجَدَ فَأَطَالَ السُّجُودَ، ثُمَّ فَعَلَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلَ مَا فَعَلَ فِي الأُولَى، ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدِ انْجَلَتِ الشَّمْسُ، فَخَطَبَ النَّاسَ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لاَ يَنْخَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَادْعُوا اللَّهَ وَكَبِّرُوا، وَصَلُّوا وَتَصَدَّقُوا". ثُمَّ قَالَ: "يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَاللَّهِ مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا". قوله: "خسفت الشمس فصلى" استدل به على أنه عمه كان يحافظ على الوضوء. فلهذا لم يحتج إلى الوضوء في تلك الحال، وفيه نظر؛ لأن في السياق حذفًا، فسيأتي في رواية ابن شهاب خسفت الشمس فخرج إلى المسجد فصف الناس وراءه، وفي رواية عمرة فخسفت فرجع ضحىً فمرّ بين الحجر، ثم قام يصلي، وإذا ثبتت هذه الأفعال جاز أن يكون حذف أيضًا فتوضأ ثم قام

يصلي فلا يكون نصًا في أنه كان على وضوء. ومباحث هذا الحديث مرت مستوفاة عند حديث أسماء في باب بعد باب ما يقال بعد التكبير من أبواب صفة الصلاة، ولم يبق منها إلا من قوله: "والله ما من أحد ... إلخ". وقوله: "والله ما من أحدٍ" فيه القسم لتأكيد الخبر. وإن كان السامع غير شاك فيه، وقوله: "أغير" بالنصب على أنه الخبر، وعلى إن من زائدة، ويجوز فيه الرفع على لغة تميم، أو أغير مخفوض صفةً لأحد، والخبر محذوف تقديره موجود، وأغير أفعل تفضيل من الغَيرة بفتح الغين المعجمة، وهي في اللغة تغير يحصل من الحمية والأنفة وأصلها في الزوجين والأهلين، وكل ذلك محال على الله تعالى؛ لأنه منزه عن كل تغير ونقص فيتعين حمله على المجاز فقيل لمّا كانت ثمرة المغيرة صون الحريم ومنعهم وزجر من يقصد إليهم أطلق عليه ذلك لكونه منع من فعل ذلك، وزجر فاعله وتوعده، فهو من باب تسمية الشيء بما يترتب عليه. وقال ابن فورك: المعنى ما أكثر زجرًا عن الفواحش من الله تعالى لأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وقال ابن دقيق العيد: أهل التنزيه في هذا على قولين: إما ساكت وإما مؤول على أن المراد بالغيرة شدة المنع والحماية، فهو من مجاز الملازمة وقال الطيبي وغيره: وجه اتصال هذا المعنى بما قبله من قوله: "فاذكروا الله .. إلخ" أي: من جهة أنهم لما أُمروا باستدفاع البلاء بالذكر والدعاء والصلاة والصدقة ناسب ردعهم عن المعاصي التي هي من أسباب جلب البلاء، وخص منها الزنى لأنه أعظمها في ذلك. وقيل: لما كانت هذه المعصية من أقبح المعاصي وأشدها تأثيرًا في إثارة النفوس وغلبة الغضب ناسب ذلك تخويفهم في هذا المقام من مواخذة رب المغيرة وخالقها سبحانه وتعالى. وقوله: "يا أمة محمد" فيه معنى الإشفاق كما يخاطب الوالد ولده إذا أشفق عليه بقوله: يا بني كذا. قيل: وكان قضية ذلك أن يقول يا أمتي لكن لعدوله عن المضمر إلى المظهر حكمة، وكأنها بسبب كون المقام مقام تحذير وتخويف لما في الإضافة من الاشعار بالتكريم، ومثله: "يا فاطمة بنت محمد لا أُغني عنك من الله شيئًا" الحديث، وصدر -صلى الله عليه وسلم- كلامه باليمين لإرادة التأكيد للخبر وإن كان لا يرتاب في صدقه. ولعل تخصيص العبد والأمة بالذكر، رعاية الأدب مع الله تعالى لتنزهه عن الزوجة والأهل ممن تتعلق بهم المغيرة غالبًا، ويؤخذ من قوله: "يا أمة محمد" إن الواعظ ينبغي له حال وعظه أن لا يأتي بكلام فيه تفخيم لنفسه، بل يبالغ في التواضع لأنه أقرب إلى انتفاع مَنْ يسمعه. وقوله: "لو تعلمون ما أعلم" أي: من عظيم قدرة الله تعالى وانتقامه من أهل الإجرام، وقيل:

رجاله خمسة

معناه لو دام علمكم كما دام علمي، لأن علمه متواصل بخلاف غيره، وقيل: لو علمتم من سعة رحمة الله وحلمه ما أعلم لبكيتم على ما فاتكم من ذلك. وقوله: "لضحكتم قليلًا" قيل: معنى القلة هنا العدم والتقدير لتركتم الضحك، ولم يقع منكم إلا نادرًا لغلبة الخوف، واستيلاء الحزن. وحكى ابن بطال عن المهلب أن سبب ذلك: ما كان عليه الأنصار من محبة اللهو والغناء. وأطال في تقرير ذلك بما لا طائل فيه ولا دليل عليه، ومن أين له أن المخاطب بذلك الأنصار دون غيرهم. والقصة كانت في أواخر زمنه عليه الصلاة والسلام حين امتلأت المدينة بأهل مكة ووفود العرب. وقد بالغ الزين بن المنير في الرد عليه والتشنيع. قلت: كون الخطاب لعموم الناس لا يمنع من أن يكون السبب صدر من الأنصار أو غيرهم؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان من عادته أنه لا يواجه أحدًا بالإنكار والزجر وإنما يعمم أو يبهم فيقول: "ما بال أقوام". ونحو ذلك. وفي الحديث ترجيح التخويف في الخطبة على التوسع بالترخيص لما في ذكر الرخص من ملاءمة النفوس لما جبلت عليه من الشهوة. والطبيب الحاذق يقابل العلة بما يضادها لا بما يزيدها. والزجر عن كثرة الضحك والحث على كثرة البكاء والتحقيق بما سيصير إليه المرء من الموت والفناء والاعتبار بآيات الله تعالى. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ عبد الله بن مسلمة في الثاني عشر من الإيمان، ومرّ باقي السند بهذا النسق في الثاني من بدء الوحي. ثم قال المصنف:

باب النداء بالصلاة جامعة في الكسوف

باب النداء بالصلاة جامعة في الكسوف هو بالنصب فيهما على الحكاية، وحروف الجر لا يظهر عملها في باب الحكاية ونصب الصلاة في الأصل على الإغراء وجامعة على الحال أي: احضروا الصلاة في كونها جامعة وقيل برفعهما على أن الصلاة مبتدأ، وجامعة خبره ومعناه ذات جماعة أي: تصلى جماعة، لا منفردة كسنن الرواتب فالإسناد مجازي كنهر جارٍ وطريق سائر. الحديث السادس حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلاَّمِ بْنِ أَبِي سَلاَّمٍ الْحَبَشِيُّ الدِّمَشْقِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ الزُّهْرِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: لَمَّا كَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- نُودِيَ إِنَّ الصَّلاَةَ جَامِعَةٌ. قوله: "أخبرنا يحيى بن صالح" يحيى من شيوخ البخاري، وربما أخرج عنه بواسطة كهذا. وقوله: "عن عبد الله بن عمرو" في رواية حجاج الصواف عن يحيى حدّثنا أبو سلمة حدّثني عبد الله أخرجه ابن خزيمة. وقوله: "نودي" بالبناء للمفعول وصرّح الشيخان في حديث عائشة بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث مناديًا فنادى بذلك. قال ابن دقيق العيد: هذا الحديث حجة لمن استحب ذلك. وقد اتفقوا على أنه لا يؤذن لها، ولا يقام. وقوله: "أن الصلاة جامعة" بفتح الهمزة وتخفيف النون وهي المفسرة، وفي رواية إنّ الصلاة بكسر الهمزة، وتشديد النون والخبر محذوف تقديره إن الصلاة ذات جماعة حاضرة. ويروى برفع جماعة على أنه الخبر. وللكشميهني نودي بالصلاة جامعة وفيه ما تقدم في لفظ الترجمة، وجوز بعضهم في الصلاة جامعة النصب فيهما والرفع فيهما، ورفع الأول ونصب الثاني وبالعكس. وظاهر الحديث أن ذلك كان قبل اجتماع الناس. وليس فيه أنه بعد اجتماعهم نودي بالصلاة جامعة، حتى يكون ذلك بمنزلة الإقامة التي يعقبها الفرض ومن ثُمَّ لم يعول في الاستدلال على أنه لا يؤذن لها وأن يقال فيها: الصلاة جامعة، إلا على ما أرسله الزهري.

رجاله ستة

قال الشافعي في "الأم": ولا أذان لكسوف ولا لعيد ولا لصلاة غير مكتوبة. وإن أمر الإِمام من يفتتح الصلاة جامعة أحببت ذلك له، فإن الزهري يقول: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يأمر المؤذن في صلاة العيدين أن يقول الصلاة جامعة. رجاله ستة: قد مرّوا إلاَّ معاوية، مرّ إسحاق بن منصور في الخامس والثلاثين من الإيمان، ومرّ عبد الله بن عمرو في الثالث منه، ومرّ يحيى بن صالح في الثالث عشر من كتاب الصلاة، ومرّ يحيى بن أبي كثير في الثالث والخمسين من العلم، ومرّ أبو سلمة في الرابع من بدء الوحي، وأما معاوية فهو ابن سلام بن أبي سلّام بتشديد اللام فيهما، ممطور الحبشي ويقال الألهاني أبو سلّام الدمشقي، قال أبو زرعة الدمشقي: عرضت على أحمد حديثًا قال: مَنْ يروي هذا؟ قلت: معاوية بن سلّام محدث أهل الشام وهو صدوق الحديث، ومَنْ لم يكتب حديثه مسنده ومنقطعه حتى يعرفه فليس بصاحب حديث. وقال أبو زرعة الدمشقي أيضًا: كان يحيى بن حسان ومروان يرفعان من ذكره وكان ثقة. وقال ابن معين والنسائي: ثقة. وقال دحيم: جيد الحديث ثقة كان بحمص ثم انتقل إلى دمشق، وقال يعقوب: ثقة صدوق، وقال مروان بن محمد: قلت لمعاوية بن سلّام تعجباً به لصدقه إنك لشيخ كّيس، وقال أحمد: حرب ومعاوية بن سلّام ثقتان. وذكره ابن حبّان في الثقات روى عن أبيه وجده وأخيه زيد. ونافع مولى ابن عمر والزهري وغيرهم. وروى عنه الوليد بن مسلم ومروان بن محمد ويحيى بن حسان وغيرهم. مات في حدود السبعين والمائة، والإلهاني في نسبه نسبة إلى بني إلهان قبيلة من قحطان وهو ألهان بن مالك بن زيد أخو همدان. وبه سمى مخلاف باليمن بينه وبين العرن عشرة فراسخ، وبينه وبين جيلان أربعة عشر فرسخًا، والحبشي في نسبه بفتح المهملة والباء وكسر المعجمة نسبة إلى بلاد الحبشة أو حيّ من حمير، وللأصيلي بضم الحاء وسكون الباء كعَجَم بفتحتين وعُجْم بسكون الجيم وهذا وهم. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإفراد، والإخبار بالإفراد والعنعنة، والقول ورواية التابعي عن التابعي. أخرجه البخاري في الكسوف أيضًا ومسلم والنسائي في الصلاة. ثم قال المصنف:

باب خطبة الإمام في الكسوف

باب خطبة الإِمام في الكسوف الكلام على الخطبة مرّ مستوفي عند حديث أسماء في بابٍ منفرد بعد باب ما يقال بعد التكبير من صفة الصلاة. ثم قال: وقالت عائشة وأسماء: خطب النبي -صلى الله عليه وسلم- أما تعليق عائشة فقد أخرجه البخاري فيما مضى قريبًا في باب الصدقة في الكسوف، وتعليق أسماء يأتي في باب قول الإِمام في خطبة الكسوف "أما بعد"، ومرّ أيضًا في الجمعة، ومرّت أسماء في الثامن والعشرين من العلم، وعائشة مرت وتأتي في الذي بعده. الحديث السابع حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ح وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَتْ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَخَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَصَفَّ النَّاسُ وَرَاءَهُ، فَكَبَّرَ فَاقْتَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قِرَاءَةً طَوِيلَةً، ثُمَّ كَبَّرَ فَرَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً، ثُمَّ قَالَ: "سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ". فَقَامَ وَلَمْ يَسْجُدْ، وَقَرَأَ قِرَاءَةً طَوِيلَةً، هِىَ أَدْنَى مِنَ الْقِرَاءَةِ الأُولَى، ثُمَّ كَبَّرَ وَرَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً، وَهْوَ أَدْنَى مِنَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ قَالَ: "سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ". ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ قَالَ فِي الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ مِثْلَ ذَلِكَ، فَاسْتَكْمَلَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي أَرْبَعِ سَجَدَاتٍ، وَانْجَلَتِ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَنْصَرِفَ، ثُمَّ قَامَ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: "هُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لاَ يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَافْزَعُوا إِلَى الصَّلاَةِ". ليس في رواية ابن شهاب هذه التصريح بالخطبة لها، لكن المصنف أراد أن يبين أن حديث هشام المار قريبًا المصرّح فيه بالخطبة. وحديث الزهري هذا حديث واحد وأن الثناء المذكور في رواية ابن شهاب كان في الخطبة. وقوله: "فصف الناس" أي: بالرفع أي: اصطفوا يقال: صف الناس إذا صاروا صفًا. ويجوز النصب والفاعل محذوف والمراد به النبي -صلى الله عليه وسلم-. وقوله: "فقال في الركعة الآخرة مثل ذلك" فيه إطلاق القول على الفعل فقد ذكره من هذا الوجه

رجاله تسعة

في الباب الذي يليه بلفظ: "ثم فعل". وقوله: "فافزعوا" بفتح الزاي أي: التجئوا وتوجهوا، وفيه إشارة إلى المبادرة إلى المأمور به، وإن الالتجاء إلى الله تعالى عند المخاوف بالدعاء والاستغفار سبب لمحو ما فرط من العصيان يرجى فيه زوال المخاوف. وأن الذنوب سبب للبلايا والعقوبات العاجلة والآجلة. نسأل الله تعالى رحمته وعفوه وغفرانه والرجوع للمدينة المنورة سريعًا أنا ومَنْ معي والموت فيها على الإيمان. وقوله: "إلى الصلاة" أي: المعهودة الخاصة وهي التي تقدم فعلها منه -عليه الصلاة والسلام- قبل الخطبة. ولم يصب من استدل به على مطلق الصلاة. ويستنبط منه أن الجماعة ليست شرطًا في صحتها؛ لأن فيه إشعارًا بالمبادرة إلى الصلاة والمسارعة إليها. وانتظار الجماعة قد يؤدي إلى فواتها وإلى إخلاء بعض الوقت من الصلاة. ومباحثه قد مرّت عند حديث أسماء المذكور آنفًا. رجاله تسعة: قد مرّوا إلاّ عنبسة، مرّ يحيى بن بكير والليث وعقيل وابن شهاب في الثالث من بدء الوحي، ويونس بن يزيد في متابعة بعد الرابع منه، وعروة وعائشة في الثاني منه، وأحمد بن صالح في الرابع والسبعين من استقبال القبلة، وعنبسة هو ابن خالد بن يزيد بن أبي النجاد الأموي مولاهم الأيلي. ذكره ابن حِبّان في الثقات وقال يحيى بن بكير: إنما يحدث عن عنبسة مجنون أحمق. وقال أبو حاتم كان على خراج مصر وكان يعلق النساء بالثدي. قال في المقدمة عظمه أبو داود وأحمد بن صالح المصري ومحمد بن مسلم بن فزارة. وأما يحيى بن بكير فكان يقع فيه. وقال الساجي انفرد بأحاديث عن يونس بن يزيد. وكان أحمد بن حنبل يقول ما روى عنه غير أحمد بن صالح. قلت: بل روى عنه ابن وهب شيئًا قليلًا وهو من أقرانه، ورجلان مقلان وهما: محمد بن مهدي الإخميمي، وهاشم بن محمد بن الربعي، وله عند البخاري أربعة أحاديث قرنه فيها بعبد الله بن وهب عن يونس. قلت: هذا الحديث ليس مقرونًا فيه بعبد الله بن وهب. روى عن عمه يونس بن يزيد وابن جريج وابن المبارك، وروى عنه ابن وهب وهو من أقرانه ومحمد بن مهدي الإخميمي وهاشم بن محمد الربعي وأحمد بن صالح المصري. مات بأيلة في جمادى سنة ثمان وتسعين ومائة. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإِفراد والعنعنة، والقول، ورواية الشخص عن عمه عنبسة عن يونس، ورواته مصريون ما خلا ابن شهاب، وعروة وعائشة مدنيون أخرجه البخاري أيضًا في الصلاة، ومسلم في الكسوف، وكذلك أبو داود والنسائي وابن ماجه. ثم قال: وكان يحدث كثير بن عباس أن

رجال هذه الرواية خمسة

عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كان يحدث يوم خسفت الشمس بمثل حديث عروة عن عائشة فقلت لعروة: إن أخاك يوم خسفت بالمدينة لم يزد على ركعتين مثل الصبح قال: أجل؛ لأنه أخطأ السنة هو بتقديم الخبر على الاسم، وفي مسلم عن الزهري بلفظ: وأخبرني كثير بن العباس، وصرّح برفعه وأخرجه مسلم أيضًا والنسائي عن عبد الرحمن بن نمر عن الزهري كذلك، وساق المتن بلفظ: "صلى يوم كسفت الشمس أربع ركعات في ركعتين وأربع"، وطوله الإسماعيلي من هذا الوجه. وقوله: "فقلت لعروة" هو مقول الزهري. وقوله: "إن أخاك" يعني عبد الله بن الزبير، وصرّح به المصنف من وجه آخر كما يأتي في أواخر الكسوف، وللإسماعيلي فقلت لعروة: والله ما فعل ذلك أخوك عبد الله بن الزبير انخسفت الشمس وهو بالمدينة زمن أراد أن يسير إلى الشام، فما صلى إلا مثل الصبح. وقوله: "قال: أجل"؛ لأنه أخطأ السنة في رواية ابن حِبّان فقال: أجل كذلك صنع وأخطأ السنة، واستدل به على أن السنة أن يصلي صلاة في كل ركعة ركوعان، وتعقب بأن عروة تابعي، وعبد الله صحابي، فالأخذ بفعله أولى. وأُجيب بأن قول عروة وهو تابعي السنة كذا، وإن قلنا إنه مرسل على الصحيح، لكن قد ذكر عروة مستنده في ذلك وهو خبر عائشة المرفوع، فانتفى عنه احتمال كونه موقوفًا أو منقطعًا، فيرجح المرفوع على الموقوف. فلذلك حكم على صنيع أخيه بالخطأ، وهو أمر نسبي، وإلا فما صنعه عبد الله يُناوىء أصل السنة، وإن كان فيه تقصير بالنسبة إلى كمال السنة، ويحتمل أن يكون عبد الله أخطأ السنة عن غير قصد؛ لأنها لم تبلغه. رجال هذه الرواية خمسة: لأن أخاك المراد به عبد الله بن الزبير قد مرّوا إلاَّ كثير. مرّ محل عروة وعائشة في الذي قبله، ومرّ عبد الله بن العباس في الخامس من بدء الوحي، ومرّ عبد الله بن الزبير في الثامن والأربعين من العلم، وكثير: هو ابن العباس بن عبد المطلب بن هاشم أبو تمام المدني ابن عم النبي -صلى الله عليه وسلم- أُمه أُم ولد اسمها: رومية، أو حميرية قال: يعقوب بن شيبة يعد في الطبقة الأولى من أهل المدينة ممن ولد في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكره ابن سعد في الطبقة الرابعة من الصحابة، وقال: لم يبلغنا أنه روى شيئًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان رجلًا صالحًا، فقيهًا، ثقة، قليل الحديث. وقال مصعب الزبيري: كان فقيهًا، فاضلًا، وقال ابن حِبّان: كان رجلًا صالحًا، فاضلًا، فقيهًا. ويروى أن معاوية سأل رجلًا عن أعبد الناس بالمدينة؟ فقال: كثير بن العباس، وروى البغوي عن عبد الله بن الحارث قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصف عبد الله وعبيد الله وكثيرًا بني العباس. ويقول: مَنْ سبق فله كذا، وهو مسند جيد الإسناد. ورواه ابن منده، وابن السكن عن العباس بن كثير بن

العباس عن أبيه قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يجمعنا أنا وعبد الله وقثم أو آخر فيفرج بين يديه ويقول: "مَنْ سبق فله كذا" والصحيح الرواية الأولى، عن عبد الله بن الحارث له عندهم حديث ابن عباس في الكسوف، وعند مسلم والنسائي حديث العباس في غزوة حنين. روى عن أبيه وأخيه عبد الله وأبي بكر وعمر وعثمان، وروى عنه الأعرج والزهري وأبو الأصبغ السلمي مولى بني سليم، مات بالمدينة أيام عبد الملك بن مروان. ثم قال المصنف:

باب هل يقول كسفت الشمس أو خسفت وقال الله تعالى: وخسف القمر

باب هل يقول كسفت الشمس أو خسفت وقال الله تعالى: وخسف القمر قال الزين بن المنير: أتى بلفظ الاستفهام إِشعارًا منه بأنه لم يترجح عنده في ذلك شيء إلى آخر ما مرّ عند حديث أسماء الماضي محله آنفًا. وقوله: "وقال الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَخَسَفَ الْقَمَرُ} " في إيراده لهذه الآية احتمالان: أحدهما أن يكون أراد أن يقال: "خسف القمر" كما جاء في القرآن ولا يقال: كسف وإذا اختص القمر بالخسوف أشعر باختصاص الشمس بالكسوف، والثاني: أن يكون أراد أن الذي يتفق للشمس كالذي يتفق للقمر، وقد سمي في القرآن بالخاء في القمر فليكن الذي للشمس كذلك. الحديث الثامن حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَخْبَرَتْهُ. أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- صَلَّى يَوْمَ خَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَقَامَ فَكَبَّرَ، فَقَرَأَ قِرَاءَةً طَوِيلَةً، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: "سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ". وَقَامَ كَمَا هُوَ، ثُمَّ قَرَأَ قِرَاءَةً طَوِيلَةً، وَهْىَ أَدْنَى مِنَ الْقِرَاءَةِ الأُولَى، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً، وَهْىَ أَدْنَى مِنَ الرَّكْعَةِ الأُولَى، ثُمَّ سَجَدَ سُجُودًا طَوِيلاً، ثُمَّ فَعَلَ فِي الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ سَلَّمَ وَقَدْ تَجَلَّتِ الشَّمْسُ، فَخَطَبَ النَّاسَ، فَقَالَ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ "إِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لاَ يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَافْزَعُوا إِلَى الصَّلاَةِ". في رواية ابن شهاب هنا عن عائشة بلفظ: "خسفت الشمس". لكن روايات غيره بلفظ كسفت كثيرة جدًا، وقوله فيه: "ثم سجد سجودًا طويلاً" فيه ردٌ على مَنْ زعم أنه لا يسن تطويل السجود في الكسوف، وسيأتي ذكره في باب مفرد، ويأتي باقي مباحثه هناك. وقد مضى جلها عند حديث أسماء في بابٍ مفرد بعد باب ما يقول بعد التكبير من صفة الصلاة، ومرّت هناك مباحث هذا الحديث. رجاله ستة: قد مرّوا، مرّ سعيد بن عفير في الثالث عشر من العلم، ومرَّ الليث وعقيل وابن شهاب في الثالث من بدء الوحي، وعروة وعائشة في الثاني منه. ثم قال المصنف:

باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم- يخوف الله عباده بالكسوف

باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم- يُخَوِّفُ اللهُ عِبَادَهُ بالكُسُوفِ قاله أبو موسى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. وسيأتي حديث أبي موسى هذا في باب الذكر في الكسوف، وقد مرّ أبو موسى في الرابع من الإيمان. الحديث التاسع حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ يُونُسَ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لاَ يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُخَوِّفُ بِهَا عِبَادَهُ". قوله: "يُخوَفُ الله بهما عباده" في رواية الكشميهني: "ولكن الله يخوف"، وفيه رد على مَنْ زعم من أهل الهيئة أن الكسوف أمر عادي لا يتأخر، ولا يتقدم. وقد مرَّ هذا المنزع مستوفى عند حديث أسماء المذكور محله آنفًا، ومرّت فيه مباحث هذا الحديث. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ قتيبة في الحادي والعشرين من الإيمان، وحمّاد بن زيد في الرابع والعشرين منه، وكذا يونس والحسن وأبو بكرة. وقد مرّ في أول أبواب الكسوف هذا الحديث. ثم قال: قال أبو عبد الله: لم يذكر عبد الوارث وشعبة وخالد بن عبد الله وحمّاد بن سلمة عن يونس يخوف الله بهما عباده. أما رواية عبد الوارث فقد ذكرها البخاري فيما يأتي في باب الصلاة في كسوف القمر وليس فيها ذلك لكن ثبت من وجه آخر عن عبد الوارث، أخرجه النسائي عنه، وفيه: "يخوف الله بهما عباده". وأخرج رواية شعبة في هذا الباب الآتي أيضًا. ورواية خالد مضت في أول أبواب الكسوف، ورواية حمّاد أخرجها الطبراني في "المعجم الكبير" والبيهقي بلفظ رواية خالد ومعناها. وقال: "فإذا كسف واحد منهما فصلوا وادعوا". وفي هذه الرواية خمسة رجال: قد مرّوا، مرّ عبد الوارث في السابع عشر من العلم، ومرَّ شعبة في الثالث من الإِيمان، ومرّ خالد الطحان في السادس والخمسين من الوضوء، ومرَّ حمّاد بن سلمة في متابعة بعد الثامن منه، ومرّ محل يونس في الذي قبله.

ورجالها أربعة

ثم قال: وتابعه موسى عن مبارك عن الحسن قال: أخبرني أبو بكرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يخوف الله بهما عباده" في رواية غير أبي ذر: "إنَّ الله تعالى". قال في "الفتح": لم تقع لي هذه الرواية إلى الآن من طريق واحد منهما. وقد أخرجه الطبراني عن أبي الوليد وابن حِبّان عن هدبة من رواية سليمان بن حرب كلهم، عن مبارك وساق الحديث بتمامه. إلاَّ أنَّ رواية هدبة ليس فيها: "يخوف الله بهما عباده". ورجالها أربعة: مرْ محل الحسن وأبي بكرة في الذي قبله، وهو العاشر وموسى يحتمل أن يكون موسى بن إسماعيل، وهو الراجح؛ لأنه من رجال البخاري. وقد مرّ في الخامس من بدء الوحي، وقال الدمياطي: هو موسى بن داود الضبي أبو عبد الله الطرسوسي الخلقاني، الفقيه، كوفي الأصل. قال ابن نمير: ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة صاحب حديث. وُلِّيَ قضاء طرسوس إلى أن مات فيها. وقال ابن عمار: كان قاضي المصيصة، وكان زاهدًا صاحب حديث، ثقة. وقال العجلي: كوفي ثقة. وقال الدارقطني: كان مصنفًا مكثرًا مأموناً وُلِّي قضاء الثغور، فحمد فيها، وذكره ابن حِبّان في الثقات. وقال الحافظ: كان فصيحًا خطيبًا فاضلًا. روى له مسلم حديث أبي سعيد في الشك في الصلاة، واستشهد به الترمذي في صيام التطوع. روى عن جرير بن حازم ومبارك بن فضالة ومالك والثوري وغيرهم. وروى عنه أحمد بن حنبل وعلي بن المديني، وحجاج بن الشاعر وغيرهم. مات سنة ست عشرة أو سبع عشرة ومائتين. والطرسوسي في نسبه نسبة إلى طرسوس كعصفور. بلد بساحل بحر الشام مُخْصب. كان للأرمن ثم أعيد للإسلام. ولم يزل إلى الآن منه محمد بن الحسين الخواص المصري الطرسوسي. روى عن يونس بن عبد الأعلى. الرابع: مبارك بن فَضالة بفتح الفاء بن أبي أمية أبو فضالة البصري مولى زيد بن الخطاب. قال حماد بن سلمة: كان مبارك يجالسنا عند زياد الأعلم. فما كان من مسند فإلي مبارك، وما كان موقوفًا فإلى زياد. وقال وهيب: رأيت مباركًا يجالس يونس بن عبيد فيحدث في حلقته. وقال عفان: كان مبارك معتبرًا، وكان من النساك وكان وكان. وقال عمرو بن علي: سمعت يحيى بن سعيد يحسن الثناء عليه. وقال أبو حاتم: كان عفان يطريه. وقال ابن مهدي: حللنا حبوة الثوري لما أردنا غسله، فإذا رقاع يسأل المبارك بن فضالة عن حديث كذا. وقال الساجي: كان صدوقًا، مسلمًا، خيارًا. وكان من النساك. ولم يكن بالحافظ فيه ضعف. وقال يحيى بن سعيد: كنا كتبنا عن مبارك في ذلك الزمان ولم أقبل منه شيئًا إلا شيئًا قال فيه حدّثنا. وقال أبو داود: إذا قال حدّثنا فهو ثبت. وكان يدلس وكان شديد التدليس، وذكره ابن حِبّان في الثقات، واختلف قول ابن معين فيه مرة قال: ثقة. ومرةً قال: ضعيف الحديث، وهو مثل

الربيع بن صبيح في الضعف. روى عن الحسن البصري، وهشام بن عروة وثابت البناني وحميد الطويل وغيرهم. وروى له البخاري والترمذي وأبو داود. مات سنة خمس وستين ومائة. ثم قال: وتابعه أشعث عن الحسن، وقد وصلها النسائي وابن حِبّان من طرق عن أشعث عن الحسن، وليس فيها "يخوف الله بهما عباده" وقد وقع قوله: تابعه أشعث في رواية كريمة عقب متابعة موسى. قال في "الفتح": والصواب تقديمه لما مرّ قريبًا من خلو رواية أشعث من قوله: "يخوف الله بهما عباده"، والحسن مرّ محله في الذي قبله أعني في العاشر. وأشعث هو ابن عبد الملك الحمراني أبو هانىء مولى حمران ذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال: كان فقيهًا متقنًا. وقال ابن عدي: أحاديثه عامتها مستقيمة، وهو ممن يكتب حديثه ويحتج به، وهو في جملة أهل الصدق وهو خيرٌ من أشعث بن سواء بكثير. وقال ابن معين والنسائي وبندار والبزار: ثقة وقال يحيى القطان: هو عندي ثقة مأمون، وقال أيضًا: لم أدرك أحدًا من أصحابنا أثبت عندي منه، ولا أدركت أحدًا من أصحابنا أثبت عندي منه، ولا أدركت أحدًا من أصحاب ابن سيرين بعد ابن عون أثبت منه. وقال أيضًا: لم ألق أحدًا يحدث عن الحسن أثبت منه. وقال أيضًا: هو أحب الينا من أشعث بن سوار. وقال الفلاس: قال لي يحيى بن سعيد: من أين جئت؟ قلت: من عند معاذ. قال: في حديث مَنْ هو؟ قلت: في حديث ابن عون. قال: تدعون شعبة والأشعث، وتكتبون حديث ابن عون، كم تعيدون حديثه؟ وقال البخاري: كان يحيى بن سعيد وبشر بن المفضل يثبتون الأشعث الحمراني. وقال أحمد بن حنبل: هو أحمد في الحديث من أشعث بن سوار. روى عنه شعبة وما كان أرضى يحيى بن سعيد عنه. كان عالمًا بمسائل الحسن، ويقال: إنما روى يونس، فقال فيه نبئت عن الحسن، إنما أخذه عن أشعث بن عبد الملك. وقال الأعنق: استقبلني يونس بن عبيد فقلت: أين تريد؟ قال الأشعث: إذا كره الحديث. وقال أبو حرة: كان الأشعث إذا أتى الحسن يقول له: يا أبا هانىء انشر بزك أي: هات مسائلك. وقال حفص بن غياث: عجبًا لأهل البصرة يقدمون أشعثهم على أشعثنا. وهو أشعث ابن سوار مكث قاضيًا. وهذا يحمد عفافه وفقهه وأشعثهم يقيس على قول الحسن ويحدث به. وخرج حفص بن غياث إلى عبادان فاجتمع إليه بصريون فقالوا له: لا تحدثنا بحديث عن ثلاثة: أشعث بن عبد الملك، وعمرو بن عبيد، وجعفر بن محمد، فقال: أما أشعث فهو لكم، وأنا أتركه لكم. وقال أبو حاتم: لا بأس به، وهو أوثق من الحداني، وأصلح من ابن سوار. وقال معاذ بن معاذ: سمعت الأشعث يقول كل شيء حدثتكم به سمعته من الحسن إلاَّ ثلاثة أحاديث: حديث زياد الأعلم عن الحسن عن أبي بكرة أنه ركع قبل أن يصل إلى الصف، وحديث عثمان البتي عن الحسن عن علي في الملاض، وحديث حمزة الضبي عن الحسن أن رجلًا قال: يا رسول الله متى تحرم علينا الميتة؟

روى عن الحسن البصري ومحمد بن سيرين وخالد الحذاء وغيرهم. وروى عنه شعبة وهشيم ويحيى القطان، وحمّاد بن زيد وغيرهم. مات سنة أربع أو ست وأربعين ومائة. والحُمراني في نسبه بضم الحاء نسبة إلى حمران مولى عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه عرف بالنسبة إليه الأشعث هذا. ثم قال المصنف:

باب التعوذ من عذاب القبر في الكسوف

باب التعوذ من عذاب القبر في الكسوف قال ابن المنير: مناسبة التعوذ عند الكسوف أن ظلمة النهار بالكسوف تشابه ظلمة القبر، وإن كان نهاراً، والشيء بالشيء يذكر. فيخاف من هذا كما يخاف من هذا، فيحصل الاتعاظ بهذا في التمسك بما ينجي من غائلة الآخرة. الحديث العاشر حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّ يَهُودِيَّةً جَاءَتْ تَسْأَلُهَا فَقَالَتْ لَهَا: أَعَاذَكِ اللَّهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَيُعَذَّبُ النَّاسُ فِي قُبُورِهِمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَائِذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ. ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ غَدَاةٍ مَرْكَبًا، فَخَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَرَجَعَ ضُحًى، فَمَرَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ ظَهْرَانَي الْحُجَرِ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، وَقَامَ النَّاسُ وَرَاءَهُ، فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلاً، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً، ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلاً، وَهْوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً، وَهْوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ فَسَجَدَ، ثُمَّ قَامَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلاً، وَهْوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً وَهْوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ قَامَ قِيَامًا طَوِيلاً وَهْوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً وَهْوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ فَسَجَدَ وَانْصَرَفَ، فَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَتَعَوَّذُوا مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. قوله: "إن يهودية" أي: امرأة من اليهود، وفي "مسند السراج" عن مسروق قال: دخلت يهودية على عائشة فقالت لها: أسمعت رسول -صلى الله عليه وسلم- يذكر شيئًا في عذاب القبر؟ فقالت عائشة: لا وما عذاب القبر؟ قالت: فسليه، فجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- فسألته عائشة عن عذاب القبر فقال -صلى الله عليه وسلم-: "عذابُ القَبرِ حقٌ". قالت: فما صلى بعد ذلك صلاةً إلاَّ سمعته يتعوذ من عذاب القبر. وفي حديث منصور عن مسروق عنها قالت: دخل عَليَّ عجوزتان من عجائز اليهود فقالتا: إن أهل القبر يُعذبون في قبورهم، فكذَّبتُهما، ولم أصدقهما، فدخل عَليَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت له: دخلت عجوزتان من عجائز اليهود، فقالتا: إنَّ أهل القبور يعذبون في قبورهم. فقال: "إنهم

لَيُعذَّبونَ في قُبورهم عذابًا تَسْمَعه البهائم". وهو محمول على أن إحداهما تكلمت وأقرتها الأخرى على ذلك، فنسبت القول إليها مجازًا، والإفراد يحمل على المتكلمة، ولم تسم واحدة منهما. وفي هذا دلالة على أن اليهودية كانت تعلم عذاب القبر. إمّا سمعت من التوراة، أو من كتاب من كتبهم. وقوله: "عائذًا بالله من ذلك" هو منصوب على المصدر الذي يجيء على مثال فاعل كقولهم: عافاه الله عافية أو على الحال الموكدة النائبة مناب المصدر، والعامل فيه محذوف كأنه قال: أعوذ بالله عائذًا ولم يذكر الفعل؛ لأن الحائل نائبة عنه. وروي بالرفع. أي: أنا عائِذٌ، وكان هذا قبل أن يطلع النبي -صلى الله عليه وسلم- على عذاب القبر، وفي هذا الحديث في الجنائز فقال: نعم عذاب القبر، وعند مسلم عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت: دخلت عَليَّ امرأةً من اليهود وهي تقول هل شعرت أنكم تفتنون في القبور؟ قالت: فارتاع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: "إنما يُفتنُ اليهود" قالت عائشة: فلبثنا ليالي، ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هل شعرت أنه أُوحيَ إليَّ أنكم تُفتنون في القبور؟ ". قالت عائشة: فسمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستعيذ من عذاب القبر. وروى أحمد بإسناد على شرط البخاري عن عائشة أن يهودية كانت تخدمها فلا تصنع عائشة إليها شيئًا من المعروف إلاَّ قالت اليهودية: وقال الله عذاب القبر. قالت: فقلت: يا رسول الله هل للقبر عذاب؟ قال: "كذبت يهود لا عذاب دون يوم القيامة" ثم مكث بعد ذلك ما شاء الله أن يمكث، فخرج ذات يوم نصف النهار، وهو ينادي بأعلى صوته: "أيها النَّاس استعيذوا بالله من عذاب القبر فإن عذاب القبر حق". وبين الروايات مخالفة، ففي ظاهر روايتها الآتية في الجنائز، وصريح روايتيها السابقتين عن مسروق أنه أقر اليهودية وصدّقها، وفي رواية أحمد ورواية ابن شهاب عند مسلم، وظاهر رواية "الباب" أنه أنكر على اليهودية. قال النووي تبعًا للطحاوي هما قصتان فأنكر النبي -صلى الله عليه وسلم- قول اليهودية في القصة الأولى ثم أُعلم النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك، ولم يُعلم عائشة، فجاءت اليهودية مرة أخرى فذكرت لها ذلك، فأنكرت عليها ذلك مستندة إلى الإنكار الأول فأعلمها النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن الوحي نزل بإثباته. وقال الكرماني: يحتمل أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يتعوذ سرًا فلما رأى استغراب عائشة حين سمعت ذلك من اليهودية أعلن به. وكأنه لم يقف على رواية الزهري المارة عند مسلم، ورواية أحمد المتقدمة أيضًا. وفيما مرَّ من الأحاديث دلالة على أنه -عليه الصلاة والسلام- إنما علم بحكم عذاب القبر إذْ هو بالمدينة في آخر الأمر كما علم من تاريخ صلاة الكسوف المار أنه يوم موت إبراهيم عليه السلام وقد استشكل ذلك بآية: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} إلخ، وآية: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} الدالتان على عذاب القبر فإنهما مكيتان. والجواب: أن عذاب القبر إنما يؤخذ من الأولى بطريق المفهوم في حق من لم يتصف بالإيمان، وكذلك بالمنطوق في الأخرى

رجاله خمسة

في حق آل فرعون، وإن التحق بهم مَنْ كان له حكمهم من الكفار والذي أنكره النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما هو وقوع عذاب القبر على الموحدين. ثم أعلم -صلى الله عليه وسلم- بأن ذلك يقع على مَنْ شاء الله منهم، فجزم به وحذر منه وبالغ في الاستعاذة منه؛ تعليمًا لأمته وإرشادًا، فانتفى التعارض، وفيه دلالة على أن عذاب القبر ليس بخاص بهذه الأمة بخلاف المسألة، ففيها اختلاف كما مرَّ عند حديث أسماء في باب من أجاب الفتيا بإشارة الرأس واليد من كتاب العلم. وقوله: "ذات غداة" لفظة ذات زائدة. وقال الداودي: لفظة: "ذات" بمعنى في: أي: أي غداة ورد عليه ابن التين بأنه غير صحيح، بل تقديره في ذات غداة. وهذا هو الصواب إذ لم يقل أحدٌ أن ذات بمعنى في، ويجوز أن يكون من باب إضافة المسمّى إلى اسمه، وقوله بين ظهراني الحجر أي في ظهري الحجر، فالألف والنون زائدتان، ويقال الكلمة كلها زائدة، والحُجَر بضم الحاء وفتح الجيم جمع حجرة، والمراد بها بيوت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-. وقوله: وانصرف فقال ما شاء الله أن يقول، تقدم بيانه في رواية عروة خطب وأمر بالصلاة والصدقة والذكر وغير ذلك. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ عبد الله بن مسلمة في الثاني عثر من الإيمان، ومرَّ مالك وعائشة في الثاني من بدء الوحي، ومرّ يحيى بن سعيد في الأول منه، ومرّت عمرة بنت عبد الرحمن في الثاني والثلاثين من الحيض. أخرجه البخاري أيضًا في "الجنائز" ومسلم والنسائي فيها. ثم قال المصنف:

باب طول السجود في الكسوف

باب طول السجود في الكسوف أشار بهذه الترجمة إلى الرد على مَنْ أنكره، واستدل بعض المالكية على ترك إطالته بأن الذي شرع فيه التطويل شرع تكراره، كالقيام، والركوع، ولم تشرع الزيادة في السجود، فلا يشرع تطويله. وهو قياس في مقابلة النص كما يأتي بيانه فهو فاسد الاعتبار. وأبدى بعضهم في مناسبة التطويل في القيام والركوع دون السجود أنَّ القائم والراكع تمكنه رؤية الانجلاء، بخلاف الساجد، فإن الآية علوية، فناسب طول القيام لها بخلاف السجود؛ ولأن في تطويل السجود استرخاء الأعضاء فقد يفضي إلى النوم. وكل هذا مردود بثبوت الأحاديث الصحيحة في تطويله. الحديث الحادي عشر حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ لَمَّا كَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- نُودِيَ: إِنَّ الصَّلاَةَ جَامِعَةٌ فَرَكَعَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- رَكْعَتَيْنِ فِي سَجْدَةٍ ثُمَّ قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ فِي سَجْدَةٍ، ثُمَّ جَلَسَ، ثُمَّ جُلِّيَ عَنِ الشَّمْسِ. قَالَ: وَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: مَا سَجَدْتُ سُجُودًا قَطُّ كَانَ أَطْوَلَ مِنْهَا. في رواية الكشميهني عبد الله بن عمر بضم أوله وفتح الميم بلا واو وهو وهم. وقد تقدم هذا الحديث من آخر مختصرًا. وقوله: "ركعتين في سجدة" المراد بالسجدة هنا الركعة بتمامها وبالركعتين الركوعان وهو موافق لروايتي عائشة وابن عباس المتقدمتين. في أن في كل ركعة ركوعين وسجودين. ولو ترك علي ظاهره لاستلزم تثنية الركوع وإفراد السجود، ولم يُصر إليه أحد، فتعيَّن تأويله. وقوله: "ثم جلس ثم جُلِّي عن الشمس" أي: بين جلوسه في التشهد والسلام فتبين قوله في حديث عائشة. ثم انصرف وقد تجلت الشمس. وقوله: "قال: وقالت عائشة" القائل هو أبو سلمة، ويحتمل أن يكون عبد الله بن عمرو. فيكون من رواية صحابي عن صحابية. ووهم مَنْ زعم أنه معلق، فقد أخرجه مسلم وابن خزيمة وغيرهما من رواية أبي سلمة عن عبد الله بن عمرو. وفيه قول عائشة هذا. وقوله: "ما سجدت سجودًا قط كان أطول منها" أي: بهاء التأنيث على تأويل السجود

رجاله خمسة

بالسجدة. وفي رواية غيره منه أي: من السجود المذكور. وزاد مسلم فيه: "ولا ركعت ركوعًا قط كان أطول منه". وقد تقدم في رواية عروة عن عائشة بلفظ: "ثم سجد فاطال السجود". وفي أوائل صفة الصلاة عن أسماء بنت أبي بكر مثله. وللنسائي من وجه آخر عن عبد الله بن عمرو بلفظ: "ثم رفع رأسه فسجد وأطال السجود". ونحوه عنده عن أبي هريرة وللشيخين من حديث أبي موسى: "بأطول قيام وركوع وسجود رأيته قط" ولأبي داود والنسائي من حديث سمرة: "كأطول ما سجد بنا في صلاة قط" وكل هذه الأحاديث ظاهرة في أن السجود في الكسوف يطول، كما يطول القيام والركوع. وقد مرَّ ما قيل في تطويله عند العلماء، وتطويل الاعتدال الذي يليه السجود عند حديث أسماء في باب مفرد بعد باب ما يقال بعد التكبير في أوائل صفة الصلاة. رجاله خمسة: وفيه ذكر عائشة. وقد مرّ الجميع، مرّ أبو نعيم في الخامس والأربعين من الإيمان، وعبد الله بن عمرو في الثالث منه، وشيبان النحوي ويحيى بن أبي كثير في الثالث والخمسين من العلم، ومرّ أبو سلمة في الرابع من بدء الوحي، وعائشة في الثاني من بدء الوحي. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والقول والعنعنة. ورواته ما بين كوفي ويمامي ومدني. وفيه راويان بلا كنية، وراويان بلا نسبة. أخرجه البخاري في الكسوف أيضًا ومسلم والنسائي في الصلاة ثم قال المصنف:

باب صلاة الكسوف جماعة

باب صلاة الكسوف جماعة أي: وإن لم يحضر الإِمام الراتب فيؤم لهم بعضهم. وبه قال الجمهور. وعن الثوري: إن لم يحضر الإمام صلوا فرادى. وعند المالكية الجماعة في الكسوف مستحبة على المشهور. وقيل إنها شرط فيها. ثم قال: وصلى لهم ابن عباس في صفة زمزم، كذا للأكثر بضم الصاد المهملة وتشديد الفاء. وهي معروفة وقال الأزهري: الصفة موضع بهو مظلل، وفي نسخة الصغاني بضاد معجمة مفتوحة ومكسورة. وهي جانب النهر، ولا معنى لها هنا إلا بطريق التجوز وهذا التعليق وصله ابن أبي شيبة، والشافعي، وسعيد بن منصور كلهم عن سفيان بن عيينة عن سليمان الأحول: سمعت طاووسًا يقول: صلى بنا ابن عباس في صفة زمزم ست ركعات في أربع سجدات. وخالف ابن جريج سفيان، فقال: ركعتين في كل ركعة أربع ركعات. أخرجه عبد الرزاق عنه. وابن عبّاس مرّ في الخامس من بدء الوحي. ثم قال: وجمع علي بن عبد الله بن عباس. قال في "الفتح": لم أقف على أثره هذا موصولًا. وقد مرّ علي بن عبد الله في الحادي والخمسين من استقبال القبلة. ثم قال: وصلى ابن عمر. قال في "الفتح": يحتمل أن يكون بقية أثر علي المذكور. وقد أخرج ابن أبي شيبة معناه عن ابن عمر، وقد مرَّ ابن عمر في أول الإِيمان قبل ذكر حديث منه. الحديث الثاني عشر حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: انْخَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلاً نَحْوًا مِنْ قِرَاءَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً، ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلاً، وَهْوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً، وَهْوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ قَامَ قِيَامًا طَوِيلاً وَهْوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً، وَهْوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلاً، وَهْوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً، وَهْوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدْ تَجَلَّتِ الشَّمْسُ، فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لاَ يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْنَاكَ تَنَاوَلْتَ شَيْئًا فِي مَقَامِكَ، ثُمَّ رَأَيْنَاكَ كَعْكَعْتَ. فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنِّي رَأَيْتُ الْجَنَّةَ، فَتَنَاوَلْتُ عُنْقُودًا، وَلَوْ أَصَبْتُهُ لأَكَلْتُمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا، وَأُرِيتُ النَّارَ

فَلَمْ أَرَ مَنْظَرًا كَالْيَوْمِ قَطُّ أَفْظَعَ، وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ". قَالُوا: بِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "بِكُفْرِهِنَّ". قِيلَ: يَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ قَالَ: "يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الإِحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ كُلَّهُ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا قَالَتْ مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ". كذا في الموطأ، وجميع من أخرجه عن مالك عن ابن عباس. وفي رواية اللؤلؤي في سنن "أبي داود" عن أبي هريرة بدل ابن عباس، وهو غلط. وقوله: "ثم سجد" أي: سجدتين. وقوله: "ثم قام قيامًا طويلًا وهو دون القيام الأول" فيه أن الركعات الثانية أقصر من الأولى، وسيأتي ذلك في باب مفرد. وقوله: "قالوا يا رسول الله" في حديث جابر عند أحمد بإسناد حسن. فلما قضى الصلاة قال له أبي بن كعب شيئًا صنعته في الصلاة لم تكن تصنعه، فذكر نحو حديث ابن عباس. إلاَّ أن في حديث جابر أن ذلك كان في الظهر أو العصر، فإن كان محفوظًا فهي قصة أخرى، ولعلها القصة التي حكاها أنس، وذكر أنها وقعت في صلاة الظهر. وقد تقدم سياقه في باب وقت الظهر إذا زالت الشمس، من كتاب: "المواقيت"، لكن فيه: "عُرضت عليَّ الجنة والنار في عرض هذا الحائط حسب". وأمّا حديث جابر، فهو شبيه بسياق ابن عباس في ذكر العنقود وذكر النساء، وقوله: "رأيناك تناولت" كذا للأكثر بصيغة الماضي. وفي رواية الكشميهني، تناول بصيغة المضارع بضم اللام، وبحذف إحدى التاءين، وأصله: تتناول. وقوله: "ثم رأيناك كعكعت" في رواية الكشميهني: "تكعكعت" بزيادة تاء في أوله. ومعناه: تأخرت. يقال كع الرجل إذا نكص على عقبيه. قال الخطابي: أصله "تكعَّعت": فاستثقلوا اجتماع ثلاث عينات، فأبدلوا من أحدهما حرفًا مكررًا. وفي رواية مسلم: "ثم رأيناك كففت" بفاءَيْن خفيفتين. وقوله: "فلم أر منظرًا كاليوم قط أفظع" المراد باليوم: الوقت الذي هو فيه أي: لم أر منظرًا مثل منظر رأيته اليوم، فحذف المرئي، وأدخل التشبيه على اليوم؛ لبشاعة ما رأى فيه، وبُعده عن المنظر المألوف. وقيل الكاف اسم، والتقدير ما رأيت مثل منظر هذا اليوم منظرًا. وفي رواية المستملي والحموي: "فلم انظر كاليوم قط أفظع". وقوله: "قال يكفرن العشير" كذا للجمهور عن مالك بدون واو. وفي موطأ يحيى بن يحيى الأندلسي قال: "ويكفرن العشير" بزيادة واو، واتفقوا على أن زيادة الواو غلط منه. فإن المراد من تغليطه كونه خالف غيره من الرواة فهو كذلك، وأطلق على الشذوذ غلطًا. وإن كان المراد من تغليطه فساد المعنى، فليس كذلك؛ لأن الجواب طابق السؤال وزاد، وذلك أنه أطلق لفظ النساء، فعمّم المؤمنة منهنّ والكافرة. فلما قيل: يكفرن بالله؟ أجاب: "ويكفرن العشير إلخ" وكأنه قال: نعم يقع منهن الكفر بالله وغيره؛ لأن منهن مَنْ يكفر بالله، ومنهن مَنْ يكفر الإحسان.

رجاله خمسة

وقال ابن عبد البر: وجه رواية يحيى أن يكون الجواب لم يقع على وفق سؤال السائل؛ لإحاطة العلم بأن من النساء مَنْ يكفر بالله، فلم يحتج إِلى جوابه؛ لأن المقصود في الحديث خلافه. وفي الحديث المبادرة إلى الطاعة عند رؤية ما يحذر منه، واستدفاع البلاء بذكر الله وأنواع طاعته، وجواز الاستفهام عن علة الحكم، وبيان العالم ما يحتاج إليه تلميذه، وتحريم كفران الحقوق، ووجوب شكر المنعم، ومرت مباحث هذا الحديث مستوفاة في باب كفران العشير من كتاب "الإِيمان". رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ عبد الله بن مسلمة في الثاني عشر من الإِيمان، وزيد بن أسلم، وعطاء بن يسار في الثاني والعشرين منه، ومرَّ مالك في الثاني من بدء الوحي، وابن عباس في الخامس منه. وفي الحديث، قالوا: يا رسول الله وفي حديث جابر عند أحمد أن القائل أُبي بن كعب، وقد مرّ في السادس عشر من العلم، أخرجه البخاري أيضًا في الخسوف، وفي الإيمان وفي النكاح، وفي بدء الخلق، ومسلم وأبو داود والنسائي في الصلاة ثم قال المصنف:

باب صلاة النساء مع الرجال في الكسوف

باب صلاة النساء مع الرجال في الكسوف أشار بهذه الترجمة إلى رد قول مَنْ منع ذلك، وقال يُصلين فرادى، وهو منقول عن الثوري وبعض الكوفيين، وفي المدونة تصلي المرأة في بيتها، وتخرج المتجالة، وعن الشافعي يخرج الجميع إلاَّ مَنْ كانت بارعة الجمال، وقال القرطبي: رُوي عن مالك أن الكسوف إنما يخاطب به مَنْ يخاطب بالجمعة، والمشهور عنه خلاف ذلك، وهو اتفاق في حقهن بحكم المسجد. الحديث الثالث عشر حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنِ امْرَأَتِهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما أَنَّهَا قَالَتْ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ خَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَإِذَا النَّاسُ قِيَامٌ يُصَلُّونَ، وَإِذَا هِيَ قَائِمَةٌ تُصَلِّي فَقُلْتُ: مَا لِلنَّاسِ؟ فَأَشَارَتْ بِيَدِهَا إِلَى السَّمَاءِ، وَقَالَتْ: سُبْحَانَ اللَّهِ. فَقُلْتُ: آيَةٌ؟ فَأَشَارَتْ أَيْ نَعَمْ. قَالَتْ: فَقُمْتُ حَتَّى تَجَلاَّنِي الْغَشْيُ، فَجَعَلْتُ أَصُبُّ فَوْقَ رَأْسِي الْمَاءَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: "مَا مِنْ شَيْءٍ كُنْتُ لَمْ أَرَهُ إِلاَّ قَدْ رَأَيْتُهُ فِي مَقَامِي هَذَا حَتَّى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ مِثْلَ أَوْ قَرِيبًا مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ" لاَ أَدْرِى أَيَّتَهُمَا قَالَتْ أَسْمَاءُ: يُؤْتَى أَحَدُكُمْ فَيُقَالُ لَهُ: مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ؟ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ أَوِ الْمُوقِنُ لاَ أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ، فَيَقُولُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، فَأَجَبْنَا وَآمَنَّا وَاتَّبَعْنَا. فَيُقَالُ لَهُ: نَمْ صَالِحًا، فَقَدْ عَلِمْنَا إِنْ كُنْتَ لَمُوقِنًا. وَأَمَّا الْمُنَافِقُ أَوِ الْمُرْتَابُ لاَ أَدْرِي أَيَّتَهُمَا قَالَتْ أَسْمَاءُ؟ فَيَقُولُ: لاَ أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ. قوله: "فأشارت أي نعم". وفي رواية الكشميهني "أنْ نعم" بنون بدل التحتانية. وقد تقدمت فوائده في باب مَنْ أجاب الفتيا بإشارة الرأس واليد من كتاب "العلم" قال الزين بن المنير: استدل به ابن بطال على جواز خروج النساء إلى المسجد لصلاة الكسوف، وفيه نظر؛ لأن أسماء إنما صلّت في حجرة عائشة، لكن

رجاله ستة

يمكنه أن يتمسك بماورد في بعض طرقه أن نساءً غير أسماء كنَّ بعيدات عنها، فعلى هذا فقد كن في مؤخر المسجد كما جرت عادتهن في سائر الصلوات. رجاله ستة: قد مرّوا، مرّ عبد الله بن يوسف، ومالك في الثاني من بدء الوحي، وكذا هشام وعائشة، ومرّت فاطمة بنت المنذر وأسماء في الثامن والعشرين من العلم. ثم قال المصنف:

باب من أحب العتاقة في كسوف الشمس

باب مَنْ أحب العَتَاقة في كسوف الشمس قوله: "العَتاقة" بفتح العين المهملة وقيده بكسوف الشمس إتباعًا لسبب؛ لأن أسماء إنما روت قصة كسوف الشمس، والحديث المذكور طرف منه، فأما أن يكون هشام حدّث به هكذا، فسمعه منه زائدة أو يكون زائدة اختصره، والأول أرجح، وسيأتي في كتاب العتق عن هشام بن علي عن هشام بلفظ: "كنا نؤمر عند الخسوف بالعتاقة". الحديث الرابع عشر حَدَّثَنَا رَبِيعُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنَا زَائِدَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ فَاطِمَةَ عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ: لَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِالْعَتَاقَةِ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ. قوله: "لقد أمر" في رواية الإسماعيلي عن زائدة، كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يأمرهم. رجاله خمسة: مرَّ محل هشام وفاطمة وأسماء في الذي قبله، ومرّ زائدة بن قدامة في الثاني والعشرين من الغُسل. والخامس: الربيع بن يحيى بن مقسم المرئي أبو الفضل الأُشناني البصري، ذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال أبو حاتم: ثقة ثبت، وقال ابن قانع: إنه ضعيف، وقال الدارقطني: ضعيف ليس بالقوي، يخطىء كثيرًا. حدث عن الثوري عن ابن المنكدر عن جابر جمع النبي -صلى الله عليه وسلم- بين الصلاتين. وهذا حديث ليس لابن المنكدر فيه ناقة ولا جمل، وهذا يسقط مائة ألف حديث. قال في المقدمة: ما أخرج عنه البخاري إلاَّ من حديث زائدة، روى عن شعبة والثوري وزائدة وإسرائيل، وروى عنه البخاري وأبو داود وأبو زرعة وأبو حاتم وغيرهم. مات سنة أربع وعشرين ومائتين والأُشناني في نسبه بضم الهمزة وكسرها، والضم أعلى نسبة إلى بيع الأشنان، وهو معروف تغسل به الثياب أو إلى قنطرة الأشنان محلة ببغداد، وإليها ينسب محمد بن يحيى الأُشناني، وأبو بكر محمد بن عبد الله بن إبراهيم الأشناني وغيرهما. والمرئي في نسبه بسكون الراء، على وزن مرعي نسبة إلى امرىء القيس، وهو اسم لعدد كثير من الأشخاص، وكل من نسب إلى واحد منهم يقال له مرئي، إلاّ مَنْ نسب إلى امرىء القيس بن

لطائف إسناده

الحارث بن معاوية الجد الرابع لامرىء القيس فحل الشعراء. فإنه يُقال له مرقسي مسموع عن العرب في كندة لا غير. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، ورواية التابعي عن التابعية عن الصحابية، ورواية الرجل عن زوجته، ورواية المرأة عن جدتها، ورواته ما بين بصري وكوفي ومدني. أخرجه البخاري في الكسوف أيضًا وأبو داود في الصلاة. ثم قال المصنف:

باب صلاة الكسوف في المسجد

باب صلاة الكسوف في المسجد الحديث الخامس عشر حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ يَهُودِيَّةً جَاءَتْ تَسْأَلُهَا فَقَالَتْ: أَعَاذَكِ اللَّهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَيُعَذَّبُ النَّاسُ فِي قُبُورِهِمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَائِذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ. ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ غَدَاةٍ مَرْكَبًا، فَكَسَفَتِ الشَّمْسُ فَرَجَعَ ضُحًى، فَمَرَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ ظَهْرَانَي الْحُجَرِ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى، وَقَامَ النَّاسُ وَرَاءَهُ، فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلاً، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً، ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلاً، وَهْوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً، وَهْوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ فَسَجَدَ سُجُودًا طَوِيلاً ثُمَّ قَامَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلاً، وَهْوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً، وَهْوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ قَامَ قِيَامًا طَوِيلاً، وَهْوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً، وَهْوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ سَجَدَ وَهْوَ دُونَ السُّجُودِ الأَوَّلِ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَتَعَوَّذُوا مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. قد تقدم هذا الحديث قبل أربعة أبواب من هذا الوجه، ولم يقع فيه التصريح بكونها في المسجد. لكنه يؤخذ من قولها فيه: "فمر بين ظهراني الحُجر" لأن الحجر بيوت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- وكانت لاصقة بالمسجد، وقد وقع التصريح بذلك في رواية سليمان بن بلال عند مسلم. ولفظه: "في نسخ بين ظهراني الحجر في المسجد فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- من مركبة حتى أتى إلى مصلاه الذي كان يصلي فيه". الحديث. والمركب الذي كان النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه بسبب موت ابنه إبراهيم كما تقدم في الباب الأول. فلما رجع -صلى الله عليه وسلم- إلى المسجد، ولم يصلها ظاهرًا صح أن السنة في صلاة الكسوف أن تصلى في المسجد، ولولا ذلك لكانت صلاتها في الصحراء أجدر برؤية الانجلاء. وقد مرَّ الكلام على إيقاعها في المسجد عند حديث أسماء في أوائل صفة الصلاة.

رجاله خمسة

رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ إسماعيل بن أبي أويس في الخامس عشر من الإيمان، ومرّ مالك وعائشة في الثاني من بدء الوحي، ويحيى بن سعيد في الأول منه، وعمرة بنت عبد الرحمن في الثاني والثلاثين من الغسل، وقد مرَّ هذا الحديث قريبًا. ثم قال المصنف:

باب لا تنكسف الشمس لموت أحد ولا لحياته

باب لا تنكسف الشمس لموت أحد ولا لحياته قد مرّ الكلام مبسوطًا على هذا عند حديث أسماء في باب بعد باب ما يقال بعد التكبير من أوائل صفة الصلاة. ثم قال: رواه أبو بكرة، والمغيرة وأبو موسى، وابن عباس وابن عمر رضي الله تعالى عنهم. أما حديث أبي بكرة فقد رواه في أول أبواب الكسوف، ومضى قريبًا حديث المغيرة، ويأتي حديث أبي موسى في باب الذكر في الكسوف، ومضى حديث ابن عباس في باب صلاة الكسوف جماعة. ومضى أيضًا حديث ابن عمر في أول أبواب صلاة الكسوف. وهذه الخمسة قد مرّت، مرّ أبو بكرة في الرابع والعشرين منه، ومرَّ المغيرة في الأخير، ومرّ أبو موسى في الرابع منه، ومرَّ ابن عمر في أوله قبل ذكر حديث منه، ومرّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي. الحديث السادس عشر حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنِي قَيْسٌ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَصَلُّوا". وفي هذا الحديث ما ترجم له، وفي الباب ما لم يذكره عن جابر عند مسلم، وعن عبد الله بن عمرو والنعمان بن بشير وقبيصة وأبي هريرة. كلها عند النسائي وغيره، وعن ابن مسعود وسمرة بن جندب ومحمود بن لبيد، كلها عند أحمد وغيره، وعن عقبة بن عامر وبلال عند الطبراني وغيره، فهذه عدة طرق غالبها على شرط الصحة، وهي تفيد القطع، عند من اطلع عليها من أهل الحديث بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: فيجب تكذيب مَنْ زعم أن الكسوف علامة على موت أحد أو حياة أحد. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ مسدد ويحيى القطان في السادس من الإيمان، ومرّ إسماعيل بن علية في الثامن منه، ومرّ قيس بن أبي حازم في الخمسين منه، وأبو مسعود في الثامن والأربعين منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإفراد والعنعنة، والقول ورواية التابعي عن التابعي، والنصف الأول

الحديث السابع عشر

من الرواة بصري، والثاني كوفي. أخرجه البخاري أيضًا في الكسوف وفي بدء الخلق، ومسلم في الخسوف وكذا النسائي وابن ماجه. الحديث السابع عشر حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَهِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَامَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَصَلَّى بِالنَّاسِ، فَأَطَالَ الْقِرَاءَةَ، ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَأَطَالَ الْقِرَاءَةَ، وَهْىَ دُونَ قِرَاءَتِهِ الأُولَى، ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ دُونَ رُكُوعِهِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ قَامَ فَصَنَعَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَامَ فَقَالَ إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لاَ يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ يُرِيهِمَا عِبَادَهُ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَافْزَعُوا إِلَى الصَّلاَةِ. ساق المصنف الحديث على لفظ الزهري. وقد تقدمت رواية هشام مفردة في الباب الثاني. وبين عبد الرزاق عن معمر أن في رواية هشام من الزيادة "فتصدقوا". وقد تقدم ذلك أيضًا. رجاله سبعة: قد مرّوا، مرّ عبد الله بن محمد المسندي في الثاني من الإيمان، ومرّ هشام بن يوسف في الثالث من الحيض، ومرّ معمر في متابعة بعد الرابع من بدء الوحي، وابن شهاب في الثالث منه، وهشام وعروة وعائشة في الثاني منه. ثم فقال المصنف:

باب الذكر في الكسوف

باب الذكر في الكسوف ثم قال: رواه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. أي: عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهذا الحديث مرّ في باب صلاة الكسوف جماعة بلفظ: "فاذكروا الله" وقد مرّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي. الحديث الثامن عشر حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَقَامَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَزِعًا، يَخْشَى أَنْ تَكُونَ السَّاعَةُ، فَأَتَى الْمَسْجِدَ، فَصَلَّى بِأَطْوَلِ قِيَامٍ وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ رَأَيْتُهُ قَطُّ يَفْعَلُهُ وَقَالَ: "هَذِهِ الآيَاتُ الَّتِى يُرْسِلُ اللَّهُ لاَ تَكُونُ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنْ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَافْزَعُوا إِلَى ذِكْرِهِ وَدُعَائِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ". قوله: "فزِعًا" بكسر الزاي صفة مشبهة، ويجوز الفتح على أنه مصدر بمعنى الصفة، وقوله: "يخشى أن تكون الساعة" بالضم على أن كان تامة أي: يخشى أن تحضر الساعة، أو ناقصة. "والساعة" اسمها، والخبر محذوف، أو العكس قيل: وفيه جواز الإخبار بما يوجبه الظن من شاهد الحال؛ لأن بسبب الفزع يخفى عن المشاهد؛ لصورة الفزع، فيحتمل أن يكون الفزع لغير ما ذكر، فعلى هذا فيشكل هذا الحديث من حيث أن للساعة مقدمات كثيرة، لم تكن وقعت كفتح البلاد، واستخلاف الخلفاء، وخروج الخوارج. ثم الأشراط: كطلوع الشمس من مغربها، والدجال، والدخان، وغير ذلك، ويجاب عن هذا باحتمال أن تكون قصة الكسوف وقعت قبل إعلام النبي -عليه الصلاة والسلام- بهذه العلامات، أو لعله خشي أن يكون ذلك بعض المقدمات. أو أن الراوي ظن أن الخشية لذلك. وكانت لغيره، كعقوبة تحدث كما كان يخشى عند هبوب الريح. هذا ما ذكره النووي تبعًا لغيره. وزاد بعضهم أن المراد بالساعة غير يوم القيامة، أي: الساعة التي جعلت على أمر من الأمور: كموته -صلى الله عليه وسلم- أو غير ذلك. وفي الأول نظر؛ لأن قصة الكسوف متأخرة جدًا. فقد تقدم أن موت إبراهيم كان في العاشرة كما اتفق عليه أهل السِّيَر. وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بكثير من الأشراط والحوادث قبل ذلك، وأما الثالث: فتحسين الظن بالصحابي يقتضي أنه لا يجزم

رجاله خمسة

بذلك إلاَّ بتوقيف، وأما الرابع: فلا يخفى بعده، وأقربها الثاني، فلعله خشي أن يكون الكسوف مقدمة لبعض الأشراط: كطلوع الشمس من مغربها، ولا يستحيل أن يتخلل بين الكسوف والطلوع المذكور أشياء مما ذكر، وتقع متتالية بعضها إثر بعض، مع استحضار قوله تعالى: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ} أو هو أقرب، ويحتمل أن يخرج على مسألة دخول النسخ في الإخبار. فإذا قيل يجواز ذلك، زال الإشكال، وقيل لعله قد ورد وقوع الممكن، لولا ما أعلمه الله تعالى بأنه لا يقع قبل الإشراط؛ تعظيمًا منه لأمر الكسوف، ليتبين لمن يقع له من أُمته ذلك كيف يخشى ويفزع. لاسيما إذا وقع لهم ذلك بعد حصول الأشراط؛ أو أكثرها. وقيل: لعله حالة استحضار إمكان القدرة غلبت على استحضار ما تقدم من الشروط؛ لاحتمال أن تكون تلك الأشراط كانت مشروطة بشرط لم يتقدم ذكره، فيقع الخوف بغير أشراط لفقد الشرط. وقوله: "هذه الآيات التي يرسل الله" وقوله: "ولكن يخوف الله بها عباده" موافق لقوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} واستدل بذلك على أن الأمر بالمبادرة إلى الذكر والدعاء والاستغفار وغير ذلك، لا يختص بالكسوفين لأن الآيات أعم من ذلك. وقد تقدم القول في ذلك في أواخر الاستسقاء، ولم يقع في هذه الرواية ذكر لصلاة، فلا حجة فيه لمن استحبها عند كل آية. وقوله: "إلى ذكر الله" في رواية الكشميهني إلى ذكره، والضمير يعود على الله تعالى في قوله: "يخوف الله بها عباده" وفيه الندب إلى الاستغفار عند الكسوف وغيره؛ لأنه مما يدفع به البلاء. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ محمد بن العلاء وأبو أسامة في الحادي والعشرين من العلم، ومرّ بريد وأبو بردة وأبو موسى بهذا النسق في الرابع من الإيمان. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول وإسناده كوفيون، وفيه ثلاثة مكيون، وفيه رواية الرجل عن جده وجده عن أبيه. أخرجه مسلم والنسائي. ثم قال المصنف:

باب الدعاء في الكسوف

باب الدعاء في الكسوف في رواية كريمة، وأُبي الوقت في الخسوف. ثم قال: قاله أبو موسى وعائشة رضي الله تعالى عنهما عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وورد الأمر بالدعاء أيضًا من حديث أبي بكرة وغيره، ومنهم مَنْ حمل الذكر والدعاء على الصلاة؛ لكونهما من أجزائها والأول أولى؛ لأنه جمع بينهما في حديث أبي بكرة حيث قال: "فصلوا وادعوا". وفي حديث ابن عباس عند سعيد بن منصور: "فاذكروا الله وكبروهُ وسبحُوهُ وهللوه". وهو من عطف الخاص على العام، وحديثا أبي موسى وعائشة المعلقان قد مرّا، مرّ حديث أبي موسى في الذي قبله، ومرّ حديث عائشة في باب الصدقة في الكسوف، وقد وقع الأمر فيه بالدعاء، وقد مرَّ محل أبي موسى في الذي قبله، ومحل عائشة في الذي قبل ذلك. الحديث التاسع عشر حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ: حَدَّثَنَا زَائِدَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ عِلاَقَةَ قَالَ: سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ يَقُولُ: انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ، فَقَالَ النَّاسُ انْكَسَفَتْ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لاَ يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَادْعُوا اللَّهَ وَصَلُّوا حَتَّى يَنْجَلِيَ". هذا الحديث مرَّ في الباب الأول. رجاله أربعة: قد مرّوا، مرّ أبو الوليد في العاشر من الإيمان، ومرّ زائدة في الثاني والعشرين من الغسل، ومرّ زياد والمغيرة في الأخير من الإيمان، وفيه ذكر إبراهيم. وقد مرّ في الرابع من الكسوف هذا. ثم قال المصنف:

باب قول الإمام في خطبة الكسوف أما بعد

باب قول الإِمام في خطبة الكسوف أما بعد: الحديث العشرون وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ: أَخْبَرَتْنِي فَاطِمَةُ بِنْتُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ: فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَقَدْ تَجَلَّتِ الشَّمْسُ فَخَطَبَ، فَحَمِدَ اللَّهَ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ". ذُكر حديث أسماء هنا مختصرًا معلقًا، وقد تقدم مطولًا من هذا الوجه في كتاب الجمعة، ووقع هنا في رواية أبي علي بن السكن وهم، وذلك أنه أدخل بين هشام وفاطمة بنت المنذر عروة بن الزبير. والصواب: حذفه، ولعله كان محنده هشام بن عروة بن الزبير، فتصحفت "ابن" فصارت "عن" وذلك من الناسبخ وإلا فابن السكن من الحفاظ الكبار، وفيه تأييد لمن استحب لصلاة الكسوف خطبة. وقد مرَّ ذلك في بابه. رجاله أربعة: قد مرّوا، مرّ أبو أسامة في الحادي والعشرين من العلم، ومرّ هشام في الثاني من بدء الوحي، ومرّت فاطمة وأسماء في الثامن والعشرين من العلم. ثم قال المصنف:

باب الصلاة في كسوف القمر

باب الصلاة في كسوف القمر الحديث الحادي والعشرون حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ يُونُسَ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ. اعترض عليه بأن هذا الحديث المختصر ليس فيه ذكر القمر، لا بالتنصيص، ولا بالاحتمال. والجواب: أنه أراد أن يبين أن المختصر بعض الحديث المطول. ويأتي توجيه المطول قريبًا. رجاله ستة: قد مرّوا إلاَّ سعيدًا، مرّ محمود بن غيلان في السابع والأربعين من مواقيت الصلاة، ومرّ شعبة في الثالث من الإيمان، ومرّ يونس والحسن وأبو بكرة في الرابع والعشرين من الإيمان. وسعيد: هو ابن عامر الضبعي أبو محمد البصري قال يحيى بن سعيد: هو شيخ العصر منذ أربعين سنة، وقال أيضًا: إني لأغبط جيرانه. وقال ابن مهدي لابنه: الزمه فلو حدّثنا كل يوم حديثًا لأتيناه. وقال زياد بن أيوب: ما رأيت بالبصرة مثله، وقال ابن معين: حدّثنا سعيد بن عامر الثقة المأمون. وقال أبو حاتم: كان رجلًا صالحًا، وكان في حديثه بعض الغلط، وهو صدوق. وقال ابن سعد: كان رجلًا صالحًا. وذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال العجلي: ثقة، رجل صالح من خيار الناس. وقال ابن قانع: ثقة. روى عن جويرية بنت أسماء وشعبة وهمّام بن يحيى وغيرهم، وروى عنه أحمد وعلي ابن المديني وابن معين وغيرهم. ولد سنة اثنين وعشرين ومائة ومات لأربع بقين من شوال سنة ثمانية ومائتين. الحديث الثاني والعشرون حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَخَرَجَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْمَسْجِدِ، وَثَابَ النَّاسُ إِلَيْهِ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ، فَانْجَلَتِ الشَّمْسُ فَقَالَ: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، وَإِنَّهُمَا لاَ يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَإِذَا كَانَ ذَاكَ فَصَلُّوا وَادْعُوا

حَتَّى يُكْشَفَ مَا بِكُمْ". وذاك أن ابنًا للنبي -صلى الله عليه وسلم- مات يُقال له إبراهيم فقال الناس في ذاك. وجه مطابقة الحديث للترجمة يؤخذ من قوله: "وإذا كان ذلك فصلوا" بعد قوله: "إن الشمس والقمر" وقد وقع في بعض طرقه ما هو أصرح من ذلك، فعند ابن حِبّان عن يونس بن عبيد في هذا الحديث. فإذا رأيتم شيئًا من ذلك. وفي حديث عبد الله بن عمرو: "فإذا انكسف أحدهما". وقد تقدم حديث أبي مسعود بلفظ: "كسوف أيهما انكسف". وعند ابن حِبّان من وجه آخر أنه -صلى الله عليه وسلم- صلّى في كسوف القمر ولفظه: عن النضر بن شميل عن أشعث بإسناده. في هذا الحديث: صلّى في كسوف الشمس والقمر ركعتين مثل صلاتكم. وأخرجه الدارقطني أيضًا. وفي هذا ردٌ على مَنْ أطلق، كابن رشد أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يصل فيه، ومنهم مَنْ أوّل قوله: "صلى" أي: أمر بالصلاة جمعًا بين الروايتين. وعند المالكية والحنفية لا يجمع في خسوف القمر. ونصت المالكية: على كراهية الجمع فيها؛ لتعذر اجتماع الناس بالليل غالبًا، وعند الشافعي يصلى لخسوف القمر كما يصلى لكسوف بجماعة وركوعين، وبالجهر بالقراءة وبخطبتين بينهما جلسة، وبه قال أحمد وإسحاق إلاّ في الخطبة. واستدل مالك وأبو حنيفة بأنه -صلى الله عليه وسلم- جمع لكسوف الشمس، ولمّا خسف القمر في جمادى الآخرة سنة أربع، ذكره ابن الجوزي وغيره لم يجمع فيه. وقال مالك: لم يبلغنا، ولا أهل بلدنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جمع لخسوف القمر، ولا نقل عن أحدٍ من الأئمة بعده أنه جمع بعده. وقال صاحب الهدى: لم ينقل أنه صلى في كسوف القمر في جماعة، لكن حكى ابن حِبّان في "السيرة" له: أن القمر خسف في السنة الخامسة فصلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بأصحابه صلاة الكسوف. وكانت أول صلاة كسوف في الإِسلام. وقد جزم به مغلطاي في "سيرته المختصرة"، وتبعه العراقي في نظمها. وروى الدارقطني عن عائشة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي في كسوف الشمس والقمر أربع ركعات، وأربع سجدات، ويقرأ في الركعة الأولى بالعنكبوت، أو الروم، وفي الثانية بيس. وفي حديث قبيصة مرفوعًا: "إذا انكسف الشمس أو القمر، فصلوا". وروى الدارقطني بسند جيد عن ابن عباس: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلّى في كسوف الشمس والقمر ثمان ركعات، في أربع سجدات. وفي رواية الأصيلي في حديث أبي بكرة هذا انكسف القمر، بدل الشمس. وهذا تغيير لا معنى له، وكأنه عسرت عليه مطابقة الحديث للترجمة، فظن أن لفظه مغير، فغيره هو إلى ما في ظنه صوابًا وليس كذلك.

رجاله خمسة

واختلف عند المالكية هل صلاة خسوف القمر سنة، أو مستحبة. والأخير هو المشهور، ووقتها الليل كله، فإن طلع مكسوفًا بدىء بالمغرب، وإن كسف عند الفجر لم يصلوا، وكذا إن خسف فلم يصلوا حتى غاب بليل. خلافًا للشافعي فيهما. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرّ أبو معمر وعبد الوارث في السابع عشر من العلم، ومرّ يونس والحسن وأبو بكرة في الرابع والعشرين من الإيمان، وفيه ذكر إبراهيم، وقد مرّ في الرابع من الكسوف هذا. ثم قال المصنف:

باب الركعة الأولى في الكسوف أطول

باب الركعة الأولى في الكسوف أطول كذا وقع هنا للحموي والكشميهني، ووقع بدله للمستملي باب: صب المرأة على رأسها الماء، إذا أطال الإِمام القيام في الركعة الأولى. قال ابن رشيد: وقع في هذا الموضع تخليط من الرواة، وحديث عائشة المذكور مطابق للترجمة الأولى قطعًا. وأما الثانية: فحقها أن تذكر في موضع آخر. وكان المصنف ترجم بها وأخلى لها بياضًا ليذكر لها حديثًا، أو طريقًا كما جرت عادته، فلم يحصل غرضه. فضم بعض الكتاب إلى بعض. فنشأ هذا، والأليق بها حديث أسماء المذكور قبل سبعة أبواب، فهو نص فيه. ويؤيد ما ذكره ما وقع في رواية أُبي علي بن شبويه عن الفربري، فإنه ذكر باب صب المرأة أولًا. وقال في الحاشية: ليس فيه حديث، ثم ذكر باب الركعة الأولى أطول، وأورد فيه حديث عائشة، وكذلك صنع الإسماعيلي في مستخرجه، فعلى هذا، فالذي وقع من صنيع شيوخ أبي ذر من اقتصار بعضهم علي إحدى الترجمتين ليس بجيد. أمّا مَنْ اقتصر على الثانية، وهو المستملي فخطأ محض. إذْ لا تَعلُّق لها بحديث عائشة. وأما الآخران فمن حيث إنهما حذفا الترجمة أصلًا، وكأنهما استشكلاها فحذفاها، ولهذا حذفت من رواية كريمة أيضًا عن الكشميهني، وكذا من رواية الأكثر. الحديث الثالث والعشرون حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ بن غيلان، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- صَلَّى بِهِمْ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي سَجْدَتَيْنِ، الأُولَى أَطْوَلُ. وهذا المتن طرف من الحديث الطويل الماضي في باب صلاة الكسوف في المسجد، وكأنه مختصر منه بالمعنى، فإنه قال فيه: "ثم قام قيامًا طويلًا" وهو دون القيام الأول، وقال في هذا: "أربع ركعات في سجدتين: الأولى أطول". وقد رواه الإسماعيلي بلفظ: "الأولى، فالأولى أطول"، وفيه دليل لمن قال: أن القيام الأول من الركعة الثانية يكون دون القيام الثاني من الركعة الثانية بقيامها وركوعيها، وقال النووي: اتفقوا على أن القيام الثاني وركوعه فيهما أقصر من القيام الأول، وركوعه فيهما. واختلفوا في القيام الأول من الثانية، وركوعه هل هما أقصر من القيام الثاني

رجاله خمسة

من الأولى وركوعه؟ أو يكونان سواء. قيل: سبب هذا الخلاف فهم معنى قوله: "وهو دون القيام" هل المراد به الأول من الثانية؟ أو يرجع إلى الجميع. فيكون كل قيام دون الذي قبله. ورواية الإسماعيلي تعين هذا الثاني، ويرجحه أيضًا أنه لو كان المراد من قوله القيام الأول، أول قيام من الأولى فقط، لكان القيام الثاني والثالث مسكوتًا عن مقدارهما. فالأول أكثر فائدة. قلت: مذهب المالكية أن كل قيام دون القيام الذي قبله في الطول. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ محل محمود في الذي قبله بحديث، ومرَّ أبو أحمد الزبيري في التاسع والثمانين من صفة الصلاة، ومرّ سفيان الثوري في السابع والعشرين من الإيمان، ومرّ يحيى بن سعيد في الأول من بدء الوحي، وعائشة في الثاني منه، وعمرة بنت عبد الرحمن في الثاني والثلاثين من الحيض. ثم قال المصنف:

باب الجهر بالقراءة في الكسوف

باب الجهر بالقراءة في الكسوف أي سواء كان للشمس أو القمر. الحديث الرابع والعشرون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِهْرَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ نَمِرٍ سَمِعَ ابْنَ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها جَهَرَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فِي صَلاَةِ الْخُسُوفِ بِقِرَاءَتِهِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَتِهِ كَبَّرَ فَرَكَعَ، وَإِذَا رَفَعَ مِنَ الرَّكْعَةِ قَالَ: "سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ". ثُمَّ يُعَاوِدُ الْقِرَاءَةَ فِي صَلاَةِ الْكُسُوفِ، أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي رَكْعَتَيْنِ وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ. قوله: "جهر النبي -صلى الله عليه وسلم- في صلاة الخسوف بقراءته" استدل به على الجهر فيها بالنهار وحمله جماعة ممن لم ير ذلك على كسوف القمر، وليس بجيد؛ لأن الإسماعيلي روى هذا الحديث من وجه آخر، عن الوليد بلفظ: "كسفت الشمس في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-". فذكر الحديث، وكذا رواية الأوزاعي التي بعده صريحة في الشمس. رجاله ستة: قد مرّوا إلاَّ عبد الرحمن، مرَّ محمد بن مهران والوليد بن مسلم في السادس والثلاثين من مواقيت الصلاة، ومرّ ابن شهاب في الثالث من بدء الوحي وعروة وعائشة في الثاني منه، وعبد الرحمن هو ابن نمِر بكسر الميم اليحصبي أبو عمرو الدمشقي، ذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال: من ثقات أهل الشام ومتقنيهم. وقال أبو أحمد الحاكم: مستقيم الحديث. وقال ابن البرقي: ثقة، وقال الذهلي: عبد الرحمن بن نمر وعبد الرحمن بن خالد ثقتان، ولا تكاد نجد لابن نمر حديثًا عن الزهري إلا ودون الحديث مثله، يقول: سألت الزهري عن كذا، فحدثني عن فلان وفلان فيأتي بالحديث على وجهه، وقال ابن معين: ابن نمر الذي يروى عن الزهري ضعيف. وقال دحيم: صحيح الحديث عن الزهري وقال أبو داود: ليس به بأس كان كاتبًا حضر مع ابن هشام والزهري يملي عليهم. وقال ابن عدي في حديثه عن الزهري عن عروة عن مروان عن بسرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بالوضوء في مس الذكر، والمرأة مثل ذلك. هذه الزيادة أي: "والمرأة مثل ذلك" لا يرويها عن الزهري غير ابن نمر هذا، وهو في جملة من يكتب حديثه من "الضعفاء" ولم يخرج له الشيخان

لطائف إسناده

سوى حديث واحد في الكسوف، وهو متابعة. روى عن الزهري وعن مكحول الشامي، ولم يرو عنه غير الوليد بن مسلم. واليحصبي في نسبه نسبة إلى يحصب بن مالك حي باليمن من حمير بتثليث الصاد في الاسم، وفي النسبة إليه على الصحيح. وقيل: النسبة بالفتح فقط. قيل: أن يحصب أخو ذي أصبح جد الإِمام مالك رضي الله تعالى عنه، ويحصب قلعة بالأندلس سميت بمن نزلها من اليحصبيين ممن حمير منها القاضي عياض بن موسى صاحب الشفاء والمطالع في اللغة، وغير ذلك من التصانيف العديدة المفيدة. وأبو محمد عبد الله بن محمد بن معدان اليحصبي الأندلسي وغيرهما. لطائف إسناده: فيه التحديث والإخبار بالجمع والسماع والعنعنة والقول. أخرجه مسلم في الكسوف، وكذا أبو داود والترمذي والنسائي. الحديث الخامس والعشرون وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ وَغَيْرُهُ: سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ الشَّمْسَ خَسَفَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَبَعَثَ مُنَادِيًا بِالصَّلاَةُ جَامِعَةٌ، فَتَقَدَّمَ فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي رَكْعَتَيْنِ وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ. واستدل بعضهم على ضعف رواية عبد الرحمن بن نمر في الجهر بأن الأوزاعي لم يذكر في روايته الجهر، وهذا ضعيف؛ لأن من ذكر حجة على مَنْ لم يذكر، لاسيما والذي لم يذكره لم يتعرض لنفيه، وقد ثبت الجهر في رواية الأوزاعي عند أبي داود والحاكم، عن الوليد بن مزيد عنه، ووافقه سليمان بن كثير وغيره كما ترى. رجاله أربعة: قد مرّوا، مرّ الأوزاعي في العشرين من العلم، ومرّ محل الباقين في الذي قبله، وهذا الحديث يحتمل أن يكون من مقول الوليد، فيكون موصولًا ويحتمل القطع، وقد وصله مسلم عن محمد بن مهران عن الوليد بن مسلم، حدّثنا الأوزاعي وغيره، فذكره وزاد فيه مسلم طريق كثير بن عباس عن أخيه، ولم يذكر قصة عبد الله بن الزبير. ثم قال: وأخبرني عبد الرحمن بن نمر سمع ابن شهاب مثله، وعبد الرحمن مرَّ في الذي قبله، ومرَّ فيه محل ابن شهاب. ثم قال: قال الزهري: فقلت: ما صنع أخوك ذلك عبد الله بن الزبير ما صلى إلاَّ ركعتين مثل الصبح، إذْ صلّى بالمدينة. قال: أجل إنه أخطأ السنة. قوله: "قال أجل" أي: نعم وزنًا ومعنىً. وفي رواية الكشميهنيّ: "من أجل" بسكون الجيم وعلى الأول. فقوله: "إنه أخطأ" بكسر همزة إنه وعلى الثاني بفتحها، وهذا طرف من حديث قد مرّ

خاتمة

في الحديث السابع، ومرّ هناك المراد بالأخ ومحله. ثم قال: تابعه سليمان بن كثير وسفيان بن حسين عن الزهري في الجهر يعني بإسناده المذكور. ورواية سليمان وصلها أحمد عنه بلفظ: "خسفت الشمس على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فكبّر ثم كبّر الناس ثم قرأ فجهر بالقراءة" الحديث، وهو في مسند أبي داود الطيالسي بهذا الإسناد مختصرًا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جهر بالقراءة في صلاة الكسوف. وأما رواية سفيان بن حسين فوصلها الترمذي والطحاوي بلفظ: "صلى صلاة الكسوف وجهر بالقراءة فيها" وقد تابعهم على ذكر الجهر عن الزهري عقيل عند الطحاوي، وإسحاق بن راشد عند الدارقطني، وهذه طرق يعضد بعضها بعضًا، يفيد مجموعها الجزم بذلك، فلا معنى لتعليل من أعله بتضعيف سفيان بن حسين وغيره، فلو لم يرد في ذلك إلاَّ رواية الأوزاعي لكانت كافية فيه، وقد استوفى حكمه عند الأئمة وما احتجوا به عند حديث أسماء في أوائل صفة الصلاة في باب مفرد بعد باب ما يقال بعد التكبير. وسليمان بن كثير مرَّ في التاسع والثلاثين من كتاب الجمعة. ومرّ الزهري في الثالث من بدء الوحي، وسفيان بن حسين بن الحسن أبو محمد، ويقال أبو الحسن الواسطي. قال يعقوب بن شيبة: صدوق ثقة. وفي حديثه ضعف. وقال النسائي: ليس به بأس إلاَّ في الزهري، وقال عثمان بن أبي شيبة: كان ثقة، إلاَّ أنه كان مضطربًا في الحديث قليلًا. وقال العجلي: ثقة، وقال ابن سعد: ثقة، يخطىء في حديثه كثيرًا. وذكره ابن حِبّان في الثقات وقال: أما روايته عن الزهري فإن فيها تخليطًا يجب أن يجانب وهو ثقة في غير الزهري. وقال ابن خراش: كان مؤدبًا ثقة. وقال أبو حاتم: صالح الحديث، يكتب حديثه ولا يحتج به مثل ابن إسحاق وهو أحب إليَّ من سليمان بن كثير. وقال البزار: واسطي، ثقة. وقال أحمد: ليس بذاك في حديث الزهري. روى عن إياس بن معاوية والحكم بن عتيبة ومحمد بن سيرين والزهري وغيرهم. وروى عنه شعبة ويزيد بن هارون وهشيم بن بشير وغيرهم، قال ابن خراش: مات بالري مع المهدي. وقال ابن حِبّان: مات في ولاية هارون الرشيد. خاتمة قال في "الفتح": اشتملت أبواب الكسوف على أربعين حديثًا، نصفها موصول ونصفها معلّق. المكرر منها فيه وفيما مضى اثنان وثلاثون، والخالص ثمانية. وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث أبي بكرة وحديث أسماء في العتاقة. ورواية عمرة عن عائشة الأولى أطول لكنه أخرج أصله، وفيه من الآثار عن الصحابة والتابعين خمسة آثار فيها أثر عبد الله بن الزبير وفيها أثر عروة في تخطئته، وهما موصولان. ثم قال المصنف:

أبواب سجود القرآن وسنتها

أبواب سجود القرآن وسنتها كذا للمستملي، وسقطت البسملة لأبي ذر، ولغير المستملي باب ما جاء في سجود القرآن. وقوله: "وسنتها" بتاء التأنيث أي: سجدة التلاوة، وللأصيلي "وسننه" بتذكير الضمير أي: سجود السهو ويأتي حكم سجودها عند الأئمة في باب مَنْ قرأ السجدة ولم يسجد. وقد وردت في القرآن في خمسة عشر موضعًا لحديث عمرو بن العاص، عند أبي داود والحاكم بإسناد حسن "اقرأني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خمس عشرة سجدة في القرآن منها ثلاث في المفصل، وفي الحج سجدتان". واتفقت الحنفية والشافعية على السجود في أربع عشرة منها، إلاَّ أن الشافعية قالوا في الحج سجدتان، وليس سجدة ص سجدة تلاوة، بل سجدة شكر، والحنفية قالوا بها إلا ثانية الحج، وعند الحنابلة مثل ما عند الشافعية، وعند المالكية في المشهور. وهو القول القديم للشافعي إنها إحدى عشر فلم يعدوا ثانية الحج ولا ثلاثة المفصل، لما رواه أبو داود وغيره عن ابن عباس أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- لم يسجد في شيء من المفصل منذ تحول إلى المدينة. ولأن ثانية الحج وقعت في مقابلة الركوع في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا}. والركوع أحد أركان الصلاة، فلا تكون محل سجود وأجاب القائلون بالسجود في المفصل عن الحديث المذكور في بعض رواته ضعف، وأن في إسناده اختلافًا، وعلى تقدير ثبوته، فرواية من أثبت ذلك أرجح. إذ المثبت مقدم علي المنافي وسيأتي عند المصنف عن أبي هريرة ثبوت السجود في "إذا السماء انشقت". وروى البزار والدارقطني عن أبي هريرة أن -صلى الله عليه وسلم- سجد في سورة النجم، وسجدنا معه. الحديث. رجاله ثقات. وروى ابن مردويه في "التفسير" بإسناد حسن عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه رأى أبا هريرة سجد في خاتمة النجم فسأله، فقال: إنه رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسجد فيها وأبو هريرة إنما أسلم بالمدينة. وروى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن الأسود بن يزيد عن عمر أنه سجد في "إذا السماء انشقت" ومن طريق نافع عن ابن عمر أنه سجد فيها. قال في "الفتح": وفي هذا رد على مَنْ زعم أن عمل أهل المدينة استمر على ترك السجود في المفصل، ويحتمل أن يكون المنفي المواظبة على ذلك؛ لأن المفصل تكثر قراءته في الصلاة، فترك السجود فيه كثيرًا؛ لئلا تختلط الصلاة على مَنْ لم يفقه. أشار إلى هذه العلة مالك في قوله: "بترك السجود" أصلًا في المفصل. وقال ابن القصار:

الأمر بالسجود في النجم ينصرف إلى الصلاة. ورد بفعله -عليه الصلاة والسلام- كما يأتي قريبًا، وزعم بعضهم أن عمل أهل المدينة استمر بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- على ترك السجود، وفيه نظر. لما رواه الطبري بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن أبزى عن عمر أنه قرأ النجم في الصلاة، فسجد فيها، ثم قام فقرأ: "إذا زلزلت". وعن نافع عن ابن عمر أنه سجد في النجم. ا. هـ ما نقله. وقد قالت المالكية: إن إجماع فقهاء المدينة وقرائها على ترك السجود فيها مع تكرار القراءة ليلاً ونهارًا، وإن ذلك يدل على النسخ إذْ لا يجمعون على ترك سنة. قلت: فلعل الإجماع انعقد بعد عمر وابنه رضي الله تعالى عنهما، أو ما نقل عنهما غير صحيح. ومحال السجود في الأعراف عند آخرها "وله يسجدون"، والرعد عقب: "والأصال"، وفي النحل: "ويفعلون ما يؤمرون"، وفي الإسراء: "ويزيدهم خشوعًا"، وفي مريم: "وبكيًا"، وأول الحج: "يفعل ما يشاء". وثانيها "لعلكم تفلحون"، وفي الفرقان: "وزادهم نفورًا"، وفي النمل: "العرش العظيم". وعند الحنفية: "وما يعلنون"، والم السجدة: "لا يستكبرون"، وص: "وأناب"، وفصلت: "يسأمون"، وعند المالكية: "تعبدون". وآخر النجم والانشقاق: "لا يسجدون"، والعلق آخرها، فلو سجد قبل تمام الآية ولو بحرف، لم يصح؛ لأن وقتها إنما يدخل بتمامها. وقد مرّت مذاهب الأئمة الأربعة في عدد السجدات، وفيها أقوال أُخر قيل: إنها خمسة عشر كما ورد في الحديث السابق، وبه قال المدنيون عن مالك مكملتها ثانية الحج، وهو مذهب عمر وابنه عبد الله والليث وإسحاق وابن المنذر رواية عن أحمد، واختاره المروزي وابن سريج الشافعيان. وقيل: أربع عشرة بإسقاط سجدة النجم. وهو قول أبي ثور، وقيل: ثنتا عشرة بإسقاط ثانية الحج وص والانشقاق، وهو قول مسروق رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عنه، وقيل: ثلاث عشرة بإسقاط ثانية الحج والانشقاق، وهو قول عطاء الخراساني وقيل: عزائم السجود خمس: الأعراف، وبنو إسرائيل، والنجم، والانشقاق، واقرأ باسم ربك. وهو قول ابن مسعود، رواه ابن أبي شيبة عن إبراهيم عنه. وقيل: عزائمه أربع: الم تنزيل، وحم تنزيل، والنجم واقرأ باسم ربك، وهو مروي عن علي -رضي الله تعالى عنه- رواه ابن أبي شيبة عنه وقيل: عزائم السجود، الم تنزيل، والأعراف، وحم تنزيل، وبنو إسرائيل. وهو مذهب عبيد بن عمير. "والعزائم" هي المأمورات التي يعزم الناس بالسجود فيها، وقيل: هي ما ثبت بدليل شرعي خال عن معارض راجح، وعن علي ما ورد الأمر فيه بالسجود عزيمة، وقيل: يشرع السجود عند كل لفظ وقع فيه الأمر بالسجود، أو الحث عليه أو الثناء على فاعله، أو سيق مساق المدح، وهذا يبلغ عددًا كثيراً. وقد أشار إليه أبو محمد بن الخشاب في قصيدته الألغازية قال ابن حزم: ثانية الحج لا نقول بها أصلًا في الصلاة، وتبطل الصلاة بها إذا

الحديث الأول

سجدت؛ لأنها لم تصح بها سنة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا أُجمع عليها وإنما جاء فيها أثر مرسل. وهذا غفلة عمّا مرّ عند أبي داود والحاكم عن عمرو بن العاص أنه -عليه الصلاة والسلام- أقرأه خمس عشرة سجدة. الحديث الأول حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ الأَسْوَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: قَرَأَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- النَّجْمَ بِمَكَّةَ فَسَجَدَ فِيهَا، وَسَجَدَ مَنْ مَعَهُ، غَيْرَ شَيْخٍ أَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصًى أَوْ تُرَابٍ فَرَفَعَهُ إِلَى جَبْهَتِهِ وَقَالَ: "يَكْفِينِى هَذَا". فَرَأَيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ قُتِلَ كَافِرًا. قوله: "وسجد مَنْ معه غير شيخ" سماه في تفسير سورة والنجم عن أبي إسحاق أمية بن خلف، وفي سيرة ابن إسحاق أنه الوليد بن المغيرة، وفيه نظر؛ لأنه لم يقتل، وفي تفسير سند الوليد بن المغيرة، أو عتبة بن ربيعة بالشك، وفيه نظر لما أخرجه الطبراني عن مخرمة بن نوفل قال: لما أظهر النبي -صلى الله عليه وسلم- الإِسلام أسلم أهل مكة حتى أنه كان ليقرأ السجدة، فيسجدون، فلا يقدر بعضهم أن يسجد من الزحام، حتى قدم رؤساء قريش: الوليد بن المغيرة، وأبو جهل وغيرهما، وكانوا بالطائف، فيهجعوا وقالوا: تَدعَون دين آبائكم، لكن في ثبوت هذا نظر؛ لقول أبي سفيان في الحديث الطويل: أنه لم يرتد أحد ممن أسلم، ويمكن الجمع بأن النفي مقيد بمن ارتد سخطًا، لا بسبب مراعاة خاطر رؤسائه. وروى الطبري عن سعيد بن جبير أن الذي رفع التراب فسجد عليه هو سعيد بن العاص بن أمية أبو أحيحة. وتبعه النحاس، وذكر أبو حيان في تفسيره أنه أبو لهب، ولم يذكر مستنده. وفي مصنّف ابن أبي شيبة عن أبي هريرة: "سجدوا في النجم إلا رجلين من قريش" أراد بذلك الشهرة وللنسائي بإسناد صحيح عن المطلب بن أبي وداعة قال: قرأ النبي -صلى الله عليه وسلم- بمكة "والنجم" فسجد، وسجد مَنْ عنده، فرفعت رأسي وأبيت أن أسجد، ولم يكن المطلب يومئذ أسلم. قال المطلب: فلا أدع السجود فيها أبدًا، ويحتمل أن يكون الجميع ممن ذكر لم يسجدوا، والتعميم في كلام ابن مسعود بالنسبة إلى ما أطلع عليه أو خص واحدًا بذكر؛ لاختصاصه بأخذ الكف من التراب دون غيره، لكن لا يفسر الذي في حديث ابن مسعود إلا بأمية؛ لأنه هو الذي قتل كافرًا، وأفاد المصنف في رواية إسرائيل في تفسير والنجم أن النجم أوّل سورة أنزلت فيها سجدة، وهذا هو السر في براءة المصنف في هذه الأبواب بهذا الحديث، واستشكل بأن "اقرأ باسم ربك" أوّل السور نزولًا، وفيها أيضًا سجدة، فهي سابقة على والنجم. وأجيب بأن السابق من اقرأ أوائلها، وأمّا بقيتها فنزلت بعد ذلك، بدليل قصة أبي جهل في نهيه للنبي -صلى الله عليه وسلم- عن الصلاة أو الأولية مقيدة بشيء محذوف بينته رواية أبي إسحاق عند ابن مردويه بلفظ: أن أول سورة استعلن بها رسول -صلى الله عليه وسلم- والنجم. وله

رجاله ستة

عن أبي إسحاق أيضًا أول سورة تلاها على المشركين فذكره، فيجمع بين الروايات الثلاث بأن المراد أول سورة فيها سجدة تلاها جهرًا على المشركين. قوله: "وسجد مَنْ معه" في الرواية الآتية في الباب الثالث عن ابن عباس وسجد مَعَه المسلمون والجن والإنس. كان ابن عباس إِسْتَنَد في ذلك إلى إخبار النبي -صلى الله عليه وسلم- إمّا مشافهة له وإما بواسطة؛ لأنه لم يحضر القصة لصغره، وأيضًا فهو من الأمور التي لا يمكن أن يطلع عليها الإنسان إلا بتوقيف، وتجويز أنه كشف له عن ذلك بعيد؛ لأنه لم يحضرها قطعًا، وإنما أعاد العين والإنس مع دخولهم في المسلمين والمشركين، لنفي توهم اختصاص ذلك بالإنس. قال الكرماني: سجد المشركون مع المسلمين لأنها أول سجدة نزلت فأرادوا معارضة المسلمين بالسجود لمعبودهم أو وقع ذلك منهم بلا قصد أو خافوا في ذلك المجلس من مخالفتهم، والاحتمالات الثلاثة فيها نظر، والأول منها لعياض، والثاني يخالفه ابن مسعود، حيث زاد فيه أن الذي استثناه منهم أخذ كفًا من حصى، فوضع جبهته عليه. فإن ذلك ظاهر في القصد، والثالث أبعد إذ المسلمون حينئذ هم الذين كانوا خائفين من المشركين، لا العكس قال: وما قيل من أن ذلك كان بسبب إلقاء الشيطان في قراءة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا صحة له نقلًا ولا عقلًا. ويأتي إن شاء الله تعالى في تفسير سورة الحج تحرير الكلام على هذه المسألة إنْ شاء الله تعالى الحياة إلى ذلك المحل والتوفيق لإتمام الكتاب والقدرة عليه. رجاله ستة: قد مرّوا، مرّ محمد بن بشار في الحادي عشر من العلم، ومرّ غندر في الخامس والعشرين من الإيمان، ومرَّ شعبة في الثالث منه، ومرَّ أبو إسحاق في الثالث والثلاثين منه، ومرّ ابن مسعود في أوله قبل ذكر حديث منه في أول أثر، ومرّ الأسود بن يزيد في السابع والستين من العلم. وفي الحديث لفظ غير شيخ أخذ كفًا واختلف في ذلك الشيخ، فالصحيح أنه أمية بن خلف، وقيل الوليد بن المغيرة، وفيه نظر؛ لأنه لم يقتل ببدر. وقيل عتبة بن ربيعة، وقيل أبو أحيحة سعيد بن العاص، وقيل المطلب بن أبي وداعة، ولعله زائد على الرجل الذي لم يسجد وقتل كافرًا، ويرشد له قول البخاري في بعض رواياته إلا رجلين، وكل هؤلاء المذكورين ماتوا كفارًا فلا يعرَّفون، إلاَّ المطلب بن أبي وداعة، وها أنا أعرفه فأقول: هو ابن أبي وداعة الحارث بن صبيرة بن سعيد بن سعد بن سهم القرشي السهمي. ذكره ابن سعد في مسلمة "الفتح". وقال الواقدي: نزل المدينة وله بها دار، وبقي دهرًا وقال ابن الكلبي: كان لدة النبي -صلى الله عليه وسلم-. وقال أبو عبيدة: له صحبة، وفي مغازي ابن إسحاق أن أبا وداعة أُسر يوم بدر، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أنَّ له ابنًا كيسًا تاجرًا ذا مال كأنكم به قد جاء في فداء أبيه"، فكان كذلك. أخرج البغوي وابن شاهين عن جعفر بن المطلب بن أبي وداعة عن أبيه سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ بمكة "والنجم" يعني فسجدها فيها. قال: وأنا يومئذٍ

لطائف إسناده

كافر فلم أسجد، فلا أسمعها من أحدٍ إلاَّ سجدت فيها. وأخرج هذا الحديث أحمد في مسنده، والنسائي له أحاديث في مسلم عن حفصة أم المؤمنين في صلاة السبحة قاعدًا. روى عنه أولاده جعفر وكثيِّر وعبد الرحمن وحفيده أبو سفيان بن عبد الرحمن. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والسماع والقول، ورواته بين بصري وواسطي وكوفي، رواه البخاري أيضًا في هذا الباب، وفي المبعث وفي المغازي والتفسير، ومسلم وأبو داود في الصلاة، والنسائي فيها، وفي التفسير. ثم قال المصنف:

باب سجدة تنزيل السجدة

باب سجدة تنزيل السجدة قال ابن بطال: أجمعوا على السجود فيها وإنما اختلفوا في السجود فيها في الصلاة. الحديث الثاني حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَقْرَأُ فِي الْجُمُعَةِ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ {الم (1) تَنْزِيلُ} السَّجْدَةَ وَ {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ}. هذا الحديث قد مرّ استيفاء الكلام عليه عند ذكره في باب ما يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة من كتاب الجمعة. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ محمد بن يوسف الفريابي في العاشر من العلم، ومرَّ سفيان الثوري في السابع والعشوين من الإيمان، ومرّ عبد الرحمن بن هرمز في السابع منه، وأبو هريرة في الثاني منه، وسعد بن إبراهيم في السابع والأربعين من الوضوء. وهذا الحديث قد مرَّ في صلاة الفجر ومرّ الكلام عليه هناك ثم قال المصنف:

باب سجدة ص

باب سجدة ص الحديث الثالث حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ وَأَبُو النُّعْمَانِ قَالاَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: (ص) لَيْسَ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ، وَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَسْجُدُ فِيهَا. قوله: "ص ليس من عزائم السجود" يعني السجود في "ص" إلخ والمراد بالعزائم: ما وردت العزيمة على فعله كصيغة الأمر مثلًا، بناء على أن بعض المندوبات آكد من بعض عند مَنْ لا يقول بالوجوب. وقد روى ابن المنذر وغيره عن علي بن أبي طالب بإسناد حسن: أن العزائم: حم، والنجم، واقرأ، وآلم تنزيل، وكذا ثبت عن ابن عباس في الثلاثة الأخر. وقد مرّ في الترجمة زيادة في معنى العزائم، وفي عددها. وقوله: "وقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسجد فيها"، وفي تفسير "ص" عند المصنف عن مجاهد قال: سألت ابن عباس من أين سجدت في "ص". ولابن خزيمة من هذا الوجه: "من أين أخذت سجدة ص". ثم اتفقا فقال: ومن ذريته داود وسليمان إلى قوله: "فبهداهم اقتده" ففي هذا أنه استنبط مشروعية السجود فيها من الآية، وفي الأول أنه أخذه من النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا تعارض بينهما، لاحتمال أن يكون استفاده من الطريقين. وقد وقع في أحاديث الأنبياء عن مجاهد في آخره، فقال ابن عباس: نبيكم ممن أمر أن يقتدى بهم، فاستنبط وجه سجود النبي فيها من الآية، وسبب ذلك كون السجدة التي في "ص"، إنما وردت بلفظ الركوع، فلولا التوقيف ما ظهر أن فيها سجدة. وفي النسائي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعًا سجدها داود توية، ونحن نسجدها شكرًا. فاستدل الشافعي بقوله: "شكرًا" على أنه لا يسجد فيها في الصلاة؛ لأن سجود الشاكر لا يشرع داخل الصلاة. ولأبي داود وابن خزيمة والحاكم عن أبي سعيد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قرأ وهو على المنبر، فلما بلغ السجدة نزل، فسجد، وسجد الناس معه. ثم قرأها في يوم آخر، فتهيأ الناس للسجود فقال: "إنما هي توية نبي ولكني رأيتكم تهيأتم"، فنزل وسجد، وسجدوا معه، فهذا السياق يشعر بأن السجود فيها لم يؤكد كما أكد في غيرها. واستدل بعض الحنفية من مشروعية السجود عند قوله: "وخرّ راكعًا وأناب" بأن الركوع عندها

رجاله ستة

ينوب عن السجود، فإن شاء المصلي ركع بها، وإن شاء سجد. ثم طرده في جميع سجدات التلاوة. وبه قال ابن مسعود. وعندنا معاشر المالكية لا ينوب عنها ركوع لا في الصلاة ولا خارجها، وإن كان في الصلاة وتركها وقصد الركوع، صح ركوعه، وكره فعله. وإن قصد تأديتها بالركوع ففي بطلان صلاته قولان، وسجدة "ص" عند المالكية والحنفية من العزائم، وعند الشافعي ليست من العزائم، وإنما هي سجدة شكر تستحب في غير الصلاة، وتحرم فيها على الأصح؛ لأن سجود الشكر لا يشرع داخل الصلاة فإن سجد فيها عمدًا عالمًا بتحريمها بطلت صلاته بخلاف فعلها سهوًا أو جهلًا للعذر لكنه يسجد للسهو، ولو سجدها إمامه باعتقادٍ منه، كحنفي لم يتبعه بل يفارقه أو ينتظره قائمًا، وإذا انتظره لا يسجد للسهو على الأصح؛ لأن المأموم لا سجود لسهوه، أي: لا سجود عليه في فعلٍ يقتضي سجود السهو؛ لأن الإِمام يتحمله عنه، فلا يسجد لانتظاره، ووجه السجود أنه يعتقد أن إمامه زاد في صلاته جاهلًا، وأن السجود توجه عليها، فإذا لم يسجد الإِمام سجد المأموم. قاله القسطلاني. وعن أحمد كالمذهبين والمشهور منهما كقول الشافعي، وقال الزهري: كنت لا أسجد في "ص" حتى حدّثني السائب أن عثمان سجد فيها، وعن سعيد بن جبير أن عمر رضي الله تعالى عنه كان يسجد في "ص"، وعن أبي الدرداء سجدت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في "ص"، وعن عقبة بن عامر فيها السجود. وسجد فيها الحسن والنعمان بن بشير ومسروق، وكونها توبة لا ينافي كونها عزيمة، وسجدها داود توبة، ونحن نسجدها شكرًا لما أنعم الله على داود -عليه السلام- بالغفران والوعد بالزلفى وحسن المآب. وهذه نعمة عظيمة في حقنا فكانت سجدة تلاوة؛ لأن سجدة التلاوة ما كان سببها التلاوة، وسبب هذه السجدة تلاوة هذه الآية التي فيها الإخبار عن هذه النِعَمْ على داود -عليه السلام- وإطماعنا في نيل مثله. رجاله ستة: قد مرّوا، مرّ سليمان بن حرب في الرابع عشر من الإيمان، وأبو النعمان في الحادي والخمسين منه، وحمّاد بن زيد في الرابع والعشرين منه، وأيوب في التاسع منه، وعكرمة في السابع عشر من العلم، وابن عباس في الخامس من بدء الوحي. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول. أخرجه البخاري أيضًا في أحاديث الأنبياء، وأبو داود، والترمذي في الصلاة، والنسائي في التفسير. ثم قال المصنف:

باب سجود النجم

باب سجود النجم قاله ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أي: هذا باب في بيان السجود التي في سورة "النجم". وقوله: "قاله ابن عباس"، أي: رواه، أو حكاه، وتذكير الضمير باعتبار السجود وحديثه يأتي في الباب الذي عقب هذا الباب، وابن عبّاس مرّ الآن. الحديث الرابع حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الأَسْوَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَرَأَ سُورَةَ النَّجْمِ فَسَجَدَ بِهَا، فَمَا بَقِيَ أَحَدٌ مِنَ الْقَوْمِ إِلاَّ سَجَدَ، فَأَخَذَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ كَفًّا مِنْ حَصًى أَوْ تُرَابٍ، فَرَفَعَهُ إِلَى وَجْهِهِ وَقَالَ: يَكْفِينِي هَذَا، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ بَعْدُ قُتِلَ كَافِرًا. وهذا الحديث قد مرّ في أول أبواب السجود، ومرّ الكلام عليه هناك، واستدل به على أن مَنْ وضع جبهته على كفه ونحوه لا يعد ساجدًا حتى يضعها بالأرض، وفيه نظر؛ لأن الكافر لا سُجُودَ له مطلقاً. رجاله خمسة: وهم رجال الحديث الأول، مرّ محلهم هناك، إلاّ شيخ البخاري حفص بن عمر مرّ في الثالث والثلاثين من الوضوء. ثم قال المصنف:

باب سجود المسلمين مع المشركين والمشرك نجس ليس له وضوء

باب سجود المسلمين مع المشركين والمشرك نجس ليس له وضوء قال ابن التين: روينا قوله: "نَجَس" بفتح النون والجيم، ويجوز كسرها، وقال الفراء: تسكن الجيم إذا ذكرت اتباعًا في قوله: "رجس نجس" ثم قال: وكان ابن عمر يسجد على غير وضوء، كذا للأكثر، وفي رواية الأصيلي بحذف غير، وإثباتها أولى لما رواه ابن أبي شيبة عن سعيد بن جبير قال: كان بن عمر ينزل عن راحلته فيهريق الماء، ثم يركب. فيقرأ السجدة ثم يسجد وما يتوضأ. وأما ما رواه البيهقي بإسناد صحيح: من نافع عن ابن عمر قال: لا يسجد الرجل إلاَّ هو طاهر، فيجمع بينه وين الأول بأنه أراد بقوله: "طاهر" الطهارة "الكبرى" أو الثاني على حالة الاختيار، والأول على الضرورة، ولم يوافق ابن عمر أحد على جواز السجود بلا وضوء إلا الشعبي. أخرجه ابن أبي شيبة عنه بسند صحيح، وأخرج أيضًا بسند حسن عن أبي عبد الرحمن السُلمي قال: كان يقرأ السجدة، وهو على غير وضوء، وعلى غير القبلة وهو يمشي يومىء برأسه إيماءً. ثم يسلّم. وإلى هذا ذهب ابن حزم فقال: إنها تسجد للقبلة، ولغير القبلة، وعلى طهارة وعلى غير طهارة. وقد اعترض ابن بطال على هذه الترجمة بأن البخاري إن أراد الإحتجاج لابن عمر بسجود المشركين، فلا حجة له فيه؛ لأن سجودهم لم يكن على وجه العبادة، وإنما كان لما يلقى الشيطان إلى آخر كلامه. قال: وإن أراد الرد على ابن عمر بقوله: "والمشرك نجس" فهو أشبه بالصواب وأجاب ابن رشيد بأن مقصود البخاري تأكيد مشروعية السجود بأن المشرك قد أقر على السجود، وسمّى الصحابي فعله سجودًا، مع عدم أهليته، فالمتأهل لذلك أحرى أن يسجد على كل حالة، ويؤيده أن في حديث ابن مسعود أن الذي ما سجد عوقب بأن قتل كافرًا، فلعل من وفق للسجود يومئذٍ ختم له بالحسن فأسلم لبركة السجود، وفيما قاله نظر؛ لأن تركهم على سجودهم، لا يُسمّى تقريرًا؛ لأنهم كفار، وفي ذلك الوقت النبي -صلى الله عليه وسلم- لا طاعة له عليهم، حتى يكون مقررًا، وتسمية الصحابي فعلهم سجودًا إنما هو بالنظر إلى الصورة مع علمه بأن سجودهم كلا سجود؛ لأن الطاعة متوقفة على الإيمان. وقوله: "ولعل جميع من سجد وفق" إلخ ظن وتخمين، فلا ينبني عليه حكم، ويحتمل أن يجمع بين الترجمة، واثر ابن عمر بأنه يبعد في العادة بأن يكون جميع مَنْ حضر من المسلمين كانوا عند قراءة الآية على وضوء؛ لأنهم لم يتأهبوا لذلك، وإذا كان كذلك فمن بادر منهم إلى السجود خوف الفوات بلا وضوء. وأقره النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك على جواز السجود بلا وضوء عند وجود المشقة

الحديث الخامس

بالوضوء، ويؤيده أن لفظ المتن عند ابن عباس "وسجد معه المسلمون والمشركون والإِنس والجن". فسوّى ابن عباس في نسبة السجود بين الجميع، وفيهم مَنْ لا يصح منه الوضوء، فيلزم أن يَصح السجود ممن كان بوضوء، وممن لم يكن بوضوء. قلت: سجدة التلاوة عند المالكية يشترط لها ما يشترط للصلاة من طهارة، وستر عورة، واستقبال قبلة. وابن عمر مرّ في أول الإيمان قبل ذكر حديث منه. الحديث الخامس حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- سَجَدَ بِالنَّجْمِ وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنُّ وَالإِنْسُ. قوله: "سجد بالنجم" زاد الطبراني في "الأوسط" من هذا الوجه بمكة، فأفاد اتحاد قصة ابن عباس وابن مسعود. وهذا الحديث تقدمت مباحثه عند الحديث الأول واستدل به أبو حنيفة والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وابن وهب وابن حبيب المالكيان على أن سورة النجم فيها سجدة. وقال سعيد بن جبير وابن المسيب والحسن البصري وطاووس وعكرمة ومالك ليس في سورة النجم سجدة، واحتجوا بحديث زيد بن ثابت الآتي في الباب الثاني لهذا. وسيأتي ما أجابوا به عنه، واستُنبط منه أن رؤية الإنس للجن لا تنكر، وأنكرتها المعتزلة. واستدلوا بقوله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} مع قوله: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ}. وأجاب أهل السنة بأن هذا خُرِّج مخرج الغالب في عدم رُؤية الإنس الجن أو الشياطين. وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- الشيطان الذي أراد أن يقطع عليه صلاته، وأنه خنقه حتى وجد برد لسانه إلخ. ورؤية أبي هريرة له لمّا دخل ليسرق تمر الصدقة. وقد نص الله في كتابه على عمل العين لسليمان -عليه السلام- ومخاطبتهم له في قوله تعالى: {قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ}. فمثل هذا لا يُنكر مع تصريح القرآن به، وثبوته في الأحاديث الصحيحة. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ مسدد في السادس من الإيمان، ومرّ محل أيوب وعكرمة وابن عباس في الذي قبله بحديث، ومرّ عبد الوارث في السابع عشر من العلم، أخرجه البخاري أيضًا في التفسير ومسلم في الصلاة. ثم قال: ورواه إبراهيم بن طهمان عن أيوب، وهذه المتابعة أخرجها الإِسماعيلي من حديث حفص عنه بلفظ: أنه قال حين نزلت السورة التي يذكر فيها النجم سجد لها الإنس والجن، وقد مرّ إبراهيم في التاسع والعشرين من الغسل، ومرَّ محل أيوب في الحديث نفسه. ثم قال المصنف:

باب من قرأ السجدة ولم يسجد

باب مَنْ قرأ السجدة ولم يسجد الحديث السادس حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ أَبُو الرَّبِيعِ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ خُصَيْفَةَ عَنِ ابْنِ قُسَيْطٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ سَأَلَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رضي الله عنه فَزَعَمَ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَالنَّجْمِ فَلَمْ يَسْجُدْ فِيهَا. احتج بهذا الحديث جمهور المالكية، وأبو ثور، ومن مرّ عند الحديث السابق القائلون أن النجم لا سجود فيها، وجعلوه دالاً على نسخ السجود الواقع بمكة في والنجم؛ لأن هذا مدني. وحديث السجود مكي. وما مرَّ عند الترجمة من الأحاديث المذكور فيها السجود في سورة النجم لا يعارض هذا الحديث، لصحته عنها. وأجاب عنه القائلون بالسجود فيها: بأن ترك السجود فيها في هذه الحالة لا يدل على تركه مطلقًا؛ لاحتمال أن يكون السبب في الترك إذ ذاك إما لكونه كان بلا وضوء، أو لكون الوقت وقت كراهة، أو لكون القارىء كأن لم يسجد كما يأتي، أو ترك حينئذٍ لبيان الجواز. وهذا أرجح الاحتمالات، وبه جزم الشافعي؛ لأنه لو كان واجبًا لأمرة بالسجود ولو بعد ذلك. واتفق ابن أبي ذئب ويزيد بن خصيفة على هذا الإِسناد، على ابن قسيط، وخالفهما أبو صخرٍ فرواه عن ابن قسيط عن خارجة بن زيد عن أبيه. أخرجه أبو داود والطبراني، فإن كان محفوظًا حمل على أنَّ لابن قسيط فيه شيخين، وزاد أبو صخر في روايته، وصليت خلف عمر بن عبد العزيز، وأبي بكر بن حزم، فلم يسجدا فيها. وقوله: "أنه سأل زيد بن ثابت" حذف المسؤول عنه ظاهر السياق يوهم أن المسؤول عنه السجود في النجم، وليس كذلك. وقد بينه مسلم عن علي بن حجر وغيره عن إسماعيل بن جعفر بهذا الإِسناد فقال: سألت زيد بن ثابت عن القراءة مع الإِمام فقال: لا قراءة مع الِإمام في شيء، وزعم أنه قرأ النجم. الحديث. قال في "الفتح": فحذف المصنف الموقوف؛ لأنه ليس من غرضه في هذا المكان، ولأنه لا يخالف زيد بن ثابت في ترك القراءة خلف الإمام، وفاقًا لمن أوجبها من كبار الصحابة، تبعًا للحديث الصحيح الدال على ذلك. وفي هذا الكلام رد؛ لأن الظاهر أن المسؤول عنه السجود في النجم؛ لأن حسن تركيب الكلام أن يكون بعضه ملتئمًا بالبعض، ورواية البخاري هكذا تقتضي ذلك أو رواية عن قسيط عن عطاء بن يسار أنه أخبره أنه سأل زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه عن

القراءة مع الإِمام فقال: لا قراءة مع الإمام في شيء وزعم أنه قرأ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والنجم إذا هوى فلم يسجد ففي مسلم إجابة زيد بن ثابت عمّا سأله عنه عطاء بن يسار وأفاد بفائدة أخرى زائدة على ما سأله فرواية البخاري إما وقعت مختصرة أو كان سؤال عطاء ابتداء عن سجدة النجم فأجاب عن ذلك مقتصرًا عليه وكلا الوجهين جائزان وأما ما قاله من كونه حذف الموقوف لكونه ليس من غرضه في هذا المكان فبقيد لأنه ليس من عادة البخاري التصرف في متن الحديث بالزيادة والنقصان لأجل غرضه أو قوله، فزعم أراد أخبر، والزعم يطلق على المحقق قليلًا كهذا وعلى المشكوك كثيرًا، وقد تكرر ذلك، ومن شواهده قول الشاعر: على الله أرزاق العباد كما زعم ويحتمل أن يكون زعم في الشعر، بمعنى ضمن، ومنه الزعيم غارم أي: الضامن. قلت: هذا الحديث يمكن عندي أن يكون هو دليل المالكية في اشتراطهم كون المستمع لا بد أن يكون قاصدًا التعليم باستماعه من القارىء. أمّا القرآن وأحكامه من ادغام وإظهار ونحوهما من التجويد. والشعبي -عليه الصلاة والسلام- معلّم لزيد، وعندهم قولان في المعلم: هل يسجد أم لا؟ والمشهور عندهم أنه يسجد عند أول مرة، ويكون هذا الحديث هو منشأ الخلاف مع ما يعارضه من الأحاديث. ويشترط عند المالكية في سجود التلاوة أن يكون الساجد متلبسًا بشرط الصلاة، من طهارة، وستر عورة واستقبال. ويشترط في سجود السامع له أن يكون مستمعًا لا سامعًا من غير استماع، وأن يكون القارىء صالحًا للإِمامة في الجملة، بأن يكون ذَكرًا بالغًا محققًا عاقلًا، فلا يسجد مستمع قراءة أضدادهم، وأن لا يكون القارىء قرأ ليسمع الناس حسن قراءته، وإلا فلا يسجد المستمع له، لما دخل قراءته من الرياء، فلم يكن أهلا للإقتداء به. وقد مرَّ قريبًا أن المستمع لابد أن يكون قاصدًا التعليم، وإذا حصلت الشروط سجد المستمع، ولو ترك القارىء السجود على المشهور؛ لأن تركه لا يسقط مطلوبية الآخر به. وهذا في غير الصلاة، وأما فيها فيتجه على تركه بلا خلاف، وتبطل صلاته بفعلها دون إمامة دون العكس، وقولي سابقًا في الجملة: ليدخل ما إذا كان القارىء غير متوضىء فإن مستمعه يسجد على قول، وقيل لا يسجد وهو المعتمد وليدخل سجود مستمع غير عاجز من متوضىء، عاجز عن ركن، ومستمع مكروه الإِمامة، وكذا من فاسق بجارحة. على المعتمد. وشهر بعض المالكية أن القارىء أيضًا إذا كان قاصدًا إسماع حسن صوته للناس لا يسجد، كالمستمع. وتأتي زيادة من غير المالكية في باب مَنْ لم يجد موضعًا للسجود، واستدل بعض العلماء بهذا الحديث على أن المستمع لا يسجد إلاَّ إذا سجد القارىء لآية السجود. وهو قول عند المالكية، وبه قال أحمد وإليه ذهب القفال. وقال الشيخ أبو حامد: والبغداديون يسجد المستمع وإن لم يسجد القارىء. وهو ما مرّ عن المالكية، واستدل به البيهقي وغيره على أن السامع لا يسجد ما لم يكون مستمعًا قال: وأصح الوجهين واختاره إمام الحرمين. وهو قول المالكية كما مرَّ، والحنابلة. وقال الشافعي في مختصر

البويطي لا أؤكده عليه كما أؤكده على المستمع. وإن سجد فحسن. ومن تعليقات البخاري قال عثمان: إنما السجود على مَنْ استمع. ومذهب أبي حنيفة وجوبه على السامع والمستمع والقارىء، ولا يسقط عن أحدهما بترك الآخر، وروى ابن أبي شيبة في مصنفه عن ابن عمر أنه قال: السجدة على مَنْ سمعها، واحتج بهذا الحديث مَنْ قال بعدم وجوب السجدة، وهو الشافعي وأحمد وإسحاق وداود والأوزاعي والليث. فهي عند هؤلاء من السنن الموكدة. واستدلوا على تأكيدها بحديث ابن عمر عند أبي داود والحاكم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ علينا القرآن فإذا مرّ بالسجدة كبّر فسجد وسجدنا معه. وعند المالكية فيها خلاف هل هي سنة أو فضيلة؟ قولان مشهوران. واحتج القائلون بعدم الوجوب أيضًا بحديث عمر الآتي إن الله لم يفرض علينا السجود إلاّ أن نشاء، فهذا ينفي الوجوب. وقد قال عمر هذا القول والصحابة حاضرون والإجماع السكوتي حجة. وأجاب بعض الحنفية القائلين بوجوله على ما يأتي قريبًا عن قوله: لم يفرض علينا بأنّ نفي الفرض لا يستلزم نفي الوجوب على قاعدتهم في التفرقة بين الفرض والواجب. وتعقب بأنه اصطلاح لهم حادث، وما كان الصحابة يفرقون بينهما، ويغني عن هذا قول عمر: ومن لم يسجد فلا إثم عليه. واستدل بقوله: إلاّ أن نشاء، على أن المرء غير في السجود، فيكون ليس بواجب. وأجاب من أوجبه بأن المعنى إلا أنْ نشاء قراءتها، فيجب ولا يخفى بعده، ويرده تصريح عمر بقوله: ومن لم يسجد فلا إثم عليه، فإن انتفاء الإثم عمن ترك الفعل اختيارًا يدل على عدم وجوبه، واحتجوا أيضًا بحديث الأعرابي هل عليّ غيرها قال: "لا إلاَّ أن تطوع" أخرجه الشيخان. وبحديث سلمان رضي الله تعالى عنه أنه دخل المسجد وفيه قوم يقرؤون فقرؤوا السجدة فسجدوا فقال له صاحبه: يا أبا عبد الله لولا أتينا هؤلاء القوم، فقال: ما لهذا غدونا. رواه ابن أبي شيبة، ويأتي تعليقًا عند البخاري قريبًا. ومن الأدلة على عدم وجولها أيضًا، ما أشار إليه الطحاوي من أن الآيات التي في سجود التلاوة منها ما هو بصيغة الخبر، ومنها ما هو بصيغة الأمر. وقد وقع الخلاف في التي بصيغة الأمر هل فيها سجود أم لا؟ وهي ثانية الحج وخاتمة النجم واقرأ. فلو كان سجود التلاوة واجبًا لكان ما ورد بصيغة الأمر أولى أن يتفق على السجود فيه مما ورد بصيغة الخبر. وحمل هؤلاء الأمر في قوله: اسجدوا على الندب، وعلى أن المراد به سجود الصلاة أو في الصلاة المكتوبة على الوجوب وفي سجود التلاوة على الندب على قاعدة الشافعي ومَنْ وافقه في حمل المشترك على معنييه. وذهب أبو حنيفة إلى وجوبها على التالي والسامع سواءً قصد سماع القرآن أو لم يقصد، واستدل صاحب الهداية على الوجوب بقوله -عليه الصلاة والسلام-: "السجدة على مَنْ سمعها السجدة على مَنْ تلاها". ثم قال كلمة على للإيجاب. والحديث غير مقيد بالقصد، وهذا غريب لم يثبت، واستدلوا بالآيات: {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ}، {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ}. فقالوا الذم لا يتعلق إلا بترك واجب، والأمر في الآيتين للوجوب. وقد مرّ قريبًا الجواب عن هذا. وروى ابن أبي شيبة عن إبراهيم ونافع وسعيد بن

رجاله ستة

جبير أنهم قالوا: من سمع السجدة فعليه أن يسجد. وعن إبراهيم بسند صحيح: إذا سمع الرجل السجدة وهو يصلي فليسجد. وعن الشعبي: كان أصحاب عبد الله إذا سمعوا السجدة سجدوا، في الصلاة كانوا أو غيرها. وحدّث شعبة عن إبراهيم أنه كان يقول في الجنب إذا سمع السجدة يغتسل، ثم يقرؤها ويسجدها، فإن كان لا يحسنها قرأ غيرها، ثم سجد، إلى غير هذا من الآثار. رجاله ستة: قد مرّوا إلاَّ ابن قسيط، مرّ أبو الربيع سليمان وإسماعيل بن جعفر في السادس والعشرين من الإيمان، وعطاء بن يسار في الثاني والعشرين منه، ومرّ يزيد بن خصيفة في الثالث والسبعين من استقبال القبلة، ومرَّ زيد بن ثابت في تعليق بعد الثاني والعشرين من كتاب الصلاة، وابن قسيط هو يزيد بن عبد الله بن قسيط بن أسامة بن عمير الليثي أبو عبد الله المدني الأعرج، ذكره ابن حِبّان في الثقات. وقال النسائي: ثقة. وقال ابن معين: لا بأس به. وقال ابن عدي: مشهور عندهم وهو صالح الروايات. وقال ابن إسحاق: حدّثني يزيد بن قسيط، وكان فقيهًا ثقة، وكان ممن يستعان به في الأعمال لأمانته وفقهه، وقال ابن سعد: كان ثقة، كثير الحديث ربما أخطأ. وقال أبو حاتم: ليس بالقوي لأن مالكًا لم يرضه، وتعقب ابن عبد البر كلامه فقال: إن مالكًا قد احتج به في مواضع من الموطأ، وهو ثقة من الثقات. قال في "المقدمة": ليس له في البخاري إلاَّ حديثه عن عطاء بن يسار في ترك السجود في سورة النجم، وقد رواه أبو داود عن ابن قسيط عن خارجة، فيكون لابن قسيط فيه شيخان. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإخبار بالجمع والإفراد والعنعنة والسؤال. ورواته كلهم مدنيون، ما عدا شيخ البخاري فإنه بصري أخرجه البخاري في سجود القرآن أيضًا، ومسلم في الصلاة، وكذلك أبو داود والترمذي والنسائي. الحديث السابع حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَالنَّجْمِ فَلَمْ يَسْجُدْ فِيهَا. ومباحث هذا الحديث مرّت في الذي قبله. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ محل ابن يسار وزيد بن ثابت في الذي قبله، ومرّ فيه ابن قسيط، ومرّ آدم بن أبي إياس في الثالث من الإيمان، ومرّ ابن أبي ذيب في الستين من العلم. ثم قال المصنف:

باب سجدة {إذا السماء انشقت}

باب سجدة {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} الحديث الثامن حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ وَمُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ قَالاَ: أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَرَأَ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} فَسَجَدَ بِهَا فَقُلْتُ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، أَلَمْ أَرَكَ تَسْجُدُ؟ قَالَ: لَوْ لَمْ أَرَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَسْجُدُ لَمْ أَسْجُدْ. وقوله: "فسجد بها" الباء للظرفية، وفي رواية الكشميهني فيها. وقول أبي سلمة: "ألم أرك تسجد". قيل هو استفهام إنكار من أبي سلمة يشعر بأن العمل استمر على خلاف ذلك، ولذلك أنكره أبو رافع كما يأتي بعد ثلاثة أبواب، وهذا فيه نظر، وعلى التنزيل، فيمكن أن يتمسك به مَنْ لا يرى السجود بها في الصلاة، أمّا تركها مطلقًا فلا، ويدل على بطلان المدعى أن أبا سلمة وأبا رافع لم ينازعا أبا هريرة، بعد أن أعلمهما بالسنة في هذه المسألة، ولا احتجا عليه بالعمل، على خلاف ذلك. قال ابن عبد البر: وأي عمل يدعى مع مخالفة النبي -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء الراشدين بعده. رجاله ستة: قد مرّوا، مرَّ مسلم بن إبراهيم في السابع والثلاثين من الإيمان، وكذلك هشام، ومرّ أبو هريرة في الثاني منه، ومرّ معاذ بن فضالة في التاسع عشر من الوضوء ومرّ يحيى بن أبي كثير في الثالث والخمسين من العلم، وأبو سلمة في الرابع من بدء الوحي. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول والرؤية، والثلالة الأُول بصريون، والرابع يماني، والباقيان مدنيان. أخرجه مسلم وأصحاب السنن من طرق كثيرة. ثم قال المصنف:

باب من سجد لسجود القارىء

باب مَنْ سجد لسجود القارىء قال ابن بطال: أجمعوا على أنَّ القارىء إذا سجد لزم المستمع أن يسجد، لكن ذلك مشروط عند كثير من العلماء بقصد الاستماع كما مرّ. وفي الترجمة إشارة إلى أن القارىء إذا لم يسجد لم يسجد السامع، وقد مرَّ ما في هذا مستوفى. ثم قال: وقال ابن مسعود لتميم بن حذلم وهو غلام فقرأ عليه سجدة فقال: اسجد فإنك إمامنا فيها. قوله: "إمامنا" زاد الحموي فيها، ولفظ تميم بن حذلم قرأت القرآن على عبد الله وأنا غلام فمررت بسجدة فقال عبد الله: أنت إمامنا فيها. وقد رُوي مرفوعًا أخرجه ابن أبي شيبة عن زيد بن أسلم: أن غلامًا قرأ عند النبي -صلى الله عليه وسلم- السجدة فانتظر الغلام النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يسجد، فلما لم يسجد قال: يا رسول الله أليس في هذه السجدة سجود؟ قال: "بلى ولكنك كنت إمامنا فيها ولو سجدت لسجدنا". رجاله ثقات، إلاَّ أنه مرسل. وقد روي عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار قال: بلغني. فذكر نحوه أخرجه البيهقي عنه، وجوز الشافعي أن يكون القارىء المذكور هو زيد بن ثابت؛ لأنه يحكي أنه قرأ عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يسجد، ولأن عطاء بن يسار روى الحديثين المذكورين. قلت: هذه الأحاديث فيها دلالة لقول مَنْ قال إن السامع لا يسجد إلاَّ إذا سجد القارىء كما مرّ عند حديث زيد بن ثابت مستوفي. وهذا التعليق وصله سعيد بن منصور، وابن مسعود مرَّ في الأثر الأول من الإيمان. وتميم هو ابن حذلم الضبي أبو سلمة الكوفي من أصحاب ابن مسعود، وأدرك أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما. ذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال: قد قيل أن كنيته أبو حذلم، وقال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث. علق له البخاري هذا الأثر لا غير. روى عنه إبراهيم النخعي وسماك بن سلمة الضبي، وابنه أبو الخير وغيرهم. الحديث التاسع حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَقْرَأُ عَلَيْنَا السُّورَةَ فِيهَا السَّجْدَةُ، فَيَسْجُدُ وَنَسْجُدُ، حَتَّى مَا يَجِدُ أَحَدُنَا مَوْضِعَ جَبْهَتِهِ. قوله: "فيها السجدة" زاد علي بن مسهر في روايته ونحن معه، وقوله: "فيسجد ونسجد" زاد الكشميهني معه. وقوله: "موضع جبهته" أي: من الازدحام. كما بيَّن في الحديث الذي بعده،

رجاله خمسة

وزاد مسلم في رواية له: "في غير وقت صلاة"، ولم يذكر ابن عمر ما كانوا يصنعون حينئذ، ولذلك وقع فيه الاختلاف. فقد قال ابن بطال: لم أجد هذه المسألة إلاَّ في سجود الفريضة، واختلف السلف فيها فقال عمر يسجد على ظهر أخيه، وبه قال الكوفيون وأحمد وإسحاق، وقال عطاء والزهري: يؤخر حتى يرفعوا. وبه قال مالك والجمهور، وإذا كان هذا في سجود الفريضة فيجري مثله في سجود التلاوة. ووقع في الطبراني عن نافع في هذا الحديث أن ذلك كان بمكة لمّا قرأ النبي -صلى الله عليه وسلم- النجم، وزاد فيه: "حتى سجد الرجل على ظهر الرجل" والذي يظهر أن هذا الكلام وقع من ابن عمر على سبيل المبالغة في أنه لم يبق أحد إلا سجد، وسياق حديث الباب يشعر بأن ذلك وقع مرارًا، فيحتمل أن تكون رواية الطبراني بينت مبدأ ذلك، ويؤيد حديث المسور بن مخرمة المتقدم عند الحديث الأول من هذه الأبواب. وقد استدل به البخاري على السجود لسجود القارىء وعلى الازدحام على ذلك. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ مسدد ويحيى القطان في السادس من الإيمان، وابن عمر في أوله قبل ذكر حديث منه، وعبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم في أثر بعد الخامس من العلم، ومرّ نافع في الأخير منه. ثم قال المصنف:

باب ازدحام الناس إذا قرأ الإمام السجدة

باب ازدحام الناس إذا قرأ الإِمام السجدة أي: لضيق المكان وكثرة الساجدين. الحديث العاشر حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ آدَمَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَقْرَأُ السَّجْدَةَ وَنَحْنُ عِنْدَهُ فَيَسْجُدُ وَنَسْجُدُ مَعَهُ فَنَزْدَحِمُ حَتَّى مَا يَجِدُ أَحَدُنَا لِجَبْهَتِهِ مَوْضِعًا يَسْجُدُ عَلَيْهِ. قوله: "بشر بن آدم" هو الضرير. ويأتي تعريفه قريبًا في السند، ورجح ابن عدي أنه بشر بن آدم بن يزيد البصري، وهو ابن أخت أزهر السمان، وفي كل منهما مقال، وعلى كل تقدير فلم يخرج له إلاَّ في المتابعات، وسيأتي من طريق أخرى بعد بابين، ووافقه على هذه الرواية عن علي بن مسهر سويد بن سعيد. أخرجه الإسماعيلي وقد مرّت مباحث هذا الحديث في الذي قبله. رجاله خمسة: قد مرّوا إلاّ شيخ البخاري. مرَّ علي بن مسهر في الرابع والمائة من استقبال القبلة، ومرّ عبيد الله العمري في الرابع عشر من الوضوء، ومرّ نافع في الأخير من العلم، وابن عمر ذُكر في الذي قبله محله. وشيخ البخاري هو بشر بن آدم الضرير أبو عبد الله البغدادي، وهو الأكبر، بصري الأصل، ذكره ابن حِبّان في الثقات. وقال أبو حاتم: صدوق، وقال محمد بن سعد: سَمع سماعاً كثيرًا، ورأيت أصحاب الحديث يتقون كتابه، والكتابة عنه. وقال الدارقطني: ليس بالقوي، ولعله عني الأصغر. قال في المقدمة: روى عنه البخاري حديثًا واحدًا في سجود القرآن. وأخرجه من وجهين آخرين. وروى له ابن ماجه. روى عن علي بن مسهر وعيسى بن يونس وحمّاد بن زيد وغيرهم، وروى عنه البخاري، وروى له ابن ماجه بواسطة. وروى عنه إبراهيم الحربي والدوري وغيرهم، ولد سنة خمس وخمسين ومائة، ومات في ربيع الأول سنة ثمانية عشر ومائتين. وفي طبقة هذا بشر بن آدم بن يزيد الأصغر، لم يرو عنه البخاري. ثم قال المصنف:

باب من قال: أن الله عز وجل لم يوجب السجود

باب مَنْ قال: أن الله عَزَّ وَجَلَّ لم يوجب السجود الكلام على ما في هذا الباب قد مرّ في "باب مَنْ قرأ السجدة ولم يسجد" عند حديث زيد بن ثابت. ثم قال: وقيل لعمران بن حصين: الرجل يسمع السجدة، ولم يجلس لها قال: أرأيت لو قعد لها. كأنّه لا يوجبه عليه، ولفظ مطرت: سألت عمران بن حصين عن الرجل لا يدري أَسمع السجدة أو لا؟ فقال: وسمعها أو لا فماذا؟ وروى عبد الرزاق من وجه آخر عن مطرف أنَّ عمران مرّ بقاص فقرأ القاص السجدة، فمضى عمران ولم يسجد معه. إسنادهما صحيح. وقوله: "لو قعد لها" جواب لو محذوف يعني: لا يجب عليه شيء. وقوله: كأنه لا يوجبه عليه من كلام البخاري. أي: كان عمران لا يوجب السجود على الذي قعد لها للاستماع، فإذا لم يوجب على المستمع فعدمه على السامع بالطريق الأولى. وهذا التعليق وصله ابن أبي شيبة من طريق مطرف، مرّ عمران بن حصين في الحادي عشر من التيمم. ثم قال: وقال سلمان: ما لهذا غدونا أي: ما غدونا لأجل السماع. فكأنه أراد بيان أنا لم نسجد لأنا ما كنا قاصدين السماع. وهذا طرف من أثر، وصله عبد الرزاق من طريق أبي عبد الرحمن السُّلمي قال: مرّ سلمان على قوم قعود فقرأوا السجدة، فسجدوا. فقيل له، فقال: ليس لهذا غدونا. وإسناده صحيح. وسلمان مرّ في الحادي والثلاثين من الجمعة. ثم قال: وقال عثمان -رضي الله عنه-: إنما السجدة على مَنْ استمعها. قوله على مَنْ استمعها يعني: لا على السامع. والفرق بينهما أن المستمع مَنْ كان قاصدًا للسماع مصغيًا إليه. والسماع مَنْ اتفق سماعه من غير القصد إليه. وهذا وصله عبد الرزاق عن معمر وابن أبي شيبة، وسعيد بن منصور من طريق قتادة بلفظ: إنما السجدة على مَنْ جلس لها واستمع. ولفظ رواية معمر أن عثمان مرَّ بقاص فقرأ سجدة ليسجد معه عثمان. فقال عثمان: إنما السجود على مَنْ استمع، فمضى عثمان ولم يسجد. وعثمان مرَّ في تعليق بعد الخامس من العلم. ثم قال: وقال الزهري: لا يسجد إلاَّ أن يكون طاهرًا، فإذا سجدت وأنت في حضر فاستقبل القبلة، فإن كنت راكبًا فلا عليك حيث كان وجهك. وقوله: "إلاَّ أن يكون طاهرًا" يدل على أن الطهارة شرط لأداء سجدة التلاوة. وفيه خلاف ابن عمر والشعبي. كما مرَّ عند حديث زيد بن ثابت. قيل ليس بدال على عدم الوجوب؛ لأن المدعي يقول علق فعل السجود من القارىء والسامع على شرط، وهو وجود الطهارة، فحيث وجد الشرط لزم، لكن موضع الترجمة من هذا الأثر قوله: فإن كنت راكبًا فلا عليك حيث كان وجهك. لأن هذا

الحديث الحادي عشر

دليل النفل، والواجب لا يؤدي على الدابة في الأمن. قال الكرماني: قوله: راكبًا أي: في السفر بقرينة كونه قسيمًا لقوله في حضر، والركوب كناية عن السفر؛ لأن السفر مستلزم له. وهذا وصله عبد الله بن وهب عن يونس عنه. والزهري مرَّ في الثالث من بدء الوحي. ثم قال: وكان السائب بن يزيد لا يسجد لسجود القَاصّ، والقاص بالقاف وتشديد الصاد المهملة، الذي يقصّ على الناس الأخبار والمواعظ. ومناسبة هذه الآثار للترجمة ظاهرة لأن الذين يزعمون أن سجود التلاوة واجب لم يفرقوا بين قارىء ومستمع، وهذا الأثر قال في "الفتح": إنه لم يقف عليه موصولًا، والسائب مرّ في الخامس والخمسين من الوضوء. الحديث الحادي عشر حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى قَالَ: أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ التَّيْمِيِّ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهُدَيْرِ التَّيْمِيِّ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَكَانَ رَبِيعَةُ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ عَمَّا حَضَرَ رَبِيعَةُ مِنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَرَأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ بِسُورَةِ النَّحْلِ حَتَّى إِذَا جَاءَ السَّجْدَةَ نَزَلَ فَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ، حَتَّى إِذَا كَانَتِ الْجُمُعَةُ الْقَابِلَةُ قَرَأَ بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءَ السَّجْدَةَ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا نَمُرُّ بِالسُّجُودِ فَمَنْ سَجَدَ فَقَدْ أَصَابَ، وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ. وَلَمْ يَسْجُدْ عُمَرُ رضي الله عنه. وَزَادَ نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَفْرِضِ السُّجُودَ إِلاَّ أَنْ نَشَاءَ. قوله: "عمّا حضر ربيعة من عمر" متعلق بقوله: أخبرني أي: أخبرني راويًا عن عثمان بن عبد الرحمن عن قصة حضوره مجلس عمر وعند الإسماعيلي. عن ابن جريج أخبرني أبو بكر بن أبي مليكة أن عثمان بن عبد الرحمن التيمي أخبره عن ربيعة بن عبد الله أنه حضر عمر فذكره وكذا. أخرجه عبد الرزاق عن ابن جريج. وقوله: "إنا نمر بالسجود" في رواية الكشميهني إنما. وقوله: "ومن لم يسجد فلا إثم عليه" ظاهر في عدم الوجوب. وقوله: "ولم يسجد عمر" فيه تأكيد لبيان جواز ترك السجود بغير ضرورة. وقوله: "وزاد نافع" هو مقول ابن جريج، وهو متصل بالإسناد. وقد بيَّن ذلك عبد الرزاق في مصنفه عن ابن جريج أخبرني أبو بكر بن أبي مليكة، فذكره. وقال في آخره قال ابن جريج: وزادني نافع عن ابن عمر أنه قال: لم يفرض علينا السجود إلاَّ أن نشاء. وكذلك رواه الإسماعيلي والبيهقي عن حجاج بن محمد عن ابن جريج، فذكر الإِسناد الأول قال: وقال حجّاج قال ابن جريج: وزاد نافع فذكره. وفي هذا ردٌ على الحميدي في زعمه أن هذا معلق، وكذا علم عليه المزي علامة التعليق، وهو وهم. وقد مرّت مباحثه عند حديث زيد بن ثابت.

رجاله تسعة

رجاله تسعة: قد مرّوا إلاَّ ربيعة، مرّت الثلاثة الأول بهذا النسق في الثالث من الحيض، ومرَّ ابن أبي مليكة في باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله بعد الأربعين من الإيمان، ومرّ عثمان بن عبد الرحمن في الخامس والعشرين من الجمعة، ومرَّ عمر في الأول من بدء الوحي، ومرّ نافع في الأخير من العلم، وابن عمر في أول الإيمان قبل ذكر حديث منه، وربيعة هو ابن عبد الله بن الهُدير بضم الهاء مصغرًا، ويقال ربيعة بن الهدير بن عبد العزى بن عامر بن الحارث بن حارثة بن سعد بن تيم بن مرة التيمي المدني، ذكره ابن حِبّان في الثقات وقال ابن سعد: ولد على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان ثقة قليل الحديث. وقال العجلي: مدني تابعي ثقة من كبار التابعين. وقال الدارقطني: تابعي كبير قليل المسند. وقال ابن أبي مليكة: كان من خيار الناس. روى عن عمر بن الخطاب وطلحة وأبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنهم، وروى عنه ابنا أخيه محمد وأبو بكر ابنا المنكدر وابن أبي مليكة وغيرهم. مات سنة ثلاث وتسعين. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإخبار بالجمع والإفراد والعنعنة، والقول، واثنان من الرواة ليس لهما في البخاري إلاَّ هذا الحديث ابن أبي مليكة وربيعة، وفيه ثلاثة من التابعين. وهذا الحديث من إفراد البخاري. ثم قال المصنف:

باب من قرأ السجدة في الصلاة فسجد بها

باب مَنْ قرأ السجدة في الصلاة فسجد بها أشار بهذه الترجمة إلى مَنْ كره السجدة في الصلاة المفروضة، وهو منقول عن مالك وعنه كراهته في السرية دون الجهرية. وهو قول بعض الحنفية أيضًا وغيرهم. وقد مرّ الكلام على هذا مستوفى عند حديث أبي هريرة في باب ما يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة من كتاب الجمعة. الحديث الثاني عشر حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي بَكْرٌ عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْعَتَمَةَ فَقَرَأَ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} فَسَجَدَ فَقُلْتُ: مَا هَذِهِ؟ قَالَ: سَجَدْتُ بِهَا خَلْفَ أَبِي الْقَاسِمِ -صلى الله عليه وسلم- فَلاَ أَزَالُ أَسْجُدُ فِيهَا حَتَّى أَلْقَاهُ. وهذا الحديث مرّت مباحثه مستوفاة في باب الجهر في العشاء من صفة الصلاة، حيث ذكر هناك. رجاله ستة: قد مرّوا، وفيه لفظ أبي القاسم، مرَّ مسدد في السادس من الإيمان، ومرّ معتمر وأبوه سليمان في التاسع والستين من العلم، ومرَّ بكر وأبو رافع في الثالث والثلاثين من الغسل، ومرّ أبو هريرة في الثاني من الإيمان، وأبو القاسم كنيته -صلى الله عليه وسلم- كني بابنه القاسم. وهو بكرُه وأول مولود ولد له، فلذلك كان يُكنى به، ولد قبل البعثة ومات صغيرًا وقيل بعد أن بلغ سن التمييز. وقال الزبير بن بكار: عاش حتى مشى، وقال ابن سعد: مات وله سنتان، وقال مجاهد: عاش سبعة أيام. وقال الفضل العلافي: عاش سبعة عشر شهرًا بعد البعثة. وأخرج يونس بن بكير عن محمد بن الحسين قال: كان القاسم قد بلغ أن يركب الدابة ويسير على النجيبة، فلما قبض. قال العاص بن وائل: لقد أصبح محمد أبتر. فنزلت: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} عِوضًا عن مصيبتك يا محمد بالقاسم. وهذا يدل على إنه مات بعد البعثة. وأخرج ابن ماجه والحربي والطيالسي عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها قال: لما مات القاسم قالت خديجة: يا رسول الله درت لبينة القاسم، فلو كان الله أبقاه حتى يتم رضاعه. قال: "كان تمام رضاعه في الجنة". وفي ابن ماجه بعد قوله: لم يستكمل رضاعه. فقالت: لو أعلم ذلك يا رسول الله لهون علي أمره. قال: "إنْ شئتِ دعوتُ الله فأسمعكِ صوته". قالت: بل صدق الله ورسوله. وهذا ظاهر جدًا في أنه مات في الإِسلام، فما رواه البخاري في

لطائف إسناده

"التاريخ الأوسط" عن هشام بن عروة من أنه مات قبل الإِسلام مخالف لهذا، ولأثر فاطمة بنت الحسين السابق. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإفراد والعنعنة والقول، ورواته كلهم بصريون، وفيه رواية الابن عن أبيه. أخرجه البخاري في الصلاة أيضًا، ومسلم في الصلاة، وكذا أبو داود والنسائي. ثم قال المصنف:

باب من لم يجد موضعا للسجود مع الإمام من الزحام

باب مَنْ لم يجد موضعًا للسجود مع الإِمام من الزحام أي: ماذا يفعل؟ وظاهر صنيع البخاري أنه يذهب إلى أنه يسجد بقدر استطاعته، ولو علي ظهر أخيه. وقد مرّ الحكم فيه في باب "مَنْ سجد لسجود القارىء" عند حديث ابن عمر. وقد مرّ عند حديث زيد بن ثابت أن شرط السجود عند المالكية أن يكون القارىء صالحًا للإمامة. وعند الحنفية لا فرق بين أن يسمعها ممن هو أهل للإمامة أو لا. كما لو سمعها من امرأة أو صبي أو كافرًا وخنثى مشكل، أو محدث. وعند الشافعية كذلك، على ما ذكره النووي في "الروضة". وقال: هو الأصح. وعبارة الرافعي عند قول الغزالي في "الوجيز" ظاهر اللفظ يشمل قراءة المحدث والصبي والكافر، ويقتضي شرعية السجود للمستمع إلى قراءته. وحكى الرافعي عن صاحب البيان: إنه لا يسجد المستمع لقراءة المحدث، وحكى عن الطبري: إنه لا يسجد لقراءة الكافر والصبي، وحكى ابن قدامة في "المغني" عن الشافعي وأحمد وإسحاق: إنه لا يسجد لقراءة المرأة والخنثى المشكل. ورواية واحدة عن أحمد، وحكى عنه وجهين، فيما إذا كان صبيًا. وقال النووي أيضًا: إذا سمع آية السجدة من امرأة تلاها السامع، وسجدها وتكره مجاوزتها لمتطهر وقت جواز وإنْ كان محدثًا، أو الوقت وقت نهي جاوزها، وهل يجاوز محلها؟ كلفظ وأناب، أو يجاوز الآية قولان، هذا عند المالكية. الحديث الثالث عشر حَدَّثَنَا صَدَقَةُ قَالَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَقْرَأُ السُّورَةَ الَّتِى فِيهَا السَّجْدَةُ فَيَسْجُدُ وَنَسْجُدُ حَتَّى مَا يَجِدُ أَحَدُنَا مَكَانًا لِمَوْضِعِ جَبْهَتِهِ. هذا الحديث قد مرَّ في باب مَنْ سجد لسجود القارىء من وجه آخر. ومرّ الكلام عليه هناك. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ صدقة بن الفضل في السادس والخمسين من العلم، ومرّ نافع في الأخير منه، ومرّ يحيى بن سعيد القطان في السادس من الإيمان، ومرّ ابن عمر في أوله قبل ذكر حديث منه، ومرّ عبيد الله العمري في الرابع عشر من الوضوء.

خاتمة

خاتمة اشتملت أبواب سجود القرآن على خمسة عشر حديثًا: اثنان منها معلقان، المكرر منها فيها، وفيما مضى تسعة، والخالص ستة، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديثي ابن عباس في ص والنجم وحديث ابن عمر في التخيير في السجود، وفيه من الآثار عن الصحابة وغيرهم، تسعة آثار والله أعلم بالصواب. ثم قال المصنف:

أبواب التقصير

أبواب التقصير ثبتت هذه الترجمة للمستملي. وفي رواية أبي الوقت أبواب تقصير الصلاة. وثبتت البسملة في رواية كريمة والأصيلي. ثم قال: باب ما جاء في التقصير وكم يقيم حتى يقصر؟ تقول: قَصَرت الصلاة، بفتحتين مخففًا قصرًا، وقصّرتها بالتشديد تقصيرًا، وقصرتها إقصارًا. والأول أشهر في الاستعمال، والمراد به تخفيف الرباعية إلى ركعتين. ونقل ابن المنذر وغيره الإجماع على أن لا تقصير في صلاة الصبح، ولا في صلاة المغرب. قلت: مذهب مالك أن قصر الرباعية في السفر المباح واجبًا كان أو جائزًا سنة مؤكدة. وسفر المعصية أي: الذي هو بعينه معصية كالآبق وقاطع الطريق يحرم فيه القصر، وفي وجوب الإعادة وعدمه قولان: اختلف الترجيح فيهما، وأما اللاهي بسفره فقصره مكروه؛ لكراهية سفره. وفي ندب إعادته قولان، ويأتي القدر الذي تقصر فيه الصلاة قريبًا إن شاء الله تعالى. وقال النووي: ذهب الجمهور إلى إنه يجوز القصر في كل سفر مباح، وهذا هو مذهب الشافعي وأحمد، إلاَّ أن أحمد قال: إن الأفضل القصر. وأوجبه أبو حنيفة والثوري في كل سفر طاعة كان أو معصية. وقد مرّ في أول صلاة الخوف ما استدل به الفريقان. واستدلت المالكية على سنيته بمداومته -صلى الله عليه وسلم- وإظهاره في جماعة، وهذا هو حقيقة السنة. وذهب بعض السلف إلى إنه يشترط في القصر الخوف في السفر، وبعضهم كونه سفر حج أو عمرة أو جهاد، وبعضهم كونه سفر طاعة. وقوله: وكم يقيم حتى يقصر في هذه الترجمة إشكال؛ لأن الإقامة ليست للقصر، ولا القصر غاية للإقامة. وأجاب الكرماني بأن عدد الأيام المذكورة سبب لمعرفة جواز القصر فيها، ومنع الزيادة. وأجاب غيره بأن المعنى: وكم إقامته المغياة بالقصر. وحاصله كم يقيم مقصرًا. وقيل: المعنى كم يقصر حتى يقيم؟ أي: حتى يسمّى مقيمًا، فانقلب اللفظ أو حتى هنا بمعنى حين أي: كم يقيم حين يقصر؟ وقيل: فاعل يقيم هو المسافر، والمراد إقامته في بلد ما غايتها التي إذا حصلت يقصر، وقرر العيني اللفظ فقال: وكم يومًا يمكث المسافر لأجل القصر؟ فكم هنا استفهامية بمعنى أي عدد، ولا يكون تمييزه إلا مفردًا خلافًا للكوفيين، ويكون منصوبًا، ولفظه: حتى هنا للتعليل لأنها تأتي في كلام العرب لأحد ثلاثة معان: انتهاء الغاية، وهو الغالب. والتعليل وبمعنى إلاّ في الاستثناء. وهذا أقلها. ولفظة: يقيم معناها يمكث، وجواب كم محذوف تقديره تسعة عشر يومًا،

الحديث الأول

كما في حديث الباب، وفي "شرح المسند" لابن الأثير: كان قصر الصلاة في السنة الرابعة من الهجرة، وفي تفسير الثعلبي قال ابن عباس: أول صلاة قصرت صلاة العصر قصرها النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزوة أنمار. الحديث الأول حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ عَاصِمٍ وَحُصَيْنٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: أَقَامَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- تِسْعَةَ عَشَرَ يَقْصُرُ، فَنَحْنُ إِذَا سَافَرْنَا تِسْعَةَ عَشَرَ قَصَرْنَا، وَإِنْ زِدْنَا أَتْمَمْنَا. قوله: "تسعة عشر" أي: يومًا بليلة. زاد في المغازي عن عاصم وحده بمكة. وقوله: "يقصر" أي: الصلاة الرباعية؛ لأنه كان مترددًا متى تهيأ له فراغ حاجته، وهو انجلاء حرب هوازن ارتحل. ويقصُر بضم الصاد، وضبطها المنذري بضم الياء وتشديد الصاد من التقضير. وقد أخرج أبو داود من هذا الوجه الحديث بلفظ: سبعة عشر. بتقديم السين على الموحدة. وله أيضًا من حديث عمران بن حصين غزوت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام الفتح فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلاَّ ركعتين. وجمع البيهقي بين هذا الاختلاف بأن مَنْ قال تسع عشرة عدا يومي الدخول والخروج. ومَنْ قال: سبع عشرة حذفهما. ومَنْ قال: ثماني عشرة حذف أحدهما. وأما رواية ابن إسحاق عن عبيد الله عن ابن عباس أقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمكة عام الفتح خمسة عشر يومًا يقصر الصلاة. أخرجها أبو داود. فقد ضعفها النووي في "الخلاصة" وليس بجيد؛ لأن رواتها ثقات، ولم ينفرد بها ابن إسحاق، فقد أخرجها النسائي عن عراك بن مالك عن عبيد الله كذلك، وإذا ثبت أنها صحيحة، فليحمل على أن الراوي ظن أن الأصل رواية سبع عشرة، فحذف منها يومي الدخول والخروج، فذكر أنها خمس عشرة، واقتضى ذلك أن رواية تسع عشرة أرجح الروايات. وبهذا أخذ إسحاق بن راهويه ويرجحها أنها أكثر ما وردت به الروايات الصحيحة. وقوله: "ونحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا وإن زدنا أتممنا" ظاهره أن السفر إذا زاد على تسعة عشر لزم الإتمام، وليس ذلك بمراد. وقد صرّح أبو يعلى بالمراد في هذا الحديث ولفظه: إذا سافرنا فأقمنا في موضع تسعة عشر. ويؤيده صدر الحديث وهو قوله: أقام. وللترمذي من وجه آخر عن عاصم: فإذا أقمنا أكثر من ذلك صلّينا أربعًا. وأخذ الثوري وأهل الكوفة، ومنهم أبو حنيفة برواية: خمس عشرة؛ لكونها أقل ما ورد، فيحمل ما زاد على أنه وقع اتفاقًا، وأخذ الشافعي بحديث عمران بن حصين المار ثماني عشرة، لكن محله عنده فيمن لم يزمع الإقامة، فإنه إذا مضت عليه المدة المذكورة وجب عليه الإتمام، فإنْ أزمع الإقامة في أول الحال

رجاله ستة

على أربعة أيام أتم. على خلاف بين أصحابه في دخول يومي الدخول والخروج فيها، وعند مالك وأحمد ما دام لم ينو إقامة أربعة أيام صحاح بلا يوم الدخول ولا يوم الخروج يقصر، ولو جلس سنين. وفيما يقطع السفر ويوجب الإتمام أقوال كثيرة غير ما ذكر. فقد نقل ابن حزم عن سعيد بن جبير أنه قال إذا وضعت رجلك بأرضٍ فاتم. وهو في "المصنف" عن عائشة وطاووس بسند صحيح، وعن ابن عباس بسند صحيح مثله. وقيل: إقامة يوم وليلة. حكاه ابن عبد البر عن ربيعة، وقيل: ثلاثة أيام. قاله ابن المسيب وقيل: إذا أقام أكثر من أربعة أيام، إلى غير هذا من الأقوال. رجاله ستة: قد مرّوا، مرّ موسى بن إسماعيل وأبو عوانة في الخامس من بدء الوحي، ومرَّ عاصم الأحول في الخامس والثلاثين من الوضوء ومرّ حصين بن عبد الرحمن في الثالث والسبعين من مواقيت الصلاة، ومرّ عكرمة في السابع عشر من العلم، ومرَّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، ورواته ما بين بصري وواسطي وكوفي ومدني، وفيه ثلاثة من التابعين، أخرجه البخاري أيضًا في المغازي وأبو داود في الصلاة، وكذلك الترمذي وابن ماجه. الحديث الثاني حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ، فَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ حَتَّى رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ. قُلْتُ: أَقَمْتُمْ بِمَكَّةَ شَيْئًا؟ قَالَ: أَقَمْنَا بِهَا عَشْرًا. قوله: "من المدينة" في رواية شعبة عن يحيى بن أبي إسحاق عند مسلم إلى الحج. وقوله: "فكان يصلي ركعتين ركعتين" في رواية البيهقي عن يحيى بن أبي إسحاق عن أنس إلاَّ في المغرب. وقوله: "أقمنا بها عشرًا" أي: عشرة أيام، وإنما حذفت التاء من العشر، مع أن اليوم مذكّر، لأن المميز إذا لم يكن مذكورًا يجوز في العدد التذكير والتأنيث. ولا يعارض هذا الحديث حديث ابن عباس المذكور؛ لأن حديث ابن عباس كان بفتح مكة، وحديث أنس في حجة الوداع، قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه لصبح رابعة. الحديث، ومعلوم أنه خرج من مكة صبح الرابع عشر، فتكون مدة الإقامة بمكة وضواحيها عشرة أيام بلياليها. كما قال أنس: وتكون مدة إقامته أربعة أيام سَواء؛ لأنه خرج منها في اليوم الثامن، فصلّى الظهر بمِنًى.

رجاله أربعة

وأما قول ابن رشيد: أراد البخاري أن يبين أن حديث أنس داخل في حديث ابن عباس؛ لأن إقامة عشرة داخلة في إقامة تسع عشرة، فأشار بذلك إلى أن الأخذ بالزائد متعين، ففيه نظر؛ لأنه ذلك إنما يجيء على اتحاد القصتين، والحق أنهما مختلفتان كما مرَّ، فالمدة التي في حديث ابن عباس يسوغ الاستدلال بها على مَنْ لم ينو الإِقامة، بل كان مترددًا حتى يتهيأ له فراغ حاجته يرحل. ووجه الدلالة منه هو أنه لما كان الأصل في المقيم الإِتمام، فلما لم يجيء منه -صلى الله عليه وسلم- أنه أقام في حال السفر أكثر من تلك المدة، جعلها غاية للقصر. والمدة التي في حديث أنس يستدل بها على مَنْ نوى الإقامة؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- في أيام الحج كان جازمًا بالإقامة تلك المدة. قلت: لم أفهم وجه الاستدلال به لمن نوى الإقامة. وقد قال في "الفتح" إن حجة الشافعي على إن مَنْ نوى إقامة أربعة أيام، يتم حديث أنس هذا. وحديث أنس ليس فيه إتمام، وإنما فيه أنه كان يقصر حتى رجع إلى المدينة، فأي دليل فيه. وقد قال أحمد بن حنبل ليس لحديث أنس وجه، إلاَّ إنه حسب أيام إقامته -صلى الله عليه وسلم- في حجته منذ دخل مكة إلى أن خرج منها، لا وجه له، إلاَّ هذا. وقال المحب الطبري: أطلق على ذلك إقامة بمكة، لأن هذه المواضع مواضع النسك، وهي في حكم التابع لمكة؛ لأنها المقصودة بالأصالة لا يتجه سوى ذلك، كما قال أحمد. وفي الحديث الإقامة في أثناء السفر تسمّى إقامة، وإطلاق اسم البلد على ما جاورها وقرب منها؛ لأن مِنًى وعرفة ليسا من مكة، أما عرفة فَلأَنها خارج الحرم، فليست من مكة قطعًا وأمّا مِنًى ففيها احتمال، والظاهر أنها ليست من مكة إلاّ إن قلنا أن اسم مكة يشمل جميع الحرم وقد زعم الطحاوي فيما مرّ عن الشافعي من أنَّ مَنْ نوى إقامة أربعة أيامٍ يتم إنه لم يسبق إلى ذلك، مع انه هو مذهب مالك وأحمد كما مرَّ، فهذا عجيب منه. وقال العيني: وعند أصحابنا إنْ نوى أقل من خمسة عشر يومًا قصر صلاته؛ لأن المدة خمسة عشر يومًا كمدة الطهر، كما روى ابن أبي شيبة في مصنفه أن ابن عمر كان إذا أجمع على إقامة خمسة عشر يومًا أتم الصلاة، وقد قالوا: إنما يصير مقيمًا بنيّة الإقامة إذا سار ثلاثة أيام، فأما إذا لم يسر ثلاثة أيامٍ فعزم على الرجوع، أو نوى الإِقامة يصير مقيمًا، وإن كان في المفازة، كما قال فخر الإِسلام، وفي "المجتبى" لا يبطل السفر إلا بنّية الإقامة، أو دخول الوطن أو الرجوع إليه قبل الثلاث. ونية الإِقامة إنما تؤثر بخمس شرائط أحدها: ترك السّير حتى لو نوى الإقامة وهو يسير لم يصح. وثانيها: صلاحية الموضع حتى لو نوى الإقامة في برٍ أو بحرٍ أو جزيرة لم يصح، وإتحاد الموضع والمدة والاستقلال بالرأي، حتى لو نوى مَنْ كان تبعًا لغيره، كالجندي، والزوجة والرقيق والأجير، والتلميذ مع استاذه، والغريم المفلس مع صاحب الدَّين، لا تصح نيته إلا إذا نوى متبوعه ولو نوى المتبوع الإقامة ولم يعلم بها التابع فهو مسافر كالوكيل إذا عزل، وهو الأصح. وعند بعض أصحابنا يصيرون مقيمين، ويعيدون ما ادّوا في مدة علم العلم. رجاله أربعة: قد مرّوا إلاَّ يحيى، مرّ أبو معمر وعبد الوارث في السابع عشر من العلم، ومرّ أنس في السادس

لطائف إسناده

من الإيمان. والرابع: يحيى بن أبي إسحاق الحضرمي مولاهم البصري النحوي. قال ابن سعد: كان ثقة، وله أحاديث، وكان صاحب قرآن وعلم بالعربية والنحو، وقال النسائي: ثقة. وذكره ابن حِبّان في الثقات. وقال أحمد: في حديثه نكارة، وعبد العزيز بن صهيب أوثق منه. وقال ابن معين: في حديثه بعض الضعف، قال في المقدمة: له في البخاري حديثه عن أنس في قصر الصلاة في السفر، وحديثه عنه في قصة صفية، وحديثه عن سالم بن عبد الله عن أبيه في لبس الاستبرق، وحديثه عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه في الربا. وقد توبع عليها عنده سوى حديث أبي بكرة فله عنده شاهد واحتج به الباقون. روى عن أنس بن مالك وسالم بن عبد الله وسلمان الأغر وغيرهم، وروى عنه محمد بن سيرين، وهو أكبر منه ويحيى بن أبي كثير ومات قبله والثوري وشعبة غيرهم. مات سنة ست وثلاثين ومائة. والحضرمي في نسبه نسبة إلى حضرموت ابن سبأ الأصغر، وإليه نسبت حضرموت المدينة التي بأقصى اليمن، ويقال للعرب الذين يسكنون حضرموت من أهل اليمن الحضارمة، هكذا ينسبون كما يقولون: المهالبة والصقالبة، والحضارمة كثيرون بمصر والكوفة والبصرة والشام. وقد عد في القاموس وشرحه عددًا كثيراً من أهل كل بلد. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع لا غير، ورواته كلهم بصريون، وهو من رباعيات البخاري. أخرجه البخاري أيضًا في "المغازي"، ومسلم في الصلاة، وكذا أبو داود والترمذي وابن ماجه، وأخرجه النسائي فيها وفي الحج. ثم قال المصنف:

باب الصلاة بمنى

باب الصلاة بمِنى أي: في أيام الرمي، ولم يذكر المصنف حكم المسألة، لقوة الخلاف فيها، وخصّ منىً بالذكر؛ لأنها المحل الذي وقع فيه ذلك قديمًا. ومنىً يُذكر ويؤنث بحسب قصد الموضع والبقعة قيل: فإذا ذُكِّر صُرف وكُتب بالألف، وإذا أُنِّث لم يصرف وكتب بالياء. وذكر الكلبي: إنما سميت مني؛ لأنها مُنِيَ بها الكبش الذي فدى به إسماعيل -عليه الصلاة والسلام- من المنية ويقال: إن جبريل -عليه الصلاة والسلام- لما أتى آدم بمنى قال له: تمن. وهو جبل بمكة معروف. وقال الفارسي: لامه ياء من منيت الشيء إذا قدرته، وقال الفراء: الأغلب عليه التذكير. وقال الحازمي إن مني صقع قرب مكة وهو أيضًا هضبة قرب قرية من ديار غنى بن أعصر. وقد امتنى القوم إذا أتوا مني، واختلف السلف في المقيم بمنى هل يقصر أو يتم؟ بناء على أن القصر بها للسفر، أو للنسك، واختار الثاني مالك، وتعقبه الطحاوي بأنه لو كان كذلك، لكان أهل مني يقصرون، ولا قائل به. وقال بعض المالكية: لو لم يجز لأهل مكة القصر بمنى لقال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أتموا. وليس بين مكة ومنى مسافة القصر، فدل على إنهم قصروا للنسك. وأجيب بأن الترمذي روى عن عمران بن حصين أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي بمكة ركعتين ويقول: "يا أهلَ مكة أتموا فإنّا قوم سفر"، وكأنه ترك إعلامهم بذلك بمنى؛ استغناء بما تقدم بمكة. وهذا الحديث ضعيف؛ لأنه من رواية علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف، ولو صح فالقصة كانت في "الفتح" وقصة مني في حِجة الوداع. وكان لابد من بيان ذلك، لبعد العهد، ولا يخفى أن أصل البحث مبني على تسليم أن المسافة التي بين مكة ومنى لا يقصر فيها، وهو من محال الخلاف كما سيأتي بعد قريبًا. وقال ابن بطال: اتفق العلماء على أن الحاج القادم مكة يقصر الصلاة بها وبمنى وسائر المشاهد؛ لأنه عندهم في سفر لأن مكة ليست دار إقامة إلاَّ لأهلها أو لمن أراد الإقامة بها، وكان المهاجرون قد فرض عليهم ترك المقام بها، فلذلك لم ينو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بها ولا بمنىً. قال: واختلف العلماء في صلاة المكي بمنى فقال مالك: يتم بمكة ويقصر بمنى. وكذلك أهل مني يتمون بمنى ويقصرون بمكة وعرفات. قال: وهذه المواضع مخصوصة بذلك؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما قصر بعرفة لم يميَز من وراءه ولا قال لأهل مكة: "أتِمّوا"، وهذا موضع بيان. وممن قال إن المكي يقصر بمنى ابن عمر وسالم والقاسم وطاووس. وبه قال الأوزاعي وإسحاق وقالوا: إن القصر سنة الموضع، وإنما يتم بمنى وعرفات مَنْ كان مقيمًا بها. وقال أكثر أهل العلم،

الحديث الثالث

ومنهم عطاء والثوري والزهري والكوفيون وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأحمد وأبو ثور: لا يقصر الصلاة أهل مكة بمنى وعرفات؛ لانتفاء مسافة القصر. وقال الطحاوي ليس الحج موجبًا للقصر؛ لأن أهل مني وعرفات إذا كانوا حجاجًا أتموا، وليس هو متعلقًا بالموضع وإنما هو متعلق بالسفر، وأهل مكة مقيمون لا يقصرون، ولمّا كان المقيم لا يقصر لو خرج إلى مني كذلك الحاج. الحديث الثالث حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَأَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَمَعَ عُثْمَانَ صَدْرًا مِنْ إِمَارَتِهِ ثُمَّ أَتَمَّهَا. مطابقته للترجمة من حيث أنه يبين الإطلاق الذي فيها، فإن الإطلاق فيها يتناول الصلاة ركعتين، ويتناولها أربعًا، فصارت المطابقة من جهة التفصيل بعد الإجمال، أو من جهة التقييد بعد الإطلاق، ولكن حكم المسألة كما ينبغي لا يفهم منه، وهو أن المقيم بمنىً هل يتم أو يقصر؟ فلذلك لم يذكر حكمها في الترجمة. وقد بيناه بيانًا شافيًا فيما مرّ قريبًا. قوله: "صدرًا" أي: أول خلافته، وهي ست سنين أو ثمان سنين على خلاف فيه. وقوله: "من إمارته" بكسر الهمزة أي: خلافته. وقوله: "ثم أتمها" أي: بعد ذلك. وفي رواية أبي أسامة عن عبيد الله عند مسلم ثم إن عثمان صلّى أربعًا، فكان ابن عمر إذا صلى مع الإمام أتمّ، وإذا صلَّى وحده صلّى ركعتين. وفي رواية لمسلم عن ابن عمر قال: صلّى النبي -صلى الله عليه وسلم- بمنىً صلاة السفر وأبو بكر وعمر وعثمان ثمان سنين أو ست سنين. واختلف العلماء في السبب في إتمام عثمان بمنىً فقيل: إنما أتم لكونه تأهل بمكة. فقد أخرج أحمد والبيهقي عن عثمان أنه لمّا صلّى بمنىً أربع ركعات أنكر الناس عليه فقال: إني تأهلت بمكة لما قدمت وإني سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "مَنْ تأَهّل ببَلدة فإنه يُصلي صلاةَ مُقيم" وهذا الحديث لا يصح؛ لأنه منقطع. وفي رواته مَنْ لا يحتج به. ويردُّه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يسافر بزوجاته ويقصر. قلت: هذا لا رد فيه؛ لأن زوجاته -عليه الصلاة والسلام- كُنَّ مسافرات معه، والتي تزوجها عثمان كانت مقيمة بمكة، فجرت له الإقامة تبعًا، ولكن يرده ما يأتي عن البخاري في باب يقصر إذا خرج من موضعه من قول عروة أن عائشة تأولت ما تأول عثمان، ولا جائز أن تتأهل عائشة أصلًا، فدل على وهن ذلك الخبر، وقيل: لأنه أمير المؤمنين. وكل موضع له دار. وهذا مردود بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان أولى منه بذلك. وقيل: لأنه عزم على الإقامة بمكة، كما رواه عبد الرزاق عن الزهري

رجاله خمسة

مرسلًا. ورد هذا بأنَّ الإقامة على المهاجرين حرام. وقد صح عن عثمان أنه كان لا يودع النساء إلاَّ على ظهر راحلته ويسرع الخروج؛ خشية أن يرجع في هجرته. وثبت عن عثمان أنه لما حاصروه، وقال له المغيرة اركب رواحلك إلى مكة، قال: لن أفارق دار هجرتي. وقيل: لأنه استجد له أرضًا بمنىً. وردّ هذا بأنه لم يقل أحد أنَّ المسافر بما يملكه من الأرض، ولم يكن له فيها أهل أنَّ حكمه حكم المقيم. وقيل: لأنه كان يسبق الناس إلى مكة. وهذا لم ينقل. إن سبب إتمام عثمان أنه كان يرى القصر مختصًا بمن كان شاخصًا سائرًا، وأما مَنْ أقام في مكان في أثناء سفره فله حكم المقيم، فيتم والحجة فيه ما رواه أحمد بإسناد حسن عن عباد بن عبد الله بن الزبير، قال: لما قدم علينا معاوية حاجًا صلّى بنا الظهر ركعتين بمكة، ثم انصرف إلى دار الندوة فدخل عليه مروان وعمرو بن عثمان فقالا: لقد عبت أمر ابن عمك لأنه كان قد أتم الصلاة قال: وكان عثمان حيث أتم الصلاة إذا قدم إلى مكة صلّى بها الظهر والعصر والعشاء أربعًا أربعًا، ثم إذا خرج إلى منىً وعرفة قصر الصلاة، فإذا فرغ من الحج وأقام بمنى أتم الصلاة، وقال ابن بطال: الوجه الصحيح في ذلك أن عثمان وعائشة كانا يريان أن النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما قصر؛ لأنه أخذ بالأيسر من ذلك على أُمته فأخذا لأنفسهما بالشدة، وهذا رجحه جماعة من آخرهم القرطبي، لكن الوجه الذي قبله أولى؛ لتصريح الراوي بالسبب، وقيل: إنما صلّى عثمان أربعًا بمنى لأن الأعراب كانوا كثروا في ذلك العام فأحب أن يعلمهم أن الصلاة أربع. رواه الطحاوي وغيره عن الزهري، وروى البيهقي عن عثمان أنه أتم بمنىً ثم خطب فقال: إن القصر سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبيه ولكن حدث طَغام أي: بفتح الطاء والمعجمة فخفت أن يستنوا. وعن ابن جريج أن أعرابيًا ناداه في منىً يا أمير المؤمنين ما زلتُ أصليها منذ رأيتك عام أول ركعتين. وتعقب الطحاوي هذا الوجه بأن الأعراب كانوا بأحكام الصلاة أجهل في زمن الشارع، فلم يتم بهم لتلك العلة، ولم يكن عثمان ليخاف عليهم ما لم يخفه الشارع؛ لأنه بهم رؤوف رحيم. ألا ترى أن الجمعة لما كان فرضها ركعتين لم يعدل عنها، وكان يحضرها الغوغاء والوفود. وقد تجوزوا أن صلاة الجمعة في كل يوم ركعتين، ولكن لا مانع من أن يكون هذا أصل سبب الإتمام، وليس بمعارض للوجه الذي مرَّ أنه الأولى للتصريح فيه بالسبب، بل يقويه من حيث أن حالة الإقامة في أثناء السفر أقرب إلى قياس الإقامة المطلقة عليها، بخلاف السائر. وهذا ما أدى إليه اجتهاد عثمان رضي الله تعالى عنه. رجاله خمسة: وفيه ذكر أبي بكر وعمر وعثمان، وقد مرَّ الجميع، مرَّ مسدد ويحيى في السادس من الإيمان، ومرّ عبيد الله العمري في الرابع عشر من الوضوء ومرّ نافع في الأخير من العلم، ومرّ ابن عمر في أول الإيمان قبل ذكر حديث منه، ومرَّ أبو بكر في باب مَنْ لم يتوضأ من لحم الشاة بعد الحادي

الحديث الرابع

والسبعين من الوضوء ومرّ عمر في الأول من بدء الوحي وعثمان في تعليق بعد الخامس من العلم. والحديث أخرجه مسلم والنسائي في الصلاة. الحديث الرابع حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قال: أَنْبَأَنَا أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ قَالَ: صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- آمَنَ مَا كَانَ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ. قوله: "أنبأنا أبو إسحاق" كذا هو بلفظ: الإنباء. وهو في عرف المتقدمين بمعنى: الإخبار والتحديث. وهذا منه، وقد مرّ الكلام عليه مستوفى في أول كتاب العلم. وقوله: "حارثة بن وهب" زاد البرقاني في مستخرجه رجلًا من خزاعة. أخرجه من طريق أبي الوليد شيخ البخاري فيه. وقوله: "آمن" أفعل تفضيل من الأمن. وقوله: "ما كان" في رواية الكشميهني والحموي كانت أي: حالة كونها آمن أوقاته. وفي رواية مسلم: والناس أكثر مما كانوا. وله شاهد عن ابن عباس عند الترمذي وصححه النسائي بلفظ: خرج من المدينة إلى مكة لا يخاف إلاَّ الله يصلّي ركعتين. قال الطيبي: ما مصدرية، ومعناه الجمع؛ لأن ما أضيفت إليه أفعل يكون جمعًا، والمعنى صلّى بنا والحال أنا أكثر أكواننا في سائر الأوقات أمنًا. ويأتي في باب الصلاة بمنىً من كتاب الحج في رواية شعبة: ونحن أكثر ما كنا قط وآمنهِ، وكلمة قط: متعلقة بمحذوف تقديره: ونحن ما كنا أكثر منا في ذلك الوقت ولا أكثر أمنا وهذا يستدرك به على ابن مالك، حيث قال: استعمال قط غير مسبوقة بالنفي، قد يخفى على كثير من النحويين. وقد جاء في هذا الحديث بدون النفي. قاله في "الفتح". قلت: لم يظهر لي في تقريره ما يوجب الرد على ابن مالك. وقوله: وآمنه بالرفع ويجوز الفتح بأن يكون فعلاً ماضيًا وفاعله الله وضمير المفعول للنبي -صلى الله عليه وسلم- والتقدير: وآمن الله نبيه حينئذ، ولا يخفى بعد هذا الإعراب. وفيه رد على مَنْ زعم أن القصر مختص بالخوف. والذي قال ذلك تمسك بقوله تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} ولمْ يأخذ الجمهور بهذا المفهوم. فقيل: لأن شرط مفهوم المخالفة أن لا يكون خرج مخرج الغالب. وقيل: هو من الأشياء التي شرع الحكم فيها لسبب، ثم زال السبب وبقي الحكم كالرمل. وقيل: المراد بالقصر في الآية قصر الصلاة في الخوف إلى ركعة، وفيه نظر، لما رواه مسلم عن يعلي بن أُمية وله صحبة أنه سأل عمر عن قصر الصلاة في السفر، فقال: إنه سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" فهذا ظاهر في أن الصحابة فهموا من ذلك قصر الصلاة في السفر مطلقًا، لا قصرها في الخوف خاصة، وفي جواب عمر إشارة إلى القول الثاني.

رجاله أربعة

وروى السراج عن أبي حنظلة وهو الحذاء لا يعرف اسمه قال: سألت ابن عمر عن الصلاة في السفر فقال: ركعتان فقلت: إن الله عَزَّ وَجَلَّ قال: {إِنْ خِفْتُمْ}، فقال: سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وهذا يرجح القول الثاني أيضًا. رجاله أربعة: قد مرّوا إلاَّ حارثة، مرّ وأبو الوليد في الرابع من الإيمان، ومرّ شعبة في الثالث منه، وأبو إسحاق السبيعي في الثالث والثلاثين منه، وحارثة هو ابن وهب الخزاعي أُمه أُم كلثوم بنت جرول بن مالك الخزاعية، فهو أخو عبيد الله بن عمر لأُمه هكذا قال في "الإصابة" و"تهذيب التهذيب". وقال العيني: أُمهما بنت عثمان بن مظعون. فانظر الغلط من أيهما. له ستة أحاديث اتفقا على أربعة، روى عنه أبو إسحاق ومعبد بن خالد وغيرهما. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإنباء، ولم يسبق هذا الموضع والإخباروالسماع والقول، وهو رباعي. أخرجه البخاري أيضًا في الحج، ومسلم في الصلاة، وأبو داود والترمذي والنسائي في الحج. الحديث الخامس حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ عَنِ الأَعْمَشِ قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ يَقُولُ: صَلَّى بِنَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رضي الله عنه بِمِنًى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فَقِيلَ ذَلِكَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه فَاسْتَرْجَعَ ثُمَّ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّيْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّيْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، فَلَيْتَ حَظِّى مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ رَكْعَتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ. قوله: "صلّى بنا عثمان بمنى أربع ركعات" كان ذلك بعد رجوعه من أعمال الحج في حال إقامته بمنىً للرمي. كما جاء ذلك في رواية عباد بن عبد الله بن الزبير في قصة معاوية المتقدمة. وقوله: "فقيل ذلك" في رواية أبي ذر والأصيلي: فقيل في ذلك. وقوله: "فاسترجع" أي: فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون. وقوله: "وصليت مع عمر بن الخطاب" زاد الثوري عن الأعمش "ثم تفرقت بكم الطرق"، أخرجه المصنف في الحج من طريقه. وقوله: "فليت حظي من أربع ركعات ركعتان" لم يقل الأصيلي ركعات. ومن للبدلية مثل قوله تعالى: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ}. وهذا يدل على إنه كان يرى الإتمام جائزًا، وإلا لما كان له حظ من الأربع، ولا من غيرها، فإنها كانت تكون فاسدة كلها، وإنما استرجع ابن مسعود لما

رجاله سبعة

وقع عنده من مخالفة الأولى. ويؤيده ما روى أبو داود أن ابن مسعود صلّى أربعًا فقيل له: عتبت على عثمان ثم صلّيت أربعًا فقال: الخلاف شر وفي رواية البيهقي إني لأكره الخلاف ولأحمد من حديث أبي ذر مثل الأول. وهذا يدل على إنه لم يعتقد أن القصر واجب. كما قال الحنفية، ووافقهم إسماعيل القاضي من المالكية، وهو رواية عن مالك وعن أحمد قال ابن قدامة: المشهور عن أحمد أنه على الاختيار والقصر أفضل عنده، وهو قول جمهور الصحابة والتابعين. واحتج الشافعي على عدم الوجوب بأن المسافر إذا دخل في صلاة المقيم صلّى أربعًا باتفاقهم، ولو كان فرضه القصر لم يأتم مسافر بمقيم. وقال الطحاوي: لما كان الفرض لابد لمن هو عليه أن يأتي به، ولا يتخير في الإتيان ببعضه وكان التخيير مختصًا بالتطوع دل على أن المصلي لا يتخير في الاثنين والأربع. وتعقبه ابن بطال بأنّا وجدنا واجبًا يتخير بين الإتيان بجميعه أو ببعضه، وهو الإقامة بمنىً. ونقل الداودي عن ابن مسعود: أنه كان يرى القصر فرضًا. وفيه نظر لما مرّ، ولو كان كذلك لما تعمد ترك الفرض، حيث صلّى أربعًا. وقال: إن الخلاف شر، ويظهر أثر الخلاف فيما إذا قام إلى الثالثة عمدًا، فصلاته عند الجمهور صحيحة، وعند الحنفية فاسدة، ما لم يكن جلس للتشهد. واستدلت الحنفية على الوجوب بما رواه الشيخان عن عائشة قالت: فرضت الصلاة ركعتين ركعتين. فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر. وهذا الحديث قد مرّ استيفاء الكلام عليه في أول كتاب الصلاة في الحديث الثاني، وبحديث ابن عباس قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربع ركعات وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة. رواه مسلم ورواه الطبراني: أفترض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ركعتين في السفر، كما افترض في الحضر أربعًا، وبحديث عمر قال: صلاة السفر ركعتان وصلاة الضحى ركعتان وصلاة الفطر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد -صلى الله عليه وسلم-. رواه النسائي وابن حِبّان في صحيحه وابن ماجه، وبحديث ابن عمر قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتانا ونحن ضلال يُعلمنا فيما علّمنا الله عزّ وجل أمرنا أن نصلي ركعتين في السفر. رواه النسائي. وبحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "المتممُ الصلاة في السَّفر كالمقصِّرِ في الحضر". رواه الدارقطني في سننه. رجاله سبعة: وفيه ذكر أبي بكر وعمر، وقد مرّوا إلاَّ عبد الرحمن، مرَّ قتيبة بن سعيد في الحادي والعشرين من الإِيمان، ومرّ عبد الواحد في التاسع والعشرين منه، ومرّ الأعمش وإبراهيم بن يزيد في الخامس والعشرين منه، ومرّ عبد الله بن مسعود في أول أثر منه قبل ذكر حديث منه، ومرّ محل أبي بكر وعمر وعثمان في الذي قبله بحديث، وعبد الرحمن هو ابن يزيد بن قيس النخعي أبو بكر الكوفي قال الدارقطني: هو أخو الأسود وابن أخي علقمة وكلهم ثقات. وقال ابن معين: ثقة وذكره ابن حِبّان في الثقات. وقال ابن سعد: كان ثقة وله أحاديث كثيرة. وقال العجلي: كوفي تابعي ثقة، روى عن

لطائف إسناده

حذيفة وعثمان وابن مسعود، وروى عن أخيه الأسود وعمه علقمة وغيرهم. وروى عنه ابنه محمد وإبراهيم بن يزيد النخعي، وأبو إسحاق السبيعي وغيرهم. مات في الجماجم سنة ثلاث وثمانين. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والقول والعنعنة، ورواته بلخي وبصري، والبقية كوفيون. أخرجه البخاري أيضًا في الحج ومسلم في الصلاة، وأبو داود والنسائي في الحج. ثم قال المصنف:

باب كم أقام النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجته

باب كم أقام النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجته أي: من يوم قدومه إلى أن خرج منها. وقد تقدم بيان ذاك في الكلام على حديث أنس في الباب الذي قبله بباب. والمقصود بهذه الترجمة بيان ما تقدم من أن المحقق فيه نية الإقامة هي مدة المقام بمكة قبل الخروج إلى منىً، ثم إلى عرفة. وهي أربعة أيام ملفقة؛ لأنه قدم في الرابع، وخرج في الثامن فصلّى بها إحدى وعشرين صلاة من أول ظهر الرابع إلى آخر ظهر الثامن، وقيل: أراد مدة إقامته إلى أن توجه إلى المدينة، وهي عشرة، كما في حديث أنس وإن كان لم يصرح في حديث ابن عباس بغايتها، فإنها تعرف من الواقع، فإنَّ بين دخوله وخروجه يوم النفر الثاني من منىً إلى الأبطح عشرة أيام. الحديث السادس حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ الْبَرَّاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَأَصْحَابُهُ لِصُبْحِ رَابِعَةٍ يُلَبُّونَ بِالْحَجِّ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً إِلاَّ مَنْ مَعَهُ الْهَدْيُ. قوله: "لصبح رابعة" أي: اليوم الرابع من ذي الحجة. وقوله: "يُلَبون بالحج" جملة حالية أي: محرمين، وذكر التلبية وإرادة الإحرام من باب الكناية. وقوله "أن يجعلوها" أي: يجعلوا حجتهم عمرة، وليس هذا بإضمار قبل الذكر؛ لأن قوله بالحج يدل على الحجة، كما في قوله تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} أي: العدل. وقوله: "هَدْي" بفتح الهاء وسكون الدال وهو ما يهدى إلى الحرم من النعم، تقربًا إلى الله تعالى. وإنما استثنى صاحب الهَدي؛ لأنه لا يجوز له التَّحلل حتى يبلغ الهَدي محله. أُخذ من الحديث جواز فسخ الحج في العمرة. وبه قال أحمد وداود وأصحابه، وهو مذهب ابن عباس أيضًا. قال ابن عبد البر: لا أعلم أحدًا من الصحابة يجيز ذلك، إلاَّ ابن عباس. وأجاب الجمهور بأن ذلك خاص بالصحابة الذين حجوا مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويدل عليه ما رواه أبو داود عن بلال بن الحارث قال: قلت: يا رسول الله فسخ الحج لنا خاصة أم لمن بعدنا؟ قال: "بل لكم خاصة"، وأخرجه ابن ماجه والطحاوي، وأخرج الطحاوي عن أبي ذر قال: إنما كان فسخ الحج للركب

رجاله خمسة

الذين كانوا مع النبي -صلى الله عليه وسلم-. وقال أحمد: حديث أبي ذر فسخ الحج في العمرة خاص بالصحابة صحيح. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ موسى بن إسماعيل وابن عباس في الخامس من بدء الوحي، ومرّ وهيب بن خالد في السادس والعشرين من العلم، ومرّ أبو العالية في تعليق بعد الثاني منه، ومرّ أيوب في التاسع من الإيمان. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، ورواته كلهم بصريون. أخرجه مسلم والنسائي في الحج. ثم قال: تابعه عطاء عن جابر رضي الله تعالى عنه أي: تابع أبا العالية عطاء بن أبي رباح في رواية عن جابر بن عبد الله قال العيني: وتبعه القسطلاني. أخرج البخاري هذه المتابعة مسندة في التمتع والقران والإفراد من كتاب الحج. قلت: ليس في الباب المذكور رواية عن جابر لا عن عطاء، ولا عن غيره، ولكن له حديث في الباب الذي بعد ذلك باب من لَبّى بالحج وسمّاه، لكنه من رواية مجاهد عنه لا من رواية عطاء بن أبي رباح تأمّل. ومرّ عطاء بن أبي رباح في التاسع والثلاثين من كتاب العلم، ومرَّ جابر بن عبد الله في الرابع من بدء الوحي. ثم قال المصنف:

باب في كم يقصر الصلاة

باب في كم يقصر الصلاة يريد بيان المسافة التي إذا أراد المسافر الوصول إليها ساغ له القصر، ولا يسوّغ له في أقل منها وهي من المواضع التي انتشر فيها الخلاف جداً، فحكى ابن المنذر وغيره فيها نحوًا من عشرين قولًا، ويأتي ذكر أكثرها قريبًا، وأقل ما قيل في ذلك قيل: وأكثره ما دام غائبًا عن بلده. وقد أورد المصنف الترجمة بلفظ الاستفهام، وأورد ما يدل على أن اختياره أنَّ أقل مسافة القصر يوم وليلة. ثم قال وسمّى النبي -صلى الله عليه وسلم- يوماً وليلة سفرًا في رواية أبي ذر: السفر يوماً وليلة، وفي كل منهما تجوز والمعنى: سمّى مدة اليوم والليلة سفرًا، وكأنه يشير إلى حديث أبي هريرة المذكورة عنده في آخر الباب، وتعقب بأن في بعض طرقه ثلاثة أيام، كما أورده هو من حديث ابن عمر وفي بعضها يوم وفي يعضها ليلة، وفي بعضها بريد، فإن حُمل اليوم المطلق أو الليلة المطلقة على الكامل أي: يوم بليلته، أو ليلة بيومها قلَّ الاختلاف واندرج في الثلاث، فيكون أقل المسافة يومًا وليلة، لكنه يُعكر عليه رواية بريد. ويأتي الجواب عنه بما قيل في الجمع بين حديث ابن عمر وبين اختياره. ثم قال: وكان ابن عمر وابن عباس رضي الله تعالى عنهم يقصران ويفطران في أربعة برد وهي: ستة عشر فرسخًا. وهذا وصله ابن المنذر عن عطاء بن أبي رباح أن ابن عمر وابن عباس كانا يصليان ركعتين ويفطران في أربعة برد، ورواه عبد الرزاق عن مالك فقال: بين المدينة وذات النصب ثمانية عشر ميلًا وفي "الموطأ" عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه أنه كان يقصر في مسيرة اليوم التام. وعن عطاء أن ابن عباس سُئل أتقصر الصلاة إلى عرفة؟ قال: لا، ولكن إلى عسفان أو إلى جدة أو الطائف. وقد رُوي عن ابن عباس مرفوعًا. أخرجه الدارقطني وابن أبي شيبة عن عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه وعطاء عن ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يا أهل مكة لا تقصروا الصَّلاة في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان". وهذا إسناد ضعيف، من أجل عبد الوهاب. وروى عبد الرزاق عن عطاء عن ابن عباس قال: لا تقصروا الصلاة إلاَّ في اليوم، ولا تقصر فيما دون اليوم. ويمكن الجمع بين هذه الروايات بأن مسافة أربعة برد يمكن في يوم وليلة. وأما حديث ابن عمر الآتي في سفر المرأة مع غير محرم، الدال على اعتبار الثلاث، فإما أن يجمع بينه وبين اختياره بأن المسافة واحدة، ولكن السير يختلف أو أن الحديث المرفوع ما سبق، لأجل بيان مسافة القصر، بل لنهي المرأة عن الخروج وحدها، ولذلك اختلفت الألفاظ في ذلك، ويؤيد ذلك أن الحكم في نهي المرأة عن السفر وحدها متعلق بالزمان، فلو قطعت مسيرة ساعة

واحدة مثلاً في يوم تام لتعلق بها النهي، بخلاف المسافر فإنه لو قطع مسيرة نصف يوم مثلًا في يومين لم يقصر، فافترقا وأقل ما ورد في ذلك بريد، فقد روى ابن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن حرملة قال: قلت لسعيد بن المسيب: أأقصر الصلاة وأفطر في بريد من المدينة؟ قال: نعم. وقوله: "وهي ستة عشر فرسخًا" وذكر الفراء أن الفرسخ فارسي معرب، واختلف في معناه فقيل: السكون ذكره ابن سيده. وقيل: السعة، وقيل: المكان الذي لا فرجة فيه: وقيل الشيء الطويل. وفي مجمع الغرائب فراسخ النهار، والليل ساعاتهما وأوقاتهما وهو ثلاثة أميال، والميل من الأرض منتهى مد البصر؛ لأن البصر يميل عنه على وجه الأرض حتى يفنى أدراكه، وبذلك جزم الجوهري. وقيل: حده أن ينظر إلى الشخص في أرض مسطحة، فلا يدري أهو رجل أو امرأة؟ أو هو ذاهب أو آت؟ قال النووي: الميل ستة آلاف ذراع، والذراع أربعة وعشرون إصبعًا معترضة معتدلة، والإصبع ست شعيرات معتدلة معترضة، والشعيرة ست شعرات من شعر البرذون. والذي قاله النووي هو الأشهر، ومنهم مَنْ عبّر عن ذلك باثني عشر ألف قدم بقدم الإنسان. وقيل: هو أربعة آلاف ذراع. وقيل: بل ثلاثة آلاف ذراع. نقله صاحب البيان. وقيل وخمسمائة، صحّحه ابن عبد البر. وقيل: ألفا ذراع، ومنهم مَنْ عبّر عن ذلك بألف خطوة للجمل. قال في "الفتح": ثم إن الذراع الذي ذكر النووي تحديده قد حرره غيره بذراع الحديد المستعمل الآن في مصر والحجاز في هذه الأعصار فوجده ينقص عن ذراع الحديد بقدر الثمن، فعلى هذا فالميل بذراع الحديد على القول المشهور خمسة آلاف ذراع، ومائتان وخمسون ذراعًا. قلت: قد جاء الخلاف عند المالكية في تحديد الذراع بالإصبع، فقيل: أربعة وعشرون، كما ذكر النووي. وقيل: ستة وثلاثون إصبعًا، وهذا الأخير هو قدر الذراع الحديد المتعامل به الآن، وبما رُوي عن ابن عمر وابن عباس من كون مسافة القصر أربعة برد وهي مرحلتان يسير الأحمال، ودبيب الأقدام. أخذ مالك والشافعي وأحمد وإنما ضبطت بذلك التحديد، لثبوت تقديرها بالأميال عن الصحابة، ولأن القصر على غير الأصل، فيحتاط فيه بتحقيق تقدير المسافة. وذهب أبو حنيفة وأصحابه والكوفيون إلى إن المسافة التي تقصر فيها الصلاة ثلاثة أيام يسير الإبل، ومشي الأقدام. وقال أبو يوسف: يومان، وأكثر الثالث، والليل للاستراحة ولو سلك طريقًا هي مسيرة ثلاثة أيام وأمكنه أن يصل إليها من طريق أخرى قصر. قلت: ظاهر هذا سواء كان عدوله عن القصيرة لعذر أم لا؟ وعند المالكية لا يقصر إلاَّ إذا كان عدوله عن القصيرة لعذر، وقدروا ذلك بالفراسخ فقيل: أحد وعشرون فرسخًا. وقيل: ثمانية عشر وعليه الفتوى. وقيل: خمسة عشر فرسخًا، وإلى ثلاثة أيام ذهب عثمان بن عفان وابن مسعود وسويد بن غفلة والشعبي والنخعي والثوري وغيرهم. قال في "الفتح": بعد أن ذكر ما مرّ في حديث ابن عمر في سفر المرأة مع غير محرم من مخالفته لاختياره في تمسك الحنفية، بحديث ابن عمر،

الحديث السابع

على إن أقل مسافة القصر ثلاثة أيام إشكال، ولاسيما على قاعدتهم من أن الاعتبار بما رأى الصحابي، لا بما روى، فلو كان الحديث عنده لبيان أقل مسافة القصر لما خالفه، وقصر في مسيرة اليوم التام، وقد اختلف عن ابن عمر في تحديد ذلك اختلافًا غير ما ذكر، فروى عبد الرزاق أن ابن عمر كان أدنى ما يقصر الصلاة فيه ما بين المدينة وخيبر، وبينهما ستة وتسعون ميلًا. وروى أيضًا عن مالك: أن ابن عمر سافر إلى ريم فقصر الصلاة. قال عبد الرزاق: وهي على ثلاثين ميلًا من المدينة. وروى وكيع عن ابن عمر أنه كان يقصر الصلاة من المدينة إلى السويداء، وبينهما اثنان وسبعون ميلًا. وروى ابن أبي شيبة عن ابن عمر أنه قال: إني لأسافر الساعة من النهار فأقصر. وقال الثوري: سمعت جبلة بن سجيم سمعت ابن عمر يقول: لو خرجت ميلًا قصرت الصلاة. إسناد كل منهما صحيح وهذه أقوال متغايرة جدًا، وحكى النووي: إن أهل الظاهر ذهبوا إلى إن أقل مسافة القصر ثلاثة أميال. وكأنهم احتجوا في ذلك بما رواه مسلم وأبو داود. عن أنس قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ قصر الصلاة. وهو أصح حديث ورد في بيان ذلك وأصرحه، وقد حمله مَنْ خالفه على أن المراد به المسافة التي يبتدأ منها القصر، لا غاية السفر. ولا يخفى بعد هذا العمل مع أن البيهقي ذكر في روايته من هذا الوجه أن يحيى بن يزيد راويه عن أنس قال: سألت أنسًا عن قصر الصلاة، وكنت أخرج إلى الكوفة، يعني من البصرة فأصلي ركعتين ركعتين حتى أرجع. فقال أنس، فذكر الحديث فظهر أنه سأله عن جواز القصر في السفر، لا عن الموضع الذي يبتدأ منه القصر، ويأتي ما قيل في ذلك في الباب الذي بعده. وروي عن ابن مسعود أربعة أميال. وفي "المصنف" عن أبي سعيد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا سافر فرسخًا قصر الصلاة. وفيه أيضًا عن النزال أن عليًا رضي الله تعالى عنه خرج إلى النخيلة فصلّى بها الظهر والعصر ركعتين، ثم رجع من يومه قال: أردت أن أعلمكم سنة نبيكم، وكان حذيفة يصلي ركعتين فيما بين الكوفة والمدائن. وعن عمر وابنه عبد الله وسويد بن غفلة ثلاثة أميال. وابن عباس مرّ محله في الذي قبله، ومرَّ ابن عمر أوّل الإيمان قبل ذكر حديث منه. الحديث السابع حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي أُسَامَةَ: حَدَّثَكُمْ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لاَ تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ". قوله: "حدثكم عبيد الله" هو ابن عمر العمري، واستدل به على إنه لا يشترط في صحة التحمل قول الشيخ: نعم في جواب مَنْ قال له: حدّثكم فلان بكذا، وفيه نظر؛ لأن في مسند إسحاق في آخره، فأقر به أبو أسامة. وقال: نعم. وقوله: "لا تسافر المرأة ثلاثة أيام" في رواية مسلم عن الضحاك بن عثمان عن نافع "ثلاث

رجاله خمسة

ليالٍ" والجمع بينهما أن المراد ثلاثة أيام بلياليها، أو ثلاث ليالٍ بأيامها. وقوله: "إلا مع ذي محرم" في رواية أبي ذر والأصيلي "إلاَّ معها ذو محرم"، والمَحرم بفتح الميم، الجرام والمراد به: مَنْ لا يحلُّ له نكاحها على التأبيد، بسبب مباح لحرمتها فاحترز بقوله: على التأبيد من أخت المرأة. وبقوله: بسبب مباح من أم الموطوءة بشبهة؛ لأن وطء الشبهة لا يوسف بالإِباحة وبحرمتها من الملاعنة، فإن تحريمها ليس لحرمتها، بل عقوبة وتغليظًا. وفي حديث أبي سعيد عند مسلم وأبي داود "إلاَّ ومعها أبوها أو أخوها أو زوجها أو ابنها أو ذو محرم منها" أخرجاه عن الأعمش عن أبي صالح عنه، وعدم جواز السفر للمرأة بلا محرم إجماع في غير الحج والعمرة والخروج من دار الشرك، ومنهم مَنْ جعل ذلك من شرائط الحج، وهذا هو مذهب الإِمام مالك، فإنَّ شرط وجوب الحج على المرأة عنده أو جوازه، أنْ تسافر مع محرم لها من قرابة أو صهر أو رضاع أو زوج. وإن كان مالك نصّ على كراهة سفرها مع ابن زوجها، فإنما ذلك لشيء آخر، وفي حديث الباب روايات. فقد روي: "نصف يوم، ويومان، وثلاثة، وليلة وبريد". وروي: "لا تسافر امرأة إلاَّ مع ذي محرم" فحملوا روايات التحديد على إنه ليس بمراد ردًا إلي رواية الإطلاق والمراد ما يسمّى سفرًا، لحرمة الاختلاء بالأجنبي. وروايات التحديد إنما هي واردة على اختلاف السائلين في مواطن بأن سُئل عليه الصلاة والسلام هل تسافر المرأة مسيرة يوم بغير محرم؟ فقال: "لا تُسافرُ مسيرةَ يَومٍ بغيرِ مَحرم"، وكذا باقي الروايات فلا مفهوم لها، ولا يشترط بلوغ المحرم، بل يكتفى بما فيه كفاية، ويقوم مقام المحرم الرفقة المأمونة في أداء الفرض، لا في النفل. واختلف هل يكتفى فيها بالرجال فقط؟ أو النساء فقط؟ أو لابد من مجموعهما؟ وقولي في أداء الفرض شامل لكل فرض، كما إذا أَسلمت بدار الحرب أو أُسرت وأمكنها الهرب، وحج النذر والقضاء والحنث والرجوع إلى المنزل لإتمام العدة إذا خرجت ضرورة، فمات أو طلقها أو خرجت للرباط، أو زيارة. وأخذت الحنفية بظاهر هذا الحديث فقالوا: ان المحرم شرط في وجوب الحج على المرأة إذا كانت بينها وبين مكة مسيرة ثلاثة أيام بلياليها، بخلاف ما دون ثلاثة أيام فيباح لها السفر بدون محرم. قالوا: لأن التوقيت بالثلاثة دالٌ على إباحة السفر لها بغير محرم فيما دون الثلاث، ولولا ذلك لما كان لذكر الثلاث معنى، ولَنُهيَ نهيًا مطلقًا. ومذهب الشافعي قريب من مذهب مالك، فلابد عنده من خروج زوج المرأة معها، أو محرم أو عبدها أو نسوة ثقات لتأمن على نفسها. ويكفي في الجواز لفرضها امرأة واحدة، وسفرها وحدها ان أمنت، وإن كان السفر حالة الانفراد مكروهًا لما فيه من الوحشة. وأما النفل فلا يجوز لها الخروج له مع النسوة الخلص وإن كثرن. رجاله خمسة: قد مرّوا، إسحاق يحتمل أنه ابن راهويه أو ابن نصر أو ابن منصور؛ لأن الثلاثة أخرج عنهم

الحديث الثامن

البخاري عن أبي أسامة، والأولان مرّا في تعليق بعد الحادي والعشرين من العلم، ومرّ الثالث في الخامس والثلاثين من الإيمان، ومرّ أبو أسامة في الحادي والعشرين من العلم، ومرّ عبيد الله العمري في الرابع عشر من الوضوء ومرّ نافع في الأخير من العلم، ومرّ محل ابن عمر في التعليق الذي قبله، والحديث أخرجه مسلم. الحديث الثامن حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لاَ تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ ثَلاَثًا إِلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ". هذا الحديث طريق من الذي قبله، وقد مرّت مباحثه فيه. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ مسدد ويحيى القطان في السادس من الإيمان، ومرّ محل الثلاثة الباقية في الذي قبله. ثم قال: تابعه أحمد عن ابن المبارك عن عبيد الله عن نافع عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال الدارقطني في "العلل" عن يحيى القطان: ما أنكرت على عبيد الله بن عمر إلاَّ هذا الحديث. ورواه أخوه عبد الله مرفوعًا، وعبد الله ضعيف، وقد تابع عبد الله الضحاك، كما مرّ فاعتمده البخاري لذلك. وهذه المتابعة لم أقف على مَنْ وصلها. ورجالها خمسة: مرَّ منهم محل عبيد الله ونافع وابن عمر في الذي قبلها بحديث، ومرّ ابن المبارك في السادس من بدء الوحي. وأحمد المذكور قيل إنه أحمد بن محمد بن موسى مردويه وقيل: إنه أحمد بن محمد بن ثابت شبويه، وأما كونه أحمد بن حنبل فوهم؛ لأنه لم يسمع من ابن المبارك، والصحيح الأول وعليه فهو قد مرّ في الثالث والمائة من الوضوء، وها أنا أذكر تعريف الثاني، تتميمًا للفائدة وهو أحمد بن محمد بن ثابت بن عثمان بن مسعود بن يزيد الخزاعي أبو الحسن بن شبويه المروزي. ذكره ابن حِبّان في الثقات وقال النسائي: ثقة، ووثقه محمد بن وضاح والعجلي وعبد الغني بن سعيد. وقال الإدريسي: كان حافظًا فاضلًا ثبتًا متقنًا في الحديث. روى عن ابن عيينة وابن المبارك وأبي أسامة وغيرهم وروى عنه أبو داود وابنه عبد الله بن أحمد وأبو زرعة وغيرهم. مات سنة ثلاثين ومائتين. الحديث التاسع حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَيْسَ مَعَهَا حُرْمَةٌ".

رجاله خمسة

قوله: "تؤمنُ باللهِ واليوم الآخرِ" مفهومه أن النهي المذكور يختص بالمؤمنات، فتخرج الكافرات كتابية كانت أو حربية. وقد قال به بعض أهل العلم، وأجيب بأن الإيمان هو الذي يستمر للمتصف به خطاب الشارع، فينتفع به وينقاد له، فلذلك قيد به، أو إن الوصف ذكر لتأكيد التحريم، ولم يقصد به إخراج ما سواه. وقوله: "مسيرةَ يومٍ وليلةٍ، ليسَ معها حُرْمَةٌ" أي: محرم. وقد قال مغلطاي: الهاء في قوله: "مسيرةَ يومٍ وليلةٍ" للمرّة الواحدة، والتقدير أن تسافر مرَّة واحدة مخصوصة بيوم وليلة، ولا سلف له في هذا الإعراب. "ومسيرة" إنما هي مصدر سار كقوله مسيرًا. مثل: عاش معيشة وعيشًا. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ آدم في الثالث من الإيمان، ومرَّ سعيد بن أبي سعيد في الثاني والثلاثين منه، ومرّ أبو هريرة في الثاني منه، ومرَّ ابن أبي ذيب في الخمسين من العلم، ومرَّ أبو سعيد كيسان المقبري في السادس والعشرين من صفة الصلاة. والحديث أخرجه مسلم في الحج. ثم قال: تابعه يحيى بن أبي كثير وسهيل ومالك عن المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه يعني لم يقولوا عن أبيه، فعلى هذا فهي متابعة في المتن، لا في الإسناد. على أنه اختلف على سهيل وعلى مالك فيه، وكأن الرواية التي جزم بها المصنف أرجح عنده عنهم، ورجح الدارقطني أنه عن سعيد عن أبي هريرة ليس فيه عن أبيه. كما رواه معظم رواة "الموطأ"، لكن الزيادة من الثقة مقبولة، ولاسيما إذا كان حافظًا، وقد وافق ابن أبي ذيب على قوله عن أبيه الليث بن سعد عند أبي داود والليث. وابن أبي ذيب من أثبت الناس في سعيد. أما رواية يحيى فأخرجها أحمد عن شيبان النحوي عنه، وليس فيه اختلاف إلّا أن لفظه: "أن تسافر يومًا إلاَّ مع ذي محرم" ويحمل قوله: "يومًا" على أن المراد به اليوم بليلته فيوافق رواية ابن أبي ذيب، وحى بن أبي كثير مرَّ في الثالث والخمسين من العلم، وأمّا رواية سهيل، فقد أخرجها أبو داود والحاكم وابن حِبّان عن جرير عن سهيل كما علقه البخاري إلاَّ أن جريرًا قال في روايته: بريدًا بدل يومًا. وقال بشر بن المفضل عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة أبدل سعيدًا بأبي صالح، وخالف في اللفظ أيضًا فقال تسافر ثلاثًا أخرجه مسلم ويُحتمل أن يكون الحديثان معًا عند سهيل، ومن ثم صحح ابن حِبّان الطريقين عنه، لكن المحفوظ عن أبي صالح عن أبي سعيد وسهيل قد مرّ في باب الدين النصيحة بعد التاسع والأربعين من الإيمان. وأما رواية مالك فهي في "الموطأ"، وأخرجها مسلم وأبو داود وهو المشهور عنه، ورواها بشر بن عمر الزهراني عنه فقال عن سعيد عن أبيه عن أبي هريرة أخرجه أبو داود والترمذي وأبو عوانة وابن خزيمة من طريقه. وقال ابن خزيمة: إنه تفرد به عن مالك. وفيه نظر؛ لأنه الدارقطني أخرجه في "الغرائب" عن

إسحاق بن محمد الفروي عن مالك، والمحفوظ عن مالك ليس فيه قوله: عن أبيه. ومالك قد مرّ في الثاني من بدء الوحي. ثم قال المصنف:

باب يقصر إذا خرج من موضعه

باب يقصر إذا خرج من موضعه يعني إذا قصد سفرًا تقصر في مثله الصلاة، وهي من المسائل المختلف فيها أيضًا. قال ابن المنذر: أجمعوا على أن لمن يريد السفر أن يقصر إذا خرج عن جميع بيوت القرية التي يخرج منها، واختلفوا فيما قبل الخروج عن البيوت، فذهب الجمهور إلى إنه لابد من مفارقة جميع البيوت، وذهب بعض الكوفيين إلى إنه إذا أراد السفر يصلي ركعتين، ولو كان في منزله. ومنهم مَنْ قال: إذا ركب قبل أن يفارق البيوت قَصر إنْ شاء. وقال مجاهد إذا ابتدأ السفر بالنهار لا يقصر حتى يدخل الليل، وإذا ابتدأ السفر بالليل لا يقصر حتى يدخل النهار. قال ابن المنذر: ويرجح ما عليه الجمهور بأنهم اتفقوا على إنه يقصر، إذا فارق البيوت. واختلفوا فيما قبل ذلك، فعليه الإتمام على أصل ما كان عليه حتى يثبت أنَّ له القصر. قال: ولا أعلم النبي -صلى الله عليه وسلم- قصر في شيء من أسفاره، إلاَّ بعد خروجه عن المدينة. وتقرير مذاهب الأربعة في ذلك هو أن المالكية يُشترط عندهم في ابتداء القصر أن يجاوز البلدي البلد والبساتين المسكونة المرتفقة بالعمران. وعن مالك إن كانت قرية جمعة، فمتى يجاوز ثلاثة أميال وأن يجاوز ساكن البادية حلته، وهي البيوت التي ينصبها من شعر، أو غيره. وأما الساكن بقرية لا بناء بها، ولا بساتين، فبمجرد الانفصال عنها. وعند الشافعية يحصل ابتداؤه من بلد له سور بمفارقة سور البلد المختص به، وإن كان داخله مواضع خربة ومزارع؛ لأن جميع ما هو داخله من البلدة، فإن كان وراءه دور متلاصقة، صحح النووي عدم اشتراط مجاوزتها؛ لأنها لا تعد من البلد، فإن لم يكن له سور فمبدؤه مجاوزة العمران حتى لا يبقى بيت متصل، ولا منفصل، لا الخراب الذي لا عمارة وراءه، ولا البساتين والمزارع المتصلة، وإن كانت محوطة. وأول سفر ساكن الخيام كالأعراب، مجاوزة الحلة. وقالت الحنابلة: يقصر إذا فارق بيوت قريته العامرة، سواء كانت داخل السور أو خارجه، وسواء وَلِيَتها بيوت خاربة، أو البرية. لكن لو وَليتها بيوت خاربة، ثم بيوت عامرة، فلابد من مفارقة البيوت العامرة التي تلي الخاربة. وعند الحنفية إذا فارق المسافر بيوت العصر يقصر، وفي "المبسوط" يقصر حين يخلف عمران العصر، وفي "الذخيرة": إن كانت لها محلة منتبذة من المصر، وكانت قبل ذلك متصلة بها فإنه لا يقصر ما لم يجاوزها، ويخلف دورها بخلاف القرية التي تكون بفناء المصر، فإنه يقصر وإن لم

الحديث العاشر

يجاوزها. وفي "المحيط" الصحيح أنه يعتبر مجاوزة عمران العصر، إلاَّ إذا كان ثمة قرية أو قرى متصلة بربض العصر فحينئذ تعتبر مجاوزة القرى. ثم قال: وخرج علي فقصر، وهو يرى البيوت، فلما رجع قيل له: هذه الكوفة. قال: لا، حتى ندخلها. وفهم ابن بطال من قوله: لا، حتى ندخلها، إنه امتنع من الصلاة حتى يدخل الكوفة. قال: لأنه لو صلّى فقصر ساغ له ذلك، لكنه اختار أن يتم لاتساع الوقت. وقد تبين من سياق أثر علي أن الأمر على خلاف ما فهمه ابن بطال، وأنَّ المراد بقولهم هذه الكوفة، أي: فأتم الصلاة، فقال: لا، حتى ندخلها أي: لا نزال نقصر حتى ندخلها، فإنَّا ما لم ندخلها في حكم المسافرين، وهذا هو صريح رواية البيهقي للأثر المذكور، ففيه: خرجنا مع علي متوجهين إلى الشام، فصلَّى ركعتين ركعتين حتى إذا رجعنا إلى الكوفة، حضرت الصلاة. قالوا: يا أمير المؤمنين، هذه الكوفة أتِمَّ الصلاة. قال: لا، حتى ندخلها. وكذلك رواية الحاكم عن وقاء بن إياس بكسر الواو، ففيها: فقصرنا الصلاة ونحن نرى البيوت، ثم رجعنا فقصرنا، ونحن نرى البيوت، أي: فهو لا يزال يقصر حتى يدخل بيوت العصر. ورُوي قول عند المالكية: بأنه إذا قارب المصر بأقل من الميل يتم. وهذا الأثر وصله الحاكم من رواية الثوري عن وِقاء بن إياس وأخرجه البيهقي، وعلي قد مرّ في السابع والأربعين من العلم. الحديث العاشر حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّيْتُ الظُّهْرَ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا، وَبِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ. قوله: "وبذي الحليفة ركعتين" في رواية الكشميهنيّ، والعصر بذي الحليفة ركعتين وهي ثابتة في رواية مسلم. وكذا في رواية أبي قلاية عن أنس عند المصنف في الحج، وأستدل به على استباحة قصر الصلاة في السفر القصير؛ لأن بين المدينة وذي الحليفة ستة أميال، وتعقب بأن ذا الحليفة لم تكن منتهى السفر، وإنما خرج إليها حيث كان قاصدًا إلى مكة فاتفق نزوله بها وكانت أوّل صلاة حضرت بها العصر فقصرها واستمر يقصر إلى أن رجع، ومناسبة أثر علي لحديث أنس ثم لحديث عائشة أن أثر علي قال على إن القصر يشرع بفراق الحضر، وكونه -صلى الله عليه وسلم- لم يقصر حتى رأى ذا الحليفة إنما هو لكونه أول منزل نزله، ولم يحضر قبله وقت صلاة، ويؤيده حديث عائشة ففيه تعليق الحكم بالسفر والحضر، فحيث وجد السفر، شُرع القصر، وحيث وجد الحضر، شُرع الإتمام، واستدل به على إن مَنْ أراد السفر لا يقصر حتى يبرز من البلد، خلافًا لمن قال من السلف: يقصر ولو في بيته، كما مرَّ وفيه حجة على مجاهد في قوله: المار لا يقصر حتى يدخل الليل.

رجاله خمسة

رجاله خمسة: مرّوا، مرّ أبو نعيم في الخامس والأربعين من الإيمان، ومرّ الثوري في السابع والعشرين منه، ومرّ محمد بن المنكدر في التاسع والخمسين من العلم، ومرّ إبراهيم بن ميسرة في الثامن من كتاب الجمعة. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، وفيه تابعيان ورواته بين كوفي ومدني ومكي. أخرجه البخاري أيضًا في الحج ومسلم في الصلاة وكذلك أبو داود والترمذي والنسائي. الحديث الحادي عشر حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتِ: الصَّلاَةُ أَوَّلُ مَا فُرِضَتْ رَكْعَتَيْنِ فَأُقِرَّتْ صَلاَةُ السَّفَرِ، وَأُتِمَّتْ صَلاَةُ الْحَضَرِ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَقُلْتُ لِعُرْوَةَ مَا بَالُ عَائِشَةَ تُتِمُّ؟ قَالَ: تَأَوَّلَتْ مَا تَأَوَّلَ عُثْمَانُ. قوله: "الصلاة أوّل ما فرضت ركعتان" أي بإفراد الصلاة، والصلاة مبتدأ، وأول بدل منه أو مبتدأ ثان، خبره ركعتان، والجملة خبر المبتدأ الأول، ويجوز نصب أول على الظرفية والصلاة مبتدأ، والخبر محذوف تقديره فرضت في أول فرضها، وأصل الكلام الصلاة فرضت ركعتين في أول أزمنة فرضها، فهو ظرف للخبر المقدر، وما مصدرية والمضاف محذوف، كما تقرر ولغير أبوي ذر والوقت والأصيلي ركعتين بالياء نصب على الحال الساد مسد الخبر، وفي رواية الكشميهني: الصلوات بالجمع، واستشكلت من حيث اقتصار عائشة رضي الله عنها معها على قولها: ركعتين؛ لوجوب التكرير في مثله. وقد وجدت في رواية كريمة وهي من رواية الكشميهني، ركعتين ركعتين بالتكرير، وحينئذ زال الإشكال. وقوله: "فأقرت صلاة السفر" قال النووي أي: على جواز الإتمام. وقوله: "وأتمت صلاة الحضر" أي: على سبيل التحتم. وهذا الحديث مرّ في أول كتاب الصلاة، وهو الحديث الثاني، ومرّ استيفاء الكلام عليه هناك، ومنهم مَنْ حمل قول عائشة: فرضت أي: قدرت. وقال الطبري: معناه أن المسافر إذا اختار القصر فهو فرضه، ومن أدل دليل على تعين تأويل حديث عائشة هذا كونها كانت تتم في السفر، ولذلك أورده الزهري على عروة فأجابه بقوله: تأوّلت ما تأول عثمان. وقد مرّ ما تأوّل به عثمان مستوفى في الحديث الثالث في الباب الثاني، ولكون بعض ما مرّ من أن عثمان تأوله به، لا يمكن تأول عائشة به، كان الظاهر أن مراد عروة بقوله: كما تأول عثمان، التشبيه بعثمان في الإتمام بتأويل، لا في اتحاد تأويلهما، ويقوي هذا أن الأسباب اختلفت في تأويل عثمان، فتكاثرت بخلاف تأويل عائشة.

رجاله خمسة

وقد أخرج ابن جرير في تفسير سورة النساء أن عائشة كانت تصلي في السفر أربعًا فإذا احتجوا عليها تقول: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان في حرب وكان يخاف، فهل تخافون أنتم. وقد قيل في تأويل عائشة: إنما أتمت في سفرها إلى البصرة في قتال علي، والقصر عندها إنما يكون في سفر طاعة، وهذان القولان باطلان لاسيما الثاني، ولعل قول عائشة هذا هو السبب في حديث حارثة بن وهب الماضي قبل ببابين حيث قال فيه: آمن ما كان بمنىً. وقد جاء عنها سبب الإتمام صريحًا فيما أخرجه البيهقي عن عروة أنها كانت تصلي في السفر أربعًا، فقلت لها: لو صليت ركعتين، فقالت: يا ابن أختي إنه لا يشق علي. وإسناده صحيح، وهو دال على إنها تأوّلت أن القصر رخصة، وأن الإتمام لمن لا يشق عليه أفضل، ويدل على اختيار الجمهور ما رواه أبو يعلى والطبراني بإسنادٍ جيد عن أبي هريرة أنه سافر مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ومع أبي بكر وعمر فكلهم كان يصلي ركعتين من حين يخرج من المدينة إلى مكة حتى يرجع إلى المدينة في السير، وفي المقام بمكة. قال الكرماني ما ملخصه: تمسكت الحنفية بحديث عائشة في أن الفرض في السفر أن يصلي الرباعية ركعتين، وتعقب بأنه لو كان على ظاهره لما أتمت عائشة، وعندهم العبرة بما رأى الراوي، إذا عارض ما روى، ثم ظاهر الحديث مخالف لظاهر القرآن؛ لأنه يدل على أنها فرضت في الأصل ركعتين واستمرت في السفر، وظاهر القرآن أنها كانت أربعًا فنقصت، وقد مرّ استيفاء الكلام على هذا عند هذا الحديث في أوّل كتاب الصلاة، ثم إن قولها: "الصلاة" تعم الخمس، وهو مخصوص بخروج المغرب مطلقًا، والصبح بعدم الزيادة فيها في الحضر والعام إذا خص ضعفت دلالته حتى اختلف في بقاء الاحتجاج به. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ عبد الله بن محمد المسندي في الثاني من الإيمان، ومرّ ابن عيينة في الأول من بدء الوحي، والزهري في الثالث منه، وعروة وعائشة في الثاني منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول. وشيخ البخاري من أفراده، وفيه رواية التابعي عن التابعي عن الصحابية، ورواته بخاري ومكي ومدنيون. أخرجه البخاري أيضًا في أوّل كتاب الصلاة، ومسلم والنسائي في الصلاة. ثم قال المصنف:

باب تصلى المغرب ثلاثا في السفر

باب تصلى المغرب ثلاثًا في السفر أي كالحضر؛ لأنها وتر النهار، ويجوز في تصلي فتح اللام مع المثناة الفوقية، والمغرب بالرفع نائبًا عن الفاعل، ويجوز فيه: يصلي بالياء وفاعله المسافر فإن قيل: ما وجه تسمية صلاة المغرب بوتر النهار مع كونها ليلية، أجيب بأنها لما كانت عقب آخر النهار وندب إلى تعجيلها عقب الغروب أطلق عليها وِتْر النهار، لقربها منه، ونقل ابن المنذر وغيره الإجماع على عدم قصرها، وأما جواب أبي الخطاب بن دحية للملك الكامل حين سأله عن حكمها بجواز قصرها إلى ركعتين فباطل كالحديث الذي رواه فيه، بل قيل إنه واضعه، والمختلق له. وقد رمى مع غزارة علمه وكثرة حفظه بالمجازفة في النقل، وذكر أشياء لا حقيقة لها، وأراد المؤلف أن الأحاديث المطلقة في قول الراوي: كان يصلي في السفر ركعتين محمولة على المقيدة بأن المغرب بخلاف ذلك. وروى أحمد عن ثمامة بن شرحبيل قال: خرجت إلى ابن عمر فقلت: ما صلاة المسافر؟ قال: ركعتين إلاّ صلاة المغرب ثلاثًا. وروى البزار عن علي قال: صليت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاة الخوف ركعتين، إلاَّ المغرب ثلاثًا وصليت معه في السفر ركعتين إلاَّ المغرب ثلاثًا. وروى أحمد عن أبي نصرة أن فتى من أسلم سأل عمران بن حصين عن صلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ما سافر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلاَّ صلّى ركعتين إلاَّ المغرب. وروى الطبراني عن خزيمة بن ثابت قال: صلّى النبي -صلى الله عليه وسلم- يجمع المغرب والعشاء واثنتين بإقامة واحدة. الحديث الثاني عشر حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا أَعْجَلَهُ السَّيْرُ فِي السَّفَرِ يُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ. قَالَ سَالِمٌ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَفْعَلُهُ إِذَا أَعْجَلَهُ السَّيْرُ. وَزَادَ اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ سَالِمٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمُزْدَلِفَةِ. قَالَ سَالِمٌ: وَأَخَّرَ ابْنُ عُمَرَ الْمَغْرِبَ، وَكَانَ اسْتُصْرِخَ عَلَى امْرَأَتِهِ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ فَقُلْتُ لَهُ: الصَّلاَةُ. فَقَالَ: سِرْ. فَقُلْتُ: الصَّلاَةُ. فَقَالَ: سِرْ. حَتَّى سَارَ مِيلَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ

-صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي إِذَا أَعْجَلَهُ السَّيْرُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا أَعْجَلَهُ السَّيْرُ يُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ، فَيُصَلِّيهَا ثَلاَثًا ثُمَّ يُسَلِّمُ، ثُمَّ قَلَّمَا يَلْبَثُ حَتَّى يُقِيمَ الْعِشَاءَ فَيُصَلِّيَهَا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يُسَلِّمُ، وَلاَ يُسَبِّحُ بَعْدَ الْعِشَاءِ حَتَّى يَقُومَ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ. قوله: "إذا أعجله السير في السفر" يُخرج ما إذا أعجله السير في الحضر كأن يكون خارج البلد في بستان مثلًا. وقوله: "وزاد الليث حدّثني يونس" وصله الإسماعيلي بطوله عن القاسم بن زكرياء. وقوله: "استُصرخ" بالضم أي: استغيث بصوتٍ مرتفع، وهو من الصراخ بالخاء المعجمة، والمصرخ المغيث قال تعالى: {مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ}. وقوله: "فقلت له الصلاة" بالنصب على الإِغراء. وقوله: "فقلت له الصلاة" فيها ما كانوا عليه من مراعاة أوقات العبادة. وفي قوله: "سر" جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب، وظاهر سياق المؤلف: أن جميع ما بعد قوله زاد الليث ليس داخلًا في رواية شعيب، وليس كذلك فإنه أخرج رواية شعيب بعد ثمانية أبواب، وفيها أكثر من ذلك، وإنما الزيادة في قصة صفية، وصنيع ابن عمر خاصة، وفي التصريح بقوله: قال عبد الله: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقط. وقوله: "حتى سار ميلين أو ثلاثة" أخرجه المصنف في باب السرعة في السير من كتاب الجهاد من رواية أسلم مولى عمر. قال: كنت مع عبد الله بن عمر بطريق مكة فبلغه عن صفية بنت أبي عبيد شدة وجع فأسرع السير حتى إذا كان بعد غروب الشفق نزل فصلّى المغرب والعتمة جمع بينهما، فأفادت هذه الرواية تعيين السفر المذكور، ووقت انتهاء السير، والتصريح بالجمع بين الصلاتين وأفاد النسائي في رواية أنها كتبت إليه تعلمه بذلك. ولمسلم نحوه من رواية نافع عن ابن عمر. وفي رواية لأبي داود من هذا الوجه، فسار حتى غاب الشفق، وتصويت النجوم نزل فصلَّى الصلاتين جميعًا. وللنسائي من هذا الوجه حتى إذا كان في آخر الشفق نزل فصلَّى المغرب ثم أقام العشاء، وقد توارى الشفق فصلَّى بنا. فهذا محمول على إنها قصة أخرى ويدل على إن في أوله خرجتُ مع ابن عمر في صفر يزيد أرضًا له. وفي الأول أن ذلك كان بعد رجوعه من مكة، فدل على التعدد. وقوله: "وقال عبد الله رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أعجله السير" يؤخذ منه جواز التأخير بمن كان على ظهر سير، وسيأتي بعد ستة أبواب الكلام على الجمع تقديمًا وتأخيرًا مستوفي. وقوله: "يقيم المغرب" كذا للحموي، والأكثر بالقاف وهي موافقة للرواية الآتية، وللمستملي والكشميهني: يعتم بعين مهملة ساكنة بعدها مثناة فوقانية مكسورة أي: يدخل في العتمة، ولكريمة يؤخر وإنما خص ابن عمر صلاة المغرب والعشاء بالذكر، لوقوع الجمع له بينهما.

رجاله سبعة

رجاله سبعة: قد مرّوا، وفيه ذكر صفية بنت أبي عبيد، مرّ أبو اليمان وشعيب في السابع من بدء الوحي، ومرّ الزهري والليث في الثالث منه، ومرّ يونس بن يزيد في متابعة بعد الرابع منه، ومرّ سالم بن عبد الله في السابع عشر من الإيمان، ومرّ أبوه في أوله قبل ذكر حديث منه، وصفية بنت أبي عبيد بن مسعود الثقفية امرأة ابن عمر، وهي أخت المختار تزوجها ابن عمر في خلافة أبيه، فقد أخرج ابن سعد عن ابن عمر: أصدق عني عمر صفية أربعمائة، وزدت أنا مائة سرًّا. أُمها عليلة بنت أسيد بن أبي العاص أخت عتّاب أمير مكة. قال العجلي: مدنية تابعية ثقة، وذكرها ابن حِبّان في الثقات، وذكرها ابن عبد البر في الصحابة وقال لها رواية. وقال ابن مندة: أدركت النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا يصح لها منه سماع. وقال الدارقطني: لم تدرك النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في "الإصابة": وقوع تزويجها في خلافة عمر يقرب قول مَنْ قال إنها ولدت في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- فيحمل قول مَنْ نفى الإدراك على إدراك السماع، فكأنها لم يتميز إلاَّ بعد الوفاة النبوية. قال ابن سعد: ولدت لابن عمر، واقدًا وأبا بكر، وأبا عبيدة وعبيد الله وعمر وحفصة وسودة. وأخرج بسند جيد إنها قد أسنّت فكانت تطوف على الراحلة. حدّثت عن عمر وعائشة وحفصة وأُم سلمة. وروى عنها سالم ولد زوجها ونافع مولاه وعبد الله بن دينار وموسى بن عقبة. كان إسراع ابن عمر لما بلغه في الحج إنها في السياق في إمارة ابن الزبير. لطائف إسناده: فيه التحديث والإخبار بالجمع والإفراد والعنعنة والقول والرؤية، وفيه حمصيان ومدنيان ومصري وأيلي. أخرجه البخاري في موضعين في تقصير الصلاة، والنسائي في الصلاة. ثم قال المصنف:

باب صلاة التطوع على الدابة وحيثما توجهت

باب صلاة التطوع على الدابة وحيثما توجهت في رواية كريمة وأبي الوقت على لدواب بصيغة الجمع. قال ابن رشيد أورد فيه الصلاة على الراحلة، فيمكن أن يكون ترجم بأعم، ليلحق الحكم بالقياس، ويمكن أن يستفاد ذلك من إطلاق حديث جابر المذكور في الباب، وقد تقدم في أبواب الوتر قول ابن المنير أنه ترجم بالدابة تنبيهًا على أن لا فرق بينهما وبين البعير في الحكم إلى آخر كلامه، وأشرنا هناك إلى ما ورد هنا بعد باب بلفظ الدابة. الحديث الثالث عشر حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ. قوله: "يصلي على راحلته" بين في رواية عقيل أن ذلك في غير المكتوبة، وسيأتي بعد باب، وكذلك لمسلم من رواية يونس عن الزهري بلفظ: السبحة. والراحلة هي الناقة التي تصلح لأن ترحل، وكذلك الرحول ويقال: الراحلة المركب من الإبل ذكرًا كان أو أنثى قاله الجوهري. وقال ابن الأثير: الراحلة من الإبل البعير القوي على الأسفار والأحمال، والذكر والأنثى فيه سواء، والهاء للمبالغة. وقوله: "حيث توجهت به" هو أعم من قول جابر في غير القبلة. قال ابن التين: قوله: "حيث توجهت" مفهومه أنه يجلس على هيئته التي يركبها عليها. ويستقبل بوجهه ما استقبلته الراحلة. فقوله: توجهت به، يتعلق بقوله: يصلي وفي الرواية الآتية، وهو على الراحلة يسبح قبل أي وجه توجهت به، فصوب الطريق بدل من القبلة فلا يجوز له الانحراف عنه إلاَّ أن يكون إلى القبلة، فلا شيء عليه لأنها الأصل. وهذا خاص بالراكب للدابة خاصة دون الماشي ودون راكب السفينة. وقاست الشافعية الماشي على الراكب ويشترط عند المالكية أن يكون سفر قصر، وحجتهم أن هذه الأحاديث إنما وردت في أسفاره -عليه الصلاة والسلام- ولم ينقل أنه سافر سفرًا قصيرًا، فصنع ذلك. وحجة الجمهور مطلق الأخبار في ذلك، وهذا بالإجماع في السفر، واختلفوا في الحضر كأن يخرج إلى ضيعة، مسيرتها ميل أو نحوه، فجوزه أبو يوسف والإصطخري من الشافعية، محتجين بعموم حديث الباب؛ لأنه لم يصرح فيه بذكر السفر، واحتج الجمهور بحديث ابن عمر الآتي فإنه مذكور فيه السفر، وكذلك في إحدى روايات مسلم.

رجاله ستة

رجاله ستة: مرّ منهم علي بن عبد الله المديني في الرابع عشر من العلم، ومرّ عبد الأعلى في تعليق بعد الثالث من الإيمان، ومرّ معمر بن راشد في متابعة بعد الرابع من بدء الوحي، ومرّ الزهري في الثالث منه. والباقي اثنان: الأول: عبد الله بن عامر بن ربيعة العنزي أبو محمد المدني حليف بني عدي، ولد في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- له أخ أكبر منه اسمه أيضًا عبد الله استشهد يوم الطائف، فلما ولد هو سمّاه أبوه باسمه. أُمهما أُم عبد الله ليلى بنت أبي خيثمة بن عبد الله بن عويج. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأُمه: "ابشري بعبد الله خلف عن عبد الله". قال ابن حجر: وهذا لا يصح لما سيجيء أنه حفظ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو غلام. ومن ولد بعد الطائف إنما يدرك من حياته عليه الصلاة والسلام سنتين. قال الواقدي: كان عبد الله ثقة، قليل الحديث. وقال أبو زرعة: مدني أدرك النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو ثقة. وقال العجلي: مدني تابعي. ثقة من كبار التابعين، وأخرج أحمد والبخاري في "التاريخ" والطبراني عنه أنه قال: دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أُمي وأنا غلام فأدبرت خارجاً فنادتني أُمي: يا عبد الله تعال هاك فقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما تعطينه؟ "، قالت: تمرًا، قال: "أما إنك لو لم تفعلي لكانت عليك كِذبة". قال الواقدي: ما أراه محفوظًا مع إنه نقل عنه أنه كان ابن خمس سنين عند وفاته -عليه الصلاة والسلام-، وكذا قال ابن منده، وذكره الترمذي في الصحابة وقال: رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- وسمع منه حرفًا وإنما رأيته عن الصحابة، وكان شاعرًا ومن شعره ما رثى به زيد بن عمر بن الخطاب لما وقعت منازعة بين فريقين من بني عدي أحد الفريقين آل أبي حذيفة، والآخر آل المطيع بن الأسود فقتل زيد بن الخطاب بينهم فقال عبد الله بن عامر يرثيه: إنّ عديًا ليلةَ البقيع ... تَكشّفوا عن رجلٍ صريع مقاتل في الحسب الرفيع ... أدركه يوم بني مطيع روى عن أبيه، وعمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم، وروى عنه الزهري ويحيى بن سعيد الأنصاري، وعبد الرحمن بن القاسم وغيرهم. مات سنة بضع وثمانين، وقال الطبري: سنة خمس وثمانين. الثاني: أبو الأول عامر بن ربيعة بن كعب بن مالك بن ربيعة بن عامر بن مالك أبو عبد الله العنزي العدوي حليف آل الخطاب، كان من المهاجرين الأولين، أسلم قبل عمر وهاجر الهجرتين وشهد بدرًا والمشاهد كلها، هاجر الحبشة معه امرأته ليلى بنت أبي خيثمة، ثم هاجر بها إلى المدينة، كان أوّل مَنْ قدم المدينة مهاجرًا بعد أبي سلمة بن عبد الأسد، تبناه الخطاب وكان يُقال له عامر بن الخطاب حتى نزلت: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} فرجع عامر إلى نسبه، وهو صحيح النسب كان معه لواء عمر بن الخطاب لمّا قدم الجابية، واستخلفه عثمان على الحج. وروى يحيى بن

لطائف إسناده

سعيد الأنصاري عن ولده عبد الله قال: قام عامر يصلي من الليل، وذلك حين شعب الناس في الطعن علي عثمان، فصلَّى من الليل ثم نام، فأتى في منامه فقيل له: قم فسل الله أن يعيذك من الفتنة التي أعاذ منها صالح عباده، فقام فصلّى ثم اشتكى فما خرج بعد إلا جنازة، له اثنان وعشرون حديثًا اتفقا على حديثين. روى عن أبي بكر وعمر، وروى عنه ابنه عبد الله، وعبد الله بن عمر وابن الزبير وأبو أُمامة. مات سنة اثنين أو ثلاث أو ست أو سبع وثلاثين. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول والرؤية، ورواية الصحابي عن الصحابي. أخرجه البخاري أيضًا في تقصير الصلاة ومسلم في الصلاة. الحديث الرابع عشر حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَهُ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُصَلِّي التَّطَوُّعَ وَهْوَ رَاكِبٌ فِي غَيْرِ الْقِبْلَةِ. قوله: "وهو راكب" في الرواية الآتية: على راحلته نحو المشرق. وزاد: وإذا أراد أن يصلي المكتوية نزل فاستقبل القبلة. وبيّن في المغازي عن جابر أن ذلك كان في غزوة أنمار، وكانت أرضهم قبل المشرق لمن يخرج من المدينة، فتكون القبلة على يسار المقاصد إلميهم. وزاد الترمذي عن أبي الزبير عن جابر بلفظ: فجئت وهو يصلي على راحلته نحو المشرق السجود أخفض من الركوع. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ أبو نعيم في الخامس والأربعين من الإيمان، ومرّ شيبان ويحيى بن أبي كثير في الثالث والخمسين من العلم، ومرّ جابر في الرابع من بدء الوحي، ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان القرشي العامري مرّ في الثامن من استقبال القبلة. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإخبار بالإفراد والعنعنة والقول، وفيه رواية التابعي عن التابعي. أخرجه البخاري في تقصير الصلاة أيضًا وفي الصلاة. الحديث الخامس عشر حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ وَيُوتِرُ عَلَيْهَا، وَيُخْبِرُ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَفْعَلُهُ.

رجاله خمسة

قوله: "كان ابن عمر يصلي على راحلته" يعني: في السفر، وصرّح به في حديث الباب الذي بعده. وقوله: "ويوتر عليها" لا يعارض ما رواه أحمد بإسناد صحيح عن سعيد بن جبير أن ابن عمر، كان يصلي على الراحلة تطوعًا فإذا أراد أن يوتر نزل فأوتر على الأرض؛ لأنه محمول على أنه فعل كلا الأمرين ويؤيد رواية الباب ما تقدم في أبواب الوتر، أنه أنكر على سعيد بن يسار نزوله الأرض ليوتر وإنما أنكر عليه مع أنه كان يفعله؛ لأنه أراد أن يبين له أنّ النزول ليس بحتم، ويحتمل أن يتنزل فعل ابن عمر على حالين، فحيث أوتر على الراحلة كان مُجدًا في السير، وحيث نزل فأوتر على الأرض، كان بخلاف ذلك. وفي الحديث جواز الوتر كغيره من النوافل على الراحلة، وبه قال مالك والشافعي وأحمد، ولو صلى منذورة أو جنازة على الراحلة لم يجز لسلوكهم بالأولى مسلك واجب الشرع ولأن الركن الأعظم في الثانية القيام، وفعلها على الدابة السائرة يمحو صورته، ولو فرض إتمامه عليها، فكذلك كما اقتضاه كلامهم؛ لأن الرخصة إنما كانت لكثرته وتكراره، وهذه نادرة. وصرّح الإِمام بالجواز. وصوبه الأسنوي قال: وكلام الرافعي يقتضيه. وقالت الحنفية: لا يجوز الوتر إلاَّ على الأرض، كما في الفرض، وإنما جازت صلاته -صلى الله عليه وسلم- للوتر على الراحلة مع كونه واجبًا عليه، لكون صلاته على الراحلة مع الوجوب خصوصية له -عليه الصلاة والسلام-. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ عبد الأعلي بن حمّاد في الرابع والثلاثين من الغسل، ومرّ وهيب في السادس والعشرين من العلم، ومرّ نافع في الأخير منه، ومرّ موسى بن عقبة في الخامس من الوضوء ومرّ ابن عمر في أول الإيمان قبل ذكر حديث منه. ثم قال المصنف:

باب الإيماء على الدابة

باب الإيماء على الدابة أي: للركوع والسجود لمن لم يتمكن من ذلك، وبهذا قال الجمهور، وروى أشهب عن مالك، وهو مشهور مذهبه أن الذي يصلي على الدابة لا يسجد ولو أمكنه بل يومىء. الحديث السادس عشر حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يُصَلِّي فِي السَّفَرِ عَلَى رَاحِلَتِهِ، أَيْنَمَا تَوَجَّهَتْ يُومِىءُ. وَذَكَرَ عَبْدُ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَفْعَلُهُ. هذا الحديث مرّ في أبواب الوتر في باب الوتر في السفر، عن موسى هذا عن جويرية بن أسماء فكان لموسى فيه شيخان، فإن الراوي عن ابن عمر في ذلك مغاير لهذا، وزاد في رواية جويرية يومىء إيماءً، إلاَّ الفرائض. قال ابن دقيق العيد: الحديث يدل على الإيماء مطلقًا في السجود والركوع معًا، والفقهاء قالوا: يكون الإيماء في السجود أخفض من الركوع، ليكون البدل على وفق الأصل، وليس في لفظ الحديث ما يثبته ولا ينفيه، إلاَّ إنه وقع في حديث جابر عند الترمذي كما مرّ. وقوله: "يومىء" أي: يشير برأسه إلى الركوع والسجود من غير أن يضع جبهته على ظهر الراحلة، وإنما جاز ذلك في النافلة تيسيرًا لتكثيرها. فإن ما اتسع طريقه سهل فعله. وقد مرّت مباحث الوتر في قراءة القرآن بعد الحدث وغيره من كتاب "الوضوء"، وفي باب الحلق في المسجد من أبواب المساجد. رجاله أربعة: مرّ منهم موسى بن إسماعيل في الخامس من بدء الوحي، ومرّ عبد الله بن دينار في الثاني من الإيمان، ومرّ ابن عمر الآن، ومرّ عبد العزيز بن مسلم القسملي في تعليق بعد الأربعين من العلم. ثم قال المصنف:

باب ينزل للمكتوبة

باب ينزل للمكتوبة أي: لأجلها قال ابن بطال: أجمع العلماء على اشتراط ذلك، وإنه لا يجوز لأحد أن يصلي الفريضة على الدابة من غير عذر، حاشا ما ذكره في صلاة شدة الخوف. الحديث السابع عشر حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ أَنَّ عَامِرَ بْنَ رَبِيعَةَ أَخْبَرَهُ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهْوَ عَلَى الرَّاحِلَةِ يُسَبِّحُ، يُومِىءُ بِرَأْسِهِ قِبَلَ أَيِّ وَجْهٍ تَوَجَّهَ، وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَصْنَعُ ذَلِكَ فِي الصَّلاَةِ الْمَكْتُوبَةِ. قوله: "يسبح" أي: يصلي النافلة. وقد تكرر في الحديث كثيرًا، وسيأتي قريبًا حديث عائشة سبحة الضحى والتسبيح حقيقة في قول: "سبحان الله" فإذا أطلق على الصلاة فهو من باب إطلاق اسم البعض على الكل، أو لأن المصلي منزّه لله تعالى بإخلاص العبادة، والتسبيح التنزيه، فيكون من باب الملازمة وأما اختصاص ذلك بالنافلة، فهو عرف شرعي. رجاله ستة: قد مرّوا، مرّت الأربعة الأول بهذا النسق في الثالث من بدء الوحي، ومرّ عبد الله وأبوه عامر في الثالث عشر من التقصير هذا. الحديث الثامن عشر وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: قَالَ سَالِمٌ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُصَلِّي عَلَى دَابَّتِهِ مِنَ اللَّيْلِ وَهْوَ مُسَافِرٌ، مَا يُبَالِي حَيْثُ مَا كَانَ وَجْهُهُ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُسَبِّحُ عَلَى الرَّاحِلَةِ قِبَلَ أَيِّ وَجْهٍ تَوَجَّهَ، وَيُوتِرُ عَلَيْهَا، غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ. قال المهلب: هذه الأحاديث تخص قوله تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}. وتبين أن قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} في النافلة. وقد أخذ بمضمون هذه الأحاديث

رجاله خمسة

فقهاء الأمصار، إلاَّ أن أحمد وأبا ثور كانا يستحبان أن يستقبل القبلة بالتكبير، حال ابتداء الصلاة. والحجة لذلك حديث الجارود بن أبي سبرة عن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا أراد أن يتطوع في السفر استقبل بناقته القبلة، ثم صلّى حيث توجهت ركابه، أخرجه أبو داود وأحمد والدارقطني. وقد مرّ عند حديث عامر بن ربيعة ما قيل من الخلاف في الصلاة على الدابة في السفر الذي لا تقصر فيه الصلاة، فمنعه مالك وجوزه الجمهور، واحتج الطبري للجمهور من طريق النظر أن الله تعالى جعل التيمم رخصة للمريض والمسافر، وقد أجمعوا على أن مَنْ كان خارج المصر على ميل أو أقل، ونيته العود إلى منزله لا إلى سفر آخر، ولم يجد ماءً، أنه يجوز له التيمم. قال: فكما جاز له التيمم في هذا جاز له التنفل على الدابة لاشتراكهما في الرخصة. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ محل الليث وابن شهاب في الذي قبله، ومرّ يونس بن يزيد في متابعة بعد الرابع من بدء الوحي، ومرّ سالم بن عبد الله في السابع عشر من الإيمان، ومرّ أبوه عبد الله في أوله قبل ذكر حديث منه، وهذا الحديث أتى به معلقًا، وقد مرّ أن الإسماعيلي وصله. الحديث التاسع عشر حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ الْمَكْتُوبَةَ نَزَلَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ. قوله: "أن يصلي المكتوبة" نزل فلا يصلي الفريضة على الدابة. قال القسطلاني: يعني إذا كانت سائرة، فلو صليت على هودج عليها، وهي واقفة صحت، وكذا لوكان في سرير يحمله رجال وإن مشوا به بخلاف الدابة السائرة، لأن سيرها منسوب إليه، بدليل جواز الطواف عليها، وفرق المتولي بينها وبين الرجال السائرين بالسرير بأنَّ الدابة لا تكاد تثبت على حالةٍ واحدةٍ، فلا تراعي الجهة، بخلاف الرجال، قال: حتى لو كان للدابة من يلزم لجامها ويُسيرها، بحيث لا تختلف الجهة، جاز ذلك. قلت: مذهب مالك أن الصحيح لا تجوز له الصلاة على الدابة إلاَّ لعذر كالخوف في الالتحام، أو خوفٍ من سبع أو لص فيصليها على الدابة، وإنْ لغير القبلة، وكذلك يُصليها عليها إذا كان في خضخاض لا يطيق النزول به لخوف الغرق أو لخوف تلويث ثيابه على أحد قولين مشهورين. وهل تقيد بفسادها بالغسل أو لا؟ قولان: الأظهر الثاني، ولابد من خوف خروج الوقت ومن استقباله الفبلة. وأما المريض فإنْ كان لا يطيق النزول صلّى على الدابة من غير اعتبار، وإن كان يطيق النزول صلّى على الدابة إيماءً مستقبلًا للقبلة، موقفة له إذا كان إذا نزل صلّى على

رجاله خمسة

الأرض إيماء. وقال تقي الدين: قد يتمسك بهذه الأحاديث على أنّ صلاة الفرض لا تُصلّى على الراحلة، وليس بقوي في الاستدلال؛ لأنه ليس فيه إلا ترك الفعل المخصوص، وليس الترك بدليل على الامتناع. وقد يقال إن دخول وقت الفريضة مما يكثر على المسافر فترك الصلاة على الراحلة دائمًا مع إن فعل النوافل على الراحلة مشعر بالفرق بينهما في الجواز وعدمه. وقد مرّ ما حكاه ابن بطال من الإجماع على منع صلاة الفرض على الراحلة من غير عذر. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ معاذ بن فضالة في التاسع عشر من الوضوء، ومرّ هشام الدستوائي في السابع والثلاثين من الإيمان، ومرّ يحيى بن أبي كثير في الثالث والخمسين من العلم، ومرّ محمد بن عبد الرحمن في الرابع عشر من هذا الكتاب، ومرّ جابر في الرابع من بدء الوحي. ثم قال المصنف:

باب صلاة التطوع على الحمار

باب صلاة التطوع على الحمار قال ابن رشيد: مقصوده أنه لا يشترط في التطوع على الدابة أن تكون ظاهرة الفضلات، بل الباب في المركوبات واحد بشرط أن لا يماس النجاسة. وقال ابن دقيق العيد: يؤخذ من هذا الحديث طهارة عرق الحمار؛ لأن ملامسته مع التحرز منه متعذر، لاسيما إذا طال الزمان في ركويه واحتمل العرق. الحديث العشرون حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَبَّانُ قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ سِيرِينَ قَالَ: اسْتَقْبَلْنَا أَنَسًا حِينَ قَدِمَ مِنَ الشَّأْمِ، فَلَقِينَاهُ بِعَيْنِ التَّمْرِ، فَرَأَيْتُهُ يُصَلِّي عَلَى حِمَارٍ وَوَجْهُهُ مِنْ ذَا الْجَانِبِ، يَعْنِي عَنْ يَسَارِ الْقِبْلَةِ. فَقُلْتُ رَأَيْتُكَ تُصَلِّي لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ. فَقَالَ: لَوْلاَ أَنِّى رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَعَلَهُ لَمْ أَفْعَلْهُ. قوله: "استقبلْنا" بسكون اللام. وقوله: "حين قدم من الشام" كان أنس قد توجه إلى الشام يشكو من الحجّاج عن عبد الملك، وفي رواية مسلم: حين قدم الشام، وغلطوه، لأن أنس بن سيرين إنما تلقاه لما رجع من الشام، فخرج ابن سيرين من البصرة ليتلقاه، ويمكن توجيهه بأن يكون المراد بقوله: حين قدم الشام، مجرد ذكر الوقت الذي وقع له فيه، ذلك كما تقول: فعلت كذا لمّا حججت. قال النووي: رواية مسلم صحيحة. ومعناه: تلقيناه في رجوعه حين قدم الشام. وقوله: "فلقيناه بعين التمر" وهو موضع بطريق العراق مما يلي الشام، وكانت فيه وقعة شهيرة في آخر خلافة أبي بكر، بين خالد بن الوليد والأعاجم، ووجد بها غلمانًا من العرب، كانوا رهنًا تحت يد كسرى منهم: جد الكلبي المفسر، وحمران مولى عثمان، وسيرين مولى أنس. وقوله: "ووجهه من ذا الجانب يعني عن يسار القبلة" لم يبِّين في هذه الرواية كيفية صلاة أنس، وذكره في "الموطأ" عن يحيى بن سعيد، قال: رأيت أنسًا وهو يصلّي على حمار، وهو متوجه إلى غير القبلة يركع ويسجد إيماءً من غير أن يضع جبهته على شيء. وقوله: "رأيتك تصلي لغير القبلة" فيه إشعار بأنه لم ينكر الصلاة على الحمار، ولا غير ذلك من هيئة أنس في ذلك. وإنما أنكر عدم استقبال القبلة فقط. وفي قول أنس: لولا أني رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يفعله يعني: ترك استقبال القبلة للمتنفل على الدابة، جواب عن ذلك. وهل يؤخذ منه أن

رجاله خمسة

النبي -صلى الله عليه وسلم- صلّى على حمار. فيه احتمال، وقد نازع في ذلك الإسماعيلي فقال: خبر أنس، إنما هو في صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- راكبًا تطوعًا لغير القِبْلَة، فإفراد الترجمة في الحمار من جهة السنة، لا وجه له عندي. وقد أورد السراج عن يحيى بن سعيد أنه رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي على حمار، وهو ذاهب إلى حيبر، إسناده حسن، وله شاهد عند مسلم عن سعيد بن يسار عن ابن عمر رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلّي على حمار، وهو متوجه إلى خيبر، فهذا يرجح الاحتمال الذي أشار إليه البخاري. رجاله خمسة: قد مرّوا إلاَّ شيخ البخاري، مرّ حِبّان بن هلال في الحادي والخمسين من مواقيت الصلاة، ومرّ همام بن يحيى في الرابع والثمانين من الوضوء، ومرّ أنس بن سيرين في الرابع والعشرين من الجماعة، ومرّ أنس في السادس من الإيمان، وشيخ البخاري هو أحمد بن سعيد بن صخر الدارمي أبو جعفر السرخسي ثم النيسابوري. قال الخطيب: كان أحد المذكورين بالفقه ومعرفة الحديث والحفظ له. قال أحمد: ما قدم على خراسان أفقه بديننا منه، وعظمه حجاج الشاعر وكتب إليه أحمد لأبي جعفر أكرمه الله من أحمد بن حنبل. وقال يحيى بن زكرياء: كان ثقة جليلًا. وقال أحمد بن محمد بن عقدة: أقدمه الطاهرية هراة، وكان أحد حفاظ الحديث المتقين الثقة العالم بالحديث وبالرواة، تولى قضاء سرخس ثم انصرف إلى نيسابور إلى أن مات بها. وقال ابن حِبّان: كان ثقة ثبتًا صاحب حديث يحفظ. روى عن النضر بن شميل وأبي عامر العقدي ويحيى بن أبي كثير وغيرهم. وروى عنه الجماعة سوى النسائي والفلاس وأبو موسى، وهما أكبر منه، ووهب بن جرير وهو من شيوخه وغيرهم. مات بنيسابور سنة ثلاث وخمسين ومائتين. والسرخسي في نسبه نسبة إلى سرخس بلد عظيم بخراسان نهر، وهي بفتح السين والراء وسكون الخاء على الصحيح وضبطت بوزن جعفر ودرهم، ينسب إليها من القدماء محمد بن المهلب السرخسي شيخ أبي عبد الله الداغس وآخرون. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والقول، وشيخ البخاري مروزي، والبقية بصريون. ثم قال: ورواه إبراهيم بن طهمان عن حجاج عن أنس بن سيرين عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في "الفتح": لم يسق المصنف المتن، ولا وقفنا عليه موصولًا من طريق إبراهيم، ووقع عند السراج عن عمر بن عامر عن الحجّاج بن الحجّاج بلفظ: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي على ناقته حيث توجهت به، فعلى هذا كأن أنسًا قاس الصلاة على الحمار بالصلاة على الراحلة. وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما مضى أن مَنْ صلّى على موضع فيه نجاسة لا يباشرها بشيء منه، أتى صلاته صحيحة؛ لأن الدابة لا تخلو من نجاسة، ولو على منفذها، وفيه الرجوع إلى أفعاله كالرجوع إلى أقواله من غير عرضة للاعتراض عليه، وفيه تلقى المسافر، وسؤال التلميذ شيخه عن مسند فعله، والجواب بالدليل، وفيه التلطف في السؤال والعمل بالإشارة، لقوله من ذا الجانب.

رجاله أربعة

رجاله أربعة: قد مرّوا إلاَّ حجاج، مرّ محل أنس وأنس في الذي قبله، ومرّ إبراهيم بن طهمان في التاسع والعشرين من الغسل، وحجاج هو ابن حجّاج الباهلي البصري الأحول، وزعم بعضهم أنه هو حجّاج الأسود زق العسل القسملي، وفرق بينهما ابن أبي حاتم وهو الصواب. قال أحمد: ليس به بأس. وقال ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: ثقة من الثقات صدوق أروى الناس عنه إبراهيم بن طهمان، وهو أحد أصحاب قتادة، وذكره ابن حِبّان في الثقات. وقال أبو داود: ثقة روى عن أنس بن سيرين وقتادة ويونس بن عبيدة وغيرهم. وروى عنه إبراهيم بن طهمان نسخة كبيرة، ويزيد بن زريع وقزعة بن سويد وغيرهم. مات في طاعون البصرة سنة إحدى وثلاثين ومائة. ثم قال المصنف:

باب من لم يتطوع في السفر دبر الصلاة

باب مَنْ لم يتطوع في السفر دبر الصلاة زاد الحموي في روايته وقبلها، والأرجح رواية الأكثر، لما يأتي في الباب الذي بعده، والمقصود هنا بيان أن مطلق قول ابن عمر صحبت النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم أره يسبح في السفر أي: يتنفل الرواتب التي قبل الفريضة وبعدها، وذلك مستفاد من قوله في الرواية الثانية، وكان لا يزيد في السفر على ركعتين. الحديث الحادي والعشرون حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَنَّ حَفْصَ بْنَ عَاصِمٍ حَدَّثَهُ قَالَ: سَافَرَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما فَقَالَ: صَحِبْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَلَمْ أَرَهُ يُسَبِّحُ فِي السَّفَرِ، وَقَالَ اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}. رجاله خمسة: قد مرّوا، إلاَّ عمر بن محمد، مرّ يحيى بن سليمان في الخامس والخمسين من العلم، ومرّ ابن وهب في الثالث عشر منه، ومرّ حفص بن عاصم في الثاني والستين من مواقيت الصلاة، ومرّ ابن عمر في أول الإيمان قبل ذكر حديث منه، وعمر هو ابن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي المدني نزيل عسقلان، روى عنه الثوري وأثنى عليه. وقال أحمد وابن معين والعجلي وأبو داود ثقة. زاد ابن معين: كان مرابطًا بعسقلان، وكان ولده بها، وكان صالح الحديث. وقال أبو حاتم: هم خمس إخوة أوثقهم عمر، وهو ثقة صدوق، وقال الثوري: لم يكن في آل عمر أفضل منه. وقال ابن عيينة: حدّثني البر الصدوق عمر بن محمد بن زيد، وقال أبو عاصم كان من أفضل أهل زمانه كان أكثر مقامه بالشام، قدم إلى بغداد فانجفل الناس إليه، وقالوا: ابن عمر بن لخطاب ثم قدم الكوفة فأخذوا عنه، وكان له قدر وجلالة، وذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال الخريبي: ما رأيت رجلًا قط أطول منه، وبلغني أنه كان يلبس درع عمر بن الخطاب فيسحبها، وقال ابن سعد: كان ثقة، قليل الحديث، روى عن أبيه وجده زيد وعم أبيه سالم ونافع مولى ابن عمر وغيرهم. وروى عنه أخوه عاصم وشعبة ومالك والسفيانان وابن المبارك وغيرهم، مات بعسقلان بعد أخيه أبي بكر بقليل، ومات أبو بكر بعد خروج محمد بن عبد الله بن حسن، وخرج محمد سنة خمس وأربعين ومائة، وقتل سنة خروجه على الصحيح.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإفراد والسؤال والقول، ورواته ما بين كوفي وبصري ومدني، أخرجه البخاري أيضًا ومسطم في الصلاة، وكذلك أبو داود والنسائي وابن ماجه. الحديث الثاني والعشرون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عِيسَى بْنِ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَكَانَ لاَ يَزِيدُ فِي السَّفَرِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ كَذَلِكَ رضي الله عنهم. قوله: "فكان لا يزيد في السفر على ركعتين" قال ابن دقيق العيد: هذا اللفظ يحتمل أن لا يزيد في عدد ركعات الفرض، فيكون كناية عن نفي الإتمام، والمراد به الإخبار عن المداومة على القصر، ويحتمل أن يريد لا يزيد نفلًا، ويمكن أن يريد ما هو أعم من ذلك، ويدل على هذا الثاني رواية مسلم من الوجه الثاني الذي أخرجه المصنف، ولفظه: صحبت ابن عمر في طريق مكة، فصلَّى لنا الظهر ركعتين، ثم أقبل وأقبلنا معه حتى جاء رحله وجلسنا معه، فحانت منه التفاتة فرأى ناسًا قيامًا فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قلت: يسبحون، قال: لو كنت مسبحًا لأتممت، فذكر المرفوع كما ساقه المصنف قال النووي: أجابوا عن قول ابن عمر هذا بأن الفريضة محتمة، فلو شرعت تامة لتحتم إتمامها وتعقب بأن مراد ابن عمر بقوله: لو كنت مسبحًا لأتممت. يعني أنه لو كان مخيرًا بين الإتمام وصلاة الراتبة، لكان الإتمام أحب إليه، لكنه فهم من القصر التخفيف، فلذلك كان لا يصلي الراتبة، ولا يتم. وقوله: "وأبا بكر" معطوف على قوله: "صحبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-". وقوله: "وعمر وعثمان كذلك" أي إنه صحبهم وكانوا لا يزيدون في السفر على ركعتين، وفي ذكر عثمان إشكال؛ لأنه كان في آخر أمره يتم الصلاة كما تقدم قريبًا، فيحمل على الغالب أو المراد به أنه كان لا يتنفل في أول أمره، ولا في آخره، وأنه إنما كان يتم إذا كان نازلًا، وأما إذا كان سائرًا فيقصر، فلذلك قيده في هذه الرواية بالسفر، وهذا أولى لما تقدم تقريره في الكلام على تأويل عثمان. رجاله خمسة: قد مرّوا إلاَّ عيسى، وفيه ذكر أبي بكر وعمر وعثمان، مرّ مسدد ويحيى القطان في السادس من الإيمان، ومرّ محل حفص وابن عمر في الذي قبله، ومرّ أبو بكر في باب مَنْ لم يتوضأ من لحم الشاة، بعد الحادي والسبعين من الوضوء، ومرّ عمر في الأول من بدء الوحي، ومرّ عثمان في تعليق بعد الخامس من العلم، وعيسى هو ابن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العدوي أبو زياد المدني لقبه رباح وهو عم عبيد الله بن عمر أُمه ميمونة بنت داود الخزرجية، وربما عرف بقبيلة

أخواله، فيقال له عيسى بن حفص الأنصاري. قال ابن معين وأحمد والنسائي والعجلي: ثقة، وقال ابن سعد: كان قليل الحديث. له في الكتب حديثان: أحدهما عن أبيه عن ابن عمر في قصر الصلاة، والآخر عن نافع عن ابن عمر في فضل المدينة. روى عن أبيه وسعيد بن المسيب وعبيد الله العمري والقاسم بن محمد وغيرهم، وروى عنه سليمان بن بلال ويحيى القطان ووكيع وغيرهم، مات في خلافة أبي جعفر سنة سبع وخمسين ومائة وهو ابن ثمانين سنة. ثم قال المصنف:

باب من تطوع في السفر في غير دبر الصلاة وقبلها

باب مَنْ تطوع في السفر في غير دبر الصلاة وقبلها سقط عند أبي الوقت وابن عساكر، والأصيلي في غير دبر الصلاة وقبلها، وثبت عند أبي ذر، وهذا مشعر بأن نفي التطوع في السفر محمول على ما بعد الصلاة خاصة متصلًا بها، فلا يتناول ما قبلها، ولا ما لا تعلق له بها من النوافل المطلقة، كالتهجد، والوتر، والضحى. فقوله: "وقبلها" عطف على قوله "في غير دبر الصلاة"، وهو من عطف الخامس على العام، وبيان ذلك هو أن قوله في غير دبر الصلاة يشمل ما كان قبلها مطلقًا متصلًا، كان بها أو منفصلًا، وما بعدها منفصلًا عنها بحيث لا يكون في دبرها. والفرق بين ما قبلها وما بعدها أن التطوع قبلها لا يظن أنه منها؛ لأنه ينفصل عنها بالإقامة وانتظار الإِمام غالبًا بخلاف ما بعدها، فإنه في الغالب يتصل بها، فقد يظن أنه منها، وقد ذكر العلماء في السفر خمسة أقوال: المنع مطلقًا، والجواز مطلقًا، والفرق بين الرواتب والمطلقة وهو مذهب ابن عمر. كما أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن مجاهد قال: صحبت ابن عمر من المدينة إلى مكة وكان يصلي تطوعًا على دابته، حيثما توجهت به، فإذا كانت الفريضة نزل فصلَّى. والرابع الفرق بين الليل والنهار في المطلقة، والخاص ما مرّ من الفرق بين القبلية والبعدية. ثم قال: وركع النبي -صلى الله عليه وسلم- في السفر ركعتي الفجر، ورد ذلك في حديث أبي قتادة عند مسلم في قصة النوم عن صلاة الصبح، ففيه: ثم صلّى ركعتين قبل الصبح ثم صلّى الصبح كما كان يصليها. وله من حديث أبي هريرة في هذه القصة أيضًا، ثم دعا بماء فتوضأ ثم صلى سجدتين أي: ركعتين ثم أُقيمت الصلاة فصلّى صلاة الغداة، الحديث. ولابن خزيمة والدارقطني عن سعيد بن المسيب عن بلال في هذه القصة: فأمر بلالًا فأذّن ثم توضأ، فصلوا ركعتين ثم صلّوا الغداة، ونحوه للدارقطني عن عمران بن حصين قال: صاحب الهدى لم يحفظ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه صلّى سنة الصلاة قبلها ولا بعدها في السفر إلاَّ ما كان من سنة الفجر. قال في "الفتح": ويرد على إطلاقه ما رواه أبو داود والترمذي عن البراء بن عازب قال: سافرت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ثمانية عشر سفرًا فلم أره ترك ركعتين إذا زاغت الشمس قبل الظهر. وكأنه لم يثبت عنده، لكن الترمذي استغربه، ونقل عن البخاري أنه رآه حسنًا، وقد حمله بعض العلماء على سنة الزوال لا على الراتبة قبل الظهر.

الحديث الثالث والعشرون

الحديث الثالث والعشرون حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرٍو بن مرة عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: مَا أَنْبَأَ أَحَدٌ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- صَلَّى الضُّحَى غَيْرُ أُمِّ هَانِىء ذَكَرَتْ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ اغْتَسَلَ فِي بَيْتِهَا، فَصَلَّى ثَمَانِ رَكَعَاتٍ، فَمَا رَأَيْتُهُ صَلَّى صَلاَةً أَخَفَّ مِنْهَا، غَيْرَ أَنَّهُ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ. هذا لا يدل على نفي الوقوع؛ لأن عبد الرحمن بن أبي ليلى إنما نفى ذلك عن نفسه، وأما قول ابن بطال: لا حجة في قول ابن أبي ليلى، وترد عليه الأحاديث الواردة في أنه صلّى الضحى وأمر بها، ثم ذكر منها جملة. فلا يرد على ابن أبي ليلى شيء منها. والمقصود هنا أنه -صلى الله عليه وسلم- صلّاها يوم فتح مكة. وفي حديث ابن عباس أنه كان حينئذ يقصر الصلاة المكتوبة، وكان حكمه حكم المسافر. وقد مرّت مباحث صلاة الضحى مستوفاة غاية الاستيفاء عند ذكر هذا الحديث أوائل كتاب الصلاة في باب الصلاة في الثوب الواحد ملتحفًا به. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ حفص بن عمر في الثالث والثلاثين من الوضوء، ومرّ شعبة في الثالث من الإيمان، ومرّ عمرو بن مرة في السبعين من الجماعة، ومرّ ابن أبي ليلى في الثالث والستين من صفة الصلاة، ومرّت أُم هانىء في الثلاثين من الغسل. أخرجه البخاري هنا، وفي المغازي ومسلم في الصلاة، وكذلك أبو داود والترمذي والنسائي. الحديث الرابع والعشرون وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- صَلَّى السُّبْحَةَ بِاللَّيْلِ فِي السَّفَرِ عَلَى ظَهْرِ رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ. هذا الحديث قد مرّ قبل بابين موصولًا من رواية الليث عن عقيل، ولكن لفظ الروايتين مختلف، ورواية يونس هذه وصلها الذهلي في "الزهريات" عن أبي صالح عنه. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ الليث والزهري في الثالث من بدء الوحي، ومرّ يونس بن يزيد في متابعة بعد الرابع منه، ومرّ عبد الله بن عامر وأبوه عامر في الثالث عشر من التقصير هذا.

الحديث الخامس والعشرون

الحديث الخامس والعشرون حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُسَبِّحُ عَلَى ظَهْرِ رَاحِلَتِهِ حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ، يُومِىءُ بِرَأْسِهِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ. قوله: "يومىء برأسه" هو تفسير لقوله يسبح أي: يصلي إيماءً. وقد تقدم في باب الإيماء على الدابة من وجه آخر عن ابن عمر، لكن هناك ذكره موقوفًا ثم عقبه بالمرفوع، وهنا ذكره مرفوعًا ثم عقبه بالموقوف. وفائدة ذلك مع أن الحجة قائمة بالمرفوع أن يبين أن العمل استمر على ذلك، ولم يتطرق إليه نسخ ولا معارض ولا راجح. وقد اشتملت أحاديث الباب على أنواع ما يتطوع به، سوى الراتبة التي بعد المكتوبة، فالأول: وهو المعلق لما قبل المكتوبة. والثاني: لما له وقت مخصوص من النوافل، كالضحى، والثالث: لصلاة الليل، والرابع: لمطلق النوافل. وقد جمع ابن بطال بين ما اختلف على ابن عمر في ذلك بأنه كان يمنع التنفل على الأرض. ويقول به على الدابة. وقال النووي تبعًا لغيره: لعل النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي الرواتب في رحله، ولا يراه ابن عمر، أو لعله تركها في بعض الأوقات، لبيان الجواز. وقد مرّ في باب مَنْ لم يتطوع في السفر دبر الصلاة ما يحصل به الجمع، بين ما اختلف عن ابن عمر. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ أبو اليمان وشعيب في السابع من بدء الوحي، والزهري في الثالث منه، وسالم بن عبد الله في السابع عشر من الإيمان، وأبوه في أوله قبل ذكر حديث منه. ثم قال المصنف:

باب الجمع في السفر بين المغرب والعشاء

باب الجمع في السفر بين المغرب والعشاء أورد فيه ثلاثة أحاديث: حديث ابن عمر، وهو مقيد بما إذا جد السير. وحديث ابن عباس: وهو مقيد بما إذا كان سائرًا. وحديث أنس: وهو مطلق، واستعمل المصنف الترجمة مطلقة إشارة إلى العمل بالمطلق؛ لأن المقيد فرد من أفراده، وكأنه رأى جواز الجمع بالسفر سواء كان سائرًا أم لا، سواء كان سيرًا مجدًا أم لا، وهذا مما وقع فيه الاختلاف بين أهل العلم، فقال بالإطلاق كثير من الصحابة والتابعين. ومن الفقهاء: الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأشهب، ولكن لابد عند هؤلاء من كون السفر سفر قصر، وسواء كان في البر أو البحر. وقال قوم: لا يجوز الجمع مطلقًا إلا بعرفة ومزدلفة. وهو قول الحسن والنخعي وأبي حنيفة وصاحبيه، ووقع عند النووي أن الصاحبين خالفا شيخهما ورده السروجي في شرح الهداية وهو أعرف بمذهبه وأجابوا عمّا ورد في ذلك من الأخبار بأن الذي وقع جمع صوري، وهو أنه أخر المغرب مثلًا إلى آخر وقتها، وعجّلِ العشاء في أول وقتها. وتعقبه الخطابي بأن الجمع رخصة، فلو كان على ما ذكروه لكان أعظم ضيقًا من الإتيان بكل صلاة في وقتها؛ لأن أوائل الأوقات وأواخرها مما لا يدركه أكثر الخاصة فضلًا عن العامة، ومن الدليل على أن الجمع رخصة قول ابن عباس: أراد أن لا يحرج أمته. أخرجه مسلم. وأيضًا فإن الأخبار جاءت صريحة بالجمع في وقت إحدى الصلاتين كما سيأتي في الباب الذي يليه، وذلك هو المتبادر إلى الفهم من لفظ الجمع، ومما يرد العمل على أن الجمع الصوري جمع التقديم الآتي ذكره بعد باب، وأيضًا لو كان الجمع كما قالوا لجاز الجمع بين العصر والمغرب، وبين العشاء والصبح، ولا خلاف بين الأُمة في تحريم ذلك. وقيل: يختص الجمع بمن يجد به السير؛ لأمر يخاف فواته. وبه قال الليث وهو أحد قولين مشهورين عند المالكية، ولا يشترط عندهم كون السفر سفر قصر، وهو عندهم جائز لا مكروه ولا مندوب، وهذا فيمن زالت الشمس عليه أو غربت وهو راكب، فيؤخر الوقتين إن نوى النزول في الاصفرار أو قبله، وإن نوى النزول بعد الغروب أو كان يعرف وقت نزوله صلاهما جمعًا صوريًا في وقتيهما، وينزل الثلث الأول من الليل منزلة ما قبل الاصفرار، والثلثان للفجر منزلة الاصفرار، والفجر منزلة الغروب. وهذا في جمع التأخير. ويأتي جمع التقديم. وقالت الشافعية: يجوز الجمع في الجمعة والعصر تقديمًا، كما نقله الزركشي واعتمده لا تأخيرًا؛ لأن الجمعة لا يتأتى تأخيرها عن وقتها، ولا تجمع المتحيرة تقديمًا، والأفضل عندهم تأخير الأولى إلى الثانية للسائر وقت الأولى، ولمن بات بمزدلة وتقديم الثانية إلى

الحديث السادس والعشرون

الأولى للنازل في وقتها، والواقف بعرفة. وقيل: يختص الجمع بالسائر دون النازل وهو قول ابن حبيب من المالكية وقيل: يختص بمن له عذر، حكي عن الأوزاعي. وقيل: يجوز جمع التأخير دون التقديم وهو مروي عن مالك وأحمد، واختاره ابن حزم، وإنما أورد المصنف أبواب الجمع في أبواب التقصير؛ لأنه تقصيرِ بالنسبة إلى الزمان، ولأن سببه التقصير أو السفر على ما مرّ، ثم ذكر أبواب صلاة المعذور قاعداً؛ لأنه تقصير بالنسبة إلى بعض صور الأفعال، ويجمع الجميع الرخصة للمعذور. الحديث السادس والعشرون حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ إِذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ. قوله: "جدَّ به السير" أي: اشتد. قاله صاحب "المحكم". وقال عياض: جدَّ به السير أسرع، وكأنه نسب الإسراع إلى السير توسعًا. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ علي بن عبد الله المديني في الرابع عشر من العلم، ومرّ سفيان بن عيينة في الأول من بدء الوحي، ومرّ محل الثلاثة الباقية في الذي قبله، والحديث أخرجه مسلم والنسائي في الصلاة. الحديث السابع والعشرون وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنِ الْحُسَيْنِ الْمُعَلِّمِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَجْمَعُ بَيْنَ صَلاَةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ إِذَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ سَيْرٍ، وَيَجْمَعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. قوله: "وقال إبراهيم بن طهمان" وصله البيهقي عن محمد بن عبدوس عن إبراهيم المذكور بسنده المذكور إلى ابن عباس بلفظه. وقوله: "على ظهر سير" كذا للأكثر بالإضافة، وفي رواية الكشميهني: على ظهر بالتنوين يسير بلفظ المضارع بتحتانية مفتوحة في أوله. قال الطيبي: الظهر في قوله: ظهر سير للتأكيد، كقوله الصدقة عن ظهر غنىً، ولفظ الظهر يقع في مثل هذا اتساعًا للكلام كأنّ السير كان مستندًا إلى ظهر قوي من المطي مثلًا، وقال غيره: جعل للسير ظهر؛ لأن الراكب ما دام سائرًا فكأنه راكب ظهر، وفيه جناس التحريف بين الظهر والظهر واستدل به على جواز جمع التأخير المتقدم. وأما جمع التقديم فسيأتي الكلام عليه بعد باب.

رجاله خمسة

رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ إبراهيم بن طهمان في التاسع والعشرين من الغسل، ومرّ حسين المعلم في السادس من الإيمان، ومرّ يحيى بن أبي كثير في الثالث والخمسين من العلم، ومرّ عكرمة في السابع عشر منه، ومرّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي، وقد أخرج البخاري هذا الحديث معلقًا، ووصله البيهقي. الحديث "الثامن والعشرون" (¬1) وَعَنْ حُسَيْنٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ حَفْصِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَجْمَعُ بَيْنَ صَلاَةِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي السَّفَرِ. قوله: "وعن حسين" هو معطوف على الذي قبله والتقدير وقال إبراهيم بن طهمان عن حسين عن يحيى عن حفص وبذلك جزم أبو نعيم في المستخرج ويحتمل أن يكون علقه عن حسين لا بقيد كونه من رواية إبراهيم بن طهمان عنه لم يقيده بجد في السير، ولا بعدمه، لكن من يشترط الجدَّ فيه يقول هو مطلق، فيحتمل على المقيد وأجيب: بأن هذا عام، وذلك ذكر بعض أفراده، فلا يخصص به. وقال ابن بطال: كل راو يروي ما رآه، وكلٌ سنة. رجاله أربعة: مرّ منهم محل حسين ويحيى في الذي قبله، ومرّ أنس في السادس من الإيمان، وحفص بن عبيد الله بن أنس مرّ في التاسع والثلاثين من الجمعة. وهذا الحديث أخرجه البخاري معلقًا، وقد وصله الإسماعيلي في كتابه مجموع حديث يحيى بن أبي كثير. ثم قال: تابعه علي بن المبارك وحرب عن يحيى عن حفص عن أنس جمع النبي -صلى الله عليه وسلم- أي: تابعًا حسينًا. أمّا متابعة علي بن المبارك فأخرجها الإسماعيلي وأبو نعيم في "المستخرج"، وأمّا متابعة حرب بن شدّاد، فقد أخرجها البخاري في آخر الباب الذي بعده. ورجال المتابعتين خمسة: مرّ محل أنس وحفص في الذي قبله، وقد تابعهم معمر عند أحمد وأبان بن يزيد عند الطحاوي عن يحيى بن أبي كثير به، ومرّ محل يحيى في الذي قبل ذلك، ومرّ علي بن المبارك في متابعة بعد الرابع والثلاثين من الآذان، وحرب بن شداد مرّ في متابعة بعد التاسع والستين من الوضوء. ثم قال المصنف: ¬

_ (¬1) ورد هذا الرقم مكررًا، هنا وفي الحديث الذي يليه أيضًا فأثبتناه كما هو في المخطوط.

باب هل يؤذن أو يقيم إذا جمع بين المغرب والعشاء

باب هل يؤذن أو يقيم إذا جمع بين المغرب والعشاء قال ابن رشيد: ليس في حديثي الباب تنصيص على الآذان، لكن في حديث ابن عمر منهما يقيم المغرب فيصليها، ولم يرد بالإقامة نفس الآذان، وإنما أراد يقيم للمغرب. فعلى هذا، فكان مراده بالترجمة هل يؤذن أو يقتصر على الإقامة؟ وجعل حديث أنس مفسرًا بحديث ابن عمر، لأن في حديث ابن عمر حكمًا زائدًا، ولعل المصنف أشار بذلك إلى ما ورد في بعض طرق حديث ابن عمر. ففي الدارقطني عن نافع عن ابن عمر في قصة جمعه بين المغرب والعشاء: فنزل فأقام الصلاة، وكان لا ينادي بشيء من الصلاة في السفر، فقام فجمع بين المغرب والعشاء. ثم رفع الحديث وقال الكرماني: لعل الراوي لما أطلق لفظ الصلاة استفيد منه أنّ المراد بها التامة بأركانها وشرائطها وسننها، ومن جملتها الآذان والإقامة، وسبقه ابن بطال إلى نحو هذا. الحديث الثامن والعشرون حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا أَعْجَلَهُ السَّيْرُ فِي السَّفَرِ يُؤَخِّرُ صَلاَةَ الْمَغْرِبِ، حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ. قَالَ سَالِمٌ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَفْعَلُهُ إِذَا أَعْجَلَهُ السَّيْرُ، وَيُقِيمُ الْمَغْرِبَ فَيُصَلِّيهَا ثَلاَثًا، ثُمَّ يُسَلِّمُ، ثُمَّ قَلَّمَا يَلْبَثُ حَتَّى يُقِيمَ الْعِشَاءَ، فَيُصَلِّيهَا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يُسَلِّمُ وَلاَ يُسَبِّحُ بَيْنَهَا بِرَكْعَةٍ، وَلاَ بَعْدَ الْعِشَاءِ بِسَجْدَةٍ حَتَّى يَقُومَ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ. قوله: "يؤخر صلاة المغرب" لم يبين غاية التأخير، وبينه مسلم عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر بأنه بعد أن يغيب الشفق. وفي رواية عبد الرزاق عن معمر. عن أيوب وموسى بن عقبة عن نافع: فأخر المغرب بعد ذهاب الشفق حتى ذهب هوى من الليل، وللمصنف في الجهاد عن أسلم مولى عمر عن ابن عمر في هذه القصة: حتى كان بعد غروب الشفق نزل، فصلَّى المغرب والعشاء جمعاً بينهما. ولأبي داود عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر في هذه القصة: فسار حتى غاب الشفق وتصوبت النجوم، فنزل فصلَّى الصلاتين جمعًا. وجاءت عن ابن عمر روايات أُخر: أنه صلّى المغرب في آخر الشفق ثم أقام الصلاة. وقد توارى الشفق فصلَّى العشاء. أخرجه أبو داود عن نافع. ولا تعارض بينه وبين ما سبق؛ لأنه كان في واقعة أخرى. وقوله: "ثم قلّما يلبث حتى يقيم العشاء" فيه إثبات للبث قليل، وذلك نحو ما ثبت في الجمع

رجاله خمسة

بمزدلفة من إناخة الرواحل، ويدل عليه ما تقدم من الطرق التي فيها جمع بينهما وصلاهما جميعًا، وفيه حجة على مَنْ حمل أحاديث الجمع على الجمع الصوري، قال إمام الحرمين: ثبت في الجمع أحاديث نصوص لا يتطرق إليها تأويل. ودليله من حيث المعنى الاستنباط من الجمع بعرفة ومزدلفة، فإن سببه احتياج الحاج إليه لاشتغالهم بمناسكهم، وهذا المعنى موجود في كل الأسفار ولم تتقيد الرخص كالقصر والفطر بالنسك إلى أن قال: ولا يخفى على منصف أن الجمع أرفق من القصر، فإنّ القائم إلى الصلاة لا يشق عليه ركعتان يضمهما إلى ركعتيه. ورفق الجمع واضح لمشقة النزول على المسافر، واحتج به مَنْ قال باختصاص الجمع لمن جدَّ به السير. وسيأتي ذلك في الباب الذي بعده. وقوله: "من جوف الليل" أي: يتهجد. وروى ابن أبي شيبة عن ابن عمر أنه كان لا يتطوع في السفر قبل الصلاة، ولا بعدها وكان يصلي من الليل. قال القسطلاني: وإذا قلنا بمشروعية الرواتب في السفر وهو مذهبنا، فإن جمع الظهر والعصر قدم سنة الظهر التي قبلها، وله تأخيرها، سواء جمع تقديمًا أو تأخيرًا وتوسطها إن جمع تأخيرًا سواء قدّم الظهر أم العصر وأخّر سنتها الذي بعدها، وله توسيطها إن جَمع تأخيرًا. وقدم الظهر وأخّر عنهما سنة العصر، وله توسطها وتقديمها إن جَمع تأخيرًا، سواء قدّم الظهر أم العصر، وإذا جَمع المغرب والعشاء أخّر سنتيهما مرتبة سنة المغرب، ثم سنة العشاء ثم الوتر، وله توسيط سنة المغرب إن جَمع تأخيرًا وقدّم المغرب، وتوسيط سنة العشاء إن جَمع تأخيرًا وقدّم العشاء، وما سوى ذلك ممنوع. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ أبو اليمان وشعيب في السابع من بدء الوحي، ومرّ الزهري في الثالث منه، ومرّ سالم في السابع عشر من الإيمان، وأبوه في أوله قبل ذكر حديث منه. الحديث التاسع العشرون حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: أخبرنا عَبْدُ الصَّمَدِ بن عبد الوارث قَالَ: حَدَّثَنَا حَرْبٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنِى حَفْصُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّ أَنَسًا رضي الله عنه حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الصَّلاَتَيْنِ فِي السَّفَرِ. يَعْنِي الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ. هذا الحديث قد مرّ في الباب الذي قبله. ورجاله ستة: قد مرّوا، إسحاق يحتمل أنه ابن منصور الكوسج، وقد مرّ في الخامس والثلاثين من الإيمان، ويحتمل أنه ابن راهويه، وقد مرّ في تعليق بعد الحادي والعشرين من العلم، ومرّ يحيى بن أبي كثير في الثالث والخمسين منه، ومرّ عبد الصمد في السادس والثلاثين منه، ومرّ محل حرب في

لطائف إسناده

المتابعة قبله بحديث، ومرّ محل حفص بن عبيد الله في الذي قبله بحديث، وفيه محل أنس. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإفراد والإخبار بالأفراد والقول، ورواته ما بين يمامي ومروزي. ثم قال المصنف:

باب يؤخر الظهر إلى العصر إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس

باب يؤخر الظهر إلى العصر إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس في هذا إشارة إلى أن جمع التأخير عند المصنف يختص بمن ارتحل قبل أن يدخل وقت الظهر. قلت: وهو كذلك عند المالكية كما مرَّ. ثم قال: فيه ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- يشير إلى حديثه الماضي، قبل باب فإنه قيد الجمع فيه بما إذا كان على ظهر السير، ولا قائل بأنه يصليهما وهو راكب، فتعين أن المراد به جمع التأخير، ويؤيده رواية يحيى بن عبد الحميد الحماني في مسنده عن ابن عباس، ففيها التصريح بذلك، وإن كان في إسناده مقال، لكنه يصلح للمتابعة. وقد رواه أحمد والترمذي بما هو صريح في معنى الترجمة، فإن فيهما عنه أنه -عليه الصلاة والسلام- كان إذا زاغت الشمس في منزله جمع بين الظهر والعصر قبل أن يركب. وإذا لم تزغ له في منزله سار، حتى إذا كانت العصر نزل فجمع بين الظهر والعصر. وقد مرّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي. الحديث الثلاثون حَدَّثَنَا حَسَّانُ الْوَاسِطِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُفَضَّلُ بْنُ فَضَالَةَ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَإِذَا زَاغَتْ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ رَكِبَ. قوله: "تزيغ" بزاي ومعجمة أي: تميل. وقد زاغت مالت، وذلك إذا قام الفيء. وقوله: "ثم يجمع بينهما" أي: في وقت العصر، وفي رواية قتيبة عن المفضل في الباب الذي بعده: ثم نزل فجمع بينهما. ولمسلم عن عقيل: يؤخر الظهر إلى وقت العصر، فيجمع بينهما. ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها، وبين العشاء حين يغيب الشفق، وله من رواية شبابة عن عقيل: حتى يدخل أول وقت العصر، ثم يجمع بينهما. وقوله: "وإذا زاغت" أي: قبل أن يرتحل كما سيأتي الكلام عليه في الباب الذي بعده. رجاله خمسة: مرّ منهم عقيل بن خالد والزهري في الثالث من بدء الوحي، ومرّ أنس في السادس من الإيمان، والباقي اثنان: الأول: حسان بن عبد الله بن سهل الكندي الواسطي أبو علي سكن مصر، ذكره ابن حِبّان في

لطائف إسناده

الثقات. وقال أبو حاتم: ثقة. وقال ابن يونس: صدوق حسن الحديث كان أبوه واسطيًا. وولد حسان بمصر ومات بها. روى عن المفضل بن فضالة والليث وابن لهيعة وغيرهم، وروى عنه البخاري، وروى له النسائي وابن ماجه بواسطة ويحيى بن معين وأبو حاتم الرازي وغيرهم. مات بمصر سنة اثنين وعشرين ومائتين. ووهم مَنْ زعم أنه حسّان بن حسان الواسطي فإنه ليست له رواية عن المصريين، وقد ضعفه الدارقطني. الثاني: المفضل بن فضالة بن عبيد بن ثمامة بن مزيد بن نوف الرُّعَيني ثم القِتباني أبو معاوية المصري قاضيها. قال ابن معين: ثقة. وقال أيضًا: رجل صدوق، وكان إذا انكسرت يد رجل أو رجله جبرها، وكان يصنع الأرحية. وقال أبو زرعة: لا بأس. وقال أبو حاتم: وابن خراش صدوق في الحديث. وقال ابن يونس: وُلِّي القضاء مرتين بمصر، وكان من أهل الفضل والدين، ثقة في الحديث من أهل الورع، ذكره أحمد بن شعيب يوماً وأنا حاضر فأحسن الثناء عليه، ووثقه وقال: سمعت قتيبة بن سعيد يذكر عنه فضلًا وقال أبو داود: كان مجاب الدعوة. ولم يحدث عنه ابن وهب، وذلك أنه قضى عليه بقضية، وذكره ابن حِبّان في الثقات وقال عيسى بن حماد: كان مجاب الدعوة طويل القيام مع ضعف البدن، وقال عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم: أخبرني بعض مشائخنا أن رجلًا لقي المفضل بن فضالة بعد أن عزل عن القضاء فقال له: حسبك الله قضيت علي بالباطل، فقال له المفضل: لكن الذي قضيت له يطيب الثناء. وقال ابن سعد: منكر الحديث، له في البخاري حديثان أحدهما في قصر الصلاة في السفر عن عقيل عن ابن شهاب الزهري عن أنس، والثاني في فضائل القرآن في التعوذ بالمعوذات عن عقيل عن الزهري عن عروة عن عائشة، وتابعه عليه عنده الليث. روى عن يزيد بن أبي حبيب ومحمد بن عجلان وعقيل بن خالد وغيرهم. وروى عنه ابنه فضالة والوليد بن مسلم وحسّان بن عبد الله الواسطي وقتيبة بن سعيد وغيرهم. ولد سنة سبع ومائة، ومات سنة إحدى أو اثنتين وثمانين ومائة في شوال. والقتباني في نسبه نسبة إلى قتبان بالكسر، بطن من رعين من حمير. ويقال لموضع بعدن، وقيل إن الموضع سمّى بقتبان المذكور. والرعيني في نسبه أيضًا نسبة إلى ذي رعين كزبير ملك حمير. من ولد الحارث بن عمرو بن حمير بن سبأ، وهم آل ذي رعين، ورعين حصن له أو جبل فيه حصن ومخلاف باليمن يعرف بشعب ذي رعين وأنشد الجوهري: جَاريةٌ من شعب ذي رعينِ ... حياكة تَمشي بعلطتَينِ لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، وشيخ البخاري من أفراده ورواته ما بين بصري وأيلي ومدني. أخرجه مسلم في الصلاة، وكذا أبو داود والنسائي. ثم قال المصنف:

باب إذا ارتحل بعدما زاغت الشمس صلى الظهر ثم ركب

باب إذا ارتحل بعدما زاغت الشمس صلّى الظهر ثم ركب الحديث الحادي والثلاثون حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بن سعيد قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُفَضَّلُ بْنُ فَضَالَةَ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ، ثُمَّ نَزَلَ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ زَاغَتِ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ رَكِبَ. هذا هو الحديث المذكور قبله وفيه: فإذا زاغت الشمس قبل أنْ يرتحل صلّى الظهر ثم ركب فقط. وهو المحفوظ عن عقيل في الكتب المشهورة، ومقتضاه أنه كان لا يجمع بين الصلاتين إلاَّ في وقت الثانية منهما. وبه احتج مَنْ أبى جمع التقديم كما مرّ، وقد قال أبو داود: ليس في تقديم الوقت حديث قائم. وقد روى إسحاق بن راهويه حديث الباب عن شبابة بن سوار فقال: إذا كان في سفر فزالت الشمس صلّى الظهر والعصر جميعًا ثم ارتحل. أخرجه الإسماعيلي، ولا يقدح فيه. تفرد إسحاق به عن شبابة ولا تفرد جعفر الفريابي به عن إسحاق؛ لأنهما حافظان، والمشهور في جمع التقديم حديث أبي داود والترمذي وأحمد وابن حِبّان عن الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل عن معاذ بن جبل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخّر الظهر حتى يجمعها إلى العصر، فيصليهما جميعًا، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلّى الظهر والعصر جميعًا، لكنه أعل بتفرد قتيبة به عن الليث بل أشار البخاري إلى أنَّ بعض الضعفاء أدخله على قتيبة في حديثه، كما حكاه الحاكم في "علوم الحديث"، وله طريق أخرى عن معاذ بن جبل أخرجها أبو داود من رواية هشام بن سعد عن أبي الزبير عن أبي الطفيل، لكن هشام مختلف فيه، فقد ضعفه ابن معين. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقد خالف الحفاظ من أصحاب أبي الزبير كمالك والثوري وقرة بن خالد، فلم يذكروا في روايتهم جمع التقديم. وقد ورد فيه حديث عن ابن عباس، أخرجه أحمد. وقد تقدم ذكره أول الباب السابق وأورده أبو داود تعليقًا، والترمذي في بعض الروايات عنه، وفي إسناده حسين بن عبد الله الهاشمي، وهو ضعيف، لكن له شاهد عن حمّاد عن

أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس لا أعلمه إلا مرفوعًا: أنه كان إذا نزل منزلًا في السفر فأعجبه أقام فيه، حتى يجمع بين الظهر والعصر، ثم يرتحل فإذا لم يتهيأ له المنزل مدّ في السفر، حتى ينزل فيجمع بين المغرب والعشاء. أخرجه البيهقي ورجاله ثقات إلاَّ إنه مشكوك في رفعه ووقفه، والمحفوظ أنه موقوف. وقد أخرجه البيهقي من وجه آخر مجزومًا بوقفه على ابن عباس. ولفظه: إذا كنتم سائرين فذكر نحوه. وقد روى مسلم عن جابر أنه -صلى الله عليه وسلم- جمع بين الظهر والعصر بعرفة في وقت الظهر، فلو لم يرد من فعله إلا هذا، لكان أول دليل على جوار جمع التقديم في السفر. قال الزهري: سألت سالمًا هل يجمع بين الظهر والعصر في السفر؟ قال: نعم، ألا ترى إلى صلاة الناس بعرفة. وعند المالكية فيه تفصيل، وحاصله أنه إذا زالت عليه الشمس وهو نازل مريدًا الإرتحال، فإنْ نوى النزول بعد الغروب جمعهما حينئذ قبل الارتحال، وإن نواه قبل الاصفرار أخّر العصر وجوبًا، وإن نواه في الاصفرار خُيِّر بين تأديتها قبل الارتحال وتأديتها بعد النزول في الاصفرار. وقد مرّ أن الثلث الأول في العشاءين ينزل منزلة ما قبل الاصفرار، والثلثان الأخيران منزلة الاصفرار، والفجر منزلة الغروب. قال القسطلاني: ويشترط لجمع التقديم ثلاثة شروط: تقديم الأولى على الثانية؛ لأن الوقت لها، والثانية تبع فلا تتقدم على متبوعها. وأن ينوي الجمع في الأولى. وأن يوالي بينهما؛ لأن الجمع يجعلهما كصلاة واحدة، ولأنه -عليه الصلاة والسلام- لما جمع بينهما بنمرة والى بينهما، وترك الرواتب، وأقام الصلاة بينهما. نعم لا يضر فصل يسير في العرف وإن جمع تأخيرًا فلا يشترط إلاَّ نيَّة التأخير للجمع في وقت الأولى ما بقي قدر ركعة، فإن أخّرها حتى فات وقت الأداء بلا نيّة للجمع عصى وقضى. وفي حديث أنس استحباب التفرقة في حال الجمع بين ما إذا كان سائرًا أو نازلًا. وقد استدل به على اختصاص الجمع بمن جدَّ به السّير، لكن وقع التصريح في حديث معاذ بن جبل في "الموطأ". ولفظه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخّر الصلاة في غزوة تبوك خرج فصلَّى الظهر والعصر جميعًا ثم دخل ثم خرج، فصلَّى المغرب والعشاء جمعًا. قال الشافعي في "الأم": قوله: دخل ثم خرج لا يكون إلا وهو نازل، فللمسافر أن يجمع نازلًا ومسافرًا. وقال ابن عبد البر: في هذا أوضح دليل على الرد على مَنْ قال لا يجمع إلا مَنْ جدَّ به السير، وهو قاطع للالتباس. وحكى عياض أن بعضهم أوّل قوله: ثم دخل أي في طريق مسافرًا ثم خرج أي عن طريق للصلاة ثم استبعده. قلت: وهذا وإن كان بعيدًا، فهو أولى من الأول؛ لأن الأول يجعل النازل الذي لا يريد السفر يومًا أو يومين يجمع، وهذا بعيد جدًا إذْ لا مشقة عليه حتى يجمع، ولهذا رواه مالك في "موطئه"ولم يفهم منه هذا المعنى ولا عمل به قال في "الفتح": وكأنه -صلى الله عليه وسلم- فعل ذلك لبيان الجواز، وكان أكثر

رجاله خمسة

عادته ما دلّ عليه حديث أنس. ومن ثم قال الشافعي: إنَّ الأفضل ترك الجمع. وعن مالك رواية أنه مكروه. قلت: والأشهر ما مرّ من أنه جائز لا مكروه ولا مندوب، وفي هذه الأحاديث تخصيص لحديث الأوقات التي بيّنها جبريل للنبي -صلى الله عليه وسلم- وبيّنها النبي -صلى الله عليه وسلم- للأعرابي حيث قال في آخرها الوقت ما بين هاتين. وقد تقدم الكلام على الجمع بين الصلاتين بعذر المرض، أو المصر أو الحاجة في الحضر في المواقيت في باب تأخير الظهر إلى العصر، وفي باب وقت المغرب. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ قتيبة بن سعيد في الحادي والعشرين من الإيمان، ومرّ المفضل بن فضالة في الذي قبله، ومرّ فيه محل الثلاثة الباقية. ثم قال المصنف:

باب صلاة القاعد

باب صلاة القاعد قال ابن رشيد: أطلق الترجمة فيحتمل أن يريد صلاة القاعد للعذر، إِمامًا كان أو مأمومًا أو منفردًا، ويؤيده أن أحاديث الباب دالة على التقييد بالعذر، ويحتمل أن يريد مطلقًا لعذر ولغير عذر، ليبين أن ذلك جائز إِلاَّ ما دل الإجماع على منعه. وهو صلاة الفرض للصحيح قاعدًا. الحديث الثاني والثلاثون حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي بَيْتِهِ وَهْوَ شَاكٍ، فَصَلَّى جَالِسًا وَصَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قِيَامًا، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنِ اجْلِسُوا، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: "إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا". قوله: "وهو شاكٍ" بالتنوين مخففًا من الشكاية. وهذا الحديث قد مرّ الكلام عليه في أبواب الإمامة في باب حد المريض أن يشهد الجماعة، وفي باب إِنما جعل الأمام ليؤتم به، وفي باب الصلاة على السطوح أوائل كتاب الصلاة. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ محل قتيبة في الذي قبله، ومرّت الأربعة الباقية بهذا النسق في الثاني من بدء الوحي. الحديث الثالث والثلاثون حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: سَقَطَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ فَرَسٍ فَخُدِشَ أَوْ فَجُحِشَ شِقُّهُ الأَيْمَنُ، فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ نَعُودُهُ، فَحَضَرَتِ الصَّلاَةُ فَصَلَّى قَاعِدًا فَصَلَّيْنَا قُعُودًا وَقَالَ: "إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. فَقُولُوا رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ". بيَّن في هذا الحديث سبب الشكاية، وهي في صلاة الفرض بلا خلاف، وقد مرّت مباحث

رجاله أربعة

هذا الحديث مستوفاة غاية الاستيفاء في باب الصلاة على السطوح أوائل كتاب الصلاة. رجاله أربعة: قد مرّوا، مرّ أبو نعيم في الخامس والأربعين من الإيمان، ومرّ أنس في السادس منه، ومرّ ابن عيينة في الأول من بدء الوحي، والزهري في الثالث منه. الحديث الرابع والثلاثون حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ قَالَ: أَخْبَرَنَا حُسَيْنٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه أَنَّهُ سَأَلَ نَبِىَّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ وَكَانَ مَبْسُورًا قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ صَلاَةِ الرَّجُلِ قَاعِدًا فَقَالَ: "إِنْ صَلَّى قَائِمًا فَهْوَ أَفْضَلُ، وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَائِمِ، وَمَنْ صَلَّى نَائِمًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَاعِدِ". قوله في السند الأول: "عن عمران بن حصين" في رواية عفان عن عبد الوارث حدّثنا عمران أخرجه الإسماعيلي، وفيه غنية عن تكلف ابن حِبّان إقامة الدليل على أن ابن بريدة عاصر عمران. وقوله في السند: "سمعت أبي" عبد الوارث التنوري. وهذه أنزل من التي قبلها، ومن التي بعدها بدرجة، لكن استفيد منها تصريح ابن بريدة بقوله: حدّثني. وقوله: "وكان مبسورًا" بسكون الموحدة بعدها مهملة أي: كانت به بواسير كما صرّح به بعد باب. والبواسير جمع باسور يقال بالموحدة وبالنون، والذي بالموحدة ورم في باطن المعدة، والذي بالنون قرحة فاسدة، لا تقبل البرء ما دام فيها هذا الفساد. وقوله: "عن صلاة الرجل قاعدًا" قال الخطابي: كنت تأولت هذا الحديث على أن المراد به صلاة التطوع للقادر، لكن قوله فيه: ومَنْ صلّى نائمًا أي مضطجعًا يفسده؛ لأن المضطجع لا يصلي التطوع كما يفعل القاعد؛ لأني لا أحفظ عن أحدٍ من أهل العلم أنه رخص في ذلك، فإن صحت هذه اللفظة، ولم يكن بعض الرواة أدرجها قياسًا منه للمضطجع على القاعد كما يتطوع المسافر على راحلته، فالتطوع للقادر على القعود مضطجعًا جائز بهذا الحديث. قال: وفي القياس المتقدم نظر؛ لأن القعود شكل من أشكال الصلاة، بخلاف الاضطجاع، قال: وقد رأيت الآن أن المراد بحديث عمران المريض المفترض الذي يمكنه أن يتحامل فيقوم على مشقة، فجعل أجر القاعد على النصف من أجر القائم؛ ترغيبًا له في القيام مع جواز قعوده، وهو حمل متجه، ويؤيده صنيع البخاري حيث أدخل في الباب حديثي عائشة وأنس، وهما في

صلاة المفترض قطعًا، وكأنه أراد أن تكون الترجمة شاملة لأحكام المصلي قاعدًا أو يتلقى ذلك من الأحاديث التي أوردها في الباب، فمَنْ صلّى فرضًا قاعدًا، وكان يشق عليه القيام أجزاه، وكأنَّ هو ومَنْ صلّى قائمًا سواء. كما دل عليه حديث أنس وعائشة، فلو تحامل هذا المعذور وتكلف القيام، ولو شق عليه كان أفضل؛ لمزيد أجر تكلف القيام، فلا يمتنع أن يكون أجره على أصل الصلاة فيصح أن أجر القاعد على النصف من أجر القائم، بغير إشكال، وأما قول الباجي: إن الحديث في المفترض والمتنفل معًا، فإن أراد بالمفترض ما قررناه فذاك، وإلا فقد أبى ذلك أكثر العلماء. وحكى ابن التين وغيره عن أبي عبيد وابن الماجشون وإسماعيل القاضي وابن شعبان والإسماعيلي والداودي وغيرهم أنهم حملوا حديث عمران على المتنفل القادر، وكذا نقله الترمذي عن الثوري قال: وأما المعذور إذا صلّى جالسًا فله أجر القائم. قال: وفي هذا الحديث ما يشهد له، يشير إلى ما أخرجه البخاري في "الجهاد" من حديث أبي موسى رفعه: "إذا مرضَ العبدُ أو سافرَ كُتِبَ له صالح ما كان يعمل وهو صحيح مقيم". ويشهد لهذا الحديث ما أخرجه عبد الرزاق وأحمد، وصححه الحاكم عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعًا: "إنَّ العبد إذا كان على طريقةٍ حَسَنة من العبادة ثم مرض قيل للملك الموكل به: اكتب له مثل عمله إذا كان طليقًا حتى أطلقه أو أكفته إلى". ولأحمد عن أنس رفعه: "إذا ابتلى الله العبدَ المسلمَ ببلاءٍ في جسده قال الله: اكتب له صالحَ عَمله الذي كانَ يَعمَله فإنْ شفاهُ غَسلهُ وطهره وإنْ قَبَضَهُ غفَر له وَرَحِمَه". وللطبراني عن أبي موسى: "أنَّ الله يكتبُ للمريض أفضلَ ما كان يعمل في صحتهِ ما دام في وثاقِهِ". وعند النسائي من حديث عائشة: "ما من امريءٍ تَكونُ لهُ صلاة من الليلِ يغلبه عليها نومٌ أو وجع إلاَّ كُتبَ له أجْرُ صَلاتِه، وكان نَومُه عَليه صَدَقةٌ". ويؤيد ذلك قاعدة تغليب فضل الله تعالى وقبول عذر من له عذر، ولا يلزم من اقتصار العلماء المذكورين في حمل الحديث المذكور على صلاة النافلة أن لا ترد الصورة التي ذكرها الخطابي. وقد ورد في الحديث ما يشهد لها فعند أحمد عن ابن جريج عن ابن شهاب عن أنس قال: قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة وهي محمة فحمى الناس فدخل النبي -صلى الله عليه وسلم- المسجد والناس يصلون من قعود فقال: "صلاةُ القاعدِ نِصفُ صَلاةِ القائمِ". رجاله ثقات، وعند النسائي متابع له من وجه آخر، وهو وارد في المعذور، فيحمل على مَنْ تكلف القيام مع مشقته عليه، كما بحثه الخطابي. وأمّا نفي الخطابي جواز التنفل مضطجعًا، فقد تبعه ابن بطال على ذلك وزاد، لكن الخلاف ثابت. فقد نقله الترمذي بإسناده إلى الحسن البصري قال: إنْ شاء الرجل صلّى صلاة التطوع قائمًا وجالسًا ومضطجعًا. وقال به جماعة من أهل العلم. وهو أحد الوجهين للشافعية، وصححه المتأخرون. وحكى القاضي عياض في الإِكمال عن المالكية فيه ثلاثة أوجه: الجواز مطلقًا في الاختيار والاضطرار للصحيح والمريض، لظاهر الحديث، وهو الذي صَدّر به القاضي كلامه. والثاني: منعه مطلقًا لهما إذْ ليس في هيئة الصلاة.

والثالث: جوازه لعدم قوة المريض فقط. قلت: هذا الأخير هو مشهور مذهب مالك. وسؤال عمران عن الرجل خرج مخرج الغالب، فلا مفهوم له، بل الرجل والمرأة في ذلك سواء. وقوله: "ومَنْ صلى قاعدًا فَلهُ نِصفُ أجر القائم". يستثنى من عمومه النبي -صلى الله عليه وسلم- فإن صلاته قاعدًا لا ينقص أجرها عن صلاته قائمًا، لحديث عبد الله بن عمرو قال: بلغني أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "صلاةُ الرجل قاعدًا على نصف الصلاة". فأتيته فوجدته يصلي جالسًا فوضعت يدي على رأسي، فقال: ما لك يا عبد الله فأخبرته فقال: "أجل ولكني لست كأحدٍ منكم". أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي، وهذا ينبني على أن المتكلم داخل في خطابه، وهو الصحيح، وقد عدّ الشافعية هذه المسألة في خصائصه -صلى الله عليه وسلم-. وقال عياض في الكلام على تنفل -صلى الله عليه وسلم- قاعدًا. قد علله في حديث عبد الله بن عمرو بقوله: "لست كأحدٍ منكم"، فيكون هذا مما خُصَّ به. قال: ولعله أشار بذلك إلى مَنْ لا عذر له، فكأنه قال: إني ذو عذرٍ، ولم يبين في الحديث كيفية القعود، فيؤخذ من إطلاقه جوازه على أي صفة شاء المصلي، وهو قضية كلام الشافعي في البويطي. وقد اختلف في الأفضل فعن الأئمة الثلاثة متربعًا، وقيل يجلس مفترشًا، وهو موافق لقول الشافعي في مختصر المزني، وصححه الرافعي ومَنْ تبعه، وقيل متوركًا وبه قال اللخمي من المالكية، واستدلت الحنفية بالحديث على جواز صلاة النفل قاعدًا مع القدرة على القيام، وحملوا الحديث على صلاة التطوع، كما مرّ عن غيرهم. قال صاحب الهداية، وتصلى النافلة قاعدًا مع القدرة على القيام لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "صلاةُ القاعدِ على النصفِ من صلاةِ القَائم". وقوله: "ومن صَلّى نائمًا فلة نِصفُ أجرِ القاعد" بالنون يعني مضطجعًا على هيئة النائم، كما يدل عليه قوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الآتي في الباب التالي، فإن لم يستطع، فعلى جنب. وترجم النسائي باب صلاة النائم، ويدل عليه أيضًا ما رواه أحمد في منده عن عبد الله بن بريدة عن عمران بن حصين. قال: كنت رجلًا ذا أسقام كثيرة، فسألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن صلاتي قاعدًا فقال: "صلاتُك قاعدًا على النّصف من صلاتِك قائمًا وصلاة الرجل مُضطجعًا على النصف من صَلاتِه قاعدًا". وهذا يفسر أن معنى قوله: "نائمًا" بالنون يعني: مضطجعًا، وأنه في حق مَنْ به سقم بدلالة قوله: كنت رجلًا ذا أسقام كثيرة، وإنّ ثواب مَنْ يصلي قاعدًا نصف ثواب مَنْ يصلي قائمًا، وثواب مَنْ يصلي مضطجعًا نصف ثواب مَنْ يصلي قاعدًا، وادّعى ابن بطال أن الرواية مَنْ صلّى بإيماء على إنه جار ومجرور مصدر أو ما قال. وقد غلط النسائي في حديث عمران بن حصين، فصحفه وترجم له باب صلاة النائم، فظن أن قوله -عليه الصلاة والسلام- مَنْ صلّى بإيماء أنه مَنْ صلّى نائمًا. والغلط فيه ظاهر؛ لأنه قد ثبت عنه أنه -صلى الله عليه وسلم- أمر المصلي إذا غلبه النوم أن

رجاله ثمانية

يقطع الصلاة، وبين معنى ذلك فقال: "لعله يستغفر فيسب نفسه" فكيف يأمره بقطع الصلاة وهي مباحة له؟ ثم يبين أن له عليها نصف أجر القاعد قال: والصلاة لها ثلاثة أحوال: أولها القيام، فإن عجز عنه، فالقعود، ثم إنْ عجز عنه فالإيماء، وليس النوم من أحوال الصلاة. قال زين الدين العراقي بعد أن حكى كلام ابن بطال: لعل التصحيف من ابن بطال وإنما ألجأه إلى ذلك حمل قوله: نائمًا على النوم الحقيقي الذي أمر النبي -عليه الصلاة والسلام- المصلي أن يقطع الصلاة، وليس المراد هاهنا إلا الاضطجاع لمشابهته لهيئة النائم، وحكى القاضي عياض في "الإكمال" أن في بعض الروايات مضطجعًا مكان نائمًا. وبه فسره أحمد بن خالد الوهبي فقال: نائمًا يعني مضطجعًا، وبه فسره البخاري في رواية كريمة وغيرها عقب حديث الباب، قال أبو عبد الله: يعني البخاري قوله: نائمًا عندي أي: مضطجعًا، فكأن البخاري كوشف بذلك، وهذا التفسير وقع مثله في رواية عفان عن عبد الوارث في هذا الحديث، قال عبد الوارث: النائم المضطجع. أخرجه الإسماعيلي وقال الإسماعيلي، معنى قوله: "نائمًا" أي: على جنب، وقد بوب عليه النسائي فضل صلاة القاعد على النائم. رجاله ثمانية: قد مرّوا، مرّ إسحاق بن منصور في الخامس والثلاثين من الإيمان، ومرّ روح بن عبادة في الأربعين منه، وحسين المعلم في السادس منه، ومرّ إسحاق بن إبراهيم في تعليق بعد الحادي والعشرين من العلم، ومرّ عبد الصمد في السادس والثلاثين منه، ومرّ أبوه عبد الوارث في السابع عشر منه، ومرّ عبد الله بن بريدة في الخامس والثلاثين من الحيض، ومرّ عمران بن حصين في الحادي عشر من التيمم. لطائف إسناده: فيه التحديث والإخبار بالجمع والعنعنة، والقول والسؤال والسماع، وفيه مروزيان والبقية بصريون. أخرجه البخاري في هذا القصر مرات، وأخرجه أبو داود والترمذي والنسائي. ثم قال المصنف:

باب صلاة القاعد بالإيماء

باب صلاة القاعد بالإِيماء أورد فيه حديث عمران بن حصين أيضًا، وليس فيه ذكر الإيماء، وإنما فيه مثل ما في الذي قبله: "ومَنْ صلّى نائمًا فله نصف أجر القاعد". قال ابن رشيد: مطابقة الحديث للترجمة من جهة أن مَنْ صلّى على جنب فقد احتاج إلى الإيماء، وليس ذلك بلازم. نعم يمكن أن يكون البخاري يختار جواز ذلك، ومستنده ترك التفصيل فيه من الشارع، وهو أحد الوجهين للشافعية، وعليه شرح الكرماني، والأصح عند المتأخرين أنه لا يجوز للقادر الإيماء للركوع والسجود، وإن جاز التنفل مضطجعًا بل لابد من الإتيان بالركوع والسجود. الحديث الخامس والثلاثون حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ أَنَّ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ وَكَانَ رَجُلاً مَبْسُورًا، وَقَالَ أَبُو مَعْمَرٍ مَرَّةً عَنْ عِمْرَانَ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ صَلاَةِ الرَّجُلِ وَهْوَ قَاعِدٌ فَقَالَ: "مَنْ صَلَّى قَائِمًا فَهْوَ أَفْضَلُ، وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَائِمِ، وَمَنْ صَلَّى نَائِمًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَاعِدِ". قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: نَائِمًا عِنْدِي مُضْطَجِعًا هَاهُنَا. واعترض الإسماعيلي على البخاري فقال: ترجم بالإيماء ولم يقع في الحديث إلا ذكر النوم، فكأنه صحف. قوله: "نائمًا" يعني بنون على اسم الفاعل من النوم، فظنه بإيماء يعني بموحدة بعدها مصدر أو ما ورد بما مرّ الرد به على ابن بطال عند الحديث السابق. وقد وقع في رواية الأصيلي على التصحيف بإيماء. حكاه ابن رشيد ووجهه بأن من معناه: مَنْ صَلّى قاعدًا أومأ بالركوع والسجود. قال في "الفتح": وهذا موافق للمشهور عند المالكية أنه يجوز له الإيماء إذا صلى نفلاً قاعدًا مع القدرة على الركوع والسجود، وهو الذي يتبين من اختيار البخاري، قلت: لم أعلم هذا مشهورًا عند المالكية، والصواب من الرواية "نائمًا" بالنون على اسم الفاعل من النوم، والمراد به الاضطجاع كما مرّ، ومَنْ قال غيره فهو الذي صحف، والذي غرهم ترجمة البخاري وعسر توجيهها عليهم. رجاله خمسة: قد مرّ محلهم في الذي قبله إلاّ أبو معمر وهو قد مرّ مع عبد الوارث. ثم قال المصنف:

باب إذا لم يطق قاعدا صلي على جنب

باب إذا لم يطق قاعدًا صلّي على جنب قوله: إذا لم يطق أي: الإنسان الصلاة في حال القعود صلّى على جنبه. ثم قال: وقال عطاء: إذا لم يقدر أن يتحول إلى القِبْلَة، حيث كان وجهه. قوله: إذا لم يقدر في رواية الكشميهني: إن لم يقدر ومطابقة هذا الأثر للترجمة من جهة أن الجامع بينهما أن العاجز عن أداء فرض ينتقل إلى فرض دونه، ولا يترك وهو حجة على مَنْ قال إن العاجز عن القعود في الصلاة تسقط عنه الصلاة وحكاه الغزالي عن أبي حنيفة، وتعقب بأنه لا يوجد في كتب الحنفية، وإنما الثابت عن أبي حنيفة إسقاط الصلاة إذا عجز عن الإيماء بالرأس، وقالوا: إنه يقضي بعد البرء. وهذا الأثر وصله عبد الرزاق عن ابن جريج وعطاء بن أبي رباح، قد مرّ في التاسع والثلاثين من العلم. الحديث السادس والثلاثون حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ الْمُكْتِبُ عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَتْ بِى بَوَاسِيرُ فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ الصَّلاَةِ فَقَالَ: "صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ". قوله: "عن عبد الله" هو ابن المبارك وسقط ذكره من رواية أبي زيد المروزي، ولابد منه، فإن عبدان لم يسمع من إبراهيم بن طَهمان، والحسين المُكتِب باسم الفاعل من التكتيب هو ابن ذكوان المعلم الذي سبق في الباب قبله، قال الترمذي: لا نعلم أحدًا روى هذا عن حسين إلا إبراهيم، وروى أبو أسامة وعيسى بن يونس وغيرهما عن حسين على اللفظ السابق، ولا يؤخذ من ذلك تضعيف رواية إبراهيم كما فهمه ابن العربي، تبعًا لابن بطال ورد على الترمذي بأن رواية إبراهيم توافق الأُصول، ورواية غيره تخالفها، فتكون رواية إبراهيم أرجح؛ لأن ذلك راجع إلى الترجيح من حيث المعنى لا من حيث الإسناد، وإلا فاتفاق الأكثر على شيء يقتضي أن رواية مَنْ خالفهم تكون شاذة، والحق أن الروايتين صحيحتان كما صنع البخاري، وكل منهما مشتملة على حكم غير الحكم الذي اشتملت عليه الأخرى. وقوله: "عن الصلاة" المراد عن صلاة المريض: بدليل قوله في أوله: كانت بي بواسير. وفي رواية وكيع عن إبراهيم بن طَهمان عن صلاة المريض أخرجه الترمذي وغيره. قال الخطابي: لعلَّ هذا الكلام كان جواب فتيا استفتاها عمران، وإلا فليست علة البواسير بمانعة من القيام في الصلاة

على ما فيها من الأذى، ولا مانع من أن يسأل عن حكم ما لم يعلمه، لاحتمال أن يحتاج إليه فيما بعد. وقوله: "فإن لم يستطع فقاعدًا" استدل به مَنْ قال: لا ينتقل المريض إلى القعود إلاَّ بعد عدم القدرة على القيام. وقد حكاه عياض عن الشافعي ومالك وأحمد. وإسحاق لا يشترط العدم، بل وجود المشقة. والمعروف عند الشافعية أن المراد بنفي الاستطاعة وجود المشقة الشديدة بالقيام، أو خوف زيادة مرض أو الهلاك، ولا يكتفي بأدنى مشقة. قلت: مذهب المالكية: أن مشقة الصحيح غير معتبرة إمّا اتفاقًا كما عند الباجي أو على الصحيح كما عند غيره، وأما مشقة المريض، فمشهور مذهبهم فيها هو ما مرّ أنه هو المعروف عند الشافعية وروي عن ابن القاسم عدم اعتبارها أيضًا. قال في "الفتح": ومن المشقة الشديدة دوران الرأس في حق راكب السفينة، وخوف الغرق لو صلّى قائمًا فيها، وهل يُعد في عدم الاستطاعة مَنْ كان كامنًا في الجهاد؟ ولو صلّى قائمًا لرآه العدو، فتجوز له الصلاة قاعدًا أو لا؟ فيه وجهان للشافعية، الأصح الجواز، لكن يقضي لكونه عذرًا نادرًا. قلت: أما مذهب المالكية فلا يتردد في جوازه. ولا يجري فيه خلاف، واستدل به على تساوي عدم الاستطاعة في القيام والقعود في الانتقال خلافًا لمن فرق بينهما، كإمام الحرمين. ويدل للجمهور أيضًا حديث ابن عباس عند الطبراني بلفظ: يصلي قائمًا، فإن نالته مشقة فجالسًا، فإن نالته مشقة صلّى نائمًا، الحديث. فاعتبر في الحالين وجود المشقة، ولم يفرّق. وقوله: "على جنب" في حديث علي عند الدارقطني على جنبه الأيمن مستقبل القبلة بوجهه وفيه: إن حالة الاستلقاء على الظهر تكون عند العجز من حالة الاضطجاع، وعند المالكية الترتيب بين الأيمن ثم الأيسر ثم الظهر مندوب، وأمّا الاضطجاع على البطن فتأخيره واجب، فإن قدم على الظهر مع القدرة على الظهر بطلت، وإذا استلقى على ظهره تكون أخمصاه للقبلة، وتوضع وسادة تحت رأسه، حتى يكون شبه القاعد ليتمكن من الإيماء بالركوع والسجود إذْ حقيقة الاستلقاء تمنع الأصحاء من الإيماء، فكيف بالمرضى. وعند الحنفية المقدم عندهم الظهر، وعند ابن كاس منهم أنه يصلي على جنبه الأيمن كما هو قول الشافعي ومالك وأحمد مستدلين بحديث الدارقطني المار، وبأنه هو الحالة التي يوجه عليها الميت في اللحد، لقوله -عليه الصلاة والسلام- في أثناء حديث البيت الحرام: "قبلتكم أحياءً وأمواتًا". وعند الشافعية يكره على الأيسر بلا عذر، كما في المجموع. وقالوا: إن الترتيب إنما هو في غير الكعبة، أما فيها فالمتجه جواز الاستلقاء على ظهره، وعلى وجهه؛ لأنه كيفما توجه متوجه لجزء منها، ويركع ويسجد بقدر إمكانه، فإن قدر على زيادة على أكمل الركوع، تعينت تلك الزيادة

رجاله ستة

للسجود؛ لأن الفرق بينهما واجب على المتمكن، ولو عجز عن السجود إلاّ أن يسجد بمقدم رأسه أو صدغه، وكان بذلك أقرب إلى أرض وجب؛ لأن الميسور لا يسقط بالمعسور، فإن عجز عن ذلك أيضًا أومأ برأسه والسجود أخفض من الركوع، واستدل بالحديث مَنْ قال: لا ينتقل المريض بعد عجزه عن الاستلقاء إلى حالة أخرى، كالإشارة بالرأس ثم الإيماء بالطرف ثم إجراء القرآن والذكر على اللسان ثم على القلب لكون جميع ذلك لم يذكر في الحديث، وهو قول الحنفية، وبعض الشافعية. وقال معظم المالكية والشافعية بهذا الترتيب المذكور، وجعلوا مناط الصلاة حصول العقل، فحيث كان حاضر العقل لا يسقط عنه التكليف بها، فيأتي بما يستطيعه. واستدل الغزالي على هذا بقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا أمرتُكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتُم". وتعقبه الرافعي بأن الخبر أمر بالإتيان بما يشتمل عليه المأمور، والقعود لا يشتمل على القيام، وكذا ما بعده إلى آخر ما ذكر، وأجاب عنه ابن الصلاح بأنّا لا نقول أن الآتي بالقعود، آتٍ بما استطاعه من القيام مثلًا، ولكنا نقول: يكون آتيًا بما استطاعه من الصلاة؛ لأن المذكورات أنواع لجنس الصلاة، بعضها أدنى من بعض فإذا عجز عن الأعلى وأتى بالأدنى، كان آتيًا بما استطاع من الصلاة، وتعقب بأنّ كون هذه المذكورات من الصلاة فرع لمشروعية الصلاة بها، وهو محل نزاع. قال في "الفتح": قال ابن المنير: اتفق لبعض شيوخنا فرع غريب في النقل، كثير في الوقوع، وهو أن يعجز المريض عن التذكر ويقدرِ على الفعل، فألهمه الله أن يتخذ من يلقنه، فكان يقول أحرم بالصلاة قل الله أكبر، اقرأ الفاتحة قل الله أكبر للركوع إلى آخر الصلاة، يلقنه ذلك تلقينًا، وهو يفعل جميع ما يقول له بالنطق أو بالإيماء. رجاله ستة: قد مرّوا، مرّ عبدان وابن المبارك في السادس من بدء الوحي، ومرّ إبراهيم بن طَهمان في التاسع والعشرين من الغسل، وحسين المُكتِب، هو المعلم وابن بريدة وعمران مرّ محلهم في الذي قبله بحديث. ثم قال المصنف:

باب إذا صلى قاعدا ثم صح أو وجد خفة تمم ما بقي

باب إذا صلّى قاعدًا ثم صح أو وجد خفة تمم ما بقي في رواية الكشميهني: أتم ما بقي، أي: لا يستأنف، بل يبني عليه اتيانًا بالوجه الأتم من القيام ونحوه. وفي هذه الترجمة إشارة إلى الرد على مَنْ قال: مَنْ افتتح الفريضة قاعدًا لعجزه عن القيام ثم أطاق القيام وجب عليه الاستيناف، وهو محكي عن محمد بن الحسن، وخفي ذلك على ابن المنير حتى قال: أراد البخاري بهذه الترجمة رفع خيال مَنْ تخيل أن الصلاة لا تتبعض، فيجب الاستيناف على مَنْ صلّى قاعدًا، ثم استطاع القيام. ثم قال: وقال الحسن: إنْ شاءَ المريض صلّى ركعتين قائمًا، وركعتين قاعدًا. قوله: إن شاء المريض، أي: في الفريضة، صلّى ركعتين قائمًا وتعقبه ابن التين بأنه لا وجه للمشيئة هنا؛ لأن القيام لا يسقط عمن قدر عليه إلاَّ إن كان يريد بقوله: إن شاء أي: بكلفة كثيرة. ويظهر أن مراده أنّ مَنْ افتتح الصلاة قاعدًا ثم استطاع القيام كان له إتمامها قائمًا إن شاء بأن يبني على ما صلّى، وإن شاء استأنفها، فاقتضى ذلك جواز البناء وهو قول الجمهور. وهذا الأثر وصله ابن أبي شيبة بمعناه، ووصله الترمذي أيضًا بلفظ آخر، والحسن البصري قد مرّ في الرابع والعشرين من الإيمان. الحديث السابع والثلاثون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا لَمْ تَرَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي صَلاَةَ اللَّيْلِ قَاعِدًا قَطُّ حَتَّى أَسَنَّ، فَكَانَ يَقْرَأُ قَاعِدًا حَتَّى إِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ، فَقَرَأَ نَحْوًا مِنْ ثَلاَثِينَ آيَةً أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً ثُمَّ رَكَعَ. أورد المصنف حديث عائشة من رواية مالك بإسنادين له، فذكر في الأول منهما تقييد ذلك بأنه -صلى الله عليه وسلم- لم يصل صلاة اللَّيل قاعدًا، إلاَّ بعد أن أسن، وسيأتي في باب قيام النبي -صلى الله عليه وسلم- بالليل في رمضان وغيره من أبواب التهجد بلفظ "حتى إذا كبر". وفي رواية أبي سلمة عن عائشة: لم يمت حتى كان أكثر صلاته جالسًا. وفي حديث حفصة: ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي في سبحته جالسًا حتى إذا كان قبل موته بعام، وكان يصلي في سبحته جالسًا، الحديث. أخرجهما مسلم قال ابن التين: قيدت عائشة ذلك بصلاة الليل لتخرج الفريضة، وبقولها: "حتى أسن" لتعلم أنه إنما فعل ذلك إبقاءً على نفسه ليستديم الصلاة وأفادت أنه كان يديم القيام وأنه كان لا يجلس عمّا يطيقه

من ذلك. وقال ابن بطال: هذه الترجمة تتعلق بالفريضة. وحديث عائشة يتعلق بالنافلة، ووجه استنباطه أنه لما جاز بالنافلة القعود لغير علة مانعة من القيام، وكان -عليه الصلاة والسلام- يقوم فيها قبل الركوع، كانت الفريضة التي لا يجوز القعود فيها إلا بعدم القدرة على القيام أولى، والذي يظهر أن الترجمة غير مختصة بالفريضة، بل قوله ثم صح يتعلق بالفريضة. وقوله: "أو وجد خفة" يتعلق بالنافلة، وهذا الشق الثاني من الترجمة، يطابق حديث الباب؛ لأنه في النفل، ويؤخذ ما يتعلق بالشق الأول بالقياس عليه. والجامع بينهما جواز إيقاع بعض الصلاة قاعدًا، وبعضها قائمًا. قال العيني: وهذا كله تعسف، وما أوقع الشراح في هذه التعسفات إلاَّ قول ابن بطال السابق: إن الترجمة تتعلق بالفريضة، وحديث عائشة يتعلق بالنافلة، وتقييده المطلق بلا دليل تحكم، بل الترجمة على عمومها، وإن كان حديث الباب في النفل؛ لأن أدنى شيء يلايم بين الترجمة والحديث يكفي، وبيان الملايمة هو أن القيام في حق المتنفل غير متأكد، وله أن يتركه من غير عذر لما رواه مسلم والأربعة عن عائشة أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي ليلًا طويلًا قائمًا، وليلةً طويلةً قاعدًا، وفي حق المريض العاجز القيام يكون كذلك؛ لأن تحريمته لم تنعقد للقيام، لعدم القدرة عليه وقت الشروع في الصلاة، فليس فيه بناء الضعيف على القوي، فيكون المتنفل والمفترض العاجز سواء في ذلك فتتناولهما الترجمة من هذه الحيثية. ودل الحديث على جواز القعود في أثناء النافلة لمن افتتحها قائمًا، كما يباح له أن يفتتحها قاعدًا، ثم يقوم إذ لا فرق بين الحالتين، ولاسيما مع وقوع ذلك منه -عليه الصلاة والسلام- في الركعة الثانية، خلافًا لمن أبى ذلك. ومنع أشهب من المالكية الجلوس في أثناء النافلة بعد ابتدائها بالقيام، واستدل به على أن مَنْ افتتح صلاته مضطجعًا ثم استطاع الجلوس أو القيام أتمها على ما أدت إليه حاله، ودل على إنه لا يشترط لمن افتتح الصلاة قاعدًا أن يركع قاعدًا أو قائمًا أن يركع قائمًا، وهو محكي عن أشهب وبعض الحنفية، والحجة فيه ما رواه مسلم وغيره عن عبد الله بن شقيق عن عائشة في سؤاله لها عن صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- وفيه: كان إذا قرأ قائمًا ركع قائمًا، وإذا قرأ قاعدًا ركع قاعدًا. وهذا صحيح، ولكن يلزم منه منع ما رواه عروة عنها فيجمع بينهما بأنه كان يفعل كلًا من ذلك بحسب النشاط وعدمه. وقد أنكر هشام بن عروة على عبد الله بن شقيق هذه الرواية، واحتج بما رواه عن أبيه: أخرج ذلك ابن خزيمة في صحيحه ثم قال: ولا مخالفة عندي بين الخبرين؛ لأن رواية عبد الله بن شقيق محمولة على ما إذا قرأ جميع القراءة قاعدًا، أو قائمًا. ورواية هشام بن عروة محمولة على ما إذا قرأ بعضها جالسًا وبعضها قائمًا.

رجاله خمسة

رجاله خمسة: قد مرّوا بهذا النسق في الثاني من بدء الوحي، والحديث أخرجه أبو داود وأخرجه مسلم من رواية علقمة بن وقاص عنها. وأخرجه النسائي من رواية الأسود عنها، وابن ماجه والنسائي من رواية عمرة عنها. الحديث الثامن والثلاثون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، وَأَبِى النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُصَلِّي جَالِسًا فَيَقْرَأُ وَهْوَ جَالِسٌ، فَإِذَا بَقِيَ مِنْ قِرَاءَتِهِ نَحْوٌ مِنْ ثَلاَثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً قَامَ فَقَرَأَهَا وَهْوَ قَائِمٌ، ثُمَّ يَرْكَعُ ثُمَّ يَسْجُدُ، يَفْعَلُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلَ ذَلِكَ، فَإِذَا قَضَى صَلاَتَهُ نَظَرَ، فَإِنْ كُنْتُ يَقْظَى تَحَدَّثَ مَعِي، وَإِنْ كُنْتُ نَائِمَةً اضْطَجَعَ. زاد في هذه الرواية عن الأولى: أنه كان يفعل ذلك في الركعة الثانية، كما أنه قيد في الأولى أنه لم يفعل ذلك إلاّ بعد أن أسن. وقوله: "فإذا بقي من قراءته" فيه إشارة إلى إن الذي كان يقرؤه قبل أن يقوم أكثر؛ لأن البقية تطلق في الغالب على الأقل، ويؤخذ من الحديث تطويل القراءة في صلاة الليل، والأصح عند المالكية والشافعية أن تطويل القيام أفضل من تكثير الركوع والسجود مع تقصير القراءة، وكذلك عند الحنفية. وقال أبو يوسف: إن كان له ورد من الليل فالأفضل أن يكثر عدد الركعات، وإلا فطول القيام أفضل. وقال محمد: كثرة الركوع أفضل. وقال بذلك بعض المالكية أيضًا. ومحل الخلاف عند المالكية مع اتحاد الزمن وإلا فالأطول زمنًا أفضل، سواء كان كثرة السجود أو طول القيام، واستدل القائلون بأفضلية طول القيام بما أخرجه مسلم عن جابر: "أفضل الصلاة طول القنوت" أي: القيام. ويحتمل أن يراد بالقنوت الخشوع، واستدل القائلون بأفضلية السجود بحديث ثوبان عند مسلم: "أفضل الأعمال كرة السجود" والذي يظهر أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال. وقوله: "فإن كنتُ يقظى تحدّث معي، وإن كنت نائمة اضطجع" وفي رواية التهجد: فإن كنت مستيقظة حدثني، وإلا اضطجع. وظاهر هاتين الروايتين أنه كان يضطجع إذا لم يحدثها، وإذا حدئها لم يضطجع، وإلى هذا جنح المصنف في الترجمة. حيث قال: في التهجد باب مَنْ تحدث بعد الركعتين، ولم يضطجع، وكذا ترجم له ابن خزيمة في ترك الاضطجاع بعد ركعتي الفجر، ويعكر على هذا ما وقع عند أحمد عن مالك عن أبي النضر في هذا الحديث: كان يُصلي من الليل

رجاله ستة

فإذا فرغ من صلاته اضطجع، فإن كنتُ يقظى تحدث معي وإن كنتُ نائمة نام، حتى يأتيه المؤذن. فقد يقال إنه كان يضطجع على كل حال، فإما أن يحدثها، وإما أن ينام. وقوله: في هذا الحديث نام، إمّا أن يفسر باستمراره على نومه. أي اضطجاعه، فيكون معنى نام اضطجع، أو يفسر بالنوم حقيقة، وأما تفسير نام هنا باضطجع كما قال في "الفتح"، معتمدًا على أنها قالت في حديث الباب: وإن كنتُ نائمة اضطجع. فغير ممكن؛ لأن هذا الحديث ذكر فيه اضطجع أولًا. رجاله ستة: قد مرّوا إلاّ عبد الله بن يزيد، مرّ عبد الله بن يوسف ومالك وعائشة في الثاني من بدء الوحي، وأبو سلمة في الرابع منه، وأبو النضر سالم في السابع والستين من الوضوء وعبد الله بن يزيد المخزومي المدني المقري الأعور أبو عبد الرحمن مولى الأسود بن سفيان، ويقال مولى الأسود بن عبد الأسد. ذكره ابن حِبّان في الثقات. وقال العجلي: مدني ثقة. وقال أحمد وابن معين والنسائي: ثقة. وقال ابن أبي حاتم: سئل عنه أبي فقال: ثقة، فقيل له: حجة؟ فقال: إذا روى عنه مالك ويحيى بن أبي كثير وأسامة فهو حجة، روى عن زيد أبي عباس ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان وأبي سلمة بن عبد الرحمن وغيرهم، وروى عنه يحيى بن أبي كثير ومالك وإسماعيل بن أمية وهم. مات سنة ثمان وأربعين ومائة. وهذا الحديث أخرجه بقية الستة في الصلاة. خاتمة اشتملت أبواب التقصير وما معه من الأحاديث المرفوعة على اثنين وخمسين حديثًا، المعلق منها ستة عشر، والبقية موصولة، المكرر منها فيه وفيما مضى اثنان وثلاثون، والبقية خالصة. وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث ابن عباس في قدر الإقامة بمكة، وحديث جابر في التطوع راكبًا إلى غير القِبْلة، وحديث أنس في الجمع بين المغرب والعشاء، وحديث عمران في صلاة القاعد، وفيه من الآثار الموقوفة على الصحابة فمن بعدهم ستة آثار، والله تعالى أعلم.

كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري تأليف الامام المحدث العلامة الشيخ محمد الخضر الجكينى الشنقيطي (المتوفى سنة 1354هـ) الجزء الحادي عشر مؤسسة الرسالة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

كوثر المعاني الدراري فيد كشف خبايا صحيح البخاري

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1415هـ - 1995م مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع مؤَسَّسَة الرّسَالة بيروت - شارع سوريَا - بنَاية صَمَدي وَصَالحَة هَاتف: 603243 - 815112 - صَ. بَ: 7460 - بَرقيًا: بيُوشرَان

باب التهجد بالليل وقوله عز وجل: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك}

بسم الله الرحمن الرحيم باب التهجد باللَّيلِ وقوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ}. قوله: بالليل، في رواية الكشميهنيّ "من الليل"، وهو أوفق للفظِ الآية، وسفطت البسملة من رواية أبي ذَرٍّ. وقصد البخاريّ إثبات مشروعية قيام اللّيل مع عدم التَعرَّض لحكمه، وقد أجمعوا إلا شذوذًا من القدماء على أن صلاة الليل ليست مفروضة على الأُمة، واختلفوا في كونها من خصائص النبيّ -صلى الله عليه وسلم-. وسيأتي في الباب الخامس تصريح البخاريّ بعدم وجوبه على الأُمة، وقد ذكر بعض السلف أنه يجب على الأُمة قيام الليل ما يقع عليه الاسم، ولو قدر حَلْب شاة. وقال النّوويّ: هذا غلط مردود، وقيام الليل أمر مندوب إليه، وسنته متأكدة. قال أبو هريرة، كما عند مسلم: أفضل الصلاة بعد المكتوبة صلاة الليل، فإنْ قسمتَ الليل نصفين فالنصف الآخر أفضل، وإن قسمته أثلاثًا فالأوسط أفضل، وأفضل منه صلاة السدس والرابع والخامس، لحديث ابن عمر في صلاة داود عليه الصلاة والسلام. ويكره أن يقوم كل الليل لقوله -صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: "بلغني أنك تقوم الليل؟ قلت: نعم، قال: لكني أصلي وأنام، فمَنْ رغب عن سُنّتي فليس مني". فإن قيل: ما الفرق بينه وبين صوم الدهر غير أيام النهي فإنه لا يكره عند الشافعية، قيل له: صلاة الليل تضر بالعين وسائر البدن، بخلاف الصوم، فإنه يستوفي في الليل ما فاته من أكل النهار، ولا يمكنه نوم النهار إذا صلّى اللّيل، لما فيه من تفويت مصالح دنياه وعياله، وأما بعض الليالي فلا يكره إحياؤها، مثل العشر الأواخر من رمضان، وليلتي العيد. وقوله: "فتهجد به" زاد أبو ذر في روايته "سهر به" حكاه الطبريّ أيضًا. وفي المجاز لأبي عبيدة قوله: "فتهجد به، أي اسهر بصلاتك" وتفسير التهجد بالسهر معروف في اللغة، وهو من الأضداد، يقال: تَهجّدَ إذا سَهر، وتهجَد إذا نام، قاله الجوهريّ وغيره، ومنهم مَنْ فرّق بينهما، فقال: هَجدتُ نمتُ، وتهجدتُ سهرتُ، فعلى هذا أصل الهجود النوم، ومعنى تهجدت طرحت عني النوم. وقال الطبريُّ: التهجد السهر بعد نومه، ثم ساقه عن جماعة من السلف. وقال ابن فارس: المتهجد: المصلي ليلًا. وقال كُرَاع: التهجد: صلاة الليل خاصة. وقوله: "نافلة لك" النافلة في اللغة الزيادة، فقيل: معنا عبادة زائدة في فرائضك. وروى الطبريَّ عن ابن عباس أن النافلة للنبي -صلى الله عليه وسلم- خاصة، لأنه أمر بقيام الليل، وكتب عليه دون أُمته،

الحديث الأول

وإسناده ضعيف. وقيل: معناه زيادة لك خالصة، لأن تطوع غيره يكفر ما على صاحبه من ذنب، وتطوعه هو عليه الصلاة والسلام يقع خالصًا له، لكونه لا ذنب عليه. وروى معنى ذلك الطبريُّ وابن أبي حاتم عن مجاهد بإسناد حسن، وعن قتادة كذلك، ورجَّح الطبريُّ الأول وليس الثاني ببعيد عن الصواب. الحديث الأول حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي مُسْلِمٍ عَنْ طَاوُسٍ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَكَ الْحَمْدُ، لَكَ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم- حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ أَوْ لاَ إِلَهَ غَيْرُكَ. قوله: "إذا قام من الليل يتهجد" في رواية مالك عن أبي الزُّبير عن طاوس: "إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل" وظاهر السياق أنه كان يقوله أوّل ما يقوم إلى الصلاة، وترجم عليه ابن خُزيمة الدليل على أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان يقولُ هذا التحميد بعد أن يكبر، ثم ساقه عن قيس بن سعد عن طاووس عن ابن عباس قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قام للتهجد قال بعدما يكبِّر: "اللهُمَّ لك الحمد" وسيأتي هذا في الدعوات عن كُريب عن ابن عباس، في حديث مبيته عند النبي -صلى الله عليه وسلم- في بيت ميمونة، وفي آخره: "وكان في دعائه: اللهم اجعل في قلبي نورًا" الحديث. وهذا قاله لما أراد أن يخرج إلى صلاة الصبح، كما بيَّنه مسلم من رواية علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه. وقوله: "قيّم السموات" في رواية أبي الزبير المذكور "قيَّام السموات" وفي رواية "قيّم السموات والأرض" بدون لفظة "أنت" ولكنه مقدر في صورة الحذف. لأن قيّم السموات والأرض مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوفٍ، وهو أنت والقَيِّم والقَيَّام والقَيُّوم بمعنى واحد، وهو الدائم القائم بتدبير الخلق المعطي له ما به قوامه، أو القائم بنفسه المقيم لغيره من كل موجود، حتى لا يتصور وجود شيء، ولا دوام وجوده إلاّ به. وقال التَّورْبَشْتيّ: والمعنى أنت الذي تقوم بحفظها، وحفظ من أحاطت به، واشتملت عليه، تؤتي كلًا ما به قوامُه، وتقوم على كل شيء من خلقك بما تراه من تدبيرك. وعبّر "بمن" في قوله: "ومَنْ فيهنّ" دون ما تغليب للعقلاء على غيرهم. وقيل: "قيّام" على المبالغة من قام بالشيء، إذا هَيّأ له جميع ما يحتاج إليه، وقيل: "قيّم السموات والأرض" خالقهما

وممسكهما أن تزولا، وأصل قَيِّم قَيْوم على وزن فيْعِل مثل صَيِّب، وأصل القَيّوم القَيْوُوم، اجتمعت الياء والواو، وسبق إحداهما بالسكون، فوجب قلب الواو ياء، وأُدغمت الأولى في الثانية على القاعدة التصريفية. وقوله: "أنت نور السموات والأرض" أي: منورهما، وبك يهتدي مَنْ فيهما. وقيل: المعنى أنت المنزه عن كل عيب. يقال: فلان مُنَوِّر أي مُبَرَّأ من كل عيب. ويقال: هو اسم مدح، تقول: فلان نور البلد، أي: مُزَيِّنُه. وقال أبو العالية: مُزَيّن السموات بالشمس والقمر والنجوم، ومزين الأرض بالأنبياء والعلماء والأولياء. وقوله: "أنت ملك السموات والأرض" كذا للأكثر، وللكشميهنيّ "لك ملك السموات" والأول أشبه بالسياق. وقوله: "أنت الحق" أي: المتحقق الوجود، الثابت بلا شك فيه، قال القرطبيّ: هذا الوصف، له سبحانه، بالحقيقة خاص، لا ينبغي لغيره، إذ وجوده لنفسه، فلم يسبقه عدم، ولا يلحقه عدم، بخلاف غيره. وقال ابن التين: يحتمل أن يكون معناه أنت الحق بالنسبة إلى مَنْ يدعي فيه أنه إله، أو بمعنى إنْ من سَمّاك إلهًا فقد قال الحق. وقوله: "ووعدك الحق" الوعد يطلق، ويراد به الخير والشر كلاهما، والخير أو الشر خاصة. قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} وليس في وعد الله خُلْفٌ، فلا تخلف الميعاد، ويجزي الذين أساؤوا بما عملوا إلاَّ مَنْ تجاوز عنه، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى، وقيل في قوله: "إن الله وعدكم وعد الحق" أي وعد الجنة مَنْ أطاعه، ووعد النار مَنْ عصاه وكفر به، ويحتمل أن يريد أن وعده حق، بمعنى إثبات أنه قد وعد بالحق: بالبعثِ والحشرِ والثوابِ والعقابِ، إنكارًا لقول مَنْ أنكر وعده بذلك، وكذب الرسل فيما بلغوه من وعده ووعيده. وقوله: "ولقاؤك حق" فيه الإقرار بالبعث بعد الموت، وهو عبارة من مآل الخلق في الدار الآخرة بالنسبة إلى الجزاء على الأعمال، وقيل: معنى "لقاؤكَ حق" أي: الموت، وأبطله النّوويّ. وقيل: رؤيتك في الدار الآخرة، حيث لا مانع. وقولك: "حق" أي: مدلوله ثابت، واللقاء وما ذكر بعده داخل تحت الوعد، لكن الوعد مصدر، وما ذكر بعده هو الموعود به، ويحتمل أن يكون من الخاص بعد العام، كما أن ذكر القول بعد الوعد من العام بعد الخاص. وقوله: "والجنة حق، والنار حق" فيه إشارة إلى أنهما موجودتان، وقوله: "ومحمد -صلى الله عليه وسلم- حق" خصه بالذكر بعد تعريف النبيئين بلام الاستغراق الداخل هو فيه، تعظيمًا له، وعطفه عليهم إيذانًا بالتغاير وأنه فائق عليهم بأوصاف مختصة به، فإن تغير الوصف بمنزلة التغير في الذات، ثم حكم عليه استقلالًا بأنه حق وجرده عن ذاته كأنه غيّره، وأوجب عليه الإيمان به، وتصديقه، مبالغة في إثبات نبوّته، كما في التشهد. وقوله: "والساعة حق" أي: يوم القيامة، وأصل الساعة القطعة من الزمان، ثم استعيرت للوقت

الذي تقام فيه القيامة، يريد أنها ساعة خفيفة يحدث فيها أمر عظيم. وقد مرّ الكلام عليها في حديث سؤال جبريل. وإطلاق اسم الحق على ما ذكر من الأمور معناه أنه لابد من كونها، وأنها مما يجب أن يُصَدَّق بها، وتكرار لفظ حق للمبالغة في التأكيد، وتكرير الحمد للاهتمام بشأنه، وليناط به كل مرة معنى آخر. وفي تقدم الجار والمجرور إفادة التخصيص. وكأنه عليه الصلاة والسلام لما خَصَّ الحمد بالله قيل: لِمَ خصصتني بالحمد؟ قال: لأنك أنت الذي تقوم بحفظ المخلوقات، إلى غير ذلك، وإنما عرف الحق في قوله: "أنت الحق، ووعدك الحق" ونكر البواقي للحصر؛ لأن الله هو الحق الثابت الدائم الباقي، وما سواه في معرض الزوال. قال لبيد: طويل ألا كُلُّ شيء ما خلا الله باطلُ ... وكلُّ نعيم، لا محالَةَ، زائل وكذا وعده مختص بالإنجاز دون وعد غيره. قال السّهيليُّ: التعريف للدلالة على أنه المستحق لهذا الاسم بالحقيقة، إذ هو مقتضى هذه الأداة، وكذا في وعدك الحق؛ لأن وعده كلامه، ونكرت في البواقي لأنها أُمور محدَثَة، والمُحْدَثُ لابجب له البقاء من جهة ذاته، وبقاء ما يدوم منه علم بالخبر الصادق لا من جهة استحالة فنائه. وتَعَقَّبه في المصابيح بأنه يرد عليه قوله في هذا الحديث. وقولك: "حق" مع أن قوله كلامه القديم، فينظر وجهه. وقوله: "اللهم لك أسلمت" أي انقَدْتُ، وخضعتُ لأمرك ونهيك، واستسلمت لجميع ما أمرت به، ونهيت، لما رجع -صلى الله عليه وسلم- إلى مقام العبودية، ونظر إلى افتقار نفسه، نادى بلسان الاضطرار في مطاوي الانكسار فقال: "اللهم لك أسلمت ... " إلخ. وقوله: "وبك آمنت" أي: صدَّقْت بك، وبما أنزلت من أخبار وأمر ونهي. وظاهره أن الإيمان والإسلام متغايران، وقد مرّ تحقيق ذلك في أوّل كتاب الإيمان، وفي حديث سؤال جبريل. وقوله: "وعليك توكلت" أي: فوّضت أمري إليك قاطعًا النظر عن الأسباب العادية. ويقال: أي: تبرأت من الحول والقوة، وصغت أمري إليك، وأيقنت أنه لن يصيبني إلاّ ما كتب لي أو عَلَيّ، ففوضت أمري إليك، ونِعْم المفوَّض إليه، والوكيل الكافي. وقوله: "وإليك أنبَتُ" أي: رجعت إليك في تدبير أمري، والنيابة الرجوع، أي: رجعت ذليلًا مقبلًا بالقلب عليك، ومعناه رجعت إلى عبادتك. وقوله: "وبك خاصمت" أي: وبما أعطيتني من البرهان، ولقنتني من الحجة خاصمت المعاند، وقمعته بالحجة والسيف. وقوله: "وإليك حاكمت" أي: كل مَنْ جحد الحق حاكمته إليك، وجعلتك الحاكم بيننا، لا ما كانت الجاهلية تتحاكم إليه من كاهن ونحوه. والمحاكمة رفع القضية إلى الحاكم، وقدم مجموع صلاة هذه الأفعال عليها إشعارًا بالتخصيص، وإفادة للحصر. وقوله: "فاغفر لي" قال: وذلك مع كونه مغفورًا له، إما على سبيل التواضع والهضْم لنفسه، وإجلالًا وتعظيمًا لربه، أو على سبيل

رجاله خمسة

التعليم لتقتدي به أُمته، كذا قيل، والأَوْلى أنه لمجموع ذلك، وإلا لو كان للتعليم فقط، لكفى فيه أمرهم بأن يقولوا. والمغفرة تغطية الذنب، وكل ما غُطِّي فقد غُفِر، ومنه المغفرة. وقوله: "ما قدمتُ وما أخرت" أي قيل: هذا الوقت وما أخرت عنه، وقوله: "وما أسررت وما أعلنت" أي. أخفيت وأظهرت، أو ما حدثت به نفسي، وما تحرك به لساني. وزاد في "التوحيد" عن ابن جُرَيج "وما أنت أعلم به مني" وهو من العام بعد الخاص، وقوله: "أنت المقدَّم والمؤخَّر" باسم المفعول فيهما، أي: أنت الأول، وأنت الآخر، أو باسم الفاعل، أي: أنت المقدِّم لي، والمؤخِّر، أشار بذلك إلى نفسه؛ لأنه المقدم له في البعث في الآخرة، والمؤخر له في البعث في الدنيا. كما قال في الحديث: "نحن الآخرون السابقون" وفي رواية ابن جُرَيج في الدعوات: "أنت إلهي لا إله غيرك" قال الكَرَمانيّ: هذا الحديث من جوامع الكلم، لأن لفظ "القيّم" إشارة إلى أن وجود الجواهر وقوامها منه، والنور إلى أن الأعراض أيضًا منه، والمُلك إلى أنه حاكم عليها ايجادًا وإعدامًا بفعل ما يشاء، وكل ذلك من نِعَم الله تعالى على عباده، فلهذا قرن كلًا منها بالحمد، وخصص الحمد به. ثم قوله: "أنت الحق" إشارة إلى المبدأ. والقول ونحوه إلى المعاش، والساعة ونحوها إشارة إلى المعاد، وفيه إشارة إلى النبوة، وإلى الجزاء ثوابًا وعقابًا، ووجوب الإيمان، والإِسلام والتوكل، والإنابة والتضرع إلى الله، والخضوع له. وفيه زيادة معرفة النبي -صلى الله عليه وسلم-، بعظمة ربه وعظيم قدرته، ومواظبته على الذكر والدعاء والثناء على ربه، والاعتراف بحقوقه، والإقرار بصدق وعده ووعيده. وفيه استحباب تقديم الثناء على المسألة عند كل مطلوب، اقتداء به -صلى الله عليه وسلم-. رجاله خمسة: مرّ منهم عليّ بن المَدِينيّ في الرابع عشرمن العلم، ومرّ ابن عُيينة في الأول من بدء الوحي، ومرّ طاوس في باب مَنْ لم يرَ الوضوء إلاَّ من المخرجين بعد الأربعين من الوضوء، ومرّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي. الخامس: سليمان بن أبي مسلم المكيّ الأَحْول خال أبي نَجِيح، يقال: اسم أبي مسلم عبد الله، قال سفيان: حدثنا سليمان الأحول، وكان ثقة. وقال أحمد وابن مُعين وأبو حاتم وأبو داود والنَّسَائيّ: ثقة. وذكره ابن حِبان في الثقات. وقال ابن شاهين في "الثقات" قال أحمد: ثقة ثقة، وقال العَجْليّ: ثقة. روى عن طارق بن شِهاب وسعيد بن جُبير ومُجاهد وعطاء وغيرهم. وروى عنه ابن جُرَيج وحُسين المعلم وشُعبة وغيرهم. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والسماع والقول، ورواته بصريٌّ ومكيّان ويمانيّ. أخرجه البخاري أيضًا في الدعوات وفي التوحيد، والنَّسائيُّ وابن ماجةَ في الصلاة ثم قال: قال سفيان:

رجاله أربعة

وزاد عبد الكريم أبو أُمية: ولا حول ولا قوة إلا بالله. وهذا موصول بالإسناد الأول، ووهم مَنْ زعم أنه معلَّق، وقد بين ذلك الحُميديّ في مسنده وأبو نعيم في مستخرجه، وسفيان بن عُيَينة قد مرّ الآن في السند، وعبد الكريم أبو أمية ابن أبي المَخارق، واسم أبي المخارق قَيْس، ويقال: طارق البَصْريّ. قال معمر: ما رأيت أيوب اغتاب أحدًا إلا عبد الكريم أبا أُمية، فإنه ذكره فقال: رحمه الله، كان غير ثقة. قال أبو داود: ما روى مالك عن أضعف منه، ويقال: إن مالكًا لم يرو عن ضعيف سواه. قال ابن عبد البرّ: مُجْمع على ضعفه، ومن أجَلّ من جَرَّحه أبو العالية وأيوب مع ورعه، غَرَّ مالكًا سمتُه، ولم يكن من أهل بلده، ولم يخرج عنه حكمًا إنما ذكر عنه ترغيبًا. لم يذكر له البخاريُّ إلا هذا الموضع. قال ابن حَجَر: وبعتذر عن البخاري بأمرين. أحدهما أنه إنما أخرج له زيادة في حديث تتعلق بفضائل الأعمال. الثاني أنه لم يقصد التخريج له، وإنما ساق الحديث المتصل، وهو على شرطه، ثم أتبعه بزيادة عبد الكريم؛ لأنه سمعه هكذا، كما وقع له قريب من ذلك في حديث صخر الغامديّ بالنسبة للحسن بن عُمارة في البيوع، وفي حديث عبد الله بن زيد المازنيّ في الاستسقاء بالنسبة للمسعوديّ، وأما كون الشيخين أخرجا لعبد الكريم هذا في كتاب الحج عن مُجَاهِد، فهو وهم. فعبد الكريم المذكور في ذلك الحديث المرادُ به الجَزَريَّ. وقيل: إن مسلمًا روى له في المتابعات، وقال الحافظ المنذريّ، إن مسلمًا لم يخرج له شيئًا أصلًا، لا متابعة ولا غيرها، وإنما أخرج لعبد الكريم الجزريّ، وقال معمر: سألني حمّاد بن أبي سُليمان عن فقهائنا، فذكرتهم. فقال: تركت أفقههم، يعني عبد الكريم أبا أُمية. قال أحمد بن حنبل: كان يوافقه على الأرجاء. وقال خالد الحذّاء: كان عبد الكريم إذا سافر يقول أبو العالية: اللهم لا ترد علينا صاحب الأكسية. وعده أبو داود من خير أهل البصرة. روى عن أنس بن مالك وعمرو بن سعيد بن العاص، وطاوس، وحسان بن بلال، وغيرهم. وروى عنه عطاء ومجاهد، وهما من شيوخه، ومالك والسفيانان وأبو حَنيفة وحمّاد بن سَلَمة وغيرهم. مات سنة ست أو سبع وعشرين ومئة. ثم قال: قال سفيان: قال سليمان بن أبي مسلم: سمعه من طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. وهذا موصول أيضًا. وإنما أراد بيان سماع سليمان له من طاوس لإيراده له أولًا بالعنعنة. وفي رواية الحُميدي المذكورة التصريح بالسماع أيضًا، ولأبي ذَرٍّ وحده، قال عليّ بن خَشرم: قال سفيان ... إلخ. ولعل هذه الزيادة عن الغَربريّ، فإن عليّ بنَ خشرم لم يذكروه في شيوخ البخاري، وأما الغربريّ فقد سمع من عليّ بن خشرم كما يأتي في أَحاديث الأنبياء، في قصة الخضر وموسى، فكان هذا الحديث أيضًا. كان عنده عاليًا عن عليّ بن خشرم عن سفيان، فذكره لأجل العلو. رجاله أربعة: مرّوا في الذي قبله تعريفًا ومحلًا. ثم قال المصنف:

باب فضل قيام الليل

باب فضل قيام الليل كأنّ المصنف لم يصح عنده حديث صريح في هذا الباب، فاكتفى بحديث ابن عمر المذكور فيه، وقد أخرج مسلم عن أبي هُريرة "أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل" وتوقف فيه البخاريّ، ولم يخرجه للاختلاف في وصله وإرساله وفي رفعه. ووقفه، وهو يدل على أنه أفضل من ركعتي الفجر. وقوّاه النّوويُّ في "الروضة" والمعتمد تقديم الوتر على الرواتب وغيرها كالضحى أو قيل بوجوبه. ثم ركعتي الفجر لحديث عائشة المروي في الصحيحين "لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- على شيء من النوافل، أشد تعاهدًا منه على ركعتي الفجر" وحديث مسلم: "ركعتا الفجر خيرٌ من الدنيا وما فيها، وهما أفضل من ركعتين في جوف الليل". وحملوا حديث أبي هريرة السابق على أن النفل المطلق المفعول في الليل أفضل من المطلق المفعول في النهار، وقد مدح الله المتهجدين في آيات كثيرة، كقوله تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} ويكفي {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} وهي الغاية، فمن عرف فضيلة قيام الليل بسماع الآيات والأخبار والآثار الواردة فيه، واستحكم رجاؤه وشوقه إلى ثوابه، ولذة مناجاته لربه، وخلوته به، هاجه الشوق وباعث التوق، وطرد عنه النوم. قال بعض الكبراء من القدماء: أوحى الله تعالى إلى بعض الصديقين "أن لي عبادًا يحبونني وأُحبهم، ويشتاقون إليّ وأشتاق إليهم، ويذكرونني وأذكرهم، فإنْ حذوت طريقهم أحببتك" قال: يا ربّ: وما علامتهم؟ قال: "يحنُّون إلى غروب الشمس كما تحن الطير إلى وكرها، فإذا جَنَّهم الليل، نصبوا إليّ أقدامهم، وافترشوا إليَّ وجوههم، وناجوني بكلامي، وتملقوا بإنعامي، فبين صارخ وباكٍ، ومتأَوَّةٍ وشاك، بعيني ما يتحملون من أجلي، وبسمعي ما يشتكون من حبي، أول ما أعطيهم أنْ أقذف من نوري في قلوبهم، فيخبرون عني كما أخبر عنهم". الحديث الثاني حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ. وَحَدَّثَنِي مَحْمُودٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا رَأَى رُؤْيَا قَصَّهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَتَمَنَّيْتُ أَنْ أَرَى رُؤْيَا فَأَقُصَّهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَكُنْتُ غُلاَمًا شَابًّا، وَكُنْتُ أَنَامُ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَرَأَيْتُ فِي النَّوْمِ كَأَنَّ مَلَكَيْنِ أَخَذَانِي فَذَهَبَا بِي إِلَى النَّارِ فَإِذَا هِيَ مَطْوِيَّةٌ

كَطَيِّ الْبِئْرِ، وَإِذَا لَهَا قَرْنَانِ، وَإِذَا فِيهَا أُنَاسٌ قَدْ عَرَفْتُهُمْ فَجَعَلْتُ أَقُولُ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ النَّارِ. قَالَ: فَلَقِيَنَا مَلَكٌ آخَرُ فَقَالَ لِي: لَمْ تُرَعْ. فَقَصَصْتُهَا عَلَى حَفْصَةَ فَقَصَّتْهَا حَفْصَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ، لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ فَكَانَ بَعْدُ لاَ يَنَامُ مِنَ اللَّيْلِ إِلاَّ قَلِيلاً. قوله: "كان الرجل" اللام للجنس، ولا مفهوم له، وإنما ذكر للغالب، وقوله: "فتمنيت أن أرى" في رواية الكشميهني: "أني أرى" وزاد في التعبير من وجه آخر: "فقلت في نفسي لو كان فيك خير لرأيت مثل ما يرى هؤلاء" وقوله: "رؤُيا" بالضم والقصر من غير تنوين. ويؤخذ منه أن الرؤيا الصالحة تدل على خير رائيها. وقوله: "كان مَلَكين" لم يقف صاحب "الفتح" على تسميتهما. وقوله: "فذهبا بي إلى النار فإذا هي مطوية" في رواية أيوب عن نافع الآتية قريبًا "كان اثنين أتياني" أرادا أن يذهبا بي إلى النار، فتلقاهما مَلَكٌ فقال: لن تراع خليا عنه. وظاهر هذا أنهما لم يذهبا به. ويجمع بينهما يحمل الثاني على إدخاله فيها، فالتقدير أن يذهبا إلى النار فيُدخلاني فيها، فلما نظرتها فإذا هي مطوية، ورأيت مَنْ فيها واستعذت، فلقينا مَلَكٌ آخر. وقوله: "فإذا هي مطوية" أي مبنية، والبئر قبل أن يبنى يسمى قَليبًا. وقوله: "وإذا لها قرنان" هكذا بالرفع للجمهور، وحكى الكَرَماني: "أن في نسخة قرنين" فأعربها بالجر أو بالنصب على أن فيه شيئًا مضافًا حُذِف، وترك المضاف إليه على ما كان عليه، وتقديره فإذا لها "مثل قرنين" وهو كقراءة مَنْ قرأ: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} بالجر أي: يريد عَرَض الآخرة، أو ضمَّن إذا الفجائية معنى الوجدان، أي: فهذا بي وجدت لها قرنين. والمراد بالقرنين هنا خشبتان أو بناءان تمد عليهما الخشبة العارضة التي تعلق فيها الحديدة التي فيها البكرة، فإن كانا من بناء فهما القرنان، وإن كانا من خشبٍ فهما الزرنوقان، بزاي منقوطة قبل المهملة ثم نون ثم قاف، وقد يطلق على الخشبة أيضًا القرنان. وقوله: "وإذا فيها أُناس قد عرفتهم" قال في الفتح": لم أقف على تسمية أحد منهم، وقوله: لم تُرَعْ بضم أوله وفتح الراء بعدها مهملة ساكنة، أي: لم تخف، والمعنى: لا خوف عليك بعد هذا. وفي رواية الكشميهنيّ في "التعبير" لن تراع وهي رواية الجمهور بإثبات الألف، وفي رواية القابسيّ لن تُرَع بحذف الألف، وهي لغة قليلة، أي الجزم بلن، حتى قال القزّاز: لا أعلم له شاهدًا. وتعقب بقول الشاعر: لن يخبْ الآن من رجائك مَنْ ... حَرَّك من دون بابك الحَلْقة وأجيب أيضًا بأن العين سكنت للوقف، ثم شبه بسكون المجزوم فحذف الألف قبله، ثم أجرى الوقف. قال ابن مالك: وتعقبه في المصابيح فقال: لا نُسلِّم أنَّ فيه إجراء الوصل مجرى

الوقف، إذ لم يصله الملك بشي بعده وأجاب عنه فقال: لا نسلم إذ يحتمل أن المَلَك نطق بكل جملة منها منفردة عن الأخرى، ووقف على آخرها، فحكاه كما وقع. وقوله: "فقال: نِعْم الرجل عبد الله" وفي التعبير من رواية نافع عن ابن عمر أن عبد الله رجل صالح، لو كان يصلي من الليل. لو: للتمني لا للشرط، ولذلك لم يذكر له جواب. وهذا هو شاهد الترجمة، فمقتضاه أن مَنْ كان يصلي من الليل، يوسف بكونه نِعْم الرجل. ورواية نافع المذكورة أبين في المقصود. وقوله: "فكان بعد لا ينام من الليل إلاَّ قليلًا" ظاهره أن هذا من كلام سالم، لكن في "التعبير" بهذا السند. قال الزُّهريّ: فكان عبد الله بعد ذلك يكثر الصلاة من الليل، ومقتضاه أن في السياق الأول أدراجًا. لكنْ ورد في "المناقب" عن عبد الرزاق قال سالم: وكان عبد الله لا ينام من الليل إلا قليلًا، فظهر أنْ لا إدراج فيه، وأيضًا كلام سالم في ذلك مغاير لكلام الزُّهريّ، فانتفى الإدراج عنه أصلًا ورأسًا. قال القرطبي: إنما فسر الشارع من رؤيا عبد الله ما هو ممدوح، لأنه عُرض على النار ثم عوفي منها، وقيل له: لا روع عليك، وذلك لصلاحه. غير أنه لم يكن يقوم من الليل، فحصل لعبد الله من ذلك تنبيه على أنَّ قيام الليل مما تُتَّقى به النار والدنوّ منها، فلذلك لم يترك قيام الليل بعد ذلك. وأشار المُهَلَّب إلى أنَّ السر في ذلك كون عبد الله كان ينام في المسجد، ومن حق المسجد أن يتعبد فيه، فنبه على ذلك بالتخويف بالنار، وقال: إنما فسر عليه الصلاة والسلام هذه الرؤيا بقيام الليل، لأنه لم ير شيئًا يغفل عنه من الفرائض يذكر بالنار، وعلم مبيته بالمسجد، فعبّر عن ذلك بأنه منبه على قيام الليل فيه. وفي الحديث وقوع الوعيد على ترك السنن، وجواز وقوع العذاب على ذلك، ولكن يشترط المواظبة على الترك رغبةً عنها، فالوعيد والتعذيب إنما يقع على المحرم، وهو الترك بقيد الإعراض. وفيه أن أصل التعبير من قبل الأنبياء، ولذلك تمنى ابن عمر أنه يرى رؤيا، فيعبرها له الشارع، ليكون ذلك عنده أصلًا. وقد صرّح الأشعريّ بأن أصل التعبير بالتوقيف من قبل الأنبياء وعلى ألسنتهم. قال ابن بَطّال: وهو كما قال، لكن الوارد عن الأنبياء في ذلك، وإن كان أصلًا، فلا يعم جميع المرائي، فلابد للحاذق في هذا الفن أن يستدل بحسن نظره، فيرد ما لم ينص عليه إلى حكم التمثيل. ويحكم له بحكم النسبة الصحيحة، فيجعل أصلًا يلحق به غيره، كما يفعل الفقيه في فروع الفقه. وفيه مشروعية النيابة في قصّ الرؤيا، وتأدّب ابن عمر مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومهابته له، حيث لم يقص رؤياه بنفسه، وكأنه لما هالته لم يؤثر أن يقصها بنفسه، فقصها على أخته لا دلالة عليها. وفضل قيام الليل، وأنه ينجي من النار، وفيه تمني الرؤيا الصالحة ليعرف صاحبها ما له عند الله تعالى، وتمنى الخبر والعلم والحرص عليه. وفيه رؤية الملائكة في المنام، وتحذيرهم للرائي،

رجاله ثمانية

لقوله: فرأيت مَلَكين أخذاني. وفيه الانطلاق بالصالح إليها في المنام تخويفًا. وفيه السَّتر على مسلم وترك غيبته، وذلك قوله: "وإذا فيها أُناس قد عرفتهم" إنما أخبر بهم على الإجمال ليزدجروا، وسكت عن بيانهم لئلا يغتابهم إن كانوا مسلمين، وليس ذلك مما يختم عليهم. وإما أن يكون ذلك تحذيرًا كما حُذِّر ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما. وفيه قبول خبر المرأة، وفيه فضل عبادة الشباب، وفيه مدح لابن عمر، وفيه تنبيه على صلاحه، وفيه جواز النوم في المسجد. ولا كراهة فيه عند الشافعي، وقال التِّرْمِذِيّ: قد رخص قوم من أهل العلم فيه، وقال ابن عباس: لا تتخذه مبيتًا ومقيلًا. وذهب إليه قوم من أهل العلم. وقال ابن العَرَبيّ: وذلك لمن كان له مأوى، فأما الغريب فهو داره، والمعتكف فهو بيته، وهو الصحيح عند المالكية. وكره المبيت فيه للحاضر القويّ، وجوزه ابن القاسم للحاضر المريض، ويجوز للإمام أن يجعل المريض في المسجد إذا أراد افتقاده، كما ضرب الشارع فيه قبة لسعد رضي الله تعالى عنه، حين سال الدم من جرحه. وفيه كراهة كثرة النوم، وروى سُنَيد عن يوسف بن محمد بن المُنْكَدِر عن أبيه عن جابر مرفوعًا، قالت أُم سليمان لسليمان: يا بُنيَ لا تكثر النوم بالليل، فإن كثرة النوم بالليل تدع الرجل فقيرًا يوم القيامة. وكان بعض الكبراء يقف على المائدة كل ليلة، ويقول: يا معشر المريدين، لا تأكلوا كثيرًا فتشربوا فتناموا كثيرًا، فتتحسروا عند الموت كثيرًا. وهذا هو الأصل الكبير، وهو تخفيف المعدة من ثقل الطعام. رجاله ثمانية: وفيه ذكر أُم المؤمنين حفصة، وقد مرّ الجميع، مرّ عبد الله بن محمد المسندي في الثاني من الإيمان، وعبد الرزاق في الخامس والثلاثين منه. وسالم بن عبد الله في السابع عشر منه، وأبوه عبد الله في أوله قبل ذكر حديث منه، والزُّهري في الثالث من بدء الوحي، ومعمر في منابعة بعد الرابع منه، وهشام بن يوسف في الثالث من الحيض، ومحمود بن غَيلان في السابع والأربعين من مواقيت الصلاة، ومرت حفصة في الثالث والستين. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإفراد والإخبار بالجمع والعنعنة والقول. أخرجه البخاريّ فيما مضى، في باب نوم الرجال في المسجد وفي ما يأتي في باب "فضل مَنْ تعار من الليل" وأخرجه مسلم في فضائل عبد الله بن عمر. ثم قال المصنف.

باب طول السجود في قيام الليل

باب طول السجود في قيام الليل الحديث الثالث حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُصَلِّي إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، كَانَتْ تِلْكَ صَلاَتَهُ، يَسْجُدُ السَّجْدَةَ مِنْ ذَلِكَ قَدْرَ مَا يَقْرَأُ أَحَدُكُمْ خَمْسِينَ آيَةً قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ، وَيَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلاَةِ الْفَجْرِ، ثُمَّ يَضْطَجِعُ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمُنَادِي لِلصَّلاَةِ. قد مرّ هذا الحديث بهذا الإسناد والمتن في أبواب الوتر، بعد ثلاثة أحاديث، ومرّ استيفاء الكلام على أوله عند ذكره هناك، واستيفاء الكلام على الاضطجاع عند ذكره، أيضًا، في باب مَنْ انتظر الإقامة من كتاب الأَذان. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ أبو اليَمان، وشُعيب في السابع من بدء الوحي، والزُّهريّ في الثالث منه، وعُروة وعائشة في الثاني منه، وقد جاء هذا الحديث في باب ما جاء في الوتر، والمنادي للصلاة إنه بلالَ. وقد مرّ في التاسع والثلاثين من العلم. ثم قال المصنف:

باب ترك القيام للمريض

باب ترك القيام للمريض الحديث الرابع حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الأَسْوَدِ قَالَ: سَمِعْتُ جُنْدَبًا يَقُولُ: اشْتَكَى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ. قوله: "اشتكى النبي -صلى الله عليه وسلم-" أي المرض، كما في رواية قيس بن الرَّبيع الآتي ذكرها. قال في "الفتح": لم أقف في شيء من طرق الحديث على تفسير هذه الشكاية، لكن في التِّرمِذِيّ عن ابن عُيينة عن الأسود في أول هذا الحديث عن جُنْدُب قال: كنت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في أنمار، فَدَمِيت أُصبعه، فقال: هل أنتِ إلا أُصبع دَمِيت ... وفي سبيلِ اللهِ ما لَقِيتْ؟ قال: وأبطأ عليه جبريل، فقال المشركون: قد وُدِّع محمد، فأنزل الله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} فظن بعض الشرّاح أن هذا بيان للشكاية المجملة في الصحيح، وليس كما ظُن، فإن في طريق عبد الله بن شدّاد الآتية قريبًا أن نزول هذه السورة كان في أوائل البعثة، وجندب لم يصحب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا متأخرًا، لما حكاه البَغَويّ في "معجم الصحابة" عن الإِمام أحمد، فعلى هذا هما قضيتان حكاهما جُنْدُب: إحداهما مرسلة، والأخرى موصولة؛ لأن الأُولى لم يحضرها، فروايته لها مرسلة من مراسيل الصحابة، والثانية شهدها، كما ذكر أنه كان مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا يلزم من عطف إحداهما على الأخرى في رواية سفيان اتحادُهُما. وقوله: "فلم يقم ليلة أو ليلتين" هكذا اختصره المصنف هنا، وساقه في فضائل القرآن تامًا، أخرجه عن شيخه، فيه هنا، أبي نعيم، فزاد فيه: "فأتته امرأة فقالت: يا محمد، ما أرى شيطانك إلا قد تركك، فأنزل الله تعالى: {وَالضُّحَى} إلى قوله: {وَمَا قَلَى}. رجاله أربعة: مرّوا، مرّ أبو نعيم في الخامس والأربعين من الإيمان، ومرّ سفيان الثَّوري في السابع والعشرين منه، ومرّ الأسود بن قيس وجُنْدُب في الثالث والثلاثين من كتاب العيدين. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول والسماع، ورواته كلهم كوفيون، وهو من الرباعيات.

الحديث الخامس

أخرجه البخاريّ أيضًا في قيام الليل وفي فضائل القرآن وفي التفسير، ومسلم في المغازي، والتِّرمِذِيّ والنَّسَائيّ في التفسير. الحديث الخامس حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: احْتَبَسَ جِبْرِيلُ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَبْطَأَ عَلَيْهِ شَيْطَانُهُ. فَنَزَلَتْ: {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}. سفيان في السندين هو الثَّوْرِيّ، ووهم مَنْ زعم أنه ابن عُيَينة، ووقع التصريح بسماع الأسود من جندب في طريق زهير عنه في التفسير: أخرجه في رواية محمد بن كثير هذه بلفظ: "احتبس جبريل"، ووافق أبا نعيم على الرواية الأولى أبو أُسامة عند أبي عُوانة، ووافق محمدَ بن كثير على هذه وكيعٌ عند الإسماعيليّ، ورواية زهير الآتية في التفسير كرواية أبي نعيم، إلا أنه قال فيها: "فلم يقم ليلة أو ليلتين أو ثلاثًا" ورواية ابن عُيينة عن الأسود عند مسلم، كرواية محمد بن كثير، فالظاهر أن الأسود حدّث به على الوجهين، فحمل عنه كل واحد ما لم يحمله الآخر، وحمل عنه سفيان الثَّوري كلًا من الأمرين، فحدّث به مرة هكذا، ومرة هكذا. وقد رواه شُعبة عن الأسود بلفظ آخر أخرجه المصنف في التفسير، قال: قالت امرأة: "يا رسول الله، ما أرى صاحبك إلاَّ أبطأَ عنك" والمرأة المذكورة في حديث الباب هي أُم جميل العَوْراء، بنت حَرْب بن أُمية أخت أبي سفيان بن حرب، وامرأة أبي لهب، كما روى الحاكم عن زيد بن أرقم قال: قالت امرأة أبي لهب لما مكث النبي -صلى الله عليه وسلم- أيامًا لم ينزل عليه الوحي: يا محمد، ما أرى شيطانك إلا قد قَلَاك. فنزلت: {وَالضُّحَى}. رجاله ثقات، وفي تفسير الطبريّ عن المفضل بن صالح عن الأسود في حديث الباب فقالت امرأةٌ من أهله أو من قومه، ولا شك أن أُمَّ جميل من قومه؛ لأنها من بني عبد مناف. وعند ابن عساكر أنها إحدى عَمّاته، ومستنده في ذلك ما أخرجه قيس بن الربيع في مسنده عن الأسود بن قيس راويه، وأخرجه الغِرْيابيّ شيخ البخاريّ في تفسيره عنه، ولفظه: "فأتته إحدى عمّاته أو بنات عمه، وقالت: إني لأرجو أن يكون شيطانك قد وَدَّعك" وهذه المرأة القائلة: "شيطانك" غير المذكورة عند مسلم والنَّسائي السابقة؛ لأن هذه، أعني التي عند مسلم، عبّرت بقولها: "صاحبك" ونلك عبّرت بقولها: "شيطانك" وهذه عبّرت بقولها: "يا رسول الله" والتي في الباب عبّرت بقولها: "يا محمد" وسياق الأولى يشعر بأنها قالته تاسفًا وتوجعًا، وسياق التي في الباب يشعر بأنها قالته تهكمًا وشماتة. وقد حكى ابن بطّال عن تفسير بَقِيّ بن مَخْلَد قال: قالت خديجة للنبي -صلى الله عليه وسلم-، حين أبطأ عليه الوحي: إنَّ ربك قد قلاك، فنزلت: {وَالضُّحَى}. وتعقبه ابن المنير ومن تبعه بالإنكار؛ لأن

خديجة قوية الإيمان، لا تليق نسبة هذا القول إليها، لكن إسناد ذلك قويّ أخرجه إسماعيل القاضي في أحكامه، والطبرىّ في تفسيره، وأبو داود في أعلام النبوءة، له كلهم عن عبد الله بن شداد بن الهاد، وهو من صغار الصحابة، والسند إليه صحيح، وأخرجه أبو داود عن هشام بن عُروة عن أبيه عن عائشة، لكن ليس عند أحد منهم أنها عبّرت بشيطانك، وهذه هي اللفظة المستنكرة في الحديث. وفي رواية إسماعيل وغيره "ما أرى صاحبك" بدل "ربك"، والظاهر أنها عنت بذلك جبريل. قاله في "الفتح". قلت: هذا كله لا يرد إنكار ابن المنير؛ لأن خديجة رضي الله تعالى عنها معلومّ ما عندها من اليقين والثبات، وما ثبتت به النبي -صلى الله عليه وسلم- غير ما مرة، كما ثبت في الصحيح وغيره، فيستحيل أن يصدر منها أن ربك أو أن صاحبك قد قَلَاك، فهذا لا يصدر من موحِّد، فضلًا عن خديجة رضي الله تعالى عنها. فيجب أن تنزه عن هذا، ولو ورد بأصح الأسانيد. وأغرب سُنَيد بن داود فروى في تفسيره عن وَكيع عن هشام بن عُروة عن أبيه أن عائشة قالت للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وغلط في ذلك، فقد رواه الطبري عن وكيع، فقال فيه: قالت خديجة .. ، وكذلك أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي معاوية عن هشام. واستشكل أبو القاسم بن الورد مطابقة حديث جُنْدُب الأخير للترجمة، وتبعه ابن التين، فقال: احتباس جبريل ليس ذكره في هذا الباب في موضعه، والجواب أن المصنف أراد أن ينبه على أن الحديث واحد، لاتحاد مخرجه، وإن كان السبب مختلفًا، لكنه في قصة واحدة كما مرَّ. وقد وقع في رواية قيس بن الربيع الماضية "فلم يطق القيام وكان يحب التهجد". وقوله: "أبطأ عليه" أي: تأخر عنه، وفي رواية شُعبة في التفسير "أبطاك" أي صَيَّرَكَ بطيئًا في القراءة؛ لأن بطأه في الإقراء يستلزم بطء الآخر في القراءة. وقوله {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} قرىء وَدَّعك بالتشديد والتخفيف، وهما بمعنى واحد: ما تركك ربك؛ لأن التوديع مبالغة في الوَدْع؛ لأن من ودعك مفرقًا فقد بالغ في تركك، وقراءة التشديد هي قراءة الجمهور، وقراءة التخفيف قراءة عُروة وابنه هشام وابن أبي عبلة، وقراءة التخفيف شاذة؛ لأن العرب أَماتوا ماضي يدع. وقوله: {وَمَا قَلَى} أي: وما قلاك، وما أبغضك، من القِلى، بكسر القاف وتخفيف اللام، وهو البغض، فإن فتحت القاف مددت، تقول قلاه بقلبه قِلى وقَلاء، ويَقلاه لغة طيء، وإنما حذف المفعول حيث لم يقل: "وما قلاك" رعاية للفواصل. وقد ورد في سبب نزول هذه الآية غير ما تقدم، ففي الطبرانيّ بإسناد فيه مَنْ لا يُعرف، أن سبب نزولها وجود جرو كلبٍ تحت سريره عليه الصلاة والسلام، ولم يشعر به، فأبطأ عنه جبريل لذلك، وقصة إبطاء جبريل بسبب كون الكلب تحت سريره مشهورة، لكن كونها سبب نزول هذه الآية غريب، وهو شاذ مردود بما في الصحيح. وورد أيضًا في سبب النزول ما أخرجه الطبريّ عن ابن عبّاس قال: لما نزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القرآنُ أبطأَ عنه جبريل أيامًا، فتغير بذلك، فقالوا: ودعه ربه وقلاه، فأنزل الله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} وعن إسماعيل مولى آل الزبير قال: فَتَر

رجاله أربعة

الوحي حتى شقَّ على النبي، -صلى الله عليه وسلم-، ذلك وأحزنه، فقال: لقد خشيتُ أن يكون صاحبي قد قلاني، فجاء جبريل بسورة والضحى. وذكر سليمان التيمي في السيرة التي جمعها، قال: فَتَر الوحي، فقالوا: لو كان من عند الله لتتابع، ولكن الله قلاه، فأنزل الله: {وَالضُّحَى} و {أَلَمْ نَشْرَحْ} بكمالهما. وكل هذه الروايات لا تثبت، والحق أن الفترة المذكورة في سبب نزول: {وَالضُّحَى} غير الفترة المذكورة في ابتداء الوحي، فإن تلك دامت أيامًا، وهذه لم تكن إلا ليلتين أو ثلاثًا فاختلطتا على بعض الرواة. وفي سيرة ابن إسحاق في سبب نزول: {وَالضُّحَى} شيء آخر، فإنه ذكر أن المشركين لما سألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذي القرنين والروح وغير ذلك، ووعدهم بالجواب، ولم يستثن فأبطأ عليه جبريل اثنتي عشرة ليلة أو أكثر، فضاق صدره، وتكلم المشركون، فنزل جبريل بسورة: {وَالضُّحَى}، وبجواب ما سألوا، وبقوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} وذكر سورة الضحى هنا بعيد جدًا، لكن يجوز أن يكون الزمان في القصتين متقاربًا، فضم بعض الرواة إحدى القصتين إلى الأخرى، وكل منهما لم يكن في ابتداء البَعْث، وإنما كان بعد ذلك بمدة. رجاله أربعة: مرّ محمد بن كثير في الثاني والثلاثين من العلم، ومرّ محل الثلاثة الباقية في الذي قبله. ثم قال المصنف:

باب تحريض النبي -صلى الله عليه وسلم- على قيام الليل والنوافل من غير إيجاب

باب تحريض النبي -صلى الله عليه وسلم- على قيام الليل والنوافل من غير إيجاب قوله: تحريض النبي يعني أُمته أو المؤمنين على قيام الليل، وفي رواية الأصيلي وكريمة "صلاة الليل والنوافل" من غير إيجاب، قال ابن المنير: اشتملت الترجمة على أمرين: التحريض ونفي الإيجاب، فحديث أُم سَلَمة وعليّ للأول، وحديث عائشة للثاني بل يؤخذ من الأحاديث الأربعة نفي الإيجاب، ويؤخذ التحريض من حديثي عائشة من قولها: "كان يدع العمل وهو يحبه"؛ لأن كل شيء أحبه استلزم التحريض عليه، لولا ما عارضه من خشية الافتراض، ويحتمل أن يكون مراد البخاري بقوله: "قيام الليل" ما هو أعم من الصلاة والقراءة والذكر وسماع الموعظة والتفكر في الملكوت وغير ذلك، ويكون قوله: "والنوافل" من عطف الخاص على العام، وهذا على رواية الأكثر، لا على رواية كريمة والأصيلي. وقال ابن رشيد: كأنّ البخاري فهم أن المراد بالإيقاظ الإيقاظ للصلاة، لا لمجرد الإخبار بما أنزل؛ لأنه لو كان لمجرد الإخبار لكان يمكن تأخيره إلى النهار؛ لأنه لا يفوت، وهذا هو المعتمد، وقد وقع في رواية عُشيب عن الزُّهري عند المصنف في الأدب وغيره في هذا الحديث: "مَنْ يوقظ صَواحب الحُجَر" يريد أزواجه، حتى يصلين، فظهرت مطابقة الحديث للترجمة، وإن فيه التحريض على صلاة الليل، وعدم الإيجاب يؤخذ من ترك إلزامهن بذلك، وجرى البخاري على عادته في الحوالة على ما ورد في بعض طرق الحديث الذي يورده. ثم قال: وطرق النبي -صلى الله عليه وسلم- فاطمة وعلياً، عليهما السلام، ليلةً للصلاة، وهذا التعليق ذكره عُقيب هذا موصولًا، وفاطمة الزهراء قد مرّت في الخامس والمئة من الوضوء، ومرّ علي في السابع والأربعين من العلم. الحديث السادس حَدَّثَنَا ابْنُ مُقَاتِلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ هِنْدٍ بِنْتِ الْحَارِثِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- اسْتَيْقَظَ لَيْلَةً فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنَ الْفِتْنَةِ، مَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الْخَزَائِنِ مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الْحُجُرَاتِ، يَا رُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِي الآخِرَةِ. قوله: "مَنْ يُوقِظُ صواحب الحُجَر" مرّ قريبًا أن البخاري فهم أنه للصلاة، ويحتمل أن يقال إن

رجاله ستة

لمشاهدة حال المخبر حينئذ إثرًا لا يكون عند التأخير، فيكون الإيقاظ في الحال أبلغ، لوعيهن ما يخبرهن به ولسمعهن ما يعظهن به. وهذا الحديث قد مرّ في باب العلم والعظة بالليل، ومرّ استيفاء الكلام عليه هناك بما لا مزيد عليه. رجاله ستة: مرّوا، مرّ محمد بن مقاتل في السابع من العلم، ومرّ ابن المبارك في السادس من بدء الوحي، ومعمر في متابعة بعد الرابع منه والزهري في الثالث منه، وهند بنت الحارث وأُم سلمة في السادس والخمسين من العلم. الحديث السابع حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ أَنَّ حُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ بِنْتَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ لَيْلَةً فَقَالَ: أَلاَ تُصَلِّيَانِ؟. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ، فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا. فَانْصَرَفَ حِينَ قُلْنَا ذَلِكَ وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيَّ شَيْئًا. ثُمَّ سَمِعْتُهُ وَهْوَ مُوَلٍّ يَضْرِبُ فَخِذَهُ وَهْوَ يَقُولُ: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا}. قوله: علي بن حسين هو زين العابدين، وهذا من أصح الأسانيد، ومن أشرف التراجم الواردة فيمن روى عن أبيه عن جده، وحكى الدارقطني أنّ كاتب الليث رواه عن الليث عن عَقيل عن الزُّهريّ، فقال عن علي بن الحسين عن الحسن بن عليّ، وكذا في رواية حجاج بن أبي منيع عن جده عن الزُّهريّ في تفسير ابن مَرْدَوَيه، وهو وهم، والصواب عن الحسين، ويؤيده رواية حكيم بن حكيم عن الزُّهريّ عن علي بن الحسين عن أبيه، أخرجها النَّسائي والطبري. وقوله: "طرقه وفاطمة" بالنصب على الضمير، والطروق الإتيان بالليل، وعلى هذا فقوله: "ليلة" للتأكيد، وحكى ابن فارس أن معنى طرق أتى، فعلى هذا يكون قوله: "ليلة" لبيان وقت المجيء، قلت: ويؤيد هذا قوله في الحديث: "ولا يطرقهم ليلًا" فإن التقييد بالليل دال على أن الطروق هو الإتيان مطلقًا، ويحتمل أن يكون المراد بقوله: "ليلة" أي: مدة واحدة. وقوله: "ألا تصليان؟ " قال ابن بَّطال: فيه فضيلة صلاة الليل، وإيقاظ النائمين من الأهل والقرابة لذلك. وفي رواية حكيم بن حكيم المذكورة "ودخل النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، على عليّ وفاطمة من الليل فأيقظنا للصلاة، ثم رجع إلى بيته، فصلّى هويًا من الليل، فلم يسمع لنا حسًا، فرجع إلينا فأيقظنا، الحديث. قال الطبريَّ: لولا ما علم النبي -صلى الله عليه وسلم-، من عظم فضل الصلاة بالليل، ما كان يزعج ابنته وابن عمه في وقت جعله الله سكنا لخلقه، لكنه اختار لهما إحراز تلك الفضيلة على الدعة والسكون، امتثالًا لقوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ} الآية.

رجاله ستة

وقوله: "أنفسنا بيد الله" اقتبس ذلك من قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} الآية. وفي رواية حكيم المذكورة قال علي: فجلست وأنا أعرك عيني، وأنا أقول: والله لا نصلي إلا ما كتب الله لنا، إنما أنفسنا بيد الله. وفيه إثبات المشيئة لله، وأن العبد لا يفعل شيئًا إلا بإرادة الله تعالى. وقوله: "بَعثَنَا" بالمثلثة، أيقظنا، وأصله إثارة الشيء عن موضعه، وقوله: "حين قلت" في رواية كريمة: "حين قلنا" وقوله: "ولم يرجع" بفتح أوله، أي: لم يجبني، وفيه أن السكوت يكون جوابًا، والإعراض عن القول الذي لا يطابق المراد، وإن كان حقاِّ في نفسه. وقوله: "يضرب فخذه" فيه جواز ضرب الفخذ عند التأسف، وقال ابن التين: كره احتجاجه بالآية المذكورة، أي الاقتباس منها، وأراد منه أن ينسب التقصير إلى نفسه، وفيه جواز الانتزاع من القرآن، وترجيح قول مَنْ قال: إن اللام في قوله: "وكان الإنسان" للعموم لا لخصوص الكافر، وفيه مَنْقَبة لعلي، حيث لم يكتم ما فيه عليه أدنى غضاضة، فقدم مصلحة نشر العلم وتبليغه على كتمه. وقال المهلب فيه: أنه ليس للإمام أن يشدد في النوافل، حيث قنع -صلى الله عليه وسلم- بقول علي، رضي الله تعالى عنه: أنفسنا بيد الله؛ لأنه كلام صحيح في العذر عن التنفل، ولو كان فرضًا ما عذره. قال: وأما ضربه فخذه وقراءة الآية، فدالٌ على أنه ظن أنه أحرجهم، فندم على إنباههم كذا قال: وأقره ابن بطَّال، وليس بواضح، وما تقدم أَوْلى. وقال النوويُّ: المختار أنه ضرب فخذه تعجبًا من سرعة جوابه، وعدم موافقته له على الاعتذار بما اعتذر به. رجاله ستة: وفيه ذكر فاطمة البَتول، وقد مرّ الجميع، مرّ أبو اليَمان وشُعيب في السابع من بدء الوحي والزُّهريّ في الثالث منه، ومرّ محل فاطمة وعلي في تعليق قبله بحديث، ومرّ علي بن الحسين في الخامس من الغُسل، وأبوه الحسين في الثامن والثمانين من الوضوء. فيه التحديث بالجمع والإخبار بالجمع والإفراد والعنعنة، ورواته حُمْصِيَّان والبقية مدنيون، ورواية التابعيّ عن التابعيّ، ورواية الصحابيّ عن الصحابيّ، ورواية الابن عن أبيه عن جده. أخرجه البخاري أيضًا في الاعتصام والتوحيد والتفسير، ومسلم في الصلاة، والنَّسائيّ فيها وأعاده في التفسير. الحديث الثامن حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَيَدَعُ الْعَمَلَ وَهْوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ خَشْيَةَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ فَيُفْرَضَ عَلَيْهِمْ، وَمَا سَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- سُبْحَةَ الضُّحَى قَطُّ، وَإِنِّي لأُسَبِّحُهَا. زاد فيه مالك في الموطأ "قالت: وكان يحب ما خف على الناس" وهذا الحديث مشتمل على

رجاله خمسة

حديثين: أحدهما صلاة الضحى، والثاني ترك العمل خشية افتراضه، أما صلاة الضحى فقد مرَّ استيفاء الكلام عليها عند حديث أُم هانىء أوائل كتاب الصلاة، في باب الصلاة في الثوب الواحد ملتحفًا به، ومرّ الكلام على الثاني مستوفى أيضًا غاية عند ذكر حديثها الثاني هنا، من رواية عمرة عنها قبيل أبواب صفة الصلاة، في باب "إذا كان بين الإِمام وبين القوم حائط أو سترة". وقوله: "إنْ كان" بكسر همزة إن، وهي المخففة من الثقيلة، وفيها ضمير الشأن. وقولِه: "لَيدع" بفتح اللام، أي: يترك. وقوله: "خشيةَ" بالنصب متعلق بقوله: "لَيدع"، وقوله: "فَيُفْرَضَ" بالنصب عطفًا على يعمل إلى آخر ما مرّ في الباب المذكور. رجاله خمسة: قد مرّوا في الثاني من بدء الوحي إلا الزُّهريّ مرّ في الثالث منه. الحديث التاسع حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: صَلَّى ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَصَلَّى بِصَلاَتِهِ نَاسٌ، ثُمَّ صَلَّى مِنَ الْقَابِلَةِ فَكَثُرَ النَّاسُ، ثُمَّ اجْتَمَعُوا مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ، فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ: قَدْ رَأَيْتُ الَّذِي صَنَعْتُمْ وَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ إِلاَّ أَنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ، وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ. قوله: " ثم صلّى من القابلَةِ أي: من الليلة المقبلة، وهو لفظ معمر عن ابن شهاب عند أحمد، وفي رواية المستملي: "ثم صلّى من القابل" أي: الوقت، وقوله: "ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة" كذا رواه مالك بالشك، إلى آخر ما مرّ مستوفى عند ذكر هذا الحديث من رواية عمرة في الباب المذكور قريبًا. رجاله خمسة: وهم عين الرجال الذي قبله. ثم قال المصنف:

باب قيام النبي -صلى الله عليه وسلم- الليل

باب قيام النبي -صلى الله عليه وسلم- اللَّيل كذا للكشميهنيّ من طريقين عنه، وزاد في رواية كريمة: "حتى ترم قدماه" وللباقين: "قيام الليل للنبي -صلى الله عليه وسلم-". ثم قال: "وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: كان يقوم حتى تفطر قدماه" والفطور الشقوق؛ انفطرت: انشقت. قوله: "كان يقوم" كذا للكشميهنيّ، ولغيره "قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" وقوله: "تفطر" بتاء واحدة. وفي رواية الأصيلي: تتفطر، بمثناتين، كذا ذكره أبو عبيدة في المجاز. وقوله: انفطرت، انشقت، هذا التفسير رواه ابن أبي حاتم موصولًا عن الضَّحَّاك. قال: ورُوي عن مُجاهِد والحسن وغيرهما ذلك، وكذا حكاه إسماعيل بن أبي زياد الشاميّ عن ابن عباس. وتعليق عائشة هذا أخرجه البخاري في التفسير في سورة الفتح، وعائشة مرّ كلها في الذي قبله. الحديث العاشر حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ عَنْ زِيَادٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: إِنْ كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- لَيَقُومُ لِيُصَلِّيَ حَتَّى تَرِمُ قَدَمَاهُ أَوْ سَاقَاهُ، فَيُقَالُ لَهُ فَيَقُولُ أَفَلاَ أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا. قوله: عن زياد هو ابن عُلاقة، وللمصنف في الرِّقاق عن خَلاّد بن يحيى عن مِسْعَر: حدّثنا زياد، فقد رواه الحُفّاظ من أصحاب مِسْعَر عنه عن زياد، وخالفهم محمد بن بشر فرواه عن مسعر عن قتادة عن أنس، رواه البزّار وقال: الصواب عن مسعر عن زياد، وأخرجه الطبراني في الكبير عن أبي قتادة الحراني عن مسعر عن علي بن الأقمر عن أبي جحيفة، وأخطأ فيه أيضًا، والصواب مسعر عن زياد بن عُلاقة. وقوله: "إن كان لَيقوم أو ليصلي" إن مخففة من الثقيلة، ولَيقوم بفتح اللام، وفي رواية كريمة: "ليقوم يصلي" وفي حديث عائشة: "كان يقوم من الليلة وقوله: "حتى تَرِمَ" بفتح المثناة وكسر الراء وتخفيف الميم، بلفظ المضارع من الورم، هكذا سُمع، وهو نادر. وفي رواية خلاّد بن يحيي: "حتى تَرِمَ أو تنتفخ قدماه"، وفي رواية أبي عُوانة عن زياد عن التِّرْمِذِيّ: "حتى انتفخت قدماه". وقوله: "قدماه أو ساقاه" وفي رواية خلّاد: "قدماه" ولم يشك، وللمصنف في تفسير الفتح حتى تورمت قدماه، وللنَّسائيّ عن أبي هُريرة: "حتى تَزَلَّع قدماه" بزاي وعين مهملة، ولا اختلاف بين

رجاله أربعة

الروايات، فإنه إذا حصل الانتفاخ والورم حصل الزلع والتشقق. وقوله: "فيقال له" لم يذكر المقول، ولم يسم القائل. وفي تفسير الفتح فقيل له: غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. وفي رواية أبي عُوانة فقيل له: "أنتكلف هذا" وفي حديث عائشة، فقالت له عائشة: "لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك؟ " وفي حديث أبي هريرة عند البَزَّار، فقيل له: "تفعل هذا وقد جاءك من الله أن قد غفر لك؟ " وقوله: أفلا أكون، في حديث عائشة: "أفلا أحب أن أكون عبدًا شكورًا" وزادت فيه: "فلما كثر لحمه صلى جالسًا" الحديث، وإلغاء في قوله: "أفلا أكون" للسببية، وهي عن محذوف تقديره: أأترك تهجدي فلا أكون عبدًا شكورًا، والمعنى أن المغفرة سبب لكون التهجد شكرًا، فكيف أتركه؟ قيل: أخرج البخاري هذا الحديث لينبه على أن قيام جميع الليل غير مكروه، ولا تعارضه الأحاديث الآتية بخلافه؛ لأنه يُجمع بينهما بأنه -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يداوم على قيام جميع الليل، بل كان يقوم وينام، كما أخبر عن نفسه، وأخبرت عنه عائشة. قال ابن بطّال في هذا الحديث: أخذ الإنسان على نفسه بالشدة في العبادة، وإن أضر ذلك ببدنه؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم-، إذا فعل ذلك مع علمه بما سبق له، فكيف بمن لم يعلم ذلك؟ فضلًا عمن لم يأمن أنه استحق النار؟ ومحل ذلك ما لم يفض إلى المَلال؛ لأن حال النبي -صلى الله عليه وسلم-، كانت أكمل الأحوال، فكان لا يمل من عبادة ربه، وإن أضرذلك ببدنه، بل صح أنه قال: "وجُعِلتْ قُرَّة عيني في الصلاة" كما أخرجه النَّسَائيّ عن أنس، فأما غيره -صلى الله عليه وسلم-، فإذا خشي الملل، لا ينبغي له أن يكره نفسه، وعليه يحمل قوله -صلى الله عليه وسلم- "خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يَمل حتى تملوا". وفيه مشروعية الصلاة للشكر، وفيه أن الشكر يكون بالعمل كما يكون باللسان، كما قال الله تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} وقال القُرطبيّ: ظن مَنْ سأله عن سبب تحمله المشقة في العبادة أنه إنما يعبد الله خوفًا من الذنوب وطلبًا للمغفرة والرحمة، فمن تحقق أنه غفر له لا يحتاج لذلك، فأفادهم أن هناك طريقًا آخر للعبادة، وهي الشكر على المغفرة، وإيصال النعمة لمن لا يستحق عليه فيها شيئًا. فيتعين كثرة الشكر على ذلك، والشكر الاعتراف بالنعمة والقيام بالخدمة، فمن كثر ذلك منه سمي شكورًا، ومن ثم قال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} والشكور من أبنية المبالغة يستدعي نعمة خطيرة، وتخصيص العبد بالشكر مشعر بغاية الإكرام والقرب من الله تعالى، ومن ثم وصفه به في مقام الإِسراء، ولأن العبود ية تقتضي صحة النسبة، وليست العبادة إلاَّ عين الشكر. وفيه ما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- من الاجتهاد في العبادة، والخشية من ربه قال العلماء: إنما ألزم الأنبياء أنفسهم بشدة الخوف، لعلمهم بعظيم نعمة الله تعالى عليهم، وأنه ابتدأهم بها، فبذلوا مجهود هم في عبادته، ليؤدوا بعض شكره، مع أن حقوق الله أعظم من أن يقوم بها العباد. رجاله أربعة: قد مرّوا، مرّ أبو نعيم في الخامس والأربعين من الإِيمان، ومرّ زياد بن عُلاقة والمُغيرة بن شُعبة

في الحادي والخمسين منه، ومرّ مِسْعَر بن كدام في السادس والستين من الوضوء. فيه التحديث بالجمع والعنعنة والسماع والقول، ورواته كلهم كوفيون، وهو من الرباعيات. أخرجه البخاري أيضًا في الرقاق وفي التفسير، ومسلم في أواخر الكتاب، والتِّرمذيّ وابن ماجه في الصلاة، والنَّسائي فيها وفي التفسير. ثم قال المصنف:

باب من نام عند السحر

باب مَنْ نام عند السَحر أي: بالتحريك في رواية الأصيلي والكشميهنيّ السَحُور بفتح السين وضم الحاء ما يتسحر به ولا يكون إلا قبيل الصبح بقليل فلكل منها وجه والأول أوجه. الحديث الحادي عشر. حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ أَنَّ عَمْرَو بْنَ أَوْسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لَهُ: أَحَبُّ الصَّلاَةِ إِلَى اللَّهِ صَلاَةُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ، وَكَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَيَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا. قوله: "أحب الصلاة إلى الله صلاة داود" قال المهلب: كان داود عليه السلام يجم نفسه بنوم أول الليل، ثم يقوم في الوقت الذي ينادي الله تعالى فيه: هل من سائل فأعطيه سؤله؟ ثم يستدرك بالنوم ما يستريح به من نصب القيام في بقية الليل، وهذا هو النوم عند السَحر كما ترجم به المصنف، وإنما صارت هذه الطريقة أحب من أجل الأخذ بالرفق للنفس، التي يخشى منها السآمة، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله لا يمل حتى تملوا" والله يحب أن يديم فضله، ويوالي إحسانه، وإنما كان ذلك أرفق؛ لأن النوم بعد القيام يريح البدن، ويذهب خور السهر، وذبول الجسم، بخلاف السهر إلى الصبح. وفيه من المصلحة أيضًا، استقبال صلاة الصبح، وأذكار النهار بنشاط وإقبال، وأنه أقرب إلى عدم الرياء؛ لأن مَنْ نام السدس الأخير أصبح ظاهر اللون سليم القوى، فهو أقرب إلى أن يخفى عمله الماضي على مَنْ يراه، أشار إلى هذا ابن دقيق العيد. قال ابن رشيد: الظاهر من سياق حديث عبد الله بن عمر مطابقة ما ترجم له، إلا أنه ليس نصًا فيه، فبينه بالحديث الثالث، وهو قول عائشة ما ألفاه السحر عندي إلا نائمًا. قلت: انظر كيف التوفيق بين ما ترجم له البخاري من فضل النوم عند السَحر للقائم ليله، وما ذكر فيه من الأحاديث. وبين ما في القرآن من مدح الله تعالى للقائمين المستغفرين بالأسحار كقوله تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} وقوله تعالى: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} فقد قال المفسرون: خصت الأسحار بالذكر لأنها وقت الغفلة ولذة النوم، وقالوا عند الآية الأخيرة، وفي بناء الفعل على الضمير، إشعارٌ بأنهم الأحقاء بالاستغفار دون غيرهم، لكمال خشيتهم، والسَحر

السدس الأخير من الليل، أي فكيف يخص أهل الأسحار بالمدح من بين القائمين بالليل، ويكون الأفضل النوم فيه والقيام فيما قبله؟ وحكى بعض القوم أن معنى قوله: "أحب الصلاة" هو بالنسبة إلى مَنْ حاله مثل حال المخاطب بذلك، وهو مَنْ يشق عليه قيام أكثر الليل، وعمدة هذا القائل اقتضاء القاعدة: زيادة الأجر بزيادة العمل، لكن يعارضه هنا اقتضاء العادة والجِبِلّة: التقصير في حقوق يعارضها طول القيام، ومقدار ذلك الفائت مع مقدار الحاصل من القيام غير معلوم لنا، فالأولى أن يجري الحديث على ظاهره وعمومه، وإذا تعارضت المصلحة والمفسدة، فمقدار تأثير كل واحد منهما في الحث أو المنع غير محقق لنا، فالطريق أننا نفوض الأمر إلى صاحب الشرع على ما دل عليه اللفظ، مع ما ذكرنا من قوة الظاهر. وقال ابن التين: ظاهره أنه في حق الأُمة، وأما النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقد أمره الله تعالى بقيام أكثر الليل، فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2)} وفيه نظر؛ لأن هذا الأمر قد نسخ بقوله في آخر السورة: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} وقد تقدم في حديث ابن عباس: فلما كان نصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل، وهو نحو المذكور هنا، ويأتي بعد نحو ثلاثة أبواب أنه عليه الصلاة والسلام، لم يكن يجرى الأمر في ذلك على وتيرةٍ واحدة. قوله: "وأحب الصيام إلى الله صيام داود" يأتي فيه ما تقدم في الصلاة، وقوله: "ويصوم يومًا ويفطر يومًا"، قال ابن المنير: كان داود عليه الصلاة والسلام يقسم ليله ونهاره، لحق ربه وحق نفسه، فاما الليل فاستقام له ذلك فيه، وأما النهار، فلما تعذر عليه أن يُجَزِّئه بالصيام؛ لأنه لا يتبعض، جعل عوضًا من ذلك أن يصوم يومًا ويفطر يومًا، فينزل ذلك منزلة التجزئة في شخص اليوم. وفي رواية ابن جريج عن عمرو بن دينار عند مسلم: "كان يرقد شطرَ الليل ثم يقوم ثلث الليل بعد شطره". قال ابن جريج: قلت لعمرو بن دينار: عمرو بن أوس هو الذي يقول: يقوم ثلث الليل؟ قال: نعم، وظاهره أن تقدير القيام بالثلث من تفسير الراوي، فيكون في الرواية الأولى إدراج، ويحتمل أن يكون قوله عمرو بن أوس ذكره، أي بسنده، فلا يكون مدرجًا. وفي رواية ابن جُريج من الفائدة ترتيب ذلك بثم، ففيه رد على مَنْ أجاز في حديث الباب أن تحصل السنة بنوم السدس الأول مثلًا، وقيام الثلث ونوم النصف الأخير، مستدلًا على ذلك بأن الواو لا ترتب، وإنما كان صيام داود أفضل؛ لأن من اعتاده لا يشق عليه، بل تضعف شهوته من الأكل، وتقل حاجته إلى الطعام والشراب نهارًا، ويألف تناوله بالليل، بحيث يتجدد له طبع زائد، بخلاف من يصوم يومًا ويفطر يومًا، فإنه ينتقل من فطر إلى صوم، ومن صوم إلى فطر. وقد نقل الترمذي عن بعض أهل العلم إنه أشق الصيام، ويأمن مع ذلك غالبًا من تفويت الحقوق؛ لأن من أسباب تفويتها ضعف الجسد، ولا شك أن سرد الصوم ينهكه، وعلى ذلك يحمل

رجاله خمسة

قول ابن مسعود فيما رواه سعيد بن منصور بإسناد صحيح عنه أنه قيل له: إنك تقل الصيام، فقال: إني أخاف أن يضعفني عن القراءة، والقراءة أحب إليّ من الصيام، نعم إنْ فُرِض أن شخصًا لا يفوته شيء من الأعمال الصالحة بالصيام أصلًا، ولا يفوت حقًا من الحقوق التي خوطب بها، لم يبعد أن يكون في حقه أرجح، وإلى ذلك أشار ابن خُزيمة، فترجم الدليل على أن صيام داود إنما كان أعدل الصيام، وأحبه إلى الله تعالى؛ لأن فاعله يؤدي حق نفسه وأهله وزائره أيام فطره، بخلاف مَنْ يتابع الصوم. وهنا يشعر بأن مَنْ لا يتضرر في نفسه، ولا يفوت حقًا، أن يكون أرجح، وعلى هذا فيختلف ذلك باختلاف الأشخاص والأحوال، فمن يقتضي حاله الإكثار من الصوم أكْثَرَ منه، ومَنْ يقتضي حاله الإكثار من الإفطار أكثر منه، ومَنْ يقتضي حاله المزج فعله، حتى أن الشخص الواحد قد تختلف عليه الأحوال في ذلك، وإلى هذا أشار الغزاليّ أخيرًا. رجاله خمسة: مرّ منهم عليّ بن المدِينىّ في الرابع عشرمن العلم، ومرّ ابن عُيينة في الأول من بدء الوحي، ومرّ عمرو بن دينار في الرابع والخمسين من العلم، ومرّ عبد الله بن عمرو في الثالث من الإيمان. والخامس: عمرو بن أوس بن أبي أوس، واسمه حُذيفة الثَّقفيّ الطائفيّ، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال أبو هريرة: تسألوني وفيكم عمرو بن أوس؟ ذكره مسلم في الطبقة الأولى من التابعين، وذكره ابن مَنْدَة في الصحابة، وأورد حديثًا عن عثمان بن عمرو بن أوس عن أبيه، قال: قدمت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي وقد ثقيف، وفي إسناده وهم، والصواب أنه عن أبي عمرو أوس بن أبي أوس لا عن عمرو. روى عن أبيه والمغيرة وعبد الرحمن وأبي بكر الصديق وعبد الله بن عمرو بن العاص، روى عنه ابن أخيه عثمان بن عبد الله، وعمرو بن دينار، وأبو إسحاق السَّبِيعي وغيرهم. مات قبل سَعيد بن جُبير سنة تسعين. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإخبار بالإفراد، وشيخه مدنيّ، والبقية مكيُّون، ورواية التابعيّ عن التابعيّ، وعلى أن عمرو بن أوس صحابي تكون فيه. رواية صحابي عن صحابي، أخرجه البخاريّ في أحاديث الأنبياء، ومسلم في الصوم، وكذا أبو داود وابن ماجه، والنَّسائيّ في الصوم وفي الصلاة. الحديث الثاني عشر حَدَّثَنِي عَبْدَانُ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَشْعَثَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ مَسْرُوقًا قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَيُّ الْعَمَلِ كَانَ أَحَبَّ إِلَى

رجاله سبعة

النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-؟ قَالَتِ: الدَّائِمُ. قُلْتُ: مَتَى كَانَ يَقُومُ؟ قَالَتْ: يَقُومُ إِذَا سَمِعَ الصَّارِخَ. قوله: "قالت الدائم" أي: المواظبة العرفية. وقوله: "الصارخ" أي: الديك، وفي مسند الطيالسيّ في هذا الحديث "الصارخ" والصرخة: الصيحة الشديدة، وجرت العادة بأن الديك يصيح عند نصف الليل غالبًا، قاله محمد بن ناصر. وقال ابن التين: هو موافق لقول ابن عباس: "نصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل، وقال ابن بطال: الصارخ يصرخ عند ثلث الليل، وكان داود يتحرى الوقت الذي ينادي الله فيه "هل من سائل كذا" قال: والمراد بالدوام قيامه كل ليلة في ذلك الوقت، لا الدوام المطلق. وروى الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه عن زَيد بن خالد الجُهنيّ أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تَسُبّوا الديك، فإنه يوقظ للصلاة" وإسناده جيد، وفي لفظ "فإنه يدعو إلى الصلاة" وليس المراد أن يقول بصراخه حقيقة الصلاة، بل العادة جرت أنه يصرخ صرخات متتابعة عند طلوع الفجر، وعند الزوال، فطرة فطره الله عليها، فيذكر الناس بصراخه الصلاةَ. وفي معجم الطبرانيّ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن لله ديكًا أبيض، جناحاه مُوشَّيان بالزَّبَرجد والياقوت واللؤلؤ، جناح بالمشرق وجناح بالمغرب، رأسه تحت العرش، وقوائمه في الهواء، يؤذن في كل سَحر، فيسمع تلك الصيحة أهل السموات والأرضين، إلاَّ الثّقلين: الجن والإنس، فعند ذلك تجيبه ديوك الأرض، فإذا دنا يوم القيمة قال الله تعالى: "ضُمَّ جناحيك، وغض صوتك، فيعلم أهل السموات والأرض إلا الثقلين، أن الساعة قد اقتربت". وعند الطّبرانيّ والبَيْهقيّ في الشعب عن محمد بن المُنكدر عن جابر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن لله ديكًا رجلاه في التخوم، وعنقه تحت العرش مطوية، فإذا كان هنيئة من الليل صاح: سُبّوح قُدّوس، فصاحت الدَّيَكَة" وهو في "كامل ابن عدي" في ترجمة علي بن علي اللُّهْبيّ قال: وهو يروي أحاديث منكرة عن جابر. وفي حديث الباب الاقتصاد "في العبادة، وترك التعمق فيها؛ لأن ذلك أنشط، والقلب به أشد انشراحًا. رجاله سبعة: وقد مرّوا، مرّ عُبدان في السادس من بدء الوحي، وعائشة في الثاني منه، ومرّ أبو عبدان عثمان بن جَبلة في الخامس والمئة من الوضوء، ومرّ شعبة في الثالث من الإيمان، مسروق في السابع والعشرين منه، ومرَّ أشعث وأبو الشعثاء في الثالث والثلاثين من الوضوء. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإخبار بالإفراد، والعنعنة والسماع، والقول والسؤال، ورواته ما بين مروزيّ وواسطيّ وكوفى ومدنيّ، ورواية الابن عن الأب في موضعين أخرجه البخاري هنا أيضًا وفي الرقاق، ومسلم في الصلاة، وكذا أبو داود والنَّسائيّ.

الحديث الثالث عشر

الحديث الثالث عشر حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الأَحْوَصِ عَنِ الأَشْعَثِ قَالَ: إِذَا سَمِعَ الصَّارِخَ قَامَ فَصَلَّى. قوله: "عن الأشعث"، يعني بإسناده المذكور، وظن بعضهم أنه موقوف على أشعث فأخطأ، فقد أخرجه مسلم وأبو داود عن أبي الأحوص بهذا الإسناد بلفظ: "سألت عائشة عن صلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت لها: أي حين كان يصلي؟ قالت: إذا سمع الصارخ قام فصلى" لفظ أبي داود، وزاد مسلم في أوله: "كان يحب الدائم" وللإسماعيلىّ عن أبي الأحوص بالإسناد: سألت عائشة أي العمل كان أحب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قالت: أدومه. قال الإسماعيلي: لم يذكر البخاري في رواية أبي الأحوص بعد الأشعث أحدًا، وأفادت هذه الرواية ما كان يصنع إذا قام، وهو قوله: "قام فصلّى" بخلاف رواية شعبة، فإنها مجملة. وهذه رواية أخرى للحديث الأول. رجالها ثلاثة: مرّ محمد بن سلام البِيْكَنْدِيّ في الثالث عشر من الإيمان على أنه هو المراد بمحمد، ومرّ أبو الأحوص في العشرين من صفة الصلاة، والأشعث مرّ في الذي قبله، وقيل إنّ المراد بمحمد محمد بن سالم، وهو خطأ، فليس في أشياخ البخاري مَنْ اسمه محمد بن سالم، وقيل محمد بن يحيى المَرْوَزيّ، وهذا أيضًا خطأ؛ لأن البخاري لم يرو عنه. الحديث الرابع عشر حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ذَكَرَ أَبِي عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: مَا أَلْفَاهُ السَّحَرُ عِنْدِي إِلاَّ نَائِمًا. تَعْنِي النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-. قوله: "ما ألفاه السحر" بالفاء: أي: وجده، والسحر مرفوع بأنه فاعل، والمراد بنومه بعد القيام الذي مبدؤه عند سماع الصارخ، جمع أبي نه وبين رواية مسروق التي قبلها. وقوله: "إلاَّ نائمًا" قال ابن التين: تعني مضطجعًا على جنبه؛ لأنها قالت في حديث آخر: "فإن كنت يقظانة حدثني، وإلاّ اضطجع" وتعقبه ابن رشيد بأنه لا ضرورة لحمل هذا التأويل؛ لأن السياق ظاهر في النوم حقيقة، وظاهر في المداومة على ذلك، ولا يلزم من إنه ربما لم ينم وقت السحر هذا التأويل، فدار الأمر بين حمل النوم على مجاز التشبيه، أو حمل التعميم على إرادة التخصيص، والثاني أرجح، وإليه ميل البخاري؛ لأنه ترجم بقوله: "من نام عند السحر"، ثم ترجم عقبه بقوله: "مَنْ تسحر فلم ينم، فأومأ إلى تخصيص رمضان من غيره، فكأن العادة جرت في جميع السنة بأنه كان ينام عند السحر إلا في

رجاله خمسة

رمضان، فإنه كان يتشاغل بالسحور في آخر الليل، ثم يخرج إلى صلاة الصبح عقبة. وقال ابن بطّال: النوم وقت السحر كان يفعله النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في الليالي الطوال، وفي غير شهر رمضان، كذا قال. ويحتاج في إخراج الليالي القصار إلى دليل، قلت: لو حمل النوم على الاضطجاع لالْتأم مع ما قدمته من مدح المستغفرين بالأسحار؛ لأن الاضطجاع لا ينافي الاستغفار، وزال ما قدمته من الإشكال. وقوله: "تعني النبي -صلى الله عليه وسلم-": في رواية مسلم: "ما ألفيَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- السحرَ على فراشي، أو عندي إلا نائمًا" وأخرجه الإسماعيلي بلفظ: "ما ألفي النبي -صلى الله عليه وسلم- عندي بالأسحار إلا وهو نائم"، وفي هذا التصريحُ برفع الحديث. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ موسى بن إسماعيل في الخامس من بدء الوحي، وأبو سَلَمة في الرابع منه، وعائشة في الثاني منه وإبراهيم بن سعد في السادس عشر من الإيمان، ومرّ أبوه سعد في السابع والأربعين من الوضوء. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، ورواية الابن عن الأب، والرجل عن عمه، ورواية التابعيّ عن التابعيّ. أخرجه مسلم في الصلاة، وكذا أبو داود وابن ماجه. ثم قال المصنف:

باب من تسحر فلم ينم حتى صلى الصبح

باب مَنْ تسحر فلم ينم حتى صلّى الصبح كذا للأكثر وللحموي والمستملي من تسحر ثم قام إلى الصلاة. الحديث الخامس عشر حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رضي الله عنه تَسَحَّرَا، فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ سَحُورِهِمَا قَامَ نَبِيُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى الصَّلاَةِ فَصَلَّى. قُلْنَا لأَنَسٍ: كَمْ كَانَ بَيْنَ فَرَاغِهِمَا مِنْ سَحُورِهِمَا وَدُخُولِهِمَا فِي الصَّلاَةِ؟ قَالَ: كَقَدْرِ مَا يَقْرَأُ الرَّجُلُ خَمْسِينَ آيَةً. قوله: "قام إلى الصلاة فصلى" هو ظاهر فيما ترجم له، والمراد بالصلاة صلاة الصبح، وقبلها صلاة الفجر. وهذا الحديث قد مرّ في باب وقت الفجر من مواقيت الصلاة، واستوفي الكلام عليه هناك. رجاله خمسة: قد مّروا، مرّ يعقوب بن إبراهيم في الثامن من الإيمان، ومرَّ رُوح بن عُبادة في الأربعين منه، ومرّ قتادة وأنس في السادس منه، ومرّ سعيد بن أبي عَرُوبة في الحادي والعشرين من الغُسل، ومرّ زيد بن ثابت في تعليق بعد الثاني والعشرين من كتاب الصلاة. ثم قال المصنف:

باب طول القيام في صلاة الليل

باب طول القيام في صلاة الليل كذا للأكثر، وللحمويّ والمستملي: طول الصلاة في قيام الليل، وحديث الباب موافق لهذا؛ لأنه دال على طول الصلاة لا على طول القيام بخصوصه، إلاَّ أن طول الصلاة يستلزم طول القيام؛ لأن غير القيام، كالركوع مثلًا، لا يكون أطول من القيام، كما عرف بالاستقراء من صنيعه عليه الصلاة والسلام، ففي حديث الكسوف: "فركع نحوًا من قيامه" وفي حديث حُذيفة الآتي ذكره قريبًا نحوه، ومضى حديث عائشة قريبًا أن السجدة تكون قريبًا من خمسين آية، ومن المعلوم في غير هذه الرواية أنه كان يقرأ بما يزيد على ذلك. الحديث السادس عشر حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- لَيْلَةً، فَلَمْ يَزَلْ قَائِمًا حَتَّى هَمَمْتُ بِأَمْرِ سَوْءٍ. قُلْنَا وَمَا هَمَمْتَ قَالَ: هَمَمْتَ أَنْ أَقْعُدَ وَأَذَرَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-. قوله: "بأمر سوء" بإضافة أمر إلى سوء، وفي الحديث دليل على اختيار النبي -صلى الله عليه وسلم-، تطويل صلاة الليل. وقد كان ابن مسعود قويًا محافظًا على الاقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، وما هم بالقعود إلا بعد طول كثير ما اعتاده، وقد مرّ عند حديث عائشة، آخر حديث من أبواب التقصير، ما قيل من الخلاف في فضل طول القيام، أو كثرة السجود. وفي الحديث أن مخالفة الإِمام في أفعاله معدودة في العمل السيء، وفيه تنبيه على فائدة معرفة ما بينهم من الأحوال وغيرها؛ لأن أصحاب ابن مسعود ما عرفوا مراده من قوله: "هممت بأمر سوء" حتى استفهموه عنه، ولم ينكر عليهم استفهامهم عن ذلك. وقد قال الدارقطنيّ: أن سليمان بن حَرْب تَفَرَّد برواية هذا الحديث عن شُعبة، وإنما هو من الأفراد والمقيدة، فإن مسلمًا أخرجه من طريق أخرى عن الأعمش. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ سليمان بن حرب في الرابع عشر من الإيمان، وشعبة في الثالث منه، وسليمان الأعمش في الخامس والعشرين منه، ومرّ أبو وائل في الحادي والأربعين منه، وعبد الله بن مسعود في أول أثر منه.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، ورواته ما بين بصريّ وواسطيّ وكوفيَّينْ، وفيه رواية التابعيّ عن التابعيّ. أخرجه مسلم وابن ماجه في الصلاة، والتِّرْمِذِيّ في الشمايل. الحديث السابع عشر حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-: كَانَ إِذَا قَامَ لِلتَّهَجُّدِ مِنَ اللَّيْلِ يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ. هذا الحديث قد مرّ في باب السواك في كتاب الوضوء ومرّ الكلام عليه هناك، واستشكل ابن بطال دخوله في هذا الباب، فقال: لا مدخل له هنا؛ لأن التسوك في صلاة الليل لا يدل على طول الصلاة. قال: ويمكن أن يكون ذلك من غلط الناسخ، فكتبه في غير موضعه، أو أن البخاريّ أعجلته المنية قبل تهذيب كتابه، فإن فيه مواضع مثل هذا تدل على ذلك. وقال ابن المنير: يحتمل أن يكون أشار إلى أن استعمال السواك يدل على ما يناسبه، من إكمال الهيئة والتأهب، وهو دليل طول القيام إذ التخفيف لا يتهيأ له هذا التهيؤ الكامل، وقال ابن رشيد: الذي عندي أن البخاري إنما أدخله لقوله: "إذا قام للتهجد"، أي إذا قام لعادته، وقد تبينت عادته في الحديث الآخر. ولفظ التهجد مع ذلك، مشعر بالسهر. ولا شك أن في التسوك عونًا على دفع النوم، فهو مشعر بالاستعداد للإطالة، وهذا أحسن التوجيهات. وقال البدر بن جُماعة: يظهر لي أن البخاريّ أراد بهذا الحديث استحضار حديث حذيفة الذي أخرجه مسلم، ولم يخرجه هو، لكونه على غير شرطه؛ فإما أن يكون أشار إلى أن الليلة واحدة، أو نبه بأحد حديثي حذيفة على الآخر. والذي أخرجه مسلم هو أنه صلّى مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ليلة، فقرأ البقرة وآل عمران والنساء في ركعة، "وكان إذا مرَّ بآية فيها تسبيح سبح، أو سؤال سأل، أو تعوُذ تَعوَّذ، ثم ركع نحوًا مما قام، ثم قام نحوًا مما ركع، ثم سجد نحوًا مما قام، وهذا إنما يتأتى في نحو ساعتين"، فلعله عليه الصلاة والسلام أحيا تلك الليلة كلها وأما ما يقتضيه حاله في غير هذه الليلة، فإن في أخبار عائشة أنه كان يقوم قدر ثلث الليل، وفيها أنه كان لا يزيد على إحدى عشرة ركعة، فيقتضي ذلك تطويل الصلاة. وقيل: يحتمل أن يكون بيَّض الترجمة لحديث حذيفة، فضم الكاتب الحديث إلى الحديث الذي قبله، وحذف البياض. ولم يرتضِ العينيّ هذه الأجوبة كلها، وأجاب بجواب جاعلًا له من نفسه، وهو مأخوذ من جواب ابن رشيد المتقدم. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ حفص بن عمر في الثالث والثلاثين من الوضوء ومرّ خالد بن عبد الله الطَّحان في السادس والخمسين منه، ومرّ حَصِين بن عبد الرحمن في الثالث والسبعين من مواقيت الصلاة، ومرّ

لطائف إسناده

أبو وائل في الحادي والأربعين من الإيمان، ومرّ خذيفة بن اليَمان في تعليق بعد الثاني من العلم. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، وشيخ البخاري من أفراده بصريّ، وخالد واسطىّ، والباقيان كوفيان، والحديث أخرجه البخاري أيضًا في باب السواك في كتاب الوضوء. ثم قال المصنف:

باب كيف صلاة -صلى الله عليه وسلم- وكم كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي بالليل

باب كيف صلاة -صلى الله عليه وسلم- وكم كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي باللَّيل الحديث الثامن عشر حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: إِنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ صَلاَةُ اللَّيْلِ؟ قَالَ: مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خِفْتَ الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ. قوله: "مثنى مثنى" هذا هو الأفضل في حق الأُمة، لكونه أجاب به السائل، وأنه عليه الصلاة والسلام صح عنه فعل الفصل والوصل، وهذا الحديث قد مرّ في باب الحلق، والجلوس في المسجد، وفي أول أبواب الوتر. وقد استوفي الكلام عليه في الموضع الأول. وذكرت بقية في الموضع الثاني. رجاله خمسة: قد مرّوا، وفيه لفظ رجل مبهم، مرّ أبو اليمان وشعيب في السابع من بدء والزُّهريّ في الثالث منه، وسالم بن عبد الله في السابع عشر من الإيمان وأبوه أوله قبل ذكر حديث منه. والرجل المبهم. مرّ الكلام عليه في أول أحاديث الوتر. الحديث التاسع عشر حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو جَمْرَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ صَلاَةُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- ثَلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً. يَعْنِي بِاللَّيْلِ. هذا الحديث قد مرّ في باب قراءة القرآن بعد الحدث وغيره من كتاب الوضوء، وفي أوائل أبواب الوتر، وقد مرّ استيفاء الكلام عليه في الموضعين. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرّ مسدد ويحيى القطّان في السادس من الإيمان، ومرّ شُعبة في الثالث منه، ومرّ أبو جمرة الضبعىّ في السادس والأربعين منه، ومرّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي.

الحديث العشرون

الحديث العشرون حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ صَلاَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِاللَّيْلِ. فَقَالَتْ سَبْعٌ وَتِسْعٌ وَإِحْدَى عَشْرَةَ سِوَى رَكْعَتَي الْفَجْرِ. رجاله سبعة: الأول: إسحاق غير منسوب، والصحيح أنه ابن راهَوَيه، وقد مرّ في تعليق بعد الحادي والعشرين من العلم، ومرّ عبيد الله بن موسى في الأول من الإيمان، ومرّ مسروق في السابع والعشرين منه، ومرّ إسرائيل بن يونس في السابع والستين من العلم، ومرّ أبو حَصِين في الحادي والخمسين منه، ومرّت عائشة في الثاني من بدء الوحي. والسابع: يحيى بن وثَاب الأسَدي، مولاهم، الكوفىّ المقرىء، ذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال النَّسائيّ: ثقة، وقال الأعمش: كان يحيى بن وثّاب من أحسن الناس قراءة، وكان إذا قرأ لا يسمع في المسجد حركة، وقال أيضًا: كنت إذا رأيت يحيى بن وثّاب قد جاء قلت: هذا قد وقف للحساب يقول: أي رب، أذنبت كذا، أذنبت كذا، قد عفوت عني فلا أعود. وقال العجليّ: كوفيّ تابعيّ ثقة، وكان مقرىء أهل الكوفة. وقال ابن سعد: ثقة قليل الحديث، صاحب قرآن. وقال ابن مُعين وأبو زرعة: ثقة. وروى نَهْشل الأيادي عن أبيه قال: خرجت مع أبي موسى الأشعريّ إلى أصبهان، فبعث سراياه إلى قاسان، ففتحها وسبق أهلها، فكان منهم يَزْدَوَيه بن ماهَوَيه، فتى من أبناء أشرافها، فصار إلى ابن عباس، فسماه وثّابًا، وهو والد يحيى إمام أهل الكوفة في القرآن. وقال أبو محمد الأصبهانيّ: يقال: كان وثّاب من أهل قاسان، فوقع إلى ابن عباس، فأقام معه، فاستأذنه في الرجوع إلى قاسان، فأَذن له فرحل مع ابنه يحيى، فلما بلغا الكوفة قال له ابنه يحيى: إني مؤثرٌ حَظَّ العلم على حَظَّ المال، فأعطني الإذن في المقام، فأذن له فأقام بالكوفة، فصار إمامًا. وله أحاديث كثيرة، روى عن ابن عمر وابن عباس وعلقمة، وروى عنه أبو إسحاق السَّبيعيَّ وأبو إسحاق الشيبانيّ وأبو حَصِين الأَسَدي وغيرهم. مات سنة ثلاث ومئة. لطائف إسناده: فيه التحديث بالإفراد والإخبار بالجمع والعنعنة والسؤال والقول، وشيخ البخاريّ مروزيّ، والبقية كوفيون، وفيه ثلاثة من التابعين، وثلاثة بلا نسب، وواحد بالكناية.

الحديث الحادي والعشرون

الحديث الحادي والعشرون حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى قَالَ: أَخْبَرَنَا حَنْظَلَةُ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ ثَلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً مِنْهَا الْوِتْرُ وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ. وهذان الحديثان مرّ استيفاء الكلام عليهما عند الحديث الرابع من أبواب الوتر حديث عائشة، وقد ذكَرَ هذين الحديثين عُبَيد الله وهو ابن موسى، وقد روى البخاري عنه في هذين الحديثين المتوالين بواسطة، وبغير واسطة، وهو من كبار شيوخه، وكان أولهما لم يقع له سماعه منه. رجاله أربعة: قد مرّوا، مرّ عُبيد الله بن موسى وحَنْظَلة في الأول من الإيمان، ومرّ القاسم بن محمد في الحادي عشر من الغُسل، وعائشة في الثاني من بدء الوحي. لطائف إسناده: فيه التحديث والإخبار بالجمع والعنعنة والقول. أخرجه مسلم في الصلاة، وكذا أبو داود والنَّسائيّ. ثم قال المصنف:

باب قيام النبي -صلى الله عليه وسلم- بالليل من نومه وما نسخ من قيام الليل

باب قيام النبي -صلى الله عليه وسلم- باللّيل من نومه وما نسخ من قيام الليل وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ في النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا}. وقوله: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ في الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا}. قوله: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} أي: المتلفف في ثيابه، وروى ابن أبي حاتم عن عِكرمة عن ابن عباس قال: يا أيها المزمل، أيْ: يا محمد قد زُمِّلْتَ القرآن، وكأنَّ الأصل: يا أيها المتزمل، قلبت التاء زايًا، وأدغمت في الأخرى. وقوله: {قُمِ اللَّيْلَ} كأنه يشير إلى ما أخرجه مسلم عن عائشة قالت: إن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة، يعني: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} فقام نبي الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، حتى أنزل الله في آخر هذه السورة التخفيف، فصار قيام الليل تطوعًا بعد فرضيته، واستغنى البخاري عن إيراد هذا الحديث، لكونه على غير شرطه، بما أخرجه عن أنس، فإن فيه "ولا تشاء أن تراه من اللَّيل نائمًا إلا رأيته" فإنه يدل على أنه كان ربما نام كل الليل، وهذا سبيل التطوع، فلو استمر الوجوب لما أخل بقيام الليل، وبهذا تظهر مطابقة الحديث للترجمة. وقد روى محمد بن نصر في قيام الليل عن ابن عباس، شاهد الحديث عائشة، في أن بين الإيجاب والنسخ سنة، وكذا أخرجه عن أبي عبد الرحمن السُّلُميّ والحسن وعِكرمة وقَتَادة بأسانيد صحيحة عنهم، ومقتضى ذلك أن النسخ وقع بمكة؛ لأن الإيجاب متقدم على فرض الخمس ليلة الإسراء، وكانت قبل الهجرة بأكثر من سنة على الصحيح، وحكى الشافعي عن بعض أهل العلم أن آخر السورة نسخ افتراض قيام اللّيل إلا ما تيسر منه، لقوله: {مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} ثم نسخ فرض ذلك بالصلوات الخمس. واستشكل محمد بن نصر ذلك، كما تقدم كلامه والتعقب عليه، عند الحديث الثاني من كتاب الصلاة، وتضمن كلامه أن الآية التي نسخت الوجوب مدنية، وهو مخالف لما عليه الأكثر من أن السورة كلها مكّيّة، نعم ذكر أبو جعفر النحاس أن السورة كلها مكّيّة، إلا الآية الأخيرة، وقوّى محمد بن نصر هذا القول بما أخرجه عن جابر، أن نسخ قيام الليل وقع لما توجهوا مع أبي عبيدة

في جيش الخبط، وكان ذلك بعد الهجرة لكن في إسناده عَلِيّ بن يَزيد بن جَدعان، وهو ضعيف، وأما ما رواه الطبري عن عائشة قالت: احتجب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حَصِيرًا ... فذكر الحديث الذي تقدمت الإشارة إليه قبل خمسة أبواب، ومرّ هناك محل استيفاء الكلام عليه، وفيه: "اكلفوا من العمل ما تطيقون، فإن خير العمل أدومه وإنْ قَلّ" ونزلت عليه: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} فكتب عليه قيام الليل: وأنزلت منزلة الفريضة، حتى إن كان بعضهم ليربط الحبل فيتعلق به، فلما رأى الله تكلفهم ابتغاء رضاه، وضع ذلك عنهم، فردهم إلى الفريضة، ووضع عنهم قيام اللّيل إلا ما تطوعوا به فإنه يقتضي أن السورة كلها مدنية، لكن فيه موسىِ بن عُبَيدة، وهو شديد الضعف، فلا حجة فيما تفرّد به، ولو صح ما رواه لاقتضى ذلك وقوع ما خَشي منه عليه الصلاة والسلام، حيث ترك قيام اللّيل بهم خشية أن يفرض عليهم. والأحاديث الصحيحة دالة على أن ذلك لم يقع، وقد مرّ بعض الكلام على وجوب قيام اللّيل في أول التهجد. وقوله: {إِلَّا قَلِيلًا} أي: منه، وروى ابن أبي حاتم عن وَهْب بن مُنَبّه قال: القليل ما دون المعشار والسدس، وفيه نظر، لما سيأتي قريبًا. وقوله: {نِصْفَهُ} يحتمل أن يكون بدلًا من "قليلاً" فكأنَّ في الآية تخييراً بين قيام النصف بتمامه، أو قيام أنقص منه أو أزيد. ويحتمل أن يكون قوله: {نِصْفَهُ} بدلًا من الليل، وإلا قليلًا استثناء من النصف، حكاه الزمخشريّ، وعليه المعنى قم أقل من نصف الليل، والضمير في منه من قوله: {أَوِ انْقُصْ مِنْهُ} للنصف، والمعنى التخيير بين أمرين: أن يقوم أقل من النصف على البت، وبين أن يختار أحد الأمرين؛ النقصان من النصف، والزيادة عليه. وتعقبه في "البحر" بأنه يلزم منه التكرار؛ لأنه على تقديره قم أقل من نصف الليل، يكون قوله: {أَوِ انْقُصْ} من نصف الليل تكرارًا، ووصف النصف بالقلة بالنسبة إلى الكل. قال في "الفتح" وبالأول جزم الطبري، وأسند ابن أبي حاتم معناه عن عطاء الخراسانى، وقوله: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} أي: اقرأه مترسلاً، بتبيين الحروف وإشباع الحركات. وروى مُسْلم عن حفصة أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- "كان يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها". وقوله: {قَوْلًا ثَقِيلًا} أي: القرآن، وعن الحسن العمل به. أخرجه ابن أبي حاتم، وأخرج أيضًا من طريقة أخرى عنه قال: ثقيلًا في الميزان يوم القيامة، وتأوَّله غيره على ثقل الوحي حين ينزل كما تقدم في بدء الوحي. وقوله: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} قال ابن عباس: تنشّأ قام، بالحبشة يعني، فيكون قوله تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ} أي: قيام الليل، وهذا التعليق وصله غيد بن حميد بإسناد صحيح عن سعيد بن جُبير عنه، ووصله ابن أبي حاتم عن أبي ميسرة عن ابن مسعود أيضًا، وذهب الجمهور إلى أنه ليس في القرآن شيء بغير العربية، وقالوا: ما ورد من ذلك فهو من توافق اللغتين، وعلى هذا فناشئة الليل مصدر بوزن فاعلة من نشأ إذا قام، أو اسم فاعل، أي: النفس الناشئة بالليل، أي التي تنشأ من مضجعها إلى العبادة، أي تنهض. وحكى أبو عبيد في "الضريبين" أن كل ما حدث بالليل وبدا فهو ناشىء،

وقد نشأ. وفي "المجاز" لأبي عبيدة: ناشئة الليل آناء الليل ناشئةٌ بعد ناشئةٌ، قال ابن التين: والمعنى أن الساعات الناشئة من الليل، أي: المقبلة بعضها في إثر بعض، هي أشد. قوله: "وطأً" قال: مواطأة للقرآن، أشد موافقة لسمعه وبصره وقلبه، وهذا وصله عبد بن حُميد عن مجاهد قال: أشد وطأً، أي: يوافق سمعك وبصرك وقلبك بعضه بعضًا، قال الطبري: هذه القراءة على أنه مصدر من قولك: واطأ اللسان القلبَ وَوِطاءً قال: وقرأ الأكثر "وَطْأ" بفتح الواو وسكون الطاء، ثم حكى عن العرب "وطئنا الليل" أي: سرنا فيه. وروي عن قتادة أشد وطأً أثبت في الخير، وأقوم قيلًا أبلغ في الحفظ. وقال الأخفش: أشد وطأ أي قيامًا، وأصل الوطء في اللغة الثقل، كما في الحديث "أشدد وطأتك على مُضَر" وقوله: "ليواطئوا" ليوافقوا، هذه الكلمة من تفسير براءة، وإنما أوردها هنا تأييدًا للتفسير الأول، وقد وصله الطبريّ عن ابن عباس لكن بلفظ "ليشابهوا". وقوله: {سَبْحًا طَوِيلًا} أي: فراغًا، وصله ابن أبي حاتم عن ابن عباس وأبي العالية ومجاهد وغيرهم. وعن السّدِّيّ سبحًا طويلًا، أي: تطوعًا كثيرًا، كأنه جعله من السّبحة وهي النافلة. وقوله: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} هذا مرتبط بما قبله، وهو قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ} إلخ أي: علم الله أن لن تطيقوا قيام الليل. وقيل: الضمير المنصوب فيه، يرجع إلى مصدر مقدر، أي: علم أن لا يصح منكم ضبط الأوقات، ولا يتأتى حسابها بالتعديل والتسوية، إلا أنْ تاخذوا بالأوسع للاحتياط، وذلك شاقّ عليكم. وقوله: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} عبارةعن الترخيص في ترك القيام المقدر، وقوله: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} قال الزمخشريَّ: عبَّر عن الصلاة بالقراءة، كما عبّر عنها بالقيام والركوع والسجود، يريد فصلوا ما تيسر عليكم من صلاة الليل، وهذا ناسخ للأول، ثم نسخا جمعيًا بالصلوات الخمس كما مرّ. وقيل: هي قراءة القرآن بعينها، قيل: يقرأ مئة آية، ومَنْ قرأ مئة آية في ليلة لم يُحَاجّه القرآن. وقيل: مَنْ قرأ مئة آية كُتِب من القانتين، وقيل خمسين آية. وقد بيّن الحكمة في النسخ بقوله: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} لا يقدرون على قيام الليل: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ} يعني يسافرون الأرض يبتغون من الله، يعني في طلب المعيشة، يطلبون الرزق من الله تعالى، وآخرون يقاتلون في سبيل الله، أي: يجاهدون في طاعة الله، وكل من الفِرَق الثلاث يشق عليهم ما ذكر في قيام الليل، وهذا إخبار عمّا يكون مستقبلًا بالإعجاز، على القول بأن الآية مكية، والتسوية بين الضارب للتجارة والمجاهد في سبيل الله، دلت على أن طلب الرزق إذا قرن بالنية الصالحة له مكان عند الله، كيف وقد قدمه على المجاهدة؟ وكذا قال ابن عمر: ما من موتة أحب إليّ بعد القتل في سبيل الله من أن أموت بين شعبتي رحل أضرب في الأرض ابتغاء فضل الله تعالى.

الحديث الثاني والعشرون

وقوله: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} أي: من القرآن، قيل في صلاة المغرب والعشاء، وقد قال بعضهم الركعتان بعد العشاء مع الوتر كافيتان في امتثال هذا الأمر، فمن زاد زاده الله ثوابًا. قال في "الجواهر": ينبغي للعاقل تحصيل الخيرات قبل صولة الممات. وقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} أي المفروضة، وآتوا الزكاة أي: الواجبة، وقيل زكاة الفطر؛ لأنه لم يكن بمكة زكاة، وإنما وجبت بالمدينة، ومن فسرها بالواجبة جعل آخر السورة مدنيًا، قلت: وكذلك زكاة الفطر، لم تجب إلا بالمدينة، والصحيح فيها أنها إنما وجبت بالسُنّة لا بالقرآن، كما يأتي في محله إن شاء الله تعالى. وقوله: {وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} قيل: يريد سائر الصدقات المستحبة، وسماه قرضًا تأكيدًا للجزاء، وقيل: تصدقوا من أموالكم بنية خالصة عن طيب قلب، من مال حلال. وقوله: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ} يعني ما تعملون من الأعمال الصالحة، وتتصدقون به بنية خالصة، تجدوه عند الله، أي تجدون ثوابه في الآخرة. وقوله: {هُوَ خَيْرًا} خيرًا ثاني مفعولي وجد، وهو فصل، وجاز وإنْ لم يقع بين معرفتين؛ لأن أفعل من أشبه في امتناعه من حروف التعريف المعرفة. وقوله: {وَأَعْظَمَ أَجْرًا} أي: مما خلَّفتم من متاع الدنيا، ومما تؤخرونه إلى الوصية عند الموت. واستغفروا الله لما فَرَط منكم في جميع أحوالكم؛ لأن الاستقامة متعسرة أو متعذرة، إن الله غفور، أي: للذنوب، رحيم للمومنين المستغفرين، يجعل مكان الذنوب الحسنات. الحديث الثاني والعشرون حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ حُمَيْدٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسًا رضي الله عنه يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُفْطِرُ مِنَ الشَّهْرِ حَتَّى نَظُنَّ أَنْ لاَ يَصُومَ مِنْهُ، وَيَصُومُ حَتَّى نَظُنَّ أَنْ لاَ يُفْطِرَ مِنْهُ شَيْئًا، وَكَانَ لاَ تَشَاءُ أَنْ تَرَاهُ مِنَ اللَّيْلِ مُصَلِّيًا إِلاَّ رَأَيْتَهُ وَلاَ نَائِمًا إِلاَّ رَأَيْتَهُ. قوله: "أن لا يصوم منه" زاد أبو ذر والأصيليّ "شيئًا". وقوله: "وكان لا تشاء أن تراه من الليل مصليًا" إلخ أي: صلاته ونومه كان يختلف بالليل، ولا يرتب وقتًا معينًا، بل بحسب ما تيسر له القيام، ولا يعارضه قول عائشة: "كان إذا سمع الصارخ قام" فإن عائشة تخبر عمالها عليه إطّلاع، وذلك أن صلاة الليل كانت تقع منه غالبًا في البيت، فخبر أنس محمول على ما وراء ذلك، وقد مضى في حديثها في أبواب الوتر من كل الليل، قد أوتر، فدل على أنه لم يكن يخص الوتر بوقت بعينه، والمعنى أن حاله في التَطوع بالصيام والقيام، كان يختلف، فكان تارة يقوم من أول الليل، وتارة في وسطه، وتارة من آخره، فكان مَنْ أراد أن يراه في وقت من أوقات الليل قائمًا، أو في وقت من أوقات الشهر صائمًا، فراقبه المرة بعد المرة، فلابد أن يصادفه قام أو صام على وفق ما أراد أن يراه.

رجاله أربعة

هذا معنى الخبر، وليس المراد أنه كان يسرد الصوم، ولا أنه كان يستوعب الليل، ولا يشكل على هذا قول عائشة الآتي في الصوم "كان إذا صلّى صلاة داوم عليها" وقولها الجائي فيه أيضًا: "كان عمله دِيمة" لأن المراد بذلك ما اتخذه راتبًا، لا مطلق النافلة، فهذا وجه الجمع بين الحديثين، وإلا فظاهرهما التعارض. رجاله أربعة: قد مرّوا، مرّ منهم محمد بن جعفر في التاسع من الحيض، ومرّ حُميد الطويل في الثاني والأربعين من الإيمان، وأنس في السادس منه، والرابع عبد العزيز بن عبد الله بن يحيى بن عمرو بن أويس بن سعد بن أبي سرح العامري القرشي، وقد مرّ في الأربعين من العلم. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والسماع والقول، واثنان من رواته مدنيان وبصريٌّ. أخرجه البخاري أيضًا في الصوم. ثم قال: تابعه سليمان وأبو خالد الأحمر عن حُميد، كذا ثبتت الواو في جميع الروايات، فعلى هذا يحتمل أن يكون سليمان وابن بلال، كما جزم به خلف، ويحتمل أن تكون الواو زائدة من الناسخ، فإن أبا خالد الأحمر اسمه سليمان، وعلى الاحتمال الأول إما متابعة سليمان بن بلال فسيأتي بها البخاري في كتاب الصوم، في باب ما يذكر من صوم النبيّ -صلى الله عليه وسلم- وكذلك متابعة أبي خالد، ذكرها البخاري في الصيام أيضًا، وسليمان بن بلال مرّ في الثاني من الإيمان. وأبو خالد الأحمر اسمه سليمان بن حَيّان بالتحتانية الأزْديّ الكوفي، الجعفريّ، نزل فيهم، ولد بجرجان. قال إسحاق بن راهَوَيه: سألت وكيعًا عن أبي خالد فقال: وأبو خالد ممن يسأل عنه؟ وقال ابن مُعين: صدوق وليس بحجة، وقال مُرَّة: ثقة، وقال: ليس به بأس، وقال أبو هاشم: حدثنا أبو خالد الأحمر الثقة الأمين، وقال الخطيب: كان سفيان يعيب أبا خالد لخروجه مع إبراهيم بن عبد الله بن حسن، وأما أمر الحديث فلم يكن يطعن عليه فيه، وذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال العجليّ: ثقة ثبت صاحب سنة، وكان محترفًا، وكان يؤاجر نفسه من التجار، كان أصله شاميًا إلا أنه نشأ بالكوفة، وقال ابن عدي: إنما أُتيَ من سوء حفظه، فيغلط ويخطيء، وقال أبو بكر البَزّار: اتفق أهل العلم بالنقل على أنه لم يكن حافظًا، وأنه روى عن الأعمش وغيره أحاديث لم يتابع عليها. قال في المقدمة: له عند البخاري نحو ثلاثة أحاديث من روايته عن حُميد وهشام بن عُروة وعُبيد الله بن عبد الله بن عمر، كلها مما توبع عليه، وعَلَّق له عن الأعمش حديثاً واحدًا في الصيام، وروى له الباقون. روى عن سليمان التيميّ، وحميد الطويل وهشام بن عُروة وغيرهم، وروى عنه أحمد وإسحاق وابنا أبي شيبة وأبو كريب وغيرهم. ولد سنة أربع عشر ومئة، ومات سنة تسعين ومئة، وفي المتابعة حميد، وقد مرّ في الحديث المتابع عليه محله. ثم قال المصنف:

باب عقد الشيطان على قافية الرأس إذا لم يصل بالليل

باب عقد الشيطان على قافية الرأس إذا لم يصل بالليل قال ابن التين وغيره: قوله: إذا لم يصل، مخالف لظاهر حديث الباب؛ لأنه دال على أنه يعقد على رأس مَنْ صلى ومَنْ لم يصل، لكن مَنْ صلّى بعد ذلك تنحل عقده، بخلاف مَنْ لم يصل، وأجاب ابن رشيد بأن مراد البخاريّ "باب بقاء عقد الشيطان" إلخ وعلى هذا فيجوز أن يقرأ قوله: "عقد" بلفظ المصدر، أو بلفظ الجمع، وقد ذكر المازريّ الإيراد بعينه ثم قال: يعتذر عنه بأنه إنما قصد من يسند أم العقد على رأسه بترك الصلاة، وكأنه قدر من انحلت عقده، كأنْ لم يعقد عليه. ويحتمل أن تكون الصلاة المنفية في الترجمة صلاة العشاء، فيكون التقدير إذا لم يصل العشاء، فكأنه يرى أن الشيطان إنما يفعل ذلك بمن نام قبل صلاة العشاء، بخلاف مَنْ صلاها، ولاسيما في الجماعة، وكأن هذا هو السر في إيراده لحديث سمرة عقب هذا الحديث؛ لأنه قال فيه: وينام عن الصلاة المكتوبة، ولا يعكر على هذا كونه أورد هذه الترجمة في تضاعيف صلاة الليل؛ لأنه يمكن أن يجاب عنه بأنه أراد دفع توهم من يحمل الحديثين على صلاة الليل؛ لأنه ورد في بعض طرق حديث سمرة مطلقًا غير مقيد بالمكتوبة، والوعيد علامة الوجوب، وكأنه أشار إلى خطأ من احتج به على وجوب صلاة الليل، حملًا للمطلق على المقيد. ويقوّي الاحتمال المذكور ما ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم-: "أنّ مَنْ صلّى العشاء في جماعة كان كمن قام نصف الليل" لأن مسمَّى قيام الليل يحصل للمؤمن بقيام بعضه، فحينئذ يصدق على مَنْ صلّى العشاء في جماعة، أنه قام الليل، والعقد المذكورة تنحل بقيام، فصار مَنْ صلّى العشاء في جماعة كمن قام الليل في حل عقد الشيطان، وخفيت المناسبة على الإسماعيليّ فقال: ورفض القرآن ليس هو ترك الصلاة بالليل، ويتعجب من إغفاله آخر الحديث، حيث قال فيه: وينام عن الصلاة المكتوبة. الحديث الثالث والعشرون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ ثَلاَثَ عُقَدٍ، يَضْرِبُ كُلَّ عُقْدَةٍ عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ، فَإِنِ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ، وَإِلاَّ

أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلاَنَ. قوله: "الشيطان" كأن المراد به الجنس، وفاعل ذلك هو القرين أو غيره، ويحتمل أن يراد به رأس الشياطين، وهو إبليس، وتجوز نسبة ذلك إليه لكونه الأمر به، الداعي إليه. ولذلك أورده المصنف في "باب صفة إبليس" من "بدء الخلق". وقوله: قافية رأس أحدكم، أي مؤخر عنقه. وقافية كل شيء مؤخره، ومنه قافية القصيدة، وفي "النهاية": القافية القفا، وقيل: موخر الرأس، وقيل وسطه. وظاهر قوله: "أحدكم" التعميم في المخاطبين، ومن في معناهم، ويمكن أن يخص منه من تقدم ذكره، ومن ورد في حقه أنه يحفظ من الشياطين، كالأنبياء، ومن تناوله قوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} وكمن قرأ آية الكرسي، عند نومه، فقد ثبت أنه يُحفظ من الشيطان حتى يُصبح، فقد جاء في هذا الحديث عن أبي هريرة في الوكالة: "أن قارىء آية الكرسيّ عند نومه لا يقربه شيطان" وقد يظن أن بينهما معارضة، وليس كذلك؛ لأن العقد إن حمل على الأمر المعنوي، والقرب على الأمر الحسين، وكذا العكس، فلا إشكال، إذ لا يلزم من سحره إياه مثلًا، أن يماسَّه، كما لا يلزم من مماسته أن يقربه بسرقة أو أذىً في جسده ونحو ذلك، وإن حُملا على المعنويين، أو العكس، فيجاب بادعاء الخصوص في عموم أحدهما، والأقرب أن المخصوص حديث الباب، لما قال ابن عبد البر: إن الذم في الحديث يختص بمن لم يقم إلى صلاته وضيعها، أما من كانت عادته القيام إلى الصلاة المكتوبة أو إلى النافلة بالليل، فغلبته عينه فنام، فقد ثبت أن الله يكتب له أجر صلاته، ونومه صدقة عليه. ويأتي في تفسير العقد. وقوله: "إذا هو نام" كذا للأكثر، وللحمويَّ والمستملي: "إذا هو نائم" على وزن فاعل، والأول أصوب، وهو الذي في الموطأ. وقوله: "يضرب على مكان كل عقدة" كذا للمستملي، ولبعضهم بحذف "على" وللكشميهنيّ بلفظ: "عند مكان". وقوله: "يضرب" أي: بيده على العقدة، تأكيدًا أو إحكامًا لها، قائلاً ذلك. وقيل: معنى "يضرب" يحجب الحسّ عن النائم حتى لا يستيقظ، ومنه قوله تعالى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ} أي: حجبنا الحس أن يلج في آذانهم فينتبهوا. وفي حديث أبي سعيد: "ما أحد ينام إلا ضرب على سماخه بجرير معقود". أخرجه المخلص في فوائده، والسِماخ بكسر السين المهملة وآخره معجمة، ويقال بالصاد المهملة بدل السين، والجرير، بفتح الجيم، الحبل. وعن سعيد بن منصور بسند جيد عن ابن عمر "ما أصبح رجل على غير وتر إلا أصبح على رأسه جرير قدر سبعين ذراعًا". وقوله: "عليك ليل طويل"، كذا في جميع الطرق عن البخاري، بالرفع على الابتداء، أي: باق عليك طويل، أو بإضمار فعل، أي: بقي، وفي رواية أبي مصعب عن مالك في الموطأ "عليك ليلًا طويلًا" وهي رواية ابن عُيينة عن أبي الزِّناد عند مسلم. قال عِياض: رواية الأكثر عن مسلم بالنصب على الإغراء، وقال القرطبيّ: الرفع أولى من جهة المعنى؛ لأنه الأمكن في الفرور من حيث أن يخبره عن طول الليل، ثم يأمره بالرقاد، بقوله: "فارقد"، وإذا نصب على الإغراء لم يكن

فيه إلا الأمر بملازمة طول الرقاد، وحينئذٍ يكون قوله: "فارقد" ضائعًا، ومقصود الشيطان بذلك تسويفه بالقيام والإلباس عليه. وقد اختلف في هذا العقد، فقيل: هو على الحقيقة، وأنه كما يعقد الساحر من يسحره، وأكثر من يفعله النساء، تأخذ إحداهن الخيط فتعقد منه عقدة، وتتكلم عليه بالسحر، فيتأثر المسحور عند ذلك، ومنه قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} وعلى هذا، فالمعقود شيء عند قافية الرأس، لا قافية الرأس نفسها. وهل العقد في شعر الرأس أو غيره؟ الأقرب الثاني، إذ ليس لكل أحد شعر، ويؤيده ما ورد في بعض طرقه: "أن على رأس كل آدمي حبلًا" ففي ابن ماجه ومحمد بن نصر عن أبي هريرة مرفوعًا "على قافية رأس أحدكم حبل فيه ثلاث عقد"، ولأحمد عن أبي هريرة أيضًا: "إذا نام أحدكم عقد على رأسه بجرير" ولابن خُزيمة وابن حِبّان عن جابر مرفوعًا "ما من ذكر ولا أُنثى إلا على رأسه جرير معقود حين يرقد" الحديث، وفي الثواب لآدم بن أبي إياس من مرسل الحسن نحوه، وفهم بعضهم من هذا أن العقد لازمة، ويرده التصريح بأنها تنحل بالصلاة". فتلزم إعادة عقدها، فابهم فاعله في حديث جابر، وفسر في حديث غيره، وقيل: هو على المجاز، كأنه شبه فعل الشيطان بالنائم، بفعل الساحر بالمسحور، فلما كان الساحر يمنع بعقده ذلك تصرفَ من يحاول عقده، كان هذا مثله من الشيطان للنائم. وقيل: المراد به عقد القلب وتصميمه على الشيء، كأنه يوسوس له بأنه بقي من الليل قطعة طويلة، فيتأخر عن القيام. وانحلال العقد كناية عن علمه بكذبه فيما وسوس به. وقيل: العقد كناية عن تثبيط الشيطان للنائم بالقول المذكور، ومنه: "عقدتُ فلانًا عن امرأته" أي: منعته عنها، أو عن تثقيله عليه النوم، كأنه قد شد عليه شدادًا. وقال بعضهم: المراد بالعُقَد الثلاث الأكل والشرب والنوم؛ لأن مَنْ أكثر الأكل والشرب كثُر نومه، واستبعده المُحِبّ الطَّبريّ؛ لأن الحديث يقتضي أن العُقَد تقع عند النوم، فهي غيره. قال القرطبي: الحكمة في الاقتصار على الثلاث أن أغلب ما يكون انتباه الإنسان في السحر، فإذا اتفق له أن يرجع إلى النوم ثلاث مرات، لم تنقض النومة الثالثة إلا وقد ذهب الليل. وقال البيضاوي: بالثلاث إما للتأكيد، أو لأنه يريد أن يقطعه عن ثلاثة أشياء: الذكر، والوضوء والصلاة، فكأنه مَنع من كل واحدة منها بعقدة عقدها على رأسه، وكأن تخصيص القفا بذلك لكونه محل الوهم، ومجال تصرفه. وهو أطوع القوى للشيطان، وأسرعها إجابةً لدعوته، وفي كلام الشيخ الملويّ أن العَقْد يقع على خزانة الإلهيات من الحافظة، وهي الكنز المحصَّل من القويّ، ومنها يتناول القلب ما يريد التذكر به. وقوله: "انحلت عقده" أي: بلفظ الجمع، بغير اختلاف في البخاري، ولبعض رواة الموطأ بالإفراد، ويؤيده رواية أحمد المشار إليها قبل، فإنَّ فيها "فإنْ ذكر الله انحلت عقدة واحدة، وإن قام

فتوضأ أطلقت الثانية، فإن صلى أطلقت الثالثة" وكأنه محمول على الغالب، وهو من ينام مضطجعاً فيحتاج إلى الوضوء إذا انتبه، فيكون لكل فعل عقدة قال في "الفتح": قلت: هذا منه جرى على مذهبه، وكأنه جعل السنة جاريةً على مذهبه، ولم ينتبه إلى أن نقض وضوء الجالس بالنوم هو مذهب مالك. وكثير من العلماء. ثم قال: ويؤيد الأول ما يأتي في بدء الخلق من وجه آخر. بلفظ: "عقده كلها" ولمسلم من رواية ابن عُيينة عن أبي الزناد "انحلت العقد"، وظاهره أن العقد تنحل كلها بالصلاة خاصة، وهو كذلك في حق مَنْ لم يحتج إلى الطهارة، كمن نام متمكنًا مثلًا، ثم انتبه فصلى من قبل أن يذكر أو يتطهر، فإن الصلاة تجزئه في حل العُقد كلها؛ لأنها تستلزم الطهارة، وتتضمن الذكر، وعلى هذا فيكون معنى قوله: "فإذا صلّى انحلت عقده كلها" إن كان المراد به مَنْ لا يحتاج إلى الوضوء، فظاهر على ما قررناه، وإن كان من يحتاج إليه، فالمعنى انحلت عقده كلها بانحلال الأخيرة، التي بها يتم انحلال العقد. وفي رواية أحمد المذكورة قبل: "فإن قام فذكر الله انحلت واحدة، فإن قام فتوضأ أطلقت الثانية، فإن صلى أطلقت الثالثة" وهذا محمول على الغالب، وهو مَنْ ينام مضطجعًا فيحتاج إلى تجديد الطهارة عند استيقاظه، فيكون لكل فعل عقدة يحلها. قلت: هذا البحث كله غير محتاج إليه، ولا مخالفة بين الروايات قطعًا ولا فيها شيء يوهم المخالفة، فإن البخاري، ومن وافقه، ممن أتى بلفظ الجمع عند الصلاة، قصد تمام انحلال العقد بانحلال الأخيرة منها، ومن عبر بالإفراد قصد انحلال الأخيرة، وبانحلالها يتم انحلال الثلاث، ولا دخل لكون الإنسان قاعدًا أو مضطجعًا في معنى الحديث، بل الحديثُ عبر بالنوم، فيشمل كل نائم على أي حالٍ كان، وبالله تعالى التوفيق. وقوله: "طيب النفس" أي: لسروره بما وفقه الله له من الطاعة، وبما وعده من الثواب، وبما زال عنه من عقد الشيطان، كذا قال. والذي يظهر أن في صلاة الليل سرًا في طيب النفس، إن لم يستحضر المصلي شيئًا مما ذكر، وكذا عكسه، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} وقد استنبط بعضهم منه، أنَّ مَنْ فعل ذلك مرة ثم عاد إلى النوم، لا يعود إليه الشيطان بالعقد المذكررثانيًا، واستثنى بعضهم، ممن يقوم ويذكر ويتوضأ ويصلي، مَنْ لم ينهه ذلك عن الفحشاء، بل يفعل ذلك من غير أن يقلع، والذي يظهر فيه التفصيل بين مَنْ يفعل ذلك مع الندم والتوبة والعزم على الإقلاع، وبين المصرِّ. وقوله: "وإلا أصبح خبيث النفس" أي: بتركه ما كان اعتاده، أو أراد من فعل الخير، كذا قيل. وفيه ما تقدم. وقوله: "كسلان" غير مصروف للوصف وزيادة الألف والنون، ومقتضى قوله: وإلا أصبح أنه إنْ لم يجمع الأمور الثلاثة، دخل تحت من يصبح خبيثًا كسلان، وإن أتى ببعضها، وهو كذلك، لكن يختلف ذلك بالقوة والخفة، فمن ذكر الله مثلًا كان في ذلك أخف ممن لم يذكر الله أصلًا، وفي حديث أبي سعيد المشارُ إليه عند قوله: "يضرب على مكان كل عقدة، فإن قام وصلّى

انحلت العقد كلهن، وإن استيقظ ولم يتوضأ ولم يصل أصبحت العُقد كلها كهيئتها". وزعم قوم أن هذا الحديث يعارض قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يقولنَّ أحدكم خبثتْ نفسي" وليس كذلك؛ لأن النهي إنما ورد عن إضافة المرء ذلك إلى نفسه، كراهةً لتلك الكلمة. وهذا الحديث وقع ذمًا لفعله، ولكل من الحديثين وجه. وقال الباجيّ: لا اختلاف بين الحديثين؛ لأنه نهى عن إضافة ذلك إلى النفس، لكون الخبث بمعنى فساد الدين، ووصف بعض الأفعال بذلك تحذيرًا منها وتنفيرًا، وتقدير الأشكال هو أنه -صلى الله عليه وسلم-، نهى عن إضافة ذلك إلى النفس، فكل ما نهي المؤمن أن يضيفه إلى نفسه، نهي أن يضيفه إلى أخيه المؤمن، وقد وصف، -صلى الله عليه وسلم-، هذا المرء بهذه الصفة، فيلزم جواز وصفنا له بذلك، لمحل التآسي، ويحصل الانفصال فيما يظهر، بأن النهي محمول على ما إذا لم يكن هناك حامل على الوصف بذلك، كالتنفير والتحذير. وهنا فوائد ينبغي التنبيه عليها: الأولى: ذكر الليل في قوله: "عليك ليل"، ظاهره اختصاص ذلك بنوم الليل، وهو كذلك، لكن لا يبعد أن يجيء مثله في نوم النهار، كالنوم حالة الإيراد مثلًا، ولاسيما على تفسير البخاري مِن أن المراد بالحديث الصلاةُ المفروضة، كما مرّ. الثانية: ادَّعى ابن العَرَبيّ أن البخاري أومأ هنا إلى وجوب قيام الليل، لقوله: "يعقد الشيطان" وفيه نظر، فقد صرّح البخاري في الترجمة الخامسة من أبواب التهجد بخلافه، حيث قال: من غير إيجاب، وأيضًا فما مرّ تقريره من حمل الصلاة هنا على المكتوبة، يدفع ما قاله ابن العربي أيضًا. وما في القول بإيجابه نقلٌ إلا عن بعض التابعين. وقال ابن عبد البَرّ: شذ بعض التابعين، فأوجب قيام الليل، ولو قدر حلب شاة، والذي عليه جماعة العلماء أنه مندوب إليه، ونقله غير عن الحسن وابن سيرين، والذي وجد عن الحسن، ما أخرجه محمد بن نصر وغيره عنه، أنه قيل له: ما تقول في رجل استظهر القرآن كله لا يقوم به، إنما يصلي المكتوبة؟ فقال: لعن الله هذا، إنما يتوسد القرآن. فقيل له: قال الله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} قال: نعم، ولو قدر خمسين آية. وكان هذا هو مستند من نقل عن الحسن الوجوب. ونقل التِّرْمِذِيّ عن إسحاق بن راهَوَيه أنه قال: إنما قيام الليل على أصحاب القرآن، وهذا يخصص ما نقل عن الحسن، وهو أقرب، وليس فيه تصريح بالوجوب أيضاِّ. وقد مرّ بعض الكلام عليه في أول التهجد. الثالثة: ذَكر الحافظ أبو الفضل بن الحسين في شرح التِّرمِذِيّ أن السر في استفتاح صلاة الليل بركعتين خفيفتين، المبادرةُ إلى حل عقد الشيطان، وبناه على أن الحل لا يتم إلا بتمام الصلاة، وهو واضح؛ لأنه لو شرع في صلاة، ثم أفسدها لم يساوِ من أتمها، وكذا الوضوء. وكأنَّ الشروع في حل العقد يحصل بالشروع في العبادة، وينتهي بانتهائها. وقد ورد الأمر بصلاة الركعتين الخفيفتين عند مسلم، من حديث أبي هريرة، فاندفع إيراد مَنْ أورد أن الركعتين الخفيفتين إنما

رجاله خمسة

وردتا من فعله عليه الصلاة والسلام كما تقدم عن عائشة، وهو منزه عن عقد الشيطان حتى ولو لم يرد الأمر بذلك، لأمكن أن يقال: يحمل فعله ذلك على تعليم أمته، وإرشادهم إلى ما يحفظهم من الشيطان. وقد وقع عند ابن خُزيمة من وجه آخر عن أبي هريرة في آخر الحديث: "فحلوا عقد الشيطان ولو بركعتين". الرابعة: إنما خص الوضوء بالذكر؛ لأنه الغالب، وإلا فالجنب لا يحل عقدته إلا الاغتسال، وهل يقوم التيمم مقام الوضوء أو الغسل لمن ساغ له ذلك؟ مقام بحث، والذي يظهر أجزاؤه، ولا شك أن في معاناة الوضوء عونًا كبيرًا على طرد النوم، لا يظهر مثله في التيمم. الخامسة: لا يتعين للذكر شيء مخصوص لا يجزىء غيره، بل كل ما صدق عليه ذكر الله أجزأ. ويدخل فيه تلاوة القرآن، وقراءة الحديث النبويّ، والاشتغال بالعلم الشرعي، وأَوْلى ما يذكر به ما جاء في باب "فضل من تعار من الليل" بعد ثمانية أبواب، ويؤيده ما عند ابن خزيمة من الطريق المذكورة، فإن تعار من الليل فذكر الله. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ عبد الله بن يوسف ومالك في الثاني من بدء الوحي، وأبو الزِّناد والأعرج في السابع من الإيمان، وأبو هريرة في الثاني منه. والحديث أخرجه أبو داود. الحديث الرابع والعشرون حَدَّثَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بن علية قَالَ: حَدَّثَنَا عَوْفٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَمُرَةُ بْنُ جُنْدَبٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي الرُّؤْيَا قَالَ: أَمَّا الَّذِي يُثْلَغُ رَأْسُهُ بِالْحَجَرِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ الْقُرْآنَ فَيَرْفِضُهُ وَيَنَامُ عَنِ الصَّلاَةِ الْمَكْتُوبَةِ. قوله: "عن الصلاة المكتوبة" الظاهر أن المراد بها العشاء الآخرة، وهو اللائق بما تقدم من مناسبة الحديث الذي قبله. وقوله: "يُثْلَغُ" بضم التحتانية وسكون المثلثة وفتح اللام بعدها معجمة، أي: يشق أو يخدش، وقوله: "فيرفضه" بكسر الفاء وضمها، أي: يترك حفظه والعمل به. وأما الذي يترك حفظ حرفه، ويعمل بمعانيه فليس برافض له. وهذا الحديث يأتي في آخر الجنائز مطولًا في باب مفرد، بعد باب "ما قيل في أولاد المشركين". ويأتي الكلام إن شاء الله تعالى عليه هناك. رجاله خمسة: قد مرّوا إلا مُؤمَّلًا، مرّ إسماعيل بن علية في الثامن من الإيمان، ومرّ عَوْف الأعرابيّ في الأربعين منه، ومرّ أبو رَجاء في الحادي عشر من التيمم، ومرّ سمرةُ بن جندب في الخامس والثلاثين من الحيض.

لطائف إسناده

الخامس: مُؤَمَّل، باسم المفعول، ابن هشام اليَشْكُريّ أبو هشام البصريّ، ذكره ابن حِبان في الثقات، وقال أبو حاتم: صدوق، وقال أبو داود والنَّسائيّ ومَسْلمة بن قاسم: ثقة. روى عن إسماعيل بن علية، وكان صهره، وعن أبي معاوية الضرير ويحيى بن عبّاد الضَّبَعيّ. وروى عنه البخاري وأبو داود والنَّسائيّ وأبو حاتم وغيرهم. مات في ربيع الأول سنة ثلاث وخمسين ومئيتن. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع في الإسناد كله، وفيه القول، ورجاله كلهم بصريون، أخرجه البخاري مُقطَّعًا، وتمامه في آخر كتاب الجنائز، وأخرجه في الجهاد والبيوع وبدء الخلق، وأحاديث الأنبياء، وفي التعبير والتفسير، ومسلم والتِّرمِذِيّ في الرؤيا، والنَّسائيّ فيها وفي التفسير. ثم قال المصنف:

باب إذا نام ولم يصل بال الشيطان في أذنه

باب إذا نام ولم يصل بال الشيطان في أُذنه هذه الترجمة للمستملي وحده وللباقين باب فقط وهو بمنزلة الفصل من الباب وتعلقه بالذي قبله ظاهر لما سنوضحه. الحديث الخامس والعشرون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ قَالَ: حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلٌ فَقِيلَ: مَا زَالَ نَائِمًا حَتَّى أَصْبَحَ مَا قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ. فَقَالَ: بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنِهِ. قوله: "ذكر عند النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل قال في "الفتح": لم أقف على اسمه، لكن أخرج سعيد بن منصور عن عبد الرحمن بن يزيد النخعيّ عن ابن مسعود، ما يؤخذ منه أنه هو ولفظه بعد سياق الحديث بنحوه، "وأيم الله لقد بال في أذن صاحبكم ليلة" يعني نفسه، وقوله: فقيل: ما زال نائمًا حتى أصبح، في رواية منصور في بدء الخلق: "رجل نام ليلة حتى أصبح". وقوله: "ما قام إلى الصلاة" المراد الجنس، ويحتمل العهد، ويراد به صلاة الليل أو المكتوبة، ويؤيده رواية سفيان "نام عن الفريضة" أخرجه ابن حِبان في صحيحه" وبهذا تتبين مناسبة الحديث لما قبله. وفي حديث أبي سعيد المتقدم ذكره، في فوائد المخلص، "أصبحت العقد كلها كهيئتها وبال الشيطان في أذنه" فيستفاد منه وقت بول الشيطان، ومناسبة هذا الحديث للذي قبله. وقوله: "في أذنه" في رواية منصور "في أذنيه" بالتثنية، واختلف في بول الشيطان، فقيل: هو على حقيقته، قال القرطبيّ وغيره: لا مانع من ذلك، إذ لا إحالة فيه؛ لأنه ثبت أن الشيطان يأكل ويشرب وينكح، فلا مانع من أن يبول، وقيل: هو كناية عن سد الشيطان أذن الذي ينام عن الصلاة، حتى لا يسمع الذكر، وقيل: معناه أن الشيطان ملأ سمعه بالأباطيل، فحجب سمعه عن الذكر. وقيل: هو كناية عن ازدراء الشيطان به، وقيل: معناه أن الشيطان استولى عليه واستخف به، حتى اتخذه كالكنيف المعد للبول، إذ من عادة المستخف بالشيء أن يبول عليه. وقيل: هو مَثَل مضروب للغافل عن القيام بثقل النوم، كمن وقع البول في أذنه، فثقل أذنه، وأفسد حسه. والعرب تكنى عن الفساد بالبول، قال الراجز: بالَ سُهَيْل في الفَضِيخ فَفَسد

رجاله خمسة

وكنى بذلك عن طلوعه لأنه وقت إفساد الفضيخ، فعبّر عنه بالبول. وفي رواية الحسن عن أبي هريرة في هذا الحديث عند أحمد، قال الحسن: إن بوله، والله، لثقيل. وروى محمد بن نصر عن ابن مسعود "حسبُ الرجل من الخيبة والشر أن ينام حتى يصبح وقد بال الشيطان في أذنه" وهو موقوف صحيح الإسناد. وقال الطيبيّ: خص الأذن بالذكر، وإن كانت العين أنسب بالنوم، إشارة إلى ثقل النوم، فإن المسامع هي موارد الانتباه. وخص البول؛ لأنه أسهل مدخلًا في التجاويف، وأسرع نفوذًا في العروق، فيورث الكسل في جميع الأعضاء. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرّ مسدد في السادس من الإيمان، ومرّ أبو وائل في الحادي والأربعين منه، وابن مسعود في أثر أوله، ومرّ أبو الأحوص في العشرين من صفة الصلاة، والرجل المبهم، قال في "الفتح": لم أقف على اسمه، ويحتمل أن يكون ابن مسعود بنفسه، لما يؤخذ مما أخرجه سعيد بن منصور. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإخبار، كذلك، وشيخه بصريّ، والباقون كوفيون، أخرجه البخاري أيضًا في صفة إبليس، ومسلم في الصلاة، وكذا النَّسائيّ وابن ماجه. ثم قال المصنف:

باب الدعاء والصلاة من آخر الليل وقال الله عز وجل: {كانوا قليلا من الليل ما يهجعون}

باب الدعاء والصلاة من آخر الليل وقال الله عَزَّ وَجَلَّ: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} في رواية أبي ذَرٍّ "الدعاء في الصلاة"، فزاد الأصيليّ: "ما يهجعون" أي: ما ينامون، وقد ذكر الطبريّ وغيره الخلافَ عن أهل التفسير في ذلك، فنقل ذلك عن الحسن والأحنف وإبراهيم النخعيّ وغيرهم، وعلى هذا تكون ما زائدة أو مصدرية، فعلى أنها زائدة "يهجعون" خبر كان، و"قليلًا" إما ظرف أي: زمانًا قليلًا، و"من الليل" إما صفة متعلق بيهجعون، وإما مفعول مطلق، أي: هجوعًا قليلًا، وعلى أنها مصدرية فما "يهجعون" فاعل "قليلًا"، و"من الليل" بيان أو حال من المصدر، و"مِن" للابتداء. ونقل عن قتادة ومجاهد أن معناه "كانوا لا ينامون ليلة، حتى الصباح لا يتهجدون" وعن سعيد بن عباس معناه: لم تكن تمضي عليهم ليلة إلا يأخذون منها ولو شيئًا. ورجح الأول؛ لأن الله تعالى وصفهم بذلك مادحًا لهم بكثرة العمل. قال الخليل: هجع يَهْجَع هُجُوعًا، وهو النوم بالليل دون النهار، وعلى الاخر تكون ما نافية، واعترض هذا بأن ما بعد ما النافية لا يعمل فيما قبلها. وقوله: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} أي: أنهم مع قلة هجوعهم وكثرة تهجدهم، إذا أسحروا، أخذوا في الاستغفار، كأنهم أسلفوا في ليلتهم الجرائم، وسقط عند أبي ذرٍّ والأصيليّ وأبي الوقت {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}. الحديث السادس والعشرون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَأَبِى عَبْدِ اللَّهِ الأَغَرِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ. أورد المصنف هذا الحديث عن الأَغَرّ أبي عبد الله، وأبي سلمة جميعًا، عن أبي هريرة، وقد اختلف فيه على الزهريّ، فرواه عنه مالك وحفاظ أصحابه كما هنا، واقتصر بعضهم عنه على أحد الرجلين، وقال بعض أصحاب مالك عنه عن سعيد بن المُسَيِّب بدلهما، ورواه أبو داود الطيالسيّ عن إبراهيم بن سعد عن الزهريّ، فقال الأعرج بدل الأغر، فصحفه، وقيل عن الزهري عن عطاء بن يزيد بدل أبي سلمة. قال الدارقطنيّ: وهو وهم، والأغر المذكور لقب، واسمه سلمان، ويكنى أبا عبد الله، مدنيٌّ، ولهم راوٍ آخر يقال له الأغر أيضًا، لكنه اسمه وكنيته أبو مسلم، كوفي.

وقد جاء هذا الحديث من طريقه أيضًا، أخرجه مسلم من رواية أبي إسحاق السَّبيعيّ عنه عن أبي هريرة وأبي سعيد جميعًا مرفوعًا، وغلط من جعلهما واحدًا، ورواه عن أبي هريرة أيضًا سعيدُ بن مَرْجَانة، وأبو صالح عند مسلم وسعيد المَقْبَرِيّ وعطاء مولى أم صُبَيَّة، بالمهملة مصغرًا، وأبو جعفر المدني ونافع بن جُبير بن مُطْعِم، كلهم عند النَّسائيّ، وفي الباب عن عليّ وابن مسعود وعثمان بن أبي العاص وعمرو بن عَنْبَسةَ عند أحمد، وعن جبير بن مطعم ورِفاعة الجُهَنىّ عند النَّسائيّ، وعن أبي الدَّرْدَاءْ وعُبادة بن الصامت وأبي الخطاب غير منسوب عند الطبرانيّ، وعن عُقبة بن عامر وجابر، وجَدّ عبد الحميد بن سَلَمة عند الدارقطنيّ في كتاب السنة. وسأذكر ما في رواياتهم من فائدةٍ زائدة. وقوله: "عن أبي سلمة" إلخ في رواية عبد الرزاق عن معمر عن الزهريّ أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو عبد الله الأغر صاحب أبي هريرة، أن أبا هريرة أخبرهما، وقوله: "ينزل ربنا إلى السماء الدنيا" استدل به من أثبت الجهة وقال: هي جهة العلو، وأنكر ذلك الجمهور؛ لأن القول بذلك يفضي إلى التحيُّز، تعالى الله عن ذلك. وقد اختلف في معنى النزول على أقوال، فمنهم من حمله على ظاهره وحقيقته، وهم المشبهة، تعالى الله عن قولهم. ومنه مَنْ أنكر صحة الأحاديث الواردة في ذلك جملةً، وهم الخوارج والمعتزلة، وهو مكابرة، والعجب أنهم أَوّلوا ما في القرآن من نحو ذلك، وأنكروا ما في الحديث، إما جهلًا، وإما عنادًا. ومنهم مَنْ أجراه على ما ورد، مؤمنًا به على طريق الإجمال، منزهاً لله تعالى عن الكيفية والتشبيه، وهم جمهور السلف. ونقله البيهقيّ وغيره عن الأئمة الأربعة والسفيانين والحمادين والأوزاعي والليث وغيرهم، ومنهم مَنْ أوَّله على وجه يليق، مستعملٍ في كلام العرب، صارفًا له عن ظاهره المستحيل على الله تعالى، الواجبه تنزيهه عنه؛ لأن النزول انتقال من مكان إلى مكان، يفتقر إلى ثلاثة أجسام: عال هو مكان لساكنه، وجسم سافل، وجسم منتقل، وهذا لا يجوز على الله تعالى. ومنهم مَنْ أفرط في التأويل حتى كاد أن يخرج إلى نوع من التحريف. ومنهم مَنْ فضّل بين ما يكون تأويله قريبًا مستعملًا في كلام العرب، وبين ما يكون بعيدًا مهجورًا، فأوّل في بعض، وفوّض في بعض، وهو منقول عن مالك، وجزم به ابن دقيق العيد من المتأخرين. قال البيهقيّ: وأسلمها الإيمان بلا كيف، والسكوت عن المراد إلا أن يرد ذلك عن الصادق فيصار إليه. ومن الدليل على ذلك اتفاقهم على أن التأويل المعني غير واجب، فحينئذٍ التفويض أَسْلَم. وقال ابن العربي: حكى عن المبتدعة رد هذه الأحاديث، وعن السلف إقرارها، وعن قوم تأويلها وبه أقول. فأمّا قوله: "ينزل" فهو راجع إلى أفعاله لا إلى ذاته، بل ذلك عبارة عن ملكه الذي ينزل بأمره ونهيه، والنزول كما يكون في الأجسام يكون في المعاني، فإن حملته في الحديث على الحسيّ، فتلك صفة الملك المبعوث بذلك، وإنّ حملته على المعنويّ، بمعنى أنه لم يفعل ثم

فعل، فيسمى ذلك نزولًا عن مرتبة إلى مرتبة، فهي عربية صحيحة. والحاصل أنه تأوله بوجهين، إما بأن المعنى ينزل أمره، أو الملك بأمره، وإما بأنه استعارة بمعنى التلطف بالداعين، وإجابة لهم ونحوه، وقد حكى أبو بكر بن فورك أن بعضِ المشائخ ضبطه بضم أوله على حذف المفعول، أي يُنَزِّل ملكًا، ويقويه ما رواه النَّسائيُّ عن الأَغَرّ عن أبي هُريرة وأبي سعيد بلفظ: "إن الله يمهل حتى يمضي شطر الليل، ثم يأمر مناديًا يقول: هل من داعٍ فيستجاب له" الحديث. وفي حديث عثمان بن أبي العاص: "ينادي منادٍ هل من داعٍ يستجاب له" الحديث. قال القرطبي: وبهذا يرتفع الإشكال، ولا يعكر عليه ما في رواية رِفاعة الجُهِّنيّ "ينزل الله إلى السماء الدنيا فيقول: لا يسأل عن عبادي غيري"؛ لأنه ليس في ذلك ما يدفع التأويل المذكور. وقال البيضاويّ: ولما ثبت بالقواطع أنه سبحانه منزه عن الجسمية والتحيز، امتنع عليه النزول على معنى الانتقال من موضع إلى موضع أخفض منه، فالمراد نور رحمته، أي: ينتقل من مقتضى صفة الجلال التي تقتضي الغضب والانتقام، إلى مقتضى صفة الإكرام التي تقتضي الرأفة والرحمة. وتأوَّل ابن حزم النزول بأنه فعل يفعله الله في سماء الدنيا، كالفتح لقبول الدعاء، وأن تلك الساعة من مظان الإجابة، وهو معهود في اللغة، تقول: فلان نزل لي عن حقه، بمعنى وهبه. قال: والدليل على أنها صفة فعل، تعليقه بوقت محدود، ومن لم يزل لا يتعلق بالزمان، فصح أنه فِعْلٌ حادث. وقال ابن العربيّ أيضًا في "العواصم": قوله: "ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا" أن الحركة والانتقال، وإن كانا محالًا عليه عقلًا، فإنه يلزمهم على محالهم أن يكونا محالًا عليه عندهم، يعني المشبهين، فإنهم قالوا: إنه أكبر من العرش بمقدار يسير، فكيف ينزل إلى السماء وهو أكبر من جميعها ولم يفهموا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما خاطب بذلك العرب الفصحاء اللُّسُن. وقد ثبت في اللغة أن النزول على وجهين: نزول حركة، ونزول إحسان وبركة. فإن من أعطاك قد نزل إليك إلى درجة النبل المحبوبة عندك، عن درجة المنع المكروهة، كما أنه نزل في وده لك عن حال البغضاء والإعراض عنك. وهو نزول حقيقيّ في بابه، كما أنّ نزول المرء عن الجبل إلى السفح حقيقة في بابه، ألا ترى إلى قول عنترة: كامل وَلَقَدْ نَزَلْتِ فلا تَظُني غَيْرَه ... مني بمنزلةِ المُحَبِّ المكْرمِ وقال عمر رضي الله تعالى عنه، في الإِسلام: ما ينزل بعبد مسلم من منزل شدة إلخ، وهو معنوي لا حركة فيه ولا انتقال، وفائدته في الحديث، هي أن الكريم إذا حل بموضعٍ ونزل بأرض ظهرت فيها أفعاله، وانتشرت بركته، وبدت آثاره، فما بث الله من رحمته من السماء الدنيا على الخلق في تلك الساعة، عبر عنه بالنزول فيه، وهو عربية صحيحة، وقد ذكر الله تعالى أشياء بالنزول لا يراد بها النزول قطعًا، فقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} ومعدنه بالأرض،

وقال تعالى: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} والمراد بالإنزال فيهما الظهور والخلق. قال ابن الجوزيّ: مَنْ لم يعرف نزول الجمل كيف يتكلم في الجمل؟ وكون المراد بهما الإنزال حقيقة، لا يلتفت إليه، لضعفه. وقد قال ابن بطّال: إن قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} فيه بيان لكل ما أشكل من كل فعل ينسب إلى الله تعالى، مما لا يليق به فعله المجيء والنزول، ونحو ذلك؛ لأن الفعل في الآية أسند إلى الله تعالى، والفاعل له حقيقة الملك الذي أمره بقراءته. وقد عقد شيخ الإِسلام أبو إسماعيل الهَرَوي، وهو من المبالغين في الإثبات حتى طعن فيه بعضهم، بسبب ذلك، في كتابه "الفاروق" بابًا لهذا الحديث، وأورده من طرق كثيرة، ثم ذكره من طرق زعم أنها لا تقبل التأويل، مثل حديث عطاء أُم صُبَيّة عن أبي هُريرة بلفظ: "إذا ذهب ثلث الليل" وذكر الحديث، وزاد: "فلا يزال بها حتى يطلع الفجر فيقول هل من داعٍ يستجاب له" أخرجه النسائيّ وابن خزيمة في صحيحه، وهو من رواية محمد بن إسحاق، وفيه اختلاف، وحديث ابن مسعود وفيه: "فإذا طلع الفجر صعد إلى العرش" أخرجه ابن خُزيمة، وهو من رواية إبراهيم الهجريّ، وفيه مقال. وأخرجه أبو إسماعيل عن ابن مسعود أيضًا، قال: جاء رجل من بني سُليم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: علمني، فذكر الحديث، وفيه: "فإذا انفجر الفجر صعد" وهو من رواية عَوْن بن عبد الله بن عُتْبة بن مسعود عن عم أبيه، ولم يسمع منه، ومن حديث عُبادة بن الصامت وفي آخره: "ثم يعلو ربنا على كرسيه" وهو من رواية إسحاق بن يحيى عن عبادة، ولم يسمع منه، ومن حديث جابر، وفيه: "ثم يعلو ربنا إلى السماء العليا إلى كرسيه" وهو من رواية محمد بن إسماعيل الجعفريّ عن عبد الله بن سلمة بن أسلم، وفيهما مقال. ومن حديث أبي الخطاب: "أنه سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الوِتر، فذكر الوتر، وفي آخره "حتي وإذا طلع الفجر ارتفع"، وهو من رواية ثُويَر بن أبي فاخِته، وهو ضعيف، فهذه الطرق كلها ضعيفة، وعلى تقدير ثبوتها، لا يقبل قوله: إنها لا تقبل التأويل، فإن محصلها ذكر الصعود بعد النزول، فكما قبل النزول التأويل، لا يمتنع قبول الصعود التأويل، والتسليم أسلم كما مرّ. وقد أجاد هو في قوله في آخر كتابه، فأشار إلى ما ورد من الصفات، وكلها من التقريب لا من التمثيل، وفي مذاهب العرب سعة، يقولون: أمرٌ بّينٌ كالشمس، وجواد كالريح، وحقٌ كالنهار، ولا تريد تحقيق الاشتباه، وإنما تريد تحقيق الإثبات والتقريب على الإفهام، فقد علم من عقل أن الماء أبعد الأشياء شبهًا بالصخر، والله يقول: {فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ} فأراد العِظَم والعلو لا الشبه في الحقيقة، والعرب تشبه الصورة بالشمس والقمر، والقول بالسحر، والمواعيد الكاذبة بالرياح، ولا تعد شيئًا من ذلك كذبًا، ولا توجب حقيقة. وقال بعض العلماء: النزول، لغةً، يستعمل لمعانٍ خمسة مختلفة: بمعنى الانتقال، {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا}.

والإعلام: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} أي: أعلم به الروح الأمين محمدًا -صلى الله عليه وسلم-. وبمعنى القول: {سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} أي: سأقول مثل ما قال. والإِقبال على الشيء، وذلك مستعمل في كلامهم، جار في عرفهم، يقولون: نزل فلان من مكارم الأخلاق إلى دَنيّها، ونزل قدر فلان عند فلان، إذا انخفض. وبمَعنى نزول الحكم، من ذلك قولهم: كنا في خيرٍ وعدلٍ حتى نزل بنا بنو فلان، أي حَكَم. وذلك كله متعارف عند أهل اللغة، وإذا كانت مشتركة في المعنى وجب حمل ما وصف به الرب، جل جلاله، من النزول على ما يليق به من بعض هذه المعاني، وهي إقباله على أهل الأرض بالرحمة والاستيقاظ بالتذكير والتنبيه، الذي يلقى في القلوب، والزواجر التي تزعجهم إلى الإقبال على الطاعة، وقد بسطت القول في النزول في كتابي "استحالة المعية بالذات، وما يضاهيها من متشابه الصفات". وقوله: حين يبقى ثلث الليل الآخر، برفع الآخر؛ لأنه صفة الثلث، ولم تختلف الروايات عن الزهريّ في تعيين الوقت، واختلفت عن أبي هريرة وغيره، قال الترمذيّ: رواية أبي هريرة أصح الروايات في ذلك، ويقوّي ذلك أن الروايات المخالفة لها اختلف فيها على رواتها، وسلك بعضهم طريق الجمع، وذلك أن الروايات انحصرت في ستة أشياء: أولها: هذه، ثلث الليل الآخر، وهي أصحها، وإنما خص الثلث الأخير لأنه وقت التهجد، وغفلة الناس، عمن يتعرض لنفحات رحمة الله، وعند ذلك تكون النية خالصةً، والرغبة إلى الله تعالى وافرة، وذلك مظنة القبول والإجابة. ثانيها: إذا مضى الثلث الأول ثالثها: الثلث الأول، أو النصف. رابعها: النصف. خامسها: النصف أو الثلث. سادسها: الإِطلاق. فأما الروايات المطلقة، فهي محمولة على المقيدة، وأما التي بأو، فإن كانت "أو" للشك، فالمجزوم به مقدم على المشكوك فيه، وإن كانت للتردد بين حالين، فيجمع بذلك بين الروايات بأن ذلك يقع بحسب اختلاف الأحوال، لكون أوقات الليل تختلف في الزمان وفي الآفاق، باختلاف تقدم دخول الليل عند قوم، وتأخره عند قوم. وقال بعضهم: يحمل على أن ذلك يقع في جميِع الأوقات التي وردت بها الأخبار، ويحمل على أن النبي -صلى الله عليه وسلم-، أعلم بأحد الأمور في وقت فأخبر به، ثم أعلم به في وقت آخر، فأخبر به، فنقل الصحابة ذلك عنه.

وقوله: مَنْ يدعوني إلخ، لم تختلف الروايات عن الزهريّ في الاقتصار على الثلاثة المذكورة، وهي الدعاء والسؤال والاستغفار، وهي إما بمعنى واحد، فذكرها للتوكيد، أو الفرق بينها أن المطلوب إما لدفع المضار أو جلب المسارّ، والثاني إما دنيويّ أو دينيّ، ففي الاستغفار إشارة إلى الأول، وفي السؤال إشارة إلى الثاني، وفي الدعاء إشارة إلى الثالث. وقال الكرمانيّ: الدعاء ما لا طلب فيه نحو: يالله، والسؤال الطلب، وزاد سعيد عن أبي هريرة: "هل من تائب فأتوب عليه" وزاد أبو جعفر عنه: "مَنْ ذا الذي يسترزقني فأرزقه، مَنْ ذا الذي يستكشف التفسير فأكشف عنه" وزاد عطاء مولى أم صبَيَّة عنه: "ألا سقيم يستشفي فيشفى" ومعانيها داخلة فيما تقدم. وزاد سعيد بن مَرْجانة عنه "مَنْ يقرض غير عدم ولا ظلوم" وفيه تحريض على عمل الطاعة، وإشارة إلى جزيل الثواب عليها. وزاد حجّاج بن مَنيع عن جده عن الزهريّ عند الدارقطنيّ، في آخر الحديث: "حتى الفجر" وفي رواية أبي سَلَمة عند مسلم: "حتى ينفجر الفجر"، وفي رواية عن أبي سَلَمة: "حتى يطلع الفجر". واتفق معظم الروايات على هذا، إلا أن في رواية نافع بن جبير عن أبي هريرة عند النَّسَائيّ: "حتى ترجل الشمس"، وهي شاذة، وزاد يونس عن الزهريّ في آخره أيضًا: "ولذلك كانوا يفضلون صلاة آخر الليل على أوله" أخرجها الدارقطنيّ. وله عن ابن سَمْعان عن الزُّهريّ ما يشير إلى أن قائل ذلك هو الزهريّ، وبهذه الزيادة تظهر مناسبة ذكر الصلاة في الترجمة، ومناسبة الترجمة التي بعد هذه لهذه. وقوله: "فأستجيب لها" بالنصب على جواب الاستفهام، وبالرفع على الاستئناف، أي: فأنا أستجيب له، وكذا قوله: "فأعطيه وأغفر له"، وقد قرىء بهما في قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} الآية، وليست السين في قوله تعالى: {فأستجيب} للطلب بل أستجيب بمعنى أجيب، وإنما خص الله تعالى هذا الوقت بالتنزل الإلاهي، والتفضل على عباده، بإجابة دعائهم وإعطائهم سؤلهم؛ لأنه وقت غفلة، واستغراق في النوم، واستلذاذ به، ومفارقة اللذة والدعة صعب، لاسيما أهل الرفاهية، وفي زمن البرد، وكذا أهل التعب، ولاسيما في قصر الليل، فمن آثر القيام لمناجاة ربه، والتضرع إليه مع ذلك، دل على خلوص نيته، وصحة رغبته فيما عند ربه تعالى. وفي الحديث تفضيل صلاة آخر الليل على أوله، وأن آخر الليل أفضل للدعاء، يشهد له قوله تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} وروى مُحَارب بن دِثَار عن عمه أنه كان يأتي المسجد في السَحر، ويمر بدار ابن مسعود، فسمعه يقول: "اللهم إنك أمرتني فأطعت، ودعوتني فأجبت، وهذا سحر فاغفر لي" فسئل ابن مسعود عن ذلك، فقال: إن يعقوب عليه الصلاة والسلام أخر الدعاء لبنيه إلى السَحر، فقال: سوف أستغفر لكم. وروي أن داود عليه الصلاة والسلام، سأل جبريل عليه الصلاة والسلام: أي الليل أسمع؟ فقال: لا أدري، غير أن العرش يهتز في السَحر. وقد مرّ لك في باب "مَنْ نام عند السَحر" ما قدمناه من الاستشكال، في كون نوم السَحر أفضل للقائم ليله

رجاله ستة

مع ما في السَحر من الفضل. وهذا الحديث، وما ذكر عنده، يزيد الإشكال، ولم أر له جوابًا شافيًا. وفيه أيضًا أن الدعاء في ذلك الوقت مجابٌ، ولا يعترض على ذلك بتخلفه عن بعض الداعين؛ لأن سبب التخلف وقوع الخلل في شرط من شروط الدعاء، كالاحتراز في المطعم والمشرب والملبس، أو لاستعجال الداعي، أو بأن يكون الدعاء بإثم، أو قطيعة رحم، أو تحصل الإجابة ويتأخر وجود المطلوب، لمصلحة العبد أو لأمر يريده الله. رجاله ستة: قد مرّوا: مرّ عبد الله في الثاني عشر من الإيمان، وأبو هريرة في الثاني منه، ومرّ مالك في الثاني من بدء الوحي، والزهري في الثالث منه، وأبو سلمة في الرابع منه، ومرّ أبو عبد الله الأَغَرّ في الخمسين من الجمعة. فيه التحديث بالجمع والعنعنة، ورجاله كلهم مدنيون إلاَّ أن ابن مَسْلَمة سكن البصرة، أخرجه البخاريّ أيضًا في التوحيد، ومسلم في الصلاة، وكذا أبو داود والتِّرمذيّ وابن ماجه والنَّسائيّ. ثم قال المصنف:

باب من نام أول الليل وأحيا آخره

باب مَنْ نام أوّل الليل وأحيا آخره تقدم في الذي قبله ذكر مناسبته للذي قبله. ثم قال: وقال سلمان لأبي الدّرداء، رضي الله تعالى عنهما: نم، فلما كان من آخر الليل، قال: قُم، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "صدق سلمان"، وقوله: صدق سلمان، أي: في جميع ما ذكر، وفيه منقبة لسلمان، وهذا التعليق مختصر من حديث طويل أورده البخاري في كتاب الأدب عن أبي جحيفة، قال: "آخى النبي -صلى الله عليه وسلم- بين أبي الدرداء وسلمان، فزار سلمان أبا الدرداء" فذكر القصة، وفي آخرها فقال: "إنّ لنفسك عليك حقًا" الحديث. وسلمان مرّ في الحادي والثلاثين من الجمعة، ومرّ أبو الدرداء في باب مَنْ حمل معه الماء لطهوره بعد السادس عشر من الوضوء. الحديث السابع والعشرون حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ. وَحَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الأَسْوَدِ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها كَيْفَ صَلاَةُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- بِاللَّيْلِ؟ قَالَتْ: كَانَ يَنَامُ أَوَّلَهُ وَيَقُومُ آخِرَهُ، فَيُصَلِّي ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى فِرَاشِهِ، فَإِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ وَثَبَ، فَإِنْ كَانَ بِهِ حَاجَةٌ اغْتَسَلَ، وَإِلاَّ تَوَضَّأَ وَخَرَجَ. وقوله: "حدّثنا أبو الوليد" في رواية أبي ذَرٍّ: قال أبو الوليد، وقد وصله الإسماعيلىّ عن أبي خليفة عن أبي الوليد، وتبين من سياقه أن البخاريّ ساق الحديث على لفظ سليمان بن حرب. وقوله: "ثم يرجع إلى فراشه" أي: فإن كانت به حاجة إلى الجِماع جامع، ثم ينام. وقوله: "وثب" بواو ومثلثة وموحدة مفتوحات، أي: نهض. وقوله: "فإن كان به حاجة اغتسل"، ولأبي ذَرٍّ: "فإن كانت" وجواب الشرط محذوف، أي: قضى حاجته، ولفظ "اغتسل" قال عليه، وليس بجواب. وقوله: "وإلا توضأ وخرج" أي: وإن لم يكن جامع توضأ وخرج إلى المسجد للصلاة، ولمسلم قالت: كان ينام أوّل الليل ويحيي آخره، ثم إن كانت له حاجة إلى أهله، قضى حاجته، ثم ينام، فإذا كان عند النداء الأول، قالت: وثب، لا والله ما قالت قام، فأفاض عليه الماء، لا والله ما قالت اغتسل، وأنا أعلم ما تريد. وإن لم يكن جنبًا توضأ وضوء الرجل للصلاة، ثم صلى ركعتين. فصرح بجواب إن الشرطية المحذوف عند المصنف، وفي التعبير "بثم" في حديث الباب، فائدةٌ، وهي أنه عليه الصلاة والسلام، كان يقضي حاجته من نسائه بعد إحياء الليل بالتهجد، فإن الجدير به عليه

رجاله ستة

الصلاة والسلام، أداء العبادة قبل قضاء الحاجة، أي الشهوة. قال في شرح المشكاة: ويمكن أن يقال إن "ثم" هنا لتراخي الإخبار، أخبرت أولًا أن عادته عليه الصلاة والسلام كانت مستمرة بنوم أول الليل وقيام آخره، ثم إن اتفق أحيانًا أن يقضي حاجته من نسائه، قضاها ثم نام في كلتا الحالتين، فإذا انتبه عند النداء الأول إن كان جنبًا اغتسل، وإلا توضأ. قلت: كون الجدير به أداء العبادة قبل قضاء الحاجة ليس بظاهر عندي؛ لأن قضاء الحاجة من العبادة، وبه تحصل الاستعانة على العبادة، وتفرغ القلب لها. قال الإسماعيليّ: "هذا الحديث غلطَ الأسودُ في معناه، والأخبار الجياد فيها كان إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ" ولا يريد الإسماعيليّ أن حديث الباب غلط، وإنما أراد أن أبا إسحاق حدّث به عن الأسود بلفظ آخر، غلط فيه، وهو ما رواه الثَّوْرِيّ عنه، بلفظ: "كان رسول الله-صلى الله عليه وسلم- ينام وهو جنب من غير أن يمس ماء"، والظن أن أبا إسحاق اختصره من حديث الباب، هذا الذي رواه عنه شُعبة وزهير، لكن لا يلزم من قولها: فإذا كان جنباً أفاض عليه الماء، أن لا يكون توضأ قبل أن ينام، كما دَلت عليه الأخبار الأخَر، فمِن ثَمَّ غلَّطوه في ذلك. ويستفاد من الحديث أنه كان ربما نام جنبًا قبل أن يغتسل. رجاله ستة: قد مرّوا، مرّ أبو الوليد في العاشر من الإيمان، وشعبة في الثالث منه، وسليمان بن حرب في الرابع عشر منه، وأبو إسحاق السَّبيعيّ في الثالث والثلاثين منه، ومرّ الأسود بن يزيد في السابع والستين من العلم، ومرّت عائشة في الثاني من بدء الوحي. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والافراد والعنعنة والسؤال والقول، ورواته ما بين بصريّ وواسطىّ وكوفيّ. أخرجه مسلم والنَّسائيّ في الصلاة، والتِّرْمِذِيّ في الشمايل. ثم قال المصنف:

باب قيام النبي -صلى الله عليه وسلم- بالليل في رمضان وغيره

باب قيام النبي -صلى الله عليه وسلم- بالليل في رمضان وغيره سقط قوله: "بالليل" من نسخة الضَّغانيّ. الحديث الثامن والعشرون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ رضي الله عنها كَيْفَ كَانَتْ صَلاَةُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي رَمَضَانَ فَقَالَتْ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلاَ فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلاَ تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلاَ تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلاَثًا، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوتِرَ؟. فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ، إِنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ وَلاَ يَنَامُ قَلْبِي. هذا الحديث مرّ ما في معناه عن عائشة في باب "كيف صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم-"، ومرّ هناك ذكر المحل الذي استوفى عليه الكلام فيه. وقوله: إن عينيَّ تنامان إلخ، مرّ استيفاء الكلام عليه غاية عند حديث ابن عباس في باب "السمر في العلم"، وفيه دلالة على أن صلاته كانت متساوية في جميع السنة، وفيه كراهة النوم قبل الوِتر لاستفهام عائشة عن ذلك، كأنه تقرر عندها منع ذلك، فأجابها بأنه -صلى الله عليه وسلم- ليس في ذلك كغيره، وقد مرّ الكلام على هذا في باب ساعات الوتر. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ عبد الله بن يوسف ومالك وعائشة في الثاني من بدء الوحي، وأبو سلمة في الرابع منه، وسعيد بن أبي سعيد في الثاني والثلاثين من الإيمان. أخرجه البخاريّ أيضًا في الصوم وفي صفة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومسلم وكذا أبو داود والتِّرْمِذِيّ والنَّسائيّ. الحديث التاسع العشرون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ هِشَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقْرَأُ فِي شَيْءٍ مِنْ صَلاَةِ اللَّيْلِ جَالِسًا، حَتَّى إِذَا كَبِرَ قَرَأَ جَالِسًا، فَإِذَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنَ السُّورَةِ ثَلاَثُونَ أَوْ أَرْبَعُونَ آيَةً قَامَ فَقَرَأَهُنَّ ثُمَّ رَكَعَ.

رجاله خمسة

هذا الحديث قد مرّ الكلام عليه في آخر باب من أبواب التقصير، عند حديث عائشة. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ محمد بن المُثَنّى في التاسع من الإيمان ويحيى القَطّان في السادس منه، وهشام وعروة وعائشة في الثاني من بدء الوحي. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإخبار بالأفراد والقول والعنعنة، ورواته بصريان ومدنيون أخرجه مسلم. ثم قال المصنف:

باب فضل الطهور بالليل والنهار وفضل الصلاة عند الطهور بالليل والنهار

باب فضل الطهور بالليل والنهار وفضل الصلاة عند الطهور بالليل والنهار كذا ثبت في رواية الكَشْمَيهنيَّ، ولغيره بعد الوضوء، واقتصر بعضهم على الشق الثاني من الترجمة، وعليه اقتصر الإسماعيليّ وأكثر الشُّرَّاح. والشق ليس بظاهر في حديث الباب، إلا إن حُمِل على أنه أشار بذلك إلى ما ورد في بعض طرق الحديث، كما سنذكره في شرح الحديث من حديث بريدة. الحديث الثلاثون حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ أَبِي حَيَّانَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِبِلاَلٍ عِنْدَ صَلاَةِ الْفَجْرِ: يَا بِلاَلُ حَدِّثْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِي الإِسْلاَمِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَيَّ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ: مَا عَمِلْتُ عَمَلاً أَرْجَى عِنْدِي أَنِّي لَمْ أَتَطَهَّرْ طُهُورًا فِي سَاعَةِ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ إِلاَّ صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا كُتِبَ لِي أَنْ أُصَلِّيَ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: دَفَّ نَعْلَيْكَ يَعْنِي تَحْرِيكَ. قوله: "قال لبلال"، أي: ابن رباح المؤذن، وقوله: عند صلاة الفجر، فيه إشارة إلى أن ذلك وقع في المنام؛ لأن عادته -صلى الله عليه وسلم-، أنه كان يقص ما رآه، ويعبر ما رآه أصحابه، كما يأتي في كتاب التعبير بعد صلاة الفجر. وقوله: "بأرجى عمل" بلفظ أفعل التفضيل المبني من المفعول، وهو سماعي مثل أشغل وأعذر، أي: أكثر مشغولية ومعذورية، والعمل ليس براج للثواب، وإنما هو مرجوّ بالثواب، وأضيف إلى العمل؛ لأنه السبب الداعي إليه، والمعنى: حدثني بما أنت أرجى من نفسك به من أعمالك. وقوله: "فإني سمعت" أي: الليلة، كما في مسلم في النوم؛ لأنه لا يدخل أحد الجنة يقظة، وإن كان النبي -صلى الله عليه وسلم- دخلها يقظة، كما وقع له ليلة المعراج، إلا أن بلالًا لم يدخل. وقال النّورْبَشْتّيّ: هذا شيء كوشف به، عليه الصلاة والسلام، من عالم الغيب في نومه أو يقظته. ونرى ذلك، والله أعلم، عبارة عن مسارعة بلال إلى العمل الموجب لتلك الفضيلة، قبل ورود الأمر عليه، وبلوغ الندب إليه، وذلك من قبيل قول القائل لعبده: تسبقني إلى العمل، أي: تعمل قبل ورود أمري إليك، لكنه لما كان ما استنبطه موافقًا لمرضاة الله ورسوله، أقره واستحمده عليه. وقوله: "دَفَّ نعليك" بفتح المهملة، وضبطها المُحِبّ الطبريّ بالإعجام وإلغاء مثقلة، وقد

فسره المصنف في رواية كريمة بالتحريك، وقال الخليل: دَفَّ الطائر، إذا حرك جناحيه وهو قائم على رجليه. وقال الحميديّ: الدف الحركة الخفيفة، والسير اللين. وفي رواة مسلم "خشف" بفتح وسكون الشين المعجمتين وتخفيف الفاء، وقال أبو عبيد وغيره: الخشف الحركة الخفيفة، وفي حديث بُريدة عند أحمد والترمذيّ: سمعت خشخشة، بمعجمتين مكررتين، وهو بمعنى الحركة أيضًا. وقوله: "أرجى عندي أني" بفتح الهمزة، ومن مقدرة قبلها صلة لأفعل التفضيل، وثبتت في رواية مسلم، وفي رواية الكشميْهنيّ "أنْ" بنون خفيفة بدل "أني" وقوله: "طهورًا" زاد مسلم: "تامًا"، والذي يظهر أنه لا مفهوم لها، ويحتمل أن يخرج بذلك الوضوء اللغوي، فقد يفعل ذلك لطرد النوم، لكن هذا الاحتمال يرده قوله بعد "إلا صليت بذلك الطهور"، فإن الوضوء اللغوي لا يُصلى به، فلا يحتاج إلى الإخراج. وقوله: "في ساعة ليل أو نهار" بتنوين ساعة، وخفض ليل على البدل، وبغير تنوين على الإضافة. وفي رواية مسلم: "في ساعة من ليل أو نهار"، وقوله: "إلا صليت" زاد الإسماعيليُّ "لربي". وقوله: ما كُتب لي، أي: قدر، وهو أعم من الفريضة والنافلة. قال ابن التين: إنما اعتقد بلال ذلك لأنه علم من النبي -صلى الله عليه وسلم-، أن الصلاةَ أفضل الأعمال، وأن عمل السر أفضل من عمل الجهر، والذي يظهر أن المراد بالأعمال التي سأله عن أرجاها، الأعمالُ المتطوعُ بها، وإلا فالمفروضة أفضل قطعًا. ويستفاد منه جواز الاجتهاد في توقيت العبادة؛ لأن بلالًا توصل إلى ما ذكرنا بالاستنباط، فصوبه النبي -صلى الله عليه وسلم-. وقال ابن الجوزيّ: فيه الحث على الصلاة عقب الوضوء، لئلا يبقى الوضوء خاليًا عن مقصوده. وقال المهلب: فيه أن الله يعظم المجازاة على ما يسره العبد من عمله، وفيه سؤال الصالحين عمّا يهديهم الله به من الأعمال الصالحة، ليقتدي بها غيرهم في ذلك. وفيه أيضًا سؤال الشيخ عن عمل تلميذه، ليحضه عليه ويرغبه فيه، إن كان حسنًا، وإلا فينهاه. واستدل به على جواز هذه الصلاة في الأوقات المكروهة، لعموم قوله في كل ساعة، وتعقب بأن الأخذ بعمومه، ليس بأولى من الأخذ بعموم النهي. وتعقبه ابن التين بأنه ليس فيه ما يقتضي الفورية، يحمل على تأخير الصلاة قليلًا، ليخرج وقت الكراهة، أو أنه كان يؤخر الطهور إلى آخر وقت الكراهة، لتقع صلاته في غير وقت الكراهة، لكن عند التِّرْمِذِيّ وابن خزيمة من حديث بُرَيدة في نحو هذه القصة "ما أصابني حدث قط إلا توضأت عندها"، ولأحمد من حديثه: "ما أحدثت إلا توضأت وصليت ركعتين"، فدل على أنه كان يعقب الحدث بالوضوء، والوضوء بالصلاة في أي وقتٍ كان. وقال الكرّمانيّ: ظاهر الحديث أن السماع المذكور وقع في النوم؛ لأن الجنة لا يدخلها أحد إلا بعد الموت، ويحتمل أن يكون في اليقظة لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخلها ليلة المعراج، وأما بلال فلا يلزم من هذه القصة أنه دخلها؛ لأن قوله: "في الجنة" ظرف للسماع، ويكون الدف بين يديه خارجًا

عنها. ولا يخفى بعد هذا الاحتمال؛ لأن السياق مشعر بإثبات فضيلة بلال، لكونه جعل السبب الذي بلّغه إلى ذلك، ما ذكره من ملازمة التطهر والصلاة، وإنما ثبتت له الفضيلة، بأن يكون رؤي داخل الجنة لا خارجًا عنها. وفي حديث بريدة المذكور "يا بلال بم سبقتني إلى الجنة؟ " وهذا ظاهر في كونه رآه داخل الجنة، ويؤيد كونه وقع في المنام، ما سيأتي في أول مناقب عمر من حديث جابر مرفوعًا "رأيتني دخلت الجنة فسمعت خشفة، فقيل: هذا بلال، ورأيت قصرًا بفنائه جارية، فقيل: هذا لعمر" الحديث، وبعده من حديث أبي هريرة مرفوعًا "ببنما أنا نائم رأيتني في الجنة، فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر، فقيل: هذا لعمر" الحديث، فعرف أن ذلك وقع في المنام، وثبتت الفضيلة بذلك لبلال؛ لأن رؤيا الأنبياء وحي، ولذلك جزم النبي -صلى الله عليه وسلم- له بذلك، ومشيه بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، كان من عادته في اليقظة، فاتفق مثله في المنام، ولا يلزم من ذلك دخول بلال الجنة قبل النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه في مقام التابع، وكأنه أشار -صلى الله عليه وسلم- إلى بقاء بلال على ما كان عليه في حال حياته، واستمراره على قرب منزلته. وفيه منقبه عظيمة لبلال، كما أنه لا يستدعي أفضليته على العشرة المبشرة بالجنة، بل هو سبق خدمة، كما يسبق العبد سيده، والحكمة في فضل الصلاة على هذا الوجه من وجهين: أحدهما أن الصلاة عقب الطهور أقرب إلى اليقين منها إذا تباعدت، لكثرة عوارض الحدث من حيث لا يشعر المكلف. ثانيهما ظهور أثر الطهور باستعماله في استباحة الصلاة، وإظهار آثار الأسباب مؤكدها ومحقق. وفي الحديث استحباب إدامة الطهارة، ومناسبة المجازاة على ذلك بدخول الجنة؛ لأن مِنْ لازم الدوام على الطهارة أن يبيت المرء طاهرًا، ومن بات طاهرًا عرجت روحه، فسجدت تحت العرش، كما رواه البيهقي في الشعب من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، والعرش سقف الجنة كما يأتي في هذا الكتاب، وزاد بُرَيدة في آخر حديثه: فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذا، وظاهره أن هذا الثواب وقع بسبب ذلك العمل، ولا معارضة بينه وبين قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يُدْخِل أحدكم الجنة عَمَلُه" لأن أحد الأجوبة المشهورة في الجمع بينه وبين قوله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أن أصل الدخول إنما يقع برحمة الله، واقتسام الدرجات بحسب الأعمال، فيأتي مثله في هذا. وقد مرّ الكلام مستوفى على هذا، غاية الاستيفاء في باب "مَنْ قال إن الإيمان هو العمل" من كتاب الإيمان. وفيه أن الجنة موجودة الآن، خلافًا لمن أنكر ذلك من المعتزلة. وقول الكرمانيّ فيما مرّ: "لا يدخل أحد الجنة إلا بعد موته" مع قوله: "إن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخلها ليلة المعراج، وكان المعراج في اليقظة على الأصح" ظاهرهما التناقض، ويمكن حمل النفي إن كان ثابتًا على غير الأنبياء، أو تختص في الدنيا بمن خرج عن عالم الدنيا، ودخل في عالم الملكوت، وهو قريب مما أجاب به السهيليّ عن استعمال الطست ليلة المعراج. وقوله: "قال أبو عبد الله: دف نعليك" يعني تحريك

رجاله خمسة

سقط قول أبي عبد الله وما بعده عند أبوي ذر والوقت والأصيلي. رجاله خمسة: وفيه ذكر بلال، وقد مرّ الجميع، مرّ إسحاق بن نصر في تعليق بعد الحادي والأربعين من العلم، ومرّ أبو أسامة في هذا الحديث المذكور، ومرّ أبو حَيَّان في الثالث من الإيمان، وأبو زرعة في التاسع والعشرين منه، وأبو هريرة في السادس منه، ومرّ بلال في التاسع والثلاثين من العلم. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، وفيه أربعة مذكورون بالكنية، وثلاثة من الرواة كوفيون. أخرجه مسلم في الفضائل والنَّسائيّ في المناقب. ثم قال المصنف:

باب ما يكره من التشديد في العبادة

باب ما يكره من التشديد في العبادة قال ابن بطال: إنما يكره ذلك خشية الملال المفضي إلى ترك العبادة. الحديث الحادي والثلاثون حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ فَقَالَ: مَا هَذَا الْحَبْلُ؟. قَالُوا: هَذَا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ فَإِذَا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- لاَ، حُلُّوهُ، لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ. قوله: "دخل النبي -صلى الله عليه وسلم-" زاد مسلم: "المسجدَ"، وقوله: "بين الساريتين" أي: اللتين في جانب المسجد، وكأنهما كانتا معهودتين للمخاطب، لكن عند مسلم: "بين سارتين" بالتنكير، وقوله: هذا حبل لزينب، جزمٍ كثير من الشراح والمؤلفين أن المراد بها زينب بنت جحش، أُم المؤمنين، ويأتي تعريفها قريبًا في السند، وروي أنها حَمْنَة بنت جحش، وأطلق عليها زينب باعتبار اسمها الآخر؛ لأنها كانت تسمى زينب، ولعل نسبة الحبل إليهما باعتبار أنه ملك لأحداهما، والأخرى المتعلقة به، وفي صحيح ابن خُزيمة، فقالوا لميمونة بنت الحارث، وهي رواية شاذة، وقيل: يحتمل تعدد القصة. ووهم من فسرها بجُوَيرية بنت الحارث، وزاد مسلم، فقالوا لزينب تصلي. وقوله: "فإذا فترت" بفتح المثناة، أي كسلت عن القيام في الصلاة، وعند مسلم بالشك، "فإذا فترت أو كسلت" وقوله: فقال -صلى الله عليه وسلم-: لا يحتمل النفي، أي: لا يكون هذا الحبل أو لا يحمد، ويحتمل النهي أي: لا تفعلوه، وسقطت هذه الكلمة في رواية مسلم. وقوله: نَشاطه، بفتح النون، مدة نشاطه. وقوله: فليقعد، يحتمل أن يكون أمرًا بالقعود عن القيام، فيستدل به على جواز افتتاح الصلاة قائمًا، والقعود في أثنائها. وقد مرّ نقل الخلاف فيه، ويحتمل أن يكون أمر بالقعود عن الصلاة، أي: بترك ما كان عزم عليه من التنفل، ويمكن أن يستدل به على جواز قطع النافلة بعد الدخول فيها، وقد تقدم في باب الوضوء من النوم من كتاب الوضوء، حديثُ "إذا نعس أحدكم في الصلاة، فلينم حتى يعلم ما يقرأ، وهو من حديث أنس أيضًا" ولعله طرف من هذه القصة. وفيه حديث عائشة أيضًا: "إذا نعس أحدكم وهو يصلي، فليرقد حتى يذهب عنه النوم" وفيه:

رجاله أربعة

"ليلًا يستغفر، فيسب نفسه وهو لا يشعر ويجيء من الاحتمال ما تقدم في حديث الباب، وفيه الحث على الاقتصاد في العبادة، والنهي عن التعمق فيها، والأمر بالإقبال عليه ابن شاط، وفيه إزالة المنكر باليد واللسان، وجواز تنفل النساء في المسجد، واستدل به على كراهة التعلق بالحبل في الصلاة. رجاله أربعة: قد مرّوا، وفيه ذكر زينب، مرّ أبو معمر وعبد الوارث في السابع عشر من العلم، ومرّ عبد العزيز بن صُهَيب في الثامن من الإيمان، وأنس في السادس منه. وزينب المراد بها أُم المؤمنين زينب بنت جحش بن رَباب بن يَعْمُر بن صُبَيرة بن مُرة بن كَبير بن غَنْم بن دَرْوان بن أَسَد بن خُزيمة، أمها أُميمَة بنت عبد المطلب، عمة النبي عليه الصلاة والسلام، تزوجها النبي -صلى الله عليه وسلم-، سنة ثلاث، وقيل سنة خمس، ونزلت بسببها آية الحجاب، وكانت قبله عند مولاه زيد بن حارثة، وفيها نزل: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} وكان زيد يدعى ابن محمد، فلما تزوجها تكلم المنافقون في ذلك، فأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} وقوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} فعندما تزوج النبيّ -صلى الله عليه وسلم- امرأته بعده، انتفى ما كان الجاهلية يعتقدونه، مِنْ أَنَّ مَنْ تبنى غيره يصير ابنه، بحيث يتوارثان إلى غير ذلك. وكانت اسمها بُرْة، ولما دخلت على النبي -صلى الله عليه وسلم-، سماها زينب، وأخرج ابن سعد بسند مرسل: فبينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتحدث عن عائشة، إذ أخذته غَشْية فَسُرِّيَ عنه، وهو يبتسم ويقول: مَنْ يذهب إلى زينب يبشرها؟ وتلا: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} الآية. قالت عائشة: فأخذني ما قرب وما بعد، لما يبلغني من جمالها، وأخرى هي أعظم وأشرف، ما صنع لها زوجها الله في السماء، وقلت: هي تفخر علينا بهذا. وعن ابن عباس، لما أُخبرت زينب بتزويج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لها، سجدت. وأخرج ابن عبد البَرّ بسنده، عن أنس بن مالك، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لزيد بن حارثة: "اذكرها" قال زيد: فذهبتُ فقلتُ: يا زينب، أبشري، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أرسل بذكرك، فقالت: ما أنا بصانعة شيئًا حتى أقضي أوامر ربه. فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآن، وجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ودخل عليها بغير إذن. وأخرج ابن عبد البر، أنَّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، قال لعمر بن الخطاب: "إن زينب بنت جحش أَوّاهة"، قال رجل: يا رسول الله، ما الأوّاهة؟ قال: "الخاشع المتضرع، إن إبراهيم لأوّاهٌ حليم". وقد وصفت عائشة زينب بالوصف الجميل في قصة الإفك، فقالت: إن الله عصمها بالورع، وهي التي كانت تسأمني من أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكاتت تفخر على أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنها بنت عمته، وبأن الله زوجها له، وهن زوجهن أولياؤهن. ومن طريق عبد الواحد بن أبي عوف، قالت: يا رسول الله، إني والله ما أنا كإحدى، ليست امرأةٌ إلاَّ زوجها أبوها أو أخوها أو وليها غيري، زوجنيك الله من

السماء. وأخرج ابن عبد البر بسنده عن عائشة، أنها ذكرت زينب بنت جحش، فقالت: ولم تكن امرأة خيرًا منها في الدارين، وأتقى لله، وأصدق حديثًا، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة، وأشد تبذيلًا لنفسها في العمل الذي يتصدق به، ويتقرب به إلى الله عَزَّ وَجَلَّ. ومن حديث أُم سلمة عند الواقديّ بسند موصول، قالت أُم سلمة: كانت زينب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- مصحبة، وكان يستكثر منها، وكانت صالحة قوّامة صوّامة صَناعًا، تَتَصدَّق بذلك كله على المساكين، وكانت أول نساء النبي، -صلى الله عليه وسلم-، ماتت بعده. ففي الصحيحين، واللفظ لمسلم عن عائشة، قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أسرعكن لحاقاً بي أطولكن يدًا" فكن يتطاولن أيتهن أطول يدًا، قالت: وكانت زينب أطولنا يدًا؛ لأنها كانت تعمل بيدها وتتصدق. وروى عنها من نحو المرفوع قالت: كنا إذا اجتمعنا في بيت إحدانا، بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، نمد أيدينا في الجدار، نتطاول، فلم نزل نفعل ذلك، حتى توفيت زينب بنت جحش، وكانت امرأة قصيرة، ولم تكن بأطولنا، فعرفنا حينئذٍ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما أراد طول اليد بالصدقة، وكانت زينب امرأة صَناعَ اليدين، فكانت تدبغ وتخرز، وتتصدق به في سبيل الله. وأخرج ابن سَعْد عن محمد بن كَعب قال: كان عطاءُ زينبَ بنت جحش إثني عشر ألفًا، لم تأخذه إلا عاماً واحدًا، فجعلت تقول: اللهم لا يدركني هذا المال من قابل، فإنه فتنة، ثم قسمته في أهل رحمها، وفي أهل الحاجة، فبلغ عمر فقال: هذه امرأة يراد بها خير، فوقف عليها، وأرسل بالسلام، وقال: بلغني ما فرقتِ، فأرسل بألف درهم تستبقينها، فسلكت بها ذلك المسلك، وفي رواية بُرّة بنت رافع زيادة أنها لما أُدخل عليها العطاء، قالت: غفر الله لعمر، غيري من أخواني كان أقوى على قسم هذا مني، قالوا: هذا كله لك، قالت: سبحان الله، واستترت منه بثوب، وقالت: ضعوه واطرحوا عليه ثوبًا، ثم قالت لي: أدخلي يدك فاقبضي منه قبضة، فاذهبي بها إلى بني فلان، وبني فلان من أهل رحمها وأيتامها، حتى بقيت منه بقية تحت الثوب، فقالت بُرّة: غفر الله لك يا أُم المؤمنين، والله لقد كان لنا في هذا حق، قالت: فلكم ما تحت الثوب، قالت: فوجدنا ما تحته خمسة وثمانين درهمًا. ثم رفعت يدها إلى السماء، وقالت: اللهم لا يدركني عطاء عمر بعد عامي هذا، فماتت. وأخرج ابن سعد عن القاسم بن محمد قال: قالت زينب حين حضرتها الوفاة: إني قد أعددت كفني، وإنّ عمر سيبعث إليّ بكفن، فتصدقوا بأحدهما، وإن استطعتم أن تتصدقوا بحَفْويَّ فافعلوا. ومن وجه آخر عن عَمْرة، قالت: عمر بخمسة أثواب بخّرها ثوبًا ثوبًا من الحَرّاني، فكفنت منها، وتصدقت عنها أختها بكفنها الذي كانت أعدته، قالت عمرة: فسمعت عائشة تقول: لقد ذهبت حَميدة متعبدة، مفزع اليتامى والأرامل. لها أحد عشر حديثًا، اتفقا على حديثين، روى عنها ابن أخيها محمد بن عبد الله، وزينب بنت أبي سلمة، تزوجها النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي بنت خمس وثلاثين سنة، وماتت سنة عشرين، وهي بنت

لطائف إسناده

خمسين، وقيل ثلاث وخمسين. وهي أوّل مَنْ حُمِل على النعش، قاله في "الخلاصة"، وانظره مع ما مرّ، في ترجمة فاطمة الزهراء، من أنها أول من غُطي نعشها في الإِسلام، ثم زينب بنت جحش. وحيث إن الحديث فيه لفظ زينب من غير تعيين، ويحتمل أن تكون زينب بنت خزيمة، أردت أن أذكر ترجمتها تتمة للفائدة، فأقول: هي زينب بنت خُزيمة بن عبد الله بن عبد مناف بن هِلال بن عامر بن صعصعة الهلالية، أُم المؤمنين، زوج النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان يقال لها أم المساكين؛ لأنها كانت تطعمهم وتتصدق عليهم، وكانت، على الصحيح، تحت عبد الله بن جحش، فاستشهد بأُحُد، فتزوجها النبيّ -صلى الله عليه وسلم- وقيل: كانت تحت الطُّفيل بن الحارث بن المطلب، ثم خَلَّفَ عليها أخاه عُبَيدة بن الحارث، وكانت أخت ميمونة بنت الحارث لأمها، وكان دخوله -صلى الله عليه وسلم- بها بعد دخوله على حفصة بنت عمر، ثم لم تلبث عنده إلا شهرين أو ثلاثة وماتت. وذكر الواقديّ إن عمرها كان ثلاثين سنة، وقال ابن الكلبي: كانت عند الطفيل بن الحارث، فطلقها، فخلف عليها أخاه عبيدة بن الحارث، فقتل عنها ببدر، فخطبها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فجعلت أمرها إليه، فتزوجها في شهر رمضان سنة ثلاث، فأقامت عنده ثمانية أشهر. وأما ما ذكره ابن الأثير من كونها صاحبة "أسرعكن لحاقاً بي" المتقدم في ترجمة زينب بنت جحش، فظاهرُ البطلان؛ لأن المراد بلحوقهن به، موتهن بعده، وهذه ماتت في حياته، وكذلك حديث الهلالية التي كانت عند النبي -صلى الله عليه وسلم-، كانت لها خادمة سوداء، فقالت: يا رسول الله، أردت أن أعتق هذه، فقال لها: ألا تفدين بها بني أخيك أو بني أختك من رعاية الغنم؟ فالمراد بها ميمونة بنت الحارث؛ لأنها هلالية. وفي الصحيح نحو هذا من حديثها. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، ورجاله كلهم بصريون. أخرجه مسلم في الصلاة، وهذا النَّسائيّ وابن ماجه. الحديث الثاني والثلاثون قَالَ: وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَتْ عِنْدِي امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي أَسَدٍ فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟. قُلْتُ: فُلاَنَةُ لاَ تَنَامُ بِاللَّيْلِ. فَذُكِرَ مِنْ صَلاَتِهَا فَقَالَ: مَهْ عَلَيْكُمْ مَا تُطِيقُونَ مِنَ الأَعْمَالِ، فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا. كذا للأكثر، بلفظ: "وقال"، وللحمويّ والمستمليّ "حدثنا عبد الله"، وهو كذلك في الموطأ في رواية عبد الله القَعْنبي، وقال ابن عبد البَرّ: تفرد القعنبيّ بروايته عن مالك في الموطأ، دون بقية رواته، فإنهم اقتصروا منه على طرف مختصر. قوله: "تَذْكرُ للمستملي" بفتح أوله بلفظ المضارع

رجاله خمسة

ألمؤنث، وللحمويّ بضم أوله على البناء للمفعول بالتذكير، وللكَشْميهنيّ "فَذُكِرَ" بفاء وضم المعجمة وكسر الكاف، ولكل وجه. وعلى الأول يكون ذلك قول عروة، أو من دونه، وعلى الثاني والثالث يحتمل أن يكون من كلام عائشة، وهو على كل حال تفسير لقولها "لا تنام الليل" ووصفها بذلك خرج مخرج الغالب، قلت: لا يظهر إلا أن الألفاظ الثلاثة من كلام عائشة، تفسيرًا لقولها، وأي وجه للفرق بينها؟ وسئل الشافعي عن قيام جميع الليل فقال لا أكرهه إلا لمن خشى أن يضر بصلاة الصبح. وفي قوله -صلى الله عليه وسلم- في جواب ذلك "مه" إشارة إلى كراهة وذلك خشية الفتور والملال على فاعله، لئلا ينقطع عن عبادة التزمها فيكون رجوعاً عمّا بذل لربه من نفسه. وقوله: "عليكم ما تطيقون من الأعمال" هو عام في الصلاة، وفي غيرها. وفي الرواية المتقدمة في الإيمان بدون قوله: "من الأعمال" فحمله الباجىّ وغيره على الصلاة. خاصة؛ لأن الحديث ورد فيها، وحمله على جميع العبادات أولى، وقد تقدمت مباحث حديث عائشة هذا، والكلام على قوله: "إن الله لا يمل حتى تملوا" في باب "أحب الدين إلى الله أدومه" من كتاب الإيمان. رجاله خمسة: وفيه ذكر امرأة مبهمة، وقد مرّ الجميع، مرّ عبد الله بن مَسلمة في الثاني عشر من الإيمان، ومرّت المرأة المبهمة، وهي الحولاء بنت التويت في السادس والثلاثين منه، ومرّت الأربعة الباقية، بهذا النسق، في الثاني من بدء الوحي. ثم قال المصنف:

باب ما يكره من ترك قيام الليل لمن كان يقومه

باب ما يكره من ترك قيام الليل لمن كان يقومه أي: إذا أشعر ذلك بالإعراض عن العبادة. الحديث الثالث والثلاثون حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ الْحُسَيْنِ حَدَّثَنَا مُبَشِّرٌ عَنِ الأَوْزَاعِيِّ. وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا الأَوْزَاعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: يَا عَبْدَ اللَّهِ، لاَ تَكُنْ مِثْلَ فُلاَنٍ، كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ. قوله: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الأوزاعيّ صَرّح في سياقه بالتحديث في جميع الإسناد، فأمن من تدليس الأوزاعي وشيخه. وقوله: مثل فلان، قال في "الفتح" لم أقف على تسميته في شيء من الطرق، وكان إبهام مثل هذا القصد الستر عليه، كالذي تقدم قريبًا في "الذي نام حتى أصبح"، ويحتمل أن يكون النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لم يقصد شخصًا بعينه، وإنما أراد تنفير عبد الله بن عمرو من الصنيع المذكور. وقوله: "من الليل"، أي: بعض الليل، وسقط لفظ "من" من رواية الأكثر، وهي مراده. قال ابن العربيّ: في هذا الحديث دليل أن قيام الليل ليس بواجب، إذ لو كان واجبًا لم يكتف لتاركه بهذا القدر، بل كان يذمه أبلغ الذم. وقال ابن حِبّان: فيه جواز ذكر الشخص بما فيه من عيب، إذا قصد بذلك التحذير من صنيعه. قلت: إنما يتم هذا لو كان المحذر منه صرح باسمه، وذلك لم يقع سترًا عليه كما مرّ، وحينئذ فلا دلالة فيه على ما ذكر. وفيه استحباب الدوام على ما اعتاده المرء من الخير من غير تفريط، ويستنبط منه كراهة قطع العبادة، وإن لم تكن واجبة، وما أحسن ما عقب المصنف هذه الترجمة بالتي قبلها؛ لأن الحاصل منها الترغيب في ملازمة العبادة، والطريق الموصل إلى ذلك الاقتصاد فيها؛ لأن التشديد فيها قد يؤدي إلى تركها وهو مذموم. رجاله ثمانية: وفيه ذكر فلان مبهم، مرّ منهم الأوزاعي في العشرين من العلم، ومحمد بن مقاتل في السابع

لطائف إسناده

منه، ويحيى بن أبي كثير في الثالث والخمسين منه، وعبد الله بن المبارك في السادس من بدء الوحي، وأبو سلمة في الرابع منه، وعبد الله بن عمرو بن العاص في الثالث من الإيمان، وفلان المذكور في الحديث، قال في "الفتح": لم يقف على اسمه. والباقيان اثنان، الأول: عباس بن الحُسين القَنْطَريّ، أبو الفضل البغداديّ، ويقال البصريّ، ذكره ابن حِبّان في الثقات. وقال عبد الله بن أحمد: كان ثقة، سألت أبي عنه فذكره بخير. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: مجهول، قال في المقدمة: له في الصحيح حديثان، قرنه في أحدهما، وتوبع في الآخر. روى عن يحيى بن آدم، ومبشر بن إسماعيل وغيرهم. وروى عنه البخاري والحسن بن عليّ المعمريّ، وموسى بن هارون وغيرهم. مات سنة أربعين ومئتين. والقَنْطَريّ في نسبه، بفتح القاف والطاء بينهما نون ساكنة، نسبة إلى قنطرة البروان، محلةٌ ببغداد منها هو هذا، ومنها أبو الحسن علي بن داود التيميّ القنطريّ. الثاني: مبشر بن إسماعيل الحلبيّ أبو إسماعيل الكلبيّ، مولاهم، ذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال ابن معين: ثقة، وقال ابن سعد: كان ثقة مأمونًا. وقال أحمد: ثقة، وقال الذهبيّ: تكلم فيه بلا حجة، وقال ابن قانع: ضعيف، قال في المقدمة، لم يتكلم فيه أحد من أهل الجرح والتعديل، وابن قانع ليس بمعتمد، وليس له في البخاريّ سوى حديث واحد عن الأوزاعيّ في كتاب "التهجد" بمتابعة ابن المبارك. وروى له الباقون، روى عن الأوزاعي، وحريز بن عثمان وحسان بن نوح وغيرهم. وروى عنه إبراهيم بن موسى الرازيّ، وأحمد بن حنبل، وعباس بن الحسين وغيرهم. مات بحلب سنة مئتين. والحلبيّ في نسبه، بالتحريك، نسبة إلى مدينة مشهورة بالشام واسعة، كثيرة الخيرات طيبة الهواء، وهي قصبة جُنْد قِنِّسْرين، سميت باسم تل قلعتها، وقيل: سميت باسم من بناها من العمالقة، وهم ثلاثة إخوة: حلبَ وبَرْدَعة وحُمْص أولاد المُهْر بن حيض، فكل منهم بني مدينة سميت باسمه، منها إلى قنسرين يوم، وإلى المعرة يومان، وإلى منبج وبالس يومان. وقد بسط ياقوت الكلام عليها. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، وفيه إسنادان، وفيه حلبي وشامي ومروزيان، أخرجه مسلم في الصوم، والنَّسائيّ في الصلاة وكذا ابن ماجه. ثم قال: وقال هشام: حدّثنا ابن أبي العشرين قال: حدّثنا الأوزاعيّ قال: حدّثنا يحيى عن عمر بن الحكم بن ثوبان قال: حدّثني أبو سلمة بهذا، مثله رواية هشام المذكورة، وصلها الإسماعيليّ وغيره، وقصد المصنف بإيرادها التنبيه على أن زيادة عمر بن الحكم بين يحيى وأبي سلمة، من المزيد في متصل الإسناد؛ لأن يحيى قد صرّح بسماعه من أبي سلمة، ولو كان بينهما واسطة لم يصرح بالتحديث. قوله: "بهذا" في رواية كريمة والأصيلي مثله.

رجاله ستة

رجاله ستة: مرّ محل الأوزاعي، ويحيى بن أبي كثير، وأبو سلمة في الذي قبله، ومرّ هشام بن عمّار في الثاني والأربعين من الوضوء، والباقي اثنان: الأول منهما ابن أبي العشرين واسمه عبد الحميد بن حبيب بن أبي العشرين الدمشقيّ، أبو سعيد البيروتيّ، كاتب الأوزاعي، قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ثقة، وكان أبو مسهر يرضاه، ويرضى هِقْلاً، ذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال: ربما أخطأ. وقال أبو زرعة: ثقة مستقيم الحديث وقال أبو حاتم: ثقة كان كاتب ديوان، ولم يكن صاحب حديث. وقال هشام بن عمار ليحيى بن أكثم لما سأله: أوثقُ أصحابِ الأوزاعيّ كاتبُهُ عبد الحميد. وقال الدارقطنيّ: ثقة، وقال البخاريّ: ربما يخالف في حديثه، وقال مرّة: ليس بالقوي. وقال النَّسائيّ: ليس بالقوي، وقال ابنَ عدِيّ: يعرف بغير حديث لا يرويه غيره، وهو ممن يكتب حديثه. وقال دُحَيم: ضعيف، وعمر بن عبد الواحدِ ثقة، أصح حديثًا منه. روى عن الأوزاعي وحده، وروى عنه هشام بن عَمّار وجُنادة بن محمد ووساج بن عُقْبة وغيرهم. والبيروتيّ في نسبه نسبة إلى بيروت، بلد بساحل الشام معروف، منه هو هذا، ومنه أبو محمد سعد بن محمد، مُحدِّث، ومنه أبو الفضل العباس بن الوليد، من خيار عباد الله، مات سنة سبعين ومئتين. الثاني: عمر بن الحَكَم بن ثَوْبان الحجازيّ، أبو حفص المدنيّ، ذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال: كان من جلَّة أهل المدينة، وهو عمر بن أبي الحكم. واسم أبي الحكم ثَوْبان من ولد فَطْيون ملك يثرب، خَلَيفِ الأوس: وقال ابن سعد: كان ثقة، وله أحاديث صالحة. روى عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وعن أُسامة بن زيد وسعد بن أبي وقاص، وكعب بن مالك وغيرهم. وروى عنه سعيد المَقْبَريّ، وشريك بن أبي نمر، ويحيى بن أبي كثير وغيرهم. مات سنة سبع عشرة ومئة، وله ثمانون سنة. ثم قال: وتابعه عمرو بن أبي سلمة عن الأوزاعي، أي تابع ابن أبي العشرين على زيادة عمر بن الحكم. ورواية عمرو المذكورة وصلها مسلم عن أحمد بن يونس عنه، وظاهر صنيع البخاريّ ترجيحُ رواية يحيى عن أبي سلمة بغير واسطة، وظاهر صنيع مسلم يخالفه؛ لأنه اقتصر على الرواية الزائدة، والراجح عند أبي حاتم والدارقطنيّ وغيرهما صنيع البخاريّ، وقد تابع كلا من الروايتين جماعة من أصحاب الأوزاعيّ، فالاختلاف منه، وكأنه كان يحدث به على الوجهين، فيحمل على أن يحيى حمله عن أبي سلمة بواسطة، ثم لقيه فحدثه به، فكان يرويه عنه على الوجهين. والأوزاعيّ مرّ محله في الحديث السابق. وعمرو بن أبي سَلَمة التَّنِيْسِيّ الدمشقي، أبو حفص مولى بني هاشم، صاحب الأوزاعي، وثَّقَه

ابن سعد ويونس، وأثنى عليه أحمد، وقال: إلا أنه روى عن زهير بن محمد أحاديث بواطيل، وضعَّفه يحيى بن مُعين الساجي. وقال العَقِيليّ: في حديثه وهم، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به، قال في المقدمة: ليس له في البخاري سوى حديثين: أحدهما في التوحيد عن الأوزاعي في قصة الخِضر وموسى عليهما السلام، وهو عنده في العلم من حديث محمد بن حرب. والثاني حديثه في الجنائز، عن الأوزاعي في حق المسلمُ على المسلم خمس ... الحديث. وقال بعده: تابعه معمر عن الزُّهْري، وليس هو من أفراد عمرو بن أبي سلمة، بل رواه مسلم من طريق معمر وابن حِبّان في صحيحه عن الوليد بن مسلم. وأخرج لعمرو باقي الجماعة. روى عن الأوزاعيّ ومالك والليث وزهير بن محمد التميميّ وغيرهم. وروى عنه ابنه سعيد والشافعيّ وعبد الله بن محمد المسنديّ وغيرهم. مات بتنيس سنة ثلاث عشرة ومئتين. ثم قال المصنف:

باب

باب كذا في الأصل بغير ترجمة وهو كالفصل من الذي قبله، وتعلقه به ظاهر، وكأنه أوحا إلى أن المتن الذي قبله طرفٌ من قصة عبد الله بن عمرو في مراجعة النبي -صلى الله عليه وسلم- له في قيام الليل وصيام النهار. الحديث الرابع والثلاثون حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قال: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ لِي النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَقُومُ اللَّيْلَ وَتَصُومُ النَّهَارَ؟ قُلْتُ إِنِّي أَفْعَلُ ذَلِكَ. قَالَ: فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ هَجَمَتْ عَيْنُكَ وَنَفِهَتْ نَفْسُكَ، وَإِنَّ لِنَفْسِكَ حَقٌّ، وَلأَهْلِكَ حَقٌّ، فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ. قوله: "عن عمرو عن أبي العباس"، في مسند الحميديّ عن سفيان حدّثنا عمرو سمعت أبا العباس. وقوله: "ألم أخبر" فيه أن الحكم لا ينبغي إلا بعد التثبت؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم-، لم يكتف بما نقل له عن عبد الله بن عمرو حتى لقيه واستثبته فيه، لاحتمال أن يكون قال ذلك بغير عزم، أو علقه بشرط لم يطلع عليه الناقل، ونحو ذلك. وقوله: "هَجَمت عينك" بفتح الجيم، أي: غارت، أو ضعفت لكثرة السهر. وقوله: "ونَفِهَتْ" بفتح النون وكسر الفاء، أي: كلَّت. وحكى الإسماعيليّ أن أبا يعلى رواه له "تَفِهت" بالتاء بدل النون، واستضعفه. وقوله: "وإن لنفسك عليك حقًا" أي: تعطيها ما تحتاج إليه ضرورة البشرية، مما أباحه الله للإنسان، من كل الأكل والشرب والراحة، التي يقوم بها بدنه، ليكون أعون على عبادة ربه. ومن حقوق النفس قطعها عمّا سوى الله تعالى، لكن ذلك يختص بالتعلقات القلبية. والمراد بالحق هنا المطلوب أعم من أن يكون واجبًا أو مندوبًا، فأما الواجب، فيختص بما إذا خاف التلف، وليس مرادًا هنا. ولأهلك عليك حقًا، أي: تنظر لهم فيما لابد لهم منه من أمور الدنيا والآخرة، والمراد بالأهل الزوجة، أو أعم من ذلك ممن تلزمه. وقوله: "حقًا"، في الموضعين بالنصب للأكثر، على أنه اسم إن، وفي رواية كريمة بالرفع فيهما، على أنه الخبر، والاسم ضمير الشأن. وفي رواية الصوم زيادة: "وإن لعينيك عليك حقًا".

رجاله خمسة

وللكَشْميهنيّ "لعينك"، بالإفراد، وزيادة: "وإن لزَوْرك" الزور بفتح الزاي وسكون الواو، أي: لضيفك، وهو مصدر وضع موضع الاسم، كصوم في موضع صائم، ونوم في موقع نائم، ويقال للواحد والجمع والذكر والأُنثى زور. قال ابن التين: ويحتمل أن يكون زور جمع زائر، كركب جمع راكب، وتجر جمع تاجر. وزاد مسلم: "ولولدك عليك حقًا" وسبب الإخبار للنبي -صلى الله عليه وسلم-، بحال عبد الله بن عمرو، هو ما يأتي في فضائل القرآن عنه، أنه قال: أنكحني أبي امرأة ذات حسب، وكان يتعاهدها، فسألها عن بعلها فقالت: "نِعْم الرجل من رجل لم يطأ لنا من فراشًا، ولم يفتش لنا كنفًا منذ أتيناه". فذكر ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال لي: القَني، فلقيته، فذكر الحديث. زاد النَّسائِيّ وابن خُزيمة وسعيد بن منصور عن مجاهِد: "فوقع على أبي" فقال: زوجتك امرأة فعضلتها، وفعلت وفعلت. قال: فلم التفت إلى ذلك لما كان لي من القوة، فذكر ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: القني به، فأتيته معه. ولأحمد من هذا الوجه "ثم انطلق إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فشكاني". وفي رواية في الصوم "فذكر للنبي -صلى الله عليه وسلم- صومي، فدخل عليّ فألقيت له وسادة". وفي رواية فيه أيضًا: "بلغ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أني أسْرُدُ الصوم، وأصلي"، فإما أرسل وإما لقيته، ويجمع بينهما بأن يكون عمرو توجه بابنه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فكلَّمه من غير أن يستوعب ما يريد من ذلك، ثم أتاه إلى بيته زيادة في التأكيد. وقوله: "فصم" أي: فإذا عرفت ذلك فصم تارة، وأفطر تارة، لتجمع بين المصلحتين. وفيه إيماء إلى ما تقدم في باب "مَنْ نام عند السحر" أنه ذكر له صوم داود، وقد مرّ الكلام عليه. وعلى القيام والنوم. وفي الحديث جواز تحدُّث المرء بما عزم عليه من فعل الخير، وتفقد الإِمام لأُمور رعيته كلياتها وجزئياتها، وتعليمهم ما يصلحهم، وفيه تعليل الحكم لمن فيه أهلية ذلك، وأن الأولى في العبادة تقديم الواجبات على المندوبات، وأن من تكلف الزيادة على ما طبع عليه يقع له الخلل في الغالب. وفيه الحض على ملازمة العبادة؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم-، مع كراهته له التشديد على نفسه، حضه على الاقتصاد، كأنه قال له: ولا يمنعك اشتغالك بحقوق من ذكر أن تضيع حق العبادة وتترك المندوب جملة. ولكن أجمع بينهما. رجاله خمسة: مرّ منهم علي بن المَدِينيّ في الرابع عشر من العلم، وعمرو بن دينار في الرابع والخمسين منه، وسفيان بن عُيينة في الأول من بدء الوحي، وعبد الله بن عمرو بن العاص في الثالث من الإيمان. والرابع: أبو العباس بن السايب بن فَرّوخ أبو العباس المكيّ الشاعر. قال أحمد والنَّسائيّ: ثقة، وقال ابن مُعين: ثَبْتٌ، وقال مسلم: كان ثقة عدلًا، وقال ابن سعد: كان بمكة زمن ابن الزبير، وهواه مع بني أمية، وكان قليل الحديث. وذكره ابن حِبّان في الثقات. روى عن ابن عمر، وابن

لطائف إسناده

عمرو بن العاص، وعنه حبيب بن أبي ثابت، وعمرو بن دينار وعطاء بن أبي رباح. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول. وشيخ البخاريَّ من أفراده، وفيه ثلاثة مكيون: سفيان وعمرو وأبو العباس، أخرجه البخاريَّ أيضًا في الصوم، وفي أحاديث الأنبياء عليهم السلام، ومسلم في الصوم، وكذا الترمِذِيَّ والنَّسَائيّ وابن ماجه. ثم قال المصنف:

باب فضل من تعار من الليل فصلى

باب فضل مَنْ تَعَارَّ من اللَّيل فصلّى تعارَّ بمهملة وراء مشددة، قال في المحكم: تعارَّ الظليمُ مُعَارَّةً: صاح، والتَّعَارُّ أيضًا السَّهَرُ والتمطي والتقليب على الفراش ليلًا مع كلام. وقال ثعلب: اختلف في تعار، فقيل: انتبه، وقيل: تكلَّم، وقيل: علم، وقيل: تمطَّى، وأنَّ. وقال الأكثر: التعار اليقظة مع صوت، وقال ابن التين: ظاهر الحديث أن معنى تعار استيقظ؛ لأنه قال: "مَنْ تعارَّ فقال" فعطف القول على التعار، ويحتمل أن تكون الفاء تفسيرية لما صوت به المستيقظ؛ لأنه قد يصوت بغير ذكر، فخص الفضل المذكور بمن صوت بما ذَكر من ذِكر الله تعالى، وهذا هو السِّرُّ في اختيار لفظ تغار دون استيقظ أو انتبه، وإنما يتفق ذلك لمن تعود الذكر، واستأنس به وغلب عليه، حتى صار حديث نفسه في نومه ويقظته، فأَكْرَمَ من اتصف بذلك بإجابة دعوته وقبول صلاته. الحديث الخامس والثلاثون حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ: أَخْبَرَنَا الْوَلِيدُ عَنِ الأَوْزَاعِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَيْرُ بْنُ هَانِىء قَالَ: حَدَّثَنِي جُنَادَةُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ قَالَ: حَدَّثَنِي عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ. ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي. أَوْ دَعَا اسْتُجِيبَ، فَإِنْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى قُبِلَتْ صَلاَتُهُ. قوله: عن الأوزاعيّ قال: حدّثنا عُمير بن هانىء، كذا لمعظم الرواة عن الوليد بن مسلم، وأخرجه الطبرانيّ في الدعاء عن صفوان بن صالح عن الوليد عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثَوْبان عن عُمَير بن هانىء، وأخرجه الطبرانيّ فيه أيضًا عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقيّ الحافظ، الذي يقال له دحيم عن أبيه عن الوليد، مقرونًا برواية صفوان، وما هذا إلا وَهْم، فإنه أخرجه في المعجم الكبير عن إبراهيم عن أبيه عن الوليد عن الأوزاعيّ كالجادة، وكذا أخرجه أبو داود وابن ماجه وجعفر الفِرْيابيّ في الذكر عن دحيم، وكذا أخرجه ابن حِبّان عن عبد الله بن سليم عن دحيم، ورواية صفوان شاذةٌ، فإنْ كان حفظها عن الوليد احتمل أن يكون عند الوليد فيه شيخان، ويؤيده ما في آخر الحديث من اختلاف اللفظ، حيث جاء في جميع الروايات عن الأوزاعي، فإنه قال: اللَّهم اغفر لي إلخ. ووقع في هذه الرواية "كان من خطاياه كيوم ولدته أُمه" ولم

رجاله ستة

يذكر رب اغفر لي، ولا دعاء، وقال في أوله: ما من عبدٍ يتعارّ من اللَّيل بدل قوله "من تعارّ" لكن تخالف اللفظ في هذه أخف من التي قبلها. وقوله: "له الملكُ وله الحمد" زاد عَلِيّ بن المَدِيْنِيّ عن الوليد "يُحيي ويميت"، أخرجه أبو نعيم في "الحلية" من وجهين عنه. وقوله: "الحمد لله وسبحان الله" زاد في رواية كريمة "لا إله إلا الله" وكذا عند الإسماعيليّ والنَّسائيّ والتِّرمِذِيّ وابن ماجه وأبي نعيم في الحلية ولم تختلف الروايات في البخاريّ على تقديم الحمد على التسبيح، لكن عند الإسماعيليّ بالعكس، والظاهر أنه من تَصرُّف الرواة؛ لأن الواو لا تستلزم الترتيب. وقوله: "لا حول ولا قوة إلا بالله" زاد النَّسائيّ وابن ماجه وابن السني: "العليّ العظيم". وقوله: "ثم قال: اللهم اغفر لي، أو دعا، كذا فيه بالشك، ويحتمل أن تكون للتنويع، ويؤيد الأول ما عند الإسماعيلي بلفظ: "ثم قال رب اغفر لي غفر له" أو قال: "فدعا استجيب له" شك الوليدُ، وكذا عند أبي داود وابن ماجه بلفظ: "غفر له" قال الوليد: أو قال: "دعا استجيب له" وفي رواية عَلِيّ بن المَدِينيّ: "ثم قال رب اغفر لي" أو قال: "ثم دعا" واقتصر في رواية النَّسائيّ على الشق الأول. وقوله: استجيب، زاد الأصيلي "له"، وكذا في الروايات. وقوله: "فإن توضأ وصلّى" كذا في رواية أَبوَي ذر والوقت، وكذا الإسماعيليّ: وزاد في أوله: "فإن هو عزم فقام وتوضأ وصلّى" وكذا في رواية علي بن المَدِينيّ. قال ابن بطّال: وعد الله على لسان نبيه أنّ مَنْ استيقظ من نومه لَهِجًا لسانه بتوحيد ربه، والإذعان له بالملك، والاعتراف بنعمة يحمده عليها، وينزهه عمّا لا يليق به بتسبيحه: والخضوع له بالتكبير، والتسليم له بالعجز عن القدرة، إلا بعونه أنه إذا دعاه أجابه، وإذا صلى قبلت صلاته، فينبغي لمن بلغه هذا الحديث أن يغتنم العمل به، ويخلص نيته لربه تعالى. وقوله: "قبلت صلاته"، قال ابن المنير: وجه ترجمة البخاريّ بفضل الصلاة، وليس في الحديث إلا القبول، وهو من لوازم الصحة سواء كانت فاضلة أو مفضولة؛ لأن القبول في هذا الموطن أرجى منه في غيره، ولولا ذلك لم يكن في الكلام فائدة، فلأجل قرب الرَّجاء فيه من اليقين تَمَيَّزَ على غيره وثبت له الفضل. والذي يظهر أن المراد بالقبول هنا قدر زائد على الصحة، ومن ثَمَّ قال الداوديّ ما محصله: من قَبلَ الله له حسنة لم يعذبه؛ لأنه يعلم عواقب الأُمور، فلا يقبل شيئًا ثم يحبطه، وإذا أمن الإحباط أمن التعذيب. ولهذا قال الحسن: وددت أني أعلم أن الله قبل لي سجدة واحدة. وقال أبوَ عبد الله الغَرْبريّ الراوي عن البخاري: أجريت هذا الذكر على لساني عند انتباهي، ثُمَّ نمت فأتاني آتٍ، فقرأ. {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ}. رجاله ستة: مرّ منهم صدقة بن الفضل في السادس والخمسين من العلم، ومرّ الأوزاعيَّ في العشرين منه،

ومرّ الوليد بن مسلم في السادس والثلاثين من مواقيت الصلاة، ومرّ عُبادة بن الصامت في الحادي عشر من الإيمان. والباقيان اثنان الأول منهما عُمير بن هانىء العَبْسِيّ أبو الوليد الدمشقيّ الدَّارانيّ. قال الترمذيّ: كان عمير بن هانىء يصلي كل يوم ألف سجدة، ويسبح مئة ألف تسبيحة. وقال العجليّ: شاميّ تابعيّ ثقة، وذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال أبو داود: وكان قدريًا، وكان يسبح في اليوم مئة ألف تسبيحة. قال في "المقدمة": احتج به الجماعة، وليس له في البخاري سوى ثلاثة أحاديث، روى عن معاوية ومالك بن يُخَامر، وجُنَادة بن أبي أُمية. وروى عنه ابن عُمير وعبد الرحمن بن ثابت بن ثَوْبان وسعيد بن بشير وغيرهم. قتله مروان الحمار لكونه كان قائمًا في بيعة يزيد بن الوليد بعد موت يزيد بن الوليد، سنة سبع وعشرين ومئة. والدارانيّ في نسبه نسبة إلى دَارَيّا، بفتح الراء، وتشديد الياء، قرية بالشام، والنسبة إليها دارانيَّ على غير قياس، منها الإِمام أبو سليمان الداراني عبد الرحمن بن أحمد بن عطية الزاهد، أخذ عن الربيع بن صبيح. الثاني: جُنادة بن أبي أُمية الأزديّ ثم الزهرانيّ، ويقال الدوسيّ أبو عبد الله الشاميّ، يقال اسم أبي أُمية كثير، مختلف في صحبته. قال ابن يونس: كان من الصحابة، شهد فتح مصر، وولي البحرين لمعاوية. وقال العجليّ: شاميّ تابعيّ ثقة من كبار التابعين، سكن الأردن. وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من تابعي أهل الشام، وذكره ابن حِبّان في ثقات التابعين. وقال: قيل إن له صحبة، وليس ذلك بصحيح. وقال الواقديّ: كان ثقة صاحب غزو. وجعل في الإصابة جُنادةَ بن أبي أُمية اثنين، أحدهما هو هذا، وقال: إنه مخضرم أدرك النبيّ عليه الصلاة والسلام. وأخرج له الشيخان عن عُبادة، سكن الشام، ومات بها سنة سبع وستين. وهو الذي قال فيه العجليّ وغيره ما مرّ من كونه تابعياً. والثاني: صحابي روى له أحمد والنَّسَائيّ أنهم دخلوا على النبي -صلى الله عليه وسلم- ثمانية نفر، وهو ثامنهم، فقرب إليهم طعامًا يوم الجمعة الحديث في النهي عن صيام الجمعة. وروى له أحمد أيضًا، أن رجالًا من الصحابة قال بعضهم: إن الهجرة قد انقطعت، فاختلفوا في ذلك، فانطلقت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إن الهجرة لا تنقطع ما دام الجهاد"، وهو الذي ذكر ابن يونس أنه حضر فتح مصر. وأخرج الطبرانيّ عنه بسند ضعيف أن جُنادة أَمَّ قومًا ... الحديث. وفيه: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "مَنْ أَمَّ قوماً وهم له كارهون فإن صلاته لا تجاوز تَرْقُوَته". هذا ما قاله في الإصابة. روى صاحب الترجمة عن عمر وعَلِيّ ومُعاذ بن الصامت وغيرهم. وروى عنه ابنه سُليمان وعُمير بن هانىء وبسر بن سعيد وغيرهم. مات سنة ثمانين وقيل سنة خمس وسبعين.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإفراد والإخبار بالجمع والقول، ورواته كلهم شاميون غير شيخه مَرْوَزِيَّ. ورواية الصحابيّ عن الصحابيّ على قول مَنْ يقول إن جُنادة صحابي. أخرجه أبو داود في الأدب، والنَّسَائيّ في اليوم والليلة، والترْمِذِيّ وابن ماجه في الدعوات. الحديث السادس والثلاثون حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي الْهَيْثَمُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه وَهُوَ يَقْصُصُ فِي قَصَصِهِ وَهُوَ يَذْكُرُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِنَّ أَخًا لَكُمْ لاَ يَقُولُ الرَّفَثَ. يَعْنِي بِذَلِكَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ: وَفِينَا رَسُولُ اللَّهِ يَتْلُو كِتَابَهُ ... إِذَا انْشَقَّ مَعْرُوفٌ مِنَ الْفَجْرِ سَاطِعُ أَرَانَا الْهُدَى بَعْدَ الْعَمَى فَقُلُوبُنَا ... بِهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّ مَا قَالَ وَاقِعُ يَبِيتُ يُجَافِى جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِهِ ... إِذَا اسْتَثْقَلَتْ بِالْمُشْرِكِينَ الْمَضَاجِعُ قوله: "وهو يقص في قصصه"، أي: مواعظه التي كان أبو هريرة يذكر أصحابه بها. وقوله: "وهو يذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن أخًا لكم" معناه أن أبا هريرة ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فاستطرد إلى حكايه ما قيل في وصفه، فذكر كلام عبد الله بن رواحة بما وصف به من هذه الأبيات. وقوله: إن أخًا لكم، هو المسموع للهيثم، والرفث: الباطل أو الفحش من القول، والقائل يعني هو الهيثم، ويحتمل أن يكون الزهريَّ. وقال ابن بطّال: إن قوله عليه الصلاة والسلام: "إن أخًا لكم لا يقول الرفث" فيه أن حُسْن الشِّعر محمود كحسن الكلام، واعترضه في "الفتح" بأنه ليس في سياق الحديث ما يفصح بأن ذلك من كلامه -صلى الله عليه وسلم-، بل هو ظاهر في أنه من كلام أبي هريرة. ويأتي التصريح بذلك في رواية الزبيديّ المعلقة قريبًا. وقوله: "إذا انشق" كذا للأكثر، وفي رواية أبي الوقت: "كما انشق" والمعنى مختلف، وكلاهما واضح. وقوله: "من الفجر" بيان للمعروف الساطع، يقال: سطع إذا ارتفع، وقوله: "العمى" أي: الضلالة. وقوله: "يجافي جنبه" أي: يرفعه عن الفراش، وهو كناية عن قيام الليل، وفي هذا البيت الأخير معنى الترجمة؛ لأن التَّعَارْ هو السهر والتقلب على الفراش كما مرّ. وكأن الشاعر أشار إلى قوله تعالى في صفة المؤمنين: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} الآية. رجاله ستة: وفيه ذكر عبد الله بن رواحة، مرّ منهم يحيى بن بكير واللَّيْث والزُّهريّ في الثالث من بدء الوحي، ويونس بن يزيد في متابعة بعد الرابع منه، ومرّ أبو هريرة في الثاني من الإيمان.

والخامس: الهيثم بن أبي سنان المدنيّ قال أبو حاتم: صالح الحديث، وذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال: هو أخو سِنان بن أبي سِنان، روى عن أبي هريرة وابن عمر، وعنه بكير بن عبد الله بن الأشج والزهريّ. وعبد الله هو ابن رُواحة بن ثَعلبة بن امرىء القيس بن عمرو بن امرىء القيس الأغر بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج، الأنصاري الخزرجيّ، الشاعر المشهور، يكنى أبا محمد، ويقال: أبو رواحة، ويقال أبو عمر، وأُمه كبشة بنت واقد بن عمرو بن الإطْنابة، خزرجية أيضًا، وليس له عقب، أحد السابقين إلى الإِسلام، واحد النقباء ليلة العقبة، شهد بدراً وما بعدها إلى أن استشهد بمؤتة. آخى النبي -صلى الله عليه وسلم- بينه وبين المقداد، وبعثه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ثلاثين راكبًا إلى أسير بن رقرام اليهودي بخيبر، فقتله، وبعثه بعد فتح خيبر فحرض عليهم. وفي فوائد أبي طاهر عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "نِعْمَ الرجل عبد الله بن رواحة" في حديث طويل. وفي "الزهد" لأحمد عن أنس قال: كان عبد الله بن رُواحة إذا لقي رجلًا من أصحابه يقول: تعال نؤمن بربنا ساعة ... الحديث، وفيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "رحم الله ابن رواحة، إنه يحب المجالس التي تتباهى بها الملائكة" وأخرج البيهقي، بسند صحيح عن ابن أبي ليلى قال: كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يخطب، فدخل عبد الله بن رواحة، فسمعه يقول: اجلسوا، فجلس، فكأنه خارجًا من المسجد، فلما فرغ قال: زادك الله حرصًا على طواعية الله وطواعية رسوله. وأخرج ابن سعد عن حَمّاد بن أبي عمران الجَوْنيَّ قال: مرض عبد الله بن رواحة، فأُغمي عليه، فعاده النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "اللهم إن كان أجله قد حضر فيسره، وإن لم يكن حضر فاشفه". فوجد خفة، فقال: يا رسول الله، أمي تقول: واجبلاه، واظهراه. وملك يقول: أين كذا هو قلت: نعم لقمعني بها. وفي "الزهد" لابن المبارك عن أبي ليلى بسند صحيح قال: تزوج رجل امرأة عبد الله بن رواحة، فسألها عن صنيعه فقالت: كان إذا أراد أن يخرج من بيته صلّى ركعتين، وإذا دخل بيته صلَّى ركعتين، لا يدع ذلك. قالوا: كان عبد الله أوّل خارج إلى الغزو، وآخر قافل منه. وهو أحد الشعراء المحسنين الذين كانوا يردُّون الأذى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. وأخرج ابن سعد عن عُروة "لما أنزل الله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} قال عبد الله: أنا منهم، فأنزل الله فيه وفي صاحبه حسّان وكعب بن مالك: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} إلخ". وروى هشام بن عُروة عن أبيه قال: سمعت أبي يقول: ما سمعت بأحد أجرأ ولا أسرع شعرًا من عبد الله بن رواحة، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: أنشدنى ساعة وأنا انظر إليك، فانبعث مكانه يقول: أَنّي تفرست فيك الخير أعرفه ... والله يعلم أن ماخانني البصرُ أنت النبي ومن يُحرم شفاعته ... يوم الحساب فقد أزرى به القدرُ

فثبت الله ما آتاك من حسن ... تثبيت موسى ونصرًا كالذي نصروا فأقبل بوجهه مبتسماً وقال: وأنت فَثَبَّتَكَ الله يا أبا رواحة. قال هشام بن عروة: فثبته الله أحسن ثبات. قتل شهيدًا وفتحت له الجنة ودخلها. وفي رواية ابن هشام: إني تفرست فيك خير نافلةٍ ... فِراسةً خالفتْ فيك الذي نظروا أنت النبي ومن يحرم نوافله ... والوجه منه فقد أزرى به القدر وأخرج أبو يعلى بسند صحيح عن أنس قال: دخل النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- مكة في عمرة القضاء، وابن رواحة بين يديه وهو يقول: خَلُّوا بني الكفار عن سبيله ... اليوم نضربكم على تأويله ضربًا يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله فقال عمر: يا ابن رواحة، حَرَمُ اللهِ، وبين يدي رسوله -صلى الله عليه وسلم-، تقول هذا الشعر؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "خل عنه يا عمر، فوالذي نفسي بيده، لكلامه أشد عليهم من وقع النبلْ"، وقصته مع زوجته مشهورة، وذلك أنه مشى ليلة إلى أمة له فنالها، وفطنت له امرأته فلامته فجحدها، وكانت قد رأت جماعه لها فقالت: إن كنت صادقًا فاقرأ القرآن، فإن الجُنُب لا يقرأ القرآن، فقال: شَهدِتُ بأنّ وعدالله حقٌ ... وأنّ النار مثوى الكافرين وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمين وتحمله ملائكة غلاظ ... ملائكة الإله المكرمين فقالت: صدق الله وكذبت عيني. وكانت لا تحفظ القرآن. وفي "الفتح" أن الأبيات التي تلاها عليها هي المذكورة في الحديث، وزاد أنه أعلم النبي عليه الصلاة والسلام بذلك، فضحك حتى بدت نواجده. وذكر ابن إسحاق عن عُروة بن الزبير قال: لما تودع عبد الله بن رواحة في حين خروجه إلى مؤتة دعا له المسلمون ولمن معه أن يردهم الله سالمين، فقال ابن رواحة: لكنني أسال الرحمن مغفرة ... وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا أو طعنة بيدي حران مجهزة ... مروية تنفذ الأحشاء والكبدا حتى يقولوا إذا مرّوا على جدثي ... يا أرشد الناس من غازٍ وقد رشدا وذكر عبد الرزاق أنه قال يوم مؤتة يخاطب نفسه: ما لي أراك تكرهين الجنة ... وقبل ذا ما كنت تَكْرَهِنَّه هل أنت إلا نطفة في شَنَّه ... أقسمت بالله لتنزِلِنَّه طوعًا إليها أو لَتُكْرَهنَّه ثم قال:

لطائف إسناده

يا نفس إن لم تقتلي تموتي ... هذا حمامُ الموتِ قد صليت وما تمنيتِ فقد أعطيت ... إن تفعلي فعلهما هُديتِ يعني زيدًا وجعفرًا، ثم قاتل حينًا ثم نزل، فأتاه ابن عم بعَرْق من لحم فقال: شُدَّ بها ظهرك، فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت، فأخذه من يده وانتهش منه نهشة، ثم سمع حَطْمَة في الناس فقال: وأنت في الدنيا، فألقاه من يده، ثم أخذ سيفه فتقدم فقاتل حتى قتل، رحمه الله. ومن شعره في هذا اليوم ما مرّ في ترجمة زيد بن أرقم حين كان رديفًا على الراحلة، وأنشأ يقول: إذا أدنيتني وحملت رحلي: إلخ القصة المتقدمة وذكر ابن عبد البر عن أبي الدرداء قال: لقد رأينا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعض أسفاره، في اليوم الحار الشديد، حتى إن الرجل ليضع من شدة الحريده على رأسه، وما في القوم صائم إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعبد الله بن رواحة. ومناقبه كثيرة، قال المرزبانيّ في "معجم الشعراء" كان عظيم القدر في الجاهلية والإِسلام، وكان يناقض قيس بن الخطيم في حروبهم، ومن أحسن ما مدح به النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله: لو لم تكن فيه آياتٌ مبينةٌ ... كانت بديهته تنبيكَ بالخبرِ له أحاديث، انفرد له البخاريّ بحديث موقوف، روى عنه ابن عباس وأبو هريرة، وأرسل له قيس بن أبي حازم وجماعة. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والسماع والقول، ورواته مصريان وأَيْلِىّ ومدنيان. أخرجه البخاريّ أيضًا في الأدب. ثم قال: تابعه عقيل، أي عن ابن شهاب، فالضمير ليونس، وهذه المتابعة أخرجها الطبرانيّ في الكبير، فذكر مثل رواية يونس، وعقيل قد مرّ في الثالث من بدء الوحي. ثم قال: وقال الزبيديّ: أخبرني الزهري عن سعيد والأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه، فيه إشارة إلى أنه اختلف عن الزهريّ في هذا الإسناد، فاتفق يونس وعقيل على أن شيخه فيه الهيثم، وخالفهما الزبيديّ فأبدله بسعيد بن المسيب والأعرج، ولا يبعد أن يكون الطريقان صحيحين، فإنهم حُفّاظ أَثْبات، والزهريّ صاحب حديث مكثر، ولكن ظاهر صنيع البخاريّ ترجيح رواية يونس لمتابعة عقيل له، بخلاف الزبيديّ. ولفظ رواية الزبيديّ هو أن أبا هريرة كان يقول في قصصه: إن أخًا لكم كان يقول شعرًا ليس بالرفث، وهو عبد الله بن رواحة، فذكر الأبيات. وهذا يبين أن قوله في الرواية الأولى: "من كلام أبي هريرة موقوفًا" بخلاف ما جزم به ابن بطّال كما مرّ، وهذا التعليق وصله البخاريّ في التاريخ الصغير والطبرانيّ في الكبير. ورجال التعليق خمسة، قد مرّ الزبيدي محمد بن الوليد في التاسع عشر من العلم، والزهريّ

الحديث السابع والثلاثون

في الثالث من بدء الوحي وسعيد بن المسيب في التاسع عشر من الإيمان، والأعرج في السابع منه، وأبو هريرة في الثاني منه. الحديث السابع والثلاثون حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضى الله عنهما قَالَ: رَأَيْتُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- كَأَنَّ بِيَدِي قِطْعَةَ إِسْتَبْرَقٍ، فَكَأَنِّي لاَ أُرِيدُ مَكَانًا مِنَ الْجَنَّةِ إِلاَّ طَارَتْ إِلَيْهِ، وَرَأَيْتُ كَأَنَّ اثْنَيْنِ أَتَيَانِي أَرَادَا أَنْ يَذْهَبَا بِي إِلَى النَّارِ فَتَلَقَّاهُمَا مَلَكٌ فَقَالَ: لَمْ تُرَعْ خَلِّيَا عَنْهُ. فَقَصَّتْ حَفْصَةُ عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- إِحْدَى رُؤْيَايَ فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ. فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ رضي الله عنه يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ. وَكَانُوا لاَ يَزَالُونَ يَقُصُّونَ عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- الرُّؤْيَا أَنَّهَا فِي اللَّيْلَةِ السَّابِعَةِ مِنَ الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَتْ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ، فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيْهَا فَلْيَتَحَرَّهَا مِنَ الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ. قوله: "كان بيدي قطعةُ اسْتَبْرَق"، وفي رواية نافع بلفظ "سَرَقَةٌ من حرير" وأخرجه النَّسائيّ فجمع بين اللفظتين فقال: سَرَقَة من استبرق. قال أبو عبيدة: السَّرَقة قطعة من حرير، وكأنها فارسية. وقال الفارابىّ: شُقَّةٌ من حرير. وفي النهاية: قطعة من جيّد الحرير. زاد بعضهم: "بيضاء"، وأما تفسير المهلب للسرقة بأنها الكِلَّة، وهي كالهودج عند العرب، وكون عمودها في يد ابن عمر، دليل على الإِسلام، وطنبها الدين والعلم بالشرع الذي به يرزق التمكن من الجنة حيث شاء، فهو تفسير مردود، ويكفي في رده قوله في نفس الخبر: "رأيت كأن بيدي قطعة استبرق". والسَّرَقَة، بفتح الراء، تجمع على سَرَق، مثل قَصَبَة وقَصَب. وقوله: "فكأني لا أريد مكانًا من الجنة إلا طارت إليه" ويأتي في التعبير "لا أُهوي بها إلى مكان في الجنة إلاَّ طارت بي إليه" وقوله: "لا أُهوي" بضم الهمزة، أُهوي إلى الشيء، بالفتح يُهوي بالضم، أي: مال، وقد يعبر بالحرير عن شرف الدين والعلم؛ لأن الحرير أشرف ملابس الدنيا، وكذلك العلم بالدين أشرف العلوم، وأما دخول الجنة في المنام، فإنه يدل على دخولها في الجنة أيضًا بالدخول في الإِسلام الذي هو سبب لدخول الجنة، وطيران السَّرَقة قوة تدل على التمكن من الجنة حيث شاء. وقد مرّ في أوائل التهجد هذا الحديث، من وجه آخر عن ابن عمر، دون القصة الأولى، ودون ما ذكر في آخره من شأن ليلة القدر. وما ذكر هناك واستيفاء الكلام عليه هناك، ومرّ ما قيل في القصة الأُوْلى قريبًا. وقوله: "وكانوا" أي: الصحابة. وقوله: "إنها" أي: ليلة القدر، وقوله: "أرى رؤياكم قد تواطأت" أرى، بفتحتين، أي أعلم، والمراد أبصر مجازًا. وقوله: "رؤياكم" قال عِيَاض: كذا جاء

رجاله خمسة

بإفراد الرؤيا، والمراد مرائيكم؛ لأنها لم تكن رؤيا واحدة، وإنما أراد الجنس. وقال ابن التين: كذا رُوِي بتوحيد الرؤيا، وهو جائز؛ لأنها مصدر. قال: وأفصح منه رؤاكم، جمع رلْايا، ليكون جمعًا في مقابلة جمع. وقوله: "تواطأت" بالهمز، أي: توافقت وزناً ومعنىً. وقال ابن التين: رُوِي بغير همز، والصواب بالهمز، وأصله أن يطأ الرجل برجله مكان وطء صاحبه. وفي هذا الحديث دلالة على عظم قدر الرؤيا، وجواز الاستناد إليها في الاستدلال على الأُمور الوجودية بشرط أن لا يخالف القواعد الشرعية. وقوله: "في العشر الأواخر" كذا للكُشْمِيهنيّ ولغيره "من العشر الأواخر". رجاله خمسة: وفيه حفصة، وقد مرّوا، مرّ أبو النعمان في الأخير من الإيمان، ومرّ حمّاد بن زيد في الرابع والعشرين منه، ومرّ أيوب في التاسع منه، ومرّ ابن عمر في أوله قبل ذكر حديث منه، ومرّ نافع في الأخير من العلم، ومرّت أمنا حفصة في الثالث والستين من الوضوء. أخرجه البخاريّ أيضًا في التعبير، ومسلم في الفضائل، والتِّرْمِذِيُّ في المناقب، والنَّسائيّ فيها وفي الرؤيا. ثم قال المصنف:

باب المداومة على ركعتي الفجر

باب المداومة على ركعتي الفجر أي سفر وحضر. الحديث الثامن والثلاثون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ هُوَ ابْنُ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: صَلَّى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- الْعِشَاءَ ثُمَّ صَلَّى ثَمَانَ رَكَعَاتٍ وَرَكْعَتَيْنِ جَالِسًا وَرَكْعَتَيْنِ بَيْنَ النِّدَاءَيْنِ، وَلَمْ يَكُنْ يَدَعُهُمَا أَبَدًا. قوله: "عن عِراك بن مالك عن أبي سلمة" خالف الليث عن يزيد بن أبي حبيب، فرواه عن جعفر بن ربيعة عن أبي سلمة لم يذكر بينهما أحدًا أخرجه أحمد والنَّسائيّ، وكان جعفرًا أخذه عن أبي سلمة بواسطة ثم حمله عنه، وليزيد فيه إسناد آخر، رواه عن عراك بن مالك عن عروة عن عائشة: أخرجه مسلم، وكان لعراك فيه شيخين. وقوله: "وصلى" في رواية الكشميهني: "ثم صلى" وليس فيه ذكر الوتر، وهو في رواية الليث، ولفظه: "كان يصلي بثلاث عشرة ركعة، تسعًا قائمًا وركعتين وهو جالس". وقوله: "وركعتين بين النداءين" أي: بين الأذان والإقامة، وفي رواية الليث: "ثم يمهل حتى يؤذن بالأولى من الصبح، فيركع ركعتين" ولمسلم من رواية يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة "يصلي ركعتين خفيفتين بين النداء والإقامة من صلاة الصبح" وقوله: "لم يكن يدعهما أبدًا" استدل به لمن قال بالوجوب، وهو منقول عن الحسن البصري، أخرجه ابن أبي شيبة عنه بلفظ: "كان الحسن يرى الركعتين قبل الفجر واجبتين" والمراد بالفجر هنا صلاة الصبح، ونقل المرغيناني مثله عن أبي حنيفة، وفي جامع المحيوبيّ عن الحسن بن زياد عن أبي حنيفة: "لو صلاهما قاعدًا من غير عذر لم يجز" واستدل بعض الشافعية للقديم في أن ركعتي الفجر أفضل التطوعات. وقال الشافعي، في الجديد أفضلها الوتر، وقال بعض أصحابه أفضلها صلاة الليل وقد مرّ الكلام بأشبع من هذا في الباب الثاني من أبواب التهجد. وقوله: "أبدًا" قد تقرر في كتب العربية أنها تستعمل للمستقبل، وأما الماضي فيؤكد بقَطُّ، ويجاب عن الحديث المذكور بأنها ذكرت على سبيل المبالغة، إجراءً للماضي مجرى المستقبل،

رجاله ستة

كأن ذلك دأبه لا يتركه. وعند المالكية، إذا أقيمت صلاة الصبح على إنسان لم يركع ركعتي الفجر، فإن كان داخل المسجد وما في حكمه كرحبته مما تصح به الجمعة، يتركهما ولو كان يأتي بهما قبل فوات ركعة. وإن كان خارج المسجد ركعهما إن لم يخف ذوات ركعة، وإلا تركهما وقضاهما بعد طلوع الشمس إلى الزوال، وهما عندهم رغيبة دون السنة، وقيل سنة، وعند الحنفية إذا علم إدراك ركعة مع الإمام صلاهما عند باب المسجد، ثم يدخل ولا يتركهما، وإذا خشي فوات الفرض دخل مع الإمام ولا يصليهما، واختلف العلماء في قضائهما وفي وقته، فعند المالكية هو ما مرّ، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف لا يقضيهما، وعند محمد بن الحسن يقضيهما بعد الطلوع إن أحب، والمشهور عند الشافعية أنه يقضيهما مؤبدًا، ولو بعد الصبح، ورواية البويطيّ عن الشافعيّ أنه يقضيهما بعد طلوع الشمس، ورويت في فضلهما أحاديث كثيرة، منها ما رواه أبو داود عن أبي هريرة مرفوعًا "لا تَدَعُوا ركعتي الفجر ولو طردتكم الخيل" وهذا كناية عن المبالغة، وفيه حث عظيم على مواظبتهما. ومنها ما رواه مسلم عن عائشة أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها"، وأخرجه التِّرمِذِيّ وقال: حسن صحيح، إلى غير هذا من الأحاديث. رجاله ستة: مرّ منهم عبد الله بن يزيد في الثالث والعشرين من الأذان، ومرّ عِراك بن مالك في السادس والثلاثين من كتاب الصلاة، ومرّ أبو سلمة في الرابع من بدء الوحي، وأُم المؤمنين عائشة في الثاني منه، والباقي سعيد بن أبي أيوب، واسمه مِقْلاص الخُزاعيّ مولاهم أبو يحيى المصريّ قال أحمد: لا بأس به، وقال ابن سعد: كان ثقة ثبتًا، وذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال ابن معين والنَّسائيّ: ثقة، وقال ابن يونس: كان فقيهًا، وقال ابن وهب: كان فهمًا حلوًا، قيل له: كان فقيهًا؟ قال: نعم والله. وقال الساجي: صدوق، ووَثَّقه يحيى بن بكير، روى عن أبي الأسود وكعب بن علقمة، وعقيل بن خالد وغيرهم. وروى عنه ابن جريج، وهو أكبر منه وابن المبارك وابن وهب وغيرهم. ولد سنة مئة ومات سنة إحدى وستين ومئة وقيل سنة ست وستين وقيل سنة تسع وأربعين. ومرّ جعفر بن ربيعة بن شُرَحبيل بن حسنة الكنديّ، أبو شرحبيل المصريّ في الرابع من التيمم. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإفراد والعنعنة والقول، ورواته بصريّ ومكيّ ومصريان ومدنيان، أخرجه أبو داود والنَّسائيّ في الصلاة. ثم قال المصنف:

باب الضجعة على الشق الأيمن بعد ركعتي الفجر

باب الضِجعة على الشق الأيمن بعد ركعتي الفجر الضِجعة بكسر الضاد المعجمة لأن المراد الهيئة وبفتحها على إرادة المرة. الحديث التاسع والثلاثون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا صَلَّى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ. هذا الحديث قد مرّ الكلام عليه مستوفىً عند حديث عائشة في باب "مَنْ انتظر الإقامة" من أبواب الأذان. رجاله خمسة: مرّوا، مرّ محل عبد الله بن يزيد في الذي قبله، ومرّ فيه سعيد بن أبي أيوب، ومرّ أبو الأسود في الثامن والثلاثين من الغسل، ومرّ عروة وعائشة في الثاني من بدء الوحي. ثم قال المصنف:

باب من تحدث بعد الركعتين ولم يضطجع

باب مَنْ تحدث بعد الركعتين ولم يضطجع أشار بهذه الترجمة إلى أنه، -صلى الله عليه وسلم-، لم يكن يداوم عليها، وبذلك احتج الأئمة على عدم وجوبها، وجملوا الأمر الوارد بذلك في حديث أبي هريرة عند أبي داود وغيره على الاستحباب، وقد تقدم في أول أبواب الوتر في حديث ابن عباس، أن اضطجاعه، -صلى الله عليه وسلم-، وقع بعد الوتر قبل صلاة الفجر، ولا يعارض ذلك حديث عائشة المذكور في هذا الباب؛ لأن المراد بحديث ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام نام بين صلاة الليل وصلاة الفجر، وغايته أنه تلك الليلة لم يضطجع بين ركعتي الفجر وصلاة الصبح، فيستفاد منه عدم الوجوب أيضًا. وأما ما رواه مسلم عن عائشة من أنه، -صلى الله عليه وسلم-، اضطجع بعد الوتر، فقد خالف مالكًا الراوي له عن الزُّهريّ أصحابَ الزهريّ عن عروة، فذكروا الاضطجاع بعد الفجر، وهو المحفوظ، ولم يصب من احتج به على ترك استحباب الاضطجاع، قاله في "الفتح". قلت: هذا كله انتصار لمذهبه، والحق أن حديث ابن عباس المذكور وحديث عائشة، في كل منهما الدلالة على أن فعلها على وجه الاستراحة لا على وجه السُّنَّة؛ لأن الأحاديث دالة على أنه يفعلها ويتركها، ويفعلها بعد الوتر وبعد الفجر، ولهذا قال مالك: إنها مكروهة إذا قصدت بها السنة؛ لأنَّ جَعْلَ ما ليس بسنةٍ سنةً خلافُ السنة. وقد مرّ الكلام على هذا في الباب المذكور آنفًا. الحديث الأربعون حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْحَكَمِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنِي سَالِمٌ أَبُو النَّضْرِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا صَلَّى فَإِنْ كُنْتُ مُسْتَيْقِظَةً حَدَّثَنِي وَإِلاَّ اضْطَجَعَ حَتَّى يُؤْذَنَ بِالصَّلاَةِ. قوله: "كان إذا صلى ركعتي الفجر" وسنذكر مستند ذلك في الباب الذي بعده، وقوله: "وإلا اضطجع"، قد مرّ الكلام على هذا عند حديث عائشة، آخر حديث من أبواب التقصير. وقوله: "حتى يُؤذَّن" أي: بضم أوله وفتح المعجمة الثقيلة. وللكشميهنيّ "حتى نودي" واستدل به على عدم استحباب الضجعة، وَرُدَّ بأنه لا يلزمُ من كونه ربما تركها عَدَمُ الاستحباب، بل يدل تركه لها أحيانًا على عدم الوجوب، كما تقدم أول الباب وقد مرّ البحث في ذلك. رجاله خمسة: قد مرّوا، إلاَّ شيخ البخاريّ، مرّ سفيان بن عُيينة في الأول من بدء الوحي، وأبو سلمة في

لطائف إسناده

الرابع منه، وعائشة في الثاني منه، ومرّ أبو النضر سالم في السابع والستين من الوضوء. وشيخ البخاريّ بشر بن الحكم بن حَبيب بن مِهران العَبديّ، أبو عبد الرحمن النَّيْسابوريّ الفقيه الزاهد، قال ابن عمه أبو أحمد الفراء: بِشرٌ عندي ثقةٌ صدوق ضيع نفسه، وذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال أحمد بن سَيّار: روى عن ابنَ عُيينة فأكثر، ورحل في الحديث، وجالس الناس. روى عن مالك، وابن عيينة، وشُريك، وغيرهم، وروى عنه البخاريّ ومسلم والنَّسائيّ وإسحاق بن راهَوَيه وغيرهم. مات سنة سبع أو ثمان وثلاثين ومئتين. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإفراد والعنعنة والقول، ورواته نيسابوريّ ومكيّ ومدنيان، أخرجه البخاريّ أيضًا، وأخرجه مسلم والتِّرمِذِيّ ثم قال المصنف:

باب الحديث بعد ركعتي الفجر

باب الحديث بعد ركعتي الفجر الحديث الحادي والأربعون حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: أَبُو النَّضْرِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فَإِنْ كُنْتُ مُسْتَيْقِظَةً حَدَّثَنِي وَإِلاَّ اضْطَجَعَ. قُلْتُ لِسُفْيَانَ: فَإِنَّ بَعْضَهُمْ يَرْوِيهِ رَكْعَتَىِ الْفَجْرِ. قَالَ سُفْيَانُ: هُوَ ذَاكَ. أعاد هذا الحديث، ولفظه: "كان يصلي ركعتين" وفي آخره قلت لسفيان: فإن بعضهم يرويه ركعتي الفجر، قال سفيان: هو ذاك، والقائل، قلت لسفيان: هو علي بن المَدِينيّ شيخ البخاريّ فيه، ومراده بقوله: "بعضهم" مالك، كذا أخرجه الدارقطنيّ عن بشر بن عمر عن مالك أنه سأله عن الرجل يتكلم بعد طلوع الفجر، فحدثني عن سالم فذكره. وقد أخرجه ابن خُزيمة عن ابن عُيينة بلفظ: "كان يصلي ركعتي الفجر" واستدل به على جواز الكلام بين صلاة الفجر وصلاة الصبح، خلافًا لمن كره ذلك، وقد نقله ابن أبي شيبة عن ابن مسعود، ولا يثبت عنه، وأخرجه صحيحًا عن إبراهيم وأبي الشعثاء وغيرهما. وقد وقع هنا في بعض النسخ عن سفيان، قال سالم أبو النضر: حدّثني أبي. وقوله: "أبي" زيادة لا أصل لها بل هي غلط محض حمل عليها تقديم الاسم على الصفة، فظن من لا خبرة له أن فاعل حدّثني راوٍ غير سالم، فزاد في السند لفظ "أبي"، وقد تقدم الحديث بهذا السند قريبًا عن بشر بن الحكم عن سفيان عن أبي النضر عن أبي سلمة ليس بينهما أحد، وكذا في الذي قبله من رواية مالك عن أبي النضر عن أبي سلمة. وقد أخرجه الحُميديّ في مسنده عن سُفيان حدّثنا أبو النضر عن أبي سلمة، وليس لوالد أبى النضر مع ذلك رواية أصلًا، لا في الصحيح ولا في غيره. فمن زادها فقد أخطأ. رجاله خمسة: مرّ منهم عَلِيّ بن المَدِينيّ في الرابع عشر في العلم، ومرّ ابن عُيينة في الأول من بدء الوحي، وأبو سلمة في الرابع منه، وعائشة في الثاني منه، ومرّ أبو النضر في السابع والستين من الوضوء. قد وقع في أكثر الأصول الفصل بين هذه الترجمة وما بعدها من الترجمتين المتعلقتين بركعتي الفجر بالباب الآتي، وهو باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى، وقد وقع في كتاب الرجال هذا الفصل

تبعًا للعينيّ، والصواب ما وقع في بعض الأُصول من تأخيره عنها، وإيرادها يتلو بعضها بعضًا، كما وقع في الفتح، وهو الذي اقتفيته في الشرح. قال ابن رشيد: الظاهر أن ذلك وقع من بعض الرواة، عند ضم بعض الأبواب إلى بعض، ويدل على ذلك أنه اتبع هذا الباب الذي هو قوله: "باب الحديث بعد ركعتي الفجر" كالمبين للحديث الذي أدخل تحت قوله: "باب مَنْ تحدث بعد الركعتين" إذ المراد بهما ركعتا الفجر، وبهذا نتبين فائدة إعادة الحديث، وإنما ضم المصنف ركعتي الفجر إلى التهجد، لقربها منه، كما ورد أن المغرب وتر النهار، وإنما المغرب في التحقيق من صلاة الليل، كما أن الفجر في الشرع من صلاة النهار. ثم قال المصنف:

باب تعاهد ركعتي الفجر ومن سماهما تطوعا

باب تعاهد ركعتي الفجر ومَنْ سماهما تطوعًا قوله: ومَنْ سماهما، في رواية الحمويّ والمستمليّ: ومَنْ سماهما، أي: سنة الفجر. وقوله: تطوعًا، أورده في الحديث بلفظ النوافل، وأشار بلفظ التطوع إلى ما ورد في بعض طرقه، ففي رواية أبي عاصم عن ابن جُريج عند البَيْهَقىّ قلتُ لعطاء: أواجبةٌ ركعتا الفجر أو هي من التطوع؟ فقال: حدّثني عبيد بن عُمير فذكر الحديث، وجاء عن عائشة أيضًا تسميتها تطوعًا من وجه آخر، فعند مسلم عن عبيد الله بن شقيق: سألت عائشة عن تطوع النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فذكر الحديث، وفيه: "وكان إذا طلع الفجر صلى ركعتين" الحديث الثاني والأربعون حَدَّثَنَا بَيَانُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى شَيْءٍ مِنَ النَّوَافِلِ أَشَدَّ مِنْهُ تَعَاهُدًا عَلَى رَكْعَتَىِ الْفَجْرِ. قوله: "في عطاء"، في رواية مسلم عن ابن جُريج، حدّثني عطاء. وقوله: عن عبيد بن عمير، في رواية ابن خُزَيمة عن يحيى بن سعيد بسنده، أخبرني عبيد بن عمير. وقوله: أشد تعاهدًا، في رواية ابن خزيمة أشد معاهدة، ولمسلم عن ابن جُريج "ما رأيته إلى شيء من الخير أسرع منه إلى الركعتين قبل الفجر" زاد ابن خُزيمة من هذا الوجه "ولا إلى غنيمة". رجاله ستة: قد مرّوا إلاَّ شيخ البخاريّ، مرّ يحيى القطان في السادس من الإيمان، وابن جُريج في الثالث من الحيض، وعطاء في التاسع والثلاثين من العلم، وعُبيد بن عُمير في الرابع من الوضوء، وعائشة في الثاني من بدء الوحي. وشيخ البخاريّ بَيَان بن عمرو البخاريّ أبو محمد العابد أثنى عليه ابن المَدِينيّ، ووثَّقَه ابن حِبّان وابن عَدِيّ، وقال أبو حاتم: مجهول، والحديث الذي رواه عن سالم بن نوح باطل. قال في المقدمة: ليس بمجهول. مَنْ روى عنه البخاريُّ وأبو زرعة وعُبيد الله بن واصل، ووَثَّقه من ذكرنا، وأما الحديث فالعهدة فيه على غيره؛ لأنه لم ينفرد به، كما قال الدارقطنيّ في "المؤتلف والمختلف" روى عن ابن مَهْدي والقَّطان والنضر بن شُمَيل وغيرهم. وروى عنه من مرّ ذكرهم.

لطائف إسناده

مات سنة اثنين وعشرين ومئتين. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، وشيخ البخاريّ من أفراده، وهو بخاريّ ثم بصريّ ومكيون وفيه رواية التابعيّ عن التابعيّ، أخرجه مسلم في الصلاة، وكذا أبو داود والنَّسائيّ.

باب ما يقرأ في ركعتي الفجر

باب ما يُقرأ في ركعتي الفجر هو بضم يقرأ بالبناء للمجهول. الحديث الثالث والأربعون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي بِاللَّيْلِ ثَلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، ثُمَّ يُصَلِّي إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ بِالصُّبْحِ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ. قوله: "ثلاث عشرة ركعة" مخالف لما مضى قريبًا من طريق أبي سلمة عن عائشة "لم يكن يزيد على إحدى عشرة" وقد مرّ عند ذكر حديثها في أول أبواب الوتر، الحديث الرابعُ، الجمعُ بين ذلك مستوفى. وقوله: "خفيفتين"، قال الإسماعيليّ: كان حق هذه الترجمة أن تكون تخفيف ركعتي الفجر، ولكن لما ترجم به المصنف وجه وجيه، وهو أنه أشار إلى خلاف مَنْ زعم أنه لا يقرأ في ركعتي الفجر أصلًا، وهو قول محكيّ عن أبي بكر الأصم وإبراهيم بن علية، ويرد عليهما ما ورد من الأحاديث في القراءة بهما، وقد مرّ استيفاء الكلام على القراءة في ركعتي الفجر، عند حديث حفصة في باب الأذان بعد الفجر. رجاله خمسة: قد مرّوا بهذ النسق في الثاني من بدء الوحي. الحديث الرابع والأربعون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَمَّتِهِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- ح وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُخَفِّفُ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَ صَلاَةِ الصُّبْحِ حَتَّى إِنِّي لأَقُولُ هَلْ قَرَأَ بِأُمِّ الْكِتَابِ؟ قوله: عن محمد بن عبد الرحمن عن عمته، وهي عمرة بنت عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة، وهي عمة أبيه؛ لأنه هو محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن أسعد بن زُرارة، وزعم

رجاله تسعة

ابن مسعود، وتبعه الحُميدي، أنه محمد بن عبد الرحمن بن حارثة إلخ، ما يذكر في السند، وقد رواه أبو داود الطيالسيّ عن شعبة، فقال عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة، وَوَهَّمُوه فيه أيضًا، ويحتمل أن كان حفظه، أن يكون لشُعبة فيه شيخان. وقوله في "السند الأخير": عن محمد بن عبد الرحمن، كذا في الأصل، غير منسوب، والظاهر أنه هو الذي قبله، وجزم بذلك أبو الأحوص عن يحيى بن سعيد عند الأسماعيليّ، وذكر الدارقطنيّ في "العلل" أن سليمان بن بلال رواه عن يحيى بن سعيد، قال: حدثني أبو الرجال، فيحتمل أن يكون ليحيى بن سعيد فيه شيخان، لكن رجح الدارقطنيّ الأول، ورواه مالك عن يحيى بن سعيد عن عائشة، فأسقط من الإسناد اثنين. وقوله: "هل قرأ بأم القرآن؟ "، هذه رواية الحمويّ، وفي رواية غيره "بأم الكتاب"، وزاد مالك في الرواية المذكورة "أم لا"، وقد ساق البخاريَّ المتن على لفظ يحيى بن سعيد. وأما لفظ شُعبة، فأخرجه أحمد عن محمد بن جعفر شيخ البخاريّ فيه "إذا طلع الفجر صلّى ركعتين"، أو "لم يصل إلاَّ ركعتين" أقول: لم يقرأ فيهما بفاتحة الكتاب، وكذا رواه مسلم عن شُعبة، لكن لم يقل: أو لم يصل إلاَّ ركعتين، ورواه أحمد أيضًا عن شُعبة بلفظ: "كان إذا طلع الفجر لم يصلِّ إلا ركعتين"، فأقول هل قرأ فيهما بفاتحة الكتاب؟ وقد مرّت مباحث هذا الحديث في الباب المذكور آنفًا. رجاله تسعة: لأنه رواه من طريقين، قد مرّوا إلا محمد بن عبد الرحمن، مرّ محمد بن بشَّار في الحادي عشر من العلم، ومرّ غُنْدُر محمد بن جعفر في الخامس والعشرين من الإيمان، وشُعبة في الثالث منه، وأحمد بن يونس في التاسع عشر منه، وزهير بن معاوية في الثالث والثلاثين منه، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ في الأول من بدء الوحي، وعائشة في الثاني منه، وعَمْرة بنت عبد الرحمن في الثاني والثلاثين من الحيض. التاسع: محمد بن عبد الرحمن بن أسعد بن زُرَارة الأنصاريّ المدنيّ، ويقال محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة، ويقال: ابن محمد بدل عبد الله، ومنهم مَنْ ينسبه إلى جده من أُمه، فيقول محمد بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة. ذكره ابن حِبَّان في الثقات، وقال ابن سعد: ثقة، وله أحاديث. وقال النَّسائيّ: ثقة. وقال مصعب بن عبد الله: كان واليًا على اليمامة لعمر بن عبد العزيز، وكان رجلًا صالحًا. روى عن عمته عَمْرة بنت عبد الرحمن ويحيى بن أسعد بن زرارة والأعرج وغيرهم، وروى عنه يحيى بن سعيد الأنصاريّ وشُعبة وسفيان بن عُيينة، وغيرهم. مات سنة أربع وعشرين ومئة وقال بعضهم: إن المراد بمحمد بن عبد الرحمن، في هذا السند، ابنُ حارثة بن النعمان الأنصاريّ البخاريّ الملقب بأبي الرِّجال؛ لأن له عشرة أولاد رجال، وهذا وهم؛ لأن شعبة لم يرو عن أبي

لطائف إسناده

الرجال شيئًا، ولأن عمرة أمه لا عمته، وقد ذكر الجَيَّانيّ أَنّ محمد بن عبد الرحمن أربعة ما تابعيُ أهل المدينة، أسماؤهم متقاربة، وطبقتهم واحدة، وحديثهم مخرج في الكتابين: الأول: محمد بن عبد الرحمن بن ثَوْبان عن جابر وأبي سَلَمة. والثاني: محمد بن عبد الرحمن بن نَوْفل أبو الأسْود يَتيم عُروة. والثالث: محمد بن عبد الرحمن بن زُرارة. والرابع: محمد بن عبد الرحمن أبو الرجال. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، ورواته ما بين بصريّ وواسطيّ ومدنيّ، وكوفيّ. ثم قال المصنف:

باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى

باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى أي: في صلاة الليل والنهار، قال ابن رشيد: مقصوده أن يبين بالأحاديث والآثار التي أوردها أن المراد بقوله في الحديث: "مثنى مثنى" أن يسلم من كل اثنتين، ثم قال: قال محمد: ويذكر ذلك عن عَمّار وأبي ذَرٍّ وأنس وجابر بن زيد وعكرمة والزهريّ رضي الله تعالى عنهم. أما عمّار، فأشار إلى ما رواه ابن أبي شيبة عنه "أنه دخل المسجد فصلّى ركعتين خفيفتين"، إسناده حسن، وأما أبو ذر، فأشار إلى ما رواه ابن أبي شيبة أيضًا عنه "أنه دخل المسجد فأتى سارية وصلى عندها ركعتين". وأما أنس فأشار إلى حديثه المشهور "في صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- في بيتهم ركعتين"، وقد تقدم في الصفوف، وذكره في هذا الباب مختصرًا، وأما عكرمة فروى ابن أبي شيبة عن أبي خَلْدة قال: رأيت عكرمة دخل المسجد، فصلى فيه ركعتين. وأما جابر بن زيد، وهو أبو الشعثاء البصري، والزهريّ، فقد قال في "الفتح": لم أقف على مَنْ وصلهما. ورجال هذه التعاليق ستة؛ لأن محمدًا المرادُ به البخاريُّ نفسه، والستة قد مرّوا، مرّ عمّار بن ياسر في تعليق بعد العشرين من الإيمان، ومرّ أبو ذَرٍّ في الثالث والعشرين منه، وأنس في السادس منه، وجابر بن زيد في السادس من الغُسل، ومرّ عكرمة في السابع عشر من العلم، ومرّ الزهريّ في الثالث من بدء الوحي. ثم قال: وقال يحيى بن سعيد الأنصاريّ: ما أدركت فقهاء أرضنا إلا يسلمون في كل اثنتين من النهار. قوله: "أرضنا" أي: المدينة، وقد أدرك كبار التابعين بها كسعيد بن المُسَيَّب، ولحق قليلًا من صغار الصحابة، كأنس بن مالك، قال في "الفتح": لم أقف عليه موصولًا، ويحيى بن سعيد مرّ في الأول من بدء الوحي. الحديث الخامس والأربعون حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الْمَوَالِى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُعَلِّمُنَا الاِسْتِخَارَةَ فِي الأُمُورِ كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ يَقُولُ: إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ لِيَقُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أَقْدِرُ وَتَعْلَمُ وَلاَ أَعْلَمُ وَأَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ

أَنَّ هَذَا الأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ: عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ: فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ أَرْضِنِي قَالَ: وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ. وهذا الحديث، قال التِّرْمِذِيُّ بعد أن أخرجه: حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي الموالي، وهو مدنيّ ثقة، روى عنه غير واحد، وله بشواهد، فقد رواه غير واحد من الصحابة، كما رواه ابن أبي الموالي، فقد رواء ابن مسعود وأبو أيوب وأبو سعيد وأبو هريرة وابن عباس وابن عمر، فحديث ابن مسعود أخرجه الطبرانيّ وصححه الحاكم، وحديث أيوب أخرجه الطبرانيّ وصححه ابن حِبّان والحاكم، وحديث أبي سعيد وأبي هريرة أخرجهما ابن حِبّان في صحيحه، وحديث ابن عمر وابن عباس حديث واحد أخرجه الطبرانيّ عن عطاء عنهما، وليس في شيء منها ذكر الصلاة إلا حديث جابر، غير أن لفظ أبي أيوب "كتمْ الخطبةَ وتوضأ فأحسنِ الوضوء، ثم صلِّ ما كتب الله لكَ" الحديث، فالتقييد بركعتين خاص بحديث جابر، وجاء ذكر الاستخارة في حديث سعد، رفعه "من سعادة ابن آدم استخارته الله" أخرجه أحمد، وسنده حسن، وأصله عند التِّرْمِذِيّ، لكن بذكر الرضى والسخط، لا بلفظ الاستخارة. ومن حديث أبي بكر الصديق، رضي الله تعالى عنه، أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- كان إذا اراد أمرًا قال: "اللَّهمَّ خِرْ لي واختر لي" أخرجه التِّرمِذِيُّ، وسنده ضعيف. وفي حديث أنس، رفعه "ما خاب مَنْ استخار" الحديث، أخرجه الطبرانيّ في "الصغير" بسندٍ واهٍ جدًا. وقوله: عن محمد بن المُنْكَدِر عن جابر، وقع في التوحيد عن عبد الرحمن، سمعت محمد بن المُنْكَدِر يحدث عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب يقول: أخبرني جابر السّلَميّ، أي: بفتح اللام، نسبة إلى بني سَلِمة، بكسر اللام، بطن من الأنصار، وعند الإسماعيليّ عن بشر بن عمير، حدثني عبد الرحمن، سمعت ابن المُنْكَدِر، حدّثني جابر. وقوله: "يعلمنا الاستخارة"، في رواية معن "يعلَّم أصحابه"، وكذا في طريق بشر بن عمير، أي: صلاة الاستخارة ودعاءها، وهي طلب الخِيَرَة، على وزن العنَبة اسم من قولك خاره الله وخار له. وفي النهاية: خار الله لك، أي: أعطاك ما هو خيرٌ لك، والخيْرة بسكون الياء، الاسم منه، وأما بالفتح، فهو الاسم من قولك: خاره الله. ومحمد -صلى الله عليه وسلم- خِيْرة اللهِ من خَلْقه، يقال بالفتح والسكون، وهو من باب الاستفعال، وهو في لسان العرب على معان، منها سؤال الفعل، والتقدير: أطلب منك الخَيْر فيما هممتُ به. والخير هو كل ما زاد نفعه على ضره. وقوله: "في الأمور كلها"، قال ابن أبي جَمْرة: هو عام أريدَ به الخصوص، فإن الواجب والمستحب لا يستخار في فعلهما، والحرام والمكروه لا يستخار في تركهما، فانحصر الأمر في

المباح، وفي المستحب، إذا تعارض منه أمران أيهما يبدأ به، ويقتصر عليه، وتدخل الاستخارة في الواجب والمستحب، وفيما كان زمنه موسعًا، ويتناول العموم العظيم من الأمور والحقير، فرب حقير يستخف أمره فيكون في الإقدام عليه ضرر عظيم، أو في تركه. وقوله: "يعلمنا السورة من القرآن"، وفي الدعوات "كالسورة من القرآن" قيل: وجه التشبيه عمومُ الحاجة في الأُمور كلها إلى الاستخارة كعموم الحاجة إلى القراءة في الصلاة، ويحتمل أن يكون المراد مثل ما وقع في حديث ابن مسعود في التشهد "علمني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التشهد، كفي بين كفيه" أخرجه المصنف في الاستيذان، وفي رواية "أخذت التشهد كلمة كلمة"، أخرجها الطحاويّ. وفي رواية: "حرفًا حرفًا" أخرجها الطبرانيّ، قال ابن أبي جمرة: التشبيه في تحفظ حروفه، وترتب كلماته، ومنع الزيادة والنقص منه، والدرس له، والمحافظة عليه، ويحتمل أن يكون من جهة الاهتمام به، والتحقق لبركته والاحترام له، ويحتمل أن يكون من جهة كون كل منهما علم بالوحي. قال الطيبيّ: فيه الإشارة إلى الاعتناء التام البالغ بهذا الدعاء، وهذه الصلاة، لجعلهما تِلْوَيْن للفريضة والقرآن. وقوله: "إذا هَمْ" فيه حذف تقديره "يعلْمنا قائلًا إذا هَمْ"، وهذا في روايةَ الدعوات، وفي رواية قتيبة هنا، يقول: إذا هم أحدكم، وزاد أبو داود عن قُتيبة لنا قال ابن أبي جمرة: ترتيب الوارد على القلب على مراتب: الهمَّة اللَّمَّة ثم الخَطْرَة ثم النِّيَّة ثم الإرادة ثم العزيمة، فالثلاث الأُوَل لا يؤاخذ بها، بخلاف الثلاث الأُخر. فقوله: "إذا هم" يشير إلى أول ما يرد على القلب، يستخير فيظهر له ببركة الدعاء والصلاة ما هو الخير، بخلاف ما إذا تمكن الأمر عنده، وقويت فيه عزيمته وإرادته، فإنه يصير له إليه ميل وحب، فيخشى أن يخفى عنه وجه الأَرْشَدِيَّة لغلبة ميلة إليه. ويحتمل أن يكون المراد بالهم العزيمة؛ لأن الخاطر لا يثبت، فلا يستمر إلا على ما يقصد التصميم على فعله، وإلا لو استخار في كل خاطر لاستخار فيما لا يعبأ به، فتضيع عليه أوقاته. وفي حديث ابن مسعود: "إذا أراد أحدكم أمرًا فليقل ... "، وقوله: "فليركع ركعتين" يقيد مطلق حديث أبي أيوب حيث قال: "صلِّ ما كتب الله لك"، ويمكن الجمع بأن المراد أنه لا يقتصر على ركعة واحدة للتنصيص على الركعتين، ويكون ذكرهما على سبيل التنبيه بالأدنى على الأعلى، فلو صلّى أكثر من ركعتين أجزأ، والظاهر أنه يشترط إذا أراد أن يسلم من كل ركعتين، ليحصل مسمى ركعتين، ولا يجزىء لو صلّى أربعًا مثلًا بتسليمة. وكلام النوويّ يشعر بالإجزاء. وقوله: "من غير الفريضة" فيه احتراز عن صلاة الصبح مثلًا، ويحتمل أن يريد بالفريضة عينها، وما يتعلق بها، فيحترز عن الراتبة، كركعتي الفجر مثلاً، وقال النوويّ في "الأذكار": ودعا بدعاء الاستخارة عقب راتبة صلاة الظهر مثلًا، وغيرها من النوافل الراتبة والمطلقة، سواء اقتصر

على ركعتين أو أكثر، أجزأ، كذا أطلق، وفيه نظر، ويظهر أن يقال: إن نوى تلك الصلاة بعينها وصلاة الاستخارة معًا، أجزأ بخلاف ما إذا لم ينو، ويفارق صلاة تحية المسجد؛ لأن المراد بها شغل البقعة بالدعاء، والمراد بصلاة الاستخارة أن يقع الدعاء عَقِبَها أو فيها، ويبعد الإجزاء لمن عرض له الدعاء بعد فراغ الصلاة؛ لأن ظاهر الخبر أن تقع الصلاة والدعاء بعد وجود إرادة العزم، وأفاد النوويّ أنه يقرأ في الركعتين "الكافرون والإخلاص". قال العراقي في شرح التِّرمِذِيّ: لم أقف على دليل ذلك، ولعله ألحقهما بركعتي الفجر والركعتين بعد المغرب. قال: ولهما مناسبة بالحال لما فيهما من الإخلاص والتوحيد. والمستخير يحتاج لذلك. قال: ومن المناسب أن يقرأ فيهما مثل قوله: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَار} وقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} والأكمل أن يقرأ في كل منهما السورة والآية الأوليين في الأولى، والأخريين في الثانية، ويؤخذ من قوله: "من غير الفريضة" أن الأمر بصلاة ركعتي الاستخارة ليس على الوجوب، قال العراقيّ في شرح التِّرمِذِيّ: لم أر مَنْ قال بوجوب الاستخارة، لورود الأمر بها ولتشبيهها بتعليم السورة من القرآن، لما استدل بمثل ذلك في وجوب التشهد في الصلاة، لورود الأمر به في قوله: "فليقل"، ولتشبيهه بتعليم السورة من القرآن، فإن قيل: الأمر تعلق بالشرط، وهو قوله: "إذا أهم أحدكم بالأمر"، قلنا: وكذلك في التشهد، إنما يؤمر به من صلى، ويمكن الفرق، وإن اشتركا فيما ذكر، بأن التشهد جزء من الصلاة، فيؤخذ الوجوب من قوله: "صلّوا كما رأيتموني أُصلي"، ودل على عدم وجوب الاستخارة ما دل على عدم وجوب صلاة زائدة على الخمس في حديث "هل عَلَيّ غيرها؟ قال: لا، إلاَّ أن تَطَوَّع" وهذا، وان صلح للاستدلال به على عدم وجوب ركعتي الاستخارة، لكن لا يمنع من الاستدلال به على وجوب دعاء الاستخارة، فكأنهم فهموا أن الأمر فيه للإرشاد، فعدلوا به عن سنن الوجوب، ولما كان مشتملا على ذكر الله والتفويض إليه كان مندوبًا. والخبر ظاهر في تأخير الدعاء عن الصلاة، فلو دعا به في أثناء الصلاة احتمل الإجزاء، ويحمل الترتيب على تقديم الشروع في الصلاة قبل الدعاء، فإنَّ موطن الدعاء في الصلاة السجود أو التشهد. وقال ابن أبي جمرة: الحكمة في تقديم الصلاة على الدعاء أن المراد بالاستخارة حصول الجمع بين خيريّ الدنيا والآخرة، فيحتاج إلى قرع باب الملك، ولا شيء لذلك الجمع، ولا أنجح من الصلاة لما فيها من تعظيم الله، والثناء عليه، والافتقار إليه حالًا ومآلًا. وقوله: "اللَّهمَّ إني أستخيرك بعلمك" الباء للتعليل، أي: لأنك أعلم، وكذا هي في قوله: "بقدرتك" ويحتمل أن تكون للاستعانة، كقوله: {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا} ويحتمل أن تكون للاستعطاف، كقوله تعالى: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} الآية. وقوله: "وأستقدرك" أي: أطلب منك أن تجعل لي على ذلك قدرة، ويحتمل أن يكون المعنى

أطلب منك أن تقدره لي، والمراد بالتقدير التيسير، وقوله: "وأسألك من فضلك العظيم" إشارة إلى أن إعطاء الرب فضل منه، وليس لأحد عليه حق في نعمه، فكلما يهب زيادة مبتدأة من عنده لم يقابلها منا عوض، فيما مضى، ولا يقابلها فيما يستقبل، فإن وفق للشكر والحمد، فهو فضل منه ونعمة يفتقر إلى حمدٍ وشكر، وهكذا إلى غير نهاية خلاف ما تعتقده المبتدعة، حيث يقولون: إنه واجب على الله تعالى أن يبتدىء العبد بالنعمة، وقد خلق له القدرة، وهي باقية فيه دائمة يعصي ويطيع. وقوله: "فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم" إشارة إلى أن العلم والقدرة لله وحده، وليس للعبد من ذلك إلا ما قدر الله له، وكأنه قال: أنت يا رب تقدر قبل أن تخلق فيَّ القدرة، وعندما تخلقها فيَّ، وبعدما تخلقها. فدلّ على أن العبد لا يكون قادرًا إلاّ بالفعل لا قبله، كما يقول القدرية. وقال ابن بطال: القوة والقدرة من صفات الذات، والقوة والقدرة بمعنىً واحدٍ مترادفان، فالباري تعالى لم يزل قادرًا قويًا ذا قدرة وقوة. وذكر الأشعري أن القدرة والقوة والاستطاعة اسم، ولا يجوز أن يوصف بأنه مستطيع لعدم التوقيف بذلك. وإن كان قد جاء القرآن بالاستطاعة، فقال: هل يستطيع ربك؟ وإنما هو خبر عنهم ولا يقتضي إثبات صفة له. وقوله: "وأنت علّام الغيوب" المعنى: أنا أطلب مستأنَفًا لا يعلمه إلا أنت. وقوله: "اللَّهمَّ إن كنت تعلم أن هذا الأمر" في رواية معن وغيره "فإن كنت تعلم هذا الأمر" زاد أبو داود "والذي يريد" وفي رواية معن "ثم يسميه بعينه" وقد ذكر ذلك في آخر الحديث في الباب. وظاهر سياقه أن ينطق به، ويحتمل أن يكتفي باستحضاره بقلبه عند الدعاء، وعلى الأول تكون التسمية بعد الدعاء. وعلى الثاني تكون الجملة حالية، والتقدير: فليدع مسميًا حاجته. وقوله: "إن كنت" استشكل الكرمانيّ الإتيان بصيغة الشك هنا ولا يجوز الشك في كون الله عالمًا، وأجاب بأن الشك في أن العلم متعلق بالخير والشر، لا في أصل العلم. وقوله: "ومعاشي" زاد أبو داود "ومعادي" وهو يؤيد أن المراد بالمعاش الحياة، ويحتمل أن يريد بالمعاش ما يعاش فيه، ولذلك في بعض طرق حديث ابن مسعود عند الطبرانيّ في الأوسط "في ديني ودنياي"، وفي حديث أبي أيوب عند الطبرانيّ "في دنياي وآخرتي"، زاد ابن حِبّان "وديني". وفي حديث أبي سعيد "في ديني ومعيشتي". وقوله: "وعاقبة أمري" أو قال: "في عاجل أمري وآجله" هو شك من الرواي، ولم تختلف الطرق في ذلك، واقتصر في حديث أبي سعيد على "عاقبة أمري" وكذا في حديث ابن مسعود، وهو يؤيد أحد الاحتمالين في أن العاجل والآجل مذكوران بدل الألفاظ الثلاثة، أو بدل الأخيرين فقط. ولهذا قال الكرمانيّ: لا يكون الداعي جازمًا بما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إلا أن يدعو ثلاث مرات، يقول مرة: "في ديني ومعاشي وعاقبة أمري"، ومرة: "في عاجل أمري وآجله"، ومرة: "في ديني وعاجل أمري وآجله". ولم يقع الشك في حديث أبي أيوب. ولا أبي هريرة أصلًا.

وقوله: "فاقدُره لي" بضم الدال وبكسرها، قال الكرمانيّ: معناه اجعله مقدورًا لي أو قدره. وقيل: معناه يسره، قال القرافيّ في "أنوار البروق": من الدعاء المحرم الدعاء المرتب على استئناف المشيئة، كمن يقول: اقدر لي الخير؛ لأن الدعاء بوضعه اللغويّ إنما يتناول المستقبل دون الماضي؛ لأنه طلب، وطلب الماضي محال، فيكون مقتضى هذا الدعاء أن يقع تقدير الله في المستقبل من الزمان، والله تعالى يستحيل عليه استئناف المشيئة والتقدير، بل وقع جميعه في الأزل، فيكون هذا الدعاء مقتضى مذهب مَنْ يرى أن لا قضاء، وأن الأمر أنُفٌ، كما أخرجه مسلم عن الخوارج، وهو فسق بالإِجماع. وحينئذ فيجاب عن قوله هنا: "فاقدره لي" بأن يتعين أن يعتقد أن المرادَ بالتقدير هنا التيسيرُ على سبيل المجاز والداعي إنما أراد هذا المجاز، وإنما يحرم الإطلاق عند عدم النية. قلت: ما قاله القرافيّ، وإن كان ما وجهه به ظاهرًا، كيف يجوز أو يصح أن يقال بتحريمه مع تصريح الشارع به؟ وتعليمه لأصحابه في الأحاديث الصحيحة ولم يأمرهم بنية شيء؟ فكان الأولى له أن يقول: إنه من ألفاظ المتشابه، وكونه من المتشابه لا يوجب تحريم الدعاء به. وقوله: "ثم بارك لي فيه" أي أدمه وضاعفه. وقوله: "فاصرفه عني، واصرفني عنه" أي: حتى لا يبقى قلبه بعد صرف الأمر عنه متعلقًا به، ولم يكتف بقوله: "فاصرفه عني"؛ لأنه قد يصرف الله تعالى عن المستخير ذلك الأمر، ولا يصرف قلبه عنه، بل يبقى متعلقاً متشوفًا إلى حصوله، فلا يطيب له خاطر، فإذا صرفه الله، وأصرفه هو عنه، كان ذلك أكمل. وفيه دليل لأهل السنة أن الشر من تقدير الله على العبد؛ لأنه لو كان يقدر على اختراعه لقدر على صرفه، ولم يحتج إلى طلب صرفه عنه. وقوله: "واقدر لي الخير حيث كان" في حديث أبي سعيد بعد قوله: "واقدر لي الخير أينما كان، لا حول ولا قوة إلا بالله" وقوله: "ثم رضنّي به" بالتشديد، وفي رواية قُتيبة هنا "ثم أَرْضِنِي به" بهمزة قطع أي: اجعلني به راضيًا، وفي بعض طرق حديث ابن مسعود عند الطبرانيّ في الأوسط "ورضنَّي بقضائك" وفي حديث أبي أيوب: "ورضّني بقدرتك" والسر فيه أن لا يبقى قلبه متعلقًا به، فلا يطمئن خاطره، والرضى سكون النفس إلى القضاء. وفي الحديث شفقة النبي -صلى الله عليه وسلم- على أُمته، وتعليمهم جميع ما ينفعهم في دينهم ودنياهم. وفي بعض طرقه عند الطبرانيّ في حديث ابن مسعود أنه -صلى الله عليه وسلم-، كان يدعو بهذا الدعاء إذا أراد أن يصنع أمرًا. وفيه أن العبد لا يكون قادرًا إلاَّ مع الفعل لا قبله، والله خالق العلم بالشيء للعبد، وهمه به واقتداره عليه، فإنه يجب على العبد رد الأمور كلها إلى الله تعالى، والتَّبَرُّؤ من الحول والقوة إليه، وأن يسأل ربه في أموره كلها. واستدل به على أن الأمر بالشيء ليس نهيًا عن ضده؛ لأنه لو كان كذلك لاكتفى بقوله: "إن كنت تعلم أنه خيرٌ لي" عن قوله: "وإن كنت تعلم أنه شرٌ لي" إلخ؛ لأنه إذا لم يكن خيرًا فهو شر. وفيه نظر لاحتمال وجود الواسطة، قاله في "الفتح". قلت: الخير والشر ضدّان ولا واسطة بينهما، والخلاف في المسألة شهير عند أهل الأُصول.

رجاله أربعة

واختلف في ماذا يفعل المستخير بعد الاستخارة، فقال ابن عبد السلام: يفعل ما اتفق عليه. ويستدل له بقوله في بعض طرق حديث ابن مسعود في آخره: "ثم يعزم"، وأول الحديث: "إذا أراد أحدكم أمرًا فليقل" وقال النوويّ في "الأذكار": يفعل بعد الاستخارة ما ينشرح له صدره، ويستدل له بحديث ابن السني عن أنس: "إذا هممت بأمرٍ فاستخر ربك سبعًا ثم انظر إلى ما يسبق في قلبك، فإنّ الخير فيه" وهذا لو ثبت لكان هو المعتمد، لكن سنده واهٍ جدًا، والمعتمد أنه لا يفعل ما انشرح له صدره مما كان له فيه هوى قوى قبل الاستخارة، وإلى ذلك الإشارة بقوله، في حديث أبي سعيد: "ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله". ويستحب تكرار الاستخارة في الأمر الواحد إذا لم يظهر له وجه الصواب في الفعل أو الترك، حتى ينشرح صدره لما يفعل، ويستدل لهذا بأن النبيّ عليه الصلاة والسلام، كان إذا دعا دعا ثلاثًا، وأما حديث إبراهيم بن البرّاء بأنه يكرر الاستخارة سبعًا فإنه باطل. رجاله أربعة: مرّ منهم قتيبة بن سعيد في الحادي والعشرين من الإيمان، ومرّ محمد بن المُنْكَدِر في التاسع والخمسين من الوضوء، ومرّ جابر في الرابع من بدء الوحي. الرابع: عبد الرحمن بن أبي الموالي، واسمه زيد، مرّ في الخامس من كتاب الصلاة، أخرجه البخارجي أيضًا في الدعوات والتوحيد، وأبو داود والتِّرْمِذِيَّ وابن ماجه في الصلاة، والنَّسائيّ في النكاح وفي التصوت وفي اليوم والليلة. الحديث السادس والأربعون حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيِّ سَمِعَ أَبَا قَتَادَةَ بْنَ رِبْعِيٍّ الأَنْصَارِيَّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلاَ يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ. وهذا الحديث مرّ الكلام عليه مستوفىً في أوائل الصلاة في باب "مَنْ دخل المسجد فليركع ركعتين". رجاله خمسة: مرّ منهم المكيّ بن إبراهيم في السابع والعشرين من العلم، ومرّ عامر بن عبد الله في الثامن والأربعين منه، ومرّ عمرو بن سليم في الثامن والأربعين من استقبال القبلة، ومرّ أبو قتادة في التاسع عشر من الوضوء. والخامس: عبد الله بن سعيد بن أبي هند الفزاريّ، مولاهم، أبو بكر المدنيّ. قال أحمد: ثقة ثقة، وقال ابن مُعين: ثقة، وقال أبو داود: ثقة، روى عنه يحيى، ولم يرفعه كما رفع غيره، وقال

الحديث السابع والأربعون

ابن سعد: كان ثقةً كثير الحديث، وقال العجليُّ ويعقوب وسفيان: مدنيّ ثقة، ووَثّقَه ابن المَدِينيّ وابن البّرقِيّ، وذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال: يخطىء. وقال الباهليّ: سألت يحيى بن سعيد عنه فقال: كان صالحًا يعرف وينكر. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، روى عن أبيه وأبي أُمامة بن سهل بن حُنَيف وسعيد بن المُسَيَّب وغيرهم. وروى عنه مالك وابن المبارك ووكيع وغيرهم. مات سنة ست أو سبع وأربعين ومئة. الحديث السابع والأربعون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ انْصَرَفَ. وهذا الحديث مرّ الكلام عليه مستوفىً في باب الصلاة على الحصير. رجاله أربعة: قد مرّوا، مرّ عبد الله بن يوسف ومالك في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ إسحاق بن عبد الله في الثامن من العلم، وأنس في السادس من الإيمان. الحديث الثامن والأربعون حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ. وقوله: "قبل الظهر ركعتين" في حديث عائشة الآتي بعد أربعة أبواب كان لا يدع أربعًا قبل الظهر" قال الداودي: وقع في حديث ابن عمر أن "قبل الظهر ركعتين". وفي حديث عائشة: "أربعًا" وهو محمول على أن كل واحد منهما وصف ما رأى، قال: ويحتمل أن يكون نسي ابن عمر ركعتين من الأربع، وهذا احتمال بعيد. والأولى أن يحمل على حالين، فكان تارة يصلي ثِنتين، وتارة يصلي أربعًا. وقيل: هو محمول على أنه كان في المسجد يقتصر على ركعتين، وفي بيته يصلي أربعًا. ويحتمل أن يكون يصلي إذا كان في بيته ركعتين، ثم يخرج إلى المسجد فيصلي ركعتين، فرأى ابن عمر ما في المسجد دون ما في بيته، واطلعت على الأمرين. ويُقويّ الأول ما رواه أحمد وأبو داود عن عائشة: "كان يصلي في بيته قبل الظهر أربعًا، ثم يخرج" قال أبو جعفر الطبريّ: الأربع كانت في كثير من أحواله، والركعتان في قليلها. وقوله:

رجاله ستة

"وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء" في الباب التالي لهذا زيادة، "فأما المغرب والعشاء ففي بيته" وقد ورد في باب الصلاة "بعد الجمعة وقبلها" في آخر كتاب الجمعة ما فيهما من الترغيب. واستدل بقوله: "في بيته" على أن فعل النوافل الليلية أفضل في البيوت من المسجد، بخلاف رواتب النهار، وحُكِي ذلك عن مالك والثَّوْرِيّ، وفي الاستدلال به لذلك نظر، والظاهر أن ذلك لم يقع عن عمد، وإنما كان عليه الصلاة والسلام يشاغل في النهار بالناس غالبًا وبالليل يكون في بيته غالبًا، وقد تقدم في الجمعة عن مالك: "وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف" والحكمة في ذلك أنه كان يبادر إلى الجمعة ثم ينصرف إلى القائلة، بخلاف الظهر، فإنه كان ببرد بها، وكان يقيل قبلها، وقد مرّ ما في هذا في الجمعة، وأغرب ابن أبي ليلى فقال: لا تجزىء سنة المغرب في المسجد، حكاه عبد الله بن أحمد عنه عقب روايته لحديث محمود بن لبيد "أن الركعتين بعد المغرب من صلاة البيوت". وقال: إنه حكى ذلك لأبيه عن ابن أبي ليلى فاستحسنه. رجاله ستة: قد مرّوا، مرّت الأربعة الأول بهذا النسق في الثالث من بدء الوحي، ومرّ سالم بن عبد الله في السابع عشر من الإيمان ومرّ أبوه في أوله قبل ذكر حديث منه. الحديث التاسع والأربعون حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يَخْطُبُ: إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ أَوْ قَدْ خَرَجَ فَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ. وهذا الحديث مرّ الكلام عليه مستوفىً في الجمعة في باب "إذا رأى الإِمام رجلًا جاء وهو يخطب". رجاله أربعة: مرّوا، مرّ آدم وشعبة في الثالث من الإيمان، ومرّ عمرو بن دينار في الرابع والخمسين من العلم، وجابر في الرابع من بدء الوحي. الحديث الخمسون. حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَيْفُ قَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا يَقُولُ: أُتِيَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما فِي مَنْزِلِهِ فَقِيلَ لَهُ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَدْ دَخَلَ الْكَعْبَةَ قَالَ: فَأَقْبَلْتُ فَأَجِدُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَدْ خَرَجَ، وَأَجِدُ بِلاَلاً عِنْدَ الْبَابِ قَائِمًا فَقُلْتُ: يَا بِلاَلُ، صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ

رجاله أربعة

-صلى الله عليه وسلم- فِي الْكَعْبَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ فَأَيْنَ؟ قَالَ: بَيْنَ هَاتَيْنِ الأُسْطُوَانَتَيْنِ. ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فِي وَجْهِ الْكَعْبَةِ. وهذا الحديث قد مرّ في باب "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلَّى" ومرّ الكلام عليه هناك مستوفى. رجاله أربعة: وفيه ذكر بلال، وقد مرّ الجميع، مرّ أبو نعيم في الخامس والأربعين من الإيمان، ومرّ سيف بن سليمان في الخامس من استقبال القبلة، ومرّ مجاهد وابن عمر في أول الإيمان، قبل ذكر حديث منه. ومرّ بلا ل التاسع والثلاثين من العلم. ثم قال: قال أبو عبد الله: قال أبو هريرة، رضي الله هـ تعالى عنه: أوصاني النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، بركعتي الضحى. هذا قطعة من حديث يأتي موصولًا عند المصنف في باب صلاة الضحى في الحضر. ويأتي الكلام عليه هناك إن شاء الله تعالى. وأبو هريرة مرّ في الثاني من الإِيمان. ثم قال: وقال عَتبان: "غدا عليَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأبو بكر رضي الله عنه بعدما احتد النهار، وصففنا وراءه، فركع ركعتين" وهذا أيضًا قطعة من حديث تقدم مطولًا في باب المساجد في البيوت، وتقدم الكلام عليه هناك مستوفىً غاية الاستيفاء، ثم أعلم أن مراد المصنف بهذه الأحاديث الرد على مَنْ زعم أن التطوع في النهار يكون أربعًا موصولة. واختار الجمهور التسليم من كل ركعتين في صلاة الليل والنهار، وقال أبو حنيفة وصاحباه: يخير في صلاة النهار بين الثنتين والأربع، وكرهوا الزيادة على ذلك. وقد تقدم في باب الحلق والجلوس في المسجد حكايةُ استدلال مَنْ استدل بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "صلاة الليل مثنى" على أن صلاة النهار بخلاف ذلك، وتقدم الرد عليه هناك، ومرّ استيفاء الكلام على هذا البحث هناك. وقال ابن المنير: إنما خص الليل بذلك؛ لأن فيه الوتر، فلا يقاس على الوتر غيره، فيتنفل المصلى بالليل أوتارًا، فبين أن الوتر لا يعاد، وأن بقية صلاة الليل مثنى مثنى، وإذا ظهرت فائدة تخصيص الليل صار حاصلُ الكلام صلاةَ النافلة غير الوتر مثنى، فيعم الليل والنهار. ومرّ عتبان في التاسع والعشرين من استقبال القبلة في الباب المذكور آنفًا، ومرّ أبو بكر في باب مَنْ لم يتوضأ من لحم الشاة بعد الحادي والسبعين من الوضوء، ومرّ عمر في الأول من بدء الوحي.

خاتمة

خاتمة اشتملت أبواب التهجد وما انضم إليها على ستة وستين حديثًا، المعلق اثنا عشر حديثًا، والبقية موصولة، المكرر منها فيه وفيما مضى ثلاثة وأربعون حديثًا، والخالص ثلاثة وعشرون، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث عائشة في صلاة الليل سبعٌ وتسعٌ وإحدى عشرة، وحديث أنس: "كان يفطر حتى نظن أن لا يصوم"، وحديث سمرة في الرؤيا، وحديث سلمان وأبي الدرداء، وحديث عبادة مَنْ تَعَارَّ من الليل، وحديث أبي هريرة في شعر ابن رواحة، وحديث جابر في الاستخارة، وفيه من الآثار عن الصحابة والتابعين عشرة آثار والله تعالى أعلم. ثم قال المصنف:

أبواب التطوع

أبواب التطوع قال في "الفتح": لم يفرد المصنف هذه الترجمة فيما وقفت عليه من الأصول. ثم قال: باب التطوع بعد المكتوبة ترجم أولًا بما بعد المكتوبة، ثم ترجم بعد ذلك بما قبل المكتوبة، وكان الموضع الطبيعي يقتضي تقديم ما قبل المكتوبة. قلت: الظاهر أنه فعل ذلك نظرًا إلى شدة احتياج الاهتمام في أداء التطوعات بعد الفرائض، ولعله فعل ذلك لما يأتي عنه قريبًا من أنه موجود من لم يتطوع بعد المكتوبة، فأوجب ذلك الاهتمام والحكمة في مشروعية التطوع بعد الفريضة تكميل الفرائض إن فرض فيها نقص. والتطوع عند الشافعية ما رجح الشرع فعله على تركه، وجاز تركه، فالتطوع والمستحب والمندوب والنافلة والمرغب فيه ألفاظٌ مترادفة. وعند المالكية الفضيلةُ والمستحبُّ والمندوب مترادفةٌ، والتطوع هو ما ينشئه الإنسان لنفسه من الأوراد، والنافلة لُغةً، الزيادة، واصطلاحًا مرادفة للنَّدْب. وقال بعضهم: هي ما أعلم عليه الصلاة والسلام بأن فيه ثوابًا، ولم يأمر به، ولم يرغب فيه الترغيب الحاصل في الرغيبة الحاصل في ما لم يداوم على فعله، والرغيبة ما رغَّب فيه الشارع بأن ذكر ما فيه من الأجر، كقوله: مَنْ فعل كذا فله كذا، أو داوم على فعله ولم يظهره في جماعة. والسنة ما واظب عليه، عليه الصلاة والسلام، وأظهره في جماعة ولم يقم دليل على وجوبه. الحديث الأول حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَني نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ، وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ، فَأَمَّا الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ فَفِي بَيْتِهِ. قوله: "مع النبي -صلى الله عليه وسلم- سجدتين" أي: ركعتين، والمراد بقوله: مع التبيعة أي: أنهما اشتركا في كون كل منهما صلاهما لا التجميع، فلا حجة فيه لمن قال: يجمع في رواتب الفرض، وسيأتي بعد أربعة أبواب عن ابن عمر أنه قال: حفظت من النبي -صلى الله عليه وسلم- عشر ركعات، وقد مرّ الكلام على هذا الحديث في آخر الباب الذي قبله. وقوله: "وحدثتني أختي حفصة" أي: بنت عمر، وقائل ذلك هو

رجاله خمسة

ابن عمر، وقوله: "يصلي سجدتين" في رواية الكشميهنىّ "ركعتين"، وقوله: "وكانت ساعة" قائل ذلك ابن عمر، وسيأتي من رواية أيوب بلفظ "ركعتين قبل صلاة الصبح، وكانت ساعة لا أدخل على النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها، وحدثتني حفصة أنه كان إذا أذن المؤذن، وطلع الفجر صلّى ركعتين، وهذا يدل على أنه إنما أخذ من حفصة وقت إيقاع الركعتين قبل الصبح، لا أصل مشروعيتهما، وقد تقدم الحديث في أواخر الجمعة من رواية مالك عن نافع، وليس فيه ذكر الركعتين اللتين قبل الصبح أصلًا. قلت: قد مرّ أيضًا من رواية مالك عن نافع في باب الأذان "بعد الفجر"، وفيه ذكر ركعتين خفيفتين قبل أن تقام الصلاة، ومرّ استيفاء الكلام عليهما عند ذلك المحل. وفيه حجة لمن ذهب إلى أن للفرائض رواتب تستحب المواظبة عليها، وهو قول الجمهور. وذهب مالك في المشهور عنه، إلى أنه لا توقيت في ذلك حماية للفرائض، لكن لا يمنع من تطوع بما شاء إذا أَمِن ذلك. وذهب العراقيون من أصحابه إلى موافقة الجمهور. قلت: الرواتب، التي قبل الفرض وبعده، تستحب المداومة عليها عند المالكية، إلا أنها غير محدودة بعدد مخصوص لا يتعداه ولا ينقص عنه، بحيث تكون الزيادة عليه أو النقص عنه مفوتًا له، أو يكون مكروهًا أو خلاف الأَوْلى، والأعداد الواردة في الأحاديث ليست للتحدد عندهم. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ مسدد ويحيى القَطّان في السادس، من الإيمان، وابن عمر في أوله قبل ذكر حديث منه، ومرّ عبيد الله العمريّ في الرابع عشر من الوضوء، ونافع في الأخير من العلم. وفي الحديث رواية ابن عمر عن أخته حفصة أُم المؤمنين، وقد مرّت في الثالث والستين من الوضوء. والحديث أخرجه البخاريّ فيما مضى، وفيما يأتي، وأخرجه مسلم. ثم قال: وقَالَ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ: بَعْدَ الْعِشَاءِ فِي أَهْلِهِ، أي: بدل قوله: "في بيته"، وهذا التعليق لم أقف على مَنْ وصله. ورجاله ثلاثة، مرَّ ابن أبي الزناد، واسمه عبد الرحمن، في الثاني من الاستسقاء، ومرّ موسى بن عقبة في الخامس من الوضوء، ومرَّ نافع في الأخير من العلم. ثم قال: تابعه كثير بن فَرْقَد، وأيوب عن نافع، كذا عند أبي ذَرٍّ، والأصيليّ، بتقديم "قال ابن أبي الزناد" على قوله: "تابعه"، ولغيره تأخيره، أما متابعة كثير فلم يقف صاحب "الفتح" على مَنْ وصلها، ومتابعة أيوب تأتي للمصنف بعد أربعة أبواب، وقد مرت الإشارة لها. وقد مرّ كثير بن فرقد في الثلاثين من كتاب العيدين، ومرّ أيوب في التاسع من الإيمان. ثم قال المصنف:

باب من لم يتطوع بعد المكتوبة

باب مَنْ لم يتطوع بعد المكتوبة الحديث الثاني حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الشَّعْثَاءِ جَابِرًا قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ثَمَانِيًا جَمِيعًا وَسَبْعًا جَمِيعًا. قُلْتُ: يَا أَبَا الشَّعْثَاءِ أَظُنُّهُ أَخَّرَ الظُّهْرَ وَعَجَّلَ الْعَصْرَ وَعَجَّلَ الْعِشَاءَ وَأَخَّرَ الْمَغْرِبَ. قَالَ: وَأَنَا أَظُنُّهُ. مطابقته للترجمة من حيث أن الجمع يقتضي عدم التخلل بين الصلاتين بصلاة راتبة أو غيرها، فيدل على ترك التطوع بعد الأولى، وهو المراد، وأما التطوع بعد الثانية فمسكوت عنه، وكذا التطوع قبل الأولى محتمل، وهذا الحديث قد تقدم في باب تأخير الظهر إلى العصر، من المواقيت، وتقدم الكلام عليه هناك. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ عَلِي بن المَدِينيّ في الرابع عشر من العلم، وعمرو بن دينار في الرابع والخمسين منه، ومرّ ابن عُيينة في الأول من بدء الوحي، وابن عباس في الخامس منه، ومرّ أبو الشعثاء جابر بن زيد في السادس من الغُسل، والحديث أخرجه في باب المواقيت، وقد مرّ الكلام عليه هناك. ثم قال المصنف:

باب صلاة الضحى في السفر

باب صلاة الضحى في السفر الحديث الثالث حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ عَنْ تَوْبَةَ عَنْ مُوَرِّقٍ قَالَ: قُلْتُ لاِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَتُصَلِّى الضُّحَى؟ قَالَ: لاَ. قُلْتُ: فَعُمَرُ. قَالَ: لاَ. قُلْتُ: فَأَبُو بَكْرٍ. قَالَ: لاَ. قُلْتُ: فَالنَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: لاَ إِخَالُهُ. قوله: "عن مُوَرَّق" عند الإسماعيليّ "عن شعبة سمعت مورقًا" أخرج المصنف هذا الحديث وحديث أم هانىء في هذا الباب، واستشكل دخول هذا الحديث في هذه الترجمة. قال ابن بطّال: ليس هو من هذا الباب، وإنما يصح في باب "مَنْ لم يُصَلِّ الضحى"، وأظنه من غلط الناسخ، وقال ابن المنير: الذي يظهر لي أن البخاريّ لما تعارضت عنده الأحاديث نفيًا، كحديث ابن عمر هذا، وإثباتًا كحديث أبي هريرة في الوصية له أن يصلي الضحى -نَزَّل حديث النفي على السفر، وحديث الإثبات على الحضر. ويؤيد ذلك أنه ترجم لحديث أبي هريرة صلاة الضحى في الحضر، وتقدم عن ابن عمر أنه كان يقول: لو كنت مسبحًا في السفر لأتممت. قلت: هذا لا يصح، فلو كان مُنَزِّلًا لحديث النفي على السفر، ما ذكره في ترجمة إثبات صلاة الضحى. وأما حديث أم هانىء ففيه إشارة إلى أنها تصلي في السفر بحسب السهولة لفعلها، قلت: وهو موافق للترجمة. وقال ابن رشيد: ليس في حديث أبي هريرة التصريح بالحضر، لكن استند ابن المنير إلى قوله فيه: "ونم على وتر" فإنه يفهم من كون ذلك في الحضر؛ لأن المسافر غالب أحواله الاستيفاز وسهر الليل، فلا يفتقر لإِيصاء على أن لا ينام إلا على وتر، وكذا الترغيب في صيام ثلاثة أيام، قال: والذي يظهر لي أن المراد باب "صلاة الضحى في السفر" نفيًا وإثباتًا، وحديث ابن عمر ظاهره نفي ذلك حضرًا وسفرًا، وأقل ما يحمل عليه نفي ذلك في السفر لما تقدم في باب "مَنْ لم يتطوع في السفر" عن ابن عمر قال: صحبت النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فكان لا يزيد على ركعتين. قال: ويحتمل أن يقال لما نفى صلاتهما مطلقًا من غير تقييد بحضر ولا سفر، وأقل ما يتحقق حمل اللفظ عليه السفر، ويبعد حمله على الحضر، دون السفر -فحمل على السفر دون الحضر؛ لأنه المناسب للتخفيف، لما عرف من عادة ابن عمر أنه كان لا يتنفل في السفر نهارًا. قلت: هذا الاحتمال لا يستقيم مع كون الترجمة بالإثبات، والحديث بالنفي، ثم قال: وأورد حديث أم هانىء ليبين أنها إذا كانت في السفر حالُ طمانينةٍ تشبه حالةَ الحضر، كالحلول بالبلد،

رجاله ستة

شُرِعت الضحى، وإلا فلا. قال في "الفتح": الظاهر أن البخاريّ أشار بالترجمة المذكورة إلى ما رواه أحمد عن أنس بن مالك، قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، صلّى في السفر سَبْحَة الضحى ثمان ركعات، فأراد أن تَرَدُّدَ ابن عمر في كونه صلاّها أم لا، لا يقتضي رَدَّ ما جزم به أنس، بل يؤيده حديث أم هانىء في ذلك. وحديث أنس المذكور صححه ابن خُزيمة والحاكم. وقوله: "لا إخاله" بكسر الهمزة وتفتح، والخاء معجمة، أي: لا أظنه، وكان سبب توقف ابن عمر في ذلك، أنه بلغه عن غيره أنه صلّاها ولم يثق بذلك عمن ذكره، وقد جاء عنه الجزم بكونها محدثة، فروى سعيد بن منصور، بإسناد صحيح عن ابن عمر، أنه قال: إنها محدثة، وإنها لمن أحسن ما أحدثوا، وسيأتي في أول أبواب العمرة عن مجاهد قال: "دخلت أنا وعُروة بن الزبير المسجد، فإذا عبد الله بن عمر جالس إلى حُجْرة عائشة، وإذا ناس يصلون الضحى، فسألناه عن صلاتهم، فقال: بدعة". وروى ابن أبي شيبة، بإسناد صحيح عن الأعرج، قال: سألت ابن عمر عن صلاة الضحى قال: بدعة ونِعْمَت البدعة. وروى عبد الرزاق، بإسنادٍ صحيح عن سالم عن أبيه، قال: لقد قتل عثمان وما أحد يسبحها، وما أحدث الناس شيئًا أحب إليَّ منها. وروى ابن أبي شيبة، بإسنادٍ صحيح عن الشعبيّ عن ابن عمر، قال: ما صليت الضحى منذ أسلمت، إلا أن أطوفَ بالبيت فأُصلي في ذلك الوقت، لا على نية الضحى، بل على نية الطواف، ويحتمل أنه كان ينويهما معًا. وقد جاء عن ابن عمر أنه كان يفعل ذلك في وقت خاص، كما يأتي بعد سبعة أبواب عن نافع أن ابن عمر كان لا يصلي الضحى إلا يوم يقدم مكة، فإنه كان يقدمها ضحى، فيطوف بالبيت، ثم يصلي ركعتين، ويوم يأتي مسجد قباء. وروى ابن خزيمة عن نافع عن ابن عمر: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم-، لا يصلي الضحى إلا أن يقدم من غيبة"، وأما مسجد قباء، فقال سعيد بن منصور عن عبد الله بن دينار: إن ابن عمر كان لا يصلي الضحى، ويحتمل أن يكون ينويهما معًا كما مرّ في الطواف. وفي الجملة ليس في أحاديث ابن عمر هذه ما يدفع مشروعية صلاة الضحى؛ لأن نفيه محمول على عدم رؤيته، لا على عدم الوقوع في نفس الأمر، أو الذي نفاه صفة مخصوصة، كما جاء نحوه في الكلام على حديث عائشة. قال عياض وغيره: إنما أنكر ابن عمر ملازمتها وإظهارها في المسجد وصلاتها جماعة، لا أنها مخالفة للسنة. ويؤيده ما رواه ابن أبي شَيبة عن ابن مسعود أنه رأى قومًا يصلونها فأنكر عليهم. وقال: إن كان ولابد، ففي بيوتكم. رجاله ستة: وفيه ذكر أبي بكر وعمر. مرّ مُسدد ويحيى القَطّان في السادس من الإيمان، وشُعبة في الثالث منه، وابن عمر في أوله قبل ذكر حديث منه، ومرّ أبو بكر في باب "مَنْ لم يتوضأ من لحم الشاة" بعد الحادي والسبعين من الوضوء، ومرّ عمر في الأول من بدء الوحي.

لطائف إسناده

والباقيان اثنان الأول: تَوْبةَ بن أبي الأسد العَنبريّ أبو المُوَرِّع، بضم الميم وكسر الراء مشددة، البصريّ، واسم أبي الأسد كَيْسانُ بن راشد، وقيل توبة بن أبي راشد، ويقال ابن أبي المورع. قال ابن مُعين وأبو حاتم والنَّسائيّ: ثقة، وذكره ابن حِبّان في الثقات. ولّاه يوسف بن عمر سابورَ ثم ولّاه الأهواز. وروى المدائنيّ عن توية قال: عملت ليوسف بن عمر فحبسني حتى لم يبق في رأسي شعرة سوداء. وقال الأزديّ: وَحَدَّهُ توبة منكر الحديث. قال في المقدمة: تفرد بهذا الأزديّ. وليس له في البخاريّ إلا حديثان أو ثلاثة. روى عن أنس. ومورق العجليّ والشعبيّ وغيرهم. وروى عنه شُعبة والثَّوري وأَبو الأشهب وغيرهم. مات بعد ثلاثين ومئة، وله أربع وسبعون سنة. الثاني: مُورِّق، بضم الميم وكسر الراء المشددة، ابن مُشَمْرَج، بضم الميم الأول وسكون الثانية وفتح الشين والراء، ويقال ابن عبد الله العجليّ، أبو معمر البصريَّ، ذكره ابن حِبّان في الثقات. وقال النَّسائيّ: ثقة، وقال ابن سعد: كان ثقة عابدًا، وقال ابن حِبّان: كان من العُبَّاد الخشن. وقال العجلي: بصريّ تابعيّ ثقة. روى عن عمر وسلمان الفارسيّ وأبي ذَرٍّ وأبي الدرداء وابن عمر وغيرهم. وروى عنه قَتَادة وعاصم الأحول ومُجاهد وحُمَيد الطويل وغيرهم. مات سنة ثلاث أو خمس أو ثمان ومئة. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، ورواته كلهم بصريون ما خلا شعبة، فإنه واسطيّ، وفيه رواية التابعيّ عن التابعيّ، وشيخ البخاريّ من أفراده، والحديث أيضًا من أفراده. الحديث الرابع حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ: مَا حَدَّثَنَا أَحَدٌ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي الضُّحَى غَيْرَ أُمِّ هَانِىء فَإِنَّهَا قَالَتْ: إِنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ بَيْتَهَا يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فَاغْتَسَلَ وَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ فَلَمْ أَرَ صَلاَةً قَطُّ أَخَفَّ مِنْهَا، غَيْرَ أَنَّهُ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ. قوله: "ما حدثنا أحد" في رواية ابن أبي شيبة من وجه آخر، عن ابن أبي ليلى قال: أدركتُ الناس وهم متوافرون، فلم يخبرني أحد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى الضحى، إلاَّ أم هانىء. ولمسلم عن عبد الله بن الحارث الهاشميّ قال: سألت وحرصت على أن أجد أحدًا من الناس يخبرني أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سبح سبحة الضحى، فلم أجد غير أُم هانىء، وبيّن ابن ماجه في روايته وقت سؤال عبد الله بن الحارث عن ذلك، ولفظه: "سألت في زمن عثمان. والناس متوافرون". وقوله: "غير أُم هانىء"، برفع غير؛ لأنه بدل من قوله أحد. وقوله "ثمان ركعات" زاد كريب عن أُم هانىء: "فسلم من كل ركعتين" أخرجه ابن خزيمة.

رجاله خمسة

وفيه رد على مَنْ تمسك به في صلاتها موصولة، سواء صلى ثمان ركعات أو أقل. وقوله: "فلم أر صلاةً قط أخف منها" يعني من صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد تقدم في أواخر أبواب التقصير بلفظ: "فما رأيته صلّى صلاة قط أخف منها" وفي رواية عبد الله بن الحارث المذكورة "لا أدري أقيامه فيها أطول أم ركعه أم سجوده؟ كل ذلك متقارب" واستدل به على استحباب تخفيف صلاة الضحى، وفيه نظر، لاحتمال أن يكون السبب فيه التنوع لمهمات الفتح، لكثرة شغله به، وقد ثبت من فعله -صلى الله عليه وسلم-، أنه صلّى الضحى فطول فيها. أخرجه ابن أبي شَيبة عن حُذيفة، وقد مرّت مباحث هذا الحديث مستوفاة في باب الصلاة في الثوب الواحد، ملتحفًا به، في أوائل الصلاة، استوفيت فيه أبحاث صلاة الضحى إلى ما ذكر هنا. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ آدم وشُعبة في الثالث من الإِيمان، ومرّ عَمْرو بن مُرَّة في السبعين من الجماعة، ومرّ عبد الرحمن بن أبي ليلى في الثالث والستين من صفة الصلاة، ومرّت أُم هانىء في الثلاثين من الغُسل، وقد مرّ الكلام عليه في باب مَنْ تطوع في السفر. ثم قال المصنف:

باب من لم يصل الضحى ورآه واسعا

باب مَنْ لم يصل الضحى ورآه واسعًا قوله: ورآه أي الترك واسعًا أي: مباحًا. الحديث الخامس حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- سَبَّحَ سُبْحَةَ الضُّحَى، وَإِنِّي لأُسَبِّحُهَا. قوله: "سُبْحَةَ الضُّحَى" قد تقدم أن المراد بقوله: السبحة النافلة، وأصلها من التسبيح، وخصت النافلة بذلك؛ لأن التسبيح الذي في الفريضة نافلة، فقيل لصلاة النافلة؛ لأنها كالتسبيح في الفريضة، وهذا الحديث مرّت مباحثه عند حديث أُم هانىء في الباب المذكور آنفًا. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ محل آدم في الذي قبله، ومرّ ابن أبي ذيب في الستين من العلم، ومرّ الزهريّ في الثالث من بدء الوحي، وعُروة وعائشة في الثاني منه. ثم قال المصنف:

باب صلاة الضحى في الحضر

باب صلاة الضحى في الحضر قاله عَتبان بن مالك عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، كأنه يشير إلى ما رواه أحمد عن محمود بن الربيع عن عتبان بن مالك: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، صلى في بيته سبحة الضحى، فقاموا وراءه، فصلّوا بصلاته. وأخرجه مسلم عن يونس مطولًا، لكنه ليس فيه ذكر السبحة، وأخرجه المصنف مطولًا ومختصرًا في مواضع. وقد مرّ الكلام عليه مستوفىً في باب المساجد في البيوت، ومرّ هناك عتبان بن مالك. الحديث السادس حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّاسٌ الْجُرَيْرِيُّ هُوَ ابْنُ فَرُّوخَ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه قَالَ: أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلاَثٍ لاَ أَدَعُهُنَّ حَتَّى أَمُوتَ صَوْمِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَصَلاَةِ الضُّحَى، وَنَوْمٍ عَلَى وِتْرٍ. قوله: "أوصاني خليلي"، الصديق الخالص الذي تخللت محبته القلب، فصارت في خلاله، أي: في باطنه، واختلف هل الخلة أرفع من المحبة أو العكس؟ وقوله: "أبي هريرة" هذا لا يعارضه ما تقدم من قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لو كنت متخذًا خليلًا لاتخذت أبا بكر"؛ لأن الممتنع أن يتخذ هو -صلى الله عليه وسلم- غير الله خليلًا، لا العكس ولا يقال: إن المخالة لا تتم حتى تكون من الجانبين؛ لأنا نقول: إنما نظر الصحابي إلى أحد الجانبين فأطلق ذلك، أو لعله أراد مجرد الصحبة أو المحبة. وقوله: "لا أدعهن حتى أموت" يحتمل أن يكون قوله: "لا أدعهن" من جملة الوصية، أي: أوصاني لا أدعهن، ويحتمل أن يكون من إخبار الصحابي بذلك عن نفسه. وقوله: "صوم ثلاثة أيام" بالخفض بدل من قوله: ثلاث، ويجوز الرفع على أَنه خبر مبتدأ محذوف. وقوله: "من كل شهر" الذي يظهر أن المراد بها البيْض، ويأتي تفسيرها في كتاب الصوم. وقوله: "ونوم على وتر" في رواية أبي التَّيّاح في الصيام "وأن أَوتر قبل أنام". وفيه استحباب تقدم الوتر على النوم، وذلك في حق مَنْ لم يثق بالاستيقاظ، ويتناول من يصلي بين النومين. وهذه الوصية لأبي هريرة ورد مثلها لأبي الدرداء فيما رواه مسلم، ولأبي ذَرٍ فيما رواه النَّسائيّ. والحكمة في الوصية على المحافظة على ذلك تمرينُ النفس على جنس الصلاة والصيام، ليدخل في الواجب منهما بانشراح، وليخير ما لعله يقع من نقص، واقتصر في الوصية للثلاثة المذكورين على الثلاثة المذكورة؛ لأن الصلاة والصيام أشرف العبادة البدنية، ولم يكن المذكورون من

رجاله خمسة

أصحاب الأموال، وخصت الصلاة بشيئين؛ لأنها تقع ليلاً ونهارًا، بخلاف الصيام، وليس في حديث أبي هريرة تقييد بسفر ولا حضر، والترجمة مختصة بالحضر، لكن الحديث يتضمن الحضر؛ لأن إرادة الحضر فيه ظاهرة، وحمله على الحضر والسفر ممكن، وأما حمله على السفر دون الحضر فبعيد؛ لأن السفر مظنة التخفيف، وقد مرّ بعض مباحث هذا الحديث عند حديث أم هانىء، في باب الصلاة في الثوب الواحد ملتحفًا به. رجاله خمسة: قد مرّوا إلا عباس، مرّ مسلم بن إبراهيم في السابع والثلاثين من الإيمان، ومرّ شعبة في الثالث منه، وأبو هريرة في الثاني منه، وأبو عثمان النَّهْدِيّ في الخامس من مواقيت الصلاة. وعباس هو ابن فَرُّوخ، بالخاء المعجمة وتشديد الراء المضمومة، الجرِيري، أبو محمد البصريّ. قال أحمد والنَّسائيّ: ثقة ثقة، وقال ابن مُعين: ثقة، وقال أبو حاتم: صدوق صالح الحديث، وذكره ابن حِبّان في الثقات، روى عن أبي عثمان النهديّ والحسن البَصْريّ وعمرو بن شعيب. وروى عنه شُعبة وهَمّام وكَهْمَس بن الحسن والحَمَّادان وغيرهم. مات كهلًا بعد العشرين ومئة. والجُريريَّ في نسبه، بضم الجيم، نسبة إلى جُرَير بن عُبَاد، بضم العين وتخفيف الباء الموحدة. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، ورواته بصريون ما خلا شُعبة، فإنه واسطيّ، أخرجه البخاريّ أيضًا في الصوم، ومسلم والنَّسائيّ في الصلاة. الحديث السابع حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ الأَنْصَارِيَّ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ وَكَانَ ضَخْمًا لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- إِنِّي لاَ أَسْتَطِيعُ الصَّلاَةَ مَعَكَ. فَصَنَعَ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- طَعَامًا، فَدَعَاهُ إِلَى بَيْتِهِ، وَنَضَحَ لَهُ طَرَفَ حَصِيرٍ بِمَاءٍ فَصَلَّى عَلَيْهِ رَكْعَتَيْنِ. وَقَالَ فُلاَنُ بْنُ فُلاَنِ بْنِ جَارُودٍ لأَنَسٍ رضي الله عنه أَكَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي الضُّحَى فَقَالَ: مَا رَأَيْتُهُ صَلَّى غَيْرَ ذَلِكَ الْيَوْمِ. وهذا الحديث قد مرّ في باب "هل يصلي الإمام بمن حضر" من أبواب الإمامة، ومرّ الكلام عليه هناك، وقوله: "يصلي الضحى" قال ابن رشيد: هذا يدل على أن ذلك كان كالمتعارف عندهم، وإلا فصلاته، عليه الصلاة والسلام، في بيت الأنصاريّ، وإن كانت في وقت الضحى، لا يلزم نسبتها لصلاة الضحى، إلا على تقدير أن القصة لعتبان، فقد مرّ في صدر الباب أنه سماها

رجاله أربعة

صلاة الضحى، ولكن قد مرّ لك في الباب المذكور آنفًا، ما يدل على تغايرهما. وتقييده ذلك بالحضر ظاهر، لكونه في بيته. وقوله: "ما رأيته صلى" في الرواية الماضية "ما رأيته يصلي الضحى"، وقوله: "إلا ذلك اليوم"، يأتي فيه ما مرّ من الجميع في حديث عائشة وابن عمر. رجاله أربعة: قد مرّوا، وفيه ذكر رجل مبهم، وذكر فلان بن فلان بن الجارود، مرّ علي بن الجَعْد في السادس والأربعين من الإيمان، وشعبة في الثالث منه، وأنس بن مالك في السادس منه، وأنس بن سيرين في الرابع والعشرين من الجماعة، وفلان بن فلان المراد به عبد الحميد بن المنذر بن الجارود، وقد مرّ مع أنس بن سيرين، والرجل المبهم عَتبان بن مالك، وقد مرّ في التاسع والعشرين من استقبال القبلة، ومرّ الكلام على هذا الحديث في محل أنس بن سيرين. ثم قال المصنف:

باب الركعتين قبل الظهر

باب الركعتين قبل الظهر ترجمه أولًا بالرواتب التي بعد المكتوبة، ثم أورد بما يتعلق بما قبلها. الحديث الثامن حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: حَفِظْتُ مِنَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- عَشْرَ رَكَعَاتٍ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فِي بَيْتِهِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ فِي بَيْتِهِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلاَةِ الصُّبْحِ، وَكَانَتْ سَاعَةً لاَ يُدْخَلُ عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِيهَا. حَدَّثَتْنِي حَفْصَةُ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ وَطَلَعَ الْفَجْرُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ. هذا الحديث قد مرّ الكلام عليه في باب "التطوع مثنى مثنى". رجاله خمسة: وفيه ذكر حفصة، وقد مرّ الجميع، مرّ سليمان بن حرب في الرابع من الإيمان، وحمّاد بن زيد في الرابع والعشرين منه، وأيوب في التاسع منه، وابن عمر في أوله قبل ذكر حديث منه، ونافع في الأخير من العلم، ومرّت حفصة في الثالث والستين من الوضوء. وقد أخرجه البخاريّ قريبًا في التهجد ومرّ الكلام عليه. الحديث التاسع حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ لاَ يَدَعُ أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْغَدَاةِ. قوله: "عن أبيه عن عائشة" في رواية وكيع عن شعبة عن إبراهيم عن أبيه: سمعت عائشة، فصرح بالسماع، أخرجه الِإسماعيليّ، وحكى عن شيخه أبي القاسم البغويّ أنه حدثه به عن عثمان بن عمر عن شعبة، فأدخل بين محمد بن المُنْتَشِر وعائشة مسروقاً، وأخبره أن حديث وكيع وَهْم، ورده الإسماعيليّ بأن محمد بن جعفر وافق وكيعًا على التصريح بسماع محمد من عائشة،

رجاله ستة

ثم ساقه بسنده إلى شعبة عن إبراهيم بن محمد، أنه سمع أباه، أنه سمع عائشة. قال الإسماعيليّ: ولم يكن يحيى بن سعيد القَطّان، الذي أخرجه البخاريّ من طريقه، ليحمله مدلسًا، قال: والوهم عندي من عثمان بن عمرو، بذلك جزم الدارقطنيّ في "العلل"، وأوضح أن رواية عثمان بن عمر من المزيد في متصل الأسانيد، لكن أخرجه الدّارميّ عن عثمان بن عمر بهذا الإِسناد، فلم يذكر فيه مسروقًا، فإما أن يكون سقط عليه، أو على مَنْ بعده، أو يكون الوهم في زيادته ممن دون عثمان بن عمر، وقد مرّ الجمع بين قول عائشة في الحديث هنا أربعًا. وقول ابن عمر: "ركعتين" عند حديث ابن عمر في باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى. رجاله ستة: قد مرّوا، مرّ مسدد ويحيى القطان في السادس من الإيمان، وشعبة في الثالث منه، وإبراهيم بن محمد بن المُنْتَشِر وأبوه محمد في العشرين من الغُسل، وعائشة في الثاني من بدء الوحي. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة، ورواته بصريان وواسطيّ وكوفيان. أخرجه أبو داود والنَّسائيّ في الصلاة. ثم قال: تابعه ابن أبي عديّ وعمرو عن شُعبة، زاد الإِسماعيليّ وابن المبارك ومُعاذ بن معاذ ووهب بن جرير، كلهم عن شعبة بسنده، وليس فيه مسروق. وقوله: "وعمرو عن شعبة" يعني عمرو بن مرزوق، أما متابعة ابن أبي عديّ فلم أقف على مَنْ وصلها، ومتابعة عمرٍو وَصَلها البرقانيّ في المصافحة. وابن أبي عديّ هو محمد بن أبي عديّ، مرّ في العشرين من الغُسل، وعمرو المراد به عمرو بن مرزوق، وقد مرّ في الحادي والأربعين من الغُسل. ثم قال المصنف:

باب الصلاة قبل المغرب

باب الصلاة قبل المغرب لم يذكر المصنف الصلاة قبل العصر، وقد ورد فيها حديث لأبي هريرة مرفوعًا، لفظه: "رحم الله أمرأ صلى قبل العصر أربعًا" أخرجه أحمد وأبو داود والتِّرْمِذِيّ، وصححه ابن حِبّان، وورد من فعله أيضًا من حديث عَلِيّ بن أبي طالب. أخرجه التِّرمِذِيّ والنَّسائىّ، وفيه أنه كان يصلّي قبل العصر أربعًا، وليسا على شرط البخاريّ. الحديث العاشر حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنِ الْحُسَيْنِ عَنِ عبد الله ابْنِ بُرَيْدَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: صَلُّوا قَبْلَ صَلاَةِ الْمَغْرِبِ. قَالَ فِي الثَّالِثَةِ لِمَنْ شَاءَ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً. قوله: "صلوا قبل صلاة المغرب" زاد أبو داود في روايته عن عبد الوارث بهذا الإِسناد "صلوا قبل المغرب ركعتين" ثم قال: "صلوا قبل المغرب ركعتين" وأعادها الإسماعيليّ من هذا الوجه ثلاث مرات، وهو موافق لقوله في رواية المصنف "قال في الثالثة: لمن شاء" وفي رواية أبي نعيم في المستخرج: صلوا قبل المغرب ركعتين، قالها ثلاثًا. ثم قال: لمن شاء. وقوله: "كراهية أن يتخذها الناس سنة"، قال المُحِبّ الطَّبريّ: لم يرد نفي استحبابها؛ لأنه لا يمكن أن يأمر بما لا يستحب، بل هذا الحديث من أقوى الأدلة على استحبابها، ومعنى قوله: "سنة" أي: شريعة وطريقة لازمة. وكأنَّ المراد انحطاط مرتبتها عن رواتب الفرائض، ولهذا لم يَعُدَّها أكثر الشافعية في الرواتب، واستدركها بعضهم، وتُعُقب بأنه لم يثبت أنّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- واظب عليها. وتقدم الكلام على ذلك مبسوطًا في باب "كم بين الأذان والإقامة" من أبواب الأذان. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ أبو معمر وعبد الوارث في السابع عشر من العلم، ومرّ حسين المعلم في السادس من الإيمان، ومرّ عبد الله بن بُرَيدة في الخامس والثلاثين من الحيض، ومرّ عبد الله بن المُغَفَّل في الأربعين من مواقيت الصلاة. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإفراد والعنعنة والقول، ورواته بصريون، غير ابن بريدة فمروزيّ،

الحديث الحادي عشر

وأخرجه البخاريّ أيضًا في الاعتصام، وأبو داود في الصلاة. الحديث الحادي عشر حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ قَالَ: سَمِعْتُ مَرْثَدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْيَزَنِيَّ قَالَ: أَتَيْتُ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ الْجُهَنِيَّ فَقُلْتُ: أَلاَ أُعْجِبُكَ مِنْ أَبِي تَمِيمٍ يَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلاَةِ الْمَغْرِبِ. فَقَالَ: عُقْبَةُ إِنَّا كُنَّا نَفْعَلُهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. قُلْتُ: فَمَا يَمْنَعُكَ الآنَ قَالَ: الشُّغْلُ. قوله: "ألا أُعَجِّبك" بضم الهمزة وتشديد الجيم، من التعجب. وقوله: "يركع ركعتين" زاد الإِسماعيليّ "حين يسمع أذان المغرب"، وفيه: فقلت لعقبة، وأنا أريد أن أغْمصه، وهو بمعجمة ثم مهملة، أي: أعيبه. وقوله: "فقال عقبة" استدل به على امتداد وقت المغرب، ولا حجة فيه. وقال قوم: إنما يستحب الركعتان المذكورتان لمن كان متأهبًا بالطهر وستر العورة، لئلا يؤخر المغرب عن أول وقتها، ولا شك أن إيقاعها في أول الوقت أولى، ولا يخفى أن محل استحبابهما ما لم تقم الصلاة. وذكر الأثرم عن أحمد أنه قال: ما فعلتهما إلا مرة واحدة حتى سمعت الحديث. وقد تقدم الكلام على هذا الحديث في الباب المذكور بما يكفي ويشفي. رجاله خمسة: قد مرّوا، وفيه ذكر أبي تميم، مرّ عبد الله بن يزيد في الثالث والعشرين من الأذان، وسعيد بن أبي أيوب في الثامن والثلاثين من التهجد ومرّ يزيد بن أبي حبيب ومَرْثَد في الخامس من الإيمان، ومرّ عقبة بن عامر في السابع والعشرين من كتاب الصلاة. وأما أبو تميم، فهو عبد الله بن مالك بن أبي الأسحم أبو تميم الجيشانيّ الرُّعَيْني المصريّ، أصله من اليمن، ولد هو وأخوه سيف في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهاجر زمن عمر، ذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال ابن مُعين: ثقة، وقال مَرْثد: كان من أعبد أهل مصر، وقال العجليّ: مصريّ تابعيّ ثقة، وقال ابن سعد: كان ثقة، ومات قديمًا. وقال أبو يونس: قرأ القرآن على معاذ باليمن، وشهد فتح مصر. وذكره يعقوب بن سفيان في جملة الثقات من أهل مصر، ولم يعلم له المزيّ علامة البخاريّ. وقد أخرج له أثرًا من رواية أبي الخير مرثد عنه، وهو في الصلاة. روى عن عمر وعلي ومُعاذ بن جبل وعُقبة بن عامر الجُهَنِيّ وغيرهم، وروى عنه عبد الله بن هُبَيرة وجَعفر بن رَبيعة وأبو الخير مَرثد وغيرهم. مات سنة سبع وسبعين. والجيشانيّ في نسبه، بجيم وياء ساكنة بعدها شين معجمة، نسبة إلى جَيشان بن عَبدان بن حَجَر بن ذي رُعَين، وإليهم ينسب الجيشانيون باليمن، وبزبيد بقية منهم إلى الآن، منهم أبو تميم هذا، ومنهم أبو سالم

لطائف إسناده

سفيان بن هانيء الجيشانيّ: تابعيّ روى عن أبي ذَرٍّ وعُقبة بن عامر، مات بالإسكندرية. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإفراد والسماع والإتيان والقول، ورواته مصريون، غير أن شيخه من ناحية البصرة، وسكن مكة. ثم قال المصنف:

باب صلاة النوافل جماعة

باب صلاة النوافل جماعة قيل: مراده النفل المطلق، ويحتمل ما هو أعم من ذلك، ثم قال: ذكره أنس وعائشة رضي الله تعالى عنهما، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. أما حديث أنس، فأشار به إلى حديثه في صلاة النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، في بيت أُم سُلَيم، وفيه "فصففت أنا واليتيم وراءه" وقد مرّ الكلام عليه في باب الصلاة على الحصير، وأما حديث عائشة فأشار به إلى حديثها في صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بهم في المسجد بالليل، وقد مرّ الكلام عليه في باب "إذا كان بين الإِمام وبين القوم حائط" وأنس مرّ في السادس من الإيمان، ومرّت عائشة في الثاني من بدء الوحي. الحديث الثاني عشر حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أخبرنا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ الأَنْصَارِيُّ أَنَّهُ عَقَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَعَقَلَ مَجَّةً مَجَّهَا فِي وَجْهِهِ مِنْ بِئْرٍ كَانَتْ فِي دَارِهِمْ. فَزَعَمَ مَحْمُودٌ أَنَّهُ سَمِعَ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ الأَنْصَارِيَّ رضي الله عنه وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: كُنْتُ أُصَلِّي لِقَوْمِي بِبَنِي سَالِمٍ، وَكَانَ يَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ وَادٍ إِذَا جَاءَتِ الأَمْطَارُ فَيَشُقُّ عَلَىَّ اجْتِيَازُهُ قِبَلَ مَسْجِدِهِمْ، فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقُلْتُ لَهُ: إِنِّي أَنْكَرْتُ بَصَرِي، وَإِنَّ الْوَادِيَ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَ قَوْمِي يَسِيلُ إِذَا جَاءَتِ الأَمْطَارُ فَيَشُقُّ عَلَيَّ اجْتِيَازُهُ، فَوَدِدْتُ أَنَّكَ تَأْتِي فَتُصَلِّي مِنْ بَيْتِي مَكَانًا أَتَّخِذُهُ مُصَلًّى. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: سَأَفْعَلُ. فَغَدَا عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه بَعْدَمَا اشْتَدَّ النَّهَارُ فَاسْتَأْذَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَذِنْتُ لَهُ فَلَمْ يَجْلِسْ حَتَّى قَالَ: أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ؟. فَأَشَرْتُ لَهُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي أُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ فِيهِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَكَبَّرَ وَصَفَفْنَا وَرَاءَهُ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ وَسَلَّمْنَا حِينَ سَلَّمَ، فَحَبَسْتُهُ عَلَى خَزِيرٍ يُصْنَعُ لَهُ فَسَمِعَ أَهْلُ الدَّارِ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي بَيْتِي فَثَابَ رِجَالٌ مِنْهُمْ حَتَّى كَثُرَ الرِّجَالُ فِي الْبَيْتِ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: مَا فَعَلَ مَالِكٌ لاَ أَرَاهُ؟. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: ذَاكَ مُنَافِقٌ لاَ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: لاَ تَقُلْ ذَاكَ أَلاَ تَرَاهُ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ. فَقَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. أَمَّا نَحْنُ فَوَاللَّهِ لاَ نَرَى وُدَّهُ وَلاَ حَدِيثَهُ إِلاَّ إِلَى

الْمُنَافِقِينَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ. قَالَ مَحْمُودٌ: فَحَدَّثْتُهَا قَوْمًا فِيهِمْ أَبُو أَيُّوبَ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي غَزْوَتِهِ الَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا وَيَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ عَلَيْهِمْ بِأَرْضِ الرُّومِ، فَأَنْكَرَهَا عَلَيَّ أَبُو أَيُّوبَ قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَظُنُّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ مَا قُلْتَ قَطُّ. فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَيَّ فَجَعَلْتُ لِلَّهِ عَلَيَّ إِنْ سَلَّمَنِي حَتَّى أَقْفُلَ مِنْ غَزْوَتِي أَنْ أَسْأَلَ عَنْهَا عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه إِنْ وَجَدْتُهُ حَيًّا فِي مَسْجِدِ قَوْمِهِ، فَقَفَلْتُ فَأَهْلَلْتُ بِحَجَّةٍ أَوْ بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ سِرْتُ حَتَّى قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَأَتَيْتُ بَنِي سَالِمٍ، فَإِذَا عِتْبَانُ شَيْخٌ أَعْمَى يُصَلِّي لِقَوْمِهِ فَلَمَّا سَلَّمَ مِنَ الصَّلاَةِ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ وَأَخْبَرْتُهُ مَنْ أَنَا، ثُمَّ سَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ الْحَدِيثِ فَحَدَّثَنِيهِ كَمَا حَدَّثَنِيهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ. قوله: "حدثنا إسحاق" قيل: هو ابن راهَوَيه، فإن هذا الحديث في مسنده بهذا الإسناد، لكن في لفظه مخالفة يسيرة، فيحتمل أن يكون إسحاق شيخ البخاريّ، فيه، هو وابن منصور. وقوله: "أخبرنا يعقوب" التعبير بالإخبار قرينة في كون إسحاق هو ابن راهَوَيه؛ لأنه لا يعبر عن شيوخه إلا بذلك، لكن في رواية كريمة وأبي الوقت بلفظ التحديث. وقوله: "وعقل مجة" قد مرّ الكلام على هذا الحديث في باب "متى يصح سماع الصغير" من كتاب العلم. وقوله: "كان في دارهم" أي: الدلو، وفي وراية الكشميهنيّ "كانت" أي: البئر. وقوله: "فزعم محمود" أي: أخبر، وهو من إطلاق الزعم على القول. وقوله: "فيشق عليّ" في رواية الكشميهنيّ "فشق" بالماضي. وقوله: "لا أراه" بفتح الهمزة من الرؤية، وقوله: "قال محمود بن الربيع" أي: بالإسناد الماضي. وقوله: "التي توفي فيها" ذكر ابن سعد وغيره أن أبا أيوب أوصى أن يدفن تحت أقدام الخيل. ويغيب موضع قبره، فدفن إلى جانب جدار القسطنطينية. وقوله: "ويزيد بن معاوية عليهم" أي: كان أميرًا، وذلك في سنة خمسين، وقيل بعدها في خلافة معاوية، ووصلوا في تلك الغزوة حتى حاصروا القسطنطينية. وقوله: "فأنكرها عليّ" قد بين أبو أيوب وجه الإنكار، وهو ما غلب على ظنه من نفي القول المذكور، وأما الباعث له على ذلك، فقيل إنه استشكل قوله: "أن الله قد حرم النار على مَنْ قال لا إله إلا الله" لأن ظاهره لا يدخل أحد من عصاة الموحدين النار، وهو مخالف لآيات كثيرة. وأحاديث شهيرة. وقد مرّ الجواب عن هذا عند ذكر هذا الحديث في باب المساجد في البيوت. وقوله: "حتى أقف" بقاف وفاء، أي: أرجع وزناً ومعنى. وكان الحامل لمحمود على الرجوع إلى عَتبان ليسمع الحديث منه ثاني مرة، أن أبا أيوب لما أنكر عليه اتهم نفسه بأن يكون ما ضبط القدر الذي أنكره عليه، ولهذا قنع بسماعه من عتبان ثاني مرة.

رجاله خمسة

وفي الحديث ما ترجم له هنا، وهو صلاة النوافل، جماعة، فقد روى ابن وهب عن مالك: لا بأس بأن يؤم النفر في النافلة، فأما أن يكون جمعًا كثيرًا، أو بمكان مشتهر فيكره، وكذا الجمع ليلة النصف من شعبان، وليلة عاشوراء، فإنه يكره مطلقًا، وينبغي للأئمة المنع من ذلك، وهذا بناء على قاعدته في سد الذرائع لما يُخشى، من أن يظن من لا علم عنده، أن ذلك فريضة واستثنى ابنُ حبيب من أصحابه قيامَ رمضان، لاشهار ذلك من فعل الصحابة ومَنْ بعدهم، رضي الله تعالى عنهم. لكن الأفضل عنده الانفراد فيه، إن لم يُؤَد ذلك إلى تعطيل المساجد. وفيه عيب مَنْ تخلف عن حضور مجلس الكبير، وأن مَنْ عِيب بما يظهر منه لا يعد غيبة، وأن ذكر الإنسان بما فيه على جهة التعريف جائز، وأن التلفظ بالشهادتين كاف في إجراء أحكام المسلمين. وفيه استثبات طالب الحديث شيخه عمّا حدثه به إذا خشي نسيانه وإعادة الشيخ الحديث والرحلة في طلب العلم، وقد مرّت فوائده مستوفاة عند ذكره في الباب المذكور آنفًا. رجاله خمسة: قد مرّوا، وفيه ذكر عتبان وأبي بكر ومالك بن الدخشن وأبي أيوب ويزيد بن معاوية. ولفظ رجل مبهم، وإسحاق؟ إما ابن راهَوَيه أو ابن منصور، والأول مرّ في تعليق بعد الحادي والعشرين من العلم، والثاني مرّ في الخامس والثلاثين من الإيمان ومرّ يعقوب بن إبراهيم بن سعد في السادس عشر من العلم، ومرّ أبوه إبراهيم بن سعد في السادس عشر من الإيمان، ومرّ ابن شهاب في الثالث من بدء الوحي، ومحمود بن الربيع في التاسع عشر من العلم، ومرّ أبو بكر في باب "مَنْ لم يتوضأ من لحم الشاة" بعد الحادي والسبعين من الوضوء، ومرّ أبو أيوب في العاشر منه، والرجل المبهم؛ قيل: عتبان بن مالك، وعتبان بن مالك قد مرّ في التاسع والعشرين من استقبال القبلة، ومرّ مالك بن الدخشن في الذي بعده. وأما يزيد بن معاوية فأفعاله معروفة، وأنا لا أذكر من خبره إلا ما رواه يحيى بن عبد الملك بن أبي غنية، أحد الثقات، من أن رجلًا كان عند عمر بن عبد العزيز، فذكر يزيد، وقال: قال أمير المؤمنين يزيد، فقال عمر: تقول أمير المؤمنين يزيد؟ وأمر به فضرب عشرين سوطًا، وهذا الحديث قد مرّ الكلام عليه في محل ذكر مالك بن الدخشن. ثم قال المصنف:

باب التطوع في البيت

باب التطوع في البيت الحديث الثالث عشر حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ أَيُّوبَ وَعُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: اجْعَلُوا فى بُيُوتِكُمْ مِنْ صَلاَتِكُمْ وَلاَ تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا. هذا الحديث قد مرّ الكلام عليه مستوفىً عند ذكره في باب كراهة الصلاة في المقابر، من أبواب المساجد. رجاله ستة: قد مرّوا، مرّ عبد الأعلي بن حمّاد في الرابع والثلاثين من الغُسل، ومرّ وُهَيب بن خالد في السادس والعشرين من العلم، ومرّ نافع في الأخير منه، ومرّ أيوب في التاسع من الإيمان، وابن عمر في أوله قبل ذكر حديث منه، ومرّ عُبَيد الله العُمَريّ في الرابع عشر من الوضوء. ثم قال: تابعه عبد الوهاب عن أيوب، وهذه المتابعة وصلها مسلم عن محمد بن المثنى عنه بلفظ: "صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبورًا" وعبد الوهاب مرّ مع أيوب في التاسع من الإيمان. ثم قال المصنف:

باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة

باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة ثبت في نسخة الصغاني البسملة قبل "باب"، قال ابن رشيد: لم يقل في الترجمة: "وبيت المقدس" وإن كان مجموعًا إليهما في الحديث، لكونه أفرده بعد ذلك بترجمة "قال"، وترجم بفضل الصلاة، وليس في الحديث ذكر الصلاة، ليبين أن المراد بالرحلة إلى المساجد قصد الصلاة فيها، لأن لفظ المساجد مشعر بالصلاة، وظاهر إيراد المصنف لهذه الترجمة في أبواب التطوع، يشعر بأن المراد بالصلاة في الترجمة صلاة النافلة، ويحتمل أن يراد بها ما هو أعم من ذلك، فتدخل النافلة، وهذا أوجه، وبه قال الجمهور في حديث الباب، وذهب الطَّحَاويّ إلى أن التفضيل مختص بالفريضة كما سيأتي. الحديث الرابع عشر حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ عَنْ قَزَعَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ رضي الله عنه أَرْبَعًا قَالَ: سَمِعْتُ مِنَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَكَانَ غَزَا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- ثِنْتَيْ عَشْرَةَ غَزْوَةً ح. وَحَدَّثَنِي عَلِيٌّ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ -صلى الله عليه وسلم- وَمَسْجِدِ الأَقْصَى. قوله: "عن قزعة" سيأتي بعد خمسة أبواب بهذا الإسناد، "سمعت قزعة مولى زياد"، وقوله: "سمعت أبا سعيد أربعًا" أي: يذكر أربعًا، أو سمعت منه أربعًا، أي: أربع كلمات. وقوله: "وكان غزا" القائل ذلك هو قزعة، والمقول عنه أبو سعيد الخدري، والأربع هي الآتية قريبًا في باب مسجد بيت المقدس، وهي: [لا تسافر المرأة يومين إلا ومعها زوجها أو ذو محرم، ولا صوم في يومين الفطر والأضحى، ولا صلاة بعد صلاتين؛ بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب. ولا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد]. وقوله: "ثنتي عشرة غزوة" اقتصر المؤلف على هذا القدر، ولم يذكر من المتن شيئًا، وذكر بعده حديث أبي هريرة في شد الرحال، فظن الداوديّ أن البخاريّ ساق الإسنادين لهذا المتن، وفيه نظر؛ لأن حديث أبي سعيد مشتمل على أربعة أشياء كما ذكر المؤلف، وهي المذكورة الآن. وحديث أبي هريرة مقتصر على شد الرحال فقط، لكن لا يمنع الجمع بينهما في سياق واحد، بناء على قاعدة البخاريّ في إجازة اختصار الحديث.

وقال ابن رشيد: لما كان أحد الأربع هو قوله: "لا تشد الرحال" ذكر صدر الحديث إلى الموضع الذي يتلاقى فيه افتتاح أبي هُريرة لحديث أبي سعيد، فاقتطف الحديث، وكأنه قصد بذلك الإغماص لينبه غير الحافظ على فائدة الحفظ، على أنه ما أخلاه عن الإيضاح عن قرب، فإنه ساق بتمامه سادس ترجمة. وقوله: "وحدثنا عَلِيّ" عند البيهقي من وجه آخر "عن عليّ بن المَدِيْنىّ قال: حدّثنا به سفيان مُرة بهذا اللفظ"، وكان أكثر ما يحدث به "تشد الرحال" وقوله: لا تُشد الرحال، بضم أوله: بلفظ النفي، والمراد النهي عن السفر إلى غيرها، قال الطِّيبيّ: هو أبلغ من صريح النهي، كأنه قال: لا يستقيم أن يقصد بالرحيل إلاّ هذه البقاع، لاختصاصها بما اختصت به، والرحال، بالمهملة جمع رحل، وهو للبعير كالسرج للفرس، وكنى بشد الرحال عن السفر؛ لأنه لازمه، وخرج ذكرها مخرج الغالب في ركوب المسافر، وإلا فلا فرق بين ركوب الرواحل والخيل والبغال والحمير، والمشي في المعنى المذكور. وقوله: "إلا إلى ثلاثة مساجد" المستشنى منه محذوف، فإما أن يقدر عامًّا، فيصير لا تشد الرحال إلى مكان في أي أمر كان إلا إلى الثلاثة، أو أخص من ذلك لا سبيل إلى الأول، ولإفضائه إلى سد باب السفر للتجارة المجمع على طلبه، وصلة الرحم المطلوبة شرعًا، وطلب العلم الذي هو سنة أو واجب، ولعرفة لقضاء النّسُك الواجب اجماعًا، وللجهاد والهجرة من دار الكفر إلى دار الإِسلام، وغير ذلك من الحوائج المتعلقة بالدنيا أو الآخرة، فتعين الثاني، والأوْلى أنه يعد ما هو أكثر مناسبة، وهو لا تشد الرحال إلى مسجد للصلاة فيه إلاَّ إلى الثلاثة، فيبطل بذلك قول: "منع الرحال" إلى زيارة القبر الشريف، وغيره من قبور الصالحين. وقد حمله ابن تيمية على الوجه الأول من كون المقدر عامًّا، قاصدًا بذلك الاستدلال به على تحريم شد الرحال إلى زيارة قبر سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. قال في "الفتح": وهي من أبشع المسائل المنقولة عن ابن تيمية، وأَعمته محبة مذهَبه من بغض ما فيه تعظيم للنبي، -صلى الله عليه وسلم-، وتكفير المسلمين به عمّا يلزم على تفسيره من منع ما أباحته الشريعة، أو أوجبته مما مرّ، وعمن يأتي من الفساد في تقديره. وقد حكت العلماء الإجماع على مطلوبيَّة شد الرحال إليه، عليه الصلاة والسلام، وقد قال تقي الدين السّبْكِيّ في الرد عليه: ليس في الأرض بقعة لها فضل لذاتها حتى تُشد الرحال إليها غير البلاد الثلاثة، ومرادي بالفضل ما شهد الشرع باعتباره، ورتب عليه حكمًا شرعيًا، وأما غيرها من البلاد فلا تشد إليها لذاتها، بل لزيارةٍ أو جهادٍ أو علمٍ أو نحو ذلك من المندوبات أو المباحات. قال: وقد التبس ذلك على بعضهم، فزَعم أن شد الرحال إلى الزيارة، لمن في غير الثلاثة، داخل في المنع، وهو خطأ؛ لأن الاستثناء إنما يكون من جنس المستثنى منه، فمعنى الحديث لا تُشد الرحال إلى مسجد من المساجد أو إلى مكان من الأمكنة لأجل ذلك المكان،

إلاَّ إلى الثلاثة المذكورة، وشد الرحال إلى زيارة أو طلب علم ليس إلى المكان، بل إلى مَنْ في المكان. وقوله: لأن الاستثناء إنما يكون من جنس المستثنى منه، أي إلا بدليل؛ لأن ذلك هو الأصل في الاستثناء، وإخراج الكلام عن أصله لابد له من دليل، فإذا قلت مثلًا: ما رأيت إلا زيدًا فتقدير الكلام ما رأيت أحدًا أو رجلًا إلاَّ زيدًا، لا ما رأيت شيئًا أو حيوانًا إلاَّ زيدًا. وإذا كان الخروج عن الأصل لا يمكن إلا بدليل، فما بالك إذا كان الأصل معتضدًا بأقوى دليل؟ وهو ما رواه أحمد في مسنده عن أبي سعيد، مرفوعًا بإسناد حسن، وقد ذكرت عنده الصلاة في الطور، فقال: قال النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "لا ينبغي للمَطِيّ أن تُشَدَّ رحالها إلى مسجد تبتغي فيه الصلاة غير المسجد الحرام أو المسجد الأقصى ومسجدي هذا" ففي هذا الحديث النصُّ على المستثنى منه المحذوف في غيره، وأنه مسجد، وفيه بيان أن الصحابيّ ذكره عندما ذكرت له الصلاة في الطور لا عند الإتيان للطور للتبرك بآثار الصالحين، فكان في غاية التفسير للمحذوف في غيره، وخير ما فسر به الوحي الوحي، فما بعد هذا الحديث مقال لملبس أومدلِّس. وإذا قال مجيب عن ابن تيمية فيما أورد عليه على تقدير المستثنى منه عامَّاً، من تناوله للمسائل المذكورة، التي لا يتصور عند العوام منعها، فضلًا عن العلماء -إن ما أورد على تقدير المستثنى منه عامًّا خارجٌ عن العموم بأدلة خارجة نصت على إباحته أو طلبه- قيل له: إن زيارته عليه الصلاة والسلام خارجة منه، بدليل الكتاب والسنة والإجماع، لما أوضحناه في كتابنا "الفتوحات الربانية" فما قاله في غيرها فليقله فيها، وكذلك زيارة غيره، عليه الصلاة والسلام، من قبور الصالحين، خارجة بما ورد من الأحاديث المصرحة بالأمر بها مما جلبناه في الكتاب المذكور، ومما هو صريح في إبطال ما قال من منع شد الرحال إليه عليه الصلاة والسلام، هو أن هذه المساجد الثلاثة معلوم عند جميع المسلمين ما حصل به الشرف لكل واحد منها، فالمسجد الحرام حصل له الشرف بكونه قبلة المسلمين إليه حجهم، والمسجد الأقصى شرف بكونه كان قبلة الأمم السالفة، ومسجده عليه الصلاة والسلام شرف بتأسيسه على التقوى، ومعلوم أن محله كان مقبرة للمشركين، فاشتراه، عليه الصلاة والسلام، ونبش عظامهم من ذلك، وبنى فيه المسجد، فما حصل له شرف إلا منه -صلى الله عليه وسلم-، وهذا يعلمه من هو أقل علمًا من ابن تيمية، فكيف يقول عالم بهذا: إن الرحال تُشد إلى محل شُرِّف بغيره، ولا تُشد إلى من شرف به ذلك المحل؟ فهذا لا يمكن صدوره إلا من ناقص العقل مع الدين، فلو قدرنا تقديرًا فاسدًا؛ أن المستثنى منه عامّ، كان شد الرحال لزيارته عليه الصلاة والسلام مفهومًا من شدها إلى الثلاثة بالأَوْلى، للإجماع القائم على فضله -صلى الله عليه وسلم- على سائر المخلوقات، وفضل البقعة الضّامّة لأعضائه الشريفة على سائر البقاع، كما يأتي في الحديث الذي بعد هذا.

قال في "الفتح": من جملة ما استدل به ابن تيمية على دفع ما ادّعاه غيرُه من الإجماع على مشروعية زيارة قبره -صلى الله عليه وسلم-، ما نُقِل عن مالك أن كره أن يقول: زرت قبر النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وقد أجاب عنه المحققون من أصحابه بأنه كره اللفظ، أدبًا، لا أصل الزيارة، فإنها من أفضل الأعمال، وأجل القُرُبات الموصّلة إلى ذي الجلال، وإن مشروعيَّتها محل إجماع بلا نزاع. وقيل: كره هذا اللفظ لأن الزيارة مَنْ شاء فعلها ومَنْ شاء تركها، وهي كالواجب عنده، وقيل: إنما كره إضافة الزيارة للقبر، فلو قال: زرنا النبي عليه الصلاة والسلام لم يكره عنده، وهذا مردود بما نقله ابن رُشْد وغيره: أنه كره هذا أيضًا، وقيل: كرهه لأنّ المضيّ إلى قبره -صلى الله عليه وسلم- ليس ليصله بذلك، وينفعه به، وإنما هو رغبة في الثواب. قال السّبْكي: وهذا هو المختار في تأويل كلام مالك، ومع ذلك لا نُسَلِّم أنَّ "زرنا النبي -صلى الله عليه وسلم-" يُوهم ذلك؛ لأن كل مسلم يعلم جلالته -صلى الله عليه وسلم-، وأن كل أحد من أمته، وإن جلت مرتبته، مفتقر إلى التبرك به، والمثول بين يديه عليه الصلاة والسلام، لكن لكون مذهب مالك، رضي الله تعالى عنه، مبنيًا على سد الذرائع، لا يمنع عنده العلم بهذا من جملة الناس، كراهيةَ إطلاق اللفظ لهذا المعنى، لكثرة الجهل وفُشُوّه. وقيل غير هذا. وعلى كل حال. ما قاله مالك لا تشم منه رائحة منع الزيارة حتى يستدل به ابن تيمية على مقالته الشنيعة، ومناظرة الإِمام مالك لأبي جعفر المنصور كافية في مطلوبيّة الزيارة عنده، وتأتي زيادة في حديث مسجد قباء. وقوله: "المسجد الحرام" أي: المحرم، وهو كقولهم الكتاب بمعنى المكتوب، والمسجدِ، بالخفض على البدلية، ويجوز الرفع على الاستئناف، والمراد جميع الحرم. وقيل: يختص بالموضع الذي يصلى فيه، دون البيوت وغيرها من أجزاء الحرم. قال الطبريّ: ويتأيّد بقوله: "مسجدي هذا" لأن الإشارة فيه إلى مسجد الجماعة، فينبغي أن يكون المستثنى معه كذلك. وقيل: المراد به الكعبة، حكاه المُحِبُّ الطبريّ، وذكر أنه يتأيّد بما رواه النَّسَائيّ بلفظ: "إلاَّ الكعبة" وفيه نظر؛ لأن الذي عند النَّسائيّ: "إلا مسجد الكعبة"، حتى لو سقطت لفظة مسجد، لكانت مرادة، ويؤيد الأول ما رواه الطيالسيّ عن عطاء أنه قيل له: "هذا الفضل في المسجد وحده أو في الحرم؟ قال: بل في الحرم؛ لأنه كله مسجد". وقوله: "ومسجد الرسول" أي: محمد -صلى الله عليه وسلم-، وفي العدول عن مسجدي إشارة إلى التعظيم، ويحتمل أن يكون ذلك من تصرف الرواة، ويؤيده قوله في حديث أبي سعيد الاتي قريبًا "ومسجدي" وروى أحمد بإسنادٍ رواتُهُ رواةُ الصحيح عن أنس مرفوعًا "مَنْ صلى في مسجدي أربعين صلاة لا تفوته صلاة، كتبت له براءة من النار، وبراءة من العذاب، وبراءة من النفاق". وقوله: "ومسجد الأقصى" بيت المقدس، وهو من إضافة الموصوف إلى الصفة عند الكوفيين، والبصريون يؤوِّلونه بإضمار، أيْ: ومسجد المكان الأقصى. وسمي الأقصى لبعده عن المسجد الحرام في المسافة، وقيل في الزمان، وفيه نظر؛ لأنه ثبت في الصحيح أن بينهما أربعين سنة، وقد استشكل من حيث إن بين آدم وداود عليهما الصلاة والسلام أضعاف ذلك من الزمن، وأُجيبَ

بأنَّ الملائكة وضعتهما أولًا، بينهما في الوضع أربعون سنة، وأن داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام جَددوا بنيان المسجد الأقصى، كما جدد إبراهيم عليه الصلاة والسلام بناء البيت الحرام. ويأتي في ترجمة إبراهيم الخليل من أحاديث الأنبياء استيفاء الكلام على هذا. وقال الزمخشريّ: المسجد الأقصى بيت المقدس؛ لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد، وقيل: لبعده عن الخبث والأقذار، وقيل: هو قَصِيّ بالنسبة إلى مسجد المدينة؛ لأنه بعيد من مكة، وبيت المقدس أبعد منه. وقيل: لأنه أقصى موضع من الأرض ارتفاعاً وقربًا إلى السماء. ولبيت المقدس عدة أسماء تَقْرُب من العشرين، منها إيلياء بالمد والقصر، وبحذف الياء الأولى، وعن ابن عباس إدخال الألف واللام على هذا الثالث، وبيت المقدس، بسكون القاف، وبفتحها مع التشديد، والقُدس بغير ميم مع ضم القاف وسكون الدال، وبضمها أيضًا، وشَلّم بالمعجمة وتشديد اللام، وبالمهملة، وشلام بمعجمة، وسَلِم بفتح المهملة وكسر اللام الخفيفة، وأَوْرِي سلم بسكون الواو وكسر الراء بعدها تحتانية ساكنة. قال الأعشى: وطُفْتُ للمال آفاقه ... دمشق فحمص فأوري سَلِم ومن أسمائه كَوْرَه، وبيت إيل، وصَهْيون، ومَصْروُث آخره مثلثة، وكورشيلا، وبابوش بموحدتين ومعجمة. وفي هذا الحديث فضيلة هذه المساجد، ومزيتها على غيرها، لكونها مساجد الأنبياء، ولأن الأوَّل قبلة الناس، وإليه حجهم إلى آخر ما مرّ. واختلف في شد الرحال إلى غيرها، كالذهاب إلى زيارة الصالحين أحياءاً وأمواتًا، وإلى المواضع الفاضلة لقصد التبرك بها والصلاة فيها، فقال أبو محمد الجُوَيْنِيّ: يحرم شد الرحال إلى غيرها عملًا بظاهر هذا الحديث، وأشار القاضي حسين إلى اختياره، ويه قال عِياضُ وطائفة. ويدل عليه ما رواه أصحاب السنن من إنكار نَضْرَة الغِفارِيّ على أبي هريرة خروجه إلى الطُّور، وقال له: لو أدركت قبل أن تخرج ما خرجت، واستدل بهذا الحديث، فدل على أنه يرى حمل الحديث على عمومه، ووافقه أبو هريرة، والصحيح عند إمام الحرمين وغيره من الشافعية أنه لا يحرم، وأجابوا عن الحديث بأجوبة منها أن المراد أن الفضيلة التَّامة إنما هي في شد الرحال إلى هذه المساجد، بخلاف غيرها، فإنه جائز. وفي رواية أحمد الماضية "لا ينبغي للمصلي أن يشد رحاله إلى مسجد إلخ" وهذا لفظ ظاهر في غير التحريم. ومنها أن النهي مخصوص بمن نذر على نفسه الصلاة في مسجد من سائر المساجد غير الثلاثة، فإنه لا يجب الوفاء به، قاله ابن بَطّال. وقال الخطابيّ: اللفظ لفظ الخبر، ومعناه الإيجاب فيما ينذره الإنسان من الصلاة في البقاع التي يتبرك بها، أي لا يلزم الوفاء بشيء من ذلك غير هذه المساجد الثلاثة. ومنها أن المراد حكم المساجد فقط، وأنه لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد للصلاة فيه غير هذه الثلاثة، وأما قصد غير المساجد لزيارة صالح أو قريب أو صاحب،

رجاله خمسة

أو طالب علم أو تجارة أو نزهة، فلا يدخل في النهي، ويؤيده ما مرّ عند أحمد عن أبي سعيد الخُدْرِيّ: "لا ينبغي للمصلي إلخ" وقد مرّ تقرير أن هذا الوجه لا يصح تفسير الحديث بغيره، وأن هذا الحديث نص في ذلك. ومنها أن المراد قصدها بالاعتكاف فيما حكاه الخطابيّ عن بعض السلف، أنه قال: "لا يعتكف في غيرها" وهو أخص من الذي قبله، ولم يُبْدِ له دليلًا، واستدل به على أن من نذر إتيان أحد هذه المساجد لزمه ذلك، وبه قال مالك والشافعيّ والبويطيّ، واختاره أبو إسحاق المروزيّ. وقال أبو حنيفة: لا يجب مطلقًا، وقال الشافعيّ: يجب في المسجد الحرام لتعلق النُّسُك به، بخلاف المسجدين الأخيرين. وهذا هو المتصور لأصحاب الشافعيّ. وقال ابن المنذر: يجب إلى الحرمين، وأما الأقصى فلا، واستأنس بحديث جابر أن رجلًا قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أُصلي ببيت المقدس، قال: "صل هاهنا". وقال ابن التين: الحجة على الشافعيّ أن إعمال المَطِيّ إلى مسجد المدينة والمسجد الأقصى، والصلاة فيها قربة، فوجب أن يلزم بالنذر كالمسجد الحرام، واستدل به على أن من نذر إتيان غير هذه المساجد الثلاثة لصلاة أو غيرها لم يلزمه غيرها؛ لأنه لا فضل لبعضها على بعض، فتكفي صلاته في أي مسجد كان. قال النوويّ: لا اختلاف في ذلك إلا ما رُوي عن الليث أنه قال: يجب الوفاء به. وعن الحنابلة رواية تلزمه كفارةُ يمين، ولا ينعقد نذره. وعن المالكية رواية إنْ تعلقتْ به عبادَةٌ تختص به، كرباطٍ، لزم، وإلا فلا. وذكر عن محمد بن سَلَمَة المالكيّ أنه يلزم في مسجد قُباء، لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يأتيه كل سبت. اشتمل هذا الحديثين الأولَ حديثَ أبي سعيد المصدر به. رجاله خمسة: قد مرّوا إلا قزعة، مرّ حفص بن عمر في الثالث والثلاثين من الوضوء، ومرّ شُعبة في الثالث من الإيمان، وأبو سيعد الخدري في الثاني عشر منه، ومرّ عبد الملك بن عُمير في الحادي والثلاثين من الجماعة والإمامة. وقَزَعَة بفتح الزاي وسكونها، وهو ابن يحيى، ويقال ابن الأسود، أبو الفادية البصريّ، مولى زياد بن أبي سفيان، ويقال مولى عبد الملك. ويقال بل هو من بني الحُرَيش. ذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال العجليّ: بصري تابعي ثقة. وقال ابن خِراش: صدوق، وقال عبد الملك بن عُمير: حدّثنا قَزَعة، وكان رجلًا يسبق الحاج في سلطان معاوية، له عند البخاريّ حديث أبي سعيد الخدريّ في سفر المرأة. روى عن أبي سعيد الخُدْرِيّ وابن عمر وابن عمرو بن العاص وغيرهم. وروى عنه عبد الملك بن عُمير وقتادة ومجاهد وغيرهم.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإخبار بالإفراد والسماع والقول، ورواته بين بصريّ وواسطيّ وكوفيّ، وفيه رواية التابعيّ عن التابعيّ. أخرجه البخاريّ أيضًا في الصلاة ببيت المقدس، وفي الحج وفي الصوم، ومسلم في المناسك، والتِّرمِذِي في الصلاة، والنَّسَائيّ في الصوم، وابن ماجه في الصوم وفي الصلاة. والثاني حديث أبي هريرة، وهو الخامس عشر. ورجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ عليّ بن المَدِيْنيّ في الرابع عشر من العلم، ومرّ ابن عُيينة في الأول من بدء الوحي، والزُهريّ في الثالث منه، وسعيد بن المسيب في التاسع عشر من الإيمان، وأبو هريرة في الثاني منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والقول والعنعنة، ورواته مدنيون ما عدا سفيان، فإنه مكيّ، أخرجه مسلم وأبو داود في الحج، والنَّسَائيّ في الصلاة. الحديث السادس عشر حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ رَبَاحٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عُبيدِ اللَّهِ الأَغَرِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ. قوله: "صلاة في مسجدي هذا" قال النوويّ: ينبغي أن يحرص المصلي على الصلاة في الموضع الذي كان في زمانه -صلى الله عليه وسلم-، دون ما زيد فيه بعده؛ لأن التضعيف إنما ورد في مسجده، وقد أكده بقوله: "هذا" بخلاف مسجد مكة، فإنه يشمل جميع مكة، بل رجح النوويّ أنه يعم جميع الحرم، وقد اختلف العلماء هل يدخل في التضعيف ما زيد في المسجد النبوي في زمن الخلفاء الراشدين ومن بعدهم؟ فقد صرّح النوويّ فيما مرّ عنه أنه خاص بما كان في زمنه عليه الصلاة والسلام، والجمهور على خلاف ما قاله النوويّ، فَلِما زيد في مسجده الشريف حكمُ المسجد الأصليّ عندهم. وقوله: "إلا المسجد الحرام" قال ابن بطال: يجوز في هذا الاستثناء أن يكون المراد فإنه مساوٍ لمسجد المدينة، أو فاضلًا أو مفضولًا، والأول أرجح؛ لأنه لو كان فاضلًا أو مفضولًا لم يعلم مقدار ذلك إلاَّ بدليل، بخلاف المساواة. قال في "الفتح": دليل الثاني ما أخرجه الإِمام أحمد وصححه

ابن حِبّان عن عطاء عن عبد الله بن الزبير قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مئة صلاة في هذا"، وفي رواية ابن حِبّان: "وصلاة في ذلك أفضل من مئة صلاة في مسجد المدينة". قال ابن عبد البَرّ: اختلف على ابن الزبير في رفعه ووقفه، ومن رفعه أحفظ وأثبت، ومثله لا يقال بالرأي، وفي ابن ماجه عن جابر مرفوعًا: "صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلاَّ المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مئة ألف صلاة فيما سواه" وفي بعض النسخ: "من مئة صلاة فيما سواه"، فعلى الأول معناه فيما سواه إلاّ مسجد المدينة، وعلى الثاني معناه من مئة صلاة في مسجد المدينة. ورجال إسناده ثقاتٌ، لكنه من رواية عطاء في ذلك عنه قال ابن عبد البر: جائز أن يكون عند عطاء في ذلك عنهما، وعلى ذلك يحمله أهل العلم بالحديث، ويؤيده أن عطاء إمام واسع الرواية عن جابر وابن الزبير. وروى البزّار والطبرانيّ عن أبي الدرداء، رفعه "الصلاة في المسجد الحرام بمئة ألف صلاة، والصلاة في مسجدي بألف صلاة، والصلاة في بيت المقدس بخمس مئة صلاة. قال البزّار: إسناده حسن، فوضح بذلك أن المراد بالاستثناء تفضيل المسجد الحرام، وهو يرد على تأويل عبد الله بن نافع وغيره. وروى ابن عبد البَرّ عن يحيى بن يحيى اللَّيْثيّ أنه سأل عبد الله بن نافع عن تأويل هذا الحديث، فقال: معناه فإن الصلاة في مسجدي أفضل من الصلاة فيه بدون ألف، قال ابن عبد البر: لفظ "دون" يشمل الواحد، فيلزم أن تكون الصلاة في مسجد المدينة أفضل من الصلاة في مسجد مكة بتسع مئة وتسع وتسعين، وحسبك بقول يؤول إلى هذا ضعفًا. قلت: ما قاله لا يبطل التأويل، فكما أن الدون يشمل الواحد، فكذلك يشمل النصف والثلث والربع وغير ذلك، فتكون أفضل من مكة بدون ألف بخمس مئة أو ثلاث مئة أو بمئة أو مئتين، وإنما ذكر الواحد الذي هو أقل العدد ليحصل الاستبشاع، ولو استلزمناه وقلنا إنها أفضل منها بالعدد المذكور، ما يلزم على ذلك من المحذور. واستدل بهذه الأحاديث على تفضيل مكة على المدينة، لأن الأمكنة تشرف بفضل العبادة فيها على غيرها مما تكون العبادة فيه مرجوحة، وهو قول الجمهور، وحُكِيَ عن مالك، وبه قال ابن وهب ومطرف وابن حبيب من أصحابه، لكن المشهور عن مالك، وهو مذهب عمر بن الخطاب وبعض الصحابة وأكثر المدنيين، وهو أحد الروايتين عن أحمد. واستدل ابن عبد البر على تفضيل مكة على المدينة بحديث عبد الله بن عديّ بن الحمراء قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واقفًا على الخَزْوَرَة فقال: "والله إنك لخيرُ أرْضِ الله، وأحبّ أرضِ الله إلى الله. ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت" وهو حديث صحيح، أخرجه أصحاب السنن، وصححه الترمِذِيّ وابن خُزيمة وابن حِبّان وغيرهم. قال ابن عبد البر: هذا نص في محل الخلاف،

فلا ينبغي العدول عنه. قلت: أجيب عن هذا الحديث بما قاله السَّمْهُوديّ بأن ذلك محمول على بدء الأمر قبل ثبوت الفضل للمدينة، وإظهار الدين وافتتاح البلاد منها حتى مكة، فقد أنالها وأنال بها ما لم يكن لغيرها من البلاد، فظهر إجابةُ دعوته وصيرورتها أحب مطلقًا، ولهذا افترض الله تعالى على نبيه -صلى الله عليه وسلم- الإقامة بها، وحث هو -صلى الله عليه وسلم- على الاقتداء به في سكناها، والموت بها، فكيف لا تكون أفضل؟ واستدل القائلون بتفضيل المدينة بحديث البخاريّ "ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة" مع قوله: "موضع سوط في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها"، وقول ابن عبد البر: هذا استدلال بالخبر في غير ما ورد فيه، ولا يقاوم النص الوارد في فضل مكة تحامل منه بعيد من الصواب، فإن الحديث نص في تفضيل المدينة؛ لأن معنى الحديث كما قال ابن أبي جَمرة وغيرها: أنها تنقل تلك البقعة بعينها في الجنة، فتكون روضة من رياض الجنة. وأنَّ العمل فيها يوجب لصاحبه روضة من رياض الجنة؛ لأن البقع المباركة والأيام المباركة ما فائدة بركتها لنا، والإخبار بها لنا، إلا لتعميرها بالطاعات، فإن الثواب فيها أكثر، وكذلك الأيام المباركة أيضًا، وإنما كانت هكذا لعلو منزلته عليه الصلاة والسلام، فلما خص الخليل عليه الصلاة والسلام بالحجر من الجنة، خص الحبيب عليه الصلاة والسلام بالروضة من الجنة. واستدل المفضلون لمكة بما مرّ من المضاعفة في حديث ابن الزبير وجابر، وأجاب عنه القَرَافيّ وغيره بأنَّ سبب التفضيل لا ينحصر في كثرة الثواب على العمل، بل قد يكون لغيرها كتفضيل جلد المصحف على سائر الجلود. قال السمهودي: فالصلوات الخمس، بمنىً للمتوجه لعرفة، أفضل منها بمسجد مكة. وإنْ انتفت عنها المضاعفة إذ في الاتباع ما يربو عليها، ولهذا قال عمر رضي الله تعالى عنه بمزيد المضاعفة لمسجد مكة، مع قوله بتفضيل المدينة. قال: ولم يصب من أخذ من قوله بمزيد المضاعفة تفضيلَ مكة، إذ غايته أن للمفضول مزية ليس للفاضل، مع أن دعاءه -صلى الله عليه وسلم- بمزيد تضعيف البركة بالمدينة على مكة شاملٌ للأمور الدينية أيضًا، وقد يبارك في العدد القليل فيربو نفعه على الكثير، ولهذا استدل به على تفضيل المدينة. وإن أُريد من حديث المضاعفة الكعبة فقط، فالجواب أنَّ الكلام فيما عداها، فلا يرد شيء مما جاء في فضلها، ولا ما بمكة من مواضع النسك، لتعلقه بها، ولذا قال عمر لعبد الله بن عيّاش المخزوميّ: أنت القائل لَمَكَّة خير من المدينة؟ فقال عبد الله: هي حرم الله وأمنه، وفيها بيته. فقال عمر: لا أقول في حرم الله وبيته شيئًا. ثم كرر عمر قوله الأول، فأعاد عبد الله جوابه، فأعاد له عمر: "لا أقول في حرم الله وبيته شيئًا" فأشير إلى عبد الله فانصرف. واستدل المفضلون للمدينة بما في الصحيحين عن أبي هريرة من قوله -صلى الله عليه وسلم-: "أُمرتُ بقرية تأكل القرى" يقولون: يثرب، وهي المدينة تنفي الناس كما ينفى الكِيْرُ خَبَثَ الحديد، أي: أمرني الله بالهجرة إليها إن كان قاله، عليه الصلاة والسلام، بمكة. أو بسكناها، إن كان قاله بالمدينة. قال

القاضي عبد الوهاب: لا معنى لقوله: "تأكل القرى" إلا رجوح فضلها على القرى، وقال ابن المنير: يحتمل أن يكون المراد بذلك غلبة فضلها على فضل غيرها، أي: أن الفضائل تضمحلّ في جنب عظيم فضلها، حتى تكون عَدَمًا، وهذا أبلغ من تسمية مكة أم القرى؛ لأن الأُمومة لا ينمحي معها ما هي له أُم، لكن يكون لها حق الأمومة. ويحتمل أن يكون المراد غلبة أهلها على القرى، والأقرب حمله عليهما، وهو أبلغ في الفرض المسوق له. واستدلوا أيضًا بما رواه أبو يعلى عن أبي بكر الصديق أنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يقبض النبي إلا في أحبّ الأمكنة إليه" ولا شك أن أحبها إليه أحبها إلى ربه تعالى، فإن حبه تابع لحب ربه جل وعلا، وما كان أحب إلى الله ورسوله فكيف لا يكون أفضل؟ وقد قال عليه الصلاة والسلام: "اللهم إن إبراهيم دعاك لمكة، وأنا أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك إبراهيم لمكة، ومثله معه،، ولا ريب أن دعاء النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أفضل من دعاء إبراهيم؛ لأن فضل الدعاء على فضل قدر الداعي، وقد صح أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللَّهمَّ حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد" وفي رواية: "بل أشد" وقد أُجيبتْ دعوته حتى كان يحرك دابته، إذا رآها، من حبها. وروى الحاكم أنه عليه الصلاة والسلام قال: "اللَّهمّ إنك أخرجتني من أحب البلاد إليّ فأسكنيّ في أحب البقاع إليك" أي: في بلد تصيره كذلك، فيجتمع فيه الحبان. وقد قيل: إن ابن عبد البر ضعَّفه، وإنه لو سلمت صحته، فالمراد أحب إليك بعد مكة، لحديث: "إن مكة خير بلاد الله". وفي رواية: "أحب أرض الله إلى الله" ولزيادة التضعيف بمسجد مكة، وتعقب هذا المسهوديّ بأن ما ذكره لا يقتضي صرفه عن ظاهره، إذ القصد به الدعاء لدار هجرته، بأن يصيرها الله كذلك، وحديث: "إن مكة خير بلاد الله" محمول على بدء الأمر إلى آخر ما مر. قلت: كيف يصح تضعيف هذا الحديث مع ما صح من دعائه عليه الصلاة والسلام: "أن تكون المدينة أحب إليه"؟ وقد مرّ قريبًا أن حبه تابع لحب ربه، فلا معنى لتضعيفه. وروى الطبرانيّ: المدينة خيرٌ من مكة، وفي رواية للجنديّ: "أفضل من مكة" وفيه محمد بن عبد الرحمن الرداد، وقد تكلم فيه، واستدلوا أيضًا بما رواه ابن عبد البَرّ في آخر تمهيده عن عطاء الخراسانيّ موقوفًا "أن المرء يدفن في البقعة التي أُخذ منها ترابُه عندما يخلق، فتكون هذه البقعة أشرف البقاع لشرف من خلق منها. وروى الزبير بن بكّار أنّ جبريل أخذ التراب التي خلق منها النبي -صلى الله عليه وسلم- من تراب الكعبة. قال الناصرون لتفضيل مكة: فعلى هذا فالبقعة التي ضمت أعضاءه الشريفة من تراب الكعبة، فيرجع لفضل المذكور إلى مكة إن صح ذلك. قلت: هذا لا دليل فيه لما قالوا، بل عليه تكون البقعة جمعت فضل الكعبة ومكة، لكونها من الكعبة وحلت بالمدينة، وقد أجمعوا على أن الموضع الذي ضم أعضاءه الشريفة عليه الصلاة والسلام، أفضل بقاع الأرض، حتى موضع الكعبة. كما قاله

ابن عساكر والباجيّ والقاضي عياض، بل نقل تاج الدين السّبكيّ كما ذكره السيد السَّمهودِيّ عن ابن عُقيل الحنبليّ أنه أفضل من العرش. وصرّح الفاكهانيّ بتفضيلها على السموات، فقال، وأنا أقول: هي أفضل من بقاع السموات أيضًا. وقد جاء أن السماوات شرفت بمواطىء قدميه، بل لو قال قائل: إن جميع بقاع الأرض أفضل من جميع بقاع السماء لشرفها بكونه عليه الصلاة والسلام حالاًّ فيها لم يبعد، بل هو المتعيِّن عندي. وحكاه بعضهم عن الأكثرين، لخلق الأنبياء منها ودفنهم فيها. لكنْ قال النوويّ: الجمهور على تفضيل السماء على الأرض ما عدا ما ضم الأعضاء الشريفة، وقد استشكل ما ذكر من الإجماع على أفضلية ما ضم أعضاءه الشريفة، بأن أفضلية الأماكن والأزمان إنما تكون بكثرة الثواب على الأعمال، ولا عمل على القبر، والجواب أن هذا ممنوع، ويلزمه أن لا يكون جلد المصحف بل المصحف مفضلًا، وبطلانه معلوم من الدين. وتعقبه تقي الدين السبكيّ بما حاصله أنّ الذي قيل لا ينفي أن يكون التفضيل لأمر آخر فيها، وإن لم يكن عملًا لأن قبره عليه الصلاة والسلام ينزل عليه من الرحمة والرضوان والملائكة، وله عند الله من المحبة ولساكنه ما تقصر العقول عن إدراكه، وليس لمكان غيره، فكيف لا يكون أفضل؟ وليس محل عمل لنا؛ لأنه ليس مسجدًا، ولا له حكم المسجد. بل هو مستحق للنبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وأيضًا قد تكون الأعمال مضاعفة فيه باعتبار أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- حي كما تقرر، وأن أعماله مضاعفة فيه أكثر من كل أحد، فلا يختص التضعيف بأعمالنا نحن، ففضل البقعة باعتبارين، أحدهما ما قيل، أن كل أحد يدفن في الموضع الذي خلق منه كما مرّ، والثاني تنزل الملائكة والبركات عليه، وإقبال الله تعالى، ولا نسلّم أن الفضل للمكان لذاته، ولكن لأجل من حلّ فيه -صلى الله عليه وسلم-. وقد استنبط العارف ابن أبي جَمرة من قوله عليه الصلاة والسلام المروي في البخاريّ "ليس من بلد إلاَّ سيطؤه الدَّجَال إلاَّ مكة والمدينة" التساويّ بينهما. قال: ظاهر هذا الحديث يعطي التسوية بينهما في الفضل؛ لأن جميع الأرض يطؤها الدّجّال إلا هذين البلدين، فدل على تسويتهما في الفضل. قال: ويؤيد ذلك أيضًا من وجه النظر أنه إن كانت المدينة خصت بمدفنه عليه الصلاة والسلام، وإقامته بها، ومسجده، فقد خصت مكة بمسقطه عليه الصلاة والسلام بها، ومبعثه، وهي قبلته، فمطلع شمس ذاته الكريمة مكة، ومغربها المديها، وإقامته بعد النبوءة بمكة مثل إقامته بالمدينة، عشر سنين في كل واحدة منهما على قول. قلت: قد عُوّضت المدينة عن العُمرة ما صح في إتيان مسجد قُباء مما يأتي، وعن الحج ما جاء في فضل الزيارة النبوية والإقامة بالمدينة بعد النبوة، وإن كانت أقل من مكة على المشهور، فقد كانت سببًا لإعزاز الدين وإظهاره ونزول أكثر الفرائض، وإكمال الدين حتى كثر تردد جبريل عليه الصلاة والسلام بها، ثم استقر بها -صلى الله عليه وسلم- إلى قيام الساعة، ولهذا قيل لمالك: أيُّما أحب إليك المقام بالمدينة أو مكة؟ فقال: هاهنا، وكيف لا أختار المدينة وما بها طريق إلا سلكها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وجبريل ينزل عليه من رب العالمين في أقل من ساعة؟

وقد جاءت أحاديث كثيرة دالّة على تفضيل المدينة، منها ما أخرجه مسلم: "يأتي على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه وقريبه، هَلُمّ إلى الرخاء، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، والذي نفسي بيده، لا يخرج أحد رغبة عنها إلاَّ أَخلف الله فيها خيرًا منها". ففي الحديث الذم لمن خرج منها إلى أي محل كان من غير تقييد بمكة، وحكى المحبُّ الطبريّ عن قوم أنه عامٌّ أبدًا مطلقًا. قال: وهو ظاهر اللفظ، ومنها ما أخرجه مسلم عن أبي هُريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يصبر على لْأواءِ المدينة وشدتها أحدٌ من أمتي إلا كنت له شفيعًا يوم القيامة" أو "شهيدًا". وفيه عن سعيد مولى المَهَرِيّ أنه جاء إلى أبي سعيد الخُدريّ ليالي الحَرَّة، فاستشاره في الجلاء من المدينة، وشكى إليه أسعارها، وكثرة عياله، وأخبره أن لا صبر له على جهد المدينة ولأوائها، فقال: ويحك، لا آمرك بذلك، إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يصبر أحد على لأوائها إلاَّ كنتُ له شفيعًا أو شهيدًا يوم القيامة" واللأواء، بالمد، الشدةُ والجوع. وهذه خصوصية زائدة على الشفاعة للمذنبين، أو للعالمين في القيامة، وعلى شهادته على جميع الأمم، فيكون لتخصيصهم بهذا كله علوُّ مرتبة وزيادةُ منزلةٍ وحُظوةٍ، وهذه الشفاعة لأهل المدينة تكون بزيادة الدرجات، أو تخفيف الحساب أو بما شاء الله من ذلك أو بإكرامهم يوم القيامة بأنواع الكرامات، ككونهم على منابر، أو في ظل العرش، أو الإسراع بهم إلى الجنة، أو غير ذلك من خصوص الكرامات. ومنها ما أخرجه البخاريّ عن أبي هُريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنّ الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جُحرها" أي: ينقبضِ وينضم ويلتجىء، مع أنها أصلُ في انتشاره. ومنها ما أخرجه التِّرْمِذِيّ وابن ماجه وابن حِبّان في صحيحه عن ابن عُمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: مَنْ استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليمت بها، فإني أشفع لمن يموت بها"، ورواه الطبرانيّ في الكبير عن سُبَيعة الأسلمية، إلى غير هذا من الأحاديث. وقد ذكر الشِّهاب الخَفَاجِيّ بحثًا حق له أن يكتب بماء الذهب، ولفظه هاهنا "بحث"، وهو أن البقعة التي ضمت الجسد العظيم، إذا كانت أفضل من سائر البقاع، يلزم أن تكون المدينة أفضل من مكة بلا نزاع؛ لأن المدينة هي تلك البقعة، مع زيادة، وزيادة الخير خير، فكيف يُتَصَوَّر الخلاف بينهم على هذا؟ بل نقول: المدينةُ بعد هجرته -صلى الله عليه وسلم- إليها، وإقامته بها، تَفْضُلُ مكةَ حينئذ، لأن شرف المكان بالمكين، فلابد من تحرير الخلاف حتى يقام عليه الدليل. منه وإيضاح هذا البحث هو أن المذاهب، إذا سلّموا أن الموضع الذي ضم أعضاءه الشريفة أفضل من الكعبة التي شُرِّفت مكة بسببها، كيف يقولون إن مكة أفضل من المدينة؟ فإن الكعبة صارت مفضولة، ومعلوم عند كل أحد أن التابع للأفضل أفضل من تابع المفضول، ولهذا كانت أصحابه -صلى الله عليه وسلم- أفضل من أصحاب غيره من الأنبياء، لفضله هو عليه الصلاة والسلام على غيره من الأنبياء عليهم السلام.

رجاله ستة

وقد ذكر الرهونيّ المالكيّ في حاشيته على الزُّرْقاني هذا البحث، في باب النَّذْر مختصرًا عند قول المتن "والمدينة أفضل ثم مكة" قال: قد انعقد الإجماع على أن الروضة الشريفة أفضل بقاع الأرض والسماء، فيكون ما قاربها وجاورها أفضل من غيره، إذ بجيرانها تغلو الديار، وترخص، فتأمله بإنصاف منه. وهو كما أوضحنا، فإنه عسير على من سلّم هذا الإجماع ورضي به، أن يقول بفضل مكة على المدينة، فالراضي بهذا الإجماع يتعين عليه أن يقول بتفضيل المدينة، ويحمل الحديث الوارد بتفضيل مكة على بدء الأمر، قبل ثبوت الفضل للمدينة كما مرّ، وقد أطلتُ الكلام في أدلة تفضيل المدينة لما في القلب -لله الحمد والمِنة- من محبة ما فيه تعظيمٌ للنبي -صلى الله عليه وسلم-، لا لكوني مالكي المذهب. وقد اختلف في تضعيف الصلاة في المساجد المذكورة، هل هو مطلق أو مختص بالنفل؟ وقد تقدم عن الطحاويّ أن ذلك مختص بالفرائض، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "أفضل صلاة المرء في بيته إلاَّ المكتوبة"، ويمكن أن يقال: لا مانع من إبقاء الحديث على عمومه، فتكون صلاة النافلة في بيت بالمدينة أو بمكة تضاعف على صلاتها في البيت بغيرهما، وكذا في المسجدين، وإن كانت في البيوت أفضل مطلقًا، ثم إن التضعيف المذكور يرجع إلى الثواب، ولا يتعدى إلى الإجزاء باتفاق العلماء، كما نقله النوويّ وغيره. فلو كان عليه صلاتان، فصلى في أحد المساجد الثلاثة صلاة لم تجزه إلاَّ عن واحدة، وعلى هذا يحمل قول أبي بكر النقّاش في تفسيره: حَسَبت الصلاة في المسجد الحرام، فبلغت صلاة واحدة بالمسجد الحرام عمر خمس وخمسين سنة وستة أشهر وعشرين ليلة، وهذا مع قطع النظر عن التضعيف بالجماعة، فإنها تزيد سبعًا وعشرين درجة، كما مرّ في أبواب الجماعة، لكن هل يجتمع التضعيفان أم لا؟ محلُّ بحث. رجاله ستة: مرّ منهم عبد الله بن يوسف، ومالك في الثاني من بدء الوحي، ومرّ أبو عبد الله سلمان الأغر في الخمسين من الجمعة، ومرّ أبو هريرة في الثاني من الإيمان، والباقي اثنان: الأول: زيد بن رباح المدنيّ، ذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال أبو حاتم: ما أرى بحديثه بأسًا، وقال ابن عبد البَرّ: ثقة مأمون، روى عن أبي عبد الله الأغر، وعنه مالك مقرونًا بعبُيد الله بن أبي عبد الله الأغر في غالب المواضع، قتل بقُدَيد سنة خمس وثلاثين ومئة. الثاني: عُبيد الله بن أبي عبد الله الأغر، ذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال ابن مُعين وأبو داود والنَّسائيّ: ثقة، وقال أبو حاتم: لا بأس به، أخرجوا له مقرونًا في الغالب يزيد بن رباح، ووَثَّقَه ابن البَرْقِيّ أيضًا. روى عن أبيه، وروى عنه موسى بن عُقبة ومالك وابن عَجْلان وسليمان بن بلال.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: فيه التحديث والإخبار بالجمع والعنعنة والقول، وشيخ البخاريّ من أفراده، وهو دمشقيُّ والبقية مدنيون. أخرجه مسلم في المناسك، والتِّرْمِذِيّ في الصلاة، وكذا ابن ماجه، والنَّسائيّ في الحج. ثم قال المصنف:

باب مسجد قباء

باب مسجد قباء أي: فضله، وقُباء، بضم القاف ممدوداً وقد يقصر، ويُذَكَّر على أنه موضع فيصرف، ويؤنث على أنه اسم بقعة فلا يصرف، ويينه ويين المدينة ثلاثة أميال، وقيل ميلان، وهو أوّل مسجد أسسه -صلى الله عليه وسلم-، فقد روى يونس بن بكير عن الحَكَم بن عُتيبة قال: لما قَدِم النبي -صلى الله عليه وسلم- فنزل بقُباء، قال عمّار بن ياسر: ما لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بدٌّ من أنْ يجعل له مكانًا يستظل به إذا استيقظ، ويصلى فيه، فجمع حجارة، فبنى مسجد قُباء. فهو أوّل مسجد بُني بالمدينة، وهو في التحقيق أول مسجد صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه بأصحابه جماعة ظاهرًا، وأول مسجد بني لجماعة المسلمين عامّة، وإن كان قد تقدم بناءُ غيره من المساجد، لكن لخصوص الذي بناها، كما في حديث عائشة الآتي في بناء أبي بكر مسجده. وروى ابن أبي شَيبَةَ عن جابر قال: لقد لبثنا بالمدينة قبل أن يقدم علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسنين، نعمر المساجد، ونقيم الصلاة. وقباء على يسار قاصد مكة، وهي من عوالي المدينة، والمسجد المذكور هو مسجد بني عمرو بن عوف، وسمي باسم بئر هناك، وفي وسطه مَبْرَك ناقته عليه الصلاة والسلام، وفي صحته، مما يلي القبلة، شبهُ محراب هو أوّل موضع ركع فيه -صلى الله عليه وسلم-. وقد اختُلف في المراد بقوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} فالجمهور على أن المراد به مسجد قباء، وهو ظاهر الآية، وهو الذي أخرجه البخاريّ عن عائشة في حديث الهجرة الطويل. وفي رواية عبد الرزاق عن عُروة قال: الذين بني فيهم المسجد الذي أُسس على التقوى هم بنو عمرو بن عوف. وكذا في حديث ابن عباس عند ابن عائذ، ولفظه: "ومكث في بني عمرو بن عوف ثلاث لَيالٍ، واتخذ مكانه مسجدًا، فكان يصلي فيه، ثم بناه بنو عمرو بن عوف، فهو الذي أُسس على التقوى". وروى مسلم عن أبي سعيد: سألت النبيّ -صلى الله عليه وسلم- عن المسجد الذي أُسس على التقوى، فقال: "مسجدكم هذا". ولأحمد والتِّرمِذِيّ من وجه آخر عن أبي سعيد: اخْتَلف رجلان في المسجد الذي أُسس على التقوى، فقال أحدهما: هو مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقال الآخر: هو مسجد قباء، فأتيا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فسألاه عن ذلك، فقال: "هو هذا"، وفي ذلك، يعني مسجد قباء، خير كثير. ولأحمد عن سَهْل بن سعد نحوه، وأخرجه آخر عن سَهْل بن سعد عن أُبيّ بن كعب مرفوعًا. قال القُرطبيّ: هذا السؤال صدر ممن ظهرت له المساواة بين المسجدين، لاشتراكهما في أن كلاً منهما

الحديث السابع عشر

بناه النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلذلك سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عنه، فأجاب بأن المراد مسجده، وكأنَّ المزيةَ التي اقتضت تعيينه دون مسجد قباء كونُ مسجد قباء لم يكن بناؤه بأمر جُزِم من الله لنبيه، أو كان رأياً رآه، بخلاف مسجده، أو كان حصل له أو لأصحابه فيه من الأحوال القلبية ما لم يحصل في غيره، ويحتمل أن تكون المزية لما اتفق من طول إقامته -صلى الله عليه وسلم- بمسجد المدينة، بخلاف مسجد قُباء، فما أقام فيه إلا أيامًا قلائل، وكفى بهذا مزية، وفيه كفاية عما أبداه القرطبيّ، والحق أن كلًا منهما أُسس على التقوى. وقوله تعالى في بقية الآية: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} ويؤيد كون المراد مسجد قباء، وعند أبي داود، بإسناد صحيح عن أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: "نزلت {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} في أهل قُباء"، وعلى هذا فالسر في جوابه عليه الصلاة والسلام بأن المسجد الذي أُسس على التقوى مسجده، رفع توهم أن ذلك خاص بقباء، وقال الداوديّ وغيره: ليس هذا اختلافًا؛ لأن كلًا منهما أُسس على التقوى، وكذا قال السُّهيليّ، وزاد غيره: أن قوله تعالى: {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} يقتضي أنه مسجد قُباء؛ لأن تأسيسه كان في أول يوم حلّ النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه دار الهجرة. الحديث السابع عشر حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما كَانَ لاَ يُصَلِّي مِنَ الضُّحَى إِلاَّ فِي يَوْمَيْنِ يَوْمَ يَقْدَمُ بِمَكَّةَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَقْدَمُهَا ضُحًى، فَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَلْفَ الْمَقَامِ، وَيَوْمَ يَأْتِي مَسْجِدَ قُبَاءٍ، فَإِنَّهُ كَانَ يَأْتِيهِ كُلَّ سَبْتٍ، فَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ كَرِهَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ حَتَّى يُصَلِّيَ فِيهِ. قَالَ وَكَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَزُورُهُ رَاكِبًا وَمَاشِيًا. قَالَ: وَكَانَ يَقُولُ إِنَّمَا أَصْنَعُ كَمَا رَأَيْتُ أَصْحَابِي يَصْنَعُونَ، وَلاَ أَمْنَعُ أَحَدًا أَنْ يُصَلِّيَ فِي أَيِّ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، غَيْرَ أَنْ لاَ تَتَحَرَّوْا طُلُوعَ الشَّمْسِ وَلاَ غُرُوبَهَا. قوله: "كان لا يصلي الضحى" وفي رواية: "لا يصلي من الضحى" أي: من جهة الضحى، أو في الضحى، وقوله: "يوم يقدم مكة" بجر يوم بدل من يومين، أو بالرفع خبر مبتدأ محذوف، أي: أحدهما يوم، وللهرويّ والأصيلي "يوم" بالنصب على الظرفية، ودال "يقدم" مفتوحة. وقال العينيّ: مضمومة، وبمكة بموحدة، ولأبوي ذَرٍّ والوقت والأصيليّ وابن عساكر "مكة" بحذفها. وقوله: "فإنه كان يقدمها ضحى" أي: فإنه، أي: ابن عمر، وضحى، أي: في ضحوة النهار. وقوله: "يصلي ركعتين" أي: سنة الطواف. وقوله: "ويوم يأتي" عطف على يوم السابق، فيعرب إعرابه. وقوله: "حتى يصلي فيه" أي ابتغاء الثواب، وقد تقدم الكلام على هذا الحديث في باب صلاة الضحى في السفر. وقوله: "راكبًا وماشيًا" أي: بحسب ما تيسر، والواو بمعنى أو،

رجاله خمسة

وقوله: "وكان يقول" أي ابن عمر، وهذا قد مرّ في أواخر المواقيت في باب "لم يكره الصلاة إلا بعد العصر والفجر". وفي الحديث دلالة على فضل قباء، وفضل المسجد الذي بها، وفضل الصلاة فيه، لكن لم يثبت في ذلك تضعيف بخلاف المساجد الثلاثة. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ يعقوب بن إبراهيم الدَّوْرَقي، وابن علية في الثامن من الإيمان، وأيوب في التاسع منه، وابن عمر في أوله قبل ذكر حديث منه، ونافع في الأخير من العلم. أخرجه مسلم في الحج وأبو داود، وأخرجه البخاري أيضًا في الصلاة. ثم قال المصنف:

باب من أتى مسجد قباء كل سبت

باب من أتى مسجد قباء كل سبت أراد بهذه الترجمة بيان تقييد ما أُطلق في التي قبلها؛ لأنه قيد فيها في الموقوف بخلاف المرفوع، فأطلق، يعني بالموقوف والمرفوع الكائنين في الحديث السابق. الحديث الثامن عشر حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَأْتِي مَسْجِدَ قُبَاءٍ كُلَّ سَبْتٍ مَاشِيًا وَرَاكِبًا. وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ رضي الله عنهما يَفْعَلُهُ. قوله: "ماشيًا وراكبًا" أي: بحسب ما تيسر، والواو بمعنى أو، وقوله: "وكان عبد الله" أي: ابن عمر، كما ثبت في رواية أبي ذَرٍّ والأصيليّ. وقوله: "كل سبت" أطلق في السابقة المرفوعة إتيانه عليه الصلاة والسلام مسجدَ قُباء من غير تقييد بيوم، وقيده هنا، فيحمل المطلق على هذا المقيد، لأنه قيد في السابقة في الموقوف، بخلاف المرفوع. رجاله أربعة: قد مرّوا، مرّ عبد العزيز بن مسلم في أثر بعد الأربعين من العلم، ومرّ موسى بن إسماعيل في الخامس من بدء الوحي، ومرّ عبد الله بن دينار في الثاني من الإيمان، ومرّ ابن عمر الآن في الذي قبله. ثم قال المصنف:

باب إتيان مسجد قباء راكبا وماشيا

باب إتيان مسجد قباء راكبًا وماشيًا أورد هذه الترجمة لاشتمال الحديث على حكم آخر غير ما تقدم. الحديث التاسع عشر حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَأْتِي قُبَاءً رَاكِبًا وَمَاشِيًا. زَادَ ابْنُ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ فَيُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ. قوله: "زاد ابن نمير" أي: عَبد الله عن عُبيد الله بن عمر، وطريق ابن نمير وصلها مسلم وأبو يعلى، قالا: أخبرنا محمد بن عبد الله بن نمير، أخبرنا أبي به. وقال أبو بكر بن أبي شيبة في مسنده: حدّثنا عبد الله بن نمير وأبو أُسامة عن عبيد الله، فذكره بالزيادة، وادّعى الطحاويّ أنها مُدْرَجة، وأن أحد الرواة قاله من عنده، لعلمه أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان من عادته أن لا يجلس حتى يصلي. وفي هذا الحديث، على اختلاف طرقه، دلالةٌ على جواز تخصيص بعض الأيام ببعض الأعمال الصالحة، والمداومة على ذلك. وفيه أن النهي عن شد الرحال لغير المساجد الثلاثة، ليس على التحريم، لكون النبي -صلى الله عليه وسلم-، كان يأتي مسجد قباء راكبًا، ومعلوم أن مسجد قباء ليس أحد المساجد الثلاثة المنصوص على مضاعفة الصلاة فيها، فلو كان شد الرحال إلى غيرها ممنوعًا ما فعله عليه الصلاة والسلام، وداوم عليه أصحابه من بعده، كما رواه البخاريّ قريبًا عن ابن عمر من أنه "كان يأتيه كل سبتٍ ويصلي فيه، ويقول: إنما أصنع كما رأيت أصحابي يصنعون"، فقوله هذا يعلم منه بديهةً أن أصحابه عليه الصلاة والسلام، كانوا يفعلون مثل فعله بعد موته عليه الصلاة والسلام، فيلزم من هذا جواز شد الرحال لغير المساجد الثلاثة، ويكون النهي عنه نهي إرشاد من جهةِ أنه لا يحصل فيه أجر زائد على غيره من المساجد، كما مرّ. ففي الترك إبقاء على النفس، حيث لا مصلحة دينية في شد الرحال. وجواب مَنْ أجاب عن هذا، بأنه -صلى الله عليه وسلم- إنما كان يأتي قُباء كل سبت لمواصلة الأنصار، وتفقد حالهم وحال مَنْ لم يحضر الجمعة معه، وهذا هو السر في تخصيص ذلك بالسبت، مردودٌ بما ورد من الأحاديث الصريحة في طلب الإتيان إليه للصلاة خاصة، فقد روى النَّسائيّ عن سَهل بن

رجاله ستة

حُنيف مرفوعًا: "مَنْ خرج حتى يأتي مسجد قُباء فيصلي فيه كان له عَدِل عُمرة"، وعند التِّرْمِذِيّ عن أَسِيد بن حُضَير، رفعه، "الصلاة في مسجد قُباء كعمرة". وعند ابن أبي شيبة في أخبار المدينة، بإسناد صحيح عن سعد بن أبي وقاص، قال: لأَن أصلي في مسجد قباء ركعتين أحب إليّ من آتي بيت المقدس مرتين، لو يعلمون ما في قباء لضربوا إليه أكباد الإِبل. وهذا، وإن كان موقوفًا، له حكم الرفع، لكونه لا مجال للرأي فيه، فلا يقوله سعد، رضي الله تعالى عنه، إلا بتوقيف من الشارع -صلى الله عليه وسلم-. وأخرج الطبرانيّ عن كعب بن عُجْرَة، رفعه، "مَنْ توضأ فأسبغ الوضوء، ثم غدا إلى مسجد قُباء لا يريد غيره، ولا يحمله على الغُدُوّ إلا الصلاة في مسجد قُباء، فصلى فيه أربع ركعات، يقرأ في كل ركعة بأم القرآن، كان له أجر المعتمر إلى بيت الله". وفيه يزيد بن عبد الملك، النَّوْفَلِيّ ضَعَّفه بعضهم، فانظر قوله "لا يحمله على الغدو إلا الصلاة" ففي هذه الأحاديث كفاية لرد الجواب المتقدم. رجاله ستة: قد مرّوا: مرّ مسدد ويحيى في السادس من الإيمان، ومرَّ ابن عمر أَوَّلَه قبل ذكر حديث منه، ومرَّ عبد الله العمريّ في الرابع عشر من الوضوء، ونافع في الأخير من العلم، ومرَّ عبد الله بن نمير في الثالث من التيمم. ثم قال المصنف:

باب فضل ما بين القبر والمنبر

باب فضل ما بين القبر والمنبر لما ذكر فضل الصلاة في مسجد المدينة أراد أن ينبه على أن بعض بقاع المسجد أفضل من بعض. الحديث العشرون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الْمَازِنِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ. ترجم المؤلف بذكر القبر، وأورد الحديثين بذكر البيت؛ لأن القبر صار في البيت، وقد وقع في بعض طرقه بلفظ القبر، كما أخرجه البزّار بسندٍ رجالُه ثقاتٌ، عن سعد بن أبي وقُاص، والطبرانيّ عن ابن عمر، قال القرطبيّ: الرواية الصحيحة "بيتي" ويروى "قبري" وكأنه بالمعنى؛ لأنه دفن في بيتِ سكناه، فالمراد بالبيت في قوله: "بيتي أحد بيوته لا كلها، وهو بيت عائشة الذي صار فيه قبره، وقد ورد الحديث بلفظ "ما بين المنبر وبيت عائشة روضة من رياض الجنة" أخرجه الطبرانيّ في الأوسط، وعنده أيضًا عن سعد بن أبي وقّاص، رضي الله تعالى عنه "ما بين بيتي ومُصَلاَّي روضةٌ من رياض الجنة". وقوله: "روضة من رياض الجنة" أي: كروضة من رياضها في نزول الرحمة، وحصول السعادة بما يحصل من ملازمة حَلَق الذكر، لاسيما في عهده صلى الله تعالى عليه وسلم، فيكون تشبيهًا بغير أداة، أو أن المعنى أن العبادة فيها تؤدي إلى الجنة، فيكون مجازًا باعتبار المآل، كقوله: "الجنة تحت ظلال السيوف" أي: الجهادُ مآلُه الجنة، أو هو على ظاهره، وأن المراد أنه روضة حقيقية بأن ينتقل ذلك الموضع بعينه في الآخرة إلى الجنة. هذا مُحَصَّل أقوال العلماء على هذا الحديث، وهي على ترتيبها هذا في القوة. ونقل ابن زبالة أن ذَرْع ما بين المنبر والبيت الذي فيه القبر الشريف الآن ثلاث وخمسون ذراعًا، وقيل أربع وخمسون وسدس، وقيل خمسون إلا ثلثي ذراع، وهو الآن كذلك، فكأنه نَقَص لِمَا أُدْخِل من الحجرة في الجدار، واستدل به على أنَّ المدينة أفضل من مكة؛ لأنه أثبت أن الأرض التي بين البيت والمنبر من الجنة. وقد قال في الحديث الآخر: "لقاب قوس أحدكم في الجنة خير

رجاله خمسة

من الدنيا وما فيها"، وتعقبه ابن حزم بأن قوله: "إنها من الجنة" مجازٌ إذ لو كانت حقيقة لكانت كما وصف الله الجنة {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى} وإنما المراد أن الصلاة فيها تؤدي إلى الجنة، كما يقال في اليوم الطيب: هذا من أيام الجنة، وكما قال صلى الله تعالى عليه وسلم: "الجنة تحت ظلال السيوف"، قال: فلو ثبت أنه على الحقيقة لما كان الفضل إلاَّ لتلك البقعة خاصة، فإنْ قيل: إن ما قَرُب منها أفضل مما بعد، لزمهم أن يقولوا إن الجُحفة أفضل من مكة، ولا قائل به. قلت: ما تُعُقِّعب به الاستدلال باطلٌ؛ لأن قوله: إن الصلاة فيها تؤدي إلى دخول الجنة، أي: فضيلة مثل هذه الفضيلة، وأي بقعة قيل فيها هذا القول غير هذه البقعة. لا في مكة ولا في غيرها، وما قاله من لزوم تفضيل الجحفة على مكة باطل غير وارد، فإن الكلام في تفضيل مكة أو المدينة، فلا يتعدى إلى ما ليس داخلًا في مسمى إحداهما من البلاد، ويا ليت شعري، ما حمله على التأويل مع أنه ظاهريّ يحمل الأحاديث على ظاهرها دائمًا؟ وقد مرّ الاستدلال بهذا الحديث عند حديث "صلاة في مسجدي هذا الخ". رجاله خمسة: قد مرّوا؛ مرّ عبد الله بن يوسف ومالك في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ عبد الله بن أبي بكر في الرابع والعشرين من الوضوء، ومرَّ عباد بن تميم وعبد الله بن زيد في الثالث منه. فيه التحديث والإخبار بالجمع والعنعنة، ورواته مدنيون ما عدا شيخه، فإنه مصريّ، وفيه الرجل عباد عن عمه، أخرجه مسلم أيضًا في المناسك، والنَّسَائِيّ فيها وفي الصلاة. الحديث الحادي والعشرون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي. قوله: عن عبيد الله، هو ابن عمر العمريّ، وثبت ذلك في رواية أبي ذَرٍّ والأصيليّ، وقوله: "ومنبري على حوضي" سقطت هذه الجملة من رواية أبي ذَرٍّ، ومعناها أنه ينقل يوم القيامة، فينصب على الحوض، أي نهر الكوثر الكائن داخل الجنة، لا حوضه الذي هو خارجها بجانبها، المستمد من الكوثر. قال الأكثر: المراد منبره بعينه الذي قال هذه المقالة وهو فوقه، وقيل: المراد المنبر الذي يوضع له يوم القيامة، والأول أظهر، ويؤيده حديث أبي واقِد اللَّيْثِيّ، رفعه "إن قوائم منبري رواتب في الجنة" وقيل: معناه أن قصد منبره والحضور عنده، لملازمة الأعمال الصالحة يورد صاحبه إلى الحوض، ويقتضي شربه منه، وعند النِّسائي "ومنبري على تُرْعَةِ من ترع الجنة".

رجاله ستة

رجاله ستة: مرّ محل مسدد ويحيى وعبيد الله في الذي قبله بحديث، ومرَّ خُبيب بن عبد الرحمن في الثاني والستين من مواقيت الصلاة، ومعه حفص بن عاصم، ومرَّ أبو هُريرة في الثاني من الإيمان. فيه التحديث بالجمع والإفراد والعنعنة والقول، والاثنان الأوّلان بصريَّان، والبقبة مدنيون، أخرجه البخاريّ أيضًا في الحج والاعتصام، ومسلم في الحج ثم قال المصنف:

باب مسجد بيت المقدس

باب مسجد بيت المقدس أي فضله، وقد مرّ ما فيه من اللغات عند حديث "لا تشد الرحال". الحديث الثاني العشرون حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ سَمِعْتُ قَزَعَةَ مَوْلَى زِيَادٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رضي الله عنه يُحَدِّثُ بِأَرْبَعٍ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَأَعْجَبْتنَي وَآنَقْتنَي قَالَ: لاَ تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ يَوْمَيْنِ إِلاَّ مَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ ذُو مَحْرَمٍ. وَلاَ صَوْمَ فِي يَوْمَيْنِ الْفِطْرِ وَالأَضْحَى، وَلاَ صَلاَةَ بَعْدَ صَلاَتَيْنِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ، وَلاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ مَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ الأَقْصَى وَمَسْجِدِي. وقوله "فاعجبتني" أي: الأربع، وهو بسكون الموحدة بصيغة الجمع للمؤنث، وقوله: وآنقتني، بالمد ثم نون مفتوحة ثم قاف ساكنة بعدها نونان، يقال: آنقه كذا، إذا أعجبه، وشيء مونق، أي مُعْجب. وحكى ابن الأثير أنه روى "أينقنني" بتحتانية بدل الألف، قال: وليس بشيء، وضبطه الأصيلي "أتقنني" بمثناة فوقية من التوق، وإنما يقال منها "توقني" كشوقني. وقوله: "لا تسافر المرأة يومين إلا ومعها زوجها أو ذو محرم" وهذا قد مرّ استيفاء الكلام عليه في أبواب السفر في باب "كم تقصر الصلاة". وقوله: "ولا صوم في يومين الفطر" ليحصل الفصل بين الصوم والفطر، ليعلم انهاء الصوم، ودخول الفطر، وقوله: "والأضحى" لأن فيه دعوة الله التي دعا عباده إليها من تضييفه وإكرامه لأهل مِنىً وغيرهم، لما شرع لهم من ذبح النسك والأكل منها، والإجماع على تحريم صومهما، لكنَّ مذهب أبي حنيفة لو نذر صوم يوم النحر أفطر، وقضى يومًا مكانه. وقوله: "ولا صلاة بعد صلاتين" الخ تقدم الكلام عليه في أواخر المواقيت، وقوله: "ولا تشد الرحال" الخ مرّ استيفاء الكلام عليه في باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة.

رجاله خمسة

رجاله خمسة: قد مرّوا: مرّ أبو الوليد في العاشر من الإيمان، وشُعبة في الثالث منه، وأبو سعيد الخُدْرِيّ في الثاني عشر منه، وعبد الملك بن عمير في الحادي والثلاثين من الجماعة والإمامة، وقُزعة بن يحيى في الرابع عشر من هذه الأبواب. وقد مرّ في الرابع عشر الكلام عليه لأنه هو بعينه، إلاَّ أنه هنا مطوّل وهناك مختصر.

خاتمة

خاتمة اشتملت أبواب التطوع وما معها على أربعة وثلاثين حديثًا من الأحاديث المرفوعة، المعلق منها عشرة أحاديث، والباقي موصول، المكرر منها فيها وفيما مضى اثنان وعشرون حديثًا، والخالص اثنا عشر، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث ابن عمر في صلاة الضحى، وحديث عبد الله بن مغفل في الركعتين قبل المغرب، وحديث عقبة بن عامر فيه، وفيها من الآثار الموقوفة على الصحابة ومن بعدهم أحد عشر أثرًا، وهي الستة المذكورة في الباب الأول، وأثر ابن عمر عن أبيه وأبي بكر، ونفسه في ترك صلاة الضحى، وأثر أبي تميم في الركعتين قبل المغرب، وأثر محمود بن الربيع عن أبي أيوب، وكلها موصولة والله تعالى أعلم ثم قال المصنف: أبواب العمل في الصلاة ثبتت في نسخة الصغاني هنا بسملة ثم قال:

باب استعانة اليد في الصلاة إذا كان من أمر الصلاة

باب استعانة اليد في الصلاة إذا كان من أمر الصلاة في نسخة الصغاني "أبواب" وقوله: "من أمر الصلاة" احترز به عما يصدر عن قصد العبث، فإنه مكروه، ثم قال: وقال ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما: يستعين الرجل في صلاته من جسده بما شاء، كَيدِهِ إذا كان من أمر الصلاة، مثل تحويله عليه الصلاة والسلام ابنَ عباس إلى جهة يمينه في الصلاة في الحديث التالي، وإذا جازت الاستعانة بها للصلاة، فكذا بما شاء من جسده قياسًا عليها، وهذا الأثر لم أقف عليه موصولًا. وابن عباس مرّ في الخامس من بدء الوحي. ثم قال: ووضع أبو إسحاق قَلَنْسُوَتَه في الصلاة ورفعها، وهذا الأثر أيضًا لم أره موصولًا، وأبو إسحاق السّبيعي قد مرّ في الثالث والثلاثين من الإيمان. ثم قال: "ووضع عليٌّ رضي الله تعالى عنه، كفه على رُصْغِه الأيسر إلا أن يحك جلدًا أو يصلح ثوبًا والرُّصْغ، بسكون المهملة بعدها معجمة، قال صاحب العين: هو لغةٌ في الرُّسْغ، وهو مَفْصِل ما بين الكف والساعد. وقوله: "إلا أن يحك جلدًا" الخ هذا الاستثناء جعله ابن رشيد والإسماعيلي في مستخرجه، وعلاء الدين مُغَلْطَاي في شرحه، مستثنىً من الترجمة، وقالوا: الصواب أن يكون مقدمًا قبل قوله: وقال ابن عباس وهذا غلط، فإن الاستثناء بقية أثر عليّ، كما رواه مسلم بن إبراهيم شيخ البخاريّ عن غَزوان بن جرير الضَّبَيّ عنِ أبيه. وكان شديد الملازمة لعليّ رضي الله تعالى عنه، قال: كان إذا قام إلى الصلاة فكبّر ضَرَب بيده اليمنى على رُسُغِه الأيسر، فلا يزال كذلك حتى يركع، إلاَّ أنْ يحك جلدًا أو يُصلح ثوبًا، كذا رواه في السفينة الجرائدية عن السلفي بسنده إلى مسلم بن إبراهيم، وكذلك أخرجه ابن أبي شَيبة من هذا الوجه بلفظ "إلاَّ أنْ يصلح ثوبه أو يحك جسده"، وهذا هو الموافق للترجمة. ولو كان أثر عليّ انتهى عند قوله: "الأيسر" لما كان فيه تعلق بالترجمة إلا ببعد، وهذا من فوائد تخريج التعليقات، ثم إن ظاهر هذه الآثار يخالف الترجمة؛ لأنها مفيدة بما إذا كان العمل من أمر الصلاة، وهي مطلقة، وكان المصنف أشار إلى أن إطلاقها مقيد بما ذكر ليخرج العبث، ويمكن أن يقال لها تعلق بالصلاة؛ لأن رفع ما يؤدي المصلي، يعين على دوام خشوعه المطلوب في الصلاة، ويدخل في الاستعانة التعلق بالحبل عند التعب، والاعتماد على العصا ونحوهما. وقد رخَّصَ فيه بعضُ السلف، وقد مرّ الأمر بحل الحبل في أبواب قيام الليل، وسيأتي ذكر الاختصار بعد أبواب، وقد مرّ عليّ في السابع والأربعين من العلم.

الحديث الأول

الحديث الأول حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ بَاتَ عِنْدَ مَيْمُونَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها وَهْىَ خَالَتُهُ قَالَ فَاضْطَجَعْتُ عَلَى عَرْضِ الْوِسَادَةِ، وَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَهْلُهُ فِي طُولِهَا، فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى انْتَصَفَ اللَّيْلُ أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَجَلَسَ، فَمَسَحَ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَرَأَ الْعَشْرَ آيَاتٍ خَوَاتِيمَ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى شَنٍّ مُعَلَّقَةٍ فَتَوَضَّأَ مِنْهَا، فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فَقُمْتُ فَصَنَعْتُ مِثْلَ مَا صَنَعَ، ثُمَّ ذَهَبْتُ فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى رَأْسِي، وَأَخَذَ بِأُذُنِي الْيُمْنَى يَفْتِلُهَا بِيَدِهِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَوْتَرَ، ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى جَاءَهُ الْمُؤَذِّنُ، فَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الصُّبْحَ. هذا الحديث قد تقدم للبخاري في مواضع في العلم والطهارة والمساجد والإمامة، وفي أبواب الوتر، وقد مرّ شرحه مستوفىً في باب السر في العلم من كتاب العلم، وفي باب تخفيف الوضوء، وباب قراءة القرآن بعد الحدث وغيره، من كتاب الوضوء وذُكر كثير من مباحثه في أوائل أبواب الوتر، وموضع الترجمة منه قوله: "وأخذ بأُذني اليُمنى يفتلها؛ لأنه أخذ بأذنه أو لا لإدارته من الجانب الأيسر إلى الجانب الأيمن، وذلك من مصلحة الصلاة، ثم أخذ بها أيضًا لتأنيسه، لكون ذلك ليلًا، كما مرّ تقريره في المحال المذكورة. وقال ابن بطال: استنبط البخاري منه أنه لما جاز للمصلي أن يستعين بيده في صلاته فيما يختص بغيره، كانت استعانته في أمر نفسه ليقوى بذلك على صلاته، وينشط لها إذا احتاج إليه أولى. رجاله خمسة: قد مرّوا؛ مرّ عبد الله بن يوسف والإمام مالك في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ ابن عباس في الخامس منه، ومرَّ مَخْرَمَةُ بن سُليمان في الثامن والأربعين من كتاب الوضوء ومرَّ كريب في الرابع منه. لطائف إسناده: رواته الخمسة مدنيون، وفيه التحديث والإخبار والعنعنة، وأخرجه المؤلف في اثني عشر موضعًا ثم قال المصنف:

باب ما ينهى من الكلام في الصلاة

باب ما ينهى من الكلام في الصلاة في رواية الكَشْميهنِيّ والأصيليّ "ما يُنهى عنه" وفي الترجمة إشارة أن بعض الكلام لا ينهى عنه، كما سيأتي في الحديث الثاني. الحديث الثاني حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ فَيَرُدُّ عَلَيْنَا، فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِيِّ سَلَّمْنَا عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْنَا وَقَالَ: إِنَّ فِي الصَّلاَةِ شُغْلاً. قوله: "كنا نسلمُ على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو في الصلاة" في رواية أبي وائل "كنا نسلم في الصلاة ونأمر بحاجتنا" وفي رواية أبي الأحوص "خرجت في حاجة ونحن يسلِّم بعضُنا على بعض في الصلاة". وسيأتي للمصنف بعد باب نحوه في حديث التشهد. وقوله: "من عند النَّجاشي" بفتح النون وكسرها، وسيأتي الكلام عليه في الثامن من كتاب الجنائز، وقد روى ابن أبي شيبة من مرسل ابن سيرين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رد على ابن مسعود، في هذه القصة، السلامَ بالإشارة، وقد بوب المصنف لمسألة الإشارة في الصلاة بترجمة مفردة في أواخر السهو. وقوله: "فلم يردّ علينا" زاد مسلم في رواية ابن فضيل: "قلنا يا رسول الله، كنّ نُسَلِّم عليك في الصلاة فترد علينا" وكذا في رواية أبي عُوانة التي في الهجرة. وقوله: "إن في الصلاة شغلًا" في رواية أحمد عن ابن فضيل "لَشُغلاً" بزيادة اللام للتأكيد، والتنكير فيه للتنويع، أي بقراءة القرآن والذكر والدعاء، أو للتعظيم أي شغلاً وأيَّ شغل؛ لأنها مناجاة مع الله تعالى تستدعي الاستغراق في خدمته، فلا يصلح فيها الاشتغال بغيره. وقال النوويّ: معناه أن وظيفة المصلي الاشتغال بصلاته، وتدبر ما يقوله، فلا ينبغي أن يعرج على غيرها من رد السلام ونحوه. زاد في رواية أبى وائل "أن الله يحدث من أمره ما يشاء وأن الله قد أحدث أن لا تَكَلَّموا في الصلاة"، وزاد في رواية كُلْثوم الخُزَاعيّ إلاَّ بذكر الله وما ينبغي لكم، فقوموا لله قانتين، فأمرنا بالسكوت". رجاله ستة: مرّ منهم محمد بن فضيل في الحادي والثلاثين من الإيمان، ومرَّ الأعمش وإبراهيم وعَلْقَمة

لطائف إسناده

بهذا النسق في الخامس والعشرين منه، ومرَّ عبد الله بن مسعود في أوله قبل ذكر حديث منه. والسادس محمد بن عبد الله بن نمير الهمداني الخارفي أبو عبد الرحمن الكوفي الحافظ، ذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال: كان من الحفاظ المتقنين، وأهل الورع في الدين. وقال الحسن بن سفيان: ابن نمير ريحانة العراق، وأحد الأعلام، وقال أبو يعلى: حديث محمد بن نمير يملأ الصدر والنحر، وكان أحمد بن حنبل يعظم محمد بن نمير تعظيمًا عَجَبًا، ويقول: أي فتى هو، وقال: هو دُرَّةُ العراق، وقال عليّ بن الجُنَيد: كان أحمد وابن مُعين يقولان في شيوخ الكوفيين ما يقول ابن نمير فيهم. وقال ابن الجنيد: ما رأيت بالكوفة مثل ابن نمير، وكان رجلًا نبيلاً، قد جمع العلم والفهم والسنة والزهد، وكان فقيرًا. وقال أحمد بن سنان: ما رأيت من الكوفيين من أحداثهم أفضل منه، وقال العجليّ: كوفيّ ثقة يعد من أصحاب الحديث، وقال أبو حاتم: ثقة يُحتج بحديثه، وقال أبو داود: ابن نمير أثبت من أبيه. وقال النَّسَائيّ: ثقة مأمون، وكان محمد بن عمر الصوفيّ إذا حدث عنه يقول: حدثنا أبو عبد الرحمن محمد بن نمير العبد الصالح. وقال ابن وضّاح: ثقة كثير الحديث، عالم به، حافظ له. وقال ابن قانع: ثقة ثَبْت. وقال ابن رشدين: سألت أحمد بن صالح عنه، فقال: تسألني عن رجل لم أر بالعراق مثله ومثل أحمد، ما رأيت بالعراق مثلهما، ولا أجمع منهما للعقل والدين، ولكل شيء. وفي الزهرة روى عنه البخاري اثنين وعشرين حديثًا، ومسلم ثلاثة وسبعين وخمس مئة حديث. روى عن أبيه وسفيان بن عُيينة وإسماعيل بن علية ووكيع بن الجَرّاح وغيرهم. وروى عنه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه، وروى التِّرْمِذِي والنَّسَائيّ عنه بواسطة البخاريّ، وروى عنه خلق. مات في شعبان أو رمضان سنة أربع وثلاثين ومئتين. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، ورجاله كلهم كوفيون، أخرجه البخاري أيضًا في الصلاة وفي هجرة الحبشة، ومسلم في الصلاة، وكذا أبو داود والنَّسَائيّ. الحديث الثالث حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا هُرَيْمُ بْنُ سُفْيَانَ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- نَحْوَهُ. قوله: ظاهر في أن لفظ هُرَيمٌ غير متحد مع لفظ ابن فضيل، وأن معناهما واحدٌ، وكذا أخرج مسلم الحديث من الطريقين، وقال في رواية هريم أيضًا "نحوه"، ولم يسق لفظ هُرَيم إلاّ الجوزقيّ، وليس فيه مغايرة إلاَّ أنه قال: "قدمنا" بدل "رجعنا"، وزاد"فقيل له يا رسول الله" والباقي سواء. وللحديث طرق أخرى، منها عند أبي داود والنَّسَائيّ عن أبي ليلى عن ابن مسعود، وعند

رجاله سبعة

النَّسَائي عن كلثوم الخُزاعيّ عنه، وعند ابن ماجه والطَّحاوِيّ عن أبي الأحوص عنه. رجاله سبعة: مرّ منهم في الذي قبله محمد بن نمير، ومرَّ فيه محل الأعمش، وإبراهيم وعلقمة وابن مسعود، والباقي اثنان الأول منهما إسحاق بن منصور السَّلولي مولاهم، أبو عبد الرحمن، ذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال ابن مُعين: ليس به بأس، وقال العجليّ: كوفي ثقة، وقد كتبت عنه روى عن إسرائيل وزهير بن معاوية وهريم بن سفيان وغيرهم. وروى عنه أبو نعيم، وهو من أقرانه، وابنا أبي شيبة وعباس العنبريّ وغيرهم. مات سنة أربع أو خمس ومئتين. الثاني هريم بن سفيان البَجْلِيّ، أبو محمد الكوفي، ذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال ابن مُعين وأبو حاتم: ثقة، وقال عثمان بن أبي شيبة: صدوق ثقة، وقال الدارقطني: صدوق، وقال البَزّار: صالح الحديث، ليس بالقوي. روى عن إسماعيل بن أبي خالد وبَيَان بن بِشر والأعمش وغيرهم. وروى عنه إسحاق بن منصور السَّلوِليّ وأبو غسان النَّهديّ وأبو نعيم وغيرهم. الحديث الرابع حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا عِيسَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ شُبَيْلٍ عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ قَالَ: قَالَ لِي زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ: إِنْ كُنَّا لَنَتَكَلَّمُ فِي الصَّلاَةِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، يُكَلِّمُ أَحَدُنَا صَاحِبَهُ بِحَاجَتِهِ حَتَّى نَزَلَتْ {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} الآيَةَ، فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ. قوله: "إن كنا لنتكلم" بتخفيف نون إنّ، وهذا حكمه الرفع، وكذا قوله: "أمرنا" لقوله فيه على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، حتى ولو لم يقيد بذلك، لكان ذكر نزول الآية كافيًا في كونه مرفوعًا، وقوله: "يكلم أحدُنا صاحبه بحاجته" تفسير لقوله: "نتكلم"، والذي يظهر أنهم كانوا لا يتكلمون فيها بكل شيء، وإنما يقتصرون على الحاجة من رد السلام ونحوه. وقوله: "حتى نزلت" ظاهر في أن نسخ الكلام في الصلاة وقع بهذه الآية، فيقتضي أن النسخ وقع بالمدينة؛ لأن الآية مدنية باتفاق، فيشكل ذلك على قول ابن مسعود: إن ذلك وقع لما رجعوا من عند النجاشيّ، وكان رجوعهم من عنده إلى مكة، وذلك أن بعض المسلمين هاجرو إلى الحبشة، ثم بلغهم أن المشركين أسلموا، فرجعوا إلى مكة فوجدوا الأمر بخلاف ذلك، واشتد الأذى عليهم، فخرجوا إليها أيضًا، فكانوا في المرة الثانية أضعاف الأُولى، وكان ابن مسعود مع الفريقين. واختلف في مراده، بقوله: "فلما رجعنا" هل أراد الرجوع الأول أو الثاني، فجنح القاضي أبو الطيب الطَّبري وآخرون، إلى الأول، وقالوا: كان تحريم الكلام بمكة، وحملوا حديث زيد على أنه وقومه لم يبلغهم النسخ، وقالوا: لا مانع أن يتقدم الحكم ثم تنزل الآية بوقفه. وجنح آخرون إلى

الترجيح، فقالوا: يترجح حديث ابن مسعود بأنه حكى لفظ النبي -صلى الله عليه وسلم-، بخلاف زيد بن أرقم، فلم يحكه. وقال آخرون: إنما أراد ابن مسعود رجوعه الثاني وقد ورد أنه قدم المدينة والنبي -صلى الله عليه وسلم- يتجهز إلى بدر، وفي مستدرك الحاكم عن عبد الله بن عُتبة بن مسعود عن ابن مسعود قال: بعثنا النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى النجاشيّ ثمانين رجلًا، فذكر الحديث بطوله، وفي آخره "فتعجل عبد الله بن مسعود فشهد بدرًا"، وفي السير لابن إسحاق أن المسلمين بالحبشة لما بلغهم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- هاجر إلى المدينة رجع منهم إلى مكة ثلاثة وثلاثون رجلًا، فمات منهم رجلان، بمكة وحبس منهم سبعة، وتوجه إلى المدينة أربعة وعشرون رجلًا فشهدوا بدرًا، فعلى هذا كان ابن مسعود من هؤلاء، فنظر أن اجتماعه بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، بعد رجوعه كان بالمدينة، وإلى هذا الجمع نحا الخطابيّ، ولم يقف من تعقب كلامه على مستنده. ويقوي هذا الجمع رواية كلثوم المتقدمة، فإنها ظاهرة في أن كلًا من ابن مسعود وزيد بن أرقم حكى أن الناسخ قولُه تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}، وأما قول ابن حِبّان: كان نسخ الكلام بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين، قال: ومعنى قول زيد بن أرقم: كنا نتكلم، أي كان قومي يتكلمون؛ لأن قومه يصلون قبل الهجرة مع مصعب بن عمير، الذي كان يعلمهم القرآن، فلما نسخ إباحة الكلام بمكة، بلغ ذلك أهلَ المدينة فتركوه، فهو متعقب بأن الآية مدنية باتفاق، وبأن إسلام الأنصار وتوجُّه مصعب بن عمير إليهم إنما كان قبل الهجرة بسنة واحدة، وبأن في حديث زيد بن أرقم "كنا نتكلم خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-": كما أخرجه التِّرْمِذِي فانتفى أن يكون المراد الأنصار الذين كانوا يصلون بالمدينة قبل هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- إليهم. وأجاب ابن حِبان في موضع آخر بأن زيد بن أرقم أراد بقوله: "كنا نتكلم" مَن كان يصلي خلف النبي -صلى الله عليه وسلم-، بمكة من المسلمين، وهو مُتَعَقَّبٌ أيضًا بأنهم ما كانوا بمكة يجتمعون إلا نادرًا، وبما روى الطبرانيّ من حديث أبي أمامة قال: كان إذا دخل المسجد فوجدهم يصلون سأل الذي إلى جنبه فيخبره بما فاته، فيقضي، ثم يدخل معهم، حتى جاء معاذ يومًا، فدخل في الصلاة فذكر الحديث. وهذا كان بالمدينة قطعًا؛ لأن أبا أمامة ومعاذ بن جبل، انما أسلما بها. وقوله: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} الآية، كذا في رواية كريمة، وساق في رواية أبوي ذَرٍّ والوقت الآية إلى آخرها، وانتهت رواية الأصيلي إلى قوله: {الْوُسْطَى} واختلف في المراد بصلاة الوسطى على عشرين قولًا. قيل إنها صلاة العصر، وهو قول علي بن أبي طالب، فقد روى التِّرمذيّ والنَّسائيّ عن زِرّ بن حُبيش قال: قلنا لعُبيدة: سل عليًا عن الصلاة الوسطى، فسأله فقال: كنا نرى أنها الصبح حتى سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول، يوم الأحزاب: "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر" وهذه الرواية تدفع دعوى من زعم أن قوله: "صلاة العصر" في حديث مسلم عن علي "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر" مُدْرَجٌ من تفسير بعض الرواة، وهي نص في أن كونها

العصر من كلام النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكونها العصر هو المعتمد، وبه قال ابن مسعود وأبو هريرة، وهو الصحيح من مذهب أبي حنيفة. وقول أحمد، والذي صار إليه معظم الشافعية لصحة الحديث فيه. قال الترمذيّ: هو قول أكثر علماء الصحابة، وقال الماورديّ: هو قول جمهور التابعين. وقال ابن عبد البرّ: هو قول أكثر أهل الأثر، وبه قال من المالكية ابن حبيب وابن العَربي وابن عطية. ويؤيده أيضًا ما رواه مسلم عن البراء بن عازب قال: نزل {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} فقال رجل فهي إذن صلاة العصر، فقال: أخبرتك كيف نزلت. وأخرج البخاريّ عن عليّ رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال يوم الخندق: "حبسونا عن صلاة الوسطى حتى غابت الشمس"، ولمسلم عن عُبيدة السلمانيّ عن عليّ بلفظ "كما حبسونا عن الصلاة الوسطى حتى غربت الشمس" يعني العصر. وروى أحمد والترمذيّ عن سمرة، رفعه قال: "صلاة الوسطى صلاة العصر". وروى ابن جرير عن أبي هُريرة، رفعه "الصلاة الوسطى صلاة العصر". وعن كُهَيل بن حَرْملة سئل أبو هُريرة عن الصلاة الوسطى فقال: اختلفنا فيها ونحن بفناء بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم خرج إلينا فقال: أخبرنا أنها صلاة العصر. وعن عبد العزيز بن مروان أنه أرسل إلى رجل فقال: أي شيء سمعت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الصلاة الوسطى؟ فقال: أرسلنى أبو بكر وعمر أسأله، وأنا غلام صغير فقال: هي العصر، وعن أبي مالك الأشعري، رفعه "الصلاة الوسطى صلاة العصر". وروى التِّرمذيّ وابن حِبّان عن ابن مسعود مثله، وروى ابن جرير عن هشام بن عُروة عن أبيه قال: كان في مصحف عائشة {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} وهي صلاة العصر، وروى ابن المُنْذر عن ابن عباس قال: شغل النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- الأحزابُ يوم الخندق عن صلاة العصر حتى غربت الشمس، فقال: "شغلونا عن الصلاة الوسطى"، وأخرج أحمد عن أم سلمة وأبي أيوب وأبي سعيد وزيد بن ثابت وأبي هريرة وابن عباس من قولهم إنها صلاة العصر. القول الثاني: إنها الصبح، وهو قول أبي أمامة وأنس وجابر وأبي العالية وعبيد بن عمير وعطاء ومكرمة ومجاهد، نقله ابن أبي حاتم عنهم، وهو أحد قولي ابن عمر وابن عباس، ونقله مالك والتِّرمذيّ عنهما، ونقله مالك بلاغًا عن علي، المعروف عنه خلافه، ونقل ابن جرير عن أبي رجاء العطارديّ قال: صليت خلف ابن عباس الصبح، فَقَنَتَ فيها ورفع يديه ثم قال: هذه الصلاة الوسطى التي أمرنا أن نقوم فيها قانتين، وأخرجه أيضًا من وجه آخر عنه وعن ابن عمر، ومن طريق أبي العالية: صليت خلف عبد الله بن قيس بالبصرة في زمن عمر صلاة الغَداة، فقلت لهم: ما الصلاة الوسطى؟ قالوا: هي: هذه الصلاة، وهو قول مالك والشافعيّ فيما نص عليه في الأُم. واحتجوا له بأن فيها القنوت. وقد قال الله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} وبأنها لا تقصر في السفر، وأنها بين صلاتي جهر وصلاتي سر.

الثالث: قول زيد بن ثابت، أخرجه أبو داود من حديثه قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي الظهر بالهاجرة، ولم تكن صلاة أشد على أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منها، فنزلت {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} الآية وجاء عن أبي سعيد وعائشة القول بأنها الظهر، أخرجه ابن المنذر وغيره، وروى مالك في الموطأ عن زيد بن ثابت الجزم بأنها الظهر، وبه قال أبو حنيفة في روايةٍ عنه. وروى الطيالسيّ عن زُهرة بن مَعْبدِ قال: كنا عند زيد بن ثابت، فأرسلوا إلى أسامة فسألوه عن الصلاة الوسطى، فقال: هي الظهر. ورواه أحمد من وجه آخر، وزاد "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي الظهر بالهجير، فلا يكون وراءه إلا الصف أو الصفان، والناس في قائلتهم وفي تجارتهم، فنزلت". الرابع: نقله ابن أبي حاتم بإسناد حسن عن ابن عباس، قال: صلاة الوسطى هي المغرب، وبه قال قُبَيصة بن ذؤيب. أخرجه ابن جَرير، وحجتهم أنها معتدلة في عدد الركعات، أنها لا تقصر في الأسفار، وأن العمل مضى على المبادرة إليها والتعجيل لها في أول ما تغرب الشمس، وأن قبلها صلاتا سر وبعدها صلاتا جهر. الخامس: العشاء نقله ابن التين والقرطبيّ، واحتج له بأنه بين صلاتين لا تقصران، ولأنها تقع عند النوم، فذلك أمر بالمحافظة عليها، واختاره الواحديّ. السادس: وهو ما صححه ابن أبي حاتم أخرجه بإسناد حسن عن نافع قال: سئل ابن عمر فقال: هي كلهن، فحافظوا عليهن، وبه قال معاذ بن جبل، واحتج له بأن قوله: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} يتناول الفرائض والنوافل، فعطف عليه الوسطى، وأريد بها كل الفرائض تأكيدًا لها، واختار هذا القول ابن عبد البَرّ. السابع: أنها الجمعة، ذكره ابن حبيب من المالكية، واحتج بما اختصت به من الاجتماع والخطبة، وصححه القاضي حسين، ورجحه أبو أسامة. الثامن: الظهر في الأيام، والجمعة يوم الجمعة. التاسع: الصبح والعشاء للحديث الصحيح في أنهما أثقل الصلاة على المنافقين، وبه قال الأبهريّ من المالكية. العاشر: الصبح والعصر لقوة الأدلة في أن كلًا منهما قيل إنها الوسطى، فظاهر القرآن الصبح، ونص السنة العصر. الحادي عشر: صلاة الجماعة. الثاني عشر: الوِتر، وصنف فيه علاء الدين السخاويّ جزءًا، ورجحه القاضي تقي الدين الأخنائيّ، واحتج له في جزء. الثالث عشر: صلاة الخوف.

الرابع عشر: صلاة عيد الأضحى. الخامس عشر: صلاة عيد الفطر. السادس عشر: صلاة الضحى. السابع عشر: واحدة من الخمس غير معينة، قاله الربيع بن خُثيم وسعيد بن جبير وشُريح القاضي، وهو اختيار إمام الحرمين من الشافعية. قال: كما أخفيت ليلة القدر قال القرطبيّ: وصار إلى أنها أبهمت جماعة من العلماء المتأخرين، وهو الصحيح لتعارض الأدلة، وعسر الترجيح، وحديث البراء المتقدم عند مسلم يشعر بأنها أبهمت بعدما عينتْ، قال في "الفتح": وفي دعوى أنها أبهمت بعدما عينت، من حديث البراء. نعم، جواب البراء يشعر بالتوقف لمانظر فيه من الاحتمال، وهذا لا يدفع التصريح فيها في حديث علي. الثامن عشر أنها الصبح أو العصر على الترديد، وهو غير القول المتقدم، الجازم بأن كلًا منهما يقال لها الوسطى. التاسع عشر: التوقف، فقد روى ابن جرير عن سعيد بن المسيب بإسناد صحيح، قال: كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مختلفين في الصلاة الوسطى، هكذا، وشبك بين أصابعه. العشرون: صلاة الليل، وأقوى شبهة لمن زعم أنها غير العصر مع صحة الحديث، حديث البراء بن عازب، وهو لا يدفع التصريح فيها في حديث عليّ كما مرّ، ومن حجتهم على أنها غير العصر، ما رواه مسلم وأحمد عن أبي يونس عن عائشة أنها أمرته أن يكتب لها مصْحفًا، فلما بلغت {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} قال: فأملت عليّ "وصلاة العصر" قالت: سمعتها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وروى مالك عن عمرو بن نافع قال: كنت أكتب مصحفًا لحفصة، فقالت: إذا بلغت هذه الآية قآذني، فأملت علي {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} وصلاة العصر، وأخرجه ابن جرير من وجه آخر حسن، عن عمرو بن نافع. وروى ابن المنذر عن عُبيد الله بن رافع "أمرتني أم سلمة أن أكتب لها مصحفًا، فذكر مثل حديث عمرو بن نافع سواء، وعن سالم بن عبد الله بن عمر أن حفصة أمرت إنسانًا أن يكتب لها مصحفًا نحوه، وعن نافع أن حفصة أمرت مولى لها أن يكتب لها مصحفًا فذكر مثله، وزاد: كما سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقولها، قال نافع: فقرأت ذلك المصحف، فوجدت فيه الواو، فتمسك قوم بأن العطف يقتضي المغايرة، فتكون صلاة العصر غير الوسطى. وأجيب بأن حديث علي ومن وافقه أصح إسنادًا، وأصرح، وبأن حديث عائشة قد عورض برواية عُروة "أنه كان في مصحفها: وهي العصر" فيحتمل أن تكون الواو زائدة، ويؤيده ما رواه أبو عبيد، بإسناد صحيح، عن أُبي بن كعب أنه كان يقرؤها {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى

صلاة العصر} بغير واو، أو هي عاطفة لكن عطف صفة لا عطف ذات، وبأن قوله {والصلاة الوسطى والعصر}، لم يقرأ بها أحد، ولعل أصل ذلك ما في حديث البراء أنها نزلت أولًا {والعصر} ثم نزلت ثانيًا بدلها {وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} فجمع الراوي بينهما، ومع وجود الاحتمال لا ينهض الاستدلال، فكيف يكون مقدمًا على النص الصريح بأنها العصر؟ قال الحافظ صلاح الدين العلانيّ: حاصل أدلة من قال إنها غير العصر، يرجع إلى ثلاثة أنواع: أحدها تنصيص بعض الصحابة، وهو معارض بمثله ممن قال منهم إنها العصر، ويترجح قول العصر بالنص الصريح المرفوع، وإذا اختلف الصحابة لم يكن قول بعضهم حجة على غيره، فتبقى حجة المرفوع قائمة. ثانيها معارضة المرفوع بورود التأكيد على فعل غيرها، كالحث على المواظبة على الصبح والعشاء، وقد تقدم في مواقيت الصلاة، وهو معارض بما هو أقوى منه، وهو الوعيد الشديد الوارد في ترك صلاة العصر، كما تقدم أيضًا. ثالثها ما جاء عن حفصة وعائشة من قراءه {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر} فإن العطف يقتضي المغايرة، وهذا يرد عليه إثبات القرآن بخبر الآحاد، وهو ممتنع، وكونه ينزَّل منزلة خبر الواحد مختلف فيه، سلمنا، لكن لا يصح معارضًا للمنصوص صريحًا، وأيضًا فليس العطف صريحًا في اقتضاء المغايرة، لوروده في نسق الصفات، كقوله تعالى: {الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ}. وكما ورد الخلاف في صلاة الوسطى، ورد في المراد بالقنوت في قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} وحديث الباب، حديث زيد بن أرقم، ظاهر في أن المراد بالقنوت السكون، لقوله فيه "فأمرنا بالسكوت" أي، عن الكلام المتقدم ذكره، لا مطلقًا، فإن الصلاة ليس فيها حال سكوت حقيقة. قال ابن دقيق العيد: ويترجح بما دل عليه لفظ "حتى" التي للغاية، وإلغاء التي تشعر بتعليل ما سبق عليها لما يأتي بعدها. وقيل: "قانتين": مطيعين، أخرجه ابن أبي حاتم، بإسناد صحيح، عن ابن مسعود، ونقله عن ابن عباس أيضًا، وجماعة من التابعين، وذكر من وجه آخر عن ابن عباس قال: قانتين أيْ: مصلين. وعن مجاهد قال: من القنوت الركوعُ والخشوعُ وطولُ القيام وغضُّ البصر وخفض الجناح والرهبة لله. وقوله "فأمرنا بالسكوت"، زاد مسلم في روايته "ونهينا عن الكلام" ولم تقع في البخاريّ. وذكرها صاحب العمدة، ولم ينبه أحد من شراحها عليها، واستدل بهذه الزيادة على أن الأمر بالشيء ليس نهيًا عن ضده، إذ لو كان كذلك لم يحتج إلى قوله: "ونهينا عن الكلام"، وأجيب بأن دلالته على ضده دلالة التزام، ومن ثم وقع الخلاف، فلعله ذكر لكونه أصرح.

رجاله ستة

قال ابن دقيق العيد: هذا اللفظ أحد ما يستدل به على النَّسْخ، وهو تقدم أحد الحكمين على الآخر، وليس كقول الراوي، وهذا منسوخ؛ لأنه يطرقه احتمال أن يكون قاله عن اجتهاد، وقيل: ليس في هذه القصة نسخ؛ لأن إباحة الكلام في الصلاة كان بالبراءة الأصلية، والحكم المزيل لها ليس نسخًا، وأجيب بأن الذي يقع في الصلاة ونحوها، مما يمنع أو يباح، إذا قرره الشارع، كان حُكْمًا شرعيًا، فإذا ورد ما يخالفه كان ناسخًا. وهو كذلك هنا. قال ابن دقيق العيد، قوله: "ونهينا عن الكلام" يقتضي أن كل شيء يُسمى كلامًا فهو منهي عنه، حملًا للفظ على عمومه، ويحتمل أن تكون اللام للعهد الراجح إلى قوله "يكلم الرجل منا صاحبه بحاجته". وقوله: "فأَمرَنا بالسكوت" أي: عما كانوا يفعلونه من ذلك، وقد مرت مذاهب الأئمة في الكلام في أثناء الصلاة، عند حديث ابن مسعود في باب "التوجه نحو القبلة"، حيث كان. وقد قال في "الفتح": اختلفوا في أشياء كمن جرى على لسانه بغير قصد، أو تعمد إصلاح الصلاة لسهو دخل على إمامه، أو لإنقاذ مسلم لئلا يقع في مهلكة، أو فتح على إمامه أو سبَّح لمن مرّ به، أو رد السلام، أو إجاب دعوة أحد والديه، أو أكره على الكلام، أو تقرب بقربة، كأعتقت عبدي لله، ففي جميع ذلك خلاف، تأتي الإشارة إلى بعضه، حيث يحتاج إليه. قال ابن المنير: الفرق بين قليل الفعل للعامد، فلا يبطل وبين قليل الكلام أن الفعل لا تخلو منه الصلاة غالبًا لمصلحتها، وتخلو من الكلام الأجنبي غالبًا مطردًا. قال القَسْطَلانيّ: ويعذر في التنحنح وإن ظهر به حرفان للغلبة، وتعذر قراءة الفاتحة لا الجهر؛ لأنه سنة لا ضرورة إلى التنحنح له، ولو أكره بطلت، لندرة الإكراه، ولا تبطل بالذكر والدعاء العادي عن المخاطبة، فلو خاطب كقوله لعاطس "رحمك الله" بطلت بخلاف رحمه الله، بالهاء. ولو تكلم بنظم القرآن قاصدًا التفهم: كيا يحيى خذ الكتاب، مفهمًا به من يستأذن في أخذ شيء أن يأخذه إن قصد معه القراءة، لم تبطل، فإن قصد التفهيم فقط، بطلت وإن لم يقصد شيئًا، ففي التحقيق الجزم بالبُطلان، وعند المالكية إذا قصد التفهيم به في محله، كان وجده الحال يقرأ: {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ} صحت صلاته وإلاّ بطلت. رجاله ستة: قد مرّوا إلا الحارث، مرّ إبراهيم بن موسى في الثالث من الحيض، ومرَّ عيسى بن يونس في الثامن عشر والمئة من صفة الصلاة، ومرَّ أبو عمرو الشيبانيّ في السادس من مواقيت الصلاة، ومرَّ إسماعيل بن أبي خالد في الثالث من الإيمان، ومرَّ زيد بن أرقم في السابع عشر من الاستسقاء. السادس: الحارث ابن شُبَيل، بالتصغير، بن عوف البَجْليّ، أبو الطفيل. ويقال ابن شبل. قال إسحاق بن منصور: لا يسأل عن مثله لجلالته، وقال النَّسائيّ: ثقة، وفرق بعضهم بين الحارث بن شُبيل والحارث بن شِبل، فقال: الحارث بن شِبل بصريّ ضعيف، والحارث بن شبيل

كوفيّ ثقة. روى عن أبي عمرو الشَّيبانيّ وعبد الله بن شدّاد بن الهاد وطارق بن شهاب، وروى عنه إسماعيل بن أبي خالد وسعيد بن مسروق والأعمش. ليس له في البخاري إلاَّ هذا الحديث. فيه التحديث والإخبار بالجمع والعنعنة والقول، وشيخ البخاريّ رازيّ، والبقية كوفيون. أخرجه البخاريّ أيضًا في التفسير، ومسلم في الصلاة، وكذا أبو داود، والتِّرْمِذِيّ والنَّسائي في الصلاة. وفي التفسير. ثم قال المصنف:

باب ما يجوز من التسبيح والحمد في الصلاة للرجال

باب ما يجوز من التسبيح والحمد في الصلاة للرجال قال ابن رشيد: أراد إلحاق التسبيح بالحمد بجامع الذكر؛ لأن الذي في الحديث الذي ساقه ذكر التحميد دون التسبيح، بل الحديث مشتمل عليهما، لكنه ساقه هنا مختصرًا، وقد تقدم في باب "من دخل ليؤم الناس" من أبواب الإمامة، وفيه: فرفع أبو بكر يديه فحمد الله تعالى، وفي آخره من نابه شيء في صلاته فليسبح وقوله: للرجال قال ابن رشيد: قيده بالرجال لأن ذلك لا يشرع عنده للنساء، وقد أشعر بذلك تبويبه بعد حيث قال: "باب التصفيق للنساء" إلى آخر ما مرَّ مستوفى في الباب المذكور. الحديث الخامس حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَهْلٍ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُصْلِحُ بَيْنَ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَحَانَتِ الصَّلاَةُ، فَجَاءَ بِلاَلٌ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنهما فَقَالَ حُبِسَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَتَؤُمُّ النَّاسَ قَالَ نَعَمْ إِنْ شِئْتُمْ. فَأَقَامَ بِلاَلٌ الصَّلاَةَ، فَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه فَصَلَّى، فَجَاءَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَمْشِي فِي الصُّفُوفِ يَشُقُّهَا شَقًّا حَتَّى قَامَ فِي الصَّفِّ الأَوَّلِ، فَأَخَذَ النَّاسُ بِالتَّصْفِيحِ. قَالَ سَهْلٌ هَلْ تَدْرُونَ مَا التَّصْفِيحُ هُوَ التَّصْفِيقُ. وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه لاَ يَلْتَفِتُ فِي صَلاَتِهِ، فَلَمَّا أَكْثَرُوا الْتَفَتَ فَإِذَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فِي الصَّفِّ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ مَكَانَكَ. فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَيْهِ، فَحَمِدَ اللَّهَ، ثُمَّ رَجَعَ الْقَهْقَرَى وَرَاءَهُ وَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَصَلَّى. هذا الحديث قد مرَّ في باب "من دخل ليؤم الناس" ومرَّ الكلام عليه مستوفى هناك. رجاله أربعة: وفيه ذكر أبي بكر وبلال، وقد مرَّ الجميع، مرَّ عبد الله بن مَسلمة في الثاني عشر من الإيمان، ومرَّ عبد العزيز في الخامس والأربعين من استقبال القبلة، ومرَّ أبو حازم وسهل بن سعد في الثامن والمئة من الوضوء ومرَّ أبو بكر في باب "من لم يتوضأ من لحم الشاة" بعد الحادي والسبعين منه، ومرَّ بلال في التاسع والثلاثين من العلم ثم قال المصنف:

باب من سمى قوما أو سلم في الصلاة على غيره وهو لا يعلم

باب من سمى قومًا أو سلم في الصلاة على غيره وهو لا يعلم كذا للأكثر وزاد في رواية كريمة بعد "على غيره" "مواجهة"، وحكى ابن رشيد أن في رواية أبي ذَرٍّ عن الحمويّ إسقاط الهاء من غيره، وإضافة مواجهة. قال: ويحتمل أن يكون بتنوين "غير"، وفتح الجيم من مواجهة، وبالنصب، فيوافق المعنى الأول، ويحتمل أن يكون بتاء التأنيث، فيكون المعنى لا تبطل الصلاة إذا سلم على غيره مواجهة، ومفهومه أنه إذا كان مواجهة تبطل، قال: وكأنَّ مقصودَ البخاريّ بهذه الترجمة أن شيئًا من ذلك لا يبطل الصلاة؛ لأن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لم يأمرهم بالإعادة، وإنما علمهم ما يستقبلون، لكن يرد عليه أنه لا يستوي حال الجاهل، قبل وجود الحكم، مع حاله بعد ثبوته. ويمكن أن يكون الذين صدر منهم الفعل كان على غير علم، بل الظاهر أن ذلك كان عندهم شرعًا مقررًا، فورد النسخ عليه، فيقع الفرق، وليس في الترجمة تصريح بجواز ولا بطلان، وكأنه ترك ذلك لاشتباه الأمر عليه. الحديث السادس حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عِيسَى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الصَّمَدِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا نَقُولُ التَّحِيَّةُ فِي الصَّلاَةِ وَنُسَمِّي، وَيُسَلِّمُ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ، فَسَمِعَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: قُولُوا التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَإِنَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ فَقَدْ سَلَّمْتُمْ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ لِلَّهِ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ. هذا الحديث قد مرّ مطولًا في باب التشهد في الآخرة من أبواب صفة الصلاة، ومرَّ استيفاء الكلام عليه هناك، وقوله في هذا السياق "وسمى ناسًا بأعيانهم" يفسره في السياق المتقدم السلام على جبريل السلام على ميكائيل. وقوله: "ويسلم بعضنا على بعض" ظاهر فيما ترجم له المصنف. رجاله خمسة: مر منهم حَصِين بن عبد الرحمن في الثالث والسبعين من مواقيت الصلاة، ومرَّ أبو وائل في الحادي والأربعين من الإيمان، ومرَّ ابن مسعود في أول أثر منه، والباقي اثنان الأول عمرو بن عيسى

لطائف إسناده

الضَّبّيّ، أبو عثمان البصريّ الآدميّ، ذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال: مستقيم الحديث، وفي الزهرة روى عنه البخاريّ ثلاثة أحاديث، روى عن محمد بن سواء وعبد الأعلي بن عبد الأعلى وعبد العزيز العَمِّيّ وغيرهم. وروى عنه البخاريّ، وروى النَّسائي عنه بواسطة، وروى عنه يحيى الساجي وغيرهم. الثاني: عبد العزيز بن عبد الصمد العمى، أبو عبد الصمد البصريّ، الحافظ. قال أحمد: كان ثقة، وقال ابن معين لم يكن به بأس. وقال القواريريّ: كان حافظًا، وقال أبو زرعة وأبو داود والنَّسائي: ثقة، وقال أبو حاتم: صالح، وقال ابن مهديّ: مات ما مات لكم منذ ثلاثين سنة شبهه أو مثله أو أوثق منه. وقال العجليّ: ثقة، روى عن أبي عمران الجَونيّ، وداود بن أبي هند، وحَصِين بن عبد الرحمن وغيرهم. وروى عنه أحمد وإسحاق وعليّ ويحيى وبُنْدار وغيرهم. مات سنة ثمان أو تسع وثمانين. والعمي في نسبه، قيل نسبة إلى العم، أخي الأب، لقب به لأنه كان كلما سئل عن شيء قال: حتى أسأل عمي. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، وشيخه من أفراده، واثنان من السند بصريان، والأخيران كوفيان. أخرجه ابن ماجه في الصلاة ثم قال المصنف:

باب التصفيق للنساء

باب التصفيق للنساء الحديث السابع حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ". هذا الحديث مرَّ الكلام عليه عند حديث سهل بن سعد في باب "من دخل ليؤم الناس" من أبواب الإمامة. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ عليّ بن المَدِينيّ في الرابع من العلم، ومرَّ ابن عيينة في الأول من بدء الوحي، والزهريّ في الثالث منه، وأبو سلمة في الرابع منه، وأبو هريرة في الثاني من الإيمان، والحديث أخرجه مسلم في الصلاة، وكذا أبو داود والنسائي وابن ماجه. الحديث الثامن حَدَّثَنَا يَحْيَى أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ وَالتَّصْفِيحُ لِلنِّسَاءِ". وهذا أيضًا من الكلام عليه في الباب المذكور؛ لأن الكلام عليهما واحد. رجاله خمسة: قد مرّوا: ويحيى، أما يحيى بن موسى البلخيّ وإما يحيى بن جعفر؛ لأن كلًا منهما يروي عن وكيع، وقد مرا في التاسع عشر من الحيض، ومرَّ وكيع في الحادي والخمسين من العلم، ومرَّ سفيان الثوريّ في السابع والعشرين من الإيمان، ومرَّ أبو حازم وسهل في الثاني والمئة من الوضوء. ثم قال المصنف:

باب من رجع القهقرى في الصلاة أو تقدم بأمر نزل به

باب من رجع القهقرى في الصلاة أو تقدم بأمر نزل به رواه سهل بن سعد عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، يشير بذلك إلى حديثه السابق قريبًا، ففيه: "فرفع أبو بكر يديه فحمد الله ثم رجع القهقري" وأما قوله: "أو تقدم" فهو مأخوذ من الحديث أيضًا، وذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وقف في الصف الأول خلف أبي بكر على إرادة الائتمام به، فامتنع أبو بكر، فتقدم النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، ورجع أبو بكر من موقف الإِمام إلى موقف المأموم، ويحتمل أن يكون المراد بحديث سهل ما تقدم في الجمعة، في باب الخطبة على المنبر من صلاته -صلى الله عليه وسلم- على المنبر، ونزوله القهقرى، حتى سجد في أصل المنبر، ثم تقدم حتى عاد إلى مقامه. قلت: وهذا الأخير أولى، لقوله عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، والأول عن أبي بكر الصديق، وإن كان داخلًا في تقريره عليه الصلاة والسلام. واستدل به على جواز العمل في الصلاة إذا كان يسيرًا ولم يحصل فيه التوالي، وقد مرَّ استيفاء الكلام عليه عند أهل المذاهب في باب "إذا حمل جارية صغيرة" في أبواب سترة المصلي. الحديث التاسع حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ يُونُسُ قَالَ الزُّهْرِيُّ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ بَيْنَا هُمْ فِي الْفَجْرِ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ، وَأَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه يُصَلِّي بِهِمْ فَفَجَأَهُمُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- قَدْ كَشَفَ سِتْرَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ رضي الله عنها فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ، وَهُمْ صُفُوفٌ، فَتَبَسَّمَ يَضْحَكُ، فَنَكَصَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه عَلَى عَقِبَيْهِ، وَظَنَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُرِيدُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الصَّلاَةِ، وَهَمَّ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَفْتَتِنُوا فِي صَلاَتِهِمْ فَرَحًا بِالنَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ رَأَوْهُ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ أَنْ أَتِمُّوا، ثُمَّ دَخَلَ الْحُجْرَةَ وَأَرْخَى السِّتْرَ، وَتُوُفِّيَ ذَلِكَ الْيَوْمَ. وقوله: قال يونس: قال الزهريّ، أي قال: قال يونس، وهي تحذف خطا في الاصطلاح لا نطقًا، وقوله "ففَجِأهم" قال ابن التين: كذا وقع في الأصل بالألف، وحقه أن يكتب بالياء؛ لأن عينه مكسورة، كوَطئِهم، وقد مرت فوائد هذا المتن في باب "أهل العلم والفضل أحق بالإمامة" من أبواب الإمامة.

رجاله خمسة

رجاله خمسة: قد مرّوا، وفيه ذكر أبي بكر وعائشة، مرّ بشر بن محمد وعبد الله بن المبارك في السادس من بدء الوحي، ومرَّ يونس بن يزيد في متابعة بعد الرابع منه، والزهريّ في الثالث منه، وعائشة في الثاني منه، وأنس في السادس من الإيمان، وأبو بكر في باب من لم يتوضأ من لحم الشاة بعد الحادي والسبعين من الوضوء. وقد مر هذا الحديث في باب "أهل العلم والفضل أحق بالإمامة"، ومرَّ الكلام عليه هناك. ثم قال المصنف:

باب إذا دعت الأم ولدها في الصلاة

باب إذا دعت الأم ولدها في الصلاة أي هل تجب إجابتها أَمْ لا؟ وإذا وجبت هل تبطل أم لا؟ في المسألتين خلاف، ولذلك حذف المصنف جواب الشرط، فالأصح عند الشافعية أن الصلاة إن كانت نفلًا، وعُلِم تأذّي الوالد بالترك، وجبت الإجابة، وإلا فلا. وإن كانت فرضًا وضاق الوقت لم تجب الإعادة، وإن لم يضق وجب عند إمام الحرمين، وخالفه غيره، لأنها تلزم بالشروع، وإذا أجابها بطلت. وحكى الرَّويانيّ عدم البطلان بالإجابة، وحكى الرويانيّ وجهًا في مذهب الشافعيّ بجواز قطع الصلاة لنداء الأم، فرضًا كانت أو نفلًا، وعند المالكية أن إجابة الوالد في النافلة أفضل من التمادي فيها إذا يمكنه التخفيف. وحكى القاضي أبو الوليد أن ذلك يختص بالأم دون الأب. وعند ابن أبي شيبة من مرسل محمد بن المنكدر عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إذا دعتك أمك في الصلاة فأجبها، وإن دعاك أبوك فلا تجبه" وبه قال مكحول، وقيل إنه لم يقل به من السلف غيره، وقال العينيّ: لا يجوز للمصلي إذا دعت أمه أو غيرها أن يقطع صلاته، لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق"، وحق الله تعالى الذي شرع فيه آكد من حق الأبوين حتى يفرغ منه، وأما النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلو دعا أحدًا وجبت عليه إجابته. وقال صاحب التوضيح: صرح أصحابنا بأن ذلك من خصائصه ولا تبطل الصلاة بإجابته. وعند المالكية قولان في بطلان الصلاة بإجابته عليه الصلاة السلام، ورجح عليّ الأجهوريّ عدم البطلان، وإنما كانت إجابته واجبة، لما أخرجه البخاريّ أنه عليه الصلاة والسلام "دعا أبا سعيد فأبطأ وقال: كنت أصلي، قال: ألم تسمع قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}. وفي الترمذيّ عن أبي هُريرة أنه عليه الصلاة والسلام "دعا أبيّ بن كعب وهو في الصلاة، فخفف فجاء، فقال له عليه الصلاة والسلام: ما منعك يا أبي أن تجيبني إذ دعوتك؟ قال: يا رسول الله، كنت أصلّي، قال: أفلم تجد فيما أوحي إليّ {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} قال: بلى؟ ولأجيبُ إن شاء الله تعالى. وقال الليث حدثني جعفر عن عبد الرحمن بن هرمز قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه قال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، نادت امرأة ابنها وهو في صومعة قالت يا جريج قال اللهم أمي وصلاتي قالت اللهم لا يموت جريج حتى ينظر في وجه المياميس. وكانت تأوي إلى صومعته راعيةً ترعى الغنم فولدت فقيل لها ممن هذا الولد قالت من جريج نزل من صومعته قال جريج أين هذه التي تزعم أن ولدها

إلي قال: يا بابوس من أبوك؟ قال راعي الغنم. وصله الإسماعيلي عن عاصم بن علي أحد شيوخ البخاريّ عن الليث مطولًا، ووصله المؤلف في أحاديث الأنبياء في باب {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ} عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة، وأخرجه أيضًا بهذا الإسناد في المظالم، ورواه الأعرج عنه كما هنا، ورواه أبو رافع عنه كما عند مسلم وأحمد، ورواه أبو سلمة عنه كما عند أحمد، ورواه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أبي هريرة عمران بن حصين. وقوله: "نادت امرأة ابنها وهو في صومعته، قالت: يا جُريج" أي بجيمين مصغرًا، وأول حديث أبي سلمة "كان رجل في بني إسرائيل تاجرًا، وكان ينقص مرة ويزيد أخرى، فقال: ما في هذه التجارة خير، لألتمسنَّ تجارة هي خير من هذه، فبنى صومعة وترهب فيها، وكان يقال له جريج" فذكر الحديث، ودل ذلك على أنه كان بعد عيسى بن مريم، وأنه كان من أتباعه؛ لأنهم هم الذين ابتدعوا الترهّب، وحبس النفس في الصوامع. والصَّوْمَعَةُ، بفتح المهملة وسكون الواو، البناء المرتفع المحدد أعلاه، ووزنها فَوْعَلَةٌ من صمعت إذا وقفت؛ لأنها دقيقة الرأس. وفي رواية أحاديث الأنبياء "كان يصلي فجاءته أمه"، وفي رواية أبي رافع "كان جُرَيج يتعبد في صَوْمعته، فأتته أمه"، وليس في شيء من الطرق تسميتها، وفي حديث عمران بن حصين "وكانت أمه تأتيه فتناديه، فيشرف عليها فيكلمها، فأتته يومًا وهو في صلاته" وفي رواية أبي رافع عند أحمد "فأتته أمه ذات يوم فنادته، قالت: أيّ جُريج، أَشْرِف عليَّ أكلمك، أنا أمك". وقوله "اللهم أمي وصلاتي" وفي رواية أحاديث الأنبياء "فدعته، فقال: أجيبها أو أصلي" وفي رواية المظالم "فأبى أن يجيبها" ومعنى قوله: "أمي وصلاتي" أي: اجتمع علي إجابة أمي وإتمام صلاتي، فوفقني لأفضلهما، وفي رواية أبي رافع "فصادفته يصلي، فوضعت يدها على حاجبها، فقالت: يا جُريج، فقال: يا رب أمي وصلاتي، فاختار صلاته، فرجعت ثم أتته، فصادفته يصلي فقالت: يا جُريج أنا أمك فكلمني، فقال مثله"، فذكره وفي حديث عمران بن حُصين أنها "جاءته ثلاث مرات تناديه في كل مرة ثلاث مرات"، وفي رواية الأعرج عند الإسماعلي "فقال أمي وصلاتي لربي، أوثر صلاتي على أمي، ذكره ثلاثًا" وكل ذلك محمول على أنه قاله في نفسه لا أنه نطق به، ويحتمل أن يكون نطق به على ظاهره؛ لأن الكلام كان مباحًا عندهم. وكذلك كان في صدر الإِسلام كما مر. قال ابن بطّال: سبب دعاء أم جريج عليه أن الكلام كان في شرعهم مباحًا في الصلاة، فلما آثر استمراره في صلاته ومناجاته على إجابتها، دعت عليه لتأخيره حقها والذي يظهر من ترديده في قوله "أمي وصلاتي" أن الكلام عنده يقطع، فلذلك لم يجبها. وقد روى الحسن بن سفيان وغيره، عن الليث عن يزيد بن حَوْشب عن أبيه، قال: سمعت

رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لو كان جريج عالمًا لعلم أن إجابته أمه أولى من عبادة ربه". قال في "الفتح" يزيد مجهول، وحوشب بمهملة ثم معجمة، وزن جَعْفر. ووهم الدّمياطيّ فزعم أنه ذو ظليم، والصواب خلافه؛ لأن ذا ظليم لم يسمع من النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذا وقع التصريح بسماعه. وقوله: قالت: "اللهمَّ لا يموت جريج حتى ينظر في وجه الميَامِيس". وفي رواية أبي ذَرٍّ "وجوه" بصيغة الجمع، وفي أحاديث الأنبياء "اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات"، وفي رواية أبي رافع "حتى تريه المومسة" بالإفراد. وفي حديث عمران بن حصين "فغضبت، فقالت: اللهم لا يموتن جريج حتى ينظر في وجوه المومسات". والمومسات جمع مُوْمِسة، بضم الميم وسكون الواو وكسر الميم بعدها مهملة، وهي الزانية، تجمع على مواميس بالواو ومد الميم، وجمعت في الطريق المذكور مياميس. وقال ابن الجوزي: إثبات الياء فيه غلط، والصواب حذفها، وخُرِّج على إشباع الكسرة، وحكى غيره جوازه. وفي رواية الأعرج "أبيت أن تطلع إلى وجهك، لا أماتك الله حتى تنظر في وجهك زواني المدينة". وقوله: "وكانت تأوي إلى صومعته راعيةٌ ترعى الغنم، فولدت، فقيل لها: ممن هذا الولد؟ قالت: من جريج، نزل من صومعته" وفي رواية أحاديث الأنبياء "فتعرضت له امرأة، فظلمته، فأبى، فأتت راعيًا، فأمكنته من نفسها. وفي رواية وهب بن جرير بن حازم عن أبيه عند أحمد "فذكر بنو إسرائيل عبادة جريج، فقالت بَغِيّ منهم، وكانت يُتَمثل بحسنها: إن شئتم لأفتنَنَّه. قالوا شئنا، فأتته فتعرضت له، فلم يلتفت إليها، فأمكنت ففسها من راعٍ كان يؤوي غنمه إلى أصل صومعة جريج". ولم تُسمَّ هذه المرأة، لكن في حديث عمران بن حصين أنها كانت بنت ملك القرية. وفي رواية أبي سلمة "وكان عند صومعته راعي ضأن وراعية معزى" ويمكن الجمع بين هذه الروايات بأنها خرجت من دار أبيها بغير علم أهلها متنكرة، وكانت تعمل الفساد إلى أن ادعت أنها تستطيع أن تفتن جُريجًا. فاحتالت بأن خرجت في صورة راعية، ليمكنها أن تأوي إلى ظل صومعته، لتتوصل بذلك إلى فتنته. وقوله: "قالت مِنْ جُريج" في رواية أبي رافع فقالت: "هو من صاحب الدير" وفي رواية أحمد "فأخذت، وكان من زنى منهم قتل، فقيل لها: "ممن هذا؟ قالت: هو من صاحب الصومعة" وفي رواية الأعرج "قيل لها: من صاحبك؟ قالت: جريج الراهب، نزل إليّ فأصابني" زاد أبو سلمة في روايته "فذهبوا إلى الملك فأخبروه، قال أدركوه، فائتوني به" وفي رواية أحاديث الأنبياء "فأتوه فكسروا صومعته وأنزلوه وسبوه" وفي رواية أبي رافع "فأقبلوا بفؤوسهم ومساحيهم إلى الدير، فنادوه فلم يكلمهم، فأقبلوا يهدمون ديره" وفي حديث عمران "فما شعر حتى سمع بالفؤوس في أصل صومعته، فجعل يسألهم ويلكم مالكم؟ فلم يجيبوه، فلما رأى ذلك أخذ الحبل فتدلى".

وقوله: "وسبوه" زاد أحمد عن وهب بن جرير "وضربوه، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: إنك زنيت بهذه" وفي رواية أبي رافع عنده "فقالوا: أيْ جُريج، أنزل، فأبى يقبلُ على صلاته، فأخذوا في هدم صومعته، فلما رأى ذلك نزل، فجعلوا في عنقه وعنقها حبلًا، وجعلوا يطوفون بهما في الناس" وفي رواية أبي سلمة، فقال له الملك: ويحك يا جريج، كنا نراك خير الناس، فأحبلت هذه، اذهبوا به فاصلبوه". وفي حديث عمران "فجعلوا يضربونه ويقولون: مراءٍ تخادع الناس بعملك" وفي رواية الأعرج "فلما مرّوا به نحو بيت الزواني خرجن ينظرن، فتبسم، فقالوا: لم يضحك حتى مرَّ بالزواني" وفي الرواية المذكورة زيادة "فتوضأ وصلى" وفي رواية وهب بن جرير "فقام وصلى ودعا" وفي حديث عمران "قال: فتولَّوا عنه، فتولَّوا عنه، فصلى ركعتين". وقوله: "يا بابوس من أبوك؟ قال: راعي الغنم" وبابوس، موحدتين بينهما ألف والثانية مضمومة وآخره سين مهملة، قال القزاز: هو الصغير. وقال ابن بطال: الرضيع، وهو بوزن جاسوس، واختلف هل هو عربي أو معرب، وأغرب الداوديّ الشارح فقال: هو اسم ذلك الولد بعينه، وفيه نظر، وقد قال الشاعر: حَنَّتْ قَلُوصي إلى بابوسها جَزَعًا قال الكرمّانيّ: إن صحت الرواية بتنوين السين، تكون كنية له، ويكون معناه يا أبا الشدة، وفي رواية أحاديث الأنبياء، ثم أتى الغلام، فقال: "من أبوك يا غلام؟ فقال: الراعي" زاد في رواية وهب بن جرير "فطعنه بإصبعه، فقال: بالله يا غلام، من أبوك؟ قال: أنا ابن الراعي" وفي مرسل الحسن عند ابن المبارك في البر والصلة "أنه سألهم أن يُنْظِروه فأنظروه، فرأى في المنام من أمره أن يطعن في بطن المرأة، فيقول: أيته السنحلة من أبوك؟ ففعل، فقال: راعي الغنم. وفي رواية أبي رافع "ثم مسح رأس الصبيِّ فقال: من أبوك؟ فقال: راعي الضأن" وفي روايته عند أحمد "فوضع أصبعه على بطنها" وفي رواية أبي سلمة "فأتي بالمرأة والصبيّ، وفمه في ثديها، فقال له جُريج: يا غلام، من أبوك؟ فنزع الغلام فاه من الثّدي وقال: أبي راعي الضأن" وفي رواية الأعرج فلما أدخل على ملكهم قال: اين الصبي الذي ولدته؟ فأُتي به، فقال: من أبوك؟ فقال: فلان، سمَّى أباه. قال في "الفتح": لم أقف على اسم الراعي، ويقال إن اسمَه صهيب، وقد مرَّ قريبًا أن الابن لم يُسَمَّ، إلا ما قال الداوديّ، ومرَّ أنه مردود، وفي حديث عران "ثم انتهى إلى شجرة، فأخذ منها غصنًا، ثم أتى الغلام وهو في مهده، فضربه بذلك الغصن، فقال من أبوك؟ " وفي التنبيه لأبي الليث السَّمَرْقَنْدِيّ بغير إسناد، أنه قال للمرأة: أين أصبتك؟ قالت: تحت شجرة، فأتى تلك الشجرة، فقال: يا شجرة، أسألك بالذي خلقك من زنى بهذه المرأة؟ فقال كل غصن منها: راعي الغنم. ويجمع بين هذا الاختلاف بوقوع جميع ما ذكر، بأنه مسح رأس الصبي ووضع أصبعه على بطن أمه، وطعنه بأصبعه، وضربه بطرف العصا التي كانت معه. وأبعد من جمع بينها بتعدد القصة، وأنه استنطقه وهو في بطنها قبل أن تلد، ثم استنطقه بعد أن ولد.

زاد في رواية وهب بن جرير "فوثبوا إلى جريج، فجعلوا يقبّلونه" وزاد الأعرج في روايته "فَأبَرّ الله جريجًا، وأعظم الناس أمر جُريج" وفي رواية أبي سلمة "فسبح الناس، وعجبوا" وفي رواية أحاديث الأنبياء "قالوا: نبني صومعتك من ذهب، قال: لا إلا من طين" وفي رواية وهب بن جرير "ابنوها من طين كما كانت" وفي رواية أبي رافع "فقالوا: نبني ما هدمنا من ديرك بالذهب والفضة، قال: لا، ولكن أعيدوه كما كان، ففعلوا" وفي نقل أبي الليث، فقال له الملك: نبنيها من ذهب، قال: لا، قال: من فضة؟ قال: لا، إلا من طين" وفي رواية أبي سلمة "فردوها فرجع في صومعته، فقالوا: بالله ممن ضحكت؟ فقال: ما ضحكت إلا من دعوة دعتها عليّ أمي". وفي رواية أحاديث الأنبياء "لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة عيسى وجريج هذا، ثم قال: وكانت امرأة ترضع ابنًا لها من بني إسرائيل فمر بها رجل راكب ذو شارة"، بالشين المعجمة، أي: صاحب حسن، وقيل: صاحب هيأة ومنظر وملبس حسن يتعجب منه، ويشار إليه. وفي رواية خلاس "ذو شارة حسنة" وهي عند أحمد وفيها "فارس متكبر، فقالت اللهم اجعل ابني مثله، فترك ثديها، فأقبل على الراكب، فقال: اللهم لا تجعلني مثله، ثم أقبل على ثديها يمصه". قال أبو هريرة: كأني انظر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يمص إصبعه، ثم مرت بأمَةٍ فقالت: اللهم لا تجعل ابني مثل هذه، فترك ثديها. وقال: اللهم اجعلني مثلها. وفي رواية وهب بن جرير عند أحمد "تضرب"، وفي رواية الأعرج: "تجرر ويلعب بها" فقالت له ذلك، أي: سألت ابنها عن سبب كلامه، فقال: الراكبُ جَبّار. وفي رواية الأعرج "فإنه كافر، وهذه الأمة يقولون: سرقتِ زنيتِ، ولم تفعل. وفي رواية أحمد يقولون: سرقتِ ولم تسرق، زنيتِ ولم تزنِ، وهي تقول: حسبي الله. وفي رواية خلاس المذكورة أنها كانت حبشية أو زنجية، وأنها ماتت فجروها حتى ألقَوها، وهذا معنى قوله في رواية الأعرج "تجرر". وفي رواية الأعرج يقولون لها: تزني وتقول: حسبي الله، ويقولون لها تسرق، وتقول: حسبي الله. قال في "الفتح": لم أقف على اسم المرأة، وعلى اسم ابنها، ولا على اسم أحد ممن ذكر في القصة. قال القرطبيّ: في هذا الحصر في الثلاثة نظر، إلا أن يحمل على أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال ذلك، قبل أن يعلم الزيادة على ذلك، وفيه بُعد. ويحتمل ان يكون كلام الثلاثة المذكورين مقيدًا بالمهد، وكلام غيرهم من الأطفال في غير مهد، لكنه يعكر عليه، أنّ في رواية ابن قتيبة، أنَّ الصبي الذي طرحته أمه في الأخدود كان ابن سبعة أشهر، وصرح بالمهد في حديث أبي هريرة، وفيه تعقّب على النووي في قوله: إن صاحب الأخدود لم يكن في المهد، والسبب في قوله هذا ما في حديث ابن عباس عند أحمد والبزار وابن حبان والحاكم "لم يتكلم في المهد إلا أربعة" فلم يذكر الثالث الذي هنا. وذكر شاهد يوسف والصبي الرضيع الذي قال لأمه، وهي ماشطة بنت فرعون، لما أراد فرعون إلقاء أمه في النار: اصبري يا أمَّه فإنّا على الحق. وأخرج الحاكم

نحوه عن أبي هريرة، فيجتمع من هذا خمسة. ووقع ذكر شاهد يوسف أيضًا في حديث عمران بن حصن، لكنه موقوف، وروى ابن أبي شيبة من مرسل هلال بن يساف مثل حديث ابن عباس، إلا أنه لم يذكر ابن الماشطة. وفي مسلم عن صهيب في قصة أصحاب الأخدود أن امرأة جيء بها لتلقى في النار أو لتكفر، ومعها صبي يرضع، فتقاعست، فقال لها: يا أمَّه اصبري، فإنك على الحق. وزعم الضحاك في تفسيره، أن يحيى تكلم في المهد، أخرجه الثعلبىّ، فإنْ ثبت صاروا سبعة. وذكر البغويّ في تفسيره أن إبراهيم الخليل تكلم في المهد، وفي سير الواقديّ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- تكلم أوائل ما ولد، وقد تكلم في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- مبارك اليمامة، وقصته في "دلائل النبوءة" للبيهقيّ من حديث معرض، بالضاد المعجمة. وقد اختلف في شاهد يوسف، فقيل: "كان صغيرًا، وهذا أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس" وسنده ضعيف، ومرَّ قريبًا من ذكره في أصحاب المهد، وبه قال الحسن وسعيد بن جبير وأخرج عن ابن عباس أيضًا ومجاهد: أنه كان ذا لحية، وعن قتادة والحسن أيضًا أنه كان حكيمًا من أهلها. وفي هذا الحديث باعتبار طرقه من الفوائد إيثار إجابة الأم على صلاة التطوع؛ لأن الاستمرار فيها نافلة، وإجابة الأم وبِرُّها واجب، ولذا أجيبت فيه الدعوة اعتبارًا بكونه ترك الصلة، وحسنت عاقبته، وظهرت كرامته اعتبارًا بحق الصلاة، ولم يكن هذا تناقضًا بل هو من جنس قوله عليه الصلاة والسلام "واحتجبي منه يا سَوْدة" اعتبارًا للشبه المرجوح، وقول ابن بطال: إن سبب دعائها عليه لإباحة الكلام إذ ذاك مُعارضٌ بقول جريج المشهود له بالكرامة "أمي وصلاتي" إذ ظاهره عدم إجابته كما مرَّ، ولا يقال إنْ كان جريج مصيبًا في نظره وأخذ بإجابة الدعوة فيه لزم التكليف بما لا يطاق، لأن الحق أن المؤاخذة هنا ليست عقوبة، وإنما هي تنبيه على عظم حق الأم، وإن كان مرجوعًا في اعتقاده. وقال النوويّ: إنما دعت عليه فأجيبت لأنه كان يمكنه أن يخفف ويجيبها لكن لعله خشي أن تدعوه إلى مفارقة صومعته والعود إلى الدنيا وتعلقاتها. وفيه نظر، لما من من أنها كانت تأتيه فيكلمها، والظاهر أنها كانت تشتاق إليه فتزوره، وتقنع برؤيته وتكليمه، وكأنه لم يخفف ثم يجيبها؛ لأنه خشي أن ينقطع خشوعه. وفيه أيضًا عظم بِرِّ الوالدين، وإجابة دعائهما ولو كان الولد معذورًا، لكن أم جريج مع غضبها منه لم تدع عليه إلا بما دعت به خاصة، ولولا طلبها الرفق به لدعت عليه بوقوع الفاحشة، أو القتل. وفيه أن صاحب الصدق مع الله، لا تضره الفتن. وفيه قوة يقين جريج المذكور، وصحة رجائه؛ لأنه استنطق المولود مع كون العادة أنه لا ينطق، ولولا صحة رجائه بنطقه ما استنطقه. وفيه أن الأمرين إذا تعارضا بُدىء بأهمهما وأن الله يجعل لأوليائه عند ابتلائهم مخارج، وإنما

رجاله أربعة

يتأخر ذلك عن بعضهم في بعض الأوقات تهذيبًا، وزيادة لهم في الثواب. وفيه إثبات كرامات الأولياء، ووقوع الكرامة لهم باختيارهم وطلبهم، وقال ابن بطّال: يحتمل أن يكون جريج كان نبيًا، فتكون معجزة، كذا قال. وهذا الاحتمال لا يتأتى في حق المرأة التي كلمها ولدها المرضَع، كما مرَّ. وفيه جواز الأخذ بالأشد في العبادة لمن علم من نفسه قوة على ذلك، واستدل به بعضهم على أن بني إسرائيل كان من شرعهم أن المرأة تصدّق فيما تَدَّعيه على الرجال من الوطء، ويلحق به الولد، وأنه لا ينفعه جحد ذلك إلا بِبَيِّنَةٍ تدفع قولها. وفيه أن مرتكب الفاحشة لا تبقى له حرمة، وأن المفزع في الأمور المهمة إلى الله تعالى يكون بالتوجه إليه في الصلاة، واستدل بعض المالكية بقول جريج: من أبوك يا غلام؟ بأن من زنى بامرأة فولدت بنتًا لا يحل له التزوج بتلك البنت، خلافًا للشافعية، ولابن الماجشون من المالكية. ووجه الدلالة أن جريجًا نسب ابن الزنى للزاني، وصدق الله نسبته بما خرق له من العادة في نطق المولود بشهادته له بذلك، وقوله: "أبي فلان الراعي"، فكانت تلك النسبة صحيحة، فيلزم أن تجرى بينهما أحكام الأبوة والبنوة، خرَجَ التوارث والولاء بدليل فبقي ما عدا ذلك على حكمه. وأما أم المزني بها أو بنتها ففي حرمتهما على الزاني وعدم حرمتهما خلاف عند مالك. وفيه أن الوضوء لا يختص بهذه الأمة خلافًا لمن زعم ذلك، وإنما الذي يختص بها الغُرَّة والتَّحْجيل في الآخرة، وقد تقدم البحث في هذا في كتاب الوضوء، وفي حديث المرضع التي من عليها الراكب "أن نفوس أهل الدنيا تقف مع الخيال" الظاهر فتخاف سوء الحال بخلاف أهل التحقيق، فوقوفهم مع الحقيقة الباطنة، فلا يبالون بذلك مع حسن السريرة، كما قال الله تعالى، إخبارًا عن أصحاب قارون حيث خرج عليهم: {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ .... ، وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ} وفيه أن البشر طبعوا على إيثار الأولاد على الأنفس بالخير، لطلب المرأة الخير لابنها، ودفع الشر عنه ولم تذكر نفسها. رجاله أربعة: قد مرّوا، مرَّ الليث في الثالث من بدء الوحي، ومرَّ جعفر بن ربيعة في الرابع من التيمم، ومرَّ ابن هُرمز في السابع من الإيمان، ومرَّ أبو هريرة في الثاني منه. وفي الحديث ذكر جُريج وهو عابد من عباد بني إسرائيل، وأمه ثم يعرف اسمها. والحديث أخرجه مسلم أيضًا، مطولًا، في باب بِرّ الوالدين، ودعاء الوالدة على الولد. ثم قال المصنف:

باب مسح الحصى في الصلاة

باب مسح الحصى في الصلاة قال ابن رشيد: ترجم بالحصى، والمتن الذي أورده في التراب، لينبه على إلحاق الحصى بالتراب في الاقتصار على التسوية مرة، وأشار بذلك أيضًا لي ما ورد في بعض طرقه بلفظ "الحصى"، كما أخرجه مسلم عن يحيى بن أبي كثير بلفظ "المسح في المسجد" يعني الحصى، قال ابن رشيد: لما كان في الحديث "يعني" ولا يدري أهي قول الصحابي أو غيره، عدل عنها البخاريّ إلى ذكر الرواية التي فيها التراب. وقال الكرمانيّ: ترجم بالحصى لأن الغالب أنه يوجد في التراب، فيلزم من تسويته مسح الحصى، وأخرجه أبو داود بلفظ "فإن كنت لابد فاعلًا فواحدة؛ تسوية الحصى" وأخرجه التِّرْمِذيّ بلفظ "سألت النبيّ -صلى الله عليه وسلم- عن مسح الحصى في الصلاة" فلعل البخاري أشار إلى هذه الرواية، أو إلى ما رواه أحمد عن حذيفة، قال: سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن كل شيء حتى عن مسح الحصى، فقال: "واحدةً أوْ دَعْ". ورواه أصحاب السنن عن أبي ذَرٍّ بلفظ "إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الرحمة تواجهه، فلا يمسح الحصى" وقوله: إذا قام، المراد به الدخول في الصلاة، ليوافق حديث الباب، فلا يكون منهيًا عن المسح قبل الدخول فيها، بل الأولى أن يفعل ذلك حتى لا يُشْغَلُ باله، وهو في الصلاة، به. الحديث العاشر حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ حَدَّثَنِي مُعَيْقِيبٌ: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ فِي الرَّجُلِ يُسَوِّي التُّرَابَ حَيْثُ يَسْجُدُ قَالَ إِنْ كُنْتَ فَاعِلاً فَوَاحِدَةً. قوله: عن أبي سلمة، في رواية الترمذيّ: عن يحيى حدثني أبو سلمة، وقوله: في الرجل، أي في حكم الرجل، وذكر الغالب، وإلا فالحكم جار في جميع المكلفين. وقوله: يسوى التراب حيث يسجد، التقييد بالحصى والتراب خَرَج للغالب، لكونه كان الموجود في فرش المساجد إذ ذاك، فلا يدل تعليق الحكم به على نفيه عن غيره، مما يصلى عليه من الرمل والقذى وغير ذلك. وقوله: حيث يسجد، أي: مكان السجود، وهل يتناول العضو الساجد، لا يبعد. وقد روى ابن أبي شيبة عن أبي الدرداء قال: ما أحب أنَّ لي حمر النعم، وأني مسحت مكان جبيني من

رجاله خمسة

الحصى. وقال عياض: كره السلف مسح الجبهة في الصلاة قبل الانصراف. وحكى ابن عبد البر عن سعيد بن جُبير والحسن والشَّعبيّ أنهم كان يكرهون أن يمسح الرجل جبهته قبل أن ينصرف، ويقولون: هو من الجفاء. وقال ابن مسعود: أربع من الجفاء: أن تصلي إلى غير سترة، أو تمسح جبهتك قبل أن تنصرف، أو تبول قائمًا، أو تسمع المنادي ولا تجيبه. وقد تقدم في أواخر صفة الصلاة، حكايةُ استدلال الحميدي لذلك، بحديث أبي سعيد في رؤية الماء والطين في جبهة النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد أن انصرف من صلاة الصبح. وحكى النّوويّ اتفاق العلماء على كراهة مسح الحصى وغيره في الصلاة، وفيه نظر. فقد حكى الخطابيّ في "المعالم" عن مالك أنه لم ير به بأسًا، وكان يفعله، فلعله لم يبلغه الخبر، وأفرط بعض أهل الظاهر، فقال: إنه حرام إذا زاد على واحدة، لظاهر النهي، ولم يفرق بين ما إذا توالى أم لا، مع أنه لم يقل بوجوب الخشوع. والذي يظهر أنَ علة كراهيته المحافظةُ على الخشوع أو لئلا يكثر العمل في الصلاة. لكن حديث أبي ذَرٍّ المتقدم يدل على أن العلة فيه أن لا يجعل بينه وبين الرحمة التي تواجهه حائلًا. وروى ابن أبي شَيبة عن أبي صالح السَّمَّان قال: إذا سجدت فلا تمسح الحصى، فإن كل حصاة تحب أن يسجد عليها، وهذا تعليل آخر. وقوله: "فواحدة" بالنصب على إضمار فعل، أي: فامسح واحدة، أو على النعت لمصدر محذوف، أي: فعلَةً واحدة. ويجوز الرفع على إضمار الخبر، أي: فواحدةٌ تكفي، وإضمار المبتدأ أي: فالمشروعُ واحدة. وفي رواية الترمذيّ إنْ كنت فاعلًا فمرة واحدة. رجاله خمسة: قد مرّوا إلا الصحابيّ، مرَّ أبو نعيم في الخامس والأربعين من الإيمان، ومرَّ شيبان ويحيى بن أبي كثير في الثالث والخمسين من العلم، ومرَّ أبو سلمة في الرابع من بدء الوحي. والصحابى مُعَيْقيب، بضم الميم وفتح العين بعدها ياء ساكنة وقاف مكسورة ممدودة، ويقال مُعَيْقِب، بغير الياء الثانية، ابن أبي فاطمة الدَّوْسيّ، حليف بني أمية، أسلم قديمًا بمكة، وهاجر الهجرة الثانية للحبشة، وأقام بها حتى قدم على النبي -صلى الله عليه وسلم- في المدينة، وشهد بيعة الرضوان، وما بعدها من المشاهد، وكان على خاتم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، واستعمله أبو بكر وعمر، رضي الله تعالى عنهما، على بيت المال، وكان على خاتم عثمان بن عفان، وهو الذي سقط من يده خاتم النبي -صلى الله عليه وسلم- أيام عثمان، رضي الله تعالى عنه، في بئر أريس، فلم يوجد، فمنذ سقط الخاتم اختلفت الكلمة. أصابه الجُذام، فجمع له عمر الأطباء فعالجوه بالحنظل، فوقف المرض. له أحاديث اتفقا على حديث، وانفرد مسلم بحديث. روى عنه أبو سَلَمة بن عبد الرحمن حديث "ويلٌ للأعقاب من

لطائف إسناده

النار" وحديث "مسح الحصى" هذا، وروى عنه ابن ابنه إياس بن الحارث بن مُعَيْقِيب، توفي في آخر خلافة عثمان، وقيل سنة أربعين في آخر خلافة علي، وهو قليل الحديث، ويقال: إن الصحابة لم يجذم منهم أحد سواه. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإفراد والعنعنة، ورواته كوفي وبصريُّ ويمانيُّ ومدنيُّ. أخرجه مسلم في الصلاة، وكذا أبو داود والترمِذي والنَّسائي وابن ماجه ثم قال المصنف:

باب بسط الثوب في الصلاة للسجود

باب بسط الثوب في الصلاة للسجود هذه الترجمة من جملة العمل اليسير في الصلاة أيضًا، وهو أن يتعمد القاء الثوب على الأرض ليسجد عليه. الحديث الحادي عشر حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا بِشْرٌ حَدَّثَنَا غَالِبٌ عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدُنَا أَنْ يُمَكِّنَ وَجْهَهُ مِنَ الأَرْضِ بَسَطَ ثَوْبَهُ فَسَجَدَ عَلَيْهِ. وقد مرَّ هذا الحديث في باب السجود على الثوب في شدة الحر، واستوفي الكلام عليه هناك. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ مسدد وأنس في السادس من الإيمان، ومرَّ بشر بن المفضل في التاسع من العلم، ومرَّ غالب القطان في السابع والثلاثين من كتاب الصلاة، ومرَّ بكر بن عبد الله في الثالث والثلاثين من الغسل ثم قال المصنف:

باب ما يجوز من العمل في الصلاة أي غير ما تقدم

باب ما يجوز من العمل في الصلاة أي غير ما تقدم الحديث الثاني عشر حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي النَّضْرِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كُنْتُ أَمُدُّ رِجْلِي فِي قِبْلَةِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يُصَلِّي، فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي فَرَفَعْتُهَا، فَإِذَا قَامَ مَدَدْتُهَا. وهذا الحديث قد مرَّ استيفاء الكلام عليه في باب الصلاة على الفراش في أوائل الصلاة، وفي باب "إن الصلاة لا يقطعها شيء". رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ عبد الله بن مَسْلَمة في الثاني عشر من الإيمان، ومرَّ مالك وعائشة في الثاني من بدء الوحي، وأبو سلمة في الرابِع منه، ومرَّ أبو النضر في السابع والستين من الوضوء. الحديث الثالث عشر حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا شَبَابَةُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ صَلَّى صَلاَةً قَالَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ عَرَضَ لِي، فَشَدَّ عَلَيَّ لِيَقْطَعَ الصَّلاَةَ عَلَيَّ، فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ، فَذَعَتُّهُ، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أُوثِقَهُ إِلَى سَارِيَةٍ حَتَّى تُصْبِحُوا فَتَنْظُرُوا إِلَيْهِ فَذَكَرْتُ قَوْلَ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ رَبِّ هَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي. فَرَدَّهُ اللَّهُ خَاسِيًا. ثُمَّ قَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ فَذَعَتُّهُ بِالذَّالِ أَيْ خَنَقْتُهُ وَفَدَعَّتُّهُ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ {يَوْمَ يُدَعُّونَ} أَىْ يُدْفَعُونَ وَالصَّوَابُ، فَدَعَتُّهُ. إِلاَّ أَنَّهُ كَذَا قَالَ بِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ وَالتَّاءِ. وقوله: فشد عليّ، أي: حمل، وقوله: فَذَعَتُّه، بالذال المعجمة والعين المهملة المفتوحتين والمثناة الفوقية المشددة، فعل ماضٍ للمتكلم وحده، والفاء عاطفة، يأتي تفسيره قريبًا. وقوله: قال النضر بن شميل: فَذَعَتُّهُ، بالدال والعين المشددة المهملتين والمثناة الفوقية المشددة، وأصله "وعَّصْتُ" بتشديد العين الأولى وأدغمت الثانية في التاء. وقوله: والصواب فَدَعتُّه، أي: بالمهملة،

رجاله خمسة

وتخفيف العين. وقوله: إلا أنه، يعني شعبة، كذا قال بتشديد العين والتاء. وهذه الزيادة في رواية كريمة عن الكشميهنيّ، وأخرجه مسلم عن النضر بدون هذه الزيادة، ومطابقة الحديث للترجمة من قوله: "فدعته" على معنى دفعته من حيث كونه عملًا يسيرًا، وقد استوفيت مباحث هذا الحديث غاية الاستيفاء في باب "ربط الغريم في المسجد" من أبواب المساجد. وفي هذا الحديث سؤالٌ وهو أنه ثبت أن الشيطان يفر من ظل عمر رضي الله تعالى عنه، وأنه يسلك فجًا غير فجه، ففراره عنه عليه الصلاة والسلام من باب أولى، وأجيب بأن المراد من فراره من ظل عمر ليس حقيقة الفرار، بل بيان قوة عمر، وصلابته على قهر الشيطان، وهنا صريحٌ أنه -صلى الله عليه وسلم- قهره وطرده غاية الإمكان. واستفيد من الحديث أن العمل اليسير لا يفسد الصلاة، وأخذوا من ذلك جواز أخذ البرغوث والقملة، ودفع المارّ بين يديه، والإشارة، والالتفات الخفيف، وقتل الحية والعقرب، وقد أجاز الكوفيون أخذ القملة وقتلها في الصلاة. وقال أبو يوسف: أساء، وصلاته تامة. وكره اللَّيْثُ قتلها في المسجد، ولو قتلها لم يكن عليه شيء. وقال مالك: لا يقتلها في المسجد ولا يطرحها فيه، ولا يدفنها في الصلاة، بل يصرها في توبة. ورخص مالك في قتل العقرب والحية إذا خاف منهما، وإلا كره قتلهما. وأجاز الكوفيون والشافعيّ وأحمد وإسحاق قتلهما. وسئل مالك عمن يمسك عنان فرسه في الصلاة، ولا يتمكن من وضع يديه بالأرض، فقال أرجو أن يكون خفيفًا، وأجاز مالك وأحمد إصلاح السترة لمن سقطت سترته، وأجاز مالك والشافعيّ حمل الصبي في الصلاة المكتوية، وعند الحنفية يكره حمله، لغير عذر ولا يكره لعذر. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ محمود بن غيلان في السابع والأربعين من مواقيت الصلاة، ومرَّ شبابة بن سوار في الخامس والثلاثين من الحيض، ومرَّ شعبة في الثالث من الإيمان، وأبو هريرة في الثاني منه ومرَّ محمد بن زياد في السابع والعشرين من الغسل، وقد مرَّ الكلام على هذا الحديث في محل محمد بن زياد ثم قال المصنف:

باب إذا انفلتت الدابة في الصلاة

باب إذا انفلتت الدابة في الصلاة أي: ماذا يصنع صاحبها، ثم قال: وقال قتادة: إن أخذ ثوبه يتبع السارق، ويدع الصلاة، قوله: "يدع الصلاة" أي: يتركها، والعين مضمومة أو مكسورة، وهذا وصله عبد الرزاق عن معمر عنه. وزاد عبد الرزاق "فيرى صبيًا على بئر فيتخوف أن يسقط فيها" قال: ينصرف له، أي وجوبًا، ومذهب كالشافعية أن من أخذ ماله ظلمًا وهو في الصلاة، يصلي صلاة شدة الخوف، وكذا في كل مباح، كهربٍ من حريق أو سيل أو سبع لا مَعْدِل عنه، وغريم له عند إعساره، وخوف حبسه بأن لم يصدقه غريمه، وهو الدائن في إعساره، وهو عاجز عن بينة الإعسار. وعند المالكية إذا خاف ضياع المال، فإن كان قليلًا استخلف إذا كان إمامًا، ولا يقطع الصلاة، ضاق الوقت أو اتسع. وأما إن كان كثيرًا، واتسع الوقت، فإنه يستخلف، وهذا كله ما لم يخشَ هلاكًا أو شديدَ أذى، وإلا تعين القطع، ضاقَ الوقتُ أو لا، كثر أو قل. ومثل الإِمام في القطع وعدمه المأمومُ والفذُ، وقلة المال وكثرته تتفاوت بحسب الأشخاص. ومرَّ قتادة في السادس من الإيمان. الحديث الرابع عشر حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا الأَزْرَقُ بْنُ قَيْسٍ قَالَ: كُنَّا بِالأَهْوَازِ نُقَاتِلُ الْحَرُورِيَّةَ، فَبَيْنَا أَنَا عَلَى جُرُفِ نَهَرٍ إِذَا رَجُلٌ يُصَلِّي، وَإِذَا لِجَامُ دَابَّتِهِ بِيَدِهِ فَجَعَلَتِ الدَّابَّةُ تُنَازِعُهُ، وَجَعَلَ يَتْبَعُهَا. قَالَ شُعْبَةُ هُوَ أَبُو بَرْزَةَ الأَسْلَمِيُّ فَجَعَلَ رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ يَقُولُ اللَّهُمَّ افْعَلْ بِهَذَا الشَّيْخِ. فَلَمَّا انْصَرَفَ الشَّيْخُ قَالَ إِنِّي سَمِعْتُ قَوْلَكُمْ، وَإِنِّي غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- سِتَّ غَزَوَاتٍ أَوْ سَبْعَ غَزَوَاتٍ أَوَ ثَمَان، وَشَهِدْتُ تَيْسِيرَهُ، وَإِنِّي أَنْ كُنْتُ أَنْ أُرَاجِعَ مَعَ دَابَّتِي أَحَبُّ إِلِيَّ مِنْ أَنْ أَدَعَهَا تَرْجِعُ إِلَى مَأْلَفِهَا فَيَشُقَّ عَلَيَّ. قوله: "كنا بالأهواز" بفتح الهمزة وسكون الهاء، بلدة معروفة بين البصرة وفارس، فتحت في خلافة عمر، ليس له واحد من لفظه. قال أبو عبيدة هي بلد يجمعها سبع كُوَر، فذكرها، وقال ابن خُردَاذَبّه: هي بلاد واسعة متصلة بالجبل وأصبهان. وقوله: "الحَرْورِية" بمهملات أي: الخوارج، وكان الذي يقاتلهم إذ ذاك المُهَلَّبُ بن أبي صُفرة، كما عند الإسماعيلي عن شعبة، وذكر محمد بن قدامة في كتاب الخوارج أن ذلك كان في سنة خمس وستين من الهجرة. وكان الخوارج قد حاصروا

أهل البصرة مع نافع بن الأزرق حتى قُتل وقتل من أمراء البصرة جماعة، إلى أن ولي عبد الله بن الزبير الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي على البصرة، وولى المهلب بن أبي صفرة على قتال الخوارج. وكذا ذكره المبرد في الكامل. وهو يعكر على من أرخ وفاة أبي بَرْزَة سنة أربع وستين أو قبلها. وقوله: "على جُرُف نهر" بضم الجيم والراء بعدها فاء وقد تسكن الراء، وهو المكان الذي أكله السيل. وللكشميهنّيّ بفتح الحاء المهملة وسكون الراء، أي: جانبه، وفي رواية حمّاد بن زيد عن الأزرق في الأدب: كنا على شاطىء نهر قد نضب عنه الماء، أي: زال. وهو يقوي رواية الكشمهينيّ، وفي رواية مهديّ بن ميمون عن الأزرق عن محمد بن قدامة: كنت في ظل قصر مِهْران بالأهواز على شاطئ دُجَيل، وعرف بهذا تسمية النهر المذكور، وهو بالجيم مصغر. وقوله: "إذا رجل" في رواية الحمويّ والكشميهنيّ: إذ جاء رجل. وقوله: قال شعبة، هو أبو برزة الأسلميّ، أي الرجل المصلي. وظاهره أن الأزرق لم يسمعه لشعبة، ولكن رواه أبو داود الطيالسي، في مسنده عن شعبة، فقال في آخره: فإذا هو أبو برزة الأسلمى. وفي رواية عمرو بن مرزوق عند الإسماعيليّ: فجاء أبو بَرْزَة، وفي رواية حماد في الأدب: فجاء أبو برزة الأسلميّ على فرس فصلى، وخلّاها فانطلقت، فاتبعها. ورواه عبد الرزاق عن معمر عن الأزرق بن قيس أن أبا برزة الأسلمي مشى إلى دابته وهو في الصلاة الحديث. وبين مهديّ بن ميمون في روايته أن تلك الصلاة كانت صلاة العصر، وفي رواية عمرو بن مرزوق عند الإسماعيليّ: فمضت الدابة في قبلته فانطلق، فأخذها ثم رجع القهقرى. وقوله: فجعل رجل من الخوارج يقول: اللهم افعل بهذا الشيخ، وفي رواية الطيالسيّ: فهذا بشيخ يصلي قد عمد إلى عنان دابته، فجعله في يده، فنكصت الدابة، فنكص معها، ومعنا رجل من الخوارج، فجعل يسبه. وفي رواية مهديّ أنه قال: ألا ترى إلى هذا الحمار؟ وفي رواية حماد: انظر إلى هذا الشيخ، ترك صلاته من أجل فرس. وزاد عمرو بن مرزوق في آخره قال: قلت للرجل: ما أرى الله إلا مخزيك، شتمت رجلًا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وفي رواية مهديّ بن ميمون، فقلت: اسكت، فعل الله بك، هل تدري من هذا؟ هو أبو برزة صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. قال في "الفتح": لم أقف في شيء من الطرق على تسمية الرجل الخارجيّ المذكور. قلت: انظر إلى غُلُوّ الخوارج وتَنَطُّعُهم، فرجل واحد، في الجيش منهم، قام يعترض على أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويسبهم، وبهذا تعلم أن هؤلاء الموجودين بين أظهرنا معذورون في غلوهم وسبهم للمسلمين. وقوله: "أو ثمانيًا" كذا للكشميهنيّ، وفي رواية غيره "أو ثماني" بغير ألف ولا تنوين. قال ابن مالك: الأصل أو ثماني غزوات، فحذف المضاف، وأبقى المضاف إليه على حاله، وحَسَّن

الحذفَ دلالةُ المتقدم. قلت: هكذا قال صاحب "الفتح" والعينى والقسطلانيّ. والظاهر أن الصواب أن يقال: فحذف المضاف إليه وأبقى المضاف على حاله، ويحتمل أن الإضافة غير مقصودة، وترك تنوينه لمشابهته "جواري" لفظًا، وهو ظاهر معنى لدلالته على جمع. وفي رواية عمرو بن مرزوق الجزمُ بسبع غزوات من غير شك. وقوله: "وشهدت تسيره" أي: تسهيله على الناس، كذا في جميع الطرق من التسير، وحكى ابن التين عن الداوديّ أنه عنده "وشهدتُ تُسْتَر" بضم المثناة الفوقية وسكون المهملة وفتح المثناة. وقال: معنى شهدت تُسْتَر، أي: شهدتُ فتحها. وكان في زمن عمر رضي الله تعالى عنه سنة سبع عشرة من الهجرة. قال في الفتح: لم أر ذلك في شيء من الأصول، ومقتضاه أن لا يبقى في القصة شائبة رفع، بخلاف الرواية المحفوظة، فإن فيها إشارة إلى أن ذلك كان من شأن النبي -صلى الله عليه وسلم- تجويز مثله، وأشار بقوله: "وشهدت تسيره" إلى الرد على من شدد عليه في أن يترك دابته تذهب ولا يقطع صلاته. وفيه حجة للفقهاء في قولهم: إن كل شيء يخشى إتلافه من متاع أو غيره، يجوز قطع الصلاة لأجله. وقوله: "وإني إن كنت أن أرجع مع دابتي أحب الي من أن أدعها ترجع إلى مألفها. والظاهر في إعراب هذه الكلمات أن يقال إن الياء في إني اسم إن، وكلمة إن في لفظ "إن كنت" شرطية، واسم كان هو الضمير المرفوع فيه، وكلمة أن بالفتح مصدرية، يقدر لام العلة قبلها، أي وإن كنت لأن أرجع. وقوله: أحب، خبر كان، وهذه الجملة الشرطية سدت مسد خبر إن في "إني" والمعنى أن رجوعه إلى دابته وانطلاقه معها، وهو في الصلاة، أحب إليه من أن يتركها، ترجع إلى مألَفها، بفتح اللام، أي معلفها، فيشق عليه، وكان منزله بعيدًا، إذا صلاها وتركها لم يكن يأتي إلى أهله إلا الليل لبعد المسافة، وقد صرح بذلك في رواية حماد، فقال: إن منزلي متراخٍ، أي: متباعد، فلو صليت وتركتها لم آتِ أهلي إلى الليل، لبعد المكان. وقد مرَّ أن في بعض طرقه أن الصلاة المذكورة كانت العصر. وقوله: "إلى مأْلَفِها" بناه على غالب أمرها، ومن الجائز أن لا ترجع إلى مألفها، بل تتوجه إلى حيث لا يدري بمكانها، فيكون فيه التضييع للمال المنهي عنه. وظاهر سياق القصة أن أبا برزة لم يقطع صلاته، ويؤيده ما في رواية عمرو بن مرزوق: فأخذها ثم رجع القهقرى، فإنه لو كان قطعها، ما بالي أن يرجع مستدبر القبلة. وفي رجوعه القهقرى ما يشعر بأن مشيه إلى قصدها ما كان كثيرًا، وهو مطابق لثاني حديثي الباب، لأنه يدل على أنه -صلى الله عليه وسلم- تأخر في صلاته، وتقدم، ولم يقطعها، فهو عمل يسير، ومشي قليل، وليس فيه استدبار القبلة، فلا يضر. وفي مصنف ابن أبي شيبة: سُئل الحسن عن رجل صلّى فأشفق أن تذهب دابته، قال: ينصرف، قيل له: أفَيُتِمّ؟ قال: إذا ولَّى ظهره القبلةَ استأنفَ. وقد أجمع الفقهاء على أن المشي الكثير في الصلاة المفروضة يبطلها، فيحمل حديث أبي بَرْزة على القليل، كما قررناه. وتقدم في

رجاله أربعة

الترجمة الحكم في خوف ضياع المال عند الشافعية والمالكية، وعندهم أي المالكية، إذا انفلتت الدابة يجوز له المشي إليها قدر ثلاثة صفوف، وإن على جنبه أو قهقرى، فإن تباعدت عن ذلك، قطع الصلاة وطلبها، إذا كان في سعة من الوقت، وإلاّ تمادى وإن ذهبت، ما لم يكن في مفازة يخاف على نفسه إن تركها هلاكًا أو شديد أذى. والظاهر أنَّ المراد بالوقتِ الضروريُّ. وقال محمد بن الحسن: فأخذ بما فعل أبو برزة من ذهابه إلى دابته، ورجوعه على عقبيه، حتى صلى الركعتين الباقيتين. قال: فالصلاة تجزىء مع ما صنع، لا يفسدها الذي صنع؛ لأنه رجع على عقبيه، ولم يستدبر القبلة حتى لو جعلها خلف ظهره فسدت صلاته. قال العينيّ: ثم ليس في هذا الحديث الفصل بين المشي القليل والكثير، فهذا يبين لك أن المشي في الصلاة مستقبلَ القبلة لا يبطلُ الصلاة، وإن كَثُر. قلت: قد مرَّ لك ما يدل على أن الواقع في الحديث هو المشي القليل، وقد مرَّ أن إجماع الفقهاء على أن المشي الكثير يبطل الصلاة، ثم وبعض مشائخنا، أولوا هذا الحديث، واختلفوا فيما بينهم في التأويل، فمنهم من قال: تأويله أنه لم يجاوز موضع سجوده، فأما إذا جاوز ذلك، فإن صلاته تفسد؛ لأنّ موضع سجوده في الفضاء مصلاه، وكذلك موضع الصفوف في المسجد، وخطأه في مصلاه عفو، ومنهم من قال: تأويله أن مشيه لم يكن متلاصقًا، ثم مشى خطوة فسكن، ثم مشى خطوة، وذلك قليل. وإنه لا يفسد الصلاة. أما إذا كان المشي متلاصقًا تفسد، وإن لم يستدبر القبلة؛ لأنه عمل كثير. ومن المشائخ من أخذ بظاهر الحديث، ولم يقل بالفساد، قلَّ المشي أو أكثر، استحسانًا، والقياس أن تفسد صلاته إذا أكثر المشي، إلا أنا تركنا القياس بحديث أبي برزة، رضي الله تعالى عنه، وأنه خُصَّ بحالة العذر. ففي غير حالة العذر يعمل بقضية القياس. وفي الحديث جواز حكاية الرجل إذا احتاج إلى ذلك، ولم يكن في سياق الفجر. رجاله أربعة: وفيه لفظ رجل مبهم، مرَّ منهم شُعبة وآدم في الثالث من الإيمان، ومرَّ أبو برزة في الثاني عشر من مواقيت الصلاة، والرجل المبهم لم يُسَمَّ، والرابع الأزرق ابن قيس الحارثيّ البصريّ. قال النسائي: ثقة، قال ابن سعد: ثقة إن شاء الله تعالى، وقال ابن مُعين: ثقة، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وقال الدارقطني: ثقة مأمون، وذكره ابن حِبّان في الثقات، روى عن ابن عمر وأنس وأبي برزة الأسلميّ وغيرهم. وروى عنه سليمان التّيمي، والحمّادان وشُعبة وغيرهم. مات في ولاية خالد على العراق. الحديث الخامس عشر حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَقَامَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَرَأَ سُورَةً طَوِيلَةً، ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ، ثُمَّ رَفَعَ

رَأْسَهُ، ثُمَّ اسْتَفْتَحَ بِسُورَةٍ أُخْرَى، ثُمَّ رَكَعَ حَتَّى قَضَاهَا وَسَجَدَ، ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ فِي الثَّانِيَةِ، ثُمَّ قَالَ إِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَصَلُّوا حَتَّى يُفْرَجَ عَنْكُمْ، لَقَدْ رَأَيْتُ فِي مَقَامِي هَذَا كُلَّ شَيْءٍ وُعِدْتُهُ، حَتَّى لَقَدْ رَأَيْتُنِى أُرِيدُ أَنْ آخُذَ قِطْفًا مِنَ الْجَنَّةِ حِينَ رَأَيْتُمُونِي جَعَلْتُ أَتَقَدَّمُ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ جَهَنَّمَ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْتُ، وَرَأَيْتُ فِيهَا عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ وَهُوَ الَّذِي سَيَّبَ السَّوَائِبَ. قوله: حتى قضاها، أي فرغ منها، ولم يُردِ القضاء الذي هو ضد الأداء، وقوله: كل شيء وعدته، في رواية يونس عند مسلم "وعدتم" وله في حديث جابر "عرض علي كل شيء تولجونه" وقوله: لقد رأيت، كذا للأكثر، وللحمويّ والمستمليّ لقد رأيته. ولمسلم حتى لقد رأيتني، وهو أَوْجَه. وقوله: أريد أن آخذ قِطفًا أي عُنْقودَ عنب، وهو بكسر أوله، وذكر ابن الأثير أن كثيرًا يروونه بالفتح، والصواب الكسر. وفي رواية جابر: حتى تناولت منها قِطفًا، فقصرت يدي عنه. وقوله: حين رأيتموني جعلت أتقدم؛ قال الكرمانيّ: قال في جهنم حين رأيتموني تأخرت؛ لأنّ المتقدم كاد أن يقع، بخلاف التأخر، فإنه قد وقع. كذا قال. وقد وقع التصريح بوقوع المتقدم والتأخر جميعًا في حديث جابر عند مسلم، ولفظه "لقد جيء بالنار، وذلكم حين تأخرت مخافة أن يصيبني من لفحها" وفيه "ثم جيء بالجنة، وذلكم حين رأيتموني تقدمت حتى قمت في مقامي" وما في هذا الحديث من أمر الكسوف مرَّ الكلام عليه في أبواب الكسوف، ومرَّ استيفاء الكلام على ما فيه من أمر الجنة والنار في باب كُفران العشير، من كتاب الإِيمان، وقوله: يحطم بكسر الطاء. وقوله: وفيها عمرو بن لُحَيّ، قد مرَّ في الثاني والأربعين من كتاب الإيمان بعض الكلام عليه، ويأتي إتمامه في أيام الجاهلية. وقوله: وهو الذي سَيَّب السوائب، جمع سائبة، ويأتي تفسيرها قريبًا إن شاء الله. ومعنى سيّب السوائب: سَيَّب النُّوق التي تسمى السوائب. والسائبة كانوا يُسَيِّبُونها لآلهتهم، فلا يحمل عليها شيء. قال أبو عبيدة: كانت السائبة من جميع الأنعام، وتكون من النذور للأصنام، فتسيب، فلا تحبس عن مرعى ولا عن ماء، ولا يركبها أحد. وقيل: السائبة لا تكون إلا من الإبل، كان الرجل ينذر إن برِىء من مرضه، أو قدم من سفره، لَيُسَيبنَّ بعيرًا. وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: السائبة، كانوا يسيبون بعض إبلهم، فلا تمنع حوضًا، أن تشرب منه، وقال الفراء: اختلف في السائبة، فقيل: كان الرجل يسيب من ماله ما شاء، يذهب إلى السَّدَنَة، وهم الذين يقومون على الأصنام. وقيل: السائبة الناقة إذا ولدت عشرة أبطن كلهن إناثٌ، سُيِّبَتِ فلم تُركب، ولم يُجَزَّ لها وبر، ولم يشرب لها لبن. وإذا ولدت بنتها بُحِرَت، أي: شُقَّت أذنها، فالبَحِيرة بنت السائبة. وهي بمنزلة أمها. وقال البخاريّ: البحيرة هي التي يمنع دَرُّها للطواغيت أي الأصنام، فلا يحلبها أحدٌ من

الناس. والبَحْر شق الأذن، جُعِل ذلك علامة لها، فهي فَعِيلة بمعنى مَفعولة، وهي التي بُحِرت أُذُنها، أي خُرِمت. وجعل أبو عبيدة المنفي الشرب خاصة لا الحلب، قال: كانوا يُحَرِّمُون وَبَرها ولحمها وظهرها ولبنها على النساء، ويحلون ذلك للرجال، وما ولدت فهو بمنزلتها، وإن ماتت اشترك الرجال والنساء في أكل لحمها. وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: البَحِيرةُ من الإبل، كانت الناقة إذا نَتَجَت خمسة أبطن، فإن كان الخامس ذكرًا كان للرجال دون النساء، وان كانت أنثى بُتِّكَتْ أُذُنها، ثم أرسلت، فلم يَجُزُّوا لها وبرًا، ولم يشربوا لها لبنًا، ولم يركبوا لها ظهرًا، وإن يكن مَيْتَة فهم فيه شركاء؛ الرجالُ والنساء. وقال أبو عبيدة: جعلها قوم من الشاة خاصة، إذا ولدت خمسة أبطن بَحَروا أذنها، أي شقوها، وتركت فلا يمسها أحد، وقال آخرون: بل البَحِيرة الناقةُ كذلك، وخَلّوا عنها، فلم تركب، ولم يَضْرِبْها فحلٌ. والوَصيلة الناقةُ البكر تبكر في أول نتاج الإبل بأنثى، ثم تثني بأنثى، وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وَصَلت أحداهما بالأخرى، ليس بينهما ذكر. وقال أبو عبيدة: مهما ولدته فهو بمنزلة أمها، إلى ستة أولاد، فإن ولدت السابع انثيين تركتا، فلم تذبحا، وإن ولدت ذكرًا ذبح، وأكله الرجال دون النساء، وكذا إذا ولدت ذكرين، وإن أتت بتوأم؛ ذكر وأنثى، سموا الذكر وَصِيلة، فلا يذبح، لأجل أخته. وهذا كله إن لم تلد ميتًا، فإن ولدت بعد البطن السابع ميتًا أكله النساء دون الرجال. وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: الوصيلة الشاة؛ كانت إذا ولدت سبعة أبطن، فإن كان السابع ذكرًا ذُبِح وأكل، وإن كان أنثى تركت، وإن كان ذكرًا وأنثى قالوا: وَصَلت أخاها، فترك ولم يذبح، ولا تشرب النساء لبن الأم، وتشربه الرجال، وجرت مجرى السائبة والحامي فعل الإبل يضرب الضراب المعدود، فإذا قضى ضرابه، ودعوه للطواغيت وأعفوه من الحمل، فلم يحمل عليه شيء، وسموه الحامي. قاله سعيد بن المسيب، وكلام أبي عبيدة يدل على أن الحامي إنما يكون من ولد السائبة. وقال أيضًا: كانوا إذا ضَرَب فحلٌ من ولد البحيرة فهو عندهم حامٍ، وقال أيضًا: الحامي من فحول الإبل خاصة إذا نتجوا منه عشرة أبطن قالوا: قد حمى ظهره، فاحموا ظهره ووبره، وكل شيء منه، فلم يركب ولم يطرق. وعرف بهذا بيان العدد المبهم في رواية سعيد. وقيل: الحامي فعل الإبل إذا ركب ولد ولده قال الشاعر: حماها أبو قابوس في غير مُلْكِه ... كما قد حمى أولادَ أولادِه الفحلُ وفي هذا الحديث أن المشي القليل لا يبطل الصلاة، وأن الجنة والنار موجودتان مخلوقتان. ووجه تعلق الحديث بالترجمة ظاهر من جهة جواز المتقدم والتأخر اليسير؛ لأن الذي تنفلت دابته يحتاج في حال إمساكها إلى التقدم والتأخر، كما وقع لأبي برزة. وأغرب الكَرَمانيّ فقال: وجه تعلقه بها أن فيه مَذَمة تسييب الدواب مطلقًا، سواء كان في الصلاة أم لا.

رجاله ستة

رجاله ستة: قد مرّوا، مرَّ محمد بن مُقاتِل في السابع من العلم، ومرَّ عبد الله بن المبارك في السادس من بدء الوحي، ومرَّ يونس بن يزيد في متابعة بعد الرابع منه، والزهريّ في الثالث منه، وعروة وعائشة، في الثاني منه، وفيه ذكر عمرو بن لُحَيّ الخُزَاعيّ الذي هو أول من عَبدَ الأصنام بجزيرة العرب، وأول من سيب السوائب، وفيه قال -صلى الله عليه وسلم-، كما في الصحيح: "رأيت عمرو بن لُحَيّ يجر قَصَبَتَه في النار". ثم قال المصنف:

باب ما يجوز من البصاق والنفخ في الصلاة

باب ما يجوز من البصاق والنفخ في الصلاة وجه التسوية بينهما أنه ربما ظهر من كل منهما حرفان، وهما أقل ما يتألف منه الكلام، وأشار المصنف إلى أن بعض ذلك يجوز، وبعضه لا يجوز، فيحتمل أنه يرى التفرقة بين ما إذا حصل من كل منهما كلام مفهوم أو لا، أو الفرق ما إذا كان حصول ذلك محققًا وإلّا فلا، وقال العينيّ: لا دلالة في الترجمة على ذلك، وإنما تدل على أن كل واحد منهما جائز، والظاهر عندي ما قاله صاحب "الفتح" فإن "من" في قوله: "ما يجوز من البصاق" دالةٌ على التبعيض. ثم قال: ويذكر عن عبد الله بن عمر "ونفخ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في سجوده في كسوف" هذا طرف من حديث أخرجه أحمد، وصححه ابن خُزَيمة والطّبريّ، وابن حِبّان عن عطاء بن السائب عن أبيه عن عبد الله ابن عمرو، قال: كَسَفِت الشمس على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقام وقمنا معه، الحديث بطوله. وفيه: "وجعل ينفخ في الأرض ويبكي وهو ساجد" وذلك في الركعة الثانية، وإنما ذكره البخاريّ بصيغة التمريض؛ لأن ابن السائب مختلف في الاحتجاج به، وقد اختلط في آخر عمره، لكنه أخرجه ابن خزيمة عن سفيان الثوري عنه، وهو ممن سمع منه قبل اختلاطه، وأبوه وَثَّقه العجليّ وابن حبان، وليس هو من شرط البخاريّ. قال ابن بطال: رُوي عن مالك كراهة النفخ في الصلاة، ولا يقطعها كما يقطعها الكلام، وهو قول أبي يوسف وأشْهَب وأحمد وإسحاق. وفي المدونة "النفخ بمنزلة الكلام، ويقطع الصلاة". قلت: مشهور مذهبه أن النفخ اليسير إذا لم يفعله عبثًا لا يُفسد، سواء كان بحرف أو لا. ولابن قَدّاح: إنْ نطق فيه بألف وفاء أبطل الصلاة، لا من الأنف مطلقًا، والنَّفْث، وهو ريح كالنفخ بغير بصاق، أو هو بصاق بلا صوت، فإن كان فعله للحاجة فلا ضرر فيه، كان بصوت أو بغيره، وإن كان لغير حاجة أفسدَ الصلاةَ عَمْدُه، وسجد لسهوه، هذا إذا كان بصوت، وإن كان بغير صوت فهو مكروه، وكذلك التنحنح، إذا كان لحاجة لا ضرر فيه، وإن كان لغير حاجة، فقيل: كالكلام يُفَرّق بين عَمْده يُبطل، وسهوه يسجد له. وقيل: لا يبطل الصلاة مطلقًا، وهو المختار. والحاجة المنفية، قيل: المراد بها حاجة تتعلق بالصلاة، فلابد أن يكون على غير وجه العبث، وقيل: عدم الحاجة مطلقًا، تعلقت بالصلاة أم لا، وعن أبي حنيفة ومحمد: إن كان يُسمع فهو بمنزلة الكلام، وإلا فلا. قال ابن بَطّال: والقول الأول أولى، وليس في النفخ من النطق بالهمزة والفاء، أكثر مما في البصاق من النطق بالتاء والفاء. قال: وقد اتفقوا على جواز البصاق في الصلاة،

فدل على جواز النفخ فيها، إذا لا فرق بينهما، ولذلك ذكره البخاري معه في الترجمة. والمصحح عند الشافعية أنه إن ظهر من النفخ أو التنخم أو البكاء أو الأنين أو التأوه أو التنفس أو الضحك أو التنحنح حرفان، بطلت صلاته، وإلا فلا. قال ابن دقيق العيد: ولقائلٍ أن يقول: لا يلزم من كون الحرفين يتألف منهما الكلام أن يُكَوّن كل حرفين كلامًا، وإن لم يكن كذلك فالإبطال به لا يكون بالنص، بل بالقياس، فيراعى شرطه في مساواة الفرع للأصل. قال: والأقرب أن ينظم إلى مواقع الإجماع والخلاف، حيث لا يسمى الملفوظ به كلاما، فما أُجمع على إلحاقه بالكلام أُلحق به، وما لا فلا. قال: ومن ضعيف التعليل قولهم في إبطال الصلاة بالنفخ: إنه ليشبه الكلام، فإنه مردود لثبوت السنة الصحيحة، أنه -صلى الله عليه وسلم- نفخ في الكسوف، وأجيب بأن نفخه عليه الصلاة والسلام، محمولٌ على أنه لم يظهر منه شيء من الحروف، ورُبَّما ثبت في أبي داود عن عبد الله بن عمرو، فإن فيه "ثم نفخ في آخر سجوده، فقال أفٍ". فصرح بظهور الحرفين، وفي الحديث أيضًا أنه عليه الصلاة والسلام قال: "وعُرِضت عليَّ النار، فجعلت أنفخ خشية أن يغشاكم حرُّها". والنفخ لهذا الغرض لا يقع إلا بالقصد إليه، فانتفى قول من حمله على الغلبة والزيادة المذكورة من رواية حماد بن سلمة عن عطاء، وقد سمع منه قبل الاختلاط في قول يحيى بن مُعين وأبي داود والطَّحاويّ وغيرهم. وأجاب الخطَّابيُّ بأن "أفٍ" لا تكون كلامًا حتى يشدد الفاء، قال: والنافخ في نفخه لا يخرج ألفًا صادقة من مخرجها. وتعقبه ابن الصّلاح بأنه لا يستقيم على قول الشافعية أن الحرفين كلام مبطل، أفهما أو لم يفهما، وأشار البيهقيّ، إلى أن ذلك من خصائص النبي -صلى الله عليه وسلم-، وَرد بأن الخصائص لا تثبت إلا بدليل. وحكى ابن المنذر الإجماع على أن الضحك يبطل الصلاة، ولم يقيده بحرف أو حرفين، وكان الفرق بين الضحك والبكاء، أن الضحك يَهْتك حرمة الصلاة بخلاف البكاء ونحوه، ومِن ثَمّ قال الحنفية وغيرهم: إنْ كان البكاء من أجل الخوف من الله تعالى لا تبطل به الصلاة مطلقًا، قلت: الضحك المبطل للصلاة عند المالكية هو ما كان منه بصوت، وهو المسمى بالقَهْقَهة، وأما ما كان بغير صوت، فهو التبسم، ولا بطلان فيه، وعمده مكروه، ومرت مذاهب الأئمة في البكاء في باب "حد المريض أن يشهد الجماعة". وقد ورد في كراهة النفخ في الصلاة حديث مرفوعٌ أخرجه التِّرمذيّ عن أم سَلَمة قالت: "رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- غلامًا لنا يقال له أفْلَح، إذا سجد نفخْ، فقال: يا أفلح، تَرِّب وَجْهَك" رواه التِّرمذيّ وقال: ضعيف الإِسناد، ولو صلح لم تكن فيه حجة على إبطال الصلاة بالنفخ؛ لأنه لم يأمره بإعادة الصلاة، وإنما استفاد من قوله "ترب وجهك" استحباب السجود على الأرض، فهو نحو النهي عن مسح الحصى.

الحديث السادس عشر

قلت: بيان ذلك هو أن الغلام كأنه كان ينفخ الأرض من غير أن يسجد عليها، فأمره بالسجود وترك النفخ، وفي الباب عن أبي هريرة في الأوسط للطبرانيّ، وعن زيد بن ثابت عند البيهقيّ، وعن أنس وبُرَيدة عند البَزَّار، وأسانيد الجميع ضعيفة جدًا، وثبت كراهة النفخ عن ابن عباس، كما رواه ابن أبي شَيْبة، والرُّخصة فيه عن قدامة بن عبد الله، أخرجه البيهقيّ. وعبد الله بن عمرو بن العاص قد مرَّ في الثالث من كتاب الإِيمان. الحديث السادس عشر حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- رَأَى نُخَامَةً فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ، فَتَغَيَّظَ عَلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ وَقَالَ إِنَّ اللَّهَ قِبَلَ أَحَدِكُمْ، فَإِذَا كَانَ فِي صَلاَتِهِ، فَلاَ يَبْزُقَنَّ أَوْ قَالَ لاَ يَتَنَخَّمَنَّ. ثُمَّ نَزَلَ فَحَتَّهَا بِيَدِهِ. وقوله: فلا يبزُقَنّ، أو قال لا يتَنَخَّمَنَّ، في رواية الإسماعيلي "لا يبزقن أحدكم بين يديه" وفي رواية "لا يتنخمن" بالميم بعد الخاء، والنُّخامة بضم النون، لما يخرج من الصدر، وبالعين، قيل بمعنى الميم. وقيل: بالعين من الصدر، وبالميم من الرأس، وهذا الحديث قد مرَّ في باب "حك البزاق باليد من المسجد" ومرَّ الكلام عليه مستوفى هناك. رجاله خمسة: قد مرّوا؛ مرَّ سليمان بن حَرْب في الرابع عشر من الإيمان، ومرَّ حماد بن زيد في الرابع والعشرين منه، وأيوب في التاسع منه، وابن عمر في أوله قبل ذكر حديث منه، ومر نافع في الأخير من العلم. ثم قال: وقال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: إذا بَزَق أحدكم فَلْيبزقْ على يَسَاره، في رواية الكَشْميهنيّ "عن يساره" هكذا ذكره موقوفًا، ولم تتقدم هذه الزيادة من حديث ابن عمر، لكنْ ليبزقْ خلفه أو عن شِماله أو تحت قدمه" فساقه كله معطوفًا بعضه على بعض. وقد بينتْ روايةُ البخاريّ أن المرفوع منه انتهى إلى قوله: "فلا يبزقنَّ بين يديه" والباقي موقوف. وقد اقتصر مسلم وأبو داود وغيرهما على المرفوع منه، مع أن هذا الموقوف عن ابن عمر قد ثبت مثله في حديث أنس الذي بعده مرفوعًا. الحديث السابع عشر حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إِذَا كَانَ فِي الصَّلاَةِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ، فَلاَ يَبْزُقَنَّ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلاَ عَنْ يَمِينِهِ، وَلَكِنْ عَنْ شِمَالِهِ تَحْتَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى.

رجاله خمسة

وهذا الحديث قد مرت مباحثه في الباب المذكور آنفًا وفيما بعده، وقد نظم شيخنا عبد الله بن محمد بن محمد سالم حكم البصاق في المسجد فقال: البصقُ في المسجد مهما حَصِبَا .... جاز بالأيسر، وَدَفنًا أُوْجبا أو تحت الاقدام إذا ما أمكنا ... بصقٌ بذَيْنِ ثم إن لم يمكنا فابصق عن اليمين ثُمَّتْ أَمامُ ... وكلما ذكرتُه فهو عامٌ فيمن يصلي، وسواه، قيلْ ... يختص بالمصلي، لا تميل رجاله خمسة: قد مرّوا، محمد المراد به محمد بن بَشّار، وقد مرَّ في الحادي عشر من العلم، ومرَّ غُنْدر في الخامس والعشرين من الإيمان، ومرَّ شعبة في الثالث منه، ومرَّ قتادة وأنس في السادس منه. ثم قال المصنف:

باب من صفق جاهلا من الرجال في صلاته لم تفسد صلاته

باب من صفق جاهلًا من الرجال في صلاته لم تفسد صلاته ثم قال فيه سهل بن سعد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- يشير بذلك إلى حديثه الماضي في أبواب الجماعة في باب "من دخل ليؤم الناس"، وقد مرَّ الكلام على حكم التصفيق مستوفى هناك، وذكره بعد بابين بلفظ "ما لكم حين نابكم شيء في الصلاة أخذتم بالتصفيح" وسيأتي في آخر باب من أبواب السهو بلفظ "التصفيق" ومناسبته للترجمة من جهة أنه لم يأمرهم بالإعادة، ومرَّ سهل بن سعد في الثامن والمئة من الوضوء. ثم قال المصنف:

باب إذا قيل للمصلي تقدم أو انتظر فانتظر فلا بأس

باب إذا قيل للمصلي تقدم أو انتظر فانتظر فلا بأس قوله: تقدم، أي: قِبَلَ رفيقك. وقوله: انتظر، أي: تأخر عنه، واستنبط ذلك من قوله للنساء: "لا ترفعنَ رؤوسكن حتى يستوي الرجال جلوسًا" فيقتضي امتثالُ ذلك تقدمَ الرجال عليهنَّ وتأخرهنَّ عنهم. وقال الإسماعيلي: كأنه ظن المخاطبة للنساء وقعت بذلك وهن في الصلاة، وليس كما ظن، بل هو شيء قيل لهن قبل أن يدخلن في الصلاة. والجواب عن البخاريّ أنه لم يصرح بكون ذلك قيل لهن وهن داخل الصلاة، بل مقصوده يحصل بقول ذلك لهن داخل الصلاة أو خارجها، والذي يظهر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وصّاهن، بنفسه أو بغيره، بالانتظار المذكور، قبل أنْ يدخلنَ في الصلاة، ليدخلنَ فيها على علم، ويحصل المقصود من حيث انتظارهن الذي أُمِرْن به، فإنّ فيه انتظارَهُنّ للرجال، ومِنْ لازِمِه تقدُّمُ الرجال عليهن، ومحصلُ مراد البخاريّ أن الانتظار إن كان شرعيًا جاز، وإلا فلا. الحديث الثامن عشر حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّاسُ يُصَلُّونَ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَهُمْ عَاقِدُو أُزْرِهِمْ مِنَ الصِّغَرِ عَلَى رِقَابِهِمْ، فَقِيلَ لِلنِّسَاءِ لاَ تَرْفَعْنَ رُءُوسَكُنَّ حَتَّى يَسْتَوِيَ الرِّجَالُ جُلُوسًا. قوله: محمد بن كثير، هو العَبْديّ البصريّ، ولم يخرج البخاريّ للكوفي ولا للشاميّ ولا للصَّغَانيّ شيئًا، وهذا الحديث قد مرَّ في أوائل الصلاة في باب "إذا كان الثوب ضيقًا" واستوفي الكلام عليه هناك. رجاله أربعة: قد مرّوا، مرَّ محمد بن كثير في الثاني والثلاثين من العلم، ومرَّ سفيان الثوري في السابع والعشرين من الإيمان، ومرَّ محل سهل بن سعد في الذي قبله، ومعه أبو حازم. ثم قال المصنف:

باب لا يرد السلام في الصلاة

باب لا يرد السلام في الصلاة أي باللفظ المتعارف؛ لأنه خطاب آدمي، واختلف فيما إذا رده بلفظ الدعاء، كأن يقول: اللهم اجعل على من سلم عليَّ السلام، وقد اختلف الأئمة في هذا الباب، فقال قوم منهم: يرد السلام نطقًا، وهو المرويُّ عن أبي هريرة وجابر والحسن وابن المسيب وقتادة. ومنهم من قال: يستحب رده بالإشارة، وبه قال الشافعي ومالك وأحمد وأبو ثَوْر. وقيل: يرد في نَفسه، رُوِيَ ذلك عن أبي حَنِيفة. وقال قوم: يرد بعد السلام، وهو قول عطاء والثوري والنخعى، وهو المرويّ عن أبي ذَرٍّ وأبي العالية، وبه قال محمد بن الحسن. وقال أبو يوسف: لا يرد لا في الحال ولا بعد الفراغ، وقالت طائفة من الظاهرية: إذا كانت الإشارة مفهمة قطعت عليه صلاته، لما رواه الطحاويّ وأبو داود عن أبي هُريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال: "التسبيح للرجال والتصفيق للنساء، ومن أشار في صلاته تفهم مِنه، فلْيُعدها" وهذا الحديث قال أبو داود وَهْم، وقال أحمد: لا يثبت إسناده، وليس بشيء وأَعَلَّه ابن الجَوْزيّ. الحديث التاسع عشر حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنْتُ أُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ فَيَرُدُّ عَلَيَّ، فَلَمَّا رَجَعْنَا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ وَقَالَ إِنَّ فِي الصَّلاَةِ شُغْلاً. هذا الحديث مرَّ قريبًا في باب "ما يُنهى عنه من الكلام في الصلاة"، ومرَّ الكلام عليه هناك. رجاله ستة: قد مرّوا إلا شيخ البخاريّ، مَرَّ محمد بن فضيل في الحادي والثلاثين من الإيمان، ومرَّ الأعمش وإبراهيم وعلقمة بهذا النسق في الخامس والعشرين منه، ومرَّ ابن مسعود في أول أثر منه. وشيخ البخاريّ عبد الله بن محمد بن أبي شَيبة إبراهيم بن عثمان بن خُواستي بضم الخاء وفتح الواو ممدودة وسكون السين المهملة فمثناة فوقية فتحتانية، العبسيّ مولاهم أبو بكر الحافظ، قال ابن حبان في "الثقات": كان متقنًا حافظًا، دينًا ممن كتب وجمع وصنف وذاكر، وكان أحفظ أهل زمانه للمقاطيع. وقال أبو زرعة الرازيّ: ما رأيت أحفظ من أبي بكر بن أبي شيبة، فقال ابن خرائش: يا أبا زرعة وأصحابنا البغداديين؟ فقال: دع عنك، أصحابُكَ أصحابُ مخاريق.

الحديث العشرون

وقال صالح بن محمد: أعلم من أدركتُ بالحديث، وعلله علي بن المدِيني، وأعلمهم بتصحيف المشائخ يحيى بن مُعين، وأحفظهم عند المذاكرة أبو بكر بن أبي شيبة. وقال عمرو بن عليّ: ما رأيت أحفظ من أبي بكر، قدم علينا مع عليّ بن المدينى فسرد للشيباني أربعة ومئة حديث وقام. وقال أبو عُبَيد القاسم: انتهى العلم إلى أربعة: أبو بكر أسردهم، وأحمد أفقههم فيه، ويحيى أجمعهم له، وعلي أعلمهم به. وقال عبدان الأهوازيّ: كان يقعد عند الأُسطوانة أبو بكر وأخوه وشُكْدَانة وعبد الله بن البَرّاد وغيرهم، كلهم سكوت إلا أبا بكر، فإنه يهدر. وقال يحيى الحَمّانيّ: أولاد ابن أبي شيبة من أهل العلم، كانوا يزاحمونا عند كل محدث. وقال أحمد: أبو بكر صدوق، وهو أحب إليّ من عثمان. قال عبد الله بن أحمد: قلت لأبي: إن يحيى بن مُعين يقول: عثمان أحبُّ إليَّ، فقال أبو بكر أعجب إلينا. وقال العجليّ: ثقة، وكان حافظًا للحديث، وقال أبو حاتم وابن خِراش وقال ابن قانع؛ ثقة ثبت. وقال محمد بن عمرو بن العلاء: سألت ابن مُعين عن سماع أبي بكر من شريك فقال: أبو بكر عندنا صدوق، ولو ادعى السماع من أجلّ من شريك لكان مصدقًا فيه. وما يحمله على أن يقول: وجدت في كتاب إليَّ بخطه؟ قال: وسألت أبا بكر، متى سمعت من شريك؟ قال: وأنا ابن أربع عشرة سنة، وأنا يومئذٍ أحفظ مني اليوم. روى عن ابن المبارك وشريك وهُشَيم وابن علية وغيرهم، وروى عنه البخاريّ ومسلم وأبو داود وابن ماجه، وفي الزهرة روى عنه البخاري ثلاثين حديثًا، ومسلم ألفًا وخمس مئة وأربعين حديثًا، وروى عنه أحمد بن حنبل وأبو حاتم وخلق. مات في المحرم سنة خمس وثلاثين ومئتين. الحديث العشرون حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ شِنْظِيرٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي حَاجَةٍ لَهُ فَانْطَلَقْتُ، ثُمَّ رَجَعْتُ وَقَدْ قَضَيْتُهَا، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ، فَوَقَعَ فِي قَلْبِي مَا اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ فَقُلْتُ فِي نَفْسِي لَعَلَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَجَدَ عَلَيَّ أَنِّي أَبْطَأْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ، فَوَقَعَ فِي قَلْبِي أَشَدُّ مِنَ الْمَرَّةِ الأُولَى، ثُمَّ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيَّ فَقَالَ إِنَّمَا مَنَعَنِي أَنْ أَرُدَّ عَلَيْكَ أَنِّي كُنْتُ أُصَلِّي. وَكَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ مُتَوَجِّهًا إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ. وهذا الحديث دال على أن الممتنع الرد باللفظ، وقوله "في حاجة" بَيَّنَ مسلمٌ عن أبي الزبير عن جابر أن ذلك كان في غزوة بني المُصْطَلق. وقوله: "فلم يرد عليّ" في رواية مسلم المذكورة "فقال لي بيده هكذا" وفي رواية له أخرى "فأشار إليّ" فيحمل قوله في حديث الباب "فلم يرد عليّ"

رجاله خمسة

أي باللفظ، وكأن جابرًا لم يعرف أولًا أن المرادَ بالإشارةِ الردُّ عليه، فلذلك قال: "فوقع في قلبي ما الله أعلم به" أي من الحُزن، وكأنه أبهم ذلك إشعارًا بأنه لا يدخل في شدته تحت العبارة. وقوله: "وَجَد عليّ" أي: بفتح أوله والجيم، أي: غضب. وقوله: "إني أبطأت" في رواية الكشميهنيّ، "أنْ أبطأت" بنون خفيفة. وقوله: "ثم سلمت عليه، فرد عليّ" أي: بعد أن فرغ من صلاته. وقوله: "إنما منعني أن أرد عليك أني كنت أصلي" ولمسلم "فرجعت وهو يصلي على راحلته، ووجهه على غير القبلة". وفي هذا الحديث من الفوائد كراهة ابتداء السلام على المصلي، لكونه ربما شغل ذهنه بذلك، واستدعى منه الرد وهو ممنوع منه، وبذلك قال جابر راوي الحديث، وكره عطاء والشعبي، ومالك في رواية ابن وهب. وقال في "المُدَوّنة": لا يكره، وهو المشهور، وبه قال أحمد والجمهور. وقالوا: يرد إذا فرغ من الصلاة، أو هو فيها بالإشارة، وقد مرَّ قريبًا في الترجمة تحرير القول في ذلك. ومرَّ في كتاب الجمعة في باب الاستماع إلى الخطبة تحرير من يسلم عليه ومن لا، ومن لا يرد عليه، ومن لا يرد عليه في مذهب مالك. وبعض من غير مذهبه. رجاله خمسة: قد مرّوا إلا كثير، مرَّ أبو معمر عبد الوارث في السابع عشر من العلم، ومرَّ عطاء في التاسع والثلاثين منه، ومرَّ جابر في الرابع من بدء الوحي. الخامس: كثير بن شِنْظِير، بكسر الشين، المازنيّ، ويقال الأزدي، أبو قُرّة البصريّ قال النسائى: ليس بالقويّ، ووثَّقه ابن سعد. وقال الساجيّ: صدوق، وفيه بعض الضعف. وقال أبو زرعة: ليّن، وقال في المقدمة: احتج به الجماعة سوى النَّسائيّ. وجميع ما له عندهم ثلاثة أحاديث، أحدها عن عطاء عن جابر في السلام على المصلي، رواه الشيخان من حديث عبد الوارث عنه، وتابعه الليث عن أبي الزبير عن جابر. ثانيها حديثه بهذا الإِسناد في الأمر بتخمير الآنية، وكف الصبيان عند المساء، أخرجه البخاريّ وأبو داود والتِّرمذيّ من حديث حماد بن زيد عنه، وتابعه ابن جُريج. ثالثها انفراد ابن ماجه بإخراجه، والراوي عنه ضعيف. روى عن عطاء ومجاهد والحسن وغيرهم، وروى عنه سعيد ابن عَرُوبة وعبد الوارث وحمَّاد بن زيد وغيرهم. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، ورواته كلهم بصريون، أخرجه مسلم في الصلاة أيضًا. ثم قال المصنف:

باب رفع الأيدي في الصلاة لأمر ينزل به

باب رفع الأيدي في الصلاة لأمر ينزل به الحديث الحادي والعشرون حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِقُبَاءٍ كَانَ بَيْنَهُمْ شَيْءٌ، فَخَرَجَ يُصْلِحُ بَيْنَهُمْ فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَحُبِسَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَحَانَتِ الصَّلاَةُ، فَجَاءَ بِلاَلٌ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما فَقَالَ يَا أَبَا بَكْرٍ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَدْ حُبِسَ وَقَدْ حَانَتِ الصَّلاَةُ، فَهَلْ لَكَ أَنْ تَؤُمَّ النَّاسَ قَالَ نَعَمْ إِنْ شِئْتَ. فَأَقَامَ بِلاَلٌ الصَّلاَةَ، وَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه فَكَبَّرَ لِلنَّاسِ، وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَمْشِي فِي الصُّفُوفِ يَشُقُّهَا شَقًّا، حَتَّى قَامَ فِي الصَّفِّ، فَأَخَذَ النَّاسُ فِي التَّصْفِيحِ. قَالَ سَهْلٌ التَّصْفِيحُ هُوَ التَّصْفِيقُ. قَالَ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه لاَ يَلْتَفِتُ فِي صَلاَتِهِ، فَلَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ الْتَفَتَ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَشَارَ إِلَيْهِ، يَأْمُرُهُ أَنْ يُصَلِّيَ، فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه يَدَهُ، فَحَمِدَ اللَّهَ، ثُمَّ رَجَعَ الْقَهْقَرَى وَرَاءَهُ حَتَّى قَامَ فِي الصَّفِّ، وَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَصَلَّى لِلنَّاسِ، فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَا لَكُمْ حِينَ نَابَكُمْ شَيْءٌ فِي الصَّلاَةِ أَخَذْتُمْ بِالتَّصْفِيحِ إِنَّمَا التَّصْفِيحُ لِلنِّسَاءِ، مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلاَتِهِ فَلْيَقُلْ سُبْحَانَ اللَّهِ. ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه فَقَالَ يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ لِلنَّاسِ حِينَ أَشَرْتُ إِلَيْكَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ مَا كَانَ يَنْبَغِي لاِبْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. قوله: وحانت الصلاة، الواو فيه حاليّة، وفي رواية الكَشميهنيّ "وقد حانت الصلاة". وقوله: "إن شئت" في رواية الكشميهنيّ "إن شئتم"، وقوله: "من الصف" في رواية الكَشميهنيّ "في الصف" وقوله: "فرفع أبو بكر يده" في رواية الكشميهنيّ "يديه" بالتثنية، وهذا موضع الترجمة، ويؤخذ منه أنَّ رفع اليدين للدعاء ونحوه، في الصلاة، لا يبطلها، ولو كان في غير موضع الرفع، لأنها هيأة استسلام وخضوع. وقد أقر النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر على ذلك. وقوله: "حيث أشرت عليك" وفي رواية الكشميهني حين أشرت إليك. وهذا الحديث قد مرَّ في باب "من دخل ليؤم الناس" ومرَّ الكلام عليه هناك مستوفى.

رجاله أربعة

رجاله أربعة: وفيه ذكر أبي بكر وبلال، وقد مرَّ الجميع، مرَّ قتيبة في الحادي والعشرين من الإيمان، ومرَّ عبد العزيز بن أبي حازم في الخامس والأربعين من استقبال القبلة، ومرَّ أبو حازم وسهل في الثامن والمئة من الوضوء، ومرَّ أبو بكر بعد الحادي والسبعين منه، ومرَّ بلال في التاسع والثلاثين من العلم. ثم قال المصنف:

باب الخصر في الصلاة

باب الخصر في الصلاة بفتح المعجمة وسكون المهملة أي حكم الخصر، والمراد: اليدين على الخاصرة في الصلاة الحديث الثاني والعشرون حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: نُهِيَ عَنِ الْخَصْرِ فِي الصَّلاَةِ. وَقَالَ هِشَامٌ وَأَبُو هِلاَلٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-. قوله: نُهي عن الخصْر، بالضم على البناء للمجهول، وفاعل ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما في رواية هشام الآتية. وقوله: وقال هشام وأبو هلال، الخ رواية هشام وهو ابن حسان، وصلها المؤلف في الذي بعده، لكن في رواية أبي ذَرٍّ عن الحمويّ والمستمليّ نَهى، على البناء للفاعل ولم يسمه، وسماه الكَشميهنيّ في روايته، وقد رواه مسلم والترمذيّ عن أبي أسامة عن هشام بلفظ "نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يصلي الرجل مختصرًا" وكذا رواه أبو داود كذلك، وبلفظ "عن الخصر في الصلاة". ورواية أبي هلال وصلها الدارقطنيّ في الأفراد عن عمرو بن مرزوق عنه، بلفظ "نهى عن الاختصار في الصلاة". رجاله سبعة: قد مرّوا إلا أبا هلال، مرَّ أبو النعمان في الحادي والخمسين من الإيمان، ومرَّ حماد بن زيد في الرابع والعشرين منه، ومرَّ أيوب في التاسع منه، ومرَّ محمد بن سيرين في الأربعين منه، وأبو هريرة في الثاني منه، ومرَّ هشام بن حسان في تعليق بعد الثامن عشر من الحيض. والباقي محمد بن سليم أبو هلال الراسِبيّ البصريّ، مولى أسامة بن لُؤَيّ، نزل في بني راسب فنسب إليهم، قيل: كان مكفوفًا، قال أبو داود: أبو هلال ثقة، ولم يكن له كتاب، وهو فوق عمران القَطّان، وقال النَّسائيّ: ليس بالقويّ. وقال البَزَّار. احتمل الناس حديثه وهو غير حافظ. وقال ابن أبي حاتم: أدخله البخاريّ في الضعفاء، وسمعت أبي يقول: يحول منه، قلت: استشهد به في الصحيح وروى له في كتاب "القراءة خلف الإمام"، وقال عمرو بن علي: كان يحيى لا يحدث عنه، وكان عبد الرحمن يحدث عنه. روى عن الحسن وابن سيرين وقتادة وابن أبي سُلَيكة وغيرهم، وروى عنه ابن مَهْدِيّ وأبو

لطائف إسناده

النعمان وموسى بن إسماعيل وغيرهم. مات في خلافة المهديّ سنة سبع وستين ومئة وقيل سنة تسع. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، ورواته كلهم بصريون. أخرجه مسلم وأبو داود والترمذيّ والنسائي. الحديث الثالث والعشرون حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه قَالَ نُهِيَ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ مُخْتَصِرًا. قوله: نهى، بالبناء للمفعول، وفي رواية الكشميهنيّ: نهى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقوله: "متخصرًا". في رواية الكشميهنيّ "مخصِّرا" بتشديد الصاد، وللنسائيّ "مختصرًا" بزيادة المثناة، وللإسماعيلي عن حماد بن زيد قال: قيل لأيوب: إن هشامًا روى عن محمد عن أبي هريرة، قال: نهى عن الاختصار في الصلاة، فقال: إنما قال التّخَصُّر، وكان سبب إنكار أيوب لفظ الاختصار، لكونه يفهم معنى آخر غير التخصر، كما يأتي. وفسره ابن أبي شَيبة عن أبي أسامة بالسند المذكور، فقال فيه: قال ابن سيرين: هو أن يضع يده على خاصرته وهو يصلي، وبذلك جزم أبو داود، ونقله التِّرمذيّ عن بعض أهل العلم، وهذا هو المشهور من تفسيره. وحكى الهرويّ، أن المرادَ بالاختصار قراءةُ آية أو آيتين من آخر السورة، وقيل: أن يحذف الطمأنينة، وهذان القولان، وإن كان أخذهما من الاختصار ممكنًا، لكنَّ رواية التخصّر والخُصر تأباهما. وقيل: الاختصار أن يحذف الآية التي فيها السجدة إذا مرَّ بها في قراءته، حتى لا يسجد في الصلاة لتلاوتها، حكاه الغزاليّ. وحكى الخطابيّ أن معناه أن يمسك بيده، مِخْصَرَة، أي: عصا يتوكأ عليها في الصلاة، وأنكر هذا ابن العربي في شرح الترمذيّ فأبلغ. ويؤيد الأول ما رواه أبو داود والنَّسائيّ عن سعيد بن زياد، قال: صليت الى جنب ابن عمر، فوضعت يدي على خاصرتي، فلما صلى قال: هذا الصَّلب في الصلاة، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينهى عنه. وقد قال بكراهته ابن عمر وابن عباس وعائشة، وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعيّ والأوزاعيّ، وذهب أهل الظاهر إلى تحريم الاختصار في الصلاة عملًا بظاهر الحديث. واختلف فى حكمة النهي عنه، فقيل: لأنّ إبليس أُهبط متخصرًا، أخرجه ابن أبي شَيبة عن حميد بن هلال موقوفًا. وقيل: لأنّ اليهود تكثر من فعله، فنهى عنه كراهةً للتشبه بهم. أخرجه المصنف في ذكر بني إسرائيل عن عائشة. زاد ابن أبي شيبة فيه "في الصلاة"، وفي رواية له "لا تشبهوا باليهود". وقيل: لأنه راحة أهل النار. أخرجه ابن أبي شيبة عن مجاهد، قال: وضع اليد على الحَقْو استراحة أهل

رجاله خمسة

النار. وروي أيضًا عن عائشة أنها رأت رجلًا واضعًا يده على خاصرته، فقالت: هكذا أهل النار في النار. وأجيب عما قيل من أن أهل النار المخلدين فيها لا راحة لهم، فكيف يقال هنا راحة أهل النار؟ بأنّ المراد أنهم يختصرون في النار لقصد الراحة، ولا راحة لهم بذلك. وقيل: لأنها صفة الرَّاجز حين ينشد. رواه سعيد بن منصور عن قيس بن عَبّاد بإسناد حسن. وقيل: لأنه فعل المتكبر، حكاه المهلَّب. وقيل: لأنه فعل أهل المصائب، حكاه الخطابيّ. وقول عائشة: إنه من اليهود، وأعلى ما ورد في ذلك، ولا منافاة بين الجمع. وقد ذكر صاحب "الاكمال" في حديث آخر "المختصرون يوم القيامة على وجوههم النور" ثم قال: "هم الذين يصلون بالليل، ويضعون أيديهم على خواصرهم من التعب". وقيل: يأتون يوم القيامة معهم أعمال يتوكؤون عليها، مأخوذ من المخصرة، وهي العصا. قال زين الدين العراقيّ: هذا الحديث لا أصل له، وهو مخالف للأحاديث الصحيحة في النهي عن ذلك، وعلى تقدير وروده يكون المراد أنْ يكون بأيديهم مخاصر يختصرون عليها، ويجوز أن تكون أعمالهم تجسد لهم، كما ورد في بعض الأعمال، وفي حديث عبد الله بن أنيس أن أقل الناس يومئذ المتخصرون، أي يوم القيامة. رواه أحمد في مسنده والطبرانيّ في "الكبير" في قصة قتله لخالد بن سفيان أو ابن نبيح الهذلي، أنه عليه الصلاة والسلام أعطاه عصا فقال: أمسك هذه عندك يا عبد الله بن أنيس، وفيه أنه سأله: لم أعطيتني العصا؟ قال: آية بيني وبينك يوم القيامة، وإن أقل الناس المتخصرون يومئذ. وإنها دفنت معه. وقد أخرج أبو داود عن أم قيس بنت محصن أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لما أسَنَّ وحمل اللحم، اتخذ عمودًا في مُصَلّاه، يعتمد عليه. وهذا الحديث لم يصح، وعلى تقدير وروده يكون النهي في حق من فعله بغير عذر، بل للاستراحة. وحديث أم قيس محمول على من فعل ذلك لعذر من كبر السن أو المرض ونحو ذلك، قال العَيْنيّ هكذا قال أصحابنا، واستدلوا به على أن الضعيف والشيخ الكبير، إذا كان قادرًا على القيام متكئًا على شيء، يصلي قائمًا متكئًا، ولا يقعد. قلت: وكذا المالكية إذا لم يقدر أحد على القيام مستقلًا استند، وكذلك الجلوس إذا لم يقدر عليه استند. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ عمرو بن علي الفَلّاس في السابع والأربعين من الوضوء، ومرَّ يحيى القطان في السادس من الإيمان، ومرَّ هشام ومحمد بن سيرين وأبي هريرة في الذي قبله. ثم قال المصنف:

باب تفكر الرجل الشيء في الصلاة

باب تفكر الرجل الشيء في الصلاة قوله: "الشيء" بالنصب على المفعولية، والتقيد بالرجل لا مفهوم له، لأن بقية المكلفين في حكم ذلك سواء. قال المهلب: التفكر أمر غالب، ولا يمكن الاحتراز منه في الصلاة، ولا في غيرها، لما جعل الله للشيطان من السبيل على الإنسان، ولكن يفترق الحال في ذلك، فإنْ كان في أمر الآخرة والدين كان أخف مما يكون في أمر الدنيا. ثم قال: وقال عمر: إني لأجَهِّز جيشي وأنا في الصلاة. وصله ابن أبي شيبة عن أبي عثمان النَّهديّ عنه بهذا سواء. قال ابن التين: إنما هذا فيما يقل فيه التفكر، كان يقول: أجهز فلانًا، أقدم فلانًا، أخرج من العدد كذا وكذا، فيأتي على ما يريد في أقل شيء من الفكرة. فأما من يتابع التفكر، ويكثر حتى لا يدري كم صلى، فهذا اللاهي في صلاته، فتجب عليه الإعادة. وليس ما قاله من الإطلاق على وجهه، فقد جاء عن عمر ما يأباه، فروى ابن أبي شيبة عن عُروة بن الزُّبير قال: قال عمر: إني لأَحْسِب جزْية البحرين وأنا في الصلاة. وروى صالح بن أحمد بن حنبل عن أبيه عن همام بن الحارث أنَّ عمر صلى المغرب فلم يقرأ، فلما انصرف قالوا: يا أمير المؤمنين إنك لم تقرأ فقال: إني حدثت نفسي، وأنا في الصلاة، بعِير جَهَّزْتُها من المدينة حتى دخلت الشام، ثم أعاد وأعاد القراءة. وعن عياض: الأشعريُّ قال: صلى عمر المغرب، فلم يقرأ، فقال له أبو موسى الأشعري: إنك لم تقرأ، فأقبل على عبد الرحمن بن عوف فقال: صدق، فأعاد، فلما فرغ قال: لا صلاة ليست فيها قراءة، إنما شغلني عِيْرٌ جهزتها إلى الشام، فجعلت أتفكر فيها، وهذا يدل على أنه إنما أعاد لترك القراءة، لا لكونه كان مستغرقًا في الفكرة. ويؤيده ما روى الطحاويّ عن عبد الرحمن بن حنظلة ابن الراهب أن عمر صلى المغرب، فلم يقرأ في الركعة الأولى، فلما كان في الثانية قرأ بفاتحة الكتاب مرتين، فلما فرغ وسلم سجد سجدتي السهو. ورجال هذه الأثار ثقات، وهي محمولة على أحوال مختلفة، والأخير كأنه مذهب لعمر، ولهذه المسألة التفات إلى مسألة الخشوع في الصلاة، وقد تقدم البحث فيه في باب الخشوع في الصلاة من أبواب صفة الصلاة، ومرَّ البحث في هذا المعنى في الوضوء عند حديث عثمان بن عفان "لا يحدث فيهما نفسه"، ومرَّ عمر في الأول من بدء الوحي.

الحديث الرابع والعشرون

الحديث الرابع والعشرون حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا رَوْحٌ حَدَّثَنَا عُمَرُ هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- الْعَصْرَ، فَلَمَّا سَلَّمَ، قَامَ سَرِيعًا دَخَلَ عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ، ثُمَّ خَرَجَ وَرَأَى مَا فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ مِنْ تَعَجُّبِهِمْ لِسُرْعَتِهِ فَقَالَ: ذَكَرْتُ وَأَنَا فِي الصَّلاَةِ تِبْرًا عِنْدَنَا، فَكَرِهْتُ أَنْ يُمْسِيَ أَوْ يَبِيتَ عِنْدَنَا فَأَمَرْتُ بِقِسْمَتِهِ. الحديث ظاهر فيما ترجم له، لأنه -صلى الله عليه وسلم- تفكر في أمر التبر المذكور، ثم لم يعد الصلاة. وقد مرَّ هذا الحديث في باب "من صلى بالناس، فذكر حاجة" من أواخر أبواب صفة الصلاة. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ إسحاق بن منصور في الخامس والثلاثين من الإيمان، ومرَّ رُوح بن عبادة في الأربعين منه، وابن أبي مُليكة في تعليق بعد الأربعين. هذا ومرَّ عمر بن سعيد وعُقبة بن الحارث في الثلاثين من العلم. وقد مرَّ هذا الحديث في الثامن عشر والمئة من صفة الصلاة ومرَّ الكلام عليه هناك. الحديث الخامس والعشرون حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ جَعْفَرٍ عَنِ الأَعْرَجِ قَالَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: إِذَا أُذِّنَ بِالصَّلاَةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ لَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لاَ يَسْمَعَ التَّأْذِينَ، فَإِذَا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُ أَقْبَلَ، فَإِذَا ثُوِّبَ أَدْبَرَ فَإِذَا سَكَتَ أَقْبَلَ، فَلاَ يَزَالُ بِالْمَرْءِ يَقُولُ لَهُ اذْكُرْ مَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ حَتَّى لاَ يَدْرِي كَمْ صَلَّى. شاهد الترجمة قوله: "حتى لا يدري كم صلى" فإنه يدل على أن التفكر لا يقدح في صحة الصلاة ما لم يترك شيئًا من أركانها، وهذا الحديث قد مرَّ في باب فضل التأذين، ومرَّ الكلام عليه هناك مستوفى. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ يحى بن بكير، والليث في الثالث من بدء الوحي، مرَّ جعفر بن ربيعة في الرابع من التيمم، ومرَّ الأعرج في السابع من الإيمان، وأبو هريرة في الثاني عنه. هذا التعليق طرف من الحديث الذي قبله في رواية أبي سلمة كما يأتي في سادس ترجمة من أبواب السهو، ولكنه من رواية يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة، وسيأتي في سابع ترجمة أيضًا من طريق الزهري عن أبى سلمة، لكن باختصار ذكر الأذان، وهو بهذين الطريقين عن أبى سلمة عن

الحديث السادس والعشرون

أبي هريرة، مرفوعًا، بخلاف ما يوهمه سياقه هنا. وقد مرَّ استيفاء الكلام على مضمنه عند حديث عبد الله بن مسعود في باب "التوجه نحو القبلة حيث كان"، وأبو سلمة مرَّ في الرابع من بدء الوحي. الحديث السادس والعشرون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: يَقُولُ النَّاسُ أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ، فَلَقِيتُ رَجُلاً فَقُلْتُ بِمَ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْبَارِحَةَ فِي الْعَتَمَةِ فَقَالَ لاَ أَدْرِي. فَقُلْتُ لَمْ تَشْهَدْهَا قَالَ بَلَى. قُلْتُ لَكِنْ أَنَا أَدْرِي، قَرَأَ سُورَةَ كَذَا وَكَذَا. قوله: قال: قال أبو هريرة، في رواية الإسماعيلي: عن أبي هريرة، وقوله: يقول الناس أكثر أبو هريرة، أخرجه البيهقيّ في "المدخل" عن ابن أبي ذيب بلفظ "إن الناس قالوا قد أكثر أبو هريرة من الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإني كنت ألزمه لشبع بطني، فلقيت رجلًا، فقلت له: بأي سورة؟ فذكر الحديث. وفي مناقب جعفر صَدْرُ هذا الحديث، وقال فيه، بعد قوله لشبع بطني: حين لا آكل الخَمِير، ولا ألبس الحرير، فذكر قصة جعفر بن أبي طالب، وقد مرَّ الحديث في باب "حفظ العلم"، ومرَّ الكلام عليه هناك، وفيه الإِشارة إلى سبب إكثاره، وأن المهاجرين والأنصار كانوا يشغلهم المعاش، وهذا يدل على أنه كان يقول هذه المقالة، أمامَ ما يريد أن يحدث به من كل أمر يدل على صحة إكثاره، وعلى السبب في ذلك، وعلى سبب استمراره على التحديث. وقوله: فلقيت رجلًا، لم يقف صاحب "الفتح" على تسميته، ولا على تسمية السورة. وقوله: بِمَ، بغير ألف، لأبي ذَرٍ، وهو المعروف، وللأكثر بإثبات الألف، وهو قليل، أي: بأي شيء، وقوله: البارحة أي أقرب ليلة مضت، وفي هذه القصة إشارة إلى سبب إكثار أبي هريرة، وشدة إتقانه وضبطه، بخلاف غيره. وشاهدُ الترجمة دلالةُ الحديث على عدم ضبط ذلك الرجل، كأنه اشتغل بغير أمر الصلاة حتى نسي السورة التي قرئت، أو دلالته على ضبط أبي هريرة، كأنه شغل فكره بأفعال الصلاة حتى ضبطها وأتقنها. وبالأول جزم غير الكَرَمانيُّ. رجاله خمسة: قد مرّوا؛ وفيه لفظ رجل مبهم، مرَّ محمد بن المثنى في التاسع من الإيمان، وسعيد المَقْبَرِيّ في الثاني والثلاثين منه، وأبو هريرة في الثاني منه، ومرَّ عثمان بن عمر في السابع والعشرين من الغسل، ومرَّ ابن أبي ذيب في الستين من العلم، والرجل المبهم، قال في "الفتح" لم أقف على تسميته.

خاتمة

خاتمة اشتملت أبواب العمل في الصلاة من الأحاديث المرفوعة على اثنين وثلاثين حديثًا، المعلق من ذلك ستة، والبقية موصولة، المكرر منها فيها وفيما مضى ثلاثة وعشرون، والبقية خالصة. وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث أبي برزة في قصة انفلات دابته، وحديث عبد الله بن عمر والمعلق في النفخه في السجود، وحديث أبي هريرة في التخصر، وحديثه في القراءة في العتمة. وفيه من الآثار عن الصحابة وغيرهم ستة آثار، والله تعالى أعلم. ثم قال المصنف: بسم الله الرحمن الرحيم باب ما جاء في السهو إذا قام من ركعتي الفريضة وللكشميهني والأصيلي وأبي الوقت: ركعتي الفرض، وسقط لفظ "باب" من رواية أبي ذَرٍّ، والسهوُ الغفلةُ عن الشيء وذهاب القلب إلى غيره، وفرق بعضهم بين السهو والنسيان، وليس بشيء، وقد مرَّ في باب التوجه نحو القبلة، عند حديث عبد الله بن مسعود، في أبواب استقبال القبلة، ما قيل في حكمه.

الحديث الأول

الحديث الأول حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قال: أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ بُحَيْنَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَكْعَتَيْنِ مِنْ بَعْضِ الصَّلَوَاتِ ثُمَّ قَامَ فَلَمْ يَجْلِسْ، فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، فَلَمَّا قَضَى صَلاَتَهُ وَنَظَرْنَا تَسْلِيمَهُ كَبَّرَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ ثُمَّ سَلَّمَ. قد مرَّ أن بحينة اسم أمه أو أم أبيه، فينبغي أن يكتب بحينة بألف، وقوله صلى لنا، أي بنا أو لأجلنا، وقد مرَّ في أبواب التشهد من رواية شُعيب بلفظ "صلى بهم" ويأتي في الإيمان والنذور بلفظ "صلى بنا" وقوله: من بعض الصلوات، بيّن في الرواية التي تليها أنها الظّهر، وقوله: ثم قام، زاد الضَّحّاك بن عثمان عن الأعرج "فسبحوا به، فمضى حتى فرغ من صلاته"، أخرجه ابن خُزيمة. وقوله: فلما قضى صلاته، أي: فرغ منها. واستدل به من زعم أن السلام ليس من الصلاة، حتى لو أحدث بعد أن جلس، وقبل أن يسلم، تمت صلاته. وهو قول بعض الصحابة والتابعين، وبه قال أبو حنيفة، وتُعُقِّبَ بأن السلام لما كان للتحليل من الصلاة، كان المصلي إذا انتهى إليه كمن فرغ من صلاته، ويدل على ذلك قوله في رواية ابن ماجة عن الأعرج "حتى إذا فرغ من الصلاة، إلَّا أنْ يُسَلِّم" فدل على أن بعض الرواة حذف الاستثناء لوضوحه، والزيادة من الحافظ مقبولة. وقد مرَّ استيفاء الكلام على هذا البحث في باب التسليم، من أبواب صفة الصلاة. وقوله: فسجد سجدتين، فيه مشروعية سجود السهو، وأنه سجدتان، فلو اقتصر على سجدة واحدة ساهيًا لم يلزمه شيء، أو عامدًا بطلت، لأنه تعمد الإتيان بسجدة زائدة ليست بمشروعة، وعند المالكية لو سجد واحدة، وتذكر قبل السلام، أضاف إليها، فإن كان سلم، سجد الأخرى، وتشهد وسلم، ولا سجود عليه. وتمنع الزيادة على اثنتين، ولو سجد ثلاثًا فلا سجود عليه قَبْليًا أو بعديًا، وخالف اللخميّ في القَبْلي فقال: إن سجد ثلاثًا سجد بعد السلام. وظاهر هذا الكلام أن هذا في السهو، ولم أر الكلام في العمد، والظاهر عندي أنَّ تعمدها مبطل كما ذكر صاحب الفتح، وفيه أنه يكبر لهما كما يكبر في غيرهما من السجود. وفي رواية الليث عن ابن شهاب، كما سيأتي بعد أربعة أبواب، يكبر في كل سجدة. وفي رواية الأوزاعيّ "فكبر ثم سجد، ثم كبر فرفع رأسه، ثم كبر فسجد، ثم كبر فرفع رأسه، ثم سلم" أخرجه ابن ماجة، ونحوه

في رواية ابن جُريج، كما يأتي بيانه عقب حديث الليث في المتابعة. واستدل به على مشروعية التكبير فيهما، والجهر به كما في الصلاة، وأن بينهما جلسة فاصلة، واستدل به المالكية ويعض الشافعية على الاكتفاء بالسجدتين للسهو في الصلاة ولو تكرر، من جهة أن الذي فات في هذه القصة الجلوسُ والتشهد فيه، وكل منهما، لوسها المصلي عنه على انفراده، سجد لأجله، ولم ينقل أنه -صلى الله عليه وسلم-، سجد في هذه الحالة غير سجدتين. وتُعُقب بأنه ينبني على مشروعية السجود، لترك ما ذكر، ولم يستدلوا على مشروعية ذلك بغير هذا الحديث، فيستلزم إثبات الشيء بنفسه، وفيه ما فيه. وقد صرح في بقية الحديث بأن السجود مكان ما نسي من الجلوس، كما يأتي في رواية الليث "نعم حديث ذي اليدين" دال لذلك، وقد مرَّ ما فيه من الخلاف في باب "التوجه نحو القبلة حيث كان" عند حديث ابن مسعود. وقوله: وهو جالس، جملة حالية متعلقة بقوله "سجد" أي: أنشأ السجود جالسًا، وقوله: ثم سلم، زاد في رواية يحيى بن سعيد "ثم سلم بعد ذلك" وفي رواية الليث الآتية "وسجدهما الناس معه مكان ما نسي من الجلوس". وقد مرَّ في الباب المذكور تحرير مذاهب الأئمة في محل السجود، واستدل بزيادة الليث المذكورة على أن السجود خاص بالسهو، فلو تعمد ترك شيء، مما يجبر بسجود السهو لا يسجد، وهو مذهب الجمهور ورجحه الغزالي، وناس من الشافعية. قلت: وهو المعتمد عند المالكية، ومقابله مشهور أيضًا، وهو أن تارك السنة عمدًا تبطل صلاته، واختلف هل الخلاف جار ولو ترك سننًا عديدة؟ وهذا هو المشهور، أو محله في السنة الواحدة المؤكدة، وأما سنن عديدة فتبطل الصلاة بتعمد تركها. واستدل به أيضًا على أن المأموم يسجد مع الإمام إذا سها الإمام، وإن لم يسه المأموم، ونقل ابن حزم فيه الإجماع، لكنْ استثنى غيره ما إذا ظن الإمام أنه سها فسجد، وتحققَّ المأمومُ أنَّ الإمام لم يسه فيما سجدَ له، وفي تصويرها عسر، وما إذا تبين أن الإمام محدث. ونقل أبو الطيب الطبريّ أن ابن سيرين استثنى المسبوق أيضًا. قلت: مذهب مالك أن المسبوق إذا أدرك مع الإمام ركعة فأكثر، يسجد معه القبليّ، ويؤخر البعديّ إلى إتمام صلاته، ولو سجد معه البعديّ عمدًا بطلت صلاته، لا سهوًا، وفي الجهل قولان؛ وإن لم يدرك معه ركعة بطلت صلاته بسجوده، قبليًا أو بعديًا، لأنه غير مأموم حقيقة. وفيه أن التشهد الأول غير واجب، وقد مرَّ في أبواب صفة الصلاة باب "من لم ير التشهد الأول واجبًا". وفيه أن سجود السهو لا تَشهُّد بعده إذا كان قبل السلام، وقد مرَّ استيفاء الكلام على ذلك مفصلًا في باب "تشبيك الأصابع" عند حديث ذي اليدين، وفيه أن من سها عن التشهد الأول حتى قام الى الركعة ثم ذكر لا يرجع، فقد سبح به -صلى الله عليه وسلم-، فلم يرجع، فلو تعمد المصلي الرجوع بعد

رجاله خمسة

تَلَبُّسه بالركن بَطَلَت صلاته عند الشافعية، خلافًا للجمهور. قلت: مشهور مذهب مالك أنها لا تبطل برجوعه إلّا إذا أتم القراءة. وفيه أن السهو والنسيان جائزان على الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، فيما طريقه التشريع، وفيه أن محل سجود السهو آخر الصلاة، فلو سجد للسهو قبل أن يتشهد ساهيًا، أعاد عند من يوجب التشهد الأخير، وقد مرَّ الكلام عليه في باب التشهد في الآخرة. رجاله خمسة: مرَّ منهم عبد الله بن يوسف، ومالك في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ ابن شهاب في الثالث منه، والأعرج في السابع من الإيمان، ومرَّ عبد الله بن بَحينة في الثاني والأربعين من كتاب الصلاة، ومرَّ عند هذا الثاني والأربعين الكلام على من أخرجه. الحديث الثاني حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قال أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُحَيْنَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَامَ مِنِ اثْنَتَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ لَمْ يَجْلِسْ بَيْنَهُمَا، فَلَمَّا قَضَى صَلاَتَهُ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ. هذا الحديث رواية من الذي قبله، والكلام على الأول هو الكلام عليه. رجاله خمسة: مرَّ محلهم في الذي قبله، إلا يحى بن سعيد، وقد مرَّ في الأول من بدء الوحي ثم قال المصنف.

باب إذا صلى خمسا

باب إذا صلى خمسًا قيل: أراد البخاريّ التفرقة بين ما إذا كان السهو بالنقصان أو الزيادة، ففي الأول يسجد قبل السلام، وفي الزيادة يسجد بعده، وبالتفرقة هكذا قال مالك، والمُزَنيّ وأبو ثور من الشافعية، وقال ابن عبد البر: إنه أولى من غيره للجمع بين الخبرين. قال: وهو موافق للنظر، لأنه في النقص جَبْرٌ، فينبغي أن يكون من أصل الصلاة، وفي الزيادة ترغيم للشيطان، فيكون خارجها. وقال ابن دقيق العيد: لا شك أن الجمع أولى من الترجيح وادعاء النسخ، ويترجح الجمع المذكور بالمناسبة المذكورة، وإذا كانت المناسبة ظاهرة، وكان الحكم على وفقها، كانت علة، فيعم الحكم جميع محالها، فلا تخصص إلا بنص. وتعقب بأن كون السجود في الزيادة ترغيمًا للشيطان فقط ممنوعٌ، بل هو جَبْرًا أيضًا، لما وقع من الخلل، فإنه، وإن كان زيادة، فهو نقص في المعنى، وإنما سمى النبي -صلى الله عليه وسلم-، سجود السهو ترغيمًا للشيطان في حالة الشك، كما في حديث أبي سعيد عند مسلم. قلت: هذا الاعتراض ساقط، لأنهم لم يقولوا: إن السجود في الزيادة ترغيم فقط، وكونه جبرًا مع الترغيم غير قادح في المناسبة المذكورة. وقال الخطابيّ: لم يرجع من فرق بين الزيادة والنقصان إلى فرق صحيح، وقد مرت مذاهب الأئمة، في كون السجود قبل السلام أو بعده، مستوفاةً في باب التوجه نحو القبلة، حيث كان عند حديث ابن مسعود من أبواب استقبال القبلة. الحديث الثالث حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا فَقِيلَ لَهُ أَزِيدَ فِي الصَّلاَةِ فَقَالَ وَمَا ذَاكَ. قَالَ صَلَّيْتَ خَمْسًا. فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَمَا سَلَّمَ. قوله: صلى الظهر خمسًا، كذا جزم به الحكم، وقد تقدم في أبواب القبلة من رواية منصور عن إبراهيم أتم من هذا السياق، وفيه قال إبراهيم: لا أدري زاد أو نقص. وقوله: فقيل له أزيد في الصلاة، فقال: وما ذاك؟، أخرجه مسلم وأبو داود عن إبراهيم بن سُوَيد النخعيّ عن ابن مسعود بلفظ "فلما انْفتل تَشَوَّشَ القومُ بينهم، فقال: "مالكم"؟ فقالوا: يا رسول الله: هل زِيد في الصلاة؟ قال: لا فتبين، أن سؤالهم عن ذلك كان بعد استفساره لهم عن مسارَرتهِم، وهو دال على عظيم أدبهم معه، عليه الصلاة والسلام.

رجاله ستة

وقولهم: هل زيد في الصلاة، يفسر الرواية الماضية في أبواب القبلة بلفظ "هل حدث في الصلاة شيء؟ " وقد روى الأعمش عن إبراهيم هذا الحديث مختصرًا، ولفظه "أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- سجد سجدتي السهو بعد السلام، والكلام أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود وابن خُزيمة وغيرُهم قال ابن خزيمة: إن كان المراد بالكلام قوله: "وما ذلك" في جواب سؤالهم: "أزِيد في الصلاة؟ فهذا نظير ما وقع في قصة ذي اليدين. وإن كان المراد به قوله: "إنما أنا بشر أنسى كما تنسون" فقد اختلف الرواة في الموضع الذي قالها فيه، ففي رواية منصور أن ذلك كان بعد سلامه من سجدتي السهو. وفي رواية غيره أن ذلك كان قبل، ورواية منصور أرجح، وقد مرت مباحث هذا الحديث مستوفاة عند ذكره في باب "التوجه نحو القبلة" من أبواب استقبال القبلة. رجاله ستة: قد مرّوا، مرَّ أبو الوليد في العاشر من الإيمان، ومرّ شعبة في الثالث منه، ومرّ إبراهيم وعلقمة في الخامس والعشرن منه، ومرَّ ابن مسعود في أول أثر منه، ومرَّ الحكم بن عتيبة في الثامن والخمسين من العلم. ثم قال المصنف:

باب إذا سلم في ركعتين أو في ثلاث سجد سجدتين مثل سجود الصلاة أو أطول

باب إذا سلم في ركعتين أو في ثلاث سجد سجدتين مثل سجود الصلاة أو أطول في رواية لغير أبي ذر "فسجد" والأول أوجه، وعلى الثاني يكون الجواب محذوفًا تقديره "ما يكون الحكم في نظائره"، وأورد فيه حديث أبي هُريرة في قصة ذي اليدين، وليس في شيء من طرقه إلا التسليم من اثنتين، نَعَمْ، ورد التسليم في ثلاث فيه حديث عمران بن حصين عند مسلم، وقوله مثل سجود الصلاة أو أطول، هو في بعض طرق أبي هريرة كما في الباب الذي بعده. الحديث الرابع حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَعْدِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- الظُّهْرَ أَوِ الْعَصْرَ فَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ الصَّلاَةُ يَا رَسُولَ اللَّهَ أَنَقَصَتْ فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- لأَصْحَابِهِ أَحَقٌّ مَا يَقُولُ. قَالُوا نَعَمْ. فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ. قَالَ سَعْدٌ وَرَأَيْتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ صَلَّى مِنَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ فَسَلَّمَ وَتَكَلَّمَ ثُمَّ صَلَّى مَا بَقِيَ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَقَالَ هَكَذَا فَعَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-. قوله: فسلّم، زاد أبو داود عن مُعاذ عن شُعبة "في الركعتين"، وقوله: قال سعد، يعني ابن إبراهيم راوي الحديث، وهو بالإسناد المصدر به الحديث، وقد أخرجه ابن أبي شيبة عن شُعبة مفردًا، وهذا الأثر يقوي قول من قال: إن الكلام لمصلحة الصلاة لا يبطلها، لكنْ يحتملُ أنْ يكون عروة تكلم ساهيًا، أو ظانًا أن الصلاة تمت. ومرسل عروة هذا مما يقوي طريق أبي سَلَمة الموصولة، ويحتمل أن يكون عروة حمله عن أبي هريرة، فقد رواه عن أبي هريرة جماعة من رفقة عروة من أهل المدينة كابن المسيب وعبيد الله بن عبد الله بن عُتبة، وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، وغيرهم من الفقهاء. وهذا الحديث مرت مباحثه مستوفاةً غاية عند ذكره في باب "تشبيك الأصابع في المسجد" وفي باب "التوجه نحو القبلة عند حديث ابن مسعود". رجاله ستة: قد مرّوا؛ مرَّ آدم وشعبة في الثالث من الإيمان، وأبو هريرة في الثاني منه ومرَّ سعد في السابع والأربعين من الوضوء، وأبو سلمة في الرابع من بدء الوحي، وعروة في الثاني منه، وقد مرَّ هذا الحديث في الثالث والثمانين من استقبال القبلة، ومرَّ ذو اليَدَيْن هناك، ومرَّ الكلام عليه هناك. ثم قال المصنف:

باب من لم يتشهد في سجدتي السهود

باب من لم يتشهد في سجدتي السهود أي؛ إذا سَجَدهما بعد السلام من الصلاة، وقد مرَّ ما قيل في التشهد مستوفى عند حديث أبي هريرة في باب "تشبيك الأصابع في المسجد" وغيره، ثم قال: وسلم أنس والحسن، ولم يتشهدا، وهذان الأثران وصلهما ابن أبي شيبة من طريق قتادة عنهما، وأنس قد مرَّ في السادس من الإيمان، ومرَّ الحسن في الرابع والعشرين منه. ثم قال: وقال قتادة: لا يتشهد، قال في "الفتح" فيه نظر، فقد رواه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: يتشهد في سجدتي السهو ويسلم، فلعل لا في الترجمة زائدة ويكون قتادة اختلف عليه في ذلك. الحديث الخامس حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قال أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ أَبِي تَمِيمَةَ السَّخْتِيَانِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه. أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- انْصَرَفَ مِنِ اثْنَتَيْنِ فَقَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ أَقُصِرَتِ الصَّلاَةُ أَمْ نَسِيتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ. فَقَالَ النَّاسُ نَعَمْ. فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَصَلَّى اثْنَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ كَبَّرَ فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ ثُمَّ رَفَعَ. قوله: فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فصلى اثنتين، لم يقع في غير هذه الرواية لفظ القيام، وقد استشكل؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- كان قائمًا، وأجيب بأن المراد بقوله: "فقام" أي: اعتدل، لأنه كان مستندًا إلي الخشبة كما مرَّ في باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره، وكما يأتي قريبًا. أو هو كناية عن الدخول في الصلاة. وقال ابن المنير: فيه إيماء إلى أنه أحرم ثم جلس، ثم قام، كذا قال، وهو بعيد جدًا. وقوله في آخره: ثم رفع، زاد في باب خبر الواحد من هذا الوجه "ثم كبر ثم رفع ثم كبر فسجد مثل سجوده ثم رفع" وقد مرَّ عند هذا الحديث، في الباب المذكور آنفًا، تحريرُ ما قيل في تكبيرة الإحرام في سجود السهو. رجاله خمسة: وفيه ذكر ذي اليدين، وقد مرَّ الجميع، مرَّ عبد الله بن يوسف ومالك في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ أيوب في التاسع من الإيمان، وابن سيرين في الأربعين منه، وأبو هريرة في الثاني منه، ومرَّ

الحديث السادس

محل ذي اليدين في الذي قبله. الحديث السادس حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عَلْقَمَةَ قُلْتُ لِمُحَمَّدٍ فِي سَجْدَتَىِ السَّهْوِ تَشَهُّدٌ قَالَ لَيْسَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. قوله: قال ليس في حديث أبي هريرة، في رواية أبي نعيم: فقال لم أحفظ فيه عن أبي هريرة شيئًا، وأحب إلى أن يتشهد، وقد يفهم من قوله: "ليس في حديث أبي هريرة" أنه ورد في حديث غيره، وهو كذلك إلى آخر ما مرَّ مستوفى في باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره. رجاله خمسة: مرَّ سليمان بن حرب في الرابع عشر من الإيمان، وحماد بن زيد في الرابع والعشرين منه، ومرَّ محل ابن سيرين وأبي هريرة في الذي قبله. الرابع: سَلَمة بن عَلْقَمة التميميّ، أبو بشر البَصريّ، قال أحمد: بَخٍ ثقة، وقال ابن سعد وابن مُعين: ثقة، وقال ابن المَدِينيّ ثبت، وقال أبو حاتم: صالح الحديث ثقة، وقال ابن عطية: كان سلمة أحفظ لحديث محمد بن سيرين من خالد الحذاء. وذكره ابن حِبّان في الثقات وقال: كان حافظًا متقنًا. وقال العجليّ: ثقة فقيه. روى عن محمد بن سيرين ونافع مولى ابن عمر والوليد أبي بشر العنبريّ، وروى عنه حماد بن زيد ويزيد بن زُرَيع وابن علية وغيرهم. مات سنة تسع وثلاثين ومئة. ثم قال المصنف:

باب يكبر في سجدتي السهو

باب يكبر في سجدتي السهو وقد اختلف في سجود السهو بعد السلام، هل تشترط له تكبيرة إحرام، أو يكتفى بتكبير السجود، إلى آخر ما مرَّ مستوفى في باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره. الحديث السابع حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ قال حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: إِحْدَى صَلاَتَىِ الْعَشِيِّ، قَالَ مُحَمَّدٌ: وَأَكْثَرُ ظَنِّى الْعَصْرَ، رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ قَامَ إِلَى خَشَبَةٍ فِي مُقَدَّمِ الْمَسْجِدِ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا وَفِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رضي الله عنهما فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ وَخَرَجَ سَرَعَانُ النَّاسِ فَقَالُوا أَقَصُرَتِ الصَّلاَةُ وَرَجُلٌ يَدْعُوهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالَ أَنَسِيتَ أَمْ قَصُرَتْ فَقَالَ لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ. قَالَ بَلَى قَدْ نَسِيتَ. فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ كَبَّرَ فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَكَبَّرَ، ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ فَكَبَّرَ فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ. قوله: وأكثر ظني أنها العصر، هو قول ابن سيرين بالإسناد المذكور، وإنما رَجَح ذلك عنده لأنّ في حديث عمران الجزمَ بأنها العصر، كما مرَّ في الباب المذكور آنفًا. وقوله: ذا اليدين، قد مرَّ في الباب المذكور ما قيل من التفرقة بين ذي اليدين وذي الشمالين، ومرت هناك مباحث هذا الحديث مستوفاة غاية، ومرَّ في باب "التوجه نحو القبلة" عند حديث ابن مسعود كثير من مباحثه. وقوله: فقال لم أنس ولم تقصر، كذا في أكثر الطرق، وهو صريح في نفي النسيان والقصر. وفيه تفسيرٌ للمراد بقوله، في رواية سفيان عن أبي هريرة عند مسلم: "كل ذلك لم يكن" وتأييدٌ لما قاله أصحاب المعاني: إن لفظ "كل" إذا تقدم، وعقبها النفي كان نفيًا لكل فرد لا للمجموع، بخلاف ما إذا تأخرت، كأن يقول: لم يكن كل ذلك. ولهذا أجاب ذو اليدين في رواية أبي سفيان بقوله: قد كان بعض ذلك، وأجابه في هذه الرواية بقوله: بلى، قد نسيت؛ لأنه لمّا نفى الأمرين، وكان مقررًا عند الصحابي أن السهو غير جائز عليه في الأمور البلاغية، جزم بوقوع النسيان لا بالقصر، وقد قالوا: إن هذا القول منه عليه الصلاة والسلام ردٌ على ذي اليدين في موضع استعماله الهمزة وأم، وليس بجواب؛ لأنّ السؤال بالهمزة وأم عن تعيين أحد المستويين، وجوابه تعيين

رجاله أربعة

أحدهما، يعني كل ذلك لم يكن، فكيف تسأل بالهمزة وأم؟ ولذلك بين السائل بقوله: قد كان بعض ذلك، أو بقوله: بلى قد نسيت، وهو حجة لمن قال إن السهو جائز على الأنبياء فيما طريقه التشريع، إلى آخر ما مرَّ مستوفى عند حديث ابن مسعود في الباب المذكور آنفًا. وقد استدل من قال من أصحاب مالك والشافعي إن الأفعال الكثيرة في الصلاة، التي ليست من جنسها، إذا وقعت على وجه السهو لا تبطلها؛ لأنه خرج سرعان الناس، وفي بعض طرق الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام خرج إلى منزله، ثم رجع. وفي بعضها "أتى جِذْعًا في قِبْلة المسجد، واستند إليه، وشبك بين أصابعه، ثم رجع ورجع الناس، وبنى بهم" وهذه أفعال كثيرة، لكن للقائل إن الكثير يبطل، أن يقول هذه غير كثيرة، كما قال ابن الصلاح، وحكاه القرطبيّ عن أصحاب مالك. والرجوع في الكثرة والقلة إلى العرف، على الصحيح عند المالكية وعند الشافعية، كما قال القسطلانيّ هنا. وقد مرَّ الكلام على ذلك مستوفى في باب "إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة" والمذهب الذي قطع به جمهور أصحاب الشافعيّ، كما قال القسطلانيّ، وهو المعروف عند المالكية، أن الناسي في ذلك كالعامد، فيبطلها الفعل الكثير ساهيًا. رجاله أربعة: وفيه ذكر أبي بكر وعمر وذي اليدين، وقد مرَّ الجميع، مرَّ حفص بن عمر في الثالث والثلاثين من الوضوء ومرَّ يزيد بن إبراهيم في الثالث من كتاب الصلاة، ومرَّ محل ابن سيرين وأبي هريرة في الذي قبله بحديث، ومرَّ محل ذي اليدين في الذي قبل ذلك، ومرَّ أبو بكر بعد الحادي والسبعين من الوضوء، ومرَّ عمر في الأول من بدء الوحي. الحديث الثامن حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ بُحَيْنَةَ الأَسْدِيِّ حَلِيفِ بَنِى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَامَ فِي صَلاَةِ الظُّهْرِ وَعَلَيْهِ جُلُوسٌ، فَلَمَّا أَتَمَّ صَلاَتَهُ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ فَكَبَّرَ فِي كُلِّ سَجْدَةٍ وَهُوَ جَالِسٌ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، وَسَجَدَهُمَا النَّاسُ مَعَهُ مَكَانَ مَا نَسِيَ مِنَ الْجُلُوسِ. وقوله: الأسْدي، بسكون السين، وأصله الأزدي، نسبة إلى أَزْد، فأُبدلت الزاي سينًا. وقوله: حليف بني عبد المطلب، هذا وهم، والصواب حليف بني المطلب بإسقاط عبد، وفي الحديث أنه يشرع التكبير لسجود السهود كتكبير الصلاة، وهو مطابق لهذه الترجمة، وقد مرَّ هذا الحديث في أول أبواب السهو.

رجاله خمسة

رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ قتيبة بن سعيد في الحادي والعشرين من الإيمان، ومرَّ الليث وابن شهاب في الثالث من بدء الوحي، ومرَّ الأعرج في السابع من الإيمان، ومرَّ عبد الله بن بحينة في الثاني والأربعين من كتاب الصلاة. ثم قال: تابعه ابن جُرَيج عن ابن شهاب في التكبير، وَصَلَه عبد الرزاق عنه، ومن طريقه الطبراني ولفظه "يكبر في كل سجدة". وأخرجه أحمد عن عبد الرزاق ومحمد بن بكير، كلاهما عن ابن جريج، بلفظ "فكبر فسجد ثم كبر فسجد ثم سلم". وابن جريج مرَّ في الثالث من الحيض، ومرَّ ابن شهاب في الثالث من بدء الوحي. ثم قال المصنف:

باب إذا لم يدر كم صلى ثلاثا أو أربعا سجد سجدتين وهو جالس

باب إذا لم يدر كم صلى ثلاثًا أو أربعًا سجد سجدتين وهو جالس الحديث التاسع حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الدَّسْتَوَائِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: إِذَا نُودِيَ بِالصَّلاَةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لاَ يَسْمَعَ الأَذَانَ، فَإِذَا قُضِيَ الأَذَانُ أَقْبَلَ، فَإِذَا ثُوِّبَ بِهَا أَدْبَرَ فَإِذَا قُضِيَ التَّثْوِيبُ أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ يَقُولُ اذْكُرْ كَذَا وَكَذَا مَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ إِنْ يَدْرِي كَمْ صَلَّى، فَإِذَا لَمْ يَدْرِ أَحَدُكُمْ كَمْ صَلَّى ثَلاَثًا أَوْ أَرْبَعًا فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهْوَ جَالِسٌ. هذا الحديث قد تقدم في باب فضل التأذين، ومرَّ الكلام على ما يتعلق بالأذان منه مستوفى غاية الاستيفاء. وقوله: إن يدري، بكسر الهمزة، وهي نافية. وقوله: فإذا لم يدر أحدكم كم صلى الخ، مساو للترجمة من غير مزيد، وظاهره أنه لا ينبي على اليقين؛ لأنه أعم من أن يكون داخل الصلاة أو خارجها، وهو معارض بحديث أبي سعيد عند مسلم، المار ذكره عند حديث ابن مسعود في الباب المذكور، فإنه صريح في الأمر بطرح الشك، والبناء على اليقين، فقيل: يجمع بينهما يحمل حديث أبي هريرة على من طرأ عليه الشك وقد فرغ قبل أن يسلم، فإنه لا يلتفت إلى ذلك الشك، ويسجد للسهو كمن طرأ عليه بعد أن سلم، فلو طرأ عليه قبل ذلك بني على اليقين. كما في حديث أبي سعيد. فقوله فيه: وهو جالس بقوله إذا شك لا بقوله سجد. وهذا أولى من قول من سلك طريق الترجيح فقال. حديث أبي سعيد اختلف في وصله وإرساله، بخلاف حديث أبي هريرة، وقد وافقه حديث ابن مسعود، فهو أرجح؛ لأن لمخالفه أن يقول: بل حديث أبي سعيد صححه مسلم، والذي وصله حافظ فزيادة مقبولة، وقد وافقه حديث أبي هريرة الآتي قريبًا، فيتعارض الترجيح. وقيل: يجمع بينهما يحمل حديث أبي هريرة على حكم ما يجبر به الساهي صلاته، وحديث أبي سعيد على ما يصنعه من الإتمام وعدمه. ولم يقع في هذه الرواية تعيين محل السجود، ولا في رواية الزهريّ التي في الباب الذي يليه، وقد روى الدارقطنيّ عن يحيى بن أبي كثير، بهذا الإسناد مرفوعًا "إذا سها أحدكم، فلم يدر أزاد أو نقص، فليسجد سجدتين وهو جالس، ثم يسلم" إسناده قوي. ولأبي داود عن ابن أخي الزهريّ

رجاله خمسة

عن عمه نحوه "وهو جالس قبل التسليم" وله عن ابن إسحاق قال: حدثني الزهريّ بإسناده، وقال فيه "فليسجد سجدتين قبل أن يسلم ثم يسلم" قال العَلائيَّ: هذه الزيادة في هذا الحديث بمجموع هذه الطرق لا تنزل عن درجة الحسن المحتج به. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ معاذ بن فَضَالة في التاسع عشر من الوضوء، ومرَّ هشام الدُّسْتوائي في السابع والثلاثين من الإيمان، ومرَّ يحيى بن أبي كثير في الثالث والخمسين من العلم، ومرَّ أبو سلمة في الرابع من بدء الوحي، وأبو هريرة في الثاني من الإيمان. ثم قال المصنف:

باب السهو في الفرض والتطوع

باب السهو في الفرض والتطوع قوله: بابٌ، أي: بالتنوين، أي: هل يفترق حكمه أو يتَّحد؟ وإلى الثاني ذهب الجمهور، وخالف في ذلك ابن سيرين وقتادة، ونُقل عن عطاء. ونظم بعض المالكية المسائل التي يختلف فيها سهو الفرض والنفل فقال: السهو في النفل كفرض ما عدا ... سرًا وجهرًا سورة نلتَ الهدى وعقْدُهُ ثالثة، وتركُهُ ... ركنًا، وطال هكذا عليكه فإن الثلاثة الأول يسجد لسهوها في الفرض بخلاف النفل، ومن عقد الركعة الثالثة في الصبح مثلًا، رجع بخلاف النفل، فإنه يتمادى، ويأتي برابعة، ومن نسي ركنًا من فرض وحصل الطول، يعيد، بخلاف النفل، فلا إعادة عليه. ثم قال: وسجد ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما، سجدتين بعد وتره، وتعلق هذا الأثر بالترجمة، من جهة ان ابن عباس كان يرى أن الوتر غير واجب، ويسجد مع ذلك فيه للسهو، ووصله ابن أبي شيبة، بإسناد صحيح، عن أبي العالية قال: رأيت ابن عباس يسجد بعد وتره سجدتين، وابن عباس مرَّ في الخامس من بدء الوحي. الحديث العاشر حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ يُصَلِّي جَاءَ الشَّيْطَانُ فَلَبَسَ عَلَيْهِ حَتَّى لاَ يَدْرِي كَمْ صَلَّى، فَإِذَا وَجَدَ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ. وجه مطابقة الحديث للترجمة من جهة قوله: وإذا صلى، أي: الصلاة الشرعية، وهو أعم من أن تكون فريضة أو نافلة. وقد اختلف في إطلاق الصلاة عليهما، هل هو من الاشتراك اللفظيّ أو المعنويّ؟ وإلى الثاني ذهب جمهور أهل الأصول، لجامع ما بينهما من الشروط التي لا تنفك. ومال الفخر الرازيّ إلى أنه من الاشتراك اللفظيّ، لما بينهما من التباين في بعض الشروط. ولكن طريقة الشافعي ومن تبعه في أعمال المشترك في معانيه عند التجرد، تقتضي دخول النافلة أيضًا في هذه العبارة، فإن قيل: إن قوله في الرواية التي قبل هذه "إذا نودي للصلاة" قرينة في أن المراد

رجاله خمسة

الفريضة، وكذا قوله "إذا ثَوَّب" أجيب بأن ذلك لا يمنع تناول النافلة. لأنّ الإتيان حينئذ بها مطلوب، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "بين كل أذانين صلاة". وهذا الحديث رواية من الذين قبله، فالكلام عليه كلام على هذا. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ عبد الله بن يوسف ومالك في الثاني من بدء الوحي، وابن شهاب في الثالث منه، وأبو سلمة في الرابع منه، وأبو هريرة في الثاني من الإيمان. ثم قال المصنف:

باب إذا كلم وهو يصلي فأشار بيده واستمع

باب إذا كلم وهو يصلي فأشار بيده واستمع قوله: إذا كُلّم، بضم الكاف في الصلاة، وقوله: واستمَعَ، أي: المصلي، لم تفسد صلاته. الحديث الحادي عشر حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو عَنْ بُكَيْرٍ عَنْ كُرَيْبٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَزْهَرَ رضي الله عنهم أَرْسَلُوهُ إِلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها فَقَالُوا: اقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلاَمَ مِنَّا جَمِيعًا وَسَلْهَا عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ صَلاَةِ الْعَصْرِ وَقُلْ لَهَا إِنَّا أُخْبِرْنَا أَنَّكِ تُصَلِّينَهُمَا وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَكُنْتُ أَضْرِبُ النَّاسَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْهُمَا. فَقَالَ كُرَيْبٌ فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها فَبَلَّغْتُهَا مَا أَرْسَلُونِي. فَقَالَتْ سَلْ أُمَّ سَلَمَةَ. فَخَرَجْتُ إِلَيْهِمْ فَأَخْبَرْتُهُمْ بِقَوْلِهَا فَرَدُّونِي إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ بِمِثْلِ مَا أَرْسَلُونِي بِهِ إِلَى عَائِشَةَ. فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رضي الله عنها: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَنْهَى عَنْهَا ثُمَّ رَأَيْتُهُ يُصَلِّيهِمَا حِينَ صَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيَّ وَعِنْدِي نِسْوَةٌ مِنْ بَنِي حَرَامٍ مِنَ الأَنْصَارِ فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ الْجَارِيَةَ فَقُلْتُ قُومِي بِجَنْبِهِ قُولِي لَهُ تَقُولُ لَكَ أُمُّ سَلَمَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ سَمِعْتُكَ تَنْهَى عَنْ هَاتَيْنِ وَأَرَاكَ تُصَلِّيهِمَا. فَإِنْ أَشَارَ بِيَدِهِ فَاسْتَأْخِرِي عَنْهُ. فَفَعَلَتِ الْجَارِيَةُ فَأَشَارَ بِيَدِهِ فَاسْتَأْخَرَتْ عَنْهُ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ يَا بِنْتَ أَبِي أُمَيَّةَ سَأَلْتِ عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ وَإِنَّهُ أَتَانِي نَاسٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ فَشَغَلُونِي عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ فَهُمَا هَاتَانِ. قوله: وقد بلغنا، فيه إشارة إلى أنهم لم يسمعوا ذلك منه -صلى الله عليه وسلم-، فأما ابن عباس فقد سمى الواسطة، وهو عمر، كما مرَّ في المواقيت في باب "الصلاة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس" من قوله: "شهد عندي رجال مرضيون وأرضاهم عندي عمر" الحديث، وأما المُسَوَّر وابن أزهر فلم أقف عنهما على تسمية الواسطة. وقوله، قبل ذلك: إنا أُخبرنا، بضم الهمزة، لم نقف على تسمية المخبر، وكأنه عبد الله بن الزبير، لما يأتي في الحج من روايته عن عائشة ما يشهد لذلك. وروى ابن أبي شَيْبة عن عبد الله بن الحارث قال: دخلت مع ابن عباس على معاوية، فأجلسه على السرير ثم قال: ما ركعتان تصليهما الناس بعد العصر؟ قال: ذلك ما يُعَنّي به الناسَ ابنُ

الزبير، فأرسل إلى ابن الزبير، فسأله، فقال: أخبرتني بذلك عائشة، فأرسل إلى عائشة، فقالت: أخبرتني بذلك أم سلمة، فأرسل إلى أم سلمة، فانطلقت مع الرسول فذكر القصة. والرسول هو كثير بن الصَّلْت، سمّاه الطَّحاويّ بإسناد صحيح إلى أبي سلمة، أن معاوية قالَ وهو على المنبر لكثير بن الصلت: اذهب إلى عائشة فاسألها، فقال أبو سلمة: فقمت معه، وقال ابن العباس لعبد الله بن الحارث: اذهب معه، فجئناها فسألناها، فذكره. وقوله: تصيلينهما، في رواية الكَشْميهنيّ: تُصلّيهما، بحذف النون، وهو جائز، وقوله: كنت أضرب الناس مع عمر عنها، أي لأجلها، وللكشميهني عنه، وكذا في قوله: نهى عنها، وكأنه ذكر الضمير على إرادة الفعل، وهذا موصول بالإسناد المذكور. وقد روى ابن أبي شيبة عن الزهريّ عن السائب بن يزيد قال: رأيت عمر يضرب المنكدِر على الصلاة بعد العصر. وقوله: قال كريب، هو موصول بالإسناد المذكور. وقوله: فقالت سل أم سلمة إلى آخره، وفي رواية للطحاوي فقالت عائشة: ليست عندي، ولكن حدثتني أم سلمة. وقوله: ثم رأيته يصليهما حين صلى العصر فدخل عليَّ، أي: فصلاهما حينئذ بعد الدخول. وفي رواية مسلم: ثم رأيته يصليهما أما حين صلاهما فإنه صلى العصر، ثم دخل عندي فصلاهما، وقوله: من بني حَرام، بفتح المهملتين، وقوله: فأرسلت إليه الجارية، قال في "الفتح": لم أقف على تسميتها، ويحتمل أن تكون بنتها زينب، لكن في رواية المصنف في المغازي: فأرسلتُ إليه الخادم، وقوله: فقال يا بنت أبي أمية، هو والد أم سلمة، واسمه حذيفة، وقيل سهيل بن المغيرة المخزومي. وقوله: عن الركعتين، أي اللتين صليتهما الآن، وقوله: أتاني ناسٌ من عبد القيس، زاد في المغازي "بالإسلام من قومهم فشغلوني" وللطحاويّ من وجه آخر: "قدم علي قلائصُ من الصدقة، فنسيتهما، ثم ذكرتهما، فكرهت أن أصليهما في المسجد والناس ينظرون، فصليتهما عندك". وله من وجه آخر "فجاءني مال فشغلني" وله من وجه آخر "قدم عليّ وفد من بني تميم" أو "جاءتني صدقة". وقوله: من بني تميم، وهمٌ، وإنما هم من عبد القيس، وكأنهم حضروا معهم بمال المصالحة من أهل البحرين، كما يأتي في الجزية عن عمرو بن عوف، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان صالح أهل البحرين، وأمّر عليهم العلاء بن الحضرمي، وأرسل أبا عبيدة، فأتاه بجزيتهم، ويؤيده أن في رواية عبد الله بن الحارث المتقدم ذكرها، أنه كان بعث ساعيًا، وكان قد أهمه شأن المهاجرين، وفيه؛ فقلت: ما هاتان الركعتان؟ فقال: شغلني أمر الساعي. وقوله: فهما هاتان، في رواية عُبَيد الله بن عبد الله بن عُتبة عن أم سلمة عند الطحاوي من الزيادة، فقلت: أُمِرْتَ بهما؟ فقال: لا، ولكن كنت أصليهما بعد الظهر، فشغلت عنهما، فصليتهما الآن. وله من وجه آخر عنها "لم أره صلاهما قبل ولا بعد" لكن هذا لا ينفي الوقوع، فقد ثبت في مسلم عن أبي سَلَمة أنه سأل عائشة عنهما فقالت: كان يصليهما قبل العصر، فشغل عنهما أو

رجاله أحد عشر

نسيهما، فصلاهما بعد العصر، ثم اثبتهما، وكان إذا صلى صلاة أثبتها، أي: دام عليها. وعن عُروة عنها "ما ترك ركعتين بعد العصر عندي قط" كما أخرجه البخاريّ مع أحاديث عديدة عنها في "باب ما يصلى بعد العصر من الفوائت" في آخر المواقيت، ومرَّ هناك الكلام مستوفى على ذلك. ومن ثم اختلَف نظر العلماء فقيل: تقضي الفوائت في أوقات الكراهية لهذا الحديث، وقيل: هو خاص بالنبي -صلى الله عليه وسلم-. وقيل: هو خاص بمن وقع له نظير ما وقع له، وقد تقدم البحث في هذا مبسوطًا في أواخر المواقيت في باب "الصلاة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس". وفي الحديث من الفوائد سوى ما مضى جواز استماع المصلي إلى كلام غيره، وفهمه له، ولا يقدح ذلك في صلاته. وأن الأدب في ذلك أن يقوم المتكلم إلى جنبه لا خلفه. ولا أمامه، لئلا يشوش عليه بأن لا تمكنه الإشارة إليه إلا بمشقة. وجواز الإشارة في الصلاة، ويأتي بعد هذا في باب مفرد. وفيه البحث عن علة الحكم وعن دليله، والترغيب في علو الإسناد، والفحص عن الجمع بين المتعارضين، وأن الصحابي إذا عمل بخلاف ما رواه لا يكون كافيًا في الحكم بنسخ مرويه، وأن الحكم إذا ثبت لا يزيله إلَّا شيء مقطوع به، وأن الأصل اتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- في أفعاله، وأن الجليل من الصحابة قد يخفى عليه ما اطلع عليه غيره، وأنه لا يُعْدَل إلى الفتوى بالرأي مع وجود النص. وان العالم لا نقص عليه إذا سئل عما لا يدري، فوكل الأمر إلى غيره. وفيه قبول إخبار الآحاد والاعتماد عليه في الأحكام، ولو كان شخصًا واحدًا، رجلًا أو امرأة، لاكتفاء أم سلمة بإخبار الجارية، وإقراره عليه الصلاة والسلام لذلك، وفيه دلالة على فطنة أم سلمة، وحسن تأنيها بملاطفة سؤالها، واهتمامها بأمر الدين، وأنها لم تباشر السؤال لحال النسوة اللاتي عندها، فيؤخذ منه إكرام الضيف، واحترامه. وفيه زيارة النساء المرأة، ولو كان زوجها عندها، والتنفل في البيت ولو كان فيه من ليس منهم، وكراهة القرب من المصلي لغير ضرورة، وترك تفويت طلب العلم، وإن طرأ ما يشغل عنه، وجواز الاستنابة في ذلك، وأن الوكيل لا يشترط أن يكون مثل موكله في الفضل، وتعليم الوكيل التصرف إذا كان ممن يجهل ذلك. وفيه الاستفهام بعد التحقق، لقوله: "وأراك تصليهما". والمبادرة إلى معرفة الحكم المشكل فرارًا من الوسوسة. وأن النسيان جائز على النبي -صلى الله عليه وسلم-، لأنّ فائدة استفسار أم سلمة عن ذلك تجويزها، إما النسيان، وإما النسخ وإما التخصيص به، فظهر وقوع الثالث. رجاله أحد عشر: قد مرّوا، إلا عبد الرحمن، مرَّ يحيى بن سليمان في الخامس والخمسين من العلم، وعبد الله بن وهب في الثالث عشر منه، وعمرو بن الحارث في السابع والستين من الوضوء، وبكير بن الأشَجّ في الخامس والسبعين منه، وكريب في الرابع منه، والمُسَوّر بن مَخْرَمة في الرابع والخمسين منه، وعمر في الأول من بدء الوحي، وعائشة في الثاني منه، وابن عباس في الخامس

لطائف إسناده

منه، وأم سلمة في السادس والخمسين من العلم، وفي الحديث: فأرسلتُ إليه الجارية، وهذه الجارية لم تُسَمَّ، وفي الحديث لفظ "أخبرنا" والمخبر قيل: إنه عبد الله بن الزبير، وقد مرَّ في الثامن والأربعين من العلم، وفيه لفظ "نسوة" ولم يُسَمَّيْن. الحادي عشر من السند عبد الرحمن بن أزْهَر، على وزن أفْعَل، بن عوف بن عبد الحارث بن زهرة الزُّهريّ، يكنى أبا جُبَير، بن أخي عبد الرحمن بن عوف، شهد حنينًا. وعند البخاريّ عن الزهريّ: كان عبد الرحمن بن أزهر يحدِّث كأن خالَد بن الوليد كان على الخيل يوم حُنين، فرأيت النبي -صلى الله عليه وسلم-، فسعيت بين يديه وأنا محتلم. قال ابن سعد: هو نحو عبد الله بن عباس في السن، ووقع عند ابن أبي حاتم "رأى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو غلام عام الفتح بمكة، يسأل عن منزل خالد بن الوليد، فأُتي بشاربٍ قد سكر، فأمرهم أن يضربوه". وقوله: بمكة، وهمٌ، الصواب بحُنين. له أربعة أحاديث: وفي السنن فَرْدُ حديث. روى عنه ابناه عبد الحميد وعبد الله، وأبو سلمة وغيرهم. عاش إلى فتنة ابن الزبير. وقد ابن منده: مات بالحرة. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإخبار بالأفراد والعنعنة والإِرسال والبلاغ والقول، وشيخ البخاريّ كوفيّ، وابن وهب وعمر مصريان، والبقية مدنيون، وفيه ستة من الصحابة: أربعة رجال وامرأتان، وشيخ البخاريّ من أفراده. أخرجه البخاريّ أيضًا في المغازي، ومسلم وأبو داود في الصلاة. ثم قال المصنف:

باب الإشارة في الصلاة

باب الإِشارة في الصلاة قال ابن رشيد: هذه الترجمة أعم من كونها مرتبة على استدعاء ذلك أو غير مرتبة، بخلاف الترجمة التي قبلها، فإن الإشارة فيها لزمت من الكلام واستماعه، فهي مرتبة. ثم قال: قاله كريب عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. وهذا التعليق هو الموصول في الحديث السابق، وقد ذكر فيه محل كريب وأم سلمة. الحديث الثاني عشر حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَلَغَهُ أَنَّ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ كَانَ بَيْنَهُمْ شَيْءٌ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُصْلِحُ بَيْنَهُمْ فِي أُنَاسٍ مَعَهُ، فَحُبِسَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَحَانَتِ الصَّلاَةُ فَجَاءَ بِلاَلٌ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه فَقَالَ يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَدْ حُبِسَ وَقَدْ حَانَتِ الصَّلاَةُ فَهَلْ لَكَ أَنْ تَؤُمَّ النَّاسَ؟ قَالَ: نَعَمْ إِنْ شِئْتَ. فَأَقَامَ بِلاَلٌ وَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه فَكَبَّرَ لِلنَّاسِ وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَمْشِي فِي الصُّفُوفِ حَتَّى قَامَ فِي الصَّفِّ، فَأَخَذَ النَّاسُ فِي التَّصْفِيقِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه لاَ يَلْتَفِتُ فِي صَلاَتِهِ، فَلَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ الْتَفَتَ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَشَارَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَأْمُرُهُ أَنْ يُصَلِّيَ، فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه يَدَيْهِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَرَجَعَ الْقَهْقَرَى وَرَاءَهُ حَتَّى قَامَ فِي الصَّفِّ، فَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَصَلَّى لِلنَّاسِ فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَا لَكُمْ حِينَ نَابَكُمْ شَيْءٌ فِي الصَّلاَةِ أَخَذْتُمْ فِي التَّصْفِيقِ، إِنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ، مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلاَتِهِ فَلْيَقُلْ سُبْحَانَ اللَّهِ. فَإِنَّهُ لاَ يَسْمَعُهُ أَحَدٌ حِينَ يَقُولُ سُبْحَانَ اللَّهِ إِلاَّ الْتَفَتَ، يَا أَبَا بَكْرٍ مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ لِلنَّاسِ حِينَ أَشَرْتُ إِلَيْكَ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه مَا كَانَ يَنْبَغِي لاِبْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. هذا الحديث قد مرَّ في باب "من دخل ليؤم الناس" من أبواب الإمامة، ومرَّ الكلام عليه هناك مستوفى، وشاهد الترجمة منه قوله فيه "فأخذ الناس في التصفيق" فإنه -صلى الله عليه وسلم-، وإن كان أنكر عليهم، لكنه لم يأمرهم بإعادة الصلاة. وحركة اليد بالتصفيق كحركتها بالإشارة، وأخذه من جهة الالتفات

رجاله أربعة

والإِصغاء إلى كلام الغير؛ لأنه في معنى الإِشارة. وأما قوله: يا أبا بكر، ما منعك أن تصلي بالناس حين أشرت إليك؟ فليس بمطابق للترجمة، لأنّ إشارته عليه الصلاة والسلام صدرت منه قبل أن يحرم في الصلاة. ويحتمل أن يكون فهم من قوله: "قام في الصف" الدخول في الصلاة، لعدوله عليه الصلاة والسلام عن الكلام، الذي هو أدل من الإِشارة، ولما يُفْهمه السياق من طول مقامه في الصف، قبل أن تقع الإِشارة المذكورة، ولأنه دخل بنية الائتمام بأبي بكر، ولأن السنة الدخول مع الإِمام على أي حالة وجده، لقوله عليه الصلاة والسلام: "فما أدركتم فصلوا". رجاله أربعة: وفيه ذكر أبي بكر وبلال، وقد مرَّ الجميع، مرَّ قتيبة في الحادي والعشرين من الإيمان، ومرَّ يعقوب بن عبد الرحمن القاريّ في الثامن والثلاثين من الجمعة، ومرَّ أبو حازم وسهل بن سعد في الثامن والمئة من الوضوء ومرَّ أبو بكر بعد الحادي والسبعين منه، ومرَّ بلال في التاسع والثلاثين من العلم. الحديث الثالث عشر حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الثَّوْرِيُّ عَنْ هِشَامٍ عَنْ فَاطِمَةَ عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها وَهِيَ تُصَلِّى قَائِمَةً وَالنَّاسُ قِيَامٌ فَقُلْتُ مَا شَأْنُ النَّاسِ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا إِلَى السَّمَاءِ. فَقُلْتُ آيَةٌ؟. فَقَالَتْ بِرَأْسِهَا (أَيْ نَعَمْ). هذا الحديث أورده هنا مختصرًا، ومرَّ الكلام عليه مستوفى في باب "من أجاب الفُتيا بإشارة الرأس واليد" من كتاب العلم، وشاهد الترجمة فيه قولها فيه "فأشارت برأسها". رجاله ستة: قد مرّوا، مرَّ محل يحيى بن سليمان وابن وهب في الذي قبله بحديث، ومرَّ الثَّوريّ في السابع والعشرين من الإيمان، ومرَّ هشام في الثاني من بدء الوحي، ومرت فاطمة بنت المنذر وأسماء في الثامن والعشرين من العلم، وقد مضى هذا الحديث في محل أسماء هذا، وتكلم عليه هناك. الحديث الرابع عشر حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهَا قَالَتْ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي بَيْتِهِ وَهُوَ شَاكٍ جَالِسًا، وَصَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قِيَامًا فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنِ اجْلِسُوا فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا رَكَعَ

رجاله خمسة

فَارْكَعُوا وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا. وهذا الحديث قد مرَّ في باب "إنما جعل الإِمام ليؤتم به" من أبواب الإمامة، ومرَّ الكلام عليه هناك، وشاهد الترجمة منه قوله فيه "فأشار إليهم أن اجلسوا"، وفيه رد على من منع الإشارة بالسلام، وجواز مطلق الإشارة، لأنه لا فرق بين أن يشير آمرًا بالجلوس، أو يشير مخبرًا برد السلام. وقد مرَّ الحكم فيه مستوفى في باب "لا يرد السلام في الصلاة". رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ إسماعيل بن أبي أويس في الخامس عشر من الإيمان، ومرت الأربعة الباقية بهذا النسق في الثاني من بدء الوحي.

خاتمة

خاتمة اشتملت أبواب السهو من الأحاديث المرفوعة على تسعة عشر حديثًا، منها اثنان معلقان، بمقتضى حديث كريب عن أم سلمة وابن عباس وعبد الرحمن بن أزهر والمسور بن مخرمة أربعة أحاديث، لقولهم فيه، سوى أم سلمة: بلغنا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عنها، وجميعها مكررة فيه وفيما مضى سواه، إلا أنه تكرر منه في المواقيت طرف مختصر عن أم سلمة، وسوى حديث أبي هريرة "فليسجد سجدتين وهو جالس"، وافقه مسلم على تخريجها جميعها، وفيه من الآثار عن الصحابة ستة آثار، منها أثر عروة الموصول في آخر الباب، ومنها أثر عمر في ضربه على الصلاة بعد العصر، والله الهادي إلى الصواب، ومنه المبدء وإليه المئاب. ثم قال المصنف.

كتاب الجنائز

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الجنائز كذا للأصيلي وأبي الوقت، والبسملة من الأصل، ولكريمة "باب في الجنائز" وكذا لأبي ذر، لكن بحذف باب، كذا قال في "الفتح"، وفي القسطلانيّ ولأبي الوقت والأصيليَّ: كتاب الجنائز، بسم الله الرحمن الرحيم، باب ما جاء في الجنائز، ولابن عساكر: بسم الله الرحمن الرحيم، كتاب الجنائز. والجنائز، بفتح الجيم لا غير، جمع جَنازة بالفتح والكسر لغتان، قال ابن قتيبة وجماعة: الكسر أفصح، وقيل: بالكسر للنعش، وبالفتح للميت، وقالوا: لا يقال نعش إلا إذا كان عليه الميت، واشتقاقها من جَنَزَ إذا ستر، ومضارعه يَجنِز، بكسر النون. قيل: أورد المصنف كتاب الجنائز بين الصلاة والزكاة؛ لأن الذي يفعل بالميت من غسل وتكفين وغير ذلك أهمه الصلاة عليه، لما فيها من فائدة الدعاء بالنجاة من العذاب، ولاسيما عذاب القبر الذي يدفن فيه. وبعبارة للإنسان حالتان: حالة الحياة، وحالة الممات، ويتعلق بكل منهما أحكام العبادات وأحكام المعاملات، فمن العبادات الصلاة المتعلقة بالأحياء، ولما فرغ من بيان ذلك شرع في بيان الصلاة المتعلقة بالموتى. وقوله: ومن كان آخر كلامه لا إله إلَّا الله، هذا من الترجمة، وفي غالب النسخ "باب من كان آخر كلامه لا إله إلَّا الله" أي عند خروجه من الدنيا، قيل: أشار بهذا إلى ما رواه أبو داود والحاكم عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "من كان آخر كلامه لا إله إلَّا الله دخل الجنة". قال ابن المنير حذف المصنف جواب مَن مِن الترجمة، مراعاة لتأويل وهب بن منبه، فأبقاه إما ليوافقه أو ليبقى الخبر على ظاهره. وقد روى ابن أبي حاتم في ترجمة أبي زرعة أنه لما احتضر، أرادوا تلقينه فتذاكروا حديث معاذ، فحدثهم به أبو زرعة بإسناده، وخرجت روحه في آخر قول لا إله إلَّا الله. وكان المصنف لم يثبت عنده في التلقين شيء على شرطه، فاكتفى بما دل عليه، وقد أخرجه مسلم عن أبي هريرة من وجه آخر بلفظ "لقنوا موتاكم لا إله إلَّا الله" وعن أبي سعيد كذلك. قال الزين بن المنير: هذا الخبر يتناول بلفظه من قالها، فبغته الموت، أو طالت حياته، لكن لم يتكلم بشيء غيرها، ويخرج بمفهومه من تكلم، لكن استصحب حكمها من غير تجديد نطق بها، فإن عمل أعمالًا سيئة كان في

المشيئة، وإن عمل أعمالًا صالحة، فقضية سعة رحمة الله تعالى أن لا فرق بين الإِسلام النطقي، والحكمي، المستصحب. وحكى الترمذي عن عبد الله بن المبارك أنه لقن عند الموت فأكثر عليه فقال: "إذا قلت مرة فأنا على ذلك ما لَمْ أتكلم بكلام" وهذا يدل على أنه كان يرى التفرقة في هذا المقام. ثم قال: وقيل لوهب بن منبه أليس مفتاح الجنة لا إله إلّا الله؟ قال: بلى. ولكن ليس مفتاح إلا له أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلا لم يفتح لك. يجوز نصب مفتاح على أنه خبر مقدم، ورفعه على أنه اسم ليس، والأولى رواية أبي ذرٍ والثانية لغيره، وكان القائل لوهب أشار إلى ما ذكر ابن إسحاق في السيرة، أن النبي -صلى الله عليه وسلم-، لما أرسل العلاء بن الحضرميّ قال له: "إذا سئلت عن مفتاح الجنة، فقل: مفتاحها لا إله إلَّا الله"، وأثَرُ وَهْبٍ وَصَلَه المصنف في التاريخ، وأبو نعيم في الحلية عن محمد بن سعيد بن رُمّانة، قال: أخبرني أبي قال: قيل لوهب بن منبه فذكره. وروى عن معاذ بن جبل نحوه مرفوعًا، أخرجه البيهقيّ في "الشعب" بلفظ العلاء بن الحضرميّ وزاد "ولكن مفتاح بلا أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلا لم يفتح لك" ولعل هذه الزيادة مدرجة في حديث معاذ، والمراد بقوله: "لا إله إلَّا الله" في هذا الحديث وغيره كلمتا الشهادة، فلا يرد إشكال ترك ذكر الرسالة. قال الزين بن المنير: قول لا إله الله لقب جرى على النطق بالشهادتين شرعًا. ومعنى قوله ابن منبه: إن جئت بمفتاح له أسنان، أي جياد، من باب حذف النعت إذا دل عليه السياق؛ لأنّ مسمى المفتاح لا يعقل إلا بالأسنان، وإلا فهو عود أو حديدة، والمراد بالأسنان عنده التزام الطاعة. وقوله: "لم يفتح له" مراده لم يفتح له فتحًا تامًا، أو لم يفتح له في أول الأمر، فلا يُرُدّ إشكال موافقة الخوارج وغيرهم أن أهل الكبائر لا يدخلون الجنة، وهذا بالنسبة إلى الغالب، وإلا فالحق أنهم في مشيئة الله تعالى. وأخرج سعيد بن منصور عن وهب بن منبه، بسند حسن قريبًا من هذا، ولفظه "مثَلَ الداعي بلا عمل، مَثل الرامي بلا وتر" قال الداودي: قول وهب محمول على التشديد، ولعله لم يبلغه حديث أبي ذر الآتي في الباب، والحق أن من قال "لا إله إلَّا الله" مخلصًا، أتى بمفتاح وله أسنان، لكن من خلط ذلك بالكبائر حتى مات، مصرًا عليها، لم تكن أسنانه قوية، فربما طال علاجه. وقال ابن رشيد يحتمل أن يكون مراد البخاريّ الإشارةَ إلى أن من قال "لا إله إلَّا الله" مخلصًا عند الموت، كان ذلك مُسقطًا لما تقدم له، والإِخلاص يستلزم التوبة والندم، ويكون النطق عَلَمًا على ذلك، وأُدخل حديث أبي ذر في الباب، ليبين أنه لابد من الاعتقاد، ولهذا قال عقب حديث أبي ذر في كتاب اللباس، قال أبو عبد الله: هذا عند الموت أو قبله إذا أناب وندم. وقد مرّ وهب بن

الحديث الأول

منبه في الرابع والخمسين من العلم. الحديث الأول حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ حَدَّثَنَا وَاصِلٌ الأَحْدَبُ عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: أَتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي فَأَخْبَرَنِي أَوْ قَالَ بَشَّرَنِي أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ. قُلْتُ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ قَالَ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ. قوله: أتاني آتٍ، سماه في التوحيد جبريل، وجزم بقوله "فبشرني" وزاد الإسماعيلي في أوله قصة، قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مسيرٍ له، فلما كان في بعض الليل تنحى، فلبث طويلًا ثم أتانا، فقال: فذكر الحديث، وأورده المصنف في اللباس عن أبي ذر قال: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وعليه ثوب أبيض، وهو نائم، ثم أتيته وقد استيقظ، فدل على أنها رؤيا منام. وقوله: من أمتي، أي: أمة الإجابة، ويحتمل أن يكون أعم من ذلك، أي: أمة الدعوة، وهو متجه. قال في "الفتح" قلت: كيف يصح فضلًا عن أن يكون متجهًا؟ فإن أمة الإجابة لا يفيدها التوحيد بدون التصديق بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، ومن صدَّق صار من أمة الإجابة، فتأمله. وقد تبعه في العينى، والقسطلانيّ. وقوله: لا يشرك بالله شيئًا، أورده المصنف في اللباس بلفظ "ما من عبد قال لا إله إلَّا الله ثم مات على ذلك ... " الحديث، وإنما لم يورده المصنف هنا جريًا على عادته في إيثار الخفيّ على الجليّ، وذلك أن نفي الشرك يستلزم إثبات التوحيد، ويشهد له استنباط عبد الله بن مسعود في ثاني حديثي الباب من مفهوم قوله: "من مات يشرك بالله دخل النار". وقال القرطبيّ: معنى ففي الشرك أن لا يتخذ مع الله شريكًا في الإلهية، لكن هذا القولَ صار بحكم العرفِ عبارةً عن الإيمان الشرعي. وقوله: فقلت وإن زنى وإن سرق؟ قد يتبادر إلى الذهن أن القائل لذلك هو النبي -صلى الله عليه وسلم-، والمقول له الملك الذي بشره به، وليس كذلك، بل القائل هو أبو ذَرٍّ، والمقول له هو النبي -صلى الله عليه وسلم-. لأنه في رواية اللباس. قال أبو ذر: يا رسول الله، وإن زنى وإن سرق، ثلاث مرات، وفي الرابعة قال: على رَغْم أنف أبي ذر" أي: بفتح الراء وسكون المعجمة، ويقال بضمها وكسرها، وهو مصدر رَغَم بفتح الغين، وكسرها مأخوذ من الرِّغم وهو التراب، وكأنه دعا عليه بأن يلصق أنفه بالتراب. وللترمذيّ قال أبو ذر: يا رسول الله، ويمكن أن يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- قاله مستوضحًا، وأبو ذر قاله مستبعدًا، وقد جمع بينهما في الرِّقال عن زيد بن وهب عن أبي ذَرٍّ، قال الزين بن المنير: حديث أبي ذر من أحاديث الرجاء التي أفضى الإِتكال عليها ببعض الجهلة إلى الإقدام على الموبقات، وليس هو على ظاهره، فإن القواعد استقرت على أن حقوق الآدميين لا تسقط بمجرد الموت على الإيمان، ولكن لا يلزم من عدم سقوطها أن لا يتكفل الله بها عمن يريد إدخاله الجنة، ومن ثم رد

رجاله خمسة

-صلى الله عليه وسلم- على أبي ذَرٍّ استبعاده. ويحتمل أن يكون المراد بقوله: "دخل الجنة" أي صار إليها، إما ابتداء من أول الحال، وإما بعد أن يقع ما يقع من العذاب، نسأل الله تعالى العفو والعافية. قال الطيبيّ: قال بعضُ المحققين: قد يَتَّخِذُ من أمثال هذه الأحاديثِ المبطلةُ ذريعةً إلى طرح التكاليف وإبطال العمل، ظنًا أن ترك الشرك كافٍ، وهذا يستلزم طيَّ بساط الشريعة، وإبطال الحدود، وأن الترغيب في الطاعة والتحذير عن المعصية لا تأثير له، بل يقتضي الانخلاع عن الدين، والانحلال عن قيد الشريعة، والخروج عن الضبط، والولوج في الخبط، وترك الناس سدى مهملين، وذلك يفضي إلى خراب الدنيا بعد أن يفضي إلى خراب الأخرى. مع أن قوله في بعض طرق الحديث "أن يعبدوه" يتضمن جميع أنواع التكاليف الشرعية. وقوله: ولا يشركوا به شيئًا، يشمل مسمى الشرك والخفي، فلا راحة للتمسك به في ترك العمل، لأن الأحاديث إذا ثبتت وجب ضم بعضها إلى بعض، فإنها في حكم الحديث الواحد، فيحمل مطلقها على مقيدها ليحصل العمل بجميع ما في مضمونها. وفي الحديث أن أصحاب الكبائر لا يخلدون في النار، وأن الكبائر لا تسلب اسم الإيمان، وأن غير الموحدين لا يدخلون الجنة، والحكمة في الاقتصار على الزنا والسرقة الإِشارة إلى جنس حق الله تعالى وحق العباد، وكان أبا ذر استحضر قوله عليه الصلاة والسلام "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن". لأنّ ظاهره معارض لظاهر هذا الخبر، لكن الجمع بينهما على قواعد أهل السنة يحمل هذا على الإِيمان الكامل، وبحمل حديث الباب على عدم التخليد في النار. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ موسى بن إسماعيل في الخامس من بدء الوحي، ومرَّ مهدي بن ميمون في الحادي والأربعين من كتاب الصلاة، ومرَّ واصل الأحدب والمعرور وأبو ذر بهذا النسق في الثالث والعشرين من الإيمان. أخرجه أيضًا في التوحيد، ومسلم في الإيمان، والنَّسائي في اليوم والليلة، والترمذيّ، وقال: (صحيح حسن). الحديث الثاني حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا شَقِيقٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ. وَقُلْتُ: (إن مَنْ مَاتَ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ). قوله: من مات يشرك بالله، في تفسير البقرة من رواية الأعمش "من مات وهو يدعو من دون الله

رجاله خمسة

ندًا"، وفي أوله "قال النبي -صلى الله عليه وسلم- كلمة، وقلت أنا أخرى". ولم تختلف الروايات في الصحيحين في أن المرفوع الوعيد، والموقوف الوعد. وزعم الحميديّ في الجمع، وتبعه مغلطاي في شرحه أن في رواية مسلم عن وكيع وابن نمير بالعكس، بلفظ "من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، وقلت إن من مات يشرك بالله شيئًا دخل النار" والصواب رواية الجماعة كما بينه الإسماعيلي، وأخرجه أحمد وابن خزيمة، وهو الذي يقتضيه النظر؛ لأنّ جانب الوعيد ثابت بالقرآن، وقد جاءت السنة على وقفه، فلا يحتاج إلى استنباط، بخلاف جانب الوعد، فإنه في محل البحث، إذ لا يصح حمله على ظاهره كما مرَّ. وكأن ابن مسعود لم يبلغه حديث جابر الذي أخرجه مسلم بلفظ "قيل يا رسول الله ما الموجبان؟ قال: "من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئًا دخل النار". وقال النووي: الجيد أن يقال سمع ابن مسعود اللفظين من النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولكنه في وقتٍ حفظ أحداهما وتيقنها، ولم يحفظ الأخرى، فرفع المحفوظة، وضم الأخرى إليها، وفي وقت بالعكس. قال: فهذا جمع بين روايتي ابن مسعود، وموافقته لرواية غيره في رفع اللفظين. وهذا الذي قال محتمل بلا شك، لكن فيه بُعْدٌ مع اتحاد مخرج الحديث، فلو تعدد مخرجه إلى ابن مسعود، لكان احتمالًا قريبًا، مع أنه يستغرب من انفراد راو من الرواة بذلك دون رفقته، وشيخهم ومن فوقه. فنسبة السهو إلى شخص ليس بمعصوم أولى من التعسف. وحكى الخطيب في المدرج أن أحمد بن عبد الجبار رواه عن أبي بكر بن عياش عن عاصم كله مرفوعًا، وأنه وهم في ذلك. وفي حديث ابن مسعود دلالة على أنه كان يقول بدليل الخطاب، ويحتمل أن يكون أثر ابن مسعود أخذه من ضرورة انحصار الجزاء في الجنة والنار، وفيه إطلاق الكلمة على الكلام الكثير. رجاله خمسة: قد مرّوا؛ مرَّ عمر بن حفص وأبوه حفص بن غياث في الثاني عشر من الغسل، ومرَّ الأعمش في الخامس والعشرين من الإيمان، ومرَّ أبو وائل شقيق في الحادي والأربعين منه، وابن مسعود في أول أثر منه. فيه التحديث والعنعنة والقول، ورواته كلهم كوفيون وفيه رواية التابعيّ عن التابعيّ، أخرجه البخاريّ أيضًا في التفسير والإيمان والنذور، ومسلم في الإيمان، والنَّسائي في التفسير. ثم قال المصنف:

باب الأمر باتباع الجنائز

باب الأمر باتباع الجنائز قال الزين بن المنير. لم يفصح بحكمه؛ لأنّ قوله: "أمرنا" أعم من أن يكون للوجوب أو للندب. وقد استوفينا الكلام فيه بما لا مزيد عليه، في باب "اتباع الجنائز من الإيمان،، من كتاب الإيمان. الحديث الثالث حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قال: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ الأَشْعَثِ سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ عَنِ الْبَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ: أَمَرَنَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِسَبْعٍ، وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ. أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَإِجَابَةِ الدَّاعِي، وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ، وَإِبْرَارِ الْقَسَمِ، وَرَدِّ السَّلاَمِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ. وَنَهَانَا عَنْ آنِيَةِ الْفِضَّةِ، وَخَاتَمِ الذَّهَبِ، وَالْحَرِيرِ، وَالدِّيبَاجِ، وَالْقَسِّيِّ، وَالإِسْتَبْرَقِ. قوله: عن البراء بن عازب، أورده في المظالم عن الأشعث، فقال فيه: سمعت البراء بن عازب. ولمسلم في معاوية بن سويد قال: دخلت على البراء بن عازب، فسمعته يقول: فذكر الحديث. قوله: أَمرَنا باتباع الجنائز، قد مرَّ الآن محل الكلام عليها باستيفاء. وقوله: وعيادة المريض، قد جزم البخاريّ في كتاب المرضى بوجوبها على ظاهر الأمر بالعيادة، فقال: باب وجوب عيادة المريض. وفي حديث أبي هريرة بعد هذا "حق المسلم على المسلم خمس"، فذكر منها عيادة المريض. وفي رواية مسلم: خمس تجب للمسلم على المسلم. قال ابن بطّال: يحتمل أن يكون الأمر على الوجوب بمعنى الكفاية، كإطعام الجائع، وفك الأسير. ويحتمل أن يكون للندب، للحث على التواصل والألفة. وجزم الداوديّ بالأول، فقال: هي فرض يحمله بعض الناس عن بعض. وقال الجمهور: في الأصل ندب، وقد تصل إلى الوجوب في حق بعضٍ دون بعض، وعن الطبريّ تتأكد في حق من ترجى بركته، وتسن فيمن يرى حاله، وتباح فيما عدا ذلك. وفي الكافر خلاف، قال ابن بطال: إنما تشرع عيادته إذا رجي أن يجيب إلى الدخول في

الإِسلام، وأما إذا لم يطمع في ذلك فلا، والذي يظهر أن ذلك يختلف باختلاف المقاصد فقد يقع بعيادته مصلحة أخرى. قال: الماورديّ. عيادة الذميّ جائزة، والقُربة موقوفة على نوع حُرْمة تقترن بها من جوارٍ أو قرابة. قلت: الذمي، اليوم معدوم لا يوجد على وجه الأرض. فما من كافر إلَّا وهو محارب لا غير. ونقل النوويّ الإجماع على عدم وجوب العيادة على الأعيان، واستدل بعموم قوله في حديث أبي موسى في اللباس "عودوا المريض" على مشروعية العيادة في كل مريض، لكن استثنى بعضهم الأرمد، لكون عائده قد يرى ما لا يراه هو. وهذا الأمر خارجى قد يأتي مثله في بقية الأمراض، كالمغمي عليه. وقد عقب المصنف هذا الحديث في كتاب اللباس بحديث المغمي عليه. وقد جاء في عيادة الأرمد بخصوصها حديث زيد بن أرقم قال: عادني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من وجع كان بعيني. أخرجه أبو داود، وصححه الحاكم، وهو عند البخاريّ في الأدب المفرد، وسياقه أتم، وأما ما أخرجه البيهقيّ والطبرانيّ مرفوعًا "ثلاثة ليس لهم عيادة، العين، والدُّمَّل، والضرس"، فصحح البيهقيّ أنه موقوف على يحيى بن أبي كثير. ويؤخذ من إطلاقه أيضًا عدم التقييد بزمان يمضي من ابتداء مرضه، وهو قول الجمهور. وجزم الغزاليّ في "الإِحياء" بأنه لا يعاد إلا بعد ثلاث. واستند إلى حديثٍ أخرجه ابن ماجه عن أنس: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يعود مريضًا إلا بعد ثلاث". وهذا حديث ضعيف جدًا، تفرد به مَسْلَمَة بن عليّ، وهو متروك، وقد سئل عنه أبو حاتم فقال: حديثٌ باطل، وله شاهد عن أبي هريرة في الأوسط للطبرانيّ، وفيه راوٍ متروك أيضًا. ويلتحق بعيادة المريض تعهده، وتفقد أحواله، والتلطف به، وربما كان ذلك في العادة سببًا لوجود نشاطه وانتعاش قوّته. وفي إطلاق الحديث أن العيادة لا تتقيد بوقت دون وقت، لكن جرت العادة بها في طرفي النهار. وترجمة البخاريّ في "الأدب المفرد" العيادة في الليل. وساق عن خالد بن الربيع قال: لما ثقل حُذيفة أَتَوْه في جوف الليل أو عند الصبح، فقال: أي ساعة هذه؟ فأخبروه، فقال: أعوذ بالله من صباح إلى النار، الحديث. ونقل الأثرم عن أحمد أنه قيل له، بعد ارتفاع النهار في الصيف: تعود فلانًا؟ قال: ليس هذا وقت عيادة. ونقل ابن الصلاح عن الغراوي، أن العيادة تستحب في الشتاء ليلًا وفي الصيف نهارًا وهو غريب. ومن آدابها أن لا يطيل الجلوس حتى يضجر المريض، أو يشق على أهله، فإن اقتضت ذلك ضرورة، كما جاء في حديث جابر حين كان مُغْمىً عليه، فلا بأس. وقد نظم شيخنا عبد الله أداب العيادة فقال: يكمُلُ أجرُ عائدٍ إن أبدى ... شفقة، وللدعاء أسدى

وقلةُ الجلوسِ والسؤالِ ... وعدمُ التقنيطِ في المقالِ وعدمُ النظر في المسكن مع ... وضع يدٍ على جبينِ ذي الوجعْ أو يده، أفاد ذا أبو الحسن ... على الرسالة جزاهُ ذو المِنن وقد ورد في فضل العيادة أحاديث كثيرة جياد. منها عند مسلم والترمذيّ حديث ثويان "أن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خُرفة الجنة. والخُرفة بضم الخاء المعجمة وسكون الراء بعدها فاء ثم هاء، هي الثمرة إذا نضجت، شبه ما يحوزه عائد المريض من الثواب بما يحوز، الذي يجتني الثمر. وقيل: المراد بهاهنا الطريق، والمعنى أن العائد يمشي في طريق تؤديه إلى الجنة. والتفسير الأول أولى، فقد أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" من هذا الوجه، وفيه: قلت لأبي قُلابة: ما خرفة الجنة؟ قال: جناها. وهو عند مسلم من جملة المرفوع. وأخرج البخاري أيضًا عن عمر بن الحكم عن جابر رفعه "من عاد مريضًا خاض في الرحمة حتى إذا قعد استقر فيها" وأخرجه أحمد والبزار وصححه ابن حبّان والحاكم، وألفاظهم فيه مختلفة. ولأحمد نحوه عن كعب بن مالك بسند حسن. وقوله: "وأجابة الداعي" الإِجابة مصدر أجاب إجابة وأصلها إجوابًا، حذفت الواو وعوض عنها التاء، والاجابة والاستجابة بمعنى، والداعي من دعا يدعو دعوة، والدعوة بالفتح إلى الطعام، وبالكسر في النسب، وبالضم في الحرب. قال النوويّ: وعَكَسَ بنو تَيْم الرباب ففتحوا دال دَعوة النسب، وكسروا دال دعوة الطعام، وما نسبه لبني تيم الرباب نسبه صاحبا الصحاح والمحكم لبني عدي الرباب، والولائم ثمانية يأتي تحريرها إن شاء الله تعالى قريبًا. وقد نقل ابن عبد البر ثُمّ عِياضٌ ثم النووي، الاتفاقَ على وجوب الإجابة لوليمة العرس، وفيه نظر، نعم، المشهور من أقوال العلماء الوجوب، وصرح جمهور الشافعية والحنابلة بأنها فرض عين. ونص عليه مالك. قلت: وهو المعتمد في مذهبه، وعن بعض الشافعية والحنابلة أنها مستحبة، وذكر اللخميّ من المالكية أنه المذهب. قلت: هذا غير صحيح، بل المذهب الوجوب كما مرَّ، وكلام صاحب الهداية يقتضي الوجوب مع تصريحه بأنها سنة، فكأنه أراد أنها وجبت بالسنة، وليست فرضًا كما عرف من قاعدتهم. وعن بعض الشافعية والحنابلة هي فرض كفاية، وحكى ابن دقيق العيد أن محل ذلك إذا عمت الدعوة، أما لو خص كل واحد بالدعوة فإن الإجابة تتعين، وشرط وجوبها أن يكون الداعي مكلفًا حرًا رشيدًا، وأن لا يظهر قصد التودد لشخصٍ بعينه لرغبة فيه أو رهبة منه، وأن يكون الداعي مسلمًا على الأصح، وأن يختص باليوم الأول على المشهور، وأن لا يسبق، فمن سبق تعينت إجابته دون الثاني، وإن جاءا معًا قدم الأقرب رحمًا على الأقرب جوارًا على الأصح، فإن استويا أقرع، وأن لا يكون هناك من يتأذى به من منكر وغيره، وأن لا يكون له عذر.

وضبطه الماورديّ بما يرخص به في ترك الجماعة، وأن لا يخص الأغنياء دون الفقراء، ففي البخاريّ عن أبي هريرة "شر الطعام طعام الوليمة، يدعى لها الأغنياء، ويترك الفقراء، ومن ترك الدعوة فقد عصى الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-" وقوله: يدعى لها الأغنياء أي: أنها تكون شرّ الطعام إذا كانت بهذه الصفة، ولهذا قال ابن مسعود: إذا خص الغني وترك الفقير أمرنا أن لا نجيب. قال ابن بطال: وإذا مَيَّز الداعي بين الأغنياء والفقراء فأطعم كلًا على حدة، لم يكن به بأس، وقد فعله ابن عمر، وقال البيضاوي "من" في قوله: "شر الطعام .. " مقدرة كما يقال شر الناس من أكل وحده، أي: من شرهم، وإنما سماه شرًا لما ذكر عقبه، فكأنه قال: شر الطعام الذي شأنه كذا. وقال الطَّيِّب: اللام في الوليمة للعهد الخارجي، إذ كان من عادة الجاهلية أن يدعوا الأغنياء ويتركوا الفقراء. وقوله: ومن ترك الخ، حال، والعامل يدعى، أن يدعي الأغنياء، والحال أن الإِجابة واجبة، فيكون دعاؤه سببًا لأكل المدعو شر الطعام، ويشهد له ما رواه ابن بطال أن ابن حبيب روى عن أبي هريرة أنه كان يقول: أنتم العاصون في الدعوة تدعون من لا يأتي، ولا تدعون من يأتي. يعني بالأول الأغنياء وبالثاني الفقراء. وهذا كله في وليمة العرس. وأما الدعوة في غير العرس، فقد أخرج مسلم وأبو داود عن نافع "إذا دعا أحدكم أخاه فليجبْ، عرسًا أو نحوه" ولمسلم عن نافع "من دُعي إلى عرس ونحوه فليجب" وهذا يؤيد ما رواه البخاريّ عن ابن عمر أنه كان يأتي الدعوة في العرس وغير العرس وهو صائم، فإنه فهم أن الأمر بالإِجابة لا يختص بطعام العرس، وقد أخذ بظاهر الحديث بعض الشافعية، فقال بوجوب الإجابة إلى الدعوة مطلقًا عرسًا كان أو غيره، بشرطه المتقدم، ونقله ابن عبد البر عن عبيد الله بن الحسن العنبريّ قاضي البصرة. وزعم ابن حزم أنه قول جمهور الصحابة والتابعين، ويعكر عليه ما في مسند أحمد عن عثمان بن أبي العاص، وهو من مشاهير الصحابة في وليمة الختان، لم يكن يدعى لها، لكن يمكن الانفصال عنه، بأن ذلك لا يمنع القول بالوجوب لو دعوا. وعند عبد الرزاق بإسناد صحيح عن ابن عمر أنه دعا لطعام، فقال رجل من القوم: اعفني. فقال ابن عمر: إنه لا عافية لك من هذا فقم. وأخرج الشافعي وعبد الرزاق بسندٍ صحيح عن ابن عباس أن ابن صفوان دعاه، فقال: إني مشغول، وإن لم تعفني جئت. وجزم بعدم الوجوب في غير وليمة النكاح المالكيةُ والحنابلة وجمهور الشافعية، وبالغ السرخسيّ منهم، فنقل فيه الإِجماع، ولفظ الشافعيّ: إتيان دعوة الوليمة حق، والوليمة التي تعرف وليمة العرس، وكل دعوة دعي إليها الرجل وليمة، فلا أرخص لأحد في تركها، ولو تركها لم يتبين لي أنه عاصٍ في تركها كما مرَّ. تبين لي في وليمة العرس وما مرَّ عن المالكية هو المشهور، ونقل عَلِيّ الأجهوريّ تفصيلًا، فقال: إن الإتيان لجميع الولائم مكروه إلا لوليمة العرس فيجب، وطعام المولود فيندب. وقال ابن رشيد: يباح الإِتيان لكلها إلا لعرس فواجب، أو دعوة المأدبة فمندوب إذا فعلت لقصد المودة لا للفخر، وإن فعلت له كره إتيانها. ونظم هذا على الأجهوريّ فقال:

ويكره إتيانٌ لكل سوى التي ... لعرسٍ، ومولودٍ بُعيد نفاس فَيُنْدَبُ في الثاني الحضور وفي ... الوليمة أوجب لا تكون بناس وقال ابن رشيدٍ بل يُباح لكلها ... سوى عرسٍ أو مأدبات أناس إذا فُعلت لا للفخار وإن له ... فيكره، فأتِ فاجْنِ طيب غراس ومأدبةٌ للجارِ قصدُ مودةٍ ... ففيها أتى ندبًا حضورُ مُواسِ وعليّ الأجهوري نظم هذه الأبيات تذييلًا لأبيات نظمها بَهرام، جمع فيها أسماء الأطعمة المتقدم أنها ثمانية ونظمه: ثمانيةُ أسماءِ أطعمةٍ أتَتْ ... عن العرب نقلًا لا ترى بقياسِ وليمةُ عرسٍ ثم اعذار خاتنٍ ... نَقِيعةُ سَفْرٍ، ثم خُرْسُ نفاس ومأدبةٍ في دعوةِ، ووَكيرةٍ ... لبناء مَحْكمٍ بأساس عقيقةُ مولودٍ كذاك حِذَاقه ... إذا حذقه حاذي وقيت لباس وحيث إن الكلام انجر إلى ذكرها أردت أن أتمم الكلام عليها، فأقول: الوليمة مختصة بطعام العرس على قول أهل اللغة. وقال صاحب المحكم: الوليمة طعام العرس والإِملاك. وقيل: كل طعامٍ صنع لعرس أو غيره، وقال عياض في "المشارق": الوليمة طعام النكاح وقيل الإِملاك وقيل طعام العرس خاصة وقال الأزهريّ: الوليم مأخوذة من الولم، وهو الجمع وزنًا ومعنى؛ لأن الزوجين يجتمعان. وقال ابن الأعرابي: أصلها من تتميم الشيء، واجتماعه. وجزم الماوردي ثم القرطبيّ بأنها لا تطلق في غير طعام العرس إلا بقرينة. وقال الشافعيّ وأصحابه: تقع الوليمة على كل دعوة تتخذ لسرور حادث من نكاح أو ختانٍ أو غيرهما. لكن الأشهر استعمالها عند الإطلاق في النكاح، وتُقَيّد في غيره، فيقال: وليمة الختان وغيره، وقيل: الوليمة خاصة بطعام الدخول، وطعام الإِملاك يسمى الشُّنْدَخُ، بضبم المعجمة وسكون النون وفتح الدال المهملة، وقد تضم وآخره خاء معجمة، مأخوذ من قولهم فرسٌ شندخ، أي: يتقدم غيره. سمي طعامُ الإِملاك بذلك لأنه يتقدم الدخول. وأغرب في التدريب فقال: الولائم سبع: وليمة الإِملاك: وهو التزوج، ويقال لها النّقِيعة بنون وقاف". ووليمة الدخول، وهو العرس، وقلَّ من غاير بينهما، ووجه إغرابه تسميته وليمة الإِملاك نقيعة، وقد شذ في ذلك، ويأتي قريبًا تفسير النقيعة. الثاني: الإِعذار بعين مهملة وذال معجمة للختان والعقيقة للولادة.

والخرس، بضم المعجمة وسكون الراء وسين مهملة، لسلامة المرأة من الطلق، وقيل: هو طعام الولادة. والعقيقة: تختص بيوم السابع. والنقيعة لقدوم المسافر، مشتقة من النقع، وهو الغبار. والغيرة للسَّكَن المتجدد، مأخوذة من الوَكْر، وهو المأوى والمستقر. والوضيحة، بضاد معجمة، لما يتخذ عند المصيبة. والمأدُبة لما يتخذ بلا سبب، ودالها مضمونة ويجوز فتحها، والإِعذار، يقال فيه: العُذْرة، بضم ثم سكون. والخرس، يقال فيه أيضًا بالصاد المهملة بدل السين، وقد تزاد في آخرها هاء، فيقال خُرْسَةٌ. واختلف في النقيعة هل التي يصنعها القادم من السفر أو تصنع له، قولان، وقيل: النقيعة التي يصنعها القادم، والتي تصنع له تسمى التُّحْفَة، وفي المأدبةِ تفصيل؛ لأنها إن كانت لقوم مخصوصين فهي النَّقَرَى، بالتحريك مقصور، وإن كانت عامة فهي الجَفَلَى بجيم وفاء بوزن الأولى قال الشاعر طرفة بن العبد: نحن في المشتاة ندعو الجَفَلَى ... لا ترى الآدب فينا ينتقر وصف قومه بالجود وأنهم إذا صنعوا مأدبة دعوا إليها عمومًا لا خصوصًا، وخص الشتاء لأنها مظنة قلة الشيء، وكثرة احتياج من يدعى. والأدب اسم الفاعل من المادبة، وينتقر مشتق من النَّقَرَى. والحِذاق بكسر المهملة وتخفيف الذال المعجمة آخره قاف، الطعام الذي يصنع عند حذق الصبي. وقال ابن الرفعة: هو الذي يصنع عند الختم، أي ختم القرآن، كذا قيده، ويحتمل ختم قدر مقصود منه، ويحتمل أن يطرد ذلك في حذقه لكل صناعة. وذكر المحاملي في الولائم العَتيدة على وزن فَعِيلة، وهي شاةٌ تذبح في أول رجب، وَتُعُقِّعب بأنها في معنى الأضحية، فلا معنى لذكرها في الولائم، وسيأتي إن شاء الله تعالى حكمها في أواخر العقيقة. وقوله: "ونصر المظلوم" هو فرض كفاية، وهو عام في المظلومين، وكذلك في الناصرين بناء على أن فرض الكفاية مخاطب به الجميع، وهو الراجح، ويتعين أحيانًا على من له القدرة عليه وحده، إذا لم يترتب على إنكاره مفسدة أشد من مفسدة المنكر، فلو علم أو غلب على ظنه أنه لا

يفيد سقط الوجوب، وبقي أصل الاستحباب بالشرط المذكور، فلو تساوت المفسدتان تخير، وشرط الناصر أن يكون عالمًا يكون الفعل ظلمًا، ويقع النصر مع وقوع الظلم، وهو حينئذٍ حقيقة، وقد يقع قبل وقوعه، كمن أنقذ إنسانًا من يد إنسان طالبه بمال ظلمًا وهدَّده إن لم يبذله، وقد يقع بعد، وهو كثير، وهو داخل في حقيقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتراعى فيه شروطه المذكورة عند باب "الدين النصيحة" من كتاب الإِيمان. وقوله: وإبرار "القسم" الإِبرار، بكسر الهمزة، إفعال من البر، خلاف الحنث، يقال: أبَرّ القسم إذا صدقه، ويروى إبرار المُقسم، بضم الميم وكسر السين، على أنه اسم فاعل، وقيل بفتحها، أي: الإِقسام، والمصدر قد يأتي باسم المفعول نحو: أدخلته مُدْخلًا، وأخرجته مُخْرَجًا بمعنى الإِدخال والإخراج. معنى الإِبرار أن يفعل ما أراده الحالف ليصير بذلك بارًا. وقوله: "ورد السلام" في رواية الاستئذان "وإفشاء السلام" ولا مغايرة في المعنى لأن ابتداء السلام ورده متلازمان، وإفشاء السلام ابتداء يستلزم إفشاءَه جوابًا، وقد اختلف في معنى السلام فنقل عِياض أن معناه اسم الله، أي كلاءة الله وحفظه عليك، كما يقال: الله معك، ومصاحبك، وقيل معناه: أن الله مُطَّلع عليك فيما تفعل. وقيل: معناه إن اسم الله يذكر على الأعمال توقعًا لاجتماع معاني الخيرات فيها، وانتفاء عوارض الفساد عنها وقيل: معناه السلامة كما قال تعالى: {فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} وكما قال الشاعر: تحيى بالسلامة أمُّ عمرو ... وهل لي بعد قومي من سلام فكأَن المسلم أعلم من سلم عليه أنه سالم منه، وأنه لا خوف عليه منه. وقال ابن دقيق العيد: يطلق بإزاء معان منها السلامة، ومنها التحية، ومنها أنه اسم من أسماء الله تعالى. قال: وقد يأتي بمعنى التحية محضًا، وقد يأتي مترددًا بين المعنيين، كقوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} فإنه يحتمل التحية والسلامة. وقوله تعالى: {وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} وقد نقل ابن عبد البرّ الإِجماع على أن الابتداء بالسلام سنة، وقال المازريّ: ابتداء السلام سنة، ورده واجب، هذا هو المشهور عند أصحابنا وهو من عبادات الكفاية. وأشار بقوله: "المشهور" إلى الخلاف في وجوب الرد هل هو فرض عين أو كفاية. وقد نقل عياض عن القاضي عبد الوهاب أنه قال لا خلاف أن ابتداء السلام سنة، أو فرض على الكفاية، فإن سلّم واحدٌ من الجماعة أجزأ عنهم. قال عياض: معنى أنه فرض على الكفاية مع نقل الإِجماع على أنه سنة، أن إقامة السنن وإحياءها فرض على الكفاية، وقد اتفق العلماء على أن الرد واجب على الكفاية، وجاء عن أبي يوسف أنه قال: يجب الرد على كل فَرْدٍ فَرْد واحتج له بحديث

أبي هريرة في الاستئذان في رد الملائكة على آدم عليه السلام، فإن فيه "فقالوا: السلام عليك" وتعقب بجواز أن يكون نسب إليهم، والمتكلم به بعضهم، واحْتُج له أيضًا بالاتفاق على أن من سلّم على جماعة فردَّ واحد من غيرهم لم يجز عنهم، وتعقب بظهور الفرق، واحتج للجمهور بحديث علي، رفعه، "يجزي عن الجماعة إذا مرّوا أن يسلم واحد عنهم، وعن الجلوس أن يُراد أحدهم". أخرجه أبو داود والبزار بسند فيه ضعف، لكنْ له شاهد عن الحسن بن عليّ عند الطبرانيّ، وفي سنده مقال، وآخر مرسل في الموطأ عن زيد بن أسْلم. واحتج ابن بَطَّال بالاتفاق على أن المبتدىء لا يشترط في حقه تكرير السلام بعدد من يسلم عليهم، كما في سلام آدم في الحديث المذكور، وغيره من الأحاديث، قال: فكذلك لا يجب الرد على كل فرد إذا سلم الواحد عليهم. واحتج الماورديّ بصحة الصلاة الواحدة على العدد من الجنائز. وقال الحليميّ: إنما كان الرد واجبًا؛ لأنّ السلام معناه الأمان، فإذا ابتدأ به المسلم أخاه فلم يجبه، فإنه يتوهم منه، فيجب عليه دفع ذلك التوهم. قلت: ليس فيما قاله دليل على أبي يوسف، بل كلامه دليل له، لأنّ الذي لم يرد السلام من الجماعة، قد يتوهم منه ذلك. وقال القاضي حسين: لا يجب رد السلام على من سلم عند قيامه إذا كان سلَّم حين دَخَل، ووافقه المتوليّ، وخالفه المُسْتَظْهريّ فقال: السلام سنة عند الانصراف، فيكون الجواب واجبًا. قال النّوويّ: هذا هو الصواب. قلت: هذا هو مذهب مالك، ونظمه بعض علماء المذهب فقال: تسليم الانصراف واللقاء ... سيّان في الرد والابتداء فالابتدا يُسَنُّ في كليهما ... والرد في كليهما تَحَتَّما وهو الذي في الحديث الذي أخرجه النسائيّ، عن أبي هُريرة مرفوعًا "إذا قعد أحدكم فليسلم، وإذا قام فليسلم"، فليست الأولى أحق من الآخرة. وللفظ الذي يبتدأ به السلام، والذي يجاب به، هو ما في حديث آدم أول الاستيذان، ففيه أن الله تعالى قال له: "اذهب فسلِّم على أولئك، نفر من الملائكة جلوس، فاستمع ما يحيونك، فإنها تحيتُك، وتحية ذريتك، فقال: السلام عليكم، فقالوا السلام عليك ورحمة الله وبركاته، فزادوه "ورحمة الله". وفي رواية" فقالوا: وعليك السلام ورحمة الله، وقول آدم: السلامُ عليكم، قال ابن بطال: يحتمل أن يكون الله علَّمه كيفية ذلك تنصيصًا، ويحتمل أن يكون فهم ذلك من قوله له "فسلِّم"، ويحتمل أن يكون ألهمه ذلك. ويؤيد الأخير الحديث الذي أخرجه ابن حِبّان في حَمْد العاطس عن أبي هُريرة، رفعه، "أن آدم لما خلقه الله عطس فألهمه الله أن قال الحمد لله" فلعله أيضًا ألهمه صفة السلام، واستدل به

على أن هذه الصيغة هي المشروعة في ابتداء السلام، لقوله: "فهي تحيتك وتحية ذريتك"، ولو حذف اللام، فقال: سلام عليكم أجزأ .. قال الله تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ}. وقال تعالى: {فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}. وقال تعالى: {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ}، إلى غير ذلك، لكنْ باللام أولى؛ لأنها للتفخيم والتكثير. وثبت في حديث التشهد السلام عليك أيها النبيّ" واستدل بقوله في حديث آدم "فقالوا السلام عليك" لمن يقول يجزىء في الرد أن يقع باللفظ الذي يبتدأ به، وقيل أيضًا يكفي الرد بلفظ الإفراد، وقد أخرج البخاريّ في "الأدب المفرد" عن قُرَّة بن إياس المُزَنيّ الصحابيّ، "إذا مرَّ بك الرجل فقال السلام عليكم، فلا تقل وعليك السلام، فتخصه وحده، فإنه ليس وحده" وسنده صحيح، ومن فروعه، لووقع الابتداء بصيغة الجمع، فإنه لا يكفي الرد بصيغة الإفراد؛ لأنّ صيغة الجمع تقتضي التعظيم، فلا يكون امتثل الرد بالمثل، فضلًا عن الحسن، نبه عليه ابن دقيق العيد. وقوله: "في الحديث السابق" فزادوا "ورحمة الله" فيه مشروعية الزيادة في الرد على الابتداء، وهو مستحب بالاتفاق، لوقوع التحية في ذلك في قوله: {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} ولو زاد المبتديء "ورحمة الله" استحب أن يزاد "وبركاته" فلو زاد "وبركاته" فهل تشرع الزيادة في الرد؟، وكذلك لو زاد المبتديء على "وبركاته" هل يشرع له ذلك؟ أخرج مالك في الموطأ عن ابن عباس قال: انتهى السلام إلى البركة. وأخرج البيهقي، في الشعب عن عبد الله بن بأبيه قال: جاء رجل إلى ابن عمر، فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ومغفرته، فقال: حسبك إلى "وبركاته" انتهى إلى "وبركاته"، ومن طريق زهْرة بن مَعْبَد قال: قال عمر: انتهى السلام إلى "وبركاته". ورجاله ثقات، وجاز عن ابن عمر الجواز، فأخرج مالك أيضًا في الموطأ عنه، أنه زاد في الجواب "والغاديات والرائحات" وأخرج البخاريّ في "الأدب المفرد" عن نافع مولى ابن عمر قال: كان ابن عمر يزيد إذا رد السلام، فأتيته مرة فقلت: السلام عليكم، فقال: السلام عليكم ورحمة الله، ثم أتيته، فزدت "وبركاته"، فردّ وزادني "وطيَّب صلواته". وعن زيد بن ثابت أنه كتب إلى معاوية: السلام عليكم يا أمير المؤمنين ورحمة الله ومغفرته وطيب صلواته. ونقل ابن دقيق العيد عن أبي الوليد بن شد أنه يؤخذ من قوله تعالى: {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا} الجواز في الزيادة على البركة إذا انتهى إليها المبتدىء. وأخرج أبو داود والتِّرْمِذِيّ والنَّسائي بسند قوي عن عمران بن حَصِين قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: السلام عليكم، فرد عليه، وقال: عشر، ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فرد عليه، وقال: عشرون، ثم جاء آخر فزاد وبركاته، فرد وقال: ثلاثون. وأخرجه البخاريّ في "الأدب المفرد" عن أبي هُريرة، وصححه ابن حِبّان وقال: ثلاثون حسنة. وكذا فيما قبلها، صرح بالمعدود، وعند أبي نُعيم، في عمل يوم وليلة،

عنِ عليّ رضي الله تعالى عنه أنه هو الذي وقع له ذلك مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأخرج الطبراني عن سَهْل بن حُنيف بسند ضعيف رفعه "من قال السلام عليكم كتب له عشر حسنات، ومن زاد ورحمة الله كتبت له عشرون حسنة، ومن زاد وبركاته كُتِبِت له ثلاثون حسنة". وأخرج عن سهل بن معاذ بن أنس الجهنيّ عن أبيه بسند ضعيف نحو حديث عمران، وزاد في آخره "ثم جاء آخر، فزاد ومغفرته، فقال: أربعون" وقال: هكذا تكون الفضائل. وأخرج ابن السنيّ في كتابه بسند واهٍ عن أنس قال: "كان رجل يمر فيقول: السلام عليك يا رسول الله فيقول: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ومغفرته ورضوانه". وأخرج البيهقيّ في الشعب بسند ضعيف أيضًا عن زيد بن أرقم "كنا إذا سلَّم علينا النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قلنا: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ومغفرته". وهذه الأحاديث الضعيفة إذا انضمت، قَوِيَ ما اجتمعت عليه من مشروعية الزيادة على "وبركاته"، واتفقوا على أن من سلّم لم يجزي في جوابه إلَّا السلام، ولا يجزي في جوابه "صبحت بالخير" أو "بالسعادة" ونحو ذلك. واختلف فيمن أتى في التحية بغير لفظ السلام، هل يجب جوابه أم لا، وأقل ما يحصل به وجوب الرد أن يسمع المبتدىء، وحينئذ يستحق الجواب، ولا يكفي الرد بالإِشارة، بل ورد الزجر عنه، وذلك فيما أخرجه التِّرْمذي، عنن عمرو بن شُعيب عن أبيه عن جده رفعه "لا تشبهوا باليهود والنصارى، فإن تسليم اليهود الإشارُة بالإِصبَع، وتسليم النصارى بالأكف". قال الترمذيّ: غريب. قال صاحب الفتح: في سنده ضعف. لكن أخرج النسائي بسندٍ جيد عن جابر، رفعه "لا تسلموا تسليم اليهود، فإن تسليمهم بالرؤوس والأكف والإِشارة". قال النوويّ: لا يرد على هذا حديث أسماء بنت يزيد "مرَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- في المسجد، وعصبة من النساء قعود، فألوى بيده بالتسليم" فإنه محمول على أنه جمع بين اللفظ والإِشارة، وقد أخرجه أبو داود من حديثها بلفظ "فسلّم علينا"، قلت: الذي يظهر لي في الجواب عن حديث أسماء، أنه عليه الصلاة والسلام ترك السلام عليهن لكونهن أجنبيات، ولم يعدمهن منه إحسانًا، فأشار إليهن بيده، ولعل هذا هو مستند المالكية في كراهية السلام على الأجنبية. وقد مرَّ في باب إطعام الطعام استيفاء الكلام على ذلك. والنهي عن السلام بالإِشارة مخصوص بمن قدر على اللفظ حسًا وشرعًا، وإلا فهي مشروعة لمن يكون في شغل يمنعه من التلفظ بجواب السلام، كالمصلي والبعيد، والأخرس، وكذا السلام على الأصم، ولو أتى بالسلام بغير اللفظ العربي هل يستحق الجواب؟ فيه ثلاثة أقوال للعلماء، ثالثها يجب لمن يحسن بالعربية، وقال ابن دقيق العيد الذي يظهر أن التحية بغير لفظ السلام من باب ترك المستحب، وليس بمكروه، إلا أن يقصد به العدول عن السلام إلى ما هو أظهر في التعظيم، من أجل أكابر أهل الدنيا، ويجب الرد على الفور، فلو أخر ثم استدرك فرد، لم يعد جوابًا. قاله القاضي حسين وجماعة: وكان محله إذا لم يكن عذر ويجب رد جواب السلام في

الكتاب، ومع الرسول. ولو سلم الصبيّ على بالغ وجب عليه الرد، ولو سلم على جماعة فيهم صبيّ فأجاب أجزأ عنهم في وجه، وعند المالكية لا يُكتفى برد صبي، عن البالغين لعدم خطابه هو بالرد، ويجب رد سلامه. وقيل: إنه يُكتفى برده، ويجب على الرسول تبليغ السلام المرسل معه، إن التزم تبليغه، وإن لم يلتزمه لم يلزمه شيء، ويلزمه الرد على الفور، ويستحب أن يرد على المبلغ. كما أخرجه النَّسائيّ عن رجل من بني تميم أنه بلَّغ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- سلام أبيه، فقال: "وعليك وعلى أبيك السلام". وقد جاء في حديث خديجة لما بلَّغها النبيّ، -صلى الله عليه وسلم-، عن جبريل، سلامَ الله تعالى عليها، "إن الله هو السلام، ومنه السلام، وعليك وعلى جبريل السلام". ولم يوجد في شيء من طرف حديث عائشة حين بلّغها عليه الصلاة والسلام السَّلام من جبريل، أنها ردت على النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وإنما ردت على جريل، فيدل على أنه غير واجب، ومشهور مذهب مالك وجوب الرد حينئذ، كما قال الناظم: تبليغُك السلامَ إن تلتزم ... تبليغَه للغير ذو تَحَتُّمِ وردُّه بالعَور إنْ أتاكَ ... مع رسولٍ واجبٌ، كذاك وقد اختلف في الرد على أهل الذمة. قال ابن بطال: قال قوم: رد السلام على أهل الذّمة فرض لعموم الآية، وثبت عن ابن عباس أنه قال: "من سلم عليك فرد عليه، ولو كان مجوسيًا" وبه قال الشعبيّ وقتادة، ومنع من ذلك مالك والجمهور. وقال عطاء: الآية مخصوصة بالمسلمين، فلا يرد السلام على كافر مطلقًا، فإن أرادَ مُنِعَ الردُّ بالسلام، وإلا فالأحاديث ترد عليه، فأخرج البخاريّ عن ابن عمر "إذا سلم عليك اليهود، فإنما يقول: أحدهم السَّام عليك، فقل: وعليك" وأخرج عن أنس قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم". وقد اختلف العلماء في إثبات الواو وإسقاطها في الرد على أهل الكتاب، لاختلافهم في أي الروايتين أرجح، فذكر ابن عبد البر عن ابن حبيب لا يقولها بالواو؛ لأن فيها تشريكًا، وبيان ذلك أن الواو في مثل هذا لتركيب تقتضي تقرير الجملة الأولى وزيادة الثانية عليها، كمن قال: زيدٌ كاتبٌ، فقلت: وشاعر، فإنه يقتضي ثبوت الوصفين لزيد. فقال: وخالفه جمهور المالكية، وقال بعض شيوخهم: يقول: عليكم السلام، بكسر السين، يعني الحجارة، ووهَّاه ابن عبد البر بأنه لم يشرع لناسب أهل الذمة، ويؤيده إنكار النبي -صلى الله عليه وسلم-، على عائشة لما سبَّتهم، وذكر ابن عبد البر عن ابن طاوس قال: علاكم السلام، بالألف، أي: ارتفع. وتعقبه وذهب جماعة من السلف إلى أنه يجوز أن يُقال في الرد عليهم: عليكم السلام، كما

يرد على المسلم، واحتج بعضهم بقوله تعالى: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ} وحكاه الماورديّ وجهًا عن بعض الشافعية، لكن لا يقول: ورحمة الله، وقيل: يجوز مطلقًا، وعن ابن عباس وعلقمة يجوز ذلك عند الضرورة، وعن الأوزاعيّ إنْ سلَّمت فقد سلم الصالحون، وإن تركت فقد تركوا. وعن طائفة التفرقةُ بين أهل الذمة وأهل الحرب، والراجح من هذه الأقوال كلها ما دل عليه الحديث، ولكنه مختص بأهل الكتاب، فقد أخرج أحمد بسندٍ جيدٍ عن أنس (أمرنا أن لا نزيد على أهل الكتاب على وعليكم). ونقل ابن بطال عن الخطابيّ نحو ما قال ابن حبيب، فقال: رواية من روى "عليكم" بغير واو أحسن من الرواية بالواو؛ لأن معناه رددت ما قلتموه عليكم بعينه، وبالواو يصير المعنى "علي وعليكم"؛ لأن الواو حرف التشريك، هي رواية ابن عُيينة، فهي الصواب. وقد رجع الخطابيّ عما قال فقال في شرحه "الأعلام على البخاريّ" عند حديث عائشة، حين قالت: عليكم السام واللعنة فقال: أو لم تسمعي ما قلت؟ رددت عليهم، فيستجاب لي فيهم، ولا يستجاب لهم فيّ، أخرجه في كتاب الأدب. قال الخطابيّ ما ملخصه أن الداعي إذا دعا بشيء ظلمًا فإن الله لا يستجيب، ولا يجد دعاؤه محلًا في المدعو عليه. وله شاهد عن جابر قال: سلم ناس من اليهود، على النبيّ -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: السام عليكم، قال: وعليكم. قالت عائشة، وغضبت: ألم تسمع ما قالوا؟ قال: بلى، قد رددت عليهم، فنجاب عليهم، ولا يجابون فينا. أخرجه مسلم والبخاريّ في الأدب المفرد"، وقد غفل عن هذه المراجعة من أنكر الرواية بالواو، وضعفها من حيث المعنى، فإن كلامه مردود. وقال النوويّ: الصواب أن إثبات الواو وحذفها ثابتان جائزان، وإثباتها أجود، ولا مفسدة فيه، وعليه أكثر الروايات، وفي معناها وجهان: أحدهما أنهم قالوا: عليكم الموت، فقال: وعليكم أيضًا، أي نحن وأنتم فيه سواء كلنا نموت. والثاني: أنّ الواو للاستئناف، لا للعطف والتشريك، والتقدير: وعليكم ما تستحقونه من الذم. وقال البيضاويّ: في العطف شيء مقدر، والتقدير: وأقول عليكم ما تريدون بنا، أو ما تستحقون. وليس هو عطفًا على عليكم في كلامه. وقال القرطبي: قيل: الواو للاستئناف، وقيل: زائدة، وأولى الأجوبة أنّا نُجاب عليهم، ولا يجابون علينا، وحكى ابن دقيق عن ابن رشد تفصيلًا يجمع الروايتين: إثبات الواو وحذفها، فقال: من تحقق أنه قال السام أو السِّلام، بكسر السين، فليرد عليه بحذف الواو، ومن لم يتحقق منه فليرد بإثبات الواو. وقال النوويّ تبعًا لعِياض: من فسر السام بالموت فلا يبعد ثبوت الواو، ومن فسرها بالسآمة

فإسقاطها هو الوجه. قال في "الفتح": الرواية بإثبات الواو ثابتة، وهي ترجح التفسير بالموت، وهو أولى من تغليط الثقة. واستدل به على أن هذا الرد خاص بالكفار، فلا يجزيء في الرد على المسلم. وقيل: إن أجاب بالواو أجزأ، وإلا فلا. قال ابن دقيق العيد: التحقيق أنه كاف في حصول معنى السلام، لا في امتثال الأمر في قوله {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}، وكأنه أراد الذي بغير واو. وأما الذي بالواو، فقد ورد في عدة أحاديث منها في الطبرانيّ، عن ابن عباس "جاء رجل إلى النبيّ -صلى الله عليه وسلم- فقال: سلام عليكم، فقال: وعليكم ورحمة الله". وله في الأوسط عن سلمان "أتى رجل فقال: السلام عليك يا رسول الله، فقال: وعليك". قال في الفتح. لكن لما اشتهرت هذه الصيغة للرد على غير المسلم، فينبغي ترك جواب المسلم بها، وإن كانت مجزئة في أصل الرد. وما لم يذكر هنا من مباحث السلام، ابتداءًا وردًا، قد استُوفي الكلام عليه في باب إطعام الطعام من الإِسلام من كتاب الإيمان. وقوله في السابع من المأمورات "وتشميت العاطس" يعني أنه مأمور به، قال ابن دقيق العيد: ظاهر الأمر الوجوب، ويؤيده قوله في حديث أبي هُريرة التالي له "حق المسلم على المسلم خمس. الخ" وفي حديثه عند المصنف في كتاب الأدب "فحق على كل مسلم سمعه أن يشمته" وفي حديثه عند مسلم "حق المسلم على المسلم ست" فذكر فيها "وإذا عطس فحمد الله فَشَمَّته" وللبخاريّ من وجه آخر عن أبي هُريرة "خمس تجب للمسلم على المسلم". فيذكر منها التشميت، وهو عند مسلم أيضًا. وفي حديث عائشة عند أحمد وأبي يَعلى "إذا عطس أحدكم فليقل الحمد لله، وليقل من عنده يرحمك الله" ونحوه عند الطبرانيّ من حديث أبي مالك، وقد أخذ بظاهرها ابن مزين من المالكية، وقال به جمهور أهل الظاهر. وقال ابن أبي جَمْرة: قال جماعة من علمائنا: إنه فرض عين، وقواه ابن القيم، فقال: جاء بلفظ الوجوب الصريح، وبلفظ الحق الدال عليه، وبلفظ على الظاهرة فيه، وبصيغة الأمر التي هي حقيقة فيه، وبقول الصحابيّ: "أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال" ولا ريب أن الفقهاء أثبتوا وجوب أشياء كثيرة بدون مجموع هذه الأشياء، وذهب آخرون إلى أنه فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط عن الباقين، ورجحه أبو الوليد بن رشد وأبو بكر بن العربي، وقال به الحنفية، وجمهور الحنابلة، وذهب عبد الوهاب وجماعة من المالكية إلى أنه مستحب، ويجزىء الواحد عن الجماعة، وهو قول الشافعية، والراجح من حيث الدليل القولُ الثاني. والأحاديث الصحيحة الدالة على الوجوب لا تنافي كونه على الكفاية، فإن الأمر بتشميت العاطس، وإن ورد في عموم المكلفين، ففرض كفاية يخاطب به الجميع على الأصح، ويسقط بفعل البعض. وأما من قال إنه فرض على مبهم، فإنه

ينافي كونه فرض عين. والتشميت يقال بالمعجمة والمهملة، قال ابن الأنباري: كل داع بالخير مشمت بالمعجمة والمهملة، والعرب كثيرًا تجعل الشين والسين في اللفظ الواحد بمعنى. وقال أبو عُبيد: التشميت بالمعجمة أعلى وأكثر، وقال عياض: هو كذلك للأكثر من أهل العربية. وفي الرواية، وقال ثعلب: الاختيار أنه بالمهملة؛ لأنه مأخوذ من السمت، وهو القصد والطريق القويم. وأشار ابن دقيق العيد إلى ترجيحه، وقال القزاز: التشميت التبريك، والعرب تقول: شمته إذا دعا له بالبركة، وشمت عليه إذا برَّك عليه، وفي حديث قصة تزويج عليّ بفاطمة "شمَّت عليهما" أي: دعا لهما بالبركة. ونقل ابن التين أن التسميت، بالمهملة، أفصحُ. وهو من سَمَتِ الإبلَ في المرعى إذا جُمعت، فمعناه على هذا جمع الله شملك. وتعقبه بأنْ سمت الإبل، إنما بالمعجمة، ونقله غير واحد أنه بالمعجمة. وقيل: هو بالمعجمة من الشماتة، وهو فرح الشخص بما يسوء عدوه، فكأنه دعا له أن لا يكون في حال من يُشمت به، أو أنه، إذا حمد الله، أدخل على الشيطان ما يسوؤه، فَشَمِتَ هو بالشيطان. وقيل: هو من الشوامت، جمع شامتة، وهي القائمة، يقال: لا ترك الله له شامتة، أي: قائمة. وقال ابن العربي في شرح الترمذي: تكلم أهل اللغة على اشتقاق اللفظين، ولم يبينوا المعنى فيه، وهو بديع، وذلك أن العاطس ينحل كل عضو في رأسه، وما يتصل به من العنق ونحوه، فكأنه إذا قيل له: رحمك الله، كان معناه: أعطاك الله رحمةً يرجع بها بذلك إلى حالة قبل العطاس، ويقيم على حاله من غير تغيير، فإن كان التسميت بالمهملة، فمعناه رجع كل عضو إلى سمته الذي كان عليه، وإن كان بالمعجمة، فمعناه: صان الله شوامته، أي: قوائمه التي بها قوام بدنه، عن خروجها عن الاعتدال. قال: وشوامت كل شيء قوائمه التي بها قوامه، فقدام الدابة بسلامة قوائمها التي ينتفع بها إذا سَلِمت، وقوام الآدميّ بسلامة قوائمه التي بها قوامه، وهي رأسه وما يتصل به من عنق وصدر. وظاهر حديث الباب أن كل عاطس يُشَمَّت على التعميم، حَمِد الله تعالى أو لم يحمده، والحق ما في حديث أبي هُريرة في كتاب الأدب وغيره، من أنه لا يشمت له حتى يحمد الله، ولفظ أبي هُريرة "فإذا عطس فحمد الله، فحقَّ على كل مسلم سمعه أن يشمته" وأخرج في كتاب الأدب أيضًا عن أنس قال "عطس رجلان عند النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فشمت أحدهما، ولم يشمت الآخر، فقال الرجل: يا رسول الله، شمَّت هذا ولم تشمتني، فقال: إن هذا حمد الله ولم تحمد الله". وأخرجه مسلم عن أبي موسى بلفظ "إذا عطس أحدكم فحمد الله، فشمَّتوه، وإن لم يحمد الله فلا تشمتوه".

قال النووي: مقتضى هذا الحديث، بل منطوقه، أن من لم يحمد الله لم يشمت، وهل النهي فيه للتحريم أو للتنزيه؟ الجمهور على الثاني. قال: وأقل الحمد والتشميت أنْ يسمع صاحبه. ويؤخذ منه إذا أتى بلفظ آخر غير الحمد لا يُشَمَّت. وقد أخرج أبو داود والنَّسائي وغيرهما، عن سالم بن عُبيد الأشجعيّ قال: "عطس رجل فقال: السلام عليكم، فقال النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: عليك وعلى أمك، وقال: إذا عطس أحدكم فليحمد الله" واستدل به على أنه يشرع التشميت لمن حمد، إذا عرف السامع أنه حمد الله، وإن لم يسمعه، كما لو سمع العطسة ولم يسمع الحمد، وسمع من شمت ذلك العاطس، فإنه يشرع له التشميت، لعموم الأمر به لمن عطس فحمد. قال النوويّ: المختار أنه يُشَمِّته من سمعه دون غيره، وحكى ابن العربى اختلافًا فيه، ورجح أنه يشمته، ونقله ابن بطّال وغيره عن مالك، واستثنى ابن دَقيق العِيد من علم أنَّ الذين عند العاطس جهلة لا يفرقون بين تشميت من حمد وبين من لم يحمد، والتشميت متوقف على من علم أنه حمد، فيمتنع تشميت هذا ولو شمته من عنده، لأنه لا يعلم هل حمد أو لا، فإن عطس وحمد، ولم يشمته أحد، فسمعه من بَعُد عنه، استحب له أنْ يشمته حين يسمعه. وقد أخرج ابن عبد البَرّ بسند جيد عن أبي داود صاحب السنن، أنه كان في سفينة، فسمع عاطسًا على الشطَّ حمد، فاكترى قاربًا بدرهم، حتى جاء إلى العاطس فشمَته، ثم رجع، فسئل عن ذلك فقال: لعله يكون مجابَ الدعوة، فلما رقدوا، سمعوا قائلًا يقول: يا أهل السفينة، إن أبا داود اشترى الجنة من الله بدرهم. قال النوويّ: ويستحب لمن حضر من عطس ولم يحمد أنْ يذكره بالحمد، ليحمد فيشمته. وقد ثبت ذلك عن إبراهيم النخعي، وهو من باب النصيحة والأمر بالمعروف. وزعم ابن العربيّ أنه جَهْلٌ من فاعله. قال: وأخطأ فيما زعم، بل الصواب استحبابه، واحتج ابن العربيّ لقوله بأنه إذا نبهه ألزم نفسه ما لم يلزمها. قال: فلو جمع بينهما، فقال: الحمد لله، يرحمك الله، جمع جهالتين؛ ما ذكرناه أولًا، وإيقاعه التشميت قبل وجود الحمد من العاطس. وحكى ابن بطال عن بعض أهل العلم، وحكى غيره -إنه الأوزاعيُّ- أن رجلًا عطس عنده فلم يحمد، فقال له: كيف يقول من عطس؟ قال: الحمد لله، قال: يرحمك الله. وكأن ابن العربيّ أخذ بظاهر حديث أنس السابق، لأنّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لم يذكر الذي عطس، فلم يحمد، لكن قد قيل: إنه لم يكن مسلمًا، فلعل تَرْكَ ذلك لذلك، لكن يحتمل أن يكون كما أشار إليه ابن بطال، أراد تأديبه على ترك الحمد بترك تشميته، ثم عرَّفه الحُكْم، وأن الذي يترك الحمد لا يستحق التشميت. وهذا الذي فهمه أبو موسى الأشعريّ، ففعل بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-، مثلَ ما فعل النبيّ -صلى الله عليه وسلم-؛ شمَّت من حمد، ولم يشمت من لم يحمد، كما ساق حديثه مسلم.

ولفظ الحمد المطلوب من العاطس هو "الحمد لله" لا يزيد على ذلك، كما في حديث أبي هُريرة المخرج عند البخاريّ في كتاب الأدب، ولفظه "إذا عطس أحدكم، فليقل الحمد لله، وليقل له أخوه أو صاحبه: يرحمك الله، فإذا قال له: يرحمك الله، فليقل: يهديكم الله ويصلح بالكم". وعن طائفة يقول: الحمد لله على كل حال، قال ابن بطال: وقد جاء النهي عن ابن عمر، وقال فيه: هكذا علَّمنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. أخرجه البزَّار والطبرانى. وأصله عند الترمذي، وعند الطبرانيّ عن أبي مالك الأشعري، رفعه "إذا عطس أحدكم فليقل الحمد لله على كل حال" ومثله عند أبي داود عن أبي هُريرة، وللنّسائيّ عن عليّ، رفعه، يقول العاطس: الحمد لله على كل حال، ولابن السنيّ عن أبي أيوب مثله، ولأحمد والنسائيّ عن سالم بن عبيد، رفعه "إذا عطس أحدكم فليقل الحمد لله على كل حال، أو الحمد لله رب العالمين". وعن طائفة يقول "الحمد لله رب العالمين" وَرَدَ ذلك في حديث ابن مسعود، وأخرجه المصنف في "الأدب المفرد"، والطبرانيّ. وورد الجمع بين اللفظين، فعنده في "الأدب المفرد" عن علي قال: من قال عند عطسة سمعها: الحمد لله رب العالمين على كل حال ما كان، لم يجد وجع الضرس ولا الأذن أبدًا. وهذا موقوف رجاله ثقات، ومثله لا يقال من قبل الرأي، فله حكم الرأي، وقد أخرجه الطبرانيّ من وجه آخر عن علي مرفوعًا بلفظ "من بادر العاطس بالحمد عوفي من وجع الخاصرة ولم يشتك ضرسه أبدًا"، وسنده ضعيف، وللمصنف أيضًا في الأدب المفرد والطبرانيّ، بسند لا بأس به عن ابن عباس، قال: إذا عطس الرجل فقال الحمد لله، قال المَلَك "رب العالمين"، فإن قال رب العالمين، قال المَلَك "يرحمك الله". وعن طائفة: ما زاد من الثناء فيما يتعلق بالحمد كان حسنًا، فقد أخرج أبو جعفر الطبريّ في التهذيب، بسندٍ لا بأس به، عن أم سلمة قالت: عطس رجل عند النبيّ -صلى الله عليه وسلم- فقال الحمد لله، فقال له النبيّ -صلى الله عليه وسلم- "يرحمك الله" وعطس آخر فقال: الحمد لله رب العالمين حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه، فقال: "ارتفع هذا على هذا تسع عشرة درجة". ويؤيده ما أخرجه التِّرمذيّ وغيره عن رِفاعة بن رافع قال: صلَّيتُ مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فعطستُ، فقلت الحمد لله حمدًا طيبًا مباركًا فيه، مباركًا عليه، كما يحب ربنا ويرضى، فلما انصرف، قال: "من المتكلم ثلاثًا"؟ فقلت: أنا. فقال: والذي نفسي بيده، لقد ابتدرها بضعة وثلاثون ملَكًا أيهم يصعد بها. وأخرجه الطبراني، وبين أن الصلاة المذكورة "المغرب" وسنده لا بأس به، وأصله في صحيح البخاريّ، لكن ليس فيه ذكر العُطَاس، وإنما فيه "كنا نصلي مع النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فلما رفع رأسه من

الركعة قال: سمع الله لمن حمده، فقال رجل وراءه: ربنا لك الحمد" إلى آخره بنحوه. وقد تقدم في صفة الصلاة بشرحه، ولمسلم وغيره عن أنس، جاء رجل فدخل في الصف، وقد حَفَزَه النَّفَسُ، فقال: الله أكبر، الحمد لله حمدًا طيبًا مباركًا فيه. الحديث، وفيه "لقد رأيت إثني عشر ملكًا يبتدرونها أيهم يرفعها". وأخرج الطبرانيّ وابن السنيّ عن عامر بن ربيعة نحوه، بسند لا بأس به، وأخرج ابن السنيّ، بسند ضعيف عن أبي رافع، قال: كنت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فعطس فخلّى يدي.، ثم قام فقال شيئًا لَم أفهمه، فسألته فقال: "أتاني جبريل فقال: إذا أنت عطستَ فقلْ: الحمد لله لكرمه، الحمد لله لعز جلاله. فإن الله عَزَّ وَجَلَّ يقول: صدق عبدي ثلاثًا، مغفورًا له". وأما الثناء الخارج عن الحمد، فورد فيه ما أخرجه البيهقيّ في الشعب عن الضحاك بن قيس اليشكريّ قال: عطس رجل عند ابن عمر فقال: الحمد لله رب العالمين، فقال ابن عمر: لو تممها "والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، ويعارضه ما أخرجه الترمذيّ قال: عطس رجل فقال: الحمد لله والصلاة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال ابن عمر: الحمد لله والصلاة على رسول الله، ولكن ليس هكذا علمنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. قال الترمذيّ: غريب لا نعرفه إلا من رواية زياد بن الربيع، وهو صدوق، وفيه نظر، ورجح البيهقيّ ما تقدم على رواية زياد، ولا أصل لما اعتاده كثير من الناس من استكمال قراءة الفاتحة، بعد قوله الحمد لله رب العالمين، وكذا العدول عن الحمد لله إلى أشهد أن لا إله إلا الله، أو تقديمها على الحمد، فمكروه. وأخرج المصنف في "الأدب المفرد" عن مجاهد، بسندٍ صحيح، أن ابن عمر سمع ابنه عطس فقال: أبّ، فقال: وما أب؟ إن الشيطان جعلها بين العطسة والحمد. وأخرجه ابن أبي شيبة بلفظ "إش" بدل، "أب"، ونقل ابن بطّال عن الطبرانيّ أن العاطس يتخير بين أن يقول الحمد لله، أو يزيد رب العالمين، أو على كل حال. والذي يتحرر من الأدلة أن كل ذلك مُجزىء، لكن ما كان أكثر ثناءً كان أفضل، بشرط أن يكون مأثورًا. وقال النوويّ في الأذكار: اتفق العلماء على أنه يستحب للعاطس أن يقول: الحمد لله، ولو قال الحمد لله رب العالمين، لكان أحسن. فلو قال الحمد لله على كل حال، كان أفضل. كذا قال. والأخبار التي ذكرت تقتضي التخيير ثم الأولوية. وقال الحليميّ: الحكمة في مشروعية الحمد للعاطس، أن العطاس يدفع الأذى من الدماغ الذي فيه قوة الفكر، ومنه منشأ الأعصاب التي هي معدن الحس، وسلامته تسلم الأعضاء، فيظهر بهذا أنها نعمة جليلة، فناسب أن تُقَابَل بالحمد لله، لما فيه من الإقرار لله بالخلق والقدرة، وإضافة

الخلق إليه لا إلى الطبائع. ومن آداب العاطس أن يخفض بالعطاس صوته، فلا يبالغ في إخراج العطسة، فقد أخرج عبد الرزاق عن قتادة قال: "سبع من الشيطان" فذكر منها شدة العطاس، ويرفعه بالحمد، وأن يغطي وجهه لئلا يبدو من فيه أو أنفه ما يؤذي جليسَه، ولا يلوي عنقه يمينًا ولا شمالًا لئلا يتضرر بذلك. قال ابن العربيّ: الحكمة في خفض الصوت بالعطاس أن في رفعه إزعاجًا للأعضاء، وفي تغطية الوجه أنه لو بدر منه شيء آذى جليسه، ولوى عنقه صيانة لميسه لم يأمن من الالتواء، وقد شوهد من وقع له ذلك. وقد أخرج أبو داود والترمذيّ بسند جيد عن أبي هُريرة قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا عطس وضع يده على فيه، وخفض صوته، وله شاهد بنحوه عند الطبرانيّ عن ابن عمر. قال ابن دقيق العِيد: ومن فوائد التشميت تحصيل المودة والتآلف بين المسلمين، وتأديب العاطس بكسر النَّفْس عن الكِبْر، والحمل على التواضع، لما في ذكر الرحمة من الإِشعار بالذنب الذي لا يَعْرى عنه أكثر المكلفين. والعطاس يكون من خفة البدن، وانفتاح المسام، وعدم الغاية في الشبع، فلذا ناسبه الحمد. واستدل بأمر العاطس بحمد الله، أنه يشرع حتى للمصلي، وقد تقدمت الإِشارة إلى حديث رفاعة بن رافع، وبذلك قال الجمهور من الصحابة، والأئمة من بعدهم، وبه قال مالك والشافعيّ وأحمد. قلت: مشهور مذهب مالك أن حَمْد العاطس في الفرض مكروه، أو خلاف الأوْلى، ونقل الترمذيّ عن بعض التابعين أن ذلك شرع في النافلة لا في الفريضة، ويحمد مع ذلك في نفسه، قال في الفتح: وجوز شيخنا في شرح الترمذيّ، أن يكون مراده أنه يُسِر به، ولا يجهر به، وهو متعقب بحديث رفاعة بن رافع "فإنه جهر به"، ولم ينكر عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-. نعم، يَفْرُق بين أن يكون في قراءة الفاتحة أو غيرها، من أجل اشتراط الموالاة في قراءتها، وجزم ابن العربيّ من المالكية بأن العاطس في الصلاة يحمد في نفسه، ونُقِل عن سَحْنون أنه لا يحمد حتى يفرغ، وتعقبه بأنه غُلُو. قلت: قد مرَّ لك قريبًا أن المعتمد عدم حمده مطلقًا، واستدل بقوله في حديث أبي هُريرة السابق "حق على كل مسلم سمعه أن يشمته" على استحباب مبادرة العاطس بالتحميد. ونقل ابن دقيق العيد عن بعض العلماء، أنه ينبغي أن يتأنى في حقه حتى يسكن، ولا يعاجله بالتشميت. قال: وهذا فيه غفلة عن شرط التشميت، وهو توقفه على حمد العاطس. وأخرج البخاريّ في الأدب المفرد عن مكحول الأزْدِيّ، كنت إلى جنب ابن عمر، فعطس

رجل من ناحيته، فقال ابن عمر: يرحمك الله إن كنت حمدت الله. وقد مرَّ في حديث أبي هُريرة أن العاطس إذا حمد الله يقول له أخوه "يرحمك الله" وهذا هو التشميت المطلوب شرعًا. قال ابن دقيق العيد: يحتمل أن يكون دعاء بالرحمة، ويحتمل أن يكون إخبارًا على طريق البشارة، كما قال في الحديث الآخر "طهور إن شاء الله" أي: هي طهر لك، فكأن المشمت بَشَّرَ العاطس بحصول الرحمة له في المستقبل، بسبب حصولها في الحال، لكونها دفعت ما يضره. وهذا ينبني على قاعدة، وهي أن اللفظ إذا أريد به معناه، لم ينصرف لغيره، وإن أريد به معنى يحتمله انصرف إليه، وإن أُطلق انصرف إلى الغالب، وإن لم يستحضر القائل المعنى الغالب. قال ابن بطال: ذهب إلى هذا قوم فقالوا: يقول له يرحمك الله، يخصه بالدعاء وحده. وقد أخرج البيهقيّ في الشعب، وصححه ابن حبان، عن حفْص بن عاصم عن أبي هُريرة، رفعه "لما خلق الله آدم، عطس، فألهمه ربه أن قال الحمد لله فقال له ربه: يرحمك الله". وأخرج الطبريّ عن ابن مسعود قال يقول يرحمنا الله وإياكم. وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عمر نحوه، وأخرج المصنف في "الأدب المفرد"، بسند صحيح، عن أبي مرة سمعت ابن عباس إذا شَمَّتَ يقول: عافانا الله وإياكم من النار، يرحمكم الله، وفي "الموطَّأ" عن ابن عمر أنه كان إذا عطس، فقيل له يرحمك الله، قال: يرحمنا الله وإياكم، ويغفر الله لنا ولكم. قال ابن دقيق العيد: ظاهر الحديث أن السنة لا تتأدى إلا بالمخاطبة، وأما ما اعتاده كثير من الناس من قولهم للرئيس "يرحم الله سيدنا"، فخلاف السنة، وشمت بعض الفضلاء رئيسًا فقال: يرحمك الله يا سيدنا. وهو حسن. وقوله في الحديث، السابق: فإذا قال له يرحمك الله، فليقل يهديكم الله ويصلح بالكم، مقتضاه أنه لا يشرع ذلك إلا لمن شُمِّت، وهو واضح. وأن هذا اللفظ هو جواب التشميت، وهذا مختَلَف فيه، قال ابن بطال: ذهب الجمهور إلى هذا، وذهب الكوفيون إلى أنه يقول: يغفر الله لنا ولكم. أخرجه الطبريّ عن ابن مسعود وابن عمر، وغيرهما، وأخرجه في "الأدب المفرد" الطبرانيّ عن ابن مسعود، ووافق حديثُ أبي هُريرة المذكور سابقًا، حديث عائشة عند أحمد وأبي يَعلى، وحديثَ عليّ وأبي مالك الأشعريّ عند الطبرانيّ، وحديثَ ابن عمر عند البزار، وحديثَ عبد الله بن جعفر بن أبي طالب عند البيهقي في "الشعب". قال ابن بطال: ذهب مالك والشافعيّ إلى أنه يتخير بين اللفظين، إلا للذميّ. وذكر الطبريّ أن الذين منعوا من جواب التشميت بقول "يهديكم الله ويصلح بالكم" احتجوا بأنه تشميت اليهود، كما يأتي في حديث أبي داود عن أبي موسى، ولا حجة فيه، إذ لا تَضَادَّ بين خبر أبي موسى وخبر أبي هُريرة المذكور فيه "يهديكم الله ويصلح بالكم"؛ لأنّ حديث أبي هُريرة في جواب التشميت، وحديث أبي موسى في التشميت نفسه.

وأما ما أخرجه البيهقيّ في "الشّعب" عن ابن عمر قال: اجتمع اليهود والمسلمون، فعطس النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فشمته الفريقان جميعًا، فقال للمسلمين: "يغفر الله لكم، ويرحمنا وإياكم" وقال لليهود: يهديكم الله ويصلح بالكم". فقال: تفرد به عبد الله بن عبد العزيز بن أبي رواد عن أبيه عن نافع، وعبد الله ضعيف، واحتج بعضهم بأن الجواب المذكور مذهب الخوارج، لأنهم لا يرون الاستغفار للمسلمين. وهذا منقول عن إبراهيم النخعيّ، وكل هذا لا حجة فيه بعد ثبوت الخبر بالأمر. قال البخاريَّ: بعد تخريجه في "الأدب المفرد": وهذا أثبت ما يروى في هذا الباب. وقال الطبريّ: هو من أثبت الأخبار، وقال البيهقيّ: هو أصح شيء ورد في هذا الباب. وقد أخذ به الطحاويّ من الحنفية، واحتج له بقول الله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا} قال: والذي يجيب بقوله: "غفر الله لنا ولكم" لا يزيد المشمت على معنى قوله: "يرحمك الله" لأنّ المغفرة ستر الذنب، والرحمة ترك المعاقبة عليه، بخلاف دعائه له بالهداية والإصلاح، فإن معناه أن يكون سالمًا من مواقعة الذنب، صالح الحال، فهو فوق الأول فيكون أولى. واختار ابن أبي جمرة أن يجمع المجيب بين اللفظين، فيكون أجمع للخير، ويخرج من الخلاف، ورجحه ابن دقيق العيد، وقد أخرج مالك في الموطأ، عن ابن عمر، أنه كان إذا عطس فقيل له يرحمك الله. قال: "يرحمنا الله وإياكم، يغفر الله لنا ولكم". وقال ابن أبي جمرة: في الحديث دليل على عظيم نعمة الله على العاطس، يؤخذ ذلك مما رتب عليه من الخير، وفيه إشارة إلى عظيم فضل الله على عبده، فإنه أذهب عنه الضرر بنعمة العطاس، ثم شرع له الحمد الذي يثاب عليه، ثم الدعاء بالخير بعد الدعاء بالخير، وشرع النعم المتواليات في زمن يسير فضلًا وإحسانًا. وفي هذا لمن رآه بقلب، له بصيرة، زيادة قوة في إيمانه، حتى يحصل له من ذلك ما لا يحصل بعبادة أيام عديدة، ويداخله من حب الله الذي أنعم عليه بذلك، ما لم يكن في باله، ومن حب الرسول، الذي جاءت معرفة هذا الخير على يده، والعلم الذي جاءت به سنته، ما لا يقدر قدره. قال: وفي زيادة "ذرة من هذا ما يفوق الكثير مما عداه من الأعمال، ولله الحمد كثيرًا"، وقال الحليميّ: أنواع البلاء والآفات كلها مؤاخذات، وإنما المؤاخذة عن ذنب، فإذا حصل الذنب مغفورًا، وأدركت العبد الرحمة لم تقع المؤاخذة، فإذا قيل للعاطس: يرحمك الله، فمعناه جعل الله لك ذلك، لتدوم السلامة. وفيه إشارة إلى تنبيه العاطس على طلب الرحمة، والتوبة من الذنب، ومن ثم شرع له الجواب بقوله: غفر الله لنا ولكم. وقد خص من عموم الأمر بتشميت العاطس جماعةٌ:

الأول من لم يحمد كما مرَّ. الثاني الكافر، فقد أخرج أبو داود، وصححه الحاكم عن أبي موسى، قال: كانت اليهود يتعاطسون عند النبي -صلى الله عليه وسلم-، رجاء أن يقول: يرحمك الله، فكان يقول: يهديكم الله ويصلح بالكم. قال ابن دقيق العيد: إذا نظرنا إلى قول من قال من أهل اللغة: إن التشميت الدعاء بالخير، دخل الكفار في عموم الأمر بالتشميت، وإذا نظرنا إلى من خص التشميت بالرحمة، لم يدخلوا. قال: ولعل في خص التشميت بالدعاء بالرحمة، بناه على الغالب؛ لأنه تقييد لوضع اللفظ في اللغة، وهذا البحث أنشأه من حيث اللغة، وأما من حيث الشرع، فحديث أبي موسى دالٌّ على أنهم يدخلون في مطلق الأمر بالتشميت، لكن لهم تشميت خاص، وهو الدعاء لهم بالهداية، وإصلاح البال، وهو الشأن. ولا مانع من ذلك، بخلاف تشميت المسلمين، فإنهم أهل للدعاء بالرحمة بخلاف الكفار. الثالث المزكوم إذا تكرر منه العطاس فزاد على الثلاث، فإن ظاهر الأمر بالتشميت يشمل من عطس واحدة أو أكثر، لكن وردت فيه أحاديث، منها ما هو مرفوع، وما هو موقوف، على أنه إذا عطس ثلاثًا يكون مزكومًا، ولا يشمته بعد ثلاث، ويشمته إلى ثلاث إذا حمد الله، سواءً تتابع عطاسه أم لا، فلو تتابع ولم يحمد لغلبة العطاس عليه، ثم كرر الحمد بعدد العطاس، فهل يشمت بعدد الحمد فيه؟ وظاهر الخبر نَعَم. وأخرج أبو يَعلى وابن السنيّ عن أبي هريرة النهي عن التشميت بعد ثلاث، ولفظه "إذا عطس أحدكم فليشمته جليسه، فإن زاد على ثلاث، فهو مزكوم ولا يشمته". فيه سليمان بن أبي داود الحرانى ضعيف، وله شواهد، منها حديث عبيد بن رفاعة الصلخابيّ عند أبي داود والترمذيّ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يشمت العاطس ثلاثًا، فإن زاد، فإن شئت فشمته، وإن شت فلا". قال ابن العربيّ: هذا الحديث، وإن كان فيه مجهول، لكن يستحب العمل به؛ لأنه دعاءٌ بخير، وصلةٌ وتوددٌ للجليس، فالأولى العمل به. وقال ابن عبد البَرّ: دل حديث عبيد بن رفاعة على أنه يشمت ثلاثًا، ويقال: أنت مزكوم، بعد ذلك، وهي زيادة يجب قبولها، فالعمل بها أولى، ثم حكى النوويّ عن ابن العربيّ أن العلماء اختلفوا، هل يقول لمن تتابع عطاسه: أنت مزكوم، في الثانية أو الثالثة أو الرابعة؟ على أقوال، والصحيح في الثالثة، قال: ومعناه أنك لست ممن يشمت بها، لأنّ الذي به مرضٌ، وليس من العطاس المحمود الناشىء عن خفة البدن كما مرَّ. قال: فإن قيل: إذا كان مرضًا فينبغي أن يشمت بطريق الأولى؛ لأنه أحوج إلى الدعاء من غيره. قلنا نعم، لكن يدعى له بدعاء يلائمه، لا بالدعاء المشروع للعطاس من جنس دعاء المسلم بالعافية. وذكر ابن دقيق العيد عن بعض الشافعية أنه قال: يكرر التشميت إذا تكرر العطاس، إلا أن

يعرف أنه مزكوم، فيُدعى له بالشفاء، قال: وتقديره أن العموم يقتضي التكرار إلا في موضع العلة، وهو الزكام، وعند هذا يسقط الأمر بالتشميت عند العلم بالزكام، لأنّ التعليل به يقتضي أن لا يشمت من علم أن به زكامًا أصلًا. وتعقبه بأن المذكور هو العلةُ دون التعليل، وليس المعلل هو مطلق الترك، ليعم الحكم عليه بعموم علته، بل المعلل هو الترك بعد التكرير، فكأنه قيل: لا يلزم تكرر التشميت؛ لأنه مزكوم. قال: ويتأيد بمناسبة المشقة الناشئة عن التكرار. الرابع ممن يخص من عموم العاطسين: مَن يكره التشميت. قال ابن دقيق العيد: ذهب بعض أهل العلم إلى أن من عرف من حاله أنه يكره التشميت أنه لا يشمت إجلالًا للتشميت أن يؤهَّلَ له من يكرهه. فإن قيل: كيف تترك السنة لذلك؟ قلنا: هي سنة لمن أحبها، فأما من كرهها ورغب عنها فلا. قال: ويَطَّرد ذلك في السلام والعبادة. قال ابن دقيق العيد: والذي عندي أنه لا يمتنع من ذلك إلا من خاف منه ضررًا، فأما غيره فيشمت امتثالًا للأمر، ومناقضة للمتكبر في مراده، وكسرًا لسَوْرته في ذلك، وهو أولى من إجلال التشميت، ويؤيده أنَّ لفظ التشميت دعاء بالرحمة، فهو يناسب المسلم كائنًا من كان. الخامس: قال ابن دقيق: يستثنى أيضًا من عطس والإمام يخطب، فإنه يتعارض الأمر بتشميت من سمع العاطس والأمر بالإنصات لمن سمع الخطيب، والراجح الإنصاف لإمكان تدارُك التشميت بعد فراغ الخطيب، ولاسيما إن قيل بتحريم الكلام والإمام يخطب. وعلى هذا، فهل يتعين تأخير التشميت حتى يفرغ الخطيب، أو يشرع له التشميت بالإشارة؟ فلو كان العاطس الخطيب فحمد، واستمر في خطبته، فالحكم كذلك. وإن حمد فوقف قليلًا ليشمت، فلا يمتنع أن يشرع تشميته. قلت: مذهب المالكية إنه يشمته بالإشارة، لا بالنطق لا سرًا ولا جهرًا. وظاهر كلام بعضهم تحريمه. السادس: ممن يمكن أن يستثنى: مَن كان عند عطاسه في حالة يمتنع عليه فيها ذكر الله، كما إذا كان على الخلاء أو في الجماع، فيؤخر، ثم يحمد الله، فيشمت، فلو خالف فحمد في تلك الحالة، هل يستحقط التشميت؟ فيه نظر. وقوله في الحديث: نهانا عن سبع، سقط في هذا الباب واحدة من السبع المنهي عنها، ولعلها سقطت من الناسخ، وقد ذكرها في باب خواتيم الذهب من كتاب اللباس، وهي المِبْثَرَةُ الحمراء. وقوله: ونهانا عن آنية الفضة، متناول للنهي عن الأكل فيها والشرب. وقد جاء التصريح بهما فيما أخرجه أحمد عن ابن أبي ليلى بلفظ "نهى إنْ يُشرب في آنية الذهب والفضة وأن يوكل فيهما". أخرج مسلم أيضًا عن نافع "الذي يأكل ويشرب في آنية الذهب والفضة إنما يُجَرْجِر في بطنه نار

جهنم" والجرجرة صوت يردده البعير في حنجرته إذا هاج، نحو صوت اللجام في فك الفرس. وفي حديث حذيفة في كتاب الأشربة: "لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تلبسوا الحرير والديباج، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة" زاد مسلم في حديث البراء "فإنه من شرب فيها في الدنيا لم يشرب فيها في الآخرة" ومثله في حديث أبي هُريرة، رفعه "من شرب في آنية الذهب والفضة في الدنيا، لم يشرب فيهما في الآخرة، وآنية أهل الجنة الذهب والفضة" أخرجه النسائي بسند قويّ، ففي هذه الأحاديث تحريم الأكل والشرب في آنية الذهب الفضة على كل مكلف، رجلًا كان أو امرأة، ولا يلتحق ذلك بالحلي للنساء؛ لأنه ليس من التزين الذي أبيح لهنّ في شيء. قال القرطبيّ وغيره: في الحديث استعمال أوانيّ الذهب والفضة في الأكل والشرب، ويلحق بهما ما في معناهما، مثل التطيب والتكحل، وسائر وجوه الاستعمالات. وبهذا قال الجمهور، ونقل ابن المنذر الإِجماع على تحريم الشرب في آنية الذهب والفضة، إلا عن معاوية بن قُرَّة، أحد التابعين، فكأنه لم يبلغه النهي. وعن الشافعي في القديم، ونقل عن نصه في حرملة، أن النهي فيه للتنزيه؛ لأنّ علته ما فيه من التشبه بالأعاجم. ونصَّ في الجديد على التحريم، ومن أصحاب من قطع به عنه، وهذا اللائق به، لثبوت الوعيد عليه بالنار كما مرَّ. وإذا ثبت ما نقل عنه، فلعله كان قبل أن يبلغه الحديث المذكور. ويؤيد وهم النقل عن نصه أيضًا في حرملة أن صاحب التقريب، نقل في كتاب الزكاة عن نصه في حرملة، تحريم اتخاذ الإناء من الذهب والفضة، وإذا حرم الاتخاذ فتحريم الاستعمال أولى، والعلة المشار إليها ليس متفقًا عليها، كما يأتي قريبًا. وأغربت طائفة شذت فأباحت ذلك مطلقًا، ومنهم من قصر التحريم على الأكل والشرب، ومنهم من قصره عل الشرب؛ لأنه لم يقف على الزيادة المذكورة في الأكل. واختلف في علة المنع، فقيل: إن ذلك يرجع إلى عينهما، ويؤيده قوله "هي لهم" "وإنها لهم"، وقيل: لكونهما الأثمان وقيم المتلفات، فلو أبيح استعمالهما لجاز اتخاذ الآلات منهما، فيفضي إلى قلتهما بأيدي الناس فيجحف بهم، ومثله الغزاليّ بالحكام الذين وظيفتهم التصرف لإظهار العدل بين الناس، فلو منعوا التصرف لأخل ذلك بالعدل، فكذا في اتخاذ الأواني من النقدين، حبسٌ لهما عن التصرف الذي ينتفع به الناس، يرد على هذا جواز الحلي للنساء من النقدين، ويمكن الانفصال عنه، وهذه العلة هي الراجحة عند الشافعية، وبه صرح أبو عليّ السبخيّ وأبو محمد الجويني. وقيل: علة التحريم السَّرَف والخُيَلَاء، أو كسر قلوب الفقراء، ويرد عليه جواز استعمال الأواني من الجواهر النفيسة، وغالبها أنفس، وأكثر قيمة من الذهب والفضة، ولم يمنعها إلا من شذ.

وقد نقل ابن الصباغ في "الشامل" الإِجماع على الجواز، وتبعه الرافعيّ ومن بعده، لكن في زوائد العمرانيّ عن صاحب "الفروع" نقل وجهين، قلت: مذهب مالك فيها المنع، والكراهة، والجواز. وقيل: العلة في المنع التشبه بالأعاجم، وفي ذلك نظر، لثبوت الوعيد لفاعله، ومجرد التشبه لا يصل إلى ذلك. واختلف في اتخاذ الأواني دون استعمالها، والأشهر المنع، وهو قول الجمهور. ورخصت فيه طائفة، وهو مبني على العلة في منع الاستعمال، ويتفرع على ذلك غرامة أرش ما أفسد منها، وجواز الاستيجار عليها. وقوله في الحديث السابق: إنها لهم في الدنيا، أو هي لهم، ليس المراد به إباحة استعمالهم إياه، وإنما المعنيّ بقوله "لهم" أي: هُمُ الذين يستعملونه مخالفة لزي المسلمين، وكذا قوله: "ولكم في الآخرة" أي: تستعملونه مكافأة لكم على تركه في الدنيا، ويَمنعه أولئك جزاءًا لهم على معصيتهم باستعماله. ويحتمل أن تكون فيه إشارة إلى أن الذي يتعاطاه في الآخرة، كما جاء ذلك في شرب الخمر ولباس الحرير. وهذا كله في الذي جميعه من ذهب أو فضة، أما المخلوط أو المُضَبَّبُ أو المُمَوَّه، وهو المطلِيّ، ففيه الخلاف، وورد فيه حديث أخرجه الدارقطنيّ والبيهقيّ عن ابن عمر برفعه. "مَن شرب في آنية الذهب والفضة، أو إناء فيه شيءٌ من ذلك، فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم". قال البيهقيّ: المشهور عن ابن عمر موقوف عليه. قلت: هذا لا مجال للرأي فيه، فله حكم الرفع، وهو عند ابن أبي شيبة من طريق أخرى عنه، أنه كان لا يشرب من قدح فيه حلقَة فضة، ولا ضَبَّة فضة. ومن طريق أخرى عنه، أنه كان يكره ذلك. وفي الأوسط للطبرانى عن أم عطية: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن تفضيض الأقداح، ثم رخص فيه للنساء" وأخرج البخاريّ في كتاب "الأشربة" عن عاصم الأحول قال: "رأيت قدح النبيّ -صلى الله عليه وسلم- عند أنس بن مالك، وكان قد انصدع، فَسَلْسَلَهُ بفضة"، ففي هذا الحديث جواز اتخاذ ضَبَّة الفضة، كذلك السلسلة، والحَلْقة، وهذا مما اختلف فيه، كما مرَّ. قال الخطابيّ: منعه مطلقًا جماعة من الصحابة والتابعين، وهو قول مالك والليث، وعن مالك يجوز من الفضة إن كان يسيرًا، وكرهه الشافعيّ، قال: لئلا يكون شاربًا على فضة، فأخذ بعضهم منه أن الكراهة تختص بما إذا كانت الفضة في موضع الشرب، وبذلك صرّح الحنفية. وقال به أحمد، وإسحاق، وأبو ثور. وقال ابن المنذر، تبعًا لأبي عُبيد: المعضض ليس هو إناء فضة، والذي تقرر عند الشافعية أنَّ الضبة إنْ كانت من الفضة، وهي كبيرة للزينة، تحرم، وللحاجة فتجوز مطلقًا، وتحرم شبة الذهب مطلقًا، ومنهم من سوّى بين ضبتي الذهب والفضة، وحديث الدارقطنيّ والبيهقي المتقدم عن ابن عمر معلولٌ بجهالة إبراهيم بن عبد الله بن مطيع الراوي عن ابن عمر، واستدل بقوله: "أو إناء فيه شيء من ذلك، الوارد في حديث ابن عمر، على تحريم الإناء من

النحاس أو الحديد المطلي بالذهب أو الفضة. والصحيح عند الشافعية إن كان يحص منه بالعرض على النار حَرُم، وإلا فوجهان أصحهما لا، وفي العكس وجهان كذلك، ولو غُلِّف إناء الذهب أو الفضة بالنحاس مثلًا، ظاهرًا وباطنًا، فكذلك، وجزم إمام الحرمين أنه لا يحرم، كحشو الجبة التي من القطن، مثلًا، بالحرير. واستدل بجواز اتخاذ السلسلة والحلقة أنه يجوز أن يُتَّخَذَ للإناء رأسٌ منفصل عنه، وهذا ما نقله المتولي والبَغوِيّ والخوارزميّ. وقال الرافعيّ: فيه نظر. وقال النوويّ: في "شرح المهذب": ينبغي أن يُجْعَل كالتضبيب، ويجري فيه الخلاف والتفصيل، واختلفوا في ضابط الصِّغَر في ذلك، فقيل: العُرْف، وهو الأصح، وقيل: ما يَلْمَع على بُعْد كبير، وما لا فصغير وقيل: ما استوعب جزءًا من الإناء، كأسفله أو عروته أو شفته، كبيرٌ. وما لا فلا، ومتى شك فالأصل الإباحة. وقوله: "وخاتم الذهب" قد استوفى الكلام عليه غاية الاستيفاء، عند حديث أنس في باب "ما يذكر في المناولة" من كتاب العلم، وقوله: والحرير والدِّيباج والقَسِّي والاسْتَبرق، الحرير يتناول الثلاثة التي بعده، فيكون وجه عطفها عليه لبيان الاهتمام بحكم ذكر الخاص بعد العام، أو لدفع وهم أن تخصيصه باسمٍ مستقل لا ينافي دخوله تحت حكم العام، أو الإشعار بأن هذه الثلاثة غير الحرير نظرًا إلى العرف، وكونها ذوات أسماء مختلفة يكون مقتضيًا لاختلاف مسمياتها. وقد مرَّ الكلام مستوفى على الحرير جملة في باب "من صلى في فروج حرير" في أوائل كتاب الصلاة، ومرَّ الكلام على الثوب الأحمر وعلى المِبْثرة في باب "استعمال فضل وضوء الناس" من كتاب الوضوء، والقَسِّي، بفتح القاف وتشديد المهملة المكسورة. وقال أبو عُبيد: أهل الحديث يقولون بكسر القاف، أهل مصر يفتحونها، وهو نسبة للقَسّ، قرية بمصر، منها الطبريّ وابن سَيْده، وهي على ساحل مصر، حصنٌ بالقرب من الفَرَما، بالتحريك، من جهة الشام. وقال النوويّ: هي بقرب تَنِيس، وهو متقارب. وحكى أبو عبيد: أنها بالزاي لا بالسين، نسبة إلى القز، وهو الحرير، أبدلت الزاي سينًا. وأخرج البخاريّ تعليقًا عن أبي بُرْدة قلتُ لعلي: ما القسية؟ قال: ثياب أتتنا من الشام أو من مصر، مضلعةٌ فيها حرير. وأخرجه مسلم موصولًا، ولفظه "نهاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن لبس القَسِّي، وعن المباثر". وقوله في رواية البخاريّ "مضلعة" أي فيها خطوط عريضة كالأضلاع، وحكى المنذريّ أن المراد بالمُضَلّع، ما نسج بعضه وترك بعضه. وقوله: "فيها حرير"، يشعر بأنها ليست حريرًا صرفًا. وحكى النوويّ عن العلماء أنها ثياب مخلوطة بالحرير، وقيل: من الخز، وهو رديء الحرير. واستدل بالنهي عن لبس القَسِّيّ على منع لبس ما خالطه الحرير من الثياب، لتفسير القَسِّيّ بأنه ما

خالط غيرُ الحرير فيه الحريرَ. ويؤيده عطف القَسِّيّ على الحرير، والحرير على القَسِّيّ في حديث البراء، ووقع ذلك في حديث علي عند أبي داود والنسائي وأحمد، بسند صحيح، على شرط الشيخين عن عليّ قال: نهاني النبي -صلى الله عليه وسلم- عن القَسِّيّ والحرير، ويحتمل أن تكون المغايرة باعتبار النوع، فيكون الكل من الحرير، كما وقع عطف الديباج على الحرير في حديث حذيفة، الآتي في كتاب اللباس، بلفظ "وعن لبس الحرير والديباج" ولكن الذي يظهر، من سياق طرق الحديث في تفسير القَسِّيّ، أنه الذي يخالط الحرير، لا أنه الحرير الصرف، فعلى هذا يحرم لبس الثوب الذي خالطه الحرير، وهو قول بعض الصحابة، كابن عمر، والتابعين كابن سيرين. وذهب الجمهور إلى جواز لبس ما خالطه الحرير، إذا كان غيرُ الحرير الأغلبَ، وعُمدتهم في ذلك ما تقدم في "كتاب الجمعة" في تفسير الحلة السبراء، وما انضاف إلى ذلك من الرخصة في العَلم في الثوب، إذا كان من حرير. قال ابن دقيق العيد: وهو قياس في معنى الأصل، لكن لا يلزم من جواز ذلك جواز كل مختلط، وإنما يجوز منه ما كان مجموع الحرير فيه قدر أربع أصابع، لو كانت منفردة، بالنسبة لجميع الثوب، فيكون المنع من لبس الحرير شاملًا للخالص والمختلط، وبُعد الاستثناء يقتصر على القدر المستثنى، وهو أربع أصابع إذا كانت منفردة، ويلتحق بها في المعنى ما إذا كانت مختلطة. قال: وقد توسع الشافعية في ذلك، ولهم طريقان: أحدهما، وهو الراجح، اعتبارُ الوزن، فإن كان الحرير أقل وزنًا لم يحرم، أو أكثر حرم، وإن استويا فوجهان، اختلف الترجيح فيهما عندهم. والطريق الثاني أن الاعتبار بالقلة والكثرة بالظهور، وهذا اختيار القَفَّال ومن تبعه. وعند المالكية في المختلط أقوالٌ ثالثها الكراهةُ، ومنهم من فرق بين الخَزّ وبين المختلط بقطن ونحوه، فأجاز الخز ومنع الآخر، وهذا مبني على تفيسر الخز، وقد تقدم في بعض تفاسير القَسِّيّ أنه الخز، فمن قال إنه رديء الحرير فهو الذي يتنزل عليه القول المذكور، ومن قال إنه ما كان من وَبَر فخُلِط بحرير، لم يتجه التفصيل المذكور. واحتج أيضًا من أجاز لبس المختلط بحديث ابن عباس "إنما نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الثوب المُصْمَت من الحرير، وأمّا العَلَم من الحرير وسَدَى الثوب، فلا بأس به" أخرجه الطَّبرانيّ بسند حسن هكذا. وأصله عند أبي داود، وأخرجه الحاكم بسند صحيح بلفظ "إنما نهى عن المُصْمَت إذا كان حريرًا". وللطبرانيّ من طريق ثالث "نهى عن مُصْمَت الحرير، فأما ما كان سَدَاه من قُطْن أو كَتَّان فلا بأس به" واستدل ابن العربيّ للجواز أيضًا، بأنَّ النهي عن الحرير حقيقة في الخالص، والإذن في

القطن ونحوه صريح، فإذا خُلِطا بحيث لا يسمى حريرًا، بحيث لا يتناوله الاسم، ولا تشمله علة التحريم، خرج عن الممنوع فجاز. وقد ثبت لبس الخز عن جماعة من الصحابة وغيرهم. قال أبو داود: لبسه عشرون نفسًا من الصحابة وأكثر، وأورده ابن أبي شَيبة عن جمع منهم، وعن طائفة من التابعين، بأسانيد جياد، وأعلى ما ورد في ذلك ما أخرجه أبو داود والنَّسَائيّ عن عبد الله بن سعد الدَّشْتَكِيّ عن أبيه، قال: رأيت رجلًا على بغلة، وعليه عمامة خَزّ سوداء، وهو يقول: كَسَانيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-". وأخرج ابن أبي شَيبة عن عَمّار ابن أبي عمّار قال: أتَتْ مروان بن الحَكم مطارفُ خَزٍّ فكساها أصحابَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. والأصح في تفيسر الخز أنه ثياث سَدَاها من حرير ولُحْمَتها من غيره. وقيل: تنسج مخلوطة من حرير وصوف أو نحوه. وقيل: أصله اسم دابة يقال لها الخَزّ، سُمِّي الثوب المتخذ من وبره خزًا لنعومته، ثم أطلق على ما يخلط بالحرير لنعومة الحرير، وعلى هذا، فلا يصح الاستدلال بلبسه على جواز لُبس ما يخالطه الحرير، ما لم يتحقق أن الخز الذي لبسه السلف كان من المخلوط بالحرير. وأجاز الحنفية والحنابلة لُبْس الخز ما لم يكن فيه شُهْرة، ويحرم عندهم، أي: الحنابلة، لُبْس ما أكثره حرير، لا إنْ استويا، فلا يحرم، ولا يحرم حشوُ جِباب به وفرش، وعن مالك كراهة الخز، وهذا كله في الخز. وأما القز، بالقاف بدل الخاء المعجمة، فقال الرافعيّ: عد الأئمة القز من الحرير، وحرموه على الرجال، ولو كان كَمِدَ اللَّون. ونقل الإِمام الاتفاقَ عليه، لكن حكى المُتَوَلِّي في "التتمة" وجهًا، أنه لا يحرم، لأنه لبس من ثياب الزينة. قال ابن دقيق العيد. إن كان مراده بالقز ما نطلقه نحن الآن عليه، فليس يخرج من اسم الحرير، فيحرم، ولا اعتبار بُكُمودة اللون، ولا بكونه ليس من ثياب الزينة، فإنَّ كلًا منهما تعليلٌ ضعيف، لا أثر له بعد انطلاق الاسم عليه. ولم يتعرض لمقابل التقسيم، وهو وإن كان المراد به شيئًا آخر، فيتجه كلامه، والذي يظهر أن مراده به رديء الحرير، وهو ما تقدم في الخز، ولأجل ذلك وصفه بكمودة اللون. وقوله في الحديث "والدِّيباج" هو بكسر الدال، فارسي معرب، وقال ابن الأثير: الديباجُ الثيابُ المتخذة من الإِبْرَيْسِم، وقد تُفتح داله، ويجمع على ديابيج، بياءين، ودبابيج بياءين، لأنه أصله دِبّاج. وقوله: "والإسْتَبْرَق" بكسر الهمزة وفتح الراء، ثخينُ الديباج على الأشهر، وقيل: رقيقه، وقال النَّسَقِيّ في قوله تعالى: {يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ}: السندس ما رَقَّ من الحرير،

رجاله خمسة

والديباج والاستبرق ما غلظ منه، وهو تعريب إستبرك. رجاله خمسة: مرَّ منهم أبو الوليد في العاشر من الإيمان، وشعبة في الثالث منه، والبراء في الثالث والثلاثين منه، ومرَّ الأشعث في الثالث والثلاثين من الوضوء. والخامس معاوية بن سَوَيد بن مُقْرِن المُزَنيّ، أبو سعيد الكوفيّ. ذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال العجليَّ: كوفيّ تابعيّ ثقة، وذكَره أبو أحمد العَسْكريّ في الصحابة، وليس يصححون سماعه. روى عن أبيه والبراء بن عازب، وروى عنه أشعث بن أبي الشَّعْثاء والشَّعبيّ وعمرو بن مُرَّة. له في الكتب حديثان. فيه التحديث السمَاع والقول، ورواته ما بين بصريّ وواسطيّ وكوفيّ، أخرجه أيضًا في المظالم واللباس والطب والنذور والنكاح والاستئذان والأشربة، ومسلم في الأطعمة، والتّرْمِذيّ في الاستئذان واللباس، والنَّسَائِيّ في الجنائز والإيمان والنذور والزينة، وابن ماجه في الكَفَّارات واللباس. الحديث الرابع حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ عَنِ الأَوْزَاعِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ رَدُّ السَّلاَمِ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ. وقوله: حدثنا عمرو بن أبي سَلَمة، ضعَّفه ابن مُعِين بسبب أن في حديثه عن الأوزاعيّ مناوَلَةً وإجازة، لكن بيَّن أحمد بن صالح المصريّ أنه كان يقول فيما سمعه: حدثنا، ولا يقول ذلك فيما لم يسمعه، وعلى هذا، فقد عنعن هذا الحديث، فدل على أنه لم يسمعه، والجواب عن البخاري أنه يعتمد على المناولة، ويحتج بها، وقصارى هذا الحديث أن يكون منها، وقد قواه بالمتابعة التي ذكرها عقبه، ولم ينفرد به عمرو مع ذلك، فقد أخرجه الإِسماعيليّ عن الوليد بن مسلم وغيره عن الأوزاعيّ، وكأن البخاريّ اختار طريق عمرو لوقوع التصريح فيها بالإخبار بين الأوزاعيّ والزهريّ. وقوله: حق المسلم على المسلم خمس، في مسلم عند عبد الرزاق "خمس تجب للمسلم على المسلم" وله عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هُريرة "حق المسلم على المسلم

رجاله ستة

ست" وزاد "وإذا استنصحك فانصح له"، وقد تبين أن معنى الحق هنا الوجوبُ، خلافًا لقول ابن بطّال: المراد حقُّ الحُرمة والصحبة. والظاهر أن المراد به هنا وجوب الكفاية، وقد استوفيت مباحثه في الذي قبله. رجاله ستة: قد مرّوا، مرَّ محمد بن يحيى الذهليّ، فإنه هو المراد بمحمد، الذي لم ينسب هنا، في العشرين من كتاب العيدين، ومرَّ عمرو بن أبي سلَمة في متابعة بعد الثالث والثلاثين من التَّهَجُّد، ومرَّ الأوزاعيّ في العشرين من العِلم، وابن شهاب في الثالث من بدء الوحي، وسعيد بن المسيب في التاسع عشر من الإيمان، وأبو هُريرة في الثاني منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإخبار بالأفراد، والعنعنة والسماع والقول، ورواية تابعيّ عن تابعيّ، أخرجه النَّسائي، في "اليوم والليلة". ثم قال: تابعه عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، وهذه المتابعة وصَلها مسلم، وقال في آخره: وكان معمر يرسل هذا الحديث، وأسنده مُرَّة عن ابن المُسَيّب عن أبي هُريرة، وعبد الرزاق مرَّ في الخامس والثلاثين من الإيمان، ومرَّ معمر في متابعة بعد الرابع من بدء الوحي. ثم قال: ورواه سلامة بن رَوح عن عَقيل، ورواية سلامة هذه في الزهريات للذُّهليّ ولسلامة نسخة من عمه عقيل عن الزهريّ، وعقيل بن خالد مرَّ في الثالث من بدء الوحي. وسلامة هو، بتخفيف اللام، ابن رُوح بن خالد بن عقيل بن خالد الأمويُّ، مولاهم، أبو خَرْبَق، بفتح الخاء وسكون الراء وفتح الباء، وقيل: أبو روح الأيليّ، ذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال: مستقيم الحديث. وقال أبو حاتم: ليس بالقويّ، محله عندي محلُّ الغَفْلة، وقال أبو زرعة: ضعيف مُنْكَر الحديث، يكتب حديثه على الاعتبار. روى عن عمه عقيل بن خالد كتاب الزهريّ، وقيل: إنه لم يسمع من عمه لصغر سنه، وروى عنه قرينه محمد بن عزير، وأحمد بن صالح المصريّ، ويونس بن عبد الأعلى وغيرهم. مات في شعبان سنة سبع وتسعين ومئة. ثم قال المصنف.

باب الدخول على الميت بعد الموت إذا أدرج في أكفانه

باب الدخول على الميت بعد الموت إذا أُدرج في أكفانه أي: لُفَّ فيها، قال ابن رشيد: موقع هذه الترجمة من الفقه أن الموتَ، لمّا كان سبب تغير محاسن الحي التي عُهد عليها، ولذلك أمر بتغميضه وتغطيته، كان ذلك مظنة للمنع من كشفه، حتى قال النخعيَّ: ينبغي أن لا يطَّلع عليه إلَّا، الغاسلُ له ومن يليه، فترجم البخاري على جواز ذلك. الحديث الخامس حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنِي مَعْمَرٌ وَيُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَخْبَرَتْهُ قَالَتْ: أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه عَلَى فَرَسِهِ مِنْ مَسْكَنِهِ بِالسُّنْحِ حَتَّى نَزَلَ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَلَمْ يُكَلِّمِ النَّاسَ، حَتَّى دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها فَتَيَمَّمَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ مُسَجًّى بِبُرْدِ حِبَرَةٍ، فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ، ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ ثُمَّ بَكَى فَقَالَ: بِأَبِي أَنْتَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، لاَ يَجْمَعُ اللَّهُ عَلَيْكَ مَوْتَتَيْنِ، أَمَّا الْمَوْتَةُ الَّتِى كُتِبَتْ عَلَيْكَ فَقَدْ مُتَّهَا. قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: فَأَخْبَرَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه خَرَجَ وَعُمَرُ رضي الله عنه يُكَلِّمُ النَّاسَ. فَقَالَ: اجْلِسْ. فَأَبَى. فَقَالَ اجْلِسْ. فَأَبَى، فَتَشَهَّدَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه فَمَالَ إِلَيْهِ النَّاسُ، وَتَرَكُوا عُمَرَ فَقَالَ أَمَّا بَعْدُ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا -صلى الله عليه وسلم- فَإِنَّ مُحَمَّدًا -صلى الله عليه وسلم- قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لاَ يَمُوتُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} وَاللَّهِ لَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الآيَةَ حَتَّى تَلاَهَا أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه فَتَلَقَّاهَا مِنْهُ النَّاسُ، فَمَا يُسْمَعُ بَشَرٌ إِلاَّ يَتْلُوهَا. استشكلت دلالة هذا الحديث على الترجمة، بأن أبا بكر إنما دخل قبل الغَسل فضلًا عن التكفين، وعمر ينكر حينئذٍ أن يكون مات، ويجاب عنه بأن الذي وقع دخولُ أبي بكر على النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وهو مسجى، أي: مغطى، فيؤخذ منه أن الدخول على الميت يمتنع إلا إن كان مُدْرَجًا في أكفانه، أو في حكم المدرج لئلا يطلعَ منه على ما يكره الاطلاع عليه. وقال الزَّين بن المُنير ما

محصله: كان أبو بكر عالمًا بأنه، -صلى الله عليه وسلم-، لا يزال مَصُونًا عن كل أذى، فساغ الدخول من غير تنقيب عن الحال، وليس ذلك لغيره. وقوله: "بالسُّنْحُ"، بضم السين وسكون النون وبضمها والحاء المهملة، وهو منازل بني الحارث بن الخزرج، بينها وبين منزل النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ميل. وقد كان أبو بكر متزوجًا فيهم. وقوله: "فتيمم" أي: قصد. وقوله: وهو مُسجّى، جملة إسمية وقعت حالًا، ومعنى مسجى، هنا، مغطى. وقوله: بِبُرْدِ حِبَرة، أيْ: بضم الموحدة وسكون الراء، وحِبَرَة على وزن عنبة، ثوب يمانيٌّ يكون من قطن أوَ كَتّان مخطط. وقال الداوديّ: هو ثوب أخضر. وحبرة تحتمل الإِضافة والوصف، أي: إضافة ثوب، والوصف بحبرة بالتنوين. وقوله: ثم أكبَّ عليه، هذا اللفظ ثلاثيُّه كَبَّ متعدٍ، ورباعيه أَكَبَّ، لازم عكس ما هو المشهور في القواعد التصريفية. وقوله: فقبّله، أي: بين عينيه، وترجم عليه النَّسائيّ، وأخرج عن عائشة أن أبا بكر قبَّلَ بين عينيّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- وهو ميت. وقوله: "بأبي أنت" أي: أنت مُفَدَّى بأبي، فالباء متعلقة بمحذوف، فيكون مرفوعًا خبرًا ومبتدءًا، وقوله: لا يجمع الله عليك موتَتين: في هذا اللفظ إشكال، وأجيب عنه بأجوبة، فقيل: هو على حقيقته، وأشار بذلك إلى الرد على من زعم أنه سيحيى، فيقطع أيدي رجال؛ لأنه لو صح ذلك، للزم أن يموت موتة أخرى، فأخبر أنه أكرم على الله تعالى من أن يجمع عليه موتتين، كما جمعهما على غيره، كالذين خرجوا من ديارهم وهو ألوف، وكالذي مرَّ على قرية، وهذا أوضح الأجوبة وأسلمها، وقيل: أراد لا يموت موتة أخرى في القبر، كغيره إذ يُحيا ليسئل ثم يموت، وهذا جواب الداوديّ. وقيل: لا يجمع الله موتَ نفسك وموتَ شريعتك، وقيل: كنى بالموت الثاني عن الكرب، أي: لا تلقى بعد كرب هذا الموت كربًا آخر. وقوله: كتبت عليك، وفي رواية "التي كتب الله" أي: قدرها الله، وقوله: مُتَّها، بضم الميم وكسرها، من مات يموت، ومات يَمَات، والضمير راجع إلى الموتة، وقوله: وعمر يكلم الناس، أي: يقول لهم: ما مات محمد -صلى الله عليه وسلم-، وعند أحمد عن عائشة "فسجيته بثوب، فجاء عمر والمغيرة بن شعبة، فاستأذنا فأذنت لهما، وجذبت الحجاب، فنظر عمر إليه، فقال: واغشيتاه، ثم قاما، فلما دَنَوا من الباب، قال المغيرة لعمر: مات يا عمر، قال: كذبت، بل أنت رجل تَحُوشك فِتنة، إنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يموت حتى يُفني الله المنافقين، ثم جاء أبو بكر، فرفعت الحجاب، فنظر إليه، فقال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-". وروى ابن إسحاق وعبد الرزاق والطبرانيّ عن عكرمة "أن العباس قال لعمر: هل عند أحد منكم عهدٌ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-في ذلك؟ قال: لا، قال: فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد مات، ولم يمت حتى

حارب وسالم، ونكح وطلّق، وترككم على محجة واضحة" وهذه من موافقات العباس للصديق، في حديث ابن عمر عند ابن أبي شيبة: أن أبا بكر مرَّ بعمر وهو يقول: "ما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لا يموت حتى يقتل المنافقين" وكانوا أظهروا الاستبشار، ورفعوا رؤوسهم، فقال: أيها الرجل، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد مات، ألم تسمع الله تعالى يقول: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}. وقال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ}. وقوله سابقًا: ثم أكَبَّ عليه، فقبله، في رواية أحمد عن عائشة "أتاه من قِبَل رأسه، فحدر فاه، فقبل جبهته، ثم قال: وانبياه، ثم رفع رأسه فحدر فاه، وقبل جبهته، ثم قال: واصَفِيَّاه، ثم رفع رأسه، وحدر فاه، وقيل: جبهته، ثم قال: واخليلاه". ولابن أبي شيبة عن ابن عمر "فوضع فاه على جبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فجعل يقبّله ويبكي، ويقول: بأبي وأُمي، طِبْتَ حيًا وميتًا" وللطبرانيّ عن جابر أن أبا بكر "قبّل جبهته"، وله عن سالم بن عَتِبك "أن أبا بكر دخل على النبيّ -صلى الله عليه وسلم-فمسَّه، فقالوا: يا صاحب رسول الله، مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: نعم". وقوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ}. في رواية عائشة عند أحمد أن أبا بكر حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الله يقول: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} حتى فرغ من الآية، ثم تلا {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} الآية، وقال فيه: قال عمر: أَوَ إنها في كتاب الله؟، ما شعرت أنها في كتاب الله، وفي حديث ابن عمر عند ابن أبي شيبة نحوه، وزاد "ثم نزل واستبشر المسلمون، وأخذ المنافقين الكآبةُ، قال ابن عمر: فكأنما على وجوهنا أغطية فكشفت" وفي الرواية الآتية في الوفاة قال عمر: فما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها، فَعُقِرْتُ حتى ما تقِلُّنِي رِجلاي، وحتى أهْوَيت إلى الأرض. وقوله: "فعقرتُ" بضم العين وكسر القاف، أي: هلكت، وفي رواية بفتح العين، أي دُهِسْت وتحيّرتُ، ويقال: سقطت. وروى بالفاء من العَفَر، وهو التراب. وفي رواية الكَشْميهنيّ "فقعرتُ" بتقديم القاف على العين، وهو خطأ. وقوله: ما تُقِلُّني، أي بضم أوله وكسر القاف وتشديد اللام، أي ما تحملني، وقوله: وحتى أهويت، في رواية الكشميهنيّ "حتى هَوَيت" بفتح أوله وثانيه، وعند عبد الرزاق عن الزهريّ "فعقرت وأنا قائم، حتى خررتُ إلى الأرض، فأيقنتُ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد مات". وفي الحديث قوة جأش أبي بكر، وكثرة علمه، وقد وافقه على ذلك العباس والمغيرة كما ذكرنا، ووافقه ابن أمِّ مَكْتوم، لما في المغازي لأبي الأسود عن عُروة قال: إنه كان يتلو قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} والناس لا يلتفتون إليه، وكأن أكثر الصحابة على خلاف ذلك، فيؤخذ منه أن الأقل عددًا في الاجتهاد قد يصيب، ويُخطىء الأكثر، فلا يتعين الترجيح بالأكثرية، ولاسيما

إن ظهر أن بعضهم قلَّد بعضًا. وفي الحديث أيضًا جواز تقبيل الميت تعظيمًا وتبركًا، وجواز التفدية بالآباء والأمهات؛ وقد يقال: هي لفظة اعتادت العرب أن تقولها، ولا تقصد معناها الحقيقي، إذ حقيقةُ التفديةِ بعد الموتِ لا تُتَصوَّر، وإنما كان تقبيل أبي بكر له، عليه الصلاة والسلام، اقتداءًا به في تقبيله -صلى الله عليه وسلم- عثمانَ بن مظعون، لما في التِّرمذيّ أنه دخل عليه وهو ميت، فأكبَّ عليه وقبله، ثم بكى حتى رُئيت الدموع تسيل على وجنته" وفي التمهيد "لما توفي عثمان بن مظعون كشف النبيّ -صلى الله عليه وسلم- الثوب عن وجهه، وبكى بكاء طويلًا، وقبّل بين عينيه، فلما رُفِع على السرير، قال: طُوبى لك يا عثمان، لم تَلْبَسك الدنيا، ولم تُلْبَسها". وفيه البكاء على الميت من غير نَوْح، وسيأتي. وفيه أن الصِّدِّيق أعلمُ من عمر، وهذه إحدى المسائل التي ظهر فيها ثاقب علمه، وفضل معرفته، ورجاحة رأيه، وبارع فهمه، وحسن إسراعه بالقرآن، وثبات نفسه، كذلك مكانته عند الناس لا يساويه فيها أحد، ألا ترى أنه حين تشهد، وبدأ بالكلام، مال الناس إليه، وتركوا عمر، ولم يكن ذلك إلا لعظيم منزلته في النفوس على عمر، وسمو محله عندهم. وقد أقر عمر بذلك حين مات الصدّيق، فقال: والله ما أحب أن ألقى الله بمثل عمل أحد إلا بمثل عمل أبي بكر، ولَوددتُ أني شَعْرة في صدره. وفي الطبراني عن ابن عباس "قال: إني لا شيء مع عمر في خلافته، وييده الدرة، وهو يحدث نفسه، ويضرب قدمه بدرته، ما معه غيري أن قال: يا بن عباس، هل تدري ما حملني على مقالتي التي قلت حين مات النبيّ -صلى الله عليه وسلم-؟ قلت: لا أدري، والله يا أمير المؤمنين. قال: فإنه ما حملني على ذلك إلا قوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} إلى قوله: {شَهِيدًا} فوالله إن كنت لأظن أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سيبقى في أمته حتى يشهد عليها بأجزاء أعمالها. وفيه اهتمام عائشة، رضي الله تعالى عنها، بأمر الشريعة، وأنها لم يشغلها عن حفظها ما كان من أمر الناس في ذلك اليوم. وفيه غيبة الصديق عن وفاته -صلى الله عليه وسلم-، لأنه كان في ذلك اليوم بالسُّنْح، وكان متزوجًا هناك. وفيه الدخول على الميت بغير استئذان، ويحتمل أن يكون عند عائشة غيرها، فصار كالمحفل لا يحتاج الداخل إلى إذن، وروي أنه استأذن، فلما دخل أذن للناس. وفيه قول أبي بكر لعمر: اجلس، فأبى، وإنما ذلك لِمَا دَخل عمرَ من الدهشة والحزن. وقد قالت أم سلمة: ما صدقتُ بموت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حتى سمعت وقع الكِرَاز، أي: الفؤوس، وقيل: تريد وقع المَسَاعي تحثو التراب عليه -صلى الله عليه وسلم-. ويحتمل أن عمر رضي الله تعالى عنه ظن أن أجله، -صلى الله عليه وسلم-، لم يأت، وإنه تعالى مَنَّ على العباد بطول حياته. ويحتمل أن يكون أُنسيَ قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ} الخ، وقوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} الخ وكان يقول مع ذلك: ذهب محمد لميعاد ربه، كما

رجاله ثمانية

ذهب موسى لمناجاة ربه. وكان في ذلك ردعًا للمنافقين واليهود حين اجتمع الناس. وأما أبو بكر، رضي الله تعالى عنه، فرأى إظهار الأمر تجلدًا، ولما تلا الآية كانت تعزيًا وتصبرًا. وفيه ترك تقليد المفضول مع وجود الفاضل. رجاله ثمانية: وفيه ذكر عمر، وقد مرَّ الجميع، مرَّ بشر بن محمد وعبد الله بن المبارك في السادس من بدء الوحي، ومرَّ معمر ويونس في متابعة بعد الرابع منه، والزهريّ في الثالث منه، وأبو سلمة في الرابع منه، وعائشة في الثاني منه، وعمر في الأول منه، وابن عباس في الخامس منه، ومرَّ أبو بكر بعد الحادي والسبعين من الوضوء. فيه التحديث بالجمع والإخبار بالجمع والإِفراد والقول، وشيخ البخاري من أفراده، ورواته مَرْوَزِيّان وبصريّ وأيليّ ومدنيان. وفيه رواية التابعيّ عن التابعيّ. أخرجه البخاري أيضًا في المغازي وفي فضل أبي بكر، والنسائي وابن ماجه في الجنائز. الحديث السادس حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ أُمَّ الْعَلاَءِ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ بَايَعَتِ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ اقْتُسِمَ الْمُهَاجِرُونَ قُرْعَةً فَطَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، فَأَنْزَلْنَاهُ فِي أَبْيَاتِنَا، فَوَجِعَ وَجَعَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَغُسِّلَ وَكُفِّنَ فِي أَثْوَابِهِ، دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقُلْتُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ، فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَمَهُ؟. فَقُلْتُ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللَّهُ؟ فَقَالَ أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ، وَاللَّهِ إِنِّي لأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي. قَالَتْ فَوَاللَّهِ لاَ أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا. قوله: أنه اقْتُسم، الهاء ضمير الشأن، واقتسم بضم المثناة، والمعنى أن الأنصار اقترعوا على سُكنى المهاجرين، لما دخلوا عليهم المدينة، وقولها: فطار لنا، أي وقع في سهمنا، وذكره بعض المغاربة بالصاد، فصار لنا، وهو صحيح من حيث المعنى إن ثبتت الرواية،. وقولها: أبا السائب؛ تعني عثمان بن مظعون المذكور، وقوله: ما يفعل بي، في رواية الكَشْميهنيّ "به" وهو غلط، فإن المحفوظ في رواية الليث هذا، ولذلك عقَّبه المصنف برواية نافع بن يزيد عن عقيل التي لفظها "ما يفعل به" وعلق منها هذا القدرَ فقط، إشارةً إلى أن باقي الحديث لم يُختلف فيه، وإنما قال رسول

رجاله ستة

الله -صلى الله عليه وسلم-، ذلك موافقة لقوله تعالى في سورة الأحقاف: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} وكان ذلك قبل نزول قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} لأن الأحقاف مكية، وسورة الفتح مدنية بلا خلاف فيهما. وقد ثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "أنا أول من يدخل الجنة". وغير ذلك من الأخبار الصريحة في معناه، فيحتمل أن يحمل الإثبات في ذلك على العلم المجمل، والنفي على الإِحاطة من حيث التفصيل، وفي آخر هذا الحديث، في رواية الشهادات، في باب القرعة، وفي رواية التعبير قالت أم العلاء: ورأيت لعثمان في النوم عينًا تجري، فجئت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فذكرت ذلك له، فقال: "ذلك عمله يجري له" فقيل: يحتمل أنه كان لعثمان شيءٌ من عَمِلَه، بقي له ثوابه جاريًا كالصدقة. وأنكره مُفَلطاي وقال: لم يكن لعثمان بن مظعون شيء من الأمور الثلاثة التي ذكرها مسلم من حديث أبي هُريرة، رفعه، "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث" وهذا النفي مردود، فإنه كان له ولد صالح شهد بدرًا وما بعدها، وهو السائب، مات في خلافة أبي بكر، وهو أحد الثلاثة. وقد كان عثمان من الأغنياء، فلا يبعد أن تكون له صدقة استمرت بعد موته، فقد أخرج ابن سعد من مرسل أبي بُردة بن أبي موسى قال: دخلت امرأة عثمان بن مظعون على نساء النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فرأين هيأتها، فقلن: مالك ما في قريش أغنى من بعلك، فقالت: أما ليلُهُ فقائم .. الحديث. ويحتمل أن يراد بعمل عثمان بن مظعون مرابطته في جهاد أعداء الله، فإنه ممن يجري له عمله، كما ثبت في السنن، وصححه الترمذيّ وابن حبان والحاكم عن فَضالة بن عبيد، رفعه "كل ميت يختمُ على عمله إلا المرابط في سبيل الله، فإنه يُنْمى له عمله إلى يوم القيامة، ويأمن من فتنة القبر"، وله شاهد عند مسلم والنسائي والبزار عن سلمان رفعه "رباطٌ يوم وليلة في سبيل الله خيرٌ من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمل، وأَمِن الفتّان". وله شواهد أخرى، فليحمل حال عثمان بن مظعون على ذلك، ويزول الإشكال من أصله، والعين الجارية في النوم، قال المُهَلَّب: تحتمل وجوهًا، فإن كان ماؤها صافيًا عبرت بالعمل الصالح، وإلا فلا. وقال غيره: العين الجارية عمل جارٍ من صدقة أو معروف لحي أو ميت أحدثه أو أجراه. وقال آخرون: عين الماء نعمة وبركة، وخير وبلوغ أمنية إن كان صاحبها مستورًا، فإن كان غير عفيف أصابته مصيبة يبكي لها أهل داره. رجاله ستة: مرت الأربعة الأول منهم بهذا النسق في الثالث من بدء الوحي، والباقي اثنان من السند،

وعثمان بن مظعون المذكور في الحديث. الأول منهم خارجة بن زيد بن ثابت الأنصاريّ البخاريّ، أبو زيد المدنيّ. قال أبو الزناد: كان أحد الفقهاء السبعة، وقد مرَّ ذكرهم عند أولهم ذِكرًا في البخاري عروة بن الزبير في الثاني من بدء الوحي. وقال مصعب الزبيريّ: كان خارجة وطلحة بن عبد الله بن عوف يقسمان المواريث، ويكتبان المواثيق، وينتهي الناس إلى قولهما. وقال العجلى: مدنى تابعي ثقة. وذكره ابن حِبّان في الثقات وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث. وقال ابن خراشٍ: خارجةُ بن زيد أجلُّ من كل من اسمه خارجة، أدرك عثمان، وروى عن أبيه وعمه يزيد، وأسامة بن زيد وسهل بن سعد وأم العلاء وغيرهم. وروى عنه ابنه سليمان، وابنا أخويه سعيد بن سليمان بن زيد، وقيس بن سعد بن زيد، وأبو الزناد والزهري، وغيرهم. وقال ابن سعد: إن خارجة قال: رأيت في المنام أني بنيت سبعين درجة، فلما فرغت منها تدهورت، وهذه السنة لي سبعون سنة قد أكملتها. فمات فيها. مات بالمدينة سنة تسع وتسعين، وقيل سنة مئة. الثانية: أم العلاء بنت الحارث بن ثابت بن حارثة بن ثعلبة بن الحِلاس بن أمية بن خُدارة بن عوف بن الحارث بن الخزرج، يقال إنها والدة خارجة بن زيد بن ثابت الراوي عنها، كانت من المبايعات، وحديثها في الصحيحين، وفيه أنها "رأت لعثمان عينًا جارية، فذكرت ذلك للنبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "ذلك عمله" وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعودها في مرضها. الثالث: عثمان بن مظعون، بالظاء المعجمة، بن حبيب بن وهب بن حُذافة بن جُمَح الجُمَحِيّ. قال ابن إسحاق: أسلم بعد ثلاثة عشر رجلًا، وهاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية هو وابنه السائب الذي يُكنى به في جماعة، فلما بلغهم أن قريشًا أسلمت، رجعوا فدخل عثمان في جوار الوليد بن المغيرة. ثم ذكر رده جواره، ورضاه بما عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-. وذكر قصته مع لبيد بن ربيعة حين أنشد قوله: ألا كل شيءٍ ما خَلا الله باطلٌ فقال عثمان: صدقت، فقال لبيد: وكُل نعيم لا محالةَ زائلُ فقال عثمان: كذبت. نعيم أهل الجنة لا يزول. فقام سفيه منهم إلى عثمان فلطم عينه فأخضرَّت. وفي الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص "رد النبي -صلى الله عليه وسلم-، على عثمان بن مظعون التبتُّلَ، ولو

أذن له لاختصينا" وروى ابن شاهين والبيهقيّ في "الشعب" عن عثمان قال: "قلت يا رسول الله، إني رجل تشق علي الغُربة، فتأذن لي في الخصي فأختصي؟ فقال: لا، ولكن عليك يا ابن مظعون بالصوم". قال أبو عمر: كان عابدًا مجتهدًا من فضلاء الصحابة، وقد كان هو وأبو ذر وعلي بن أبي طالب هَمَّوا أن يختصوا ويتبتلوا، فنهاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، فنزلت فيهم {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الآية. لم يختلف في كونه شهد بدرًا وكان ممن حرَّم الخمر في الجاهلية. وقال لا أشرب شربًا يُذْهِبُ عقلي ويُضْحِك بي من هو أدنى مني، ويحملني على أن أنكح كريمتي. وروى الترمذيّ عن عائشة قالت: "قبَّل النبي -صلى الله عليه وسلم- عثمان بن مظعون وهو ميت، وهو يبكي وعيناه تذرفان". وهو أول من مات من المهاجرين بالمدينة، وأول من دفن بالبقيع، ولما توفي قال النبي عليه الصلاة والسلام: "نعم السَّلَفُ هو لنا عثمان بن مظعون". كان موته سنة اثنتين من الهجرة، وقيل بعد اثنين وعشرين شهرًا من مقدمه -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة. وقيل: مات على رأس ثلاثين شهرًا من الهجرة، بعد شهوده بدرًا. وأول من تبعه إبراهيم ابن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، ولما مات قال عليه الصلاة والسلام: "إلحق بسلفنا الصالح عثمان بن مظعون" وقيل إنه قال ذلك حين توفيت ابنته زينب، وأعْلَمَ -صلى الله عليه وسلم- قَبره بحجر، وقال: هذا قَبْرُ فَرَطِنا ندفن إليه من مات منّا، وكان يزوره. وروى ابن عبد البر، بسنده عن ابن عباس، أن النبي -صلى الله عليه وسلم-، دخل على عثمان بن مظعون حين مات، فانكبَّ عليه، فكأنهم رأوا أثر البكاء في عينيه، ثم جثا الثانية، ثم رفع رأسه، فرأوه يبكي، ثم جثا الثالثة ثم رفع رأسه وله شهيق، فعرفوا أنه يبكي، فبكى القوم، فقال النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "إنما هذا من الشيطان" ثم قال: "استغفر الله، أشهد عليك أبا السائب، لقد خرجت منها ولم تلتبس منها بشيء". ولما بكت النساء جعل عمر يُسَكِّتُهنّ، فقال عليه الصلاة والسلام: "مهلًا يا عمر" ثم قال: "إياكن ونعيق الشيطان، فمهما كان من العين فمن الله ومن الرحمة، وما كان من اليد فمن الشيطان". ورثته إمرأته فقالت: يا عينُ جُودي بدمعٍ غير ممنونَ ... على رَزِيّةِ عثمانَ بن مَظعونِ على امرىء بأن في رضوانِ خَالقِهِ ... طُوبى لهُ من فقيدِ الشخصِ مَدفونِ طابَ البقيعُ له سُكنى ومَرقَدُهُ ... قد أشرقت إضَمٌ من بعد تفنين وأورث القلبَ حزنًا لا انقطاعَ لَهُ ... حتى المماتِ فما تَرقى لَه شونِ قال في الإصابة: له حديثٌ واحد.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: فيه بالجمع والإخبار بالأفراد، والعنعنة القول، ورواته مصريان وأيليّ ومدنيان، وفيه رواية التابعيّ عن التابعيّ، أخرجه البخاريّ أيضًا في الشهادات والتفسير والتعبير والجنائز، والنَّسائيّ في الرؤيا. ثم قال: حدثنا سعيد بن عُفير قال: حدثنا الليث مثله، وهذا طريق من الحديث الأول، وقد مرَّ الغرض في إتيان البخاريّ به، ورجالها اثنان: الليث مرَّ في الرواية الأولى محله، ومرَّ سعيد بن عفير في الثالث عشر من العلم. ثم قال: وقال نافع بن يزيد عن عقيل: ما يفعل به، وهذا التعليق وصله الإسماعيلي عن القاسم بن زكريا، ونافع مرَّ في السابع عشر والمئة من صفة الصلاة، وعقيل مرَّ محله في الحديث المذكور. ثم قال: تابعه شعيب وعمرو بن دينار ومعمر، ومتابعة شعيب أخرجها البخاريّ في كتاب الشهادات، ومتابعة عمرو وصلها ابن أبي عمر في مسنده عن ابن عيينة، ومتابعة معمر أخرجها البخاري في التعبير في باب العين الجارية، وهي في مسند عبد بن حميد عن عبد الرزاق بلفظ "فوالله لا أدري، وأنا رسول الله، ما يفعل بي ولا بكم". ورجال المتابعات الثلاثة مرّوا، مرَّ شعيب في السابع من بدء الوحي، ومرَّ معمر بن راشد في متابعة بعد الرابع منه، ومرَّ عمرو بن دينار في الثالث والخمسين من العلم. الحديث السابع حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُنْكَدِرِ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ لَمَّا قُتِلَ أَبِي جَعَلْتُ أَكْشِفُ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ أَبْكِي، وَيَنْهَوْنِي عَنْهُ وَالنَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- لاَ يَنْهَانِي، فَجَعَلَتْ عَمَّتِي فَاطِمَةُ تَبْكِي، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: تَبْكِينَ أَوْ لاَ تَبْكِينَ، مَا زَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رَفَعُوهُ. هذا الحديث استشكلت دلالته على الترجمة أيضًا، لأن جابرًا كشف الثوب عن وجه أبيه قبل تكفينه، وقد أجاب عنه ابن المنير بأن ثياب الشهيد التي قتل فيها هي أكفانه، فهو كالمُدْرَج، ويمكن أن يقال: نهيُهم له عن كشف وجهه يدل على المنع من الاقتراب من الميت، ولكن يُتَعَقَّبُ بأنه -صلى الله عليه وسلم- لم ينهه. وأجيب بأن عدم نهيهم عن نهيه على تقرير نهيهم، فتبين أن الدخول الثابت في الأحاديث الثلاثة كان في حالة الإدراج، وفي حالة تقوم مقامها، قال ابن رشيد: المعنى الذي في

رجاله خمسة

الحديثين من كشف الميت بعد تسجيته، مُساوٍ لحاله بعد تكفينه. وقوله وينهوني في رواية الكشميهني "ينهونني" وهي أوجه وأوفى، قوله: تبكين أو لا تبكين، للتخيير، ومعناه أنه مكرم بصنيع الملائكة، وتزاحمهم عليه لصعودهم بروحه. وفي "التلويح" لم تبكي؟ قال القرطبيّ: صحت الرواية بلم التي للاستفهام، وفي مسلم تبكي بغير نون؛ لأنه استفهام لمخاطب عن فعل غائبة. قال القرطبيّ: ولو خاطبها خطاب الحاضرة بالاستفهام لقال: لم تبكين؟ بالنون. وفي رواية "تبكيه أو لا تبكيه" وهو إخبار عن غائبة. وقوله: حتى رفعوه، أي إلى مدفنه، وقول العينيّ "من مغسله" لا يصح؛ لأنّ الشهيد لا يغسل، وإظلاله بأجنحتها لاجتماعهم عليه، وتزاحمهم على المبادرة بصعود روحه رضي الله تعالى عنه، وتبشيره بما أعد الله له من الكرامة، أو أنهم أظلوه من الحر ليلًا يتغير، أو لأنه من السبعة الذين يظلهم الله بظله، يوم لا ظل إلا ظله. وروى بَقِيَّ بن مَخْلَد عن جابر قال: لقيني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ألا أبشرك أن الله قد أحب أباك، وكلَّمه كِفاحًا، وما كلم أحدًا قط إلا من وراء حجاب؟ ". وقوله: فما زالت الملائكة تظله، إنما قاله بطريق الوحي، فلا يعارضه ما في حديث أم العلاء السابق، حيث أنكر عليها قطعها، إذ لم تعلم من أمره شيئًا. رجاله خمسة: قد مرّوا؛ وفيه ذكر أبي جابر، وذكر عمته فاطمة. مرَّ محمد بن بشّار في الحادي عشر من العلم، ومرَّ غندر في الخامس والعشرين من الإِيمان، وشعبة في الثالث منه، ومحمد بن المنكدر في التاسع والخمسين من الوضوء. وأبو جابر هو عبد الله بن عمرو بن حَرَام، الأنصاريّ، الخزرجيّ السلميّ، والد جابر بن عبد الله الصحابيّ المشهور، يكنى أبا جابر، معدودٌ في أهل العَقَبة وبدر وكان من النقباء، واستشهد بأُحد. ثبت ذكره في الصحيحين من حديث ولده قال: أتيت النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، في دَيْن كان على أبي، فدفعت عليه الباب ... الحديث بطوله. ومن حديثه أيضًا "لما قُتِل أبي بأحد ... الخ" وفيه "ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها". وروى الترمذيّ من حديث جابر: "لقيني النبيّ -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا جابر، مالي أراك منكسرًا مُهْتمًا؟ فقلت: يا رسول الله، قتل أبي وتَرَك دَينًا وعيالًا، فقال: ألا أبشرك؟ قلت: بلى. قال: ما كلم الله أحدًا قط إلا من وراء حجاب، فإنه كلم أباك كِفاحًا. فقال: يا عبدي تمنَّ أعطِك قال: يا رب تردني إلى الدنيا، فأقتل فيك ثانية. قال الرب تعالى: إنه سبق مني أنهم إليها لا يرجعون، قال: يا رب،

فأَبلغْ من ورائي، فأنزل الله تعالى {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} .. الآية". وقال جابر: حَوّلت أبي بعد ستة أشهر، فما أنكرت منه شيئًا إلا شعرات من لحيته كأنها مستها الأرض. وروى مالك في الموطأ عن عبد الرحمن بن أبي صَعْصَعَة أنه بلغه أن عمرو بن الجموح وعبد الله بن حرام كانا قد حَفَرَ السيْل عن قبريهما، وكانا في قبرٍ واحدٍ مما يلي السيل، فَوُجدا لم يتغيرا كأنهما ماتا بالأمس، وكان أحدهما وضع يده على جرحه فدن وهو كذلك، فأميطت يده عن جرحه ثم أُرسلت، فرجعت كما كانت. وكان بين الوقعتين ست وأربعون سنة. وروى أبو يعلى وابن السّكْن عن جابر قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "جزى الله الأنصار عنا خيرًا لاسيما عبد الله بن عمرو بن حرام وسعد بن عبادة". روى عنه ابنه جابر قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتختم في يمينه. وعمة جابر هي فاطمة بنت عمرو بن حرام الخ، نسب أخيها، ليس لها من الذكر إلا ما في هذا الحديث الصحيح. والحديث أخرجه البخاريّ أيضًا في المغازي، ومسلم، في الفضائل، والنَّسائي في الجنائز. ثم قال: تابعه ابن جُريج. أخبرني محمد بن المُنْكَدر سمع جابرًا رضي الله تعالى عنه، وهذه المتابعة وصلها مسلم، وأول حديثه "جاء قومي بأبي قتيلًا يوم أحد". ورجاله ثلاثة، مرَّ محل ابن المنكدر وجابر في الذي قبلها، ومرَّ عبد الملك بن جريج في الثالث من الحيض. ثم قال المصنف:

باب الرجل ينعى إلى أهل الميت بنفسه

باب الرجل ينعى إلى أهل الميت بنفسه باب، بالتنوين. الرجل ينعى، مبتدأ وخبر، ومفعوله الميت، أي ينعى الميت إلى أهل الميت بنفسه، ولا يستنيب فيه أحدًا، ولو كان رفيعًا. والنعي إظهار خبر الميت إلى أهله، وفعله من باب فَعَل يَفْعَل، بالفتح فيهما، والتأكيد في قوله: "بنفسه" للضمير المستكنّ في ينعى، فهو راجع إلى الناعي لا المنعي، أو يرجع الضمير إلى المنعي وهو الميت، أي ينعى إلى أهل الميت بنفس الميت، أو بسبب ذهاب نفسه. وفي رواية الكَشْميهنيّ بحذف الموحدة. وفي رواية الأصيلي بحذف أهل، وأشار المهلَّب إلى أن في الترجمة خَلَلًا قال: والصواب "الرجل ينعى إلى الناس الميت بنفسه"، كذا قال، ولم يضع شيئًا، إلا أنه أبدل لفظ الأهل بالناس، وأثبت المفعول المحذوف، ولعله كان ثابتًا في الأصل فسقط، أو حُذِف عمدًا لدلالة الكلام عليه، أو لَفَظَ "يُنعى" بضم أوله، والمراد بالرجل الميت، والضمير حينئذٍ له. كما قال ابن المنير: ويستقيم عليه روايةُ الكشميهني، وأما التعبير بالأهل فلا خلل فيه، لأنّ مراده به ما هو أعم من القرابة وأُخُوَّة الدين، وهو أولى من التعبير بالناس؛ لأنه يخرج من ليس به أهلية، كالكفار. وأما رواية الأصيليّ فقد قال ابن رشيد: إنها فاسدة، وفائدة هذه الترجمة الإشارة إلى أن النعي ليس ممنوعًا كله، وإنما نهى عما كان أهل الجاهلية يصنعونه، فكانوا يرسلون من يعلن بخبر موت الميت على أبواب الدور والأسواق. وقال ابن المرابط: مراده أن النعي الذي هو إعلام الناس بموت قريبهم مباح، وإن كان فيه إدخال الكرب، والمصائب، على أهله، لكن في تلك المفسدة مصالح جمة، لما يترتب على معرفة ذلك من المبادرة لشهود جنازته، وتهيئة أمره، والصلاة عليه، والدعاء له والاستغفار، وتنفيذ وصاياه، وما يترتب على ذلك من الأحكام. وأما نعي الجاهلية، فقد أخرج سعيد بن منصور عن ابن عَوْف قال: قلت لإبراهيم: أكانوا يكرهون النعي؟ قال: نعم. قال ابن عوف: كانوا إذا مات الرجل، ركب رجل دابته ثم صاح في الناس: أنعى فلانًا. قال ابن عوف: قال ابن سيرين: لا أعلم بأسًا أن يؤذِن الرجلُ صديقه، وحميمه، وحاصله أن محض الإعلام بذلك لا يكره فإن زاد على ذلك فلا. وقد كان بعض السلف يشدد في ذلك، حتى كان حذيفة إذا مات له الميت يقول: لا تؤذوا به أحدًا إني أخاف أن يكون نعيًا، إني سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- بأذنيّ هاتين ينهى عن النعي. أخرجه التِّرمِذِيّ وابن ماجه بإسناد

الحديث الثامن

حسن. وقال ابن العربي؛ يؤخذ من مجموع الأحاديث ثلاث حالات: الأولى: إعلام الأهل وأهل الصلاح والأصحاب، فهذا سنة. الثانية: دعوة الحفل للمفاخرة، فهذه تكره. الثالثة: الإعلام بنوع آخر كالنياحة ونحو ذلك، فهذا يحرم. قلت: مشهور مذهب مالك أن النداء به بالمسجد، أو على بابه، مكروه. وأن الإِعلام به من غير نداء في خَلْقٍ بصوت خفي، جائز. وصرح النّووِي في "المجموع" بأن نعي الميت إلى أهله مستحب، لحديث الباب، ولنعيه جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة، ولما يترتب عليه من المصالح فيما مرَّ. الحديث الثامن حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- نَعَى النَّجَاشِيَّ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، خَرَجَ إِلَى الْمُصَلَّى، فَصَفَّ بِهِمْ وَكَبَّرَ أَرْبَعًا. وجه دخول قصة النجاشى في الترجمة، هو كونه كان غريبًا في ديار قومه، فكان للمسلمين من حيث الإِسلام أخًا، فكانوا أخصَّ به من قرابته، ويحتمل أن يكن بعض أقرباء النجاشيّ كان بالمدينة حينئذ، ممن قدم مع جعفر بن أبي طالب من الحبشةَ، كذي مخمر ابن أخي النجاشيّ، فيكون إعلام الأهل فيه حقيقة ومجازًا. قوله: نعى النجاشيّ، هو لقب ملك الحبشة، واسمه أصْحَمة، ويأتي في سند الحديث ما قيل في ضبط الاسمين مستوفى. وقوله: خرج إلى المصلى، فصف بهم، وفي رواية ابن ماجه "فخرج وأصحابه إلى البقيع فصفنا خلفه". والمراد بالبقيع هنا "بقيع بَطْحان" أو يكون المراد بالمصلى موضعًا معدًا للجنائز "ببقيع الغَرْقد" غير مصلى العيدين، والأول أظهر، وقد تقدم في العيدين أن المصلى كان ببطحان. وقوله: فصف بهم، ليس فيه تعرض لكثرة الصفوف ولا لقلتها، لكن الغالب أن الملازمين له عليه الصلاة والسلام كانوا كثيرًا، ولاسيما مع أمره لهم بالخروج إلى المصلى، كما في رواية جابر الآتية "فهلُمَّ فصلّوا". وفي رواية جابر "كنت في الصف الثاني". وفي الحديث دلالة على أن للصفوف على الجنازة تاثيرًا، ولو كان الجمع كثيرًا؛ لأن الظاهر أن

الذين خرجوا معه -صلى الله عليه وسلم-، كانوا عددًا كثيرًا، وكان المصلى فضاء، ولا يضيق بهم لو صفوا فيه صفًا واحدًا، ومع ذلك فقد صفهم، وقد قال المصنف فيما يأتي "باب الصفوف على الجنازة" بصيغة الجمع، إشارة إلى ما ورد في استحباب ثلاثة صفوف، وهو ما رواه أبو داود وغيره عن مالك بن هبيرة مرفوعًا "منْ صلّى عليه ثلاثة صفوف فقد أَوْجَبَ"، حَسَّنَه التِّرمذيُّ، وصححه الحاكم. وفي رواية له "إلَّا غُفِر له" ولهذا كان مالك المذكور يصفُّ من يحضر الصلاة على الجنازة ثلاثة صفوف، سواء قلوا أو كثروا. وقال الطبريّ: ينبغي لأهل الميت، إذا لم يخشوا عليه التغير، أن ينتظروا به اجتماع قوم يقوم منهم ثلاثة صفوف، لهذا الحديث. ويبقى النظر فيما إذا تعددت الصفوف والعدد قليل، أو كان الصف واحدًا والعدد كثير أيهما أفضل. وقوله: وكبر أربعًا، قد اختلف السلف في كونه أربعًا، فروى مسلم عن زيد بن أرقم أنه يكبر خمسًا، ورفع ذلك. وروى ابن المنذر عن ابن مسعود أنه صلى على جنازة رجل من بني أسد، فكبر خمسًا، وروى ابن المنذر وغيره عن عليّ، أنه كان يكبر على أهل بدر ستًا، وعلى الصحابة خمسًا، وعلى سائر الناس أربعًا. ورُوي أيضًا بإسناد صحيح عن أبي معبد قال: صليت خلف ابن عباس على جنازة فكبر ثلاثًا. وأخرج عبد الرزاق عن قتادة عن أنس، أنه كبر على جنازة ثلاثًا، ثم انصرف ناسيًا، فقالوا يا أبا حمزة: إنك كبرت ثلاثًا، فقال: صفوا فكبر الرابعة. وروى عن أنس الاقتصار على ثلاث، فقد أخرج ابن أبي شيبة عن عِمران بن حُدَير قال: صليت مع أنس بن مالك على جنازة، فكبّر عليها ثلاثًا لم يزد عليها. وروى ابن المنذر عن يحيى بن أبي إسحاق قال: قيل لأنس: إن فلانًا كبر ثلاثًا، فقال: وهل التكبير إلا ثلاثًا؟ قال مُغلطاي: إحدى الروايتين وَهْم وقال في "الفتح" بل يمكن الجمع بين ما اختلف به على أنس، إما بإنه كان يرى الثلاث مُجزئة والأربع أكمل منها، وإما بأن من أطلق عنه الثلاث لم يذكر الأُولى؛ لأنها افتتاح الصلاة، فقد روى يحيى بن أبي إسحاق أن أنسًا قال: التكبير ثلاثًا، فقيل له: يا أبا حمزة التكبير أربعًا قال: نعم، غير أن واحدة هي افتتاح الصلاة، ويأتي ذلك عنه في باب "سنة الصلاة". قال ابن المنذر: ذهب أكثر أهل العلم إلى أن التكبير أربع، وفيه أقوال أخر، قال: وذهب بكر بن عبد الله المزنيّ إلى أنه لا ينقص عن ثلاث، ولا يزاد على سبع. وقال أحمد مثله، لكن قال: لا ينقص من أربع. وقال ابن مسعود: كبَّر ما كبَّر الإِمام. قال: والذي نختاره ما ثبت عن عمر، ثم ساق بإسنادٍ صحيح عن سعيد بن المسيب قال: كان التكبير أربعًا وخمسًا، فجمع عمر الناس على أربع. وروى البيهقيُّ بإسنادٍ حسن إلى أبي وائل قال: كانوا يكبِّرون على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سبعًا

وستًا وخمسًا وأربعًا، فجمع عمر الناس على أربع كأطول الصلاة. وقال ابن عبد البرّ: لا أعلم أحدًا من فقهاء الأمصار قال: يزيد في التكبير على أربع، إلا ابن أبي ليلى. وفي المبسوط للحنفية أن أبا يوسف قال: يكبر خمسًا، وقد روى ابن أبي داود عن أبي سلمة عن أبي هريرة "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى على جنازة فكبر أربعًا" قال: ولم أر في شيء من الأحاديث الصحيحة أنه كبر على جنازة أربعًا إلا هذا، ولم يذكر حديث النجاشيّ؛ لأنّ الصلاة فيه صلاة على غائب لا على جنازة. وأجيب عن هذا بأن حكم الحاضرة يُعْلم بالأولى. ولم يذكر التسليم هنا في حديث النجاشيّ، وذكر في حديث سعيد بن المُسَيّب رواية ابن حبيب عن مُطْرف عن مالك، واستغربه ابن عبد البر وقال: إلا أنه لا خلاف بين العلماء من الصحابة والتابعين. فمن بعدهم من الفقهاء، في السلام، وإنما اختلفوا هل هي واحدة أو اثنتان، فالجمهور على تسليمة واحدة، وهو أحد قوليّ الشافعيّ وقالت طائفة تسليمتان، وهو قول أبي حنيفة والشافعيّ. وهو قول عمر وابنه عبد الله وعليّ وابن عباس وغيرهم. وقال الحاكم: صحت الرواية بالواحدة عن ابن عمر وعليّ وابن عباس وغيرهم، وسأل أشهبُ مالكًا: أتكره السلام في صلاة الجنازة؟ قال: لا، وقد كان ابن عمر يسلم، قال: فاستناد مالك إلى فعل ابن عمر دليل على أنه، -صلى الله عليه وسلم-، لم يسلِّم في صلاته على النجاشى، ولا على غيره. وفي قوله: خرج إلى المصلّى، دليلٌ على أنه لا يصلّى على الجنازة في المسجد؛ لأنه عليه الصلاة والسلام أخبر بموته في المسجد، ثم خرج بالمسلمين. وهذا هو قول مالك وأبي حنيف وابن أبي ذيب، وعند أبي يوسف أن أُعِد مَسْجدٌ للصلاة على الموتى لم يكن في الصلاة فيه عليهم بأس. قال النوويّ: لا حجة فيه للحنفية، لأن الممتنع عندهم إدخال الميت المسجد، لا مجرد الصلاة عليه، حتى لو كان خارج المسجد جازت الصلاة عليه هو، لمن داخله. وعند المالكية لا فرق بين أن يكون الميت داخل المسجد أو خارجه، إلا أن يضيق خارجه بأهله، فلا بأس أن يصلي عليها من بالمسجد بصلاة الإِمام. وعند الشافعيّ وأحمد وإسحاق وأبي ثور: لا بأس بها إذا لم يخف تلويثه. واحتجوا بما أخرجه مسلم أن سعد بن أبي وقّاص، لما توفي، أمرت عائشة رضي الله تعالى عنه بإدخال جنازته المسجد حتى صلّى عليه أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم قالت: هل عاب الناس علينا ما فعلنا؟ فقيل لها: نعم. فقالت: ما أسرع ما نسوا ما صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على جنازة سهيل بن بيضاء إلا في مسجد. قلت: هذا الحديث فيه دلالة قوية لمن كره الصلاة عليها في المسجد، لأنه اجتهاد من عائشة، وما استدلت به دليل عليها لا لها، لأنّ كونه عليه الصلاة والسلام لم يصل على ميت في

المسجد إلا على سُهيل مع كثرة الموتى، يدل على أن الصلاة عليها في المسجد ليست من فعله الدائم، ويكون اختصاص سهيل بذلك وقع لعذر، كمطر أو اعتكاف أو غير ذلك ولذا أنكر الصحابة عليها، ولم ينظروا إلى الصلاة على سهيل لندورها، واحتج الآخرون بما رواه أبو داود عن صالح مولى التوأمة عن أبي هُريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى على ميت في المسجد فلا شيء له" ورواه ابن ماجه بلفظ "فليس له شيء" وقال الخطيب: المحفوظ فلا شيء له. وروى فلا أجر له. وقال ابن عبد البر: رواية "فلا أجر له" خطأ، والصحيح "فلا شيء له" قلت: فلا أجر له هي معنى فلا شيء له، فأي خطأ فيها؟ ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه بلفظ "فلا صلاة له"، ورُوي "فلا شيء عليه"، وهذه يروُّها ما مرَّ عن الخطيب وابن عبد البر، وردوا الاستدلال بهذا الحديث بأنه من رواية صالح مولى التُّوَأمة، وهو ضعيف، وتعقب هذا بأن أبا داود روى هذا الحديث وسكت عنه، فيدل على صحته عنده، أو حسنه، وبأن يحيى بن مُعين الذي هو الفيصل في هذا الباب قال: صالح ثقة، إلا أنه اختلط، فمن سمع منه قبل ذلك فهو ثبت حجة، وممن سمع منه قبل الاختلاط ابن أبي ذيب الذي هو راوي هذا الحديث عنه. وقال الطحاويّ: لما اختلفت الروايات عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في هذا الباب، احتيج إلى الكشف ليعلم المتأخر منها، فيصير ناسخًا لما تقدم، فحديث عائشة إخبار عن فعله، عليه الصلاة والسلام، في حال الإباحة التي يتقدمها شيء. وحديث أبي هُريرة إخبار عن نهيه، عليه الصلاة والسلام، الذي تقدمه الإِباحة. فصار ناسخًا لحديث عائشة، وإنكار الصحابة عليها مما يؤيد ذلك. وقال ابن بُزَيزة: استدل المالكية بحديث النجاشيّ، وهو باطل؛ لأنه ليس فيه صيغة نهي، ولاحتمال أن يكون خرج بهم إلى المصلى لأمرٍ غير المعنى المذكور، وقد ثبت أنه صلى -صلى الله عليه وسلم- على سهيل بن بيضاء في المسجد، فكيف يترك هذا الصريح لأمر محتمل؟ قلت: قد قدمنا قريبًا أن حديث سهيل محتمل أيضًا لما مرَّ، ثم قال: بل الظاهر أنه إنما خرج بالمسلمين إلى المصلى لقصد تكثير الجمع الذين يصلون عليه، ولإِشاعة كونه مات على الإِسلام، فقد كان بعض الناس لم يدركونه أسلم، فقد روى ابن أبي حاتم في التفسير عن ثابت والدارقطنيّ في الأفراد، والبزَّار عن حُمَيد، كلاهما عن أنس: أن النبي -صلى الله عليه وسلم-، لما صلى على النجاشي، قال بعض أصحابه: صلى على عِلْجٍ من الحبشة، فنزلت {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} الآية. وله شاهد في معجم الطبرانيّ الكبير عن وَحْشيّ بن حرب، وآخر عنده في الأوسط عن أبي سعيد، وزاد فيه "أن الذي طعن بذلك كان منافقًا" قلت: الاحتمال الذي أبداه، أرجحُ منه كونه خرج من المسجد، لكونه ليس محلًا للصلاة على الجنازة. واستدل به على مشروعية الصلاة على

الميت الغائب عن البلد، وبذلك قال الشافعي، وأحمد وجمهور السلف، حتى قال ابن حزم: لم يأت عن أحد من الصحابة منعه. قال الشافعيّ: الصلاة على الميت دعاء له، وهو إذا كان ملففًا يصلي عليه، فكيف لا يدعى له وهو غائب، أو في القبر بذلك الوجه الذي يدعى به وهو ملفف؟ وعن المالكية والحنفية: لا يشرع ذلك، وعن بعض أهل العلم إنما يجوز ذلك في اليوم الذي يموت فيه الميت، أو ما قرب منه، لا ما إذا طالت المدة، حكاه ابن عبد البر. وقال ابن حِبّان: إنما يجوز ذلك لمن كان في جهة القبلة، فلو كان بلد الميت مستدبر القبلة مثلًا لم يجز. قال المحب الطبريّ: لم أر ذلك لغيره، وحجته حجة الذي قبله من قصة النجاشيّ. واعتذر من لم يقل بالصلاة على الغائب عن قصة النجاشيّ، بأمور، منها أنه كان بأرض لم يصلِّ عليه بها أحد، فتعينت الصلاة عليه لذلك، ومن ثم قال الخطابيّ: لا يصلى على الغائب إلا إذا وقع موته بأرضٍ ليس بها من يصلي عليه، واستحسنه الرويانيّ من الشافعية، وبه ترجم أبو داود في السنن الصلاةَ على المسلم يليه أهل الشرك ببلد آخر. وهذا محتمل. قال في الفتح: إلا أنني لم أقف في شيء من الأخبار على أنه لم يصلِّ عليه في بلده أحد، قلت: كذلك لم يقف على أنه صلى عليه أحد، وبلاده بلاد كفر، ولا يعلمون حكم الصلاة على الجنازة، ولا كيفيتها، فكيف نظن بهم الصلاة على النجاشيّ؟ فلا حاجة للإِخبار بذلك، ولا احتمال فيه. ومن ذلك قول بعضهم: كُشِف له عنه -صلى الله عليه وسلم- حتى رآه، فتكون صلاته عليه، كصلاة الإِمام علي ميت رآه ولم يره المأمومون، ولا خلاف في جوازها. قال ابن دقيق العيد: هذا يحتاج إلى نقل، ولا يثبت بالاحتمال، وتعقبه بعض الحنفية بأن الاحتمال كاف في مثل هذا من جهة المانع، وكان مستند هذا القائل ما ذكره الواقديّ في أسبابه، بغير إسناد عن ابن عباس، قال: كُشِف للنبي -صلى الله عليه وسلم- عن سرير النجاشيّ حتى رآه، وصلى عليه. ولابن حِبّان عن عِمران بن حصين "فقام، وصفوا خلفه، وهم لا يظنون إلا أن جنازته بين يديه". ولأبي عوانة عن يحيى "فصلينا خلفه، ونحن لا نرى إلا أن الجنازة قدامنا". ومن الاعتذارات أن ذلك خاص بالنجاشيّ، لأنه لم يثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- صلى على ميت غائب غيره، ولم يفعل ذلك بعده أحد من أصحابه، ولا صلى أحد على النبي عليه الصلاة والسلام بعد أن ووري. وفي الصلاة عليه أعظمُ رغبة، فدل هذا كله على الخصوص، وقد صلى على غائب واحد، ثبت أنه طويت له الأرض حتى حضره، وهو مُعاوية بن مُعاوية المُزَنيّ. ففي "الأوسط" للطبرانيّ وكتاب "مسند الشاميين" عن أبي أُمامة قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بتبوك، فنزل عليه جبريل، عليه الصلاة والسلام، فقال: يا رسول الله، إن معاوية بن معاوية المزنيّ مات بالمدينة،

رجاله خمسة

أتحب أن تطوى لك الأرض فتصلي عليه؟. قال: نعم، فضرب بجناحه على الأرض، ورفع له سريره، وخلفه صفّان من الملائكة، في كل صف سبعون ألف ملك، ثم رجع، وقال النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لجبريل: بم أدْرَكَ هذا؟ قال: بحبه سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وقراءته إياها جاثيًا، وذاهبًا، وقائمًا، وقاعدًا، وعلى كل حال. واستدل من قال بتخصيص النجاشيّ بذلك إلى ما تقدم من إرادة إشاعة أنه مات مسلمًا، أو استئلاف فلوب الملوك الذين أسلموا في حياته، قلت: أَوَّلَ المخالفون في الصلاة في المسجد خروجه بهذا المعنى، ونحن نستدل عليهم به في الصلاة على النجاشي، وقال النووي: لو فتح باب هذا الخصوص لانسد كثير من ظواهر الشرع، مع أنه لو كان شيء مما ذكروه لتوفرت الدواعي على نقله. قلت: هذه المسألة إذا اعتبرت خصوصية للنجاشيّ، لا تسد شيئًا من ظواهر الشرع، واحتفَّ بها من القرائن مما يدل على الخصوص ما تقدم، وما وقع من صلاته عليه الصلاة والسلام على معاوية المزنيّ، بعد رفع سريره له، على أنه ما صلى على النجاشيّ إلا كذلك. والحاصل أن مسألة النجاشيّ فيها من الاحتمالات القوية ما يوجب سقوط الاستدلال بها، والذين قالوا بجواز الصلاة على الغائب ليس لهم دليل سواه، وأجمع كل من أجاز الصلاة على الغائب، أن ذلك يُسقِط فرض الكفاية، إلا ما حُكي عن ابن القَطّان، أحد أصحاب الوجوه من الشافعية، أنه قال: يجوز ذلك، ولا يسقط الفرض. وقال الأَذْرُعيّ ينبغي أنها لا تجوز على الغائب، حتى يعلم أو يظن أنه قد غسل، إلا أن يقال: تقديم الغسل شرط عند الإِمكان فقط، ولا تجوز على الغائب في البلد، وإن كبرت، لتيسر الحضور. وفي الرافعي: ينبغي أن لا يكون بين الإِمام والميت أكثر من مثتي ذراع، أو ثلاث مئة تقريبًا، ولو صلوا على الأموات الذين ماتوا في قرية، وغسلوا في البلد الفلاني، ولا يعرف عددهم جاز، قاله في "البحر"، وتأتي زيادة على هذا في باب الصلاة على الجنائز بالمصلى. رجاله خمسة: قد مرّوا، وفيه ذكر النجاشيّ. وإسماعيل بن أبي أُوَيس في الخامس عشر من الإِيمان، وابن المُسَيَّب في التاسع عشر منه. وأبو هُريرة في الثاني منه ومرَّ مالك في الثاني من بدء الوحي وابن شهاب في الثالث منه. والنجاشي، بفتح النون وكسرها وتشديد الياء وتخفيفها، كلمة للحبشة، تسمى بها ملوكها، والمتأخرون منهم يلقبونه الأَبْحَري. واسمه أصْحَمَة، بفتح الهمزة وسكون الصاد وفتح الحاء المهملتين، ومعناه عطية ابن أبجر، بهمزة، وفي طبقات ابن سعد: لما رجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من

الحديث التاسع

الحُدَيْبية سنة ست، أرسل إلى النجاشيّ سنة سبع في المحرّم عمرو بن أمية الضَمريّ، فأخذ كتاب النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فوضعه على عينيه، ونزل عن سريره، وجلس على الأرض تواضعًا، ثم أسلم، وكتب إلى النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بذلك، وأنه أسلم على يد جعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه. ولم يهاجر إلى النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وكان ردءًا للمسلمين نافعًا. وقصته مشهورة في المغازي في إحسانه إلى المسلمين الذين هاجروا إليه في صدر الإِسلام. وأخرج أصحاب الصحيح قصة صلاته -صلى الله عليه وسلم-، صلاةَ الغائب عليه من طرف منها: رواية عطاء عن جابر، لما مات النجاشيّ، قال النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "قد مات اليوم عبد صالح يقال له أصحمه فقوموا فصلوا عليه .. " الخ قال الطبريّ: كان ذلك في رجب سنة تسع، وقال غيره: كان قبل الفتح، وروى ابن إسحاق عن عائشة: لما مات النجاشيّ كنا نتحدث أنه لا يزال على قبره نور. وفي اسمه ستة ألفاظ: أَصْحَمَة بوزن أربعة، وحاؤه مهملة، وقيل معجمة، وقيل: إنه بموحدة بدل الميم، وقيل: صَحْمَة بغير ألف، وقيل كذلك لكن بتقديم الميم على الحاء، وقيل بزيادة ميم في أوله بدل الألف، والصحيح الأول. والحديث أخرجه البخاري أيضًا في الجنائز، وأخرجه باقي الستة فيها أيضًا. الحديث التاسع حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلاَلٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ. وَإِنَّ عَيْنَيْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَتَذْرِفَانِ، ثُمَّ أَخَذَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مِنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ فَفُتِحَ لَهُ. وورد في علامات النبوءة بلفظ "أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- نعى زيدًا، وجعفرًا ... " الحديث قال: الزين بن المنير: وجه دخول قصة الأمراء في الترجمة، أن نعيهم كان لأقاربهم، وللمسلمين الذين هم أهلهم من جهة الدين. قوله: وإن عينيّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لتذرِفان، أي بذال معجمة وراء مكسورة، أي تدفعان الدموع. وقوله: ثم أخذها خالد بن الوليد من غير إمرة ففتح له، وفي رواية المغازي "حتى أخذها سيفٌ من سيوف الله حتى فتح الله عليه"، وفي حديث أبي قتادة "ثم أخذ اللواء خالد بن الوليد، ولم يكن من الأمراء، وهو أمير نفسه، ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنه سيف من سيوفك، فأنت تنصره، فمن يومئذ سمي سيف الله". وفي حديث عبد الله بن جعفر "ثم أخذها سيف من سيوف الله، خالد بن الوليد، ففتح الله عليهم". والمراد بقوله: "من غير إمرة" نفي كونه كان منصوصًا عليه، وإلا فقد ثبت أنهم اتفقوا عليه،

وزاد فيه "وما يسرهم أنهم عندنا لما رأوا من فضل الشهادة". وزاد في حديث عبد الله بن جعفر "ثم أمهل آل جعفر ثلاثًا، ثم أتاهم، فقال: لا تبكوا على أخي بعد اليوم، ثم قال: ائتوني ببني أخي، فجيء بنا كأننا أفراخ، فدعا الحلّاق فحلق رؤوسنا، ثم قال: أما محمد فشبيه عمنا أبي طالب، وأما عبد الله فشبيه خَلقي وخُلقي، ثم دعا لهم. وذكر موسى بن عقبة في المغازي أن يعلي بن أميمة قدم بخبر أهل مؤتة، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن شئت أخبرني، وإن شئت أخبرك". قال: فأخبرني، فأخبره خبرهم، فقال: والذي بعثك بالحق ما تركت من حديثهم حرفًا لم تذكره. وعند الطبرانيّ عن أبي اليُسر الأنصاريّ أن أبا عامر الأشعري هو الذي أخبر النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بمصابهم. ويقال: إن السبب في غزوة الأمراء أن شرحبيل بن عمرو الغسانيّ، وهو من أمراء قيصر على الشام، قتل رسولًا أرسله النبيّ -صلى الله عليه وسلم- إلى صاحب بُصرى، والرسول هو الحارث بن عمير، فجهز إليهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، عسكرًا في ثلاثة آلاف. وفي مغازي أبي الأسود عن عُروة: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الجيش إلى مؤتة في جمادى الأولى من سنة ثمان، لا يختلف أهل المغازي في ذلك، إلا ما ذكره خليفة في تاريخه أنها كانت سنة سبع، وفي السنن لسعيد بن منصور "فلما التقوا أخذ الراية زيد بن حارثة، فقاتل حتى قتل، ثم أخذها جعفر، فقاتل حتى قتل، ثم أخذها ابن رواحة فحاد حَيْدَةً فقال: أقسمت بالله لتنزِلنَّه ... كارهةً أو لتطاوِ عِنَّه مالي أراك تكرهين الجنة ثم نزل فقاتل حتى قتل، فأخذ خالد بن الوليد الراية، ورجع بالمسلمين على حمية، ورمى واقد بن عبد الله التيميّ المشركين حتى ردهم الله. وفي آخره قال سعيد بن أبي هلال: وبلغني أنهم دفنوا يومئذٍ زيدًا وجعفرًا وابن رواحة في حفرة واحدة، وذكر ابن إسحاق بإسنادٍ حسن، وأخرجه أبو داود من طريقه عن رجل من بني مُرة قال: والله لكأني أنظر إلى جعفر بن أبي طالب حين اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها، ثم تقدم فقاتل حتى قتل. قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر عن عُروة قال: ثم أخذ الراية عبد الله بن رُواحة، فالتوى بها بعض التواء، ثم تقدم على فرسه، ثم نزل فقاتل: حتى قتل، ثم أخذ الراية ثابت بن أقْرَم الأنصاريّ، فقال: أصطلحوا على رجُل، فقالوا: أنت لها، فقال. لا فاصطلحوا على خالد بن الوليد. وروى الطبرانيّ في حديث أبي اليسر الأنصاري قال: أنا دفعت الراية إلى ثابت بن أقرم لما أصيب ابن رواحة، فدفعها إلى خالد بن الولد، وقال له: أنت أعلم بالقتال مني. وأخرج البخاريّ

في المغازي عن ابن عمر أنه قال: وقفت على جعفر يومئذ، وهو قتيل، فعددت به خمسين بين طعنة وضربة، ليس منها شيء في دُبُره، يعني في ظهره، وهذا بيان لفرط شجاعته وإقدامه. وفي رواية عنه "ووجدنا ما في جسده بضعًا وتسعين من طعنة وضربة" وعند أبي نعيم عن أبي معشر "تسعين" وظاهرها التخالف، ويجمع بأن العدد لا يكون له مفهوم، أو بأن الزيادة باعتبار ما وجد فيه من رمي السهام، فإن ذلك لم يذكر في الرواية الأولى، أو الخمسين مقيدة بأنها ليس فيها شيء في دبره، أي في ظهره، فقد يكون الباقي في بقية جسده، ولا يلزم من ذلك أنه ولَّى دبره، فهو محمول على أن الرمي إنما جاء من جهة قفاه، أو جانبيه، فيدل ذلك على إحاطة العدو به، لكن يؤيد الأول أن في رواية العمريّ عن نافع "فوجدنا ذلك فيما أقبل من جسده" بعد أن ذكر أن العدد بضع وتسعون. وللبيهقيّ في "الدلائل" بضعًا وتسعين، أو بضعًا وسبعين. وأشار إلى أن بضعًا وتسعين أثبت. وأخرجه الإِسماعيليّ عن البخاري بلفظ "بضعًا وتسعين أو بضعًا وسبعين بالشك" قال في "الفتح": لم أر ذلك في شيء من نسخ البخاريّ، وأخرج البخاري عن خالد بن الوليد أنه قال: لقد انقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما بقي في يدي إلا صحيفة يمانية. وفي الحديث جاز تعليق الإِمارة بشرط، وتولية عدة أمراء بالترتيب، وقد اختلف هل تنعقد الولاية الثانية في الحال أو لا، والذي يظهر أنها تنعقد في الحال، بشرط الترتيب، وقيل: تنعقد لواحد لا بعينه، وتتعين لمن عيّنها الإِمام على الترتيب. وقيل: تنعقد للأول فقط، وأما الثاني فبطريق الاختيار، واختيار الإِمام مقدم على غيره؛ لأنه أعرف بالمصلحة العامة. وفيه جاز التأمر في الحرب بغير تأمير، وقال الطحاويّ: هذا أصل يؤخذ منه أن على المسلمين أن يقدموا رجلًا إذا غاب الإِمام يقوم مقامه، إلى أن يحضر. وفيه جواز الاجتهاد في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفيه علم ظاهر من أعلام النبوءة، وفضيلة ظاهرة لخالد بن الوليد ومن معه من الصحابة، واختلف أهل النقل في المراد بقوله: "حتى فتح الله عليه" هل كان هناك قتال فيه هزيمة للمشركين، أو المراد بالفتح انحيازه بالمسلمين حتى رجعوا سالمين؟. وفي رواية ابن إسحاق عن عُروة: فحاشر خالدٌ الناس، ودافع، وانحاز وانحِيز عنه، ثم انصرف بالناس، وهذا يدل على الثاني، ويؤيده ما مرَّ في سنن سعيد بن منصور. وذكر ابن سعد عن أبي عارم أن المسلمين انهزموا لما قتل ابن رواحة، حتى لا أرى اثنين جميعًا، ثم اجتمعوا على خالد بن الوليد. وعند الواقديّ عن الحارث بن فضيل قال: لما أصبح خالد بن الوليد جعل مقدمته ساقة،

رجاله خمسة

وميمنته ميسرة، فأنكر العدو حالهم وقالوا: جاءهم مدد فرعبوا، وانكشفوا منهزمين. وعنده عن جابر قال: أصيب بمؤتة ناس من المشركين، وغنم المسلمون بعض أمتعة المشركين. وفي مغازي أبي الأسود عن عُروة: فحمل خالد على الروم فهزمهم، وهذا يدل على الأول، ويمكن الجمع بأن يكونوا هزموا جانبًا من المشركين، وخشي خالد أن يتكاثر العدو عليهم، فقد قيل: إنهم كانوا أكثر من مئة ألف، فانحاز بهم حتى رجع بهم إلى المدينة. وهذا السند وإن كان ضعيفًا من جهة الانقطاع، والآخر من جهة ابن لهيعة الراوي عن أبي الأسود، وكذلك الواقديّ، فقد وقع في مغازي موسى بن عتبة، التي هي أصح المغازي، ما نصه: ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة فقتل، ثم اصطلح المسلمون على خالد بن الوليد، فهزم الله العدو وأظهر المسلمين. قال العماد بن كثير: يمكن الجمع بأن خالدًا لما حاز المسلمين، وبات ثم أصبح وقد غير هيئة العسكر كما مرَّ، وتوهم العدو أنهم قد جاءهم مدد، حمل عليهم خالد حينئذ، فولوا فلم يتّبعهم، ورأى الرجوع بالمسلمين هو الغنيمة. وفي مغازي ابن عائذ، بسند منقطع، أن خالدًا لما أخذ الراية قاتلهم قتالًا شديدًا، حتى انحاز الفريقان من غير هزيمة، وقفل المسلمون، فمروا في طريقهم على قرية بها حصن كانوا في ذهابهم قتلوا رجلًا من المسلمين، فحاصروهم حتى فتح الله عليهم عُنوة، وقتل خالد بن الوليد مقاتِلَهم، فسمي ذلك المكان نقيع الدم إلى الآن، قاله في "الفتح". قلت: قد سألت رجلًا من أهل تلك الناحية عنه، فأخبرني أن بقرب بُصَيْرى موضع يقال له "نقع الدم"، وهذا تغيير قليل فلعله هو. رجاله خمسة: وفيه ذكر زيد وجعفر وعبد الله بن رواحة وخالد بن الوليد. مرَّ من رجاله أبو معمر وعبد الوارث في السابع عشر من العلم، ومرَّ أيوب في التاسع من الإيمان، وأنس في السادس منه، ومرَّ عبد الله بن رواحة في السادس والثلاثين من التهجد. والباقي من السند حميد بن هلال ابن هُبيرة، ويقال بن سُويد بن هُبيرة العدوي، أبو نصر البصري. قال القطان: كان ابن سيرين لا يرضاه. قال أبو حاتم: لأنه دخل في عمل السلطان، وكان في الحديث ثقة، وقال ابن معين والنَّسائي: ثقة. وقال أبو هلال الراسبيّ: ما كان بالبصرة أعلم منه. وقال ابن عدي: له أحاديث كثيرة مستقيمة، وقد حدث عنه الأئمة، وأحاديثه مستقيمة. وقال ابن سعد: كان ثقة، وذكره ابن حِبّان في الثقات.

وقال ابن سيرين: كان أربعة يصدقون من حدثهم، ولا يبالون ممن يسمعون: الحَسَن وأبو العالية وحميد بن هلال، ولم يذكر الرابع. وفي بعض النسخ: وداود بن أبي هند. قاله الدارقطنيّ في أحاديث القهقهة من السنن. قلت: وهو وارد على تفسير أبي حاتم لقدح ابن سيرين فيه. روى عن أنس وعبد الله بن مغفل، وعبد الرحمن بن سمرة وغيرهم. وروى عنه أيوب السَّخْتِيانيّ وعاصم الأحول وقَتَادة وشُعْبَة وغيرهم. مات في ولاية خالد على العراق. والباقي من المذكورين في الحديث ثلاثة: الأول زيد بن حارثة بن شَرَاحيل بن كعب بن عبد العُزّى إلى تم النسب الذي تقدم في نسب ولده أسامة، في أول الوضوء الكلبي، وأمه سُعدى بنت ثعلبة بن عبد عامر من بني مَعْن بن طيىء. وأخرج ابن الكلبي قال: زارت سعدى أم زيد بن حارثة قومها وزيد معها، فأغارت خيل لبني القين بن جَسْر في الجاهلية على أبيات بني مَعْن، فاحتملوا زيدًا وهو غلام يفقه، فأتوا به سوق عكاظ فعرضوه للبيع، فاشتراه حكيم ابن حِزام لعمته خديجة، بأربع مئة درهم، فلما تزوجها النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وهبته له، وقال أبوه حارثة بن شراحيل حين فقده: بَكيتُ على زيدٍ ولم أدرِ ما فَعلْ ... أحيّ فَيُرجى أم أتى دونَه الأجلْ فواللهِ لا أدري وإن كنتُ سائِلًا ... أغالك سهلُ الأرضِ أم غَالك الجبلْ فَياليتَ شِعري هل لكَ الدَّهر رَجعةً ... فحَسبي من الدُّنيا رُجُوعك لي نَجلْ تُذَكِّرْنيه الشَّمسُ عندَ طلُوعِها ... ويعرضُ ذِكراه إذا قارب الصفل وإن هبَّت الأرواحُ هَيجَّن ذِكْرهُ ... فَيا طولَ حُزني عليه وَيا وَجَل سأعمل نص العيس في الأرض جاهدًا ... ولا أسأم التَطوافُ أو تسأَمُ الإِبلْ حياتي أو تأتي علي مُنيتي ... وكُل امرىء فانٍ وإن غَرَّهُ الأَمَلْ سأوصي به عُمرًا وقَيْسًا كِلَيْهِما .... وأوصي يَزيدًا ثم من بعْدِه جَبَلْ يعني بعمرو وقيس أخويه، وبيزيد أخا زيد لأمه، وهو يزيد بن كعب بن شراحيل، وبجبل أخا زيد أكبر منه، قال: فحج ناسٌ من كلب فرأوا زيدًا، فعرفهم وعرفوه، فقال لهم أبلغوا أهلي هذه الأبيات، فإني أعلم أنهم قد جزعوا علي: أحِنُّ إلى قومي وإن كنتُ نائِبًا ... فإني فطينُ البيتِ عند المشاعِرِ فَكفوا عن الوجدِ الذي قد شجاكم ... ولا تُعْملوا في الأرض نَصَّ الأباعرِ فإني بحمد الله في خيرِ أسرةٍ ... كرامُ مَعَدٍّ كابرًا بعد كابرِ

فانطلقوا فأعلموا أباه، ووصفوا له موضعه، فخرج حارثة وكعب أخوه بفدائه، فقدما مكة، فسألا عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فقيل: هو في المسجد، فدخلا عليه، فقالا: يا ابن عبد المطلب، يا ابن سيد قومه، إنكم أهل حرم الله، تفكون العاني، وتطعمون الأسير، جئنا في ولدنا عندك، فامنن وأحسن في فدائه. قال: من هو؟ قالوا: زيد بن حارثة، قال: أو غير ذلك؟ قالوا: ما هو؟ قال: ادعوه فأخيره، فإن اختاركم فهو لكم بغير فداء، وإن اختارني، فوالله، ما أنا بالذي أختار على من اختارني فداء. قالا: قد زدتنا على النصف، وأحسنت. فدعاه فقال: هل تعرف هؤلاء؟ قال: نعم هذا أبي، وهذا عمي، قال: فأنا مَنْ قد علمت، ورأيت صحبتي لك، فاخترني أو اخترهما، فقال: ما أنا بالذي أختار عليك أحدًا، أنت مني بمكان الأب والعم، فقالا: ويحك يا زيد، أتختار العبودية على الحرية وعلى أهلك؟ قال: قد رأيت من هذا الرجل شيئًا ما أنا بالذي أختار أحدًا. فلما رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-ذلك، أخرجه إلى الحِجر، فقال: اشهدوا أن زيدًا ابني، يرثني وأرثه، فلما رأى ذلك أبوه وعمه، طابت أنفسهما، وانصرفا، فدعي زيد بن محمد، حتى جاء الله بالإِسلام، قال ابن عمر: ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد حتى نزلت {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ}. ولم يقع في القرآن تسمية أحد من الصحابة باسمه إلا هو باتفاق. قال العلماء: تعويضًا له من قطعه عن هذا النسب الشريف. قال الزهريّ: ما نعلم أحدًا أسلم قبل زيد بن حارثة، وكذا قال سليمان بن يَسار جازمًا بذلك. وأخرج ابن الكلبيّ عن ابن عباس قال: لما تبناه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- زَوَّجَه مولاته أم أيمن، فولدت له أسامة، ثم زوجه زينب بنت جحش، وهي بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب. ولما طلق زينب زوَّجه أم كلثوم بنث عقبة، وأمها أروى بنت كريز، وأمها البيضاء بنت عبد المطلب، فولد له زيد بن زيد، ورقية. ثم طلق أم كلثوم، وتزوج دُرَّة بنت أبي لهب بن عبد المطلب، ثم طلقها وتزوج هند بنت العوام، أخت الزبير. ويقال: إن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- سماه زيدًا لمحبة قريش في هذا الاسم. شهد زيد بدرًا وما بعدها، وقتل في غزوة مؤتة وهو أمير، واستخلفه النبي -صلى الله عليه وسلم- في بعض أسفاره على المدينة. وأخرج أبو يَعلى عن البَراء بن عازب أن زيد بن حارثة قال: يا رسول الله، آخيت بيني وبين حمزة. وأخرج أبو بكر بن أبي شيبة، بإسناد قويَّ عن عائشة قالت: ما بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زيد بن حارثة في سَريّة إلَّا أمّره عليهم، ولو بقي لاستخلفه. وأخرج البخاريّ عن سَلَمة بن الأكوع قال: غزوت مع النبيّ -صلى الله عليه وسلم- سبع غزوات، ومع زيد بن حارثة سبع غزوات يؤمِّره علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. قال الواقديُّ: أول سرايا زيد إلى القِرَدة، ثم إلى الحَموم ثم إلى العِيص، ثم إلى المطرف، ثم إلى حُسْمى، ثم إلى قرفة، ثم تأمره على غزوة مؤتة، واستشهد فيها وهو ابن خمس وخمسين سنة. وأخرج البخاريّ عن ابن عمرو أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: وإيم الله إنْ كان لخليقًا للإمارة، وإنْ كان لمن أحب الناس إلي. كان يسمى حِبّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-.

وأخرج ابن سعد بإسناد حسن عن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لزيد بن حارثة: "يا زيد أنت مولاي ومني وإليّ وأحب الناس إليّ" وأخرج التِّرمذيّ وغيره من حديث عائشة قالت: قدم زيد بن حارثة المدينة ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيتي، فقرع الباب فأتاه، وقام إليه حتى اعتنقه وقبّله. وروى من طريق صحيح، عن ابن عمر: فرض عمر لأسامة أكثر مما فرض لي، فسألته فقال: إنه كان أحب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منك، وإن أباه كان أحب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أبيك. وروى عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: أحب الناس إلي من أنعم الله عليه، وأنعمت عليه، يعني زيد بن حارثة، أنعم الله عليه بالإسلام، أنعم النبيّ -صلى الله عليه وسلم- عليه بالعتق، ولما أتاه عليه الصلاة والسلام نعيُ زيد وجعفر بكى وقال: "أخواي، ومؤنساي، ومحدثاي". وأخرج ابن عبد البر بسنده عن الليث بن سعد قال: بلغني أن زيد بن حارثة اكترى من رجل بغلًا من الطائف، واشترط عليه الكرّاء أن ينزله حيث شاء، فمال به إلى خربة فقال: إنزل فنزل، فإذا في الخربة قتلى كثيرة، قال فلما أراد أن يقتله، قال له: دعني أصلي ركعتين قال: صل، فقد صلى هؤلاء فلم تنفعهم صلاتهم شيئًا، قال: فلما صليت أتاني ليقتلني فقلت يا أرحم الراحمين، قال: فسمع صوتًا: لا تقتله، فهاب ذلك، فخرج يطلبه، فلم ير شيئًا فرجع إليّ، فناديت: يا أرحم الراحمين، فعل ذلك ثلاثًا، فإذا أنا بفارس على فرس في يده حربة حديد، في رأسها شعلة من نار، فطعنه بها فأنفذها من ظهره فوقع ميتًا، قال: لما دعوت في المرة الأولى كنت في السماء السابعة، ولما دعوت في الثانية كنت في السماء الدنيا، ولما دعوت في الثالثة أتيتك. له أربعة أحاديث، روى عنه أنس وابن عباس وابنه أسامة. له رواية في البخاري في قصة زينب بنت جحش. الثاني جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قُصي أبو عبد الله، ابن عم النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وأحد السابقين إلى الإِسلام، وشقيق علي. قال ابن إسحاق: أسلم بعد خمسة وعشرين رجلًا، وقيل بعد واحدٍ وثلاثين. وآخى النبي -صلى الله عليه وسلم-. وفي البخاريّ عنه قال: كان جعفر خير الناس للمساكين. وروى الترمذيّ، والنَّسائي، بإسناد صحيح عن أبي هُريرة قال: ما احتذى النِّعال، ولا ركب المطايا، ولا وطىء التراب بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أفضل من جعفر بن أبي طالب. وروى البغويّ عن أبي هُريرة قال: كان جعفر يحب المساكين، ويجلس إليهم، ويخدمهم ويخدمونه، ويحدثهم ويحدثونه، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكنِّيه أبا المساكين. وفي البخاريّ ومسلم من حديث البراء "أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال له: أشبهت خَلقي وخُلْقي" وفي المسند من حديث عليّ، رفعه

"أعطيت رفقاء نجباء، فذكره فيهم، هاجر إلى الحبشة، فأسلم النجاشيّ ومن تبعه على يديه، وأقام جعفر عنده ثم هاجر منها إلى المدينة، فقدم والنبيّ -صلى الله عليه وسلم- بخيبر. وروى البغويّ وابن السّكْن عن عائشة قالت: لما قدم جعفر وأصحابه، استقبله النبيّ -صلى الله عليه وسلم- فقبل ما بين عينيه، وقال ما أدري بأيهما أشد فرحًا، بقدوم جعفر أم بفتح خيبر؟ وروى ابن السَّكْن عن عبد الله بن جعفر قال: ما سألت عليًا، فامتنع فقلت له: بحق جعفر إلا أعطاني. استشهد بمؤتة من أرض الشام مقبلًا غير مدبر، مجاهدًا للروم في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-، سنة ثمان في جمادى الأولى. وكان أسن من علي بعشر سنين، وعقيل أكبر منه هو بذلك، وطالب أكبر من عقيل بذلك، فاستوفى أربعين سنة أو زاد. وأخرج أبو داود أنه يوم مؤتة اقتحم عن فرس له شقراء، فعقرها ثم تقدم فقاتل حتى قتل. وهو أول من عقر في الإِسلام، فقطعت يداه جميعًا، فقال عليه الصلاة والسلام: "أبدله الله بيديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء" فمنه قيل له ذو الجناحين. وروى الطبرانيّ عن ابن عمر "كنت معهم في تلك الغزوة، فالتمسنا جعفرًا، فوجدنا فيما أقبل من جسمه بضعًا وتسعين، من بين طعنة ورمية. ولما أتى النبيّ -صلى الله عليه وسلم- نعي جعفر، أتى امرأته أسماء بنت عُمَيس، فعزاها في زوجها، فدخلت فاطمة تبكي وتقول: واعماه. قال عليه الصلاة والسلام: "على مثل جعفر فلتبك البواكي" وروى الطبرانيّ عن ابن عباس أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "رأيت جعفرًا يطير في الجنة مع الملائكة". وروى أيضًا عن سالم بن أبي الجعد قال: "أري النبيّ -صلى الله عليه وسلم- جعفرًا ذا جناحين مضرجين بالدماء". وذلك لأنه قاتل حتى قطعت يداه. وفي الصحيح أن ابن عمر كان إذا سلم على عبد الله بن جعفر قال له: (السلام عليك يا ابن ذي الجناحين) وروى الدارقطنيّ في "الغرائب" لمالك، بإسناد ضعيف عن ابن عمر، قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فرفع رأسه إلى السماء فقال: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. فقال الناس: يا رسول الله، ما كنت تصنع هذا، قال: مرَّ بي جعفر بن أبي طالب في ملأ من الملائكة فسلّم علي. وفي فوائد أبي سهل عن ابن عباس: بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس وأسماء بنت عميس قريبة منه إذ قال: (يا أسماء هذا جعفر بن أبي طالب قد مرَّ مع جبريل وميكائيل، فردي عليه السلام). الحديث. وفيه (فعوضه الله من يديه جناحين يطير بهما حيث شاء). وروى عبد الرزاق عن ابن المسيب قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: مثل لي جعفر وزيد وابن رواحة في خيمة من، ورأى واحد منهم على سرير، فرأيت زيدًا وابن رواحة، وفي أعناقهما صدود ورأيت جعفرًا مستقيمًا، ليس فيه صدود قال:

فسألت أو قيل لي أنهما حين الموت أعرضا أو كأنهما صدّا بوجوههما وأما جعفر فإنه لم يفعل. له أحاديث روى عنه ابنه عبد الله وابن مسعود وأم سلمة ورثى حسان بن ثابت أهل مؤتة بقصيدة منها: رأيتُ خيارَ المؤمنين تواردوا ... شَعوب وقد خلفت ممن يؤخرُ فلا يُبْعدنّ الله قَتلى تتَابعوا ... بمؤتةَ منهم ذو الجناحين جَعفرُ وزيدٌ وعبد الله حينَ تَتابعوا ... جميعًا وأسبابُ المنيةِ تَخْطُرُ وكنا نرى في جعفر من محمد ... وفاء وامرًا صارمًا حيث يؤمرُ فلا زال في الإِسلام من آل هاشمٍ ... دعائمُ عزٍ لا يزولُ ومَفْخرُ الثالث: خالد بن الوليد بن المُغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، القرشيّ المخزوميّ، سيف الله أبو سليمان، أمُّه لُبابة الصغرى، بنت الحارث بن حرب، الهلالية. وهي أخت لبابة الكبرى زوج العباس بن عبد المطلب. وهما أختا ميمونة بنت الحارث، زوج النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، كان أحد أشراف قريش في الجاهلية، وكانت إليه أعنة الخيل في الجاهلية، والقبةَ القبةَ، فإنهم كانوا يضربونها ثم يجمعون إليها ما يجهزون به الجيش. شهد مع كفار قريش الحروب إلى عُمرة الحديبية، كما ثبت في الصحيح أنه كان على خيل قريش طليعة، ثم أسلم سنة سبع بعد خيبر، وقيل قبلها، ووهم من زعم أنه أسلم سنة خمس، فقد روى ابن إسحاق عن عمرو بن العاص قال: خرجت عامدًا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلقيت خالد بن الوليد، وذلك قبل الفتح، وهو مقبل من مكة، فقلت: أين تريد يا أبا سليمان؟ قال: أذهبُ، والله، أُسلمُ، فحتى متى؟ قلت: وما جئت إلا لأسلم، فقدمنا جميعًا، فتقدم خالد فأسلم فبايع، ثم دنوت فبايعته ثم انصرفت. وفي رواية أنه كان معهما عثمان بن طلحة، فلما رآهم النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: رمتكم مكة بأفلاذ كبدها، ولم يزل، منذ أسلم، يوليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعنة الخيل، فيكون في مقدمتها في محاربة الكفار. شهد غزوة مؤتة مع زيد بن حارثة، فلما مات الأمير الثالث: أخذ الراية، فانحاز بالناس. وخطب النبيّ -صلى الله عليه وسلم- فأعلم الناس بذلك، كما في الصحيحين، وشهد مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فتح مكة، فأبلى فيه، وشهد حنينًا، وكان على مقدمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بني سُلَيم، وجرح يومئذٍ، فأتاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رحله، بعدما هزمت هوازن، يعوده، فنفث في جرحه فانطلق. وبعثه -صلى الله عليه وسلم- إلى جذيمة من بني عامر، فقتل منهم ناسًا لم يكن قتله لهم صوابًا، فودَّاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد، وبعثه عليه الصلاة والسلام إلى العُزّى، وكان بيتًا كبيرًا لقريش وكنانة ومضر، صنمًا عظيمًا بنخلة، فهدمها وجعل يقول:

(كفرانَكَ اليوم ولا سبحانَك ... إني رأيت الله قد أهانك) وأخرج الترمذيّ عن أبي هُريرة قال: نزلنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منزلًا، فجعل الناس يمرون، فيقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: من هذا؟ فأقول: فلان، حتى مرَّ خالد فقال: من هذا؟ قلت: خالد بن الوليد، فقال: نعم عبد الله هذا سيف من سيوف الله. وأخرج أبو يعلى عن ابن أبي أوفى، رفعه "لا تؤذوا خالدًا، فإنه سيف من سيوف الله صبه الله على الكفار والمنافقين". وروى ابن عبد البر، بسنده، أن عبد الرحمن بن عوف اشتكى خالدَ بن الوليد للنبيّ -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا خالد لم تُوذي رجلًا من أهل بدر، لو أنفقت مثل أُحُدٍ ذهبًا لم تدرك عمله؟. قال: يا رسول الله: إنهم يقعون بي فأرد عليهم، فقال: "لا تؤذوا خالدًا فإنه سيف .. " الخ وروي أيضًا عن ابن عباس قال: وقع بين خالد بن الوليد وعمّار بن ياسر كلام، فقال عمار: لقد هممت أن لا أكلمك أبدًا، فبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا خالد مالك ولعمار؟ رجل من أهل الجنة قد شهد بدرًا"، وقال لعمار: "يا عمار إن خالدًا سيف من سيوف الله على الكفار". قال خالد: فما زلت أحب عمارًا من يومئذ. وأخرج أحمد عن عبد الملك بن عمير قال: استعمل عمر أبا عبيدة على الشام، وعزل خالد بن الوليد، فقال: خالد بعث إليكم أمين هذه الأمة، فقال أبو عبيدة: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: خالد سيف من سيوف الله، نِعمَ فتى العشيرة. وروى ابن إسحاق أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، بعث خالدًا إلى أكيدر دَوْمة، فأخذوه فأتوا به، فحقن له دمه، وصالحه على الجزية، ورده إلى قومه. وفي الصحيحين، في قصة الصدقة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن خالدًا احتبس أوراعه، واعتاده في سبيل الله. وفي البخاري عن خالد قال: لقد اندقت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما صبرت معي إلا صفيحة يمانية. وروى يونس بن أبي إسحاق أن خالد بن الوليد، لما قدم الحرة، أتى بسُم فوضعه في راحته، ثم سمى وشرب فلم يضره. رواه أبو يعلى وابن سعد، وروى ابن أبي الدنيا بإسناد صحيح عن خيثمة قال؛ أتى خالد بن الوليد رجلٌ معه زِقُّ خمرٍ فقال: اللهم اجعله عسلًا، فصار عسلًا. وفي رواية له، مرَّ بخالد بن الوليد رجل ومعه زق خمر، فقال: ما هذا؟ قال: خَل. قال: جعله الله خلًا. فنظروا فإذا هو خل وقد كان خمرًا. وروى ابن سعد عن زياد، مولى آل خالد قال: قال خالد عند موته: ما كان في الأرض من ليلة أحب إلى من ليلة شديدة الجليد، في سَريَّة من المهاجرين، أُصَبِّح بهم العدو، فعليكم بالجهاد. وروى أبو يعلى أيضًا عن قيس أنه قال: ما ليلة يُهدى إليّ فيها عروس أنا لها محبٌّ، أو أبشر فيها

بغلام، أحببّ إلى من ليلة شديدة الجليد .. نحوه. ومن هذا الوجه عن خالد "لقد شغلني الجهاد على تعلُّم كثير من القرآن". استعمله أبو بكر على قتال أهل الردة، فأبلى في قتالهم بلاءً عظيمًا، فهزم طليحة ومن معه، ثم مضى إلى مُسَيْلَمة، فقتل اللهُ مسيلمة. وأخرج أبو زرعة الدمشقيّ أن أبا بكر عقد لخالد بن الوليد على قتال أهل الردة، فقال: إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يقول: "نِعْمَ عبد الله وأخو العشيرة خالد بن الوليد، سيف من سيوف الله، سله الله على الكفار". ثم ولاّه حرب فارس والروم، فأثر تأثيرًا شديدًا، وافتتح دمشق. وروى عن عروة قال: لما فرغ خالد من اليمامة، أمره أبو بكر بالمسير إلى الشام، فسلك عين التمر، وسبى ابنة الجوديّ من دومة الجندل، ومضى إلى الشام، فهزم عدو الله. واستخلفه أبو بكر على الشام إلى أن عزله عمر. وأخرج سعيد بن منصور أن خالد بن الوليد فقد قَلَنْسُوَته يوم اليرموك، فقال: اطلبوها، فلم يجدوها، فلم يزل حتى وجدوها، فإذا هي خَلِقَة، فَسُئل عن ذلك فقال: اعْتَمَر النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فحلق رأسه، فابتدر الناس شعره، فسبقتهم إلى ناصيته، فجعلتها في هذه القَلَنْسُوة، فلم أشهد قتالًا وهي معي إلا تبين لي النصر. وفي رواية أبي يعلى: فما وجهت في وجه إلا فتح له". وروى البخاريّ في تاريخه: لما عزل عمرُ خالدَ بن الوليد، خطب واعتذر من عزله، فقال أبو عمرو بن حفص بن المغيرة: عزلت عاملًا استعمله رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ووضعت لواء رفعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: إنك قريب القرابة، حديث السن، مغضَبٌ لابن عمك. وسبب عزل عمر خالدًا ما ذكره الزبير بن بكّار قال: كان خالد إذا صار إليه المال قسمه في أهل الغنائم، ولم يرفع إلى أبي بكر حسابًا، وكان فيه تقدم على أبي بكر، يفعل أشياء لا يراها أبو بكر. أقدم على قتل مالك بن نُوَيرة، ونكح امرأته، فكره ذلك أبو بكر، وعرض الدية على متمم بن نويرة، وأمر خالدًا بطلاق امرأة مالك، ولم ير أن يعزله، وكان عمر ينكر هذا وشبهه على خالد. وروى الزبير أن عمر قال لأبي بكر: اكتب إلى خالد لا يعطى شيئًا إلا بأمرك، فكتب إليه بذلك، فأجابه خالد "إما أن تدعني على عملي، وإلا فشأنك بعملك"، فأشار عليه عمر بعزله، فقال أبو بكر: فمن يجزي عني جزاء خالد؟ قال عمر: أنا، قال: فأنت، فتجهز عمر حتى أنيخ الظهر في الدار، فمشى أصحاب النبيّ -صلى الله عليه وسلم- إلى أبي بكر، فقالوا: ما شأن عمر يخرج وأنت محتاج إليه؟ وما بالك عزلت خالدًا وقد كفاك؟ قال: فما أصنع؟ قالوا: تعزم إلى عمر فيقيم، وتكتب إلى خالد فيقيم على عمله، ففعل. فلما ولي عمر، كتب إلى خالد أن لا تعطي شاة ولا بعيرًا إلا بأمري، فكتب إليه خالد بمثل ما كتب لأبي بكر، فقال عمر: ما صدقت الله إن كنت أشرت على أبي بكر بأمر فلم أنفذه، فعزله. ثم كان يدعوه إلى العمل فيأبى إلا أن يخليه يفعل ما يشاء، فيأبى عمر.

وكان عمر يشبه خالدًا كثيرًا، فقد روى يعقوب بن سفيان، بإسناد صحيح عن الحسن قال: لقي عمر علقمة بن عُلَاثة في جوف الليل، وكان عمر يشبَّه بخالد بن الوليد، فقال له علقمة: يا خالد عزلك هذا الرجل، لقد أبى إلا شحًا حتى لقد جئت إليه وابن عمي. نسأله شيئًا، فأما إذ فعل فلن أسأله شيئًا. فقال له عمر: هيه مما عندك فقال: هم قوم لهم علينا حق فنؤدي لهم حقهم، وأجرنا على الله، فلما أصبحوا قال عمر لخالد: ماذا قال لك علقمة منذ الليلة؟ قال: والله ما قال لي شيئًا، فأجار علقمة، وقضى حاجته. ولما حضرت خالدًا الوفاة، أوصى إلى عمر، فتولى عمر وصيته، وسمع عمر راجزًا يذكر خالدًا فقال: رحم الله خالدًا، فقال له طلحة بن عبيد الله: لا أَعرفَنَّكَ بعد الموت تَنْدُبني ... وفي حياتي ما زودتني رادي فقال عمر إني ما عتبت على خالد إلا في تقدمه، وما كان يصنع في المال. وروى ابن المبارك عن أبي وائل قال: لما حضرت خالدًا الوفاة قال: لقد طلبت القتل في مِظَانِّه. فلم يقدر لي، إلَّا أن أموت على فراشي، وما من عملي شيء أرجى عندي، بعد لا إله إلا الله، من ليلة بتها وأنا مُتَتَرِّسٌ، والسماء تُهِلُّني تمطر إلى الصبح، حتى نغير على الكفار. ثم قال: إذا أنا مت، فانظروا في سلاحي وفرسي، فاجعلوه عدة في سبيل الله. وروى ابن عبد البر قال: لما حضرت خالدًا الوفاة قال: لقد شهدت مئة زحف أو زهاءها، وما في جسدي موضع شبر إلا وفيه ضربة، أو طعنة، أو رمية، ثم ها أنا أموت على فراشي كما يموت العير، فلا نامت أعين الجبناء. مات خالد سنة إحدى وعشرين أو اثنتين وعشرين، في خلافة عمر بن الخطاب، بحمص على الصحيح. ودُفن في قرية على ميل منها. قال الواقدي: سألت عنها فقيل: قد اندثرت. وقيل: مات بالمدينة، وحضر عمر جنازته، ولما خرج عمر مع جنازته قال: ما على نساء آل الوليد أن يسفحنَ على خالد دموعهن، ما لم يكن نَقْعًا أو لَقْلَقة. وروى ابن عبد البر هذا المعنى بوجه يمكن معه موت خالد بحمص، فقال: بلغ عمرًا أن نسوة من نساء بني المغيرة اجتمعن في دار يبكين على خالد بن الوليد، فقال عمر: وما عليهن أن يبكين أبا سليمان ما لم يكن نقع أو لقلقة. وذكر محمد بن سلام قال: لم تبق إمرأة من بني المغيرة إلا وضعت لِمَّتَها على قبر خالد، يقول: حلقت رأسها. له ثمانية عشر حديثًا، اتفقا على حديث، وانفرد البخاريّ بحديث موقوف عليه، روى عنه ابن عباس وقيس بن أبي حازم وجابر والمقدام بن معدي كرب. هذا الحديث أخرجه البخاريّ أيضًا في الجهاد وفي علامات النبوءة وفي فضل خالد وفي المغازي، والنسائي في الجنائز. ثم قال المصنف:

باب الإذن بالجنازة

باب الإِذن بالجنازة قال ابن رشيد: الإِذن بكسر الهمزة وسكون المعجمة، وضبطه ابن المرابط بمد الهمزة وكسر الذال، على وزن الفاعل، والأول أوجه، والمعنى الإعلام بالجنازة إذا انتهى أمرها، ليصلى عليها. قيل: هذه الترجمة تغاير التي قبلها، من جهة أن المراد بها الإِعلام بالنَّفْس وبالغير، وقال الزين بن المنير: هي مرتبة على التي قبلها؛ لأنّ النعي إعلام من لم يتقدم له علم بالميت، والإِذن إعلام من علم بهيئته أمره وهذا أحسن. ثم قال: وقال أبو رافع عن أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه، قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ألا كنتم آذنتموني؟ ". مناسبته للترجمة واضحة، وهذا التعليق طرف من حديث أخرجه في باب كنس المسجد، ومرَّ الكلام عليه هناك، وأبو رافع قد مرَّ في الثالث والثلاثين من الغُسل، ومرَّ أبو هريرة في الثاني من الإيمان. الحديث العاشر حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: مَاتَ إِنْسَانٌ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَعُودُهُ فَمَاتَ بِاللَّيْلِ فَدَفَنُوهُ لَيْلاً، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَخْبَرُوهُ فَقَالَ مَا مَنَعَكُمْ أَنْ تُعْلِمُونِي. قَالُوا كَانَ اللَّيْلُ فَكَرِهْنَا وَكَانَتْ ظُلْمَةٌ أَنْ نَشُقَّ عَلَيْكَ. فَأَتَى قَبْرَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ. قوله: وكان الليل، بالرفع، وكذا قوله: وكانت ظلمةٌ، فكان فيهما تامة، وقوله: قبره، فصلى عليه، قد مرَّ استيفاء الكلام على الصلاة على القبر، وعلى جميع مباحث هذا الحديث، عند حديث أبي هُريرة في باب كنس المسجد. والإِنسانُ المصلَّى على قبره هو طلحةُ بن البَرَاء، ويأتي تمام تعريفه في سند هذا الحديث. رجاله خمسة: قد مرّوا، وفيه ذكر إنسان مبهم، الأول محمد غير منسوب، وهو إما محمد بن سلام، أو ابن المثنى؛ لأنّ كلًا منهما يروى عن أبي معاوية، والأول مرَّ في الثالث عشر من الإيمان، ومرَّ الثاني

لطائف إسناده

في التاسع منه، ومرَّ أبو معاوية في تعليق بعد الثالث منه، ومرَّ الشَّعبيّ في الثالث منه، ومرَّ أبو إسحاق الشيباني في السابع من الحيض، ومرَّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي. والإنسان المبهم، قيل إنه أم مِحْجَن، وقد مرت في الحادي والستين من استقبال القبلة، والصحيح أنه طلحة بن البراء بن عمير بن وَبْرة بن ثعلبة بن غَنم بن سَرِيّ بن سَلَمة بن أُنيف البَلَوِيّ، حليف بن عمرو بن عوف الأنصاري. أخرج أبو داود والطبراني والبَغويّ أنه لما لقيَ النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، جعل يدنو منه ويلصق به، ويقبل قدميه، فقال له: يا رسول الله، مرني بما أحببت لا أعصي لك أمرًا، فعجب النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، لذك سر به وهو غلام فقال له: إذهب فاقتل أباك، فذهب ليفعل فدعاه، فقال: "أقبل، فإني لم أُبعث بقطيعة رحم". وأخرجه ابن السكن عنه أنه أتى النبيّ -صلى الله عليه وسلم- فقال: ابسط يدك أُبايعك، قال: على ماذا؟ قال: على الإِسلام، قال: وإن أمرتك أن تقتل أباك؟ قال: لا، ثم عاد، فقال مثل قوله، حتى فعل ذلك ثلاثًا، فقال: نعم. وكانت له والدة، وكان من أبر الناس بها، فقال: يا طلحة، إنه ليس في ديننا قطيعة رحم، ولكن أحببت أن لا يكون في دينك ريبة، ثم مرض طلحة بعد ذلك، فروى أبو داود وغيره، أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أتاه يعوده فقال: إني لا أرى طلحة إلا قد حدث به الموت، فآذنوني به وعجلوا، فإنه لا ينبغي لمسلم أن يحبس بين ظهراني أهله، فتوفي ليلًا، وقال: ادفنوني وألحقوني بربي، ولا تدعو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإني أخاف عليه اليهود، وأن يصاب بسببي، فأُخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين أصبح فجاء حتى وقف على قبره، وصف الناس معه، ثم رفع يديه وقال: "اللهم القَ طلحةَ وأنت تضحك إليه، وهو يضحك إليك". وفي رواية أنه قال: "لا ترسلوا إليه في هذه الساعة، فتلسعه دابة، أو يصيبه شيء، ولكن إذا أصبحتم فاقرؤوه مني السلام، وقولوا له: فليستغفر لي". لطائف إسناده: فيه التحديث بالأفراد والأخبار بالجمع، والعنعنة والقول، وشيخ البخاريّ من أفراده، وهو بِيْكَنديُّ بخاريٌّ، وبقية الرواة كوفيون، أخرجه البخاريّ في الصلاة، وفي الجنائز، ومسلم في الجنائز، وكذا أبو داود والترمذيّ والنسائي ابن ماجة. ثم قال المصنف:

باب "فضل من مات له ولد فاحتسب"

باب "فضل من مات له ولد فاحتُسِب" قال الزين بن المنير: عبّر المصنف بالفضل ليجمع بين مختلف الأحاديث الثلاثة التي أوردها، لأنّ في الأول دخول الجنة، وفي الثاني الحجب عن النار، وفي الثالث تقييد الولوج بتحِلَّة القَسَم وفي كل منها ثبوت الفضل لمن وقع له ذلك، ويجمع بينها بأن يقال: الدخول لا يستلزم الحجب ففي ذكر الحجب فائدة زائدة؛ لأنها تستلزم الدخول من أول وهلة، وأما الثالث، فالمراد بالولوج الورود، وهو المرور على النار، كما يأتي البحث فيه عند قوله: "إلا تحلة القسم". والمار عليها على أقسام؛ منهم من لا يسمع حَسِيسها، وهم الذين سبقت لهم الحسنى من الله، كما في القرآن، فلا تنافي مع هذا، أبين الولوج والعجيب، وعبر بقوله: "ولد" ليتناول الواحد فصاعدًا، إن كان الحديث قد قيد بثلاث، لكن وقع في بعض طرق الحديث ذكر الواحد، وقد مرت الأحاديث الدالة على ذلك في باب "هل يجعل للنساء يومًا على حدة في العلم". ثم قال: وقول الله عَزَّ وَجَلَّ {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}، في رواية كريمة والأصيليّ: وقال الله، وأراد بذلك الآية التي في البقرة، وقد وصف فيها الصابرون بقوله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}، فكأن المصنف أراد تقييد ما أطلق في الحديث بهذه الآية الدالة على ترك القلق والجزع، ولفظ المصيبة في الآية، وإن كان عامًا، لكنه يتناول المصيبة بالولد، فهو من أفراده. الحديث الحادي عشر حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا مِنَ النَّاسِ مِنْ مُسْلِمٍ يُتَوَفَّى لَهُ ثَلاَثٌ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ، إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ". قوله: ما من الناس من مسلم، قيّده به ليخرج الكافر، ومِن الأُوْلى بيانية، والثانية زائدة، وسقطت من رواية ابن علية عن عبد العزيز، كما سيأتي في أواخر الجنائز، ومسلم إسم ما، والاستثناء وما معه الخبر، والحديث ظاهر في اختصاص ذلك بالمسلم، لكن هي يحصل ذلك لمن مات له أولاد في الكفر ثم أسلم؟ فيه نظر، ويدل على عدم ذلك حديث أبي ثعلبة الأشجعيّ قال:

قلت: يا رسول الله، مات لي ولدان. قال: "من مات له ولدان في الإِسلام أدخله الله الجنة". أخرجه أحمد والطبرانيّ، وعن عمر وابن عَنْبَسَةَ مرفوعًا. "من مات له ثلاثة أولاد في الإِسلام، فماتوا قبل أن يبلغوا أدخله الله الجنة، أخرجه أحمد أيضًا، وأخرج أيضًا عن رجاء الأسلمية قالت: جاءت امرأة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله ادعُ الله لي في ابن لي بالبركة، فإنه قد توفي لي ثلاثة، فقال: أو أَسْلَمْتِ؟ قالت: نعم، فذكر الحديث. وقوله: يُتوفى له، بضم أوله، وفي رواية ابن ماجه "ما من مسلمَيْن يتوفى لهما"، والظاهر أن المراد من ولده الرجل حقيقة، ويدل عليه رواية النَّسَائي عن أنس "من احتسب من صلبه ثلاثة" وكذا حديث عقبة بن عامر، وهل يدخل في الأولاد أولاد الأولاد .. إلى آخر ما مرَّ في باب "يجعل للنساء يومًا"، وقوله: ثلاثة، كذا للأكثر، وهو الموجود في غير البخاري، وفي رواية كريمة والأصيلي "ثلاث" بحذف الهاء، وهو جائز لكون المميز محذوفًا، وفي حديث أبي هريرة، مرفوعًا عند المصنف في "الرقاق" يقول الله عَزَّ وَجَلَّ: "ما لعبدي المؤمن عندي، إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا، ثم احتَسَبَه إلّا الجنة". وقوله: ثم احتسبه، أي صبر راضيًا بقضاء الله راجيًا فضله، ولم يقع التقييد بذلك في أحاديث، وكأنه أشار إلى ما وقع في بعض طرقه، كما في حديث جابر بن سمرة وحديث جابر بن عبد الله المذكورين في باب "هل يجعل للنساء يومًا"، وفي رواية ابن حِبّان والنَّسائي عن أنس، رفعه "من احتسب من صُلبه ثلاثة دخل الجنةَ" .. الحديث. ولمسلم عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعًا "لا يموت لأحداكنَّ ثلاثة من الولد، فتحتسبهم إلا دخلت الجنة" الحديث. ولأحمد والطبرانيّ عن عُقبة بن عامر، رفعه "من أعطى ثلاثةً من صلبه، فاحتسبهم على الله، وجبت له الجنة" وفي الموطأ عن أبي النضر السُّلَمي، رفعه "لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد، فيحتسبهم إلا كانوا جنَّة من النار .. " الحديث. وقد عرف من القواعد الشرعية أن الثواب لا يترتب إلا على النية، فلابد من قيد الاحتساب، والأحاديث المطلقة محمولة على المقيدة، ولكن أشار الإِسماعيليّ إلى اعتراض لفظيّ، فقال: يقال في البالغ: احتُسِب وفي الصغير افْتُرِط. وبذلك قال الكثير من أهل اللغة، لكن لا يلزم، من كون ذلك هو الأصل، أن لا يستعمل هذا موضع هذا، بل ذكر ابن دريد وغيره: احتسبَ فلان بكذا طلب اجرًا عند الله، وهذا أعم من أن يكون لكبير أو صغير. وقد ثبت ذلك في الأحاديث التي ذكرناها، وهي حجة في صحة هذا الاستعمال. وقوله: لم يبلغوا الحِنْث، قد مرَّ استيفاء ما فيه عند ذكره في باب "هل يجعل للنساء يومًا" على

رجاله أربعة

حدة في العلم. وقوله: إلَّا أدخله الله الجنة، في حديث عُتبة بن عبد الله السُّلَمي عند ابن ماجه، بإسناد حسن، نحو حديث الباب، لكن فيه "إلَّا تَلَقَّوه من أبواب الجنة الثمانية، من أيها شاء دخل" وهذا زائد على مطلق دخول الجنة، ويشهد له ما رواه النَّسائي بإسناد صحيح عن معاوية ابن قُرَّة عن أبيه، مرفوعًا في أثناء حديث "ما يسرُّك أن لا تأتي بابًا من أبواب الجنة إلا وجدته عنده يسعى بفتح لك". وقوله: بفضل رحمته إياهم، أي بفضل رحمة الله للأولاد، وقال ابن التين: قيل إن الضمير في رحمته للأب، لكونه كان يرحمهم في الدنيا، فيجازي بالرحمة في الآخرة، والأوَّلُ أولى، ويؤيده أن في رواية ابن ماجه، من هذا الوجه، "بفضل رحمة الله إياهم" وللنَّسَائيّ عن أبي ذَرٍ "إلَّا غفر الله لهما بفضل رحمته" وللطبرانيّ وابن حِبّان عن الحارث بن أُقَيْشٍ، وهو بقاف ومعجمة مصغر، مرفوعًا "ما من مسلِمَيْن يموت لهما أربعة أولاد، إلا أدخلهما الله الجنة بفضل رحمته"، وفي حديث عمرو بن عنبسة المتقدم "إلا أدخله الله برحمته، هو وإياهم" قاله بعد قوله "من مات له ولدان" فوضح بذلك أن الضمير في قوله: إيَّاهم، للآباء لا للأولاد. رجاله أربعة: قد مرّوا، مرَّ أبو معمر وعبد الوارث في السابع عشر من العلم، ومرَّ عبد العزيز بن صُهيب في الثامن من الإيمان، وأنس في السادس منه، فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، ورواته كلهم بصريون، وهو من الرباعيات، أخرجه النسائي وابن ماجه في الجنائز. الحديث الثاني عشر حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الأَصْبَهَانِيِّ عَنْ ذَكْوَانَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضى الله عنه أَنَّ النِّسَاءَ قُلْنَ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: اجْعَلْ لَنَا يَوْمًا. فَوَعَظَهُنَّ، وَقَالَ أَيُّمَا امْرَأَةٍ مَاتَ لَهَا ثَلاَثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ كَانُوا حِجَابًا مِنَ النَّارِ. قَالَتِ امْرَأَةٌ وَاثْنَانِ. قَالَ: وَاثْنَانِ. قوله: اجعل لنا يومًا، تقدم في العلم في الباب المذكور آنفًا بأتم من هذا، وقوله: ما من امرأة، إنما خص المرأة بالذكر لأنّ الخطاب حينئذ كان للنساء، وليس له مفهوم لما في بقية الطرف. وقوله: ثلاثة، في رواية أبي ذَرٍّ "ثلاث"، وقد تقدم توجيهه في الذي قبله، وقوله: من الوَلَد، بفتحتين، وهو يشمل الذكر والأنثى، والجمع والمفرد، كما مرَّ دليل ذلك، وقوله: "إلا كانوا" في رواية المستملي والحموي "إلا كُنَّ" بضم الكاف وتشديد النون، وكأنه أنَّث باعتبار الأنفس أو النسمة. وفي رواية أبي الوقت "إلا كانوا لها حجابًا" وقوله: قالت امرأة، قد تقدم في كتاب "العلم" في الباب المذكور ما في المرأة من الخلاف، وتقدمت مباحثه هناك.

رجاله خمسة

رجاله خمسة: قد مرّوا، وفيه لفظ امرأة مبهمة، مرَّ مسلم بن إبراهيم في السابع والثلاثين من الإِيمان، ومرَّ شعبة في الثالث منه، ومرَّ أبو سعيد الخدريّ في الثاني عشر منه، ومرَّ ذكوان أبو صالح السّمان في الثاني منه، ومرَّ عبد الرحمن بن الأصبهاني في الثاني والأربعين من العلم. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، ورواته بصريّ وواسطيّ وكوفيّ ومدنيّ، أخرجه البخاريّ في مواضع قد مرَّ ذكرها في باب "هل يجعل للنساء يومًا"، وأخرجه مسلم والنَّسائي. والمرأة المبهمة في الحديث أم سليم، أم أنس بن مالك، وقد مرت في السبعين من العلم. ثم قال: وقال شريك عن ابن الأصبهاني: حدثني أبو صالح عن أبي سعيد وأبي هُريرة عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: لم يبلغوا الحِنْثَ، وصله ابن أبي شَيْبَةَ عنه بلفظ "حدثنا عبد الرحمن بن الأصبهاني قال: أتاني أبو صالح يعزّيني في ابن لي، فأخذ يحدّث عن أبي سعيد وأبي هُريرة أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: ما من امرأة تدفن ثلاثة أفراط إلا كانوا لها حجابًا من النار، فقالت امرأة: يا رسول الله، قدمتُ اثنين. قال: واثنين، ولم تسأله عن الواحد". قال أبو هريرة: من لم يبلغ الحنث. وهذا السياق ظاهرة أن هذه الزيادة عن أبي هُريرة موقوفة، ويحتمل أن يكون المراد أن أبا هُريرة وأبا سعيد اتفقا على السياق المرفوع، وزاد أبو هُريرة في حديثه هذا القيد، وهو مرفوع أيضًا، وقد تقدم في العلم، من طريق أخرى عن شعبة عن أبي حازم عن أبي هُريرة، وقال: "ثلاثة لم يبلغوا الحنث" وهذه الزيادة في حديث أبي سعيد من رواية شريك، وفي حفظه نظر، لكنها ثابتة عند مسلم من رواية شعبة عن ابن الأصبهاني. رجاله مرَّ محلها في الذي قبله إلا شريك، وشريك هو ابن عبد الله، وقد مرَّ في الخامس من العلم، وإلا أبو هريرة، وقد مرَّ في الثاني من الإِيمان. الحديث الثالث عشر حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لاَ يَمُوتُ لِمُسْلِمٍ ثَلاَثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ، فَيَلِجَ النَّارَ إِلاَّ تَحِلَّةَ الْقَسَمِ". قوله: لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد، في "الأطراف" للمزيّ هنا "لم يبلغوا الحنث"، وليست

في رواية ابن عُيينة عند البخاريّ ولا مسلم، وإنما هي في متن الطريق الآخر، وفائدةُ إيراد هذه الطريق الأخيرة عن أبي هريرة، أيضًا، ما في سياقها من العموم في قوله: "لا يموت لمسلم .. " الخ، لشموله النساء والرجال، بخلاف روايته الماضية، فإنها مقيدة بالنساء. وقوله: فيلجَ النار، بالنصب؛ لأنّ الفعل المضارع ينصب بعد النفي بتقدير أنْ، لكن حكى الطيبيّ أن شرطه أن يكون بين ما قبل الفاء وما بعدها سببية، ولا سببية هنا، إذ لا يجوز أن يكون موت الأولاد ولا عدمه سببًا لولوج من وَلَدهم النار، قال: وإنما الفاء بمعنى الواو التي للجمع، وتقريره لا يجتمع لمسلم موت ثلاثة من ولده، وولوجه النار لا محيد عن ذلك، إن كانت الرواية بالنصب، وهذا قد تلقَّاه جماعة عن الطيبيّ، وأقروه عليه، وفيه نظر لأنّ السببية حاصلة بالنظر إلى الاستثناء؛ لأنّ الاستثناء بعد النفي إثبات، فكان المعنى أن تخفيف الولوج مسبب عن موت الأولاد، وهو ظاهر لأنّ الولوج عام، تخفيفه يقع بأمور منها موت الأولاد بشرطه، وما ادعاه من أن الفاء بمعنى الواو التي للجمع فيه نظر وفي شرح "المشارق" للشيخ أكمل الدين، المعنى أن الفعل الثاني لم يحصل عقب الأول، فكأنه نفى وقوعهما بصفة أن يكون الثاني عقب الأول، لأنّ المقصود نفي الولوج عقب الموت، قال الطيبيّ: وإن كانت الرواية بالرفع، فمعناه لا يوجد ولوج النار عقب موت الأولاد إلا مقدارًا يسيرًا. وفي رواية مالك عن الزهريّ في الإِيمان والنذور بلفظ "لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد تمسُّه النار إلا تحلة القسم". وقوله: تمسُّه بالرفع جزمًا، وقوله: إلا تحلة القسم، بفتح المثناة وكسر المهملة وتشديد اللام، أي ما ينحل به القسم، وهو اليمين، وهو مصدر حَلَّلَ اليمينِ، أي: كفَّرها يقال حلل تحليلًا. وتَحِلَّةَ وتَحلَّلًا بغير هاء، وهو شاذ، وقال أهل اللغة يقال فَعَلْتُه تحِلَّة القسم، أي: قدر ما حللت به يميني، ولم أبالغ. وقال الخطابي: حللت القسم تحلة أي: أبرزتها. وقال القرطبيّ اختلف في المراد بهذا القسم فقيل: هو مُعين وقيل غير معين، والجمهور على الأول، وقيل لم يعني به قسم بعينه، وإنما معناه التقليل لأمر ورودها، وهذا اللفظ يستعمل في هذا تقول: لا ينام هذا إلا لتحليل الألِيَّة. وتقول ما ضربته إلا تحليلًا إذا لم تبالغ في الضرب، أي: قدرًا يصيبه منه مكروه. وقيل الاستثنا بمعنى الواو، أي: لا تمسه النار قليلًا ولا كثيرًا، ولا تحلة القسم. وقد جوز الفراء والأخفش مجيء إلا بمعنى الواو، وجعلوا منه قوله تعالى: {لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ} قال الخطابيّ: لا يدخل النار ليعاقب بها، ولكنه يدخلها مجتازًا، ولا يكون ذلك الجواز إلا قدر ما يحلل به الرجل يمينه، ويدل على ذلك ما عند عبد الرزاق عن الزهريّ في آخر هذا الحديث "إلا تحلة القسم" يعني الورود، وفي سنن سعيد بن منصور عن سُفيان بن عُيَينة في آخره، ثم قرأ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا}، ومن طريق زمعة بن صالح عن الزهريّ في آخره قيل: وما تحلة القسم؟ قال قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} وفي رواية كريمة قال أبو عبد الله:

وإن منكم إلا واردها، وحكاه عبد الملك بن حبيب عن مالك في تفسير هذا الحديث، وروى الطبراني عن عبد الرحمن بن بشر الأنصاريّ مرفوعًا "من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث، لم يرد النار إلا عابر سبيل" يعني الجواز على الصراط. وجاء مثله في حديث آخر أخرجه الطبرانيّ عن سهل بن معاذ بن أنس الجهنيّ عن أبيه، مرفوعًا "من حرس وراء المسلمين في سبيل الله متطوعًا لم ير النار بعينه إلا تحلة القسم فإن الله عَزَّ وَجَلَّ قال وإن منكم إلا واردها" واختلف في موضع القسم من الآية، فقيل: هو مقدر أي، والله إن منكم، وقيل معطوف على القسم الماضي في قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ} أيْ وربك إن منكم، وقيل هو مستفاد من قوله تعالى: {حَتْمًا مَقْضِيًّا} أي: قسمًا واجبًا. كذا رواه الطبرانيّ عن مُرة عن ابن مسعود، وعن ابن أبي نجيح عن مُجاهد، وعن سعيد عن قتادة في تفسير هذه الآية. وقال الطيبيّ: يحتمل أن يراد بالقسم ما دَل على القطع والبت من السياق، فإن قوله: {كَانَ عَلَى رَبِّكَ} تقدير وتذييل لقوله: {وَإِنَّ مِنْكُمْ} فهذا بمنزلة القسم، بل أبلغ، لمجيء الاستثناء بالنفي والإِثبات. وقد اختلف في المراد بالورود في الآية، فقيل: هو الدخول، روى عبد الرزاق عن عمرو بن دينار: أخبرني من سمع من ابن عباس: فذكره، وروى أحمد والنسائي والحاكم عن جابر، مرفوعًا "الورود الدخول، ولا يبقى بَرٌّ ولا فاجر إلا دخلها، فتكون على المؤمنين بردًا وسلامًا" ورواه ابن أبي شيبة أيضًا، وزاد "كما كانت على إبراهيم، حتى أن للنار أو لجهنم ضجيجٌ من بردهم، ثم ينجي الذين اتَّقَوا، ويذر الظالمين فيها جثيًا". وروى التِّرمذيّ وابن أبي حاتم عن السَّديّ "سمعت مُرَّة يحدث عن ابن مسعود قال: يردونها أو يلجونها، ثم يصدرون عنها بأعمالهم" قال عبد الرحمن بن مَهْديّ: قلت لشعبة: إن إسرائيل يرفعه، قال: صدق، وعمَدَا أدعه. وقيل: المراد بالورود الممر عليها. رواه الطبريّ عن أبي هريرة، وعن عبد الله بن مسعود، وعن قتاد وعن كعب الأحبار، وزاد "يستوون كلهم على متنها، ثم ينادي منادٍ: امسكي أصحابك، ودعي أصحابي" فيخرج المؤمنون أندية أبدانهم، وهذان القولان أصح ما ورد في ذلك، ولا تنافي بينهما، لأنّ من عَبّر بالدخول، تجوَّز به عن المرور. ووجهه أن المار عليها فوق الصراط في معنى من دخلها، لكن تختلف أحوال المارة باختلاف أعمالهم، فأعلاهم درجة من يمر كلمع البرق، وقد مرَّ تفصيل ذلك مستوفى في "باب فضل السجود" من صفة الصلاة. ويؤيد هذا التأويل ما رواه مسلم عن أم مُبَشِّر، أن حفصة قالت للنبيّ -صلى الله عليه وسلم-، لما قال لها: "لا يدخل أحد شهد الحُديْبية النار": أليس الله يقول {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} فقال لها: أليس الله

رجاله خمسة

يقول: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا ...} الآية. وفي هذا ضعف قول من قال إن الورود مختص بالكفار، ومن قال معنى الورود الدنو منها، ومن قال معناه الإشراف عليها، ومن قال معنى ورودها ما يصيب المؤمن في الدنيا من الحمى، على أن هذا الأخير غير بعيد، ولا تنافيه بقية الأحاديث. وفي الحديث أن أولاد المسلمين في الجنة؛ لأنه يبعد أن الله تعالى يغفر للآباء بفضل رحمته للأبناء، ولا يرحم الأبناء. وقد مرَّ الكلام على أولاد المسلمين مستوفى في باب "هل يجعل للنساء يومًا على حدة" في العلم، ويأتي ما قيل في أولاد المشركين، إن شاء الله تعالى، في باب "ما قيل في أولاد المشركين" في آخر الجنائز. رجاله خمسة: قد مرّوا، قد مرَّ عَليّ بن المَدينيّ في الرابع عشر من العلم، ومرَّ ابن عُيَينة في الأول من بدء الوحي، والزهريّ في الثالث منه، وسعيد بن المسيب في التاسع عشر من الإيمان، ومرَّ أبو هريرة في الثاني. أخرجه مسلم في الأدب، والنَّسائي في التفسير، وابن ماجه في الجنائز. ثم قال المصنف:

باب قول الرجل للمرأة عند القبر: اصبري

باب قول الرجل للمرأة عند القبر: اصبري مناسبة هذه الترجمة لما قبلها بجامع ما بينهما من مخاطبة الرجل المرأة بالموعظة،؛ لأنّ في الأول جواز مخاطبتها بما يرغبها في الأجر، إذا احتسبت مصيبتها، وفي هذا مخاطبتها بما يرهبها من الإثم، لما تضمنه الحديث من الإِشارة إلى أن عدم الصبر ينافي التقوى، قال الزين بن المنير ما محصله: عبَّر بقوله: الرجل، ليوضح أن ذلك لا يختص بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، وعبر بالقول دون الموعظة ونحوها، لكون ذلك الأمر يقع على القدر المشترك من الوعظ وغيره، واقتصر على ذكر الصبر دون التقوى، لأنه المتيسر حينئذ، المناسب لما هي فيه. قال: وموضع الترجمة من الفقه جواز مخاطبة الرجال النساء في مثل ذلك، بما هو أمر بمعروف أو نهي عن منكر، أو موعظة أو تعزية، وأن ذلك لا يختص بعجوز دون شابة، لما يترتب عليه من المصالح الدينية. الحديث الرابع عشر حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِامْرَأَةٍ عِنْدَ قَبْرٍ وَهِىَ تَبْكِي فَقَالَ: اتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي. قوله: بامرأة، قال في الفتح: لم أقف على اسمها ولا اسم صاحب القبر، وفي رواية لمسلم ما يشعر بأنه ولدها، ولفظه "تبكي على صبي لها"، وصرح به في مرسل يحيى بن أبي كثير عند عبد الرزاق، ولفظه "قد أصيبت بولدها"، وسيأتي في أوائل كتاب الأحكام، عن شعبة عن ثابت، أن أنسًا قال لامرأة من أهله: تعرفين فلانة؟ قالت: نعم. قال: كان النبيّ -صلى الله عليه وسلم- مرَّ بها، فذكر الحديث. وقوله: فقال اتقي الله، في رواية أبي نعيم في "المستخرج" فقال: يا أَمةَ الله، اتقي الله. قال القرطبيّ: الظاهر أنه كان في بكائها قدر زائد من نَوْح أو غيره، ولهذا أمرها بالتقوى. ويؤيده أن في مرسل يحيى بن أبي كثير المذكور "فسمع منها ما يكره، فوقف عليها" وقال الطيبيّ: قوله: اتقي الله، توطئة لقوله "واصبري" كأنه قال لها: خافي غضب الله إن لم تصبري، ولا تجزعي ليحصل لك الثواب، واقتصر المصنف هنا على هذا القدر من الحديث،

وذكر تكملته في باب زيارة القبور، وهي: قالت إليك عني، فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه. فقيل لها: أنه النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فأتت باب النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك فقال: "إنما الصبر عند الصدمة الأولى". قوله: إليك عني، هو من أسماء الأفعال، ومعناه تَنَحّ وابعد. وقوله: لم تُصَب بمصيبتي، يأتي في الأحكام من وجه آخر عن شعبة، بلفظ "فإنك خِلْوٌ من مصيبتي" بكسر المعجمة وسكون اللام، ولمسلم "ما تبالي بمصيبتي"، ولأبي يعلى عن أبي هُريرة أنها قالت: يا عبد الله، إنّي أنا الحَرَّى الثَّكْلى، ولو كنت مصابًا عذرتني. وقوله: ولم تعرفه، جملة حالية، أي: خاطبته بذلك ولم تعرف أنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقوله: فقيل لها، في رواية الأحكام "فمر بها رجل، فقال: إنه رسول الله، فقالت ما عرفته". وفي رواية أبي يعلى المذكورة قال: فهل تعرفينه؟ قالت: لا. وللطبرانيّ في الأوسط عن عطية عن أنس، أن الذي سألها هو الفضل بن العباس، وزاد مسلم في رواية لها "فأخذها مثلُ الموت"، أي: من شدة الكرب الذي أصابها لما عرفت أنه النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، خجلًا منه ومهابة. وقوله: فلم تجد عنده بوابين، في رواية الأحكام "بوابًا" بالإِفراد. قال الزين بن المنير: فائدة هذه الجملة، من هذا الخبر، بيانُ عذر هذه المرأة في كونها لم تعرفه، وذلك أنه كان من شأنه أن لا يتخذ بوابًا مع قدرته على ذلك، تواضعًا. وكان من شأنه أنه لا يستتبع الناس وراءه إذا مشى، كما جرت عادة الملوك والأكابر، فلذلك اشتبه على المرأة، فلم تعرفه، مع ما كانت فيه من شاغل الوَجْد والبكاء. قلت: الجملة الثانية ظاهرة في عذر المرأة، وأما الأُولى فلم تطلع عليها إلا بعد المراجعة، فلا عذر لها بها. وقال الطيبيّ: فائدةُ هذه الجملة أنه لما قيل لها أنه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- استشعرت خوفًا وهيبة في نفسها، فتصورت أنه مثل الملوك له حاجبٌ وبوابٌ يمنع الناس من الوصول إليه، فوجدت الأمر بخلاف ما تصورته. وقوله: فقالت لم أعرفك، في حديث أبي هريرة "فقالت والله ما عرفتك". وقوله: إنما الصبر عند الصدمة الأولى، في رواية الأحكام "عند أول صدمة" ونحوه لمسلم، والمعنى إذا وقع الثبات أولَ شيء يهجم على القلب من مقتضيات الجزع، فذلك هو الصبر الكأس الذي يترتب عليه الأجر، وأصل الصدم ضرب الشيء الصلب بمثله، فاستعير للمصيبة الواردة على القلب. قال الخطابي: المعنى أن الصبر، الذي يحمد عليه صاحبه، ما كان عند مفاجأة المصيبة، بخلاف ما بعد ذلك، فإنه على الأيام يسلو. وحكى الخطابيّ عن غيره أن المرء لا يؤجر على

رجاله أربعة

المصيبة لأنها ليست من صنعه، وإنما يؤجر على حُسْن تثبته وجميل صبره. وقال ابن بطال: أراد أن لا يجتمع عليها مصيبة الهلاك وفقد الأجر. وقال الطيبيّ: صدر هذا الجواب منه عليه الصلاة والسلام عند قولها: لم أعرفك، على أسلوب الحكيم، كأنه قال لها: دعي الاعتذار، فإني لا أغضب لغير الله، وانظري إلى نفسك. وقال الزين بن المنير: فائدة جواب المرأة بذلك أنها لما جاءت طائعة، لما أمرها به من التقوى والصبر، معتذرة عن قولها الصادر عن الحزن، بيَّن لها أن حق هذا الصبر أنْ يكون في أول الحال، فهو الذي يترتب عليه الثواب، ويؤيده أن في رواية أبي هريرة المذكورة "فقالت: أنا أصبر، أنا أصبر" وفي مرسل يحيى بن أبي كثير المذكور تأخرت بعد الدفن عند القبر، والزيارة إنما تطلق على من أنشا إلى القبر قصدًا من جهة استواء الحكم في حقها، حيث أمرها بالتقوى والصبر لما رأى من جزعها، ولم ينكر عليها الخروج من بيتها، فدل على أنه جائز، وهو أعم من أن يكون خروجها لتشييع ميتها، فأقامت عند القبر بعد الدفن، وأنشات قصد زيارته بالخروج بسبب الميت. وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم. ما كان فيه عليه الصلاة والسلام من التواضع والرفق بالجاهل، ومسامحة المصاب وقبول اعتذاره، وملازمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وفيه أن القاضي لا ينبغي له أن يتخذ من يحجبه عن حوائج الناس، وأن من أمر بمعروف ينبغي له أن يقبل ولو لم يعرف الأمر وفيه أن الجزع من المنهات، لأمره لها بالتقوى مقرونًا بالصبر. وفيه الترغيب في احتمال الأذى عند بذل النصيحة، ونشر الموعظة، وأن المواجهة بالخطاب، إذا لم تصادف المنوي، لا أثر لها. وبنى عليه بعضهم ما إذا قال: يا هند أنت طالق، فصادف عَمْرة أنَّ عمرة لا تطلق، وعند المالكية تطلق في هذه الصورة هند في الفتوى والقضاء، ولا تطلق عمرة في الفتوى، وتطلق في القضاء. ويأتي بعض ما يستفاد منه في زيارة القبور. رجاله أربعة: قد مرّوا، وفيه ذكر امرأة مبهمة، مرَّ آدم وشعبة في الثالث من الإِيمان، ومرَّ أنس في السادس منه، ومرَّ ثابت البثانيّ في تعليق بعد الخامس من العلم، والمرأة المبهمة، قال في الفتح: لم أقف على اسمها، ولا على اسم صاحب القبر. والحديث أخرجه البخاريّ أيضًا في الجنائز وفي التوحيد، ومسلم في الجنائز، وكذا أبو داود والتّرمذيّ والنَّسائي. ثم قال المصنف:

باب غسل الميت ووضوئه بالماء والسدر

باب غسل الميت ووضوئه بالماء والسِّدْر أي: بيان حكمه، وقد نقل النوويّ الإِجماع على أن غسل الميت فرض كفاية، وهو ذهول منه شديد، فإن الخلاف مشهور عند المالكية، حتى أن القرطبيّ في شرح مسلم رجَّح أنه سنّة، ولكن الجمهور على وجوبه، وأجاب العينيّ عن النوويّ بأن مراد القرطبيّ بقوله: "سنة" أي: مؤكدة، وهي في قوة الوجوب، وهذا الجواب باطل، فإن الخلاف عند المالكية في وجوبه وسنته مشهور، وهو نص خليل في مختصره، وقد رد ابن العربي على من لم يقل بالوجوب، فقال: قد توارد به القول والعمل، وغُسِل الطاهرُ المطهرُ فكيف بمن سواه؟ وأصل وجوب غسل الميت، ما في المسند، أن آدم عليه الصلاة والسلام غسلته الملائكة وكفنوه وحنطوه، وحفروا له وألحدوا وصلوا عليه. ثم دخلوا قبره فوضعوه فيه، ووضعوا عليه اللِّبن، ثم خرجوا من قبره، ثم حثوا عليه التراب، ثم قالوا: يا بني آدم هذه سبيلكم، ورواه البيهقيّ بمعناه. وأما قوله: ووضوئه، فقال ابن المنير: ترجم بالوضوء، ولم يأت له بحديث، فيحتمل أن يريد انتزاع الوضوء من الغسل؛ لأنه منزل على المعهود من الأغسال، كغُسل الجنابة، أو أراد وضوء الغاسل، أي: لا يلزمه وضوء، ولهذا ساق أثر ابن عمر، وفي عود الضمير على الغاسل، ولم يتقدم له ذكر بعد، إلا أن يُقال: تقديرا لترجمة "باب غسل الميت" فالمصدر مضاف لمفعوله، لأنّ الميت لا يتولى ذلك بنفسه، فيعود الضمير على المحذوف فيتجه، قلت: على هذا أيضًا الأولى عَودُ الضمير إلى أقرب مذكور. قال في الفتح: والذي يظهر أنه أشار كعادته إلى ما ورد في بعض طرق الحديث، مما يأتي قريبًا، في حديث أم عطية "ابْدأنَ بميامنها ومواضع الوضوء منها" فكأنه أراد أن الوضوء لم يرد الأمر به مجردًا، وإنما ورد البداءة بأعضاء الوضوء، كما يشرع في غُسل الجَنابة، أو أراد أن الاقتصار على الوضوء لا يجزىء، لورود الأمر بالغُسل. وقوله: بالماء والسدر، قال الزين بن المنير: جعلهما معًا آلة لغَسل الميت، وهو مطابق لحديث الباب؛ لأنّ قوله: بماء وسدر، يتعلق بقوله: اغلسنها، وظاهره أن السدر يخلط في كل مرة من مرات الغسل، وهو مشعر بأن غسل الميت للتنظيف لا للتطهير؛ لأنّ الماء المضاف لا يتطهر

به، وقد يمنع لزوم كون الماء يصير مضافًا بذلك، لاحتمال أن لا يغير السدر وصف الماء بأن يمعك بالسدر، ثم يغسل بالماء في كل مرة، فإن لفظ الخبر لا يأبى ذلك. وقال القرطبيّ: يجعل السدر في ماء ويخضخض إلى أن تخرج رغوته ويدلك به جسده، ثم يصب عليه الماء القراح، فهذه غسلة. وحكى ابن المنذر أن قومًا قالوا: تطرح ورقات السدر في الماء، أي لئلا يمازج الماء فيتغير وصفه المطلق، وحكى عن أحمد أنه أنكر ذلك، وقال: يغسل في كل مرة بالماء والسدر، وأعلى ما ورد في ذلك ما رواه أبو داود عن قتادة عن ابن سيرين "أنه كان يأخذ الغسل عن أم عطية، فيغسل بالماء والسدر مرتين، والثالثة بالماء والكافور" قال ابن عبد البر: كان يقال: كان ابن سيرين من أعلم التابعين بذلك. وقال ابن العربيّ: من قال الأُولى بالماء القراح، والثانية بالماء والسدر، أو العكس، والثالثة بالماء والكافور، فليس هو في لفظ الحديث. وكأن القائل أراد أن تقع إحدى الغسلات بالماء الصرف المطلق، لأنه هو المطهر حقيقة، وأما المضاف فلا. قلت: الذي نفى ابن العربيّ وجوده في الحديث هو الذي صرح في المحيط، والمبسوط أنه مذهب الحنفية الأولى، بالماء القراح، والثانية بالماء والسدر، والثالثة بالماء والكافور، وكذا الحكم عند المالكية، إلا أنهم يندب عندهم الغسل سبع مرات، ويندب جعل الكافور في الأخيرة، سواء كانت ثالثة أو سابعة. وعند سعيد بن المسيب والثوري يغسل في المرة الأولى والثانية بالماء القراح، والثالثة بالسدر. وقال الشافعيّ يختص السدر بالأولى، وبه قال ابن الخطاب من الحنابلة. وعن أحمد يستعمل السدر في الثلاث كلها، وتمسَّك بظاهر الحديث ابن شعبان وابن الفرضى وغيرهما من المالكية، فقالوا: غسل الميت إنما هو للتنظيف، فيجزيء بالماء المضاف كماء الورد ونحوه، قالوا: وإنما يكره من جهة السرف، والمشهور عند الجمهور أنه غسل تعبديّ يشترط فيه ما يشترط في بقية الأغسال الواجبة والمندوبة، وقيل: شرع احتياطًا لاحتمال أن يكون عليه جنابة، وفيه نظر، لأنّ لازمَه أن لا يشرع غُسل متن هو دون البلوغ، وهو خلاف الإجماع، وكرهت الشافعية وبعض الحنابلة الماءَ المسخّن، وعندهم الماء البارد وأفضل، إلا أن يكون عليه وسخ أو نجاسة لا تزول إلا بالماء الحار، أو يكون البرد شديدًا. وعند المالكية البارد والمسخّن سيّان. ثم قال: وحنط ابن عمر، رضي الله تعالى عنه، ابنًا لسعيد بن زيد، وحمله وصلى ولم يتوضأ. قوله: حَنَّط، بفتح المهملة والنون الثقيلة، أي: طيبه بالحنوط، وهو كل شيء يخلط من الطيب للميت خاصة، فيدخل فيه المسك، وأجازه أكثر العلماء، وأمر به علي، رضي الله تعالى

عنه، واستعمله أنس وابن عمر وابن المسيب، وبه قال مالك والشافعيّ وأحمد وإسحاق، وكرهه عطاء الحسن ومجاهد، وقالوا: إنه ميتة، واستعماله في حنوط النبيّ -صلى الله عليه وسلم- حجةٌ عليهم، وفي "الروضة": ولا بأس يجعل المسك في الحنوط. ويجعل الحنوط بين أكفانه وحَواسّه ومَرَاقّه، نصت على ذلك المالكية، ويستحب فيه شيء من الكافور، وتعلق هذا الأثر وما بعده بالترجمة، من جهة أن المصنف يرى أن المؤمن لا ينجس بالموت، وأن غسله إنما هو للتعبد؛ لأنه لو كان نجسًا لم يطهره الماء والسدر ولا الماء وحده، ولو كان نجسًا ما مسه ابن عمر ولغسل ما مسه من أعضائه، وكأنه أشار إلى تضعيف ما رواه أبو داود عن عمرو بن عُمير عن أبي هُريرة، مرفوعًا "من غسل الميت فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ". رواته ثقات إلا عمرو بن عمير، فليس بمعروف. وروى التِّرمذيّ وابن حِبّان عن سُهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هُريرة نحوه، وهو معلول، لأنّ أبا صالح لم يسمعه من أبي هُريرة، رضي الله تعالى عنه، وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: الصواب عن أبي هُريرة موقوف، وقال أبو داود: تخريجه هذا منسوخ ولم يبين ناسخه، وقال الذهلي فبما حكاه الحاكم في تاريخه: ليس "فيمن غسل ميتًا فليغتسل" حديث ثابت. وقد اختلف أهل العلم في الذي يغسل الميت، فقال بعض أهل العلم من الصحابة وغيرهم: إذا غسل ميتًا فعليه الغسل. وقال بعضهم: عليه الوضوء، وقال مالك: استحب غُسل من غسل الميت، ولا أرى ذلك واجبًا، وكذلك يندب عنده نية اغتسال غاسله، وفائدة ذلك أن يبالغ في تنظيف الميت، ولا يحترز من مخالطته. وقال ابن حبيب: لا غسل عليه ولا وضوء، وقال الشافعيّ في الجديد: يُندب الغسل لغاسله، وفي القديم بالوجوب. وقال أحمد: من غسل ميتًا أرجو أن لا يجب عليه الغسل، فأما الوضوء فاضل ما فيه. وقال إسحاق: لابد من الوضوء، وروى عن ابن المبارك أنه قال: لا يغتسل ولا يتوضأ من غسل الميت، قال الخطابيّ لا أعلم أحدًا قال بوجوب الغسل منه، وأوجب أحمد وإسحاق الوضوء منه. وهذا الأثر وصله مالك في الموطأ، عن نافع، وابن عمر قد مرَّ في أول الإِيمان قبل ذكر حديث منه، والابن عبد الرحمن بن سعيد بن زيد، ولم يذكر في الصحابة، ولا فيمن ولد على عهده عليه الصلاة والسلام. ثم قال: وقال ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما: المسلم لا ينجس حيًا ولا ميتًا، وهذا وصله سعيد بن منصور عن ابن عباس بلفظ "قال لا تبخسوا موتاكم، فإن المؤمن ليس ينجس حيًا ولا ميتًا" إسناده صحيح، وقد روى، مرفوعًا، أخرجه الدارقطنيّ عن عبد الرحمن بن يحيى المخزوميّ عن

الحديث الخامس عشر

سفيان، وكذا أخرجه الحاكم عن ابني أبي شيبة عن سفيان، والذي في مصنف ابن أبي شيبة عن سفيان موقوف، كما رواه سعيد بن منصور، وروى الحاكم نحوه مرفوعًا، عن عكرمة عن الن عباس، رضي الله تعالى عنهما. وقوله: "لا تنجسوا موتاكم" أي: لا تقولوا إنهم نجَس، بفتح الجيم وابن عباس مرَّ في الخامس من بدء الوحي. ثم قال: وقال سعد لو كان نجسًا ما مسسته، في رواية الأصيلي وأبي الوقت؛ وقال: سعيد، بزيادة ياء، والأول أَوْلى، وهو سعد بن أبي وقاص، كذلك أخرجه ابن أبي شيبة عن عائشة بنت سعد، قالت: أُوذِن سعد، تعني أباها، بجنازة سعيد بن زيد بن عمرو، وهو بالعقيق، فجاءه فغسله وكفنه وحنطه. ثم أتى داره فاغتسل، ثم قال: لم أغتسل من غسله، ولو كان نجسًا ما مسسته، ولكني اغتسلت من الحر. وروى عن سعيد بن المسيب شيء من ذلك، ففي فوائد سموَيه عن واقد المَدنيّ قال: قال سعيد بن المسيب: لو علمت أنه نجس لم أمسسه. وفي أثر سعد من الفوائد، أنه ينبغي للعالم إذا عمل عملًا يخشى أن يلتبس على من وراءه، أن يُعْلِمهَم بحقيقة الأمر لئلا يحملوه على غير محمله. وسعد مرَّ في العشرين من الإيمان. ثم قال: وقال النبيّ -صلى الله عليه وسلم- "المؤمن لا ينجس" هذا طرف من حديث لأبي هُريرة مرّ موصولًا في باب "الجنب يمشي في السوق" من كتاب الغسل، ووجه الاستدلال به هو أن صفة الإِيمان لا تسلب بالموت، وإن كانت باقية فهو غير نجس، وقد بين ذلك حديث ابن عباس المذكور، قيل: وفي نسخة الصفانيّ قال أبو عبد الله: النجس القذر، وأبو عبد الله هو البخاريّ، وأراد بذلك ففي هذا الوصف، وهو النجس عن المؤمن حقيقة ومجازًا. الحديث الخامس عشر حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ الأَنْصَارِيَّةِ رضي الله عنها قَالَتْ دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ تُوُفِّيَتِ ابْنَتُهُ فَقَالَ اغْسِلْنَهَا ثَلاَثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مَنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَاجْعَلْنَ فِي الآخِرَةِ كَافُورًا أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ، فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي. فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ فَأَعْطَانَا حِقْوَهُ فَقَالَ أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ. تَعْنِي إِزَارَهُ.

قوله: عن محمد بن سيرين، في رواية ابن جريج عن أيوب، سمعت ابن سيرين، وسيأتي في باب كيف الإشعار، وقد رواه أيوب أيضًا عن حفصة بنت سيرينَ، كما سيأتي بعد أبواب، ومدار حديث أم عطية على محمد وحفصة ابني سيرين، وحفظت منه حفصة ما لم يحفظه محمد، كما سيأتي مبينًا. قال ابن المنذر: ليس في أحاديث الغسل للميت أعلى متن حديث أم عطية، وعليه عَوّل الأئمة. وقوله: عن أُم عطية الأنصارية، في رواية ابن جريج المذكورة: جاءت أمَّ عطية امرأةٌ من الأنصار اللاتي بايعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قدم البصرةَ إبنًا لها، فلم تدركه، وهذا الابن قال في الفتح: ما عرفت اسمه، وكأنه كان غازيًا فقدم البصرة، فبلغ أم عطية وهي بالمدينة قدومه وهو مريض، فرحلت إليه فمات قبل أن تلقاه، وسيأتي في الأحداد ما يدل على أن قدومها كان بعد موته بيوم أو يومين، وقد مرَّ اسمها وتعريفها في الثاني والثلاثين من الوضوء. وقولي: في الأحداد، في باب أحداد المرأة على غير زوجها، وهو قوله في الحديث، فلما كان اليوم الثالث، وعت بصفرة، قلت: لكن هذا لا تحصل به الدلالة، إلا إذا ثبت أنه في ذلك الولد، أو أنها ليس لها ولد سواه. وقوله: حين توفيت ابنته، في رواية الثقفيّ عن أيوب، وهي التي تلي هذه، وكذا في رواية ابن جريج: دخل علينا ونحن نغسل بنته، ويجمع بينهما بأن المراد أنه دخل حين شرع النسوة في الغسل، وعند النَّسائيّ أن مجيئهن إليها كان بأمره، ولفظه من رواية حفصة "ماتت إحدى بنات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأرسل إلينا، فقال: اغسلنها". وقوله: بنته، لم تقع في شيء من روايات البخاريّ مسماة، والمشهور أنها زينب زوج أبي العاص بن الربيع، وهي أكبر بناته عليه الصلاة والسلام، وقد وردت مسماة عند مسلم عن أم عطية، في هذا من رواية عاصم، قالت: لما ماتت زينب بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال -صلى الله عليه وسلم-: "اغسلنها"، فذكرت الحديث. وقد خولف عاصم في ذلك، فقد أخرجه ابن ماجه عن أيوب "دخل علينا ونحن نغسل ابنته أم كلثوم". وهذا إسناده على شرط الشيخين، وفي المبهمات لابن بَشْكوال عن أم عطية قالت: كنت فيمن غسل أم كلثوم .. الحديث. وقد روى الدُّولابيّ في الذُّرِّيَّة الطاهرة عن عَمرة أن أم عطية كانت ممن غسل أم كلثوم ابنة النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فيمكن دعوى ترجيح ذلك، لوروده من طرق متعددة، ويمكن الجمع بأن تكون حضرتهما جميعًا، فقد جزم ابن عبد البَرَّ في ترجمتها بأنها كانت غاسلة الميتات، وسميت ثلاث من النسوة اللاتي حضرن معها، ففي الذرية الطاهرة عن أسماء بنت عميس أنها كانت ممن غسلها، قالت: ومعنا صفية بنت عبد المطلب. ولأبي داود عن ليلى بنت قانف، بقاف ونون وفاء، الثقفية قالت: كنتُ فيمن غسلها. وروى الطبراني عن أم سليم شيئًا يومىء إلى أنها

حضرت ذلك أيضًا، وسيأتي بعد خمسة أبواب قول ابن سيرين: قلت: اللهم إلا أن يكون الراوي المسمى لها راويًا عن حفصة، لا عن محمد، فقد مرَّ أن أيوب روى الحديث أيضًا عن حفصة، وأن حفصة حفظت منه ما لم يحفظه محمد. وقوله: اغسلنها، قال ابن بزيزة: استدل به على وجوب غسل الميت، وهو مبنيٌّ على أن قوله فيما بعد "أن رأيتن ذلك" هل يرجع إلى الغسل أو العدد؟ والثاني أرجح، فثبت المدعى. قال ابن دقيق العيد: لكن قوله ثلاثًا ليس للوجوب على المشهور من مذاهب العلماء، فيتوقف الاستدلال به على تجويز إرادة المعنيين المختلفين بلفظ واحد، لأن قوله "ثلاثًا" غير مستقل بنفسه، فلابد أن يكون داخلًا تحت صيغة الأمر، فيراد بلفظ الأمر الوجوب بالنسبة إلى أصل الغسل، والندب بالنسبة إلى الإيثار، وقواعد الشافعية لا تأبى ذلك. ومن ثم ذهب الكوفيون وأهل الظاهر والمزنيّ إلى إيجاب الثلاث، وقالوا: إن خرج منه شيء بعد ذلك يغسل موضعه، ولا يعاد غسل الميت، وهو مخالف لظاهر الحديث، وجاء عن الحسن مثله، أخرجه عبد الرزاق عن هشام بن حسان عن ابن سيرين قال: يغسل ثلاثًا، فإن خرج منه شيء بعد فخمسًا، فإن خرج منه شيء غسل سبعًا. قال هشام: وقال الحسن: يغسل ثلاثًا، فإن خرج منه شيء غسل ما خرج، ولم يزد على الثلاث. وقوله: ثلاثًا أو خمسًا، في رواية هشام بن حَسّان عن حفصة "اغسلنها وترًا ثلاثًا أو خمسًا" وأو هنا للترتيب لا للتخيير، قال النووي: المراد اغسلنها وترًا، وليكن ثلاثًا، فإن احتجن إلى زيادة فخمسًا، وحاصله أن الإِيثار مطلوب، والثلاث مستحبة فإن حصل الإنقاء بها لم يشرع ما فوقها، وإلا زِيد وِترا حتى يحصل الإِنقاء. والواجب من ذلك مرة عامة للبدن. وقد سبق بحث ابن دقيق العيد في ذلك قريبا. وقال ابن العربي في قوله "أو خمسًا": إشارة إلى أن المشروع هو الإِيتار؛ لأنه نقلهنّ من الثلاث إلى الخمس، وسكت عن الأربع. وقوله: أو أكثر من ذلك، بكسر الكاف، لأنه خطاب للمؤنث، في رواية أيوب عن حفصة في الباب الذي يليه "ثلاثًا" أو خمسًا أو سبعًا، وليس في شيء من الروايات بعد قوله "أو سبعًا" التعبير بأكثر من ذلك إلَّا في رواية لأبي داود، وأما ما سواها، فإما "أو سبعًا" وإما "أو أكثر من ذلك" بالسبع، وبه قال أحمد، فكره الزيادة على السبع، وقال ابن عبد البر: لا أعلم أحدًا قال بمجاوزة السبع، وبه قال أحمد، فكره الزيادة على السبع، وقال ابن عبد البر: لا أعلم أحدًا قال بمجاوزة السبع، وسيأتي عن قتادة أن ابن سيرين كان يأخذ الغسل عن أُم عطية ثلاثًا، وإلا فخمسًا، وإلا فأكثر. قال: فرأينا أن أكثر من ذلك سبع.

وقال المَاوَرْدِيّ: الزيادة على السبع سرف، وقال ابن المنذر: بلغني أن جسد الميت يسترخي بالماء، فلا أحب الزيادة على ذلك. وقوله: إن رأيتن ذلك، قال الطّيبيّ: بكسر الكاف، خطاب لأم عطية، ومعناه التفويض إلى اجتهادهن بحسب الحاجة لا التشهي، وقال ابن المنذر: إنما فوّض الرأي اليهن بالشرط المذكور، وهو الإيتار. وحكى ابن التين عن بعضهم قال: يحتمل قوله "إن رأيتنَّ" أن يرجع إلى الأعداد المذكورة، ويحتمل أن يكون معناه إن رأيتن أن نفعلن ذلك، وإلا فالإنقاء يكفي. وقوله: بماء وسدر، قال ابن العربى: هذا أصل في جواز التطهير بالماء المضاف إذا لم يسلب الماء الإطلاق. وهو مبني على الصحيح من أن غسل الميت للتطهير كما تقدم. وقوله: واجعلنَ في الآخرة كافورًا أو شيئًا من كافور، هو شك من الراوي، أي اللفظتين، والأول محمول على الثاني، لأنه نكرة في سياق الإثبات، فيصدق بكل شيء منه، وجزم في الرواية التي تلي هذه بالشق الأول، وكذا في رواية ابن جريج، وظاهره جَعْلُ الكافور في الماء، وبه قال الجمهور. وقال النخعيّ. إنما يُجعل في الحنوط بعد انهاء الغسل والتجفيف. قيل: الحكمة في الكافور مع أنه يطيب رائحة الموضع لأجل من يحضر من الملائكة وغيرهم، أنَّ فيه تجفيفًا وتبريدًا وقوة نفوذ، وخاصية في تصليب بدن الميت، وطرد الهوام عنه، وردع ما يتخلل من الفضلات، ومنع إسراع الفساد إليه، وهو أقوى الأراييح الطيبة في ذلك، وهذا هو السر في جعله في الأخيرة، إذ لو كان في الأولى مثلًا، لأذهبه الماء. وهل يقوم المسك مثلًا مقام الكافور إنْ نُظِر إلى مجرد التطيب؟ نعم، وإلا فلا، وقد يقال: إذا عدم الكافور قام غيره مقامه، ولو بخاصية واحدة مثلًا. وقوله: فإذا فرغتنَّ فآذِنَّني، أي اعلمنني. وقوله: فلما فرغنا، هكذا بصيغة الماضي لجماعة المتكلمين، وفي رواية الأصيليّ: فلما فرغنَ، بصيغة الماضي للجمع المؤنث. وقوله: حَقْوه، بفتح الحاء المهملة وسكون القاف، وفي الحكم الحَقو والحِقو، بالفتح والكسر، والحَقوة والحَقا، كله الإزار، كأنه سمي بما يلاث عليه، والمراد به هنا الإزار، كما وقع مفسرًا في آخر هذه الرواية، تعني إزاره، والحقو في الأصل مَعْقِد الإزار، وأطلق على الإزار مجازًا، وسيأتي بعد ثلاثة أبواب عن محمد بن سيرين "فنزع من حقوه إزاره" والحقو في هذا على حقيقته. قاله في الفتح، وهو واضح، واعترض عليه العيني بأن الحقو لم يقل أحدٌ أنه حقيقة ومجاز، وإنما هو من المشترك، والمشترك حقيقة في معنييه أو معانيه. قلت: من محبته في الاعتراض على صاحب الفتح ذَهَل عما مرَّ عنه قريبًا، عازيًا له إلى المحكم أن تسمية الإزار حقوًا تسمية له بما يلاث عليه، وهذا هو حقيقة المجاز.

رجاله خمسة

وقوله: أشْعِرنها إياه، أمر من الإشعار، أي اجعلنه شعارها، أي الثوب الذي يلي جسدها، سمي شعارًا لأنه يلي شعر الجسد، والدثار ما فوقه، والحكمة فيه التبرك بآثاره الشريفة، والحكمة في تأخيره الإزار معه إلى أن يفرغن من الغُسل، ولم يناولهن إياه أولًا، ليكون قريب العهد من جسده الكريم، حتى لا يكون بين انتقاله من جسده إلى جسدها فاصلٌ، وهو أصل في التبرك بآثار الصالحين وتأتي صفة الإشعار في باب مفرد، وفيه جوز تكفين المرأة في ثوب الرجل، ويأتي في باب مفرد، وفيه ما يدل على أنّ النساء أحق بغسل المرأة من الزوج، وبه قال الحسن والثُّوْرِيّ والشعبيّ وأبو حنيفة. والجمهور على خلافه، وهو قول الثلاثة والاوزاعي وإسحاق، وقد وصّت فاطمة زوجها عليًا رضي الله تعالى عنهما بذلك، كما رواه البيهقي وابن الجوزيّ، وفي إسناده عبد الله بن نافع متكلَّمٌ فيه، وكان الإِيصاء بحضرة الصحابة، ولم ينكر أحد، فصار إجماعًا. وفي "المبسوط" و"المحيط" و"البدائع" أن ابن مسعود سئل عن فعل عليّ، رضي الله تعالى عنه، فقال: إنها زوجته في الدنيا والآخرة، يعني أن الزوجية باقية بينهما لم تنقطع، قال بعضهم: وفيه نظر، لأنّ الزوجية لو بقيت بينهما ما تزوج أُمامة بنت زينب بعد موت فاطمة، رضي الله تعالى عنها، وقد مات عن أربع حرائر. قلت: هذا الاعتراض ساقط، لأنّ بقاء الزوجية في الآخرة لا يترتب عليه ما يترتب على الزوجية الدنيوية من الأحكام، ألا ترى عثمان رضي الله تعالى عنه تزوج أم كلثوم بعد رقية رضي الله تعالى عنهما؟ وقد ثبت أنهما زوجتاه في الجنة. فبالموت تسقط الأحكام الدنيوية، فتأمل. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ إسماعيل بن أبي أُويس في الخامس عشر من الإِيمان، ومرَّ أيوب في التاسع منه، ومرَّ محمد بن سيرين في الأربعين منه، ومرَّ مالك في الثاني من بدء الوحي، ومرت أم عطية في الثاني والثلاثين من الوضوء، وابنته، عليه الصلاة والسلام، المغسولة قيل: زينب، وقيل أم كلثوم. وقد مرتا مع عطية. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإِفراد والعنعنة والقول، ورواته مدنيان وبصريان، وفيه رواية التابعيّ عن التابعيّ عن الصحابة، أخرجه البخاريّ من أحد عشر طريقًا أولها في الوضوء. وأخرجه مسلم في الجنائز، وكذلك التِّرمذيّ والنَّسائيّ. ثم قال المصنف:

باب ما يستحب أن يغسل وترا

باب ما يستحب أنْ يُغسل وِترًا قال الزين بن المنير: يحتمل أن تكون ما مصدرية أو موصولة، والثاني أظهر، كذا قال، وفيه نظر لأنه لو كان المراد ذلك لوقع التعبير بمن التي لمن يعقل. الحديث السادس عشر حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَنَحْنُ نَغْسِلُ ابْنَتَهُ فَقَالَ اغْسِلْنَهَا ثَلاَثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَاجْعَلْنَ فِي الآخِرَةِ كَافُورًا، فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي. فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ، فَأَلْقَى إِلَيْنَا حِقْوَهُ فَقَالَ أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ. فَقَالَ أَيُّوبُ وَحَدَّثَتْنِي حَفْصَةُ بِمِثْلِ حَدِيثِ مُحَمَّدٍ وَكَانَ فِي حَدِيثِ حَفْصَةَ اغْسِلْنَهَا وِتْرًا. وَكَانَ فِيهِ: ثَلاَثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا. وَكَانَ فِيهِ أَنَّهُ قَالَ ابْدَأوا بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا. وَكَانَ فِيهِ أَنَّ أُمَّ عَطِيَّةَ قَالَتْ وَمَشَطْنَاهَا ثَلاَثَةَ قُرُونٍ. ليس في حديث أيوب عن محمد التصريح بالوتر، وفي حديثه عن حفصة التصريح بذلك، وقوله: فقال أيوب، كذا للأكثر بالفاء، وهو بالإِسناد والمذكور، وعند الأصيلي "وقال"، بالواو، فربما ظن معلقًا، وليس كذلك، وقد رواه الإِسماعيليّ بالإِسنادين معًا موصولًا، وقوله: فيه ثلاثًا أو خمسًا، استدل به على أن أقل الوتر ثلاث، ولا دلالة فيه، لأنه سيق مساق البيان للمراد، إذ لو أطلق لتناول الواحدة فما فوقها، ويأتي الكلام على ما في رواية حفصة من الزيادة، عند ذكر كل واحدة، في باب مفرد. وقوله فيه: ابدأن، هي رواية أبي ذَرٍّ، عن الكَشْميهنيّ، ولغيره "ابدأوا" بجمع المذكر، تغليبًا للذكور، لأنهن كن محتاجات إلى معاونة الرجال في حمل الماء إليهن وغيره، أو باعتبار الأشخاص أو الناس. رجاله ستة: مرَّ محل أيّوب ومحمد وأم عطية، وابنة النبي -صلى الله عليه وسلم- المغسولة، في الذي قبله، ومرت حفصة في

محل أم عطية، ومرَّ عبد الوهاب الثقفيّ في التاسع من الإيمان, ومحمد شيخ البخاريّ غير منسوب، وهو يحتمل أن يكون ابن المثنى، وقد مرَّ في هذا التاسع من الإِيمان, ويحتمل أنه ابن سَلاَم، وقد مرَّ في الثالث عشر من الإِيمان. وعند الإسماعيليّ، أنه محمد بن الوليد بن عبد الحميد القُرَشِيّ البُسْرِيِّ، من ولد بُسر بن أَرَطَأة العامريّ، لقبه حَمدان، بصريّ، قدم بغداد، يكنى أبا عبد الله، ذكره ابن حِبان في الثقات، وقال ابن أبي حاتم: سمع منه أبي في الرِّجلة الثالثة، وسئل عنه فقال: صدوق، وقال النسائيّ: ثقة. روى عن مروان بن معاوية وغندر وعبد الوهاب الثقفيّ وغيرهم، وروى عنه البخاريّ ومسلم والنسائي وغيرهم. قال في الزهرة: روى عنه البخاريّ سبعةَ أحاديث، ومسلم خمسة، مات سنة خمسين ومئتين. والبُسْرِيّ في نسبه نسبةً إلى بُسر بن أرطاة، ويقال: ابن أبي أرطاة العامريّ القرشيّ، كان مع معاوية بِصِفين، وكان قد خَرِف آخرَ عُمره، وبُسْر قريةٌ ببغداد على فرسخين منها، منها أبو القاسم عليّ بن محمد بن البُسْرِيّ البُندار. مات سنة أربع وسبعين وأربع مئة، ومنها الزاهد أبو عُبَيد البُسْرِيّ، اسمه محمد بن حَسّان، وقيل إنه منسوب إلى بُسر، قرية بحوران. ثم قال المصنف:

باب "يبدأ بميامن الميت"

باب "يُبدأ بميامِنِ الميت" باب بالتنوين، يُبدأ بضم أوله، مبني للمفعول، وقوله، بميامن الميت أي عند غسله، تفاؤلًا أن يكون من أصحاب اليمين، والميامن جمع مَيمنة، وكأنه أطلق الترجمة، فلم يقيدها بالغسل، مع أنه هو المراد ليشعر بأن غير الغسل يلحق به قياسًا عليه. الحديث السابع عشر حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي غَسْلِ ابْنَتِهِ ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا. قوله: في غسل ابنته، عند مسلم عن خالد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حيث أمرها أن تغسل ابنته، قال لها؛ فذكره. وقوله: ابدأنَ بميامنها ومواضع الوضوء منها, ليس بين الأمرين تنافٍ لإِمكان البداءة بمواضع الوضوء وبالميامن معًا. قال الزين بن المنير: قوله "ابدأنَ بميامنها" أي: في الغسلات التي لا وضوء فيها، ومواضع الوضوء منها أي: في الغسلة المتصلة بالوضوء. وكأن المصنف أشار بذلك إلى مخالفة أبي قُلابة في قوله: "يبدأ بالرأس ثم باللحية" قال: والحكمة في الأمر بالوضوء تجديد أثر سمة المؤمنين في ظهور أثَر الغُرّة والتحجيل. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ علي بن المدِيني في الرابع عشر من العلم، وخالد الحذاء في السابع عشر منه، وإسماعيل بن إبراهيم، وهو ابن علية في الثامن من الإِيمان، ومرَّ محل حفصة وأم عطية في الذي قبله. ثم قال المصنف:

باب مواضع الوضوء من الميت أي تستحب البداءة بها

باب مواضع الوضوء من الميت أي تستحب البداءة بها الحديث الثامن عشر حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها قَالَتْ: لَمَّا غَسَّلْنَا بِنْتَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لَنَا وَنَحْنُ نَغْسِلُهَا: ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ. قوله: ابدأوا كذا، للأكثر، وقد مرَّ توجيهه قبل حديثين. وفي رواية الكَشْميهنيّ "ابدأْنَ" وهو الوجه, لأنه خطاب للنسوة، وقوله: ومواضع الوضوء، زاد أبو ذَرٍّ "منها" أي: البنت، والوضوء سنة عند الأئمة، إلاَّ أن الحنفية قالوا: لا يُمضمض ولا يُسْتَنشق، لتعذر إخراج الماء من الفم والأنف. وعند غيرهم لم يتعذر, لأنه يقال رأسه لإخراج ذلك. والبداءة بالميامن وبمواضع الوضوء مما زادته حفصة في روايتها عن أم عطية على أخيها محمد، وكذا المَشْط والضَّفْر كما يأتي. رجاله ستة: قد مرّوا، مرَّ يحيى بن موسى في التاسع عشر من الحيض، ومرَّ وكيع في الحادي والخمسين من العلم، ومرَّ محل خالد وحفصة وأم عطية في الذي قبله. ثم قال المصنف:

باب هل تكفن المرأة في إزار الرجل؟

باب هل تكفن المرأة في إزار الرجل؟ قال ابن رشيد: أشار بقوله: "هل" إلى ترددٍ عنده في المسألة، فكأنه أومأ إلى اختصاص ذلك بالنبيَّ عليه الصلاة والسلام, لأن المعنيّ فيه من البركة ونحوها قد لا يكون في غيره، ولاسيما مع قرب عهده بعرقه الكريم، ولكن الأظهر الجواز، وقد نقل ابن بطّال الاتفاق على ذلك، لكن لا يلزم من ذلك التعقب على البخاريّ, لأنه إنما ترجم بالنظر إلى سياق الحديث، وهو قابل للاحتمال، وقال الزين بن المنير نحوه، وزاد احتمال الاختصاص بالمُحْرَم، أو بمن يكون في مثل إزارِ النبي -صلى الله عليه وسلم- وجسدِه مِن تَحَقُّقِ النظافة وعدم نفرة الزوج وغيرته أنْ تَلْبَس زوجته لباس غيره. الحديث التاسع عشر حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمَّادٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ تُوُفِّيَتْ بِنْتُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ لَنَا: اغْسِلْنَهَا ثَلاَثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ، فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي. فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ فَنَزَعَ مِنْ حِقْوِهِ إِزَارَهُ وَقَالَ أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ. وشاهد الترجمة قوله فيه "فأعطاها إزاره"، والحديث مرَّ الكلام عليه في الرواية الأولى. رجاله أربعة: مرَّ محل محمد وأم عطية في أول أحاديثها، ومرَّ ابن عون عبد الله في التاسع من العلم، والرابع شيخ البخاريّ عبد الرحمن بن حمّاد بن شُعيب، ويقال ابن عِمارة الشُّعَيْثِيّ، بضم الشين المعجمة مصغرًا. أبو سَلَمة العَنْبَريّ المصريّ، ذكره ابن حبان في الثقات، ووثّقه الدارقطنيّ، وقال أبو زرعة: لا بأس، وقال أبو حاتم: ليس بالقويّ. قال في "المقدمة" روى عنه البخاري حديثًا واحدًا في الجنائز عن ابن عون، وقد تابعه عليه يزيد بن هارون عند النَّسَائِي. قُلت: انظر هذا مع قوله في "تهذيب التهذيب" وفي "الزهرة". روى عنه البخاري ثلاثة أحاديث. روى عن ابن عَون والثَّوْريّ، وعبّاد بن منصور وغيرهم، وروى عنه البخاريّ، وروى له التَّرمِذِيّ بواسطة، وأبو العباس العُصْفُرى وغيرهم. مات سنة اثنتي عشرة ومئتين.

والشعيثيّ في نسبه نسبة إلى أحد الشُّعَيثيينَ، إما شُعيث بن سهم، أو شعيث بن مِنْقَر أو شعيث بن مُحْرِز، أو نسبة إلى الشُّعَيْثَةَ، ماءٌ لبني نُمير ببطن واد يقال له الحَريم. ثم قال المصنف:

باب يجعل الكافور في الأخيرة

باب يجعل الكافور في الأخيرة أي في الغَسلة الأخيرة، ويحتمل أن يكون المراد بالأخيرة الخرقة التي تلي الجسد، قال الزين بن المنير: لم يعين حكم ذلك، لاحتمال صيغة "اجعلن" للوجوب والندب. قال ابن المنير: مناسبة إدخال هذه الترجمة، وهي متعلقة بالغسل، بين ترجمتين متعلقتين بالكفن، هي أنَّ العُرْفَ تقديم ما يحتاج إليه الميت قبل الشروع في الغسل، أو قبل الفراغ منه، ليتيسر غسله، ومن جملة ذلك الحَنُوط. ويحتمل أن يكون أشار بذلك إلى خلاف من قال إن الكافور يختص بالحَنوط، ولا يجعل في الماء، وهو عن الأوزاعيّ وبعض الحنفية، أو يجعل في الماء، وهو قول الجمهور. الحديث العشرون حَدَّثَنَا حَامِدُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: تُوُفِّيَتْ إِحْدَى بَنَاتِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَخَرَجَ، فَقَالَ اغْسِلْنَهَا ثَلاَثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَاجْعَلْنَ فِي الآخِرَةِ كَافُورًا أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ، فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي. قَالَتْ فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ، فَأَلْقَى إِلَيْنَا حِقْوَهُ فَقَالَ أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ. قد تقدم الكلامُ عليه في الرواية الأولى، واختلف في هيأة جعله في الغسلة الأخيرة، فقيل: يجعل في ماء ويصب عليه في آخر غَسلة، وهو ظاهر الحديث، وقيل: إذا كَمُل غسله طُيِّب بالكافور قبل التكفين. وقد ورد في رواية النَّسائيَّ بلفظ "واجعلن في آخر ذلك كافورًا"، ونص الشافعي في "الأم" على كراهة تركه، وليكن بحيث لا يُفْحش التغير به إن لم يكن صَلبًا، وقد مرت الحكمة في التطبيب به. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ حامد بن عمر في الحادي والثمانين من استقبال القبلة، ومرَّ حماد بن زيد في الرابع والعشرين من الإيمان, ومرَّ محل أيوب ومحمد وأم عطية في أول أحاديثها.

الحديث الحادي والعشرون

الحديث الحادي والعشرون وَعَنْ أَيُّوبَ عَنْ حَفْصَةَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنهما بِنَحْوِهِ وَقَالَتْ إِنَّهُ قَالَ: اغْسِلْنَهَا ثَلاَثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ. قَالَتْ حَفْصَةُ قَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها وَجَعَلْنَا رَأْسَهَا ثَلاَثَةَ قُرُونٍ. قوله: وعن أيوب، هو معطوف على الإِسناد الأول، وقد تقدم الكلام عليه، ويأتي قريبًا الكلامُ على القرون. رجاله الثلاثة مذكورة في الذي قبله. ثم قال المصنف:

باب نقض شعر المرأة

باب نقض شعر المرأة أي: الميتة قبل الغَسل، والتقييد بالمرأة خرج مخرج الغالب أو الأكثر، وإلا فالرجل إذا كان له شعر ينقض، لأجل التنظيف، وليبلغ الماء البَشَرة. وذهب من منعه إلى أنه قد يفضي إلى انتتاف شعره، وأجاب من أثبته بأنه يُضَم إلى ما انتثر منه. ثم قال: وقال ابن سيرين: لا بأس أن يُنْقَض شعر الميت، وهذا التعليق وَصَلَه سعيد بن منصور عن أيوب عنه، وابن سيرين مرَّ في أول الأحاديث محله. الحديث الثاني والعشرون حَدَّثَنَا أَحْمَدُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَيُّوبُ وَسَمِعْتُ حَفْصَةَ بِنْتَ سِيرِينَ قَالَتْ حَدَّثَتْنَا أُمُّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها أَنَّهُنَّ جَعَلْنَ رَأْسَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ثَلاَثَةَ قُرُونٍ نَقَضْنَهُ ثُمَّ غَسَلْنَهُ ثُمَّ جَعَلْنَهُ ثَلاَثَةَ قُرُونٍ. قوله: قال أيوب، في رواية الإِسماعيليّ عن ابن جُريج أن أيوب بن أبي تميمة أخبره، وقوله: سمعت، هو معطوف على محذوف تقديره: سمعت كذا، وسمعت حفصة، وقوله: "أنهن جعلن رأس بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة قرون نقضنه ثم غسلنه" في رواية الإِسماعيليّ قالت: نقضته، والظاهر أن القائلة أم عطية، ولعبد الرزاق عن أيوب في هذا الحديث "فقلت نقضته فغسلته فجعلته ثلاثة قرون، قالت: نعم" والمراد بالرأس شعر الرأس، فهو من مجاز المجاورة، وفائدة النقض تبليغُ الماء البشرةَ، وتنظيفُ الشعرِ من الأوساخ. ولمسلم عن أيوب عن حفصة عن أم عطية "مشطناها ثلاثة قرون" وهو بتخفيف المعجمة، أي سرّحناها بالمِشْط، وفي حجة للشافعيّ ومن وافقه على استحباب تسريح الشعر، واعتل من كرهه بتقطيع الشعر، والرفق يُؤْمَنُ معه ذلك. وقوله: ثم جعلنه ثلاثة قرون، استدل به على ضفر شعر الميت خلافًا لمن منعه، فقال ابن القاسم: لا أعرف الضفر، بل يُكَفُّ، وقال الأوزاعي والحنفية: يرسل شعر المرأة خلفها وعلى وجهها. قال القرطبيّ: وكان سبب الخلاف أن الذي فعلته أم عطية هل استندت فيه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فيكون مرفوعًا، أو هو شيء رأته ففعلته استحسانًا؟ كلا الأمرين محتمل، لكن الأصل أن لا يفعل

رجاله ستة

في الميت شيءٌ من جنس القُرب إلاّ بإذنٍ من المشرع محقق، ولم يرد ذلك مرفوعًا، كذا قال. وقال النووي: الظاهر اطَّلاع النبي -صلى الله عليه وسلم- وتقريره له، وقد رواه سعيد بن منصور بلفظ الأمر عن أُم عطية، قالت: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اغسلنها وِترًا، واجعلنَ شعرها ضفائر" وقال ابن حِبّان في صحيحه إن أُم عطيّة إنما مَشَطَت ابنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بأمره لا من تلقاء نفسها. ثم أخرج عن حماد عن أيوب قال: قالت حفصة عن أم عطية: اغسلنها ثلاثًا أو خمسًا أو سبعًا، واجعلن لها ثلاثة قرون. وقول ابن القاسم السابق: لا أعرف الضفر، قال ابن رشد: يعني على جهة الوجوب، أما على جهة الندب فَنَعم، فمذهب المالكية والشافعية والحنابلة أن الشعر يضفر ثلاث ضفائر، ناصيتها وقرينها، كما يأتي، ويلقى الجميع خلفَها، وقالت الحنفية: يجعل ضفيرتان على صدرها. رجاله ستة: قد مرّوا، مرَّ أحمد بن صالح المصريّ، وأحمد بن عيسى في الرابع والسبعين من استقبال القبلة، ومرَّ ابن وهب في الثالث عشر من العلم، ومرَّ ابن جُريج في الثالث من الحيض، ومرَّ محل الثلاثة الباقية في أول هذه الأحاديث. ثم قال المنصف:

باب كيف الاشعار للميت

باب كيف الاشعار للميت أورد فيه حديث أم عطية أيضًا، وإنما أفرد له هذه الترجمة لقوله في هذا السياق: وزعم أن الإِشعار الففتها فيه، وفيه اختصار كما يأتي بيانه. ثم قال: وقال الحسن: الخرقة الخامسة يَشُدُّ بها الفخذين والوركين تحت الدرع، قوله: الفخذين والوركين منصوبان على المفعولية، والفاعل ضمير راجع إلى الغاسل، بالقرينة الدالة عليه، ويروى: الفخذان والوركان، بالرفع على أنهما نائبان عن الفاعل، ففي الأولى يَشُد مبنيٌّ للمعلوم، وفي الثانية مبنيٌ للغائب. والدِّرع بكسر الدال، وهو القميص هنا. وقول الحسن هذا، يدل على أن أول الكلام، أن المرأة تكفن في خمسة أثواب، وقد وصله ابن أبي شيبة نحوه، وروى الجوزَقِيّ عن أمّ عطية قالت: فكفنَّاها في خمسة أثواب، وخَمَرناها كما يُخْمَر الحي، وهذه الزيادة صحيحة الإِسناد. وقول الحسن: في الخرقة الخامسة، قال به زُفَر، وقالت طائفة: تُشَد على صدرها لتَضم أكفانَها, ولا يكره القميص للمرأة، وهو الراجح عند الشافعية والحنابلة، وهو مذهب المالكية. والحسن البصريّ قد مرَّ في الرابع والعشرين من الإِيمان. الحديث الثالث والعشرون حَدَّثَنَا أَحْمَدُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَنَّ أَيُّوبَ أَخْبَرَهُ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ سِيرِينَ يَقُولُ: جَاءَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ مِنَ اللاَّتِي بَايَعْنَ، قَدِمَتِ الْبِصْرَةَ، تُبَادِرُ ابْنًا لَهَا فَلَمْ تُدْرِكْهُ فَحَدَّثَتْنَا قَالَتْ دَخَلَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَنَحْنُ نَغْسِلُ ابْنَتَهُ فَقَالَ اغْسِلْنَهَا ثَلاَثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَاجْعَلْنَ فِي الآخِرَةِ كَافُورًا، فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي. قَالَتْ فَلَمَّا فَرَغْنَا أَلْقَى إِلَيْنَا حَقْوَهُ فَقَالَ أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ. وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، وَلاَ أَدْرِي أَيُّ بَنَاتِهِ. وَزَعَمَ أَنَّ الإِشْعَارَ الْفُفْنَهَا فِيهِ، وَكَذَلِكَ كَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَأْمُرُ بِالْمَرْأَةِ أَنْ تُشْعَرَ وَلاَ تُؤْزَرَ. قوله: ولا أدري أي بناته، هو مقول أيوب، وفيه دليل على أنه لم يسمع تسميتها من حفصة، وقد مرَّ من وجه آخر عنه أنها أم كلثوم، وقوله: وزعم أن الإِشعار ألففنها فيه، فيه اختصار، والتقدير:

رجاله ستة

وزعم أن معنى قوله: أشعرنها إياه: ألففنها، وهو ظاهر اللفظ, لأن الشعار ما يلي الجسد من الثياب، كما مرَّ، والقائل في هذه الرواية, وزعم، هو أيوب. وذكر ابن بطَّال أنه ابن سيرين، والأول أَوْلَى، وقد بيّنه عبد الرزاق في روايته عن ابن جُريج. قال: قلتُ لأيوب: قوله: أشْعِرنها: تُوْزَر به، قال: ما أراه إلا قال: ألففنها فيه. وقوله: وكان ابن سيرين يأمر بالمرأة أنْ تُشْعَر، أي تُلَفّ، مبنيٌّ للمجهول. وقوله: ولا تؤزر، بالبناء للمفعول أيضًا، أي لا يجعل الشعار عليها مثل الإِزار, لأن الإزار لا يعم البدن بخلاف الشعار. وقد مرت بقية مباحثه في الرواية الأُولى. رجاله ستة: وهم رجال الحديث الذي قبله بعينهم، وفيه لفظ ابن مُبْهَم ولم يسم. ثم قال المصنف:

باب يجعل شعر المرأة ثلاثة قرون أي ضفائر

باب يجعل شعر المرأة ثلاثة قرون أي ضفائر الحديث الرابع والعشرون حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أُمِّ الْهُذَيْلِ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها قَالَتْ: ضَفَرْنَا شَعَرَ بِنْتِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-. تَعْنِي ثَلاَثَةَ قُرُونٍ. قوله: ثلاثة قرون، لا ينافي قوله "ناصيتها وقرنيها" لأن المراد بالقرون الضفائر، والمراد بالقرنين الجانبان، فهما ضفيرتان، والناصية ضفيرة، فهذه ثلاثة، وقد مرت مباحثه في الذي قبله بحديث. رجاله خمسة: قد مرّوا؛ مرَّ قُبَيْصَة في السابع والعشرين من الإيمان, ومرَّ هشام بن حسّان في تعليق بعد الثامن من الحيض، ومحل ابن جريج ذكر في الذي قبله بحديث، وأم الهذيل هي حَفصة بنت سيرين، وقد مرت هي وأم عطية في أول الأحاديث، ومرَّ سُفيان الثَّوْرِيّ في السابع والعشرين مع قبيصة. ثم قال: وقال وكيع عن سفيان: ناصيتها وقرنيها، وهذا التعليق وصله الإِسماعيليّ والفريابيّ. وسفيان مرَّ محله في الذي قبله، ومرَّ وكيع في الحادي والخمسين من الإِيمان. ثم قال المصنف:

باب يلقي شعر المرأة خلفها

باب يلقي شعر المرأة خلفها في رواية الأصيليّ وأبي الوقت "يُجعل" وزاد الحموي "ثلاثة قرون". الحديث الخامس والعشرون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ قَالَ حَدَّثَتْنَا حَفْصَةُ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها قَالَتْ تُوُفِّيَتْ إِحْدَى بَنَاتِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَأَتَانَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: اغْسِلْنَهَا بِالسِّدْرِ وِتْرًا ثَلاَثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ، وَاجْعَلْنَ فِي الآخِرَةِ كَافُورًا أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ، فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي. فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ، فَأَلْقَى إِلَيْنَا حِقْوَهُ، فَضَفَرْنَا شَعَرَهَا ثَلاَثَةَ قُرُونٍ وَأَلْقَيْنَاهَا خَلْفَهَا. قوله: فضفرنا شعرها ثلاثة قرون فألقيناها خلفها، وأخرجه النَّسائيّ عن يحيى بلفظ "ومَشَطناها" وعند عبد الرزاق عن حفصة بلفظ "ضَفَرنا رأسها ثلاثة قرون: ناصيتها وقرنيها، وألقيناه إلى خلفها" وفي حديث أم عطية من الفوائد غير ما تقدم في هذه التراجم العشر: تعليمُ الإِمام من لا علم له بالأمر الذي يقع فيه، وتفويضه إليه إذا كان أهلًا لذلك، بعد أن ينبهه على علة الحكم، واستدل به على أن الغسل من غسل الميت ليس بواجب, لأنه موضع تعليم، ولم يأمر به، وفيه نظر لاحتمال أن يكون شرع بعد هذه الواقعة. وقال ابن بُزيزة: الظاهر أنه مستحب، والحكمة فيه تتعلق بالميت, لأن الغاسل إذا علم أنه سيغتسل لم يتحفظ من شيء يصيبه من أثر الغسل، فيبالغ في تنظيف الميت وهو مطمئن، ويحتمل أن يتعلق بالغاسل، ليكون عند فراغه على يقين من طهارة جسده مما لعله أن يكون أصابه من رشاش ونحوه. وقال الخطابيّ: لا أعلم أحدًا قال بوجوبه، وكأنه ما درى أنَّ الشافعيّ علق القول بوجوبه على صحة الحديث، وقد مرَّ الكلام فيه بأزيد من هذا عند أثر ابن عمر، وحَنْط ابن عمر. واستدل بعض الحنفية على أنَّ الزوج لا يتولى غسل زوجته, لأن زوج ابنة النبي -صلى الله عليه وسلم- كان حاضرًا، وأمر النبيَّ، عليه

رجاله خمسة

الصلاة والسلام، النسوة بغسل ابنته دون الزوج، وتُعُقَّب بأنه يتوقف على صحة دعوى أنه كان حاضرًا، وعلى تقدير تسليمه، فيحتاج إلى ثبوت أنه لم يكن به مانع من ذلك، وإلاّ آثر النسوة على نفسه وعلى تسليمه، فغاية ما فيه أن يستدل به على أن النسوة أولى منه، لا على منعه من ذلك لو أراده. وقد مرَّ الكلام بأزيد من هذا في أول الروايات في رواية مالك. رجاله خمسة: قد مرّوا؛ مرَّ مسدد ويحيى القطّان في السادس من الإِيمان, ومرَّ محل هشام بن حسان في الذي قبله، ومرَّ محل حفصة في الثاني من أحاديث أم عطية، ومرَّ محل أم عطية وبنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أول هذه الأحاديث. ثم قال المصنف:

باب الثياب البيض للكفن

باب الثياب البيض للكفن أي: هذا باب في بيان حكم الكفن بالثياب البِيض، بكسر الباء جمع أبيض، شرع في بيان أحكام الكفن بعد الفراغ من الغسل. الحديث السادس والعشرون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كُفِّنَ فِي ثَلاَثَةِ أَثْوَابٍ يَمَانِيَةٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ مِنْ كُرْسُفٍ، لَيْسَ فِيهِنَّ قَمِيصٌ وَلاَ عِمَامَةٌ. تقرير الاستدلال بحديث عائشة هو أن الله لم يكن ليختار لنبيه إلا الأفضل، وكأنَّ المصنف لم يثبت على شرطه الحديثُ الصريح في الباب، وهو ما رواه أصحاب السنن عن ابن عباس بلفظ "ألبسوا ثيابَ البياض، فإنها أطهر وأطيب، وكفنوا فيها موتاكم" صححه التِّرْمِذِيّ والحاكم، وله شاهد عن سمرة ابن جُنْدُب، أخرجوه وإسناده صحيح أيضًا. وحكى بعض من ألّف في الخلاف عن الحنفية أن المستحب عندهم أن يكون في أحدها ثوبُ حِبْرَةٍ، وكأنهم أخذوا بما روي أنه عليه الصلاة والسلام كُفَّن في ثوبين وبُرْدِ حِبْرَة. أخرجه أبو داود عن جابر، وإسناده حسن. لكن روى مسلم والتِّرْمِذِيّ عن عائشة أنهم نزعوها عنه، قال الترمذي: وتكفينه في ثلاثة أثواب بيض أصحُّ ما ورد في كفنه. وقال عبد الرزاق عن هشام بن عُروة: لُفَّ في بردِ حِبرة جفف فيه، ثم نُزع عنه، ويمكن أن يستدل لهم بعموم حديث أنس "كان أحبَّ اللباس إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحِبْرَةُ" أخرجه الشيخان، وسيأتي في اللباس إنْ شاء الله تعالى. وفي مسلم "إذا كَفَّن أحدكم أخاه، فليحسن كفنه". قال النوويّ: المراد بأحسن الكفن بياضُه ونظافتُه، قال البَغَويّ: وثوب القطن أولى. قوله: يمانِيَةٌ، بتخفيف الياء نسبة إلى اليمن وإنما خففوا الياء وإن كان القياس تشديد ياء النسب لأنهم حذفوا ياء النسب، لزيادة الألف، وكان الأصل يمنية، وقوله: سَحُوليّة، بفتح السين وتشديد المثناة التحتية، نسبة إلى السَّحُول، وهو القَصَّار, لأنه يسحلها، أي: يغسلها، أو إلى سَحُول قريةٍ باليمن. وقيل بالضم، قرية أيضًا، وقيل بالضم الثياب البِيض.

رجاله خمسة

وقوله "كُرْسُف" بضم أوله وثالثه، أي: قطن. وقوله: ليس فيهنّ، أي: في الثلاثة الأثواب. ولأبوي ذَرٍّ والوقت والأصيليّ: ليس فيها. وقوله: قميصٌ ولا عمامة، أي ليس موجودًا أصلًا، بل هي الثلاثة فقط، قال النووي: وهو ما فسره به الشافعيّ والجمهور. قال القسطلانيّ: وهو الصواب الذي يقتضيه ظاهر الأحاديث، وهو أكمل الكفن للذكر، وكذلك الحكم عند الحنابلة وعند الحنفية؛ في ثلاثة أيضًا، لكن في قميص وإزارٍ ولُفافةٍ، أخذًا منهم بحديث جابر بن سمرة، رواه ابن عديّ في الكامل، وكره بعض مشائخهم العمامة، واستحسنها بعضهم. ويحتمل أن تكون الثلاثة الأثواب خارجة عن القميص والعمامة، فيكون ذلك خمسة. وهو تفسير مالك، لكن الأفضل عنده قميص وعمامة وإزار ولفافتان. ومثال الحديث قوله تعالى: {رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} يحتمل بلا عمد أَصلًا، أو بعمد غير مرئية لهم، ومذهب الشافعي جواز زيادة القميص والعمامة على الثلاثة اللفائف من غير استحباب، وقال الحنابلة: إنه مكروه، والمرأة عند الأئمة الثلاثة تكفن في خمسة، نصت الحنابلة والشافعية على أنها قميص وإزار أو خمار، ولفافتان، وعند المالكية تكفن في سبع: قميص وإزار وخمار وأربع لفائف. والحنفية هذه الثلاثة ولفافة، والخامس خرقة تشد على ثدييها إلى السُّرَّة أو الرُّكبة. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ محمد بن مقاتل في السابع من العلم، ومرَّ ابن المبارك في السادس من بدء الوحي، ومرت الثلاثة الباقية بهذا النسق في الثاني من بدء الوحي. لطائف إسناده: فيه التحديث والإِخبار بالجمع والعنعنة والقول، ورواته مَرْوَزِيَّان ومدنيان، أخرجه البخاريّ أيضًا مرتين في الجنائز، أخرجه مسلم وأبو داود والنَّسائيّ وابن ماجه. ثم قال المصنف:

باب الكفن في ثوبين

باب الكفن في ثوبين كأنه أشار إلى أن الثلاثة في حديث عائشة ليست شرطًا في الصحة، وإنما هو مستحبّ، وهو قول الجمهور، واختلف فيما إذا شحَّ بعضُ الورثة بالثاني أو الثالث، قال في الفتح: والمرجح أنه لا يلتفت إليه، قلت: الراجح في مذهب مالك أنه لا يقضى بالفوائد إنْ شح الوارثُ أو الغريم، وأما الواحد الساتر لجميع البدن أو العورة على خلاف، مرجح عندنا وعند الشافعية، فلابد منه، والمصحح عند الحنفية الاكتفاء بستر العورة المغلظة: القبل والدبر. الحديث السابع والعشرون حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ إِذْ وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَوَقَصَتْهُ أَوْ قَالَ فَأَوْقَصَتْهُ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ، وَلاَ تُحَنِّطُوهُ وَلاَ تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا. قوله: حماد، في رواية الأصيلي ابن زيد، وقوله: بينما رجل، قال في الفتح: لم أقف على تسميته، وقوله: واقف، استدل به على إطلاق لفظ الواقف على الراكب، قلت: يمكن أن لا يكون فيه دليل, لأن الوقوف بعَرفَة صار علمًا على النازلين فيها، سواء القائم والراكب والمضطجع، فيقال لمن حضر يومها, ولم يزل فيها مضطجعًا لعذر: وقف بعرفة، فتأمله. وقوله: بعرفة، سيأتي بعد باب من وجه آخر، ونحن مع النبي -صلى الله عليه وسلم-. وقوله: فَوَقَصَتْه، أو قال فأوْقَصَته، شكٌ من الراوي، والمعروف عند أهل اللغة الأول، والذي بالهمز شاذٌ، والوقص كسر العنق، ويحتمل أن يكون فاعل وقصته الوقعةُ أو الراحلة، بأن تكون أصابته بعد أن وقع. والأول أظهر، وقال الكرمانيّ: فوقصته أي: راحلته، فإنْ كان الكسر حصل بسبب الوقوع فهو مجاز، وإن حصل من الراحلةِ بعد الوقوع فهو حقيقة. وقوله: وكفنوه في ثوبين، استدل به على إبدال ثياب المحرم، وليس بشيء, لأنه سيأتي في الحج بلفظ "في ثوبيه" وللنَّسائيّ عن عمرو بن دينار "في ثوبيه اللَّذين أحرم فيهما". وقال المحب

الطَّبريّ: إنما لم يزده ثوبًا ثالثًا تكرُمَةً له، كما في الشهيد، حيث قال: "زمَّلوهم بدمائهم". وقوله: ولا تُحَنِّطُوه، بالحاء المهملة، أي لا تَمَسُّوه حنوطًا. وقوله ولا تُخَمِّروا رأسه أي: لا تغطوها. وفي أفراد مسلم "ولا تغطوا رأسه ولا وجهه" قال البيهقيّ: ذكر الوجه وَهْمٌ من بعض رواته، والصحيح "لا تغطوا رأسه" ثم علل ذلك بقوله: فإنه يبعثُ ملبيًا أي: حال كونه قائلًا: لبيك، والمعنى أنه يحضر يوم القيامة على هيأته التي مات عليها, ليكون ذلك علامة لحجه، كالشهيد يأتي وأوداجه تشخب دمًا وفي رواية "مُلَبَّدًا" أي: على هيأته ملبدًا شعره بصمغ ونحوه، ودل التعليل على أن سبب النهي أنه كان مُحْرِمًا، فإذا انتفت العلة انتفى النهي. وكان الحنوطَ للميت، كان مقررًا عندهم، وكذلك تخمير الرأس. قال البيهقي: فيه دليل على أن غير الميت يحنط، كما تخمر رأسه، وأن النهي، إنما وقع للإِحرام، فهو دال على أن الإِحرام لا ينقطع بالموت، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق والثَّوريّ وأهل الظاهر. وذهب مالك وأبو حنيفة والأوزاعي إلى أن الإِحرام ينقطع بالموت، فيصنع بالمحرم ما يصنع بالحلال. قال ابن دقيق: هو مقتضى القياس، لكن الحديث بعد أن يثبت يقدم على القياس. وقال بعض المالكية: إثبات الحَنُوط في هذا الخبر بطريق المفهوم من صنع الحنوط للمحرم، ولكنها واقعة حال يتطرق الاحتمال إلى منطوقها، فلا يستدل بمفهومها. وقال بعض الحنفية هذا ليس عامًا بلفظه, لأنه في شخص مُعَيّن ولا بمعناه, لأنه لم يقل يبعث ملبيًا, لأنه محرم، فلا يتعدى حكمه إلى غيره إلا بدليل منفصل. وقال ابن بُزَيرة: وأجاب بعض أصحابنا عن هذا الحديث بأن هذا مخصوص بذلك الرجل، لأن إخباره -صلى الله عليه وسلم- بأنه يبعث مُلَبيًا شهادةٌ بأن حَجَّه قد قُبل، وذلك غير محقق لغيره، وتعقبه ابن دقيق العيد بأنّ هذه العلة إنما ثبتت لأجل الإِحرام، فتعم كل محرم. وأما القبول وعدمه فأمر مُغَيّب، واعتل بعضهم بقوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} وبقوله -صلى الله عليه وسلم- "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث"، وليس هذا منها، فينبغي أن ينقطع عمله بالموت، وأجيب بأن تكفينه في ثوبي إحرامه وتبقيته على هيأة إحرامه من عمل الحي بعده، كغسله والصلاة عليه، فلا معنى لما ذكروه، وقال ابن المنير في الحاشية: قد قال -صلى الله عليه وسلم- في الشهداء "زملوهم بدمائهم" مع قوله: والله أعلم بمن يكلم في سبيله، فعمم الحكم في الظاهر بناء على ظاهر السبب، فينبغي أن يعمم الحكم في كل محرم.

رجاله خمسة

وبين المجاهد والمحرِم جامع, لأن كلا منهما في سبيل الله، وقد اعتذر الداوديّ عن مالك فقال: لم يبلغه هذا الحديث، وأورد بعضهم أنه لو كان إحرامه باقيًا لوجب أن يكمل به المناسك، ولا قائل به، وأجيب بأن ذلك ورد على خلاف الأصل، فيقتصر به على مورد النص، ولاسيما وقد وضح أن الحكمة في ذلك استبقاء شعار الإِحرام كاستبقاء دم الشهيد، وأُجيب عن هذا بأنّا لا نُسَلّم أنه ورد على خلاف الأصل، وكيف ورد على خلاف الأصل وقد أمر بغسله بالماء والسدر؟ وهو الأصل في الموتى، فلولا أنه خرج عن الإِحرام ما أمر بغسله بالسدر. وفي الحديث أن المحرم إذا مات لا يكمل عليه غيره، كالصلاة، وقد وقع أجره على الله، وأخذ بعضهم منه أن النيابة في الحج لا تجوز, لأنه عليه الصلاة والسلام، لم يأمر أحدًا أن يكمل عن هذا الموقوص أفعال الحج، ولا يخفى ما فيه من النظر. وفيه أن من شرع في طاعة، ثم حال بينه وبين إتمامها الموت، يرجى له أن الله تعالى يكتبه في الآخرة من أهل ذلك العمل، ويقبله منه إذا صحت النية، ويشهد له قوله: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}. رجاله خمسة: قد مرّوا: وفيه لفظ رجل مبهم، مرَّ أبو النعمان في الحادي والخمسين من الإيمان, وحماد بن زيد. في الرابع والعشرين منه، وأيوب في التاسع منه، وسعيد بن جُبَير وابن عباس في الخامس من بدء الوحي. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، وثلاثة بصريون، وابن جبير كوفيٌّ. أخرجه البخاريّ في الجنائز وفي الحج، ومسلم في الحج، وكذا أبو داود والنَّسَائيّ. والرجل الذي وقصته الدابة لم يسم. ثم قال المصنف:

باب الحنوط للميت أي غير المحرم

باب الحنوط للميت أي غير المحرم الحديث الثامن والعشرون حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ وَاقِفٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِعَرَفَةَ إِذْ وَقَعَ مِنْ رَاحِلَتِهِ فَأَقْصَعَتْهُ أَوْ قَالَ فَأَقْعَصَتْهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ، وَلاَ تُحَنِّطُوهُ وَلاَ تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا. مطابقته للترجمة في قوله: "ولا تحنطوه"، وقوله: "فأقْصَعَته أو قال: "فاقعصته" شك من الراوي من ابن عباس، فالأول بتقديم القاف على الصاد المهملة، والثاني بتقديم العين على الصاد، من قُعَاص الغنم. وهذا الحديث هو الحديث السابق متنًا وسندًا، غير أن شيخه هنا قتيبة، وهناك أبو النعمان، وقد مرت مباحثه في الأول. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ قتيبة في الحادي والعشرين من الإِيمان, ومرَّ محل الأربعة الباقية في الذي قبله. ثم قال المصنف:

باب كيف يكفن المحرم

باب كيف يكفن المحرم سقطت هذه الترجمة للأصيلي، وثبتت لغيره، وهو أوجه. قال الزين بن المنير: تضمنت هذه الترجمة الاستفهام عن الكيفية مع أنها مبينة، لكنها لما كانت تحتمل أن تكون خاصة بذلك الرجل، وأن تكون عامة لكل محرم، آثر المصنف الاستفهام. قال في الفتح: والذي يظهر أن المراد بقوله: "كيف يكفن" أي: كيفية التكفين، ولم يرد الاستفهام، وكيف يظن به أنه متردد فيه وقد جزم قبل ذلك بأنه عام في حق كل أحد، حيثُ ترجم بجواز التكفين في ثوبين. الحديث التاسع والعشرون حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ أَخْبَرَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ رَجُلاً وَقَصَهُ بَعِيرُهُ، وَنَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَهْوَ مُحْرِمٌ فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ، وَلاَ تُمِسُّوهُ طِيبًا، وَلاَ تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّدًا. قوله: فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبيًا، كذا للمستملي، وللباقين مُلَبَّدًا، بدال بدل التحتانية، والتلبيد جمع الشعر بصمغ أو غيره، ليخف شَعَثُه، وكانت عادتهم في الإِحرام أن يصنعوا ذلك، وقد أنكر عِياض هذه الرواية, وقال: ليس قوله "ملبدًا" فاسد المعنى، بل توجيهه ظاهر، وهو أن الله تعالى يبعثه على هيأته التي مات عليها، وهذا الحديث رواية من الذي قبله. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ محل أبي النعمان وسعيد وابن عباس في الذي قبله بحديث، ومرَّ أبو عُوانة في الخامس من بدء الوحي، ومرَّ أبو بشر جعفر بن أبي وَحْشِية في الثاني من العلم. الحديث الثلاثون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرٍو وَأَيُّوبَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ رَجُلٌ وَاقِفٌ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- بِعَرَفَةَ فَوَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ قَالَ

رجاله ستة

أَيُّوبُ فَوَقَصَتْهُ، وَقَالَ عَمْرٌو فَأَقْصَعَتْهُ فَمَاتَ فَقَالَ اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ، وَلاَ تُحَنِّطُوهُ وَلاَ تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ أَيُّوبُ: يُلَبِّي، وَقَالَ عَمْرو: مُلَبِّيًا. قوله: كان رجل واقفًا، كذا لأبي ذَرٍّ وللباقين واقف، على أنه صفة لرجل، وكان تامة، أي: حصل رجل واقف. وقوله: فأَقْصَعَته أي: هشمته، يقال: أَقْصَعَ القملة إذا هشمها، وقيل: هو خاص بكسر العظم، ولو سلم فلا مانع أن يستعار لكسر الرقبة، وفي رواية الكَشْميهنيّ بتقديم العين على الصاد، والقعص القتل في الحال. ومنه قُعَاص الغنم، وهو موتها. وقوله: ولا تُمِسوه، بضم أوله وكسر الميم من أَمَسَّ. قال ابن المنذر في حديث ابن عباس: إباحة غسل المحرم بالسدر خلافًا لمن كرهه له، وأنْ الوتر في الكفن ليس شرطًا في الصحة، وأن الكفن من رأس المال، لأمره عليه الصلاة والسلام بتكفَينه في ثوبيه، ولم يستفصل هل عليه دَيْن يستغرق أم لا، وفيه استحباب تكفين المحرم في ثياب إحرامه، وقد مرَّ ما قيل في بقاء إحرامه وعدمه، وفيه أنه لا يكفن في المخيط، وفيه التعليل بالفاء، لقوله: فإنه، وفيه التكفين في الثياب الملبوسة، وفيه استحباب دوام التلبية إلى أن ينتهي الإِحرام، وأن الإحرام يتعلق بالرأس لا بالوجه، وقد مرَّ ما في رواية مسلم من الوَهْم. وأغرب القرطبيّ فحكى عن الشافعيّ أنّ المحرم لا يصلى عليه، وليس ذلك بمعروف عنه، واقتصاره له على التكفين في ثوبيه يحتمل، لكونه مات فيهما وهو متلبس بتلك العبادة الفاضلة، ويحتمل أنه لم يجد له غيرهما. رجاله ستة: قد مرّوا، مَرَّ مسدد في السادس من الإِيمان، ومرَّ عمرو بن دينار في الرابع والخمسين من العلم، ومرَّ محل الباقين في الذي قبله بحديثين. ثم قال المصنف:

باب الكفن في القميص الذي يكف أو لا يكف

باب الكفن في القميص الذي يُكَف أو لا يُكَف قال ابن التين: ضبط بعضهم يُكَفّ، بضم أوله وفتح الكاف، وبعضهم بالعكس، والفاء مشددة فيهما، وضبطه بعضهم بفتح أوله وسكون الكاف وكسر الفاء مخففة، والأول أشبه بالمعنى، وتعقبه ابن رشيد بأن الثاني هو الصواب، وهو الذي في نسخة حاتم الطرابلسيّ، وأصل أبي القاسم بن الورد قال: والذي يظهر بي أن البخاريّ لحظ قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} أي: أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- ألبس عبد الله بن أُبَيّ قميصَه، سواء كان يَكُفُّ عنه العذاب أو لا يكف، استصلاحًا للقلوب المؤلفة، فكأنه يقول: يؤخذ من هذا التبرك بآثار الصحالين، سواء علمنا أنه مؤثر في حال الميت أم لا. قال: ولا يصح أن يراد به سواء كان الثوب مكفوف الأطراف أو غير مكفوف, لأن ذلك وصف لا أثر له. قال: وأما الضبط الثالث فهو لحن، إذ لا موجب لحذف الياء الثانية فيه. وقد جزم المهلب بأنه الصواب، وأن، الياء سقطت من الكاتب غلطًا. قال ابن بطّال: المراد سواء كان القميص طويلًا سابغًا أو قصيرًا، فإنه يجوز أن يكفن فيه. ووجهه أن عبد الله كان مفرط الطول، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- معتدل الخَلق، وقد أعطاه مع ذلك قميصه ليكفن فيه، ولم يلتفت إلى كونه ساترًا لجميع بدنه أو لا. وتعقب بأن حديث جابر دال على أنه كفن في غيره، فلا تنتهض الحجة بذلك، وأما قول ابن رشيد: إنّ مكفوف الأطراف لا أثر له فغير مُسَلّم، بل المتبادر إلى الذهن أنه مراد البخاريّ، كما فهمه ابن التين. والمعنى أن التكفين في القميص ليس ممتنعًا سواء كان مكفوف الأطراف أو غير مكفوف. والمراد بالكف تزريره دفعًا لقول من يدعي أنّ القميص لا يسوغ إلا إذا كانت أطرافه غير مكفوفة، أو كان غير مزرر، ليشبه الرداء. وأشار بذلك إلى الرد على من خالف في ذلك، وإلى أن التكفين في غير قميص مستحب، ولا يكره التكفين في القميص، وفي "الخلافيات" للبيهقيّ عن ابن عَون قال: كان محمد بن سيرين يستحب أن يكون قميص الميت كقميص الحي، مكففًا مزررًا.

الحديث الحادي والثلاثون

الحديث الحادي والثلاثون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ لَمَّا تُوُفِّيَ جَاءَ ابْنُهُ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطِنِى قَمِيصَكَ أُكَفِّنْهُ فِيهِ، وَصَلِّ عَلَيْهِ وَاسْتَغْفِرْ لَهُ، فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- قَمِيصَهُ فَقَالَ آذِنِّي أُصَلِّي عَلَيْهِ. فَآذَنَهُ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ جَذَبَهُ عُمَرُ رضي الله عنه فَقَالَ: أَلَيْسَ اللَّهُ نَهَاكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ فَقَالَ أَنَا بَيْنَ خِيرَتَيْنِ قَالَ: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}. فَصَلَّى عَلَيْهِ فَنَزَلَتْ {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا}. قوله: لما توفي، ذكر الواقديُّ والحاكم في الإِكليل، أن وفاته كانت بعد مُنْصَرَفهم من تبوك، وذلك في ذي القعدة سنة تسع، وكان قد تخلف هو ومن تبعه عن غزوة تبوك، وفيهم نزلت: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} وهذا يدفع قول ابن التين: إن هذه القصة كانت في أول الإِسلام قبل تقرير الأحكام. ويأتي تعريفه وتعريف ابنه في سند الحديث. قوله: جاء ابنه، في رواية الطبريّ عن الشعبيّ "لما احتضر عبد الله، جاء ابنه عبد الله إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقال: يا نبي الله، إن أبي قد احتضر، فأحبُّ أنْ تشهده، وتصلي عليه. قال: ما اسمك قال الحُبَاب، أي بضم المهملة وموحدتين مخففًا، قال: بل أنت عبد الله، الحُبابُ اسم الشيطان. وكان ابنه عبد الله هذا من فضلاء الصحابة، كما يأتي في تعريفه قريبًا، وكأنه كان يحمل أمر أبيه على ظاهر الإِسلام، فلذلك التمس من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يحضر عنده ويصلي عليه، ولاسيما وقد ورد ما يدل على أنه فعل هذا بعهدٍ من أبيه، ويؤيد ذلك ما أخرجه عبد الرزاق والطبريّ كلاهما عن قتادة قال: أرسل عبد الله بن أُبي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما دخل عليه قال: "أهلكك حب اليَهود"، فقال: يا رسول الله، إنما أرسلت إليك لتستغفر لي لا لتوبخني، ثم سأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه، فأجابه. وهذا مرسل مع ثقة رجاله، ويعضده ما أخرجه الطبرانيّ عن ابن عباس قال: لما مرض عبد الله بن أُبيّ، جاء النبي -صلى الله عليه وسلم-، فكلمه فقال: فهمت ما تقول، فامنن عليّ فكفني في قميصك، وصل عليّ. والأحسن في الجواب عن هذا أن عبد الله أراد بهذا دفع العار عن ولده وعشيرته بعد موته، فأظهر الرغبة في صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ووقعت إجابته إلى سؤاله بحسب ما ظهر من حاله إلى أن كشف الله الغطاء عن ذلك كما سيأتي.

وقوله: فلما أراد أن يصلي عليه جذبه عمر رضي الله عنه، وفي رواية براءة "فقام ليصلي عليه، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" وفي رواية ابن عباس هناك "فلما قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" وعند التِّرْمِذِيّ من هذا الوجه "فقام إليه، فلما وقف عليه يريد الصلاة عليه، وثبتُ عليه، وقلت: يا رسول الله، أتصلي على ابن أُبَيّ؟ وقد قال يوم كذا: كذا وكذا، اعدد عليه قوله" يشير بذلك إلى قوله {لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} وقوله {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} ونحو ذلك. وقوله: أليس الله نهاك أن تصلي على المنافقين؟ كذا في الرواية, إطلاق النهي عن الصلاة، وقد استشكل جدًا حتى قال بعضهم: هذا وهم من بعض رواته، وأجاب بعضهم بأن عمر لعله اطّلع على نهيٍ خاص في ذلك، وقال القرطبيُّ: لعل ذلك وقع في خاطر عمر، فيكون من قبيل الإِلهام أو يكون فهم ذلك من قوله {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} وما قاله القرطبي أقرب, لأنه لم يتقدم النهي عن الصلاة على المنافقين، بدليل أنه قال في آخر الحديث: فأنزل الله {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ} والذي يظهر أن في رواية الباب تجوزًا بينته رواية عبد الله بن عمر في التفسير بلفظ "فقال: تصلي عليه وقد نهاك الله أن تستغفر لهم؟ ". وروى عبد بن حميد والطبريّ عن ابن عمر عن عمر قال: أراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أن يصلي على عبد الله بن أُبَيّ، فأخذتُ بثوبه، فقلت: والله ما أمرك الله بهذا، لقد قال {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} وعند ابن مَرْدَوَيه عن ابن عباس، فقال عمر: أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه؟ قال: أين؟ قال: قال {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} الآية. فكأن عمر فهم من الآية المذكورة ما هو الأكثر الأغلب من لسان العرب من أن "أو" ليست للتخيير، بل للتسوية في عدم الوصف المذكور، رأي أن الاستغفار لهم وعدم الاستغفار سواء. وهو كقوله تعالى {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} لكن الثانية أصرح. ولهذا ورد أنها نزلت بعد هذه القصة، وفهم عمر من قوله {سَبْعِينَ مَرَّةً} أنها للمبالغة، وأن العدد المعين لا مفهوم له، بل المراد نفي المغفرة لهم، ولو كثر الاستغفار، فيحصل من ذلك النهي عن الاستغفار، فأطلقه، وفهم أيضًا أن المقصود الأعظم من الصلاة على الميت طلب المغفرة له، والشفاعة له، فلذلك استلزم عنده النهي عن الاستغفار تركُ الصلاة، فلذلك جاء عنه في هذه الرواية إطلاق النهي عن الصلاة. ولهذه الأمور استنكر إرادة الصلاة على عبد الله بن أُبَيّ هذا تقرير ما صدر من عمر مع ما عرف من شدة صلابته في الدين، وكثرة بغضه للكفار والمنافقين، وهو القائل في حق حاطب بن أبي بَلْتَعة، مع ما كان له من الفضل، كشهوده بدرًا وغير ذلك، لكونه كاتَبَ قريشًا قبل الفتح: دعني يا رسول الله أضربُ عنقَه، فقد نافق. ولذلك أقدم على كلامه للنبي -صلى الله عليه وسلم- بما قال، ولم يلتفت إلى احتمال إجراء الكلام على ظاهره، لما غلب عليه من الصلابة المذكورة.

قال الزين بن المنير: إنما قال ذلك عمر حرصًا على النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومشورةً لا إلزامًا، وله عوائد بذلك، ولا يبعد أن يكون النبي كان أذن له في مثل ذلك، فلا يستلزم ما وقع من عمر أنه اجتهد مع وجود النص، كما تمسك به قوم في جواز ذلك، وإنما أشار بالذي ظهر له فقط، ولهذا احتمل منه النبي -صلى الله عليه وسلم- أخذه بثوبه، ومخاطبته له في مثل ذلك المقام، حتى التفت إليه مبتسمًا، كما يأتي عن ابن عباس، وإنما جزم عمر بكونه منافقًا جريًا على ما كان يطَّلع عليه من أحواله. وقوله: فقال أنا بين خِيْرَتين، قال الله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} وفي رواية ابن عمر في التفسير إنما خيرني الله، فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} وسأزيد على السبعين. قال: إنه منافق. وفي حديث ابن عباس عن عمر من الزيادة "فتبسم النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: أخِّر عنّي يا عمر، فلما أكثر عليه قال: "إني خُيّرت فاخترت"، أي خيرت بين الاستغفار وعدمه، كما بينه حديث ابن عمر، وفي رواية عن ابن عمر "إنما خيرني الله أو أخبرني الله بالشك" والأول من التخيير بالياء، والثاني من الإِخبار بموحدة. وأخرجه الإِسماعيليّ من هذا الوجه بلفظ "إنما أخرني الله بغير شك". وفي حديث ابن عباس عن عمر "لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له، لزدت عليها". وحديث ابن عمر جازم بالزيادة، وأكد منه ما روى عبد بن حُميد عن قتادة قال: لم نزلت {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "قد خيّرني ربي، فوالله لأزيدنّ على السبعين" ودل ذلك على أنه عليه الصلاة والسلام أطال في حال الصلاة عليه من الاستغفار له، وقد ورد ما يدل على ذلك، فذكر الواقدي أن مجمع بن جارية، قال "ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أطال على جنازة قطُّ ما أطال على جنازة عبد الله بن أُبَيّ من الوقوف. وروى الطبريّ عن الشعبيّ قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: قال الله {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} فأنا استغفر لهم سبعين وسبعين وسبعين". وقد تمسك بهذه القصة من جعل مفهوم العدد حجة، وكذا مفهوم الصفة من باب الأولى، ووجه الدلالة أنه -صلى الله عليه وسلم- فهم أن ما زاد على السبعين بخلاف السبعين، فقال: سأزيد على السبعين، وأجاب من أنكر القول بالمفهوم بما وقع في بقية القصة، وليس ذلك بدافعٍ للحجة, لأنه لو لم يقم الدليل على أن المقصود بالسبعين المبالغة، لكان الاستدلال بالمفهوم باقيًا، وإنما لم يأخذ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بقول عمر، وصلى عليه إجراءًا له على ظاهر حكم الإِسلام، كما مرَّ تقريره، واستصحابًا لظاهر الحكم، ولما فيه من إكرام ولده الذي تحققت صلاحيته، ومصلحة الاستئلاف لقومه ودفع المفسدة. وكان النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، في أول الأمر يصبر على أذى المشركين، ويعفو ويصفح، ثم أمر بقتال

المشركين، فاستمر صفحه وعفوه عمن يُظهر الإِسلام، ولو كان باطنه على خلاف ذلك، لمصلحة الاستئلاف وعدم التنفير عنه، ولذلك قال: "لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه" فلما حصل الفتح، ودخل المشركون في الإِسلام، وقل أهل الكفر وذلوا، أمر بمجاهرة المنافقين، وحملهم على حكم مُرِّ الحق، لاسيما وقد كان ذلك قبل نزول النهي الصريح عن الصلاة على المنافقين، وغير ذلك مما أمر فيه بمجاهرتهم، وبهذا التقرير يندفع الإِشكال عما وقع في هذه القصة. قال الخطابيّ: إنما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- مع عبد الله بن إِبَيّ ما فعل، لكمال شفقته على من تعلق بشيء من الدين، ولتطبيب قلب ولده عبد الله، الرجلِ الصالحِ، ولتَأَلُّف قومه من الخزرج لرياسته فيهم، فلو لم يجب سؤل ابنه وترك الصلاة عليه قبل ورود النهي الصريح، لكان سُبَّة على ابنه، وعارًا على قومه، فاستعمل أحسن الأمرين في السياسة، إلى أن نُهي فانتهى. وتبعه ابن بطال، وزاد "ورجا أن يكون معتقدًا لبعض ما كان يظهره من الإِسلام" وتعقبه ابن المنير بأن الإِيمان لا يتبعض، وهو كما قال، لكن مراد ابن بطال أن إيمانه كان ضعيفًا، وقد مال بعض أهل الحديث إلى تصحيح إسلام عبد الله بن أُبَيّ، لكون النبي -صلى الله عليه وسلم-، صلى عليه، وذهل هذا القائل عن الوارد في حقه من الآيات والأحاديث الصريحة، بما ينافي ذلك، ولم يقف على جواب شافٍ في ذلك، فأقدم على الدعوى المذكورة، وهو محجوج بإجماع من قبله على نقيض ما قال، وإطباقهم على ترك ذكره في كتب الصحابة مع شهرته. وذكر من هو دونه في الشرف والشهرة بأضعاف مضاعفة، وقد أخرج الطبريّ عن قتادة في هذه القصة قال: فأنزل الله تعالى {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} قال: فذكر لنا أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "وما يُغني قميصي من الله، وإني لأرجو أن يسلم بذلك ألف من قومه" واستشكل الداوديّ، ما مرَّ في رواية ابن عباس، من تبسمه عليه الصلاة والسلام قائلًا: إن ضحكه -صلى الله عليه وسلم- كان تبسمًا، ولم يكن عند شهود الجنائز يستعمل ذلك، وجوابه أنه عبر عن طلاقة وجهه بذلك، تأنيسًا لعمر وتطييبًا لقلبه، كالمعتذر عن ترك قبول كلامه ومشورته، واستشكل فهم التخيير من الآية، حتى أقدم جماعة من الأكابر على الطعن في صحة هذا الحديث مع كثرة طرقه، واتفاق الشيخين وسائر الذين خرجوا الصحيح على تصحيحه. وذلك ينادى على منكري صحته بعدم معرفة الحديث، وقلة الاطلاع على طرقه. قال ابن المنير: مفهوم الآية زلت فيه الأقدام حتى أنكر القاضي أبو بكر صحة الحديث، وقال: لا يجوز أن يقبل هذا, ولا يصح أن الرسول قاله، وقال: هذا الحديث من أخبار الآحاد التي لا يعلم ثبوتها. وقال إمام الحرمين في مختصره: هذا الحديث غير مخرج في الصحيح. وقال في البرهان: لا يصححه أهل الحديث، وقال الغزاليّ في المستصفى: الأظهر أن هذا الخبر غير صحيح، وقال الداوديّ: هذا الحديث غير محفوظ، والسبب في إنكارهم صحته ما تقرر عندهم مما مرَّ، وهو

الذي فهمه عمر رضي الله تعالى عنه من عملٍ، أو على التسوية لما يقضيه سياق القصة، وحمل السبعين على المبالغة. قال ابن المنير: ليس عند أهل البيان تردد أن التخصيص بالعدد في هذا السياق غير مراد، وأيضًا، فشرط القول بمفهوم الصفة والعدد عندهم مماثلة المنطوق للمسكوت، وعدم فائدة أخرى، وهنا للمبالغة فائدة واضحة، فأشكل قولهُ "سأزيد على السبعين" مع أن حكم ما زاد عليها حكمها. وقد أجاب بعض المتأخرين عن ذلك بأنه إنما قال: سأزيد على السبعين، استمالة لقلوب عشيرته، لا أنه أراد إن زاد على السبعين يغفر له. ويؤيده تردده المار، حيث قال: لو أعلم أني إنْ زدت على السبعين يغفر له لزدت، لكنْ قدمنا أن الرواية ثبتت بقوله "سأزيد" ووعده صادق، ولاسيما وقد ثبت قوله "لأزيدن" بصيغة المبالغة في التأكيد. وأجاب بعضهم باحتمال أن أن يكون فعل ذلك استصحابًا للحال, لأن جواز المغفرة كان ثابتًا قبل مجيء الآية، فجاز أن يكون باقيًا على أصله في الجواز، وهذا جواب حسن، وحاصله أن العمل بالبقاء على حكم الأصل مع فهم المبالغة لا يتنافيان، فكأنه جوّز أنَّ المغفرة تحصل بالزيادة على السبعين، لا أنه جازم بذلك، ولا يخفى ما فيه. وقيل: إن الاستغفار يتنزل منزلة الدعاء، والعبد إذا سأل ربه حاجة، فسؤاله إياه يتنزل منزلة الذكر، لكنه من حيث طلب تعجيل حصول المطلوب ليس عبادة، فإذا كان كذلك، والمغفرة في نفسها ممكنة، وتعلق العلم بعدم نفعها, لا بغير ذلك، فيكون طلبها لا لفرض حصولها، بل لتعظيم المدعو، فإذا تعذّرت المغفرة عُوَّض الداعي عنها ما يليقُ به من الثواب، أو دفع السوء, كما ثبت في الخبر. وقد يحصل بذلك عن المدعو لهم تخفيف، كما في قصة أبي طالب، هذا معنى ما قاله ابن المنير. وفيه نظر, لأنه يستلزم مشروعية طلب المغفرة لمن يستحيل المغرفة له شرعًا، وقد ورد إنكار ذلك في قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} ووقع في أصل هذه القصة إشكالٌ آخر، وذلك أنه -صلى الله عليه وسلم- أطلق أنه خُيِّر بين الاستغفار لهم وعدمه، بقوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} وأخذ بمفهوم العدد من السبعين، فقال: "سأزيد عليها" مع أنه قد سبق قبل ذلك بمدة طويلة نزولُ قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} فإن هذه الآية نزلت في قصة أبي طالب حين قال -صلى الله عليه وسلم- "والله لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك" فنزلت، وكانت وفاة أبي طالب بمكة قبل الهجرة اتفاقًا، وقصة عبد الله بن أُبيّ هذه في السنة التاسعة من الهجرة كما مرَّ، فكيف يجوز مع ذلك الاستغفار للمنافقين مع الجزم بكفرهم؟ في نفس الآية.

وأجيب عنه بما حاصله أن المنهيّ عنه استغفار ترجى إجابته، حتى يكون مقصوده تحصيل المغفرة لهم، كما في قصة أبي طالب، بخلاف الاستغفار لمثل عبد الله بن أُبَيّ، فإنه استغفار لقصد تطبيب قلوب من بقي منهم، وهذا الجواب ليس بمرضيّ، ونحوه قول الزمخشريّ، فإنه قال: فإن قلت كيف خفي على أفصح الخلق وأخيرهم بأساليب الكلام وتمثيلاته أن المراد بهذا العدد، أن الاستغفار ولو كثر لا يجدي، ولاسيما وقد تلاه قوله تعالى: {.. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ..} الآية، فبين الصارف عن المغفرة لهم. قلت: لم يخف عليه ذلك، ولكنه فعل ما فعل، وقال ما قال، إظهارًا لغاية رحمته ورأفته على من بُعث إليه، وهو كقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام {وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، وفي إظهار النبي -صلى الله عليه وسلم- الرأفة المذكورة لطفٌ بأمته، وباعثٌ على رحمة بعضهم بعضًا. وتعقبه ابن المنير وغيره، وقالوا: لا يجوز نسبة ما قاله إلى رسول الله, لأن الله أخبر أنه لا يغفر للكفار، وإذا كان لا يغفر لهم، فطلب المغفرة لهم مستحيل، وطلب المستحيل لا يقع من النبي -صلى الله عليه وسلم-. ومنهم من قال: إنّ النهيَ عن الاستغفار لمن مات مشركًا، لا يستلزم النهي عن الاستغفار لمن مات مظهرًا للإِسلام، لاحتمال أن يكون معتقده صحيحًا، وهذا جواب جيد. والراجح أن نزول قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} متراخيًا عن قصة أبي طالب جدًا، وأن الذي نزل في قصته {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}، ويأتي تحرير ذلك إن شاء الله تعالى في آخر الجنائز. وفي بقية هذه الآية من التصريح بأنهم كفروا بالله ورسوله، ما يدل على أن نزول ذلك وقع متراخيًا عن القصة، ولعل الذي نزل أولًا، وتمسك النبي -صلى الله عليه وسلم- به، قولُه تعالى {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ} إلى قوله {فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} ولذلك اقتصر في جواب عمر على التخيير، وعلى ذكر السبعين، فلما وقعت القصة المذكورة كشف الله عنهم الغطاء، وفضحهم على رؤوس الملأ، ونادى عليهم بأنهم كفروا بالله ورسوله. ولعل هذا هو السر في اقتصار البخاريّ فيما يأتي عنه في التفسير في الترجمة من هذه الآية على هذا القدر، إلى قوله: {فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}. ولم يقع في شيء من نسخ كتابه تكميل الآية، كما جرت به العادة، من اختلاف الرواة عنه في ذلك. وإذا تأمل المصنف وجد الحاصل لمن رد الحديث أو تعسف في التأويل ظنه بأن قوله تعالى {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} مع قوله {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ} أي: نزلت الآية كاملة, لأنه لو فرض نزولها كاملة، لاقترن بالنهي العلةُ، وهي صريحة في أن قليل الاستغفار وكثيره لا يجدي، وإلاّ، فإذا فرض ما حررته من أن هذا القدر نزل متراخيًا عن صدر الآية، ارتفع الإِشكال، وإذا كان الأمر كذلك فحجة المتمسك من القصة بمفهوم العدو صحيحٌ، وكون ذلك وقع من النبي -صلى الله عليه وسلم- متمسكًا بالظاهر، على ما هو المشروع في الأحكام إلى أن يقوم الدليل الصارف عن ذلك، لا إشكال فيه.

وقوله: فصلى عليه فنزلت {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} وفي رواية ابن عباس في التفسير وفي آخر الجنائز زيادة "ثم انصرف، فلم يمكث إلا يسيرًا حتى نزلت الآيتان من براءة {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ} إلى {وَهُمْ فَاسِقُونَ}. وقال: فعجبت بعد من جرأتي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والله ورسوله أعلم، وفي رواية لابن عمر "فصلى عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وصلينا معه، ثم أنزل الله عليه {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ} الخ. وفي حديث مسدد عند ابن أبي حاتم زيادة "فترك الصلاة عليهم"، وزاد ابن إسحاق في المغازي "فما صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على منافق بعده حتى قبضه الله"، وزاد فيه الطبريّ عن ابن إسحاق "ولا قام على قبره"، وأخرج عبد الرزاق عن قتادة قال "لما نزلت {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} إلى آخرها، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: لأزيدنّ على السبعين"، فأنزل الله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}. ورجاله ثقات مع إرساله، ويحتمل أن تكون الآيتان معًا، نزلتا في ذلك، وظاهر الآية أنها نزلت في جميع المنافقين، لكن ورد ما يدل على أنها نزلت في عدد معين منهم، فقد أخرج الواقديُّ عن الزُّهريّ قال: قال حُذيفة: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إني مُسِرٌّ إليك سرًا فلا تذكره لأحد، إني نهيت أن أُصلّي على فلان وفلان" رهطٍ ذوي عددٍ من المنافقين. قال: فلذلك كان عمر إذا أراد أن يصلي على أحد استتبع حُذيفة، فإن مشى معه وإلا لم يصل عليه، ومن طريق أخرى عن جُبير بن مُطْعِم أنهم اثنا عشر رجلًا، ولعل الحكمة في اختصاص المذكورين بذلك، أن الله تعالى علم أنهم يموتون على الكفر بخلاف من سواهم، فإنهم تابوا. وقوله في رواية ابن عباس الماضية: فعجبت من جُرأتي، بضم الجيم وسكون الراء بعدها همزة، أي إقدامي عليه، وقد مرَّ توجيهه. وقوله: والله ورسوله أعلم، ظاهرة أنه قول عمر، ويحتمل أن يكون قول ابن عباس، وقد روى الطبريّ عن ابن عباس قال: فالله أعلم أيَّ صلاةٍ كانت، وما خادع محمدٌ أحدًا قط. وقال بعض الشراح: يحتمل أن يكون عمر ظن أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم-، حين تَقَدَّم للصلاة على عبد الله بن أُبَيّ، كان ناسيًا لما صدر من عبد الله بن أُبَيّ، وتُعُقب بما في السياق من تكرير المراجعة، فهي دافعة لاحتمال النسيان. وقد صرح في الحديث بقوله: "فلما أكثرت المراجعة" فهي دافعة لاحتمال النسيان، وقد صرح في الحديث بقوله: "فلما أكثرت عليه" قال: فدل على أنه كان ذاكرًا، وقد مرَّ ما يشفي في هذا، ويأتي في آخر الجنائز زيادةٌ في سبب إلباسه عليه الصلاة والسلام ثوبه له.

رجاله خمسة

وفي قول ابن عمر المار: فصلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وصلينا معه، أن عمر ترك رأي نفسه، وتابع النبي عليه الصلاة والسلام، ونبه على أن ابن عمر حمل القصة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، بغير واسطة، بخلاف ابن عباس، فإنما حملها من عمر، إذ لم يشهدها. وفي الحديث جواز الشهادة على المرء بما كان عليه حيًا وميتًا، لقول عمر: إن عبد الله منافق، ولم ينكر النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قوله. ويؤخذ منه أن المنهيّ عنه من سَبِّ الأموات ما قصد به الشتم لا التعريف، وأن المنافق تجري عليه أحكام الإِسلام الظاهرة، وأن الإعلام بوفاة الميت مجردًا لا يدخل في النعي المنهي عنه. وفيه جواز سؤال الموسر من المال من ترجى بركته شيئًا من ماله، لضرورة دينية. وفيه رعاية الحي المطيع بالإحسان إلى الميت العاصي. وفيه التكفين بالمخيط، وجواز تأخير البيان عن وقت النزول إلى وقت الحاجة، والعمل بالظاهر إذا كان النص متحملًا، وفيه جواز تنبيه المفضولِ للفاضل على ما يظن أنه قد سها عنه، وتنبيه الفاضل المفضولَ على ما يشكل عليه، وجواز استفسار السائلِ المسؤولَ، وعكسه عما يحتملُ، ما دار بينهما. وفيه جواز التبسم في حضور الجنازة، عند وجود ما يقتضيه، وقد استحب أهل العلم عدم التبسم من أجل تمام الخشوع، فيستثنى منه ما تدعوا إليه الحاجة. رجاله خمسة: قد مرّوا، وفيه ذكر عبد الله بن أُبَيّ وابنه. مرَّ مسدد ويحيى القَطّان في السادس من الإِيمان, ومرَّ عبيد الله العمريّ في الرابع عشر من الوضوء، ومرَّ نافع في الأخير من العلم، ومرَّ ابن عمر في أول الإِيمان قبل ذكر حديث منه، وفي الحديث ذكر عمر بن الخطاب، وقد مرَّ في الأول من بدء الوحي. وعبد الله بن أُبَيّ بن سَلُول راس المنافقين، وأُبَيْ هو أبو مالك بن الحارث بن عُبَيد، وسلول امرأةٌ من خُزاعة، وهي أم أبي مالك بن الحارث، وأمّ عبد الله بن أَبي خَولة بنت المنذر بن حَرام من بني النجار، وكان عبد الله سيد الخزرج في الجاهلية، وكانت الخزرج قد اجمعت أمرها على أن يتوِّجوه، ويسندوا أمرهم إليه قبل مبعث النبي -صلى الله عليه وسلم-. فلما جاء الإِسلام نَفَسَ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- النبوةَ، وأخذته العزة، فلم يُخْلص الإِيمان, وأضمر النفاق حَسدًا. وهو الذي قال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، وقال ابنه لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: هو والله الذليل يا رسول الله، وأنت العزيز. وهو الذي تولّى كِبْرَهُ في قصة الصديقة، وهو الذي قال: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى يَنْفَضُّوا، ورجع يوم أحد بثلث العسكر إلى المدينة، بعد أن خرجوا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

الحديث الثاني والثلاثون

قال الواقدي: مرض عبد الله بن أُبَيّ في ليال بقينَ من شوال، ومات في ذي القعدة سنة تسعٍ، مُنْصَرَفَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من تَبوك، وكان مرضه عشرين ليلة، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعوده فيه، فلما كان اليوم الذي توفي فيه، دخل عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو يجود بنفسه، فقال: قد نهيتك عن حُبّ اليهود، فقال: قد أبغضهم أسعد ابن زُرَارة فما نفعه، ثم قال: يا رسول الله، ليس هذا بحين عِتاب، هو الموت، فإن مِتُّ فاحضرْ غَسلي، وأعطني قميصك الذي يلي جسدك، فكفني فيه، وصلَّ عليَّ واستغفر لي، ففعل ذلك به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. قال الحاكم: كان على النبي -صلى الله عليه وسلم- قميصان، فقال عبد الله: واعطني قميصك الذي يلي جسدك، فأعطاه. وفي حديث الباب أنّ ابنه هو الذي أعطاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قميصَه. وأما ابنه فهو عبد الله بن عبد الله بن أُبَيّ، كان اسمه الحُباب، بضم الحاء، وبه يكنى أبوه، فسمّاه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- عبد الله، باسم أبيه، شهد عبد الله هذا بدرًا وأحدًا والمشاهد. وقال ابن حِبّان: لم يشهد بدرًا، وروى ابن مَنْدَه أنه استأذن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في قتل أبيه، فقال: لا يتحدث الناس أنه يقتل أباه، بل بُرَّ أباك، وأحسن صحبته. وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يثني عليه. وروى أبو نعيم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمره أن يتخذ أَنْفًا من ذهب حين أُصيب أنفه، استشهد عبد الله هذا يوم اليمامة، في خلافة أبي بكر، سنة اثنتي عشرة. وهذا الحديث أخرجه البخاريّ أيضًا في اللباس، ومسلم في اللباس والتوبة، والتِّرمذيّ في التفسير، والنَّسَائيُّ فيه وفي الجنائز، وابن ماجه في التفسير. الحديث الثاني والثلاثون حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو سَمِعَ جَابِرًا رضي الله عنه قَالَ: أَتَى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ بَعْدَمَا دُفِنَ فَأَخْرَجَهُ، فَنَفَثَ فِيهِ مِنْ رِيقِهِ وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ. وظاهر قوله: أتى النبيّ -صلى الله عليه وسلم- عبدَ الله بن أبيّ بعدما دفن، فأخرجه فنفث فيه من ريقه وألبسه قميصه، مخالفٌ لقوله في حديث "لما مات عبد الله بن أبيّ جاء ابنه فقال يا رسول الله أعطني قميصك" الخ، وقد جُمع بينهما بأنّ معنى قوله في حديث ابن عمر "فأعطاه" أي أنعم له بذلك، فأطلق على العِدَة اسم العطية مجازًا، لتحقق وقوعها. وكذا قوله في حديث جابر "بعدما دفن عبد الله بن أبيّ" أيْ: دُلّي في حفرته. وكان أهل عبد الله بن أبيّ خشوا على النبي -صلى الله عليه وسلم- المشقة في حضوره، فبادروا إلى تجهيزه قبل وصوله عليه الصلاة والسلام، فلما وصل وجدهم قد دلُّوه في

رجاله أربعة

حفرته، فأمر بإخراجه، إنجازًا لوعده، في تكفينه في القميص، والصلاة عليه. وقيل: أعطاه -صلى الله عليه وسلم- أحد قميصيه أولًا، ثم لما حضر أعطاه الثاني بسؤال ولده. وفي "الإِكليل" للحاكم ما يؤيد ذلك، وقيل: ليس في حديث جابر دلالة على أنه ألبسه قميصه بعد إخراجه من القبر, لأن لفظه فيما يأتي "فوضعه على ركبتيه، ونفث عليه من ريقه، وألبسه قميصه" فلعله أراد أن يذكر ما وقع في الجملة من إكرامه من غير إرادة ترتيب. رجاله أربعة: قد مرّوا، مرَّ مالك بن إسماعيل في الخامس والثلاثين من الوضوء ومرَّ عمرو بن دينار في الرابع والخمسين من العلم، ومرَّ ابن عُيينة في الأول من بدء الوحي، وجابر في الرابع منه. ثم قال المصنف:

باب الكفن بغير قميص

باب الكفن بغير قميص ثبتت هذه الترجمة للأكثر، وسقطت للمستملي، ولكنه ضمَّنها الترجمة التي قبلها، فقال بعد قوله: "ولا يكفن": ومن كُفن بغير قميص، والخلاف في هذه المسألة بين الحنفية وغيرهم في الاستحباب وعدمه، والثاني عن الجمهور، وقد مرت صفة أثواب الكفن عند الأئمة الأربعة في باب الثياب البيض للكفن. الحديث الثالث والثلاثون حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كُفِّنَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فِي ثَلاَثَةِ أَثْوَابِ سَحُولَ كُرْسُفٍ، لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلاَ عِمَامَةٌ. وقوله: ليس فيها قميص ولا عمامة، قد مرَّ في باب الثياب البيض للكفن، أن هذا القول يحتمل نفي وجودهما أصلًا، ويحتمل أن يراد به نفي المعدود، أي: الثلاثة خارجةً عن القميص والعمامة. وقال بعض الحَنَفية: معناه ليس فيها قميص، أي: جديد، وقيل: ليس فيها القميص الذي غسل فيه، أو ليس فيها قميص مكفوف من الأطراف. وباقي مباحثه قد مرت عند ذكره في الباب المذكور. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ أبو نعيم في الرابع والأربعين من الإيمان, ومرّ سفيان الثَّوريّ في السابع والعشرين منه، ومرت الثلاثة الباقية بهذا النَّسَق في الثاني من بدء الوحي. الحديث الرابع والثلاثون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كُفِّنَ فِي ثَلاَثَةِ أَثْوَابٍ، لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلاَ عِمَامَةٌ. وهذا الحديث قد مرَّ تفسير ما فيه من الألفاظ عند ذكره في الباب المذكور.

رجاله خمسة

رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ مسدد ويحيى القطان في السادس من الإِيمان, ومرت الثلاثة الباقية في الذي قبله. ثم قال المنصف:

باب الكفن بلا عمامة

باب الكفن بلا عمامة كذا للأكثر، وللمستملي "الكفن في الثياب البِيض" والأول أوْلى، لئلا تتكرر الترجمة بدون فائدة. الحديث الخامس والثلاثون حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كُفِّنَ فِي ثَلاَثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ، لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلاَ عِمَامَةٌ. قوله: ثلاثة، في طبقات ابن سعد عن الشعبيّ "إزار ورداء ولُفافة" قلت: هذا مخالف لما مرَّ من صفة الكفن في باب الثياب البيض للكفن، ومرَّ الكلام على الحديث هناك. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ إسماعيل بن أبي أُويس في الخامس من الإِيمان ومرَّ مالك وما بعده في الثاني من بدء الوحي. ثم قال المصنف:

باب الكفن من جميع المال

باب الكفن من جميع المال أي: من رأس المال، وكأن المصنف راعى لفظ حديث مرفوع ورد بهذا اللفظ، أخرجه الطبرانيّ في "الأوسط" عن عليّ بإسناد ضعيف، وذكره ابن أبي حاتم عن جابر، وحكى عنه أبيه أنه منكر، قال ابن المنذر: قال جميع أهل العلم بذلك، إلا رواية شاذةٌ عن خلاس بن عمر، وقال: الكفن من الثلث، وقال طاوس من الثُّلُث إن كان قليلًا، أخرجهما عبد الرزاق. وقد يرد على هذا الإطلاق ما استثناه المالكية والشافعية وغيرهم من الزكاة، وسائر ما يتعلق بعين المال، فإنه يقدم على الكفن، وغيره من مؤنة تجهيزه، كما لو كانت التركة شيئًا مرهونًا أو عبدًا جانيًا. ثم قال: وبه قال عطاء والزُّهريّ وقتادة فقد وصله عبد الرزاق، وكذلك قول عمرو بن دينار. وعطاء قد مرَّ في التاسع والثلاثين من العلم، ومرَّ الزهري في الثالث من بدء الوحي، ومرَّ قتادة في السادس من الإِيمان, ومرَّ عمرو بن دينار في الرابع والخمسين من العلم. ثم قال: وقال عمرو بن دينار: الحَنُوط من جميع المال. وقول عمرو هذا هو الذي مرَّ أنّ عبد الرزاق وصله، وعمرو مرَّ محله الآن. ثم قال: وقال إبراهيم: يبادر بالكفن، ثم بالدين، ثم بالوصية. وهذا وصله الدارميّ. وإبراهيم مرَّ في الخامس والعشرين من الإِيمان. ثم قال: وقال سفيان: أجر القبر والغسل هو من الكفن، وأثره وصله عبد الرزاق، وسفيان، وهو الثَّوْريّ، مرَّ في السابع والعشرين من الإِيمان. الحديث السادس والثلاثون حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَكِّيُّ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أُتِيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رضي الله عنه يَوْمًا بِطَعَامِهِ فَقَالَ: قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَكَانَ خَيْرًا مِنِّي فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ إِلاَّ بُرْدَةٌ، وَقُتِلَ حَمْزَةُ أَوْ رَجُلٌ آخَرُ خَيْرٌ مِنِّي فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ إِلاَّ بُرْدَةٌ، لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ قَدْ عُجِّلَتْ لَنَا طَيِّبَاتُنَا فِي حَيَاتِنَا الدُّنْيَا، ثُمَّ جَعَلَ يَبْكِي.

رجاله خمسة

وهذا الحديث يأتي سياقه في الباب الذي يليه أصرح اتصالًا من هذا، وشاهد الترجمة منه قوله في الحديث "فلم يوجد له" لأن ظاهره أنه لم يوجد ما يملكه، إلا البُرد المذكور. وفي رواية الأكثر "إلا بُرْدهُ، بالضمير العائد عليه، وفي رواية الكَشْميهنيّ" "إلاَّ بُرْدَةً" بلفظ واحدة البرود، وفي حديث خَبّاب في الباب الذي بعده بلفظ "ولم يترك إلا نمرة". واختلف فيما إذا كان عليه دَيْن مستغرق، هل يكون كفنه ساترًا لجميع بدنه أو للعورة فقط؟ المرجح الأول، ونقل ابن عبد البَرّ الإجماع عَلى أنه لا يجزىء ثوب واحد يصف ما تحته من البدن. وقوله: "وكان خيرًا مني" لعله قال ذلك تواضعًا، ويحتمل أن يكون ما استقر عليه الأمر من تفضيل العشيرة على غيرهم، بالنظر إلى مَنْ لم يُقْتَل في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-. وقد وقع من أبي بكر الصديق نظير ذلك، فذكر ابن هشام: إن رجلًا دخل على أبي بكر الصديق، وعنده بنت سعد بن الربيع، وهي صغيرة، فقال: من هذه؟ فقال: "هذه بنت رجل خير مني"، سعد بن الربيع كان من نقباء العَقَبة، شهد بدرًا واستشهد يوم أحد. وقوله: خشيت أن تكون عُجَّلَتْ لنا طيباتنا في حياتنا الدنيا، وفي رواية المغازي "أن تكون حسناتنا قد عجلت لنا" وفي رواية نوفل بن إلياس "ولا أرادنا أُخِّرتا لما هو خير لنا". وقوله: أو رجل آخر، قال في الفتح، لم أقف على اسمه، ولم يقع في أكثر الروايات إلا بذكر حمزة ومصعب فقط، وكذا أخرجه أبو نعيم في مستخرجه عن منصور بن أبي مُزاحم عن إبراهيم بن سعد. قال الزين بن المنير: يستفاد من قصة عبد الرحمن إيثار الفقر على الغنى، وإيثار التخلي للعبادة على الاكتساب، فلذلك امتنع من تناول ذلك الطعام مع أنه كان صائمًا. رجاله خمسة: قد مرّوا إلا إبراهيم بن عبد الرحمن، مرَّ أحمد بن محمد أبو الوليد، وأبو محمد، في الحادي والعشرين من الوضوء، ومرَّ سعد بن إبراهيم في السابع والأربعين منه، ومرَّ ولده إبراهيم بن سعد في السادس عشر من الإيمان, ومرَّ عبد الرحمن بن عوف في السابع والخمسين من الجمعة. والباقي إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزُّهريّ، أبو إسحق، وقيل: أبو محمد، وقيل أبو عبد الله المَدَنِيّ، أمه أم كلثوم بنت عُقبة بن أبي مُعَيط. قال العجلي: تابعي ثِقة وقال يعقوب بن شيبة: كان ثقة يُعدُّ في الطبقة الأولى من التابعين. ولا نعلم أحدًا من وَلَد عبد الرحمن روى عن عمر سماعًا غيرَه. وذكره ابن حِبّان في ثقات التابعين.

وقال النَّسَائيّ: ثقة، وذكر أبو نعيم والواقديّ أنه ولد في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-. روى عن أبيه وعمر وعثمان وعليّ وغيرهم. وروى عنه ابناه سعد وصالح والزُّهري وغيرهم. مات سنة ستين، وقيل سنة خمس وتسعين، وهو ابن خمس وسبعين. وفي الحديث ذكر حمزة بن عبد المطلب، ومصعب بن عمير وها أنا أذكر تعريفهما. الأول حمزة بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي يكنى أبا عمارة، وأبا يعلى بولديه، عم النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأخوه من الرضاعة، أرضعتهما ثُوَيْبَةُ مولاة أبي لهب، كما ثبت في الصحيحين، وقريبه من أم أيضًا, لأن أم حمزة هالة بنت أهيب بن عبد مناف بن زهرة بنت عم آمنة بنت وهب بن عبد مناف، أم النبي -صلى الله عليه وسلم-. ولد قبل النبي -صلى الله عليه وسلم- بسنتين، وقيل بأربع، وأسلم في السنة الثانية من البعثة، وقيل أسلم بعد دخول النبي -صلى الله عليه وسلم- دار الأرقم في السنة السادسة من البعثة، ولازم نصر النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهاجر معه، وآخى بينه وبين زيد بن حارثة، وشهد بدرًا، وأبلى في ذلك، وقَتَل شيبةَ بن ربيعة، وشارك في قتل عُتبة بن ربيعة، أو بالعكس. وقتل طُعَيمة بن عَدي. وعَقَد له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لواءًا وأرسله في سرية إلى سِيفَ البحر، فكان أول لواء عُقِد في الإِسلام، كما قال المدائنيّ. وقال ابن إسحاق: إن ذلك كان لعُبَيدة بن الحارث، واستشهد بأُحد، وقصة قتل وحشيّ له أخرجها البخاري في الصحيح، وكان ذلك في النصف من شوال، سنة ثلاث من الهجرة، وكان ذلك بعد أن قتل بأحد أكثر من ثلاثين نفسًا. وكان يوم قتل ابن تسع وخمسين، ولقبه النبي -صلى الله عليه وسلم- أسد الله، وأسد رسوله، وسماه سيد الشهداء. وفي البخاريّ عن جابر: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في قبر، ودفن حمزة وعبد الله بن جحش في قبر واحد. وفي الغيلانيّات عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقف على حمزة حين استشهد، وقد مُثَّل به، وجعل ينظر إليه منظرًا كان أوجع قلبه منه. فقال: "رحمك الله" أي: عَمَّ، لقد كنت وَصولًا للرحم، فَعولًا للخيرات، فوالله لئن أظفرني الله بالقوم لأمثلنَّ بتسعين. قال فما برح حتى نزلت: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} الآية. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "بل نصبر، وكفّر عن يمينه". وروى أنه عليه الصلاة والسلام قال: "لولا أنْ تَجِدَ صفيةَّ لتركت دفنه حتى يحشر من بطون الطير والسباع. ولم يبق أحدٌ من أهل أُحد إلا مثل به الكفار ما عدا حنظلة بن الراهب، تركوا التمثيل به, لأن أبا عامر الراهب كان يومئذ مع أبي سفيان، وما مثلوا بأحد مثل حمزة، جَدَعَت هندٌ أنفه،

وقطعت أُذنيه، وبقرتْ بطنه، أخذت كبده، جعلت تلوكها، ثم لفظتها، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- "لو دخلت بطنها لما تدخله النار". وذكر الواقدي قال: لم تبك امرأة من الأنصار على ميت بعد قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "لكنَّ حمزة لا بواكيَ له إلى اليوم، إلا بدأت بالبكاء على حمزة"، ثم بكت على ميتها وفي فوائد أبي الطاهر عن جابر قال: استصرخنا على قتلانا بأُحد يوم حَفَر معاوية العين، فوجدناهم رطابًا، وأصاب المرّ، أي: المِسحاةُ رجلَ حمزة فطار منها الدم، ورثاه كعبُ بن مالك بقصيدة فقال: بكت عيني وحق لها بكاها ... وما يغني البكاء ولا العويلُ على أُسدِ الإِله غداةَ قالوا: ... لحَمزةُ ذاكم الرجل القتيلُ أُصيب المسلمون به جميعًا ... هناك، وقد أُصيب به الرسولُ أبا يعلى لك الأركان هُدَّتْ ... وأنت الماجد البَرُّ الوصُولُ عليك سلام ربك في جنانٍ ... يخالطها نعيمٌ لا يزول ألا يا هاشمَ الأخيار صَبرًا ... فكلّ فِعالكم حَسَنٌ جميلُ رسولُ الله مصطبرٌ كريمٌ ... بأمر الله ينطق إذ يقول ألا من مبلغٌ عني لُؤيّسًا ... فَبَعْد اليوم دائلةٌ تدول وقبل اليوم ما عرفوا وذاقوا ... وقائعنا بها يُشفى الغليلُ نسيتم ضربنا بقَليب بدرٍ ... غداةَ أتاكم الموتُ العَجيل غَداةَ ثوى أبو جهل صريعًا ... عليه الطير حائمة تجولُ وعتبةُ وابنُه خرّا جميعا ... وشيبةُ عضَّه السيفُ الصقيلُ ألا يا هندُ لا تُبدي شِماتا ... بحمزةَ إن عزكم ذليلُ ألا يا هند بكِّي لا تَمَلّي ... فأنتِ الواله العَبْرى الهَبُولُ الثاني مصعب بن عُمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد البر بن قُصَي بن كلاب العبدريّ، أحد السابقين إلى الإِسلام، يكنى أبا عبد الله، أسلم قديمًا، والنبي -صلى الله عليه وسلم- في دار الأرقم، وكتم إسلامه خوفًا من أمه وقومه، وكان يختلف إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- سرًا، فرآه عثمان بن طلحة يصلي، فأعلم أهله، فأوثقوه، فلم يزل محبوسًا إلى أن هرب مع من هاجر إلى الحبشة، ثم رجع مع من رجع إلى مكة، ثم هاجر إلى المدينة. قال ابن إسحاق: لما انصرف الناس عن العقبة، بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- معهم مُصْعَبَ بن عُمير يُقرئهم القرآن، ويفقههم في الدين، وكان يسمى القارىء والمقرىء، وهو أول من جمع الجمعة بالمدينة قبل الهجرة. قال البراء بن عازب: أول من قدم علينا المدينة من المهاجرين مصعب بن

لطائف إسناده

عمير ثم أتى عمرو بن أم كلثوم ثم أتى عمرو بن إياس وسعد بن أبي وقاص وابن مسعود وبلال ثم أتى عمر في عشرين راكبًا ثم قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر". شهد مصعب بدرًا ولم يشهدها من بني عبد الدار إلا هو وسُوَيْبِط بن حَرْمُلَة، وقتل يوم أحد، قتله ابن قَمِيئَةَ اللَّيْثِي، وهو ابن أربعين سنة، ولم تختلف أهل السير عن راية النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم بدر ويوم أحد كانت بيد مصعب بن عمير، فلما قُتل يوم أحد أخذها عليّ بن أبي طالب. وفي الصحيح أن مصعبًا لم يترك يوم أحد إلا نمرة إذا غطى بها رأسه خرجت رجلاه، إذا غطيت بها رجلاه خرج رأسه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "غطوا بها رأسه واجعلوا على رجليه من الإِذْخَر". قال الواقدي: كان مصعب بن عُمير فتى مكة شبابًا وجمالًا وسَيْبًا، وكان أبواه يحبانه، وكانت أمه تكسوه أحسن ما يكون من الثياب، وكان أعطر أهل مكة، يلبس الحضرميّ من النِّعال، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يذكره فيقول: "ما رأيت بمكة أحسن لِمّةً ولا أرقّ حُلّة ولا أنعم نعمة من مصعب بن عمير". وأخرج التِّرْمِذيُّ بسند ضعيف عن عليّ قال: رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مصعب بن عمير، فبكى للذي كان فيه من النعمة، ولما صار إليه، فإنه لما أسلم زِهِد في الدنيا وتقشَّف وتخشَّف. ونزل فيه وفي أصحابه {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، وشيخ البخاريّ والثلاثة مدنيون، وإبراهيم عن أبيه عن جده عن جد أبيه، أخرجه البخاري أيضًا في الجنائز وفي المغازي ثم قال المصنف:

باب إذا لم يوجد إلا ثوب واحد

باب إذا لم يوجد إلا ثوب واحد أي: اقتصر عليه ولا ينتظر بدفنه ارتقاب شيء آخر. الحديث السابع والثلاثون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ رضي الله عنه: أُتِيَ بِطَعَامٍ وَكَانَ صَائِمًا فَقَالَ قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي، كُفِّنَ فِي بُرْدَةٍ، إِنْ غُطِّيَ رَأْسُهُ بَدَتْ رِجْلاَهُ، وَإِنْ غُطِّيَ رِجْلاَهُ بَدَا رَأْسُهُ وَأُرَاهُ قَالَ: وَقُتِلَ حَمْزَةُ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي، ثُمَّ بُسِطَ لَنَا مِنَ الدُّنْيَا مَا بُسِطَ أَوْ قَالَ أُعْطِينَا مِنَ الدُّنْيَا مَا أُعْطِينَا وَقَدْ خَشِينَا أَنْ تَكُونَ حَسَنَاتُنَا عُجِّلَتْ لَنَا، ثُمَّ جَعَلَ يَبْكِي حَتَّى تَرَكَ الطَّعَامَ. قوله: "أُتي بطعام" في رواية نوفل بن إياس أن الطعام كان خبزًا ولحمًا، أخرجه التِّرمذي في الشمائل. قوله: وكان صائمًا، ذكر ابن عبد البَرّ أن ذلك في مرض موته، وقوله: هو خير مني، مرَّ ما فيه في الذي قبله. وقوله: ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط، يشير إلى ما فتح لهم من الفتوح والغنائم، وحصل لهم من الأموال. وكان لعبد الرحمن من ذلك الحظ الوافر. وقوله: ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام، في رواية أحمد عن شُعبة "وأحسبه لم يأكله" وزاد في هذه الرواية "إن غطى رأسه بدت رجلاه" الخ، وهو موافق لما في الرواية التي في الباب الذي يليه. وروى الحاكم في "الإِكليل" عن أنس أن حمزة أيضًا كفن كذلك. وفي قول عبد الرحمن "هو خير مني" إشارة إلى تعظيم فضل من قتل في المشاهد الفاصِلة مع النبي -صلى الله عليه وسلم-. وفي الحديث فضل الزهد وأن الفاضل في الدين ينبغي له أن يمتنع من التوسع في الدنيا، لئلا تنقص حسناته، وإلى ذلك أشار عبد الرحمن بقوله "خشينا أن تكون حسناتنا قد عُجَّلت" وقال ابن بطال: وفيه أنه ينبغي ذكر سير الصالحين، وتقللهم في الدنيا لتقل رغبته فيها. قال: وكان بُكاء عبد الرحمن شَفَقًا أنْ لا يلحق بمن تقدمه، وفيه أنه ينبغي للمرء أن يتذكر نعم الله عنده، ويعترف بالتقصير عن أداء شكرها، ويتخوف أن يُقَاصَّ بها في الآخرة، ويذهب سعيه فيها.

رجاله ستة

رجاله ستة: قد مرّوا، مرَّ محمد بن مُقاتِل في السابع من العلم، ومرَّ عبد الله بن المبارك في السادس من بدء الوحي، ومرَّ شُعبة في الثالث، ومرَّ إبراهيم بن عبد الرحمن في الذي قبله، ومرَّ فيه محل سعد وعبد الرحمن، وتعريف حمزة ومصعب ثم قال المصنف:

باب إذا لم يجد كفنا إلا ما يواري رأسه أو قدميه غطي رأسه

باب إذا لم يجد كفنًا إلا ما يواري رأسه أو قدميه غُطِّي رأسه قوله "إلا ما يواري رأسه" أي: رأسه مع بقية جسده، إلا قدميه أو العكس، كأنه قال: وما يواري جسده إلا رأسه، أو جسده إلا قدميه. وذلك بيِّنٌ من حديث الباب، حيث قال "خرجت رجلاه" ولو كان المراد أن يغطَّى رأسه فقط، دون جسده، لكان تغطية العورة أولى. الحديث الثامن والثلاثون حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا شَقِيقٌ حَدَّثَنَا خَبَّابٌ رضي الله عنه قَالَ: هَاجَرْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- نَلْتَمِسُ وَجْهَ اللَّهِ، فَوَقَعَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ، فَمِنَّا مَنْ مَاتَ لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهُوَ يَهْدِبُهَا. قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَلَمْ نَجِدْ مَا نُكَفِّنُهُ إِلاَّ بُرْدَةً إِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ خَرَجَتْ رِجْلاَهُ، وَإِذَا غَطَّيْنَا رِجْلَيْهِ خَرَجَ رَأْسُهُ، فَأَمَرَنَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ نُغَطِّيَ رَأْسَهُ، وَأَنْ نَجْعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ مِنَ الإِذْخِرِ. قوله: هاجرنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، أي: بأمره وإذنه، أو المراد بالمعية الاشتراك في حكم الهجرة، إذ لم يكن معه حبسًا إلا الصِّدِّيق وعامر بن فُهَيرة. وقوله: نلتمس وجه الله، في رواية الرِّقاق: "نبتغي وجه الله" أي: جهة ما عند الله من الثواب، لا جهة الدنيا. وقوله: فوقع أجرنا على الله، في رواية الهجرة "فوجب"، واطلاق الوجوب على الله بمعنى إيجابه على نفسه، بوعده الصادق، وإلا فلا يجب على الله شيء. وقوله: أجرُّنا، أي: إثابَتُنا وجزاؤنا. وقوله: لم يأكل من أجره شيئًا، أي: من عرض الدنيا، وهو كناية عن الغنائم التي تناولها من أدرك زمن الفتوح، وكأنّ المراد بالأجر ثمرتُه، فليس مقصورًا على أجر الآخرة. وقوله: ومنا من أينعت له ثمرته، بفتح الهمزة وسكون التحتانية وفتح النون، أي: نضجت واستحقت القطف، وفي رواية "ينعت" بغير ألف، وهي لغة. قال القزاز: وأينعت أكثر. وقوله "فهو يَهْدِبها" بفتح أوله وكسر المهملة، وضبطه النووي بضم الدال، وحكى ابن التين تثليثها. وقوله "فلم نجد ما نكفنه به" سقط لفظ "به" من رواية غير أبي ذَرٍّ. وقوله "وأن نجعل على رجليه من الإِذْخِر" بكسر الهمزة وسكون الذال المعجمة وكسر الخاء، نبت طيب الرائحة ينبت في

السهول وفي الحزون، في الحجاز وفي غيره، ويستفاد من الحديث أنه إذا لم يوجد ساترٌ البتة، أنه يغطى جميعه بالإِذْخِر، فإن لم يوجد فبما تيسر من نبات الأرض. ويأتي في كتاب الحج، وقد مرَّ في كتاب العلم قول العباس "الإِذْخِر، فإنه لبيوتنا وقبورنا" فكأنها كانت عادة استعماله في القبور. قال المهلب: وإنما استحب لهم النبيّ -صلى الله عليه وسلم- التكفين في تلك الثياب التي ليست مسابغة، لكونهم قتلوا فيها، ويحتمل أنه لم يجد لهم غيرها، وهو الموافق للترجمة، واستشكل قوله: "لم يأكل من أجره شيئًا"، مع ما تقدم من تفسير ابتغاء وجه الله. يجمع بأن إطلاق الأجر على المال في الدنيا بطريق المجاز بالنسبة لثواب الآخرة، وذلك أن القصد الأول هو ما تقدم. لكن منهم من مات قبل الفتوح، كمصعب بن عمير، ومنهم من عاش إلى أن فتح عليهم، ثم انقسموا، فمنهم من أعرض عنه وواسى به المحاويج، أولًا فأولًا، بحيث بقي على تلك الحالة الأُولى، وهم قليل، ومنهم أبو ذَرٍّ، وهؤلاء ملتحقون بالقسم الأول .. ومنهم تبسط في بعض المباح، فيما يتعلق بكثرة النساء والسراري، أو الخدم والملابس ونحو ذلك، ولم يستكثر، وهم كثير، ومنهم ابن عمر، ومنهم من زاد فاستكثر بالتجارة وغيرها مع القيام بالحقوق الواجبة والمندوبة، وهم كثير أيضًا، منهم عبد الرحمن بن عوف. وإلى هذين القسمين أشار خَبّاب، فالقسم الأول، ومن التحق به، توفر له أجره في الآخرة، والقسم الثاني مقتضى الخبر إنه يحسب عليهم ما وصل إليهم من مال الدنيا من ثوابهم في الآخرة، ويؤيده ما أخرجه مسلم عن عبد الله بن عمر، ورفعه "ما من غازية تغزو فتغنم، وتَسْلَم، إلا تعجَّلوا ثلثي أجرهم" الحديث ومن ثم آثر كثيرٌ من السلف قلة المال، وقنعوا به إما ليتوفر لهم ثوابهم في الآخرة، وإما ليكون أقل لحسابهم عليه. قال ابن بطال: في الحديث ما كان عليه السلف من الصدق في وصف أحوالهم، وفيه أن الصبر على مكابدة الفقر وصعوبته من منازل الأبرار، وفيه أن الكفن يكون ساترًا لجميع البدن، وأن الميت يصير كله عورة، ويحتمل أن يكون ذلك بطريق الكمال. قلت: قد مرَّ ما فيه من الخلاف، هل الواجب ثوب يستر أو الواجب ما يستر العورة؟ في باب الكفن في ثوبين. ثم قال ابن بطّال: ليس في حديث خَبّاب تفضيل الفقير على الغني، وإنما فيه أن هجرتهم لم تكن لدنيا يصيبونها, ولا نعمة يتعجلونها، وإنما كانت لله خالصة، لِيُثَيبهم عليها في الآخرة، فمن مات قبل فتح البلاد تَوَفّر له ثوابه، ومن بقي حتى نال من طيبات الدنيا خشي أن يكون عجل لهم أجر طاعتهم، وكانوا على نعيم الآخرة أحرص.

رجاله خمسة

رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ عمر بن حفص وأبوه في الثاني عشر من الغُسل، ومرَّ الأعمش في الخامس والعشرين من الإيمان, ومرَّ أبو وائل في الحادي والأربعين منه، ومرَّ خبّاب بن الأَرت في الخامس عَشَر من صفة الصلاة، ومصعب مرَّ في الذي قبله بحديث. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع، وبالسند كله. بالتحديث، وهو عزيز الوجود، وفيه القول، ورواته كلهم كوفيون، وفيه رواية التابعيّ عن التابعيّ، أخرجه البخاريُّ أيضًا في الهجرة وفي الرقاق وفي المغازي، ومسلم والنَّسَائيّ في الجنائز، وأبو داود في الوصايا، والتِّرمذيّ في المناقب ثم قال المصنف:

باب من استعد الكفن في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم ينكر عليه

باب من استعد الكفن في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يُنكَر عليه ضبط بفتح الكاف على البناء للمفعول، وحكى الكسر على أن فاعل الإنكار النبي -صلى الله عليه وسلم-. وحكى الزين بن المنير عن بعض الروايات، "فلم ينكره" بها بدل عليه، وإنما قيد الترجمة بذلك ليشير إلى أن الإنكار الذي وقع من الصحابة، كان على الصحابي في طلب البُردة، فلما أخبرهم بعذره لم ينكروا عليه ذلك، فيستفاد منه جواز تحصيل ما لابد للميت منه من كفن ونحوه، في حال حياته، وهل يلتحق بذلك حَفْر القبر؟ بحثٌ يأتي قريبًا عن آخر الحديث. الحديث التاسع والثلاثون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَهْلٍ رضي الله عنه أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتِ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- بِبُرْدَةٍ مَنْسُوجَةٍ فِيهَا حَاشِيَتُهَا أَتَدْرُونَ مَا الْبُرْدَةُ قَالُوا الشَّمْلَةُ. قَالَ نَعَمْ. قَالَتْ نَسَجْتُهَا بِيَدِي، فَجِئْتُ لأَكْسُوَكَهَا. فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، فَخَرَجَ إِلَيْنَا وَأَنَّهَا إِزَارُهُ، فَحَسَّنَهَا فُلاَنٌ فَقَالَ اكْسُنِيهَا، مَا أَحْسَنَهَا. قَالَ الْقَوْمُ مَا أَحْسَنْتَ، لَبِسَهَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، ثُمَّ سَأَلْتَهُ وَعَلِمْتَ أَنَّهُ لاَ يَرُدُّ. قَالَ إِنِّي وَاللَّهِ مَا سَأَلْتُهُ لأَلْبَسَهَا إِنَّمَا سَأَلْتُهُ لِتَكُونَ كَفَنِي. قَالَ سَهْلٌ فَكَانَتْ كَفَنَهُ. قوله: إن امرأة، لم تُسَمَّ. قوله: فيها حاشيتها، يعني أنها لم تقطع من ثوب فتكون بلا حاشية، وقيل حاشية الثوب هَدَبُه، فكأنه قال: إنها جديدة لم يقطع هَدَبُها, ولم تلبس بعد، وقال القزاز، حاشيتا الثوب ناحيتاه اللتان في طرفهما الهَدَب. وقوله: أتدرون، هو مَقُول سَهل بن سعد، بيَّنه أبو غسان عن أبي حازم، كما أخرجه المصنف في الأدب، ولفظه "فقال سهل للقوم: أتدرونَ ما البُردة؟ قالوا: الشَّمْلَة" وفي تفسير البردة بالشملة تجوُّزٌ, لأن البردة كساء، والشملة ما يُشْتَمَل به، فهي أعم، لكن لما كان أكثر استعمالهم بها أطلقوا عليها اسمها. والشملة، بفتح الشين وسكون الميم، وتجمع على شَمَلات كَسَجْدة وسَجَدات، وعلى شِمال، ككَلْبة وكِلاب. وقوله: فأخذها النبي -صلى الله عليه وسلم- محتاجًا إليها، كأنهم عرفوا ذلك بقرينة حال، أو تقدُّم قولٍ صريح. وقوله: فخرج إلينا وإنها إزاره، ولابن ماجه عن عبد العزيز، "فخرج إلينا فيها" وعند الطبرانيّ "فاتَّزر

بها ثم خرج" وقوله: فَحَسَّنها فلان، بمهملتين من التحسين، أي: نسبها للحُسْن، وللمصنف في اللباس "فجسها" بالجيم بغير نون، وكذا للطبرانيّ والإِسماعيليّ. وقوله: فلان، أفاد المحب الطبريّ عن الطبرانيّ أنه عبد الرحمن بن عوف. وقال في "الفتح": لم أره في المعجم الكبير، لا في مسند سهل ولا عبد الرحمن. وأخرج الطبرانيّ أيضًا أنه سعد بن أبي وقاص. وفي رواية له أيضًا عن زَمْعَة بن صالح أن السائل المذكور أعرابيٌّ، فلو لم يكن زمعة ضعيفًا، لانتفى أن يكون هو عبد الرحمن بن عوف أو سعد بن أبي وقاص، أو يقال: تعددت القصة على ما فيه من البعد، وقد يذكر محل كل واحد منهما في السند. وقوله: ما أحسنَها، بنص النون، وما للتعجب، ولابن ماجه والطبرانيّ "قال: نعم، فلما دخل طواها، وأرسلها إليه" وللمصنف في اللباس "فقال: نعم، فجلس ما شاء الله في المجلس، ثم رجع فطواها، ثم أرسل بها إليه" وقوله: قال القوم: ما أحسن، ما نافية، وقد وقعت تسمية المعاتب له من الصحابة، فعند الطبراني "قال سهل: فقلت للرجل: لم سألته وقد رأيت حاجته إليها؟ فقال؛ رأيت ما رأيتم، ولكن أردت أن أُخبئها حتى أكفن فيها". وقوله: إنه لا يرد وقع هنا بحذف المفعول، وعند ابن ماجه بلفظ "لا يرد سائلًا" وكذلك عند المصنف في البيوع، وفي رواية أبي غسان في الأدب "لا شيئًا فَيَمْنَعهُ". وقوله: ما سألته لألبسها، في رواية أبي غسان "فقال: رجوت بركتها حين لبسها النبي -صلى الله عليه وسلم-" وأفاد الطبراني في رواية زَمْعة بن صالح أن النبي -صلى الله عليه وسلم-، أمر أن يصنع له غيرها، فمات قبل أنْ تفرغ. وفي هذا الحديث من الفوائد حُسْنُ خلق النبي -صلى الله عليه وسلم-، وسعة جوده، وقبوله الهدية. واستنبط منه المُهَلَّب جواز ترك مكافأة الفقير على هديته، وليس ذلك بظاهر منه، فإن المكافأة كان عادة النبي -صلى الله عليه وسلم- مستمرة، فلابد من السكوت عنها هنا أن يكون لم يفعلها، بل ليس في سياق الحديث الجزم بكون ذلك كان هدية، فيحتمل أن تكون عرضتها عليه ليشتريها. قلت: سياق الحديث لا يفهم منه إلا الهدية، وهو الذي يعطيه لفظ "جاءت ببردة" ولم يذكر فيه بيع ولا مساومة، وفيه جواز الاعتماد على القرائن، ولو تجردت لقولهم "فأخذها محتاجًا إليها"، وفيه نظر لاحتمال أن يكون سبق لهم منه قول يدل على ذلك، كما تقدم. وفيه الترغيب في المصنوع بالنسبة إلى صانعه، إذا كان ماهرًا، ويحتمل أن تكون أرادت بنسبتها إليها إزالة ما يخشى من التدليس، وفيه جواز استحسان ما يراه الإِنسان على غيره من الملابس وغيرها، إما ليعرفه قدرها، وإما ليعرض له بطلبه منه، حيث يسوغ له ذلك. وفيه مشروعية الإِنكار عند مخالفة الأدب ظاهرًا وإن لم يبلغ المنكر درجة التحريم. وفيه التبرك بآثار الصالحين،

رجاله أربعة

وقال ابن بطّال: فيه جوز إعداد الشيء قبل وقت الحاجة إليه، وقد حفر جماعة من الصالحين قبورهم قبل الموت بأيديهم ليتمثلوا حلول الموت فيه. وتعقبه ابن المنير بأنّ ذلك لم يقع من أحد من الصحابة، ولو كان مستحبًا لكثر فيهم، وما نعقب به غير لازم, لأن ابن بطّال لم يقل إلا بالجواز، وعدم وقوعه من الصحابة لا يدل على عدم الجواز، لاسيما وقد ورد ما يدل على فضله، فقد قال عليه الصلاة والسلام: "أفضل المؤمنين إيمانًا أكثرهم للموت ذكرًا، وأحسنهم له استعدادًا" وهذا الفعل يدخل في ذكر الموت، وفي الاستعداد. وقال بعض الشافعية: ينبغي لمن استعد شيئًا من ذلك أن يجتهد في تحصيله من جهة يثق بحلها، أو من أثر من يعتقد فيه الصلاح والبركة. وفيه جواز السؤال من السلطان، وفيه دخوله عليه الصلاة والسلام في جملة المُؤْثرين على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. وفيه أنه عليه الصلاة والسلام لا يرد سائلًا. رجاله أربعة: قد مرّوا، وفيه لفظ امرأة وفلان، مبهمين. مرَّ عبد الله بن مَسْلمة في الثاني عشر من الإِيمان, ومرَّ عبد العزيز بن أبي حازم في الخامس والأربعين من استقبال القبلة، ومرَّ أبو حازم وسهل في الثامن والمئة من الوضوء. والمرأة المبهمة لم تسم، وفلان قيل: إنه عبد الرحمن بن عوف، وقد مرَّ في السابع والخمسين من الجمعة، وقيل: إنه سعد بن أبي وقّاص، وقد مرَّ في العشرين من الإيمان, وقيل إنه أعرابيٌّ لم يسم. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة. والقول، ورواته مدنيون، غير أن عبد الله سكن البصرة، وهو من رباعيات البخاريّ أخرجه ابن ماجه في اللباس. ثم قال المصنف:

باب اتباع النساء الجنائز

باب اتباع النساء الجنائز قال الزين بن المنير: فصل المصنف بين هذه الترجمة، وبين فضل اتباع الجنائز الآتي، بتراجم كثيرة تشعر بالتفرقة بين النساء والرجال، وأن الفضل الثابت في ذلك يختص بالرجال دون النساء, لأن النهي يقتضي التحريم أو الكراهة، والفضل يدل على الاستحباب، ولا يجتمعان. وأطلق الحكم هنا لما يتطرق إليه من الاحتمال، ومن ثم اختلف العلماء في ذلك، ولا يخفى أنَّ محل النزاع حيث تؤمن الفتنة. الحديث الأربعون حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ أُمِّ الْهُذَيْلِ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها قَالَتْ: نُهِينَا عَنِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا. وهذا الحديث مرَّ الكلام عليه مستوفى في باب "الطيب للمرأة عند غسلها من المحيض" من كتاب الحيض. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ قبيصة وسفيان الثَّوْرِيّ في السابع والعشرين من الإِيمان, ومرَّ خالد الحذاء في السابع عشر من العلم، ومرت أُمُّ الهُذَيل، وهي حفصة بنت سيرين، وأُم عطية في الثاني والثلاثين من الوضوء. ثم قال المصنف:

باب "إحداد المرأة على غير زوجها"

باب "إحداد المرأة على غير زوجها" قال ابن بطال: الإحداد، بالمهملة، امتناع المرأة المتوفى عنها زوجها، من الزينة كلها، من لباس وطيب وغيرهما، وكل ما كان من دواعي الجماع. وأباح الشارع للمرأة أن تحد على غير زوجها ثلاثة أيام، لما يغلب من لوعة الحزن، ويهجم من ألم الوجد، وليس ذلك واجبًا، لاتفاقهم على أن الزوج لو طالبها بالجماع لم يحل لها منعه في تلك الحال. وقوله: على غير زوجها، يعم كل ميت غير الزوج، سواء كان قريبًا أو أجنبيًا. ودلالة الحديث له ظاهرة، ولم يقيده في الترجمة بالموت, لأنه يختص به عرفًا، ولم يبيّن حكمه, لأن الخبر دلّ على عدم التحريم في الثلاث، وأقل ما يقتضيه إثبات المشروعية. الحديث الحادي والأربعون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ عَلْقَمَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: تُوُفِّيَ ابْنٌ لأُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ دَعَتْ بِصُفْرَةٍ، فَتَمَسَّحَتْ بِهِ وَقَالَتْ نُهِينَا أَنْ نُحِدَّ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثٍ إِلاَّ بِزَوْجٍ. وقوله: فلما كان يوم الثالث، كذا للأكثر، وهو من إضافة الموصوف إلى الصفة، وللمستملي اليوم الثالث، وقوله: دعت بصفرة، الصفرة في الأصل لون أصفر، والمراد هنا نوع من الطيب فيه صفرة، وقوله: نُهينا، رواه أيوب عن ابن سيرين بلفظ "أمرنا بأنْ لا نحد على هالك فوق ثلاث .. " الحديث. أخرجه عبد الرزاق. وقوله: أن نحد، بضم النون من الرباعي، وبفتحها وضم الحاء من الثلاثي، وقد مرَّ ما فيه في المحل الآتي ذكره قريبًا. وقوله: إلا بزوج، للكَشْميهنيّ إلا لزوج، باللام، وفي العدد من طريقه الأعلى "زوج"، والكل بمعنى السببية، وهذا الحديث والثلاثة بعده قد استوفي البحث عليها غاية في باب "الطيب للمرأة عند غسلها من المحيض" من كتاب الحيض، إلا بعض ما يتعلق بألفاظ الحديث، فأذكره هنا في محله.

رجاله أربعة

رجاله أربعة: قد مرّوا، مرَّ مسدد في السادس من الإيمان, ومرَّ ابن سيرين في الأربعين منه، ومرَّ بشر بن المفضل في التاسع من العلم، ومرَّ سَلَمة بن عَلْقَمة في السادس من السهو. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، ورواته بصريون. الحديث الثاني والأربعون حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ مُوسَى قَالَ أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ نَافِعٍ عَنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ أَبِي سَلَمَةَ قَالَتْ: لَمَّا جَاءَ نَعْيُ أَبِي سُفْيَانَ مِنَ الشَّأْمِ دَعَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ رضي الله عنها بِصُفْرَةٍ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، فَمَسَحَتْ عَارِضَيْهَا وَذِرَاعَيْهَا وَقَالَتْ إِنِّي كُنْتُ عَنْ هَذَا لَغَنِيَّةً، لَوْلاَ أَنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ، إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ، فَإِنَّهَا تُحِدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا. قوله: عن زينب بنت أبي سَلَمة، صرح في العدد بالإخبار بينها وبين حميد بن نافع. وقوله: نعي، بفتح النون، وسكون المهملة وبكسر المهملة، وتشديد الياء، هو الخبر بموت الشخص. وقوله: من الشام، فيه نظر, لأن أبا سفيان مات بالمدينة بلا خلاف بين أهل العلم بالأخبار، وقد رواه المصنف في العدد عن مالك وسفيان الثَّوريّ عن حميد بن نافع بلفظ "حين توفي عنها أبوها أبو سفيان بن حرب" ولم يقل فيه واحد منهما من الشام، وفي مسند ابن أبي شَيبة عن حُميد بن نافع "جاء نعي أخي أُم حبيبة، أو حميم لها، فدعت بصفرة، فلطخت به ذراعيها" وكذا رواه الدارميّ عن شعبة بلفظ "إن أخًا لأم حبيبة مات، أو حميم لها". ورواه أحمد عن شعبة بلفظ "إن حميًا لها مات" من غير تردد، وإطلاق الحميم على الأخ أقرب من إطلاقه على الأب، فقوي الظن عند هذا أن تكون القصة تعددت لزينب مع أم حبيبة عند وفاة أخيها يزيد، ثم عند وفاة أبيها أبي سفيان، لا مانع من ذلك. وقوله: بصفرة، في رواية مالك في العدد "بطيب فيه صفرة خَلُوق" وزاد فيه "فدهنت منه جاريةٌ ثم مَسَّتْ بعارضيها" أي: بعارضي نفسِها.

رجاله ستة

رجاله ستة: وفيه ذكر أبي سفيان، وقد مرّوا إلاَّ اثنين، مرَّ الحميدي وسفيان في الأول من بدء الوحي، ومرَّ أبو سفيان في السابع منه، ومرت زينب بنت أبي سلمة في السبعين من العلم، ومرت أم حبيبة في الثاني والثلاثين من استقبال القبلة. والاثنان الباقيان الأول منهما: أيوب بن موسى بن عمرو بن سعيد بن العاص الأمويّ، أبو موسى المكيّ. قال أحمد وابن مُعين والنَّسائي: ثقة، زاد أحمد: ليس به بأس، وقال ان المدينيّ: له نحو أربعين حديثًا، وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال الدارقطنيّ: أيوب هو ابن عم إسماعيل بن أميّة، ثقتان، وقال ابن عُيَينة: كان أيوب أفقههما. وقال ابن عبد البَرّ: كان ثقة حافظًا، وشذ الأَزْدِيُّ فقال: لا يقوم إسناد حديثه، ولا عبرة بقوله. روي عن نافع ومكحول وحميد بن نافع والزُّهريّ وغيرهم. وروى عنه يحيى بن سعيد، وهو من أقرانه، والسفيانان والليث وغيرهم. مات سنة اثنين وثلاثين ومئة. الثاني حميد بن نافع الأنصارييّ، أبو أفلح المَدَنيّ، مولى صفوان بن أَوْس، ويقال: ابن خالد الأنصاريّ، ويقال: مولى أبي أيّوب. قال النَّسائيّ: حميد بن نافع ثقة، ووثَّقه أبو داود، وفَرَّق ابن المدينيّ بين حميد بن نافع الذي يروي عن زينب بنت أم سَلَمة والذي يروى عن أبي أيوب وعبد الله بن عمرو، وجعلهما أبو حاتم واحدًا، ورجح البخاريّ قول ابن المَدِينيّ. روى عن أيوب وعبد الله بن عمرو وزينب بنت أم سَلَمة وغيرهم، وروى عنه أفلح وبكير بن الأَشَجّ، ويحيى بن سعيد وأيوب بن موسى وغيرهم. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإخبار بالأفراد والعنعنة والقول، والثلاثة الأول من الرواة مكيّون، والرابع مَدَني. الحديث الثالث والأربعون حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ نَافِعٍ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ قَالَتْ دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ حَبِيبَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ

رجاله خمسة

تُحِدُّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ، إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا. ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَى زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ حِينَ تُوُفِّيَ أَخُوهَا، فَدَعَتْ بِطِيبٍ فَمَسَّتْ ثُمَّ قَالَتْ مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ، غَيْرَ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ تُحِدُّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ، إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا. وقوله: ثم دخلت، هو مقول زينب بنت أم سلمة، وهو مصرح به في رواية العدد، وظاهره أن هذه القصة وقعت بعد قصة أم حبيبة، ولا يصح ذلك إلا إن قلنا بالتعدد، ويكون ذلك بعد وفاة يزيد بن أبي سفيان, لأن وفاته سنة ثمان عشرة أو تسع عشرة، ولا يصح أن يكون ذلك عند وفاة زينب بنت جحش. ماتت قبل أبي سفيان بأكثر من عشر سنين، على الصحيح عند أهل العلم، فيُحمل على أنها لم ترد ترتيب الوقائع، وإنما أرادت ترتيب الأخبار. وفي رواية أبي داود "ودخلت" وذلك لا يقتضي الترتيب، وقوله "حين توفي أخوها" قد استشكل المراد بأخي زينب, لأن إخوتها ثلاثة، إلى آخر ما ذكرنا في سند هذا الحديث. وقوله: فمست به، أي: شيئًا من جسدها. وفي رواية العدد بلفظ "فمست منه". رجاله خمسة: وفيه ذكر زينب بنت جحش، وذكر أخ لها مبهم، وقد مرَّ رجاله، مرَّ إسماعيل بن أبي أُوَيس في الخامس عشر من الإِيمان, ومرَّ مالك في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ عبد الله بن أبي بكر في الرابع والعشرين من الوضوء, ومرَّ حميد بن نافع في الذي قبله، ومرَّ فيه محل زينب بنت أبي سَلَمة، ومرت زينب بنت جحش في الحادي والثلاثين من التهجد. وأما أخو زينب الذي نُعِيَ لها، فهو مشكل, لأن إخوتها ثلاثة: عبد الله، وقد استشهد بأُحد، وزينب بنت أبي سلمة إذ ذاك صغيرة جدًا, لأن أباها مات ببدر، وتزوج النبي -صلى الله عليه وسلم- أمها، وهي ترضع، فلا تمكن روايتها في أُحد. والثاني: عُبَيد الله، وقد هاجر إلى الحبشة مع زوجته أم حبيبة، وارتد هناك وتنصر، ولا مانع من أن يكون هو المراد, لأن الإِنسان قد يحزن على قريبه الكافر، ولاسيما إذا تذكر سوء مصيره. والثالث: عَبْد، بغير إضافة، مشهور بكنيته أبي أحمد، وهذا قد جزم إبن إسحاق وغيره من أهل العلم بالإخبار بأنه مات بعد أخته زينب بسنة، وروى ابن سعد أنه حضر جنازتها مع عمر بن الخطاب.

وعبد الله قد مرَّ في تعليق بعد الخامس من العلم، والظاهر عندي بل المتعين أن يكون عبد هو المراد، كما يأتي عن بعض العلماء, لأن عبد الله غير ممكن، كما مرَّ، اللهم إلاَّ إذا قيل بقول ابن عبد البَرّ مِن أن زينب بنت أمَّ سَلَمة ولدت بأرض الحبشة، وأما الذي تنصر فقد قيل: إن تزوج النبي -صلى الله عليه وسلم- لزوجته أم حبيبة كان بعد موته بأرض الحبشة، وبعيد أيضًا أن زينبَ تحزنُ لموت كافر، فلم يبق إلا أن يكون المراد به عبد، بغير إضافة، فيحتاج إلى التعريف. فأقول: هو مشهور بكنيته أبي أحمد بن جحش الأسَدِيّ، أخو أم المؤمنين زينب، اسم عبد، بغير إضافة، اتفقوا على أنه كان من السابقين الأولين، وقيل إنه هاجر إلى الحبشة، وضُعِّف ذلك، وقال ابن إسحاق: كان أول من قدم المدينة من المهاجرين بعد أبي سَلمة عامر بن ربيعة وعبد الله بن جحش، احتمل بأهله وأخيه عبد، وكان أبو أحمد ضريرًا يطوف مكة أعلاها وأسفلها بغير قائد، وكانت عنده الفارعة بنت أبي سفيان بن حرب، وشهد بدرًا والمشاهد، وفي طوافه مكة بغير قائد يقول: حبذا مكةُ من وادِ ... بها أهلي وعُوادي بها ترسخ أوتادي ... بها أمشي بلا هاد وذكره المرزباني في معجم الشعراء وقال: أنشد النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: لقد حلفتْ على الصفا أُمُّ أحمدٍ ... ومروةَ، بالله، بَرَّتْ يمينها لنحن الأولى بها ثُمّ لَمْ نَزَلْ ... بمكةَ حتى كاد عنها سمينها إلى الله نعدو بين مثنى ومَوحد ... ودين رسول الله والحقُّ دينها وجزم ابن عبد البَرّ بأنه مات بعد أخته زينب، وكانت وفاتها سنة عشرين، فجزم ابن الأثير بأنه مات بعدها، فيه نظر. كما قال في الإصابة. أخرجه البخاريّ أيضًا في الطلاق، وكذا مسلم وأبو داود، وأخرجه التِّرْمِذِيّ في النكاح، والنَّسائيُّ فيه وفي التفسير. ثم قال المصنف:

بعبادة الأوثان، واتخاذ القبور مساجد، فلما استحكم الإِسلام وقوي في قلوب الناس، وأمِنَتْ عبادةُ القبور والصلاة إليها نُسخ النهيُ عن زيارتها, لأنها تذكر الآخرة، وتزهد في الدنيا. وعن طاوس "كانوا يستحبون أن لا ينفرقوا عن الميت سبعة أيام, لأنهم يفتنون ويحاسبون في قبورهم سبعة أيام" والحاصل أن زيارة النساء للقبور مكروهة، بل حرام في هذا الزمان، ولاسيما نساء مصر, لأن خروجهن على وجه فيه الفساد والفتنة، وإنما رخصت الزيارة لتذكر أمر الآخرة، وللاعتبار بمن مضى، وللتزهيد في الدنيا، قاله العيني. قلت: يا ليت الأمر بقي على ما كان في زمنه، فاليوم صار محل القبور هو محل الزنى والشرب وجميع الفواحش. قال القسطلاني: ولا تكره لهن زيارة قبره عليه الصلاة والسلام، بل تندب، وينبغي كما قال ابن الرّفعَة والقموليّ أن تكون سائر قبور الأنبياء والأولياء كذلك، قلت: هذا مقيد بما إذا لم يحصل في الزيارة شيء من المفاسد وإلاّ حَرُم قطعًا. وقال ابن المنير: قدم المصنف ترجمة زيارة القبور على غيرها من أحكام تشييع الجنازة وما بعد ذلك، مما يتقدم الزيارة, لأن الزيارة يتكرر وقوعها، فجعلها أصلًا ومفتاحًا لتلك الأحكام. وأشار أيضًا إلى أن مناسبةَ ترجمة زيارة القبور تناسبُ اتّباع النساء الجنائز، فكأنه أراد حصر الأحكام المتعلقة بخروج النساء متوالية. رجاله أربعة: قد مرّوا، مرَّ آدم وشعبة في الثالث من الإيمان, ومرَّ أنس في السادس منه، مرَّ ثابت البنانيّ في تعليق بعد الخامس من العلم، أخرجه البخاريّ أيضًا في الجنائز وفي الأحكام، ومسلم وأبو داود والتِّرْمذِيّ في الجنائز، والنسائيّ فيها وفي اليوم واليلة. ولم يُعرف اسم المرأة الباكية، ولا اسم صاحب القبر، ولا اسم القائل لها، وفي رواية أنس أن القائل لها الفضلُ بن ميّاس، وقد مرَّ في الثامن عشر من الجماعة. ثم قال المصنف:

باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-

باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم- يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه إذا كان النوح من سنته، لقول الله تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- "كل مسلم راعٍ ومسؤول عن رعيته" فإذا لم يكن من سنته، فهو كما قالت عائشة رضي الله عنها: ولا تزر وازرةٌ وِزر أخرى، وهو كقوله: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ} ذنوبًا {إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ} وما يرخص من البكاء في غير نوح، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- "لا تقتل نفس ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كِفْلٌ من دمها" وذلك لأنه أول من سن القتل. قوله: ببعض بكاء أهله، تقييد منه لمطلق الحديث، وحمل منه لرواية ابن عمر المطلقة على رواية ابن عباس المقيدة بالبعضية، كما ساقه في الباب عنهما، وتفسير منه للبعض المبهم في حديث ابن عباس بأنه النَّوح، ويؤيده أن المحذور بعض البكاء لا جميعه كما يأتي بيانه، وقوله: إذا كان النوح من سنته، يوهم أنه بقية الحديث المرفوع، وليس كذلك، بل هو كلام المصنف قاله تفقهًا. وبقية السياق يرشد إلى ذلك، وهذا الذي جزم به هو أحد الأقوال في تأويل الحديث المذكور، كما يأتي قريبًا إن شاء الله تعالى. واختُلف في ضبطه قوله "من سنته" فلأكثر في الوضعين بضم المهملة وتشديد النون، أي طريقته وعادته. وضبطه بعضهم بفتح المهملة بعدها موحدتان، الأُولى مفتوحة، أي: من أجله. ورجح أبو الفضل بن ناصر الأخير، وأنكر الأول وقال: أي: سُنَّة للميت؟ وقال ابن المنير: بل الأول أولى لإشعاره بالعناية بذلك، إذ لا يقال من سُنَّته إلا عند غلبة ذلك عليه، واشتهاره به، وكان البخاري أُلهم هذا الخلاف، فأشار إلى ترجيح الأول، حيث استشهد بالحديث الذي فيه, لأنه أول من سَنَّ القتل، فإنه يُثبت ما استبعده ابن ناصر بقوله: وأي سُنَّة للميت؟ وأما تعبير المصنف بالنوح، فمراده ما كان من البكاء بصياح وعويل، وما يلتحق بذلك من لطم الخد وشق الجيب، وغير ذلك من المنهيات. وقوله: لقول الله تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} وجه الاستدلال لما ذهب إليه من هذه الآية أن هذا الأمر عام في جهات الوقاية، ومن جملتها أن لا يكون الأصل مولعًا بأمر منكر لئلا يجري عليه أهله بعده، أو يكون قد عرف أن لأهله عادة بفعل أمر منكر، وأهمل نهيهم عنه، فيكون لم يق نفسه ولا أهله. وقوله: وقال -صلى الله عليه وسلم- "كل مسلم راع ومسؤول عن رعيته" هذا طرف من حديث

باب زيارة القبور

باب زيارة القبور أي: مشروعيتها، وكأنه لم يصرح بالحكم لما فيه من الخلاف الآتي قريبًا، وكأنه لم يثبت على شرطه الأحاديث المصرحة بالجواز، وقد أخرجه مسلم عن بُرَيدة، وفيه نسخ النهي عن ذلك، ولفظه "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها" زاد أبو داود والنَّسَائي عن أنس "فإنها تذكر الآخرة". وللحاكم من حديثه "وتُرِقُّ القلبَ، وتُدْمع العين، فلا تقولوا هُجْرًا" أي: كلامًا فاحشًا، وهو بضم الهاء وسكون الجيم. وله من حديث ابن مسعود "فإنها تُزَهِّد في الدُّنيا" وأخرج الحاكم عن أبي ذَرٍّ قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "زر القبور تذكر بها الآخرة". قال النووي تبعًا للعَبْدَرِيّ والحازميّ وغيرهما: اتفقوا على أن زيارة القبور جائزة، كذا أطلقوا، وفيه نظر, لأن ابن أبي شيبة وغيره روى عن ابن سيرين وإبراهيم النخعيّ والشعبيّ الكراهة مطلقًا، حتى قال الشعبيّ: لولا نهيُ النبي -صلى الله عليه وسلم- لزرتُ قبر ابنتي، فلعل من أطلق أراد بالاتفاق ما استقر عليه الأمر بعد هؤلاء، وكأن هؤلاء لم يبلغهم النسخ. ومقابل هذا قولُ ابن حزم إن زيارة القبور واجبة، ولو مرة واحدة في العمر، لورود الأمر به، واختلف في النساء، فقيل: دخلن في عموم الإذن، وهو قول الأكثر، ومحله ما إذا (أُمنت) الفتنة، ويؤيد الجواز حديث الباب، وموضع الدلالة منه أنه عليه الصلاة والسلام لم ينكر على المرأة قعودها عند القبر، وتقريره حجة. وممن حمل الإذن على عمومه للرجال النساء عائشةُ فروى الحاكم عن ابن أبي مُليكة أنها زارت قبر أخيها عبد الرحمن، فقيل لها: أليس قد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك؟ قالت: نعم، كان نهى ثم أمر بزيارتها. وقيل: الإِذن خاص بالرجال، ولا يجوز للنساء زيارة القبور، وبه جزم الشيخ أبو إسحاق في المهذب، واستدل له بحديث عبد الله بن عمرو الذي تقدمت الإشارة إليه في باب اتباع النساء الجنازةَ أنه عليه الصلاة والسلام "رأى فاطمة مقبلة .. " الخ، وبحديث "لعن الله زوَّارات القبور" أخرجه التِّرْمِذيّ، وصححه عن أبي هُريرة. وله شاهد عن ابن عباس وحسّان بن ثابت. واختلف من قال بالكراهة في حقهنّ هل هي كراهة تحريم أو تنزيه؟ قال القرطبي: هذا اللعن إنما هو للمكثرات من الزيارة، لما تقتضيه الصفة من المبالغة، ولعل السبب ما يفضي إليه ذلك من

الحديث الرابع والأربعون

تضييع حق الزوج والتبرج، وما ينشأ منهن من الصياح ونحو ذلك، فقد يقال: إذا أُمِن جميعُ ذلك فلا مانع من الإِذن, لأن تذكر الموت يحتاج إليه الرجال والنساء. وفرق قوم بين قواعد النساء وشبابهن، وبين أن ينفردنَ بالزيارة أو يخالطن الرجال، فقال القرطبيّ: أما الشَّواب فحرام عليهن الخروج، وأما القواعد فمباح لهن ذلك، وجائز ذلك لجميعهن إذا انفردنَ بالخروج عن الرجال. الحديث الرابع والأربعون حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ مَرَّ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِامْرَأَةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ فَقَالَ اتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي. قَالَتْ إِلَيْكَ عَنِّي، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي، وَلَمْ تَعْرِفْهُ. فَقِيلَ لَهَا إِنَّهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-. فَأَتَتْ بَابَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ فَقَالَتْ لَمْ أَعْرِفْكَ. فَقَالَ: إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى. هذا الحديث قد مرَّ في باب قول الرجل للمرأة عند القبر: اصبري، بهذا السند والمتن، ومرَّ الكلام هناك على ما يتعلق بمعانيه مستوفى، واستدل به هنا على جواز زيارة القبور، سواء كان الزائر رجلًا أو امرأة كما مرَّ، وسواء كان المزور مسلمًا أو كافرًا، لعدم الاستفصال في ذلك. قال النوويّ: وبالجواز قطع الجمهور، وقال صاحب الحاوي، أي الماوَرْدِيّ: لا تجوز زيارة قبر الكافر، وهو غلط، وحجة الماوردي قوله تعالى: {وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} قال في "الفتح": وفي الاستدلال بذلك نظرٌ لا يخفى. قلت: الظاهر ما قاله الماوَرْدِيّ من عدم جواز زيارة قبر الكافر، لما في زيارته من توهين عقيدة عوامّ المسلمين، وتعظيم محالّ الكفار، وتقويتهم على ضلالهم، ولأن محل قبر الكافر حفرة من حفر النار، كما في الحديث الصحيح، فكيف يؤمر بزيارة حُفر النار؟. وقد أمر عليه الصلاة والسلام بعدم دخول محالّ العذاب، وقبر الكافر من محالّ العذاب كتابًا وسنة واجماعًا. فما قاله الماورديّ متعين، واستدلاله واضح في محله. وقال ابن حبيب: لا بأس بزيارة القبور والجلوس إليها والسلام عليها عند المرور بها، وقد فعل ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وسئل مالك عن زيارة القبور فقال: "كان نهى عنه، ثم أذن فيه، فلو فعل ذلك إنسان، ولم يقل إلا خيرًا" لم أر بذلك بأسًا. وفي "التوضيح" أجمعت الأمة على زيارة قبر نبينا -صلى الله عليه وسلم-، وأبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، وكان ابن عمر إذا قدم من سفر أتى قبره المكرم فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه. ومعنى النهي عن زيارة القبور إنما كان في أول الإِسلام عند قربهم

لابن عمر تقدم موصولًا في الجمعة في باب الجمعة في القرى والمدن، ومرَّ استيفاء الكلام عليه هناك. ووجه الاستدلال به هو أن من جملة رعايته لهم أن يكون الشر من طريقته فيجري أهله عليه، أو يراهم يفعلون الشر فلا ينهاهم عنه، فيُسْأل عن ذلك ويؤاخذ. وقد تعقب استدلال البخاري بهذه الآية الحديث على ما ذهب إليه من حمل حديث الباب عليه, لأن الحديث ناطق بأن الميت يُعَذّب ببكاء أهله، والآية والحديث يقتضيان أنه يعذب بسنته، فلم يتعدَّ الموردان، والجواب أنه لا مانع في سلوك طريق الجمع من تخصيص بعض العمومات، وتقييد بعض المطلقات، فالحديث، وإن كان دالًا على تعذيب كل ميت بكل بكاء، لكن دلت أدلةٌ أُخرى على تخصيص ذلك ببعض البكاء، كما يأتي توجيهه. وتقييد ذلك بمن كانت سنته أو أهمل النهي عن ذلك، فالمعنى على هذا أنَّ من يعذب ببكاء أهله من كان راضيًا بذلك، بأن تكون تلك طريقته الخ، ولذلك قال المصنف: فإذا لم يكن من سنته، أي: كمن كان لا شعور عنده، بأنهم يفعلون شيئًا من ذلك، أو أدى ما عليه، بأن نهاهم، فهذا لا مؤاخذة عليه بفعل غيره، ومن ثم قال ابن المبارك: إذا كان ينهاهم في حياته، ففعلوا شيئًا من ذلك بعد وفاته، لم يكن عليه شيء. وقوله: فهو كما قالت عائشة، أي: كما استدلت عائشة بقوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أي: ولا تحمل حاملة ذنبًا ذنب أُخرى عنها، وهذا حمل منه لانكار عائشة على أنها أنكرت عموم التعذيب لكل ميت بُكي عليه. وأما قوله: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ} ففي رواية أبي ذَرٍّ وحدَه "وإن تدع مثقلة ذنوبًا إلى حملها" وليست "ذنوبًا" في التلاوة، وإنما هو تفسير مجاهد، فنقله المصنف عنه، وموقع التشبيه في قوله: إن الجملة الأولى دلت على أن النفس المذنبة لا يؤاخذ غيرها بذنبها، فكذلك الثانية دلت على أن النفس المذنبة لا يحمل عنها غيرها شيئًا من ذنوبها, ولو طلبت ذلك ودعت إليه، ومحل ذلك كله إنما هو في حق من لم يكن له في شيء من ذلك تسبُّبٌ، وإلا فهو يشاركه، كما في قوله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} وقوله -صلى الله عليه وسلم- "فإنْ توليتَ فإنما عليك إثم الإِرِّيْسِيين". وقوله: وما يرخص من البكاء في غير نوح، هذا معطوف على أول الترجمة، أي: باب قول النبي الخ، وباب ما يرخص من البكاء، وكأنه أشار إلى حديث أبي مسعود الأنصاريّ وقُرَظَةَ كعب قالا: رخص لنا في البكاء عند المصيبة في غير نوح، أخرجه ابن أبي شيبة والطبرانيّ، وصححه الحاكم، لكن ليس إسناده على شرط البخاريّ، فاكتفى بالإشارة إليه، واستغنى عنه بأحاديث الباب الدالة على مقتضاة. وقوله: وقال النبيّ -صلى الله عليه وسلم- "لا تقتلُ نفس ظلمًا .. " الحديث، وهذا طرف من حديثٍ لابن مسعود، وصله المصنف في الدِّيات وغيرها، ووجه الاستدلال به أن القاتل المذكور يشارك من صنع

الحديث الخامس والأربعون

صنيعه، لكونه فتح له الباب، ونهج له الطريق، فكذلك من كانت طريقته النوح على الميت، يكون قد نهج تلك الطريق، فيؤاخذ على فعله الأول وحاصل ما بحثه المصنف في هذه الترجمة أن الشخص لا يعذَّب بفعل غيره إلا إذا كان له فيه تسبب، فمن أثبت تعذيب شخص بفعل غيره فمراده هذا، ومن نفاه فمراده ما إذا لم يكن له فيه تسبب أصلًا. وقد اعترض بعضهم على استدلال البخاريّ بهذا الحديث, لأن ظاهره أن الوِزر يختص بالبادىء دون من أتى بعده، فعلى هذا يختص التعذيب بأول من سن النوح على الموتى، والجواب أنه ليس في الحديث ما ينفي الإِثم عن غير البادىء، فيستدل على ذلك بدليل آخر، وإنما أراد المصنف بهذا الحديث الرد على من يقول إن الإِنسان لا يعذب إلا بذنب باشره بقوله أو فعله، فأراد أن يبين أنه قد يعذب بفعل غيره، إذا كان له فيه تسبب. الحديث الخامس والأربعون حَدَّثَنَا عَبْدَانُ وَمُحَمَّدٌ قَالاَ أَخْبَرَنَا عَاصِمُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ رضي الله عنهما قَالَ: أَرْسَلَتِ ابْنَةُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- إِلَيْهِ إِنَّ ابْنًا لِي قُبِضَ فَائْتِنَا. فَأَرْسَلَ يُقْرِىءُ السَّلاَمَ وَيَقُولُ إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى وَكُلٌّ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى، فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ. فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ تُقْسِمُ عَلَيْهِ لَيَأْتِيَنَّهَا، فَقَامَ وَمَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَرِجَالٌ، فَرُفِعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الصَّبِيُّ وَنَفْسُهُ تَتَقَعْقَعُ قَالَ حَسِبْتُهُ أَنَّهُ قَالَ كَأَنَّهَا شَنٌّ. فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ. فَقَالَ سَعْدٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذَا فَقَالَ هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ. قوله: عن أبي عثمان، في رواية شعبة في أواخر الطب عن عاصم "سمعت أبا عثمان". وقوله: أرسلتْ بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، هي زينب كما في رواية أبي معاوية عن عاصم المذكور في مصنف ابن أبي شيبة. وقوله: إن ابنًا لي، هو عليّ بن أبي العاص، على أنها زينب، وقيل: مُحسن بن عليّ على أنها فاطمة البَتول، كما في مسند البزّار، ويأتي في السند تعريف عليّ ومُحسن. قال في "الفتح": والصواب أن المرسِلة زينب، وأن الولد صبية، كما ثبت في مسند أحمد بلفظ "أُتي النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بأمامةَ بنت زينب" زاد ابن سعد "ونفسها تَقَعْقَعُ كأنها في شَنٍّ" ولا يرد على هذا ما ثبت بالاتفاق أن أمامة عاشت بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتزوجها علي بن أبي طالب بعد وفاة فاطمة، وعاشت عنده حتى قتل عنها, لأنه يجاب عنه بأن المراد بقوله في حديث الباب: إن ابنًا لي قُبض، أي: قارب أن يُقْبَض، ويدل على ذلك أن في رواية حماد "أرسلت تدعوه إلى ابنها في الموت".

وفي رواية شعبة "إن ابنتي قد حُضِرت" وهو عند أبي داود من طريقه "إنَّ ابني أو ابنتي" والصواب، كما مرَّ، قول من قال ابنتي، لا ابني، فقد روى الطبرانيّ في "الكبير" عن عبد الرحمن بن عوف قال: استُعِزَّ بأُمامةَ بنت أبي العاص، فبعثت زينب بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليه، فذكر الحديث. وفيه مراجعة سعد في البكاء وغير ذلك. وقوله في هذه الرواية "استُعِز" بضم المثناة وكسر المهملة وتشديد الزاي، أي: اشتد بها المرض، وأشرفت على الموت، والذي يظهر أن الله تعالى أكرم نبيه عليه الصلاة والسلام، لمّا سلم لأمر ربه، وصبر ابنته ولم يملك مع ذلك عينيه من الرحمة والشفقة، بأنْ عافى الله ابن ابنته في ذلك الوقت، فخلصت من تلك الشدة، وعاشت تلك المدة، وهذا ينبغي أن يُذكر في دلائل النبوءة. وقوله: يُقرىء السلام، بضم أوله، وقوله: إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، قدم ذكر الأخذ على الإعطاء، وإن كان متأخرًا في الواقع، لما يقتضيه المقام، والمعنى أن الذي أراد الله أن يأخذه هو الذي كان أعطاه، فإن أخذه أخذ ما هو له، فلا ينبغي الجَزَع, لأن مستودَع الأمانة لا ينبغي له أن يجزعَ إذا استعيدت منه. ويحتمل أن يكون المراد بالإِعطاء إعطاء الحياة لمن بقي بعد الميت، أو ثوابهم على المصيبة، أو ما هو أعم من ذلك، "وما" في الموضعين مصدرية، ويحتمل أن تكون موصولة، والعائد محذوف، فعلى الأول التقديرُ: لله الأخذ والإعطاء، وعلى الثاني: لله الذي أخذه من الأولاد، وله ما أعطى منهم، أو ما هو أعم من ذلك كما مرَّ. وقوله: وكلٌّ عنده بأجل، أي: كل من الأخذ والإعطاء، أو من الأنفس أو ما هو أعم من ذلك، وهي جملة ابتدائية معطوفة على الجملة المؤكدة، ويجوز في كلٍّ النصبُ عطفًا على اسم "إنّ"، فينسحب التأكيد أيضًا عليه، ومعنى العِندية العلم، فهو من مجاز الملازمة. والأجل يطلق على الحد الأخير، وعلى مجموع العمر. وقوله: مُسَمّى، أي: معلوم مقدر، أو نحو ذلك. وقوله: ولتَحْتَسب، أي: تنوي بصبرها طلب الثواب من ربها, ليحسب لها ذلك من عملها الصالح. وقوله: فأرسلت إليه تقسم، في حديث عبد الرحمن بن عوف "أنها راجعته مرتين، وأنه إنما قام في ثالث مرة"، وكأنها أَلَحَّتْ عليه في ذلك دفعًا لما يظنه بعض أهل الجهل ناقصة المكانة عنده، أو ألهمها الله تعالى أنَّ حضور نبيه عندها يدفع عنها ما هي فيه من الألم، ببركة دعائه وحضوره، فحقق الله ظنها. والظاهر أنه امتنع أولًا، مبالغةً في إظهار التسليم لربه، أو ليبيّن الجواز في أن مَن دُعِي لمثل ذلك لم تجب عليه الإِجابة، بخلاف الوليمة.

وقوله: فقام ومعه، في رواية حماد: فقام وقام معه رجال، وقد سُمّي منهم غير من ذكر في هذه الرواية عبادةُ بن الصامت، وهو في رواية عبد الواحد في أوائل التوحيد، وفي رواية شُعبة أن أسامة راوي الحديث كان معهم. وفي رواية عبد الرحمن بن عوف أنه كان معهم. وفي رواية شُعبة في الإِيمان والنُّذور "وأبي أو أبي" كذا فيه بالشك، هل بفتح الهمزة وكسر الموحدة وتخفيف الياء، أو بضم الهمزة وفتح الموحدة والتشديد، فعلى الأول يكون معهم زيد بن حارثة أيضًا. لكن الثاني أرجح, لأنه ثبت في رواية هذا الباب بلفظ "وأُبيّ بن كعب" والظاهر أن الشك فيه من شُعبة, لأن ذلك لم يقع في رواية غيره. وقوله "فرفع" أي: بالراء، وفي رواية حماد "فدفع" بالدال، وبيّن في رواية شُعبة أنه وضع في حجره -صلى الله عليه وسلم-، وفي هذا السياق حذف، والتقدير: فمشوا إلى أن وصلوا إلى بيتها، فاستأذنوا، فأُذن لهم، فدخلوا، فرفع. ووقع بعض هذا المحذوف في رواية عبد الواحد، ولفظه "فلما دخلنا، ناولوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصبيّ". وقوله: ونفسه تتقعقع، قال: حسبت أنه قال: كأنها سِنّ، كذا في هذه الرواية, وجزم بذلك في رواية حماد ولفظه "ونفسه تقعقع كأنَّها في شَنٍّ، والقعقعة حكاية صوت الشيء اليابس إذا حرك، والشَّنُّ، بفتح المعجمة وتشديد النون، القربةُ الخَلِقَةُ اليابسة. وعلى الرواية الثانية شبه البدن بالجلد اليابس الخلق، وحركة الروح فيه. بما يطرح في الجلد من حصاة ونحوها، وأما الرواية الأولى فكأنه شبه النَّفْس بنَفْس الجلد، وهو أبلغ في الإِشارة إلى شدة الضعف، وذلك أظهر في التشبيه. وقوله: ففاضت عيناه، أي: النبي -صلى الله عليه وسلم-، وصرح به في رواية شُعبة. وقوله: فقال سعد، أي: ابن عُبادة المذكور. وصرح به في رواية عبد الواحد. وفي ابن ماجه عن عبد الواحد "فقال عُبادة بن الصامت" والصواب ما في الصحيح. وقوله: ما هذا، في رواية عبد الواحد "فقال سعد بن عُبادة، أتبكي؟ " زاد أبو نعيم في "المستخرج" وتنهى عن البكاء. وقوله: فقال هذه رحمة، أي: الدمعة أثر رحمة، أي: أنّ الذي يَفيض من الدمع من حُزن القلب بغير تَعمد من صاحبه، ولا استدعاء، لا مؤاخذةَ عليه فيه، إنما المنهيُّ عنه الجزع وعدم الصبر. وقوله: وإنما يرحم الله من عباده الرحماء، في رواية شُعبة في أواخر الطب "ولا يرحم الله من عباده إلا الرحماء" ومن، في قوله "من عباده" بيانيةٌ، وهي حال من المفعول قدمه، فيكون أوقع, والرحماء جمع رحيم، وهو من صيغ المبالغة، ومقتضاه أن رحمة الله تختص بمن اتصف بالرحمة،

رجاله ستة

وتحقق بها، بخلاف من فيه أدنى رحمة، لكن ثبت في حديث عبد الله بن عمرو عند أبي داود وغيره "الراحمون يرحمهم الرحمن" والراحمون جمع راحم، فيدخل فيه كل من فيه أدنى رحمة. وذكر الحربيّ مناسبة الإِتيان بلفظ الرحماء في حديث الباب بما حاصله أن لفظ الجلالة دال على العظمة، وقد عرف بالاستقراء أنه حيث ورد يكون مسوقًا للتعظيم، فلما ذكر هنا ناسب ذكر من كثرت رحمته وعظمته، ليكون الكلام جاريًا على نسق التعظيم بخلاف الحديث الآخر، فإن لفظ الرحمن دال على العفو، فناسب أن يذكر معه كل ذي رحمة، وإنْ قلّت. وفي هذا الحديث من الفوائد، غير ما تقدم، جوازُ استحضار ذوي الفضل للمحتضر، لرجاء بركتهم ودعائهم، وجواز القسم عليهم لذلك، وجواز المشي إلى التعزية، والعيادة بغير إذن، بخلاف الوليمة، وجواز إطلاق اللفظ الموهم لما لم يقع بأنه يقع مبالغة في ذلك، لينبعث خاطر المسؤول في المجني للإِجابة إلى ذلك. وفيه استحباب إبرار القسم وأمر صاحبة المصيبة بالصبر قبل وقوع الموت، ليقع وهو مستشعر بالرضا، مقاومًا للحزن بالصبر، وإخبار من يستدعى بالأمر الذي يستدعى من أجله، وتقديم السلام على الكلام، وعيادة المريض ولو كان مفضولًا أو صبيًا صغيرًا. وفيه أن أهل الفضل لا ينبغي أن يقطعوا الناس عن فضلهم، ولو ردوا أول مرة، واستفهام التابع أمامه عما يشكل عليه، مما يتعارض ظاهره، وحسن الأدب في السؤال، لتقديمه قوله "يا رسول الله" على الاستفهام. وفيه الترغيب في الشفقة على خَلْق الله والرحمة لهم، والترهيب من قساوة القلب وجمود العين، وجوازُ البكاء من غير نَوْح ونحوه. رجاله ستة: قد مرّوا، وفيه ذكر ابنة للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وابن لها مبهمين، وذكر سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأُبَيّ بن كعب وزيد بن ثابت، ولفظ رجال مبهمين. مرَّ عبدان وعبد الله بن المبارك في السادس من بدء الوحي، ومرَّ محمد بن مقاتِل في التاسع من العلم، ومرَّ عاصم الأحول في الخامس والثلاثين من الوضوء، ومرَّ أسامة بن زيد في الخامس منه، ومرَّ أبو عثمان النَّهديّ في الخامس من مواقيت الصلاة، ومرَّ معاذ بن جبل في الأثر الثاني من الإيمان, ومرَّ أُبَيّ بن كعب في السادس عشر من العلم، ومرَّ زيد بن ثابت في تعليق بعد الثاني والعشرين من كتاب الصلاة.

والابنة المذكورة قيل إنها زينب، والابن قيل هو علي بن أبي العاص بن الربيع، وقيل: الصواب ابنة وأنها أمامة بنت أبى العاص، هذا على أن البنت زينب، وقيل: أن البنت فاطمة الزهراء، وأن الابن ولدها مُحْسِن بن عليّ بن أبي طالب. وها أنا اذكر من مرَّ، وأعَرِّف من لم يمر. مرت زينب في الثاني والثلاثين من الوضوء، ومرت فاطمة الزهراء في الخامس والمئة منه، ومرت أُمامة بنت أبي العاص بن الربيع في التاسع والمئة من استقبال القبلة. والباقي اثنان الأول: علي بن أبي العاص بن الربيع بن عبد العُزّى بن عبد شمس بن أمية القرشيّ العبشميّ، سبطُ النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، أمه زينب عليها السلام، استُرضع في بني غاضرة، فافتصله النبي -صلى الله عليه وسلم- منهم، وأبو العاص مشرك بمكة، وقال: من شاركني في شيء فأنا أحق به منه. قال الزبير: توفي عليّ بن أبي العاص وقد ناهز الحُلم، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- أردفه على راحلته يوم الفتح. وقال ابن منده: توفي وهو غلام، في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-. وقال ابن عساكر: ذكر بعض أهل العلم بالنسب أنه قتل يوم اليرموك. والثاني محسّن، بتشديد السين، ابن عليّ بن أبي طالب، سبط النبي -صلى الله عليه وسلم- ففي مسند أحمد عن علي قال: لما ولد الحَسَن سميته حربًا، فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: أروني ابني ما سميتوه؟ قلنا: حربًا، قال: بل هو حسن. فلما ولد الحُسين، فذكر مثله، وقاله: بل هو حُسين، فلما ولد الثالث قال مثله، وقال: بل هو مُحَسِّن، ثم قال. "سميئهم بأسماء ولد هارون شَبَر وشُبَير ومُشَبَّر" إسناده صحيح. والرجال المبهمون، ذكر منهم في غير هذه الرواية, عبادةُ بن الصامت وعبد الرحمن بن عوف وأسامة بن زيد راوي الحديث، وقيل: فيهم أبوه زيد بن حارثة، وهؤلاء قد مرّوا، مرَّ عبادة بن الصامت في الحادي عشر من الإِيمان, ومرَّ عبد الرحمن في السابع والخمسين من الجمعة، وأسامة مرَّ محله في رجال السند ومرَّ أبوه زيد بن حارثة في التاسع من كتاب الجنائز هذا، فلم يبق من جميع من ذكر في هذا الحديث إلا سعد بن عبادة. وها أنا أذكر تعريفه فأقول: هو سَعْد بن عُبادة بن دُليم بن حارثة بن حَرام بن خُزيمة بن ثَعْلبة بن طَريف بن الخَزْرج بن سَاعدة بن كعب بن الخزرج، الأنصاريّ، سيد الخزرج، يكنى أبا ثابت، وأبا قيس، وأمه عمرة بنت مسعود، لها صحبة، وماتت في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، شهد سعدٌ العقبة، وكان أحد النقباء. واختلف في شهوده بدرًا، فأثبته البخاريّ، وقال ابن سعد: كان يتهيّأ للخروج فنهس، فأقام، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لقد كان حريصًا عليها" وكان يكتب بالعربية، ويُحسن العَوْم والرمي، فكان يقال له الكامل. مشهورًا بالجود هو وأبوه وجده وولده. يقال: لم يكن في العرب أربعة مطعمُون يتوالون

في بيت واحد إلا قيس بن سعد بن عبادة بن دُليم، وقيل: كان ذلك في صَفوان بن أمية، وأخرج ابن عبد البَرّ بسنده عن نافع قال: مرَّ ابن عمر على أُطُمِ سعد فقال لي: يا نافع، هذا أُطُمُ جوادٍ، لقد كان مناديه ينادي يومًا في كل حول: من أراد الشحم واللحم فليأتِ دارَ دُليم. فمات دُليم فنادى منادي عُبادة مثل ذلك، ثم مات عبادة، فنادى منادي سعد بمثل ذلك، ثم قد رأيت قيس بن سعد يفعل مثل ذلك. وكان جدهم دُليم يهدي إلى مناةَ، صنم، كل عام عشر بُدْن، ثم كان عبادة يهديها كذلك إلى أن أسلم، ثم أهداها قيس إلى الكعبة، وكانت حفنة سعد تدور مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في بيوت أزواجه. وروى ابن أبي الدنيا، كان أهل الصُّفَّة إذا أمسوا انطلق الرجل بالواحد، والرجل بالاثنين، والرجل بالجماعة، وأما سعد فكان ينطلق بثمانين. وكان سعد يقول: "اللهمَّ هب لي مجدًا، ولا مجد إلا بِفعال، ولا فِعال إلا بمال، اللهم إنه لا يصلحني القليل، ولا أصلح عليه". وروى أحمد عن قيس بن سعد قال: زارنا النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في منزلنا، فقال: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته" ثم رفع يديه، وقال: "اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة". وروى أبو يعلى عن جابر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "جزى الله الأنصار خيرًا، لاسيما عبد الله بن عمرو بن حرام وسعد بن عبادة" وكان قيس بن سعد مع أبي عُبيدة وعمر في غزوة، فقالا له: عزمنا عليك أن لا تنحر، فلم يلتفت إلى ذلك، ونحر فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: إنه من بيت جُود. وروى مَقْسَم عن ابن عباس قال: كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- في المواطن كلها رايتان: مع عليّ راية المهاجرين، ومع سعد بن عبادة راية الأنصار، وفي سعد بن عبادة وسعد بن معاذ جاء الخبر المأثور "أن قريشًا سمعوا صائحًا يصيح ليلًا على أبي قُبَيس: فإن يسلمِ السَّعدانِ يصبحْ محمدٌ ... بمكةَ لا يخشى خلافَ المُخالف فظنت قريش أنهما سعد بن زيد مناة بن تميم، وسعد بن هُذَيم بن قضاعة، فسمعوا الليلة الثانية صوتًا على أبي قُبيس: أيا سعدُ سعدَ الأوسِ قد كنت ناصرًا ... وسعدُ سعدَ الخزرجينَ العَظارفِ أجيبا إلى داعي الهُدى وَتَمَنَّيا ... على الله في فردوس مُنْيَةَ عارفِ فإنَّ ثوابَ الله في طالب الهدى ... جِنانٌ من الفردوس ذاتُ رفارفِ وقد استشارهما النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الخندق، لما أراد عُيينة بن حِصن أن يعطيه ثلث تمر المدينة، وينصرف بمن معه من غطفان، ويخذل أهل الأحزاب، فقالا: يا رسول الله، إنْ كنت أُمرتَ بشيء

فافعله، وإنْ كان غير ذلك فوالله لا نعطيهم إلا السيف، ووالله ما أكلوا منها تمرة بذلك في الجاهلية، فكيف اليوم وقد هدانا الله بك، وأكرمنا وأيّد؟ فوالله لا نعطيهم إلا السيف، فَسُر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقولهما، وقال لهما: "إنما هو رأي أعرضه عليكم" وأرسل إلى عُيينة بن حِصن: "ليس بيننا وبينكم إلا السيف"، ورفع بها صوته. وكانت راية رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يوم الفتح، بيد سعد بن عبادة، فمر بأُبيّ، فقال سعد إذ نظر إليه: اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل فيه الحرمة، اليوم أذل الله فيه قريشًا، فلما أقبل عليه رسول الله ناداه: يا رسول الله، أمرت بقتل قومك، فإن سعدًا زعم حين مرَّ بنا، هو ومن معه، أنه قاتلُنا، وقال: اليوم يوم الملحمة .. الخ، وإني أنشدك الله في قومك، وأنت أبر الناس وأرحمهم وأوصلهم. وقال عثمان وعبد الرحمن بن عوف: يا رسول الله ما نأمن سعدًا أنْ تكون له صولة في قريش، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا أبا سفيان: اليوم يوم المرحمة، اليوم أعز الله فيه قريشًا، وأنشده ضرار بن الخطاب قصيدته: يا نبيّ الهُدى إليك لجى جـ ... ـثى قريش، ولات حين لحاءِ إلى أن قال: إنّ سعدًا يريد قاصمة الظهر ... بأهل الحَجون والبطحاءِ فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بنزعها منه، وجعلها في يد ولده قيس، ورأى أنها لم تخرج منه، إذ صارت لابنه. وقصته في تخلفه عن بيعة أبي بكر مشهورة، وخرج إلى الشام، ومات بحوران سنة خمس عشرة، وقيل سنة ست عشرة، وقبره ببُصرى، وقيل قبره بالنيحة، قرية بدمشق بالغوطة، وقيل إنه مات في خلافة أبي بكر سنة إحدى عشرة، ولم يختلفوا أنه وُجد ميتًا في مغتسله، وقد اخضر جسده، ولم يشعروا بموته حتى سمعوا قائلًا يقول، ولا يرون أحدًا: قد قتلنا سيد الخز ... رج سعد بن عباده رميناه بسهميـ ... ـن فلم نخط فؤاده ويقال إن الجن قتلته. له أحاديث، روى عنه بنوه قيس وسعيد وإسحاق، وروى عنه ابن عباس وأمامة بن سهل.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإفراد والإخبار بالجمع والعنعنة والقول، والثلاثة الأول من الرواة مروزيون، والباقيان بصريان، أخرجه البخاريّ أيضًا في الطب والنذور والتوحيد، ومسلم في الجنائز، وكذا أبو داود، والنَّسائي وابن ماجه. الحديث السادس والأربعون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ هِلاَلِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ شَهِدْنَا بِنْتًا لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- جَالِسٌ عَلَى الْقَبْرِ قَالَ فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ قَالَ فَقَالَ هَلْ مِنْكُمْ رَجُلٌ لَمْ يُقَارِفِ اللَّيْلَةَ. فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ أَنَا. قَالَ فَانْزِلْ. قَالَ فَنَزَلَ فِي قَبْرِهَا. قوله: عن هلال، في رواية محمد بن سنان الآتية بعد أبواب "حدثنا هلال". وقوله: شهدنا بنتًا، هي أم كلثوم زوج عثمان، رواه الواقديّ، وأخرجه ابن سعد في الطبقات في ترجمة أم كلثوم، وكذا الدولابيّ في الذرية الطاهرة، وكذلك رواه الطبريّ والطحاويّ من هذا الوجه، ورواه حمّاد بن سَلَمة عن ثابت عن أنس، فسماها رُقية ماتت، والنبي -صلى الله عليه وسلم- ببدر لم يشهدها، ووهم حماد في تسميتها، ويؤيد الأول ما رواه ابن سعد أيضًا في ترجمة أم كلثوم عن عَمرة بنت عبد الرحمن، قالت: نزل في حفرتها أبو طلحة، وأغرب الكرمانيّ فقال: هذه البنت كانت لبعض بنات النبي -صلى الله عليه وسلم-، فنسبت إليه، وكأنه ظن أن الميتة في حديث أنس هي المحتضرة في حديث أسامة، وليس كذلك، لما بيناه. وقوله: لم يقارف، أي بقاف وفاء، زاد ابن المبارك عن فُليح "أراه يعني الذنب" كما يأتي عند المصنف في باب "من يدخل القبر المرأة" تعليقًا، ووصله الإِسماعيليّ، وكذا شريح بن النعمان عن فليح، أخرجه أحمد عنه، وقيل: معناه لم يجامع تلك الليلة، وبه جزم ابن حزم، وقال: معاذ الله أن يتبجح أبو طلحة عند النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنه لم يذنب تلك الليلة، ويقويه أن في رواية ثابت المذكورة بلفظ "لا يدخل القبر أحد قارف أهله البارحة، فتنحّى عثمان". وحكي عن الطحاويّ أنه قال: لم يقارف، تصحيف، والصواب لم يقاول، أي ينازع غيره الكلام, لأنهم كانوا يكرهون الحديث بعد العشاء. وتعقب بأنه تغليط للثقة بغير مستند، وكأنه استبعد أن يقع لعثمان ذلك، لحرصه على مراعاة الخاطر الشريف، ويجاب عنه باحتمال أن يكون

مرض المرأة طال، واحتاج عثمان إلى الوقاع، ولم يظن عثمان أنها تموت تلك الليلة. وليس في الخبر ما يقتضي أنه واقع بعد موتها، بل ولا حين احتضارها. وفي هذا الحديث جواز البكاء، كما ترجم له، وإدخال الرجال المرأة قبرها, لكونهم أقوى على ذلك من النساء، وإيثار البعيد العهد عن المَلاَذّ في مواراة الميت، ولو كان امرأة على الأب والزوج، وقيل، إنما آثره بذلك لكونها كانت صنعته، وفيه نظر، فإن ظاهر السياق أنه عليه الصلاة والسلام اختاره، لكونه لم يقع منه في تلك الليلة جماع، وعلل ذلك بعضهم بأنه حينئذ يأمن من أنْ يذكره الشيطان بما كان منه تلك الليلة. وحكى عن ابن حبيب أن السر في إيثار أبي طلحة على عثمان، أن عثمان كان قد جامع بعض جواريه تلك الليلة، فتلطف -صلى الله عليه وسلم- في منعه من قبر زوجته من غير تصريح. وفي رواية حمّاد المذكورة "فلم يدخل عثمان القبر". قلت: في هذا الحديث إشكال، ولم أر مَن نَبّه عليه من شروح المؤلف، وهو أن أبا طلحة أجنبيّ عن أم كلثوم، فكيف يسوغ له إدخالها في قبرها، وأبوها عليه الصلاة والسلام حاضر، وزوجها حاضر؟ وإذا كان جامع في تلك الليلة هل يكون جماعه مبيحًا مَسَّ الأجنبيّ للأجنبية؟ ولم أر له جوابًا اللهم إلا أنْ يقال إن لمس الأجنبية، من فوق الحائل الكثيف، جائز، ولم أر من نص عليه من الأئمة، إلا أنَّ في رواية عند أبي داود وعبد الرزاق وسعيد بن منصور، أنه عليه الصلاة والسلام، بايع النساء وعلى يده بُرد، وهذا يدل على الجواز من فوق ثوب، لكن الحمل أشد من اللمس، وأما التعليل بكونه صنعته، فليس فيه جواب، لإمكان تعليمه للمحارم من غير أن يباشر هو، والتعليل ببعده عن الملاذ، لئلا يذكّره الشيطان .. الخ، كأن الأَوْلى في التعليل عكسُه, لأن قريب العهد بقضاء شهوته آمنُ فتنةٌ من البعيد العهد عنها، كما هو مقرر، لا يمكن الخلف فيه. وقد تذاكرت قديمًا أنا وأحد أشياخي في إشكال هذا الحديث. وفي الحديث جواز الجلوس على شفير القبر عند الدفن، واستدل به على جواز البكاء بعد الموت، وحكى ابن قُدامة في المغني عن الشافعي أنه يكره لحديث جَبْر بن عَتيك في الموطأ، فإن فيه "فإذا وجب فلا تَبْكِيَنَّ باكية" يعني إذا مات، وهو محمول على الأولوية، والمراد: لا ترفع صوتها بالبكاء. ويمكن أن يفرق بين الرجال والنساء في ذلك, لأن النساء قد يفضي بهن البكاء إلى ما يحذر من النوح، لقلة صبرهن، واستدل به بعضهم على جواز الجلوس عليه مطلقًا، وسيأتي استيفاء الكلام عليه في باب "الجريدة على القبر" إن شاء الله تعالى. وفيه فضيلة لعثمان لإِيثاره الصدق،

رجاله خمسة

وإن كان عليه فيه غضاضة. رجاله خمسة: وفيه ذكر بنت للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وهي أم كلثوم، وذكر أبي طلحة، وقد مرَّ الجميع، مرَّ عبد الله المسنديّ وأبو عامر العَقْديّ في الثاني من الإيمان, ومرَّ أنس في السادس منه، ومرَّ فليح وهلال في الأول من العلم، ومرت أم كلثوم في الثاني والثلاثين من الوضوء، ومرَّ أبو طلحة في السادس والثلاثين منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، ورواته بخاريٌّ وبصريٌّ ومدنيان، أخرجه البخاريّ أيضًا في الجنائز، والتِّرمذيّ في الشمائل. الحديث السابع والأربعون حَدَّثَنَا عَبْدَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ تُوُفِّيَتِ ابْنَةٌ لِعُثْمَانَ رضي الله عنه بِمَكَّةَ وَجِئْنَا لِنَشْهَدَهَا، وَحَضَرَهَا ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم وَإِنِّي لَجَالِسٌ بَيْنَهُمَا أَوْ قَالَ جَلَسْتُ إِلَى أَحَدِهِمَا. ثُمَّ جَاءَ الآخَرُ، فَجَلَسَ إِلَى جَنْبِي فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمَرَ رضي الله عنهما لِعَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ أَلاَ تَنْهَى عَنِ الْبُكَاءِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَدْ كَانَ عُمَرُ رضي الله عنه يَقُولُ بَعْضَ ذَلِكَ، ثُمَّ حَدَّثَ قَالَ صَدَرْتُ مَعَ عُمَرَ رضي الله عنه مِنْ مَكَّةَ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ، إِذَا هُوَ بِرَكْبٍ تَحْتَ ظِلِّ سَمُرَةٍ فَقَالَ اذْهَبْ، فَانْظُرْ مَنْ هَؤُلاَءِ الرَّكْبُ قَالَ فَنَظَرْتُ فَإِذَا صُهَيْبٌ، فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ ادْعُهُ لِي. فَرَجَعْتُ إِلَى صُهَيْبٍ فَقُلْتُ ارْتَحِلْ فَالْحَقْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَلَمَّا أُصِيبَ عُمَرُ دَخَلَ صُهَيْبٌ يَبْكِي يَقُولُ وَاأَخَاهُ، وَاصَاحِبَاهُ. فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه يَا صُهَيْبُ أَتَبْكِى عَلَيَّ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ رضي الله عنه ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ رضي الله عنها فَقَالَتْ رَحِمَ اللَّهُ عُمَرَ، وَاللَّهِ مَا حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِنَّ اللَّهَ لَيُعَذِّبُ الْمُؤْمِنَ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ. وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَيَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ. وَقَالَتْ حَسْبُكُمُ الْقُرْآنُ {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ

وِزْرَ أُخْرَى}. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عِنْدَ ذَلِكَ وَاللَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى. قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ وَاللَّهِ مَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما شَيْئًا. قوله: بنت لعثمان، هي أم أبَان، كما يأتي قريبًا في رواية أيوب، وقوله: وإني لجالس بينهما، أو جلست بينهما، هذا شك من ابن جُريج، ولمسلم عن أيوب عن ابن أبي مُليكة قال: كنت جالسًا إلى جنب ابن عمر، ونحن ننتظر جنازة أم أبان بنت عثمان، وعنده عمرو بن عثمان، فجاء ابن عباس يقوده قائده، فأراه أخبره بمكان ابن عمر، فجاء حتى جلس إلى جنبي، فكنت بينهما، فإذا صوتٌ من الدار. وفي رواية عمرو بن دينار عن ابن أبي مليكة عند الحميديّ "فبكى النساء" فظهر السبب في قول ابن عمر لعمرو بن عثمان ما قال. والظاهر أن المكان الذي جلس فيه ابن عباس كان أوفق له من الجلوس بجنب ابن عمر، أو اختار أن لا يقيم ابن أبي مليكة من مكانه، ويجلس فيه للنهي عن ذلك. وقوله: فلما أصيب عمر، يعني بالقتل، وأفاد أيوب في روايته أن ذلك عقب الحجة المذكورة، ولفظه "فلما قدمنا لم يلبث عمر أن أصيب" وفي رواية عمرو بن دينار "لم يلبث أنْ طُعن" وقوله: قال ابن عباس "فلما مات عمر .. الخ"، هذا صريح في أن رواية ابن عباس عن عائشة عنها، ورواية مسلم توهم أنه من رواية ابن أبي مليكة عنها، والقصة كانت بعد موت عائشة، لقوله فيها "فجاء ابن عباس يقوده قائده" فإنه إنما عمي في آخر عمره، ويؤيد كون ابن أبي مليكة لم يحمله عنها، أن عند مسلم في أواخر القصة قال ابن أبي مليكة؛ وحدثني القاسم بن محمد، قال: لما بلغ عائشة قول ابن عمر قالت: إنكم لتحدثون عن غير كذا بين ولا مكذوبين، ولكن السمع يخطىء، وهذا يدل على أن ابن عمر كان قد حدث به مرارًا، وسيأتي في الحديث الذي بعده أنه حدث بذلك لما مات رافع بن خديج. وقوله: ولكنْ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بسكون نون لكنْ، ويجوز تشديدها. وقوله: حسْبكم القرآن، أي: بسكون السين المهملة، أي: كافيكم القرآن في تأييد ما ذهبت إليه من رد الخبر، وقد مرَّ تقرير استدلالها بالآية في أول الباب. وقوله: قال ابن عباس عند ذلك، أي: عند انهاء حديثه عن عائشة، والله هو أضحك وأبكى أي أنّ العبرة لا يملكها ابن آدم، ولا تسبب له فيها، فكيف يعاقب عليها فضلًا عن الميت؟ وقال الداودي: معناه أن الله تعالى أذِنَ في الجميل من البكاء، فلا يعذب على ما أذن فيه، وقال الطيبيّ: غرضه تقرير قول عائشةَ، أي: أن بكاء الإنسان وضحكه من الله، يظهره فيه، فلا أثر

له في ذلك. وقوله: ما قال ابن عمر شيئًا، قال الطيبيُّ وغيره: ظهرت لابن عمر الحجة، فسكت مذعنًا، وقال ابن المنير: سكوته لا يدل على الإذعان، فلعله كره المجادلة في ذلك المقام. وقال القرطبيّ: ليس سكوته لشكٍ طرأ له بعدما صرح برفع الحديث، ولكن احتمل عنده أن يكون الحديث قابلًا للتأويل، ولم يتعين له محمل يحمله عليه إذ ذاك، أو كان المجلس لا يقبل المماراة، ولم تتعين الحاجة إلى ذلك حينئذ، ويحتمل أن يكون ابن عمر فهم من استشهاد ابن عباس بالآية قبولَ روايته, لأنها يمكن أن يتمسك بها في أن لله أن يعذب بلا ذنب، فيكون بكاء الحي علامة لذلك، قاله الكرمانيّ. قال الخطابيّ: الرواية إذا ثبتت لم يكن في دفعها سبيل بالظن، وقد رواه عمر وابنه، وليس فيما حكت عائشة ما يرفع روايتهما، لجواز أن يكون الخبران صحِيحيْن معًا، ولا منافاة بينهما. وقال القرطبيّ: إنكار عائشة ذلك وحكمها على الراوي بالتخطئة أو النسيان، أو على أنه سمع بعضًا ولم يسمع بعضًا، بعيدٌ لأن الرواة لهذا المعنى من الصحابة كثيرون، وهم جازمون، فلا وجه للنفي مع إمكان حمله على محمل صحيح، وقد جمع كثير من أهل العلم بين حديثي عمر وعائشة بضروب من الجمع. أولها طريقة البخاريّ المتقدم توجيهها. ثانيها، وهو أخص من الذي قبله، ما إذا أوصى أهله بذلك، وبه قال المُزَنيّ وإبراهيم الحربيّ وآخرون من الشافعية، وكذا هو مشهور مذهب مالك، وكذا "يعذب بتركه الوصية بتركه مع علمه بامتثالهم لأمره. وقال أبو الليث السَّمَرْقَنْديّ: أنه قول عامة أهل العلم، وكذا نقله النوويّ عن الجمهور، قالوا: وكان معروفًا للقدماء، حتى قال طَرَفَة بن العبد: إذا مِتُّ فانعيني بما أنا أهله ... وشُقِّي عليَّ الجيبَ يا ابنة مَعْبَدِ واعترض بأن التعذيب بسبب الوصية يستحق بمجرد صدور الوصية، والحديث دال على أنه إنما يقع عند وقوع الامتثال، والجواب أنه ليس في السياق حصر، فلا يلزم من وقوعه عند الامتثال أن لا يقع إذا لم يمتثلوا مثلًا. ثالثها يقع ذلك أيضًا بمن أهمل نهي أهله عن ذلك، وهو قول داود وطائفة، وهو قول مالك كما مرَّ، ولا يخفى أن محله ما لم إذا لم يتحقق أنه ليست لهم بذلك عادة، ولا أظن أنهم يفعلون ذلك، قال ابن المرابط: إذا علم المرء بما جاء في النهي عن النوح، وعرف أن أهله من شأنهم يفعلون ذلك، ولم يعلمهم بتحريمه، ولا زجرهم عن تعاطيه، فإذا عذب على ذلك عذب بفعل نفسه، لا

بفعل غيره بمجرده. رابعها معنى قوله: يعذب ببكاء أهله، أي: بنظير ما يبكيه أهله به، وذلك أن الأفعال التي يعددون بها عليه، غالبًا تكون من الأمور المنهية، فهم يمدحونه بها، وهو يعذب بصنيعه ذلك، وهو عين ما يمدحونه به، وهذا اختيار ابن حزم وطائفة، واستدل له بحديث ابن عمر الآتي بعد عشرة أبواب، في قصة إبراهيم بن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفيه "ولكن يعذب بهذا" وأشار إلى لسانه. قال ابن حزم: فصح أن البكاء الذي يعذب به الإنسان ما كان منه باللسان إذ يندبونه برياسته التي جار فيها، وشجاعته التي صرفها في غير طاعة الله، وجوده الذي لم يضعه في الحق، فأهله يبكون عليه بهذه المفاخر، وهو يعذب بذلك. وقال الإسماعيليّ: كثر كلام العلماء في هذه المسألة، وقال كل مجتهد على حسب ما قدر له، ومن أحسن ما حضرني وجه لم أرهم ذكروه، وهو أنهم كانوا في الجاهلية يغبِّرون ويسبُّون ويقتلون، وكان أحدهم إذا مات بكته باكيته بتلك الأفعال المحرمة، فمعنى الخبر أن الميت يعذب بذلك الذي يبكي عليه أهله به, لأن الميت يندب بأحسن أفعاله، وكانت محاسن أفعالهم ما ذكر، وهي زيادة ذنب في ذنوبه يستحق العذاب عليها. قلت: ما قاله الإسماعيلي هو ما قبله، ليس بزائد عليه شيئًا. خامسها معنى التعذيب توبيخ الملائكة بما يندبه أهله به، كما روى أحمد عن أبي موسى مرفوعًا "الميت يعذب ببكاء الحي إذا قالت النائحة: واعضداه، واناصراه، واكاسياه، جُبِذ الميت وقيل له: أنت عضدها، أنت ناصرها، أنت كاسيها؟ " ورواه ابن ماجه بلفظ "يتعتع به، ويقال: أنت كذلك" ورواه التِّرمذيّ بلفظ "ما منهم ميت يموت، فتقوم نادبته فتقول: واجبلاه، واناصراه، أو شبه ذلك من القول، إلا وكل به ملكان يَلْهَذَانه: أهكذا كنت؟ ". وشاهده ما رواه المصنف في المغازي عن النعمان بن بشير، قال: أغمي على عبد الله بن رواحة فجعلت أمه تبكي وتقول: واجبلاه، واكذا، فقال حين أفاق: ما قلت شيئًا إلا قيل لي: أنت كذلك؟ سادسها معنى التعذيب تألم الميت بما يقع من أهله من النياحة وغيرها، وهذا اختيار أبي جعفر الطبريّ من المتقدمين، ورجحه ابن المرابط وعِياض ومن تبعه، وجماعة من المتأخرين، واستشهدوا له بحديث قَيْلة بنت مَخْرمة، وهي بفتح القاف وسكون التحتانية، وأبوها بفتح الميم وسكون المعجمة، ثقفية. قلت: "يا رسول الله، قد ولدته فقاتل معك يوم الرَّبْذَة"، ثم أصابته الحمى فمات، ونزل عليّ البكاء، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- "أيغلب أحدكم أن يصاحب صويحبه في الدنيا معروفًا، وإذا مات استرجع، فوالذي نفسُ محمد بيده، إن أحدكم ليبكي، فيستعبر إليه صُويحبه،

فيا عباد الله، لا تعذبوا موتاكم" وهذا طرف من حديث طويل، حسن الإسناد، وأخرجه ابن خَيْثمة وابن أبي شيبة والطبرانيّ وغيرهم. وأخرج أبو داود والترمذيّ أطرافًا منه. قال الطبريّ: ويؤيده ما قاله أبو هريرة، أن أعمال العباد تعرض على أقربائهم من موتاهم، ثم ساقه بإسناد صحيح، وشاهده حديث النعمان بن بشير مرفوعًا، أخرجه البخاري في تاريخه، وصححه الحاكم. قال ابن المرابط: حديث قَيْلة نصٌّ في المسألة، فلا يعدل عنه، واعترضه ابن رشيد بأنه ليس نصًا في المسألة، وإنما هو محتمل، فإن قوله "فيستعبر إليه صويحبه" ليس نصًا في أن المراد به الميت، بل يحتمل أن يراد به صاحبه الحي، وأن الميت يعذب حينئذ ببكاء الجماعة عليه. ويحتمل أن يجمع بين هذه التوجيهات، فينزل على اختلاف الأشخاص بأن يقال مثلًا: من كان طريقته النوح، فمشى أهله على طريقته، أو بالغ فأوصاهم بذلك، عذب بصنيعه، ومن كان ظالمًا فندب بأفعاله الجائرة عذب بما ندب به، ومن كان يعرف من أهله النياحة فأهمل نهيهم عنها، فإن كان راضيًا بذلك التحق بالأول، وإن كان غير راضٍ عُذّب بالتوبيخ كيف أهمل النهي، ومن سلم من ذلك كله واحتاط فنهى أهله عن المعصية ثم خالفوه وفعلوا ذلك، كان تعذيبه تألمه بما يراه منهم من مخالفة أمره، وإقدامهم على معصية ربهم. وحكى الكرمانيّ تفصيلًا آخر وحسّنه، وهو التفرقة بين حال البرزخ وحال يوم القيامة، فيحمل قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} على يوم القيامة، وهذا الحديث وما اشبهه على البرزخ، ويؤيد ذلك أن مثل ذلك، يقع في الدنيا، والإِشارة إليه بقوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} فإنها دالة على جواز وقوع التعذيب على الإنسان بما ليس له فيه تسبب، فكذلك يمكن أن يكون الحال في البرزخ بخلاف يوم القيامة. قلت: هذا نحو ما مرَّ عنه في تأويل سكوت ابن عمر عن ابن عباس. سابعها أن بعضهم حمل تعذيب الميت بالبكاء عليه على ظاهره، وهو بيِّنٌ من قصة عمر مع صهيب المذكورة في هذا الحديث، ويحتمل أن يكون عمر كان يرى أن المؤاخذة تقع على الميت إذا كان قادرًا على النهيّ، ولم يقع منه، فلذلك بادر إلى صهيب، وكذلك نهى حفصة، كما رواه مسلم عن ابن عمر عنه. وممن أخذ بظاهره ابن عمرو، فروى عبد الرزاق أنه حضر جنازة رافع بن خَديج، فقال لأهله: إن رافعًا شيخ كبير لا طاقة له بالعذاب، وإن الميت يعذب ببكاء أهله عليه. ويقابل قول هؤلاء قول من رد هذا الحديث، وعارضه بقوله تعالى {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}. وممن روى عنه الإنكار مطلقًا أبو هريرة، كما روى أبو يعلى عن بكر بن عبد الله المُزَنيّ قال:

رجاله سبعة

قال أبو هريرة: والله لئن انطلق رجل مجاهد في سبيل الله فاستشهد، فعمدت امرأة سفهًا وجهلًا فبكت عليه، لا يعذبنَّ هذا الشهيد بذنب هذه السفيهة، وإلى هذا جنح جماعة من الشافعية منهم أبو حامد وغيره. ومنهم من أوَّل قوله "ببكاء أهله عليه" على أن الباء للحال، أي: أن مبدأ عذاب الميت يقع عند بكاء أهله عليه، وذلك أن شدة بكائهم غالبًا إنما تقع عند دفنه، وفي تلك الحالة يسأل ويُبتدأ به عذاب القبر، فكأنّ معنى الحديث أن الميت يُعذب حالة بكاء أهله عليه، ولا يلزم من ذلك أن يكون بكاؤهم سببًا لتعذيبه. حكاه الخطابيّ، وفيه تكلّف، ولعل قائله إِنما أخذه من قوله عائشة "إِنما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لَيُعَذب بمعصيته أو بذنبه، وإن أهله ليبكون عليه الآن" أخرجه مسلم عنها. وعلى هذا يكون خاصًا ببعض الموتى، ومنهم من أوَّله على أنّ الراوي سمع بعض الحديث، ولم يسمع بعضه، وأن اللام في الميت لمعهود معين، كما جزم به القاضي أبو بكر الباقلانيّ وغيره، وحجتهم ما يأتي قريبًا في رواية عمرة عن عائشة، بعد هذا الحديث، وقد رواه مسلم من هذا الوجه، وزاد في أوله ذكر لعائشة أن ابن عمر يقول إِن الميت ليعذب ببكاء الحي، فقالت عائشة: يغفر الله لأبي عبد الرحمن، أمَا إنَّه لم يكذب، ولكنه نسي أو أخطأ، إنما مرَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على يهودية فذكرت الحديث، وقد مرَّ ما اعترض به القرطبيّ على هذا القول. ومنهم من أوَّله على أن ذلك مختص بالكافر، وأن المؤمن لا يعذب بذنب غيره أصلًا، وهو بيِّن من رواية ابن عباس عن عائشة في هذا الحديث، وهذه التأويلات عن عائشة متخالفة، وفيه إِشعار بأنها لم ترد الحديث بحديث آخر، بل بما استشعرته من معارضة القرآن. قال الداودي: رواية ابن عباس عن عائشة بيَّنت ما نفته عَمرة وعُروة عنها، إلا أنها خصته بالكافر لأنها أثبتت أن الميت يزداد عذابًا ببكاء أهله، فأي فرقٍ بين أن يزداد بفعل غيره أو يعذب ابتداءًا؟ رجاله سبعة: قد مرّوا، وفيه ذكر صُهيب وبنت لعثمان، وذكر ولده عمرو، مرَّ عبدان وعبد الله بن المبارك في السادس من بدء الوحي، ومرَّ ابن عباس في الخامس منه، ومرَّ عمر في الأول منه، ومرَّ ابن جُريج في الثالث من الحيض، ومرَّ ابن أبي مليكة في تعليق بعد الأربعين من الإيمان, ومرَّ ابن عمر في أوله قبل ذكر حديث منه. والباقي عن التعريف ثلاثة، الأولى أم أبان بنت عثمان بن عفان، وليس لها ذكر في كتب الرجال.

الثاني أخوها عمرو بن عثمان بن عفان الأمويّ، قيل: يكنى أبا عثمان، ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى، وقال: كان ثقة وله أحاديث. وقال العجليّ مدنيّ ثقة من كبار التابعين، وقال الزبير بن بكّار: كان أكبر ولد عثمان الذين أعقبوا، وذكر أن معاوية زوّجه، لما ولي الخلافة، ابنته رَمْلة. وذكره ابن حِبان في الثقات. روى عن أبيه وأسامة بن زيد، وعنه ابنه عبد الله وعلي بن الحسين وسعيد بن المسيب وغيرهم. الثالث صُهيب بن سِنان بن مالك، ويقال سِنان بن خالد بن عمرو بن عقيل، ويقال: عمرو بن طُفيل بن عامر بن جَنْدلة بن سعد بن جُذَيم بن كعب بن سعد بن أَسْلَم بن أوْس بن زيد مناة بن النَّمِر بن قاسط النِّمريّ، أبو يحيى، وأمه من بين مالك بن عمرو بن تميم، وهو الروميّ، قيل له ذلك، لأن الروم سَبُوه صغيرًا، وكان أبوه وعمه على الأَبُلَّة من جهة كسرى، وكانت منازلهم على دجلة من جهة الموصل، فأغارت الروم على تلك الناحية فسبت صُهيبًا، وهو غلام صغير، فنشأ بالروم فصار ألْكَن، فابتاعه رجل من كَلْب، فباعه بمكة، فاشتراه عبد الله بن جدعان التيميّ، فأعتقه. ويقال، بل هرب من الروم، فقدم مكة، فحالف عبد الله بن جدعان، وكان هرب بمال كثير، وكانت أخته أمية تَنْشُده في المواسم، وعماه لبيد وزُحَر. كان أحمد شديد الحمرة تشوبها صُهُوبة، كثير شعر الرأس، يخضب بالحناء، كان اسمه عُميرة أو عبد الملك، فسماه الروم صُهيبًا أسلم هو وعمّار ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- في دار الأرقم، وكان من المستضعفين ممن عُذّب في الله. هاجر إلى المدينة مع عليّ بن أبي طالب في آخر من هاجر في تلك السنة، فقدما في نصف ربيع الأول شهد بدرًا والمشاهد بعدها، وروى ابن عديّ أنه قال: صحبت النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يُبعث، وروى الحُميديّ والطبرانيّ من طريق للستة عنه، أنه قال: لم يشهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مشهدًا قطٌّ إلاّ كنتُ حاضره، ولم يبايع بيعةً قطُّ إلا كنت حاضرها, ولم يَسْر سَرية قطُّ إلاَّ كنتُ حاضَرها, ولا غزا غزوة إلا كنت فيها، عن يمينه أو شماله، وما خافوا أمامهم قطَ إلاَ كنت أمامهم، ولا ما وراءهم إلا كنت وراءهم، وما جعلت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيني وبين العدوّ حتى توفي. وأخرج ابن عبد البر بسنده عن سعيد بن المسيب قال: لما هاجر صهيب تبعه نفر من المشركين، فانتثر ما في كنانته، وقال: يا معشر قريش، تعلمون أني من أرماكم، ووالله لا تصلون إليّ حتى أرميكم بكل سهم معي، ثم أضربكم بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، فإن كنتم تريدون مالي دللتكم عليه، فرضوا، فعاهدهم ودلهم عليه، فرجعوا فأخذوا ماله، فلما جاء إلى النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "ربح البيع"، فأنزل الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ}. وروى ابن عَديّ والطبرانيّ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "السابق أربعة: أنا سابق العرب، وصهيب

الحديث الثامن والأربعون

سابق الروم، وبلال سابق الحبشة، وسلمان سابق فارس" وروي عن مجاهد "أول من أظهر إسلامه سبعة" فذكره، وروى ابن سعد قال: كان عمار بن ياسر يعذَّب حتى لا يدري ما يقول، وكذا صهيب وأبو قائد وعامر بن فُهَيرة وقوم، فأنزل الله فيهم {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} وروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحب صهيبًا حب الوالدة لولدها". وأخرج البَغَويّ وابن عبد البَرّ بسنده عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: خرجت مع عمر حتى دخل على صهيبٍ حائطًا له بالعالية، فلما رآه صُهيب قال: يا ناس، يا ناس، قال عمر: ما له، لا أبا له، يدعو الناس؟ فقلت: إنما يدعو غلامًا له يدعى نَخِيس، فقال له: يا صهيب، ما فيك شيء أعيبه، إلاَّ ثلاث خِصال، لولاهنّ ما قَدَّمت عليك أحدًا، أراك تنسب عربيًا ولسانك عجميّ، وتتكنى بأبي يحيى اسم نبي، وتبذل مالك. قال: أما تبذيري مالي فما انفقه إلا في حق، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "خياركم من أطعم الطعام وبذل السلام" وأما اكتنائي بأبي يحيى، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كنّاني بذلك، أفأتركها لك؟ وأما انتمائي إلى العرب فإنّ الروم سبتني صغيرًا فأخذتُ لسانهم، وأنا رجل من النمر بن قاسط، لو انغلقت عني رَوْثة لانتسبت إليها. وأخرج ابن عبد البَرّ أن أبا سفيان مرَّ على صُهيب وبلال وسلمان فقالوا: ما أخذت السيوف من عنق عدو الله مأخذها، فقال لهم أبو بكر: تقولون هذا لشيخ قريش وسيدها؟ ثم أتى النبيّ -صلى الله عليه وسلم- فأخبره بالذي قالوا، فقال: "يا أبا بكر لعلك أغضبتهم، فوالذي نفسي بيده لَئِن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك"، فرجع إليهم وقال: يا إخواني، لعلي أغضبتكم، قالوا: لا أبا بكر، يغفر الله لك. قال ابن عبد البرّ: كان صُهيب مع فضله وورعه حسن الخُلُق، مداعبًا، روينا عنه قال: جئتُ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- وهو نازل بقُباء، وبين أيديهم رُطَب وتمر، وأنا أرمد، فأكلتُ، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أتأكل التمر على عينك؟ فقلت: يا رسول الله، آكل في شق عيني الصحيحة, فضحك النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى بدت نواجذه". وروى البخاريّ في تاريخه أن عمر أوصى أن يصلي عليه صُهيب، وأن يصلي بالناس إلى أن يجتمع المسلمون على إمام، له أحاديث، انفرد له البخاريُّ بحديث، ومسلم بثلاثة، روى عنه أولاده حبيب وحمزة وسعد، وصالح بن عمر وجابر، مات في شوال سنة ثمان وثلاثين، وقيل سنة تسع، بالمدينة، وصلى عليه سعد، ودفن بالبقيع. والحديث أخرجه مسلم والنَّسائيّ في الجنائز. الحديث الثامن والأربعون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمْرَةَ

رجاله ستة

بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَتْ: إِنَّمَا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى يَهُودِيَّةٍ يَبْكِي عَلَيْهَا أَهْلُهَا فَقَالَ نَّهُمْ لَيَبْكُونَ عَلَيْهَا، وَإِنَّهَا لَتُعَذَّبُ فِي قَبْرِهَا. قوله إنما مرَّ، كذا أخرجه عن مالك مختصرًا، وهو في الموطأ بلفظ "ذكر لها أن عبد الله بن عمر يقول: إن الميت يعذب ببكاء الحي عليه، فقالت عائشة: يغفر الله لأبي عبد الرحمن، أنّه لم يكذب، ولكنه نسى أو أخطأ، إنما مرَّ" وكذا أخرجه مسلم، وأخرجه أبو عُوانة عن عبد الله بن أبي بكر كذلك، وزاد أن ابن عمر لما مات رافع بن خَديج قال لهم: لا تبكوا عليه فإن بكاء الحيّ على الميت عذابٌ على الميت. قالت عمرة: فسألتُ عائشة عن ذلك، فقالت: يرحمه الله، إنما مرَّ، فذكرت الحديث. وقد مرَّ في الحديث الذي قبله جواب القرطبيّ عما قالته عائشة في هذا الحديث. رجاله ستة: قد مرّوا، مرَّ عبد الله بن يوسف ومالك وعائشة في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ أبو بكر في تعليق بعد الأربعين من العلم، ومرَّ ولده عبد الله في الرابع والعشرين من الوضوء، ومرت عَمرة بنت عبد الرحمن في الثاني والثلاثين من الحيض. والحديث أخرجه مسلم. الحديث التاسع والأربعون حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ خَلِيلٍ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ وَهْوَ الشَّيْبَانِيُّ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ لَمَّا أُصِيبَ عُمَرُ رضي الله عنه جَعَلَ صُهَيْبٌ يَقُولُ وَاأَخَاهُ. فَقَالَ عُمَرُ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ. قوله: واأخاه، أخرجه مسلم بأتم من هذا السياق، وفيه قول عمر: علامَ تبكي؟ وقوله: لَيُعذب ببكاء الحيّ، الظاهر أن الحي من يقابل الميت، وهل للحي مفهوم حتى أنه لا يعذب ببكاء غير الحيّ؟ وهل يتصور البكاء من غير الحي؟ ويكون احتراز بالحي عن الجمادات، لقوله تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} فمفهومه أن السماء والأرض يقع منهما البكاء على غيرهم، وعلى هذا فيكون هذا بكاءًا على الميت، ولا عذاب عليه بسببه اجماعًا. وقد روى ابن مَرْدوَيَه في تفسيره عن يزيد الرَّقاشِيّ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من مؤمن إلا له بابان في السماء، باب يخرج منه رزقه، وباب يدخل فيه كلامه. وعمله، فإذا مات فقداه وبكيا عليه،

وتلا هذه الآية {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ}. وأما تصور البكاء من الميت فقد ورد في حديثٍ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ أحدكم إذا بكى استعْبَر له صُوَيحبه" والمراد بصويحبه الميت، ومعنى استعبر، إما على بابه، للطلب، بمعنى طلب نزول العَبرات، وإما بمعنى نزلت العبرات. وباب الاستفعال يَرِد على غير بابه. ويحتمل أن يكون المراد بالحيّ القبيلة، وتكون اللام فيه بدل الضمير، والتقدير: يعذب ببكاء حيّه، أي: قبيلته، فيوافق قوله في الرواية الأخرى "ببكاء أهله". وفي هذه الرواية "ببكاء الحي" وفي رواية مسلم المذكورة "من يبكى عليه يعذب" ولفظها أَتَمّ، وفيه دلالة على أن الحكم ليس خاصًا بأهله، فقوله في الرواية الماضية "ببكاء أهله" خرج مخرج الغالب الشائع، إذ المعروف أنه إنما يبكي على الميت أهلُه، فيكون الحكم عامًا، سواءًا كان من أهله أم لا, لأن الظاهر جَرَيان حكم العموم، وأنه لا يختص ذلك بأهله، بناء على قول من ذهب إلى أن الميت يعذب بالبكاء عليه، وإنما كان الحكم عامًا، ولم يحمل المطلق على المقيد, لأنه لا فرق في الحكم، عند القائلين بعذاب الميت بالبكاء، بين أن يكون الباكي عليه من أهله أو من غيرهم، بدليل النائحة التي ليست من أهل الميت، وما ورد في عموم النائحة من العذاب، بل أهله أعذر في البكاء عليه، لقوله عليه الصلاة والسلام، في حديث أبي هريرة عند النَّسَائي وابن ماجه قال: مات ميت في آل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, فاجتمع النساء يبكين عليه، فقام عمر ينهاهنَّ ويطردهنَّ، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "دعْهُنَّ يا عمر، فإن العين دامعةً والقلب مُصاب، والعهد قريب". فهذا التعليل الذي رخص لأجله في البكاء خاص بأهل الميت، وفي حديث مسلم المار دلالة علي أن الحكم ليس خاصًا بالكافر، وعلى أن صهيبًا أحد من سمع هذا الحديث من النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكأنّه نسيه حتى ذكَّره عمر به، وزاد فيه عبد الملك بن عمير عن أبي بُردة: فذكرت ذلك لموسى بن طلحة، فقال: كانت عائشة تقول: إنما كان أولئك اليهود. أخرجه مسلم. قال الزين بن المنير: أنكر عمر على صُهيب بكاءه لرفع صوته، بقوله: واأخاه، ففهم منه أن إظهاره لذلك قبل موت عمر، يشعر باستصحابه ذلك بعد موته، أو زيادته فابتدره بالإنكار لذلك. وقال ابن بطّال: إنْ قيل كيف نهى صهيبًا عنه وأقر نساء بني المغيرة على البكاء على خالد، كما يأتي في الباب الذي يليه؟ فالجواب أنه خشي أن يكون رفعه لصوته من باب ما نهى عنه، ولهذا قال في قصة خالد "ما لم يكن نقْعٌ أو لَقْلَقة". وفي حديث ابن عمر هنا "الميت يعذب ببكاء أهله عليه" وفي بعض طرقه في مصنف ابن أبي شَيبة "من نِيْحَ عليه فإنه يعذب بما نيح عليه يوم القيامة"، فالأُولى عامة في البكاء، والثانية خاصة

رجاله خمسة

في النياحة، فتكون الرواية المطلقة محمولة على المقيدة بالنوح، ويؤيده إجماع العلماء على حمل ذلك على البكاء بنوح، وليس المراد مجرد دمع العين، ويدل على ذلك قوله في الرواية الأخرى "إن الميت ليعذب ببعض بكاء أهله عليه" فقيّده ببعض البكاء، فحمل على ما فيه نياحة، جمعًا بين الأحاديث كما مرَّ عن البخاري. ويدل على عدم إرادة العموم بكاء عمر بن الخطاب، وهو راوي الحديث بحضرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكذلك بكاء ابنه عبد الله، وهما راويا الحديث، وذلك فيما رواه ابن أبي شَيبة في مصنفه عن عائشة، قالت: حضره رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأبو بكر وعمر، تعني: سعد بن مُعاذ، فوالذي نفس محمد بيده إني لأعرف بكاء عمر من بكاء أبي بكر، وإني لفي حجرتي. وروى ابن أبي شَيبة أيضًا عن عثمان قال: أتيت بنعي النعمان بن مُقْرن، فوضع يده على رأسه، جعل يبكي. وروي أيضًا عن نافع قال: كان ابن عمر في السوق، فنعي له حُجْر، فأطلق حَبْوَته، وقام وعليه النحيب. رجاله خمسة: وفيه ذكر عمر وصهيب، وقد مرَّ الجميع، مرَّ إسماعيل وأبو إسحاق الشيبانيّ في السابع من الحيض، ومرَّ عليّ بن مسهر في الرابع والمئة من استقبال القبلة، ومرَّ أبو بُردة وأبوه أبو موسى في الرابع من الإيمان, ومرَّ عمر في الأول من بدء الوحي، وصهيب في الذي قبله. لطائف إسناده: فيه التحديث والإخبار بالجمع والعنعنة والقول، ورواته كلهم كوفيون، أخرجه مسلم في الجنائز. ثم قال المصنف:

باب ما يكره من النياحة على الميت

باب ما يكره من النياحة على الميت قال الزين بن المنير: ما موصولة، ومَنْ لبيان الجنس، فالتقدير: الذي يكره من جنس البكاء هو النياحة، والمراد بالكراهة كراهة التحريم لما مرَّ من الوعيد عليه. ويحتمل أن تكون ما مصدرية، ومن تبعيضية، والتقدير كراهية بعض النياحة، قاله ابن المرابط وغيره، ونقل ابن قُدامة عن أحمد أن بعض النياحة لا يحرم، وفيه نظر، وكأنه أخذه من كونه، عليه الصلاة والسلام، لم ينه عمة جابر لما ناحت، فدل على أنّ النياحة إنما تحرم إذا انضاف إليها فعلُ من ضَرَب خدًا، وشق جيبًا، وفيه نظر، لأنه عليه الصلاة والسلام انما نهى عن النياحة بعد هذه القصة, لأنها كانت في أُحد. وقد قال في أحد: "لكن حمزة لا بواكي له" ثم نهى عن ذلك، وتوعد عليه، وذلك بيّنٌ فيما أخرجه ابن ماجه وأحمد، وصححه الحاكم عن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "مرَّ بنساء بني عبد الإشْهل يبكين هَلْكاهُنّ يوم أحد، فقال: "لكن حمزة لا بواكي له" فجاء نساء الأنصار يبكين حمزة، فاستيقظ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ويحهنّ، ما انقلبنَ بعد؟ مُرُوهن فلينقلبنَ ولا يبكين على هالك بعد اليوم. وله شاهد أخرجه عبد الرزاق عن عكرمة مرسلًا، ورجاله ثقات. ثم قال: وقال عمر دعهن يبكين على أبي سليمان ما لم يكن نقع أو لقلقة، والنقع التراب على الرأس، واللقلقة الصوت، وهذا الأثر وصله المصنف في التاريخ الأوسط عن شقيق، قال: لما مات خالد بن الوليد اجتمع نسوة بني المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، وهن بنات عم خالد بن الوليد بن المغيرة، يبكين عليه، فقيل لعمر: أرسل إليهن فانْهَهنّ، فذكره. وأخرجه ابن سعد. وقوله: ما لم يكن نقع أو لقلقة، بقافين الأُولى ساكنة، ولامين مفتوحين، وقد فسره المصنف بأن النقع التراب على الرأس، أي: وضعه عليه، واللقلقة الصوت، أي: المرتفع، وهذا قول الفراء، فأما تفسير اللقلقة فمتفق عليه. وأما النقع، فروى سعيد بن منصور عن إبراهيم قال: النقع أي: شق الجيوب، وقال الكسائيّ: هو صنعة الطعام للمأتم، كأنه ظنه من النقيعة، وهي طعام المأتم، والمشهور أن النقيعة طعام القادم من السفر، وقد مرَّ الكلام عليها في باب الأمر باتباع الجنائز. وقال أبو عُبيد: الذي عليه

الحديث الخمسون

أهل العلم أنه رفع الصوت بالبكاء، وقيل: هو صوت لَطْم الخدود، وقالَ الإسماعيليّ معترضًا على البخاريّ: النقع إنما هو الصوت العالي، واللقلقة ترديد صوت النواحة، ولا مانع من حمله على المعنيين بد أن فسر المراد بكونه وضع التراب على الرأس, لأن ذلك من صنيع أهل المصائب. وقال ابن الأثير: المرجح أنه وضع التراب على الرأس، وأما من فسره بالصوت فتلزم موافقته للقلقة، فحملُ اللفظ على معنيين أَوْلى من حملهما على معنى واحدٍ، وأجيب بأن بينهما مغايرة من وجه، كما تقدم، فلا مانع من إرادة ذلك. وهذا الأثر وصله البيهقيّ أيضًا، ومرَّ عمر في الأول من بدء الوحي، وأبو سليمان خالد بن الوليد، وقد مرَّ في التاسع من الجنائز هذا. الحديث الخمسون حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ عَنِ الْمُغِيرَةِ رضي الله عنه قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ، مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ. سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: مَنْ نِيحَ عَلَيْهِ يُعَذَّبُ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ. قوله: عن علي بن ربيعة، صرح في رواية مسلم بسماع سعيد من علي، ولفظه "حدثنا" وأخرجه مسلم من وجه آخر، وفيه "قال علي بن ربيعة: أتيت المسجد والمغيرة أمير الكوفة، فقال: سمعت .. " فذكره، ورواه أيضًا من وجه آخر عن علي بن ربيعة، قال: أول من نيح عليه بالكوفة قُرَظَة بن كعب. وفي رواية التِّرمذيّ: مات رجل من الأنصار يقال له قُرَظة بن كعب، فنيح عليه، فجاء المغيرة، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وقال: ما بال النوح في الإِسلام؟ وقرظة المذكور، بالتحريك والظاء المُشالة، أنصاريّ خزرجيّ، كان أحد من وجهه عمر إلى الكوفة ليفقه الناس، وكان على يده فتح الرَّيّ، واستخلفه عليّ على الكوفة، وجزم ابن سعد وغيره بأنه مات في خلافته، وهو قول مرجوح، لما ثبت في صحيح مسلم أن وفاته حيث كان المغيره بن شعبة أميرًا على الكوفة، وكانت إمارة المغيرة على الكوفة من قبلَ معاوية من سنة إحدى وأربعين، إلى أن مات وهو عليها سنة خمسين. وقوله "إن كذبًا عليَّ ليس ككذب على أحد" أي: غيري، ومعناه أن الكذب على الغير قد أُلف واسْتُسهل خَطْبه، وليس الكذب عليّ بالغًا مبلغ ذلك في السهولة، وإن كان دونه في السهولة فهو أشد منه في الإِثم، وبهذا التقرير يندفع اعتراض من أورد أن الذي تدخل عليه الكاف أعلى، وكذا لا يلزم من إثبات الوعيد المذكور على الكذب عليه أنْ يكون الكذب على غيره مباحًا، بل يستدل على تحريم الكذب على غيره، بدليل آخر، والفرق بينهما أنّ الكذب عليه توعد فاعله بجعل النار له مسكنًا، بخلاف الكذب على غيره، وقد تقدمت مباحث الحديث في كتاب العلم في باب "إثم

رجاله أربعة

من كذب على النبي -صلى الله عليه وسلم-". وقوله: من يُنَحْ عليه يعذّب، ضبطه الأكثر بضم أوله وفتح النون وجزم المهملة، على أنَّ مَنْ شرطية، ويجوز رفعه على تقدير "فإنه يعذب"، وروي بكسر النون وسكون التحتانية وفتح المهملة، وفي رواية الكشميهنيّ "من يُناح" على أن مَنْ موصولة. وقد أخرجه الطبرانيّ عن أبي نعيم بلفظ "إذا نِيْح على الميت عُذِّب بالنياحة عليه"، وهو يؤيد الرواية الثانية. الثانية: وقوله: "بما نيح عليه" كذا للجميع بكسر النون، ولبعضهم "ما نيح" بغير موحدة، على أن ما ظرفية، وقد وردت أحاديث كثيرة في تحريم النياحة، أعرضنا عن ذكرها لحصول الاكتفاء بما ذكره المؤلف. رجاله أربعة: مرَّ منهم أبو نعيم في الخامس والأربعين من الإِيمان, والمغيرة في الأخير منه، وسعيد بن عبيد في السادس والسبعين من الجماعة، والباقي علي بن ربيعة بن نَضْلة الوَالِبِيّ الأَسَدِيّ، ويقال البجليّ، أبو المغيرة الكوفيّ، قال ابن سعد: كان ثقة معروفًا، وقال العجليّ: كوفيّ تابعيّ ثقة، ووثّقه نُمير، وقال النَّسَائيّ: ثقة، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، له في الصحيحين حديثٌ عن المغيرة "من كذب عليّ .. الخ". فرق البخاريّ بين هذا وعلي بن ربيعة البجليّ، فجعل هذا في التابعين، وجعل البجليّ في أتباع التابعين، ووافقه ابن حِبّان في الثقات، وجزم أبو حاتم بأنهما واحد. روى عن عليّ بن أبي طالب والمغيرة بن شعبة وابن عمر وغيرهم. وروى عنه الحكم بن عُتَيبة وسعيد بن عُبيد وأبو إسحاق الشّيبانيّ وغيرهم. ويقال علي بن ربيعة أربعة: الوالبيّ، ثم البصريّ، ثم القرشيّ، ثم البيروتيّ. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول والسماع، ورواته كلهم كوفيون، أخرجه مسلم في الجنائز وفي مقدمة كتابه، والتِّرمِذِيُّ في الجنائز. الحديث الحادي والخمسون حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنِ ابْنِ

رجاله ستة

عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ. قوله: عن سعيد بن المسيب، في رواية "حدثنا سعيد"، وهذا الحديث مرَّ ما فيه في الذي قبله. رجاله ستة: قد مرّوا، مرَّ عبدان في السادس من بدء الوحي، وعمر في الأول، ومرَّ أبو عبدان، وهو عثمان بن جبلة، في الخامس والمئة من الوضوء ومرَّ شُعبة في الثالث من الإيمان, وقتادة في السادس منه، وسعيد بن المسيب في التاسع عشر منه، ومرَّ ابن عمر في أوله. ثم قال: تابعه عبد الأعلى، حدثنا يزيد بن زُريع حدثنا سعيد حدثنا قتادة، وهو ابن حمّاد، وهذا وصله أبو يَعلى في مسنده عن عبد الأعلي بن حماد. رجاله أربعة: قد مرّوا، مرَّ عبد الأعلي بن حماد في الرابع والثلاثين من الغسل، وسعيد هو ابن أبي عَرُوبة، وقد مرَّ في الحادي والعشرين منه، ومرَّ يزيد بن زُريع في السادس والتسعين من الوضوء ومرَّ محل قتادة في الذي قبله. ثم قال: وقال آدم عن شعبة: الميت يعذب ببكاء الحيّ عليه، يعني بإسناد حديث الباب، لكن بغير لفظ المتن. وهو قوله: "يعذب ببكاء الحي عليه" تفرد آدم بهذا اللفظ، وقد رواه أحمد عن غندر ويحيى بن سعيد القَطّان وحجّاج بن محمد، كلهم عن شُعبة كالأول. وأخرجه مسلم كذلك عن محمد بن جعفر، وأخرجه أبو عُوانة عن أبي النضر، وعبد الصمد وأبي زيد الهَرَويّ وأسود بن عامر، كلهم عن سعيد كذلك. وفي الحديث تقديم من يحدث كلامًا يدل على تصديقه فيما يحدث به، فإن المغيرة قدّم قبل تحديثه بتحريم النّوح أنّ الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أشد من الكذب على غيره، وأشار إلى أنّ الوعيد على ذلك يمنعه أن يخبر عنه بما لم يقل. وآدم هو ابن أبي إياس، وقد مرَّ شعبة في الثالث من الإِيمان. ثم قال المصنف:

باب

باب كذا في رواية الأصيليّ، وسقط من رواية أبي ذَرٍّ وكريمة، وعلى ثبوته فهو بمنزلة الفصل من الباب الذي قبله، كما مرَّ تقريره غير مرة، وعلى التقدير فلابد له من تعلق بالذي قبله، وقد مرَّ توجيهه في أول الترجمة. الحديث الثاني والخمسون حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُنْكَدِرِ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ جِيءَ بِأَبِي يَوْمَ أُحُدٍ، قَدْ مُثِّلَ بِهِ حَتَّى وُضِعَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَقَدْ سُجِّيَ ثَوْبًا فَذَهَبْتُ أُرِيدُ أَنْ أَكْشِفَ عَنْهُ فَنَهَانِي قَوْمِي، ثُمَّ ذَهَبْتُ أَكْشِفُ عَنْهُ فَنَهَانِي قَوْمِي، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَرُفِعَ فَسَمِعَ صَوْتَ صَائِحَةٍ فَقَالَ مَنْ هَذِهِ. فَقَالُوا ابْنَةُ عَمْرٍو أَوْ أُخْتُ عَمْرٍو. قَالَ فَلِمَ تَبْكِي أَوْ لاَ تَبْكِي فَمَا زَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رُفِعَ. قوله: قد مُثّل به، أي: بضم الميم وتشديد المثلثة، يقال: مُثّل بالقتيل إذا جدع أنفه أو أذنه أو مذاكيره أو شيء من أجزائه، والاسم المُثْلَة بضم الميم وسكون المثلثة. وقوله: سُجّي ثوبًا، بضم المهملة وتشديد الجيم، أي غُطّي بثوب. وقوله: بنت عمرو أو أخت عمر، وهذا شك من سفيان، والصواب ما تقدم في "باب الدخول على الميت" في رواية شعبة من الجزم بأنها فاطمة بنت عمرو، ولفظه "فذهبت عمتي فاطمة" وفي الإكليل للحاكم تسميتها "هند بنت عمر"، فلعل لها اسمين أو أحدهما اسمها، والآخر لقبها. وكانتا جميعًا حاضرتين. وقوله: فلِمَ تبكي أو لا تبكي، هكذا في هذه الرواية بكسر اللام فتح الميم، على أنها استفهام عن غائبة، وأما قوله: أو لا تبكي، فالظاهر أنه شك من الراوي هل استفهم أو نهى، لكن قد مرَّ في الباب المذكور من رواية شُعبة "تبكي أو لا تبكي" ومرَّ شرحه هناك على التخيير، ومحصله أن هذا الجليل القدر الذي تظله الملائكة بأجنحتها لا ينبغي أن يُبكى عليه، بل يفرح بما صار إليه. رجاله أربعة: قد مرّوا، مرَّ عليّ بن عبد الله المِدِينيّ في الرابع عشر من العلم، ومرَّ سفيان بن عُيَينة في الأول

من بدء الوحي، وجابر في الرابع منه، ومرَّ محمد بن المنكدر في التاسع والخمسين من الوضوء, ومرَّ أبو جابر عبد الله بن حَرام في السابع من كتاب الجنائز هذا، ومرت فيه عمة جابر. ثم قال المصنف:

باب ليس منا من شق الجيوب

باب ليس منا من شق الجيوب قال الزين بن المنير: أفرد هذا القدر من المذكورات في الحديث بترجمة، ليشعر بأن النفي الذي حاصله النَّبَري يحصل بكل واحد من المذكورات لا بمجموعها، وأيده رواية مسلم بلفظ "أو شق الجيوب، أو دعا .. إلى آخره". الحديث الثالث والخمسون حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا زُبَيْدٌ الْيَامِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ. قوله: ليس منا، أي: من أهل سنتنا وطريقتنا, وليس المراد به إخراجه عن الدين، ولكن فائدة إيراده بهذا اللفظ المبالغة في الردع عن الوقوع في مثل ذلك، كما يقول الرجل لولده عند معاتبته: لستُ منك ولست مني، أي: ما أنت على طريقتي. وقال الزين بن المنير ما ملخصه: التأويل الأول يستلزم أن يكون الخبر إنما ورد عن أمر وجوديّ، وهذا يصان كلام الشارع على الحمل عليه، والأَوْلى أن يقال: المراد أن الواقع في ذلك يكون قد تعرض لأن يعرض عنه، ويهجر، فلا يختلط بجماعة السنة، تأديبًا له على استصحابه حالة الجاهلية التي قبّحها الإِسلام، فهذا أولى من الحمل على ما لا يستفاد منه قدر زائد على الفعل الموجود. وحكي عن سفيان أنه كان يكره الخوض في تأويله، ويقول: ينبغي أن يمسك عن ذلك، ليكون أوقع في النفوس، وأبلغ في الزجر، وقيل: المعنى ليس على ديننا الكامل، إنه خرج من فرع من فروع الدين، وإن كان معه أصله. حكاه ابن العربيّ. ويظهر أن هذا النفي يفسره التَّبريىء الآتي في حديث أبي موسى بعد باب، حيث قال: برىء منه النبي -صلى الله عليه وسلم-. وأصل البراءة الانفصال من الشيء، وكأنه توعده بأن لا يدخله في شفاعته. وقال المهلب: وأنا بريء، أي من فاعل ما ذكر وقت ذلك الفعل، ولم يرد نفيه عن الإِسلام، فبينهما واسطة تعرف مما تقدم أول الكلام، وهذا يدل على تحريم ما ذكر من شق الجيوب وغيره،

رجاله ستة

وكان السبب في ذلك ما تضمنه ذلك من عدم الرضى بالقضاء، فإن وقع التصريح بالاستحلال مع العلم بالتحريم أو التسخط، مثلًا، وقع، فلا مانع من حمل النفي على الإخراج من الدين حقيقة بالكفر. وقوله: ولطم الخدود، خص الخدود بذلك لكونه هو الغالب في ذلك، وإلاّ فضرب بقية الوجه داخل في ذلك. وقوله: وشق الجيوب، جمع حبيب بالجيم والموحدة، وهو ما يفتح من الثوب ليدخل فيه الرأس، والمراد بشقّه إكمال فتحه إلى آخره، وهو من علامات التَّسَخُّط. وقوله: ودعا بدعوى الجاهلية، في رواية مسلم "بدعوى أهل الجاهلية" أي: من النياحة ونحوها، وكذا الندبة، كقولهم: واجبلاه، وكذا الدعاء بالوَيل والثبور، كما يأتي بعد ثلاثة أبواب. رجاله ستة: قد مرّوا، مرَّ أبو نعيم في الخامس والأربعين من الإيمان, وسفيان في السابع والعشرين منه، وزبيد الياميّ في الحادي والأربعين منه، وإبراهيم في الخامس والعشرين منه، ومسروق في السابع والعشرين منه مع سفيان الثوريّ، ومرَّ ابن مسعود في أول أثر منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، ورواته كلهم كوفيون، وفيه رواية التابعيّ عن التابعيّ، أخرجه البخاريّ في الجنائز أيضًا، وفي مناقب قريش، ومسلم في الإيمان, والتِّرْمِذِيّ والنَّسائيّ وابن ماجه في الجنائز. ثم قال المصنف:

باب رثاء النبي -صلى الله عليه وسلم- سعد بن خولة

باب رثاء النبي -صلى الله عليه وسلم- سعد بن خولة قوله: سَعْدَ، بالنصب على المفعولية، وخولة، بفتح المعجمة وسكون الواو، والرثاء، بكسر الراء وبالمثلثة بعدها مدّة، مدح الميت، وذكر محاسنه، وليس هو المراد من الحديث، حيث قال الراوي "يرثي له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، ولهذا اعترض الإِسماعيليّ الترجمةَ فقال: ليس هذا من مراثي الموتى، وإنما هو من التوجع، يقال: رَثَيته إذا مدحته بعد موته، ورثيت له إذا تحزنت عليه، ويمكن أن يكون مراد البخاريّ هذا بعينه، كأنه يقول: ما وقع من النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو من التحزّن والتوجّع، وهو مباح، وليس معارضًا لنهيه عن المراثي التي هي ذكر أوصاف الميت الباعثة على تهييج الحُزن، وتجديد اللوعة. وهذا هو المراد بما أخرجه أحمد وابن ماجه وصححه الحاكم عن عبد الله بن أبي أوفى، قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن المراثي، وهو عند أبي شيبة بلفظ "نهانا أن نتراثى" ولا شك أن الجامع بين الأمرين التوجّع والتحزّن، ويؤخذ من هذا التقرير مناسبة إدخال هذه الترجمة في تضاعيف التراجم المتعلقة بحال من يحضر الميت. الحديث الرابع والخمسون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَعُودُنِي عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي فَقُلْتُ إِنِّي قَدْ بَلَغَ بِي مِنَ الْوَجَعِ وَأَنَا ذُو مَالٍ، وَلاَ يَرِثُنِي إِلاَّ ابْنَةٌ، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي قَالَ لاَ. فَقُلْتُ بِالشَّطْرِ فَقَالَ لاَ ثُمَّ قَالَ الثُّلُثُ وَالثُّلْثُ كَبِيرٌ أَوْ كَثِيرٌ إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلاَّ أُجِرْتَ بِهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ. فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي قَالَ إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلاً صَالِحًا إِلاَّ ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً، ثُمَّ لَعَلَّكَ أَنْ تُخَلَّفَ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ، اللَّهُمَّ أَمْضِ لأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ، وَلاَ تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، لَكِنِ الْبَائِسُ سَعْدُ ابْنُ خَوْلَةَ، يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ. قوله: يعودني في حجة الوداع من وجع اشتد بي، وفي رواية الزُّهري في الهجرة "من وجع

أشفيت منه على الموت" واتفق أصحاب الزهريّ على أن ذلك كان في حجة الوداع، إلاَّ ابن عُيينة فقال في فتح مكة. أخرجه التِّرمذيُّ عنه، واتفق الحفاظ على أنه وهم فيه. وقد أخرجه البخاريّ في الفرائض عنه، فقال بمكة، ولم يذكر الفتح. ومستند ابن عُيينة هو ما أخرجه أحمد والبزّار والطبرانيّ والبخاريّ في التاريخ, وابن سعد عن عمرو بن القاري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "قدم فخلف سعدًا مريضًا حين خرج إلى حُنين، فلما قدم من الجُعْرانة معتمرًا، دخل عليه، وهو مغلوب، فقال: يا رسول الله، إنّ لي مالًا وإني أُوْرَث كلالة، أَفأُوصي بمالي .. " الحديث، وفيه قلت: يا رسول الله، أمَيِّتٌ أنا بالدار التي خرجت منها مهاجرًا؟ قال: "لا، إني لأرجو أن يرفعك الله حتى ينتفع بك أقوام" الحديث، فلعل ابن عيينة انتقل ذهنه من حديث إلى حديث. ويمكن الجمع بين الروايتين بأن يكون ذلك وقع له مرتين، مرة عام الفتح، ومرة عام حجة الوداع، ففي الأُولى لم يكن له وارث من الأولاد أصلًا، وفي الثانية كانت له بنت. وقوله: فقلت إني قد بلغ بي من الوجع، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلاَّ ابنة، فقوله: وأنا ذو مال، نحوه في رواية عائشة بنت سعد في الطب، وهذا اللفظ يؤذن بمال كثير، وذو المال إذا تصدق بثلثيه أو بشطره وأبقى ثلثه بَيْن بنته وغيرها لا يصيرون عالة، لكن الجواب أن ذلك خرج على التقدير, لأن بقاء المال الكثير إنما هو على سبيل التقدير، وإلاّ فلو تصدق المريض بثلثيه مثلًا، ثم طالت حياته، ونقص وفني المال، فقد تجحفت الوصية بالورثة، فرد الشارع الأمر إلى شيء معتدل، وهو الثلث. وقوله: ولا يرثني إلاَّ ابنة، في رواية الوصايا "ولم يكن له يومئذ إلا ابنة" قال النووي وغيره: معناه لا يرثني من الولد أو من خواصّ الورثة أو من النساء، وإلا فقد كان لسعد عصباتٌ لأنه من بني زُهرة، وكانوا كثيرًا. وقيل: معناه لا يرثني من أصحاب الفُروض، أو خَصَّها بالذكر على تقدير "لا يرثني ممن أخاف عليه الضياع والعجز إلاّ هي" أو ظن أنها ترث جميع المال، أو استكثر لها نصف التركة. وهذه البنت زعم بعض العلماء أنها عائشة، فإن كان محفوظًا فهي غير عائشة بنت سعد التي روت هذا الحديث في الطب، فإنها تابعيّة عُمِّرَتْ حتى أدركها مالك وروى عنها, لكن لم يذكر أحد من النسابين لسعد بنتًا تسمى عائشة غير هذه، وذكروا أن أكبر بناته أم الحكم الكبرى، وأمها بنت شِهاب بن عبد الله بن الحارث بن زُهرة، وذكروا له بنات أخرى أمهاتهنّ متأخرات الإِسلام بعد الوفاة النبوية، فالظاهر أن البنت المشار إليها أم الحكم المذكورة، لتقدم تزويج سعد بأمها. قال في الفتح: ولم أر من حرر هذا.

وقوله: أفأتَصدق بثلثي مالي؟ قال لا في رواية عائشة بنت سعد في الطب نحو هذه، وفي رواية الوصايا "أُوصي بمالي كله؟ قال: لا" فأما التعبير بقوله "أفأتصدق" فيحتمل التنجيز والتعليق، بخلاف إِفأُوصي،، لكن المخرج متحد، فيحمل على التعليق للجمع بين الروايتين، وقد تمسك بقوله: "أفأتصدق" من جعل تبرعات المريض من الثلث، وحملوه على المنجزة، وفيه اختلاف. وأما الاختلاف في السؤال، فكأنه سأل أولًا عن الكل، ثم سأل عن الثلثين، ثم سأل عن النصف، ثم سأل عن الثلث، وقد وقع مجموع ذلك في رواية جرير بن يزيد عند أحمد. وفي رواية بُكير بن مِسمار عند النَّسائيّ. كلاهما عن عامر بن سعد، وكذا لهما عن محمد بن سعد عن أبيه، ومن طريق هشام بن عُروة عن أبيه عن سعد. وقوله: فقلت بالشطر؟ قال: لا، في رواية الوصايا "قلت فالشطر، قال: لا". وقوله في هذه الرواية "فالشطرِ" بالجر عطفًا على قوله "بمالي كله" أي: فأُوصي بالنصفِ، وهذا رجحه السّهوليّ. وقال الزَّمخشريّ: هو بالنصب على تقدير فعل، أي أُسَمِّي الشطر أو أُعَين الشطر. ويجوز الرفع على تقدير: أيجوز الشطر. وقوله: ثم قال الثلث والثلث كبير، وفي رواية الوصايا "قلت الثلث قال: فالثلث، والثلث كثير" وفي رواية الزهريّ في الهجرة "قال الثلث يا سعد، والثلث كثير" وفي رواية مصعب بن سعد عن أبيه عند مسلم "قلت فالثلث قال نعم، والثلث كثير" وفي رواية عائشة بنت سعد عن أبيها "قال الثلث والثلث كبير أو كثير" نحو رواية الباب، وكذا للنَّسائيّ عن أبي عبد الرحمن السلميّ عن سعد، وفيه "فقال: أوصيت؟ فقلت: نعم، قال: بكم؟ قلت: بمالي كله، قال: فما تركت لولدك" وفيه "أُوصي بالعُشر؟ قال: فما زال يقول وأقول حتى قال أوصي بالثلث والثلث كبير أو كثير" يعني بالمثلثة أو بالموحدة، وهو شك من الراوي، والمحفوظ في أكثر الروايات بالمثلثة، ومعناه كثير بالنسبة إلى ما دونه. وقوله: قال الثلثُ والثلثُ كثير، بنصب الأول على الاغراء، أو بفعل مضمر نحو عَيِّن الثلث، وبالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أو المبتدأ والخبر محذوف، والتقدير: يكفيك الثلث، أو الثلث، كاف. ويحتمل أن يكون قوله "والثلث كثير" مسوقًا لبيان الجواز بالثلث، وأَنَّ الأوْلى أن ينقص عنه ولا يزد عليه، وهو ما يبتدره الفهم. ويحتمل أن يكون لبيان أن التصدق بالثلث هو الأكمل، أي: كثير أجره، ويحتمل أن يكون معناه "كثيرٌ غيرُ قليل" قال الشافعيّ رحمه الله: وهذا أَوْلي معانيه، يعني أن الكثرة أمر نسبيٌ، وعلى الأوَّل عوَّل ابن عباس، حيث قال: وددت أنَّ الناس غَضُّوا من الثلث إلى الربع. والمعروف في مذهب الشافعي استحباب النقص عن الثلث، وفي شرح مسلم للنّوويّ: إن كان الورثة فقراء استُحب أن ينقص منه، وإن كانوا أغنياء فلا.

وقوله: إنّك إن تَذَرَ ورثتك أغنياء، بفتح إن على التعليل، وبكسرها علي الشرطية. قال النووي: هما صحيحان، وقال القرطبيّ: لا معنى للشرط هنا, لأنه يصير لا جواب له، ويبقى خير لا رافع له. وقال ابن الجوزي: سمعنا الكسر من رواة الحديث، وأنكره شيخنا عبد الله بن أحمد بن الخَشّاب، وقال: لا يجوز الكسر, لأنه لا جواب له، لخلو لفظ خير من الفاء وغيرها، مما اشترط في الجواب. وتُعُقِّب بأنه لا مانع من تقديره وقال ابن مالك: جزاء الشرط خيرٌ أي: فهو خير، وحذف الفاء جائز كقراءة طاوس {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} قال: ومن خص ذلك بالشِّعر بعد عن التحقيق، وضيق حيث لا تضييق, لأنه كثير في الشعر قليل في غيره. وأشار بذلك إلى ما وقع في الشعر مما أنشده سيبويه: من يفعل الحسناتِ الله يشكرها أي: فالله يشكرها، وإلى الرد على من زعم أن ذلك خاص بالشعر قال: ونظيره قوله في حديث اللُّقَطَة "فإنْ جاء صاحبها وإلا استمتع" بها بحذف الفاء، وقوله في حديث اللعان "البينة وإلا حَدٌّ في ظهرك". وقوله: ورثتك، قال ابن المنير: إنما عبّر له -صلى الله عليه وسلم- بلفظ الورثة، ولم يقل "إن تدع بنتك" مع أنه لم يكن له حينئذ إلاَّ ابنة واحدة، لكون الوارث لم يتحقق, لأن سعدًا إنما قال بذلك بناء على موته في ذلك المرض، وبقائها بعده حتى ترثه، وكان من الجائز أن تموت هي قبله، فأجاب عليه الصلاة والسلام بكلام كُلّي مطابق حالة، وهو قوله "ورثتك"، ولم يخص بنتًا من غيرها. وقال الفاكهانيّ في شرح العمدة: إنما عبر عليه الصلاة والسلام بالورثة, لأنه اطَّلع على أن سعدًا سيعيش، وتأتيه أولاد غير البنت المذكورة، فكان كذلك. وولد له بعد ذلك أربعة بنين لا أعرف أسماءهم، وليس قوله "إن تدفع بنتك" متعينًا, لأن ميراثه لم يكن منحصرًا فيها، فقد كان لأخيه عُتبة بن وقّاص أولاد إذ ذاك، منهم هاشم بن عتبة الصحابيّ الذي قُتل بصفين، فجاز التعبير بالورثة لتدخل البنت، وغيرها. فمن يرث، لو وقع موته إذ ذاك، أو بعد ذاك. وقول الفاكهانيّ: إنه ولد له بعد ذلك أربعة لا أعرف أسماءهم فيه قصور، فإن أسماءهم في رواية هذا الحديث بعينه عند مسلم، من طريق عامر ومصعب ومحمد، ثلاثتهم عن سعد، ووقع ذكر عمر بن سعد فيه في موضع آخر، واقتصر القرطبيّ، على ذكر الثلاثة المذكورة في الحديث، وذكر بعض الشيوخ أن له أربعة من البنين غير الثلاثة، وهم عمر ويحيى وإبراهيم وإسحاق وعزا ذكرهم لابن المَدِينيّ، ولعل ابن المدينيّ اقتصر على ذكر من روى الحديث منهم، وإلا فقد ذكر له ابن سعد من الذكور غير السبعة أكثر من عشرة، وهم عبد الله وعبد الرحمن وعمر وعمران وصالح

وعثمان وإسحاق الأصغر وعمر الأصغر وعُمير مصغرًا، وغيرهم. وذكر له من البنات اثنتي عشرة بنتًا. وقوله: عالة، أي فقراء، جمع عال وهو الفقير، والفعل منه عال يعيل،، إذا افتقر. وقوله: يتكففون الناس، في رواية الوصايا زيادة "في أيديهم" أي: يسألون الناس بأكفهم، يقال: تكففَ الناس واستكفَّ إذا بسط كفه للسؤال، أو سأل ما يكف عنه الجوع، أو سأل كفًا كفًا من طعام. وقوله: في أيديهم، أي: بأيديهم، أو سألوا بأكفهم، وضع المسؤول في أيديهم. وقوله: وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجرت بها حتى ما تجعل في في امرأتك، وفي رواية الوصايا "وإنك مهما انفقت فإنها صدقة" وهذا معطوف على قوله "إنك إن تدع" وهو علة للنهي عن الوصية بأكثر من الثلث، كأنه قيل: لا تفعل لأنك إن مت تركت ورثتك أغنياء، وإن عشت تصدقت وأنفقت، فالأجر حاصل لك في الحالين، ووجه تعلق قوله: "وإنك لن تنفق نفقة" الخ بقصة الوصية، أن سؤال سعد يشعر بأنه رغب في تكثير الأجر، فلما منعه الشارع من الزيادة على الثلث: قال له على سبيل التسلية: إن جميع ما تفعله في مالك من صدقة ناجزة، ومن نفقة، ولو كانت واجبة، تُوجر بها إذا ابتغيت بذلك وجه الله تعالى، ولعله خص المرأة بالذكر لأن نفقتها مستمرة بخلاف غيرها. قال ابن أبي جَمرة: نبه بالنفقة على غيرها من وجوه البر والإحسان. قال: ويستفاد منه أن أجر الواجب يزداد بالنية, لأن الإنفاق على الزوجة واجب، وفي فعله الأجر، فإذا نوى به ابتغاء وجه الله تعالى، ازداد أجره بذلك. وقال ابن دقيق العبد فيه: إن الثواب في الانفاق مشروط بصحة النية، وابتغاء وجه الله تعالى، وهذا عسر إذا عارضه مقتضى الشهوة، فإن ذلك لا يحصل الغرض من الثواب حتى يبتغي به وجه الله تعالى، ويحصل تخليص هذا المقصود مما يشوبه. قال: وقد يكون فيه دليل على أن الواجبات إذا أُدِّيَتْ على قصد أداء الواجب، ابتغاء وجه الله تعالى، أُثيب عليها، فإن قوله "حتى ما تجعل في في امرأتك "لا تخصيص له بغير الواجب" ولفظه "حتى" هنا تقتضي المبالغة. في تحصيل هذا الأجر بالنسبة إلى المعنى، كما يقال: جاء الحاجُّ حتى المشاة. وقد مرَّ الكلام على ما تشترط فيه النية، وما لا تشترط فيه، عند حديث إنما الأعمال بالنيات، ومرَّ استيفاء الكلام على هذه الجملة من هذا الحديث مستوفىً، عند ذكرها في باب "ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة" آخر كتاب الإيمان. وقوله: قلت يا رسول الله أخلَّف بعد أصحابي، يعني الموت بمكة، وقوله: إنك لن تخلف فتعمل عملًا صالحًا إلا ازددت به درجة، معنى التخلف هنا البقاء في الدنيا، فليس بمعنى الأول، فهو شبيه بأسلوب الحكيم، وبيّن المراد منه بقوله "فتعمل عملًا صالحًا", لأن العمل الصالح لا يكون إلا في الدنيا، وإنما صدر هذا السؤال من سعد مخافة

المقام بمكة إلى الوفاة، فيكون قادحًا في هجرته، كما نص عليه في بعض الروايات كما يأتي، إذ قال: خشيت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها، فأجابه عليه الصلاة والسلام بأنّ ذلك لا يكون، وأنه يطول عمره. وفي رواية الوصايا "وهو يكره أن يموت بالأرض التي هاجر منها" وهذه الجملة يحتمل أن تكون حالًا من الفاعل في قوله قبله "جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- يعودني" أو من المفعول في "يعودني" وكل منهما محتمل, لأن كلًا من النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومن سعد، كان يكره ذلك، لكن إن كان حالًا من المفعول، وهو سعد، ففيه التفات, لأن السياق يقتضي أن يقول: وأنا أكره. وقد أخرجه مسلم عن ثلاثة من ولد سعد عن سعد، بلفظ "فقال: يا رسول الله، خشيت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها، كما مات سعد بن خولة" وسبب كراهيتهم للموت في دار الهجرة هو أن المهاجر من مكة رخص في إقامة ثلاث ليال بمكة بعد الصَّدر، أي الرجوع من مني، كما أخرجه البخاريّ في الهجرة إلى المدينة، ويحرم على المهاجر منها قبل الفتح أزيد من ثلاث ليال فيها. واستنبط من هذا أن إقامة ثلاثة أيام لا تخرج صاحبها عن حكم المسافر، وقيد الداوديّ اختصاص ذلك بالمهاجرين الأولين، ولا معنى لتقييده بالأولين. وقال النّوويّ: معنى الحديث أن الذين هاجروا يحرم عليهم استيطان مكة، وحكى عِياض أنه قول الجمهور، قال: وأجازه لهم جماعة بعد فتح مكة، فحملوا هذا القول على الزمن الذي كانت الهجرة المذكورة واجبة فيه. قال: واتفق الجميع على أن الهجرة قبل الفتح كانت واجبة عليهم، وأن سُكْنى المدينة كان واجبًا، لنصرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومواساته بالنفس، وأما غير المهاجرين فيجوز له سكنى أي بلد أرادوا سواء مكة وغيرها، ويستثنى من ذلك من أذن له النبي -صلى الله عليه وسلم- بالإقامة في غير المدينة. وقال القرطبيّ: المراد بهذا الحديث من هاجر من مكة إلى المدينة لنصر النبي عليه الصلاة والسلام، ولا يعني به من هاجر من غيرها, لأنه خرج جوابًا عن سؤالهم لما تَحَرَّجُوا من الإقامة بمكة، إذ كانوا قد تركوها لله تعالى، فأجابهم بذلك وأعلمهم أن إقامة الثلاث ليس بإقامة. والخلاف الذي أشار له عياض: هل ينبني عليه الخلاف فيمن فر بدينه من موضع يخاف أن يفتن فيه في دينه، فهل له أن يرجع إليه بعد انقضاء تلك الفتنة؟ يمكن أن يقال إن كان تركَها لله، كما فعله المهاجرون، فليس له أن يرجع لشيء من ذلك، وإن كان تركها فرارًا بدينه ليَسْلَم له، ولم يقصد إلى تركها لذاتها، فله الرجوع إلى ذلك، وهو حسن متجه، إلا أنه خَص ذلك بمن ترك رباعًا أو دورًا، ولا حاجة إلى تخصيص المسألة بذلك.

وقد استوفيت الكلام على أحكام الهجرة عند حديث إنما الأعمال بالنيات، وقوله: ثم لعلك أن تُخلَّف حتى ينتفع بك أقوام، ويضرَّ بك أخرون، وفي رواية الوصايا "وعسى الله أن يرفعك فينتفع بك ناس، ويضر بك آخرون" فمعنى قوله "ولعلك أن تخلف، وعسى الله أن يرفعك" يطيل عمرك، وكذلك حصل، فإنه عاش بعد ذلك أزيد من أربعين سنة، بل قريبًا من خمسين, لأنه مات سنة خمس وخمسين، وقيل سنة ثمان وخمسين، وهو المشهور، فيكون عاش بعد حجة الوداع خمسًا وأربعين أو ثمانيًا وأربعين. وقوله: فينتفع بك أقوام، أي: ينتفع بك المسلمون من الغنائم مما سيفتح الله على يديك من بلاد الشرك، ويُضَرَّ بك المشركون الذين يهلكون على يديك. وزعم ابن التين أن المراد بالنفع به ما وقع من الفتوح على يديه، كالقادسية وغيرها، وبالضرر ما وقع من تأمير ولده عمر بن سعد على الجيش الذين قتلوا الحسين بن علي ومن معه، وهو كلام مردود، لتكلفه لغير ضرورة تحمل على إرادة الضرر الصادر من ولده. وقد وقع منه هو الضرر المذكور للكفار. وأقوى من ذلك ما رواه الطحاويّ عن بكير بن عبد الله بن الأشجّ عن أبيه أنه سأل عامر بن سعد عن معنى قول النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا، فقال: لما أُمِّر سعد على العراق أُتِي بقوم ارتدوا فاستتابهم، فتاب بعضهم وامتنع بعضهم، فقتلهم فانتفع به من تاب، وحصل الضرر للآخرين. قال بعض العلماء: لعل، وإن كانت للترجي، لكنها من الله للأمر الواقع، وكذلك إذا وردت على لسان رسوله غالبًا. قلت قد مرَّ في مقدمة هذا الشرح الفرق بين لعل وعسى، وأن عسى في كلام الله ما تدخل عليه محقق الوقوع، ولا كذلك لعل، لقوله تعالى {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} فلم يتذكر ولم يخشَ فراجعه. وقوله: لكن البائس سعد بن خولة، وللنَّسائيّ عن عامر بن سعد "لكن البائس سعد بن خولة، مات في الأرض التي هاجر منها" والبائس الذي ناله البؤس، أي: الفقير والعَيْلة، وقد يكون بمعنى مفعول، كقوله عيشة راضية، أي: مَرْضِيّة. وقال بعضهم في اسمه خُوْلِيّ بكسر اللام وتشديد التحتانية، واتفقوا على سكون الواو، وأغرب ابن التين فحكى عن القابسيّ فتحها، ويأتي تعريفه في السند. وقوله: يرثي له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال ابن عبد البَر: زعم أهل الحديث أن قوله يرثي إلخ من كلام الزُّهريّ، وقال ابن الجوزيّ وغيره. هو مدرج من قول الزهريّ، وكأنهم استندوا إلى ما في رواية أبي داود الطياليسيّ عن إبراهيم بن سعد عن الزهريّ أن القائل "يرثي له" إلى آخره، هو الزهريّ، ويؤيده أن هاشم بن هاشم وسعد بن إبراهيم رويا هذا الحديث عن عامر بن سعد، فلم يذكرا ذلك

فيه، وكذا في رواية عائشة بنت سعد عن أبيها في الطب، لكن وقع عند المصنف في الدعوات عن إبراهيم بن سعد في آخره "لكن البائس سعد بن خولة، قال سعد: رثى له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" الخ، فهذا صريح في وصله، فلا ينبغي الجزم بإدراجه. وفي رواية عائشة بنت سعد عن أبيها في الطب من الزيادة "ثم وضع يده على جبهتي، ثم مسح وجهي وبطني، ثم قال اللَّهم اشف سعدًا، وأتمم له هجرته، قال: فما زلت أجد بردها" ولمسلم عن حميد بن عبد الرحمن "قلت: فادع الله أن يشفيني، فقال: اللهم اشف سعدًا، ثلاث مرات" وقوله: أن مات بمكة، أي بفتح همزة أن، لا يصح كسرها, لأنها تكون شرطية، والشرط لما يستقبل، وهو قد كان مات، والمعنى أن سعد بن خَولة هو من المهاجرين من مكة إلى المدينة، وكانوا يكرهون الإقامة في الأرض التي هاجروا منها، وتركوها مع حبهم فيها, لله تعالى، فمن ثمَّ خشيَ سعد بن أبي وقاص أن يموت فيها، وتوجع النبي -صلى الله عليه وسلم- لسعد بن خولة لكونه مات فيها. وفي رواية الوصايا بدل "لكن البائس سعد بن خولة" "يرحم الله ابن عفراء"، ووقع في رواية أحمد والنَّسَائيّ عن سفيان "فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: يرحم الله سعد بن عفراء، ثلاث مرات". قال الداوديّ "قوله ابن عفراء" غير محفوظ، وقال الدمياطيّ: هو وهم، والمعروف ابن خولة. قال: ولعل الوهم من سعد بن إبراهيم، فإن الزهريّ أحفظ منه، وقال فيه سعد بن خولة كما مرَّ. وجوز أبو عبد الله بن أبي الخصال في حواشيه على البخاريّ أنّ المراد بابن عفراء عوف بن الحارث، أخو معاذ ومعوذ أولاد عفراء، وهي أمهم، والحكمة في ذكره ما ذكره ابن إسحاق أنه قال يوم بدر: ما يُضحك الرب من عبده؟ قال: أن يغمس يده في العدو حاسرًا، فألقى الدرع التي هي عليه، فقاتل حتى قتل. قال: فيحتمل أن يكون لما رأى اشتياق سعد بن أبي وقاص للموت، وعلم أنه يبقى حتى يلي الولايات ذكر ابن عفراءَ وحبه للموت، ورغبته في الشهادة، كما يذكر الشيء بالشيء، فذكر سعد بن خولة، لكونه مات بمكة، وهي دار هجرته، وذكر ابن عفراء مستحسنًا لميته .. وهو مردود بالنص على قوله "سعد بن عفراء"، فانتفى أن يكون المراد عوفًا, وأيضًا فليس في شيء من طرق حديث ابن أبي وقّاص أنه كان راغبًا في الموت، بل في بعضها عكس ذلك، وأنه بكى، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما يبكيك؟ فقال: خشيت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها كما مات سعد بن خولة. وهو عند النسائي أيضًا كما مرَّ، فمخرج الحديث متحد، والأصل عدم التعدد، فالاحتمال بعيد لو صرح بأنه عوف بن عفراء، فضلًا، وقال التيميّ: يحتمل أن يكون لأمه اسمان خولة وعفراء.

ويحتمل أن أحدهما اسمًا والآخر لقبًا أو يكون أحدهما اسم أمه والآخر اسم أبيه، أو والآخر اسم جدة له، والأقرب أن عفراء اسم أمه، والآخر اسم أبيه لاختلافهم في أنه خولة أو خَوْليّ. وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم، مشروعيةُ زيارة المريض للإمام فمن دونه، ويتأكد باشتداد المرض، وفيه وضع اليد على جبهة المريض، ومسح العضد الذي يؤلمه، والفسح له في طول العمر، وجواز إخبار المريض بشدة مرضه وقوة ألمه، إذا لم يقترن بذلك شيء مما يمنع أو يكره من التَّبَرُّم وعدم الرضا، بل حيث يكون ذلك لطلب دعاء، وربما أستحب، وأنّ ذلك لا ينافي الاتصاف بالصبر والمحمود، وإذ جاز ذلك في أثناء المرض كان الإخبار به بعد البرء أجوز. وأن أعمال البر والطاعة إذا كان منها ما لا يمكن استدراكه، قام غيره في الثواب والأجر مقامه، وربما زاد عليه، وذلك أن سعدًا خاف أن يموت بالدار التي هاجر منها، فيفوت عليه بعض أجر هجرته، فأخبره عليه الصلاة والسلام بأنه إن تخلف عن دار هجرته فعمل عملًا صالحًا من حج أو جهاد أو غير ذلك كان له به أجر يعوض ما فاته من الجهة الأخرى. قلت: إنما يتم هذا الأخذ لو كان سعد فاته شيء من الأجر في جهة دار هجرته، وهو لم يفته شيء، فلا معنى لهذا الأخذ. وفيه إباحة جمع المال بشرطه, لأن التنوين في قوله "وأنا ذو مالٍ" للكثرة، وقد وقع في بعض طرقه صريحًا "وأنا ذو مال كثير". وفيه الحث على صلة الرحم، والإحسان إلى الأقارب، وأن صلة الأقرب أفضل من صلة الأبعد، والإنفاق في وجوه الخير, لأن المباح إذا قصد به وجه الله تعالى صار طاعة، وقد نبه على ذلك بأقل الحظوظ الدنيوية العادية، وهو وضع اللقمة في فم الزوجة، إذ لا يكون ذلك غالبًا إلا عند الملاعبة والممازحة، ومع ذلك فيؤجر فاعله إذا قصد به قصدًا صحيحًا، فكيف بما هو فوق ذلك؟ وفيه منع نقل الميت من بلد إلى بلد، إذ لو كان ذلك مشروعًا لأمر بنقل سعد بن خولة، قاله الخطّابيّ. قلت: في هذا الأخذ نظر, لأن النقل قد يندب إذا كان لمن ترجى بركته، بحيث لا ينفجر ولا تنتهك حرمته، بأن لا يكون المحل المنقول إليه بعيدًا. وقد مات سعد بن أبي وقّاص في قصره بالعَقيق، وحمل إلى البقيع، ولعل عدم نقل سعد بن خولة كان لبعد المسافة. وفيه سد الذريعة، لقوله عليه الصلاة والسلام "ولا تردهم على أعقابهم" لئلا يتذرع بالأرض أحد، لأجل حب الوطن. قاله ابن عبد البر، وفيه تقييد مطلق القرآن بالسنة, لأنه قال سبحانه وتعالى {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} فأطلق، وقيدت السنة الوصية بالثلث، وأن من ترك شيئًا لله لا ينبغي له الرجوع فيه، ولا في شيء منه، مختارًا.

وفيه التأسف على فوت ما يحصل الثواب، وفيه حيث من ساءته سيئة، وإنَّ مَن فاته ذلك بادر إلى جبره بغير ذلك، وفيه تسلية من فاته أمر من الأمور بتحصيل ما هو أعلى منه، لما أشار -صلى الله عليه وسلم- لسعد من عمله الصالح بعد ذلك. وفيه الاستفسار عن المحتمل إذا احتمل وجوهًا, لأن سعدًا لما منع من الوصية بجميع المال احتمل عنده المنع فيما دونه والجواز، فاستفسر عما دون ذلك. وفيه النظر في مصالح الورثة، وأن خطاب الشارع الواحد يعم من كان بصفته من المكلفين، لإطباق العلماء على الاحتجاج بحديث سعد هذا، وإن كان الخطاب إنما وقع له بصيغة الإفراد. ولقد أبعد من قال: إن ذلك يختص بسعد، ومن كان مثل حاله، ممن يخلف وارثًا ضعيفًا أو كان ما يخلفه قليلًا, لأن البنت من شأنها أن يُطمع فيها، وإن كانت بغير مال لم يرغب فيها، واستدل به التيميّ لفضل الغني على الفقير، وفيه نظر، وقد مرَّ الكلام عليه في كتاب العلم في باب الاغتباط. وفيه مراعاة العدل بين الورثة، ومراعاة العدل في الوصية، واستدل بقوله "ولا يرثني إلا ابنة لي" من قال بالرد على ذوي الأرحام للحصر في قوله "لا يرثني إلا ابنة" وتُعُقب بأن المراد من ذوي الفروض، ومن قال بالرد لا يقول بظاهره, لأنهم يعطونها فرضها ثم يردون عليها الباقي. وظاهر الحديث أنها ترث الجميع ابتداءًا. وفيه أنَّ من ترك مالًا قليلًا فالاختيار له ترك الوصية وإبقاء المال للورثة، للاتفاق على أن المراد بقوله {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} المالُ، واتفقوا على أن من لم يترك مالًا لا تشرع له الوصية بالمال. وقيل: المراد بالخير المال الكثير، فلا تشرع لمن له مال قليل. قال ابن عبد البر: أجمعوا على أن من لم يكن عنده إلا اليسير التافه من المال، انه لا يندب له الوصية. وفي نقل الإجماع نظر، فالثابت عن الزُّهريّ أنه قال: جعل الله الوصية حقًا فيما قل أو كثر، والمصرح به عند الشافعية ندبية الوصية من غير تفريق بين قليل وكثير، نعم، قال أبو الفرج السَّرْخَسِيّ منهم: إن كان المال قليلًا والعيال كثيرًا استحب له توفرته عليهم. واختلف في حد المال الكثير في الوصية، فعن عليّ سبع مئة مال قليل، وعنه ثمان مئة مال قليل. وعن ابن عباس نحوه، وعن عائشة فيمن ترك عيالًا كثيرًا وترك ثلاثة آلاف "ليس هذا بمال كثير"، وحاصله أنه أمر نسبيّ يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال. وفيه جواز التصدّق بجميع المال لمن عرف بالصبر، ولم يكن له من تلزمه نفقته. ويأتي الكلام على هذه المسألة مفصلًا في باب "لا صدقة إلا عن ظهر غِنىً" من كتاب الزكاة، وفيه أن الثلث في

حد الكثرة، وقد اعتبره بعض الفقهاء في غير الوصية، واستقر الإجماع على منع الوصية بأزيد من الثلث. لكن اختُلف فيمن لم يكن له وارث خاص، فمنعه الجمهور، وجوزه الحنفية وإسحاق وشريك وأحمد ومالك في أحد قوليهما. وهو قول عليّ وابن مسعود، واحتجوا بأن الوصية مطلقة بالآية، فقيدتها السنة بمن له وارث، فيبقى من لا وارث له على الإطلاق، وقد قال في الحديث "إنْ تذر ورثتك أغنياء" فمفهومه أن من لا وارث له لا يبالي بالوصية بما زاد, لأنه لا يترك ورثة يخشى عليهم الفقر. وتعقب هذا بأنه ليس تعليلًا محضًا، وإنما فيه تنبيه على الخط الأنفع، ولو كان تعليلًا محضًا لاقتضى بجواز الوصية بأزيد من الثلث لمن كانت ورثته أغنياء، ولنفذ ذلك عليهم بدون إجازتهم، ولا قائل بذلك، وعل تقدير أن يكون تعليلًا محضًا، فهو للنقص عن الثلث لا للزيادة، فكأنه لمّا شرع الإِيصاء بالثلث وأنه لا يعترض به على الموصي، إلا أنّ الانحطاط عنه أولى، ولاسيما لمن يترك ورثة غير أغنياء، فنبه سعدًا على ذلك. وقد مرَّ أنّ المعروف في مذهب الشافعيّ استحباب النقص عن الثلث، وكره طائفة من أهل العلم الوصية بجميع الثلث. قال طاوس: إذا كان ورثته قليلًا، وماله كثيرًا، فلا بأس أن يبلغ الثلث، واستحب طائفة الوصية بالربع، وهو ما مرَّ عن ابن عباس. وقال: إسحاق السنة الربع، لقوله "الثلث كثير"، إلاَّ أن يكون رجل يعرف في ماله شبهة، فيجوز له الثلث. قال أبو عمر: لا أعلم لإسحاق حجة في قوله "السنة الربع"، قلت: حجته ما ذكر من قوله "الثلث كثير"، وهو حجة ابن عباس، وقال ابن بطال: أوصى عمر بالربع، واختار آخرون السدس، وقال إبراهيم: كانوا يكرهون أن يوصوا بمثل نصيب أحد الورثة حتى يكون أقل، رواه ابن أبي شَيبة بسند صحيح، وكان السدس أحب إليه من الثلث. وأوصى أنس فيما ذكره في المصنف عن ثابت عنه بمثل نصيب أحد ولده، وأجاز آخرون العُشر، وعن أبي بكر، رضي الله تعالى عنه، أنه يفضل الوصية بالخُمس، وبذلك أوصى، وقال: رضيتُ لنفسي ما رضي الله لنفسه، يعني الخمس. واستحب جماعة الوصية بالثلث، محتجين بحديث الباب، وبحديث ضعيف عن أبي هريرة مرفوعًا "جعل الله لكم في الوصية ثلث أموالكم زيادة في أعمالكم". واختلفوا هل يعتبر ثلث المال حال الوصية أو حال الموت، على قولين. وهما وجهان للشافعية، أصحهما الثاني، وقال بالأول مالك وأكثر العراقيين، وقال به النخعيّ، وعمر بن عبد العزيز، وقال بالثاني أبو حنيفة وأحمد والباقون، وهو قول عليّ رضي الله تعالى عنه.

رجاله خمسة

وتمسك الأولون بأنّ الوصية عقد، والعقود تعتبر بأولها، وبأنه لو نذر أن يتصدق بثلث ماله اعتبر ذلك حالة النذر اتفاقًا. وأجيب بأن الوصية ليست عقدًا، من كل جهة، ولذلك لا تعتبر فيها الفورية، ولا القبول، وبالفرق بين النذر والوصية بأنها يصح الرجوع عنها، والنذر يلزم. وثمرة هذا الخلاف تظهر فيما لو حدث له مال بعد الوصية. واختلفوا أيضًا، هل يحسب الثلث من جميع المال أو تنفذ بما علمه الموصى دون ما خفي عليه أو تجدد له، ولم يعلم به، وبالأول قال الجمهور، وبالثاني قال مالك. وحجة الجمهور أنه لا يشترط أن يستحضر تعداد مقدار المال حالة الوصية اتفاقًا، ولو كان عالمًا بجنسه، فلو كان العلم به شرطًا لما جاز ذلك. وأول من أوصى بالثلث في الإِسلام البراء بن مَعْرور، بمهملات، أوصى به للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان قد مات قبل أن يدخل النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة بشهر، فقبله النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، ورده على ورثته. أخرجه الحاكم وابن المنذر عن أبي قتادة، وفيه في قوله "أفأتصدق بمالي كله" على تلك الرواية حجةٌ لما ذهب إليه الجمهور في هبات المريض وصدقته وعتقه، أنَّ ذلك من ثلثه لا من جميع المال. وهو قول مالك وأبي حنيفة وصاحبيه والشافعيّ وأحمد وعامة أهل الحديث والرأي، محتجين بحديث عمران بن حصين في الذي أعتق ستة أَعْبُدٍ في مرضه ولا مال له غيرهم، فتوفي فاعتق النبي -صلى الله عليه وسلم- اثنين منهم، وأرق أربعة. وقالت فرقة من أهل النظر، وأهل الظاهر، في هبة المريض، أنها من جميع المال، وقال ابن بطال: هذا القول لا نعلم أحدًا من المتقدمين قال به، وأجمع فقهاء الأمصار أن الوصية بأكثر من الثلث إذا أجازها الورثة جازت، وإن لم تجزها الورثة لم يجز منها إلا الثلث، وأبى ذلك أهل الظاهر فمنعوها، وإن أجازتها الورثة، وهو قول عبد الرحمن بن كيسان، وكذلك قالوا: إن الوصية لوارث لا تجوز، وإنْ أجازتها الورثة، لحديث "لا وصية لوارث" وسائر الفقهاء يجيزون ذلك إذا أجازتها الورثة، ويجعلونها هبة. وهذا الحديث قد ذكرتُ في كتاب الإيمان أني أتكلم على كل محل منه بحسب ما ذكر لأجله، وقد استوفيت الكلام عليه هنا غاية الاستيفاء. رجاله خمسة: قد مرّوا، وفيه ذكر ابنة مبهمة لسعد، وذكر سعد بن خولة، مرَّ عبد الله بن يوسف ومالك في الثاني من بدء الوحي، وابن شهاب في الثالث منه، وعامر بن سعد وأبوه سعد في العشرين من الإيمان, وابنة سعد المبهمة اسمها عائشة، وليست بالتي روى عنها مالك، تيك أخت هذه، وهي

تابعية، ولا يدرك مالك طبقة عائشة بنت سعد الكبرى, (فالصغرى) إنما ولدت بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- بدهر، ولا ترجموها بأنها أدركت شيئًا من أمهات المؤمنين، وقد ظن من لا علم عنده بأن مالكًا تابعيّ بروايته عن عائشة بنت سعد، ظانًا أنها الكبرى المذكورة في الصحيح. وسعد بن خولة القرشي العامريّ من بني مالك بن حِسْل بن عامر بن لُؤَيّ، وقيل من حلفائهم، وقيل من مواليهم، وقال ابن هشام: هو فارسي من اليمن، حالف بني عامر، ذكره ابن إسحاق وموسى بن عقبة في البدريين. له ذكر في الصحيحين في حديث سعد هذا، وفي حديث سُبيعة بنت الحارث أنها كانت تحت سعد بن خولة، فتوفي عنها في حجة الوداع، وهي حامل، فأتت النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأخبرته أنها ولدت بعد وفاته بليال، فقال لها: قد حَلِلْتِ فأنكحي من شئت". ولم يختلفوا أنه مات بمكة في حجة الوداع، وقال الواقدي: إنه هاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية. والحديث أخرجه البخاريّ في عشرة مواضع في المغازي، وفي الدعوات وفي الهجرة وفي الطب وفي الفرائض وفي النفقات وفي الوصايا وفي الإيمان, ومسلم في الوصايا، وكذا أبو داود والتِّرْمِذِيّ، وابن ماجه والنَّسَائي في الوصايا وفي عشرة النِّساء وفي اليوم والليلة. ثم قال المصنف:

باب ما ينهى من الحلق عند المصيبة

باب ما ينهى من الحلق عند المصيبة وخص الحلق دون غيره لأنه الغالب على النساء، وقوله "عند المصيبة" قصر للحكم على تلك الحالة، وهو واضح. الحديث الخامس والخمسون وَقَالَ الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرٍ أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُخَيْمِرَةَ حَدَّثَهُ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو بُرْدَةَ بْنُ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ وَجِعَ أَبُو مُوسَى وَجَعًا فَغُشِىَ عَلَيْهِ، وَرَأْسُهُ فِي حَجْرِ امْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِهِ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهَا شَيْئًا، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ أَنَا بَرِيءٌ مِمَّنْ بَرِىء مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَرِىء مِنَ الصَّالِقَةِ وَالْحَالِقَةِ وَالشَّاقَّةِ. قوله: وقال الحكم، وفي رواية أبي الوقت "حدثنا الحكم" وهو وهم، فإن الذين جمعوا رجال البخاري في صحيحه أطبقوا على ترك ذكره في شيوخه، فدل على أن الصواب رواية الجماعة بصيغة التعليق، وقد وصله مسلم في صحيحه, فقال: حدثنا الحكم بن موسى، وكذا ابن حِبّان، فقال: أخبرنا أبو يعلى، حدثنا الحكم. وقوله: وَجِع، بكسر الجيم، وقولها، في حجر امرأة من أهله، زاد مسلم: فصاحت، وله من وجه آخر عن أبي صَخْرة عن أبي بُردة وغيره "قالوا أُغميَ على أبي موسى، فأقبلت امرأته أم عبد الله تصيح بَرنَّة .. " الحديث. وللنَّسائيّ عن يزيد بن أوس عن أم عبد الله امرأة أبي موسى عن أبي موسى فذكر الحديث دون القصة، ولأبي نعيم في "المستخرج" على مسلم عن ربْعيّ قال: أُغمي على أبي موسى فصاحت امرأته بنت أبي دَوْمة، فحصلنا على أنها أم عبد الله بنت أبي دومة، وأفاد عمر بن شَبّة في "تاريخ البصرة" أن اسمها صفية بنت دَمُّون، وأنها والدة أبي بُردة بن أبي موسى، وأن ذلك وقع حين كان أبو موسى أميرًا على البصرة من قِبَل عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه. وقوله: إني بريء في رواية الكَشْميهنيّ: أنا بريء، وكذا لمسلم، وقد مرَّ الكلام على المراد بهذه البراءة قبل، في باب "ليس منّا من شقّ الجيوب". وقوله: الصالقة، بالصاد المهملة والقاف،

رجاله ستة

أي: التي ترفع صوتها بالبكاء، ويقال بالسين المهملة بدل الصاد، ومنه قوله تعالى: {سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} وعن ابن الأعرابي الصَّلْق ضربُ الوجه، والأول أشهر. والحالقة التي تحلق رأسها عند المصيبة، والشاقة التي تشق ثوبها, ولفظ أبي صخرة عند مسلم "أنا بريء ممن حلق وسلق وخرق" أي: حلق شعره، وسلق صوته أي: رفعه، وخرق ثوبه. رجاله ستة: وفيه لفظ امرأة مبهمة، مرَّ منهم ثلاثة، مرَّ القاسم بن مُخَيْمِرَة في تعليق بعد الحادي عشر والمئة من صفة الصلاة، ومرَّ أبو بُردة وأبوه أبو موسى في الرابع من الإِيمان. والثلاثة الباقية: الأول منها الحكم بن موسى بن أبي زهير شِبْرازْد، والبغداديّ، أبو صالح، القَنْطَرِيّ، قال ابن سعد: ثقة كثير الحديث، وكان رجلًا صالحًا ثبتًا في الحديث، وقال ابن مُعين: ليس به بأس، وقال مُرَّة: ثقة، وكذا قال العجليّ، وقال أبو حاتم: صدوق، وقال موسى بن هارون: حدثنا الحكم بن موسى أبو صالح الشيخ الصالح، وكذا قال ابن المَدِينيّ والبَغَويّ. وقال صالح جَزَرة: الثقة المأمون، وقال ابن قانع: ثقة، وذكره ابن حِبّان في الثقات، رأى مالك بن أنس، وروى عن ضَمرة بن ربيعة ويحيى بن حمزة وابن المبارك وغيرهم. وروى عنه البخاريّ تعليقًا، ومسلم وأبو داود في المراسيل، والنَّسائيّ وابن ماجه بواسطة، وغيرهم. مات سنة اثنتين وثلاثين ومئتين ليومين من شوال. الثاني يحيى بن حمزة بن واقد، الحضرميّ، أبو عبد الرحمن البتلهيّ الدمشقيّ، القاضي من أهل بيت لَهْيا. قال أحمد: ليس به بأس، وقال ابن مُعين: ثقة، وقال مُرّة كان قدريًا، وكان صدقة بن خالد أحب إليهم منه. وقال الغلابيّ: كان ثقة، وكان يُرمى بالقدر. وقال دُحيم: ثقة عالم لا أشك أنه لقي عليّ بن يزيد. وقال أبو داود: ثقة، وكان يُرمى بالقدر. وقال دُحيم: ثقة عالم لا أشك أنه لقي عليّ بن يزيد. وقال عمرو بن دحيم: أعلم أهل دمشق بحديث مِكحول الهيثمُ بن حميد ويحيى بن حمزة. وقال العجليّ: ثقة، وقال يعقوب بن شيبة: ثقة مشهور، وذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال مروان بن محمد: استقضاه المنصور سنة ثلاث وخمسين، فلم يزل قاضيًا حتى مات. روى عن الأوزاعي وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر ونصر بن علقمة وغيرهم. وروى عنه ابنه محمد وابن مَهْدِيّ والحَكَم بن موسى وغيرهم.

لطائف إسناده

مات سنة ثلاث وثمانين ومئة، وولد سنة ثلاث ومئة. والبتلهيّ في نسبه نسبةً إلى بيت لَهْيا، بفتح اللام وسكون الهاء وياء وألف مقصورة، قرية بقرب دمشق منها محمد ابن بكّار بن يزيد السَّكْسَكيّ اللهيى. الثالث عبد الرحمن بن يزيد بن جابر الأزْدِيّ أبو عُلبة الشاميّ الدارانيّ. قال ابن مُعين والعجليّ والنَّسائيّ وغير واحد: ثقةٌ، وقال ابن المَدِيْنِيّ يعد في الطبقة الثانية من فقهاء أهل الشام بعد الصحابة. وقال يعقوب بن سفيان: عبد الرحمن ويزيد ابنا جابر ثقتان، كانا نزلا البصرة، ثم تحوّلا إلى دمشق. وقال أبو داود: من ثقات الناس وقال ابنه أبو بكر: ثقة مأمون، وقال ابن مهديّ: إذا رأيت الشاميّ يذكر الأوزاعيّ وسعيد بن عبد العزيز وعبد الرحمن بن يزيد فاطْمَئِنَّ إليه. وقال أبو حاتم: صدوق لا بأس به، ثقة. وقال الفلاس وحده: ضعيف الحديث، حدث عن مكحول أحاديث مناكير، رواها عنه أهل الكوفة، وتَعَقب ذلك الحافظ أبو بكر الخطيب بأنّ الذي روى عنه أهل الكوفة أبو أسامة وغيره، هو عبد الرحمن بن يزيد بن تميم، وكانوا يغلطون فيه فيقولون ابن جابر. قال فالحمل في تلك الأحاديث على أهل الكوفة الذين وهموا في اسم جده، وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر ثقةٌ، وقد بيّن ما وقع لأبي أسامة وغيره، من ذلك ابن أبي حاتم وأبو بكر البَزّار وأبو بكر بن أبي داود وغيرهم. روى عن مكحول والزُّهريّ وزيد بن أسلم وغيرهم، وروى عنه ابنه عبد الله، وصدقة بن المبارك وعيسى بن يونس وغيرهم. مات سنة ثلاث أو أربع أو خمس وخمسين ومئة، وهو ابن بضع وثمانين سنة. لطائف إسناده: فيه أنه صدَّر الحديث بقوله "قال الحكم" بدون التحديث أو الإخبار على صورة التعليق، وقد مرَّ ما في هذا العمل عند البخاريّ، وقد وصله مسلم في كتاب الإِيمان، وفيه التحديث بالجمع والإِفراد والعنعنة والقول. ورواته ما بين بغداديّ وشاميّ وكوفيّ، وفيه رواية الابن عن الأب. والمرأة المبهمة هي زوجةُ أبي موسى أم عبد الله بنت أبي دَوْمة، وقيل: اسمها صفية بنت دَمُّون، والدة أبي بُردة بن أبي موسى، روت عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعن أبي موسى عنه فيمن حلق وسلق، وروى عنها عياض الأشعريّ ويزيد بن أوس وعبد الرحمن بن أبي ليلى. وغيرهم ثم قال المصنف:

باب ليس منا من ضرب الخدود

باب ليس منا من ضرب الخدود الحديث السادس والخمسون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ. مرَّ الكلام على هذا الحديث قبل بابين. رجاله سبعة قد مرّوا، مرَّ محمد بن بشّار في الحادي عشر من العلم، ومرَّ عبد الرحمن بن مهديّ في الأول من استقبال القبلة، ومرَّ سفيان الثَّوريّ وعبد الله بن مُرة ومسروق في السابع والعشرين من الإِيمان, ومرَّ الأعمش في الخامس والعشرين منه، وابن مسعود في أول أثر منه. ثم قال المصنف:

باب ما ينهى من الويل ودعوى الجاهلية عند المصيبة

باب ما ينهى من الويل ودعوى الجاهلية عند المصيبة سقطت هذه الترجمة مع حديثها للكَشميهنيّ، وثبتت للباقين، وأورد فيها حديث ابن مسعود من وجه آخر، ولم يذكر فيه الويل المترجم به، وكأنه أشار بذلك إلى ما ورد في بعض طرقه، ففي حديث أبي أمامة عند ابن ماجه، وصححه ابن حِبّان أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "لعن الخامشة وجهها، والشاقة جيبها، والداعية بالويل والثبور" والظاهر أن ذكر دعوى الجاهلية في الترجمة بعد ذكر الويل من العام بعد الخاص. الحديث السابع والخمسون حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ. وهذا الحديث قد مرَّ ما فيه في باب "ليس منا من شق الجيوب". رجاله ستة: قد مرّوا، مرَّ عمر بن حفص وأبوه حفص في الثاني عشر من الغُسل، ومرَّ محل الأربعة الباقية في الذي قبله. ثم قال المصنف:

باب من جلس عند المصيبة يعرف فيه الحزن

باب من جلس عند المصيبة يُعرف فيه الحزن يعرف مبني للمجهول، ومَنْ موصولة، والضمير لها، ويحتمل أن يكون لمصدر جلس، أي جلوسًا يعرف فيه، ولم يفصح المصنف بحكم هذه المسألة، ولا التي بعدها، حيث ترجم من لم يظهر حزنه عند المصيبة, لأن كلًا منهما قابل للترجيح. أما الأول فلكونه من فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، والثاني من تقريره، وما يباشره بالفعل أرجح غالبًا. وأما الثاني فلأنه فعلٌ أبلغ في الصبر، وأزجر للنفس، فيرجح ويحمل فعله -صلى الله عليه وسلم- المذكور على بيان الجواز، ويكون فعله في حقه في تلك الحالة أولى. وقال الزين بن المنير ما ملخصه: موقع هذه الترجمة من الفقه أن الاعتدال في الأحوال هو المسلك الأقوم، فمن أصيب بمصيبة عظيمة، لا يفرط في الحزن حتى يقع في المحذور من اللطم والشق والنوح وغيرها, ولا يفرط في التجلّد حتى يفضي إلى القسوة والاستخفاف بقدر المصاب، فيقتدي به -صلى الله عليه وسلم- في تلك الحالة، بأن يجلس المصاب جلسة حنيفة، بوقارٍ وسكينة، تظهر عليه مخايل الحزن، ويؤذن بأن المصيبة عظيمة. الحديث الثامن والخمسون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ سَمِعْتُ يَحْيَى قَالَ أَخْبَرَتْنِي عَمْرَةُ قَالَ سَمِعْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: لَمَّا جَاءَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَتْلُ ابْنِ حَارِثَةَ وَجَعْفَرٍ وَابْنِ رَوَاحَةَ جَلَسَ يُعْرَفُ فِيهِ الْحُزْنُ، وَأَنَا أَنْظُرُ مِنْ صَائِرِ الْبَابِ شَقِّ الْبَابِ فَأَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ إِنَّ نِسَاءَ جَعْفَرٍ، وَذَكَرَ بُكَاءَهُنَّ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَنْهَاهُنَّ، فَذَهَبَ ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ، لَمْ يُطِعْنَهُ فَقَالَ انْهَهُنَّ. فَأَتَاهُ الثَّالِثَةَ قَالَ وَاللَّهِ غَلَبْنَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَزَعَمَتْ أَنَّهُ قَالَ فَاحْثُ فِي أَفْوَاهِهِنَّ التُّرَابَ. فَقُلْتُ أَرْغَمَ اللَّهُ أَنْفَكَ، لَمْ تَفْعَلْ مَا أَمَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَلَمْ تَتْرُكْ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنَ الْعَنَاءِ. قوله: لما جاء النبي الخ، هو بالنصب على المفعولية، والفاعل قوله "قتل ابن حارثة"، وهو زيد، وأبوه بالمهملة والمثلثة، وجعفر هو ابن أبي طالب، وابن رُواحة هو عبد الله، وكان قتلهم في

غزوة مؤتة، وقد تقدمت قصتهم مستوفاة في الباب الثالث من كتاب الجنائز، وقوله: جلس، زاد أبو داود "في المسجد" قوله: يعرف فيه الحزن، قال الطيبي: كأنه كَظَم الحزن كظمًا، فظهر منه ما لابد للجبلّة البشرية منه. وقوله: صائر الباب، بالمهملة والهمزة بعدها، وفسر في نفس الحديث بقوله "شَق الباب"، وهو مفتح الشين المعجمة، أي الموضع الذي ينظر منه، ولم يَرد بكسر المعجمة، أي: الناحية، إذ ليست مرادة هنا. قاله ابن التين، وهذا التفسير الظاهر أنه من قول عائشة، ويحتمل أن يكون ممن بعدها. قال المازريّ: وقع في الصحيحين "صائر" والصواب، أي: بكسر أوله وسكون التحتانية، وهو الشن, قال أبو عبيد في "غريب الحديث"، عند حديث من نظر من صير الباب، ففُقئت عينه فهي هدر: الصِّير الشق، ولم نسمعه إلا في هذا الحديث. وقال ابن الجوزي: صائر وصير بمعنى واحد، وفي كلام الخطابي نحوه. وقوله: فأتاه رجل، قال في الفتح: لم أقف على اسمه، وكأنه أبهم عمدًا لما وقع في حقه من غضِّ عائشة منه، وقوله: إن نساء جعفر، أي: امرأته أسماء بنت عميس، ومن حضر عندها من أقاربها وأقارب جعفر، ومن في معناها. ولم يذكر أهل العلم بالأخبار لجعفر امرأة غير أسماء، ويأتي قريبًا تعريفها في السند. وقوله: وذكر بكاءَهُنّ، كذا في الصحيحين. قال الطيبيّ: هو حال من المستتر في قوله: فقال، وحذف خبر إنَّ من القول المحكي لدلالة الحال عليه، والمعنى قال الرجل: إن نساء جعفر فعلن كذا وكذا، مما لا ينبغي، من البكاء المشتمل مثلًا على نَوح. وعند أبي عُوانة: قد كثر بكاؤهن، فإنْ لم يكن تصحيفًا فلا حذف ولا تقدير، ويؤيده ما عند ابن حبّان بلفظ "قد أكثرن بكاءهن". وقوله: فذهب فَنَهاهُنّ فلم يُطِعنه، وقوله: ثم أتاه الثانية لم يطعنه، أي أتي النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- المرة الثانية، فقال: إنهن لم يطعنه. وفي رواية أبي عُوانة. "فذكر أنهن لم يطعنه". وقوله: فقال انهض، أي: قال له عليه الصلاة والسلام: "انهض فانههن". وقوله: والله غلبننا، وفي رواية الكشميهنيّ "لقد غلبننا" وقوله: فزعمت، أي: عائشة، وهو مقول عَمرة، والزعم قد يطلق على القول المحقق، وهو المراد هنا. وقوله: إنه قال، في الرواية الآتية بعد ثلاثة أبواب "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال". وقوله: فاحثُ، بضم المثلثة وكسرها، يقال: حتى يحثُو ويحثي. وقوله: التراب، في الرواية الآتية "من التراب". قال القرطبيّ: هذا بدل على أنهن رفعن أصواتهن بالبكاء، فلما لم ينتهين أمره أن يسد أفواههن بذلك، وخص الأفواه بذلك لأنها محل النوح، بخلاف الأعين مثلًا. ويحتمل أن يكون كناية عن المبالغة في الزجر، أو المعنى "أعلمهن أنهن خائبات من الأجر المترتب على الصبر، لما

أظهرن من الجزع، كما يقال للخائب لم يحصل في يده إلاَّ التراب"، لكن يُبعد هذا الاحتمال قول عائشة الآتي "لم تفعل ما أمرك" وقيل: لم يرد بالأمر حقيقته، قال عياض: هو بمعنى التعجيز، أي: أنهن لا يسكتن إلا بسد أفواههن، ولا يسدها إلا أن تملأ بالتراب، فإنْ أمكنك فافعل. وقال القرطبيّ: يحتمل أنهن لم يطعن الناهي، لكونه لم يصرح لهن بكون النبي -صلى الله عليه وسلم- نهاهن، فحملن ذلك على أنه مُرشد للمصلحة من قِبَل نفسه، أو علمن ذلك، لكن غلب عليهن شدةُ الحزن، لحرارة المصيبة. ثم الظاهر أنه كان في بكائهن زيادة على القدر المباح، فيكون النهي للتحريم، بدليل أنه كرره وبالغ فيه، وأمر بعقوبتهن إنْ لم يسكتن. ويحتمل أن يكون بكاءًا مجردًا، والنهي للتنزيه، ولو كان للتحريم لأرسل غير الرجل المذكور لمنعهن, لأنه لم يقر على باطل. ويبعد تمادي الصاحبيات بعد تكرار النهي على فعل الأمر المحرم. وفائدة نهيهنّ على الأمر المباح خشية أَنْ يسترسلن فيه، فيفضي بهنّ إلى الأمر المحرم، لضعف صبرهن، فيستفاد منه جواز النهي عن المباح عند خشية إفضائه إلى ما يحرم. وقوله: فقلت، هو مقول عائشة، وقوله: أَرْغم الله أنفك، بالراء والمعجمة، أي ألصقهُ بالرّغام، بتثليث الراء، وهو التراب، والرُّعام، بضم الراء وإهمال العين المخاطُ. قال أحد أصدقائنا: أعجم وثلث في التراب للرّغام ... أهمل وضم في المخاط للرّعام ذكره العلامة الحفنيّ ... وهو إمامٌ عالمٌ مَرْضِي وإنما قالت له ذلك إهانة وإذلالًا، ودعت عليه من جنس ما أمر أن يفعله بالنسوة، لفهمها من قرائن الحال أنه أحرج النبي -صلى الله عليه وسلم- بكثرة تردده إليه في ذلك. وقوله: لم تفعل، قال الكرمانيّ: أي: لم تبلغ النهي ونفته، وإن كان قد نهى ولم يطعنه لأن نهيه لم يترتب عليه الامتثال، فكأنه لم يفعل، ويحتمل أن تكون أرادت أنه لم يفعل، أي: الحثو بالتراب. قال في الفتح: لفظة "لم" يعبر بها عن الماضي، وقولها ذلك وقع قبل أن يتوجه فمن أين علمت أنه لم يفعل؟ فالظاهر أنها قامت عندها قرينة بأنه لا يفعل، فعبرت عنه بلفظ الماضي، مبالغة في نفي ذلك عنه، وهو مشعر بن الرجل المذكور كان من أزلام النسوة المذكورات. وفي الرواية الآتية بعد أبواب "فوالله ما أنت بفاعل ذلك" وكذا المسلم وغيره، فظهر أنه من تصرف الرواة. وقوله: من العَناء، بفتح المهملة والنون والمد، أي المشقة والتعب. وفي رواية لمسلم "من الفِيّ"، بكسر المهملة وتشديد التحتانية، وفي رواية العُذريّ "الفَيّ" بفتح المعجمة، بلفظ ضد الرشد.

قال عياض: ولا وجه له هنا، وتعقب بأنه له وجهًا، ولكن الأول أليق لموافقته لمعنى العناء الذي هو رواية الأكثر. قال النوويّ: مرادها أن الرجل قاصر عن القيام بما أمر به من الإنكار والتأديب، ومع ذلك لم يفصح بعجزه عن ذلك، ليرسل غيره فيستريح من التعب. وفي هذا الحديث من الفوائد أيضًا جواز الجلوس للعزاء بسكينة ووقار، وجواز نظر النساء المتحجبات إلى الرجال الأجانب، وتأديب من نهي عما لا يبتغي فعله إذا لم ينته، وجواز اليمين لتأكيد الخبر، واختلف في المستحق لاسم الصبر، فقال بعضهم: المستحق لاسم الصبر هو الذي يكون في حاله مثلها قبلها, ولا يظهر عليه حزن في جارحة ولا لسان، كما زعت الصوفية أن الولي لا تتم له الولاية إلا إذا تم له الرضى بالقدر، ولا يحزن على شيء، والناس في هذا الحال مختلفون، فمنهم من في قلبه الجلد وقلة المبالاة بالمصائب، ومنهم من هو بخلاف ذلك، فالذي يكون طبعه الجزع ويملك نفسه ويستعر الصبر أعظم أجرًا من الذي يتجلد طبيعة. قال الطبريّ كما روي عن ابن مسعود: أنه لما نُعي أخوه عتبة قال: لقد كان من أعز الناس عليّ، وما يسرني أنه بين أظهركم اليوم حيًا، قالوا: كيف وهو أعز الناس عليك؟ قال: إنني لأُوجر فيه أحب إليّ من أن يؤجر فيّ، وقال ثابت: إن الصلت بن أشْيم مات أخوه. فجاء رجل وهو يطعم، فقال: يا أبا الصهباء، إن أخاك مات، قال: هلمَّ فكل، قد نُعي إلينا فكل. قال: والله ما سبقني إليك من نعاه، قال: يقول الله تعالى {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}. وقال الشعبيّ: كان شُريح، رضي الله تعالى عنه، يدفن جنائزه ليلًا، فيغتنم ذلك، فيأتيه الرجل حين يصبح، فسأله عن المريض، فيقول هذا: لله الحمد والشكر، وأرجو أن يكون مستريحًا، وكان ابن سيرين يكون عند المصيبة كما قبلها، يتحدث ويضحك إلا يوم ماتت أخته حفصة، فإنه جعل يكشر، وأنت تعرف في وجهه. وسئل ربيعة: ما منتهى الصبر؟ قال: أن يكون يومَ تصيبه المصيبة مثلَه قبل أن تصيبه، وأما جزع القلب وحُزن النفس ودمع العين، فإن ذلك لا يخرج العبد عن معاني الصابرين، إذا لم يتجاوزه إلى ما لا يجوز فعله, لأن نفوس بني آدم مجبولة على الجزع من المصائب، وقد مدح الله الصابرين، ووعدهم جزيل الثواب عليه، وتغيير الأجساد عن هيئاتها، ونقلها عن طباعها التي جبلت عليها, لا يقدر عليه إلا الذي أنشأها. وروى المقْبَريّ عن أبي هريرة مرفوعًا قال: قال الله تعالى "إذا ابتليت عبدي المؤمن فلم يشكني إلى عُوّاده أنشطته من عقالي، وبدَّلته لحمًا خيرًا من لحمه، ودمًا خيرًا من دمه، ويستأنف العمل" وقد مرَّ عند الترجمة أن الأفضل ما كان يفعله عليه الصلاة والسلام من عدم الإفراط في

رجاله خمسة

التجلد، بأن يجلس المصابُ بسكينة ووقار فظهر عليه مخابل الحزن، ويؤذن بأن المصيبة عظيمة. رجاله خمسة، قد مرّوا، وفيه ذكر زيد بن حارثة، وجعفر وابن رُواحة، وقد مرّوا، مرَّ محمد بن المثنّى وعبد الوهاب في التاسع. من الإيمان, ومرَّ يحيى بن سعيد الأنصاريّ في الأول من بدء الوحي، وعائشة في الثاني منه، وعمرة في الثاني والثلاثين من الحيض، ومرَّ عبد الله بن رُواحة في السادس والثلاثين من التهجد، ومرَّ جعفر وزيد بن حارثة في التاسع من الجنائز هذا. وفي الحديث لفظ رجل مبهم، لم يسم، وفيه لفظ نساء جعفر، والمصرح باسمه منهن أسماء بنت عميس بن مَعْدٍ، بوزن سعد، وقال ابن عبد البر: بفتح العين، بن الحارث بن تَيْم بن كعب بن مالك بن قُحافة بن عامر بن رَبيعة بن غانم بن معاوية بن زيد، الخَثْعَمِيَّة، وقيل عميس بن النعمان بن كعب. والباقي سواء كانت أخت ميمونة بنت الحارث زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- لأمها، وأخت جماعة من الصحابيات لأب وأم، أو لأب ولأم. وقد مرَّ تفصيل ذلك في ترجمة أم الفضل في الثاني والثلاثين من صفة الصلاة. أسلمت أسماء قبل دخول دار الأرقم، ثم هاجرت مع زوجها جعفر إلى أرض الحبشة، فولدت له هناك عبد الله ومحمدًا وعونًا، ثم تزوجها أبو بكر بعد قتل جعفر. وروى ابن وهب أن النبي -صلى الله عليه وسلم- زوجه إياها يوم حنين، فولدت له محمدًا ثم تزوجها عليّ فولدت له عونًا ويحيى. كان عمر يسألها عن تفسير المنام، ونقل عنها أشياء من ذلك ومن غيره. وفي الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لها: لكم هجرتان، وللناس هجرة واحدة، وذلك لما قالت له: يا رسول الله، إن رجالًا يفخرون علينا، ويزعمون أنّا لسنا من المهاجرين الأولين، فقال: بل لكم هجرتان، وأوصى أبو بكر أن تغسله زوجته أسماء، وروى ابن السكن بسند صحيح أن أسماء تفاخر ابناها: محمد بن جعفر ومحمد بن أبي بكر، قال كل منهما أنا أكرم منك، وأبي خير من أبيك، فقال لها: عليّ أقضي بينهما، فقالت: ما رأيت شابًا خيرًا من جعفر، ولا كهلًا خيرًا من أبي بكر. فقال لها: فما أبقيت لنا؟ لها ستون حديثًا انفرد البخاريّ لها بحديث، روى عنها ابناها عبد الله وعون ابنا جعفر، وحفيدها القاسم بن محمد وغيرهم. وهذا الحديث أخرجه البخاريّ أيضًا في الجنائز وفي المغازي، ومسلم في الجنائز، وكذا أبو داود والنَّسائيّ. الحديث التاسع والخمسون حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ حَدَّثَنَا عَاصِمٌ الأَحْوَلُ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- شَهْرًا حِينَ قُتِلَ الْقُرَّاءُ، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-

رجاله أربعة

حَزِنَ حُزْنًا قَطُّ أَشَدَّ مِنْهُ. هذا الحديث قد مرت مباحثه مستوفاة في باب "بلا ترجمة" بعد باب "فضل اللهم ربنا لك الحمد" من أبواب صفة الصلاة، وشاهد الترجمة منه هنا قوله "ما حزن حزنًا قط أشد منه" فإن ذلك يشمل حالة جلوسه وغيرها. رجاله أربعة قد مرّوا، مرَّ عمرو بن علي في السابع والأربعين من الوضوء، ومرَّ عاصم الأحول في الخامس والثلاثين منه، ومرَّ محمد بن فضيل في الحادي والثلاثين من الإيمان, وأنس في السادس منه، ومرَّ هذا الحديث في أبواب الوتر. ثم قال المصنف:

باب من لم يظهر حزنه عند المصيبة

باب من لم يظهر حزنه عند المصيبة قوله يُظهر، بضم أوله من الرّباعي، وحزنَه منصوب على المفعولية، وقد مرَّ الكلام على هذه الترجمة عند الترجمة التي قبلها. ثم قال: وقال محمد بن كعب القُرَظيّ: الجزع: القول السيء والظن السيء، وقال يعقوب عليه السلام: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} قوله السيء، بفتح المهملة وتشديد التحتانية بعدها همزة، والمراد به يبعث الحزن غالبًا، وبالظن السيء اليأس من تعويض الله المصاب في العاجل ما هو أنفع له من الفائت، أو الاستبعاد لحصول ما وعد به من الثواب على الصبر. وقد روى ابن أبي حاتم في تفسير سورة: سأل عن القاسم بن محمد كقول محمد بن كعب هذا. وقوله: وقال يعقوب عليه السلام {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} قال الزين بن المنير: مناسبة هذه الآية للترجمة أن قول يعقوب لما تضمن أنه لا يشكو بتصريح، ولا تعريض، إلاَّ لله، وافق مقصود الترجمة، وكان خطابه بذلك لبنيه بعد قوله {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ}. والبث بفتح الموحدة بعدها مثلثة ثقيلة، شدة الحزن. وهذا التعليق لم أقف عليه موصولًا، ومحمد هو ابن كعب بن سُليم بن أَسَد القُرَظِيّ أبو حمزة، أو أبو عبد الله المدنيّ من حلفاء الأوس، وكان أبوه من سَبي قُريظة، سكن الكوفة ثم المدينة. قال ابن سعد: كان ثقة عالمًا، كثير الحديث، ورعًا. وقال العجليّ: مدنيٌّ تابعيٌّ ثقة، رجل صالح، عالم بالقرآن. وجاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من طرق أنه قال: "يخرج من أحد الكاهنين رجل يدرس القرآن دراسة لا يدرسها أحد يكون بعده" قال ربيعة: فكنا نقول: هو محمد بن كعب. والكاهنان قُرَيظة والنَّضير. وقال عون بن عبد الله: ما رأيت أحدًا أعلم بتأويل القرآن منه، وقال ابن حبّان: كان من أفاضل أهل المدينة علمًا وفقهًا، وكان يقص في المسجد فسقط عليه وعلى أصحابه سقفٌ فمات هو وجماعة معه تحت الهدم. وما نقل عن عتيبة من أنه ولد في حياته -صلى الله عليه وسلم-، لا أصل له، فإن الذي ولد في عهده هو أبوه، فقد روي أنه كان قريظة ممن لم يحتلم، ولم ينبت، فخلوا سبيله.

الحديث الستون

روى عن العباس بن عبد المطلب وعليّ بن أبي طالب وابن مسعود وغيرهم. وروى عنه أخوه عثمان والحكم بن عُتَيبة ومحمد بن المُنْكَدِر وغيرهم. مات سنة سبع عشرة. وهو ابن ثمان وسبعين سنة. الحديث الستون حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْحَكَمِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه يَقُولُ: اشْتَكَى ابْنٌ لأَبِي طَلْحَةَ قَالَ فَمَاتَ وَأَبُو طَلْحَةَ خَارِجٌ، فَلَمَّا رَأَتِ امْرَأَتُهُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ هَيَّأَتْ شَيْئًا وَنَحَّتْهُ فِي جَانِبِ الْبَيْتِ، فَلَمَّا جَاءَ أَبُو طَلْحَةَ قَالَ كَيْفَ الْغُلاَمُ قَالَتْ قَدْ هَدَأَتْ نَفْسُهُ، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدِ اسْتَرَاحَ. وَظَنَّ أَبُو طَلْحَةَ أَنَّهَا صَادِقَةٌ، قَالَ فَبَاتَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ اغْتَسَلَ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ، أَعْلَمَتْهُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ، فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ أَخْبَرَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- بِمَا كَانَ مِنْهُمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُبَارِكَ لَكُمَا فِي لَيْلَتِكُمَا. قَالَ سُفْيَانُ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَرَأَيْتُ لَهُمَا تِسْعَةَ أَوْلاَدٍ كُلُّهُمْ قَدْ قَرَأَ الْقُرْآنَ. قال أبو نعيم في "المستخرج": يقال إن هذا الحديث مما تفرد به البخاريّ عن بشر بن الحكم، يعني هذا الوجه من طريق سفيان بن عيينة، ولم يخرجه أبو نعيم ولا الإِسماعيليّ من إسحاق إلاَّ من جهة البخاريّ. وأخرجه الإسماعيليّ عن عبد الله بن عبد الله بن أبي طلحة، وهو أخو إسحاق، عن أنس، وأخرجه مسلم وابن سعد وابن حِبّان والطَّيَالِسِيّ، من طرق، عن ثابت عن أنس أيضًا. وفي رواية بعضهم ما ليس في رواية الآخر. وسأذكر ما في رواية كلٍّ من فائدة زائدة. وقوله: اشتكى ابن لأبي طلحة، أي مرض، وليس المراد أنه صدرت منه شكوى، لكن لما كان الأصل أن المريض يحصل منه ذلك، استعمل في كل مرض لكل مريض، والابن المذكور هو أبو عمير الذي كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يمازجه، ويقول: ما فعل النُّغَير يا أبا عمير؟ كما يأتي في كتاب الأدب. ويأتي الكلام عليه بعد انتهاء الكلام على هذا الحديث. بيَّن كونَه أبا عمير ابنُ حبان في روايته عن عِمارة بن زاذان عن ثابت، وزاد من طريق جعفر بن سليمان عن ثابت في أوله قصة تزويج أم سليم بأبي طلحة، بشرط أن يسلم، وقال فيه: فحملت فولدت غلامًا صبيحًا، فكان أبو طلحة يحبه حبًا شديدًا، فعاش حتى تحرك، فمرض فحزن أبو طلحة عليه حزنًا شديدًا، حتى تضعضع، وأبو طلحة يغدو ويروح على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فراح روحة،

فمات الصبيّ، فأفادت هذه الرواية تسمية امرأة أبي طلحة. ومعين قوله "وأبو طلحة" أي: خارج البيت عند النبي -صلى الله عليه وسلم-، في أواخر النهار. وعند الإِسماعيليّ "كان لأبي طلحة ولد فتوفي، فأرسلتْ أم سليم أنسًا يدعو أبا طلحة، وأمرته أن لا يخبره بوفاة ابنه، وكان أبو طلحة صائمًا". وقوله: هيأت شيئًا، قال الكرمانيّ أي: أعدت طعامًا لأبي طلحة وأصلحته، وقيل: هيأت حالها وتزينت، والصواب أنها هيأت أمر الصبيّ، بأنْ غسلته وكفنته، كما ورد في بعض طرقه صحيحًا، فعند أبي داود الطيالسيّ عن ثابت "فهيأت الصبي" وفي رواية حميد عند ابن سعد "فتوفي الغلام فهيأت أم سليم أمره" وفي رواية عمارة بن زاذان عن ثابت "فهلك الصبيّ، فقامت أم سليم فغسلته، وكفنته وحنطته، وسجت عليه ثوبًا". وقوله: ونحته في جانب البيت، أي: جعلته في جانب البيت، وفي رواية جعفر عن ثابت: فجعلته في مخدعها. وقوله: هدأت، أي: سكنت، ونفْسه بسكون الفاء للأكثر، والمعنى أنَّ النفْس كانت قلقة منزعجة بعارض المرض، فسكنت بالموت. وظن أبو طلحة أن مرادها أنها سكنت بالنوم لوجود العافية. وفي رواية أبي ذَرٍ "هدأ نَفَسه" بفتح الفاء، أي سكن, لأن المريض يكون نفسه عاليًا، فإذا زال مرضه سكن، وكذا إذا مات. وفي رواية أنس بن سيرين "هو أسكن ما كان"، ونحوه في رواية جعفر عن ثابت. وفي رواية معمر عن ثابت "أمسى هادئًا" وفي رواية حميد "بخير ما كان". ومعانيها متقاربة. وقوله: وأرجو أن يكون قد استراح، لم تجزم بذلك على سبيل الأدب، ويحتمل أنها لم تكن علمت أن الطفل لا عذاب عليه، ففوضت الأمر إلى الله تعالى، مع وجود رجائها بأنه استراح من نكد الدنيا، وقوله: وظن أبو طلحة أنها صادقة، أي بالنسبة إلى ما فهمه من كلامها، وإلا فهي صادقة بالنسبة إلى ما أرادت. وقوله: فبات، أي معها، وقوله: فلما أصبح اغتسل، فيه كناية عن الجماع, لأن الغسل إنما يكون في الغالب منه. وقد وقع التصريح بذلك في غير هذه الرواية. ففي رواية أنس بن سيرين، فقربت إليه العشاء فتعشى، ثم أصاب منها. وفي رواية عبد الله بن عبد الله "ثم تعرضت له فأصاب منها" وفي رواية حماد عن ثابت "ثم تطيبت" زاد جعفر عن ثابت "فتعرضت له حتى وقع بها" وفي رواية سليمان عن ثابت "ثم تصنَّعَت له أحسن ما كانت تصنع قبل ذلك، فوقع بها". وقوله: فلما أراد أن يخرج أعلمته أنه قد مات، وزاد مسلم "قالت يا أبا طلحة أرأيت لو أن قومًا

أعاروا أهل بيت عارِيَّةً فطلبوا عاريتهم، ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا، قالت: فاحتسب ابنك، فغضب وقال: تركتني حتى تلطختُ، ثم أخبرتني بابني؟ وفي رواية عبد الله فقالت: يا أبا طلحة، أرأيت قومًا أعاروا قومًا متاعًا، ثم بدا لهم فيه فأخذوه، فكأنهم وجدوا في أنفسهم وزاد حماد في روايته عن ثابت "فأبوا أن يردوها" فقال أبو طلحة: ليس لهم ذلك، إن العاريَّة مؤداة إلى أهلها، ثم اتفقا، فقالت: إن الله أعارنا فلانًا، ثم أخذه منا. زاد حمّاد "فاسترجع". وقوله: لعل أنْ يبارك الله لكما في ليلتكما، في رواية الأصيليّ "لهما في ليلتهما" وفي رواية أنس بن سيرين "اللهم بارك لهما"، ولا تعارض بينهما، فيجمع بينهما بأنه دعا بذلك، ورجا إجابة دعائه. ولم تختلف الرواة عن ثابت، وكذا عن حميد في أنه قال "بارك الله لكما في ليلتكما" وعرف من رواية أنس بن سيرين أن المراد الدعاء، وإنْ كان لفظه لفظ الخبر. وفي رواية أنس بن سيرين من الزيادة "فولدت غلامًا" وفي رواية عبد الله بن عبد الله "فجاءت بعبد الله بن أبي طلحة". ويأتي حديث تحنيكه في تعريفه في السند. وقوله: قال سفيان، هو ابن عيينة بالإِسناد المذكور، وقوله: فقال رجل من الأنصار إلخ، هو عباية بن رفاعة، لما أخرجه سعيد بن منصور ومسدد وابن سعد والبيهقيّ في الدلائل, كلهم عن سعيد بن مسروق عن عباية قال: كانت أم أنس تحت أبي طلحة، فذكر القصة شبيهة بسياق ثابت عن أنس. وقال في آخره: فولدت له غلامًا. قال عباية: فلقد رأي لذلك الغلام سبع بنين، كلهم قد ختم القرآن. وأفادت هذه الرواية في رواية سفيان تجوزًا في قوله لهما, لأن ظاهره أنهم من ولدهما بدون واسطة، وإنما المراد من أولاد ولدهما المدعو له بالبركة، وهو عبد الله بن أبي طلحة. وفي رواية سفيان تسعة، وفي هذه سبعة، فلعل في أحدهما تصحيفًا، أو المراد بالسبعة من ختم القرآن كله، وبالتسعة من قرأ معظمه، وله من الولد، فيما ذكر ابن سعد وغيره من أهل العلم بالأنساب، إسحاق وإسماعيل وعبد الله ويعقوب وعمر والقاسم وعمارة وإبراهيم وعمير وزيد ومحمد، وأربع من البنات، والمذكور منهم في رجال الحديث أربعة، ذكرنا تعريف من لم يسبق تعريفه في سند هذا الحديث، وهم ثلاثة مع تعريف أبي عمير. وفي قصة أم سليم هذه من الفوائد أيضًا جواز الأخذ بالشدة، وترك الرخصة مع القدرة عليها، والتسلية عن المصائب، وتزيين المرأة لزوجها، وتعرضها لطلب الجماع منه، واجتهادها في عمل مصالحه، ومشروعية المعاريض الموهمة إذا دعت الضرورة إليها، وشرط جوازها أن لا تبطل حقًا لمسلم، وكان الحامل لأم سليم على ذلك المبالغة في الصبر، والتسليم لأمر الله تعالى، ورجاء إخلافه عليها ما فات منها، إذ لو أعلمت أبا طلحة بالأمر في أول الحال تنكد عليه وقته، ولم تبلغ الغرض الذي أرادته، فلما علم الله صدق نيتها، بلَّغها مناها، وأصلح لها ذريتها.

وفيه إجابة دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأن من ترك شيئًا عوضه الله خيرًا منه، وبيان حال أم سليم من التجلد وجودة الرأي وقوة العزم، وقد كانت تشهد القتال، وتقوم بخدمة المجاهدين إلى غير ذلك مما انفردت به عن جميع النسوة، مما مرَّ في تعريفها في السبعين من كتاب العلم. وقد وعدتُ بالكلام على حديث "ما فعل النُّغَير يا أبا عمير" تتميمًا للفائدة، وها أنا أذكر متنه المسوق عند المصنف في كتاب "الأدب" من رواية أبي التَّيَّاح، وأذكر باقي طرقه. ثم اتبع معانيه، وما فيه من الفوائد. ولفظ المتن المذكور عن عبد الوارث عن أبي التَّيّاح عن أنس قال: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس خلقًا، وكان لي أخ يقال له أبو عمير، قال أحسبه فطيمًا، وكان إذا جاء قال: يا أبا عمير، ما فعل النغير؟ نغيرٌ كان يلعب به، فربما حضر الصلاة وهو في بيتنا، فيأمر بالبساط الذي تحته، فيكنس وينضح، ثم يقوم ونقوم خلفه، فيصلى بنا". وأخرجه المصنف في باب الانبساط إلى الناس من رواية شُعبة عن أبي التَّيّاح، وأخرجه النَّسائيّ عن شعبة هكذا، ومن وجه آخر عن شعبة عن قتادة عن أنس، ومن وجه آخر عن شعبة عن محمد بن قيس عن حُمَيد عن أنس، والمشهور الأول، ويحتمل أن يكون لشعبة فيه طريق. وقوله: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس خلقًا، هذا قاله أنس توطئة لما يريد ذكره من قصة الصبي، وأول حديث شعبة المذكور عن أنس قال: "إنْ كان النبي -صلى الله عليه وسلم-، لَيُخالطنا" ولأحمد عن المثنى بن سعيد عن أبي التَّيّاح عن أنس "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يزور أم سليم" وفي رواية محمد بن قيس المذكورة "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد اختلط بنا أهل البيت" يعني بيت أبي طلحة وأم سليم. ولأبي يعلى عن محمد بن سيرين عن أنس: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يغشانا ويخالطنا. وللنّسائيّ عن إسماعيل بن جعفر عن حميد عن أنس: كان يأتي أم سليم، وينام على فراشها، وكان إذا مشى يتوكأ. ولابن مسعود وسعيد بن منصور عن رِبْعيّ بن عبد الله بن الجارود عن أنس: كان يزور أم سليم فتتحفه بالشيء تصنعه له. وقوله: وكان لي أخ يقال له أبو عُمير، هو بالتصغير، وفي رواية حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس، عند أحمد: كان لي أخ صغير، وهو أخو أنس بن مالك من أمه. وفي رواية المثنى بن سعيد المارّة: وكان لها، أي أم سليم، ابن صغير، وفي رواية حميد عند أحمد: وكان لها من ابن أبي طلحة ابن يكنى أبا عُمير. وفي رواية مروان بن معاوية عن حميد عند ابن أبي عمر: كان بُنَيٌّ لأبي طلحة. وقوله: أحسبه فطيمًا، بالنصب، وأصله فطيم, لأنه صفة أخ، وهو مرفوع، لكن تخلل بين الصفة والموصوف أحسبه، فطيم بمعنى مفطوم أي انتهى إرضاعه، وفي رواية عمارة بن زاذان عن ثابت عند ابن سعد

أن أبا طلحة كان له ابن، قال أحسبه فطيمًا، وفي بعض النسخ فطيم بغير ألف، وهو محمول على طريقة من يكتب المنصوب المنون بلا ألف. وعند أحمد من طريق المثنى بن سعيد مثل ما في الأصل، ولم يذكروا لأبي عُمير اسمًا بل جزم بعض الشراح بأن اسمه كنيته، وعلى هذا يكون هذا من فوائد الحديث، وهو جعل الاسم المُصَدّر بأبٍ أو أمٍّ اسمًا علمًا من غير أن يكون له اسم غيره، لكن قد يؤخذ من قول أنس في رواية ربعيّ بن عبد الله "يكنى أبا عمير" أنّ له اسمًا غير كنيته. وأخرج أبو داود والنَّسائيّ وابن ماجة عن هُشَيم عن أبي عمير بن أنس بن مالك عن عُمومة له حديثًا. وأبو عمير هذا ذكروا أنه كان أكبر ولد أنس، وذكروا أن اسمه عبد الله، كما جزم به الحاكم أبو أحمد وغيره، فلعل أنسًا سماه باسم أخيه لأمه.، وكنّاه بكنيته، ويكون أبو طلحة سمى ابنه الذي رزقه خلفًا من أبي عُمير باسم أبي عمير، ولم يكنه بكنيته، وفي كتاب النساء لأبي الفرج بن الجوزيّ في ترجمة أم سليم عن محمد بن عمرو، وهو أبو سهل البصريّ، وفيه مقال عن حفص بن عبيد الله عن أنس أن أبا طلحة زوجَ أم سليم كان له منها ابنٌ يقال له حفصٌ، غلامٌ قد ترعرع فأصبح أبو طلحة وهو صائم في بعض شغله، فذكر قصة نحو القصة التي في الصحيح بطولها في موت الغلام، ونومها مع أبي طلحة، وقولها له أرأيت لو أن رجلًا أعارك عارية إلخ، وإعلامها النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك، ودعائه لهما، وولادتها وإرسالها الولد إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ليحنكه. وفي القصة مخالفة لما في الصحيح منها، أن الغلام كان صحيحًا فمات بغتة، ومنها أنه ترعرع، والباقي بمعناه، فعرف بها أن اسم أبي عُمير حَفص، وهو وارد على من صنَّف في الصحابة وفي المبهمات وقوله: وكان إذا جاء، أي: وكان النبي -صلى الله عليه وسلم-، زاد مروان بن معاوية في روايته "إذا جاء لأم سليم يُمازحه" ولأحمد عن حميد مثله، وفي أخرى "يضاحكه" وفي رواية محمد بن قيس "يهازله" وفي رواية المثنى بن سعيد عند أبي عُوانة "يفاكهه". وقوله: يا أبا عمير، في رواية رِبعيّ بن عبد الله، فزارنا ذات يوم فقال: يا أم سليم، ما شأني أرى أبا عمير ابنك خاثر النَّفَس؟ بمعجمة ومثلثة، أي: ثقيل النفس غير نشيط. وفي رواية مروان بن معاوية وإسماعيل بن جعفر، كلاهما عن حميد، "فجاء يومًا وقد مات نغيره" زاد مروان "الذي كان يلعب به" زاد إسماعيل "فوجده حزينًا فسأل عنه، فأخبرته، فقال: يا أبا عُمير". وفي رواية حماد بن سلَمَة فقال: ما شأن أبي عمير حزينًا؟ وفي رواية ربعيّ بن عبد الله "فجعل يمسح رأسه ويقوله" وفي رواية عِمارة بن زاذان "فكان يستقبله ويقول". وقوله: ما فعل النُّغَير؟ بنون ومعجمة وراء مصغرًا، وكرر ذلك في رواية حماد بن سلمة وقوله: نُغَيْرٌ كان يلعب به، هو طير صغير واحدة نُغْرة، وجمعه نُغْران. قال الخطابيّ: طوير له صوت، وفيه

نظر، فإنه ورد في بعض طرقه أنه الصَّعْو، بمهملتين بوزن العَفو، كما في رواية ربعي، فقالت أم سليم: ماتت صَعْوَته التي كان يلعب بها، فقال: أي: أبا عُمير، مات النُّغَير، فدل على أنهما شيء واحد، فالصعو لا يوصف بحسن الصوت. قال الشاعر: كالصعو يرتع في الرياض وإنما ... حُبِس الهَزَار لأنه يترنم قال عِياض: النُّغَير طائر معروف يشبه العصفور، وقيل هي فراخ العصافير، وقيل هي نوع من الحُمَّر، بضم المهملة وتشديد الميم ثم راء، قال: والراجح أن النُّغَير طائر أحمر المنقار، وهذا الذي جزم به الجوهريّ، وقال صاحبا العين والمحكم: الصَّعْو صغير المنقار أحمر الرأس. وقوله: فربما حضر الصلاة وهو في بيتنا إلخ، تقدم شرحه مستوفى في كتاب الصلاة في باب الصلاة على الحصير، وفي هذا الحديث فوائد جمعها أبو العباس أحمد بن أبي أحمد الطبريّ، المعروف بابن القاصّ، الفقيه الشافعيّ، صاحب التصانيف في جزء مفرد. وذكر ابن القاص في أول كتابه أن بعض الناس عاب أهل الحديث أنهم يروون أشياء لا فائدة فيها، ومثل ذلك بحديث أبي عُمير هذا. قال: وما درى أن في هذا الحديث من وجوه الفقه وفنون الأدب والفائدة ستين وجهًا، ثم ساقها، وقد لخص في "الفتح" جميع ما ذكره، وأتبعه بما تيسر من الزوائد عليه، مع تتبع طرق الحديث، وإبداء ما في كل رواية من الفائدة. وقد استوفيت هنا جمع ما ذكره صاحب "الفتح"، ففي الحديث استحباب التأني في المشي، وزيارة الإِخوان، وجواز زيارة الرجل للمرأة الأجنبية إذا لم تكن شابّة وأُمنت الفتنة، وتخصيص الإِمام بعض الرعية بالزيارة، ومخالطة بعض الرعية دون بعض، ومشي الحاكم وحده، وأن كثرة الزيارة لا تنقص المودة، وأن قوله "زُرْ غِيًا تزدد حبًا" مخصوص بمن يزور لطمع، وأن النهي عن كثرة مخالطة الناس مخصوص بمن يخشى الفتنة أو الضرر. وفيه مشروعية المصافحة، لقول أنس فيه: ما مسست كفًا ألين من كف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتخصيص ذلك بالرجل دون المرأة، وأن الذي ذكر في صفته -صلى الله عليه وسلم- أنه كان شَثِنَ الكفين خاصٌ بِعَبَالة الجِسم لا بخشونة اللمس. وفي كاستحباب صلاة الزائر في بيت المزور، ولاسيما إذا كان الزائر ممن يتبرك به، وجواز الصلاة على الحصير، وتكرر التقرر لأنه علم أن في البيت صغيرًا، وصلى مع ذلك في البيت، وجلس فيه. وفيه أن الأشياء على يقين الطهارة, لأن نضحهم البساط إنما كان للتنظيف، كذا قال في "الفتح"، وفيه نظر قد مرَّ الكلام فيه. وفيه أن الاختيار للمصلي أن يقوم على أروح الأحوال وأمكنها، خلافًا لمن استحب من المشددين في العبادة أن يقوم على أجهدها. وفيه جواز حمل

العالم علمه إلى من يستفيده منه، وفضيلة لآل أبي طلحة ولبيته، إذ صار في بيتهم قبلة يقطع بصحتها. وفيه جواز الممازحة، وتكرير المزح، وأنها إباحة سنة لا رخصة، وأن ممازحة الصبيّ الذي لم يميز جائزة، وتكرير زيارة الممزوح معه. وفيه ترك التكبر والترفع، والفرق بين كون الكبير في الطريق فيتواقر، أو في البيت فيمزح، وأن الذي ورد في المنافق أن سره يخالف علانيته ليس على عمومه. وفيه الحكم على ما يظهر من الأمارات في الوجه من حزنه أو غيره. وفيه جواز الاستدلال بالعين على صاحبها، إذ استدل عليه الصلاة والسلام بالحزن الظاهر على الحزن الكامن، حتى حكم بأنه حزين، فسأل أمر عن حزنه، وفيه التلطف بالصديق، صغيرًا كان أو كبيرًا، والسؤال عن حاله، وأن الخبر الوارد في الزجر عن بكاء الصبي محمول على ما إذا بكى عن سبب عامدًا، ومن أذى بغير حق. وفيه قبول خبر الواحد, لأن الذي أجاب عن سبب حزن أبي عمير كان كذلك. وفيه جواز تكنية من لم يولد له. وجواز إنفاق المال فيما يتلهى به الصغير من المباحات، وجواز إمساك الطير في القفص ونحوه، وقص جناح الطير، إذ لا يخلو حال طير أبي عمير من واحد منهما، وأيهما كان الواقع التحقق به الآخر في الحكم وفيه جواز إدخال الصيد من الحل إلى الحرم، وإمساكه بعد إدخاله خلافًا لمن منع إمساكه، وقاسه على من صاد ثم أحرم، فإنه يجب عليه الإِرسال. وفيه جواز تصغير الاسم ولو كان لحيوان، وجواز مواجهة الصغير بالخطاب، خلافًا لمن قال: الحكيم لا يواجه بالخطاب إلاَّ من يعقِل ويفهم. قال: والصواب الجواز، حيث لا يكون هناك طلب جواب، ومن ثَمّ لم يخاطبه في السؤال عن حاله، بل سأل غيره. وفيه معاشرة الناس على قدر عقولهم، وفيه جواز قيلولة الشخص في بيت غير بيت زوجته، ولو لم تكن فيه زوجته، ومشروعية القيلولة، وجواز قيلولة الحاكم في بيت بعض رعيته، ولو كانت امرأة. وجواز دخول الرجل بيت المرأة وزوجها غائب، ولو لم يكن محرمًا إذا انتفت الفتنة. وفيه إكرام الزائر وأن التنعم الخفيف لا ينافي السنة، وأن تشييع المَزُور الزائِرَ ليس على الوجوب، وفيه أن الكبير إذا زار قومًا واسى بينهم، فإنه صافح أنسًا، ومازح أبا عمير، ونام على فراش أم سليم، وصلى بهم في بيتهم حتى نالوا كلهم من بركته. وفي تتبع طرقه من الفائدة الخروجُ مِن خلاف مَن شَرَط في قبول الخبر أن تتعدد طرقه، فقيل لاثنين، وقيل لثلاثة، وقيل لأربعة، وقيل حتى يستحق اسم الشهرة. فكان في جميع الطرق ما يحصل المقصود لكل أحد غالبًا، وفي جمع الطرق أيضًا، ومعرفة من رواها وكميتها العلم بمراتب

الرواة في الكثرة والقلة. وفيها الاطلاع على علة الخبر بانكشاف غلط الغالط، وبيان تدليس المدلس، وتوصيل المعنعن. قال: وفيما يسره الله من جمع طرق هذا الحديث واستنباط فوائده، ما يحصل به التمييز بين أهل الفهم في النقل، وغيرهم ممن لا يهتدي لتحصيل ذلك، مع أن العين المستنبط منها واحدة، ولكن من عجائب اللطيف الخبير أنها تسقى بماء واحد، وتفضل بعضها على بعض في الأُكُل. هذا ما ذكره ابن القاصّ. وقد قال العراقيّ في شرح الترمذيّ من هذه الأوجه ما هو واضح، ومنها الخفيّ ومنها المتعسف، وما ذكره من فائدة جمع الطرق لا خصوصية له بهذا الحديث، وقد بقي من فوائده أن بعض المالكية والخطابيّ من الشافعية استدلوا به على أن صيد المدينة لا يحرم، وتعقب باحتمال ما قاله ابن القاصّ أنه صيد في الحل ثم أُدخل الحرم، فلذلك أبيح إمساكه، وبهذا أجاب مالك في المُدَوّنة، ونقله ابن المنذر عن أحمد والكوفيين، ولا يلزم منه أن حرم المدينة لا يحرم صيده. وأجاب ابن التين بأن ذلك كان قبل تحريم صيد حرم المدينة، وعكسه بعض الحنفية، فقال: قصة أبي عمير تدل على نسخ الخبر الدال على تحريم صيد المدينة، وكلا القولين متعقَّب، وما أجاب به ابن القاصّ من مخاطبة من لا يميز التحقق فيه جواز مواجهته بالخطاب إذ أفهم الخطاب، وكان في ذلك فائدة، ولو بالتأنيس له، وكذا في تعليمه الحكم الشرعيّ عند قصد تمرينه عليه من الصغير, كما في قصة الحسن بن عليّ لما وضع التمرة في فيه، قال له: كخ كخ، أما علمت أنّا لا نأكل الصدقة؟ كما يأتي بسطه في موضعه، إن شاء الله تعالى. ويجوز أيضًا مطلقًا إذا كان القصد بذلك خطاب من حضر أو استفهامه ممن يعقل، وكثيرًا ما يقال للصغير الذي لا يفهم أصلًا إذا كان ظاهر الوعك: كيف أنت؟ والمراد سؤال كافله أو حامله، وذكر ابن بطال من فوائد هذا الحديث، أيضًا، استحبابَ النضح فيما لم يتيقن طهارته، وفيه أن أسماء الأعلام لا يقصد معانيها، وأن إطلاقها على المسمى لا يستلزم الكذب, لأن الصبيّ لم يكن أبًا، وقد دُعي أبا عمير، ويأتي استيفاء الكلام على هذا في باب "ما جاء في قبر النبي -صلى الله عليه وسلم-". وفيه جواز السجع في الكلام إذا لم يكن متكلفًا، وأن ذلك لا يمتنع من النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما امتنع منه انشاء الشعر. وفيه إتحاف الزائر بصنيع ما يعرف أنه يعجبه من مأكول أو غيره وفيه جواز الرواية بالمعنى, لأن القصة واحدة، وقد جاءت بألفاظ مختلفة، وفيه جواز الاقتصار على بعض الحديث، وجواز الإتيان به تارة مطولًا وتارة ملخصًا. وجميع ذلك يحتمل أن يكون من أنس، ويحتمل أن يكون من مَن بعده، والذي يظهر أن بعض ذلك منه، والكثير منه ممن بعده، وذلك يظهر من اتحاد

رجاله أربعة

المخارج واختلافها. وفيه مسح رأس الصغير للملاطفة، وفيه دعاء الشخص بتصغير اسمه عند عدم الإِيذاء، وفيه جواز السؤال عما السائل به عالم، لقوله: ما فعل النُّغَير؟ بعد علمه بأنه مات. وفيه إكرام أقارب الخادم وإظهار المحبة لهم, لأن جميع ما ذكر من صنيع النبي -صلى الله عليه وسلم- مع أم سليم وذويها، كان غالبُه بواسطة خدمة أنس له، قلت: قد جاء في الحديث أن إكرامه لأم سليم وأختها أم حرام كان لكونهما من أخواله، ولموت أخيهما معه. وقد نوزع ابن القاص في الاستدلال به على إطلاق جواز لعب الصغير بالطير، فقال أبو عبد الملك: يجوز أن يكون ذلك منسوخًا بالنهي عن تعذيب الحيوان، وقال القرطبيّ: الحق أنْ لا نسخ، بل الذي رخص فيه للصبي إمساك الطير ليتلهى به، وأما تمكينه من تعذيبه، ولاسيما حتى يموت، فلم يبح قَطّ. ومن النوادر التي تتعلق بقصة أبي عمير ما أخرجه الحاكم في علوم الحديث عن أبي حاتم الرازي قال: حفظ الله أخانا صالح بن محمد الحافظ الملقب جزرة، فإنه لا يزال يبسطنا غائبًا وحاضرًا، كتب إليَّ أنه لما مات الذُّهْليّ بنيسابور أجلسوا شيخًا لهم يقال له مَحْمش، فأملى عليهم حديث أنس هذا فقال: يا أبا عَمير ما فعل البَعير" قاله بفتح عين عمير، بوزن عظيم. وقال بموحدة مفتوحة بدل النون، وأهمل العين بوزن الأول، فصحف الاسمين معًا. فمَحْمِش، بفتح الميم الأولى وكسر الثانية بينهما حاء مهملة ساكنة آخره معجمة، وهو لقب محمد بن يزيد بن عبد الله النيسابوريّ السلميّ، ذكره ابن حِبّان في الثقات وقال: روى عن يزيد بن هارون وغيره. وكانت فيه دُعابة. رجاله أربعة: قد مرّوا، وفيه ذكر أبي طلحة. وامرأته، وهي أم سليم، وقد مرا، وذكر رجل من الأنصار، والمراد به عباية بن رفاعة، وقد مرَّ، وفيه ذكر ابن لأبي طلحة بهم، ولفظ "تسعة أولاد" مبهمة، مرَّ بشر بن الحكم في الأربعين من التهجد، ومرَّ سفيان بن عُيينة في الأول من بدء الوحي، ومرَّ إسحاق بن عبد الله في الثامن من العلم، ومرت أم سُليم في السبعين منه، ومرَّ أبو طلحة في السادس والثلاثين من الوضوء، ومرَّ عباية بن رفاعة في الثامن والعشرين من الجمعة. والابن المبهم هو أبو عُمير صاحب القصة التي فيها "يا أبا عمير ما فعل النُّغَير" وهي في الصحيحين. قيل اسمه حفص، مات في حياته، -صلى الله عليه وسلم-، كما ذكر في هذا الحديث. وقوله في الحديث "تسعة أولاد" هم أولاد عبد الله بن أبي طلحة صاحب الليلة المباركة، ثبت ذكره في

لطائف إسناده

الصحيح عن أنس أنه لما ولدته أم سليم قالت: يا أنس، اذهب به إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فليحنّكه، فكان أول شيء دخل جوفه ريقُ النبي -صلى الله عليه وسلم-، وحنّكه بتمرة، فجعل يتلمظ، فقال: حب الأنصار التمر. ولد بعد غزوة حُنين، وكانت أمه حاملًا به في غزوة حُنين، وولد بالمدينة، ولم يزل بها في دار أبي طلحة. قال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث، وذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال عبد الرزاق: كان من خير أهل زمانه، روى عن أبيه وأخيه أنس، وروى عنه ابناه إسحاق وعبد الله، وابن ابنه إسحاق بن عبد الله. استشهد بفارس، وقيل: توفي بالمدينة في خلافة الوليد، سنة أربع وثمانين. والمذكور من أولاد عبد الله هذا التسعة، في رجال الستة أربعة، وها أنا أذكرهم: الأول إسحاق، وقد مرَّ محله في رجال السند. الثاني: إسماعيل بن عبد الله بن أبي طلحة، قال أبو حاتم: ثقة لا بأس به، وقال أبو زرعة: ثقة، وذكره ابن حِبّان في الثقات، روى عن أبيه وأنس بن مالك. وروى عنه حميد الطويل والحمّادان، وروى له النَّسائي في النكاح، من السنن الكبرى, حديثًا مقرونًا بثابت. الثالث يعقوب بن عبد الله بن أبي طلحة، ذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال أبو زرعة: ثقة، وقال النَّسائيّ: مشهور الحديث، روى عن عمه أنس بن مالك، وامرأة من آل أبي قتادة، وروى عنه أسامة بن زيد اللَّيثيّ وعبد الله بن بكر بن حزم. وقال أبو زرعة: لم يرو عنه إلا أسامة بن زيد. الرابع عبد الله بن عبد الله بن أبي طلحة، أبو يحيى المَدَنيّ، قال ابن مُعين: إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة وأخواه إسماعيل وعبد الله ثقاتٌ. وذكره ابن حبّان في الثقات، وقال أبو زرعة والنَّسائي: ثقة، وقال أبو حاتم: صالح، ووثّقه العجليّ، وهو أصغر من أخيه إسحاق. روى عن أبيه وعمه أنس، وعنه محمد بن عمارة بن حزم، ومحمد بن موسى الفطْريّ، وسعيد بن عبد الرحمن الجُمَحِيّ وغيرهم. مات سنة أربع وثلاثين ومئة. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإِفراد والإِخبار بالجمع والسماع والقول، وهذا الحديث تفرد به البخاريّ عن بشر، وأخرجه البخاريّ ومسلم من غير طريقه. ثم قال المصنف:

باب الصبر عند الصدمة الأولى

باب الصبر عند الصدمة الأولى أي: هو المطلوب المبشر عليه بالصلاة والرحمة، ومن هنا تظهر مناسبة إيراد أثر عمر في هذا الباب. ثم قال: وقال عمر: نعم العِدلان ونعم العِلاوة الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون، وقوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ}. قوله العِدلان، بكسر المهملة، أي: المِثلان، والعِلاوة، بكسرها أيضًا، ما يُعَلَّق على البعير بعد تمام الحمل، وهذا الأثر وصله الحاكم في المستدرك عن سعيد بن المسيب عن عمر، كما ساقه المصنف، وزاد "أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة، نعم العِدلان، وأولئك هم المهتدون، نِعم العلاوة" وهكذا أخرجه البيهقيّ عن الحاكم، وأخرجه عبد بن حميد في تفسيره نحوه، وظهر بهذا مراد عمر بالعِدلين وبالعِلاوة، وأن العِدلين الصلاة والرحمة، والعِلاوة الاهتداء. ويؤيده وقوعهما بعد "على" المشعرة بالفوقية، المشعرة بالحمل، قاله ابن المنير، وأخرج الطبرانيّ في الكبير نحو قول عمر، مرفوعًا عن ابن عباس، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "أُعْطيتْ أُمتي شيئًا لم يعطه أحد من الأمم عند المصيبة {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} إلى {هُمُ الْمُهْتَدُونَ} قال: فأخبر أن المؤمن إذا سلّم لأمر الله، واسترجع كتب له ثلاث خصال من الخير: الصلاة من الله، والرحمة، وتحقيق سُبل الهدى"، فأغنى هذا عن التكلف في ذلك، كقول المهلب "العِدلان: إنّا لله وإنا إليه راجعون، والعلاوة: الثواب عليهما". وعن قول الكرمانيّ الظاهر أن المراد بالعِدلين القول وجزاؤه، أي قول الكلمتين ونوعا الثواب, لأنهما متلازمان. وعمر مرَّ في الأول من بدء الوحي. وقوله: وقوله تعالى {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} الآية، هو بالجر عطفًا على أول الترجمة، والتقدير "وباب قوله تعالى". أي: تفسيره، أو نحو ذلك. وقوله: وإنها، قيل: أفرد الصلاة لأن المراد بالصبر الصوم، وهو من التروك أو الصبر عن الميت ترك الجزع. والصلاة أفعال وأقوال، فلذلك ثقلت على غير الخاشعين، ومن أسرارها أنها تُعين على الصبر

الحديث الحادي والستون

لما فيها من الذكر والدعاء والخضوع، وكلها تُضَادُّ حب الرياسة، وعدم الانقياد للأوامر والنواهي، وكأن المصنف أراد بإيراد هذه الآية ما جاء عن ابن عباس أنه نُعي إليه أخوه قُثَم، وهو في سفر، فاسترجع، ثم تنحى عن الطريق، فأناخ فصلى ركعتين، أطال فيهما الجلوس، ثم قام وهو يقول: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} الآية. أخرجه الطبريّ في تفسيره بإسناد حسن، وعن حذيفة قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا حَزَبَه أمر صلى" أخرجه أبو داود بإسناد حسن أيضًا. قال الطبريّ: الصبر منع النفْس مَحَابَّها، وكفها عن هواها, ولذلك قيل لمن لم يجزع: صابر، لكفِّه نفسه. وقيل لرمضان: شهر الصبر، لكف الصائم نفسه عن المَطْعَم والمَشْرَب. وقوله: إلا على الخاشعين، الخاشع الذي يرى أثر الذل والخضوع عليه، والخشوع في اللغة السكون. قال: {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ}. وقيل: الخشوع في الصوت والبصر، الخضوع في البدن، واعلم أن الصبر ذكر في القرآن العظيم في خمسة وتسعين موضعًا، ومن أجمعها هذه الآية. ومن آنقها {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} قرن هنا الصابر بنون العظمة، ومن أبهجها قوله تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ}. وخص الصلاة بالالتجاء إليها لأنها جامعة لأنواع العبادات النفسانية والبدنية، من الطهارة وستر العورة، وصرف المال فيهما، والتوجه إلى الكعبة، والعكوف للعبادة، وإظهار الخشوع بالجوارح، وإخلاص النية بالقلب، ومجاهدة الشيطان، ومناجاة الحق، وقراءة القرآن، والتكلم بالشهادتين، وكف النفس عن الأطْيَبَيْنِ، حتى تجابوا إلى تحصيل المآرب. الحديث الحادي والستون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ ثَابِتٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسًا رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى. وهذا الحديث قد مرَّ أكثر مباحثه عند ذكره، في باب قول الرجل للمرأة عند القبر: اصبري، وأذكر طرفًا هنا، فقوله: عند الصدمة الأولى، فإنْ مفاجأة المصيبة بغتة لها روعة تزعزع القلب، وتزعجه بصدمتها، فإنْ صبر للصدمة الأولى انكسرت حدتها، وضعفت قوتها، فهان عليه استدامة الصبر. فأما إذا طالت الأيام على المصاب وقع السُّلُوّ، وصار الصبر طبعًا حينئذ، فلا يؤجر عليه مثل ذلك. والصابر، على الحقيقة، من صَبَر نفسه وحبسها عن شهواتها، وقهرها عن الحزن والجَزَع

رجاله خمسة

والبكاء الذي فيه راحة النفس، وإطفاء نار الحزن، فإذا قابل فيها سَوْرة الحزن وهجومَه بالصبر الجميل، وتحقق أنه لا خروج له عن قضائه تعالى، وأنه يرجع إليه، وعلم يقينًا أنَّ الآجال لا تقديم فيها ولا تأخير، وأن المقادير بيده تعالى، ومنه، استحق حينئذ الثواب، فضلًا منه. وَعُدَّ من الصابرين الذين وعدهم الله تعالى بالرحمة والمغفرة، وإذا جزع ولم يصبر، أثِم وأتعب نفسه، ولم يرد من قضاء الله تعالى شيئًا، ولو لم يكن من فضل الصبر للعبد إلا الفوز بدرجة المعيّة والمحبة، أن الله مع الصابرين، إن الله يحب الصابرين، لكفى فنسأل العافية والصبرَ والرضى، واعلمْ أنَّ الصبر كِيْرُ العبدِ الذي يسبك فيه حاله، فإما أن يُخْرج ذهبًا أحمر، وإما أن يخرج خبثًا كله كما قيل: سبكناهُ ونحسبه لُجينًا ... فأبدى الكير عن خبث الحديد فإن لم ينفعه هذا الكير في الدنيا فبين يديه الكير الأعظم، فإذا علم العبد أن إدخاله كير الدنيا ومسبكها خير له من ذلك الكير والمسبك، وأنه لابد له من أحد الكيرين، فَلِيعلم قَدْر نعمة الله عليه في الكير العاجل، فالعبد إذا امتحنه الله بمصيبة فصبر عند الصدمة الأُولى، فليحمد الله تعالى أن أهَّلَه لذلك، وثبته عليه. وقد اختلف هل المصائب مُكفِّرات أو مُثيبات، فذهب الشيخ عز الدين بن عبد الله في طائفة إلى أنه إنما يثاب على الصبر عليها, لأن الثواب إنما يكون على فعل العبد، والمصائب لا صنع له فيها، وقد يصيب الكافر مثل ما يصيب المسلم. وذهب آخرون إلى أنه يثاب عليها, لآية {وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} وحديث الصحيحين "والذي نفسي بيده، ما على الأرض مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه، إلاّ حط الله عنه به خطاياه، كما تحط الشجرة اليابسة ورقها". وفيهما: "ما من مصيبة تصيب المسلم، من نَصَب ولا وَصَب ولا هَم ولا حَزَن ولا أذى ولا غَم، حتى الشوكة، إلا كفَّر الله عَزَّ وَجَلَّ بها خطاياه" فالغم على المستقبل، والحزن على الماضي، والنصب والوصب المرض. وفيه حَلْفُه -صلى الله عليه وسلم- تقوية لإِيمان الضعيف، ومسمى مسلم، وأن قل، ولو مذنبًا، ومسمى أذى وإن قل، وذكر خطاياه، ولم يقل منها طفح الكرم حتى غفر بمجرد ألم، ولو لم يكن للمبتلى في الصبر قدم. وقد ذكرت هنا بعض ما مرَّ ذكره في الباب السابق، لتخلله بغيره مما لم يذكر. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ محمد بن بشار في الحادي عشر من العلم، وثابت البناني في تعليق بعد الخامس منه، ومرَّ غندر في الخامس والعشرين من الإِيمان، وشعبة في الثالث منه، وأنس في السادس منه. ثم قال المصنف:

باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم- إنا بك لمحزونون

باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم- إنا بك لمحزونون قال ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- تدمع العين ويحزن القلب. سقطت هذه الترجمة والأثر في رواية الحمويّ، وثبتت للباقين، وحديث ابن عمر كان المراد به ما أورده المصنف في الباب الذي بعد هذا، إلا أن لفظه "إن الله لا يعذِّب بدمع العين, ولا بحزن القلب" فيحتمل أن يكون ذكره بالمعنى, لأن ترك المؤاخذة بذلك يستلزم وجوده، وأما لفظه فثبت في قصة موت إبراهيم من حديث أنس عند مسلم، وأصله عند المصنف كما في هذا الباب، وعن عبد الرحمن بن عوف عند ابن سعد والطبرانيّ، وأبي هريرة عند ابن حِبّان والحاكم، وأسماء بنت يزيد عند ابن ماجه، ومحمود بن لبيد عند ابن سعد، والسائب بن يزيد وأبي أمامة عند الطبرانيّ، ومرَّ ابن عمر في أول الإِيمان قبل ذكر حديث منه. الحديث الثاني والستون حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ حَدَّثَنَا قُرَيْشٌ هُوَ ابْنُ حَبَّانَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى أَبِي سَيْفٍ الْقَيْنِ وَكَانَ ظِئْرًا لإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ، ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- تَذْرِفَانِ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رضي الله عنه وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ يَا ابْنَ عَوْفٍ إِنَّهَا رَحْمَةٌ. ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم- إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلاَ نَقُولُ إِلاَّ مَا يَرْضَي رَبُّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ. قوله: على أبي سيف، قال عياض: هو البراء بن أوس، وأم سيف زوجته هي أم بُردة، واسمها خولة بنت المنذر، وهذا قصد به الجمع بين ما في هذا الحديث الصحيح، وبين ما رواه ابن سعد في الطبقات, عن الواقديّ من أن المرضعة هي أم بُردة بنت المنذر بن زيد بن لبيد من بني عَدِي بن

النّجار، وزوجها البراء بن أوس بن خالد بن الجَعْد من بني عَدِيّ. وما جمع به غير مستبعد، إلا أنه لم يأت عن أحد من الأئمة التصريح بأن البراء بن أوس يكنى أبا سيف، ولا أن أبا سيف يسمى البراء بن أوس. وقوله: القَين، بفتح القاف وسكون التحتانية بعدها نون، هو الحداد، ويطلق على كل صائغ، يقال: قال الشيء إذا أصلحه. وقوله: ظِئْرًا، بكسر المعجمة وسكون التحتانية المهموزة بعدها راء، أي مرضعًا، وأطلق عليه ذلك لأنه كان زوج المرضعة، واصل الظئر من ظأرت الناقة إذا عطفت على غير ولدها، فقيل ذلك للتي ترضع غير ولدها، وأُطلق على زوجها ذلك لأنه يشاركها في تربيته غالبًا. وقوله لإبراهيم، أي ابن الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ووقع التصريح بذلك في رواية سليمان بن المغيرة، المعلقة بعد هذا, ولفظه عند مسلم "ولد لي الليلة غلامٌ" إلى آخره، الآتي قريبًا في تعريف أبي سيف في السند، وفي رواية لمسلم أيضًا عن أنس "ما رأيت أحدًا كان أرحم بالعيال من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كان إبراهيم مُسْتَرْضعًا في عوالي المدينة، وكان ينطلق ونحن معه، فيدخل البيت، وإنه ليدخن، وكان ظِئره قينًا". وقوله: وإبراهيم يجود بنفسه، أي: يخرجها، ويدفعها، كما يدفع الإِنسان ما له. وفي رواية سليمان "يكيد" قال صاحب العَين: أي يَسوق بها، وقيل: معناه يقارب بها الموت. وقال أبو مروان بن السّرّاج: قد يكون من الكيد، وهو القيء، يقال منه كاد يكبد، شَبَّه تَقَلُّع نفسه عند الموت بذلك. وقوله: تذرفان، بذال معجمة وفاء، أي يجري دمعهما. وقوله: وأنت يا رسول الله، قال الطيبيّ: فيه معنى التعجب، والواو تستدعي معطوفًا عليه، أي: الناس لا يصبرون عن المصيبة وأنت تفعل كفعلهم، كأنه تعجب لذلك منه مع أنه عهد منه أنه يحث على الصبر، وينهى عن الجزع، فأجابه بقوله: إنها رحمة، أي الحالة التي شاهدتها مني هي رقة القلب على الولد، لا ما توهمت من الجزع. وفي حديث عبد الرحمن بن عوف "نَفَسه" فقلتُ: يا رسول الله أتبكي؟ أَوَلَمْ تَنهَ عن البكاء؟ وزاد فيه "إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نفحة لَهو ولعب ومزامير الشيطان، وصوت عند مصيبة خمش وجوه وشق جيوب وَرَنَّة شيطان" قال: "إن هذا رحمة، ومن لا يرحم لا يرحم". وفي رواية محمود بن لبيد فقال: "إنما أنا بشر". وعند عبد الرزاق من مُرْسَل مكحول "إنما أنهى الناس عن النياحة، أنْ يُنْدب الرجل بما ليس فيه".

وقوله: ثم أتبعها بأخرى، في رواية الإِسماعيليّ: ثم أتبعها، والله، بأخرى، بزيادة القسم. قيل: أراد به أنه اتبع الأُولى بدمعة أُخرى، وقيل: أتبع الكلمة الأولى، المجملة، وهي قوله: إنها رحمة، بكلمة أخرى مفصلة. وهي قوله: "إن العين تدمع" ويؤيد الثاني ما مرَّ عن طريق عبد الرحمن، ومرسل مكحول. وقوله إن العين تدمع إلى آخره في حديث عبد الرحمن بن عوف ومحمود بن لبيد "ولا نقول ما يُسخط الرب" وزاد في آخر حديث عبد الرحمن "لولا أنه أمر حق، ووعد صدق، وسبيل ناتيه، وأنّ آخرنا سيلحق بأولنا لحزنا عليك حزنًا هو أشد من هذا" ونحوه في حديث أسماء بنت يزيد ومرسل مكحول، وزاد في آخره "وفصل رضاعه في الجنة"، وزاد في آخر حديث محمود بن لبيد "وقال: إن له مُرْضعًا في الجنة". ومات وهو ابن ثمانية عشر شهرًا، وعند مسلم من حديث أنس قال عمرو بن سعيد: فلما توفي إبراهيم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن إبراهيم ابني، وإنه مات في الثدي، وإن له لظئرين يكملان رضاعه في الجنة" سيأتي في آخر الجنائز حديث البراء "إن لإبراهيم لمرضعًا في الجنة" وفي قوله: "إن العين تدمع" الخ إضافة الفعل إلى الجارحة تنبيهًا على أن مثل هذا لا يدخل تحت قدرة العبد، ولا يكلف الانفكاك عنه، وكأنّ الجارحة امتنعت، فصارت هي الفاعلة، لا هو، ولهذا قال: "وإنا بفارقك لمحزونون" فعبر بصيغة المفعول لا بصيغة الفاعل، أي ليس الحزن من فعلنا، ولكنه واقع بنا من غيرنا, ولا يكلف الإِنسان بفعل غيره. والفرق بين ومع العين ونطق اللسان، أنّ النطق يُمْلَك، بخلاف الدمع، فهو للعين كالنظر، ألا ترى أن العين إذا كانت مفتوحة نظرت شاء صاحبها أو أبى، فالفعل لها, ولا كذلك نُطْق اللسان، فإنه لصاحب اللسان. قاله ابن المنير. وقد مرَّ كثير من مناقب إبراهيم عليه السلام عند تعريفه في الرابع من الكسوف، قال ابن بطال وغيره: هذا الحديث يفسر البكاء المباح، والحزن الجائز، وهو ما كان بدمع العين، ورقة القلب من غير سخط لأمر الله، وهو أبين شيء وقع في هذا المعنى، وفيه جواز الإخبار عن الحزن، وإن كان كتمه أولى، وجواز البكاء على الميت قبل موته، نعم، يجوز بعده, لأنه -صلى الله عليه وسلم- بكى على قبر بنت له. رواه البخاريّ وزار قبر أمه، فبكى وأبكى من حوله، رواه مسلم. ولكنه قبل الموت أولى بالجواز، لأنه بعد الموت يكون أسفًا على ما فات، وبعد الموت خلاف الأولى، كذا نقله في المجموع عن الجمهور. ولكنه نقل في الأذكار عن الشافعيّ والأصحاب أنه مكروهٌ، لحديث "فإذا وجبت فلا تبكيَنَّ باكية" قالوا: وما الوجوب يا رسول الله؟ قال: "الموت" رواه الشافعيّ وغيره بأسانيد صحيحة. قال السّبكيّ: ينبغي أن يقال: إن كان البكاء لرقة على الميت وما يخشى عليه من عذاب الله وأهوال يوم القيامة فلا يكره، ولا يكون خلاف الأولى، وإن كان للجزع وعدم التسليم للقضاء، فيكره أو يحرم، وهذا كله في البكاء بصوت. أما مجرد دمع العين العاري عن القول والفعل الممنوعين، فلا منع منه

رجاله خمسة

كما قال عليه الصلاة والسلام. وفيه مشروعية تقبيل الولد وشمه، وليس فيه دليل على فعل ذلك بالميت, لأن هذه القصة إنما وقعت قبل موت إبراهيم عليه السلام، نعم، روى أبو داود وغيره أنه عليه الصلاة والسلام قبّل عثمان بن مظعون بعد موته، وصححه التِّرمذيّ، وروى البخاريّ أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه قبّل النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد موته، فلأصدقائه وأقاربه تقبيله. وفيه مشروعية الرضاع، وعيادة الصغير, والحضور عند المحتضر، ورحمة العيال. وفيه وقوع الخطاب للغير وإرادة غيره بذلك، وكل منهما مأخوذ من مخاطبة النبي -صلى الله عليه وسلم- ولده، مع أنه في تلك الحالة لم يكن ممن يفهم الخطاب، لوجهين: أحدهما صغره، والثاني. نزاعه. وإنما أراد بالخطاب غيره من الحاضرين، إشارة إلى أن ذلك لم يدخل في نهيه السابق. وفيه جواز الاعتراض على من خالف فعله ظاهر قوله ليظهر الفرق. رجاله خمسة: وفيه ذكر إبراهيم بن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعبد الرحمن بن عوف وأبي سيف القَيْن، مرَّ محل ثابت وأنس في الذي قبله، ومرَّ عبد الرحمن بن عوف في السابع والخمسين من الجمعة، ومرَّ إبراهيم ابن النبيّ عليه الصلاة والسلام في الرابع من الكسوف، والباقي ثلاثة من السند. وأبو سيف المذكور في المتن الأول: الحسن بن عبد العزيز بن الوزير بن صابىء بن مالك بن عامر بن عَدِيّ بن حَمْرَش الجُذَاميّ الجَرَويّ، أبو علي المصريّ، نزيل بغداد. لجده صحبة، قال ابن أبي حاتم: سمعت منه مع أبي، وهو ثقة، وسُئل عنه أبي فقال: ثقة، وقال الدارقطنيّ: لم ير مثله فضلًا وزهدًا. وقال الخطيب: كان من أهل الدين والفضل، مذكورًا بالورع والثقة، موصوفًا بالعبادة. وقال البزّار: كان ثقة مأمونًا، وقال الحاكم: كان من أعيان المحدثين الثقات، وقال الدارقطنيُّ أيضًا: الجَرَويّ فوق الثقة جبل. وقال ابن يونس: كانت له عبادة وفضل، وكان من أهل الورع والفقه، وقال عبد المجيد بن عثمان: كان صالحًا ناسكًا، وكان أبو مَلكًا على تَنِّيس، ثم أخوه عليّ، ولم يقبل الحسن شيئًا من إرث أبيه، وكان يُقْرَن بقارون في اليسار، وليس له عند البخاري سوى هذا الحديث، وحديثين آخرين في التفسير. روى عن يحيى بن حسّان وأبي مسهر وعمرو بن سَلَمة وغيرهم. وروى عنه البخاريّ وابن ابنه جعفر بن محمد وإبراهيم الحربيّ وغيرهم. حمل من مصر إلى العراق بعد قتل أخيه عليّ إلى أن مات بها سنة سبع وخمسين ومئتين. والجَرَويّ في نسبه بالتحريك نسبة إلى جَرِيّ بن عوف، بطن

من جُذام، منهم هو هذا، ومنهم عثمان بن سويد بن منذر بن دياب بن جَرِيّ، روى عن مسروح بن سَنْدر، وروى عنه ابن ابنته سِماك بن نعيم. وقيل: نسبة إلى جَرْوَة بفتح فسكون، قرية بتنيس. الثاني يحيى بن حسّان بن حبّان، بالتحتانية، التنبسيّ البكريّ، أبو زكرياء البصريّ. قال أحمد: ثقة رجل صالح. وقال مُرة: ثقة صاحب حديث. وقال العجليّ: كان ثقة مأمونًا عالمًا بالحديث. وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وقال النسائي: ثقة. وذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال مروان بن محمد: لم يكن يطلب الحديث حتى قدم يحيى بن حسان، وقال ابن يونس: كان ثقة حسن الحديث، وصنف كتبًا، وحدث بها. وقال أبو بكر البزّار: يحيى بن حسّان ثقة صاحب حديث، وقال مطين: ثقة. روى عن وهيب بن خالد وسليمان بن بلال وقريش بن حبان وغيرهم. وروى عنه الشافعيّ ومات قبله، وابنه محمد بن يحيى، ودهيم وغيرهم. مات بمصر سنة ثمان ومئتين، وولد سنة أربع وأربعين ومئة. الثالث قريش بن حِبّان، بالتحتانية، العجليّ، أبو بكر البصريّ، ذكره ابن حِبّان. وقال الدارقطنيّ وابن مُعين: ثقة، وقال النَّسائي: ثقة لا بأس به، وقال أحمد وأبو حاتم: لا بأس به، روى عن الحسن وابن سيرين وثابت البنانيّ وغيرهم. وروى عنه الأوزاعيّ، ومات قبله، وابن وهب ويحيى بن حسان وغيرهم. والعجليّ في نسبه نسبة إلى بني عَجْل، حيّ من ربيعة، وهو عجل بن لُجَيم بن صَعب بن عليّ بن بكر بن وائل، وكان أحمق، قيل له: ما سميت فرسك هذا؟ ففقأ إحدى عينيه وقال: سميته الأعور. وأمه حَذَام التي يضرب بها المثل. منهم فرات بن حبان بن ثعلبة العجليّ، له صحبة، وأبو المعتمر مَوَرِّق بن المُشَمْرِجَ العجليّ، تابعيّ، وأبو الأشعث أحمد بن المقدام العَجلي، بصريّ من شيوخ مسلم، والتِّرمذيّ، وأبو دلف القاسم بن عيسى العجليّ الجواد المعروف. الرابع أبو سيف القَين، بفتح القاف بعدها ياء ساكنة، وهو الحداد، كان من الأنصار، وهو زوج أم سيف مرضعة إبراهيم ولد النبي -صلى الله عليه وسلم-. ثبت ذكره في الصحيحين عن أنس، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ولد لي الليلة غُلام فسميته باسم أبي إبراهيم، ودفعته أم سيف امرأةُ قين بالمدينة يقال له أبو سيف"، قال: فانطلق إليه فانتهينا إلى أبي سيف وهو ينفخ كيره وقد امتلأ البيت دخانًا، فأسرعت إلى أبي سيف، فقلت: يا أبا سيف، أمْسِك، جاء النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأمسك فذكر الحديث. هذا لفظ مسلم. ولفظ البخاري هو ما في هذا الحديث، وقد مرَّ الكلام بأزيد من هذا في ترجمة إبراهيم بن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الرابع من الكسوف.

ثم قال: رواه موسى عن سُليمان بن المُغيرة عن ثابت عن أنس رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذا التعليق وصله البيهقيّ في الدلائل, وأخرجه مسلم، وفي سياقه ما ليس في سياق قُرَيش بن حيّان، وإنما أراد البخاريّ أصل الحديث. ورجاله أربعة: قد مرّوا، مرَّ موسى بن إسماعيل في الخامس من بدء الوحي، ومرَّ سليمان بن المُغيرة في الثاني والمئة من استقبال القبلة، ومرَّ محل ثابت وأنس في الذي قبله بحديث. ثم قال المصنف:

باب البكاء عند المريض

باب البكاء عند المريض سقط لفظ "باب" من رواية أبي ذر، قال الزين بن المنير: ذكر المريض أعم من أن يكون أشْرَفَ على الموت، أو هو في مبادىء المرض، لكن البكاء عادة إنما يقع عند ظهور العلامات المخوفة، كما في قصة سعد بن عُبادة في حديث هذا الباب. الحديث الثالث والستون حَدَّثَنَا أَصْبَغُ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ الأَنْصَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ اشْتَكَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ شَكْوَى لَهُ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَعُودُهُ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنهم - فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ فَوَجَدَهُ فِي غَاشِيَةِ أَهْلِهِ فَقَالَ قَدْ قَضَى. قَالُوا لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَبَكَى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَلَمَّا رَأَى الْقَوْمُ بُكَاءَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- بَكَوْا فَقَالَ أَلاَ تَسْمَعُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ، وَلاَ بِحُزْنِ الْقَلْبِ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ أَوْ يَرْحَمُ وَإِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ. وَكَانَ عُمَرُ رضي الله عنه يَضْرِبُ فِيهِ بِالْعَصَا، وَيَرْمِي بِالْحِجَارَةِ وَيَحْثِي بِالتُّرَابِ. قوله: عن سعيد بن الحارث، وقع في رواية مسلم عن سعيد بن الحارث بن المعلّى، فكأنه نسب أباه إلى جده. وقوله: اشتكى، أي ضَعُف، وقوله: شكوى، بغير تنوين، وقوله: فلما دخل عليه، زاد مسلم عن عمارة بن غُزَيَّة "فاستأخر قومه من حوله حتى دنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الذين معه". وقوله: في غاشية أهله، بمعجمتين، أي: الذين يغشونه للخدمة وغيرها، وسقط لفظ "أهله" من أكثر الروايات، وعليه شرح الخطابيّ، فيجوز أن يكون المراد بالغاشية الغَشْية من الكرب، ويؤيده ما في رواية مسلم "في غَشْيَته". وقال النّوربشْتيّ: الغاشية هي الداهية من شر أو من مرض أو من مكروه، والمراد ما يتغشاه من كرب الوجع الذي هو فيه، لا الموت, لأنه أفاق من تلك المرضة، وعاش بعدها زمانًا. وقوله: فلما

رجاله خمسة

رأى القومُ بكاءَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بكوا. في هذا إشعار بأن هذه القصة كانت بعد قصة إبراهيم بن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- , لأن عبد الرحمن بن عوف كان معهم في هذه القصة، ولم يعترضه بمثل ما اعترض به هناك، فدل على أنه تقرر عنده العلم بأن مجرد البكاء بدمع العين، من غير زيادة على ذلك، لا يضر. وقوله: فقال ألا تسمعون، لا يحتاج إلى مفعول, لأنه جعل كالفعل اللازم، أي ألا توجدون السماع؟ وفيه إشارة أنه فهم من بعضهم الإنكار فبيّن لهم الفرق بَين الحالتين. وقوله: إنّ الله، بكسر همزة إنّ, لأنه ابتداء كلام. وقوله: يعذب بهذا، أي إنْ قال سوءًا. وقوله: أو يرحم، إن قال خيرًا، ويحتمل أن يكون معنى قوله "أو يرحم" أي: إنْ لم ينفذ الوعيد. وقوله: وإن الميت يعذب ببكاء أهله عليه، أي: بخلاف غيره، ونظيره قوله في قصة عبد الله بن ثابت التي أخرجها مالك في الموطأ عن جابر بن عَتبك ففيه "فصاح النسوة، فجعل ابن عتبك يسكتهن، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: دعهن، فإذا وجبت فلا تَبْكينَّ باكية .. " الحديث. وقد مرَّ حديث "لما أصيب عمر" تحرير أنه يعذب ببكاء غير أهله عليه. وقوله: وكان عمر، هو موصول بالإِسناد المذكور إلى ابن عمر، وسقطت هذه الجملة، وكذا التي قبلها من رواية مسلم، ولهذا ظن بعض الناس أنهما معلقان. وفي حديث ابن عمر من الفوائد استحبابُ عيادة المريض، وعيادة الفاضل للمفضول، والإِمام اتباعَه مع أصحابه، وفيه النهي عن المنكر، وبيان الوعيد عليه. رجاله خمسة: وفيه ذكر سعد بن عبادة، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود، وعمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عن الجميع، وقد مرّوا، مرَّ أَصْبَغ وعمرو بن الحارث في السابع والستين من الوضوء ومرَّ ابن وهب في الثالث عشر من العلم، ومرَّ ابن عمر وابن مسعود في أول الإِيمان قبل ذكر حديث منه، ومرَّ سعد بن أبي وقاص في العشرين منه، ومرَّ سعيد بن الحارث في الثالث عشر من كتاب الصلاة، ومرَّ عمر في الأول من بدء الوحي، ومرَّ عبد الرحمن بن عوف في السابع والخمسين من الجمعة، ومرَّ سعد بن عبادة في الخامس والأربعين من الجنائز هذا. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإخبار بالأفراد والعنعنة والقول، وشيخ البخاري من أفراده، ورواته مصريون ما عدا سعيد بن الحارث، فإنه مدنيّ، والحديث أخرجه مسلم أيضًا، ثم قال المصنف:

باب ما ينهى من النوح والبكاء والزجر عن ذلك

باب ما ينهى من النوح والبكاء والزجر عن ذلك قال الزين بن المنير: عطف الزجر على النهيّ للإِشارة إلى المؤاخذة الواقعة في الحديث، بقوله "فاحث في أفواههنّ التراب". الحديث الرابع والستون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوْشَبٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبَرَتْنِي عَمْرَةُ قَالَتْ سَمِعْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها تَقُولُ: لَمَّا جَاءَ قَتْلُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَجَعْفَرٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ، جَلَسَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُعْرَفُ فِيهِ الْحُزْنُ، وَأَنَا أَطَّلِعُ مِنْ شَقِّ الْبَابِ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ نِسَاءَ جَعْفَرٍ وَذَكَرَ بُكَاءَهُنَّ فَأَمَرَهُ بِأَنْ يَنْهَاهُنَّ، فَذَهَبَ الرَّجُلُ ثُمَّ أَتَى فَقَالَ قَدْ نَهَيْتُهُنَّ، وَذَكَرَ أَنَّهُنَّ لَمْ يُطِعْنَهُ، فَأَمَرَهُ الثَّانِيَةَ أَنْ يَنْهَاهُنَّ، فَذَهَبَ، ثُمَّ أَتَى، فَقَالَ وَاللَّهِ لَقَدْ غَلَبْنَنِي أَوْ غَلَبْنَنَا الشَّكُّ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَوْشَبٍ فَزَعَمَتْ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: فَاحْثُ فِي أَفْوَاهِهِنَّ التُّرَابَ. فَقُلْتُ أَرْغَمَ اللَّهُ أَنْفَكَ، فَوَاللَّهِ مَا أَنْتَ بِفَاعِلٍ وَمَا تَرَكْتَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنَ الْعَنَاءِ. هذا الحديث قد استوفيت مباحثه في باب "من جلس عند المصيبة يعرف فيه الحزن". رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ ابن حَوْشب في التاسع من الجماعة، ومرَّ عبد الوهاب في التاسع من الإِيمان, ومرَّ يحيى بن سعيد الأنصاريّ في الأول من بدء الوحي، وعائشة في الثاني منه، وعمرة في الثاني والثلاثين من الحيض، ومرَّ زيد بن حارثة وجعفر في التاسع من الجنائز، وعبد الله بن رواحة في السادس والثلاثين من التهجد، ومرَّ في الثامن والخمسين من الجنائز أن الرجل لم يُسَمَّ، وتعريف أسماء بن عميس.

الحديث الخامس والستون

الحديث الخامس والستون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها قَالَتْ أَخَذَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عِنْدَ الْبَيْعَةِ أَنْ لاَ نَنُوحَ، فَمَا وَفَتْ مِنَّا امْرَأَةٌ غَيْرَ خَمْسِ نِسْوَةٍ أُمِّ سُلَيْمٍ وَأُمِّ الْعَلاَءِ وَابْنَةِ أَبِي سَبْرَةَ امْرَأَةِ مُعَاذٍ وَامْرَأَتَيْنِ أَوِ ابْنَةِ أَبِي سَبْرَةَ وَامْرَأَةِ مُعَاذٍ وَامْرَأَةٍ أُخْرَى. قوله: عن محمد، قد رواه عارم فيما أخرجه الطبرانيّ عن حماد، فقال: عن حماد عن حفصة، بدل محمد، وله أصل عن حفصة، كما سيأتي في الأحكام عن عبد الوارث عن أيوب عنها، وكذلك أخرجه في تفسير سورة "الممتحنة" عن أيوب عن حفصة، فكأنَّ حمادًا سمعه من أيوب عن كل منهما. وقوله: عند البيعة، أي: لما بايعهنَّ على الإِسلام. وقوله: فما وفت، أي: بترك النوح، وأم سليم هي بنت مِلحان، والدة أنس، وابنة أبي سَبْرة، بفتح المهملة وسكون الموحدة. وأما قوله: أو ابنة أبي سَبرة، وامرأة مُعاذ، فهو شك من أحد رواته، هل ابنة أبي سَبرة هي امرأة معاذ أو غيرها؟ ويأتي في كتاب الأحكام من رواية حفصة عن أم عطية بالشك أيضًا، والذي يظهر أن الرواية بواو العطف أصح, لأن امرأة معاذ بن جبل هي أم عمرو بنت خِلاد بن عمرو السُّلمية، فعلى هذا فابنة أبي سَبرة غيرها. وفي الدلائل لأبي موسى عن حفصة عن أم عطية، وأم معاذ بدل قوله "وامرأة معاذ" وكذا في رواية عارم، لكن لفظه "أو أم معاذ بنت أبي سبرة" وفي الطبرانيّ من رواية ابن عَوْن، عن ابن سيرين عن أم عطية، "فما وفت غير أم سليم وأم كلثوم وامرأة معاذ بن أبي سبرة" والصواب ما في الصحيح "امرأة معاذ وبنت أبي سبرة" ولعلّ بنت أبي سَبرة يقال لها أم كلثوم؟ وإن كانت الرواية التي فيها أم معاذ محفوظة، فلعلها أم معاذ بن جبل. وهي هند بنت سَهْل الجُهَنية، ذكرها ابن سعد أيضًا، وعرف بجموع هذا النسوة الخمس، وهي أم سليم وأم العلاء، وأم كُلثوم وأم عمرو وهند، إن كانت الرواية محفوظة، وإلاّ فيظهر أن الخامسة أم عطية راوية الحديث. ويؤيده ما أخرجه الطبرانيّ عن عاصم عن حفصة عن أم عطية بلفظ "فما وفت غيري وغير أم سليم" لكن يعارضه ما أخرجه إسحاق بن راهَوَيْه في مسنده عن حفصة عن أم عطية قالت: كان فيما أخذ علينا أن لا ننوح. وزاد في آخره: وكانت لا تعد نفسها لأنها لما كان يوم الحَرّة لم تزل النساء بها حتى قامت معهن، فكانت لا تعد نفسها لذلك.

ويجمع بينهما بأنها تركت عد نفسها من يوم الحرة، وكان يوم الحرة قتل فيه من الأنصار من لا يحصى عدده، ونهبت المدينة الشريفة، وبذل فيها السيف ثلاثة أيام، وكان ذلك في أيام يزيد بن معاوية. وقال عياض: معنى الحديث لم يف ممن بايع النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، مع أم عطية، في الوقت الذي بايعت فيه النسوة، إلا المذكورات, لأنه لم يترك النياحة من المسلمات غير خمسة، فيه مصداق ما وصفه النبي -صلى الله عليه وسلم- "بأنهن ناقصات عقل ودين". وفيه فضيلة ظاهرة للنسوة المذكورات، ولم أر من عرّف واحدة ممن ذكرن سوى أم سليم، وأم العلاء. وفي حديث أم عطية في سورة الامتحان زيادة "ونهانا عن النياحة، فقبضت امرأة يدها فقالت: أسْعَدتني فلانة، فأريد أن أجزيها، فما قال لها النبي -صلى الله عليه وسلم- شيئًا، فانطلقت، ورجعت فبايعها". قوله: ونهانا عن النياحة، في رواية مسلم عن أم عطية قالت: "لما نزلت هذه الآية {يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا. وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} كان منه النياحة". وقوله: فقبضت امرأة يدها, في رواية عاصم فقلت: يا رسول الله، إلا آل فلان، فإنهم كانوا أسعدوني في الجاهلية، فلابد من أنْ أُسعدهم. وآل فلان المشار إليهم لم يُعرفوا. وفي رواية النَّسائيّ: قلت إن امرأةً اسعدتني في الجاهلية. ولم يعرف اسم المرأة. وتبين أن أم عطية، في رواية عبد الوارث، أبهمت نفسها. ودلت هاتان الروايتان على ما مرَّ من أن الخامسة هي أم عطية. وقوله: أسعدتني فلانة، فأريد أن أجزيها، وفي رواية عاصم: فقال إلاَّ آلَ فلان، وفي رواية النَّسائيّ: قال: فإذ هي فأسعديها، قالت: فذهبت فساعدتها ثم جئت، فبايعت. والإِسعاد قيام المرأة مع الأخرى في النياحة تراسلها، وهو خاص بهذا المعنى، ولا يستعمل إلاَّ في البكاء والمساعدة عليه. ويقال: إن أصل المساعدة وضع الرجل يده على ساعد الرجل صاحبه، عند التعاون على ذلك. قال النووي: هذا محمول على أن الترخيص لأم عطية في آل فلان خاصة، ولا تحل لها ولا لغيرها في غير آل فلان، كما هو ظاهر الحديث، وللشارع أن يخص من العموم من شاء بما شاء، فهذا صواب الحكم في هذا الحديث، وفيه نظر، إلا أن يُدَّعى أن الذين ساعدتهم لم يكونوا أسلموا. وفيه بعد، وإلاّ فليدعْ مشاركتهم لها في الخصوصية، وسيأتي قريبًا بيانُ ما يقدح في خصوصية أم عطية بذلك. واستشكل القاضي عياض وغيره هذا الحديث، وقالوا فيه أقوالًا عجيبة، والمقصود التحذير من الاغترار بها، فإن بعض المالكية قال: إن النياحة ليست بحرام لهذا الحديث، وإنما المحرم ما كان معه شيء من أفعال الجاهلية من شق جيب وخمش خد ونحو ذلك. قال: والصواب ما ذكرناه أولًا،

وأن النياحة حرامٌ مطلقًا، وهو مذهب العلماء كافة. وقد جاء النقل من غير هذا المالكيّ أن النياحة ليست بحرام، وهو شاذٌ مردود، وقد أبداه القرطبيُّ احتمالًا، ورده بالأحاديث الواردة في الوعيد على النياحة، وهو دال على شدة التحريم، لكن لا يمتنع أن يكون النهيُ أولًا ورد بكراهة التنزيه، ثم لما تمت مبايعة النساء وقع التحريم، فيكون الإذن لمن ذكر وقع في الحالة الأولى، لبيان الجواز، ثم وقع التحريم، فورد حينئذ الوعيد الشديد. وقد لخص القرطبيّ بقية الأقوال التي أشار إليها النوويّ، منها دعوى أن ذلك كان قبل تحريم النياحة، قال: وهو فاسد، لمساق حديث أم عطية هذا, ولولا أن أم عطية فهمت التحريم، لما استثنت، ويؤيده أيضًا أن أم عطية صرحت بأنها من العصيان في المعروف، وهذا وصف المحرم، ومنها أن قوله: إلا آل فلان، ليس فيه نصٌّ على أنها تساعدهم بالنياحة، فيمكن أنها تساعدهم بالنياحة، فيمكن أنها تساعدهم باللقاء والبكاء الذي لا نياحة معه، وهذا أشبه مما قبله، بل يرد على الأول ورود التصريح بالنياحة كما مرَّ كثيرًا، ويرو على الثاني أن اللقاء والبكاء المجرد لم يدخل في النهي كما مرَّ، فلو وقع الاقتصار عليه، لم يحتج إلى تأخير المبايعة حتى تفعله. ومنها يحتمل أن يكون أراد "إلاّ آل فلان" على سبيل الإِنكار، كما قال لمن استأذن عليه فقال: مَنْ ذا؟ فقال: أنا، فقال: أنا أنا، فأعاد عليه كلامه منكرًا عليه. ومنها أن ذلك خاص بأُم عطية، قال: وهو فاسد فإنها لا تختص بتحليل شيء من المحرمات، ويقدح في دعوى تخصيصها أيضًا ثبوت ذلك لغيرها. ويعرف منه أيضًا الخدش في الأجوبة الماضية، فقد أخرج ابن مَرْدَوَيه عن ابن عباس قال: لما أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على النساء، فبايعهن على أنْ لا يشركنَ بالله شيئًا الآية، قالت خولة بنت حكيم: يا رسول الله، كان أبي وأخي ماتا في الجاهلية، وإن فلانة أسعدتني، وقد مات أخوها .. الحديث. وأخرج التِّرمذيّ عن أم سلمة الأنصارية أسماء بنت يزيد قالت: قلت يا رسول الله، إن بني فلان أسعدوني على عمي، ولابد من قضائهن، فأبى، قالت: فراجعته مرارًا، فأذن لي، فلم أنح بعد. وأخرج أحمد والطبريّ عن مصعب بن نوح قال: أدركتُ عجوزًا لنا كانت فيمن بايع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قالت: فأخذ علينا "ولا ينحن" فقالتْ عجوزٌ: يا نبي الله، إن ناسًا كانوا أسعدونا على مصائب أصابتنا، وإنهم قد أصابتهم مصيبة، فأنا أُريد أن أُسعدهم. قال: فاذهبي فكافئيهم. ثم إنها أتت فبايعته. وظهر من هذا كله أن أقرب الأجوبة أنها كانت مباحة ثم كرهت كراهة تنزيه ثم تحريم.

رجاله خمسة

رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ عبد الله بن عبد الوهاب في السادس والأربعين من العلم، ومرَّ حماد بن زيد في الرابع والعشرين من الإِيمان, وأيوب في التاسع منه، وابن سيرين في الأربعين منه، وأم عطية في الثاني والثلاثين من الوضوء. أخرجه مسلم، وأخرجه النَّسَائيّ في البيعة. وفي الحديث ذكر أم سليم وأم العلاء، وابنة أبي سَبرة امرأة مُعاذ. أو امرأة معاذ، وقد مرت أم سليم في السبعين من العلم، ومرت أم العلاء في السادس من الجنائز، وابنة أبي سبرة، قيل إنها أم معاذ بن جبل، وقيل إنها زوجته. ثم قال المصنف:

باب القيام للجنازة

باب القيام للجنازة أي: إذا مرت على من ليس معها، وأما قيام من كان معها، فسيأتي في ترجمة مفردة. الحديث السادس والستون حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إِذَا رَأَيْتُمُ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا حَتَّى تُخَلِّفَكُمْ. قَالَ سُفْيَانُ قَالَ الزُّهْرِيُّ أَخْبَرَنِي سَالِمٌ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَخْبَرَنَا عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-. زَادَ الْحُمَيْدِيُّ حَتَّى تُخَلِّفَكُمْ أَوْ تُوضَعَ. وقوله: حتى تُخلِّفكم، بضم أوله وفتح المعجمة وتشديد اللام المكسورة بعدها فاء، أي تترككم وراءها، ونسبة ذلك إليها على سبيل المجاز, لأن المراد حاملها, وليس المراد التخصيص يكون الجنازة تتقدم، بل المراد مفارقتها، سواء تخلف القائم لها وراءها أو خلَّفها القائم وراءه وتقدم، وهو من قولك خلفت فلانًا ورائي فتخلف عني، أي: تأخر. وقوله: قال سفيان هذا السياق لفظ الحميديّ في مسنده, ويحتمل أن يكون علي بن عبد الله حدَّث به على السياقين، فقال مرة: عن سفيان حدثنا الزهريّ عن سالم، وقال مرة: قال الزهريّ أخبرني سالم. والمراد من السياقين أن كلًا منهما سمعه من شيخه. وقوله: زاد الحميديّ: يعني عن سفيان بهذا الإِسناد، وقد رويناه موصولًا في مسنده, وأخرجه أبو نعيم في مستخرجه من طريقه كذلك، وكذا أخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة، وثلاثة معه، أرى بعضهم عن سفيان، بالزيادة إلاَّ أنه في سياقهم بالعنعنة. رجاله سبعة: قد مرّوا، مرَّ عليّ بن عبد الله المدينيّ في الرابع عشر من العلم، ومرَّ سفيان بن عُيينة

لطائف إسناده

والحميديّ في الأول من بدء الوحي، ومروان بن شهاب في الثالث منه، ومرَّ سالم بن عبد الله في السابع عشر من الإِيمان, ومرَّ أبوه عبد الله في أوله قبل ذكر حديث منه، ومرَّ عامر بن ربيعة في الثالث عشر من التقصير. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإِخبار والأفراد والعنعنة والقول، ورواته مكيان ومدنيان، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وصحابيّ عن صحابيّ، أخرجه مسلم وأبو داود والتِّرمذِي والنَّسائيّ وابن ماجة. ثم قال المصنف:

باب متى يقعد إذا قام للجنازة

باب متى يقعد إذا قام للجنازة سقط هذا الباب والترجمة من رواية المستملي، وثبتت الترجمة دون الباب لرفيقه. الحديث السابع والستون حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ جَنَازَةً فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَاشِيًا مَعَهَا فَلْيَقُمْ حَتَّى يُخَلِّفَهَا، أَوْ تُخَلِّفَهُ أَوْ تُوضَعَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُخَلِّفَهُ. قوله: حتى يخلفها أو تخلفه، قد مرَّ المراد بالتخلف قريبًا، وهذا شك من البخاريّ، أو من قتيبة حين حدثه به، وقد رواه النَّسائيّ عن قتيبة ومسلم عنه، وعن محمد بن رُمْح كلاهما عن الليث، فقالا: حتى تخلفه، من غير شك. وقوله: أو توضع من قبل أن تخلفه، فيه بيان للمراد من رواية سالم الماضية، وقد أخرجه مسلم عن نافع بلفظ "إذا رأى أحدكم الجنازة فليقم حين يراها، حتى تخلفه، إذا كان غير متبعها". رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ قتيبة بن سعيد في الحادي والعشرين من الإِيمان, ومرَّ الليث في الثالث من بدء الوحي، ومرَّ نافع في الأخير من العلم، ومرَّ محل ابن عمر وعامر في الذي قبله. الحديث الثامن والستون حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا فِي جَنَازَةٍ فَأَخَذَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه بِيَدِ مَرْوَانَ فَجَلَسَا قَبْلَ أَنْ تُوضَعَ، فَجَاءَ أَبُو سَعِيدٍ رضي الله عنه فَأَخَذَ بِيَدِ مَرْوَانَ فَقَالَ قُمْ فَوَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمَ هَذَا أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- نَهَانَا عَنْ ذَلِكَ. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ صَدَقَ.

رجاله ستة

رجاله ستة: وفيه ذكر مروان، وقد مرّوا جميعًا، مرَّ أحمد بن يونس في التاسع عشر من الإِيمان, ومرَّ أبو هريرة في الثاني منه، وأبو سعيد في الثاني عشر منه، وسعيد المَقْبَريّ في الثاني والثلاثين منه، ومرَّ ابن أبي ذيب في الستين من العلم، ومرَّ أبو سعيد المَقْبَريّ كَيْسان في السادس والعشرين من صفة الصلاة، ومرَّ مروان بن الحكم في الرابع والخمسين من الوضوء. ثم قال المصنف:

باب من تبع جنازة فلا يقعد حتى توضع عن مناكب الرجال فإن قعد أمر بالقيام

باب من تبع جنازة فلا يقعد حتى توضع عن مناكب الرجال فإن قعد أمر بالقيام قال الزين بن المنير: إنما نوع هذه التراجم مع إمكانه جمعها، فللإِشارة إلى الاعتناء بها، وما يختص كل طريق منها بحكمة، ولأن بعض ذلك وقع فيما ليس على شرطه، فاكتفى بذكره في الترجمة لصلاحيته للاستدلال، وكأنه أشار بهذه الترجمة الأخيرة إلى ترجيح رواية من روى في حديث الباب "حتى توضع بالأرض" على رواية من روى "حتى توضع في اللحد"، وفيه اختلاف على سُهيل بن أبي صالح عن أبيه، قال أبو داود: رواه أبو معاوية عن سهيل فقال "حتى توضع في اللحد" وخالفه الثوريّ،، وهو أحفظ، فقال "في الأرض". ورواه جرير عن سهيل فقال: حتى توضع، حَسْبُ، وزاد: قال سهيل: ورأيت أبا صالح لا يجلس حتى توضع عن مناكب الرجال. أخرجه أبو نعيم في المستخرج بهذه الزيادة، وهو في مسلم بدونها، وفي المحيط للحنفية "الأفضل أن لا يقعد حتى يهال عليه التراب" وحجتهم رواية أبي معاوية. ورجح الأول عن البخاريّ بفعل أبي صالح, لأنه راوي الخبر، وهو أعرف بالمراد منه. ورواية أبي معاوية مرجوحة، كما قال أبو داود. وقوله: فإن قعد أمر بالقيام، فيه إشارة إلى أن القيام في هذا لا يفوت, لأن المراد به تعظيم أمر الموت، وهو لا يفوت بذلك، وأما قول المهلب: قعود أبي هريرة ومروان يدل على أن القيام ليس بواجب، وأنه ليس عليه العمل، فإنْ أراد أنه ليس بواجب عندهما، فظاهر، وإن أراد في نفس الأمر فلا دلالة فيه على ذلك، ويدل على الأول ما رواه الحاكم عن أبي هريرة، فساق نحو القصة المذكورة، وزاد أن مروان قال له أبو سعيد: قم فقام، ثم قال له: أقمتني، فذكر الحديث، فقال لأبي هريرة: فما منعك أن تخبرني؟ قال: كنت إماما فجلست، فعرف بهذا أن أبا هريرة لم يكن يراه واجبًا، وأن مروان لم يكن يعرف حكم المسألة قبل ذلك، وأنه بادر إلى العمل بها بخبر أبي سعيد. وروى الطحاويّ عن الشعبيّ عن أبي سعيد قال: مُرَّ على مروان بجنازة، فلم يقم، فقال له أبو سعيد: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مَرّت عليه جنازة فقام، فقام مروان. ولعل هذه الرواية مختصرة من القصة، وقد اختلف العلماء في أصل المسألة، فقال أكثر الصحابة والتابعين باستحبابه، كما نقله ابن المنذر، وهو قول الأوزاعيّ أحمد وإسحاق ومحمد بن الحسن، وروى البيهقيّ عن أبي حازم الأشجعيّ عن أبي هُريرة وابن عمر وغيرهما أن القائم مثل الحامل، يعني في الأجر.

وقال الشعبيّ والنخعيّ: يكره القعود قبل أن توضع، وقال بعض السلف: يجب القيام، واحتج له برواية سعيد عن أبي هريرة وأبي سعيد قالا: ما رأينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شهد جنازة قطُّ فجلس حتى توضع. أخرجه النَّسائيّ. ومذهب مالك كراهة القيام لها، سواء من كان جالسًا فمرت به فقام لها، أو كان ماشيًا معها واستمر قائمًا حتى توضع، أو سبقها للمقبرة فقام حين رآها حتى توضع. وذهب الشافعيّ إلى أنه غير واجب، فقال: هذا إما أن يكن منسوخًا أو يكون قام لعلة، وأيهما كان فقد ثبت أنه تركه بعد فعله، والحجة في الآخر من أمره، والقعود أحب إليّ. وأشار بالترك إلى حديث عليّ أنه عليه الصلاة والسلام قام للجنازة ثم قعد. أخرجه مسلم. قال البيضاويّ: يحتمل قول علي "ثم قعد" أي: بعد أن جاوزته، وبعدت عنه، ويحتمل أن يريد: كان يقوم في وقت ثم ترك القيام أصلًا، وعلى هذا يكون فعله الأخير قرينة في أن المرادَ بالأمر الوارد في ذلك الندبُ. ويحتمل أن يكون نسخًا للوجوب المستفاد من ظاهر الأمر، والأول أرجح, لأن احتمال المجاز في الأمر أوْلى من دعوى النسخ. والاحتمال الأول يدفعه ما رواه البيهقيّ عن عليّ أنه رأى ناسًا قيامًا ينتظرون الجنازة أَنْ توضع، فأشار إليهم بُدرَّة معه، أو سوطٍ، أن اجلسوا، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد جلس بعدما كان يقوم. ومِنْ ثم قال جماعة بكراهة القيام، كما مرَّ عن المالكية، وقال بها سليم الرّازيّ وغيره من الشافعية، وصرح بها النوويّ في الروضة، لكن قال المتولي بالاستحباب، قال في "المجموع" وهو المختار فقد صحت الأحاديث بالأمر بالقيام، ولم يثبت في القعود شيء إلا حديث عليّ، وليس صريحًا في النسخ لاحتمال أن القعود فيه لبيان الجواز، وقال الأذرعي، فيما اختاره النّوويّ من استحباب القيام نظر, لأن الذي فهمه عليّ رضي الله تعالى عنه الترك مطلقًا، وهو الظاهر، ولهذا أمر بالقعود من رآه قائمًا، واحتج بالحديث. وقد ورد معنى النهي عن عُبادة قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقوم للجنازة، فمر به حَبْرٌ من اليهود فقال: هكذا نفعل، فقال: اجلسوا وخالِفوهم. أخرجه أحمد وأصحاب السنن إلا النَّسائيّ، فلو لم يكن إسناده ضعيفًا لكان حجة في النسخ. قلت: إنما هو حجة في القيام لجنازة اليهودي خاصة. وقال عياض: ذهب جمع من السلف إلى أن الأمر بالقيام منسوخ بحديث عليّ، وبه قال عُروة بن الزبير وسعيد بن المسيب وعلقمة والأسود ومالك وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن، وتعقبه النوويّ بأن النسخ لا يصار إليه إلا مع تعذر الجمع، وهو هنا ممكن.

الحديث التاسع والستون

وقال ابن حزم: قعوده -صلى الله عليه وسلم- بعد أمره بالقيام، يدل على أن الأمر للندب، ولا يجوز أن يكون نسخًا, لأن النسخ لا يكون إلا بنهي، أو بتركٍ معه نهيٌ. وقال صاحب "المهذب": هو على التخيير، وكأنه مأخوذ من قول الشافعيّ المتقدم، لما تقتضيه صيغة "أفعل" من الاشتراك، ولكن القعود عنده أوْلى، وعكسه قول ابن حبيب وابن الماجشُون من المالكية. كان قعوده -صلى الله عليه وسلم- لبيان الجواز: فمن جلس فهو في سعة، ومن قام فله أجر. الحديث التاسع والستون حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إِذَا رَأَيْتُمُ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا، فَمَنْ تَبِعَهَا فَلاَ يَقْعُدْ حَتَّى تُوضَعَ. حديث أبي سعيد هذا أبين سياقًا من حديث عامر بن ربيعة، وهو يوضح أن المراد بالغاية المذكورة من كان معها، أو مشاهدًا لها، وأما من مرت به فليس عليه من القيام إلا قدر ما تمر عليه، أو توضع عنده، بأن يكون بالمصلّى مثلًا. وروى أحمد عن سعيد بن مرجانة عن أبي هُريرة مرفوعًا "من صلى على جنازة، ولم يمش معها، فليقم حتى تغيب عنه، وإن مشى معها، فلا يبعد حتى توضع". وفي هذا السياق بيان لغاية القيام، وأنه لا يختص بمن مرت به، ولفظ القيام يتناول من كان قاعدًا، فأما من كان راكبًا فيحتمل أن يقال: ينبغي له أن يقف، ويكون الوقوف في حقه كالقيام في حق القاعد، استدل بقوله "فإنْ لم يكن معها" على أن شهود الجنازة لا يجب على الأعيان. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ مسلم بن إبراهيم وهِشام الدَّسْتُوانيّ في السابع والثلاثين من الإِيمان, وأبو سعيد الخدريّ في الثاني عشر منه، ومرَّ يحيى بن أبي كثير في الثالث والخمسين من العلم، وأبو سلمة في الرابع من بدء الوحي. ثم قال المصنف:

باب من قام لجنازة يهودي أي: أو نحوه من أهل الذمة

باب من قام لجنازة يهودي أي: أو نحوه من أهل الذمة الحديث السبعون حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِقْسَمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: مَرَّ بِنَا جَنَازَةٌ فَقَامَ لَهَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَقُمْنَا بِهِ. فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا جَنَازَةُ يَهُودِيٍّ. قَالَ إِذَا رَأَيْتُمُ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا. قوله: مُرّ بنا، بضم الميم على البناء للمجهول، وفي رواية الكشميهنيّ: مَرَّت، بفتح الميم. وقوله: فقام، زاد غير كريمة "لها". وقوله: فقمنا، في رواية أبي ذرٍ و"قمنا" بالواو، وزاد الأصيليّ "وكريمة له"، والضمير للقيام، أي لأجل قيامه، وزاد أبو داود عن يحيى: فلما ذهبنا لنحمل، قيل: إنها جنازة يهودي، زاد البيهقيّ "إنّ الموت فزع" ونحوه لمسلم. قال القرطبيّ: معناه أن الموت يفزع منه، إشارة إلى استعظامه، ومقصود الحديث أن لا يستمر الإنسان على الغفلة بعد رؤية الموت، لما يشعر ذلك من التهاون بأمر الموت، فمن ثَمَّ استوى فيه كون الميت مسلمًا أو غير مسلم، وقال غيره: جعل نفس الموت فزعًا، مبالغة، كما يقال: رجل عَدْلٌ. قال البيضاويّ: هو مصدر جرى مجرى الوصف للمبالغة، أو فيه تقدير، أي: الموت ذو فزع. ويؤيد الثاني رواية أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ "إن للموت فزعًا" أخرجه ابن ماجه. وعند البزار مثله عن ابن عباس. وقال: وفيه تنبيه على أن تلك الحالة ينبغي لمن رآها أن يقلق من أجلها ويضطرب، ولا يظهر منه عدم الاحتفال والمبالاة. واستدل بالحديث على جواز إخراج جنائز أهل الذمة نهارًا غير متميزة عن جنائز المسلمين، قاله الزين بن المنير. وقال: وإلزامهم بمخالفة رسوم المسلمين وقَعَ اجتهادًا من الأئمة، ويمكن أن يقال: إذا ثبت النسخ للقيام تبعه ما عداه، فيحمل على أن ذلك كان عند مشروعية القيام، فلما ترك منع من الإِظهار. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ معاذ بن فَضالة في التاسع عشر من الوضوء، ومرَّ محل هشام ويحيى في الذي قبله

الحديث الحادي والسبعون

بحديث، ومرَّ عُبيد الله بن مَقْسَم في متابعة بعد الثامن والخمسين من الجماعة، ومرَّ جابر في الرابع من بدء الوحي. فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، ورواته بصريان ويمامِيّ ومدنيّ. أخرجه مسلم وأبو داود والنَّسائيّ في الجنائز. الحديث الحادي والسبعون حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى قَالَ: كَانَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ وَقَيْسُ بْنُ سَعْدٍ قَاعِدَيْنِ بِالْقَادِسِيَّةِ، فَمَرُّوا عَلَيْهِمَا بِجَنَازَةٍ فَقَامَا. فَقِيلَ لَهُمَا إِنَّهَا مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ، أَيْ: مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَقَالاَ إِنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- مَرَّتْ بِهِ جَنَازَةٌ فَقَامَ فَقِيلَ لَهُ إِنَّهَا جَنَازَةُ يَهُودِيٍّ. فَقَالَ أَلَيْسَتْ نَفْسًا. قوله: فمروا عليهما، في رواية المستملي والحمويّ "عليهم" أي: على قيس وهو ابن سعد بن عُبادة، وسهل وهو ابن حُنَيف، ومن كان حينئذ معهما. وقوله: من أهل الأرض أي: من أهل الذمة، كذا بلفظ أي: التي يفسر بها، وهي رواية الصحيحين وغيرهما. وحكى ابن التين عن الداوديّ أنه شرحه بلفظ "أو" التي للشك. وقال: لم أره لغيره. وقيل لأهل الذمة أهل الأرض, لأن المسلمين لما فتحوا البلاد أقروهم على عمل الأرض، وحمل الخراج. وقوله: أليست نفسًا؟ هذا لا يعارض التعليل المتقدم، حيث قال: إن للموت فزعًا، على ما تقدم، وكذا ما أخرجه الحاكم عن أنس مرفوعًا فقال: إنما قمنا للملائكة. ونحوه لأحمد عن أبي موسى، ولأحمد وابن حبّان والحاكم عن عبد الله بن عمر مرفوعًا "إنما تقومون إعظامًا للذي يقبض النفوس" ولفظ ابن حبان "إعظامًا لله الذي يقبض الأرواح" فإن ذلك أيضًا لا ينافي التعليل السابق لأن القيام للفزع من الموت فيه تعظيم لأمر الله، وتعظيم للقائمين بأمره في ذلك، وهم الملائكة. وأما ما أخرجه أحمد عن الحسن بن علي قال: إنما قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تأذيًا بريح اليهود، زاد الطبرانيّ عن عبد الله بن عيّاش، بالتحتانية والمعجمة، "فآذاه ريح بِخِدْرها" وللطبريّ والبيهقيّ من وجه آخر عن الحسن كراهية أن تعلو رأسه، فإن ذلك لا يعارض الأخبار الأُولى الصحيحة، أما أولًا، فلأن أسانيدها لا تقاوم تلك في الصحة، وأما ثانيًا فلأن التعليل بذلك راجع إلى ما فهمه الراوي، والتعليل الماضي صريح من لفظ النبي -صلى الله عليه وسلم-، فكأنّ الراوي لم يسمع التصريح بالتعليل منه. فعلل باجتهاده.

رجاله ستة

وقد روى ابن أبي شيبة عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن عمه يزيد بن ثابت قال: "كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فطلعت جنازة، فلما رآها قام، وقام أصحابه حتى بعدت، والله ما أدري من شأنها أو من تضايق المكان، وما سألناه عن قيامه" ومقتضى التعليل بقوله "أليست نفسًا" أن ذلك يستحب لكل جنازة، وإنما اقتصر في الترجمة على اليهوديّ، وقوفًا مع لفظ الحديث. قلت: ولأن القيام لجنازة اليهوديّ يفهم منه بالأوْلى القيامُ لجنازة غيره. والقادسية في الحديث، بالقاف والدال المكسورة، والسين والياء المشددة، قرية صغيرة ذات نخيل ومياه بينها وبين الكوفة مرحلتان، وقيل بينهما خمسة عشر فرسخًا على طريق الحاج، وبها كانت وقعة القادسية في أيام عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وتوجد بلاد آخر يسمى كل واحد منها قادسية. رجاله ستة: مرَّ منهم آدم وشعبة في الثالث من الإِيمان, ومرَّ عمر بن مُرَّة في السبعين من الجماعة، ومرَّ عبد الرحمن بن أبي ليلى في الثالث والستين من صفة الصلاة، والباقي اثنان: الأول سَهل بن حُنيف بن واهب بن العكيم بن ثعلبة بن الحارث بن مَجْدَعة بن عمرو بن حَنَش بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس الأنصاريّ الأوسيّ، يكنى أبا سعد أو أبا عبد الله أو أبا ثابت، كان من السابقين،، وشهد بدرًا والخندق والمشاهد كلها، وثبت يوم أحد حين انكشف الناس، وبايع يومئذ على الموت، وكان يَنْفَحُ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالنَّبل، فيقول: نَبِّلُوا سَهْلًا، فإنه سَهْل"، وكان عمر يقول: سَهْلٌ غير حَزْن، واستخلفه عليّ على المدينة حين خرج إلى البصرة، وشهد معه صفين، ويقال إن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- آخى بينه وبين عليّ بن أبي طالب، وولاه على فارس، وأخرجوه، فوجه عليّ زيادًا فأرضوه وصالحوه، وأدوا الخراج. له أربعون حديثًا اتفقا على أربعة، وانفرد مسلم بحديثين، روى عنه ابناه أسعد وعبد الله، وأبو وائل وعبد الرحمن بن أبي ليلى، مات بالكوفة سنة ثمان وثلاثين، وصلى عليه عليّ وكَبَّر ستًا. وفي رواية "خمسًا" وقال: إنه بدريٌّ. الثاني قيس بن سعد بن عُبادة بن دُليم الأنصاريّ الخزرجيّ، تقدم نسبه في نسب أبيه يكنى، أبا الفضل، أو أبا عبد الله، أو أبا القاسم. أو أبا عبد الملك، وأمه فكيهة بنت عُبَيد بن دُليم بنت عم أبيه قال عمرو بن دينار: كان قيس ضخمًا حسنًا طُوالًا، إذا ركب الحمار خَطَّت رجلاه الأرض، شهد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المشاهدَ، وأخذ عليه الصلاة والسلام الراية من أبيه يوم الفتح ودفعها له، وفي صحيح البخاريّ عن أنس قال: كان قيس بن سعد من النبي -صلى الله عليه وسلم- بمنزلة صاحب الشُّرْطَة من الأمير.

وأخرج البخاريّ في التاريخ عن مَريم بن أسعد قال: لقيت قيس بن سعد، وقد خدم النبي -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين، وأخرج البغويّ عن ابن شهاب قال: كان قيسٌ حامل راية الأنصار مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان من ذوي الرأي من الناس وقال ابن يونس: شهد فتح مصر، واخْتَطَّ بها دارًا، ثم كان أمرها لعليِّ، وقال الواقديّ: سخيًا كريمًا ذا هبةٍ. وقال أبو عمر: كان أحد الفضلاء الجِلّة، من دُهاة العرب، من أهل الرأي والمكيدة في الحرب، من النجدة والسخاء والشجاعة، وكان شريفَ قومه غير مدافَع، وكان أبوه وجده كذلك. وفي الصحيح عن جابر في قصة جيش العُسرة أنه كان في ذلك الجيش، وأنه كان ينحر ويطعم حتى استدان بسبب ذلك، ونهاه أمير الجيش، وهو أبو عُبيدة. وفي بعض طرقه أنه نحر تسعة ركائب، وأن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: الجُود من شِيمة ذلك البيت. وذكر الزبير أنه كان سنّاطًا، وكذلك عبد الله بن الزبير وشُريح القاضي، أي ليس في وجوههم شعر، وكانت الأنصار يقولون: وَدِدنا لو اشترينا لقيس بن سعد لِحيةً بأموالنا. وأخرج الطبرانيّ في "مكارم الأخلاق" أن قيسًا كان يقول: اللهم ارزقني حمدًا ومجدًا، فإنه لا حمد إلا بفِعال، ولا مجد إلا بمال. وروى ابن المبارك أن معاوية كتب إلى مروان أن اشتر دار كثير بن الصلت منه، فأبى عليه، فكتب مروان إلى معاوية بذلك، فكتب إليه أن خذه بالمال الذي عليه، فإن جاء به وإلا بع عليه داره، فأرسل إليه مروان، فأخبره فقال له: إني أُؤجلك ثلاثًا، فإن جئت بالمال وإلاّ بيعت عليك دارُك. قال: فجمعه إلى ثلاثين ألفًا، فقال: من لي بها؟ ثم ذكر قيس بن سعد، فأتاه، فطلبها منه، فأقرضه اياها، فجاء بها إلى مروان، فلما رأى أنه قد جاء بها، ردها عليه ورد عليه داره، فرد كثيرٌ الثلاثين ألفًا على قيس، فأبى أن يقبلها، وقال: إنا لا نعود في شيء أعطيناه. وقصته مع العجوز التي اشتكت إليه أنه ليس في بيتها جُرْذ، فقال: ما أحسن ما سألت، أما والله لأكثرن جرذًا في بيتك، فملأ بيتها طعامًا ورَدَكًا وإدامًا، صحيحة. وكذلك خبرهُ لما توفي أبوه عن حمل لم يعلم به، فلما ولد وكان سعد قد قسم ماله حين خروجه من المدينة بين ولده، فكلم أبو بكر وعمر في ذلك قيسًا وسألاه أن ينقض ما صنع سعد من تلك القسمة، فقال: نصيبي للمولود، ولا أغير ما فعل أبي ولا أنقضه. خبر صحيح من رواية الثقات. ومن مشهور أخباره أنه كانت له ديون كثيرة على الناس، فمرض واستبطأ عُوّاده، فقيل: إنهم يستحيون من أجل دَيْنك، فأمر مناديًا ينادي: كل من كان لقيس بن سعد عليه دَين فهو له، فأتاه الناس حتى هدموا درجةً كانوا يصعدون عليها إليه. قال ابن عبد البر: وأما خبره في السراويل عند معاوية فباطل، وزور مختلق، ليس له إسناد، ولا يشبه أخلاق قيس بن سعد في معاوية، لا سيرته في نفسه ونزاهته. وهي حكاية مفتعلة، وشعر مزور.

صحب قيسٌ عليًا، وشهد معه مشاهده كلها، وكان قد أمَّره على مصر، فاحتال عليه معاوية، فلم ينخدع له، فاحتال على أصحاب عليّ حتى حسّنوا له تولية محمد بن أبي بكر، فولاه مصر، وارتحل قيس، ففسدت عليه مصر، فشهد مع عليّ صفين، وهو القائل في صفين: هذا اللواء الذي كنا نحفُّ به ... مع النبي وجبريلٌ لنا مَددٌ ما ضرَّ من كانت الأنصار عينته ... ألاَّ يكون له من غيرهم أحدُ قومٌ إذا حاربوا طالت أكفهم ... في المَشْرفيَّة حتى يُفْتحَ البلَدُ ثم كان مع الحسن بن علي حتى صالح معاوية، كان على مقدمته، ومعه خمسة آلاف قد حلقوا رؤوسهم بعدما مات عليّ، وتبايعوا على الموت، فلما دخل الحسن في بيعة معاوية، أبى قيس أن يدخل، وقال لأصحابه: ما شئتم؟ إنْ شئتم جالدتُ بكم أبدًا حتى يموت الأعجل منا، وإن شئتم أخذت لكم أمانًا. فقالوا: خذ لنا أمانًا، فأخذ لهم كذا وكذا، وأن لا يعاقبوا بشيء، وأنه رجل منهم، ولم يأخذ لنفسه خاصةً شيئًا، فلما ارتحل نحو المدينة، كان ينحر لأصحابه كل يوم جزورًا حتى بلغ المدينة، فأقام بها وأقبل على العبادة إلى أن مات بها. له ستة عشر حديثًا، اتفقا على حديث، وانفرد البخاريّ بطرق من حديث آخر، روى عنه عمرو بن دينار أنه قال: لولا الإِسلام لمكرت مكرًا لا تطيقه العرب. مات في آخر خلافة معاوية بالمدينة، سنة ستين، وقيل سنة تسع وخمسين، وقيل: مات في خلافة عبد الملك سنة خمس وثمانين. والصحيح الأول. ثم قال: وقال أبو حمزة عن الأعمش عن عمرو بن مُرة عن ابن أبي ليلى قال: كنت مع قيس وسهل رضي الله عنهما فقالا: "كنا مع النبيّ -صلى الله عليه وسلم-" أراد المصنف بهذا التعليق بيان سماع عبد الرحمن بن أبي ليلى لهذا الحديث من سَهل وقيس, لأن الرواية الأولى ليس فيها بيان ذلك، وهذا التعليق وصله أبو نعيم في المستخرج، ولفظه نحو حديث شُعبة، إلا أنه قال في روايته "فمرت عليهما جنازة فقاما" ولم يقل فيه بالقادسية. ورجاله ستة: قد مرّوا، مرَّ أبو حمزة محمد بن ميمون في الثامن والعشرين من الغُسل، ومرَّ الأعمش في الخامس والعشرين من الإِيمان, ومرت الأربعة الباقية في الذي قبله. ثم قال: وقال زكرياء عن الشعبي عن ابن أبي ليلى: كان أبو مسعود وقيس يقومان للجنازة. ويجمع بين ما وقع فيه من الاختلاف بأن عبد الرحمن بن أبي ليلى ذكر قيسًا وسهلًا مفردين، لكونهما رفعا له الحديث، وذكر مرة أخرى عَن قيس وأبي مسعود لم يرفعه.

وهذا التعليق وصله سعيد بن منصور. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ زكرياء بن أبي زائدة في الخامس والأربعين، وأبو مسعود في الثامن والأربعين، ومرّ الشعبيّ في الثالث منه، ومرّ ابن أبي ليلى وقيس بن سعد في الذي قبله، ثم قال المصنف:

باب حمل الرجال الجنازة دون النساء

باب حمل الرجال الجنازة دون النساء قال ابن رشيد: ليس الحجة من حديث الباب بظاهرة في منع النساء, لأنه من الحكم المعلق على شرط، وليس فيه أن لا يكون الواقع إلا ذلك، ولو سلم فهو من مفهوم اللقب، ثم أجاب بأن كلام الشارع مهما أمكن حمله على التشريع، لا يحمل على مجرد الإِخبار عن الواقع، ويؤيده العدول عن المشاكلة في الكلام، حيث قال: إذا وضعت فاحتملها الرجال، ولم يقل: فاحتملت، فلما قطع "احتملت" عن مشاكلة "وضعت" دل على قصد تخصيص الرجال بذلك، وأيضًا، فجواز ذلك للنساء وإن كان يؤخذ بالبراءة الأصلية، لكنه معارض بأن في الحمل على الأعناق، والأمر بالإِسراع مظنة الانكشاف غالبًا، وهو مباين للمطلوب منهن من التستر، مع ضعف نفوسهنَّ عن مشاهدة الموتى غالبًا، فكيف بالحمل مع ما يتوقع من صراخهن عند حمله ووضعه وغير ذلك من وجوه المفاسد؟ وقد ورد ما هو أصْرح من هذا في منعهنَّ، ولكنه على غير شرطه، ولعله أشار إليه، وهو ما أخرجه أبو يعلى عن أنس قال: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في جنازة، فرأى نسوة فقال: أتحملنه؟ قلن: لا، قال: أتدفنَّه؟ قلن: لا، قال: فارجعن مأزوراتٍ غير مأجورات. ونقل النوويّ في شرح المهذب أنه لا خلاف في هذه المسألة بين العلماء، والسبب فيه ما مرَّ، ولأن الجنازة لابد أن يشيعها الرجال، فلو حملها النساء لكان ذلك ذريعة إلى اختلاطهن بالرجال، فيفضي إلى الفتنة. وقال ابن بطال: قد عذر الله النساء لضعفهن حيث قال: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ} الآية، وتعقبه الزين بن المنير بأن الآية لا تدل على اختصاصهن بالضعف، بل على المساواة. والأوْلى أن ضعف النساء بالنسبة إلى الرجال من الأمور المحسوسة التي لا تحتاج إلى دليل، قلت: والآية دالة على ضعفهن مطلقًا، ومساواتهن لمن كان ضعيفًا من الرجال، لا على مساواتهن للرجال مطلقًا. الحديث الثاني والسبعون حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إِذَا وُضِعَتِ الْجِنَازَةُ وَاحْتَمَلَهَا

الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً قَالَتْ قَدِّمُونِي. وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ قَالَتْ يَا وَيْلَهَا أَيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَيْءٍ إِلاَّ الإِنْسَانَ، وَلَوْ سَمِعَهُ صَعِقَ. قوله: عن أبيه أنه سمع أبا سعيد المَقْبريّ، فيه إسناد آخر رواه ابن أبي ذيب عنه عن عبد الرحمن بن مِهران عن أبي هُريرة، أخرجه النَّسائيّ وابن حبّان، وقال: الطريقان جميعًا محفوظان. وقوله: إذا وضعت الجنازة، في رواية ابن أبي ذيب المذكورة إذا وضع الميت على السرير، الذي يحمل عليه أيضًا، يحتمل أن يريد بالجنازة نفس الميت، وبوضعه جعله على السرير، وأن يريد السرير، والمراد وضعها على الكتف، والأول أوْلى، لقوله بعد ذلك: فإن كانت صالحة. قالت: فإن المراد به الميت، ويؤيده رواية عبد الرحمن بن مِهران عن أبي هريرة المذكورة بلفظ "إذا وضع المؤمن على سريره يقول: قدموني". وقوله: فإن تلك صالحة، أي الجثة المحمولة. قال الطيبيّ: جعلت الجنازة عين الميت، وجعلت الجنازة التي هي مكان الميت مقدمة إلى الخير الذي كنى به عن عمله الصالح. وقوله: قالت قدموني، وظاهره أن قائل ذلك هو الجسد المحمول على الأعناق. وقال ابن بطَّال: إنما يقول ذلك الروح، ورده ابن المنير بأنه لا مانع من أن يرد الله الروح إلى الجسد في تلك الحال، ليكون ذلك زيادة في بشرى المؤمن، وبؤس الكافر، وكذا قال غيره. زاد: ويكون ذلك مجازًا، باعتبار ما يؤول إليه الحال بعد إدخال القبر، وسؤال المَلَكين، وهو بعيد، ولا حاجة إلى دعوى إعادة الروح إلى الجسد قبل الدفن, لأنه لا دليل، ومن الجائز أن يحدث الله النطق في الميت إذا شاء، وكلام ابن بطّال، فيما يظهر، أصوب. وقال ابن بُزيزة: قوله في آخر الحديث "يسمع صوتَها كلُّ شيء" دَلَّ على أن ذلك بلسان القال لا بلسان الحال. وقوله: وإن كانت غير صالحة، قالت: يا ويلها، وفي رواية قالت: لأهلها. قال الطيبيّ: أي: لأجل أهلها إظهارًا لوقوعه في الهلكة، وكل من وقع في الهلكة دعا بالويل، ومعنى النداء: يا حُزني، وأضاف الويل إلى ضمير الغائب عملًا على المعنى، كراهية أن يضيف الويل إلى نفسه، أو كأنّه لما أبصر نفسه غير صالحة نفر عنها، وجعلها كأنها غيره. ويؤيد الأول أن في رواية أبي هريرة المذكورة قال: يا ويلتاه، أين تذهبون بي؟، فدل على أن ذلك من تصرف الرواة. وقوله: ولو سمعه صَعِق، أي: غُشِيَ عليه من شدة ما يسمعه، وربما أطلق ذلك على الموت، والضمير في "يسمعه" راجع إلى دعائه بالويل، أي: يصيح بصوت منكر لو سمعه الإنسان لغُشي عليه. قال ابن بُزَيزة: هو مختص بالميت الذي هو غير صالح، وأما الصالح فمن شأنه اللطف والرفق في كلامه، فلا يناسب الصَّعْق من سماع كلامه. ويحتمل أن يحصل

رجاله خمسة

الصعق من سماع كلام الصالح، لكونه مألوف. وقد روى أبو القاسم بن مَنْده هذا الحديث في كتاب "الأهوال" بلفظ "لو سمعه الإنسان لصَعِق من المحسن والمسيء" فإن كان المراد به المفعول دل على وجود الصعق عند سماع كلام الصالح أيضًا، وقد استشكل هذا ما ورد في حديث السؤال في القبر "فيضربه ضربة فيصعق صعقة يسمعها كل شيء إلا الثقلين" والجامع بينهما الميت والصعق. والأول استثنى فيه الإِنس فقط، والثاني استثنى فيه الإنس والجن. والجواب أن كلام الميت بما ذكر لا يقتضي وجود الصعق، وهو الفزع، إلاَّ من الآدميّ، لكونه لم يألف سماع كلام الميت، بخلاف الجن في ذلك. وأما الصيحة التي يصيحها المضروب، فإنها غير مألوفة للإِنس والجن جميعًا، لكن سببها عذاب الله، ولا شيء أشد منه على كل مكلف، فاشترك الإنس والجن في ذلك. قلت: قوله: بخلاف الجن في ذلك، دالٌّ على أن الجن مألوف عندهم سماع كلام الموتى, ومن أين له ذلك، وأي دليل عليه؟ واستدل به على أن كلام الميت يسمعه كل حيوان ناطق وغير ناطق، لكن قال ابن بطال: هو عام أريد به الخصوص، وأن المعنى يسمعه من له عقل، كالملائكة والجن والإنس, لأن المتكلم رُوح وإنما يسمع الروح من هو روح مثله، وتعقب بمنع الملازمة إذ لا ضرورة إلى التخصيص، بل لا يستثنى إلا الإنسان، كما هو ظاهر الخبر، وإنما اختص الإِنسان بذلك إبقاء عليه وبأنه لا مانع من إنطاق الله الجسد بغير روح كما مرَّ. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ عبد العزيز بن عبد الله الأُوَيْسِيّ في الأربعين من العلم، ومرَّ الليث في الثالث من بدء الوحي، ومرَّ سعيد المَقْبَريّ في الثاني والثلاثين من الإِيمان, وأبو سعيد الخُدْرِيّ في الثاني عشر منه، ومرَّ أبو سعيد كيسان في السادس والعشرين من صفة الصلاة. والحديث أخرجه النسائيُّ أيضًا ثم قال المصنف: تم بعون الله الجزء الحادي عشر ويليه الجزء الثاني عشر وأوله باب السرعة بالجنازة

كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري تأليف الامام المحدث العلامة الشيخ محمد الخضر الجكينى الشنقيطي (المتوفى سنة 1354هـ) الجزء الثاني عشر مؤسسة الرسالة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

كوثر المعاني الدراري فيد كشف خبايا صحيح البخاري

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1415هـ - 1995م مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع مؤَسَّسَة الرّسَالة بيروت - شارع سوريَا - بنَاية صَمَدي وَصَالحَة هَاتف: 603243 - 815112 - صَ. بَ: 7460 - بَرقيًا: بيُوشرَان

باب السرعة بالجنازة

باب السرعة بالجنازة أي: بعد أن تحمل، ثم قال: وقال أنس: أنتم مشيِّعون، فامش بين يديها وخلفها وعن يمينها وعن شمالها. قوله: فامش، في رواية الكشميهنيّ: فامشوا، وأثر أنس هذا وصله عبد الوهاب بن عطاء الخَفّاف في كتاب الجنائز عن حُميد عن أنس بن مالك أنه سُئل عن المشي في الجنازة فقال: "أمامها وخلفها وعن يمينها وشمالها، انما أنتم مشيِّعون" وأخرجه عبد الرزاق عن أبي جعفر الرازيّ عن حميد "سمعتُ العَيْزار بن حُرَيث سأل أنس بن مالك عن المشي مع الجنازة، فقال: إنما أنت مشيّع، فذكر نحوه، فاشتمل على فائدتين: تسمية السائل، والتصريح بسماع حميد. قال ابن المنير: مطابقة هذا الأثر للترجمة أن الأثر يتضمن التوسعة على المشيعين، وعدم التزامهم جهة معينة، وذلك لما علم من تفاوت أحوالهم في المشي، وقضية الإسراع بالجنازة، أن لا يلزموا بمكان واحد يمشون فيه، لئلا يشق على بعضهم ممن يضعف في المشي عمن يقوى عليه، ومحصله أن السرعة لا تتفق غالبًا إلا مع عدم التزام المشيء في جهة معينة، فيتناسبا. وقال ابن رشيد: يمكن أن يقال: لفظ "المشي والتشييع" في أثر أنس أعم من الإِسراع والبطء، فلعله أراد أن يفسر أثر أنس بالحديث. قال، ويمكن أن يكون أراد أن يبيّن بقول أنس أن المراد بالإِسراع ما لا يخرج عن الوقار لمتبعها، بالمقدار الذي تصدق عليه به المصاحبة. وأنس مرَّ في السادس من الإِيمان. ثم قال: وقال غيره قريبًا منها، أي: قال: غير أنس مثل قول أنس، ولكنه قيد ذلك بالقرب من الجنازة, لأن من بعد منها يصدق عليه أيضًا أنه مشى أمامها وخلفها مثلًا، والغير المذكور، قال في "الفتح" أظنه عبد الرحمن بن قرظ، لما رواه سعيد بن منصور عن عُروة بن رُدَيم قال: شهد عبد الرحمن بن قرظ جنازة، فرأى ناسًا تقدموا، وآخرين استأخروا، فأمر بالجنازة فوضعت، ثم رماهم بالحجارة حتى اجتمعوا إليه، ثم أمر بها فحملت، ثم قال: بين يديها وخلفها وعن يمينها وعن شمالها. وعبد الرحمن يأتي تعريفه قريبًا. ودل إيراد البخاريّ لأثر أنس المذكور على اختيار هذا المذهب، وهو التخيير في المشيء مع

الحديث الثالث والسبعون

الجنازة، وقد مرَّ استيفاء الكلام على المذاهب في كيفية المشيء معها في باب "اتباع الجنائز من الإيمان،. والغير هو عبد الرحمن من قرظ، وأثره وَصَله سعيد بن منصور، وعبد الرحمن بن قُرْظ بضم القاف وسكون الراء، الثّماليّ الحُمصيّ، صحابيّ. قال البخاريُّ وغيره: كان من أهل الصُّفة. وقال هشام بن عِمارة في فوائده: كان عبد الرحمن بن قرظ واليًا على حُمص في زمان عمر، فبلغه أن عروسًا حملت في هودج ومعها النيران، فكسر الهودج وأطفأ النيران، ثم أصبح فصعد المنبر وقال: إني كنت مع أهل الصُّفة، وهم مساكين في مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأن أبا جندل نكح أُمامة، فصنع طعامًا، فدعانا فأكلنا، فاستشهد أبو جندل بعد ذلك، وماتت أمامة. وروى البخاريّ وابن السكن عن رُوَيم عنه "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة أُسْري به إلى المسجد الأقصى كان بين المقام وزمزم جبريلُ عن يمينه وميكائيلُ عن يساره، فطارا به حتى بلغ السموات السبع، فلمّا رجع قال: سمعت تسبيحًا في السموات العلى". الحديث. وأخرج هشام بن عِمارة في فوائده أن ابن قرظ صعد المنبر فرأى أهل اليمن وقُضاعة عليهم المُعَصْفَر والمُزَهَّر، فذكر القصة، وفيه قوله "إنما قامت النعمة على المنعم عليه بالشكر" روى عنه سليم بن عامر. والثُّمالي في نسبه، بضم الثاء على الأصح، نسبة إلى ثُمالة كثُمامة، أبي بطن من الأزْد، لقب عوف بن سليم بن أحْجن بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد، منهم محمد بن يزيد المُبَرِّدُ النَّحْويّ. وفيهم يقول الشاعر: سألنا عن ثُمالَةَ كلَّ حيٍّ ... فقالَ القائلون ومن ثُمالَهْ فقلتُ: محمدُ بنُ يزيدَ منهم ... فقالوا: زدتنا بهمُ جهالهْ وإنما لقب بهذا اللقب, لأنه أطعم قومه، وسقاهم لبنًا بثمالته، فغلب عليه ذلك. الحديث الثالث والسبعون حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَفِظْنَاهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: أَسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ، فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا، وَإِنْ يَكُ سِوَى ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ.

قوله: حفظناه من الزُّهريّ، في رواية المستملي "عن" بدل "من"، والأول أَوْلى, لأنه يقتضي سماعه منه، بخلاف رواية المستملي، وقد صرح الحميديّ في مسنده بسماع سفيان له من الزهريّ: وقوله: عن سعيد بن المسيب، كذا قال سفيان، وتابعه معمر وابن أبي حَفصة عند مسلم، وخالفهم يونس فقال: عن الزهريّ، حدثني أبو أمامة بن سهل عن أبي هُريرة، وهو محمول على أن للزهريّ فيه شيخين. وقوله: أسرعوا، نقل ابن قُدامة أنّ الأمر فيه للاستحباب بلا خلاف بين العلماء، وشذ ابن حزم، فقال بوجوبه، والمراد بالإسراع شدة المشي، وعلى ذلك حمله بعض السلف، وهو قول الحنفية. قال صاحب الهداية: ويمشون بها مسرعين دون الخَبَب. وفي "المبسوط": ليس فيه شيء مؤقت، غير أن العجلة أحب إلى أبي حنيفة. قاله في "الفتح": وعن الشافعيّ والجمهور: المرادُ بالإسراع ما فوق سجية المشي المعتاد، ويكره الإِسراع الشديد، ومال عِياض إلى نفي الخلاف، فقال: من استحبه أراد الزيادة على المشي المعتاد، ومن كرهه أراد الإِفراط فيه، كالرَّمل. والحاصل أنه يستحب الإسراع بها, لكن بحيث لا ينتهي إلى شدة يخاف معها حدوث مَفْسدة بالميت، أو مشقة على الحامل أو المشيع، لئلا ينافي المقصود من النظافة، أو إدخال المشقة على المسلم. قال القرطبيّ: مقصود الحديث أن لا يُتباطأ بالميت عن الدفن، ولأن التباطؤ ربما أدى إلى التباهي والاختيال. وقوله: بالجنازة، أي: بحملها إلى قبرها. وقيل: المراد والإِسراع بتجهيزها، فهو أعم من الأول. قال القرطبيّ: الأول أظهر. وقال النّوويّ: الثاني باطل مردود بقوله في الحديث "تضعونه عن رقابكم". وتعقبه الفاكهانيّ بأن الحملَ على الرقاب قد يعبر عن المعاني، كما تقول حمل فلان على رقبته ذنوبًا، فيكون المعنى استريحوا من نظر من لا خير فيه. قال: ويؤيده أن الكل لا يحملونه، ويؤيده حديث ابن عمر: "سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: إذا مات أحدكم فلا تحبسوه، وأسرعوا به إلى قبره" أخرجه الطبرانيّ بإسناد حسن، ولأبي داود عن حُصين بن وَحْوح مرفوعًا "لا ينبغي لجيفة مسلم أن تبقى بين ظهرانيْ أهله". الحديث. وقوله: فإنْ تك صالحة، ومعناه في الذي قبله، وقوله: فخير، هو خبر مبتدأ محذوف، أي: فهو خبر، أو مبتدأ خبره محذوف، أي: فلها خير، أو هناك خير. ويؤيده رواية مسلم بلفظ "قربتموها إلى الخير"، ويأتي في قوله بعد ذلك "فشر نظير ذلك"، وقوله: تقدمونها إليه، راجع إلى الخبر، باعتبار الثواب، قال ابن مالك: روي تقدمونه إليها فأنت الضمير على تأويل الخير بالرحمة والحسنى، وقوله: تضعونه عن رقابكم، استدل به على أن حمل الجنازة يختص بالرجال، للإِتيان فيه بضمير المذكر.

رجاله خمسة

ولا يخفى ما فيه، وفيه استحباب المبادرة إلى دفن الميت، لكن بعد أن يتحقق أنه مات، أما مثل المطعون والمفلوج والمسبُوت، فينبغي أن لا يسرع بدفنهم، حتى يمضي يوم وليلة، ليتحقق موتهم. نبه على ذلك ابن بُزَيزة، ويؤخذ منه ترك صحبة أهل البطالة، وغير الصالحين. فإن قلت: ما ذكر من الإسراع يعارضه ما رواه البخاري ومسلم عن عطاء قال: "حضرنا مع ابن عباس رضي الله عنهما جنازة مَيمونة، رضي الله تعالى عنها، بِسَرفٍ، فقال ابن عباس: هذه ميمونة، إذا رفعتم نَعْشها، فلا تزعزعوه ولا تزلزلوه، وارفقوا. وروى ابن أبي شيبة في مصنفه عن بنت أبي بُردة عن أبي موسى قال: "مرَّ على النبي -صلى الله عليه وسلم- بجنازة، وهي تمخض كما يمخض الزق، فقال: عليكم بالفصد في جنائزكم"، فإن هذا يدل على استحباب الرفق بالجنازة، ترك الإِسراع. أُجيب بأنّ ابن عباس أراد الرفق في كيفية العمل، لا في كيفية المشيء بها، وحديث أبي موسى منقطع بين بنت أبي بُردة وأبي موسى، ومع ذلك فهو ظاهر في أنه كان يفرط في الإسراع بها، ولعله خشي انفجارها، وخروج شيء منها، وكذا الحكم عند ذلك في كل موضوع. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ عليّ بن عبد الله المِدْينيّ في الرابع عشر من العلم، ومرَّ ابن عُيينة في الأول من بدء الوحي، والزهري في الثالث منه، وابن المسيب في التاسع عشر من الإِيمان, وأبو هريرة في الثاني منه. أخرجه مسلم وباقي الستة، ثم قال المصنف:

باب قول الميت وهو على الجنازة قدموني

باب قول الميت وهو على الجنازة قدموني أي: السرير، وقوله: قدموني، أي: إنْ كان صالحًا. الحديث الرابع والسبعون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ إِذَا وُضِعَتِ الْجِنَازَةُ فَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً قَالَتْ قَدِّمُونِي. وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ قَالَتْ لأَهْلِهَا يَا وَيْلَهَا أَيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَيْءٍ إِلاَّ الإِنْسَانَ، وَلَوْ سَمِعَ الإِنْسَانُ لَصَعِقَ. هذا الحديث استوفي الكلام عليه عند ذكره قبل حديث واحد. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ عبد الله بن يوسف في الثاني من بدء الوحي، والليث في الثالث منه، ومرَّ محل الثلاثة الباقية في الذي قبله بحديث ثم قال المصنف:

باب من صف صفين أو ثلاثة على الجنازة خلف الإمام

باب من صف صفين أو ثلاثة على الجنازة خلف الإِمام أورد فيه حديث جابر في الصلاة على النجاشيّ، وفيه: كنت في الصف الثاني أو الثالث، وقد اعترض عليه بأنه لا يلزم من كونه في الصف الثاني أو الثالث أن يكون ذلك منتهى الصفوف، وبأنه ليس في السياق ما يدل على أن الصفوف خلف الإِمام، والجواب عن الأول أن الأصل عدم الزائد، وقد روى مسلم عن أبي الزبير عن جابر قصة الصلاة على النجاشيّ، فقال: فقمنا فصفنا صفين، فعرف بهذا أن من روى عنه "كنت في الصف الثاني أو الثالث" شكّ هل كان هنالك صف ثالث أم لا، وبذلك تصح الترجمة. وعن الثاني بأنه أشار إلى ما ورد في بعض طرقه صريحًا، كما يأتي في هجرة الحبشة من وجه آخر عن قتادة بهذا الإِسناد، بزيادة "فصفنا وراءه" وفي الباب الذي يليه عن أبي هريرة "فصفوا خلفه". الحديث الخامس والسبعون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ أَبِي عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- صَلَّى عَلَى النَّجَاشِيِّ، فَكُنْتُ فِي الصَّفِّ الثَّانِي أَوِ الثَّالِثِ. مباحث هذا الحديث مرت عند ذكر حديث أبي هريرة في باب "الرجل ينعي إلى أهل الميت بنفسه". رجاله خمسة: وفيه ذكر النجاشي، وقد مرَّ الجميع، مرَّ مسدد وقتادة في السادس من الإِيمان, ومرَّ أبو عوانة في الخامس من بدء الوحي، وجابر في الرابع منه، ومرَّ عطاء بن أبي رباح في التاسع والثلاثين من العلم، ومرَّ النجاشي في الثامن من الجنائز هذا، ثم قال المصنف:

باب الصفوف على الجنازة

باب الصفوف على الجنازة قال الزين بن المنير ما ملخصه: أنه أعاد الترجمة لأن الأُولى لم يجزم فيها بالزيادة على الصفين، وقال ابن بطال: أومأ المصنف إلى الرد على عطاء، حيث ذهب إلى أنه لا يشرع فيها تسوية الصفوف، كما رواه عبد الرزاق عن ابن جُريج قال: قلت لعطاء: أحقٌّ على الناس أن يسووا صفوفهم على الجنائز كما يسوونها في الصلاة؟ قال: لا، إنما يكبرون ويستغفرون. وتعقب بعضهم بأن أحاديث الباب ليس فيها صلاة على جنازة، وإنما فيها الصلاة على الغائب أو على من في القبر، وأجيب بأن الاصطفاف إذا شرع والجنازة غائبة، ففي الحاضرة أولى، وأجاب الكرمانيّ بأن المراد بالجنازة، في الترجمة، الميتُ سواءً كان مدفونًا أو غير مدفون، فلا منافاة بين الترجمة والحديث. الحديث السادس والسبعون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: نَعَى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى أَصْحَابِهِ النَّجَاشِيَّ، ثُمَّ تَقَدَّمَ فَصَفُّوا خَلْفَهُ فَكَبَّرَ أَرْبَعًا. قوله: عن سعيد، هو ابن المسيب، كذا رواه أصحاب معمر البصريون عنه، وكذا هو عند عبد الرزاق عن معمر، وأخرجه النَّسائيّ عن عبد الرزاق فقال فيه: عن سعيد وأبي سَلَمة، وكذا أخرجه ابن حبّان عن الزُّهريّ عنهما، وكذا ذكره الدارقطني في غرائب مالك عن مالك. والمحفوظ عن مالك ليس فيه ذكر أبي سلمة، كما هو في الموطأ. وكذا أخرجه المصنف. كما مرَّ في أوائل الجنائز في الباب المذكور آنفًا، والمحفوظ عن الزهريّ أن نعي النجاشيّ والأمر بالاستغفار له عنده عن أبي سلمة وسعيد جميعًا، وأما قصة الصلاة عليه والتكبير، فعنده عن سعيد وحده، كذا فعله عقيل عنه.

رجاله ستة

وقوله: فكبر أربعًا، قد مرَّ استيفاء الكلام على ما قيل في عدد التكبير، وفي السلام في باب "الرجل ينعي إلى أهل الميت بنفسه". رجاله ستة: وفيه ذكر النجاشيّ، مرَّ محل مسدد والنجاشي في الذي قبله، ومحل الزهريّ وأبي هريرة في الذي قبله بحديثين، ومرَّ يزيد بن زُريع في السادس والتسعين من الوضوء ومرَّ معمر في متابعة بعد الرابع من بدء الوحي، ومرَّ سعيد المَقْبَريّ في الثاني والثلاثين من الإِيمان. أخرجه التِّرْمِذِيّ والنَّسائيّ وابن ماجه في الجنائز. الحديث السابع والسبعون حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي مَنْ شَهِدَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-: أَتَى عَلَى قَبْرٍ مَنْبُوذٍ فَصَفَّهُمْ وَكَبَّرَ أَرْبَعًا. قُلْتُ مَنْ حَدَّثَكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما. هذا الحديث قد مرَّ في باب الإِذن بالجنازة، ومرَّ هناك محل استيفاء الكلام عليه، وتعريف الرجل الذي -صلى الله عليه وسلم-، صلى عليه. رجاله أربعة: وفيه مبهم، ثم بينه بأنه ابن عباس، وقد مرَّ الجميع، وفيه لفظ قبر منبوذ. مرَّ مسلم بن إبراهيم في السابع والثلاثين من الإِيمان, وشُعبة والشَّعبيّ في الثالث منه، ومرَّ أبو إسحاق الشيبانيّ في السابع من الحيض، وابن عباس في الخامس من بدء الوحي، وقد مرَّ الكلام على هذا الحديث في العاشر من الجنائز، ومرَّ هناك اسم صاحب القبر. الحديث الثامن والسبعون حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما يَقُولُ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: قَدْ تُوُفِّيَ الْيَوْمَ رَجُلٌ صَالِحٌ مِنَ الْحَبَشِ فَهَلُمَّ فَصَلُّوا عَلَيْهِ. قَالَ فَصَفَفْنَا فَصَلَّى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَيْهِ وَنَحْنُ صُفُوفٌ.

رجاله خمسة

وفي هذا الحديث الكلام على الصلاة على الجنازة في المسجد، والصلاة على الغائب، وقد أشبعنا الكلام عليهما، وعلى جميع مباحث الحديث عند حديث أبي هريرة في باب "الرجل ينعي إلى أهل الميت بنفسه". رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ الثلاثة الأول بهذا النسق في الثالث من الحيض، ومرَّ عطاء بن أبي رباح في التاسع والثلاثين من العلم، ومرَّ جابر في الرابع من بدء الوحي. فيه التحديث بصيغة الجمع، والإِخبار بالجمع والأفراد والسماع والقول، ورواته رازيّ ويمانيّ ومكيّان. أخرجه البخاري أيضًا في هجرة الحبشة، ومسلم في الجنائز، والنَّسائيّ في الصلاة. ثم قال: قال أبو الزبير عن جابر: كنت في الصف الثاني، وهذا التعليق وصله النَّسائيّ من طريق شُعبة، ووهم من نسب وصل هذا التعليق لمسلم، فإنه أخرجه عن أبي الزبير، وليس فيه مقصود التعليق، وأبو الزبير مرَّ في متابعة بعد الثامن والخمسين من الجماعة. ثم قال المصنف:

باب صفوف الصبيان مع الرجال في الجنائز

باب صفوف الصبيان مع الرجال في الجنائز في رواية الكشميهنيّ "على الجنائز" أي: عند إرادة الصلاة عليها، وقد مرَّ الجواب عن الترجمة على الجنائز وإرادة الصلاة على القبر في الباب الذي قبله، ويأتي بعد ثلاث تراجم "باب صلاة الصبيان مع الناس"، وذكر فيه طرفًا من حديث ابن عباس المذكور، وكان ابن عباس في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- دون البلوغ, لأنه شهد حجة الوداع وقد قارب الاحتلام، كما تقدم بيان ذلك في كتاب الصلاة. الحديث التاسع والسبعون حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ عَنْ عَامِرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَرَّ بِقَبْرٍ قَدْ دُفِنَ لَيْلاً فَقَالَ مَتَى دُفِنَ هَذَا. قَالُوا الْبَارِحَةَ. قَالَ أَفَلاَ آذَنْتُمُونِي. قَالُوا دَفَنَّاهُ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ فَكَرِهْنَا أَنْ نُوقِظَكَ. فَقَامَ فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَا فِيهِمْ فَصَلَّى عَلَيْهِ. هذا الحديث قد مرَّ قبل حديث، ومرَّ هناك أنه مرَّ استيفاء الكلام عليه. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ موسى بن إسماعيل وابن عباس في الخامس من بدء الوحي، ومرَّ عبد الواحد في التاسع والعشرين من الإِيمان, ومرَّ الشَّعبيّ في الثالث منه، ومرَّ أبو إسحاق الشيبانيّ في السابع من الحيض، وصاحب القبر إِمّا أُم مِحْجَن، وقد مرت في الحادي والستين من استقبال القبلة، وإما طلحة بن البراء، وقد مرَّ في العاشر من الجنائز هذا. ثم قال المصنف:

باب سنة الصلاة على الجنازة

باب سنة الصلاة على الجنازة قال الزين بن المنير: المراد بالسنة ما شرعه النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها، فهو أعم من الواجب والمندوب، ومراده بما ذكره هنا من الآثار والأحاديث، أن لها حكم غيرها من الصلوات والشرائط والأركان، وليست مجرد دعاء، فلا تجزىء بغير طهارة مثلًا، وسيأتي في أواخر الباب بسط ذلك. ثم قال: وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ صلّى على جنازة" .. هذا طرفٌ من حديث يأتي موصولًا بعد باب بلفظ "مَنْ شهد الجنازة"، وهذا اللفظ عند مسلم من وجه آخر عن أبي هريرة، ومن حديث ثوبان أيضًا. ثم قال: وقال: "صلوا على صاحبكم"، وهذا طرف من حديث لسلمة بن الأكوع، يأتي موصولًا في أوائل الحُوالة، أوَّله "كنا جلوسًا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أُتِيَ بجنازة، فقالوا: صل عليها، وقال: هل عليه دَيْنٌ .. الحديث". ثم قال: وقال: صلوا على النجاشيّ، سماها صلاةً ليس فيها ركوع، ولا سجود ولا يتكلم فيها، وفيها تكبير وتسليم. وهذا قد مرَّ في باب الصفوف على الجنازة. وقوله: سماها صلاة، أي: يشترط فيها ما يشترط في الصلاة، وإن لم يكن فيها ركوع ولا سجود، فإنه لا يتكلم فيها، ويكبر فيها ويسلم منها بالاتفاق، وإن اختلف في عدد التكبير والتسليم، كما مرَّ ذلك مستوفى في باب الإِذن بالجنازة. ثم قال: وكان ابن عمر لا يصلي إلا طاهرًا، ولا يصلي عند طلوع الشمس ولا غروبها، وهذا وصله مالك في الموطأ عن نافع بلفظ "إن ابن عمر كان يقول: لا يصل الرجل على الجنازة إلا وهو طاهر" ومرَّ ابن عمر في أول الإِيمان قبل ذكر حديث منه. وقوله: ولا يصلى عند طلوع الشمس ولا غروبها، وهذا وصله سعيد بن منصور عن أيوب عن نافع قال: كان ابن عمر إذا سئل عن الجنازة بعد صلاة الصبح، وبعد صلاة العصر، يقول: ما صلينا لوقتهما، "ما" في قوله "ما صلينا" ظرفية يدل عليه رواية مالك عن نافع قال: كان ابن عمر يصلي على الجنازة بعد الصبح والعصر إذا صلينا لوقتهما، ومقتضاه أنهما إذا أُخِّرتا إلى وقت الكراهة عنده، لا يصلي عليها حينئذ، ويبين ذلك ما رواه مالك أيضًا أن ابن عمر قال، وقد أُتي بجنازة بعد صلاة الصبح بغَلَس: إمّا أن تصلوا عليها وإما أن تتركوها حتى ترتفع الشمس. فكان ابن

عمر يرى اختصاص الكراهة بما عند طلوع الشمس وعند غروبها, لا مطلق ما بين الصلاة وطلوع الشمس أو غروبها. وروى ابن أبي شيبة عن ميمون بن مِهران قال: كان ابن عمر يكره الصلاة على الجنازة إذا طلعت الشمس، وحين تغرب، وقد تقدم ذلك عنه، وإلى قول ابن عمر في ذلك ذهب مالك والأوزاعيّ والكوفيون وأحمد وإسحاق. قلت: مشهور مذهب مالك أن الصلاة على الجنازة تباح بعد صلاة العصر إلى الاصفرار، وبعد صلاة الصبح إلى الإِسفار. وقول ابن عمر "وإما أن تتركوها حتى ترتفع الشمس" لا ينافيه. ثم قال: ويرفع يديه، وصله البخاريّ في كتاب رفع اليدين المفرد عن نافع عن ابن عمر، أنه كان يرفع يديه في كل تكبيرة على الجنازة. وقد روي مرفوعًا. أخرجه الطبرانيّ في الأوسط من وجه آخر عن نافع عن ابن عمر بإسناد ضعيف. قلت: مشهور مذهب مالك ندب رفع اليدين عند التكبيرة الأولى، وهو خلاف الأوْلى عند غيرها. وروي عن ابن القاسم أنه لا يرفع في شيء منها، وفي سماع أشهب "إن شاء رفع بعد الأُولى، وإن شاء ترك" ومذهب الحنفية كالمالكية: يرفع عند الأُولى فقط، واستدلوا بما أخرجه التِّرمذيُّ عن أبي هُريرة مرفوعًا "إذ صلّى على جنازة يرفع يديه في أول تكبيرة"، زاد الدارقطنيّ "ثم لا يعود". وعند الشافعية يستحب رفع اليدين عند كل تكبيرة من الأربع. ثم قال: وقال الحسن: أدركت الناس، وأحقهم على جنائزهم من رَضُوه لفرائضهم، وهذا الأثر لم ير موصولًا، وقوله: من رضوه، في رواية الحمويّ والمستملي "من رضوهم" بصيغة الجمع، وفائدة أثر الحَسَنُ هذا بيانُ أنه نقل عن الذين أدركهم، وهم جمهور الصحابة، أنهم كانوا يلحقون صلاة الجنازة بالصلوات التي يجمع فيها. وقد جاء عن الحسن أن أحق الناس بالصلاة على الجنازة الأب ثم الابن، أخرجه عبد الرزاق، وهي مسألة اختلاف بين أهل العلم، فروى ابن أبي شَيبة عن جماعة، منهم سالم والقاسم وطاوس، أن إمام الحيّ أحق. وقال علقمة والأسود وآخرون: الوالي أحق من الوَلِيّ، وهو قول مالك وأبي حنيفة والأوزاعي وأحمد وإسحاق. وقال أبو يوسف والشافعيّ الوَليُّ أحق من الوالي، ومذهب المالكية أنّ الأوْلى تقديم من أوصى الميت بالصلاة عليه, لأن ذلك من حق الميت إذ هو أعلم بمن يشفع له، إلا أن يعلم ذلك من الميت كان لعداوة بينه وبين الولي، وإنما أراد بذلك إنكاءه فلا تجوز وصيته، فإن لم يكن وصى فالخليفة مقدم على الأولياء، لا نائبه, لأنه لا يقدم على الأولياء إلا أن يكون صاحب الخطبة، فيقدم على المشهور، ثم أقرب العصبة، وعند الاستواء في القرابة يقدم

أفضل الأولياء. وقد مرَّ الحسن البصريّ في الرابع والعشرين من الإِيمان. ثم قال: وإذا أحدث يوم العيد أو عند جنازة، يطلب الماء ولا يتيمم، يحتمل أن يكون هذا الكلام معطوفًا على أصل الترجمة، ويحتمل أن يكون بقية كلام الحسن، وقد وجد عن الحسن في هذه المسألة اختلاف، فروى سعيد بن منصور عن كثير بن شِنْظِير قال: سُئل الحسن عن الرجل يكون في الجنازة على غير وضوء, فإن ذهب يتوضأ تفوته، قال: يتيمم ويصلي. وعن هُشَيم عن يونس عن الحسن مثله. وروى ابن أبي شيبة عن أشعث عن الحسن قال: لا يتيمم ولا يصلي على طهر، وقد ذهب جمع من السلف إلى أنه يجزىء لها التيمم لمن خاف فواتها لو تشاغل بالوضوء. وحكاه ابن المنذر عن عطاء وسالم والزهريّ والنخعيّ وربيعة والليث والكوفيين. وهو رواية عن أحمد، وفيه حديث مرفوع عن ابن عباس، رواه ابن عديّ، وإسناده ضعيف، وهذا هو مذهب أبي حنيفة، وقيده بأن يكون الوليّ غيره. وعند مالك يتيمم الحاضر الصحيح العادم الماء، والخائف باستعماله ذوات الصلاة للجنازة المتعينة عليه، بأن لا يوجد متوضىء يصلى عليها. وقال الشافعيُّ وأبو ثَور: لا يتيمم، وقال ابن حبيب: الأمر فيه أوسع. ونقل ابن التين عن ابن وهب أنه يتيمم إذا خرج طاهرًا فأحدث، وإن خرج معها من غير طهارة لم يتيمم. وأما التيمم لصلاة العيد فعند المالكية لا يجوز للحاضر الصحيح العادم الماء التيمم لها، ويجوز للمريض والمسافر، وكذلك عند الشافعيّ، لا يجوز التيمم لصلاة العيد أداء وبناء. قال النّوويّ: قاس الشافعيّ صلاة الجنازة والعيد على الجمعة، وقال: تفوت الجمعة بخروج الوقت بالإِجماع، والجنازة لا تفوت، بل يصلي على القبر إلى ثلاثة أيام بالإِجماع، ويجوز بعدها عندنا وعند الحنفية، إنْ كان قبل الشروع في صلاة العيد لا يجوز للإِمام, لأنه ينتظر، وأما المقتدي: فإنْ كان الماء قريبًا بحيث لو توضأ لا يخاف الفوت لا يجوز، وإلا فيجوز، فلو أحدث أحدهما بعد الشروع بالتيمم يتيمم، وإن كان الشروع بالوضوء وخاف ذهاب الوقت لو توضأ، فكذلك عند أبي حنيفة خلافًا لهما. وفي المحيط: وإن كان بالوضوء وخاف زوال الشمس لو توضأ يتيمم بالإِجماع، وإلا فإن كان يرجو إدراك الإِمام، قبل الفراغ، لا يتيمم بالإِجماع، وألاَّ يتيمم ويبني عند أبي حنيفة. وقالا: يتوضأ ولا يتيمم، فمن المشائخ من قال: هذا اختلاف عصر وزمان، ففي زمن أبي حنيفة كانت الجَبَّانة بعيدة من الكوفة، وفي زمانهما كانوا يصلون في جبانة قريبة. ثم قال: وإذا انتهى إلى الجنازة وهم يصلون، يدخل معهم بتكبيرة، هذا بقية من كلام الحسن

أيضًا، أي: إذا انتهى الرجل إلى الجنازة، والحال أن الجماعة يصلون، يدخل معهم بتكبيرة، وقد وصله ابن أبي شيبة عن أشعث عن الحسن في "الرجل ينتهي إلى الجنازة وهم يصلون عليها، قال يدخل معهم بتكبيره". وروي عن محمد بن سيرين قال: يكبر ما أدرك، ويقضي ما سبقه. وقال الحسن: يكبر ما أدرك ولا يقضي ما سبقه، وعند الحنفية: لو كبر الإِمام تكبيرة أو تكبيرتين لا يكبر الآتي حتى يكبر الإِمام تكبيرة أخرى عند أبي حنيفة ومحمد، ثم إذا كبر الإِمام يكبر معه، فإذا فرغ الإِمام كبر هذا الآتي ما فاته قبل أن يرفع الجنازة، وكذا الحكم عند المالكية، فإنه لا يكبر حال اشتغال الإِمام بالدعاء، حتى يكبر، فإن التكبيرات كالركعات، ولا يقضي ركعة كاملة في صلب الإِمام، وروى مُطرِف أنه يكبر حين يحضر، وبه قال، واختاره، ابن ... وابن رشد وسند من المتأخرين. وبه قال أبو يوسف. وعند المالكية يدعو المسبوق، إذا تركت له الجنازة، وإلا والى التكبير وسلم، لئلا يكون مصليًا على غائب. ومذهب الشافعيّ أنه يكبر حين يحضر، وهو رواية عند أحمد، وهو قول الثّوريّ، ويستحب أن لا ترفع الجنازه حتى يتم المسبوق ما عليه، فلو رفعت لم يضر، قال القسطلاني: وتبطل بتخلفه عن إمامه بتكبيرة بلا عذر، بأن لم يكبر حتى كبر الإِمام المستقبلة، إذ الاقتداء هنا إنما يظهر في التكبيرات، وهو تخلف فاحش يشبه التخلف بركعة، وفي الشرح الصغير احتمال أنه كالتخلف بركن، حتى لا تبطل إلا بتخلفه بركنين. وخرج بالتقييد "بلا عذر" من عذر ببطء القراءة أو النسيان أو عدم سماع التكبير، فلا يبطل تخلفه بتكبيرة فقط، بل بتكبيرتين على ما اقتضاه كلامهم. ثم قال: وقال ابن المسيب يكبِّر بالليل والنهار والسفر والحضر أربعًا. قال في "الفتح"، لم أره موصولًا عنه، ووجدت معناه بإسناد قويّ عن عقبة بن عامر الصّحبي. أخرجه ابن أبي شيبة عنه موقوفًا، وقد مرَّ ابن المسيب في التاسع عشر من الإِيمان. ثم قال: وقال أنس التكبيرة الواحدة استفتاح الصلاة، وصله سعيد بن منصور عن زُريق بن كريم أنه قال لأنس بن مالك: رجل صلى فكبر ثلاثًا. قال أنس: أوليس التكبير ثلاثًا؟ قال: يا أبا حمزة التكبير أربعًا، قال: أجل، غير أن واحدة هي استفتاح الصلاة. وأنس مرَّ في السادس في الإِيمان. ثم قال: وقال، {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} أي: وقال الله سبحانه وتعالى، وهذا معطوف على أصل الترجمة، ثم قال: وفيها صفوف وإمام، وهذا معطوف على قوله "وفيها تكبير وتسليم". وقال مفلطاي: كأنّ البخاريّ أراد الرد على مالك، فإن ابن العربيّ نقل عنه أنه استحب كأن يكون المصلون على الجنازة سطرًا واحدًا، قال: ولا أعلم لذلك وجهًا، وقد تقدم حديث مالك

ابن هبيرة في استحباب الصفوف في باب "الإِذن بالجنازة" عند حديث النجاشي. وقال ابن رشيد، نقلًا عن ابن المُرابط وغيره ما محصله: مراد هذا الباب الرد على من يقول إن الصلاة على الجنازة إنما هي دعاء لها واستغفار، فتجوز على غير طهارة، فأوّلُ الرد عليه عند المصنف من جهة التسمية التي سماها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاةً، ولو كان الفرض الدعاء وحده، لما أخرجهم إلى البقيع، ولدعا في المسجد، وأمرهم بالدعاء معه، أو التأمين على دعائه، ولما صفهم خلفه كما يصنع في الصلاة المفروضة والمسنونة، وكذا وقوفه في الصلاة وتبكيره في افتتاحها، وتسليمه في التحلل منها، كل ذلك دالٌّ على أنها على الأبدان لا على اللسان وحده، وكذا امتناع الكلام فيها، وإنما لم يكن فيها ركوع وسجود لئلا يتوهم بعض الجهلة أنها عبادة للميت، فيضل بذلك. ونقل ابن عبد البرّ الاتفاق على اشتراط الطهارة لها، إلا عن الشعبيّ قال: ووافقه إبراهيم بن علية، وهو ممن يُرغب عن كثير من قوله، ونقل غيره أن ابن جرير الطبريّ وافقهما على ذلك، وهو مذهب شاذّ، قال ابن رشيد: وفي استدلال البخاريّ بالأحاديث التي صُدِّر بها الباب من تسميتها صلاة لمطلوبه من إثبات شرط الطهارة إشكال, لأنه كإن تمسك بالعُرف الشرعيّ عارضه عدم الركوع والسجود، وإن تمسك بالحقيقة اللغوية عارضته الشرائط المذكورة. ولم يستو التبادر في الإطلاق، فيُدّعى الاشتراك لتوقف الإِطلاق على القيد عند إرادة الجنازة، بخلاف ذات الركوع والسجود، فتعين العمل على المجاز، ولم يستدل البخاري على مطلوبه بمجرد تسميتها صلاة، بل بذلك وبما انضم إليه من وجود جميع الشرائط، إلا الركوع والسجود، وقد تقدم ذكر الحكمة في حذفهما منها، ففي ما عداهما على الأصل، وقال الكرمانيّ غرض البخاريّ بيان جواز إطلاق الصلاة على صلاة الجنازة، وكونها مشروعة، وإن لم يكن فيها ركوع ولا سجود، فاستدل تارة بإطلاق اسم الصلاة والأمر بها، وتارة بإثبات ما هو من خصائص الصلاة، نحو عدم التكلم فيها، وكونها مختتمة بالتسليم، وعدم صحتها بدون الطهارة، وعدم أدائها عند الوقت المكروه، وبرفع اليد، وإثبات الأحقية بالإِمامة، وبوجوب طلب الماء، وبكونها ذات صفوف وإمام. قال: وحاصله أن الصلاة لفظ مشترك بين ذات الأركان المخصوصة وبين صلاة الجنازة، وهو حقيقة شرعية فيهما. وقد قال بذلك غيره، ولا يخفى أن بحث ابن رشيد أقوى، ومطلوب المصنف حاصل، كما مرَّ بدون الدعوى المذكورة، بل بإثبات ما مرَّ من خصائصها.

الحديث الثمانون

الحديث الثمانون حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ الشَّيْبَانِيِّ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ مَرَّ مَعَ نَبِيِّكُمْ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى قَبْرٍ مَنْبُوذٍ فَأَمَّنَا فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ. فَقُلْنَا يَا أَبَا عَمْرٍو مَنْ حَدَّثَكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضى الله عنهما. موضع الترجمة منه قوله "فأمَّنا فصففنا خلفه" وقد تقدم هذا الحديث في باب "الإِذن بالجنازة" ومرَّ هناك محل استيفاء الكلام عليه، ومرَّ هناك تعريف الرجل المصلّى عليه. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ سليمان بن حرب في الرابع عشر من الإِيمان، ومرَّ شعبة وعامر الشَّعبيّ في الثالث منه، ومرَّ سليمان الشَّيبانيّ في السابع من الحيض، ومرَّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي، وصاحب القبر طلحة بن البراء، وقد مرَّ في العاشر من الجنائز هذا. ثم قال المصنف:

باب فضل اتباع الجنائز

باب فضل اتباع الجنائز قال ابن رشيد ما محصله: مقصود الباب بيان القدر الذي يحصل به مسمى الأتباع الذي يحوز به القيراط، إذ في الحديث الذي أورده إجمال، ولذلك صَدَّره بقول زيد بن ثابت، وآثر الحديث المذكور على الذي بعده، وإن كان أوضح منه في مقصوده، كعادته المألوفة في الترجمة على اللفظ المشكل، ليبين مجمله، وقد تقدم طرف من بيان ما يحصل به مسمى الاتباع في باب "السرعة بالجنازة"، وله تعلق بهذا الباب، وكأنه قصد هناك كيفية المشي وأمكنته، وقصد هنا ما الذي يحصل به الاتباع، وهو أعم من ذلك. قال: ويمكن أن يكون قصد هنا ما الذي يحصل به المقصد إذ الاتِّباع إنما هو وسيلة إلى تحصيل الصلاة منفردة، أو الدفن منفردًا، أو المجموع. قال: وهذا كله يدل على براعة المؤلف، ودقة فهمه، وسعة علمه. وقد قال الزين بن المنير ما محصله: مراد الترجمة إثبات الأجر، والترغيب فيه لا تعيين الحُكْم, لأن الاتباع من الواجبات على الكفاية، فالمراد بالفضل ما ذكرنا، لا تقسيم الواجب، وأجمل لفظ الاتباع تبعًا للفظ الحديث الذي أورده, لأن القيراط لا يحصل إلاَّ لمن اتبع وصلى، أو اتّبع وشيّع، وحضر الدفن، لا لمن اتبع مثلًا، وشيع ثم انصرف بغير صلاة. كما يأتي بيان الجمعة لذلك في الباب الذي يليه. وذلك لأن الاتباع إنما هو وسيلة لأحد مقصودين، إما الصلاة وإما الدفن، فإذا تجردت الوسيلة عن المقصد لم يحصل المرتب على المقصود، وإن كان يرجى أن يحصل لفاعل ذلك فضل ما بحسب نيته. وروى سعيد بن منصور عن مجاهد قال: اتباع الجنازة أفضل النوافل. وفي رواية عبد الرزاق عنه: أتباع الجنازة أفضل من صلاة التطوع. ثم قال: وقال زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه: إذا صليت فقد قضيت الذي عليك. وصله سعيد بن منصور عن عُروة عنه بلفظ "إذا صليتم على الجنازة، فقد قضيتم ما عليكم، فخلوا بينها وبين أهلها" وكذا أخرجه عبد الرزاق، لكن بلفظ "إذا صليت على جنازة فقد قضيت ما عليك"، ووصله ابن أبي شيبة من هذا الوجه بلفظ الإِفراد، ومعناه: فقد قضيت حق الميت، فإن أردت الاتباع فلك زيادة أجر. وزيد بن ثابت مرَّ في تعليق بعد الثاني والعشرين من كتاب الصلاة.

الحديث الحادي والثمانون

ثم قال: وقال حميد بن هلال: ما علمنا على الجنازة إذنًا، ولكنَّ من صلى ثم رجع فله قيراط. قال في "الفتح": لم أره موصولًا عنه، قال الزين بن المنير: مناسبته للترجمة من حيث أن الاتِّباع إنما هو لمحض ابتغاء الفضل، وأنه لا يجري مجرى قضاء حق أولياء الميت، فلا يكون لهم فيه حق، ليتوقف الانصراف قبله على الإِذن منهم. وكأنّ كالبخاريّ قصد الرد على ما أخرجه عبد الرزاق عن عمرو بن شُعيب عن أبي هُريرة قال: "أميران وليسا بأميرين: الرجل يكون مع الجنازة يصلي عليها، فليس له أن يرجع حتى يَسْتأذن وَليّها .. " الحديث، وهذا منقطع موقوف، وأخرجه البَزّار عن جابر مرفوعًا، بإسناد فيه مقال "أميران وليسا بأميرين: المرأة تحج مع القوم فتحيض، والرجل يتبع الجنازة فيصلي عليها, ليس له أن يرجع حتى يستأمر أهل الجنازة". وروى أحمد عن أبي هريرة مرفوعًا "من تبع جنازة فحمل من علوها، وحتى في قبرها، وقعد حتى يؤذن له رجع بقيراطين" وإسناده ضعيف، والذي عليه معظم أئمة الفتوى هو قول حُميد، وعند مالك يكره أن ينصرف عنها قبل الصلاة، ولو أذِن أهلها، ويكره بعد الصلاة إن لم يأذن له أهلها في الانصراف، أو يطولوا. وقد مرَّ حميد في التاسع من كتاب الجنائز هذا. الحديث الحادي والثمانون حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ قَالَ سَمِعْتُ نَافِعًا يَقُولُ حُدِّثَ ابْنُ عُمَرَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنهم - يَقُولُ: مَنْ تَبِعَ جَنَازَةً فَلَهُ قِيرَاطٌ. فَقَالَ أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَيْنَا. فَصَدَّقَتْ يَعْنِي عَائِشَةَ أَبَا هُرَيْرَةَ وَقَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُهُ. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما لَقَدْ فَرَّطْنَا فِي قَرَارِيطَ كَثِيرَةٍ. (فَرَّطْتُ) ضَيَّعْتُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ. قوله: حُدِّث، بضم المهملة على البناء للمجهول، في جميع الطرق، ولم يبين في شيء من الطرق عن نافع تسمية من حَدّثَ ابنَ عمر عن أبي هريرة بذلك، وقد جاءت تسمية من حدث ابن عمر بذلك صريحًا في موضعين: أحدهما في صحيح مسلم، وهو خَبَّاب، بمعجمة وموحدتين. الأول مشددة، وهو أبو السائب المدنيّ صاحب المقصورة، قيل: له صحبة، ولفظه عن داود بن عامر بن سعد عن أبيه أنه كان قاعدًا عند عبد الله بن عمر إذ طلع خَبَّاب صاحب المقصورة، فقال: يا عبد الله بن عمر، ألا تسمع ما يقول أبو هريرة؟ فَذَكر الحديث، والثاني في جامع التِّرمذيّ عن أبي سلمة عن أبي هُريرة فذكر الحديث. قال أبو سلمة فذكرت ذلك لابن عمر، فأرسل إلى عائشة. وقوله: إن أبا هُريرة يقول: من تبع .. لم يذكر فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- في جميع الطرق، لكن أخرجه أبو عُوانة في صحيحة عن موسى بن إسماعيل وعن أبي النعمان وعن شيبان، ثلاثتهم عن جرير بن

حازم عن نافع، قيل لابن عمر: إن أبا هُريرة يقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من تبع جنازة فله قيراط من الأجر .. " فذكره، ولم يبين لمن السياق. وقد أخرجه مسلم عن شيبان بن فَرُّوخ كذلك. فالظاهر أن السياق له. وقوله: من تبع جنازة فله قيراط، زاد مسلم في روايته "من الأجر" وقوله: أكثر علينا أبو هريرة، قال ابن التين: لم يتهمه ابن عمر، بل خشي عليه السهو، أو قال ذلك لكونه لم ينقل له عن أبي هريرة رفْعُه، فظن أنه قال برأيه، فأنكره. والثاني جمود على سياق رواية البخاري، وقد مرَّ قريبًا عن مسلم وأبي عُوانة رَفْعُه عن أبي هريرة. وقال الكرمانيّ قوله أكثر علينا، أي: في ذكر الأجر أو في كثرة الحديث، كأنه خشي لكثرة رواياته أنْ يَشْتَبه عليه بعض الأمر. وعند سعيد بن منصور عن أبي سلمة "فبلغ ذلك ابن عمر، فتعاظمه" وفي رواية الوليد بن عبد الرحمن عند سعيد أيضًا ومسدد وأحمد بإسناد صحيح "فقال ابن عمر: يا أبا هريرة، انظر ما تحدث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-". وقوله: فصدقت، يعني عائشةُ أبا هُريرة، لفظ "يعني" للبخاري كأنه شك فاستعملها، وفي رواية مسلم "فبعث ابن عمر إلى عائشة يسألها، فصدقت أبا هريرة"، وفي رواية أبي سلمة عند التِّرمذيّ: فذُكر ذلك لابن عمر فأرسل إلى عائشة فسألها عن ذلك، فقالت: صدق. وفي رواية خَبّاب صاحب المقصورة عند مسلم "فأرسل ابن عمر خَبّابًا إلي عائشة يسأله عن قول أبي هريرة، ثم يرجع إليه فيخبره بما قالت، حتى رجع إليه الرسول فقال: قالت عائشة: صدق أبو هريرة. وفي رواية الوليد بن عبد الرحمن عن سعيد بن منصور "فقام أبو هريرة فأخذ بيده فانطلقا حتى أتيا عائشة، فقال لها: يا أم المؤمنين، أنشدك الله، أسمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول .. ؟ فذكره، فقالت: اللهم نعم. ويجمع بينهما بأن الرسول لما رجع إلى ابن عمر بخبر عائشة بلغ ذلك أبا هريرة فمشي إلى ابن عمر فأسمعه ذلك عن عائشة مشافهة. وزاد في رواية الوليد "فقال أبو هريرة: لم يشغلني عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غرس الودِيّ ولا صَفْقٌ بالأسواق، وإنما كنت أطلب من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكلة يطعمنيها، أو كلمة يعلمنيها، قال له ابن عمر: كنت ألزمنا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأعلمنا بحديثه". وقوله: لقد فرطنا في قراريط كثيرة، أي من عدم المواظبة على حضور الدفن، بيّن ذلك مسلم في روايته عن سالم بن عبد الله بن عمر، قال: كان ابن عمر يصلي على الجنازة ثم ينصرف، فلما بلغه حديث أبي هريرة قال: فذكره. وفي هذه القصة دلالة على تميز أبي هريرة في الحفظ، وأن إنكار العلماء بعضهم على بعض

رجاله ستة

قديمٌ، وفيه استغراب العالم ما لم يصل إلى علمه، وعدم مبالاة الحافظ بإنكار من لم يحفظ، وفيه ما كان الصحابة عليه من التثبت في الحديث النبويّ، والتحرز فيه والتنقيب عليه، وفيه دلالة على فضيلة ابن عمر من حرصه على العلم، وتأسفه ما فاته من العمل الصالح. وقوله: "فرَّطْتُ، ضيعت من أمر الله"، كذا في جميع الطرق وفي بعض النسخ "فرطت من أمر الله، أي ضيعت"، وهو أشبه، وهذه عادة المصنف، إذا أراد تفسير كلمة غريبة من الحديث ووافقته كلمة من القرآن، فسر الكلمة التي من القرآن. وهذا الحديث والذي بعده مرت مباحثهما مستوفاة غاية الاستيفاء في باب "اتّباع الجنائز من الإيمان، من كتاب الإيمان, إلا ما يتعلق بألفاظ يسيرة منهما، وقد تكلمنا على ما ذكر منها في هذا الحديث، ونتكلم على ما جاء في الذي بعده. قال في "الفتح": وقد جاء هذا الحديث من رواية عشرة من الصحابة غير أبي هريرة وعائشة، فمن حديث ثوبان عند مُسلم والبَراء وعبد الله بن مغفل عند النَّسائي، وأبي سعيد عند أحمد، وابن مسعود عند أبي عُوانة، وأسانيد هذه الخمسة صحاح، ومن حديث أُبيّ بن كعب عند ابن ماجه، وابن عباس عند البيهقيّ في الشعب، وأنس عند الطبرانيّ في الأوسط, وواثلة بن الأسْقَع عند ابن عَدِيّ، وحفصة عند حميد بن زَنْجويه في أفاضل الأعمال، وفي كل من أسانيد هؤلاء الخمسة ضَعْف. رجاله ستة قد مرّوا، مرَّ أبو النعمان في الحادي والخمسين من الإيمان, وأبو هريرة في الثاني منه، وابن عمر في أوله قبل ذكر حديث منه، ومرَّ جرير بن حازم في السبعين من أحاديث استقبال القبلة، ومرَّ نافع في الأخير من العلم، ومرت عائشة في الثاني من بدء الوحي. أخرجه البخاريّ أيضًا، ومسلم وأبو داود والتِّرمذيّ والنَّسائيّ وابن ماجة. ثم قال المصنف:

باب من انتظر حتى تدفن

باب من انتظر حتى تدفن قال الزين بن المنير: لم يذكر المصنف جواب "من" إما استغناء بما ذكر في الخبر، أو توقفًا على إثبات الاستحقاق بمجرد الانتظار إن خلا عن اتباع. قال: وعدل عن لفظ الشهود كما هو في الخبر إلى لفظ الانتظار، لينبه على أن المقصود من الشهود إنما هو معاضدة أهل الميت، والتصدي لمعونتهم، وذلك من المقاصد المعتبرة. والذي يظهر أنه اختار لفظ الانتظار, لأنه أعم من المشاهدة، فهو أكثر فائدة، وأشار بذلك إلى ما ورد في بعض طرقه بلفظ الانتظار عند البزّار، ليفسر اللفظ الوارد بالمشاهدة، ولفظ الانتظار في رواية معمر عند مسلم، وقد ساق البخاري سندها, ولم يذكر لفظها، ووقعت هذه الطريق في بعض الروايات التي لم تتصل لنا عند البخاري في هذا الباب أيضًا. الحديث الثاني والثمانون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ قَالَ قَرَأْتُ عَلَى ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فَقَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنَا يُونُسُ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: مَنْ شَهِدَ الْجَنَازَةَ حَتَّى يُصَلِّيَ عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ شَهِدَ حَتَّى تُدْفَنَ كَانَ لَهُ قِيرَاطَانِ. قِيلَ وَمَا الْقِيرَاطَانِ قَالَ مِثْلُ الْجَبَلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ. وقوله: عن أبيه، يعني أبا سعيد، وهو كَيْسان المَقْبَريّ، وهو ثابت في جميع الطرق، وحكى الكرمانيّ أنه ساقط من بعض الطرق، والصواب إثباته، نعم سقط لفظ "عن أبيه" في رواية ابن عَجلان عند أبي عُوانة، وعبد الرحمن بن إسحاق عند ابن أبي شيبة، وأبي مَعْشر عند حميد بن زَنْجويه، ثلاثتهم عن سعيد المَقْبَرِيّ، ولم يسق البخاري لفظ رواية أبي سعيد، ولفظه عند الإِسماعيليّ "أنه سأل أبا هُريرة ما ينبغي في الجنازة؟ فقال: سأخبرك بما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال:

رجاله أربعة عشر

"من تبعها من أهلها حتى يصلّى عليها فله قيراطٌ مثل أُحد، ومن تبعها حتى يفرغ منها، فله قيراطان". وقوله: وحدثني عبد الرحمن، هو معطوف على مقدر، أي: قال ابن شهاب: حدثني فلان بكذا، وحدثني عبد الرحمن الأعرج بكذا. وقوله: ومن شهد، كذا في جميع الطرق بحذف المفعول، وفي رواية البيهقيّ "ومن شهدها بإثباته"، وقوله: قيل: وما القيرطان؟ لم يعين في هذه الرواية القائل، ولا المقول له. وقد بيّن الثاني مسلم في رواية الأعرج كهذه، فقال: قيل: وما القيرطان يا رسول الله؟ وعنده في حديث ثَوبان: سُئِل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن القيراط، وبيّن القائل أبو عُوانة عن أبي مُزاحم عن أبي هريرة، ولفظه "قلت وما القيراط يا رسول الله". وعند مسلم أن أبا حازم أيضًا سأل أبا هُريرة عن ذلك، وقد مرَّ في الذي قبله ذكر المحل الذي استوفيت فيه مباحث هذا الحديث. رجاله أربعة عشر: لأنه رواه من ثلاث طرق, وقد مرَّ الجميع، مرَّ عبد الله بن مسلمة في الثاني عشر من الإيمان, ومرَّ سعيد المَقْبَريّ في الثاني والثلاثين منه، ومرَّ الأعرج في السابع منه، ومرَّ سعيد بن المسيَّب في التاسع عشر منه، ومرَّ عبد الله بن محمد الجُعْفِيّ، وأبو هريرة في الثاني منه، ومرَّ ابن أبي ذيب في الستين من العلم، ومرَّ أبو سعيد كيسان في السادس والعشرين من صفة الصلاة، ومرَّ هشام بن يوسف في الثالث من الحيض، ومرَّ معمر بن راشد ويونس بن يزيد في متابعات بعد الرابع من بدء الوحي، ومرَّ الزُّهرِيّ في الثالثة منه، ومرَّ أحمد بن شَبيب وأبوه في التاسع والثلاثين من الوضوء. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإفراد، والإِخبار بالجمع والقراءة والسؤال والعنعنة والقول، ورواته بصريون وأَيْليّ ومدنيون. الطريق الأولى لم يخرجها غيره من الستة، والثانية أخرجها مسلم في الجنائز، وكذا النَّسائيّ وابن ماجه، والثالثة أخرجها أيضًا مسلم والنَّسائيّ في الجنائز. ثم قال المصنف:

باب صلاة الصبيان مع الناس على الجنائز

باب صلاة الصبيان مع الناس على الجنائز قد تقدم قبل هذه الترجمة بثلاثة أبواب باب "صفوف الصبيان مع الرجال في الجنائز" قال ابن رشيد: أفاد بالترجمة الأولى بيان كيفية وقوف الصبيان مع الرجال، وأنهم يصفون معهم لا يتأخرون عنهم، لقوله في الحديث الذي ساقه فيها "وأنا فيهم" وأفاد بهذه الترجمة مشروعية صلاة الصبيان على الجنائز، وهو، وإن كان الأول دل عليه ضمنًا، لكن أراد التنصيص عليه وأخر هذه الترجمة عن فضل اتباع الجنائز ليبين أن الصبيان داخلون في قوله "من تبع جنازة". الحديث الثالث والثمانون حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا زَائِدَةُ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيُّ عَنْ عَامِرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: أَتَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَبْرًا، فَقَالُوا هَذَا دُفِنَ، أَوْ دُفِنَتِ الْبَارِحَةَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فَصَفَّنَا خَلْفَهُ ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا. هذا الحديث مرَّ في باب الإذن على الجنازة، ومرَّ هناك ذكر محل استيفاء الكلام عليه، ومرَّ هناك تعريف الرجل المصلى عليه. رجاله ستة: قد مرّوا، إلا يحيى، مرَّ يعقوب بن إبراهيم في السادس عشر من العلم، ومرَّ زائدة في الثاني والعشرين من الغُسل، ومرَّ أبو إسحاق الشيبانيّ في السابع من الحيض، ومرَّ عامر في الثالث من الإِيمان, ومرَّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي. ويحيى هو ابن أبي بكير، واسمه نَسْر، بفتح النون، الأسَدِيّ القَيْسِيّ أبو زكرياء الكَرَمانيّ الأصل، سكن بغداد. قال أحمد: كان كيِّسًا، وكان يثنى عليه. وقال ابن مُعين وابن المِدينيّ: ثقة. وقال العجلي: كوفي ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق، وذكره ابن حِبَّان في الثقات. روى عن حَرِيز بن عثمان وزائدة وإسرائيل وغيرهم. وروى عنه حفيده عبد الله بن محمد بن يحيى، ويعقوب بن إبراهيم وأبو بكر بن أبي شَيبة وغيرهم. مات سنة ثمان أو تسع ومئتين. ثم قال المصنف:

باب الصلاة على الجنائز بالمصلى والمسجد

باب الصلاة على الجنائز بالمصلى والمسجد قال ابن رشيد: لم يتعرض المصنف لكون الميت بالمصلى أو لا, لأن المصلى عليه كان غائبًا، والحق حكم المصلى بالمسجد، بدليل ما تقدم في العيدين، وفي الحيض من حديث أم عطية، ويعتزل الحيض المصلى، فدل على أن للمصلى حكم المسجد فيما ينبغي أن يجتنب فيه، ويلحق به ما سوى ذلك، قلت: قد مرَّ عند حديث أم عطية في الحيض أن اعتزالهن للمصلى كان لما يرى في جلوسهن مع المصليات من الاستهانة بالصلاة، فاعتزلنه لهذا، لا لأجل إعطائه حكم المسجد، فلا يتم له ما قال. وقد تقدم الكلام على ما في قصة الصلاة على النجاشيّ غائبًا مستوفى في باب "الرجل ينعي إلى أهل الميت" عند حديث النجاشي هناك. الحديث الرابع والثمانون حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ نَعَى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- النَّجَاشِيَّ صَاحِبَ الْحَبَشَةِ، يَوْمَ الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَقَالَ اسْتَغْفِرُوا لأَخِيكُمْ. وَعَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ إِنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- صَفَّ بِهِمْ بِالْمُصَلَّى فَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا. وقوله: وعن ابن شهاب، هو معطوف على الإِسناد المُصَدَّر به، والحديث مرَّ الكلام على جميع أبحاثه من التكبير والتسليم والصفوف والصلاة على الغائب، عند ذكره في الباب المذكور آنفًا. رجاله سبعة: قد مرّوا، مرت الأربعة الأُوَل بهذا النسق في الثالث من بدء الوحي، وأبو سلمة في الرابع منه، ومرَّ سعيد بن المسيب في التاسع عشر من الإِيمان, وأبو هريرة في الثاني منه.

الحديث الخامس والثمانون

الحديث الخامس والثمانون حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- بِرَجُلٍ مِنْهُمْ وَامْرَأَةٍ زَنَيَا، فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا قَرِيبًا مِنْ مَوْضِعِ الْجَنَائِزِ عِنْدَ الْمَسْجِدِ. قوله: موضع الجنائز عند المسجد، حكى ابن بطال عن ابن حبيب أن مصلى الجنائز بالمدينة كان لاصقًا بمسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- من ناحية جهة المشرق، فإنْ ثبت ما قال، وإلاّ فيحتمل أن يكون المراد بالمسجد هنا المصلى المتخذ للعيدين والاستسقاء, لأنه لم يكن عند المسجد النبوي مكان يتهيأ فيه الرجم، وسيأتي في قصة "ماعز فرجمناه" بالمصلى. قلت: ما قاله ابن حبيب ثابت موجودٌ إلى الآن، معروف عند جميع أهل المدينة، وأما كون المراد بالمسجد المصلى المتخذ للعيدين والاستسقاء، فبعيدٌ لا يليق. قوله: قال في الفتح: دلَّ حديثُ ابن عمر المذكور على أنه كان للجنائز مكانٌ معد للصلاة عليها، فقد يستفاد منه أن ما وقع من الصلاة على بعض الجنائز في المسجد كان لأمر عارض، أو لبيان الجواز، قال: واستدل به على مشروعية الصلاة على الجنائز في المسجد، ويؤيده حديث عائشة: ما صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على سُهيل بن بَيضاء إلاّ في المسجد. أخرجه مسلم، وبه قال الجمهور. وقال مالك: لا يعجبني، وكرهه ابن أبي ذيب وأبو حنيفة وكل من قال بنجاسة الميت. وأما من قال بطهارته منهم فلخشية التلويث، وحملوا الصلاة على سُهيل بأنه كان خارج المسجد والمصلون داخله، وذلك جائز اتفاقًا، وفيه نظر. لأن عائشة استدلت بذلك لما أنكروا عليها أمرها بالمرور بجنازة سعد على حجرتها لتصلى عليه. قلت: "قوله جائز اتفاقًا" قد مرَّ أن المالكية لا فرق عندهم بين أن يكون الميت داخل المسجد أو خارجه، واحتج بعضهم بأن العمل استقر على ترك ذلك، لأن الذين أنكروا ذلك على عائشة كانوا من الصحابة، وَرُدَّ بأن عائشة لما أنكرت ذلك الإِنكار سلموا لها، فدل على أنها حفظت ما سلموه. قلت: لا دلالة فيها، فقد يسكتون عنها تركًا للمجادلة، توقيرًا لها, ولكونها مجتهدة، وأما النسيان من هذا الجمع الغفير من الصحابة في المدة اليسيرة، فبعيد جدًا. وقد روى ابن أبي شَيبة وغيره أن عمر صلى على أبي بكر في المسجد، وأنّ صهيبًا صلى على عمر في المسجد، وزاد في رواية "ووضعت الجنازة في المسجد تِجاه المنبر" وهذا يقتضي الإجماع على جواز ذلك. قلت: لعل خصوصية الصلاة على هذين في المسجد إنما هي لأجل كونهما يدفنان في المسجد.

وهذا الحديث ذكره البخاريّ هنا عن موسى بن عُقبة مختصرًا، وذكره مطولًا في كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة عن مالك، وها أنا أذكر الرواية الطويلة هنا، وأذكر جميع مباحثه هنا تتميمًا للفائدة. ولفظ الطويلة، عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، أن اليهود جاءوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فذكروا له أن رجلًا منهم وامرأة زنيا فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ فقالوا: نفضحهم ويجلدون، قال عبد الله بن سَلاَم: كذبتم، إن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال كله عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده، فإذا فيها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرجما، فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة. قوله: إن رجلًا منهم وامرأة زنيا، ذكر السهيليّ عن ابن العربيّ أن اسم المرأة بُسْرة، بضم الموحدة وسكون المهملة، ولم يسم الرجل. وذكر أبو داود السبب في ذلك عن الزّهري: سمعت رجلًا من مُزَينة ممن تبع العلم، وكان عند سعيد بن المسيب يحدث عن أبي هريرة قال: زنى رجل من اليهود بامرأة، فقال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى هذا النبي، فإنه بعث بالتخفيف، فإن أفتانا بفُتيا دون الرجم قبلناها، واحتججنا بها عند الله، وقلنا فُتْيا نبي من أنبيائك. قال: فأتوا النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو جالس في المسجد في أصحابه، فقالوا: يا أبا القاسم، ما ترى في امرأة ورجل زنيا منهم؟ ونقل ابن العربيّ عن الطبريّ والثعلبيّ عن المفسرين قالوا: انطلق قوم من قُرَيظة والنَّضير منهم كعب بن الأشرف وكعب بن أسَد وسعيد بن عمرو ومالك بن الصيف وغيرهم، فسألوا النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان رجل وامرأة من أشراف أهل خيبر زنيا، واسم المرأة بُسْرة، وكانت خيبر حينئذ حربًا، فقال لهم اسألوه، فنزل جبريل على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: اجعل بينك وبينهم ابن صُوريا، فذكر القصة مطولة. ولفظ الطبريّ من طريق الزُّهريّ المذكورة، أن أحبار اليهود اجتمعوا في بيت المُدارس، وقد زنى رجل منهم بعد إحصانه بامرأة منهم قد أُحْصِنت، فذكر القصة، وفيها فقال: أخرجوا إليّ عبد الله بن صوريا الأعور، قال ابن إسحاق: ويقال إنهم أخرجوا معه أبا ياسر بن أحْطَب ووهب بن يهودا فخلا النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بابن صوريا، فذكر الحديث. وعند مسلم عن البراء: مُرَّ على النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- بيهودي محممًا مجلودًا، فدعاهم، فقال: هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قالوا: نعم. وهذا يخالف الأول من حيث أن فيه أنهم ابتدأوا السؤال قبل إقامة الحد، وفي هذا أنهم أقاموا الحد قبل السؤال، ويمكن الجمع بالتعدد بأن يكون الذين سألوا عنهما غير الذين جلدوه، ويحتمل أن يكونوا بادروا فجلدوه ثم بدا لهم فسألوا، فاتفق المرور

بالمجلود في حال سؤالهم عن ذلك، فأمرهم بإحضارهما فوقع ما وقع. ويؤيد الجمع ما عند الطبرانيّ عن ابن عباس، أن رهطًا من اليهود أتوا النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومعهم امرأة فقالوا: يا محمد، ما أنزل عليك في الزنا؟ فيتجه أنهم جلدوا الرجل ثم بدا لهم أن يسألوا عن الحكم، فأحضروا المرأة، وذكروا القصة والسؤال. وفي رواية عُبيد الله العمري عن نافع عن ابن عُمر أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أُتي بيهوديّ ويهودية زنيا، ونحوه في رواية عبد الله بن دينار ولفظه "أحدثا" أي: فعلا فعلًا فاحشًا. وقوله: ما تجدون في التوراة في شأن الرجم، قال الباجيّ: يحتمل أن يكون علم بالوحي أن حكم الرجم فيها ثابت على ما شرع، لم يلحقه تبديل، ويحتمل أن يكون إنما سألهم عن ذلك ليعلم ما عندهم فيه، ثم يتعلم صحة ذلك من قبل الله تعالى. وقوله: فقالوا نفضحهم ويجلدون، أي: بفتح أول الأول وثالثه، من الفضيحة. وفي رواية أيوب عن نافع في التوحيد بيان الفضيحة ولفظه "قالوا نُسَخِّم وجوههما ونخزيهما" وفي رواية عن عبد الله بن عمر قالوا: نسود وجوههما ونُحَمِّمُهما ونخالف بين وجوههما ويُطاف بها. وفي رواية عبد الله بن دينار أن أحبارنا أحدثوا تحميم الوجه والتجبيه. وقوله: أحدثوا: أي ابتكروا، وتحميم الوجه أنْ يصب عليه ماءٌ حارٌ مخلوطٌ بالرماد، والمراد تسخيم الوجنة بالحميم، وهو الفحم. وفي حديث أبي هُريرة "يحمم ويُجَبَّه ويجلد" والتجبيه بفتح المثناة وسكون الجيم وكسر الموحدة بعدها ياء آخر الحروف ساكنة ثم هاء، أصله من جَبَهت الرجل إذا قابلته بما يكره من الإغلاظ في القول أو الفعل، قاله ثابت في الدلائل. وقال عياض: فسر التجبيه في الحديث بأنهما يجلدان ويحمم وجوههما ويحملان على دابة مخالفًا بين وجوههما. وقال المنذريّ يشبه أن يكون أصله الهمزة، وأنه التجبئة، وهي الرَّدْع والزجر، يقال: جَبَّأته تجبيئًا أي ردعته. والتجبئة أن ينكس رأسه فيحتمل، أن يكون من فعل به ذلك ينكس رأسه استحياءًا. فسمي ذلك الفعل تجبية. وقيل: التجبية أن يضع اليدين على الركبتين وهو قائم، فيصير كالراكع، وكذا أن يكبَّ على وجهه باركًا كالساجد. وقال الفارابي: جبّأ، بفتح الجيم وتشديد الموحدة: قام قيام الراكع وهو عريان. قال الباجيّ: ظاهر الأمر أنهم قصدوا في جوابهم تحريف حكم التوراة. والكذب على النبي عليه الصلاة والسلام، إما رجاء أن يحكم بينهم بغير ما أنزل الله، وإما لأنهم قصدوا بتحكيمه التخفيف على الزانيين، واعتقدوا أن ذلك يخرجهم عما وجب عليهم، أو قصدوا اختيار أمره لأنه من المقرر أن من كان نبيًا لا يُقِرُّ على باطل، فطهر بتوفيق الله نبيَّه كذبهم، وصدقه ولله الحمد.

وقوله: قال عبد الله بن سلام كذبتم، إن فيها الرجم، في رواية أيوب وعُبيد الله ابن عمر قال: فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين. وقوله: فَأتَوا بالتوراة بصيغة الفعل الماضي، وفي رواية أيوب: فجاؤوا، وزاد عُبَيد الله بن عمر "بها" فقرأوها. وفي رواية زيد بن أسلم "فأتى بها فنزع الوسادة من تحته، فوضع التوراة عليها ثم قال: آمنت بك، وبمن أنزلك" وفي حديث البراء عند مسلم "فدعا رجلًا من علمائهم، فقال: أنشدك بالله وبمن أنزله .. ". وعند أبي داود عن جابر فقال: أئتوني بأعلم رجلين منكم، فأُتي بابن صوريا، زاد الطبريّ عن ابن عباس "إيتوني برجلين من علماء بني إسرائيل، فأتوه برجلين أحدهما شاب والآخر شيخ، قد سقط حاجباه على عينيه، من الكبر، ولابن أبي حاتم عن مجاهد: أن اليهود استفتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الزانين، فأفتاهم بالرجم، فأنكروا فأمرهم أن يأتوا بأحبارهم، فناشدهم فكتموه إلاَّ رجلًا من أصاغرهم، فقال: كذبوك يا رسول الله، إنه في التوراة. وقوله فوضع: أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها، ونحوه في رواية عبد الله بن دينار، وفي رواية عُبيد الله بن عمر، فوضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم، فقرأ ما بين يديها وما وراءها. وفي رواية أيوب، فقالوا لرجل ممن يرضون: يا أعور، اقرأ، فقرأ حتى انتهى إلى موضع فوضع يده عليه، واسم هذا الرجل عبد الله بن صوريا، وقد وقع عند النقَّاش أنه أسلم، لكن ذكر مكيُّ في تفسيره أنه ارتد بعد أن أسلم. وعند الطبري أن النبي -صلى الله عليه وسلم-، لما ناشده، قال: يا رسول الله، إنهم ليعلمون أنك نبيٌّ مرسل، ولكنهم يحسدونك. وقال في آخر الحديث: ثم كفر بعد ذلك ابن صوريا، ونزلت فيه {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ}. الآية، وقوله: فإذا فيها آية الرجم، في رواية عبد الله بن دينار "فإذا آية الرجم تحت يده"، وفي حديث البراء "فحده الرجم، ولكنه في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الوضيع أقمنا عليه الحد، فقلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم". ووقع بيان ما في التوراة من آية الرجم في رواية إبي هُريرة "المحصَن والمحصَنة إذا زنيا، فقامت عليهما البينة، رُجما، وإن كانت المرأة حُبلى تُرُبِّص بها حتى تضع ما في بطنها". وعند أبي داود عن جابر قالا: نجد في التوراة إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرحها، كالمِيل في المكحلة، رُجما. زاد البزّار "فإن وجدوا الرجل مع المرأة في بيت أو في ثوبها أو على بطنها فهي ريبة، وفيها عقوبة. قال: فما منعكما أن ترجموهما؟ قالا: ذهب سلطاننا، فكرهنا القتل". وفي حديث أبي هُريرة "فما أول ما ارتخصتم أمر الله؟ قال: زنى ذو قرابة من الملك، فأخر عنه الرجم، ثم زنى رجل شريف، فأرادوا رجمه، فحال قومه دونه، وقالوا: ابدأ بصاحبك، فاصطلحوا على هذه العقوبة" وعند الطبرانيّ عن ابن عباس "أنّا كنّا شببة، وكان في نسائنا حُسن

وَجه، فكثر فينا فلم يقم له، فصرنا نجلد" وقوله: فأمر بهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرجما، زاد في حديث أبي هريرة، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- "فإني أحكم بما في التوراة". وفي حديث البراء "اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه". وفي حديث جابر من الزيادة أيضًا "فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالشهود، فجاء أربعة فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل المِيل في المكحلة، فأمر بهما فرجما". وقوله: فرأيت الرجل يحني، كذا في رواية السَّرْخسيّ، بالحاء المهملة بعدها نون مكسورة ثم تحتانية ساكنة، وعن المستملي والكشميهنيّ بجيم ونون مفتوحة ثم همزة. وقال ابن دقيق العيد: إنه الراجح، وفي رواية أيوب يُجانىء، بضم أوله وجيم مهموز. قال ابن عبد البر: الصواب يحني، أي: يميل. وجملة ما حصل لنا من الاختلاف في ضبط هذه اللفظة عشرة أوجه، هذه الثلاثة المذكورة. الرابع كالأول إلا أنه بالموحدة بدل النون، الخامس كالثاني إلا أنه بواو بدل الهمزة، السادس كالأول إلا أنه بالجيم، السابع بضم أوله وفتح المهملة وتشديد النون، الثامن يُجاني، التاسع مثله لكنه بالغاء بدل النون وبالجيم أيضًا. وفي بعض الروايات "فرأيت اليهودي أحنى عليها" بلفظ الفعل الماضي، أي كبّ عليها. يقال أحْنَت المرأة على ولدها حُنوًا وحنت بمعنى، وفي رواية أجنى بالجيم بدل الحاء، وهو بمعنى الذي بالمهملة، قال ابن القطاع: جَنَأ على الشيء: حنا ظهره عليه. وقال الأصمعي: أَحْنا الترس جعله مجَنَّاً: أي مُحْدودبًا. وقوله: يَقيها الحجارة، بفتح أوله ثم قاف، تفسير لقوله يحني، وفي رواية عبيد الله بن عمر "فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه" ولابن ماجه "يسترها" وعند الطبرانيّ عن ابن عباس "فلما وجد مس الحجارة قام على صاحبته يحني عليها، يقيها الحجارة، حتى قتلا جميعا"، فكان ذلك مما صنع الله تعالى لرسوله في تحقيق الزنا منهما. وفي الحديث من الفوائد وجوب الحد على الكافر الذميّ إذا زنى، وهو قول الجمهور، وفيه خلاف عند الشافعية، وذهل ابن عبد البر فنقل الاتفاق على أن شرط الإِحصان الموجب للرجم الإِسلامُ، وَرُدَّ عليه بأنَّ الشافعية وأحمد لا يشترطان ذلك، ويؤيد مذهبهما وقوع التصريح بأن اليهوديين اللذين قد رجما كانا قد أحْصِنا، كما مرَّ نقله، وقالت المالكية، ومعظم الحنفية وربيعة شيخ مالك: شرط الإِحصان الإِسلام، وأجابوا عن حديث الباب بأنه عليه الصلاة والسلام إنما رجمهما بحكم التوراة، وليس هو من حكم الإِسلام في شيء، وإنما هو من باب تنفيذ الحكم

عليهم بما في كتابهم، فإن في التوراة الرجم على المحصن وغير المحصن، قالوا: وكان ذلك أول دخول النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة. وكان مأمورًا باتباع حكم التوراة، والعمل بها حتى ينسخ ذلك في شرعه، فرجم اليهوديين على ذلك الحكم، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} إلى قوله {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} ثم نسخ ذلك بالتفرقة بين من أُحصن ومن لم يحصَن. وفي دعوى الرجم على من لم يحصن نظرّ، لما مرَّ من رواية الطبريّ وغيره. وقال مالك: إنما رجم اليهوديين لأن اليهود يومئذ لم تكن لهم ذمة، فتحاكموا إليه، وتعقبه الطحاويّ بأنه لو لم يكن واجبًا ما فعله. قال: وإذا قام الحد على من لا ذمة له، فلأنْ يقيمه على من له ذمة أوْلى. وقال المازري: يعترض على جواب مالك بكونه رجم المرأة، وهو يقول: لا تقتل المرأة الحربية إلا إن أجاب أن ذلك كان قبل النهي عن قتل النساء. وأيد القرطبيّ أنهما كان حربيين، بما أخرجه الطبريّ فيما مرَّ، ولا حجة فيه, لأنه منقطع. قال القرطبيّ: ويعكر عليه أن مجيئهم سائلين يوجب لهم عهدًا، كما لو دخلوا لغَرضٍ كتجارة أو رسالة أو نحو ذلك، فإنهم في أمان إلى أن يردوا إلى مأمنهم، ولم ينفصل عن هذا إلا أن يقول: إن السائل عن ذلك ليس هو صاحب الواقعة، وقال النّوويّ: دعوى أنهما كانا حربيين باطلة، بل كانا من العهد، كذا قال. وسلّم بعض المالكية أنهما كانا من أهل العهد، واحتج بأن الحاكم مخير إذا تحاكم إليه أهل الذمة، بين أن يحكم فيهم بحكم الله وبين أن يُعرض عنهم، على ظاهر الآية. فاختار عليه الصلاة السلام في هذه الواقعة أن يحكم بينهم، وتعقب أن ذلك لا يستقيم على مذهب مالك, لأن شرط الإِحصان عنده الإِسلام، وهما كانا كافرين، وانفصل ابن العربيّ عن ذلك بأنهما كانا مُحَكّمين له في الظاهر، مُخْتَبرين ما عنده في الباطن، هل هو نبيٌّ حقٌ أو مسامح في الحق؟ وهذا لا يرفع الإِشكال، ولا يخلص عن الإِيراد. ثم قال ابن العربيّ في الحديث: إن الإِسلام ليس شرطًا في الإِحصان، والجواب بأنه إنما رجمهما لإِقامة الحجة على اليهود، فيما حكموه فيه من حكم التوراة، فيه نظر, لأنه كيف يقيم الحجة عليهم بما لا يراه في شرعه مع قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} قال: وأُجيب بأن سياق القضية ما قلناه، ومن ثمّ استدعى شهودهم ليقيم الحجة عليهم منهم، إلى أن قال: "والحق أحق أن يتبع" ولو جاؤوني لحكمت بينهم بالرجم، ولم اعتبر الإِسلام في الإِحصان. قلت: الحق في الجواب عندي هو أنه مخير في الحكم بينهم بما أنزل الله، وردهم إلى أساقفتهم. والحكم بما أنزل الله في المسلمين هو الرجم بعد الإِحصان، وهو عليه الصلاة والسلام قد أمر بالحكم بينهم بحكم الإِسلام، مع علم الله تعالى بكفرهم، وقال ابن عبد البَر: حد الزنى

حق من حقوق الله، وعلى الحاكم إقامته، وقد كان لليهود حاكم، وهو الذي حكَّم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيهما. وقول بعضهم: إن الزانيين حكّماه دعوى مردودة، واعترض بأن التحكيم لا يكون إلا لغير الحاكم، وأما النبي -صلى الله عليه وسلم- فحكمه بطريق الولاية، لا بطريق التحكيم. وأجاب الحنفية عن رجم اليهوديين بأنه وقع بحكم التوراة ورواه الخَطَّابيّ بأن الله تعالى قال: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وإنما جاءه القوم سائلين عن الحكم عنده، كما دلت عليه الرواية المذكورة، فأشار عليهم بما كتموه من حكم التوراة، ولا جائز أن يكون حكم الإِسلام عنده مخالفًا لذلك, لأنه لا يجوز الحكم بالمنسوخ، فدل على أنه إنما حكم بالناسخ. وأما قوله في حديث أبي هُريرة "فإنّي أحكم بما في التوراة" ففي سنده رجل مبهم، ومع ذلك فلو ثبت لكان معناه لإِقامة الحجة عليهم، وهو موافق، ويؤيده أن الرجم جاء ناسخًا للجلد، ولم يقل أحد إن الرجم شرع ثم نسخ بالجلد، ثم نسخ الجلد بالرجم. وإذا كان الرجم باقيًا منذ شُرع، فما حكم عليهما بالرجم بمجرد حكم التوراة بل بشرعه الذي استمر حكم التوراة عليه، ولم يُقَدَّر أنهم بدّلوه فيما بدّلوا. وأما ما تقدم من أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رجمهما أول ما قدم المدينة، لقوله في بعض طرق القصة "لما قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة، أتاه اليهود" فالجواب أنه لا يلزم من ذلك الفور، ففي بعض طرقه الصحيحة, كما تقدم، أنهم تحاكموا إليه وهو في المسجد بين أصحابه، والمسجد لم يكمل بناؤه إلا بعد مدة من دخوله -صلى الله عليه وسلم- المدينة، فبطل الفور، وأيضًا، ففي حديث عبد الله بن الحارث بن جَزْء أنه حضر ذلك، وعبد الله إنما قدم مع أبيه مسلمًا بعد فتح مكة. وقد تقدم حديث ابن عباس، وفيه ما يشعر بأنه شاهد ذلك، وفيه أن المرأة إذا أقيم عليها الحد تكون قاعدة، هكذا استدل به الطحاويّ، وقد اختلفوا في الحَفْر للمرجومة، فمن يرى أنه يحفر لها تكون في الغالب قاعدة في الحفرة، واختلافهم في إقامة الحد عليها قاعدةً أو قائمةً، إنما هو في الجلد، ففي الاستدلال بصورة الجلد على صورة الرجم نظرٌ لا يخفى. وفيه قبول شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض، وزعم ابن العربيّ أن معنى قوله في حديث جابر "فدعا بالشهود" أي: شهود الإِسلام على اعترافهما. وقوله: فرجمهما بشهادة الشهود، أي: البينة على اعترافهما، وَرُدَّ هذا التأويل بقوله في نفس الحديث "أنهم رأوا ذكره في فرجها كالميل في المكحلة" وهو صريح في أن الشهادة بالمشاهدة لا بالاعتراف، وقال القرطبيّ: الجمهور على أن الكافر لا تقبل شهادته على مسلم، ولا على كافر، لا في حد ولا في غيره، ولا فرق بين السفر

والحضر في ذلك، وقبل شهادتهم جماعة من التابعين وبعض الفقهاء، إذا لم يوجد مسلم، استثني أحمد حالة السفر إذا لم يوجد مسلم، وأجاب القرطبيّ عن الجمهور عن واقعة اليهود بأنه -صلى الله عليه وسلم- نفّذ عليهم فاعلم أنه حكم التوراة، وألزمهم العمل به إظهارًا لتحريفهم كتابهم، وتغييرهم حكمه أو كان ذلك خاصًا بهذه الواقعة. كذا قال. والثاني مردود. وقال النّوويّ: الظاهر أنه رجمهما بالاعتراف، فإنْ ثبت حديث جابر، فلعل الشهود كانوا مسلمين، وإلا فلا عبرة بشهادتهم، ويعين أنهما أقرا بالزنى، ولم يثبت أن الشهود كانوا مسلمين، ويحتمل أن يكون الشهود أخبروا بذلك السؤال بقية اليهود لهم، فسمع النبي -صلى الله عليه وسلم- كلامهم، ولم يحكم بينهم إلا مستندًا لما أَطْلعه الله تعالى عليه، فحكم في ذلك بالوحي، وألزمهم الحجة بينهم، كما قال تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} أو أن شهودهم شهدوا عليهم عند أحبارهم بما ذكر، فلما رفعوا الأمر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- استعلم القصة على وجهها، فذكر كل من حضره من الرواة ما حفظه في ذلك، ولم يكن مستند حكم النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا ما أَطْلعه الله تعالى عليه. واستدل به بعض المالكية على أن المجلود يجلد قائمًا إن كان رجلًا، والمرأة قاعدة، لقول ابن عمر: رأيت الرجل يقيها الحجارة، فدل على أنه كان قائمًا وهي قاعدة، وتُعُقِّب بأنه واقعةُ عينٍ فلا دلالة فيه على أن قيام الرجل كان بطريق الحكم عليه بذلك، واستدل به على رجم المُحْصَن. وقد مرَّ البحث فيه مستوفى، وعلى الاقتصار على الرجم، ولا يضم إليه الجلد كذا، احتج به بعضهم، وفيه خلاف، لو احتج به لعكسه لكان أقرب, لأنه في حديث البراء عند مسلم أن الزاني جلد أولًا ثم رجم، لكن يمكن الانفصال عنه بأن الجلد الذي وقع له، لم يكن بحكم حاكم، وفيه أنَّ أَنْكِحَةَ الكفار صحيحة, لأن ثبوت الإِحصان فرع ثبوت صحة النكاح. وفيه أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، وفي أخذه من هذه القصة بعد، ولو سلم الأخذ يكون خاصًا بأهل الكتاب, لأنهم أخذوا بما في كتابهم، وفيه أن اليهود كانوا ينسبون إلى التوراة ما ليس فيها, ولو لم يكن مما أقدموا على تبديله، وإلا لكان في الجواب حَيْدة عن السؤال, لأنه سأل عما يجدون في التوراة، فعدلوا عن ذلك لما يفعلونه، وأوهموا أن فعلهم موافق لما في التوراة، فأكذبهم عبد الله بن سلام. وقد استدل به بعضهم على أنهم لم يسقطوا شيئًا من ألفاظها كما يأتي تحريره في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى. والاستدلال به لذلك غير واضح، لاحتمال خصوص ذلك بهذه الواقعة، فلا يدل ذلك على التعميم، وكذلك من استدل به على أن التوراة التي أُحضرت حينئذ كانت كلها صحيحة سالمة من التبديل, لأنه يطرقه هذا الاحتمال بعينه، ولا يريده قوله "آمنت بك وبمن أنزلك" لأن

رجاله خمسة

المراد أصل التوراة، وفيه اكتفاء الحاكم بترجمان واحد موثوق به، وسيأتي إن شاء الله بسطه في كتاب الأحكام. واستدل به على أن شرع من قبلنا شرعٌ لنا إذا ثبت ذلك لنا، بدليل كتابٍ أو حديثٍ صحيح، ما لم يثبت نسخه بشريعة نبينا أو نبيهم، وعلى هذا فيحمل ما وقع في قصتهم على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- علم أن هذا الحكم لم ينسخ من التوراة أصلًا. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ إبراهيم بن المنذر في الأول من العلم، ومرَّ أبو ضمرة في الرابع عشر من الوضوء وموسى بن عقبة في الخاص منه، ونافع في الأخير من العلم وابن عمر في أول الإِيمان قبل ذكر حديث منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، ورواته كلهم مدنيون، أخرجه البخاريّ أيضًا في التفسير، وفي الاعتصام ومسلم في الحدود، والنَّسَائي في الرجم. وفي الحديث لفظ رجل وامرأة من اليهود، ولم يسميا الخبيثان. ثم قال المصنف:

باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور

باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور ترجم بعد ثمانية أبواب، باب بناء المسجد على القبر، قال ابن رشيد: الاتخاذ أعم من البناء، فلذلك أفرده بالترجمة، ولفظها يقتضي أن بعض الاتخاذ لا يكره، فكأنه يفصل بين ما إذا ترتبت على الاتخاذ مفسدة أم لا، وقال أيضًا: كأنه قصد بالترجمة الأُولى اتخاذ المساجد في المقبرة لأجل القبور، بحيث لولا تَجَدُّد القبر ما اتخذ المسجد، ويؤيده بناء المسجد في المقبرة على حدته، لئلا يحتاج إلى الصلاة، فيوجد مكان يصلى فيه سوى المقبرة، لذا نُحي به منحى الجواز. ثم قال: ولما مات الحسن بن الحسن بن عليّ رضي الله تعالى عنهم، ضربت امرأته القبة على قبره سنة، ثم رفعت، فسمعوا صائحًا يقول: ألا هل وجدوا ما فقدوا؟ فأجابه الآخر: بل يئسوا فانقلبوا. يأتي تعريف الحسن بن الحسن وامرأته قريبًا، والقبة الخيمة، فقد جاء في موضع آخر بلفظ "الفسطاط" كما عند المحامليّ وابن أبي الدنيا، ومناسبة هذا الأثر لحديث الباب هي أن المقيم في الفسطاط لا يخلو من صلاة هناك، فيلزم اتخاذ المسجد عند القبر، وقد يكون القبر في جهة القبلة، فتزداد الكراهة. وقال ابن المنير: إنما ضربت الخيمة هناك للاستماع بالميت بالقرب منه تعليلًا للنفس، وتخييلًا باستصحاب المألوف من الإِنس، ومكابرة للحس، كما يتعلل بالوقوف على الأطلال البالية، ومخاطبة المنازل الخالية، فجاءتهم الموعظة على لسان الهاتفين، بتقبيح ما صنعوا، وكأنهما من الملائكة أو من مؤمني الجن. وإنما ذكره البخاريّ لموافقته للأدلة الشرعية لا أنه دليل بنفسه، وكره أحمد أنْ بَضرب على القبر فُسطاطًا، وأوصى إبراهيم مرة أن لا تضربوا على قبري فُسطاطًا. وقال ابن حبيب: ضربه على قبر المرأة أفضل من ضربه على قبر الرجل، وضرب عمر رضي الله تعالى عنه على قبر زينب بنت جحش، وضربت عائشة على قبر أخيها عبد الرحمن، فنزعه ابن عمر، وضرب محمد بن الحَنفية على قبر ابن العَبّاس، وقال ابن حبيب: أراه في اليوم واليومين والثلاثة واسعًا إذا خيف من نبش وغيره. وممن كره ضربه على قبر الرجل ابنُ عمر وأبو سعيد وابن المسيب.

الحديث السادس والثمانون

والحسن هو ابن الحسن بن عليّ بن أبي طالب، وله ولد اسمه الحسن، فهم ثلاثة، ذكره ابن حبان في الثقات، وهو أخو إبراهيم بن محمد بن طلحة لأمه، وكان وَصِيَّ أبيه، ووليّ صدقة عليّ في عصره، روى عنه أولاده إبراهيم وعبد الله والحسن وابن عمه الحسن بن محمد بن علي وغيرهم. وروى هو عن أبيه وعبد الله بن جعفر وغيرهما. مات سنة سبع وتسعين. روى له النَّسائيّ حديثًا واحدًا في كتاب الفرج، وولده الحسن بن الحسن بن الحسن بن عليّ له عند ابن ماجه حديث واحد، فيمن بات وفي يده ريح غمر. قال ابن سعد: كان قليل الحديث، وذكره ابن حِبّان في الثقات، قال الفضيل بن مرزوق: سمعته يقول لرجل ممن يغلو فيهم: ويحكم أحَبّونا لله، فإنْ أطعنا الله، فأحِبونا وأن عصينا الله فأَبْغِضونا، لو كان الله نافعًا بقرابة النبي -صلى الله عليه وسلم-، بغير عمل بطاعته، لنفع أقرب الناس إليه أباه وأمه. وقالت أمه فاطمة بنت الحسين لهشام، لما سألها عن ولدها: أما الحسن فهو لساننا، روى عن أبيه وأمه، وروى عنه فضيل بن مرزوق وعمرو بن الوسيم الجمال وعمر بن شبيب المسلي. مات في حبس المنصور سنة خمس وأربعين ومئة وهو ابن ثمان وستين سنة. وامرأته المذكورة في الأثر، المراد بها فاطمة بنت الحسين بن عليّ بن أبي طالب، الهاشمية المدنية، أما أم إسحاق بنت طلحة تزوجها ابن عمها الحسن بن الحسن بن عليّ، ثم تزوجها بعده عبد الله بن عمر بن عثمان، ذكرها ابن حِبّان في الثقات، روت عن أبيها، وأخيها زين العابدين، وعمتها زينب بنت عليّ وغيرهم، وروى عنها أولادها عبد الله وإبراهيم وحسين وأم جعفر بنو الحسين بن الحسن وغيرهم. ماتت وقد قاربت التسعين. الحديث السادس والثمانون حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ شَيْبَانَ عَنْ هِلاَلٍ هُوَ الْوَزَّانُ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسْجِدًا. قَالَتْ وَلَوْلاَ ذَلِكَ لأَبْرَزُوا قَبْرَهُ غَيْرَ أَنِّي أَخْشَى أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا. قوله: مسجدًا، في رواية الكشميهنيّ "مساجد" وقوله "لابرز قبره" أي: لكشف قبر النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم يتخذ عليه الحائل، والمراد الدفن خارج بيته، وهذا قالته عائشة قبل أن يوسع المسجد النبوي، ولهذا لما وسع المسجد. جعلت حجرتها مثلثة الشكل محددة، حتى لا يتأتى لأحد أن يصلي إلى جهة القبر مع استقبال القبلة.

رجاله خمسة

وقوله: غير أني أخشى، كذا هنا، وفي رواية أبي عُوانة الآتية في أواخر الجنائز "غير أنه خَشيَ أو خُشي" على الشك هل هو بفتح الخاء المعجمة أو ضمها. وفي رواية مسلم "غير أنه خُشي" بالضم لا غير. فرواية الباب تقتضي أنها هي التي امتنعت من إبرازه، ورواية الضم مبهمة يمكن أن تفسر بهذه، والهاء ضمير الشأن، وكأنها أرادت نفسها، ومن وافقها على ذلك، وذلك يقتضي أنهم فعلوه باجتهاد، بخلاف رواية الفتح، فإنها تقتضي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الذي أمرهم بذلك. قال الكرماني: مفاد الحديث منع اتخاذ القبر مسجدًا، ومدلول الترجمة اتخاذ المسجد على القبر، ومفهومهما متغاير، ويجاب بأنهما متلازمان، وإن تغاير المفهوم، وهذا الحديث مرت مباحثه في باب "هل تنبش قبور المشركين من أبواب المساجد" وقد مرَّ هناك أن المنع من ذلك إنما يكون حال خشية أن يصنع بالقبر كما صنع أولئك الذين لعنوا، وأما إذا أُمن ذلك فلا امتناع. وقد يقول بالمنع مطلقًا من يرى سد الذريعة، وهو هنا متجه قويّ. رجاله خمسة: قد مرّوا، إلا هلالًا، مرَّ عبيد الله بن موسى في الأول من الإِيمان ومرَّ شَيبان في الثالث والخمسين من العلم، ومرَّ عُروة وعائشة في الثاني من بدء الوحي. وهلال هو ابن أبي حميد، ويقال ابن حميد، ويقال ابن عبد الله، ويقال ابن عبد الرحمن، ويقال ابن مِقْلاص الجُهَنيّ، مولاهم أبو عمرو، ويقال أبو أُمية، ويقال أبو الجَهم الكوفيّ الصَّيْرفِيّ الجهبذ الوَزان. قال ابن مُعين والنَّسائيّ: ثقة، وقال أبو داود: لا بأس به، وقال سفيان: كان هلال شيخًا قد كبر، وكان يكتب على البيدر كل شهر بعشرة دراهم، وذكره ابن حِبّان في الثقات، ولكنه فرق بين هلال بن عبد الرحمن وهلال بن مِقلاص وهلال بن أبي حميد، وأشار البخاريّ إلى أن هلال بن أبي حميد أصح. وقال وكيع: هلال بن حميد، ومرة هلال بن عبد الله، ولا يصح. روى عن عُروة بن الزبير وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبد الله بن عكيم، وروى عنه مِسْعر وإسرائيل وشيبان وغيرهم. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة، ورواته بصريّ وكوفيان ومدنيّ. أخرجه البخاري في الجنائز وفي المغازي، ومسلم في الصلاة. ثم قال المصنف:

باب الصلاة على النفساء إذا ماتت في نفاسها

باب الصلاة على النفساء إذا ماتت في نفاسها وقع في نسخة "من" بدل "في" أي في مدة نَفَاسها، أو بسبب نَفَاسها، والأول أعم، من جهة أنه يدخل فيه من ماتت منه، أو من غيره. والثاني أليق بخبر الباب، فإن في بعض طرقه أنها ماتت حاملًا، قال الزين بن المنير غيره: المقصود بهذه أن النُّفَساء وإن كانت معدودة من جملة الشهداء، فإن الصلاة عليها مشروعة، بخلاف شهيد المعركة. الحديث السابع والثمانون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ سَمُرَةَ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّيْتُ وَرَاءَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى امْرَأَةٍ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا، فَقَامَ عَلَيْهَا وَسَطَهَا. وهذا الحديث مرَّ الكلام عليه عند ذكره في باب الصلاة على النفساء من كتاب الحيض. رجاله خمسة: قد مرّوا، وفيه لفظ امرأة مبهمة، مرَّ مسدد في السادس من الإِيمان, ومرَّ يزيد بن زُريع في السادس والتسعين من الوضوء, ومرَّ عبد الله بن بُرَيدة وسمرة في الخامس والثلاثين من الحيض، ومرَّ حُسين المعلم في السادس من الإِيمان. والمرأة المبهمة قد مرّت في حديث سمرة المارّ في الحيض أنها أُم كعب الأنصارية، ومرَّ هناك الكلام على هذا الحديث. ثم قال المصنف:

باب أين يقوم من المرأة والرجل

باب أين يقوم من المرأة والرجل أورد فيه حديث سمرة المذكور من وجه آخر عن حسين المعلم. الحديث الثامن والثمانون حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ قال حَدَّثَنَا سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّيْتُ وَرَاءَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى امْرَأَةٍ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا فَقَامَ عَلَيْهَا وَسَطَهَا. فيه مشروعية الصلاة على المرأة، فإن كونها نُفَساء وصف غير معتبر، وأما كونها امرأة فيحتمل أن يكون معتبرًا، فإن القيام عليها عند وسطها لسترها، وذلك مطلوب في حقها، بخلاف الرجل إلى آخر ما مرَّ مستوفى في الباب المذكور آنفًا، وحكى ابن رشيد عن ابن المرابط أنه أبدى لكونها نفساء علةً مناسبة، وهي استقبال جَنينها ليناله من بركة الدعاء، وتعقب بأن الجنين كعضو منها، ثم هو لا يصلّى عليه، إذا انفرد، وكان سقطًا، فأحرى إذا كان باقيًا في بطنها أن لا يُقصد. وروى عطاء بن السائب أن عبد الله بن معقل بن مقرن أُتي بجنازة رجل وامرأة، فصلى على الرجل، ثم صلى على المرأة. أخرجه ابن شاهين في الجنائز له، وهو مقطوع، فإن عبد الله تابعيّ. رجاله خمسة: قد مرّوا. مرَّ عمران بن مَيْسرة في الثاني والعشرين من العلم، ومرَّ عبد الوارث في السابع عشر منه، ومرَّ محل الثلاثة الباقية في الذي قبله. ثم قال المصنف:

باب التكبير على الجنازة أربعا

باب التكبير على الجنازة أربعًا قال الزين بن المنير: أشار بهذه الترجمة إلى أن التكبير لا يزيد على أربع، ولذلك لم يذكر ترجمة أخرى، ولا خبرًا في الباب، وقد مرَّ الكلام على التكبير والتسليم مستوفى عند حديث النجاشي، في باب الرجل "ينعي إلى أهل الميت بنفسه". ثم قال: وقال حميد: صلى بنا أنس فكبر ثلاثًا، ثم سلم، فقيل له، فاستقبلَ القبلة ثم كبر أربعًا، فسلم. قال في الفتح: لم أره موصولًا من طريق حميد، ووصله عبد الرزاق من طريق قتادة، وقد مرَّ حميد الطويل في الثاني والأربعين من الإِيمان, ومرَّ أنس في السادس من الإِيمان. الحديث التاسع والثمانون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- نَعَى النَّجَاشِيَّ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى الْمُصَلَّى فَصَفَّ بِهِمْ، وَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ. هذا الحديث والذي بعده مرَّ الكلام عليهما عند ذكر هذا في الباب المذكور آنفًا. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ عبد الله بن يوسف ومالك في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ ابن شهاب في الثالث منه، ومرَّ ابن المسيب في التاسع عشر من الإِيمان، وأبو هريرة في الثاني منه، والنجاشيّ في الثامن من الجنائز. الحديث التسعون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا سَلِيمُ بْنُ حَيَّانَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- صَلَّى عَلَى أَصْحَمَةَ النَّجَاشِيِّ فَكَبَّرَ أَرْبَعًا.

رجاله أربعة

رجاله أربعة: مرَّ منهم محمد بن سنان في الأول من العلم، وجابر في الرابع من بَدء الوحي، والباقي اثنان: الأول سَلِيم، بفتح السين، ابن حَيّان بفتح الحاء وتشديد التحتانية ابن بُسطام الهُذَلِيّ البصريّ، ذكره ابن حِبّان في الثقات. وقال أحمد وابن مُعين والنَّسائي: ثقة، وقال أبو حاتم: ما به بأس، روى عن أبيه وسعيد بن مِيناء وعمرو بن دينار وغيرهم. وروى عنه ابنه عبد الرحمن وعبد الرحمن بن مهديّ ويحيى القطّان وغيرهم. الثاني سعيد بن مِيناء، بكسر الميم، المَكّي، ويقال، المدني، أبو الوليد، مولى البُخْتُرِي بن أبي ذياب، ذكره ابن حِبّان في الثقات. وقال ابن مُعين وأبو حاتم: ثقة، وكذا قال النَّسَائي، وقال أبو داود: مكيّ، ورفعه، روى عن عبد الله بن الزبير وجابر وأبي هريرة وغيرهم. وروى عنه حنظلة بن أبي سفيان وسَليم بن حيّان وأيوب السَّخْتياني وغيرهم. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة، وشيخه من أفراده، وليس في الصحيحين سَليم، بفتح السين، غير سليم بن حيّان هذا. أخرجه مسلم في الجنائز. ثم قال: وقال يزيد بن هارون وعبد الصمد عن سليم "أصحمة"، يعني بإسناده إلى جابر، وفي رواية المستملي "وقال يزيد عن سَليم أصحمة، وتابعه عبد الصمد، وتعريف أصحمة، وما قيل في ضبطه، مرَّ في الحديث السابق في الترجمة المذكورة، أي: في سنده، ورواية يزيد وصلها المؤلف في هجرة الحبشة، ورواية عبد الصمد وصلها الإسماعيليّ، ويزيد بن هارون قد مرَّ في الخامس عشر من الوضوء, ومرَّ عبد الصمد في السادس والثلاثين من العلم. ثم قال المصنف:

باب قراءة فاتحة الكتاب على الجنازة

باب قراءة فاتحة الكتاب على الجنازة أي: مشروعيتها، وهي من المسائل المختلف فيها، ونقل ابن المنذر عن ابن مسعود والحسن بن علي وابن الزبير والمُسَوّر بن مَخْرَمة مشروعيتها، وبه قال الشافعيّ وأحمد وإسحاق، ونُقل عن أبي هُريرة وابن عمر: ليس فيها قراءة، وهو قول مالك، والكوفيين وفيهم أبو حنيفة. وكان عمر لا يقرأ فيها، وينكر على من يقرأ، وكذا علي بن أبي طالب. قال مالك: قراءة الفاتحة ليس معمولًا بها في بلدنا في صلاة الجنازة. وقال ابن مسعود: لم يؤقت فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- قولًا ولا قراءة، ولأن ما لا ركوع فيه لا قراءة فيه، كسجود التلاوة، واستدل الطحاويّ على ترك القراءة في الأولى بتركها في باقي التكبيرات، وبترك التشهد. وقال: لعل قراءة من قرأ الفاتحة من الصحابة كان على وجه الدعاء، لا على وجه التلاوة. ثم قال: وقال الحسن: يقرأ على الطفل بفاتحة الكتاب، يقول: اللهم اجعله لنا سلفًا وفَرَطًا وأجرًا، وروى عبد الرزاق والنَّسائيّ عن أبي أُمامة بن سَهل بن حُنيف قال: السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر ثم يقرأ بأم القرآن، ثم يصلي على النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم يخلص الدعاء للميت، ولا يقرأ إلا في الأولى، وإسناده صحيح. وقوله: سَلَفا، بتحريك اللام، أي متقدمًا إلى الجنة لأجلنا. وقوله: فرَطَا بالتحريك، وهو الذي يتقدم الواردة فَيُهَيِّىء لهم أسباب النزول. وأثر الحسن هذا وصله عبد الوهاب بن عطاء في كتاب الجنائز له، عن سعيد بن أبي عَروبة، والحسن هو البصريّ، وقد مرَّ في الرابع والعشرين من الإِيمان. الحديث الحادي والتسعون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَعْدٍ عَنْ طَلْحَةَ. قَالَ صَلَّيْتُ خَلْفَ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما

عَلَى جَنَازَةٍ فَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ قَالَ لِيَعْلَمُوا أَنَّهَا سُنَّةٌ. وقوله: لتعلموا أنها سنة، ليس في حديث الباب بيان محل قراءة الفاتحة، وقد وقع التصريح به في حديث جابر، أخرجه الشافعيّ، بلفظ "وقرأ بأم القرآن بعد التكبيرة الأولى" أفاده زين الدّين العراقي في شرح التِّرمذي، وقال: إن سنده ضعيف، نعم يجوز تأخيرها إلى التكبيرة الثانية. كما ذكره الرافعيّ والنوويّ عن حكاية الرويانيّ وغيره له عن النص بعد نقلهما المنع عن الغزالي، وجزم به في المنهاج، والمجموع ولم يخص الثانية، والدعاء في الثالثة يلزم خلو الأولى عن ذكر والجمع بين ركنين في تكبيرة واحدة. والذي قال الجمهور تعيُّن الفاتحة في الأولى، وبه جزم النوويّ في "التبيان"، وهو ظاهر نصين نقلهما في شرح المهذب. وقال الأذرعيّ: وظاهر نصوص الشافعيّ والأكثرين تعيينها في الأولى، وقوله: إنها سنة أي: طريقة للشارع، فلا ينافي كونها واجبة، قال الإِسماعيليّ: جمع البخاري بين روايتي شعبة وسفيان وسياقهما مختلف. فأما رواية شعبة فقد أخرجها ابن خُزيمة في صحيحه والنَّسائيّ جميعًا، عن محمد بن بشار، بلفظ "فأخذتُ بيده فسألتُه عن ذلك فقال: نعم يا ابن أخي، إنه حق وسنة" وللحاكم عن شعبة "فسألته فقلت: يقرأ؟ قال: نعم، إنه حق وسنة" وأما رواية سُفيان فأخرجها التِّرمِذِيّ عنه بلفظ "فقال إنه من السنة أو من تمام السنة". وأخرجه النَّسائيّ عن سعد بهذا الإِسناد وبلفظ تُقرأ بفاتحة الكتاب وسورة وجهر حتى أسْمَعنا، فلما فرغ أخذت بيده، فسألته، فقال سنة وحق". وللحاكم عن سعيد بن أبي سعيد "صلى ابن عباس على جنازة فجهر بالحمد، ثم قال: إنما جهرت لتعلموا أنها سنة" والصحيح أن قول الصحابي سنة حديث مسند، وفيه خلاف شهير عند أهل الحديث والأصول، وعلى الحاكم في استدراكه على البخاري مؤاخذة, لأنه فيه، وقد روى التِّرمذيّ عن ابن عباس أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- "قرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب" وقال: لا يصح هذا والصحيح عن ابن عباس قوله "من السند" وهذا مصير منه إلى الفرق بين الصيغتين. ولعله أراد الفرق بالنسبة إلى الصراحة والاحتمال. وروى الحاكم عن شُرَحبيل بن سعد عن ابن عباس أنه صلى على جنازة بالأبواء فكبّر، ثم قرأ الفاتحة رافعًا صوته، ثم صلى على النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم قال: اللهم عبدك وابن عبدك، أصبح فقيرًا إلى رحمتك، وأنت غني عن عذابه، إن كان زاكيًا فزكِّه، وإن كان مخطئًا فاغفر له، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده، ثم كبر ثلاث تكبيرات، ثم انصرف فقال: أيها الناس، إني لم أقرأ عليها، أي: جهرًا، إلا لتعلموا أنها سنة.

رجاله ثمانية

قال الحاكم: شُرَحبيل لم يحتجَّ به الشيخان، وإنما أخرجته لأنه مفسر للطرق المتقدمة، وشرحبيل مختلف في توثيقه، ومن الدعاء للميت ما رواه مسلم عن عوف بن مالك قال: صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على جنازة، فحفظت من دعائه، وهو يقول: "اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نُزُله ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدَّنس، وأَبْدِلْه دارًا خيرًا من داره، وأهلًا خيرًا من أهله، وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر، ومن عذاب النار، حتى تمنيت أن أكون ذلك الميت". وروى أبو داود عن أبي هُريرة قال صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على جنازة فقال "اللهم اغفر لحينا وميتنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأُنثانا، وشاهدنا وغائبنا. اللهم من أحييته منا فأَحيه على الإِيمان, ومن توفيته منا فتوفَّه على الإِسلام، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تضلنا بعده، إلى غير هذا من الأدعية". رجاله ثمانية: قد مرّوا إلا طلحة، مرَّ محمد بن بشّار في الحادي عشر من العلم، ومرَّ محمد بن كثير في الثاني والثلاثين منه، ومرَّ شعبة في الثالث من الإيمان, ومرَّ غندر في الخامس والعشرين منه، ومرَّ الثَّوريّ في السابع والعشرين منه، ومرَّ سعد بن إبراهيم في السابع والأربعين من الوضوء، ومرَّ عبد الله بن عباس في الخامس من بدء الوحي. والثاني طلحة بن عبد الله بن عوف الزُّهريّ المدنيّ، ابن أخي عبد الرحمن بن عوف، أبو عبد الله، ويقال أبو محمد، كان يقال له طلحة الندى، ولي قضاء المدينة، قال ابن مُعين وأبو زُرعة والنَّسائيّ والعجليّ: ثقة، وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، وكذا قال ابن حِبّان، وزاد "كان يكتب الوثائق بالمدينة". وقال ابن أبي خَيْثَمة: كان هو وخارجة بن زيد بن ثابت في زمانهما يُستفتيان، وينتهي الناس إلى قولهما، ويقسمان المواريث، ويكتبان الوثائق، وكذا ذكره الزبير، وذكر عنه أخبارًا في الكرم حسنة. وقال سعيد بن المسيب: ما ولينا مثله. روى عن عمه وعثمان بن عفان وعائشة وغيرهم، وروى عنه سعد بن إبراهيم والزُّهريّ ومحمد بن عمار بن ياسر وغيرهم. مات بالمدينة سنة سبع وتسعين، وهو ابن اثنين وسبعين. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإِخبار بالجمع والعنعنة والقول، ورواته بصريان وواسطيّ ومدنيان، وبصريّ وكوفيّ. أخرجه أبو داود في الجنائز، وكذا التِّرمذيّ والنَّسائي. ثم قال المصنف:

باب الصلاة على القبر بعدما يدفن

باب الصلاة على القبر بعدما يدفن وهذه أيضًا من المسائل المختلف فيها، قال ابن المنذر: قال بمشروعيته الجمهور، ومنعه النخعيّ ومالك وأبو حنيفة، وعنهم إنْ دُفن قبل أن يصلى عليه شُرع، وإلا فلا. الحديث الثاني والتسعون حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ الشَّيْبَانِيُّ قَالَ سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ قَالَ أَخْبَرَنِي مَنْ مَرَّ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى قَبْرٍ مَنْبُوذٍ فَأَمَّهُمْ وَصَلَّوْا خَلْفَهُ. قُلْتُ مَنْ حَدَّثَكَ هَذَا يَا أَبَا عَمْرٍو قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما. وهذا الحديث قد مرَّ في باب الإِذن بالجنازة، ومرَّ استيفاء الكلام عليه عند حديث أبي هُريرة في باب كنس المسجد، ومرَّ تعريف المصلى عليه في باب الإِذن بالجنازة. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ حجاج بن مُنْهال في الثامن والأربعين من الإيمان, ومرَّ شعبة والشعبيّ في الثالث منه، ومرَّ سليمان الشيباني في السابع من الحيض، ومرَّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي. الحديث الثالث والتسعون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ أَسْوَدَ رَجُلاً أَوِ امْرَأَةً كَانَ يَقُمُّ الْمَسْجِدَ فَمَاتَ، وَلَمْ يَعْلَمِ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِمَوْتِهِ فَذَكَرَهُ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ مَا فَعَلَ ذَلِكَ الإِنْسَانُ. قَالُوا مَاتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ أَفَلاَ آذَنْتُمُونِي. فَقَالُوا إِنَّهُ كَانَ كَذَا وَكَذَا قَالَ فَحَقَرُوا شَأْنَهُ. قَالَ فَدُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ. فَأَتَى قَبْرَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ.

رجاله خمسة

هذا الحديث هو حديث أبي هريرة المتقدم في باب كنس المسجد، ومرَّ الكلام عليه هناك. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ محمد بن الفضل في الحادي والخمسين من الإِيمان, ومرَّ حماد بن زيد في الرابع والعشرين منه، ومرَّ ثابت البنانيّ في تعليق بعد الخامس من العلم، ومرَّ أبو رافع في الثالث والثلاثين من الغُسل، ومرَّ أبو هريرة في الثاني من الإِيمان. وصاحب القبر أُم مِحْجن، وقد مرت في الحادي والستين من استقبال القبلة، وهو هذا الحديث بعينه. ثم قال المصنف:

باب الميت يسمع خفق النعال

باب الميت يسمع خفق النعال قال الزين بن المنير: جرد المصنف ما ضمنه هذه الترجمة، ليجعله أول آداب الدفن من التزام الوقار، واجتناب اللغط، وقرع الأرض بشدة الوطء عليها، كما لزم ذلك مع الحي النائم، وكأنه اقتطع ما هو من سماع الآدميين من سماع ما هو من الملائكة، وترجم بالخفق، ولفظ المتن "بالقرع" إشارة إلى ما ورد في بعض طرقه بلفظ الخفق، وهو ما رواه أحمد وأبو داود عن البراء بن عازب في أثناء حديث طويل فيه "وإنه ليسمع خفق نعالهم". وروى السديّ عن أبي هُريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- "أن الميت لَيسمع خَفْق نعالهم. إذا ولُّوا مدبرين". أخرجه البَزّار وابن حِبّان في صحيحه هكذا مختصرًا، وأخرج ابن حبان عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- نحوه في حديث طويل، واستدل به على جواز المشي بين القبور بالنعال، ولا دلالة فيه. قال ابن الجوزيّ: ليس في الحديث سوى الحكاية عمن يدخل المقابر، وذلك لا يقتضي إباحة ولا تحريمًا، وإنما كان مكروهًا لبينة، لكن يعكر عليه احتمال أن يكون المراد سماعه إياها بعد أن يجاوزوا المقبرة. وقد مرَّ في باب غسل الرجلين في النعلين من كتاب الوضوء قول أحمد بالكراهة، مستدلًا بحديث بشير بن الخَصاصِيّة المذكور هناك، ومرَّ ما أجيب به عنه هناك. وأما قول الخطابيّ يشبه أن يكون النهيُ عنهما لما فيهما من الخيلاء، فإنه مُتَعَقَّب بأن ابن عمر كان يلبس النعال السَّبْتية ويقول: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يلبسهما، كما مرَّ في الباب المذكور آنفًا. الحديث الرابع والتسعون حَدَّثَنَا عَيَّاشٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى حَدَّثَنَا سَعِيدٌ قَالَ وَقَالَ لِي خَلِيفَةُ حَدَّثَنَا ابْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: الْعَبْدُ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ، وَتُوُلِّى وَذَهَبَ أَصْحَابُهُ حَتَّى إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ، أَتَاهُ مَلَكَانِ فَأَقْعَدَاهُ فَيَقُولاَنِ لَهُ مَا كُنْتَ

رجاله سبعة

تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- فَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ. فَيُقَالُ انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ، أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الْجَنَّةِ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا وَأَمَّا الْكَافِرُ أَوِ الْمُنَافِقُ فَيَقُولُ لاَ أَدْرِي، كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ. فَيُقَالُ لاَ دَرَيْتَ وَلاَ تَلَيْتَ. ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً بَيْنَ أُذُنَيْهِ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ إِلاَّ الثَّقَلَيْنِ. وقوله: إذا وضع في قبره وتولى، وذهب أصحابه، كذا ثبت في جميع الروايات، فقال ابن التين: إنه كرر اللفظ والمعنى واحد، وفي رواية "تُوَلي" بضم أوله وكسر اللام على البناء للمجهول، أي: تولى أمره، أي: الميت، وفي رواية عياش الآتية "وتولى عنه أصحابه" وهو الموجود في جميع الروايات عند مسلم وغيره. وهذا الحديث مرَّ الكلام عليه عند حديث أسماء بنت أبي بكر الصديق في باب "من أجاب الفُتيا بإشارة اليد والرأس" من كتاب الإِيمان. رجاله سبعة: قد مرّوا، إلا خليفة، مرَّ عيّاش بن الوليد في الخامس والثلاثين من الغسل، ومرَّ يزيد بن زُريع في السادس والتسعين من الوضوء، ومرَّ عبد الأعلى السامي في تعليق بعد الثالث من الإِيمان, ومرَّ قتادة وأنس في السادس منه، ومرَّ سعيد بن أبي عَروبة في الحادي والعشرين من الغُسل أيضًا. السابع خليفة بن خياط بن خَليفة بن خياط العُصْفُريّ، التميميّ أبو عمرو والبَصْري، الملقب بشبابة. قال ابن عَديّ: له حديث كثير، وتاريخ حسن، وكتاب في الطبقات, وهو مستقيم الحديث، صدوق من متيقظي رواة الحديث. وذكره ابن حبّان في الثقات، وقال: كان متقنًا عالمًا بأيام الناس وأنسابهم. وقال علي بن المَدِينيّ: في دار عبد الرحمن بن عمر وشبابة بن خياط شجرٌ يحمل الحديث. وقال مُرة: لو لم يحدث شبابة لكان خيرًا له. وقال ابن أبي حاتم: ما رضي أبو زُرعة يُقرأ علينا كتابه. قال أبو حاتم: لا أُحدث عنه، هو غير قوي، كتبت من مسنده ثلاثة أحاديث عن أبي الوليد، ثم أتيت أبا الوليد فسألته عنها فأنكرها، وقال: ما هذه من حديثي، فقلت: كتبتها من كتاب شبابة العُصْفُريّ، فعرفه وسكن غضبه. قال في المقدمة: وجميع ما أخرجه له البخاري قَرَنه بغيره، وذلك في ثلاثة أحاديث وإنْ أفرده علَّق ذلك، فقال: قال خليفة: ومع ذلك فليس فيه شيء من أفراده. روى عن إسماعيل بن أمية ويزيد بن زُريع وأبي داود الطَّيالسِيّ وغيرهم. وروى عنه البخاريُّ وعبد الله بن أحمد بن حَنْبل وأبو يعلى الموصليّ وغيرهم. مات سنة أربعين ومئتين.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة، ورواته كلهم بصريون، أخرجه مسلم في صفة أهل النار، وكذا أبو داود والنَّسَائيّ وابن ماجه. ثم قال المصنف:

باب من أحب الدفن في الأرض المقدسة أو نحوها

باب من أحب الدفن في الأرض المقدسة أو نحوها قال الزين بن المنير: المراد بقوله "أو نحوها" بقية ما تشد إليه الرحال من الحرمين، وكذلك ما يمكن من مدافن الأنبياء وقبور الشهداء والأولياء، تيمنًا بالجواز، وتعرضًا للرحمة النازلة عليهم، اقتداء بموسى عليه السلام. وهذا بناء على أن المطلوب القرب من الأنبياء الذين دفنوا ببيت المقدس، وهو الذي رجحه عياض، وقال المهلّب: إنما طلب ذلك ليقرب عليه المشي إلى المحشر، وتسقط عنه المشقة الحاصلة لمن بعد عنه. قلت: هذا بعيد جدًا، فإن موسى لا تحصل له مشقة في الحشر يوم القيامة، ولا يظن ذلك ذو عقل. الحديث الخامس والتسعون حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: أُرْسِلَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ فَلَمَّا جَاءَهُ صَكَّهُ فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ فَقَالَ أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لاَ يُرِيدُ الْمَوْتَ. فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ عَيْنَهُ وَقَالَ ارْجِعْ فَقُلْ لَهُ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ، فَلَهُ بِكُلِّ مَا غَطَّتْ بِهِ يَدُهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ. قَالَ أَيْ رَبِّ، ثُمَّ مَاذَا قَالَ ثُمَّ الْمَوْتُ. قَالَ فَالآنَ. فَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُدْنِيَهُ مِنَ الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ. قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَلَوْ كُنْتُ ثَمَّ لأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ عِنْدَ الْكَثِيبِ الأَحْمَرِ. قوله: أُرسل ملك الموت إلى موسى، بضم الهمزة مبنيًا للمجهول، لم يذكر فيه الرفع هنا، وساقه في أحاديث الأنبياء عن عمر عن همّام بن مُنَبّه عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- نحوه، وساقه مسلم بالسندين كذلك، وقوله: "فلما جاءه صكه" أي: ضربه على عينه، وفي رواية همام عن أبي هُريرة عند أحمد ومسلم "جاء ملك الموت إلى موسى، فقال: أجب ربك، فلطم موسى عينَ ملك الموت، ففقأها". وفي رواية عَمار بن أبي عمار عن أبي هريرة عند أحمد والطبريّ "كان ملك الموت يأتي الناس عَيانًا، فأتى موسى فلطمه ففقأ عينه" وقوله: لا يريد الموت، زاد همّام "وقد فقأ عيني" فرد الله عليه

عينه، وفي رواية عمار، فقال: يا رب عبدُك موسى فقأ عيني، ولولا كرامته عليك لشققت عليه. وقوله: فقل له يضع يده، في رواية أبي يونس فقل له "الحياةَ تريد؟ فإن كنت تريد الحياة فضع يدك". وقوله: على مَتْن، بفتح الميم وسكن المثناة، هو الظهر، وقيل مكتنف الصُّلب بين العصب واللحم. وفي رواية عمار "على جلد ثور". وقوله: فله بكل ما غطت به يده بكل شعرة حسنة، وفي رواية "فله بما غطَّى يده". وقوله: ثم الموت، في رواية أبي يونس "قال فالآن يا ربّ من قريبٍ، وفي رواية عمار "فأتاه فقال له: ما بعد هذا؟ قال الموت، قال: فالآن" والآن ظرف زمان غير متمكن، وهو اسم لزمان الحال الفاصل بين الماضي والمستقبل. وقوله: أنْ يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر، المُقَدّسة أي: المطهرة، وأن مصدرية في موضع نصب، أي: سأل الله الدنو من بيت المقدس ليدفن فيه. وقوله: رمية بحجر، أي دنوا، لو رمى رامٍ حجرًا من ذلك الموضع الذي هو موضع قبره، لوصل إلى بيت المقدس. قال في الفتح: يحتمل أن يكون المعنى أَدْنِني من مكان إلى الأرض المقدسة هذا القدر، أو أدنني إليها حتى يكون بيني وبينها هذا القدر. وهذا الثاني أرجح، وعليه شرح ابن بطال. وأما الأول، فهو وإن رجَّحه بعضهم، فليس بجيد، إذ لو كان كذلك لطلب الدنو أكثر من ذلك، ويحتمل أن يكون القدر الذي بينه وبين أول الأرض المقدسة كان قدر رمية حجر، فلذلك طلبها. وحكى ابن بطال عن غيره أن الحكمة في أنه لم يطلب دخولها ليُعَمِّي موضع قبره، لئلا تعبده الجهال من ملته. قال ابن عباس: لو علمت اليهود قبر موسى وهارون لاتخذوهما إلهين من دون الله، ويحتمل أن يكون سر عدم طلبه دخولَ نفس الأرض المقدسة هو أن موسى كان إذ ذاك في التيه، ومعه بنو إسرائيل، وكان أمرهم بالدخول إلى الأرض المقدسة، فامتنعوا فحرم الله عليهم دخولها أبدًا، غير يوشع وكالب، وتَيَّههم في القفار أربعين سنة في ستة فراسخ، وهم ستمائة ألف مقابل. وكانوا يسيرون كل يوم جادّين، فإذا أمسوا كانوا في الموضع الذي ارتحلوا منه، إلى أن أفناهم الموت، ولم يدخل منهم أحد الأرض المقدسة ممن امتنع أولًا أن يدخلها إلا أولادهم، وهم مع يوشع. ومات هارون ثم موسى عليهما السلام، قبل فتح الأرض المقدسة على الصحيح، فكأنّ موسى لما لم يتهيأ له دخولها لغلبة الجبّارين عليها. ولا يمكن نبشه بعد ذلك لينقل إليها طلبَ القرب منها, لأن ما قارب الشيء يعطى حكمه، وقيل: إنما طلب موسى الدنو لأن النبي يدفن حيث يموت، ولا ينقل، وفيه نظر, لأن موسى قد نقل يوسف، عليهما السلام، معه لما خرج من مصر،

كما أخرجه أبو يعلى وغيره بسند صحيح. وأجيب بأنه إنما نقله بوحي، فتكون خصوصية له. وقوله: فلو كنت ثَمَّ، بفتح المثلثة، أي: هناك، وقوله: إلى جانب الطريق، وفي رواية "من جانب الطريق" وقوله: عند الكثيب الأحمر، وفي رواية "تحت الكثيب الأحمر" والكثيب، بالمثلثة وآخره موحدة، وزن عظيم، الرملُ المجتمع، وهذا ليس صريحًا في الإِعلام بقبره الشريف، ومن ثم حصل الاختلاف فيه، فزعم ابن حِبّان أن قبره بمَدْيَن بين المدينة وبيت المقدس، وتعقبه الضّياء بأن أرض مَدْين ليست قريبة من المدينة ولا من بيت المقدس. قال وقد اشتهر عن قبر بأريحاء عنده كثيب أحمر أنه قبر موسى، وأريحاء من الأرض المقدسة. وقيل: بالتيه، وقيل: بباب لُدّ ببيت المقدس، أو بدمشق، أو بوادٍ بين بُصرى والبلقاء. وزاد عمار في روايته "فشمه شمة فقبض روحه، وكان يأتي الناس خفية بعد ذلك، ويقال: إنه أتاه بتفاحة من الجنة، فشمها فمات، وقال وهب: خرج موسى لبعض حاجته، فمر برهط من الملائكة يحفرون قبرًا لم يَرَ قط شيئًا أحسنَ منه، فقال: لمن تحفرون هذا القبر؟ فقالوا: أتحب أن يكون لك؟ قال: وددت، قالوا: فانزل واضطجع فيه، وتوجه إلى ربك، ففعل، ثم تنفس أسهل نَفَس فقبض الله روحه، ثم سوت عليه الملائكة التراب". وذكر السّديّ في تفسيره أن موسى لما دنت وفاته مشى هو وُيوشع بن نُون، فتاهَ، فجاءت ريحٌ سوداء، فظن يوشع أنها الساعة، فالتزم موسى، فانسل موسى من تحت القميص، فأقبل يوشع بالقميص، وكان عمر موسى مئة وعشرين سنة. قال ابن خزيمة: قد أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث، وقالوا: إن كان عرفه فقد استخف به، وإن كان لم يعرفه فكيف لم يقتص له من فقأ عينه؟ والجواب أن الله تعالى لم يبعث ملك الموت لموسى وهو يريد قبض روحه حينئذ، وإنما بعثه إليه اختبارًا، وإنما لطم موسى مَلَك الموت لأنه رأى آدميًا دخل داره بغير إذنه، ولم يعلم أنه ملك الموت، وقد أباح الشارع فقأ عين الناظر في دار المسلم بغير إذن، وقد جاءت الملائكة إلى إبراهيم وإلى لوط في صورة آدميين، ولم يعرفاهم ابتداءًا، ولو عرفهم إبراهيم لما قدم إليهم المأكول، ولو عرفهم لوط لما خاف عليهم من قومه، وقد جاء المَلَك إلى مريم ولم تعرفه، ولو عرفته لما استعاذت منه، وقد دخل المَلَكان على داود عليه السلام في شبه آدميين يختصمان عنده، ولم يعرفهما، وقد جاء جبريل عليه السلام إلى النبي عليه الصلاة والسلام وسأله عن الإِيمان ولم يعرفه، وقال: ما أتاني في صورة قط إلا عرفته فيها، غير هذه، فكيف يستنكر أن يعرف موسى الملك حين دخل عليه؟ وعلى تقدير أن يكون عرفه، فمن أين لهذا المبتدع مشروعية القصاص بين الملائكة والبشر؟ ثم من أين له أنَّ مَلَك الموت طلب القصاص من موسى ولم يقتص له منه؟

ولخص الخطابي كلام ابن خُزيمة، وزاد فيه أن موسى دفعه عن نفسه، لما رُكِّب فيه من الحِدّة، وأن الله رد عين ملك الموت، ليعلم موسى أنه جاءه من عند الله، فلهذا استسلم حينئذ، وقال النوويّ: لا يمتنع أن يأذن الله لموسى في هذه اللطمة امتحانًا للملطوم، وقال غيره: إنما لطمه لأنه جاء لقبض روحه من غير أن يخيره، لما ثبت أنه لم يقبض نبي حتى يُخير، فلهذا لما خيّره في المرة الثانية أَذْعن. قيل: وهذا أولى الأقوال بالصواب، وفيه نظر, لأنه يعود أصل السؤال، فيقال: لم أقدم مَلَك الموت على قبض نبي الله، وأخل بالشرط، فيعود الجواب أن ذلك وقع امتحانًا. وزعم بعضهم أن معنى قوله "فقأ عينه" أي: أبطل حجته، وهو مردود بقوله في نفس الحديث "فرد الله عنيه" وقوله: "لطمه وصكه وغير ذلك" من قرائن السياق، وقال ابن قتيبة إنما فقأ موسى العينَ التي هي تخييل وتمثيل، وليست عينًا حقيقة، ومعنى رد الله عينه أي: أعاده إلى خلقته الحقيقية. وقيل: على ظاهره ورد الله إلى ملك الموت عينه البشرية، ليرجع إلى موسى على كمال الصورة، فيكون ذلك أقوى في اعتباره، وهذا هو المعتمد. وجوّز ابن عقيل أن يكون موسى أذن له أن يفعل ذلك بملك الموت، وأمر ملك الموت بالصبر على ذلك، كما أمر موسى بالصبر على ما يصنع الخضر، وفيه أن الملك يتمثل بصورة الإنسان، وقد جاء ذلك في عدة أحاديث، وقد اختلف في جواز نقل الميت من بلد إلى بلد، فقيل: يكره، لما فيه من تأخير دفنه، وتعريضه لهتك حرمته. وقيل: يستحب. والأولى تنزيل ذلك على حالتين، فالمنع حيث لم يكن هناك غرض راجح، كالدفن في البقاع الفاضلة، وتختلف الكراهة في ذلك، فقد تبلغ التحريم والاستحباب حيث يكون ذلك بقرب مكان فاضل. كما نص الشافعيّ على استحباب نقل الميت إلى الأرض الفاضلة، كمكة وغيرها. وقال القسطلانيّ: ولابد من قرب المنقول إليه، والمراد بالقرب مسافة لا يتغير فيها الميت قبل وصوله، ولا ينبغي التخصيص بالثلاثة، بل لو كان بقربه مقابر أهل الصلاح والخير، فالحكم كذلك, لأن الشخص يقصد الجار الحسن. وعند المالكية يجوز النقل إذا لم يحصل فيه هتك لحرمة الميت، بأن لا يحصل له انفجار ونحو ذلك، وإن كان للدفن مع الصالحين أو مع أقاربه استحب بشرطه المذكور، واستدل بقوله "فلك بكل شعرة سنة" على أنّ الذي بقي من الدنيا كثيرٌ جدًا لأن عدد الشعر الذي تواريه اليد، قدر المدة التي بين موسى وبعثة نبينا عليه الصلاة والسلام مرتين وأكثر. واستدل به على جواز الزيادة في العمر، وقد قال به قوم في قوله تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} إنه نقص وزيادة في الحقيقة. وقال الجمهور: الضمير في قوله {مِنْ عُمُرِهِ} للجنس لا للعين، أي: لا ينقص من عمر آخر، وهذا كقولهم: عند ثوب ونصفه، أي: ونصف ثوب آخر. وقيل: المراد بقوله {وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} أي: وما يذهب من عمره، فالجميع معلوم عند الله تعالى من قصة موسى عليه السلام أن أجله كان قرب حضوره، ولم يبق منه

رجاله ستة

إلا مقدار ما دار بينه وبين مَلَك الموت من المراجعتين، فأمر بقبض روحه أولًا، مع سبق علم الله، أن ذلك لا يقع إلا بعد المراجعة، وإن لمْ يطَّلع ملك الموت على ذلك أولًا. رجاله ستة: قد مرّوا، مرَّ محمود بن غيلان في السابع والأربعين من مواقيت الصلاة، ومرَّ عبد الرزاق في الخامس والثلاثين من الإِيمان، وأبو هريرة في الثاني منه، ومرَّ معمر في متابعة بعد الرابع من بدء الوحي، ومرَّ عبد الله بن طاوس في الرابع والثلاثين من الحيض، وأبوه في باب "من لم ير الوضوء إلا من المخرجين" بعد الأربعين من الوضوء. لطائف إسناده: فيه التحديث والإِخبار بالجمع والعنعنة، ورواته مروزيٌّ وبصريٌّ ويمانيون، وفيه رواية الابن عن الأب، أخرجه البخاريّ أيضًا في أحاديث الأنبياء، ومسلم فيها، والنَّسائيّ في الجنائز. ثم قال المصنف:

باب الدفن بالليل

باب الدفن بالليل أشار بهذه الترجمة إلى الرد على من منع ذلك، محتجًا بحديث جابر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- زَجَر أنْ يُقبر الرجل ليلًا إلا أن يضطر إلى ذلك. أخرجه ابن حِبّان، لكن بين مسلم في روايته السبب في ذلك، ولفظه "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خطب يومًا، فذكر رجلًا من أصحابه قُبض وكُفّن في كفن غير طائل، وقبر ليلًا، فزجر أن يقبر الرجل بالليل، حتى يصلّى عليه، إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك. وقال: إذا وَلِيَ أحدكم أخاه فليحسن كفنه" فدل على أن النهيَ بسبب تحسين الكفن. وقوله: حتى يصلّى عليه، مضبوطٌ بكسر اللام، أي النبي -صلى الله عليه وسلم-، فهذا سبب آخر يقتضي أنه إنْ رجا بتأخير الميت إلى الصباح صلاة من ترجى بركته عليه استحب تأخيره، وإلا فلا، وبه جزم الطحاويّ، وبجواز الدفن ليلًا قال الشافعيُّ ومالك وأحمد والجمهور. وكرهه قتادة والحسن البصريّ وسعيد بن المُسَيّب وأحمد في رواية عنه. واستدل المصنف للجواز بما ذكره من حديث ابن عباس، ولم ينكر النبي -صلى الله عليه وسلم- دفنهم إياه بالليل، بل أنكر عليهم عدم إعلامهم بأمره، وأيد ذلك بما صنع الصحابة بأبي بكر، وكان ذلك كالإِجماع منهم على الجواز، وصح أن عليًا دفن فاطمة ليلًا، ورأى ناسٌ نارًا في المقبرة، فأتوها فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في القبر، وإذا هو يقول: "ناولوني صاحبكم" وإذا هو الرجل الذي كان يرفع صوته بالذكر. رواه أبو داود بإسناد على شرط الشيخين. نعم يستحب الدفن نهارًا لسهولة الاجتماع والوضع في القبر، لكن إنْ خُشِي تغيُّره فلا يُندب تأخيره ليدفن نهارًا. قال الأذْرُعيُّ وغيره: بل ينبغي وجوب المبادرة به. ثم قال: ودُفن أبو بكر رضي الله تعالى عنه ليلًا، وهذا التعليق وصله البخاريّ في أواخر الجنائز في باب موت يوم الاثنين. وصله ابن أبي شَيبة في مصنفه عن القاسم بن محمد وعن عبيد ابن السبّاق أن عمر دَفَن أبا بكر بعد العشاء الآخرة، وأبو بكر مرَّ في باب "من لم يتوضأ من لحم الشاة" بعد السبعين من الوضوء.

الحديث السادس والتسعون

الحديث السادس والتسعون حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الشَّيْبَانِيِّ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى رَجُلٍ بَعْدَمَا دُفِنَ بِلَيْلَةٍ قَامَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَكَانَ سَأَلَ عَنْهُ فَقَالَ مَنْ هَذَا. فَقَالُوا فُلاَنٌ، دُفِنَ الْبَارِحَةَ. فَصَلَّوْا عَلَيْهِ. قوله: فصلوا عليه، بصيغة الجمع من الماضي، أي: صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه عليه، فهو كالتفصيل لقوله أولًا: صلى، فلا يكون تكرارًا. وهذا الحديث قد مرَّ مرارًا، ومرَّ الكلام عليه في باب كنس المسجد من أبواب المساجد، ومرَّ تعريف الميت في باب الإِذن بالجنازة. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ عثمان ابن أبي شَيبة، وجرير بن عبد الحميد في الثاني عشر من العلم، ومرَّ الشيبانيّ في السابع من الحيض، والشعبيّ في الثالث من الإِيمان، وابن عباس في الخامس من بدء الوحي، وصاحب القبر طلحة بن البراء، وقد مرَّ في العاشر من الجنائز. ثم قال المصنف:

باب بناء المسجد على القبر

باب بناء المسجد على القبر الكلام على هذه الترجمة مرَّ في الكلام على ترجمة "باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور" قبل أبواب. الحديث السابع والتسعون حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: لَمَّا اشْتَكَى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- ذَكَرَتْ بَعْضُ نِسَائِهِ كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، يُقَالُ لَهَا مَارِيَةُ، وَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَأُمُّ حَبِيبَةَ رضي الله عنهما أَتَتَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ، فَذَكَرَتَا مِنْ حُسْنِهَا وَتَصَاوِيرَ فِيهَا، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ أُولَئِكَ إِذَا مَاتَ مِنْهُمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، ثُمَّ صَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّورَةَ، أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ. هذا الحديث قد مرَّ الكلام عليه في باب "هل تنبش قبور المشركين من أبواب المساجد" ومرَّ قليل من الكلام عليه في باب "ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور". رجاله خمسة: قد مرّوا، وفيه ذكر أم سلمة وأم حبيبة، وقد مرتا أيضًا، مرَّ إسماعيل بن أبي أُوَيس في الخامس عشر من الإِيمان, ومرت الأربعة الباقية بهذا النسق في الثاني من بدء الوحي، ومرت أم سلمة في السادس والخمسين من العلم، ومرت أم حبيبة في الثاني والثلاثين من استقبال القبلة. ثم قال المصنف:

باب من يدخل قبر المرأة

باب من يدخل قبر المرأة الحديث الثامن والتسعون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا هِلاَلُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: شَهِدْنَا بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- جَالِسٌ عَلَى الْقَبْرِ، فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ فَقَالَ هَلْ فِيكُمْ مِنْ أَحَدٍ لَمْ يُقَارِفِ اللَّيْلَةَ. فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ أَنَا. قَالَ فَانْزِلْ فِي قَبْرِهَا. فَنَزَلَ فِي قَبْرِهَا فَقَبَرَهَا. هذا الحديث قد مرَّ الكلام عليه مستوفىً في باب "الميت يعذب ببكاء بعض أهله عليه". رجاله أربعة: وفيه ذكر بنت للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد مرَّ الجميع، مرت الثلاثة الأولى في الأول من العلم، وابنته عليه الصلاة والسلام إما زينب أو أم كلثوم، وقد مرتا في الثاني والثلاثين من الوضوء. وفيه ذكر أبي طلحة، وقد مرَّ في السادس والثلاثين من الوضوء أيضًا. ثم قال: قال ابن المبارك: قال فُليح: أراه، يعني الذنب، تقدم هناك أن الإِسماعيلي وصله من طريقه، وفي رواية أبي الحسن القابسي هنا، قال أبو المبارك، بلفظ الكنية، ونقل أبو علي الجَيَّانِي عنه أنه قال: أبو المبارك، كنية محمد بن سنان، راوي الطريقة الموصولة، وتعقبه بأن محمد بن سِنان يكنى أبا بكر، بغير خلاف عند أهل العلم بالحديث، والصواب ابن المبارك كما في بقية الطرق، وابن المبارك مرَّ في السادس من بدء الوحي، وفليح مرَّ محله في الذي قبله. ثم قال: قال أبو عبد الله: ليقترفوا، أي: ليكتسبوا. ثبت هذا في رواية الكشميهنيّ، وهذا تفسير ابن عباس. أخرجه الطبرانيّ عن عليّ بن أبي طلحة عنه، قال في قوله تعالى: {وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ}. ليكتسبوا ما هم مكتسبون. وفي هذا مصير من البخاري إلى تأييد ما قاله ابن المبارك عن فُليح أو أراد أن يوجه الكلام المذكور، وأن لفظ المقارفة في الحديث أريد به ما هو أخص من ذلك، وهو الجماع. ثم قال المصنف:

باب الصلاة على الشهيد

باب الصلاة على الشهيد قال الزين بن المنير: باب حكم الصلاة على الشهيد، ولذلك أورد فيه حديث جابر الدال على نفيها، وحديث عقبة الدال على إثباتها. قال: ويحتمل أن يكون المراد "باب مشروعية الصلاة على الشهيد في قبره" لأجل دفنه عملًا بظاهر الحديثين. قلت: هذا ليس فيه عمل إلا بحديث عقبة. ثم قال: والمراد بالشهيد قتيل المعركة في حرب الكفار. وكذا المراد بقوله بعد من لم ير غسل الشهيد، ولا فرق في ذلك بين الرجل والمرأة صغيرًا أو كبيرًا حرًا أو عبدًا صالحًا أو غير صالح، وخرج بقوله "المعركة" من جرح في القتال وعاش بعد ذلك حياة مستقرة، وخرج "بحرب الكفار" من مات بقتال المسلمين، كأهل البغي، وخرج بجميع ذلك من سمي شهيدًا بسبب غير السبب المذكور. وإنما يقال له شهيد بمعنى ثواب الآخرة، وهذا كله على الصحيح من مذاهب العلماء. والخلاف في الصلاة على قتيل معركة الكفار شهير، فذهب مالك والشافعيّ وأحمد وإسحاق في رواية إلى أنه لا يصلى عليه: كما لا يُغسل، وذهب ابن أبي ليلى والأوزاعيّ وأبو حنيفة وصاحباه وأحمد في رواية, وإسحاق في رواية, إلى أنه يصلى عليه. قال الشافعي في الأم: جاءت الأخبار كأنها عِيان من وجوه متواترة أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يصلِّ على قتلى أُحد، وما روي أنه صلى عليهم وكبر على حمزة سبعين تكبيرة لم يصح، وكان ينبغي لمن عارض بذلك هذه الأحاديث الصحيحة أن يستحيي على نفسه. قال: وأما حديث عقبة بن عامر، فقد وقع في نفس الحديث أن ذلك كان بعد ثمان سنين، والمخالف يقول: لا يصلى على القبر إذا طالت المدة، قال: وكأنه -صلى الله عليه وسلم- دعا لهم، واستغفر لهم حين علم قرب أجله، مودعًا لهم. ولا يدل ذلك على نسخ الحكم الثابت، وما أشار إليه من المدة والتوديع يأتي تحريره في الذي بعده قريبًا، ثم إن الخلاف في ذلك منع الصلاة عليهم على الأصح عند الشافعية، وفي وجه أن الخلاف في الاستحباب، وهو المنقول عن الحنابلة. قال الماوَرْدِيّ عن أحمد: الصلاةُ على الشهيد أجود، وإنْ لم يصلوا عليه أجزأ.

الحديث التاسع والتسعون

الحديث التاسع والتسعون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ يَقُولُ أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ. فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ وَقَالَ أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلاَءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ فِي دِمَائِهِمْ، وَلَمْ يُغَسَّلُوا وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ. قوله: عن جابر، كذا يقول الليث عن ابن شهاب، قال النَّسائي: لا أعلم أحدًا من ثقات أصحاب ابن شهاب تابع الليث على ذلك، ثم ساقه عن عبد الله بن المبارك عن معمر عن ابن شهاب عن عبد الله بن ثعلبة مختصرًا، وكذا أخرجه أحمد والطبرانيّ عن ابن شهاب عن عبد الله بن ثعلبة. وعبد الله له رؤية، فحديثه من حيث السماع مرسَلٌ، وقد رواه عبد الرزاق عن معمر فزاد فيه جابرًا، وهذا مما يقوي اختيار البخاري، فإن ابن شهاب صاحب حديث، فيُحمل على أن الحديث عنده عن شيخين، ولاسيما أن في رواية عبد الرحمن بن كعب ما ليس في رواية عبد الله بن ثعلبة، وعلى ابن شهاب فيه اختلاف آخر. رواه أسامة بن زيد الليثيّ عنه عن أنس. أخرجه أبو داود والتِّرمذيّ. وأُسامة سيء الحفظ. وقد حكى التِّرمذيّ عن البخاري أن أسامة غلط في إسناده، وأخرجه البيهقيّ عن عبد الرحمن بن عبد العزيز الأنصاري عن ابن شهاب، فقال عن عبد الرحمن بن كعب عن أبيه، وعبد العزيز ضعيف، وقد أخطأ في قوله "عن أبيه". وقد ذكر البخاري فيه اختلافًا آخر كما سيأتي بعد بابين. قوله: في ثوب واحد، إما بأن يجمعهما فيه، وإما بأن يقطعه بينهما. وقال المَظْهَريّ: قوله في ثوب واحد، أي: في قبر واحد، إذ لا يجوز تجريدهما في ثوب واحد، بحيث تتلاقى بشرتاهما، بل ينبغي أن يكون على كل واحد منهما ثيابه الملطخة بالدم وغيرها, ولكن يضجع أحدهما بجنب الآخر في قبر واحد. وقوله: ثم يقول أيهم، أي: أيُّ القتلى، وللحمويّ والمستملي "أيهما" أي: أيُّ الرجلين، وقوله: أكثر أخذًا للقرآن، بالنصب على التمييز في "أخذًا". وقوله: أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة، قال المَظْهَريّ: أي: أنا شفيع لهؤلاء، أشهد لهم بأنهم بدلوا أرواحهم، وتركوا حياتهم لله تعالى. وتعقبه الطيبيّ بأن هذا الذي قاله لا يساعد عليه تعديه الشهيد بعلى, لأنه لو أريد ما قال: أنا شهيد لهم، فعدل عن ذلك لتضمين شهيد معنى رقيب وحفيظ، أي: أنا حفيظ عليهم أراقب

رجاله خمسة

أحوالهم وأصونهم من المكاره، وشفيع لهم. ومنه قوله تعالى {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} {كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}. وقوله: ولم يغسلوا ولم يصلَّ عليهم، أي: بفتح اللام، أي: لم يفعل ذلك بنفسه ولا بأمره، ويأتي بعد بابين عن الليث بلفظ "ولم يصلِّ عليهم، ولم يغسلهم" وفي رواية أسامة المذكورة "ولم يصلّ عليهم" كما في حديث جابر وفي رواية عنه عند الشافعي والحاكم "ولم يصلّ على أحد غيره" يعني حمزة. وقال الدارقطني: هذه اللفظة غير محفوظة يعني "عن أسامة" والصواب الرواية الموافقة لحديث الليث. وعند أحمد أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: لا تغسلوهم، فإن كل جرح أو كَلْم أوْ دَم يفوح مِسْكًا يوم القيامة، ولم يصل عليهم. والحكمة في ذلك إبقاء أثر الشهادة عليهم، والتعظيم لهم باستغنائهم عن دعاء القوم، وإنما غسلت الرسل، وصُلِّيَ عليها دون الشهداء، مع أنهم أعظم منهم منزلة, لأن منزلة الشهداء مكتسبة، فيحصل الترغيب فيها بخلاف النبوة، فإنها غير مكتسبة، فلا يطلب الترغيب فيها. قال ابن العربيّ: فيه دليل على أن التكليف قد ارتفع بالموت، وإلا فلا يجوز أن يلصق الرجل بالرجل إلا عند انقطاع التكاليف، أو للضرورة، وفيه التفضيل بقراءة القرآن، فإذا استووا في القراءة قُدِّم أكبرهم, لأن للسن فضيلة، وفيه جواز دفن الاثنين والثلاثة وأزيد في قبر واحد. ويأتي الكلام عليه في الباب الذي يليه. وفيه أن الشهيد لا يغسل، ويأتي الكلام عليه بعد باب. رجاله خمسة: مرَّ منهم عبد الله بن يوسف في الثاني من بدء الوحي، والليث والزُّهريّ في الثالث منه، وجابر في الرابع منه. والباقي عبد الرحمن بن كعب بن مالك الأنصاريّ السلميّ، أبو الخطّاب المَدنيّ، ذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال ابن سعد: كان ثقة، وهو أكثر حديثًا من أخيه. روى عن أبيه وأخيه عبد الله وجابر وأبي قتادة وعائشة. ورى عنه ابنه كعب وأبو أمامة بن سَهيل بن حُنيف، وهو أكبر منه، والزُّهريُّ وغيرهم. وذكره العسكريُّ فيمن ولد على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم يرد عنه شيئًا. مات في خلافة سُليمان بن عبد الملك. وأما قول الواقديّ أنه مات في خلافة هِشام، فذلك عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإِفراد والعنعنة والقول، ورواته مصريان ومدنيان، وفيه رواية التابعيّ عن التابعيّ. أخرجه البخاريّ أيضًا في الجنائز والمغازي، وأبو داود في الجنائز، وكذلك التِّرمذيّ والنّسائيّ وابن ماجه. الحديث المائة حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-: خَرَجَ يَوْمًا فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلاَتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ إِنِّي فَرَطٌ لَكُمْ، وَأَنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ، وَإِنِّي وَاللَّهِ لأَنْظُرُ إِلَى حَوْضِي الآنَ، وَإِنِّي أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الأَرْضِ أَوْ مَفَاتِيحَ الأَرْضِ وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي، وَلَكِنْ أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا. قوله: صلاتَه، بالنصب أي مثل صلاته، زاد في غزوة أحد عن حَيْوة بن شُريح عن يزيد "بعد ثمان سنين، كالمودع للأحياء والأموات" وزاد فيه "فكانت آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" وقد كانت أُحُدٌ بشوال سنة ثلاث. ومات النبي -صلى الله عليه وسلم- في ربيع الأول سنة إحدى عشرة، فعلى هذا ففي قوله "بعد ثمان سنين" تجوز على طريق جبر الكسر، وإلا فهي سبع سنين ودون النصف. وقال النووي: المراد بالصلاة هنا الدعاء، وأما كونه مثل الذي على الميت، فمعناه أنه دعا لهم بمثل الدعاء الذي كانت عادته أن يدعو به للموتى. ومعنى قوله: كالمودع للأحياء والأموات، أما توديعه للأحياء فظاهر, لأنه يشعر بأن ذلك كان في آخر حياته عليه الصلاة والسلام، وأما توديع الأموات فيحتمل أن يكون الصحابيّ أراد بذلك انقطاع زيارته الأموات بجسده الشريف, لأنه بعد موته، وإن كان حيًا فهي حياة أخروية لا تشبه الحياة الدنيوية. ويحتمل أن يكون المراد بتوديع الأموات ما أشار إليه في حديث عائشة من الاستغفار لأهل البقيع. وقوله: ثُم انصرف إلى المنبر، وفي رواية مسلم كالمؤلف في المغازي "ثم صعد المنبر كالمودع للأحياء والأموات" وعند ابن أبي شيبة من مرسل أيوب بن بشير "خرج عاصبًا رأسه حتى جلس على المنبر، ثم كان أول ما تكلم به أن صلى على أصحاب أُحد، واستغفر لهم، وأكثر

الصلاة عليهم". وهذا يحمل على أن المراد أول ما تكلم به، أي: عند خروجه قبل أن يصعد المنبر. وقوله: فقال إني فَرَطَ لكم، بفتح الفاء والراء، وهو الذي يتقدم الواردة ليصلح لهم الحياض والدلاء ونحوهما، أي: أنا سابقكم إلى الحوض كالمهيىء له لأجلكم. وفيه إشارة إلى قرب موته -صلى الله عليه وسلم-، وتقدمه على أصحابه، ولذا قال كالمودع للأحياء والأموات. وقوله: وأنا شهيد عليكم، أي: أشهد عليكم بأعمالكم، فكأنه باق معهم لم يتقدمهم، بل يبقى بعدهم حتى يشهد بأعمال آخرهم، فهو عليه الصلاة والسلام قائم بأمرهم في الدارين في حياته وموته. وعن ابن مسعود عند البزّار بإسناد جيد رفعه، "حياتي خير لكم، ووفاتي خير لكم، تعرض عليّ أعمالكم، فما رأيت من خير حمدت الله عليه، وما رأيت من شر استغفرت الله لكم". وقوله: وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن، أي: نظرًا حقيقيًا بطريق الكشف، والحلف لتأكيد الخبر وتعظيمه. وقوله: أو مفاتيح الأرض، شك من الراوي، فيه إشارة ما فتح على أمته من الملك والخزائن، والحوض يأتي الكلام عليه في محله في آخر كتاب الرقاق. وقوله: ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي أي: ما أخاف على جميعكم الإشراك، بل على مجموعكم, لأن ذلك قد وقع من البعض أعاذنا الله تعالى من ذلك. وقوله: ولكن أخشى أن تنافسوا فيها، بإسقاط إحدى التاءين، وفي رواية عمرو بن عوف في الرقاق "ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تُبْسَط عليكم الدنيا كما بُسِطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتلهيكم كما ألهتهم" والضمير في ضمها لخزائن الأرض المذكورة في حديث الباب، أو للدنيا المصرح بها في حديث الرقاق هذا، وحديث مسلم. والتنافس من المنافسة، وهي الرغبة في الشيء منافسةً ونَفَاسة ونِفاسًا، ونَفُس الشيءُ بالضم، نفاسةً صار مرغوبًا فيه. ونَفِسْتُ به بالكسر بخلت، ونَفَسْت عليه لم أره أهلًا لذلك. وقوله: فتلهيكم، وفي رواية "فتهلككم" أي: لأن المال مرغوبٌ فيه، فترتاح النفس لطلبه، فتمتنع منه، فتقع العداوة المقتضية للمقاتلة المفضية إلى الهلاك. وقوله في هذا الحديث، ما الفقر أخشاه عليكم. والأول هو الراجح. وخص بعضهم جواز ذلك بالشعر. وهذه الخشية يحتمل أن يكون سببها علمه أن الدنيا ستفتح عليهم ويحصل لهم الغنى بالمال، وقد أخبر بوقوع ذلك قبل أن يقع، ووقع. وقال الطيبيّ: فائدة تقديم المفعول هنا الاهتمام بشأن

الفقر، فإن الوالد المشفِق إذا حضره الموت كان اهتمامه بحال ولده في المال، فأعلم -صلى الله عليه وسلم- أصحابه أنه، وإن كان لهم في الشفقة عليهم كالأب، لكن حاله في المال يخالف حال الوالد، وأنه لا يخشى عليهم الفقر كما يخشاه الوالد، ولكن يخشى عليهم من الغنى الذي هو مطلوب الوالد لولده. والمراد بالفقر العهديُّ، وهو ما كان عليه الصحابة من قلة الشيء، ويحتمل الجنس، والأول أولى، ويحتمل أن يكون أشار بذلك إلى أن مضرة الفقر دون مضرة الغنى, لأن مضرة الفقر دنيوية غالبًا، ومضرة الغنى دينية غالبًا. قلت: إنما لم يخش عليهم الفقر كخشية الوالد, لأنه علم أن الأموال تفيض عليهم، ولا يفتقرون، فلذا خاف عليهم عاقبة الغنى الذي علم أنهم يصيرون إليه، فلينظر ما قاله الطيبيّ. وقال ابن بطال فيه: إن زَهرة الدنيا، ينبغي لمن فتحت عليه، أن يحذر من سوء عاقبتها وشر فتنتها، فلا يطمئن إلى زُخرفها, ولا ينافس غيره فيها. ويستدل به على أن الفقر أفضل من الغنى, لأن فتنة الدنيا مقرونة بالغنى، والغنى مظنة الوقوع في الفتنة التي قد تجر إلى هلاك النفس غالبًا، والفقير آمن من ذلك. وفيه إنذار بما سيقع فوقع، كما قال -صلى الله عليه وسلم-، وقد فتحت عليهم الفتوح بعده، وآل الأمر إلى أن تحاسدوا وتقاتلوا، ووقع ما هو المشاهد المحسوس لكل أحد، مما يشهد بمصداق خبره عليه الصلاة والسلام. ووقع من ذلك في هذا الحديث أخباره بأنه فَرَطُهم، أي: سابقهم، وكان كذلك، وأنّ أصحابه لا يشركون بعده، فكان كذلك، ووقع ما أنذر به من التنافس في الدنيا، ومرَّ في ذلك حديث عمرو بن عوف قريبًا، وحديث أبي سعيد في معناه، فوقع كما أخبر، وفتحت عليهم الفتوح الكثيرة، وصبت عليهم الدنيا صبًا. واستدل به على مشروعية الصلاة على الشهداء، وقد تقدم جواب الشافعيّ عنه بما لا مزيد عليه، فإن قلت: حديثُ جابرٍ لا يحتج به, لأنه نفي، وشهادة النفي مردودة مع عارضها في خبر الإِثبات أُجيب بأن شهادة النفي إنما تردُّ إذا لم يحط بها علم الشاهد، ولم تكن محصورة، وإلا فتقبل بالاتفاق، وهذه قضية معينة أحاط بها جابر وغيره علمًا. وحديث الإثبات تقدم الجواب عنه. وأجاب الحنفية بأنه تجوز الصلاة على القبر ما لم يتفسخ الميت، والشهداء لا يتفسخون، ولا يحصل لهم تغير، فالصلاة عليهم لا تمتنع أي وقت كان، وأوَّلَ أبو حنيفة الحديث في ترك الصلاة عليهم يومَ أُحُد على معنى اشتغاله عنهم، وقلة فراغه لذلك. وكان صعبًا على المسلمين، فغذوا بترك الصلاة عليهم يومئذ.

رجاله خمسة

وقال ابن حزم الظاهري: إنْ صلى على الشهيد فَحَسُن، وإن لم يصلِّ عليه فحسَن. واستدل بحديثي جابر وعُقبة، وقال: ليس يجوز أن يترك أحد الأثرين المذكورين للآخر، بل كلاهما حق مباح، وليس هذا مكان نسخ لأن استعمالهما معًا ممكن في أحوال مختلفة. وقال الطحاويّ: معنى صلاته -صلى الله عليه وسلم- لا يخلو من ثلاثة معانٍ: إما أن يكون ناسخًا لما تقدم من ترك الصلاة عليهم، أو يكون من سنتهم أن لا يصلِّي إلا بعد هذه المدة المذكورة، أو تكون الصلاة عليهم جائزة، بخلاف غيرهم، فإنها واجبة. وأيها كان، فقد ثبت بصلاته عليهم، الصلاةُ على الشهداء. ثم إن الكلام بين المختلفين في عصرنا إنما هو في الصلاة عليهم قبل دفنهم، وإذا ثبتت الصلاة عليهم بعد الدفن، كانت قبل الدفن أوْلى. وغالب ما ذكره بصدد المنع، لاسيما في دعوى الحصر، فإن صلاته عليهم تحتمل أمورًا أُخر، منها أن يكون من خصائصه، ومنها أن تكون بمعنى الدعاء كما تقدم، ثم هي واقعةُ عين لا عمومَ فيها، فكيف ينتهض الاحتجاج بها لدفع حكم قد تقرر؟ ولم يقل أحد من العلماء بالاحتمال الثاني الذي ذكره. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ محل عبد الله بن يوسف والليث في الذي قبله، ومرَّ يزيد بن أبي حبيب وأبو الخير في الخامس من الإِيمان، ومرَّ عقبة بن عامر في السابع والعشرين من كتاب الصلاة. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإِفراد والعنعنة، ورواته كلهم مصريون، وهو معدود من أصح الأسانيد، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. أخرجه البخاريّ أيضًا في علامات النبوءة، وفي المغازي وفي ذكر الحوض، ومسلم في فضائل النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأبو داود والنَّسَائيّ في الجنائز، ثم قال المنصف:

باب دفن الرجلين والثلاثة في قبر

باب دفن الرجلين والثلاثة في قبر ولأبي ذر زيادة "واحد" أي: عند الضرورة، أن كثر الموتى وعَسُر إفراد كل ميت بقبر واحد. الحديث الحادي والمائة حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ. قوله: يجمع بين الرجلين من قتلى أُحُد، أي: في ثوب واحد، وهو مستلزم للجمع في قبر واحد، فهو دال على الترجمة، لكن ليس فيه لفظ ثلاثة، وقد قال ابن رشيد: جرى المصنف على عادته إما بالإِشارة إلى ما ليس على شرطه، وإما بالاكتفاء بالقياس. وفي رواية عبد الرزاق "وكان يدفن الرجلين والثلاثة في القبر الواحد". وورد ذكر الثلاثة في هذه القصة عن أنس أيضًا عند التِّرمذيّ، وروى أصحابه السنن عن هشام بن عامر الأنصاريّ قال: جاءت الأنصار إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أُحُد فقالوا: أصابنا قَرْح وجهد، قال: "احفروا وأوسعوا واجعلوا الرجلين والثلاثة في القبر" صححه التِّرمذيّ، والظاهر أن المصنف أشار إلى هذا الحديث، وأما القياس ففيه نظر, لأنه لو أراده لم يقتصر على الثلاثة، بل كان يقول مثلًا "دفن الرجلين فأكثر". وهذا الحديث الذي قلنا إن المصنف أشار إليه، فيه التصريح بأن ذلك إنما فعل للضرورة، وحينئذ فالمستحب في حال الاختيار أن يدفن كل ميت في قبر واحد، وهذا متفق عليه عند الأئمة، فيكره جمعها اختيارًا. قالت المالكية: جمع الأموات بقبر للضرورة جائز، وإن كانوا أجانب، وعند غير الضرورة مكروهٌ، وإن كانوا محارم، ولابد عند ابن القاسم من جعل شيء من التراب بينهم.

رجاله خمسة

وقال أشهب: يكفي الكفن، وهذا الحكم عند الحنفية، وقال في البدائع: يجْعَل بين كل اثنين حاجز من التراب، فيكون في حكم قبرين. وعند الشافعية قال القسطلانيّ: لو جمع اثنان في قبر، واتحد الجنس كرجلين وامرأتين كُره عند الماوَرْديّ، وحرم عند السَّرْخَسِيّ، ونقله عنه النوويّ في شرح "المهذب" مقتصرًا عليه. قال السُّبْكيّ: لكن الأصح الكراهة، أو نفي الاستحباب، أما التحريم فلا دليل عليه. وأما إذا لم يتحد الجنس كرجل وامرأة، فإن دعت ضرورة شديدة لذاك جاز، وإلا حرم كما في الحياة. ومحل ذلك إذا لم تكن بينهما محرمية أو زوجية، وإلا فيجوز الجمع صرح به ابن الصباغ، ويحجز بين الميتين مطلقًا بتراب ندبًا والقياس أن الصغير الذي لم يبلغ حد الشهوة، كالمحرم بل أولى وأن الخنثى مع الخنثى أو غيره كالأنثى مع الذكر مطلقًا. وروى عبد الرزاق عن واثلة بن الأسقع أنه كان يدفن الرجل والمرأة في القبر الواحد فيقدم الرجل ويجعل المرأة وراءه وكأنه كان يجعل بينهما حائلًا من تراب ولاسيما إن كان اجنبيين. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ سعيد بن سليمان في السادس والثلاثين من الوضوء ومرَّ الليث والزهري في الثالث من بدء الوحي، وجابر في الرابع منه، ومرَّ عبد الرحمن في الذي قبل هذا بحديث، ومرَّ من أخرجه فيه. ثم قال المصنف:

باب من لم ير غسل الشهداء

باب من لم ير غسل الشهداء وفي تنسخة الشهيد بالإِفراد ولو كان الشهيد جنبًا أو حائضًا أو نفساء. الحديث الثاني والمائة حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: ادْفِنُوهُمْ فِي دِمَائِهِمْ. يَعْنِي يَوْمَ أُحُدٍ وَلَمْ يُغَسِّلْهُمْ. قوله ولم يغسلهم، أي: إبقاء لأثر الشهادة عليهم وهو بضم أوله وفتح ثانيه وتشديد ثالثه ولأبي ذر ولم يغسلهم بفتح أوله وسكون ثانيه وكسر ثالثه واستدل بعمومه على أن الشهيد لا يغسل حتى ولا الجنب والحائض وهو الأصح عند المالكية والشافعية وقال سحنون من المالكية: إن الجنب يغسل وقيل: يغسل للجنابة لا بنية غسل الميت لما روي في قصة حنظلة بن الراهب أن الملائكة غسلته يوم أحد لما استشهد وهو جنب، وقصته مشهورة رواها ابن إسحاق وابن حبان والحاكم في صحيحيهما وروى الطبراني وغيره عن ابن عباس بإسناد لا بأس به قال أصيب حمزة بن عبد المطلب وحنظلة بن الراهب، وهما جنب فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأيت الملائكة تغسلهما. غريب في ذكر حمزة واجيب بأنه لو كان واجبًا ما اكتفى فيه بغسل الملائكة فدل على سقوطه عمن يتولى أمر الشهيد وعند أحمد عن جابر أنه قال -صلى الله عليه وسلم- في قتلى أحد: لا تغسلوهم فإن كل جرح أو كل كلم أو دم يفوح مسكًا يوم القيامة ولم يغسلهم. فبين الحكمة في ذلك وروى عن سعيد بن المسيب أنه قال يغسل الشهيد لأن كل ميت يجنب فيجب غسله حكاه ابن المنذر قال وبه قال الحسن البصري ورواه ابن أبي شيبة عنهما، وحكى عن ابن سريج من الشافعية وعن غيره وهو من الشذوذ. رجاله خمسة: مرَّ محلهم في الذي قبله سوى أبو الوليد، وقد مرَّ في العاشر من الإِيمان. ثم قال المصنف:

باب من يقدم في اللحد

باب من يقدم في اللحد أي: إذا كانوا أكثر من واحد وقد دل حديث الباب على تقديم من كان أكثر قرآنًا من صاحبه وهذا نظير تقديمه في الإِمامة. ثم قال وسمى اللحد لأنه في ناحية وكل جائر ملحد ملتحدًا معدلًا ولو كان مستقيمًا لكان ضريحًا قوله لأنه في ناحية قال أهل اللغة أصل الإِلحاد الميل والعدول عن الشك. وقيل للمائل عن الدِّين ملحد، وسمى اللحد لأنه شُقّ يعمل في جانب القبر، فيميل عن وسط القبر إلى جانبه بحيث يسع الميت، فيوضح فيه، ويطبق عليه اللبن. وقوله: ملتحدًا، مَعْدِلًا، هو قول أبي عبيدة بن المُثَنّى في كتاب "المجاز". قال: قوله ملتحدًا أي: مَعْدِلًا. وقال الطبريّ: معناه ولن تجد من دونه معدِلًا تعدِل إليه عن الله تعالى, لأن قدرة الله محيطة بجميع خلقه. قال: والملتحد مُفْتَعَلٌ من اللحد، يقال منه: لَحَدْتُ إلى كذا إذا ملت إليه. ويقال: لَحدْته وألْحدته. قال الفَرّاء: الرباعي أجوب، وقال غيره: الثلاثي أكثر، ويؤيده حديث عائشة في قصة دفن النبي -صلى الله عليه وسلم- "فأرسلوا إلى الشقَّاق واللاحد .. " الحديث. أخرجه ابن ماجه. وقوله: ولو كان مستقيمًا لكان ضريحًا، وذلك لأن الضريح شق يشق في الأرض على الاستواء، ويدفن فيه. الحديث الثالث والمائة حَدَّثَنَا ابْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا لَيْثُ بْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ يَقُولُ أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ. فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ وَقَالَ أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلاَءِ. وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ بِدِمَائِهِمْ، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُغَسِّلْهُمْ.

رجاله ستة

قوله: قدمه في اللحد مما يلي القبلة، وحق لقارىء القرآن الذي خالط لحمه ودمه، وأخذ بمجامعه أن يقدم على غيره في حياته في الإِمامة، وفي مماته في القبر. وفيه تقديم الأفضل فيقدم الرجل ولو أمِّيًا ثم الصبي ثم الخنثى ثم المرأة فإن اتحد النوع، قدم بالأفضلية المعروفة في نظائره، كالأفقه والأقرأ، إلا الأب فيقدم على الابن، وإنْ فَضَله للابن لحرمة الأبوة، وكذا الأم مع البنت. رجاله ستة: قد مرّوا، مرَّ محمد بن مقاتل في السابع من العلم، وعبد الله بن المبارك في السادس من بدء الوحي، والباقون هم رجال الذي قبله. ثم قال: قال ابن المبارك: وأخبرنا الأوزاعي عن الزهريّ عن جابر بن عبد الله، رضي الله تعالى عنهما، "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لقتلى أُحُد: أيّ: هؤلاء أكثر أخذًا للقرآن؟ فهذا أشير له إلى رجل قدمه في اللحد قبل صاحبه"، وقال جابر: "فكفن أبي وعمي في نَمِرَة واحدة". قوله: قال ابن المبارك، في رواية أبي ذرٍّ "وأخبرنا ابن المبارك" وهو بالإِسناد الأول محمد بن مقاتل أخبرنا عبد الله أخبرنا الأوزاعيّ عن الزُّهريّ. وقوله عن جابر، منقطع, لأن ابن شهاب لم يسمع من جابر، زاد ابن سعد في الطبقات "عن الوليد بن مسلم حدثني الأوزاعي" بهذا الإِسناد قال: "زمِّلوهم بجراحهم، فإنّي أنا الشهيد عليهم، ما من مسلم يُكْلَم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة يسيل دمًا .. " الحديث. وقوله: وقال جابر: فكفن أبي وعمي، عمه المراد به عمرو بن الجَمُوح الآتي تعريفه قريبًا، وكان صديق والد جابر، وزوج أخته هند بنت عمرو، وكان جابرًا سماه عمه تعظيمًا له. قال ابن إسحاق في المغازي: حدثني أبي عن رجال من بني سلمة أن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال حين أصيب عبد الله بن عمرو، وعمرو بن الجَموح: "اجمعوا بينهما، فإنهما كانا متصادقين في الدنيا" وفي مغازي الواقديّ عن عائشة أنها رأت هند بنت عمرو تسوق بعيرًا لها، عليه زوجها عمرو بن الجموح، وأخوها عبد الله بن عمرو بن حَرام لتدفنهما بالمدينة، ثم أمر -صلى الله عليه وسلم- بِرَدِّ القتلى إلى مضاجعهم. وأما قول الدمياطيّ أن قوله "وعمي" وهمٌ، فليس بجيد, لأن له محملًا سائغًا، والتجوز في مثل هذا يقع كثيرًا. وحكى الكرمانيّ عن غيره أن قوله "وعمي" تصحيف من عمرو، وقد روى أحمد بإسناد حسن عن أبي قتادة قال: قتل عمرو بن الجموح وابن أخيه يوم أحد، فأمر بهما النبي -صلى الله عليه وسلم-، فجعلا في قبر واحد".

قال ابن عبد البَرّ في "التمهيد" ليس هو ابن أخيه، إنما هو ابن عمه، وهو كما قال، فلعله كان أسن منه. وقوله: في نمرة، أي بفتح النون وكسر الميم، بردة من صوف أو غيره مخططة. وقال الفراء: هي دراعة فيها لونان: سواد وبياض، ويقال للسحابة إذا كانت كذلك نمرة. وذكر الواقديّ في المغازي، وابن سعد، أنهما كَفنا في نمرتين، فإن ثبت حمل على أن النمرة الواحدة شقت بينهما نصفين. والذي كفن معه في النمرة هو الذي دفن معه في قبر. رجاله رجال ما قبله إلا الأوزاعي، قد مرَّ في العشرين من العلم، ومرَّ عبد الله بن حرام في السابع من الجنائز، وعمه المراد به عمرو بن الجموح بن زيد بن حَرام بن كعب بن غنم بن سَلَمة الأنصاري السلمي من سادات الأنصار. واستشهد يوم أُحُد، قال بان إسحاق في المغازي: كان عمرو بن الجموح سيدًا من سادات بني سَلَمة، وشريفًا من أشرافهم. وكان قد اتخذ في داره صنمًا من خشب يعظِّمه، فلما أسلم فتيان بني سلمة، منهم ابنه مُعاذ بن جبل، كانوا يدخلون على صنم عمرو، فيطرحونه في حفرة من حفر بني سلمة، فيغدو عمرو فيجده منكبًا لوجهه في العِذرة، فيأخذه ويغسله ويطيبه، ويقول: لو أعلم من صنع هذا بك لأخزيته، ففعلوا ذلك مرارًا، ثم جاء بسيفه فعلقه عليه، وقال: إن كان بك خير فامتنع، فلما أسمى أخذوا كلبًا ميتًا فربطوه في عنقه، وأخذوا السيف، فأصبح فوجده كذلك، فأبصر رُشْدَه، وقال في ذلك أبياتًا منها: تاللهِ لو كنتَ إلها لم تكنْ ... أنتَ وكلبٌ وَسْطَ بيرٍ في قَرَنْ قال ابن الكلبي: كان عمرو بن الجَموح آخر الأنصار إسلامًا، وفي الإصابة عن جابر بطرق كثيرة جدًا قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من سيدكم يا بني سَلَمة؟ فقالوا: الجَدَّ بن قيس، على أننا نُبَخِّله. فقال بيده هكذا، ومد يده، وقال: وأي داء أدوء من البخل؟ بل سيدكم عمرو بن الجموح". وكان عمرو بن الجموح يُولم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا تزوج، وفي رواية "بل سيدكم الأبيض الجَعدْ عمرو بن الجموح". وفي ذلك يقول بعض الأنصار: وقال رسول الله، والحقُّ قوله ... لمن قال منا: من تسمون سيدًا فقالوا له جَد بن قيس على التي ... بنخله فيها وأنْ كان أسودًا فتى ما تخطَّى حظوة لدنية ... ولا مد في يوم إلى سوءَة يدًا فسوّد عمرو بن الجموح لجُودهِ ... وحقٌ لعمرو بالندا أن يسودا إذا جاءه السؤال أنْهَبَ مالَه ... وقال: خذوه إنه عائد غدًا فلو كنت يا جد بن قيس على التي ... على مثلها عمرو، لكنت المسَوَّدا وذكر ابن إسحاق ومعمر هذه القصة في بشر بن البراء بن معرور، وكان عمرو بن الجموح

أعرج، فقيل له يوم أُحُد: والله ما عليك من حرج, لأنك أعرج، فأخذ سلاحه وولّى وقال: والله إني لأرجو أنْ أطأَ بعرجتي هذه في الجنة، ثم أقبل على القِبلة وقال: اللهم ارزقني الشهادة، ولا تردني إلى أهلي خائبًا، فلما قتل يوم أحد، جاءت زوجته هند بنت عمرو بن حَرام، فحملته وحملت أخاها عبد الله على بعير، ودفنا معًا في قبر واحد، ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده إن منكم من لو أقسم على الله لأبَرَّه، منهم عمرو بن الجموح، ولقد رأيته في الجنة يطأ بعرجته". وروى ابن أبي شيبة عن أبي قتادة قال: أتى عمرو بن الجموح النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله، أرأيت إن قاتلت في سبيل الله حتى أقتل، تراني أمشي برجلي هذه في الجنة؟ فقال: "نعم"، وكانت عرجاء، فقتل هو وابن أخيه، فمر النبي -صلى الله عليه وسلم- به، فقال: "إني أراك تمشي برجلك هذه صحيحة في الجنة". وأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهما ومولاهما، فجعلوا في قبر واحد، وأنشد له المرْزُبانيّ لما أسلم قوله: أتوب إلى الله سبحانه ... واستغفر الله من ناره وأثني عليه بآلائه ... بإعلان قلبي وإسراره ثم قال: وقال سليمان بن كثير: حدثني الزُّهريّ من سمع جابرًا رضي الله تعالى عنه، وفي هذه الرواية إبهام شيخ الزهري، وقد مرَّ البحث فيه قبل بابين. قال الدارقطني في التتبع اضطراب فيه الزهري، وأجيب بمنع الاضطراب لأن الحاصل من الاختلاف فيه على الثقات أنّ الزهريّ حمله عن شيخين، وأما إبهام سُليمان لشيخ الزُّهريّ، وحذف الأوزاعي له فلا يؤثر ذلك في رواية من سماه, لأن الحجة لمن ضبط، وزاد إذا كان ثقة، لاسيما إذا كان حافظًا. وأما رواية أسامة وابن عبد العزيز، فلا تقدح في الرواية الصحيحة, لضعفهما. وقد بينا فيما مرَّ أن البخاريّ صرح بغلط أسامة فيه. وفي الحديث فضيلة ظاهرة لقارىء القرآن، ويلحق به أهل الفقه والزهد وسائر وجوه الفضل. وهذا التعليق موصول في الزُّهريات للذُّهلي، وسليمان بن كثير مرَّ في التاسع والثلاثين من الجمعة، ومرَّ الزهريّ والراوي المبهم، الذي هو عبد الرحمن بن كعب، وجابر، في حديث المئة قبل هذا بأربعة أحاديث. ثم قال المصنف:

باب الإذخر والحشيش في القبر

باب الإِذْخِر والحشيش في القبر أراد المصنف بذكر الحشيش التنبيه على إلحاقه بالإِذخر، وأن المراد باستعمال الإِذخر البسط ونحوه، لا التطيب. ومراده بالحشيش ما يجوز حشه من الحرم، إذ لم يقيده بشيء. الحديث الرابع والمئة حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوْشَبٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: حَرَّمَ اللَّهُ مَكَّةَ، فَلَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي وَلاَ لأَحَدٍ بَعْدِي، أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، لاَ يُخْتَلَى خَلاَهَا، وَلاَ يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلاَ تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إِلاَّ لِمُعَرِّفٍ. فَقَالَ الْعَبَّاسُ رضي الله عنه إِلاَّ الإِذْخِرَ لِصَاغَتِنَا وَقُبُورِنَا. فَقَالَ إِلاَّ الإِذْخِرَ. هذا الحديث مرَّ في باب "كتابة العلم" من كتاب العلم عن أبي هريرة، ومرَّ الكلام عليه مستوفى إلا ما ذكر في حديث أبي شُريح قبله في "باب ليبلغ العلم الشاهد الغائب". وما دل عليه هذا الحديث من جعل الإِذْخر، تقدم مثله في باب "إذا لم يجد كفنًا". في قصة مصعب بن عُمير، لما قصر كفنه أن يغطي رأسهُ، وأنْ يجعل على رجليه من الإِذْخِر. ولأحمد عن خبّاب أيضاً أن حمزة لم يوجد له كفن إلا بُرْدة، إذا جعلت على رأسه قلصت عن قدميه، وإذا جعلت على قدميه قلصت عن رأسه، حتى مدت على رأسه، وجعل على قدميه الإِذخِر. رجاله خمسة: وفيه ذكر العباس، وقد مرَّ الجميع مرَّ ابن حَوْشب في التاسع من الجماعة والإِمامة، ومرَّ عبد الوهاب الثقفيّ في التاسع من الإِيمان, ومرَّ خالد الحذّاء وعكرمة في التاسع عشر من العلم، وابن عباس في الخامس من بدء الوحي، وأبوه العباس في الثالث والستين من الوضوء. وأخرجه البخاريّ في الحج وفي البيوع وفي اللقطة.

ثم قال: وقال أبو هُريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لِقبورنا وبيوتنا" هذا طرف من حديث أبي هريرة المذكورة فيه قصة أبي شاه المُخَرَّج، موصولًا، في باب "كتابة العلم" المار قريبًا أنه استوفى عليه الكلام هناك، ومرَّ أبو هريرة في الثاني من الإِيمان. ثم قال: وقال أبان بن صالح عن الحسن بن مسلم عن صفية بنت شيبة: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- .. مثله. وهذا وصله ابن ماجه من طريقه، وفيه فقال العباس: "إلا الإِذْخِر، فإنه للبيوت". رجاله ثلاثة: قد مرّوا، مرَّ أبان بن صالح في تعليق بعد التاسع عشر من الجمعة، ومرَّ الحسن بن مسلم وصفية بنت شيبة في التاسع والعشرين من الغُسل. ثم قال: وقال مجاهد عن طاوس عن ابن عباس، رضي الله عنهما: "لِقَيْنهم وبيوتهم" وهذا طرف من حديث ابن عباس المذكور أول الباب، ويأتي موصولًا في كتاب الحج، وأورده لقوله فيه "لقَينهم" بدل لقبورهم، والقين، بفتح القاف وسكون التحتانية بعدها نون: هو الحدّاد، وكأنه أشار إلى ترجيح الرواية الأولى لموافقة رواية أبي هريرة وصفية، وقد مرَّ قريبًا محل استيفاء الكلام عليه. ورجاله ثلاثة: قد مرّوا، مرَّ مجاهد في أثر أول الإِيمان, ومرَّ طاوس في باب "مَن لم يتوضأ إلا من المخرجين" بعد الأربعين من الوضوء, ومرَّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي. ثم قال المصنف:

باب هل يخرج الميت من القبر واللحد لعلة

باب هل يخرج الميت من القبر واللحد لعلة أي: لسبب، وأشار بذلك إلى الرد على من منع إخراج الميت من قبره مطلقًا، أو لسبب دون سبب، كمن خص الجواز بما لو دفن بغير غسل، أو بغير صلاة، فإن في حديث جابر الأول دلالة على الجواز، إذا كان في نبشه مصلحة تتعلق به من زيادة البركة، وعليه يتنزَّل قوله في الترجمة "من القبر" وفي حديث جابر الثاني دلالة على جواز الإِخراج لأمر يتعلق بالحي, لأنه لا ضرر على الميت في دفن ميت آخر معه، وقد بين ذلك جابرٌ بقوله "فلم تطب نفسي" وعليه يتنزل قوله و"اللحد" لأن والد جابر كان في لحد، وإنما أورد المصنف الترجمة بلفظ الاستفهام, لأن قصة عبد الله بن أُبيّ قابلةٌ للتخصيص، وقصة والد جابر ليس فيها تصريح بالرفع. قاله الزين بن المنير. الحديث الخامس والمئة حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرٌو سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: أَتَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ بَعْدَمَا أُدْخِلَ حُفْرَتَهُ فَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ، فَوَضَعَهُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَنَفَثَ عَلَيْهِ مِنْ رِيقِهِ، وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَكَانَ كَسَا عَبَّاسًا قَمِيصًا. قَالَ سُفْيَانُ وَقَالَ أَبُو هَارُونَ وَكَانَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَمِيصَانِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلْبِسْ أَبِي قَمِيصَكَ الَّذِي يَلِي جِلْدَكَ. قَالَ سُفْيَانُ فَيُرَوْنَ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَلْبَسَ عَبْدَ اللَّهِ قَمِيصَهُ مُكَافَأَةً لِمَا صَنَعَ. وقد مرَّ هذا الحديث في باب الكفن في القميص، وزاد في هذه الطريق "وكان كسا عباسًا قميصًا" وفي رواية الكشميهنيّ "قميصه". وقوله: قال سفيان وقال أبو هارون الخ، كذا وقع في رواية أبي ذَرٍ وغيرها، ووقع في كثير من الروايات "وقال أبو هُريرة" وكذا في مستخرج أبي نعيم، وهو تصحيف، وأبو هارون يأتي قريبًا ما قيل في تعريفه. وقوله: قال سفيان فيرون أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ألبس عبد الله قميصه مكافأة لما صنع، بالعباس، وهذا القدر متصل عند سفيان، وقد أخرجه البخاري في الجهاد في باب "كسوة الأسارى" عن سفيان،

رجاله أربعة

بالسند المذكور. قال: لما كان يوم بدر أُتي بأُسارى وأُتِي بالعبّاس ولم يكن عليه ثوب، فوجدوا قميص عبد الله بن أُبَيّ يقدر عليه، فكساه النبي -صلى الله عليه وسلم- إياه، فلذلك نزع النبي -صلى الله عليه وسلم- قميصه الذي ألبسه، ويحتمل أن يكون قوله "فلذلك" من كلام سفيان أُدرج في الحديث، بينته رواية عليّ بن عبد الله التي في هذا الباب. رجاله أربعة: وفيه عبد الله بن أُبَيّ المنافقُ، وقد مرَّ الجميعُ. مرَّ علي بن المَدِينيّ في الرابع عشر من العلم، ومرَّ عمرو بن دينار في الرابع والخمسين منه، ومرَّ سفيان بن عُيينة في الأول من بدء الوحي، وجابر في الرابع منه، ومرَّ عبد الله بن أُبيّ المُنافق وابنه عبد الله الصحابي في الحادي والثلاثين من الجنائز. وقيل: إن لفظ أبي هريرة تصحيف، والصواب "أبي هارون". وهو موسى بن أبي عيسى أو عيسى بن أبي موسى, لأن الحميدي أخرجه في مسنده عن سفيان، فسماه عيسى بن أبي موسى. قال في "الفتح": وهذا هو المعتمد، وقيل: هو أبو هارون الغَنَوِيّ، واسم إبراهيم بن العلاء. وها أنا أذكر تعريف الأول الذي هو موسى بن أبي عيسى الحنّاط الغِفارِيّ، أبو هارون المَدَنيّ، واسم أبي عيسى مَيْسَرة، ذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال النَّسائيّ ثقة، روى عن دينار أبي عبد الله القَرَّاظ، وقيس بن سعد المَكِّي ونافع مولى ابن عمر وغيرهم. وروى عنه حَفْص بن مَيْسَرة والسفيانان وغيرهم. وأما الغَنَويّ فلم أر له تعريفًا، فقد ذكره في "تهذيب التهذيب" في ترجمة موسى بن أبي عيسى هذا، وقال: سيأتي ذكره في ترجمته إن شاء الله تعالى، ولما جاء إلى الكنى قال: أبو هارون الغنوي، اسمه إبراهيم بن العلاء، تقدم، ولم يأت به في فصل إبراهيم، فضاع تعريفه في الإِحالة. ولم يذكره أيضًا صاحب الخلاصة. وأما علي إنه عيسى، فلم أعرف ما المراد به، فعيسى بن أبي عيسى الحنّاط أخو موسى بن أبي عيسى المتقدم ضعيفٌ جدًا، ولم يخرج له البخاري شيئًا، وفي رجال البخاري عيسى بن موسى ثلاثة: التّيْميّ أو التّميميّ مولاهم، أبو أحمد البخاري الأزرق، المعروف بفنجار. والثاني القُرَشي أبو محمد، ويقال أبو موسى الدمشقي. والثالث حجازيّ، وهذه الثلاثة لم أر لسفيان بن عَيينة رواية عن واحد منهم. هذا تحرير هذه المسألة، ولم أر ذكرًا في كتب الرجال لعيسى بن أبي موسى الذي قال في "الفتح" إنه هو المعتمد، والله الموفق للصواب. وهذا الحديث أخرجه البخاري أيضًا في الجنائز وفي اللباس وفي الجهاد، ومسلم في التوبة، والنَّسائيّ، في الجنائز.

الحديث السادس والمئة

الحديث السادس والمئة حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا حَضَرَ أُحُدٌ دَعَانِي أَبِي مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ مَا أُرَانِي إِلاَّ مَقْتُولاً فِي أَوَّلِ مَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وَإِنِّي لاَ أَتْرُكُ بَعْدِي أَعَزَّ عَلَيَّ مِنْكَ، غَيْرَ نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَإِنَّ عَلَيَّ دَيْنًا فَاقْضِ، وَاسْتَوْصِ بِأَخَوَاتِكَ خَيْرًا. فَأَصْبَحْنَا فَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ، وَدُفِنَ مَعَهُ آخَرُ فِي قَبْرٍ، ثُمَّ لَمْ تَطِبْ نَفْسِي أَنْ أَتْرُكَهُ مَعَ الآخَرِ فَاسْتَخْرَجْتُهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَإِذَا هُوَ كَيَوْمِ وَضَعْتُهُ هُنَيَّةً غَيْرَ أُذُنِهِ. قوله: عن جابر، هكذا أخرجه البخاريّ بهذا السند عن جابر، وقال في الفتح: لم أره بعد التتبع الكثير في شيء من كتب الحديث، بهذا الإِسناد إلى جابر، إلا في البخاري. وقد عز على الإِسماعيلي مخرجه فأخرجه في مستخرجه من طريق البخاري، وأما أبو نعيم فأخرجه عن أبي الأشعث عن بشر بن المفضل فقال: عن سعيد بن يزيد عن أبي نضرة عن جابر. وقال بعده: ليس أبو نضرة من شرط البخاريّ. قال: وروايته عن حسين من عطاء عزيزة جدًا، وطريق سعيد مشهورة عنه، أخرجها أبو داود وابن سعد والحاكم والطبرانيّ من طريقه عن أبي نضرة عن جابر، قال: واحتمل عندي أن يكون لبشر بن المفضل فيه شيخان إلى أن رأيته في المستدرك للحاكم. أخرجه عن معاذ بن المثنى عن مسدد عن بشر، ما رواه أبو الأشعث عن بشر، وكذا أخرجه في الإِكليل بهذا الإِسناد إلى جابر، ولفظه ولفظ البخاريّ سواء، فغلب على الظن حينئذ أن في هذه الطريق وهمًا، لكن لم يتبين لي من هو، ولم أر من نبّه علي ذلك، وكأن البخاريّ استشعر بشيء من ذلك، فعقب هذه الطريق بما أخرجه عن ابن أبي، نَجيح عن عطاء عن جابر، مختصرًا، ليوضح أن له أصلًا من طريق عطاء عن جابر. وقوله: ما أراني: هو بضم الهمزة، بمعنى الظن. وذكر الحاكم في المستدرك عن الواقديّ أن سبب ظنه ذلك منامٌ رآه أنه رأى مُبَشِّر بن عبد المُنذر، وكان ممن استشهد ببدر، يقول له: أنت قادم علينا في هذه الأيام، فقصها على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: هذه الشهادة. وفي رواية أبي نضرة المذكورة عند ابن السكن عن جابر أن أبان قال له: إني مُعَرض نفسي للقتل الحديث، وقال ابن التين: إنما قال ذلك بناء على ما كان عزم عليه، وإنما قال "من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" إشارة إلى ما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم-، أن بعض أصحابه سيقتل، كما سيأتي في المغازي إن شاء الله تعالى.

وقوله: إنّ عليَّ دينًا، سيأتي حديث دينه مستوفى في البيوع. والوصايا وفي علامات النبوءة، وسأستوفي الكلام عليه عند أول ذكره. وقوله: فاقض، كذا في الأصل بحذف المفعول، وفي رواية الحاكم "فاقضه". وقوله: بأخواتك، وعدة أخوات جابر اختلف فيها، ففي رواية النفقات "هلك أبي وترك سبع بنات أو تسع بنات" وفي المغازي من رواية سفيان عن عمرو "وترك تسع بنات كن لي تسع أخوات"، وفي رواية الشعبي فيها "فترك ست بنات فكان ثلاثًا منهن كن متزوجات أو بالعكس". قال في الفتح: لم أقف على تسميتهن، فقد أكد عليه بالوصية عليهن مع ما كان في جابر من الخير، فوجب لهن حق القرابة، وحق وصية الأب، وحق اليتيم، وحق الإِسلام. وقوله: ودفن معه آخر، قد مرَّ الكلام عليه قبل بابين. وقوله: فاستخرجه بعد ستة أشهر، أي: من يوم دفنه، وهذا يخالف في الظاهر ما وقع في الموطأ، عن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، أنه بلغه أن عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو الأنصاريين، كانا قد حفر السيل قبرهما، وكانا في قبر واحد، فحفر عنهما ليغير من مكانهما، فوجدا لم يتغيرا، كأنهما ماتا بالأمس، وكان بين أُحد ويوَم حُفِر عنهما ست وأربعون سنة. وقد جمع بينهما ابن عبد البَر بتعدد القصة، وفيه نظر, لأن الذي في حديث جابر أنه دَفَن أباه في قبر وحده بعد ستة أشهر. وفي حديث الموطأ أنهما وجدا في قبر واحد بعد ستة وأربعين سنة، فإما أنّ المراد بكونهما في قبر واحد قرب المجاورة، أو أن السيل خرق أحد القبرين فصارا كقبر واحد. وقد ذكر ابن إسحاق القصة في المغازي فقال: حدثني أبي عن أشياخ من الأنصار قالوا: لما ضرب معاوية عينه التي مرت على القبور الشهداء، انفجرت العين عليهم، فجئنا فأخرجناهما، يعني عمرًا وعبد الله، وعليهما بُردتان قد غطى بهما وجوههما، وعلى أقدامهما شيء من نبات الأرض، فأخرجناهما يتثنيان تثنيًا، كأنهما دفنا بالأمس. وله شاهد بإسناد صحيح عند ابن سعد عن أبي الزبير عن جابر. وقوله: فإذا هو كيوم وضعته هنية غير أذنه، وقال عِياض في رواية ابن السكن والنَّسَقِيّ "غير هُنَيَّة في أُذُنه" بتقدم غير وزيادة في، وهو الصواب. وفي الأول تغيير. قال: ومعنى قوله "هنية" أي: شيء يسير، وهو بنون بعدها تحتانية مصغر، وهو تصغير هَنَة، أي: شيء، فصغره لكونِه أثرًا يسيرًا، وقد قال الإِسماعيليُّ بعد سياقه بلفظ الأكثر: إنما هو "عند" وهكذا وقع في رواية أبي ذَرٍّ عن الكشميهنيّ، لكن يبقى في الكلام نقص يبينه ما في رواية أبي خيثمة والطبرانيّ عن عتبان بن مُضر عن أبي سلمة بلفظ "وهو كيوم دفنته إلا

رجاله خمسة

هُنَيَّة عند أُذُنه" وهو موافق من حيث المعنى لرواية ابن السكن التي صوبها عياض. وجمع أبو نعيم في روايته عن أبي الأشعث بين لفظ "غير" ولفظ "عند" فقال: غير هنية عند أذنه، وفي رواية الحاكم المشار إليها "فإذا هو كيوم وضعته، غير أذنه" سقط منها لفظ "هنية"، وهو مستقيم المعنى، وكذا ذكره الحميديّ في أفراد البخاريّ، والمراد بالأُذُن بعضها، وحكى ابن التين أنه في روايته بفتح الهاء وسكون التحتانية بعدها همزة ثم مثناة منصوبة ثم هاء الضمير، أي: على حالته، وقد أخرجه ابن السكن عن شعبة عن أبي مسلمة بلفظ "غير أن طرف أذن أحدهم تغير". ولابن سعد عن أبي هلال عن أبي مسلمة "إلا قليلًا من شحمة أذنه" ولأبي داود عن حماد بن زيد عن أبي مسلمة "إلا شعرات كن من لحيته مما يلي الأرض" ويجمع بين هذه الرواية وغيرها بأن المراد الشعرات التي تتصل بشحمة الأذن، وأفادت هذه الرواية سبب تغير ذلك دون غيره، ولا يعكر على ذلك ما رواه الطبرانيّ بإسناد صحيح عن محمد بن المنْكَدِر عن جابر أن أباه قُتل يوم أُحد، ومثّلوا به، فجدعوا أنفه وأذنيه .. الحديث، وأصله في مسلم, لأنه محمول على أنهم قطعوا بعض أذنيه لا جميعهما. رجاله خمسة: وفيه ذكر أبي جابر، وقد مرَّ الجميع مرَّ مسدد وحسين المَعلّم في السادس من الإِيمان, ومرَّ بشر بن المفضل في التاسع من العلم، ومرَّ عطاء في التاسع والثلاثين منه، ومرَّ جابر في الرابع من بدء الوحي، ومرَّ أبوه عبد الله في السابع من الجنائز، وفي الحديث "ورجل آخر" والمراد به عمرو بن الجموح، وقد مرَّ في الرابع والمئة من الجنائز هذا. الحديث السابع والمئة حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: دُفِنَ مَعَ أَبِي رَجُلٌ فَلَمْ تَطِبْ نَفْسِي حَتَّى أَخْرَجْتُهُ فَجَعَلْتُهُ فِي قَبْرٍ عَلَى حِدَةٍ. قوله: عن عطاء، كذا للأكثر، وحكى أبو علي الحيّانيّ أنه وقع عند أبي عليّ بن السكن عن مجاهد بدل عطاء، قال: والذي رواه غيره أصح، وكذا أخرجه ابن سعد والنَّسائيّ، والإِسماعيليّ وآخرون، وكلهم عن سعيد بن عامر بالسند المذكور فيه، وهو الصواب، وفي قصة والد جابر من الفوائد الإرشاد إلى بر الأولاد بالآباء، خصوصًا بعد الوفاة، والاستعانة على ذلك بإخبارهم

رجاله ستة

بمكانتهم من القلب. وفيه قوة إيمان عبد الله المذكور لاستثنائه النبي -صلى الله عليه وسلم- ممن جعل ولده أعز عليه منهم. وفيه كرامته بوقوع الأمر على ما ظن، وكرامته يكون الأرض لم تبل جسده مع لبثه فيها، والظاهر أن ذلك لمكان الشهادة، وفيه فضيلة لجابر بعمله بوصية أبيه بعد موته في قضاء دينه. رجاله ستة: قد مرّوا، مرَّ عليّ بن المدِينيّ في الرابع عشر من العلم، ومرَّ سعيد بن عامر في الثاني والعشرين من الكسوف، ومرَّ شُعبة في الثالث من الإِيمان, ومرَّ ابن أبي نَجيح عبد الله في الرابع عشر من العلم أيضًا، ومرَّ محل جابر وأبيه وعطاء في الذي قبله، وكذلك الرجل المدفون مع أبيه. ثم قال المصنف:

باب اللحد والشق في القبر

باب اللحد والشق في القبر أورد فيه حديث جابر في قصة قتلى أُحد، وليس فيه للشّق ذكر، قال ابن رشيد: قوله في حديث جابر "قدمه في اللحد .. ظاهر في أن الميتَيْن جميعًا في اللحد، ويحتمل أن يكون المقدم في اللحد، والذي يليه في الشق، لمشقة الحفر في الجانب لمكان اثنين، وهذا يؤيد ما تقدم توجيهه، أن المراد بقوله "فكفن أبي وعمي في نَمِرَة واحدة" أي: شقت بينهما، ويحتمل أن يكون ذكر الشق في الترجمة لينبه على أن اللحد أفضل منه, لأنه الذي وقع دفن الشهداء فيه، مع ما كانوا فيه من الجهد والمشقة، فلولا مزيد فضيلة فيه ما عانوه. وفي السنن لأبي داود وغيره عن ابن عباس مرفوعًا "اللحد لنا والشق لغيرنا" وهو يؤيد فضيلة اللحد على الشق، ومعنى "اللحد لنا" أي: لأجل أموات المسلمين، والشق لأجل أموات الكفار. والمراد بهم أهل الكتاب كما جاء مصرحًا به في مسند الإِمام أحمد من حديث جرير "الشق لأهل الكتاب" وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل اللحد على الشق، منها اما رواه ابن أبي شَيبة عن عائشة، وابن عمر، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "أوصى أن يُلْحَد له" ومنها حديث سعد بن أبي وقّاص عند مسلم والنَّسائيّ وابن ماجه: أنّ سعدًا قال في مرضه الذي مات فيه: ليجدوا لي لحدًا، وانصبوا عليَّ اللَّبن نصبًا كما فعل برسول الله -صلى الله عليه وسلم-. ومنها ما أخرجه ابن سعد في الطبقات من حديث أبي طلحة قال: اختلفوا في الشق واللحد للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال المهاجرون: شقوا كما يحفر أهل مكة، وقالت الأنصار: الحدوا كما يحفر بأرضنا، فلما اختلفوا في ذلك قالوا: اللهم خِرْ لنبيك، إبعثوا إلى أبي عبيدة وأبي طلحة، فأيهما جاء قبل الآخر فليعمل عمله. قال: فجاء أبو طلحة، فقال: والله إني لأرجو أن يكون الله قد خار لنبيه أنه كان يرى اللحد فيعجبه، إلى غير هذا من الأحاديث. والحكمة في اختياره عليه الصلاة والسلام اللحد على الشق، هي كونه استر للميت، وأنه عليه الصلاة والسلام قال للأنصار "المحيا محياكم، والممات مماتكم" فأراد إعلامهم بأنه إنما يموت عندهم، ولا يريد الرجوع إلى بلده مكة، فوافقهم أيضًا في صفة الدفن، واختار الله له ذلك. وروى السلفي عن أُبَيّ بن كعب يرفعه "أُلحِد لآدم وغُسل بالماء وترا وقالت الملائكة: هذه سنة

الحديث الثامن والمئة

ولده من بعده"، ونصت المالكية والشافعية على أن اللحد أفضل من الشق إلا إذا كان المكان رِخوًا، فالشق أفضل خوف الانهيار، وقد قال النووي في شرح "المهذّب": أجمع العلماء على جوازهما, وليس في الشق عندهم وعند المالكية كراهة. وقد قال العينيّ: الجمهور على كراهة الدفن في الشق، وهو قول إبراهيم النخعيّ وأبي حنيفة ومالك والشافعيّ وأحمد، فلو شقوا لمسلم يكون تركًا للسنة، اللهم إذا كانت الأرض رِخوة لا تحتمل اللحد، فإن الشق حينئذ متعيّن قلت: من أين له بالكراهة عند المالكية والشافعية؟ ثم قال: وقال فخر الإِسلام في "الجامع الصغير": وإن تعذر اللحد فلا بأس بالتابوت يتخذ للميت، لكن السنة أن يفرش فيه التراب. وقال صاحب المبسوط والمحيط والبديع وغيرهم، عن الشافعيّ أن الشق أفضل عنده. ونقله القَرَافيّ في "الذخيرة" عنه، قلت: مذهب مالك أنّ صب التراب عليه ومباشرته بها أفضل من التابوت. الحديث الثامن والمئة حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَجْمَعُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ ثُمَّ يَقُولُ أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ. فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ فَقَالَ أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلاَءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ بِدِمَائِهِمْ وَلَمْ يُغَسِّلْهُمْ. هذا الحديث قد مرَّ في باب الصلاة على الشهيد، ومرَّ الكلام عليه هناك. رجاله ستة: قد مرّوا، مرَّ عبدان وعبد الله بن المبارك في السادس من بدء الوحي، والليث والزهريّ في الثالث منه، وجابر في الرابع منه، وعبد الرحمن بن كعب في المئة من الجنائز هذا ثم قال المصنف:

باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه وهل يعرض على الصبي الإسلام

باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه وهل يعرض على الصبي الإِسلام هذه الترجمة معقودة لصحة إسلام الصبي، وهي مسألة اختلاف، والصحيح صحته، للحديث الآتي قريبًا وقوله: وهل يعرض عليه، ذكره هنا بلفظ الاستفهام، وترجم في كتاب الجهاد بصيغة تدل على الجزم بذلك، فقال: وكيف يعرض الإِسلام على الصبيّ، وكأنه لما أقام الأدلة هنا على صحة إسلامه استغنى بذلك، وأفاد هناك ذكر الكيفية. ثم قال: وقال الحسن وشُرَيح وإبراهيم وقتادة: إذا أسلم أحدهما فالولد مع المسلم، ولفظ الحسن في "الصغير" قال: مع المسلم من والديه، وأثر إبراهيم في نصرانيين بينهما ولد صغير فأسلم أحدهما. قال: أولاهما به المسلم، وأثر شريح أنه اختصم إليه في صبيّ أحد أبويه نصرانيّ، قال: الوالد المسلم أحق بالولد، وأثر قتادة نحو قول الحسن، أما أثر الحسن وشريح فأخرجهما البيهقيّ عن يحيى بن يحيى، وأثرا قتادة وإبراهيم فقد أخرجهما عبد الرزاق عن معمر. والحسن البصري قد مرَّ في الرابع والعشرين من الإِيمان، ومرَّ إبراهيم النخعيّ في الخامس والعشرين منه، وقتادة في السادس منه، ومرَّ شريح في تعليق بعد التاسع والعشرين من الحيض. ثم قال: وكان ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما، مع أمه من المستضعفين، ولم يكن مع أبيه على دين قومه، وهذا وصله المصنف في الباب من حديثه الخ. وقوله: ولم يكن مع أبيه على دين قومه، هذا قاله المصنف تفقهًا، وهو مبنيٌّ على أن إسلام العباس كان بعد وقعة بدر، وقد اختلف في ذلك، ومرَّ الكلام عليه في تعريف العباس في المحل المذكور آنفًا. وهذه الآثار كلها دالة على أنّ الصبيّ تابع لمن أسلم من أبويه أُمًا كان أو أبًا، وهو أحد أقوال ثلاثة. والثاني يتبع أباه، ولا يعد بإسلام أُمه مسلمًا، وهذا قول مالك في المُدَوَّنة، والثالث تبع لأمه وإن أسلم أبوه، وهذه مقالة شاذّة. وقال ابن بطال: أجمع العلماء في الطفل الحربيّ يسبى ومعه أبواه إن إسلام الأم إسلام له، وإذا لم يكن معه أبواه أو وقع في القسمة دونهما ثم مات في ملك مشتريه، فقال مالك في المدونة: لا يصلى عليه إلا أن يجيب إلى الإِسلام بأمر يعرف به أنه عَقَله، وهو المشهور من مذهبه. وعنه، إذا لم يكن معه أحد من آبائه، ولم يبلغ أن يتديّن أو يدعى، ونوى به سيده الإِسلام فإنه يصلى عليه، وأحكامه أحكام المسلمين في الدفن في مقابر المسلمين والموارثة، وهو قول ابن الماجشُون

وابن دينار وأصْبَغ، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي والشافعيّ. وفي شرح الهداية إذا سبي صبيّ معه أحد أبويه فمات، لم يصلَّ عليه حتى يقر بالإِسلام، وهو يعقل، أو يسلم أحد أبويه خلافًا لمالك في إسلام الأم، والشافعي في إسلامه هو. والولد يتبع خير الأبوين دينًا، وللتبعية مراتب أقواها تبعية الأبوين، ثم الدار، ثم اليد. وفي المغنى لا يصلى على أولاد المشركين، إلا أن يسلم أحد أبويهم، أو يموت مشركًا، فيكون ولده مسلمًا، أو يسبى منفردًا أو مع أحد أبويه، فإنه يصلى عليه. وقال أبو ثور: إذا سبي مع أحد أبويه لا يصلى عليه إلا إذا أسلم. وعنه إذا أُسر مع أبويه أو أحدهما، أو وحده، ثم مات قبل أن يختار الإِسلام يصلى عليه. وابن عباس مرَّ في الخامس من بدء الوحي، ومرت أم الفضل في الثاني والثلاثين من صفة الصلاة، ومرَّ أبوه العباس في الثالث والستين من الوضوء. ثم قال: وقال: الإِسلام يعلو ولا يعلى، كذا في جميع نسخ البخاري، لم يعين القائل، قال في الفتح: لم أجده من كلام ابن عباس بعد التتبع الكثير، ورايته موصولًا مرفوعًا عن عائذ بن عمر، والمزنيّ، أخرجه الدارقطني ومحمد بن هارون الرويانيّ بسند حسن، ورواه، أبو يعلى الخليليّ في فوائده، وزاد في أوله قصة، وهي أن عائذ بن عمرو جاء يوم الفتح مع أبي سفيان بن حرب، فقال الصحابة: هذا أبو سفيان وعائذ بن عمرو، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هذا عائذ بن عمرو وأبو سفيان، الإِسلام أعز من ذلك، الإِسلام يعلو ولا يعلى". وفي هذه القصة أن للمبدأ به في الذكر تأثيرًا في الفضل، لما يفيده من الاهتمام، وليس فيه حجة على أن الواو ترتب، أخرجه ابن حزم في المحلّى عن ابن عباس قال: إذا أسلمت اليهودية أو النصرانية تحت اليهوديّ أو النصرانيّ يُفَرَّق بينهما، الإِسلام يعلو ولا يعلى. أما ابن عباس قد مرَّ محله في الذي قبله، وأما عائذ بن عمرو، وها أنا أذكر تعريفه، فهو عائذ بن عمرو بن هلال بن عَبيد بن يزيد المُزَنيّ أبو هبيرة، كان ممن بايع تحت الشجرة ثبت ذلك في الصحيح، سكن البصرة، وابتنى بها دارًا، وروى مسلم أن عائذ بن عمرو كان من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، دخل على عُبيد الله بن زياد فقال: أي شيء سمعت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فقال: سمعته يقول: "إن شر الرِّعاء الحُطَمَةَ .. " الحديث. وروى البغوي عن أسماء بن عُبيد: كان عائذ بن عمرو لا يخرج من داره، فسئل، فقال: لأن أُصب طَسَّتي في حجرتي، أحب إليّ من أن أصبه في طريق المسلمين. له سبعة أحاديث اتفقا على حديث واحد، روى عنه الحسن، ومعاوية بن قُرّة، وأبو جمرة الضِّبعِيّ وغيرهم. مات في إمارة ابن زياد في أيام يزيد بن معاوية.

الحديث التاسع والمئة

الحديث التاسع والمئة حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ يُونُسَ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ أَنَّ عُمَرَ انْطَلَقَ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي رَهْطٍ قِبَلَ ابْنِ صَيَّادٍ، حَتَّى وَجَدُوهُ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ عِنْدَ أُطُمِ بَنِ مَغَالَةَ، وَقَدْ قَارَبَ ابْنُ صَيَّادٍ الْحُلُمَ فَلَمْ يَشْعُرْ حَتَّى ضَرَبَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ لاِبْنِ صَيَّادٍ تَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ. فَنَظَرَ إِلَيْهِ ابْنُ صَيَّادٍ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ الأُمِّيِّينَ. فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ لِلنَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَرَفَضَهُ وَقَالَ آمَنْتُ بِاللَّهِ وَبِرُسُلِهِ. فَقَالَ لَهُ مَاذَا تَرَى. قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ يَأْتِينِي صَادِقٌ وَكَاذِبٌ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- خُلِّطَ عَلَيْكَ الأَمْرُ ثُمَّ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِنِّي قَدْ خَبَأْتُ لَكَ خَبِيئًا. فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ هُوَ الدُّخُّ. فَقَالَ اخْسَأْ، فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ. فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَضْرِبْ عُنُقَهُ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِنْ يَكُنْهُ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْهُ فَلاَ خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ. وَقَالَ سَالِمٌ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ انْطَلَقَ بَعْدَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ إِلَى النَّخْلِ الَّتِى فِيهَا ابْنُ صَيَّادٍ وَهُوَ يَخْتِلُ أَنْ يَسْمَعَ مِنِ ابْنِ صَيَّادٍ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ ابْنُ صَيَّادٍ فَرَآهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ مُضْطَجِعٌ، يَعْنِي فِي قَطِيفَةٍ لَهُ فِيهَا رَمْزَةٌ أَوْ زَمْرَةٌ، فَرَأَتْ أُمُّ ابْنِ صَيَّادٍ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يَتَّقِي بِجُذُوعِ النَّخْلِ فَقَالَتْ لاِبْنِ صَيَّادٍ يَا صَافِ وَهْوَ اسْمُ ابْنِ صَيَّادٍ هَذَا مُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم-. فَثَارَ ابْنُ صَيَّادٍ فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ. وَقَالَ شُعَيْبٌ فِي حَدِيثِهِ فَرَفَصَهُ رَمْرَمَةٌ، أَوْ زَمْزَمَةٌ. ومقصود البخاري منه الاستدلال هنا بقوله -صلى الله عليه وسلم- لابن صياد: "أتشهد أني رسول الله؟ " وكان إذ ذاك دون البلوغ، فإنه يدل على المدعى، ويدل على صحة إسلام الصبيّ وأنه لو أقر لقبل لأنه فائدة العرض. وقوله: إن عمر انطلق، هذا الحديث فيه ثلاثة قصص، أوردها المصنف تامة في الجهاد في باب كيف يعرض الإِسلام على الصبيّ من طريق معمر، وفي الأدب من طريق شعيب، واقتصر هنا على الاثنتين الأُوْلَيَين، وفي الشهادات على الثانية، وفي الفتن على الثالثة. وقوله: قبَل ابن صياد بكسر القاف وفتح الموحدة، أي: إلى جهته، وقوله: عند أُطُم بني مغالة، الأُطُم بضمتين، بناء كالحصن، ومَغَالة، بفتح الميم والمعجمة الخفيفة، بطن من الأنصار. وقوله: وقد قارب ابن صِيّاد الحلم، وفي رواية أبي ذَرٍّ "صائد" وكلا الأمرين كان يدعى به، وفي رواية معمر "وقد قارب ابن صياد يومئذ يحتلم"، ولم يقع ذلك في رواية الإِسماعيليّ، فاعترض به، فقال: لا يلزم من كونه غلامًا أن يكون لم يحتلم.

وقوله: أشهد أنك رسول الأميين، فيه إشعار بأن اليهود الذين كان ابن صيّاد منهم، كانوا معترفين ببعثة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لكن يدّعون أنها مخصوصة بالعرب، وفساد حجتهم واضح جدًا، لأنهم إذا قروا أنه رسول الله استحال أن يكذب على الله، فإذا ادعى أنه رسوله إلى العرب وإلى غيرهم تعين صدقه، فوجب تصديقه. وقوله: فقال ابن صياد أتشهد أني رسول الله؟ وعند الترمذي عن أبي سعيد "أتشهد أنت أني رسول الله". وقوله: فرفضه، للأكثر بالضاد المعجمة، أي تركه. قال الزين بن المنير: أنكرها القاضي، ولبعضهم بالمهملة، أي دفعه برجله، قال عياض: كذا في رواية أبي ذَرٍ عن غير المستملي، ولا وجه لها. قال المازريّ: لعله رفسه، بالسين المهملة، أي ضربه برجله. قال عياض: لم أجد هذه اللفظة في جماهير اللغة بالصاد، قال: وفي رواية الأصيلي بالقاف بدل الفاء، وفي رواية عَيْدوس "فوقصه" بالواو والقاف. وقوله: وقال رسول الله آمنت بالله وبرسله، وللمستملي "ورسوله" بالإِفراد، وفي حديث أبي سعيد "آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر". قال الزين بن المنير: إنما عرض النبي -صلى الله عليه وسلم- الإِسلام على ابن صيّاد بناءًا على أنه ليس الدجال المحذَّر منه، ولا يتعين هذا، بل الذي يظهر أن أمره كان محتملًا، فأراد اختباره بذلك، فإن أجاب غلب ترجيح أنه ليس هو وإن لم يجب تمادى الاحتمال، أو أراد باستنطاقه إظهار كذبه المنافي لدعوى النبوءة، ولمّا كان ذلك هو الجواب أجابه بجواب منصف، فقال: آمنت بالله ورسله. وقال القرطبيّ: كان ابن صياد على طريقة الكهنة، يخبر بالخبر فيصح تارة، ويفسد أخرى، فشاع ذلك، ولم ينزل في شأنه وحيٌ، فأراد النبي عليه الصلاة والسلام سلوك طريقة يختبر حاله بها، أي: فهو السبب في انطلاق النبي -صلى الله عليه وسلم- إليه. وأخرج أحمد عن جابر قال: ولدت امرأة من اليهود غلامًا ممسوحة عينه، والأخرى طالعة ناتئة، فاشفق النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يكون هو الدجال. وللتِّرْمِذِيّ عن أبي بكرة مرفوعًا "يمكث أبو الدجال وأمه ثلاثين عامًا لا يولد لهما، ثم يولد لهما غلامٌ أضر شيء وأقله منفعة، قال: ونعتهما فقال: فأما أبوه فطويل، ضَرْب اللحم، كأنّ أنفه منقارُ. وأما أمه فَفَرْضَاخَة، أي: بفاء مفتوحة وراء ساكنة وبمعجمتين، والمعنى أنها ضخمة طويلة اليدين. قال: فسمعنا بمولود بتلك الصفة، فذهبت أنا والزبير بن العوّام حتى دخلنا على أبويه، يعني ابن صياد، فإذا هما بتلك الصفة". قلت: هذا الحديث لا تمكن صحته, لأن راوية أبا بكرة لم يقع إسلامه إلا عام الفتح سنة ثمان، وابن صياد في الحديث الصحيح أنه قد قارب الحلم، وقت اختباره عليه الصلاة والسلام له إلا على التجوز في قوله "فسمعنا بمولود". ولأحمد والبزار عن أبي ذَرٍّ قال: بعثني النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أمه

فقال: سلها كم حملت به؟ فقال: حملت به اثني عشر شهرًا، فلما وقع صاح صياح الصبيّ ابن شهر. فكان ذلك هو الأصل في إرادة استكشاف أمره. وقوله: فقال له ماذا ترى؟ فقالَ ابن صياد: يأتيني صادق وكاذب، في حديث جابر عند الترمذيّ، ونحوه عند مسلم، فقال: أرى حقًا وباطلًا، أرى عرشًا على الماء. وفي حديث أبي سعيد عنده "أرى صادقين وكاذبًا" ولأحمد: "أرى عرشًا على البحر، حوله الحيتان، فقال: "خلط عليك الأمر" وفي رواية "لبُس" بضم اللام وتخفيف الموحدة المكسورة بعدها مهملة، أي: خلط عليه. وفي حديث أبي الطفيل عند أحمد، فقال: "تعوّذوا بالله من شر هذا" وقوله: إني قد خبأت لك خبيئًا، بفتح المعجمة وكسر الموحدة بعدها تحتانية ساكنة ثم همزة، وفي رواية بكسر المعجمة وبفتحها وسكون الموحدة بعدها همزة، أي أخفيت لك شيئًا، وقوله: هو الدُّخ، بضم المهملة بعدها معجمة، وحكى صاحب "المحكم" الفتحَ، وعند الحاكم الزَّخ، بفتح الزاي بدل الدال، وفسره بالجماع، واتفق الأئمة على تغليطه في ذلك. ويرده ما وقع في حديث أبي ذرٍّ المذكور "فأراد أن يقول الدخان، فلم يستطع، فقال: الدخ" وللبزّار والطبرانيّ في الأوسط عن زيد بن حارثة قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- خبأ له سورة الدخان، وكأنه أطلق السورة وأراد بعضها، فإن عند أحمد عن عبد الرزاق في حديث الباب "وخبأت له يوم تأتي السماء بدخان مبين". وأما جواب ابن صياد "بالدخ" فقيل: إنه اندهش فلم يقع من لفظ "الدخان" إلا على بعضه. وحكى الخطابيّ أن الآية حينئذ كانت مكتوبة في يد النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلم يهتد ابن صياد منها إلاَّ لهذا القدر الناقص على طريقة الكهنة. ولهذا قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لن تعدو قدرك" أي: قدر مثلك من الكُهَّان الذين يحفظون من إلقاء شياطينهم ما يحفظونه مختلطًا صدقه بكذبه. وحكى أبو موسى المَدِينيّ أنّ السرّ في امتحان النبي -صلى الله عليه وسلم- له، بهذه الآية، الإشارةُ إلى أن عيسى بن مريم يقتل الدجال بجبل الدخان، فأراد التعريض لابن صياد بذلك، واستبعد الخطابيّ ما تقدم، وصوب أنه خبأ له الدخ، وهو نبت يكون بين البساتين، وسبب استبعاده له أن الدخان لا يخبأ في اليد ولا الكم، ثم قال: إلا أن يكون خبأ له اسم الدخان في ضميره، وعلى هذا، فيقال: كيف اطّلع ابن صياد أو شيطانه على ما في الضمير؟ ويمكن أن يجاب باحتمال أن يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- تحدّث عن نفسه أو أصحابه بذلك قبيل أن يختبره، فاسترق الشيطان ذلك أو بعضه. وقوله: أخسأ، بهمز ساكنة، وحذفت في رواية بلفظ "اخْسَ" وهو تخفيف. قال ابن بطال: اخسأ زجر للكلب وإبعاد له، هذا أصل هذه الكلمة، واستعملتها العرب في كل من قال أو فعل ما

لا ينبغي مما يسخط الله. وقال ابن التين في هذا الحديث: "اخسأ" معناه اسكت صاغرًا مطرودًا. وقال الراغب: خَسَأ البصر انقضى عن مهماته، وخَسَأتُ الكلب فانخسأ، زجرته فانزجر مستهينًا به. وقال أبو عبيدة في قوله تعالى: {قِرَدَةً خَاسِئِينَ} أي: قاحِسين مبعدين، يقال: خسأته عني وخَسَأ هو، يتعدى ولا يتعدى. وقال في قوله تعالى: {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا} أي: مبعدًا. وقوله: فلن تعدو قدرك، أي: لن تجاوز ما قدره الله فيك، أو مقدار أمثالك من الكهان. قال العلماء: واستكشف النبي -صلى الله عليه وسلم- أمره ليبين للناس تمويهه، لئلا يلتبس حاله على ضعيف لم يتمكن في الإِسلام، ومحصل ما أجاب به النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال له، على طريق الفرض، والتنزل: إن كنت صادقًا في دعواك الرسالةَ، ولم يختلط عليك الأمر، آمنت بك، وإن كنتَ كاذبًا، وخلط عليك الأمر، فلا، وقد ظهر كذبك والتباس الأمر عليك، فلا تعدو قدرك. وقوله: إنْ يكنه، هو رواية الكشميهنيّ بوصل الضمير، واختار ابن مالك جوازه، وفي رواية الأكثر "إن يكن هو" بضمير فصل، والضمير لغير مذكور لفظًا، وعند أحمد عن ابن مسعود "إن يكن هو الذي تخاف فلن تستطيعه" وفي مرسل عُروة عند الحارث بن أبي أُسامة "إن يكن هو الدجال" وقوله: فلن تسلط عليه، في حديث جابر، "فلست بصاحبه إنما صاحبه عيسى بن مريم". وقوله: وإن لم يكنه، فلا خير لك في قتله، قال الخطابيّ: إنما لم يأذن النبي -صلى الله عليه وسلم- في قتله مع ادعائه النبوءة بحضرته, لأنه كان غير بالغ، ولأنه كان من جملة أهل العهد. والثاني هو المتعين، وقد جاء مصرحًا به عن جابر عند أحمد، في مرسل عُروة "فلا يحل لك قتله" ثم إن في السؤال نظرًا, لأنه لم يصرح بدعوى النبوءة، وإنما أوهم أنه يدّعي الرسالة، ولا يلزم من دعوى الرسالة دعوى النبوءة. قال الله تعالى: {أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ} الآية. وقوله: وقال سالم: سمعت ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يقول انطلق .. الخ. هذه هي القصة الثانية من هذا الحديث، وهو موصول بالإسناد الأول، وقد أفردها أحمد عن عبد الرزاق بإسناد حديث الباب، وفي حديث جابر "ثم جاء النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومعه أبو بكر وعمر، ونفر من المهاجرين والأنصار، وأنا معهم" ولأحمد عن أبي الطُّفيل أنه حضر ذلك أيضًا. وقوله: وهو يختِل، بمعجمة ساكنة بعدها مثناة مكسورة، أي: يخدعه، والمراد أنه كان يريد أن يستغله ليسمع كلامه، وهو لا يشعر، وفي حديث جابر "رجاء أنْ يسمع من كلامه شيئًا ليعلم أصادق هو أم كاذب". وقوله: فيها رمزة أو زمرة، كذا للأكثر على الشك في تقديم الراء على الزاي، أو تأخيرها، ولبعضهم زمزمة ورمرمة على الشك، هل بزايين أو براءين، مع زيادة ميم فيهما، ومعنى هذه الكلمة

المختلفة متقاربٌ، فأما التي بتقديم الراء وميم واحدة، فهي فَعْلَة من الرمز، وهو الإِشارة، وأما التي بتقديم الزاي كذلك، فمن الزمر، والمراد حكاية صوته. وأما التي بمهملتين وميمين فأصله من الحركة، وهي هنا بمعنى الصوت الخفي، وأما التي بمعجمتين كذلك، فقال الخطابي: هو تحريك الشفتين بالكلام، وقال غيره: هو كلام العُلوج، وهو صوت يصوَّت من الخياشيم والحلق. وقوله: وهو يتقي، أي يستتر. وقوله: يا صاف، بمهملة وفاء، وزن باغ. وقوله: هذا محمد، في حديث جابر "فقالت: يا عبد الله، هذا أبو القاسم، قد جاء" وكأن الراوي عبّر باسمه الذي تسمى به في الإِسلام، وأما اسمه الأول فهو صافٍ. وقوله: فثار ابن صياد، أي: قام، كذا للأكثر، وللكشميهنيّ "فثاب" بموحدة، أي رجع عن الحالة التي كان فيها. وقوله: لو تركته بَيَّن، أي أظهر لنا من حاله ما نطَّلع به على حقيقته، والضمير لأم ابن صياد، أي لو لم تعلمه بمجيئنا لتمادى على ما كان فيه، فسمعنا ما يستكشف به أمره. ونقل بعض الشراح فجعل الضمير للزمزمة، أي لو لم يتكلم بها لفهمنا كلامه، لكن عدم فهمنا لما يقول كونه يهمهم، كذا قال. والأول هو المعتمد، وقوله: وقال شعيب: زمزمةٌ فَرَفَصه، في رواية أبي ذَرٍّ بالزايين وبالصاد المهملة، وفي رواية غيره "وقال شعيب في حديثه: فرفصه زمزمة أو رمرمة" بالشك، وسيأتي في الأدب موصولًا من هذا الوجه بالشك، لكن فيه "فَرَصَّه" بغير فاء وبالتشديد، وذكره الخطابيّ في غريبه بمهملة، أي ضَغَطه وضم بعضه إلى بعض. وقد مرَّ شعيب في السابع من بدء الوحي. وفي قصة ابن صيّاد اهتمام الإِمام بالأمور التي يخشى منها الفساد، والتنقيب عليها، وإظهار كذب المدعي الباطل، وامتحانه بما يكشف حاله، والتجسس على أهل الريب، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يجتهد فيما لم يودع إليه فيه، وفيه الرد على من يدعي الرَّجْعة إلى الدنيا، لقوله -صلى الله عليه وسلم- لعمر: "إنْ يكن هو الذي تخاف منه فلن تستطيعه" لأنه لو جاز أن الميت يرجع إلى الدنيا لما كان بين قتل عمر له حينئذ، وكون عيسى بن مريم هو الذي يقتله بعد ذلك منافاة، ولم يذكر المصنف هنا القصة الثالثة كما مرَّ، ويأتي إن شاء الله تعالى الكلام عليها عند أول ذكرها. وقد اختلف العلماء في أمر ابن صيّاد اختلافًا كثيرًا استوفاه ابن حجر في كتاب الاعتصام في باب "من رأى ترك النكير" الخ عند حديث جابر "أنه كان يحلف بالله أن ابن صياد الدجال لأنه سمع عمر يحلف على ذلك عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم ينكر عليه" وها أنا أذكر جميع ما ذكره هنا لتتم الفائدة بجمع ما قيل فيه هنا، فأقول. استدل جابر بتقريره عليه الصلاة والسلام لعمر، والتقرير منه حجة، ولكن شرط العمل به أن

لا يعارضه التصريح بخلافه، فمن قال أو فعل بحضرة النبي -صلى الله عليه وسلم- شيئًا فأقره، دل ذلك على الجواز، فإن قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: إفعل خلاف ذلك، دل على نسخ التقرير، إلا إنْ ثبت دليل الخصوصية. قال ابن بطال بعد أن قرر دليل جابر: فإن قيل: مرَّ في الجنائز أن عمر قال للنبي -صلى الله عليه وسلم- في قصة ابن صياد: دعني أضرب عنقه، فقال: إن يكنه فلن تسلط عليه الخ، فهذا صريح في أنه تردد في أمره، يعني فلا يدل سكوته على إنكاره عند حلف عمر على أنه هو. قال: وعن ذلك جوابان، أحدهما أن الترديد كان قبل أن يعلمه الله تعالى أنه هو الدجال، فلما أعلمه لم ينكر على حلفه، والثاني أن العرب قد تخرج الكلام مخرج الشك، وإن لم يكن في الخبر شك، فيكون ذلك من تلطف النبي -صلى الله عليه وسلم- بعمر في صرفه عن قتله. ومما ورد مما يدل على أن ابن صياد هو الدجال، عن غير جابر، ما أخرجه عبد الرزاق، بسند صحيح عن ابن عمر قال: لقيت ابن صياد يومًا ومعه رجل من اليهود، فإذا عينه قد طفئت، وهي خارجة مثل عين الجمل، فلما رأيتها قلت: أنشدك الله يا ابن صياد، متى طفئت؟ قال: لا أدري والرحمن. قلت: كذبت، لا تدري وهي في رأسك؟ قال: فمسحها ونخر ثلاثًا، فزعم اليهوديّ أني ضربت بيدي صدره، وقلت له: اخسأ، فلن تعدو قدرك. فذكرت ذلك لحفصة، فقالتْ حفصة: اجتنب هذا الرجل، فإنما يتحدث أن الدجال يخرج عند غضبة يغضبها. وقد أخرج مسلم هذا الحديث بمعناه من وجه آخر عن ابن عمر، ولفظه "لقيته مرتين .. " فذكر الأولى، ثم قال: لقيته أخرى وقد نفرت عينه، فقلت: متى فعلت عينك ما أرى؟ قال: ما أدري، قلت: لا تدري وهي في رأسك؟ قال: إن شاء الله جعلها في عصاك هذه، ونخر كأشد نخير حمارٍ سمعت، فزعم أصحابي أني ضربته بعصا كان معي حتى تكسرت، وأنا والله ما شعرت. قال: وجاء حتى دخل على أم المؤمنين حفصة، فحدثها فقالت: ما تريد إليه، ألم تسمع أنه قد قال: إن أول ما يبعثه على الناس غضبٌ يغضبه؟ ثم قال ابن بطال: فإن قيل: هذا أيضًا يدل على التردد في أمره، فالجواب أنه إن وقع الشك في كونه الدجال الذي يقتله عيسى بن مريم، فلم يقع الشك في أنه أحد الدجالين الكذابين الذين أنذر بهم النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله "إنّ بين الساعة كذابين دجالين .. " الحديث الآتي في كتاب الفتن، ومحصله عدم تسليم الجزم بأنه الدجال، فيعود السؤال الأول عن جواب حلْف عمر، ثم جابر، على أنه الدجال المعهود، لكن في قصة حفصة وابن عمر دليل على أنهما أرادا الدجال الأكبر، واللام في القصة الواردة عنهما للعهد لا للجنس. وقد أخرج أبو داود بسند صحيح عن موسى بن عُقبة عن نافع قال: كان ابن عمر يقول: والله ما أشك أن المسيح الدَّجَّال هو ابن صياد. ووقع لابن صياد مع أبي سعيد الخُدريّ قصة أخرى

تتعلق بأمر الدجال، فأخرج مسلم عن أبي نضرة عن أبي سعيد فقال: صحبني ابن صياد إلى مكة فقال لي: ماذا لقيت من الناس؟ يزعمون أني الدجال، ألستَ سمعتَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه لا يولد له؟ قلت: بلى، قال: فإنه وقد ولد لي، قال: أولست سمعته يقول: لا يدخل المدينة ولا مكة، قلت: بلى، قال: فقد ولدت بالمدينة، وها أنا أريد مكة. وعن أبي سعيد قال: أخذتني من ابن صياد دَمَامة، فقال: هذا عذرت الناس، مالي وأنتم يا أصحاب محمد، ألم يقل نبي الله -صلى الله عليه وسلم- أنه يعني الدجال يهودي؟ وقد أسلمت، فذكر نحوه. وعن أبي سعيد أيضًا: خرجنا حُجاجًا ومعنا ابن صياد، فنزلنا منزلًا وتفرق الناس، وبقيت أنا وهو، فاستوحشت منه وحشة شديدة مما يقال فيه، فقلت: الحر شديد، فلو وضعت ثيابك تحت تلك الشجرة، ففعل. فرفعت لنا غنم، فانطلق فجاء بُعسّ، فقال: اشرب يا أبا سعيد، فقلت: إن الحر شديد، وما بي إلاَّ أني أكره أن أشرب من يده، فقال: لقد هممت أن آخذ حبلًا فأعلقه بشجرة ثم اختنق به، مما يقول لي الناس: يا أبا سعيد، من خفي عليه حديث محمد -صلى الله عليه وسلم- ما خفي عليكم معشر الأنصار ثم ذكر نحو ما تقدم، وزاد "قال أبو سعيد حتى كدت أعذره" وفي آخر كل من الطرق الثلاثة أنه قال إني لا أعرفه وأعرف مولده، وأين هو الآن قال أبو سعيد: فقلت له: تبًا لك سائر اليوم. وأجاب البيهقيّ عن قصة ابن صياد بعد أن ذكر ما أخرجه أبو داود عن أبي بكرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مكث أبو الدَّجال ثلاثين عامًا، لا يولد لهما" الخ، وقد مرَّ في أول الكلام على الحديث أن هذا الحديث لا تمكن صحته إلا على التجوز في قوله "فسمعنا بمولود ولد لليهود" ووقفت على ما ذكرته في فتح الباري فقال: إلا أن يحمل قوله "فسمعنا أنه ولد لليهود مولود" على تأخر السماع، وإن كان مولده سابقًا على ذلك بمدة، بحيث يأتلف مع حديث ابن عمر في الصحيح. ثم قال البيهقي: ليس في حديث جابر أكثر من سكوت النبي -صلى الله عليه وسلم- على حلف عمر، فيحتمل أن يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- كانَ متوقفًا في أمره، ثم جاءه الثبت من الله تعالى بأنه غيره، على ما تقتضيه قصة تميم الداريّ، وبه تمسك من قال: إن الدجال غير ابن صياد، وطريقه أصح، وتكون الصفة التي في ابن صياد وافقت ما في الدجال. وقصة تميم أخرجها مسلم عن فاطمة بنت قيس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خطب فذكر أن تميمًا الداري ركب في سفينة مع ثلاثين رجلًا من قومه فلعب بهم الموج شهرًا، ثم نزلوا إلى جزيرة فلقيتهم دابة كثيرة الشعر، فقالت لهم: أنا الجسّاسة، ودلتهم على رجل في الدير، قال: فانطلقنا سراعًا. فدخلت الدير، فإذا فيه أعظم إنسان، رأيناه قطّ، خلقًا، وأشده وثاقًا، مجموعةٌ يداه إلى عنقه بالحديد، فقلنا: ويلك، ما أنت؟ فذكر الحديث.

وفيه أنه سألهم عن نبيِ الأميين، هل بعث؟ وأنه قال: إن يطيعوه فهو خير لهم، وأنه سألهم عن بُحيرة طبرية، وعن عَين زُغَر، وعن نَخْل بَيْسان. وفيه أنه قال: إني مخبركم عني، أنا المسيح، وإني أوشك أن يُؤذن لي في الخروج، فأخرج فأسير في الأرض فلا أدع قرية إلا هبطتها، في أربعين ليلة، غير مكة وطيبة. وفي بعض طرقه عند البيهقيّ: أنه شيخ، وسندها صحيح، قال البيهقيّ فيه: إن الدجال الأكبر الذي يخرج في آخر الزمان غير ابن صياد، وكان ابن صياد أحد الدجالين الكذابين الذين أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بخروجهم، وقد خرج أكثرهم، وكأنّ الذين يجزمون بأن ابن صياد هو الدّجال لم يسمعوا بقصة تميم، وإلاّ فالجمع بينهما بعيد جدًا، إذ كيف يلتئم أن يكون من كان في أثناء الحياة النبوية شبه المحتلم، ويجتمع به النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويسأله، أن يكون في آخرها شيخًا كبيرًا مسجونًا في جزيرة من جزائر البحر، موثقًا بالحديد يستفهم عن أخبار النبي -صلى الله عليه وسلم- هل خرج أو لا؟ فالأَوْلى أنْ يحمل على عدم الاطلاع، أما عمر فيحتمل أن يكون ذلك منه قبل أن يسمع قصة تميم، ثم لما سمعها لم يعد إلى الحلف المذكور، وأما جابر فشهد حلفه عند النبي -صلى الله عليه وسلم-، فاستصحب ما كان عليه من عمر بحضرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، لكن أخرج أبو داود عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر، فذكر قصة الجساسة والدجال بنحو قصة تميم، قال: قال الوليد بن عبد الله بن جُميع قال لي ابن أبي مسلمة: إنّ في هذا شيئًا ما حفظته، قال: شهد جابر أنه ابن صياد، قلت: فإنه قد مات، قال: وإن مات، قلت: فإنه أسلم، قال: وإن أسلم. قلت: فإنه دخل المدينة، قال: وإن دخل المدينة. وابن أبي مسلمة اسمه عمر، فيه مقال، ولكن حديثه حسن، ويتعقب به على من زعم أن جابرًا لم يطلع على قصة تميم، وقد تكلم ابن دقيق العبد على مسألة التقرير بما محصله "إذا أخبر بحضرة النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أمر ليس فيه حكم شرعيّ فهل يكون سكوته عليه الصلاة والسلام دليلًا على مطابقة ما في الواقع، كما وقع لعمر في حلفه على ابن صياد، أنه هو الدجال، كما فهمه جابر حتى صار يحلف عليه، ويستند على حلف عمر، أولا يدل؟ فيه نظر. قال: والأقرب عندي أنه لا يدل، لأن مأخذ المسألة ومَنَاطها هو العصمة من التقرير على باطل، وذلك يتوقف على تحقق البطلان، ولا يكفي فيه عدم تحقق الصحة، إلا أنْ يدعي مدع أنه يكفي في وجوب البيان عدم تحقق الصحة، فيحتاج إلى دليل، وهو عاجز عنه، نعم التقرير يسوّغ الحلف على غلبة الظن لعدم توقف ذلك على العلم. ولا يلزم من عدم تحقق البطلان أن يكون السكوت مستوي الطرفين، بل يجوز أن يكون المحلوف عليه من قسم خلاف الأوْلى. قال الخطابي: اختلف الناس في أمر ابن صياد بعد كبره،

فروي أنه تاب من ذلك القول، ومات بالمدينة، وأنهم لما أرادوا الصلاة عليه، كشفوا وجهه ليراه الناس، وقيل لهم: اشهدوا. وقال النووي: قال العلماء قصة ابن صياد مشكلة، وأمره مشتبه، لكن لا شك أنه دجال من الدجاجلة، والظاهر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يوحَ إليه فيه شيء، وإنما أُوحي إليه بصفات الدجال، وكان في ابن صياد قرائن محتملة، فلذلك كان عليه الصلاة والسلام لا يقطع في أمره بشيء، بل قال لعمر: "لا خير لك في قتله .. " الحديث. وأما احتجاجاته هو بأنه مسلم إلى سائر ما ذكر، فلا دلالة فيه على دعواه, لأن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- إنما أخبر عن صفاته وقت خروجه آخر الزمان، قال: ومن جملة ما في قصته قوله للنبي -صلى الله عليه وسلم-: أتشهد أني رسول الله؟ وقوله: إنه يأتيه صادق وكاذب، وقوله: إنه تنام عينه ولا ينام قلبه. وقوله: إنه يرى عرشًا على الماء، وأنه لا يكره أن يكون الدجال، وأنه يعرفه ويعرف مولده وموضعه، وأين هو الآن. قال: وأما إسلامه وحجه وجهاده، فليس فيه تصريح بأنه غير الدجال، لاحتمال أن يختم له بالشر، فقد أخرج أبو نعيم الأصبهانيّ، في تاريخ أصبهان، ما يؤيد كون ابن صياد هو الدجال، فساق عن شُبيل، بمعجمة، عن حسّان بن عبد الرحمن عن أبيه قال: لما افتتحنا أصبهان كان بين عسكرنا وبين اليهودية فرسخ، فكنا نأتيها فنمتار منها، فأتيتها يومًا، فإذا اليهود يزفنون ويضربون، فسألت صديقًا لي منهم، فقال: ملكنا الذي نستفتح به على العرب يدخل، فبت عنده على سطح، فصليت الغداة، فلما طلعت الشمس إذا الرهج من قبل العسكر، فنظرت فإذا رجل عليه قبة من ريحان، واليهود يزفنون ويضربون، فنظرت فإذا هو ابن صياد، فدخل المدينة، فلم يعد حتى الساعة. قال في الفتح: عبد الرحمن بن حسان ما عرفته، والباقون ثقات، وقد أخرج أبو داود بسند صحيح عن جابر قال: فقدنا ابن صياد يوم الحرّة، وبسند حسن، فقيل: إنه مات، وهذا يضعف ما تقدم أنه مات بالمدينة، وأنهم صلوا عليه، وكشفوا عن وجهه، ولا يلتئم حديث جابر هذا مع خبر حسان بن عبد الرحمن, لأن فتح أصبهان كان في خلافة عمر، كما أخرجه أبو نعيم في تاريخها، وبيْن قتل عمر ووقعة الحرة نحو أربعين سنة. ويمكن الحمل على أن القصة إنما شاهدها ولد حسان بعد فتح أصبهان بهذه المدة، ويكون جواب "لما" في قوله: لما افتتحنا أصبهان، محذوفًا، تقديره: صرت أتعاهدها، وأتردد إليها، فجرت قصة ابن صياد، فلا يتحد زمان فتحها وزمان دخول ابن صياد لها. وقد أخرج الطبرانيّ في الأوسط عن فاطمة بنت قيس مرفوعًا "أن الدجال يخرج من أصبهان"،

وعن عمران بن حصين، أخرجه أحمد بسند صحيح من أنس، لكن عنده "من يهودية أصبهان". قال أبو نعيم في تاريخ أصبهان: كانت اليهودية من جملة قرى أصبهان، وإنما سميت اليهودية لأنها كان تختص بسكنى اليهود. قال: ولم تزل على ذلك إلى أن مَصَّرها أيوب بن زياد أمير مصر في زمن المهدي بن المنصور، فسكنها المسلمون، وبقيت لليهود منها قطعة منفردة. وأما ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة مرفوعًا قال: يتبع الدجال سبعون الفًا من يهود أصبهان، فلعلها كانت يهودية أصبهان، يريد البلد المذكور، لا أن المراد أن جميع أهل أصبهان يهود، وأن القدر الذي يتبع الدجال منهم سبعون ألفًا. وأخرج نعيم بن حماد في كتاب الفتن، عن جبير بن نُفَير وشريح بن عبيد وعمرو بن الأسود وكثير بن مُرة قالوا جميعًا: الدجال ليس هو إنسان، وإنما هو شيطان موثق بسبعين حَلْقة، في بعض جزائر اليمن، لا يعلم من أوثقه سليمان النبي أو غيره؟ فإذا آذن ظهوره، فك الله عنه كل عامٍ حلقة، فإذا برز أتته أتان عَرْض ما بين أذنيها أربعون ذراعًا، فيضع على ظهرها منبرًا من نحاس، ويقعد عليه، ويتبعه قبائل الجن، يُخرجون له خزائن الأرض، وهذا لا يمكن معه كون ابن صياد هو الدجال، ولعل هؤلاء، مع كونهم ثقات، تلقوا ذلك من بعض كتب أهل الكتاب. وأخرج أبو نعيم أيضًا، عن كعب الأحبار، أن الدجال تلده أمه بقوص من أرض مصر، قال: وبين مولده ومخرجه ثلاثون سنة، قال: ولم ينزل خبره في التوراة والإِنجيل، وإنما هو في بعض كتب الأنبياء، وأَخْلِقْ بهذا الخبر أن يكون باطلًا، فإن الحديث الصحيح أن كل نبي قبل نبينا أنذر قومه الدجال، وكونه يولد قبل مخرجه بالمدة المذكورة، مخالف لكونه ابن صياد، ولكونه موثوقًا في جزيرة من جزائر البحر. وذكر ابن وصيف المؤرخ أن الدجال من وَلَد شِقّ، الكاهن المشهور، قال: وقال: بل هو شِق نفسه، أنظره الله وكانت أمه جنية، عشقت أباه، فأولدها، وكان الشيطان يعمل له العجائب، فأخذه سليمان فحبسه في جزيرة من جزائر البحر. وهذا أيضًا في غاية الوحي، وأقرب ما يجمع به بين ما تضمنه حديث تميم وكون ابن صياد هو الدجال، أن الدجال بعينه هو الذي شاهده تميم موثقًا، وأنّ ابن صياد شيطان تبدى في صورة الدجال في تلك المدة، إلى أن توجه إلى اصبهان، فاستتر مع قرينه إلى أن تجيء المدة التي قدر الله تعالى خروجه فيها. ولشدة التباس الأمر في ذلك سلك البخاري مسلك الترجيح، فاقتصر على حديث جابر عن عمر في ابن صياد، ولم يخرج حديث فاطمة بنت قيس في قصة تميم، وقد توهم بعضهم أنه غريب، فرد، وليس كذلك، فقد رواه مع فاطمة بنت قيس أبو هريرة وعائشة وجابر، أما أبو هريرة فأخرجه أحمد عن الشعبيّ عن المُحْرز بن أبي هريرة عن أبيه، مطولًا، وأخرجه أبو داود مختصرًا،

رجاله سبعة

وابن ماجه عقب رواية الشعبي عن فاطمة. قال الشعبي: فلقيت المحرز فذكره، وأخرجه أبو يعلى من وجه آخر عن أبي هريرة، قال: استوى النبي -صلى الله عليه وسلم- على المنبر فقال: "حدثني تميم فرأى تميمًا في ناحية المسجد، فقال: يا تميم: حدث الناس بما حدثتني، فذكر الحديث، وفيه "فإذا أحد منخريه ممدود، وإحدى عينيه مطموسة .. " الحديث، وفيه: لأطأن الأرض بقدميّ هاتين إلا مكة وطابا. وأما حديث عائشة فهو في الرواية المذكورة عن الشعبي قال: ثم لقيت القاسم بن محمد، فقال: اشهد على عائشة، حدثتني كما حدثتك فاطمة بنت قيس. وأما حديث جابر فأخرجه أبو داود بسند حسن عن أبي سلمة عن جابر، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ذات يوم على المنبر: أنه بينما أناس يسيرون في البحر، فنفد طعامهم، فرفعت لهم جزيرة، فخرجوا يريدون الخبر، فلقيتهم الجسّاسة، فذكر الحديث. وفيه سؤلهم عن نخل بيسان. وفيه أنّ جابرًا شهد أنه ابن صياد، فقلت: إنه قد مات، قال: وإن مات، قلت: فإنه أسلم، قال: وإن أسْلَم. قلت: فإنه دخل المدينة، قال: وإن دخل المدينة. وفي كلام جابر إشارة إلى أن أمره مُلْبِس، وأنه يجوز أن يكون ما ظهر من أمره إذ ذاك لا ينافى ما توقع منه بعد خروجه في آخر الزمان، وَقد أخرج أحمد عن أبي ذَرٍّ "لأنْ أحلف عشر مرار أن ابن صياد هو الدجال أحبُّ إليّ من أن أحلف واحدة أنه ليس هو" وسنده صحيح، وعن ابن مسعود نحوه، لكن قال سبعًا بدل عشر مرار. أخرجه الطبرانيّ. وفي الحديث جواز الحلف بما يغلب على الظن، ومن صوره المتفق عليها عند المالكية والشافعية أن من وجد بخط أبيه الذي يعرفه أن له عند شخص مالًا، وغلب على ظنه صدقه. أن له إذا طالبه، وتوجهت عليه اليمين أن يحلفه على البت أنه يستحق قبض ذلك المال منه. رجاله سبعة: قد مرّوا، مرَّ عبدان وعبد الله بن المبارك في السادس من بدء الوحي، ومرَّ يونس بن يزيد في متابعة بعد الرابع منه، ومرَّ الزُّهريّ في الثالث منه، ومرَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الأول منه، ومرَّ سالم بن عبد الله في السابع عشر من الإِيمان، وأبو عبد الله في أوله قبل ذكر حديث منه. وفي الحديث ذكر ابن صياد، ويقال له ابن صائد، واسمه صافي كقاضي، وقيل عبد الله، قال الواقدي: هو من بني النجار، وقيل من اليهود، وكانوا حلفاء بني النجار، وولده عمارة، شيخ مالك، من خيار المسلمين.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإِخبار بالجمع والإِفراد والعنعنة والقول، ورواته مروزيان وأيْلِيّ ومدنيان، أخرجه البخاريّ أيضًا في بدء الخلق، وأحاديث الأنبياء، ومسلم في الفتن. ثم قال: وقال إسحاق الكلبيّ وعقيل: "رمرمة" وقال معمر: رَمْزة، الأولى بمهملتين، والثانية براء ثم زاي، أما رواية إسحاق فوصلها الذُّهليّ في الزهريات، ورواية عقيل وصلها المصنف في الجهاد، وكذا رواية معمر في الثالث، وعقيل قد مرَّ في الثالث من بدء الوحي، ومرَّ معمر في متابعة بعد الرابع منه، وإسحاق الكلبيّ مرَّ بعد الخامس والثلاثين من الجماعة. الحديث الحادي عشر والمئة حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ وَهْوَ ابْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ كَانَ غُلاَمٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ أَسْلِمْ. فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهْوَ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ -صلى الله عليه وسلم-. فَأَسْلَمَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَهْوَ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ. قوله: وهو عنده، في رواية أبي داود "عند رأسه" عن سليمان بن حرب شيخ البخاري فيه، وقوله: فأسلم، في رواية النَّسَائيّ "فقال أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله" وقوله: "أنقذه من النار" في رواية أبي داود "أنقده بي من النار". ولله درُّ القائل: ومريض أنت عائده ... قد أتاه الله بالفرج وفي الحديث جواز استخدام المشرك، وعيادته إذا مرض، وفيه حسن العهد، واستخدام الصغير, وعرض الإِسلام على الصبي، ولولا صحته منه ما عرضه عليه. وفي قوله "أنقذه من النار" دليل على أنه صح إسلامه، وعلى أن الصبيّ إذا عقل الكفر، ومات عليه، يعذب، وسيأتي البحث في ذلك في باب "أولاد المشركين". رجاله أربعة: قد مرّوا، مرَّ سليمان بن حرب في الرابع عشر من الإِيمان, وحماد بن زيد في الرابع والعشرين منه، وأنس في السادس منه، وثابت في تعليق بعد الخامس من العلم، والغلام قيل اسمه عبد القدوس.

الحديث الثاني عشر والمئة

الحديث الثاني عشر والمئة حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَقُولُ: كُنْتُ أَنَا وَأُمِّي مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ أَنَا مِنَ الْوِلْدَانِ، وَأُمِّي مِنَ النِّسَاءِ. مرَّ هذا في الترجمة، وهذا مبنيٌّ على أنّ إسلام العباس كان بعد وقعة بدر، وقد اختلف في ذلك، فقيل: أسلم قبل الهجرة، وأقام بأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- له في ذلك، لمصلحة المسلمين. روى ذلك ابن سعد عن ابن عباس، وفي إسناده الكلبيّ، وهو متروك، ويرد، أن العباس أُسر ببدر، وقد فدى نفسه كما يأتي في المغازي، ويرده أن الآية التي في قصة المستضعفين نزلت بعد بدر بلا خلاف، فالمشهور أنه أسلم قبل فتح خيبر، ويدل عليه حديث أنس في قصة الحجّاج بن عُلابِط، كما أخرجه أحمد والنَّسائي. وروى ابن سعد عن ابن عباس أنه هاجر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، بخيبر، ورده بقصة الحجاج المذكور، والصحيح أنه هاجر عام الفتح في أول السنة، وقدم مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فشهد الفتح. رجاله أربعة: وفيه ذكر أم ابن العباس، مرَّ عليّ بن المَدِينيّ في الرابع عشر من العلم، ومرَّ سفيان بن عُيينة في الأول من بدء الوحي، وابن عباس في الخامس منه، ومرَّ عبيد الله بن أبي يزيد في التاسع من الوضوء. وأمه أم الفضل، وقد مرت في الثالث والثلاثين من صفة الصلاة. الحديث الثالث عشر والمئة حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ يُصَلَّى عَلَى كُلِّ مَوْلُودٍ مُتَوَفًّى وَإِنْ كَانَ لِغَيَّةٍ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِطْرَةِ الإِسْلاَمِ، يَدَّعِي أَبَوَاهُ الإِسْلاَمَ أَوْ أَبُوهُ خَاصَّةً، وَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ عَلَى غَيْرِ الإِسْلاَمِ، إِذَا اسْتَهَلَّ صَارِخًا صُلِّىَ عَلَيْهِ، وَلاَ يُصَلَّى عَلَى مَنْ لاَ يَسْتَهِلُّ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ سِقْطٌ، فَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه كَانَ يُحَدِّثُ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ. ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} الآيَةَ.

أورد هذا الحديث من طريق ابن شهاب عن أبي هريرة منقطعًا، ومن طريق آخر عنه عن أبي هُريرة، فالاعتماد في المرفوع على الطريق الموصولة، وإنما أورد المنقطعة لقول ابن شهاب الذي استنبطه من الحديث، وهو قوله "إنْ كان لِغيْةِ" وقوله "مُتَوفّى" بضم الميم وفتح التاء والواو والفاء المشددة، صفة لمولود. وقوله "وإن كان لِغَيْة"، بكسر لام الجر وفتح الغين المعجمة، وقد تكسر، وتشديد المثناة التحتية، أي: لأجل غية، مفرد الغي ضد الرشد، وهو أعم من الكفر وغيره. يقال لولد الزنى ولد الغِيَّة، يعني وإن كان الولد لكافرة أو زانية، ويسمى الولد من الحلال ولد رِشْدة بكسر الراء وفتحها. قال أحد أصدقائنا: من انتمى لرِشدة فوجدا الغِية تخيير زوجه بدا: والأول النكاح والثاني السفاح ... والفاء فيهما بكسر وانفتاح ومراده أنه يصلى على ولد الزنى، ولا يمنع ذلك من الصلاة عليه, لأنه محكوم بإسلامه تبعًا لأمه، وكذلك من كان أبوه دون أمه. وقال ابن عبد البر: لم يقل أحد أنه لا يصلى على ولد الزنى إلا قتادة وحده، واختلف في الصلاة على الصبي، فقال سعيد بن جُبير: لا يصلى عليه حتى يبلغ، وقيل حتى يصلي. وقال الجمهور: يصلى عليه حتى السَّقْط إذا استهل، وهذا مصير من الزهريّ إلى تسمية الزاني أبًا لمن زنى بأمه، وأنه يتبعه في الإِسلام، وهو قول مالك. وقوله: إذا استهل صارخًا، قَيْدٌ في السَّقط الداخل في قوله "كل مولود" أي: صاح عند الولادة، حال كونه صارخًا. فقوله "صارخًا" حال مؤكدة من فاعل استهل، والمراد العلم بحياته بصياح أو غيره، كاختلاجه بعد انفصاله. وقوله: صُلِّي عليه، بضم الصاد وكسر اللام، لظهور أمارة الحياة عليه. وقوله: من أجل أنه سَقِط، بكسر السين وضمها قد تفتح، أي: جنين سَقَط قبل تمامه. وقد قال القسطلانيّ: إن بلغ مئة وعشرين يومًا: حد نفخ الروح فيه، وجب غسله وتكفينه ودفنه، ولا تجب الصلاة عليه، بل لا تجوز، لعدم ظهور حياته، وإن سقط لدون أربعة أشهر، ووُري بخرقة ودفن فقط. وعند المالكية السقط الذي لم يستهل صارخًا، أي: تحقق حياته، يكره غسله، وتحنيطه، وتسميته، والصلاة عليه، سواء ولد بعد تمام العمل أو قبله، ويغسل ما فيه من الدم استحبابًا، ويلف بخرقة ويدفن وجوبًا. والحركة اليسيرة والرضاع اليسير والعُطاس والبول لا دلالة فيها فطعية على الحياة، وعند الليث وابن وهب وأبي حَنيفة والشافعيّ أنّ الحركة والرضاع والعطاس استهلال، عند الحنفية إذا لم يستهل لا يغسل، ولايورث، ولا يرث، ولا يصلى عليه، ولا يسمى.

وعند الطحاويّ أن الجنين الميت يغسل، ولم يَحْكِ فيه خلافًا، وعند محمد في سقطٍ استبانَ خلقُه: يغسَل ويكفن ولا يصلى عليه. وقال أبو حنيفة إذا خرج أكثر المولود وهو يتحرك، صلى عليه، وإن خرج أقله لم يصل عليه. وقال ابن قُدامة: السِّقط الولد تضعه المرأة ميتًا أو لغير تمام، فأما إن خرج حيًا واستهل، فإنه يصلى عليه بعد غسله بلا خلاف، وصلى ابن عمر على ابن ابنه، ولد ميتًا. وقوله: فإن أبا هريرة، رضي الله تعالى عنه، الفاء للتعليل، وهذا منقطع كما مرَّ, لأن ابن شهاب لم يسمع من أبي هُريرة، بل لم يدركه، ولم يذكره المصنف للاحتجاج به، بل للاستنباط المار منه. وقوله: ما من مولود إلا يولد على الفطرة، مِنْ زائدة، ومولود مبتدأ، ويولد خبره، أي ما مولود يوجد على أمر من الأمور إلا على الفطرة. وفي الرواية الآتية في باب "ما قيل في أولاد المشركين": كل مولود يولد على الفطرة، والمراد به المولود من بني آدم، وصرح بذلك جعفر بن ربيعة عن الأعرج عن أبي هريرة بلفظ "كل بني آدم يولد على الفطرة". واستشكل هذا التركيب بأن ظاهره يقتضي أنّ كل مولود يقع له التهويد وغيره مما ذكر، والغرض أن بعضهم يستمر مسلمًا ولا يقع له شيء، والجواب أن المراد من التركيب أن الكفر ليس من ذات المولود، ومقتضى طبعه، بل إنما حصل بسبب خارجي، فإنْ سلم من ذلك السبب استمر على الحق، وهذا يقوي المذهب الصحيح في تأويل الفطرة، كما سيأتي. وقوله: يولد على الفطرة، ظاهره تعميم الوصف المذكور في عموم المولودين، ولمسلم عن أبي صالح عن أبي هُريرة "ليس من مولود يولد إلا على هذه الفِطرة، حتى يعبِّر عنه لسانه". وفي رواية له من هذا الوجه "ما من مولود إلا وهو على المِلة". وحكى ابن عبد البَرَّ عن قوم أنه لا يقتضي العموم، وإنما المراد أن كل من ولد على الفطرة، وكان له أبوان على غير الإِسلام نقلاه إلى دينهما، فتقدير الخبر على هذا: كل مولود يولد على الفطرة، وأبواه يهوديان مثلًا، فإنهما يهودانه، ثم يصير عند بلوغه إلى ما يحكم به عليه. واحتجوا بحديث أُبَي بن كعب، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الغلام الذي قتله الخِضر طبعه الله يوم طبعه كافرًا"، وبما رواه سعيد بن منصور، يرفعه "أن بني آدم خلقوا طبقات، فمنهم من يولد مؤمنًا، ويحيا مؤمنًا، ويموت مؤمنًا، ومنهم من يولد كافرًا، ويحيا كافرًا ويموت كافرًا، ومنهم من يولد مؤمنًا، ويحيا مؤمنًا ويموت كافرًا. ومنهم من يولد كافرًا ويحيا كافرًا ويموت مؤمنًا. قالوا: ففي هذا الحديث، وفي غلام الخضر، ما يدل على أن الحديث ليس على عمومه، وأجيب بأن حديث سعيد بن منصور فيه ابن جدعان، وهو ضعيف، ويكفي في الرد عليهم رواية أبي صالح المتقدمة. ورواية جعفر بن ربيعة

المتقدمة أيضًا، واختلف السلف في المراد بالفطرة في هذا الحديث على أقوال كثيرة. وحكى أبو عبيد أنه سأل محمد بن الحسن، صاحب أبي حنيفة عن ذلك، فقال: كان هذا في أول الإِسلام قبل أن تنتزل الفرائض، وقبل الأمر بالجهاد. قال أبو عُبَيد: كأنّه عني أنه لو كان يولد على الإِسلام فمات قبل أن يهوَّدَه أبواه مثلًا لم يَرثاه، والواقع في الحكم أنهما يرثانه، فدل على تغير الحكم، وقد تعقبه ابن عبد البر وغيره، وسبب الاشتباه أنه حمله على أحكام الدنيا، فلذلك ادَّعى فيه النسخ. والحق أنه إخبار من النبي -صلى الله عليه وسلم- بما وقع في نفس الأمر، ولم يرد به إثبات أحكام الدنيا. وأشهر الأقوال أن المراد بالفطرة الإِسلام. قال ابن عبد البَر: هو المعروف عند عامة السلف، وأجمع أهل العلم بالتأويل على أن المراد بقوله تعالى {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} الإِسلام، وبحديث عياض بن حِمار عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه "أني خلقتُ عبادي حُنفاء كلهم، فاجتالتهم الشياطين عن دينهم .. " الحديث. وقد رواه غيره فزاد "حنفاء مسلمين"، ورجحه بعض المتأخرين بقوله تعالى {فِطْرَتَ اللَّهِ} لأنها إضافة مدح، وقد أمر نبيه بلزومها، فعلم أنها الإِسلام. وقال ابن جرير: قوله تعالى {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ} أي: سدد لطاعته حنيفًا أي: مستقيمًا. فطرة أي: صبغة الله، وهو منصوب على المصدر الذي دل عليه الفعل الأول، أو منصوب بفعل مقدَّر: أي: الزم. وقد مرَّ قول الزهريّ في الصلاة على المولود من أجل أنه ولد على فطرة الإِسلام، ويأتي في تفسير سورة الروم جزم المصنف بأن الفطرة الإِسلامُ، وقد قال أحمد: من مات أبواه وهما كافران حكم بإسلامه. واستدل بحديث الباب، فدل على أنه فسر الفطرة بالإِسلام، وتعقبه بعضهم بأنه كان يلزم أن الأصح استرقاقه، ولا يحكم بإسلامه، إذا أسلم أحد أبويه، والحق أن الحديث سِيق لبيان ما هو في نفس الأمر، لا لبيان الأحكام في الدنيا. وحكى محمد بن نصر أن آخر قوْليْ أحمد أن المراد بالفطرة الإِسلام، وقال ابن القَيِّم: قد جاء عن أحمد أجوبة كثيرة يحتج فيها بهذا الحديث، على أن الطفل إنما يحكم بكفره بأبويه، فإذا لم يكن بين أبوين كافرين فهو مسلم. وروى أبو داود عن حمّاد بن سَلَمة أنه قال: المراد أن ذلك حيث أخذ الله عليهم العهد، حيث قال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} ونقله ابن عبد البَرّ عن الأوزاعيّ وسَحْنون. ونقله أبو يعلي بن الغراء عن أحد الروايتين، عند أحمد، وهو ما حكاه الميمونيّ عنه، وذكره ابن بَطّة، وسيأتي في آخر الحديث، ثم يقول أبو هريرة: فطرة الله التي فطر الناس عليها إلى قوله القيم، وظاهره أنه من بقية الحديث المرفوع، وليس كذلك، بل هو من كلام أبي هريرة أُدرج في الخبر. بينه مسلم عن الزّبيديّ عن الزُّهْريّ، ولفظه "ثم يقول أبو هريرة اقرؤا أن شئتم" قلت: البيان الذي في مسلم هو الذي عند المصنف كل منهما عزا القول لأبي هريرة إلا أن مسلمًا قال إنه يقول "اقرؤا إن شئتم"، وهذا ليس فيه زيادة بيان بعد عزو القول له.

قال الطيبيّ: ذكر هذه الآية عقب هذا الحديث يقويّ ما أوّله حماد بن سلمة من أوجه. أحدها أن التعريف في قوله "على الفطرة" إشارة إلى معهود، وهو قول الله تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ} ومعنى المأمور في قوله {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} أي أثبت على العهد القديم. ثانيها ورود الرواية بلفظ "الملة" بدل "الفطرة والدين" في قوله {لِلدِّينِ حَنِيفًا} هو عين الملة. قال الله تعالى: {دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} ويؤيده حديث عِياض المتقدم. ثالثها التشبيه بالمحسوس المُعَاين، ليدل على أن ظهوره يقع في البيان مبلغ هذا المحسوس، والمراد تمكن الناس من الهدى، في أصل الجِبلَّة، والتهيؤ لقبول الدِّين، فلو ترك المرء عليها، لاستمر على لزومها, ولم يفارقها إلى غيرها, لأن حسن هذا الدين ثابتٌ في النفوس، وإنما يعدل عنه لآفة من الآفات البشرية كالتقليد. وإلى هذا مال القرطبيّ في المفهم، فقال: المعنى أن الله خلق قلوب بني آدم مؤهلة لقبول الحق، كما خلق أعينهم وأسماعهم قابلة للمرئيات والمسموعات، فما دامت باقية على ذلك القبول، وعلى تلك الأهلية أدركت الحق، ودين الإِسلام وهو الدين الحق. وقد دل على هذا المعنى بقية الحديث، حيث قال: كما تَنْتُج البهيمةُ، يعني أن البهيمة تنتج الولد سالمًا، كامل الخلقة، فلو ترك كذلك كان بريئًا من العيب، لكنهم تصرفوا فيه بقطع أذنه مثلًا، فخرج عن الأصل، وهو تشبيه واقع، ووجهه واضح. وقال ابن القَيِّم: ليس المراد بقوله "يولد على الفطرة" أنه خرج من بطن أمه يعلم الدين, لأن الله يقول {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} ولكن المراد أن فطرته مقتضية لمعرفة دين الإِسلام، فنفس الفطرة تستلزم الإقرار والمحبة، وليس المراد مجرد قبول الفطرة لذلك, لأنه لا يتغير بتهويد الأبوين مثلًا، بحيث يخرجان الفطرة عن القبول، وإنما المراد أن كل مولود يولد على إقراره بالربوبية، فلو خُلِّي وعُدِم المعارض لم يعدل عن ذلك إلى غيره، كما أنه يولد على محبة ما يلائم بدنه، من ارتضاع اللبن حتى يصرفه عنه الصارف، ومن ثم شبهت الفطرة باللبن، بل كانت إياه في تأويل الرؤيا. وفي المسألة أقوال أُخر، منها قول ابن المبارك: إن المراد أنه يولد على ما يصير إليه من شقاوة أو سعادة، فمن علم الله أنه يصير مسلمًا ولد على الإِسلام، ومن علم أنه يصير كافرًا ولد على الكفر، فكأنَّه أوَّل الفطرة بالعلم. وتعقب بأنه لو كان كذلك، لم يكف، لقوله "فأبواه يهوِّدانه .. " الخ معنى لأنهما فعلا به ما هو الفطرة التي ولد عليها فينافي التمثيل بحال البهيمة، ومنها أن المراد أن الله خلق فيهم المعرفة

والأفكار، فلما أخذ الميثاق من الذُّرِّيّة، قالوا جميعًا: بلى، فأما أهل السعادة: فقالوها طوعًا، وأما أهل الشقاوة فقالوها كرهًا. وقال محمد بن نصر: سمعت إسحاق بن راهوَيه يذهب إلى هذا المعنى ويرجحه، وتعقب بأنه يحتاج إلى نقل صحيح، فإنه لا يعرف هذا التفصيل، عند أخذ الميثاق، إلا من السّدي، ولم يسنده، وكأنه أخذه من الإسرائيليات، حكاه ابن القيّم، ومنها أن المراد بالفطرة الخلقة، أي: يولد سالمًا لا يعرف كفرًا ولا إيمانًا، ثم يعتقد إذا بلغ التكليف، ورجحه ابن عبد البر، وقال: إنه يطابق التمثيل بالبهيمة، ولا يخالف حديث عياض, لأن المراد بقوله "حنيفًا" أي: على استقامة. وتعقب بأنه لو كان كذلك، لم يقتصر في أحوال التبديل على ملل الكفر، دون ملة الإِسلام، ولم يكن لاستشهاد أبي هريرة بالآية معنى. ومنها قول بعضهم: إن اللام في "الفطرة" للعهد، أي: فطرة أبويه، وهو مُتَعقب بم ذُكر في الذي قبله، ويؤيد المذهب الصحيح أنّ قوله "فأبواه يهودانه .. " الخ، ليس فيه لوجود الفطرة شرط، بل ذكر ما يمنع موجبها، كحصول اليهودية مثلًا، متوقف على أشياء خارجة عن الفطرة، بخلاف الإِسلام. وقال ابن القيم سبب اختلاف العلماء في معنى الفطرة في هذا الحديث أن القدرية كانوا يحتجون به على أن الكفر والمعصية ليسا بقضاء الله، بل مما ابتدأ الناسُ إحداثه، فحاول جماعة من العلماء مخالفتهم بتأويل الفطرة على غير معنى الإِسلام، ولا حاجة لذلك, لأن الآثار المنقولة عن السلف تدل على أنهم لم يفهموا من لفظ الفطرة إلا الإِسلام، ولا يلزم من حملها على ذلك موافقة مذهب القدرية, لأن قوله "فأبواه يهودانه" إلخ محمولٌ على أن ذلك يقع بتقدير الله تعالى، ومنهم ثم احتج عليهم مالك بقوله في آخر الحديث: الله أعلم بما كانوا عاملين. وقوله: فأبواه، أي: المولود، الفاء إما للتعقيب أو للسببية أو جزاء شرط مقدّر: إذا تقرر ذلك فمن تغير كان سبب تغيره من أبويه. وهو قوله "يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه". إما بتعليمها إياه أو بترغيبهما فيه. وكونه تبعًا لهما في الدين يقتضي أن يكون حكمه حكمهما في الدنيا فإن سبقت له السعادة أسلم، وإلا مات كافرًا. وخص الأبوان بالذكر للغالب، فلا حجة فيه لمن حكم بإسلام الطفل الذي يموت أبواه كافرين، كما هو قول أحمد، فقد استمر عمل الصحابة ومن بعدهم على عدم التعرض لأطفال أهل الذمة. وقوله: كما تُنْتج البهيمة بضم أوله وسكون النون وفتح المثناة بعدها جيم، قال أهل اللغة: نُتَجِت الناقة على صيغة ما لم يسم فاعله تُنْتج، بفتح المثناة، وأنْتَج الرجل ناقته ينتُجها إنتاجًا أي: تلد البهيمة بهيمة، بالنصب مفعول به. قال الطيبي: قوله "كما" حال من الضمير المنصوب في يهودانه، أي: يهودان المولود بعد أن

خلق على الفطرة تشبيهًا بالبهيمة التي جُدعت بعد أن خلقت سليمة، أو هو صفة مصدر محذوف، أي يغيرانه تغييرًا مثل تغييرهم البهيمة السليمة. وقد تنازعت الأفعال الثلاثة في "كما" على التقديرين. وقوله: جمعاء، أي: لم يذهب من بدنها شيء، سميت بذلك لاجتماع أعضائها، وفي الرواية الآتية "كمثل البهيمة تُنْتَج البهيمة" أي: تلدها، فالبهيمة الثانية بالنصب على المفعولية. وقوله: هل تُحِسّون، بضم أوله، من الإحساس، والمراد به العلم، وقوله: "فيها من جدعاء" بجيم مفتوحة ودال مهملة ساكنة ممدودًا، أي: مقطعة الأُذُن أو الأنف أو الأطراف، والجملة صفة أو حال، أي: بهيمة مقولًا فيها هذا القول، أي كل من نظر إليها قال هذا القولَ، لظهور سلامتها. وفيه إيماء إلى أن تصميمهم على الكفر كان بسبب صَمَمهم عن الحق، وفي الرواية الآتية "هل ترى فيها جدعاء" قال الطيبي: هو في موضع الحال، أي: سليمة مقولًا في حقها ذلك. وفيه نوع التأكيد. وقوله: ثم يقول أبو هريرة إلخ، قد مرَّ أن هذا مدرج من كلام أبي هُريرة. وقوله: فطرةَ الله، أي: خِلقته، نُصِبَت على الإِغراء أو المصدر لما دل عليه ما بعدها. قال صاحب الكشَّاف: أي: الزموا فطرة الله، أو عليكم فطرة الله، أي: خلقهم قابلين للتوحيد ودين الإِسلام، لكونه على مقتضى العقل والنظر الصحيح، حتى أنهم لو تركوا طباعهم لما اختاروا عليه دينًا آخر. قال البرماويّ: ولا يخفى ما فيه من نزعة اعتزالية، وقال أبو حيان في البحر: قوله "أو عليكم فطرة الله" لا يجوز لأن فيه حذف كلمة الإغراء، ولا يجوز حذفها, لأنه قد حذف الفعل وعوض عليك منه، فلو جاز حذفه لكان إجحافًا، إذ فيه حذف العوض والمعوض عنه. وقوله: التي فطر الناس عليها، أي خَلَقهم عليها، وهي قبول الحق، وتمكنهم من إدراكه إلى آخر ما مرَّ في تفسير الفطرة من الأقوال الكثيرة. وقوله: لا تبديل لخلق الله، أي: دين الله، كما قال به سعيد بن جبير وقتادة وإبراهيم النخعيّ. وقيل: معناه الإِحصاء، كما قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة، واستشكل هذا مع كون الأبوين يهودانه، وأجيب بأنه مؤول، فالمراد ما ينبغي أن تُبدَّلَ تلك الفطرة، أو من شأنها أن لا تبدل، أو الخبر بمعنى النهي. وقوله: "ذلك" إشارة إلى الدين المأمور بإقامة الوجه له في قوله {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ} أو الفطرة إنْ فُسِّرت بالملة. وقوله: الدين القيم، أي: المستوي الذي لا عوج فيه. اعلم أن ابن هشام في المغني ذكر عن ابن هشام الخَضْراويّ أنه جعل هذا الحديث شاهدًا لورود حتى للاستثناء، فذكره بلفظ "كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللّذان يهوِّدانه وينصِّرانه" قال: ولك أن تُخَرِّجه على أن فيه حذفًا، أي: يولد على الفطرة، ويستمر على ذلك حتى يكون، يعني فتكون حتى للغاية على بابها.

رجاله أربعة

ومال صاحب المغني في موضع آخر إلى أنه ضمّن يولد معنى ينشأ مثلًا، والحديث في تفسير ابن مَرْدَويه بلفظ "ليست نسمةٌ تولد إلا ولدت على الفطرة، فما تزال عليها حتى يبين عنها لسانها .. " الحديث، وهو يؤيد الاحتمال المذكور، واللفظ الذي ساقه الخضراويّ ليس في الصحيحين ولا غيرها، إلا أن عند مسلم، كما مرَّ في رواية "حتى يعرب عنه لسانه" وفي مستخرج أبي نعيم على مسلم بلفظ "ما من مولود يولد في بني آدم إلا يولد على الفطرة، حتى يكون أبواه يهودانه .. " الحديث، وهو عند مسلم عن محمد بن حرب بلفظ "ما من مولود إلا يولد على الفطرة، أبواه يهودانه .. " الحديث. رجاله أربعة قد مرّوا، مرَّ أبو اليمان وشعيب في السابع من بدء الوحي، والزُّهريُّ في الثالث منه، وأبو هريرة في الثاني من الإِيمان. الحديث الرابع عشر والمئة حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ. ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}. قوله أخبرني أبو سلمة، هكذا رواه ابن أبي ذيب عن الزُّهري، وتابعه يونس، كما ذكر هنا من طريق عبد الله بن المبارك عنه، وأخرجه مسلم عن ابن وهب عن يونس، وخالفهما الزبيديّ ومعمر، فروياه عن الزهريّ عن سعيد بن المَسَيِّب بدل أبي سلمة، وأخرجه الذُّهْليّ في الزُّهريات عن الأوزاعيّ عن الزُّهريّ عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة، وقد مرَّ قريبًا عن شُعيب عن الزُّهريّ عن أبي هُريرة من غير ذكر واسطة، وصنيع البخاري يقتضي ترجيح طريق أبي سلمة، وصنيع مسلم يقتضي تصحيح القولين عن الزهريّ، وبذلك جزم الذُّهلي، وهذا الحديث قد استوفيت مباحثه في الذي قبله. رجاله ستة قد مرّوا، مرَّ عبدان عبد الله بن عثمان وعبد الله بن المبارك في السادس من بدء الوحي، ومرَّ يونس بن زيد في متابعة بعد الرابع منه، وأبو سَلَمة في الرابع منه، ومرَّ محل الزهريّ وأبي هريرة في الذي قبله. ثم قال المصنف:

باب إذا قال المشرك عند الموت لا إله إلا الله

باب إذا قال المشرك عند الموت لا إله إلاَّ الله قال الزين بن المنير: لم يأت بجواب "إذا" لأنه -صلى الله عليه وسلم-، لما قال لعمه: قل لا إله إلا الله، أشهد لك بها، كان محتملًا لأن يكون ذلك خاصة له, لأن غيره إذا قالها، وقد أيقن بالوفاة لم تنفعه، ويحتمل أن يكون ترك جواب "إذا" ليفهم الواقف عليه أنه موضع تفصيل وفكر، وهذا هو المعتمد، وهو أنه لا يخلو إما أن يكون من أهل الكتاب أو لا يكون، وعلى التقديرين لا يخلو إما أن يقول لا إله إلا الله في حياته قبل معاينة الموت، أو قالها عند موته، وعلى كلا التقديرين لا ينفعه ذلك عند الموت، لقوله تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا} بإسناد "ينفعه ذلك" إذا كان في حياته، ولم يكن من أهل الكتاب حتى يحكم بإسلامه، لقوله عليه الصلاة والسلام: "حتى يقولوا لا إله إلا الله" وإن كان من أهل الكتاب، فلا ينفعه حتى يتلفظ بكلمتي الشهادة، ويتبرأ عن كل دين سوى الإِسلام. قلت: حديث اليهودي الصبي الماضي قريبًا، لم يقع فيه هذا التبرؤ، قبل إسلامه. وقال عليه الصلاة والسلام: "الحمد لله الذي أنقذه من النار"، اللهم إلا أن يكون هذا خاصًا بالصبي، لكونه لم يعقل الأديان. الحديث الخامس عشر والمئة حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لأَبِى طَالِبٍ يَا عَمِّ، قُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ يَا أَبَا طَالِبٍ، أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ، وَيَعُودَانِ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ، حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَبَي أَنْ يَقُولَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَمَا وَاللَّهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ، مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ} الآيَةَ.

قوله: لما حضرت أبا طالب الوفاة، قال الكرماني: المراد حضرت علامات الوفاة، وإلا فلو كان انتهى إلى المعاينة، لم ينفعه الإِيمان لو آمن، ويدل على الأول ما وقع من المراجعة بينه وبينهم. ويحتمل أن يكون انتهى إلى تلك الحالة، لكن رجا النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه إذا أقر بالتوحيد، ولو في تلك الحالة، أن ذلك ينفعه بخصوصه، وشفاعته -صلى الله عليه وسلم-، لمكانه منه، ولهذا قال: "أُجادل لك بها" أو "أشفع لك" كما يأتي قريبًا. ويؤيد الخصوصية أنه بعد أن امتنع من الإقرار بالتوحيد، وقال: هو على ملة عبد المطلب، ومات على ذلك، أن النبي -صلى الله عليه وسلم-، لم يترك الشفاعة له، بل شفع له حتى خفف عنه العذاب بالنسبة لغيره، وكان ذلك من الخصائص في حقه. وتأتي الرواية بذلك في السيرة. وقوله: فوجد عنده أبا جهل، وعبد الله بن أبي أُمية، يحتمل أن يكون المسيب حضر هذه القصة، فإنّ المذكورين من بني مخزوم، وهو من بني مخزوم أيضًا، وكان الثلاثة يومئذ كفارًا، فمات أبو جهل على كفر، وأسلم الآخران، وأما قول بعض الشَّرَّاح: هذا الحديث من مراسيل الصحابة، فمردود, لأنه استدل بأن المسيب على قول مصعب من مُسْلِمة الفتح، وعلى قول العسكري ممن بايع تحت الشجرة. كما ذكره البخاري في المغازي قال: فأيًا ما كان، فلم يشهد وفاة أبي طالب, لأنه توفي هو وخديجة في أيام متقاربة، في عام واحد، والنبيّ -صلى الله عليه وسلم- يومئذ نحو الخمسين. ووجه الرد أنه لا يلزم من كون المسيب تأخر إسلامه أنْ لا يشهد وفاةَ أبي طالب، كما شهدها عبد الله بن أبي أمية، وهو يومئذ كافر، ثم أسلم بعد ذلك، وقوله: يا عم، وفي رواية: أي: عم، أمّا أي: فهي بالتخفيف، حرف نداء، وأما عم، فهو منادى مضاف، ويجوز فيه إثبات الياء وحذفها. وقوله: كلمةً، بالنصب على البدل من لا إله إلا الله، أو الاختصاص، ويجوز الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف. وقوله: أشهد لك بها عند الله، وفي رواية القصص "أحَاجّ لك بها" أي: بتشديد الجيم، من المُحاجّة، وهي مفاعلة من الحُجّة، والجيم مفتوحة على الجزم جواب الأمر، والتقدير: أنْ تقل أُحاجّ، ويجوز الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، وفي رواية مجاهد عند الطبريّ "أجادل عنك بها"، زاد الطبريّ عن الزُّهري، قال: أي: عمِّ، إنك أعظم الناس عليَّ حقًا، وأحسنهم عندي يدًا، فقل كلمة تجبْ لي بها الشفاعة فيك يوم القيامة" وقوله: فلم يزل يَعرضِها، بفتح أوله وكسر الراء، وعند الطبريّ عن الشعبيّ "فقال له ذلك مرارًا". وقوله: ويعودان بتلك المقالة، أي: ويعيدانه إلى الكفر بتلك المقالة، كأنه قال: كأن قارب أنْ يقولها فيردّانه. والرواية الأولى أوضح. وعند مسلم، "فلم يزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعرضها عليه، ويقول له تلك المقالة".

قال القرطبيّ في "المفهم": كذا في الأصول، وعند أكثر الشيوخ، والمعنى أنه عرض عليه الشهادة، وكررها عليه. وقوله: آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب. وقوله هو أراد بذلك نفسه، ويحتمل أن يكون قال: أنا، فغيَّرها الراوي أنفةَ أن يحكي كلام أبي طالب، استقباحًا للفظ المذكور، وهو من التصرفات المستحسنة. وفي رواية مجاهد قال: يا ابن أخي، ملة الأشياخ. وعند مسلم والتِّرمذيّ والطبريّ عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: لولا أن تعيّرني قريشٌ، يقولون ما حمله عليه إلا جَزَعَ الموت، لأقررت بها عينك. وفي رواية الشعبي عند الطبري قال: لولا أن يكون عليك عار لم أبال أن أفعل، وضبط "جَزَع" بالجيم والزاي محركين، ولبعض رواة مسلم بالخاء المعجمة والراء، وقوله: وأبى أن يقول لا إله إلا الله، هو تأكيد من الراوي في نفي وقوع ذلك من أبي طالب، وكأنه استند في ذلك إلى عدم سماعه ذلك منه في تلك الحال، وهذا القدر هو الذي يمكن إطلاعه عليه، ويحتمل أن يكون أطلعه النبي -صلى الله عليه وسلم- على ذلك. وقوله: والله لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عَنْك، وفي رواية, ما لم أُنه عنه، أي: الاستغفار. قال الزين بن المنير: ليس المراد طلب المغفرة العامة، والمسامحة بذنب الشرك، وإنما المراد تخفيف العذاب عنه، كما جاء مبينًا في حديث آخر، قال في الفتح: هذا غفلة شديدة منه، فإن الشفاعة لأبي طالب في تخفيف العذاب، لم ترد، وطلبها لم يُنْهَ عنه، وإنما وقع النهي عن طلب المغفرة العامة، وإنما ساغ ذلك للنبي اقتداءًا بإبراهيم في ذلك، ثم ورد نسخ ذلك، كما يأتي واضحًا قريبًا. وقوله: فأنزل الله تعالى فيه الآية، يعني قوله تعالى {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} أي: ما ينبغي لهم ذلك، وهو خبر بمعنى النهي، كذا هو في هذه الرواية. وروى الطبريُّ عن عمرو بن دينار قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك، فلا أزال أستغفر لأبي طالب حتى ينهاني عنه ربي" قال أصحابه: لنستغفرنَّ لآبائنا كما استغفر نبينا لعمه، فنزلت، قال في الفتح: وهذا إشكال, لأن وفاة أبي طالب كانت بمكة قبل الهجرة اتفاقًا. قلت: لم أعرف وجه الإشكال، فإنه عليه الصلاة والسلام بمكة كانت له أصحاب ماتت آباؤهم على الكفر، فيمكن أن يحصل منهم هذا القول. وقد ثبت أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أتى قبر أمه لما اعتمر، فاستأذن ربه أن يستغفر لها، فنزلت هذه الآية، والأصل عدم تكرار النزول، وأخرج الحاكم وابن أبي حاتم عن مسروق عن ابن مسعود قال: خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- يومًا إلى المقابر، فاتبعناه، فجاء حتي جلس إلى قبر منها، فناجاه طويلًا، ثم بكى فبكينا لبكائه، فقال: إن القبر الذي جلست عنده قبر أُمي، وإني استأذنت ربي في الدعاء لها، فلم يأذن لي، فأنزل الله عليّه {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ}.

رجاله سبعة

وأخرج أحمد عن ابن بُريدة عن أبيه نحوه، وفيه: نزل بنا ونحن قريب من ألف راكبٍ، ولم يذكر نزول الآية. وفي رواية الطبرانيّ من هذا الوجه: لما قدم مكة أتى رسم قبرٍ، وعن فضيل بن مرزوق عن عطية: لما قدم مكة وقف على قبر أُمه، حتى سخنت عليه الشمس، رجاءَ أن يؤذَن له، فيستغفر لها، فنزلت. وللطبرانيّ عن عكرمة عن ابن عباس نحو حديث ابن سعود، وفيه: لما هبط من ثنية عَسفان. وفيه نزول الآية في ذلك، فهذه طرق يعضَّد بعضها بعضًا. وفيها دلالة على تأخير نزول الآية عن وفاة أبي طالب: ويؤيده أيضًا أنه عليه الصلاة والسلام قال يوم أُحُد، بعد أن شج وجهه الشريف: "اللهم اغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون". لكن يحتمل في هذا أن يكون الاستغفار خاصًا بالأحياء، وليس البحث فيه. ويحتمل أن يكون نزول الآية تأخر، وأنْ كان سببها تقدم، ويكون لنزولها سببان: متقدم، وهو أمر أبي طالب، ومتأخر وهو أمر آمنة. ويؤيد تأخير النزول ما جاء في تفسير "براءة" من استغفاره -صلى الله عليه وسلم- للمنافقين، حتى نزل النهي عن ذلك، فإن ذلك يقتضي تأخير النزول وإنْ تقدم السبب. ويشير إلى ذلك قوله في حديث الباب، في رواية القصص: وأنزل الله في أبي طالب: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} لأنه يُشعر بأن الآية الأُولى نزلت في أبي طالب وغيره، والثانية نزلت فيه وحده. ويؤيد تعدد السبب ما أخرجه أحمد عن عليّ قال: سمعت رجلًا يستغفر لوالديه وهما مشركان، فذكرت ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فأنزل الله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ} الآية. وروى الطبريّ عن مجاهد قال: قال المؤمنون: ألا نستغفر لآبائنا كما استغفر إبراهيم لأبيه؟ فنزلت. وعن قتادة قال: ذكرنا له أنَّ رجالًا فذكر نحوه، وفي الحديث: أن من لم يعمل خيرًا قطُّ، إذا ختم عمره بشهادة أن لا إله إلا الله حكم بإسلامه، وأُجريت عليه أحكام المسلمين، فإن قارن نطقُ لسانه عَقْدَ قلبه نفعه ذلك عند الله تعالى، بشرط أن لا يكون وصل إلى حد انقطاع الأمل من الحياة، وعجز عن فهم الخطاب، ورد الجواب، وهو وقت المعاينة، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ}. ومرت زيادة لهذا عند الترجمة. رجاله سبعة: قد مرّوا، إلا المسيب، وفيه ذكر أبي طالب وعبد الله بن أبي أُمية، إسحاق، إما ابن راهويه، وقد مرّ في تعليق بعد الحادي والعشرين من العلم، وإما ابن منصور، وقد مرَّ في الخامس والثلاثين من الإيمان, ومرَّ يعقوب بن إبراهيم في السادس عشر من العلم، ومرَّ أبوه إبراهيم بن سعد في السادس عشر من الإيمان, وسعيد بن المسيب في التاسع عشر منه، ومرَّ صالح بن كيسان في السابع من بدء الوحي، وابن شهاب في الثالث منه.

والسابع: المُسَيّب بن حَزْن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عِمران بن مخزوم، القرشي، المخزوميّ، له ولأبيه حَزْن صحبة، وهو والد سعيد، وكان ممن بايع تحت الشجرة، وكان رجلًا تاجرًا، وقد شهد فتوح الشام، له سبعة أحاديث، اتفقا على حديثين، وانفرد البخاري بواحد. روى عنه ابنه سعيد، قال في الإصابة: لم يتحرر لي وقت موته. ومرَّ أبو طالب في الرابع من الاستسقاء، وعبد الله بن أبي أُمية، واسم أبي أُمية حُذيفة، وقيل سَهل بن المُغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم المخزوميّ، أُمه عاتكة بنت عبد المطلب، عمة النبي -صلى الله عليه وسلم-، أخو زوجته أُم سلمة، كان أبوه أبو أُمية يسمى "زادَ الراكب"، سمي بذلك لأنه كان إذا سافر معه أحد كان زاده عليه، وزعم ابن الكلبي أن أزواد الركب ثلاثة، زَمْعَة بن الأسود بن المطلب بن عبد مناف، قُتل يوم بدر كافرًا، ومسافر بن أبي عمرو بن أمية، وأبو أُمية بن المغيرة، وهو أشهرهم. وقال مصعب: لا تعرف قريش زادَ الركبِ إلا أبا أُمية وحده. قال مصعب الزبيريّ: كان عبد الله بن أبي أُمية شديدًا على المسلمين، شديد العداوة للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو الذي قال له عليه الصلاة والسلام: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا} إلخ الآية. ثم هداه الله إلى الإِسلام، وهاجر قبل الفتح، ولقي النبي -صلى الله عليه وسلم- بطريق مكة، هو وأبو سفيان بن الحارث، قال ابن إسحاق: فالتمسا الدخول عليه، فمنعهما، فكلمته أُم سلمة، فقالت: يا رسول الله صلى الله عليك وسلم، ابن عمك، تعني أبا سفيان، وابن عمتك، تعني عبد الله. فقال: لا حاجة لي بهما، أما ابن عمي فهتك عرضي، وأما ابن عمتي فقال لي بمكة ما قال. ثم أذن لهما فدخلا وأسلما. وقال الزبير بن بكَّار: كان شديدًا على المسلمين، ثم خرج مهاجرًا فلقي النبي -صلى الله عليه وسلم-، بين السقيا والعرج، هو وأبو سفيان بن الحارث، فأعرض عنهما، فقالت أُم سلمة: لا تجعل ابن عمك وابن عمتك أشقى الناس بك. وقال عليٌّ لأبي سفيان: ائتِ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- من قِبَل وجهه، وقيل له ما قال أُخوة يوسف ليوسف، ففعل، فقال: لا تثريب عليكم اليوم، وقبل منهما وأسلما، وشهد عبد الله الفتحَ وحنينًا واستشهد بالطائف. له ذكر في الصحيحين في حديث المخنث الذي قال له عند أُم سلمة: "يا عبد الله، إن فتح الله عليكم الطائف غدًا فعليك بابنة غيلان، فإنها تُقْبل في أربع وتدبر في ثمان ... " الحديث. وزَعْمُ مسلم أن عروة بن الزبير، رُوي عنه، أنه رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- في بيت أُم سلمة يصلي في ثوب واحد ملتحفًا به، مخالفًا بين طرفيه - غَلَطٌ صُراح, لأنه مات قبل أن يولد عروة بكثير، وإنما الذي روى عروة عن عبد الله بن عبد الله بن أبي أُمية، ولهم عبد الله بن أبي أُمية بن وهب، حليف بني أسد، وابن أخيهم استشهد بخيبر، ولهم عبد الله بن أمية اثنان: أحدهما بدريّ. وفي الحديث ذكر عدو الله، أبي جهل، يكنى أبا الحكم، واسمه عمرو بن هشام بن المُغيرة

لطائف إسناده

المخزوميّ، ويقال: ابن الحنظلية، واسمها أسماء بنت سلامة بن مَخْرَمة، كان أحول مأبونًا، وكان رأسه أول رأس جزَّ في الإِسلام، كما ذكره ابن دريد في وشاحه. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإِخبار بالجمع والإِفراد والعنعنة، وهو من أفراد الصحيح, لأن المسيب لم يرو عنه إلا ابنه سعيد، ورواته مروزيٌّ والبقية مدنيون، وفيه ثلاثة من التابعين، ورواية الابن عن الأب. أخرجه البخاري أيضًا في سورة "براءة". ثم قال المصنف:

باب الجريدة على القبر

باب الجريدة على القبر أي وضعها أو غرزها، ثم قال: وأوصى بُريدة الأسلميُّ أن يُجعل في قبره جريدتان، وأثر بُريدة هذا مرَّ الكلام عليه في باب "من الكبائر أنْ لا يستتر من بوله" من كتاب الوضوء وهذا وصله ابن سعد من طريق مُوَرِّق العجليّ، وبُريدة قد مرَّ في الثلاثين من مواقيت الصلاة. ثم قال: ورأى ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما، فسطاطًا على قبر عبد الرحمن، فقال: انزعه يا غلام، فإنما يُظله عمله. الفُسطاط، بضم الفاء وسكون المهملة وبطاءين مهملتين، هو البيت من الشعر، وقد يطلق على غير الشعر، وفيه لغات أخرى: تثليث الفاء، وبالمثناتين بدل الطاءين، وإبدال الطاء الأولى مثناة، وإدغامها في السن, وكسر أوله في الثلاثة. ولفظ الأثر كما عند ابن سعد موصولًا "مرَّ عبد الله بن عمر على قبر عبد الرحمن بن أبي بكر، أخي عائشة، وعليه فُسطاط مضروبٌ فقال: يا غلام، انزعه، فإنما يظله عمله. قال: تضربني مولاتي، قال: كلا، فنزعه. ومن طريق ابن عون عن رجل قال: قدمتْ عائشةُ ذا طُوَيّ، حين رَفَعوا أيديهم عن عبد الرحمن بن أبي بكر، فأمرتْ بفُسطاط ضرب على قبره، وكَّلَت به إنسانًا، وارتحلت، فقدم ابن عمر فذكر نحو الحديث. وقد مرَّ الكلام مستوفى على ضرب الفسطاط على القبر، في باب "ما يكره من اتخاذ القبر على المساجد". ووجه إدخال أثر ابن عمر في هذه الترجمة من حيث، إنه يرى أن وضع النبي -صلى الله عليه وسلم- الجريدتين على القبرين، خاص بهما، وأن بُريدة حَمَله على العموم، فلذلك عقب أثر بُريدة بأثر عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، وهذا التعليق وصله أيضًا ابن سعد من طريق أيوب بن عبد الله بن يسار. وابن عمر مرَّ في أول الإِيمان قبل ذكر حديث منه، وعبد الرحمن المراد به عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، وقد مرَّ في الرابع من الغسل. ثم قال: وقال خارجة بن زيد: رأيْتُني ونحن شُبَّان في زمن عثمان، رضي الله تعالى عنه، وأن أشدنا وَثْبَةً الذي يشب قبر عثمان بن مظعون حتى يجاوزه. قوله: رأيتُني، بضم المثناة، والفاعل والمفعول ضميران لشيء واحد، وهو من خصائص أفعال القلوب، وفيه جواز تعلية القبر ورفعه، عن وجه الأرض، ومناسبته من جهة أن وضع الجريد على القبر يرشد إلى جواز وضع ما يرتفع به ظهر القبر عن الأرض، وسيأتي الكلام عليه في أواخر الجنائز.

وقال ابن المنير في الحاشية: أراد البخاري أن الذي ينفع أصحاب القبور هي الأعمال الصالحة، وأن عُلُو البناء والجلوس عليه، وغير ذلك، لا يضر بصورته، وإنما يضر بمعناه، إذا تكلم القاعدون عليه مثلًا بما يضر، ويمكن أن يقال: هذه الآثار المذكورة في هذا الباب يحتاج إلى بيان مناسبتها للترجمة، وإلى مناسبة بعضها لبعض، وذلك أنه لم يذكر حكم وضع الجريدة، وذكر أثر بُريدة، وهو يؤذن بمشروعيتها، ثم أثر ابن عمر المُشْعِر بأنه لا تأثير لما يوضع على القبر، بل التأثير للعمل الصالح، وظاهرهما التعارض، فلذلك أبهم حكم وضع الجريدة، قاله الزين بن المنير. والذي يظهر من تصرفه ترجيح الوضع، ويجاب عن أثر ابن عمر بأن ضرب الفسطاط على القبر لم يرد فيه ما ينتفع به الميت، بخلاف وضع الجريدة, لأن مشروعيتها ثبتت بفعله -صلى الله عليه وسلم-، وإن كان بعض العلماء قال إنها واقعة عين، يحتمل أن تكون مخصوصة بمن أطلعه الله تعالى على حال الميت، كما مرَّ في الباب المذكور آنفًا من الوضوء. وأما الآثار الواردة في الجلوس على القبر، فإن عموم قول ابن عمر "إنما يظله عمله" يدخل فيه أنه كما لا ينتفع بتظليله، ولو كان تعظيمًا له، لا يتضرر بالجلوس عليه، وان كان تحقيرًا له. الظاهر أن في هذا الأثر الإشارة إلى أن ضرب الفسطاط إن كان لغرض صحيح، كالستر من الشمس مثلًا للحي، لا لإظلال الميت فقط، جاز، وكأنه يقول: إذا أعلى القبر لغرض صحيح، لا لقصد المباهاة، جاز، كما يجوز القعود عليه لغرض صحيح، لا لمن أحدث عليه. وأثر خارجة هذا، وصله البخاري في التاريخ الصغير من طريق ابن إسحاق، وخارجة قد مرَّ هو وعثمان بن مظعون في السادس من الجنائز، ومرَّ عثمان بن عفان بعد الخامس من العلم. ثم قال: وقال عثمان بن حكيم: أخذ بيدي خارجه فأجلسني على قبر، وأخبرني عن عمه يزيد بن ثابت، قال: إنما كره ذلك لمن أحدث عليه، وسبب إخبار خارجة لعثمان بن حكيم بذلك، هو ما أخرجه مسدد في مسنده: أن عثمان بن حكيم حدّثه أبو سلمة بن عبد الرحمن، وعبد الله بن سرجس أنهما سمعا أبا هريرة يقول: لأنْ أجلس على جمرة فتحرق ما دون لحمي، حتى تفضي إليّ، أحَبُّ إليّ من أن أجلس على قبر" قال عثمان: فرأيت خارجه بن زيد في المقابر، فذكرت له ذلك، فأخذ بيدي .. الحديث، وإسناده صحيح. وأخرج مسلم حديث أبي هريرة مرفوعًا، وروى الطحاويّ عن محمد بن كعب قال: إنما قال أبو هريرة، من جلس على قبر يبول عليه، أو يتغوط، فكأنما جلس على جمرة. لكنّ إسناده ضعيف. قال ابن رشيد: الظاهر أن هذا الأثر، والذي بعده، من الباب الذي بعد هذا، وهو باب موعظة المحدث عند القبر، وقعود أصحابه حوله. وكأنَّ بعض الرواة كتبه في غير موضعه. قال: وقد يتكلف له طريق يكون به من الباب، وهو الإِشارة إلى أن ضرب الفسطاط، إلى آخر ما مرَّ في الأثر الذي قبله، وقوله: لمن أحدث عليه، المراد بالحدث هنا التغوطُ، ويحتمل أن يريد ما

هو أعم من ذلك، من إحداث ما لا يليق من الفحش، قولًا وفعلًا، لتأذّي الميت بذلك. فالمراد من النهي عن الجلوس على القبر الجلوسُ عليه للغائط أو البول، وذلك جائز في اللغة، يقال: جلس فلان للغائط، وجلس للبول، وهذا هو قول مالك وابن وهب وأبي حنيفة وصاحبيه. قال العينيّ: فما ذكره أصحابنا في كتبهم من حرم وطء القبور، والنوم عليها, ليس على ما ينبغي، وذهب قوم إلى حمل الجلوس على ظاهره، وقالوا بكراهة الجلوس على القبر، وأبقوا أحاديث النهي على ظاهرها، والقائل بهذا الحسن وابن سيرين والشافعيّ وأحمد وإسحاق وغيرهم. وعزاه في الفتح إلى الجمهور، واحتج الأولون بأثر ابن عمر الآتي بعد هذا, وأخرج الطحاويّ عن عليّ نحوه، وأخرج عن زيد بن ثابت مرفوعًا "إنما نهى النبيّ -صلى الله عليه وسلم- عن الجلوس على القبور لحدث غائط أو بول". ورجال إسناده ثقات. واحتج الآخرون بما أخرجه أحمد عن عمرو بن حزم الأنصاري مرفوعًا "لا تقعدوا على القبور" وفي رواية عنه "رآني رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأنا متكىء على القبر، فقال: "لا تؤذ صاحب القبر" إسناده صحيح، وهو دال على أن المراد بالجلوس القعود على حقيقته، ورد ابن حزم التأويل المتقدم بأن لفظ حديث أبي هُريرة عند مسلم "لَأنْ يجلس أحدكم على جمرةٍ فتحرقَ ثيابه، فتخلصَ إلى جلده"، قال: وما عهدنا أحدًا يقعد على ثيابه للغائط، فدل على أن المراد القعود على حقيقته. وقال ابن بطال: التأويل المذكور بعيد, لأن الحدث على القبر أقبح من أن يكره، وإنما يكره الجلوس المتعارف. تعليق عثمان هذا، وصله مسدد في مسنده الكبير، وفيه ثلاثة رجال، مرَّ عثمان بن حكيم في التاسع من الجمعة، ومرَّ محل خارجة في الذي قبله، وعم خارجة يزيد بن ثابت بن الضحاك الأنصاريّ أخو زيد بن ثابت الفرض، قال خليفة: شهد بدرًا، وأنكره غيره، وقالوا: إنه استشهد في اليمامة، له أحاديث، روى عنه ابن أخيه خارجة بن زيد، ذكره البخاري في هذا التعليق، وأخرج النَّسائي عن خارجة بن زيد بن ثابت عن عمه في القيام للجنازة. ثم قال: وقال نافع: كان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، يجلس على القبور، ولا يعارض هذا ما أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عنه، قال: لَأن أطأ على رَضَف أحب إليّ من أنْ أطأ على قبر" قاله في الفتح. لا أدري وجه نفي المعارضة مع حصولها، وأخرج مسلم عن أبي مرثد الغنويّ مرفوعًا "لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها" وهذا التعليق وصله الطحاويّ ونافع، مرَّ في الأخير من العلم، ومرَّ ابن عمر في أول الإِيمان قبل ذكر حديث منه.

الحديث السادس عشر والمئة

الحديث السادس عشر والمئة حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ مَرَّ بِقَبْرَيْنِ يُعَذَّبَانِ فَقَالَ إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنَ الْبَوْلِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ. ثُمَّ أَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً فَشَقَّهَا بِنِصْفَيْنِ، ثُمَّ غَرَزَ فِي كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدَةً. فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِمَ صَنَعْتَ هَذَا فَقَالَ لَعَلَّهُ أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا. هذا الحديث قد مرَّ استيفاء الكلام عليه، غاية الاستيفاء، في باب "من الكبائر أن لا يستتر إلاّ من بوله" من كتاب الوضوء. رجاله ستة قد مرّوا، الأول يحيى غير منسوب، وهو إما يحيى بن موسى أو يحيى بن جعفر، وقد مرا في التاسع عشر من الحيض، ومرَّ أبو معاوية والأعمش في الثالث من الإِيمان, ومرَّ مجاهد في أثرٍ أوله قبل ذكر حديث منه، ومرَّ طاوس في باب "من لم ير الوضوء إلا من المخرجين" بعد الأربعين من الوضوء، ومرَّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي. ثم قال المصنف:

باب موعظة المحدث عند القبر وقعود أصحابه حوله

باب موعظة المحدث عند القبر وقعود أصحابه حوله كأنَّه يشير إلى التفصيل بين أحوال القعود، فإن كان لمصلحة تتعلق بالحيّ أو الميت، لم يكره، ويحمل النهي الوارد عن ذلك على ما يخالف ذلك. ثم قال: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ} الأجداث: القبور، بعثرت: أثيرت، بعثرت حوضي أي: جعلت أسفله أعلاه، الإيفاض الإِسراع، وقرأ الأعمش {إلى نَصْب} إلى شيء منصوب يستبقون إليه. والنَّصْب واحد، والنَّصب مصدر يوم الخروج من القبور، ينسلون: يخرجون. أي المراد بالأجداث في الآية القبور. وقد وصله ابن أبي حاتم وغيره عن قتادة والسدي، واحدها جَدَثٌ، بالتحريك، وقوله: بعثرت أثيرت، بعثرت حوضي جعلت أسفله أعلاه، هذا كلام أبي عبيدة في كتاب المجاز، وقال السديّ: بعثرت أي حركت فخرج ما فيها، رواه ابن أبي حاتم. وقوله: الإِيفاض الإِسراع، أي: بياء تحتانية ساكنة قبلها كسرة وفاء ومعجمة، كذا قال الفراء. وقال أبو عبيدة: يوفضون أي يسرعون. وقوله: وقرأ الأعمش {إلى نصب} أي: بفتح النون، وفي رواية أبي ذَرٍّ بالضم، والأول أصح، وهو قراءة الجمهور. وحكى الطبرانيّ أنه لم يقرأ بالضم إلا الحسن البصري، وحكى الفراء عن زيد بن ثابت ذلك، ونقلها غيره عن مجاهد وأبي عمران الجوني. وفي كتاب السبعة لابن مجاهد: قرأها ابن عامر بضمتين، أي: بلفظ الجمع، وكذا قرأها حفص عن عاصم، ومن هنا يظهر سبب تخصيص الأعمش بالذكر, لأنه كوفي، وكذا عاصم، ففي انفراد حفص عن عاصم بالضم شذوذٌ. قال أبوعبيدة: النصب، بالفتح، هو العَلَم الذي نصبوه ليعبدوه، ومن قرأ نُصْب، بالضم، فهي جماعة، نحو رَهن ورُهن. وقوله: يوفضون إلى شيء منصوب، يستبقون. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله {إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} أي: يبتدرون أيهم يستلمه أول. وقوله: والنّصب واحد والنَّصْب مصدر، قال العينيّ: أشار إلى أن لفظ النَّصْب يستعمل اسمًا، ويستعمل مصدرًا، ويجمع على أنصاب، وقال في الفتح: كذا وقع فيه، والذي للغراء في "المعاني" النَّصْبُ والنَّصَبُ واحد، وهو مصدر، والجمع أنصاب، فكأن التغيير من بعض النقلة. وقال العينيّ: لا تغيير، وإنما قصد البخاريّ الفرق بين الاسم والمصدر، وما قاله غير ظاهر, لأن البخاري لم ينص على تفرقة، والإحالة على الأصل أولى. وجعل القسطلانيّ الأول بالضم، والثاني بالفتح، وهذه تفرقة حسنة، لذكرهما معًا فيما تقدم،

الحديث السابع عشر والمئة

فكأنه رجع إليهما للإِيضاح. وقوله: يوم الخروج من قبورهم، أي يوم خروج أهل القبور من قبورهم. وقوله: ينسلون يخرجون، كذا أورده عبد بن حميد وغيره عن قتادة، وقال أبو عبيدة: ينسلون يخرجون، كذا بسرعة، وفي المجمل: النَّسَلان مشية الذِّيب إذا أسرع في المشي، وفي الجامع للقزّاز: نُسُولًا، وأصله عَدْوٌ مع مُقَارَبَة خَطْو، وهذه التفاسير أوردها لتعلقها بذكر القبر استطرادًا, ولها تعلق بالموعظة أيضًا. قال الزين بن المنير: مناسبة إيراد هذه الآيات، في هذه الترجمة، للإِشارة إلى أن المناسب لمن جلس عند القبر أن يقصر كلامه على الإِنذار بقرب المصير إلى القبور، ثم إلى النشر لاستيفاء العمل. والأعمش قد مرَّ محله في رجال السند. الحديث السابع عشر والمئة حَدَّثَنَا عُثْمَانُ قَالَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا فِي جَنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ، فَأَتَانَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ، وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ فَنَكَّسَ، فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ ثُمَّ قَالَ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ، مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلاَّ كُتِبَ مَكَانُهَا مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَإِلاَّ قَدْ كُتِبَ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً. فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلاَ نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ، فَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ قَالَ أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ الشَّقَاوَةِ، ثُمَّ قَرَأَ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} الآيَةَ. قوله: عن علي، في رواية مسلم "البطين عن أبي عبد الرحمن السلميّ، أخذ بيدي عليّ، فانطلقنا نمشي، حتى جلسنا على شاطىء الفرات، فقال عليّ: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ... " فذكر الحديث مختصرًا، وقوله: كنا في جنازة في بقيع الغَرْقد، فأتانا النبيّ الخ، الغَرْقَد، بفتح الغين المعجمة والقاف بينهما راء ساكنة وفي آخره مهملة، وهو شجر له شوك كان ينبت هناك، فذهب الشجر وبقي الاسم لازمًا للموضع. وفي هذه الرواية دلالة على أنهم سبقوا بالجنازة، وأتاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك. وفي الرواية الآتية في كتاب القدر: كنا جلوسًا مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفي رواية عبد الواحد عن الأعمش: كنا قعودًا، وفي رواية الثَّوريّ عن الأعمش: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في بقيع الغَرْقد، وظاهر هذه الروايات أنهم كانوا جميعًا شهدوا الجنازة. وقوله: ومعه مِخْصَرة، وفي رواية القدر "ومعه عود ينكث به الأرض" وفي رواية شعبة "وبيده عود

فجعل ينكث به الأرض" والمخصَرة بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح الصاد المهملة، هي عصا أو قضيب يمسكه الرئيس ليتوكأ عليه، ويدفع به عنه، ويشير به لما يريد، وسميت بذلك لأنها تحمل تحت الخصر غالبًا، للاتكاء عليها. في اللغة: إختصر الرجل إذا أمسك المخصرة. وقوله: فنكَّس، بتشديد الكاف أي أطرق، وقوله: فجعل ينكث بمخصرته، قال المهلّب: نكثه الأرض بالمخصرة، أصل في تحريك الأصابع في التشهد، وقيل: هذا بعيد، وإنما هي عادة لمن يتفكر في شيء يستحضر معانيه، فيحتمل أن يكون ذلك تفكرًا منه عليه الصلاة والسلام، في أمر الآخرة, بقرينة حضور الجنازة، ويحتمل أن يكون فيما أبداه بعد ذلك لأصحابه من الحكم المذكورة. وقوله: ما منكم من أحد، ما من نفس منفوسة، أي مصنوعة مخلوقة، واقتصر في رواية أبي حمزة والثَّوريّ على الأول. وقوله: إلا كُتب مكانها من الجنة والنار، وفي رواية سفيان "إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار". وفي هاتين الروايتين إشارة إلى حديث ابن عمر الآتي "أن لكل أحد مقعدين" وفي رواية القدر "إلا وقد كتب مقعده من النار أو من الجنة" أو: للتنويع، والظاهر أنها بمعنى الواو، لتوافق الروايتين المذكورتين. وقوله: وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة، إعادة "إلا" يحتمل أن يكون "ما من نفس" بل "ما منكم"، وإلا الثانية بدل من الأولى، وأن يكون من باب اللف والنشر، فيكون فيه تعميم بعد تخصيص، والثاني في كل منهما أعم من الأول. وقوله: فقال رجل: أفلا نتكل يا رسول الله؟ وفي رواية سفيان وشعبة: فقالوا: يا رسول الله، وهذا الرجل عند مسلم عن جابر أنه سُراقة بن مالك، ولفظه "جاء سراقة فقال: يا رسول الله، أنعمل اليوم فيما جفت به الأقلام. وجرت به المقادير؟ أو فيما يستقبل؟ قال: فبما جفت به الأقلام، وجرت به المقادير، فقال: ففيم العمل؟ قال: اعملوا فكلكم مُيَسَّرٌ لما خلق له". وأخرجه الطبرانيّ وابن مردويه نحوه، وزاد "وقرأ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى} إلى قوله {لِلْعُسْرَى}. وأخرجه ابن ماجه عن سُراقة نفسه، لكن دون تلاوة الآية، ووقع هذا السؤال وجوابه، سوى تلاوة الآية، لشريح بن عامر الكلابيّ، أخرجه أحمد والطبرانيّ ولفظه "قال: ففيم العمل إذا قال: اعملوا فكلكم ميسر لما خلق له"؟ وأخرج التِّرمذيّ عن ابن عمر قال: قال عمر: يا رسول الله، أرأيتَ ما نعمل فيه أمر مبتدع أو أمر قد فُرِغ منه؟ قال: فيما قد فرغ منه، فذكر نحوه. وأخرج البزّار والفريابي عن أبي هُريرة أن عمر قال: يا رسول الله، فذكره، وأخرجه أحمد والبزّار والطَّبرانيّ عن أبي بكر الصديق، قلت: يا رسول الله، نعمل على ما فرغ منه .. ؟ الحديث، نحوه. وفي حديث سعد بن أبي وقّاص "فقال رجلٌ من الأنصار" والجمع بينها تعدد السائلين عن ذلك، ففي حديث عبد الله بن عمرو أن السائل عن ذلك جماعة، ولفظه "فقال أصحابه: فيم العمل إن

كان قد فرغ منه، فقال: سددوا وقاربوا، فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة، وإن عمل أي عمل .. " الحديث. أخرجه الفريابيّ. وقوله: أفلا نتكل، الفاء معقبة لشيء محذوف تقديره: أفإذا كان كذلك فلا نتكل؟ وقوله: على كتابنا وندع العمل، أي: نعتمد على ما قدر علينا، وفي رواية القدر الآتية "اعملوا، فكلكم ميسر لما خلق له" وحاصل السؤال ألا نترك مشقة العمل، فإنا سنصير إلى ما قدر علينا، وحاصل الجواب لا مشقة, لأن كل أحد ميسر لما خلق له، وهو يسير على من يسره الله. قال الطيبيّ: الجواب من الأسلوب الحكيم، منعهم عن ترك العمل، وأمرهم بالتزام ما يجب على العبد من العبودية، وزجرهم عن التصرف في الأمور المغيبة، فلا يجعلوا العبادة وتركها سببًا مستقلًا لدخول الجنة والنار، بل هي علامات فقط، وقوله: فأما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة .. الخ، قد مرَّ الكلام على الشقي والسعيد، وما قيل في معناه من الخلاف في باب "مُخَلَّقة وغير مخلقة" من كتاب الحيض. وقوله: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} الآية، وساق في رواية سفيان ووكيع الآيات إلى قوله {لِلْعُسْرَى} وعند الطبرانيّ عن ابن عباس نحو حديث عمر، وفي آخر حديث سُراقة، ولفظه "فقال يا رسول الله، ففيم العمل إذا قال: كلٌ لا ينال إلا بالعمل؟ قال عمر: إذًا نجتهد" وأخرج الفريابيّ بسند صحيح إلى بشير بن كعب قال: سأل غلامان رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-، فيم العمل؟ فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، أم شيء نستأنفه؟ قال: بل فيما جفت به الأقلام، فإلاّ ففيم العمل؟ قال: اعملوا، فكل ميسر لما هو عامل، قالا: فالجِدّ الآن. وفي الحديث جواز القعود عند القبور، والتحديث عندها بالعمل والموعظة، ومناسبته للقصة أن فيه إشارة إلى التسلية عن الميت بأنه مات بفراغ أجله، وهذا الحديث أصل لأهل السنة في أن السعادة والشقاء بتقدير الله القديم. وفيه رد على الجبرية, لأن التيسير ضد الجبر, لأن الجبر لا يكون إلا عن كره، ولا يأتي الإِنسان الشيء بطريق التيسير إلا وهو غير كاره له. واستدل به على إمكان معرفة الشقي من السعيد في الدنيا، كمن اشتهر له بلسان صدق، وعكسه, لأن العمل أمارة على الجزاء على ظاهر هذا الخبر، ورد بما جاء في حديث ابن مسعود الآتي في كتاب القدر "أن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع .. " الخ فإن هذا العمل الظاهر قد ينقلب لعكسه على وفق ما قدر، والحق أن العمل أمارة وعلامة، فيحكم بظاهر الأمر، وأمر الباطن إلى الله تعالى. قال الخطابيّ: لما أخبر -صلى الله عليه وسلم- عن سَبْق الكائنات، رامَ مَنْ تَمسَّك بالقدر أن يتخذه حجة في ترك العمل، فأعلمهم أن هنا أمرين لا يبطل أحدهما بالآخر: باطنٌ، وهو العلة الموجبة في حكم الربوبية، وظاهر، وهو العلامة اللازمة في حق العبودية، وإنما هي أمارة مُخيلة في مطالعة علم

رجاله ستة

العواقب، غير مفيدة حقيقة، فبين لهم أن كلًا ميسرٌ مما خلق له، وأن عمله في العاجل دليلٌ على مصيره في الأجل، ولذلك مثَّل بالآيات، ونظير ذلك الرزق مع الأمر بالكسب، والأجل مع الإِذن في المعالجة. وقال في موضع آخر: هذا الحديث إذا تأملته وجدت فيه الشفاء مما يتخالج في الضمير من أمر القدر، وذلك أن القائل: أفلا نتكل وندع العمل؟ لم يدع شيئًا مما يدخل في أبواب المطالبات والأسئلة إلا وقد طالب به، وسأل عنه، فأعمله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن القياس في هذا الباب متروك، والمطالبة ساقطة، وأنه لا يشبه الأمور التي عقلت معانيها، وجرت معاملة البشر فيما بينهم عليها، بل طوى الله علم الغيب عن خلقه، وحجبهم عن دركه، كما أخفى عنهم أمر الساعة، فلا يعلم أحد متى حين قيامها. وقد قال أبو المظفر بن السمعانيّ سبيل معرفة هذا الباب التوقيف من الكتاب والسنة، دون محض القياس والعقل، فمن عدل عن التوقيف فيه ضلَّ وتاه في بحار الحيرة، ولم يبلغ شفاء العين، ولا يطمئن به القلب, لأن القدر سر من أسرار الله تعالى اختصَّ به العليمُ الخبير، وضرب دونه الأستار، وحجبه عن عقول الخلق ومعارفهم، لما علمه من الحكمة، فلم يعلمه نبيٌّ مرسل، ولا مَلك مقرب. وقيل: إن سر القدر ينكشف لهم إذا دخلوا الجنة، ولا ينكشف لهم قبل دخولها. وقال غيره: وجه الانفصال عن شبهة القدرية أن الله أمرنا بالعمل، فوجب علينا الامتثال، وغيّب عنا المقادير لقيام الحجة، ونصب الأعمال علامة على ما سبق في مشيئته، فمن عدل عنه ضل وتاه, لأن القدر سر من أسرار الله لا يطلع عليه إلا هو. وفي الحديث أن أفعال العباد، وإن صدرت عنهم، لكنها قد سبق علم الله بوقوعها، بتقديره، ففيه إبطال قول القدرية صريحًا. رجاله ستة قد مرّوا، مرَّ عثمان بن أبي شيبة وجرير ومنصور بهذا النسق في الثاني عشر من العلم، ومرَّ سعد بن عُبيدة في الأخير من الوضوء ومرَّ أبو عبد الرحمن عبد الله بن حبيب في الثاني والعشرين من الغُسل، ومرَّ علي بن أبي طالب رضي الله عنه في السابع والأربعين من الوضوء. وفي الحديث لفظ جَنازةٍ مبهمة، ولفظ رجل مبهم، أما الجنازة فلم أقف على تسميتها، وأما الرجل السائل فقيل: إنه عليّ صاحب الحديث، كما عند البخاري في التفسير بلفظ "فقلنا"، وقيل: عمر بن الخطاب، كما في حديث التِّرمذيّ، وعمر رضي الله عنه قد مرَّ في الأول من بدء الحي، قيل: أبو بكر الصديق رضي الله عنه، كما عند أحمد والبزار والطبرانيّ، وأبو بكر رضي الله عنه مرَّ في باب "من لم يتوضأ من لحم الشاة" بعد الحادي والسبعين من الوضوء. وقيل: رجل مِنَ الأنصار لم يُسَمّ، وقيل: هو سُراقة بن مالك كما في مسلم. وهذا لم يُعَرَّف، وها أنا أذكر تعريفه فأقول: هو سراقة بن مالك بن جعْشم بن مالك بن عمرو بن تَيْم بن مُدْلج من مُرّة بن عبد مَناة بن

لطائف إسناده

كِنانة، الكِنانيّ، يكنى أبا سفيان، وقد ينسب إلى جده، كان ينزل قُدَيدًا، روى البخاريّ قصته في إدراكه للنبي -صلى الله عليه وسلم-، ودعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- عليه حتى صاخت رجلًا فرسه، ثم أنه طلب منه الخلاص، وأن لا يدل عليه، ففعل، وكتب له أمانًا، وأسلم يوم الفتح، وفي ذلك يقول مخاطبًا لأبي جهل: أبا حَكَم، والله، لو كنتَ شاهدًا ... لأمر جوادي إذ تسوخ قوائمه علمتَ، ولم تشكك بأن محمدًا ... رسولٌ ببرهان فمن ذا يقاومه وروى الحسن أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لسُراقة: كيف بك إذا لبست سُوَارَيْ كسرى؟ قال: فلما أُتي عمر بسُوارَيْ كسرى ومِنْطَقَتِه وتاجِه، دعا سُراقة فألبسه، وكان رجلًا أَزَبَّ كثِيرَ شعر الساعدين، فقال: ارفع يديك، قل: الله أكبر، الحمد لله الذي سلبهما كسرى بن هُرْمُز، وألبسهما سراقة الأعرابيّ. روى ابن إسحاق وعبد الرزاق أنه جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "رأيت الضالةَ، يا رسول الله، ترد الحوض حوضي إبلي، ألِيَ أجرٌ إنْ سقيتها؟ فقال: في الكبد الحراء أجر". روى عنه ابن عباس وجابر وسعيد بن المسيب، وابنه محمد بن سراقة مات في خلافة عثمان سنة أربع وعشرين، وقتل بعده عثمان. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، ورواته كلهم كوفيون، وفيه رواية التابعي عن التابعي، أخرجه البخاريّ أيضًا في التفسير والقدر والأدب، ومسلم في القدر، وأبو داود وابن ماجه في السنة، والتِّرمذيّ في القدر والتفسير، والنّسائيّ في التفسير.

باب ما جاء في قاتل النفس

باب ما جاء في قاتل النفس قال ابن رشيد: مقصود الترجمة حكم قاتل النفس، والمذكور في الباب حكم قاتل نفسه، فهو أخص من الترجمة، ولكنه أراد أن يلحق بقاتل نفسه قاتل غيره من باب الأوْلى, لأنه إذا كان قاتل نفسه الذي لم يتعد ظلم نفسه، ثبت فيه الوعيد الشديد، فأول من ظلم غيره بإماتة نفسه. قال ابن المنير: عادة البخاريّ إذا توقف في شيء، ترجَمَ عليه ترجمة مبهمة، كأنه ينبه على طريق الاجتهاد. وقد نقل عن مالك أن قاتل النفس لا تقبل توبته، ومقتضاه أنه لا يصلى عليه، وهو نفس قول البخاري، ولعله أشار بذلك إلى ما رواه أصحاب السنن عن جابر بن سمرة أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أُتي برجل قتل نفسه بمَشَاقِصَ فلم يصلِّ عليه، وفي رواية النَّسَائيّ "أما أنا فلا أصلِّي عليه" لكنه لمّا لم يكن على شرطه، أومأ إليه بهذه الترجمة، وأورد فيها ما يشبه من قصة قاتل نفسه. الحديث الثامن عشر والمئة حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الإِسْلاَمِ كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ عُذِّبَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ. وقوله: من حلف بملة غير الإِسلام كاذبًا متعمدًا، فهو كما قال، وفي رواية الإِيمان والنذور "من حلف بغير ملة الإِسلام"، وفي رواية الأدب عن علي بن المبارك "مَنْ حلف على ملة غير الإِسلام، وفي رواية مسلم "من حلف على يمين بملة غير الإِسلام كاذبًا متعمدًا، فهو كما قال "والمِلة، بكسر الميم وتشديد اللام، الدين والشريعة، هي نكرة في سياق الشرط، فتعم جميع أهل الملل من أهل الكتاب، كاليهودية والنصرانية، ومن لحق بهم من المجوسية والصابئة، وأهل الأوثان والدهرية، والمعطلة، وعَبَدَة الشياطين، والملائكة، وغيرهم. وقال ابن دقيق العيد: الحلف بالشيء حقيقةً، هو القسم به، وإدخال بعض حروف القسم عليه، كقوله: والله، والرحمن، وقد يطلق على التعليق بالشيء يمينٌ كقولهم: من حلف بالطلاق فالمراد تعليق الطلاق، وأُطلق عليه الحلف لمشابهته باليمين في اقتضاء الحث والمنع، وإذا تقرر

ذلك، فيحتمل أن يكون المراد المعنى الثاني، لقوله: كاذبًا متعمدًا، والكذب يدخل القضية الإِخبارية التي يقع مقتضاها تارة، وتارة لا يقع وهذا بخلاف قولنا: والله، وما أشبهه، فليس الإِخبار بها عن أمر خارجيّ، بل هي لإِنشاء القسم، فتكون صورة الحلف هنا على وجهين: أحدهما أن يتعلق بالمستقبل، كقوله: إن فعل كذا فهو كافر. والثاني أن يتعلق بالماضي كقوله: إن كان فعل كذا فهو يهودي، وقد يتعلق بهذا من لم ير فيه الكفارة، كالمالكية، لكونه لم يذكر فيه كفّارة، بل جعل المرتَّب على كذبه. قوله، "فهو كما قال" ابن دقيق العيد، ولا يكفر في صورة الماضي إلا أن قصد التعظيم، وفيه خلاف عند الحنفية، لكونه يتخير معنى، فصار كما لو قال: هو يهودي. ومنهم من قال: إن كان لا يعلم أنه يمين لم يكفِّر، وإن كان يعلم أنه يكفرْ بالحِنْث به كَفَّر، لكونه رضي بالكُفْر حين أقدم على الفعل. وقال بعض الشافعية: ظاهر الحديث أنه يحكم عليه بالكفر إذا كان كاذبًا، لما روى بُريدة مرفوعًا "من قال أنا بريء من الإِسلام، فإن كان كاذبًا، فهو كما قال، وإن كان صادقًا رجع إلى الإِسلام سالمًا"، والحق التفصيل، فإن اعتقد تعظيم ما ذكر، كفر، وعليه يحمل قوله: "من حلف بغير الله فقد كفر"، رواه الحاكم. وقال: صحيح على شرط الشيخين، وإن قصد حقيقة التعليق فيُنظر، فإن كان أراد أن يكون متصفًا بذلك كَفَر, لأن إرادة الكُفْر كُفر، وإنْ أراد البعد عن ذلك لم يكفر. لكنه هل يحرم عليه ذلك أو يكره تنزيهًا؟ المشهور الثاني، وليقل ندبًا لا إله إلا الله، محمد رسول الله، ويستغفر الله، قاله في الفتح. وعند المالكية: لا يكفرُ إلا إذا قصد التعظيم بالحلف لمعبود من دون الله، وفعله حرام اتفاقًا في الأصنام، وعلى خلاف في الأنبياء وكل معظم شرعًا. واحتج أبو حنيفة وأصحابه وأحمد، بهذا الحديث، على أن الحالف باليمين المذكور ينعقد يمينه، وعليه الكفّارة, لأن الله تعالى أوجب على المظاهر الكفّارة، وهو منكر من القول وزور، والحلف بهذه الأشياء منكر وزور. وقال النوويّ: لا ينعقد بهذه الأشياء يمين، وعليه أن يستغفر الله، ويوحده ولا كفّارة عليه، سواء فعله أو لم يفعله، وهذا مذهب مالك والشافعيّ وجمهور العلماء، واحتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام "من حلف باللاّت والعُزّى، فليقل: لا إله إلا الله" ولم يذكر كفارة. وقوله: كاذبًا متعمدًا، قال عِياض: تفرّد بزيادتها سُفيان الثَّوْرِيّ، وهي زيادة حسنة، يستفاد منها أن الحالف المتعمد إن كان مطمئن القلب بالإِيمان، وهو كاذب في ما لا يعتقد تعظيمه، لم يَكْفُر، وإن قاله معتقدًا لليمين بتلك المِلة، لكونها حقًا، كفَر، وإن قالها لمجرد التعظيم لها، احتمل. قال في "الفتح": وينقدح بأن يقال: إن أراد تعظيمها، باعتقاد ما كانت عليه قبل النسخ، لم يكفر، ودعواه أن سفيان تفرد بها إن أراد، بالنسبة لرواية مسلم، فعسى. فأنه أخرجه من طرق، وبيّن

رجاله خمسة

أن لفظ "متعمدًا" لسفيان، وإِلا فسفيان لم ينفرد بها، قد أخرجها المصنف هنا عن يزيد بن زريع عن خالد، وأخرجها النَّسائيّ عن محمد بن أبي عَدِيّ عن خالد. ولحديث ثابت بن الضحاك شاهدٌ من حديث بُريدة مرفوعًا، أخرجه النَّسائيّ، وصححه "من قال: أنا بريء من الإسلام، فإن كان كاذبًا، فهو كما قال، وإن كان صادقًا لم يعد إلى الإِسلام سالمًا" يعني إذا حلف بذلك، وهو يؤيد التفصيل الماضي، ويحتمل أن يكون المراد بهذا الكلام التهديدَ والمبالغة في الوعيد، لا الحكم، وكأنه قال: فهو مستحق مثل عذاب من اعتقد ما قال، ونظيره: من ترك الصلاة فقد كفر، أي: استوجب عقوبة من كفر، وقال ابن المنذر: قوله "فهو كما قال" ليس على إطلاقه في نسبته إلى الكفر، بل المراد أنه كاذب ككذب المعظم لتلك الجهة. وقوله: ومن قتل نفسه بحديدة عذب به في نار جهنم، وفي رواية الإِيمان والنذور "ومن قتل نفسه بشيء عذب به في نار جهنم"، وفي رواية عليّ بن المبارك "ومن قتل نفسه بشيء في الدنيا عُذّب به يوم القيامة". وقوله: بشيء، أعم مما وقع هنا، وعند مسلم "بحديدة"، ولمسلم عن أبي هريرة "من تحسَّى سُمًا" قال ابن دقيق العيد: هذا من مجانسة العقوبات الأخروية للجنايات الدنيوية، ويؤخذ منه أن جناية الإِنسان على نفسه كجنايته على غيره في الإِثم, لأن نفسه ليست ملكًا له مطلقًا، بل هي لله تعالى, فلا يتصرف فيها إلا بما أُذن له فيه. وفيه حجة لمن أوجب المماثلة في القصاص، خلافًا لمن خصصه بالمحدد، ورده ابن دقيق العيد بأنّ أحكام الله لا تقاس بأفعاله، فليس كل ما ذكر أنه يفعله في الآخرة يشرع لعباده في الدنيا، كالتحريق بالنار مثلًا وسقي الحميم الذي يقطع الأمعاء، وحاصله أنه يستدل للمماثلة في القصاص بغير هذا الحديث، وقد استدلوا بقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} ويأتي بيانُ ذلك في كتاب القصاص والديات إن شاء الله تعالى. رجاله خمسة: مرَّ منهم مسدد في السادس من الإِيمان, وأبو قُلابة في التاسع منه، ويزيد بن زريع في السادس والتسعين من الوضوء ومرَّ خالد الحذّاء في السابع عشر من العلم. والخامس: ثابت بن الضحاك بن خليفة بن ثعلبة بن عديّ بن كعب بن عبد الأشهل الأنصاريّ الأشْهَليّ، شهد بَيَعة الرضوان، وقال البخاريّ والتِّرمذيّ: إنه شهد بدرًا، وروى بن شاهين كان ثابت بن الضحاك رديف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الخندق، ودليله إلى حمراء الأسد، وكان ممن بايع تحت الشجرة، وغلط من قال إنه ولد سنة ثلاث من الهجرة، إذ كيف يولد بعد الهجرة بثلاث ويحضر الحديبية وهو ابن ثلاث سنين؟ له أربعة عشر حديثًا، اتفقا على حديث، وانفرد مسلم بحديث، روى عنه أبو قلابة وغيره، سكن الشام وانتقل إلى البصرة، ومات بها سنة خمس وأربعين، والصحيح أنه مات في أيام ابن

لطائف إسناده

الزبير سنة أربع وستين. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة، أخرجه البخاريُّ أيضًا في الأدب والنذور، ومسلم في الإِيمان, وأبو داود في الإِيمان والنذور، وكذا التِّرمذِيّ والنَّسائيّ وابن ماجه في الكفارات. الحديث التاسع عشر والمئة وَقَالَ حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنِ الْحَسَنِ حَدَّثَنَا جُنْدَبٌ رضي الله عنه فِي هَذَا الْمَسْجِدِ فَمَا نَسِينَا، وَمَا نَخَافُ أَنْ يَكْذِبَ جُنْدَبٌ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ كَانَ بِرَجُلٍ جِرَاحٌ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَقَالَ اللَّهُ بَدَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ. وقال البخاري في هذا الحديث: قال حجّاج بن مُنهال: حدثنا جرير بن حازم، وقد وصله في ذكر بني إسرائيل فقال: حدثنا محمد: حدثنا حجاج بن مُنهال، فذكره. وهو أحد المواضع التي يستدل بها على أنه ربما علق عن بعض شيوخه ما بينه وبينه، فيه واسطة، لكنه أورده هنا مختصرًا، وأورده هناك مبسوطًا، فقال في أوله "كان فيمن كان قبلكم رجل" وقال فيه: فجزع فأخذ سكينًا فجز يده، فما رقأ الدمُ، حتى مات. قوله: في هذا المسجد، هو مسجد البصرة، وقوله: وما نسينا منذ حدثنا، أشار بذلك إلى تحققه لما حدث به، وقرب عهده به، واستمرار ذكره له، وقوله: وما نخاف أن يكذب جُنْدبُ، فيه إشارة إلى أن الصحابة عُدول، وأن الكذب مأمون من قبلهم، ولاسيما على النبي -صلى الله عليه وسلم-. وقوله: كان برجل جراح، قال في "الفتح": لم أقف على اسمه، والجراح، بكسر الجيم، وفي الرواية المذكورة بضم الجيم وسكون الراء بعدها مهملة، وفي رواية مسلم "أن رجلًا خرجت به قَرْحَة، وهي بفتح القاف وسكون الراء، حبَّة تخرج في البدن، وكأنه كان به جرح ثم صار قَرحة. وقوله: قتل نفسه، في الرواية التامة المذكورة "فجزع فأخذ سكينًا، فحزّ بها يده، فما رقأ الدم حتى مات" قوله: فجزع، أي: فلم يصبر على ألم تلك القرحة. السكين، تذكر وتؤنث، وقوله: حزّ بالحاء المهملة والزاي، هو القطع بغير إبانة. وفي رواية مسلم "فلما آذته انتزع سهمًا من كِنانته، فنكأها" وهو بالنون والهمز، أي: نَخَس موضع الجرح، ويمكن الجمع بأن يكون فجر الجرح بذُبابة السهم، فلم ينفعه، فحز موضعه بالسكين. ودلت رواية البخاريّ على أن الجرح كان بيده، وقوله: فما رقأ الدم، بالقاف والهمز، أي: لم ينقطع. وقوله: قال الله عَزَّ وَجَلَّ "بادرني عبدي بنفسه" هو كناية عن استعجال المذكور الموت. وقوله: حرمت عليه الجنة، جارٍ مجرى التعليل للعقوبة, لأنه لما استعجل الموت بتعاطي سببه من

رجاله أربعة

إنفاذ مقاتله، فجعل له فيه اختيارًا عصى الله به، فناسب أن يعاقبه، ودل ذلك على أنه حزها لإرادة الموت، لا لقصد المداواة التي يغلب على الظن الانتفاع بها. وقد استشكل قوله: "بادرني بنفسه" وقوله "حرمت عليه الجنة" لأن الأول يقتضي أن يكون من قتل فقد مات قبل أجله، لما يوهمه سياق الحديث من أنه لو لم يقتل نفسه، كان قد تأخر عن ذلك الوقت، وعاش، لكنه بادر فتقدم، والثاني يقتضي تخليد الموحد في النار، والجواب عن الأول أن المبادرة من حيث التسبب في ذلك والقصد له، والاختيار، وأطلق عليه المبادرة لوجود صورتها، وإنما استحق المعاقبة لأن الله لم يطلق على انقضاء أجله، فاختار هو قتل نفسه، فاستحق المعاقبة لعصيانه. وقال أبو بكر القاضي: قضاء الله مطلق ومقيد بصفة، فالمطلق يمضي على الوجه بلا صارف، والمقيد على الوجهين: مثاله أنْ يقدَّر لواحدٍ أن يعيش عشرين سنة، إن قتل نفسه، وثلاثين سنة، إن لم يقتل نفسه، وهذا بالنسبة إلى ما يعلم به المخلوق، كملك الموت مثلًا، وأما بالنسبة إلى ما في علم الله، فإنه لا يقع إلا في علمه تعالى، ونظير ذلك الواجب المخير، فالواقع منه معلوم عند الله تعالى، والعبد مخير في أي الخصال يفعل. والجواب عن الثاني من أوجه: أحدها أنه كان استحل ذلك الفعل، فصار كافرًا. ثانيها أنه كان كافرًا في الأصل، وعوقب بهذه المعصية زيادة على كفره. ثالثها أن المراد أن الجنة حرمت عليه في وقت ما، كالوقت الذي يدخل فيه السابقون، أو الوقت الذي يعذب فيه الموحدون في النار، ثم يخرجون. رابعها أن المراد جنة معينة، كالفردوس مثلًا. خامسها أن ذلك ورد على سبيل التغليظ والتخويف، وظاهره غير مراد. سادسها أن التقدير حرمت عليه الجنة إن شئت استمرار ذلك. سابعها: قال النووي: يحتمل أن يكون ذلك شرعُ من مضى أن أصحاب الكبائر يُكَفَّرون بفعلها. وفي الحديث تحريم قتل النفس، سواء كانت نفس القاتل أم غيره، وقتل الغير يؤخذ تحريمه من هذا الحديث بطريق الأوْلى، وفيه الوقوف عند حدود الله، ورحمته بخلقه، حيث حرم عليهم قتل نفوسهم، وأن الأنفس ملك الله. وفيه التحدث عن الأمم الماضية، وفضيلة الصبر على البلاء، وترك الضمير من الآلام، لئلا يفضي إلى أشد منها. وفيه تحريم تعاطي الأسباب المفضية إلى قتل النفس، وفيه التنبيه على أن حكم السراية على ما يترتب عليه ابتداء القتل. وفيه الاحتياط في التحديث وكيفية الضبط له، والتحفظ فيه بذكر المكان، والإِشارة إلى ضبط المحدث، وتوثيقه لمن حدثه ليركن السامع لذلك. رجاله أربعة قد مرّوا، والبخاري هنا أتى به تعليقًا، وقد وصله في بني إسرائيل، مرَّ حجّاج بن مُنهال في الثامن والأربعين من الإِيمان, ومرَّ الحسن البصريّ في الرابع والعشرين منه، ومرَّ

الحديث العشرون والمئة

جرير بن حازم في السبعين من استقبال القبلة، ومرَّ جُنْدب في الثالث من العيدين. أخرجه مسلم. الحديث العشرون والمئة حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- الَّذِي يَخْنُقُ نَفْسَهُ يَخْنُقُهَا فِي النَّارِ، وَالَّذِي يَطْعُنُهَا يَطْعُنُهَا فِي النَّارِ. قوله: الذي يخنق نفسه يخنقها في النار، والذي يطعنها يطعنها في النار، وهو من أفراد البخاري من هذا الوجه، وقد أخرجه أيضًا في الطب عن أبي هريرة مطولًا، ومن ذلك الوجه أخرجه مسلم، وليس فيه ذكر الخنق، وفيه من الزيادة ذكر السم وغيره، ولفظه "فهو في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا" وقد تمسك به المعتزلة وغيرهم، ممن قال بتخليد أصحاب المعاصي في النار، وأجاب أهل السنة عن ذلك بأجوبة منها: توهيم هذه الزيادة، قال التِّرمذيّ بعد أن أخرجه: رواه محمد بن عجلان عن سعيد المَقْبَرِيّ عن أبي هريرة، فلم يذكر "خالدًا مخلدًا"، وكذا رواه أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة، يشير إلى رواية الباب. قال: وهو أصح, لأن الروايات قد صحت أن أهل التوحيد يعذبون ثم يخرجون منها, ولا يخلدون. وأجاب غيره يحمل ذلك على من استحله، فإنه يصير باستحلاله كافرًا، والكافر مخلدٌ بلا ريب، وقيل: ورد مورد الزجر والتغليظ، وحقيقته غير مرادة، وقيل: المعنى أن هذا جزاؤه، لكن قد تكرم الله على الموحدين، فأخرجهم من النار بتوحيدهم. وقيل: التقدير "مخلدًا فيها إلى أن يشاء الله" وقيل: المراد بالخلود طول المدة، لا حقيقة الدوام، كأنه يقول: يخلد مدة معينة، وهذا أبعدها. وقوله: يَطْعُنُها، هو بضم العين المهملة، واستدل بقوله "الذي يطعن نفسه يطعنها في النار" على أن القصاص من القاتل يكون بما قتل به، اقتداء بعقاب الله تعالى لقاتل نفسه، وهو استدلال ضعيف. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ أبو اليمان وشعيب في السابع من بدء الوحي، وأبو الزناد والأعرج في السابع من الإِيمان, وأبو هُريرة في الثاني منه. انفرد البخاري به من هذا الوجه، وأخرجه في الطب من وجه آخر، ومنه أخرجه مسلم والترمذيّ. ثم قال المصنف:

باب ما يكره من الصلاة على المنافقين والاستغفار للمشركين

باب ما يكره من الصلاة على المنافقين والاستغفار للمشركين قال الزين بن المنير: عدل عن قوله كراهة الصلاة على المنافقين، لينبه على الامتناع من طلب المغفرة لمن لا يستحقها, لا من جهة العبادة الواقعة من صورة الصلاة، فقد تكون العبادة طاعة من وجه معصية من وجه. ثم قال: رواه ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. قال في "الفتح": كأنه يشير إلى حديثه في قصة الصلاة على عبد الله بن أبَيّ، وقد مرَّ في باب "القميص الذي يكف"، وابن عمر مرَّ في أول الإِيمان قبل ذكر حديث منه. الحديث الحادي والعشرون والمئة حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قال حَدَّثَنا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنهم أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ دُعِيَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَثَبْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُصَلِّي عَلَى ابْنِ أُبَيٍّ وَقَدْ قَالَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا أُعَدِّدُ عَلَيْهِ قَوْلَهُ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَقَالَ أَخِّرْ عَنِّي يَا عُمَرُ. فَلَمَّا أَكْثَرْتُ عَلَيْهِ قَالَ إِنِّي خُيِّرْتُ فَاخْتَرْتُ، لَوْ أَعْلَمُ أَنِّي إِنْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ فَغُفِرَ لَهُ لَزِدْتُ عَلَيْهَا. قَالَ فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ انْصَرَفَ، فَلَمْ يَمْكُثْ إِلاَّ يَسِيرًا حَتَّى نَزَلَتِ الآيَتَانِ مِنْ بَرَاءَةٌ {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} إِلَى {وَهُمْ فَاسِقُونَ} قَالَ فَعَجِبْتُ بَعْدُ مِنْ جُرْأَتِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَئِذٍ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. وهذا الحديث أخرجه هنا عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ويأتي من هذا الوجه في التفسير، وأخرجه فيما مرَّ في باب القميص الذي يكف عن ابن عمر، ومرَّ استيفاء الكلام عليه هناك غاية. رجاله سبعة: قد مرّوا، مرت الأربعة الأُول بهذا النسق في الثالث من بدء الوحي، ومرَّ عُبيد الله المسعودي في السادس منه، وابن عباس في الخامس منه، وعمر في الأول منه.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإفراد والعنعنة، ورواته مصريان، وأيْلِيّ، ومدنيان وفيه رواية التابعيّ عن التابعيّ والصحابيّ عن الصحابيّ. أخرجه البخاريّ في باب الكفن في القميص فيما مضى، وفي التفسير، والتِّرمذيُّ في التفسير، والنَّسائيّ فيه وفي الجنائز. ثم قال المصنف: باب ثناء الناس على الميت أي: مشروعيته وجوازه مطلقًا، بخلاف الحي، فإنه منهيٌّ عنه إذا أفضى إلى الإِطراء، خشية عليه من الزهو، قاله الزين بن المنير. الحديث الثاني والعشرون والمئة حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه يَقُولُ: مَرُّوا بِجَنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَجَبَتْ. ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا فَقَالَ وَجَبَتْ. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه مَا وَجَبَتْ قَالَ هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا فَوَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ. قوله: مُرّ، بضم الميم على البناء للمجهول، وقوله: فأثنوا عليها خيرًا، في رواية النضر بن أنس عن أبيه عند الحاكم. كنت قاعدًا عند النبي -صلى الله عليه وسلم-، فمُر بجنازة، فقال: ما هذه الجنازة؟ قالوا: جنازة فلان الفلانيّ، كان يحب الله ورسوله، ويعمل بطاعة الله، ويسعى فيها، وقال ضد ذلك في التي أثنوا عليها شرًا، ففيه تفسير ما أبهم من الخير والشر في رواية عبد العزيز. وللحاكم أيضًا عن جابر، فقال بعضهم: لنعم المرء، لقد كان عفيفًا مسلمًا. وفيه أيضًا: فقال بعضهم: بئس المرء، كان إن كان لفظًا غليظًا. وقوله: وجبت، في رواية إسماعيل ابن عليه عند مسلم، "وجبت وجبت وجبت" ثلاث مرات، وكذا في رواية النضر المذكورة، قال النوويّ: والتكرار فيه لتأكيد الكلام المبهم، ليحفظ ويكون أبلغ. وقوله: فقال عمر، زاد مسلم "فداء لك أبي وأمي" وفيه جواز قول مثل ذلك. وقوله: هذا أثنيتم عليه خيرًا فوجبت له الجنة، فيه بيان, لأن المراد بقوله: وجبت، أي الجنة لذي الخير، والنار لذي الشر، والمراد بالوجوب الثبوت، إذ هو في صحة الوقوع كالشيء الواجب، والأصل أنه لا يجب على الله شيء، بل الثواب فضله، والعقاب عدله لا يسأل عمّا يفعل. وفي رواية مسلم "من أثنيتم عليه خيرًا له الجنة" ونحوه للإِسماعيليّ عن شعبة، وهو أَبْيَن في

رجاله أربعة

العموم من رواية آدم، وفيه رد على من زعم أن ذلك خاص بالميتين المذكورين، لغيب أطلع الله نبيَّه عليه، وإنما هو خبر عن حكم أعلمه الله به. وقوله: أنتم شهداء الله في الأرض، أي المخاطبون بذلك من الصحابة، ومن كان على صفتهم من الإِيمان. وحكى ابن التين أن ذلك مخصوص بالصحابة, لأنهم كانوا ينطقون بالحكمة بخلاف من بعدهم. قال: والصواب أن ذلك يختص بالمتقيات والمتقين. وسيأتي في الشهادات بلفظ "المؤمنون شهداء الله في الأرض". ولأبي داود عن أبي هُريرة في نحو هذه القصة "إن بعضكم على بعض لشهيد" وسيأتي مزيد بسط في الكلام على الحديث الذي بعده. قال النوويّ: والظاهر أن الذي أثنوا عليه شرًا كان منافقًا لما رواه أحمد عن أبي قتادة بإسناد صحيح، أنه صلى الله تعالى عليه وسلم "لم يصل على الذي أثنوا عليه شرًا، وصلى على الآخر". رجاله أربعة قد مرّوا، مرَّ آدم وشعبة في الثالث من الإِيمان, ومرَّ عبد العزيز بن صهيب في الثامن منه، وأنس في السادس منه، وفي الحديث لفظ جنازة مبهمة، ولم أقف على تسميتها. الحديث الثالث والعشرون والمئة حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ هو الصفار حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ قَالَ: قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ وَقَدْ وَقَعَ بِهَا مَرَضٌ، فَجَلَسْتُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَمَرَّتْ بِهِمْ جَنَازَةٌ فَأُثْنِيَ عَلَى صَاحِبِهَا خَيْرًا فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه وَجَبَتْ. ثُمَّ مُرَّ بِأُخْرَى فَأُثْنِيَ عَلَى صَاحِبِهَا خَيْرًا، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه وَجَبَتْ. ثُمَّ مُرَّ بِالثَّالِثَةِ، فَأُثْنِيَ عَلَى صَاحِبِهَا شَرًّا فَقَالَ وَجَبَتْ. فَقَالَ أَبُو الأَسْوَدِ فَقُلْتُ وَمَا وَجَبَتْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ قُلْتُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَيُّمَا مُسْلِمٍ شَهِدَ لَهُ أَرْبَعَةٌ بِخَيْرٍ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ. فَقُلْنَا وَثَلاَثَةٌ قَالَ وَثَلاَثَةٌ. فَقُلْنَا وَاثْنَانِ قَالَ وَاثْنَانِ. ثُمَّ لَمْ نَسْأَلْهُ عَنِ الْوَاحِدِ. قوله: حدثنا عفان، كذا للأكثر، وذكر أصحاب الأطراف أنه أخرجه قائلًا فيه "قال عفان" وبذلك جزم البيهقيّ، وقد وصله أبو بكر بن أبي شيبة في مسنده عن عفان، ومن طريقه أخرجه الإِسماعيليّ وأبو نعيم، فقوله: وقد وقع بها مرض، زاد المصنف في الشهادات "وهم يموتون موتًا ذريعًا، وهو بالذال المعجمة، أي: سريعًا. وقوله: فأثني على صاحبها خيرًا، كذا في جميع الأصول "خيرًا" بالنصب، وكذا "شرًا"، وقد غلط من ضَبط أُثْنِي، بفتح الهمزة على البناء للفاعل، فإنه في جميع الأصول مبني للمفعول، قال ابن التين: والصواب الرفع، وفي نصبه بعد في اللسان، ووجهه غيره بأن الجار والمجرور أقيم مقام المفعول الأول، وخيرًا مقام الثاني. وهو جائز وإن كان المشهور عكسه.

وقال النوويّ: هو منصوب بنزع الخافض، أي: أُثني عليها بخير، وقال ابن مالك: "خيرًا"، صفة لمصدر محذوف فأقيمت مقامه، فنصبت لأن أثنى مسند إلى الجار والمجرور. قال: والتفاوت بين الإِسناد إلى المصدر والإِسناد إلى الجار والمجرور قليلٌ. وقوله: فقال أبو الأسود، هو الراوي، وهو بالإِسناد والمذكور. فقلت: وما وجبت، هو معطوف على شيء مقدّر، أي: قلت: هذا شيء عجيب، وما معنى قولك لكل منهما وجبت مع اختلاف الثناء بالخير والشر؟ وقوله: أيما مسلم الظاهر أنه هو المقول، وحينئذ يكون قول عمر لكل منهما: وجبت، قاله بناء على اعتقاده صدق الوعد المستفاد من قوله -صلى الله عليه وسلم- "أدخله الله الجنة" وأما اقتصار عمر على ذكر أحد الشقين، فهو إما للاختصار، وإما لاحالته السامع على القياس، والأول أظهر. وعرف من القصة المذكورة أن المثني على كل من الجنائز كان أكثر من واحد، وكذا في قول عمر "قلنا: وما وجبت" إشارة إلى أن السائل عن ذلك هو وغيره، وقد وقع في تفسير قوله تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} في البقرة عند ابن أبي حاتم عن أبي هُريرة أن أُبيّ بن كعب ممن سأل عن ذلك. وقوله: فقلنا: وثلاثة؟ فيه اعتبار مفهوم الموافقة, لأنه سأل عن الثلاثة، ولم يسأل عما فوق الأربعة، كالخمسة مثلًا. وفيه أن مفهوم العدد ليس دليلًا قطعيًا، بل هو في مقام الاحتمال. وقوله: ثم لم نسأله عن الواحد، قال الزين بن المنير: إنما لم يسأل عمر عن الواحد استبعادًا منه أن يكتفى في مثل هذا المقام العظيم بأقل من النصاب، وقال أخوه في الحاشية: فيه إيماء إلى الاكتفاء بالتزكية بواحد، كذا قال. وفيه نظر، وقد استدل به المصنف على أن أقل ما يكتفى به في الشهادة اثنان، كما يأتي في كتاب الشهادات، إن شاء الله تعالى. قال الداوديّ: المعتبر في ذلك شهادة أهل الفضل والصدق لا الفسقة, لأنهم قد يثنون على من يكون مثلهم، ولا مَنْ بَيْنه وبني الميت عداوة, لأن شهادة العدو لا تقبل، وفي الحديث فضيلة هذه الأمة، وإعمال الحكم بالظاهر. ونقل الطيبيّ عن بعض الشراح المصابيح، قال: ليس معنى قوله "أنتم شهداء الله في الأرض" أي: الذي يقولونه في حق شخص يكون كذلك، حتى يصير من يستحق الجنة من أهل النار بقولهم، ولا العكس، بل معناه أن الذي أثنوا عليه خيرًا رَأوْهُ منه كان ذلك علامة كونه من أهل الجنة، وبالعكس، وتعقبه الطيبيّ بأن قوله "وجبت" بعد الثناء حكمٌ عَقبَ وصفًا مناسبًا، فأشعر بالعلية، وكذا قوله "أنتم شهداء الله في الأرض" لأن الإِضافة فيه للتشريف، لأنهم بمنزلة عالية عند الله، فهو كالتزكية للأمة بعد أداء شهادتهم، فينبغي أن يكون لها أثر. قال: وإلى هذا يومى قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} وقد استشهد محمد بن كعب القُرظِيّ، لمّا روي عن جابر نحو حديث أنس، بهذه الآية، أخرجه الحاكم، وقد وقع ذلك في حديث مرفوع عند ابن أبي حاتم في التفسير، وفيه أن الذي قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: وما قولكَ وَجَبت؟ هو أُبيّ بن كعب.

وقال النوويّ: قال بعضهم معنى الحديث أن الثناء بالخير لمن أثنى عليه أهل الفضل، وكان ذلك مطابقًا للواقع، فهو من أهل الجنة، فإن كان غير مطابق، فلا، وكذا عكسه. قال: الصحيح أنه على عمومه، وإن من مات منهم فألهم الله تعالى الناسَ الثناء عليه بخيرٍ، كانَ دليلًا على أنه من أهل الجنة، سواء كانت أفعاله تقتضي ذلك أم لا، فإن الأعمال داخلةٌ تحت المشيئة، وهذا إلهام يستدل به على تعيينها، بهذا تظهر فائدة الثناء. في هذا في جانب الخير واضح، ويؤيده ما رواه أحمد وابن حِبّان والحاكم عن أنس مرفوعًا "ما من مسلم يموت، فيشهد له أربعة من جيرانه الأدْنِين أنهم لا يعلمون منه إلا خيرًا، إلا قال الله تعالى "قد قبلتُ قولكم، وغفرتُ له ما لا تعلمون". ولأحمد عن أبي هريرة نحوه، وقال ثلاثة بدل أربعة، وفي إسناده من لم يسم، وله شاهد من مراسيل بشير بن كعب، أخرجه أبو مسلم الكجيّ، وأما جانب الشر، فظاهر الأحاديث أنه كذلك، لكن إنما يقع ذلك في حق من غلب شره على خيره. وفي رواية النضر المشار إليها أولًا، في آخر حديث أنس، أنَّ لله ملائكة تنطق على ألسنة بني آدم بما في المرء من الخير والشر، واستدل به على جواز ذكر المرء بما فيه من خير أو شر، للحاجة، ولا يكون ذلك من الغيبة، وسيأتي البحث عن ذلك في باب النهي عن سبب الأموات، آخر الجنائز، وهو أصل في قبول الشهادة بالاستفاضة، وأن أقل أصلها إثنان. وقد أباح العلماء الغيبة في أمور جمعها القائل في قوله: تجنب غيبة إلا أمورًا ... ببيت جاء عن بعض الأكابرِ تظلَّم واستغثْ واستفتِ حذر ... وعرف بدعة فسق المجاهِر فهل تباح في حق الميت أيضًا؟ وإنّ ما جازت غيبة الحي به تجوز غيبة الميت به أم يختص جواز الغيبة في هذه المواضع المستثناة بالأحياء؟ ينبغي أنْ ينظر في السبب المبيح للغيبة إن كان قد انقطع بالموت كالمعاملة، فهذا لا يذكر في حق الميت, لأنه قد انقطع بموته. وإن لم ينقطع بموته كجَرْح الرواة، وكونه يؤخذ عنه اعتقاد ونحوه، فلا بأس بذكره به ليحذر ويجتنب. وهل يختص الثناء الذي ينفع الميت بالرجال أم يشترك فيه النساء والرجال؟ وإذا قلنا يشتركون فيه، فهل يكتفى في ذلك بامرأتين، أو لابد من رجل وامرأتين، وأربع نسوة؟ الظاهر الاكتفاء باثنين مسلمين، وأنه لا يحتاج إلى قيام امرأتين مقام رجل واحد، فقد روى الطبرانيّ في الكبير عن كعب بن عُجْرة قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومًا لأصحابه" ما تقولون في رجل قتل في سبيل الله؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال: الجنة إن شاء الله تعالى، قال: فما تقولون في رجل مات، فقام رجلان ذوا عدل، فقالا: لا نعلم إلا خيرًا؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم، قال: الجنة إن شاء الله تعالى. قال: فما تقولون في رجل مات فقام رجلان ذوا عدل فقالا: لا نعلم خيرًا؟ قالوا: النار. قال -صلى الله عليه وسلم-: مذنب،

رجاله خمسة

والله غفور رحيم. وقد قال: لا يكتفى بشهادة النساء, لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكتف بشهادة المرأة التي أثنت على عثمان بن مظعون، بقولها: شهادتي عليك يا أبا السائب، لقد أكرمك الله، قال لها: وما يدريك؟ وقد يجاب عنه بأنه إما أنكر عليها القطع بأن الله أكرمه، وذلك مغيب عنها، بخلاف الشهادة على الميت بأفعاله الجميلة، التي كان متلبسًا بها في الدنيا. وقال ابن العربي: فيه جواز الشهادة قبل الاستشهاد، وقبولها قبل الاستفصال، وفيه استعمال الثناء في الشر للمؤاخاة والمشاكلة، وحقيقته إنما هي في الخير. رجاله خمسة: مرّ منهم عفان بن مسلم في الحادي عشر والمئة من الوضوء ومرَّ عبد الله بن بُريدة في الخامس والثلاثين من الحيض، ومرَّ محل عمر في الذي قبله بحديث، والباقي اثنان: الأول داود بن أبي الفُرات، عمرو بن الفُرات الكِنديّ، أبو عمرو المروزيّ، قدم البصرة، ذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال ابن مُعين وأبو داود: ثقة، وكذا قال ابن المبارك والعجليّ، وقال الدارقطنيّ: ليس به بأس، روى عن عبد الله بن بُريدة وإبراهيم بن مَيمون الصائغ وعَلياء بن أحمر وغيرهم. وروى عنه أيوب وسعيد بن أبي عَروبة، وهما أكبر منه، وعفان وغيرهم. مات سنة سبع وستين ومئة أو سنة ست وتسعين ومئة، ولهم شيخ آخر اسم داود بن أبي الفرات، اسم أبيه بكر، أبو الفرات اسم جده أشجعيٌّ، من أهل المدينة، أقدم من الكنديّ. الثاني أبو الأسود الدؤلي البصريّ القاضي، واسمه ظالم بن عمرو بن سفيان بن جَنْدل بن يَعْمرُ بن حَنَش بن ثَعْلبة بن عَدِيّ بن الدُّنِل بن بكر بن عبد مناة بن كِنانة، وقيل اسمه عمرو بن ظالم، وقيل عثمان بن عمرو، وقيل عمرو بن عمران، مشهورٌ بكنيته، وهو من كبار التابعين، مخضرم أدرك الجاهلية والإِسلام، وثّقه ابن مُعين والعجليّ وابن سعد. وقال أبو حاتم: ولي قضاء البصرة. وقال أبو عمر: كان ذا دين وعقل ولسان وبيان وفهم وحزم. وقال ابن سعد: استخلفه ابن عباس على البصرة، وأقره عليٌّ. وقال المرزبانيّ: هاجر أبو الأسود إلى البصرة في خلافة عمر، وولاه على البصرة خليفة لابن عباس، فكان عَلَويّ المذهب. وقال الجاحظ: كان أبو الأسود معدودًا في طبقات من الناس، مقدمًا في كل منها، كان يعد في التابعين، والشعراء، والفقهاء، والمحدثين، والأشراف، والفرسان، والأمراء، والنحاة، والحاضري الجواب، والشيعة، والصُّلْع، والنجْر، والبخلاء، ومن لطيف قوله: ليس السائل المُلْحِف خيرًا من المانع الحابس، ومن عجائب أجوبته أنه قيل أبو الأسود أظرف الناس، لولا بخل فيه، فقال: لا خير في ظَرْف لا يمسك ما فيه، ومن محاسن الحكم في شعره قوله:

لا ترسلنّ مقالةً مشهورةً ... لا نستطيعُ، إذا مضت، إدراكها لا تبدينّ نميمة أُنْبِئتها ... وتَحفظنّ مِن الذي أنباكها وقوله: ما كل ذي لبٍّ بمؤتيك نصحه ... وما كل مؤتٍ نصحه بلبيبِ ولكنْ إذا ما استجمعا عند واحدٍ ... فحق له من طاعة بنصيب قال المبرد: أول من وضع العربية ونقط المصاحف أبو الأسود، وقد سئل عمن نهج له الطريق، فقال تلقيته من علي بن أبي طالب. وقيل: كان الذي حداه على ذلك أن ابنته قالت له: يا أبت ما أشدُّ الحر؟ برفع أشدُّ، وكان في شدة القيظ، فقال: ما نحن فيه. فقالت: إنما أردت أنه شديد، فقال: قولي ما أشد، نعمل باب التعجب. وروى عمرو بن شَبّة أنه استأذن زيادًا، وقال له: العرب خالطت العجم، ففسدت ألسنتها، فلم يأذن لي حتى جاء رجل، فقال: أظلح الله الأمير، ات أبانا وترك بنون، فقال زياد: ادع أبا الأسود، فأذِن له حينئذ. وروى ابن أبي سعد أن سبب ذلك أنه مرَّ به فارسيٌّ فَلَحنَ، فوضع باب الفاعل والمفعول، فلما جاء عيسى بن عمر تتبع الأبواب، فهو أول من بلغ الغاية فيه. وقد ذكر أبو عُبيدة أنه أدرك الإِسلام، وشهد بدرًا مع المسلمين، وهو وهم، ولعله مع المشركين، فقد ذكروا أن أباه قُتل كافرًا في بعض المشاهد التي قاتل فيها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- المشركين. روى عن عمر وعليّ ومعاذ وابن عباس وغيرهم. وروى عنه ابنه أبو حرب وعبد الله بن بُريدة ويحيى بن يَعْمرُ وغيرهم. مات في طاعون الجارف سنة تسع وستين، وكان له يوم مات خمس وثمانون سنة. وأخباره كثيرة، فمنها أن قومه بنو الدُّئِل قتلوا رجلًا من بني لَيْث، ثم اصطلحوا على أن يعطوهم الدِّيَة، فجاء قومه يطلبون منه الإعانة، وألح عليه غلام منهم ذو بيان، فقال: يا أبا الأسود، أنت شيخ العشيرة، وسيدهم، وما يمنعك من معاونتهم قلةُ ذاتِ يدٍ، ولا سؤدد، فلما أكثر أقبل عليه أبو الأسود، ثم قال له: قد أكثرت يا ابن أخي، فاسمع مني، إن الرجل والله لا يعطي ماله إلا لأحدى ثلاث خلال، إما رجل أعطى ماله رجاء مكافأة، أو رجل خاف على نفسه فوقاها بماله، أو رجل أراد وجه الله وما عنده في الآخرة، أو رجل أحمق خدع من ماله. والله ما أنتم أحد هذه الطبقات, ولا عمك الرجل العاجز فينخدع لهؤلاء، ولَما أفدتك إياه في عقلك خير لك من مال أبي الأسود، لو وصل إلى بني الدُّئِل، قوموا إذا شئتم، فقاموا يبادرون الباب. ومنها أنه ذهب هو وأصحابه إلى الصيد، فجاءه أعرابيّ فقال له: السلام عليك، فقال له أبو الأسود: كلمة مَقولة، قال: قال له: أَدْخُل؟، قال له: وراءك أوسع لك، قال: إنَّ الرمضاء قد أحرقت رجليّ، قال له: بُلْ عليها أو أئت الجبلَ يفيء عليك. قال: هل عندك شيء تعطينيه؟ قال:

لطائف إسناده

نأكل ونطعم العيال، وإن بقي شيء فأنت أحق به من الكلب. قال الأعرابيّ: ما رأيت قط ألأم منك. قال أبو الأسود: قد رأيتك ولكنك قد نسيت. ومنها أنه كان جالسًا في دِهْليز، فجازَ به رجل من الأعراب، يقال له ابن أبي الحَمامة، فسلم، ثم ذكر باقي الخبر مثل ما تقدمه، وزاد فيه: فقال: أنا ابن أبي الحمامة، قال: كن ابن أبي الطاووسة، وانصرف، قال: أسألك بالله إلاَّ أطعمتني مما تأكل، فألقى إليه أبو الأسود ثلاث رُطَبات، فوقعت إحداها في التراب، فأخذها يمسحها بثوبه، فقال له أبو الأسود: دعها فإن الذي تمسحها منه أنظف من الذي تمسحها به، فقال: إنما كرهت أن أدعها للشيطان، فقال: لا والله ولا لجبريل وميكائيل تدعها. ومنها أن أبا الأسود كان له دكّان على باب داره يجلس عليه، مرتفع عن الأرض إلى قدر صدر الرجل، فكان يوضع بين يديه خُوَان على قدر الدكان، فإذا مرَّ به مارّ فدعاه للأكل لم يجد موضعًا يجلس فيه، فمر به ذات يوم فتى، فدعاه للغداء فأقبل، فتناول الخوان فوضعه أسفل، ثم قال له: يا أبا الأسود، إن عزمت على الغداء فانزلْ، وجعل يأكل وأبو الأسود ينظر إليه مغتاظًا، حتى أتى على الطعام، فقال له أبو الأسود: ما اسمك؟ قال: لقمان الحكيم، قال: لقد أصاب أهلك حقيقة اسمك. واخباره كثيرة جدًا مؤلف فيها. والدؤلي في نسبه نسبة إلى جده دُئِل بن بكر، وهو بضم الدال وكسر الهمزة، والنسبة إليه بضمها وفتح الهمزة، وفيه غير هذا من الضبط. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، ورجاله كلهم بصريون، وفيه رواية تابعي عن تابعي، أخرجه البخاريّ أيضًا في الشهادات، والترمذيّ في الجنائز، وكذا النَّسائي. ثم قال المصنف:

باب ما جاء في عذاب القبر

باب ما جاء في عذاب القبر وقوله تعالى {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} هو الهَوان، والهَوْنُ الرفق، وقوله جل ذكره {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} وقوله تعالى {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}. لم يتعرض المصنف في الترجمة لكون عذاب القبر يقع على الروح فقط، أو عليها وعلى الجسد، وفيه خلاف شهير عند المتكلمين، وكأنه تركه لأن الأدلة التي يرضاها ليست قاطعة في أحد الأمرين، فلم يتقلد الحكم في ذلك، واكتفى بإثبات وجوده، خلافًا لمن نفاه مطلقًا من الخوارج، وبعض المعتزلة، كضرار بن عمرو وبِشر المريسيّ ومن وافقهما. وخالفهما في ذلك أكثر المعتزلة، وجميع أهل السُنَّة وغيرهم، وأكثروا من الاحتجاج له. وذهب بعض المعتزلة كالجبائيّ إلى أنه يقع على الكفار دون المؤمنين، وبعض الأحاديث الآتية عليهم أيضًا. وقوله: وقوله تعالى، بالجر عطفًا على عذاب القبر، أي: ما ورد في تفسير الآيات المذكورة، وكأن المصنف قدّم ذكر هذه الآية، لينبه على ثبوت ذكره في القرآن، خلافًا لمن رده وزعم أنه لم يرِد ذكره إلا من أخبار الآحاد، فأما الآية التي في الأنعام، فروى الطبرانيّ وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} قال: هذا عند الموت، والبسط: الضرب، يضربون وجوههم وأدبارهم، ويشهد له قوله تعالى في سورة القتال {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} وهذا، وإن كان قبل الدفن، فهو من جملة العذاب الواقع قبل يوم القيامة، وإنما أضيف العذاب إلى القبر لكون معظمه يقع فيه، ولكون الغالب على الموتى أن يقبروا، وإلا فالكافر، ومن شاء الله تعذيبه من العصاة، يعذب بعد موته، ولو لم يدفن. ولكن ذلك محجوب عن الخلق، إلا من شاء الله. وقوله {وَلَوْ تَرَى} خطاب للنبي عليه الصلاة والسلام، وجواب لو محذوف، أي: لرأيت أمرًا عجيبًا عظيمًا، وكلمة "إذا" ظرف مضاف إلى جملة اسمية، وهي قوله: {الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} وقال الزمخشري: يريد بالظالمين الذين ذكرهم من اليهود والمتنبئة، فيكون اللام للعهد، ويجوز أن يكون للجنس، فيدخل فيه هؤلاء لاشتماله. وقال غيره: المراد من الظالمين قوم كانوا أسلموا بمكة، أخرجهم الكفار إلى قتال بدر، فلما أبصروا أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام

رجعوا عن الإِيمان. وقيل: هم الذين قالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء. وقوله {فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} أي: في شدائده وسكراته وكرباته، وهو جمع غمرة، وأصل الغمرة ما يغمر من الماء، فاستعيرت للشدة الغالبة. وقوله: {بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} قد مرَّ تفسيره، وقال الزمخشري: يبسطون إليهم يقولون: هاتوا أرواحكم أخرجوها الينا من أجسادكم، وهذه عبارة عن العنف في السياق، والإِلحاح والتشديد في الإِرهاق من غير تنفيس وإمهال. وقال الضحّاك: باسطوا أيديهم بالعذاب. وقوله: أخرجوا أنفسكم، أي: تقول الملائكة: أخرجوا أنفسكم، وذلك لأن الكافر إذا احتُضر، بشرته الملائكة بالعذاب والنَّكال والسلاسل والجحيم وغضب الرحيم، فَتَغرَّقُ روحه في جسده، ويعطي ويأبى الخروج، فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم قائلين لهم؛ أخرجوا أنفسكم. وقيل: معناه أخرجوا أنفسكم من العذاب إن قدرتم، تقريعًا لهم، وتوبيخًا. واحتُج بهذه الآية على أن النفس والروح شيء واحد، لقوله تعالى {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} والمراد الأرواح، وهي مسألة مشهورة، فيها أقوال كثيرة، وقد مرَّ استيفاء الكلام عليها في كتاب العلم في باب "وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا" وبقية قليلة في باب الأذان بعد ذهاب الوقت، من كتاب المواقيت. وقوله {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} أي: اليوم تهانون غاية الإهانة بما كنتم تكفرون بالله، وتستكبرون عن اتباع آياته، والانقياد لرسله. وقال الزمخشري: اليوم تجزون، يجوز أن يراد به وقت الإِماتة، وما يعذبون به من شدة النزع، وأن يراد الوقت الممتد المتطاول الذي يلحقهم فيه العذاب، في البرزخ والقيامة. وفسر البخاريّ الهُون، بالضم، بأنه الهَوان، وهو الشديد، وإضافة العذاب له كقولك: رجلُ سَوْءٍ، يريد العراقة في الهوان، والتمكن فيه. وفسر الهَون، بفتح الهاء، بأنه الرفق، كما في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} أي برفق وسكينة. قوله: وقوله تعالى {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} روى الطبريّ وابن أبي حاتم والطبرانيّ عن ابن عباس قال: خطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الجمعة فقال: اخرجْ يا فلان، فإنك منافق، واخرج يا فلان فإنك منافق، فأخرج من المسجد ناسًا منهم فضحهم، فجاء عمر رضي الله تعالى عنه وهم يخرجون، فأختبأ منهم حياءًا، وأنه لم يشهد الجمعة، وظن أن الناس قد انصرفوا، واختبئوا هم منه، ظنوا أنه قد علم بأمرهم، فجاء عمر، فدخل المسجد فإذا الناس لم يصلوا، فقال له رجل من المسلمين: أبشر يا عمر، فقد فضح الله المنافقين. قال ابن عباس: فهذا العذاب الأول حين أخرجهم من المسجد، والعذاب الثاني عذاب القبر. وقال الطبريّ، بعد أن ذكر اختلافًا: والأغلب أن إحدى المرتين عذابُ القبر، والأخرى تحتمل

الحديث الرابع والعشرون والمئة

أن كون أحد ما تقدم ذكره، من الجوع أو السبي أو القتل أو الإذلال أو غير ذلك. وقوله تعالى {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} الآية، حاق يعني نزل بهم سوء العذاب، أي: شدته. وقال الزمخشريّ: وحاق بآل فرعون ما هموا به من تعذيب المسلمين، ورجع عليهم كيدهم، يقال: حاق به شيء يحيق، أي: أحاط به، ومنه {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ}. وقوله {النَّارُ يُعْرَضُونَ} بدل من قوله سوء العذاب، أو خبر مبتدأ محذوف، أي كأَنَّ قائلًا قال: ما سوء العذاب؟ فقيل: هو النار. أو مبتدأ وخبره يعرضون عليها، وعرضهم عليها إحراقهم. يقال: عرض الأُسارى على السيف إذا قتلهم به. وقرىء النصب، وتقديره: يدخلون النار، ويجوز أن ينصب على الاختصاص، وقال ابن عباس: يعرضون أرواحهم على النار غُدُوًا وعشيًا، أي: في هذين الوقتين. وهكذا قال مجاهد وقتادة. وقال مقاتل: تعرض روح كل كافر على منازلهم من النار كل يوم مرتين. وروى الطبريّ عن هُذيل بن شُرَحبيل قال: أرواح آل فرعون في طيور سودٍ تغدو وتروح على النار، فذلك عَرْضُها، ووصله ابن أبي حاتم عن لَيث، فذكر عبد الله بن مسعود فيه. وليث ضعيف، وسيأتي في الكلام على حديث ابن عمر، بعد بابين، بيانُ أن هذا العرض يكون في الدنيا قبل يوم القيامة. قال القرطبي: الجمهور على أن هذا العرض يكون في البرزخ، وهو حجة في تثبيت عذاب القبر. وقال غيره: وقع ذكر عذاب الدارين مفسرًا مبينًا في هذه الآية، لكنه حجة على من أنكر عذاب القبر مطلقًا، لا على من خصه بالكفار، واستدل بها على أن الأرواح باقية بعد فراق الأجساد، وهو قول أهل السنة كما مرَّ في المحلين المذكورين آنفًا، وكما سيأتي. الحديث الرابع والعشرون والمئة حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إِذَا أُقْعِدَ الْمُؤْمِنُ فِي قَبْرِهِ أُتِيَ، ثُمَّ شَهِدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ}. قوله: أُتِي ثم شهد، بضم الهمزة، أي: حال كونه مأتبًا إليه، والآتي المَلَكان مُنْكَر ونكير. وقوله: ثم شهد، في رواية الحمويّ والمستملي "ثم يشهد" هكذا ساقه المصنف بهذا اللفظ، وأخرجه الإسماعيليّ عن حفص بن عمر، شيخ المصنف، بلفظ أبين من لفظه، قال: إن المؤمن إذا شهد أن لا إله إلا الله، وعرف محمدًا في قبره، فذلك قوله .. الخ. وأخرجه ابن مردويه وغيره من هذا الوجه، بلفظ "إن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر عذاب القبر فقال: "إن المسلم، إذا شهد أن لا إله إلا الله، وعرف أن محمدًا رسول الله، والقول الثابت هو كلمة التوحيد, لأنها راسخة في قلب المؤمن.

رجاله خمسة

رجاله خمسة: مرَّ منهم حفص بن عمر في الثالث والثلاثين من الوضوء، مرَّ سعد بن عبيدة في الأخير منه، ومرَّ شعبة في الثالث من الإِيمان, والبراء بن عازب في الثاني والثلاثين منه. والباقي علقمة بن مرثد الحضرميّ أبو الحارث الكوفيّ، ذكره ابن حِبَّان في الثقات، وقال أحمد: ثبت في الحديث، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وقال النَّسائيّ: ثقة، ووثَّقه يعقوب بن سفيان، روى عن سعد بن عُبيدة وزر بن حُبَيش وطارق بن شهاب وغيرهم. وروى عن شُعبة والثَّوريّ وغيرهم. مات في آخر ولاية خالد القسري على العراق. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة، وشيخه من أفراده، ورواته بصريّ وواسطيّ وكوفيان. أخرجه البخاريّ أيضًا في الجنائز وفي التفسير، ومسلم في صفة النار، وأبو داود في السنة، والتِّرمذي في التفسير، والنَّسائيّ في الجنائز والتفسير، وابن ماجه في الزهد. الحديث الخامس والعشرون والمئة حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ بِهَذَا وَزَادَ {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} نَزَلَتْ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ. قوله: وزاد، يوهم أن لفظ غندر كلفظ حفص، وزيادة، ليس كذلك، وإنما هو بالمعنى، فقد أخرجه مسلم والنَّسَائيّ وابن ماجه عن محمد بن بشار، والقدر الذي ذكره هو أول الحديث، وبقيته عندهم "يقال له من ربك؟ فيقول: "ربي الله ونبي محمدٌ" والقدر المذكور أيضًا أخرجه مسلم والنَّسائيّ عن البراء، وقد اختصر سعد وخَيْثمة هذا الحديث عن البراء جدًا، لكن أخرجه ابن مردويه من وجه آخر عن خيثمة، فزاد فيه "إن كان صالحًا وُفِّق، وإن كان لا خير فيه وجد أيله"، وفيه اختصار أيضًا. وقد رواه زاذان أبو عمرو عن البراء مطولًا مبينًا، أخرجه أصحاب السنن, وصححه أبو عُوانة وغيره، وفيه من الزيادة في أوله "استعيذوا بالله من عذاب القبر" وفيه "فترد روحه في جسده" وفيه "فيأتيه ملَكان فيُجْلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإِسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله، فيقولان: وما يدريك؟ فيقول: قرأت القرآن كتاب الله، فآمنت به وصَدَّقت، فذلك قوله تعالى {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} وفيه "وأنّ الكافر تعاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان فيُجلسانه، فيقولان له من ربك؟ فيقول: هاه، هاه، لا أدري .. الحديث، سيأتي نحو هذا في حديث أنس، آخر أحاديث

الحديث السادس والعشرون والمئة

الباب. ويأتي هناك محل الكلام عليه. قال الكرمانيّ: ليس في الآية ذكر عذاب القبر، فلعله سمى أحوال العبد في قبره عذاب القبر تغليبًا لفتنة الكافر على فتنة المؤمن، لأجل التخويف، ولأن القبر مقام الهول والوحشة، ولأن ملاقاة الملائكة مما يهاب منه ابن آدم في العادة، ونقل عبد الرزاق عن طاووس {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} لا إله إلا الله، وفي الآخرة، قال: المسألة في القبر. وقال قتادة: أما الحياة الدنيا فيثبتهم بالخير والعمل الصالح، وفي الآخرة في القبر. قلت: استدلال أهل السنة بهذه الآية، وما قبلها من الآيات السابقة على عذاب القبر، واضحٌ، ولا يرد عليه قوله {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} أي: موضع نومنا، ففيه دلالة على أن مدتهم في القبر نوم لا عذاب فيه، وأُجيب بأنَّهم لما شاهدوا أهوال القيامة عَدُّوا عذاب القبر راحة، أو لأنهم لاختلاط عقولهم، يظنون أنهم كانوا نيامًا. وقيل: رفع الله عنهم العذاب بين النفختين، فيهجعون هَجْعَة، وهذا غير صحيح، قاله ابن عطية. رجاله رجال السند الأول، إلا شيخ المؤلف وشيخه، والأول محمد بن بشار، وقد مرَّ في الحادي عشر من العلم، والثاني غندر، وقد مرَّ في الخامس والعشرين من الإيمان. الحديث السادس والعشرون والمئة حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ صَالِحٍ حَدَّثَنِي نَافِعٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ قَالَ: اطَّلَعَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى أَهْلِ الْقَلِيبِ فَقَالَ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا. فَقِيلَ لَهُ تَدْعُو أَمْوَاتًا فَقَالَ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لاَ يُجِيبُونَ. ذكره هنا مختصرًا، وذكره في المغازي مطولًا. قوله: اطَّلع: أي شاهد أهل القليب، وحضر عندهم، وهم كثيرون، وفيهم أبو جهل بن هشام وأمية بن خلف وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، اطَّلع عليهم وهم مقتولون، فقال ما قال، ثم أمر بهم، فسُحبوا فأُلقوا في قَليب بدر، والقليب، بوزن عظيم، البيرُ قبل أن يُطوى، يذكر ويؤنث، وقال أبو عبيدة: هو البشر العادِيّة القديمة، وجمع القلة أَقْلِية، والكثير قُلُب، بضمتين، والمراد به هنا قليب بدر، كما بينه في بعض الروايات بقوله: "قليب بدر". وقوله: فقيل له، أي: للنبي -صلى الله عليه وسلم-، والقائل له هو عمر، رضي الله تعالى عنه، كما صرح به في رواية أحمد ومسلم عن أنس "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ترك قتلى بدرٍ ثلاثًا ثم أتاهم، فقام عليهم فناداهم، فقال: يا أبا جهل بن هشام، ويا أمية بن خلف، يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة، أليس قد وجدتم ما وعد ربكم حقًا فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقًا، فسمع عمر رضي الله تعالى عنه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله، أتناديهم بعد ثلاث؟ وهل يسمعون؟ ويقول الله تعالى {إِنَّكَ لَا

رجاله ستة

تُسْمِعُ الْمَوْتَى} فقال: "والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، لكن لا يستطيعون أن يجيبوا". وفي بعضه نظر. لأن أمية بن خلف لم يكن في القلب, لأنه كان ضخمًا فانتفخ، فألقوا عليه من الحجارة والتراب ما غيّبه، وقد أخرج ذلك ابن إسحاق من حديث عائشة، لكن يجمع بينهما بأنه كان قريبًا من القليب فيمن نودي، لكونه من جملة رؤسائهم. ومن جملة مخاطبتهم ما ذكره ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم، أنه عليه الصلاة والسلام قال: يا أهل القليب، بئس عشيرة النبي، كنتم كذبتموني وصدقني الناس، ومأتيٌّ إتمام الكلام عليه عند حديث عائشة التالي له. رجاله ستة: قد مرّوا، مرَّ علي بن المدِينيّ في الرابع عشر من العلم، ويعقوب بن إبراهيم في السادس عشر منه، ونافع في الأخير منه، مرَّ إبراهيم بن سعد في السادس عشر من الإِيمان، وابن عمر في أوله قبل ذكر حديث منه، ومرَّ صالح بن كيسان في الأخير من بدء الوحي. وقوله في الحديث: فقيل له، القائل عمر، ومرَّ في الأول من بدء الوحي. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإِفراد والإِخبار بالأفراد والعنعنة، ورواته مدنيون، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ. أخرجه البخاريّ أيضًا في المغازي، ومسلم والنَّسائي في الجنائز. الحديث السابع والعشرون والمئة حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ إِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِنَّهُمْ لَيَعْلَمُونَ الآنَ أَنَّ مَا كُنْتُ أَقُولُ حَقٌّ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى}. وقوله: إنما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: إنهم ليعلمون الآن أنما كنت أقول لهم حق، وهذا مصير من عائشة إلى رد رواية ابن عمر المذكورة، وقد خالفها الجمهور في ذلك، وقبلوا حديث ابن عمر لموافقة من رواه من غيره عليه، ولم ينفرد ابن عمر ولا ابنه بذلك، بل وافقهما أبو طلحة في المغازي، وروى الطبرانيّ مثله عن ابن مسعود بإسناد صحيح، وفيه "ولكنهم اليوم لا يجيبون" وروى الطبرانيّ أيضًا عن عبد الله بن سيدان نحوه، وفيه "فقالوا: يا رسول الله، وهل يسمعون؟ قال: يسمعون كما تسمعون، ولكن لا يجيبون". ومن الغريب أن في المغازي لابن إسحاق رواية يونس بن بكير بإسناد جيد عن عائشة، مثل حديث أبي طلحة، وفيه "ما أنتم بأسمع منهم لما أقول" وأخرجه أحمد بإسناد حسن، فإن كان

محفوظًا، فكأنها رجعت عن الإِنكار لما ثبت عندها من رواية هؤلاء الصحابة، لكونها لم تشهد القصة. قال الإِسماعيلي: كان عند عائشة من الفهم والذكاء وكثرة الرواية والغوص على الغوامض ما لا مزيد عليه، لكن لا سبيل إلى رد رواية الثقة إلا بنص مثله، يدل على نسخه، أو تخصيصه، أو استحالته، فكيف والجمع بين الذي أنكرته وأثبته غيرها ممكن؟ لأن قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} لا ينافي قوله -صلى الله عليه وسلم- "إنهم الآن يسمعون" لأن الإسماع هو إبلاغ الصوت من المسمع في أذن السامع، فالله تعالى هو الذي أسمعهم بأنْ أبلغهم صوت نبيه -صلى الله عليه وسلم- بذلك. وقيل: معنى الآية: لا تسمعهم سماعًا ينفعهم، أو لا تسمعهم إلا أن يشاء الله، وقيل: إن هذه الآية كقوله تعالى {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ} أي: أن الله هو الذي يُسْمع ويهدي. وقال ابن التين: لا معارضة بين حديث ابن عمر والآية, لأن الموتى لا يسمعون بلا شك، لكن إذا أراد الله إسماع من ليس من شأنه السماع، لم يمتنع، كقوله تعالى {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} الآية، وقوله {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} وسيأتي في المغازي قول قتادة: أحياهم الله حتى أسمعهم قوله، توبيخًا وتصغيرًا ونقمة وحسرة وندمًا. وفي رواية الإسماعيلي: وَتَنَدُّمًا وذِلة وصَغارًا، والصغار الذلة والهَوان. وأراد قتادة بهذا التأويل الرد على من أنكر أنهم يسمعون، كما جاء عن عائشة أنها استدلت بقوله تعالى {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} كما مرَّ قريبًا. وقد قال السّهيلي ما محصله: أن في نفس الخبر ما يدل على خَرْق العادة بذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم-، لقول الصحابة له: أتخاطب أقوامًا قد جَيّفوا؟ فأجابهم قال: وإذا جاز أن يكونوا في تلك الحالة عالمين، جاز أن يكونوا سامعين، إمّا بآذان رؤوسهم كما هو قول الجمهور، أو بآذان الروح على رأي من يوجه السؤال للروح، من غير رجوع إلى الجسد. وقال أيضًا: عائشة لم تحضر قول النبي -صلى الله عليه وسلم-، فغيرها ممن حضر أحفظ للفظ النبي -صلى الله عليه وسلم-, وقد قالوا له: يا رسول الله، أتخاطب قومًا قد جيّفوا؟ فقال: ما أنتم بأسمع، لما أقول منهم. وقوله: إنها لم تحضر، صحيح، ولكن لا يقدح ذلك في روايتها, لأنه مرسل صحابيّ، وهو محمول على أنها سمعت ذلك ممن حضره، أو من النبي عليه الصلاة والسلام، بعد، ولو كان ذلك قادحًا في روايتها لقدح في رواية ابن عمر، فإنه لم يحضر أيضًا، ولا مانع، أن يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- قال اللفظين معًا، فإنه لا تعارض بينهما. قلت: ما قاله في رواية ابن عمر لا يرد على السّهيليّ, لأنه لم يذكر ابن عمر، وإنما قال: فغيرها ممن حضر أحفظ، وموجود غير ابن عمر، ممن حضر القصة، فيقدم على عائشة، وقد تمسك بهذا الحديث من يقول: إن السؤال يتوجه على الروح والبدن، ورده من قال إنما يتوجه على الروح فقط، بأنّ الإسماع يحتمل أن يكون لأذُن الرأس ولأذن القلب كما مرَّ، فلم يبق فيه حجة، وأيضًا إذا كان الواقع فيه من خوارق العادة للنبي -صلى الله عليه وسلم-، كما مرَّ، لم يحسن حينئذ التمسك به في مسألة السؤال أصلًا.

رجاله خمسة

وقل اختلف أهل التأويل في المراد بالموتى، في قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} وفي المراد بمن في القبور، فحملته عائشة على الحقيقة، وجعلته أصلًا احتاجت معه إلى تأويل قوله "ما أنتم بأسمع منهم لما أقول" وهذا قول الأكثر، وقيل: هو مجاز، والمراد بالموتى وبمن في القبور، الكفارُ، شبهوا بالموتى وهم أحياء، والمعنى من هم في حال الموتى من سكن القبر، وعلى هذا لا يبقى في الآية دليل على ما نفته عائشة رضي الله تعالى عنها. وقد اختلف في سؤال الميت، هل يقع في الروح أو البدن، أو عليهما؟ إلى آخر ما مرَّ مستوفى عند حديث أسماء في باب الفُتْيا بإشارة الرأس واليد. ووجه إدخال حديث ابن عمر، وما عارضه من حديث عائشة، في ترجمة عذاب القبر أنه لمّا ثبت من سماع أهل القليب كلامه، وتوبيخه لهم، دل إدراكهم الكلام بحاسة السمع على جواز إدراكهم ألم العذاب ببقية الحواس، بل بالذات، إذ الجامع بينهما وبين بقية الأحاديث أن المصنف أشار إلى طريق من طرق الجمع بين حديثي ابن عمر وعائشة، يحمل حديث ابن عمر على أن مخاطبة أهل القليب وقعت وقت المسألة، وحينئذ كانت الروح قد أُعيدت إلى الجسد، وقد تبين من الأحاديث الأخرى أن الكافر المسؤول يعذب، وأما إنكار عائشة، فمحمول على غير وقت المسألة، فيتفق الخبران، ويظهر من هذا التقرير وجه إدخال حديث ابن عمر في هذه الترجمة. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ عبد الله بن محمد بن أبي شيبة في الثامن من العمل في الصلاة، وسفيان بن عُيينة في الأول من بدء الوحي، وهشام وعروة وعائشة في الثاني منه. الحديث الثامن والعشرون والمئة حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ شُعْبَةَ سَمِعْتُ الأَشْعَثَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ يَهُودِيَّةً دَخَلَتْ عَلَيْهَا، فَذَكَرَتْ عَذَابَ الْقَبْرِ، فَقَالَتْ لَهَا أَعَاذَكِ اللَّهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ عَذَابِ الْقَبْرِ قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَعْدُ صَلَّى صَلاَةً إِلاَّ تَعَوَّذَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. زَادَ غُنْدَرٌ عَذَابُ الْقَبْرِ حَقٌّ. قوله: سمعت الأشعث عن أبيه، في رواية أبي داود الطَّيالسيّ "عن شعبة عن أشعث سمعت أبي"، وهذا الحديث مرَّ الكلام عليه مستوفى في باب التعوُّذ من عذاب القبر في الكسوف. وقوله هنا: قال نعم عذاب القبر، هو رواية الأكثر، وزاد في رواية الحموي والمستملي "حق" وليس بجيد, لأن المصنف قال عقب هذه الطريق: زاد غندر "عذاب القبر حق"، فتبيَّنَ أن لفظ "حق" ليس في رواية عبدان عن أبيه عن شعبة، وأنها ثابتة في رواية غندر عن شعبة، وهو كذلك، وقد

رجاله سبعة

أخرج رواية غندر النَّسائيّ والإِسماعيليّ كذلك، وكذا أخرجه أبو داود الطيالسيّ في مسنده عن شعبة. وقوله: وزاد غندر، وقع في رواية أبي ذَرٍّ وحده، ووقع ذلك في بعض النسخ عقب حديث أسماء بنت أبي بكر، وهو غلط. رجاله سبعة: قد مرّوا، مرَّ عبدان في السادس من بدء الوحي، ومرَّ أبوه عثمان بن جَبْلة في الخامس والمئة من الوضوء, ومرَّ الأشعث وأبوه أبو الشعثاء في الثالث والثلاثين منه، ومرَّ شعبة في الثالث من الإِيمان, ومرَّ مسروق في السابع والعشرين منه، ومرت عائشة في الثاني من بدء الوحي. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإِخبار بالأفراد والعنعنة والسماع، ورواية تابعي، عن تابعيّ عن صحابية، ورواته بصريان وواسطيّ وكوفيون أخرجه مسلم والنَّسائيّ في الصلاة. الحديث التاسع والعشرون والمئة حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما تَقُولُ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- خَطِيبًا فَذَكَرَ فِتْنَةَ الْقَبْرِ الَّتِي يَفْتَتِنُ فِيهَا الْمَرْءُ، فَلَمَّا ذَكَرَ ذَلِكَ ضَجَّ الْمُسْلِمُونَ ضَجَّةً. زَادَ غُنْدَرٌ عَذَابَ القَبْرِ. قوله: فلما ذكر ذلك ضج المسلمون ضجة، وهو مختصر، وقد ساقه النَّسَائيّ والإِسماعيليّ من الوجه الذي أخرجه منه البخاريّ، فزاد بعد قوله ضجة "حالت بيني وبين أن أفهم آخر كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما سكت ضجيجهم، قلت لرجل قريب مني: أي بارك الله فيك، ماذا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في آخر كلامه؟ قال: قد أُوحي إليَّ أنكم تفتنون في القبور قريبًا من فتنة الدجال". وهذا الحديث تقدم في كتاب العلم، وفي الكسوف من طريق فاطمة بنت المنذر عن أسماء بتمامه، وفيه من الزيادة "يؤتى أحدكم فيقال له: ما عليك بهذا الرجل .. " الحديث، فلم يبيِّن فيه ما بيَّن في هذه الرواية من تفهيم الرجل المذكور لأسماء فيه. وأخرجه في الجمعة عن فاطمة أيضًا وفيه "أنه لما قال: أمَّا بعدُ، لَغَط نسوةٌ من الأنصار، وأنها ذهبت لتسكتهنَّ، فسألت عائشة عما قال" فيجمع بين مختلف هذه الروايات أنها احتاجت إلى الاستفهام مرتين، وأنه لما حدَّثت فاطمة لم تبين لها الاستفهام الثاني، ولم يعرف اسم الرجل الذي استفهمت منه عن ذلك. ولأحمد عن محمد بن المنكدر عن أسماء مرفوعًا. "إذا دخل الإنسان قبره فإن كان مؤمنًا احتف به عمله، فيأتيه الملك، فترده الصلاة والصيام، فيناديه المَلَك: اجلس، فيجلس، فيقول: ما تقول

رجاله ستة

في هذا الرجل محمد؟ قال: أشهد أنه رسول الله، قال: على ذلك عِشت، وعلى ذلك مِت، وعليه تُبعث". رجاله ستة: قد مرّوا، مرَّ يحيى بن سليمان في الخامس والخمسين من العلم، ومرَّ ابن وهب في الثالث عشر منه، ومرت أسماء في الثامن والعشرين منه، ومرَّ يونس بن يزيد في متابعة بعد الرابع من بدء الوحي، وابن شهاب في الثالث منه، وعروة في الثاني منه. الحديث الثلاثون والمئة حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ، وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ، أَتَاهُ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ فَيَقُولاَنِ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي الرَّجُلِ لِمُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-. فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ. فَيُقَالُ لَهُ انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ، قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الْجَنَّةِ، فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا. قَالَ قَتَادَةُ وَذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ يُفْسَحُ فِي قَبْرِهِ. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: وَأَمَّا الْمُنَافِقُ وَالْكَافِرُ فَيُقَالُ لَهُ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ فَيَقُولُ لاَ أَدْرِي، كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ. فَيُقَالُ لاَ دَرَيْتَ وَلاَ تَلَيْتَ. وَيُضْرَبُ بِمَطَارِقَ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ، غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ. قوله: إن العبد إذا وضع في قبره، كذا وقعٍ عنده مختصرًا، وأوله عند أبي داود بهذا السند، "أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل نخلًا لبني النجار، فسمع صوتًا، ففزع، فقال: من أصحاب هذه القبور؟ قالوا: يا رسول الله، ناسٌ ماتوا في الجاهلية، فقال: تعوذوا بالله من عذاب القبر، ومن فتنة الدجال، قالوا: وما ذلك يا رسول الله؟ قال: إن العبد .. " فذكر الحديث. فأفاد بيانُ سبب الحديث. وقوله: وإنه ليسمع قَرْعَ نعالهم، زاد مسلم "إذا انصرفوا" وفي رواية "يأتيه مَلَكَان" زاد ابن حِبّان عن أبي هُريرة "أسودان" إلى آخر ما مرَّ عند حديث أسماء في كتاب العلم. وقوله: فيُقْعِدانه، زاد في حديث البراء "فتعاد روحه في جسده" كما تقدم في أول أحاديث الباب، وذهب بعض الفقهاء إلى أن اسم اللَّذَين يسألان المذنب منكرٌ ونكير، وأن اسم اللذين يسألان المطيع مبشرٌ وبَشير. وقوله: فيقولان ما كنت تقول في هذا الرجل محمد؟ زاد أبو داود في أوله "ما كنت تعبد؟ فإن هداه الله قال: كنت أعبد الله، فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ " ولأحمد عن عائشة "ما هذا الرجل الذي كان فيكم؟ " وله عن أبي سعيد "فإن كان مؤمنًا قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، فيقال له: صدقت" زاد أبو داود "فلا يسأل عن شيء غيرهما".

رجاله خمسة

وقوله: فيقال له: انظر إلى مَقْعَدك من النار، وفي رواية أبي داود "هذا بيتك كان في النار" إلى آخر ما مرَّ. وقوله: قال قتادة وذكر لنا أنه يُفْسح له في قبره، زاد مسلم "سبعون ذراعًا" آخر ما مرَّ. وقوله: وأما المنافق والكافر، كذا في هذه الطريق بواو العطف، وقد مرَّ في باب خفق النعال بها "وأما الكافر أو المنافق" بالشك. وفي رواية أبي داود "إن الكافر إذا وضع" وكذا لابن حِبّان عن أبي هريرة، وكذا في حديث البراء الطويل، وعند أحمد من حديث أبي سعيد "وإن كافرًا أو منافقًا" بالشك، وله في حديث أسماء "فإن كان فاجرًا أو كافرًا" وفي الصحيحين من حديثها "وأما المنافق أو المرتاب". وفي حديث جابر عند عبد الرزاق وحديث أبي هريرة عند التّرمذيّ "وأما المنافق" وفي حديث عائشة عند أحمد وأبي هُريرة عند ابن ماجه "وأما الرجل السوء" وللطبرانيّ عن أبي هريرة "وإن كان من أهل الشك" فاختلفت هذه الروايات لفظًا، وهي مجتمعة على أن كلًا من الكافر والمنافق يسأل، ففيه تعقبٌّ على من زعم أن السؤال إنما يقع على من يدعي الإِيمان إنْ مُحقًا وإنْ مُبْطلًا. ومستندهم في ذلك ما رواه عبد الرزاق إلى آخر ما مرَّ. وقوله: فيقول: لا أدري، في رواية أبي داود "وإنّ الكافر إذا وضع في قبره أتاه ملك، فينتهره، فيقول له: ما كنت تعبد؟ " وفي أكثر الأحاديث فيقولان له "ما كنت تقول في هذا الرجل" وفي حديث البراء "فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه" لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري" وهو أتم الأحاديث سياقًا. وقوله: لا دَرَيت ولا تَلَيت، تقدم الكلام عليها مستوفى في كتاب العلم، وقوله "بمطارق من حديد ضربة" وفي باب "خفق النعال" بمطرقة، على الإفراد، إلى آخر ما مرَّ. وقوله: يسمعها من يليه، قد مرَّ ما فيه مستوفى في كتاب العلم في حديثَ أسماء، مرَّ هناك أكثر مباحثه، وهي كثيرة جدًا. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ عياش بن الوليد في الخامس والثلاثين من الغسل، وعبد الأعلي بن حماد في الرابع والثلاثين منه، وسعيد بن أبي عَروبة في الحادي والعشرين منه، وقتادة وأنس في السادس من الإِيمان. وقد مرَّ هذا الحديث كثيرًا. ثم قال المصنف:

باب التعوذ من عذاب القبر

باب التعوذ من عذاب القبر قال الزين بن المنير: أحاديث هذا الباب تدخل في الباب الذي قبله، وإنما أفردها عنها لأن الباب الأول مقصود لثبوته ردًا على من أنكره، وهذا لبيان ما ينبغي اعتماده في مدة الحياة من التوسل إلى الله تعالى بالنجاة منه، والابتهال إليه في الصرف عنه. قلت: ويدل على هذا المعنى مغايرته بين الترجمتين، فقال في الأول "باب ما جاء في عذاب القبر" وفي الثانية "باب التعوذ من عذاب القبر". الحديث الحادي والثلاثين والمئة حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنِي عَوْنُ بْنُ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ رضي الله عنهم قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَقَدْ وَجَبَتِ الشَّمْسُ، فَسَمِعَ صَوْتًا فَقَالَ يَهُودُ تُعَذَّبُ فِي قُبُورِهَا. قوله: وجبت الشمس، أي سقطت، والمراد غروبها. وقوله: فسمع صوتًا، قيل: يحتمل أن يكون سمع صوت ملائكة العذاب، أو صوت اليهود المعذَّبين، أو صوت وقع العذاب. وقد وقع عند الطبرانيّ عن عبد الجبار بن العباس عن عون، بهذا السند، مفسرًا، ولفظه "خرجتُ مع النبي -صلى الله عليه وسلم- حين غربت الشمس، ومعي كُوز من ماء، فانطلق لحاجته حتى جاء، فوضأته، فقال: أتسمع ما أسمع؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: أسمع أصواتَ اليهود يعذبون في قبورهم". وقوله: يهود تعذب في قبورها، هو خبر مبتدأ، أي: هذه يهود، أو هو مبتدأ خبره محذوف، أو خبره تعذب في قبورها، قال الجوهريّ: اليهود قبيلة، والأصل اليهوديون، فحذف ياء الإِضافة، مثل زَنْج وزنجي، ثم عرف على هذا الحد، فجمع على قياس شعير وشعيرة، ثم عرف الجمع بالألف واللام، ولولا ذلك لم يجز دخول الألف واللام, لأنه معرفة مؤنث، فجرى مجرى القبيلة، وهو غير منصرف للعلمية والتأنيث، وهو موافق لقوله فيما تقدم عن عائشة: "إنما تعذب يهودُ". وإذا ثبت أن اليهود نعذب بيهوديتهم، ثبت تعذيب غيرهم من المشركين, لأن كفرهم بالشرك أشد من كفر اليهود. رجاله سبعة: قد مرّوا، مرّ محمد بن المثنى في التاسع من الإِيمان, ويحيى القطان في السادس منه، وشعبة في

لطائف إسناده

الثالث منه، والبراء في الثالث والثلاثين منه، ومرَّ عون بن أبي جُحَيفة في الثامن والعشرين من كتاب الصلاة، ومرَّ أبوه أبو جحيفة في الحادي والخمسين من العلم، ومرَّ أبو أيوب في العاشر من الوضوء. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإِفراد والعنعنة والقول، وثلاثة من الصحابة يروي بعضهم عن بعض، أخرجه مسلم في صفة أهل النار، والنَّسائيّ في الجنائز. الحديث الثاني والثلاثون والمئة قَالَ النَّضْرُ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَوْنٌ سَمِعْتُ أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-. ساق هذه الطريق لتصريح عون فيها بسماعه عن أبيه، وسماع أبيه له من البراء، وقد وصلها الإسماعيليّ عن أحمد بن منصور عن النضر، ولم يسق المتن، وساقه إسحاق بن راهويه في مسنده عن النضر، بلفظ "فقال هذه يهودُ تعذب في قبورها" قال ابن رشيد: لم يجر للتعوّذ من عذاب القبر في هذا الحديث ذكرٌ، فلهذا قال بعض الشارحين: إنه من بقية الباب الذي قبله، وإنما أدخله في هذا الباب بعض من نسخ الكتاب، ولم يميز. قال: ويحتمل أن يكون المصنف أراد أن يخبر بأن حديث أم خالد، ثاني أحاديث هذا الباب، محمولٌ على أنه -صلى الله عليه وسلم- تعوّذ من عذاب القبر حين سمع أصوات يهود، لما عُلِم من حاله أنه كان يتعوَّذ ويأمر بالتعوذ مع عدم سماع العذاب، فكيف مع سماعه؟ قال: وهذا جار على ما عرف من عادة المصنف في الإِغماض. قال الكرمانيّ: العادة قاضية بأن كل مَنْ سمع مثل ذاك الصوت يتعوّذ من مثله، وهذا هو الحديث الأول، ورجاله رِجاله إلا النضر، وهو قد مرَّ في متابعة بعد الثامن عشر من الوضوء، وأتى به البخاريّ هنا على وجه التابعة المعلقة، وقد وصله الإِسماعيليّ. الحديث الثالث والثلاثون والمئة حَدَّثَنَا مُعَلًّى حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ قَالَ حَدَّثَتْنِي ابْنَةُ خَالِدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يَتَعَوَّذُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. أورده المصنف في الدعوات من وجه آخر، من موسى بن عقبة، سمعت أم خالد بنت خالد، ولم أسمع أحدًا سمع من النبي -صلى الله عليه وسلم- غيرها، فذكره، وفي الطبرانيّ من وجه آخر عن موسى بلفظ "استجيروا بالله من عذاب القبر، فإن عذاب القبر حق" وإذا استعاذ النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو معصوم مطهر، مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فينبغي لك، يا من لا عصمة لك، ولا طهارة لك عن الذنوب، أن تستعيذ بالله من عذاب القبر، مع امتثال الأوامر، وإجتناب المعاصي، حتى ينجيك الله من

رجاله أربعة

النار، ومن عذاب القبر. واستعاذته -صلى الله عليه وسلم- إرشاد لأمته، ليقتدوا به فيما فعله، وفيما أمره، حتى يتخلصوا من شدائد الدنيا والآخرة. رجاله أربعة: مرَّ منهم معلّى، في الرابع والثلاثين من الحيض، ومرَّ وهيب بن خالد في تعليق بعد الخامس عشر من الإِيمان, ومرَّ موسى بن عقبة في الخامس من الوضوء. والرابع: أَمَةً بفتح الهمزة وتخفيف الميم، بنت خالد بن سعد بن العاص بن أمية بن عبد شمس، تكنى أم خالد، مشهورة بكنيتها، أمها أميمة أو هميمة بنت خَلَف الخُزاعية، هاجر أبوها للحبشة معه زوجته، وولدت له بالحبشة وعقلت، وقدموا في السفينتين، روى ابن سعد عنها أنها قالت: سمعت النجاشيّ يقول لأصحاب السفينتين: اقرئوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مني السلام، قالت: فكنت فيمن أقرأه السلام من النجاشي. وفي الصحيح عنها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ائتوني بأُم خالد، فأُتي بي أحمل، فألبسني خَميصة، ولما كسانيها قال: سَنَه سَنَه أي: حسنة، وقال لها: أَبْلِي وأَخْلِقي حتى ذكر دهرًا طويلًا. قال البخاري: فلم تعش امرأة ما عاشت هذه. تزوجها الزبير بن العوام، فولدت له خالدًا وعمرًا، لها أحاديث، ولها في البخاري حديثان، روى عنها سعيد بن عمر والأشق وموسى وإبراهيم ابنا عقبة المدنيان. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإِفراد والعنعنة والسماع والقول، ورواته بصريان ومدنيّ. أخرجه البخاريّ أيضًا في الدعوات، والنَّسائيّ في النُّعوت. الحديث الرابع والثلاثون والمئة حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَدْعُو اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ. قوله يدعو: زاد الكشميهنيّ "ويقول"، وقد مرت مباحث هذا الحديث مستوفاة في باب الدعاء، قبل السلام، آخر صفة الصلاة، قبيل كتاب الجمعة. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ مسلم بن إبراهيم، وهشام الدَّستوائيّ، في السابع والثلاثين من الإِيمان, وأبو

لطائف إسناده

هريرة في الثاني منه، ومرَّ يحيى بن أبي كثير في الثالث والخمسين من العلم، وأبو سلمة في الرابع من بدء الوحي. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة، وفيه رواية التابعيّ عن التابعيّ، ورواته بصريان ويمانيّ ومدنى. أخرجه مسلم في الصلاة. ثم قال المصنف:

باب عذاب القبر من الغيبة والبول

باب عذاب القبر من الغيبة والبول قال الزين بن المنير: المراد بتخصيص هذين الأمرين بالذكر تعظيم أمرهما، لا نفي الحكم عما عداهما، فعلى هذا لا يلزم من ذكرهما حصر عذاب القبر فيهما، لكن الظاهر من الاقتصار على ذكرهما، أنهما أمكن في ذلك من غيرهما، وقد روى أصحاب السنن عن أبي هريرة "استنزهوا من البول، فإن عامة عذاب القبر منه". الحديث الخامس والثلاثون والمئة حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ طَاوُسٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: مَرَّ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى قَبْرَيْنِ فَقَالَ إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ مِنْ كَبِيرٍ ثُمَّ قَالَ بَلَى أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَسْعَى بِالنَّمِيمَةِ، وَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ. قَالَ ثُمَّ أَخَذَ عُودًا رَطْبًا فَكَسَرَهُ بِاثْنَتَيْنِ ثُمَّ غَرَزَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى قَبْرٍ، ثُمَّ قَالَ لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا. ليس في الحديث ذكر للغيبة المترجم لها، وإنما ورد بلفظ النميمة، وقيل: مراد المصنف أن الغيبة تلازم النميمة؛ لأن النميمة مشتملة على ضربين: نقل كلام المغتاب إلى الذي اغتابه، والحديث عن المنقول عنه بما لا يريده، قال ابن رشيد: لكن لا يلزم من الوعيد على النميمة ثبوته على الغيبة وحدها؛ لأن مفسدة النميمة أعظم، وإذا لم تساوِها لم يصح الإلحاق، إذ لا يلزم من التعذيب على الأشد التعذيب على الأخف، لكن يجوز أن يكون ورد ذلك على معنى التوقع. والحذر، فيكون قَصَدَ التحذير من المغتاب لئلا يكون له في ذلك نصيب. وقد وقع في بعض طرق هذا الحديث بلفظ "الغيبة" كما بيناه في الطهارة، فالظاهر أن البخاريّ جرى على عادته في الإشارة إلى ما ورد في بعض طرق الحديث، وهذا الحديث قد مرَّ الكلام عليه مستوفى في باب "من الكبائر أن لا يستتر من بوله" من كتاب الوضوء. رجاله ستة: قد مرّوا، مرَّ قتيبة بن سعيد في الحادي والعشرين من الإيمان، ومرَّ الأعمش في الخامس والعشرين منه، ومرَّ مجاهد في أثر أوله، ومرَّ جرير بن حازم في السبعين من استقبال القبلة، ومرَّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي، وصاحبا القبرين لم يسميا، وقد مرَّ هذا الحديث في العلم، ومرَّ الكلام عليه. ثم قال المصنف:

باب الميت يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي

باب الميت يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي الحديث السادس والثلاثون والمئة حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَيُقَالُ هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قوله: بالغداة والعشيّ، قال ابن التين: يحتمل أن يريد بالغداة والعشي غداةً واحدة وعشية واحدة، يكون العرض فيها. ويحتمل أن يريد كلَّ غداةٍ وكلَّ عشيٍّ، وهو محمول على أنه يُحيا منه جزء ليدرك ذلك، فغير ممتنع أن تعاد الحياة إلى جزء من الميت، أو أجزاء وتصح مخاطبته، والعرض عليه. والأول موافق للأحاديث المتقدمة، قبل بابين في سياق المسألة، وعرض المُقْعَدين على كل أحد. وقال القرطبي: يجوز أن يكون هذا العرض على الروح فقط، ويجوز أن يكون عليه مع جزء من البدن. قال: والمراد بالغداة والعشي وقتهما، وإلا فالموتى لا صباح عندهم ولا مساء، قال: وهذا في حق المؤمن والكافر واضح، فأما المؤمن المخلط فمحتمل في حقه أيضًا؛ لأنه يدخل الجنة في الجملة، ثم هو مخصوص بغير الشهداء؛ لأنهم أحياء وأرواحهم تسرح في الجنة. ويحتمل أن يقال: إن فائدة العرض في حقهم تبشير أرواحهم باستقرارها في الجنة مقترنة بأجسادها، فإنّ فيه قدرًا زائدًا على ما هي فيه الآن. وقوله: فإن كان من أهل الجنة، فمن أهل الجنة، اتحد فيه الشرط والجزاء لفظًا، ولابد فيه من تقدير. قال التّوربشتّي: التقدير إن كان من أهل الجنة فمقعده من مقاعد أهل الجنة، يعرض عليه. وقال الطيبى: الشرط والجزاء إذا اتحدا لفظًا دل على الفخامة، والمراد أنه يرى بعد البعث من كرامة الله ما ينسيه هذا المقعد. ووقع عند مسلم بلفظ "إن كان من أهل الجنة فالجنة" أي: فالمعروض الجنة، وفي هذا الحديث إثبات عذاب القبر، وأن الروح لا تفنى بفناء الجسد؛ لأن العرض لا يقع إلا على حيّ، وقال ابن عبد البر: استدل به على أن الأرواح على أفنية القبور، قال: والمعنى عندي أنها قد تكون

رجاله أربعة

على أفنية قبورها, لا أنها لا تفارق الأفنية، بل كما قال مالك، إنه بلغه أن الأرواح تسرح حيث شاءت. وقوله: حتى يبعثك الله إلى يوم القيامة، أي: لا تصل إليه إلى يوم البعث. وفي رواية مسلم عن يحيى عن مالك "حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة". وحكى ابن عبد البر فيه الاختلاف بين أصحاب مالك، وأن الأكثر رووه كرواية البخاري، وأن ابن القاسم رواه كرواية مسلم. قال: والمعنى حتى يبعثك الله إلى ذلك المقعد، ويحتمل أن يعود الضمير إلى الله، فإلى الله ترجع الأمور، والأول أظهر، ويؤيده رواية الزُّهريّ عن سالم عن أبيه بلفظ "ثم يقال هذا مقعدك الذي تبعث إليه يوم القيامة". أخرجه مسلم. وقد أخرج النَّسَائيّ رواية ابن القاسم، لكن لفظه كلفظ البخاري. رجاله أربعة قد مرّوا، مرَّ إسماعيل بن أبي أوَيس في الخامس عشر من الإيمان، ومرَّ عبد الله بن عمر في أول الإيمان قبل ذكر حديث منه، ومرَّ مالك في الثاني من بدء الوحي، ومر نافع في الأخير من العلم. والحديث أخرجه مسلم في صفة النار، والنّسائيّ في الجنائز. ثم قال المصنف:

باب كلام الميت على الجنازة

باب كلام الميت على الجنازة أي: بعد حملها، والمراد بالجنازة هنا للنعش. الحديث السابع والثلاثون والمئة حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رضي الله عنه يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: إِذَا وُضِعَتِ الْجَنَازَةُ فَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً قَالَتْ: قَدِّمُونِي قَدِّمُونِي. وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ قَالَتْ يَا وَيْلَهَا أَيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا. يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَيْءٍ إِلاَّ الإِنْسَانَ، وَلَوْ سَمِعَهَا الإِنْسَانُ لَصَعِقَ. أورد حديث أبي سعيد في هذه الترجمة، كما أورده سابقًا، في ترجمة قول الميت وهو على الجنازة: قدِّموني، قال ابن رشيد: الحكمة في هذا التكرير أن الترجمة الأولى مناسبة للترجمة التي قبلها، وهي باب السرعة بالجنازة، لاشتمال حديثه على بيان موجب الإسراع، وكذلك هذه الترجمة مناسبة للتي قبلها، كأنه أراد أن يبين أن ابتداء العرض، إنما يكون عند حمل الجنازة؛ لأنها حينئذٍ يظهر لها ما تؤول إليه، فتقول ما تقول. قلت: ظهور ما تؤول إليه يحصل قبل نزع الروح، كما في الحديث الصحيح عن عائشة وغيرها، "فلا تخرج نفس من الدنيا حتى تعلم مصيرها إلى الجنة أو النار" وقال ابن بطال: الكلام لا يكون إلا من الروح، وقد جاءت آثار تدل على معرفة الميت من يحمله، ويدخله في قبره، وروى بسند له عن أبي سعيد عن النبي عليه الصلاة والسلام "أن الميت ليعرف من يغسله، ومن يحمله، ومن يدليه في قبره" وعن مجاهد "إذا مات الميت فما من شيء إلا وهو يراه، عند غسله وعند حمله حتى يصل إلى قبره". وقد مرت مباحث هذا الحديث عند ذكره في الترجمة السابقة. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ محل قتيبة في الذي قبله بحديث ومرَّ الليث في الثالث من بدء الوحي، ومرَّ سعيد المنْبَرِي في السادس والعشرين من صفة الصلاة. ثم قال المصنف:

باب ما قيل في أولاد المسلمين

باب ما قيل في أولاد المسلمين أي غير البالغين: قال الزين بن المنير: تقدم في أوائل الجنائز ترجمة "من مات له ولد فاحتسب" وفيها الحديث المصدَّر به: وإنما ترجم بهذه لمعرفة مآل الأولاد، ووجه انتزاع ذلك أن من يكون سببًا في حجب النار عن أبويه، أولى بأن يحتجب هو؛ لأنه أصل الرحمة وسببها. ثم قال: وقال أبو هُريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحِنث كان له حجابًا من النار أو دخل الجنة". قال في "الفتح": لم أر هذا التعليق موصولاً من حديثه على هذا الوجه، وهو عند أحمد عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة بلفظ "ما من مسلِمَيْن يموت لهما ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحِنث إلا أدخلهما الله وإياهم، بفضل رحمته، الجنة" ولمسلم أيضًا عن أبي هُريرة مرفوعًا "لا يموت لإحداكن ثلاثة من الولد، فتحتسب، إلا دخلت الجنة: "الحديث، وله عن أبي زرعة عن أبي هُريرة "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لامرأة: دفنتِ فلانة؟ قالت: نعم، قال: لقد احتظرت بحظار شديد من النار". وفي صحيح أبي عُوانة عن أنس "مات ابن للزبير فجزع عليه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من مات له ثلاثة من الولد، لم يبلغوا الحِنث، كانوا له حجابًا من النار" وقوله "كان له" كذا للأكثر أي كان موتهم له حجابًا، وللكشهمينيّ: كانوا، أي الأولاد. وقوله: ثلاثة من الولد، سقط قوله "من الولد" في رواية أبي ذَرٍّ، ومرَّ أبو هريرة في الثاني من الإيمان. الحديث الثامن والثلاثون والمئة حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا مِنَ النَّاسِ مُسْلِمٌ يَمُوتُ لَهُ ثَلاَثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ". هذا الحديث والذي قبله مرَّ استيفاء الكلام عليهما في باب هل يجعل للنساء يومًا على حدة من كتاب العلم، وفي باب فضل من مات له ولد فاحتسب، لم يبق شيء من مباحثهما. رجاله أربعة: قد مرّوا، مرَّ يعقوب بن إبراهيم في السادس عشر من العالم، ومرَّ إسماعيل بن علية وعبد العزيز في الثامن من الإيمان, ومرَّ أنس في السادس منه.

الحديث التاسع والثلاثون والمئة

الحديث التاسع والثلاثون والمئة حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ سَمِعَ الْبَرَاءَ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ لَهُ مُرْضِعًا فِي الْجَنَّةِ". قال ابن التين: يقال امرأة مُرْضِع، بلا هاء، مثل حائض، وقد أرضعت فهي مرضعة، إذا بُني من الفعل، أي بأنْ كانت في الحال مرضعة، قال الله تعالى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} قال: روي "مَرْضعًا بفتح الميم أي: رِضاعًا، وقد سبق إلى حكايته هذا الوجه الخطابيّ، والأول رواية الجمهور، وقد مرّ الكلام على إبراهيم في باب "إنا لمحزونون" وإيراد البخاري له في هذا الباب يشعر باختيار القول الصائر إلى أنهم في الجنة، فكأنه توقف فيه أولًا. رجاله أربعة: وفيه ذكر إبراهيم، مرَّ أبو الوليد في العاشر من الإيمان، وشعبة في الثالث منه، وعدي بن ثابت في الثامن والأربعين منه، والبراء بن عازب في الثالث والثلاثين منه، ومرَّ إبراهيم، ابنه عليه الصلاة والسلام، في الرابع من الكسوف. ثم قال المصنف:

باب ما قيل في أولاد المشركين

باب ما قيل في أولاد المشركين هذه الترحمة تشعر أيضًا بأنه كان متوقفًا في ذلك، وقد جزم، بعد هذا في تفسير سورة الروم، بما يدل على اختيار القول الصائر إلى أنهم في الجنة، وقد رتب أيضًا أحاديث هذا الباب ترتيبًا يسير إلى المذهب المختار، فإنه صدَّره بالحديث الدال على التوقف، ثم ثنى بالحديث المرجح لكونهم في الجنة، ثم ثلث بالحديث المصرح بذلك، فإن قوله في سياقه: "وأما الصبيان حوله فأولاد الناس" قد أخرجه في التعبير بلفظ "وأمَّا الولدان الذين حوله، فكل مولود يولد على الفطرة، فقال بعض المسلمين: وأولاد المشركين؟ فقال: وأولاد المشركين". ويؤيده ما رواه أبو يعلى عن أنس مرفوعًا "سألت ربي اللاهين من ذرية البشر أنْ لا يعذبهم، وأعطانيهم" إسناده حسن، وورد تفسير "اللاهين" بأنهم الأطفال، عن ابن عباس مرفوعًا، أخرجه البزار، وروى أحمد عن خَنساء بنت مُعاوية بن صَريم عن عمتها قالت: قلت: يا رسول الله، من في الجنة؟ قال: "النبي في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة". إسناده حسن. الحديث الأربعون والمئة حَدَّثَنَا حِبَّانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ أَوْلاَدِ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: اللَّهُ إِذْ خَلَقَهُمْ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ. قوله: الله أعلم بما كانوا عاملين، قال ابن قتيبة أي: لو أبقاهم فلا تحكموا عليهم بشيء، وقال غيره: أي علم أنهم لا يعملون شيئًا، ولا يرجعون فيعملون، أو أخبر بعلم شيء لو وجد، كيف يكون؟ مثل قوله تعالى {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا} ولكن لم يرو أنهم يجازون بذلك في الآخرة؛ لأن العبد لا يجازى بما لم يعمل. وقال ابن بطال: يحتمل قوله: "الله أعلم بما كانوا عاملين" وجوهاً من التأويل، أحدها أن يكون قبل إعلامه بأنهم من أهل الجنة، الثاني أي: على أيِّ دين يميتهم إذا عاشوا، فبلغوا العمل، فأما إذا لم يبلغوا العمل فهم في رحمة الله التي ينالها من لا ذنب له. الثالث: أنه مجمل يفسره قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}. وفي حديث ابن عباس عن أولاد المشركين، وفي حديث أبي هُريرة الذي بعده "سُئل عن

ذراري المشركين" قال في الفتح: لم أقف في شيء من الطرق على تسمية السائل، لكن عند أحمد وأبي داود عن عائشة، ما يَحْتَملُ أن تكون هي السائلة، فأخرجا عن عبد الله بن أبي قيس عنها قالت: قلت يا رسول الله، وذراري المسلمين؟ قال: مع آبائهم، قلت: يا رسول الله، بلا عمل؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين. الحديث. وروى عبد الرزاق عن عروة عن عائشة قالت: "سألت خديجةُ النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أولاد المشركين، فقال: هم مع آبائهم، ثم سألته بعد ذلك، فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين، ثم سألته بعد أن استحكم الإِسلام، فنزل {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} قال: هم على الفطرة، أو قال: في الجنة" وفيه أبو معاذ سليمان بن أرقم، وهو ضعيف، ولو صح هذا لكان قاطعًا للنزاع، رافعًا لكثير من الإشكال الآتي، وقد اختلف العلماء قديمًا وحديثًا في هذه المسألة على أقوال: أحدها: أنهم في مشيئة الله تعالى, وهو منقول عن الحمادين وابن المبارك وإسحاق، ونقله البيهقي في الاعتقاد عن الشافعيّ في حق أولاد الكفار خاصة. قال ابن عبد البر: وهو مقتضى صنيع مالك، وليس عنده في هذه المسألة شيء منصوص، إلا أن أصحابه صرحوا بأن أطفال المسلمين في الجنة، وأطفال الكفار خاصة في المشيئة، والحجة فيه حديث "الله أعلم بما كانوا عاملين". ثانيها: أنهم تَبَع لآبائهم، فاولاد المسلمين في الجنة، وأولاد الكفار في النار، وحكاه ابن حزم في الأزارقة من الخوارج، واحتجوا بقوله تعالى: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} وتعقبه بأن المراد قوم نوح خاصة، وإنما دعا بذلك لما أوحى الله إليه أنه {لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ}. وأما حديث "هم من آبائهم أو منهم" فذلك في حكم الحربي، وروى أحمد عن عائشة "سألتُ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- عن ولدان المسلمين، قال: في الجنَّة، وعن أولاد المشركين قال: في النار، قلت: يا رسول الله، لم يدركوا الأعمال؟ قال ربك أعلم بما كانوا عاملين، لو شئت أسمعتك تضاغيهم في النَّار"، وهو حديث ضعيف جدًا لأن في إسناده أبا عقيل مولى بهيّة، وهو متروك. ثالثها: أنهم يكونون في برزخ بين الجنة والنار؛ لأنهم لم يعملوا حسنات يدخلون بها الجنة، ولا سيئات يدخلون بها النار. رابعها: خدم أهل الجنة، وفيه حديث عن أنس ضعيف، أخرجه أبو داود والطَّيَالسيّ وأبو يعلى وللطبرانيّ والبزّار عن سمرة "أولاد المشركين خدم أهل الجنَّة" وإسناده ضعيف. خامسها: أنهم يصيرون ترابًا، رُوي عن ثُمامة بن أَشْرس. سادسها: هم في النار، حكاه عياض عن أحمد، وقال بعض الحنابلة: إنه قول لبعض أصحابه، ولا يحفظ عن الإِمام أصلًا. سابعها: أنهم يمتحنون في الآخرة بأن ترفع لهم نار، فمن دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا، ومن أبى عُذِّب. أخرجه البزار عن أنس وأبي سعيد، وأخرجه الطبرانيّ عن معاذ بن جبل، وقد

رجاله ستة

صحت مسألة الامتحان في حق المجنون، ومن مات في الفترة، من طرق صحيحة. وحكى البيهقيّ في كتاب الاعتقاد أنه المذهب الصحيح، وتعقب بأن الآخرة ليست دار تكليف، فلا عمل فيها ولا ابتلاء، وأجيب بأن ذلك بعد أن يقع الاستقرار في الجنة أو النار، وأما في عرصات القيامة، فلا مانع من ذلك. قال تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ}. وفي الصحيحين أن الناس يؤمرون بالسجود، فيصيرُ ظهر المنافق طبقًا، فلا يستطيع أن يسجد. ثامنها: أنهم في الجنة، وقد تقدم القول في باب فضل "من مات له ولد". قال النوويّ: وهو المذهب الصحيح المختار، الذي صار إليه المحققون، لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} وإذا كان لا يعذِّب العاقل لكونه لم تبلغه الدعوة، فَلَأن لا يعذب غير العاقل من باب الأولى، ولحديث سمرة المذكور في هذا الباب، ولحديث عمة خنساء المتقدم، وحديث عائشة. تاسعها: الوقف. عاشرها: الإمساك، وفي الفرق بينهما دقة، ولم يسمع ابن عباس هذا الحديث من النبي -صلى الله عليه وسلم-، بيَّن ذلك أحمد عن عمار بن أبي عمار عن ابن عبّاس قال: كنت أقول في أولاد المشركين هم منهم، حتى حدثني رجل عن رجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلقيته، فحدثني عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ربهم أعلم بهم، هو خلقهم، وهو أعلم بما كانوا عاملين". وكذا أخرجه مسلم عن أبي هريرة، فهو طرف من ثاني أحاديث الباب، كما يأتي في "القَدَر" عن همام عن أبي هريرة، ففي آخره، قالوا: يا رسول الله، أفرأيت من يموت وهو صغير؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين" وكذا أخرجه مسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ "فقال رجل يا رسول الله، أرأيت لو مات قبل ذلك؟ ". ولأبي داود عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة نحو رواية همام وأخرج أبو داود عن عقبة عن ابن وهب "سمعت مالكًا، وقيل له: إن أهل الأهواء يحتجون علينا بهذا الحديث" يعني قوله "فأبواه يهوّدانه أو ينصرانه" قال مالك: احتج عليهم بآخره "الله أعلم بما كانوا عاملين". ووجه ذلك أن أهل القدر استدلوا على أن الله فطر العباد على الإِسلام، وأنه لا يُضل أحدًا، وإنما يضل الكافرَ أبوهم، فأشار مالك إلى الرد عليهم بقوله: "اللهَ أعلم" فهو قال على أنه يعلم بما يصيرون إليه بعد إيجادهم على الفِطرة، فهو دليل على ما تقدم العلم الذي ينكره غلاتهم، ومن ثم قال الشافعي: أهل القدر إن أثبتوا العلم خُصِموا. رجاله ستة: قد مرّوا، مرَّ حبَّان بن موسى في السادس والمئة من صفة الصلاة، ومرَّ عبد الله بن المبارك في السادس من بدء الوحي، وسعيد بن جبير وابن عباس في الخامس منه، وشعبة في الثالث من الإيمان، وأبو بشر في الثاني من العلم. فيه التحديث والإخبار بالجمع، ورواته مروزيان وواسطيّ وبصريّ وكوفيّ. أخرجه البخاريّ

الحديث الحادي والأربعون والمئة

أيضًا في القدر، ومسلم فيه، وأبو داود في السنة، والنسائيّ في الجنائز. الحديث الحادي والأربعون والمئة حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: سُئِلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ ذَرَارِيِّ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: "اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ". هذا الحديث عين ما قبله، ومباحثه مباحثه. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ أبو اليمان وشعيب في السابع من بدء الوحي، والزهريّ في الثالث منه، ومرَّ عطاء بن يزيد في العاشر من الوضوء، وأبو هريرة في الثاني من الإيمان. أخرجه البخاريّ أيضًا، ومسلم في القَدَر، والنّسائيّ في الجنائز. الحديث الثاني والأربعون والمئة حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَثَلِ الْبَهِيمَةِ تُنْتَجُ الْبَهِيمَةَ، هَلْ تَرَى فِيهَا جَدْعَاءَ". هذا الحديث قد مرت مباحثه مستوفاة غاية الاستيفاء في باب "إذا أسلم الصبي فمات". رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ آدم في الثالث من الإِيمان، وأبو هريرة في الثاني منه، وابن أبي ذيب في السنين من العلم، والزُّهريّ في الثالث من بدء الوحي، وأبو سلمة في الرابع منه. وقد مرَّ هذا الحديث ثم قال المصنف باب. كذا ثبت لجميعهم إلا لأبي ذَرٍّ، وهو كالفصل من الباب الذي قبله، وتعلق الحديث به ظاهر من قوله في حديث سمرة المذكور "والشيخ في أصل الشجرة إبراهيم، والصبيان حوله أولاد الناس" وقد تقدم التنبيه على أنه أورده في التعبير بزيادة "قالوا: وأولاد المشركين؟ فقال: وأولاد المشركين". الحديث الثالث والأربعون والمئة حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا صَلَّى صَلاَةً أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ:

مَنْ رَأَى مِنْكُمُ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا. قَالَ فَإِنْ رَأَى أَحَدٌ قَصَّهَا، فَيَقُولُ: مَا شَاءَ اللَّهُ، فَسَأَلَنَا يَوْمًا، فَقَالَ هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رُؤْيَا. قُلْنَا: لاَ. قَالَ: لَكِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي فَأَخَذَا بِيَدِي، فَأَخْرَجَانِي إِلَى الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ جَالِسٌ، وَرَجُلٌ قَائِمٌ بِيَدِهِ كَلُّوبٌ مِنْ حَدِيدٍ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ مُوسَى إِنَّهُ يُدْخِلُ ذَلِكَ الْكَلُّوبَ فِي شِدْقِهِ، حَتَّى يَبْلُغَ قَفَاهُ، ثُمَّ يَفْعَلُ بِشِدْقِهِ الآخَرِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَيَلْتَئِمُ شِدْقُهُ هَذَا، فَيَعُودُ فَيَصْنَعُ مِثْلَهُ. قُلْتُ مَا هَذَا؟ قَالاَ: انْطَلِقْ. فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ عَلَى قَفَاهُ، وَرَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِهِ بِفِهْرٍ أَوْ صَخْرَةٍ، فَيَشْدَخُ بِهِ رَأْسَهُ، فَإِذَا ضَرَبَهُ تَدَهْدَهَ الْحَجَرُ، فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ لِيَأْخُذَهُ، فَلاَ يَرْجِعُ إِلَى هَذَا حَتَّى يَلْتَئِمَ رَأْسُهُ، وَعَادَ رَأْسُهُ كَمَا هُوَ، فَعَادَ إِلَيْهِ فَضَرَبَهُ، قُلْتُ مَنْ هَذَا؟ قَالاَ: انْطَلِقْ. فَانْطَلَقْنَا إِلَى ثَقْبٍ مِثْلِ التَّنُّورِ، أَعْلاَهُ ضَيِّقٌ وَأَسْفَلُهُ وَاسِعٌ، يَتَوَقَّدُ تَحْتَهُ نَارًا، فَإِذَا اقْتَرَبَ ارْتَفَعُوا حَتَّى كَادَ أَنْ يَخْرُجُوا، فَإِذَا خَمَدَتْ رَجَعُوا فِيهَا، وَفِيهَا رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ. فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالاَ: انْطَلِقْ. فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ مِنْ دَمٍ، فِيهِ رَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى وَسَطِ النَّهَرِ رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ حِجَارَةٌ، فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ الَّذِي فِي النَّهَرِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ رَمَى الرَّجُلُ بِحَجَرٍ فِي فِيهِ، فَرَدَّهُ حَيْثُ كَانَ، فَجَعَلَ كُلَّمَا جَاءَ لِيَخْرُجَ رَمَى فِي فِيهِ بِحَجَرٍ، فَيَرْجِعُ كَمَا كَانَ. فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالاَ: انْطَلِقْ. فَانْطَلَقْنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ، فِيهَا شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ، وَفِى أَصْلِهَا شَيْخٌ وَصِبْيَانٌ، وَإِذَا رَجُلٌ قَرِيبٌ مِنَ الشَّجَرَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ نَارٌ يُوقِدُهَا، فَصَعِدَا بِي فِي الشَّجَرَةِ، وَأَدْخَلاَنِي دَارًا لَمْ أَرَ قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهَا، فِيهَا رِجَالٌ شُيُوخٌ وَشَبَابٌ، وَنِسَاءٌ وَصِبْيَانٌ، ثُمَّ أَخْرَجَانِي مِنْهَا فَصَعِدَا بِي الشَّجَرَةَ فَأَدْخَلاَنِي دَارًا هِيَ أَحْسَنُ وَأَفْضَلُ، فِيهَا شُيُوخٌ وَشَبَابٌ. قُلْتُ: طَوَّفْتُمَانِي اللَّيْلَةَ، فَأَخْبِرَانِي عَمَّا رَأَيْتُ؟. قَالاَ: نَعَمْ، أَمَّا الَّذِي رَأَيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ فَكَذَّابٌ يُحَدِّثُ بِالْكَذْبَةِ، فَتُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الآفَاقَ، فَيُصْنَعُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَالَّذِي رَأَيْتَهُ يُشْدَخُ رَأْسُهُ فَرَجُلٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ، فَنَامَ عَنْهُ بِاللَّيْلِ، وَلَمْ يَعْمَلْ فِيهِ بِالنَّهَارِ، يُفْعَلُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَالَّذِى رَأَيْتَهُ فِي الثَّقْبِ فَهُمُ الزُّنَاةُ. وَالَّذِي رَأَيْتَهُ فِي النَّهَرِ آكِلُو الرِّبَا. وَالشَّيْخُ فِي أَصْلِ الشَّجَرَةِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَالصِّبْيَانُ حَوْلَهُ فَأَوْلاَدُ النَّاسِ، وَالَّذِي يُوقِدُ النَّارَ مَالِكٌ خَازِنُ النَّارِ. وَالدَّارُ الأُولَى الَّتِي دَخَلْتَ دَارُ عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَمَّا هَذِهِ الدَّارُ فَدَارُ الشُّهَدَاءِ، وَأَنَا جِبْرِيلُ، وَهَذَا مِيكَائِيلُ، فَارْفَعْ رَأْسَكَ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا فَوْقِي مِثْلُ السَّحَابِ. قَالاَ: ذَاكَ مَنْزِلُكَ. قُلْتُ دَعَانِي أَدْخُلْ مَنْزِلِي. قَالاَ: إِنَّهُ بَقِيَ لَكَ عُمْرٌ لَمْ تَسْتَكْمِلْهُ، فَلَوِ اسْتَكْمَلْتَ أَتَيْتَ مَنْزِلَكَ". قوله: أقبل علينا بوجهه فقال: من رأى منكم الليلة رؤيا، وفي رواية مُؤَمْل في التعبير: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعني مما يكثر أن يقول لأصحابه، وهذه رواية أبي ذَرٍّ عن الكشميهنيّ، وله عن غيره

بإسقاط "يعني" وكذا وقع عند الباقين، وفي رواية النَّسَفِي، وكذا في رواية محمد بن جعفر "مما يقول لأصحابه" وقد مرَّ في حديث ابن عباس في بدء الوحي ما قيل في معنى "مما يحرك شفتيه" وهذه هنا في معناها. وقال الطيبي: قوله: مما يكثر، خبر كان، وما موصولة، ويكثر صلته، والضمير العائد إلى "ما" هو فاعل يقول المستتر، "وأن يقول" فاعل يكثر، وقوله: هل رأي أحد منكم رؤيا، هو المقول، وفي رواية الباب هنا "فقال: من رأى عنكم الليلة رؤيا" المعني في الرواية الأولى، أي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كائنًا من النفر الذين كثر منهم هذا القول، فوضع ما موضع من تفخيماً وتعظيمًا لجانبه. وتحريره كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجيد تعبير الرؤيا، وكان له مشارك في ذلك منهم؛ لأن الإكثار من هذا القول لا يصدر إلا ممن تدرب فيه، ووُفق بإصابته، كقولك: كان زيد من علماء النحو، ومنه قول صاحبي السجن ليوسف عليه السلام: {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} وعلما ذلك مما رأياه منه، هذا من حيث البيان، وأما من حيث النحو فيحتمل أن يكون قوله: "هل رأى أحد منكم رؤيا" مبتدأ والخبر مقدم، وهو مما يكثر، وهذا على تأويل: هل رأى بهذا القول؟ أي هذا القول مما يكثر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقوله، ثم أشار إلى ترجيح الوجه السابق، والمتبادر هو الثاني، وهو الذي إتفق أكثر الشارحين عليه. وقوله: فإن رأى أحدًا قصها، فيقول ما شاء الله. وفي رواية التعبير: فيُقَصّ عليه ما شاء الله أن يقص، وفي رواية يزيد: فَيَقُص عليه من شاء، وفي الأولى فيُقَصق بضم الياء وفتح القاف، والثانية بفتح الياء وضم القاف، وما في الرواية الأولى للمقصوص، وما في الثانية للقاص. وقوله: فسأل يومًا، فقال: هل رأى رؤيا: قلنا: لا، قال: لكني رأيت الليلة رجلين أتياني. قال الطيبي: وجه الاستدراك أنه كان يحب أن يعبر لهم الرؤيا، فلما قالوا ما رأينا شيئًا، كأنه قال: أنتم ما رأيتم شيئًا، لكني رأيت. وأخرج أبو عُوانة عن سمرة "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دخل المسجد يومًا فقال: رأى أحد منكم رؤيا، فليحدث بها، فلم يحدث أحد بشيء، فقال: إني رأيت رؤيا، فاسمعوا مني" وفي رواية التعبير "وأنه قال لنا ذات غداة". لفظ "ذات" زائد، أو هو من إضافة الشيء إلى اسمه، وفي رواية يزيد بن هارون عنه "إذا صلى صلاة الغداة، وفي رواية وهب بن جرير عن أبيه عند مسلم: إذا صلى الصبح، وبه تظهر مناسبة الترجمة للحديث في التعبير. وذكر ابن أبي حاتم عن زيد بن علي بن الحسين بن علي عن أبيه عن جده عن علي، قال: صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومًا صلاة الفجر، فجلس .. الحديث بطوله، نحو حديث سمرة، والراوي له عن زيد ضعيف، وأخرج أبو داود والنَّسائيّ عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا انصرف من صلاة الغداة يقول "هل رأى أحد الليلة رؤيا".

وأخرج الطبراني بسند جيد عن أبي أمامة قال: خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد صلاة الصبح، فقال: "إني رأيت الليلة رؤيا هي حق فاعقلوها .. فدكر حديثًا فيه أشياء بعضها ما في حديث سمرة، لكن يظهر من سياقه أنه حديث آخر، فإن في أوله "أتاني رجل فأخذ بيدي فاستتبعني حتى أتى جبلًا وعرًا طويلًا، فقال لي: ارقه، فقلت: لا أستطيع، فقال: إني سأسهله لك، فجعلت كلما وضعت قدمي وضعتها على درجة، حتى استويت على سواء الجبل، ثم انطلقنا، فإذا نحن برجال ونساء مشققة أشداقهم، فقلت: من هؤلاء؟ فقال: الذين يقولون ما لا يعلمون .. " الحديث. وقوله: رأيت الليلة رجلين أتياني، فأخذا بيدي، وفي رواية التعبير "أنه أتاني في الليلة آتيان، وفي رواية ابن أبي شيبة "اثنان أو آتيان" بالشك، وفي رواية علي "رأيتُ ملكين" ويأتي في آخر الحديث أنهما جبريل وميكائيل. وقوله "فإذا رجل جالس ورجل قائم بيده" قال بعض أصحابنا عن موسى "كَلَّوب من حديد .. إلخ"، والكلوب، بفتح الكاف وتشديد اللام المضمومة، وهي الحديدة التي ينشل بها اللحم عن القدر، وكذلك الكُلَّاب، وكذا وقع في رواية الطبراني، والبعض المبهم لم يعرف المراد به، إلا أن الطبراني أخرجه في الكبير عن العباس بن الفضل الإسقاطي عن موسى بن إسماعيل، فذكر الحديث بطوله، وفيه "بيده كلّاب من حديد". وقوله: "وإنا أتينا على رجل مضطجع على قفاه، وفي رواية الباب "حتى أتينا على رجل مضطجع على قفاه" وفي رواية "مستلقٍ على قفاه"، وقوله: بفِهْر أو صخرة، بكسر الفاء وسكون الهاء وفي آخره راء، هو الحجر ملأ الكف، وقيل: هو الحجَر مَطلقًا، وفي رواية "بصخرة" فقط وفي حديث عليّ "فمررت على مَلَك وأمامه آدمي، وبيد الملك صخرة يضرب بها هامة الأدمي". وقوله: إلى الأرض المقدسة، عند أحمد إلى أرض فضاء، أو أرض مستوية، وفي حديث عَليّ "فانطلقا بي إلى السماء"، وقوله: فيشدخ به رأسه، الشدخ كسر الشيء الأجوف، وفي رواية "فيثلغ" بفتح أوله وسكون المثلثة وفتح اللام بعدها عين معجمة، أي يشدخه. وقوله: فإذا ضربه تدهده الحجر، بفتح المهملتين بينهما هاء ساكنة، وفي رواية الكشميهنيّ "فيتدأدأ" بهمزتين بدل الهاءين، وفي رواية "فيتهدأ" بهاء ثم همزة، وكل بمعنى، والمراد أنه دفعه من علو إلى أسفل، وتدهده إذا انحط، والهمزة تبدل من الهاء كثيرًا، وتدأدأ تدحرج، وهو بمعناه. وقوله: فانطلق إليه ليأخذه، وفي رواية، فإذا ذهب إليه ليأخذه. وقوله: حتى يلتئم رأسه، وفي التعبير حتى يصبح رأسه، وعند أحمد "عاد رأسه كما كان" وفي حديث على "فيقع دماغه جانبًا، وتقع الصخرة جانبًا". قال ابن العربي: جعلت العقوبة في رأس هذه النومة عن الصلاة، والنوم موضعه الرأس. وقوله: فانطلقنا إلى ثقب مثل التنور، أعلاه ضيق وأسفله واسع، يتوقد نارًا، كذا بالنصب، وفي رواية أحمد "تتوقد تحته نارٌ" بالرفع، وهي رواية أبي ذر، وعليها اقتصر الحميدي في جمعه، وهو واضح. وقال ابن مالك: "يتوقد تحته نارًا" بالنصب على التمييز، وأسند يتوقد إلى

ضمير عائد إلى الثقب، كما يقال: مررت بامرأة يتضوع من أردانها طيبًا، أي يتضوع طيبٌ من أردانها، فكأنه قال: يتوقد ناره تحته، فيصح نصب نارًا على التمييز. ويجوز أن يكون فاعل يتوقِد موصولًا تحته، فحذف، وبقيت صلته دالة عليه لوضوح المعنى، والتقدير يتوقد الذي تحته نارًا، وهو على التمييز أيضًا، وذكر لحذف الموصول في مثل هذا عدة شواهد. وقوله: فإذا اقترب ارتفعوا حتى كادوا أن يخرجوا، اقترب من القرب، وهي رواية أب ذرٍ والأصيليّ، والضمير في اقترب يرجع إلى الوقود، أو الحر الدال عليه قولُه "يتوقد"، وفي رواية القابسيّ وابن السكن وعَبْدوس "فإذا اقترب" بالفاء والتاء المثناة من فوق، أي: فإذا خمدت، وأصله من الفترة، وهو الانكسار والضعف. وقد فتر الحر وغيره يَفْتُر فتورًا، وفَتَّره الله تفتيرًا، وقال ابن التين بالقاف، قترت، ومعناه ارتفعت، من القَتَرة وهو الغبار. وقال الجوهري: قتر اللحم يَقْتِر بالكسر، إذا ارتفع قُتَاره، والقتار ريح الشُّواء. وقال ابن التين: وأما فترت، بالفاء، فما علمت له وجهًا؛ لأن بعده "فإذا خمدت رجعوا" ومعنى خمدت وفترت واحد، وعند النسفي: فإذا أُوقدت ارتفعوا، وقال الطيبي في شرح المشكاة: فإذا ارتقت، من الارتقاء، وهو الصعود. ثم قال: كذا في الحميدي وجامع الأصول، وهو الصحيح رواية ودراية. وقوله: "حتى كادوا أن يخرجوا"، أي كاد خروجهم، والخبر محذوف، أي كاد خروجهم يتحقق، قال الطيبيّ وفي نسخ المصابيح حتى يكادوا يخرجوا، وحقه إثبات النون، اللهم إن يحتمل، ويقدّر "أن يخرجوا" تشبيهًا لكاد بعسى، ثم حذف أن وترك على حاله، وفي التوضيح: وروي بإثبات النون. وقوله: فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم، وفيه رجل قائم على وسط النهر، قال يزيد ووهب بن جرير عن جرير بن حازم "وعلى شط النهر رجل"، وهذا التعليق ثبت عن هذين في رواية أبي ذرٍ، فأما حديث يزيد، وهو ابن هارون، فوصله أحمد عنه، فساق الحديث بطوله. وفيه "فإذا نهر من دم فيه رجل وعلى شط النهر رجل" وأما حديث وهب بن جرير فوصله أبو عُوانة في صحيحه, فساق الحديث بطوله، وفيه: "حتى ينتهي إلى نهر من دم، ورجل قائم في وسطه، ورجل قائم على شاطىء النهر" الحديث. وأصل الحديث في مسلم عن وهب لكن باختصار. وقوله: "فانطلقنا حتى انتهيا إلى روضة خضراء فيها شجرة عظيمة .. إلخ"، وفي التعبير "فأتينا على روضة معتمة" أي بضم الميم وسكون المهملة وكسر المثناة وتخفيف الميم بعدها هاء تأنيث، ولبعضهم بفتح المثناة وتشديد الميم، يقال: اعتمَّ النبت إذا اكتهل، ونخلة عَتِيمة طويلة. وقال الداودي: اعتمت الروضة: غطاها الخصب، وهذا كله على الرواية بتشديد الميم. قال ابن التين: ولا يظهر للتخفيف وجه، والذي يظهر أنه من العتمة، وهو شدة الظلام، فوضعها بشدة الخضرة، كقوله تعالى: {مُدْهَامَّتَانِ} وضبط ابن بطال "روضة مُغِنّة" بكسر الغين المعجمة وتشديد النون، ثم نقل عن ابن دريد: واد أغرّة ومُغِنّ، إذا كثر شجره. وقال الخليل: روضة غناء كثيرة العشب.

وقوله: "وفي أصلها شيخ وصبيّانٍ، وإذا رجل قريب من الشجرة بين يديه نار يوقدها، فصعدا بي في الشجرة وأدخلاني دارًا الخ ... "، وفي التعبير: "وإذا بين ظهري الروضة رجل طويل لا أكاد أرى رأسه طولًا في السماء، وإذا الرجل من أكثر ولدان رأيتهم قط" قال الطيبي: أصل هذا الكلام: "وإذا حول الرجل وِلدان ما رأيت ولدانًا قط أكثر منهم"، ونظير قوله: "لم أر روضة قط أعظم منها ولا أحسن" ولما كان هذا التركيب يتضمن معنى النفي جازت زيادة من وقَط التي تختص بالماضي المنفي. وقال ابن مالك: جاز استعمال قط في المثبت في هذه الرواية، وهو جائز، وغفل بعضهم عن ذلك فخصوه بالماضي المنفي، والذي وجهه به الطيبي حسن جدًا، ووجهه الكرمانيّ بأنه يجوز أن يكون اكتفى بالنفي الذي يلزم من التركيب، إذ المعنى "ما رأيتهم أكثر من ذلك" أو النفي مقدر، وسبق نظيره في صلاة الكسوف "فصلى بأطول قيام رأيته قط". وقوله: "وأدخلاني دارًا لم أر قط أحسن منها، فيها رجال شيوخ وشبان ونساء وصبيان، وفي التعبير "فانتهينا إلى مدينة مبنية بلَبن ذهب ولبن فضة، فأتينا بابَ المدينة، فاستفتحنا ففتح لنا، فدخلناها، فتلقانا فيها رجال، شطرٌ من خلقهم كأحسن ما أنت راءٍ، وشطر كاقبح ما أنت راءٍ. اللَّبِن بفتح اللام وكسر الموحدة جمع لَبَنة، وأصلها ما ينبى به، وفي التعبير قال: قالا لهم اذهبوا، فوقعوا فيه، ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم، فصاروا في أحسن صورة. وقوله: "شطر من خَلقهم، بفتح الخاء وسكون اللام بعدها قاف، أي هيئتهم، وقوله: شطر، مبتدأ، وكأحسن الخبر، والكاف زائدة، والجملة صفة رجال، وهذا الإطلاق يحتمل أن يكون المراد أن نصفهم حسن كله، ونصفهم قبيح كله، ويحتمل أن يكون كل واحد منهم نصفه حسن ونصفه قبيح، والثاني هو المراد، ويؤيده قوله في صفتهم: هؤلاء قوم خَلَطوا، أي عمل كل منهم عملًا صالحًا، وخلطه بعمل سيء. وقوله: "فقعوا في ذلك النهر"، بصيغة فعل الأمر بالوقوع، والمراد أنهم ينغمسون فيه ليغسل تلك الصفة بهذا الماء الخاص. وقوله: "نهر معترض" أي: يجري عرضًا، وقوله: "كأنَّ ماءه المَحْض" بفتح الميم وسكون المهملة بعدها صاد معجمة، هو اللَّبَن الخالص عن الماء، حلوًا كان أو حامضاً، وقد بين جهة التشبيه بقوله: من البياض. وفي رواية النَّسَفِي والإسماعيليّ "في البياض" قال الطيبيّ: كأنهم سموا اللَّبَن بالصفة، ثم استعمل في كل صاف، قال: ويحتمل أن بالماء المذكور عفو الله عنهم، أو التوبة منهم، كما في الحديث "اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد". وقوله: "ذهب ذلك السوء عنهم"، أي: صار القبيح كالشطر الحسن، فلذلك قال: وصاروا في أحسن صورة. وقوله: قال قالا لي، هذه جنة عدن، وهذا منزلك، قال: فسما بصري صًعُدًا فإذا قصر مثل الرَّبابة البيضاء، قال: قالا لي: هذاك منزلك، قال: قلت لهما: بارك الله فيكما، ذراني فأدخله، قالا: أما الآن فلا، وأنت داخله. وقوله: فسما، بفتح السين المهملة وتخفيف

الميم، أي نظر إلى فوق، وقوله: "صُعُدا" بضم المهملتين أي ارتفع كثيرًا، وضبطه ابن التين بفتح العين، وأستبعد ضمها. وقوله: "مثل الرَّبابة"، بفتح الراء وتخفيف الموحدتين، وهي السحابة البيضاء، ويقال لكل سحابة منفردة دون السحاب، ولو لم تكن بيضاء. وقال الخطابيّ: الربابة السحابة التي رَكِب بعضها بعضًا، وفي رواية الباب فرفعت رأسي فإذا فوقي مثل السحاب، وفيها فقلت: دعاني أدخل منزلي، قالا: إنه قد بقي لك عمر لم تستكمله، ولو استكملت به أتيت منزلك. وفي رواية الباب "ثم أخرجاني منها، فصعدا بي الشجرة، فأدخلاني دارًا هي أحسن وأفضل" وقد مرَّ في رواية الباب "وإذا رجل بين يديه نار يوقدها" وفي التعبير: فأتينا على رجل كريه المَرْآةِ كأكره ما أنت راءٍ رجلًا مَرْآة، فإذا عنده نارٌ يحشها ويسعى حولها. وقوله: "وأما الرجل الذي رأيته يشق شدقه، فكذاب يحدث بالكذبة، فتحمل عنه حتى تبلغ الآفاق، فيصنع به ما رأيت إلى يوم القيامة. قال ابن مالك: لابد من جعل الموصوف الذي هنا للمعين كالعام حتى جاز دخول الفاء في خبره، أي المراد هو وأمثاله، ولفظ ابن مالك في هذا شاهد على أن الحكم قد يستحق بجزء العلة، وذلك أن المبتدأ لا يجوز دخول الفاء على خبره إلا إذا كان شبيهًا بمن الشرطية في العموم، واستقبال ما يتم به المعنى، نحو الذي يأتيني فمكرم، ولو كان المقصود بالذي معينًا زالت مشابهته بمن، وامتنع دخول الفاء على الخبر، كما يمتنع دخولها على أخبار المبتدآت المقصود بها التعيين، نحو زيد فمكرم لم يخبر، وكذا لا يجوز الذي يأتيني فمكرم إذا قصدت به معينًا، لكن الذي يبنى عند قصد التعيين شبيه في اللفظ بالذي يأتيني عند قصد العموم، فجاز دخول الفاء حملًا للشبيه على الشبيه، ونظيره قوله تعالى: {مَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ} فإن مدلول ما معين، ومدلول أصابكم ماضٍ إلا أنه روعي فيه التشبيه اللفظي، لشبه هذه الآية بقوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} فأجرى ما في مصاحبة الفاء مجرى واحدًا. قال الطيبي: هذا كلام متين، لكن جواب الملكين تفصيلٌ لتلك الرؤيا المتعددة المبهمة، لابد من ذكر كلمة التفصيل، أو تقديرها، فالفاء جواب إما. قلت: رواية الباب مصرح فيها بإما، فلا احتياج إلى ما ذكره ابن مالك، وقوله: فتحمل عنه، بالتخفيف للأكثر، ولبعضهم بالتشديد، وإنما استحق التعذيب لما ينشأ عن تلك الكذبة من المفاسد، وهو فيها مختار، غير مكره، ولا مُلْجأ. قال ابن هبيرة: لما كان الكاذب يساعد أنفُه وعينُه لسانَه على الكذب بترويج باطله، وقعت المشاركة بينهم في العقوبة، لما في رواية التعبير "بشر شر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه".

وقوله: "والذي رأيته يشدخ رأسه، فرجل علَّمه الله القرآن، فنام عنه بالليل، ولم يعمل فيه بالنهار، يفعل به إلى يوم القيامة". وفي رواية التعبير: "أما الرجل الأول، الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر، فإنه الرجل يأخذ بالقرآن فيرفِضه، وينام عن الصلاة المكتوبة"، وقوله: "فيرفِضه"، بكسر الفاء، ويقال بضمها، قال ابن هبيرة: رفض القرآن بعد حفظه جناية عظيمة؛ لأنه يوهم أنه رأى فيه ما يوجب رفضه، فلما رفض أشرف الأشياء، وهو القرآن، عوقب في أشرف أعضائه. وهو الرأس. وقوله: "عن الصلاة المكتوبة" هذا أوضح من رواية الباب المارة؛ لأن ظاهرها أنه يعذب على ترك قراءة القرآن بالليل، بخلاف رواية التعبير هذه، فإنه على تركه الصلاة المكتوبة، ويحتمل أن يكون التعذيب على مجموع الأمرين، ترك القراءة وترك العمل. وقوله: والذي رأيته في الثقب فهم الزناة، مناسبة العري لهم لاستحقاقهم أن يفضحوا؛ لأن عادتهم أن يستتروا في الخلوة، فعوقبوا بالهتك، والحكمة في إتيان العذاب من تحتهم كون جنايتهم من أعضائهم السفلى. وقوله: "والذي رأيته في النهر آكلو الربا"، قال ابن هبيرة: "إنما عوقب آكل الربا بالسباحة في النهر الأحمر، والقامه الحجارة، إن أصل الربا يجري في الذهب، والذهب أحمر، وأما المقام الملك له الحجر، فإنه إشارة إلى أنه لا ينفي عنه شيئًا، وكذلك الربا، فإن صاحبه يتخيل أن ماله قد زاد، والله من ورائه مَحَقَه". وقوله: "والشيخ في أصل الشجرة، إبراهيم عليه السلام، والصبيان حوله فأولاد الناس". وقوله: "فأولاد الناس"، إنما جاز دخول الفاء على الخبر لأن الجملة معطوفة على مدخول أما في قوله: "أما الرجل"، وقد تحذف الفاء في بعض المحذوفات نظرًا إلى أن "ما" لما حذفت، حذف مقتضاها، وكلاهما جائز، وإنما اختص إبراهيم لأنه أبو المسلمين. قال تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} وقال تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} الآية. وفي التعبير: فقال بعض المسلمين: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ فقال: وأولاد المشركين. وظاهره أنه ألحقهم بأولاد المسلمين، ولا يعارض ذلك قوله: "هم من آبائهم" لأن ذلك حكم الدنيا. وقوله: والذي يوقد النار مالكٌ خازنُ النار، وقد مرَّ في رواية التعبير"فأتينا على رجل كريه المرآة .. إلخ"، وإنما كان كريه الرؤية لأن في ذلك زيادة في عذاب النار، وفي التعبير زيادة "وأما القوم الذين كانوا شطرًا منهم حسن، وشطرًا منهم قبيح" كذا في الموضعين، بنصب شطرًا، ولغير أبي ذرٍّ "شطر" في الموضين بالرفع، وحسنًا وقبيحًا بالنصب، ولكلٍ وجهٌ، وللنَّسفَيّ والإسماعيلي في الجميع بالرفع، وعليه اقتصر الحميديّ في جمعه، وكان في هذه الرواية تامة، والجملة حالية. وفي رواية الباب "والدار الأولى التي دخلت دار عامة المسلمين، وهذه الدار دار الشهداء، وأنا جبريل وهذا ميكائيل" وفي حديث أبي أمامة: "ثم انطلقنا، فإذا نحن برجال ونساء أقبح شيء

رجاله أربعة

منظرًا، وأنتنه ريحًا، كأنما ريحهم المراحيض، قلت: ما هؤلاء؟ قال: هؤلاء الزواني والزناة، ثم انطلقنا، فإذا نحن بموتى أشد شيء انتفاخًا، وأنتنه ريحًا، قلت: ما هؤلاء؟ قال: هؤلاء موتى الكفار. ثم انطلقنا، فإذا نحن برجالٍ نيامٍ تحت ظلال الشجر، قلت: ما هؤلاء؟ قال: هؤلاء موتى المسلمين. ثم انطلقنا، فإذا نحن برجال أحسن شيء وجهًا، وأطيبه ريحًا، قلت: ما هؤلاء؟ قال: هؤلاء الصديقون والشهداء والصالحون .. الحديث". وفي هذا الحديث من الفوائد أن الإسراء وقع مرارًا، يقظةً ومنامًا على أنحاء شتى، وفيه أن بعض العصاة يعذبون في البَرزخ، وفيه نوع من تلخيص العلم، وهو أن يجمع القضايا جملة ثم يفسرها على الولاء، ليجتمع تصورها في الذهن. والتحذير من النوم عن الصلاة المكتوبة، وعن رفض القرآن لمن يحفظه، وعن الزنى وأكل الربى، وتعمد الكذب، وأن الذي له قصر في الجنة لا نعيم فيه وهو في الدنيا، بل إذا مات، حتى النبي والشهيد. وفيه الحث على طلب العلم، واتباع من يلتمس منه ذلك، وفيه فضل الشهداء، وأن منازلهم في الجنة أرفع المنازل، ولا يلزم من ذلك أن يكونوا أرفع درجة من إبراهيم عليه الصلاة والسلام، لاحتمال أنّ إقامته هناك بسبب كفالته الولدان، ومنزله هو في المنزلة التي هي أعلى من منازل الشهداء، كما تقدم في الإسراء "أنه رأى آدم في السماء الدنيا، وإنما كان كذلك لكونه يرى نسم بنيه من أهل الخير ومن أهل الشر، فيضحك ويبكي، مع أن منزلته هو في عِفَيين، فإذا كان يوم القيامة، استقر كل منهم في منزلته. وفيه أن من استوت حسناته وسيئاته يتجاوز الله عنهم، اللهم تجاوزْ عنا برحمتك يا أرحم الراحمين. وفيه أن الاهتمام بأمر الرؤيا بالسؤال عنها، وفضل تعبيرها واستحباب ذلك بعد صلاة الصبح؛ لأنه الوقت الذي يكون فيه البال مجتمعًا، وفيه استقبال الإمام أصحابه بعد الصلاة إذا لم يكن بعدها راتبة، وأراد أن يعظهم أو يفتيهم أو يحكم بينهم. وفيه أن ترك استقبال القبلة للإقبال عليهم لا يكره، بل يشرع، كالخطيب، قال الكرماني: مناسبة العقوبات المذكورة فيه للجنايات واضحة، وقد مرت المناسبة في الزناة، والحكمة في الاقتصار على مَنْ ذكر من العصاة دون غيرهم، أن العقوية تتعلق بالقول أو الفعل، فالأول على وجود ما لا ينبغي منه أن يقال، والثاني إما بدنيّ، وإما ماليّ، فذكر لكل منهم مثالًا ينبه به على مَنْ عداه، كما نبه بمن ذكر من أهل الثواب، وأنهم أربع درجات: درجات النبي، ودرجات الأمة أعلاها الشهداء، وثانيها مَنْ بلغ، وثالثها مَن كان دون البلوغ. رجاله أربعة: قد مرّوا، وقد مرَّ أن بعض الروايات "وقال يزيد ووهب بن جرير الخ" مرّ موسى بن إسماعيل في الخامس من بدء الوحي، وجرير بن حازم في السبعين من استقبال القبلة، ومرَّ أبو رجاء في

الحادي عشر من التيمم، ومرّ سمرة في الخامس والثلاثين من الحيض. وفي الحديث "قال بعض أصحابنا" وذلك البعض لم يسم، ويزيد المراد به يزيد هارون، وقد مرَّ في السادس والتسعين من الوضوء، ومرّ وهب في الخامس والأربعين من الوضوء. ثم قال المصنف:

باب موت يوم الاثنين

باب موت يوم الاثنين قال الزين بن المنير: تعين وقت الموت ليس لأحد فيه اختيار، لكن في التسبب في حصوله مدخل، كالرغبة إلى الله تعالى لقصد التبرك، فمن لم تحصل له الإجابة أثيب على اعتقاده، وكأنّ الخبر الذي ورد في فضل الموت يوم الجمعة لم يصح عند البخاري، فاقتصر على ما وافق شرطه، وأشار إلى ترجيحه على غيره، والحديث الذي أشار إليه أخرجه التِّرمذيّ عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا "ما من مسلم يموت الجمعة، أو ليلة الجمعة، إلا وقاه الله فتنة القبر" وفي إسناده ضعف، وأخرجه أبو يعلى عن أنس نحوه، وإسناده أضعف. الحديث الرابع والأربعون والمئة حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه فَقَالَ: فِي كَمْ كَفَّنْتُمُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-؟ قَالَتْ: فِي ثَلاَثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ، لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلاَ عِمَامَةٌ. وَقَالَ لَهَا: فِي أَيِّ يَوْمٍ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-؟ قَالَتْ: يَوْمَ الاِثْنَيْنِ. قَالَ: فَأَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قَالَتْ: يَوْمُ الاِثْنَيْنِ. قَالَ: أَرْجُو فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ اللَّيْلِ. فَنَظَرَ إِلَى ثَوْبٍ عَلَيْهِ كَانَ يُمَرَّضُ فِيهِ، بِهِ رَدْعٌ مِنْ زَعْفَرَانٍ فَقَالَ: اغْسِلُوا ثَوْبِي هَذَا، وَزِيدُوا عَلَيْهِ ثَوْبَيْنِ فَكَفِّنُونِي فِيهَا. قُلْتُ: إِنَّ هَذَا خَلَقٌ. قَالَ: إِنَّ الْحَيَّ أَحَقُّ بِالْجَدِيدِ مِنَ الْمَيِّتِ، إِنَّمَا هُوَ لِلْمُهْلَةِ. فَلَمْ يُتَوَفَّ حَتَّى أَمْسَى مِنْ لَيْلَةِ الثُّلاَثَاءِ وَدُفِنَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ. قوله: "دخلتُ على أبي بكر"، تعني أباها، زاد أبو نعيم في المستخرج "فرأيت به الموت، فقلت هِيج هِيج: من لا يزال دمعه مقنعًا ... فإنه في حفرة مدفوف فقال: لا تقولي هذا، وقولي: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ} الآية. ثم قال: في أي يوم .. ؟ الحديث، وهذه الزيادة أخرجها ابن سعد مفردة عن أبي أسامة عن هشام، وقولها: هِيج بالجيم والكسر، حكاية بكائها، وقوله: "في كم كفنتم النبي -صلى الله عليه وسلم-" أي: كم ثوبًا كفنتم النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فيه؟.

وقوله: "في كم"، معمول مقدم لكفنتم، قيل ذكر لها أبو بكر ذلك بصيغة الاستفهام، توطئة لها للصبر على فقده، واستنطاقًا لها بما يعلم أنه يعظم عليها ذكرُه لما في بداءته لها بذلك من إدخال الغم العظيم عليها؛ لأنه يبعد أن يكون أبو بكر نسي ما سأل عنه، لقرب العهد، ويحتمل أن يكون السؤال عن قدر الكفن على حقيقته؛ لأنه لم يحضر ذلك لاشتغاله بأمر البيعة، وأما تعيين اليوم فنسيانه أيضًا محتمل؛ لأنه عليه الصلاة والسلام دفن ليلة الأربعاء، فيمكن أن يحصل التردد هل مات يوم الإثنين أو الثلاثاء. وقوله: "قلت يوم الاثنين" بالنصب أي في يوم الاثنين وقولها بعد ذلك قلت: يوم الاثنين بالرفع أي هذا يوم الاثنين، وقوله: "أرجو فيما بيني وبين الليل"، وللمستملي "الليلة" ولابن سعد عن عائشة "أول بدء مرض أبي بكر أنه اغتسل يوم الاثنين لسبع خلون من جمادى الآخرة، وكان يومًا باردًا فَحُمَّ خمسة عشر يومًا، ومات مساء ليلة الثلاثاء، لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة. وأشار الزين بن المنير إلى أن الحكمة في تأخر وفاته عن يوم الاثنين، مع أنه كان يحب ذلك، ويرغب فيه، لكونه قام بالأمر بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-، فناسب أن تكون وفاته متأخرة عن الوقت الذي قبض فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وقوله: "به رَدْع"، بسكون المهملة بعدها عين مهملة، أي: لطخ لم يعمه كله. وقوله: "وزيدوا عليه ثوبين"، زاد ابن سعد عن هشام "جديدين فكفنوني فيهما" أي: المزيد والمزيد عليه. وفي رواية غير أبي ذَرٍّ "فيها" أي: الثلاثة. وقوله: خَلَق، بفتح المعجمة واللام، أي: غير جديد، وعند ابن سعد عن أبي معاوية "ألا تجعلها جددًا كلها؟ قال: لا". وظاهره أن أبا بكر كان يرى عدم المغالاة في الأكفان، ويؤيده قوله بعد ذلك "إنما هو للمهلة" وروى أبو داود عن علي مرفوعًا "لا تغالوا في الكفن، فإنه يسلب سريعًا" ولا يعارضه حديث جابر في الأمر بتحسين الكفن، أخرجه مسلم، فإنه يجمع بينهما يحمل التحسين على الصفة، وحمل المغالاة على الثمن، وقيل: التحسين حق الميت، فإذا أوصى بتركه أَتبع، كما فعل الصديق، ويحتمل أن يكون اختار ذلك الثوب بعينه، لمعنى فيه، من التبرك به، لكونه صار إليه من النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو لكونه كان جاهد فيه، أو تعبد فيه. ويؤيده ما رواه ابن سعد عن القاسم بن محمد بن أبي بكر قال: كفنوني في ثوبيَّ اللَّذين كنت أصلي فيهما. وقوله: إنما هو، أي: الكفن. وقوله: للمهلة، قال عياض: رُوِي بضم الميم وفتحها وكسرها، وجزم الخليل بالكسر، وقال ابن حبيب هو بالكسر الصديدُ: وبالفتح التمهل، وبالضم عَكِر الزيت. والمراد هنا الصديد، ويحتمل أن يكون المراد بقوله: إنما هو، أي الجديد، وأن يكون المراد بالمهلة على هذا التمهل، أي أن الجديد لمن يريد البقاء، والأول أظهر، ويؤيده قول القاسم بن محمد بن أبي بكر: كفن أبو بكر في رَيَطة بيضاء، وريَطة مُمَصَّرة. وقال: إنما هو لما

رجاله خمسة

يخرج من أنفه وفيه. أخرجه ابن سعد. وله عنه من وجه آخر: إنما هو للمهل والتراب، وضبط الأصمعي هذه بالفَتح. وفي هذا الحديث استحباب التكفين في الثياب البيض، وتثليث الكفن، وطلب الموافقة فيما وقع للأكابر، تبركًا بذلك، وفيه جواز التكفين في الثياب المغسولة، وإيثار الحي بالجديد، والدفن بالليل، وفضل أبي بكر، وصحة فراسته، وثباته عند موته، وفيه أخذ المرء العلم عمن دونه، وقال أبو عمر: فيه أن التكفين في الثوب الجديد والخَلَق سواء وتُعُقّب بما تقدم من احتمال أن يكون أبو بكر اختاره لمعنى فيه، وعلى تقدير أن لا يكون كذلك، فلا دليل فيه على المساواة. رجاله خمسة: وفيه ذكر أبي بكر، وقد مرّوا، مرَّ مُعَلّى بن أَسَد في الرابع والثلاثين من الحيض، ومرّ وهيب في تعليق بعد الخامس عشر من الإيمان، ومرّ هشام وأبوه وعائشة في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ أبو بكر في باب مَنْ لم يتوضأ من لحم الشاة بعد الحادي والسبعين من الوضوء. ثم قال المصنف:

باب موت الفجأة البغتة

باب موت الفجأة البغتة قال ابن رشيد: هو مضبوط بالكسر على البدل، ويجوز الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هي البغتة. وفي رواية الكشميهني "بغتةً" والفجاءة، بضم الفاء وبعد الجيم مَدّ ثم همز، ويروى بفتح ثم سكون بغير مد، وهي الهجوم على مَنْ لم يشعر به، وموت الفجاة وقوعه بغير سبب من مرض وغيره. قال ابن رشيد: مقصود المصنف الإشارة إلى أنه ليس بمكروه؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- لم يظهر منه كراهيته، لمّا أخبره الرجل بأن أمه افتلتت نفسها، وأشار إلى ما رواه أبو داود بلفظ: "موت الفجأة أخذة أسف" وفي إسناده مقال، فجرى على عادته في الترجمة بما لم يوافق شرطه، وإدخال ما يومىء إلى ذلك، ولو من طرفٍ خفي. والحديث المذكور أخرجه أبو داود عن عبيد بن خالد السلميّ، إلا أن راويه رفعه تارةً، ووقفه أخرى. وقوله: أَسَفَ، أي: غَضَب، وزناً ومعنى، وروي بوزن فاعل، أي غضبان، ولأحمد عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرَّ بجدار مائل، فأسرع وقال أكره موت الفَوات. قال ابن بطال: وكأن ذلك، والله أعلم لما في موت الفجأة من خوف حرمان الوصية، وترك الاستعداد للمعاد، بالتوبة وغيرها من الأعمال. وقد روى ابن أبي الدنيا في كتاب الموت عن أنس نحو حديث عبيد بن خالد، وزاد فيه "المحروم من حرم وصيته" وفي مصنف ابن أبي شيبة عن عائشة وابن مسعود "موت الفجأة راحة للمؤمن، وأسف على الفاجر" وقال ابن المنير: لعل البخاري أراد بهذه الترجمة أن مَنْ مات فجأةً فليستدرك ولده من أعمال البر ما أمكنه، مما يقبل النيابة، كما وقع في حديث الباب. وقد نقل عن أحمد وبعض الشافعية كراهية موت الفجأة، ونقل النوويّ عن بعض القدماء أن جماعة من الأنبياء والصالحين ماتوا كذلك. قال النووي: وهو محبوب للمراقبين، قال في "الفتح": وبهذا يجمع بين القولين. الحديث الخامس والأربعون والمئة حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها. أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: إِنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا، وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، فَهَلْ لَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا قَالَ: "نَعَمْ".

وقوله: "إن أمي"، يأتي في السند اسم الرجل واسم أمه، وتعريف الأم ومحل تعريف الرجل. وقوله: "افْتُلِتت" بضم المثناة بعد الفاء الساكنة وكسر اللام، أي: اخذِت فَلْتَة أي: بغتة. يقال: افتلت فلان أي: مات فجأة. وافتلتت نفسه كذلك، ونفسُها بالضم على الأشهر، نائبٌ عن الفاعل، والمراد بالنفس هنا الروح. وضبطه بعضهم بفتح السين، إِما على التمييز، وإما على أنه مفعول ثانٍ لافتلتت، بمعنى سلبت. وذكره ابن قتيبة بالقاف وتقديم التاء، وقال: هي كلمة تقال لمن قتله الحب، ولمن مات فجأة، والمشهور في الرواية بالفاء. وقوله: "وأظنها لو تكلمت تصدقت"، وفي رواية الوصايا "وأُراها لو تكلمت تصدقت" بضم همزة أرها، وهو يشعر بأن رواية ابن القاسم عن مالك عند النسائي، بلفظ "وإنها لو تكلمت" تصحيف، وظاهره أنها لم تتكلم فلم تتصدق، لكن في الموطأ عن سعيد بن سعد بن عبادة قال: خرج سعد بن عبادة مع النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- في بعض مغازيه، وحضرت أُمه الوفاة بالمدينة المنورة، فقيل لها: أوصي، فقالت: فيم أوصي؟ المالُ مالُ سعد، فتوفيت قبل أن يقدم سعد، فذكر الحديث، فإن أمكن تأويل رواية الباب أن المراد أنها لم تتكلم، أي بالصدقة، ولو تكلمت لتصدقت، أي: فكيف أُمضي ذلك؟ أو يحمل على أن سعد إما عرف ما وقع منها، أو يقال إن راوي الإثبات والنفي لم يتحدا. وقوله: "فهل لها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: نعم"، وفي الوصايا: "أفأتصدق عنها؟ قال: نعم، تصدقْ عنها" ولبعضهم: "أتصدق عليها أو أصرفه على مصلحتها" وأخرج النَّسائيّ من وجه آخر جهة الصدقة، فقال عن سعد بن عبادة: قلت: "يا رسول الله، إن أُمي ماتت، أفأتصدق عنها؟ قال: نعم، قلت: فأي الصدقة أفضل؟ قال: سقي الماء" وأخرجه الدارقطني في غرائب مالك بلفظ: "أن سعدًا قال: يا رسول الله، اتنتفع أُمي إِنْ تصدقت عنها وقد ماتت؟ قال: نعم، قال: اسقِ الماء". وفي حديث ابن عباس في الوصايا روايتان، ففي رواية أن أُمي ماتت وأنا غائب عنها، أينفعها شيء إن تصدقت به عنها؟ قال: نعم، وفي رواية: إن أُمي ماتت، وعليها نذر، قال: اقضه عنها، ولا تنافي بين الروايتين لاحتمال أن يكون سأل عن النذر، وعن الصدقة عنها. وفي رواية سليمان بن كثير عند النَّسائيّ: أفيجزىء أن أعتق عنها؟ قال: اعتق عن أمك، فأفادت هذه الرواية بيان ما هو النذر المذكور، وهو أنها نذرت أن تعتق رتبة، فماتت قبل أن تفعل. ويحتمل أن تكون نذرت نذرًا مطلقًا غير مُعَيَّن، فيكون في الحديث حجة لمن أفتى في النذر المطلق بكفارة يمين، والعتق أعلى كفارات الإيمان, فلذلك أمره أن يعتق عنها. وحكى ابن عبد البر عن بعضهم أن النذر الذي كان على والدة سعد صيامٌ، واستند إلى حديث ابن عباس الآتي في الصوم "أن رجلًا قال: يا رسول الله، إن أمي ماتت، وعليها صوم ... " الحديث. ثم رواه بأن في بعض الروايات عن ابن عباس أن امرأة فقالت: إن أختي ماتت، والحق

رجاله خمسة

أنها قصة أخرى، ويأتي إنْ شاء الله تعالى إيضاح ذلك في كتاب الصيام، وفي الحديث من الفوائد جواز الصدقة عن الميت، وأن ذلك ينفعه بوصول ثواب الصدقة إليه، ولاسيما إن كان من الولد، وهو مخصص لعموم قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} ويلتحق بالصدقة العتق عنه عند الجمهور، خلافًا للمشهور عند المالكية، وقد اختلف في غير الصدقة من أعمال البر، هل تصل إلى الميت كالحج والصوم؟ ويأتي إن شاء الله تعالى في كتاب الصيام الكلام على، ذلك مستوفى. وفيه أنَّ ترك الوصية جائزٌ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يذم أُم سعد على ترك الوصية، قاله ابن عبد البَرّ. وتعقب بأن الإنكار عليها قد تعذر لموتها، وسقط عنها التكليف، وأجيب بأن فائدة إنكار ذلك لو كان منكرًا ليتعظ غيرها ممن سمعه، فلما أقر على ذلك، دل على الجواز. وفيه ما كان الصحابة عليه من استشارته عليه الصلاة والسلام في أمور الدين، وفيه العمل بالظن الغالب، وفيه الجهاد في حياة الأم، وهو محمول على أنه استأذنها. قلت: أو لكونه خارجًا مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلا يحتاج إلى إذنها. وفيه السؤال عن التحمل والمسارعة إلى عمل البر، والمبادرة إلى بر الوالدين، وأن إظهار الصدقة قد يكون خيرًا من إخفائها، وهو عند اغتنام صدق النية فيه، وأن للحاكم تحمل الشهادة في غير مجلس الحكم، لقوله في بعض الروايات "أشهدك أنّ حائطَي المخراف صَدَقةٌ عليها" وعند ابن ماكولا عن أنس أنه قال: سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلت: إنا لندعو لموتانا، ونتصدق عنهم، ونحجّ، فهل يصل ذلك إليهم؟ فقال: إنه ليصل إليهم، ويفرحون به كما يفرح أحدكم بالهدية. رجاله خمسة: قد مرّوا، وفيه لفظ رجل مبهم، وهو سعد بن عبادة، وقد مرَّ أيضًا مرَّ سعيد بن أبي مريم في الرابع والأربعين من العلم، ومرَّ محمد بن جعفر غندر في الخامس والعشرين من الإيمان, ومرَّ محل الثلاثة الباقية في الذي قبله، ومرَّ سعد بن عبادة في الخامس والأربعين من الجنائز. وأُمه المذكورة في الحديث هي عَمرة بنت مسعود بن قيس بن عمرو بن زيد مناة بن عَدِيّ بن عمرو بن مالك بن النجار، والدة سعد بن عبادة، ماتت في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- سنة خمس، وقال ابن سعد: ماتت والنبي -صلى الله عليه وسلم- في غزوة دَوْمة الجندل، في شهر ربيع الأول، فلما جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينةَ أتى قبرها، فصلى عليها. وفي هذا الحديث سؤال ولدها سعد عن الصدقة عنها. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإخبار بالأفراد، والعنعنة والقول، وفيه رواية الابن عن الأب، وشيخه مصري وبقية الرواة مدنيون. ثم قال المصنف:

باب ما جاء في قبر النبي -صلى الله عليه وسلم-

باب ما جاء في قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما. قول الله عَزَّ وَجَلَّ فاقبره اقبرت الرجل إذا جعلت له قبرًا وقبرته دفنته كفاتًا يكونون فيها أحياء ويدفنون فيها أمواتًا. قال ابن رشيد: قال بعضهم: مراده بقوله: قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- المصدرُ من قَبَرْته قبرًا، والأظهر عندي أنه أراد الاسم، ومقصوده بيان صفته من كون مُسَنّمًا أو غير مُسَنم، وغير ذلك مما يتعلق بعضه ببعض، وفي دفنهما رضي الله تعالى عنهما، معه عليه الصلاة والسلام، فضيلة عظيمة لهما، خصهما الله تعالى بها، وكرامة حياهما بها، لم تحصل لأحد، ألا ترى وصية عائشة رضي الله تعالى عنها إلى ابن الزبير، أنه لا يدفنها معهم، خشيةَ أن تزكى بذلك، وهذا من تواضعها، وإقرارها بالحق لأهله، وإيثارها به على نفسها، ورأت عمر رضي الله تعالى عنه أهلًا، وأيضًا لقرب طينتها من طينته. ففي حديث أبي سعيد: مرَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على جنازة عند قبر، فقال: مَنْ هذا؟ فقيل فلان الحبشيّ، فقال عليه الصلاة والسلام: لا إله إلا الله، سيق من أرضه وسمائه إلى تربته التي منها خُلق. قال الحاكم: صحيح الإِسناد، وإنما استأذنها عمر في ذلك، ورغب إليها في ذلك؛ لأن الموضع كان بيتها, ولها فيه حق، ولها أن تؤثر نفسها به، فآثرت به عمر رضي الله تعالى عنه، وقد كانت عائشة رضي الله تعالى عنها رأت رؤيا دلتها على ما فعلت، حين رأت ثلاثة أقمار سقطن في حجرتها، فقصتها على والدها لما توفي النبي -صلى الله عليه وسلم-، ودفن ببيتها، فقال لها أبو بكر: هذا أول أقمارك، وهو خيرها. وقوله: قول الله عَزَّ وَجَلَّ فأقبره، يريد تفسير الآية: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} أي: جعله ممن يقبر، لا ممن يلقى حتى تأكله الكلاب مثلًا. وقال أبو عبيد في المجاز: أقبره أمران يقبر. وقوله: أقبرتُ الرجلِ، إذا جعلت له قبرًا، وقبرته دفنته، قال يحيى الفرّاء في المعاني: يقال: أقبره، جعله مقبوراَ، وقبره دفنه. وقوله: كفاتًا ... إلخ، روى عبد بن حميد عن مجاهد قال في قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} قال: يكونون فيها ما أرادوا. ثم يدفنون فيها، والكِفات من كفتُّ الشيء أكفته إذا جمعته وضممته، قاله الزجاج. وقال الفراء: نكفتهم أمواتًا في بطنها، أي: نحفظهم ونحرزهم، ونصب أحياءً بفعل دل عليه كفاتًا، أي: تكفت أحياءً وأمواتاَ.

الحديث السادس والأربعون والمئة

الحديث السادس والأربعون والمئة حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ عَنْ هِشَامٍ وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا أَبُو مَرْوَانَ يَحْيَى بْنُ أَبِي زَكَرِيَّاءَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَيَتَعَذَّرُ فِي مَرَضِهِ أَيْنَ أَنَا الْيَوْمَ أَيْنَ أَنَا غَدًا اسْتِبْطَاءً لِيَوْمِ عَائِشَةَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمِي قَبَضَهُ اللَّهُ بَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي، وَدُفِنَ فِي بَيْتِي. وقوله: "ليتعذر في مرضه أين أنا اليوم"، وهو بالعين المهملة والذال المعجمة، أي: يتمنع، وحكى ابن التين في رواية القابسيّ بالقاف والدال المهملة، أي يسأل عن قدر ما بقي إلى يومها، لأن المريض يجد عند بعض أهله من الإنس ما لا يجد عند بعض، وقد مرَّ عند حديثها في باب الغُسل والوضوء في "المخضب" من كتاب الوضوء ما قيل في إذْن أزواجه في تمريضه عليه الصلاة والسلام في بيتها، ومرّ ما قيل في ابتداء مرضه وقدره ويوم موته مستوفىً في باب "حد المريض أن يشهد الجماعة" من أبواب الجماعة. وقوله: "قبضه الله بين سَحْرِي ونَحْرِي، ودفن في بيتي" السَّحْر، بفتح المهملة وسكون الحاء المهملة، هو الصدر، وهو في الأصل الرئة، والنَحْر، بفتح النون وسكون المهملة، والمراد به موضع النحر، وأغرب الداوديّ فقال: هو ما بين الثديين، قلت: لا إغراب فيما قال، بل هو ظاهر اللفظ، وفي روايتها في مرض موته عليه الصلاة والسلام: "وكانت تقول مات ورأسه بين حاقنتي وذاقنتي" والحاقنة بالمهملة والقاف ما سفل من الذقن، والداقنة ما علا منه، أو الحاقنة نُقرة التَّرْقُوة، وهما حاقنتان، ويقال: إن الحاقنة المطمئن من الترقوة والحلق، وقيل ما دون الترقوة من الصدر. وقيل: هي تحت السُّرة، وقال ثابت: الحاقنة طَرَف الحلقوم. والحاصل أن ما بين الحاقنة والذاقنة هو ما بين السحر والنحر، والمراد أنه عليه الصلاة والسلام مات ورأسه بين حنكها وصدرها، وهذا لا يغاير حديثها، الآتي في مرضه عليه الصلاة والسلام، حيث قالت: "إن رأسه كان على فخذها؛ لأنه محمول على أنها رفعته من فخذها إلى صدرها" وفي رواية ذكوان عن عائشة "تُوفي في بيتي، وفي يومي، وبين سَحْري ونحري، وإن الله جمع ريقي وريقه عند موته في آخر يوم من الدنيا"، وفي رواية همام عن هشام عند أحمد نحوه، وزاد "فلما خرجت نفسه لم أجد ريحاً قط أطيب منها". وقد وردت أحاديث أنه مات -صلى الله عليه وسلم- ورأسه في حجر عليّ، وهي تعارض حديث عائشة، ولكن لا تخلو طريق منها من شيعيّ أو ضعيف، والأحاديث هي هذه. ساق ابن سعد حديث جابر "سأل كعب الأحبار عليًا: ما كان آخر ما تكلم به النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ فقال: أسندته إلى صدري فوضع رأسه على منكبي، فقال: الصلاةَ الصلاةَ، فقال كعب: كذلك آخر عهد الأنبياء" وفي سنده الواقدي، وحرم ابن عثمان، وهما متروكان.

رجاله سبعة

وروى الواقدي عن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مرضه: "ادعو لي أخي، فدُعي له عليّ، فقال: ادْنُ مني، قال: فلم يزل مستندًا إليّ، وإنه ليكلمني حتى نزل به، وثقل في حجري، فصحت: يا عباس، أدركني، فإني هالك، فجاء العباس فكان جهدهما جميعاً أن أضجعاه" فيه انقطاع مع الواقدي، وعبد الله فيه لين، قلت: وفي لفظه نكارة، وبه عن أبيه عن علي بن الحسن "قبض ورأسه في حجر عليّ" فيه انقطاع، وعن الواقدي عن أبي الحويرث عن أبيه عن الشعبيّ "مات ورأسه في حجر عليّ" فيه الواقديّ والانقطاع. وأبو الحويرث اسمه عبد الرحمن بن معاوية بن الحارث المدنيّ قال مالك: ليس بثقة، وأبوه لا يعرف حاله، وعن الواقديّ عن سليمان بن داود بن الحُصين عن أبيه عن أبي غطفان، سألت ابن عباس قال: توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو إلى صدر عليّ، قال: فقلت: فإن عروة حدّثني عن عائشة قالت: توفي النبي -صلى الله عليه وسلم- بين سَحْري ونحري، فقال ابن عباس: لقد توفي وإنه لمستند إلى صدر عليّ، وهو الذي غسله، وأخي الفضل وأبي أبي أن يحضر. فيه الواقدي وسليمان لا يعرف حاله، وأبو غَطَفان بفتحات، اسمه سعد، وثَّقَه النَّسَائيّ، وأخرج الحاكم في الإكليل عن حَبّة العَدَنِيّ عن عليّ أسندته إلى صدري، فسألت نفسه" وحبة ضعيف، وعن أُم سلمة قالت: عليٌّ آخرهم عهدًا برسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وحديث عائشة أثبت من هذا, ولعلها أرادت آخر الرجال به عهدًا، ويمكن الجمع بأن يكون علي آخرهم عهدًا به، وأنه لم يفارقه حتى مال، فلما مال ظن أنه مات، ثم أفاق بعد أن توجه فأسنَدَتْه عائشة بعده إلى صدرها، فقبض. وعند أحمد عن يزيد بن بابنوس في أثناء حديث "فبينما رأسه ذات يومٍ على منكبي، إذ مال رأسه نحو رأسي، فظننت أنه يريد من رأسي حاجة، فخرجت من فيه نقطة باردة، فوقعت على ثُغْرة نحري، فاقشعر لها جلدي، وظننت أنه غُشي عليه، وسجيته ثوبًا". قلت: هذا الحديث ظاهر النكارة، إذ كيف يقشعر عليٌّ رضي الله تعالى عنه من نقطة وقعت عليه من فم النبي -صلى الله عليه وسلم-، فهذا لا يمكن صدوره من على، ولا ممن دونه من جميع المسلمين، فهذه هي الأحاديث المعارضة لحديث عائشة، وقد رأيت ما فيها من الضعف والنكارة، فكيف تعارضها؟ رجاله سبعة: مرَّ منهم إسماعيل بن أبي أويس في الخامس عشر من الإيمان، وسليمان بن بلال في الثاني منه، ومرَّ هشام وعروة وعائشة في الثاني من بدء الوحي. والباقي اثنان: الأول منهما: محمد بن حرب النَّشّائي، ويقال النشاستجي أبو عبد الله الواسطي، ذكره ابن حِبّان في الثقات. وقال أبو حاتم: صدوق، وقال الطبرانيّ: كان ثقة، له عند مسلم حديث أبي هريرة في فضيلة الصف الأول، وعند أبي داود حديث عبادة خمس صلوات افترضهن الله، وفي

الحديث السابع والأربعون والمئة

الزُّهرة روى له البخاريّ ثمانية أحاديث. روى عن إسماعيل بن علية، وأبي معاوية، وأبي مروان يحيى بن أبي زكرياء وغيرهم. وروى عنه البخاري ومسلم وأبو داود وبِقَيُّ بن مَخْلَد وغيرهم. مات سنة خمس وخمسين ومئتين. والنشائي في نسبه نسبة إلى النشأ، بالمد والقصر، شيء يعمل به الفالوذج، ويقال: النشاستج فارسيّ مُعَرث منسوب إلى عمل النشا هذا. الثاني: يحيى بن أبي زكرياء الغَسّاني، أبو مروان الواسطيّ، أصله من الشام، وأسم أبيه يحيى، سئل عنه ابن مُعين فقال: لا أدري، وقال أبو حاتم: ليس بالمشهور، وقال أبو داود: ضعيف. وقال ابن حِبّان: لا تجوز الرواية عنه، لما أكثر من مخالفة الثقات في الرواية عن الأثبات. له في صحيح البخاريّ حديث واحد عن عائشة، متابعة روى عن هشام بن عَروة وهشام بن حَسّان ويونس بن عبيد وغيرهم. وروى عنه أيوب بن أبي هند الحَرّاني وعبد الوهاب بن عيسى الثمار، ومحمد بن حرب. مات سنة تسعين ومئة. الحديث السابع والأربعون والمئة حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ هِلاَلٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي مَرَضِهِ الَّذِي لَمْ يَقُمْ مِنْهُ: "لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ. لَوْلاَ ذَلِكَ أُبْرِزَ قَبْرُهُ، غَيْرَ أَنَّهُ خَشِيَ أَوْ خُشِيَ أَنَّ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا". قوله: "غير أنه خَشِي أو خُشِي"، قد مرَّ الكلام عليه في باب ما يكره من اتخاذ القبور على المساجد، ومرَّ الكلام على الحديث بجميع مباحثه في باب "هل تنبش قبور مشركي الجاهلية من أبواب المساجد". رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ موسى بن إسماعيل وأبو عُوانة في الخامس من بدء الوحي، ومرّ هلال بن أبي حميد في السادس والثمانين من الجنائز، ومرَّ عُروة وعائشة في الثاني من بدء الوحي. ثم قال: وعن هلال قال: كنا في عروة بن الزبير، ولم يولد لي، وهذا موصول بالإسناد المذكور، وهلال قد مرَّ محله في الذي قبله، واختلف في كنية هلال، فقيل: إنه أبو عمرو، وهو المشهور، وقيل أبو أمية، وقيل أبو الجهم. وقوله: ولم يولد لي، جملة حالية، وهو دال على جواز تكنية من لم يولد له. وفيه رد على مَنْ منع تكنية مَنْ لم يولد له، مستندًا إلى أنه خلاف الواقع، فقد أخرج ابن ماجة وأحمد والطحاويّ، وصححه الحكم من حديث صُهيب أن عمر قال له: مالك تكنى أبا يحيى، وليس لك ولد؟ قال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كناني.

الحديث الثامن والأربعون والمئة

وأخرج سعيد بن منصور عن فضيل بن عمرو قلت لإبراهيم: إني أُكنَّى أبا النضر، وليس لي ولد، وأسمع الناس يقولون: مَنْ اكتنى وليس له ولد، فهو أبو جَعْر. قال إبراهيم: كان علقمة يكنى أبا شِبل، وكان عقيمًا لا يولد له. وقوله: جَعْر بفتح الجيم وسكون المهملة، وهو ما يبس من العِذرة في المَجْعر، أي الدُّبر، وشِبل، بكسر المعجمة وسكون الموحدة، وهو ولد الأسد إذا أدرك الصيد. وأخرج المصنف في الأدب المفرد عن علقمة قال: كنّا في عبد الله بن مسعود قبل أن يولد لي، وقد كان ذلك مستعملًا عند العرب، قال الشاعر: لها كنية عمرو وليس لها عمر وأخرج ابن أبي شَيبة عن الزُّهريّ قال: كان رجال من الصحابة يكتنون قبل أن يولد لهم، وأخرج الطبرانيّ عن علقمة عن ابن مسعود أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كنّاه أبا عبد الرحمن قبل أن يولد له، وسنده صحيح. قال العلماء: كانوا يكنون الصبيّ تفاؤلًا بأنه سيعيش حتى يولد له، وللأمن من التلقيب، لأن الغالب أنَّ مَنْ يذكر شخصًا فيعظمه، أن لا يذكره باسمه الخاص به، فإذا كانت له كنية أَمِنَ من تلقيبه، ولهذا قال قائلهم: بادروا أبناءكم بالكنى قبل أن تغلب عليه الألقاب. وقالوا: الكنية للعرب كاللقب للعجم، ومن ثم كره للشخص أن يكني نفسه إلا إن قَصَد التعريف. الحديث الثامن والأربعون والمئة حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ سُفْيَانَ التَّمَّارِ أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّهُ رَأَى قَبْرَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- مُسَنَّمًا. أي: مرتفعًا كسَنَم البعير، زاد أبو نعيم في "المستخرج": وقبر أبي بكر وعمر كذلك، واستدل به على أن المستحب تسنيم القبور، وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد والمُزَنِيّ والكثير من الشافعية. وادعى القاضي حسين اتفاق الأصحاب عليه، وتعقب بأن جماعة من قدماء الشافعية استحبوا التسطيح، كما نص عليه الشافعي، وبه جزم الماورديّ وآخرون. وقال البيهقي: إن قول سفيان التمار لا حجة فيه، لاحتمال أن قبره -صلى الله عليه وسلم- لم يكن في الأول مسنمًا، فقد روى أبو داود والحاكم عن القاسم بن محمد بن أبي بكر قال: دخلت على عائشة فقلت: يا أمّه، اكشفي لي عن قبر النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وصاحبيه، فكشفت له عن ثلاثة قبور لا مشرفة، ولا لائطة، مبطوحة ببطحاء العَرْصَة الحمراء. زاد الحاكم "فرأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مقدمًا، وأبا بكر رأسه بين كتفي النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعمر رأسه عند رجلي النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذا كان في خلافة معاوية، فكأنها كانت في الأول مسطحة، ثم لما بني جدار القبر في إمارة عمر بن عبد العزيز على المدينة، من قبل الوليد بن عبد الملك، صَيَّروها مرتفعة.

وقد روى أبو بكر الآجُريّ في كتاب "صفة قبر النبي -صلى الله عليه وسلم-" عن إسحاق بن عيسى بن بنت داود بن أبي هند عن غُنيم بن بُسطام المَدِينيّ قال: رأيت قبر النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-، في إمارة عمر بن عبد العزيز، فرأيته مرتفعًا نحوًا من أربع أصابع، ورأيت قبر أبي بكر وراء قبره، ورأيت قبر عمر وراء قبر أبي بكر، أسفل منه. وما استدل به من رواية القاسم بن محمد عند أبي داود يرده أن رواية البخاري في صحيحه أصح وأثبت من رواية أبي داود. والاحتمال لا يرد المنصوص، وأيضًا فقد قال إبراهيم النخعيّ: أخبرني مَنْ رأى قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبيه: مُسَنَّمة ناشرة من الأرض عليها مرمر أبيض. وقال الشعبي: رأيت قبور شهداء أُحد مسنمة، وكذا فعل بقبر ابن عمر وابن عباس، رضي الله تعالى عنهم، واستدل الشافعي للتسطيح أيضًا بما رواه التِّرمِذِيّ عن أبي الهياج، قال لي عليّ: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ أن لا أدع قبرًا مشرفًا إلاَّ سوَّيته، ولا تمثالًا إلا طمسته. ويجاب عن هذا بأن الشرفة المذكورة فيه هي المبنية التي يطلب بها المباهاة، ورجح المزنيّ التسنيم من حيث المعنى، بأن المسطح يشبه ما يصنع للمجوس، بخلاف المسنمَّ ورجحّه ابن قدامة بأنه يشبه أبنية أهل الدنيا، وهو من شعار أهل البِدع، فكان مكروهًا. ويرجح التسطيح أيضًا بما رواه مسلم من حديث فَضالة بن عبيد أنه أَمر بقبر فسوِّي ثم قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمر بتسويتها. ثم إن الاختلاف في ذلك، أيهما أفضل، لا في أصل الجواز، وذكر الحافظ أبو عبد الله محمد بن محمود بن النجار في كتابه "الدرة الثمينة" أن قبر النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقبر صاحبيه في صُفَّة بيت عائشة، رضي الله تعالى عنها، قال: وفي البيت موضع قبر في السَّهْوَة المشرفة، قال سعيد بن المسيب: فيه يدفن عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام. وأخرج التِّرمِذِيّ عن عبد الله بن سَلاَم قال: مكتوب في التوراةِ صفة محمد وعيسى بن مريم عليهما الصلاة والسلام، يدفن معه. قال: أبو داود أحد رواته، وقد بقي في البيت موضع قبر، وفي رواية الطبرانيّ: يدفن عيسى مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وعمر، فيكون قبرًا رابعًا. قال ابن بطال عن المهلب: إنما كرهت عائشة أن تدفن معهم، خشية أن يظن أحد أنها أفضل الصحابة بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وصاحبيه، فقد سأل الرشيد مالكًا عن منزلة أبي بكر وعمر من النبي -صلى الله عليه وسلم- في حياته؟ فقال: كمنزلتهما منه بعد مماته، فركاهما بالقرب منه في البقعة المباركة، والتربة التي خلق منها، فاستدل على أنهما أفضل الصحابة باختصاصهما بذلك، وفي "الحلية" لأبي نعيم عن أبي هُريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما من مولود إلا وقد ذُرَّ عليه من تراب حُفرته. وقال: هذا حديث غريب. وفي الأصول للحكيم التِّرمِذِيّ عن ابن مسعود، أنَّ المَلَكَ الموكَّل بالرّحم يأخذ النطفة فيعجنها بالتراب الذي يدفن في بقعته، فذلك قوله تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} وفي "التمهيد" عن عطاء الخراساني أن المَلَكَ ينطلق، فيأخذ من تراب المكان الذي يدفن فيه، فيذره

رجاله أربعة

على النطقة، فيخلق من التراب ومن النطفة، فذلك قوله تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} إلخ. وعند الترمذيّ قال محمد بن سيرين "لو حلف صادقًا بارًّا غير شاكٌ ولا مستثنٍ، أن الله تعالى ما خلق نبيه -صلى الله عليه وسلم-، ولا أبا بكر، ولا عمر، إلا من طينة واحدة، ثم ردّهم إلى تلك الطينة"، وقد أحتج أبو بكر الأبْهريّ المالكيّ على أن المدينة أفضل من مكة بأن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- مخلوق من تربة المدينة، وهو أفضل البشر، فكانت تربته أفضل الترب. قال في "الفتح ": وكون تربته أفضل الترب، لا نزاع فيه. وإنما النزاع هل يلزم من ذلك أن تكون المدينة أفضل من مكة؟ لأن المجاور للشيء، لو ثبت له جميع مزاياه، لكان لما جاور ذلك المجاور نحوُ ذلك، فيلزم أن يكون ما جاور المدينة أفضل من مكة، وليس كذلك اتفاقًا، كذا أجاب بعض المتقدمين، وفيه نظر. قلت: بطلانه ظاهر؛ لأن الذي يقال إن التابع للفاضل، أفضل من التابع للمفضول، فهذا كانت بقعته عليه الصلاة والسلام أفضل من الكعبة، كان التابع لها أفضل من التابع للكعبة، هذا هو مراد الأبهريّ في استدلاله، لا ما قاله ذلك المجيب. رجاله أربعة: مرَّ محمد بن مقاتل في السابع من العلم، وابن المبارك في السادس من بدء الوحي، والباقي اثنان، الأول أبو بكر بن عيّاش بن سالم الأَسَديّ الكوفيّ الحنّاط المُقْرِىء، مولى واصل الأحدب، اختلف في اسمه اختلافًا كثيرًا، والأصح أن اسمه كنيته. قال الفضل بن موسى: قلت لأبي بكر بن عيّاش: ما اسمك؟ قال: ولدت وقد قسمت الأسماء. ذكره ابن المبارك وأثنى عليه. وقال صالح بن أحمد عن أبيه: صدوق صالح، صاحب قرآن وحديث. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ثقة ربما غلِط. وقيل لابن مُعين: فأبو الأحوص أحب إليك في أبي إسحاق أو أبو بكر بن عَيّاش؟ قال: ما أقربهما، قيل له: الحسن بن عياش أخو أبي بكر، كيف حديثه؟ قال: هو ثقة. قال عثمان الدارميّ: هما من أهل الصدق والأمانة، وليسا بذاك في الحديث. وذكره ابن حِبّان في "الثقات"، وقال: اختلفوا في اسمه، والصحيح أن اسمه كنيته. وكان من العُبّاد الحُفّاظ المتقنين، وكان يحيى القطّان وعليّ بن المدينيّ يسيئان الرأي فيه، وذلك أنه لما كبر ساء حفظه، فكان يوهم إذا روى، والخطأ والوهم شيئان لا ينفك عنهما البشر، فمَنْ كان لا يكثر ذلك منه، فلا يستحق أن يترك حديثه بعد تقدم عدالته. وكان شريك يقول: رأيت أبا بكر بن عياش عند أبي إسحاق يأمر وينهى كأنه رب البيت، قد صام سبعين سنة وقامها، وكان لا يعلم له بالليل نوم، والصواب في أمره مجانبة ما علم أنه أخطأ فيه، والاحتجاج بما يرويه سواء وافق الثقات أو خالفهم. وقال العجليّ: كان ثقة قديمًا، صاحب

سنة وعبادة، وكان يخطىء بعض الخطأ، تعبَّد سبعين سنة، وقال ابن سعد: عُمِّر حتى كتب عنه الأحداث، وكان من العُبّاد، وكان ثقة صدوقًا عارفًا بالحديث والعلم، إلاَّ أنه كثير الخطأ. وقال ابن عبد البر: كان الثَّوريُّ وابن المبارك وابن مهديّ يثنون عليه، وهو عندهم في أبي إسحاق مثل شريك وأبي الأحوص، إلا أنه يهم في حديثه، وفي حفظه شيء، وقال ابن المبارك: ما رأيت أحدًا أسرع إلى السنة من أبي بكر بن عيّاش. وقال الأحْمُسِيّ: ما رأيت أحدًا أحسن صلاة من أبي بكر بن عيَّاش. وقال يحيى الحَمّاني وبشر بن الوليد: سمعنا أبا بكر بن عيَّاش يقول: جئت ليلة إلى زمزم فاستقيت دلوًا لبنًا وعسلًا. وقال يعقوب بن شَيبة: شيخ قديم، معروف بالصلاح البارع، وكان له فقه كثير، وعلم بأخبار الناس، ورواية للحديث، يعرف له سنة وفضل، وفي حديثه اضطراب. وقال أبو سعيد الأشجّ: قدم جرير بن عبد الحميد فأخلى مجلس أبي بكر، فقال أبو بكر: والله لأخرجن غدًا من رجالي مَنْ يخلي مجلس جرير، لا يُبقي عنده أحدًا. قال: فأخرج أبا إسحاق وأبا حصين. وقال ولده إبراهيم: لما نزل بأبي الموت قلت: يا أبتِ ما اسمك؟ قال: يا بني، إن أباك لم يكن له اسم، وإن أباك أكبر من سُفيان بأربع سنين، وإنه لم يأتِ فاحشةً قطُّ، وإنه يختم القرآن من ثلاثين سنة كل يوم مرة، قال في المقدمة: لم يرو عنه مسلم إلا شيئًا في مقدمة صحيحه، وروى له البخاري أحاديث منها في الحج بمتابعة الثَّوريّ عن عبد العزيز عن أنس في صلاة الظهر والعصر بمنى يوم التَّروْية، ومنها في الصوم بمتابعة ابن عُيينة، وآخرين في الفطر عند غروب الشمس، ومنها في الفتن حديثه عن عمار أنه قال في عائشة: "هي زوجة نبيكم في الدنيا والآخرة"، ومنها في التفسير بمتابعة جرير وغيره عن عمر في قصة قتله، وقصة الشورى. روى عن أبيه وأبي إسحاق السَّبيعيّ وسفيان التمار وغيرهم. وروى عنه الثَّوريّ وابن المبارك وأبو داود الطيالسيّ وغيرهم. ولد سنة خمس أو عن وتسعين، ومات هو وهارون الرشيد في شهر واحد، سنة ثلاث وتسعين ومئة. الثاني: سفيان بن دينار التمار أبو سعيد الكوفي، قال ابن مُعين: سفيان بن دينار ثقة، وسفيان بن زياد العُصْفُريّ ثقة. جميعًا كوفيان، وقال أبو زرعة: سفيان بن دينار ثقة، وقال النَّسَائيّ: ليس به بأس، وذكره ابن حِبّان في الثقات، وجعله هو والعُصْفُريّ واحدًا، والتحقيق أن سفيان بن دينار التمار هذا يقال له العُصفُري أيضًا، وأن سفيان بن زياد العُصْفُريً آخر بَيَّنَه الباجيّ، روى عن أبي صالح السمَّان وسعيد بن جبير ومصعب بن سعد وغيرهم. وعنه أبو بكر بن عيّاش وابن المبارك، ويعلي بن عيد وغيرهم.

الحديث التاسع والأربعون والمئة

الحديث التاسع والأربعون والمئة حَدَّثَنَا فَرْوَةُ حَدَّثَنَا عَلِيٌّ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ لَمَّا سَقَطَ عَلَيْهِمُ الْحَائِطُ فِي زَمَانِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَخَذُوا فِي بِنَائِهِ، فَبَدَتْ لَهُمْ قَدَمٌ فَفَزِعُوا، وَظَنُّوا أَنَّهَا قَدَمُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَمَا وَجَدُوا أَحَدًا يَعْلَمُ ذَلِكَ حَتَّى قَالَ لَهُمْ عُرْوَةُ: لاَ وَاللَّهِ مَا هِيَ قَدَمُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- مَا هِيَ إِلاَّ قَدَمُ عُمَرَ رضي الله عنه. وَعَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا أَوْصَتْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما لاَ تَدْفِنِّي مَعَهُمْ وَادْفِنِّي مَعَ صَوَاحِبِي بِالْبَقِيعِ، لاَ أُزَكَّى بِهِ أَبَدًا. قوله: "لما سقط عليهم الحائط" أي: حائط حجرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفي رواية الحمويّ "عنهم"، والسبب في ذلك ما رواه أبو بكر الآجريّ عن هشام بن عروة قال: أخبرني أبي قال: كان الناس يصلون إلى القبر، فأمر به عمر بن عبد العزيز فرفع حتى لا يصلي إليه أحد، فلما هدم، بدت قدم بساق وركبة، ففزع عمر بن عبد العزيز، فأتاه عروة فقال: هذا ساق عمر وركبته، فَسُرِّيَ عن عمر بن عبد العزيز. وروى الأجريّ عن رجاء بن حَيْوة قال: كتب الوليد بن عبد الملك إلى عمر بن عبد العزيز، وكان قد اشترى. حجر أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-، أن اهدمها، ووسع بها المسجد، فقعد عمر في ناحية، فأمر بهدمها، فما رأيت باكياً أكثر مني يومئذ، ثم بناه كما أراد، فلما أن بني البيت على القبر، وهدم البيت الأول، ظهرت القبور الثلاثة، وكان الرمل الذي عليها قد إنهار، ففزع عمر بن عبد العزيز، وأراد أن يقوم فيسويه بنفسه، فقلت له: أصلحك الله، إنك إن قمت قام الناس معك، فلو أمرت رجلًا أن يصلحها، ورجوت أن يأمرني بذلك، فقال: يا مزاحم، مولى له، قم فأصلحها، قال رجاء: وكان قبر أبي بكر عند وسط النبي -صلى الله عليه وسلم- وعمر خلف أبي بكر، ورأسه عند وسطه، وهذا ظاهره يخالف حديث القاسم، فإن أمكن الجمع وإلا فحديث القاسم أصح. وأما ما أخرجه أبو يعلى من وجه آخر عن عائشة "أبو بكر عن يمينه، وعمر عن يساره"، فسنده ضعيف، ويمكن تأويله. وقوله: وعن هشام، هو بالإسناد المذكور، وقد أخرجه المصنف في الاعتصام من وجه آخر عن هشام، وأخرجه الإسماعيليّ عن عَبَدة عن هشام، وزاد فيه "وكان في بيتها موضع قبر". وقوله: "لا أزكَّى بهذا أبدًا"، بضم أوله وفتح الكاف على البناء للمجهول، أي لا يثنى عليّ بسببه، ويجعل لي بذلك مزية وفضل، وأنا في نفس الأمر، يحتمل أن لا أكون كذلك وهذا منها على سبيل التواضع وهضم النفس، بخلاف قولها لعمر "كنت أريده لنفسي" في الحديث الذي بعده، فكان اجتهادها في ذلك تغيرًا. ولما قالت ذلك لعمر، كان قبل أن يقع لها ما وقع في قصة الجمل، فاستحيت بعد ذلك أن

رجاله خمسة

تدفن هناك، وقولهاهنا "لا تدفني معهم" يشعر بأنه بقي من البيت موضع للدفن، وقولها لعمر: أريده لنفسي، يدل على أنه لم يبق ما يسع إلا موضع قبر واحد، فهما متغايران، والجمع بينهما بأنها كانت أولًا تظن أنه لا يسع إلا قبرًا واحدًا، فلما دفن عمر ظهر أن هناك ما يسع قبرًا آخر. وفي "التكملة" لابن الأبّار يسنده إلى عائشة أنها قالت للنبي -صلى الله عليه وسلم-: إني لا أراني إلا سأكون بعدك، فتأذن لي أن أدفن إلى جانبك؟ قال: وأنّى لكِ ذلك الموضع؟ ما فيه إلا قبري وقبر أبي بكر وعُمرَ وفيه عيسى بن مريم عليهما السلام. رجاله خمسة: وفيه ذكر عمر رضي الله تعالى عنه، والوليد بن عبد الملك، وقد مرَّ رجاله إلاَّ فروة، مرَّ علي بن مسهر في الرابع والمئة من استقبال القبلة، ومرَّ هشام وعروة وعائشة في الثاني من بدء الوحي. وفروة هو ابن أبي المفراء، واسمه معدي كَرِب، الكنديّ أبو القاسم الكوفي، ذكره ابن حِبّان في الثقات، ووثقه الدارقطنيّ، وقال أبو حاتم: صدوق. روى عن علي بن مسهر وأبي الأحوص وعُبيدة بن حميد وغيرهم. وروى عنه البخاري وأبو حاتم وأبو زرعة والتِّرمِذِيّ بواسطة. مات سنة خمس وعشرين ومئتين. وقد مرَّ عمر في الأول من بدء الوحي، والوليد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم ولي الأمر بعد موت عبد الملك في سنة ست وثمانين، وكان أكبر ولد عبد الملك، وكانت خلافته تسع سنين وثمانية أشهر على المشهور، وكانت وفاته يوم السبت منتصف جمادى الآخرة سنة ست وتسعين بدمشق، بدير مروان، وصلّى عليه عمر بن عبد العزيز وحمل على أعناق الرجال ودفن بمقابر باب الصغير وقيل بباب الفراييس وبعد وفاته بويع بالخلافة لأخيه سليمان بن عبد الملك، وكان بالرّملة. الحديث الخمسون والمئة حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ حَدَّثَنَا حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الأَوْدِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، اذْهَبْ إِلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رضي الله عنها فَقُلْ يَقْرَأُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَيْكِ السَّلاَمَ، ثُمَّ سَلْهَا أَنْ أُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيَّ. قَالَتْ كُنْتُ أُرِيدُهُ لِنَفْسِي، فَلأُوثِرَنَّهُ الْيَوْمَ عَلَى نَفْسِي. فَلَمَّا أَقْبَلَ قَالَ لَهُ: مَا لَدَيْكَ قَالَ: أَذِنَتْ لَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: مَا كَانَ شَيْءٌ أَهَمَّ إِلَيَّ مِنْ ذَلِكَ الْمَضْجَعِ، فَإِذَا قُبِضْتُ فَاحْمِلُونِي ثُمَّ سَلِّمُوا ثُمَّ قُلْ يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ. فَإِنْ أَذِنَتْ لِي فَادْفِنُونِي، وَإِلاَّ فَرُدُّونِي إِلَى مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، إِنِّي لاَ أَعْلَمُ أَحَدًا أَحَقَّ بِهَذَا الأَمْرِ مِنْ هَؤُلاَءِ النَّفَرِ الَّذِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ، فَمَنِ اسْتَخْلَفُوا بَعْدِي فَهُوَ الْخَلِيفَةُ

فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا. فَسَمَّى عُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَسَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ، وَوَلَجَ عَلَيْهِ شَابٌّ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِبُشْرَى اللَّهِ، كَانَ لَكَ مِنَ الْقَدَمِ فِي الإِسْلاَمِ مَا قَدْ عَلِمْتَ، ثُمَّ اسْتُخْلِفْتَ فَعَدَلْتَ، ثُمَّ الشَّهَادَةُ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ. فَقَالَ: لَيْتَنِي يَا ابْنَ أَخِي وَذَلِكَ كَفَافًا لاَ عَلَيَّ وَلاَ لِي أُوصِى الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِي بِالْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ خَيْرًا، أَنْ يَعْرِفَ لَهُمْ حَقَّهُمْ، وَأَنْ يَحْفَظَ لَهُمْ حُرْمَتَهُمْ، وَأُوصِيهِ بِالأَنْصَارِ خَيْرًا الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ أَنْ يُقْبَلَ مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَيُعْفَو عَنْ مُسِيئِهِمْ، وَأُوصِيهِ بِذِمَّةِ اللَّهِ وَذِمَّةِ رَسُولِهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُوفَى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَأَنْ يُقَاتَلَ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَأَنْ لاَ يُكَلَّفُوا فَوْقَ طَاقَتِهِمْ. هذا طرف من حديث طويل يأتي في مناقب عثمان، وأوله في سياق مقتل عمر، وآخره في قصة بيعة عثمان، وقوله: "يقرأ عمر بن الخطاب عليك السلام"، في رواية المناقب زيادة: "ولا تقل أمير المؤمنين، فإني لست اليوم للمؤمنين أميرًا" قال ابن التين: إنما قال ذلك عندما أيقن بالموت، إشارة بذلك إلى عائشة، حتى لا تحابيه لكونه أمير المؤمنين. وقوله: "لأوثرنَّه اليومَ على نفسي"، قال ابن بطال: إنما استأذنها عمر لأن الموضع كان بيتها، وكان لها فيه حق، وكان لها أن تؤثر به نفسها، فآثرت به عمر. واستدل بعضهم باستئذان عمر لها على أنها كانت تملك البيت. وفيه نظر، بل الواقع أنها كانت تملك منفعته بالسكنى فيه والإسكان، ولا يورث عنها، وحكم أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- كالمعتدات لأنهن لا يتزوجن بعده، وقد مرَّ في الحديث الذي قبله وجه الجمع بين قول عائشة: "لأوثرنَّه علي نفسي"، وبين قولها لابن الزبير: "لا تدفني عندهم". ويحتمل أن يكون مرادها بقولها: "لأوثرنَّه على نفسي" الإشارة إلى أنها لو أذنت في ذلك لامتنع عليها الدفن هناك، لمكان عمر، لكونه أجنبيًا منها، بخلاف أبيها وزوجها, ولا يستلزم ذلك أن لا يكون في المكان سعة أم لا, ولهذا كانت تقول بعد أن دفن عمر: "لم أضع ثيابي عني منذ دفن عمر في بيتي" أخرجه ابن سعد وغيره. وقوله: "ما كان شيء أهم عليّ من ذلك المضجع، فإذا قبضت فاحملوني ثم سلِّموا، ثم قل: يستأذن عمر بن الخطاب"، ذكر ابن سعد عن مالك أن عمر كان يخشى أن تكون أذنت في حياته حياء منه، وأن ترجع عن ذلك بعد موته، فأراد أن لا يكرهها على ذلك. وقوله: "وولج عليه شاب من الأنصار فقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله". وفي رواية المناقب: "وجاء الناس يثنون عليه، وجاء رجل شاب .. إلخ". وفي رواية الكشميهنيّ: "فجعلوا يثنون عليه" وفي حديث جابر عند ابن سعد من تسمية مَنْ أثنى عليه عبد الرحمن بن عوف، وأنه أجابه بما أجاب به غيره، وروى عمر بن شَيَّة أن المغيرة أثنى عليه، وقال له: هنيئًا لك الجنة، وأجابه بنحو ذلك. وروى ابن أبي شَيبة عن المُسَوّر بن مَخْرَمة أنه ممن دخل

على عمر حين طُعِن، وعند ابن سعد عن جُوَيْرية بن قُدَامة "فدخل عليه الصحابة، ثم أهل المدينة، ثم أهل الشام ثم أهل العراق، فكلما دخل عليه قومٌ بكوا، وأثنوا عليه". وفي رواية أبي إسحاق عند ابن سعد: "فأتاه كعب الأحبار فقال: ألم أقل لك إنك لا تموت إلا شهيدًا وإنك تقول: من أين وإنّي في جزيرة العرب؟ وقوله: "جاء رجل شاب"، وفي رواية سِماك الحنفيّ عن ابن عباس عند ابن سعد أنه أثنى على عمر فقال له نحوًا مما قال هنا للشاب، فلو لم يكن في رواية الباب من الأنصار لساغ أن يفسر المبهم بابن عباس، لكن لا مانع من تعدد المُثْنين مع اتحاد جوابه، كما تقدم. ويؤيده أنّ في قصة هذا الشاب أنه لما ذهب رأى عمر إزاره يصل إلى الأرض، فأنكر عليه، ولم يقع ذلك في قصة ابن عباس. وقوله: "كان من القِدَم في الِإسلام ما قد علمت، ثم استخلفت فعدلت، ثم الشهادة بعد هذا كله"، والقِدِم بفتح القاف وكسرها، فالأول بمعنى الفضل والثاني بمعنى السبق، وقوله: "ليتني يا ابن أخي، وذلك كِفَافًا، لا عليّ، ولا لي"، تفسير للكَفاف، بفتح الكاف أي: سواء بسواء. وفي رواية المناقب زيادة "فلما أدبر إذا إزاره يَمَسّ الأرض قال: ردوا عليّ الغلام، قال: يا ابن أخي، ارفع ثوبك، فإنه أنقى لثوبك، وأتقى لربك" وفي إنكاره على الغلام ما كان عليه من الصلابة في الدين، وأنه لم يشغله ما هو فيه من الموت عن الأمر بالمعروف. وفي رواية المبارك بن فضالة قال ابن عباس: وإن قلت ذلك فجزاك الله خيرًا أليس قد دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يعز بكَ الدين؟ والمسلمين إذ يخافون بمكة، فلما أسلمت كان إسلامك عزًا، وظهر بك الإِسلام، وهَاجرت فكانت هجرتك فتحًا، ثم لم تغلب عن مشهد شهده رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، من قتال المشركين ثم قُبِض وهو عنك راضٍ، ووازرت الخليفة بعده على منهاج النبي -صلى الله عليه وسلم-، فضربت من أدبر بمن أقبل، ثم قبض الخليفة وهو عنك راض، ثم وُلِّيتَ بخير ما ولي الناس، مَصَرَّ الله بك الأمصار، وجبا بك الأموال، ونقى بك العدو، وأدخل بك على أهل كل بيت ما يوسعهم في دينهم وأرزاقهم، ثم ختم لك بالشهادة، فهنيئًا لك. فقال: إن المغرور والله من تغرونه، ثم قال: أتشهد لي يا عبد الله عند الله يوم القيامة؟ فقال: نعم فقال: اللهم لك الحمد. وفي رواية مبارك بن فَضالة أيضًا قال الحسن البصري؛ وذكر له فعل عمر عند موته، وخشيته من ربه، فقال: هكذا المؤمن، جمع إحسانًا وشفقة، والمنافق جمع إساءة وعزة، والله ما وجدت إنسانًا ازداد إحسانًا إلا ازداد مخافة وشفقة، ولا ازداد إساءة إلا ازداد عزة. وقوله: "لا أعلم أحدًا أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر الذين توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو عنهم راضٍ"، وفي رواية "المناقب" فقالوا: أوصي يا أمير المؤمنين، استخلف وسيأتي في الأحكام ما يدل على أن الذي قال له ذلك هو عبد الله بن عمر. وروى عمر بن مَشيّة بإسناد فيه انقطاع أن أسْلَمَ مولى عمر، قال لعمر حين وقف لم يُوَلِّ أحدًا

بعده: يا أمير المؤمنين ما يمنعك أن تصنع كما صنع أبو بكر؟ ويحتمل أن يكون ذلك قبل أن يطعنه أبو لؤلؤة. فقد روى مسلم عن مَعدان بن أبي طلحة أن عمر قال في خطبته قبل أن يُطعن: إن أقوامًا يأمرونني أن أَستخلف. وقوله: "فسمَّى عثمان وعليًا ... إلخ"، وعند ابن سعد من رواية ابن عمر أنه ذكر عبد الرحمن بن عوف وعثمان وعليًا، وفيه قلت لسالم: أبدأ بعبد الرحمن بن عوف قبلهما، قال: نعم، فدل هذا على أن الرواة تصرفوا؛ لأن الواو لا ترتب، واقتصار عمر على الستة من العشرة لا إشكال فيه؛ لأنه منهم، وكذلك أبو بكر، ومنهم أبو عبيدة وقد مات قبل ذلك، وأما سعيد بن زيد فهو ابن عم عمر، فلم يسمه عمر فيهم مبالغة في التبري من الأمر، وقد صرح في رواية المدائنيّ بأسانيده أنَّ عمر عد سعيد بن زيد فيمن توفي النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو عنهم راضٍ، إلا أنه استثناه من أهل الشورى لقرابته منه، وقد صرّح بذلك المدائنيّ بأسانيده قال: فقال عمر: لا أرب لي في أموركم فارغب فيها لأحدٍ من أهلي. وفي رواية "المناقب" زيادة "يُشَهدُكم عبد الله بن عمر، وليس له من الأمر شيء، كهيئة التعزية له" في رواية الطبري عن المدائنيّ بأسانيده قال: فقال له رجل: استخلف عبد الله بن عمر، قال: والله ما أردتَ الله بهذا، وأخرج ابن سعد بسند صحيح من مرسل إبراهيم النخعي نحوه، قال: فقال عمر: قاتلك الله، والله ما أردت الله بهذا، أأستخلف مَنْ لم يحسن أن يطلق امرأته؟ وقوله: "كهيئة التعزية له"، أي: لابن عمر؛ لأنه لما أخرجه من أهل الشورى في الخلافة، أراد جبر خاطره بأن جعله من أهل المُشاورة في ذلك، وزعم الكرمانيّ أن قوله: "كهيئة التعزية له" من كلام الراوي، ولم أعرف من أين تهيأ له الجزم بذلك مع الاحتمال، وذكر المدائنيّ أن عمر قال لهم: إذا اجتمع ثلاثة على رأي، وثلاثة على رأي، فحكموا عبد الله بن عمر، فإن لم ترضوا بحكمه، فقدموا مَنْ معه عبد الرحمن بن عوف. وفي رواية "المناقب" زيادة "فإن أصابت الإمرة سعدًا فهو ذلك، وإلا فليستعن به أيكم ما أمر، فإني لم أعزله من عجز ولا خيانة" والإِمِرة بكسر الميم، وللكشميهنيّ "الإِمارة"، وزاد المدائنيّ "وما أظن أن يلي هذا الأمر إلا عثمان أو علي، فإن ولي عثمان فرجل فيه لين، وإن ولي عليّ فستختلف عليه الناس، وإن ولي سعد، وإلا فليستعن به الوالي، ثم قال لأبي طلحة: إن الله نصر بكم الإِسلام، فاختر خمسين رجلًا من الأنصار، واستحث هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلًا منهم". وقوله: "وأوصى الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين" في رواية أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون "فقال ادعو لي عليًا وعثمان وعبد الرحمن وسعدًا والزبير" وكان طلحة غائبًا، قال: فلم يكلم أحدًا منهم غير عثمان وعلي، فقال: يا عليّ لعل هؤلاء القوم يعلمون لك حقك، وقرابتك من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصهرك، وما آتاك الله من الفقه والعلم، فإنْ وُلِّيت هذا الأمر فاتق الله فيه، ثم دعا عثمان فقال: يا عثمان، فذكر له نحو ذلك".

وفي رواية إسرائيل عن أبي إسحاق في قصة عثمان: فإن وَلَّوْك هذا الأمر فاتق الله فيه، ولا تحملن بني أبي مُعَيط على رقاب الناس. ثم قال: ادعوا لي صُهيبًا، فدعى له ثم قال: صل بالناس ثلاثًا، وليحل هؤلاء القوم في بيت، فإذا اجتمعوا على رجل، فمن خالف فاضربوا عنقه. فلما خرجوا من عنده قال: إنْ تولوها الأَجلح يأخذ بهم الطريق، فقال له ابنه: ما يمنعك يا أمير المؤمنين؟ قال: أكره أن أتحملها حيًا وميتًا. وقد اشتمل هذا الفصل على فوائد عديدة، وله شاهد من حديث ابن عمر، أخرجه ابن سعد بإسناد صحيح، قال: دخل الرهط على عمر، فنظر إليهم فقال: إني قد نظرت في أمر الناس، فلم أجد عند الناس شقاقًا، فإن كان فهو فيكم، وإنما الأمر إليكم، وكان طلحة يومئذ غائبًا في أمواله، قلت: يأتي في المتن ما يدل على حضوره، قال: فإن كان قومكم لا يؤمرون إلا لأحد الثلاثة عبد الرحمن بن عوف وعثمان وعليّ، فمن ولي منكم فلا يحمل قرابته على رقاب الناس، قوموا فتشاوروا، ثم قال عمر: أمهلوا فإنْ حدث لي حدث، فليصل لكم صهيب ثلاثًا، فمن تَأمَّر منكم على غير مشورة من المسلمين فاضربوا عنقه. والمهاجرون الأولون هم مَنْ صلّى إلى القبلتين، وقيل مَنْ شهد بيعة الرضوان. وقوله: "الذين تبوؤا الدار"، أي: سكنوا المدينة قبل الهجرة، وقوله: "والإيمان" ادّعى بعضهم أنه من أسماء المدينة، وهو بعيد، والراجح أنه ممن تبوؤا معنى لزم، وعامل نصبه محذوف تقديره واعتقدوا، أو أن الإِيمان لشدة ثبوته في قلوبهم كأنه أحاط بهم، وكأنهم نزلوه، والله تعالى أعلم. وقوله: "وأوصيه بذمة الله وذمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يوفي لهم بعدهم، وأن يقاتل من ورائهم، ولا يكلَّفوا إلا طاقتهم"، والمراد بذمة الله أهل الذمة، والمراد بالقتال من ورائهم أي: إذا قصدهم عدولهم، والوراء الخلف، ويطلق على المقدام، فهو من الأضداد. وفي رواية "المناقب": "ووأصيه بأهل الأمصار خيرًا فإنهم رِدء الإِسلام، وجُباة المال، وغَيْظ العدو، وأنْ لا يؤخذ منهم إلا فَضْلُهم عن رضاهم". وقوله: "ردء الإِسلام"، أي: عون الإِسلام الذي يدفع عنه، وغيظ العدو، أي: يغيظون العدو بكثرتهم وقوتهم. وقوله: "إلا فَضْلهم"، أي: إلاَّ ما فضل عنهم، وفيها: وأوصيه بالأعراب خيرًا، فإنهم أصل العرب ومادة الإِسلام، أنْ يوخذ من حواشي أموالهم، وترد على فقرائهم، وحواشي أموالهم التي ليست بخيار. وقد استوفى عمر في وصيته جميع الطرائق؛ لأن الناس إما مسلم أو كافر، والكافر إما حربيّ ولا يوصى به، أو ذميٌّ وقد ذكره. والمسلم إما مُهاجريّ أو أنصاريّ أو غيرهما، وكلهم إما حضريّ أو بدوي، وقد بيّن الجميع. وفي رواية المدائنيّ من الزيادة "وأحسنوا مؤازرة مَنْ يلي أمركم، وأعينوه، وأدوا إليه الأمانة" وفي رواية "المناقب" من الزيادة: "فلما فرغ من دفنه، اجتمع هؤلاء

الرهط، فقال عبد الرحمن اجعلوا أمركم إلى ثلاثة، فجعل الزبير أمره إلى عليّ، وطلحة أمره إلى عثمان، وسعد أمره إلى عبد الرحمن". وقوله: "اجعلوا أمركم إلى ثلاثة"، أي: في الاختيار، ليقل الاختلاف. وقول طلحة: جعلت أمري إلى عثمان فيه دلالة على أنه حضر، وقد تقدم أنه كان غائبًا عند وصية عمر، ويحتمل أنه حضر بعد أن مات، وقبل أن يتم أمر الشورى، وهذا أصح مما رواه المدائنيّ أنه لم يحضر حتى بويع عثمان. ويدل على هذا أن غيبته كانت في أمواله كما مرّ، فهي غيبة قريبة. وقوله: "فقال عبد الرحمن: أيكم تَبَرَّأ من هذا الأمر فنجعله إليه والله عليه، وكذا الإِسلام؟ لينظرن أفضلهم في نفسه، فأُسْكِت الشيخان، فقال عبد الرحمن: أفتجعلونه إليّ، والله على أن لا آلو عن أفضلكم؟ قالا: نعم". وقوله: "والله عليه"، الخبر محذوف أي: عليه رقيب، وقوله: "فأُسْكِت"، بضم الهمزة وكسر الكاف، أي: كأنَّ مسكتاً أسكتهما، ويجوز فتح الهمزة والكاف، وهو بمعنى سكت، والمراد بالشيخين علي وعثمان. وقوله: "فأخذ بيد أحدهما هو عليّ"، وبقية الكلام تدل عليه، ووقع مصرحًا به في رواية ابن فضيل عن حصين، وقوله: "فقال: لك قرابة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، والقِدَم في الإِسلام ما قد علمت، والقِدَم بكسر القاف وفتحها، زاد المدائنيّ أنه قال: أريت لو صرف هذا الأمر عنك فلم تحضر، مَنْ كنت ترى أحق بها من هؤلاء الرهط؟ قال: عثمان. وقوله: "خلا بالآخر، فقال له مثل ذلك"، زاد المدائنيّ أنه قال له: "مثل ما قال لعلي" وزاد فيه أن سعدًا أشار عليه بعثمان، وأنه دار تلك الليالي كلها على الصحابة، ومَنْ وافى المدينة من أشراف الناس، لا يخلو برجل منهم، إلا أمره بعثمان. وقد أورد المصنف قصة الثورى في كتاب الأحكام عن المُسَوّر بن مَخْرمة نحو هذا، وأتم مما هنا. وفي قصة عمر هذه من الفوائد شفقته على المسلمين، ونصيحته لهم، وإقامته السنة فيهم، وشدة خوفه من ربه، واهتمامه بأمر الدين أكثر من اهتمامه بأمر نفسه، وأن النهي عن المدح في الوجه مخصوص بما إذا كان غلوًا مفرطًا أو كذبًا ظاهرًا، ومن ثم لم ينه عمر الشاب عن مدحه له مع أنه أمره بتشمير إزاره، والوصية بأداء الدين، والاعتناء بالدفن في جوار الصالحين، طمعًا في إصابة الرحمة إذا نزلت عليهم، وفي دعاء مَنْ يزورهم من أهل الخير، وفيه أن مَنْ بَعث رسولًا في حاجة مهمة أن له أن يسأل الرسول قبل وصوله إليه، ولا يعد ذلك من قلة الصبر، بل من الحرص على الخير. وفيه أن مَنْ وعد بعدة له الرجوع فيها, ولا يقضى عليه بالوفاء؛ لأن عمر لو علم لزوم ذلك لها لم يستأذن ثانيًا، وأجاب مَنْ قال بلزوم العدة، يحمل ذلك من عمر على الاحتياط، والمبالغة في الورع، ليتحقق طيب نفس عائشة بما أذنت فيه أولًا، ليضاجع أكمل الخلق -صلى الله عليه وسلم- على أكمل

رجاله خمسة

الوجوه. وفيه المشورة في نصب الإمام وتقديم الأفضل، وأن الإمامة تنعقد بالبيعة، وغير ذلك مما هو ظاهر بالتأمل. وقال ابن بطال: فيه دليل على جواز تولية المفضول على الأفضل منه؛ لأن ذلك لو لم يجز لم يجعل الأمر شورى إلى ستة أنفس، مع علمه بأن بعضهم أفضل من بعض. قال: ويدل على ذلك قول أبي بكر: قد رضيت لكم أحد الرجلين: عمر وأبي عُبيدة، مع علمه بأنه أفضل منهما. قلت: الدليل الأول فيه أن عمر، وإن كان يعلم أن بعضهم أفضل من بعض، لا يعلم الأفضل بعينه. وعن الثاني بأن أبا بكر لفضله، يعتقد الفضل لغيره، ولا يعتقد لنفسه فضلًا، وقد استشكل جعل عمر الخلافة في ستة، ووكل ذلك إلى اجتهادهم، ولم يصنع ما صنع أبو بكر في اجتهاده فيه؛ لأنه إن كان لا يرى جواز ولاية المفضول على الفاضل، فصنيعه يدل على أن من عدا الستة كان عنده مفضولًا بالنسبة إليهم. وإذا عرف ذلك لم يخف عليه أفضلية بعض الستة على بعض، وإن كان يرى جواز ولاية المفضول على الفاضل، فمن ولّاه منهم أو من غيرهم كان ممكنًا. والجواب عن الأول، ويدخل فيه الجواب عن الثاني هو أنه تعارض عنده صنيع النبي -صلى الله عليه وسلم-، حيث لم يصرح باستخلاف شخص بعينه، وصنيع أبي بكر حيث صرّح، فتلك طريق تجمع التنصيص وعدم التعيين، وإن شئت قلت تجمع الاستخلاف وترك تعيين الخليفة. وقد أشار إلى ذلك بقوله: "لا أتقلدها حيًا وميتًا" لأن الذي يقع ممن يستخلف بهذه الكيفية إنما ينسب إليه بطريق الإجمال، لا بطريق التفصيل، فعينهم ومكنهم من المشاورة في ذلك والمناظرة، لتقع ولاية مَنْ يتولى بعده باتفاق من معظم الموجودين حينئذ ببلده، الذي هو دار الهجرة، وبها معظم الصحابة، وكل مَنْ كان ساكنًا غيرهم في بلد غيرها، كان تبعًا لهم فيما يتفقون عليه. قلت: الأوْلى عندي أن عمر علم فضل هؤلاء الستة على غيرهم، بكونه عليه الصلاة والسلام مات وهو عنهم راض بالنص على ذلك، ولم يعلم أيهم أفضل، فجعل الخلافة شورى بينهم، وترك النبي -صلى الله عليه وسلم- الخلافة اتكالًا منه على ما صرّح به من قوله -صلى الله عليه وسلم-، كما في الصحيح: "ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر". وقد استوفينا أبحاث ما أشار إليه البخاري من هذا الحديث هنا، وبقي الكلام على موت عمر رضي الله تعالى عنه، وكيفيته وإيصائه على قضاء دينه. رجاله خمسة: وفيه ذكر عمر وأم المؤمنين عائشة وعثمان وعليًا وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص، وفيه لفظ شاب مبهم، وقد مرَّ الجميع، مرَّ قتيبة في الحادي والعشرين من الإيمان, ومرّ جرير بن عبد الحميد في الثاني عشر من العلم، ومرَّ حصين بن عبد الرحمن في الثالث والسبعين

من مواقيت الصلاة، ومرَّ عمرو بن ميمون في الخاص والمئة من الوضوء، ومرَّ عمر رضي الله عنه في الأول من بدء الوحي، ومرَّ ابن عمر في أول الإيمان قبل ذكر حديث منه، ومرَّ سعد بن أبي وقاص في العشرين منه، ومرَّ طلحة بن عُبيد الله في التاسع والثلاثين منه، ومرَّ عثمان في أثر بعد الخامس من العلم، ومرَّ علي بن أبي طالب في السابع والأربعين منه، والزبير في الثامن والأربعين منه، ومرَّ عبد الرحمن بن عوف في السابع والخمسين من الجمعة. والشاب لم يسم ثم قال المصنف:

باب ما ينهى من سب الأموات

باب ما ينهى من سب الأموات أي: هذا باب في بيان ما ينهى من سب الأموات، وكلمة "ما" مصدرية، أي: باب النهي عن سب الأموات، أي: شتمهم من السَّب، بالفتح، وهو القطع أو من السُّبة، بالضم، وهي حلقة الدّبر، كأنه على الأول قطع المسبوب عن الخير والفضل، وعلى الثاني كشف العورة وما ينبغي أن يستر. الحديث الحادي والخمسون والمئة حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ تَسُبُّوا الأَمْوَاتَ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا". قال الزين بن المنير: لفظ الترجمة يشعر بانقسام السب إلى منهي وغير منهي، ولفظ الخبر مضمونه النهي عن السب مطلقًا، والجواب أن عمومه مخصوص بحديث أنس السابق حيث قال -صلى الله عليه وسلم-، عند ثنائهم بالخير وبالشر: "وجبت وأنتم شهداء الله في الأرض" ولم ينكر عليهم، ويحتمل أن اللام في الأموات عهدية، والمراد بهم المسلمون؛ لأن الكفار مما يتقرب إلى الله بسبهم. وقال القرطبي في الكلام على حديث "وجبت" يحتمل أجوبةً: الأول أن الذي كان يحدث عنه بالشر كان مستظهرًا به، فيكون من باب لا غيبة في فاسق، أو كان منافقًا. ثانيها: يحمل النهي على ما بعد الدفن، والجواز على ما قبله، ليتعظ به مَنْ يسمعه. ثالثها: يكون النهي العام متأخرًا، فيكون ناسخًا، وهذا ضعيف. وقال ابن رشيد ما محصله: إن السب ينقسم في حق الكافر وحق المسلم، أما الكافر فيمنع إذا تأذى به الحي المسلم، فعند أحصد والنَّسائيّ عن ابن عباس أن رجلًا من الأنصار وقع في أبي العباس كان في الجاهلية، فلطمه العباس، فجاء قومه وقالوا: والله لنلطمنه كما لطمه، فلبسوا السلاح، فبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فصعد المنبر فقال: "أيها الناس، أيُّ أهل الأرض أكرمُ عند الله؟ " قالوا: أنت، قال: "فإن العباس مني وأنا منه، فلا تسبوا أمواتنا فتؤذوا أحياءنا"، فجاء القوم فقالوا: يا رسول الله، نعوذ بالله من غضبك. وفي كتاب الصمت لأبي الدنيا في حديث مرسل صحيح الإِسناد عن محمد بن علي الباقر قال: نهى النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أن تسب قتلى بدر من المشركين، وقال: لا تسبوا هؤلاء، فإنهم لا يخلص إليهم شيء مما تقولون، وتؤذون الأحياء إلا أن البذاء لؤم، وأما المسلم فحيث تدعو الضرورة إلى

رجاله خمسة

ذلك، كان يكون من قبيل الشهادة، وقد يجب في بعض المواضع، وقد تكون فيه مصلحة للميت، كمن علم أنه أخذ ماله بشهادة زور، ومات الشاهد، فإن ذكر ذلك ينفع الميت، إن علم أن ذلك المال يرد إلى أهله. قال: ولأجل الغفلة عن هذا التفصيل، ظن بعضهم أن البخاري سها عن حديث الثناء بالخير والشر، وإنما قصد البخاريّ أن يبين أن ذلك الجائز كان على معنى الشهادة، وهذا الممنوع هو على وجه السب، ولما كان المتن قد يشعر بالعموم، أتْبعه بالترجمة التي بعده، وتأول بعضهم الترجمة الأولى على المسلمين خاصة، والوجه حَمْلُه على العموم إلا ما خصصه الدليل، بل لقائل أن يمنع أنّ ما كان على جهة الشهادة، وقصد التحذير، يسمى سبًا في اللغة. وقال ابن بطال: سب الأموات يجري مجرى الغيبة، فإن كان أغلب أحوال المرء الخير، وقد تكون منه الفلتة، فالاغتياب له ممنوع، وإن كان فاسقًا معلنًا فلا غيبة له. فكذلك الميت، ويحتمل أن يكون النهي على عمومه فيما بعد الدفن، والمباح ذكر الرجل بما فيه قبل الدفن، ليتعظ بذلك قُسّاق الأحياء، فإذا صار إلى قبره أمسك عنه، لإفضائه إلى ما قدم. وقد عملت عائشة راوية الحديث بذلك فيمن استحق عندها اللعن، فكانت تلعنه وهو حي، فلما مات تركت ذلك، ونهت عنه، فقد أخرج عمر بن شَيّة في أخبار البصرة عن مجاهد أن عائشة قال: ما فعل يزيد الأرجي: لعنه الله؟ قالوا: مات، قالت: استغفر الله. قالوا: ما هذا؟ فذكرت الحديث. وأخرج عن مسروق أن عليًا بعث يزيد بن قيس الأرجي في أيام الجمل برسالة، فلم ترد عليه جوابًا، فبلغها أنه عاب عليها ذلك، فكانت تلعنه، ثم لما بلغها موته نهت عن لعنه. وقالت: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهانا عن سب الأموات. وقوله: "أَفْضُوا إلى ما قدموا"، أي: وصلوا إلى ما عملوا من خير أو شر، واستدل به على منع سب الأموات مطلقًا، وقد مرَّ أن عمومه مخصوص. وأصح ما قيل في ذلك أن أموات الكفار والفُسّاق يجوز ذكر مساوئهم، للتحذير منهم والتنفير عنهم، وقد أجمع العلماء على جواز جرح المجروحين من الرواة. رجاله خمسة: قد مرَّوا، مرَّ آدم وشعبة في الثالث من الإيمان، ومرَّ الأعمش في الخامس والعشرين منه، ومرَّ مجاهد في أثر أوله قبل ذكر حديث منه، ومرت عائشة في الثاني من بدء الوحي. ثم قال: رواه عبد الله بن عبد القدوس ومحمد بن أنس عن الأعمش، أي: متابعين لشعبة، ورواية عبد الله بن عبد القدوس ومحمد بن أنس لم أرها موصولة، ولكن أخرجه عمر بن شَيَّة في كتاب أخبار البصرة عن مجاهد.

رجاله ثلاثة: مرَّ محل الأعمش في الذي قبله، والباقي اثنان: الأول: عبد الله بن عبد القدوس التميميّ السعديّ، أبو محمد، ويقال أبو سعيد، ويقال أبو صالح، قال محمد بن عيسى: هو ثقة، وقال البخاريّ: هو في الأصل صَدُوق إلا أنه يروي عن أقوام ضعاف. وقال ابن مُعين: ليس بشيء، رافضي خبيث. وقال محمد بن مِهران الحمّال: لم يكن بشيء، كان يسخر منه، يشبه المجنون، يصيح الصبيان في أثره. وقال أبو داود: ضعيف الحديث، كان يرمى بالرفض، وقال النَّسَائِيُّ: ضعيف، وقال مرة: ليس بثقة، وقال ابن عديّ: عامة ما يرويه في فضائل أهل البيت، وذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال: ربما أغرب. روى عن الأعمش وعبد الملك بن عُمير ولَيث بن أبي سُلَيم وغيرهم. وروى عنه عبّاد بن يعقوب، ومحمد بن حُميد الرازيّ، ومحمد بن عيسى بن الطبّاع وغيرهم وليس له في صحيح البخاري ذكر إلا في هذا الموضع، وروى عنه أبو داود حديثًا واحدًا في الفتن. الثاني: محمد بن أنس القرشي أبو أنس العدويّ، مولى عمر بن الخطاب، كوفيّ سكن الدِّيْنَوَر. قال أبو حاتم: سمع منه إبراهيم بن موسى فقط، وهو صحيح الحديث، وقال أبو زرعة: ثقة، كان إبراهيم بن موسى يثني عليه، وذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال: يغرب، وذكر العقيلي في الضعفاء محمد بن أنس بن عبد الحميد بن أخي جرير، وقال: كوفيّ سكن الرَّيَّ، يحدث عن الأعمش بأحاديث لم يتابَع عليها، ثم أخرج من طريق إبراهيم بن موسى عنه عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، رفعه، "رأيت في يدي سُوَارين، فنفختهما ... " الحديث، فلعلهما اثنان روى عنهما إبراهيم بن موسى؛ لأن جريرًا ضَبِّيٌّ، وما هو من موالي آل عمر، أو كان أنس بن أخي جرير من غير أبيه. روى عن الأعمش وسهيل بن أبي صالح وحُصَين بن عبد الرحمن وغيرهم. وروى عنه إبراهيم بن موسى الرازيّ وعلي بن بَحر بن بَرِيّ. ثم قال: تابعه عَلِيُّ بن الجَعْد وابن عُرْعُرة وابن أبي عَدِيّ عن شُعبة. أما متابعة علي بن الجعد، فقد وصلها المصنف في الرقاق، ومتابعة محمد بن عرعرة قال في الفتح: لم يرها موصولة من طريقة، ومتابعة ابن أبي عَدِيّ وصلها الإسماعيليّ، ووصلها أيضًا من طريق عبد الرحمن بن مهديّ عن شُعبة، وهي عند أحمد أيضًا عنه. ورجال المتابعة أربعة، مرَّ عليّ بن الجَعْد في السادس والأربعين من الإيمان، ومرَّ محمد بن عُرْعُرة في الحادي والأربعين منه، ومرَّ شعبة في الثالث منه، ومرَّ محمد بن أبي عديّ في العشرين من الغُسل. ثم قال المصنف:

باب ذكر شرار الموتى

باب ذكر شرار الموتى تقدم في الباب الذي قبله من شرح ذلك ما فيه كفاية. الحديث الثاني والخمسون والمئة حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ أَبُو لَهَبٍ عَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ لِلنَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم-: تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ. فَنَزَلَتْ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}. هذا الحديث أورده هنا مختصرًا جدًا، وسيأتي مطولًا في تفسير الشعراء، ويأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى هناك، وقوله: "فنزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} " وفي رواية أبي أسامة {تبت يدا أبي لهب وقد تب} وزاد: هكذا قرأها الأعمش يومئذ، وليست هذه القراءة فيما نقل القراء عن الأعمش، والأظهر أنه قرأها حاكيًا لا قارئًا، ويؤيده قوله في هذا السياق "يومئذ"، فإنه يشعر بأنه كان لا يستمر على قراءتها كذلك، والمحفوظ أنها قراءة ابن مسعود وحده. رجاله ستة: قد مرّوا، مرَّ عمر بن حفص وأبو حفص في الثاني عشر من الغسل، والأعمش في الخامس والعشرين من الإيمان، وعمرو بن مرة في السبعين من الجماعة والإمامة، ومرَّ سعيد بن جبير وابن عباس في الخامس من بدء الوحي. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإفراد والعنعنة، أخرجه البخاريّ في سورة الشعراء في التفسير مطولًا، والترمذيّ في التفسير والنَّسائيّ فيه وفي اليوم والليلة.

خاتمة

خاتمة اشتمل كتاب الجنائز من الأحاديث المرفوعة على مئتي حديث وعشرة أحاديث، المعلق من ذلك والمتابعة ستة وخمسون حديثًا، والبقية موصولة المكرر من ذلك فيه وفيما مضى مئة حديث وتسعة أحاديث. والخالص مئة حديث وحديث، وافقه مسلم على تخريجها سوى أربعة وعشرين حديثًا، وهي حديث عائشة "أقبل أبو بكر على فَرسه"، وحديث أم العلاء في قصة عثمان بن مظعون، وحديث أنس "أخذ الراية زيد فاصيب"، وحديثه: "ما من الناس من مسلم يتوفى له ثلاثة"، وحديث عبد الرحمن بن عوف "قتل مصعب بن عميرا وحديث سهل بن سعد "أن امرأة جاءت ببردة منسوجة"، وحديث أنس "شهدتا بنتًا للنبي -صلى الله عليه وسلم-"، وحديث أبي سعيد "إذا وضعت الجنازة واحتملها الرجال"، وحديث ابن عباس في القراءة على الجنائز بفاتحة الكتاب، وحديث جابر في قصة قتلى أُحد "زملوهم بدمائهم"، وحديثه في قصة استشهاد أبيه ودفنه، وحديث صفية بنت شَيبة في تحريم مكة، وحديث أنس في قصة الغلام اليهودي، وحديث ابن عباس "كنت أنا وأُمي من المستضعفين" وقد وهم المزي تبعًا لأبي مسعود في جعله في المتفق، وقد تعقبه الحميدي على أبي مسعود فأجاد، وحديث أبي هريرة "الذي يخنق نفسه"، وحديث عمر "أيما مسلم شهد له أربعة بخير"، وحديث بنت خالد بن سعيد في التعوذ، وحديث البراء "لما توفي إبراهيم"، وحديث سمرة في الرؤيا بطوله، لكن عند مسلم طرق يسير من أوله، وحديث عائشة "توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الاثنين"، وحديثها في وصيتها "أن لا تدفن معهم"، وحديث عمر في قصة وصيته عند قتله، وحديث عائشة "لا تسبوا الأموات"، وحديث ابن عباس في قول أبي لهب، وفيه من الآثار الموقوفة على الصحابة، ومن بعدهم ثمانية وأربعون أثرًا، منها ستة موصولة، والبقية معلقة والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. ثم قال المصنف:

كتاب الزكاة

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الزكاة البسملة ثابتة في الأصل، ولأكثر الرواة "باب" بدل "كتاب"، وسقط ذلك لأبي ذَرٍّ، فلم يقل باب ولا كتاب، وفي بعض النسخ كتاب الزكاة "باب وجوب الزكاة". والزكاة في اللغة النماء، يقال زكا الزرع إذا نما، ويرد أيضًا في المال، وترد أيضًا بمعنى التطهير، وشرعًا بالاعتبارين معًا، أما بالأول فإن اخراجها سبب النماء في المال، أو بمعنى أن الأجر بسببها يكثر، أو بمعنى متعلقها الأموال ذات النماء كالتجارة والزراعة. ودليل الأول "ما نقص مال من صدقة" ولأنها يضاعف ثوابها كما جاء أن الله يُرْبي الصدقة. وأما بالثاني فلأنها طهرة للنفس من رذيلة البخل، وتطهير من الذنوب. وهي الركن الثالث من الأركان التي بُني عليها الإِسلام، كما مرَّ في كتاب الإيمان. وقال ابن العربي: تطلق الزكاة على الصدقة الواجبة والمندوبة والنفقة والحق والعفو. قلت: وكذلك الماعون: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} وتعريفها في الشرع إعطاء جزء من النصاب الحولي إلى فقير، ونحوه غير هاشميّ ولا مُطَّلِبيّ. وقوله: ولا مُطّلبيّ هو مذهب الشافعيّ، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى، في باب ما يذكر من الصدقة للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وآله. ولها ركن وهو الإخلاص، وشرط هو السبب، وهو ملك النصاب الحولي، وشرط مَنْ تجب عليه وهو العقل والبلوغ والحرية، ولها حكم وهو سقوط الواجب في الدنيا، وحصول الثواب في الآخرة. وحكمة وهي التطهير من الأدناس ورفع الدرجة واسترقاق الأحرار، وهو جيد، لكن في شرط من تجب عليه اختلاف، والزكاة أمر مقطوع به في الشرع، يستغني مَنْ تكلّف الاحتجاج له، وإنما وقع الاختلاف في بعض فروعه. وأما أصل فرضية الزكاة فمن جحدها كفر، وإنما ترجم المصنف بذلك على عادته في إيراد الأدلة الشرعية المتفق عليها، والمختلف فيها. ثم قال: وقول الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} قول بالرفع، قال الزين بن المنير: مبتدأ وخبره محذوف، أي: هو دليل على ما قلناه من الوجوب، وقد مرَّ معنى إقام الصلاة وإيتاء الزكاة عند حديث "بُني الإِسلام على خمس" أول كتاب الإيمان. ثم قال: وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: حدّثني أبو سفيان رضي الله تعالى عنه، فذكر حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يأمرنا

الحديث الأول

بالصلاة والزكاة والصلة والعَفاف" أورده هنا مختصرًا جدًا، وقد جاء مطولًا آخر بدء الوحي، واقتصر هنا على قوله: "يأمرنا بالصلاة والزكاة والصلة والعَفاف" ودلالته على الوجوب ظاهرة، وهذا التعليق ذكره موصولًا مراتٍ أولها في آخر بدء الوحي، وقد مرَّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي، ومرَّ أبو سفيان في السابع منه. الحديث الأول حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ عَنْ زَكَرِيَّاءَ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِيٍّ عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- بَعَثَ مُعَاذًا رضي الله عنه إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: "ادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدِ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ، تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ". هذا الحديث دلالته على وجوب الزكاة أوضح من الذي قبله. قوله: ادعُهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وفي رواية التوحيد "إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إلى أن توحدوا الله تعالى" وأهل الكتاب هم اليهود، وكان ابتداء دخول اليهودية في اليمن زمن أسعد ذي كرب، وهو تُبَّع الأصغر، كما ذكره ابن إسحاق في السير، فقام الإِسلام وبعض أهل اليمن على اليهودية. ودخل دين النصرانية على اليمن بعد ذلك، لما غلبت الحبشة على اليمن. وكان منهم أبرهة صاحب الفيل الذي غزا مكة، وأراد هدم الكعبة حتى أجلاهم عنه سيف بن ذي يَزَن، فلم يبق بعد ذلك باليمن أحدٌ من النصارى أصلًا إلا بنجران، وهي بين مكة واليمن، وبقي ببعض بلاده قليل من اليهود، وكان بَعْثُه عليه الصلاة والسلام معاذاً إلى اليمن عند انصرافه من تبوك، سنة تسع. وزعم ابن الحذّاء أن ذلك كان في شهر ربيع الآخر سنة عشر، وقدم في خلافة أبي بكر، رضي الله عنه، في الحجة التي حج عمر عنه فيها، وفي الطبقات في شهر ربيع الآخر سنة تسع، وفي "كتاب الصحابة" للعسكريّ: بعثه عليه الصلاة والسلام واليًا على اليمن، وفي الاستيعاب "لما خلع من ماله لغرمائه بعثه -صلى الله عليه وسلم- وقال: لعل الله أن يَجْبُرَك، وبعثه أيضًا قاضيًا، وجعل إليه قبض الصدقات من العمال الذين باليمن. وقوله في رواية التوحيد: "فإذا عرفوا الله" قال على أن أهل الكتاب لا يعرفون الله؛ لأن من شبهه وجسمه من اليهود أو أضاف إليه الولد أو الصاحبة أو أجاز الحلول والانتقال عليه والامتزاج، من النصارى، أو وصفه بما لا يليق به أو أضاف إليه الشريك، لم يعرفه، فمعبودهم الذي يعبدونه

ليس هو الله تعالى، وإن سموه به، إذ ليس موصوفًا بصفات الله الواجبة، فأذَنْ ما عرفوا الله سبحانه وتعالى. وأمُرهم بالشهادتين؛ لأن ذلك أصل الدين الذي لا يصح شيء من فروعه إلا به، فمن كان منهم غير موحد على التحقيق، كالنصرانيّ، فالمطالبة موجهة إليه بكل واحدة من الشهادتين، ومَنْ كان موحدًا كاليهود، فالمطالبة له بالجمع بين ما أقربه من التوحيد، وبين الإقرار بالرسالة. وقوله: "فإنْ هم أطاعوا لذلك" أي: للإتيان بالشهادتين. وقوله: "فأَعلمهم" بفتح الهمزة من الِإعلام، وقوله: "أن الله قد افترض" بفتح همزة أن؛ لأنها في محل النصب على أنها مفعول ثانٍ للإعلام، وطاعتهم بالصلاة يحتمل وجهين: أحدهما أن يريد إقرارهم بها، أي بوجوبها، والثاني أن يريد الطاعة بفعلها. ويرجح الأول أن المذكور في لفظ الحديث هو الإخبار بالفريضة، فتعود الإشارة بذلك إليها، ويرجح الثاني أنهم لو أخبروا بالوجوب فبادروا بالامتثال بالفعل، لكفى، ولم يشترط تلقيهم بالإقرار بالوجوب، وكذا الزكاة، لو امتثلوا بأدائها من غير تلفظ بالإقرار لكفى، فالشرط عدم الإنكار والإذعان بالوجوب لا باللفظ. وقوله: "تؤخذ من أغنيائهم" على صيغة المجهول في محل النصب على أنه صفة، لقوله: صدقة، وكذلك قوله: وترد، على صيغة المجهول، عطف على قوله: "تؤخذ"، وأُخذ من هذا وجوب أَخْذ الزكاة ممن وجبت عليه، وقهر الممتنع على بذلها, ولو لم يكن جاحدًا، فلو كان مع امتناعه ذا شوكة قوتل، وإلا فإن أمكن تعزيره على الامتناع عُزّر بما يليق به. وقد ورد في تعزيره بالمال حديث بَهْز بن حكيم، عن أبيه عن جده، مرفوعًا ولفظه "ومَنْ منعها، يعني الزكاة، فأنا آخذِها وشطر ماله عَزْمة من عزَمَات ربنا" أخرجه أبو داود والنسائي، وصححه ابن خُزيمة والحاكم. وأما ابن حِبّان فقالَ في ترجمة بَهْز بن حيكم: لولا هذا الحديث لأدخلته في كتاب "الثقات"، وأجاب من صححه، ولم يعمل به، بأن الحكم الذي دل عليه منسوخ، وأن الأمر كان أولًا كذلك، ثم نسخ. وضعّف النوويّ هذا الجواب من جهة أن العقوبة بالمال لا تعرف أولًا، حتى يتم دعوى النسخ، ولأن النسخ لا يثبت إلا بشرطه، كمعرفة التاريخ" ولا يعرف ذلك، واعتمد النوويّ ما أشار إليه ابن حِبّان من تضعيف بَهْز، وليس بجيد؛ لأنه موثق عند الجمهور، ولكن إطباق علماء الأمصار على عدم العمل به، يدل على أن له معارضًا راجحًا، وقول مَنْ قال بمقتضاه يعد في ندرة المخالف، ودل الحديث على أن الذي يقبض الزكاة الإِمام أو مَنْ أقامه لذلك، وقد أطبق الفقهاء بعد ذلك على أنَّ لأرباب الأموال الباطنة مباشرةَ الإخراج، وشذ مَنْ قال بوجوب الدفع إلى الإِمام، وهو رواية عن مالك، وفي القديم للشافعي نحوه، على تفصيل عنهما فيه، والحق أن الأمير إذا كان لا يضع الزكاة في مواضعها لا يجوز دفعها له طوعًا، وإن دفعها له طوعًا لم تجز، وإن أخذها من

صاحبها كرهًا أجزأته. واستدل بقوله: "ترد على فقرائهم" مَنْ قال بعدم وجوب تعميم الأصناف كالمالكية، وأجاب عنه القائلون بتعميم الأصناف بأن الاقتصار على الفقراء وقع لمقاتلة الأغنياء؛ لأن الفقراء هم الأغلب. وقوله: في فقرائهم، يفيد منع صرف الزكاة للكافر، ومنع نقل الزكاة من بلد المال؛ لأن الضمير في قوله: "فقرائهم" يعود على أهل اليمن، وعورض بأن الضمير إنما يرجح إلى فقراء المسلمين، وهو أعم من أن يكونوا فقراء أهل تلك البلد أو غيرهم. وأجيب بأن المراد فقراء أهل اليمن بقرينة السياق، فلو نقلها عند وجوبها إلى بلد آخر، مع وجود الأصناف أو بعضهم، لا يُسْقِط الفرض عند المالكية النقلُ المضر ما كان على مسافة القصر لا أقل منها، فهو في حكم البلد الذي وجبت فيه، وإذا نقلت لدونهم في الاحتياج لم تجز، ولمثلهم أجزأت، ولأعدم منهم كان الأفضل نقل أكثرها إليهم. وقال الطيبي: اتفقوا على أنها إذا نقلت وأديت يسقط الفرض عنه، إلا عمر بن عبد العزيز، فإنه رد صدقة نقلت من خراسان إلى الشام إلى مكانها من خراسان. وفي قوله: "تؤخذ من أغنيائهم" دلالة على أن الطفل تلزمه الزكاة لعموم اللفظ، وتناوله له، واختلف أهل العلم، فذهب كثير من الصحابة إلى وجوب الزكاة في مال اليتيم، منهم عمرو وابنه وعلي وعائشة، وبه قال مالك والشافعيّ وأحمد وإسحاق. وقالت طائفة: ليس في مال اليتيم زكاة، وهو قول سفيان الثَّوريّ وابن المبارك وأبي حنيفة وأصحابه وسعيد بن جبير والحسن البصري والنخعيّ، وحجة الأولين ما رواه التِّرمْذِي عن عمرو بن شُعيب عن أبيه عن جده أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خطب فقال: "ألا مَنْ وَلي يتميًا له مالٌ فليتجر في ماله، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة" ورواه الدارقطني بلفظ: "احفظوا اليتامى في أموالهم لا تأكلها الزكاة" ورواه البَيْهقي والدارقطني أيضًا، عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قال: "ابتغوا بأموال اليتامى لا تأكلها الصدقة" وسعيد بن المسيب سمع من عمر على الصحيح، وحديث الباب كافٍ من الدليل. وحجة الآخرين حديث رفع القلم عن ثلاث "عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق" وأجيب عن هذا بأن الزكاة حق واجب في المال، والمخاطب به ولي الصبيّ أو وصيه، واستدل به على أن الكفار غير مخاطبين بالفروع، حيث دعوا أولًا إلى الإيمان فقط، ثم دعوا إلى العمل، ورتب ذلك عليها بالفاء، وأيضًا فإن قوله: فإنْ هم أطاعوا فأخبرهم، يفهم منه أنهم لو لم يطيعوا لا تجب عليهم شيء، وفيه نظر؛ لأن مفهوم الشرط مختلف في الاحتجاج به. وأجاب بعضهم عن الأول بأنه استدلال ضعيف؛ لأن الترتيب في الدعوة لا يستلزم الترتيب في

الوجوب. كما أن الصلاة والزكاة لا ترتيب بينهما في الوجوب، وقد قدمت إحداهما على الأخرى في هذا الحديث، ورتبت الأُخرى عليها بالفاء، ولا يلزم من عدم الإتيان بالصلاة إسقاط الزكاة. وقيل: الحكمة في ترتيب الزكاة على الصلاة أن الذي يُقر بالتوحيد ويجحد الصلاة، يكفر بذلك، فيصير ماله فيئًا، فلا تنفعه الزكاة، وأما قول الخطابيّ: إن ذكر الصدقة أُخّر عن ذكر الصلاة لأنها إنما تجب على قوم دون قوم، وأنها لا تُكَرَّر تَكَرُّرَ الصلاة فبدأ بالأهم فالأهم، وذلك من التلطف في الخطاب؛ لأنه لو طالبهم بالجميع في أول مرة لم يأمن النَّفْرة - فهو حسن، والمختار الذي هو قول المحققين والأكثرين أنهم مخاطبون بفروع الشريعة المأمور به، والمنهي عنه. وقيل: ليسوا مخاطبين، وقيل: مخاطبون بالمنهي دون المأمور، وقال شمس الأمة: لا خلاف أنهم مخاطبون بالإيمان؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- بُعث إلى الناس كافةً، ليدعوهم إلى الإيمان. قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}، ولا خلاف أنهم مخاطبون بالمشروع من العقوبات، ولا خلاف أن الخطاب بالمعاملات يتناولهم، ولا خلاف أن الخطاب بالشرائع يتناولهم في حكم المؤاخذة في الآخرة، وأما في وجوب الأداء في أحكام الدنيا، فمذهب العراقيين أن الخطاب يتناولهم أيضًا، والأداء واجب عليهم، وقيل: إنهم لا يخاطبون بأداء ما يحتمل السقوط من العبادات. وفيه أن مَنْ ملك نصابًا لا يعطي من حيث أنه جعل المأخوذ منه غنيًا، وقابله بالفقير ومن ملك النصاب، فالزكاة مأخوذة منه فهو غني، والغنى مانع من إعطاء الزكاة إلا مَنْ استثنى. قال ابن دقيق العيد: ليس هذا البحث بالشديد القوة، وهو قول الحنفية، واستدل به مَنْ لا يرى على المديون زكاة ما بيده إذا لم يفضل عن الدين الذي عليه قدر نصاب؛ لأنه ليس بغني إذا كان إخراج ماله مستحقًا لغرمائه، وهذا مذهب المالكية في زكاة العَين خاصة. وقال البَغَويّ فيه: إن المال إذا تلف قبل التمكن من الأداء سقطت الزكاة لإضافة الصدقة إلى المال، واستدل به على أنه لا يكفي في الإِسلام الاقتصار على شهادة أن لا إله إلا الله، حتى يضيف إليها الشهادة لمحمد بالرسالة، وهو قول الجمهور. وقال بعضهم: يصير بالأُولى مسلمًا، ويطالب بالثانية. وفائدة الخلاف تَظْهر بالحكم بالردة، وقد قال ابن العربي في شرح التِّرمذيّ: تبرأت اليهود في هذه الأزمان من القول بأن العزير ابن الله، وهذا لا يمنع كونه كان موجودًا في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن ذلك نزل في زمنه عليه الصلاة والسلام، واليهود معه بالمدينة وغيرها، فلم ينقل عن أحد منهم أنه رد ذلك، ولا تعقبه، والظاهر أن القائل بذلك طائفة منهم، لا جميعهم، بدليل أن القائل من النصارى: "إن المسيح ابن الله" طائفة منهم لا جميعهم. فيجوز أن تكون تلك الطائفة قد انقرضت في هذه الأزمان، كما انقلب اعتقاد معظم اليهود عن التشبيه إلى التعطيل، وتحول معتقد النصارى في الابن والأب إلى أنه من الأمور المعنوية لا الحسية. فسبحان مقلب القلوب. قاله في "الفتح".

رجاله ستة

قلت: النصارى مَنْ كان منهم اليوم باقيًا على ديانتهم لم يطرأ له تغير في الابن والأب، ومَنْ انتقل إلى الطبيعة والدهرية لم يبق على شيء من ذلك لا حسًا ولا معنى. لم يقع في هذا الحديث ذكر الصوم والحج مع أن بَعْثَ معاذٍ كان في آخر الأمر، كما مرَّ، وأجاب ابن الصلاح بأن ذلك تقصير من بعض الرواة، وتعقب بأنه يفضي إلى ارتفاع الوثوق بكثير من الأحاديث النبوية، لاحتمال الزيادة والنقصان. وأجاب الكرمانيّ بأن اهتمام الشارع بالصلاة والزكاة أكثر، فلهذا كررا في القرآن، فمن ثَمّ لم يذكر الحج والصوم في هذا الحديث، مع أنهما من أركان الإِسلام، والسر في ذلك هو أن الصلاة والزكاة إذا وجبتا على المكلف لا يسقطان عنه أصلًا بخلاف الصوم، فإنه قد يسقط بالفدية والحج، فإن الغير قد يقوم مقامه فيه كما في المغصوب، ويحتمل أنه حينئذ لم يكن شرع. وقال شيخ الإِسلام البلقينيّ: إذا كان الكلام في أركان الإِسلام لم يخل الشارع منه بشيء، كحديث ابن عمر "بني الإسلام على خمس" وإذا كان في الدعاء إلى الإِسلام اكتفى بالأركان الثلاثة الشهادة والصلاة والزكاة. ولو كان بعد فرض الحج والصوم كقوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} في موضعين من براءة، مع أن نزولها بعد فرض الصوم والحج قطعًا، وحديث ابن عمر أيضًا: "أمرت أنْ أقاتل الناس حتى بشهدوا أن لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة" وغير ذلك من الأحاديث. قال: والحكمة في ذلك أن الأركان الخمسة اعتقاديّ: وهو الشهادة، وبدنيّ وهو الصلاة، وماليّ وهو الزكاة، فاقتصر في الدعاء إلى الإِسلام عليها, ليفرع الركنين الأخيرين عليها، فإن الصوم بدنيٌّ محض، والحج بدنيّ ماليّ، وأيضًا فكلمة الإِسلام هي الأصل، وهي شاقة على الكفار، والصلاة شاقة لتكررها، والزكاة شاقة لما في جِبِلَّة الإنسان من حب المال، فإذا أذعن المرء لهذه الثلاثة كان ما سواها أسهل عليه بالنسبة إليها. رجاله ستة: قد مرّوا، إلا يحيى بن عبد الله، مرَّ أبو عاصم الضَّحاك في أثَرٍ بعد الرابع من العلم، ومرَّ زكرياء بن إسحاق في السادس عشر من كتاب الصلاة، ومرَّ أبو معبد في الثامن والمئة من صفة الصلاة، ومرَّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي، ومعاذ بن جبل في أثر أول الإيمان، قبل ذكر حديث منه. والسادس: يحيى بن عبد الله بن محمد بن يحيى بن صَيْفِيّ، ويقال بن عبد الله بن صيفي، ويقال يحيى بن محمد بن صيفي المكى، مولى بني مخزوم، ويقال مولى عثمان. ذكره ابن حِبان في "الثقات". وقال ابن مُعين والنَّسائيّ: ثقة، وقال ابن سعد: يحيى بن عبد الله بن صيفي كان

لطائف إسناده

ثقة، وله أحاديث. روى عن سعيد بن جُبير وأبي مَعْبَد مولى ابن عباس، وعتاب بن حُنين وغيرهم. وروى عنه ابن جُرَيج وإسماعيل بن عليه وزكرياء بن إسحاق وغيرهم. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع في موضع، والعنعنة وشيخه بصريٌّ، وزكرياء ويحيى مكيّان. أخرجه البخاريّ أيضًا في التوحيد والمغازي والمظالم وفي الجنائز والزكاة أيضًا. الحديث الثاني حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ ابْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ رضى الله عنه أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ. قَالَ: مَالَهُ مَالَهُ وَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "أَرَبٌ مَالَهُ، تَعْبُدُ اللَّهَ، وَلاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ". قوله: "عن ابن عثمان" الإبهام فيه من الراوي عن شُعبة، وذلك أن اسم هذا الرجل عمرو، وكان شُعبة يسميه محمدًا، وكان الحُذّاق من أصحابه يبهمونه كما وقع في رواية حفص بن عمر، وكما سيأتي في الأدب عن أبي الوليد عن شُعبة، وكان بعضهم يقول محمدًا، كما قال شعبة، وبيان ذلك في طريق بَهْز التي عَلَّقها المصنف هنا، وسيأتي قريبًا من وصلها. وقوله: "عن موسى بن طلحة عن أيوب" في رواية مسلم الآتي ذكرها: حدثنا موسى بن طلحة حدّثني أبو أيوب. وقوله: "إن رجلًا" يأتي الكلام عليه في السند. وقوله: "بعمل يُدخلُني الجنة" بضم اللام، والجملة في موضع جر صفة لقوله بعمل، ويجوز الجزم جوابًا للأمر، ورده بعض شراح المصابيح؛ لأن قوله: "بعمل" يصير غير موصوف مع أنه نكرة، فلا يفيد، وأجيب بأنه موصوف تقديرًا؛ لأن التنكير للتعظيم، فأفاد. أو أن الشرط محذوف، والتقدير: إن عملته يدخلني الجنة. وفي دلالة هذا على الوجوب غُموض، وأجيب بأربعة أحدها أن سؤاله عن العمل الذي يدخل الجنة يقتضي أن لا يجاب بالنوافل قبل الفرائض، فتحمل على الزكاة الواجبة. ثانيها أن الزكاة قرينة الصلاة، كما سيأتي في الباب من قول أبي بكر، وقد قرن بينهما في الذكر هنا. ثالثها أنه وقف دخول الجنة على أعمال من جملتها أداء الزكاة، فيلزم إن من لم يعملها لم يدخل، ومَنْ لم يدخل الجنة دخل النار، وذلك يقتضي الوجوب. رابعها أنه أشار إلى أن القصة التي في حديث أبي أيوب، والقصة التي في حديث أبي هُريرة الذي يعقبه واحدة، فأراد أن يفسر الأول بالثاني لقوله فيه: وتؤدي الزكاة المفروضة، وهذا أحسن الأجوبة. وقد أكثر المصنف من استعمال هذه الطريقة. وقوله: "قال ماله ماله؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أرب ماله" كذا في هذه الرواية، لم يذكر فاعل قال ماله ماله. وفي رواية بَهْز المعلقة هنا، الموصولة

رجاله خمسة

في كتاب الأدب قال القوم: ماله ماله، وهو استفهام، والتكرار للتأكيد. وقوله: أرَب ماله، بفتح الراء والنون منونًا أي حاجة جاءت به، وهو خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ خبره محذوف. وقال في "المصابيح": هو مبتدأ مذكور الخبر، وهو له، وما زائدة، وسوغ الابتداء بالنكرة، كونها موصوفة بصفة يرشد إليها ما الزائدة، فإن ما الزائدة منبهة على وصف لائق بالمحل، واللائق هنا أن يقدر عظيم، لأنه سأل عن عمل يدخله الجنة، ولا أعظم من هذا الأمر. وروى أرِبَ، بكسر الراء وفتح الموحدة بلفظ الماضي، أي: احتاج فسأل حاجته، أو تفطن لما سأل عنه وعقل. قال النضر بن شُميل: يقال: أرِبَ الرجل في الأمر، إذا بلغ فيه جهده. وقال الأصمعي: أرِب في الشيء صار ماهرًا فيه، فهو أريب. وكأنه تعجب من حُسن فطنته والتَّهَدِّي إلى موضع حاجته. ويؤيده قوله في رواية مسلم "فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: لقد وفق، أو لقد هُدِي" وقال ابن قُتيبة: أرِبَ، من الآراب وهي الأعضاء، أي: سقطت أعضاؤه، وأصيب بها، كما يقال: تربت يمينك، وهو مما جاء بصيغة الدعاء. ولا يراد حقيقته. وقيل: لما رأى الرجل يزاحمه دعا عليه، لكن دعاؤه على المؤمن ظهر كما ثبت في الصحيح. وروي بفتح أوله وكسر الراء والتنوين، أي: هو أرِبٌ، أي: حاذق فطن، يسأل عمّا يعينه. قال في "الفتحة: لم أقف على صحة هذه الرواية، وجزم الكرماني، بأنها ليست محفوظة. وفي رواية لأبي ذَرٍّ "أَرَبَ" بفتح الجميع، قال عياض: لا وجه له، ووقعت في الأدب من طريق الكشميهنيّ وحده. وقوله: "وتصل الرحمَ" أي: تواسي ذوي القرابة في الخيرات، وقال النوويّ: معناه إن تحسن إلى أقاربك ذوي رحمك بما تيسر على حسب حالك وحالهم، من إنفاق أو سلام أو زيارة أو طاعة أو غير ذلك، وخص هذه الخصلة من بين خصال الخير نظرًا إلي حال السائل، كأنه كان لا يصل رحمه، فأمره به؛ لأنه المهم بالنسبة إليه، ويؤخذ منه تخصيص بعض الأعمال بالحض عليها، بحسب المخاطب، وافتقاره للتنبيه عليها أكثر مما سواها، إما لمشتقتها عليه، وإما لتسهيله في أمرها. رجاله خمسة: مرَّ منهم حفص بن عمر في الثالث والثلاثين من الوضوء وأبو أيوب في العاشر منه، ومرَّ شعبة في الثالث من الإيمان، والباقي اثنان: الأول محمد بن عثمان بن عبد الله بن موهب التيميّ مولى آل طلحة، روى عن موسى بن طلحة هذا الحديث. قال البخاريّ: أخشى أنْ يكون محمد غير محفوظ، وإنما هو عمرو بن عثمان، وهكذا رواه القطان وابن نمير، وغير واحد عن عمرو بن عثمان عن موسى، وذكر ابن أبي ميسرة أن محمدًا هذا أخ لعمرو، والله أعلم. الثاني: موسى بن طلحة بن عُبيد الله التيميُّ القرشيُّ، أبو عيسى، ويقال أبو محمد المَزَنيّ، نزل الكوفة، وأُمه خولة بنت القعقاع بن سعيد بن زُرارة. قال أبو بكر بن أبي شَيبة: إنه ولد سنة

لطائف إسناده

ست، قال الواقديّ: رأيت من قبلنا، وأهل بيته، يكنونه أبا عيسى، وكان ثقة كثير الحديث، وقال الزبير بن بكار: كان من وجوه آل طلحة، وقال أحمد: ليس به بأس، وقال العجليّ: تابعيّ ثقة، وكان خيارًا. وقال مُرّة: كوفيّ ثقة، رجل صالح. وقال أبو حاتم: يقال إنه أفضل ولد طلحة بعد محمد، كان يسمى في زمانه المهديّ. وقال ابن خِراش: كان من أجلاء المسلمين، ويقال انه شهد الجمل مع أبيه، وأطلقه عليّ بعد أن أُسر. ويقال إنه فرّ من الكوفة إلى البصرة لما ظهر المختار بن أبي عُبَيد. وقال عبد الملك بن عمير: كان فصحاء الناس أربعة فذكره فيهم، وروي عنه قال: صحبت عثمان اثنتي عشرة سنة، روى عن أبيه وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، والزبير بن العوّام، وأبي أيوب وغيرهم. وروى عنه ابنه عمران وحفيده سُليمان بن عيسى بن موسى، وعثمان بن موهب وغيرهم. مات سنة ثلاث أو أربع ومئة. وفي الحديث لفظ: "أن رجلًا" مبهمًا، وقال في "الفتح": ان ابن قتيبة حكى في غريب الحديث له، أن الرجل المبهم هو أبو أيوب الراوي للحديث، ولا مانع من أن يبهم الراوي نفسه لغرض. والظاهر أن السائل هنا هو السائل في حديث أبي هُريرة الآتي، وهو أعرابيّ، وهو لقيط بن صُبْرة وافد بني المُنْتَفِق، وصبرة بن عبد الله بن المنتفق بن عامر بن عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صَعْصَعة العامريّ، من حديثه فيما أخرجه أحمد وأصحاب السنن الأربعة "أتيت النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فقال: أَسبِغ الوضوء، وخلل الأصابع، وبالغْ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا"، وفيه قصة طويلة جرت له مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومع عائشة، أخرجه بطوله ابن حِبّان في صحيحه. وقد وقع مثل هذا السؤال الصخر بن القعقاع الباهليّ كما في حديث الطبرانيّ أنه قال: "لقيت النبي -صلى الله عليه وسلم- بين عرفة ومزدلفة، فأخذتُ بخطام ناقته، فقلت: يا رسول الله، ما يقربني من الجنة ويباعدني من النار؟ ... " الحديث. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة، وشيخه من أفراده، وهو كوفيّ، وشعبة واسطيٌّ، وابن عثمان وموسى مدنيان. أخرجه البخاري أيضًا في الأدب، ومسلم في الإيمان، والنَّسائيّ في الصلاة وفي العلم. ثم قال: وقال بَهْز: حدّثنا شُعبة قال: حدّثنا محمد بن عثمان وأبوه عثمان بن عبد الله، أنهما سمعا موسى بن طلحة عن أبي أيوب بهذا، قال أبو عبد الله: أخشى أن يكون محمد غير محفوظ، إنما هو عمرو. قوله: أخشى أن يكون محمد غير محفوظ إنما هو عمرو، وجزم في التاريخ بذلك، وكذا قال مسلم في شيوخ شُعبة، والدارقطني في العلل، وآخرون "المحفوظ عمرو بن عثمان". وقال

رجاله ستة

النووي: اتفقوا على أنه وهم من شَعبة، وأن الصواب عمرو. وهذا وصله في كتاب الأدب عن عبد الرحمن بن بشير عن بَهْز بن أَسَد، وكذا أخرجه مسلم والنَّسَائيّ من طريق بَهْز. رجاله ستة: مرّ ذكر محلهم، وتعريف محمد بن عثمان منهم في المسند قبله، إلا بَهْز، فإنه مرَّ في الرابع من الغُسل، وإلا عثمان أبو محمد السابق، فإنه لم يمر. وهو عثمان بن عبد الله بن موهب التيميّ، أبو عبد الله. ويقال: أبو عمرو المدني الأعرج مولى آل طلحة، وقد ينسب إلى جده. ذكره ابن حِبّان في "الثقات"، وقال ابن مُعين وأبي داود والنَّسائيّ ويعقوب بن شَيبة: ثقة. وقال العجليّ: تابعيّ ثقة، روى عن أبي هُريرة وابن عُمر وأُم سلمة وغيرهم. وروى عنه ابنه عمرو وشُعبة وشيبان وغيرهم. مات سنة ستين ومئة. الحديث الثالث حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ بْنِ حَيَّانَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ. قَالَ: "تَعْبُدُ اللَّهَ لاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ الْمَكْتُوبَةَ، وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ". قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ أَزِيدُ عَلَى هَذَا. فَلَمَّا وَلَّى قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا". قوله: "عن يحيى بن سعيد بن حيان" ووقع عند الأصيليّ عن أبي أحمد الجرجانيّ عن يحيى بن سعيد بن أبي حَيّان، أو عن يحيى بن سعيد عن أبي حيان، وهو خطأ، إنما هو يحيى بن سعيد بن حَيّان، كما لغيره من الرواة. وقوله: "إن أعرابيًا" الأعرابي، بفتح الهمزة مَنْ سكن البادية، ويأتي في السند الكلام عليه، وقوله: "وتؤدي الزكاة المفروضة" قيل: فرَّق بين القيدين كراهية لتكرير اللفظ الواحد، وقيل: عبر في الزكاة بالمفروضة للاحتراز عن صدقة التطوع، فإنها زكاة لغوية. وقيل: احترز من الزكاة المعجلة قبل الحول، فإنها زكاة وليست مفروضة. وقوله: "وتصوم رمضان" لم يذكر الحج؛ لأنه كان حينئذ حاجًا، ولعله ذكره فاختصره، وقوله: "قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا" زاد مسلم عن عَفّان بهذا السند "لا أزيد على هذا شيئًا أبدًا، ولا أنقص منه" وباقي الحديث مثله، وظاهر قوله: "مَنْ سرة أن ينظر إلى رجلٍ من أهل الجنة، فلينظر إلى هذا" إما أن يحمل على أنه -صلى الله عليه وسلم- اطَّلع على ذلك فأخبر به، أو في الكلام حذف تقديره: إن دام على فعل الذي أُمر به. ويؤيده قوله في حديث أبي أيوب عند مسلم أيضًا: "إن تمسَّك بما إمر به دخل الجنة" قال

رجاله ستة

القرطبي في هذا الحديث، وكذا حديث طلحة في قصة الأعرابي وغيرهما: دلالةٌ على جواز ترك التطوعات، لكن مَنْ داوم على ترك السنن كان نقصًا في دينه، فإن كان تركها تهاونًا بها ورغبة عنها، كان ذلك فسقًا، لورود الوعيد عليه، حيث قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ رغب عن سنتي فليس مني" وقد كان صدر الصحابة ومَنْ تبعهم يواظبون على السنن مواظبتهم على الفرائض، ولا يفرقون بينهما في اغتنام ثوابهما، وإنما احتاج الفقهاء إلى التفرقة لما يترتب عليه من وجوب الإعادة وتركها، ووجوب العقاب على الترك ونفيه، ولعل أصحاب هذه القصص كانوا حديثي عهد بالإِسلام، فاكتفى منهم يفعل ما وجب في الحال، لئلا يثقل ذلك عليهم فيملوا، حتى إذا انشرحت صدورهم للفهم عنه، والحرص على تحصيل ثواب المندوبات، سهلت عليهم. وقد تقدم الكلام على شيء من هذا عند حديث طلحة بن عُبيد الله في كتاب الإيمان. وفي الحديث جواز قول: جاء رمضان وذهب رمضان، خلافًا لمن منع عن مثل ذلك، لزعمه أن رمضان من أسماء الله تعالى، وفيه أن مَنْ أتى بالشهادتين، وصلّى وزكّى وصام وحج، إن استطاع دخل الجنة. وفيه سؤال مَنْ لا يعلم مَنْ يعلم عن العمل الذي يكون سببًا لدخول الجنة، وفيه البشارة والتبشير للمؤمن الذي يؤدي الواجبات بدخول الجنة، وفيه أن المبشّرين بالجنة غير محصورين في العشرة. وقد قيل إن تخصيص العشرة بذلك من أجل أنهم بُشروا بالجنة دفعة واحدة، فلا ينافي المتفرق. رجاله ستة: قد مرَّوا، مرَّ محمد بن عبد الرحيم صاعقة في السادس من الوضوء ومرَّ عفّان بن مسلم في الحادي عشر والمئة منه، ومرَّ وهيب بن خالد في تعليق بعد الخامس عشر من الإيمان، وأبو حَيّان يحيى بن سعيد في الثالث والأربعين منه، وأبو زرعة في التاسع والعشرين منه، وأبو هريرة في الثاني منه. وفي الحديث لفظ "أن أعرابيًا" وقد مرَّ في الذي قبله ما قيل في السائل، والأعرابي، هنا، قيل: إنه لقيط بن صُبْرة الماضي، كما مرَّ، وقيل إنه سعد بن الأخْرم أبو المُغيرة الطائيّ، روى ابنه المغيرة عنه أو عن عمه، قال: "أتيتُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- بعرفة، وأخذت بزمام ناقته، فَدُفعت عنه فقال: "دعوه ... " فذكر الحديث في سؤاله عما يباعده من النار إلخ. وذكره البخاريُّ وأبو حاتم في التابعين. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإفراد والعنعنة، وشيخه من أفراده، ورواته بغداديّ وبصريان وكوفيان، أخرجه البخاريّ أيضًا في كتاب الزكاة، ومسلم في الإيمان.

الحديث الرابع

الحديث الرابع حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي حَيَّانَ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو زُرْعَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- بِهَذَا. وهذه الطريق مرسلة؛ لأن أبا زُرعة تابعيّ لا صحابيّ، فلا يقول عن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- إلا بطريق الإرسال، وفائدة هذه الطريق تصريحُ أبي حيّان بسماعه له من أبي زرعة، وبطل الترديد الذي عند الجرجانيّ. رجاله أربعة: قد مرّوا، مرَّ مسدد ويحيى القَطّان في السادس من الإيمان، ومرَّ محل أبي حيّان وأبي زرعة في الذي قبله. الحديث الخامس حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنَا أَبُو جَمْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَقُولُ: قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذَا الْحَيَّ مِنْ رَبِيعَةَ قَدْ حَالَتْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ كُفَّارُ مُضَرَ، وَلَسْنَا نَخْلُصُ إِلَيْكَ إِلاَّ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَمُرْنَا بِشَيْءٍ نَأْخُذُهُ عَنْكَ، وَنَدْعُو إِلَيْهِ مَنْ وَرَاءَنَا. قَالَ: "آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ الإِيمَانِ بِاللَّهِ وَشَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَعَقَدَ بِيَدِهِ هَكَذَا وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَأَنْ تُؤَدُّوا خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالنَّقِيرِ وَالْمُزَفَّتِ". وهذا الحديث قد مرَّ استيفاء الكلام عليه في باب "أداء الخمس من الإيمان، من كتاب الإيمان. رجاله أربعة: قد مرّوا، مرَّ حجاج بن منهال في الثامن والأربعين من الإيمان، وحمّاد بن زيد في الرابع والعشرين منه، وأبو جمرة في السادس والأربعين منه، ومرَّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي. ثم قال: وقال سليمان وأبو النعمان عن حمّاد: الإيمان بالله: شهادة أن لا إله إلا الله، بمعنى أنهما وافقا حجاجًا على سياقه، إلا في إثبات الواو في قوله: "وشهادة أن لا إله إلا الله" فحذفها هنا، وهو أصوب. وقد قال ابن بطال: الواو في الرواية الأولى كالمقحمة، يقال فلان حسن وجميل، أي: حسن جميل. أما تعليق سليمان، فقد وصله أبو داود، وأما تعليق أبي النعمان فقد وصله البخاري في المغازي في باب "أداء الخمس من الدين" وسليمان المراد به ابن حرب، وقد مرَّ في الرابع عشر من الإيمان، ومرَّ أبو النعمان في الحادي والأربعين منه، وحماد مرَّ محله في الذي قبله.

الحديث السادس

الحديث السادس حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ"؟. فَقَالَ وَاللَّهِ لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا. قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ قَدْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ. قوله: "لما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان أبو بكر" كان هنا تامة، بمعنى حصل، والمراد به قام مقامه، وفي رواية "واستخلف أبو بكر" وقوله: إن أبا هريرة قال. الخ، في رواية مسلم عن أبي هريرة، وكذا رواه الأكثر، على أنه من رواية أبي هريرة عن أبي بكر وعمر وروى الزُّهرِي عن سعيد بن المسيب أن أبا هريرة أخبره أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أُمرت أنْ أُقاتل الناس ... " الحديث، فساقه على أنه من مسند أبي هُريرة، ولم يذكر أبا بكر ولا عمر، أخرجه مسلم، وهو محمول على أن أبا هريرة سمع الحديث من النبي -صلى الله عليه وسلم-، وحضر مناظرة أبي بكر وعمر، فقصها كما هي، ويؤيده أنه جاء عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، بلا واسطة، في طرق، فأخرجه مسلم من طريقين عنه، وأخرجه ابن خزيمة وأحمد ومالك خارج الموطأ، وابن مَنْده في كتاب الإيمان, كلهم عن أبي هريرة. ورواه البخاريّ في أول كتاب الإيمان عن ابن عمر، وأخرجه مسلم عن جابر وطارق الأشجعيّ، وأخرجه أبو داود والتّرمذيّ عن أنس، وأخرجه الطبرانيّ عن أنس أيضًا، وهو عند ابن خزيمة عنه، لكن قال: عن أنس عن أبي بكر، وأخرجه البَزّار عن النعمان بن بشير، والطبرانيّ عن سهل بن سعد وابن عباس وجرير البَجْلِيّ. وفي الأوسط من حديث سمرة. وقوله: "وكَفَر مَنْ كَفَر من العرب" في حديث أنس عند ابن خُزيمة "لما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ارتدت عامة العرب" قال القاضي عياض وغيره: كان أهل الردة ثلاثة أصناف: صنف عادوا إلى عبادة الأوثان، وصنف تبعوا مُسيلمة والأسود العَنْسي، وكان كل منهما ادّعى النبوءة قبل موت النبي -صلى الله عليه وسلم-، فصدّق مسيلمةَ أهلُ اليمامة وجماعة غيرهم. وصدّق الأسودَ أهلُ صنعاء وجماعة غيرهم. فقتل الأسود قبل موت النبي -صلى الله عليه وسلم- بقليل، وبقي بعض مَنْ آمن به، فقاتلهم عمّال النبي -صلى الله عليه وسلم- في خلافة أبي بكر. وأما مُسليمة، فجهز إليه أبو بكر الجيش، وعليهم خالد بن الوليد، فقتلوه.

وصنف ثالث استمروا على الإِسلام، ولكن جحدوا الزكاة، وتأولوا بأنها خاصة بزمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهم الذين ناظر عمر أبا بكر في قتالهم، كما جاء في حديث الباب. وقال ابن حزم في الملل والنحل: انقسمت العرب بعد موت النبي -صلى الله عليه وسلم- على أربعة أقسام، طائفة بقيت على ما كانت عليه في حياته، وهم الجمهور، وطائفة بقيت على الإِسلام أيضًا، إلا أنهم قالوا: نقيم الشرائع إلا الزكاة، وهم كثير، لكنهم قليل بالنسبة إلى الطائفة الأولى. والثانية أعلنت بالكفر والردة كأصحاب طُلَيحة وسِجاح، وهم قليل بالنسبة لمن قبلهم، إلا أنه كان في كل قبيلة من يقاوم من ارتد، وطائفة توقفت فلم تطع أحدا من الطوائف الثلاثة، وتربصوا لمن تكون الغلبة، فأخرج أبو بكر إليهم البعوث، وكان فيروز ومَنْ معه غلبوا على بلاد الأسود، قتلوه، وقتل مسيلمة باليمامة، وعاد طليحة وسِجاح، ورجع غالب من ارتد إلى الإِسلام، فلم يَحُلِ الحَوْل إلا والجميع قد راجعوا دين الإِسلام. وقوله: "قال عمرَ: يا أبا بكر، كيف تقاتل الناس؟ " في حديث أنس أتريد "أن تقاتل العرب" وقوله: "أُمرت أن أُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" كذا ساقه الأكثر، وفي رواية طارق عند مسلم "مَنْ وحد الله وكفر بما يعبد من دونه، حرم دمه وماله" وأخرجه الطبرانيّ من حديثه كرواية الجمهور، وفي حديث ابن عمر في كتاب الإيمان "حتى يُشْهَد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة" ونحوه في حديث أبي العنبس، وفي حديثٍ عند أبي داود "حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسله، وأن يستقبلوا قبلتنا، ويأكلوا ذبيحتنا، ويصلوا صلاتنا". وفي رواية العَلاء بن عبد الرحمن "حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، ويؤمنوا بي، وبما جئت به" وقد مرَّ كثير من مباحث هذا الحديث عند حديث ابن عمر في باب "فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة" من كتاب الإيمان. قال الخطّابيّ: زعم الروافض أن حديث الباب متناقض لأن في أوله أنهم كفروا، وفي آخره أنهم ثبتوا على الإِسلام، إلا أنهم منعوا الزكاة، فإن كانوا مسلمين، فكيف إستحل قتالهم وسبي ذراريهم؟ وإن كانوا كفارًا فكيف احتج على عمر بالتفرقة بين الصلاة والزكاة؛ فإنّ في جوابه إشارة إلى أنهم كانوا مقرين بالصلاة. قال: والجواب عن ذلك أن الذين نسبوا إلى الردة كانوا صنفين، صنف رجعوا إلى عبادة الأوثان، وصنف منعوا الزكاة. وتأولوا قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} فزعموا أن دفع الزكاة خاص به -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن غيره لا يطهرهم ولا يصلي عليهم، فكيف تكون صلاته سكنًا لهم؟ وإنما أراد عمر بقوله: "تقاتل الناس" الصنفَ الثاني؛ لأنه لا يتردد في جواز قتل الصنف الأول، كما أنه لا يتردد في قتال غيرهم من عُبّاد الأوثان والنيران واليهود والنصارى. قال: وكأنَّه لم يستحضر من الحديث إلا القدر الذي استحضره، وقد حفظ غيره في الصلاة والزكاة معًا، وقد رواه عبد الرحمن بن يعقوب بلفظ يعم جميع الشريعة، حيث قال فيها: "ويؤمنوا بي

وبما جئت به" فإن مقتضى ذلك أن مَنْ جحد شيئًا مما جاء به -صلى الله عليه وسلم-، ودُعِي إليه، فامتنع ونصب القتال، أنه يجب قتاله وقتله إذا أصر. قال: وإنما عرضت الشبهة لما دخله من الاختصار، وكان راويه لم يقصد سياق الحديث على وجهه، وإنما أراد سياق مناظرة أبي بكر وعمر، واعتمد على معرفة السامعين بأصل الحديث. قال في "الفتح": وفي هذا الجواب نظر؛ لأنه لو كان عند عمر في الحديث: "حتى يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة" ما استشكل قتالهم، للتسوية في كون غاية القتال ترك كل من التلفظ بالشهادتين وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة. قال عياض: حديث ابن عمر نصٌّ في قتال مَنْ لم يصلِّ ولم يترك، كمن لم يقر بالشهادتين، واحتجاج عمر على أبي بكر، وجواب أبي بكر، دل على أنهما لم يسمعا في الحديث الصلاة والزكاة، إذ لو سمعه عمر لم يحتج على أبي بكر، ولو سمعه أبو بكر لرد به على عمر، ولم يحتج إلى الاحتجاج بعموم قوله إلا بحقه، وقد مرَّ هذا، وزيادة، عند الحديث المذكور في الباب المار ذكره. وأُجيب عمّا تأوّلوه في الآية بأن الخطاب في كتاب الله تعالى على ثلاثة أقسام: خطاب عام، كقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ}. وخاص بالرسول، في قوله: {فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} حيث قطع التشريك بقوله: "لك". وخطاب مواجهة للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو وجميع أمته في المراد منه سواء، كقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ}، وقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ}، فعلى القائم بعده بأمر الأمة أن يحتذي حذوه في أخذها منهم، وأما التطهير والتزكية والدعاء من الإِمام لصاحبها، فإن الفاعل لها قد ينال ذلك كله بطاعة الله تعالى ورسوله فيها، وكل ثواب موعود على عمل كان في زمنه عليه الصلاة والسلام، فإنه باقِ غير منقطع، ويستحب للإمام أن يدعو للمتصدق، ويرجى أن يستجيب الله له، ولا يُخيِّب مسألته. وما قيل من أن منكر وجوب الزكاة كافر بالإجماع، وإن تأوَّلَ بكل تأويل فكيف يقال إن هذا الصنف غير كفار، فالجواب أنهم عذروا فيما جرى منهم لقرب العهد بالإسلام الذي كان يقع فيه تبديل الأحكام، ولوقوع الفترة بموت النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان القوم جهالًا بأمور الدين، قد أضلتهم الشبهة، أما اليوم فقد شاع أمر الدين، واستفاض العلم بوجوب الزكاة، حتى عرفه الخاص والعام، فلا يعذر أحد بتأويله، وكان سبيلها سبيل الصلوات الخمس ونحوها. وقوله: "إلاَّ بحقه" الضمير فيه للإسلام فمهما ثبت أنه من حق الإِسلام تناوله، ولذلك اتفق الصحابة على قتال مَنْ جحد الزكاة، وقوله: "لأقاتلنَّ مَنْ فرَّق بين الصلاة والزكاة" يجوز بتشديد فرق وتخفيفه، والمراد بالفرق مَنْ أقر بالصلاة وأنكر الزكاة جاحدًا أو مانعًا مع الاعتراف، وإنما أطلق في أول القصة الكفر ليشمل الصفين، فهو في حق مَنْ جحد حقيقة، وفي حق الآخرين مجاز تغليبًا، وإنما قاتلهم الصديق ولم يعذرهم بالجهل؛ لأنهم نصبوا القتال، فجهز إليهم مَنْ دعاهم إلى الرجوع، فلما أصروا قاتلهم.

قال المازريّ: ظاهر السياق أن عمر كان موافقًا على قتال مَنْ جحد الصلاة، فألزمه الصديق بمثله في الزكاة، لورودهما في الكتاب والسنة مورداً واحدًا. وقوله: "فإن الزكاة حق المال" يشير إلى دليل منع التفرقة التي ذكرها، أن حق النفس الصلاة، وحق المال الزكاة، فمن صلّى عصم نفسه، ومَنْ زكّى عصم ماله، فمَنْ لم يصل قوتل على ترك الصلاة، ومَنْ لم يزكِ أُخذت الزكاة من ماله قهرًا، وإنْ نصَبَ الحرب لذلك قوتل. وهذا يوضح أنه لو كان سمع في الحديث "ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة" لما احتاج إلى هذا الاستنباط، لكنه يحتمل أن يكون سمعه، واستظهر بهذا الدليل النظري. وما صدر من عمر كان تعلقًا منه بظاهر الكلام قبل أن ينظر إلى آخره، ويتأمل شرائطه، فقال له أبو بكر: إن الزكاة حق المال، يريد أن القضية قد تضمنت عصمة دم ومال، معلقة بإيفاء شرائطها، والحكم المعلق بشرطين لا يحصل بأحدهما، والآخر معدوم، ثم قايَسَه بالصلاة وَرَدَّ الزكاة إليها، فكان في ذلك دليلٌ على أن قتال الممتنع من الصلاة كان إجماعًا من رأي الصحابة، ولذلك رد المختلف فيه إلى المتفق عليه، فاجتمع في هذه القضية الاحتجاج من عمر بالعموم، ومن أبي بكر بالقياس. وقوله: "لو منعوني عَنَاقًا" بفتح العين والنون الأنثى، من ولد المعز، وفي رواية ذكرها أبو عبيدة "جديًا أَذوطَ" والأذوط الصغير الفك والذقن، وفي رواية الليث عند مسلم "عِقالًا" واختلف في هذه اللفظة، فقيل هي وهم، وأشار إلى ذلك البخاريّ بقوله في كتاب الاعتصام: وعن الليث عَناقًا، وهو أصح، قال عياض: احتج برواية العَناق من يجيز أخذ العَناق في زكاة الغنم، إذا كانت كلها سِخالًا؛ لأن الصغار تزكي على حول أُمهاتها إن كانت نصاباً وماتت الأمهات كلها، أو مكملة له بأن مات بعض الأمهات وبقي منها مع النتاج نصاب، أو ملك دون النصاب فولدت ما تم به النصاب. هذا مذهب المالكية. قال النوويّ: المراد أنها كانت صغارًا، فماتت أمهاتها في بعض الحول، فيزكين بحول الأمهات، ولو لم يبق من الأمهات شيء على الصحيح، ويتصور فيما إذا مات معظم الكبار، وحدثت الصغار، فحال الحول على بقية الكبار وعلى الصغار. وقال أبو القاسم الأنماطيّ: لا تزكي الأولاد بحول الأمهات، إلا أن يبقى من الأمهات نصاب. قال العينيّ: وقال أصحابنا: إلا أن يبقى من الأمهات شيء، ويتصور ذلك أيضًا فيما إذا مات معظم الكبار، وحدثت صغارٌ، فحال حول الكبار على بقيتها وعلى الصغار، قال: وهو الصحيح المشهور، وهو قول أبي يوسف من أصحابنا. وعند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى: لا تجب الزكاة في المسألة المذكورة، وحملا الحديث على صيغة المبالغة أو على الفرض والتقدير. وقيل: إنما ذكر العَناق مبالغةً في التقليل، لا العناق نفسها. ورواية "لو منعوني عِقالًا" قال النوويّ: محمولة على أنه قالها مرتين، مرة عَناقًا، ومرة عِقالًا. قال في "الفتح": هذا بعيد مع اتحاد المخرج والقصة، واختلف في المراد به، فقيل:

العِقال يطلق على صدقة العام، يعني صدقته، حكاه المازريّ عن الكسائيّ، واستشهد بقول الشاعر: سعى عِقالًا فلم يترك لنا سندًا ... فكيف لو قد سعى عمرو عقالين وعمرو المشار إليه وابن عُتبة بن أبي سفيان، وكان عمه معاوية يبعثه ساعيًا على الصدقات، فقيل فيه ذلك، ونقل عياض عن ابن وهب أنه الفريضة من الإبل، ونحوه عن النضر بن شُميل. وعن أبي سعيد الضّرير العقال: ما يؤخذ في الزكاة من نِعَم وثمار؛ لأنه عَقَلَ عنه به طلب السلطان، وعقَلَ عنه به الإثم. وقال المبرد: العِقال ما أخذه العامل من صدقة بعينها، فإن تعوّض عن شيء منها قيل: أخذ نقدًا، وعلى هذا فلا إشكال فيه. وذهب الأكثر إلى حمل العِقال على حقيقته، وأن المراد به الحبل الذي يعقل به البعير، نقله عياض عن مالك وابن أبي ذيب، قالا: العقال عِقال الناقة. وقال أبو عُبيد: العقال اسم لما يُعْقَل به البعير، وقد بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- محمد بن مَسْلمة على الصدقة، فكان يأخذ من كل فريضة عقالًا. وقال النوويّ: ذهب إلى هذا كثير من المحققين، وقال ابن التيمي في التحرير: قول مَنْ فسرا العقال بفريضة العام تعسُّف، وهو نحو تأويل من حمل البيضة والحبل في حديث "لعن السارق" على بيضة الحديد، وحبل السفينة. قال: وكلما كان في هذا السياق أحقر كان أبلغ. قال: والصحيح أن المراد بالعقال ما يعقل به البعير. قال: والدليل على أن المراد به المبالغة قولُه في الرواية الأخرى: "عنَاقًا" وفي الأخرى: "جديًا" قال: فعلى هذا فالمراد بالعقال قدر قيمته. قال النوويّ: وهذا هو الصحيح الذي لا ينبغي غيره. وفي المحكم، العقال: القَلُوص، وروى ابن القاسم وابن وهب عن مالك العقال: القلوص، وقال عياض: احتج به بعضهم على جواز أخذ الزكاة في عروض التجارة، وفيه بعد، والراجح أن العقال لا يؤخذ في الزكاة لوجوبه بعينه، وإنما يؤخذ تبعًا للفريضة التي تعقل به، أو أنه قال ذلك مبالغةً، على تقدير أنْ لو كانوا يؤدونه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وقال النوويّ: يصح قدر قيمة العِقال في زكاة النقد والمعدن والركاز والمُعَشّرات وزكاة الفطر، وفيما لو وجبت سِنّ فأخذ الساعي دونه، وفيما إذا كانت الغنم سِخالًا، فأخذ واحدة وقيمتها عقال. قال: وقد رأيت كثيرًا ممن يتعاطى الفقه يظنُّ أنه لا يتصور، وإنما هو للمبالغة، وهو غلط منه. وقد قال الخطابيّ: حمله بعضهم على زكاة العِقال إذا كان من عروض التجارة، وعلى الحبل نفسه عند مَنْ يجيز أخذ القيم. وللشافعيُّ قول أنه يتخير بين العرض والنقد. قال: وأظهر من ذلك كله قول مَنْ قال: إنه يجب أخذ العِقال مع الفريضة، كما جاء عن عائشة "كان من عادة المتصدق أن يعمد إلى قَرَنٍ، بالتحريك، وهو الحبل، فيقرن به بين بعيرين لئلا تشرد الإبل"، وهكذا جاء عن

الزهري. وقال غيره في قول أبي بكر: "لو منعوني عِقالًا كانوا يؤدونه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غِنْيةٌ عن حمله على المبالغة، وحاصله أنهم متى منعوا شيئًا كانوا يؤدونه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولو قلّ، فقد منعوا شيئًا واجبًا، إذ لا فرق في منع الواجب وجحده بين القليل والكثير. قال: وهذا يغني عن جميع التقادير والتأويلات التي لا يسبق اللهم إليها, ولا يظن بالصديق أنه يقصد إلى مثلها، والحامل لمن حمله على المبالغة، أن الذي تمثل به في هذا المقام لابد وأن يكون من جنس ما يدخل في الحكم المذكور، فلذلك حملوه على المبالغة. وقوله: "فوالله ما هو إلا أن قد رأيت أن الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعلمت أنه الحق" أي: ظهر له من صحة احتجاجه، لا أنه قدّره في ذلك. وقد قيل: إن أبا بكر رضي الله تعالى عنه استند في قتالهم إلى النص الصريح، مع ما احتج به على عمر. فقد روى الحاكم في الإكليل عن عبد الرحمن الظُّفْريّ: "بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى رجل من أشجع لتؤخذ صدقته، فرده، فرجع فأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: ارجع فأخبره أنك رسول رسول الله، فجاء إلى الأشجعيّ فرده، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: اذهب إليه الثالثة، فإن لم يعطِ صدقته فاضرب عنقه" قال عبد الرحمن بن عبد العزيز، أحد رواة الحديث، لحكيم بن عباد بن حُنيف، أحد رواته أيضًا: ما أرى أبا بكر قاتلهم مُتأَوّلًا، إنما قاتلهم بالنص. وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم في كتاب الإيمان: الاجتهادُ في النوازل، وردها إلى الأصول، والمناظرة على ذلك، والرجوع إلى الراجح، والأدب في المناظرة، فيترك التصريح بالتخطئة، والعدول إلى التلطف، والأخذ في إقامة الحجة إلى أن يظهر للمناظرة، فلو عاند بعد ظهورها، فحينئذ يستحق الإغلاظ بحسب حاله، وفيه الحلف على الشيء لتأكيده. وفيه منع قتل مَنْ قال لا إله إلا الله ولو لم يزد عليها، وهو كذلك، لكن هل يصير بمجرد ذلك مسلمًا؟ الراجح لا، بل يجب الكف عن قتله حتى يختبر، فإن شهد بالرسالة والتزم أحكام الإِسلام حُكِم بإسلامه، وإلى ذلك الإشارة بقوله: "إلا بحق الإِسلام". قال البَغَويّ: الكافر إذا كان وثنيًا أو ثنويًا لا يقر بالوحدانية، فإذا قال لا إله إلا الله، حُكِم بإسلامه، ثم يجبر على قبول جميع أحكام الإِسلام، ويبرأ من كل دين خالف دين الإِسلام، وأما مَنْ كان مقرًا بالوحدانية منكرًا للنبوءة، فإنه لا يحكم بإسلامه حتى يقول "محمد رسول الله" فإن كان يعتقد أن الرسالة المحمدية إلى العرب خاصة، فلابد أن يقول إلى جميع الخلق، فإن كان كفر بجحودُ واجبٍ أو استباحةِ محرم فيحتاجُ أن يَرجع عمّا اعتقده. ومقتضى قوله: "يجبر" أنه إذا لم يلتزم تجري عليه أحكام المرتد، وبه صرّح القَفّال، واستدل بحديث الباب، فادّعى أنه لم يرد في خبر من الأخبار "أمرتُ أنْ أُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله" أو "أني رسول الله" وهذه غفلة عظيمة، فالحديث في صحيحي البخاري

ومسلم، في كتاب الإيمان من كل منهما عن ابن عمر بلفظ: "حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله". ويحتمل أن يكون المراد بقول لا إله إلا الله هنا، التلفظَ بالشهادتين، لكونها صارت علمًا على ذلك، ويؤيده ورودهما صريحًا في الطرق الأخرى. واستدل به على أن الزكاة لا تسقط عن المرتد، وتعقب بأن المرتد كافر، والكافر لا يطالب بالزكاة، وإنما يطالب بالإِيمان، وليس في فعل الصديق حجة لما ذكر، وإنما فيه قتال من منع الزكاة. والذين تمسكوا بأصل الإِسلام، ومنعوا الزكاة بالشبهة التي ذكروها ,لم يحكم عليهم بالكفر قبل إقامة الحجة، وقد اختلف الصحابة فيهم بعد الغلبة عليهم، هل تغنم أموالهم وتسبى ذراريهم، كالكفار؟ أم لا كالبغاة؟ فرأى أبو بكر الأول وعمل به، وناظره عمر في ذلك، وذهب إلى الثاني ووافقه غيره في خلافته على ذلك. واستقر الإجماع عليه في حق مَنْ جحد شيئًا من الفرائض بشبهة، فيطالب بالرجوع، فإنْ نصب القتال قوتل، وأقيمت عليه الحجة، فإن رجع وإلا عومل معاملة الكافر حينئذ. ويقال إن أَصْبَغَ، من المالكية، استقر على القول الأول، فعد من ندرة المخالف، وقال القاضي عياض: يستفاد من هذه القصة أن الحاكم إذا أداه اجتهاده في أمر لا نص فيه، إلى شيء تجب طاعته فيه، ولو اعتقد بعض المجتهدين خلافه، فإن صار ذلك المجتهد المعتقد خلافه حاكمًا، وجب عليه العمل بما أداه إليه اجتهاده، وتسوغ له مخالفة الذي قبله في ذلك؛ لأن عمر أطاع أبا بكر فيما رأى من حق مانعي الزكاة، مع اعتقاده خلافه، ثم عمل في خلافته بما أدّاه إليه اجتهاده، ووافقه أهل عصره من الصحابة وغيرهم، وهذا مما يُنبه عليه في الاحتجاج بالإجماع السُّكوتي، فيشترط في الاحتجاج به انتفاء موانع الإنكار، وهذا منها. وقال الخطابيّ: في الحديث أنَّ مَنْ أظهر الإِسلام، أُجريت عليه أحكامه الظاهرة، ولو أسر الكفر في نفس الأمر، ومحل الخلاف إنما هو فيمن اطلع على معتقده الفاسد، فأظهر الرجوع، هل يقبل منه أو لا؟ وأما مَنْ جهل أمره فلا خلاف في إجراء الأحكام الظاهرة عليه، وقد مرَّ عند حديث ابن عمر في كتاب الإيمان ما قيل في قبول تولة الزنديق، وهو الذي يسر الكفر ويظهر الإِسلام. تكميل: قصد البخاري بهذه الأحاديث الاستدلال على وجوب الزكاة، وقد اختلف في أول وقت فرض الزكاة، فذهب الأكثر إلى أنه وقع بعد الهجرة، فقيل: كان في السنة الثانية قبل فرض رمضان، أشار إليه النوويّ، وجزم ابن الأثير بأن ذلك كان في التاسعة، وفيه نظر، فقد تقدم في حديث ضِمام بن ثَعْلبة، وحديث وفد عبد القيس، وفي عدة أحاديث ذكرُ الزكاة، وكذا مخاطبة أبي سفيان مع هرقل، وكانت في أول السابعة، وقال فيها: "يأمرنا بالزكاة" لكن يمكن تأويل كل ذلك كما سيأتي في آخر الكلام، إلا حديث ضمام بن ثعلبة، فإنه صريح في أن فرضها كان قبل التاسعة؛ لأن قدومه كان

رجاله سبعة

سنة خمس كما مرَّ، وفي حديثه "أنشدك الله، آلله أمرك أن تأخذ الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا؟ ". وقوّى بعضهم ما ذهب إليه ابن الأثير بما وقع في قصة ثعلبة بن حاطب المطولة، ففيها لما أنزلت آية الصدقة، بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- عاملًا، فقال: ما هذه إلا جِزية وأخت الجزية. والجِزية إنما وجبت في التاسعة، فتكون الزكاة في التاسعة، لكنه حديث ضعيف لا يحتج به. وادّعى ابن خُزيمة في صحيحه أن فرضها كان قبل الهجرة، واحتج بما أخرجه من حديث أم سلمة في قصة هجرتهم إلى الحبشة، وفيها أن جعفر بن أبي طالب قال للنجاشي في جملة ما أخبره عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ويأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام" وفي استدلاله نظر؛ لأن الصلوات الخمس لم تكن فرضت بعد، ولا صيام رمضان، فَيُحْتَمل أن تكون مراجعة جعفر لم تكن في أول ما قدم على النجاشيّ، وإنما أخبره بذلك بعد مدة قد وقع فيها ما ذُكِرَ من قصة الصلاة والصيام، وبلغ ذلك جعفرًا فقال: "يأمرنا بمعنى يأمر به أمته" وهو بعيدٌ جدًا، وأولى ما حُمِلَ عليه حديث أُم سَلَمةَ هذا، أن سلم من قُدح في إسناده أن المُراد بقوله: يأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، أي في الجملة، ولا يلزم من ذلك أن يكون المراد بالصلاة الصلوات الخمس، ولا بالصيام صيام رمضان، ولا بالزكاة هذه الزكاة المخصوصة ذات النصاب والحول. والظاهر أن الذي وقع في التاسعة بعث العمال لأخذ الصدقات، وذلك يَستدعي تقدم فرضية الزكاة قبل ذلك، ولما يدل على أن فرض الزكاة وقع بعد الهجرة، اتفاقهم على أن صيام رمضان إنما فرض بعد الهجرة؛ لأن الآية الدالة على فرضيته مدنية بلا خلاف، وثبت عند أحمد وابن خزيمة والنَّسائيّ وابن ماجه والحاكم، من حديث قيس بن سعد بن عُبادَةَ قال: أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بصدقة الفطر، قبل أن تنزل الزكاة، ثم نزلت فريضة الزكاة، فلم يأمرنا ولم ينهنا، ونحن نفعله. إسناده صحيح، رجاله رجال الصحيح إلا أبا عمار الراوي له عن قيس بن سعد، وهو كوفيّ اسمه عَرِيْبٌ، بالمهملة المفتوحة، بن حميد، وقد وثّقه أحمد وابن مُعين، وهو دال على أن فرض صدقة الفطر كان قبل فرض الزكاة، فيقتضي وقوعها بعد فرض رمضان، وذلك بعد الهجرة، وهو المطلوب. وفي تاريخ الإِسلام في السنة الأولى فرضت الزكاة، وقد أخرج البيهقيّ في الدلائل حديثَ أُم سلمة المذكور، عن مغازي ابن إسحاق من رواية يونس بن بكير عنه، وليس فيه ذكر الزكاة وابن خزيمة أخرجه عن ابن إسحاق، لكن عن سلمة بن الفضل عنه، وفي سلمة مقال. رجاله سبعة: قد مرّوا، مرَّ أبو اليمان وشعيب في السابع من بدء الوحي، وابن شهاب في الثالث منه، وعُبَيْد الله المسعُودِيّ في السادس منه، وعمر بن الخطاب في الأول منه، وأبو هريرة في الثاني من

الإيمان، وأبو بكر في باب مَنْ لم يتوضأ من لحم الشاة بعد الحادي والسبعين من الوضوء. أخرجه البخاريّ أيضًا في استنابة المرتدين وفي الاعتصام، ومسلم في الإيمان، وأبو داود في الزكاة، والتِّرمِذِيّ في الإيمان، والنَسَائيّ فيه وفي المحاربة وفي الجهاد ثم قال المصنف:

باب البيعة على إيتاء الزكاة

باب البيعة على إيتاء الزكاة {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ}. قال الزين بن المنير: هذه الترجمة أخص من التي قبلها, لتضمنها أن بيعة الإِسلام لا تتم إلا بالتزام إيتاء الزكاة، وأن مانعها ناقضٌ لعهده مبطل لبيعته، فهو أخص من الإيجاب؛ لأن كل ما تضمنته بيعة النبي -صلى الله عليه وسلم- واجب، وليس كل واجب تضمنته بيعته، وموضع التخصيص الاهتمام والاعتناء بالذكر حال البيعة. قال: وأتبع المصنف الترجمة بالآية معتضدًا بحكمها؛ لأنها تضمنت أنه لا يدخل في التوبة من الكفر، وينال أُخُوَّة المؤمنين في الدين إلا مَنْ أقام الصلاة، وآتى الزكاة. الحديث السابع حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ قَيْسٍ قَالَ: قَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: بَايَعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى إِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ. هذا الحديث قد مرَّ الكلام عليه مستوفىً في آخر كتاب الإيمان. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ محمد بن نمير في الأول من أبواب العمل في الصلاة، ومرَّ أبوه عبد الله بن نُمير في الثالث من التيمم، ومرَّ إسماعيل بن خالد في الثالث من الإيمان، ومرَّ قيس بن أبي حازم وجرير بن عبد الله في الخمسين منه، ومرَّ الكلام عليه هناك. ثم قال المصنف:

باب إثم مانع الزكاة

باب إثم مانع الزكاة وقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ}. قال الزين بن المنير: هذه الترجمة أخص من التي قبلها, لتضمن حديثها تعظيم إثم مانع الزكاة، والتنصيص على عظيم عقوبته في الدار الآخرة، وتبري نبيه منه، بقوله له: "لا أملك لك من الله شيئًا" وذلك مؤذن بانقطاع رجائه، وإنما تتفاوت الواجبات بتفاوت المثوبات والعقوبات، فما شددت عقوبته كان إيجابه آكد مما جاء فيه مطلق العقوبة، وعبر المصنف بالإثم ليشمل من تركها جحدًا أو بخلًا. قوله: "وقول الله تعالى" بالجرِ عطفًا على سابقه، وبالرفع على الاستئناف، وقوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} الآية، الكنز اسم للمال ولما يحرز فيه، وقال الطبريّ: هو كل شيء مجموع بعضه إلى بعض، في بطن الأرض كان أو في ظهرها, ولا يختص ذلك بالذهب والفضة، ألا ترى إلى قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ألا أخبركم بخير ما يكنزه المرءُ، المرأةَ الصالحةَ التي إذا نظر إليها سرته وإذا أمرها طاعته، وإذا غاب عنها حفظته" رواه أبو داود وابن مردويه والحاكم. وقال: على شرطهما ولم يخرجاه. وسمي الذهب ذهبًا لأنه يذهب ولا يبقى، وسميت الفضة فضة لأنها تنفض أي تنصرف. والضمير في قوله: {وَلَا يُنْفِقُونَهَا} للكنوز الدال عليها يكنزون، أو للأموال، فإن الحكم عام، وتخصيصها بالذكر لأنهما قانون التمول، أو للفضة لأنها أقرب، ويدل على أن حكم الذهب كذلك بطريق الأولى. وقوله: {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} المراد به المعنى الأعم، لا خصوص أحد السهام الثمانية، وإلا لاختص بالصرف إليه بمقتضى هذه الآية. وقوله: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ} يوم توقد النار ذات حُمّى وحر شديد على الكنوز، وأصله تحمى النار، فجعل للنار مبالغة، ثم طوى ذكر النار، وأسند الفعل للجار والمجرور، تنبيهًا على المعهود، وانتقل من صيغة التأنيث إلى صيغة التذكير، وإنما قال "عليها" والمذكور شيئان، لأن المذكور دنانير ودراهم كثيرة، كما قال عليّ رضي الله تعالى عنه، فيما قاله الثَّوريّ عن أبي حُصين عن أبي الضُّحَى عن جَعْدة بن هبيرة عنه "أربعة آلاف وما دونها نفقة، وما فوقها كنز". وقوله: فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، أي: لأنها مجوفة فتسرع الحرارة إليها، أو لأن

الحديث الثامن

الكي في الوجه أبشع وأشهر، وفي الظهر والجنب أوجع وآلم. وقال البيضاويّ: خص الجنب والجبين والظهر لأنه جمع المال ولم يصرفه في حقه لتحصيل الجاه والتنعم بالمطاعم والملابس، أو لأنه أعرض عن الفقير، وولاه ظهره، أو لأنها أشرف الأعضاء الظاهرة، لاشتمالها على الأعضاء الرئيسة. وقيل: المراد بها الجهات الأربع التي هي مقدم البدن ومؤخره وجنباه، نسأل الله تعالى العافية والسلامة. وقد أخرج مسلم من رواية زيد بن أسلم: "ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة، صفحت له صفائحٍ من نارٍ، فأُحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره". وروى ابن أبي حاتم مرفوعًا "ما من رجل يموت، وعنده أحمر أو أبيض، إلا جعل الله بكل صحيفة من نار تكوى بها قدمه إلى ذقنه". وروي أنه لا يوضع دنيار على دينار، ولكن يوسع جلده حتى يوضع كل درهم في موضع على حدة. وقوله: {فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} أي: كنزكم، أو ما تكنزونه، فما مصدرية أو موصولة، وأكثر السلف أن الآية عامة للمسلمين وأهل الكتاب. وفي سياق المؤلف لها تلميح إلى تقوية ذلك، خلافًا لمن زعم أنها خاصة بالكفار، والوعيد المذكور في كل ما لم تُؤَد زكاته، ففي حديث عمر: "أيما مال أُدِّيت زكاته، فليس بكنز، وإن كان مدفونًا في الأرض، وأيما مالٍ لم تُؤَد زكاته، فهو كنز مكويٌّ به صاحبه، وإن كان على وجه الأرض". الحديث الثامن حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ هُرْمُزَ الأَعْرَجَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "تَأْتِى الإِبِلُ عَلَى صَاحِبِهَا، عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ، إِذَا هُوَ لَمْ يُعْطِ فِيهَا حَقَّهَا، تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا، وَتَأْتِي الْغَنَمُ عَلَى صَاحِبِهَا عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ، إِذَا لَمْ يُعْطِ فِيهَا حَقَّهَا، تَطَؤُهُ بِأَظْلاَفِهَا، وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا. وَقَالَ: وَمِنْ حَقِّهَا أَنْ تُحْلَبَ عَلَى الْمَاءِ. قَالَ: وَلاَ يَأْتِي أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِشَاةٍ يَحْمِلُهَا عَلَى رَقَبَتِهِ لَهَا يُعَارٌ، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ. فَأَقُولُ: لاَ أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ بَلَّغْتُ. وَلاَ يَأْتِي بِبَعِيرٍ، يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ لَهُ رُغَاءٌ، فَيَقُولُ يَا مُحَمَّدُ. فَأَقُولُ: لاَ أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ بَلَّغْتُ. قوله: "تأتي الإبل على صاحبها" يعني يوم القيامة، وقوله: "على خير ما كانت" أي: من العِظَم والسِّمَن والكثرة؛ لأنها تكون عنده على حالات مختلفة، فتأتي أكملها, ليكون ذلك أنكىِ له، لشدة ثقلها. وقوله: "إذا هو لم يعطِ فيها حقها" أي: لم يؤد زكاتها. وقد رواه مسلم عن أبي ذَرٍّ بهذا اللفظ. وقوله: "تطأه بأخفافها" بألف من غير واو، وكذا هو عند بعض النحويين، لشذوذ هذا الفعل من بين نظائره في التعدي؛ لأن الفعل إذا كان فاؤه واوًا، وكان على فَعِل، مكسور العين،

كان غير متعدٍ، غير هذا الحرف ووَسِع، فلما شذا دون نظائرهما، أعطيها هذا الحكم. وقيل: أصله يَوْطِىء، بكسر الطاء، فسقطت الواو لوقوعها بين ياء وكسرة، ثم فتحت الطاء لأجل الهمزة. والأخفاف جمع خف، وهو للإبل كالظلف للغنم والبقر، والحافر للحمار والبغل والفرس، والقدم للآدمي. وفي رواية همام عن أبي هريرة في ترك الخيل فتخبط وجهه بأخفافها, ولمسلم عن أبي صالح عنه "ما من صاحب إبل لا يؤدي حقها منها إلا إذا كان يوم القيامة بُطح لها بقاعٍ قَرْقَرٍ، أو فر ما كانت، لا يفقد منها فصيلًا واحدًا، تطؤه بأخفافها وتعضده بأفواهها، كلما مرت عليه أولاها ردت عليه أخراها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضي الله بين العباد، ويرى سبيله إما إلى الجنة، وإما إلى النار". وللمصنف من حديث أبي ذَرٍّ "إلا أُتي بها يوم القيامة أعظم ما كانت، وأسمنه" ورواية مسلم هذه "كلما مرت عليه أُولاها ردت عليه أُخراها" قال عياض: قالوا هو تغيير وتصحيف، وصوابه ما في رواية سُهيل عن أبيه "كلما مرَّ عليه أُخراها رد عليه أُولاها" وبهذا ينتظم الكلام، وكذا وقع عند مسلم من حديث أبي ذَرٍّ أيضًا، وأقره النوويّ على هذا، وحكاه القُرطبيّ، وأوضح وجه الرد بأنه إنما يرد الأول الذي قد مرَّ قبل، وأما الآخر، فلم يمر بعد، فلا يقال فيه رد، ثم أجاب بأنه يحتمل أن المعنى أن أول الماشية إذا وصلت إلى آخرها تمشي عليه، تلاحقت بها أخراها، ثم إذا أرادت الأولى الرجوع بدأت الأخرى بالرجوع، فجاءت الأُخرى أول حتى تنتهي إلى آخرِ الأولى. وكذا وجهه الطيبي فقال: إن المعنى أنَّ أُولاها إذا مرت على التتابع إلى أن تنتهي إلى الأُخرى، ثم ردت الأُخرى من هذه الغاية، وتبعها ما يليها إلى أن تنتهي أيضًا إلى الأُولى، هكذا قيل. ولم يتضح لي غاية الاتضاح. وقوله: وتأتي الغنم تطأه بأظلافها، وتنطِحه بقرونها، بكسر الطاء من تنطحه، ويجوز الفتح، زاد في رواية أبي صالح المذكورة: "ليس فيها عقصاء ولا جَلحاء ولا عضباء، تنطحه بقرونها". وزاد فيه ذكر البقر أيضًا، وذكر في البقر والغنم ما ذكر في الإبل، وسيأتي ذكر البقر في حديث أبي ذَرٍّ في باب مفرد. وقوله: "ومن حقها أنْ تُحلب على الماء" بحاء مهملة، أي لمن يحضرها من المساكين، وإنما خص الحلب بموضع الماء ليكون أسهل على المحتاج من قصد المنازل، وأرفق بالماشية، لكونه أوسع عليها. وذكره الداوديّ بالجيم، وفسره بإحضارها عند الماء للمصدق، ولو كان هذا هو المراد، لقال "إلى" بدل "على" وجزم ابن دَحْية بأنه تصحيف، وعند أبي داود عن أبي هُريرة ما يؤذن بأن هذه الجملة مرفوعة، ولفظه "قلنا: يا رسول الله، ما حقها؟ قال: إطراق فحلها، وإعارة دلوها ومنحتها، وحلبها على الماء، وحمل عليها في سبيل الله" وستأتي في أواخر الشرب هذه القطعة وحدها مرفوعة من وجه آخر، عن أبي هريرة. ودلت هذه القطعة على أن في المال حقًا سوى الزكاة.

وقد روى ابن ماجةَ عن فاطمة بنت قيس: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ليس في المال حق سوى الزكاة" وفي رواية "في المال حق سوى الزكاة" وهذا الحديث ليس بصحيح، والصحيح أنه من كلام الشعبيّ، وقد قال به غيره من التابعين، كالحسن وعطاء وطاووس، ومذهب أكثر العلماء أن هذا على النَّدبْ والمواساة. قال ابن بطال: يريد حق الكرم والمواساة، وشريف الأخلاق، لا أن ذلك فرض، وقال أيضًا: كانت عادة العرب التصديق باللبن علي الماء، فكان الضعفاء يرصدون ذلك منهم، وقال أيضًا: الحق حقان: فرضُ عينٍ وغيره. فالحلب من الحقوق التي هي من مكارم الأخلاق. وقال إسماعيل القاضي: الحق المفترض هو الموصوف المحدود، وقد تحدث أمور لا تحد، فتجب فيها المواساة للضرورة التي تنزل، من ضيف مضطر، أو جائعٍ أو عار أو ميت ليس له من يواريه، فيجب حينئذ على مَنْ تمكنه المواساة التي تزول بها هذه الضرورات. وقيل: المراد بالحق القدر الزائد على الواجب، ولا عقاب بتركه، وإنما ذكر استطرادًا لما ذكر، حقها بين الكمال فيه، وإن كان له أصل يزول الذم بفعله، وهو الزكاة، وقيل: كان هذا قبل فرض الزكاة، ويؤيده ما يأتي في حديث ابن عمر في الكنز، لكن يعكر عليه أن فرض الزكاة متقدم على إسلام أبي هريرة كما تقدم تقريره. وفي الحديث أن الله يحيي البهائم ليعاقب مانع الزكاة، وفي ذلك معاملة له بنقض قصده؛ لأنه قصد منع حق الله تعالى منها، وهو الارتفاق والانتفاع بما يمنعه منها، فكان ما قصد الانتفاع به أضر الأشياء عليه، والحكمة في كونها تعاد كلها، مع أن حق الله فيها، إنما هو في بعضها؛ لأن الحق في جميع المال غير متميز، ولأن المال، لما لم تخرج زكاته، كان غير مطهر. وقوله: "ولا يأتي أحدكم" في رواية النَّسَائيّ "ألا لا يأتين أحدكم" وفي رواية الجهاد "لا أُلْفِيَنَّ" بضم أوله، والفاء أي: لا أجدَنَّ، وهذا نفي مراد به النهي، وهو وإن كان من نهي المرء نفسه، فليس المراد ظاهره، وإنما المراد نهي مَنْ يخاطبه عن ذلك، وهذا طرف من حديث متعلق بالغلول من الغنائم، أخرجه المصنف مفردًا في أواخر الجهاد في باب الغلول. وقوله: "لها يُعار" بتحتانية مضمومة ثم مهملة، صوت المعز، وفي رواية المستملي والكشمينهيّ "ثُغاء" بضم المثلثة ثم معجمة بغير راء، ورجحه ابن التين، وهو صياح الغنم، وحكى ابن التين عن القزاز أنه رواه "تُعار" بمثناة مضمومة ومهملة، وليس بشيء. وقوله: "رُغاء" بضم الراء ومعجمة، صوت الإبل. وقوله: "لا أملك لك شيئًا من المغفرة" لأن الشفاعة أمْرُها إلى الله تعالى. وقوله: "قد بلغتك" أي: فليس لك عذر بعد الإبلاع، وكأنه -صلى الله عليه وسلم- أبرز هذا الوعيد في مقام الزجر والتغليظ، وإلا فهو يوم القيامة صاحب الشفاعة في مذنبي الأمة، وهذا العمل، قال المهلب: إنه وعيد لمن أنفذه الله عليه

رجاله خمسة

من أهل المعاصِي، ويحتمل أن يكون العمل المذكور لابد منه، عقوية له بذلك، ليفتضح على رؤوس الأشهاد، وأما بعد ذلك، فإلى الله الأمر في تعذيبه أو العفو عنه. وقال غيره: هذا الحديث يفسر قوله عَزَّ وَجَلَّ: {يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي: يأت به حاملًا له على رقبته، ولا يقال إن بعض ما يسرق من النقد أخف من البعير مثلًا والبعير أرخص ثمنًا، فكيف يعاقب الأخف جناية بالأثقل؟ وعكسه؛ لأن الجواب أن المراد بالعقوبة بذلك، فضيحة الحامل على رؤوس الأشهاد في ذلك الموقف العظيم، لا بالثقيل والخفة. قال ابن المنذر: أجمعوا على أن الغالّ عليه أن يعيد ما غل قبل القسمة، وأما بعدها، فقال مالك والثَّوْرِيّ والأوزاعيّ واللَّيث: يدفع إلى الإِمام خمسه، ويتصدق بالباقي، وكان الشافعيّ لا يرى ذلك، ويقول: إن كان ملكه، فليس عليه أن يتصدق به، وإن كان لم يملكه، فليس له الصدقة بمال غيره. قال: والواجب أن يدفعه إلى الإمام كالأموال الضائعة. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ الحكم بن نافع وشعيب في السابع من بدء الوحي، ومرَّ أبو الزناد والأعرج في السابع من الإيمان، ومرَّ أبو هريرة في الثاني منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإفراد والإخبار بالجمع، والسماع والقول، وفيه أن نصف السند حُمصيّ، ونصفه مَدَنِيّ. أخرجه مسلم وأبو داود والنَّسَائيّ. الحديث التاسع حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً، فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ، لَهُ زَبِيبَتَانِ، يُطَوَّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ يَعْنِي شِدْقَيْهِ ثُمَّ يَقُولُ أَنَا مَالُكَ، أَنَا كَنْزُكَ ثُمَّ تَلاَ {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} الآيَةَ. قوله: "عن أبي صالح" كذا رواه عبد الرحمن، وتابعه زيد بن أسلم عن أبي صالح عند مسلم، وساقه مطولًا، وكذا رواه مالك عن عبد الله بن دينار، ورواه ابن حِبّان عن القعقاع بن حلية عن أبي صالح، لكنه وقفه على أبي هريرة، وخالفهم عبد العزيز بن أبي سَلَمة، فرواه عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر، أخرجه النَّسَائِيّ، ورجحه، لكن قال ابن عبد البَرَّ: رواية عبد العزيز خطأٌ بَيِّنْ؛ لأنه لو كان عند عبد الله بن دينار عن ابن عمر ما رواه عن أبي صالح أصلًا.

وفي هذا التعليل نظر، وما المانع أن يكون له فيه شيخان، نعم الذي يجري على طريقة أهل الحديث أن رواية عبد العزيز شاذة؛ لأنه لم يسلك الجادة، ومن عدل عنها دل على مزيد حفظه. وقوله: "مُثِّلَ له" أي: صوّر أو ضمِّن مثل معنى التصيير، أي: سير ماله على صورة شجاع. والمراد بالمال النّاضّ، وقد مرت رواية زيد بن أسلم في الذي قبله، ولا تنافي بين الروايتين، لاحتمال اجتماع الأمرين معًا، فرواية ابن دينار توافق الآية التي ذكرها، وهي سيطوقون، ورواية زيد بن أسلم توافق قوله تعالى: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ} الآية. وقوله: "شُجاعًا" بضم المعجمة ثم جيم، الحية الذكر، وقيل: الذي يقوم على ذَنَبه ويواثب الفارس. وقوله: "أقرع" هو الذي تقرع رأسه أي: تَمَعَّط، لكثرة سمه. وفي كتاب أبي عبيد: سُمي أقرع لأن شعر رأسه يتمعَّط لجمعه السم فيه. وتعقبه القَزَّاز بأن الحية لا شعر برأسها، فلعله يذهب جلد رأسه، وفي تهذيب الأزهري: سمي أقرع لأنه يَقْرِي السم، ويجمعه في رأسه حتى يتمعَّط فروة رأسه. قال ذو الرمة: قَرَى السم حتى انمار فروة رأسه ... عن العظمِ صلّ قاتلُ اللسعِ ما رِدُه وقال القرطبي: الأقرع من الحيات الذي ابيضّ رأسه من السم، ومن الناس الذي لا شعر برأسه. وقوله: "له زبيبتان" تثنية زبيبة، بفتح الزاي وموحدتين، وهما الزبدتان اللتان في الشدقين، يقال: تكلم حتى زَبَّب شَدْقاه، أي: خرج الزَّبَد منهما. وقيل: هما النكتتان السوداوان فوق عينيه، وقيل: نقطتان يكتنفان فاه، وقيل: هما في حلقه بمنزلة زَنَمَتْي العنز. وقيل: لحمتان على رأسه مثل القرنين، وقيل: نابان يخرجان من فيه. وقوله: "يُطَوَّقُه" بضم أوله وفتح الواو الثقيلة، يصير له ذلك الثعبان طوقًا. وقوله: "ثم يأخذ بلِهْزِمتيه" فاعل يأخذ هو الشجاع، والمأخوذ يد صاحب المال كما وقع مبينًا في رواية همّام عن أبي هريرة الأتية في ترك الحيل بلفظ "لا يزال يطلبه حتى يبسط يده، فيلقمها فاه" واللِّهْزِمة، بكسر اللام وسكون الهاء بعدها زاي مكسروة، وقد فسَّر في الحديث بالشدقين، وفي الصحاح: هما العظمان الناتئان في اللَّحْيَين تحت الأُذنين، وفي الجامع: هما لحم الخدين الذي يتحرك إذا أكل الإنسان. وقوله: "ثم يقول: أنا مالُك، أنا كنزك" وفائدة هذا القول الحَسْرة والزيادة في التعذيب، حيث لا ينفعه الندم. وفيه نوع من التهكم، وزاد في ترك الحيل عن همام عن أبي هريرة "يفر منه صاحبه ويطلبه" وفي حديث ثوبان عند ابن حِبّان "يتبعه فيقول: أنا كنزك الذي تركته بعدك، فلا يزال يتبعه حتى يلقمه يده، فيمضغها، ثم يتبعه سائر جسده" ولمسلم عن جابر: "يتبع صاحبه حيث ذهب، وهو يفر منه، فإذا رأى أنه لابد منه أدخل يده في فيه، فجعل يقضمها كما يقضم الفحل" وللطبرانيّ عن ابن مسعود: "ينقر رأسه".

رجاله ستة

وظاهر الحديث أن الله يصور نفس المال بهذه الصفة، وفي حديث جابر عند مسلم: الأمثل له كما هنا، قال القرطبي: أي صورًا، ونَصَب وأقيم من قولهم مثل قائمًا أي: منتصبًا. وقوله: "ثم تلا: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} الآية. في حديث ابن مسعود عند الشافعي والحميدي، ثم قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكر الآية، ونحوه في رواية التِّرْمِذِيّ قرأ مصداقه: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وفي هذين الحديثين تقوية لقول مَنْ قال: المراد بالتطويق في الآية الحقيقةُ خلافًا لمن قال إن معناه سيطَوَّقون الإثم. وفي تلاوة النبي -صلى الله عليه وسلم- الآية، دلالةٌ على أنها نزلت في مانعي الزكاة، وهو قول أكثر أهل العلم بالتفسير، وقيل إنها نزلت في اليهود الذين كتموا صفة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقيل: نزلت فيمن له قرابة لا يصلهم، قاله مسروق. رجاله ستة: قد مرّوا، مرَّ علي بن المَدِينيّ في الرابع عشر من العلم، ومرَّ هشام بن القاسم في التاسع من الوضوء وعبد الرحمن بن عبد الله بن دينار في الثامن والثلاثين منه، ومرَّ أبوه عبد الله بن دينار وأبو صالح وأبو هريرة في الثاني من الإيمان. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة، وشيخه من أفراده، وهو بَصْريّ، وهاشم خراسانيّ، والباقون مدنيون. وفيه رواية الابن عن الأب. أخرجه البخاريّ أيضًا في التفسير، والنَّسائيّ في الزكاة. ثم قال المصنف:

باب ما أدى زكاته فليس بكنز

باب ما أدى زكاته فليس بكنز لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ليس فيما دون خمس أواق صدقة". قال ابن بطال وغيره: وجه استدلال البخاري بهذا الحديث للترجمة، أن الكنز المنفي هو المتوعد عليه، الموجب لصاحبه النار، لا مطلق الكنز الذي هو أعم من ذلك. وإذا تقرر ذلك لحديث: "لا صدقة فيما دون خمس أواق" مفهومُه أن ما زاد على الخمس فيه الصدقة، ومقتضاه أن كل مال أخرجت منه الصدقة فلا وعيد على صاحبه، فلا يسمى ما يفضل بعد إخراج الصدقة كنزًا. وقال ابن رشيد: وجه التمسك به أن ما دون الخمس، وهو ما لا تجب فيه الزكاة، قد عفى عن الحق فيه، فليس بكنز قطعًا، والله قد أثنى على فاعل الزكاة، ومَنْ أثنى عليه في واجب حق المال، لم يلحقه ذم من جهة ما أثنى عليه فيه، وهو المال. ويتلخص أن يقال: ما لم تجب فيه الصدقة لا يسمى كنزًا؛ لأنه معفوٌّ عنه، فليكن ما أخرجت منه الزكاة كذلك؛ لأنه عفى عنه بإخراج ما وجب منه، فلا يسمى كنزًا، ثم إن لفظ الترجمة لفظ حديثٍ روي مرفوعًا وموقوفًا عن ابن عمر، أخرجه مالك عن عبد الله بن دينار عنه موقوفًا، وكذلك أخرجه الشافعيّ عنه، ووصله البيهقيّ والطبرانيّ عن الثّوْرِيّ عن عبد الله بن دينار، وقال: إنه ليس بمحفوظ، وأخرجه البيهقي أيضًا عن نافع عن ابن عمر بلفظ: "كلما أُدِّيت زكاته، وان كان تحت سبع أرضين، فليس بكنز، وكل ما لا تؤدى زكاته، فهو كنز، وإن كان ظاهرًا على وجه الأرض" أو رده مرفوعًا ثم قال: ليس بمحفوظ، والمشهور وقفه، وهذا يؤيد ما تقدم من أن المراد بالكنز معناه الشرعي. وفي الباب عن جابر، أخرجه الحاكم بلفظ "إذا أديتَ زكاة مالِك، فقد أذهبت عنك شره" ورجح أبو زرعة والبيهقيّ وغيرهما وقَفه، كما عند البزار، وعن أبي هريرة أخرجه التِّرْمِذِيّ بلفظ: "إذا أديت زكاةَ مالك، فقد قضيت ما عليك" وقال: حسن غريب، وصححه الحاكم، وهو على شرط ابن حِبّان. وعن أُم سلمة عند الحاكم، وصححه ابن القطّان، وأخرجه أبو داود، وقال ابن عبد البر: في سنده مقال. وذكر البلقينيّ في شرح التِّرمِذِيّ: إن سنده جيد، وعن ابن عباس، أخرجه ابن أبي شيبة موقوفًا بلفظ الترجمة، وأخرجه أبو داود مرفوعًا بلفظ: "إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب ما بقي من أموالكم" وفيه قصة، قال ابن عبد البَرّ: الجمهور على أن الكنز المذموم ما لم تُؤَدَّ زكاتُه، ويشهد له حديث أبي هُريرة مرفوعًا: وإذا أدَّيْتَ زكاة مالك، فقد قضيت ما عليك" فذكر

الحديث العاشر

بعض ما تقدم من الطرق، ثم قال: ولم يخالف في ذلك إلا طائفة من الزهاد، كأبي ذَرٍّ، وسيأتي شرح ما ذهب إليه من ذلك في هذا الباب. الحديث العاشر وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ أَخْبِرْنِي عن قَوْلَ اللَّهِ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: مَنْ كَنَزَهَا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا فَوَيْلٌ لَهُ، إِنَّمَا كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تُنْزَلَ الزَّكَاةُ فَلَمَّا أُنْزِلَتْ جَعَلَهَا اللَّهُ طُهْرًا لِلأَمْوَالِ. قوله: "وقال أحمد بن شبيب" كذا للأكثر، وفي رواية لأبي ذَرٍّ: "حدّثنا أحمد" ووصله أبو داود في كتاب "الناسخ والمنسوخ" عن محمد بن يحيى الذّهْلِيّ عن أحمد بن شبيب بإسناده، وزاد فيه سؤال الأعرابيّ: "أَتَرث العمة؟ قال ابن عمر: لا أدري" وزاد في آخره بعد قوله: "طهر للأموال" ثم التفت إليّ فقال: "ما أُبالي لو كان لي مثل أحد ذهبًا، أعلم عدده، أزكيه وأعمل فيه بطاعة الله تعالى". وهو عند ابن ماجة عن عقيل عن الزُّهريّ، وقوله: "مَنْ كنزها فلم يؤدِّ زكاتها" أفرد الضمير إما على سبيل تأويل الأموال أو عودًا إلى الفضة؛ لأن الانتفاع بها أكثر، أو كأنَّ وجودها في زمنهم أكثر من الذهب، أو على الاكتفاء ببيان حالها عن بيان حال الذهب، والحامل على ذلك رعاية لفظ القرآن، حيث قال: ينفقونها، وقد مرَّ ما قيل فيها عند ذكر الآية. وقوله: "قبل أن تنزل الزكاة" هذا مشعر بأن الوعيد على الاكتنار، وهو حبس ما فضل عن الحاجة عن المواساة به في أول الإِسلام، ثم نسخ ذلك بفرض الزكاة لما فتح الله الفتوح، وقدرت نُصُب الزكاة، فعلى هذا المراد بنزول الزكاة بيان نُصُبها ومقاديرها, لا إنزال أصلها. وقد مرَّ ما قيل في وقت نزول الزكاة عند الحديث السادس، حديث أبي بكر وعمر. وقوله: "طهرًا للأموال" من حق الفقراء، وهو أوساخ الناس، فإذا أخرجت الزكاة حصل الطهر للأموال، وكذلك هي طهر لأصحابها عن رذائل الأخلاق والبخل. وقول ابن عمر السابق: "لا أبالي لو كان لي مثل أحد ذهبًا ... إلخ"، كأنه يشير إلى قول أبي ذَرٍّ الآتي آخر الباب، والجمع بين كلام ابن عمر وحديث أبي ذَرٍّ الآتي آخر الباب "لا أحب أن لي مثل أحد ذهبًا أُنفقه ... إلخ" أنْ يُحْمَل حديثُ أبي ذَرٍّ على مال تحت يد الشخص لغيره، فلا يحب أن يحبسه عنه. قلت: هذا المعنى بعيد لا وجه له، أو يكون له، لكنه ممن يرجى فضله، وتطلب عائدته، كالإِمام الأعظم، فلا يحب أن يدخر عن المحتاجين من رعيته شيئًا.

رجاله ستة

ويحمل حديث ابن عمر على مال يملكه قد أدّى زكاته، فهو يحب أن يكون له ليصل به قرابته، ويستغني به عن مسألة الناس، وكان أبو ذَرٍّ يحمل الحديث على إطلاق، فلا يرى ادخار شيء أصلًا. قال ابن عبد البَرّ: وردت على أبي ذرٍّ آثار كثيرة، تدل على أنه كان يذهب إِلى أن كل مال مجموع يفضل عن القوت وسداد العيش، فهو كنز يذم فاعله، وأن آية الوعيد نزلت في ذلك. وخالفه جمهور الصحابة ومَنْ بعدهم. وحملوا الوعيد على مانعي الزكاة، وأصح ما تمسكوا به حديث طلحة وغيره في قصة الأعرابيّ حيث قال: هل عليّ غيرها؟ قال: لا، إلا أن تَطَوَّع. والظاهر أن ذلك كان في أول الأمر، كما مرَّ عن ابن عمر، وقد استدل ابن بطال له بقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} أي: ما فضل عن الكفاية، فكان ذلك واجبًا في أول الأمر، ثم نسخ، وفي المسند عن يَعلي بن شَدّاد بن أوس عن أبيه قال: كان أبو ذر يسمع الحديث من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيه الشدة، ثم يخرج إلى قومه ثم يرخص فيه النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلا يسمع الرخصة، ويتعلق بالأمر الأول. رجاله ستة: قد مرّوا إِلا خالد بن أسلم، وفيه لفظ أعرابيّ مبهم، مرَّ أحمد بن شبيب وأبوه شبيب في التاسع والثلاثين من الوضوء، ومرَّ يونس بن يزيد في متابعة بعد الرابع من بدء الوحي، ومرَّ ابن شهاب في الثالث منه، ومرَّ عبد الله بن عمر في أول الإيمان قبل ذكر حديث منه. والخامس: خالد بن أسْلم القرشيّ العَدَويّ أخو زيد بن أسلم مولى عمر، ذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال الدارقطني: ثقة ليس بالمكثر، له في البخاري هذا الحديث فقط، روى عن ابن عمر، وعنه أخوه زيد والزُّهريّ وغيرهم. والأعرابي السائل لابن عمر لم أر من سماه. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة، ورواته بصريان وأيْلِيّ ومصريّ ومدنيان. وشيخه من أفراده، وفيه رواية الابن عن الأب. أخرجه البخاريّ أيضًا في التفسير، والنَّسائيّ في الزكاة. الحديث الحادي عشر حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يَزِيدَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ الأَوْزَاعِيُّ: أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ أَنَّ عَمْرَو بْنَ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِيهِ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ". قوله: "أخبرني يحيى بن أبي كثير" تعقبه الدارقطني وأبو مسعود، بأن عبد الوهاب بن نَجْدة خالف إسحاق بن يزيد شيخَ البخاريّ فيه، فقال: عن شعيب عن الأوزاعيّ، حدّثني يحيى بن

سعيد وحماد، ورواه داود بن رشيد وهشام بن خالد جميعًا عن شُعيب بن إسحاق عن الأوزاعيّ عن يحيى غير منسوب، وقال الوليد بن مُسلم: رواه عن الأوزاعيّ عن عبد الرحمن بن اليَمان عن يحيى بن سعيد. وقال الإسماعيلي: هذا الحديث مشهور عن يحيى بن سعيد، رواه عنه الخلق، وقد رواه داود بن رشيد عن شعيب فقال: عن الأوزاعيّ عن يحيى بن سعيد. وقد تابع إسحاق بن يزيد سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي عن شعيب بن إسحاق، أخرجه أبو عُوانة والإسماعيليّ من طريقه، وذلك دال على أنه عند شعيب عن الأوزاعيّ على الوجهين. لكن دلت رواية الوليد بن مسلم على أن رواية الأوزاعيّ عن يحيى بن سعيد بغير واسطة موهومة أو مُدَلَّسةَ، ولذلك عدل عنها البخاري واقتصر على طريق يحيى بن أبي كثير. وقوله: "عن أبيه يحيى بن عمارة" في رواية يحيى بن سعيد عن عمرو أنه سمع أباه، وكذا في مسند الحميدي، فحدثني عن أبيه. وقد حكى ابن عبد البر عن بعض أهل العلم أن حديث الباب لم يأت إلا من حديث أبي سعيد الخُدريّ. قال: وهذا هو الأغلب إلا أنني وجدته من رواية سهيل عن أبيه عن أبي هريرة. ومن طريق محمد بن مسلم عن عمرو بن دينار عن جابر وقد أخرجه مسلم من وجه آخر عن جابر. وجاء أيضًا من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وعائشة وأبي رافع ومحمد بن عبد الله بن جحش أخرج أحاديث الأربعة الدارقطنيُّ، ومن حديث ابن عمر أخرجه ابن أبي شَيْبة وأبو عبيد. وقوله: "ليس فيما دون خمس أواقٍ صدقة" زاد مالك عن عبد الرحمن بن أبي صعصعة عن أبي سعيد "خمس أواقٍ من الوَرِق صدقة" والورق الفضة، يقال وَرِقٌ، بفتح الواو وكسرها وبكسر الراء وسكونها، قال الزين بن المنير: لما كانت الفضة هي المال الذي يكثر دورانه في أيدي الناس. ويروج بكل مكان كان أولى بأنْ يقدم على ذكر تفاصيل الأموال الزكوية، وأواقٍ بالتنوين وبإثبات التحتانية مشددًا ومخففًا. جمع أُوقيّة، بضم الهمزة وتشديد التحتانية، وحكى الجبائي: وفيه بحذف الهمزة، وفتح الواو، ومقدار الأوقية في هذا الحديث أربعون درهمًا بالاتفاق. والمراد بالدرهم الخالص من الفضة سواء كان مضروبًا أو غير مضروب. وقال عياض: قال أبو عُبَيد الدرهم لم يكن معلوم القدر، حتى جاء عبد الملك بن مروان، فجمع العلماء، فجعلوا كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل، وهذا يلزم منه أن يكون -صلى الله عليه وسلم- أحال نصاب الزكاة على أمرٍ مجهول، وهو مشكل، والصواب: أن معني ما نقل من ذلك أنه لم يكن شيء منها من ضرب الإِسلام، وكانت مختلفة في الوزن بالنسبة إلى العدد فعشرة مثلًا وزن عشرة، وعشرة وزن ثمانية فاتفق الرأي على أن ينقش بكتابة عربية، ويصير وزنها واحدًا وقال غيره: لم يتغير المثقال في جاهلية ولا في إسلام. وأما الدرهم، فاجمعوا على أن كل سبعة مثاقيل عشرة دراهم، ولم يخالِف في أن نصاب الزكاة مئتا درهم، تبلغ مئة وأربعين مثقالًا من الفضة الخالصة، إلا ابن

حبيب المالكي الأندلسيّ فإنه انفرد بقوله إن أهل كل بلد يتعاملون بدراهيمهم. وذكر ابن عَبْد البر اختلافًا في الوزن بالنسبة إلى دراهم الأندلس وغيرها، من دراهم البلاد، وكذا خرق المريسي الإجماع فاعتبر النصاب بالعدد لا بالوزن، وانفرد السرخسيّ من الشافعية بحكاية وجه في المذهب "إن الدراهم المغشوشة إذا بلغت قدرًا لوْ ضَمَّ إليه قيمة الغش من نحاس مثلًا، لمبلغ نصابًا فإن الزكاة، تجب فيه وعند أبي حنيفة وصاحبيه إذا كان الغالب على الورق الفضة فهي في حكم الفضة، كان كان الغالب عليه الغش، فهي في حكم العروض، يعتبر أن تبلغ قيمتها نصابًا فلا زكاة فيها إلا بأحد الأمرين: أن يبلغ ما فيها من الفضة مئتي درهم، أو يكون للتجارة وقيمتها مئتان وما زاد على مئتي درهم، ففي كل شيء منه ربع عُشْرة قلّ أو كثر، وبهذا قال مالك والشافعيّ وأحمد والليث، وهو قول الجمهور. وقال أبو حنيفة وزُفَر: لا شيء فيما زاد على المئتين حتى تبلغ الزيادة أربعين درهمًا، فإنْ بلغتها كان فيها ربع عُشرها، وهو درهم، وبه قال ابن المسيب والحسن وجماعة، فعلى هذا المذهب يكون في النقد وقص كالماشية، واحتج الطبري على هذا المذهب بالقياس على الثمار والحبوب، والجامع كون الذهب والفضة مستخرجَين من الأرض بكلفة ومؤنة، وقد أجمعوا على ذلك في خمسة أوسق فما زاد. واستُدل بهذا الحديث على عدم الوجوب فيما إذا نقص من النصاب ولو حبة واحدة، خلافًا لمن سامح بنقص يسير، كما نُقل عن بعض المالكية. وقوله: "ولا فيما دون خَمْس ذَوْدٍ صدقة" والذَّود بفتح المعجمة وسكون الواو بعدها مهملة، قال الزين بن المنير: أضاف خمس إلى ذود وهو مذكر؛ لأنه يقع على المذكر والمؤنث، وأضافه إلى جمع لأنه يقع على المفرد والجمع، وأما قول ابن قتيبة: إنه لا يطلق على الجمع، فلا يصح أن يقال خمس ذود، كما لا يصح خَمس ثَوب، فقد غلّطه العلماء في ذلك، لكن قال أبو حاتم: تركوا القياس في الجمع فقالوا: خمس ذود لخمس من الإبل، كما قالوا ثلاث مئة على غير قياس. قال القرطبيّ: وهذا صريح في أن الذود واحد في لفظه، والأشهر ما قاله المتقدمون أنه لا يقصر على الواحد، والأكثر على أن الذود من الثلاثة إلى العشرة، وأنه لا واحد له من لفظه. وقال أبو عبيد: من الثنتين إلى العشرة. قال: وهو مختص بالإناث، وقال سيبويه: نقول ثلاث ذَوْد لأن الذود مؤنث، وقال القرطبيّ: أصله ذاد يذود إذا دفع شيئًا، فهو مصدر، وكان من كان عنده دَفع عن نفسه معرة الفقر وشدة الحاجة والفاقة. وقوله: "وليس فيما دون خمس أوسقٍ صدقة" جمع وَسَق، بفتح الواو ويجوز كسرها، وجمعها حينئذ أوساق كجمل وأجمال. وقد وقع كذلك في رواية لمسلم، وهو ستون صاعًا بالاتفاق، وفي رواية ابن ماجة عن أبي سعيد مثل هذا الحديث، وفيه: والوسق ستون صاعًا، وأخرجها أبو داود، لكن قال: ستون مختومًا، والمختوم الصالح. والدارقطني من حديث عائشة أيضًا والوسق ستون صاعًا. ولم تقع في الحديث بيان المكيل بالأوسق، لكن في

رجاله سبعة

رواية مسلم "ليس فيما دون خمس أوسق من تمر ولا حب صدقة". وفي رواية له: "ليس في حب ولا تمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق" ولفظ "دون" في المواضع الثلاثة بمعنى أقل، لا أنه نفي عن غير الخمس الصدقة بأن تكون لون بمعنى غير، كما زعم بعض من لا يعتد بقوله. واستدل بهذا الحديث على وجوب الزكاة في الأمور الثلاثة، واستدل به على أن الزروع لا زكاة فيها، حتى تبلغ خمسة أوسق. وقال أبو حنيفة: في كل ما أخرجته الأرض كثيره وقليله العُشر، سواء سقي سبحًا أو سقته السماء، إلا القصب الفارسي والحطب والحشيش. واستدل أبو حنيفة بقوله: "فيما سقت السماء العُشر" وأجمع العلماء على اشتراط الحول في الماشية والنقد دون المعشرات، والجمهور على أن الذهب والفضة يُضم بعضها إلى بعض في إكمال النصاب، وبه قال مالك، إلا أنه يراعى الوزن، ويضم على الأجزاء لا على القيم، ويجعل كل دينار كعشرة دراهم على الصرف الأول. وقال الأوزاعيّ وأبو حنيفة والثَّوريّ: يضُمّ على القيم في وقت الزكاة. وقال الشافعيّ وأحمد وأبو ثَور وداود: لا يضم مطلقًا. وقال الخطابيّ: لم يختلفوا في أن الغنم لا تضم إلى الإبل ولا إلى البقر، وأن التمر لا يضم إلى الزبيب. واختلفوا في البُرّ والشعير، فقال أكثر العلماء: لا يضم واحد منهما إلى الآخر، وهو قول الثَّوري والأوزاعي وأصحاب الرأي والشافعيّ وأحمد بن حنبل. وقال مالك: يضم القمح إلى الشعير، ولا يضم القَطَانيّ إلى القمح والشعير. رجاله سبعة: مرّ منهم الأوزاعيّ في العشرين من العلم، ومرّ يحيى بن أبي كثير في الثالث والخمسين منه، ومرَّ عمرو بن يحيى وأبوه يحيى بن عِمارة في الخامس عشر من الإيمان، ومرَّ أبو سعيد الخُدري في الثاني عشر منه، والباقي اثنان: الأول إسحاق بن إبراهيم بن يزيد، أبو النضر الدمشقي الفراديسي، مولى عمر بن عبد العزيز. قال أبو زرعة: كان من الثقات البكائين. وقال أيضًا: كان أبو مسهر يوثقه، وقال الدارقطنيّ والنَّسائيّ وأبو حاتم: ثقة، وقال أبو داود: ما رأيت بدمشق مثله. كان كثير البكاء، كتبت عنه. وذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال: ربما خالف، وذكر له الأزديّ حديثًا خالفه فيه مَنْ هو أضعف منه، وأورد له ابن عديّ أحاديث العمل فيها على شيخه يزيد بن ربيعة، فإنه ضعيف. روى عن يحيى بن حمزة الحَضرميّ وأبي ضَمرة وشُعيب بن إسحاق وغيرهم. وروى عنه البخاريّ، وربما نسبه إلى جده، وأبو داود وأبو زرعة الدمشقيّ وغيرهم. ولد سنة واحد وأربعين ومئة، ومات سنة سبع وعشرين ومئتين. والفراديسيّ فيٍ نسبه نسبة إلى موضع قرب دمشق، وإليه يضاف باب من أبوابها، وموضع أيضًا قرب حلب بين بَرِّية خُساف وحاضر طيء. الثاني: شعيب بن إسحاق بن عبد الرحمن بن عبد الله بن راشد الدمشقيّ الأمويّ، مولى رَملة

لطائف إسناده

بنت عثمان، أصله من بُصرى. قال أحمد: ثقة، ما أصح حديثه، وأَوْثَقه. وقال ابن مُعين والنَّسائيّ وأبو داود: ثقة، وزاد أبو داود: مُرجىء. وقال الوليد بن مسلم: رأيت الأوزاعيّ يُدْنِيه ويقرّبه. وقال أبو حاتم: شعيب بن إسحاق ثقة مأمون. روى عن أبيه وأبي حنيفة وتمذهب له، وابن جُريج والأوزاعيّ وغيرهم. وروى عنه ابن ابنه عبد الرحمن بن عبد الصمد بن شعيب وأبو النضر الفراديسيّ وإسحاق بن راهويه وغيرهم. ولد سنة ثماني عشرة ومئة. ومات سنة تسع وثمانين ومئة. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإخبار بالجمع والإفراد والعنعنة والسماع، ورواية الابن عن الأب، ورواته دمشقيون ويماميّ ومدنيان. أخرجه البخاري أيضًا في الزكاة، ومسلم والباقون فيها أيضًا. الحديث الثاني عشر حَدَّثَنَا عَلِىٌّ سَمِعَ هُشَيْمًا أَخْبَرَنَا حُصَيْنٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ مَرَرْتُ بِالرَّبَذَةِ فَإِذَا أَنَا بِأَبِى ذَرٍّ رضي الله عنه فَقُلْتُ لَهُ مَا أَنْزَلَكَ مَنْزِلَكَ هَذَا قَالَ كُنْتُ بِالشَّأْمِ، فَاخْتَلَفْتُ أَنَا وَمُعَاوِيَةُ فِي الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قَالَ مُعَاوِيَةُ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ. فَقُلْتُ نَزَلَتْ فِينَا وَفِيهِمْ. فَكَانَ بَيْنِى وَبَيْنَهُ فِي ذَاكَ، وَكَتَبَ إِلَى عُثْمَانَ رضي الله عنه يَشْكُونِى، فَكَتَبَ إِلَىَّ عُثْمَانُ أَنِ اقْدَمِ الْمَدِينَةَ. فَقَدِمْتُهَا فَكَثُرَ عَلَىَّ النَّاسُ حَتَّى كَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْنِى قَبْلَ ذَلِكَ، فَذَكَرْتُ ذَاكَ لِعُثْمَانَ فَقَالَ لِى إِنْ شِئْتَ تَنَحَّيْتَ فَكُنْتَ قَرِيبًا. فَذَاكَ الَّذِي أَنْزَلَنِى هَذَا الْمَنْزِلَ، وَلَوْ أَمَّرُوا عَلَىَّ حَبَشِيًّا لَسَمِعْتُ وَأَطَعْتُ. قوله: "حدثنا عليٌّ" يأتي في السند ما قيل فيه. قوله: "بالرَّبَذَة" بفتح الراء والموحدة والمعجمة، مكان معروف بين مكة والمدينة، نزل به أبو ذَرٍّ في عهد عثمان، ومات به. وقد ذكر في هذا الحديث سبب نزوله، وإنما سأله زيد بن وهب عن ذلك؛ لأن مبغضي عثمان كانوا مشنعين عليه، أنه نفى أبا ذر، وقد بيّن أبو ذر أن نزوله في ذلك المكان كان باختياره، نعم، أمره عثمان بالتنحي عن المدينة لدفع المفسدة التي خافها على غيره من مذهبه المذكور، فاختار الرَّبَذَة، وكان يغدو إليها في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما رواه أصحاب السنن من وجه آخر عنه. وفيه قصة له في التيمم. وفي فوائد أبي الحسن بن جذلم بإسناده إلى عبد الله بن الصامت قال: دخلت مع أبي ذَرٍّ على عثمان، فحسر عن رأَسه، فقال: والله ما أنا منهم يعني الخوارج، فقال: إنما أَرسَلْنا إليك لتجاورنا بالمدينة، فقال: لا حاجة لي في ذلك" إيذن لي في الرَّبَذَة. قال: نعم، ورواه أبو داود الطيالسي من هذا الوجه دون آخره. وقال بعد قوله: "ما أنا منهم": ولا أدركهم، سيماهم التحليق، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، والله لو أمرتني أن أقوم ما قعدت.

وفي طبقات ابن سعد من وجهٍ آخر أن ناسًا من أهل الكوفة قالوا لأبي ذَرٍّ: إن هذا الرجل فعل بك وفعل، هل أنت ناصبٌ لنا راية فنقاتله؟ فقال: لا، لو أن عثمان سيّرني من المشرق إلى المغرب، لسمعت وأطعت. وقوله: "كنت بالشام" يعني بدمشق، ومعاوية إذ ذاك عاملُ عثمان عليها، وقد بيَّن السبب في سكناه الشام ما أخرجه أبو يعلى عن زيد بن وهب، قال: حدّثني أبو ذر قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا بلغ البناء بالمدينة سَلْعًا فارتحل إلى الشام"، فلما بلغ البناء سلعًا قدمت الشام فكنت بها، فذكر الحديث. وعنده أيضًا بإسناد فيه ضعف عن ابن عباس، قال: استأذن أبو ذَرٍّ على عثمان، فقال: إنه يؤذينا، فلما دخل قال عثمان: أنت الذي تزعم أنك خيرٌ من أبي بكر وعمر؟ قال: لا ولكن سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنَّ أحبكم إليّ وأقربكم مني مَنْ بقي على العهد الذي عاهدته عليه، وأنا باق على عهده، قال: فأمره أن يلحق بالشام، وكان يحدثهم ويقول: لا يبيتن عند أحدكم دينار ولا درهم، إلا ما ينفقه في سبيل الله، أو يعده لغريم، فكتب معاوية إلى عثمان: إن كان لك بالشام حاجة فأبعث إلى أبي ذر، فكتب إليه عثمان: أَقْدِم عليّ، فقدم. وقوله: " {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} " سيأتي في تفسير براءة عن حُصين بلفظ: "فقرأت: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} الآية". وقوله: "نزلت في أهل الكتاب، في رواية التفسير "ما هذه فينا"، وقوله: "فكثر على الناس حتى كأنهم لم يروني" في رواية الطبري أنهم كثروا عليه يسألونه عن سبب خروجه من الشام. قال: فخشي عثمان على أهل المدينة ما خشيه معاوية على أهل الشام. وقوله: "إن شئت تنحيت"، في رواية الطبريّ "فقال له تَنحَّ قريبًا، قال: والله لن أدع ما كنت أقوله" وكذا لابن مردويه بلفظ: "والله لا أدع ما قلت". وقوله: "حبشيًا" في رواية ورقاء عند ابن مردويه "عبدًا حبشيًا" ولأحمد وأبي يَعلى عن أبي ذَرٍّ "أن النبي -صلى الله عليه وسلم-قال له: كيف تصنع إذا أُخرجت منه؟ أي: المسجد النبوي؟ قال: آتي الشام، قال: كيف تصنع إذا اخرجت منها؟ قال: أعود إليك، أي: المسجد، قال: كيف تصنع إذا أُخرجت منه؟ قال: أضربُ بسيفي. قال: أدلك على ما هو خيرٌ لك من ذلك، وأقرب رشدًا؟ قال: تسمع وتطيع، وتنساق لهم حيث ساقوك". وعند أحمد أيضًا، عن أسماء بنت يزيد عن أبي ذَرٍّ نحوه. والصحيح أن إنكار أبي ذَرٍّ كان على السلاطين الذين يأخذون المال لأنفسهم، ولا ينفقونه في وجهه، وتعقبه النووي بالإبطال؛ لأن السلاطين كانوا مثل أبي بكر وعمر وعثمان، وهؤلاء لم يخونوا. قال صاحب "الفتح": لقوله محمل، وهو أنه أراد من يفعل ذلك وإن لم يوجد حينئذ من يفعله، وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم، أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، لاتفاق أبي ذر ومعاوية على أن الآية نزلت في أهل الكتاب. وقد مرَّ ما في ذلك من التفصيل عند حديث ابن عباس في أول الزكاة. وفيه ملاطفة الأئمة للعلماء، فإن معاوية لم يجسر على الإنكار عليه، حتى كاتب مَنْ هو أعلى

رجاله خمسة

منه في أمره، وعثمان لم يحنق على أبي ذَرٍّ مع كونه كان مخالفًا له في تأويله. وفيه التحذير من الشقاق والخروج على الأئمة، والترغيب في الطاعة لأولي الأمر، وأمر الأفضل بطاعة المفضول خشية المفسدة، وجواز الاختلاف في الاجتهاد، والأخذ بالشدة في الأمر بالمعروف، وإنْ أدّى ذلك إلى فراق الوطن. وتقديم دفع المفسدة على جلب المصلحة؛ لأن في بقاء أبي ذَرٍّ بالمدينة مصلحة كبيرة من بث علمه في طالب العلم، ومع ذلك ترجح عند عثمان دفع ما يتوقع من المفسدة من الأخذ بمذهبه الشديد في هذه المسألة، ولم يأمره بعد ذلك بالرجوع عنه؛ لأن كلًا منهما كان مجتهدًا. رجاله خمسة: وفيه ذكر عثمان ومعاوية، رضي الله تعالى عنهما، مرَّ هُشَيم في الثاني من التيمم، وحصين بن عبد الرحمن في الثالث والسبعين من مواقيت الصلاة، ومرّ زيد بن وهب في الثالث عشر منها، ومرّ أبو ذَرٍّ في الثالث والعشرين من الإيمان، ومرَّ عثمان في باب "ما يذكر في المناولة" بعد الخامس من العلم، ومرَّ معاوية في الثالث عشر منه. والباقي شيخ البخاريّ، ذكره بلفظ علي مبهمًا، واختلف فيه، قيل: هو عليّ بن المَدينيّ، وقد مرَّ في الرابع عشر من العلم. وقيل: عليّ بن أبي هاشم، وقيل: عليّ بن مُسْلِم. والأول: علي بن أبي هاشم، واسم أبي هاشم عُبيد الله بن طِبْراخ، بكسر الطاء وسكون الباء الموحدة، قال أبو حاتم: ما عَلِمته إلاَّ صدوقًا، ترك الناس حديثَه لأنه يتوقف في القرآن. وقال الأزديّ: إنه ضعيف جدًا. وفي الزهرة روى عنه البخاريُّ أربعة. قال في المقدمة: إن الأزديّ لا يعتبر تجريحه لضعفه، وقد بين أبو حاتم السبب في توقف من توقف عنه، وليس ذلك بمانع من قبول روايته روى عن أبيه وهُشيم وحمّاد بن زيد وغيرهم. وروى عنه البخاريّ وأحمد بن الخليل القَوْمَسيّ، ويعقوب بن شَيبة وغيرهم. والثاني: علي بن مسلم بن سعيد الطوسي أبو الحسن، نزيل بغداد. قال النَّسائيّ: ليس به بأس، وذكره ابن حِبّان في الثقات. وقال الدارقطنيّ: ثقة، وفي الزهرة روى عنه البخاريّ سبعة، روى عن هُشيم وابن المبارك وعبّاد بن العَوّام وغيرهم. وروى عنه البخاريّ وأبو داود والنَّسَائيّ ويحيى بن مُعين. ولد سنة ستين ومائة، ومات في جُمادى الآخرة سنة ثلاث وخمسين ومئتين. لطائف إسناده: فيه التحديث والإخبار بالجمع والسماع والعنعنة والقول، وسنده بين بغداديّ ومدنيّ وواسطيّ وكوفيّ. وفيه رواية التابعيّ عن التابعيّ عن الصحابيّ. أخرجه البخاريّ أيضًا في التفسير، والنَّسائيّ فيه أيضًا.

الحديث الثالث عشر

الحديث الثالث عشر حَدَّثَنَا عَيَّاشٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى حَدَّثَنَا الْجُرَيْرِيُّ عَنْ أَبِي الْعَلاَءِ عَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: جَلَسْتُ. وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنَا الْجُرَيْرِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَلاَءِ بْنُ الشِّخِّيرِ أَنَّ الأَحْنَفَ بْنَ قَيْسٍ حَدَّثَهُمْ قَالَ: "جَلَسْتُ إِلَى مَلإٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَجَاءَ رَجُلٌ خَشِنُ الشَّعَرِ وَالثِّيَابِ وَالْهَيْئَةِ حَتَّى قَامَ عَلَيْهِمْ فَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: بَشِّرِ الْكَانِزِينَ بِرَضْفٍ يُحْمَى عَلَيْهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، ثُمَّ يُوضَعُ عَلَى حَلَمَةِ ثَدْيِ أَحَدِهِمْ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ نُفْضِ كَتِفِهِ، وَيُوضَعُ عَلَى نُفْضِ كَتِفِهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ حَلَمَةِ ثَدْيِهِ يَتَزَلْزَلُ، ثُمَّ وَلَّى فَجَلَسَ إِلَى سَارِيَةٍ، وَتَبِعْتُهُ وَجَلَسْتُ إِلَيْهِ، وَأَنَا لاَ أَدْرِي مَنْ هُوَ فَقُلْتُ لَهُ: لاَ أُرَى الْقَوْمَ إِلاَّ قَدْ كَرِهُوا الَّذِي قُلْتَ؟ قَالَ: إِنَّهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا. قَالَ لِي خَلِيلِي: قَالَ: قُلْتُ: مَنْ خَلِيلُكَ؟ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَا أَبَا ذَرٍّ أَتُبْصِرُ أُحُدًا؟. قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَى الشَّمْسِ مَا بَقِيَ مِنَ النَّهَارِ وَأَنَا أُرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُرْسِلُنِي فِي حَاجَةٍ لَهُ، قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا أُنْفِقُهُ كُلَّهُ إِلاَّ ثَلاَثَةَ دَنَانِيرَ. وَإِنَّ هَؤُلاَءِ لاَ يَعْقِلُونَ، إِنَّمَا يَجْمَعُونَ الدُّنْيَا. لاَ وَاللَّهِ لاَ أَسْأَلُهُمْ دُنْيَا، وَلاَ أَسْتَفْتِيهِمْ عَنْ دِينٍ حَتَّى أَلْقَى اللَّهَ". قوله: "وحدثني إسحاق بن منصور" أردف المصنف هذا الإسناد بالذي قبله، لتصريح عبد الصمد فيه بتحديث أبي العلاء للجريريّ، والأحنف لأبي العلاء. وقد روى الأسود بن شيبان عن أبي العلاء المذكور عن أخيه مُطْرِف عن أبي ذَرٍّ طرفًا من آخر هذا الحديث أيضًا. وأخرجه أحمد، وليس ذلك بعلة لحديث الأحنف؛ لأن حديث الأحنف أتَمّ سياقًا، وأكثر فوائد، ولا مانع أن يكون لأبي العلاء شَيخان. وقوله: "جلست إلى ملأ" في رواية مسلم والإسماعيليّ عن إسماعيل بن علية عن الجَريريّ "قدمت المدينة، فبينما أنا في حلقة من قريش". وقوله: "خشن الشعر" كذا للأكثر، بمعجمتين، من الخشونة. وللقابسيّ بمهملتين، من الحسن، والأول أصح. وفي رواية مسلم "أخشن الثياب، أخشن الجسد، أخشن الوجه، فقام عليهم" وليعقوب بن سُفيان عن حميد بن هلال عن الأحنف "قدمت المدينة، فدخلت مسجدها، إذ دخل رجل آدَمُ طُوالٌ أبيضُ الرأس واللحية، يشبه بعضه بعضًا، فقالوا: هذا أبو ذَرٍّ". وقوله: "بشر الكانزين" في رواية الإسماعيليّ "بشر الكَنّازين". وقوله: "برَضْف" بفتح الراء وسكون المعجمة بعدها فاء، هي الحجارة المُحماة، واحدتها رَضَفَة. وقوله: "على حَلَمة ثَدْي" الحَلَمة بالتحريك، هو ما نشر من الثدي وطال ويقال لها قُراد الصدر، وللأصمعيّ: هو رأس الثدي

من الرجل والمرأة. وفي هذا الحديث جواز استعمال الثدي للرجل والمرأة. وهو الصحيح، وقال العسكري: لا يقال ثدي إلا في المرأة. ويقال في الرجل ثُنْدُؤة. والثديّ يذكر ويؤنث. وقوله: "من مُفْضِ" بضم النون وسكون المعجمة بعدها ضاد معجمة، العظم الدقيق الذي على طرف الكتف، أو على أعلى الكتف. قال الخطابيّ: هو الشاخص منه، وأصل النَّفْض الحركة، فسمى ذلك الموضع نفضًا؛ لأنه يتحرك بحركة الإنسان. وقوله: "يتزلزل" أي: يضطرب ويتحرك، وفي رواية الإسماعيليّ: فيتجلجل، بجيمين. وزاد إسماعيل في هذه الرواية: "فوضع القوم رُؤوسهم، فما رأيت أحدًا منهم رجع إليه شيئًا، قال: فأدبر فاتَّبَعْتُه حتى جلس إلى سارية. وقوله: "وأنا لا أدري مَنْ هو، زاد مسلم فقلت: مَنْ هذا؟ قالوا: أبو ذَرٍّ، فقمت إليه. فقلت: ما شيء سمعتك تقوله؟ قال: ما قلت إلا شيئًا سمعته من نبيهم -صلى الله عليه وسلم-. وفي هذه الزيادة رد لقول منْ قال إنه موقوف على أبي ذرٍّ، فلا يكون حجة على غيره، ولأحمد عن يزيد الباهليّ عن الأحنف "كنت بالمدينة، فإذا رجل يفر منه الناس حين يرونه، قلت: منْ أنت؟ قال: أبو ذَرٍّ، قلت: ما تَفرَّ الناس منك؟ قال: إني أنهاهم عن الكنوز التي كان ينهاهم عنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-". وقوله: "إنهم لا يعقلون شيئًا" بيّن وجه ذلك في آخر الحديث حيث قال: إنما يجمعون الدنيا. وقوله: "لا أسألهم دنيا" وفي رواية إسماعيل "فقلت: مالك ولإِخوانك من قريش لا تعتريهم ولا تصيب منهم؟ قال: وربك لا أسالهم دنيا الخ". قوله: "ومَنْ خَليلك؟ قال: النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأعلى" قال: هو أبو ذَرٍّ والنبي -صلى الله عليه وسلم- خبر لمبتدأ، كأنّه قال: خليلي النبي -صلى الله عليه وسلم-، وسقط بعد ذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: يا أبا ذَرٍّ" أو سقط "قال" فقط، وكأن بعض الرواة ظنها مكررة فحذفها ولابد من إثباتها. وقوله: "يا أبا ذر، أتبصر أحدًا؟ " هذا طرف من حديث مستقل، أخرجه المصنف في كتاب الرقاق، وسأتكلم عليه قريبًا إن شاء الله تعالى. وإنما أورده أبو ذر للأحنف، لتقوية ما ذهب إليه من ذم اكتناز المال. وهو ظاهر في ذلك، إلا أنه ليس على الوجوب، ومن ثَمَّ عقبه المصنف بالترجمة التي تليه، فقال: باب إنفاق المال في حقه، وأورد فيه الحديث الدال على الترغيب في ذلك، وهو من أدل دليل على أن أحاديث الوعيد محمولة على مَنْ لا يؤدي الزكاة، وأما حديث "ما أحب أنّ لي أحُدًا ذهبًا" فمحمول على الأولوية؛ لأن جمع المال، وإن كان مباحًا، لكن الجامع مسؤول. وفي المحاسبة خطر وإن كان الترك أسلم. وما ورد من الترغيب في تحصيله وإنفاقه في حقه فمحمول على مَنْ وثق بأنه يجمعه من الحلال الذي يأمن خطر المحاسبة عليه، فإنه إذا أنفقه، حصل له ثواب ذلك النفع المتعدي، ولا يتأتى ذلك لمن لم يحصل شيئًا، وقد مرَّ عند حديث ابن عمر السابق "طهرًا للأموال" الجمع بينه وبين هذا الحديث. وقال الزين بن المنير: في هذا الحديث حجة على جواز إنفاق جميع المال، وبذله في الصحة، والخروج عنه بالكلية في وجوه البر، ما لم يؤد إلى حرمان الوارث، ونحو ذلك مما منع منه

الشرع. وقوله: "يا أبا ذَرٍّ، أتبصر أُحدًا" وفي رواية الرِّقاق: "فاستقبلَنا أُحُد" بفتح اللام وأُحد بالرفع على الفاعلية، وفي رواية حفص بن غياث "فاستقبلْنا أحدًا" بسكون اللام، وأحدًا بالنصب على المفعولية. وفيها زيادة " فقال يا أبا ذر: فقلت: لبيك يا رسول الله" وعند أحمد زيادة "يا أبا ذَرٍّ، أي جبل هذا؟ قلت: أُحُد". وقوله: "ما أحب أنّ لي مثل أُحد ذهبًا أُنفقه كُلَّه إلا ثلاثة دنانير". وفي رواية الرِّقاق "ما يسرني أنّ عندي مثل أُحُدٌ هذا ذهبًا، تمضي عليَّ ثالثةٌ، وعندي منه دينار" وفي رواية حفص بن غياث "ما أحب أن لي أُحدًا ذهبًا، يأتي عليّ يوم وليلة أو ثلاث، عندي منه دينار" وفي رواية أبي معاوية عند أحمد "ما أحب أنّ لي أُحدًا ذاك ذهبًا" وفي رواية أبي شهاب عن الأعمش في الاستئذان "فلما أبصر أُحدًا قال: ما أحب أنه تَحَوَّل لي ذهبًا يمكث عندي منه دينار فوق ثلاث". قال ابن مالك: تضمن هذا الحديث استعمال "حول" بمعنى "صير" وإعمالها عملها، وهو استعمال صحيح خَفِي على أكثر النحاة. وقد جاءت هذه الرواية مبنية لما لم يسم فاعله، فرفعت أول المفعولين، وهو ضمير عائد على أحد، ونصبت ثانيهما، وهو قوله: "ذهباً" فصارت، ببنائها لما لم بسم فاعله، جاريةً مجرى "صار" في رفع المبتدأ ونصب الخبر. وقد اختلفت ألفاظ هذا الحديث، وهو متحد المخرج، فهو من تصرف الرواة، فلا يكون حجة في اللغة، ويمكن الجمع بين قوله: "مثل أُحد" وقوله: "تحول لي أُحد" يحمل المثلية على شيء يكون وزنه من الذهب وزن أحد، والتحويل على أنه إذا انقلب ذهبًا كان قدر وزنه أيضًا. وقد اختلفت رواة ألفاظه عن أبي ذَرٍّ أيضًا. ففي رواية سالم ومنصور، عن زيد بن وهب بعد قوله: "قلت: أُحد، قال: والذي نفسي بيده ما يسرّني أنه ذهبٌ قطعًا، أنفقه في سبيل الله، أدع منه قيراطًا" وفي رواية سُويد بن الحارث عن أبي ذَرّ "ما يسرني أن لي أُحدًا ذهبًا، أموت يوم أموت، وعندي منه دينار أو نصف دينار". وقوله: "تمضي عليّ ثالثةٌ" أي: ليلة ثالثة. قيل: إنما قيّد بالثلاث لأنه لا يتهيأ تفريق قدر أُحد من الذهب في أقل منها غالبًا، ويعكر عليه رواية يوم وليلة، فالأَوْلى أن يقال الثلاثة أقصى ما يحتاج إليه في تفرقة مثل ذلك، والواحدة أقل ما يمكن. وقوله في رواية الرِّقاق: "إلا شَيئًا أرصده في دَين" أي: أعده أو أحفظه، وهذا الإرصاد أعم من أن يكون لصاحب دَين غائب حتى يحضر فيأخذه، أو لأجل وفاء دين مؤجل حتى يحل فيوفى. وفي رواية حفص وأبي شهاب عن الأعمش "إلا دينارٌ" بالرفع، والنصب والرفع جائزان؛ لأن المستثنى منه مطلق عام، والمستثنى مقيد خاص، فاتجه النصب. وتوجيه الرفع أن المستثنى منه في سياق النفي، وجواب "لو" هنا في تقدير النفي، ويجوز أن يحمل النفي الصريح في أن لا يمر عليّ حمل إلا على الصفة، وقد فسر شيء في هذه الرواية بالدينار. وفي رواية سُويد بن الحارث

"وعندي منه دينار أو نصف دينار". وفي رواية سالم ومنصور "أَدَع منه قيراطًا، قال: قلت: قنطارًا؟ قال: قيراطًا". وفيه قال: يا أبا ذر، إنما أقول الذي هو أقل. وفي رواية الأحنف الماضية "أنفقه كله إلا ثلاثة دنانير" فظاهره نفي محبة حصول المال، ولو مع الانفاق، وليس مرادًا، وإنما المعنى نفي إنفاق البعض مقتصرًا عليه، فهو يحب إنفاق الكل إلا ما استثنى، وسائر الطرق تدل على ذلك، ويؤيده أن في رواية سليمان بن يسار عن أبي هُريرة عند أحمد "ما يسرني أن أُحُدَ كم هذا ذهبًا، أنفق منه كلَّ يوم في سبيل الله، فيمر بي ثلاثة أيام وعندي منه شيء إلا شيء أرصده لدَيْن" ويحتمل أن يكون على ظاهره، والمراد بالكراهة الإنفاق في خاصة نفسه، لا في سبيل الله فمحبوب. وفي الرقاق زيادة "إلا أن أقول به في عباد الله هكذا، وهكذا وهكذا، عن يمينه، وعن شماله، ومن خلفه". وقوله: "إلا أن أقول به" استثناء بعد استثناء، فيغير الإثبات، فيؤخذ منه أنّ نفي محبة المال مقيدة بعدم الإنفاق، فيلزم محبة وجوده مع الإنفاق، فما دام الإنفاق مستمرًا لا يكره وُجود المال، وإذا انتفى الانفاق ثبتت كراهية وجود المال، ولا يلزم من ذلك كراهية حصول شيء آخر، ولو كان قدر أحدٍ أو أكثر، مع استمرار الإنفاق. وقوله: "هكذا وهكذا وهكذا .. إلخ" هكذا اقتصر على ثلاث، وحمل على المبالغة؛ لأن العطية لمن بين يديه هي الأصل، والذي يظهر أن ذلك من تصرفات الرواة، وأن الحديث مشتمل على الجهات الأربع، ونص عليه في البُشْرانيات عن حفص بن غياث بلفظ "إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا وهكذا" وأرانا بيده. كذا فيه بإثبات الأربع، وأخرجه المصنف في الاستئذان عن حفص بن غياث، لكن اقتصر على ثلاث من الأربع، وأخرجه أبو نعيم عنه، واقتصر على اثنين، وفي الحديث زيادة كثيرة لم أتكلم عليها، يأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى في محلها في كتاب الرِّقاق. وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم، الحثُّ على الإنفاق في وجوه الخير، وأن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- كان في أعلى درجات الزهد في الدنيا، بحيث إنه لا يحب أن يبقى بيده شيءٌ من الدنيا إلا لإنفاقه فيمن يستحقه، وإما لإرصاده لمن له حق، وإما لتعذر من يقبل ذلك منه، لتقييده في رواية همّام عن أبي هُريرة الآتية في كتاب التمنّي بقوله: "أجد من يقبله"، ومن هذا يؤخذ جواز تأخير الزكاة الواجبة عن الإعطاء إذا لم يوجد مَنْ يستحق أخذها، وينبغي لمن وقع له ذلك أن يعزل القدر الواجب من ماله، ويجتهد في حصول مَنْ يأخذه، فإن لم يجد، فلا حرج عليه، ولا ينسب إلى تقصير في حبسه، ولا ضمان عليه إن ضاع، وإن ضاع الأصل لزمه إخراجه. وفيه تقدم وفاء الدين على صدقة التطوع. وفيه جواز الاستقراض، وقيده ابن بطال باليسير، أخذًا من قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إلا دينارًا" قال: ولو كان عليه أكثر من ذلك لم يرصد لأدائه دينارًا واحدًا؛ لأنه

رجاله تسعة

كان أحسن الناس قضاء، ثم قال: ويؤخذ من هذا أنه لا ينبغي الاستغراق في الدَّين، بحيث لا يجد له وفاء، فيعجز عن أدائه وتعقب بأن الذي فهمه من لفظ "الدينار" من الوحدة، ليس كما فهم، بل إنما المراد به الجنس، وأما قوله في الرواية الأخرى: "ثلاثة دنانير" فليست الثلاثة فيه للتقليل، بل للمثال، أو لضرورة الواقع. وقد قيل: إن المراد بالثلاثة أنها كانت كفايته فيما يحتاج إليه في ذلك اليوم. وقيل: بل هي دينار للدَّين، ودينار للإنفاق على الأهل، ودينار للإنفاق على الضيف. ثم المراد بدينار الدين، الجنسُ، ويؤيده تعبيره في أكثر الطرق بالشيء على الإبهام، فيتناول القليل والكثير. وفيه الحث على وفاء الديون، وأداء الأمانات، وجواز استعمال "لو" عند تمني الخير، وتخصيص الحديث الوارد في النهي عن استعمال "لو" على ما يكون في أمر غير محمود شرعًا، وادّعى المهلب أن قوله في رواية الأحنف: "أتبصر أُحدًا، قال: فنظرت ما عليه من الشمس ... " الحديث، أنه ذُكِر للتمثيل في تعجيل إخراج الزكاة، وأن المراد: ما أحب أن أحبس ما وجب عليّ إخراجه بقدر ما بقي من النهار، وتعقبه عياض وقال: هو بعيد في التأويل، وإنما السياق بيّن في أنه عليه الصلاة والسلام أراد أن ينبهه على عِظَم أُحد، ليضرب به المثل في أنه لو كان قدره ذهبًا، ما أحب أن يؤخره عنده إلا لما ذكر من الإنفاق والإرصاد، فظن أبو ذَرّ أنه يريد أن يبعثه في حاجة، ولم يكن ذلك مرادًا إذ ذاك كما تقدم. وقال القرطبي: إنما استفهمه عن رؤيته، ليستحضر قدره، حتى يشبه له ما أراد بقوله: "أن لي مثله ذهبًا". وقال عياض: احتج به من يفضل الفقر على الغنى، وقد يحتج به من يفضل الغنى على الفقر، ومأخذ كل منهما ظاهر من سياق الخبر، وقد مرَّ استيفاء الكلام على هذا المنزع، عند حديث: "لا حَسَد إلاَّ في اثنتين" في أول كتاب العلم. وفيه الحض على إنفاق المال في الحياة وفي الصحة، وترجيحه على إنفاقه عند الموت، ويأتي قريبًا حديث: "أنْ تصدق وأنت صحيح شحيح" وذلك أن كثيرًا من الأغنياء يشح بإخراج ما عنده ما دام في عافية، فيأمل البقاء، ويخشى الفقر، فمن خالف شيطانه، وقهر نفسه، إيثارًا لثوابِ الآخرة فاز. ومَنْ بخل بذلك لم يأمن الجور في الوصية، وإن سلم لم يأمن تأخير تنجيز ما أوصى به أو تركه، أو غير ذلك من الأوقات، ولاسيما إن خلف وارثًا غير موفق، فيبذره في أسرع وقت، ويبقى وباله على الذي جمعه. رجاله تسعة: قد مرّوا، مرَّ عياش بن الوليد في الخامس والثلاثين من الغُسل، وعبد الأعلي بن عبد الأعلى في تعليق بعد الثالث من الإيمان، ومرَّ الأحنف بن قيس في الرابع والعشرين منه، وإسحاق بن منصور في الخامس والثلاثين منه، وأبو ذر في الثالث والعشرين منه، ومرَّ عبد الصمد في السادس

لطائف إسناده

والثلاثين من العلم، وأبوه عبد الوارث في السابع عشر منه، ومرَّ سعيد بن إياس في العشرين من الأذان، ومرَّ أبو العلا يزيد بن عبد الله في الرابع والخمسين من صفة الصلاة. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإفراد والإخبار بالجمع والعنعنة. ورواته كلهم بصريون. وفيه رواية الابن عن الأب. أخرجه مسلم في الزكاة أيضًا. ثم قال المصنف:

باب انفاق المال في حقه

باب انفاق المال في حقه الحديث الرابع عشر حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنِي قَيْسٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "لاَ حَسَدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً فَهْوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا". هذا الحديث قد مرّ الكلام عليه، مستوفى غاية الاستيفاء، في باب الاغتباط في العلم والحكمة، من كتاب العلم. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ محمد بن المثنى في التاسع من الإيمان، ويحيى القطّان في السادس منه، وإسماعيل بن أبي خالد في الثالث منه، وقيس بن أبي حازم في الخمسين منه، وابن مسعود في أثر أوله قبل ذكر حديث منه. ثم قال المصنف:

باب الرياء في الصدقة

باب الرياء في الصدقة لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} إلى قوله: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}. قال الزين بن المنير: يحتمل أن يكون مراده إبطال الرياء للصدقة، فيحمل على ما تمحض منها كحب المَحْمَدة والثناء من الخلق، بحيث لولا ذلك لم يتصدق بها، والرياء مشتق من الرُّوية وأصله طلب المنزلة في قلوب الناس، بإرائتهم الخصال المحمودة. فحد الرياء هو إراءة العباد لطاعة الله تعالى، فالمراءي هو العابد والمراءى له هو الناس، والمراى به هو الخصال الحميدة، والرياء هو قصد إظهار ذلك. قال الزين بن المنير: وجه الاستدلال من الآية، أن الله تعالى شبّه مقارنة السنن والأذى للصدقة، أو إتباعها بذلك بإنفاق الكافر المرائي الذي لا يجد بين يديه شيئًا، ومقارنة الرياء من المسلم لصدقته أقبح من مقارنة الإيذاء، وأولى أن يشبه بإنفاق الكافر المرائي في إبطال إنفاقه. وقال ابن رشيد: اقتصر البخاريّ في هذه الترجمة على الآية، ومراده أن المشبه بالشيء يكون أخفى من المشبه به؛ لأن الشيء الخفيّ ربما شُبه بالظاهر، ليخرج من حيز الخفاء إلى الظهور، ولما كان الإنفاق، رياءًا من غير المؤمن، ظاهرًا في ابطال الصدقة، شبّه به الإبطال بالمن والأذى، أي حالة هؤلاء في الإبطال كحالة هؤلاء هذا من حيث الجملة. ولا يبعد أن يراعى حال التفصيل أيضًا؛ لأن حال إيمان شبيه بحال المرائي؛ لأنه لمّا من ظهر أنه لم يقصد وجه الله تعالى، وحال المؤذي يشبه حال الفاقد للإيمان من المنافقين؛ لأن مَنْ يعلم أن للمؤذي ناصرًا ينصره لم يُؤذه، فعلم بهذا أن حالة المرائي أشد من حالة المانّ والمؤذي. ويتلخص أن يقال لما كان المشبه به أقوى من المشبه، وإبطال الصدقة بالمنّ والأذى قد شبه بإبطالها بالرياء فيها، كان أمر الرياء أشد. ثم قال: وقال ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما: صلدًا ليس عليه شيء. وروى الطبريّ عن قتادة في هذه الآية قال: هذا مثل ضربه الله لأعمال الكفار يوم القيامة، يقول: {لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا} يومئذ كما ترك هذا المطر الصفا نقيًا ليس عليه شيء، ومن طريق أسباط عن السّديّ نحوه. وتعليق ابن عباس وصله ابن جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما، وابن عباس مرَّ في الخامس من بدء الوحي. ثم قال: وقال عكرمة: وابل: مطر شديد، والطلَّ الندى. وهذا التعليق وصله عبد بن حميد في تفسيره، وعكرمة مرَّ في السابع عشر من العلم. ثم قال المصنف:

باب لا تقبل الصدقة من غلول ولا يقبل إلا من كسب طيب

باب لا تقبل الصدقة من غلول ولا يقبل إلا من كسب طيب لقوله: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ}. كذا للأكثر، على البناء للمفعول، وفي رواية المستملي: "لا يَقْبَل الله" وهذا طرق من حديث أخرجه مسلم باللفظ الأول عن ابن عمر، ولفظه: "لا تُقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غُلُول" وأخرجه الحسن بن سُفيان في مسنده عن أبي كامل، أحد مشائخ مسلم فيه، بلفظ: "لا يَقْبل الله صلاةً إلا بطهور، ولا صدقة من غُلُول". ولأبي داود من حديث أبي فُليح عن أبيه مرفوعًا: "لا يقبل الله صدقة من غُلُول، ولا صلاة بغير طهور" وإسناده صحيح. والغُلول، ضيم الغين، الخيانة في المغنمة، والسرقة من الغنيمة قبل القسمة. وكل مَنْ خان في شيء خُفية فقد غَلّ. وقوله: "ولايقبل إلا من كَسْب طيبٍ" هذا للمستملي وحده، وهو طرف من حديث أبي هُريرة الآتي بعده. وقوله: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} إلى قوله: {حَلِيمٌ} قال ابن المنير: جرى المصنف على عادته في إيثار الخفى على الجلى، وذلك أن في الآية أن الصدقة لما تبعتها سيئة الأذى بطلت، والغُلول أدّى، إن قارن الصدقة أبطلها بطريق الأَوْلى، أو لإنه جعل المعصية اللاحقة للطاعة بعد تقررها تبطل الطاعة، فكيف إذا كانت الصدقة بعين المعصية؛ لأن القالّ في دفعه المال إلى الفقير غاصبٌ متصرفٌ في ملك الغير، فكيف تقع المعصية طاعة معتبرة، وقدًا أبطلت المعصية الطاعة المحققة من أول الأمر؟ وتعقبة ابن رشيد بأنه ينبني على أنّ الأذى أعم من أن يكون من جهة المتصدِّق للمُتَصَدَّق عليه، أو إيذائه لغيره كما في الغُلول، فيكون من باب الأوْلى، وقد لا يسلم هذا في معنى الآية لبعده، فإن الظاهر أن المراد بالأذى في الآية إنما هو ما يكون من جهة المسؤول للسائل، فإنه عطف على المنّ، وجمعٌ معه بالواو. والذي يظهر أنّ البخاريّ قصد أن المتصدَّق عليه إذا علم أن المتصدَّق به غُلول أو غَصْب أو نحوه، تأذّى بذلك، ولم يرض به، كما قال أبو بكر: اللبَن، لما علم أنه من وجه غير طيب، وقد صدق على المتصدِّق أنه مؤذٍ له بتعريضه بأكل ما لو علمه لم يقبله. والقول المعروف فُسّر بالرد الجميل ومغفرة، أي: عفو عن السائل إذا وجد منه ما يثقل على المسؤول. وقيل: المراد عفو من الله بسبب الرد الجميل. وقيل: عفو من جهة السائل، أي معذرة منه للمسؤول. لكنه رده ردًا جميلًا. والثاني أظهر. وظاهر الآية أنَّ الصدقة تحبط بالمنّ والأذى بعد أن تقع سالمة، لكن يمكن أن يقال: لعل

قبولها موقوف على سلامتها من المن والأذى، فإنْ وقع ذلك عدم الشرط فعدم المشروط، فعبر عن ذلك بالإبطال، وقد دل قوله: "لا تقبل صدقة من غُلول" على أن الغالّ لا تبرأ ذمته إلا برد الغُلول إلى أصحابه، بأن يتصدق به إذا جهلهم مثلًا. والسبب فيه أنه من حق الغانمين، فلو جُهِلت أعيانهم، لم يكن له أن يتصرف فيه بالصدقة على غيرهم. وقد مرّ في باب "إثم مانع الزكاة" ما في هذا من خلاف العلماء. ثم قال المصنف:

باب الصدقة من كسب طيب

باب الصدقة من كسب طيب لقوله: {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}. وهذه الترجمة وقعت في رواية المستملي والكشميهنيّ وابن شَبّويه، وعلى هذا فتخلو الترجمة التي قبل هذا من الحديث، وتكون هذه كالتي قبلها في الاقتصار على الآية، لكن تزيد عليها بالإشارة إلى لفظ الحديث الذي في الترجمة، والترجمة ان كان "باب" بغير تنوين، فالجملة خبر المبتدأ، والتقدير هذا بابُ فضلِ الصدقة من كَسْبٍ طيب، وإن كان منونًا فما بعده مبتدأ، والخبر محذوف تقديره الصدقةُ من كسب طيب مقبولةٌ، أو يكثر الله ثوابها. الحديث الخامس عشر حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ سَمِعَ أَبَا النَّضْرِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ وَلاَ يَقْبَلُ اللَّهُ إِلاَّ الطَّيِّبَ وَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ". ومناسبة هذا الحديث لهذه الترجمة ظاهرة، ومناسبته للتي قبلها من جهة مفهوم المخالفة؛ لأنه دل بمنطوقه على أن الله تعالى لا يقبل إلا ما كان من كسب طيب، فمفهومه أن ما ليس بطيب لا يُقبل؟ والغُلول فرد من أفراد غير الطيب. فلا يقبل، ومعنى الكسب المكسوب. والمراد به ما هو أعم من تعاطي التكسب، أو حصول المكسوب بغير تعاطٍ، كالميراث، وكأنه ذكر الكسب لكونه الغالب في تحصيل المال، والمراد بالطيب الحلال؛ لأنه صفة الكسب. قال القرطبيّ: أصل الطيب المستلَذّ بالطبع، ثم أطلق على المُطْلَق بالشرع، وهو الحلال وأما قول المصنف: لقوله: {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} بعد الصدقة من كسب طيب، فقد اعترضه ابن التين وغيره، بأن تكثير أجر الصدقة ليس علة لكون الصدقة من كسب طيب، بل الأمر على عكس ذلك، فإن الصدقة من الكسب الطيب سبب لتكثير الأجر. قال ابن التين: وكان الأبين أن يَستدل بقوله تعالى: {نْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} وقال ابن بطال: لما كانت الآية مشتملة على أن الربى يمحقه الله؛ لأنه حرام، دل ذلك على أن الصدقة التي

تقبل لا تكون من جنس الممحوق. وقال الكرمانيّ: لفظ الصدقات، وإن كان أعم من أن يكون من الكسب الطيب ومن غيره، لكنه مقيّد بالصدقات التي من الكسب الطيب، بقرينة السياق، نحو {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}. وقوله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} أي: يذهبه، إما أن يذهب بالكلية من يد صاحبه، أو يحرمه بركة ماله فلا ينتفع به، بل يعذبه به في الدنيا، ويعاقبه عليه في الآخرة. فقد روى أحمد في مسنده عن ابن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الربى، وإن كثر، فإن عاقبته تصير إلى قُلّ". وهذا من باب المعاملة بنقيض القصد. ثم إن الله تعالى لما أخبر بأنه يمحق الربى؛ لأنه من حرام، أخبر بأنه يُربي الصدقات كما في الآية. وفي حديث الباب: ثم قال: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} أي: كفور القلب، أثيم القول والفعل، ولابد من مناسبة في ختم الآية بهذه الصفة، وهي أن المرابي لا يرضى بما قسم الله له من الحلال، ولا يكتفي بما شرع له من التكسب المباح، فهو يسعى في أكل أموال الناس بالباطل بأنواع المكاسب الخبيثة، فهو جَحُود لما عليه من النعمة، ظلوم آثم بأكل أموال الناس بالباطل. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} أي: لا خوف عليهم عند الموت، ولا هم يحزنون يوم القيامة، ذكر الله تعالى هذه الآية مادحًا للمطيعين لربهم، المؤدين شكره، المحسنين إلى خلقه، في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، مخبرًا عمّا أعَدَّ لهم من الكرامة، وأنهم يوم القيامة آمنون من التُّبِعات. وقوله: بِعَدْل تمرة، أي: قيمتها؛ لأنه بالفتح المثل، وبالكسر الحِمْل بكسر المهملة، هذا قول الجمهور. وقال الفراء: بالفتح من غير جنسه، وبالكسر من جنسه. وقيل: بالفتح مثله في القيمة، وبالكسر مثله في النظر. وأنكر البصريون هذه التفرقة، وقال الكِسائيّ: هما بمعنى كما في لفظ المِثل لا يختلف، وضبط في هذه الرواية بالفتح للأكثر. وقوله: "ولا يقبل الله إلا الطيب" في رواية سليمان بن بلال الآتي ذكرها: "ولا يصعد إلى الله إلاَّ الطيب" وهذه جملة معترضة بين الشرط والجزاء، لتقرير ما قبله. زاد سهيل في روايته الآتي ذكرها: "فيضعها في حقها". قال القرطبيّ: وإنما لا يقبل الله الصدقة بالحرام؛ لأنه غير مملوك للمصدق، وهو ممنوع من التصرف فيه، والمتصدق به متصرف فيه، فلو قبل منه لزم أن يكون الشيء مأمورًا منهيًا من وجه واحد، وهو محال. وقوله: "يتقبلها بيمينه" في رواية سهيل: "إلا أخذها بيمينه" وفي رواية مسلم بن أبي مريم الآتي ذكرها: "فيضعها" وفي حديث عائشة عند البزار: "فيتلقاها الرحمن بيده". وقوله: "فَلُوّه" بوزن عدو هو المهر؛ لأنه يغلى أي: يعظم، وقيل: هو كل فطيم من ذات حافر، والجمع أفلاء،

كعدو وأعداء. وقال أبو زيد: إذا فتحت الفاء شددت الواو، وإذا كسرتها سكنت اللام كجرو. وضربه به المثل؛ لأنه يزيد زيادة بينة، ولأن الصدقة نتاج العمل، وأحوج ما يكون النتاج إلى التربية إذا كان فطيمًا، فإذا أحسن العناية به انتهى إلى حد الكمال، وكذلك عمل ابن آدم، لاسيما الصدقة فإن العبد إذا تصدق من كسب طيب لا يزال نظر الله إليها يكسبها نعت الكمال، حتى ينتهي بالتضعيف إلى نصاب تقع بينه وبين ما قدم، نسبةُ ما بين التمرة إلى الجبل. وفي رواية القاسم عن أبي هُريرة عند التِّرْمِذِيّ "فِلْوه أو مهره". ولعبد الرزاق عن القاسمُ "مُهره أو فصيله". وفي رواية له عند البزّار "مُهره أو ضِيعه أو فصيله". ولابن خُزيمة عن أبي هريرة "فُلوه أو قال فصيله" وهذا يشعر بأن "أو" للشك. قال المازريّ: هذا الحديث وشبهه إنما عبّر به على ما اعتادوا في خطابهم، ليفهموا عنه، فكنى عن قبول الصدقة باليمين، وعن تضعيف أجرها بالتربية. وقال عياض: لما كان الشيء الذي يرتضى يُتَلَقَّى باليمين، ويؤخذ بها استعمل في مثل هذا، واستعير للقبول، كقول الشماخ بن ضرار في عرابة الأوسي: رأيت عرابة الأوسيُ يسمو ... إلى الخيرات منقطع القرين إذا مارايه رقعت لمجد ... تلقاها عُرابة باليمين أي هو مؤهل للمجد والشرق، وليس المراد الجارحة، وقيل: عبر باليمين عن جهة القبول، إذ الشِّمال بضده. وقيل: المراد يمين الذي تدفع إليه الصدقة، وأضافها إلى الله تعالى إضافة ملك واختصاص، لوضع هذه الصدقة في يمين الأخذ لله تعالى، وقيل: المراد سرعة القبول، وقيل حُسنه. وقال الزين بن المنير: الكناية عن الرضى والقبول بالتلقي باليمين لتثبت المعاني المعقولة في الأذهان، وتحقيقها في النفوس تحقيق المحسوسات، أي لا يتشكك في القبول كما لا يتشكك من عاين التلقي للشيء بيمينه، لا أن التناول كالتناول المعهود، ولا أنّ المتناول به جارحةٌ. وقال التِّرمِذِيّ في جامعه: قال أهل العلم من أهل السنة والجماعة: نؤمن بهذه الأحاديث، ولا نتوهم فيها تشبيهًا، ولا نقول كيف؟ " هكذا رُوي عن مالك وابن عيينة وابن المبارك وغيرهم. وأنكرت الجهمية هذه الروايات، وقد استوفينا الكلام في الرد عليهم في كتابنا "استحالة المعية بالذات". ويأتي إن شاء الله تعالى العودُ إلى ذلك في كتاب "التوحيد". وقوله: "حتى تكون مثل الجبل" ولمسلم: "حتى تكون أعظم من الجبل" ولابن جرير: "حتى يوافى بها يوم القيامة وهو أعظم من أُحُد" يعني التمرة، وعند التِّرمِذِيّ بلفظ: "حتى أن اللفحة لتصير مثل جبل" قال: وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ}. وفي رواية ابن جرير التصريح بأن تلاوة الآية من كلام أبي هريرة، وزاد عبد الرزاق "فتصدقوا" والظاهر أن المراد بعظمها أن عينها تعظم لتثقل في الميزان, ويحتمل أن يكون ذلك معبرًا به عن ثوابها.

رجاله ستة

رجاله ستة: قد مرّوا، مرّ عبد الله بن منير في الستين من الوضوء وأبو النضر في السابع والستين منه، وعبد الرحمن بن عبد الله بن دينار في الثامن والثلاثين منه، ومرَّ أبوه عبد الله بن دينار وأبو صالح وأبو هريرة في الثاني من الإيمان. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والسماع والعنعنة، ورواته كلهم مدنيون، وفيه رواية الابن عن الأب، ورواية التابعيّ عن التابعيّ. أخرجه مسلم في الزكاة أيضًا. ثم قال: تابعه سليمان عن ابن دينار، ورواه مسلم عن أحمد بن عثمان عن خالد بن مَخْلَد عن سُليمان عن سُهيل عن أبي صالح، وهذا إن كان أحمد بن عثمان حَفِظَه فلسليمان فيه شيخان: عبد الله بن دينار، وسهيل. وقد غفل صاحب الأطراف، فسوى بين روايتي الصحيحين في هذا، وليس بجيد، وهذه المتابعة ذكرها المصنف في التوحيد، وقد وصلها أبو عُوانة والجوزقيّ. وسليمان المراد به سليمان بن بلال، وقد مرَّ في الثاني من الإيمان مع شيخه عبد الله بن دينار. ثم قال: وقال ورقاء عن ابن دينار عن سعيد بن يسار عن أبي هُريرة، رضي الله عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، يعني أن ورقاء خالف عبد الرحمن وسليمان، فجعل شيخ ابن دينار فيه سعيد بن يسار بدل أبي صالح. وقد أشار الداوديّ إلى أن رواية ورقاء وهم، لتوارد الرواة عن أبي صالح دون سعيد بن دينار، وليس ما قال بجيد؛ لأنه محفوظ عن سعيد بن يسار من وجه آخر، كما أخرجه مسلم والتِّرمذيّ وغيرهما. نعم، رواية ورقاء شاذة بالنسبة إلى مخالفة سليمان وعبد الرحمن. وهذا التعليق وصله البيهقي في سننه من رواية أبي النضر هاشم. وقال في "الفتح": ثبت ذلك في كتاب التوحيد. ورجال هذا التعليق أربعة: مرّ منهم ابن دينار، وأبو هريرة في الثاني من الإيمان، ومرَّ ورقاء في التاسع من الوضوء ومرَّ سعيد بن يسار في التاسع من الوتر. ثم قال: ورواه مسلم بن أبي مريم وزيد بن أسلم وسهيل عن أبي صالح عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. وقد مرّ ما في سياق الثلاثة من فائدة وزيادة. أما رواية مسلم فقد وصلها يوسف بن يعقوب القاضي في كتاب الزكاة، ورواية زيد بن أسلم وسُهيل وَصَلَهما مسلم، ورجال الروايتين خمسة قد مرّوا، إلا مُسلمًا. مرَّ زيد بن أسلم في الثاني والعشرين من الإيمان، ومرَّ سهيل بعد التاسع والأربعين منه، ومرَّ محل أبي صالح وأبي هريرة في الحديث السابق. والخامس: مسلم بن أبي مريم، وأسم أبي مريم يسار السَّلُوليّ المدنيّ، مولى الأنصار، وقيل

في ولائه غير ذلك. قال ابن مُعين، وأبو داود والنَّسَائيّ: ثقة، وقال أبو حاتم: صالح، وهم ثلاثة إخوة محمد وعبد الله ومسلم بنو أبي مريم، ومسلم أعلاهم. وقال ابن سعد: ليس بأخيهما، وقال: كان شديدًا على القدرية، وكان ثقة قليل الحديث. وقال القَعنبيَّ: كان مالك يثني عليه، وقال: لا يكاد يرفع حديثًا إلي النبي -صلى الله عليه وسلم-. وذكره ابن حِبّان في الثقات، روى عن أبي سعيد الخُدريّ وابن عمر، وأبي صالح السمان وغيرهم. وروى عنه يحيى بن سعيد الأنصاريّ ومالك وشعبة والليث وغيرهم. مات في ولاية أبي جعفر المنصور. ثم قال المصنف:

باب الصدقة قبل الرد

باب الصدقة قبل الرد قال الزين بن المنير ما ملخصه: مقصوده بهذه الترجمة الحث على التحذير من التسويف في الصدقة، لما في المسارعة إليها من تحصيل النمو المذكور. قيل: لأن التسويف بها قد يكون ذريعة إلى عدم القابل لها، إذ لا يتم مقصود الصدقة إلا بمصادفة المحتاج إليها. وقد أخبر الصادق أنه سيقع فَقْدُ الفقراء المحتاجين إلى الصدقة، بأن يُخرج الغني صدقته فلا يجد من يقبلها، فإن قيل إن مَنْ أخرج صدقته مثابٌ على نيته ولو لم يجد مَنْ يقبلها، فالجواب أن الواجد يثاب ثواب المجازاة والفضل، والناوي يثاب ثواب الفضل فقط، والأول أرجح. الحديث السادس عشر حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا مَعْبَدُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ: سَمِعْتُ حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "تَصَدَّقُوا فَإِنَّهُ يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ يَمْشِي الرَّجُلُ بِصَدَقَتِهِ، فَلاَ يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا يَقُولُ الرَّجُلُ لَوْ جِئْتَ بِهَا بِالأَمْسِ لَقَبِلْتُهَا، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَلاَ حَاجَةَ لِي بِهَا". قوله: "فإنه يأتي عليكم زمان" في رواية تأتي بعد أبواب "فسيأتي". وقوله: "يقول الرجل" أي: الذي يريد المتصدق أن يعطيه إياها. وقوله: "وأما اليوم فلا حاجة لي بها" وفي رواية الكشميهنيّ فيها يحتمل أن يكون هذا وقع، كما ذكر في خلافة عمر بن عبد العزيز، فلا يكون من أشراط الساعة، وهو نظير ما وقع في حديث عدي بن حاتم الآتي بعد هذا. وأخرج يعقوب بن سفيان في تاريخه بسند جيد عن عمر بن أَسِيد قال: لا والله ما مات عمر بن عبد العزيز، حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم، فيقول: اجعلوا هذا حيث ترون في الفقراء، فما يبرح حتى يرجع بماله، يتذكر من يضعه فيهم، فلا يجد، فيرجع به. قد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس، وسبب ذلك بسطه للعدل، وإيصال الحقوق لأهلها حتى استغنوا، ويأتي في ترجمة عيسى عليه السلام من أحاديث الأنبياء حديث: "ليوشكنَّ أن ينزل فيكم ابن مريم" وفيه: "ويفيض المال" وفي رواية أخرى: "حتى لا يقبله أحد" فيحتمل أن يكون هذا هو المراد، والأول أرجح، لما أذكره في حديث عديّ قريبًا، وسبب كثرته في زمن عيسى عليه السلام نزولُ البركات وتوالي الخيرات، بسبب العدل وعدم الظلم، وحينئذ تُخْرج الأرض كنوزها، وتقل الرغبات في اقتناء المال، لعلمهم بقرب الساعة.

رجاله أربعة

رجاله أربعة: مرَّ منهم آدم وشعبة في الثالث من الإيمان، ومرَّ حارثة بن وهب في الرابع من التقصير. الرابع: معبد بن خالد بن مُرَير، براء بن مصفر، بن حارثة بن ناضرة بن عمرو بن سعيد بن علي بن رِهم بن رباح بن يَشْكُر بن عُدوان الجَدْلِيّ، التميمي الكوفي، العابد. وجديلة هي أُم يشكر، ذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال: كان عابدًا صابرًا على التهجد، يصلي الغداة والعشي بوضوء واحد. وقال أبو حاتم: صدوق، وذكره يعقوب بن سفيان في جماعة. وقال: كل هؤلاء كوفيون ثقات. وذكره ابن سعد في الطبقة الثالثة، وقال: كان ثقة إن شاء الله تعالى، قليل الحديث. وقال ابن مُعين: ثقة، وقال ابن عديّ والعجليّ: كوفي تابعيّ ثقة. وقال النَّسائيّ: مُعْبَد بن خالد ثقة. وقال ابن مُعين: هو من أقدم شيخ لقيه سفيان، وقد ذكروا أن عبد الملك بن مروان لما قدم الكوفة، بعد قتل مصعب بن الزبير، جلس يعرض أحياء العرب، فقام إليه معبد بن خالد الجدليّ، وكان قصيرًا دميمًا، فذكر قصة له مع عبد الملك دالةً على معرفته وفهمه. روى عن أبيه، ويقال: له صحبة، وحارثة بن وهب الخزاعي والنعمان بن بشير ومَسروق وغيرهم. وروى عنه الأعمش وشُعبة والثَّوريّ وغيرهم. مات في ولاية خالد على العراق سنة ثمان عشرة ومئة. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والقول والسماع، وشيخه من أفراده، ورواته ما بين عسقلانيّ وواسطيّ وكوفي. والحديث من الرّباعيات، أخرجه هنا وفي الفتن، ومسلم في الزكاة. الحديث السابع عشر حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ الْمَالُ فَيَفِيضَ، حَتَّى يُهِمَّ رَبَّ الْمَالِ مَنْ يَقْبَلُ صَدَقَتَهُ، وَحَتَّى يَعْرِضَهُ فَيَقُولَ الَّذِي يَعْرِضُهُ عَلَيْهِ لاَ أَرَبَ لِي". وقوله: "حتى يكثر فيكم المال فيقبض" التقيد بقوله: "فيكم" يشعر بأنه محمول على زمن الصحابة، فيكون إشارة إلى ما وقع من الفتوح واقتسامهم أموال الفرس والروم، ويكون قوله: "فيفيض، حتى يهم رب المال" إشارة إلى ما وقع في زمن عمر بن عبد العزيز، فقد تقدم أنه وقع في زمنه أن الرجل كان يعرض ماله للصدقة فلا يجد مَنْ يقبل صدقته، ويكون قوله: وحتى يعرضه فيقول الذي يعرضه عليه: لا أرب لي به، إشارة إلى ما سيقع في زمن عيسى عليه السلام، فيكون في هذا الحديث إشارة إلى ثلاثة أحوال: الأولى: إلى كثرة المال فقط، وقد كان ذلك في زمن الصحابة، ومن ثم قيل فيه: يكثر، وقد

رجاله خمسة

وقع في حديث عوف بن مالك الآتي في الجزية، ذكرُ علامة أخرى مباينة لعلامة الحالة الثانية في حديث عوف بن مالك، رفعه "بين يدي الساعة موتي، ثم فتح بيت المقدس، ثم مَوَتان، ثم استفاضة المال حتى يعطي الرجل منه مئة دينار فيظل ساخطًا ... " الحديث. الحالة الثانية: الإشارة إلى فيضه من الكثرة، بحيث أن يحصل استغناء كل أحد عن أخذ مال غيره، وكان في آخر عصر الصحابة، وأول عصر مَنْ بعدهم، ومن ثم قيل: يهتم رب المال، وذلك ينطبق على ما وقع في زمن عمر بن عبد العزيز. الحالة الثالثة: فيه الإشارة إلى فيضه، وحصول الاستغناء لكل أحد، حتى يهتم صاحب المال بكونه لا يجد من يقبل صدقته، ويزداد بأنه يعرضه على غيره، ولوكان ممن لا يستحق الصدقة، فيأبى أخذه، فيقول: لا حاجة لي فيه. وهذا في زمن عيسى عليه السلام، ويحتمل أن يكون هذا الأخير خروجُ النار واشتغال الناس بأمر الحشر، فلا يلتفت حينئذ إلى المال، بل يقصد أن يتخفف ما استطاع. وقوله: "حتى يَهُمّ ربَّ المال" بفتح أوله وضم الهاء، ورب المال منصوب على المفعولية، وفاعله قوله: "من يقبله". يفال: همه الشيء: أُحْزنه، ويروى بضم أوله، يقال أَهَمه الأمر: أقلقه. وقال النّوويّ في شرح مسلم: ضبطوه بوجهين: أشهرهما بضم أوله وكسر الهاء، ورب المال مفعول، والفاعل "من يقبل" أي: يحزنه. والثاني بفتح أوله وضم الهاء، ورب المال فاعل، ومَنْ مفعوله، أي يقصد. وقوله: "لا أرب لي" زاد في الفتن "به" أي: لا حاجة لي به، لاستغنائي عنه. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ أبو اليمان وشعيب في السابع من بدء الوحي، وأبو الزناد والأعرج في السابع من الإيمان، وأبو هريرة في الثاني منه. الحديث الثامن عشر حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ أَخْبَرَنَا سَعْدَانُ بْنُ بِشْرٍ حَدَّثَنَا أَبُو مُجَاهِدٍ حَدَّثَنَا مُحِلُّ بْنُ خَلِيفَةَ الطَّائِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ رضي الله عنه يَقُولُ: كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَجَاءَهُ رَجُلاَنِ أَحَدُهُمَا يَشْكُو الْعَيْلَةَ، وَالآخَرُ يَشْكُو قَطْعَ السَّبِيلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَمَّا قَطْعُ السَّبِيلِ فَإِنَّهُ لاَ يَأْتِي عَلَيْكَ إِلاَّ قَلِيلٌ حَتَّى تَخْرُجَ الْعِيرُ إِلَى مَكَّةَ بِغَيْرِ خَفِيرٍ، وَأَمَّا الْعَيْلَةُ فَإِنَّ السَّاعَةَ لاَ تَقُومُ حَتَّى يَطُوفَ أَحَدُكُمْ بِصَدَقَتِهِ لاَ يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا مِنْهُ، ثُمَّ لَيَقِفَنَّ أَحَدُكُمْ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حِجَابٌ وَلاَ تُرْجُمَانٌ يُتَرْجِمُ لَهُ، ثُمَّ لَيَقُولَنَّ لَهُ: أَلَمْ أُوتِكَ مَالاً؟ فَلَيَقُولَنَّ: بَلَى. ثُمَّ لَيَقُولَنَّ: أَلَمْ أُرْسِلْ إِلَيْكَ رَسُولاً؟

فَلَيَقُولَنَّ: بَلَى. فَيَنْظُرُ عَنْ يَمِينِهِ فَلاَ يَرَى إِلاَّ النَّارَ، ثُمَّ يَنْظُرُ عَنْ شِمَالِهِ فَلاَ يَرَى إِلاَّ النَّارَ، فَلْيَتَّقِيَنَّ أَحَدُكُمُ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ". قوله: "حتى يطوف أحدكم بصدقته، لا يجد مَنْ يقبلها منه" قد مرَّ ما قيل فيه في الحديثين اللذين قبله، ومرّ أن الذي في حديث عديّ يؤيد أن هذه الكثرة ليست من أشراط الساعة، بل هي الواقعة في زمن عمر بن عبد العزيز، وذلك لأن الذي رواه عَدِي ثلاثة أشياء، أمْن الطرق، والاستيلاء على كنوز كسرى، وفقد مَنْ يقبل الصدقة من الفقراء، فذكر عديّ أن الأوَّلَين وَقَعا، وشاهدهما. وأن الثالث سيقع، فكان كذلك بعد موت عدي، في زمن عمر بن عبد العزيز. وقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث: "ولئن طالت بك حياةٌ، لتجدنَّ الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة، .. " إِلى آخره أدل دليل على ذلك. وقوله: "يشكو العَيْلة" بفتح العين المهملة، أي: الفقر، من عال إذا افتقر. قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} وقوله: قطع السبيل، هو من فساد قطاع الطريق. وقوله: "العِير" بكسر العين وسكون الياء: الإبل التي تحمل المِيْرة. وقيل: القافلة من الإبل والدوابّ، تحمل الطعام وغيره من التجارة. وأصلها عُيْر، بالضم، كسُقف وسِقف، إِلا أنه حوفظ على الياء بالكسرة، نحو عِين. وقوله: "خَفير" بفتح الخاء المعجمة: المجير الذي يكون القوم في ضمانه وذمته. وقوله: "بين يدي الله" هو من المتشابهات، كاليمين ونحوه، والأمة في أمثالها طائفتان: المفوِّضة والمؤُوِّلة بما يناسبها. وقوله: "ولا تُرجمان" بضم التاء وفتحها والجيم مضمومة فيهما، والتاء أصلية، وقيل: زائدة، وقيل: بفتح الجيم، على وزن زَعْفران، وهذا على جهة التمثيل ليفهم الخطاب، فإن الله تعالى لا يحيط به شيء، ولا يحجبه، وإنما يستتر تعالى عن أبصارنا بما وضع فيها من الحجب، للعجز عن الإِدراك في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة كشف تلك الحجب عن أبصارنا، وقوّاها حتى نراه معاينة، كما نرى القمر ليلة البدر، كما ثبت في الأحاديث الصحاح. وقوله: "فليتقينَّ أحدكم النار" وهذا أمر مؤكد بالنون الثقيلة وبلام الأمر، وفي رواية: "ولو بِشِق تمرة" بكسر المعجمة، نصفها أو جانبها، أي: ولو كان الاتقاء بالتصدُّق بِشِق تمرة واحدة، فإنه يفيد. وفي الطبرانيّ عن فَضَالة بن عبيد مرفوعًا: "اجعلوا بينكم وبين النار حجابًا، ولو بِشِق تمرة" ولأحمد عن ابن مسعود مرفوعًا بإسناد صحيح "ليتق أحدكم وجهه بالنار ولو بشق تمرة" وله عن عائشة بإسناد حسن "يا عائشة: استتري من النار، ولو بِشِق تمرة، فإنها تسد من الجائع مسدها من الشبعان" ولأبي يعلى عن أبي بكر الصديق نحوه وأَتم منه، بلفظ: "تقع من الجائع موقعها من الشبعان" وكأنّ الجامع بينهما في ذلك الحلاوة. وقوله: "فإن لم يجد فبكلمة طيبة" أي: فإن لم يجد أحدكم شيئًا يتصدق بيما على المحتاج، فليرده بكلمة طيبة، وهي التي فيها تطييب قلب، فدل على أن الكلمة الطيبة يُتّقى بها، كما أن

رجاله ستة

الكلمة الخبيثة مستوجب بها النار. وفي الحديث الحث على الصدقة بما قل وما جل، وأن لا يحتقر ما يتصدق به، وأن اليسير من الصدقة يستر المتصدق من النار. رجاله ستة: قد مرّت منهم ثلاثة، وفيه لفظ رجلان مبهمان، مرّ عبد الله بن محمد المسنديّ في الثاني من الإيمان, ومرَّ أبو عاصم النبيل في أثر بعد الرابع من العلم، ومرّ عديّ بن حاتم في الأربعين من الوضوء، والباقي ثلاثة: الأول: سعدان بن بشر، بكسر الباء الموحدة، ويقال: ابن بشير الجُهَنيّ القُبِّي، بضم القاف، الكوفيّ، ويقال: اسمه سعيد، وسعدان لقب له، ذكره ابن حِبّان في الثقات. وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وقال ابن المدينيّ: لا بأس به، وقال الدارقطنيّ: ليس بالقويّ، روى عن سعد أبي مجاهد الطائيّ، ومحمد بن جحادة وكنانة مولى صفية، وروى عنه وكيع وإسماعيل بن محمد بن جحادة وأبو عاصم وغيرهم. والقُبَّيَّ، بضم القاف وشد الباء، في نسبه نسبة قُب، بطن من مراد، أو إلى قُبَّةِ الكوفة، وهي رَحَبَةٌ بها. الثاني: أبو مجاهد سعد الطائيّ الكوفيّ، ذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال أحمد بن حنبل: لا بأس به. وقال وكيع: كان ثقة، روى عن مُحِلّ بن خليفة وعطية العَوْفيّ، وعبد الرحمن بن سابط الجُمَحِيّ، وغيرهم. وروى عنه الأعمش وسِعدان الجهنيّ وإسرائيل وغيرهم. الثالث: مُحِلّ، بضم الميم وكسر الحاء وتشديد اللام، ابن خليفة الطائيّ الكوفيّ. قال ابن مُعين وأبو حاتم والنَّسائي: ثقة، زاد أبو حاتم: صدوق، وذكره ابن حِبّان في الثقات. ووثَّقه ابن خُزيمة والدارقطنيّ. وقول ابن عبد البر في "التمهيد" إنه ضعيف - لم يُتابَعَ عليه. روى عن جده عديّ بن حاتم، وأبي السمح خادم النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومِلحان بن زياد. وروى عنه أبو مجاهد الطائيّ وشُعبة والثوريّ وغيرهم. لطائف إسناده: فيه التحديث والإخبار بالجمع والسماع والقول، وشيخه من أفراده، ورواته ما بين بصريّ وكوفيّ وفيه ثلاثة طائيون. أخرجه البخاريّ أيضًا في علامات النبوءة، والنَّسائيّ في الزكاة، والرجلان المبهمان في الحديث، قال في "الفتح": لم أعرفهما. الحديث التاسع عشر حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَطُوفُ الرَّجُلُ فِيهِ بِالصَّدَقَةِ مِنَ الذَّهَبِ ثُمَّ لاَ يَجِدُ أَحَدًا يَأْخُذُهَا مِنْهُ، وَيُرَى الرَّجُلُ الْوَاحِدُ يَتْبَعُهُ أَرْبَعُونَ امْرَأَةً، يَلُذْنَ بِهِ

رجاله خمسة

مِنْ قِلَّةِ الرِّجَالِ وَكَثْرَةِ النِّسَاءِ". قوله: "من الذهب" خصه بالذكر مبالغةً في عدم مَنْ يقبل الصدقة، وكذا قوله: "يطوف ثم لا يجد مَنْ يقبلها" وقد مرَّ الكلام عليه في الأحاديث التي قبله. وقوله: "وُيرى الواحد ... إلخ" مرَّ الكلام عليه مستوفىً في باب رفع العلم من كتاب العلم. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ محمد بن العلاء وأبو أُسامة في الحادي والعشرين مق العلم، ومرّت الثلاثة الباقية في الرابع من الإيمان. لطائف إسناده: فيه التحديث بالإفراد والجمع والعنعنة، ورواته كلهم كوفيون، وفيه ثلاثة مكيون، ورواية الابن عن أبيه. أخرجه مسلم أيضًا بهذا الإسناد. ثم قال المصنف:

باب اتقوا النار ولو بشق تمرة والقليل من الصدقة {ومثل الذين ينفقون أموالهم} إلى قوله: {فيها من كل الثمرات}

باب اتقوا النار ولو بِشِق تمرة والقليل من الصدقة {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ} إلى قوله: {فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} قال الزين بن المنير وغيره: جمع المصنف بين لفظ الخبر، الآية، لاشتمال ذلك كله على الحث على الصدقة، قليلها وكثيرها فإن قوله تعالى: {أَمْوَالَهُمُ} يشمل قليل النفقة وكثيرها، ويشهد له قوله: "لا يحل مال أمرىء مسلم إلا عن طيب نفس" فإنه يتناول القليل والكثير، إذ لا قائل بحل القليل دون الكثير. وقوله: "اتقوا النار ولو بِشِق تمرة" يتناول القليل والكثير أيضًا، والآية مشتملة أيضًا على قليل الصدقة وكثيرها، من جههْ التمثيل المذكور فيها بالطل والوابل، فشبهت الصدقة بالقليل بالطل، والصدقة بالكثير بالوابل. وأما ذكر القليل من الصدقة بعد ذكر شق التمرة، فهو من عطف العام على الخاص، ولهذا أورد في الباب حديث أبي مسعود الذي كان سببًا لنزول قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ}. وقال عز الدين بن عبد السلام: تقدير الآية، مَثَل تضعيف أجور الذين ينفقون كمَثَل تضعيف ثمار الجنة بالمطر، إن قليلًا فقليل، وإن كثيرًا فكثير. وكان البخاري اتبع الآية الأولى التي ضربت مثلًا بالربوة، بالآية الثانية التي تضمنت ضرب المثل لمن عمل عملاً يفقده أحوج ما كان إليه، للإشارة إلى اجتناب الرياء في الصدقة، ولأن قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} يشعر بالوعيد بعد الوعد، فأوضحه بذكر الآية الثانية. وكان هذا هو السر في اقتصاره على بعضها، اختصارًا. وها أنا أذكر معنى الآيات التي ذكر مُخْتَصِرًا. وأما حديث: "اتقوا النار" فقد مرَّ الكلام عليه قريبًا في حديث عدي بن حاتم. وقوله: "ابتغاءَ مرضاة الله" الابتغاءُ الطلب. وقوله: "تثبيتًا" عطف على ابتغاء والتقدير: مبتغين ومتثبتين من أنفسهم بالإخلاص، وذلك ببذل المال الذي هو شقيق الروح، وبذله أشق على النفس من سائر العبادات الشاقة، وكأن إنفاق المال تثبيتًا لها على الإيمان واليقين. وقال الزمخشريّ: يحتمل أن يكون المعنى: وتثبيتًا على أنفسهم عند المؤمنين أنها صادقة الإيمان، مُخْلَصَة فيه. وقال الشعبيّ: تثبيتًا من أنفسهم، أي تصديقًا أن الله سيجزيهم على ذلك أوفر الجزاء. وكذا قاله قتادة. وقال مجاهد والحسن: أي: يتثبتون أين يضعون صدقاتهم. وقال الحسن: كان الرجل إذا همَّ بصدقة تثبت، فإن كان لله أمضى، وإلا ترك. وقوله: الآية، أي: إلى

الحديث العشرون

آخره الآية. وهو قوله: {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} إلى قوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}. وقوله: "كمثل جنة" خبر لقوله: مَثَل الذين ينفقون أي: كمثل بستان بربوة، وهي عند الجمهور المكان المرتفع المستوي من الأرض، وزاد ابن عباس والضحاك "وتجري فيه الأنهار" وفي الربوة ثلاث لغات في ثلاث قراآت، بضم الراء، وبها قرأ عامة أهل المدينة والحجاز والعراق. وبفتحها وهي قراءة بعض أهل الشام والكوفة. وبكسر الراء، ويقال إنها قراءة ابن عباس، وإنما سميت بذلك لأنها رَبَت وغَلُظت، من قولهم: ربا الشيء يربوا إذا زاد وانتفخ، وإنما خصت الربوة لأن شجرها أزكى وأحسن ثمرًا. وقوله: "أصابها وابل" أي: مطر عظيم القطر شديد، وهي في محل جر؛ لأنها صفة ربوة. وقوله: "فآتت أُكُلها ضعفين" أي: ثَمَرها مِثْلَيْ ما كانت تثمر بسبب الوابل. وقوله: "فإن لم يصبها" أي: تلك الجنة التي بالربوة، فطل، أي: فالذي يصيبها طل، وهو أضعف المطر. وقيل: هو المطر الدائم الصفار القطر، الذي لا يكاد تسيل منه المتاعب، أي: هذه الجنة بهذه الربوة، لا تمحل أبدًا؛ لأنها إن لم يصبها وابل فطل، أيًا ما كان، فهو كفايتها. وكذلك عمل المؤمن، لا يبور أبدًا، بل يتقبله الله منه، ويكثره وينميه لكل عامل بحسبه، ولذا قال: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي: لا يخفي عليه من أعمال عباده شيء. وقوله: "وإلى قوله: {مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} " أي: قوله: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} إلى آخرها. قال ابن أبي حاتم: قال ابن عباس: ضرب الله مثلًا حسنًا، وكل أمثاله حسن، أيود أحدكم ... إلى آخره، وهو متصل بقوله تعالى: {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} وخص النخيل والأعناب بالذكر؛ لأنهما أكرم الشجر، وأكثره منافع. وتمام الآية: {وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ} إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} الواو في "وأصابه" للحال، والإعصار هو الريح التي تستدير في الأرض ثم تَسْطَع نحو السماء كالعمود. وهذا مثل لمن يعمل الأعمال الحسنة لا يبتغي بها وجه الله، فإذا كان يوم القيامة وجدها مُحْبَطة، فيتحسر عند ذلك حسرةَ من كانت عنده جنة من أبهى الجِنان، وأجمعها للثمار، فبلغ الكبر، وله أولاد ضعاف، والجنة معاشهم ومنفعتهم، فهلكت بالصاعقة. وقوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ} يعني لما بين هذه الأمثال، لعلكم تتفكرون بهذه الأمثال، وتعتبرون بها، وتنزلونها على المراد منها، كما قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}. الحديث العشرون حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ الْحَكَمُ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الصَّدَقَةِ كُنَّا نُحَامِلُ،

رجاله ستة

فَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ كَثِيرٍ فَقَالُوا: مُرَائِي. وَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِصَاعٍ فَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ صَاعِ هَذَا. فَنَزَلَتِ: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} الآيَةَ. قوله: "لما نزلت آية الصدقة" كأنّه يشير إلى قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} الآية. وقوله: "نُحامل" أي: نحمل على ظهورنا بالأُجرة. يقال: حاملت بمعنى حَمَلْت، كسافرت. وقال الخطابيّ: يريد نتكلف العمل بالأُجرة لنكتسب ما نتصدق به. ويؤيده قوله في الرواية الثانية التي بعد هذه، حيث قال فيها: انطلق أحدنا إلى السوق فيحامل، أي: يطلب الحبل بالأجرة. وقوله: "فجاء رجل فتصدق بشيءٍ كثير" والرجل هو عبد الرحمن بن عَوف، ويأتي في السند محل ذكره. والشيء المذكور هو ثمانية آلاف، أو أربعة آلاف. وقوله: "وجاء رجل، سنذكر في السند ما قيل من الخلاف فيه، ونذكر تعريف من قيل إنه هو، وإنما حصل له الصالح لكونه آجر نفسه على النَّزْح من البئر بالحبل. وقوله: "فقالوا: سمى من اللّامزين" في مغازي الواقدي مُعتب بن قُشير وعبد الرحمن بن نُبْتل، بنون ثم موحدة ساكنة ثم مثناة مفتوحة ثم لام. وقوله: "يلمزون" أي: يعيبون. وقوله: "المُطَّوِّعينَ" أصله المتطوعين، أبدلت التاء طاء وأدغمت الطاء في الطاء. وشاهد الترجمة قوله: {وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ}. رجاله ستة: وفيه لفظ رجل مبهم مرتين، مرّت من رجاله أربعة، ومرّ أحد الرجلين المبهمين. مرَّ شعبة في الثالث من الإيمان، وسليمان بن مِهران في الخاص والعشرين منه، وأبو وائل في الحادي والأربعين منه، وأبو مسعود في الثامن والأربعين منه، والرجلان المبهمان: الأول منهما عبد الرحمن بن عوف، وقد مرَّ في السابع والخمسين من الجمعة، والباقي اثنان من السند، ورجل من المبهَمَين. الأول: عُبيد الله بن سعيد بن يحيى بن بُرْد اليَشكُريّ، مولاهم، أبو قدامة السَّرخَسِيّ الحافظ، نزيل نَيْسابور. قال أبو حاتم: كان من الثقات، وقال أبو داود: ثقة، وقال النَّسائيّ: ثقة مأمون، قَلَّ من كتبنا عنه مثله. وقال إبراهيم بن أبي طالب: ما قدم علينا أثبت منه ولا أتقن. وذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال: هو الذي أظهر السنة بسَرْخَس، ودعا إليها. وقال يحيى بن محمد بن يحيى: حدثنا أبو قُدامة وكان إمامًا خيرًا فاضلًا. وقال ابن عَديّ: فاضل من أهل السنة. وقال مسلمة: ثقة مأمون. وقال ابن عبد البر: أجمعوا على ثقته، وقال الحاكم: أبو قُدامة أحد أئمة الحديث، متفق على إمامته وحفظه وإتقانه. وقد كان محمد بن يحيى روى عنه، ثُمّ ضرب على حديثه لا يخرج عنه، وسبب ذلك أن محمد بن يحيى دخل على أبي قدامة يومًا فلم يقم إليه. وفي الزهرة روى عنه البخاريّ ثلاثة عشر

ومسلم، ثمانية وأربعين. روى عن عبد الله بن نُمير وابن عيينة وحمّاد بن زيد وغيرهم. وروى عنه الشيخان والنَّسائِيّ وأبو زرعة والذُّهلي وغيرهم. مات بَفَرْقَد سنة إحدى وأربعين ومئتين. الثاني: أبو النعمان الحَكَم بن عبد الله الأنصاريّ، ويقال: القيسيّ بالقاف، ويقال العجليّ البصريّ. قال البخاريّ: حديثه معروف كان يحفظ. وقال الخطيب: كان ثقة معروفًا بالحفظ. وقال ابن حِبّان: كان حافظًا، وربما أخطأ. وقال الذُّهليّ: حدثنا أبو النعمان، وكان ثَبْتًا في شُعبة، عاجله الموت سمعت عبد الصمد يثبته، ويذكره بالضبط. وقال ابن عديّ: له مناكير لا يتابع عليها. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: كان يحفظ وهو مجهول. قال في المقدمة: ليس بمجهول من روى عنه أربعة ثقات، ووثقه العجلي وغيره، ومع ذلك لم يرو عنه البخاريّ سوى هذا الحديث الواحد في الزكاة. روى عن سعيد بن أبي عرَوبة وشُعبة ويزيد بن زريع وغيرهم. وروى عنه أبو قُدامة السَّرْخَسِيّ، وأبو موسى ومحمد بن المُنهال وغيرهم. والرجل الثاني المبهم، قيل: هو أبو عقيل الأنصاري، سماه قتادة حَثْحَاث، بمهملتين مفتوحتين ومثلثتين، الأولى ساكنة. أخرج الطبريّ "جاء عبد الرحمن بن عوف بنصف ماله، أربعة آلاف درهم، وأقبل رجل من فقراء المسلمين من الأنصار يقال له الحثحاث أبو عقيل، فقال: يا رسول الله، بن أجر الجرير علي صاعين من تمر، فأما صاع فامسكته لعيالي، وأما صاع فها هو هذا. فقال المنافقون: إنْ كان الله ورسولُه لَغنيين عن صاع أبي عقيل. وثبت ذكره في الصحيح من حديث ابن مسعود قال: لما أمرنا بالصدقة، كنا نتحامل، فتصدق أبو عقيل بنصف صاع، وجاء إنسان بأكثر من ذلك. وقيل: إن اسمه سَهْل بن رافع بن أبي عمرو بن عائذ بن ثَعْلبة بن غنم بن مالك بن النجَّار الأنصاريّ، الخزرجيّ، يقال: إنه شهد أُحدًا، ومات في خلافة عمر. وروى عن سعيد بن عثمان البَلَوِيّ عن جدته بنت عَدِيّ أن أُمها عُميرة بنت سَهل بن رافع صاحب الصالح الذي لمزه المنافقون، خرج بزكاته صاع تمر، وبابنته عُميرة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ادع الله لي ولها بالبركة، فمالي غيرها، فوضع يده عليها فدعا لها. أخرجه الطبراني في الأوسط. وزعم ابن الكلبيّ أنه أخو سهيل، وأنهما صاحبا المَرْبِد الذي كان موضع المسجد، وأما ابن إسحاق فقال: إن صاحبي المسجد سهَل وسُهيل ابنا عمرو. وقيل: سهل بن رافع بن خَريج بن مالك بن غنم بن سَرِيّ بن سَلَمة بن أُنَيْف البَلَويّ الأراشِيّ، حليف بني عمرو بن الأنصاري. قال ابن الكلبي في الجَمهرة: هو صاحب الصالح الذي لمزه المنافقون. وقال ابن عبد البَرّ أيضًا: هو صاحب الصالح، ويقال له صاحب الصاعين، لمّا أتى بصاعي تمر زكاة ماله. وفيه نزلت: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الآية. وقيل: اسمه عبد الرحمن بن بَيْجان بموحدة ثم تحتانية ساكنة ثم جيم، وقيل بسين مهملة بدل

لطائف إسناده

الموحدة، وقيل بنون أوله وآخره حاء مهملة، أبو عقيل صاحب الصالح، ونسبه ابن الكلبي إلى جده الأعلى بيجان، وهو عبد الرحمن بن عبد الله بن ثعلبة بن بيجان بن عامر بن الحارث بن مالك بن أُنَيف بن جُشَم البَلَوِيّ، حليف بني مَحْجبى من الأنصار. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، ورواية تابعيّ عن تابعيّ عن الصحابيّ. أخرجه البخاري في الزكاة أيضًا، وفي التفسير، ومسلم في الزكاة أيضًا، والنَّسائيّ فيها وفي التفسير، وابن ماجه في الزهد. الحديث الحادي والعشرون حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا أَمَرَنَا بِالصَّدَقَةِ انْطَلَقَ أَحَدُنَا إِلَى السُّوقِ فَتَحَامَلَ فَيُصِيبُ الْمُدَّ، وَإِنَّ لِبَعْضِهِمُ الْيَوْمَ لَمِائَةَ أَلْفٍ. قوله: "فيُحامل" بضم التحتانية واللام، بلفظ المضارع من المفاعلة، ويروى بفتح المثناة وفتح اللام أيضًا، بلفظ الماضي من التفاعل. ويؤيده قوله في رواية زائدة الآتية في التفسير "فيحتال أحدنا حتى يجيء بالمُدّ". وقوله: "فيصيب المُدَّ" أي: في مقابلة أجرته، فيتصدق به. وقوله: "وإن لبعضهم اليوم لمئة ألف" زاد في التفسير، "كأنه يعرض بنفسه" وأشار بذلك إلى ما كانوا عليه في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- من قلة الشيء، وإلى ما صاروا إليه بعده من التوسع لكثرة الفتوح، ومع ذلك فكانوا في العهد الأول يتصدقون بما يجدون، ولو جهدوا. والذين أشار إليهم آخرًا بخلاف ذلك، وفي شرح مغلطاي بخطه: وإن لبعضهم اليوم ثمانية آلاف، وهو تصحيفٌ. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ سعيد بن يحيى وأبو يحيى في الرابع من الإيمان، ومرَّ الأعمش في الخامس والعشرين منه، وأبو وائل في الحادي والأربعين منه، ومرَّ أبو مسعود في الثامن والأربعين منه. وقد مرّت مواضع في الذي قبله. الحديث الثاني والعشرون حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَعْقِلٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ". هذا الحديث فيه لفظ الترجمة، وهو طرف من حديثه المذكور في الباب قبله، وقد مرَّ الكلام

رجاله خمسة

عليه هناك. رجاله خمسة: قد مرّوا إلّا عبد الله بن مَعْقِل، مرَّ سليمان بن حرب في الرابع عشر من الإيمان، وشعبة في الثالث منه، وأبو إسحاق السَّبيعي في الثالث والثلاثين منه، وعديّ بن حاتم في الأربعين من الوضوء. وعبد الله هو ابن مَعْقِل، بفتح الميم وكسر القاف، بن مُقْرن، أبو الوليد الكوفيّ المُزَنيّ. قال العجليّ: كوفيّ تابعيّ ثقة، من خيار التابعين. وقال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث. وذكره ابن حيّان في الثقات. روى عن أبيه وعلي وابن مسعود وعديّ بن حاتم وغيرهم. وروى عنه أبو إسحاق السبيعي، وأبو إسحاق الشَّيبانيّ وعبد الملك بن عُمير وغيرهم. مات بالبصرة سنة بضع وثمانين، وقيل بأنقرة غازيًا. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول والسماع، ورواته شيخه، بصريّ قاضي مكة، وواسطيّ وكوفيان. أخرجه مسلم في الزكاة أيضًا. الحديث الثالث والعشرون حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: دَخَلَتِ امْرَأَةٌ مَعَهَا ابْنَتَانِ لَهَا تَسْأَلُ، فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي شَيْئًا غَيْرَ تَمْرَةٍ فَأَعْطَيْتُهَا إِيَّاهَا، فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا وَلَمْ تَأْكُلْ مِنْهَا، ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَيْنَا، فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: "مَنِ ابْتُلِيَ مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ". مناسبة الحديث للترجمة من جهة أن الأم المذكورة، لما قسمت التمرة بين ابنتيها صار، لكل واحدة منهما شق تمرة، وقد دخلت في عموم خبر الصادق أنها ممن ستر من النار؛ لأنها ممن ابتلي بشيء من البنات, فأحسن إليهنّ. ومناسبة فعل عائشة للترجمة من قوله: "والقليل من الصدقة"، وللآية من قوله: {وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} لقولها في الحديث: "فلم تجد عندي إلا تمرة". وهذا الحديث يأتي في الأدب في باب "رحمة الولد وتقبيله". وفيه التقييد بالإحسان، ولفظه: "مَنْ ابتُلِيَ من البنات بشيء، فأحسن إليهن كن له سترًا من النار" وقوله: "جاءت امرأة معها ابنتان" سقطت الواو من قوله "معها" لغير أبي ذَرٍّ. قال في "الفتح": لم أقف على أسمائهن. وقوله: "فحدثته" هكذا في رواية عُروة هنا، وفي رواية عِراك عن عائشة عند مسلم "جاءتني مِسكينة تحمل ابنتين لها، فأطعمتها ثلاث تمرات، فأعطت كل واحدةٍ منهن تمرة،

ورفعت تمرة إلى فيها لتأكلها، فاستطعمتها ابنتاها، فشقت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها، فأعجبني شأنها ... " الحديث. وللطبرانيّ من حديث الحسن بن علي نحوه، ويمكن الجمع بأن مرادها بقولها في حديث عروة هنا "فلم تجد عندي غير تمرة واحدة" أي: أخصها بها، ويحتمل أنها لم يكن عندها في أول الحال سوى واحدة، فأُعْطِيَتْها، ثم وجدت اثنتين، ويحتمل تعدد القصة. وفي رواية عُروة هنا "من ابتُلي بشيء من هذه البنات" وفي رواية الأدب "من يلي من هذه البنات شيئًا" بتحتانية مفتوحة أوله، من الولاية، واختلف في المراد بالابتلاء، هل هو نفس وجودهنّ؟ أو ابتلى بما يصدر منهن؟ وكذلك، هل هو على العموم في البنات؟ أو المراد من اتصف منهن بالحاجة إلى ما يفعل به؟ وقوله في رواية الأدب: "فأَحْسَنَ إليهنَّ" مشعر بأن المراد بقوله في أول الحديث من هذه "أكثر من واحدة"، وفي حديث أنس عند مسلم "مَنْ عال جاريتين" ولأحمد عن أُم سلمة "مَنْ أنفق على البنتين أو أختين، أو ذاتي قَرابة، يُحْتَسب عليهما" والواقع في أكثر الروايات بلفظ "الإحسان" وفي رواية عبد المجيد "فصبر عليهن" ومثله في الأدب المفرد عن عُقبة بن عامر. وكذا في ابن ماجه، وزاد "وأطعمهنّ وسقاهنّ وكساهنّ" وعند الطبراني عن ابن عباس "فأنفق عليهنَّ وزوجهنَّ وأحسنَ أَدَبهنّ" وعند أحمد عن جابر، وفي الأدب المفرد "يؤدبهنَّ ويرحمهنّ ويكْفُلُهنّ" زاد الطبريّ فيه "ويزوجهنَّ" وله نحوه عن أبي هريرة في الأوسط" وللتِّرمذيّ. وفي الأدب المفرد عن أبي سعيد "فأحسن صحبتهن، واتقى الله فيهنَّ" وهذه الأوصاف يجمعها لفظ "الإحسان الذي اقتصر عليه في رواية الأدب. واختلف في المراد بالإحسان هل يُقتصر فيه على قدر الواجب أو بما زاد عليه؟ والظاهر الثاني، فإن عائشة أعطت المرأة التمرة، فآثرت بها ابنتيها، فوصفها النبي -صلى الله عليه وسلم- بما أشار إليه من الحكم المذكور بالإحسان، فدل على أن مَنْ فعل معروفًا لم يكن واجبًا عليه، أو زاد على قدر الواجب عليه عُدّ مُحسنًا، والذي يقتصر على الواجب، وإن كان يوصف بكونه محسنًا، لكن المراد من الوصف المذكور قدر زائد، وشرط الإحسان أنْ يوافق الشرع لا ما خالفه. والظاهر أن الثواب المذكور إنما يحصل لفاعله إذا استمر إلى أن يحصل استغناؤهن عنه بزوج أو غيره، كما أشير إليه في بعض ألفاظ الحديث. والإحسان إلى كل أحد بحسب حاله، وقد جاء أن الثواب المذكور يحصل لمن أحسن لواحدة فقط، ففي حديث ابن عباس المتقدم: "فقال رجل من الأعراب: أو اثنتين؟ فقال: أو اثنتين". وفي حديث عوف بن مالك عند الطبرانيّ: فقالت امرأة، وفي حديث جابر "فقيل" وفي حديث أبي هُريرة "قلنا" وهذا يدل على تعدد السائلين. وزاد في حديث جابر "فرأى بعض القوم" أن لو قال: "وواحدة". وفي حديث أبي هُريرة: "قلنا وثنتين؟ قال: وثنتين. قلنا: وواحدة؟ قال: وواحدة". وشاهده حديث ابن مسعود، رفعه "مَنْ كانت له ابنة فأدبها فأحسن تأديبها، وعلّمها فأحسن

رجاله سبعة

تعليمها، وأوسع عليها من نعمة الله التي أوسع عليه" أخرجه الطبرانيّ بسند واهٍ. وقوله: "كنّ له سترًا من النار" كذا في أكثر الأحاديث التي أشرت إليها. وفي رواية عبد المجيد: "حجابًا" وهو بمعناه. وفي الحديث شدة حرص عائشة على الصدقة امثتالًا لوصيته عليه الصلاة والسلام لها، حيث قال: "لا يرجع من عندكِ سائلٌ ولو بشق تمرة". رواه البزار عن أبي هريرة. وفيه تأكيد حق البنات، لما فيهن من الضعف غالبًا عن القيام بمصالح أنفسهن، بخلاف المذكور لما فيهم من قوة البدن، وجزالة الرأي، وإمكان التصرف في الأمور المحتاج إليها في أكثر الأحوال. قال ابن بطال: وفيه جواز سؤال المحتاج، وسخاء عائشة لكونها لم تجد إلا تمرة فآثرت بها، وأن القليل لا يمنع التصدق به لحقارته، بل ينبغي للمتصدِّق أن يتصدق بما تيسر له، قل أو كثُر. وفيه جواز ذكر المعروف ان لم يكن على وجه الفخر والمن، وقال النووي تبعًا لابن بطال: إنما سماه ابتلاءً لأن الناس يكرهون البنات، فجاء الشرع يزجرهم عن ذلك، ورغّب في إبقائهن وترك قتلهن، بما ذكر من الثواب الموعود به من أَحْسَن إليهن، وجاهد نفسه في الصبر عليهن. وفي شرح التِّرْمِذِيّ للعراقيّ أو البلقينيّ: يحتمل أن يكون معنى الابتلاء هنا الاختبار، أي من اختبر بشيء من البنات، لينظر ما يفعل الحسن عليهن، أو يسيء. ولهذا قيده في حديث أبي سعيد بالتقوى، فإن مَنْ لا يتقِ الله لا يأمن أن يتضجر بمن وَكَلَه الله إليه، أو يقصر عمّا أُمر بفعله أولًا، يقصد بفعله امتثال أمر الله تعالى، وتحصيل ثوابه. رجاله سبعة: قد مرّوا، وفيه ذكر امرأة مبهمة وابنتيها. وقد قال الحافظ ابن حجر: لم أعرفها ولا ابنتيها، وقد مرَّ بشر بن محمد وعبد الله بن المبارك في السادس من بدء الوحي، ومرَّ معمر في متابعة بعد الرابع منه، والزهري في الثالث منه، وعروة وعائشة في الثاني منه، ومرَّ عبد الله ابن أبي بكر بن حَزْم في الرابع والعشرين من الوضوء. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإفراد والإخبار بالجمع والعنعنة والقول. أخرجه البخاريّ أيضًا في الأدب، ومسلم فيه، والتِّرمِذِيّ في البِر، وقال: حسن صحيح. ثم قال المصنف:

باب فضل صدقة الشحيح الصحيح

باب فضل صدقة الشحيح الصحيح لقوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} الآية. وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ} الآية. هكذا الترجمة لأبي ذَرٍّ ولغيره، أي الصدقة أفضل، وصدقة الشحيح الصحيح، لقوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} الآية، فعلى الأول المرادُ فضل مَنْ كان كذلك على غيره، وهو واضح. وعلى الثاني كأنه تردد في إطلاق أفضلية مَنْ كان كذلك، فأورد الترجمة بصيغة الاستفهام .. قال الزين بن المنير ما ملخصه: مناسبة الآية للترجمة أن معنى الآية التحذير من التسويف بالإنفاق استبعادًا لحلول الأجل، واشتغالًا بطول الأمل، والترغيب في المبادرة بالصدقة قبل هجوم المنية، وفوات الأمنية. والمراد بالصحة في الحديث مَنْ لم يدخل في مرض مخوفٍ، فيتصدق عند انقطاع أمله من الحياة، كما أشار إليه في آخره بقوله: "ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم". ولما كانت مجاهدة النفس على إخراج المال مع قيام مانع الشح، وإلا على صحة القصد وقوة الرغبة في القربة، كان ذلك أفضل من غيره، وليس المراد أن نفس الشح هو السبب في هذه الأفضلية. وفي رواية غير أبي ذرٍّ تقديمُ آية المنافقين على آية البقرة، وفي رواية أبي ذرٍّ بالعكس. وقوله في الآية: {فَأَصَّدَّقَ} بتشديد الصاد، أصله فأتَصَدق، أي: أُزكّي، أُبدلت التاء صادًا وأدغمت الصاد في الصاد، أو المعنى افعل ما يفعل المصَّدِّقون. وروى الضَّحَّاك عن ابن عباس أنه قال: مَنْ كان له مال تجب فيه الزكاة، ولم يزكِّهِ، أو مال يبلغه بيت ربه فلم يحج، سَأَلَ عند الموت الرجعةَ، فقال له رجل: اتقِ الله يا ابن عباس، إنما سألت الكفارُ الرجعةَ، قال ابن عباس: إني أقرأ عليك بهذا القرآن، وقوله: {يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ} أي: لا بدل فيه، وذكر لفظ البيع لما فيه من المعاوضة، وأخذ البدل. "ولا خلة" أي: ليس خليل ينفع في ذلك اليوم، والكافرون هم الظالمون؛ لأنهم وضعوا العبادة في غير موضعها، وعَوّلوا على شفاعة الأصنام. وروى ابن أبي حاتم عن عطاء بن دينار أنه قال: الحمد لله الذي قال: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}. ولم يقل والظالمون هم الكافرون.

الحديث الرابع والعشرين

الحديث الرابع والعشرين حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ قَالَ: "أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ، تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمُلُ الْغِنَى، وَلاَ تُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ" قُلْتَ لِفُلاَنٍ كَذَا، وَلِفُلاَنٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلاَنٍ. قوله: "جاء رجل" لم يعرف، ويحتمل أنه أبو ذَرٍّ لما في مسند أحمد عنه أنه سأل: أي الصدقة أفضل؟ لكن في الجواب جهد من مقل أو سؤال فقير، وكذا روى الطبرانيّ عن أبي أمامة، أن أبا ذَرٍّ سأل فأُجيب. ويأتي في السند محل تعريفه. وقوله: "أي الصدقة أعظم أجرًا؟ " وفي الوصايا: أي الصدقة أفضل؟ وقوله: "أنْ تَصَّدَّقَ" بتشديد الصاد، وأصله تتصدق، فأُدغمت إحدى التاءين في الصاد بعد إبدالها صادًا، وبتخفيف الصاد على حذف إحدى التاءين. وقوله: "وأنت صحيح شحيح" في الوصايا: "وأنت صحيح حريص". قال صاحب المنتهى: الشح بخلٌ مع حِرص. وقال صاحب المحكم: الشُّح مثلث الشين، والضم أعلى. وقال صاحب الجامع: الفتح في المصدر، والضم في الاسم. وقال الخطابيّ فيه: إن المرض يقصر يد المالك عن بعض ملكه، وإن سخاوته بالمال في مرضه لا تمحو عنه شيحة البخل، فلذلك شَرَط صحة البدن في الشح بالمال؛ لأنه في الحالتين يجد للمال وقعًا في قلبه، لما يأمل من البقاء، فيحذر معه الفقر. قال ابن بطّال وغيره: لما كان الشح غالبًا في الصحة، فالسماح فيه أصدق في النية، وأعظم للأجر، بخلاف مَنْ فيض من الحياة، ورأى مصدر المال لغيره. وقوله: "تأمُل الغنى" بضم الميم، أي: تطمع. وقوله: "ولا تمهلْ" بالإسكان على أنه نهى، وبالرفع على أنه نقى. وتجوز النصب. وقوله: "إذا بلغت" أي: الروح، والمراد قاربت بلوغه، أذ لو بلغت حقيقة لم يصح شيء من تصرفاته، ولم يجد للروح ذكر استغناءًا بدلالة السياق، والحلقوم مجرى النَّفَس. وقوله: "قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان" الظاهر أن هذا المذكور على سبيل المثال، وقال الخطابي: فلان الأول والثاني الموصى له، وفلان الأخير الوارث؛ لأنه إن شاء أبطله، وإن شاء أجازه. وقال غيره: يحتمل أن يكون المراد بالجميع من يوصي له، وإنما أدخل "كان" في الثالث إشارة إلى تقدير القدر له بذلك، وقال الكرمانيّ: يحتمل أن يكون الأول الوارث، والثاني الموروث، والثالث الموصى له. ويحتمل أن يكون بعضها وصية، وبعضها إقرارًا. وعند الإسماعيليّ: قلت: اصنعوا لفلان كذا، وتصدقوا بكذا. وفي حديث بُسر بن جِحاش، بضم الباء في الابن وكسر الجيم

رجاله خمسة

وحاء مهملة في الأب، عند أحمد وابن ماجه، وصححه، واللفظ له "قال: بزق النبي -صلى الله عليه وسلم- في كفه، ثم وضع أُصبعه السَّبَّابةَ، وقال؟ يقول الله: أنِّى يعجزني ابن آدم، وقد خلقتك من قبل من مثل هذه، فإذا بلغت نفسك إلى هذه، وأشار إلى حلقه، قلت: أتصدق، وأَنَّى أوانُ الصدقة". وزاد في رواية "حتى إذا سويتك وعدلتك، مشيت بين بُرْدَين، وللأرض منك وثيدٌ، فجمعتَ ومنعتَ، حتى إذا بلغت التّراقي قلت: لفلان كذا، وتصدقوا بكذا". وفي الحديث أن تنجيز وفاء الدين والتصدق في الحياة وفي الصحة أفضل منه بعد الموت. وفي المرض. وأشار -صلى الله عليه وسلم- إلى ذلك بقوله: "وأنت صحيح حريص" إلى آخره؛ لأنه في حال الصحة يصعب عليه إخراج المال غالبًا، لما يخوِّفُه به الشيطان، ويزين له من إمكان طول العمر، والحاجة إلى المال. كما قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} الآية، وأيضًا فإن الشيطان رُبما زيَّن له الحَيْفَ في الوصية، أو الرجوع عن الوصية، فيتمحض تفضيل الصدقة الناجزة. وقال بعض السلف عن بعض أهل الترف: يعصون الله تعالى في أموالهم مرتين، يبخلون وهي في أيديهم، يعني في الحياة، ويسرفون فيها إذا خرجت من أيديهم، يعني بعد الموت؛ وأخرج التِّرمِذِيّ بإسناد حسن، وصححه ابن حِبّان عن أبي الدَّرداء مرفوعًا "الذي يعتق ويتصدق بعد موته، مثل الذي يهدي إذا شبع" وهو يرجع إلى معنى حديث الباب. وروى أبو داود، وصححه ابن حِبّان عن أبي سعيد الخُدْرِيّ مرفوعًا "لأنْ يتصدقَ الرجل في حياته وصحته بدرهم، خيرٌ له من أن يتصدق عند موته بمئة". رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ موسى بن إسماعيل في الخامس من بدء الوحي، ومرّ عبد الواحد بن زياد وعمارة وأبو زرعة في التاسع والعشرين من الإيمان، وأبو هريرة في الثاني منه، والرجل المبهم في الحديث قيل: إنه أبو ذَرٍّ الغفاريّ، وقد مرّ في الثالث والعشرين من الإيمان أيضًا. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع في الإسناد كله، وهذا لم يوجد قبل، وفيه القول، وشيخه وشيخ شيخه بَصْريان، وعِمارة وأبو زرعة كوفيان. أخرجه البخاريّ أيضًا في الوصايا، ومسلم والنَّسائيّ في الزكاة. ثم قال المصنف:

باب

باب كذا للأكثر، وبه جزم الإسماعيليّ، وسقط لأبي ذَرٍّ، فعلى روايته هو من ترجمة فضل صدقة الصحيح، وعلى رواية غيره فهو بمنزلة الفصل منه، وأورد فيه المصنف قصة سؤال أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- أيتهن أسرع لحوقًا به؟ وفيه قوله لهنَّ: "أطولكنّ يدًا ... " الحديث، ووجه تعلقه بما قَبْلَه أنَّ هذا الحديث تضمّنَ أن الإيثار والاستكثار من الصدقة في زمن القدرة على العمل، سببٌ للحاقِ بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، وذلك الغاية في الفضيلة. قاله الزين بن المنير. وقال ابن رشيد: وجه المناسبة أنه تبيَّن في الحديث أنّ المراد بطول اليد، المقتضي للحاق به، الطولُ وذلك إنما يتأتى للصحيح؛ لأنه إنما يحصل بالمداومة في حال الصحة، وبذلك يتم المراد. الحديث الخامس والعشرون حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ فِرَاسٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رضى الله عنها أَنَّ بَعْضَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قُلْنَ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: أَيُّنَا أَسْرَعُ بِكَ لُحُوقًا؟ قَالَ: "أَطْوَلُكُنَّ يَدًا". فَأَخَذُوا قَصَبَةً يَذْرَعُونَهَا، فَكَانَتْ سَوْدَةُ أَطْوَلَهُنَّ يَدًا، فَعَلِمْنَا بَعْدُ أَنَّمَا كَانَتْ طُولَ يَدِهَا الصَّدَقَةُ، وَكَانَتْ أَسْرَعَنَا لُحُوقًا بِهِ وَكَانَتْ تُحِبُّ الصَّدَقَةَ. قوله: " إن بعض أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-" قال في "الفتح": لم أقف على تعيين المُسائلة منهن عن ذلك، إلا عند أبي عُوانة بهذا السند، قالت: فقلت، بالمثناة، وأخرجه النَّسائيّ من هذا الوجه بلغظ "فقلن" بالنون، وقوله: "أسرع بك لحوقًا" منصوبًا على التمييز. وكذا قوله: "يدًا" وأطولُكن مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف. وقوله: "فأخذوا قصبة يَذْرَعونها" أي: يَقَدِّرونها بذراع كل واحدة منهن، وإنما ذكره بلفظ جمع المذكر بالنظر إلى لفظ الجمع، لا بلفظ جماعة النساء. وقد قيل في قول الشاعر: وإن شئت حرمت النساءَ سواكم إنه ذكره بلفظ جمع المذكر تعظيمًا. وقوله: "أطولكن" يناسب ذلك، وإلّا لقال: طُولاكُنّ. وقوله: "فكانت سَوْدَة" زاد ابن سعد "بنت زمعة بن قيس". وقوله: "أطولهن يدًا" في رواية عفّان عند ابن سعد "ذراعًا" وهي تعين أنهن فهمن من لفظ اليدِ الجارحةَ. قلت: كذلك لفظ "قَصَبة

يذرعونها" الوارد في حديث الباب، يعين ذلك. وقوله: "فكانت أسرعنا" كذا وقع في الصحيح بغير تعيين، وفي التاريخ الصغير للمصنف عن موسى بن إسماعيل، بهذا الإسناد، فكانت سودةُ أسرعنا .. إلخ. وكذا في رواية عفان عند أحمد وابن سعد، عنه، وقد ساقه يحيى بن حمّاد عن أبي عُوانة مختصرًا ولفظه: "فأخذنَ قصبة يتذارعنها، فماتت سَوْدة بنت زمعة، وكانت كثيرة الصدقة، فعلمنا أنه قال أطولكن يدًا بالصدقة" هذا لفظ عند ابن حِبّان. ولفظه عند النَّسَائيّ: "فأخذنَ قصبة، فجعلنَ يذرعنها، فكانت سَودة أسرعهن به لحوقًا، وكانَت أطولهن يدًا، وكان ذلك من كثرة الصدقة". وهذا السياق لا يحتمل التأويل، إلا أنه محمول على ما يأتي ذكره من دخول الوهم على الراوي في التسمية خاصة، فقد قال ابن سعد: قال لنا الواقديّ هذا الحديث، وهو في سَودة وإنما هو في زينب بنت جَحش، فهي أول نسائه به لُحوقًا، وتوفيت في خلافة عمر، وبقيت سودة إلى أن توفيت في خلافة معاوية، في شوال سنة أربع وخمسين. وقال ابن بطال: هذا الحديث سقط منه ذكر زينب، لاتفاق أهل السير على أن زينب أول مَنْ مات من أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-، يعني أن الصواب: فكانت زينب أسرعنا إلخ، ولكان يعكر على هذا التأويل تلك الروايات المتقدمة، المصرحة بأن الضمير لسَوَدة. وفي خط الحافظ أبي علي الصدقي ظاهر هذا اللفظ، أن سودة كانت أسرع، وهو خلاف المعروف عند أهل العلم من أن زينب أوّل مَنْ مات من الأزواج. ثم نقله عن مالك من روايته عن الواقدي قال: ويقويه رواية عائشة بنت طلحة، وهي آتية. وقال ابن الجَوزيّ: هذا الحديث غلط من بعض الرواة، والعجب من البخاري كيف لم ينبه عليه، ولا أصحاب التعاليق، ولا عَلِم بفساد ذلك الخطّابيُّ، فإنّه فسره وقال: لُحوق سَودة به من أعلام النبوءة، وكل ذلك وهم، وإنما هي زينب، فإنها كانت أطولهن يدًا بالعطاء، كما رواه مسلم عن عائشة بنت طلحة عن عائشة بلفظ: "فكانت أطولنا يدًا زينب؛ لأنها كانت تعمل وتتصدق". وقد جمع بعضهم بين الروايتين، فقال الطيبي: يمكن أن يقال في رواه البخاريّ: المراد الحاضرات من أزواجه دون زينب، وكانت في نسب أوّلهنَّ موتًا، لكن يعكر على هذا أن في رواية يحيى بن حماد عند ابن حِبّان أنَّ نِساء النبي -صلى الله عليه وسلم- اجتمعن عنده، لم تغادر منهن واحدة، ثم هو مع ذلك إنما يتأتى على أحد القولين في وفاة سَودة، فقد روى البخاري في تاريخه بإسناد صحيح عن هلال بن سعيد أنه قال: ماتت سَودة في خلافة عمر، وجزم الذهبيّ في "التاريخ الكبير" بأنها ماتت في آخر خلافة عمر. وقال ابن سيد الناس: إنه المشهور، وهذا يخالف ما أطلقه الشيخ محي الدين، حيث قال: أجمع أهل السير على أن زينت أوّل مَنْ مات من أزواجه، وسبقه إلى نقل الاتفاق ابن بطّال، كما مرَّ، ويمكن الجمع بأن النقل مقيد بأهل السير، فلا يرد نقل قول من خالفهم من أهل النقل ممن

لا يدخل في أهل السير، وأما على قول الواقديّ الذي تقدم، فلا يصح، وقد تقدم عن ابن بطال أن الضمير في قوله: "فكانت" لزينب، وقد مرّ ما يعكر، لكن يمكن أن يكون تفسيره بسودة، من بعض الرواة، لكون غيرها لم يتقدم له ذكر، فلما لم يطلع على قصة زينب، وكونها أوّل الأزواج لُحوقًا به، جعل الضمائر كلها لسَودة، وهذا من أبي عوانة، فقد خالفه في ذلك ابن عُيينة عن فِراس. وروى يونس بن بكير في زيادات المغازي، والبيهقيّ في الدلائل عن الشعبيّ التصريحَ بأن ذلك لزينب عن عائشة، ولفظه: "قلنا النسوة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أينا أسرع بك لُحُوقًا؟ قال: أطولكن يدًا، فأخذنَ يتذارعنَ أيتهنَّ أطول يدًا، فلما توفيت زينب، علمن أنها كانت أطولهن يدًا في الخير والصدقة". ويؤيده ما روى الحاكم في مستدركه، وقال: على شرط مسلم عن عائشة، قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأزواجه: "أسرعكن لُحوقًا بي أطولكن يدًا، قالت عائشة: فكنا إذا اجتمعنا في بيت إحدانا، بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، نمد أيدينا في الجدار نتطاول، فلم نزل نفعل ذلك حتى توفيتْ زينب بنت جحش، وكانت امرأة قصيرة، ولم تكن أطولنا، فعرفنا حينئذ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما أراد بطول اليد الصدقةَ، وكانت زينب امرأة صناعة باليد، وكانت تدبغ وتَخْرِزُ، وتَصَدَّق في سبيل الله". وهذه رواية مفسِّرة مبيِّنة مرجِّحة لرواية عائشة بنت طلحة في أمر زينب. قال ابن رشيد: والدليل على أن عائشة لا تعني سَودة قولها: "فعلمنا بعد" إذ قد أخبرت عن سَودة بالطول الحقيقي، ولم تذكر سبب الرجوع عن الحقيقة إلى المجاز إلا الموت، فإذا طلب السامع سبب العدول، لم يجد إلا الإضمار، مع أنه لم يصلح أن يكون المعنى "فعلمنا بعد" أن المخبر عنها، إنما هي الموصوفة بالصدقة، لموتها قبل الباقيات، فينظر السامع ويبحث، فلا يجد إلا زينب، فيتعين الحمل عليه، وهو من باب إضمار ما لا يصلح غيره، كقوله تعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ}. قال الزين بن المنير: وجه الجمع أن قولها: "فعلمنا بعد" يشعر إشعارًا قويًا أنهن حملن طول اليد على ظاهره، ثم علمن بعد ذلك خلافه، وأنه كناية عن كثرة الصدقة، والذي علمنه آخرًا خلاف ما اعتقدنه أولًا، وقد انحصر الثاني في زينب، للاتفاق على أنها أولهن موتًا، فتعين أن تكون هي المرادة، وكذلك بقية الضمائر بعد قوله: "فكانت"، واستغنى عن تسميتها لشهرتها بذلك. وقال الكرمانيّ: يحتمل أن يقال: إن في الحديث اختصارًا أو اكتفاءًا بشهرة القصة لزينب، أو يؤول الكلام بأنَّ الضمير راجع إلى المرأة التي علم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنها أول مَنْ يلحق به، وكانت كثيرة الصدقة. والأول هو المعتمد وكان هذا هو السر في كون البخاري حذف لفظ سودة من سياق الحديث، لما أخرجه في الصحيح، لعلمه بالوهم فيه، وأنه لما ساقه في "التاريخ" بإثبات ذكرها، ذكر ما يرد عليه عن الشعبيّ عن عبد الرحمن بن أبزى قال: صليت مع عمر على أُم المؤمنين زينب

رجاله ستة

بنت جَحش، وكانت أول نسائه لُحوقًا به. وقد مرَّ تعريفها في الجنائز أن موتها كانت سنة عشرين، وروى ابن سعد عن بَرْزَة بنت رافع قالت: لما خرج العطاء أرسل عمر إلى زينب بنت جَحش بالذي لها، فتعجبت، وسترته بثوب، وأمرت بتفرقته، إلى أن كشف الثوب، فوجدت تحته خمسة وثمانين درهمًا، ثم قالت: اللهم لا يدركني عطاء لعمر بعد عامي هذا، فماتت، فكانت أوّل أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- لُحوقًا به. وروى ابن أبي خيثمة عن القاسم بن مَعْن قال: كانت زينب أوّل نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- لُحُوقًا به، فهذه روايات يعضِّد بعضها بعضًا، ويحصل من مجموعها أن في رواية أبي عوانة وهمًا كما مرَّ. وفي الحديث علم من أعلام النبوءة ظاهر، وفيه جواز إطلاق اللفظ المشترك بين الحقيقة والمجاز بغير قرينة، وهو لفظ "أطولكن" إذا لم يكن محذورٌ قال الزين بن المنير: لما كان السؤال عن آجالٍ مقدرة لا تُعلم إلا بالوحي، أجابهنّ بلفظ غير صريح، وأحالهن على ما لا يتبين إلا باخره، وساغ ذلك لكونه ليس من الأحكام التكليفية. وفيه أنّ مَنْ حمل الكلام على ظاهره وحقيقته لم يُلَم، وإن كان مراد المتكلم مجازه؛ لأن نسوة النبي -صلى الله عليه وسلم- حملن طُول اليد على الحقيقة، ولم ينكر عليهن. وأما ما رواه الطبراني في الأوسط عن ميمونة أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لهنّ: "ليس ذلك أعني، إنما أعني أصنعن يدًا" فهو ضعيف جدًا، ولو كان ثابتًا لم يحتجن بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى ذرع أيديهنّ كما مرَّ. وقال المهلب: في الحديث دلالة على أن الحكم للمعاني لا للألفاظ؛ لأن النسوة فهمن من طول اليد الجارحة، وإنما أراد بالطول كثرة الصدقة، وما قاله لا يمكن اطِّراده في جميع الأحوال. رجاله ستة: وفيه بعض مبهمٌ. وذكره سودة، وقد مرَّ الجميع إلا فراس، مرَّ موسى بن إسماعيل وأبو عُوانة في الخامس من بدء الوحي، ومرّت عائشة في الثاني منه، ومرَّ الشعبيّ في الثالث من الإيمان، ومرّ مسروق في السابع والعشرين منه، ومرّت سودة في الثاني عشر من الوضوء والبعض المبهم عائشة. وفِراس، بكسر الفاء، وابن يحيى الهمدانيّ الخارفيّ، أبو يحيى الكوفي المكَتَّب، وثّقه أحمد وابن مُعين والنَّسائيّ وابن عمّار وآخرون. وقال يعقوب بن شَيبة: ثقة، في حديثه لِين. وقال يحيى القطّان: ما أنكرت من حديثه إلاّ حديث الاستبراء. قال في المقدمة: كفى بها شهادة من مثل ابن القطان. وقد احتج به الجميع، وحديثه في الاستبراء لم يخرجه الشيخان روى عن الشعبيّ وأبي صالح السمَّان وعطية العَوفيّ وغيرهم. وروى عنه منصور بن المعتمر، وهو من أقرانه، وشُعيب وشيبان وغيرهم. مات سنة تسع وعشرين ومئة.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة، وشيخه بصريّ. ثم واسطيّ. وكوفيون. أخرجه النَّسائيّ في الزكاة. ثم قال المصنف:

باب صدقة العلانية

باب صدقة العلانية وقوله عَزَّ وَجَلَّ: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً} إلى قوله: {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}. سقطت هذه الترجمة للمستملي، وثبتت للباقين، وبه جزم الإسماعيليّ، ولم يثبت فيها لمن أثبتها حديث، وكأنه أشار إلى أنه لم يصح فيها على شرطه شيء، وقد اختلف في سبب نزول الآية، فعند عبد الرزاق بإسناد فيه ضعف عن ابن عباس، أنها نزلت في علي بن أبي طالب، كانت عنده أربعة دراهم، فأنفق بالليل واحدًا، وبالنهار واحدًا، وفي السر واحدًا، وفي العلانية واحدًا، وذكر الكلبي نحوه عن ابن عباس؛ وزاد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: "ما حملك على هذا؟ " قال: حملني أنْ استوجب على الله تعالى الذي وعدني، فقال: ألا إن ذلك لك، فأنزل الله الآية. وفي الكشاف: نزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه، إذ أنفق أربعين ألف دينار، عشرة آلاف جهرًا، وعشرة آلاف سرًا، وعشرة آلاف ليلًا، وعشرة آلاف نهارًا. وقيل: نزلت في أصحاب الخيل الذين كانوا يربطونها في سبيل الله. أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي أُمامة، وعن قتادة وغيره: نزلت في قوم أنفقوا في سبيل الله من غير إسراف ولا تقتير. ذكره الطبريّ وغيره. وقال الماوَرْديّ: يحتمل أن يكون في إباحة الارتفاق بالزروع والثمار؛ لأنها يرتفق بها كل مار في ليل ونهار، في سر وعلانية، فكانت أعم. ثم قال المصنف:

باب صدقة السر

باب صدقة السر وقال أبو هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما صنعت يمينه وقال الله تعالى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}. وقد اقتصر في الترجمة على الحديث المعلق. وعلى الآية، والحديث المعلق طرق من حديث يأتي بعد باب بتمامه، وقد مرّ في باب "مَنْ جلس في المسجد ينتظر الصلاة" ومرَّ الكلام عليه هناك مستوفى، وهو أقوى الأدلة على أفضلية إخفاء الصدقة، وأما الآية ظاهرة في تفضيل صدقة السر أيضًا. ولكن ذهب الجمهور إلى أنها نزلت في صدقة التطوع، ونقل الطبريّ وغيره الإجماع على أن الإعلان في صدقة الفرض أفضل من الإخفاء. وصدقة التطوع على العكس من ذلك. وخالف يزيد بن أبي حبيب فقال: إنَّ الآية نزلت في الصدقة على اليهود والنصارى. قال: فالمعنى إنْ تبدوا الصدقات على أهل الكتابين، فنِعمّا هي، أي فلكم فضل، وإن تخفوها وتولوها فقراءكم فهو خير لكم، قال: وكان يأمر بإخفاء الصدقة مطلقًا، وقال أبو إسحاق الزجاج: إن إخفاء الزكاة في زمنه عليه الصلاة والسلام كان أفضل، فأما بعده فإن الظن يساء بمن أخفاها، فلهذا كان إظهار الصدقة المفروضة أفضل. قال ابن عطية: ويشبه في زماننا أن يكون الإخفاء بصدقة الفرض أفضل، فقد كثر المانع لها، وصار إخراجها عرضة للرياء. وأيضًا فكان السلف يعطون زكاتهم للسُّعَاة، وكان مَنْ أخفاها أنهم بعدم اخراجها، وأما اليوم فصار كل أحد يخرج زكاته بنفسه، فصار إخفاؤها أفضل. وقال الزين بن المنير: لو قيل إن ذلك يختلف باختلاف الأحوال لما كان بعيدًا، فإذا كان الإِمام جائرًا ومال من وجبت عليه مخفيًا، فالإسرار أولى وإن كان المتطوع ممن يقتدى به، ويتبع وتنبعث الهمم على التطوع بالإنفاق وسلم قصده فالإظهار أوْلى.

الحديث السادس والعشرون

باب إذا تصدق على غني وهو لا يعلم أي: فصدقته مقبولة، ولفظ "باب" ثابت في غير رواية أبي ذَرٍّ، ساقط في روايته، فأما على رواية غيره، فمناسبة الحديث المسوق للترجمة ظاهرة، وعلى رواية أبي ذرٍّ يحتاج إلى مناسبة بين ترجمة صدقة السر وحديث المتصدق، ووجهها أن الصدقة المذكورة وقعت بالليل، لقوله في الحديث: "فأصبحوا يتحدثون" بل وقع في صحيح مسلم التصريح بذلك، لقوله فيه: "لا تصدقن الليلة" كما سيأتي، فدل على أن صدقته كانت سرًا، إذ لو كانت بالجهر نهارًا لما خفي عنه حال الغني؛ لأنها في الغالب لا تخفى، بخلاف الزانية والسارق، ولذلك خص الغني بالترجمة دونهما. الحديث السادس والعشرون حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "قَالَ رَجُلٌ: لأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ. فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ سَارِقٍ فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ عَلَى سَارِقٍ. فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ لأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ. فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدَيْ زَانِيَةٍ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ اللَّيْلَةَ عَلَى زَانِيَةٍ. فَقَالَ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ، لأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ. فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدَيْ غَنِىٍّ فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ عَلَى غَنِيٍّ فَقَالَ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، عَلَى سَارِقٍ وَعَلَى زَانِيَةٍ وَعَلَى غَنِيٍّ. فَأُتِيَ فَقِيلَ لَهُ: أَمَّا صَدَقَتُكَ عَلَى سَارِقٍ فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعِفَّ عَنْ سَرِقَتِهِ، وَأَمَّا الزَّانِيَةُ فَلَعَلَّهَا أَنْ تَسْتَعِفَّ عَنْ زِنَاهَا، وَأَمَّا الْغَنِيُّ فَلَعَلَّهُ يَعْتَبِرُ فَيُنْفِقُ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ. قوله: "عن أبي هُريرة" في رواية مالك في الغرائب للدارقطنيّ عن أبي الزناد أن عبد الرحمن بن هُرْمُز أخبره أنه سمع أبا هريرة. وقوله: "قال رجل" قال في "الفتح": لم أقف على اسمه، ووقع عند أحمد عن ابن لُهَيعة أنه كان من بني إسرائيل، وقوله: "لأتصدقنَّ بصدقة" في رواية أبي أمية بهذا الإسناد "لأتصدقن الليلة" وكرره، كذلك في المواضع الثلاثة، وكذلك أخرجه أحمد عن ورقاء ومسلم عن موسى بن عُقبة والدارقطنيّ في غرائب مالك، كلهم عن أبي الزناد. وقوله: "لأتصدقن" من باب الالتزام، كالنذر مثلًا. والقسم فيه مقدر، كأنه قال: والله لأتصدقن. وقوله: "فوضعها في يد سارقٍ" أي: وهو لا يعلم أنه سارق. وقوله: "تصدق على سارق" في رواية أبي أمية "تصدق الليلة على سارق" وفي رواية ابن لُهَيعة "تصدق الليلة على فلان

السارق" وليس في شيء من الطرق تسمية أحد من الثلاثة المتصدَّق عليهم. وقوله: "تُصدق" بضم أوله على البناء للمجهول، وقوله: "اللهم لك الحمد" أي: لا لي؛ لأن صدقتي وقعت بيد مَنْ لا يستحقها، ذلك الحمد، كان ذلك بإرادتك لا بإرادتي، فإن إرادة الله كلها جميلة. قال الطيبيّ: لما عزم على أن يتصدق على مستحق، فوضعها في يد زانية، حمد الله على أنه لم يقدر أن يتصدق على مَنْ هو أسوأ حالًا منها، أو أجرى الحمد مجرى التسبيح في استعماله عند مشاهدة ما يتعجب منه، تعظيمًا لله، فلما تعجبوا من فعله، تعجب هو أيضًا. فقال: "اللهم لك الحمد على زانية" أي التي تصدقت عليها، فهو متعلق بمحذوف، ولا يخفى بعد هذا الوجه، والذي قبله أبعد منه. والذي يظهر الأول، وأنه سلّم وفوِّض ورضي بقضاء الله، فحمد الله على تلك الحال؛ لأنه المحمود على جميع حال لا يحمد على المكروه سواه، وقد ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا رأى مالًا يعجبه، قال: اللهم لك الحمد علي كل حال. وقوله: فأتي، فقيل له. في رواية الطبرانيّ عن أبي اليمان بهذا الإسناد "فساءه ذلك، فأتي في منامه". وأخرجه أبو نعيم في المستخرج عنه، والإسماعيليّ عن شُعيب وفيه تعيين بعض الاحتمالات التي ذكرها ابن التين وغيره. قال الكرمانيّ: قوله: "إني أرى" أي: أرى في المنام، أو سمع هاتفًا ملكًا أو غيره، أو أخبره نبي أو أفتاه عالِم. وقال غيره: أو أتاه مَلَك فكلمه، فقد كانت الملائكة تكلم بعضهم في بعض الأمور، وقد ظهر بالنقل الصحيح أنها كلها لم تقع إلا النقل الأول. وقوله: "أما صدقتك على سارق" زاد أبو أمية: "فقد قبلت" وفي رواية موسى بن عقبة وابن لُهَيعة: "أما صدقتك فقد قبلت" وفي رواية الطبرانيّ: "أن الله قد قبل صدقتك" وفي الحديث دلالة على أن الصدقة كانت عندهم مختصة بأهل الحاجة من أهل الخير، ولهذا تعجبوا من الصدقة على الأصناف الثلاثة. وفيه أن نية المتصدق إن كانت صالحة قبلت صدقته، ولو لم تقع الموقع، واختلف الفقهاء في الإجزاء إذا كان ذلك في زكاة الفرض، ولا دلالة في الحديث على الإجزاء، ولا على المنع. ومن ثَمّ أورد المصنف الترجمة بلفظ الاستفهام، ولم يجزم بالحلم، واحتج أبو حنيفة بهذا الحديث على أن مَنْ أعطى زكاته لشخص ظنه فقيرًا، فبان غنيًا، أنه تسقط عنه الزكاة، ولا تجب عليه الإعادة. ووافقه محمد بن الحسن، ومذهب مالك والشافعي وأبي يوسف أنها لا تجزىء، فإن قيل: إن الخبر إنما تضمن قصة خاصة، وقع الاطِّلاع فيها على قبول الصدقة برؤيا صادقة اتفاقية، فمن أين يقع تعميم الحكم؟ فالجواب أن التنصيص، في هذا الخبر على رجاء الاستعفاف، هو الدال على تعدية الحكم، فيقتضي ارتباط القبول بهذه الأسباب. وفيه فضل صدقة السر. وفضل الإخلاص واستحباب إعادة الصدقة إذا لم تقع الموقع، وأن الحكم للظاهر حتى يتبين سواه، وبركة التسليم والرضى وذم التضجر بالقضاء، كما قال بعض السلف: لا تقطع الخدمة، ولو ظهر لك عدم القبول. وفيه اعتبار لمن تصدق عليه بأن يتحول عن

رجاله خمسة

الحال المذمومة إلى الحال الممدوحة، فيستعف السارق عن سرقته، والزانية عن زناها، والغني عن إمساكه. رجاله خمسة: قد مرّوا، وفيه لفظ رجل مبهم لم يعرف اسمه، وهو من بني إسرائيل مرَّ أبو اليمان وشعيب في السابع من بدء الوحي، ومرَّ أبو الزناد والأعرج في السابع من الإيمان, ومرَّ أبو هريرة في الثاني منه. لطائف إسناده: فيه التحديث والإخبار بالجمع والعنعنة، أخرجه مسلم والنَّسائيّ في الزكاة. ثم قال المصنف:

باب إذا تصدق على ابنه وهو لا يشعر

باب إذا تصدق على ابنه وهو لا يشعر قوله: "إذا تصدق" أي: الشخص قال الزين بن المنير: لم يذكر جواب الشرط اختصارًا وتقديره جاز لأنه يصير لعدم شعوره كالأجنبي ومناسبة الترجمة للخبر من جهة أن يزيدًا أعطى مَنْ يتصدق عنه ولم يحجر عليه وكان هو السبب في وقوع الصدقة في يد ولده وعبر في هذه الترجمة بني الشعور وفي التي قبله ابن في العلم لأن المتصدق في السابقة بذل وسعه في طلب اعطاء الفقير فأخطأ اجتهاده فناسب أن ينفي عنه العلم وأما هذا فباشر التصدق غيره فناسب أن ينفي عن صاحب الصدقة الشعور. الحديث السابع والعشرون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ حَدَّثَنَا أَبُو الْجُوَيْرِيَةِ أَنَّ مَعْنَ بْنَ يَزِيدَ رضي الله عنه حَدَّثَهُ قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَا وَأَبِي وَجَدِّي وَخَطَبَ عَلَيَّ فَأَنْكَحَنِي وَخَاصَمْتُ إِلَيْهِ، كَانَ أَبِي يَزِيدُ أَخْرَجَ دَنَانِيرَ يَتَصَدَّقُ بِهَا فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَجِئْتُ فَأَخَذْتُهَا فَأَتَيْتُهُ بِهَا فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا إِيَّاكَ أَرَدْتُ. فَخَاصَمْتُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: لَكَ مَا نَوَيْتَ يَا يَزِيدُ، وَلَكَ مَا أَخَذْتَ يَا مَعْنُ. قوله: "أنا وأبي وجَدَي" يأتي في السند تعريف الثلاثة. وقوله: "خطب عليّ فأنكحني" أي: طلب لي النكاح فأجيب. يقال: خطب المرأة إِلى وليها إِذا أرادها الخاطب لنفسه وعلى فلان إِذا أرادها لغيره وفاعل فأنحكني النبي -صلى الله عليه وسلم- لأن مقصود الراوي بيان أنواع علاقاته به من المبالغة وغيرها ولم يعرف اسم المخطوبة ولو ورد أنها ولدت منه لضاهى بيت الصديق في الصحبة من جهة كونهم أربعة في نسق وقد وقع ذلك لأُسامة بن زيد بن حارثة فروى الحاكم في المستدرك أن حارثة قدم فأسلم وذكر الواقدي أن أسامة ولد له على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وقوله: "وكان أبي يزيد" أي: بالرفع على البدلية. وقوله: "فوصفها عند رجل لم يعرف اسمه" وفي السياق حذف تقديره وأذن له أن يتصدق بها على محتاج إِليها أذنًا مطلقًا. وقوله: "فجئت فأخذتها" أي: من المأذون له في التصدق بها أي: بإذنه لا بطريق الاعتداء وعند البيهقي عن أبي الجويرية في هذا الحديث قلت: ما كانت خصومتك؟ قال: كان رجل يغشى المسجد فيتصدق على رجال يعرفهم فظن أني بعض مَنْ يعرف الحديث.

رجاله أربعة

وقوله: "فأتيته" الضمير لأبيه أي: فأتيت أبي بالدنانير المذكورة. وقوله: "والله ما إياك أردت" أي: لو أردت أنك تأخذها لناولتها لك ولم أوكل فيها أو كأنه كان يرى أن الصدقة على الولد لا تجزىء أو يرى أن الصدقة على الأجنبي أفضل. وقوله: "فخاصمته" تفسير لقوله أولًا خاصمت إليه. وقوله: "لك ما نويت" أي: إنك نويت أن تتصدق بها على مَنْ يحتاج إليها وابنك يحتاج إليها فوقعت الموقع، وإن كان لم يخطر ببالك أنه يأخذها. وقوله: "ولك ما أخذت يا مَعن" أي: لأنك أخذتها محتاجًا إليها. قال ابن رشيد: الظاهر أنه لم يرد بقوله: والله ما إيَّاك أردت، أي: أني أخرجتك بنيتي، وإنما أطلقت لمن تجزىء الصدقة عني عليه، ولم تخطر أنت ببالي، فأمضى النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه فرض للوكيل بلفظ مطلق، فنفذ فعله. وفيه دليل على العمل بالمُطْلَقات على إطلاقها، وإن احتمل أن المطلق لو خطر بباله فرد من الأفراد لقيد به. وفيه جواز الافتخار بالمواهب الربانية، والتحدث بنعم الله، وفيه جواز التحاكم بين الابن والأب، وأن ذلك بمجرده لا يكون عقوقًا، وجواز الاستخلاف في الصدقة، ولاسيما صدقة التطور؛ لأن فيه نوع إسرار، وفيه أن للمتصدق أجر ما نواه، سواء صادف المستحق أو لا، وأن الأب لا رجوع له في الصدقة على ولده، بخلاف الهبة، ويأتي إن شاء الله تعالى ما قيل في الصدقة على الأقارب في باب الزكاة على الأقارب. رجاله أربعة: وفيه ذكر أبي معن يزيد، وجده، ولفظ رجل مبهم، مرَّ منهم محمد بن يوسف الغربائيّ في العاشر من العلم، ومرّ إسرائيل بن يونس في السابع والستين منه، والثالث أبو الجُويرية حطّان بن خُفاف، بالخاء أو بالجيم، ابن زهير بن عبد الله بن رُمْح بن عُرْعُرة الجَرْمِيّ، وثقه أحمد وابن مُعين وأبو زرعة. وقال أبو حاتم: صدوق صالح الحديث، وقال يعقوب بن سفيان: ثقة لا بأس به، وذكره ابن حِبّان في الثقات. وقال ابن عبد البَرّ: أجمعوا على أنه ثقة، وقال العجليّ: كوفي ثقة، روى عن ابن عباس ومَعن بن يزيد وعبد الله بن بدر العجليّ وغيرهم. وروى عنه إسرائيل وزهير والسفيانان وشعبة وغيرهم. الرابع: معن بن يزيد بن الأخنس بن حَبيب بن جرة بن زعب بن مالك بن عُوَيف بن عصية بن خفاف بن امرىء القيس بن بهثنة بن سليم السُّلَميّ، أخرج عن الليث أنه شهد بدرًا مع أبيه وجده، ولم يتفق ذلك لغيره، ولم يتابع على ذلك، فقد روى أحمد والطبرانيّ عن عبد الرحمن بن جُبير بن نُفير عن يزيد بن الأخنس السُّلَمِيّ أنه أسلم معه جميع أهله إلا امرأة واحدةً أبت أن تُسلم، فأنزل الله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} فهذا دال على أن إسلامه كان متأخرًا؛ لأن الآية متأخرة الإنزال عن بدر. دخل مصر وسكن الشام، وشهد وقعة مَرْج راهِط مع الضّحّاك بن قيس، وقتل فيها. ويقال: إنه

لطائف إسناده

كان مع معاوية في حروبه. وقال ابن عساكر: شهد فتح دمشق، وكان له مكان عند عمر بن الخطاب، يكنى أبا يزيد، وذكر محمد بن سَلَام الجُمحيّ أنّ مَعن بن يزيد قال لمعاوية: ما ولدت قرشيةٌ من قرشي شرًا منك. قال: لم؟ قال: لأنك عودت الناس عادة، يعني في الحِلم، وكأني بهم وقد طلبوها من غيرك، فإذا هم صرعى في الطرق، فقال: ويحك، لقد كنت إليها قتيلاً. روى عنه أبو الجُويرية وسُهيل بن دراع وعُتبة بن رافع، انفرد البخاريّ بهذا الحديث الواحد. الرابع: أبوه يزيد بن الأخنس، تقدم نسبة في نسب ولده، وتقدم إسلام جميع أهله بإسلامه، له ذكر في حديث أبي أُمامة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله وعدني أن يدخل الجنة من أُمتي سبعين ألفًا بغير حساب، فقال يزيد بن الأخنس: والله ما أولئك يا رسول الله في أمتك إلا كالذباب الأصهب في الذباب. وفي رواية "الأزرق" أخرجه أحمد، وسنده صحيح. الخامس: الأخنس بن حبيب، جد مَعن، تقدم ما قيل في كونه شهد بدرًا، وزعم ابن مَنْدَه أن اسم جدِ معنٍ ثَوْر، فذكره في حرف الثاء. والرجل المبهم، قال في "الفتح": لم أقف على اسمه. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإفراد، وشيخه شاميّ، والباقون كوفيون، وهو من رباعيات البخاريّ ومن أفراده. ثم قال المصنف:

باب الصدقة باليمين

باب الصدقة باليمين أي: حكم، أو بابٌ بالتنوين، والتقدير أي: فاضلةٌ أو يُرغب فيها. الحديث الثامن والعشرون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ إِمَامٌ عَدْلٌ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ". مطابقته للترجمة في قوله: ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شِماله ما تنفق يمينه، وقد مضى هذا الحديث في باب "مَنْ جلس في المسجد ينتظر الصلاة" من أبواب الجماعة. وقد استوفينا الكلام عليه هناك. رجاله ستة: قد مرّوا، إلا عاصم، مرّ مسدد ويحيى في السادس من الإيمان , ومرّ أبو هريرة في الثاني منه، ومرّ عبيد الله العمريّ في الرابع عشر من الوضوء ومرّ خُبيب بن عبد الرحمن وحَفص بن عاصم في الثاني والستين من مواقيت الصلاة. السادس: عاصم بن عمر بن الخطاب القرشيّ العدويّ، أُمه أُم جميلة بنت ثابت بن أبي الأقلح الأنصاري، ولد في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم يرو عنه شيئًا، وقد جاءت له عنه رواية، وقال العسكري: ولد في السادسة، وقال أبو عمر: مات النبي -صلى الله عليه وسلم- وله سنتان، وزوجه عمر في حياته، وأنفق عليه شهرًا ثم قال: حسبك، كان من أحسن الناس خَلْقًا، وكان طُوالًا جسيمًا حتى إن ذراعه تزيد نحو شبر، وكان يقول الشعر، وهو جد عمر بن عبد العزيز. وكان عمر طلّق أمه، فتزوجها يزيد بن جارية، بالجيم، فولدت له عبد الرحمن، فهو أخو عاصم لأُمه، وركب عمر إلى قباء، فوجده يلعب مع الصبيان، فحمله بين يديه، فركبت جدته لأُمه الشَّمُوس بنت أبي عارم إلى أبي

الحديث التاسع والعشرون

بكر، فنازعته، فقال له أبو بكر: خل بينه وبينها، ففعل. وكان له يومئذ ثمان سنين على ما عند البخاري في تاريخه، وله أربع على ما عند أبي عمر، وروى ابن سيرين عن رجل حدثه قال: ما رأيت أحدًا من الناس إلا ولابد أن يتكلم ببعض ما لا يريد، إلا عاصم بن عمر. وقال أخوه عبد الله: أنا وأخي عاصم لا نغتاب الناس. مات بالرَّبَذَة سنة سبعين، وقيل سنة ثلاث وسبعين. وتمثل أخوه عبد الله لما مات بقول متمّم بن نُوَيرة: فليت المنايا كنَّ خَلَّفْنَ مالكًا ... فعِشنا جميعًا أو ذهبنَ بنا معًا فقال له رجل لما تمثل به: كن خلَّفْنَ عاصمًا. ويقال: كان بينه وبين رجل شيء، فقام وهو يقول: قضى ما قضى فيما مضى ثم لا ترى ... له صَبْوَةً فيما بقي آخرَ الدهرِ وقيل: إن لعمر بن الخطاب ابنًا يسمى عاصمًا مات في خلافته. روى عن أبيه وروى عنه ابناه حفص وعُبيد الله، وعروة بن الزبير، له عندهم حديثان. الحديث التاسع والعشرون حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَعْبَدُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ: سَمِعْتُ حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ الْخُزَاعِيَّ رضي الله عنه يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "تَصَدَّقُوا، فَسَيَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ يَمْشِي الرَّجُلُ بِصَدَقَتِهِ فَيَقُولُ الرَّجُلُ لَوْ جِئْتَ بِهَا بِالأَمْسِ لَقَبِلْتُهَا مِنْكَ، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَلاَ حَاجَةَ لِي فِيهَا". وقال ابن رشيد: مطابقة الحديث للترجمة من جهة أنه اشترك مع الذي قبله في كون كل منهما حاملًا لصدقته؛ لأنه إذا كان حاملًا له بنفسه، كان أخفى لها، فكان في معنى لا تعلم شِماله ما تنفق يمينه، ويحمل المطلق في هذا على المقيد في هذا، أي: المناولة بالمين. قال: ويقوِّي أن ذلك مقصده إتْباعُه بالترجمة التي بعدها، حيث قال من أمر خادمه بالصدقة: ولم يناول بنفسه، وكأنه قصد في هذا من حمله بنفسه، وقد مرَّ هذا الحديث في باب الصدقة على الرد، ومرَّ استيفاء الكلام عليه هناك. رجاله أربعة: قد مرّوا، مرّ علي بن الجَعْد في السادس والأربعين من الإيمان، وشُعبة في الثالث منه، ومرَّ مَعْبَد الجدليّ في الخامس عشر من كتاب الزكاة هذا، ومرَّ حارثة بن وهب في الرابع من التقصير. ثم قال المصنف:

باب من أمر خادمه بالصدقة ولم يناول بنفسه

باب مَنْ أمر خادمه بالصدقة ولم يناول بنفسه قال الزين بن المنير: فائدة قوله: "ولم يناول بنفسه" التنبيهُ على أن ذلك مما يغتفر، وإن قوله في الباب قبله: "الصدقة باليمين" لا يلزم منه المنع من إعطائها بيد الغير، وإن كانت المباشرة أولى، فقد روى ابن أبي شَيبة عن عباس بن عبد الرحمن المدنيّ خصلتان لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- يَلِيْهُما إلى أحد من أهله؟ "كان يناول المسكين بيده، ويضع الطهور لنفسه". وفي الترغيب للجوزيّ عن ابن عباس: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يَكِل طَهوره ولا صَدقته التي يتصدق بها إلى أحد، يكون هو الذي يتولّاهما بنفسه". ثم قال: وقال أبو موسى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: هو أحد المتصدقين، ضبط في جميع روايات الصحيحين بفتح القاف على التثنية، قال القرطبيّ: ويجور الكسر على الجمع، أي هو متصدق من المتصدِقين، أي هو ورب الصدقة في أصل الأجر سواء، لا ترجيح لأحدهما على الآخر، وإن اختلف مقداره لهما، فلو أعطى المالك مثلًا مئة درهم لخادمه، ليدفعها لفقير على باب داره مثلًا، فأجر المالك أكثر، ولو أعطاه رغيفًا ليذهب إلى فقير في مسافة بعيدة، بحيث يقابل مشي الذاهب إليه بأجرة تزيد على الرغيف، فأجر الخادم أكثر. وقد يكون عمله قدر الرغيف مثلًا، فيكون مقدار الأجر سواءًا. وهذا التعليق طرف من حديث وصله بعد ستة أبواب، بلفظ "الخازن" والخازن خادم المالك في الخزن، وإن لم يكن خادمه حقيقة. وقيد الخازن في الحديث الآتي بأمور فقال: "الخازن المسلم الأمين الذي ينفذ، وربما قال: يعطي ما أمر به كاملًا موفرًا طيبًا به نفسه، فيدفعه إلى الذي أمر له به. فأخرج بالمسلم الكافر؛ لأنه لا نية له، وبكونه أمينا الخائنَ؛ لأنه مأزور وتب الأجر على إعطائه ما يؤمر به غير ناقص، لكونه خائنًا أيضًا، وبكون نفسه بذلك طيبة لئلا يعدم النية، فيفقد الأجر، وهي قيود لابد منها. وقد مرَّ أبو موسى في الرابع من الإيمان. الحديث الثلاثون حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا أَنْفَقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ طَعَامِ بَيْتِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ كَانَ لَهَا أَجْرُهَا بِمَا أَنْفَقَتْ وَلِزَوْجِهَا أَجْرُهُ بِمَا كَسَبَ، وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ، لاَ يَنْقُصُ

بَعْضُهُمْ أَجْرَ بَعْضٍ شَيْئًا". قال ابن رشيد: نبه بالترجمة على أن هذا الحديث مفسر بها؛ لأن كلًا من الخازن والخادم والمرأة أمين ليس له أن يتصرف إلا بإذن المالك، نصًا أو عرفًا، إجمالًا أو تفصيلًا. قوله: "من طعام بيتها غير مُفسدة" أي: المتصرفة فيه إذا أذِنَ لها في ذلك بالتصريح، أو المفهوم من اطِّراد العُرف، فعلمت رضاه بذلك، وكانت غير مفسدة بأن لم تتجاوز العادة، ولا يؤثر نقصانه. وقيّد بالطعام لأن الزوج يسمح به عادة، بخلاف الدنانير والدراهم، فإنّ إنفاقها منها بغير إذنه لا يجوز، فلو اضطرب العُرف أو شكّت في رضاه، أو كان شحيحًا يشح بذلك، وعلمت ذلك من حاله، أو شكّت فيه، حَرُم عليها التصدُّق من ماله إلا بصريح أمره. قال ابن العربيّ: اختلف السلف فيما إذا تصدقت المرأة من بيت زوجها، فمنهم مَنْ أجازه، لكن في الشيء اليسير الذي لا يؤبه له، ولا يظهر به النقصان. ومنهم مَنْ حمله على ما إذا أذن ولو بطريق الإجمال، وهو اختيار البخاريّ، ولذلك قيد الترجمة بالأمر به، ويحتمل أن يكون ذلك محمولًا على العادة كما مرَّ، وأما التقييد بغير الإفساد، فمتفقٌ عليه. ومنهم مَنْ قال: المراد بنفقة المرأة والعبد والخازن، النفقةُ على عيال صاحب المال في مصالحه، وليس ذلك بأن يفتئتوا على رب البيت بالإنفاق على الفقراء بغير إذن، ومنهم مَنْ فرّق بين المرأة والخادم، فقال: المرأة لها حق في مال الزوج، والنظر في بيتها، فجاز لها أن تتصدق، بخلاف الخادم، فليس له تصرف في متاع مولاه، فيشترط الإذن فيه. وهو متعقب بأن المرأة إذا استوفت حقها، فتصدقت منه، فقد تخصصت به، وإن تصدقتْ من غير حقها رجعت المسألة كما كانت، وليس في حديث الباب تصريحٌ بجواز التصدق بغير إذنه. نعم في حديث أبي هريرة عند مسلم "وما أنفقتْ من كسبه من غير أمره فإن نصف أجره لها" لكن قال النّوويّ: معناه من غير أمره الصريح في ذلك القدر المعين، ويكون معها إذنُ عامٌ سابق متناول لهذا القدر وغيره، إما بالصريح أو بالمفهوم، كما مرَّ. قال النوويّ: قال الخطابيّ: هو على العُرف البخاري، وهو إطلاق رب البيت لزوجته إطعام الضيف، أو التصدق على السائل، فندب الشارع ربة البيت لذلك، ورغبها فيه على وجه الإصلاح لا الفساد والإسراف، وفي حديث أبي أُمامة عند التِّرمِذِيّ، وقال حسن: "لا تنفق امرأة من بيت زوجها إلا بإذن زوجها. قيل: يا رسول الله، ولا الطعام؟ قال: ذاك أفضل أموالنا". وفي حديث سعد بن أبي وقاص عند أبي داود "لما بايع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- النساء، قامت امرأة فقالت: يا رسول الله، إنا كَلٌّ على آبائنا وأبنائنا". قال أبو داود؟ وأرى فيه وأزواجنا، فما يحل لنا من أموالهم؟ قال: الرُّطب تأكليه وتهديه" قال أبو داود: الرطب بفتح الراء، الخبز والبقل، والرُّطب بضم الراء، وتحصل من هذا أن الحكم يختلف باختلاف عادة البلاد، وحال الزوج من مسامحة وغيرها، وباختلاف حال المنْفَق بين أن يكون يسيرًا يتسامح به، وبين أن يكون له خطر في نفس الزوج يبخل بمثله، وبين أن يكون ذلك رطبًا يخشى فساده إن تأخر، وبين غيره.

رجاله ستة

وأخرج الإسماعيليّ هذا الحديث بلفظ: "إذا تصدقت المرأة من بيت زوجها كتب لها أجر، ولزوجها مثل ذلك، وللخازن مثل ذلك، لا ينقص كل واحد منهم من أجر صاحبه شيئًا، للزوج بما اكتسب ولها بما أنفقت غير مفسِدة". وقوله: "وللخازن مثل ذلك" أي: بالشروط المذكورة في حديث أبي موسى، وظاهره يقتضي تساويهم في الأجر، ويحتمل أن يكون المراد بالمثل، حصول الأجر في الجملة، وإن كان أجر الكاسب أوفر، لكن التعبير في حديث أبي هُريرة المارّ "فلها نصف أجره" يشعر بالتساوي، وقد مرَّ تفصيل ذلك عند تعليق أبي موسى السابق. وقوله: "لا ينقص بعضهم أجر بعض شيئًا" المراد به عدم المساهمة والمزاحمة في الأجر. ويحتمل أن يراد مساواة بعضهم بعضًا. وقوله: "شيئًا" نصب مفعول ينقص، كيزيد يتعدى إلى مفعولين، الأوال أجر والثاني شيئًا، كزادهم الله مرضًا. ويحتمل أن قوله: "أجر بعض" منصوب بنزع الخافض، أي من أجرِ بعض، وشيئًا مفعول به. وفي الحديث فضل الأمانة وسخاوة النفس وطيب النفس في فعل الخير، والإعانة على فعل الخير. رجاله ستة: قد مرّوا، مرّت الثلاثة الأُول بهذا النسق في الثاني عشر من العلم، ومرَّ شقيق في الحادي والأربعين من الإيمان، ومرَّ مسروق في السابع والعشرين منه، ومرّت عائشة في الثاني من بدء الوحي. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة، ورواته كلهم كوفيون، أخرجه البخاريّ في الزكاة أيضًا وفي البيوع، ومسلم في الزكاة، وكذلك أبو داود والتِّرْمِذِيّ والنَّسائيّ. وأخرجه ابن ماجه في التجارة. ثم قال المصنف:

باب لا صدقة إلا عن ظهر غني

باب لا صدقة إلا عن ظهر غني ومَنْ تصدف وهو محتاج أو أهله محتاج أو عليه دين فالدين أحق أن يقضى من الصدقة والعتق والهبة وهو رد عليه ليس له أن يتلف أموال الناس قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله إلا أن يكون معروفًا بالصبر فيؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة لفعل أبي بكر رضي الله عنه حين تصدق بماله وكذلك آثر الأنصار المهاجرين ونهى النبي -صلى الله عليه وسلم- من إضاعة المال فليس له أن يضيع أموال الناس بعلة الصدقة". وقال كعب رضي الله عنه: قلت: يا رسوِل الله: إنَّ مِنْ توبتي أنْ أَنْخَلعَ مِن مالي صَدَقَةً إلى اللهِ وإلىِ رَسُولهِ -صلى الله عليه وسلم-، قال: "أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِك فَهْوَ خَيْرٌ لَكَ"، قلت: فإنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذي بِخَيْبَرَ. أورد في الباب حديث أبي هريرة بلفظ: "خير الصدقة ما كان عن ظهر غني" وهو مشعر بأن النفي في اللفظ الأول للكمال لا للحقيقة، فالمعنى لا صدقة كاملة إلا عن ظهر غني، وقد أورده أحمد بلفظ: "إنما الصدقة ما كان عن ظهر غني" وهو أقرب إلى لفظ الترجمة، وأخرجه أيضًا من وجه آخر بلفظ الترجمة، فقال: لا صدقة إلا عن ظهر غني، وكذا ذكره المصنف تعليقًا في الوصايا. وقوله: "ومَنْ تصدق وهو محتاج" إلى آخر الترجمة، كأنَّه أراد تفسير الحديث المذكور بأن شرط المتصدق أن لا يكون محتاجًا لنفسه، أو لمن تلزمه نفقته، ويلتحق بالتصدق سائر التبرعات. وأما قوله: "فهو رد عليه" فمقتضاه أن ذا الدَّين المستغرِق لا يصح منه التبرع، لكن محل هذا عند الفقهاء إذا حَجَر عليه الحاكم بالفَلَس، وقد نقل فيه صاحب المغني وغيره الإجماع، فيحمل إطلاق المصنف عليه، واستدل له المصنف بالأحاديث التي علقها. وقوله: "محله إذا حَجَر عليه الحاكم بالفَلَس" هذا مخالف لمذهب مالك، فإن مذهبه أن الغريم له منع من أحاط الدَّينُ بماله من التبرع، وإن لم يحجر عليه الحاكم، وقد اشتملت هذه الترجمة على خمسة أحاديث معلقة. أولها قوله: "وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- مَنْ أخذ أموال الناس" وهو طرف من حديث لأبي هُريرة موصولٌ عنده في الاستقراض. وقوله: "إلا أن يكون معروفًا بالصبر" هو من كلام المصنف، وكلام ابن التين يوهم أنه من بقية الحديث، فلا يغتر به، وكأنَّ المصنف أراد أن يخص عموم حديث الترجمة "لا صدقة إلا عن ظهر غني" والظاهر أنه يختص بالمحتاج، ويحتمل أن يكون عامًا، ويكون التقدير: إلا أن يكون كلٌّ من المحتاج أو مَنْ تلزمه النفقة، أو صاحب الدَّين معروفًا بالصبر.

ويقوِّي الأولَ التمثيلُ الذي مثّل به مِن فعل أي بكر والأنصار. قال ابن بطال: أجمعوا على أنه لا يجوز للمِديان أن يتصدق بماله ويترك قضاء الدَّين، فتعين حمل ذلك على المحتاج. وحكى ابن رشيد عن بعضهم: أنه يتصور في المِديان فيما إذا عامله الغُرماء على أن يكل من المال. فلو آثر بقوته، وكان صبورًا جاز له ذلك، وإلا كان إيثاره سببًا في أن يرجع لاحتياجه، فيأكل فيتلف أموالهم فيمنع. ثاني التعاليق: قوله: "كفعل أبي بكر حين تصدق بماله" هذا مشهور في السير، وورد في حديث مرفوع أخرجه أبو داود وصححه التِّرمذيّ والحاكم عن زيد بن أسلم عن أبيه، سمعت عمر يقول: "أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نتصدق" فوافق ذلك مالًا عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يومًا فجئت بنصف مالي، وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يا أبا بكر، ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله ... " الحديث، تفرد به هشام بن سعد، وهو صدوق. فيه مقال من جهة حفظه. قال الطبريُّ وغيره: قال الجمهور: مَنْ تصدق بماله كله في صحة بدنه وعقله، حيث لا دَيْن عليه، وكان صبورًا على الإضافة، ولا عائلة له أو له عيال يصبرون أيضًا، فهو جائز. فإن فُقِد شيء من هذه الشروط كُره. وقال بعضهم: هو مردود، وروي عن عمر، حيث رد على غيلان الثقفيّ، قسمةُ ماله، ويمكن أن يحتج له بقصة المدبر الآتي ذكره، فإنه -صلى الله عليه وسلم- باعه وأرسل ثمنه إلى الذي دبر، لكونه كان محتاجًا. وقال آخرون: يجوز في الثلث، ويرد عليه الثلثان، وهو قول الأوزاعيّ ومكحول، وعن مكحول أيضًا: يرد ما زاد على النصف، قال الطبريّ: والصواب عندنا الأول من حيث الجواز، والمختار من حيث الاستحباب أن يجعل ذلك من الثلث جميعاً بين قصة أبي بكر، وحديث كعب. ثالثها: قوله: "وكذلك آثر الأنصار المهاجرين" هو مشهور أيضًا في السِيَر، وفيه أحاديث مرفوعة منها حديث أنس: "قدِم المهاجرونَ المدينةَ وليس عندهم، فقاسمهم الأنصار" وسيأتي موصولًا في الهبة، وحديث أبي هريرة في قصة الأنصاري الذي آثر ضيفه بعشائه وعشاء أهله، وسيأتي موصولًا في تفسير سورة الحشر. رابعها: قوله: "ونهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن إضاعة المال، وهذا طرق من حديث يأتي موصولًا بتمامه في كتاب الاستقراض، وكتاب الأدب. واستدل به المصنف على رد صدقة المِدْيان، وإذا نُهي الإنسان عن إضاعة مال نفسه فإضاعة مال غيره أولى بالنهي، ولا يقال إن الصدقة ليست إضاعة، لأنها إذا عورضت بحق الدَّين لم يبق فيها ثوابٌ، فبطل كونها صدقة، وبقيت إضاعة محضةً، وإضاعة المال، قال الأكثر: إنه محمول على الإسراف في الإنفاق، وقيده بعضهم بالإنفاق في الحرام، والأقوى أنه ما أنفق في غير وجهه المأذون فيه شرعًا، سواءًا كانت دينية أو دنيوية، فمنع منه

لأن الله تعالى جعل المال قيامًا لمصالح العباد، وفي تبذيرها تفويت تلك المصالح، أما في حق مضيعها، وإما في حق غيره، ويستثنى من ذلك كثرة إنفاقه في وجوه البِر، لتحصيل ثواب الآخرة، ما لم يفوت حقًا أخرويًا أهم منه، والحاصل في كثرة الإنفاق ثلاثة أوجه: الأول: إنفاقه في الوجوه المذمومة شرعًا، فلا شك في منعه. والثاني: إنفاقه في الوجوه المحمودة شرعًا، ولا شك في كونه مطلوبًا بالشرط المذكور. والثالث: إنفاقه في المباحات بالأصالة، كملاذ النفس، فهذا ينقسم إلى قسمين: أحدهما أن يكون على وجه يليق بحال المنفق، وبقدر ماله، فهذا ليس بإسراف. والثاني: ما لا يليق به عُرفًا، وهو ينقسم أيضًا إلى قسمين: أحدهما ما يكون لدفع مفسدة، إما ناجزة أو متوقعة، وهذا ليس بإسراف. والثاني ما لا يكون لشيء من ذلك، فالجمهور على أنه إسراف. وذهب بعض الشافعية إلى أنه ليس بإسراف. قال: لأنه تقوم به مصلحة البدن، وهو غرض صحيح، وإذا كان في غير معصية، فهو مباح له. قال ابن دقيق العيد: وظاهر القرآن يمنع ما قال، وقد صرّح بالمنع القاضي حُسين فقال في كتاب "قَسْم الصدقات": هو حرام، وتبعه الغزاليّ، وجزم به الرافعيّ في الكلام على المغارم، وصحح أنه ليس بتبذير أيضًا، وتبعه النوويّ. والذي يترجح أنه ليس مذمومًا لذاته، لكنه يقضي غالبًا إلى ارتكاب المحذور، كسؤال الناس، وما أدّى إلى المحذور فهو محذور، وقد مرّ قريبًا البحث في جواز التصدق بجميع المال. وجزم الباجيّ من المالكية بمنع استيعاب المال بالصدقة، قال: ويكره كثرة إنفاقه في مصالح الدنيا, ولا بأس به إذا وقع نادر الحادث يحدث كضيف أو عيد أو وليمة، ومما لا خلاف في كراهته مجاوزةُ الحد في الإنفاق على البناء، زيادة على قدر الحاجة، ولاسيما إن أضاف إلى ذلك المبالغة في الزخرفة، ومنه احتمال الغبن الفاحش في البياعات بغير سبب، وأما إضاعة المال في المعصية فلا يختص بارتكاب الفواحش، بل يدخل فيه سوء القيام على الرقيق والبهائم، حتى هلكوا، ودفع مال من لم يؤنس منه الرشد إليه، وقسمة ما لا ينتفع بجزئه، كالجوهرة النفيسة. وقال السبكيّ الكبير: الضابط في إضاعة المال أن لا يكون الغرض دينيّ ولا دنيويّ، فإن انتفيا حَرُم قطعًا، وإن وجد أحدهما وجودًا له بالٌ، وكان الأنفاق لائقًا بالحال، ولا معصية فيه، جاز قطعًا. وبين الرتبتين وسائط كثيرة لا تدخل تحت ضابط، فعلى المفتي أن يرى فيما تيسر منها رأيه، وأما ما لا يتيسر فلا تعرض له، فالإنفاق في المعصية حرام كله، ولا نظر إلى ما يحصل في مطلوبه من قضاء شهوة، ولذة حسنة، وأما إنفاقه في الملاذ المباحة، فهو موضع الاختلاف، فظاهر قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} أنَّ الزائد الذي لا يليق بحال المنفق إسرافٌ، ثم قال: ومن بذل مالًا كثيرًا في غرض يسير تافه، عده العقلاء مضيعًا، بخلاف

الحديث الحادي والثلاثين

عكسه. وقال الطيبيّ: هذا الحديث أصل في معرفة حسن الخُلُق، وهو تتبع جميع الأخلاق الحميدة والخلال الجميلة. خامس التعاليق قوله: "وقال كعب" يعني ابن مالك الخ، وهو طرف من حديثه الطويل في قصة توبته، الآتي بتمامه في تفسير سورة التوبة، وإنما منعه -صلى الله عليه وسلم- من صرف كل ماله، ولم يمنع الصديق، لقوة يقين الصديق، وتوكله وشدة صبره عن غيره من الصحابة، وكعب قد مرَّ في السادس والأربعين من استقبال القبلة. الحديث الحادي والثلاثين حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ يُونُسَ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ". قوله: "ما كان عن ظهر غني" أي ما وقع من غير محتاج إلى ما يتصدق به لنفسه، أو لمن تلزمه نفقة. قال الخطابيّ: لفظ الظَّهر يرد في مثل هذا إشباعًا للكلام، والمعنى أفضل الصدقة ما أخرجه الإنسان من ماله بعد أن يستبقي منه قدر الكفاية، ولذلك قال بعده: "وابدأ بمَنْ تعول". وقال البغويّ: معناه غنًى يستظهر به على النوائب التي تنوبه، ونحوه قوله: ركب متن السلامة، والتنكير في قوله: غني، للتعظيم، هذا هو المعتمد في معنى الحديث. وقيل: المراد خير الصدقة ما أغنيت به من أعطيته عن المسألة، وقيل: "عن" للسببية، والظهور زائد، أي: خير الصدقة ما كان سببها غنى في المتصدق. وقال النوويّ: مذهبنا أن التصدق بجميع المال مستحب لمن لا دَين عليه، ولا له عيال لا يصبرون، ويكون هو ممن يصبر على الإضافة والفقر، فإن لم يجمع هذه الشروط فمكروه، وقد مرَّ هذا. وقال القرطبي في المُفهم: يرد على تأويل الخطابيّ بالآيات والأحاديث الواردة في فضل المؤثرين على أنفسهم، ومنها حديث أبي ذَرٍّ "أفضل الصدقة جهد من مُقِلّ" والمختار أن معنى الحديث أفضل الصدقة ما وقع بعد القيام بحقوق النفس والعيال، بحيث لا يصير المتصدق محتاجًا بعد صدقته إلى أحد، فمعنى الغنى في هذا الحديث حصولُ ما تُدفع به الحاجة الضرورية كالأكل عند الجوع، المشوش الذي صبر عليه، وستر العورة والحاجة إلى ما يدفع به عن نفسه الأذى، وما هذا سبيله لا يجوز الإيثار به، بل يحرم، وذلك أنه إذا آثر غيره به أدى إلى اهلاك نفسه، أو الإضرار بها، أو كشف عورته، فمراعاة حقه أولى على كل حال. فإذا سقطت هذه الواجبات صح الإيثار، وكانت صدقته الأفضل لأجل ما يتحمله من مضض الفقر وشدة مشقته، فبهذا يندفع التعارض بين الأدلة إن شاء الله تعالى.

رجاله ستة

وقوله: "وابدأ بِمَنْ تعول" أي بمَنْ تجب عليك نفقته، يقال: عال الرجلُ أهلَه إذا مَأَنَهم، أي: قام بما يتحاجون إليه من قوت وكِسوة، وهو أمر بتقديم من يجب، وهو نفقة نفسه وعياله؛ لأنها منحصرة فيه، بخلاف نفقة غيرهم. وقال ابن المنذر: اختُلف في نفقة مَنْ بلغ من الأولاد، ولا مال له ولا كسب، فأوجبت طائفة النفقة لجميع الأولاد أطفالًا كانوا أو بالغين، إناثًا أو ذكورًا إذا لم تكن لهم أموال يستغنون بها. وذهب الجمهور إلى أن الواجب أن ينفق عليهم حتى يبلغ الذكر أو تتزوج الأنثى، ثم لا نفقة على الأب إلا إن كانوا زَمْنى، فإن كانت لهم أموال فلا وجوب على الأب. وألحق الشافعيّ ولد الولد، وإن سَفُل في ذلك. رجاله ستة: قد مرّوا، مرَّ عبدان وعبد الله بن المبارك في السادس من بدء الوحي، ومرّ الزهريّ في الثالث منه، ويونس في متابعة بعد الرابع منه، ومرَّ ابن المُسَيَّب في التاسع عشر من الإيمان، وأبو هريرة في الثاني منه. الحديث الثاني والثلاثون حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ". قوله: "اليد العليا خير من اليد السفلى" جاء في حديث ابن عمر الذي بعده، تفسيرُ العليا بأنها هي المنفِقة، والسفلى بأنها هي السائلة، والمنفِقة في أكثر الروايات، بالنون والقاف، من الإنفاق وفي بعض الروايات "المتعففة" بالعين وفاءين، من العفة، والأُولى هي الصحيحة، بل قيل: إن الأخيرة تصحيف، ويؤيدها حديث طارق المحاربيّ عند النَّسائيّ قال: قدمنا المدينة فإذا النبي -صلى الله عليه وسلم- قائمٌ على المنبر يخطب الناس، وهو يقول: "يد المعطي العُليا" ولابن أبي شيبة والبزار عن ثعلبة بن زهرم مثله، وللطبراني بإسناد صحيح عن حكيم بن حِزام مرفوعًا "يد الله فوق يد المعطي، ويد المعطي فوق يد المعطى، أو يد المعطى أسفل الأيدي". وللطبرانيّ عن عدي الجُذاميّ، مرفوعًا، مثله، ولأبي داود وابن خُزيمة عن أبي الأحوص، مرفوعًا "الأيدي ثلاثة: فيد الله العليا، ويد المعطي التي تليها، ويد السائل السفلى" فهذه الأحاديث متضافرة على أن اليد العليا هي المنفِقة المعطية، وأن السفلى هي السائلة، وهذا هو المعتمد، وهو قول الجمهور. وقيل: اليد السفلى الآخذة، سواءًا كان بسؤال أم بغير سؤال، وهذا أباه قومٌ، واستندوا إلى أن الصدقة تقع في يد الله قبل يد المتصدق عليه. قال ابن العربيّ: التحقيق أن السفلى يد السائل، وأما يد الأخذ فلا؛ لأن يد الله هي المعطية،

ويد الله هي الآخذة، وكلتاهما عليا وكلتاهما يمين، وفيه نظر؛ لأن البحث إنما هو في أيدي الآدميين، وأما يد الله تعالى فباعتبار كونه مالكَ كل شيء، نسبت يده إلى الإعطاء، وباعتبار قبوله للصدقة ورضاه بها نسبت يده إلى الأخذ، ويده العليا على كل حال، وأما يد الآدمي فهي أربعة: يد المعطي، وقد تضافرت الأخبار بأنها عُليا. ثانيها: يد السائل، وقد تضافرت بأنها سفلى سواءًا أخذت أم لا، وهذا موافق لكيفية الإعطاء والأخذ غالبًا، وللمقابلة بين العلو والسفل، والمشتق منهما. ثالثها: يد المتعفف عن الأخذ، ولو بعد أن تمد إليه يد المعطي مثلًا، وهذه توصف بكونها عُليا علوًا معنوياً. رابعها: يد الآخذ بغير سؤال، وهذه قد اختلف فيها، فذهب جمع إلى أنها سُفلى، وهذا بالنظر إلى الأمر المحسوس، وأما المعنويّ فلا يطرد، فقد تكون عُليا في بعض الصور، وعليه يحمل كلام من أطلق أنها عُليا. قال ابن حِبّان: اليد المتصدقة أفضل من السائلة، لا الآخذة بغير سؤال، إذ محالٌ أن تكون اليد التي أُبيح لها استعمال فعل باستعماله دون من فرض عليه إتيان شيء، فأتى به، أو تقرب إلى ربه متنفلًا، فربما كان الآخذ لما أبيح له أفضل وأورع من الذي يعطي. وعن الحسن البصريّ: اليد العليا المُعْطِية، والسفلى المانعة. ولم يوافق على ذلك. وأطلق آخرون من المتصوفة أن اليد الآخذة أفضل من المعطية مثلًا، وقد حكى ابن قُتيبة ذلك عن قوم، ثم قال: وما أرى هؤلاء إلا قومًا استطابوا السؤال، فهم يحتجون للدناءة، ولو جاز هذا لكان المولى من فوق هو الذي كان رقيقًا فأُعتق، والمولي من أسفل هو السيد الذي أعتقه. ولجمال الدين بن بُناتة معنى آخر في تأويل الحديث، فقال: اليد هنا هي النعمة، وكأنَّ المعنى أن العطية الجزيلة خيرٌ من العطية القليلة، وهذا حث على المكارم بأوجز لفظ، ويشهد له أحد التأويلين في قوله: "ما أبقت غنى" أي: ما حصل به للسائل غنى عن سؤاله، كمن أراد أن يتصدق بألف، فلو أعطاها لمئة إنسان لم يظهر عليهم الغنى، بخلاف ما لو أعطاها لرجل واحد، قال: وهذا أولى من حَمْلِ اليد على الجارحة؛ لأن ذلك لا يستمر، إذ فيمن يأخذ مَنْ هو خير عند الله تعالى ممن يعطي، والتفاضل هنا راجع إلى الإعطاء والأخذ، ولا يلزم منه أن يكون المعطي أفضل من الآخذ على الإطلاق. وقد روى إسحاق في مسنده أن حكيم بن حِزام قال: يا رسول الله، ما اليد العليا؟ قال: "التي تعطي ولا تأخذ". فقوله: "ولا تأخذ" صريح في أن الآخذة ليست بعُليا، وكل هذه التأويلات المتعسفة تضمحل عند الأحاديث المتقدمة، المصرحة بالمراد، فأولى ما فسر به الحديثُ الحديثُ، ومحصل ما في الآثار المتقدمة أن أعلى الأيدي المنفقة ثم المتعففة عن الأخذ، ثم الأخذة بغير سؤال، وأسفل الأيدي السائلة والمانعة. وفي الحديث الحث على الإنفاق في وجوه الطاعة، وفيه تفضيل الغنى، مع القيام بحقوقه،

رجاله خمسة

على الفقر؛ لأن العطاء إنما يكون مع الغنى، وقد مرّ الخلاف في ذلك عند حديث "لا حد إلاَّ في اثنتين" في كتاب العلم. وفيه كراهة السؤال والتنفير عنه، ومحله إذا لم تدعُ إليه ضرورة من خوف هلاك ونحوه، وقد روى الطبرانيّ عن ابن عمر بإسناد فيه مقال، مرفوعًا إما المعطي من سَعَةٍ أفضل من الآخذ إذا كان محتاجًا". وقوله: "ومَنْ يستعف" من الاستعفاف، وهو طلب العفة، وهم الكف عن الحرام والسؤال من الناس. وقيل: الاستعفاف الصبر والنزاهة عن الشيء، وقوله: "يُعِفُّه الله" بضم الياء من الإِعفاف، ومعناه يُصَيِّره عفيفًا. وقوله: "ومَنْ يستغن يغنه الله" شرط وجزاء، وعلاقة الجزم حذف الياء، أي من يطلب الغنى من الله يعطه. رجاله خمسة: قد مرّوا، إلا حكيمًا. مرّ موسى بن إسماعيل في الخامس من بدء الوحي، وهشام وأبو عروة في الثاني منه، ومرَّ وهيب في تعليق بعد الخامس عشر من الإيمان. وأما حكيم فهو ابن حِزام بن خُويلد بن أَسَد بن عبد العُزّى بن قُصَى الأسديّ ابن أخي خديجة بنت خُويلد، يكنى أبا خالد، وأمه صفية، وقيل: فاختة، وقيل: زينب بنت زُهير بن الحارث بن أسد بن عبد العُزّى. وروى أبو حبيبة، مولى الزبير، سمعت حكيم بن حزام يقول: ولدت قبل الفيل بثلاث عشرة سنة، وكنت أعقل حين أراد عبد المطلب أن يذبح ولده عبد الله، وكانت ولادته قبل مولد النبي -صلى الله عليه وسلم- بخمس سنين. وقتل والد حكيم في الفِجار، وشهدها هو. ولد في جوف الكعبة، وذلك أن أمه دخلت الكعبة في نسوة من قريش، وهي حامل، فضربها المخاض فأتيت بنِطْعٍ، فولدت حكيمًا عليه. كان من سادات قريش في الجاهلية وفي الإِسلام، وكان صديق النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل المبعث، وكان يوده، ولكن تأخر إسلامه حتى أسلم عام الفتح، فأسلم هو وبنو عبد الله وخالد ويحيى وهشام، وكلهم صحب النبي عليه الصلاة والسلام، وثبت في السِيَر وفي الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن" وكان من المؤلفة، وشهد حُنَيْنَاً، وأعطي من غنائمها مئة بعير، ثم حسن إسلامه. وكان قد شهد بدرًا مع الكفار، ثم نجا مع مَنْ نجا، وكان إذا اجتهد في اليمين يقول: والذي نجّاني يوم بدر. كان عاقلاً سَرِيًّا فاضلًا سيدًا بماله، غنيًا، أعتق في الجاهلية مئة رقبة، وحمل على مئة بعير، ثم أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد أن أسلم فقال: يا رسول الله، أرأيت أشياءَ كنتُ أفعلها في الجاهلية أتحنَّثُ بها، ألي فيها أجر؟ قال له: "أسلمت على ما أسلفت من خير". وجاء الإِسلام وفي يده الرِّفادة، وكان يفعل المعروف، ويصل الرحم، وكانت له دار الندوة، فباعها من معاوية بمئة ألف درهم، فلامه ابن الزبير، وقال له: بعت مكرمة قريش. فقال له: ذهبت المكارم إلا التقوى، اشتريتُ بها يا ابن أخي دارًا في الجنة، فتصدق بالدراهم كلها، وهو ممن عاش مئة وعشرين سنة،

الحديث الثالث والثلاثون

نصفها في الجاهلية ونصفها في الإِسلام. وحج في الإِسلام ومعه مئة بدنة قد جللها بالحِبرة، وكلها عن أعجازها وأهداها، ووقف بمئة وصيف بعرفة في أعناقهم أطواق الفضة منقوش فيها "عتقاء الله"، عن حكيم بن حزام. وأهدى ألف شاة، له أربعون حديثًا، اتفقا على أربعة منها، روى عنه ابن المسيب، وعروة بن الزبير وعبد الله بن الحارث بن نوفل وغيرهم. مات بالمدينة في داره في زقاق الصواغينيّ، عند بلاط الفاكهة، في خلافة معاوية، سنة خمسين. وقيل سنة أربع، وقيل ثمان وخمسين. وقيل سنة ستين، وهو ابن مئة وعشرين كما مرَّ. ثم قال: وعن وهيب قال: أخبرنا هشام عن أبيه عن أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه، بهذا أورده معطوفًا على إسناد حكيم بلفظ "وعن وهيب" والظاهر أنه حمله عن موسى بن إسماعيل عنه بالطريقين معًا، وكان هشامًا حدّث به وهيبًا تارة عن أبيه عن حكيم، وتارة عن أبيه عن أبي هُريرة، أو حدّثه به عنهما مجموعًا، ففرقه وهيب أو الراوي عنه، والتعليق وصله الإسماعيلي، ورجاله مرَّ ذكر محلهم في الذي قبله، إلا أبا هريرة، وهو قد مرَّ في الثاني من الإيمان. الحديث الثالث والثلاثون حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- ح. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَذَكَرَ الصَّدَقَةَ وَالتَّعَفُّفَ وَالْمَسْأَلَةَ: "الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، فَالْيَدُ الْعُلْيَا هِىَ الْمُنْفِقَةُ، وَالسُّفْلَى هِىَ السَّائِلَةُ". أورد حديث ابن عمر من وجهين في ذكر اليد العليا، وإنما أورده ليفسر به ما أُجمل في حديث حكيم. قال ابن رشيد: والذي يظهر أن حديث حكيم بن حِزام لما اشتمل على شيئين: حديث اليد العليا، وحديث لا صدقة إلا عن ظهر غنى، ذكر معه حديث ابن عمر المشتمل على الشيء الأول تكثيرًا لطرقه، ويحتمل أن تكون مناسبة "حديث اليد العليا" للترجمة من جهة أن إطلاق كون اليد العليا هي المنفقة محله ما إذا كان الإنفاق لا يمنع منه الشرع كالمِديان المحجور عليه، فعمومه مخصوص بقوله: "لا صدقة إلا عن ظهر غني" ولم يسق البخاريّ متن طريق حمّاد عن أيوب، وعطف عليه طريق مالك، فربما أوهم أنهما سواء، وفيهما بعض اختلاف قليل. وقال القرطبيّ: وقع تفسير اليد العليا والسفلى في حديث ابن عمر هذا، وهو نص يرفع الخلاف، ويدفع تعسف من تعسف في تأويله ذلك، لكن ادعى أبو العباس الداني أن التفسير المذكور فدْرَج في الحديث، ولم يذكر مستندًا لذلك. وفي كتاب العسكريّ في الصحابة بإسناد له

رجاله سبعة

فيه انقطاع عن ابن عمر، أنه كتب إلى بشر بن مروان أني سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اليد العليا خير من اليد السفلى" ولا أحسب اليد السفلى إلا السائلة، ولا العليا إلا المعطية. وهذا يشعر بأن التفسير من كلام ابن عمر، ويؤيده ما رواه ابن أبي شيبة عنه. قال: كنا نتحدث أن العليا هي المنفقة. وقوله: "وذكر الصدقة والتعفف والمسألة" كذا للبخاري بالواو قبل المسألة، ولمسلم عن مالك "والتعفف عن المسألة" ولأبي داود "والتعفف منها" أي: من أخذ الصدقة، والمعنى أنه كان عليه الصلاة والسلام يحض الغنيّ على الصدقة، والفقير على التعفف عن المسألة، أو يحضه على التعفف ويذم المسألة. وقوله: "فاليد العليا هي المنفقة" قد مرَّ ما قيل فيه من تفسير العليا والسفلى، والكلام على المنفقة مستوفى في الحديث الذي قبله. قال ابن عبد البَرّ: في الحديث إباحة الكلام للخطيب بكل ما يصلح من موعظة وعلم وقربة. رجاله سبعة: قد مرّوا، مرَّ أبو النعمان محمد بن الفضل في الأخير من الإيمان، ومرَّ حمّاد بن زيد في الرابع والعشرين منه، ومرَّ أيوب في التاسع منه، ومرّ عبد الله بن مَسْلَمة في الثاني عشر منه، ومرَّ ابن عمر في أوله قبل ذكر حديث منه، ومرَّ نافع في الأخير من العلم، ومالك في الثاني من بدء الوحي. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة، ورواته ما بين بصريّ ومدنيّ، أخرجه مسلم وأبو داود والنَّسائيّ في الزكاة. ثم قال المصنف:

باب المنان بما أعطى

باب المنان بما أعطى لقوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى} الآية. هذه الترجمة ثبتت في رواية الكشميهنيّ وحده بغير حديث، وكأنه أشار إلى ما رواه مسلم عن أبي ذَرٍّ مرفوعًا "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة: المانُّ الذي لا يعطي شيئًا إلا مَنَّ به، والمنفق سلعته بالحَلْف، والمسبل إزاره" ولما لم يكن على شرطه، اقتصر على الإشارة إليه، ومناسبة الآية للترجمة واضحة من جهة أن النفقة في سبيل الله، لما كان المنان بها مذمومًا، كان ذم المعطي في غيرها من باب أولى. قال القرطبيّ: المن غالبًا يقع من البخيل والمعَجب، فالبخيل تعظم أي: نفسه العطية، وإن كانت حقيرة في نفسها، والمعجب يحمله العجب على النظر لنفسه بعين العظمة، وأنه منعم بماله على المعطى، وإن كان أفضل منه في نفس الأمر، وموجب ذلك كله الجهل، ونسيان نعمة الله فيما أنعم عليه به، ولو نظر مصيرَه لَعَلَم أن المنة للآخذ لما يترتب له من الفوائد. وقوله: "لقوله تعالى ... إلخ" علّل الترجمة بهذه الآية، ووجه ذلك أن الله تعالى مَدَح الذين ينفقون أموالهم ثم لا يتبعون ما أنفقوا من الخيرات والصدقات منًا على ما أَعطوه، لا بقول ولا بفعل. والذين يتبعون ما أنفقوا منًا وأذى، يكونون مذمومين، ولا يستحقون من الخيرات شيئًا. ووعد الله تعالى الذين لا يمنون بما أنفقوا، بالثواب الجزيل، فقال: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} فيما يستقبلونه من أهوال يوم القيامة، {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} على ما خَلَّفوا من الأولاد. وذكر الكلبيّ أن هذه الآية نزات في عثمان وعبد الرحمن بن عوف، جاء عبد الرحمن إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بأربعة آلاف درهم، نصفِ ماله، وقال عثمان: عَلَيّ جهاز من لا جهاز عنده، في غزوة تبوك، فجهز المسلمين بألف بعير بأقنابها وأحلاسها. ثم قال المصنف:

باب من أحب تعجيل الصدقة من يومها

باب مَنْ أحب تعجيل الصدقة من يومها الحديث الرابع والثلاثون حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ عُقْبَةَ بْنَ الْحَارِثِ رضي الله عنه حَدَّثَهُ قَالَ: صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- الْعَصْرَ، فَأَسْرَعَ ثُمَّ دَخَلَ الْبَيْتَ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ خَرَجَ، فَقُلْتُ أَوْ قِيلَ لَهُ فَقَالَ: "كُنْتُ خَلَّفْتُ فِي الْبَيْتِ تِبْرًا مِنَ الصَّدَقَةِ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُبَيِّتَهُ فَقَسَمْتُهُ". قوله: "كنت خلفت في البيت تبرًا من الصدقة، فكرهت أن أبيته فقسمته" قال ابن بطال: فيه أن الخير ينبغي أن يبادر به، فإن الآفات تعرض، والموانع تمنع، والموت لا يؤمن، والتسويف غير محدود. زاد غيره: وهو أخلص للذمة، وأنفى للحاجة، وأبعد من المَطْل المذموم، وأرضى للرب، وأمحى للذنب. وقال الزين بن المنير: ترجم المصنف بالاستحباب، وكان يمكن أن يقول: كراهة تبييت الصدقة لأن الكراهة صريحة في الخبر، واستحباب التعجيل مستنبط من قرائن سياق الخبر، حيث أسرع في الدخول والقسمة، فجرى على عادته في إيثار الأخفى على الأجلى. وقوله: "أن أُبيته" أي: أتركه حتى يدخل عليه الليل، يقال: بات الرجل دخل في الليل، وبيته: تركه حتى دخل الليل، وهذا الحديث قد مرَّ في باب "مَنْ صلى بالناس، فذكر حاجة، فتخطاهم" من أبواب صفة الصلاة. ومرّت بقية فوائده هناك. رجاله أربعة: قد مرّوا، مرَّ أبو عاصم في أثر بعد الخامس من العلم، ومرَّ عمر بن سعيد وعقبة بن الحارث في الثلاثين منه، ومرَّ ابن أبي مليكة في تعليق بعد الأربعين من الإيمان. ثم قال المصنف:

باب التحريض على الصدقة والشفاعة فيها

باب التحريض على الصدقة والشفاعة فيها قال الزين بن المنير: يجتمع التحريض والشفاعة في أن كلًا منهما إيصال الراحة للمحتاج، ويفترقان في أن التحريض معناه الترغيب بذكر ما في الصدقة من الأجر، والشفاعة فيها معنى السؤال والتقاضي للإجابة، ويفترقان أيضًا بأن الشفاعة لا تكون إلا في خير، بخلاف التحريض، وبأنها قد تكون بدون تحريض. الحديث الخامس والثلاثون حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَدِيٌّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ عِيدٍ فَصَلَّي رَكْعَتَيْنِ لَمْ يُصَلِّ قَبْلُ وَلاَ بَعْدُ، ثُمَّ مَالَ عَلَى النِّسَاءِ وَمَعَهُ بِلاَلٌ، فَوَعَظَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ أَنْ يَتَصَدَّقْنَ، فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تُلْقِي الْقُلْبَ وَالْخُرْصَ. وقوله: "القُلْب" بضم القاف وسكون اللام آخرها موحدة، هو السِّوار، وقيل: إنه مخصوص بما كان من عَظْم، والخُرْص، بضم المعجمة وسكون الراء: الحلقة، وهذا الحديث مرّت مباحثه في باب عظة الإِمام النساءَ من كتاب العلم. ومرَّ قليل منها في باب موعظة الإِمام النساءَ يوم العيد، من كتاب العيدين. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ مسلم بن إبراهيم في السابع والثلاثين من الإيمان، ومرَّ شعبة في الثالث منه، ومرَّ عديّ بن ثابت في الثامن والأربعين منه، ومرَّ سعيد بن جبير وابن عباس في الخامس من بدء الوحي، ومرَّ الكلام على الحديث في العيدين. الحديث السادس والثلاثون حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا أَبُو بُرْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ حَدَّثَنَا أَبُو بُرْدَةَ بْنُ أَبِي مُوسَى عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا جَاءَهُ السَّائِلُ، أَوْ طُلِبَتْ إِلَيْهِ حَاجَةٌ قَالَ: "اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا، وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَا شَاءَ". قال ابن بطال: المعنى اشفعوا يحصل لكم الأجر مطلقًا، سواء قضيت الحاجة أم لا. وقد قالوا: إن الأجر على الشفاعة ليس على العموم، بل مخصوص بما تجوز فيه الشفاعة، وهي

الشفاعة الحسنة، وضابطها ما أذِن فيه الشرع دون ما لم يأذن فيه. وقوله: "كان إذا جاءه السائل أو طلبت إليه حاجة" هكذا الرواية هنا، وأخرجه مسلم عن بريد بلفظ "كان إذا أتاه طالب حاجة أقبل على جُلسائه" وأخرجه المصنف في الأدب بلفظ: "إنه كان إذا أتاه السائل أو صاحب الحاجة" وأخرجه مسلم من هذا الوجه، وأخرجه أبو نعيم بلفظ "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا جاءه السائل، أوطالب الحاجة، أقبل علينا بوجهه" وكل هذه الروايات لا أشك فيها. وقوله: "اشفعوا تؤجروا" بالجزم على جواب الأمر المُضَمَّن معنى الشرط، وهو واضح، وكذا وقع في مسلم. وجاء في الأدب بلفظ "فلتؤجروا" وينبغي أن تكون هذه اللام مكسورة؛ لأنها لام كيّ وتكون الفاء زائدة، كما زيدت في حديث "قوموا فلأُصلي لكم" ويكون معنى الحديث: اشفعوا كي يؤجروا، ويحتمل أن تكون لام الأمر، والمأمور التعرض للأجر بالشفاعة، فكأنه قال: اشفعوا فتعرضوا بذلك للأجر، وتكسر هذه اللام على أصل لام الأمر، ويجوز تسكينها تخفيفًا لأجل الحركة التي قبلها. وفي رواية أبي داود "اشفعوا لتؤجروا" وهو يقوي أن اللام للتعليل، وجوّز الكرمانيّ أن تكون الفاء سببية، واللام بالكسر، وهي لام كي، وقال: جاز اجتماعهما؛ لأنهما لأمر واحد. ويحتمل أن تكون جزائية جوابًا للأمر، ويحتمل أن تكون زائدة على رأي، أو عاطفة على "اشفعوا" واللام لام الأمر، أو على مقدر، أي: اشفعوا لتؤجروا، فلتؤجروا, ولفظ "اشفعوا تؤجروا" في تقدير: ان تشفعوا تؤجروا والشرط يتضمن السببية، فإذا أُتي باللام وقع التصريح بذلك. وقال الطيبيّ: الفاء واللام زائدتان للتأكيد، لأنه لو قيل "اشفعوا تؤجروا" صح، أي: إذا عرض المحتاج حاجته علي، فاشفعوا له إليّ، فإنكم إن شفعتم حصل لكم الأجر، سواءًا قبلت شفاعتكم أم لا. ويُجري الله على لسان نبيه ما شاء، أي: من موجبات قضاء الحاجة أو عدمها، أي أن قضيتها أو لم أقضها، فهو بتقدير الله تعالى وقضائه. وفي حديث ابن عباس بسند ضعيف، رفعه "مَنْ سعى لأخيه المسلم في حاجته، قضيت له أو لم تقضَ، غفر له". وقوله: "ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء" بيان أن الساعي مأجور على كل حال، وإن خاب سعيه. قال عليه الصلاة والسلام: "والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" ولا يأبى كبير أن يشفع عند صغير، فإن شفع عنده ولم يقضها, لا ينبغي له أن يؤذي المشفوع له؛ لأنه عليه الصلاة والسلام شفع عند بُريدة لترد زوجها فأبت، ويجوز في قوله: "ويقضي الله" الرفعَ والنصبَ والجزم، لقول ابن مالك: والفعل من بعد الجزا إن يقترنْ ... بالفاء أو الواو بتثليث قَمِنْ وفي رواية كتاب الأدب "وليقض الله على لسان نبيه ما شاء" وفي رواية مسلم "فليقض". قال القرطبيّ: "لا يصح أن تكون هذه اللام لام الأمر؛ لأن الله لا يؤمر، ولا لام كي؛ لأنه ثبت في الرواية

رجاله خمسة

"وليقض" بغير ياء مد، ثم قال: ويحتمل أن تكون بمعنى الدعاء، أي اللهم اقضي، أو الأمر هنا بمعنى الخبر. وفي الحديث الحض على الخير بالفعل وبالتسبب إليه بكل وجه، والشفاعة إلى الكبير في كشف كُرْبة، ومَعونة ضعيف، إذ ليس كل أحد يقدر على الوصول إلى الرئيس، أو التمكن منه ليلج عليه، أو يوضح له مراده. ليعرف حاله على وجهه، وإلا فقد كان -صلى الله عليه وسلم- لا يحتجب. قال عياض: ولا يستثني من الوجوه التي تستحب الشفاعة فيها إلا الحدود، وإلا فما لأحد فيه تجوز الشفاعة فيه، ولاسيما ممن وقعت منه هفوة أو كان من أهل الستر والعفاف. قال: وأما المصرون على فسادهم، المشتهرون في باطلهم، فلا يشفع فيهم، ليزجروا عن ذلك. وقد قال تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا} وحاصل معنى الآية أنَّ مَنْ شفع لأحد في الخيركان له نصيب من الأجر، ومَنْ شفع له بالباطل كان له نصيب من الوِزر. وقيل: الشفاعة الحسنة الدعاءَ للمؤمن، والسيئة الدعاء عليه. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ موسى بن إسماعيل في الخامس من بدء الوحي، ومرّ عبد الواحد بن زياد في التاسع والعشرين من الإيمان، ومرّت الثلاثة الباقية بهذا النسق في الرابع منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة، ورواته بصريان وكوفيون، وفيه الرواية عن الجد والأب. أخرجه البخاريّ أيضًا في الأدب. وفي التوحيد، ومسلم في الأدب، وأبو داود فيه وفي السنة، والتِّرمِذِيّ في العلم، والنَّسائيّ في الزكاة. الحديث السابع والثلاثون حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ فَاطِمَةَ عَنْ أَسْمَاءَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ لِى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ تُوكِى فَيُوكَي عَلَيْكِ. حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَبْدَةَ وَقَالَا: لاَ تُحْصِى فَيُحْصِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ". قوله: "حدثنا عثمان عن عَبَدَة" أي بإسناده المذكور، ويحتمل أن يكون الحديث كان عند عبدة عن هشام باللفظين، فحدث به تارة هكذا، وتارة هكذا. وقد رواه النَّسَائي والإسماعيليّ عن هشام باللفظين معًا. وقوله: "لا تُوكي" من أوكى يوكي، يقال: أوكى ما في سقائه إذا شده بالوِكاء، وهو الخيط الذي يُشد به رأس القربة. وأوكى علينا أي: بخل. وقوله: "فيوكَي عليك" بفتح الكاف على صيغة المجهول، وسيأتي في الهبة بلفظ: "ولا تحصي فيحصى الله عليك، ولا توعي فيوعي الله عليك" والوَعْي، بالعين المهملة، بمعنى الإيكاء. يقال: أوعيت المتاع في الوعاء أُوعية إذا

رجاله ستة

جعلته فيه، ووعيت الشيء حفظته. وإسناد الوعي إلى الله تعالى مجاز عن الإمساك والإحصاء معرفة قدر الشيء وزنًا أو عددًا. وهو من باب المقابلة، والمعنى النهي عن منع الصدقة خشية النفاد، فإن ذلك أعظم الأسباب لقطع مادة البركة؛ لأن الله يثيب على الإعطاء بغيرحساب، ومن لا يحاسب على الجزاء لا يحسب عليه عند العطاء، ومن علم أن الله يرزقه من حيث لا يحتسب، فحقه أن يعطي ولا يحسب. وقيل: المراد بالإحصاء عد الشيء؛ لأن يدخر ولا ينفق منه، وإحصاء الله قطع البركة عنه، أو حبس مادة الرزق أو المحاسبة عليه في الآخرة. قال ابن رشيد: قد تخفى مناسبة حديث أسماء لهذه الترجمة، وليس بخاف على الفَطِن ما فيه من معنى التحريض والشفاعة معًا، فإنه يصلح أن يقال في كل منهما، وهذه هي النكتة في ختم الباب به. رجاله ستة: قد مرّوا، مرّ صدقة بن الفضل في السادس والخمسين من العلم، ومرّت فاطمة بنت المنذر وأسماء بنت أبي بكر الصديق في الثامن والعشرين منه، ومرَّ عبدة بن سليمان في الثالث عشر من الإيمان، ومرَّ هشام بن عروة في الثاني من بدء الوحي. لطائف إسناده: فيه التحديث والإخبار بالجمع والعنعنة، ورواته مروزيّ وكوفيّ ومدنيون، وفيه رواية التابعية عن الصحابية، ورواية التابعيّ عن التابعية، أخرجه البخاريُّ أيضًا في الهبة، ومسلم في الزكاة والنَّسائي فيها وفي عِشرة النساء. وعثمان بن أبي شَيبة قد مرّ في الثاني عشر من العلم. ثم قال المصنف:

باب الصدقة فيما استطاع

باب الصدقة فيما استطاع الحديث الثامن والثلاثون حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ح وَحَدَّثَنِى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيق رضي الله عنهما أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "لاَ تُوعِي فَيُوعِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ، ارْضَخِي مَا اسْتَطَعْتِ". أورد حديث أسماء المذكور قبل من وجه آخر عنها من وجهين، وساقه هنا على لفظ حجاج بن محمد لخلو طريق أبي عاصم من التقييد بالاستطاعة، وسيأتي في الهبة بلفظ أبي عاصم، وسياقه أتم، وقوله: "إرضَخِي" بكسر الهمزة من الرَّضْخ، بمعجمتين، وهو العطاء اليسير، فالمعنى أنفقي بغير إجحاف ما دمت قادرة مستطيعة. رجاله سبعة: مرْ منهم أبو عاصم النبيل في أثر بعد الرابع من العلم، ومرَّ ابن جُريج في الثالث من الحيض، ومرّ محمد بن عبد الرحيم في السادس من الوضوء ومرّ ابن أبي مليكة في أثر بعد الأربعين من الإيمان. ومرّ محل أسماء في الذي قبله، والباقي اثنان: الأول: حجّاج بن محمد المَصِّيصِيّ الأعور، أبو محمد مولى سليمان بن مُجالِد، تِرْمِذِيُّ الأصل، قال أحمد: ما كان أضبطه وأشد تعاهده للحروف، ورفع أمره جدًا. وسئل أحمد: أيما أثبت حجاج أو الأسود بن عامر؟ فقال: حجاج، وسئل ابن مقيل: أيما أحب إليك؟ حجاج أو أبو عاصم؟ فقال: حجاج. وقال المعلّى الرازيّ: قد رأيت أصحاب ابن جُريج، فما رأيت فيهم أثبت من حجاج. وقال إسحاق بن عبد الله السلميّ: حجاج نائمًا أوثق من عبد الرزاق يقظانَ، وقال ابن سعد: كان ثقة صدوقًا إن شاء الله تعالى، وكان قد تغير في آخر عمره حين قدم إلى بغداد سنة ستة ومئتين. قال في المقدمة: ذكره أبو الَعْرُب الصِّقِلّي في الضعفاء، بسبب أنه تغير في آخر عمره واختلط، ولكن ما ضرّه الاختلاط. فإن إبراهيم الحريّ حكى أن يحيى بن مُعين منع ابنه أن يُدخل عليه

لطائف إسناده

أحدًا بعد اختلاطه. روى له الجماعة، روى عن ابن جُريج والليث وشُعبة وغيرهم. وعنه أحمد ويحيى بن مُعين ويحيى بن يحيى. وروى عنه أبو خالد الأحمر. وهو من أقرانه، وغير ذلك. مات في ربيع الأول سنة ست ومئتين ببغداد. الثاني: عبّاد بن عبد الله بن الزبير بن العوّام الأسدي المدنيّ. قال النَّسائي: ثقة، وذكره ابن حِبّان في الثقات. وقال الزبير بن بكّار: كان عظيم القدر عند أبيه، وكان على قضائه بمكة، وكان يستخلفه إذا حج، وكان أصدق الناس لهجة، ووصفه مصعب الزبيريّ بالوقار. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث. وقال العجليّ: مدنيّ تابعيّ ثقة. روى عن أبيه وجدته أسماء، وخالة أبيه عائشة. وأما روايته عن عمر بن الخطاب فمرسلة قطعًا. وروى عنه يحيى وابن أخيه عبدالواحد بن حَمزة وابن أبي مليكة وغيرهم. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإفراد والإخبار بالأفراد والعنعنة، وشيخه من أفراده ورواته بغدادِيّ ومكيّ وتِرمذيّ مَصِّيصيّ ومكيون. أخرجه البخاريّ أيضًا في الزكاة والهبة، ومسلم في الزكاة والنَّسائيّ فيها وفي عِشرة النساء. ثم قال المصنف:

باب الصدقة تكفر الخطيئة

باب الصدقة تكفر الخطيئة الحديث التاسع والثلاثون حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: أَيُّكُمْ يَحْفَظُ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ الْفِتْنَةِ قَالَ: قُلْتُ: أَنَا أَحْفَظُهُ كَمَا قَالَ. قَالَ: إِنَّكَ عَلَيْهِ لَجَرِيءٌ فَكَيْفَ قَالَ؟ قُلْتُ: فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلاَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْمَعْرُوفُ. قَالَ سُلَيْمَانُ: قَدْ كَانَ يَقُولُ: الصَّلاَةُ وَالصَّدَقَةُ، وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ. قَالَ: لَيْسَ هَذِهِ أُرِيدُ، وَلَكِنِّي أُرِيدُ الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ. قَالَ: قُلْتُ: لَيْسَ عَلَيْكَ بِهَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بَأْسٌ، بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابٌ مُغْلَقٌ. قَالَ: فَيُكْسَرُ الْبَابُ أَوْ يُفْتَحُ. قَالَ: قُلْتُ: لاَ. بَلْ يُكْسَرُ. قَالَ: فَإِنَّهُ إِذَا كُسِرَ لَمْ يُغْلَقْ أَبَدًا. قَالَ: قُلْتُ: أَجَلْ. فَهِبْنَا أَنْ نَسْأَلَهُ مَنِ الْبَابُ فَقُلْنَا لِمَسْرُوقٍ: سَلْهُ. قَالَ: فَسَأَلَهُ. فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه. قَالَ: قُلْنَا: فَعَلِمَ عُمَرُ مَنْ تَعْنِي، قَالَ: نَعَمْ، كَمَا أَنَّ دُونَ غَدٍ لَيْلَةً، وَذَلِكَ أَنِّي حَدَّثْتُهُ حَدِيثًا لَيْسَ بِالأَغَالِيطِ. هذا الحديث مرّ الكلام عليه مستوفى في أول كتاب مواقيت الصلاة، في باب الصلاة كفارة. رجاله ستة: وفيه ذكر مسروق، وقد مرّ الجميع، مرَّ قتيبة بن سعيد في الحادي والعشرين من الإيمان، والأعمش في الخامس والعشرين منه، وأبو وائل في الحادي والأربعين منه، ومسروق في السابع والعشرين منه، وجرير بن عبد الحميد في الثاني عشر من العلم، وحذيفة في تعليق بعد الثاني منه، وعمر في الأول من بدء الوحي، والحديث سبق الكلام عليه في أوائل كتاب الصلاة. ثم قال المصنف:

باب من تصدق في الشرك ثم أسلم

باب مَنْ تصدَّق في الشرك ثم أسلم أي: هل يعتد له بثواب ذلك أم لا؟ قال الزين بن المنير: لم يبت الحكم من أجل قوة الاختلاف فيه. الحديث الأربعون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَرَأَيْتَ أَشْيَاءَ كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ عَتَاقَةٍ وَصِلَةِ رَحِمٍ فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَجْرٍ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "أَسْلَمْتَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ خَيْرٍ". قوله: "أتحنَّث" بالمثلثة أي: أتقرَّب، والحِنث في الأصل الإثم، وكأنه أراد: ألقي عني الإثم، ولما أخرج البخاري هذا الحديث في الأدب عن أبي اليمان قال في آخره: ويقال أيضًا عن أبي اليمان: أتحنَّثُ، يعني بالمثناة. ونقل عن أبي إسحاق أنَّ التَّحَنُّث التَّبَرر. وحديث هشام أورده في العتق بلفظ "كنت أتحنث بها" يعني أتبرر بها. قال عِياض: رواه جماعة من الرواة في البخاري بالمثلثة، وبالمثناة أصح رواية، ومعنى. وقوله: "من صدقة أو عتاقة أو صلة" كذا هنا بلفظ "أو" وفي رواية شُعيب في الأدب بالواو في الموضعَيْن، وسقط لفظ "الصدقة" من رواية معمر، وفي رواية هشام المذكورة أنه أعتق في الجاهلية مئة رقبة، وحمل على مئة بعير، وزاد في آخره: فوالله لا أدع شيئًا صنعته في الجاهلية إلا فعلت مثله في الإِسلام. وقوله: "أسلمت على ما سلف من خير" قال المازريّ: ظاهره أن الخير الذي أسلفه كتب له، والتقدير: أسلمت على قبول ما سلف لك من خير، وقال الحربيّ: معناه ما تقدم لك من الخير الذي عملته، هو لك، كما تقول: أسلمت على أن أحوز لنفسي مئة درهم، وأما مَنْ قال: ان الكافر لا يُثاب، فحمل الحديث على وجه أخرى، إلى آخر ما مرَّ مستوفى عند حديث: "إذا أسلم العبد فحسن إسلامه" من كتاب الإيمان في باب "حُسْن إسلام المرء". رجاله ستة: قد مرّوا، مرَّ محمد بن عبد الله المسنديّ في الثاني من الإيمان، ومرّ هشام بن يوسف الصنعانيّ في الثالث من الحيض، ومرّ معمر في متابعة بعد الرابع من بدء الوحي، ومرّ الزهري في

لطائف إسناده

الثالث منه، ومرّ عُروة بن الزبير في الثاني منه، ومرّ حكيم بن حزام في الحادي والثلاثين من هذا الكتاب. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة، ورواته بخاريّ ويمانيّ وبصريّ ومدنيان. أخرجه البخاريّ أيضًا في البيوع، وفي الأدب وفي العتق، ومسلم في الإيمان. ثم قال المصنف:

باب أجر الخادم إذا تصدق بأمر صاحبه غير مفسد

باب أجر الخادم إذا تصدّق بأمر صاحبه غير مفسد قد مرّ الكلام على هذه الترجمة، وعلى حديثها عند باب "مَنْ أمر خادمه بالصدقة ولم يتناول بنفسه". الحديث الحادي والأربعون حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا تَصَدَّقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ طَعَامِ زَوْجِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ كَانَ لَهَا أَجْرُهَا، وَلِزَوْجِهَا بِمَا كَسَبَ، وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ". قد مرّ الكلام عليه في المحل المذكور آنفًا. رجاله ستة: قد مرّوا في الذي قبله بحديث، إلا عائشة، وهي قد مرّت في الثاني من بدء الوحي. وهذا الحديث قد مرّ الكلام عليه قريبًا. الحديث الثاني والأربعون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "الْخَازِنُ الْمُسْلِمُ الأَمِينُ الَّذِي يُنْفِذُ وَرُبَّمَا قَالَ يُعْطِي مَا أُمِرَ بِهِ كَامِلاً مُوَفَّرًا طَيِّبٌ بِهِ نَفْسُهُ، فَيَدْفَعُهُ إِلَى الَّذِي أُمِرَ لَهُ بِهِ، أَحَدُ الْمُتَصَدِّقَيْنِ". هذا الحديث مرّ الكلام عليه مستوفىً عند ذكره معلقًا في الباب المذكور آنفًا. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ محمد بن العلاء في حماد بن أُسامة في الحادي والعشرين من العلم، ومرّت الثلاثة الباقية في الرابع من الإيمان. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة، ورواته كلهم كوفيون، وفيه رواية الرجل عن جده، ورواية الرجل عن أبيه. أخرجه البخاريّ أيضًا في الوكالة وفي الإجارة، ومسلم وأبو داود والنَّسَائيّ في الزكاة. ثم قال المصنف:

باب أجر المرأة إذا تصدقت أو أطعمت من بيت زوجها غير مفسدة

باب أجر المرّأة إذا تصدقت أو أطعمت مِنْ بيت زوجها غير مفسدة الحديث الثالث والأربعون حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ وَالأَعْمَشُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- تَعْنِي إِذَا تَصَدَّقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا. مرّ الكلام عليه في الباب المذكور آنفًا. رجاله سبعة: قد مرّوا، مرّ آدم وشعبة في الثالث من الإيمان، ومرّ منصور في الثاني عشر من العلم، ومرّ الأعمش في الخامس والعشرين من الإيمان، ومرّ أبو وائل في الحادي والأربعين منه، ومرّ مسروق في السابع والعشرين منه، ومرّت عائشة في الثاني من بدء الوحي. الحديث الرابع والأربعون ح حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا أَطْعَمَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ، لَهَا أَجْرُهَا، وَلَهُ مِثْلُهُ، وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ، لَهُ بِمَا اكْتَسَبَ، وَلَهَا بِمَا أَنْفَقَتْ". رجاله ستة: مرّ محلهم في الذي قبله، إلا عمر بن حَفص، وأبو حفص، وهما قد مرّا في الثاني عشر من الغُسل. الحديث الخامس والأربعون حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: قَالَ: "إِذَا أَنْفَقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ طَعَامِ بَيْتِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ فَلَهَا أَجْرُهَا، وَلِلزَّوْجِ بِمَا اكْتَسَبَ، وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ". أورد المصنف حديث عائشة هذا من ثلاثة طُرق، تدور على أبي وائل شقيق بن سلمة، عن مسروق عنها، أولها شعبة عن منصور والأعمش عنه، ولم يَسُق لفظه بتمامه. ثانيها: حفص بن

غياث عن الأعمش وحده. ثالثها: جرير عن منصور وحده، ولفظ الأعمش: "إذا أطعمت المرأة من بيت زوجها" ولفظ منصور "إذا أنفقت من طعام بيتها". وقد أورده الإسماعيليّ عن شعبة، ولفظه "إذا تصدقت المرأة من بيت زوجها كتب لها أجر، ولزوجها مثل ذلك، وللخازن مثل ذلك، لا ينقص كل واحد منهم من أجر صاحبه شيئًا، للزوج بما اكتسب، ولها بما أنفقت غير مُفْسدة". ولشعبة فيه إسناد آخر، أورده الاسماعيليّ عن أبي وائل عن عائشة، ليس فيه مسروق، وقد أخرجه التِّرمِذِيّ بالإسنادين، وقال: إن رواية منصور والأعمش بذكر مسروق فيه أصح. رجاله رجال الذي قبله إلا اثنين: يحيى بن يحيى وجرير بن عبد الحميد، وجرير قد مرّ في الثاني عشر من العلم. ويحيى هو ابن يحيى بن بكير بن عبد الرحمن بن يحيى بن حمّاد التَّميميّ الحنظليّ، أبو زكرياء النَّيْسابوريّ. قال أحمد: ما أخرجت خراسان بعد ابن المبارك مثله. وقال أيضًا: كان ثقة، وزيادة وأثنى عليه خيرًا. وقال أيضًا: خرج من خراسان رجلان: ابن المبارك ويحيى بن يحيى. وقال أيضًا: ما رأى يحيى بن يحيى مثل نفسه، وقيل له: كان إمامًا. قال: نعم، ولو كانت عندي نفقة لرحلت إليه. وعن الأثرم أنه ذكر عنده، فقال: بخٍ بخٍ بخٍ. ثم ذكر عنده قُتيبة، فأثنى عليه، ثم قال: إلاَّ أن يحيى شيء آخر، وقدمه عليه، وقال: قرأ يحيى بن يحيى على مالك أحب إليّ من سماع غيره. وقال يحيى بن محمد بن يحيى: كان أبي يرجع في كل المشكلات إلى يحيى بن يحيى، ويقول: هو إمام فيما بيني وبين الله. قال يحيى: وما رأيت محدثًا أورع منه ولا أحسن بيانًا. وقال أبو أحمد الفراء: سمعت يحيى بن يحيى، وكان إمامًا وقدوة ونورًا وضوءًا للإسلام. وقال أيضًا: سمعت عامة مشائخنا يقولون: لو أن رجلًا جاء إلى يحيى بن يحيى عامدًا ليتعلم من شمائله، كان ينبغي له أن ينقل ذلك. وقال إسحاق بن راهوبه: ما رأيت مثله، ولا رأى مثل نفسه. قال: وهو أثبت من عبد الرحمن بن مهديّ، قال: ومات يوم مات وهو إمام لأهل الدنيا، وقال الحسن بن سُفيان: كنا إذا رأينا رواية ليحيى بن يحيى عن يزيد بن زريع قلنا: ريحانة أهل خراسان عن ريحانة أهل العراق. وقال محمد بن أسلم الطُّوسِيّ: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام، فقلت: عمن أكتب؟ فقال: عن يحيى بن يحيى. وقال العباس بن مصعب: يحيى بن يحيى أصله من مَرْو، وهو من بني تميم، من أنفسهم، وكان ثقة يرجع إلى زهد وصلاح. وقال أحمد بن سيار: يحيى بن يحيى من موالي بني منقر، وكان ثقة في الحديث، حسن الوجه، طويل اللحية، وكان خَيِّرًا فاضلًا صائنًا لنفسه. وقال النَّسائي: ثقة ثَبْتٌ. وقال مرة أخرى: ثقة مأمون. وذكره ابن حِبَّان في الثقات، وقال: أوصى بثياب بدنه لأحمد بن حنبل، وكان من

سادات أهل زمانه علمًا ودينًا وفضلًا ونسكًا وإتقانًا. وقال زكرياء بن يحيى بن يحيى: أوصى أبي بثياب بدنه لأحمد بن حَنبل، فأتيته بها، فقال: ليس هذا من لباسي، ثم أخذ ثوبًا واحدًا منه، ورد الباقي. وقال الذهليّ: لو شئت لقلت هو أسن المحدثين في الصدق، وحِبّان ثبتًا. وقال قتيبة بن سعيد: يحيى بن يحيى رجل صالح إمام من أئمة المسلمين. وقيل لمحمد بن نصر المروزيّ: مَنْ أدركت من المشائخ على سُنَن النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ فقال: ما أدركت أحدًا إلا أن يكون يحيى بن يحيى، وقال أبو علي النَّيسابوريّ: كنت في غم شديد، فرأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام كأنه يقول لي: "سر إلى قبر يحيى بن يحيى، واستغفر وسَلْ تقض حاجتك" فأصبحت ففعلت ذلك، فقضيت حاجتي. روى عن مالك والحمادين وجرير بن عبد الحميد وخلق. وروى عنه البخاري ومسلم والتِّرْمِذِيّ بواسطة مسلم، وروى عنه إسحاق بن راهويه والذهلى وخلق. ولد سنة اثنين وأربعين ومئة، ومات ليلة الأربعاء، غرة ربيع الأول سنة أربع وعشرين ومئتين. قال الحاكم: المكتوب على اللوح في قبره هو هذا، وقال بشر بن الحكم النَّيْسابوريّ: حزرنا في جنازة يحيى بن يحيى مئة ألف إنسان. ثم قال المصنف:

باب قول الله تعالى: {فأما من أعطى واتقى (5) وصدق بالحسنى (6) فسنيسره لليسرى (7) وأما من بخل واستغنى (8) وكذب بالحسنى (9) فسنيسره للعسرى} اللهم أعط منفق مال خلفا

باب قول الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} اللهم أعط منفقَ مالٍ خَلَفًا قال الزين بن المنير: أدخل هذه الترجمة بين أبواب الترغيب في الصدقة، ليفهم أن المقصود الخاص بها الترغيب في الإنفاق في وجوه البِر، وأن ذلك موعود عليه بالخَلَف في العاجل، زيادة على الثواب الآجل. وأخرج الطبريّ بطرق متعددة، عن ابن عباس في هذه الآية، قال: أعطى مما عنده، واتقى ربه، وصدّق بالخَلَف من الله تعالى، ثم حكى عن غيره أقوالًا أخرى، قال: أو وأشبهها بالصواب قول ابن عباس: والذي يظهر أن البخاري أشار بذلك إلى سبب نزول الآية المذكورة، وهو بيَّن فيما أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء مرفوعًا نحو حديث أبي هريرة المذكور في الباب، وزاد في آخره "وأنزل الله في ذلك: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} إلى قوله: {لِلْعُسْرَى} وهو عند أحمد من هذا الوجه، لكن ليس فيه آخره. وقوله: "اللهم أعط منفقَ مالٍ خَلَفًا" قال الكرمانيُّ: هو معطوف على الآية، وحذف أداة العطف كثير، وهو مذكور على سبيل البيان للحسنى أي: تيسير الحسنى له إعطاء الخَلَف. وقوله: "منفق مالٍ" بالإِضافة، ولبعضهم لله منفقًا مالًا خلفًا" ومالًا مفعول منفق، بدليل رواية الإضافة، ولولاها احتمل أن يكون مفعول أعطِ والأول أولى من جهة أخرى، وهي أن سياق الحديث للحض على إنفاق المال، فناسب أن يكون مفعول منفق، وأما الخلف فإبهامه أولى، ليتناول المال والثواب وغيرهما. وكم من منفق مات قبل أن يقع الخَلَف المالي، فيكون خلفه الثوابَ المعدَّ له في الآخرة، أو يدفع عنه من السوء ما يقابل ذلك. الحديث السادس والأربعون حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي مُزَرِّدٍ عَنْ أَبِي الْحُبَابِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلاَّ مَلَكَانِ يَنْزِلاَنِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا". قوله: "ما من يوم" في حديث أبي الدرداء المارّ: "ما من يوم طلعت فيه الشمس، إلا وبجنبتيها

رجاله ستة

مَلَكان يناديان، يسمعه خلق الله كلهم إلا الثقلين "يا أيها الناس هلموا إلى ربكم، إنَّ ما قَلَّ وكفى خيرٌ مما كثر وألهى، ولا غربت شمسه إلا وبجنبتيها مَلَكان يناديان" فذكر مثل حديث أبي هريرة. والجَنْبَة بسكون النون الناحية. وقوله: "خلفًا" أي عوضًا. وقوله: "أعطِ ممسكًا تلفًا" التعبير بالعطية في هذا للمشاكلة، لأن التلف ليس بعطية، وأفاد حديث أبي هريرة أن الكلام المذكور موزع بينهما، فنسب إليهما في حديث أبي الدرداء نسبة المجموع إلى المجموع. وتضمنت الآية الوعد بالتيّسير لمن ينفق في وجوه البر، والوعيد بالتعسير لعكسه، والتيسير المذكور أعم من أن يكون لأحوال الدنيا، ولأحوال الآخرة، وكذلك دعاء المَلَك بالخَلَف، يحتمل الأمرين. وأما الدعاء بالتلف، فيحتمل تلف المال بعينه، أو تلف نفس صاحب المال، أو المراد به فوات أعمال البِر بالتشاغل بغيرها. قال النّوويّ: الإنفاق الممدوح ما كان في الطاعات، وعلى العيال والضيفان أو التطوعات. قال القرطبي: وهو يعم الواجبات والمندوبات، لكن الممسك عن المندوبات لا يستحق هذا الدعاء، أَلاَّ يغلب عليه البخل المذموم، بحيث لا تطيب نفسه بإخراج الحقال في عليه، ولو أخرجه، وقد مرّت الإشارة إلى ذلك في قوله في حديث أبي موسى "طيبة بها نفسه" في هذا الحديث أنه موافق لقوله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} وقوله: يا ابن آدم "أنفقْ، أنفقْ عليك" وفيه دعاء الملائكة، ومعلوم أنه مستجاب بدليل، قوله: "فإن مَنْ وافق تأمينه تامين الملائكة غُفِر له ما تقدم من ذنبه". رجاله ستة: مرّ منهم إسماعيل بن أبي أوَيس في الخامس عشر من الإيمان، ومرّ أخوه أبو بكر في الحادي والستين من العلم، ومرّ سليمان بن بلال وأبو هريرة في الثاني من الإيمان، والباقي اثنان: الأول معاوية بن أبي مُزَرِّد، بضم الميم وفتح الزاي وكسر الراء مشددة، واسمه عبد الرحمن بن يسار المَدَنِيّ، مولى بني هاشم، ذكره ابن حِبّان في الثقات. وقال ابن مُعين: صالح، وقال أبو زرعة وأبو حاتم: لا بأس به، روى عن أبيه وعمه سعيد أبي الحُباب، ويزيد بن رَومان وغيرهم. وروى عنه يزيد بن الهاد، وهو من أقرانه، وسليمان بن بلال وابن المبارك وغيرهم. الثاني: أبو الحُباب سعيد بن يسار، عم الأول، المدنيّ، مولى ميمونة، وقيل: مولى شُقران، وقيل: مولى الحسن بن عليّ، وقيل: مولى بني النجّار. والصحيح أنه غير سعيد بن مُرجانة. قال ابن مُعين وأبو زرعة والنَّسائيّ: ثقة، وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث. وقال العجليّ: مدنيّ ثقة، وقال ابن عبد البر: يختلفون في توثيقه. روى عن أبي هريرة وعائشة وابن عباس، وروى عنه سعيد المَقْبَرِيّ، وابن أخيه معاوية،

لطائف إسناده

ويحيى بن سعيد وربيعة وغيرهم. مات بالمدينة سنة ست عشرة أو سبع عشرة ومئة. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإفراد والعنعنة، ورواته كلهم مدنيون، وفيه رواية الرجل عن أخيه، ورواية الرجل عن عمه. أخرجه مسلم في الزكاة والنَّسَائيّ في عِشرة النساء، وفي الملائكة. ثم قال المصنف:

باب مثل المتصدق والبخيل

باب مثل المتصدق والبخيل قال الزين بن المنير: قام التمثيل في خبر الباب مقام الدليل على تفضيل المتصدق، فاكتفى المصنف بذلك عن أن يُضَمِّن الترجمة مقاصد الخبر على التفصيل. الحديث السابع والأربعون حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ، عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ". هذا الحديث يأتي الكلام عليه في الذي بعده. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ موسى بن إسماعيل في الخامس من بدء الوحي، ومرّ وهيب في تعليق بعد الخامس عشر من الإيمان، وأبو هُريرة في الثاني منه، ومرّ عبد الله بن طاوس في الرابع والثلاثين من الحيض، ومرّ أبوه في باب "مَنْ لم يتوضأ إلا من المخرجين" بعد الأربعين من الوضوء. الحديث الثامن والأربعون ح وَحَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُنْفِقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ، عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ، مِنْ ثُدِيِّهِمَا إِلَى تَرَاقِيهِمَا، فَأَمَّا الْمُنْفِقُ فَلاَ يُنْفِقُ إِلاَّ سَبَغَتْ أَوْ وَفَرَتْ عَلَى جِلْدِهِ حَتَّى تُخْفِيَ بَنَانَهُ وَتَعْفُوَ أَثَرَهُ، وَأَمَّا الْبَخِيلُ فَلاَ يُرِيدُ أَنْ يُنْفِقَ شَيْئًا إِلاَّ لَزِقَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا، فَهُوَ يُوَسِّعُهَا وَلاَ تَتَّسِعُ". لم يسق المصنف المتن من الطريق الأُولى هنا، وقد أورده في الجهاد عن موسى بهذا الإسناد، فساقه بتمامه. وقوله: "مثل البخيل والمنفق" وقع عند مسلم عن سفيان عن أبي الزناد "مثل المنفق والمتصدق". قال عياض: وهو وهم، ويمكن أن يكون حذف مقابلة لدلالة السياق عليه، لكن رواه الحميديّ. وأحمد وابن أبي عمر في مسانيدهم عن ابن عُيينة فقالوا في رواياتهم: "مثل المنفق والبخيل"، كما في رواية شُعيب عن أبي الزناد، وهو الصواب. وفي رواية الحسن بن مُسْلم عن طاووس "ضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مَثَل البخيل والمتصرف" أخرجها المصنف في اللباس.

وقوله: "عليهما جُبتان من حديد" كذا في هذه الرواية، بجيم بعدها موحدة، ومن رواه فيها بالنون، فقد صحّف، وكذا رواية الحسن بن مسلم. ورواه حنظلة بن أبي سفيان عن طاووس بالنون، ورجحت، لقوله من حديد، والجنة في الأصل الحصف وسميت بها الدرع، لأنها تِجن صاحبها أي: تُحصّنه، والجبة بالموحدة، ثوب مخصوص، ولا مانع من إطلاقه على الدرع. واختلف في رواية الأعرج، والأكثر على أنها بالموحدة. وقوله: "من ثُديهما" بضم المثلثة، جمع ثدي، وتراقيهما، بمثناة وقاف جمع تَرْقُوة، والتَّرْقُوتان: العظمان والمشرفان في أعلى الصدر من رأس المَنْكِبَين إلى طرف ثُغْرة النحر. وقوله: "سبغت" أي: امتدت وغطت. وقوله: "أو وفرت" شك من الراوي، وهو بتخفيف الفاء من الوفور، وفي رواية الحسن بن مسلم "انبسطت" وفي رواية أعرج "اتسعت عليه" وكلها متقاربة. وقوله: "حتى تخفي بَنَانه" أي: تستر أصابعه، وللحميدي "حتى تَجِنُّ" بكسر الجيم وتشديد النون، وهي بمعنى تخفي، وبَنَانه، بفتح الموحدة ونونين، الأولى خفيفة، الأُصبع، ورواه بعضهم "ثيابه" بمثلثة، وبعد الألف موحدة، وهو تصحيف، وفي رواية الحسن بن مسلم "حتى تغشى" بمعجمتين "أناملَه"، وقوله: "وتعفو أثره" بالنصب، أي: تستر أثره. يقال: عما الشيءُ وعَفوْته أنا، لازم ومتعد، ويقال: عفت الدار إذا غطّاها التراب، والمعنى: أَن الصدقة تستر خطاياه، كما يغطي الثوبُ الذي يجر على الأرض أَثَر صاحبه إذا مشى، بمرور الذيل عليه. وقوله: "لزقت" في رواية مسلم: "انقبضت" وفي رواية همام "غاصت كل حلقة مكانها" وفي رواية سفيان عند مسلم "قَلَصَت" والمفاد واحد، لكن الأُوْلى نظر فيها إلى صورة الضيق، والأخيرة نظر فيها إلى سبب الضيق، وزعم ابن التين أن فيه إشارة إلى أن البخيل يكون بالنار يوم القيامة. قال الخطابيّ وغيره: هذا مَثَلٌ ضربه النبي -صلى الله عليه وسلم- للبخيل والمتصدق، فشببههما برجلين أراد كل واحد منهما أن يَلْبَس درعًا يستتر به من سلاح عدوه، فصبها على رأسه ليلبسها، والدروع أول ما تقع على الصدر والثديين إلى أن يُدخل الإنسان يديه في كميها، فجعل المنفق كمن لَبِس درعًا سابغةً، فاسترسلتْ عليه حتى سترت جميع بدنه، وهو معنى قوله: "حتى تَعْفُو أثره" أي: تستر جميع بدنه. وجعل البخيل كمثل رجل غُلَّت يداه إلى عنقه، كلما أراد لُبْسَها اجتمعت في عنقه، فلزمت تَرْقُوته، وهو معنى قوله: "قَلَصَت" أي: تَضَامَّت واجتمعت. والمراد أن الجواد إذا هم بالصدقة انفسح لها صدره، وطابت نفسه، فتوسعت في الإنفاق. والبخيل إذا حدث نفسه بالصدقة، شحت نفسه، فضاق صدره، وانقبضت يداه. ومن يوق شح نفسه، فأولئك هم المفلحون. وقال المهلب: المراد أن الله يستر المنفق في الدنيا والآخرة بخلاف البخيل، فإنه يفضحه. ومعنى "تعفو أثره" تمحو خطاياه، وتعقبه عياض بأن الخبر جاء على التمثيل لا على الإخبار ع ن كائن. قال: وقيل: هو تمثيل لنماء المال بالصدقة، والبخل بضده. وقيل: تمثيل لكثرة الجود

رجاله خمسة

والبخل، وأن المعطي إذا أعطى انبسطت يداه بالعطاء، وتعوَّدَ ذلك، وإذا أمسك صار ذلك عادة. وقال الطيبي: قيد المشبه به بالحديد إعلامًا بأن القبض والشدة من جِبِلَّةِ الإنسان، وأوقع المتصدق موقع السخيّ لكونه جعله في مقابلة البخيل إشعارًا بأن السخاءَ هو ما أمر به الشارع، وندب إليه من الإنفاق، لا ما يتعاطاه المسرفون. وقوله: "فهو يوسعها ولا تتسع" في رواية سفيان عند مسلم: قال أبو هُريرة: فهو يوسعها ولا تتسع، وهذا يوهم أن يكون مُدرجًا، وليس كذلك، ووقع التصريح برفع هذه الجملة، في رواية طاووس عن أبي هريرة، في الجهاد عند المصنف، فسمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "فيجتهد أن يوسعها ولا تتسع". وفي رواية مسلم: فسمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فذكره، وفي رواية الحسن بن مسلم عندهما: فأنا رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول بأصبعه هكذا، في جيبه، فلو رأيته يوسعها ولا تتسع. وعند أحمد عن أبي الزناد في هذا الحديث: "وأما البخيل فإنها لا تزداد عليه إلا استحكامًا" وهذا بالمعنى، وقيل ضرب المثل بهما لأن المنفق يستره الله بنفقته ويستر عورته في الدنيا والآخرة، كسرت هذه الجبة لابسَها، والبخيل كمن لبس جُبة إلى ثدييه، فيبقى مكشوفًا ظاهر العورة، مفتضحًا في الدارين. رجاله خمسة: مرّوا، مرّ أبو اليمان وشعيب في السابع من بدء الوحي، ومرّ أبو الزناد وعبد الرحمن بن هرمز في السابع من الإيمان، ومرّ أبو هريرة في الثاني منه. ثم قال: تابعه الحسن بن مسلم عن طاووس في الجُبَّتين، وهذه المتابعة أخرجها البخاريّ في كتاب اللباس في باب حبيب القميص عند الصدر، والحسن بن مسلم مرّ في التاسع من الغُسل، ومرّ محل طاووس في الذي قبله بحديث. ثم قال: وقال حنظلة عن طاووس: جنتان، وهذا التعليق ذكره البخاري في كتاب اللباس معلقًا، ووصله الإسماعيليّ. وحنظلة مرّ في الأول من الإيمان، وطاووس مرّ محله الآن. ثم قال: وقال الليث: حدّثني جعفر عن ابن هُرْمز: سمعت أبا هُريرة، رضي الله عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "جنتان"، قال في "الفتح": إن رواية الليث هذه لم تقع له موصولة إلى الآن، وقيل إن البخاريّ علقه أيضًا في الصلاة. ورجاله أربعة: قد مرّوا، مرّ الليث في الثالث من بدء الوحي، ومرّ جعفر بن ربيعة في الرابع من التيمم، ومرّ محل ابن هُرْمُز وأبي هريرة في الذي قبله. ثم قال المصنف:

باب صدقة الكسب والتجارة

باب صدقة الكسب والتجارة لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} إلى قوله: {أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}. هكذا أورد هذه الترجمة مقتصرًا على الآية بغير حديث، وكأنّه أشار إلى ما أخرجه الطبريّ وابن أبي حاتم عن مُجاهد في هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} قال: من التجارة الحلال، وقال عبيدة بن عمرو عن علي، في قوله تعالى: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} قال: يعني من الحب والتمر كل شيء عليه زكاة. قال الزين بن المنير: لم يقيد الكسب في الترجمة بالطيب، كما في الآية استغناء عن ذلك بما تقدم في ترجمة باب الصدقة من كسب طيب. وقال تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ} أي: لا تقصدوا الخبيث منه تنفقون، ولستم بآخذيه: أي: لو أعطيتموه ما أخذتموه إلا أن تتعاموا فيه، والله أغنى منكم عنه، فلا تجعلوا لله ما تكرهون. وروى أحمد عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله قسّم بينكم أخلاقكم كما قسّم بينكم أرزاقكم، وإنّ الله يعطي الدنيا مَنْ يحبُّ ومَنْ لا يُحب، ولا يعطي الدين إلا مَنْ أحب، فمَنْ أعطاه الله الدين فقد أحبه، والذي نفسي بيده، لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمَنَ جارُه بوائِقَه، قالوا: وما بوائقه؟ قال: غَشْمته وظلمته، ولا يكسب عبد مالًا من حرام، فينفق منه، فيبارك له فيه، ولا يتصدق به، فيقبل، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيء بالسيء ولكن يمحو السيء بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث". وروى السدي عن البراء: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} يقول: لو كان لرجل على رجل دَين فأعطاه ذلك لم يأخذه إلا أن يرى أنه قد نقصه من حقه، رواه ابن جرير. وقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} أي: وإنْ أَمركم بالصدقات وبالطيب منها، فهو غنيٌّ عنها، حميد في جميع أقواله وأفعاله، وشرعه، وقدره، لا إله إلا هو، ولا رب سواه. ثم قال المصنف:

باب على كل مسلم صدقة فمن لم يجد فليعمل بالمعروف

باب على كل مسلم صدقة فمن لم يجد فليعمل بالمعروف قال الزين بن المنير: نصب هذه الترجمة علمًا على الخبر مقتصرًا على بعض ما فيه، إيجازًا، والمعروف اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله تعالى، والتقرب إليه، والإحسان إلى الناس، وكل ما ندب إليه الشرع أو نهى عنه من المحسنات والمقبحات. الحديث التاسع والأربعون حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ". فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ قَالَ: "يَعْمَلُ بِيَدِهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ". قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ، قَالَ: "يُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ". قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ. قَالَ: "فَلْيَعْمَلْ بِالْمَعْرُوفِ، وَلْيُمْسِكْ عَنِ الشَّرِّ فَإِنَّهَا لَهُ صَدَقَةٌ". قوله: "على كل مسلم صدقة" أي على سبيل الاستحباب المتأكد، أوْ على ما هو أعم من ذلك، والعبارة صالحة للإيجاب والاستحباب، كقوله عليه الصلاة والسلام: "على المسلم ستُّ خصال" فذكر منها ما هو مستحب اتفاقًا. وزاد أبو هريرة في حديثه تقييد ذلك "بكل يوم" كما يأتي في الصلح عن همّام عنه، ولمسلم عن أبي ذَرٍّ مرفوعًا "يصبح على كل سُلامى من أحدكم صدقة" والسلامى، بضم المهملة وتخفيف اللام، المفصل. وله عن عائشة: "خلق الله كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاث مئة مفصل"، وقوله: "فقالوا: يا نبي الله، فمَنْ لم يجد" كأنهم فهموا من لفظ الصدقة العطية، فسألوا عمن ليس عنده شيء، فبين لهم أن المرّاد بالصدقة ما هو أعم من ذلك، ولو بإغاثة الملهوف، والأمر بالمعروف. وهل تلتحق هذه الصدقة بصدقة التطوع التي تحسب يوم القيامة من الغرض الذي أخل به؟ فيه نظر. والذي يظهر أنها غيرها لما تبين من حديث عائشة المذكور أنها شرعت بسبب عتق المفاصل، حيث قال في آخر هذا الحديث: "فإنه يمسي يومئذٍ وقد زَحْزَح نفسه عن النار". وقوله: "الملهوف" أي: المستغيث، وهو أعم من أن يكون مظلومًا أو عاجزًا. وقوله: "فليعمل بالمعروف" في رواية المصنف في الأدب: فليأمر بالخير، أو بالمعروف. زاد أبو داود الطيالسيّ في مسنده "وينهى عن المنكر". وقوله: "وليمسكْ" في روايته في الأدب قالوا: فإن لم يفعل؟ قال: "فليمسك عن الشر". وكذا لمسلم، وهو أصح سياقًا، فظاهر سياق الباب أن الأمر بالمعروف

والإمساك عن الشر رتبة واحدة، وليس كذلك، بل الإمساك هو الرتبة الأخيرة. وقوله: "فإنها له صدقة" كذا وقع هنا، بضمير المؤنث، وهو باعتبار الخصلة من الخير، وهو الإمساك. وفي رواية الأدب: "فإنه" أي: الإمساك له، أي: للمسك. قال الزين بن المنير: إنما يحصل ذلك للمسك عن الشر إذا نوى بالإمساك القربةُ بخلاف محض الترك. والإمساك أعم من أن يكون عن غيره، فكأنه تصدق عليه بالسلامة منه، فإن كان شره لا يتعدى نفسه، فقد تصدق على نفسه بأن منعها من الإثم. قال: وليس ما تضمنه الخبر من قوله: "فإن لم يجد" ترتيبًا، وإنما هو للإيضاح لما يفعله من عجز عن خصلة من الخصال المذكورة. فإنه تمكنه خصلة أخرى، فمن أمكنه أن يعمل بيده فيتصدق، وأن يغيث الملهوف، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويمسك عن الشر، فليفعل الجميع. ومقصود هذا الباب أن أعمال الخير تنزل منزلة الصدقات في الأجر، ولاسيما في حق مَنْ لا يقدر عليها، ويفهم منه أن الصدقة في حق القادر عليها أفضل من الأعمال القاصرة، ومحصل ما ذكر في حديث الباب أنه لابد من الشفقة على خلق الله، وهي إما بالمال أو غيره. والمال إما حاصل أو مكتسب، وغير المال إما فِعل، وهو الإغاثة، وإما ترك، وهو الإمساك. وقال أبو محمد بن أبي جمرة: ترتيب هذا الحديث أنه ندب إلى الصدقة، وعند العجز عنها ندب إلى ما يقرب منها، أو يقوم مقامها، وهو العمل والانتفاع، وعند العجز عن ذلك ندب إلى ما يقوم مقامه، وهو الإغاثة. وغند عدم ذلك ندب إلى فعل المعروف، أي من سوى ما تقدم، كإماطة الأذى. وعند عدم ذلك نَدَب إلى الصلاة، فإن لم يُطق، فَتَرْكُ الشر، وذلك آخر المراتب. قال: ومعنى الشر ما منعه الشرع، ففيه تسلية للعاجز عن فعل المندوبات، إذا كان عجزه عن ذلك عن غير اختيار، وأشار بالصلاة إلى ما في آخر حديث أبي ذر عند مسلم، ويجزىء عن ذلك كله ركعتا الضحى، وهو يؤيد ما مرّ من أن هذه الصدقة لا يكمل منها ما يحتل من الفرض، لأن الزكاة لا تكمل الصلاة، ولا العكس. فدل على افتراق الصدقتين، واستشكل الحديث بذكر الأمر بالمعروف فيه، وهو من فروض الكفاية، فكيف تجزىء عنه صلاة الضحى وهي من التطوعات؟ وأجيب يحمل الأمر هنا على ما إذا حصل من غيره، فسقط به الفرض، وكان في كلامه هو زيادة في تأكيد ذلك، فلو تركه أجزأت عنه صلاة الضحى، كذا قيل. وفيه نظر. والذي يظهر أن المراد أن صلاة الضحى تقوم مقام الثلاث مئة وستين حسنة، التي يستحب للمرء أن يسعى في تحصيلها كل يوم، ليعتق مفاصله التي هي بعددها، لا إن المراد أن صلاة الضحى تغني عن الأمر بالمعروف، وما ذكر معه، وإنما كان كذلك، لأن الصلاة عمل بجميع الجسد، فتتحرك المفاصل فيها كلها بالعبادة، ويحتمل أن يكون ذلك لكون الركعتين يشتملان على ثلاث مئة وستين، ما بين قول وفعل، إذا جعلت كل حرف من القراءة مثلًا صدقة. وكأنّ صلاة

رجاله خمسة

الضحى خصت بالذكر لكونها أوّل تطوعات النهار بعد الفرض، وراتبته. وقد أشار في حديث أبي ذَرٍّ إلى أن صدقة السُّلامى نهارية، لقوله: "يصبح على كل سُلامى من أحدكم" وفي حديث أبي هريرة "كل يوم تطلع فيه الشمس" وفي حديث عائشة: "فيمسي وقد زحزح نفسه عن النار". وفي الحديث أن الأحكام تجري على الغالب، لأن في المسلمين مَنْ يأخذ الصدقة المأمور بصرفها، وقد قال: "على كل مسلم صدقة" وفيه مراجعة العالم في تفسير المجمل وتخصيص العام، وفيه فضل التكسب، لما فيه من الإعانة وتقديم النفس على الغير، والمراد بالنفس ذات الشخص، وما يلزمه. رجاله خمسة: مرّ منهم مسلم بن إبراهيم في السابع والثلاثين من الإيمان، وشعبة في الثالث منه، وأبو بُردة وأبوه أبو موسى في الرابع منه. الخامس: سعيد بن أبي بُردة بن أبي موسى الأشعريّ. قال أحمد: بخٍ ثبتٌ في الحديثِ، وقال ابن مُعين والعجليّ: ثقة، وقال أبو حاتم: صدوق ثقة، وذكره ابن حِبّان في الثقات. وقال النَّسَائيّ: ثقة، روى عن أبيه وأنس بن مالك وأبي وائل وغيرهم. وروى عنه قتادة وشُعبة وأبو إسحاق الشيبانيّ وغيرهم. مات سنة ثمان وثلاثين ومئة. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة، ورواته بصريٌّ وواسطيّ وكوفيون، أخرجه مسلم والنَّسائيّ في الزكاة. ثم قال المصنف:

باب قدركم يعطي من الزكاة والصدقة ومن أعطى شاة

باب قدركم يعطي من الزكاة والصدقة ومَنْ أعطى شاة قال الزين بن المنير: عَطْفُ الصدقة على الزكاة من عَطْفِ العام على الخاص، إذ لو اقتصر على الزكاة لأفهم أن غيرها بخلافها، وحذف مفعول "يعطي" اختصارًا لكونهم ثمانية أصناف، وأشار بذلك إلى الرد على مَنْ كره أن يدفع إلى شخص واحد قدر النصاب، وهو محكيّ عن أبي حنيفة. وقال محمد بن الحسن: لا بأس به، وقال غيره: لفظ الصدقة يعم الفرض والنفل، والزكاة كذلك، لكنها لا تطلق غالبًا إلا على المفروض دون التطوع، فهي أخص من الصدقة من هذا الوجه، ولفظ الصدقة من حيث الإطلاق على الفرض، مرادف الزكاة، لا من حيث الإطلاق على النفل، وقد تكرر في الأحاديث لفظ الصدقة على المفروضة، ولكن الأغلب التفرقة. وقوله: "كم يُعطى؟ " على بناء المجهول، ويجوز أن يكون علي بناء المعلوم، أي مقدار كم يعطي المزكي في زكاته؟ أو: كم يعطي المتصدق في صدقته. وقوله: "ومَنْ أُعطي شاة" عطف على قوله: "قدر كم يُعطى" أي: وفي بيان حكم من أعطى شاة، فكأنه أشار بذلك إلى أنه إذا أعطى شاة في الزكاة إنما تجوز إذا كانت كاملة، لأن الشارع نص على كمال الشاة في موضع تؤخذ منه الشاة، فإذا أعطى جزءًا منها لا يجوز، وأما في الصدقة فيجوز أن يعطي الشاة كلها، ويجوز أن يعطي جزءًا منها. الحديث الخمسون حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها قَالَتْ: بُعِثَ إِلَى نُسَيْبَةَ الأَنْصَارِيَّةِ بِشَاةٍ فَأَرْسَلَتْ إِلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها مِنْهَا فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟ ". فَقُلْتُ: لاَ، إِلاَّ مَا أَرْسَلَتْ بِهِ نُسَيْبَةُ مِنْ تِلْكَ الشَّاةِ، فَقَالَ: "هَاتِ فَقَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا". قوله: "بُعث إلى نُسَيبة" بضم الموحدة مبنيًا للمجهول، وفي رواية بَعَثَ بفتحات مبنيًا للفاعل، والباعث رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، لما في مسلم عن أُم عطية قالت: بعث إليّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشاةٍ من الصدقة، فبعثتُ إلى عائشة بشيءٍ منها ... الحديث، ونُسَيبة بضم النون مصغرًا، وهي أُم عطية لا غيرها، فكان مقتضى الظاهر أن تقول: بُعِث إليّ بضمير المتكلم المجرور، لكنها عبرت عن نفسها بالظاهر، حيث قالت: "إلى نُسَيبة"، موضعَ المضمر الذي هو ضمير المتكلم المجرور،

رجاله خمسة

إما على سبيل الالتفات، أو جردت من نفسها ذاتٍ تُسَمّى نُسَيبةَ، وليست أُم عطية غير نسيبة، ففي رواية الغربريّ قال أبو عبد الله البخاريّ: نُسَيبة هي أُم عطية. وقوله: "هل عندكم شيء؟ " أي: من الطعام. وقوله: "بلغت محلها" أي: أنها لما تصرفت فيها بالهدية، لصحة ملكها لها، انتقلت عن حكم الصدقة، فحلت محل الهدية، وكانت تحل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بخلاف الصدقة. كما يأتي في الهبة. وهذا تقرير ابن بطال بعد أن ضبط مَحَلها بفتح الحاء، وضبطه بعضهم بكسرها، من الحلول، أي: بلغت مُسْتَقَرَّها، والأول أَوْلى. وقوله: "هاتِ" بكسر التاء حذفت الياء منه تخفيفًا، ومطابقة الحديث للترجمة من جهة أن لها جزأين، أحدهما مقدار كم يعطي، ويطابقه إرسال نُسيبة إلى عائشة من تلك الشاة التي أُرسلت إليها من الصدقة، والجزء الثاني ومن أعطي شاة، ومطابقته من جهة إرسال النبي عليه الصلاة والسلام لها شاة كاملة. واستنبط البخاري من قصة أُم عطية هذه، وقصة بُرَيرة الآتية في باب "إذا تحولت الصدقة" أن للهاشمي أن يأخذ من سهم العاملين إذا عمل على الزكاة، وذلك أنه إنما بأخذ على عمله، قال: فلما حل للهاشميّ أن يأخذ ما يملكه بالهدية، مما كان صدقة، لا بالصدقة، كذلك يحل له أخذ ما يملكه بعمله لا بالصدقة. واستدل به أيضًا على جواز صدقة التطوع، لأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-، لأنهم فرّقوا بين أنفسهم وبينه عليه الصلاة والسلام، ولم ينكر عليهم ذلك، بل أخبرهم أن تلك الهدية بعينها، خرجت عن كونها صدقة، بتصرف المتصدَّق عليه فيها، كما مرَّ تقريره. رجاله خمسة: مرّ منهم أحمد بن يونس في التاسع عشر من الإيمان، ومرّ خالد الحذاء في السابع عشر من العلم، ومرّت حفصة وأُم عطية في الثاني والثلاثين من الوضوء. الخامس: عبد ربه بن نافع الكِنانيّ أبو شِهاب الحَنّاط، الكوفيّ، نزيل المدائن، قال ابن مُعين: ثقة، وقال: أبو شهاب أحبّ إليّ من أبي بكر بن عياش في كل شيء. وقال يعقوب بن شَيبة: كان ثقة، وكان كثير الحديث. وكان رجلًا صالحًا، لم يكن بالمتين، وقد تكلموا في حفظه. وقال ابن نُمير: ثقة صدوق. وقال البَزّار: ثقة، وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث. وقال علي عن يحيى: لم يكن بالحافظ، قال: ولم يرضَ يحبى أمره. قال أحمد: كان كوفيًا ما علمت إلاَّ خيرًا. قال ابنه عبد الله: قلت: له: إن يحيى بن سعيد قال ليس بالحافظ، فلم يرضَ بذلك، وقال النَّسائيّ: ليس بالقويّ. وقال السَّاجيّ: صدوق يهم في بعض حديثه. قال في المقدمة: احتج به الجماعة سوى التِّرْمِذِيّ، ولعل تضعيف مَنْ ضعفه إنما هو بالنسبة إلى غيره من أقرانه، كأبي عُوانة ونظرائه. روى عن يحيى بن سعيد الأنصاريّ والأعمش وعاصم الأحول وعاصم بن بَهْدَلة وغيرهم. وروى عنه أحمد بن يونس ومسدد وأبو داود المباركيّ وغيرهم.

لطائف إسناده

مات سنة إحدى أو اثنتين وسبعين ومئة. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة، ورواته كوفيّ ومدائنيّ وبصريّ ومدنيتان، وفيه رواية التابعية عن الصحابية. أخرجه البخاريُ أيضًا في الزكاة، ومسلم فيها. ثم قال المصنف:

باب زكاة الورق

باب زكاة الوَرِق أي: الفضة، يقال وَرِق، بفتح الواو وبكسرها، وبكسر الراء وسكوتها. قال ابن المنير: لما كات الفضة هي المال الذي يكثر دورانه في أيدي الناس، ويروج بكل مكان، كان أولى بأن يقدم على ذكر تفاصيل الأموال الزكوية. الحديث الحادي والخمسون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ مِنَ الإِبِلِ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ". قوله: "عن عمرو بن يحيى" في موطأ ابن وهب عن مالك أن عمرو بن يحيى حدّثه، وهذا الحديث قد مرّت مباحثه مستوفاة في باب "ما أُدِّي زكاته فليس بكنز". رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ عبد الله بن يوسف ومالك في الثاني من بدء الوحي، ومرّ عمرو بن يحيى وأبوه يحيى في الخامس عشر من الإيمان، وأبو سعيد في الثاني عشر منه. الحديث الثاني والخمسون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرٌو سَمِعَ أَبَاهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- بِهَذَا. هذا الحديث مباحثه مباحث الذي قبله. رجاله ستة: قد مرّوا، مرّ محمد بن المثنى وعبد الوهاب في التاسع من الإيمان، ومرّ يحيى بن سعيد الأنصاري في الأول من بدء الوحي، ومرّ محل الباقين في الذي قبله، فيه التحديث والإخبار والسماع، وقد أخرجه الستة. ثم قال المصنف:

باب العرض في الزكاة

باب العَرْض في الزكاة أي: جواز أخذ العَرض، وهو بفتح المهملة وسكون الراء بعدها معجمة، والمراد به ما عدا النقدين. قال ابن رشيد: وافق البخاريّ في هذه المسألة الحنفيةَ، مع كثرة مخالفته لهم، لكن قاده إلى ذلك الدليل، وقد أجاب الجمهور عن قصة معاذ، وعن الأحاديث بما سيأتي عقب كل واحد منها. ثم قال: وقال طاووس: قال معاذ، رضي الله تعالى عنه، لأهل اليمن: ائتوني بعَرْض ثياب خميص، أو لبيس في الصدقة مكان الشعير والذرة، أهون عليكم وخير لأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة. هذا التعليق صحيح الإسناد إلى طاووس، لكن طاووس لم يسمع من معاذ، فهو منقطع، فلا يغتر بقول مَنْ قال: ذكره البخاريّ بالتعليق الجازم، فهو صحيح عنده، لأن ذلك لا يفيد إلا الصحة إلى مَنْ علق عنه. وأما باقي الإسناد فلا، إلا أنَّ إيراده له في معرض الاحتاج به، يقتضي قوته عنده، وكأنه عَضَّده عنده الأحاديثُ التي ذكرها في الباب. وقوله: "خميص" قال الداوديّ والجوهريّ: ثوب خميس، بسين مهملة، هو ثوب طوله خمسة أذرع، وقيل: سمي بذلك لأن أول مَنْ عمله الخَميسُ، ملك من ملوك اليمن. وقال عياض: ذكره البخاريّ بالصاد، وأما أبو عُبيدة فذكره بالسين، قال أبو عبيدة: كأنَّ معاذًا عني الصفيق من الثياب، وقال عياض: قد يكون المراد ثوب خميصٌ، أي: خميصة، لكن ذكره على إرادة الثوب. وقوله: "لبيس" أي: ملبوس، فعيل بمعنى مفعول. وقوله: "في الصدقة" يرد قول مَنْ قال: إن ذلك كان في الخراج، وحكى البيهقيّ أن بعضهم قال فيه: من الجزية، بدل الصدقة، فإن ثبت ذلك سقط الاستدلال، لكن المشهور الأول. وقد رواه ابن أبي شيبة عن طاووس أن معاذًا كان يأخذ العروض في الصدقة، وأجاب الإسماعيليّ باحتمال أن يكون المعنى "إيتوني به آخذه منكم مكانَ الشعير والذرة، الذي آخذه شراءًا، بما آخذه، فيكون بقبضة قد بلغ محله، ثم يأخذ مكانه ما يشتريه مما هو أوسع عندهم، وأنفع للأخذ" قال: ويؤيده أنها لو كانت من الزكاة، لم تكن مردودة على الصحابة، وقد أمره النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يأخذ الصدقة من أغنيائهم فيردها على فقرائهم. وأجيب بأنه لا مانع من أنه كان يحمل الزكاة إلى الإِمام ليتولى قسمتها، وقد احتج به من يجيز نقل الزكاة من بلد إلى بلد، وهي مسألة خلافية أيضًا.

وقيل في الجواب عن قصة معاذ أنها اجتهاد، فلا حجة فيه، وفيه نظر، لأنه كان أعلم الناسِ بالحلال والحرام. وقد بيَّن له النبي -صلى الله عليه وسلم- لمّا أرسله إلى اليمن ما يصنع، وقيل: كانت تلك واقعة حالٍ لا دلالة فيها، لاحتمال أن يكون عَلِم بأهل المدينة حاجة بذلك، وقد قام الدليل على خلاف عمله ذلك. وقال القاضي عبد الوهاب المالكي: كانوا يطلقون على الجزية اسم الصدقة، فلعل هذا منها، وتعقب بقوله: "مكان الشجر والذرة"، وما كانت الجزية حينئذ من أولئك من شعير ولا ذرة، إلا من النقدين. وقوله: أهون عليكم، أراد معنى تسلط السهو عليهم، فلم يقل أهون لكم. وقوله: وخير لأصحاب محمد، أي: أرفق بهم لأن مؤنة النقل ثقيلة، فرأى الأخف في ذلك خيرًا من الأثقل. وهذا التعليق وصله ابن أبي شيبة في مصنفه، وطاووس مرّ بعد الأربعين من الوضوء ومرّ معاذ في أثر أولَ الإيمان قبل ذكر حديث منه. ثم قال: وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وأما خالد احتبس أوراعه واعتده في سبيل الله" وهذا طرف من حديث لأبي هريرة يأتى موصولًا في باب قوله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} مع بقية الكلام عليه، حيث ذكر هناك مستوفى. وخالد المراد به خالد بن الوليد، وقد مرّ في التاسع من الجنائز. ثم قال: وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "تصدقنَ ولو منْ حُلِيِّكِنّ" فلم يستثن صدقة الفرض من غيرها، فجعلت المرأة تلقي خُرصها وسِخابها، ولم يخص الذهب والفضة من العروض. وهذا طرف من حديث لابن عباس، أخرجه المصنف موصولًا في كتاب العلم في باب "عظة الإِمام النِساءَ" وفي العيدين، في باب موعظة الإمام النساء. وفيه هنا "فجعلت المرأة تلقي خُرصها وسِخابها" والخُرْص بضم المعجمة وسكون الراء بعدها مهملة، الحَلَقة التي تجعل في الأذن، والسِخاب، بكسر المهملة بعدها معجمة وآخره موحدة، القلادةُ. وقوله: ولم يستثن، وقوله: فلم يخص، كلُّ من الكلامين للبخاريّ، ذكرهما بيانًا لكيفية الاستدلال على أداء العرض في الزكاة، وهو مصير منه إلى أن مصارف الصدقة الواجبة، كمصارف صدقة التطوع، بجامع ما فيهما من قصد القربة، والمصروف إليهم بجامع الفقر والاحتياج، إلا ما استثناه الدليل. وأما من وجَّهه فقال: لما أمرّ النبي -صلى الله عليه وسلم- النساءَ بالصدقةِ، في ذلك اليوم، وأَمره على الوجوب، صارت صدقة واجبة، ففيه نظر، لأنه لو كان للإيجاب هنا، لكان مقدارًا، وكانت المجازفة فيه وقبول ما تيسر، غير جائز. ويمكن أن يكون تمسك بقوله: "تصدقنَ" فإنه مطلق يصلح لجميع أنواع الصدقات، واجبها ونفلها، وجميع أنواع المُتَصَدَّق به، عينًا وعَرْضًا، ويكون قوله: "ولو من حِلْيكنّ" للمبالغة، أي: ولو لم يجدن إلا ذلك، وموضع الاستدلال منه للعَرْض قوله: "وسِخابها" لأنه قِلادة تتخذ من مِسْك وقَرَنْفُل ونحوهما، تجعل في العنق. والبخاريّ فيما عرف بالاستقراء من طريقته، يتمسك بالمُطْلَقات تمسك غير بالعمومات.

الحديث الثالث والخمسون

الحديث الثالث والخمسون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي ثُمَامَةُ أَنَّ أَنَسًا رضي الله عنه حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه كَتَبَ لَهُ الَّتِى أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ -صلى الله عليه وسلم- وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ بِنْتَ مَخَاضٍ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُ بِنْتُ لَبُونٍ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ، وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ عَلَى وَجْهِهَا، وَعِنْدَهُ ابْنُ لَبُونٍ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ وَلَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ. هذا طرف من حديث الصدقات، ويأتي معظمه في زكاة الغنم، وموضع الدلالة منه قبول ما هو أنفس مما يجب على المتصدق، وإعطاؤه التفاوت من جنس غير الجنس الواجب، وكذا العكس، لكن أحاب الجمهور عن ذلك بأنه لو كان كذلك، لكان ينظر إلى ما بين الشيئين في القيمة، فكأنّ العرض يزيد تارة وينقص أخرى، لاختلاف ذلك في الأمكنة والأزمنة، فلما قَدَّر الشارع التفاوت بمقدار معين، لا يزيد ولا ينقص، كان ذلك هو الواجب في الأصل، في مثل ذلك، ولولا تقدير الشارع بذلك، لتعينت بنت المخاض مثلًا، ولم يجز أن تبدل بنتَ لبون، مع التفاوت. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ محمد بن عبد الله في الخامس من الاستسقاء، ومرّ عبد الله بن المثنى وثُمامة في السادس والثلاثين من العلم، ومرّ أنس في السادس من الإيمان، ومرّ أبو بكر في باب "مَنْ لم يتوضأ من لحم الشاة" بعد الحادي والسبعين من الوضوء. لطائف إسناده: فيه أن السند كله بالتحديث بالجمع وبالإفراد، وهو مسلسل بالأنسيين، وكلهم بصريون، وفيه رواية الابن عن الأب، ورواية الرجل عن جده، ورواية الرجل عن عمه، وهو من الرباعيات. قلت: أو الخماسيات. أخرجه البخاريّ في عشرة مواضع، ستة من الزكاة، وفي الخمس وفي الشركة وفي اللباس وفي ترك الحيل، وأخرجه أبو داود والنَّسَائيّ وابن ماجَه في الزكاة. الحديث الرابع والخمسون حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَصَلَّى قَبْلَ الْخُطْبَةِ، فَرَأَى أَنَّهُ لَمْ يُسْمِعِ النِّسَاءَ، فَأَتَاهُنَّ وَمَعَهُ بِلاَلٌ نَاشِرَ ثَوْبِهِ فَوَعَظَهُنَّ، وَأَمَرَهُنَّ أَنْ يَتَصَدَّقْنَ، فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تُلْقِي، وَأَشَارَ أَيُّوبُ إِلَى أُذُنِهِ وَإِلَى حَلْقِهِ.

رجاله خمسة

قوله: "فجعلت المرأة تلقي" وأشار أيوب إلى أُذنه وحَلْقه، قد مرّ تفسير ذلك بما ذكره في الترجمة من قوله: "تلقي خُرْصها وسِخابها" لأن الخُرص من الأذن، والسِخاب من الحَلْق. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ مُؤَمل بن هشام في الرابع والعشرين من التهجد، ومرّ إسماعيل بن علية في الثامن من الإيمان، وأيوب في التاسع منه، وعطاء بن أبي رباح وبلال بن حَمامة في التاسع والثلاثين من العلم، ومرّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي، وتقدم الكلام على الحديث في باب العيدين. ثم قال المصنف:

باب لا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع

باب لا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع في رواية الكشميهنيّ "متفرق" بتقديم التاء وتشديد الراء، قال الزين بن المنير: لم يقيد المصنف الترجمة بقوله: "خشية الصدقة" لاختلاف نظر العلماء في المراد بذلك، لما يأتي قريبًا. ثم قال: ويذكر عن سالم عن ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مثلُه، أي: مثل لفظ هذه الترجمة، وهو طرف من حديث أخرجه أبو داود وأحمد والتِّرمِذيّ والحاكم وغيرهم، عن سفيان بن حسين عن الزُّهريّ عنه، موصولًا. وسفيان بن حسين ضعيف في الزُّهريّ، وقد خالفه مَنْ هو أحفظ منه في الزُّهريّ، فأرسله الحاكم عن يونس بن يزيد عن الزُّهريّ، وقال: إن فيه تقوية لرواية سُفيان بن حسين، لأنه قال عن الزُّهريّ قال: أَقرأَنيها سالم بن عبد الله بن عمر، فوعيتها على وجهها، فذكر الحديث، ولم يقل: إن ابن عمر حدثه به، ولهذه العلة لم يجزم به البخاريّ، لكن أورده شاهدًا لحديث أنس الموصول عنده في الباب. وسالم قد مرّ في السابع عشر من الإيمان، ومرّ أبوه عبد الله في أوله قبل ذكره حديث منه. الحديث الخامس والخمسون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي ثُمَامَةُ أَنَّ أَنَسًا رضي الله عنه حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه كَتَبَ لَهُ الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَلاَ يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ، وَلاَ يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ، خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ. وقوله: "لا يجمع بين متفرق" بتقديم التاء، وزاد هنا: خشية الصدقة، واختلف في المراد بالخشية كما يذكر قريباً. قال مالك في الموطأ: معنى هذا الحديث أن يكون النفي الثلاثة، لكل واحد منهم، أربعون شاة وجبت فيها الزكاة، فيجمعونها حتى لا تجب عليهم كلهم فيها إلا شاة واحدة، أو يكون للخليطين مئتا شاة وشاتان، فيكون عليهما فيها ثلاث شياه، فيفرقونها حتى لا يكون على كل واحد إلا شاةً واحدة. وقال الشافعيّ: هو خِطاب لرب المال من جهة، وللساعي من جهة، فأمر كل واحد منهم أن لا يحدث شيئًا من الجمع والتفريق خشية الصدقة، فرب المال يخشى أن تكثر الصدقة، فيجمع أو يفرق، لتقل، والساعي يخشى أن تقل الصدقة، فيجمع أو يفرق، لتكثر. فمعنى قوله: "خشية الصدقة" أي: خشية أن تكثر الصدقة، أو خشية أن تقل الصدقة. فلما كان محتملًا للأمرين، لم

رجاله خمسة

يكن الحمل على أحدهما بأولى من الآخر، فحمل عليهما معًا، لكن الذي يظهر أن حمله على المالك أظهر. وفي الباب عن عليّ عند أصحاب السنن، وعن سُويد بن غفلة قال: أتانا مُصَدَّق النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقرأت في عهده، فذكر مثله. أخرجه النَّسائيّ، وعن سعد بن أبي وقاص أخرجه البيهقيّ، واستدل بحديث الباب على أنَّ مَنْ كان عنده دون النصاب من الفضة، ودون النصاب من الذهب، مثلًا، أنه لا يجب ضم بعضه إلى بعضه حتى يصير نِصَابًا كاملًا فتجب فيه الزكاة، خلافًا لمن قال: يضم على الأجزاء، كالمالكية، كعشرة دنانير ومئة درهم، أو على القيم، كالحنفية، واستدل به لأحمد على أن مَنْ كان له ماشية ببلد لا تبلغ النصاب، كعشرين شاةً مثلاً بالبصرة، ومثلها بالكوفة، أنها لا تضم، باعتبار، أنها ملك رجل واحد، وتؤخذ منها الزكاة لبلوغها النصاب، قاله ابن المنذر، وخالفه الجمهور، فقالوا: يجمع على صاحب المال أمواله، ولو كانت في بلدان شتى، ويخرج منها الزكاة. واستدل به على إبطال الحيل، والعمل على المقاصد المدلول عليها بالقرآن، وأن زكاة العين لا تسقط بالهبة. قال العينيّ: ومما يستفاد منه النهيُ عن الحيل لسقوط ما كان واجبًا عليه، ويجري ذلك في أبواب كثيرة من الفقه، وللعلماء في ذلك خلاف في التحريم، أو الكراهة أو الإباحة، والحق أنه إن كان ذلك لغرض صحيح، فيه رفق للمعذور، وليس فيه إبطال لحق الغير، فلا بأس به، من ذلك قوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} وإن كان لغرضٍ فاسد، كإسقاط حق الفقراء من الزكاة، بتمليك ماله قبل الحول لولده، أو نحو ذلك، فهو حرام، أو مكروه على الخلاف المشهور في ذلك. رجاله خمسة: قد مرّوا في الذي قبله بحديث، فهو هذا بعينه، إلا أن في هذا زيادة. ثم قال المصنف:

باب ما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية

باب ما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية واختلف في المراد بالخليط، فعند أبي حنيفة أنه الشريك، قال: ولا يجب على أحد منهم فيما يملك، إلا مثل الذي كان يجب عليه لو لم يكن خلط، وتعقبه ابن جرير بأنه لو كان تفريقها مثل جمعها في الحكم، لبطلت فائدة الحديث، وإنما نهى عن أمر، لو فعله، كانت فيه فائدة قبل النهي، ولو كان كما قال، لما كان، لتراجع الخليطين بينهما بالسَّويّة معنى. واعترض عليه أيضًا بأن الشريك قد لا يعرف عين ماله، وقد قال إنهما يتراجعان بينهما بالسوية، ومما يدل على أن الخليط لا يستلزم أن يكون شريكًا قولُه تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ} وقد بيّنه قبل ذلك بقوله: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ}. واعتذر بعضهم عن الحنفية، بأنهم لم يبلغهم هذا الحديث، والحق أنهم تمسكوا بالأصل في قوله: "ليس فيما دون خمس ذَودٍ صدقة" وقالوا: إن جميع النصوص الواردة في نُصُب الزكاة تمنع الوجوب فيما دونها. وقوله: "يتراجعان" قال الخطابيّ: معناه أن يكون أربعون شاة مثلًا، لكل واحدٍ منهما عشرون، قد عرف كل منهما عين ماله، يأخذ المصدق منهما شاة، فيرجع المأخوذ من ماله على خليطه بقيمة نصف شاة، وتسمى هذه خلطة الجِواز. وقوله: "بالسوية" أي: بنسبة عدديهما، كتسع من الإبل لأحدهما وللآخر خمس، ففيهما شاتان، على الأول تسعة أسباع وعلى الثاني خمسة أسباع، والمأخوذ منه يرجع على الآخر بما عليه. ثم قال: وقال طاووس وعطاء: إذا عَلِم الخليطان أموالهما، فلا يجمع مالهما، وهذا وصله أبو عبيد في كتاب الأموال عن طاووس، قال: إذا كان الخليطان يعلمان أموالهما، لم يجمع مالهما في الصدقة. قال ابن جُريج: فذكرته لعطاء، فقال: ما أراه إلا حقًا. وقال عبد الرزاق أيضًا، عن ابن جُريج: قلت لعطاء: ناسٌ خُلِط لهم أربعون شاةً، قال: عليهم شاة. قلت: فلواحدٍ تسعٌ وثلاثون شاة، ولأخر شاة؟ قال: عليهم شاة. وهذا التعليق وصله ابن أبي شيبة في مصنفه. وطاووس مرّ في باب "مَنْ لم ير الوضوء إلا من المخرجَيْن" بعد الأربعين من الوضوء. ومرّ عطاء في الذي قبله بحديث. ثم قال: وقال سفيان: لا تجب حتى تتم لهذا أربعون شاةً، ولهذا أربعون شاة. رواه عبد الرزاق عن الثَّوريّ، وبهذا قال مالك. وقال الشافعي وأحمد وأصحاب الحديث: إذا بلغت

الحديث السادس والخمسون

ماشيتهما النصاب، زَكَّيا. والخلطة عندهم أن يجتمعا في المسرح والمبيت والحوض والفحل، والشركة أخص منهما، والشرط عند مالك أن يجتمعا في الأكثر من خمسة: من مَراح وماء ومبيت وراع وفحل، وأكثر هو الثلاثة، وسُفيان هو الثَّوْرِيّ، وقد مرّ في السابع والعشرين من الإيمان. الحديث السادس والخمسون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي ثُمَامَةُ أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه كَتَبَ لَهُ الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ. أورد طرفًا من حديث أنس المذكور، وفيه لفظ الترجمة، وقد مرّ الكلام عليها. رجاله مرّ في الذي قبله. ثم قال المصنف:

باب زكاة الإبل

باب زكاة الإبل سقط لفظ باب من رواية الكشميهنيّ والحمويّ، ثم قال: ذكره أبو بكر وأبو ذَرٍّ وأبو هُريرة رضي الله تعالى عنهم عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، أما حديث أبي بكر فقد ذكره مطولًا بعد باب، وأما حديثا أبي ذرٍّ وأبي هُريرة فسيأتيان بعد ستة أبواب، وأبو بكر مرّ في باب مَنْ لم يتوضأ من لحم الشاة بعد الحادي والسبعين من الوضوء، ومرّ أبو ذَرٍّ في الثالث والعشرين من الإيمان، ومرّ أبو هريرة في الثاني من الإيمان. الحديث السابع والخمسون حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ الْهِجْرَةِ فَقَالَ: "وَيْحَكَ، إِنَّ شَأْنَهَا شَدِيدٌ، فَهَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ تُؤَدِّي صَدَقَتَهَا. قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَاعْمَلْ مِنْ وَرَاءِ الْبِحَارِ فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَتِرَكَ مِنْ عَمَلِكَ شَيْئًا". موضع الحاجة منه قوله: "فهل لك من إبل تؤدي صدقتها؟ قال: نعم" قال الزين بن المنير: في هذه الأحاديث أحكام متعددة، تتعلق بهذه الترجمة، منها إيجاب الزكاة، والتسوية بينها وبين الصلاة في قتال مانعيها، حتى لو منعوا عقالًا، وهو ما تربط به الإبل، وتسميتها فريضة، وذلك أعلى الواجبات، وتوعد مَنْ لم يؤدها بالعقوبة في الدار الآخرة، كما في حديثي أبي ذرٍّ وأبي هُريرة. وقوله: "إن أعرابيًا" لم يعرف اسمه، والهجرة المسؤول عنها مفارقةُ دار الكفر إذ ذاك، والتزام أحكام المهاجرين مع النبي -صلى الله عليه وسلم-. وكان ذلك وقع بعد فتح مكة، لأنها كانت إذ ذاك فَرْضَ عَين، ثم نسخ ذلك بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا هجرة بعد الفتح"، وقوله: "فاعمل من وراء البحار" مبالغة في إعلامه بأن عمله لا يضيع في أي موضع كان. وقوله: "لن يَتِرَكَ" بفتح التحتانية وكسر المثناة ثم راء وكاف، أي: ينقصك، وفي القرآن: {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} أي: لن ينقصكم شيئأ من ثواب أعمالكم. وفي الحديث فضل أداء زكاة الإبل ومعادلة إخراج أداء حق الله منها لفضل الهجرة، فإن في الحديث إشارة إلى أن استقراره بوطنه إذا أدَّى زكاة ماله، يقوم له مقام ثواب هجرته، وإقامته بالمدينة.

رجاله ستة

رجاله ستة: قد مرّوا، مرّ علي بنَ المِدينيّ في الرابع عشر من العلم، ومرّ الوليد بن مسلم في السادس والثلاثين من مواقيت الصلاة، ومرّ الأوزاعيّ في العشرين من العلم، ومرّ ابن شِهاب في الثالث من بَدء الوحي، ومرّ عطاء بن يزيد في الحديث العاشر من الوضوء ومرّ أبو سعيد الخُدريّ في الثاني عشر من الإيمان. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإفراد والعنعنة، وشيخه من أفراده، ورواته شاميان ومدنيان. أخرجه البخاري أيضًا في الهجرة وفي الأدب وفي الهبة، ومسلم في المغازي، وأبو داود في الجهاد، والنَّسائيّ في البيعة وفي السِيَر. ثم قال المصنف:

باب من بلغت عنده صدقة بنت مخاض وليست عنده

باب مَنْ بلغت عنده صدقة بنت مخاض وليست عنده الحديث الثامن والخمسون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي ثُمَامَةُ أَنَّ أَنَسًا رضي الله عنه حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه كَتَبَ لَهُ فَرِيضَةَ الصَّدَقَةِ الَّتِى أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ -صلى الله عليه وسلم-: مَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ مِنَ الإِبِلِ صَدَقَةُ الْجَذَعَةِ، وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ جَذَعَةٌ وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْحِقَّةُ وَيَجْعَلُ مَعَهَا شَاتَيْنِ إِنِ اسْتَيْسَرَتَا لَهُ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الْحِقَّةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ الْحِقَّةُ وَعِنْدَهُ الْجَذَعَةُ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْجَذَعَةُ، وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ، وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الْحِقَّةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ إِلاَّ بِنْتُ لَبُونٍ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ بِنْتُ لَبُونٍ، وَيُعْطِي شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ بِنْتَ لَبُونٍ وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْحِقَّةُ وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ، وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ بِنْتَ لَبُونٍ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ بِنْتُ مَخَاضٍ وَيُعْطِي مَعَهَا عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ. أورد هنا طرفًا من حديث أنس المذكور، وليس فيه ما ترجم به، وقد أورد الحكم الذي ترجم به في باب العرض في الزكاة، وحذفه هنا، فقال ابن بطال: هذه غفلة منه، وتعقبه ابن رشيد وقال: بل هي غفلة ممن ظن به الغفلة، وإنما مقصده أن يستدل على أن مَنْ بلغت صدقته بنتَ مَخاض، وليست عنده هي، ولا ابن اللَّبون، لكن عنده مثلًا حِقّةٌ، وهي أرفع من بنتِ مخاض، لأن بينهما بنتَ لَبون، وقد تقرر أن بين بنت اللبون وبنت المخاض عشرين درهمًا أو شاتين، وكذلك سائر ما وقع ذكره في الحديث من سن، تزيد أو تنقص، إنما ذكر فيه ما يليها، لا ما يقع بينهما بتفاوت درجة، فأشار البخاريّ إلى أنه يستنبط من الزائد والناقص والمنفصل ما يكون منفصلًا بحساب ذلك، فعلى هذا، مَنْ بلغت صدقته بنت مخاض وليست عنده إلاَّ حِقَّةٌ أي يرد عليه المُصَّدق أربعين درهمًا أو أربع شياه جَبرانًا أو بالعكس، فلو ذكر اللفظ الذي ترجم به، لما أفهم هذا الغرض، فتدبره. وقال الزين بن المنير: مَنْ أمعن النظر في تراجم هذا الكتاب، وما أودعه فيها من أسرار

رجاله خمسة

المقاصد، استبعد أن يغفل أو يمهل أو يضع لفظًا بغير معنى، أو يرسم في الباب خبرًا يكون غيره به أقعد وأَوْلى، وإنما قصد بذكر ما لم يترجم به أن يقرر أن المفقود إذا وجد الأكمل منه والأنقص شُرع الجَبْران، كما شرع ذلك فيما تضمنه هذا الخبر، من ذكر الأسنان، فإنه لا فرق بين ذِكر فَقْدِ بنت المخاض ووجود الأكمل منها. قال: ولو جعل العمدة في هذا الباب الخَبر المشتمل على فَقْدِ بنت المخاض لكان نصًا في الترجمة ظاهرًا، فلما تركه واستدل بنظيره أفهم ما ذكرناه من الإلحاق بنفي الفرق، وتسويته بين فقد بنت المخاض ووجود الأكمل منها، وفقد الحِقَّة ووجود الأكمل منها. رجاله خمسة: وقد مرّوا في الثاني والخمسين. ثم قال المصنف:

باب زكاة الغنم

باب زكاة الغنم قال الزين بن المنير: حذف وصف الغنم بالسائمة، وهو ثابت في الخبر، إما لأنه لم يعتبر هذا المفهوم، أو لتردده، من جهة تعارض وجوه النظر فيه عنده، وهي مسألة خلافية شهيرة، والراجح في مفهوم الصفة أنها إن كانت تناسب الحكم مناسبة العلة لمعلولها، اعتبرت، وإلا فلا، ولا شك أن السِّوم يشعر بخفة المؤنة ودَرْء المشقة، بخلاف العَلَف، فالراجح اعتباره هنا. قاله في "الفتح"، قلت: هذا هو مذهبه، ويأتي ما فيه من الخِلاف عند انتهاء الحديث. الحديث التاسع والخمسون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُثَنَّى الأَنْصَارِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه كَتَبَ لَهُ هَذَا الْكِتَابَ لَمَّا وَجَّهَهُ إِلَى الْبَحْرَيْنِ * بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَالَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ، فَمَنْ سُئِلَهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهِهَا فَلْيُعْطِهَا، وَمَنْ سُئِلَ فَوْقَهَا فَلاَ يُعْطِ فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الإِبِلِ فَمَا دُونَهَا مِنَ الْغَنَمِ مِنْ كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ، إِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ إِلَى خَمْسٍ وَثَلاَثِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ أُنْثَى، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَثَلاَثِينَ إِلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ أُنْثَى، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ إِلَى سِتِّينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ طَرُوقَةُ الْجَمَلِ، فَإِذَا بَلَغَتْ وَاحِدَةً وَسِتِّينَ إِلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ فَفِيهَا جَذَعَةٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ يَعْنِي سِتًّا وَسَبْعِينَ إِلَى تِسْعِينَ فَفِيهَا بِنْتَا لَبُونٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ إِحْدَى وَتِسْعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِيهَا حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا الْجَمَلِ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلاَّ أَرْبَعٌ مِنَ الإِبِلِ فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ، إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا مِنَ الإِبِلِ فَفِيهَا شَاةٌ، وَفِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ فِي سَائِمَتِهَا إِذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ شَاةٌ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ إِلَى مِائَتَيْنِ شَاتَانِ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى مِائَتَيْنِ إِلَى ثَلاَثِمِائَةٍ فَفِيهَا ثَلاَثٌ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى ثَلاَثِمِائَةٍ فَفِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ، فَإِذَا كَانَتْ سَائِمَةُ الرَّجُلِ نَاقِصَةً مِنْ أَرْبَعِينَ شَاةً وَاحِدَةً فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ، إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا، وَفِي الرِّقَةِ رُبْعُ الْعُشْرِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ إِلاَّ تِسْعِينَ وَمِائَةً فَلَيْسَ

فِيهَا شَيْءٌ، إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا. قد تابع عبد الله بن المثنى على حديثه هذا حمّادُ بن سَلَمة، فرواه عن ثُمامة أنه أعطاه كتابًا، زعم أن أبا بكر كتبه لأنس، وعليه خاتم النبي -صلى الله عليه وسلم-، حين بعثه مُصَدَقًا، فذكر الحديث، هكذا أخرجه أبو داود عن أبي سلمة عنه. ورواه أحمد في مسنده عن حماد قال: أخذت هذا الكتاب من ثُمامة بن عبد الله بن أنس عن أنس أنّ أبا بكر ... فذكره، وقال إسحاق بن راهويه في مسنده عن حمّاد بن سَلَمة: أخذنا هذا الكتاب من ثمامة يُحَدِّثُه عن أنس عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فذكره، فوضح أن حمّادًا سمعه من ثُمامة وأقرأه الكتابَ، فانتفى تعليل من أعلّه بكونه مكاتبة، وانتفى تعليل من أعله يكون عبد الله بن المثنى لم يتابع عليه. قوله: "لما وجهه إلى البحرين" أي: عاملًا عليها، وهو اسم لإقليم مشهور يشتمل على مدن معروفة، قاعدتها هجر، وهكذا ينطق بها بلفظ التثنية، والنسبة إليه بحرانيّ. وقوله: "بسم الله الرحمن الرحيم" قال الماورديّ: يستدل به على إثبات البسملة في ابتداء الكتب، وعلى أن الابتداء بالحمد ليس بشرط، قوله: "هذه فريضة الصدقة" أي: نسخة فريضة، فحذف المضاف للعلم به، وفيه أن اسم الصدقة يطلق على الزكاة خلافًا لمن منع ذلك من الحنفية. وقوله: "التي فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المسلمين" ظاهر في رفع الخبر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأنه ليس موقوفًا على أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وقد صرّح برفعه في رواية إسحاق المتقدم ذكرها، ومعنى فرض هنا، أوجب أو شرع، يعني بأمر الله تعالى. وقيل: معناه قَدّر لأن إيجابها ثابت بالكتاب، ففرض النبي -صلى الله عليه وسلم- لها بيانُه للمجمل من الكتاب، بتقدير الأنواع والأجناس. وأصل الفرض قطع الشيء الصُّلب، ثم استعمل في التقدير، لكونه مقتطعًا من الشيء الذي يقدر منه، ويرد بمعنى البيان كقوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} وبمعنى الإنزال كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} وبمعنى الحل كقوله تعالى: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} وكل ذلك لا يخرج عن معنى التقدير. ووقع استعمال الفرض بمعنى اللزوم حتى كاد يغلب عليه، وهو لا يخرج أيضًا عن معنى التقدير، وقال الراغب: كل شيء ورد في القرآن فَرْض على فلان، فهو بمعنى الإلزام، وكل شيء ورد فرض له فهو بمعنى لم يُحَرِّمه عليه، وذكر أن معنى قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} أوجب عليك العمل به. وهذا يؤيد قول الجمهور: إن الفرض مرادف للوجوب. وتفريق الحنفية بين الفرض والواجب باعتبار ما يثبتان به لا مشاحة فيه، وإنما النزاع في حمل ما ورد من الأحاديث الصحيحة على ذلك؛ لأن اللفظ السابق لا يحمل على الاصطلاح الحادث. وقوله: "على المسلمين" استدل به على أن الكافر ليس مخاطبًا بذلك، وتعقب بأن المراد بذلك، كونُها لا تصح منه، لا أن المراد أنه لا يعاقب عليها، وهو محل النزاع.

وقوله: "والتي أمر الله بها ورسوله" كذا في كثير من نسخ البخاريّ، وفي كثير منها بحذف "بها"، وأنكرها النَّوويّ، وفي رواية أبي داود المقدم ذكرها، "التي أمر" بغير واو، على أنها بدل من أولى. وقوله: "من سُئِلها من المسلمين على وجهها فلْيُعطِها" أي: على هذه الكيفية المبنية في هذا الحديث. وفيه دلالة على دفع الأموال الظاهرة إلى الإِمام. وقوله: "ومَنْ سئل فوقها فلا يعط" أي: من سئل زائدًا على ذلك في سن أو عدد، فله المنع. ونقل الرافعي الاتفاقَ على ترجيحه، وقيل: معناه فليمنع الساعي وليتول هو إخراجها بنفسه، أو بساع آخر، فإنّ الساعي الذي طلب الزيادة يكون بذلك متعديًا، وشرطه أن يكون أمينًا، لكن محل هذا إذا طلب الزيادة بغير تأويل. وقوله: "في كل أربع وعشرين من الإبل فما دونها" أي: إلى خمس. وقوله: "من الغنم" كذا للأكثر، وفي رواية ابن السكن بإسقاط "من" وصوَّبها بعضهم. قال عياض: مَنْ أثبتها فمعناه زكاتها، أي الإبل من الغنم، ومن للبيان لا للتبعيض، ومَن حذفها فالغنم مبتدأ والخبر مضمر في قوله: "في كل أربع وعشرين"، وإنما قدم الخبر لأن الغرض بيان المقادير التي تجب فيها الزكاة، والزكاة إنما تجب بعد وجود النصاب، فحسن التقديم، واستدل به على تَعَيُّن إخراج الغنم في مثل ذلك، وهو قول مالك وأحمد، فلو أخرج بعيرًا عن الأربع والعشرين لم يجزه. وقال الشافعي والجمهور: يجزؤه، لأنه يجزىء عن خمس وعشرين، فما دونها أولى، ولأن الأصل أن تجب من جنس المال، وإنما عدل عنه رفقًا بالمالك، فإذا رجع باختياره إلى الأصل أجزأه، فإن كانت قيمة البعير مثلًا دون قيمة أربع شياه، ففيه خلاف عند الشافعية وغيرهم، والأَقيس أنه لا يُجزىء. واستدل بقوله: "في كل أربع وعشرين" على أن الأربع مأخوذة عن الجميع، وإن كانت الأربع الزائدة على العشرين وَقَصًا، وهو قول الشافعي في البُوَيطيّ. وقال في غيره: إنه عفو، ويظهر أثر الخلاف فيمن له مثلًا تسعٌ من الإبل فتلف منها أربعة بعد الحول، وقبل: التمكن، حيث قلنا إنه شرط في الوجوب، وجبت عليه شاة بلا خلاف. وكذا إذا قلنا التمكن شرط في الضمان، وقلنا الوَقَص عفو، وإن قلنا يتعلق به الفرض، وجبت خمسة أتساع شاة، والأول قول الجمهور، كما نقله ابن المنذر. قلت: الأصح في مذهب مالك إجزاء البعير عن شاة، والوَقَص بالتحريك، ويجوز إسكان القاف، وبالسين المهملة بدل الصاد، هو ما بين الفرضين عند الجمهور. واستعمله الشافعي فيما دون النصاب الأول أيضًا. وقوله: "فإذا بلغت خمسًا وعشرين" فيه أن في هذا القدر بنتَ مخاض، وهو قول الجمهور إلا ما جاء عن عليّ، أن في خمسٍ وعشرين شياه، فإذا صارت ستًا وعشرين كانت فيها بنت مخاض، أخرجه ابن أبي شيبة وغيره، موقوفًا ومرفوعًا. وإسناد المرفوع ضعيف، وقوله: "ففيها بنت مخاض أنثى" زاد حمّاد بن سَلَمة في روايته "فإن لم تكن بنتَ مخاض، فابن لبون ذكر".

وقوله: "أنثى وذكر" للتأكيد أو لتنبيه رب المال ليطيب نفسًا بالزيادة. وقيل: احترز بذلك عن الخنثى، وفيه بُعد، وبنت المخاض، بفتح الميم والمعجمة الخفيفة وآخره معجمة، هي التي أتى عليها حول، ودخلت في الثاني، وحملت أُمها، والماخض الحامل، أي: دخل وقت حملها وإن لم تحمل، وابن اللَّبون هو الذي دخل في الثالثة، فصارت أمه لبوناً بوضع الحمل. وقوله: "إلى خمس وأربعين إلى للغاية" وهو يقتضي أن ما قبل الغاية يشتمل عليه الحكم المعهود بيانه، بخلاف ما بعدها، فلا يدخل إلا بدليل، وقد دخل هنا بدليل قوله بعد ذلك: "فإذا بلغت ستًا وأربعين" فعلم أن حكمها حكم ما قبلها. وقوله: "ففيها حِقّة طَرُوقة الجَمَل" حِقّة بكسر المهملة وتشديد القاف، والجمع حِقاف بالكسر والتخفيف، وطَرُوقة بفتح أوله، أي: مَطروقة، وهي فَعُولة بمعنى مفعولة، كَحلُولة بمعنى مَحلوية، والمراد أنها بلغت أنْ يطرقها الفحل، وهي التي أتت عليها ثلاث سنين، ودخلت في الرابعة. وقوله: "جَذَعَة" بفتح الجيم والمعجة، وهي التي أتت عليها أربع، ودخلت في الخامسة. وقوله: "فإذا بلغت" يعني ستًا وسبعين، كذا في الأصل بزيادة يعني، وكأن العدد حُذف من الأصل اكتفاءًا بدلالة الكلام، فذكره بعض رواته، وأتى بلفظ "يعني" لينبه على أنه مزيد، أو شك أَحد رواته فيه. وقد ثبت بغير لفظ "يعني" في رواية الإسماعيليّ من طريق أخرى، فيحتمل أن يكون الشك فيه من البخاريّ، وفي رواية حمّاد بن سلمة بإثباته أيضًا. وقوله: "فإذا زادت على عشرين ومئة واحدةً فصاعدًا" وهذا قول الجمهور، وعند المالكية من إحدى وعشرين ومئة إلى تسع وعشرين حِقَّتان، أو ثلاث بنات لبون، الخيار للساعي وجدًا أو فَقْدًا، وتعيَّن أحدهما منفردًا، وعند كمال الثلاثين يكون الحكم عندهم ما في الحديث: في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حِقّة. وعن الإصطخري من الشافعية: تجب ثلاث بنات لبون، لزيادة بعض واحدة، لصدق الزيادة، وتتصور المسألة في الشركة، ويرده ما في كتاب عمر "إذا كانت إحدى وعشرين ومئة، ففيها ثلاث بنات لبون، حتى تبلغ تسعًا وعشرين ومئة" ومقتضاه أن ما زاد على ذلك فزكاته بالإبل، وعند أبي حنيفة: إذا زادت على عشرين ومئة تستأنف الفريضة، فيكون في الخمس شاة مع الحِقَّتَين، وفي العشر شاتان، وفي خمسَ عشرة ثلاث شياه، وفي عشرين أربع شياه، وفي خمس وعشرين بنت مخاض، وفي ست وثلاثين بنت لَبون، فإذا بلغت مئة وستًا وتسعين، ففيها أربع حِقاق إلى مئتين، ثم تستأنف الفريضة أبدًا، كما تستأنف في الخمسين التي بعد الخمسين والمئة. واستدلوا بما رواه أبو داود وغيره من مرسل أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنّ النبي عليه الصلاة والسلام كتبه لجده، فكان فيه ما يخرج من فرائض الإبل، فقص الحديث إلى أن تبلغ عشرين ومئة، فإذا كانت أكثر من عشرين ومئة، فإنه يعاد إلى أول فريضة الإبل، وما كان أقل من خمس وعشرين ففيه الغنم، في كل خمسِ ذودٍ شاةٌ. وهذا مرسل منقطع لا تقوم به حجة.

وقوله: "فإذا بلغت خمسًا من الإبل ففيها شاه، وفي صدقة الغنم ... إلخ" قد اقتطع البخاريُّ من بين هاتين الجملتين بعد قوله: "ففيها شاة" قوله: "ومن بلغت عنده من الإبل صدقة الجَذَعة" إلى آخر ما ذكره في الباب الذي قبله. وقد ذكره في باب العرض في الزكاة، وزاد، بعد قوله فيه: "يقبل منه بنت مخاض ويعطي معها عشرين درهمًا أو شاتين، فإن لم تكن عنده بنت مخاض على وجهها، وعنده ابن لبون، فإنه يقبل منه، وليس معه شيءٌ" وهذا الحكم متفق عليه، فلو لم يجد واحدًا منهما، فله أن يشتري أيهما شاء على الأصح عند الشافعية، وقيل: يتعين شراء بنت مخاض، وهو قول مالك وأحمد. وقوله: "ويعطي معها عشرين درهمًا أو شاتين" هو قول الشافعيّ وأحمد وأصحاب الحديث. وعن الثَّوريّ عشرة، وهي رواية عن إسحاق، وعن مالك: يلزم رب المال بشراء ذلك السن بغير جُبران. قال الخطابيّ: يشبه أن يكون الشارع جعل الشاتين أو العشرين درهمًا تقديرًا في الجُبران لئلا يَكِل الأمر إلى اجتهاد الساعي، لأنه يأخذها على المياه، حيث لا حاكم ولا مُقَوِّم غالبًا، فضبطه بشيء يرفع التنازع، كالصاع في المُصَرَّاة والغُرة في الجنين، وبين هاتين الجملتين قوله: "وفي صدقة الغنم" وسيأتي التنبيه على ما حذفه منه أيضًا في موضع آخر قريبًا. وقوله: "في سائمتها" أي: راعيتها، وهذا دليل على أن لا زكاة في المعلوفة، وهذا قول أبي حنيفة والشافعيّ وأحمد والليث وأبي ثور. وقال الحنفية: لا زكاة في العوامل والمعلوفة، وعند مالك وقتادة ومحكول: تجب الزكاة في المعلوفة والنواضح بالعمومات. استدل الأولون بكتاب الصديق هذا، وما شابهه، وجعل مالك ومَنْ معه التعبير بالسوم من باب التعبير بالغالب، على حد قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} فلا مفهوم له. والسائمة عند أبي حنيفة وأحمد هي التي تكتفي بالرعي في أكثر الحول؛ لأن اسم السوم لا يزول عنها بالعلف اليسير، ولأن العلف اليسير لا يمكن التحرز منه، ولأن الضرورة تدعو إليه في بعض الأحيان، لعدم الشرعي فيه، واعتبر الشافعي في جميع الحول، ولو علفت قدرًا تعيش بدونه بلا ضرر بَيِّن، وجبت الزكاة. وقوله: "إذا كانت أربعين ... إلخ" في رواية الكشميهنيّ: "إذا بلغت" وقد أجمع العلماء على أن لا شيء في أقل من الأربعين من الغنم. وقوله: "فإذا زادت على عشرين ومئة، في كتاب عمر "فإذا كانت إحدى وعشرين، حتى تبلغ مئتين، ففيها شاتان". وقوله: "فإذا زادت على مئتين إلى ثلاث مئة، ففيها ثلاث" مذهب مالك أنها إذا زادت على مئتين بشاة، تجب فيها ثلاث شياه، تقديمًا لحق الفقراء عند وجود أول جزء من المئة الثالثة. وقوله: "فإذا زادت على ثلاث مئة، ففي كل مئة شاة" مقتضاه أنه لا تجب الشاة الرابعة حتى تتم أربع مئة، وهو قول الجمهور. قالوا: وفائدة ذكر الثلاث مئة لبيان النصاب الذي بعده، لكون

ما قبله مختلفًا، وعن بعض الكوفيين، كالحسن بن صالح، ورواته عن أحمد إذا زادت على الثلاث مئة واحدةً وجبت الأربع. وقوله: "ففي كل مئة شاة شاة"، وقوله: "فإذا كانت سائمة الرجل" اقتطع البخاري من بين هاتين الجملتين. قوله: "ولا يخرج في الصدقة هَرِمة" إلى آخر ما ذكره في الباب الذي يليه، واقتطع منه أيضًا. قوله: "ولا يجمع بين مفترق" إلى آخر ما ذكره في بابه، وكذا قوله: "وما كان من خليطين" إلى آخر ما ذكره في بابه. ويلي هذا قوله هنا: "فإذا كانت سائمة الرجل ... إلخ". وهذا حديث واحد يشتمل على هذه الأحكام التي فرقها المصنف في هذه الأبواب غَيْرَ مراعٍ الترتيبَ فيها، بل بحسب ما ظهر له من مناسبة إيراد التراجم المذكور. وقوله: "وفي الرِّقَةِ" بكسر الراء وتخفيف القاف، الفضة الخالصة، سواء كانت مضروبة أو غير مضروبة. قيل: أصلها الوَرِق فحذفت الواو وعوضت الهاء، وقيل: يطلق على الذهب والفضة بخلاف الوَرِق، فعلى هذا فقيل إن الأصل في زكاة النقدين نصابُ الفضة، فإذا بلغ الذهب ما قيمته مئتا درهم فضة خالصة، وجبت فيه الزكاة، وهو ربع العشر، وهذا قول الزُّهريّ. وخالفه الجمهور. وقوله: "فإن لم تكن إلا تسعين ومئة" أي: إن لم تكن الفضة، وهذا يوهم أنها إذا زادت على التسعين ومئة، قبل بلوغ المئتين، أن فيها صدقة، وليس كذلك، وإنما ذكر التسعين لأنه آخر عقد قبل المئة، والحساب إذا جاوز الآحاد كان تركيبه بالعقود، كالعشرات والمِئتين والألوف، فذكر التسعين ليدل على أن لا صدقة فيما نقص عن المئتين. ويدل عليه قوله الماضي "ليس فيما دون خمس أواقٍ صدقة، إلا أن يشاء ربها" أي: في المواضع الثلاثة، أي: إلا أن يتبرع متطوعًا. رجاله رجال الذي قبله. ثم قال المصنف:

باب لا يؤخذ في الصدقة هرمة ولا ذات عوار ولا تيس إلا ما شاء المصدق

باب لا يؤخذ في الصدقة هرمة ولا ذات عوار ولا تيس إلا ما شاء المصدق اختلف في ضبطه، فالأكثر على أنه بالتشديد، والمراد المالك، وهو اختيار أبي عبيد، وتقدير الحديث لا تؤخذ هَرِمة ولا ذات عيب أصلًا، ولا يؤخذ التيس، وهو فحل الغنم إلا برضا المالك، لكونه يحتاج إليه، فَفي أخذه بغير اختياره إضرار به، وعلى هذا فالاستثناء مختص بالثالث. ومنهم مَنْ ضبطه بتخفيف الصاد، وهو الساعي، وكأنه يشير بذلك إلى التفويض إليه في اجتهاده، لكونه يجري مجرى الوكيل، فلا يتصرف بغير المصلحة، فيتغير بما تقتضيه القواعد، هذا قول الشافعي في البُويْطِيّ. ولفظه: "ولا تؤخذ ذات عُوار ولا تَيس ولا هَرِمة إلا أن يرى المُصَّدِّق أن ذلك أفضل للمساكين، فيأخذه على النظر" وهذا أشبه بقاعدة الشافعيّ في تناول الاستثناء جميع ما ذكر قبله، وكذلك مذهب مالك: للساعي أخذ المعيبة دون الصغيرة، فلو كانت الغنم كلها معيبة مثلًا، أو تيوسًا، أجزأه أن يخرج منها. وعن المالكية يلزم المالك أن يشتري شاة مجزئة تمسكًا بظاهر هذا الحديث، وفي رواية أخرى عندهم كالأول. الحديث الستون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي ثُمَامَةُ أَنَّ أَنَسًا رضي الله عنه حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه كَتَبَ لَهُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ -صلى الله عليه وسلم- وَلاَ يُخْرَجُ فِي الصَّدَقَةِ هَرِمَةٌ، وَلاَ ذَاتُ عَوَارٍ، وَلاَ تَيْسٌ، إِلاَّ مَا شَاءَ الْمُصَدِّقُ. قوله: "هَرمَة" بفتح الهاء وكسر الراء، الكبيرة التي سقطت أسنانها. وقوله: "ذات عُوار" بفتح العين المهملة وبضمها، أي معيبة، وقيل بالفتح العيب، وبالضم العَوَر، واختلف في ضبطها، فالأكثر على أنه ما يثبت به الرد في البيع، وقيل: ما يمنع الإجزاء في الأُضحية، ويدخل في المعيب المريض والذكورة بالنسبة إلى الأنوثة، والصغير سنًا بالنسبة إلى سن أكبر منه، ومذهب الحنفية أنه ليس في الفُصلان والعَجاجيل والحِملان صَدَقة، وهذا آخر أقوال أبي حنيفة. وبه قال محمد بن الحسن والثَّوري والشَّعبيّ. وكان يقول فيها: أولًا يجب فيها ما يجب في الكبار من الجَذَع والثَّنِيَّة، وبه قال مالك وزُفَر وأبو عبيد والثَّورِيّ وأبو بكر من الحنابلة، وفي المغني في الصحيح ثم رجع، وقال: تجب واحدة منها، وبه قال الأوزاعي وإسحاق والشافعيّ في الجديد، وصححوه، ثم رجع إلى ما ذكرناه آنفًا، وفي شرح المهذب للنوويَّ: إذا كانت الماشية صغارًا أو واحدة منها في سن

الفرض، يجب سن الفرض المنصوص عليه عند الشافعي، وهو قول مالك وأحمد، فإنْ هلكت المسنة بعد الحول، لا يؤخذ منها شيء في قول أبي حنيفة ومحمد، وتجعل تبعًا لها في الوجوب والهلاك، فإذا هلكت بغير صنع أحد، تُجعل كأنها هلكت مع الصغار، وعند أبي يوسف: تجب بتسعة وثلاثون جزأ من أربعين جزأ من حمل هو أفضلها، ويسقط فضل المسنة كأنَّ الكل كان حِملانًا وهلك منها حمل، وعند زُفَر يجب مثلها من ثَنِيّة وَسَط، وإن هلكت الصغار وبقيت المسنة، يجب فيها جزء من شاة وسطٍ اتفاقًا. رجاله رجال الذي قبله. ثم قال المصنف:

باب أخذ العناق

باب أخذ العناق بفتح المهملة وتخفيف النون، ولد المعز الأُنثى إذا أتى عليه أربعة أشهر، وفُصل عن أُمه، وقوي على الرعي، فإن كان ذكرًا فهو جَديٌ. واختلف في الجَذَع من المعز، فقيل ابن سنة، وقيل: ودخل في الثانية واختلف في الثَّنِيّ، فقيل: إذا سقط سن واحدة أو اثنتين أو ثناياه كلها، فهو ثَنِيّ، وقيل: لا يكون ثنيًا إلا بسقوط ثنتين، وأما الجذع من الضأن ففيه أربعة أقوال: عند المالكية ابن سنة، ابن ستة أشهر، ابن ثمانية، ابن عشرة، والأصح عند الشافعية ما استكمل سنة ودخل في الثانية. وكأنّ البخاريّ أشار بهذه الترجمة بعد الترجمة السابقة إلى جواز أخذ الصغيرة من الغنم في الصدقة، لأن الصغيرة لا عيب فيها سوى صغر السن، فهي أولى أن تُؤخذ من الهَرِمة، إذا رأى الساعي ذلك، وهذا هو السر في اختيار لفظ الأخذ في الترجمة دون الإعطاء، وخالف في ذلك المالكية كما مرّ، فقالوا: لا تجزىء الصغيرة، وقالوا: المعنى كانوا يؤدون عنها ما يلزم أداؤه. الحديث الحادي والستون حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ ح وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا. قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: فَمَا هُوَ إِلاَّ أَنْ رَأَيْتُ أَنَّ اللَّهَ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه بِالْقِتَالِ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ. ذكر هنا طرفًا من قصة عمر مع أبي بكر في قتال مانعي الزكاة، المتقدمة في أول الزكاة بتمامها، المار استيفاء الكلام عليها هناك، والغرض منه هنا قوله: "لو منعوني عَنَاقًا" فإنه يدل على أنها مأخوذة في الصدقة، وهذا هو مذهب البخاريّ، وقد مرَّ الكلام على هذا في الذي قبله. رجاله ثمانية: وفيه ذى عمر، وقد مرّ الجميع، مرَّ أبو اليمان وشُعيب في السابع من بدء الوحي، وابن شهاب في الثالث منه، وعُبَيدَ الله المسعودي في السادس منه، والليث في الثالث منه، ومرّ عمر في الأول منه، ومرَّ أبو بكر في باب "مَنْ لم يتوضأ من لحم الشاة" بعد الحادي والسبعين من الوضوء، ومرَّ أبو هريرة في الثاني من الإيمان، ومرَّ عبد الرحمن بن خالد في السابع والخمسين من العلم. ثم قال المصنف:

باب لا تؤخذ كرائم أموال الناس في الصدقة

باب لا تؤخذ كرائم أموال الناس في الصدقة هذه الترجمة مقيِّدة لمطلق الحديث؛ لأن فيه "وَتُوَقَّ كرائم أموال الناس بغير تقييد بالصدقة، وأموال الناس ليستوي التوقي لها بين الكرائم وغيرها، فقيدها في الترجمة بالصدقة، وهو بيِّن من سياق الحديث، لأنه ورد في شأن الصدقة. والكرام جمع كريمة، يقال: ناقةكريمة، أي غزيرة اللبن، والمراد نفائس الأموال من أي صنف كان. وقيل له نَفْس لأن نَفْس صاحبه تتعلق به، وأصل الكريمة كثيرة الخير، وقيل للمال النفيس كريمٌ لكثرة منفعته. الحديث الثاني والستون حَدَّثَنَا أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِيٍّ عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا رضي الله عنه عَلَى الْيَمَنِ قَالَ: "إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ اللَّهِ، فَإِذَا عَرَفُوا اللَّهَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ، فَإِذَا فَعَلُوا، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهُمْ زَكَاةً مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِذَا أَطَاعُوا بِهَا فَخُذْ مِنْهُمْ، وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ". هذا الحديث قد مرّ الكلام عليه مستوفى عند ذكره في أول كتاب الزكاة. رجاله سبعة: وفيه ذكر معاذ، مرّ منهم يزيد بن زريع في السادس والتسعين من الوضوء ومرّ رُوْح بن القاسم في الثاني والثمانين منه، ومرّ يحيى بن عبد الله في الأول من كتاب الزكاة هذا، ومرّ أبو معبد في الثامن والمئة من صفة الصلاة، وابن عباس في الخامس من بدء الوحي، ومعاذ بن جبل في أثر أول الإيمان قبل ذكر حديث منه. والباقي اثنان، الأول: أُمية بن بَسِطام، بكسر الباء وبفتحها، بن المنتشر العيشيّ، أبو بكر البصريّ، ابن عم يزيد بن زريع، ذكره ابن حِبّان في الثقات. وقال أبو حاتم: محله الصدق، ومحمد بن المنهال أحب إلى منه. روى عن يزيد بن زريع وابن عيينة ومعتمر بن سليمان وغيرهم. وروى عنه الشيخان، وروى النَّسائيّ عنه بواسطة عثمان بن خُرَّزاذ وغيرهم. مات سنة إحدى وثلاثين ومئتين.

والثاني: إسماعيل بن أُمية بن عمرو بن سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أُمية بن عبد شمس الأمويّ، ابن عم أيوب بن موسى، قال ابن عُيينة: لم يكن عندنا قرشيان مثل إسماعيل بن أُمية وأيوب بن موسى. وقال أحمد: إسماعيل أكبر من موسى، وأحب إليّ. وفي رواية "أقوى وأثبتْ" وقال ابن معين والنَّسائيّ وأبو زرعة وأبو حاتم: ثقة، زاد أبو حاتم: رجل صالح، وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث. وقال العجليّ: مكي ثقة. وقال ابن عُيينة: كان إسماعيل حافظًا للعلم مع ورع وصدق، وقال الزبير بن بَكّار: كان فقيهَ أهل مكة. روى عن ابن المُسَيّب، ونافع مولى ابن عمر، وعكرمة مولى ابن عباس وغيرهم. وروى عنه ابن جُريج والثَّورِيّ وروح بن القاسم وغيرهم. مات في حبس داود سنة تسع وثلاثين ومئة. ثم قال المصنف:

باب ليس فيما دون خمس ذود صدقة

باب ليس فيما دون خمس ذود صدقة قال الزين بن المنير: هذه الترجمة تتعلق بزكاة الإبل، وإنما اقتطعها من ثَمَّ لأن الترجمة المتقدمة مسوقة للإيجاب، وهذه للنفي، فلذلك فصل بينهما بزكاة الغنم وتوابعها، كذا قال. ولا يخفى تكلفه، والذي يظهر أن لها تعلقًا بالغنم التي تعطى في الزكاة، من جهة أن الواجب في الخمس شاة، وتعلقها بزكاة الإبل ظاهر، فلها تعلق بهما كالتي قبلها. الحديث الثالث والستون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ الْمَازِنِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنَ التَّمْرِ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ مِنَ الإِبِلِ صَدَقَةٌ". قوله: "عن أبيه" كذا رواه مالك، ورواه إسحاق بن راهويه في مسنده عن محمد هذا عن عمرو بن يحيى وعباد بن تميم، كلاهما عن أبي سعيد، ونقل البيهقي عن محمد بن يحيى الذهليّ أن محمدًا سمعه من ثلاثة أنفس، وأن الطريقين محفوظان، وهذا الحديث قد مرَّ استيفاء الكلام عليه في باب "ما أدى زكاته فليس بكنز". رجاله خمسة: قد مرّوا إلا محمدًا، مرّ عبد الله بن يوسف ومالك في الثاني من بدء الوحي، ومرّ عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة وأبو سعيد الخُدْريّ في الثاني عشر من الإيمان. والباقي محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة أبو عبد الرحمن الأنصاريّ. قال ابن إسحاق: كان ثقة، وذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث. وقال مالك: كان لآل أبي صعصعة حَلَقةٌ في المسجد، وكانوا أهل علم ودراية، وكلهم كان يفتي. روى عن أبيه ويحيى بن عمارة وغيرهم. وروى عنه مالك وابن إسحاق. مات سنة تسع وثلاثين ومئة. ثم قال المصنف:

باب زكاة البقر

باب زكاة البقر البقر اسم جنس للمذكر والمؤنث، اشتق من بقرتُ الشيء إذا شققته، لأنها تبقر الأرض بالحراثة. قال الزين بن المنير: أُخر زكاة البقر لأنها أقل النعم وجودًا ونُصُبًا، ولم يذكر في الباب شيئًا مما يتعلق بنصابها، لأن ذلك لم يقع على شرطه، فتقدير الترجمة إيجاب زكاة البقر، لأن جملة ما ذكره في الباب يدل على ذلك من جهة الوعيد على تركها، إذ لا يتوعد على ترك غير الواجب. قال ابن رشيد: هذا الدليل يحتاج إلى مقدمة، وهو أنه ليس في البقر حق واجب سوى الزكاة، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في أوائل الزكاة، حيث قال: باب "إثم مانع الزكاة"، وذكر فيه حديث أبي هريرة، لكن ليس فيه ذكر البقر، ومن ثَمَّ أورد في هذا الباب حديث أبي ذَرٍّ، وأشار إلى أن ذكر البقر وقع أيضًا في طريق أخرى عن أبي هريرة. وزعم ابن بطال أن حديث معاذ المرفوع "أن في كل ثلاثين بقرة تبيعًا، وفي كل أربعين مُسِنّة" متصل صحيح، وأن مثله في كتاب الصدقات لأبي بكر وعمر، وفي كلامه نظر، أما حديث معاذ فأخرجه أصحاب السنن. وقال التِّرمذيّ: حسن. وأخرجه الحاكم في المستدرك. وفي الحكم بصحته نظر، لأن مسروقًا لم يلق معاذًا، وإنما حَسَّنة التِّرمِذِيّ لشواهده، ففي الموطأ عن طاووس عن معاذ نحوه. وطاووس عن معاذ منقطع أيضًا، وفي الباب عن عليّ عند أبي داود. وأما قوله: "إن مثله في كتاب الصدقة لأبي بكر" فوهم منه، لأن ذكر البقر لم يقع في شيء من طريق حديث أبي بكر، نعم هو في كتاب عمر. ثم قال: وقال أبو حميد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لأعْرِفَنَّ ما جَاءَ اللهَ رَجُلٌ ببَقَرَةٍ لَهَا خُوَارٌ. ويقال جُؤار، تجأرون: ترفعون أصواتكم، كما تجأر البقرة". قوله: "لأعرفنَّ" أي: لأعرفنكم غدًا هذه الحالة، وفي رواية الكشميهنيّ: لا أعرفن، بحرف النفي، أي: ما ينبغي أن تكونوا على هذه الحالة فأعرفكم بها. وقوله: ما جاء الله رجل، ما مصدرية، أي: مجيء رجل إلى الله. وقوله: "لها خُوار" بضم المعجمة وتخفيف الواو: صوت البقر. وقوله: "ويقال جُؤار" هذا كلام البخاري، يريد بذلك أن هذا الحرف جاء بالخاء المعجمة وتخفيف الواو، وبالجيم والواو المهموزة، ثم فسره فقال: تجأرون: ترفعون أصواتكم. وهذه عادة البخاري إذا مرّت به لفظ غريبة توافق كلمة في القرآن، نقل تفسير تلك الكلمة التي من القرآن، والتفسير المذكور رواه ابن أبي حاتم عن السّدّي، وروى من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن

الحديث الرابع والستون

عباس في قوله يجأرون قال: يستغيثون، وقال القَزّاز: الخُوار بالمعجمة، والجؤار بالجيم، بمعنى واحد في البقر. وقال ابن سيده: خار الرجل رفع صوته بتضرع. وهذا التعليق قطعة من حديث ابن اللّتْبِيَّة أخرجه مسندًا موصولًا من طرق، وهذا القدر وقع عنده موصولًا في كتاب "ترك الحيل" وأبو حميد مرّ في تعليق أول أبواب استقبال القبلة. الحديث الرابع والستون حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ أَوْ وَالَّذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ، أَوْ كَمَا حَلَفَ مَا مِنْ رَجُلٍ تَكُونُ لَهُ إِبِلٌ أَوْ بَقَرٌ أَوْ غَنَمٌ لاَ يُؤَدِّي حَقَّهَا إِلاَّ أُتِيَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْظَمَ مَا تَكُونُ وَأَسْمَنَهُ، تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا، وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا، كُلَّمَا جَازَتْ أُخْرَاهَا رُدَّتْ عَلَيْهِ أُولاَهَا، حَتَّى يُقْضَي بَيْنَ النَّاسِ". قوله: "انتهيت إليه" هو مقول المعرور، والضمير يعود على أبي ذَرٍّ، وهو الحالف، وقوله: "أو كما حلف" يشير بذلك إِلى أَنه لم يضبط اللفظ الذي حلف به. وقال العيني: إن قوله انتهيت إِليه مقولُ أبي ذَرٍّ لا مقول معرور، وإن الحالف هو النبي -صلى الله عليه وسلم-، واعتمد في ذلك ما في رواية مسلم والترمذيّ من تصريح أبي ذَرٍّ بقوله: جئت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو جالس في ظل الكعبة، فلما رآني مقبلًا قال: هم الأخسرون، وربّ الكعبة، يوم القيامة. وفيه ثم قال: والذي نفسي بيده لا يموت رجل فيدع إبلًا أو بقرًا لم يُؤدِ زكاَتها ... إلخ. وقوله: "أعظمَ" بالنصب على الحال، وأسمنه، عطف عليه. وقوله: "جازت" أي: مرت وردت، أي: أُعيدت. وقوله: "لا يؤدي حقها" في رواية مسلم "لا يؤدي زكاتها". وهو أصرح في مقصود الترجمة، واستدل بقوله: "تكون له إبل أو بقر على استواء زكاة الإبل والبقر في النصاب" ولا دلالة فيه، لأنه قَرَن معه الغنم، وليس نصابها مثل نصاب الإبل اتفاقًا. وقد مرّ الكلام مستوفى على بقية المتن في أوائل الزكاة في باب "إثم مانع الزكاة". وأخرج مسلم في أول هذا الحديث قصة فيها "هم الأكثرون أموالًا إلا من قال هكذا وهكذا"، وقد أفرد البخاريّ هذه القطعة، فأخرجها في كتاب الإيمان والنذور بهذا الإسناد، ولم يذكر هناك القدر الذي ذكره هنا. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ عمر بن حفص وأبوه حفص في الثاني عشر من الغُسل، ومرَّ الأعمش في الخامس والعشرين من الإيمان، ومرّ المعرور بن سويد، وأبو ذرٍّ في الثالث والعشرين منه.

ثم قال: رواه بكير عن أبي صالح عن أبي هُريرة، رضي الله تعالى عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، مراد البخاري بهذا موافقة هذه الرواية لحديث أبي ذَرٍّ في ذكر البقر؛ لأن الحديثين مستويان في جميع ما ورد فيه. والتعليق أخرجه مسلم مطولًا موصولًا، وبكير بن الأشجّ قد مرَّ في الخامس والسبعين من الوضوء ومرّ أبو صالح وأبو هريرة في الثاني من الإيمان. ثم قال المصنف:

باب الزكاة على الأقارب

باب الزكاة على الأقارب قال الزين بن المنير: وجه استدلاله لذلك بأحاديث الباب أن صدقة التطور لمّا لم ينقص أجرها بوقوعها موقع الصدقة والصلة معًا، كانت صدقة الواجب كذلك، لكن لا يلزم من جواز صدقة التطوع على مَنْ تلزم المرء نفقته، أن تكون الصدقة الواجبةكذلك، واعترضه الإسماعيليّ بأن الذي في الأحاديث التي ذكرها مطلق الصدقة لا الصدقة الواجبة، فلا يتم استدلاله، إلا إن أراد الاستدلال على أن الأقارب في الزكاة أحق بها، إذ رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- صرفَ الصدقة المتطوع بها إلى الأقارب أفضل، فذلك حينئذ له وجه. وقال ابن رشيد: قد يؤخذ ما اختاره المصنف من حديث أبي طلحة فيما فهمه من الآية، وذلك أن النفقة في قوله: {حَتَّى تُنْفِقُوا} أعم من أن يكون واجبًا أو مندوبًا، فعمل بها أبو طلحة في فرد من أفراده، فيجوز أن يعمل بها في بقية مفرداته، ولا يعارضها قولُه تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} الآية، لأنها تدل على حصر الصدقة الواجبة في المذكورين، وأما صنيع أبي طلحة فيدل على تقديم ذوي القربى إذا اتصفوا من صفات أهل الصدقة على غيرهم، وسيأتي قريبًا تحرير من تدفع له الصدقة الواجبة من الأقارب. ثم قال: وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "له أجران، أجر القرابة وأجر الصدقة" هذا طرف من حديث فيه قصة لامرأة ابن مسعود يأتي موصولًا بعد ثلاثة أبواب. وقوله: "له أجر القرابة" أي: صلة الرحم، وأجر منفعة الصدقة، واستدل بهذا الحديث على جواز دفع المرأة زكاتها إلى زوجها، وهو قول الشافعي والثَّوريّ وصاحبي أبي حنيفة، وإحدى الروايتين عن مالك، وعن أحمد كذا أطلق بعضهم، ورواية المنع عنه مقيدة بالوارث. وعبارة الجوزقيّ: "ولا لمن تلزمه" مؤنثهُ، قال ابن قُدامة: والأظهر الجواز مطلقًا إلا للأبوين والولد. وحملوا الصدقة في الحديث على الواجبة، لقولها: "أتجزىء عني؟ " وبه جزم المازري، وتعقبه عياض بأنّ قوله في الحديث الآتي: "ولو من حُلِيّكن" وكون صدقتها كانت من صناعتها، يدلان على التطوع، وبه جزم النّوويّ. وتأولوا تجزىء عني أي في الوقاية من النار، كأنها خافت أن صدقتها على زوجها لا تحصل لها المقصود. وذهب الحسن البصريّ والثَّوريّ وأبو حنيفة ومالك وأحمد في رواية عنهما، وأبو بكر من الحنابلة إلى أنه لا يجوز للمرأة أن تعطي زوجها من زكاة مالها، والاحتجاج بالحلي إنما يكون حجة عند مَنْ لا يوجب فيه الزكاة، وأما مَنْ يوجب فلا، ويأتي الكلام عليه عند حديث أبي سعيد، واحتج

الطحاويّ لقول أبي حنيفة ومن وافقه، بما أخرجه عن رائِطة امرأةِ ابن مسعود، أنها كانت امرأة صنعاء اليدين، فكانت تنفق عليه وعلى ولده. قال: فهذا يدل على أنها صدقة تطوع. وتمسك الطحاويّ أيضًا بقولها في حديث أبي سعيد الآتي: "وكان عندي حلي لي فأردت أن أتصدق به" لا العلي ولو قيل بوجوب الزكاة فيه إلا أنها لا تجب في جميعه، كذا قال. وهو متعقب لأنها، وإن لم تجب في عينه، فقد تجب فيه. بمعنى أنه قدر النصاب الذي وجب عليها إخراجه. واحتج المانعون أيضًا بأن قوله في حديث أبي سعيد الآتي: "زوجك وولدك أحق من تصدقتِ به عليهم" دال على أنها صدقة تطوع، لأن الولد لا يعطى من الزكاة بالإجماع، كما نقله ابن المنذر وغيره، وفي هذا الاحتجاج نظر، لأن الذي يمتنع إعطاؤه من الصدقة الواجبة من تلزم المعطي نفقتُه، والأم لا تلزمها نفقة ولدها مع وجود أبيه، لكن عند الحنفية تلزم الأم نفقة ولدها إذا كان أبوه فقيرًا عاجزًا عن التكسب جدًا. وقالوا: إن الأب إذا كان فقيرًا كسوبًا، وله ابن زَمِنٌ، وله أم موسرة، هل تؤمر بالإنفاق على الابن؟ اختلف الأشياخ فيه، وقال ابن التيميّ: قوله: "وولدك" محمول على الإضافة للتربية لا للولادة، فكأنه ولده من غيرها. وقال ابن المنير: اعتل من منع إعطاءها زكاتها لزوجها، بأنها تعود عليها في النفقة، فكأنها ما خرجت عنها، وجوابه أن احتمال رجوع الصدقة إليها واقع في التطوع أيضًا، ومحل الخلاف عند المالكية في جواز إعطائها لزوجها، ومنع عطائه هو لها زكاته، ما لم يكن إعطاء أحدهما الآخر ليدفعه في دَينه أو ينفعه على غيره، وإلا جاز قطعًا، ويؤيد المذهب الأول الذي هو الجواز أن ترك الاستفصال ينزل منزلة العموم، فلما ذكرت الصدقة، ولم يستفصلها عن تطوع ولا واجب، فكأنه قال: تجزىء عنك فرضًا أو تطوعًا. وأما ولدها فليس في الحديث تصريح بأنها تعطي ولدها من زكاتها، بل معناه أنها إذا أعطت زوجها، فأنفقه على ولدها، كانوا أحق من الأجانب، فالإِجزاء يقع بالإِعطاء للزوج، والوصول إلى الولد بعد بلوغ الزكاة محلها، والذي يظهر أنهما قضيتان: إحداهما في سؤالها عن تصدقها بحليها على زوجها وولده، والثانية في سؤالها عن النفقة. وفي الحديث الحث في الصدقة على الأقارب، وهو محمول في الواجبة على مَنْ لا تلزمه نفقته منهم، واختلف في علة المنع، فقيل: لأن أخذهم لها يصورهم أغنياء، فتسقط بذلك نفقتهم عن المعطي أو لأنهم أغنياء بإنفاقه عليهم، والصدقة، أي الزكاة، لا تصرف لغنيّ، وعن الحسن وطاووس لا يعطى قرابته من الزكاة، وهو قول أشهب، وروى ابن المنذر عن مالك أنه كره أن يخص قرابته بزكاته، وإن لم تلزمه نفقتهم. وعند الشافعيّ يجوز أن يأخذها الولد بشوط أن يكون غارمًا أو غازيًا، فيكون أخذه لها من سهم الفقراء، لأنه حينئذ كالأجنبي، وقال ابن التين: يجوز دفع الصدقة الواجبة إلى الولد بشوطين: أحدهما أن يتولى غيره من صرفها إليه. الثاني أن لا يكون في عياله، فإن كان في عياله، وقصد إعطاءه، فروى مطرق عن مالك: لا ينبغي أن يفعل ذلك، فإنْ فعله ففد

الحديث الخامس والستون

أساء، ولا يضمن إنْ لم يقطع عن نفسه إنفاقه عليه، فإن قطع الإنفاق عن نفسه بذلك لم يُجْزِه. وقال ابن المنذر: أجمعوا على أن الرجل لا يعطي زوجته من الزكاة؛ لأن نففتها واجبة عليه، فتستغني بها عن الزكاة. الحديث الخامس والستون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه يَقُولُ: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالاً مِنْ نَخْلٍ، وَكَانَ أَحَبَّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ قَالَ أَنَسٌ: فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "بَخْ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ". فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ. قوله: "أكثر الأنصار" في رواية الكشميهنيّ أكثر أنصاري، أي: أكثر كل واحد من الأنصار، والإضافة إلى المفرد النكرة عند إرادة التفضيل سائغٌ، وقوله: "مالًا من نخل، وكان أحب أمواله إليه بَيْرَحاء" وهي بفتح الموحدة وسكون التحتانية وفتح الراء وبالمهملة والمد، وجاء في ضبطه أوجه كثيرة، جمعها ابن الأثير في النهاية فقال: يروى بفتح الباء وبكسرها، وبفتح الراء وضمها، وبالمد والقصر، فهذه ثمان لغات، وفي رواية حمّاد بن سَلَمة بَريحاء، بفتح أوله وكسر الراء وتقديمها على التحتانية، وفي سنن أبي داود بأريحاء مثله، لكن بزيادة ألف. وقال الباجيّ: أفصحها بفتح الموحدة وسكون الياء وفتح الراء مقصور، وكذا جزم به الصَّغَاني، ورجح صاحب الفائق رواية بَرِيحاء، وقال: هي وزن فَعيِلاء من البرَاح، وهي الأرض الظاهرة المنكشفة. وروي عن أبي ذَرٍّ الهَرويّ أنه جزم بأنها مركبة من كلمتين؛ بير كلمة، وحاء كلمة، ثم صارت كلمة واحدة. واختلف في حاء هل هو اسم رجل أو امرأة أو مكان أُضيفت إليه البعير، أو هي كلمة زَجْر للإبل؟ وكأنَّ الإبل كانت ترعى هناك وتزجر بهذه اللفظة، فأضيفت البعير إلى اللفظة المذكورة. قال الصَّغَانيَّ: ومن ذكره بكسر الموحدة، وظن أنها بير من آبار المدينة، فقد صحف، ووهم من ضبطه بكسر الموحدة وفتح الهمزة، فإن أَريحاء من الأرض المقدسة، وتحتمل إن كان محفوظًا أن تكون سميت باسمها. قال عياض: رواية المغاربة إعراب الراء والقصر في حاء. وخطَّأ هذا

الصُّورِيُّ. وقال الباجيّ: أدركت أهل العلم، ومنهم أبو ذَرٍّ بفتحون الراء في كل حال. زاد الصُّوريّ: وكذلك الباء أوله. وقوله: "وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدخلها" زاد في رواية عبد العزيز "ويستظل بها". وقوله: "لما نزلت {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} " قام أبو طلحة. زاد ابن عبد البر: "ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المنبر". قال: وكانت دار أبي جعفر والدار التي تليها إلى قصر بني حُدَيلة حوائطَ لأبي طلحة، وكان قصر بني حُديلة حائطًا له يقال له بَيْرَحاء، فذكر الحديث. ومراده بدار أبي جعفر التي صارت إليه بعد ذلك، وعرفت به، وهو أبو جعفر المنصور، المشهور، الخليفة العباسيّ، وأما قصر بني حُديلة، وهو بالمهملة مصغر، ووهم من قاله بالجيم، فنسب إليهم القصر بسبب المجاورة، وإلا فالذي بناه هو معاوية بن أبي سفيان. وبنو حُدَيلة بطن من الأنصار، وهم بنو معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار، وكانوا بتلك البقعة، فعرفت بهم، فلما اشترى معاوية حصة حسَّان، كما يأتي، بني فيها هذا القصر، فعرف بقصر بني حُديلة. وبَنَى معاوية القصر المذكور ليكون له حِصناً، لما كانوا يتحدثون به بينهم لما يقع لبني أمية من قيام أهل المدينة عليهم. قال أبو غسان المدنيّ: وكان لذلك القصر بابان، أحدهما شارع على خط بني حُديلة، والآخر في الزاوية الشرقية. وكان الذي ولي بناءَه لمعاوية الطُّفيلُ بن أُبيّ بن كعب، وأغرب الكرمانيّ فزعم أن الذي بنى القصر المذكور معاويةُ بن عمرو بن مالك بن النجار، أحد أجداد أبي طلحة، وما ذكرته عمن صنف في أخبار المدينة كعمرو بن شَبّة وغيره، يرد عليه، وهم أعلم بذلك من غيرهم. وقوله: "بَخْ" بفتح الموحدة وسكون المعجمة، وقد تنون، مع التثقيل والتخفيف، بالكسر والرفع، ولو كررت فالاختيار أن تنون الأُولى وتسكن الثانية، وقد يسكنان جميعًا كما قال الشاعر: بخٍ بخْ لوالده وللمولود ومعناها تفخيم الأمر والإعجاب به. وقوله: "ذلك مال رابح" وفي رواية يحيى الآتية: رايح، بالتحتانية. والرواية الأولى واضحة من الربح، أي ذو ربح، وقيل هو فاعل بمعنى مفعول، أي: مال مربوح به، وأما الثانية فمعناها رائح عليه أجره. وقال ابن بطال: المعنى أن مسافته قريبة، وذلك أنفس الأموال، وقيل: معناه يروح بالأجر ويغدو به، واكتفى بالرواح عن الغدو، وادعى الإسماعيليّ أن من رواها بالتحتانية فقد صحف، وقول أفعل بضم اللام، على أنه قول أبي طلحة، وقوله: "فقسمها أبو طلحة" فيه تعيين أحد الاحتمالين في غير هذه الرواية، حيث وقع فيه "أفعل فقسمها" فإنه احتمل الأول، واحتمل أن يكون أفعل صيغة أمر. وفاعلُ قَسَمَها النبيُ -صلى الله عليه وسلم-. وانتفى هذا الاحتمال الثاني بهذه الرواية. وذكر ابن عبد البَرّ أن إسماعيل القاضي رواه عن القعنبي عن مالك فقال في روايته: فقسمها

رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أقاربه، وبني عمه. قال: وقوله: في أقاربه، أي أقارب أبي طلحة. قال ابن عبد البر: إضافة القَسْم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإن كان سائعًا شائعًا في لسان العرب، على معنى أنه الأمر به، لكن أكثر الرواة لم يقولوا ذلك، والصواب رواية من قال: فقسمها أبو طلحة. وقوله: "في أقاربه وبني عمه" في رواية ثابت: فجعلها لحسّان وأُبَيَّ، وكذا في رواية همام عن إسحاق. وفي رواية الأنصاريّ عن أبيه عن ثُمامة، وقد تمسك به من قال: أقل مَنْ يعطى من الأقارب إذا لم يكونوا منحصرين اثنان. وفيه نظر. لأنه وقع في رواية ابن الماجشون عن إسحاق، فجعلها أبو طلحة في ذي رحمه، وكان منهم حسّان وأُبَيّ بن كَعْب، فدل على أنه أعطى غيرها معهما، وفي مرسل أبي بكر بن حزم: فرده على أقاربه: أُبَيِّ بن كعب وحسّان بن ثابت وأخيه أو ابن أخيه شداد بن أوس ونُبَيط بن جابر، فتقاوموه، فباع حسّان حصته من معاوية بمئة ألف درهم. وفي رواية عبد العزيز في الوقف "فباع حسّان حصته من معاوية، فقيل له: أتبيع صدقة أبي طلحة؟ فقال: ألا أبيع صاعًا من تمر بصاع من دراهم؟ " وهذا يدل على أن أبا طلحة ملكهم الحديقة المذكورة، ولم يقفها عليهم، إذ لو وقفها عليهم ما ساغ لحسّان أنْ يبيعها، فيعكر على مَنْ استدل بشيء من قصة أبي طلحة في مسائل الوقف، إلا فيما لا تخالف فيه الصدقة الوقف. ويحتمل أن يقال: شَرَط أبو طلحة عليهم لمّا وَقَفها عليهم أن من احتاج إلى بيع حصته منهم جاز له بيعها. وقد قال بجواز هذا الشرط على رضي الله تعالى عنه، ومالك وغيرهما. وقد اختلف العلماء في الأقارب، فقال أبو حنيفة: القرابة كل ذي رَحِم مُحَرَّم من قبل الأب أو الأم، ولكن يبدأ بقرابة الأب قبل الأم، وقال أبو يوسف ومحمد: من جمعهم أب منذ الهجرة من قبل أب أو أُم من غير تفصيل، زاد زفر: ويقدم من قرب منهم، وهي رواية عن أبي حنيفة أيضًا. وأقل من يدفع إليه ثلاثة، وعند محمد اثنان، وعند أبي يوسف واحد، ولا يصرف للأغنياء عندهم إلا أن يشترط ذلك. وقالت الشافعية والمالكية: القريب من اجتمع في النسب سواء قَرُب أو بعد، مسلمًا كان أو كافرًا، غنيًا كان أو فقيرًا، ذكرًا كان أو أُنثى، وارثًا أو غير وارث، محرمًا أو غير محرم. وقالوا: إن وجد جَمْعٌ محصورون أكثر من ثلاثة استوعبوا، وقيل: يقتصر على ثلاثة، وإن كانوا غير محصورين، ونقل الطحاويّ الاتفاق على البُطلان، وفيه نظر، لأن عند الشافعية وجهًا بالجواز، ويصرف لثلاثة منهم، ولا تشترط التسوية. وقال أحمد في القرابة مثلهما، إلا أنه أخرج الكافر. وفي رواية عنه: القرابة كل من جمعه مع الموصي الأب الرابع إلى ما هو أسفل منه. وعند المالكية يبدأ بفقرائهم حتى يغنوا، ثم يعطي الأغنياء. وفي قصة أبي طلحة أن الوقف لا يحتاج في انعقاده إلى قبول الموقوف عليه، وقيدت المالكية ذلك بأن لا يكون معينًا أهلًا للقبول

والرد، وإلا فلابد من قبوله. واستدل به على صحة الصدقة المطلقة، ثم يعينها المتصدق لمن يريد. قال ابن بطال: ذهب مالك إلى صحة الوقف، وإن لم يعين مصرفه، ووافقه أبو يوسف ومحمد والشافعيّ في قول. قال ابن القصار: وجهه أنه إذا قال: وقف أو صدقة، فإنما أراد به البر والقرابة، وأولى الناس ببره أقاربه، ولاسيما إذا كانوا فقراء، وهو كمن أوصى بثلث ماله، ولم يعين مصرفه، فإنه يصح ويصرف في الفقراء. والقول الآخر للشافعيّ إن الوقف لا يصح حتى يعين جهة مصرفه، وإلا فهو باقٍ على ملكه. وقال بعض الشافعية: إن قال: وقفته، وأطلق، فهو محل الخلاف، وإن قال: وقفته لله، خرج عن ملكه جزمًا. ودليله قصة أبي طلحة هذه. واستدل به للجمهور في أن مَنْ أوصى أن يفرق ثلث ماله حيث أرى الله الوصي صحت وصيته، ويفرقه الوصي في سبل الخير، ولا يأكل منه شيئًا ولا يعطي منه وارثًا للميت، وخالف في ذلك أبو ثور وفاقًا للحنفية في الأول دون الثاني. وفيه جواز تصدق الحي في غير مرض بأكثر من ثلث ماله، لأنه عليه الصلاة والسلام لم يستفصل أبا طلحة عن قدر ما تصدق به، وقال لسعد بن أبي وقاص: الثلث كثير، وفيه تقديم الأقرب من الأقارب على غيرهم. وفيه جواز إضافة حب المال إلى الرجل الفاضل العالم، ولا نقص عليه في ذلك. وقد أخبر الله تعالى عن الإنسان أنه لحب الخير لشديد، والخير هنا المال اتفاقًا، وفيه اتخاذ الحوائط والبساتين، ودخول أهل العلم والفضل فيها، والاستظلال بظلها، والأكل من ثمرها، والراحة والتنزه فيها. وقد يكون ذلك مستحبًا يترتب عليه الأجر، إذا قصد به إجمام النفس من تعب العبادة، وتنشيطها للطاعة. وفيه كسب العقار وإباحة الشرب من دار الصديق، ولو لم يكن حاضرًا، إذا علم طيب نفسه. وفيه إباحة استعذاب الماء، وتفضيل بعضه على بعض، وفيه التمسك بالعموم، لأن أبا طلحة فهم من قوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} تتناول ذلك بجميع أفراده، فلم يقف حتى يرد عليه البيان عن شيء بعينه، بل بدر إلى إنفاق ما يحبه، وأقره النبي -صلى الله عليه وسلم- على ذلك، واستدل به لما ذهب إليه مالك من أن الصدقة تصح بالقول من قبل القبض، فإن كانت لمعيَّن استحق المطالبة بقبضها، وإن كانت لجهة عامة خرجت عن مالك القائل، وكان للإمام صدقة في سبيل الصدقة، وكل هذا ما إذا لم يظهر مراد المتصدق، فإن ظهر اتبع. وفيه جواز تولي المتصدق قَسْم صدقته، وفيه جواز أخذ الغني من صدقة التطوع إذا حصل له بغير مسألة، واستدل به على مشروعية الحَبْس والوَقْف، خِلافًا لمن منع ذلك وأبطله، ولا حجة فيه، لاحتمال أن تكون صدقة أبي طلحة تمليكًا، وهو ظاهر سياق الماجشون عن إسحاق. وفيه زيادة الصدقة في التطوع على قدر نصاب الزكاة، لأن هذا الحائط مشهور أنّ رَبْعه يحصل للواحد

رجاله أربعة

منه أكثر من ذلك، خلافًا لمن قيدها بذلك. وفيه فضيلة لأبي طلحة، لأن الآية تضمنت الحث على الإنفاق من المحبوب، فترقى هو إلى إنفاق أحب المحبوب، فصوّب -صلى الله عليه وسلم- رأيه، وشكر عن ربه فعله، ثم أمره أن يخص بها أهله، وكنى عن رضاه بذلك بقوله: "بخ". وفيه أن الوقف يتم بقول الواقف: جعلت هذا وقفًا. وقد مرّ قريبًا تحريره. وفيه أنه لا يعتبر في القرابة من يجمعه والواقف أب معيّن لا رابع ولا غيره؛ لأن أُبَيَّاً إنما يجتمع مع أبي طلحة في الأب السادس، وأنه لا يجب تقديم القريب على القريب الأَبعد، لأن حسّانًا وأخاه أقرب إلى أبي طلحة من أُبَيَّ وَنُبَيط، ومع ذلك فقد أشرك معهما أبَيَّاً ونُبيطًا بن جابر. وفيه أنه لا يجب الاستيعاب، لأن بني حرام الذي اجتمع فيه أبو طلحة، وحسّان، كانوا بالمدينة كثيرًا، فضلًا عن عمرو بن مالك الذي يجمع أبا طلحة وأُبيًا. وفيه دلالة للمذهب الصحيح، أنه يجوز أن يقال: إن الله تعالى يقول، كما يجوز أن يقال: إن الله تعالى قال، خلافًا لما قاله مطرف بن عبد الله الشخير، إذ قال: لا يقال الله تعالى يقول، إنما يقال: قال الله، أو الله عز وجل قال، وكأنَّه ينجر إلى استئناف القول، وقول الله قديم. وكأنه ذَهَل عن قوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ}. وفيه: مشاورة أهل العلم، والفضل في كيفية وجوه الطاعات وغيرها، وفيه أن كسب العقار مباحٌ إذا كان حلالًا، ولم يكن بسبب ذل ولا صَغار، فإنَّ ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما، كره كسب أرض الخراج، ولم ير شراءها. وقال: ولا تجعل في عنقك صغارًا. رجاله أربعة: وفيه ذكر أبي طلحة، وقد مرَّ الجميع، مرّ عبد الله بن يوسف ومالك في الثاني من بدء الوحي، ومرّ إسحاق بن عبد الله في الثامن من العلم، ومرّ أنس في السادس من الإِيمان، ومرّ أبو طلحة في السادس والثلاثين من الوضوء. أخرجه البخاريّ في الوصايا وفي الوكالة والأشربة والتفسير، ومسلم في الزكاة، والنَّسَائيّ في التفسير. ثم قال: تابعه رُوح، يعني عن مالك في قوله: "رابح"، وهذه المتابعة وصلها في كتاب البيوع، وروح قد مرَّ في الثاني والثمانين من الوضوء. ثم قال: وقال يحيى بن يحيى وإسماعيل عن مالك "رائح" يعني بالتحتانية، وقد وهم صاحب المطالع فقال: رواية يحيى بن يحيى بالموحدة، وكأنَّه اشتبه عليه الأندلسيّ بالنَّيسَابوريّ، فالذي عناه هو الأندلسي، والذي عناه البخاري النيسابوريّ. قال الداني في أطرافه. رواه يحيى بن يحيى الأندلسي بالموحدة، وتابعه جماعة، ورواه يحيى بن يحيى النيسابوريّ بالمثناة، وتابعه إسماعيل وابن وهب، ورواه القعنبيّ

الحديث السادس والستون

بالشك، ورواية القعنبي وصلها البخاري في الأشربة بالشك، كما قال. أما رواية يحيى بن يحيى وصلها في الوكالة، ورواية إسماعيل وصلها أيضًا في التفسير، ويحيى قد مرّ في الرابع والأربعين من هذا الكتاب. وإسماعيل هو ابن أبي أويس، وقد مرّ في الخامس عشر من الإيمان. الحديث السادس والستون حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي زَيْدٌ عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي أَضْحًى أَوْ فِطْرٍ إِلَى الْمُصَلَّى ثُمَّ انْصَرَفَ فَوَعَظَ النَّاسَ وَأَمَرَهُمْ بِالصَّدَقَةِ فَقَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ تَصَدَّقُوا". فَمَرَّ عَلَى النِّسَاءِ فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ، فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ". فَقُلْنَ: وَبِمَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ. ثُمَّ انْصَرَفَ فَلَمَّا صَارَ إِلَى مَنْزِلِهِ جَاءَتْ زَيْنَبُ امْرَأَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ تَسْتَأْذِنُ عَلَيْهِ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: هَذِهِ زَيْنَبُ فَقَالَ: "أَيُّ الزَّيَانِبِ؟ ". فَقِيلَ: امْرَأَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ. قَالَ: "نَعَمِ ائْذَنُوا لَهَا". فَأُذِنَ لَهَا قَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّكَ أَمَرْتَ الْيَوْمَ بِالصَّدَقَةِ، وَكَانَ عِنْدِي حُلِيٌّ لِي، فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِ، فَزَعَمَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ وَوَلَدَهُ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَلَيْهِمْ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "صَدَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ، زَوْجُكِ وَوَلَدُكِ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتِ بِهِ عَلَيْهِمْ". مرّ الكلام على صدر هذا الحديث في باب "ترك الحائض الصوم" من كتاب الحيض، ومرّ هناك ذكر المحال التي ذكر فيها شيء من مباحثه. وقوله: جاءت زينب امرأة ابن مسعود تستأذن عليه، في الرواية الآتية بعدما بيّن زيادة "فوجدت امرأة من الأنصار على الباب، حاجتها مثل حاجتي، فمرّ علينا بلال ... إلخ" وقوله: "فقيل: يا رسول الله، هذه زينب" القائل هو بلال، كما هو في الحديث الآتي قريبًا. وقوله: "ائذنوا لها، فأَذِن لها، فقالت: ... إلخ" لم يبين أبو سعيد ممن سمع ذلك، فإن يكن حاضرًا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- حال المراجعة المذكورة، فهو من مسنده، وإلا فيحتمل أنْ يكون حمله عن زينب صاحبة القصة، وفي هذا الحديث قالت: يا نبي الله، إنك أمرت، وفيه قوله: "صدق زوجك" وظاهر هذا أنها شافهته وشافهها بالجواب. وفي الحديث الآتي فقلنا: سل النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذا ظاهره أنها لم تشافهه بالسؤال، ولا شافهها بالجواب، فيحتمل أن تكونا قضيتين، ويحتمل في الجمع بينهما أن يقال: تحمل هذه المراجعة على المجاز، وإنما كانت على لسان بلال.

وفي الرواية الآتية: "تصدقنَ ولو من حليكن" وقد اختلف العلماء هل تجب في الحلي زكاة أم لا؟ فقال مالك وأحمد وإسحاق والشافعيّ، في أشهر قوليه: لا تجب فيه الزكاة. وكان يفتى بهذا في العراق، وتوقف بمصر. وقال: هذا مما استخير الله فيه. وقال أبو حنيفة وأصحابه والثَّوريّ: تجب فيه الزكاة، وقال الليث: ما كان من حَلي يُلْبَس ويُعار، فلا زكاة فيه، وما كان للتحرز عن الزكاة ففيه الزكاة. وقال أنس: يزكى عامًا واحدًا لا غير، واستدل مَنْ أسقط الزكاة بما رواه مالك في الموطأ عن عائشة أنها كانت تكنى بيأت أختها يأتي في حجرها فلا تخرج من نعيتهن الزكاة ورواه جابر بن عبد الله عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ليس في الحلي زكاة" ذكره في الإِمام، وأخرج عبد الرزاق عن ابن عمر قال: لا زكاة في الحلي، وأخرج الدارقطني عن علي بن سُليمان قال: قلت لأنس: في الحلي زكاة؟ قال: لا زكاة في الحلي. وأخرج الشافعيّ والبيهقيّ عن عمرو بن دينار قال: سمعتُ ابن خالد يسأل جابر بن عبد الله عن الحلي، أفيه زكاة؟ فقال جابر: لا، وإن بلغ ألف دينار. وأخرج الدارقطني عن أسماء بنت أبي بكر أنها تحلي بناتِها الذهبَ ولا تزكيه، نحوًا من خمسين ألف. واحتج من رأى فيه الزكاة بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن امرأة أتت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومعها بنت لها، وفي يد البنت مَسْكَنان غليظتان من ذهب، فقال لها: أتعطين زكاة هذا؟ قالت: لا، قال: أَيَسُرُّك أن يُسَوِّرك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار؟ قالت: فخلعتهما، فألقيتهما إليه عليه الصلاة والسلام، وقلت: هما لله ورسوله. رواه أبو داود والنَّسائي، وقال: ولا يصح في هذا الباب شيء. واحتجوا أيضًا بما رواه عبد الله بن شداد بن الهاد أنه قال: دخلنا على عائشة قالت: دخل عليّ النبي -صلى الله عليه وسلم- فرأى في يدي فَتَخَاتٍ من وَرِق فقال: ما هذا يا عائشة؟ فقلت: صنعتهنَّ أتزينُ لك يا رسول الله. قال: أتؤدين زكاتهن؟ قلت: لا أو ما شاء الله. قال: هو حَسبك من النار. أخرجه الحاكم، وقال: هو علي شرط الشيخين، ولم يخرجاه إلى غير هذا مما احتجوا به. وقد قال التِّرمِذِيّ والنسائيّ: إن هذا الباب لا يصح فيه شيء، وفي الحديث الحث على صلة الرحم، وجواز تبرع المرأة بمالها بغير اذن زوجها، وفيه عظة النساء، وترغيب ولي الأمر في أفعال الخير للرجال والنساء، والتحديث مع النساء الأجانب عند أمْنِ الفتنة، والتخويف من المؤاخذة بالذنوب، وما يتوقع بسببها من العذاب. وفيه فُتيا العالم مع وجود من هو أعلم منه، وطلب الترقي في تحمل العلم. قال القرطبيّ: ليس إخبار بلالٍ باسم المرأتين في الرواية الآتية بعد أن استكتمناه، بإذاعة سر، ولا كشف أمانة، لوجهين: أحدهما: أنهما لم تلزماه بذلك، وإنما علم أنهما رأتا أنْ لا ضرورة تُحْوج إلى ذكرهما. ثانيهما: أنه أخبر بذلك جوابًا لسؤال النبي -صلى الله عليه وسلم-، لكون إجابته أوجب من التمسك بما أمرتاه بعرض

رجاله خمسة

الكتمان. وهذا كلّه بناء على أنه التزم لهما بذلك، ويحتمل أن تكونا سألتاه، ولا يجب اسعاف كل سائل. رجاله خمسة: قد مرّوا، وفيه ذكر زينب امرأة ابن مسعود، وذكر ابن مسعود وولده. مرَّ وسعيد بن أبي مريم في الرابع والأربعين من العلم، ومرَّ محمد بن جعفر وعياض بن عبد الله في التاسع من الحيض، ومرَّ زيد بن أسلم في الثاني والعشرين من الإيمان، ومرَّ أبو سعيد الخُدريّ في الثاني عشر منه، ومرَّ ابن مسعود في أوله قبل ذكر حديث منه. وأما زينب امرأة ابن مسعود، فقيل: اسمها رَيْطة أيضًا، وهي بنت عبد الله، وقيل: بنت معاوية، وقيل: بنت أبي معاوية، ومعاوية بن عَتاب بن الأسعد بن عامرة بن حُطَيط بن جُشَم بن ثقيف، الثقفية. قال بُسْر بن سعيد: أخبرتني زينب الثقفية، امرأة عبد الله بن مسعود، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لها: "إذا خرجت إلى العشاء الآخرة، فلا تمسي طيبًا" أخرجه ابن سعد. لها أحاديث اتفقا على حديث، وانفرد البخاريّ بحديث، ومسلم بآخر. روت عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعن زوجها عبد الله بن مسعود، وعن عمر، وروى عنها ابنها أبو عُبيدة بن عبد الله بن مسعود وبُسر بن سعيد. والقائل، في لفظ قيل: هو بلال، كما يأتي مصرحًا به، وهو قد مرَّ في التاسع والثلاثين من العلم، وولد ابن مسعود والمذكور في الحديث لم يُسَمَّ. ثم قال المصنف:

باب ليس على المسلم في فرسه صدقة

باب ليس على المسلم في فرسه صدقة وقال في الذي يليه: ليس على المسلم في عبده صدقة. الحديث السابع والستون حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ قَالَ سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي فَرَسِهِ وَغُلاَمِهِ صَدَقَةٌ. أورد حديث أبي هُريرة بلفظ الترجمتين مجموعًا من طريقين، لكن الأُولى بلفظ "غلامه" بدل "عبده". قال ابن رشيد: أراد بذلك الجنس في الفرس والعبد، لا الفرد الواحد، إذ لا خلاف في العبد المتصرف، والفرس المعد للركوب، ولا خلاف أيضًا أنها لا تؤخذ من الرقاب، وإنما قال بعض الكوفيين: يؤخذ منها بالقيمة، والخلاف في ذلك عن أبي حنيفة إذا كانت الخيل ذكرانًا وإناثًا تراد للنسل، فإذا انفردت الإناث أو الذكران، فعنه روايتان، وفي المحيط المشهور عدم الوجوب فيهما، وعنده أن المالك يتخير بين أن يخرج عن كل فرس دينارًا أو يقوَّم. ويخرج رُبع العُشر إذا بلغت قيمتها مئتي درهم. واستدل عليه بهذا الحديث. وأجيب يحمل النفي فيه على الرقبة لا على القيمة. واستدل عليه أيضًا بما أخرجه أبو داود وغيره بإسناد حسن عن عليّ رضي الله تعالى عنه مرفوعًا "عفوت عن الخيل والرقيق فهاتوا صدقة الرقة" والأحاديث الدالة على عدم الوجوب كثيرة جدًا، وتعلق أبو حنيفة بما في حديث أبي هريرة عند مسلم. وأما التي هي له ستر، فالرجل يتخذها تكرمًا وتجملًا، ولا ينسى حق ظهورها وبطونها في عُسرها ويسرها الحديث، فتعلق في إيجاب زكاة الخيل بهذا قائلًا: إن في هذا دليلًا على أن لله فيها حقًا، وهو كحقه في سائر الأموال التي تجب فيها الزكاة. وأجيب بأن المراد بالحق إعارتها وحمل المنفطعين عليها. فيكون ذلك على وجه الندب، أو يجاب بأن ذلك كان واجباً ثم نسخ، بدليل قوله: {قد عفوت عنكم صدقة الخيل} إذ العفو لا يكرن إلا عن شيء لازم. واستدَلَ بهذا الحديث مَنْ قال من أهل الظاهر بعدم وجوب الزكاة فيهما مطلقًا، ولو كانا للتجارة، وأجيب بأن زكاة التجارة واجبة بالإجماع، كما قال ابن المنذر وغيره، فيخص به عموم الحديث.

رجاله ستة

رجاله ستة: قد مرّوا، مرَّ شعبة وآدم في الثالث من الإيمان، ومرّ عبد الله بن دينار وأبو هريرة في الثاني منه، ومرّ سليمان بن يَسَار في الخامس والتسعين من الوضوء. ومرّ عِراك بن مالك في السادس والثلاثين من كتاب الصلاة. أخرجه البخاري أيضًا في الزكاة، وأخرجه مسلم، وباقي الستة فيها أيضًا. ثم قال المصنف:

باب ليس على المسلم في عبده صدقة

باب ليس على المسلم في عبده صدقة الحديث الثامن والستون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ خُثَيْمِ بْنِ عِرَاكٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-. حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا خُثَيْمُ بْنُ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ صَدَقَةٌ فِي عَبْدِهِ وَلاَ فَرَسِهِ". هذا الحديث قد مرَّ قريبًا أنه هو الذي قبله، فالكلام على الأول كلام عليه. رجاله سبعة: مرَّ محل سليمان وعِراك وأبي هُريرة في الذي قبله، ومرَّ مسدد ويحيى بن سعيد القطان في السادس من الإيمان، ومرَّ وهيب بن خالد في تعليق بعد الخامس عشر منه، والباقي خُثَيم، بالخاء المعجمة مصغر، ابن عِراك بن مالك الغِفاريّ المدنيّ، وثقه النَّسَائيّ وابن حِبّان والعقيليّ. وقال الأزديّ: منكر الحديث. وقال ابن حزم: لا تجوز الرواية عنه، قال في المقدمة: تبع ابن حزم الأزديّ وما درى أنَّ الأزدي ضعيف، فكيف يقبل منه تضعيف الثقات؟ قال في "تهذيب التهذيب": ولعل مستند مَنْ وهّاه ما ذكره أبو عليّ الكرابيسيّ عن سعيد بن زَنْبر، ومُصْعَب الزبيريّ: استفتى أميرُ المدينة مالكًا عن شيء فلم يفته، فأرسل إليه: ما منعك من ذلك؟ فقال مالك: لأنك ولّيت خُثَيم بن عِراك على المسلمين، فلما بلغه ذلك عزله. روى عن أبيه وسليمان بن يسار، وروى عنه إبراهيم ويحيى بن سعيد الأنصاري ويحيى بن سعيد القطان وغيرهم. ولم يرو عنه البخاري إلا هذا الحديث لا غير. ثم قال المصنف:

باب الصدقة على اليتامى

باب الصدقة على اليتامى قال الزين بن المنير: عبّر بالصدقة دون الزكاة، لتردد الخبر بين صدقة الفرض والتطوع، لكون ذكر اليتيم جاء متوسطاً بين المسكين وابن السبيل، وهما من مصارف الزكاة. وقال ابن رشيد: لما قال: باب ليس على المسلم في فرسه صدقة، عُلِم أنه يريد الواجبة، إذ لا خلاف في التطوع، فلما قال: الصدقة على اليتامى، أحال على معهود. الحديث التاسع والستون حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ هِلاَلِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رضي الله عنه يُحَدِّثُ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- جَلَسَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى الْمِنْبَرِ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ فَقَالَ: إِنِّي مِمَّا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا. فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَ يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ فَسَكَتَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَقِيلَ لَهُ: مَا شَأْنُكَ تُكَلِّمُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَلاَ يُكَلِّمُكَ فَرَأَيْنَا أَنَّهُ يُنْزَلُ عَلَيْهِ. قَالَ فَمَسَحَ عَنْهُ الرُّحَضَاءَ فَقَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ؟ وَكَأَنَّهُ حَمِدَهُ. فَقَالَ: إِنَّهُ لاَ يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ، وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ أَوْ يُلِمُّ إِلاَّ آكِلَةَ الْخَضْرَاءِ، أَكَلَتْ حَتَّى إِذَا امْتَدَّتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتْ عَيْنَ الشَّمْسِ، فَثَلَطَتْ وَبَالَتْ وَرَتَعَتْ، وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَنِعْمَ صَاحِبُ الْمُسْلِمِ مَا أَعْطَى مِنْهُ الْمِسْكِينَ وَالْيَتِيمَ وَابْنَ السَّبِيلِ أَوْ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَإِنَّهُ مَنْ يَأْخُذُهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ، وَيَكُونُ شَهِيدًا عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قوله: "إن مما أخاف عليكم من بعد ما يُفتح عليكم" وفي رواية السرخسي: إني مما أخاف، وفي رواية مالك في الرقاق: أن أكثر ما أخاف عليكم. وما في قوله: "ما يفتح" في موضع نصب، لأنها اسم إن، ومما في قوله: "إن مما" في موضع رفع لأنها الخبر، وقوله: "من زهرة الدنيا وزينتها"، وقوله: "وزينتها" عطف تفسير، وزَهْرة الدنيا، بفتح الزاي وسكون الهاء، وقد قرىء في الشاذ عن الحسن وغيره بفتح الهاء، فقيل: هما بمعنى، مثل جَهْرة وجَهَرة. وقيل: بالتحريك جمع زاهر، كفاجرِ وفَجَرة. والمراد بالزَهرة الزينة والبهجة، كما في الحديث. والزهرة مأخوذة من زَهرة الشجرَ، وهو نوْرها، بفتح النون. والمراد ما فيها من أنواع المتاع والعين والثياب والزروع وغيرها، مما يفتخر الناس بحسنه، مع عدم البقاء.

وقوله: "فقال رجل" لم يعرف اسمه. وقوله: "أو يأتي الخير بالشر" بفتح الواو، والهمزة للإستفهام، والواو عاطفة على شيء مقدر، أي تصير النعمة عقوبة، لأن زهرة الدنيا نعمة من الله تعالى، فهل تعود هذه النعمة نقمة؟ وهو استفهام استرشاد لا إنكار. والباء في قوله: "بالشر" صلة ليأتي، أي: هل يستجلب الخيرُ الشرَ؟ وقوله: "فَرُئينا" أي: بضم الراء وكسر الهمزة. وفي رواية الكشميهنيّ: فأُرينا، بضم الهمزة. وفي رواية مالك "حتى ظننت أو ظننا" وقوله: "فمسح عنه الرُّحَضَاء"، وفي رواية مالك "ثم جعل يمسح عن جبينه" في رواية الدارقطني "العرق" والرُّحَضاء، بضم الراء وفتح المهملة ثم المعجمة والمد، هو العرق. وقيل: الكثير، وقيل: عرق الحمّى، وأصل الرَّحْض، بفتح ثم سكون، الغسل. ولهذا فسره الخطابيّ بأنه عَرَقٌ يَرْحَضُ الجلد لكثرته. وقوله: "وكأنه حمده" وفي رواية الرقاق: لقد حمدناه حين طلع لذلك. وفي رواية المستملي: حين طلع ذلك. والحاصل أنهم لاموه أولًا حيث رأوا سكوت النبي -صلى الله عليه وسلم-، فظنوا أنه أغضبه، ثم حمدوه آخرًا لمّا رأوا مسألته سببًا لاستفادة ما قاله النبي -صلى الله عليه وسلم-. وأما قوله: "وكأنه حمده" فأخذوه من قرينة الحال. وقوله: "إنه لا يأتي الخير بالشر" وفي رواية مالك: لا يأتي الخير إلا بالخير. وفي رواية الدارقطني تكرار ذلك ثلاث مرات، ويؤخذ منه أن الرزق، ولو كثر، فهو من جملة الخير، وإنما يعرض له الشر بعارض البخل به عمن يستحق، والإسراف في إنفاقه فيما لم يشرع، وأن كل شيء قضى الله تعالى أن يكون خيرًا، فلا يكون شرًا وبالعكس. ولكن يخشى على من رزق الخير أن يعرض له في تصرفه فيه ما يجلب له الشر. وفي مرسل سعيد المَقْبَرِيّ عند سعيد بن منصور "أو خير هو ثلاث مرات"، وهو استفهام إنكار، أي أن المال ليس خيرًا حقيقيًا وإن سُمّيَ خيرًا، لأن الخير الحقيقيّ هو ما يعرض له من الإنفاق في الحق، كما أن الشر الحقيقي فيه ما يعرض له من الإمساك عن الحق، والإخراج في الباطل. وما ذكر في الحديث بعد ذلك، من قوله: إن هذا المال خضرة حلوة، كضرب المثل بهذه الجملة. وقوله: "إن هذا المال، في رواية الدارقطني "ولكن هذا المال" إلخ، ومعناه أن صورة الدنيا حسنة مونقة، والعرب تسمي كل شيء مشرقٍ ناضرٍ أخضر. وقال ابن الأنباريّ: قوله المال خضرة حلوة، ليس هو صفة المال، وإنما هو للتشبيه، كأنه قال: المال كالبقلة الخضراء الحلوة، أو التاء في قوله: "خضرة وحلوة" باعتبارما يشتمل عليه المال من زهرة الدنيا، أو على فائدة المال، أي: أن الحياة به أو العيشة. أوأن المراد بالمال هنا الدنيا؛ لأنه من زينتها. قال الله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وفي حديث أبي سعيد أيضًا المخرَّج في السنن "الدنيا خضرة حلوة"، فيتوافق الحديثان، ويحتمل أن تكون التاء فيهما للمبالغة.

وقوله: "وإنَّ مما ينبت الربيع" وفي رواية مالك: "وإنَّ كُلَّ ما أنبت الربيعُ" أي: الجدول، وإسناد الإنبات إليه مجازيّ، والمنبت في الحقيقة هو الله تعالى. ومن في قوله "مما ينبت" للتكثير، وليست من للتبعيض، لتوافق رواية "كلما أنبت" وهذا الكلام كله وقع كالمثل للدنيا، وقد وقع التصريح بذلك في مرسل سعيد المَقْبَرِيّ. وقوله: "يقتل حَبَطًا أو يُلِم" أما حَبَطا، فبفتح المهملة والموحدة والطاء مهملة أيضًا والحَبَط انتفاخ البطن من كثرة الأكل. يقال: حَبطت الدابة تَحْبَط حَبَطا إذا أصابت مرعى طيبًا فأمعنتْ في الأكل حتى تنتفخ فتموت. وروي بالخاء المعجمة، من التخبط، وهو الاضطراب. والأول المعتمد. وقوله: "يُلم" بضم أوله، أي: يَقْرُب من الهلاك. وقوله: "إلاَّ آكلة الخضرة" بالتشديد على الاستثناء، وروى بفتح الهمزة وتخفيف اللام للاستفتاح، وآكِلة بالمد وكسر الكاف، والخضر بفتح الخاء وكسر الضاد المعجمتين، للأكثر، وهو ضرب من الكلأ يعجب الماشية، وواحده خَضِرَة. وفي رواية الكشميهنيّ، بضم الخاء وسكون الضاد وزيادة الهاء في آخره، وفي رواية السَّرخسيّ الخضراء، بفتح أوله وسكون ثانيه والمد، ولغيرهم بضم أوله وفتح ثانيه، جمع خضرة. وقوله: "إذا امتدت خاصرتاها" تثية خاصرة، بخاء معجمة وصاد مهلمة، وهما جانبا البطن من الحيوان. وفي رواية الكشميهنيّ: خاصرتها بالإفراد، وقوله: "استقبلت الشمس اجْتَرّتْ " أي: استرفعت ما أدخلته في كرشها من العلف، فاعادت مضغه. وقوله: "وثَلَطَتْ" بمثلثة ولام مفتوحتين ثم طاء مهملة، وضبطها ابن التين بكسر اللام، أي ألقت ما في بطنها رقيقًا. وقوله: "ثم عادت فأكلت" المعنى أنها إذا شبعت فثَقُل عليها ما أكلت تحيلت في دفعه بأن تجتر، فيزداد نعومة، ثم تستقبل الشمس فتحمى بها، فيسهل خروجه، فإذا خرج زال الانتفاخ، فسلمت. وهذا بخلاف من لم تتمكن من ذلك، فإن الانتفاخ يقتلها سريعًا. قال الأزهري: هذا الحديث إذا فُرِّق لم يكد يظهر معناه، وفيه مثلان: أحدهما للمفرط في جمع الدنيا، المانع من إخراجها في وجهها، وهو ما تقدم، أي الذي يقتل حَبَطًا. والثاني: المقتصد في جمعها وفي الانتفاع بها، وهو آكلة الخَضَر، فإن الخضر ليس من أحرار البقول التي ينبتها الربيع، ولكنها الحبة، والحبة ما فوق البقل، ودون الشجر، التي ترعاها المواشي بعد هَيْج البُقول، فضرب آكلة الخضر من المواشي مَثلًا لمن يقتصد في أخذ الدنيا وجمعها، ولا يحمله الحرص على أخذها بجر حقها، ولا منعها من مستحقها، فهو ينجو من وبالها كما نجت آكلة الخضر، وأكثر ما تحبط الماشية إذا انحبس رَجِيعها في بطنها. وقال الزين بن المنير: آكلة الخضر هي بهيمة الأنعام التي ألفت المخاطبون أحوالها في سوَمها ورعيها، وما يعرض لها من البَشَم وغيره. والخضر النبات الأخضر. وقيل: حرار العشب التي تستلذ الماشية أكله، فتستكثر منه. وقيل: هو ما ينبت بعد إدراك العشب وهياجه. فإن الماشية تقتطف منه

مثلًا شيئًا فشيئًا، ولا يصيبها منه ألم، وهذا الأخير فيه نظر، فإنَّ سياق الحديث يقتضي وجود الخبَطَ للجميع، إلا لمن وقعت منه المداومة، حتى اندفع عنه ما يضره، وليس المراد أنَّ آكلة الخضر لا يحصل لها من أكله ضرر البتة، والمستنثى آكلة الخضر بالوصف المذكور لا كل من اتصف بأنه آكلة الخضرة. ولعل قائله وقعت له رواية فيها "يقتل أو يلم إلا آكلة الخضر" ولم يذكر ما بعده، فشرحه على ظاهر هذا الاختصار. وقوله: "فنعم صاحب المسلم هو" وفي رواية: فنعم المعونة. وقوله: "وإنه من يأخذه بغير حقه" وفي رواية: وإنْ أخذه بغير حقه. وقوله: "كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون شهيدًا عليه يوم القيامة" يحتمل أن يشهد عليه حقيقة بأن ينطقه الله تعالى، ويجوز أن يكون مجازًا. والمراد شهادة المَلَك الموكَّل به. ويؤخذ من الحديث التمثيل لثلاثة أصناف؛ لأن الماشية إذا رعت الخضر للتغذية، إما أن تقتصر منه على الكفاية، وإما أن تستكثر الأول الزهاد، والثاني إما أن يحتال على إخراج ما لو بقي لضر، فإذا أخرجه زال المُّضر، واستمر النفع. وإما أن يهمل ذلك الأولَ العاملون في جمع الدنيا مما يجب من إمساك ويدل. والثاني العاملون في ذلك، بخلاف ذلك. وقال الطيبي: يؤخذ منه أربعة أصناف: فمن آكل منه أكْل مستلذٍ مفرط منهمك حتى تنتفخ أضلاعه، ولا يقلع، فيسرع إليه الهلاك. ومن آكل كذلك، لكنه أخذ في الاحتيال لدفع الداء بعد أن استحكم فغلبه، فأهلكه. ومن آكل كذلك، لكنه بادر إلى إزالة ما يضره، وتحيل في دفعه حتى انهضم، فيسلم. ومن كل غير مفرط ولا منهمك، وإنما اقتصر على ما يسد جوعته، ويمسك رَمَقه. فالأول مثال الكافر، والثاني مثال العاصي الغافل عن الإقلاع والتوبة، إلا عند فوتها والثالث: مثال للمخلِّط المبادر للتوبة، حيث تكون مقبولة. والرابع: مثل الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة. وبعضها لم يصرح به في الحديث، وأخذه منه محتمل. وقوله: "فنعم المعونة" كالتذييل للكلام المتقدم. وفيه حذفٌ تقديره: إن عمل فيه بالحق. وفيه إشارة إلى عسكه، وهو بئيس الرفيق. هو لمن عمل فيه بغير الحق، وقوله: "كالذي يأكل ولا يشبع" ذكر في مقابلة "فتعم المعونة هو" وقوله: "ويكون شهيدًا عليه" أي حجة يشهد عليه بحرصه وإسرافه وإنفاقه فيما لا يرضي الله. وقال الزين بن المنير: في هذا الحديث وجوه من التشبيهات بديعة. أولها: تشبيه المال ونموه بالنبات وظهوره. ثانيها: تشبيه المنهمك في الاكتساب والأسباب بالبهائم المنهمكة في الأعشاب. ثالثها: تشبيه الاستكثار منه والادخار له بالشَّرَه في الأكل، والامتلاء منه. رابعها: تشبيه من المال مع عظمته في النفوس حتى أدى إلى المبالغة في البخل به، بما تطرحه البهيمة من السِّلْح، ففيه إشارة بديعة إلى استقذاره شرعًا.

خامسها: تشبيه المتقاد عن جمعه وضمه، بالشاة إذا استراحت، وحطت جانبها مستقبلة عين الشمس، فإنها من أحسن حالاتها سكونًا وسَكِينة، وفيه إشارة إلى إدراكها لمصالحها. سادسها: تشبيه موت الجامع المانع بموت البهيمة الغافلة عن دفع ما يضرها. سابعها: تشبيه المال بالصاحب الذي لا يؤْمَن أن ينقلب عدوًا، فإن المال من شأنه أن يحرز وبشد وثقاقه بحباله، وذلك يقتضي منعه من مستحقه، فيكون سببًا لعقاب مقتنيه. ثامنها: تشبيه آخذه بغير حق بالذي يأكل ولا يشبع. وقال الغزالي: مثل المال مَثَل الحية التي فيها تِرياق نافعٌ وسُم ناقِع، فإنْ أصابها العارف الذي يحترز من شرها، ويعرف استخراج ترياقها، كان نعمة وإن أصابها الغبيُّ فقد لقي البلاء المُهلك. وفي الحديث جلوس الإِمام على المنبر عند الموعظة في غير خطبة الجمعة ونحوها، وفيه جلوس الناس حوله، والتحذير من المنافسة في الدنيا، وفيه استفهام العالم بما يشكل، وطلب الدليل لدفع المعارضة. وفيه تسمية المال خيرًا، ويؤيده قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْر}. وفيه ضرب المثل بالحكمة، وإن وقع في اللفظ ذكر ما يستهجن، كالبول، فإن ذلك يُغتفَر لما يترتب على ذكره من المعاني اللائقة بالمقام، وفيه أنه -صلى الله عليه وسلم- كان ينتظر الوحيَ عند إرادة الجواب عمّا يسأل عنه. وهذا على ما ظنه الصحابة، ويجوز أن يكون سكوته ليأتي بالعبارة الوجيزة الجامعة المفهمة. وقد عد ابن دُريد هذا الحديث، وهو قوله: "إن مما ينبتُ الربيع يقتلُ حَبَطًا أو يُلِم" من الكلام المفرد الوجيز الذي لم يسبق -صلى الله عليه وسلم- إلى معناه، وكل من وقع شيء منه في كلامه، فإنما أخذه منه. ويستفاد منه ترك العجلة في الجواب إذا كان يحتاج إلى التأمل، وفيه لوم مَنْ ظن به تعنت في السؤال، وحمد من أجاد فيه. ويؤيد أنه من الوحي قوله: "يمسح العرق" فإنها كانت عادته عند نزول الوحي كما تقدم في بدء الوحي، وأن جبينه لَيَتَفَصَّدُ عرقًا. وفيه تفضيل الغني على الفقير، ولا حجة فيه؛ لأنه يمكن التمسك به لمن لم يرجح أحدهما على الآخر، والعجب أن النوويّ قال: فيه حجة لمن رجح الغني على الفقير، وكان قبل ذلك شرح قوله: "لا يأتي الخير إلاَّ بالخير" على أن المراد أن الخير الحقيقيّ لا يأتي إلا بالخير، لكن هذه الزَّهرة ليست خيرًا حقيقيًا، لما فيها من الفتنة والمنافسة، والاشتغال من كمال الإِقبال على الآخرة، فعلى هذا يكون حجة لمن يفضل الفقر على الغنى، والتحقيق أن لا حجة فيه لأحد القولين. وقد مرّ الكلام مستوفى على هذه المسألة في كتاب العلم في باب الاغتباط في العلم. وفيه الحضُّ على إعطاء اليتيم والمسكين وابن السبيل، وفيه أن المكتسب للمال من غير حِلّه لا يبارك له فيه، لتشبيهه بالذي يأكل ولا يشبع. وفيه ذم الإسراف وكثرة الأكل والنَّهَم فيه، وأن اكتساب المال من غير حِلِّه، وكذا إمساكه من إخراج الحق منه، سببٌ لمحقه، فيصير غير مبارك،

رجاله ستة

لقوله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ}. رجاله ستة: قد مرّوا، مرَّ معاذ بن فَضالة في التاسع عشر من الوضوء، ومرّ هشام الدَّستوائيّ في السابع والثلانين من الإيمان، ومرّ عطاء بن يسار في الثاني والعشرين منه، وأبو سعيد الخُدريّ في الثاني عشر منه، ومرّ يحيى بن أبي كثير في الثالث والخمسين من العلم، وهلال بن عليّ في الأول منه. وفيه لفظ رجل لم يسم. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإفراد والعنعنة والسماع، ورواته شيخه بصريٌّ ثم أهوازِيٌّ ثم يماميّ ثم مدنيان. أخرجه البخاري أيضًا في الجهاد، وفي الرقاق، ومسلم في الزكاة، وكذلك النَّسَائِيّ. ثم قال المصنف:

باب الزكاة على الزوج والأيتام في الحجر

باب الزكاة على الزوج والأيتام في الحجر قال ابن رشيد: أعاد الأيتام في هذه الترجمة، لعموم الأُولى وخصوص الثانية، ومحمل الحديثين في وجه الاستدلال بهما على العموم لأن الإعطاء أعم من كونه واجبًا أو مندوبًا. ثم قال: قاله أبو سعيد عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-. وهذا التعليق تقدم موصولًا في باب الزكاة على الأقارب. وأبو سعيد مرّ في الثاني عشر من الإيمان. الحديث السبعون حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي شَقِيقٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ فَذَكَرْتُهُ لإِبْرَاهِيمَ فَحَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ بِمِثْلِهِ سَوَاءً، قَالَتْ: كُنْتُ فِي الْمَسْجِدِ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ. وَكَانَتْ زَيْنَبُ تُنْفِقُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ وَأَيْتَامٍ فِي حَجْرِهَا، قَالَ فَقَالَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ سَلْ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَيَجْزِي عَنِّي أَنْ أُنْفِقَ عَلَيْكَ وَعَلَى أَيْتَامِى فِي حَجْرِي مِنَ الصَّدَقَةِ فَقَالَ سَلِي أَنْتِ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. فَانْطَلَقْتُ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-. فَوَجَدْتُ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ عَلَى الْبَابِ، حَاجَتُهَا مِثْلُ حَاجَتِي، فَمَرَّ عَلَيْنَا بِلاَلٌ فَقُلْنَا سَلِ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَيَجْزِي عَنِّي أَنْ أُنْفِقَ عَلَى زَوْجِي وَأَيْتَامٍ لِي فِي حَجْرِي وَقُلْنَا لاَ تُخْبِرْ بِنَا. فَدَخَلَ فَسَأَلَهُ فَقَالَ مَنْ هُمَا. قَالَ زَيْنَبُ قَالَ أَيُّ الزَّيَانِبِ. قَالَ امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ. قَالَ نَعَمْ لَهَا أَجْرَانِ أَجْرُ الْقَرَابَةِ وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ. هذا الحديث مرَّ استيفاء الكلام عليه في باب الزكاة على الأقارب، وقوله: وأيتام لي في حجري، في رواية النسائي "على أزواجنا وأيتام في حجورنا" وفي رواية الطيالسيّ "أنهم بنو أخيها وبنو أختها" وللنّسائي عن علقمة الأحداهما فضل مالٍ، وفي حجرها بنو أخٍ لها أيتام، وللأخرى فضل مال، وزوج خفيفٌ ذات اليد" وهذا القول كناية عن الفقر. رجاله ثمانية: وفيه ذكر بلال وعبد الله وامرأة من الأنصار، وفيه لفظ أيتام بالإبهام، وقد قال ابن حَجَر: إنه لم يقف على أسمائهم. مرّ من رجاله عمر بن حفص وأبوه حفص في الثاني عشر من الغُسل، ومرّ

لطائف إسناده

الأعمش في الخامس والعشرين من الإيمان، ومرّ شفيق في الحادي والأربعين منه، ومرّ إبراهيم النخعيّ في تعليق بعد الأربعين منه، ومرَّ ابن مسعود في أوله قبل ذكر حديث منه، ومرت امرأته زينب في الخامس والستين من هذا الكتاب، ومرَّ بلال في التاسع والثلاثين من كتاب العلم. ومرَّ أبو عبيدة، واسمه عامر بن عبد الله بن مسعود، وقيل: اسمه كنيته، في الثاني والعشرين من الوضوء. والباقي اثنان: الأول: عمرو بن الحارث بن أبي ضرار بن عائذ بن مالك بن جُذيمة. وهو المُصْطَلِق بن سعد بن كعب بن عمرو الخُزاعيّ المُصْطَلِقي، أخو جُويرية بنت الحارث، زوج النبي -صلى الله عليه وسلم-. روى أبو إسحاق السَّبيعيّ عن عمرو بن الحارث، أخي جويرية قال: والله ما ترك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند موته دينارًا ولا درهمًا .. الحديث أخرجه البخاريّ وغيره. له عندهم حديث واحد. روى عن أُخته وعن ابن مسعود وعن زينب امرأة ابن مسعود، ورجح ابن القطّان أن عمرو بن الحارث، الراوي عن زينب امرأة ابن مسعود، غير عمرو بن الحارث بن أبي ضِرار صاحب الترجمة، لأن زينب ثقفية، وجاء في كثير من الطّرق عن عمرو بن الحارث بن أخي زينب اللهم إلا أن يكون ابن أخيها لأمها، أو من الرضاعة. وروى عنه مولاه دينار، وأبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود، وأبو إسحاق السَّبيعيّ وغيرهم. الثاني: امرأة من الأنصار المذكورة في الحديث بالإبهام، وهي امرأة أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري، واسمها زينب، كما قال الطيالسي والنَّسائي. قال في الفتح: ولم يذكر ابن سعد لأبي مسعود امرأة أنصارية سوى هَزيلة بنت ثابت بن ثَعلبة الخَزرجية، فلعل لها اسمين، أو وهم من سمّاها زينب انتقالًا من اسم امرأة عبد الله إلى اسمها. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإفراد والعنعنة والقول، ورواته كلهم كوفيون ما خلا عمرو بن الحارث ورواته صحابيّ عن صحابية، ورواته ثلاثة من التابعين، ورواية الابن عن الأب. أخرجه مسلم وابن ماجه والتِّرمذيّ في الزكاة، وأخرجه النَّسائيّ في عِشرة النساء. الحديث الحادي والسبعون حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِيَ أَجْرٌ أَنْ أُنْفِقَ عَلَى بَنِي أَبِي سَلَمَةَ إِنَّمَا هُمْ بَنِيَّ. فَقَالَ أَنْفِقِي عَلَيْهِمْ، فَلَكِ أَجْرُ مَا أَنْفَقْتِ عَلَيْهِمْ. قوله: علي بني أبي سلمة، أي: ابن عبد الأسود، وكان زوج أم سلمة قبل النبي عليه الصلاة والسلام، فتزوجها النبي -صلى الله عليه وسلم- بعده، ولها من أبي سلمة أربعة أولاد، يأتي الكلام عليهم في السند،

رجاله ستة

وليس في حديث أم سلمة تصريح بأن الذي كان تنفقه عليهم من الزكاة، فكان القدر المشترك من الحديث حصول الانفاق على الأيتام، قلت: الظاهر بل المحقَّق، أن أُم سلمة لم يكن لها في زمنه عليه الصلاة والسلام مالٌ مدَّخر تجب فيه الزكاة، فالذي كانت تنفقه عليهم، إنما هو صدقة التطوع. وقوله: فلك أجر ما أنفقت عليهم، رواه الأكثر بالإضافة، على أن تكون ما موصولة، وجوز أبو جعفر الغرناطيّ تنوين أجر على أن ما ظرفية. رجاله ستة: قد مرّوا: وفيه بني أبي سلمة بالإبهام، مرَّ عثمان بن أبي شيبة في الثاني عشر من العلم، ومرّ عبدة بن سليمان في الثالث عشر من الإيمان، ومرّ هشام بن عُروة وأبو عروة في الثاني من بدء الوحي، ومرت زينب بنت أم سلمة في السبعين من العلم، وأمها أم سلمة في السادس والخمسين منه. وبنو أبي سلمة المبهمون في الحديث أربعة: عمر ومحمد ودُرّة وزينب، أما زينب فقد ذكر محلها الآن، وها أنا أذكر تعريف الباقين. الأول: عمرو بن أبي سلمة بن عبد الأسَد بن هلال بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم المخزوميّ. ربيب النبي -صلى الله عليه وسلم-، أمه أم سلمة أم المؤمنين، ولد في الحبشة في السنة الثانية، وقيل قبل ذلك، وقيل قبل الهجرة إلى المدينة، ويدل عليه قول عبد الله بن الزبير: كان أكبر مني بسنتين. وكان يوم الخندق هو وابن الزبير في أُطُم حسان بن ثابت. من حديثه ما رواه عبد الله بن كعب عنه قال: سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قُبلة الصائم، فقال سَل هذه لأم سلمة، فقلت: غفر الله لك، قال: إني أخشاكم لله وأتقاكم. أخرجه مسلم، وفي الصحيحين من رواية وهب بن كيسان عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: "أدْنِ يا بني، فسم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك". قال الزبير: ولي البحرين زمن عليّ، وكان قد شهد معه الجمل، ووهم من قال إنه قتل فيها. له اثنا عشر حديثًا اتفقا على حديثين، روى عن أبيه، وروى عنه ابنه محمد وسعيد بن المسيب وعروة وغيرهم. مات بالمدينة سنة ثلاث وثمانين في خلافة عبد الملك بن مروان. الثاني: أخوه محمد بن أبي سلمة. قال ابن حِبّان: له صحبة. وقال البَغَوي: ذكره بعض من ألف في الصحابة، وأنكر عليه. حكاه ابن شاهين عن البغويّ. الثالثة: أختهما دُرّة بنت أبي سلمة، وهي قالت فيها أم حبيبة: يا رسول الله، إنّا قد تحدثنا أنك ناكح درة بنت أبي سلمة، فقال: "إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلّت لي، إنها ابنة أخي من الرضاعة" وردت تسميتها في بعض طرق الحديث عند البخاريّ. وذكرها الزبير بن بكّار في

لطائف إسناده

كتاب الأنساب، في أولاد أبي سَلَمة بن عبد الأسَد. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، ورواته كوفيان ومدنيان. وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وصحابية عن صحابية، ورواية الابن عن الأب. وقد مضى ما فيه. ثم قال المصنف:

باب قول الله تعالى {وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله}

باب قول الله تعالى {وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} قال الزين بن المنير: اقتطع البخاري هذه الآية من التفسير، للاحتياج إليها في بيان مصارف الزكاة. واختلف في المراد بقوله تعالى {وَفِي الرِّقَابِ} فقيل: المراد شراء الرقبة لتعتق، وهو رواية ابن القاسم عن مالك، واختيار أبي عبيد وأبي ثَوْر وقول إسحاق، ومال إليه البخاريّ. وقال أبو عبيد: أعلى ما جاء فيه قول ابن عباس، وهو أولى بالاتباع، وأعلم بالتأويل. وروى ابن وهب عن مالك أنها في المُكاتب، وهو قول الشافعيّ والليث وأبي حنيفة وأكثر أهل العلم، ورجحه الطبريّ، وفيه قول ثالث أن سهم الرقاب يُجعل نصفين: نصف لكل مُكاتِب يدَّعي الإسْلام، ونصف يشتري به رقاب من صلى وصام. أخرجه ابن أبي حاتم وأبو عبيد بإسناد صحيح، عن الزهريّ، أنه كتب ذلك لعمر بن عبد العزيز. واحتج للأول بأنها لو اختصت بالمكاتب لدخل في حكم الغارمين، لأنه غارم، وبأن شراء الرقيق ليعتق أولى من إعانة المكاتب، لأنه قد يعان ولا يعتق، ولأن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم، والزكاة لا تصرف للعبد، ولأن الشراء يتيسر في كل وقت بخلاف الكتابة، ولأن ولاءه يرجع إلى السيد، فيأخذ المال، والولاء بخلاف ذلك، فإن عتقه يتنجز ويصير ولاؤه للمسلمين، وهذا الأخير على طريق مالك في ذلك. وقال أحمد وإسحاق يرد ولاؤه في شراء الرقاب للمعتِق أيضًا. وقال عُبيد الله العنبريّ: يجعل في بيت المال. وأما سبيل الله فالأكثر على أنه يختص بالغازي غنيًا كان أو فقيرًا، إلا أن أبا حنيفة قال: يختص بالغازي المحتاج. وقال أحمد وإسحاق: الحج من سبيل الله. وقال ابن عمر: أمَا إنّ الحج من سبيل الله. أخرجه أبو عبيد بإسناد صحيح وقال ابن المنذر: إن ثبت حديث أبي لاس، يعني الآتي في هذا الباب، قلت، بذلك. وتُعُقب بأنه يحتمل أنهم كانوا فقراء وحملوا عليها خاصة، ولم يتملكوها. ثم قال: ويذكر عن ابن عباس "يعتق من زكاة ماله ويعطي في الحج"، وصله أبو عُبيد عن مجاهد عنه، أنه كان لا يرى بأسًا أن يعطي الرجل من زكاة ماله في الحج، وأن يعتق منه الرقبة. وقال الميمونيّ: قلت لأبي عبد الله: يشتري الرجل من زكاة ماله الرقاب فيعتق ويجعل في ابن السبيل؟ قال: نعم، ابن عباس يقول ذلك، ولا أعلم شيئًا يدفعه. وقال الخلال: قال أحمد كنت أرى أن يعتق من الزكاة، ثم كففت عن ذلك، لأني لم أره يصح، قال حرب: فاحتج عليه بحديث

الحديث الثاني والسبعون

ابن عباس، فقال: هو مضطرب. وإنما وصفه بالاضطراب للاختلاف في إسناده على الأعمش، ولهذا لم يجزم به البخاريّ. وهذا التعليق أيضًا رواه أبو بكر بن أبي شيبة موصولًا في مصنفه عن أبي جعفر، وقد مرَّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي. ثم قال: وقال الحسن إن اشترى أباه من الزكاة جاز، ويعطي في المجاهدين، والذي لم يحج، ثم تلا {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} الآية في أيها أعطيت جزت. هذا صحيح عنه، أخرج أوله ابن أبي شيبة، وهو مصير منه إلى القول بالمسألتين معًا: الاعتاق من الزكاة، والصرف منها في الحج، إلاَّ أن تنصيصه على شراء الأب لم يوافقه عليه الباقون، لأنه يعتق عليه، ولا يصير ولاؤه للمسلمين، فيستعيد المنفعة، ويوفر ما كان يخرجه من خالص ماله، لدفع عار استرقاق أبيه. وقوله: في أيها أعطيت جزت، كذا في الأصل بغير همز، أي قضت. وفيه مصير منه إلى أن اللام في قوله "للفقراء" لبيان المصرف لا للتمليك، فلو صرف الزكاة في صنف واحد كفى، وهذا التعليق روى بعضه أبو بكر بن أبي شيبة، عن حفص عن أشعث. والحسن قد مرّ في الرابع والعشرين من الإيمان. ثم قال: وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن خالدًا احتبس أدرعه في سبيل الله". سيأتي موصولًا في هذا الباب، ويأتي الكلام عليه هناك. وخالد مرّ في التاسع من الجنائز. ثم قال: ويذكر عن أبي لاس: حملنا النبي -صلى الله عليه وسلم- على إبل الصدقة للحج، وهذا التعليق وصفه الطبراني، وأخرجه أحمد وابن خُزيمة والحاكم وغيرهم. ولفظ أحمد "على إبل من إبل الصدقة ضِعاف للحج، فقلنا: يا رسول الله، ما نرى أن تحمل هذه؟ فقال: إنما يحمل الله .. " الحديث. ورجاله ثقات إلا أن فيه عنعنة ابن إسحاق، ولهذا توقف ابن المنذر في ثبوته. وأبو لاس خزاعيّ، وقيل حارثيّ. واختلف في اسمه. قيل اسمه زياد، وقيل عبد الله بن غَنَمة، بفتح العين والنون، وقيل محمد بن الأسود. سكن المدينة. له حديثان هذا أحدهما. روى عنه عمر بن الحكم بن ثوبان. الحديث الثاني والسبعون حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِالصَّدَقَةِ فَقِيلَ مَنَعَ ابْنُ جَمِيلٍ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيلٍ إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ فَقِيرًا فَأَغْنَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَأَمَّا خَالِدٌ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا، قَدِ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتُدَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَعَمُّ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَهْيَ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ وَمِثْلُهَا مَعَهَا.

قوله: عن الأعرج، في رواية النَّسائي "عن شُعيب مما حدثه عبد الرحمن الأعرج، مما ذكر أنه سمع أبا هُريرة يقول: قال عمر" فذكره، صرح بالتحديث في الإسناد، وزاد فيه عمر، والمحفوظ أنه من مسند أبي هُريرة، وإنما جرى لعمر فيه ذكر فقط. وقوله: أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بصدقة، في رواية مسلم "بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمر ساعيًا على الصدقة"، وهو مشعر بأنها صدقة الفرض، لأن صدقة التطوع لا يبعث عليها السعاة. وقال ابن القصّار المالكي: الأليق أنها صدقة التطوع؛ لأنه لا يظن بهؤلاء الصحابة أنهم منعوا الفرض، وتعقب بأنهم ما منعوه جحدًا ولا عنادًا. أما ابن جميل، فقد قيل إنه كان منافقًا، ثم تاب بعد ذلك. وجزم القاضي حُسين أن فيه نزلت {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} الآية. والمشهور أنها نزلت في ثعلبة. وأما خالد، فكان متأولًا بإجزاء ما حبسه عن الزكاة. وكذا العباس، لاعتقاده ما سيأتي التصريح به. ولهذا عذر النبي -صلى الله عليه وسلم- العباس، وخالدًا، ولم يعذر ابن جَميل. وقوله: فقيل منع ابن جميل، قائل ذلك عمر، كما سيأتي في حديث ابن عباس في الكلام على قصة العباس، ويأتي في السند الكلامُ على ابن جميل. وقوله: والعباس، زاد ابن أبي الزناد عن أبيه عند أبي عُبيد أن يعطلوا الصدقة، فخطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فَذَبَّ عن اثنين: العباسِ وخالدٍ، وقوله: ما يَنْقِم ابن جميل، بكسر القاف، أي ما ينكر أو يكره. وقوله: فأغناه الله ورسوله، إنما ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نفسه، لأنه كان سببًا في دخوله في الإِسلام، فأصبح غنيًا بعد فقره بما أفاء الله على رسوله، وأباح لأمته من الغنائم. قلت: ذكره عليه الصلاة وإلسلام نفسه في الحديث اقتداءًا بما في القرآن من قوله تعالى {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} وهذا السياق من باب تأكيد المدح بما يشبه الذم، لأنه إذا لم يكن له عذرٌ، إلا ما ذكر من أن الله أغناه، فلا عذر له. وفيه التعريض بكفران النعم، والتقريع بسوء الصنيع في مقابلة الإحسان. وقوله: احتبس، أي: حبس. وقوله: وأعتُده، بضم المثناة جمع عَتَد بفتحتين، وفي رواية مسلم أعتاده، وهو جمعه أيضًا. قيل: ما يعده الرجل من الدواب والسلاح، وقيل: الخيل خاصة، يقال فرسٍ عَتِيد، أي صُلب أو معدٌ للركوب أو سريع الوثوب، أقوال، وقيل: إن لبعض رواه البخاري "وأَعْبُده" بضم الموحدة جمع عَبْد، حكاه عياض، والأول هو المشهور. وقوله: فهي عليه صدقة ومثلها معها، كذا في رواية شُعيب، ولم يقل ورقاء ولا موسى بن عقبة: صدقة، فعلى الرواية الأولى يكون عليه الصلاة والسلام ألزمه بتضعيف صدقته ليكون أرفع لقدره، وأنْبه لذكره، وأنفى للذم عنه، فالمعنى: هي صدقة ثابتة عليه، سيصدق بها ويضيف إليها مثلها كرمًا. ودلت رواية مسلم على أنه -صلى الله عليه وسلم- التزم بإخراج ذلك عنه، لقوله "فهي عليّ" وفيه تنبيه على سبب ذلك، وهو قوله "إنّ العم صِنو الأب" تفضيلًا له وتكريمًا وتشريفًا، ويحتمل أن يكون تحمل

عنه بها، فيستفاد منه أن الزكاة تتعلق بالذمة، كما هو أحد قولي الشافعي، وجمع بعضهم بين رواية عليّ ورواية عليه، بأن الأصل "عليّ" ورواية "عليه" مثلها إن فيها زيادة هاء السكت. حكاه ابن الجَوزيّ. وقيل: عني قوله على أي: هي عندي قرضٌ، لأنني استلفت منه صدقة عامين. وقد ورد ذلك صريحًا فيما أخرجه التِّرمذيّ وغيره، من حديث عليّ وفي إسناده مقال. وفي الدارقطني عن موسى بن طلحة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنا كنا احتجنا، فتعجلنا من العباس صدقة مالِه سنتين"، وهذا مرسل، ورواه الداقطنيّ أيضًا موصولًا بذكر طلحة فيه، وإسناد المرسل أصح، وفي الدارقطنيّ أيضًا عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم-، بعث عمر ساعيًا فأتى العباس فأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إن العباس قد أسْلَفَنا زكاة ماله العامَ والعام المقبل، وفي إسناده ضعف، وأخرجه هو أيضًا والطبرانيّ عن أبي رافع نحو هذا، وإسناده ضعيف أيضًا. وعن ابن مسعود أن النبي -صلى الله عليه وسلم- تعجل من العباس صدقته سنتين، وفي إسناده محمد بن ذكوان، وهو ضعيف، ولو ثبت لكانَ رافعًا للإشكال، ولرجح به سياق رواية مسلم على بقية الروايات. وفيه: رد لقول من قال إن قصة التعجيل إنما وردت في وقت غير الوقت الذي بعث فيه عمر لأخذ الصدقة، وليس ثبوت هذه القصة في تعجيل صدقة العباس ببعيد في النظر بمجموع هذه الطرق. وقيل: المعنى استلف منه قدر صدقة عامين، فأمر أن يقاصَّ به من ذلك، واستبعد ذلك بأنه لو كان وقع، لكان -صلى الله عليه وسلم- أعلم عمر بأنه لا يطالب العباس، وليس ببعيد. ومعنى "عليه" على التأويل الأول: أي لازمة له، وليس معناها أنه يقبضها لأن الصدقة عليه حرام، لكونه من بني هاشم. ومنهم من حمل رواية الباب على ظاهرها فقال: كان ذلك قبل تحريم الصدقة على بني هاشم، ويؤيده رواية موسى بن عُقبة، فهي له بدل عليه، وقال البيهقي: اللام بمعنى على، لتتفق الروايات، وهذا أولى لأن المخرج واحد، وإليه مال ابن حِبّان. وقيل: معناها فهي له، أي القدر الذي كان يراد منه أن يخرجه، لأنني التزمت عنه بإخراجه. وقيل: إنه أخرها عنه ذلك العام إلى عام قابل، فيكون عليه صدقة عامين. قاله أبو عبيد. وقيل: إنه كان استدان حتى نادى عقيلًا وغيره، فصار من جملة الغارمين، فساغ له أخذ الزكاة بهذا الاعتبار، أبعد الأقوال كلها قولُ من قال: كان هذا في الوقت الذي كان فيه التأديب بالمال، فألزم العباس بامتناعه من أداء الزكاة، بأن يؤدي ضعف ما وجب عليه، لعظم قدره وجلالته، كما في قوله تعالى في نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} الآية. وفي الحديث تعجيل الزكاة، وقد اختلف أهل العلم، فقال الشافعيّ وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق: إن عجلها قبل محلها أجزأت عنه، وعند مالك إن أخرجها قبل الحول بشهر أجزأت عنه مع الكراهة، وكره الليث بن سعد تعجيلها. وقال الحسن: من زكى قبل الوقت أعاد كالصلاة، واستدل بقصة خالد على جواز إخراج مال الزكاة في شراء السلاح، وغيره من آلات الحرب،

رجاله خمسة

والإعانة بها في سبيل الله، بناء على أنه عليه الصلاة والسلام أجاز لخالد أن يحاسب نفسه بما حبسه فيما يجب عليه، كما سبق. وهي طريقة البخاري. وأجاب الجمهور بأجوبة أحدها أن المعنى أنه عليه الصلاة والسلام لم يقبل أخبار من أخبره بمنع خالد، حملًا على أنه لم يصرح بالمنع، وإنما نقلوه عنه بناء على ما فهموه، ويكون قوله "تظلمونه" بنسبتكم له إلى المنع، وهو لم يمنع. وكيف يمنع الفرض وقد تطوع بتحبيس سلاحه وخيله؟ ثانيها: أنهم ظنوا أنها للتجارة، فطالبوه بزكاة قيمتها، فأعلمهم عليه الصلاة والسلام بأنه لا زكاة عليه فيما حبس، وهذا يحتاج لنقل خاص، فيكون فيه حجة لمن اسقط الزكاة عن الأموال المحبسة، ولمن أوجبها في عُروض التجارة. ثالثها: أنه كان نوى بإخراجها من ملكه الزكاة عن ماله؛ لأن أحد الأصناف سبيل الله، وهم المجاهدون، وهذا يقوله من يجيز إخراج القيم في الزكاة، كالحنفية، ومن يجيز التعجيل كالشافعية. وقد تقدم استدلال البخاري به على إخراج العروض في الزكاة، وقد سبق ما فيه، واستدل بقصة خالد على مشروعية تحبيس الحيوان والسلاح والثياب، وكل ما ينتفع به، مع بقاء عينه. وهذا قول الجمهور. وقال أبو حنيفة: لا يجوز الوقف في شيء إلا أن يحكم به حاكم، أو يكون الوقف مسجدًا أو سقاية أو وصية من الثلث. وقيل: يجوز عنده، إلا أنه لا يلزم، بمنزلة العارية حتى يرجع فيه، أي: وقت شاء، ويورث عنه إذا مات على الأصح. وعند أبي يوسف ومحمد يجوز، ويزول ملك الواقف عنه، غير أنه عند أبي يوسف يزول بمجرد القول، وعند محمد حتى يجعل للوقف وليًا، ويسلمه له. وفيه صرف الزكاة إلى صنف واحد من الثمانية، وهو قول الجمهور خلافًا للشافعية في وجوب قسمها على الأصناف الثمانية، وتعقب ابن دقيق العبد جميع ذلك بأن القصة واقعة عين محتملة لما ذكر، وغيره، فلا ينهض الاستدلال بها على شيء مما ذكر، ويحتمل أن يكن تحبيس خالد إرصادًا وعدم تصرف، ولا يبعد أن يطلق على ذلك التحبيس، فلا يتعين الاستدلال بذلك لما ذكره. وفي الحديث بعث الإِمام العمال لجباية الزكاة، وتنبيه الغافل على ما أنعم الله به من نعمة الغنى بعد الفقر ليقوم بحق الله عليه، والعيب على من منع الواجب، وجواز ذكره في غيبته بذلك، وتحمل الإِمام عن بعض رعيته ما يجب عليه، والاعتذار عن بعض الرعية بما يسوغ الاعتذار به. رجاله خمسة: قد مرّوا، وفيه ذكر خالد والعباس وابن جميل. مرّ أبو اليمان وشعيب في السابع من بدء

الوحي، ومرّ أبو أبو الزناد والأعرج في السابع من الإيمان، ومرّ أبو هريرة في الثاني منه، ومرَّ محل خالد قبل هذا بتعليق، ومرَّ العباس في الثالث والستين من الوضوء، وابن جميل اختلف في اسمه، قيل: اسمه حُميد، وقيل: عبد الله، وهذا هو الصحيح، وادعى القاضي حسين أنه كان منافقًا، وأنه نزل فيه {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} والمشهور أنها نزلت في ثعلبة، وحكى المهلب أنه كان منافقًا ثم تاب بعد ذلك. والقائل المجهول في الحديث هو عمر بن الخطاب، وقد مرَّ في الأول من بدء الوحي. ثم قال: تابعه ابن أبي الزناد عن أبيه، أي تابع شعيبًا، ثم قال: وقال ابن إسحاق عن أبي الزناد: هي عليه، ومثلها معها. وهاتان المتابعتان وصلهما الدارقطني. وابن أبي الزناد اسمه عبد الرحمن، وقد مرَّ في الثاني من الاستسقاء. وابن إسحاق هو محمد بن إسحاق، وقد مرَّ في تعليق بعد السابع عشر من الأذان، ومرَّ محل أبي الزناد في الذي قبله، ثم قال: وقال ابن جريج: حدثت عن الأعرج مثله، ورواية ابن جريج هذه وصلها عبد الرزاق في مصنفه، لكنه خالف الناس في ابن جميل، فجعل مكانه أبا يهم بن حُذيفة وابن جُريج، مرَّ في الثالث من الحيض. ثم قال المصنف:

باب الاستعفاف عن المسألة

باب الاستعفاف عن المسألة أي: في شيء من غير المصالح الدينية. الحديث الثالث والسبعون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ نَاسًا مِنَ الأَنْصَارِ: سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ فَقَالَ مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ. قوله: إن ناسًا، قال في الفتح: لم يتعين لي أسماؤهم، إلا أن النَّسائيّ روى ما يدل على أن أبا سعيد راوي الحديث خُوطب بشيء من ذلك. ولفظه "ففي حديثه سرحتني أمي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، لأسأله عن حاجة شديدة، فأتيته وقعدت، فاستقبلني فقال: من استغنى أغناه الله .. " الحديث، وزاد فيه "ومن سأل وله أوقية فقد ألحف، فقلت: ناقتي خير من أوقية، فرجعت، ولم أسأله". وقوله: نفِد ما عنده، بكسر الفاء أي، فرغ. وقوله: فلن اؤخره عنكم، أي: أحبسه وأخبؤه، وأمنعكم إياه، منفردًا به عنكم، أو لن أجعله ذخيرة لغيركم. وقوله: "ومن يستعفف"، بفاءين وللحموي والمستملي "ومن يستعفَّ" بفاء واحدة مشددة، أي: ومن طلب العفة عن السؤال بعفّة الله، بالنصب، أي: يرزقه الله العفة، أي: الكف عن الحرام. ولأبي ذَرٍّ "يعفُّه الله" بالرفع. وقوله: ومن يتصبر يصبره الله، أي: ومن يعالج الصبر ويتكلفه على ضيق العيش وغيره من مكاره الدنيا. وقوله: يعفّه الله، قال في شرح المِشكاة: يريد أن من طلب من فسه العفة عن السؤال، ولم يظهر الاستغناء، يعفه الله، أي: يصيره عفيفًا. ومن ارتقى عن هذه المرتبة إلى ما هو أعلى بإظهار الغنى عن الخلق، لكنْ إن أُعطي شيئًا لم يرده، يملأ الله قلبه غنى، ومن فاز بالقِدْح المُعَلَّى وتصبر، وإن أُعطي لم يقبل، فهو هو، إذ الصبر جامع لمكارم الأخلاق. وفيه ما كان عليه -صلى الله عليه وسلم- من السخاء وإنفاذ أمر الله. وفيه إعطاء السائل مرتين، والاعتذار إلى السائل، والحض على التعفف، وفيه جواز السؤال للحاجة، وإن كان الأولى تركه، والصبر حتى

رجاله خمسة

يأتيه رزقه بغير مسألة. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ عبد الله بن يوسف ومالك في الثاني من بدء الوحي، وابن شهاب في الثالث منه، وعطاء بن يزيد في العاشر من الوضوء. وفيه لفظ ناس؛ قال في الفتح: لم أعرف أسماءهم، إلا أن حديث النَّسائيّ يدل على أن أبا سعيد صاحب الحديث كان منهم. أخرجه البخاريّ أيضًا في الرقاق، ومسلم وأبو داود في الزكاة، والنَّسائي فيه وفي الرِّقاق. الحديث الرابع والسبعون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ رَجُلاً، فَيَسْأَلَهُ، أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ. قوله: "لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره" خبر له، وفي رواية الزبير بعد هذا "فيبيعها فيكفَّ الله بها وجهه" وهذا مراد في حديث أبي هريرة، وحذف لدلالة السياق عليه. قوله: خير له، ليست بمعنى أفعل التفضل، إذ لا خير في السؤال مع القدر على الاكتساب، والأصح عند الشافعية أن سؤال من هذا حاله حرامٌ ويحتمل أن يكون المراد بالخير فيه، بحسب اعتقاد السائل، وتسميته الذي يعطاه خيرًا، وهو في الحقيقة شر. وقوله: "من أن يأتي رجلًا"، وفي حديث الزبير الذي بعده "من أن يسأل الناس" والمعنى واحد. وقوله: والذي نفسي بيده، فيه القسم على الشيء المقطوع بصدقه، لتأكيده في نفس السامع. وفيه الحض على التعفف عن المسألة، والتنزه عنها، ولو امتهن المرء نفسه في طلب الرزق، وارتكب المشقة في ذلك، ولولا قبح المسألة في نظر الشارع لم يفضل ذلك عليها، وذلك لما يدخل على السائل من ذل السؤال، ومن ذل الرد إذا لم يعط، ولما يدخل على المسؤول من الضيق في ماله إن أعطى كل سائل. وقوله: "أعطاه أو منعه"؛ لأن حال المسؤول إما العطاء، وفيه المنّة وذل السؤال، وإما المنع، ففيه الذل والخيبة والحرمان. وكان السلف إذا سقط من أحدهم سوطُه لا يسأل من يناوله إياه. وفيه التحريض على الأكل من عمل يده، والاكتساب من المباحات، واعلم أن مدار الأحاديث في هذا الباب على كراهية السؤال، وهو على ثلاثة أوجه: حرام، ومكروه، ومباح. فالحرام لمن سأل وهو غنيّ من الزكاة، أو أظهر من الفقر فوق ما هو به. والمكروه لمن سأل وعنده ما يمنعه عن ذلك، ولم يظهر من الفقر ما هو به، والمباح لمن سأل بالمعروف قريبًا أو صديقًا. وأما السؤال عند الضرورة فواجبٌ لإحياء النفس، وأدخله الداوديّ في المباح. وأما الأخذ من غير مسألة ولا إشراف نفس فلا

رجاله خمسة

بأس به، كما يأتي قريبًا، والأحاديث الواردة في ذم السؤال كثيرة جداً ذكر العينيّ هنا جملة وافرة منها. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ عبد الله بن يوسف، ومالك في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ أبو الزناد والأعرج في السابع من الإيمان، وأبو هريرة في الثاني منه. الحديث الخامس والسبعون حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: لأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ الْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَبِيعَهَا فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ. الكلام على هذا الحديث مرَّ في الذي قبله. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ موسى بن إسماعيل في الخامس من بدء الوحي، وهشام وأبوه عروة في الثاني منه، ووهيب في تعليق بعد الخامس عشر من الإيمان، ومرَّ الزبير بن العوام في الثامن والأربعين من العلم. أخرجه البخاري في البيوع والشرب، وابن ماجه في الزكاة. الحديث السادس والسبعون حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ رضي الله عنه قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي ثُمَّ قَالَ يَا حَكِيمُ إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ، الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى. قَالَ حَكِيمٌ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لاَ أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه يَدْعُو حَكِيمًا إِلَى الْعَطَاءِ فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُ، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ رضي الله عنه دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا. فَقَالَ عُمَرُ إِنِّي أُشْهِدُكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى حَكِيمٍ، أَنِّي أَعْرِضُ عَلَيْهِ حَقَّهُ مِنْ هَذَا الْفَيْءِ فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ. فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى تُوُفِّيَ.

قوله: "إن هذا المال خَضرة"، أنث الخبر لأن المراد بالمال الدنيا. وقوله: خضرة حُلوة، شبهه بالرغبة فيه والميل إليه، وحرص النفوس عليه بالفاكهة الخضراء المستلَذَّة، فإن الأخضر مرغوبٌ فيه على انفراده بالنسبة إلى اليابس. والحلو مرغوب فيه على انفراده بالنسبة للحامض، فالإعجاب بهما إذا اجتمعا أشد. وفيه إشارة إلى عدم بقائه لأن الخضراوات لا تبقى ولا تراد للبقاء. وقوله: فمن أخذه بسخاوة نفس، أي: بغير شَرَه ولا إلحاح، أي: من أخذه بغير سؤال، وهذا بالنسبة إلى الأخذ، ويحتمل أن يكون بالنسبة إلى المعطي أي: بسخاوة نفس المعطي، أي: انشراحه بما يعطيه. وقوله: كالذي يأكل ولا يشبع، أي: الذي يسمى جوعه الكذاب، لأنه من علة به وسقم، فكلما أكل ازداد سقمًا، ولم يحدث شبعًا، وقد يسمى بالشهوة الكلبية، والظاهر أنه من غلبة السوداء وشدتها، كلما نزل الطعام في معدته احترق، وإلا فلا يتصور أن يسع في المعدة أكثر ما يسع فيه، وقد ذكر أهل الأخبار أن رجلًا من أهل البادية أكل جملًا، وأكلت امرأته فصيلًا، ثم أراد أن يجامعها، فقالت: بيني وبينك جمل وفصيل، كيف يكون ذلك؟ وقوله: اليد العليا خير من اليد السفلى، قد مرّ الكلام عليه مستقصى عند ذكر هذا الحديث في باب "لا صدقة إلا عن ظهر غِنى". وقوله: لا أرْزَأ، بفتح الهمزة وسكون الراء وفتح الزاي ثم همزة، أي لا أنقص ماله بالطلب منه. وفي رواية لإسحاق "قلت: فوالله لا تكون يدي بعدك تحت يد من أيدي العرب"، وإنما امتنع حكيم من أخذ العطاء مع أنه حقه؛ لأنه خشي أن يقبل من أحد شيئًا، فيعتاد الأخذ، فتتجاوز به نفسه، إلى ما لا يريده، فقطعها عن ذلك، وترك ما يريبه إلى ما لا يريبه، وإنما أشهد عليه عمر لأنه أراد أن لا ينسبه أحد لا يعرف باطن الأمر إلى منع حكيم من حقه. وقوله: حتى توفي، زاد إسحاق بن راهويه في مسنده مرسلًا: أنه ما أخذ من أبي بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا معاوية، ديوانًا ولا غيره حتى مات لعشر سنين من أمارة معاوية. وفي مسنده عن الزهري "فمات حين مات، وإنه لمن أكثر قريش مالًا" وفيه أيضًا سبب ذلك، وهو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أعطى حكيم بن حزام دون ما أعطى أصحابه، فقال: يا رسول الله، ما كنت أظن أن تقصر بي دون أحد من الناس، فزاده ثم استزاده حتى رضي. فذكر نحو الحديث. قال ابن أبي جمرة في حديث حكيم فوائد منها أنه قد يقع الزهد مع الأخذ، فإن سخاوة النفس هو زهدها. تقول: سخت بكذا، أي: جادت، وسخت عن كذا أي: لم تلتفت إليه. ومنها أن الأخذ مع سخاوة النفس يحصل أجر الزهد والبركة في الرزق، فتبين أن الزهد يحصل خيري الدنيا والآخرة. وفيه ضرب المثل لما لا يعقله السامع من الأسئلة، لأن الغالب من الناس لا يعرف البركة إلا في الشيء الكثير، فبين بالمثال المذكور أن البركة هي خلق من خلق الله تعالى، وضرب لهم المثل بما يعهدون، فالآكل إنما يأكل ليشبع، فإذا أكل ولم يشبع كان عناء في حقه بغير فائدة،

رجاله سبعة

وكذلك المال، ليست الفائدة في عينه، إنما هي لما يتحصل به من المنافع، فإذا كثر عند المرء بغير تحصيل منفعة، كان وجوده كالعدم. وفيه أنه ينبغي للإمام أن لا يبين للطالب ما في مسألته من المفسدة، إلا بعد قضاء حاجته لتقع موعظته له الموقع، لئلا يتخيل أن ذلك سبب لمنعه من حاجته. وفيه جواز تكرار السؤال ثلاثًا، وجواز المنع في الرأبعة، وفيه أن سؤال الأعلى ليس بعار، وأن رد السائل بعد ثلاث ليس بمكروه، وأن الإجمال الذي الطلب مقرون بالبركة. رجاله سبعة: وفيه ذكر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وقد مرّ الجميع، مرّ عبدان وعبد الله بن المبارك في السادس من بدء الوحي، ومرّ يونس بن يزيد في متابعة بعد الرابع منه، ومرَّ الزهري في الثالث منه، ومرَّ عروة في الثاني منه، ومرَّ عمر في الأول من بدء الوحي أيضًا، ومرّ حكيم بن حزام في الحادي والثلاثين من هذا الكتاب، ومرّ أبو بكر بعد الحادي والسبعين من الوضوء. لطائف إسناده: فيه التحديث والإخبار بالجمع والعنعنة، وفيه ثلاثة من التابعين. أخرجه البخاريّ أيضًا في الوصايا وفي الخمس وفي الرِّقاق، ومسلم والنَّسائيّ في الزكاة، والتِّرمذي في الزهد. ثم قال المصنف:

باب من أعطاه الله شيئا من غير مسألة ولا اشراف نفس {وفي أموالهم حق للسائل والمحروم}

باب من أعطاه الله شيئًا من غير مسألة ولا اشراف نفس {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} في رواية المستملي تقديم الآية، وسقطت للأكثر، ومطابقتها لحديث الباب من جهة دلالتها على مدح من يعطي السائل وغير السائل، وإذا كان المعطي ممدوحًا فعطيته مقبولة، وآخذها غير ملوم. واختلف أهل العلم بالتفسير في المراد بالمحروم، فروى الطبريّ عن ابن شهاب أنه المتعفف الذي لا يسأل، وأخرجه ابن أبي حاتم عن ابن شهاب أيضًا، وأخرج الطبريّ عن قتادة مثله، وأخرج فيه أقوالًا أخر. وعلى التفسير المذكور تنطبق الترجمة والإشراف بالمعجمة: التعرض للشيء والحرص عليه، من قولهم: أشرف على كذا، إذا تطاول له، وقيل للمكان المرتفع شَرَف لذلك. وتقدير جواب الشرط: فليقبل، أي: من أعطاه الله مع انتفاء القيدين المذكورين، فليقبل، وإنما حذفه للعلم به، وأوردها بلفظ العموم، فإن كان الخبر ورد في الإعطاء من بيت المال؛ لأن الصدقة للفقير في معنى العطاء للغني إذا انتفى الشرطان. قال أبو داود: سألت أحمد عن إشراف النفس، فقال: بالقلب، وقال يعقوب بن محمد: سألت أحمد عنه فقال: هو أن يقول مع نفسه: يبعث إلى فلان بكذا. وقال الأثرم: يضيق عليه أن يرده إذا كان كذلك. الحديث السابع والسبعون حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُعْطِينِي الْعَطَاءَ فَأَقُولُ أَعْطِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَرُ إِلَيْهِ مِنِّي فَقَالَ خُذْهُ، إِذَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ شَيْءٌ، وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلاَ سَائِلٍ، فَخُذْهُ، وَمَا لاَ فَلاَ تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ. قوله: أعطه من هو أفقر إليه مني، زاد في رواية شُعيب عن الزُّهريّ الآتية في الأحكام "حتى أعطاني مرة مالًا فقلت: أعطه من هو أفقر إليه مني، فقال: خذه فتموله وتصدق به". وذكر شعيب فيه عن الزُّهريّ إسنادًا آخر قال: أخبرني السائب بن يزيد أن حُوَيطب بن عبد العزى أخبره أن عبد الله بن السعديّ أخبره أنه قدم على عمر في خلافته، فذكر قصة فيه هذا الحديث، والسائب فمن فوقه صحابة، ففيه أربعة من الصحابة في نسق، وقد أخرجه مسلم عن الزُّهريّ بالإِسنادين،

رجاله سبعة

لكن قال فيه: عن سالم عن أبيه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "كان يعطي عمر" فذكره. جعله من مسند ابن عمر، وأخرجه مسلم أيضًا عن ابن السعديّ عن عمر. وزاد فيه ابن السعديّ أن عطية النبي -صلى الله عليه وسلم- لعمر بسبب العيالة، ولهذا قال الطحاويّ: ليس معنى هذا الحديث في الصدقات، وإنما هو في الأموال التي يقسمها الإمام، وليست هي من جهة الفقر، ولكن من الحقوق، فلما قال عمر: أعطه من هو أفقر إليه مني، لم يرض بذلك لأنه إنما أعطاه لمعنى غير الفقر. قال: ويؤيده قوله في رواية شعيب "خذه فتموله"، فدل ذلك على أنه ليس من الصدقات. وقال الطبريّ: اختلفوا في قوله "فخذه" بعد إجماعهم على أنه أمر ندب، فقيل: هو ندب لكل من أعطي عطية أبى قبولها كائنًا من كان، وهذا هو الراجح، يعني بالشرطين المتقدمين. وقيل: هو مخصوص بالسلطان، ويؤيده حديث سمرة في السنن، إلا أن يسأل ذا سلطان، وكان بعضهم يقول: يحرم قبول الهدية من السلطان، وبعضهم يقول، يكره، وهو محمول على ما إذا كانت العطية من السلطان الجائر، والكراهة محمولة على الورع، وهو المشهور من تصرف السلف. والتحقيق في المسألة أن من علم كون ماله حلالًا، فلا ترد عطيته، ومن علم كون ماله حرامًا فتحرم عطيته، ومن شك فيه فالاحتياط رده، وهو الورع. ومن أباحه أخذ بالأصل. قال ابن المنذر: واحتج من رخص فيه بأن الله تعالى قال في اليهود {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} وقد رهن الشارع درعه عند يهوديّ مع علمه بذلك، وكذلك أخذ الجزية منهم مع العلم بأن أكثر أموالهم من ثمن الخمر والخنزير والمعاملات الفاسدة. وفي حديث الباب أن للإمام أن يعطي بعض رعيته إذا رأى لذلك وجهًا، وإن وجهًا غيره أحوج إليه منه، وإنَّ رد عطية الإِمام ليس من الأدب، ولاسيما من الرسول -صلى الله عليه وسلم-، لقوله تعالى {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} الآية. رجاله سبعة: قد مرّوا، مرّ يحيى بن بكير والليث والزُّهريّ في الثالث من بدء الوحي، ويونس في متابعة بعد الرابع منه، وعمر في الأول منه، وسالم بن عبد الله في السابع عشر من الإيمان، وابن عمر في أوله قبل ذكره حديث منه. أخرجه البخاريّ أيضًا في الأحكام، ومسلم والنَّسائي في الزكاة. ثم قال المصنف:

باب من سأل الناس تكثرا

باب من سأل الناس تكثرًا أي: فهو مذموم، قال ابن رشيد: حديث المغيرة في النهي عن كثرة السؤال، الذي أورده في الباب الذي يليه، أصرح في مقصود الترجمة من حديث الباب. وإنما آثره عليه لأن من عادته أن يترجم بالأخفى، أو لاحتمال حديث المغيرة ما يأتي، قال: وأشار مع ذلك إلى حديث ليس على شرطه، وهو ما أخرجه التِّرمذيّ عن حَبَشيّ بن جُنادة في أثناء حديث مرفوع، وفيه "ومن سأل الناس ليثري ماله كان خموشًا في وجهه يوم القيامة، فمن شاء فَلْيُقِلّ، ومن شاء فليكثر" وفي صحيح مسلم عن أبي هُريرة ما هو مطابق للفظ الترجمة، فاحتمال كونه أشار إليه أوْلى، ولفظه "من سأل الناس تكثرًا، فإنما يسأل جمرًا" والمعنى أنه يسأل ليجمع الكثير من غير احتياج إليه. الحديث الثامن والسبعون حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ سَمِعْتُ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: مَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ. وَقَالَ إِنَّ الشَّمْسَ تَدْنُو يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَبْلُغَ الْعَرَقُ نِصْفَ الأُذُنِ، فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ اسْتَغَاثُوا بِآدَمَ، ثُمَّ بِمُوسَى، ثُمَّ بِمُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-. وَزَادَ عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ: فَيَشْفَعُ لِيُقْضَى بَيْنَ الْخَلْقِ، فَيَمْشِي حَتَّى يَأْخُذَ بِحَلْقَةِ الْبَابِ، فَيَوْمَئِذٍ يَبْعَثُهُ اللَّهُ مَقَامًا مَحْمُودًا، يَحْمَدُهُ أَهْلُ الْجَمْعِ كُلُّهُمْ. وقوله: عن عبيد الله بن أبي جعفر، في رواية أبي صالح الآتية "حدثنا عبيد الله". مُزْعَة لحم، بضم الميم، وحكي كسرها وسكون الزاي بعدها مهملة، أي قطعة. وقال ابن التين: ضبطه بعضهم بفتح الميم والزاي، والذي هو المحفوظ الضم، قال الخطابيّ: يحتمل أن يكون المراد أنه يأتي ساقطًا لا قدر له. ولا جاء، أو يعذب في وجهه حتى يسقط لحمه، لمشاكلة العقوبة في مواضع الجناية من الأعضاء، لكونه أذل وجهه بالسؤال أو أنه يبعث ووجهه عَظْم كله، فيكون ذلك شعاره الذي يعرف به. والأول صرف للحديث عن ظاهره وقد يؤيده ما أخرجه الطبرانيّ البزار، عن مسعود بن عمرو، مرفوعًا "لا يزال العبد يسأل وهو غنيّ حتى يُخْلِقَ وجهَه، فلا يكون له عند الله وجه". وقال ابن أبي

جَمرة: معناه أنه ليس في وجهه شيء من الحُسْن، لأن حُسْن الوجه هو بما فيه من اللحم، ومال الملهب إلى حمله على ظاهره، وإلى أن السر فيه أن الشمس تدنو يوم القيامة، فإذا جاء لا لحم بوجهه كانت أَذِيَّةُ الشمس له أكثر من غيره. قال: والمراد به: مَنْ سأل تَكَثُّرًا وهو غني لا تحل له الصدقة، وأما من سأل وهو مضطر، فذلك مباح فلا يعاقب عليه، وبهذا تظهر مناسبة إيراد هذا الطرف من حديث الشفاعة عقب هذا الحديث. قال ابن المنير: لفظ الحديث قال على ذم تكثير السؤال، والترجمة لمن سأل تكثرًا، والفرق بينهما ظاهر، لكن لما كان المتوعد عليه، على ما تشهد به القواعد، هو السائل عن غنى، وأن سؤال ذي الحاجة مباحٌ، نزّل البخاري الحديث على من يسأل ليكثر ماله. وقوله: حتى يبلغ العرق نصف الأذن، وفي حديث أبي هُريرة في الرقاق "يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعًا، ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم" قال عياض: يحتمل أن يريد عرق الإنسان نفسه بقدرخوفه مما يشاهد من الأهوال، ويحتمل أن يريد عرقه وعرق غيره، فيشدد على بعض ويخفف على بعض، وهذا كله بتزاحم الناس وانضمام بعضهم إلى بعض، حتى صار العرق يجري سائحًا في وجه الأرض، كالماء في الوادي، بعد أن شربت منه الأرض، وغاص فيها سبعين ذراعًا. واستشكل بأن الجماعة إذا وقفوا في الماء الذي على أرض معتدلة، كانت تغطية الماء لهم على السواء، لكنهم إذا اختلفوا في الطول والقصر، تفاوتوا، فكيف يكون الكل إلى الأذن؟ الجواب أن ذلك من الخوارق الواقعة يوم القيامة. والأولى أن تكون الإشارة بمن يصل الماء إلى أذنيه، إلى غاية ما يصل الماء، ولا ينفي أن يصل الماء لبعضهم إلى دون ذلك. قلت: الأولى في الجواب عندي أن الناس يوم القيامة على طول رجل واحد، كما ورد في الصحيح. وقد أخرج الحاكم عن عقبة بن عامر، رفعه، "تدنو الشمس من الأرض يوم القيامة، فيعرق الناس، فمنهم من يبلغ عرقه عقبه، ومنهم من يبلغ ساقه، ومنهم من يبلغ ركبته، ومنهم من يبلغ فخذه، ومنهم من يبلغ خاصرته، ومنهم من يبلغ منكبه، ومنهم من يبلغ فاه، وأشار بيده فألجمها فاه، ومنهم من يغطيه عرقه، وضرب بيده على رأسه". وله شاهد عند مسلم، من حديث المقداد بن الأسود، وليس بتمامه، وفيه "تُدَنّى الشمسُ يوم القيامة من الخلق، حتى تكون منهم كمقدار ميل، فتكون الناس على مقدار أعمالهم في العرق .. " الحديث. فإنه ظاهر في أنهم يستوون في وصول العرق إليهم، ويتفاوتون في حصوله فيهم. وقوله، في الحديث: سبعين ذراعًا، في رواية الإسماعيلي عن سُليمان بن بلال "سبعين باعًا"، وعند الطبرانيّ والبيهقيّ عن ابن مسعود "أن الرجل ليفيض عرقًا حتى يسيح في الأرض قامة، ثم يرفع حتى يبلغ أنفه" وفي رواية عنه عند أبي يعلى، وصححها ابن حِبّان أن الرجل ليلجمه العرق

يوم القيامة حتى يقول: يا ربِّ، أرِحني ولو إلى النار" وقد جاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن الذي يلجمه العرق الكافر. أخرجه البيهقيّ في البعث عنه، بسند جيد، قال: "يشتد كرب ذلك اليوم حتى يلجم الكافرَ العرقُ. قيل له: أين المؤمنون؟ قال: على الكراسي من ذهب، ويظلل عليهم الغمام". وبسند قوي عن أبي موسى قال: الشمس فوق رؤوس الناس يوم القيامة، وأعمالهم تظلهم. وأخرج ابن المبارك في الزهد، وابن أبي شيبة في المصنف، واللفظ له بسند جيد، عن سلمان قال: "تعطى الشمس يوم القيامة حر عشر سنين، ثم تُدنى من جماجم الناس حتى تكون قاب قوسين، فيعرقون حتى يرشح العرق في الأرض قامة، ثم يرتفع حتى يفرغ الرجل" زاد ابن المبارك في روايته "ولا يضر حرها يومئذ مؤمنًا ولا مؤمنة". قال القرطبيّ: "المراد من يكون كامل الإيمان، لما يدل عليه حديث المقداد وغيره، أنهم يتفاوتون في ذلك بحسب أعمالهم". وأخرج أبو يعلى، وصححه ابن حبان، عن أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يوم يقوم الناس لرب العالمين قال: مقدار نصف يوم من خمسين ألف سنة، فيهون ذلك على المؤمن كتدلي الشمس إلى أن تغرب" قلت: الظاهر تقييد هذا بما قيد به القرطبيّ الذي قبله. وأخرج أحمد وابن حِبان عن أبي سعيد والبَيْهقيّ عن أبي هريرة "يحشر الناس قيامًا أربعين سنة، شاخصة أبصارهم إلى السماء، فيلجمهم العرق من شدة الكرب". وهذا كله كالصريح في أن وقوعه في الموقف، وقد ورد أن التفصيل الذي في حديث عقبة والمقداد، يقع مثله لمن يدخل النار، فقد أخرج مسلم عن سمرة، رفعه: "ان منهم من تأخذه النار إلى ركبته، ومنهم من تأخذه إلى حَجْزته"، وفي رواية "إلى حَقْويه"، "ومنهم من تأخذه إلى عنقه" وهذا يحتمل أن تكون النار فيه مجازًا عن شدة الكرب الناشىء عن العرق، فيتحد الموردان، ويحتمل أن يكون ورد في حق من يدخل النار من الموحدين، فإن أحوالهم في التعذيب تختلف بحسب أعمالهم، وأما الكفار فإنهم في الغمرات. قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة. ظاهر الحديث تعميم الناس بذلك، ولكن دلت الأحاديث الأخرى على أنه مخصوص بالبعض، وهم الأكثر، ويستثنى الأنبياء والشهداء، ومن شاء الله فأشهدهم في العرف الكفار، ثم أصحاب الكبائر، ثم من بعدهم، والمسلمون منهم قليل بالنسبة إلى الكفار. قال: والظاهر أن المراد بالذرائع في الحديث المتعارف، وقيل: هو الذراع المكي، ومن تأمل الحالة المذكورة عرف شدة الهول فيها، وذلك أن النار تحفُّ بأرض الموقف، وتدنى الشمس من الرؤوس قدر ميل، فكيف تكون حرارة تلك الأرض؟ وماذا يرويها من العرق حتى يبلغ منها سبعين ذراعًا؟ مع أن كل واحد لا يجد إلا قدر موضع قدمه، فكيف تكون حالة هؤلاء في عرقهم مع تنوعهم فيه؟ إن هذا لمما يبهر العقول، ويدل على عظيم القدرة، ويقتضي الإيمان بأمور الآخرة، وأن ليس للعقل فيها مجال، ولا يعترض عليها بعقل ولا قياس ولا عادة، وإنما يؤخذ بالقبول، ويدخل تحت

الإيمان بالغيب، ومن توقف في ذلك دل على خسرانه وحرمانه. وفائدة الإخبار بذلك أن يتنبه السامع، فيأخذ في الأسباب التي تخلصه من تلك الأهوال، ويبادر إلى التوبة من التبعات، ويلجأ إلى الكريم الوهاب في عونه على أسباب السلامة، ويتضرع إليه في سلامته من دار الهوان، وإدخاله دار الكرامة بمنه وفضله. وقوله: استغاثوا بآدم ثم بموسى، الخ وقع هنا اختصار، ويأتي في الرقاق، في حديث الشفاعة الطويل أن الاستغاثة أولًا بآدم، ثم نوح، ثم بإبراهيم، ثم بموسى، ثم بعيسى، ثم بمحمد عليهم الصلاة والسلام، وهو لأنس، وأوله "يجمع الله الناس يوم القيامة، فيقولون: لو استشفعنا على ربنا حتى يريحنا من مكاننا، فيأتون آدم، فيقولون: أنت الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة، فسجدوا لك، فاشفع لنا عند ربنا، فيقول: لست هناكم، ويذكر خطيئته، ويقول: ائتوا نوحًا". وقوله يجمع الله الناس يوم القيامة، إلخ وفي رواية المستملي "جمع"، بصيغة الماضي، والأول المعتمد، وفي رواية معبد بن هلال عند المصنف في التوحيد "إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضُهم في بعض" وأول حديث أبي هريرة في التفسير "أنا سيد الناس يوم القيامة، يجمع الله الناس الأولين والآخرين في صعيد واحد، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، فيبلغ الناس من الفم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون" وفي رواية عنه "وتدنو الشمس من رؤوسهم، فيشتد عليهم حرها، ويشق عليهم دنوها، فينطلقون من الضجر، والجزع مما هم فيه"، وأول حديث أبي بكر عند مسلم "عرُض عليَّ ما هو كائن من أمر الدنيا والآخرة، يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيفظع الناس لذلك، والعرق كاد يلجمهم". وقد مرَّ حديث المقداد في هذا، وحديث سلمان الفارسي. وفي رواية النضر بن أنس عن أنس عند أحمد "نعم ما هم فيه، والخلق ملجمون بالعرق، وأما المؤمن فهو عليه كالزكمة، وأما الكافر فيغشاه الموت" وفي حديث عُبادة بن الصامت "إني لسيد الناس يوم القيامة بغير فخر، وما من الناس إلا من هو تحت لوائي ينتظر الفرج، وإن معي لواء الحمد". وفي رواية هشام الدستوائيّ عند المصنف في التفسير، ورواية سعيد بن أبي عَروبة كذلك، ورواية همام في التوحيد "يجتمع المؤمنون" وتبين من رواية النضر بن أنس أن التعبير بالناس أرجح، لكن الذين يطلبون الشفاعة هم المؤمنون. وقوله: فيقولون لو استشفعنا، وفي رواية مسلم "فيُلْهَمون ذلك" وفي لفظ "فيهتمون بذلك" وفي رواية همام "حتى يهتموا بذلك". وقوله: على ربنا، في رواية هشام وسعيد "إلى ربنا". توجه بأنه ضمن معنى استشفعنا سعى، لأن الاستشفاع طلب الشفاعة، وهي انضمام الأدنى إلى الأعلى، ليستعين به على ما يرومه. وفي حديث حُذيفة وأبي هُريرة معًا، عند مسلم، "يجمع الله الناس يوم القيامة، فيقوم المؤمنون حتى تُزْلَف لهم الجنة، فيأتون آدم" و"حتى" غاية لقيامهم المذكور، ويؤخذ

منه أن طلبهم الشفاعة يقع حين تزلف لهم الجنة. وفي أول حديث أبي سعيد عند مسلم "أنا أول من تنشقُّ عنه الأرض" وفيه "فيفزع الناس ثلاث فزعات، فياتون آدم .. " الحديث. قال القرطبيّ: كأنَّ ذلك يقع إذا جيء بجهنم، فإذا زَفَرَت فَزِع الناس حينئذ، وَجَثوا على رُكَبهم. وقوله: حتى يريحنا، في رواية مسلم: فيريحنا، وفي رواية ثابت عن أنس "يطول يوم القيامة على الناس، فيقول بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى آدم أبي البشر، فليستشفع بنا إلى ربنا، فليقض بيننا" وفي رواية سَلْمان "فإذا رأوا ما هم فيه، قال بعضهم لبعض: ائتوا أباكم آدم" وفي رواية حُذيفة وأبي هُريرة "فيقولون: يا أبانا، استفتح لنا الجنة". وقوله: "فيأتون آدم، في رواية شيبان "فينطلقون حتى يأتوا آدم، فيقولون: أنت الذي .. " وفي حديث مُسلم "يا آدم أنت أبو البشر .. " وفي حديث أبي بكر "أنت أبو البشر، وأنت اصطفاك الله". وقوله: ونفخ فيك من روحه، زاد في رواية همام "وأسكنك جنته، وعلمك أسماء كل شيء". وقوله: فاشفع لنا عند ربنا، في رواية مسلم "عند ربك". زاد أبو هريرة "ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما بلغنا؟ " وقوله: لست هناكم، قال عياض: هو كناية عن أن منزلته دون المنزلة المطلوبة. قاله تواضعًا وإكبارًا لما يسألونه. قال: وقد يكون فيه إشارة إلى أن هذا المقام ليس لي بل لغيري، وفي رواية سعيد بن هلال "فيقول: لست لها" وكذا في بقية المواضع. وفي رواية حُذيفة "لست بصاحب ذاك" وهو يؤيد الإشارة المذكورة. وقال بعض العلماء: إن فيه استعمال ظرف المكان في الزمان، لأن هنا ظرف مكان، فاستعملت في ظرف الزمان، لأن المعنى لست في ذلك المقام. وفي هذا نظر، إنما هو ظرف مكان على بابه، لكنه المعنويّ لا الحسيّ، مع أنه يمكن حمله على الحسيّ، لما جاء من أنه عليه الصلاة والسلام يباشر السؤال بعد أن يستأذن في دخوله الجنة. وعلى قول من يفسر المقام المحمود بالقعود على العرش يتحقق ذلك أيضًا. وقوله: ويذكر خطيئته، زاد مسلم "التي أصاب" والراجع إلى الموصول محذوف، تقديره أصابها. زاد همام في روايته "أكْلَه من الشجرة وقد نُهِيَ عنها" وهو ينصب أكله بدل من خطيئته. وفي رواية هشام "فيتذكر ذنبه، فيستحي" وفي رواية ابن عباس عند أحمد "إني قد أُخرجتُ بخطيئتي من الجنة" وفي رواية أبي سعيد "وإني أَذنبتُ ذنبًا فأُهبطْتُ به إلى الأرض" وفي رواية حُذيفة وأبي هُريرة معًا "هل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم؟ ". وفي رواية ثابت عن سعيد بن منصور "إني أخطأت وأنا في الفردوس، فإن يغفر لي اليوم حسبي" وفي حديث أبي هُريرة "إنَّ ربيّ غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيت، نفسي نفسي نفسي، إذهبوا إلى غيري". وقوله: ائتوا نوحًا أول رسول بعثه الله، فيأتونه، فيقول: لست هناكم، ويذكر خطيئته. وقوله. ائتوا نوحًا، في رواية مسلم: ولكن ائتوا نوحًا أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، فيأتون نوحًا. وفي رواية هشام "فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل

الأرض" وفي حديث أبي بكر انطلقوا إلى أبيكم بعد أبيكم إلى نوح، ائتوا عبدًا شاكرًا، وفي حديث أبي هُريرة "اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحًا، فيقولون: يا نوح، أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وقد سماك الله عبدًا شكورًا، وفي حديث أبي بكر "فينطلقون إلى نوح، فيقولون: يا نوح، اشفع لنا إلى ربك، فإن الله اصطفاك. واستجاب لك في دعائك، ولم يدع على الأرض من الكافرين دَيّارًا". ويجمع بينهما بأن آدم سبق إلى وصفه بأنه أول رسول، فخاطبه أهل الموقف بذلك، وقد استشكلت هذه الأولية بأن آدم نبي مرسل، وكذا شيث وإدريس. وهو قل نوح، وقد مرَّ الجواب عن ذلك في شرح حديث جابر "أعطيت خمسًا" في كتاب التيمم. وفيه: وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة. ومحصل الأجوبة عن الإشكال المذكور، أن الأولية مقيدة بقوله "أهل الأرض" لأن آدم ومن معه، لم يرسلوا إلى أهل الأرض، واستشكل عليه حديث جابر، ويجاب بأنَّ بعثته إلى أهل الأرض باعتبار الواقع، لصدق أنهم قومه، بخلاف عموم بعثة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، لقومه ولغير قومه، أو الأولية مقيدة بكونه أهلك قومه، أو أن الثلاثة كانوا أنبياء، ولم يكونوا رسلًا، وإلى هذا جنح ابن بطال في حق آدم، وتعقبه عياض بما صححه ابن حِبّان عن أبي ذَرٍّ، فإنه كالصريح في أنه كان مرسلًا. وفي التصريح بإنزال الصحف على شيث، وهو من علامات الإِرسال، وأما إدريس فذهبت طائفة إلى أنه كان في بني إسرائيل، وهو إلياس، ويأتي ذلك إن شاء الله تعالى في أحاديث الأنبياء. ومن الأجوبة أن رسالة آدم كانت إلى بنيه، وهم موحدون، ليعلمهم شريعته، ونوح كانت رسالته إلى قوم كُفّار، يدعوهم إلى التوحيد. وقوله: فيقول لست هناكم، ويذكر خطيئته، في رواية هشام "يذكر سؤاله ربه ما ليس له به علم" وفي رواية سعيد بن هلال مثل جواب آدم، لكنه قال: "وإنه كان لي دعوة دعوتُ بها على قومي". وفي حديث ابن عباس "فيقول ليس ذاكم عندي" وفي حديث أبي هريرة "إني دعوت بدعوة أغرقتْ أهل الأرض". ويجمع بينه وبين الأول بأنه اعتذر بأمرين: أحدهما نهي الله تعالى له أن يسأل ما ليس له به علم، فخشي أن تكون شفاعته لأهل الموقف من ذلك. ثانيهما: أن له دعوة واحدة محققة الإجابة، وقد استوفاها بدعائه على أهل الأرض، فخشي أن يطلب فلا يجاب. وقال بعض الشراح: كان الله وعد نوحًا أن ينجيه وأهله، فلما غرق ابنه ذكر لربه ما وعده، فقيل له: المراد من أهلك من آمن وعمل صالحًا، فخرج ابنك منهم، فلا تسأل ما ليس لك به علم، وقد سقط من حديث حُذيفة المقرون بحديث أبي هُريرة ذكرُ نوح، فقال في قصة آدم "اذهبوا إلى ابني إبراهيم" وكذا سقط في حديث ابن عمر، والعمدة على من حفظ، وذكر الغزاليّ في كشف علوم الآخرة أن بين إتيان أهل الموقف آدم، وإتيانهم نوحًا ألف سنة، وكذا بين كل نبي ونبي إلى نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-. قال في الفتح: ولم أقف لذلك على أصل، ولقد أكثر في هذا الكتاب من إيراد أحاديث لا أصول لها، فلا يغتر بشيء منها. وقوله: ائتوا إبراهيم الذي اتخذه الله خليلًا، فيأتونه، فيقول: لست هناكم، ويذكر خطيئته. في رواية مسلم "ولكن ائتوا إبراهيم الذي اتخذه الله خليلًا. وفي

رواية معبد بن هلال "ولكن عليكم بإبراهيم، فهو خليل الله. وقوله: فيأتونه، في رواية مسلم: فيأتون إبراهيم، زاد أبو هريرة "فيقولون: يا إبراهيبم، أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، قم اشفع لنا إلى ربك .. " وذكر مثل ما لآدم قولًا وجوابًا، إلا أنه قال: قد كنت كذبت ثلاث كذبات، وذكرهن. وقوله: فيقول: لست هناكم، ويذكر خطيئته، زاد مسلم "التي أصاب، فيستحي ربه منها" وفي حديث أبي بكر "ليس ذاكم عندي" وفي حديث همام "إني كنت كذبت ثلاث كذبات" زاد شيبان قوله "إني سقيم". وقوله: فعله كبيرهم هذا، وقوله لامرأته: أخبريه أني أخوك .. وفي رواية أبي سعيد: فيقول إني كذبت ثلاث كذبات. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "ما منها كذبة إلا ما حل بها عن دين الله" وما حل بمعنى جادل وزنًا ومعنى. وفي رواية حُذيفة المقرونة: لست بصاحب ذاك، إنما كنت خليلًا من وراءَ وراءَ، ضبط بفتح الهمزة وضمها. واختلف الترجيح فيهما. قال النووي: أشهرهما الفتح بلا تنوين، ويجوز بناؤهما على الضم، وصوبه أبو البقاء والكنديّ، وصوب ابن دَحْية الفتح على أن الكلمة مركبة مثل شَذَرَمَذَر، وإن ورد منصوبًا منونًا جاز، ومعناه: لم أكن في التقريب. والإدلال بمنزلة الحبيب قيل: هذه كلمة تقال على سبيل التواضع، أي: لست في تلك الدرجة. قال صاحب التجريد: وقد وقع لي فيه معنى مليح، وهو أن الفضل الذي أعطيته كان بسفارة جبريل، ولكن ائتوا موسى الذي كلمه الله بلا واسطة، وكرر وراء، إشارة إلى نبينا -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه حصلت له الرؤية والسماع بلا واسطة، فكأنه قال: أنا وراء موسى الذي هو وراء محمد. قال البيضاويّ: والحق أن الكلمات الثلاث إنما كانت من معاريض الكلام، لكن لما كانت صورتها صورة الكذب، أشفق منها استصغارًا لنفسه عن الشفاعة، مع وقوعها، لأن من كان أعرف بالله تعالى وأقرب إليه منزلة، كان أعظم خوفًا. وقوله: ائتوا موسى الذي كلمه الله، فيأتونه، فيقول: لست هناكم، فيذكر خطيئته. قوله: كلمه الله، في رواية مسلم "ولكن ائتوا موسى" وزاد: وأعطاه التوراة، وفي رواية معبد بن هلال "ولكن عليكم بموسى فهو كليم الله" وفي رواية الإسماعيليّ "عبدًا أعطاه الله التوراة، وكلمه تكليمًا" زاد همام "وقربه نجيًا" وقوله: فيأتونه، في رواية مسلم "فيأتون موسى، فيقول" وفي رواية أبي هريرة "فيقولون: يا موسى، أنت رسول الله، فضلك الله برسالته، وكلامه، على الناس، اشفع لنا. فذكر مثل آدم قولًا وجوابًا، لكنه قال: إني قتلت نفسًا لم أُومر بقتلها". وقوله: فيذكر خطيئته، زاد مسلم التي أصاب قَتْل النفس، وللإسماعيليّ: فيستحي ربه منها، وفي رواية سعيد بن منصور: اني قتلت نفسًا بغير نفس، وأن يغفر لي اليوم حسبي. وقوله: ائتوا عيسى، فيأتونه فيقول: لست هناكم، وقوله: ائتوا عيسى، زاد مسلم "رُوح الله وكلمته" وفي رواية هشام عبد الله ورسوله وكلمته "وروحه" وفي حديث أبي بكر "فإنه كان يبرىء الأكمه والأبرص،

ويحي الموتى. وقوله: فيأتونه، في رواية مسلم "فيأتون عيسى، فيقول: لست هناكم". وفي رواية أبي هريرة "فيقولون: يا عيسى، أنت رسول الله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، وكلمت الناس في المهد صبيًا، إشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فذكر مثل آدم قولًا وجوابًا، لكن قال: ولم يذكر سببًا، لكن في التِّرمذيّ عن أبي سعيد أني عُبدت من دون الله، وفي رواية أحمد والنَّسائيّ عن ابن عباس "إني اتُّخِذْت إلهًا من دون الله". وعند سعيد بن منصور نحوه، وزاد "وإن يغفر لي اليوم حسبي". وقوله "ائتوا محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، فقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتوني، فاستأذن على ربي .. الخ". في رواية مسلم "عبد غفر له .. " الخ. وفي رواية معتمر "انطلقوا إلى ما جاء مغفورًا له، ليس عليه ذنب" وفي رواية ثابت "خاتم النبيين قد حضر اليوم، أرأيتم لو كان متاع في وعاء قد ختم عليه، أكان يقدر على ما في الوعاء حتى يُفَضَّ الخاتَم؟ " وعند سعيد بن منصور "فيرجعون إلى آدم فيقول: أرأيتم .. الخ" وفي حديث أبي بكر "ولكن انطلقوا إلى سَيِّد وَلَد آدم، فإنه أول من تنشق عنه الأرض". وقد اختلفوا في تأويل قوله تعالى {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} وقد مرَّ ما فيه من الخلاف في حديث باب "أنا أعلمكم بالله" من كتاب الإيمان. ويستفاد من قول عيسى في حق نبينا هذا، ومن قول موسى: إني قتلت نفسًا بغير نفس، وإن يغفر لي اليوم حسبي، مع أن الله غفر له بنص القرآن العظيم -التفرقةُ بين من وقع منه شيء، ومن لم يقع منه شيء أصلًا، فإن موسى عليه السلام مع وقوع المغفرة له، لم يرتفع اشفاقه من المؤاخذة بذلك، ورأى في نفسه تقصيرًا عن مقام الشفاعة مع وجود ما صدر منه، بخلاف نبينا -صلى الله عليه وسلم- في ذلك كله، ومن ثمَّ احتج عيسى بأنه صاحب الشفاعة، لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، بمعنى أن الله أخبر أنه لا يؤاخذه بذنب لو وقع منه. وقوله: فيأتوني، في رواية النضر بن أنس عن أبيه؛ حدثني نبي الله -صلى الله عليه وسلم- قال: إني لقائم ثمَّ انتظر أمتي تعبر الصراط، إذ جاء عيسى فقال: يا محمد، هذه الأنبياء قد جاءتك يسألون لتدعو الله أن يفرق جمع الأمم إلى حيث يشاء، نعم ما هم فيه". فأفادت هذه الرواية تعيين موقف النبي -صلى الله عليه وسلم- حينئذ، وأن هذا الذي وصف من كلام أهل الموقف، كله يقع عند نصب الصراط، بعد تساقط الكفار في النار، كما يأتي قريبًا، وأن عيسى عليه السلام، هو الذي يخاطب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأن الأنبياء جميعًا يسألونه في ذلك. وأخرج التِّرمذيّ وغيره عن أبيّ بن كعب في نزول القرآن على سبعة أحرف، وفيه وأخرت الثالثة ليوم ترغب إلى فيه الخلق حتى إبراهيم عليه السلام، وفي رواية معبد بن هلال "فيأتؤني فأقول: أنا لها" زاد عقبة بن عامر في الزهد لابن المبارك "فيأذن الله لي فأقوم، فيثور من مجلسي أطيب ريح شمها أحد" وفي حديث سلمان بن أبي بكر بن أبي شيبة "يأتون محمدًا فيقولون: يا نبي الله، أنت

الذي فتح الله بك، وختم، وغفر لك ما تقدم وما تأخر، وجئت في هذا اليوم آمنًا، وترى ما نحن فيه، فقم فاشفع لنا إلى ربنا، فيقول: أنا صاحبكم، فيجوش الناس حتى ينتهي إلى باب الجنة". وفي رواية معتمر، فيقول: أنا صاحبها. وقوله: فأستأذن، في رواية هشام "فأنطلق حتى أستأذن" وقوله: على ربي، زاد همام "في داره، فيؤذن لي" قال عياض: أي: في الشفاعة، وتعقب بأن ظاهر ما تقدم أن استئذانه الأول والإذن له إنما هو في دخول الدار، وهي الجنة. وأضيفت إلى الله تعالى إضافة تشريف ومِنَّة، والله يدعو إلى دار السلام على القول بأن المراد بالسلام هنا الاسم الأعظم، وهو من أسمائه تعالى. قيل: الحكمة في انتقال النبي -صلى الله عليه وسلم-، من مكانه إلى دار السلام أن أرض الموقف لما كانت مقام عرض وحساب، كانت مكان مخافة واشفاق، ومقام الشافع يناسب أن يكون مكان إكرام، ومن ثم يستحب أن يتحرى للدعاء المكان الشريف، لأن الدعاء فيه أقرب للإجابة. وقد جاء في بعض طرقه من جملة سؤال أهل الموقف استفتاح باب الجنة. وفي صحيح مسلم أنه أول من يستفتح باب الجنة، وفي رواية علي بن زيد عند التِّرمذيّ "فآخذ حلقة باب الجنة، فأقعقعها، فيقال: من هذا؟ فأقول: محمد، فيفتحون ويرحبون، فأَخِرُّ ساجدًا" وعند مسلم عن أنس "فيقول الخازن: من؟ فأقول: محمد، فيقول بك أُمرت أن لا أفتح لأحد قبلك". وله أيضًا عن أنس، رفعه "أنا أول من يقرع باب الجنة" وفي رواية عن أنس "آتي باب الجنة فاستفتح فيقال: من هذا؟ فأقول: محمد، فيقال: مرحبًا بمحمد" وفي حديث سلمان "فيأخذ بحلقة الباب، وهي من ذهب، فيقرع الباب فيقال: من هذا؟ فيقول: محمد، فيفتح له، حتى يقوم بين يدي الله، فيستأذن في السجود فيؤذن له" وفي حديث أبي بكر "فيأتي جبريل ربَّه، فيقول: ائذن له" وقوله: فإذا رأيته وقعت له ساجدًا، في رواية أبي بكر "فآتي تحت العرش، فأقع ساجدًا لربي" وعند ابن وحِبّان عن أنس "فيتجلى له الرب، ولا يتجلى لشيء قبله" وعند أبي يعلى عن أُبيّ بن كعب، رفعه "يعرفني الله نفسه، فأسجد له سجدة يرضى بها عني، ثم أمتدحه بِمدحةٍ يرضى به عني". وقوله: فيدعني ما شاء الله، زاد مسلم "أن يدعني" وفي حديث عبادة بن الصامت "فإذا رأيت ربي خررت له ساجدًا له" وفي رواية معبد بن هلال "فأقوم بين يده، فيلهمني محامد لا أقدر عليها الآن، فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجدًا، وفي حديث أبي بكر الصديق "فينطلق إليه جبريل فيخر ساجدًا قدر جُمعة" وقوله: ثم يقال لي ارفع رأسك، في رواية مسلم "فيقال: يا محمد". وكذا في أكثر الروايات، وفي رواية النضر بن أنس "فأوحى الله إلى جبريل أن اذهب إلى محمد فقل له ارفع رأسك" فعلى هذا المعنى يقول لي على لسان جبريل. وقوله: وسَلْ تُعْطَه، وقيل يسمع، واشفع تُشَفَّع، وفي رواية مسلم بغير "واو" وفي أكثر الروايات سقوط "وقلْ يسمع" وفي

حديث أبي بكر "فيرفع رأسه فإذا نظر إلى ربه خر ساجدًا قدر جُمعة"، وفي حديث سلمان "فينادي: يا محمد، ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع، وادع تجب". وقوله: فأرفع رأسي، فأحمد ربي بتحميد يعلمني، وفي رواية هشام "يعلمنيه" وفي رواية ثابت "بمحامد لم يحمده بها أحد قبلي، ولا يحمده بها أحد بعدي" وفي حديث سلمان "فيفتح الله له من الثناء والتحميد والتمجيد ما لم يفتح لأحد من الخلائق" وكأنه -صلى الله عليه وسلم- يلهم التحميد قبل سجوده وبعده" وفيه، يكون في كل مكان ما يليق به، وقد ورد ما لعله يفسر به بعض ذلك، لا جميعه، ففي النَّسائي ومصنف عبد الرزاق ومعجم الطبرانيّ، عن حذيفة، رفعه، قال: "يجمع الناس في صعيد واحد فيقال: يا محمد، فأقول: لبيك وسعديك، والخير في يديك، والمهدي من هَديت، وعبدك بين يديك، وبك وإليك، تباركت وتعاليت، سبحانك لا ملجأ ولا منجي منك إلا إليك" زاد عبد الرزاق "سبحانك رب البيت" فذلك قوله {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} قال ابن مَنْده: هذا حديث مُجْمع على صحة إسناده، وثقة رجاله. وقوله: ثم أشفع فيحد لي حدًا، في رواية معبد "فأقول: ربِّ أمتي أمتي أمتي، فيحد لي حدًا" أي: يبين لي في كل طور من أطوار الشفاعة حدًا أقف عنده، فلا أتعداه، مثل أن يقول: شفَّعتك فيمن أخل بالجماعة، ثم فيمن أخل بالصلاة، ثم فيمن شرب الخمر، ثم فيمن زنى، وعلى هذا الأسلوب حكاه الطيبيّ، والذي يدل عليه سياق الأخبار أن المراد به تفضيل مراتب المخرجين في الأعمال الصالحة، كما عند أحمد. وفي رواية ثابت عند أحمد "فأقول: أيْ ربّ أمتي أمتي، فيقول: أخرج من كان في قلبه مثقال شعيرة" وفي طريق النضر بن أنس قال: "فشفعت في أمتي أن أخرج من كل تسعة وتسعين إنسانًا واحدًا، فما زلت أتردد على ربي لا أقوم منه مقامًا إلا شفعت". وقد مرَّ الكلام على هذا في كتاب الإيمان، وفي أبواب صفة الصلاة في باب فضل السجود. وقوله: ثم أخرجهم من النار، وأدخلهم الجنة، قال الداوديّ: كأنَّ راوي هذا الحديث ركّب شيئاً على غير أصله، وذلك أن في أول الحديث ذكر الشفاعة في الإراحة من كرب الموقف، وفي آخره ذكر الشفاعة في الإِخراج من النار، يعني: وذلك إنما يكون بعد التحول من الموقف، والمرور على الصراط، وسقوط من يسقط في تلك الحالة في النار، ثم تقع بعد ذلك الشفاعة في الإخراج. وهو إشكال قويّ، وقد أجاب عنه عياض وتبعه النوويّ وغيره، بأنه قد وقع في حديث حُذيفة المقرون بحديث أبي هُريرة، بعد قوله "فيأتون محمدًا فيقوم، ويؤذن له" أي: في الشفاعة "وترسل الأمانة والرحم، فيقومان جنبي الصراط يمينًا وشمالًا، فيمر أولكم كالبرق .. " الحديث. قال عياض: فبهذا يتصل الكلام، لأن الشفاعة التي لجأ الناس إليه فيها، هي الإراحة من كرب الموقف، ثم تجيء الشفاعة في الإخراج. وقد جاء في حديث أبي هريرة بعد ذكر الجمع في الموقف الأمرُ باتباع كل أمة ما كانت تعبد،

ثم تمييز المنافقين من المؤمنين، ثم حلول الشفاعة بعد وضع الصراط والمرور عليه، فكأن الأمر باتباع كل أمة ما كانت تعبد هو أول فصل القضاء، والإراحة من كرب الموقف. قال: وبهذا تجتمع متون الأحاديث، وتترتب معانيها، فكأنّ بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر، فظهر أنه عليه الصلاة والسلام أول ما يشفع ليقضي بين الخلق، وأن الشفاعة فيمن يخرج من النار ممن سقط، تقع بعد ذلك. وفي حديث ابن عمر الذي في الباب "فيشفع ليقضي بين الخلق، فيمشي حتى يأخذ بحلَقَة الباب، فيومئذ يبعثه الله مقامًا محمودًا يحمده أهل الجمع كلهم". وفي حديث أُبيّ بن كعب عند أبي يعلى "ثم أمتدحه بمدحة يرضى بها مني، ثم يؤذن لي في الكلام، ثم تمر أمتي على الصراط، وهو منصوب بين ظهراني جهنم، فيمرون، وفي رواية ابن عباس عند أحمد فيقول عز وجل: "يا محمد، ما تريد أن أصنع في أمتك؟ فأقول: يا ربِّ عجل حسابهم وفي رواية عنه أيضًا عند أحمد وأبي يعلى: فأقول: أنا لها حتى يؤذن الله لمن يشاء ويرضى، فإذا أراد الله أن يفرغ من خلقه نادى منادٍ أين محمد وأمته؟ ... الحديث وتعرض الطيبي للجواب عن الإشكال بطريق آخر فقال: يجوز أن يراد بالنار الحبس والكرب والشدة التي كان أهل الموقف فيها من دنو الشمس إلى رؤوسهم وكربهم، بحرِّها وسفعها، حتى الجمهم العرق. وإن يراد بالخروج منها خلاصهم من تلك الحالة التي كانوا فيها، وهو احتمال، إلا أن يقال إنه يقع اخراجان ذكر أحدهما في حديث الباب على اختلاف طرقه، والمراد به الخلاص من كرب الموقف والثاني في الحديث المتقدم في باب فضل السجود. ويكون قوله فيه: من كاتن يعبد شيئًا فليتبعه بعد تمام الخلاص من الموقف، ونصب الصراط، والإذن في المرور عليه، ويقع الإخراج الثاني لمن يسقط في النار حال المرور، فيتحدا. وقد مرّت الإشارة إلى هذا عند الكلام على "حتى يبلغ العرق نصف الأذن" وأجاب القرطبيّ عن أصل الإشكال بأن في قوله في حديث أبي هريرة، بعد قوله عليه الصلاة والسلام "فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقال: ادخل من أمنك من الباب الأيمن من أبواب الجنة مَنْ لا حساب عليهم. ولا عذاب"، قال: في هذا ما يدل على أن النبي -صلى الله عليه وسلم-، يشفع فيما طلب من تعجيل الحساب، فإنه لما أُذن له في إدخال مَنْ لا حساب عليه، دل على تأخير مَنْ عليه حساب ليحاسب. وفي حديث الصُّور الطويل عند أبي يعلى "فأقول: يا ربِّ، وعدتني الشفاعة فشفعني في أهل الجنة يدخلون الجنة. فيقول الله: قد شفعتك فيهم، وأذنت لهم في دخول الجنة". وهذا فيه إشعار بأن العرض والميزان وتطاير الصحف يقع في هذا الموطن، ثم ينادي المنادي ليتبع كل أمة من كانت تعبد، فيسقط الكفار في النار، ثم يميز بين المؤمنين والمنافقين بالامتحان بالسجود عند كشف الساق، ثم يؤذن في نصب الصراط والمرور عليه، فيطفأ نور المنافقين فيسقطون في النار أيضًا، ويمر المؤمنون عليه إلى الجنة، فمن العصاة من يسقط، ويوقف بعض من نُجِّيَ عند القنطرة للمقاصَّة بينهم، ثم يدخلون الجنة.

ونقل يحيى بن سلام البصريّ في تفسيره عن الكلبيّ قال: إذا دخل أهل الجنةِ الجنةَ، وأهل النارِ النارَ، بقيت زمرة من آخر زُمر الجنة، إذا خرج المؤمنون من الصراط بأعمالهم، فيقول آخر زمرة من زمر النار لهم، وقد بلغت النار منهم كل مبلغ: أما نحن فقد أُخذنا بما في قلوبنا من الشك والتكذيب، فما نفعكم أنتم توحيدكم. قال: فيصرخون عند ذلك يدعون ربهم، فيسمعهم أهل الجنة، فيأتون آدم، فذكر الحديث في إتيانهم الأنبياء المذكورين قبلُ، واحدًا واحدًا إلى محمد -صلى الله عليه وسلم-، فينطلق فيأتي رب العزة، فيسجد له حتى يأمره أن يرفع رأسه، ثم يسأله ما تريد، وهو أعلم به، فيقول: يا رب أُناس من عبادك أصحاب ذنوب لم يشركوا بك، وأنت أعلم بهم، فعيرهم أهل الشرك بعبادتهم إياك فيقول: "وعزتي لأخرجنهم"، فيخرجهم قد احترقوا، فينضح عليهم من الماء حتى ينبتوا، ثم يدخلون الجنة، فيسمون الجهنميين، فيغبطه عند ذلك الأولون والآخرون. فذلك قوله تعالى {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا}. وهذا لو ثبت لرفع الإشكال، لكن الكلبيّ ضعيفٌ، ومع هذا لم يسنده. ثم هو مخالف لصريح الأحاديث الصحيحة أن سؤال المؤمنين الأنبياء، واحدًا بعد واحد، إنما يقع في الموقف قبل دخول المؤمنين الجنة. وقد تمسك بعض المبتدعة من المرجئة بالاحتمال السابق في دعواه أن أحدًا من الموحدين لا يدخل النار أصلًا، وإنما المراد بما جاء أن النار تسفعهم وتلفحهم، وما جاء من الإخراج من النار جميعه محمول على ما يقع لهم من الكرب في الموقف، وهو تمسك باطل. وأقوى ما يرد عليه ما مرَّ في أول كتاب الزكاة، من حديث أبي هريرة في قصة مانعي الزكاة، واللفظ لمسلم "ما من صاحب ابل لا يؤدي حقها منها، إلا إذا كان يوم القيامة .. الخ" فهو قال على تعذيب من شاء الله من العُصاة بالنار حقيقةً، زيادة على كرب الموقف، وما ورد في سبب إخراج بقية الموحدين من النار، يرد على المبتدعة المذكورين. وقوله: ثم أعود فأقع ساجدًا مثله، في الثالثة أو الرابعة، وعند أحمد عن قتادة "ثم أعود الرابعة، فأقول: يا رب ما بقي إلا من حبسه القرآن" ولم يشك بل جزم بأن هذا القول يقع في الرابعة، وفي رواية معبد بن هلال عن أنس أن الحسن حدث معبدًا بعد ذلك بقوله "فأقوم الرابعة" وفيه قول الله "ليس ذلك لك" وأن الله يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وإن لم يعمل خيرًا قط، فعلى هذا فقوله "حبسه القرآن" يتناول الكفار، وبعض العصاة ممن ورد في القرآن في حقه التخليد، ثم يخرج العصاة في القبضة، ويبقى الكفار، ويكون المراد بالتخليد في حق العصاة المذكورين البقاء في النار بعد إخراج من تقدمهم. وقوله: إلا من حبسه القرآن، وكان قتادة يقول عند هذا أي: وجب عليه الخلود، وفي رواية هشام وسعيد "فأقول ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن، ووجب عليه الخلود، تعين أن قوله "وجب عليه الخلود" مدرج في المرفوع لما ذكر في رواية أبي عُوانة أنه تفسير من قتادة، فسر به من حبسه القرآن، أي: من أخبر القرآن بأنه يخلد في النار. وفي رواية شيبانُ "إلا من حبسه القرآن"

يقول وجب عليه الخلود، وقال {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} وفي رواية سعيد عند أحمد بعد قوله "إلا من حبسه القرآن" عن أنس بن مالك "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "فيخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة .. " الحديث. وقد سبق سياقه في كتاب الإيمان مفردًا، وفي رواية معبد بن هلال عن الحسن عن أنس قال: "ثم أقوم الرابعة، فأقول: أي ربّ، إئذن لي فيمن قال لا إله إلا الله، فيقول لي: ليس ذلك لك". فذكر بقية الحديث في إخراجهم. وقد تمسك به بعض المبتدعة في دعواهم أن من دخل النار من العُصاة لا يخرج منها، لقوله تعالى {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} وأجاب أهل السنة بأنها نزلت في الكفار، وعلى تسليم أنها نزلت في أعم من ذلك، فقد ثبت تخصيص الموحدين بالإخراج، ولعل التأبيد في حق من يتأخر بعد شفاعة الشافعين، حتى يخرجوا بقبضة أرحم الراحمين، فيكون التأبيد مؤقتًا. وقال عياض: استدل بهذا الحديث من جوز الخطايا على الأنبياء، كقول كل من ذكر فيه ما ذكر، وأجاب عن أصل المسألة بأنه لا خلاف في عصمتهم من الكفر بعد النبوة، وكذا قبلها على الصحيح، وكذا القول في الكبيرة على التفصيل المذكور، ويلتحق بها ما يزري بفاعله من الصغائر، وكذا القول في كل ما يقدح في الإبلاغ عن جهة القول، واختلفوا في الفعل، فمنعه بعضهم في النسيان، وأجاز الجمهور السهو، لكن لا يحصل التمادي، واختلفوا فيما عدا ذلك كله من الصغائر، فذهب جماعة من أهل النظر إلى عصمتهم منها مطلقًا، وأوَّلوا الأحاديث والآيات الواردة في ذلك بضروب من التأويل، ومن جملة ذلك أن الصادر منهم إما أن يكون بتأويل من بعضهم، أو بسهوٍ أو بإذن، لكن خشوا أن لا يكون ذلك موافقًا لمقامهم، فأشفقوا من المؤاخذة أو المعاتبة، قال: وهذا أرجح المقالات، وليس هو مذهب المعتزلة، وإن قالوا بعصمتهم مطلقًا، لأن منزعهم في ذلك التكفير بالذنوب مطلقًا، ولا يجوز على النبي الكفر، ومنزعنا أن أمة النبي مأمورة بالإقتداء به في أفعاله، فلو جاز منه وقوع المعصيه للزم الأمر بالشيء الواحد، والنهي عنه في حالة واحدة. وهو باطل. ثم قال عياض: وجميع ما ذكر في حديث الباب لا يخرج عما قلناه؛ لأن أكل آدم من الشجرة كان سهو، وطلبُ نوح نجاة ابنه كان عن تأويل، ومقالات إبراهيم كان معاريض، وأراد بها الخير، وقتيل موسى كان كافرًا، وفيه جوز إطلاق الغضب على الله تعالى، والمراد به ما يظهر من انتقامه ممن عصاه، وما يشاهده أهل الموقف من الأهوال التي لم يكن مثالها، ولا يكون. كذا قال النوويّ. وقال غيره: المراد بالغضب لازمه، وهو إرادة ايصال السوء للبعض. وقول آدم ومن بعده "نفسي نفسي نفسي" أي: التي تستحق أن يشفع لها؛ لأن المبتدأ والخبر كانا متحدين، فالمراد به بعض اللوازم، ويحتمل أن يكون أحدهما محذوفًا، وفيه تفضيل محمد -صلى الله عليه وسلم- على جميع الخلق، لأن الرسل والأنبياء والملائكة أفضل ممن سواهم. وقد ظهر فضله في هذا المقام عليهم.

رجاله ستة

قال القرطبيّ: ولو لم يكن في ذلك إلا الفرق بين من يقول نفسي نفسي، وبين من يقول أمتي أمتي، لكان كافيًا. وفيه تفضيل الأنبياء المذكورين فيه، على من لم يذكر فيه، لتأهلهم لذلك المقام العظيم دون من سواهم، وقد قيل: إنما اختُص المذكورون بذلك لمزايا أخرى لا تتعلق بالتفضيل، فآدم لكونه والد الجميع، ونوح لكونه الأب الثاني، وإبراهيم للأمر باتباع ملته، وموسى لأنه أكثر الأنبياء تبعًا، وعيسى لأنه أولى الناس بنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، كما ثبت في الحديث الصحيح. ويحتمل أن يكونوا اختُصوا بذلك لأنهم أصحاب شرائع عمل بها من بين من ذكر أولًا، ومن بعده. وفيه من الفوائد غير، ما ذكر، أن من طلب من كبير أمرًا مهمًا أن يقدِّم بين يدي سؤاله وصف المسؤول بأحسن صفاته، وأشرف مزاياه، ليكون ذلك أدعى لاجابته لسؤاله. وفيه أن المسؤول إذا لم يقدر على تحصيل ما سئل يعتذر بما يقبل منه، ويدل على من يظن أنه يكمل في القيام بذلك، فالدال على الخير كفاعله، وأنه يثني على المدلول عليه بأوصافه المقتضية لأهليته، ويكون أدعى لقبول عذره في الامتناع. وفيه العمل بالعام قبل البحث عن المخصص، أخذًا من قصة نوح في طلبه نجاة ابنه، وقد يتمسك به من يرى بعكسه. فيه أن الناس يوم القيامة يستصحبون حالهم في الدنيا من التوسل إلى الله تعالى في حوائجهم بأنبيائهم، والباعث على ذلك الإلهام كما مرَّ في صدر الحديث. وفيه أنهم يستشير بعضهم بعضًا، ويجمعون على الشيء المطلوب، وأنهم يغطى عنهم بعض ما علموه في الدنيا، لأن في السائلين من سمع هذا الحديث، ومع ذلك فلا يستحضر أحد منهم أن ذلك المقام يختص به نبينا عليه الصلاة والسلام، إذ لو استحضروا ذلك، لسألوه أول مرة، ولما احتاجوا إلى التردد من نبي إلى نبي، ولعل الله تعالى أنساهم ذلك للحكمة التي تترتب عليه من إظهار فضل نبينا -صلى الله عليه وسلم-. وقوله: زاد عبد الله بن صالح، حدثني الليث .. الخ، كذا عند أبي ذَرٍّ، وسقط قوله "ابن صالح" من رواية الأكثر، ولهذا جزم خَلَف وأبو نعيم أنه ابن صالح، وفي الإيمان لابن منده عن يحيى بن بكير، وعبد الله بن صالح، جميعًا عن الليث، وساقه بلفظ عبد الله بن صالح، ورواه البزار موصولًا عن عبد الله بن صالح وحده، والطبرانيّ في الأوسط، وابن منده في الإيمان عن عبد الله بن صالح، وزاد بعد قوله "استغاثوا بآدم" "فيقول: لست بصاحب ذلك" وتابع عبد الله بن صالح على هذه الزيادة عبد الله بن عبد الحكم عن الليث، أخرجه ابن مَنْدَه. وقوله: يأخذ بحلقة الباب، أي باب الجنة، أو هو مجاز عن القرب إلى الله تعالى، وقد مرَّ ما قيل في هذا عند قوله في الحديث "فاستأذن على ربي" ومرَّ الكلام على المقام المحمود مستوفى في باب الدعاء عند النداء. رجاله ستة: مرَّ محل ابن بكير والليث وابن عمر في الذي قبله، ومرَّ عبد الله بن صالح في متابعة بعد الرابع

لطائف إسناده

من بدء الوحي، ومرَّ حمزة بن عبد الله في الرابع والعشرين من العلم، ومرَّ عُبيد الله بن أبي جعفر في الثامن والثلاثين من الغُسل. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإفراد والعنعنة والسماع والقول، ورواته مصريون ما عدا حمزة مدني. أخرجه مسلم والنّسائيّ في الزكاة. ثم قال: وقال مُعلّى: حدثنا وهيب عن النعمان بن راشد عن عبد الله بن مسلم أخي الزُّهريّ، عن حمزة سمع ابن عمر، رضي الله عنهما، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، في المسألة. قوله: في المسألة، أي في الشق الأول من الحديث، دون الزيادة، وفي هذا الحديث أن هذا الوعيد يختص بمن أكثر السؤال لا من ندر ذلك منه، ويؤخذ منه جواز سؤال غير المسلم، لأن لفظ الناس يعم، وحكى عن بعض الصالحين أنه كان إذا احتاج سأل ذميًا، لئلا يعاقب المسلم بسببه لوْ ردّه. وهذا التعليق وصله البيهقيّ. ورجاله ستة: مرّ منهم مُعلّى بن أسَد في الرابع والثلاثين من الحيض، ومرّ وهيب في تعليق بعد الخامس عشر من الإيمان، ومرّ محل حمزة وعبد الله في الذي قبله. والباقي اثنان: الأول: النعمان بن راشد الجزري، أبو إسحاق الرَّقيّ، مولى بني أمية، يقال: إنه أخو إسحاق بن راشد، وقال أبو حاتم: لم يصح عندي ذلك، ذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال النَّسائي: صدوق فيه ضعف. وقال ابن مُعين مرة: ضعيف مضطرب الحديث، وقال مرة: ثقة. وقال العقيليّ: ليس بالقويّ، يعرف فيه الضعف. وقال ابن عديّ: احتمله الناس، وذكره يحيى القطان فضعفه جدًا. وقال أحمد: مضطرب الحديث، روى أحاديث مناكير. وقال البخاري وأبو حاتم: في حديثه وهم كثير، وهو في الأصل صدوق. روى عن الزُّهريّ وأخيه عبد الله وميمون بن مِهران وغيرهم. وروى عنه ابن جُريج، وهو من أقرانه، ووهيب بن خالد وحماد بن زيد وغيرهم. الثاني: عبد الله بن مسلم بن عُبيد الله بن شهاب الزُّهريّ المدنيّ، أبو محمد، أخو الزّهريّ الإمام، وكان الأكبر. قال ابن مُعين: ثقة، وقال النَّسائي: ثقة ثبت، وذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال الواقديّ: كان ثقة كثير الحديث. وقال ابن سَعد: كان ثقة قليل الحديث، وهو أشبه يروى عن الزهري يروى عنه. روى عن ابن عمر وأنس وحمزة بن عبد الله وغيرهم. وروى عنه ابنه محمد بن عبد الله والنعمان بن راشد وبكير بن الأشجّ وغيرهم. مات قبل أخيه. ثم قال المصنف:

باب قول الله عز جل لا يسألون الناس الحافا. وكم الغنى

باب قول الله عز جل لا يسألون الناس الحافًا. وكم الغنى وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا يجد غنى يغنيه لقول الله عَزَّ وَجَلَّ للفقراء الذين احصروا في سبيل الله إلى قوله فإن الله به عليم. قوله: إلحافًا، أي: سؤالًا إلحاحًا وإبرامًا. قال الطبري: ألحف السائل في مسألته إذا ألح، فهو مُلْحِف فيها. وقوله: لقول الله عَزَّ وَجَلَّ، اللام فيه لام التعليل، لأنه أورد الآية تفسيرًا لقوله في الترجمة: وكم الغنى، وكأنه يقول: وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- "ولا يجد غنى يغنيه" مبين لقدر الغنى، لأن الله تعالى جعل الصدقة للفقراء الموصوفين بهذه الصفة، أي: من كان كذلك، فليس بغنيّ، ومن كان بخلافها فهو بغنيّ، فحاصله أن شرط السؤال عدم وجدان الغنى، لوصف الله الفقراء بقوله {لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ} أي: تجارة؛ لأن من وجد ضربًا في الأرض فهو واجد لنوع من الغنى، والمراد بالذين أَحْصِروا الذين حصرهم الجهاد، أي: منعهم الاشتغال به من الضرب، في الأرض، أي: التجارة، لاشتغالهم به عن التكسب. قال ابن علية: كل مَحِيط يَحْصُر، بفتح أوله وضم الصاد، والأعذار المانعة تُحصِر، بضم المثناة وكسر الصاد، أي تجعل المرء كالمحاط به، و"للفقراء" يتعلق بمحذوف تقديره الإنفاق المقدم ذكره لهؤلاء. وأما قول المصنف في الترجمة: وكم الغنى، فلم يذكر فيه حديثًا صريحًا، فيحتمل أنه أشار إلى أنه لم يرد فيه شيء على شرطه، ويحتمل أن يستفاد المراد من قوله في حديث أبي هريرة "الذي لا يجد غنى يغنيه" فإن معناه لا يجد شيئًا يقع موقعًا من حاجته، فمن وجد ذلك كان غنيًا، وقد ورد فيه ما أخرجه التِّرمذيّ وغيره عن ابن مسعود، مرفوعًا "من سأل الناس وله ما يغنيه، جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش. قيل: يا رسول الله، وما يغنيه؟ قال: خمسون درهمًا، أو قيمتها من الذهب". وفي إسناده حكيم بن جُبير، وهو ضعيف، وقد مرَّ حديث أبي سعيد عند النَّسائي في باب الاستعفاف، وفيه "من سأل وله أوقية فقد ألحف" وأخرجه ابن حِبّان في صحيحه بلفظ "فهو مُلْحِف" وعند النَّسائي بلفظ "فهو المُلْحِف" وأخرج أبو داود عن عطاء بن يسار عن رجل من بني أسد له صحبة، في أثناء حديث مرفوع ق فيه: "من سأل منكم وله أوقية أو عَدْلها، فقد سأل إلحافًا". وأخرج أبو داود أيضًا، وصححه ابن حِبّان عن سهل بن الحنظلية، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "من سأل وعنده ما يغنيه، فإنما يستكثر من النار، فقالوا: يا رسول الله، وما يغنيه؟ قال: قدر ما يغذيه

الحديث التاسع والسبعون

ويعشيه". قال التِّرمذيُّ في حديث ابن مسعود: العمل على هذا عند بعض أصحابنا كالثَّوريّ وابن المبارك وأحمد وإسحاق. قال: ووسع قوم في ذلك، فقالوا: إذا كان عنده خمسون درهمًا أو أكثر، وهو محتاج، فله أن يأخذ من الزكاة، وهو قول الشافعيّ وغيره من أهل العلم. وقال الشافعي: قد يكون الرجل غنيًا بالدرهم مع الكسب، ولا يغنيه الألف مع ضعفه في نفسه وكثرة عياله، وفي المسألة مذاهب أخرى أحدها قول مالك أن الذي عنده ما يكفيه لعامه غنيٌّ، فلا يعطى من الزكاة، وتعطى عنده لمالِك نصابٍ لا يكفيه لعامه، ويعطى كفاية سنة. الثاني قول أبي حنيفة: إن الغني من ملك نصابًا، فيحرم عليه أخذ الزكاة، واحتج بحديث ابن عباس في بعث معاذ إلى اليمن، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- له "تؤخذ من أغنيائهم، فترد على فقرائهم"، فوصف من تؤخذ الزكاة منه بالغنيّ، وقد قال "لا تحل الصدقة لغني". ثالثها: أن حَدَّه من وجد ما يغذيه ويعيشه على ظاهر حديث سهل بن الحنظلية، حكاه الخطابيّ عن بعضهم، ومنهم من قال: وَجْهه من لا يجد غداء ولا عشاء على دائم الأوقات. رابعها: "أن حده أربعون درهمًا، وهو قول أبي عبيد بن سلام على ظاهر حديث أبي سعيد، وهو الظاهر من تصرف البخاريّ، لأنه اتبع ذلك قوله "لا يسألون الناس الحافًا" وقد تضمن الحديث المذكور أن من سأل وعنده هذا القدر، فقد سأل إلحافًا. الحديث التاسع والسبعون حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ الأُكْلَةُ وَالأُكْلَتَانِ، وَلَكِنِ الْمِسْكِينُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ غِنًى وَيَسْتَحْيِ أَوْ لاَ يَسْأَلُ النَّاسَ إِلْحَافًا. قوله: ليس المسكين، مِفعيل من السكون، فكأنه من قلة المال سكنت حركاته، ولذا قال تعالى {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} أي: لاصق بالتراب. وقوله: الأُكلة والأُكلتان، بالضم فيهما، ويؤيده ما في رواية الأعرج الآتية آخر الباب "اللُّقمة واللُّقمتان، والتمرة والتمرتان" وزاد فيه "الذي يطوف على الناس". قال أهل اللغة: الأُكلة بالضم، للقمة، وبالفتح المرة من الغداء والعشاء. وقوله: ليس له غنى، في رواية الأعرج "غنى يغنيه" وهذه صفة زائدة على اليسار المنفي، إذ لا يلزم من حصول اليسار للمرء أن يغنى به، بحيث لا يحتاج إلى شيء آخر، وكأن المعنى نفي اليسار المقيد بأنه يغنيه مع وجود أصل اليسار. وهذا كقوله تعالى {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}. وقوله: ويستحي، زاد في رواية الأعرج، "ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس" وهو بنصب يسأل ويصدق، وموضع الترجمة منه قوله "ليس له غِنى". وقد أورده المصنف في التفسير عن أبي هُريرة بطريق يظهر تعلقها بهذه الترجمة أكثر من هذه الطريق، ولفظه هناك "إنما المسكين الذي يتعفف، اقرأوا إن شئتم، يعني قوله {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} وكذا في تفسير ابن أبي حاتم، بزيادة "يعني".

رجاله أربعة

وأخرجه مسلم وأحمد من هذا الوجه بدونها، وفي الحديث أن المسكنة إنما تحمد مع العفة عن السؤال والصبر على الحاجة، وفيه استحباب الحياء في كل الأحوال، وحسن الإرشاد لوضع الصدقة، وأن يتحرى وضعها فيمن صفته التعفف دون الإلحاح. وفيه دلالة لمن يقول إن الفقير أسوأ حالًا من المسكين، وأن المسكين الذي له شيء، لكنه لا يكفيه، والفقير الذي لا شيء له، كما تقدم توجيهه. ويؤيده قوله تعالى {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} فسماهم مساكين مع أن لهم سفينة يعملون فيها، وهذا قول الشافعيّ وجمهور أهل الحديث والفقه. وعكس آخرون فقالوا: المسكين أسوأ حالًا من الفقير، وقال آخرون: هما سواء، وهذا قول ابن القاسم وأصحاب مالك، وقيل: الفقير الذي يسأل، المسكين الذي لا يسأل حكاه ابن بطال، وظاهره أيضًا أن المسكين من اتصف بالتعفف وعدم الإلحاف في السؤال، لكن قال ابن بطال: معناه المسكين الكامل، وليس المراد نفي أصل المسكنة عن الطواف، بل هي مثل قوله "أتدرون ما المفلس؟ " الحديث، وقوله تعالى {لَيْسَ الْبِرَّ ...} الآية. وكذا قرره القرطبيّ وغير واحد. رجاله أربعة: قد مرّوا، مرّ حجّاج بنُ منهال في الثامن والأربعين من الإيمان ومرّ شعبة في الثالث منه، وأبو هريرة في الثاني منه، ومرّ محمد بن زياد في الثلاثين من الوضوء. وهذا الحديث من الرباعيات. الحديث الثمانون حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنِ ابْنِ أَشْوَعَ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي كَاتِبُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنِ اكْتُبْ إِلَيَّ بِشَيْءٍ سَمِعْتَهُ مِنَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-. فَكَتَبَ إِلَيْهِ سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلاَثًا قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ. ذكره هنا مختصرًا، وذكره في كتاب الأدب والرِّقاق تامًا، فزاد فيه "عقوق الأمهات، ومنعًا وهات ووأد البنات" قوله: كره لكم ثلاثًا، قيل: وقال في رواية الشعبي: كان ينهى عن قيل وقال، وكذا للأكثر في جميع المواضع بغير تنوين، وفي رواية الكشميهنيّ: قيلًا وقال، والأول أشهر، وفيه تعقب على من زعم أنه جائز، ولم تقع به الرواية. قال الجوهريّ: قيل وقال اسمان، يقال: كثيرُ القيلِ والقالِ، فاستدل على أنهم اسمان بدخول الألف واللام. وفي حرف ابن مسعود {ذلك عيسى بن مريم قالُ الحق} بضم اللام، وقال ابن دقيق العبد: الأشهر فتح اللام فيهما، على سبيل الحكاية، وهو الذي يقتضيه المعنى لأن القيل والقال لو كانا اسمين بمعنى واحد، كالقول، لم يكن لعطف أحدهما على الآخر فائدة، بخلاف ما إذا كانا فعلين. وقال المحب الطبري: إذا كانا

اسمين، يكون الثاني تأكيدًا، والحكمة في النهي عن ذلك أن الكثرة من ذلك لا يؤمن معها وقوع الخطأ. وقال المحب الطبريّ: في قيلَ وقال ثلاثة أوجه: أحدها أنهما مصدران للقول، تقول: قلت قولًا وقيلًا وقالًا، والمراد في الأحاديث الإشارة إلى كراهة كثرة الكلام، لأنها تؤول إلى الخطأ. قال: وإنما كرره للمبالغة في الزجر عنه. ثانيها: إرادة حكاية أقاويل الناس، والبحث عنها ليخبر عنها، فيقول: قال فلان كذا، وقيل كذا، والنهي عنه إما للزجر عن الاستكثار منه، وإما لشيء مخصوص منه. وهو ما يكرهه المحكيُّ عنه. ثالثها: أن ذلك في حكاية الاختلاف في أمور الدين، كقوله: قال فلان كذا، وقال فلان كذا، ومحل كراهة ذلك أن يكثر من ذلك بحيث لا يؤمن مع الإكثار من الزلل، وهو مخصوص بمن ينقل ذلك من غير تثبت، ولكن يقلد من سمعه، ولا يحتاط لبيان الراجح. ويؤيد ذلك الحديث الصحيح "كفى بالمرء إثمًا أن يحدث بكل ما سمع" أخرجه مسلم. وفي شرح المِشكاة، قوله: قيل وقال، من قولهم: قيل كذا، وقال كذا، وبناؤهما على كونهما فعلين محكيين متضمنين للضمير، والإعراب على إجرائهما مجرى الأسماء خلوين من الضمير، ومنه قوله "إنما الدنيا قيل وقال" وإدخال حرف التعريف عليهما في قوله "ما يعرف القال القيل" لذلك. وقوله: وإضاعة الأموال، وفي رواية الكشميهنيّ "وإضاعة المال" وقد مرّ استيفاء الكلام غاية على هذه الكلمة، عند ذكرها تعليقًا في باب "لا صدقة إلا عن ظهر غِنى". وقوله: وكثرة السؤال، هو موضع الترجمة من الحديث، قال ابن التين: فهم منه البخاري سؤال الناس، ويحتمل أن يكون المراد السؤال عن المشكلات، أو ما لا حاجة للسائل به، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: "ذروني ما تركتكم" وحمله على المعنى الأعم أولَى، ويستقيم مراد البخاري مع ذلك، وقد ذهب بعض العلماء إلى أن المراد به كثرة السؤال عن أخبار الناس، وأحداث الزمان، أو كثرة سؤال إنسان بعينه عن تفاصيل حاله، فإن ذلك مما يكرهه المسؤول غالبًا: وقد ثبت النهي عن الأُغلوطات. أخرجه أبو داود عن معاوية. وثبت عن جمع من السلف كراهةُ تكلفِ المسائل التي يستحيل وقوعها عادةً، أو يندر جدًا، وإنما كرهوا ذلك لما فيه من التَّنطُّع والقول بالظن، إذ لا يخلو صاحبه من الخطأ. وقد قال مالك: والله لأخشى أن يكون هذا الذي أنتم فيه من تفريع المسائل مما نهى عنه، وأما ذكر في اللعان فكره النبي -صلى الله عليه وسلم- المسائل وعابها، وكذا في التفسير في قوله تعالى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} فذلك خاص بزمان نزول الوحي، ويشير إليه حديث "أعظم الناس جرمًا عند الله من سأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته". وقد ثبت أيضًا ذم السؤال للمال، ومدح من لا يلحف

فيه، كقوله تعالى {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}. وفي صحيح مسلم أن المسألة لا تحل إلا لثلاثة، لذي فقر مُدقع، أو غُرم مفظع، أو جائحة، وفي السنن قوله -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس؛ "إذا سألت فاسأل الله" وفي سنن أبي الـ "إن كنت لابد سائلًا فاسأل الصالحين"، وقد اختلف العلماء في ذلك، والمعروف عند الشافعية أنه جائز؛ لأنه طلب مباح، فأشبه العارِيّة، وحملوا الأحاديث الواردة على من سأل من الزكاة الواجبة ممن ليس من أهلها، لكن قال النووي: اتفاق العلماء على النهي عن السؤال من غير ضرورة، قال: واختلف أصحابنا في سؤال القادر على الكسب على وجهين: أصحهما التحريم، لظاهر الأحاديث، والثاني يجوز مع الكراهة، بشروط ثلاثة: أنْ لا يلح، ولا يذل نفسه، زيادة على ذل نفس السؤال، ولا يؤذي المسؤول، فإنْ فُقِد شرطٌ من ذلك حَرُم. وقال الفاكهانيّ: يتعجب ممن قال بكراهة السؤال في عصره -صلى الله عليه وسلم-، ثم السلف الصالح من غير تكبر، فالشارع لا يقر على مكروه، فلعل من كره مطلقًا، أراد أنه خلاف الأوْلى، ولا يلزم من وقوعه أن تتغير صفته، ولا من تقريره أيضًا. وينبغي حمل حال أولئك على السداد، وأن السائل منهم غالبًا ما كان يسأل إلا عند الحاجة الشديدة. وفي قوله: من غير نكير، نظرٌ، ففي الأحاديث الكثيرة الواردة في ذم السؤال كفاية في إنكار ذلك، وجميع ما تقدم فيمن سأل لنفسه، وأما السائل لغيره فالذي يظهر أيضًا أنه يختلف باختلاف الأحوال. وقوله: وعقوق الأمهات، قيل: خص الأمهات بالذكر لأن العقوق إليهن أسرع من الآباء، لضعف النساء، ولينبه على أن برّ الأم مقدم على برّ الأب، في التلطف والحنو ونحو ذلك. وهذا من تخصيص الشيء بالذكر، إظهارًا لعظم موقعه. والأمهات جمع أُمَّهةٍ، وهي لمن يعقل، بخلاف الأُم فإنه أعم. وقوله: ومنعًا وهات، بالتنوين، وفي رواية "ومنع وهات" بغير تنوين، وهي في الموضعين بسكون النون، مصدر منع يمنع، وأما هات، فبكسر المثناة، فعل أمر من الإيتاء. قال الخليل: أصل هات آت، فقلبت الهمزة هاء، والحاصل من النهي منع ما أمر بإعطائه، وطلب ما لا يستحق أخذه، ويحتمل أن يكون النهي عن السؤال مطلقًا، كما مرَّ بسطه قريبًا. ويكون ذكره هنا مع ضده، ثم هو محتمل أن يدخل في النهي ما يكون خطابًا بالاثنين، كما ينهى الطالب عن طلب ما لا يستحقه، وينهى المطلوب عن إعطاء ما لا يستحقه الطالب، لئلا يعينه على الإثم. وقوله: ووأد البنات، بسكون الهمزة، وهو دفن البنات في الحياة، وكان أهل الجاهلية يفعلون ذلك كراهةً فيهن. ويقال: إن أول من فعل ذلك قيسُ بن عاصم التميميّ، وكان بعض أعدائه أغار عليه، فأخذ بنته فأتخذها لنفسه، ثم وقع بينهم صلح بعد ذلك، فخَيَّر ابنته فاختارت زوجها، فآلى قيس على نفسه أن لا تولد له بنت إلا دفنها حية، فتبعه العرب في ذلك. وكان من العرب فريق ثانٍ يقتلون أولادهم مطلقًا، إما نفاسة منه على ما ينقصه من ماله، وإما من عدم ما ينفقه عليه. وقد ذكر الله أمرهم في القرآن في عدة آيات، وكان صعصعة بن ناجية التميمي أيضًا جَدّ الفرزدق همام

رجاله سبعة

غالب بن صعصعة، أول من فدى الموؤودة، وذلك أنه يعمد إلى من يريد أن يفعل ذلك، فيفدي الولد منه بمال ينفقان عليه، ولذلك أشار الفرزدق بقوله: وجدي الذي منعَ الوائداتِ ... وأحيا الوَئيد فلم يُوأدِ وهذا محمول على الفريق الثاني، وقد بقي كل من قيسُ وصعصعة إلى أن أدركا الإِسلام، ولهما صحبة، وإنما خص البنات بالذكر لأنه كان الغالب من فعلهم؛ لأن المذكور مظنة القدرة على الاكتساب، وكانوا في صفة الوأد على طريقين: إحدهما أن يأمر امرأته إذا قرب وضعها أن تطلق بجانب حفيرة، فإذا وضعت ذكرًا أبقته، وإذا وضعت أنثى طرحتها في الحُفيرة. وهذا أليق بالفريق الأول، ومنهم من كان إذا صارت البنت سُداسية، قال: لأمها طيبيها وزينيها لأزور بها أقاربها، ثم يبعد بها في الصحراء حتى يأتي البئر، فيقول لها: انظري فيها، ويدفعها من خلفها، ويطمها، وهذا اللائق بالفريق الثاني. رجاله سبعة: قد مرّوا. إلا ابن الأشوع. بالمعجمة، وزن أحمد، مرَّ يعقوب بن إبراهيم وإسماعيل بن علية في الثامن من الإيمان، والشعبي في الثالث منه، والمُغيرة بن شعبة في الأخير منه، ومرَّ خالد الحذاء في السابع عشر من العلم، ومعاوية في الثالث عشر منه، ومرَّ وراد كاتب المغيرة في الحادي عشر والمئة من صفة الصلاة. وأما ابن أشْوع، فهو سعيد بن عمرو بن الأشوع الهمدانيّ الكوفيّ القاضي. ذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال العجليّ: ثقة. وقال ابن مُعين: مشهور، وقال النَّسائيّ: ليس به بأس. وقال البخاريّ في الأوسط: رأيت إسحاق بن راهويه يحتج بحديثه، وقال الحاكم: هو شيخ من ثقات الكوفيين، يجمع حديثه. وقال الجوزجانيّ: غالٍ في التشيع زائغ. قال في المقدمة: الجوزجاني غالٍ في النصب، فتعارضا. وقد احتج به الشيخان، وليس له عند البخاريّ إلا حديثان، أحدهما متابعة. روى عن شُريح بن النعمان وشريح بن هانىء والشعبيّ. وغيرهم. وروى عنه سعيد بن مَسروق الثَّوريّ وابنه سفيان وخالد الحذاء وغيرهم. مات في ولاية خالد بن عبد الله على العراق، سنة عشرين ومئة. فيه تابعيان وصحابيان، وقد ذكرنا في باب الذكر بعد الصلاة من أخرجه. الحديث الحادي والثمانون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ غُرَيْرٍ الزُّهْرِيُّ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَهْطًا وَأَنَا جَالِسٌ فِيهِمْ قَالَ فَتَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْهُمْ رَجُلاً لَمْ يُعْطِهِ، وَهُوَ أَعْجَبُهُمْ إِلَيَّ، فَقُمْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَسَارَرْتُهُ فَقُلْتُ مَا لَكَ عَنْ فُلاَنٍ وَاللَّهِ إِنِّى لأُرَاهُ مُؤْمِنًا. قَالَ أَوْ قَالَ: مُسْلِمًا

رجاله سبعة

قَالَ: فَسَكَتُّ قَلِيلاً ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ فِيهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ. مَا لَكَ عَنْ فُلاَنٍ وَاللَّهِ إِنِّي لأُرَاهُ مُؤْمِنًا. أو قَالَ: مُسْلِمًا. يَعْنِى فَقَالَ: إِنِّي لأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ، خَشْيَةَ أَنْ يُكَبَّ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ. هذا الحديث قد مرَّ استيفاء الكلام عليه في كتاب الإيمان في باب "إذا لم يكن الإِسلام على الحقيقة". رجاله سبعة: قد مرّوا، وفيه لفظ رجل مبهم، مرَّ محمد بن غُرير ويعقوب بن إبراهيم في السادس عشر من العلم، ومرّ إبراهيم بن سعد في السادس عشر من الإيمان، ومرَّ عامر بن سعد وأبوه سعد في العشرين منه، ومرَّ صالح بن كيسان في الأخير من بدء الوحي، ومرَّ ابن شهاب في الثالث منه، والرجل المبهم هو جُعَيل بن سُراقة، وقد مرّ في العشرين من الإيمان. والحديث مرَّ الكلام عليه عند ذكره في العشرين من الإيمان. ثم قال: وعن أبيه عن صالح عن إسماعيل بن محمد أنه قال: سمعت أبي يحدث بهذا، فقال في حديثه: فضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده، فجمع بين عنقي وكتفي ثم قال: أقبل، أيْ سعدُ إني لأُعطي الرجل ... وهذا طريقة من الحديث الأول، ذكره بإسنادين، وموضع الترجمة منه قوله في الرواية الثانية "فجمع بين عنقي وكتفي ثم قال أقبل" قوله: فجمع، بفاء العطف وفعل الماضي، في رواية أبي ذَرٍّ، وفي رواية غيره "جمع" بدون فاء، ويروى "فضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده، فجمع بين عنقي وكتفي" أي: حيث يجتمعان، وتوجيه هذه الرواية أن يكون لفظ "بين" اسمًا لا ظرفًا، كقوله تعالى: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} على قراءة الرفع، فيكون لفظ "مجمع" مضافًا إليه. ويروى "فضرب عليه الصلاة والسلام بيدهِ يجمع بين عنقي وكتفي" بالباء الجارة، وضم الجيم وسكون الميم، ومحله نصب على الحال، تقديره: فضرب بيده خال كونها مجموعة. وقوله: أقبل بفتح الهمزة، أمر من الإقبال، أو بكسر الهمزة وفتح الباء من القبول، وتوجيه الأولى كأنه لما قال له ما قال، تولى ليذهب، فقال له: أقبل لأبين لك وجه الإعطاء والمنع. ومعنى الثانية إقْبَل ما أنا قائل لك، ولا تعترض عليه، ويدل عليه رواية مسلم "أقِتالًا أي سعد" أي: أتقاتل قتالًا، أي تعارضني فيما أقول مرة بعد مرة؟ كأنك تقاتل. وهذا يُشعر بأنه عليه الصلاة والسلام كره منه إلحاحه عليه في المسألة. ورجال هذه الطريقة خمسة: مرّ محل إبراهيم بن سعد وصالح بن كيسان وسعد بن أبي وقاص، رضي الله عنه، في الذي قبله. والباقي اثنان: الأول إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص الزُّهريّ المدنيّ، ذكره

الحديث الثاني والثمانون

يحيى بن مُعين في تابعي أهل المدينة ومحدثيهم، وقال: إنه ثقة حجة. وقال العجليّ وأبو حاتم والنَّسائيّ وابن خِراش: ثقة، وذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال ابن سعد: ثقة، وله أحاديث. وقال ابن عُيينة: كان إسماعيل بن محمد من أرفع هؤلاء. وقال ابن المديني: من كبار رجال ابن عُيينة، وهو قديم لما يلقه شُعبة ولا الثَّوريّ. روى عن أنس وأبيه وعَمّيه عامر ومصعب وغيرهم. وروى عنه الزُّهريّ، وهو من أقرانه، وابنه أبو بكر وابن عُيينة وغيرهم. مات سنة أربع وثلاثين ومئة. الثاني: أبو الأول، محمد بن سعد بن أبي وقاص المدني، أبو القاسم، قيل: إنه كان يلقب ظلّ الشيطان، لقصره. ذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال العجليّ: تابعيّ ثقة. وقال ابن سَعد: كان ثقة، وله أحاديث ليست بالكثيرة، وكان قد خرج مع ابن الأشعث، وشهد دعي الجماجم، فأتي به الحجاج فقتله. أرسل عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وروى عن أبيه وعثمان وأبي الدرداء وغيرهم. وروى عنه ابناه إسماعيل وإبراهيم وأبو إسحاق السَّبيعيّ ويونس بن جُبير وغيرهم. ثم قال: قال أبو عبد الله: فكبْكبوا قلبوا مكبًا، أكب الرجل، إذا كان فعله غير واقع على أحد، فإذا وقع الفعل قلت: كبّه الله لوجهه، وكببته أنا. تقدمت الأَشارة إليه في الإيمان، وجرى المصنف على عادته في إيراد تفسير اللفظة الغريبة إذا وافق ما في الحديث ما في القرآن. وقوله: غير واقع، أي لازمًا، وإذا وقع، أي إذا كان متعديًا، والغرض أن هذه الكلمة من النوادر، حيث كان الثلاثيّ متعديًا، والمزيد فيه لازمًا عكس القاعدة التصريفية، قيل: ويجوز أن يكون ألف أكبّ للصيرورة. الحديث الثاني والثمانون حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَلَكِنِ الْمِسْكِينُ الَّذِي لاَ يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، وَلاَ يُفْطَنُ بِهِ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ، وَلاَ يَقُومُ فَيَسْأَلُ النَّاسَ. هذا الحديث مرّ الكلام عليه قريبًا عند ذكره في أول أحاديث هذا الباب. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ إسماعيل بن عبد الله في الخامس عشر من الإيمان، ومرّ مالك في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ أبو الزناد والأعرج في السابع من الإيمان، ومرّ أبو هريرة في الثاني منه، وقد مرّ الكلام على هذا الحديث، وقد أخرجه النَّسائيّ أيضًا في الزكاة.

الحديث الثالث والثمانون

الحديث الثالث والثمانون حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: لأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ، ثُمَّ يَغْدُوَ أَحْسِبُهُ قَالَ إِلَى الْجَبَلِ فَيَحْتَطِبَ، فَيَبِيعَ فَيَأْكُلَ وَيَتَصَدَّقَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ. وهذا الحديث مرَّ الكلام عليه في باب الاستعفاف عن المسألة. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ عمر بن حفص وأبوه حفص في الثاني عشر من الغسل، ومرّ الأعمش في الخامس والعشرين من الإيمان، ومرَّ أبو صالح وأبو هريرة في الثاني منه. ثم قال: قال أبو عبد الله: ابن كيسان أكبر من الزُّهريّ، وهو قد أدرك ابن عمر. قوله: أكبر من الزُّهريّ، يعني في السن، ومثل هذا جاء عن أحمد وابن مُعين. وقال ابن المدِينيّ: كان أسَنَّ من الزُّهريّ، فإن مولده سنة خمسين، وقيل بعدها، ومات سنة ثلاث وعشرين ومئة، وقيل سنة أربع. وأما صالح بن كيسان فمات سنة أربعين ومئة، وقيل قبلها. وذكر الحاكم في مقدار عمره سنًا تعقبوه عليه. وقد مرّ ذلك في تعريفه آخر بدء الوحي. وقوله: أدرك ابن عمر، أي: أدرك السماع منه، وأما الزُّهريّ فمختلف في لقيه له، والصحيح أنه لم يلقه، وإنما يروى عن ابنه سالم عنه، والحديثان اللذان وقع في رواية معمر منه أنه سمعهما من ابن عمر، ثبتَ ذكر سالم بينهما في رواية غيره، ومرّ محل صالح والزهريّ، في الحديث الثمانين، ومّر ابن عمر في أول الإيمان قبل ذكر حديث منه ثم قال المصنف:

باب خرص التمر

باب خرص التمر أي: مشروعيته، والخَرْص بفتح المعجمة، وحكي كسرُها، وبسكون الراء بعدها مهملة، هو حَزْر ما على النخل من الرُّطب تمرًا. حكى التِّرمذي عن بعض أهل العلم أن تفسيره أن الثمار إذا أدركت من الرطب والعنب، مما تجب فيه الزكاة، بعث السلطان خارصًا ينظر فيقول: يخرج من هذا كذا وكذا زبيبًا، وكذا وكذا تمرًا، فيحصيه وينظر مبلغ العُشر، فيثبته عليهم. ويخلّي بينهم وبين الثمار، فإذا جاء وقت الجذاذ أُخذ منهم العشر. وفائدة الخرص التوسعة على أرباب الثمار في التناول منها، والبيع من زهوها وإيثار الأهل والجيران والفقراء، لأن في منعهم منها تضييقًا لا يخفى، وقال الخطابيّ: أنكر أصحاب الرأي الخَرْص. وقال بعضهم: إنما كان يفعل تخويفًا للمزارعين، لئلا يخونوا، لا ليلزم به الحكم، لأنه تخمين وغرور، أو كان يجوز قبل تحريم الربا والقمار. وتعقبه الخطابيّ بأن تحريم الربا والميسر متقدم، والخرص عمل به في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى مات، ثم أبو بكر وعمر، فمن بعدهم، ولم ينقل عن أحد منهم، ولا من التابعين تركه إلا عن الشعبيّ قال: وأما قولهم إنه تخمين وغرور، فليس كذلك، بل هو اجتهاد في معرفة مقدار التمر، وإدراكه بالخرص الذي هو نوع من المقادير. حكى أبو عبيد عن قوم منهم أن الخرص كان خاصًا بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، لأنه كان يوفق من الصواب ما لا يوفق غيره، تعقبه بأنه لا يلزم من كون غيره لا يسدد لما كان يسدد له، سواء إن تثبت بذلك الخصوصية وإن كان المرء لا يجب عليه الاتباع إلا فيما يعلم أنه يسدد فيه كتسديد الأنبياء، لسقط الاتباع وترد هذه الحجة أيضًا بإرسال النبي -صلى الله عليه وسلم- الخُرَّاص في زمانه، واعتل الطحاويّ بأنه يجوز أن يحصل للتمرة آفة فتتلفها، فيكون ما يؤخذ من صاحبها مأخوذا بدلًا مما لم يسلم، وأجيب بأن القائلين به لا يضمنون أرباب الأموال ما تلف بعد الخرص. قال ابن المنذر: أجمع من يحفظ عنه العلم، أن المخروص إذا أصابته جائحة قبل الجذاذ، فلا ضمان. الحديث الرابع والثمانون حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ بَكَّارٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى عَنْ عَبَّاسٍ السَّاعِدِيِّ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- غَزْوَةَ تَبُوكَ فَلَمَّا جَاءَ وَادِيَ الْقُرَى إِذَا امْرَأَةٌ فِي حَدِيقَةٍ لَهَا فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- لأَصْحَابِهِ اخْرُصُوا. وَخَرَصَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَشَرَةَ

أَوْسُقٍ فَقَالَ لَهَا أَحْصِي مَا يَخْرُجُ مِنْهَا. فَلَمَّا أَتَيْنَا تَبُوكَ قَالَ أَمَا إِنَّهَا سَتَهُبُّ اللَّيْلَةَ رِيحٌ شَدِيدَةٌ فَلاَ يَقُومَنَّ أَحَدٌ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ بَعِيرٌ فَلْيَعْقِلْهُ. فَعَقَلْنَاهَا وَهَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ فَقَامَ رَجُلٌ فَأَلْقَتْهُ بِجَبَلِ طَيِّءٍ وَأَهْدَى مَلِكُ أَيْلَةَ لِلنَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- بَغْلَةً بَيْضَاءَ، وَكَسَاهُ بُرْدًا وَكَتَبَ لَهُ بِبَحْرِهِمْ فَلَمَّا أَتَى وَادِيَ الْقُرَى قَالَ لِلْمَرْأَةِ كَمْ جَاءَ حَدِيقَتُكِ. قَالَتْ عَشَرَةَ أَوْسُقٍ خَرْصَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِنِّي مُتَعَجِّلٌ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَمَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَعَجَّلَ مَعِي فَلْيَتَعَجَّلْ. فَلَمَّا قَالَ ابْنُ بَكَّارٍ كَلِمَةً مَعْنَاهَا أَشْرَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ قَالَ هَذِهِ طَابَةُ. فَلَمَّا رَأَى أُحُدًا قَالَ هَذَا جُبَيْلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ، أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ دُورِ الأَنْصَارِ. قَالُوا بَلَى. قَالَ دُورُ بَنِي النَّجَّارِ، ثُمَّ دُورُ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ، ثُمَّ دُورُ بَنِي سَاعِدَةَ، أَوْ دُورُ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَفِى كُلِّ دُورِ الأَنْصَارِ يَعْنِي خَيْرًا. قوله: عن عمرو بن يحيى، ولمسلم من وجه آخر "عن وهيب حدثنا عمرو بن يحيى". وقوله: عن عباس الساعديّ، هو ابن سهل بن سعد، وفي رواية أبي داود من هذا الوجه عن العباس الساعديّ، يعني ابن سهل بن سعد. وفي رواية الإسماعيليّ من وجه آخر "عن وهيب حدثنا عمرو بن يحيى حدثنا عباس بن سَهل الساعديّ". وقوله: غزوة تَبُوك، بفتح التاء المثناة من فوق وضم الموحدة الخفيفة وفي آخره كاف، منصرف بينها وبين المدينة أربع عشرة مرحلة من طرف الشام، وبينها وبين دمشق إحدى عشرة مرحلة. وفي المحكم: تبوك اسم أرض، وقد تكون تبوك تَفْعُل، فهي عنده صحيحة الآخر. وقال ابن قتيبة: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- جاء في غزوة تبوك، وهم يبوكون حِسْيها بقَدح، فقال: ما زلتم تبوكونها بعد؟ فسميت بتبوك. وهذا يدل على أنه معتل، ومعنى تبوكون: تدخلون فيه السهم، وتحركونه ليخرج ماؤه. وقوله: حِسيها، هو بكسر الحاء وسكون السين المهمتلين، وفي آخره ياء آخر الحروف، وهو ما تَنْشِفه الأرض من الرمل، فإذا صار إلى صلابة أمسكته، فيحفر عنه الرمل فيستخرجة، ويجمع الحِسْيُ على أحساء. وغزوة تبوك تسمى بالعُسْرة، والفاضحة، وكانت في رجب يوم الخميس سنة تسع، وقال ابن التين: خرج عليه الصلاة والسلام إليها في أول يوم من رجب، ورجع. في سَلْخِ شوال. وقيل: في رمضان. وهي آخر غزواته، لم يقدر أحد أن يتخلف عنها، وكانت في شدة الحر وإقبال الثمار، ولم يكن فيها قتال، ولم تكن غزوة إلاّ ورّى النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها إلا غزوة تبوك. وقوله: فلما جاء وادي القُرى، هي مدينة قديمة بين المدينة والشام، وأغرب ابن قرقول فقال: إنها من أعمال المدينة. وقوله: إذا امرأة في حديقة لها، استدل به على جواز الابتداء بالنكرة، لكن بشرط الإفادة. قال ابن مالك: لا يمتنع الابتداء بالنكرة المحضة على الإطلاق، بل إذا لم تحصل فائدة، فلو اقترن بالنكرة المحضة قرينة تحصل بها الفائدة، جاز الابتداء بها. نحو انطلقت فإذا

سَبُعٌ في الطريق، يعني المفاجأة. وفي رواية مسلم "فأتينا حديقة امرأة"، ولم يذكر اسم هذه المرأة في شيء من الطرق. وقوله: اخْرُصوا، بضم الراء، زاد سليمان "فخرصنا"، ولم تذكر أسماء من خرص منهم. وقوله: وخرص، زاد سليمان "وخرصها". وقوله: أُحصي، أي احفظي عدد كيلها. وفي رواية سليمان "احصيها حتى نرجع إليك إن شاء الله" وأصل الإحصاء العدد بالحصى، لأنهم كانوا لا يحسنون الكتابة، فكانوا يضبطون العدد بالحصى. وقوله: ستهب الليلة، زاد سليمان "عليكم". وقوله: فلا يقومنَّ أحد، في رواية سليمان "فلا يقم فيها أحد منكم". وقوله، فليعقله، أي بشده بالعقال، وهو الحبل، وفي رواية سليمان "فليشد عقاله" وفي رواية ابن إسحاق في المغازي "ولا يخرجنَّ أحد منكم الليلة إلا ومعه صاحب له". وقوله: فقام رجل فألقته بجبل طيء، في رواية الكشميهنيّ "بجبلَي طيء"، وفي رواية الإسماعيليّ، "ولم يقم فيها أحد غير رجلين ألقتهما بجبل طيء" وفيه نظر بينته رواية ابن إسحاق، ولفظه "ففعل الناس ما أمرهم، إلا رجلين من بني ساعدة، خرج أحدهما لحاجته، وخرج الآخر لطلب بعير له، فأما الذي ذهب لحاجته، فإنه خُنق على مذهبه، وأما الذي ذهب في طلب بعير له، فاحتملته الريح حتى طرحته بجبل طيء، فأخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ألم أنهكم أن يخرجَ رجلٌ إلا ومعه صاحب له؟ ثم دعا للذي أصيب على مذهبه، فشفي، وأما الآخر فإنه وصل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قدم من تبوك". والمراد بجبلي طيء المكان الذي كانت القبيلة المذكورة تنزله، واسم الجبلين المذكورين: أَجَأ، بهمزة وجيم مفتوحتين بعدهما همزة، بوزن قمر، وقد لا تهمز، فيكون بوزن عَصَى وسُلمى، وهما مشهوران، ويقال: إنهما سميا باسم رجل امرأة من العماليق. ولم يعرف اسم الرجلين المذكورين، وأظن أن ترك ذكرهما وقع عمدًا، ففي آخر ابن إسحاق أن عبد الله بن أبي بكر، حدثه أن العباس بن سهل سمى الرجلين، ولكنه استكتمني إياهما، وأبى عبد الله أن يسميهما لنا وقوله: وأهدى ملك أَيْلَة، بفتح الهمزة وسكون التحتانية بعدها لام مفتوحة، بلدة قديمة بساحل البحر، وقد مرَّ الكلام عليها في باب "الجمعة في القرى والمدن" من كتاب الجمعة، وعند مسلم وجاء رسول ابن العلماء صاحب أيلة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بكتاب، وأهدى له بغلة بيضاء، وفي مغازي ابن إسحاق ولما انهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى تبوك، أتاه يوحنا بن رُوبة، صاحب أيلة، فصالح رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأعطاه الجزية، فاستفيد من ذلك اسمه واسم أبيه، فلعل العلماء اسم أمه، ويوحنا، بضم التحتانية وفتح المهملة وتشديد النون، وروبة، بضم الراء وسكون الواو بعدها موحدة. واسم البغلة المذكورة وُلْدُلَ، لما جزم به النوويّ، ونقل عن العلماء انه لا تعرف له بغلة

سواها. وتعقب بأن الحاكم أخرج في المستدرك عن ابن عباس أن كسرى أهدى للنبي -صلى الله عليه وسلم- بغلة، فركبها بحبل من شعر، ثم أردفني عليها، وهذه غير وَلْدُل. ويقال: إن النجاشيّ أهدى له بغلة، وأن صاحب دَوْمَة الجندل أهدى له بغلة، وأن وَلْدُلًا إنما أهداها له المُقَوْقِس. وذكر السهيليّ أن التي كانت تحته يوم حُنين، تسمى فِضة، وكانت شهباء، وعند مسلم في هذه البغلة أنَّ فَرْوَة أهداها له. وقوله: وكتب له ببحرهم، أي: ببلدهم، أو المراد بأهل بحرهم؛ لأنهم كانوا سكانًا بساحل البحر، أي: أنه أقره عليهم بما التزموه من الجزية. وفي بعض الروايات "ببحرتهم" أي: بلدتهم. وقيل: البحرة الأرض، وذكر ابن إسحاق الكتاب، وهو بعد البسملة: هذه أَمنَةٌ من الله ومحمد النبي رسول الله، ليوحنا بن روبة وأهل ايلة، سفنهم وسيارتهم في البر والبحر، لهم ذمة الله ومحمد النبي، .. وساق بقية الكتاب. وقوله: كما جاء حديقتك، أي: تمر حديقتك، وعند مسلم "فسأل المرأة عن حديقتها، أي تمر حديقتك، وعند مسلم "فسأل المرأة عن حديقتها، كم بلغ ثمرها". وقوله: عشرة، بالنصب على نزع الخافض، أي: جاءت بمقدار عشرة أوْسُقٍ، أو على الحال. وقوله خَرْصَ بالنصب مصدر، إما بدلاً وإما بيانًا، ويجوز الرفع فيهما، وتقديره الحاصل عشرة أوسق، وهو خرص رسول الله. وقوله: فلما قال ابن بكّار كلمة معناها أشرف على المدينة، ابن بكّار هو شيخ المؤلف، فكأن البخاري شك في هذه اللفظة، فقال هذا. وقوله: أشرف هو جواب فلما، وقد رواه أبو نعيم في المستحرج عن سَهل فذكرها بهذا اللفظ سواء، وفي رواية سليمان بن بلال الآتية قريبًا "أقبلنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حتى إذا دنا من المدينة أخذ طريق غُراب، لأنها أقرب إلى المدينة، وترك الأخرى .. " فساق الحديث. واستفيد منه بيان قوله "إني مُتَعَجِّل إلى المدينة، فمن أحب فيلتعجل معي" أي: إني سالكٌ الطريقَ القريبة، فمن أراد فلْيأتِ معي، يعني ممن له اقتدار على ذلك دون بقية الجيش. وقوله: هذه طابة، اسم من أسمائها، وفي بعض طرقه "طيبة"، وروى مسلم عن جابر بن سمرة، مرفوعًا "أن الله سمى المدينة طابة" ورواه أبو داود الطيالسي بلفظ "كانوا يسمون المدينة يثرب، فسماها النبي -صلى الله عليه وسلم- طابة". وأخرجه أبو عُوانة. والطاب والطِّيب لغتان بمعنى. واشتقاقهما من الشيء الطّيب. وقيل: لطهارة تربتها، وقيل: لطيبها لساكنها، وقيل: من طِيْب العيش بها. وقال بعض أهل العلم: وفي طيب ترابها وهو انها دليل شاهدٌ على صحة هذه التسمية، لأن من أقام بها يجد من تربتها وحيطانها رائحة لا تكاد توجد في غيرها، ولأبي عليّ الصدفيّ، قال الحافظ: أمر المدينة في طيب ترابها وهوائها يجده من أقام بها، ويجد لطيبها أقوى رائحة، ويتضاعف طيبها فيها من غيرها من البلاد، وكذلك العود وسائر أنواع الطيب. وللمدينة أسماء غير ما ذكر، وتأتي إن شاء الله تعالى في فضل المدينة.

وقوله: هذا جبل يحبنا ونحبه، قال السهيليّ سمِّي أُحدًا لتوحُّده، وانقطاعه عن جبال أخوى هناك، أو لِمَا وقع من أهل التوحيد. وللعلماء في معنى ذلك أقوال، قيل: هو على الحقيقة، وظاهره: ولا مانع من وقوع مثل ذلك، بأن يخلق الله تعالى المحبة في بعض الجمادات، كما جاز التسبيح منها، ولكون أُحد من جبال الجنة، كما أخرجه أحمد عن أبي عبس بن جَبر مرفوعًا "جبل يحبنا ونحبه، وهو من جبال الجنة" وقد خاطبه -صلى الله عليه وسلم- مخاطبة من يعقل، فقال، لما اضطرب: "اسكن أُحُدُ" وقيل: إن على حذف مضاف مجازًا، أي: أهل أحد، والمراد بهم الأنصار؛ لأنهم جيرانه على حد قوله تعالى {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} وقال الشاعر: وما حُبُّ الديار شغفنَ قلبي ... ولكنْ حبُّ من سَكَنَ الدِّيارا وقيل: إنه قال ذلك للمسرة بلسان الحال، إذا قدم من سفر، لقربه من أهله ولقياهم، وذلك فعل من يحب نجمن يحب، وقال السهيليّ: كان عليه الصلاة والسلام يحب الفأل الحسن، والاسم الحسن، ولا اسم أحسن من اسم مشتق من الأحَدية. قال: ومع كونه مشتقًا من الأحدية، فحركات حروفه الرفع، وذلك يشعر بارتفاع دين الأحَد وعلوه، فتعلق الحب من النبي -صلى الله عليه وسلم- من به لفظًا ومعنى، فخُص من بين الجبال بذلك. وقوله: دور بني النجار، وهم من الخزرج، والنجار هو تَيْم الله، وسمى بذلك لأنه ضرب رجلًا فنجره، فقيل له النجار. وهو ابن ثعلبة بن عمرو من الخزرج، وهم أخوال جد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لأن والدة عبد المطلب منهم، وعليهم نزل لما قدم المدينة، فلهم مزية على غيرهم. وقوله: ثم بنو عبد الأشهل، هم من الأوس، وهم رهط سعد بن معاذ، وقد اختلف على أبي سلمة، هل قدم عبد الأشهل علي بني النجار أو بالعكس؟ ولم يختلف على أنس في تقديم بني النجار، وهو منهم، فله مزيد عناية بحفظ فضائلهم. وقوله: ثم بنو الحارث بن الخزرج، أي: الأكبر، وقوله: ثم بنو ساعدة، هم من الخزرج، أيضًا، وساعدة هو ابن كعب بن الخزرج الأكبر، وقوله: وفي كل دور الأنصار، يعني خيرًا، أي: الفضل حاصل في جميع الأنصار، وإن تفاوتت مراتبه. وفي هذا الحديث مشروعية الخرص، وقد مرَّ في الترجمة أن أهل الرأي خالفوا فيه، والمراد بهم الشَّعبيّ والثَّوريّ وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن، ومرّ ما احتجوا به، والرد عليهم، واختلف القائلون به: هل هو واجب أو مستحب؟ فحكى الصَّيْمَريُّ من الشافعية وجهاً بوجوبه، وقال الجمهور: هو مستحب إلا إنْ تعلق به حق محجور مثلًا، أو كان شركاؤه غير مؤتمنين، فيجب لحفظ مال الغير. واختلف أيضًا هل يختص بالنخل، أو يلحق به العنب أو يعم كل ما ينتفع به، رطبًا أو جافًا؟ وبالأول قال شُريح القاضي وبعض أهل الظاهر. والثاني قول الجمهور، وإلى الثالث نحا البخاريّ.

رجاله خمسة

وهل يمضي قول الخارص أو يرجع إلى ما آل إليه الحال بعد الجفاف؟ الأول قول مالك وطائفة، فإن نقصت من الخرص أخذ المالك به، إلا إن قامت بينة على النقص، وإن زادت على خرصة عنده قولان: هل يجب إخراج الزائد، أو يندب؟ والثاني قول الشافعي، ومن تبعه، وهل يكفي خارص واحدٌ عارفٌ ثقةٌ، أو لابد من اثنين؟ وهما قولان للشافعيّ أظهرهما الثاني. وفائدته جواز التصرف في جميع الثمرة، ولو أتلف المالك الثمرة بعد الخرص أخذت منه الزكاة بحساب ما خرص. وفي السنن وصحيح ابن حبان عن سهل بن أبي خيثمة، مرفوعًا "إذا خرصتم فجدُّوا، ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع" وقال بظاهره الليث وأحمد وإسحاق وغيرهم. وفهم منه أبو عبيد أنه القدر الذي يأكلونه بحسب احتياجهم إليه. فقال: يترك قدر احتياجهم. وقال مالك وسفيان: لا يترك لهم شيء، وهو المشهور عن الشافعيّ. قال ابن العربيّ: والمتحصل من صحيح النظر أن يعمل بالحديث، وهو قدر المؤونة، ولقد جربناه، فوجدناه، كذلك، في الأغلب مما يؤكل رطبًا. وفي الحديث أشياء من أعلام النبوءة، كالإخبار عن الريح، وما ذكر في تلك القصة، وفيه تدريب الأتباع، وتعليمهم أخذ الحذر مما يتوقع منه الخوف، وفضل المدينة والأنصار ومشروعية المفاضلة بين الفضلاء بالإجمال والتعيين، ومشروعية الهدية والمكافأة عليها. رجاله خمسة: وفيه لفظ رجل مبهم، وامرأة مبهمة، مر منهم وهيب في تعليق بعد الخامس عشر من الإيمان، ومرَّ عمرو بن يحيى في الخامس عشر منه، ومرَّ أبو حميد الساعديّ في تعليق أول استقبال القبلة، والباقي اثنان: الأول سهل بن بكّار بن بشر الدارمي، ويقال البُرْجُميّ، ويقال القَيْسيّ، أبو بشر البصريّ المكفوف. ذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال: ربما وهم وأخطأ، وقال أبو حاتم: ثقة صدوق. قال الدارقطني: ثقة، وقال ابن قانع: صالح، قال في المقدمة: روى عنه البخاريّ في الصحيح حديثين عن وهيب بن خالد، أحدهما في الحج، بمتابعة موسى بن إسماعيل، والآخر في الزكاة بتمامه، وفي الجزية مختصرًا، بمتابعة سليمان بن بلال لوهيب. وروى عنه أبو داود، وروى له النَّسائيّ، روى عن جرير بن حازم ووهيب بن خالد وشعبة وغيرهم. وروى عنه البخاريُّ وأبو زرعة وأبو حاتم وغيرهم. مات سنة ثمان وعشرين ومئتين. الثاني: عباس بن سَهل بن سعد الساعديّ، قال ابن مُعين والنَّسائي: ثقة، وقال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث، وذكره ابن حِبّان في الثقات، أدرك زمن عثمان بن عفان، روى عن أبيه وأبي أسِيد وأبي حميد الساعديين وأبي هريرة وغيرهم. وروى عنه أبناه أُبَيّ وعبد المهيمن، وعمرو بن يحيى وغيرهم. مات بالمدينة سنة تسعين في خلافة الوليد بن عبد الملك.

لطائف إسناده

والرجل والمرأة المبهمان في الحديث، قال ابن حجر: لم أقف على اسميهما. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة القول، وفيه شيخه وشيخ شيخه بصريان، وعمرو بن يحيى وعباس بن سهل مدنيان. أخرجه البخاريّ أيضًا في الحج والمغازي بتمامه، وفي فضل الأنصار ببعضه، ومسلم في فضل النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفي الحج، وأبو داود في الخراج. ثم قال: وقال سليمان بن بلال: حدثني عمرو "ثم دار بني الحارث ثم بني ساعدة، يعني ابن يحيى بالإسناد المذكور. وهذا التعليق وصله في فضائل الأنصار، وسليمان بن بلال مرَّ في الثاني من الإيمان، وعمرو مرّ محله في الذي قبله. ثم قال: وقال سليمان عن سعد بن سعيد عن عِمارة بن غُزَيَّة عن عباس عن أبيه عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "أحُدٌ جبلٌ يحبنا ونحبّه" وظهر بهذه الرواية عمارة بن غزية خالف عمرو بن يحيى في إسناده الحديث، فقال عمرو: عن عباس عن أبي حميد كما مرّ في السند، وقال عمارة: عن عباس عن إبيه، فيحتمل أن يسلك طريق الجمع بأن يكون عباس أخذ القدر المذكور، وهو "أحد جبل يحبنا ونحبه" عن أبيه، وعن أبي حميد معًا، أو حمل الحديث عنهما معًا، وكله عن أبي حميد، ومعظمه عن أبيه. وكان يحدث به تارةً عن هذا وتارة عن هذا، ولذا كان لا يجمعهما. وفي رواية ابن إسحاق: عباس بن سهل بن سعد أو عباس عن سهل بن سعد، فتردد فيه، هل هو مرسل، أو رواه عن أبيه، فيوافق قول عمارة، لكن سياق عمرو بن يحيى أتم من سياق غيره. وهذا التعليق وصله عليّ بن خزيمة في فوائده. ورجاله خمسة: مرّ عباس بن سهل في الذي قبله، ومرَّ محل سليمان بن بلال الذي التعليق الأول، ومرّ سهل بن سعد في الثامن والمئة من الوضوء. والباقي اثنان: الأول سعد بن سعيد بن قيس بن عمرو الأنصاريّ، أخو يحيى بن سعيد، قال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث، وقال العجليّ وابن عمّار: ثقة، وذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال: كان يخطىء، ولم يفحش خطاه، فلذلك سلكناه مسلك العدول. وقال ابن عديّ: له أحاديث صالحة تقرب من الاستقامة، ولا أرى بحديثه بأسًا بمقدار ما يرويه. وقال أحمد: ضعيف، وكذا قال ابن مُعين في رواية، وفي رواية أخرى: صالح، وقال النَّسائيّ: ليس بالقويّ. وقال ابن مُعين أيضًا: سعد بن سعيد مُؤد. واختلف في ضبط هذا اللفظ، فقيل بالتخفيف، أي: هالك، وقيل: بالتشديد، أي: حَسَن الأداء. وقال الترمذي: تكلموا فيه من قبل حفظه، وقال أبو حاتم: سعد بن سعيد يودى، يعني أنه كان لا يحفظ، ويؤدي ما سمع. روى عن أنس والسائب بن يزيد، وعمرة بنت عبد الرحمن وغيرهم. وروى عنه أخوه يحيى بن سعيد وسليمان بن

بلال وشعبة والثَّوري وغيرهم. مات سنة إحدى وأربعين ومئة. الثاني: عمارة بن غُزيَّة بن الحارث بن عمرو بن غزية بن عمرو بن ثعلبة بن خنساء بن مندول بن غنم بن مازن بن النجار، الأنصاريّ المازنيّ المدَنيّ. قال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، وقال أحمد وأبو زرعة: ثقة، وقال ابن مُعين: صالح، وقال أبو حاتم: ما بحديثه بأس، كان صدوقًا. وقال النَّسائيّ: ليس به بأس. وقال الدارقطني: لم يلحق عمارةُ بن غزية أنسًا، وهو ثقة، وذكره ابن حِبّان في الثقات في أتباع التابعين. وقال العجليّ: أنصاريّ ثقة، وذكره العقيلي في الضعفاء، ولم يورد له شيئًا يدل على وهنه. وقال ابن حزم: ضعيف، قال الذهبي: قلما قرأت ما علمت أحدًا ضعفه غيره، ولم يقل العقيلي فيه شيئًا سوى قول ابن عُيينة: جالسته كم من مرة، فلم نحفظ منه شيئًا. فَعدُّ العقيليّ له في الضعفاء بهذا تَغَفل منه، إذ ظن أن هذه العبارة تليين، لا والله. روى عن أنس وأبيه غزية، وعباس بن سهل بن سعد وغيرهم وروى عنه سليمان بن بلال وعمرو بن الحارث ووهيب بن خالد وغيرهم. توفي سنة أربعين ومئة ثم قال: قال أبو عبد الله: كل بستان عليه حائط فهو حديقة، وما لم يكن عليه حائط لم يقل حديقة وفي نسخة: وقال أبو عبيد، وعليها شرح في الفتح، وقال إن كلامه هذا في غريب الحديث له، وقال صاحب المحكم: هو من الرياض كل أرض استدارت، وقيل: كل أرض ذات شجر مثمر ونخل، وقيل: كل حفرة تكون في الوادي يحتبس فيها الماء، فإذا لم يكن فيه ماء فهو حديقة، ويقال: الحديقة أعمق من الغدير، والحديقة القطعة من الزروع، يعني أنه من المشترك. ثم قال المصنف:

باب العشر فيما يسقى من ماء السماء والماء البخاري

باب العشر فيما يسقى من ماء السماء والماء البخاري قال الزين بن المنير: عدل عن لفظ العيون الواقع في الخبر إلى الماء البخاري، ليُجريه مجرى التفسير للمقصود من ماء العيون، وأنه الماء الذي يجري بنفسه من غير نضح، وليبين أن الذي يجري بنفسه من نهر أو غدير حكمه حكم ما يجري من العيون، وكأنّه أشاء إلى ما في بعض طرقه، فعند أبي داود "فيما سقت السماء والأنهار والعيون .. " الحديث. ثم قال: ولم ير عمر بن عبد العزيز في العسل شيئًا. قال ابن المنير: مناسبة أثر عمر في العسل للترجمة، من جهة أن الحديث يدل على أن لا عُشر فيه؛ لأنه خص العُشر أو نصفه بما يسقى، فأفهم أن ما لا يسقى لا يُعَشِّر. زاد ابن رشيد فإن قيل: المفهوم إنما ينفي العُشر أو نصفه، لا مطلق الزكاة، فالجواب أن الناس قائلان: مثبت للعشر، وناف للزكاة، فتم المراد. قال: ووجه إدخاله العَسل أيضًا للتنبيه على الخلاف فيه، وأنه لا يرى فيه زكاة، وإن كانت النحل تتغذى بما يسقى من السماء، لكن المتولد بالمباشرة كالزرع، ليس كالمتولد بواسطة حيوان كاللبن، فإنه متولد عن الرعى، ولا زكاة فيه قطعًا، وكان البخاريّ أشار إلى تضعيف ما رُوي أن في العسل العُشر، وهو ما أخرجه عبد الرزاق عن أبي هُريرة قال: "كتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أهل اليمن أنْ يؤخذ من العسل العُشر". وفي إسناده عبد الله بن مُحَرَّر، بمهملات وزن محمد، وهو متروك. ولا يصح في زكاة العسل شيء. قال التِّرمِذيّ: لا يصح في هذا الباب شيء، وقال الشافعيّ في "القديم" حديث "إنّ في العسل العشر" ضعيفٌ، وفي أن لا يؤخذ منه العُشر ضعيف، إلا عن عمر بن عبد العزيز. ورى عبد الرزاق وابن أبي شيبة عن طاووس أن معاذًا لما أتى اليمن قال: لم أومر فيهما بشيء، يعني العسل وأوقاص البقر، وهذا منقطع، وأما ما أخرجه أبو داود والنَّسائيّ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "جاء هلال أحد بني مُتعان، بضم الميم وسكون المثناة بعدها مهملة، إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بعشور نحله، وكان سأله أن يحمي له واديًا فحماه له"، فلما ولي عمر كتب إلى عامله: إنْ أدّى إليك عشور نحله فاحم له سَبْلة، وإلا فلا، وإسناده صحيح إلى عمرو، وترجمة عمرو قوية على المختار، لكن حيث لا تعارض. وقد ورد ما يدل على أن هلالًا أعطى ذلك تطوعًا، فعند عبد الرزاق أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عثمان بن محمد ينهاه أن يأخذ من العسل صدقة، إلا إن كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أخذها، فجمع عثمان أهل العسل، فشهدوا أن هلال بن سعد قدم على النبيّ

الحديث الخامس والثمانون

-صلى الله عليه وسلم- بعسل فقال: ما هذا؟ فقال: صدقة، فأمر برفعها، ولم يذكر عشورًا، لكن الإسناد الأول أقوى، إلا أنه محمول على أنه في مقابلة الحَمْي، كما يدل عليه كتاب عمر بن الخطاب. وقال ابن المنذر ليس في العسل خبر يثبت، ولا إجماع، فلا زكاة فيه، وهو قول الجمهور، وعن أبي حنيفة وصاحبيه وأحمد وإسحاق: يجب العشر فيما أخذ من غير أرض الخراج، وما نقله عن الجمهور مقابله قول التِّرمذيّ بعد أن أخرج حديث ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "في العسل في كل عَشرة أزُقّ زق" العمل على هذا عند أكثر أهل العلم. قال في الفتح: أشار شيخنا في شرحه إلى أن الذي نقله ابن المنذر أقوى، وتحقيق مذهب أبي حنيفة أنه يجب عنده في قليل العسل وكثيره، لأنه لا يشترط النصاب في العشر، وعن أبي يوسف: إذا بلغت قيمته خمسة أواق، وعنه أنه قدره بعشرة أرطال، وهي خمسة أَمْنَاء، وعنه أنه اعتبر فيه عَشْر قِرَب، وعن محمد ثلاث روإيات: إحداها خمس قرب، والقربة خمسون مَنًا، وقيل القربة مئة رطل، والثانية خمسة أَمْناء، والثالثة خمسُ أواق، وهي تسعون مَنًا، وتعليق عمر بن عبد العزيز هذا وصله مالك في الموطأ، وأخرجه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق بإسناد صحيح، وعمر بن عبد العزيز مرَّ في أول الإيمان قبل ذكر حديث منه. الحديث الخامس والثمانون حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا الْعُشْرُ، وَمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ هَذَا تَفْسِيرُ الأَوَّلِ لأَنَّهُ لَمْ يُوَقِّتْ فِي الأَوَّلِ يَعْنِي حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ وَفِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ وَبَيَّنَ فِي هَذَا وَوَقَّتَ، وَالزِّيَادَةُ مَقْبُولَةٌ، وَالْمُفَسَّرُ يَقْضِي عَلَى الْمُبْهَمِ إِذَا رَوَاهُ أَهْلُ الثَّبَتِ. وقوله: عَثَريًا، بفتح المهملة والمثلثة وكسر الراء وتشديد التحتانية، وحكى عن ابن الأعرابي تشديد المثلثة، وردّه ثعلب، وحكى ابن عديس في المثلث في ضم أوله وإسكان ثانيه. قال الخطابيّ هو الذي يشرب بعروقه من غير سَقي، زاد ابن قُدامة عن القاضي أبي يعلى، وهو المستنقع في بركة ونحوها، يصب إليه من ماء المطر في سوق تشق له. قال: واشتقاقه من العاثور، وهي الساقية التي يجري فيها الماء؛ لأن الماشي يعثر فيها. قال: ومنه الذي يشرب بالأنهار بغير مؤنة، أو يشرب بعروقه، كان يغرس في أرض يكون الماء قريبًا، فيصل إليه عروق الشجر، فيستغني عن السقي، وهذا التفسير أوْلى من إطلاق أبي عبيد أنّ العَثَّريَّ ما سقته السماء، لأن سياق الحديث يدل على المغايرة، وكذا قول من فسر العثريّ بأنه

الذي لا حمل له؛ لأنه لا زكاة فيه. قال ابن قدامة: لا نعلم في هذه التفرقة التي ذكرناها خلافًا. وقوله: وما سقى بالنَّضْح، بفتح النون وسكون المعجمة بعدها مهملة، أي بالسائية، وهي رواية مسلم، والمراد بها الإبل التي يستقى عليها، وذكر الإبل كالمثال، وإلا فالبقر وغيره كذلك في الحكم. وقوله: قال أبو عبد الله، هذا تفسير الأول، لأنه لم يؤقت في الأول أي حديث ابن عمر، أي لم يذكر فيه حدًا للنصاب. وقوله: وبين في هذا، يعني حديث أبي سعيد الآتي في الباب الذي يليه، وقوله: والزيادة مقبولة، أي من الحافظ. والثَّبَت، بالتحريك، الثبات والحجة. وقوله: والمفسر يقضي على المبهم، أي الخاص يقضي على العام، لأن فيما سقت عام، يشمل النصاب ودونه، وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة خاصٌ بقدر النصاب. ويأتي إن شاء الله تعالى بعد قريبًا ما فيه من أقوال. وقوله: قال أبو عبد الله .. الخ، هذا الكلام وقع بعد حديث ابن عمر في العشري في رواية أبي ذرٍّ. وفي رواية غيره عقب حديث أبي سعيد المذكور في الباب الذي بعده، وهو الذي وقع عند الإِسماعيلي، ولذكره عقب كل من الحديثين وجهٌ، لكن تعبيره بالأول يرجح كونه بعد حديث أبي سعيد؛ لأنه هو المفسر للذي قبله، وهو حديث ابن عمر، فحديث ابن عمر بعمومه ظاهر في عدم اشتراط النصاب، وفي إيجاب الزكاة في كل ما يسقى بمؤنة وبغير مؤنة، ولكنه عند الجمهور مختص بالمعنى الذي سيق لأجله، وهو التمييز بين ما يجب فيه العشر أو نصف العشر، بخلاف حديث أبي سعيد، فإنه مساق لبيان جنس المخرج منه وقدره، فأخذ به الجمهور عملًا بالدليلين. ودل حديث الباب على التفرقة في القدر المخرج الذي يسقى بنضح وبغير نضح، وإن سقى بهما، فظاهره أنه يجب فيه لثلاثة أرباع العشر، إذا تساوى ذلك، وهو قول أهل العلم، وقال ابن قدامة: لا نعلم فيه خلافًا، وإن كان أحدهما أكثر كان حكم الأقل تبعًا للأكثر. نص عليه أحمد، وهو قول الثَّوريّ وأبي حنيفة، واحد قوليْ مالك والشافعي. والثاني يؤخذ بالقسط، ويحتمل أن يقال: إنْ أمكن فصل كل واحد منهما أخذ بحسابه. وعن ابن القاسم صاحب مالك: العبرة بما تم به الزرع، ولو كان أقل. قاله ابن التين، وما مرَّ قريبًا من أن الجمهور أخذ بحديث أبي سعيد خالفه أبو حنيفة، فأخذ بحديث ابن عمر، فأوجب الزكاة في كل ما يخرج من الأرض، قل أو كثر، عملًا بظاهر حديث ابن عمر إذ لم يقدر فيه مقدارًا، أو بعموم قوله تعالى {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} وعموم قوله تعالى {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} واستثنى من ذلك الحطب والقصب والحشيش والتين والسَّعف والشجر الذي ليس له ثمر. وأجاب بعض الحنفية عما مرَّ من أن حديث أبي سعيد خاص يفضي على العام، بأن محل ذلك ما إذا كان البيان وفق المبيَّن، لا زائدًا عليه، ولا ناقصًا عنه، أما إذا انتفى شيء من أفراد العام

رجاله ستة

مثلًا، فيمكن التمسك به، كحديث أبي سعيد هذا، فإنه دل على النصاب فيما يقبل التوسيق، وسكت عما لا يقبل التوسيق، فيمكن التمسك بعموم قوله "فيما سقت السماء العشر" أي: مما لا يمكن التوسيق فيه، عملًا بالدليلين. وأجاب الجمهور بما روي، مرفوعًا "لا زكاة في الخضراوات" رواه الداقطنيّ عن عليّ وطلحة ومعاذ مرفوعًا. وقال التِّرمذيُّ: لا يصح فيه شيء إلا مرسلُ موسى بن طلحة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو دال على أن الزكاة إنما هي فيما يُكال مما يدَّخر للاقتيات في حال الاختيار. وهذا قول مالك والشافعيّ، وعن أحمد يُخرج من جميع ذلك، ولو كان لا يقتات، وهو قول محمد وأبي يوسف. وحكى ابن المنذر الإجماع على أن الزكاة لا تجب فيما دون خمسة أوسق، مما أخرجت الأرض، إلا ما مرَّ عن أبي حنيفة، وحكى عياض عن داود: كل ما يدخل فيه الكيل يراعى فيه النصاب، وما لا يدخل فيه الكيل، ففي قليله وكثيره الزكاة، وهو نوع من الجمع بين الحديثين المذكورين. وقال ابن العربيّ: أقوى المذاهب وأحوطها للمساكين قولُ أبي حنيفة، وهو التمسك بالعموم، قال: وقد زعم الجُوينيّ أن الحديث إنما جاء لتفصيل ما نقل مما تكثر مؤنته، قال ابن العربيّ: لا مانع أن يكون الحديث يقتضي الوجهين. رجاله ستة: قد مرّوا، مرَّ سعيد بن أبي مريم في الرابع والأربعين من العلم، ومرَّ عبد الله بن وهب في الثالث عشر منه، ومرَّ يونس بن يزيد في متابعة بعد الرابع من بدء الوحي، ومرَّ ابن شهاب في الثالث منه، ومرَّ سالم بن عبد الله في السابع عشر من الإيمان، ومرَّ أبوه عبد الله في أوله قبل ذكر حديث منه، والحديث أخرجه أبو داود والتِّرمذيّ والنَّسائيّ وابن ماجه في الزكاة. ثم قال: كما روى الفضل بن العباس أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، لم يصل في الكعبة. وقال بلال: قد صلى، فأخذ بقول بلال، وترك قول الفضل أي: كما أن المثبت مقدم على النافي في حديثي الفضل وبلال، وحديث الفضل أخرجه أحمد وغيره، وحديث بلال قد مرَّ موصولًا في باب "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" من كتاب الصلاة، ويأتي موصولًا في كتاب الحج إن شاء الله تعالى، وقد مرَّ الفضل في الثامن عشر من الجماعة، ومرَّ بلال في التاسع والثلاثين من العلم. ثم قال المصنف:

باب ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة

باب ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة الحديث السادس والثمانون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا مَالِكٌ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: لَيْسَ فِيمَا أَقَلُّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ، وَلاَ فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةٍ مِنَ الإِبِلِ الذَّوْدِ صَدَقَةٌ، وَلاَ فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ هَذَا تَفْسِيرُ الأَوَّلِ إِذَا قَالَ لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ. وَيُؤْخَذُ أَبَدًا فِي الْعِلْمِ بِمَا زَادَ أَهْلُ الثَّبَتِ أَوْ بَيَّنُوا. وقوله: ليس فيما أقل، ما زائدة، وأقل في موضع جر بقي، وقد ذكره بعده بلفظ "وليس في أقل"، واختلف في هذا النصاب، هل هو تحديد أو تقريب؟ وبالأول جزم أحمد، وهو أصح الوجهين للشافعية، إلا إن كان نقصًا يسيرًا جدًا مما لا ينضبط، فلا يضر. قال ابن دقيق العيد: وصحح النوويّ في شرح مسلم أنه تقريب، واتفقوا على وجوب الزكاة فيما زاد على الخمسة أوسق بحسابه، ولا وقص فيها، وقد مرت مباحث هذا الحديث في باب زكاة الوَرقِ. رجاله ستة: قد مرّوا، مرَّ مسدد ويحيى القَطان في السادس من الإيمان، ومرَّ محمد بن عبد الله بن أبي صعصعة في الثاني والستين من هذا الكتاب. ومرَّ أبوه عبد الله وأبو سعيد الخُدْرِيّ في الثاني عشر من الإيمان، ومرَّ مالك في الثاني من بدء الوحي. ثم قال المصنف: باب أخذ صدقة التمر عند صرام النخل وهل يترك الصبي فيمس تمر الصدقة الصِّرام، بكسر المهملة، الجداد والقِطاف وزنًا ومعنى، وقد اشتمل هذا الباب على ترجمتين، أما الأولى فلها تعلق بقوله تعالى {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} واختلفوا في المراد بالحق فيها، فقال ابن عباس: هي الواجبة، وأخرجه ابن جرير عن أنس، وقال ابن عمر: هو شيء سوى الزكاة. أخرجه ابن مردويه، وبه قال عطاء وغيره، وحديث الباب يشعر بأنه غير الزكاة، وكأنه المراد بما أخرجه أحمد وأبو داود، من حديث جابر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "أمر من كان جدّ عشرة أوسق من التمر بقنوٍ يعلَّق في المسجد للمساكين" وقد مرَّ ذكره في باب القسمة. وتعليق القنو في المسجد، من كتاب الصلاة، وأما الترجمة الثانية، فربطها بالترك إشارة منه إلى أن الصِّبا وإن كان مانعًا من توجيه

الحديث السابع والثمانون

الخطاب إلى الصبي، فليس مانعًا من توجيه الخطاب إلى الوليّ بتأديبه وتعليمه، وأوردها بلفظ الاستفهام لاحتمال أن يكون النهي خاصًا بمن لا يحل له تناول الصدقة. الحديث السابع والثمانون حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الأَسَدِيُّ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُؤْتَى بِالتَّمْرِ عِنْدَ صِرَامِ النَّخْلِ فَيَجِيءُ هَذَا بِتَمْرِهِ وَهَذَا مِنْ تَمْرِهِ حَتَّى يَصِيرَ عِنْدَهُ كَوْمًا مِنْ تَمْرٍ، فَجَعَلَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ رضي الله عنهما يَلْعَبَانِ بِذَلِكَ التَّمْرِ، فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا تَمْرَةً، فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَخْرَجَهَا مِنْ فِيهِ فَقَالَ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ آلَ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- لاَ يَأْكُلُونَ الصَّدَقَةَ. قوله: كَوْم، بفتح الكاف وسكون الواو، معروف وأصله القطعة العظيمة من الشيء، والمراد به ما اجتمع من التمر كالهرمة ويروى كومة بالنصب أيّ حتى يصير التمر عتده كومة وقوله قد أخذ أحدهما تمرة سيأتي بعد بابين بلفظ "فأخذ الحسن بن عليّ" وقوله: فجعله، أي المأخوذ، وفي رواية الكشميهنيّ: فجعلها، أي التمرة، ويأتي قريبًا، إنْ شاء الله تعالى، بعد بابين، تحرير الكلام على هذا. قال الإسماعيليّ: قوله عند صِرام النخل، أي: بعد أن يصير تمرًا، لأن النخل قد يصرم وهو رطب، فيتمر في المِرْبَد، ولكن ذلك لا يتطاول، فحسن أن ينسب إلى الصرام، كما في قوله تعالى {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} فإن المراد بعد أن يداس وينقى. رجاله خمسة: مرَّ منهم إبراهيم بن طهمان في التاسع والعشرين من الغُسل، ومرَّ محمد بن زياد في الثلاثين من الوضوء، ومرّ أبو هريرة في الثاني من الإيمان، والباقي اثنان: الأول عمر بن محمد بن الحسن بن الزبير، الأسديّ الكوفيّ، المعروف بابن التَّل، بفتح المثناة بعدها لام مشددة. قال أبو حاتم: محله الصدق، وقال النَّسائيّ: صدوق. وذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال: يعتبر بحديثه ما حدث من كتاب أبيه، فإن في روايته التي كان يرويها من حفظه بعض المناكير، وقال الدارقطنيّ: لا بأس به، وقال مُرة: ثقة، وقال مسلمة في الصلة: صدوق ثقة، وما ذكر ما أخرج له البخاريّ في ترجمة أبيه. روى عن أبيه ووكيع ويحيى بن يمان، وروى عنه البخاريّ والنَّسائيّ وأبو حاتم وغيرهم. مات في شوال سنة خمسين ومئة. الثاني: أبوه محمد بن الحسن، أبو عبد الله أو أبو جعفر، قال عثمان بن أبي شيبة، هو ثقة صدوق، قيل: هو حجة، قال: أما حجة فلا، وقال البزار والدارقطنيّ: ثقة. وقال الساجي: ضعيف، وقد أدركت ابنه عمر، وكتبتُ عنه أحاديث. وقال ابن مُعين: شيخ، وقال مُرة: قد أدركته،

لطائف إسناده

وليس بشيء. وقال ابن عَديّ: له أحاديث أفراد، وحدث عنه الثقات، ولم أر بحديثه بأسًا. قال في المقدمة: له في البخاريّ عن ابنه عمر حديثان، أحدهما في الزكاة عن إبراهيم بن طهمان أن الحسن بن علي أخذ تمرة .. الحديث، وهو عنده بمتابعة شُعبة عن محمد بن زياد. والآخر في المناقب عن حفص بن غياث، حديث عائشة "ما غرة على امرأة .. الخ" وهو عنده بمتابعة حميد بن عبد الرحمن. روى عن أبيه وفطر بن خليفة، وإبراهيم بن طهمان وغيرهم. وروى عنه ابناه عمر وجعفر، وعليّ ابن المَدِينيّ وغيرهم. مات سنة مئتين أو نحوهما. وفي الحديث ذكر الحسن والحسين، رضي الله تعالى عنهما، وقد مرَّ في الثامن والثمانين من الوضوء. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، وفيه أن شيخه من أفراده، وفيه رواية الابن عن الأب. أخرجه البخاريّ في الزكاة أيضًا، وفي الجهاد، ومسلم في الزكاة، والنَّسائيّ في السِّير. ثم قال المصنف:

باب من باع ثماره أو روضه أو نخله أو زرعه وقد وجب فيه العشر أو الصدقة، فأدى الزكاة من غيره، أو باع ثماره، ولم يجب فيه الصدقة

باب من باع ثماره أو روضه أو نخله أو زرعه وقد وجب فيه العشر أو الصدقة، فأدى الزكاة من غيره، أو باع ثماره، ولم يجب فيه الصدقة ظاهر سياق هذه الترجمة أن المصنف يرى جواز بيع الثمرة بعد بَدْو الصلاح، ولو وجبت فيها الزكاة بالخرص مثلًا، لعموم قوله "حتى يبدو صلاحها"، وهو أحد قولي العلماء، والثاني لا يجوز بيعها بعد الخرص، لتعلق حق المساكين بها. وهوأحد قوليّ الشافعيّ. وقائل هذا حمل الحديث على الجواز بعد الصلاح وقبل الخرص، جمعًا بين الحديثين. وأما قوله: العشر أو الصدقة، فمن العام بعد الخاص، وفيه إشارة إلى الرد على من جعل في الثمار العُشر مطلقًا من غير اعتبار نصيب، ولم يرد أنّ الصدقة تسقط بالبيع، وأما قوله "فأدى الزكاة من غيره" فلأنه إذا باع بعد وجوب الزكاة، فقد فعل أمرًا جائزًا، كما تقدم، فتعلقت الزكاة بذمته، فله أن يعطيها من غيره، أو يخرج قيمتها على رأي من يجيزه، وهو اختيار البخاريّ كما سبق. وأما قوله "ولم يخص من وجبت عليه الزكاةَ ممن لم تجب" فيتوقف على مقدمة أخرى، وهي أن الحق يتعلق بالصلاح، وظاهر القرآن يقتضي أن وجوب الإيتاء إنما هو يوم الحصاد، على رأي من جعلها في الزكاة، إلا أن يقال: إنما تعرضت الآية لبيان زمن الإيتاء، لا لبيان زمن الوجوب. والظاهر أن المصنف اعتمد في تصحيح هذه المقدمة استعمال الخَرص عند الصلاح، لتعلق حق المساكين، فطواها بتقديمه حكم الخرص فيما سبق، أشار إلى ذلك ابن رشيد. وقال ابن بطال: أراد البخاري الرد على أحد قولي الشافعيّ بفساد البيع، كما تقدم. وقال أبو حنيفة: المشتري بالخيار، ويؤخذ العشر منه، ويرجع هو على البائع. وعن مالك العُشر على البائع، إلاَّ أن يشترطه على المشتري، وهو قول الليث. وعن أحمد الصدقة على البائع مطلقًا، وهو قول الثَّوريّ والأوزاعيّ. ثم قال: وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- "لا تبيعوا الثمرة حتى يبدو صلاحها"، فلم يحظر البيع بعد الصلاح على أحد، ولم يخص من وجبت عليه الزكاة ممن لم تجب. أسنده في الباب بمعناه، وأما هذا اللفظ، فمذكور عنده في كتاب البيع من حديث ابن عمر. الحديث الثامن والثمانون حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ قال سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما: نَهَى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهَا. وَكَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ

رجاله أربعة

صَلاَحِهَا قَالَ حَتَّى تَذْهَبَ عَاهَتُهُ. وزاد في كتاب البيع: نهي البائع والمبتاع، أما البائع فلئلا يأكل مال أخيه بالباطل، وأما المشتري فلئلا يضيع ماله، ويساعد البائع على الباطل. وفيه أيضًا قطع النزاع والتخاصم، ومقتضاه جواز بيعها بعد بُدُوّ صلاحها مطلقًا، سواء اشترط الإبقاء أو لم يشترط، لأن ما بعد الغاية مخالف لما قبلها، وقد جعل النهي ممتدًا إلى غاية بُدو الصلاح، والمعنى فيه أن تؤمن فيها العاهة، وتغلب السلامة، فيثق المشتري بحصولها، بخلاف ما قبل بُدُوّ الصلاح، فإنه بصدد الغَرر. وقد أخرجه مسلم عن نافع، فزاد في الحديث "حتى يأمن العاهة". وفي رواية عن نافع بلفظ "وتذهب عنه الآفة ببدو صلاحه: حمرته وصفرته". وإلى الفرق بين ما قبل ظهور الصلاح وبعده ذهب الجمهور. وعن أبي حنيفة إنما يصح بيعها في هذه الحالة حيث لا يشترط الإبقاء، فإنْ شَرَطه لم يصح البيع، وحكى النوويّ في شرح مسلم أنه أوجب شرط القطع في هذه الصورة، وتعقب بأن الذي صرح به أصحاب أبي حنيفة أنه صحح البيع حالة الإطلاق قبل بُدُوّ الصلاح وبعده، وأبطله بشرط الإِبقاء قبله وبعده، وأهل مذهبه أعرف به من غيرهم. واختلف السلف في قوله "حتى يبدو صلاحها" هل المراد به جنس الثمار، حتى لو بدا الصلاح في بستان من البلد مثلًا، جاز بيع ثمرة جميع البساتين، وإن لم يبد الصلاح؟ أو لابد من بدو الصلاح في كل بستان على حدة، أو لابد من بدو الصلاح في كل جنس على حدة، أو في كل شجرة على حِدة، أقوال: الأول: قول الليث، وهو عند المالكية بشرط أن يكون الصلاح متلاحقًا. والثاني: قول أحمد، وعنه رواية كالرابع. والثالث: قول الشافعية، ويمكن أن يؤخذ ذلك من التعبير ببدو الصلاح، لأنه دال على الاكتفاء بمسمى الإِزهاء من غير اشتراط تكامله، فيؤخذ منه الاكتفاء بزَهْو بعض الثمرة، وبزهو بعض الشجرة، مع حصول المعنى، وهو الأمن من العاهة. ولولا حصول المعنى لكان تسميتها مزهية بإزهاء بعضها قد لا يكتفى به، لكونه على خلاف الحقيقة. وأيضًا فلو قيل بإزهاء الجميع، لأدّى إلى فساد الحائط أو أكثره، وقد منّ الله تعالى يكون الثمار لا تطيب دفعة واحدة، ليطول زمن التفكه بها. وقوله: وكان إذا سئل عن صلاحها قال: حتى تذهب عاهته، أي الثمر، وفي رواية الكشميهنيّ "عاهتها" وهو مقول ابن عمر، بيّنه مسلم في روايته عن شُعبة ولفظه "فقيل لابن عمر: ما صلاحه؟ قال: تذهب عاهته". رجاله أربعة: قد مرّوا، مرّ حَجّاج بن مُنهال في الثامن والأربعين من الإيمان، ومرّ شعبة في الثالث منه،

لطائف إسناده

وعبد الله بن دينار في الثاني منه، ومرَّ ابن عمر في أوله قبل ذكر حديث منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإخبار بالأفراد والسماع، وهو من الرباعيات. أخرجه مسلم في البيوع، وكذلك أبو داود والتِّرمذِيّ والنّسائيّ وابن ماجه. الحديث التاسع والثمانون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما. نَهَى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهَا. وهذا الحديث الكلام عليه هو الكلام على الذي قبله. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ عبد الله بن يوسف في الثاني من بدء الوحي، والليث في الثالث منه، وخالد بن يزيد في الثاني من الوضوء وعطاء بن أبي رباح في التاسع والثلاثين من العلم، ومرّ جابر في الرابع من بدء الوحي. وهذا الحديث أخرجه أبو داود وقد مرَّ. الحديث التسعون حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تُزْهِيَ، قَالَ حَتَّى تَحْمَارَّ. وقوله: حتى تحمار، قال الخطابيّ: لم يرد بذلك اللون الخالص من الحمرة والصفرة، وإنما أراد حمرة أو صفرة بكُمُودة، فلذلك قال: تحمار وتصفار، ولو أراد اللون الخالص لقال: تحمرّ وتصفر وقال ابن التين: أراد بقوله "تحمارّ وتصفارّ" ظهور أوائل الحُمرة والصُفرة قبل أن تَشْبع. قال: وإنما يقال تَفْعَال في اللون الغير المتمكن، إذا لمحان يتلون، وأنكر هذا بعض أهل اللغة. وقال: لا فرق بين تحمر وتصفر وتحمار وتصفار، ويحتمل أن يكون المراد المبالغة في احمرارها واصفرارها، كما تقرر أن الزيادة تدل على التكثير والمبالغة. ويأتي الكلام على الحديث. قد مرّ في الذي قبله بحديث. رجاله أربعة: قد مرّوا، مرّ قتيبة في الحاديث والعشرين من الإيمان، وحميد الطويل في الحادي والأربعين منه. وأنس في السادس منه، ومالك في الثاني من بدء الوحي. ثم قال المصنف:

باب هل يشتري صدقته

باب هل يشتري صدقته ولا بأس أن يشتري صدقَتَه غيرُة، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى المتصدق خاصة عن الشراء، ولم ينه غيره. قال الزين بن المنير: أورد الترجمة بالاستفهام، لأن تنزيل حديث الباب على سببه، يضعف معه تعميم المنع، لاحتمال تخصيصه بالشراء بدون القيمة، لقوله: وظننت أنه يبيعه بُرخص، وكذا إطلاق الشارع العود عليه، بمعنى أنه في معنى رجوع بعضها إليه بغير عوض. قال: وقصد بهذه الترجمة التنبيه على أنّ الذي تضمنته الترجمة التي قبلها من جواز بيع الثمرة قبل إخراج الزكاة، ليس من جنس شراء الرجل صدقته، والفرق بينهما دقيق. وقال ابن المنذر ليس لأحد أن يتصدق ثم يشتريها، للنهي الثابت. ويلزم من ذلك فساد البيع إلا إن ثبت الإجماع على جوازه. وقوله: ولا بأس أن يشتري صدقة غيره إلخ، قد استدل بما ذكر، ومراده قوله عليه الصلاة والسلام "لا تعد" وقوله: "العائد في صدقته" ولو كان المراد تعميم المنع لقال: لا تشتروا الصدقة مثلًا. الحديث الحادي والتسعون حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ تَصَدَّقَ بِفَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَوَجَدَهُ يُبَاعُ، فَأَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَاسْتَأْمَرَهُ فَقَالَ: لاَ تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ فَبِذَلِكَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما لاَ يَتْرُكُ أَنْ يَبْتَاعَ شَيْئًا تَصَدَّقَ بِهِ إِلاَّ جَعَلَهُ صَدَقَةً. أورد المصنف هذا الحديث من طريقين، فسياق الأولى يقتضي أنه من حديث ابن عمر، والثاني أنه من مسند عمر، ورجح الدارقطني الأولى لكن حيث جاء من طريق سالم وغيره من الرواة عن ابن عمر، فهو من مسنده، وأما رواية أسلم، مولى عمر، فهي من عمر نفسه، وقوله: تصدق بفرس، أي حمل عليه رجلًا في سبيل الله، كما في الطريق الثانية، والمعنى أنه ملكه له، ولذلك ساغ له بيعه. ومنهم من قال: كان عمر قد حبسه، وإنما ساغ للرجل بيعه؛ لأنه حصل فيه هزال عجز لأجله عن اللحاق، وضعف من ذلك، وانتهى إلى حالة عدم الانتفاع به. وأجاز ذلك ابن القاسم. قلت: وهو مشهور مذهب مالك، ويدل على أنه حمل تمليك قوله "ولا تعد في صدقتك"، ولو كان حبسًا لعلله به. وقوله: فبذلك، كان ابن عمر لا يترك أن يبتاع شيئًا تصدق به إلا جعله صدقة. وعند أبي ذَرٍّ

رجاله ستة

تضبيبٌ على حرف "لا"، ولا أدري ما وجهه، وبإثبات النفي يتم المعنى، أي كان إذا اتفق له أن يشتري شيئًا، كان تصدق به، لا يتركه في ملكه حتى يتصدق به. وكأنه فهم أن النهي عن شراء الصدقة إنما هو لمن أراد أن يتملكها، لا لمن يردها صدقة، وتأتي بقية الكلام على الحديث إن شاء الله تعالى في الذي بعده. رجاله ستة: وفيه ذكر عمر، وقد مرّ الجميع، مرَّ يحيى بن بكير والليث وعقيل والزهريّ في الثالث من بدء الوحي، وعمر في الأول منه، ومرَّ سالم بن عبد الله في السابع عشر من الإيمان، وأبوه عبد الله في أوله قبل ذكر حديث منه. وهذا الحديث أخرجه النَّسَائيّ في الزكاة أيضًا. الحديث الثاني والتسعون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ رضي الله عنه يَقُولُ حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَضَاعَهُ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِيَهُ، وَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَبِيعُهُ بِرُخْصٍ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: لاَ تَشْتَرِي وَلاَ تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ، وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ، فَإِنَّ الْعَائِدَ فِي صَدَقَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ. قوله: حملت على فرس، زاد القعنبي في الموطأ "عتيق"، والعتيق الكريم الفائق من كل شيء، وهذا الفرس، أخرج ابن سعد في الطبقات عن الواقديّ، أن تميمًا الداريّ أهدى فرسًا، يقال له الورد، للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فأعطاه عمر، فحمل عمر عليه في سبيل الله، فوجده عمر يباع .. الحديث، فعرف بهذا تسميته، وأصله، ولا يعارضه ما أخرجه مسلم وأبو عوانة. واللفظ للثاني عن ابن عمر، أن عمر حمل على فرس في سبيل الله، فأعطاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلًا، لأنه يحمل على أن عمر لما أراد أن يتصدق فوّض إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، اختيار من يتصدق به عليه، أو استشاره فيمن يحمله عليه، فأشار به عليه، فنسبت إليه العطية، لكونه أمره بها. وقوله: في سبيل الله، المراد به الجهاد لا الوقف، فلا حجة لمن أجاز بيع الموقوف، إذا بلغ غاية لا يتصور الانتفاع به فيما وقف له. وظاهر أنه حمله عليه حمل تمليك، ليجاهد عليه، إذ لو كان حمل تحبيس لم يَجُزْ بيعه. والرجل المحمول لم يسمَّ، وقوله: فأضاعه الذي كان عنده، أي بترك القيام عليه بالعلف والخدمة ونحوهما. وقيل: لم يعرف مقداره، فأراد بيعه بدون قيمته، وقيل: معناه استعمله في غير ما جعل له، والأول أظهر. ويؤيده رواية مسلم عن زيد بن أسلم "فوجده قد أضاعه، وكان قليل المال" فأشار إلى علة ذلك، وإلى العذر المذكور في إرادة بيعه. وقوله: لا تشتر ولا تعد، في رواية أحمد عن زيد بن

أسلم "لا تعودون" وسمّى شراءه برخصٍ عَوْدًا في الصدقة، من حيث إن الفرض منها ثواب الآخرة، مع أنَّ العادة تقتضي بيع مثل ذلك برخص، لغير المتصدق، فكيف بالمتصدق؟ فيصير راجعًا في ذلك المقدار الذي سومح فيه. وقوله: وإن أعطاكه بدرهم، مبالغة في رخصه، وهو الحامل له على شرائه، ويستفاد منه أن البائع كان قد ملكه ولو كان محبسًا، كما ادعاه البعض. وقال: إنما جاز بيعه لكونه صار لا ينفع به فيما حبس له، لَما كان له أن يبيعه إلا بالقيمة الوافرة، ولا كان له أن يسامح منها بشيء، ولو كان المشتري هو المحبس، وقد استشكله الإسماعيليّ وقال: إذا كان شرط الواقف ما ذكر في وقف عمر، لا يباع أصله، ولا يوهب، فكيف يجوز أن يباع الفرس الموهوب؟ وكيف لا ينهى بائعه أو يمنع من بيعه؟ قال: فلعل معناه أن عمر جعله صدقة يعطيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من يرى إعطاءَها له، فأعطاها عليه الصلاة والسلام الرجل المذكور، فجرى منه ما ذكر، ويستفاد من التعليل المذكور أيضًا، أنه لو وجده، مثلًا، يباع بأغلى من ثمنه، لم يتناوله النهي. وقوله: فإن العائد في صدقته كالعائد في قيئه. وفي حديث ابن عباس في الهبة "ليس لنا مثل السّوء، الذي يعود في هبته، كالكلب يعود في قيئه" أي: لا ينبغي لنا معشر المؤمنين أن نتصف بصفة ذميمة، يشابهنا فيها أخس الحيوانات في أخس أحوالها. قال الله تعالى {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} ولعل هذا أبلغ في الزجر عن ذلك، وأدل على التحريم مما لو قال مثلًا: لا تعودوا في الهبة. وإلى القول بتحريم الرجوع في الهبة بعد أن تقبض ذهب جمهور العلماء، إلا هبة الولد لوالده جمعا بين هذا الحديث وبين حديث النعمان الآتي في الهبة. وقال الطحاويّ: قوله "لا يحل" لا يستلزم التحريم، وهو كقوله "لا تحل الصدقة لغني" وإنما معناه لا تحل له من حيث تحل لغيره من ذوي الحاجات، وأراد بذلك التغليظ في الكراهة. قال: وقوله: كالعائد في قيئه، وإن اقتضى التحريم لكون القيء حرامًا، لكن الزيادة في الرواية الأخرى، وهي قوله "كالكلب" تدل على عدم التحريم؛ لأن الكلب غير متعبد، فالقيء ليس حرامًا عليه، والمراد التنزيه عن فعل يشبه فعل الكلب. وتعقب باستبعاد ما تأوله. ومنافرة سياق الحديث له، وبأن عرف الشرع في مثل هذه الأشياء يراد به المبالغة في الزجر، كقوله "من لعب بالنَّرْد شير، فكأنما غمس يده في لحم خنزير". قال القرطبي: الظاهر الاستدلال بالحديث على التحريم، لأن القيء حرام، ويحتمل أن يكون التشبيه للتنفير خاصة، لكون القيء مما يستقذر، وهو قول الأكثر، ويلتحق بالصدقة الكفارة والنذر وغيرهما من القُرُبات، وأما إذا ورثه فلا كراهة، وأبعد من قال: يتصدق به، قال الطبريّ: يخص من عموم هذا الحديث من وهب بشرط الثواب، ومن كان والدًا واهبًا لولده، والهبة التي لم تقبض، والتي ردها الميراث إلى الواهب لثبوت الأخبار باستثناء كل ذلك. وأما ما عدا ذلك، كالغني يُثيب الفقير، ونحو من يصل رحمه، فلا رجوع لهؤلاء.

رجاله خمسة

قال: ومما لا رجوع فيه مطلقًا الصدقةُ يراد بها ثواب الآخرة، وقد إستشكل ذكر عمر مع ما فيه من إذاعة عمل البر، وكتمانه أرجح، وأجيب بأنه تعارض عنده المصلحتان: الكتمان وتبليغ الحكم الشرعي، فرجح الثاني فعمل به، وتعقب بأنه كان يمكنه أن يقول: رجل على فرس مثلًا، ولا يقول: حملت، فيجمع بين المصلحتين. والظاهر أن محل رجحان الكتمان إنما هو قبل الفعل وعنده، وأما بعد وقوعه، فلعل الذي أُعطيه أَذاع ذلك، فانتفى الكتمان. ويضاف إليه أن في إضافته ذلك إلى نفسه تأكيدًا لصحة الحكم المذكور، لأن الذي تقع له القصة أجدر بضبطها ممن ليس عنده إلا وقوعها بحضوره، فلما أمِن ما يخشى من الإعلان بالقصد، صرّح بإضافة الحكم إلى نفسه. ويحتمل أن يكون محل ترجيح الكتمان لمن يخشى على نفسه من الإعلان العجب والرياء، أما مَنْ أمِنَ مِنْ ذلك، كعمر، فلا. وفي الحديث كراهة الرجوع في الصدقة، وفضل الحمل في سبيل الله، والإِعانة على الغزو بكل شيء، وأن الحمل في سبيل الله تمليك، وأن للمحمول بيعه، والانتفاع بثمنه. رجاله خمسة: مرَّ منهم عبد الله بن يوسف ومالك في الثاني من بدء الوحي، ومرّ عمر في الأول منه، ومرّ زيد بن أسلم في الثاني والعشرين من الإيمان. والباقي أسلم العَدوي، مولاهم، أبو خالد. ويقال: أبو زيد. قيل: إنه حَبَشيّ، وقيل: إنه من سَبي عَين التمر. قال ابن إسحاق: بعث أبو بكر عمر سنة إحدى عشرة على إقامة الحج، فاشترى فيها أسلم مولاه. قال يعقوب بن شَيبة: كان ثقة، وهو من جلَّة موالي عمر، وكان يقدمه. وقال العجليّ: مدنيّ ثقة من كبار التابعين، وقال أبو زرعة: ثقة، أدرك زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وروى عن أبي بكر ومولاه عمر، وعثمان وابن عمر وغيرهم. وروى عنه ابنه زيد والقاسم بن محمد، ونافع مولى ابن عمر وغيرهم. مات سنة ثمانين، وهو ابن مئة سنة وأربع عشرة. والظاهر أنه مات قبل الثمانين، لأنه صلى عليه مروان، ومروان مات سنة أربع وستين. أخرجه البخاريّ أيضًا في الهبة والجهاد، ومسلم في الفرائض والنَّسائي في الزكاة، وابن ماجه في الأحكام. ثم قال المصنف:

باب ما يذكر في الصدقة للنبي -صلى الله عليه وسلم- وآله

باب ما يذكر في الصدقة للنبي -صلى الله عليه وسلم- وآله لم يعين الحكم لشهرة الاختلاف فيه، والنظر فيه في ثلاثة مواضع: أولها المراد بالآل هنا بنو هاشم وبنو المطلب، على الراجح عند الشافعية. قال الشافعيّ: أشركهم النبي -صلى الله عليه وسلم- في سَهم ذوي القربى، ولم يعطِ أحدًا من قبائل قريش سواهم، وتلك العطية عِوَض عُوِّضوه بدلًا عما حُرِموه من الصدقة. وعن أبي حنيفة ومالك: بنو هاشم فقط، وعن أحمد في بني المطلب روايتان، وعن المالكية فيما بين هاشم وغالب بن فِهْر قولان، فعن أَصْبَغ: منهم بنو قُصَيّ، وعن غيره بنو غالب بن فهر. ثانيها كان يحرم على النبي -صلى الله عليه وسلم- صدقةُ الفَرْض والتطوع، كما نقل فيه غير واحد، منهم الخطابيّ، الاجماعَ، لكن حتى غير واحد عن الشافعيّ في التطوع قولًا، وكذا في رواية عن أحمد. ولفظه في رواية الميمونيّ "لا يحل للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وأهلِ بيته صدقة الفطر، وزكاة الأموال، والصدقة يصرفها الرجل على محتاج يريد بها وجه الله. أما غير ذلك فلا، أليس يقال: كل معروف صدقة؟ " قال ابن قدامة: ليس ما نقل عنه من ذلك بواضح الدلالة، وإنما أراد أن ما ليس من صدقة الأموال، كالقَرضِ والهدية وفعل المعروف، كان غير محرم. قال الماورديّ: يحرم عليه كل ما كان من الأموال متقومًا، وقال غيره: لا تحرم عليه الصدقة العامة، كمياه الآبار وكالمساجد. واختلف هل كان تحريم الصدقة من خصائصه دون الأنبياء؟ أو كلهم سواء في ذلك؟ ثالثها: هل يلتحق به آله في ذلك أم لا؟ قال ابن قدامة: لا نعلم خلافًا في أن بني هاشم لا تحل لهم الصدقة المفروضة، كذا قال. وقد نقل الطبريّ الجوازَ أيضًا عن أبي حنيفة. وقيل عنه: يجوز لهم إذا حرموا سهم ذوي القربى حكاه الطحاويّ، ونقله بعض المالكية عن الأبْهريّ منهم، وهو وجه لبعض الشافعية، وعن أبي يوسف: يحل من بعضهم لبعض، لا من غيرهم. وعند المالكية في ذلك أربعة أقوال مشهورة: الجواز، المنع، جواز التطوع دون الفرض، عكسه. وأدلة المنع ظاهرة من حديث الباب وغيره، ولقوله تعالى {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} ولو أحلها لأنه لأوشك أن يطعنوا فيه، ولقوله تعالى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} وثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- "الصدقة أوساخ الناس" كما رواه مسلم. ويؤخذ من هذا جواز التطوع دون الفرض، وهو قول أكثر الحنفية، والمصحح عند الشافعية والحنابلة، وأما عكسه فقالوا: إن الواجب حق لازم، لا يلحق بأخذه ذلة، بخلاف التطوع، ووجه التفرقة بين بني هاشم وغيرهم أن موجب المنع رفع

الحديث الثالث والتسعون

يد الأدنى على الأعلى، فأما الأعلى على مثله فلا، ولم يذكر لمن أجاز مطلقًا دليل. الحديث الثالث والتسعون حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: أَخَذَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رضي الله عنهما تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ، فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- كِخٍ كِخٍ لِيَطْرَحَهَا ثُمَّ قَالَ أَمَا شَعَرْتَ أَنَّا لاَ نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ. قوله: قال: أخذ الحسن، في رواية معمر عن محمد بن زياد أنه سمع أبا هريرة قال: كنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو يقسم تمرًا من تمر الصدقة، والحسن في حجره. أخرجه أحمد. وقوله: فجعلها في فيه، زاد أبو مسلم الكجيّ عن محمد بن زياد "فلم يفطن له النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى قام، ولعابه يسيل، فضرب النبي -صلى الله عليه وسلم- شدْقه" وفي رواية معمر "فلما فرغ حمله على عاتقه، فسال لعابه، فرفع رأسه، فإذا تمرة في فيه" وقوله: كِخْ. كِخْ، بفتح الكاف وكسرها وسكون المعجمة، وبكسر الخاء منونة وغير منونة، والثانية توْكيد للأولى، وهي كلمة تقال لردع الصبي عند تناوله ما يستقذر. قيل: عربية، وقيل: أعجمية. وزعم الداوديّ أنها معربة. وقد أوردها البخاريّ في باب "من تكلم بالفارسية". وقوله: ليطرحها، زاد مسلم "ارم بها" وفي رواية حماد بن سلمة عند أحمد "فنظر إليه، فإذا هو يلوك تمرة، فحرك خده، وقال: أبقها يا بني، أبقها يا بُني" ويجمع بين هذا وبين قوله "كخ كخ" بأنه كلّمه أولًا بهذا، فلما تمادى قال له "كخ كخ" إشارة إلى استقذار ذلك له، ويحتمل العكس بأن يكون كلمه أولًا بذلك، فلما تمادى نزعها من فيه. وقوله: أما شعرت، وفي رواية البخاريّ في الجهاد "أما تعرف؟ " ولمسلم "أما علمت" هو شيء يقال عند الأمر الواضح، وإن لم يكن المخاطب بذلك عالمًا، أي: كيف خفي عليك هذا مع ظهوره؟ وهو أبلغ في الزجر من قوله "لا تفعل" وفي بعض النسخ "ما علمت" بحذف همزة الاستفهام. قال ابن مالك: وقد كثر حذف الهمزة إذا كان معنى ما حذفت منه لا يستقيم إلا بتقديرها. قال في المصابيح: ووقع في كلام سيبويه ما يقتضي أن حذفها من الضرائر، وذلك أنه قال، وزعم الخليل أن قول الأخطل: كذبتكَ عينُك أم رأيت بواسِطٍ ... غَلَسَ الظلامِ من الرَّباب خَيَالًا كقوله إنها لإبل أم شآء؟ ويجوز في الشعر أن يريد بكذبتك الاستفهام، وحذفت الألف. وقال ابن أم قاسم في الجنى الداني: المختار اطراد حذفها إذا كان بعدها أم المصلة، لكثرتها نظمًا ونثرًا. وقوله إنّا لا نأكل الصدقة، في رواية مسلم "إنا لا تحل لنا الصدقة" وفي رواية معمر "إن الصدقة لا تحل لآل محمد" وكذا عند أحمد والطحاويّ من حديث علي بن الحسن نفسه. قال: كنت مع

رجاله أربعة

النبي -صلى الله عليه وسلم-، فمر بجَرين من تمر الصدقة، فأخذتُ منه تمرةً فألقيتها في فيَّ فأخذها بلعابها، فقال: "إنَّا آل محمد لا تحل لنا الصدقة". وإسناده قويّ، وللطبرانيّ والطحاويّ عن أبي ليلى الأنصاريّ نحوه. وروى مسلم عن أبي هُريرة "والله اني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراش أو في بيتي، فارفعها لآكلها، ثم أخشى أن تكون صدقة، فألقيها". وروى أحمد عن عبد الله بن عمر "وأن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-" وجد تمرة تحت جنبه من الليل، فأكلها، فلم ينم تلك الليلة، فقال بعض نسائه: يا رسول الله، أرقتَ البارحةَ، قال: إني وجدت تمرة فأكلتها، وكان عندنا تمر من تمر الصدقة، فخشيت أن تكون منه". ورى التِّرمذيُّ عن معاوية بن حَيْدة جدبَهْز بن حكيم قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أُتي بشيء سأل: أصدقة هي أم هدية؟ فإن قالوا: صدقة، لم يأكل، وإن قالوا: هدية أكل". وروى أحمد والترمذيّ في الشمائل عن بُريدة بن حُصيب قال: "جاء سلمان إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حين قدم المدينة بمائدة عليها رُطَب، فوضعها بن يدي النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فقالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما هذا يا سلمان؟ قال: صدقة عليك، وعلى أصحابك. قال: ارفعها، فإنّا لا نأكل الصدقة". وأخرجه أحمد والحاكم في المستدرك عن سلمان "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما قدم المدينة" وفيه "فسأله أصدقة أم هدية؟ فقال: هدية، فأكل" وفي رواية أحمد عن سلمان قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم-، يقبل الهدية، ولا يقبل الصدقة، إلى غيرها هذا من الأحاديث. وفي الحديث دفع الصدقات إلى الإمام، والانتفاع بالمساجد في الأمور العامة، وجواز إدخال الأطفال المساجد، وتأديبهم بما ينفعهم، ومنعهم مما يضرهم، ومن تناول المحرمات، وإن كانوا غير مكلفين ليتدربوا بذلك، واستنبط بعضهم منه منع وَليّ الصغيرة لها إذا اعتدت من الزينة، وفيه الإعلام بسبب النهي، ومخاطبة من لا يميز لقصد إسماع من يميز، لأن الحسن، إذ ذاك، كان طفلًا. رجاله أربعة: وفيه ذكر الحسن، وقد مرَّ الجميع، مرّ آدم وشعبة في الثالث من الإيمان، ومرَّ أبو هريرة في الثاني منه، ومرّ محمد بن زياد في الثلاثين من الوضوء، ومرّ الحسن رضي الله تعالى عنه في الثامن والثمانين منه. ثم قال المصنف:

باب الصدقة على موالي ازواج النبي -صلى الله عليه وسلم-

باب الصدقة على موالي ازواج النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يترجم لأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا لمواليه، لأنه لم يثبت عنده فيه شيء، وقد نقل ابن بطال أنهنَّ، أي: الأزواج، لا يدخلن في ذلك باتفاق الفقهاء. وفيه نظر، فقد نقل ابن قُدامة أن الخلال أخرج عن أبي مليكة عن عائشة قالت: إنّا آل محمد لا تحل لنا الصدقة. قال: وهذا يدل على تحريمها، وإسناده إلى عائشة حسن. وأخرجه ابن أبي شيبة أيضًا، وهذا لا يقدح فيما نقله ابن بطال. وروى أصحاب السنن، وصححه ابن حِبّان والتِّرمذيّ عن أبي رافع مرفوعًا "إنا لا تحل لنا الصدقة، إن موالي القوم من أنفسهم". وبحرمتها على مواليه عليه الصلاة والسلام قال أحمد وأبو حنيفة ويعض المالكية، كابن الماجشون: وهو الصحيح، عند الشافعية. وقال الجمهور: تجوز لهم، لأنهم ليسوا منهم حقيقة، ولذا لم يعوضوا بخُمس الخمس، ومنشأ الخلاف قوله "منهم أو من أنفسهم" هل يتناول المساواة في حكم تحريم الصدقة أو لا؟ وحجة الجمهور أنه لا يتناول جميع الأحكام، فلا دليل فيه على تحريم الصدقة، لكنه ورد على سبب الصدقة، وقد اتفقوا على أنه لا يخرج السبب، وإن اختلفوا هل يخص به أو لا، ويمكن أن يستدل لهم بحديث الباب؛ لأنه يدل على جوازها لموالي الأزواج، وقد تقدم أن الأزواج ليسوا في ذلك من جملة الآل، فمواليهم أحرى بذلك، قال ابن المنير: إنما أورد البخاريّ هذه الترجمة، ليحقق أن الأزواج لا يدخل مواليهنّ في الخلاف، ولا تحرم عليهنّ الصدقة قولًا واحدًا، لئلا يظن ظانٌّ أنه لما قال بعض الناس بدخول الأزواج في الآل أنه يطرد في مواليهن، فبين أنه لا يطرد. الحديث الرابع والتسعون حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبِّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: وَجَدَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- شَاةً مَيِّتَةً أُعْطِيَتْهَا مَوْلاَةٌ لِمَيْمُونَةَ مِنَ الصَّدَقَةِ، قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- هَلاَّ انْتَفَعْتُمْ بِجِلْدِهَا. قَالُوا إِنَّهَا مَيْتَةٌ. قَالَ إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا. قوله: أُعطيتها مولاة لميمونة من الصدقة، هذا هو موضع الترجمة من الحديث، فإن مولاة ميمونة أُعطيت من الصدقة، فلم ينكر عليها، فدل على أن موالي أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-، تحل لهم

الصدقة. والمولاة المذكورة لم تسم. وقوله: هلا انتفعتهم بجلدها؟ وفي نسخة "بإهابها" بكسر الهمزة وتخفيف الهاء، هو الجلد قبل أن يدبغ. وقيل: هو الجلد دُبغ أو لم يدبغ. وجمعه أُهُب، بفتحتين ويجوز بضمتين، زاد مسلم: هلا أخذتم إهابها، فدبغتموه، فانتفعتم به؟، وأخرج مسلم نحوه عن ابن عباس، قال: ألا أخذوا إهابها فدبغوه، فانتفعوا به. وقوله: قالوا: إنها مَيْتَة، لم يعين القائل. وقوله: إنما حرم أكلها. قال ابن أبي جمرة: فيه مراجعة الإِمام فيما لا يفهم السامع معنى ما أمره، كأنهم قالوا: كيف تأمرنا بالانتفاع بها وقد حرمت علينا؟ فبين له وجه التحريم. ويؤخذ منه جواز تخصيص الكتاب بالسنة، لأن لفظ القرآن {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} وهو شامل لجميع أجزائها في كل حال، فخصت السنة ذلك بالأكل، وفيه حسن مراجعتهم، وبلاغتهم في الخطاب، لأنهم جمعوا معاني كثيرة في كلمة واحدة، وهي قولهم: إنها ميتة. واستدل به الزُّهريّ على جواز الانتفاع بجلد الميتة مطلقًا سواء دبغ أو لم يدبغ، لكن صح التقييد من طرق أخرى بالدباغ، وهي حجة الجمهور، واستثنى الشافعي من المَيْتات الكلبَ والخنزير، وما تولد منهما، لنجاسة عينهما عنده، وأبو حنيفة الخنزير، ولم يستثن أبو يوسف وداود شيئًا، أخذًا بعموم الخبر. وهي رواية عن مالك، ومشهور مذهبه أن الجلد عنده لا يطهر بالدباغ، ولكن يرخص في الانتفاع به في اليابس والماء المطلق بالدباغ، إلا من الخنزير خاصة. وقد أخرج مسلم عن ابن عباس، رَفَعه، "إذا دبغ الإهاب فقد طَهُر" ولفظ الشافعيّ والتِّرْمِذِيّ وغيرهما "أيما إهاب دُبغ فقد طَهُر" وفي لفظ مسلم، أيضًا، عن ابن عباس "سألنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، فقال: دِباغه طَهوره" وفي رواية للبزَّار: دباغ الأديم طُهوره، وجزم الرافعيّ وبعض أهل الأصول أن هذا اللفظ ورد في شاة ميمونة، وهو محتمل احتمالًا قويًا، لكون الجميع من رواية ابن عبّاس، وتمسك بعضهم بخصوص هذا السبب، فقصر الجواز على المأكول، لورود الخبر في الشاة، ويتقوى ذلك من حيث النظر بأن الدباغ لا يزيد في التطهير على الذكاة، وغير المأكول لو ذُكّي لا يطهر بالذكاة عند الأكثر، فكذلك الدباغ. وأجاب من عمم بالتمسك بعموم اللفظ، فهو أولى من خصوص السبب، وبعموم الإذن في المنفعة، ولأن الحيوان طاهر ينتفع به قبل الموت، فكان الدباغ بعد الموت قائمًا مقام الحياة. وذهب قوم إلى أنه لا ينتفع من الميتة بشيء، سواءًا دبغ أو لم يدبغ، وتمسكوا بحديث عبد الله بن عكيم، قال: "أتانا كتابُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل موته، أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عَصَب". أخرجه الشافعيّ وأحمد والأربعة، وصححه ابن حبّان، وحسنه التِّرمِذيُّ. وفي رواية للشافعي وأحمد وأبي داود "قبل موته بشهر" قال التِّرْمذيّ: كان أحمد يذهب إليه ويقول هذا آخر الأمرين، ثم تركه لما اضطربوا في إسناده. وكذا قال الخلال، ورد ابن حبّان على من أدعى فيه

رجاله ستة

الاضطراب، وقال: سمع ابن عكيم الكتاب يقرأ، وسمعه من مشائخ من جُهينة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلا اضطراب. وأعَلَّه بعضهم بالانقطاع، وهو مردود، وبعضهم بكونه كتابًا، وليس بعلة قادحة، وبعضهم بأنَّ ابن أبي ليلى راويه عن ابن عكيم، لم يسمعه منه، لما وقع عند أبي داود عنه أنه انطلق هو وناسٌ معه إلى عبد الله بن عكيم. قال: فدخلوا وقعدت على الباب، فخرجوا إليّ، وأخبروني، فهذا يقتضي أن في السند من لم يُسَمّ، ولكن صح تصريح عبد الرحمن بن أبي ليلى سماعه من ابن عكيم، فلا أثر لهذه العلة، وأقوى ما تمسك به ممن لم يأخذ بظاهره معارضةُ الأحاديث الصحيحة له، وأنها عن سماع، وهذا عن كتابة، وأنها أصح مخارج، وأقوى من ذلك الجمعُ بين الحديثين، بحمل الإهاب على الجلد قبل دبغه، وأنه بعد الدبغ لا يسمى إهابًا، وإنما يسمى فِرْيَةً وغير ذلك. وقد نُقل ذلك عن أئمة اللغة كالنَّضْر بن شُمَيل. وهذه طريقة ابن شاهين وابن عبد البَرّ والبيْهقيّ. وأبعدَ من جَمَعَ بينهما يحمل النهي على جلد الكلب والخنزير، لكونهما لا يدبغان، وكذا من حمل النهي على باطن الجلد، والإذن على ظاهره. وحكى الماورديُّ عن بعضهم أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- لما مات، كان لعبد الله بن عكيم سنة، وهذا كلام باطل، فإنه كان رجلًا. رجاله ستة: قد مرّوا، وفيه ذكر مولاة لميمونة، قال ابن حجر: لم أقف على اسمها، مرّ سعيد بن عُفير وابن وهب في الثالث عشر من العلم، ومرّ يونس بن يزيد في متابعة بعد الرابع من بدء الوحي، وابن شهاب في الثالث منه، وعُبيد الله المسعوديّ في السادس منه، وابن عباس في الخامس منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإفراد والعنعنة، وسنده مصريان وأَيْليّ ومدنيان. أخرجه البخاريّ في البيوع والذبائح، ومسلم في الطهارة، وأبو داود في اللباس، والنَّسَائيّ في الذبائح. الحديث الخامس والتسعون حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا الْحَكَمُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنِ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِيَ بَرِيرَةَ لِلْعِتْقِ، وَأَرَادَ مَوَالِيهَا أَنْ يَشْتَرِطُوا وَلاَءَهَا، فَذَكَرَتْ عَائِشَةُ لِلنَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- اشْتَرِيهَا، فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ. قَالَتْ وَأُتِيَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِلَحْمٍ فَقُلْتُ هَذَا مَا تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ فَقَالَ: هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ، وَلَنَا هَدِيَّةٌ. وموضع الترجمة منه قوله فيه: هو لها صدقة ولنا هدية، وهذا الحديث قد مرَّ استيفاء الكلام عليه في أوائل كتاب الصلاة في "باب ذكر البيع والشراء على المنبر في المسجد".

رجاله ستة

رجاله ستة: وفيه ذكر بُريرة، وقد مرّ الجميع، مرّ آدم وشعبة في الثالث من الإيمان، ومرّ إبراهيم بن يزيد في الخامس والعشرين منه، ومرّ الحكم بن عُتَيبة في الثامن والخمسين من العلم، ومرّ الأسود في السابع الستين منه، ومرّت عائشة في الثاني من بدء الوحي، ومرّت بُريرة في التاسع والخمسين من استقبال القبلة. أخرجه البخاريّ في كفّارة الأيمان والطلاق والفرائض، والنَّسائي في الزكاة وفي الطلاق وفي الفرائض. ثم قال المصنف:

باب إذا تحولت الصدقة

باب إذا تحولت الصدقة في رواية أبي ذَرٍّ "إذا حُولت الصدقة" بضم أوله، أي: فقد جاز للهاشمي تناولها. الحديث السادس والتسعون حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ الأَنْصَارِيَّةِ رضي الله عنها قَالَتْ: دَخَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها فَقَالَ هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ. فَقَالَتْ لاَ. إِلاَّ شَيْءٌ بَعَثَتْ بِهِ إِلَيْنَا نُسَيْبَةُ مِنَ الشَّاةِ الَّتِي بَعَثْتَ بِهَا مِنَ الصَّدَقَةِ. فَقَالَ إِنَّهَا قَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا. هذا الحديث قد مرّ الكلام عليه في باب "قدر كم يعطى من الزكاة". رجاله خمسة: وفيه ذكر عائشة، وقد مرّ الجميع، مرّ علي بن المَدِينيّ في الرابع عشر من العلم، ومرّ خالد الحذاء في السابع عشر منه، ومرَّ يزيد بن زريع في السادس والتسعين من الوضوء، ومرّ حفصة بنت سيرين وأم عطية في الثاني والثلاثين منه، ومرّ محل عائشة في الذي قبله. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة، ورواته كلهم بصريون، وفيه رواية التابعية عن الصحابية. أخرجه البخاريّ في الزكاة، ومسلم فيها أيضًا. الحديث السابع والتسعون حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله تعالى عنه أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أُتِىَ بِلَحْمٍ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ فَقَالَ: هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ، وَهُوَ لَنَا هَدِيَّةٌ. هذا رواية من حديث بُريرة السابق، قبل هذا بحديث، وقد مرَّ ذكر محل الكلام عليه في السابق. رجاله خمسة: وفيه ذكر بُريرة، وقد مرّ الجميع، مرّ يحيى بن موسى في التاسع عشر من الحيض، ومرَّ وكيع

في الثاني والخمسين من العلم، ومرَّ شعبة في الثالث من الإيمان، وقتادة وأنس في السادس منه، ومرَّ محل بُرَيرة في الذي قبله بحديث. أخرجه البخاريُّ أيضًا في الزهد، ومسلم وأبو داود في الزكاة. ثم قال: وقال أبو داود؛ أنبأنا شُعبة عن قتادة؛ سمع أنسًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. ذكر في هذا التعليق الإِسناد دون المتن، لتصريح قتادة فيه بالسماع، وأبو داود الطيالسيّ، وقد أخرجه هو في مسنده كذلك، وقد أخرجه الإسماعيليّ عن معاذ عن شعبة، فصرح بسماع قتادة عن أنس أيضًا، وأسنده أبو نعيم في المستخرج، ورجاله أربعة، مرّ محل شُعبة وقتادة وأنس في الذي قبله، ومرّ أبو داود الطيالسيّ في تعليق بعد الحادي والعشرين من الأذان. ثم قال المصنف:

باب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء حيث كانوا

باب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء حيث كانوا قول المصنف: حيث كانوا، يشعر بأن اختياره أنها لا تنقل من بلد وفيه من هو متصف بصفة الاستحقاق، وقد أجاز النقلَ الليثُ وأبو حنيفة وأصحابهما، ونقله ابن المنذر عن الشافعيّ، واختاره. والأصح عند المالكية والشافعية والجمهور تركُ النقل، فلو خالف ونقل أجزأ عند المالكية على الأصح، ولم تجز عند الشافعية، على الأصح، إلا إذا فُقِد المستحقون لها. وقد مرّ مذهب مالك عند أول حديث من كتاب الزكاة هذا. الحديث الثامن والتسعون حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِيٍّ عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ، فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ. وقوله: فترد على فقرائهم، ظاهر في أن الصدقة ترد على فقراء من أُخذت من أغنيائهم. وقال ابن المنير: اختار البخاريّ جواز نقل الزكاة من بلد المال لعموم قوله "فترد في فقرائهم" لأن الضمير يعود على المسلمين، فأي فقير منهم ردت فيه الصدقة في أي جهة كان، فقد وافق عموم الحديث. ومرّ قريبًا أن ترجمته يفهم منها عكس هذا، والذي يتبادر إلى الذهن من هذا الحديث، عدمُ النقل، وأن الضمير يعود على المخاطَبين، فيختَصَّ بذلك فقراؤهم، لكن رجّح ابن دقيق العيد الأول، وقال: إنه وإن لم يكن الأظهر، إلا أنه يقوّيه أن أعيان الأشخاص المخاطَبين في قواعد الشرع الكُلية لا تعتبر في الزكاة، كما لا تعتبر في الصلاة، فلا يختص بهم الحكم، وإن اختص بهم خطاب المواجهة. وهذا الحديث قد مرّت مباحثه مستوفاة عند ذكره أول حديث من كتاب الزكاة هذا، إلا ما في

رجاله ستة

آخره من زيادة "فإياك وكرائم أموالهم .. " الخ. وقوله: كرائم أموالهم، منصوب بفعل مضمر لا يجوز إظهاره. قال ابن قُتيبة: ولا يجوز حذف الواو. والكرائم جمع كَريمة، أي نفيسة، ففيه ترك أخذ خيار المال، والنكتة فيه أن الزكاة لمواساة الفقراء، فلا يناسب ذلك الإجحاف بمال الأغنياء، إلا إن رَضُوا بذلك. وقوله: واتقِ دعوةَ المظلوم، أي تجنب الظلم، لئلا يدعو عليك المظلوم، وفيه تنبيه على المنع من جميع أنواع الظلم، والنكتة في ذكره عقب المنع من أخذ الكرائم الإشارةُ إلى أن أخذها ظلمٌ. وقال بعضهم: عطف "واتقِ" على عامل إياك المحذوف وجوبًا، والتقدير اتق نفسك إن تتعرض للكرائم، وأشار بالعطف إلى أن أخذ الكرائم ظلم، ولكنه عمم، إشارة إلى التحرز عن الظلم مطلقًا. وقوله: حجاب، أي: ليس لها صارت يصرفها، ولا مانع. والمراد أنها مقبولة وإن كان عاصيًا، كما جاء عن أبي هريرة عند أحمد مرفوعًا "دعوة المظلوم مستجابة، وإن كان فاجرًا" ففجوره على نفسه، وليس المراد أن لله تعالى حجابًا يحجبه عن الناس. وقال الطيبيُّ: قوله واتقِ دعوةَ المظلوم، تذييلٌ، لاشتماله عل الظلم الخامس من أخذ الكرائم، وعلى غيره. وقوله: فإنه ليس بينها وبين الله حجاب، تعليلٌ للاتقاء، وتمثيلٌ للدعاء، كمن يقصد دار السلطان متظلمًا فلا يحجب. قال ابن العَرَبيّ: إلا أنه، وإن كان مطلقًا، فهو مقيَّد بالحديث الآخر "إن الداعي على ثلاث مراتب؛ إمّا أن يعجَّل له ما طلب، وإما أن يُدّخر له أفضل منه، وإما أن يدفع عنه من السوء مثله". وهذا كما قيد مطلق قوله تعالى {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ}. وقال ابن بطال في الكلام على رفع الحجاب عن المؤمنين في كلامهم مع ربهم تعالى يوم القيامة: معنى رفع الحجاب إزالة الآفة من أبصار المؤمنين، المانعةُ لهم من الرؤية، فيرونه لارتفاعها عنهم بخلق ضدها فيهم. ويشير إليه قوله تعالى في حق الكفار {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}، ويأتي، إنْ شاء الله تعالى، استيفاءُ الكلام على هذا الحجاب عند محله في كتاب التوحيد، لأنّ الحجابَ المذكور في معرض رؤية الباري جل جلاله، ليس هو المراد بالحجاب المذكور هنا، وقد استوفينا الكلام عليه في كتاب "استحالة المعية بالذات". وفي الحديث الدعاء إلى التوحيد قبل القتال، وتوصية الإمام عامله فيما يحتاج إليه من الأحكام وغيرها. وفيه بعث السعاة لأخذ الزكاة، وقبول خير الواحد، ووجوب العمل به، وأن الزكاة لا تدفع إلى الكافر، لعود الضمير في "فقرائهم" إلى المسلمين، سواء قلنا بخصوص البلد أو العموم. وأن الفقير لا زكاة عليه، وقد مرت بقية مباحثه في المحل المذكور آنفًا. رجاله ستة: وفيه ذكر معاذ، وقد مرّ الجميع، مرّ محمد بن مقاتِل في السابع من العلم، ومرّ عبد الله بن المبارك في السادس من بدء الوحي، ومرّ ابن عباس في الخامس منه، ومرّ زكرياء بن إسحاق في

السادس عشر من كتاب الصلاة، ومرَّ يحيى بن صيفيّ في الأول من هذا الكتاب، ومرّ أبو معبد في الثامن من كتاب صفة الصلاة، ومرَّ معاذ بن جبل في أثر أولَ كتاب الإيمان، قبل ذكر حديث منه. ثم قال المصنف:

باب صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة

باب صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة وقوله تعالى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ}. قال الزين بن المنير: عطف الدعاء على الصلاة في الترجمة، ليبين أن لفظ الصلاة ليس محتمًا، بل غيره من الدعاء ينزل منزلته، ويؤيد عدم الانحصار في لفظ الصلاة ما أخرجه النَّسائيُّ عن وائل بن حَجَر أنه عليه الصلاة والسلام، قال في رجل بعث بناقة حسنة في الزكاة "اللهم بارك فيه، وفي إبله" وأما استدلاله بالآية لذلك، فكأنه فهم من سياق الحديث مداومة النبي -صلى الله عليه وسلم- على ذلك، فحمله على امتثال الأمر في قوله تعالى {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} وروى ابن أبي حاتم وغيره بإسناد صحيح عن السديّ في قوله تعالى {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} قال: ادع لهم. وقال ابن المنير: عبر المصنف في الترجمة بالإمام، ليبطل شبهة أهل الردة في قولهم للصديق: إنما قال الله تعالى لرسوله {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} وهذا خاص بالرسول، فأراد أن يبين أن كل إمام داخل في الخطاب. وقوله {سَكَنٌ لَهُمْ} أي رحمة وطمأنينة أو وقار. الحديث التاسع والتسعون حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ قَالَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ فُلاَنٍ. فَأَتَاهُ أَبِي بِصَدَقَتِهِ، فَقَالَ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى. قوله: قال: اللهم صلِّ على فلان، في رواية غير أبي ذَرٍّ "على آل فلان" وقوله: على آل أوْفى، يريد أبا أوفى نفسه، لأن الآل يطلق على ذات الشيء، كقوله في قصة أبي موسى "لقد أوتي مزمارًا من مزامير آل داود"، وقيل: لا يقال ذلك إلا في حق الرجل الجليل القدر، واستدل به على جواز الصلاة على غير الأنبياء، وكرهه مالك والجمهور. قال ابن التين: وهذا الحديث يعكر عليه، وقد قال جماعة من العلماء: يدعو آخذُ الصدقة للمتصدق بهذا الدعاء لهذا الحديث. وأجاب الخطابيّ عنه قديمًا بأن أصل الصلاة الدعاءُ، إلا أنه يختلف بحسب المدعو له، فصلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- على أمته، دعاء لهم بالمغفرة، وصلاة أمته عليه، دعاءٌ له بزيادة القربى والزلفى، ولذلك كان لا يليق بغيره. واستدل به على استحباب دعاء آخذ الزكاة لمعطيها، وأوجبه بعض أهل

رجاله أربعة

الظاهر، وحكاه المناطيّ وجهًا لبعض الشافعية، وتعقب بأنه لو كان واجبًا لعلَّمه النبي -صلى الله عليه وسلم- السعاة، ولأن سائر ما يأخذه الإِمام من الكفارات والديون وغيرهما، لا يجب عليه فيها الدعاء، فكذلك الزكاة. وأما الآية فيحتمل أن يكون الوجوب خاصًا به، لكون صلاته سكنًا لهم بخلاف غيره. رجاله أربعة: وفيه ذكر أبي أوفى، مرّ منهم حفص بن عمر في الثالث والثلاثين من الوضوء، ومرّ شعبة في الثالث من الإيمان، ومرّ عمرو بن مرة في السبعين من الجماعة والرابع عبد الله بن أبي أوفى. واسم أبي أوفى علقمة بن خالد بن الحارث بن أبي أسَيد بن رفاعة بن ثعلبة بن هَوازن بن أسْلَم الأسْلَمِيّ، أبو معاوية، وقيل أبو إبراهيم، وقيل أبو محمد. له ولأبيه صحبة، وكان من أصحاب الشجرة. وفي الصحيح عنه: "غزوت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ست غَزَوات، نأكل الجراد" وفي رواية "سبْع غزوات". وروى أحمد عن يزيد عن إسماعيل قال: رأيت على ساعد عبد الله بن أبي أوْفى ضربةً فقال: ضُربتها يومَ حنين، فقلت أشهدت حنينًا؟ قال: نعم. وقال عطاء بن السائب: رأيت عبد الله بن أبي أوْفى بعدما ذهب بصره، لم يزل بالمدينة إلى أن قُبض رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم تحول إلى الكوفة، ولم يزل بها إلى أن مات بها. له خمسة وتسعون حديثًا، اتفقا على عشرة وانفرد البخاريُّ بخمسة، ومسلم بواحد. روى عنه عمرو بن مُرة وطلحة بن مصرف وعديّ بن ثابت، وهو من الصحابة السبعة الذين أدركهم أبو حنيفة سنة ثمانين، وكان عمره سبع سنين. مات عبد الله بالكوفة سنة سبع وثمانين. وأبو أوفى هو علقمة بن خالد، كما تقدم في نسب ابنه. قال ابن مَنْده: كان أبو أوفى من أصحاب الشجرة، له ذكر في البخاريّ في هذا الحديث. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، وشيخه من أفراده، وهو كوفي ثم واسطيّ، ثم كوفيان. أخرجه البخاريّ أيضًا في المغازي، وفي الدعوات، ومسلم وأبو داود والنَّسائيّ وابن ماجه في الزكاة. ثم قال المصنف:

باب ما يستخرج من البحر

باب ما يستخرج من البحر أي: هل تجب فيه الزكاة أو لا؟ إطلاق الاستخراج أعم من أن يكون بسهولة، كما يوجد في الساحل أو بصعوبة كما يوجد بعد الغوص ونحوه. ثم قال: وقال ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما: ليس العنبر بركاز، إنما هو شيء دَسَرَه البحر. اختلف في العنبر، فقال الشافعيُّ في الأم: أخبرني عدد ممن أوثق بخبره أنه نبات يخلقه الله في جنبات البحر. قال: وقيل إنه يأكله حوت فيموت، فيلقيه البحر، فيؤخذ فيشق بطنه، فيخرج منه. وقال محمد بن الحسن: إنه ينبت في البحر بمنزلة الحشيش في البر. وقيل: هو شجر ينبت في البحر فينكسر، فيلقيه الموج إلى الساحل. وقيل: يخرج من عَين. قال ابن سينا: وقال وما يحكى من أنه روث دابة أو قيؤها، أو من زَبَد البحر بعيدٌ. وقال ابن البيطار: هو روث دابة بحرية، وقيل: هو شيء بنبت في قعر البحر. ثم حكى نحو ما تقدم عن الشافعيّ، ويأتي في الباب الذي بعده تحقيق الركاز. وقوله: دسره، أي دفعه ورماه إلى الساحل، وهذا التعليق وصله الشافعيّ، وأخرجه البيهقيّ من طريقه، وأخرجه ابن أبي شَيبة في مصنفه عن وكيع، وقد جاء عن ابن عباس التوقف فيه، ويجمع بين القولين بأنه كان يشك فيه، ثم تبين له أنه لا زكاة فيه، فجزم بذلك. وابن عباس مرَّ في الخامس من بدء الوحي. ثم قال: وقال الحسن: في العنبر واللؤلؤ الخمس. وهذا التعليق وصله أبو عبيد في كتاب الأموال، والحسن البصريّ مرَّ في الرابع والعشرين من الإيمان. ثم قال: فإنما جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- في الركاز الخمس، ليس في الذي يصاب في الماء. سيأتي موصولًا في الذي بعده، وأراد بذلك الرد على ما قال الحسن، لأن الذي يستخرج من البحر لا يسمى في لغة العرب ركازًا، كما سيأتي شرحُه قريبًا. قال ابن القَصّار: ومفهومُ الحديث أن غير الرَّكاز لا خُمس فيه، ولاسيما اللؤلؤ والعنبر، لأنهما يتوالدان من حيوان البحر، فأشبها السمك. الحديث المئة وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّ رَجُلاً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِأَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ، فَخَرَجَ فِي الْبَحْرِ، فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا، فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ

دِينَارٍ، فَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ، فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ فَأَخَذَهَا لأَهْلِهِ حَطَبًا فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ. هكذا أورده هنا مختصرًا، وقد أورده مطولًا في الكفالة، وسأشرحه هنا إن شاء الله تعالى، على ما في الكفالة، ووقع هنا في رواية أبي ذَرٍّ معلقًا، ووصله أبو ذَرٍّ عن علي بن وَصيف عن محمد بن غسان عن عبد الله بن صالح عن الليث به، وفي خط أبي عليّ الصدفيّ في هذا الحديث "رواه عاصم بن علي عن الليث"، فلعل البخاريّ إنما لم يسنده عنه لكونه ما سمعه منه، أو لكونه تفرّد به، فلم يوافقه عليه أحد، والأول بعيد سلمنا لكن لم ينفرد به عاصم، فقد اعترف أبو عليّ بذلك، فقال في آخر كلامه: رواه محمد بن رمح عن الليث، وكأنه لم يقف على الموضع الذي وصله فيه البخاريّ عن عبد الله بن صالح. قال الإسماعيليّ ليس في هذا الحديث شيء يناسب الترجمة، رجل اقترض قرضًا فارتجع قرضه، وكذا قال الداودي: حديث الخشبة ليس من هذا الباب في شيء. وأجاب أبو عبد الملك بأنه أشار به إلى أن كل ما ألقاه البحر جاز أخذه، ولا خُمس فيه. وقال ابن المنير: موضع الاستشهاد منه أخذ الرجل الخشبة على أنها حطب، فإذا قلنا: إنَّ شرع من قبلنا شرع لنا، فيستفاد منه إباحة ما يلفظه البحر من مثل ذلك، مما نشأ في البحر أو عطب فانقطع ملك صاحبه. ولذلك ما لم يتقدم عليه ملك لأحد من باب أوْلى، وكذلك ما يحتاج إلى معاناة وتعب في استخراجه أيضًا. وقد فرق الأوزاعيّ بين ما يوجد في الساحل، فيخمس، أو في البحر بالغوص ونحوه، فلا شيء فيه. وذهب الجمهور إلى أنه لا يجب فيه شيء إلا ما روى عن عمر بن عبد العزيز، كما أخرجه ابن أبي شيبة، وكذا الزّهريّ والحسن كما تقدم، وهو قول أبي يوسف، ورواية عن أحمد. وقوله: إن رجلًا من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار، في رواية أبي سلمة "أن رجلًا من بني إسرائيل كان يسلف الناس، إذ أتاه الرجل بكفيل" لم يعرف اسم هذا الرجل، إلا أنه في مسند الصحابة الذين نزلوا مصر، لمحمد بن الربيع الجيزيّ، بإسناد له فيه مجهول، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، يرفعه "أن رجلًا جاء إلى النجاشيّ فقال له: أسلفني ألف دينار إلى أجل، فقال: من الحَميلُ بك؟ فقال: الله، فأعطاه الألف، فضرب الرجل، أي: سافر، بها في تجارة، فلما بلغ الأجل أراد الخروج إليه فحبسه الريح، فعمل تابوتًا". فذكر الحديث مثل حديث أبي هريرة. واستفيد منه أن الذي أقرض هو النجاشيّ، فيجوز أنَّ نسبته إلى بني إسرائيل بطريق الاتباع، لا أنه من نسلهم. وقوله: كفى بالله كفيلا، قال: صدقت، في رواية أبي سلمة: سبحان الله، نعم. وقوله: فدفعها إليه، أي الألف دينار، وفي رواية أبي سلمة: "فعدله ستمائة دينار". والأول أرجح، لموافقته حديث عبد الله بن عمرو، ويمكن الجمع بينهما باختلاف العدد والوزن، مثلًا ألفًا والعدد

ست مئة أو بالعكس، وقوله: فخرج في البحر فقضى حاجته، في رواية أبي سلمة "فركب الرجل البحرَ بالمال يتَّجر فيه، فقدر الله أنْ حل الأجل وارتَجّ البحر بينهما" وقوله: فلم يجد مركبًا، زاد في رواية أبي سَلَمة "وغدا رب المال إلى الساحل يسأل عنه، ويقول: اللهم اخلفني، وإنما أعطيت لك". وقوله: فأخذ خشبة، فنقرها، أي حفرها. وفي رواية أبي سلمة: فنجر خشبة، وفي حديث عبد الله بن عمرو: فعمل تابوتًا، وجعل فيه الألف. وقوله: وصحيفة منه إلى صاحبه، في رواية أبي سلمة: وكتب إليه صحيفة من فلان إلى فلان، إني دفعت مالك إلى وكيلي الذي توكّل به. وقوله: ثم زَجَّجَ موضعها، كذا للجميع، بزاي وجيمين، قال الخطابيّ: أي: سوى موضع النقر وأصلحه، وهو من تزجيج الحواجب، وهو حذف زوائد الشعر، ويحتمل أن يكون مأخوذًا من الزُّج، وهو النصل، كأن يكون النقر في طرف الخشبة، فشد عليه زُجًّا ليمسكه، ويحفظ ما فيه. وقال عياض: معناه سَمَّرها بمسامير كالزُّج أو حشي شُقوقها لصاقها بشيء ورقعه بالزُّج. وقال ابن التين: معناه أصلح موضع النقر. وقوله: تسلَّفت فلانًا، كذا وقع فيه، والمعروف تعديته بحرف الجر كما في رواية الإسماعيلي "استسلفت من فلان". وقوله: فرضي بذلك، كذا للكشميهنيّ ولغيره "فرضي به" وفي رواية الإسماعيليّ "فرضي بك" وقوله: إني جَهَدت، بفتح الجيم والهاء، وزاد في حديث عبد الله بن عمرو: فقال: اللهم أدّ جمالتك. وقوله. حتى وَلَجت فيه، بتخفيف اللام، أي دخلت في البحر. وقوله: فلما نشرها أي: قطعها بالمنشار. وقوله: وجد المال، في رواية النَّسائيّ: فلما كسرها، وفي رواية أبي سَلَمة: وغدا رَبُّ المالِ يسأل عن صاحبه، كما كان يسأل، فيجد الخشبة فيحملها إلى أهله، فقال: أوقدوا هذه فكسروها، فانتثرت الدنانير منها، والصحيفة فقرأها، وعرف. وقوله: ثم قدم الذي كان أسلفه فأتى بالألف دينار، وفي رواية أبي سلمة: ثم قدم بعد ذلك، فأتاه رب المال، فقال: يا فلان، الي، قد طالت النّطِرَة. فقال: أما مالُك فقد دفعتُه إلى وكيلي، وأما أنت فهذا مالُك. وفي حديث عبد الله بن عُمر: وإنه قاله له: هذه ألفك، فقال النجاشيّ: لا أقبلها منك حتى تخبرني ما صنعت، فأخبره فقال: لقد أدّى الله عنك. وقوله: وانصرف بالألف راشدًا، في حديث عبد الله بن عمرو: قد أدّى اله عنك، وقد بلغنا الألف في التابوت، فأمسك عليك ألفك. زاد أبو سلمة في آخره: قال أبو هريرة: ولقد رأيتنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكثر مراؤنا ولَغَطُنا أيهما آمن. وفي الحديث جواز الأجل في القرض، ووجوب الوفاء، وقيل: لا يجب، وهو من باب المعروف، وفيه التحديث عما كان في بني إسرائيل وغيرهم من العجائب، للاتعاظ والإِتساء، وفيه التجارة في البحر. وجواز ركوبه. وفيه بداءة الكاتب بنفسه، وفيه طلب الشهود في الدَّيْن، وطلب الكفيل به، وفيه فضل التوكُّل على الله، وإنَّ من صح تركه تكفل الله بنصره وعونه.

رجاله أربعة

رجاله أربعة: قد مرّوا، مرّ الليث في الثالث من بدء الوحي، ومرَّ جعفر بن ربيعة في الرايع من التيمم، ومرّ ابن هُرْمز في السابع من الإيمان، ومرّ أبو هريرة في الثاني منه. وهذا الحديث ذكره البخاريّ هنا معلقًا عن الليث، وقد وصله في البيوع عنه، وذكره أيضًا في عدة مواضع. أخرجه في الكفالة أيضًا وفي اللُّقَطة، وفي الاستقراض وفي الشروط وفي الاستئذان، وأطول مواضعه في باب الكفالة في القرض. وأخرجه النَّسائيّ في اللُّقَطة. ثم قال المصنف:

باب في الركاز الخمس

باب في الركاز الخمس الرِّكاز، بكسر الراء وتخفيف الكاف وآخره زاي، المال المدفون، مأخوذ من الرَّكْز، بفتح الراء، يقال: ركزه ركزًا إذا دفنه، فهو مركوز. وهذا متفق عليه. واختلف في المعدن كما سيأتي. ثم قال: وقال مالك وابن إدريس: الرّكاز دِفْن الجاهلية، في قليله وكثيره الخمس، وليس المعدن بركاز. وقوله: دِفن الجاهلية، بكسر الدال وسكون الفاء: الشيء المدفون، كذِبح بمعنى مَذْبوح. وأما بالفتح فهو المصدر، ولا يراد هنا. وقوله: في قليله وكثيره الخمس، نقله ابن المُنذر عن مالك. وفيه عند أصحابه خلاف. وهو قول الشافعيَّ، كما نقله ابن المنذر واختاره. وأما في الجديد، فقال: لا يجب فيه الخُمس حتى يبلغ نصاب الزكاة. والأول قول الجمهور، كما نقله ابن المنذر أيضًا، وهو مقتضى ظاهر الحديث أما قول مالك، فرواه أبو عبيد في كتاب الأموال موصولًا، وكذا هو في الموطأ إلا أنَّ فيه "عن مالك عن بعض أهل العلم". ومالك هو صاحب المذهب، وقد مرّ في الثاني من بدء الوحي. وأما ابن إدريس، فقد قيل: المراد الشافعيّ، وهذا هو الصحيح الذي جزم به زيد المروزيّ، أحد الرواة عن الغريريّ، وتابعه البيهقيّ في المعرفة، من طريق الربيع، ولم يوجد عن الأوديّ. وقيل: المراد به عبد الله بن إدريس الأودي الكوفيّ. وقال ابن التين: هو الأشبه، ولم يبين وجه الشبه، والصحيح هو الأول كما مرَّ، وها أنا أذكر تعريف الاثنين تتميمًا للفائدة، فأقول: الأول محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطَّلب بن عبد مناف القرشيّ المطَّلبيّ، أبو عبد الله الشافعيّ المكيّ نزيل مصر، وأمه فاطمة بنت عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب. قال عمرو بن سواد: قال لي الشافعي: ولدتُ بعسقلان، فلما أتى عليَّ سنتان، حملتني أمي إلى مكة، وكانت نهمتي في الرّمي والعلم، فنلت من الرمي حتى كنت أصيب من العشرة عشرة، وسكت عن العلم، فقلت له: والله أنت في اعلم أكثر منك في الرمي. وقال ابن عبد الحكم: قال لي الشافعيّ: ولدت بغزة سنة خمسين ومئة، وحملت إلى مكة وأنا ابن سنتين، وقال أبو عبد الله، أخو ابن وهب: سمعت الشافعيّ يقول: ولدتُ باليمن، فخافت عليّ أمي الضيعة، فقالت: إلحق بأهلك، فجهزتني إلى مكة، فقدمتها وأنا ابن عشر. وقال ابن عبد الحكم: لما حملت أم الشافعي به، رأت كأن المشتري خرج من فرجها حتى انقضّ بمصر. ثم

وقع في كل بلد منه شُطْيَة، فتأول أصحاب الرؤيا أنه يخرج منها عالم يخص علمه أهل مصر، ثم يتفرق في سائر البلدان. وقال المُزَنيّ: سمعتُ الشافعي يقول: رأيت عليّ بن أبي طالب في النوم، فسلم عليّ وصافحني، وخلع خاتمه وجعله في أُصْبُعي، وكان لي عم، ففسرها لي فقال لي: أما مصافحتك له، فأمانٌ من العذاب، وأما خلع خاتمه وجعله في أُصبعك فسيبلغ اسمك ما بلغ اسمه. وقال أبو نعيم؛ عبد الملك بن محمد في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم اهد قريشًا علمًا، فإن عالمها يملأ طباق الأرض .. " الحديث. في هذا الحديث علامة بينة للميزان، المراد بذلك رجل من علماء هذه الأمة من قريش، قد ظهر علمه، وانتشر في البلاد، وهذه صفة لا نعلمها قد أحاطت إلا بالشافعيّ، إذا كان كل واحد من قريش من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وإن كان علمه قد ظهر وانتشر، فإنه لم يبلغ مبلغًا يقع تأويل كل هذه الرواية عليه، إذ كان لكل واحد منهم نتفٌ وقطعٌ من العلم، ومسائلٌ. وليس في كل بلد من بلاد المسلمين مدرسٌ ومفتٍ ومصنف يصنف على مذهب قرشيّ إلا على مذهب الشافعيّ، فعلم أنه يعنيه لا غيره. وحديث عالم قريش هذا أخرجه أبو داود الطيالسيّ في مسنده. وفيه الجارود، مجهول، ولكن له شواهد، وجمع الحافظ بن حَجَر طُرُقَه في كتاب سماه "لذة العيش في طُرُق حديث الأئمة من قُريش". وقال أحمد بن حنبل: إن الله يقيض للناس في كل رأس مئة سنة من يعلِّمهم السنن، وينفي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الكذب، فنظرنا؛ فإذا في رأس المئة عمر بن عبد العزيز، وفي رأس المئتين الشافعيّ. وقال أيضًا. هذا الذي تروون كله، أو عامته من الشافعيّ، وما بِتُّ منذ ثلاثين سنة إلا وأنا أدعو الله واستغفر للشافعيّ. وقال أبو داود: ما رأيت أحمد يميل إلى أحد ميله إلى الشافعيّ، وقال حميد بن أحمد المصريّ: كنت عند أحمد بن حنبل نتذاكر في مسألة، فقال رجل لأحمد: يا أبا عبد الله، لا يصح فيه حديث، فقال: إن لم يصح فيه حديث ففيه قول الشافعيّ، وحجته أثبت شيء فيه. وقال إسحاق بن راهويه: قال لي أحمد بن حنبل بمكة: تعال أُريك رجلًا لم تر عيناك مثله، فأقامني على الشافعي، وقال أحمد: سمعت الموطأ من بضعة عشر نفسًا من حُفّاظ أصحاب مالك، فأعدته على الشافعي، لأني وجدته أقومهم. وقال المزنيّ: سمعت الشافعيّ يقول: حفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين، وحفظت الموطأ وأنا ابن عشر. وقال الحُميديّ: سمعت مسلم بن خالد، ومرَّ على الشافعيّ وهو يفتي وهو ابن خمس عشرة سنة، فقال له: افتِ، فقد آن لك أن تفتي. وقال أبو ثَور: كتب عبد الرحمن بن مَهْدِيّ إلى الشافعيّ، وهو شاب، أن يضع له كتابًا فيه معاني القرآن، ومعجم قبول الأخبار فيه، وحجة الإجماع، وبيان الناسخ والمنسوخ، فوضع له كتاب الرسالة، فكان عبد الرحمن يقول: ما أصلي صلاةً إلا وأنا أدعو للشافعيّ فيها. وقال عبد الرحمن بن مَهديّ؛ وقد ذكر الشافعيّ فقال: كان شابًا مفهمًا. وقال أبو ثور: ما رأيت مثل الشافعيّ، ولا رأى هو مثل نفسه.

وقال الفضل بن زياد: سمعت أحمد بن حنبل يقول: ما أحد مس مُحبَّرةً إلا وللشافعى في عنقه منَّة. وقال ابن راهويه: الشافعي إمام ما أحد تكلم بالرأي إلا والشافعيّ أكثرهم اتِّباعًا، وأقلهم خطأ. وقال أبو داود ما أعلم للشافعيّ حديثاً خطأ. وقال حَرْمُلة: سمعت الشافعيّ يقول: سميتُ ببغداد ناصر الحديث. وقال الزعفرانيّ: حج بشر المَريسيّ، فقال: رأيت بالحجاز رجلًا ما رأيت مثله سائلًا ولا مجيبًا، ولما قدم الشافعيّ بعد ذلك، فاجتمع إليه الناس، وخفوا عن بشر، فجئت إلى بشر فقلت: هذا الشافعيّ قد قدم، فقال إنه قد تغير، قال الزعفرانيّ: فما كان مَثَله إلا مثل اليهود في ابن سلام. وقال الميمونيّ: سمعت أحمد بن حنبل يقول: ستة أدعو لهم سَحَرًا: أحدهم الشافعيّ وقال أبو عبيد: ما رأيت رجلًا أعقل من الشافعيّ. وقال قُتيبة: الشافعيّ إمام. وقال أبو ثور: من زعم أنه رأى مثل محمد بن إدريس في عمله وفصاحته وثباته وتمكنه ومعرفته، فقد كذب. كان منقطع القرين في حياته، فلما مضى لسبيله لم يقتض منه. وقال أبو الوليد بن أبي الجارود: ما رأيت أحدًا إلا وكتبه أكثر من مشاهدته، إلا الشافعيّ، فإن لسانه كان أكثر من كتبه. وكان الحميدي إذا جرى عنده ذكر الشافعي قال: حدثنا سيد الفقهاء الإِمام الشافعي. وقال المُبَرِّد: كان الشافعيّ من أشعر الناس، وأعلمهم بالقراءات. وذكر الحاكم مما يدل على تبحّر الشافعي في الحديث أنه حدث الكثير عن مالك، ثم روى عن الثقة عنده عن مالك، وأكثر عن ابن عيُينة، ثم روى عن رجل عنه، وقال الحسين الكَرابيسيّ: ما كنا ندري ما الكتاب والسنة، نحن والأولون، حتى سمعنا من الشافعيّ. وسئل أبو موسى الضَّرير عن كتب الشافعيّ كيف سارت في الناس؟ فقال: أراد الله بعلمه، فرفعه الله، وقال إسحاق بن راهويه: كيف وضع الشافعيُّ هذه الكتب وكان عمره يسيرًا؟ فقال: جمع الله تعالى له عقله لقلة عمره. وقال الجاحظ: نظرت كتب الشافعيّ فهذا هي دُرٌّ منظوم، لم أر أحسن تأليفًا منه، وقال هلال بن العلاء: لقد منَّ الله على الناس بأربعة: الشافعيّ فَقَّه الناس في حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقال أحمد بن سيّار: لولا الشافعيّ لدرس الإِسلام. وقال أبو زرعة الرازيّ: ما عند الشافعيّ حديث غلط. وقال يحيى بن أكثم: ما رأيت أعقل منه. وقال ابن مُعين: لو كان الكذب له مطلقًا لكانت مروءته تمنعه أن يكذب. وقال مسلم بن الحجاج في كتابه "الانتفاع بجلود السباع": هذا قول أهل العلم بالأخبار ممن يعرف بالتفقه فيها، والاتباع لها. منهم يحيى بن سعيد وابن مَهدي ومحمد بن إدريس الشافعيّ وأحمد وإسحاق. وكما ذكر في موضع آخر قول من عاب الشافعيّ أنشد: ورب عبّاب له منظرٌ ... مشتمل الثوب على العيب وقال علي بن المَدِينيّ: لا تدع للشافعيّ حرفًا إلا كتبته، فإن فيه معرفة. وقال أبو حاتم: ففيه البدن صدوق. وقال أيوب بن سُويد: ما ظننت أنني أعيش حتى أرى مثله. وقال يحيى بن سعيد

القطان: ما رأيت أعقل ولا أفقه من الشافعيّ. وأنا أدعو الله له، أخصه به وحده في كل صلاة. وقال الأصمعي: سمعت أشعار البدويين على شاب من قريش يقال له محمد بن إدريس، وقال عبد الملك بن هشام: الشافعيُّ بصير باللغة، يؤخذ عنه، ولسانه لغة فاكتبوه. وقال مصعب الزبيريّ: ما رأيت أعلم بأيام الناس منه. وقال أبو الوليد بن أبي الجارود: كان يقال: إن الشافعيّ لغة وحده، يحتج بها. وقال ابن عبد الحكم: إن أحد من أهل العلم حجة فالشافعيُّ حجة في كل شيء. وقال الزعفرانيّ: ما رأيته لَحَنَ قط. وقال يونس بن عبد الأعلى: كان إذا أخذ في العربية قال: هذه صناعته. وقال النَّسائيّ: كان الشافعيّ عندنا أحد العلماء، ثقة مأمونًا، وقال المزنيّ: كان بصيرًا بالفُروسية والرمي، وصنف كتاب السبق، ولم يسبقه أحد إليه. وقال الحاكم: تتبعنا التواريخ وسائر الحكايات عن يحيى بن مُعين، فلم نجد في رواية واحد منهم طعنًا على الشافعيّ، ولعل من حكى عنه غير ذلك قليل المبالاة بالوضع على يحيى. وقال أبو منصور البغداديّ: بالغ مسلم في تعظيم الشافعيّ في كتاب الانتفاع، وفي كتاب الرد على محمد بن نصر، وعده في هذا الكتاب من الأئمة الذين يرجع إليهم في الحديث، وفي الجرح والتعديل. قال الذهبيّ: كان حافظًا للحديث، بصيرًا بعلله، لا يقبل منه إلا ما ثبت عنده، ولو طال عمره لازداد منه. وقال الربيع: سمعته يقول: إذا رديت حديثًا صحيحًا، فلم آخذ به، فأشهدكم أن عقلي قد ذهب. وقال إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط. ومناقبه أكثر من الحصر، وقد جمعها ابن أبي حاتم، وزكرياء الساجيّ والحاكم والبيهقيّ والهرويّ وابن عَسَاكر وغيرهم. روى عن مسلم بن خالد الزّنجيّ ومالك بن أنس وإبراهيم بن سعد وابن عُيينة وابن علية وخلق. وروى عنه سليمان بن داود وأحمد بن حنبل وأبو ثَور إبراهيم بن خالد والحسن بن محمد الزعفرانيّ وغيرهم. مات في آخر يوم من رجب، سنة أربع ومئتين بمصر. وكان قد انتقل إليها سنة تسع وتسعين ومئة. الثاني عبد الله بن إدريس بن يزيد بن عبد الرحمن بن الأسود الأودي الرعافريّ، أبو محمد الكوفيّ. قال أحمد: كان نسيج وحده. وقال عثمان الدارميّ: قلت لابن مُعين: ابن إدريس أحب إليك أو ابن نمير؟ قال: ثقتان، إلا أن ابن إدريس أرفع منه، وهو ثقة في كل شيء. وقال يعقوب بن شَيبة: كان عابدًا فاضلًا، وكان يسلك في كثير من فتياه ومذاهبه مسالك أهل المدينة. وكان بينه وبين مالك صداقة. وقيل: إن بلاغات مالك سمعها من ابن إدريس. وقال بشر الحافي: ما شرب أحد من ماء الفرات فَسَلِم إلا ابن إدريس. وقال الحسن بن عُرْفَة: ما رأيتُ بالكوفة أفضل منه. وقال ابن المَدِينيّ: عبد الله بن إدريس فوق أبيه في الحديث. وقال جعفر الفرياتي: سألت ابن نمير عن عبد الله بن إدريس وحفص،

فقال: حفص أكثر حديثًا، ولكن ابن إدريس ما خرج منه فإنه أثبت وأتقن. فقلت: أليس عبد الله أحدَّ في السنَّة؟ قال: ما أقربهما في السنة، وقال ابن عمار: كان من عباد الله الصالحين الزهّاد. وكان إذا لحن أحد في كلامه لم يحدّثه. وقال الكسائيّ: قال لي الرشيد: من أقرأ الناس؟ قلت: عبد الله بن إدريس، ثم حسين الجُعفيّ، وقال أبو حاتم: هو حجة يحتج بها، وهو إمام من أئمة المسلمين، ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة مأمونًا كثير الحديث، حجة صاحب سنة وجماعة. وقال ابن حِبّان في الثقات: كان صَلبًا في الحديث. وقال النَّسائيّ: ثقة ثبت. وقال ابن خُراش: ثقة، وقال العجليّ: ثقة ثبت صاحب سنة، زاهد صالح. وكان عثمانيًا يحرم النبيذ، ويقول: كل شراب مسكر كثيره حرام يسيره، إني لكم من شُرْبه نذيرٌ. وقال أبو بكر بن أبي شَيبة سمعت ابن إدريس يقول: كتبت حديث أبي الحَوْراء، فخفت أن يتصف بأبي الجوزاء، فكتبت تحته "حور عينْ"، لأنه لم يكن الشكل قد ظهر حينئذ. وقال الخليليّ: ثقة متفق عليه. وقال أحمد بن عُبيد الله العَدانيّ: حدثنا ابن إدريس، وكان مرضيًا. وروى وكيع أن الرشيد عرض عليه القضاء، فامتنع وقال: لا أصلح له، فولّى حفص بن غياث، فبعث الرشيد إلى ابن إدريس بخمسة آلاف، فردها فقال له: إذا جاءك ابني المأمون فحدثه. فقال: إذا جاءنا مع الجماعة حدثناه. فقال له: لم تكرمنا ولم تقبل صلتنا، وددت أني لم أكن رأيتك. فقال: وأنا وددت أني لم أكن رأيتك. وقال الحسن بن الربيع: قرىء كتاب الخليفة إلى ابن إدريس وأنا حاضر: من عبد الله هارون إلى عبد الله بن إدريس، فشهق وسقط بعد الظهر إلى العصر، وهو على حاله، فأثبته قبل المغرب، وصببنا عليه الماء، فأفاق فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، صار يعرفني حتى كتب إلي، أي ذنب بلغ بي هذا. وقال علي بن نصر الجَهْضَميّ الكبير: قال لي شُعبة: هاهنا رجل من أصحابي من علمه ومن حاله، فجعل يثني عليه، يعني ابن إدريس. وقال الساجيّ: سمعت ابن المثنى يقول: ما رأيت بالكوفة رجلًا أفضل منه. وروى عنه الأشج أنه قال: قال لي الأعمش: والله لا أحدثك شهرًا، فقلت له: والله لا آتيك سنة، ثم أتبته بعد سنة، فقال: ابن إدريس؟: قلت: نعم. فقال: أحب أن يكون للعربي مرارة. قال الحسن بن عُرفة: حدثنا عبد الله بن إدريس قال: حدثنا ابن أبي خالد عن أبي سَبرة النخعيّ قال: أقبل رجل من اليمن، فلما كان في بعض الطريق مات حماره، فقام وتوضأ وصلى ركعتين، ثم قال: اللهم إني جئت من الدَّثينةِ مجاهدًا في سبيلك، وابتغاء مرضاتك، فأنا أشهد أنك تحيي الموتى، وتبعث من في القبور، لا تجعل لأحد عليّ اليوم مِنّةً، أطلب إليك أن تبعث لي حماري. قال: فقام الحمار ينفض أذنيه. وقال: حسين بن عمروِ العَنقريّ: لما نزل به الموت بكت ابنته، فقال: لا تبكي. قد خَتَمت في هذا البيت أربعة آلاف خَتْمة. روى عن أبيه وعمه داود والأعمش ومنصور وابن جريج وهشام بن

عروة وغيرهم. وروى عنه مالك بن أنس، وهو من شيوخه، وابن المبارك ومات قبله، وأحمد بن حنبل ويحيى بن مُعين وإسحاق بن راهويه وغيرهم. ولد سنة مئة وعشر، ومات سنة اثنتين وتسعين ومئة في عشر ذي الحجة والزعافريّ في نسبه نسبة إلى الزَّعافر بطن من الأوْد. ثم قال: وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- "في المعدن جبار، وفي الركاز الخمس" أي: فغاير بينهما، وهذا وصله في آخر الباب من حديث أبي هُريرة. ويأتي الكلام عليه. ثم قال: وأخذ عمر بن عبد العزيز من المعادن من كل مئتين خمسة. وروى البيهقي عن قتادة أن عمر بن عبد العزيز جعل المعدن بمنزلة الركاز، يؤخذ منه، ثم عقب بكتاب آخر فجعل فيه الزكاة. وهذا التعليق وصله أبو عبيد في كتاب الأموال من طريق الثوريّ وعمر بن عبد العزيز في أول الإيمان قبل ذكر حديث منه. ثم قال: وقال الحسن: ما كان من ركاز في أرض الحرب ففيه الخمس، وما كان في أرض السلم ففيه الزكاة. قال ابن المنذر: لا أعلم أحدًا فرق هذه التفرقة غير الحسن، وهذا التعليق وصله ابن أبي شيبة من طريق عاصم الأحول عنه، والحسن قد مرَّ في الرابع والعشرين من الإيمان. ثم قال: وإن وجدت اللُّقَطَة في أرض العدو فعرفها، وإن كانت من العدو ففيها الخمس. قال في الفتح: لم أقف عليه موصولًا، وهو بمعنى ما تقدم عنه. ثم قال: وقال بعض الناس: المعدن ركازٌ مثل دِفن الجاهلية، لأنه يقال أركز المعدن إذا خرج منه شيء، قيل له: قد يقال لمن وهب له شيء أو ربح ربحًا كثيرًا أو كثر ثمره: أركزتَ، ثم ناقض وقال: لا بأس أن يكتمه فلا يؤدي الخمس. قال ابن التين: المراد ببعض الناس أبو حنيفة، وهذا أول موضع ذكره فيه البخاريّ بهذه الصيغة، ويحتمل أن يريد به أبا حنيفة وغيره من الكوفيين ممن قال بذلك. قال ابن بطال: ذهب أبو حنيفة والثَّوري وغيرهما، إلى أن المعدن كالركاز، واحتج لهم بقول العرب: أركز الرجل إذا أصاب ركازًا، وهي قطع من الذهب تخرج من المعادن. والحجة للجمهور تفرقة النبي -صلى الله عليه وسلم- بين المعدن والركاز بواو العطف، فصح أنه غيره. قال: وما ألزم به البخاريُّ القائل المذكور قد يقال لمن وهب له الشيء أو ربح ربحًا كثيرًا أو كثر ثمرةً أركزتَ حِجةٌ بالغةٌ؛ لأنه لا يلزم من الاشتراك في الأسماء الاشتراك في المعنى إلا إن أوْجَب ذلك من يحب التسليم له، وقد أجمعوا على أن المال الموهب لا يجب فيه الخمس، وإن كان يقال له أركز، فكذلك المعدن. وأما قوله: ثم ناقض .. إلى آخره، فليس كما قال، وإنما أجاز له أبو حنيفة أن يكتمه إذا كان محتاجًا، بمعنى أنه يتأول أن له حقًا في بيت المال، ونصيبًا في الفيء، فأجاز له أن يأخذ الخمس لنفسه، عوضًا عن ذلك. لا أنه أسقط الخمس عن المعدن. وقد نقل الطحاويّ المسألة التي ذكرها ابن بطال، ونقل أيضًا أنه لو وجد في داره معدنًا فليس عليه شيء، وبهذا يتجه اعتراض البخاريّ.

والفرق بين المعدن والركاز في الوجوب وعدمه، أن المعدن يحتاج إلى عمل ومؤونة ومعالجة لاستخراجه، بخلاف الركاز. وقد جرت عادة الشرع أن ما غلظت مؤونته خفف عنه في قدر الزكاة، وما خفت زيد فيه. وقيل: إنما جعل في الركاز الخمس لأنه مال كافر، فنزل من وجده منزلة الغنائم، فكأن له أربعة أخماسه. وقال الزين بن المنير: كأنَّ الركاز مأخوذ من أرْكزته في الأرض إذا غَرَزته فيها. وأما المعدن فإنه ينبت في الأرض بغير وضع واضع، هذه حقيقتهما، فإذا افترقا في أصلهما، فكذلك في حكمهما. وحيث إن ابن التين جزم بأن المراد بالبعض هنا أبو حنيفة، اذكر تعريفه، فأقول: هو فقيه العراق النعمان بن ثابت بن زوطا التيميّ الكوفيّ مولى بني تيم الله بن ثعلبة، وقيل إنه من أبناء فارس. قال العجليّ: أبو حنيفة كوفي تيمي من رهط حمزة الزيات، كان خزازًا يبيع الخز. وروى عن إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة. قال: نحن من أبناء فارس الأحرار، ولد جدي النعمان سنة ثمانين، وذهب جدي ثابت إلى عليّ وهو صغير، فدعا له بالبركة فيه وفي ذريته. قال ابن مُعين: كان أبو حنيفة ثقة لا يحدث بالحديث إلا بما يحفظه، ولا يحدث بما لا يحفظ. وقال الذهبيّ: كان إمامًا ورعًا عالمًا عاملًا متعبدًا كبير الشأن، لا يقبل جوائز السلطان، بل يتجر ويتكسب، وسئل يزيد بن هارون: أيُّما أفقه؛ الثَّوريُّ أو أبو حنيفة؟ فقال: أبو حنيفة أفقه، وسفيان أحفظ للحديث. وقال ابن المبارك: أبو حنيفة أفقه الناس، ما رأيت في الفقه مثله. وقال أيضًا: لولا أن الله تعالى أغاثني بأبي حنيفة وسفيان كنت كسائر الناس. وقال سليمان بن أبي شيخ: كان أبو حنيفة ورعًا سخيًا، وقال روح بن عبادة: كنت عند ابن جريج سنة خمسين ومئة، فأتاه موت أبي حنيفة، فاسترجع وتوجع، وقال: أي علم ذهب. قال: وفيها مات ابن جريج، وقال أبو نعيم: كان أبو حنيفة صاحب غوص في المسائل، وقال يحيى بن سعيد القطان: لا نكذب الله، ما سمعنا أحسن من رأي أبي حنيفة، وقد أخذنا بأكثر أقواله. قال ابن مُعين: كان القطان يذهب إلى قول الكوفيين، ويختار قوله من قولهم. وقال الشافعيّ: الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة. وقال أبو يوسف: بينما أنا أمشي مع أبي حنيفة، إذ سمعت رجلًا يقول لرجل: هذا أبو حنيفة لا ينام الليل، فقال أبو حنيفة: لا يتحدث عني بما لم أفعل، فكان بعد ذلك يُحيي الليل. وقال إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة عن أبيه حماد: لما مات أبي سألنا الحسن بن عمارة أن يتولى غسله ففعل: فلما غسله قال: رحمك الله تعالى، وغفر لك، لم تفطر منذ ثلاثين سنة، ولم تتوسد يمينك بالليل منذ أربعين سنة. وقد أتعبت من بعدك، وفضحت القراء. وكلم ابن هبيرة أبا حنيفة أن يلي قضاء الكوفة، فأبى عليه، فضربه مئة سوط وعشرة أسواط، وهو على الامتناع فلما رأى ذلك خلّى سبيله، وقال الخريبيّ: الناس في أبي حنيفة حاسد وجاهل. وقال أحمد بن عبدة: قاضي الرّي عن أبيه: كنا عند ابن عائشة، فذكر حديثًا لأبي حنيفة، ثم قال:

الحديث الحادي والمئة

أما إنكم لو رأيتموه لأمردتموه، فما مثَله ومَثلكم إلا كما قيل: أقِلّوا عليهم ويلكم لا أبا لكم ... من اللؤم أوْ سُدُوا المكانَ الذي سَدّوا وقال يحيى بن الضريس: شهدن سفيان وأتاه رجل فقال: ما تنقم على أبي حنيفة؟ قال: وما له؟ قال: سمعته يقول: آخذ بكتاب الله، فإن لم أجد فبسنة رسول الله، فإن لم أجد فبقول الصحابة، آخذ بقول من شئت منهم، ولا أخرج عن قولهم إلى قول غيرهم، فأما إذا انتهى الأمر إلى إبراهيم والشَّعبيّ وابن سيرين وعطاء، فقوم اجتهدوا فأجتهد كما أجتهدوا. له في كتاب التِّرمذيِّ: ما رأيت أكذب من جبار الجعفيّ، ولا أفضل من عطاء بن أبي رباح. وله في كتاب النسائي: ليس على من أتى بهيمة حدٌّ. وقال مكي بن إبراهيم: كان أبو حنيفة أعلم أهل زمانه. رأى أنس بن مالك غير مرة، لما قدم عليهم الكوفة. وروى عن عطاء بن أبي رباح وهشام بن عُروة ويحيى بن سعيد الأنصاري وعديّ بن ثابت الأنصاريّ وخلق. وروى عنه ابنه حاد وإبراهيم بن طَهمان وزُفر بن الهُذيل وأبو يوسف القاضي ووكيع وغيرهم. مات سنة إحدى وخمسين ومئة، وقيل سنة خمسين. وفضائله أكثر من الحصر، فرضي الله تعالى عنه، وأسكنه الفردوس. الحديث الحادي والمئة حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ، وَالْبِئْرُ جُبَارٌ، وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ، وَفِى الرِّكَازِ الْخُمُسُ. قوله: العجماء جُبَار، أي بضم الجيم وتخفيف الموحدة، والعجماء البهيمة، سميت البهمة عجماء لأنها لا تتكلم، فعن أبي حاتم يقال لكل من لم يبيّن الكلامَ من العرب والعجم والصفار: أعجم ومستعجم، وكذلك من الطير والبهائم كلها. ومعنى جُبَار هَدَر لا ضمان فيه. وفيه حذف لابد من تقديره، أي فعل العجماء جُبار، لأنه من المعلوم أن نفس العجماء لا يقال لها هدر، وفي رواية محمد بن زياد عن أبي هريرة: العجماء عَقَلها جُبار، وأصله أن العرب تسمي السيل جُبار أي لا شيء فيه. وقال التِّرمذيِّ: فسر بعض أهل العلم فقال: العجماء الدابة المنفلتة من صاحبها، فما أصابت من انفلاتها فلا غرم على صاحبها. وقال أبو داود بعد تخريجه: العجماء التي نكون منفلتة لا يكون معها أحد، وقد تكون بالنهار، ولا تكون بالليل. وفي رواية الأسود عند مسلم: العجماء جرحها جُبار، وكذا في حديث كثير بن عبد الله المزنيّ عند ابن ماجه. وفي حديث عُبادة بن الصامت عنده، وفي شرح التِّرمذيّ، ليس ذكر الجرح قيدًا، وإنما المراد به إتلافها بأي وجه، سواء كان بجرح أو غيره، والمراد بالعَقَل الدية، أي لا دية فيما تتلفه، وقد استدل بهذا الإطلاق من قال: لا ضمان فيما اتلفت البهيمة، سواء كانت منفردة أو معها أحد، سواء

كان راكبها أو سائقها أو قائدها. وهو قول الظاهرية. واستثنوا ما إذا كان الفعل منسوبًا إليه بأن حملها على ذلك الفعل، إذا كان راكبًا، بأنْ يلوي عنانها فتتلف شيئًا برجلها مثلًا، أو بطنها أو يزجرها حين يسوقها، أو يقودها حتى تتلف ما مرت عليه. وأما ما لا ينسب إليه فلا ضمان فيه. وقال الشافعية: إذا كان مع البهيمة إنسان فإنه يضمن ما أتلفته من نفس أو عضو أو مال، سواء كان سائقًا أو قائدًا أو راكبًا، سواء كان مالكًا أو أجيرًا أو مستأجرًا أو مستعيرًا أو غاصبًا، وسواء أتلفت بيدها أو رجلها أو أُذنيها أو رأسها، وسواء كان ذلك ليلًا أو نهارًا. والحجة في ذلك أن الإِتلاف لا فرق فيه بين العمد وغيره، ومن هو مع البهيمة حاكم عليها، فهي كالآلة بيده، ففعلها منسوب إليه سواء حملها عليه أم لا، سواء علم به أم لا، وعن مالك كذلك، إلا إن رَمَحت شيئًا بغير أن يفعل بها أحد ما ترمح بسببه. وحكاه ابن عبد البَرّ عن الجمهور. وفي رواية جابر عند أحمد والبَزَّار بلفظ "السائمة جُبار" وفيه إشعار بأن المراد بالعجماء البهيمة التي ترعى، لا كل بهيمة. لكن المراد بالسائمة هنا التي ليس معها أحد، لأنه الغالب على السائمة، وليس المراد بها التي تعلف، كما في الزكاة، فإنه ليس مقصودًا هنا. وعند أبي حنيفة أنه لا ضمان فيما رمحت برجلها دون يدها، لإمكان التحفظ من اليد دون الرجل. واستدل به على أنه لا فرق في إتلاف البهيمة للزروع وغيرها، في الليل والنهار. وهو قول الحنفية والظاهرية. وقال الجمهور: إنما يسقط الضمان إذا كان نهارًا، وأما بالليل فإنه عليه حفظها، فإذا انفلتت بتقصير منه وجب عليه ضمان ما أتلفت، ودليل هذا التخصيص ما أخرجه الشافعي وأبو داود والنّسائيّ وابن ماجه عن البراء بن عازب قال: كانت له ناقة ضارية، فدخلت حائطًا فأفسدت فيه، فقضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنّ حفظ الحوائط بالنهار على أهلها، وأنَّ حِفظ الماشية بالليل على أهلها، وأن على أهل المواشي ما أصابت ماشيتهم بالليل. وقد قال ابن عبد البر: هذا الحديث، وان كان مرسلًا، فهو مشهور حدث به الثقات، وتلقاه فقهاء الحجاز بالقبول. وأما إشارة الطحاويّ إلى أنه منسوخ بحديث الباب، فقد تعقبوه بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، مع الجهل بالتاريخ، وأقوى من ذلك قول الشافعيّ أخذًا بحديث البراء لثبوته ومعرفة رجاله، ولا يخالفه حديث "العجماء جُبار" لأنه من العام المراد به الخاص، فلما قال "العجماء جبار" وقضى فيما أفسدت العجماء بشيء في حال دون حال، دل ذلك على أن ما أصابت العجماء من جرح وغيره في حال جُبار، وفي حال غير جُبار. ثم نقض على الحنفية أنهم لم يستمروا على الأخذ بعمومه في تضمن الراكب، متمسكين بحديث "الرِّجل جبار" مع ضعف راويه، ومعناها أنها إذا رمحت برجلها لا يضمن من معها، وإن أفسدت بيدها ضمن. وتعقب بعضهم على الشافعية قولهم إنه لو جرت عادة قوم بإرسال المواشي ليلًا وحبسها نهارًا انعكس الحكم على الأصح. وأجابوا بأنهم اتبعوا المعنى في ذلك ونظيره القسم الواجب للمرأة لو كان يكتسب ليلًا، ويأوي إلى أهله نهارًا لانعكس الحكم في حقه، مع أن عماد القسم الليل، نعم

لو اضطربت العادة في بعض البلاد، فكان بعضهم يرسلها ليلًا وبعضهم يرسلها نهارًا، فالظاهر أنه يقضي بما دل عليه الحديث. وقوله: والبئر جبار، أي سقوط البئر على الشخص أو سقوط الشخص في البئر. في رواية الأسود بن العلاء عند مسلم "والبئر جرحها جُبار" وأما البئر فهي بكسر الموحدة ثم ياء ساكنة مهموزة، ويجوز تسهيلها، وهي مؤنثة، وقد تذكر على معنى القليب والطوي، والجمع أبؤر وآبار بالمد والتخفيف، وبهمزتين بينهما موحدة ساكنة. قال أبو عبيد: المراد بالبئر هنا العادِيَّة القديمة التي لا يعلم لها مالك، تكون في البادية، فيقع فيها إنسان أو دابة، فلا شيء في ذلك على أحد، وكذا لو حفر بئرًا في ملكه، أو في موات، فوقع فيها إنسان أو غيره فتلف، فلا ضمان إذا لم يكن منه تسبب إلى ذلك، ولا تغرير، وكذا لو استأجر إنسانًا ليحفر له البئر، فانهارت عليه، فلا ضمان. وأما من حفر بئرًا في طريق المسلمين، أو في ملك غيره بغير إذنه، فتلف بها إنسان، فإنه يجب ضمانه على عاقلة الحافر، والكفّارة في ماله. وإن تلف بها غير آدمي وجب ضمانه في مال الحافر، ويلتحق بالبئر كل حفرة على التفصيل المذكور، والمراد بجَرحها، وهو بفتح الجيم لا غير، ما يحصل بالواقع فيها من الجراحة، وليست الجراحة مخصوصة بذلك، بل كل الإتلافات ملحقة بها. قال عياض وجماعة: إنما عبر بالجَرح لأنه الأغلب، أو هو مثال نبه به على ما عداه، والحكم في جميع الإتلاف بها سواء، سواء كان على نفس أو مال. ورواية الأكثر تتناول ذلك على بعض الآراء، ولكن الراجح الذي يحتاج إلى تقدير لا عموم فيه. قال ابن بطال: وخالف الحنفية في ذلك، فضمنوا حافر البئر مطلقًا قياسًا على راكب الدابة، ولا قياس مع النص. قال ابن العربي: اتفقت الروايات المشهورة على التلفظ بالبئر، جاءت رواية شاذة بلفظ "النار جبار" بنون وألف ساكنة قبل الراء، ومعناه عندهم أن من استوقد نارًا مما يجوز له، فتعدت حتى أتلفت شيئًا، فلا ضمان عليه. قال: وقال بعضهم: صحفها بعضهم؛ لأنّ أهل اليمن يكتبون النار بالباء لا بالألف، فظن بعضهم البئر بالموحدة النار بالنون، فرواها كذلك، وهذا هو الذي جزم به يحيى بن مُعين، جاعلًا التصحيف من معمر، وقال ابن عبد البر: لم يأت ابن مُعين على قوله بدليل، وليس بهذا تُرَدُّ أحاديث الثقات، ولا يعترض على الحفاظ الثقات بالاحتمالات، ولكن يؤيد ما قال ابن مُعين اتفاق الحفاظ من أصحاب أبي هريرة على ذكر البئر دون النار، ويؤيده أنه وقع عند أحمد عن جابر بلفظ "الجُبُّ جبار" بجيم مضمومة وموحدة ثقيلة، وهي البئر. وقد اتفق الحفاظ على تغليط سفيان بن حسين، حيث روى عن الزُّهريّ في حديث الباب "الرّجل جبار" بكسر الراء وسكون الجيم، وقال الشافعي: لا يصح هذ، نعم الحكم الذي نقله ابن العربي صحيح، ويمكن أن يتلقى من حيث المعنى من الإلحاق بالعجماء، ويلتحق به كل جماد، فلو أن شخصًا عثر فوقع رأسه في جدار فمات، أو انكسر، لم يجب على صاحب الجدار شيء. وقوله: والمعدن جبار، أي هدر، وليس المراد أنه لا زكاة فيه، وإنما المعنى أن من استأجر رجلًا

رجاله ستة

للعمل في معدن مثلًا، فهلك فهو هدر، ولا شيء على من استأجره، ولو حفر معدنًا في ملكه أو في موات، فوقع فيه شخص فمات، فدمه هدر. وفي رواية الأسود بن العلاء عند مسلم "والمعدن جرحها جبار"، والحكم فيه ما تقدم في البئر، لكن البئر مؤنثة والمعدن مذكر، فكأنه ذكره بالتأنيث للمؤاخاة، والملاحظة أرض المعدن، ويلتحق بالبئر والمعدن في ذلك كل أجير على عمل، كمن استؤجر على صعود نخلة فسقط منها فمات. وقوله: في الركاز الخمس، قد تقدم ذكر الاختلاف في الركاز، وأن الجمهور ذهبوا إلى أنه المال المدفون، لكن حصره الشافعية فيما يوجد في الموات، بخلاف ما إذا وجده في طريق مسلوك أو مسجد، فهو لقطة، وإذا وجده في أرض مملوكة، فإن كان غيره، فإن ادعاه المالك فهو له، وإلا فهو لمن تلقاه عنه، إلى أن ينتهي الحال إلى من أحيا تلك الأرض. قال ابن دقيق العيد: من قال من الفقهاء بأن في الركاز الخمس إما مطلقًا أو في أكثر الصور، فهو أقرب إلى الحديث، وخصه الشافعي، أيضًا بالذهب والفضة. وقال الجمهور: لا يختص، واختاره ابن المنذر. واختلفوا في مصرفه، فقال مالك وأبو حنيفة والجمهور: مصرفه مصرف خُمس الفيء، وهو اختيار المزَنيّ. وقال الشافعيّ، في أصح قوليه: مصرفه مصرف الزكاة. وعن أحمد روايتان، وينبني على ذلك ما إذا وجده ذميٌ، فعند الجمهور يخرج منه الخمس، وعند الشافعي لا يخرج منه شيء. واتفقوا على أنه لا يشترط فيه الحول، بل يجب إخراج الخمس في الحال. وأغرب ابن العربي في شرح الترمذي، فحكى عن الشافعي الاشتراط، ولا يعرف ذلك في شيء من كنبه، ولا من كتب أصحابه. والركاز فيه الخمس مطلقًا، كان من ذهب أو فضة أو رصاص أو نحاس، وأما المعدن ففيه الزكاة، ويشترط عندنا وعند الشافعية أن يكون ذهبًا أو فضة، وأن يكون نصابًا خلافًا للحنفية القائلين بعدم اشتراط النصاب، ولا يشترط فيه الحول عند الجميع، واختار داود وإسحاق وأحمد والمزني، والشافعي في البويطيّ اشتراط النصاب والحول في ذلك، وإذا وجد المسلم أو الذمي في داره معدنًا فهو له، ولا شيء فيه عند أبي حنيفة وأحمد، إلا إذا حال عليه الحول، وهو نصاب، ففيه الزكاة. وعند أبي يوسف ومحمد يجب الخمس في الحال، وعند مالك والشافعي الزكاة في الحال، والحانوت والمنزل كالدار. رجاله ستة: قد مرّوا، مرّ عبد الله بن يوسف ومالك في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ ابن شهاب في الثالث منه وأبو سلمة في الرابع منه، وسعيد بن المسيب في التاسع عشر من الإيمان، وأبو هريرة في الثاني منه. أخرجه البخاري في الأحكام، ومسلم في الحدود، وأخرجه النَّسائيّ في الزكاة وفي الركاز، وأخرجه أصحاب السنن غيره. ثم قال المصنف:

باب قول الله تعالى والعاملين عليها ومحاسبة المصدقين مع الإمام

باب قول الله تعالى والعاملين عليها ومحاسبة المصدقين مع الإِمام قال ابن بطال: اتفق العلماء على أن العاملين عليها السعاةُ المتولون لقبض الصدقة. وقال ابن المنير: يحتمل أن يكون العامل المذكور صرف شيئًا من الزكاة في مصارفه، فحوسب على الحاصل والمصروف. وقال المهلب: حديث الباب أصل في محاسبة المؤتمن، وأن المحاسبة تصحح أمانته، والذي يظهر من مجموع الطرق أن سبب مطالبته بالمحاسبة ما وجد معه من جنس مال الصدقة، وادعى أنه أهدى إليه. الحديث الثاني والمئة حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه قَالَ: اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلاً مِنَ الأَسْدِ عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ يُدْعَى ابْنَ اللُّتْبِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ. قوله: رجلًا من الأسْد، بفتح الهمزة وسكون السين المهملة، وفي رواية من "بني أسد" وهو يوهم أنه بفتح السين، نسبة إلى بني أسد بن خزيمة القبيلة المشهورة، أو إلى بني أسد بن عبد العُزّى بطن من قريش، وليس كذلك، وإنما كان بوهمه لأن الأزْد تلازمه الألف واللام في الاستعمال، أسماءًا وأنسابًا، بخلاف بني أسد، فبغير ألف ولام في الاسم. وفي الهبة "استعمل رجلًا من الأزد" وقد ذكر أصحاب الأنساب أن في الأزد بطنًا يقال لهم بنو أسد بالتحريك، ينسبون إلى أسد بن شُريك، بالمعجمة مصغر، فيحتمل أن ابن اللُّتْبِيّة كان منهم، فيصح أن يقال فيه الأزدي، بسكون الزاي، والأسْدي بسكون المهملة وبفتحها، من بني أسَد بفتح السين، ومن بني الأزْد أو الأسْد بالسكون فيهما لا غير. وقوله: على صدقات بني سُليم، وفي رواية: على صدقة، وفي رواية: على الصدقة، وقوله: يدعى ابن اللُّتْبِيّة بضم اللام وسكون المثناة، وقيل بضم اللام وفتح المثناة، وقيل بالهمزة بدل اللام بفتح الهمزة والمثناة وكسر الموحدة، واللتبية أمه، ولم يعرف اسمها. وهذا الحديث أخرجه هنا مختصرًا، وأخرجه مطولًا في كتاب الأحكام. وها أنا أشرحه على ما في كتاب الأحكام. وقوله: فلما قدم قال هذا لكم وهذا أهدي لي، وفي رواية: فلما جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وحاسبه قال: هذا الذي لكم، وهذه هدية أهديت لي. وعند مسلم عن الزهريّ: فجاء بالمال

فدفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: هذا مالكم، وهذه هدية أهديت لي. وعنده أيضًا عن أبي الزناد: فجاء بسواد كثير، فجعل يقول هذا لكم، وهذا أهدى لي. والسواد، بفتح السين وتخفيف الواو، المراد به الأشياء الكثيرة، والأشخاص البارزة من حيوان وغيره. ولفظ السواد يطلق على كل شخص. ولأبي نعيم في المستخرج: فأرسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من يتوفى منه، وهذا يدل على أن قوله في الرواية المذكورة "فلما جاء حاسبه" أي: أمر من بحاسبه، ويقبض منه. وفي رواية أبي نعيم أيضًا: فجعل يقول هذا لكم وهذا لي، حتى ميزه. قال: يقولون: من أين هذا لك؟ قال: أهدي لي، فجاؤوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بما أعطاهم. وقوله: فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- على المنبر، زاد في رواية هشام قبل ذلك. فقال: ألا جلست في بيت أبيك وبيت أمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقًا؟ ثم قام فخطب. وقوله: ما بال العامل نبعثه فيأتي فيقول: هذا لك .. الخ، وفي رواية هشام: فإني أستعمل الرجل منكم على أمور مما ولاني الله. وقوله: فهلاّ جلس في بيت أبيه وأمه، فينظر أيهدى له أم لا، وذلك أن العامل اعتقد أن الذي يهدى له يستبد به دون أصحاب الحقوق، التي عمل فيها، فبين له النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أن الحقوق التي عمل لأجلها هي السبب في الإهداء له، وأنه لو أقام في منزله لم يهد له شيء، فلا ينبغي له أن يستحلها بمجرد كونها وصلت إليه على طريق الهدية، فإن ذاك إنما يكون حيث يتمحض الحق له. قال المهلب: حيلة العامل ليهدى له تقع بأن يسامح بعض من عليه الحق، فلذلك قال: هلا جلس في بيت أمه لينظر هل يهدى له، فأشار إلى أنه لولا الطمع في وضعه من الحق ما أهدي له. قال: فأوجب النبي -صلى الله عليه وسلم- أخذ الهدية وضمها إلى أموال المسلمين .. قال في الفتح: كذا قال، ولم أقف على أخذ ذلك منه صريحًا. قال ابن بطال: دل الحديث على أن الهدية للعامل تكون لشكر معروفه، أو للتحبيب إليه، أو للطمع في وضعه من الحق، فأشار النبيّ -صلى الله عليه وسلم- إلى أنه، فيما يهدى له من ذلك، كأحد المسلمين، لا فضل له عليهم فيه، وأنه لا يجوز الاستثناء به. والذي يظهر أن الصورة الثانية إن وقعت، لم تحل للعامل جزمًا، وما قبلها في طرق الاحتمال. وقوله: والذي نفسي بيده لا يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة، أي لا يأتي بشيء يحوزه لنفسه. وفي رواية: لا يأخذ أحد منها شيئًا، وفي رواية: لا ينال أحدكم منها شيئًا، وفي رواية: لا يَغُل منها شيئًا إلا جاء به، بضم الغين المعجمة من الغلول، وأصله الخيانة في الغنيمة، ثم استعمل في كل خيانة. وقوله: يحمله على رقبته، في رواية: على عنقه إن كان بعيرًا له رُغاء، بضم الراء وتخفيف المعجمة مع المد، صوت البعير. وقوله: أو بقرة لها خُوار، بضم الخاء المعجمة، صوت للبقر "أو شاة تَبْعر" بفتح المثناة الفوقانية وسكون التحتانية بعدها مهملة مفتوحة، ويجوز كسرها. وعند ابن التين: أو شاة لها بَعَار، يعني بفتح التحتانية وتخفيف المهملة، وهو صوت الشاة الشديدة، وقيل: هو بضم أوله.

وقوله: ثم رفع يديه حتى رأينا عُفْرتي إبطيه، وفي رواية عُفْرة إبطه، بالإفراد. ولأبي ذر: عَفْر، بفتح أوله، ولبعضهم بفتح الفاء أيضًا بلا هاء، والعُفْرَة، بضم المهلة وسكون الفاء، تقدم شرحها في أبواب صفة الصلاة. وحاصله أن العَفر بياض ليس بالناصع. وقوله: ألا هل بلّغت ثلاثًا، بالتخفيف، وبلغت بالتشديد. وثلاثًا أي أعادها ثلاثًا. وفي رواية في الهبة: اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت، ثلاثًا. وعند مسلم: اللهم هل بلغت مرتين، والمراد بلغت حكم الله تعالى إليكم، امتثالًا لقوله تعالى {بَلَغَ} وإشارة إلى ما يقع في القيامة من سؤال الأمم هل بلغهم أنبياؤهم ما أرسلوا به إليهم. وفي الحديث من الفوائد أن الإمام يخطب في الأمور المهمة، واستعمال "أما بعد" في الخطبة، كما تقدم في الجمعة، ومشروعية محاسبة المؤتمن، ومنع العمال من قبول الهدية ممن له عليه حكم، إذا لم يأذن الإمام في ذلك، لما أخرجه التِّرمذيّ، عن معاذ بن جبل قال: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن، فقال: "لا تصيبن شيئًا بغير أذني، فإنه غُلول". وقال المهلب: فيه أنها إذا أُخذت تجعل في بيت المال، ولا يختص العامل منها إلا بما أذن له فيه الإِمام. وهو مبني على أن ابن اللُّتْبيَّة أخذ منه ما ذكر أنه أهدي له، لكن لم يرد ذلك صريحًا كما مرَّ. وقال ابن قُدامة في "المغني" لما ذكر الرشوة: وعليه ردها لصاحبها، ويحتمل أن يجعل في بيت المال؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يأمر ابن اللتبية برد الهدية التي أهديت له لمن أهداها. وقال ابن بطال: يلتحق بهدية العامل الهدية لرب الدَّين ممن له عليه دَين، ولكن له أن يحاسب بذلك من دَينه. وفيه إبطال كل طريق يتوصل بها من يأخذ المال إلى محاباة المأخوذ منه، والانفراد بالمأخوذ. وقال ابن المنير: يؤخذ من قوله "هلاّ جلس في بيت أبيه وأمه" جواز قبول الهدية ممن كان يهاديه قبل ذلك، ومحل ذلك إذا لم يزد على العادة. وفيه أن من رأى متاولًا أخطأ في تأويل يضر من أخذ به، أن يشهر القول للناس، ويبين خطأه، ليحذر من الاغترار به. وفيه جواز توبيخ المخطيء، واستعمال المفضول في الإمارة والإمامة والأمانة، مع وجود من هو أفضل منه، وفيه استشهاد الراوي والناقل بقول من يوافقه ليكون أوقع في نفس السامع، وأبلغ في طمأنينته، وفيه أن السعاة لا يستحقون على قبضها جزاء منها معلوما سبعًا أو ثمنًا وإنما له أجر عمله على حسب اجتهاد الإِمام. وهذا الحديث هو أصل فعل عمر، رضي الله تعالى عنه، في محاسبة العمال، وإنما فعل ذلك لما رأى ما قالوه من كثرة الأرباح، وعلم أن ذلك من سلطانهم، وسلطانُهم إنما كان بالمسلمين، فرأى مقاسمة أموالهم، واقتدى بقوله عليه الصلاة والسلام "أفلا جلس في بيت أبيه وأمه، فيرى أيهدى له شيء أم لا" ومعناه: لولا الإمارة لم يهدَ له شيء، وهذا اجتهاد من عمر رضي الله تعالى عنه، وإنما أخذ منهم ما أخذ لبيت مال المسلمين لا لنفسه.

رجاله خمسة

رجاله خمسة: ونيه ذكر ابن اللُّتبية، وقد مرت الخمسة، مرّ يوسف بن موسى في الحادي والعشرين من الجمعة، ومرّ أبو أسامة في الحادي والعشرين من العلم، ومرّ هشام بن عروة وأبوه في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ أبو حميد الساعديّ في تعليق أول أبواب استقبال القبلة. وأما ابن اللتبية، بضم اللام وسكون المثناة من فوق، ثم باء مكسورة موحدة، ثم ياء مثناة على المشهور، فهو عبد الله بن اللتبية بن ثعلبة الأسديّ، مذكور في حديث أبي حميد في الصحيحين. أخرج البخاري طرفًا منه في الجمعة، وأخرجه في الأحكام وفي الأيمان والنذور، وفي ترك الحيل، ومسلم في المغازي وأبو داود في الخراج. ثم قال المصنف:

باب استعمال إبل الصدقة وألبانها لأبناء السبيل

باب استعمال إبل الصدقة وألبانها لأبناء السبيل قال ابن بطال غرض المصنف في هذا الباب إثبات وضع الصدقة في صنف واحد، خلافًا لمن قال يجب استيعاب الأصناف الثمانية. وفي ما قاله نظر، لاحتمال أن يكون ما أباح لهم من الانتفاع إلا بما هو قدر حصتهم، على أنه ليس في الخبر أيضًا أنه ملكهم رقابها، وإنما فيه أنه أباح لهم شرب ألبان الإبل للتداوي، فاستنبط منه البخاريّ جواز استعمالها في بقية المنافع، إذ لا فرق. وأما تمليك رقابها فلم يقع، وتقدير الترجمة استعمال إبل الصدقة وشرب ألبانها، فاكتفى عن التصريح بالشرب لوضوحه، فغاية ما يفهم من حديث الباب أن للإمام أن يخص بمنفعة مال الزكاة دون الرقبة صنفًا دون صنف، بحسب الاحتياج، على أنه ليس في الخبر أيضًا تصريح بأنه لم يصرف، من ذلك شيئًا لغير العرنيين، فليست الدلالة منه لذلك بظاهرة أصلًا، بخلاف ما ادعى ابن بطال أنه حجة قاطعة. الحديث الثالث والمئة حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: أَنَّ نَاسًا مِنْ عُرَيْنَةَ اجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ، فَرَخَّصَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَأْتُوا إِبِلَ الصَّدَقَةِ فَيَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا، فَقَتَلُوا الرَّاعِيَ وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأُتِيَ بِهِمْ، فَقَطَّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَرَ أَعْيُنَهُمْ، وَتَرَكَهُمْ بِالْحَرَّةِ يَعَضُّونَ الْحِجَارَةَ. وهذا الحديث مرّ الكلام عليه في كتاب الوضوء في باب أبوال الإبل والدواب. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ مسدد ويحيى القطان وقتادة وأنس في السادس من الإيمان، ومرّ شعبة في الثالث منه، وقد مرّ الكلام على هذا الحديث. ثم قال: تابعه أبو قُلابة وحميد وثابت عن أنس. أما متابعة أبي قلابة فقد مرت في كتاب الطهارة، ومتابعة حميد وصلها مسلم والنَّسائيّ وابن خُزيمة. ومتابعة ثابت وصلها البخاري في كتاب الطب. ورجال المتابعات قد مرّوا، مرّ أبو قلابة في التاسع من الإيمان، وحميد الطويل في الثاني والأربعين منه، ومرّ ثابت البنانيّ في تعليق بعد الخامس من العلم، وأنس مرَّ محله الآن. ثم قال المصنف:

باب وسم الإمام إبل الصدقة بيده

باب وَسم الإِمام إبل الصدقة بيده الحديث الرابع والمئة حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو الأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ غَدَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ لِيُحَنِّكَهُ، فَوَافَيْتُهُ فِي يَدِهِ الْمِيسَمُ يَسِمُ إِبِلَ الصَّدَقَةِ. قوله: وفي يده المِيْسَم، بوزن مِفعل مكسور الأول، وأصله مِوْسَم لأن فاءه واو، لكنها لما سكنت وكسر ما قبلها قلبت ياء، وهي الحديدة التي يُوْسَم بها، أي يعلم، وهو نظير الخاتم. وقوله: إبل الصدقة، وجاء في الذبائح عن أنس: أنه رآه يَسِم غنمًا في آذانها. وفي رواية اللباس: يسم الظَّهر الذي قدم عليه. وفيه ما يدل على أن ذلك بعد رجوعهم من غزوة الفتح وحنين، والمراد بالظهر الإبل، وكأنه كان يسم الإِبل والغنم، فصادف أول دخول أنس وهو يسم شاة، ورآه يسم غير ذلك. وقوله: في آذانها، فيه العدول عن الوسم في الوجه إلى الوسم في الأذن، فيستفاد منه أن الأذن ليست من الوجه، وفيه حجة للجمهور في جواز وسم البهائم بالكي، وخالف الحنفية فيه تمسكًا بعموم النهي عن التعذيب بالنار. ومنهم من ادعى نسخ وسم البهائم، وجعله الجمهور مخصوصًا من عموم النهي عن المُثَلةِ، للحاجة كالختان للآدمي، والحكمة فيه تمييزها، وليردها من أخذها ومن التقطها، وليعرفها صاحبها، فلا يشتريها إذا تصدق بها مثلًا، ليلًا يعود في صدقته. قال في الفتح: ولم أقف على تصريح بما كان مكتوبًا على ميسم النبي -صلى الله عليه وسلم-، إلا أن ابن الصباغ، من الشافعية، نقل إجماع الصحابة على أنه يكتب في ميسم الزكاة "زكاة أو صدقة". قال المهلب، وغيره: في هذا الحديث أن للإمام أن يتخذ ميسمًا، وليس للناس أن يتخذوا نظيره، وهو كالخاتم. وفيه اعتناء الإِمام بأموال الصدقة، وتوليها بنفسه. ويلتحق به جميع أمور المسلمين. وفيه جواز إيلام الحيوان للحاجة. وفيه قصد أهل الفضل لتحنيك المولود لأجل البركة. وفيه جواز تأخير القسمة؛ لأنها لو عجلت لاستُغني عن الوَسم.

رجاله خمسة

وفيه مباشرة أعمال المهنة، وترك الاستنابة فيها للرغبة في زيادة الأجر، ونفي الكِبر. وقال قوم من الشافعية: الكي مستحب في نَعَم الزكاة والجزية، وجائز في غيرهما. والمستحب أن يسم الغنم في آذانها، والإبل والبقر في أصول أفخاذها. وفي رواية لأحمد وابن ماجه: يسمِ الغنم في آذانها، ووسم الآدمي حرام، وغير الآدمي في الوجه منهي عنه، وفي كتب الحنفية: لا بأس بكي البهائم للعلامة، لأن فيه منفعة، وكذا لا بأس بكي الصبيان إذا كان لداء أصابهم، لأن ذلك مداواة. قاله العيني. رجاله خمسة: وفيه ذكر عبد الله بن أبي طلحة، وقد مرّ الجميع، مرّ إبراهيم بن المنذر في الأول من العلم، ومرّ الأوزاعي في العشرين منه، ومرّ إسحاق بن عبد الله في السابع منه، ومرّ الوليد بن مسلم في السادس والثلاثين من مواقيت الصلاة، ومرّ أنس في السادس من الإيمان، ومرّ عبد الله بن أبي طلحة في الستين من الجنائز. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإفراد والقول، وسنده مدنيان ودمشقيان، وفيه رواية الراوي عن عمه، وهو إسحاق. والحديث أخرجه مسلم في اللباس. ثم قال المصنف:

باب صدقة الفطر

باب صدقة الفطر كذا للمستملي، واقتصر الباقون على "باب" وما بعده، ولأبي نعيم "كتاب" بدل "باب" وأضيفت الصدقة إلى الفطر، لكونها تجب بالفطر من رمضان. وقال ابن قتيبة: المراد بصدقة الفطر صدقة النفوس، مأخوذة من الفِطْرَة التي هي أصل الخِلقة، والأول أظهر، ويؤيده قوله في بعض طرق الحديث كما سيأتي "زكاة الفطر مِن رمضان". ثم قال: ورأى أبو العالية وعطاء وابن سيرين صدقة الفطر فريضةً. وإنما اقتصر البخاري على ذكر هؤلاء الثلاثة لكونهم صرحوا بفرضيتها، وإلا فقد نقل ابن المنذر وغيره الإجماع على ذلك، لكن الحنفية يقولون بالوجوب دون الفرض، على قاعدتهم في التفرقة. وفي نقل الإجماع مع ذلك نظرٌ، لأن إبراهيم بن عليه وأبا بكر بن كيسان الأصم قالا: إن وجوبها قد نسخ، واستدل لهما بما روى النسائي وغيره، عن قيس بن سعد بن عبادة قال: "أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة، فلما نزلت لم يأمرنا ولم ينهنا، ونحن نفعله" وتعقب بأن في إسناده راويًا مجهولًا، وعلى تقدير الصحة، فلا دليل فيه على النسخ، لاحتمال الاكتفاء بالأمر الأول، لأن نزول فرض لا يوجب سقوط فرض آخر. ونقل المالكية عن أشهب أنها سُنّة مؤكدة، وهو قول بعض أهل الظاهر، وابن اللَّبَّان من الشافعية، وأوّلوا قوله: فرض، في الحديث بمعنى قدّر. قال ابن دقيق العيد: هو أصله في اللغة، لكن نقل في عُرف الشرع إلى الوجوب، فالحمل عليه أولى، ويؤيده تسميتها زكاة. وقوله في الحديث: على كل حر وعبد، والتصريح بالأمر بها في حديث قيس بن سعد وغيره، ولدخولها في عموم قوله تعالى {وَآتُوا الزَّكَاةَ} فبين -صلى الله عليه وسلم- تفاصيل ذلك، ومن جملتها زكاة الفطر. وقال الله تعالى {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} وثبت أنها نزلت في زكاة الفطر، وثبت في الصحيحين إثبات صفة الفلاح لمن اقتصر على الواجبات قبل، وفيه نظر؛ لأن في الآية {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} فيلزم وجوب صلاة العيد، ويجاب بأنه خرج بدليل عموم "هن خمس، لا يُبُدَّل القول لديّ"، وتعليق أبي العالية وابن سيرين رواهما ابن أبي شيبة في مصنفه عن وكيع، وتعليق عطاء وصله عبد الرزاق عن ابن جُريج عن عطاء، ورجال التعاليق قد مرت؛ مرّ أبو العالية في تعليق بعد الثاني من العلم، ومرّ عطاء بن أبي رباح في التاسع والثلاثين منه، ومرّ ابن سيرين في الأربعين من الإيمان

الحديث الخامس والمئة

الحديث الخامس والمئة حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّكَنِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَهْضَمٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ نَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاَةِ. قوله: زكاة الفطر، زاد مسلم عن نافع "من رمضان" واستدل به على أن وقت وجوبها غروب الشمس ليلة الفطر، لأنه وقت الفطر من رمضان. وقيل: وقت وجوبها طلوع الفجر من يوم العيد، لأن الليل ليس محلًا للصوم، إنما يتبين الفطر الحقيقي بالأكل بعد طلوع الفجر. والأول قول الثوري وأحمد وإسحاق والشافعي، في الجديد، وأحد الروايتين عن مالك. والثاني قول أبي حنيفة والليث والشافعيّ في القديم. والرواية الثانية عن مالك، ويقويه قوله في حديث الباب "وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة". قال المازريّ: قيل إن الخلاف ينبني على أن قوله "الفطر من رمضان" الفطر المعتاد في سائر الشهر، فيكون الوجوب بالغروب، أو الفطر الطارىء بعد، فيكون بطلوع الفجر. وتظهر ثمرة الخلاف فيمن وُلد أو اشتُري بعد الغروب، واستمر للفجر، تجب على الثاني دون الأول. وقال ابن دقيق العيد: الاستدلال بذلك لهذا الحكم ضعيف، لأن الإضافة إلى الفطر لا تدل على وقت الوجوب، بل تقتضي إضافة هذه الزكاة إلى الفطر من رمضان. وأما وقت الوجوب فيطلب من أمر آخر. وقوله: صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير، انتصب صاعًا على التمييز، أو أنه مفعول ثان، ولم تختلف الطرق عن ابن عمر في الاقتصار على هذين الشيئين، إلا ما أخرجه أبو داود والنَّسائي، عن نافع فزاد فيه السُّلْتَ والزَّبيب، والسلت بضم المهملة وسكون اللام بعدها مثناة، نوع من الشعير. ومذهب مالك والشافعي، وأحمد وإسحاق أنَّ صدقة الفطر صاع من البر، ومذهب أبي حنيفة نصف صاع من بر أو دقيق أو سويق أو زبيب، أو صاع من تمر أو شعير. وقال أبو يوسف ومحمد: الزبيب بمنزلة التمر والشعير. وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة. والأول رواية محمد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة. وقوله: على العبد والحر، ظاهره إخراج العبد عن نفسه، ولم يقبل به إلا داود، فقال: يجب على السيد أن يمكِّن العبد من الاكتساب لها، كما يجب عليه أن يمكنه من الصلاة، وخالفه أصحابه والناس، واحتجوا بحديث أبي هريرة مرفوعًا "ليس في العبد صدقة إلا صدقة الفطر" أخرجه مسلم. وفي رواية له "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة إلا صدقة الفطر والرقيق" ومقتضاه أنها واجبة على السيد.

وهل تجب عليه ابتداء، أو تجب على العبد، ثم يتحملها السيد؟ وجهان للشافعية، وإلى الثاني نحا البخاريّ ومذهب الجمهور: مالك والليث والأوزاعي والشافعي، وإسحاق، أنها واجبة على السيد، ولو كان للتجارة. وقال عطاء والنخعي، والثوري، والحنفيون: إذا كان للتجارة لا تلزمه فطرته، وأما المُكاتِب فالجمهور أنها لا تجب عليه. وعن مالك قولان: قيل: يخرجها عن نفسه، وقيل: سيده، وهذا هو المشهور، ولا تجب على السيد عند أبي حنيفة والشافعي، وأحمد. وقوله: والذكر والأنثى، ظاهره وجوبها على المرأة سواء كان لها زوج أم لا، وبه قال الثَّوري وأبو حنيفة وابن المنذر. وقال مالك والشافعي والليث وأحمد وإسحاق: تجب على زوجها، إلحاقًا بالنفقة، وفيه نظر؛ لأنهم قالوا: إن أعسر وكانت الزوجة أمَة، وجبت فطرتها على السيد، بخلاف النفقة فافترقا. قلت: مسألة الأَمة هذه لم أطلع عليها للمالكية، وأيضًا اتفقوا على أن المسلم لا يخرج عن زوجته الكافرة، مع أن نفقتها تلزمه. وإنما احتج القائلون بوجوبها على الزوج بما روي عن ابن عمر من قوله "ممن تَمُونون" وروى نحوه مرسلًا عن محمد الباقر. وقوله: والصغير والكبير، ظاهره وجوبها على الصغير، لكن المخاطب عنه وليه، فوجوبها على هذا في مال الصغير، وإلا فعلى من تلزمه نفقته، وهذا قول الجمهور. وقال محمد بن الحسن: هي على الأب مطلقًا، فإن لم يكن له أب فلا شيء عليه. قلت: وهذا هو مذهب مالك، وعن سعيد بن المسيب والحسن البصري: لا تجب إلا على من صام واستدل لهما بحديث ابن عباس مرفوعًا "صدقة الفطر طُهْرَة للصائم من اللَّغو والرَّفث" أخرجه أبو داود. وأجيب بأن ذكر التطهير خرج على الغالب، كما أنها تجب على من لم يذنب، كمتَحقَّق الصلاح، أو من أسلم قبل غروب الشمس بلحظة، ونقل ابن المنذر الإجماع على أنها لا تجب على الجنين. قال: وكان أحمد يستحبه ولا يوجبه. ونقل بعض الحنابلة رواية عنه بالإيجاب، وبه قال ابن حَزم، لكن قيّده بمئة وعشرين يومًا من يوم حمل أمه به. وتعقب بأن الحمل غير محقق، وبأنه لا يسمى صغيرًا، لا لُغَة ولا عُرفًا. واستدل بقوله في حديث ابن عباس "طهرة للصائم" على أنها تجب على الفقير، كما تجب على الغني، وقد ورد ذلك صريحًا في حديث أبي هريرة عن أحمد، وحديث ثعلبة بن أبي صُغير عند الدارقطني. وعند الحنفية لا تجب إلا على من ملك نصابًا، ومقتضاه أنه لا تجب على الفقير على قاعدتهم في الفرق بين الغني والفقير، واستدل لهم بحديث أبي هريرة المتقدم "لا صدقة إلاّ عن ظهر غِنى" واشترط مالك والشافعيّ ومن تبعهما أن يكون ذلك فاضلًا عن قوت يومه، ومن تلزمه نفقته. وقال ابن بُزَيزة: لم يدل دليل على اعتبار النصاب فيها، لأنها زكاة بدنية لا مالية. وقوله: من المسلمين، فيه رب على من زعم أن مالكًا تفرد بها في الرواية التي بعد هذه، فقد تابعه عليها سبعة: عمر بن نافع في هذه الرواية، والضحاك بن عثمان عن نافع عند مسلم،

والمعلي بن أسد عن نافع عند ابن حبان، وعبد الله بن عمر عن نافع عند الحاكم في المستدرك، وكثير بن فَرْقَد عن نافع عند الحاكم أيضًا، وعبيد الله بن عمر العمري، عن نافع عند الدارقطني، ويونس بن يزيد عن نافع عند الطحاوي، في مشكله. واستدل بهذه الزيادة على اشتراط الإِسلام في وجوب زكاة الفطر، ومقتضاه أنها لا تجب على الكافر عن نفسه، وهو أمر متفق عليه، وهل يخرجها عن غيره كمستولدته المسلمة مثلًا؟ نقل ابن المنذر فيه الإجماع على عدم الوجوب، لكن فيه وجه للشافعية، ورواية عن أحمد، وهل يخرجها المسلم عن عبده الكافر؟ قال الجمهور: لا، خلافًا لعطاء والثوري، والحنفية وإسحاق. واستدلوا بعموم قوله "ليس على المسلم في عبده صدقة إلا صدقة الفطر"، وقد مرّ. وأجاب الآخرون بأن الخاص يقضي على العام، فعموم قوله "في عبده" مخصوص بقوله "من المسلمين". وقال الطحاوي: قوله "من المسلمين" صفة للمخرجين لا للمخرج عنهم. وظاهر الحديث يأباه، لأن فيه العبد، وكذا الصغير في رواية عمر بن نافع، فدل على أن صفة الإِسلام لا تختص بالمخرجين، ويؤيده رواية الضحاك عند مسلم بلفظ "على كل نفس من المسلمين حرًا وعبدًا" الحديث قال القرطبي: ظاهر الحديث أنه قصد بيان مقدار الصدقة ومن تجب عليه، ولم يقصد فيه بيان من يخرجها عن نفسه ممن يخرجها عن غيره، بل شمل الجميع، ويؤيده حديث أبي سعيد الآتي، فإنه دال على أنهم كانوا يخرجون عن أنفسهم وعن غيرهم، لقوله فيه "عن كل صغير وكبير" لكن لابد من أن يكون بين المخرج وبين الغير ملابسة، كما بين الصغير ووليه، والعبد وسيده، والمرأة وزوجها. وقال الطيبي: قوله "من المسلمين" حال من العبد وما عطف عليه، وتنزيلها على المعاني المذكورة أنها جاءت مزدوجة على التضاد، للاستيعاب لا للتخصيص، فيكون المعنى: فرض على جميع الناس من المسلمين. وأما كونها فيم وجبت، وعلى من وجبت، فيعلم من نصوص أخر. ونقل ابن المنذر أن بعضهم احتج بما أخرجه، أن ابن عمر كان يخرج عن أهل بيته حرِّهم وعبدهم، صغيرهِم وكبيرِهم، مسلمهم وكافرهم، من الرقيق. قال: وابن عمر راوي الحديث، وقد كان يخرج عن عبده الكافر، وهو أعرف بمراد الحديث، وتعقب بأنه لو صح حمل على أنه كان يخرج عنهم تطوعًا، ولا مانع منه، واستدل بعموم قوله "من المسلمين" على تناولها لأهل البادية، خلافًا للزهريّ وربيعة والليث في قولهم: إن زكاة الفطر تختص بالحاضرة. وقوله: وأمر بها أن تؤدّى قبل خروج الناس إلى الصلاة، وهذا الأمر أمر استحباب، واستدل به على كراهة تأخيرها عن ذلك، وهذا هو قول الأئمة جميعًا. وقال ابن حَزم الأمر فيه للوجوب، فيحرم تأخيرها عن ذلك الوقت.

رجاله ستة

رجاله ستة: مرت منهم ثلاثة، مرّ إسماعيل بن جعفر في السادس والعشرين من الإيمان، ومرّ ابن عمر في أوله قبل ذكر حديث منه، ومرّ نافع في الأخير من العلم، والثلاثة الباقون: الأول منهم: يحيى بن محمد بن السكن بن حبيب القُرشي، أبو عُبيد الله، ويقال: أبو عبيد البصريّ البزار، سكن بغداد. ذكره ابن حِبّان في الثقات. وقال كان راويًا لمحمد بن جَهْضَم، وقال النَّسائيّ: لا بأس به، وقال في موضع آخر: ثقة. وقال صالح بن محمد أيضًا: لا بأس به. وقال مسلمة: بصريُّ صدوق روى عن معاذ بن هشام ومحمد بن جهضم وروح بن عبادة وغيرهم. وروى عنه البخاريّ وأبو داود والنسائي والبزار وابن خُزيمة وغيرهم. الثاني: محمد بن جهضم بن عبد الله الثقفي، أبو جعفر البصريّ، أصله من خُراسان ذكره ابن حِبّان في الثقات. وقال أبو زرعة: صدوق لا بأس به، روى عن إسماعيل بن جعفر المدنيّ وابن عُيينة ويزيد بن عطاء. وروى عنه إسحاق بن منصور الكوسج ويحيى بن محمد بن السكن ومحمد بن يونس الكُديمي وغيرهم. الثالث: عمر بن نافع العدويّ المدنيّ، مولى ابن عمر. قال أحمد: هو أوثق ولد نافع، وقال ابن مُعين وأبو حاتم: ليس به بأس، وقال ابن سعد: كان ثبتًا قليل الحديث، ولا يحتجون بحديثه. قال ابن حَجر: وهذا تهافتٌ كيف لا يحتجون به؟ وهو ثبت. وقال النَّسائيّ: ثقة، وقال ابن عُيينة: قال لي زياد بن سعد، حين أتينا عمر: هذا أحفظ ولد نافع، وحديثه عن نافع صحيح. وذكره ابن حِبّان في الثقات. وقال: أبو داود قال أحمد بن حنبل: هو عندي مثل العمريّ. قال أبو داود: هو عندي فوق العمريّ. وقال ابن عديّ: لا بأس به. قال في المقدمة: وهم ابن عدي في قوله عن عباس الدوريّ عن ابن مُعين عمر بن نافع: ليس حديثه بشيء، إنما قال ابن معين ذلك في عمر بن نافع الثقفي، وقال: ليس له في البخاريّ سوى حديثين: أحدهما هذا عن أبيه عن ابن عمر، بمتابعة مالك. والآخر بهذا الإسناد وفي النهي عن القَزَع، وله طرق. وروى الباقون سوى التِّرمذيّ. روى عن أبيه والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وروى عنه مالك وعُبيد الله بن عمر، وروح بن القاسم، ويحيى بن سعيد الأنصاري وغيرهم. مات بالمدينة في خلافة أبي جعفر المنصور. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والقول، وشيخ البخاري من أفراده، وسنده بصريان ويماميّ خراسانيّ ومدنيان. فيه رواية الابن عن أبيه، أخرجه أبو داود، والتِّرمذيّ وقال: حديث حسن صحيح. ثم قال المصنف:

باب صدقة الفطر على العبد وغيره من المسلمين

باب صدقة الفطر على العبد وغيره من المسلمين ظاهره أنه يرى وجوبها على العبد وإن كان سيده يتحملها عنه، ويؤيده عطف الصغير عليه، فإنها تجب عليه، وإن كان الذي يخرجها غيره. الحديث السادس والمئة حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، عَلَى كُلِّ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ، ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، مِنَ الْمُسْلِمِينَ. هذا الحديث مرت مباحثه مستوفاة في الذي قبله. رجاله أربعة: قد مرّوا، مرّ عبد الله بن يوسف ومالك في الثاني من بدء الوحي، ومرّ نافع في الأخير من العلم، ومرَّ ابن عمر في أول الإيمان قبل ذكر حديث منه. ثم قال المصنف:

باب صدقة الفطر صاع من شعير

باب صدقة الفطر صاع من شعير الحديث السابع والمئة حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا نُطْعِمُ الصَّدَقَةَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ. أورد الحديث هنا مختصرًا، وأورده بعد بابين مطولًا. وقوله هنا: كنا نطعم الصدقة، اللام للعهد، عن صدقة الفطر. وفي الرواية الآتية: كنا نعطيها في زمان النبي -صلى الله عليه وسلم-. وهذا حكمه الرفع، لإضافته إلى زمنه عليه الصلاة والسلام، ففيه إشعار باطلاعه على ذلك وتقريره له، ولاسيما هذه الصورة التي كانت توضع عنده، وتجمع بأمره، وهو الأمر يقبضها وتفرقتها. وقوله في الرواية الآتية "صاعًا من تمر .. إلخ" يقتضي المغايرة بين الطعام وبين ما ذكره بعده، وحكى الخطابي أن المراد بالطعام هنا الحِنطة، وأنه اسم خاص له. قال: ويدل على ذلك ذكر الشعير وغيره من الأقوات، والحنطة أعلاها. فلولا أنه أرادها بذلك، لكان ذكرها عند التفصيل كغيرها من الأقوات، ولاسيما حيث عطفت عليها بحرف أو الفاصلة، وقد قال هو وغيره، وقد كانت لفظة الطعام تستعمل في الحنطة عند الإطلاق، حتى إذا قيل: اذهب إلى سوق الطعام، فهم منه سوق القمح. وإذا غلب العُرف نزل اللفظ عليه، لأن ما غلب استعمال اللفظ فيه، خُطْوره عند الإِطلاق أقرب. ورَدَّ ذلك ابن المنذر، فقال: ظن أصحابنا أن قوله في حديث أبي سعيد "صاعًا من طعام" حجة لمن قال: صاعًا من طعام حنطةٍ. وهذا غلط منه، وذلك أن أبا سعيد أجمل الطعام، ثم فسره. قلت: حديث أبي سعيد لا يتصور أن يكون فيه إجمال وتفسير؛ لأنه عطف "أو صاعًا من تمر" على قوله "أو صاعًا من طعام". ولو كان تفسيرًا لقال بعد قوله "من طعام": تمرًا وشعيرًا الخ. ثم أورد ابن المنذر طريق حفص المذكورة في الباب الآتي قريبًا، وهي ظاهرة فيما قال، ولفظه "كنا نخرج صاعًا من طعام، وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقط والتمر". وأخرج الطحاويّ نحوه وقال فيه: "ولا يخرج غيره" قال: وفيه قوله "فلما جاء معاوية، وجاءت السمراء" دليل على أنها لم تكن قوتًا لهم قبل هذا. فدل على أنها لم تكن كثيرة عندهم، ولا قوتًا، فكيف يتوهم أنهم أخرجوا ما لم يكن موجودًا؟

وأخرج ابن خزيمة والحاكم في صحيحيْهما عن عياض بن عبد الله قال: قال أبو سعيد، وذكروا عنده صدقة رمضان فقال: لا أخرج إلا ما كنت أخرج في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، صاع تمرٍ أو صاع حنطة أو صاع شعير أو صاع أقط. فقال له رجل من القوم: أو مُدَّين من قمح. فقال: لا، تلك قيمة معاوية، مطوية لا أقبلها، ولا أعمل بها. قال ابن خزيمة: ذكر الحنطة في خبر أبي سعيد هذا غير محفوظ، ولا ندري ممن الوهم. وقوله: فقال رجل .. إلخ، قال على أن ذكْر الحنطة في أول القصة خطأ إذ لو كان أبو سعيد أخبر أنهم كانوا يُخرجون منها في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- صاعًا، لما كان الرجل يقول له "أو مُدَّين من قمح". وقد أشار أبو داود إلى أن ذكر الحنطة في هذه الرواية غير محفوظ، وأخرج ابن خزيمة أيضًا عن نافع عن ابن عمر قال: "لم تكن الصدقة على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا التمر والزبيب والشعير، ولم تكن الحنطة". ولمسلم عن عياض عن أبي سعيد: "كنا نخرج من ثلاثة أصناف: صاعًا من تمر أو صاعًا من أقط أو صاعًا من شعير" وكأنه سكت عن الزبيب في هذه الرواية لقلته بالنسبة إلى الثلاثة المذكورة. وهذه الطرق كلها تدل على أن المراد بالطعام في حديث أبي سعيد غير الحنطة، فيحتمل أن تكون الذرة، فإنه المعروف عند أهل الحجاز الآن، وهي قوتٌ غالبٌ لهم. وقد روى الجوزقيّ عن عياض في حديث أبي سعيد "صاعًا من تمر صاعًا من سُلت أو ذُرة" وقال الكرمانيّ: يحتمل أن يكون قوله "صاعًا من شعير .. إلخ" بعد قوله "صاعًا من طعام" من باب عطف الخاص على العام، لكن محل العطف أن يكون الخاص أشرف، وليس الأمر هنا كذلك. وقال ابن المنذر أيضًا: لا نعلم في القمح خبرًا ثابتًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، يعتمد عليه، ولم يكن البر بالمدينة في ذلك الوقت إلا الشيء اليسير منه، فلما كثر في زمن الصحابة، رأوا أنَّ نصف صاع منه يقوم مقام صاع من شعير، وَهُمُ الأئمة فغير جائز أن يعدل عن قولهم إلا إلى قول مثلهم. ثم أسند عن عثمان وعليّ وأبي هريرة وجابر وابن عباس وابن الزبير وأمه أسماء بنت أبي بكر بأسانيد صحيحة "أنهم رأوا أن في زكاة الفطر نصف صاعٍ من قمحٍ" وهذا مصير منه إلى اختيار ما ذهب إليه الحنفية، لكن حديث أبي سعيد دالٌّ على أنه لم يوافق على ذلك، وكذلك ابن عمر، فلا إجماع في المسألة خلافًا للطحاوي، وكأن الأشياء التي ثبت ذكرها في حديث أبي سعيد، لما كانت متساوية في مقدار ما يخرج منها مع ما يخالفها في القيمة، دل على أن المراد إخراج هذا المقدار من أي جنس كان، فلا فرق بين الحنطة وغيرها، هذه حجة مالك والشافعيّ ومن تبعهما. وأما من جعله نصف صاع منها بدل صاع من شعير، فقد فعل ذلك بالاجتهاد، بناء منه على أن قِيَم ما عدا الحنطة متساوية، وكانت الحنطة إذ ذاك غالية الثمن، لكن لا يلزم، على قولهم، أن تعتبر القيمة في كل زمان، فيختلف الحال ولا ينضبط. وربما لزم في بعض الأحيان إخراج آصُع من حنطة، ويدل على أنهم لحظوا ذلك ما روى جعفر الفريابيّ في كتاب صدقة الفطر أن ابن عباس، لما كان أمير البصرة، أمرهم بإخراج زكاة الفطر، وبين لهم أنها صاع من تمر، إلى أن قال: أو نصف

رجاله خمسة

صاع من بُرّ. قال: فلاما جاء عليّ، ورأى رخص أسعارهم قال: اجعلوها صاعًا من كلٍ، فدل على أنه كان ينظر إلى القيمة في ذلك، ونظر أبو سعيد إلى الكيل كما يأتي. ومن عجيب تأويله قوله إن أبا سعيد ما كان يعرف القمح في الفِطرة، وإن الخبر الذي جاء فيه أنه كان يُخرج صاعًا، أنه كان يخرج النصف الثاني تطوعًا، وأن قوله في حديث ابن عمر "فجعل الناس عدْله مُدَّين من حنطة"، أن المراد بالناس الصحابة، فيكون إجماعًا، وكذا قوله في حديث أبي سعيد عند أبي داود، فأخذ الناس بذلك. وأما قول الطحاويّ إن أبا سعيد كان يخرج النصف الثاني تطوعًا، فلا يخفى تكلفه. رجاله خمسة: مرّ قُبيصة وسفيان في السابع والعشرين من الإيمان، ومرّ زيد بن أسلم في الثاني والعشرين منه، ومرَّ أبو سعيد الخُدريّ في الثاني عشر منه، ومرّ عياض بن عبد الله في التاسع من الحيض. والحديث أخرجه الستة. ثم قال المصنف:

باب صدقة الفطر صاع من طعام

باب صدقة الفطر صاع من طعام في رواية غير أبي ذَرٍّ "صاعًا" بالنصب، ووجه الرفع ظاهر على أنه الخبر، وأما النصب، فبتقدير فعل الإخراج، أي: بابُ إخراج صدقة الفطر صاعًا من طعامٍ، أو على أنه خبر كان الذي حذف، أو ذكر على سبيل الحكاية مما في لفظ الحديث. الحديث الثامن والمئة حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ الْعَامِرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رضي الله عنه يَقُولُ: كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ. قوله: أو صاعًا من شعير، ظاهره أن الطعام غير الشعير وما ذكر معه، وقد مرّ ما فيه مستوفىً في الحديث الذي قبله. وقوله: أو صاعًا من أَقِط، بفتح الهمزة وكسر القاف وفي آخره طاء مهملة، وهو لَبَنٌ مجفف يابس مُستَحْجِر يطبخ به، وربما سكن قافه في الشعر. قال النوويّ: اختلفوا في الأقِط، قيل: لا يجزىء لأنه لا يجب فيه العُشر. وقال الماورديّ: الخلاف فيه في أهل البادية، أما أهل الحضر، فلا يجزئهم، قولًا واحدًا. وقال زين الدين: اختلف قول الشافعيّ في الأقط. وقال ابن دقيق العيد: قد صح الحديث به، وهو يرد قول الشافعيّ. وقال النوويّ في شرح مسلم: ويجزىء الأقِط على المذهب، وقال العَيْنيُّ: وعندنا تجوز صدقة الفطر بالأقط. وفي "التحفة" في الأقط: تعتبر القيمة. وعند مالك تجب صدقة الفطر من تسعة أشياء؛ وهي القمح والشعير والزبيب والسُّلْت والدُّخْن والذرة والأرُزّ والتمر والأقِط. وزاد ابن حبيب العدس فصارت عشرة. رجاله خمسة: مرّ محل مالك وعبد الله بن يوسف في الذي قبله بحديث، ومرّ محل زيد بن أسلم وعياض وأبي سعيد في الذي قبله. لطائف إسناده: فيه التحديث والإخبار في الجمع والعنعنة والسماع والقول. ثم قال المصنف:

باب صدقة الفطر صاعا من تمر

باب صدقة الفطر صاعًا من تمر كذا وقع عند أبي ذَرٍّ بالنصب، لرواية الجميع. الحديث التاسع والمئة حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ قَالَ: أَمَرَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِزَكَاةِ الْفِطْرِ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ رضي الله عنه فَجَعَلَ النَّاسُ عِدْلَهُ مُدَّيْنِ مِنْ حِنْطَةٍ. قوله: حدثنا الليث عن نافع، لم يروَ إلا بالعنعنة، وسماع الليث عن نافع صحيح، ولكن أخرجه الطحاويّ والدارقطنيّ والحاكم وغيرهم، عن الليث عن كثير بن فَرقد عن نافع، وزاد فيه "من المسلمين" كما تقدم، فإن كان محفوظًا احتمل أن يكون الليث سمعه من نافع بدون هذه الزيادة، ومن كثير بن فرقد عنه بها. وقوله: أمر استدل به على الوجوب، وفيه نظر، لأنه يتعلق بالمقدار لا بأصل الإخراج. وقوله: قال عبد الله: فجعل الناس عِدْلَه، بكسر المهملة، أي: نظيره، وقد تقدم القول على هذه الكلمة في باب "الصدقة من كسب طيب". وقوله: مُدَّين من حنطة، أي نصف صاع، وأشار ابن عمر بقوله "الناس" إلى معاوية ومن تبعه، وقد وقع ذلك صريحًا فيما أخرجه الحُميديّ في مسنده عن ابن عُيينة عن أيوب عن نافع بلفظ "صدقة الفطر صاع من شعير أو صاع من تمر". قال ابن عمر: فلما كان معاوية عَدَلَ الناس نصف صاع بُرّ بصاع من شعير، وهكذا أخرجه ابن خُزيمة عن ابن عُيينة، وهو المعتمد، وهو موافق لقول أبي سعيد الآتي، وهو أصرح. وأما ما وقع عند أبي داود عن عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع قال فيه: فلما كان عمر، كَثُرت الحنطة، فجعل عمر نصف صاعٍ حنطةً مكان صاعٍ من تلك الأشياء، فقد حكم مسلم على عبد العزيز فيه بالوهم، وأوضح الرد عليه. وقال ابن عبد البر: قول ابن عُيينة عندي أولى، وزعم الطحاوي أن الذي عدل عن ذلك عمر ثم عثمان وغيرهما، فأخرج عن يسار بن نُمير أن عمر قال له: إني أحلف لا أُعطي قومًا ثم يبدو لي فأفعل، فإذا رأيتني فعلت ذلك، فأَطعم عني عشرة مساكين، لكل مسكين نصفُ صاع من حنطة، أو صاع من تمر أو صاع من شعير. وعن أبي الأشعث قال: خطبنا عثمان فقال: أدوا زكاة الفطر مُدَّين حنصة. وقد مرَّ استيفاء الكلام على هذا قبل بابين.

رجاله أربعة

رجاله أربعة: قد مرّوا، مرّ أحمد بن يونس في التاسع عشر من الإيمان، ومرّ الليث في الثالث من بدء الوحي، ومرّ نافع في الأخير من العلم، ومرَّ ابن عمر في أول الإيمان قبل ذكر حديث منه. أخرجه مسلم وابن ماجه في الزكاة أيضًا، وقوله في الحديث "فجعل الناس" المراد بالناس معاوية، كما وقع التصريح به في مسند الحميديّ، ومعاوية قد مرّ في الثالث عشر من العلم. ثم قال المصنف:

باب صاع من زبيب

باب صاع من زبيب أي: اجزاؤه، وكأنّ البخاريّ أراد بتفريق هذه التراجم الإِشارة إلى ترجيح التخيير في هذه الأنواع، إلا أنه لم يذكر الأقط، وهو ثابت في حديث أبي سعيد كما مرَّ، وكأنه لا يراه مُجزئًا في حال وجدان غيره، كقول أحمد. وحملوا الحديث على أن من كان يخرجه كان قوته إذ ذاك، أو لم يقدر على غيره. والحديث يخالفه، وقد مرّ الكلام عليه في الذي قبله بحديث. الحديث العاشر والمئة حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ سَمِعَ يَزِيدَ بن أبي حكيم الْعَدَنِيَّ قال حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ حَدَّثَنِي عِيَاضُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا نُعْطِيهَا فِي زَمَانِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ، فَلَمَّا جَاءَ مُعَاوِيَةُ وَجَاءَتِ السَّمْرَاءُ قَالَ أُرَى مُدًّا مِنْ هَذَا يَعْدِلُ مُدَّيْنِ. وهذا الحديث قد مرت مباحثه مستوفاة عند أول ذكره في باب "صدقة الفطر صاع من شعير" إلا قوله "فلما جاء معاوية .. " الخ. وزاد مسلم في روايته "فلم يزل يخرجه حتى قدم معاوية حاجًا أو معتمرًا، فكلم الناس على المنبر" زاد ابن خُزيمة: وهو يومئذ خليفة. وقوله: وجاءت السمراء، وهو القمح الشاميّ. وقوله: يعدل مُدين، في رواية مسلم: أرى مُدّين من سمراء الشام تعدل صاعًا من تمر. وزاد: قال أبو سعيد: أما أنا فلا أزال أخرجه أبدًا ما عشت. وفي رواية: فأنكر ذلك. وقال: لا أخرج إلا ما كنت أخرج في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. ولأبي داود من هذا الوجه: لا أخرج أبدًا إلا صاعًا. وقد تقدم ذكر هذه الرواية وما فيها في باب "صدقة الفطر صاع من شعير". ولابن خزيمة، وكان ذلك أول ما ذكر الناس المُدَّين، وهذا يدل على وهن ما تقدم عن عمر وعثمان، إلا أن يحمل على أنه كان لم يطلع على ذلك من قصتهما. قال النوويّ: تمسك بقول معاوية من قال بالمدّين من الحنطة، وفيه نظر، لأنه فعل صحابيّ، قد خالفه فيه أبو سعيد وغيره من الصحابة، ممن هو أطول صحبة منه، وأعلم بحال النبي -صلى الله عليه وسلم-. وقد صرح معاوية بأنه رأيٌ رآه، لا أنه سمعه من النبي -صلى الله عليه وسلم-. وفي حديث أبي سعيد ما كان عليه من شدة

رجاله ستة

الاتباع، والتمسك بالآثار، وترك العدول إلى الاجتهاد مع وجود النص، وفي صنيع معاوية وموافقة الناس له دلالة على جواز الاجتهاد، وهو محمود، لكنه مع وجود النص فاسد الاعتبار. رجاله ستة: قد مرّوا إلا يزيد، مرّ عبد الله بن منير في الستين من الوضوء ومرّ محل سفيان وزيد بن أسلم وعياض وأبي سعيد في الذي قبله بحديثين. وأما يزيد فهو ابن أبي حكيم الكِنانيّ، أبو عبد الله العَدَنيّ، ذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال: مستقيم الحديث. وقال الآجريّ عن أبي داود: لا بأس به. وقال: سألته عنه والفريابيّ، فقال: الفريابي أعلى. وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وكنت قد عزمت على الخروج إليه فخالفني رفيقي، وركب السفينة ولم ينتظرني، فتركت الخروج إلى صنعاء، وخرجت إلى مصر. روى عن عطّاف بن خالد المخزوميّ ومقاتل بن سليمان ومالك والثَّوريّ وغيرهم. وروى عنه إسحاق بن راهويه، وعبد الله بن منير، وسلمة بن شبيب وغيرهم. مات بعد عشرين ومئتين أو فيها. ثم قال المصنف:

باب الصدقة قبل العبد

باب الصدقة قبل العبد قال ابن التين: أي: قبل خروج الناس إلى صلاة العيد وبعد صلاة الفجر. وقال ابن عُيينة عن عكرمة: يُقدِّم الرجل زكاته يوم الفطر بين يدي صلاته، فإن الله يقول {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} ولابن خزيمة عن كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سُئل عن هذه الآية فقال: "نزلت في زكاة الفطر". الحديث الحادي عشر والمئة حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاَةِ. ودَلَّ الحديث على أن المراد بقوله: يوم الفطر، أي: أوله، وهو ما بين صلاة الصبح إلى صلاة العيد. وحمل الشافعيّ ومالك ومن تبعهما التقييدَ بقبل صلاة العيد على الاستحباب، لصدق اليوم على جميع النهار. وقد رواه أبو مَعْشر عن نافع عن ابن عمر بلفظ "كان يأمرنا أن نخرجها قبل أن نصلي، فإذا انصرف قسمه بينهم وقال: اغنوهم عن الطلب". أخرجه سعيد بن منصور، لكنْ أبو معشر ضعيف، ووهم ابن العربيّ في عزو هذه الزيادة لمسلم، وهذا الحديث مرّ مطولًا في الباب الأول، ومرّ الكلام عليه هناك مستوفى. رجاله خمسة: قد مرّوا إلا حفص، مرّ آدم في الثالث من الإيمان، ومرّ موسى بن عقبة في الخامس من الوضوء ومرّ نافع في الأخير من العلم، ومرّ ابن عمر في أول الإيمان قبل ذكر حديث منه. وأما حفص، فهو ابن مَيسرة العقيليّ، أبو عمر الصنعانيّ، سكن عَسْقلان، والأكثرون على أن صنعاء المراد بها صنعاء الشام، لا صنعاء اليمن. قال عبد الله بن أحمد: قال أبي: ليس به بأس. قلت: إنهم يقولون إنه عرض على زيد بن أسلم فقال: ثقة. وقال ابن مُعين: ثقة، إنما يطعن عليه أنه عرضي. وقال أبو زرعة: لا بأس به. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال في موضع آخر: يكتب حديثه، ومحله الصدق. وفي حديثه بعض الوهم. وقال يعقوب بن سفيان: ثقة لا بأس به. وذكره ابن حِبّان في الثقات، وقال الساجيّ: في حديثه ضعف، وشذ الأزديّ فقال: روى عن العلاء بن عبد الرحمن مناكير.

الحديث الثاني عشر والمئة

قال في المقدمة: له في البخاري حديث في الحج عن هشام بن عُروة بمتابعة عمرو بن الحارث، وحديث في زكاة الفطر عن موسى بن عقبة بمتابعة زهير بن معاوية عند مسلم، وحديث في الاعتصام بمتابعة أبي غسان. وفي التفسير عنه بمتابعة سعيد بن أبي هلال عنده، وروى له مسلم والنَّسائيّ وابن ماجه. روى عن زيد بن أسلم وموسى بن عقبة وهشام بن عروة وغيرهم، وروى عنه الثَّوريُّ، وهو أكبر منه، وآدم بن أبي إياس وابن وهب وغيرهم. مات سنة مئة وإحدى وثمانين. أخرجه أبو داود والتِّرمذيُّ ومسلم والنَّسائيُّ في الزكاة. الحديث الثاني عشر والمئة حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ عَنْ زَيْدٍ عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا نُخْرِجُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ وَكَانَ طَعَامَنَا الشَّعِيرُ وَالزَّبِيبُ وَالأَقِطُ وَالتَّمْرُ. وهذا الحديث مرّ الكلام عليه عند ذكره في باب "صدقة الفطر صاع من شعير". رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ معاذ بن فَضالة في التاسع عشر من الوضوء ومرّ أبو عمر حفص بن ميسرة في الذي قبله، ومرَّ زيد بن أسلم في الثاني والعشرين من الإيمان، ومرّ أبو سعيد في الثاني عشر منه، ومرّ عياض في التاسع من الحيض. ثم قال المصنف:

باب صدقة الفطر على الحر والمملوك

باب صدقة الفطر على الحر والمملوك قيل في هذه الترجة تكرار لما تقدم من قوله "باب صدقة الفطر على العبد وغيره من المسلمين" وأجاب ابن رشيد باحتمالين: أحدهما أن يكون أراد تقوية معارضة العموم في قوله "والملوك" لمفهوم قوله "من المسلمين" أو أراد أن زكاة العيد من حيث هو مال لا من حيث هو نفس، وعلى كل تقدير، فيستوي في ذلك مسلمهم وكافرهم. وقال الزين بن المنير: غرضه من الأُولى أن الصدقة لا تخرج عن كافر، ولهذا قيدها بقوله "من المسلمين" وغرضه من هذه تمييز من تجب عليه أو عنه بعد وجود الشرط المذكور، ولذلك استغنى عن ذكره فيها. ثم قال: وقال الزهريّ في المملوكين للتجارة يزكي في التجارة، ويزكي في الفطر. وما نقله المصنف عن الزهري هو قول الجمهور. وقد مرّ عن النخعيّ والثَّوريّ والحنفية أنه لا تلزم السيد زكاة الفطر عن عبيد التجارة، لأن عليه فيهم الزكاة، ولا تجب في مال واحد زكاتان، وهذا التعليق وصل بعضه أبو عبيد في كتاب الأموال، والزُّهريّ مرّ في الثالث من بدء الوحي. الحديث الثالث عشر والمئة حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ فَرَضَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- صَدَقَةَ الْفِطْرِ أَوْ قَالَ رَمَضَانَ عَلَى الذَّكَرِ وَالأُنْثَى، وَالْحُرِّ وَالْمَمْلُوكِ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، فَعَدَلَ النَّاسُ بِهِ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ. فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يُعْطِي التَّمْرَ، فَأَعْوَزَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنَ التَّمْرِ فَأَعْطَى شَعِيرًا، فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُعْطِي عَنِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، حَتَّى إِنْ كَانَ يُعْطِي عَنْ بَنِيَّ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يُعْطِيهَا الَّذِينَ يَقْبَلُونَهَا، وَكَانُوا يُعْطُونَ قَبْلَ الْفِطْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ. وقوله: فكان ابن عمر يعطي التمر، في الموطأ عن نافع كان ابن عمر "لا يخرج إلا التمر في زكاة الفطر. إلا مرة واحدة، فإنه أخرت شعيرًا" ولابن خزيمة عن أيوب "كان ابن عمر إذا أعطى أعطى التمر إلا عامًا واحدًا"، وقوله: فأعوز، بالمهملة والزاي، أي: احتاج، يقال: أعوزني الشيء إذا احتجت إليه فلم أقدر عليه. وفيه دلالة على أن التمر أفضل ما يخرج في صدقة الفطر، وقد روى جعفر الفريابي عن أبي مُجْلز قال: "قلت لابن عمر: قد أوسع الله، والبُر أفضل من التمر، أفلا تعطي البُر؟ قال: لا أُعطي إلا كما يعطي أصحابي" ويستنبط من ذلك أنهم كانوا يخرجون من أعلى

رجاله خمسة

الأصناف التي يقتات بها، لأن التمر أعلى من غيره مما ذكر في حديث أبي سعيد. وإن كان ابن عمر فهم منه خصوصية التمر بذلك. وقوله: حتى إن كان يعطي عن بني، زاد في نسخة الصغاني: قال أبو عبد الله: يعني بني نافع. قال الكرمانيّ: روي بفتح أبي وكسرها، وشرط المفتوحة قد، وشرط المكسورة اللام. فإما أن يحمل على الحذف أو تكون أن مصدرية، وكان زائدة. وقول نافع هذا هو شاهد الترجمة. والحق أنّ أن مخففة من الثقيلة، أي: أنه كان. ووجه الدلالة فيه أن ابن عمر راوي الحديث، فهو أعلم بالمراد منه من غيره، وأولاد نافع إن كان رزقهم. وهو بعد في الرق، فلا إشكال. وإن كان رزقهم بعد أن أعتق فلعل ذلك كان من ابن عمر على سبيل التبرع، أو كان يرى وجوبها على جميع من يمونه، ولو لم تكن نفقته واجبة عليه. وقد روى البيهقيّ عن نافع أن ابن عمر كان يؤدي زكاة الفطر عن كل مملوك له في أرضه وغير أرضه، وعن كل إنسان يعوله من صغير وكبير، وعن رقيق امرأته. وكان له مُكاتِب، فكان لا يؤدي عنه. وروى ابن المنذر عن نافع أن ابن عمر كان يخرج زكاة الفطر عن أهل بيته كلهم، حرهم وعبدهم، صغيرهم وكبيرهم، مسلمهم وكافرهم من الرقيق. وهذا يقوّي بحث ابن رشيد المتقدم في الترجمة، وقد حمله ابن المنذر على أنه كان يعطي عن الكافر منهم تطوعًا. وقوله: وكان ابن عمر يعطيها للذين يقبلونها، أي الذين ينصبهم الإِمام لقبضها، وبذلك جزم ابن بطال، وقال ابن التيمي: معناه من قال أنا فقير. والأول أظهر، ويؤيده ما وقع في نسخة الصفاني عقب الحديث. "قال أبو عبد الله، هو المصنف: كانوا يعطون للجمع لا للفقراء. وفي رواية ابن خزيمة عن أيوب: قلت متى كان ابن عمر يعطي؟ قال: إذا قعد العامل. قلت: متى يقعد العامل؟ قال: قبل الفطر بيوم أو يومين. وهذا معنى قوله "وكانوا يُعْطون قبل الفطر بيوم أو يومين". ولمالك في الموطأ عن نافع أن ابن عمر كان يبعث زكاة الفطر إلى الذي تجمع عنده قبل الفطر بيومين أو ثلاثة، وأخرجه الشافعيّ عنه، وقال: هذا حسن، وأنا استحسنه، يعني: تعجيلها قبل يوم الفطر. ويدل على ذلك ما أخرجه البخاريّ في الوكالة وغيرها عن أبي هريرة قال: "وكَّلني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحفظ زكاة رَمضان .. الحديث". وفيه أنه أمسك الشيطان ثلاث ليال، وهو يأخذ من المر، فدل على أنهم كانوا يعجلونها. واستدل به الجوزقيّ على جواز تأخيرها عن يوم الفطر، وهو محتمل للأمرين، ولم يظهر لي هذا الاحتمال. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ أبو النعمان محمد بن الفضل في الأخير من الإيمان، ومرّ حماد بن زيد في الرابع والعشرين منه، ومرّ أيوب في التاسع منه، ومرّ ابن عمر في أوله قبل ذكر حديث منه، ومرّ نافع في الأخير من العلم. ثم قال المصنف:

باب صدقة الفطر على الصغير والكبير

باب صدقة الفطر على الصغير والكبير الحديث الرابع عشر والمئة حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- صَدَقَةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَالْحُرِّ وَالْمَمْلُوكِ. وهذا الحديث قد مرّ الكلام عليه مستوفىً في أول باب من أبواب الفطرة. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرّ مسدد ويحيى القطان في السادس من الإيمان، ومرّ عبيد الله العمري في الرابع عشر من الوضوء، ومرّ محل نافع وابن عمر في الذي قبله. أخرجه أبو داود عن مسدد أيضًا. خاتمة اشتمل كتاب الزكاة من الأحاديث المرفوعة على مئة حديث واثنين وسبعين حديثًا، الموصول منها مئة وحديث وتسعة عشر حديثًا، والبقية متابعة ومعلقة، المكرر منها فيه وفي ما مضى مئة حديث سواء، والخالص اثنان وسبعون حديثًا، وافقه مسلم على تخريجها سوى سبعة عشر حديثًا، وهي حديث أبي ذَرٍّ مع عثمان ومعاوية، وحديث ابن عمر في ذم الذي يكنز، وحديث أبي هريرة "لا تقوم الساعة حتى يكثر فيكم المال" وحديث حاتم "جاء رجلان أحدهما يشكو العَيْلة" وحديث عائشة "أيّنا أسرع لحوقًا بك" وحديث مَعْن بن يزيد في الصدقة على الولد، وحديث أبي بكر الصديق في إيثاره بماله، وحديث أبي هريرة "الصدقة عن ظهر غِنىً" وحديث أنس عن أبي بكر في الزكاة، وحديث ابن عمر "لا يجمع بين مفرق ولا يفرق بين مجمّع" وحديث أبي سعيد في قصة زينب امرأة ابن مسعود، وحديث أبي لاس في ركوب إبل الصدقة، وحديث الزبير "لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب" وحديث سهل بن سعد "أُحُد جبل يحبنا ونحبه" وحديث ابن عمر "فيما سقت السماء العُشر" وحديث الفضل بن عباس في "الصلاة في الكعبة" وحديث أبي هُريرة في قصة الرجل من بني إسرائيل. وفيه من الآثار عن الصحابة والتابعين عشرون أثرًا، منها أثر ابن عمر في قوله لحكيم بن حزام، لما أبى أن يأخذ حقه من الفيء، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. تم بعون الله ويليه كتاب الحج

كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري تأليف الامام المحدث العلامة الشيخ محمد الخضر الجكينى الشنقيطي (المتوفى سنة 1354هـ) الجزء الثالث عشر مؤسسة الرسالة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1415هـ - 1995م مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع مؤَسَّسَة الرّسَالة بيروت - شارع سوريَا - بنَاية صَمَدي وَصَالحَة هَاتف: 603243 - 815112 - صَ. بَ: 7460 - بَرقيًا: بيُوشرَان

كتاب الحج

كتاب الحج باب وجوب الحج وفضله وقول الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}، كذا لأبي ذر، وسقط لغيره البسملة وباب، ولبعضهم قوله، وقول الله تعالى، ونفي رواية الأصيلي: كتاب المناسك، وهو جمع منسك بفتح السين وكسرها، وهو التعبد، ويقع على المصدر والزمان والمكان، ثم سميت أمور الحج كلها مناسك. والمنسك: الذبح وقد نسك ينسك نسكًا إذا ذبح، والنسيكة الذبيحة، وجمعها نسك والمنسك أيضًا: الطاعة والعبادة، وكلُّ ما تُقرّب به إلى الله عَزَّ وَجَلَّ. والنسك: ما أَمرت به الشريعة والورع، وما نهت عنه. والناسك: العابد، وسئل ثعلب عن الناسك ما هو؟ فقال: هو مأْخوذٌ من النسيكة، وهي سبيكة الفضة المصفَّاة، كان الناسك صفَّى نفسه لله تعالى. وقد مرَّ عند كتاب الإيمان -أول كتاب- ما يتعلق بالكتاب. وقدَّم المصنف كتاب الحج عقب الزكاة على كتاب الصوم؛ لأن للحج اشتراكًا مع الزكاة في كونهما عبادة مالية، ولا يقال: كان ينبغي إذًا أن يذكر الصيام عقب الصلاة؛ لأن كُلاًّ منهما عبادة بدنية، لأنَّا نقول: قُدِّمت الزكاة عقب الصلاة لأنَّها قرينتها في الكتاب والسنة، وهي ثالثةُ أركان الإِسلام. ورتَّب المصنِّف الحج على مقاصد متناسبة، فبدأ بما يتعلق بالمواقيتِ، ثم بدخول مكة وما معها، ثم بصفة الحج، ثم بأحكام العمرة، ثم بمحرَّمات الإحرام، ثم بفضل المدينة. ومناسبة هذا الترتيب غير خفية على الفَطِن. وأصل الحج في اللغة: القصد، وقال الخليل: كثرة القصد إلى مُعظَّم، ومنه قول الشاعر: وأَشهد من عوف حلولًا كثيرة ... يحجُّون سِبَّ الزِبرقان المزعفر

والسِب بكسر المهملة: العمامة، والزبرقان بكسر الزاي: لقب الحصين، وأصله القمر، وسُمِّي حج البيت حجًّا؛ لأن الناس يأتونه كل سنة. وفي الشرع: القصد إلى البيت الحرام على وجه التعظيم بأعمال مخصوصة، وسببه البيت لأنه يضاف إليه، ولهذا لا يجب في العمر إلاَّ مرَّةً واحدة، وهو بفتح المهملة وبكسرها لغتان. نقل الطبري أن الكسر لغة أهل نجد، والفتح عن غيرهم. ونقل عن حسين الجعفي أن الفتح الاسم، والكسر المصدر، وعن غيره عكسه، ووجوب الحج معلوم من الدين بالضرورة. وأجمعوا على أنه لا يتكرَّر إلا لعارضٍ كالنذر. واختُلف هل هو على الفور أو التراخي وهو مشهور، وفي وقت ابتداء فرضه خلاف، فقيل: قبل الهجرة، وهو شاذ، وقيل: بعدها، واختُلِف في سنته، فالجمهور على أنها سنة ستٍّ لأنها نزل فيها قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}، وهذا ينبني على أن المراد بالإِتمام ابتداء الفرض، ويؤيده قراءة علقمة ومسروق وإبراهيم النخعي بلفظ: وأقيموا، أخرجه الطبري بأسانيد صحيحة عنهم، وقيل: المراد بالإِتمام: الإِكمال بعد الشروع، وهذا يقتضي تقدم فرضه قبل ذلك، وقد وقع في قصة ضمام ذكر الأمر بالحج، وكان قدومه على ما ذكر الواقدي سنة خمس، وهذا يدل -إن ثبت- على تقدمه على سنة خمس، أو وقوعه فيها، قال الطرطوشي: وقد روي أن قدومه على النبي عليه الصلاة والسلام كان سنة تسع، وذكر الماوردي أنَّه فرض سنة ثمانٍ، وقال إمام الحرمين: سنة تسع أو عشرة، وقيل: سنة سبع. وأمَّا فضله فمشهور، ولاسيما في الوعيد على تركه في الآية، وسيأتي في باب مفرد، ومن الأحاديث الواردة في فضله ما أخرجه أحمد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "يا أَيُّها الناس، قد فُرض عليكم الحجّ فحجُّوا"، فقال رجل: أَكُلَّ عامٍ يا رسول الله؟ فسكت، حتى قالها ثلاثًا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لو قُلتُ نعم لوجبت، ولما استطعتم"، ثم قال: "ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلَكم بكثرةِ سؤالهم واختلافهم على أنبيائِهم، وإِذا أَمرتُكم بشيءٍ فأتوا منه ما استعتُمْ، وإذا نَهيتُكُم عن شيءٍ فدعوه" رواه مسلم، وفي روايته: فقام الأقرع بن حابس، فقال: يا رسول الله أفي كل عام؟ الحديث. وعن أحمد، عن علي رضي الله تعالى عنه، قال: لما نزلت: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} قالوا: يا رسول الله أفي كل عام؟ الحديث. وأشار المصنف بذكر هذه الآية الكريمة إلى أنَّ وجوب الحج قد ثبت بهذه الآية، هذا

الحديث الأول

عند الجمهور، وقيل: ثبت وجوبه بقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}، وقد مرَّ ما في ذلك. وقوله: "حجّ البيت" مرفوع على الابتداء، خبره مقدم. "ولله على الناس"، أي: ولله فرضٌ واجبٌ على الناس؛ لأن اللام لام الإِيجاب. وقوله: "من استطاع" بدل الناس في محل الجر، والتقدير: وللهِ على من استطاع من الناس حج البيت، والاستطاعة: هي الزاد والراحلة وتخلية الطريق، فقد روى الحاكم -وقال: صحيح على شرط مسلم- وعن أنس، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "السبيل الزاد والراحلة"، وروى الترمذي عن ابن عمر، قال: قام رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: من الحاج يا رسول الله؟ قال: "الشعث التفل"، فقام آخر، فقال: أيُّ الحج أفضل يا رسول الله؟ فقال: "العج الثج"، فقام آخر فقال: ما السبيل يا رسول الله؟ قال: "الزاد والراحلة". وقال ابن أبي حاتم: قد روي عن ابن عباس، وأنس، والحسن، ومجاهد، وعطاء، وسعيد بن جبير، وقتادة نحو ذلك. وروى ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}، قال: من ملك ثلاثمائة درهم فقد استطاع إليه سبيلًا، وعن عكرمة مولاه، قال: من استطاع إليه سبيلًا، السبيل: الصحة، وقوله: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}، قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد، أي: ومن جحد فرضية الحج فقد كفر، والله غني عنه، وقيل: من لم يرج ثوابه ولم يخف عقابه، فقد تركه، وقيل: إذا أمكنه الحج ولم يحج حتى مات. وروى ابن مردويه عن علي رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من ملك زادًا وراحلة ولم يحج بيت الله، فلا يضره مات يهوديًا أو نصرانيًا"، وذلك بأن الله تعالى قال: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} إلى آخره، ورواه الترمذي أيضًا، وقال: هذا حديث غريب، وفي إسناده مقال. وروى الأسماعيلي عن عبد الرحمن بن غنم سمع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، يقول: من أطاق الحج فلم يحج، فسواءٌ عليه يهوديًا مات أو نصرانيًا. وهذا إسناد صحيح إلى عمر، قاله ابن كثير في تفسيره. أ. هـ. الحديث الأول حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ الْفَضْلُ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ، فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَجَعَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-

يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الآخَرِ، فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا، لاَ يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ؟ عَنْهُ قَالَ: "نَعَمْ". وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ. لم يورد المصنف في الباب غير حديث الخثعمية هذا، وشاهد الترجمة منه خفيٌّ، وكأنَّه أراد إثبات فضله من جهة تأكيد الأَمر به، بحيث إن العاجز عن الحركة إليه يلزمه أن يستنيب غيره، ولا يُعذَر بترك ذلك، والمراد منه هنا تفسير الاستطاعة المذكورة في الآية، وأنها لا تختص بالزاد والراحلة، بل تتعلق بالمال والبدن؛ لأنها لو اختصت للزم المعضوب، أي: الزمن الذي لا حراك به أن يشد على الراحلة، ولو شق عليه. قال ابن المنذر: لا يثبت، الحديث الذي فيه ذكر الزاد والراحلة، والآية الكريمة عامة ليست بمجملة، فلا تفتقر إلى بيان، وكأنه كلَّف كل مستطيع قدر بمال أو بدن. والناس قسمان: من يجب عليه الحج، ومن لا يجب، الثاني: العبد وغير المكلف وغير المستطيع. ومن لا يجب عليه إما أن يجزئه المأْتي به أو لا، الثاني: العبد، وغير المكلف، والمستطيع إما أن تصح مباشرته منه أو لا، الثاني: غير المميز، ومن لا تصح مباشرته إما أن يباشر عنه غيره أو لا، الثاني: الكافر. فتبين أنه لا يشترط لصحة الحج إلا الإِسلام. وقوله: عن ابن عباس، قال: كان الفضل ... الخ، هكذا رواه مالك، وأكثر الرواة عن الزهري فلم يقولوا فيه عن الفضل. وروى ابن ماجه عن ابن عباس: أخبرني حصين بن عوف الخثعمي، قلت: يا رسول الله، إن أبي أدركه الحج ولا يستطيع أن يحج -الحديث. وخالف ابن جريج مالكًا، وتابعه معمر، فروياه عن ابن عباس، عن الفضل بن عباس، قال الترمذي: سالت محمدًا -يعني البخاري- عن هذا، فقال: أصح شيء فيه ما روى ابن عباس عن الفضل، قال: فيحتمل أن يكون ابنُ عباس سمعه من الفضل وغيره، ثم رواه بغير واسطة، وإنما رجَّح البخاري الرواية عن الفضل لأنه كان ردفَ النبي -صلى الله عليه وسلم- حينئذٍ، وكان ابن عباس قد تقدم مع الضعفة من مزدلفة إلى مني. وفي باب التلبية والتكبير عن عطاء، عن ابن عباس: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أردف الفضل، فأخبر الفضل أنه لم يزل يُلبي حتى رمى الجمرة، فكأَنَّ الفضل حدَّث أخاه بما شاهده

في تلك الحالة، ويحتمل أن يكون سؤال الخثعمية وقع بعد رمي جمرة العقبة، فحضره ابن عباس فنقله ابن عباس تارةً عن أخيه لكونه صاحب القصة، وتارة عمَّا شاهده، ويؤيد ذلك ما رواه الترمذي وأحمد وابنه عبد الله والطبري من حديث علي مما يدلّ على أن السؤال المذكور وقع عند المنحر بعد الفراغ من الرمي، وأن العباس كان حاضرًا، ولفظ أحمد عندهم عن علي، قال: وقف النبي -صلى الله عليه وسلم- بعرفة، فقال: "هذه عرفة وهو الموقف"، فذكر الحديث، وفيه: فأتى الجمرة فرماها، ثم أتى المنحر، فقال: "هذا المنحر، وكلّ منىً منحر"، واستفتته -وفي رواية عبد الله: ثم جاءته- جارية شابة من خثعم، فقالت: إن أبي شيخ كبير قد أدركته فريضة الله في الحج، أفيجزىء أن أحج عنه؟ قال: "حجي عن أبيك"، قال: ولوى عنق الفضل، فقال العباس: يا رسول الله لويت عنق ابن عمك، قال: "رأيت شابًا وشابّةً فلم آمن عليهما الشيطان". وظاهر هذا أن العباس كان حاضرًا لذلك فلا مانع أن يكون ابنه عبد الله كان معه. وقوله: فجاءته امرأة من خثعم، وخثعم قبيلة مشهورة باليمن ابن أنمار بن أراش بن عمرو بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان. وقوله: "فجعل الفضل ينظر إليها" في رواية شعيب، وكان الفضل رجلًا وضيئًا، أي: جميلًا، وأقبلت امرأة من خثعم وضيئة، فطفق الفضل ينظر إليها، وأعجبه حسنها. وقوله: "يصرف وجه الفضل" في رواية شعيب، فالتفت النبي -صلى الله عليه وسلم- والفضل ينظر إليها، فأخلف بيده، فأخذ بذقن الفضل فدفع وجهه عن النظر إليها، وهذا هو المراد في حديث علي، فلوى عنق الفضل، وفي رواية الطبري من حديث علي: وكان الفضل غلامًا جميلًا، فإذا جاءت الجارية من هذا الشق، صرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجه الفضل إلى الشق الآخر، فإذا جاءت إلى الشق الآخر صرف وجهه عنه، وقال في آخره: رأيت غلامًا حديثًا وجارية حدثة، فخشيت أن يدخل بينهما الشيطان. وقوله: "إن فريضة الله أدركت أبي شيخًا كبيرًا" في رواية عبد العزيز وشعيب أنَّ فريضة الله على عباده في الحج، وفي رواية النسائي عن يحيى بن أبي إسحاق عن سليمان بن يسار: إنَّ أبي أدركه الحج، واتَّفقت الروايات كلها عن ابن شهاب أن السائلة كانت امرأة، وأنها سألت عن أبيها، وخالفه يحيى بن أبي إسحاق، عن سليمان، فاتفقت الرواة عنه على أن السائل رجل، ثم اختلفوا عليه في إسناده ومتنه.

أما إسناده: فهشيم، عنه، عن سليمان، عن عبد الله بن العباس. وقال محمد بن سيرين: عنه، عن سليمان، عن الفضل، أخرجهما النسائي. وقال ابن علية: عنه، عن سليمان، حدثني أحد ابني العباس، إمَّا الفضل، وإما عبد الله، أخرجه أحمد. وأما المتن: فقال هشيم: أن رجلًا سأل، فقال: إن أبي مات. وقال ابن سيرين: جاء رجل فقال: إن أُمي عجوزٌ كبيرة. وقال ابن علية: جاء رجل، فقال: إن أبي أو أمي. وخالف الجميع معمر، عن يحيى بن أبي إسحاق، فقال: أن امرأة سألت عن أمها، وهذا الاختلاف كله عن سليمان بن يسار، وسياق غيره قد رواه كريب عن ابن عباس، عن حصين بن عوف الخثعمي، قال: قلت يا رسول الله إن أبي أدركه الحج، ورواه عطاء الخراساني عن أبي الغوث بن حصين الخثعمي، أنه استفتى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن حجة كانت على أبيه .. أخرجهما ابن ماجه، والرواية الأولى أقوى إسنادًا، وهذا يوافق رواية هشيم في أنَّ السائل عن ذلك رجل سأل عن أبيه، ويوافقه ما روى الطبراني عن عبد الله بن شداد، عن الفضل بن عباس "أن رجلًا، قال: يا رسول الله إنَّ أبي شيخٌ كبير"، ويوافقهما مرسل الحسن عند ابن خزيمة، فإنه أخرجه عن عوف، عن الحسن، قال: بلغني أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتاه رجلٌ، فقال: أبي شيخ كبير، أدرك الإِسلام لم يحج، الحديث، ثم ساقه عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، قال مثله، إلا أنه قال: إن السائل سأل عن أمه. والذي يظهر من مجموع هذه الطرق أن السائل رجل، وكانت ابنته معه، فسألت أيضًا، والمسؤول عنه أبو الرجل وأمه جميعًا، ويقرب ذلك ما رواه أبو يعلى بإسناد قوي عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن الفضل بن العباس، قال: كنت ردف النبي -صلى الله عليه وسلم- وأعرابي معه بنتٌ له حسناء، فجعل الأعرابي يَعرضها لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجاء أن يتزوجها، وجعلتُ ألتفت إليها، ويأخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- برأسي فيلويه، فكان يُلبي حتى رمى جمرة العقبة، فعلى هذا، فقول الشابة: "أن أبي" لعلها أرادت به جدها؛ لأن أباها كان معها، وكأنه أمرها أن تسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- ليسمع كلامها ويراها رجاء أن يتزوجها، فلما لم يرضها، سأل أبوها عن أبيه، ولا مانع من أن يسأل أيضًا عن أمه. وتحصَّل أيضًا من هذه الروايات أنَّ اسم الرجل حصين بن عوف الخثعمي، وأما في الرواية الأخرى أنه أبو الغوث بن حصين، فإنَّ إسناده ضعيف، ولعله كان فيه عن أبي الغوث

حصين، فزيد في الرواية ابن أو أبا الغوث أيضًا، كان مع أبيه حصين، فسأل كما سأل أبوه، وأخته، والمرأة الخثعمية السائلة لم تسم، ووقع السؤال عن هذه المسألة من شخص آخر، وهو أبو رزين بفتح الراء وكسر الزاي العقيلي بالتصغير، واسمه لقيط بن عامر، ففي "السنن"، و"صحيح ابن خزيمة" وغيرهما من حديثه أنه قال: يا رسول الله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة، قال: "حج عن أبيك واعتمر"، وهذه قصة أخرى، ومن وحَّد بينها وبين حديث الخثعمي، فقد أبعد وتكلف. وقوله: "شيخًا كبيرًا لا يَثبُت على الراحلة" قال الطيبي: شيخًا حال، ولا يثبت صفة له، ويحتمل أن يكون حالًا أيضًا، ويكون من الأحوال المتداخلة، والمعنى أنه وجب عليه الحج بأن أسلم، وهو بهذه الصفة. وقوله: "وهو لا يثبت"، في رواية عبد العزيز وشعيب: لا يستطيع أن يستوي، وفي رواية ابن عيينة: لا يستمسك على الرحل، وفي رواية يحيى بن أبي إسحاق: وإن شددته خشيت أن يموت، وكذا في مرسل الحسن، وحديث أبي هريرة عند ابن خزيمة بلفظ: وإن شددته بالحبل على الراحلة خشيت أن أقتله. وهذا يفهم منه أن من قدر على غير هذين الأمرين من الثبوت على الراحلة أو الأمن عليه من الأذى لو ربط لم يرخص له في الحج عنه كمن يقدر على محمل موطأ كالمحفة. وقوله: "أفأحج عنه؟ "، أي: أيجوز لي أن أنوب عنه، فأحج عنه؛ لأن ما بعد الفاء الداخلة عليها الهمزة معطوف على مقدَّر، وفي رواية عبد العزيز وشعيب: فهل يقضي عنه؟، وفي حديث علي: هل يجزىء عنه؟، وفي حديث أبي هريرة: فقال: احجُج عن أبيك. وفي الحديث جواز الحج عن غيره إذا كان معضوبًا، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، والثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق. وقال مالك والليث والحسن بن صالح: لا يحج أحد عن أحدٍ إلا عن ميّت لم يحج حجة الإِسلام. وحاصل ما في مذهب مالك ثلائة أقوال: مشهورها: لا يجوز، ثانيها: يجوز من الولد، ثالثها: يجوز إن أوصى به. وعن النخعي وبعض السلف: لا يصح الحج عن ميت ولا عن غيره، وهي رواية عن مالك وإن أوصى به. وفي "مصنف ابن أبي شيبة" عن ابن عمران، قال: لا يحج أحد ولا يصم أحد عن أحد،

وكذا قال إبراهيم النخعي. وقال الشافعي والجمهور: يجوز الحج عن الميت عن فرضه ونذره سواء أوصى أو لم يوص، وهو واجب في تركته، واجب على وليه أن يجهز من يحج عنه من رأس ماله، ويلتحق بالحج كل حق ثبت في ذمته من كفارة أو نذر، أو زكاة أو غير ذلك، وهو مقدم على دين الآدمي على أحد أقوال الشافعي، وقيل بالعكس، وقيل: هما سواء. ونقل ابن المنذر وغيره الإِجماع على أنه لا يجوز أن يستنيب من يقدر على الحج بنفسه في الحج الواجب. وأما النفل فيجوز عند أبي حنيفة خلافًا للشافعي، وعن أحمد روايتان، ولم يخالف في جواز حج الرجل عن المرأة، والمرأة عن الرجل إلا الحسن بن صالح، واستدل الكوفيون بعمومه على جواز صحة حج من لم يحج نيابة عن غيره، وخالفهم الجمهور فخصوه بمن حج عن نفسه، واستدلوا بما في "السنن" و"صحيح ابن خزيمة" وغيره عن ابن عباس أيضًا، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى رجلًا يلبي عن شبرمة، فقال: "أحججت عن نفسك؟ " فقال: لا، قال: "هذه عن نفسك، ثم احجج عن شبرمة". وأجاب المالكية عن حديث الباب بأن ذلك وقع من السائل على جهة التبرع، وليس في شيء من طرقه تصريح بالوجوب، وبأنها عبادة بدنية، فلا تصح النيابة فيها كالصلاة، وقد نقل الطبري وغيره الإجماع على أن النيابة لا تدخل في الصلاة، قالوا: ولأن العبادات فرضت على جهة الابتلاء، وهو لا يوجد في العبادات البدنية إلا بإتعاب البدن، فيه يظهر الانقياد أو النفور، بخلاف الزكاة، فإن الابتلاء فيها بنقص المال، وهو حاصل بالنفس والغير، وأجيب بأن قياس الحج على الصلاة لا يصح، لأن عبادة الحج بدنية مالية معًا فلا يترجح إلحاقها بالصلاة على إلحاقها بالزكاة، ولهذا قال المازري: من غلَّب حكم البدن في الحج ألحقه بالصلاة، ومن غلّب حكم المال ألحقه بالصدقة، وقد أجاز المالكية الحج عن الغير إذا أوصى به، ولم يجيزوا ذلك في الصلاة. وبأنَّ حصر الابتلاء في المباشرة ممنوع؛ لأنه يوجد في الأَمر من بذله المال في الأجرة. وقال عياض: لا حجة للمخالف في حديث الباب، لأن قوله: ان فريضة الله على عباده، الخ، معناه أن إلزام الله عباده بالحج الذي وقع بشرط الاستطاعة صادف أبي بصفة من لا يستطيع فهل أحج عنه؟ أي: هل يجوز لي ذلك؟ أو: هل فيه أجر ومنفعة؟ فقال: نعم، وتُعُقِّب بأنَّ في بعض طرقه التصريح بالسؤال عن الإجزاء، فيتم الاستدلال. وتقدم في بعض طرق مسلم أن أبي عليه فريضة الله في الحج. وفي رواية

لأحمد: والحج مكتوب عليه. وادَّعى بعضهم أنَّ هذه القصة مختصة بالخثعميَّة، كما اختص سالم مولى أبي حذيفة بجواز إرضاع الكبير، حكاه ابن عبد البر، وتعقب بأنَّ الأصل عدم الخصوصية، واحتج بعضهم لذلك بما رواه عبد الملك بن حبيب صاحب "الواضحة" بإسنادين مرسلين، فزاد في الحديث: "حج عنه، وليس لأحدٍ بعده"، ولا حجة فيه لضعف الإسنادين مع إرسالهما، وقد عارضه قوله في حديث الجهنية الآتي: "اقضوا الله، فالله أحق بالقضاء". وقال القرطبي: رأى مالك أن ظاهر حديث الخثعمية مخالف لظاهر القرآن: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}، وأن الأصل في الاستطاعة هي القوة بالبدن، قال تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا}، فرجَّح ظاهر القرآن، ولا شك في ترجيحه من جهة تواتره، ومن جهة أن القول المذكور قول امرأة ظنَّتْ ظنّاً، ولا يقال قد أجابها النبي -صلى الله عليه وسلم- على سؤالها، ولو كان ظنها غلطًا لبيّنه لها؛ لأنَّا نقول: إنما أجابها على قولها: أفأحج عنه؟ قال: "حجي عنه"، لما رأى من حرصها على إيصال الخير والثواب لأبيها، وتعقب بأن في تقرير النبي -صلى الله عليه وسلم- لها على ذلك حجة ظاهرة. وأما ما رواه عبد الرزاق عن ابن عباس، فزاد في الحديث: "حُجَّ عن أبيك، فإن لم يزده خيرًا لم يزده شرًا"، فقد جزم الحفاظ بأنها رواية شاذة، وعلى تقدير صحتها فلا حجة فيها للمخالف. ومن فروع المسألة أن لا فرق بين من استقر الوجوب في ذمته قبل العضب، أو طرأ عليه خلافًا للحنفية، وللجمهور ظاهر قصة الخثعمية. وأنَّ من حج عن غيره وقع الحج عن المستنيب خلافًا لمحمد بن الحسن، فقال: يقع عن المباشرة، وللمحجوج عنه أجر النفقة. وعند المالكية: يقع نافلة للأجير، ولمن حج عنه أجر النفقة والدعاء، واختلفوا فيما إذا عوفي المعضوب، فقال الجمهور: لا يجزئه، لأنه تبين أنه لم يكن ميؤوسًا منه، وقال أحمد وإسحاق: لا تلزمه الإعادة لئلا يفضي إلى إيجاب حجتين، واتفق من أجاز النيابة في الحج على أنَّها لا تجزىء في الفرض، إلا عن موت أو عضب، فلا يدخل المريض لأنَّه يُرجى برؤه، ولا المجنون لأنه ترجى إفاقته، ولا المحبوس لأنه يرجى خلاصه، ولا الفقير لأنه يمكن استغناؤه. وفيه جواز الارتداف، والردف والرديف الراكب خلف الراكب بإذنه، وردف كل شيء: مؤخره، وأصله من الركوب على الردف وهو العجز، ولهذا قيل للراكب الأصلي: ركب صدر

الدابة، وقد أفرد ابن منده أسماء من أردفه النبي -صلى الله عليه وسلم- خلفه، فبلغوا ثلاثين نفسًا. وفيه بيان ما ركب في الآدمي من الشهوة، وغلبة طباعه عليه من النظر إلى الصور الحسنة. وفيه منع النظر إلى الأجنبيات وغضُّ البصر. قال عياض: وزعم بعضهم أنه غير واجب إلا عند خشية الفتنة، قال: وعندي أن فعله -صلى الله عليه وسلم- إذْ غطَّى وجه الفضل أبلغُ من القول، ثم قال: لعل الفضل لم ينظر نظرًا يُنْكَرُ بل خشي أن يَؤُول إلى ذلك، أو كان قبل نزول الأمر بإدناءِ الجلابيب. ويؤخذ منه التفريق بين الرجال والنساء خشية الفتنة، وجواز كلام المرأة وسماع صوتها للأجانب عند الضرورة، كالاستفتاء عن العلم، والترافع في الحكم والمعاملة. وفيه أنَّ إحرام المرأة في وجهها فيجوز لها كشفه في الإحرام. وروى أحمد وابن خزيمة عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال للفضل حين غطى وجهه يوم عرفة: "هذا يومٌ مَنْ ملكَ فيه سمعه وبصره ولسانه غفِرَ له" ولم يُنقَل أنَّه نهى المرأة عن النظر إلى الفضل، وكان جميلًا، ويُحتَملُ أن يكون الشارع اجتزأ بمنع الفضل لما رأى أنها تعلم بذلك منع نظرها إليه لأنَّ حكمهما واحدٌ، أو تنبَّهت لذلك، أو كان ذلك الموضع هو محل نظره الكريم، فلم يصرف نظرها. وقال الداوودي: فيه احتمال أن ليس على النساء غضُّ أبصارهنَّ عن وجوه الرجال، إنما يَغْضُضْنَ عن عوراتهم. وفي هذا الحديث أيضًا النيابة في السؤال عن العلم، حتى من المرأة عن الرجل، وأنَّ المَحرم ليس من السبيل المشترط في الحج، وقالت المالكية إنه شرط فيه، أو تكون في رفقة مأمونة، والرواية المتقدمة "أنها كانت مع أبيها" ترد على من لم يشترطه. وفيه برُّ الوالدين والاعتناء بأمرهما والقيام بمصالحهما من قضاء دين وخدمة ونفقة، وغير ذلك من أَمور الدين والدنيا. واستُدلَّ به على أنَّ العمرة غير واجبة لكون الخثعمية لم تذكرها، ولا حجة فيه لأن مجرد ترك السؤال لا يدل على عدم الوجوب لاستفادة ذلك من حكم الحج، ولاحتمال أن يكون أبوها قد اعتمر قبل الحج، على أن السؤال عن العمرة والحج قد وقع في حديث أبي رزين كما مرَّ. وقال ابن العربي: حديث الخثعمية أصل متفق على صحته في الحج، خارج عن القاعدة

رجاله خمسة

المستقرة في الشريعة من أن ليس للِإنسان إلاَّ ما سعى، رفقًا من الله تعالى في استدراك ما فرَّط فيه المرء بولده وماله، وتعقب بأنه يمكن أن يدخل في عموم السعي، وبأنَّ عموم السعي في الآية مخصوص اتفاقًا. أ. هـ. رجاله خمسة: وفيه ذكر الفضل، وقد مرَّ الجميع، مرَّ عبد الله بن يوسف، ومالك في الثاني من بدء الوحي، وابن شهاب في الثالث منه، وابن عباس في الخامس منه، وسليمان بن يسار في الخامس والتسعين من الوضوء، ومرَّ الفضل بن عباس في الثامن عشر من الجماعة، وفيه ذكر امرأة من خثعم، قيل اسمها غانية بالغين والياء والنون بدل الياء، والشيخ أبوها لم أَرَ من ذكر اسمه. أخرجه البخاري في المغازي والاستئذان، ومسلم في الحج، وكذا أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه. أ. هـ. ثم قال المصنف:

باب قول الله تعالى: {يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق (27) ليشهدوا منافع لهم}

باب قول الله تعالى: {يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} فجاجًا: الطرق الواسعة. قيل: إن المصنف أراد أنَّ الراحلة ليست شرطًا للوجوب، وقال ابن القصار: في الآية دليلٌ قاطع لمالك أن الراحلة ليست من شرط السبيل، فإن المخالف يزعم أنَّ الحجَّ لا يجب على الراجل، وهو خلاف الآية، ومذهب مالك عدم اشتراط الزاد والراحلة إذا قَدِرَ على المشي، وعند أبي حنيفة والشافعي: لا يلزم إلا من وجد زادًا وراحلة، وقد روى الطبري عن مجاهد، قال: كانوا لا يركبون، فأنزل الله: {يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} فأمرهم بالزاد، ورخَّص لهم في الركوب والمتجر. وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس، قال: ما فاتني شيء أشدُّ علي أن لا أكون حججتُ ماشيًا لأنَّ الله يقول: {يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} فبدأ بالرجال قبل الركبان. وقوله: "فجاجًا" الطرق الواسعة، قال يحيى الفراء: سبلًا فجاجًا، واحدها فج وهي الطرق الواسعة، واعترضه الإسماعيلي فقال: يقال: الفج: الطريق بين الجبلين، فإذا لم يكن كذلك لم يسم الطريق فجًا، وهو قول بعض أهل اللغة، وجزم أبو عبيد، ثم الأزهري بأن الفج: الطريق الواسع، وقد نقل صاحب "المحكم" أنَّ الفج: الطريق الواسع في جبل أو في قبل جبل، وهو أوسع من الشعب، وروى ابن أبي حاتم والطبري عن ابن عباس في قوله: "فجاجًا" يقول: طرقًا مختلفة، وعن قتادة قال: طرقًا وأعلامًا، وقال أبو عبيدة: فج عميق، أي: بعيد القعر، وهذا تفسير العميق، يقال: بئر عميقة القعر، أي: بعيدة القعر. وقوله: "يأتوك رجالًا" مجزوم لأنه جواب الأمر في قوله: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ}، قيل: المأمور بالأذان إبراهيم عليه السلام لمَّا فرغ من بناء البيت أمره الله تعالى أن يؤذن، قال إبراهيم: يا رب وما يبلغ أذاني، قال: أذِّن وعليَّ البلاغ، فقام بالمقام، وقيل على جبل أبي قبيس، وأدخل أصبعيه في أذنيه، وأقبل بوجهه يمينًا وشمالًا، وشرقًا وغربًا، وقال: يا أيُّها النَّاس، إنَّ الله يدعوكم إلى الحج ببيته الحرام. فأسمع من في أصلاب الرجال وأرحام النساء ممن سبق في علم الله تعالى أنه يحجُّ، فأجابوا لبيك اللهم لبيك، فمن أجاب يومئذٍ حجَّ

الحديث الثاني

بعد، وهذا هو قول الجمهور، وقال قوم: المأمور بالتأذين محمد -صلى الله عليه وسلم- أُمِر أن يفعل ذلك في حجة الوداع. والتوفيق بين القولين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما أمره الله بذلك إحياءً لسنة إبراهيم عليه السلام. وقوله: "رجالًا"، نصب على الحال من ضمير يأتوك، وهو جمع راجل كصاحب وصحاب، وقيل: جمع الراجل رجل كصاحب وصحب، ورجالة ورجال، والأراجيل جمع الجمع. وقوله: "وعلى كل ضامر" من المضمور وهو الهزال، وقيل: على كل ضامر، يعني الإبل وغيره، فلا يدخل بعير ولا غيره إلا وقد ضمر من طول الطريق، وضامر بغير هاء يستعمل للمذكر والمؤنث. وقوله: "يأتين" صفة لكل ضامر، لأن كل ضامر في معنى الجمع، أراد النوق. وقوله: "من كل فج عميق"، أي: طريق بعيد. وقوله: "ليشهدوا منافع لهم"، أي: ليحضروا منافع لهم، هي التجارة، وقيل: منافع الآخرة، وقيل: منافع الدارين جميعًا. أ. هـ. الحديث الثاني حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَهُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَرْكَبُ رَاحِلَتَهُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، ثُمَّ يُهِلُّ حَتَّى تَسْتَوِيَ بِهِ قَائِمَةً. الغرض من هذا الحديث الرد على من زعم أنَّ الحج ماشيًا أفضلُ لتقديمه في الذكر على الراكب، فبيَّن أنه لو كان أفضل لَفَعَلَهُ النبي -صلى الله عليه وسلم- بدليل أنه لم يُحْرِمْ حتَّى استوتْ به راحلته، ذكر ذلك ابن المنيِّر، وقال غيره: مناسبة الحديث للآية أنَّ ذا الحليفة فجٌّ عميق، والركوب مناسبٌ لقوله: "وعلى كل ضامر"، وقال الإِسماعيلي: ليس في الحديثين شيءٌ مما ترجم به الباب، وردَّ بأنَّ فيهما الإشارة إلى أنَّ الركوب أفضل، فيُؤْخَذُ منه جواز المشي. وقوله: "بذي الحليفة" بضم الحاء المهملة تصغير حلفة، وهي شجرة منها يُحْرِم أهل المدينة، وبينها وبين المدينة أربعة أميالٍ، وهي أبعد المواقيت من مكة تعظيمًا لإحرام النبي -صلى الله عليه وسلم-، وبذي الحليفة عدة آبار ومسجدان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، المسجد الكبير الذي يُحرم منه الناس، والمسجد الآخر مسجد المعرس.

رجاله ستة

وقوله: "حين تستوي به قائمة"، قد مرَّ الكلام على هذا مستوفى عند حديث ابن عمر في باب غسل الرجلين في النعلين من كتاب الوضوء. وفي الحديث الركوب في سفر الحج، وقد اختلف في أفضلية الركوب والمشي في الحج، فقال قوم: الركوب أفضل تباعًا للنبي -صلى الله عليه وسلم-، ولفضل النفقة فإنَّ النفقه فيه كالنفقة في سبيل الله سبعمائة ضعف، كما أخرجه أحمد عن بريدة، وصحح جماعة أن المشي أفضل، وبه قال إسحاق لأنه أشدُّ على النفس، وفي حديث صححه الحاكم عن ابن عباس مرفوعًا: "من حجَّ إلى مكة ماشيًا حتى رجع كُتِبَ له بكل خطوة سبعمائة حسنة من حسنات الحرم"، قيل: وما حسنات الحرم، قال: "كل حسنة بمائة ألف حسنة". وقال مجاهد: أُهبط آدم عليه السلام في الهند، فحج على قدميه البيت أربعين حجة، وقال: إن إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام حجًا ماشيين، وفي "المستدرك": عن أبي سعيد الخدري، قال: حجَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه مشاة من المدينة إلى مكة، ثم قال: "اربطوا على أوساطكم مآزركم وامشوا مشيًا خلط الهرولة"، ثم قال: صحيح الإِسناد، قلت: هذا الحديث لا أظن له صحة، لأن النبي لم يحج من المدينة إلا حجة الوداع، وحج راكبًا، ولعله إنْ كان له أصل وقع من مكة لا من المدينة، وقد طالعت "المستدرك" ولم أطلع عليه فيه، والذي عزاه له هو العيني، والذي وجدته فيه هو أنَّ الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما، حجَّ خمسة وعشرين حجة ماشيًا، وإن الجنائب لتُقاد بين يديه. أ. هـ. رجاله ستة قد مرّوا مرَّ: أحمد بن عيسى في الرابع والسبعين من استقبال القبلة، وابن وهب في الثالث عشر من العلم، ومرَّ ابن شهاب في الثالث من بدء الوحي، ويونس بن يزيد في متابعة بعد الرابع منه، ومرّ سالم بن عبد الله في السابع عشر من الإِيمان، ومرّ أبوه عبد الله في أوله قبل ذكر حديث منه. أخرجه مسلم والنسائي. أ. هـ. الحديث الثالث حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بن موسى، أَخْبَرَنَا الْوَلِيدُ، حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، سَمِعَ عَطَاءً يُحَدِّثُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما: "أَنَّ إِهْلاَلَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ".

رجاله خمسة

والغرض من هذا الحديث هو مارٌّ في الذي قبله، والكلام عليه هو الكلام على الذي قبله. أ. هـ. رجاله خمسة، قد مرّوا: مرّ إبراهيم بن موسى في الثالث من الحيض، ومرَّ الوليد بن مسلم في السادس والثلاثين من مواقيت الصلاة، ومرَّ الأوزاعي في العشرين من العلم، وعطاء بن أبي رباح في التاسع والثلاثين منه، ومرَّ جابر في الرابع من بدء الوحي. أ. هـ. فيه التحديث بالجمع والإِفراد والإخبار بالجمع والسماع والعنعنة، وسنده رازي، ودمشقيان ومكي. أ. هـ. ثم قال: رواه أنس وابن عباس رضي الله تعالى عنهم، أي: إهلاله بعدما استوت به راحلته، وسيأتي حديث أنس موصولًا في باب من بات بذي الحليفة، فأمَّا حديث ابن عباس فسيأتي في باب ما يلبس المحرم. أ. هـ. ثم قال المصنف:

باب الحج على الرحل

باب الحج على الرحل بفتح الراء وسكون المهملة، وهو للبعير كالسرج للفرس، أشار بهذا إلى أن التقشف أفضل من الترفُّه. الحديث الرابع وَقَالَ أَبَانُ: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضى الله عنها: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- بَعَثَ مَعَهَا أَخَاهَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، فَأَعْمَرَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ، وَحَمَلَهَا عَلَى قَتَبٍ. الغرض منه قوله فيه: "وحملها على قتب" وهو بفتح القاف والمثناة بعدها موحدة: رحلٌ صغير على قدر السنام، وقد أخرجه في آخر الباب موصولًا بلفظ: فأحقبها، أي: أردفها على الحقيبة، وهي الزنار الذي يجعل في مؤخر القتب، فقوله في رواية أبان: على قتب، أي: حملها على مؤخر قتب. والحاصل أنه أردفها، وكان هو على قتب، فإن القصة واحدة. وقوله: "فأعمرها من التنعيم" هو بفتح المثناة وسكون النون وكسر المهملة: مكان معروف خارج مكة، وهو على أربعة أميال من مكة إلى جهة المدينة، كما نقله الفاكهاني. وقال المحب الطبري: التنعيم أبعد من أدنى الحِلّ إلى مكة بقليل، وليس بطرف الحل، بل بينهما نحو من ميل، ومن أطلق عليه أدنى الحلّ، فقد تجوز أو أراد بالنسبة إلى بقية الجهات. وروى الفاكهاني عن عبيد بن عمير، قال: أنما سمي التنعيم لأن الجبل الذي عن يمين الداخل يقال له ناعم، والذي عن اليسار يقال له منعم. وروى الأزرقي عن ابن جريج، قال: رأيت عطاء يصف الموضع الذي اعتمرت منه عائشة، فأشار إلى الموضع الذي ابتنى فيه محمد بن علي بن شافع المسجد الذي وراء الأكمة وهو المسجد الخرب. ونقل الفاكهاني عن ابن جريج وغيره أن ثم مسجدين يزعم أهل مكة أن الخرب الأدنى من الحرم هو الذي اعتمرت منه عائشة. وقيل: هو المسجد الأبعد على الأكمة الحمراء، ورجَّحه المحب الطبري. وقال الفاكهاني: لا أعلم إلا أني سمعت ابن أبي عمر يذكر عن أشياخه أن الأول هو الصحيح عندهم.

واختلف هل يتعين التنعيم لمن كان بمكة أم لا؟ وإذا لم يتعين هل لها فضل على الاعتمار من غيرها من جهات الحل أم لا؟، قال صاحب "الهدي": لم ينقل أنه صلى الله تعالى عليه وسلم اعتمر مدة إقامته بمكة قبل الهجرة، ولا اعتمر بعد الهجرة إلا داخلًا إلى مكة، ولم يعتمر قط خارجًا من مكة إلى الحل، ثم يدخل مكة بعمرة كما يفعل الناس اليوم، ولا ثبت عن أحد من الصحابة أنه فعل ذلك في حياته إلا عائشة وحدها، قلت: ما قاله صاحب "الهدي" لا دليل فيه، لأن العمرة قبل الهجرة لم يثبت وجوبها، وبعد الهجرة لم يستقر عليه الصلاة والسلام بمكة حتى يحتاج إلى الاعتمار منها، وإنما يأتيها من بلد بعيد معتمرًا وحاجًا، وعدم اطلاعه هو على فعل الصحابة له لا ينافي أنهم فعلوه، إذ يمكن أن يفعلوه، ولا ينقل، وأيُّ فائدة في هذا البحث بعد أن ثبتت مشروعيته بفعل عائشة له بأمره عليه الصلاة والسلام، وقد روى الفاكهاني عن محمد بن سيرين، قال: بلغنا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقَّت لأهل مكة التنعيم، ومن طريق عطاء قال: من أراد العمرة ممن هو من أهل مكة أو غيرها فليخرج إلى التنعيم أو الجعرانة، فليحرم منها، وأفضل ذلك أن يأتي وقتًا، أي: ميقاتًا من مواقيت الحج. قال الطحاوي: ذهب قوم إلى أنه لا ميقات للعمرة إن كان بمكة إلا التنعيم، ولا ينبغي مجاوزته، كما لا تنبغي مجاوزة المواقيت التي للحج وخالفهم آخرون، فقالوا: ميقات العمرة الحل، وإنما أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- عائشة بالإحرام من التنعيم لأنه كان أقرب الحل من مكة. ثم روى عن ابن أبي مليكة، عن عائشة في حديثها، قالت: وكان أدنانا من الحرم التنعيم، فاعتمرت، قال: فثبت بذلك أن ميقات مكة للعمرة الحل، وأن التنعيم وغيره في ذلك سواء، وفي رواية القاسم عن عائشة: يا عبد الرحمن اذهب بأختك فأعمرها من التنعيم، وفي رواية عروة عنها: أرسلني النبي -صلى الله عليه وسلم- مع عبد الرحمن إلى التنعيم، وفي رواية الأسود عنها: اذهبي مع أخيك إلى التنعيم، وفي رواية الأسود والقاسم جميعًا عنها: فاخرجي إلى التنعيم، وكل هذا صريح في أن ذلك كان عن أمر النبي يكنه وكلُّه يفسر قوله في رواية القاسم: اخرج بأختك من الحرم. وأما ما رواه أحمد عن ابن أبي مليكة عنها في هذا الحديث: ثم أرسل إلى عبد الرحمن بن أبي بكر، فقال: احملها خلفك حتى تخرجها من الحرم، فوالله ما قال: فتخرجها إلى الجعرانة ولا إلى التنعيم، فهي رواية ضعيفة لضعف أبي عامر الخزاز، الراوي له عن ابن أبي مليكة، ويحتمل أن يكون قوله: فوالله، الخ، من كلام من دون عائشة متمسكًا

رجاله أربعة

بإطلاق قوله: "فأخرجها من الحرم" لكن الروايات المقيدة بالتنعيم مقدمة على المطلقة، فهي أولى ولاسيما مع صحة أسانيدها، زاد أبو داود في روايته بعد قوله: "إلى التنعيم": فإذا هبطت بها من الأكمة فلتحرم، فإنها عمرة متقبلة، وزاد أحمد في رواية له: وذلك ليلة الصدر بالتحريك، أي: الرجوع من مني، وفي قوله: "فإذا هبطت بها" إشارة إلى المكان الذي أحرمت منه عائشة. قلت: انظر، أي فائدة لبحث صاحب "الهدي" مع ما ذكر من الأحاديث وأقوال العلماء. وفي الحديث جواز الخلوة بالمحارم سفرًا وحضرًا، وإرداف المحرم محرمة معه. واستدل به على تعين الخروج إلى الحل لمن أراد العمرة ممن كان بمكة وهو أحد قولي العلماء، والثاني: تصح العمرة ويجب عليه دم لترك الميقات، وليس في حديث الباب ما يدفع ذلك. واستدل به على أن أفضل جهات الحل التنعيم، وتعقب بأن إحرام عائشة من التنعيم إنما وقع لكونه أقرب جهة الحل إلى الحرم، لا أنه هو الأفضل، وسيأتي إيضاح هذا إن شاء الله تعالى في باب أجر العمرة على قدر التعب. أ. هـ. رجاله أربعة: وفيه ذكر عبد الرحمن، وقد مرَّ الجميع إلا مالك بن دينار، مرَّ أبان بن يزيد في تعليق بعد السابع والثلاثين من الإيمان، ومرّ القاسم بن محمد في الحادي عشر من الغسل، ومرّت عائشة في الثاني من بدء الوحي الرابع مالك بن دينار السامي الناجي مولاهم أبو يحيى البصري الزاهد، قال النسائي: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان يكتب المصاحف بالأجرة، ويتقوت بأجرته، وكان لا يأكل شيئًا من الطيبات من المتعقدة الصبر، والمتقشفة الخشن، وقال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث، وقال الأزدي: يعرف وينكر، كان أبوه من سبى سجستان، وقيل: من كابل. وليس له في البخاري إلا هذا الحديث، روى عن أنس بن مالك، وعطاء بن أبي رباح، والحسن، وابن سيرين وغيرهم، وروى عنه أخوه عثمان، وأبان بن يزيد، وسعيد بن أبي عروبة وغيرهم، مات سنة سبع وعشرين ومائة، وقيل: سنة ثلاث، وقيل: سنة ثلاثين. ومرّ عبد الرحمن في الرابع من الغسل. وهذا الحديث أخرجه الخباري هنا تعليقًا، ووصله أبو نعيم في "المستخرج". أ. هـ. ثم قال: وقال عمر: شدوا الرحال في الحج، فإنه أحد الجهادين، ولفظ عابس بن ربيعة

الحديث الخامس

أنه سمع عمر يقول وهو يخطب: إذا وضعتم السروج فشدُّوا الرحال إلى الحج فإنه أحد الجهادين، ومعناه: إذا فرغتم من الغزو فحجوا واعتمروا وتسمية الحج جهادًا إما من باب التغليب أو على الحقيقة، والمراد جهاد النفس لما فيه من إدخال المشقة على النفس والمال، وجاء في ثاني أحاديث الباب الذي بعده ما يؤيده، وهذا التعليق وصله عبد الرزاق وسعيد بن منصور من طريق إبراهيم النخعي عن عابس بن ربيعة. وعمر مرّ في الأول من بدء الوحي. الحديث الخامس حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِى بَكْرٍ، هو المقدمي، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا عَزْرَةُ بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ، قَالَ: حَجَّ أَنَسٌ عَلَى رَحْلٍ، وَلَمْ يَكُنْ شَحِيحًا، وَحَدَّثَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَجَّ عَلَى رَحْلٍ، وَكَانَتْ زَامِلَتَهُ. قوله: "حدثنا محمد بن أبي بكر"، كذا وقع في رواية أبي ذر، ولغيره، وقال محمد بن أبي بكر: وقد وصله الإِسماعيلي، قال: حدثنا أبو يعلى والحسن بن سفيان وغيرهما، قالوا: حدثنا محمد بن أبي بكر. وقوله: "ولم يكن شحيحًا" فيه إشارة إلى أنه فعل ذلك تواضعًا واتباعًا لا عن قلة وبخل، وقد روى ابن ماجه هذا الحديث بلفظ آخر، لكن إسناده ضعيف، فذكر بعد قوله: على رحلٍ رث وقطيفة تساوي أربعة دراهم، ثم قال: اللهم حجة لا رياء فيها، ولا سمعة. وقوله: "وكانت زاملته"، أي: الراحلة التي ركبها، وهي وان لم يجر لها ذكر، لكن دل عليها ذكر الرجل، والزاملة: البعير الذي يحمل عليه الطعام والمتاع، من الزمل وهو الحمل، والمراد أنه لم تكن معه زاملة تحمل طعامه ومتاعه بل كان ذلك محمولًا معه على راحلته، وكانت هي الراحلة والزاملة. وروى سعيد بن منصور عن هشام بن عروة، قال: كان الناس يحجون وتحتهم أزودتهم، وكان أول من حج على رحل وليس تحته شيء عثمان بن عفان. أ. هـ. رجاله خمسة: مرَّ منهم محمد ابن أبي بكر المقدمي في الرابع والثمانين من استقبال القبلة، ومرّ يزيد بن زريع في السادس والتسعين من الوضوء، ومرّ ثمامة بن عبد الله في السادس والثلاثين من العلم، ومرّ أنس في السادس من الإِيمان، الخامس عزرة بن ثابت بن أبي زيد الأنصاري البصري، قال ابن معين وأبو داود والنسائي: ثقة، وقال أبو حاتم: ليس به بأس، وذكره ابن

لطائف إسناده

حبان في "الثقات"، وقال: ثقة متقن، وقال يعقوب بن سفيان: لا بأس به، روى عن عمه بشير وأخيه علي بن ثابت وثمامة بن عبد الله بن أنس وقتادة وغيرهم، وروى عنه ابن أخيه يحيى بن محمد بن ثابت وابن مهدي وابن المبارك وغيرهم. أ. هـ. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، ورواته كلهم بصريُّون. الحديث السادس حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا أَيْمَنُ بْنُ نَابِلٍ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اعْتَمَرْتُمْ وَلَمْ أَعْتَمِرْ. فَقَالَ: "يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ اذْهَبْ بِأُخْتِكَ فَأَعْمِرْهَا مِنَ التَّنْعِيمِ". فَأَحْقَبَهَا عَلَى نَاقَةٍ، فَاعْتَمَرَتْ. قوله: "فأحقبها على ناقة" في رواية الكشميهني: ناقته، وهذا الحديث مرّ الكلام عليه في الذي قبله بحديث. رجاله خمسة: وفيه ذكر عبد الرحمن، مرّ منهم عمرو بن علي الفلاس في السابع والأربعين من الوضوء، ومرّ أبو عاصم في أثر بعد الرابع من العلم، ومرّ محل القاسم وعائشة وعبد الرحمن في الذي قبله بحديث، الخامس أيمن بن نابل بنون وألف بعدها موحدة مكسورة، الحبشي أبو عمران المكي، نزيل عسقلان مولى آل أبي بكر، قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسأل عن عبد العزيز بن رواد وأيمن بن نابل وغيرهما، فقال: هؤلاء قوم صالحون، وقال ابن معين وابن عمار والحاكم: ثقة، وقال الدوري: كان عابدًا فاضلًا، وسمعت يحيى يقول: هو ثقة، وكان لا يفصح، وكانت فيه لكنة، وقال يعقوب بن شيبة: مكي صدوق، وإلى ضعف ما هو، وقال أبو حاتم: شيخ، وقال النسائي: لا بأس به، وقال ابن عدي: له أحاديث، وهو لا بأس به فيما يرويه، ولم أر أحدًا ضعَّفه ممن تكلم في الرجال، وأرجو أن أحاديثه صالحة لا بأس به، وقال العجلي: ثقة، وقال الترمذي في حديثه عن قدامة: أيمنُ ثقة عند أهل الحديث، وقال الدارقطني: ليس بالقوي، خالف الناس، ولو لم يكن إلا حديث التشهد الذي رواه عن أبي الزبير، عن طاووس، عن ابن عباس في التشهد بسم الله، وبالله، وقد رواه الليث وعمرو بن الحارث وغيرهما بدون هذه الزيادة عن أبي الزبير، وكذا هو بدونها في صحاح

باب فضل الحج المبرور

باب فضل الحج المبرور قال ابن خالويه: المبرور المقبول، وقال غيره: الذي لا يخالطه شيء من الإِثم، ورجحه النووي، وقال القرطبي: الأقوال التي ذكرت في تفسيره متقاربة المعنى، وهي أنه الحج الذي وفيت أحكامه، ووقع موقعًا لما طلب من المكلف على الوجه الأكمل، وقيل: إنه يظهر بآخره، فإن رجع خيرًا مما كان عرف أنه مبرور، ولأحمد والحاكم عن جابر، قالوا: يا رسول الله ما برّ الحج؟ قال: "إطعام الطعام، وإفشاء السلام"، وفي إسناده ضعف، ولو ثبت لكان هو المتعين دون غيره. أ. هـ. الحديث السابع حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ". قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: "جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ". قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: "حَجٌّ مَبْرُورٌ". هذا الحديث قد مرَّ في باب من قال إن الإِيمان هو العمل من كتاب الإيمان، ومرت مباحثه هناك مستوفاة. أ. هـ. رجاله خمسة قد مرّوا: مرّ عبد العزيز بن عبد الله في الأربعين من العلم، ومرَّ إبراهيم بن سعد في السادس عشر من الإيمان، ومرَّ سعيد بن المسيب في التاسع عشر منه، وأبو هريرة في الثاني منه، والزهري في الثالث من بدء الوحي. أ. هـ. الحديث الثامن حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُبَارَكِ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، أَخْبَرَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها، أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ، أَفَلاَ نُجَاهِدُ قَالَ: "لاَ، لَكِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ".

لطائف إسناده

الأحاديث، قال في "المقدمة": له في البخاري حديث واحد عن القاسم بن محمد، عن عائشة في اعتمارها من التنعيم، أخرجه متابعة، وروى له أصحاب السنن غير أبي داود. روى عن أبيه نابل والقاسم بن محمد وطاووس وعطاء وغيرهم، وروى عنه موسى بن عقبة وهو من أقرانه ومعتمر بن سليمان ووكيع وابن مهدي وغيرهم. وفي "حلية أبي نعيم" ما يدل على أن أيمن هذا عاش إلى خلافة المهدي. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، وسنده: بصريان ومكي ومدني. وفيه رواية التابعي عن التابعي عن الصحابية، ورواية الرجل عن عمته. والحديث أخرجه النسائي. أ. هـ. ثم قال:

قوله: "نرى الجهاد أفضل العمل"، هو بفتح النون، أي: نعتقد، ونعلم وذلك لكثرة ما يسمع من فضائله في الكتاب والسنة، وقد رواه جرير عن صهيب عند النسائي: فإني لا أرى عملًا في القرآن أفضل من الجهاد. وقوله: "لكن أفضل الجهاد" اختلف في ضبط لكن فالأكثر بضم الكاف خطاب للنسوة، قال القابسي: وهو الذي تميل إليه نفسي، وفي رواية الحموي: لكن، بكسر الكاف وزيادة ألف قبلها بلفظ الاستدراك، والأول أكثر فائدة لأنه يشتمل على إثبات فضل الحج، وعلى جواب سؤالها عن الجهاد، وسماه جهادًا لما فيه من مجاهدة النفس، وعلى الاستدراك اسم لكن: أفضل الجهاد، وخبرها: حج مبرور، والمستدرك منه يستفاد من السياق، تقديره: ليس لكُنَّ الجهاد، ولكن الجهاد أفضل في حقكن حج مبرور، وعلى الرواية الأولى: أفضل الجهاد مبتدأ، والخبر لكن، وحج مبرور خبر مبتدأ محذوف، أي: أفضل الجهاد لكن هو حج مبرور، وفي رواية النسائي: ألا نخرج فنجاهد معك، فإني لا أرى عملًا في القرآن العظيم أفضل من الجهاد، فقال: "لكُنَّ أحسن الجهاد وأجمله حج البيت، حج مبرور"، وفي رواية ابن ماجه عن عائشة رضي الله تعالى عنها، قلت: يا رسول الله: هل على النساء جهاد، قال عليه الصلاة والسلام: "عليهن جهاد لا قتال فيه، الحج والعمرة"، وعنده أيضًا عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الحج جهاد كل ضعيف"، وفي رواية النسائي بسند لا بأس به عن أبي هريرة: "جهاد الكبير والصغير والضعيف والمرأة، الحج والعمرة"، وإنما قيل للحج جهاد لأنه يجاهد في نفسه بالكف عن شهواتها والشيطان، ودفع المشركين عن البيت باجتماع المسلمين إليه من كل ناحية. وروى أبو داود وأحمد عن أبي واقد الليثي، عن أبيه بإسناد صحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لنسائه في حجة الوداع: "هذه ثم ظهور الحُصُر"، أي هذه الحجة، ثم تلزمن ظهور الحصر، جمع حصير، أي الذي يبسط في البيت بضم الصاد وتسكن تخفيفًا وأغرب المهلب فزعم أنه من وضع الرافضة لقصد ذم أم المؤمنين عائشة في خروجها إلى العراق للإصلاح بين الناس في قصة وقعة الجمل وهو إقدام منه على رد الأحاديث الصحيحة بغير دليل، والعذر لعائشة أنها تأولت الحديث المذكور كما تأوله غيرها من صواحباتها على أن المراد بذلك أنه لا يجب عليهن غير تلك الحجة، وتأيَّد ذلك عندها بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: "لكُنَّ أفضل الجهاد الحج المبرور" لأنه يدل على أن لهن جهادًا غير الحج، والحج أفضل منه، وسيأتي إن شاء الله تعالى استيفاء الكلام على هذا الحديث في باب حج النساء أواخر كتاب

رجاله خمسة

الحج. أ. هـ. رجاله خمسة: مرَّ منهم عبد الرحمن بن المبارك في الرابع والعشرين من الإِيمان، ومرّ خالد بن عبد الله الطحان في السادس والخمسين من الوضوء، ومرّت عائشة أم المؤمنين في الثاني من بدء الوحي، والباقي اثنان، الأول: حبيب بن أبي عمرة القصاب بياع القصب، ويقال: اللحام أبو عبد الله الحِمَّاني بكسر الحاء وتشديد الميم، مولاهم الكوفي، قال جرير بن عبد الحميد: كان ثقة، وكان من اللحامين، وقال ابن معين والنسائي: ثقة، وقال أحمد: شيخ ثقة، وقال أبو حاتم: صالح، وقال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث، وقال يعقوب بن سفيان: لا بأس به، وذكره ابن حبان في "الثقات". روى عن مجاهد وسعيد بن جبير وعائشة بنت طلحة وأم الدرداء وغيرهم، وروى عنه الثوري، وأخوه مبارك بن سعيد وشعبة وحفص بن غياث وغيرهم، مات سنة اثنتين وعشرين ومائة. أ. هـ. الثاني: عائشة بنت طلحة بن عبيد الله التيمية أم عمران، أمها أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق، قال ابن معين: ثقة حجة، وقال العجلي: مدنية تابعية ثقة، وقال أبو زرعة الدمشقي: حدث الناس عنها لفضلها وأدبها، وذكرها ابن حبان في "الثقات"، كانت من أجمل نساء قريش، أصدَقَها مصعب بن الزبير ألف ألف درهم، روت عن خالتها عائشة، وروى عنها ابنها طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن وحبيب بن أبي عمرة وعطاء بن أبي رباح وغيرهم. لطائف إسناده: فيه التحديث والإخبار بالجمع والعنعنة والقول. وشيخه من أفراده وهو بصري، ثم واسطي، ثم كوفي، ثم مدنية. وفيه رواية التابعية عن الصحابية خالتها. أخرجه البخاري في الحج أيضًا وفي الجهاد، والنسائي وابن ماجه في الحج. أ. هـ. الحديث التاسع حَدَّثَنَا آدَمُ، قال: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا سَيَّارٌ أَبُو الْحَكَمِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا حَازِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ". قوله: "من حج لله" في رواية منصور الآتية قبيل جزاء الصيد من حج هذا البيت،

رجاله خمسة

ولمسلم عن منصور: من أتى هذا البيت، وهو يشمل الحج والعمرة، وأخرج الدارقطني عن الأعمش، عن أبي حازم بلفظ: "من حج أو اعتمر" لكن في الإسناد إلى الأعمش ضعف. وقوله: "فلم يرفث" بتثليث الفاء في الماضي والمضارع، والأفصح الفتح في الماضي، والضم في المستقبل، والرفث الجماع، ويطلق على التعريض به، وعلى الفحش في القول، وقال الأزهري: الرفث اسم جامع لكل ما يريده الرجل من المرأة، وكان ابن عمر يخصه بما خوطب به النساء، وقال عياض: هذا من قول الله تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ}، والجمهور على أن المراد به في الآية الجماع، والذي يظهر أن المراد به في الحديث ما هو أعم من ذلك، وإليه نحا القرطبي، وهو المراد بقوله في الصيام: "فإذا كان صوم أحدكم فلا يرفث". وقوله: "ولم يفسق"، أي: لم يأت بسيئة ولا معصية، وأغرب ابن الأعرابي، فقال: إن لفظ الفسق لم يسمع في الجاهلية ولا في أشعارهم، وإنما هو إسلامي، وتعقب بأنه كثر استعماله في القرآن، وحكايته عمن قبل الإِسلام، وقال غيره: أصله انفسقت النواة إذا خرجت، فسمى الخارج عن طاعة الله فاسقًا. وقوله: "رجع كيوم ولدته أمه" أي: بغير ذنب، وظاهره غفران الصغائر والكبائر والتبعات، وهو من أقوى الشواهد لحديث العباس بن مرداس المصرّح بذلك، وله شاهد من حديث ابن عمر في "تفسير الطبري"، قال الطيبي: الفاء في قوله: "فلم يرفث" معطوف على الشرط، وجوابه رجع، أي: صار، والجار والمجرور خبر له، ويجوز أن يكون حالًا، أي: صار مشابهًا لنفسه في البراءة عن الذنوب في يوم ولدته أمه، وفي رواية الدارقطني المذكورة: رجع كهيئته يوم ولدته أمه، وذكر بعض الناس أن الطيبي أفاد أن الحديث إنما لم يذكر فيه الجدال، كما ذكر في الآية على طريق الاكتفاء بذكر البعض، وترك ما دل عليه ما ذكر، ويحتمل أن يقال إن ذلك يختلف بالقصد لأن وجوده لا يؤثر في ترك مغفرة ذنوب الحاج إذا كان المراد به المجادلة في أحكام الحج فيما يظهر من الأدلة، أو المجادلة بطريق التعميم، فلا يؤثر أيضًا، فإن الفاحش منها داخل في عموم الرفث، والحسن منها ظاهر في عدم التأثير، والمستوي الطرفين لا يؤثر أيضًا. رجاله خمسة قد مرُّوا: مرّ آدم وشعبة في الثالث من الإِيمان، ومرّ سيار بن أبي سيار أبو الحكم في الثاني من التيمم، ومرّ أبو حازم في الثامن والمائة من الوضوء، ومرّ أبو هريرة في الثاني من الإِيمان.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والسماع والقول، وسنده خراساني، وواسطيان وكوفي، أخرجه مسلم. أ. هـ. ثم قال المصنف:

باب فرض مواقيت الحج والعمرة

باب فرض مواقيت الحج والعمرة المواقيت: جمع ميقات كمواعيد وميعاد من وقَّت الشيء يقته إذا بيِّن حدّه، وكذا وقَّته يوقته، ثم اتسع فيه فأطلق على المكان فقيل للموضع ميقات، والميقات يطلق على الزماني والمكاني، وهنا المراد الكافي. ومعنى الفرض التقدير أو الإِيجاب، وهو ظاهر نص المصنف وأنه لا يجيز الإِحرام بالحج والعمرة من قبل الميقات، ويزيد ذلك وضوحًا ما سيأتي بعد قليل حيث قال: ميقات أهل المدينة، ولا يهلُّون قبل ذي الحليفة، وقد نقل ابن المنذر وغيره الإِجماع على الجواز، وفيه نظر، فقد نقل عن إسحاق وداود وغيرهما عدم الجواز وهو ظاهر جواب ابن عمر، ويؤيده القياس على الميقات الزماني، فقد أجمعوا على أنه لا يجوز المتقدم عليه، وفرَّق الجمهور بين الزماني والمكاني فلم يجيزوا المتقدم على الزماني، وأجازوا في المكاني، وذهب طائفة كالحنفية وبعض الشافعية إلى ترجيح المتقدم في المكاني، وكره مالك المتقدم قبلهما ويأتي، وكره عثمان أن يحرم من خراسان في ترجمة: الحج أشهر معلومات. الحديث العاشر حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَنَّهُ أَتَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما فِي مَنْزِلِهِ وَلَهُ فُسْطَاطٌ وَسُرَادِقٌ، فَسَأَلْتُهُ مِنْ أَيْنَ يَجُوزُ أَنْ أَعْتَمِرَ؟ قَالَ: فَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنًا، وَلأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ. قوله: "وله فسطاط وسرادق"، والفسطاط مثلث الفاء، وفيه ست لغات، معروف، وهو الخيمة، وأصله عمود الخباء الذي يقوم عليه، وقيل: لا يقال له ذلك إلا إذا كان من قطن، وهو أيضًا مما يغطى به صحن الدار من الشمس وغيرها. والسرادق واحدة السرادقات التي تمدُّ فوق صحن الدار، وكل بيت من كرسف فهو سرادق، وكل ما أحاط بشيء فهو سرادق، ومنه: {أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا}، وقيل: السرادق: ما يجعل حول الخباء بينه وبينه فسحة كالحائط ونحوه، وظاهره أن ابن عمر كان معه أهله وأراد سترهم بذلك لا للتفاخر.

رجاله أربعة

وقوله: "فسألته" فيه التفات لأنه قال أولًا: أنه أتى ابن عمر، فكأن السياق يقتضي أن يقول: فسأله، لكن عند الإسماعيلي، قال: فدخلت عليه فسألته. وقوله: "فرضها"، أي: قدرها وعيّنها، ويحتمل أن يكون المراد أوجبها، وبه يتم مراد المصنف، ويؤيده قرينة قول السائل: من أين يجوز لي، وقد تقدمت مباحث هذا الحديث مستوفاة في باب ذكر العلم والفتيا في المسجد آخر كتاب العلم، وفي الحديث رد على عطاء والنخعي والحسن في زعمهم أن لا شيء على من ترك الميقات ولم يحرم وهو يريد الحج والعمرة، وهو شاذ، ونقل ابن بطال عن مالك وأبي حنيفة والشافعي أنه يرجع من مكة إلى الميقات، واختلفوا إذا رجع هل عليه دم أو لا، فقال مالك والثوري في رواية: لا يسقط عنه الدم برجوعه إليه محرمًا، وهو قول ابن المبارك، وقال أبو حنيفة: إن رجع إليه فلبَّى فلا دم عليه برجوعه إليه محرمًا، وإن لم يلبّ فعليه دم، وقال الثوري في رواية وأبو يوسف ومحمد والشافعي: لا دم عليه إذا رجع إلى الميقات بعد إحرامه قبل أن يطوف على كل وجه، فإن طاف فالدم باق وإن رجع، قال الكرماني: فإن قلت: الإِحرام بالعمرة لا يلزم أن يكون من المذكورات، بل يصح من الجعرانة ونحوها، قلت: هي للمكي، وأما الآفاقي فلا يصح له الإِحرام بها إلا من المواضع المذكورة. أ. هـ. رجاله أربعة: قد مرُّوا إلا زيد بن جبير، مرّ مالك بن إسماعيل في الخامس والثلاثين من الوضوء ومرّ زهير بن معاوية في الثالث والثلاثين من الإِيمان، ومرّ عبد الله بن عمر في أوله قبل ذكر حديث منه، والباقي زيد بن جبير بن حرمل الطائي الكوفي، قال أحمد: صالح الحديث، وقال ابن معين: ثقة يروي ستة أحاديث أو سبعة، وقال الدوري: قلت لابن معين: أليس في حديثه شيء؟ قال: لا والله، قلت: هو أخو حكيم بن جبير؟ قال: لا والله، ما بينهما قرابة، وقال العجلي: ثقة ليس بتابعي في عداد الشيوخ، وقال النسائي: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين، وقال أبو حاتم: صدوق، وفي نسخه ثقة، صدوق. روى عن ابن عمر وخشف بن مالك وأبي يزيد الضبي، وروى عنه شعبة والثوري وزهير بن معاوية وغيرهم. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإِفراد والسؤال والقول، ورواته الثلاثة كوفيون، وزيد بن جبير ليس له في البخاري إلا هذا الحديث، وهذا الحديث من هذا الوجه من أفراد البخاري. ثم قال المصنف:

باب قول الله تعالى: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى}

باب قول الله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} قال مقاتل بن حيان: لمَّا نزلت قام رجل فقال: يا رسول الله ما نجد زادًا، فقال: "تزود ما تكفّ به وجهك عن الناس، وخير ما تزوَّدتم التقوى". الحديث الحادي عشر حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ كَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَحُجُّونَ وَلاَ يَتَزَوَّدُونَ، وَيَقُولُونَ: نَحْنُ الْمُتَوَكِّلُونَ، فَإِذَا قَدِمُوا مَكَّةَ سَأَلُوا النَّاسَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}. قوله: "كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون"، زاد ابن أبي حاتم من وجه آخر عن ابن عباس: يقولون: نحج بيت الله أفلا يطعمنا. وقوله: "فإذا قدموا المدينة" في رواية الكشميهني: "مكة" وهو أصوب، وكذا أخرجه أبو نعيم، وروى ابن جرير وابن مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال: كانوا إذا أحرموا ومعهم أزوادهم رموا بها واستأنفوا زادًا آخر، فأنزل الله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} فنهوا عن ذلك وأمروا أن يتزودوا الكعك والدقيق والسويق، ثم لما أمرهم بالزاد إلى السفر في الدنيا أمرهم بالزاد للآخرة، وهو استصحاب التقوى إليها، وأنه خير من هذا وأنفع، قال عطاء الخراساني: في قوله: {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} يعني الآخرة، وروى الطبراني عن جرير بن عبد الله، عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، قال: "من تزود في الدنيا ينفعه في الآخرة" وفي هذا الحديث من الفقه أنَّ ترك السؤال من التقوى، ويؤيده أن الله مدح من لم يسال الناس إلحافًا، فإن قوله: {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}، أي: تزودوا وأتقوا أذى الناس بسؤالكم إياهم، والإثم في ذلك. وفيه أن التوكل لا يكون مع السؤال، وإنما التوكل المحمود أن لا يستعين بأحد في شيء،

رجاله ستة

وقيل: هو قطع النظر عن الأسباب بعد تهيئة الأسباب، كما قال عليه الصلاة والسلام: "اعقلها وتوكل". رجاله ستة: قد مرّوا إلا يحيى بن بشر. مرّ شبابة بن سوار في الخامس والثلاثين من الحيض، ومرّ ورقاء بن عمر في التاسع من الوضوء، ومرّ عمرو بن دينار في الثالث والخمسين من العلم، ومرّ عكرمة في السابع عشر منه، ومرَّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي. السادس: يحيى بن بشر البلخي أبو زكرياء الفلاس الزاهد، ذكره ابن حبان في "الثقات"، روى عن وكيع والوليد بن مسلم وابن عيينة وشبابة وغيرهم، وروى عنه البخاري وأحمد بن سيار المروزي وعبد بن حميد، مات في المحرم لخمسٍ مضين منه، سنة اثنتين وثلاثين ومائتين. أ. هـ. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، وسنده بلخي ومدائنيان ومكي ومدني، أخرجه أبو داود في الحج، والنسائي في السير وفي التفسير. أ. هـ. ثم قال: "رواه ابن عيينه عن عمرو، عن عكرمة مرسلًا"، يعني: لم يذكر فيه ابن عباس، وهذا هو المحفوظ عن ابن عيينة، وابن عيينة مرَّ في الأول من بدء الوحي، وعمرو وعكرمة مرَّ محلهما في الذي قبله، وحديث ابن عيينة هذا رواه سعيد بن منصور، وكذا الطبري موصولًا به. أ. هـ. ثم قال المصنف:

باب مهل أهل مكة للحج والعمرة

باب مهلّ أهل مكة للحج والعمرة وأشار المصنف بالترجمة إلى حديث ابن عمر فإنه سيأتي بلفظ: مهلّ، وأما حديث الباب فذكر بلفظ: وقت. الحديث الثاني عشر حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَقَّتَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلأَهْلِ الشَّأْمِ الْجُحْفَةَ، وَلأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ، وَلأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ، هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ، مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ، حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ. قوله: "وقَّت"، أي: حدَّد، وأصل التوقيت أن يجعل للشيء وقت يختص به، وهو بيان مقدار المدة، يقال: وقَّت الشيء بالتشديد يوقته ووقت بالتخفيف يقته إذا بين مدته، ثم اتسع فيه فقيل للموفع ميقات، وقال ابن دقيق العيد: قيل أن التوقيت في اللغة التحديد والتعيين، فعلى هذا فالتحديد من لوازم الوقت، وقوله هنا "وقت" يحتمل أن يريد به التحديد، أي: حدّ هذه المواضع للإِحرام، ويحتمل أن يريد به تعليق الإِحرام بوقت الوصول إلى هذه الأماكن بالشرط المعتبر، وقال عياض: وقَّت، أي: حدَّد، وقد يكون بمعنى أوجب، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا}، ويؤيده الرواية الماضية بلفظ فرض، وقد مرّ استيفاء الكلام على المهل. وأول الحديث إلى قوله: هن لهم في باب ذكر العلم والفتيا في المسجد آخر كتاب العلم. وقوله: "هن لهم"، أي: المواقيت المذكورة لأهل البلاد المذكورة، وفي رواية تأتي في باب دخول مكة بغير إحرام، بلفظ: "هن لهن"، أي: المواقيت للجماعات المذكورة أو لأهلهن على حذف المضاف، والأول هو الأصل، وفي باب مهلّ أهل اليمن: هنّ لأهلهن كما شرحته.

وقوله: "هن" ضمير جماعة المؤنث، وأصله لمن يعقل، وقد استعمل فيما لا يعقل، لكن فيما دون العشرة. وقوله: "لمن أتى عليهن" أي: على المواقيت من غير أهل البلاد المذكورة، ويدخل في ذلك من دخل بلدًا ذات ميقات ومن لم يدخل، فالذي لا يدخل لا إشكال فيه إذا لم يكن له ميقات معين، والذي يدخل فيه خلاف كالشامي إذا أراد الحج فدخل المدينة، فميقاته ذو الحليفة لاجتيازه عليها، ولا يؤخر حتى يأتي الجحفة التي هي ميقاته الأصلي، فإن أخَّر أساء ولزمه دم عند الجمهور، وأطلق النووي الاتفاق ونفى الخلاف في "شرحيه لمسلم والمهذب" في هذه المسألة، فلعله أراد في مذهب الشافعي، وإلا فالمعروف عند المالكية أن الشامي مثلًا إذا جاوز ذا الحليفة بغير إحرام إلى ميقاته الأصلي وهو الجحفة جاز له ذلك وإن كان الأفضل خلافه، وبه قال أبو حنيفة وأبو ثور وابن المنذر من الشافعية. قال ابن دقيق العيد: "قوله: ولأهل الشام الجحفة" يشمل من مرّ من أهل الشام بذي الحليفة، ومن لم يمر. وقوله: "ولمن أتى عليهن من غيرهن" يشمل الشامي إذا مرَّ بذي الحليفة وغيره، فهنا عمومان قد تعارضا، ويحصل الانفكاك عنه بأن قوله: "هن لهن" مفسر لقوله مثلًا: "وقّت لأهل المدينة ذا الحليفة"، وأن امراد بأهل المدينة ساكنوها ومن سلك طريق سفرهم فمرّ على ميقاتهم، ويؤيده عراقي خرج من المدينة فليس له مجاوزة ميقات المدينة غير محرم، ويترجح بهذا قول الجمهور، وينتفي التعارض. وقوله: "ممن أراد الحج العمرة" فيه دلالة على جواز دخول مكة بغير إحرام، وسيأتي في ترجمة مفردة. وقوله: "ومن كان دون ذلك" أي: بين الميقات ومكة. وقوله: "فمن حيث أنشأ"، أي: فميقاته من حيث أنشأ الإِحرام، إذ السفر من مكانه إلى مكة، وهذا متفق عليه إلا ما روي عن مجاهد أنه قال: ميقات هؤلاء نفس مكة، واستدل به ابن حزم على أن من ليس له ميقات فميقاته من حيث شاء، ولا دلالة فيه لأنه يختص بمن كان دون الميقات إلى جهة مكة كما مرَّ، ويؤخذ منه أن من سافر غير قاصد للنسك فجاوز الميقات ثم بدا له بعد ذلك النسك أنه يحرم من حيث تجدد له القصد، ولا يجب عليه الرجوع إلى الميقات لقوله: "فمن حيث أنشأ".

رجاله خمسة

وقوله: "حتى أهل مكة" يجوز فيه الرفع والجر. وقوله: "من مكة" أي: لا يحتاجون إلى الخروج إلى الميقات للإِحرام منه، بل يحرمون من مكة كالآفاقي الذي بين الميقات ومكة، فإنه يحرم من مكانه، ولا يحتاج إلى الرجوع إلى الميقات ليحرم منه، وهذا خاص بالحاج، واختلف في أفضل الأماكن التي يحرم منها كما سيأتي في ترجمة مفردة، وأما المعتمر فيجب عليه أن يخرج إلى أدنى الحل كما مرّ مستوفىً في حديث عائشة رابع أحاديث الكتاب. قال المحب الطبري: لا أعلم أحدًا جعل مكة ميقاتًا للعمرة فتعين حمله على القارن، واختلف في القارن، فذهب الجمهور إلى أن حكمه حكم الحاج في الإهلال من مكة. وقال ابن الماجشون: يجب عليه الخروج إلى أدنى الحل ووجهه أن العمرة إنما تندرج في الحج فيما محله واحد كالطواف والسعي عند من يقول بذلك، وأما الإِحرام فمحله فيهما مختلف، وجواب هذا الإِشكال أن المقصود من الخروج إلى الحل في حق العمرة أن يرد على البيت الحرام من الحل، فيصح كونه وافدًا عليه، وهذا يحصل للقارن لخروجه إلى عرفة، وهي من الحل، ورجوعه إلى البيت لطواف الإِفاضة، فحصل المقصود بذلك أيضًا. واختلف فيمن جاوز الميقات مريدًا للنسك فلم يحرم، فقال الجمهور يأثم ويلزمه دم، فأما لزوم الدم فبدليل غير هذا، وأما الاثم فلترك الواجب، وقد تقدم الحديث عن ابن عمر بلفظ فرضها، وسيأتي بلفظ يهلّ، وهو خبر بمعنى الأمر، والأمر لا يرد بلفظ الخبر إلا إذا أريد تأكيده، وتأكيد الأمر للوجوب، وسبق في العلم: من أين تأمرنا أن نهلّ؟ ولمسلم عن ابن عمر: أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أهل المدينة. وذهب عطاء والنخعي إلى عدم الوجوب ومقابلة قول سعيد بن جبير: لا يصح حجة، وبه قال ابن حزم، قال الجمهور: ولو رجع إلى الميقات قبل التلبس بالنسك سقط عنه الدم إلى آخر ما مرَّ في باب فرض مواقيت الحج. رجاله خمسة قد مرُّوا: مرّ موسى بن إسماعيل وابن عباس في الخامس من بدء الوحي، ومرّ وهيب بن خالد في تعليق بعد الخامس عشر من الإيمان، ومرّ عبد الله بن طاووس في الرابع والثلاثين من الحيض، ومرّ طاووس في باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين بعد الأربعين من الوضوء. أ. هـ. أخرجه البخاري أيضًا، ومسلم والنسائي في الحج. أ. هـ.

باب ميقات أهل المدينة ولا يهلون قبل ذي الحليفة

باب ميقات أهل المدينة ولا يهلُّون قبل ذي الحليفة الحديث الثالث عشر حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "يُهِلُّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِى الْحُلَيْفَةِ، وَأَهْلُ الشَّامِ مِنَ الْجُحْفَةِ، وَأَهْلُ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ". قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَبَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "وَيُهِلُّ أَهْلُ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ". قد مرَّ الكلام على هذا المعنى في باب فرض مواقيت الحج، واستنبط المصنف من إيراد الخبر بصيغة الخبر مع إرادة أن الأمر تعيُّن ذلك، وأيضًا فلم ينقل عن أحد ممن حج مع النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه أحرم قبل ذي الحليفة، ولولا تعين الميقات لبادروا إليه لأنه يكون أشق، فيكون أكثر أجرًا. والأفضل في كل ميقات أن يحرم من طرفه الأبعد من مكة، فلو أحرم من طرفه الأقرب جاز، وقد مرّ لك في الحديث الذي قبله أن مباحث المواقيت تقدمت في باب ذكر العلم والفتيا في المسجد، آخر كتاب العلم. وقوله: "قال عبد الله: وبلغني"، وسيأتي من رواية ابنه سالم عنه بعد باب بلفظ: زعموا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال، ولم أسمعه، وتقدم في العلم من وجه آخر بلفظ: لم أفقه هذه من النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو يشعر بأن الذي بلغ ابن عمر ذلك جماعة، وقد ثبت ذلك من حديث ابن عباس كما في الباب قبله، ومن حديث جابر عند مسلم، ومن حديث عائشة عند النسائي، ومن حديث الحارث بن عمرو السهمي عند أبي داود وأحمد والنسائي. أ. هـ. رجاله أربعة قد مرُّوا: مرّ عبد الله بن يوسف ومالك في الثاني من بدء الوحي، ومرّ نافع في الأخير من العلم، وابن عمر في أول الإِيمان قبل ذكر حديث منه. أ. هـ. ثم قال المصنف:

باب مهل أهل الشام

باب مهل أهل الشام الحديث الرابع عشر حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رضي الله عنهما قَالَ: وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ، وَلأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ، وَلأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ، فَهُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ، لِمَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، فَمَنْ كَانَ دُونَهُنَّ فَمُهَلُّهُ مِنْ أَهْلِهِ، وَكَذَاكَ حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْهَا. وهذا الحديث قد تقدم قبل باب، وتقدم الكلام عليه هناك. رجاله خمسة قد مرّوا: مرّ مسدد في السادس من الإِيمان، ومرّ حماد بن زيد في الرابع والعشرين من الإيمان، ومرّ عمرو بن دينار في الثالث والخمسين من العلم، ومرّ محل طاووس وابن عباس في الذي قبله بحديث. أ. هـ. ثم قال المصنف:

باب مهل أهل نجد

باب مهلّ أهل نجد الحديث الخامس عشر حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَفِظْنَاهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ: وَقَّتَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "مُهَلُّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ذُو الْحُلَيْفَةِ، وَمُهَلُّ أَهْلِ الشَّأْمِ مَهْيَعَةُ وَهِيَ الْجُحْفَةُ، وَأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنٌ". قَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: زَعَمُوا أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ -وَلَمْ أَسْمَعْهُ-: "وَمُهَلُّ أَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمُ". وهذا الحديث قد مرّ قريبًا محل الكلام عليه فليراجع هناك. أ. هـ. رجاله ثمانية قد مرُّوا: مرّ علي ابن المديني في الرابع عشر من العلم، ومرّ سفيان بن عيينة في الأول من بدء الوحي، والزهري في الثالث منه، وسالم بن عبد الله في السابع عشر من الإِيمان، وأبوه عبد الله في أوله قبل ذكر حديث، ومرّ أحمد بن عيسى في الرابع والسبعين من استقبال القبلة، ومرّ ابن وهب في الثالث عشر من العلم، ومرّ يونس بن يزيد في متابعة بعد الرابع من بدء الوحي، وقيل إن المراد بأحمد، أحمد بن صالح وقد مرّ مع أحمد بن عيسى. أ. هـ. ثم قال المصنف:

باب مهل من كان دون المواقيت

باب مهلّ من كان دون المواقيت أي: دونها إلى مكة. الحديث السادس عشر حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَقَّتَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلأَهْلِ الشَّأْمِ الْجُحْفَةَ، وَلأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ، وَلأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنًا، فَهُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ، مِمَّنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَمَنْ كَانَ دُونَهُنَّ فَمِنْ أَهْلِهِ حَتَّى إِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْهَا. وهذا الحديث قد مرّ الكلام عليه في باب أهل مكة. أ. هـ. رجاله خمسة قد مرُّوا: مرّ قتيبة في الحادي والعشرين من الإِيمان، ومرّ حماد في الرابع والعشرين منه، ومرّ عمرو بن دينار في الثالث والخمسين من العلم، ومرّ طاووس بعد الأربعين من الوضوء في باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين، ومرّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي. أ. هـ. ثم قال المصنف:

باب مهل أهل اليمن

باب مهلّ أهل اليمن حكى الأثرم أنه سئل: في أيّ سنة وقَّت النبي -صلى الله عليه وسلم- المواقيت؟ فقال: عام حج، وقد مرّ حديث ابن عمر في العلم أن رجلًا قام في المسجد فقال: يا رسول الله من أين تأمرنا أن نهلّ؟ أ. هـ. الحديث السابع عشر حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضى الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَقَّتَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلأَهْلِ الشَّأْمِ الْجُحْفَةَ، وَلأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ، وَلأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ، هُنَّ لأَهْلِهِنَّ وَلِكُلِّ آتٍ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ، فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ. وهذا الحديث قد مرّ الكلام عليه في الباب المذكور آنفًا حين ذكر هناك. أ. هـ. رجاله خمسة قد مرّوا: مرّ معلي بن أسد وعبد الله بن طاووس في الرابع والثلاثين من الحيض، ومرّ وهيب بن خالد في تعليق بعد الخامس عشر من الإِيمان، ومرَّ محلّ طاووس وابن عباس في الذي قبله. أ. هـ. ثم قال المصنف:

باب ذات عرق لأهل العراق

باب ذات عرق لأهل العراق وعِرق: بكسر العين وسكون الراء بعدها قاف، سُمِّي بذلك لأن فيه عرقًا وهو الجبل الصغير، وهي أرض سبخة تنبت الطرفاء، بينها وبين مكة مرحلتان، والمسافة اثنان وأربعون ميلًا، وهو الحد الفاصل بين نجد وتهامة، وهي أول بلاد تهامة، ودونها بميلين ونصف مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهي لبني هلال بن عامر بن صعصعة، وبها بركة تعرف بقصر الوصيف، وبها من الآبار الكبار ثلاثة آبار، ومن الصغار كثير، وبقربه قبر أبي رغال، وبالقرب منها بستان منه إلى مكة ثمانية عشر ميلًا. أ. هـ. الحديث الثامن عشر حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ، قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: لَمَّا فُتِحَ هَذَانِ الْمِصْرَانِ، أَتَوْا عُمَرَ فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَدَّ لأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنًا، وَهُوَ جَوْرٌ عَنْ طَرِيقِنَا، وَإِنَّا إِنْ أَرَدْنَا قَرْنًا شَقَّ عَلَيْنَا. قَالَ: فَانْظُرُوا حَذْوَهَا مِنْ طَرِيقِكُمْ، فَحَدَّ لَهُمْ ذَاتَ عِرْقٍ. كذا للأكثر "فُتح" بضم الفاء على البناء لما لم يسم فاعله، وفي رواية الكشميهني: لما فتح هذين المصرين، بفتح الفاء والتاء على حذف الفاعل، والتقدير: لما فتح الله، وكذا ثبت لأبي نعيم في "المستخرج" وبه جزم عياض، وأما ابن مالك، فقال: تنازع "فتح"، و"أتوا" وهو على إعمال الثاني، وإسناد الأول إلى ضمير عمر، وعند الإِسماعيلي: عن عبيد الله مختصرًا، وزاد في الإِسناد عن عمر أنه حدَّ لأهل العراق ذات عرق، والمصران: تثنية مصر، والمراد بهما البصرة والكوفة، وهما سرّتا العراق، والمراد بفتحهما غلبة المسلمين على مكان أرضهما، وإلا فهما من تمصير المسلمين، بُنيتا في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه. وقوله: "جَوْر" بفتح الجيم وسكون الواو بعدها راء، أي: مَيْل، والجور: الميْل عن القصد، ومنه قوله تعالى: {وَمِنْهَا جَائِرٌ}.

وقوله: "فانظروا حذوها"، أي: اعتبروا ما يقابل الميقات من الأرض التي تسلكونها من غير ميل، فاجعلوه ميقاتًا. وقوله: "فحدَّ لهم ذات عرق"، ظاهره أن عمر حدَّ لهم ذات عرق باجتهاد منه، وقد روى الشافعي عن أبي الشعثاء، قال: لم يوقت النبي -صلى الله عليه وسلم- لأهل المشرق شيئًا، فاتخذ الناس بحيال قرن ذات عرق، وروى أحمد عن ابن عمر حديث المواقيت، وزاد: قال ابن عمر: فآثر الناس ذات عرق على قرن. وله عن سفيان، عن صدقة، عن ابن عمر، فذكر حديث المواقيت، قال: فقال له قائل: فأين العراق؟ فقال ابن عمر: لم يكن يومئذ عراق، وسيأتي في الاعتصام عنه: لم يكن يومئذ عراق، وفي "غرائب مالك": للدارقطني عن عبد الرزاق، عن مالك، عن ابن عمر، قال: وقَّت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأهل العراق قرنًا، قال عبد الرزاق: قال لي بعضهم: إن مالكًا محاه من كتابه، وقال الدارقطني: تفرد به عبد الرزاق، قال في "الفتح": والإِسناد إليه ثقات، أثبات، وأخرجه إسحاق بن راهويه في "مسنده" عنه، وهو غريب جدًا، وحديث الباب يرده، وروى الشافعي عن طاووس، قال: لم يوقت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات عرق، ولم يكن حينئذ أهل المشرق، وقال في "الأم": لم يثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه حدَّ ذات عرق، وإنما أجمع عليه الناس. وهذا كله يدل على أن ميقات ذات عرق ليس منصوصًا، وبه قطع الغزالي والرافعي في "شرح المسند"، والنووي في "شرح مسلم"، وكذا وقع في "المدونة" لمالك، وصحح الحنفية والحنابلة وجمهور الشافعية والرافعي في "الشرح الصغير"، والنووي في "شرح المهذب" أنه منصوص، ووقع ذلك في حديث جابر عند مسلم، إلا أنه مشكوك في رفعه، وأخرجه أبو عوانة في "مستخرجه" كذلك، وأخرجه أحمد وابن ماجه، ولم يشكّا في رفعه، ووقع في حديث عائشة والحارث بن عمرو السهمي عند أحمد وأبي داود والنسائي. وهذا يدل على أن للحديث أصلًا، فلعلَّ من قال إنه غير منصوص لم يبلغه، أو رأى ضعف الحديث باعتبار أن كل طريق لا يخلو عن مقال، ولهذا قال ابن خزيمة: رويت في ذات عراق أخبار لا يثبت شيء منها عند أهل الحديث، وقال ابن المنذر: لم نجد في ذات عرق حديثًا ثابتًا، لكن الحديث بمجموع الطرق يقوى، وأما إعلال من أعلَّه بأن العراق لم تكن فتحت حينئذ، فقال ابن عبد البر: هو غفلة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- وقَّت المواقيت لأهل النواحي قبل الفتوح، لكن علم أنها ستفتح، فلا فرق في ذلك بين الشام والعراق. أ. هـ. وبهذا أجاب الماوردي وآخرون، ولكن يظهر أن مراد من قال: لم يكن العراق يومئذ،

أي: لم يكن في تلك الجهة ناس مسلمون، والسبب في قول ابن عمر ذلك أنه روى الحديث بلفظ أن رجلًا قال: يا رسول الله من أين تأمرنا أن نهلّ؟ فأجابه، وكل جهة عينها في حديث ابن عمر كان من قبلها ناس مسلمون بخلاف المشرق. أ. هـ. قلت: الشام في زمنه عليه الصلاة والسلام مثل العراق لم يكن في جهته مسلمون. وأما ما أخرجه أبو داود والترمذي من وجه آخر عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وقَّت لأهل المشرق العقيق، وهو وادٍ يتدفق ماؤه في غَوْرَيْ تهامة وهو غير عقيق المدينة الآتي ذكره، فقد تفرّد به يزيد بن أبي زياد، وهو ضعيف، وإن كان حفظه، فقد يجمع بينه وبين حديث جابر وغيره بأجوبة منها أن ذات عرق ميقات الوجوب، والعقيق ميقات الاستحباب لأنه أبعد من ذات عرق، ومنها أن العقيق لبعض العراقيين وهم أهل المدائن، والآخر ميقات لأهل البصرة وقع ذلك في حديث أنس عند الطبراني، وإسناده ضعيف، ومنها أن ذات عرق كانت أولًا في موضع العقيق الآن، ثم حولت وقربت إلى مكة، فعلى هذا فذات عرق والعقيق شيء واحد، ويتعين الاحرام من العقيق، ولم يقل به أحد، وإنما قالوا: يستحب احتياطًا، وحكى ابن المنذر، عن الحسن بن صالح أنه كان يُحرم من الربذة، وهو قول القاسم بن عبد الرحمن وخصيف الجزري، قال ابن المنذر: وهو أشبه في النظر إن كانت ذات عرق غير منصوصة، وذلك أنها تحاذي ذا الحليفة وذات عرق بعد. والحكم فيمن ليس له ميقات أن يحرم من أول ميقات يحاذيه، لكن لما سن عمر ذات عرق، وتبعه عليه الصحابة، واستمر عليه العمل، كان أولى بالاتباع، واستدل به على أن من ليس عليه ميقات أن عليه أن يحرم إذا حاذى ميقاتًا من هذه المواقيت الخمسة، ولا شك أنها محيطة بالحرم، فذو الحليفة شامية، ويلملم يمانية فهي مقابلها، وإن كانت إحداهما أقرب إلى مكة من الأخرى، وقرن شرقية، والجحفة غربية فهي مقابلها، وان كانت إحداهما كذلك، وذات عرق تحاذي قرنًا، فعلى هذا فلا تخلو بقعة من بقاع الأرض من أن تحاذي ميقاتًا من هذه المواقيت، فبطل قول من قال: من ليس له ميقات، ولا يحاذي ميقاتًا هل يحرم من مقدار أبعد المواقيت أو أقربها؟ ثم حكى فيه خلافًا، والغرض أن هذه الصورة لا تحقق لما مرَّ إلا إذا كان قائله فرضه فيمن لم يطلع على المحاذاة كمن يجهلها. وقد نقل النووي في "شرح المهذب" أنه يلزمه أن يحرم على مرحلتين اعتبارًا بقول عمر هذا في توقيته ذات عرق، وتعقب بأن عمر إنما حدها لأنها تحاذي قرنًا، وهذه الصورة إنما هي حيث يجهل المحاذاة، فلعل القائل بالمرحلتين أخذ بالأقل؛ لأن ما زاد عليه مشكوك فيه،

رجاله خمسة

لكن مقتضى الأخذ بالاحتياط أن يعتبر الأكثر الأبعد، ويحتمل أن يفرق بين من عن يمين الكعبة، وبين من عن شمالها لأن المواقيت التي عن يمينها أقرب من التي عن شمالها، فيقدر لليمين الأقرب، وللشمال الأبعد. ثم إن مشروعية المحاذاة تختص بمن ليس له أمامه ميقات معين، فأما من له ميقات معين كالمصري مثلًا، يمر ببدر، وهي تحاذي ذا الحليفة فليس عليه أن يحرم منها، بل له التأخير حتى يأتي الجحفة. أ. هـ. والحاصل أن جمهور العلماء من التابعين ومن بعدهم مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور على أن ميقات أهل العراق ذات عرق، إلا أن الشافعي استحب أن يحرم العراقي من العقيق الذي بحذاء ذات عرق المار ذكره. أ. هـ. رجاله خمسة، وفيه ذكر عمر. وقد مرَّ الجميع إلا علي بن مسلم مرّ عبد الله بن نمير في الثالث من التيمم، ومرّ عبيد الله العمري في الرابع عشر من الوضوء، ومرّ نافع في الأخير من العلم، ومرّ ابن عمر في أول الإِيمان، قبل ذكر حديث، ومرّ عمر في الأول من بدء الوحي، وأما علي فهو ابن مسلم بن سعيد الطوسي أبو الحسن، نزيل بغداد، ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال النسائي: لا بأس به، وقال الدارقطني: ثقة، وفي "الزهرة": روى عنه البخاري سبعة، روى عن ابن المبارك، وهشيم، وعباد بن العوام وغيرهم، وروى عنه البخاري، وأبو داود، والنسائي، ويحيى بن معين وغيرهم، ولد سنة ستين ومائة، ومات سنة ثلاث وخمسين ومئتين. أ. هـ. ثم قال المصنف:

باب

باب كذا في الأصول بدون ترجمة، وهو بمنزلة الفصل من الباب الذي قبله، ومناسبته من جهة دلالة حديثه على استحباب صلاة ركعتين عند إرادة الإِحرام من الميقات، وقد ترجم عليه بعض الشارحين نزول البطحاء، والصلاة بذي الحليفة، وحكى القطب أنه في بعض النسخ، قال: وسقط في نسخة سماعنا لفظ باب، وفي "شرح ابن بطال" الصلاة بذي الحليفة. أ. هـ. الحديث التاسع عشر حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَاخَ بِالْبَطْحَاءِ بِذِى الْحُلَيْفَةِ، فَصَلَّى بِهَا. وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَفْعَلُ ذَلِكَ. قوله: "أناخ" بالنون والخاء المعجمة، أي: أبرك بعيره، والمراد أنه نزل بها، والبطحاء قد بين أنها التي بذي الحليفة. وقوله: "فصلى بها" يحتمل أن يكون للإِحرام، ويحتمل أن يكون للفريضة، وسيأتي من حديث أنس أنه صلى الله تعالى عليه وسلم صلى العصر بذي الحليفة ركعتين، ثم إن هذا النزول يحتمل أن يكون في الذهاب وهو الظاهر من تصرف المصنف، ويحتمل أن يكون في الرجوع، ويؤيده حديث الذي بعده بلفظ: "وإذا رجع صلى بذي الحليفة في بطن الوادي وبات حتى يصبح" ويمكن الجمع بأنه كان يفعل الأمرين ذهابًا وإيابًا. أ. هـ. رجاله أربعة قد مرُّوا: مرّ عبد الله بن يوسف ومالك في الثاني من بدء الوحي، ومرّ نافع في الأخير من العلم، ومرّ ابن عمر في أول الإيمان قبل ذكر حديث منه. أ. هـ. ثم قال المصنف:

باب خروج النبي -صلى الله عليه وسلم- على طريق الشجرة

باب خروج النبي -صلى الله عليه وسلم- على طريق الشجرة قال عياض: هو موضع معروف على طريق من أراد الذهاب إلى مكة، كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخرج منه إلى ذي الحليفة، فيبيت بها، وإذا رجع بات بها أيضًا، ودخل على طريق المعرِّس، بفتح الراء المثقلة وبالمهملتين، وهو مكان معروف أيضًا، وكل من المعرس والشجرة على ستة أميال من المدينة، لكن المعرس أقرب، وقال ابن بطال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يفعل ذلك كما يفعل في العيد، يذهب من طريق ويرجع من أخرى، وقد مرّ القول في حكمة ذلك مبسوطًا في العيدين، وقد قال بعضهم: إن نزوله هناك لم يكن قصدًا، وإنما كان اتفاقًا، حكاه إسماعيل القاضي في أحكامه عن محمد بن الحسن وتعقبه، والصحيح أنه كان قصدًا لئلا يدخل المدينة ليلًا، ويدل عليه قوله: "وبات حتى يصبح"، ولمعنى فيه وهو التبرك به كما سيأتي في الباب الذي بعده. أ. هـ. الحديث العشرون حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَخْرُجُ مِنْ طَرِيقِ الشَّجَرَةِ، وَيَدْخُلُ مِنْ طَرِيقِ الْمُعَرَّسِ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ يُصَلِّي فِي مَسْجِدِ الشَّجَرَةِ، وَإِذَا رَجَعَ صَلَّى بِذِي الْحُلَيْفَةِ بِبَطْنِ الْوَادِي، وَبَاتَ حَتَّى يُصْبِحَ. وهذا الحديث قد مرّ في أواخر أبواب المساجد في باب المساجد التي على طرق المدينة، وسياقه هناك أبسط مما هنا. أ. هـ. رجاله خمسة قد مرُّوا: مرّ إبراهيم بن المنذر في الأول من العلم، ومرّ أنس بن عياض، وعبيد الله العمري في الرابع عشر من الوضوء، ومرَّ محل نافع وابن عمر في الذي قبله. أ. هـ. ثم قال المصنف:

باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "العقيق واد مبارك"

باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "العقيق وادٍ مبارك" الحديث الحادي والعشرون حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ وَبِشْرُ بْنُ بَكْرٍ التِّنِّيسِيُّ، قَالاَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنِي عِكْرِمَةُ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما إِنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ رضي الله عنه، يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- بِوَادِى الْعَقِيقِ يَقُولُ: "أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي فَقَالَ صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ وَقُلْ عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ". ذكر هذا الحديث في الترجمة، والمذكور في الحديث ليس من قول النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإنما حكاه عن الآتي الذي أتاه، لكن روى ابن عدي عن عائشة مرفوعًا: "تخيَّموا بالعقيق فإنه مبارك"، فكأنه أشار إلى هذا. وقوله: "تخيَّموا" بالخاء المعجمة والتحتانية، أمرٌ بالتخييم والمراد به النزول هناك، وذكر ابن الجوزي في "الموضوعات" أن الرواية بالتحتانية تصحيف، وأن الصواب بالمثناة الفوقانية، ولما قاله اتجاه لأنه وقع في معظم الطرق ما يدل على أنه من الخاتم، وهو من طريق يعقوب بن الوليد، عن هشام بلفظه، وفي حديث عمر: "تختموا بالعقيق فإن جبريل أتاني به من الجنة"، وأسانيده ضعيفة. وقوله: "آت من ربي" هو جبريل. وقوله: "في هذا الوادي المبارك" يعني: وادي العقيق، وهو بقرب البقيع، بينه وبين المدينة أربعة أميال، هكذا قال في "الفتح"، قلت: لعله تصحيف لأن المدينة بين العقيق والبقيع، فلا يصح أن يقال أن العقيق بقرب البقيع، وروى الزبير بن بكار في أخبار المدينة أن تُبَّعًا لما رجع من المدينة انحدر في مكان، فقال: هذا عقيق الأرض، فسمي العقيق. وقوله: "وقل عمرة في حجة" برفع عمرة للأكثر على أنها خبر مبتدأ محذوف، أي: هذه عمرة وبنصبها لأبي ذر مفعول به، أي: قل جعلتها عمرة، وهذا دال على أنه -صلى الله عليه وسلم- كان قارنًا، وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان ذلك بعد أبواب، وأبعد من قال معناه عمرة مُدرجة في حجة، أي: أن عمل العمرة يدخل في عمل الحج، فيجزىء لهما طواف واحد، وقيل: معناه أنه

رجاله ثمانية

يعتمر في تلك السنة بعد فراغ حجه، وهذا أبعد من الذي قبله لأنه -صلى الله عليه وسلم- لم يفعل ذلك، نعم يحتمل أن يكون أمران يقول ذلك لأصحابه ليعلمهم مشروعية القِران وهو كقوله: "دخلت العمرة في الحج"، قاله الطبري، واعترضه ابن المنيِّر، فقال: ليس نظيره؛ لأن قوله: "دخلت"، الخ، تأسيس قاعدة، وقوله: "عمرة في حجة" بالتنكير يستدعي الوحدة، وهو إشارة إلى الفعل الواقع من القِران إذ ذاك، ويؤيده ما يأتي في كتاب الاعتصام بلفظ: "عمرة وحجة" بواو العطف. وفي الحديث: فضل العقيق كفضل المدينة، وفضل الصلاة فيه. وفيه استحباب نزول الحاج في منزلة قريبة من البلد، ومبيتهم بها ليجتمع إليهم من تأخر عنهم ممن أراد مرافقتهم، وليستدرك حاجته من نسيها مثلًا، فيرجع إليها، وليعلم أهل القادم به، فتستحد المغيبة، وتمتشط الشعثة. أ. هـ. رجاله ثمانية قد مرّوا: مرّ الحميدي وعمر بن الخطاب في الأول من بدء الوحي، ومرّ ابن عباس في الخامس منه، ومرّ الوليد بن مسلم في السادس والثلاثين من مواقيت الصلاة، ومرّ بشر بن بكر في متابعة بعد الستين من الجماعة، ومرّ الأوزاعي في العشرين من العلم، ومرّ يحيى بن أبي كثير في الثالث والخمسين منه، ومرّ عكرمة في السابع عشر منه. أ. هـ. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإفراد والعنعنة والسماع والقول، وسنده دمشقيان، ويمامي، ومدني، ومكي. أخرجه البخاري في المزارعة، وفي الاعتصام، وأبو داود وابن ماجه في الحج. أ. هـ. الحديث الثاني والعشرون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ رُؤي وَهُوَ فِي مُعَرَّسٍ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، بِبَطْنِ الْوَادِي، قِيلَ لَهُ إِنَّكَ بِبَطْحَاءَ مُبَارَكَةٍ. وَقَدْ أَنَاخَ بِنَا سَالِمٌ، يَتَوَخَّى بِالْمُنَاخِ الَّذِي كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُنِيخُ، يَتَحَرَّى مُعَرَّسَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ أَسْفَلُ مِنَ الْمَسْجِدِ الَّذِي بِبَطْنِ الْوَادِي، بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الطَّرِيقِ وَسَطٌ مِنْ ذَلِكَ. قوله: "أنه أُري" بضم الهمزة في المنام، وفي رواية رؤي بتقديم الراء، رآه غيره.

رجاله خمسة

وقوله: "وهو معرس" في رواية الكشميهني في معرس بالتنوين. وقوله: "ببطن الوادي" تبين من حديث عمر الذي قبله أنه وادي العقيق. وقوله: "وقد أناخ بنا سالم" هو مقول موسى بن عقبة الراوي عنه، وقوله: "يتوخى" بالخاء المعجمة، أي: يقصد، والمُناخ بضم الميم المبرك. وقوله: "وهو أسفل" بالنصب، ويجوز الرفع على أنه خبر هو، والمراد بالمسجد الذي كان هناك في ذلك الزمان. وقوله: "بينه"، أي: بين المعرس، وفي رواية الحموي بينهم، أي: بين النازلين وبين الطريق. وقوله: "وسط من ذلك" بفتح المهملة، أي: متوسط بين بطن الوادى وبين الطريق، وعند أبي ذر: وسطًا من ذلك، بالنصب. أ. هـ. رجاله خمسة قد مرُّوا: مرّ محمد بن أبي بكر وفضيل بن سليمان في الرابع والثمانين من استقبال القبلة، ومرّ موسى بن عقبة في الخامس من الوضوء، ومرّ سالم في السابع عشر من الإِيمان، ومرّ أبوه عبد الله في أوله قبل ذكر حديث منه. أ. هـ. أخرجه البخاري أيضًا في الاعتصام والمزارعة، ومسلم والنسائي في الحج. أ. هـ. ثم قال المصنف:

باب غسل الخلوق ثلاث مرات من الثياب

باب غسل الخلوق ثلاث مرات من الثياب الخَلوق بفتح الخاء المعجمة: نوع من الطيب مركب فيه زعفران. الحديث الثالث والعشرون قَالَ أَبُو عَاصِمٍ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ: أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ يَعْلَى، أَخْبَرَهُ أَنَّ يَعْلَى قَالَ لِعُمَرَ رضي الله عنه: أَرِنِي النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ يُوحَى إِلَيْهِ، قَالَ: فَبَيْنَمَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِالْجِعْرَانَةِ، وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ، وَهْوَ مُتَضَمِّخٌ بِطِيبٍ؟ فَسَكَتَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- سَاعَةً, فَجَاءَهُ الْوَحْيُ، فَأَشَارَ عُمَرُ رضي الله عنه إِلَى يَعْلَى، فَجَاءَ يَعْلَى، وَعَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ثَوْبٌ قَدْ أُظِلَّ بِهِ فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مُحْمَرُّ الْوَجْهِ، وَهُوَ يَغِطُّ ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ، فَقَالَ: "أَيْنَ الَّذِي سَأَلَ عَنِ الْعُمْرَةِ؟ " فَأُتِيَ بِرَجُلٍ فَقَالَ: اغْسِلِ الطِّيبَ الَّذِي بِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، وَانْزِعْ عَنْكَ الْجُبَّةَ، وَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ كَمَا تَصْنَعُ فِي حَجَّتِكَ". قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَرَادَ الإِنْقَاءَ حِينَ أَمَرَهُ أَنْ يَغْسِلَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قوله: "قال أبو عاصم" هو من شيوخ البخاري، ولم يرو عنه إلا بصيغة التعليق، وبذلك جزم الإِسماعيلي، فقال: ذكره عن أبي عاصم بلا خبر، وأبو نعيم، فقال: ذكره بلا واسطة، وحكى الكرماني أنه وقع في بعض النسخ: حدثنا محمد، حدثنا أبو عاصم، ومحمد هو ابن معمر، أو ابن بشار، ويحتمل أن يكون البخاري. ولم يقع في المتن ذكر الخلوق، وإنما أشار به إلى ما ورد في بعض طرقه، وهو في أبواب العمرة بلفظ: "وعليه أثر الخلوق". وقوله: "أن يعلى" هو ابن أمية التميمي، ويأتي تعريفه، وتعريف ابنه صفوان في السند، وليست رواية صفوان عنه لهذا الحديث بواضحة لأنه قال فيها أن يعلى قال لعمر: ولم يقل أن يعلى أخبره أنه قال لعمر، فإن يكن صفوان حضر مراجعتهما، وإلا فهو منقطع، لكن سيأتي في أبواب العمرة من وجه آخر عن صفوان بن يعلى، عن أبيه الحديث.

وقوله: "جاء رجل" سيأتي بعد أبواب بلفظ: جاء أعرابي، والرجل المبهم قيل أنه عطاء بن منية، وفي "شرح سراج الدين بن الملقن": هذا الرجل يجوز أن يكون عمرو بن سواد، إذ في كتاب "الشفاء" للقاضي عياض عنه، قال: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنا متخلق، فقال: "ورس ورس، حط حط"، وغشيني بقضيب بيده في بطني، فأوجعني، قال ابن الملقن: لكن عمرو هذا لا يدرك؛ لأنه صاحب ابن وهب. أ. هـ. وهو معترض من وجهين، أمَّا أولًا، فليست هذه القصة شبيهة بهذه القصة حتى يفسر صاحبها بصاحبها، وأما ثانيًا ففي الاستدراك غفلة عظيمة، فإن من يقول: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يتخيل فيه أنه صاحب ابن وهب صاحب الإِمام مالك، بل إن ثبت فهو آخر، وافق اسمه اسمه، واسم أبيه اسم أبيه، والغرض أنه لم يثبت لأنه انقلب على ابن الملقن، وإنما الذي في الشفاء: سواد بن عمرو، وقيل: سوادة بن عمرو، وأخرج حديثه المذكور عبد الرزاق في "مصنفه"، والبغوي في "معجم الصحابة"، وسأذكر في السند تعريف من قيل إنه هو المبهم. وروى الطحاوي عن أبي حفص بن عمرو، عن يعلى أنه مرَّ على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو متخلق، فقال: "ألك امرأة"؟ قال: لا، قال: "اذهب فاغسله" فقد يتوهم من لا خبرة له أن يعلي بن أمية هو صاحب القصة، وليس كذلك، فإن راوي هذا الحديث يعلي بن مرة الثقفي، وهي قصة أخرى غير قصة صاحب الإِحرام، نعم روى الطحاوي في موضع آخر ذلك عن يعلي بن أمية صاحب القصة، فعن عطاء ابن أبي رباح أن رجلًا يقال له يعلي بن أمية أحرم وعليه جبة، فأمره النبي -صلى الله عليه وسلم- أن ينزعها، قال قتادة: قلت لعطاء: إنما كنا نرى أن نشقها، قال عطاء: إن الله لا يحب الفساد. وقوله: "قد أُظِلّ به" بضم الهمزة وكسر الظاء المعجمة، أي: جعل عليه كالظلة، وعند الطبراني في "الأوسط" وابن أبي حاتم أن الآية نزلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- حينئذ قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}، ويستفاد منه أن المأمور به وهو الإِتمام يستدعي وجوب اجتناب ما يقع في العمرة. وقوله: "يغطُّ" بفتح أولى وكسر المعجمة وتشديد الطاء المهملة، أي: ينفخ، والغطيط صوت النفس المتردد من النائم أو المغمى، وسبب ذلك شدة ثقل الوحي، وكان سبب إدخال يعلى رأسه عليه في تلك الحالة أنه كان يحب لو رآه في حالة نزول الوحي، وكان يقول ذلك لعمر، فقال له عمر حينئذ: تعال فانظر، وكأنه علم أن ذلك لا يشق على النبي -صلى الله عليه وسلم-.

وقوله: "سُرِّي عنه" بضم المهملة وتشديد الراء المكسورة، أي: كشف عنه شيئًا بعد شيء. وقوله: "اغسل الطيب الذي بك" هو أعم من أن يكون بثوبه أو ببدنه، وسيأتي البحث فيه. وقوله: "واصنع في عمرتك ما تصنع في حجتك" في رواية. الكشميهني كما تصنع، وسيأتي في أبواب العمرة: "كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي؟ "، ولمسلم عن عطاء: "وما كنت صانعًا في حجك فاصنع في عمرتك"، وهو دال على أنه كان يعرف أعمال الحج قبل ذلك، قال ابن العربي: كأنهم كانوا في الجاهلية يخلعون الثياب ويجتنبون الطيب في الإِحرام إذا حجُّوا، وكانوا يتساهلون في ذلك في العمرة، فأخبره النبي -صلى الله عليه وسلم- أن مجراهما واحد، وقال ابن المنير: قوله: "واصنع" معناه اترك لأن المراد بيان ما يجتنبه المحرم، فيؤخذ منه فائدة حسنة وهي أن الترك فعل، قال: وأما قول ابن بطال: أراد الأدعية وغيرها مما يشترك فيه الحج والعمرة ففيه نظر لأن التروك مشتركة بخلاف الأعمال، فإن في الحج أعمالًا زائدة على العمرة كالوقوف بعرفة، وما بعده، وقال النووي كما قال ابن بطال، وزاد: ويستثنى من الأعمال ما يختص به الحج، وقال الباجي: المأمور به غير نزع الثوب، وغسل الخلوق، لأنه صرح له بهما، فلم يبق إلا الفدية، كذا قال، ولا وجه لهذا الحصر، بل الذي تبين من طريق أخرى أن المأمور به الغسل والنزع، وذلك أن عند مسلم والنسائي عن عمرو بن دينار، عن عطاء في هذا الحديث، فقال: "ما كنت صانعًا في حجك؟ "، قال: أنزع عني هذه الثياب، وأغسل عني هذا الخلوق. فقال: "ما كنت صانعًا في حجك، فاصنعه في عمرتك". وقوله: "فقلت لعطاء" القائل هو ابن جريج، وهو قال على أنه فهم من السياق أن قوله: "ثلاث مرات" من لفظ النبي -صلى الله عليه وسلم- وذلك هو الظاهر أو المتعين، ويحتمل أن يكون من كلام الصحابي وأنه عليه الصلاة والسلام أعاد لفظة: اغسله مرة ثم مرة، على عادته أنه كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا، لتفهم عنه، قال الإسماعيلي: ليس في حديث الباب أن الخلوق كان على الثوب كما في الترجمة، وإنما فيه أن الرجل كان متضمخًا. وقوله: "اغسل الطيب الذي بك" يوضح أن الطيب لم يكن في ثوبه، وإنما كان على بدنه، ولو كان على الجبة لكان في نزعها كفاية من جهة الإِحرام، والجواب أن البخاري على عادته يشير إلى ما وقع في بعض طرق الحديث الذي يورده، وسيأتي في محرمات الإِحرام من وجه آخر بلفظ: "عليه قميص فيه أثر صفرة"، والخلوق عادة إنما يكون في الثوب، ورواه

أبو داود الطيالسي في "مسنده" عن عطاء، بلفظ: رأى رجلًا عليه جبة عليها أثر خلوق، ولمسلم عن عطاء مثله، وأخرج سعيد بن منصور، عن عطاء، عن يعلي بن أمية أن رجلًا قال: يا رسول الله، إني أحرمت وعلي جبتي هذه، وعلى جبته ردغ من خلوق، الحديث، وفيه: "فقال: اخلع هذه الجبة واغسل هذا الزعفران". واستدل بحديث يعلى على منع استعمال الطيب عند الإِحرام، وعلى منع استدامته بعد الإِحرام للأمر بغسل أثره من الثوب والبدن، وهو قول مالك ومحمد بن الحسن، وخالفهما في ذلك الجمهور، وأجابوا بأن قصة يعلى كانت بالجعرانة، كما ثبت في هذا الحديث وهي في سنة ثمان بلا خلاف، وقد ثبت عن عائشة أنها طيبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيدها عند إحرامه كما يأتي في الذي بعده، وكان ذلك في سنة عشر في حجة الوداع بلا خلاف، وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من الأمر، وبأن المأمور بغسله في قصة يعلى إنما هو الخلوق لا مطلق الطيب، فلعل علة الأمر فيه ما خالطه من الزعفران، وقد ثبت النهي عن تزعفر الرجل مطلقًا محرمًا، أو غير محرم. وفي حديث ابن عمر الآتي قريبًا: ولا يلبس، أي المحرم شيئًا من الثياب مسَّه زعفران، وفي حديث ابن عباس الآتي أيضًا: ولم ينه إلا عن الثياب المزعفرة، وسيأتي مزيد لذلك في الباب الذي بعده. واستدل به على أن من أصابه طيب في إحرامه ناسيًا أو جاهلًا، ثم علم فبادر إلى إزالته فلا كفارة عليه، وقال مالك: إن طال ذلك عليه لزمه، وعن أبي حنيفة وأحمد في رواية: تجب مطلقًا. وعلى أن المحرم إذا صار عليه مخيط نزعه، ولا يلزمه تمزيقه ولا شقّه، خلافًا للنخعي والشعبي، حيث قالا: لا ينزعه من قبل رأسه لئلا يصير مغطيًا لرأسه، أخرجه ابن أبي شيبة عنهما، وعن علي نحوه، وكذا عن الحسن، وأبي قلابة، وقد وقع عند أبي داود بلفظ: "اخلع عنك الجبة، فخلعها من قبل رأسه". وعلى أن المفتي والحاكم إذا لم يعرف الحكم يمسك حتى يتبين له. وعلى أن بعض الأحكام ثبت بالوحي وإن لم يكن مما يتلى، لكن وقع عند الطبراني في "الأوسط" أن الذي نزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}. وعلى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يحكم بالاجتهاد إلا إذا لم يحضره الوحي. وفيه جواز النظر إلى غيره، وهو مغطى بشيء، وإدخال رأسه في غطائه إذا علم أنه لا

رجاله خمسة

يكره ذلك منه، فإن يعلى أدخل رأسه فيما أُظِل به -صلى الله عليه وسلم- لأنه علم أنه لا يكره ذلك في ذلك الوقت لأن فيه تقوية الإِيمان بمشاهدة حال الوحي الكريم، وكذلك عمر رضي الله تعالى عنه علم ذلك من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى قال للرجل: تعالى فانظر. أ. هـ. رجاله خمسة، وفيه ذكر عمر ورجلٌ مبهم. وقد مرّ منهم أبو عاصم الضحاك في أثر بعد الرابع من العلم، ومرّ عطاء ابن أبي رباح في التاسع والثلاثين منه، ومرّ ابن جريج في الثالث من الحيض، ومرّ عمر في الأول من بدء الوحي، والباقي اثنان، والرجل المبهم الأول صفوان بن يعلي بن أمية التميمي، ذكره ابن حبان في "الثقات". روى عن أبيه، وروى عنه عطاء ابن أبي رباح والزهري وابن أخيه محمد بن حيي بن يعلى. أ. هـ. الثاني: يعلي بن أمية بن أبي عبيدة بن همام بن الحارث التميمي الحنظلي، حليف لقريش لبني نوفل بن عبد مناف، ويقال له.: يعلي بن مُنية بضم الميم وسكون النون، وهي أمه، وقيل: أم أبيه، جزم بذلك الدارقطني، وقال: هي منية بنت الحارث بن جابر والدة أمية، والد يعلى، ووالدة العوام والد الزبير، فهي جدة الزبير، ويعلى كنيته أبو خلف، وقيل: أبو خالد، ويقال: أبو صفوان، استعمله أبو بكر الصديق على بلاد حلوان في الردة، ثم عمل لعمر على بعض اليمن، فحمى لنفسه حمى، فبلغ ذلك عمر، فأمره أن يمشي على رجليه إلى المدينة، فمشى خمسة أيام أو ستة إلى صعدة، وبلغه موت عمر، فركب فقدم المدينة على عثمان، فاستعمله على صنعاء، ثم قدم وافدًا على عثمان، فمرَّ عليٌّ على باب عثمان فرأى بغلة جوفاء عظيمة، فقال: لمن هذه البغلة؟ فقالوا: ليعلى، فقال: ليعل والله، وكان عظيم الشأن عند عثمان، وله يقول الشاعر: إذا ما دعى يعلى وزيد بن ثابت ... لأمر ينوب الناس أو لخطوب وذكر المدائني أن يعلى كان على الجند فبلغه قتل عثمان، فأقبل لينصره، فسقط عن بعيره، فانكسرت فخذه، فقدم مكة بعد انقضاء الحج، فخرج إلى المسجد وهو كسير على سرير، واستشرف إليه الناس، واجتمعوا فقال: من خرج يطلب بدم عثمان، فعليّ جهازه، وأعان يعلى الزبير بأربعمائة ألف، وحمل سبعين رجلًا من قريش، وحمل عائشة على جمل يقال له: العسكر، كان اشتراه بمائتي دينار، قال أبو عمر بن عبد البر: كان يعلي بن أمية سخيًا معروفًا بالسخاء، شهد حنينًا والطائف وتبوك، له ثمانية وأربعون حديثًا، اتفقا على ثلاثة، قُتل

لطائف إسناده

يعلي بن أمية سنة ثمان وثلاثين بصفّين مع علي رضي الله تعالى عنه بعد أن شهد الجمل مع عائشة رضي الله تعالى عنها، وقيل إن موته تأخر إلى الخمسين. روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وعمر وعتبة بن أبي سفيان، وروى عنه أولاده صفوان ومحمد وعثمان وعبد الرحمن وعطاء ومجاهد وغيرهم. أ. هـ. والرجل المبهم قيل أن اسمه عطاء بن منية، فإن ثبت فهو أخو يعلى راوي الحديث كما سماه الطرطوشي في تفسيره عن ابن فتحون. أ. هـ. وقيل: هو سواد بن عمرو بن عطية بن خنساء بن مبذول بن عمرو بن غانم الأنصاري، ويقال: سواده. أ. هـ. لطائف إسناده: فيه الإِخبار بالجمع والإِفراد والقول، وأبو عاصم بصري، والبقية مكيُّون. أخرجه البخاري أيضًا في فضائل القرآن، وفي المغازي، وأخرجه مسلم في الحج، وأبو داود والترمذي فيه أيضًا، والنسائي فيه أيضًا، وفي فضائل القرآن. أ. هـ. ثم قال المصنف:

باب الطيب عند الإحرام وما يلبس إذا أراد أن يحرم ويترجل ويدهن

باب الطيب عند الإِحرام وما يلبس إذا أراد أن يحرم ويترجل ويدهن أراد بهذه الترجمة أن يبين أن الأمر بغسل الخلوق الذي في الحديث الذي قبله إنما هو بالنسبة إلى الثياب؛ لأن المحرم لا يلبس شيئًا مسَّه الزعفران، كما يأتي في الباب الذي بعده، وأما الطيب فلا تمنع استدامته على البدن، وقد مرّ ما قيل فيه في الذي قبله، وأضاف إلى التطيب المقتصر عليه في حديث الباب الترجل والتدهن لجامع ما بينهما من الترفه، فكأنه يقول: يلحق بالتطيب سائر الترفهات، فلا يحرم على المحرم، كذا قال ابن المنير، قلت: وهو مخالف لمذهبه، فإن مذهب مالك كراهة دهن الرأس واللحية، أعني: في أثناء الإِحرام، والذي يظهر أن البخاري أشار إلى ما سيأتي بعد أربعة أبواب عن ابن عباس، قال: انطلق النبي -صلى الله عليه وسلم- من المدينة بعدما ترجَّل وادَّهن، الحديث. وقوله: "ترجَّل" أي: سرَّح شعره، وكأنه يؤخذ من قوله في حديث عائشة: طيبته في مفرقه؛ لأن فيه نوع ترجيل، وسيأتي من وجه آخر بزيادة: وفي أصول شعره. أ. هـ. ثم قال: وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: يشم المحرم الريحان، وينظر في المرآة، ويتداوى بما يأكل الزيت والسمن. أما شم الريحان، فقد أخرج سعيد بن منصور عن ابن عباس أنه كان لا يرى بأسًا للمحرم بشم الريحان، وفي "المعجم الأوسط" مثله عن عثمان، وأخرج ابن أبي شيبة عن جابر خلافه، واختلف في الريحان، فقال إسحاق: يباح، وتوقف أحمد، وقال الشافعي: يحرم، وكرهه مالك والحنفية، ومنشأ الخلاف أن كل ما يتخذ منه الطيب يحرم بلا خلاف، وأما غيره فلا. وقوله: "يشم" بفتح الشين المعجمة وحكي ضمها، والريحان، ما طاب ريحه من النبات كلِّه، سهليِّه وجبليِّه، وفي "المحكم": الريحان: أطراف كل بقلة طيبة الريح إذا خرج عليها أوائل النور. وأما النظر في المرآة، فروى الثوري في "جامعه" عن ابن عباس، قال: لا بأس أن ينظر

في المرآة وهو محرم، وأخرجه ابن أبي شيبة عن ابن إدريس، عن هشام به، ونقل كراهته عن القاسم بن محمد، وكذلك عند مالك. وأما التداوي، فقال أبو بكر بن أبي شيبة، عن ابن عباس أنه كان يقول: يتداوى المحرم بما يأكل، ونقل عنه أيضًا أنه قال: إذا تشققت يد المحرم أو رجلاه، فليدهنهما بالزيت، أو بالسمن، ووقع في الأصل: يتداوى بما يأكل الزيت والسمن، وهما بالجر بدل أو عطف بيان، وروي بالنصب، وليس المعنى عليه لأن الذي يأكل هو الآكل لا المأكول، ويصح أن يكون منصوبًا على تقدير: أعني الزيت والسمن، ويجوز الرفع فيهما على أن يكون الزيت خبر مبتدأ محذوف، أي: هو الزيت والسمن، وفي هذا الأثر رد على مجاهد في قوله: "إن تداوى بالسمن أو الزيت فعليه دم"، ونصّت المالكية أن الأدهان لعلة بغير مطيب لا فدية فيه، وقد مرّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي. أ. هـ. ثم قال: وقال عطاء: يتختم ويلبس الهميان. وهو بكسر الهاء، معرب يشبه تكة السراويل، يجعل فيها النفقة، ويشد في الوسط، وروى الدارقطني عن عطاء، قال: لا بأس بالخاتم للمحرم، وربما ذكره عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لا بأس بالهميان والخاتم للمحرم، والأول أصح، قال ابن عبد البر: أجاز ذلك فقهاء الأمصار، وأجازوا عقده إذا لم يمكن إدخال بعضه في بعض، ولم ينقل عن أحد كراهته إلا عن ابن عمر، وعنه جوازه، ومنع إسحاق عقده، وقيل إنه تفرد بذلك، وليس كذلك، فقد أخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن سعيد بن المسيب، قال: لا بأس بالهميان للمحرم، ولكن لا يعقد عليه السير، ولكن يلفه لفًّا، ويكون شدّ النفقة على الجلد تحت الإِزار عند المالكية، وإلا افتدى. وعند المالكية: يحرم لبس الخاتم للرجل المحرم، ومرّ عطاء ابن أبي رباح في التاسع والثلاثين من العلم. أ. هـ. ثم قال: وطاف ابن عمر وهو محرم، وقد حزم على بطنه بثوب. وصله الشافعي عن طاووس، قال: رأيت ابن عمر يسعى وقد حزم على بطنه بثوب، وروى من وجه آخر عن نافع أن ابن عمر لم يكن عقد الثوب عليه، وإنما غرز طرفيه على إزاره، وروى ابن أبي شيبة عن مسلم بن جندب: سمعت ابن عمر يقول: لا تعقد عليك شيئًا وأنت محرم، قال ابن التين: هو محمول على أنه سنده على بطنه، فيكون كالهميان، ولم يشده فوق المئزر، وإلا فمالك يرى على من فعل ذلك الفدية، وقد مرَّ ابن عمر في أول الإِيمان قبل ذكر حديث منه.

الحديث الرابع والعشرون

ثم قال: ولم تر عائشة بالتبان بأسًا للذين يرحلون هودجها، وفي نسخة الصغاني بعد قوله بأسًا، قال أبو عبد الله، يعني: الذين، الخ. والتبان بضم المثناة وتشديد الموحدة: سراويل قصيرة بغير أكمام، والهودج بفتح الهاء وبالجيم معروف، ويرحلون بفتح أوله وسكون الراء وفتح الحاء المهملة، قال الجوهري: رحلت البعير أرحله، بفتح أوله رحلًا إذا شددت على ظهره الرحل، قال الأعشى: رحلت أميمة غدوة أجمالها وسيأتي في التفسير استشهاد البخاري بقول الشاعر: إذا ما قمت أرحلها بليل وعلى هذا فقد وهم من ضبطه هنا بتشديد الحاء المهملة وكسرها، وقد وصل أثر عائشة سعيد بن منصور، عن القاسم، عن عائشة أنها حجت ومعها غلمان لها، وكانوا إذا شدوا رحلها يبدو منهم الشيء، فأمرتهم أن يتخذوا التبابين فيلبسونها وهم محرمون، وأخرجه من وجه آخر مختصرًا بلفظ يشدون هودجها، وفي هذا رد على ابن التين، حيث قال: أرادت النساء لأنهن يلبسن المخيط بخلاف الرجال، وكان هذا رأي رأته عائشة، وإلا فالأكثر على أنه لا فرق بين التبان والسراويل في منعه للمحرم، وقد مرت عائشة في الثاني من بدء الوحي أ. هـ. الحديث الرابع والعشرون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَدَّهِنُ بِالزَّيْتِ. فَذَكَرْتُهُ لإِبْرَاهِيمَ، قَالَ: مَا تَصْنَعُ بِقَوْلِهِ: حَدَّثَنِي الأَسْوَدُ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مَفَارِقِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ مُحْرِمٌ. قوله: "يدهن بالزيت"، أي: عند الإِحرام بشرط أن لا يكون مطيبًا، كما أخرجه الترمذي من وجه آخر مرفوعًا، والموقوف عنه أخرجه ابن أبي شيبة، وهو أصح، ويؤيده ما تقدم في كتاب الغسل عن محمد بن المنتشر أن ابن عمر قال: لأن أُطلى بقطران، أحب إلى من أن أتطيب ثم أُصبح محرمًا، وفيه إنكار عائشة عليه، وكان ابن عمر تبع أباه في ذلك، فإنه كان يكره استدامة الطيب بعد الإِحرام كما سيأتي، وكانت عائشة تنكر عليه، وقد روى سعيد بن منصور عن عبد الله بن عبد الله بن عمر أن عائشة كانت تقول: لا بأس بأن يمس الطيب عند

رجاله ثمانية

الإحرام، قال: فدعوت رجلًا وأنا جالس بجنب ابن عمر فأرسلته إليها، وقد علمت قولها، ولكن أحببت أن يسمعه أبي، فجاءني رسولي، فقال إن عائشة تقول: لا بأس بالطيب عند الإحرام فأصِبْ ما بدا لك، قال: فسكت ابن عمر، وكذا كان سالم بن عبد الله يخالف أباه وجدّه في ذلك لحديث عائشة. قال ابن عيينة: أخبرنا عمرو بن دينار، عن سالم أنه ذكر قول عمر في الطيب، فقال: قالت عائشة، فذكر الحديث، قال سالم: سُنّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحق أن تتبع. وقوله، "فذكرته لإبراهيم": هو مقول منصور، وإبراهيم هو النخعي. وقوله: "فقال ما تصنع بقوله"، أي: بقول ابن عمر، أي: ماذا تصنع بقوله حيث ثبت ما ينافيه من فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقال الكرماني: يجوز أن يكون الضمير في "بقوله" عائدًا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإن قيل: هذا فعل الرسول وتقريره لا قوله، قلنا: فعله في بيان الجواز كقوله، ويؤخذ منه أن المفزع في النوازل إلى السنن، وأنه مستغنى بها عن آراء الرجال، وفيها المقنع. وقوله: "كأني أنظر" أرادت بذلك قوة تحققها لذلك بحيث أنها لشدة استحضارها له كأنها ناظرة إليه. وقوله: "وبيص الطيب" بالموحدة المكسورة وآخره صاد مهملة هو البريق، وقد تقدم في الغسل قول الإِسماعيلي: أن الوبيص زيادة على البريق، وأن المراد به التلألؤ، وأنه يدل على وجود عين قائمة لا الريح فقط. وقوله: "في مفارق" جمع مَفرِق بفتح الميم وكسر الراء، ويجوز فتحها، وهو المكان الذي يفترق فيه الشعر في وسط الرأس، قيل: ذكرته بصيغة الجمع تعميًا لجوانب الرأس التي يفرق فيها الشعر، ويأتي ما لم يتقدم من مباحثه في الذي بعده. أ. هـ. رجاله ثمانية قد مرّوا، مرّ محمد بن يوسف الفريابي في العاشر من العلم، ومرّ منصور بن المعتمر في الثاني عشر منه، ومرّ سفيان الثوري في السابع والعشرين من الإِيمان، ومرّ إبراهيم بن يزيد النخعي في الخامس والعشرين منه، ومرّ الأسود بن يزيد في السابع والستين من العلم، ومرّ سعيد بن جبير في الخامس من بدء الوحي، ومرّت عائشة في الثاني منه، ومرّ ابن عمر في أول كتاب الإِيمان قبل ذكر حديث منه. أ. هـ. أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي في الحج. أ. هـ.

الحديث الخامس والعشرون

الحديث الخامس والعشرون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، زَوْجِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَتْ: كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لإِحْرَامِهِ حِينَ يُحْرِمُ، وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ. قوله: "لإِحرامه" أي: لأجل إحرامه، وللنسائي: حين أراد أن يحرم، ولمسلم نحوه. وقوله: "ولحله" أي: بعد أن يرمي ويحلق، واستدل بقولها: كنت أطيب، على أنَّ "كان" تقتضي التكرار لأنها لم يقع منها ذلك إلا مرة واحدة، وقد صرحت في رواية عروة عنها أن ذلك كان في حجة الوداع كما جاء في كتاب اللباس، كذا استدل به النووي، وتعقب بأن المدعى تكراره إنما هو التطيب لا الإِحرام، ولا مانع من أن يتكرر التطيب لأجل الإِحرام مع كون الإِحرام مرة واحدة، ولا يخفى ما فيه، وقال النووي في موضع آخر: المختار أنها لا تقتضي تكرارًا ولا استمرارًا، وكذا قال الفخر في "المحصول"، وجزم ابن الحاجب بأنها تقتضيه، قال: ولهذا استفدنا من قولهم: كان حاتم يقري الضيف أن ذلك كان يتكرر منه، وقال جماعة من المحققين أنها تقتضي التكرار ظهورًا، وقد تقع قرينة تدل على عدمه لكن يستفاد من سياقه لذلك المبالغة في إثبات ذلك، والمعنى أنها كانت تكرر فعل التطيب لو تكرر فعل الإِحرام لما أطلقت عليه من استحبابه لذلك على أن هذه اللفظة لم تتفق الرواة عنها عليها، وسيأتي للبخاري عنها بلفظ: طيبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وسائر الطرق ليس فيها صيغة كان. واستدل على استحباب التطيب عند إرادة الإِحرام، وجواز استدامته بعد الإِحرام، وأنه لا يضر بقاء لونه ورائحته، وإنما يحرم ابتداؤه في الإِحرام، وهذا هو قول الجمهور، وقال مالك ومحمد بن الحسن: يكره أن يتطيب قبل الإِحرام بما تبقى عينه بعده، ولا تجب الفدية عند مالك في الباقي بعد الإِحرام إلا إذا كان كثيرًا وتراخى في نزعه. واحتج المالكية بأمور منها أنه عليه الصلاة والسلام اغتسل بعد أن تطيب لقوله في رواية ابن المنتشر المتقدمة في الغسل: ثم طاف بنسائه، ثم أصبح محرمًا، فإن المراد بالطواف الجماع، وكان من عادته أن يغتسل عند كل واحدة، ومن ضرورة ذلك أن لا يبقى للطيب أثر، ويرده قوله في الرواية الماضية أيضًا: ثم أصبح محرمًا ينضح طيبًا فهو ظاهر في أن نضح الطيب وهو ظهور رائحته كان في حال إحرامه.

ودعوى بعضهم أن فيه تقديمًا وتأخيرًا، والتقدير طاف على نسائه ينضح طيبًا، ثم أصبح محرمًا خلاف الظاهر، ويرده قوله في رواية مسلم: كان إذا أراد أن يحرم يتطيب بأطيب ما يجد، ثم أراه في رأسه ولحيته بعد ذلك، وللنسائي وابن حبان: رأيت الطيب في مفرقه بعد ثلاث وهو محرم. وقال بعضهم: إن الوبيص كان بقايا الدهن المطيب الذي يتطيب به فزال، وبقي أثره من غير رائحة، ويرده قول عائشة: ينضح طيبًا. وقال بعضهم: بقي أثره لا عينه، قال ابن العربي: ليس في شيء من طرق حديث عائشة أن عينه بقيت، وقد روى أبو داود وابن أبي شيبة عن عائشة بنت طلحة، قالت: كنا نضمخ وجوهنا بالمسك المطيب قبل أن نحرم، ثم نحرم فنعرق فيسيل على وجوهنا ونحن مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلا ينهانا، فهذا صريح في بقاء عين المطيب، ولا يقال إنَّ ذلك خاص بالنساء لأنهم أجمعوا على أن الرجال والنساء سواء في تحريم استعمال الطيب إذا كانوا محرمين. وقال بعضهم: كان ذلك طيبًا لا رائحة فيه تمسكًا برواية عروة عن عائشة: بطيب لا يشبه طيبكم، قال بعض رواته: يعني لا بقاء له، أخرجه النسائي، ويرد هذا التأويل ما في الذي قبله، ولمسلم: بطيب فيه مسلك، وله أيضًا: كأني انظر إلى وبيص المسك، وللشيخين عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه: بأطيب ما أجد، وللطحاوي والدارقطني عن ابن عمر عن عائشة: بالغالية الجيدة، وهذا يدل على أن قولها: بطيب لا يشبه طيبكم، أي: أطيب منه، لا كما فهمه القائل، يعني: ليس له بقاء. وادعى بعضهم أن ذلك من خصائصه -صلى الله عليه وسلم-، قاله المهلب والقصار وأبو الفرج من المالكية: قالوا إن الطيب من دواعي النكاح، فنهى الناس عنه، وكان هو أملك الناس لإربه، ففعله، ورجحه ابن العربي بكثرة ما ثبت له من الخصائص في النكاح، وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "حُبِّب إلي النساء والطيب" أخرجه النسائي عن أنس، وتعقب بأن الخصائص لا تثبت بالقياس، وقال المهلب: إنما خص بذلك لمباشرته الملائكة لأجل الوحي، وتعقب بأنه فرع ثبوت الخصوصية، وكيف بها، ويردها حديث عائشة بنت طلحة المتقدم، وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن عائشة أنها قالت: طيبت أبي بالمسك لإِحرامه حين أحرم، وبقولها: طيبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيدي هاتين، أخرجه الشيخان. واعتذر بعض المالكية بأن عمل أهل المدينة على خلافه، وتعقب بما رواه النسائي عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث أن سليمان بن عبد الملك لما حج جمع ناسًا من أهل

رجاله خمسة

العلم منهم القاسم بن محمد، وخارجة بن زيد، وسالم وعبد الله ابنا عبد الله بن عمر، وعمر بن عبد العزيز، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، فسألهم عن التطيب قبل الإِفاضة، فكلهم أمره به، فهؤلاء فقهاء أهل المدينة قد اتفقوا على ذلك، فكيف يدعى مع ذلك أن العمل على خلافه. وقوله: "ولحله قبل أن يطوف بالبيت" أي: لأجل إحلاله من إحرامه قبل أن يطوف طواف الإِفاضة، وسيأتي في اللباس بلفظ: "قبل أن يفيض"، وللنسائي من هذا الوجه: وحين يريد أن يزور البيت، ولمسلم نحوه، وللنسائي عن عروة، عن عائشة: ولحله بعدما يرمي جمرة العقبة قبل أن يطوف بالبيت. واستدل به على حل الطيب وغيره من محرمات الإحرام بعد رمي جمرة العقبة، ويستمر امتناع الجماع ومتعلقاته على الطواف بالبيت، وهو دال على أن للحج تحللين، فمن قال إن الحلق نسك كما هو قول الجمهور وهو الصحيح عند الشافعية يوقف استعمال الطيب وغيره من المحرمات المذكورة عليه، ويؤخذ ذلك من كونه -صلى الله عليه وسلم- في حجته رمى ثم حلق، ثم طاف، فلولا أن الطيب بعد الرمي والحلق لما اقتصرت على الطواف في قولها: قبل أن يطوف بالبيت. قال النووي في "شرح المهذب": ظاهر كلام ابن المنذر وغيره أنه لم يقل أن الحلق ليس بنسك إلا الشافعي، وهو في رواية عن أحمد، وحكي عن أبي يوسف، ولا يتناول تطيبه عليه الصلاة والسلام عند الإِحرام تطييب ثيابه لقولها: كنت أجد وبيص الطيب في رأسه ولحيته، فهو خاص بالبدن، وقد اتفقت الشافعية على أنه لا يستحب تطييب الثياب عند الإِحرام، وشذّ المتولي فحكى قولًا باستحبابه. نعم في جوازه خلاف، والأصح الجواز، فلو نزعه ثم لبسه، ففي وجوب الفدية وجهان صحح البغوي وغيره الوجوب. أ. هـ. رجاله خمسة قد مرُّوا: مرّ عبد الله بن يوسف، ومالك وعائشة في الثاني من بدء الوحي، ومرّ عبد الرحمن بن القاسم في السادس عشر من الغسل، ومرّ أبو القاسم في الحادي عشر عنه، أ. هـ. ثم قال المصنف:

باب من أهل ملبدا

باب من أهلَّ ملبِّدا أي: أحرم وقد لبّد شعر رأسه، أي: جعل فيه شيئًا نحو الصمغ ليجتمع شعره لئلا يتشعث في الإحرام، أو يقع فيه القمل. أ. هـ. الحديث السادس والعشرون حَدَّثَنَا أَصْبَغُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُهِلُّ مُلَبِّدًا. والحديث مطابق للترجمة، وقوله: "سمعته يهل ملبّدًا" أي: سمعته يهل في حال كونه ملبدًا، ولأبي داود والحاكم عن ابن عمر أنه عليه الصلاة والسلام لبد رأسه بالعسل، يحتمل أنه بفتح المهملتين، ويحتمل أنه بكسر المعجمة وسكون المهملة، وهو ما يغسل به الرأس من خطمي أو غيره، ورواية أبي داود في "سننه" مضبوطة بالمهملتين. والتَّلبيد مستحب عند الشافعية للرفق، وقال ابن بطال: قال جمهور العلماء: من لبَّد رأسه، فقد وجب عليه الحلق، كما فعل عليه الصلاة والسلام، وبذلك أمر هو وابنه رضي الله تعالى عنهما الناس، وهو قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق، وأبي ثور والثوري، وكذا لو ظفر رأسه أو عقص شعره كان حكمه حكم التلبيد. وقال أبو حنيفة: إن الملبّد يجزئه التقصير لما روي عن ابن عباس أنه كان يقول: من لبَّد رأسه أو عقص أو ظفر، فإن كان نوى الحلق فليحلق، وإن لم ينوه، فإن شاء حلق، وان شاء قصر. أ. هـ. رجاله ستة قد مرُّوا: مرّ أصبغ في السابع والستين من الوضوء، ومرّ ابن وهب في الثالث عشر من العلم، ومرّ يونس بن يزيد في متابعة بعد الرابع من بدء الوحي، ومرّ ابن شهاب في الثالث منه، ومرّ سالم بن عبد الله في السابع عشر من الإيمان، ومرّ أبوه عبد الله في أوله قبل ذكر حديث منه. أ. هـ.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: فيه التحديث والإِخبار بالجمع، والعنعنة والسماع، ورواته مصريَّان، وأيلي، ومدنيان. أ. هـ. أخرجه البخاري أيضًا في اللباس، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه فيه. أ. هـ. ثم قال المصنف:

باب الإهلال عند مسجد ذي الحليفة

باب الإِهلال عند مسجد ذي الحليفة أي: لمن حج من المدينة. الحديث السابع والعشرون حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، سَمِعْتُ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ يَقُولُ: مَا أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلاَّ مِنْ عِنْدِ الْمَسْجِدِ يَعْنِي: مَسْجِدَ ذِي الْحُلَيْفَةِ. أورد المصنف هذا الحديث من وجهين، وساقه بلفظ مالك، وأما لفظ سفيان فأخرجه الحميدي في "مسنده" بلفظ: هذه البيداء التي تكذبون فيها على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، واللهِ ما أهلَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا من عند المسجد، مسجد ذي الحليفة. وأخرجه مسلم بلفظ: كان ابن عمر إذا قيل له الإِحرام من البيداء، قال: البيداء التي تكذبون فيها، الخ، إلا أنه قال: من عند الشجرة حين قام به بعيره، ويأتي للمصنف بعد أبواب ترجمة: من أهلّ حين استوت به راحلته، وأخرج عن ابن عمر، قال: أهلَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- حين استوت به راحلته قائمة، وكان ابن عمر ينكر على رواية ابن عباس بلفظ: ركب راحلته حتى استوى على البيداء أهلّ، إلى آخر ما مرّ في باب غسل الرجلين من النعل من كتاب الوضوء. والبيداء هذه فوق علمي ذي الحليفة لمن صعد من الوادي، قاله أبو عبيد البكري وغيره. أ. هـ. رجاله سبعة قد مرُّوا: مرّ علي ابن المديني في الرابع عشر من العلم، ومرّ سفيان بن عيينة في الأول من بدء الوحي، ومالك في الثاني منه، ومرّ عبد الله بن مسلمة في الثاني عشر من الإِيمان، ومرّ

موسى بن عقبة في الخامس من الوضوء، ومرّ محل سالم وأبيه عبد الله في الذي قبله. أ. هـ. أخرجه مسلم والباقون إلا ابن ماجه في الحج. أ. هـ. ثم قال المصنف:

باب ما لا يلبس المحرم من الثياب

باب ما لا يلبس المحرم من الثياب الحديث الثامن والعشرون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يَلْبَسُ الْقُمُصَ وَلاَ الْعَمَائِمَ وَلاَ السَّرَاوِيلاَتِ وَلاَ الْبَرَانِسَ وَلاَ الْخِفَافَ، إِلاَّ أَحَدٌ لاَ يَجِدُ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ، وَلاَ تَلْبَسُوا مِنَ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ أَوْ وَرْسٌ". هذا الحديث قد مرَّ استيفاء الكلام عليه غاية الاستيفاء عند آخر حديث من كتاب العلم، وهو هو، وقد زاد الثوري في روايته لهذا الحديث: "ولا القباء" أخرجه عبد الرزاق عنه، ورواه الطبراني من وجه آخر عنه، وأخرجه الدارقطني والبيهقي عن عبيد الله بن عمر، عن نافع أيضًا، والقباء: بوزن سحاب معروف، ويطلق على كل ثوب مفرج، ومنع لبسه على المحرم متفق عليه، إلا أن أبا حنيفة قال: يشترط أن يدخل يديه في كميه إلا إذا ألقاه على كتفيه، ووافقه أبو ثور والخرقي من الحنابلة، وحكى الماوردي نظيره إن كان كمه ضيقًا، فإن كان واسعًا فلا. أ. هـ. رجاله أربعة قد مرّوا. وفيه لفظ رجل مبهم، قال في "الفتح": لم يقف على اسمه، مرّ عبد الله بن يوسف، ومالك في الثاني من بدء الوحي، ومرّ نافع في الأخير من العلم، ومرّ ابن عمر في أول الإِيمان قبل ذكر حديث منه. أ. هـ. ثم قال المصنف:

باب الركوب والارتداف في الحج

باب الركوب والارتداف في الحج أورد فيه حديث ابن عباس في إردافه -صلى الله عليه وسلم- أسامة، ثم الفضل، والقصة وإن كانت وردت في حالة الدفع من عرفات إلى مني، لكن يلحق بها ما تضمنته الترجمة في جميع حالات الحج. أ. هـ. الحديث التاسع والعشرون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ يُونُسَ الأَيْلِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ أُسَامَةَ رضي الله عنه كَانَ رِدْفَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ، ثُمَّ أَرْدَفَ الْفَضْلَ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى. قَالَ: فَكِلاَهُمَا قَالَ: لَمْ يَزَلِ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُلَبِّي، حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ. قوله: "فكلاهما" أي: الفضل بن عباس وأسامة بن زيد، وفي ذكر أسامة إشكال لما عند مسلم عن كريب، أن أسامة قال: وانطلقت أنا في سباق قريش على رجلي؛ لأن مقتضاه أن يكون أسامة سبق إلى رمي الجمرة، فيكون إخباره بمثل ما أخبر به الفضل من التلبية مرسلًا، لكن لا مانع أن يرجع مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد أخرج مسلم عن أم الحصين، قالت: فرأيت أسامة بن زيد وبلالًا في حجة الوداع، وأحدهما آخذ بخطام ناقته -صلى الله عليه وسلم-، والآخر رافع ثوبه يستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة، زاد ابن أبي شيبة عن علي بن الحسن، عن ابن عباس، عن الفضل في هذا الحديث: فرماها سبع حصيات، يكبّر مع كل حصاة، وسيأتي هذا الحكم. قال ابن المنير: الظاهر أنه قصد بإردافه من ذكر ليحدث عنه بما يتفق له في تلك الحالة من التشريع. وفي الحديث أن التلبية تستمر إلى رمي الجمرة يوم النحر، وبعدها يشرع الحاج في التحلل، وروى ابن المنذر بإسناد صحيح عن ابن عباس أنه كان يقول: التلبية شعار الحج، فإن كنت حاجًا فلبِّ حتى بدء حِلِّك، وبدء حِلِّك أن ترمي جمرة العقبة، وروى سعيد بن منصور، عن ابن عباس، قال: حججت مع عمر إحدى عشرة حجة، وكان يلبي حتى يرمي الجمرة. وباستمرارها قال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وأحمد وإسحاق وأتباعهم،

رجاله سبعة

وقالت طائفة: يقطع المحرم التلبية إذا دخل الحرم، وهو مذهب ابن عمر، لكن كان يعاود التلبية إذا خرج من مكة إلى عرفة، وقالت طائفة: يقطعها إذا راح إلى الموقف، رواه ابن المنذر وسعيد بن منصور بأسانيد صحيحة عن عائشة، وسعد بن أبي وقاص، ومذهب مالك أن المحرم يقطع التلبية عند دخول مكة أو عند ابتداء الطواف، على خلافٍ مشهور، ويعاودها بعد السعي، حتى تزول الشمس من يوم عرفة، ويروح إلى مصلاها، فإن وصل قبل الزوال لبَّى إليه، وهكذا قال الأوزاعي والليث أنه يقطعها بزوال الشمس، وروي عن الحسن مثل قول عائشة، قال: إذا صلى الغداة يوم عرفة، وروى الطحاوي بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: حججت مع عبد الله، فلما أفاض إلى جمع، جعل يلبي، فقال رجل أعرابي: هذا؟ فقال عبد الله: أنسي الناس أم صلوا؟ وأشار الطحاوي إلى أن كل من روى عنه ترك التلبية من يوم عرفة أنه تركها للاشتغال بغيرها من الذكر لا على أنها لا تشرع، وجمع في ذلك بين ما اختلف من الآثار. واختلف القائلون باستمرارها إلى رمي الجمرة: هل يقطعها مع رمي أول حصاة، أو عند تمام الرمي؟ فذهب إلى الأول الجمهور، وإلى الثاني أحمد وبعض أصحاب الشافعي، ويدل لهم ما رواه ابن خزيمة، عن ابن عباس، عن الفضل، قال: أفضت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- من عرفات، فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة، يكبّر مع كل حصاة، ثم قطع التلبية مع آخر حصاة، قال ابن خزيمة: هذا حديث صحيح مفسِّر لما أبهم في الروايات الأخرى، وأن المراد بقوله: حضى رمى جمرة العقبة، أي: أتمّ رميها. أ. هـ. رجاله سبعة: وفيه ذكر أسامة والفضل، وقد مرّ الجميع، مرّ عبد الله بن محمد المسندي في الثاني من الإِيمان، ومرّ وهب بن جرير في الخامس والأربعين من الوضوء، ومرّ أبوه جرير في السبعين من استقبال القبلة، ومرّ يونس بن يزيد في متابعة بعد الرابع من بدء الوحي، وابن شهاب في الثالث منه، ومرّ عبيد الله المسعودي في السادس منه، ومرّ ابن عباس في الخامس منه، ومرّ أسامة في الخامس من الوضوء، ومرّ الفضل في الثامن عشر من الجماعة. أ. هـ. وأخرجه مسلم. أ. هـ. ثم قال المصنف:

باب ما يلبس المحرم من الثياب والأردية والأزر

باب ما يلبس المحرم من الثياب والأردية والأُزُرْ هذه الترجمة مغايرة للسابقة التي قبلها من حيث إن تلك معقودة لما لا يلبس من أجناس الثياب، وهذه لما يلبس من أنواعها، والأزر بضم الهمزة والزاي جمع إزار. أ. هـ. ثم قال: ولبست عائشة رضي الله عنها الثياب المعصفرة وهي محرمة. وأجاز الجمهور لبس المعصفر للمحرم، وعن أبي حنيفة: المعصفر طيب، وفيه الفدية، واحتج بأن عمر كان ينهى عن الثياب المصبَّغة، وتعقبه ابن المنذر بأن عمر كره ذلك لئلا يقتدي به الجاهل فيظن جواز لبس المورس والمزعفر، ثم ساق له قصة مع طلحة فيها بيان ذلك، وهذا التعليق وصله سعيد بن منصور من طريق القاسم بن محمد، والبيهقي من طريق ابن أبي مليكة، وقد مرّت عائشة في الثاني من بدء الوحي. أ. هـ. ثم قال: وقالت لا تلثم ولا تتبرقع ولا تلبس ثوبًا بورس، ولا زعفران. قوله: "لا تلثم" بمثناة واحدة وتشديد المثلثة، وهو على حذف إحدى التاءين، وفي رواية أبي ذر: تلتئم بسكون اللام وزيادة مثناة بعدها، أي: لا تغطي شفتها بثوب، وقد وصله البيهقي، وسقط من رواية الحموي من الأصل، وأخرج سعيد بن منصور عن عائشة، قالت: تسدل المرأة جلبابها من فوق رأسها على وجهها، وفي مصنف ابن أبي شيبة عن الحسن وعطاء، قالا: لا تلبس المحرمة القفازين والسراويل ولا تبرقع ولا تلثم، وتلبس ما شاءت من الثياب إلا ثوبًا ينفض عنها ورسًا أو زعفرانًا، وهذا يشبه ما ذكر في الأصل عن عائشة، قال ابن المنذر: أجمعوا على أن المرأة تلبس المخيط كله، والخفاف، وأن لها أن تغطي رأسها، وتستر شعرها إلا وجهها تسدل عليه الثوب سدلًا خفيفًا تستتر به عن نظر الرجال، ولا تخمره إلا ما روي عن فاطمة بنت المنذر، قالت: كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنها، تعني جدتها، قال: ويحتمل أن يكون ذلك التخمر سدلًا كما جاء عن عائشة، قالت: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا مرَّ بنا ركب سدلنا الثوب على وجوهنا ونحن محرمات، فإذا جاوز رفعنا، وفيما أخرجه الجماعة: ولا تنتقب المرأة المحرمة دليل على أنه يحرم على المرأة ستر وجهها، وقال المحب الطبري: مفهومه يدل على إباحة تغطية الوجه

الحديث الثلاثون

للرجل، وإلا لما كان في التقييد بالمرأة فائدة، قلت: المفهوم هنا أن الرجل أولى بالتغطية، فهو من باب الأولى، وقد ذهب إلى جواز تغطية الرجل المحرم وجهه عثمان بن عفان وزيد بن ثابت ومجاهد، وإليه ذهب الشافعي وجمهور أهل العلم. وذهب أبو حنيفة ومالك إلى المنع من ذلك، واحتجا بحديث ابن عباس في المحرم الذي وقصته ناقته، فقال عليه الصلاة والسلام: "لا تخمروا وجهه ولا رأسه" رواه مسلم، ورواه النسائي بلفظ: "وكفنوه في ثوبين خارجا وجهه ورأسه" أ. هـ. ثم قال: وقال جابر رضي الله تعالى عنه: لا أرى المعصفر طيبًا. أي: تطيبًا، وقد مرَّ ما فيه من الخلاف قريبًا، وهذا التعليق وصله الشافعي ومسدد، وجابر قد مرّ في الرابع من بدء الوحي. أ. هـ. ثم قال: ولم تر عائشة بأسًا بالحلي والثوب الأسود والمورد والخف للمرأة. وصله البيهقي عن ابن باباه المكي أن امرأة سألت عائشة: ما تلبس المرأة في إحرامها، قالت عائشة: تلبس من خزها وبزها وأصباغها وحليها، وأما المورد والمراد به ما صبغ على لون الورد، فسيأتي موصولًا في باب طواف النساء في آخر حديث عطاء، عن عائشة، وأما الخف فوصله ابن أبي شيبة عن ابن عمر والقاسم بن محمد والحسن وغيرهم، وقد مرّ محل عائشة قريبًا. أ. هـ. ثم قال: وقال إبراهيم: لا بأس أن يبدل ثيابه. وصله سعيد بن منصور وابن أبي شيبة كلاهما عن هشيم، عن مغيرة وعبد الملك ويونس، أما مغيرة فعن إبراهيم، وأما عبد الملك فعن عطاء، وأما يونس فعن الحسن، قالوا: يغير المحرم ثيابه ما شاء، لفظ سعيد، وفي رواية ابن أبي شيبة أنهم لم يروا بأسًا أن يبدل المحرم ثيابه، وأخرج سعيد عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: كان أصحابنا إذا أتوا بئر ميمون اغتسلوا ولبسوا أحسن ثيابهم، فدخلوا فيها مكة، وإبراهيم هو ابن يزيد النخعي، وقد مرّ في الخامس والعشرين من الإِيمان. الحديث الثلاثون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي كُرَيْبٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: انْطَلَقَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مِنَ الْمَدِينَةِ، بَعْدَمَا تَرَجَّلَ وَادَّهَنَ وَلَبِسَ إِزَارَهُ وَرِدَاءَهُ، هُوَ وَأَصْحَابُهُ، فَلَمْ

يَنْهَ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الأَرْدِيَةِ وَالأُزْرِ تُلْبَسُ إِلاَّ الْمُزَعْفَرَةَ الَّتِي تَرْدَعُ عَلَى الْجِلْدِ، فَأَصْبَحَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، رَكِبَ رَاحِلَتَهُ حَتَّى اسْتَوَى عَلَى الْبَيْدَاءِ، أَهَلَّ هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَقَلَّدَ بَدَنَتَهُ، وَذَلِكَ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، فَقَدِمَ مَكَّةَ لأَرْبَعِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْحَجَّةِ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلَمْ يَحِلَّ مِنْ أَجْلِ بُدْنِهِ لأَنَّهُ قَلَّدَهَا، ثُمَّ نَزَلَ بِأَعْلَى مَكَّةَ عِنْدَ الْحَجُونِ، وَهْوَ مُهِلٌّ بِالْحَجِّ، وَلَمْ يَقْرَبِ الْكَعْبَةَ بَعْدَ طَوَافِهِ بِهَا حَتَّى رَجَعَ مِنْ عَرَفَةَ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ يُقَصِّرُوا مِنْ رُءُوسِهِمْ ثُمَّ يَحِلُّوا، وَذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ بَدَنَةٌ قَلَّدَهَا، وَمَنْ كَانَتْ مَعَهُ امْرَأَتُهُ فَهِىَ لَهُ حَلاَلٌ، وَالطِّيبُ وَالثِّيَابُ. قوله: "ترجل"، أي: سرح شعره، وقوله: "وادَّهن"، قال ابن المنذر: أجمع العلماء على أن للمحرم أن يأكل الزيت والشحم والسمن والسيرج، وأن يستعمل ذلك في جميع بدنه سوى رأسه ولحيته، وأجمعوا على أن الطيب لا يجوز استعماله في بدنه، ففرقوا بين الطيب والزيت في هذا، وقياس كون المحرم ممنوعًا من استعمال الطيب في رأسه أن يباح له استعمال الزيت في رأسه، وقد تقدم الكلام عليه في باب الطيب عند الإحرام. وقوله: "التي تردع" بفتح المثناة الفوقية، والدال آخره عين مهملتين، وفي رواية بضم أوله وكسر ثالثه، قال عياض: الفتحُ أوجهُ، ومعنى الضم أنها تبقي أثرة، وشرح، أي: تلطخ، يقال: ردع إذا تلطخ، والردع أثر الطيب، وردع به الطيب إذا ألزق بجلده، قال ابن بطال: وقد روي بالمعجمة من قولهم: أردغت الأرض إذا كثرت منافع المياه فيها، والردغ بالغين المعجمة الطين، وليس في شيء من الطرق ضبط هذه اللفظة بالغين المعجمة، ولا تعرض لها عياض، ولا ابن قرقول، ووقع في الأصل: "تردع على الجلد" قال ابن الجوزي: الصواب حذف على، وإثباتها ممكن توجيهه. وقوله: "فأصبح بذي الحليفة"، أي: وصل إليها نهارًا، ثم بات بها كما يأتي صريحًا عن أنس في الباب الذي بعده. وقوله: "حتى استوى على البيداء أهلَّ" تقدم ما في هذا من الخلاف، وطريق الجمع المختلف فيه عند ابن عمر في باب غسل النعلين من الوضوء. وقوله: "وذلك لخمسٍ بقين من ذي القعدة" أخرج مسلم نحوه عن عائشة، واحتج به ابن حزم في حجة الوداع له على أن خروجه عليه الصلاة والسلام من المدينة كان يوم

رجاله خمسة

الخميس، قال: لأن أول ذي الحجة كان يوم الخميس بلا شك، لأن الوقفة يوم الجمعة بلا خلاف، وظاهر قول ابن عباس: "لخمس" يقتضي أن يكون خروجه من المدينة يوم الجمعة بناء على ترك عد يوم الخروج، وقد ثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- صلى الظهر بالمدينة أربعًا كما يأتي قريبًا عن أنس، فتعين أنه يوم الخميس، قلت: وهذا بديهي البطلان، لأنه لو كان يوم الخروج يوم الخميس لم يصح أن يكون أول يوم ذي الحجة يوم الخميس، وتعقبه ابن القيم بأن المتعين أن يكون يوم السبت بناء على عدّ يوم الخروج، أو على ترك عده، ويكون ذو القعدة تسعًا وعشرين يومًا، ويؤيده ما رواه ابن سعد والحاكم في الإِكليل أن خروجه -صلى الله عليه وسلم- من المدينة كان يوم السبت لخمس بقين من ذي القعدة، وفيه رد على من منع إطلاق القول في التاريخ لئلا يكون الشهر ناقصًا، فلا يصح الكلام، فيقول مثلًا: لخمس إن بقين بزيادة أداة الشرط، وحجة المجيز أن الإِطلاق يكون على الغالب. ومقتضى قوله أنه دخل مكة لأربع خلون من ذي الحجة أن يكون دخلها صبح يوم الأحد، وبه صرح الواقدي. وقوله: "والطيب والثياب" مبتدأ خبره محذوف، أي: كذلك، وقوله: "الحجون" بفتح المهملة بعدها جيم مضمومة هو الجبل المطل على المسجد بأعلى مكة على يمين المصعد، وهناك مقبرة مكة، وسيأتي بقية شرح ما اشتمل عليه حديث ابن عباس هذا مفرّقًا في الأبواب. أ. هـ. رجاله خمسة قد مرُّوا: مرّ محمد بن أبي بكر المقدمي، وفضيل بن سليمان في الرابع والثمانين من استقبال القبلة، ومرّ موسى بن عقبة في الخامس من الوضوء، وكريب في الرابع منه، وابن عباس في الخامس من بدء الوحي. أ. هـ. وهذا الحديث من افراد البخاري، ورواه مختصرًا، أ. هـ. ثم قال المصنف:

باب من بات بذي الحليفة حتى أصبح

باب من بات بذي الحليفة حتى أصبح يعني إذا كان حجه من المدينة، والمراد من هذه الترجمة مشروعية المبيت بالقرب من البلد التي يسافر منها ليكون أمكن من التوصل إلى مهماته التي ينساها مثلًا، قال ابن بطال: ليس ذلك من سنن الحج، وإنما هو من جهة الرفق ليلحق به من تأخر عنه، قال ابن المنير: لعله أراد أن يدفع توهم من يتوهم أن الإِقامة في الميقات وتأخير الإحرام شبيه بمن تعداه بغير إحرام، فبين أن ذلك غير لازم حتى ينفصل عنه. أ. هـ. ثم قال: قاله ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. وأشار بهذا إلى ما مرَّ في باب خروج النبي -صلى الله عليه وسلم- على طريق الشجرة، وابن عمر قد مرَّ في أول الإِيمان قبل ذكر حديث منه. أ. هـ. الحديث الحادي والثلاثون حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا، وَبِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ بَاتَ حَتَّى أَصْبَحَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، فَلَمَّا رَكِبَ رَاحِلَتَهُ وَاسْتَوَتْ بِهِ أَهَلَّ. قوله: "حدثني ابن المنكدر" كذا رواه الحفاظ من أصحاب ابن جريج عنه، وخالفهم عيسى بن يونس عنه، فقال: عن ابن جريج، عن الزهري، عن أنس، وهي رواية شاذة. وقوله: "وبذي الحليفة ركعتين" فيه مشروعية قصر الصلاة لمن خرج من بيوت البلد وبات خارجًا عنها ولو لم يستمر سفره، واحتج به أهل الظاهر في قصر الصلاة في السفر القصير، ولا حجة فيه لأنه في ابتداء السفر لا المنتهى، وقد تقدم البحث في أبواب قصر الصلاة، وقد مرّ الخلاف في ابتداء إهلاله عليه الصلاة والسلام. أ. هـ. رجاله خمسة قد مرّوا: مرّ عبد الله بن محمد المسندي في الثاني من الإِيمان، ومرّ هشام بن يوسف وابن جريج

لطائف إسناده

في الثالث من الحيض، ومرّ محمد بن المنكدر في التاسع والخمسين من الوضوء، ومرّ أنس في السادس من الإيمان. أ. هـ. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإِفراد والإِخبار والعنعنة، وشيخه من أفراده، ورواته بخاري وصنعاني ومكي ومدني، أخرجه أبو داود في الحج. أ. هـ. الحديث الثاني والثلاثون حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- صَلَّى الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا، وَصَلَّى الْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، قَالَ: وَأَحْسِبُهُ بَاتَ بِهَا حَتَّى أَصْبَحَ. قوله: "وأحسبه" الشك فيه من أبي قلابة، وقد تقدم من طريق ابن المنكدر التي قبلها بغير شك، ويأتي بعد بابين من طريق أخرى عن أيوب بأتم من هذا السياق. أ. هـ. رجاله خمسة قد مرّوا: مرّ قتيبة بن سعيد في الحادي والعشرين من الإِيمان، ومرّ عبد الوهاب وأيوب وأبو قلابة في التاسع منه، ومرّ أنس في السادس منه. أ. هـ. أخرجه مسلم والنسائي. أ. هـ. ثم قال المصنف:

باب رفع الصوت بالإهلال

باب رفع الصوت بالإِهلال قال الطبري: الإِهلال هنا رفع الصوت بالتلبية، وكل رافع صوته بشيء فهو مهلّ به، وأهلّ القوم الهلال هو من هذا لأنهم كانوا يرفعون أصواتهم، وسيأتي اختيار البخاري خلاف ذلك بعد أبواب. الحديث الثالث والثلاثون حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِالْمَدِينَةِ الظُّهْرَ أَرْبَعًا، وَالْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، وَسَمِعْتُهُمْ يَصْرُخُونَ بِهِمَا جَمِيعًا. قوله: "وسمعتهم يصرخون بهما جميعًا" أي: بالحج والعمرة، ومراده بذلك من نوى منهم القرآن، ويحتمل أن يكون على سبيل التوزيع، أي: بعضهم بالحج، وبعضهم بالعمرة، قاله الكرماني، ويشكل عليه في الطريق الأخرى يقول: لبيك بحجة وعمرة معًا، وسيأتي إنكار ابن عمر على أنس ذلك، وسيأتي ما فيه في باب التمتع، والقِران. وفيه حجة للجمهور في استحباب رفع الأصوات بالتلبية للرجل، بحيث لا يضر بنفسه، وقال في "المجموع": لا يستحب رفع الصوت بها في ابتداء الأحرام، بل يسمع نفسه فقط، واختلف الرواة عن مالك فقال ابن القاسم عنه، لا يرفع صوته بالتلبية إلا في المسجد الحرام، ومسجد مني، وقال في "الموطأ": لا يرفع صوته في مسجد الجماعات، ولم يستثن شيئًا، ووجه الاستثناء أن المسجد الحرام جعل للحاج والمعتمر وغيرهما، وكان الملبي إنما يقصد إليه، فكان ذلك وجه الخصوصية، وكذلك مسجد مني. ومشهور مذهب مالك أنه يندب توسط رفع الصوت بها كما هو نص خليل، وقد ورد في طلب رفع الصوت بها ما أخرجه مالك في "الموطأ" وأصحاب السنن، وصححه الترمذي وابن خزيمة والحاكم عن خلاد بن السائب، عن أبيه مرفوعًا: جاءني جبريل، فأمرني أن آمر أصحابي يرفعون أصواتهم بالإِهلال، ورجاله ثقات إلا أنه اختلف على التابعين في صحابيه، وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح، عن بكر بن عبد الله المزني، قال: كنت مع ابن عمر،

رجاله خمسة

فلبى حتى أسمع ما بين الجبلين، وأخرج أيضًا بإسناد صحيح عن المطلب بن عبد الله، قال: كان أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يرفعون أصواتهم بالتلبية حتى تبح أصواتهم، وخرج بلفظ: الرجل السابق المرأة والخنثى، فلا يرفعان صوتهما، بل يسمعان أنفسهما فقط، كما في قراءة الصلاة، فإن رفعا كره، وقد اختلف في حكم التلبية، فمذهب الشافعي وأحمد أنها سنة، وفي وجه حكاه الماوردي عن ابن خيران وابن أبي هريرة أنها واجبة يجب بتركها دم، قلت: مذهب مالك فيه خلاف بين سنتها ووجوبها، ويجب الدم بتركها في أول الإِحرام، وقيل عن بعض المالكية إن التلبية واجبة، واتصالها بالإِحرام سنة. وقال الحنفية: إذا اقتصر على النية ولم يلبّ لا ينعقد إِحرامه؛ لأن الحج تضمن أشياء مختلفة فعلًا وتركًا، فأشبه الصلاة فلا يحصل إلا بالذكر في أوله. وقال المالكية: لا ينعقد إلا بنية مقرونة بقول أو فعل متعلقين به كالتلبية والتوجه إلى طريق، فلا ينعقد بمجرد النية، وقيل: ينعقد بها، وهو مروي عن الإِمام مالك. وقال أهل الظاهر: هي نظير تكبيرة الإِحرام للصلاة. أ. هـ. رجاله خمسة قد مرّوا، مرّ سليمان بن حرب في الرابع عشر من الإِيمان، وحماد بن زيد في الرابع والعشرين منه، ومرّ محل أيوب وأبي قلابة وأنس في الذي قبله. أ. هـ. ثم قال المصنف:

باب التلبية

باب التلبية هي مصدر لبَّى، أي قال: لبيك، ولا يكون عامله إلا مضمرًا. أ. هـ. الحديث الرابع والثلاثون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لاَ شَرِيكَ لَكَ. قوله: "لبيك" هو لفظ مثنى عند سيبويه ومن تبعه إلى آخر ما مرّ معناه في باب من خصّ بالعلم قومًا دون قوم من كتاب العلم، وقال ابن عبد البر: قال جماعة من أهل العلم: معنى التلبية إجابة دعوة إبراهيم عليه السلام حين أذَّن في الناس بالحج، وهذا خرّجه عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم بأسانيدهم في تفاسيرهم، عن ابن عباس، وعطاء، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، وغير واحد، والأسانيد إليهم قوية، وأقوى ما فيه عن ابن عباس ما أخرجه أحمد بن منيع في مسنده، وابن أبي حاتم عن قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، قال: لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت قيل له: أذِّن في الناس بالحج، قال: ربِّ وما يبلغ صوتي، قال: أذِّن وعليَّ البلاغ، قال: فنادى إبراهيم: يا أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيتِ العتيقِ، فسمعه مَن بين السماء والأرض، ألا ترون أن الناس يجيئون من أقصى الأرض يلبون. وعن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، وفيه: فأجابوه بالتلبية في أصلاب الرجال وأرحام النساء، وأول من أجابه أهل اليمن، فليس حاج يحج من يومئذ إلى أن تقوم الساعة إلا من كان أجاب إبراهيم يومئذ، قال ابن المنير: في مشروعية التلبية تنبيه على إكرام الله تعالى لعباده بأن وفودهم على بيته إنما كان باستدعاء منه تعالى. وقوله: "إن الحمد" روي بكسر الهمزة على الاستئناف وبفتحها على التعليل والكسر أجود لأن من كسر جعل معناه إن الحمد لك على كل حال، ومن فتح قال: معناه قال لبيك لهذا السبب، وقال الخطابي. لهج العامة بالفتح، وحكاه الزمخشري عن الشافعي، وقال ابن عبد البر: المعنى عندي واحد، لأن من فتح أراد لبيك لأن الحمد لك على كل حال، وتعقب

بأن التقييد ليس في الحمد، وإنما هو في التلبية، قال ابن دقيق العيد: الكسر أجود لأنه يقتضي أن تكون الإِجابة مطلقة غير معللة، وأن الحمد والنعمة لله على كل حال، والفتح يدل على التعليل، فكأنه يقول: أجبتك لهذا السبب، والأول أعم، فهو أكثر فائدة، ولما حكى الرافعي الوجهين من غير ترجيح، رجَّح النووي الكسر، وهذا خلاف ما نقله الزمخشري أن الشافعي اختار الفتح، وأن أبا حنيفة اختار الكسر. وقوله: "والنعمة لك" المشهور فيه النصب، قال عياض: ويجوز الرفع على الابتداء، ويكون الخبر محذوفًا، والتقدير: أن الحمد لك والنعمة مستقرة لك، وقال ابن المنير: قرن الحمد والنعمة وأفرد الملك لأن الحمد متعلق النعمة، ولهذا يقال: الحمد لله على نِعَمِه، فجمع بينهما كأنه قال: لا حمد إلا لك؛ لأنه لا نعمة إلا لك، وأما الملك فهو معنى مستقل بنفسه ذكر لتحقيق أن النعمة كلها لله لأنه صاحب الملك. وقوله: "والملك" بالنصب أيضًا على المشهور، ويجوز الرفع، وتقديره: والملك كذلك، وعند مسلم عن ابن عمر: كان النبي-صلى الله عليه وسلم- إذا استوت به راحلته عند مسجد ذي الحليفة أهلَّ فقال: لبَّيك، الحديث. وللمصنف في اللباس عنه: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يهلّ ملبّدًا، بقوله: "لبيك اللهم لبَّيك"، الحديث، وقال في آخره: لا يزيد على هذه الكلمات، زاد مسلم: قال ابن عمر: كان عمر يهلّ بهذا ويزيد: لبيك اللهم لبيك وسعديك والخير في يديك، والرغباء إليك، والعمل. وهذا القدر في رواية مالك عن ابن عمر أنه كان يزيد فيها، فذكر نحوه فعلم أن ابن عمر اقتدى بأبيه في ذلك، وأخرج ابن أبي شيبة عن المسور بن مخرمة، قال: كانت تلبية عمر، فذكر مثل المرفوع، وزاد: لبيك مرغوبًا ومرهوبًا إليك، ذا النعماء والفضل الحسن. واستدل به على استحباب الزيادة على ما روي عن النبي-صلى الله عليه وسلم- في ذلك، قال الطحاوي بعد أن أخرجه عن ابن عمر وابن مسعود وجابر وعائشة وعمرو بن معدي كرب: أجمع المسلمون جميعًا على هذه التلبية، غير أن قومًا قالوا: لا بأس أن يزيد فيها من الذكر ما أحب بلا استحباب ولا كراهة، وهذا مذهب الأئمة الأربعة، لكن حكى ابن عبد البر عن مالك الكراهة، قال: وهو أحد قولي الشافعي، وحكى البيهقي الخلاف بين أبي حنيفة والشافعي، فقال: الاقتصار على المرفوع أحب، ولا ضيق أن يزيد عليها، قال: وقال أبو حنيفة: وإن زاد فحسن، وحكى في المعرفة عن الشافعي، قال: ولا ضيق على أحد في قول ما جاء عن ابن عمر وغيره من تعظيم الله ودعائه، غير أن الاختيار عندي أن يفرد ما روي

عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرفوعًا، وإذا اختار قول ما جاء موقوفًا أو أنشأه هو من نفسه مما يليق، قاله على انفراده حتى لا يختلط بالمرفوع، وهذا أعدل الوجوه، وهو شبيه بحال الدعاء في التشهد، فإنه قال فيه: ثم ليختر من المسألة والثناء ما شاء بعد أن يفرغ من المرفوع. واستدل المجوزون للزيادة بما أخرجه النسائي، وصححه ابن حبان والحاكم عن أبي هريرة، قال: كان من تلبية رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لبيك إله الخلق لبيك"، وبزيادة ابن عمر المذكورة، وبما أخرجه أبو داود وابن ماجه عن جابر، قال: أهلَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكر التلبية، قال: والناس يزيدون: ذا المعارج ونحوه من الكلام، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يسمع، فلم يقل لهم شيئًا، وروى سعيد بن منصور عن الأسود بن يزيد أنه كان يقول: "لبيك غفار الذنوب"، وفي "تاريخ مكة" للأزرقي بسند معضل: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لقد مرَّ بفج الروحاء سبعون نبيًا تلبيتهم شتى منهم يونس بن متى، وكان يقول: لبيك فرَّاج الكرب، لبَّيك، وكان موسى يقول: لبَّيك أنا عبدك لديك لبيك، قال: وتلبية عيسى: أنا عبدك وابن أمتك بنت عبديك". وقال قوم: لا ينبغي أن يزاد على ما علمه النبي -صلى الله عليه وسلم- الناس كما في حديث عمرو بن معدي كرب، ثم فعله هو، ولم يقل لبُّوا بما شئتم مما هو من جنس هذا، بل علَّمهم كما علَّمهم التكبير في الصلاة، فكذلك لا ينبغي أن يتعدى في ذلك شيئًا مما علمه، وأخرج الطحاوي عن سعد بن أبي وقاص أنه سمع رجلًا يقول: لبيك ذا المعارج، فقال: إنه لذو المعارج، وما هكذا كنا نلبي على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فهذا سعد قد كره الزيادة في التلبية، قال الطحاوي: وبه نأخذ، وهذا يدل على أن الاقتصار على التلبية المرفوعة أفضل لمداومته هو -صلى الله عليه وسلم- عليها، وأنه لا بأس بالزيادة لكونه لم يردّها عليهم، وأقرّهم عليها، وهو قول الجمهور كما مرّ. واستحب الشافعية أن يصلي على النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد الفراغ من التلبية، ويسأل الله رضاه والجنة، ويتعوذ به من النار، واستأنسوا لذلك بما رواه الشافعي والدارقطني والبيهقي عن عمارة بن خزيمة بن ثابت، عن أبيه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا فرغ من تلبيته سأل الله تعالى رضوانه والجنة، واستعفاه برحمته من النار. وقوله: "وسعديك" في الحديث هو من باب لبيك، فيأتي فيه ما سبق من التثنية والإفراد، ومعناه: أسعِدني إسعادًا بعد إسعاد، فالمصدر فيه مضاف للفاعل، وإن كان الأصل في معناه أسعدك بالإجابة إسعادًا بعد إسعاد على أن المصدر فيه مضاف للمفعول لاستحالة ذلك هنا، وقيل: المعنى مساعدة على طاعتك بعد مساعدة، فيكون من المضاف للمنصوب، وقد وقع

رجاله ستة

في المرفوع تكرير لفظة لبيك ثلاث مرات، وكذا في الموقوف إلا أن في المرفوع الفصل بين الأولى والثانية بقوله: "اللهم"، وقد اتفقت الأدباء على أن التكرير اللفظي لا يزاد على ثلاث مرات. أ. هـ. رجاله ستة قد مرُّوا: مرّ عبد الله بن يوسف ومالك في الثاني من بدء الوحي، ومرّ نافع في الأخير من العلم، ومرّ ابن عمر في أول الإِيمان، قبل ذكر حديث منه. أ. هـ. أخرجه مسلم في الحج، وكذا أبو داود والنسائي. أ. هـ. الحديث الخامس والثلاثون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي عَطِيَّةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: إِنِّي لأَعْلَمُ كَيْفَ كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُلَبِّي لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ. أردف المصنف حديث ابن عمر بحديث عائشة لما فيه من الدلالة على أنه كان يديم ذلك، وقد تقدم أن في حديث جابر عند مسلم التصريح بالمداومة. أ. هـ. رجاله ستة: مرّ منهم محمد بن يوسف الفريابي في العاشر من العلم، ومرّ سفيان الثوري في السابع والعشرين من الإِيمان، ومرّ الأعمش في الخامس والعشرين منه، ومرّ عمارة بن عمير في الخامس عشر من صفة الصلاة، ومرّت عائشة في الثاني من بدء الوحي. السادس: أبو عطية الوادعي الهمداني الكوفي، اختلف في اسمه واسم أبيه، قيل: اسمه مالك بن عامر، وهو الصحيح، ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن معين: ثقة، وكذا أبو داود، وقال ابن سعد: كان ثقة وله أحاديث صالحة، روى عن ابن مسعود وعائشة وأبي مسعود ومسروق، وروى عنه عمارة بن عمير ومحمد بن سيرين وخيثمة بن عبد الرحمن والأعمش وغيرهم، شهد مع علي مشاهده، ومات في ولاية عبد الملك. أ. هـ. ثم قال: تابعه أبو معاوية عن الأعمش. أي: تابع سفيان، وهو الثوري، عن الأعمش، وهذه المتابعة وصلها مسدد في مسنده، وكذلك أخرجها الجوزقي. وأبو معاوية محمد بن خازم مرّ في تعليق بعد الثالث من الإِيمان، والأعمش مرّ محله الآن. أ. هـ.

ثم قال: وقال شعبة أخبرنا سليمان، سمعت خيثمة، عن أبي عطية، سمعت عائشة رضي الله عنها. وصله أبو داود الطيالسي في مسنده عن شعبة، ولفظه مثل لفظ سفيان إلا أنه زاد فيه: ثم سمعتها تلبي، وليس فيه قوله: "لا شريك لك"، وهذا أخرجه أحمد، عن غندر، عن شعبة، وسليمان شيخ شعبة فيه هو الأعمش، والطريقان جميعًا محفوظان، وهو محمول على أن للأعمش فيه شيخين، ورجح أبو حاتم رواية الثوري ومن تبعه على رواية شعبة، فقال: إنها وهم، وأفادت هذه الطريق بيان سماع أبي عطية عن عائشة. أ. هـ. وشعبة مرّ في الثالث من الإيمان وسليمان الأعمش وعائشة مرّ محلهما في الذي قبله، وأبو عطية مرّ فيه وخيثمة هو ابن عبد الرحمن بن أبي سبرة، واسمه يزيد بن مالك بن عبد الله بن ذؤيب الجعفي الكوفي، لأبيه ولجده صحبة، وفدَ جدّه أبو سبرة على النبي -صلى الله عليه وسلم- ومعه ابناه سبرة وعزيز، قال ابن معين والنسائي: ثقة، وقال العجلي: كوفي تابعي ثقة، وكان رجلًا صالحًا، وكان سخيًا، ولم ينج من فتنة ابن الأشعث إلا هو وإبراهيم النخعي، وقال طلحة بن مصرف: ما رأيت بالكوفة أحدًا أعجب إلى منهما، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال نعيم بن أبي هند: رأيت أبا وائل في جنازة خيثمة، روى عن أبيه، وعلي وابن عباس والنعمان بن بشير وغيرهم، وروى عنه رزين بن حبيش وأبو إسحاق السبيعي والأعمش وطلحة بن مصرف وغيرهم، مات سنة ثمانين. أ. هـ. ثم قال المصنف:

باب التحميد والتسبيح والتكبير قبل الإهلال عند الركوب على الدابة

باب التحميد والتسبيح والتكبير قبل الإِهلال عند الركوب على الدابة سقط من رواية المستملي لفظ التحميد، والمراد بالإِهلال هنا التلبية، وقوله: "عند الركوب"، أي: بعد الاستواء على الدابة، لا حال وضع الرجل مثلًا في الركاب، وهذا الحكم وهو استحباب التسبيح وما ذكر معه قبل الإِهلال قلّ من تعرّض لذكره مع ثبوته، وقيل: أراد المصنف الرد على من زعم أنه يكتفي بالتسبيح وغيره عن التلبية، ووجه ذلك أنه -صلى الله عليه وسلم- أتى بالتسبيح وغيره، ثم لم يكتف به حتى لبى. الحديث السادس والثلاثون حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَنَحْنُ مَعَهُ بِالْمَدِينَةِ الظُّهْرَ أَرْبَعًا، وَالْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ بَاتَ بِهَا حَتَّى أَصْبَحَ، ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى الْبَيْدَاءِ، حَمِدَ اللَّهَ وَسَبَّحَ وَكَبَّرَ، ثُمَّ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهِمَا، فَلَمَّا قَدِمْنَا أَمَرَ النَّاسَ فَحَلُّوا، حَتَّى كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ أَهَلُّوا بِالْحَجِّ قَالَ: وَنَحَرَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بَدَنَاتٍ بِيَدِهِ قِيَامًا، وَذَبَحَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِالْمَدِينَةِ كَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ. أورد المصنف حديث أنس هذا وهو مشتمل على أحكام تقدم منها ما يتعلق بقصر الصلاة وبالإِحرام، وسيأتي قريبًا إن شاء الله تعالى ما يتعلق بالقِران قوله: "ثم بات بها حتى أصبح، ثم ركب" ظاهره أن إهلاله كان بعد صلاة الصبح، لكن عند مسلم عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى الظهر بذي الحليفة، ثم دعا بناقته فأشعرها، ثم ركب راحلته، فلما استوت به على البيداء أهلَّ بالحج، وللنسائي عن أنس أنه -صلى الله عليه وسلم- صلَّى الظهر بالبيداء، ثم ركب، ويجمع بينهما بأنه صلاها في آخر ذي الحجة وأول البيداء. وقوله: "ثم أهلَّ بحجٍّ وعمرة" سيأتي قريبًا إن شاء الله تعالى الكلام عليه في باب التمتع والقِران.

رجاله خمسة

وقوله: "حتى كان يوم التروية" بضم يوم لأن كان تامة، قوله بيده قيامًا، أي: قائمات، وانتصابه على الحال. وقوله: "أملحين" تثنية أملح، وهو الأبيض الذي يخالطه سواد، وكان النحر للبدنات بمكة، والذبح للكبشين بالمدينة، أحدهما عن أهل بيته، والآخر عمن لم يضحِّ من أمته. أ. هـ. رجاله خمسة قد مرُّوا: مرّ موسى بن إسماعيل في الخامس من بدء الوحي، ومرّ وهيب في تعليق بعد الخامس عشر من الإِيمان، ومرّ أيوب وأبو قلابة في التاسع منه، وأنس في السادس منه، أخرجه البخاري أيضًا في الحج والجهاد، ومسلم في الصلاة، وكذا أبو داود والنسائي إلا أن أبا داود قطعه، فأخرج بعضه في الصلاة، وبعضه في الحج، وبعضه في الأضاحي. أ. هـ. ثم قال: قال أبو عبد الله: قال بعضهم هذا عن أيوب، عن رجل، عن أنس. والبعض المبهم ليس هو إسماعيل ابن علية كما زعم بعضهم، فقد أخرجه المصنف عن مسدد، عنه، في باب نحو البُدْنِ قائمة بدون هذه الزيادة، ووهيب حجة ثقة، وقد جعله عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس، فعرف أنه المبهم، وقد تابعه عبد الوهاب الثقفي على حديث ذبح الكبشين الأملحين، عن أيوب، عن أبي قلابة كما يأتي إن شاء الله تعالى في الأضاحي، وأبو عبد الله هو البخاري نفسه، والبعض المبهم، قيل أنه إسماعيل ابن علية، وقد مرّ رده، وقيل: حماد بن سلمة، وقيل: أبو قلابة، وقد مرّ محله في الذي قبله، وإسماعيل قد مرّ في الثامن من الإِيمان، وحماد قد مرّ في متابعة بعد الثامن من الوضوء. أ. هـ.

باب من أهل حين استوت به راحلته قائمة

باب من أهلَّ حين استوت به راحلته قائمة الحديث السابع والثلاثون حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: أَهَلَّ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً. أورد حديث ابن عمر هذا مختصرًا، وقد تقدم الكلام عليه، ورواية صالح عن نافع من الأقران، وقد سمع ابن جريج من نافع كثيرًا، وروى هذا عنه بواسطة، وهو قال على قلة تدليسه. أ. هـ. رجاله خمسة قد مرُّوا: مرّ أبو عاصم في أثر بعد الرابع من العلم، ومرّ ابن جريج في الثالث من الحيض، ومرّ صالح بن كيسان في الأخير من بدء الوحي، ومرَّ نافع في الأخير من العلم، ومرّ ابن عمر في أول الإِيمان قبل ذكر حديث منه. أ. هـ. ثم قال المصنف:

باب الإهلال مستقبل القبلة

باب الإِهلال مستقبل القبلة الحديث الثامن والثلاثون وَقَالَ أَبُو مَعْمَرٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما إِذَا صَلَّى بِالْغَدَاةِ بِذِي الْحُلَيْفَةِ أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَرُحِلَتْ، ثُمَّ رَكِبَ، فَإِذَا اسْتَوَتْ بِهِ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ قَائِمًا، ثُمَّ يُلَبِّي حَتَّى يَبْلُغَ الْمَحْرَمَ، ثُمَّ يُمْسِكُ حَتَّى إِذَا جَاءَ ذَا طُوًى بَاتَ بِهِ حَتَّى يُصْبِحَ، فَإِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ اغْتَسَلَ، وَزَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَعَلَ ذَلِكَ. قوله: "إذا صلى بالغداة" أي: صلى الصبح بوقت الغداة، وللكشميهني: إذا صلى الغداة، أي: الصبح، وقوله: "فرحلت" بالتخفيف مبنيًا للمجهول، وقوله: "واستقبل القبلة قائمًا" أي: مستويًا على ناقته أو وصفه بالقيام لقيام ناقته، وقد جاء في الرواية الثانية بلفظ: "فإذا استوت به راحلته قائمة، وفهم الداودي من قوله: "استقبل القبلة قائمًا"، أي: في الصلاة، فقال: في السياق تقديم وتأخير، فكانه قال: أمر براحلته فرحلت، ثم استقبل القبلة قائمًا، أي: فصلى صلاة الإحرام، ثم ركب، حكاه ابن التين، قال: وإن كان ما في الأصل محفوظًا فلعله لقرب إهلاله من الصلاة. أ. هـ. ولا حاجة إلى دعوى التقديم والتأخير، بل صلاة الإِحرام لم تذكر هنا، والاستقبال إنما وقع بعد الركوب، وقد رواه ابن ماجه وأبو عوانة في صحيحه عن نافع بلفظ: كان إذا أدخل رجله في الغرز واستوت به ناقته قائمًا، أهلَّ. وقوله: "ثم يمسك"، الظاهر أنه أراد: يمسك عن التلبية، وكأنه أراد بالحرم المسجد، والمراد بالإِمساك عن التلبية التشاغل بغيرها من الطواف وغيره لا تركها أصلًا، وقد روى ابن خزيمة في صحيحه عن عطاء، قال: كان ابن عمر يدع التلبية إذا دخل الحرم، ويراجعها بعدما يقضي طوافه بين الصفا والمروة، وأخرج نحوه عن القاسم بن محمد، عن ابن عمر، قال الكرماني: يحتمل أن يكون مراده بالحرم مني، فيوافق الجمهور في استمرار التلبية حتى يرمي جمرة العقبة، لكن يشكل عليه قوله في رواية إسماعيل ابن عُلية إذا دخل أدنى الحرم،

رجاله خمسة

والأولى أن المراد بالحرم ظاهره لقوله بعد ذلك حتى إذا جاء ذا طوى، فجعل غاية الإمساك الوصول إلى ذي طوى، والظاهر أن المراد بالإِمساك ترك تكرار التلبية ومواظبتها، ورفع الصوت بها الذي يفعل في أول الإِحرام لا ترك التلبية رأسًا، قاله في "الفتح"، وهو مخالف لمذهب مالك، وهذا الاحتمال في المراد بالحرم هو الموافق لما مرَّ عن مالك في باب الركوب والارتداف في الحج. وقوله: "ذا طُوى" بضم الطاء وفتحها وضبطها الأصيلي بكسرها، وادٍ معروف بقرب مكة، ويعرف اليوم ببئر الزاهر، وهو مقصور منون، وقد لا ينون، ونقل الكرماني أن في بعض الروايات: حتى إذا حاذى طوى بحاء مهملة بغير همز وفتح الذال، قال: والأول هو الصحيح؛ لأن اسم الموضع ذو طوى لا طوى فقط. وقوله: "وزعم" هو من إطلاق الزعم على القول الصحيح، ويأتي من رواية ابن علية عن أيوب بلفظ ويحدث. رجاله خمسة قد مرُّوا: مرّ أبو معمر عبد الله بن عمرو وعبد الوارث في السابع عشر من العلم، ومرّ أيوب في التاسع من الإِيمان، ومرّ محل نافع وابن عمر في الذي قبله. أ. هـ. وأتى البخاري بهذا الحديث تعليقًا، وقد وصله أبو نعيم في "المستخرج" من طريق عباس الدوري، عن أبي معمر، وقال: ذكره البخاري بلا رواية. أ. هـ. أخرجه مسلم. أ. هـ. ثم قال: تابعه إسماعيل، عن أيوب في الغسل. أي: وغيره لكن من غير مقصود الترجمة لأن هذه المتابعة وصلها المصنف كما سيأتي بعد أبواب عن ابن علية، ولم يقتصر على الغسل، بل ذكره كله إلا القصة الأولى، وأوله: كان إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية، والباقي مثله، ولهذه النكتة أورد المصنف طريق فليح عن نافع المقتصرة على القصة الأولى بزيادة ذكر الدهن الذي ليست له رائحة طيبة، ولم يقع في رواية فليح التصريح باستقبال القبلة لكنه من لازم التوجه إلى مكة في ذلك الموضع أن يستقبل القبلة، وقد صرح بالاستقبال في الرواية الأولى وهما حديث، وإنما احتاج إلى رواية فليح للنكتة التي بينتها، وبهذا التقرير يندفع اعتراض الإِسماعيلي عليه في إيراده حديث فليح وأنه ليس للاستقبال فيه ذكر، قال المهلب: استقبال القبلة بالتلبية هو المناسب لأنها إجابة لدعوة إبراهيم، ولأن المجيب لا يصلح له أن يولّي المجاب ظهره، بل يستقبله، قال: وإنما كان ابن عمر يدهن ليمنع بذلك القمل عن شعره، ويجتنب ماله رائحة طيبة صيانة

الحديث التاسع والثلاثون

للإحرام، وهذه المتابعة وصلها البخاري في باب الاغتسال عند دخول مكة على ما يأتي إن شاء الله تعالى، وإسماعيل ابن علية مرّ في الثامن من الإِيمان، ومرّ أيوب في التاسع منه. أ. هـ. الحديث التاسع والثلاثون حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ أَبُو الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ، عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما إِذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ إِلَى مَكَّةَ ادَّهَنَ بِدُهْنٍ لَيْسَ لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ، ثُمَّ يَأْتِي مَسْجِدَ ذي الْحُلَيْفَةِ فَيُصَلِّي، ثُمَّ يَرْكَبُ، وَإِذَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً أَحْرَمَ، ثُمَّ قَالَ هَكَذَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَفْعَلُ. هذا رواية من الحديث قبله، والكلام عليه هو الكلام على ما قبله. أ. هـ. رجاله أربعة قد مرُّوا: مرّ سليمان بن داود في السادس والعشرين من الإِيمان، ومرّ فليح في الأول من العلم، ومرّ نافع في الأخير منه، ومرّ ابن عمر في أول الإِيمان قبل ذكر حديث منه. أ. هـ. ثم قال المصنف:

باب التلبية إذا انحدر في الوادي

باب التلبية إذا انحدر في الوادي أورد فيها الحديث الدال على أن التلبية في بطون الأودية من سنن المرسلين. أ. هـ. الحديث الأربعون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فَذَكَرُوا الدَّجَّالَ أَنَّهُ قَالَ: مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ أَسْمَعْهُ وَلَكِنَّهُ قَالَ: أَمَّا مُوسَى كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ إِذِ انْحَدَرَ فِي الْوَادِي يُلَبِّى. قوله: "فذكروا الدجال" قد مرَّ استيفاء الكلام عليه في باب الدعاء قبل السلام من أبواب صفة الصلاة، وقوله: "أما موسى فكأني أنظر إليه إذا انحدر في الوادي يلبي" وسيأتي بهذا الإسناد بأتم من هذا السياق في كتاب اللباس، وفيه: وأما موسى فرجل آدم جعد على جمل أحمر مخطوم بخلبة كأني انظر إليه إذا انحدر في الوادي، قال المهلب: هذا وهم من بعض رواته لأنه لم يأت أثر ولا خبر أن موسى حي، وأنه سيحج، وإنما أتى ذلك عن عيسى، فاشتبه على الراوي، ويدل عليه قوله في الحديث الآخر: "ليهلنّ ابن مريم بفج الروحاء". أ. هـ. وهو تغليط للثقات بمجرد التوهم، وسيأتي في اللباس بالإسناد المذكور بزيادة إبراهيم فيه، أفيقال إن الراوي غلط فزاده. وأخرج مسلم الحديث عن ابن عباس بلفظ: "كأني انظر إلى موسى هابطًا من الثنية واضعًا أصبعيه في أذنيه مارًّا بهذا الوادي وله جؤار إلى الله بالتلبية" قاله لما مرَّ بوادي الأزرق، واستفيد منه تسمية الوادي، وهو خلف أمج بينه وبين مكة ميل واحد، وأمج بفتح الهمزة والميم وبالجيم قرية ذات مزارع هناك، وفي هذا الحديث أيضًا ذكر يونس، أفيقال إن الراوي غلط فيه أيضًا فزاد يونس، وقد اختلف أهل التحقيق في معنى قوله: "كأني انظر" على أوجه: الأول: هو على الحقيقة، فإن الأنبياء أفضل من الشهداء، والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، فكذلك الأنبياء، فلا مانع أن يحجوا في هذا الحال، ويصلوا ويتقربوا إلى الله بما

استطاعوا ما دامت الدنيا وهي دار تكليف باقية، وقد ثبت في صحيح مسلم عن أنس أنه -صلى الله عليه وسلم- رأى موسى قائمًا في قبره يصلي، قال القرطبي: حببت إليهم العبادة، فهم يتعبدون بما يجدونه من دواعي أنفسهم، لا بما يلزمون به، كما يُلهم أهل الجنة الذكر، ويؤيده أن عمل الآخر ذكر ودعاء لقوله تعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} الآية، لكن تمام هذا التوجيه أن يقال: إن المنظور إليه هي أرواحهم، فلعلها مثلت له -صلى الله عليه وسلم- في الدنيا، كما مثلت له ليلة الإِسراء، وأما أجسادهم فهي في قبورهم، قال ابن المنير وغيره: يجعل الله لروحه مثالًا فيروى في اليقظة كما يرى في النوم. ثانيها: أنه -صلى الله عليه وسلم- أري حالهم التي كانوا عليها في حياتهم، فمثلوا له كيف كانوا، وكيف كان حجهم وتلبيتهم، ولهذا قال في رواية ابن عباس عند مسلم: كأني انظر إلى موسى، كأني انظر إلى يونس. ثالثها: أنه أخبر عما أوحي إليه -صلى الله عليه وسلم- من أمرهم، وما كان منهم، ولشدة القطع به، قال: كأني انظر إليه، ولأجل هذا أدخل حرف التشبيه في الرواية، وحيث أطلقها فهي محمولة على ذلك. رابعها: كأنها رؤية منام تقدمت له، فأخبر عنها لما حج عندما تذكر ذلك، ورؤيا الأنبياء وحي، واعتمد هذا بعضهم قائلًا: كون هذا في المنام لا يبعد، وقال ابن المنير: توهيم المهلب للراوي وهم منه، وإلا فأي فرق بين موسى وعيسى؛ لأنه لم يثبت أن عيسى منذ رفع نزل إلى الأرض، وإنما ثبت أنه سينزل، وأجيب بأن المهلب أراد أن عيسى لما ثبت أنه سينزل كان كالمحقق، فقال: كأني انظر إليه، ولهذا استدل بحديث أبي هريرة الذي فيه: "ليهلنَّ ابن مريم"، قلت: إذا كانت صلاتهم في أوقات مختلفة، وفي أماكن مختلفة لا يردها العقل، وقد ثبت بها النقل دل ذلك على حياتهم، وإذا ثبت أنهم أحياء من حيث النقل، فإنه يقويه من حيث النظر كون الشهداء أحياء بنص القرآن، والأنبياء أفضل من الشهداء، وقد جمع البيهقي كتابًا لطيفًا في حياة الأنبياء في قبورهم أورد فيه حديث أنس: الأنبياء أحياء في قبورهم، يصلُّون، أخرجه عن المستلم بن سعيد، وثَّقه أحمد وابن حبان عن الحجاج الأسود، وقد وثقه أحمد، وابن معين، وأخرجه أبو يعلى في مسنده من هذا الوجه، وأخرجه البزار عن الحجاج الأسود، وصححه البيهقي، وأخرجه البيهقي أيضًا عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، أحد فقهاء الكوفة بلفظ آخر، قال: إن الأنبياء لا يتركون في قبورهم بعد أربعين ليلة، ولكنهم يصلون بين يدي الله حتى ينفخ في الصور، ومحمد سيىء الحفظ.

وذكر الغزالي والرافعي حديثًا مرفوعًا: أنا أكرم على ربي من أن يتركني في قبري بعد ثلاث، ولا أصلي له إلا أن يؤخذ من رواية ابن أبي ليلى هذه، وليس الأخذ بجيد لأن رواية ابن أبي ليلى قابلة للتأويل، قلت: كيف يصح الأخذ منها وهي فيها التصريح بقوله: بعد أربعين ليلة؟ قال البيهقي: إن صح، فالمراد أنهم لا يتركون يصلون إلا هذا المقدار، ثم يكونون مصلين بين يدي الله تعالى، قال البيهقي: وشاهد الحديث الأول ما ثبت في صحيح مسلم عن أنس رفعه: مررت بموسى ليلة أُسري بي عند الكثيب الأحمر وهو قائم في قبره يصلي، فإن قيل: هذا خاص بموسى، قلنا: قد وجدنا له شاهدًا أخرجه مسلم عن أبي هريرة رفعه: "لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي، الحديث، وفيه: وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء، فإذا موسى قائم يصلي، فإذا رجل ضرب جعد كأنه"، الخ، وفيه: "وإذا عيسى ابن مريم قائم يصلي أقرب الناس شبهًا به عروة بن مسعود، وإذا إبراهيم قائم يصلي، أشبه الناس به صاحبكم، فحانت الصلاة فأممتهم"، قال البيهقي: وفي حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أنه لقيهم ببيت المقدس، فحضرت الصلاة، فأمَّهم نبينا عليه الصلاة والسلام، ثم اجتمعوا في بيت المقدس. وفي حديث أبي ذر ومالك بن صعصعة في قصة الإِسراء أنه لقيهم في السموات، وطرق ذلك صحيحة، فيحمل على أنه رأى موسى قائمًا يصلي في قبره، ثم عرج به هو ومن ذكر من الأنبياء إلى السموات، فلقيهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم اجتمعوا في بيت المقدس، فحضرت الصلاة، فأمهم نبينا -صلى الله عليه وسلم-، ومن شواهد الحديث ما أخرجه أبو داود عن أبي هريرة رفعه وقال فيه: "وصلُّوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم" سنده صحيح، وأخرجه أبو الشيخ بسند جيد بلفظ: "من صلَّى عليَّ عند قبري سمعته، ومن صلَّى عليَّ نائيًا بلغته"، وعند أبي داود والنسائي، وصححه ابن خزيمة وغيره عن أوس بن أوس، رفعه في فضل يوم الجمعة: "فأكثروا على من الصلاة فيه، فإنَّ صلاتكم معروضة عليَّ"، قالوا: يا رسول الله، وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ قال: "إن اللهَ حرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء"، ومما يشكل على ما تقدم ما أخرجه أبو داود عن أبي هريرة رفعه: "ما من أحد يسلم عليَّ إلا ردَّ الله عليَّ روحي حتى أرد عليه السلام، ورجاله ثقات. ووجه الإشكال فيه أن ظاهره أن عود الروح إلى الجسد يقتضي انفصالها عنه، وهو الموت، وقد أجاب العلماء عن ذلك بأجوبة: أحدها أن المراد بقوله: "ردَّ الله عليَّ روحي" أن رد روحه كان سابقًا عقب دفنه لا أنها

رجاله خمسة

تعاد ثم تنزع، ثم تعاد. الثاني: سلمنا لكن ليس هو نزع موت بل لا مشقة فيه. الثالث: أن المراد بالروح الملك الموكل بذلك. الرابع: المراد بالروح النطق، فتجوز فيه من جهة خطابنا بما نفهم. الخامس: أنه يستغرق في أمور الملأ الأعلى، فإذا سلم عليه رجع إليه فهمه، فيجيب من سلم عليه، وقد استشكل ذلك من جهة أخرى، وهو أنه يستلزم استغراق الزمان كله في ذلك لاتصال الصلاة والسلام عليه في أقطار الأرض ممن لا يحصى كثرة، وأجيب بأن أمور الآخرة لا تدرك بالعقل، وأحوال البرزخ أشبه بأحوال الآخرة. وقوله في الحديث: "إذا انحدر" كذا في الأصول، وحكى عياض أن بعض العلماء أنكروا إثبات الألف، وغلَّط رواته وهو غلط منه إذ لا فرق بين إذا وإذ هنا لأنه وصفه حالة انحداره فيما مضى، وفي الحديث أن التلبية في بطون الأودية من سنن المرسلين، وأنها تتاكد عند الهبوط، كما تتأكد عند الصعود، وهذا الحديث، قال الإِسماعيلي، لم يصرح أحد ممن رواه عن ابن عون بذكر النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا شك أنه مراد؛ لأن ذلك لا يقوله ابن عباس من قبل نفسه ولا عن غير النبي -صلى الله عليه وسلم-. أ. هـ. رجاله خمسة: مرّ منهم محمد بن المثنى في التاسع من الإِيمان، ومرّ مجاهد في إثر أوله قبل ذكر حديث منه، ومرّ عبد الله بن عون في التاسع من العلم، ومرّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي، ومرّ محمد بن أبي عدي في العشرين من الغسل. أ. هـ. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإفراد والعنعنة والقول، ورواته بصريُّون إلا مجاهد مكي، أخرجه البخاري أيضًا في اللباس، وأحاديث الأنبياء، ومسلم في الإِيمان. ثم قال المصنف:

باب كيف تهل الحائض والنفساء

باب كيف تهلّ الحائض والنفساء أي: كيف تحرم. أهلّ: تكلم به، واستهللنا، وأهللنا الهلال، كله من الظهور، واستهل المطر: خرج من السحاب، وما أهلّ لغير الله به وهو من استهلال الصبي. قوله: "أهلّ تكلم به" الخ، هكذا في رواية المستملي والكشميهني، وليس هذا مخالفًا لما قدمناه من أن أصل الإِهلال رفع الصوت، لأن رفع الصوت يقع بذكر الشيء عند طهوره. وقوله: "وما أهلّ لغير الله به" وهو من استهلال الصبي، أي إنه من رفع الصوت بذلك، فاستهل الصبي، أي رفع صوته بالصياح إذا خرج من بطن أمه، وأهلَّ به لغير الله، أي: رفع الصوت به عند الذبح للأصنام، ومنه استهلال المطر والدمع وهو صوت وقعه بالأرض، ومن لازم ذلك الظهور غالبًا. أ. هـ. الحديث الحادي والأربعون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، زَوْجِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهِلَّ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ، ثُمَّ لاَ يَحِلَّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا" فَقَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ، وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ وَلاَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "انْقُضِي رَأْسَكِ وَامْتَشِطِي، وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ، وَدَعِي الْعُمْرَةَ". فَفَعَلْتُ فَلَمَّا قَضَيْنَا الْحَجَّ أَرْسَلَنِي النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ إِلَى التَّنْعِيمِ، فَاعْتَمَرْتُ، فَقَالَ: "هَذِهِ مَكَانَ عُمْرَتِكِ". قَالَتْ: فَطَافَ الَّذِينَ كَانُوا أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ حَلُّوا، ثُمَّ طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى، وَأَمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا. قوله: "وامتشطي وأهلَّي بالحج" هو شاهد هذه الترجمة، وقد سبق في كتاب الحيض

رجاله خمسة

أوله بلفظ: "وافعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت"، وقد مرت مباحث هذا الحديث في باب امتشاط المرأة عند غسلها من المحيض من كتاب الحيض عند ذكره هناك بدون هذه الزيادة التي في آخره. وقوله هنا: "ثم طافوا طوافًا آخر" كذا للكشميهني والجرجاني، ولغيرهما طوافًا واحدًا، والأول هو الصواب، قال الخطابي: استشكل بعض أهل العلم أمره لها بنقض رأسها ثم بالامتشاط، وكان الشافعي يتأوله على أنه أمرها أن تدع العمرة، وتدخل عليها الحج، فتصير قارنة، قال: وهذا لا يشاكل القصة، وقيل: إن مذهبها أن المعتمر إذا دخل مكة استباح ما يستبيحه الحاج إذا رمى الجمرة، قال: وهذا لا يعلم وجهه، وقيل: كانت مضطرة إلى ذلك، قال: ويحتمل أن يكون نقض رأسها كان لأجل الغسل لتهلّ بالحج، لاسيما إن كان ملبّدة، فتحتاج إلى نقض الضفر، وأما الامتشاط فلعلَّ المراد به تسريحها شعرها بأصابعها برفق، حتى لا يسقط منه شيء، ثم تضفره كما كان. أ. هـ. رجاله خمسة، وفيه ذكر عبد الرحمن بن أبي بكر، وقد مرّ الجميع: مرّ عبد الله بن مسلمة في الثاني عشر من الإِيمان، ومرّ مالك وعروة وعائشة في الثاني منه، ومرّ ابن شهاب في الثالث منه، ومرّ عبد الرحمن في الرابع من الغسل. أ. هـ. أخرجه البخاري في الحج أيضًا وفي الحيض والمغازي، ومسلم في الحج، وكذا أبو داود والترمذي وابن ماجه والنسائي، وأخرجه النسائي أيضًا في الطهارة. أ. هـ. ثم قال المصنف:

باب من أهل في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- كإهلال النبي-صلى الله عليه وسلم-

باب من أهلّ في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- كإهلال النبي-صلى الله عليه وسلم- أي: فأقرّه النبي -صلى الله عليه وسلم- على ذلك فجاز الإِحرام على الإِبهام، لكن لا يلزم منه جواز تعليقه إلا على فعل من يتحقق أنه يعرفه لما وقع في حديثي الباب، وأما مطلق الإِحرام على الإِبهام فهو جائز، ثم يصرفه الحرم لما شاء لكونه عليه الصلاة والسلام لم ينه عن ذلك، وهذا قول الجمهور. وعن المالكلية: لا يصح الإِحرام على الإِبهام، وهو قول الكوفيين، قال ابن المنير: وكأنه مذهب البخاري؛ لأنه أشار بالترجمة إلى أن ذلك خاص بذلك الزمان لأن عليًّا وأبا موسى لم يكن عندهما أصل يرجعان إليه في كيفية الإِحرام، فأحالاه على النبي-صلى الله عليه وسلم-، وأما الآن فقد استقرت الأحكام، وعرفت مراتب الإِحرام فلا يصح ذلك، وكأنه أخذ الإِشارة من تقييده بزمن النبي-صلى الله عليه وسلم-، قاله في "الفتح"، قلت: ما عزاه للمالكلية من أن الإِحرام على الإِبهام لا يصح ليس في مذهبهم إلا إذا كان قولًا ضعيفًا فمذهبهم جواز الإِحرام على الإِبهام، وصرفه ندبًا لحج مفرد إن وقع الصرف قبل طواف القدوم، وقد أحرم في أشهر الحج، وإن كان قبلها صرفه ندبًا لعمرة، وكره لحج، فإن طاف وجب صرفه للإِفراد هذا هو مشهور مذهب مالك. أ. هـ. ثم قال: "قاله ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، عن النبي-صلى الله عليه وسلم-". يشير إلى ما أخرجه موصولًا في باب بعث علي إلى اليمن من كتاب المغازي، عن ابن عمر، فذكر فيه حديثًا: فقوم علينا علي بن أبي طالب من اليمن حاجًّا، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "بما أهللت فإنَّ معنا أهلك"، قال: أهللت بما أهلّ به النبي -صلى الله عليه وسلم-، الحديث. وإنما قال له: "فإن معنا أهلك" لأن فاطمة كانت تمتعت بالعمرة، وأحلت كما بينه مسلم من حديث جابر، وقد مرّ ابن عمر في أول الإيمان. أ. هـ. الحديث الثاني والأربعون حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ عَطَاءٌ: قَالَ جَابِرٌ رضي الله تعالى

رجاله أربعة

عنه: أَمَرَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَلِيًّا رضي الله عنه أَنْ يُقِيمَ عَلَى إِحْرَامِهِ. وما في هذا الحديث هو ما مرَّ في المعلق قبله. أ. هـ. رجاله أربعة قد مرُّوا: مرّ المكي بن إبراهيم في السابع والعشرين من العلم، ومرّ عطاء بن أبي رباح في التاسع والثلاثين منه، ومرّ ابن جريج في الثالث من الحيض، ومرّ جابر في الرابع من بدء الوحي، وفيه ذكر علي، وقد مرّ في السابع والأربعين من العلم. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، ورواته بلخي ومكيان، وهو من رباعيات البخاري. أ. هـ. ثم قال: وذكر قول سراقة: وفاعل ذكر، إما جابر وإما المكي، والقائل: وذكر إما البخاري وإما عطاء، يصح هذا الاحتمال إن كان فاعل ذكر جابرًا وإن كان المكي فلا يصح أن يكون إلا البخاري، وقول سراقة: هو سؤاله أعمرتنا لعامنا هذا أو للأبد؟ قال: بل للأبد، وسيأتي موصولًا في أبواب العمرة من وجه آخر عن عطاء، عن جابر، وقد مرّ سراقة بن مالك في السابع عشر والمائة من الجنائز. الحديث الثالث والأربعون حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْخَلاَّلُ الْهُذَلِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا سَلِيمُ بْنُ حَيَّانَ، قَالَ: سَمِعْتُ مَرْوَانَ الأَصْفَرَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَدِمَ عَلِيٌّ رضي الله عنه عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- مِنَ الْيَمَنِ فَقَالَ: "بِمَا أَهْلَلْتَ؟ ". قَالَ: بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-. فَقَالَ: "لَوْلاَ أَنَّ مَعِي الْهَدْيَ لأَحْلَلْتُ". قوله: "قدم علي من اليمن" كان سبب بعثه إلى اليمن أنه أرسله -صلى الله عليه وسلم- ليقسم الفيء، وكان ذلك قبل حجة الوداع. أ. هـ. رجاله خمسة: مرّ منهم عبد الصمد بن عبد الوارث في السادس والثلاثين من العلم، ومرّ سليم بن حيان في الحادي والتسعين من الجنائز، ومرّ أنس في السادس من الإِيمان، ومرّ محل علي في

لطائف إسناده

الذي قبله، والباقي اثنان، الأول الحسن بن علي بن محمد الهذلي الخلال أبو علي أو أبو محمد الحلواني، نزيل مكة، قال يعقوب بن شيبة: كان ثقةً ثبتًا، وقال أبو داود: كان عالمًا بالرجال، وكان لا يستعمل علمه، وقال أيضًا: كان لا ينتقد الرجال، وقال الترمذي: حدثنا الحسن بن علي وكان حافظًا، وقال ابن عدي: له كتاب صنّفه في السنن، وقال الخليلي: كان يُشبَّه بأحمد في سمته وديانته، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال داود بن الحسين البيهقي: بلغني أنه قال: لا أكفّر من وقف في القرآن، قال داود: فسألت أبا سلمة بن شبيب عنه، فقال: يرمى في الحَشّ، من لم يشهد بكفر الكافر فهو كافر، وقال أحمد: ما أعرفه بطلب الحديث ولا رأيته يطلبه ولم يحمده، ثم قال: يبلغني عنه أشياء أكرهها، وقال مرة: أهل الثغر غير راضين عنه أو ما هذا معناه، وقال الخطيب أبو بكر: كان ثقة حافظًا، وساق بإسناده إليه أنه قال: القرآن كلام الله غير مخلوق، ما نعرف غير هذا. أ. هـ. روى عن عبد الله بن نمير وعبد الصمد بن عبد الوارث ويحيى بن آدم وغيرهم، روى عنه الجماعة سوى النسائي وإبراهيم الحربي وجعفر الطيالسي وغيرهم، مات سنة اثنتين وأربعين ومائتين. أ. هـ. والحُلواني في نسبه بضم الحاء نسبة إلى حلوان، بلدة بمصر أو غيرها. أ. هـ. الثاني مروان الأصفر أبو خلف البصري، يقال: هو مروان بن خاقان، ويقال غيره، ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال أبو داود: مروان الأصفر بن خاقان ثقة روى عن أنس، وابن عمر وأبي هريرة ومسروق وغيرهم، وروى عنه خالد الحذاء وعوف الأعرابي وسليم بن حيان وغيرهم. أ. هـ. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والسماع والقول، وشيخه حلواني، والباقي بصريون، أخرجه مسلم، وكذا الترمذي، وقال حسن غريب. أ. هـ. ثم قال: وزاد محمد بن بكر، عن ابن جريج، قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "بما أهللت يا علي؟ " قال: بما أهلّ به النبي-صلى الله عليه وسلم-، قال: "فأهدِ وامكث حرامًا كما أنت". قوله: "وامكث حرامًا كما كنت" في حديث ابن عمر المشار إليه، قال: فأمسك فإن معنا هديًا، وقوله عن ابن جريج: يعني عن عطاء، عن جابر، وهذا التعليق وصله الإِسماعيلي من طريق محمد بن بشار وأبو عوانة في صحيحه، وسيأتي معنا أيضًا في المغازي من هذا الوجه، والمذكور في كل من الموضعين قطعة من الحديث، وأورد بقيته معلقًا وموصولًا بهذين

الحديث الرابع والأربعون

الإِسنادين في كتاب الاعتصام، وقد مرّ محمد بن بكر في تعليق بعد التاسع من مواقيت الصلاة، ومرّ ابن جريج في الثالث من الحيض. أ. هـ. الحديث الرابع والأربعون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه، قَالَ: بَعَثَنِي النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى قَوْمٍ بِالْيَمَنِ، فَجِئْتُ وَهْوَ بِالْبَطْحَاءِ فَقَالَ: "بِمَا أَهْلَلْتَ؟ ". قُلْتُ: أَهْلَلْتُ كَإِهْلاَلِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "هَلْ مَعَكَ مِنْ هَدْيٍ؟ ". قُلْتُ: لاَ. فَأَمَرَنِي فَطُفْتُ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ أَمَرَنِي فَأَحْلَلْتُ، فَأَتَيْتُ امْرَأَةً مِنْ قَوْمِي فَمَشَطَتْنِي، أَوْ غَسَلَتْ رَأْسِي، فَقَدِمَ عُمَرُ رضي الله عنه فَقَالَ: إِنْ نَأْخُذْ بِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُنَا بِالتَّمَامِ قَالَ اللَّهُ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} وَإِنْ نَأْخُذْ بِسُنَّةِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى نَحَرَ الْهَدْيَ. قوله: "بعثني النبي-صلى الله عليه وسلم- إلى قومي باليمن" كان سبب بعثه ما أخرجه البخاري في استتابة المرتدين عنه، قال: أقبلت ومعي رجلان من الأشعريين، وكلاهما سأل أن يستعمله، فقال: لن نستعمل على عملنا من أراده، ولكن اذهب أنت يا أبا موسى ثم أتبعه معاذًا، وكان وقت بعثه إلى اليمن بعد الرجوع من غزوة تبوك لأنه شهدها مع النبي-صلى الله عليه وسلم- كما سيأتي إن شاء الله تعالى في محله. وقوله: "وهو بالبطحاء" زاد شعبة في روايته الآتية متى يحل المعتمر: منيخ، أي: نازل بها، وكان ذلك في ابتداء قدومه. وقوله: "بما أهللت" في رواية شعبة فقال: أحججت، قلت: نعم، قال: بما أهللت. وقوله: "قلت أهللت" في رواية شعبة قلت: لبيك بإهلال كإهلال النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: أحسنت، وقوله: "فأمرني فطفت"، في رواية شعبة: طف بالبيت بالبيت وبالصفا والمروة. وقوله: "فأتيت امرأة من قومي" في رواية شعبة: امرأة من قيس، والمتبادر إلى الذهن من هذا الإِطلاق أنها من قيس عيلان، وليس بينهم وبين الأشعريين نسبة، لكن في رواية أيوب بن عائذ: امرأة من نساء بني قيس، وظهر من ذلك أن المراد بقيس قيس بن سليم والد أبي موسى الأشعري، وأن المرأة زوج بعض إخوته، وكان لأبي موسى من الإِخوة: أبو رهم، وأبو بردة، قيل: ومحمد، قلت: ما فعلته المرأة لأبي موسى لا يصح إلا إذا كانت محرمًا له. وقوله: "أو غسلت رأسي" كذا فيه بالشك، وأخرجه مسلم عن سفيان بلفظ: وغسلت

رأسي، بواو العطف. وقوله: "فقوم عمر" ظاهر سياقه أن قدوم عمر كان في تلك الحجة وليس كذلك بل البخاري اختصره، وقد أخرجه مسلم، عن عبد الرحمن في مهدي أيضًا بعد قوله: "وغسلت رأسي" فكنت أُفتي الناس بذلك في إمارة أبي بكر، وإمارة عمر، فإني لقائم بالموسم إذ جاء رجل فقال: إنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في شأن النسك، فذكر القصة، وفيه: فلما قدم قلت: يا أمير المؤمنين ما هذا الذي أحدثت في شأن النسك، فذكر جوابه، وقد اختصره المصنف أيضًا عن شعبة، ولكنه أبين من هذا ولفظه: فكنت أفتي به حتى كانت خلافة عمر، فقال: إن أخذنا ... الحديث، ولمسلم أيضًا عن إبراهيم بن أبي موسى الأشعري، عن أبيه أنه كان يفتي بالمتعة، فقال له رجل: رويدك ببعض فتياك، وفي هذه الرواية تبيين عمر العلة التي لأجلها كره التمتع وهي قوله: قد علمت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- فعله، ولكن كرهت أن يظلوا معرسين بالنساء، ثم يروحوا في الحج تقطر رؤوسهم، وكان من رأي عمر عدم الترفه في الحج بكل طريق، فكره لهم قرب عهدهم بالنساء لئلا يستمر الميل إلى ذلك بخلاف من بعد عهده به، ومن يفطم ينفطم، وقد أخرج مسلم عن جابر أن عمر قال: افصلوا حجكم عن عمرتكم فإنه أتم لحجكم وأتم لعمرتكم، وفي رواية: إن الله يحل لرسوله ما شاء، فأتموا الحج والعمرة كما أمركم الله. وقوله: "إن نأخذ بكتاب الله" الخ، محصل جواب عمر في منعه الناس من التحلل بالعمرة أنَّ كتاب الله دالٌّ على منع التحلل لأمره بالإِتمام، فيقتضي استمرار الإِحرام إلى فراغ الحج، وأن سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دالَّةٌ على ذلك لأنه لم يحل حتى بلغ الهدي محلّه، لكن الجواب عن ذلك ما أجاب به هو -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: "ولولا أن معي الهدي لأحللت" فدلَّ على جواز الإِحلال لمن لم يكن معه هدي، وتبين من مجموع ما جاء عن عمر في ذلك أنه منع منه سدًّا للذريعة، وقال المازري: قيل: إن المتعة التي نهى عنها عمر فسخ الحج إلى العمرة، وقيل: العمرة في أشهر الحج، ثم الحج من عامه، وعلى الثاني إنما نهى عنها ترغيبًا في الإِفراد الذي هو أفضل لا أنه يعتقد بطلانها وتحريمها، وقال عياض: الظاهر أنه نهى عن الفسخ، ولهذا كان يضرب الناس عليهما كما رواه مسلم بناء على معتقده أن الفسخ كان خاصًا بتلك السنة، قال النووي: والمختار أنه نهى عن المتعة المعروفة التي هي الاعتمار في أشهر الحج، ثم الحج من عامه، وهو على التنزيه للترغيب في الإِفراد كما يظهر من كلامه، ثم انعقد الإِجماع على جواز التمتع من غير كراهة، ونفى الاختلاف في الأفضل كما

رجاله خمسة

يأتي في الباب الذي بعده، ويمكن أن يتمسك من يقول بأنه إنما نهى عن الفسخ بقوله في الحديث الذي أشير إليه قريبًا عن مسلم: إنَّ الله يحلّ لرسوله ما شاء. أ. هـ. وفي قصة أبي موسى وعلي دلالة على جواز تعليق الأحرام بإحرام الغير مع اختلاف آخر الحديثين في التحلل، وذلك أن أبا موسى لم يكن معه هدي، فصار له حكم النبي -صلى الله عليه وسلم- لو لم يكن معه هدي، وقد قال: لولا الهدي لأحللت، أي فسخت الحج إلى العمرة، كما فعله أصحابه عليه الصلاة والسلام بأمره كما يأتي، وأما علي فكان معه هدي، فلذلك أمره بالبقاء على إحرامه، وصار مثله قارنًا، قال النووي: هذا هو الصواب، وتأوله الخطابي وعياض بتأويلين غير مرضيين. أ. هـ. فأما تأويل الخطابي فإنه قال: فعل أبي موسى يخالف فعل علي، وكأنه أراد بقوله: أهللت كإهلال النبي -صلى الله عليه وسلم-، أي: كما يبينه لي ويعينه لي من أنواع ما يحرم به، فأمره أن يحل بعمل عمرة لأنه لم يكن معه هدي، وأما تأويل عياض فقال: المراد بقوله: فكنت أفتي الناس بالمتعة، أي: بفسخ الحج إلى العمرة، والحاصل لهما على ذلك اعتقادهما أنه -صلى الله عليه وسلم- كان مفردًا مع قوله: "لولا أن معي الهدي لأحللت"، أي: فسخت الحج وجعلته عمرة، فلهذا أمر أبا موسى بالتحلل لأنه لم يكن معه هدي بخلاف علي، قال عياض وجمهور الأئمة على أن فسخ الحج إلى العمرة كان خاصًّا بالصحابة، وقال ابن المنير: ظاهر كلام عمر التفريق بين ما دلّ عليه الكتاب ودلَّت عليه السنة، وهذا التأويل يقتضي أنهما يرجعان إلى معنى واحد، ثم أجاب بأنه لعلّه أراد إبطال وهم من توهم أنه خالف السنة حيث منع من الفسخ، فبين أن الكتاب والسنة متوافقان على الأَمر بالإِتمام، وأن الفسخ كان خاصًا بتلك السنة لإِبطال اعتقاد الجاهلية أن العمرة لا تصح في أشهر الحج، وأما إذا قلنا: كان قارنًا على ما هو الصحيح المختار، فالمعتمد ما ذكر النووي، وسيأتي بيان اختلاف الصحابة في كيفية التمتع في باب التمتع والقِران إن شاء الله تعالى. واستدل به على جواز الإِحرام المبهم، وأن المحرم به يصرفه لما شاء، وقد مرّ ما فيه من الخلاف في باب من أهلّ في زمن النبي-صلى الله عليه وسلم-، ومحل ذلك ما إذا كان الوقت قابلًا بناء على أن الحج لا ينعقد في غير أشهره كما يأتي قريبًا. أ. هـ. رجاله خمسة قد مرُّوا: مرّ ابن يوسف الفريابي في العاشر من العلم، ومرّ الثوري في السابع والعشرين من الإِيمان، ومرّ قيس بن مسلم وطارق بن شهاب في الثامن والثلاثين منه، ومرّ أبو موسى الأشعري في الرابع منه، والمرأة المبهمة في الحديث لم تسم. أ. هـ.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، وشيخ البخاري من أفراده، وهو دمشقي، والباقون كوفيون، أخرجه مسلم والنسائي في الحج. أ. هـ. ثم قال المصنف:

باب قول الله تعالى: {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج}، وقوله: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج}

باب قول الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}، وقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} قال العلماء: تقدير قوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}، أي: الحج حج أشهر معلومات، أو أشهر الحج، أو وقت الحج أشهر معلومات، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وقال الواحدي: يمكن حمله على غير إضمار، وهو أن الأشهر جعلت نفس الحج اتساعًا لكون الحج يقع فيها كقولهم: ليلٌ نائم، وقال أبو إسحاق في "المهذب": المراد وقت إحرام الحج لأن الحج لا يحتاج إلى أشهر، فدلَّ على أن المراد وقت الإِحرام به، وأجمع العلماء على أن المراد بأشهر الحج ثلاثة أولها شوال، لكن اختلفوا هل هي ثلاثة بكمالها وهو قول مالك، ونقل عن الإِملاء للشافعي، أو شهران وبعض الثالث وهو الباقين، ثم اختلفوا فقال ابن عمر وابن عباس وابن الزبير وآخرون: عشر ليال من ذي الحجة، وهل يدخل يوم النحر أو لا؟ قال أبو حنيفة وأحمد: نعم، وقال الشافعي: في المشهور المصحح عنه: لا. واختلف العلماء أيضًا في اعتبار هذه الأشهر هل هو على الشرط أو الاستحباب، فقال ابن عمر وابن عباس وغيرهم من الصحابة والتابعين: هو شرط فلا يصح الإِحرام بالحج إلا فيها وهو قول الشافعي، واستدل بعضهم بالقياس على الوقوف، وبالقياس على إحرام الصلاة، وليس بواضح لأن الصحيح عند الشافعية أن من أحرم بالحج في غير أشهره انقلب عمرة تجزئه عن عمرة الفرض، وأما الصلاة فلو أحرم قبل الوقت انقلب نفلًا بشرط أن يكون ظانًّا دخول الوقت لا عالمًا، فاختلفا من وجهين، وذهب إلى صحة الإِحرام في جميع السنة مالك وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق والثوري. وقوله: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} أي أوجبه على نفسه بالنية، والقول من تلبية أو ذكرٍ عند مالك، أو بالنية وحدها عند الشافعية، وبالتلبية أو سوق الهدي عند أبي حنيفة. وقوله: {فَلَا رَفَثَ} أي: فلا جماع، أو: فلا فحش من الكلام، وقوله: {وَلَا فُسُوقَ}، أي: ولا خروج عن حدود الشرع بالسيئات وارتكاب المحظورات، وقوله: {وَلَا جِدَالَ} أي:

ولا مراء مع الخدم والرفقة، وقوله: {فِي الْحَجِّ} أي: أيامه الثلاثة. وقرأ رفث وفسوق برفعهم منونًا ابن كثير وأبو عمرو على جعل لا ليسية، وهو خبر بمعنى النهي أو على جعلهما جملتين حذف خبرهما، أو رفث مبتدأ، وفسوق عطف عليه، والخبر محذوف، وقرأ الباقون بالنصب بلا تنوين مبنيين مع لا الجنسية، والجمهور علي بناء جدال على الفتح للعموم. وقوله: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ} جمع ميقات من الوقت، والفرق بينه وبين المدة والزمان أن المدة المطلقة ابتداء حركة الفلك من مبدئها إلى منتهاها، والزمان مدة مقسومة، والوقت الزمان المفروض لأمر، قال ابن عباس: سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن الأهلّةِ، فنزلت هذه الآية يعلمون بها حل دينهم، وعدة نسائهم، ووقت حجهم، وقال أبو العالية: بلغنا أنهم قالوا: يا رسول الله، لم خلقت الأهلّة؟ فنزلت الآية إلى غير هذا. أ. هـ. ثم قال: وقال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر كما ذي الحجة. وصله الطبري والدارقطني عن عبد الله بن دينار، عنه، قال: الحج أشهر معلومات شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، وروى البيهقي عن نافع نحوه، والإِسنادان صحيحان. وأما ما رواه مالك في "الموطأ" عن عبد الله بن دينار، عنه، قال: من اعتمر في أشهر الحج شوال أو ذي القعدة أو ذي الحجة قبل الحج فقد استمتع، فلعله تجوز في إطلاق ذي الحجة جمعًا بين الروايتين، وليس المراد أن جميع الزمن الذي ذكره وقت لجواز الإِحرام، ألا ترى أن الوقوف وطواف الزيارة وغيرهما لا يجوزان قبل التاسع والعاشر، بل المراد أن بعض هذا الزمن وقت لجواز ابتداء الإِحرام فيه، وهو من شوال إلى طلوع فجر يوم النحر، وبعضه وقت لجواز التحلل وهو من فجر يوم النحر لآخر الحجة، وابن عمر مرَّ في أول الأيمان قبل ذكر حديث منه. أ. هـ. ثم قال: وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: من السنة أن لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج. وهذا التعليق وصله ابن خزيمة والحاكم والدارقطني، وابن عباس مرّ في الخامس من بدء الوحي. أ. هـ. ثم قال: "وكره عثمان رضي الله تعالى عنه أن يحرم من خراسان أو كرمان".

الحديث الخامس والأربعون

وخُراسان بضم الخاء وهي إقليم واسع، وكِرمان بكسر الكاف وقيل بفتحها، وهو صقع كبير بين فارس وسجستان متصل بخراسان، والأثر وصله سعيد بن منصور أن عبد الله بن عامر أحرم من خراسان، فلما قدم على عثمان لامه فيما صنع وكرهه، وأخرجه عبد الرزاق، قال: أحرم عبد الله بن عامر من خراسان، فقوم على عثمان فلامه، وقال: غزوت، وهان عليك نسكك، ورواه أحمد بن سيار في تاريخ مرو، قال: لما فتح عبد الله بن عامر خراسان، قال: لأجعلن شكري لله أن أخرج من موضعي هذا محرمًا، فأحرم من نيسابور، فلما قدم على عثمان لامه على ما صنع. وهذه أسانيد يقوي بعضها بعضًا، وروى يعقوب بن سفيان في تاريخه أن ذلك كان في السنة التي قتل فيها عثمان، ومناسبة هذا الأثر للذي قبله أن بين خراسان ومكة أكثر من مسافة أشهر الحج فيستلزم أن يكون أحرم في غير أشهر الحج، فكره ذلك عثمان، وإِلا فظاهره يتعلق بكراهة الإِحرام قبل الميقات، فيكون من متعلق الميقات المكاني لا الزماني. أ. هـ. وقد مرّ عثمان في أثر بعد الخامس من العلم. أ. هـ. الحديث الخامس والأربعون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، حَدَّثَنَا أَفْلَحُ بْنُ حُمَيْدٍ، قال: سَمِعْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَلَيَالِي الْحَجِّ وَحُرُمِ الْحَجِّ، فَنَزَلْنَا بِسَرِفَ، قَالَتْ: فَخَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: "مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ مَعَهُ هَدْيٌ فَأَحَبَّ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ فَلاَ". قَالَتْ فَالآخِذُ بِهَا وَالتَّارِكُ لَهَا مِنْ أَصْحَابِهِ قَالَتْ: فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَرِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَكَانُوا أَهْلَ قُوَّةٍ، وَكَانَ مَعَهُمُ الْهَدْيُ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْعُمْرَةِ، قَالَتْ: فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَنَا أَبْكِي، فَقَالَ: "مَا يُبْكِيكِ يَا هَنْتَاهْ". قُلْتُ: سَمِعْتُ قَوْلَكَ لأَصْحَابِكَ فَمُنِعْتُ الْعُمْرَةَ. قَالَ: "وَمَا شَأْنُكِ". قُلْتُ: لاَ أُصَلِّي. قَالَ: "فَلاَ يَضِيرُكِ، إِنَّمَا أَنْتِ امْرَأَةٌ مِنْ بَنَاتِ آدَمَ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكِ مَا كَتَبَ عَلَيْهِنَّ، فَكُونِي فِي حَجَّتِكِ، فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَرْزُقَكِيهَا". قَالَتْ: فَخَرَجْنَا فِي حَجَّتِهِ حَتَّى قَدِمْنَا مِنًى فَطَهَرْتُ، ثُمَّ خَرَجْتُ مِنْ مِنًى فَأَفَضْتُ بِالْبَيْتِ قَالَتْ: ثُمَّ خَرَجَتْ مَعَهُ فِي النَّفْرِ الآخِرِ حَتَّى نَزَلَ الْمُحَصَّبَ، وَنَزَلْنَا مَعَهُ فَدَعَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: "اخْرُجْ بِأُخْتِكَ مِنَ الْحَرَمِ، فَلْتُهِلَّ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ افْرُغَا، ثُمَّ ائْتِيَا هَاهُنَا، فَإِنِّي أَنْظُرُكُمَا حَتَّى

تَأْتِيَانِي". قَالَتْ: فَخَرَجْنَا حَتَّى إِذَا فَرَغْتُ، وَفَرَغْتُ مِنَ الطَّوَافِ، ثُمَّ جِئْتُهُ بِسَحَرَ، فَقَالَ: "هَلْ فَرَغْتُمْ". فَقُلْتُ: نَعَمْ. فَآذَنَ بِالرَّحِيلِ فِي أَصْحَابِهِ، فَارْتَحَلَ النَّاسُ فَمَرَّ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْمَدِينَةِ. ضَيْرُ مِنْ ضَارَ يَضِيرُ ضَيْرًا، وَيُقَالُ: ضَارَ يَضُورُ ضَوْرًا وَضَرَّ يَضُرُّ ضَرًّا. شاهد الترجمة منه قولها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أشهر الحج وليالي الحج وحرم الحج، فإن ذلك كله يدل على أن ذلك كان مشهورًا عندهم معلومًا، وقوله فيه: وحُرُم الحج بضم الحاء المهملة، والراء، أي: أزمنته وأمكنته وحالاته، ورُوي بفتح الراء وهو جمع حرمة، أي: ممنوعات الحج، وقوله: "يا هَنَتاه" بفتح الهاء والنون وقد تسكن بعدها مثناة وآخره هاء ساكنة كناية عن شيء لا يذكر باسمه، تقول في النداء للمذكر: يا هن، وقد تزاد في آخره للسكت، فتقول: يا هنة، وإن تشبع الحركة في النون فتقول: يا هناه، وتزاد في جميع ذلك للمؤنث مثناة، وقال بعضهم: الألف والهاء في آخره كَهُما في الندبة. وقوله: "قلت لا أصلي" كناية عن أنها حاضت، قال ابن المنير: كنت عن الحيض بالحكم الخاص به، أدبًا منها، وقد ظهر أثر ذلك في بناتها المؤمنات، فكلهن يكنين عن الحيض بحرمان الصلاة، أو غير ذلك. وقوله: "فلا يضرك" في رواية الكشميهني: فلا يضيرك بكسر الضاد وتخفيف التحتانية من الضير، وقوله: "النفر الآخر" هو رابع أيام مني، والأول هو الثالث منها، وهو بسكون الفاء وفتحها، وقوله: "فإني أنظركما" في رواية الكشميهني: أنتظركما بزيادة مثناة. وقوله: "حتى إذا فرغت" أي: من الاعتمار، وفرغت من الطواف، وحذف الأول للعلم، وفي الحديث النزول بالمحصب وهو بضم الميم وفتح الحاء المهملة وتشديد الصاد المهملة آخره موضع متسع بين مكة ومنى، وسمي به لاجتماع الحصباء فيه، يحمل السيل لانهباطه وهو الأبطح والبطحاء، وخيف بني كنانة وهو ما بين الجبلين إلى المقابر، وليست المقابر منه، وفرق المحب الطبري بين الأبطح والبطحاء من حيث التذكير والتأنيث لا من حيث المكان، فقال: والأبطح مسيل واسع فيه دقاق الحصى، فإذا أردت الوادي قلت الأبطح، وإذا أردت البقعة قلت: البطحاء، والنزول فيه سنة عند أبي حنيفة وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير، وقال ابن المنذر: كان ابن عمر يراه سنة، وقال نافع: حصب النبي -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء بعده أخرجه مسلم. وزعم ابن حبيب أن مالكًا كان يأمر بالتحصيب ويستحبه، ويندب عنده أن يصلي به أربع

رجاله خمسة

صلوات الظهر والعشاء وما بينهما، وبه قال الشافعي، وقال عياض: هو مستحب عند جميع العلماء، وهو عند الحجازيين أوكد منه عند الكوفيين، وأجمعوا على أنه ليس بواجب، وأخرج مسلم عن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما كانوا ينزلون بالمحصب. وأخرجت الستة عن عائشة، قالت: إنما نزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمحصب ليكون أسمح لخروجه، وليس بسنة، فمن شاء نزله، ومن شاء لم ينزله. وقييه: "ضيرًا من ضار يضير ضيرًا" لما كان في قوله: لا يضيرك، روايتان، أشار بقوله: ضيرًا: الأجوف اليائي إلى أن مصدر لا يضيرك ضير، وأشار إلى أن فيه لغتين إحداهما أن يكون من ضار يضير ضيرًا من باب باع يبيع بيعًا، وأشار إلى الثانية بقوله: ويقال ضار يضور ضورًا من باب: قال يقول قولًا، وأشار إلى الرواية الثانية بقوله: وضر يضر ضرًّا بفتح العين في الماضي وضمها في المستقبل، وهذه الجملة من قوله ضير الخ ساقطة في رواية أبي ذر، وهذا الحديث مرّ كثيرٌ من مباحثه في كتاب الحيض، وتأتي بقية منها في الباب الذي بعده. أ. هـ. رجاله خمسة، وفيه ذكر عبد الرحمن بن أبي بكر: مرّ منهم محمد بن بشار في الحادي عشر من العلم، ومرّ أفلح بن حميد في الرابع عشر من الغسل، ومرّ القاسم بن محمد في الحادي عشر منه، ومرّت عائشة في الثاني من بدء الوحي، ومرّ أخوها عبد الرحمن في الرابع من الغسل. الخامس: أبو بكر عبد الكبير بن عبد المجيد بن عبيد الله بن شريك بن زهير بن سارية أبو يحيى الحنفي البصري، قال أحمد في رواية عنه: ثقة، وفي رواية: أنا أحدث عنه، وقال أبو زرعة: هم ثلاثة أخوة، وهم ثقات، وقال ابن سعد: كان ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: هم إخوة أربعة: أبو بكر، وأبو علي، وأبو المغيرة واسمه عمير، وشريك، وقال العجلي: بصري ثقة، وقال العقيلي: عبد الكبير ثقة، وأخوه أبو علي ثقة، والأخ الثالث يعني عميرًا ضعيف، وقال الدارقطني: هم أربعة إخوة لا يعتمد منهم إلا على أبي بكر، وأبي علي روى عن أفلح بن حميد ومالك والثوري وأسامة بن زيد الليثي وغيرهم، وروى عنه أحمد وإسحاق وبندار وأبو موسى وغيرهم، مات بالبصرة سنة أربع ومائتين. أ. هـ.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإفراد والعنعنة والسماع والقول، والأولان من الرواة بصريان، والآخران مدنيان، أخرجه البخاري أيضًا، ومسلم والنسائي في الحج. أ. هـ. ثم قال المصنف:

باب التمتع والقران والإفراد بالحج وفسخ الحج لمن لم يكن معه هدي

باب التمتع والقِران والإِفراد بالحج وفسخ الحج لمن لم يكن معه هدي أما التمتع فالمعروف أنه الاعتمار في أشهر الحج، ثم التحلل من تلك العمرة، والإِهلال بالحج في تلك السنة، قال الله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}، ويطلق التمتع في عرف السلف على القِران أيضًا، قال ابن عبد البر: لا خلاف بين العلماء أن التمتع المراد بقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} أنه الاعتمار في أشهر الحج قبل الحج، قال: ومن التمتع أيضًا القِران؛ لأنه تمتع بسقوط سفر للنسك الآخر من بلده، ومن التمتع فسخ الحج أيضًا إلى العمرة، وأما القِران فوقع في رواية أبي ذر الإقران بالألف وهو خطأ من حيث اللغة كما قاله عياض وغيره، وصورته الإِهلال بالحج والعمرة معًا، وهذا لا خلاف في جوازه، أو الإِهلال بالعمرة، ثم يدخل عليها الحج أو عكسه، وهذا مختلف فيه. وأما الإِفراد فالإِهلال بالحج وحده في أشهره عند الجميع، وفي غير أشهره أيضًا عند من يجيزه فيما مرَّ، والاعتمار بعد الفراغ من أعمال الحج لمن شاء، وأما فسخ الحج فالإِحرام بالحج، ثم يتحلل منه بعمل عمرة فيصير متمتعًا، وفي جوازه اختلاف آخر، وظاهر تصرف المصنف إجازته فإن تقدير الترجمة باب مشروعيته التمتع الخ، ويحتمل أن يكون التقدير باب حكم التمتع الخ، فلا يكون فيه دلالة على أن يجيزه، وقد جوزه أحمد وطائفة من أهل الظاهر، وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وجماهير العلماء من الخلف والسلف: إنه خاصٌ بالصحابة وبتلك السنة ليخالفوا ما كانت عليه الجاهلية من تحريم العمرة في أشهر الحج، واعتقادهم أن إيقاعها فيه من أفجر الفجور. ودليل التخصيص حديث الحارث بن بلال عن أبيه عند أبي داود والنسائي وابن ماجه، قال: قلت: يا رسول الله، أرأيت فسخ الحج إلى العمرة لنا خاصة أم للناس عامة؟ فقال: "بل لكم خاصة" وأجاب القائلون بالأول بأن حديث الحارث بن بلال ضعيف، وقال أحمد: لا يصح حديث في الفسخ أنه كان لهم خاصة، والقارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد،

الحديث السادس والأربعون

لأن أفعال العمرة تندرج في أفعال الحج عند مالك والشافعي وأحمد والجمهور خلافًا للحنفية حيث قالوا: لابد للقارن من طوافين وسعيين؛ لأن القِران هو الجمع بين العبادتين، فلا يتحقق إلا بالإِتيان بأفعال كل منهما، والطواف والسعي مقصودان فيهما فلا يتداخلان، إذ لا تداخل في العبادات، وهو محكي عن أبي بكر وعمر وعلي وابنه الحسن، وابن مسعود، ولا يصح عن واحد منهم. واستدل بعضهم بحديث ابن عمر عند الدارقطني بلفظ أنه جمع بين حجة وعمرة معًا، وطاف لهما طوافين وسعى لهما سعيين، وقال: هكذا رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صنع، وبحديث علي عند الدارقطني أيضًا، وبحديث ابن مسعود، وبحديث عمران بن حصين عنده، وكلها مطعون فيها لضعف رواتها، فلا يصح الاحتجاج بها. أ. هـ. الحديث السادس والأربعون حَدَّثَنَا عُثْمَانُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وَلاَ نُرَى إِلاَّ أَنَّهُ الْحَجُّ، فَلَمَّا قَدِمْنَا تَطَوَّفْنَا بِالْبَيْتِ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مَنْ لَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ أَنْ يَحِلَّ، فَحَلَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ، وَنِسَاؤُهُ لَمْ يَسُقْنَ، فَأَحْلَلْنَ، قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: فَحِضْتُ فَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ، فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ الْحَصْبَةِ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَرْجِعُ النَّاسُ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ وَأَرْجِعُ أَنَا بِحَجَّةٍ قَالَ: "وَمَا طُفْتِ لَيَالِيَ قَدِمْنَا مَكَّةَ". قُلْتُ: لاَ. قَالَ: "فَاذْهَبِي مَعَ أَخِيكِ إِلَى التَّنْعِيمِ، فَأَهِلِّي بِعُمْرَةٍ ثُمَّ مَوْعِدُكِ كَذَا وَكَذَا". قَالَتْ صَفِيَّةُ: مَا أُرَانِي إِلاَّ حَابِسَتَهُمْ. قَالَ: "عَقْرَي حَلْقَي، أَوَ مَا طُفْتِ يَوْمَ النَّحْرِ. قَالَتْ: قُلْتُ بَلَى. قَالَ: "لاَ بَأْسَ، انْفِرِي". قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها، فَلَقِيَنِي النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ مُصْعِدٌ مِنْ مَكَّةَ، وَأَنَا مُنْهَبِطَةٌ عَلَيْهَا، أَوْ أَنَا مُصْعِدَةٌ وَهْوَ مُنْهَبِطٌ مِنْهَا. قوله: "خرجنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم-" تقدم في الباب الذي قبله بيان الوقت الذي خرجوا فيه. وقوله: "ولا نرى إلا الحج" بضم النون، أي: ولا نظن، قال ابن التين: ضبطه بعضهم بفتح النون، وبعضهم بضمها، وقال القرطبي: كان هذا قبل أن يعلمن بأحكام الإِحرام وأنواعه، ويحتمل أن ذلك كان اعتقادها من قبل أن تهل، ثم أهلَّت بعمرة، ويحتمل أن يريد بقولها: لا نرى حكاية عن فعل غيرها من الصحابة، وهم كانوا لا

يعرفون غيره، ولم يكونوا يعرفون العمرة في أشهر الحج، فخرجوا محرمين بالذي لا يعرفون غيره، وتعقبه الدماميني بأن الظاهر غير الاحتمالين المذكورين وهو أن مرادها لا أظن أنا ولا غيري من الصحابة إلا أنه الحج فأحرمنا به، هذا ظاهر اللفظ، وهذا ليس بظاهر لأن قولها: لا نرى إلا أنه الحج ليس صريحًا في إهلالها بالحج، نعم في رواية أبي الأسود عنها كما سيأتي إن شاء الله تعالى مهلِّين بالحج، ولمسلم: لبينا بالحج، وهذا ظاهره أنها مع غيرها من الصحابة كانوا أولًا محرمين بالحج، لكن في رواية عروة عنها في هذا الباب: فمنَّا من أهلَّ بعمرةٍ، ومنَّا من أهلَّ بحجة وعمرة، ومنَّا من أهلَّ بالحج، فيحمل الأول على أنها ذكرت ما كانوا يعهدونه من ترك الاعتمار في أشهر الحج، ثم بين لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وجوه الإِحرام، وجوَّز لهم الاعتمار في أشهر الحج، وأما عائشة نفسها، فسيأتي إن شاء الله تعالى في أبواب العمرة، وفي حجة الوداع في المغازي عن عروة عنها في أثناء هذا الحديث، قالت: وكنت ممن أهلَّ بعمرة، وقد زعم إسماعيل القاضي وغيره أن الصواب رواية أبي الأسود والقاسم وعمرة عنها، أنها أهلت بالحج مفردًا، ونسب عروة إلى الغلط. وأجيب بأن قول عروة عنها أنها أهلَّت بعمرة صريح، وأما قول أبي الأسود وغيره عنها: لا نرى إلا الحج، فليس صريحًا في إهلالها بحج مفرد، فالجمع بينهما ما سبق من غير تغليط عروة، وهو أعلم الناس بحديثها، وقد وافقه جابر بن عبد الله الصحابي، كما أخرجه مسلم عنه، وكذا رواه طاووس ومجاهد عن عائشة. ويحتمل في الجمع أيضًا أن يقال: أهلَّت عائشة بالحج مفردًا، كما فعل غيرها من الصحابة، وعلى هذا ينزل حديث الأسود ومن تبعه، ثم أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه أن يفسخوا الحج إلى العمرة، ففعلت عائشة ما صنعوا فصارت متمتعة، وعلى هذا يتنزل حديث عروة: ثم لما دخلت مكة وهي حائض، فلم تقدر على الطواف لأجل الحيض، أمرها أن تحرم بالحج على ما جاء في ذلك من الخلاف. وقوله: "فلما قدمنا تطوفنا" أي: غيرها، لقولها بعده: فلم أطف، فإنه تبين به أن قولها: تطوفنا من العام الذي أريد به الخاص. وقوله: فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- من لم يكن ساق الهدي أن يحل من الحج بعمل العمرة، وياء يحل مضمومة من الإِحلال، وفي اليونينية بفتحها لا غير، والفاء في فأمر للتعقيب، فيدل على

أن أمره عليه الصلاة والسلام بذلك كان بعد الطواف، وقد قيل إنه أمرهم به بسرف، ولا منافاة بينهما، فالثاني تكرار للأول وتأكيد له. وقوله: "ونساؤه لم يسقن فأحللن"، وعائشة منهن لكن منعها من التحلل أنها حاضت ليلة دخولها مكة، وقد مضى في الباب قبله بيان ذلك، وأنها بكت، وأن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال لها: كوني في حجك فظاهره أنه عليه الصلاة والسلام أمرها أن تجعل عمرتها حجًا، ولهذا قالت: يرجع الناس بحج وعمرة، وأرجع بحج، فأعمرها لأجل ذلك من التنعيم، وقال مالك: ليس العمل على حديث عروة قديمًا ولا حديثًا، قال ابن عبد البر: ليس عليه العمل في رفض العمرة، وجعلها حجًا بخلاف جعل الحج عمرة، فإنه وقع للصحابة، وقد اختلف في جوازه من بعدهم كما مرَّ قريبًا، لكن أجاب جماعة من العلماء عن ذلك باحتمال أن يكون معنى قوله: ارفضي عمرتك، أي: اتركي التحلل منها وأدخلي عليها الحج، فتصير قارنة إلى آخر ما مرَّ مستوفى عند ذكر حديث عروة في باب امتشاط المرأة عند غسلها من المحيض من كتاب الحيض. وقوله: "وأرجع أنا بحجة" في رواية الكشميهني: وأرجع لي بحجة، أي: ليس لي عمرة منفردة عن حج حرصت بذلك على تكثير الأفعال كما حصل لسائر أمهات المؤمنين وغيرهن من الصحابة الذين فسخوا الحج إلى العمرة، وأتموا العمرة وتحللوا منها قبل يوم التروية، وأحرموا بالحج يوم التروية من مكة، فحصل لهم حجة منفردة وعمرة منفردة، وأما عائشة فإنما حصل لها عمرة مندرجة في حجة بالقران، فأرادت عمرة منفردة كما حصل لبقية الناس. وقوله: "موعدك كذا وكذا" في الرواية السابقة في باب قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} ثم ائتنا هاهنا، أي: المحصب. وقوله: "قالت صفية ما أُراني" بضم الهمزة، أي: ما أظن نفسي. وقوله: "إلا حابستهم" بالنصب، أي: القوم عن المسير إلى المدينة، لأني حضت ولم أطف بالبيت، فلعلهم بسببي يتوقفون إلى زمان طوافي بعد الطهارة، وإسناد الحبس إليها مجاز، وفي نسخة: حابستكم بكاف الخطاب، وكانت صفية كما سيأتي إن شاء الله تعالى قد حاضت ليلة النفر، فأراد النبي -صلى الله عليه وسلم- ما يريد الرجل من أهله، وذلك وقت النفر، قالت عائشة: يا رسول الله إنها حائض. وقوله: "قال عقرا حلقى" بفتح الأول وسكون الثاني فيهما وألفهما مقصورة للتأنيث فلا ينوَّنان، ويكتبان بالألف، هذا الذي لا يكاد يعرف غيره عند المحدثين، وفيه خمسة أوجه: الأول أنهما وصفان لمؤنث بوزن فعلى، أي عقرها الله في جسدها وحلقها، أي: أصابها

رجاله ستة

وجع في حلقها أو حلق شعرها، فهي معقرة محلوقة وهما مرفوعان: خبر مبتدأ محذوف، أي: هي. ثانيها كذلك إلا أنها بمعنى فاعل، أي: أنها تعقر قومها وتحلقهم بشؤمها، أي: تستأصلهم، فكأنه وصف من فعل متعد وهما مرفوعان أيضًا بتقدير هي، وبه قال الزمخشري. ثالثها كذلك، إلا أنه جمع كجريح وجرحى، ويكون وصف المفرد بذالك مبالغة. رابعها: أنها وصف فاعل لكن بمعنى لا تكد، كعاقر وحلقى، أي: مشؤومة، قال الأصمعي: يقال أصبحت أمه حالقًا، أي: ثاكلًا. خامسها: أنهما مصدران كدعوى، والمعنى عقرها الله وحلقها، أي: حلق شعرها، أو أصابها بوجع في حلقها كما مرَّ، فيكون منصوبًا بحركة مقدرة على قاعدة المقصور، وليس بوصف. وقال أبو عبيدة: الصواب عقرا حلقا بالتنوين فيهما، قيل له: لم لا يجوز فعلى؟ قال: لأن فعلى تجيء فعنا، ولم يجىء في الدعاء، وهذا دعاء، وقال في "القاموس": عقرى وحلقى، وينونان، وفي الصحاح: ربما قالوا: عقرا وحلقى بلا تنوين، وحاصله جواز الوجهين، فالتنوين على أنه منصوب كسقيا وتركه، إما على أنه مصدر كما في المحكم، أو وصف على بابه، فيكون مرفوعًا كما مرَّ، فالجملة على هذا خبرية، وعلى ما قبله دعائية، وفي "القاموس": والمحكم إطلاق العقرا على الحائض، وكان العقر بمعنى الجرح لما كان فيه سيلان دم، سمي سيلان الدم بذلك، وعلى كل تقدير، فليس المراد حقيقة ذلك لا في الدعاء ولا في الوصف، بل هي كلمة اتسعت فيها العرب، فتطلقها، لا تريد حقيقة معناها، فهي كتربت يداه، ونحو ذلك، وقد مرّ باقي الكلام على حديث صفية في باب المرأة تحيض بعد الإفاضة من كتاب الحيض. أ. هـ. رجاله ستة: وفيه ذكر عبد الرحمن، وقد مرّ الجميع، مرّ عثمان بن أبي شيبة وجرير بن عبد الحميد ومنصور بن المعتمر في الثاني عشر من العلم، ومرّ إبراهيم النخعي في الخامس والعشرين من الإِيمان، ومرّ الأسود بن يزيد في السابع والستين من العلم، ومرّ محل عائشة وعبد الرحمن في الذي قبله رجال كلهم كوفيون، أخرجه البخاري أيضًا، ومسلم، وأبو داود، والنسائي في الحج. أ. هـ. وفي الحديث ذكر صفية بنت حي، وقد مرت في الثالث والثلاثين من الحيض.

الحديث السابع والأربعون

الحديث السابع والأربعون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِالْحَجِّ، فَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ أَوْ جَمَعَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لَمْ يَحِلُّوا حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ. وقوله: "ومنَّا من أهلَّ بعمرة، ومنا من أهلَّ بحجة وعمرة" أي: جمع بينهما، ولأبي ذر بحج وعمرة. وقوله: "ومنا من أهل بالحج" أي: فقط، وكانوا أولًا لا يعرفون إلا الحج، فبين لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وجوه الإِحرام، وجوَّز لهم الاعتمار في أشهر الحج. والحاصل من مجموع الأحاديث أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا ثلاثة أقسام: قسم أحرموا بحج وعمرة أو بحج ومعهم الهدي، وقسم بعمرة ففرغوا منها ثم أحرموا بالحج، وقسم بحج ولا هدي معهم، فأمرهم النبي-صلى الله عليه وسلم- أن يقبلوه عمرة وهو معنى فسخ الحج إلى العمرة، وأما عائشة رضي الله تعالى عنها، فكانت أهلَّت بعمرة، ولم تسق هديًا، ثم أدخلت عليها الحج. وقوله: "أهلَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالحج" أي: مفردًا، ثم أدخل عليه العمرة، وقوله: "لم يحلوا حتى كان يوم النحر" كذا فيه، وسيأتي في حجة الوداع بلفظ: فلم يحلوا بزيادة فاء، وهو الوجه، وفي هذا الحديث جميع أنواع الحج من تمتع وقران وإفراد. وقد قال النووي: أجمع العلماء على جواز الأنواع الثلاثة: الإِفراد والتمتع والقِران، واختلفوا في أيها أفضل بحسب اختلافهم فيما فعله عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع. ومذهب المالكية والشافعية أن الإِفراد أفضل لأنه -صلى الله عليه وسلم- اختاره أولًا، ولأن رواته أخص به -صلى الله عليه وسلم- في هذه الحجة، فإن منهم جابرًا وهو أحسنهم سياقًا لحجه عليه الصلاة والسلام، ومنهم ابن عمر، وقد قال: كنت تحت ناقته عليه الصلاة والسلام، يمسني لعابها، أسمعه يلبي بالحج، وعائشة وقربها منه عليه الصلاة والسلام، واطلاعها على باطن أمره وعلانيته، كله معروف مع فقهها، وابن عباس وهو بالمحل المعروف من الفقه والفهم الثاقب، ولأن الخلفاء

الراشدين بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- أفردوا بالحج وواظبوا عليه، وما وقع من الاختلاف عن علي وغيره، فإنما فعلوه لبيان الجواز، وإنما أدخل النبي-صلى الله عليه وسلم- العمرة على الحج لبيان جواز الاعتمار في أشهر الحج، ثم إن الأفضل بعد الإِفراد التمتع ثم القران، هذا عند الشافعية. وعند المالكية: الذي يلي الإِفراد في الفضل القران لأن القارن في عمله كالمفرد، والمشابه للأفضل يعقبه في الفضل، وعند الشافعية: القران أفضل من الإِفراد للذي لا يعتمر في سنته، قال النووي: لا شك في ذلك، ولم ينقل أحد أن الحج وحده أفضل من القرآن، وتعقبه في الفتح بأن الخلاف ثابت في ذلك قديمًا وحديثًا، أما قديمًا فالثابت عن عمر أنه قال: إنه أتم لحجكم وعمرتكم أن تنشئووا لكل منهما سفرًا، وعن ابن مسعود نحوه أخرجه ابن أبي شيبة وغيره. وأما حديثًا، فقد صرح القاضي حسين والمتولي بترجيح الإِفراد، ولو لم يعتمر في تلك السنة، وقد قال عياض: إن إحرامه عليه الصلاة والسلام تظافرت الروايات الصحيحة بأنه كان مفردًا، وأما رواية من روى أنه كان متمتعًا معناه أمره به لأنه صرح بقوله: ولولا أن معي الهدي لأحللت، فصحَّ أنه لم يتحلل، وأما رواية من روى القِران فهو إخبار عن آخر أحواله لأنه أدخل العمرة على الحج لما جاء إلى الوادي، وقيل له: قل عمرة في حجة، وهذا الجمع هو المعتمد، وقد سبق إليه ابن المنذر وابن حزم، وملخصه أن كل من روى عنه الإِفراد حمل على ما أهل به في أول الحال، وكل من روى عنه التمتع أراد ما أمر به أصحابه، وكل من روى عنه القرآن أراد ما استقر عليه أمره. وذهب جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى أن التمتع أفضل، وهو قول أحمد في المشهور عنه، واحتجوا بأنه عليه الصلاة والسلام تمناه، فقال: لولا أني سقت الهدي لأحللت، ولا يتمنى إلا الأفضل، وأجيب بأنه إنما تمناه تطييبًا لقلوب أصحابه لحزنهم على فوات موافقته، وإلا فالأفضل ما اختاره الله له، واستمر عليه، وقال القاضي حسين: إن ظاهر هذا الحديث غير مراد بالإجماع لأن ظاهره أن سوق الهدي يمنع انعقاد العمرة، وقد انعقد الإجماع على خلافه، وقال ابن قدامة: يترجح التمتع بأن الذي يفرد إن اعتمر بعدها فهي عمرة مختلف في إجزائها عن حجة الإِسلام بخلاف عمرة التمتع فهي مجزئة بلا خلاف، فيترجح التمتع على الإِفراد، ويليه القرآن. وقال أبو حنيفة والثوري وإسحاق بن راهويه أن القِران أفضل من التمتع والإفراد، ثم التمتع، ثم الإفراد. واختاره من الشافعية المزني وابن المنذر وأبو إسحاق المروزي، ومن

المتأخرين تقي الدين السبكي، وبحث مع النووي في اختياره أنه -صلى الله عليه وسلم- كان قارنًا، وأن الإِفراد مع ذلك أفضل مستندًا إلى أنه عليه الصلاة والسلام اختار الإِفراد أولًا، ثم أدخل عليه العمرة لبيان جواز الاعتمار في أشهر الحج لكونهم كانوا يعتقدونه من أفجر الفجور كما في ثالث أحاديث الباب، وملخص ما تعقب به كلامه أن البيان قد سبق منه -صلى الله عليه وسلم- في عُمَرِه الثلاث فإنه أحرم في كل منها في ذي القعدة: عمرة الحديبية التي صُدّ عن البيت فيها، وعمرة القضية التي بعدها، وعمرة الجعرانة، ولو كان أراد باعتماره مع حجته بيان الجواز فقط مع أن الأفضل خلافه لاكتفى في ذلك بأمره أصحابه أن يفسخوا حجهم إلى العمرة. واحتج القائلون بأفضلية القرآن بقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}، وبما رواه البخاري عن عمر مرفوعًا: "وقيل عمرة في حجة" وبحديث أنس: "ثم أهلّ بحج وعمرة"، وبحديث عمران بن حصين عند مسلم: "جمع بين حج وعمرة"، ولأبي داود والنسائي عن البراء مرفوعًا: "إني سقت الهدي وقرنت"، وللنسائي من حديث علي مثله، ولأحمد عن سراقة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قرن في حجة الوداع، وله عن أبي طلحة: جمع بين الحج والعمرة، وللدارقطني عن أبي سعيد وأبي قتادة والبزار عن ابن أبي أوفى ثلاثتهم مرفوعًا مثله. وأجاب القائلون بالإِفراد عن الآية بأنها ليس فيها إلا الأمر بإتمامها، ولا يلزم منه قرنهما في الفعل، فهو كقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}، وأجاب البيهقي عن هذه الأحاديث وغيرها نصرة أنه -صلى الله عليه وسلم- كان منفردًا، فنقل عن سليمان بن حرب أن رواية أبي قلابة عن أنس أنه سمعهم يصرخون بهما جميعًا أثبت من رواية من روى عنه أنه -صلى الله عليه وسلم- جمع بين الحج والعمرة، ثم تعقبه بأن قتادة وغيره من الحفاظ رووه عن أنس كذلك، فالاختلاف فيه على أنس نفسه، قال: فلعله سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يعلم غيره كيف يهل بالقران، فظن أنه أهلَّ عن نفسه. وأجاب عن حديث حفصة الآتي قريبًا بما نقل عن الشافعي أن معنى قولها: ولم تحل أنت من عمرتك، أي: من إحرامك، وعن حديث عمر بأن جماعة رووه بلفظ: صلى في هذا الوادي، وقال: عمرة في حجة، وهؤلاء أكثر عددًا ممن رواه وقل: عمرة في حجة فيكون إذنًا في القران لا أمرًا للنبي -صلى الله عليه وسلم- في حال نفسه، وعن حديث عمران بأن المراد بذلك إذنه لأصحابه في القران بدليل روايته الأخرى أنه -صلى الله عليه وسلم- أعمر بعض أهله في العشر، وروايته الأخرى أنه عليه الصلاة والسلام تمتع، فإن مراده بكل ذلك إذنه في ذلك، وعن حديث البراء بأنه ساقه في قصة علي الآتية في هذا الباب، وقد رواها أنس في هذا الباب وجابر فيما أخرجه

مسلم، وليس فيه لفظ: وقرنت، وأخرج حديث مجاهد عن عائشة، قالت: لقد علم ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد اعتمر ثلاثًا سوى التي قرنها في حجته، أخرجه أبو داود، وقال البيهقي: تفرد أبو إسحاق عن مجاهد بهذا، وقد رواه منصور عن مجاهد بلفظ: فقالت: ما اعتمر في رجب قط، وقال: هذا هو المحفوظ كما يأتي في أبواب العمرة، وأشار إلى أنه اختلف فيه على أبي إسحاق، فرواه زهير بن معاوية عنه هكذا، ثم روى حديث جابر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حج حجتين قبل أن يهاجر، وحجة قرن معها عمرة بعد أن هاجر، وحكي عن البخاري أنه أعلَّه لأن من رواته زيد بن الحباب عن الثوري، عن جعفر، عن أبيه، وزيد ربما يهم في الشيء، والمحفوظ عن الثوري مرسل، والمعروف عن جابر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أهل بالحج خالصًا، ثم روى حديث مجاهد عن عائشة، وأعلَّه بداود العطار، وقال إنه تفرَّد بِوَصْله عن عمرو بن دينار عن ابن عباس، ورواه ابن عيينة عن عمرو بن دينار، فأرسله لم يذكر ابن عباس، ثم روى حديث الصبي بن معبد أنه أهل بالحج والعمرة معًا، فأنكر عليه، فقال له عمر: هديت لسنة نبيك، الحديث، وهو في السنن، وفيه قصة. وأجاب عنه بأنه يدل على جواز القران لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان قارنًا، ولا يخفى ما في الأجوبة من التعسف، واستدل القائلون بالإِفراد بأنه لا يجب فيه دم بالإِجماع بخلاف التمتع والقران، وهذا ينبني على أن دم القران دم جبران، وقد منعه من رجح القران، وقال إنه دم فضل وثواب كالأضحية، ولو كان دم نقص لما قام الصيام مقامه، ولأنه يؤكل منه، ودم النقص لا يؤكل منه كدم الجزاء، قال في "الفتح": ويترجح رواية من روى القران بأمور منها أن معه زيادة علم على من روى الإفراد وغيره، وبأن من روى الإِفراد والتمتع اختلف عليه في ذلك، فأشهر من روى عنه الإِفراد عائشة، وقد ثبت عنها أنه اعتمر مع حجته، وابن عمر. وقد ثبت عنه أنه -صلى الله عليه وسلم- بدأ بالعمرة، ثم أهلَّ بالحج كما سيأتي في أبواب الهدى، وثبت أنه جمع بين حج وعمرة، ثم حدث أن النبي-صلى الله عليه وسلم- فعل ذلك، وسيأتي أيضًا، وجابر، وقد قال إنه اعتمر مع حجته أيضًا، وروى القران عنه جماعة من الصحابة لم يختلف عليهم فيه، وبأنه لم يقع في شيء من الروايات النقل عنه من لفظه أنه قال: أفردت ولا تمتعت، بل صح عنه أنه قال: قرنت، وصح عنه أنه قال: لولا أن معي الهدي لأحللت، وأيضًا فإن من روى عنه القران لا يحتمل حديثه التأويل إلا بتعسف بخلاف من روى الإِفراد فإنه محمول على أول الحال، وينتفي التعارض، ويؤيده أن من جاء عنه الإِفراد جاء عنه صورة القِران، ومن روى عنه التمتع، فإنه محمول على الاقتصار على سفر واحد للنسكين، ويؤيده أن من جاء عنه

التمتع لما وصفه، ووصفه بصورة القران لأنهم اتفقوا على أنه لم يحل من عمرته حتى أتم عمل جميع الحج، وهذه إحدى صور القرآن. وأيضًا فإن رواية القران جاءت عن بضعة عشر صحابيًا بأسانيد جياد بخلاف روايتي الإفراد والتمتع، وهذا يقتضي رفع الشك عن ذلك، والمصير إلى أنه كان قارنًا، ومقتضى ذلك أن يكون القِران أفضل من الإِفراد والتمتع، وقد مرَّ من قال بذلك قريبًا، وقال: من رجح القران أيضًا: هو أشق من التمتع، وعمرته مجزئة بلا خلاف، فيكون أفضل منهما، وحكى عياض عن بعض العلماء أن الصور الثلاثة سواء في الفضل، وهو مقتضى تصرف ابن خزيمة في صحيحه. وعن أبي يوسف: القران والتمتع في الفضل سواء، وهما أفضل من الإِفراد، وعن أحمد: من ساق الهدي فالقِران أفضل له ليوافق فعل النبي-صلى الله عليه وسلم-، ومن لم يسق الهدي فالتمتع أفضل له ليوافق ما تمناه، وأمر به أصحابه، زاد بعض أتباعه: ومن أراد أن ينشىء لعمرته من بلده سفرًا، فالإِفراد أفضل له، قال: وهذا أعدل المذاهب وأشبهها بموافقة الأحاديث الصحيحة، فمن قال: الإِفراد أفضل فعلى هذا يتنزل لأن إعمال مفردين للنسك أكثر مشقة، فيكون أعظم أجرًا، ولتجزىء عنه عمرته من غير نقص ولا اختلاف. ومن العلماء من جمع بين الأحاديث على نمط آخر مع موافقته على أنه عليه الصلاة والسلام كان قارنًا كالطحاوي وابن حبان وغيرهما، فقيل: أهلّ أولًا بعمرة، ثم لم يتحلل منها إلى أن أدخل عليها الحج يوم التروية، ومستند هذا القائل حديث ابن عمر الآتي في أبواب الهدي بلفظ: فبدأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالعمرة، ثم أهلَّ بالحج، وهذا لا ينافي إنكار ابن عمر على أنس كونه نقل أنه -صلى الله عليه وسلم- أهلَّ بالحج والعمرة كما سيأتي في حجة الوداع من المغازي لاحتمال أن يكون محل إنكاره كونه نقل أنه أهلَّ بهما معًا، والمعروف عنه أنه أدخل أحد النسكين على الآخر، لكن جزمه بأنه عليه الصلاة والسلام بدأ بالعمرة مخالف لما عليه أكثر الأحاديث فهو مرجوح، وقيل: أهل أولًا بالحج مفردًا، ثم استمر على ذلك إلى أن أمر أصحابه أن يفسخوا حجهم فيجعلوه عمرة، وفسخ معهم، ومنعه من التحلل من عمرته المذكورة ما ذكره من سوق الهدي، فاستمر معتمرًا إلي أن أدخل عليها الحج حتى تحلل منها جميعًا، وهذا يستلزم أنه أحرم بالحج أولًا وآخرًا، وهو محتمل، لكن الجمع الأول أولى، وقيل إنه-صلى الله عليه وسلم- أهلَّ بالحج مفردًا، واستمر عليه إلى أن تحلل منه بمنى، ولم يعتمر في تلك السنة، وهو مقتضى من رجح أنه كان مفردًا، والذي يظهر أن من أنكر القران من الصحابة نفى أن يكون أهلَّ بهما جميعًا في أول الحال، ولا ينفي أن يكون أهلَّ بالحج مفردًا، ثم

رجاله خمسة

أدخل عليه العمرة، فيجتمع القولان كما تقدم. رجاله خمسة قد مرُّوا: مرّ عبد الله بن يوسف ومالك وعروة وعائشة في الثاني من بدء الوحي، ومرّ أبو الأسود محمد بن عبد الرحمن في الثامن والثلاثين من الغسل. الحديث الثامن والأربعون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، قَالَ: شَهِدْتُ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا رضي الله عنهما، وَعُثْمَانُ يَنْهَى عَنِ الْمُتْعَةِ، وَأَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا. فَلَمَّا رَأَى عَلِيٌّ، أَهَلَّ بِهِمَا لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ قَالَ: مَا كُنْتُ لأَدَعَ سُنَّةَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- لِقَوْلِ أَحَدٍ. قوله: "شهدت عثمان وعليًا" سيأتي في آخر الباب عن سعيد بن المسيب أن ذلك كان بعسفان، وقوله: "وعثمان ينهى عن المتعة، وأن يجمع بينهما"، أي: بين الحج والعمرة، يحتمل أن تكون الواو في وأن يجمع بينهما عاطفة، فيكون نهى عن القِران والتمتع معًا، ويحتمل أن يكون عطف تفسير، وهو على ما تقدم من أن السلف كانوا يطلقون على القِران تمتعًا، ووجهه أن القارن يتمتع بترك النصب بالسفر مرتين، فيكون المراد أن يجمع بينهما قرانًا، أو إيقاعًا لهما في سنة واحدة بتقديم العمرة على الحج. وقوله: "فلما رأى علي" أي: النهي الواقع من عثمان عن المتعة والقِران، فالمفعول محذوف، وهو النهي كما قدرنا. وقوله: "أهلَّ بهما لبيك بعمرة وحجة"، أي: قائلًا لبيك، الخ، وفي رواية سعيد بن المسيب، فقال علي: ما تريد إلى أن تنهى عن أمر فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفي رواية الكشميهني: إلا أن تنهى بحرف الاستثناء، زاد مسلم، فقال عثمان: دعنا عنك، فقال: إني لا أستطيع أن أدعك، ورواه النسائي عن سعيد بن المسيب بلفظ: نهى عثمان عن التمتع، وزاد فيه: فلبى علي وأصحابه بالعمرة، فلم ينههم عثمان، فقال له علي: ألم تسمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تمتع؟ قال: بلى. وله من وجه آخر: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يلبي بهما جميعًا، زاد مسلم عن عبد الله بن شقيق، عن عثمان، قال: أجل، لكنا كنا خائفين، قال النووي: لعله أشار إلى عمرة القضية سنة سبع، لكن لم يكن في تلك السنة حقيقة تمتع، إنما كان عمرة وحدها، وهذه رواية شاذة، فقد روى هذا الحديث مروان بن الحكم وسعيد بن المسيب، وهما

أعلم من عبد الله بن شقيق، فلم يقولا ذلك، والتمتع إنما كان في حجة الوداع، وقد قال ابن مسعود كما ثبت عنه في الصحيحين: كنا آمن ما يكون الناس، وقال القرطبي: قوله: "خائفين" أي: من أن يكون أجر من أفرد أعظم من أجر من تمتع، وهذا جمع حسن، ولكن لا يخفى بعده، ويحتمل أن يكون عثمان أشار إلى أن الأصل في اختياره عليه الصلاة والسلام فسخ الحج إلى العمرة في حجة الوداع دفع اعتقاد قريش منع العمرة في أشهر الحج، وكان ابتداء ذلك بالحديبية, لأن إحرامهم بالعمرة كان في ذي القعدة، وهو من أشهر الحج، وهناك يصح إطلاق كونهم خائفين، أي: من وقوع القتال بينهم وبين المشركين، وكان المشركون صدوهم عن الوصول إلى البيت، فتحللوا من عمرتهم، وكانت أول عمرة وقعت في أشهر الحج، ثم جاءت عمرة القضية في ذي القعدة أيضًا، ثم أراد -صلى الله عليه وسلم- تأكد ذلك بالمبالغة فيه حتى أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة. وقوله: "ما كنت لأدع سنة" الخ، زاد النسائي والإِسماعيلي: فقال عثمان: تراني أنهى الناس وأنت تفعله، فقال: ما كنت أدع، وفي قصة عثمان وعلي من الفوائد إشاعة العالم ما عنده من العلم، واظهاره ومناظرة ولاة الأمر وغيرهم في تحقيقه لمن قوي على ذلك لقصد مناصحة المسلمين والبيان بالفعل مع القول، وجواز الاستنباط من النص لأن عثمان لم يخْفَ عليه أن التمتع والقِران جائزان، وإنما نهى عنهما ليعمل بالأفضل، كما وقع لعمر، لكن خشي علي أن يحمل غيره النهي على التحريم، فأشاع جواز ذلك وكل منهما مجتهد مأجور، وقد ذكر ابن الحاجب حديث عثمان في التمتع دليلًا لمسألة اتفاق أهل العصر الثاني بعد اختلاف أهل العصر الأول، فقال: وفي الصحيح أن عثمان كان نهى عن المتعة، قال البغوي: ثم صار إجماعًا وتعقب بأن نهي عثمان عن المتعة إن كان المراد به الاعتمار في أشهر الحج قبل الحج، فلم يستقو عليه الإجماع لأن الحنفية يخالفون فيه، وإن كان المراد به فسخ الحج إلى العمرة، فكذلك لأن الحنابلة يخالفون فيه كما مرَّ، ووراء ذلك أن رواية النسائي السابقة مشعرة بأن عثمان رجع عن النهي، فلا يصح التمسك به، ولفظ البغوي في شرح السنة بعد أن ساق حديث عثمان: هذا خلاف علي. وأكثر الصحابة على الجواز، واتفقت عليه الأئمة بعد، فحمله على أن عثمان نهى عن التمتع، والظاهر أن عثمان ما كان يبطله، وإنما كان يرى أن الإفراد أفضل منه، وإذا كان كذلك، فلم تتفق الأئمة على ذلك، فإن الخلاف في أي الأمور الثلاثة أفضل باق، وفيه أن المجتهد لا يلزم مجتهدًا آخر بتقليده لعدم إنكار عثمان على علي ذلك مع كون عثمان الإِمام إذ ذاك.

رجاله ستة

رجاله ستة، وفيه ذكر عثمان وعلي رضي الله عنهما، وقد مرَّ الجميع. ومرَّ محمد بن بشار في الحادي عشر من العلم، ومرَّ الحكم بن عتيبة في الثامن والخمسين منه، ومرَّ شعبة في الثالث من الإيمان, ومرَّ محمد بن جعفر غندر في الخامس والعشرين منه، ومرَّ علي زين العابدين في الخامس من الغسل، ومرَّ مروان بن الحكم في الرابع والخمسين من الوضوء، ومرَّ عثمان في أثر بعد الخامس من العلم، ومرَّ علي في السابع والأربعين منه. وهذا الحديث من أفراد البخاري. الحديث التاسع والأربعون حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُوسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ فِي الأَرْضِ، وَيَجْعَلُونَ الْمُحَرَّمَ صَفَرًا، وَيَقُولُونَ: إِذَا بَرَأَ الدَّبَرْ، وَعَفَا الأَثَرْ، وَانْسَلَخَ صَفَرْ، حَلَّتِ الْعُمْرَةُ لِمَنِ اعْتَمَرْ. قَدِمَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَأَصْحَابُهُ صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً، فَتَعَاظَمَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَيُّ الْحِلِّ؟ قَالَ: حِلٌّ كُلُّهُ. قوله: "كانوا يرون العمرة" بفتح أوله، أي: يعتقدون، والمراد أهل الجاهلية، ولابن حبان، عن ابن عباس، قال: والله ما أعمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عائشة في ذي الحجة إلا ليقطع بذلك أمر أهل الشرك، فإن هذا الحي من قريش ومن دان دينهم كانوا يقولون، فذكر نحوه، فعرف بهذا تعيين القائلين. وقوله: "من أفجر الفجور" هذا من تحكماتهم الباطلة المأخوذة عن غير أصل. وقوله: "ويجعلون المحرم صفر" كذا في جميع الأصول من الصحيحين، وقال النووي: كان ينبغي أن يكتب بالألف، وعلى تقدير حذفها لابد من قراءته منصوبًا لأنه مصروف بلا خلاف، والمشهور في اللغة الربيعية كتابة المنصوب بغير ألف، فلا يلزم من كتابته بغير ألف أن لا يصرف فيقرأ بالألف، وسبقه عياض إلى نفي الخلاف فيه، لكن في المحكم: كان أبو عبيدة لا يصرفه، فقيل له: إنه لا يمتنع الصرف حتى يجتمع علتان، فما هما؟ قال: المعرفة والساعة، ومراده بالساعة أن الأزمنة ساعات، والساعة مؤنثة، وحديث ابن عباس هذا حجة قوية لأبي عبيدة، ونقل بعضهم أن في صحيح مسلم صفرًا بالألف، وأما جعلهم ذلك،

فقال النووي: قال العلماء: المراد الإخبار عن النسيء الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية، فكانوا يسمون المحرم صفرًا، ويحلونه ويؤخرون تحريم المحرم إلى نفس صفر لئلا تتوالى عليهم ثلاثة أشهر محرمة فيضيق عليهم فيها ما اعتادوه من المقاتلة والغارة بعضهم على بعض فضللهم الله في ذلك، فقال: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية، قال المفسرون: كانوا إذا جاء شهر حرام وهم محاربون أحلوه وحرموا مكانه شهرًا، حتى رفضوا خصوص الأشهر، واعتبروا مجرد العدد، ويحرِّمونه عامًا فيتركونه على حرمته، قيل إن أول من أحدث ذلك جنادة بن عوف الكناني، كان يقوم على جمل في الموسم فينادي إن آلهتكم قد أحلَّت لكم المحرم فأحلُّوه، ثم ينادي في القبائل أن آلهتكم قد حرَّمت عليكم المحرم فحرِّموه، وقيل: الغلمس واسمه حذيفة بن عبيد الكناني، وقيل غير ذلك. وأما تسمية الشهر صفرًا، فقال رؤبة: أصلها أنهم كانوا يغيرون فيه بعضهم على بعض، فيتركون منازلهم صفرًا، أي: خالية من المتاع، وقيل: لإصفار أماكنهم من أهلها، وقال ابن دريد: الصفران شهران من السنة، سمي أحدهما في الإسلام المحرم، وقد سمي بذلك لإصفار مكة من أهلها، وقال الفراء: لأنهم كانوا يخلون البيوت فيه لخروجهم إلى البلاد، وقيل: كانوا يزيدون في كل أربع سنين شهرًا يسمونه صفرًا الثاني، فتكون السنة ثلاثة عشر شهرًا، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: "السنة اثنا عشر شهرًا"، وكانوا يتطيرون، ويرون أن الآفات فيه واقعة. وقوله: "وكانوا يقولون إذا برأ الدبر" بفتح المهملة والموحدة، أي: ما كان يحصل بظهور الإبل من الحمل عليها، ومشقة السفر فإنه كان يبرأ بعد انصرافهم من الحج. وقوله: "وعفا الأثر" اندرس أثر الإبل وغيرها في سيرها، ويحتمل أثر الدبر المذكور، وفي سنن أبي داود، وعفا الوبر، أي: كثر وبر الإبل الذي حلق بالرحال، وهذه الألفاظ تقرأ ساكنة الراء لإرادة السجع، ووجه تعلق جواز الاعتمار بانسلاخ صفر مع كونه ليس من أشهر الحج، وكذلك المحرم أنهم لما جعلوا المحرم صفرًا ولا يستقرون ببلادهم في الغالب، ويبرأ دبر إبلهم إلا عند انسلاخه، ألحقوه بأشهر الحج على طريق التبعية، وجعلوا أول أشهر الاعتمار شهر المحرم الذي هو في الأصل صفر، والعمرة عندهم في غير أشهر الحج. وقوله: "قدم النبي -صلى الله عليه وسلم-" كذا في الأصول بدون فاء، وقد أخرجه المصنف في أيام الجاهلية بلفظ: فقدم بزيادة فاء، وهو الوجه، وكذا أخرجه مسلم والإسماعيلي. وقوله: "صبيحة رابعة" أي: يوم الأحد، وقوله: "مهلين بالحج"، وفي رواية إبراهيم بن

رجاله خمسة

الحجاج: وهم يلبون بالحج، وهي مفسرة لقوله: مهلِّين، واحتجَّ به من قال: كان حج النبي -صلى الله عليه وسلم- مفردًا، وأجاب من قال كان قارنًا بأنه لا يلزم من إهلاله بالحج أن لا يكون أدخل عليه العمرة. وقوله "أن يجعلوها عمرة فتعاظم ذلك عندهم" أي: لما كانوا يعتقدون أولًا، وفي رواية إبراهيم بن الحجاج: فكبر ذلك عندهم. وقوله: "أي الحل" كأنهم كانوا يعرفون أن للحج تحللين، فأرادوا بيان ذلك، فبين لهم أنهم يتحللون الحل كله لأن العمرة ليس لها إلا تحلل واحد، وفي رواية الطحاوي: أي الحل نحل؟ قال: الحل كله. رجاله خمسة قد مرّوا، مرَّ موسى بن إسماعيل في الخامس من بدء الوحي، ومرَّ وهيب في تعليق بعد الخامس عشر من الإيمان, ومرَّ عبد الله بن طاووس في الرابع والثلاثين من الحيض، ومرَّ طاووس في باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين بعد الأربعين من الوضوء، ومرَّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي، أخرجه البخاري أيضا في أيام الجاهلية، ومسلم والنسائي في الحج. الحديث الخمسون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه، قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-. فَأَمَرَهُ بِالْحِلِّ. هذا الحديث أورده هنا مختصرًا، وقد تقدم تامًا مشروحًا بالاستيفاء قبل بباب، ووقع للكشميهني: فأمره بالحل على الالتفات. أ. هـ. رجاله ستة قد مرُّوا: مرَّ محمد بن المثنى في التاسع من الإيمان, ومرَّ غندر في الخامس والعشرين منه، ومرَّ شعبة في الثالث منه، ومرَّ قيس بن مسلم وطارق بن شهاب في الثامن والثلاثين منه، ومرَّ أبو موسى في الرابع منه. وهذا الحديث مرَّ الكلام عليه قريبًا.

الحديث الحادي والخمسون

الحديث الحادي والخمسون حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، ح، وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قال: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ حَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا بِعُمْرَةٍ وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ؟ قَالَ: "إِنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي، وَقَلَّدْتُ هَدْيِي فَلاَ أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ". قوله: "حلوا بعمرة" أي: بعملها, لأنهم فسخوا الحج إلى العمرة، فكان إحرامهم بالعمرة سببًا لسرعة حلهم. وقوله: "ولم تحلل" بفتح أوله وكسر ثالثه، أي: لم تحل، وإظهار التضعيف لغة، وقوله: "أنت من عمرتك" أي: المضمومة إلى الحج، فيكون قارنًا كما هو في أكثر الأحاديث، وحينئذ فلا تمسك به لمن قال إنه عليه الصلاة والسلام كان متمتعًا لكونه عليه الصلاة والسلام أقر على أنه كان محرمًا بعمرة, لأن اللفظ محتمل للتمتع والقران، فتعين بقوله عليه الصلاة والسلام في رواية عبيدالله بن عمر عند الشيخين: حتى أحل من الحج أنه كان قارنًا، ولا يتجه القول بأنه كان متمتعًا لأنه لا جائز أن يقال إنه استمر على العمرة خاصة، ولم يحرم بالحج أصلًا لأنه يلزم منه أنه لم يحج تلك السنة، وهذا لا يقوله أحد، وقد روى عنه القِران في الأحاديث المتقدمة، وجنح الأصيلي وغيره إلى توهيم مالك في قوله: ولم تحل أنت من عمرتك، وأنه لم يقله أحد في حديث حفصة غيره، وتعقبه ابن عبد البر على تقدير تسليم انفراده بأنها زيادة حافظ فيجب قبولها على أنه لم ينفرد، فقد تابعه أيوب وعبيد الله بن عمر، وهما مع ذلك حفاظ أصحاب نافع، ورواية عبيد الله بن عمر عند مسلم. وقد أخرجه مسلم من رواية ابن جريج، والبخاري من رواية موسى بن عقبة، والبيهقي من رواية شعيب بن أبي حمزة، ثلاثتهم عن نافع بدونها، وفي رواية عبيد الله بن عمر عند الشيخين: فلا أحل حتى أحل من الحج كما مرَّ، ولا تنافي هذه رواية مالك لأن القارن لا يحل من العمرة ولا من الحج حتى ينحر، فلا حجة فيه لمن تمسك به في أنه عليه الصلاة والسلام كان متمتعًا لأن قول حفصة: ولم تحل من عمرتك. وقوله: "هو حتى أحل من الحج" ظاهر في أنه كان قارنًا، وأجاب من قال كان مفردًا عن قوله: ولم تحل من عمرتك بأجوبة منها ما قاله الشافعي: معناه ولم تحل أنت من إحرامك

الذي ابتدأته معهم بنية واحدة بدليل قوله: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة"، وقيل: معناه: ولم تحل من حجك بعمرة، كما أمرت أصحابك، قالوا: وقد تأتي من بمعنى الباء كقوله تعالى: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} , أي: بأمر الله، والتقدير: ولم تحل أنت بعمرة من إحرامك، وقيل: ظننت أنه فسخ حجة بعمرة كما فعل أصحابه بأمره، فقالت: ولم تحل أنت أيضًا من عمرتك، ولا يخفى تكلف بعض هذه التأويلات، والذي تجتمع به الروايات أنه عليه الصلاة والسلام كان بمعنى أنه أدخل العمرة على الحج بعد أن أهلَّ به مفردا لا أنه أوَّل ما أهلَّ أحرم بالحج والعمرة معًا، فعمدة رواة الإفراد أول الإحرام، وعمدة رواة القِران آخره. وأما من روى أنه كان متمتعًا كابن عمر وعائشة وأبي موسى الأشعري وابن عباس في الصحيحين، وعمران بن حصين في مسلم فأراد التمتع اللغوي وهو الانتفاع، وقد انتفع بالاكتفاء بفعل واحد، ويؤيد ذلك أنه لم يعتمر في تلك السنة عمرة منفردة، ولو جعلت حجته منفردة لكان غير معتمر في تلك السنة، وقد مرَّ القول بهذا، ومرَّ القول بأن الحج مفردًا في السنة أفضل منه القِران، وقال الإِمام الشافعي: معلوم في لغة العرب جواز إضافة الفعل إلى الآمر به كجواز إضافته إلى الفاعل كقولك: بني فلان دارًا إذا أمر ببنائها، وضرب الأمير فلانًا إذا أمر بضربه، ورجم النبي -صلى الله عليه وسلم- ماعزًا وقطع يد سارق رداء صفوان، وإنما أمر بذلك، ومثله كثير في كلام العرب، وكان أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام منهم القارن والمفرد والمتمتع، وكل منهم يأخذ عنه فعل نسكه، ويصدر عن فعله، فجاز أن تضاف إليه -صلى الله عليه وسلم- على معنى أنه أمر بها وأذن فيها. وقوله: "إني لبدت رأسي" بفتح اللام والموحدة المشددة من التلبيد، وهو أن يجعل المحرم في رأسه شيئًا من نحو الصمغ ليجتمع الشعر ولا يدخل فيه قمل، وقد مرَّ. وقوله: "وقلدت هديي" هو تعليق شيء في عنق الهدي ليعلم، وليس التلبيد والتقليد من الحل ولا من عدمه، وإنما هو لبيان أنه من أول الأمر مستعد لدوام إحرامه حتى يبلغ الهدي محله، والتلبيد مشعر بمدة طويلة. وقوله: "فلا أحل حتى أنحر" وهذا موافق لقوله عليه الصلاة والسلام الآتي في حديث جابر: "لا يحل مني حرام حتى يبلغ الهدي محله"، ولحديث عائشة الآتي بلفظ: "من أحرم بعمرة فأهدى فلا يحل حتى ينحر". واستدل به على أن من ساق الهدي لا يتحلل من عمل العمرة حتى يحل بالحج ويفرغ

رجاله ستة

منه لأنه جعل العلة في بقائه على إحرامه كونه أهدى، وهذا قول أبي حنيفة وأحمد ومن وافقهما، ويؤيده حديث عائشة أول حديث الباب: "فأمر من لم يكن ساق الهدي أن يحل", والأحاديث بذلك متظافرة. وأجاب الجمهور عنه بأنه ليس العلة في ذلك سوق الهدي، وإنما السبب فيه إدخال العمرة على الحج، ويدل له قوله في رواية عبيد الله بن عمر المذكورة حتى أحل من الحج، وعبر عن الإحرام بالحج بسوق الهدي لأنه كان ملازمًا له في تلك الحجة، فإنه قال لهم: "من كان معه الهدي فليهل بالحج مع عمرته، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعًا"، ولما كان عليه الصلاة والسلام قد أدخل العمرة على الحج، لم يفده الإحرام بالعمرة سرعة الإحلال لبقائه على الحج، فشارك الصحابة في الإحرام بالعمرة، وفارقهم ببقائه على الحج وفسخهم له. والجواب مشكل على القائل بأنه عليه الصلاة والسلام كان مفردًا، وقال بعض العلماء: ليس لمن قال كان مفردًا عن هذا الحديث انفصال لأنه إن قال به استشكل عليه كونه علل عدم التحلل بسوق الهدي؛ لأن عدم التحلل لا تمتنع على من كان قارنًا عنده، ويجاب عنه بما مرَّ من أنه كان قارنًا بمعنى أنه أدخل العمرة على الحج بعد أن أهلَّ به مفردًا لا أنه أول ما أهل أحرم بالحج والعمرة معًا. رجاله ستة قد مرّوا، مرَّ عبد الله بن يوسف ومالك في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ إسماعيل بن أبي أويس في الخامس عشر من الإيمان، ومرَّ ابن عمر في أوله قبل ذكر حديث منه، ومرَّ نافع في الأخير من العلم، ومرّت حفصة أم المؤمنين في الثالث والستين من الوضوء. فيه رواية الصحابي عن الصحابية، ورواية الأخ عن الأخت، أخرجه البخاري في موضعين في الحج وفي اللباس وفي المغازي، ومسلم في الحج، وكذا أبو داود والنسائي وابن ماجه. الحديث الثاني والخمسون حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَمْرَةَ نَصْرُ بْنُ عِمْرَانَ الضُّبَعِيُّ، قَالَ: تَمَتَّعْتُ فَنَهَانِي نَاسٌ، فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فَأَمَرَنِي، فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ رَجُلاً يَقُولُ لِي: حَجٌّ مَبْرُورٌ وَعُمْرَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ، فَأَخْبَرْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ:

رجاله أربعة

سُنَّةَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ لِي: أَقِمْ عِنْدِي، فَأَجْعَلَ لَكَ سَهْمًا مِنْ مَالِي. قَالَ شُعْبَةُ: فَقُلْتُ: لِمَ؟ فَقَالَ: لِلرُّؤْيَا الَّتِي رَأَيْتُ. قوله: "فنهاني ناس"، قال في "الفتح": لم أقف على أسمائهم، وكان ذلك في زمن ابن الزبير، وكان ينهى عن المتعة، كما رواه مسلم عن أبي الزبير، عنه، وعن جابر، ونقل ابن أبي حاتم عن ابن الزبير أنه كان لا يرى التمتع إلا للمحصر، ووافقه علقمة وإبراهيم، وقال الجمهور: لا اختصاص بذلك للمحصر. وقوله: "فأمرني" أي: أن استمر على عمرتي، ولأحمد ومسلم: فأتيت ابن عباس، فسألته عن ذلك، فأمرني بها، ثم انطلقت إلى البيت فنمت، فأتاني آت في منامي. وقوله: "وعمرة متقبلة" في رواية النضر عن شعبة كما يأتي في أبواب الهدي: متعة متقبلة، وهو خبر مبتدأ محذوف، أي: هذه عمرة متقبلة، وقد تقدم تفسير المبرور في أوائل الحج. وقوله: "فقال: سنة أبي القاسم" هو خبر مبتدأ محذوف، أي: هذه سنة، ويجوز فيه النصب، أي: وافقت سنة أبي القاسم، أو على الاختصاص، وفي رواية النضر، فقال: الله أكبر، سنة أبي القاسم. وقوله: "فقال للرؤيا" أي: لأجل الرؤيا المذكورة التي رأيت بتاء المتكلم، أي: ليقص على الناس هذه الرؤيا المبينة لحال المتعة، قال المهلب: ففي هذا دليل على أن الرؤيا الصادقة شاهد على أمور اليقظة، وفيه نظر لأن الرؤيا الحسنة من الأنبياء ينتفع بها في التأكيد لا في التأسيس والتجديد، فلا يسوغ لأحد أن يسند فتياه إلى منام، ولا يتلقى من غير الأدلة الشرعية حكمًا من الأحكام، قلت: ما قاله المهلب ليس مخالفًا لما ذكر؛ لأن قوله: شاهد على أمور اليقظة هو معنى التأكيد. ويؤخذ منه إكرام من أخبر المرء بما يسره، وفرح العالم بموافقته الحق، والاستئناس بالرؤيا لموافقة الدليل الشرعي، وعرض الرؤيا على العالم، والتكبير عند المسرة، والعمل بالأدلة الظاهرة، والتنبيه على اختلاف أهل العلم، ليعمل بالراجح منه الموافق للدليل. رجاله أربعة قد مرُّوا: مرَّ آدم وشعبة في الثالث من الإيمان، ومرَّ أبو حمزة في السادس والأربعين منه، ومرَّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي، وقد مرَّ هذا الحديث في باب أداء الخمس من الإيمان,

الحديث الثالث والخمسون

وأخرجه البخاري أيضًا، وأخرجه مسلم. الحديث الثالث والخمسون حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ، قَالَ: قَدِمْتُ مُتَمَتِّعًا مَكَّةَ بِعُمْرَةٍ، فَدَخَلْنَا قَبْلَ التَّرْوِيَةِ بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، فَقَالَ لِي أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ: تَصِيرُ الآنَ حَجَّتُكَ مَكِّيَّةً. فَدَخَلْتُ عَلَى عَطَاءٍ أَسْتَفْتِيهِ فَقَالَ: حَدَّثَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما أَنَّهُ حَجَّ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ سَاقَ الْبُدْنَ مَعَهُ، وَقَدْ أَهَلُّوا بِالْحَجِّ مُفْرَدًا، فَقَالَ لَهُمْ: "أَحِلُّوا مِنْ إِحْرَامِكُمْ بِطَوَافِ الْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَقَصِّرُوا ثُمَّ أَقِيمُوا حَلاَلاً، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ فَأَهِلُّوا بِالْحَجِّ، وَاجْعَلُوا الَّتِي قَدِمْتُمْ بِهَا مُتْعَةً". فَقَالُوا: كَيْفَ نَجْعَلُهَا مُتْعَةً وَقَدْ سَمَّيْنَا الْحَجَّ؟ فَقَالَ: "افْعَلُوا مَا أَمَرْتُكُمْ، فَلَوْلاَ أَنِّي سُقْتُ الْهَدْيَ لَفَعَلْتُ مِثْلَ الَّذِي أَمَرْتُكُمْ، وَلَكِنْ لاَ يَحِلُّ مِنِّي حَرَامٌ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ". فَفَعَلُوا. قال أبو عبد الله: أبو شهاب ليس له مسند إلا هذا. قوله: "حجك مكياً" في رواية الكشميهني: حجتك مكية، يعني: قليلة الثواب لقلة مشقتها، وقال ابن بطال: معناه أنك تنشىء حجك من مكة، كما ينشىء أهل مكة منها، فيفوتك فضل الإحرام من الميقات. وقوله: "يوم ساق البدن معه" بضم الموحدة وإسكان الدال: جمع بدنة، وذلك في حجة الوداع، وقد رواه مسلم عن أبي نعيم بلفظ: عامَ ساق الهدي. وقوله: "أحلوا من إحرامكم" أي: اجعلوا حجكم عمرة، وتحللوا منها بالطواف والسعي. وقوله: "وقصروا" إنما أمرهم بذلك لأنهم يهلون بعد قليل بالحج، فأخر الحلق لهم لأن بين دخولهم وبين يوم التروية أربعة أيام فقط. وقوله: "اجعلوا التي قدمتم بها متعة، أي: اجعلوا الحجة المفردة التي أهللتم بها عمرة تتحللوا منها فتصيروا متمتعين، فأطلق على العمرة متعة مجازًا، والعلاقة بينهما ظاهرة، وفي رواية عطاء عند مسلم: فلما قدمنا مكة أمرنا أن نحل ونجعلها عمرة، ومثله في رواية الباقر عن عبد الله في الخبر الطويل عند مسلم. وقوله: "فلولا أني سقت الهدي" الخ، فيه ما كان عليه الصلاة والسلام من تطييب قلوب أصحابه، وتلطفه بهم وحلمه عنهم، وفيه استعمال "لو" في مثل هذا, ولا تعارض بينه وبين حديث: "لو تفتح عمل الشيطان" لأن المراد بذلك باب التلهف على أمور الدنيا لما فيه من

رجاله أربعة

عدم صورة التوكل، وعدم نسبة الفعل للقضاء والقدر، أما في القربات كهذا الحديث فهذا المعنى منتفٍ فلا كراهة فيه. وقوله: "لا يحل مني حرام" بحسر حاء يحل، أي: شيء حرام، والمعنى: لا يحل مني ما حرم علي، وفي رواية مسلم: لا يحل مني حرامًا بالنصب على المفعولية، وعلى هذا يقرأ يحل بضم أوله والفاعل محذوف تقديره: لا يحل طول المكث ونحو ذلك مني شيئًا حرامًا حتى يبلغ الهدي محله، أي: إذا نحو يوم مني، وقد مرَّ باقي الكلام عليه عند حديث حفصة الذي قبله بحديث. وقوله: قال أبو عبد الله: أبو شهاب ليس له حديث مسند إلا هذا، أي: لم يرو حديثًا مرفوعًا إلا هذا الحديث، قال مغلطاي: كأنه يقول: من كان هكذا لا يجعل حديثه أصلاً من أصول العلم، وما قاله لا يضره إذا كان موصوفًا بصفة من يصحح حديثه، ثم كلام مغلطاي محمولٌ على ظاهر الإطلاق، وقد أجاب غيره بأنه مقيد بالرواية عن عطاء، فإن حديثه هذا طرف من حديث جابر الطويل الذي انفرد مسلم بسياقه عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر، وفي هذا الطرف زيادة بيان لصفة التحلل من العمرة، ليس في الحديث الطويل حيث قال فيه: "أحلوا من إحرامكم بطواف البين وبين الصفا والمروة وقصروا ثم أقيموا حلالاً إلى يوم التروية وأهلُّوا بالحج". ويستفاد منه جواز جواب المفتي لمن سأله عن حكم خاص بأن يذكر له قصة مسندة مرفوعة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- تشتم على جواب سؤاله، ويكون ما اشتملت عليه من الفوائد الزائدة على ذلك زيادة خير، وينبغي أن يكون محله ذلك لائقًا بحال السائل. رجاله أربعة قد مرّوا: مرَّ أبو نعيم في الخامس والأربعين من الإيمان، ومرَّ أبو شهاب في التاسع والأربعين من الزكاة، ومرَّ جابر في الرابع من بدء الوحي. الحديث الرابع والخمسون حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ الأَعْوَرُ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، قَالَ: اخْتَلَفَ عَلِيٌّ وَعُثْمَانُ رضي الله عنهما وَهُمَا بِعُسْفَانَ فِي الْمُتْعَةِ، فَقَالَ عَلِيٌّ: مَا تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَنْهَى عَنْ أَمْرٍ فَعَلَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَلِيٌّ أَهَلَّ بِهِمَا جَمِيعًا.

رجاله سبعة

قوله: "أهلَّ بهما جميعًا" هذا هو القِران، قال في "الكواكب": فإن قلت: الاختلاف بينهما كان في التمتع، وهذا قران، فكيف يكون فعله مثبتًا لقوله نافيًا قول صاحبه، وأجاب بأن القران أيضًا نوع من التمتع لأنه يتمتع بما فيه من التخفيف، أو كان القِران عند عثمان كالتمتع بدليل ما تقدم حيث قال: وأن يجمع بينهما، وكان حكمهما عنده واحدًا، منعًا وجوازًا، والمراد بالمتعة العمرة في أشهر الحج سواء كانت في ضمن الحج أو متقدمة عنه منفردة، وسبب تسميتها متعة ما فيها من التخفيف الذي هو تمتع. وهذا الحديث قد تقدم ثاني أو ثالث أحاديث الباب، ومرَّ باقي الكلام عليه هناك، فاشتملت أحاديث الباب على ما ترجم به، فحديث عائشة من طريق يؤخذ منه الفسخ والإفراد، وحديث علي من طريقه يؤخذ منه التمتع والقِران، وحديث ابن عباس يؤخذ منه الفسخ، وكذا حديث أبي موسى وجابر، وحديث حفصة يؤخذ منه أن من تمتع بالعمرة إلى الحج لا يحل من عمرته إن كان ساق الهدي، وكذا حديث جابر، وحديث ابن عباس الثاني تؤخذ مشروعية التمتع، وكذلك حديث جابر أيضًا. رجاله سبعة قد مرّوا: مرَّ قتيبة بن سعيد في الحادي والعشرين من الإيمان، ومرَّ شعبة في الثالث منه، ومرَّ سعيد بن المسيب في التاسع عشر منه، ومرَّ عمرو بن مرة في السبعين من الجماعة، ومرَّ حجاج بن محمد الأعور في السابع والثلاثين من الزكاة، ومرّ عثمان في أثر بعد الخامس من العلم، ومرّ علي في السابع والأربعين منه. ثم قال المصنف:

باب من يلبي بالحج وسماه

باب من يلبي بالحج وسماه أي: عيّنه. الحديث الخامس والخمسون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، قَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا يَقُولُ: حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما، قَدِمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَنَحْنُ نَقُولُ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ بِالْحَجِّ. فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَجَعَلْنَاهَا عُمْرَةً. أورد الحديث هنا عن مجاهد مختصرًا، وهو بين فيما ترجم له، ويؤخذ منه فسخ الحج إلى العمرة، وقد ذهب الجمهور إلى أنه منسوخ، وذهب ابن عباس إلى أنه محكم، وبه قال أحمد وطائفة يسيرة كما مرَّ. رجاله خمسة قد مرّوا: مرّ مسدد في السادس من الإيمان, ومرَّ حماد بن زيد في الرابع والعشرين منه، ومرّ أيوب في التاسع منه، ومرَّ مجاهد في أوله قبل ذكر حديث منه، ومرَّ جابر في الرابع من بدء الوحي. ثم قال المصنف:

باب التمتع على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

باب التمتع على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كذا في رواية أبي ذر، وسقط لغيره على عهد إلى آخره، ولبعضهم باب بغير ترجمة، وكذا ذكره الإسماعيلي، والأول أولى، وفي الترجمة إشارة إلى الخلاف في ذلك، وإن كان الأمر استقر بعد على الجواز. الحديث السادس والخمسون حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُطَرِّفٌ، عَنْ عِمْرَانَ رضي الله عنه، قَالَ: تَمَتَّعْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَنَزَلَ الْقُرْآنُ، قَالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ. وقوله: "عن عمران" لمسلم: عن مطرف، بعث إلى عمران بن حصين في مرضه الذي توفي فيه فقال إني كنت محدثك بأحاديث لعل الله أن ينفعك، فذكر الحديث. وقوله: "ونزل القرآن" أي: بجوازه، يشير إلى قوله: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} الآية، ورواه مسلم عن همام بلفظ: "ولم ينزل فيه القرآن", أي: يمنعه ويوضحه رواية مسلم عن قتادة بلفظ: ثم لم ينزل فيه كتاب الله ولم ينه عنها نبي الله، وفي رواية له: ولم ينزل فيه قرآن بحرمة، وفي رواية له أخرى: فلم تنزل آية تنسخ ذلك ولم تنه عنه حتى مضى لوجهه. وللإسماعيلي عن همام: تمتعنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ونزل فيه القرآن، ولم ينهنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولم ينسخها شيء، وأخرجه المصنف في تفسير البقرة عن أبي رجاء العطاردي، عن عمران بلفظ: أنزلت آية المتعة في كتاب الله ففعلناها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولم ينزل قرآن بحرمة، فلم ينه عنها حتى مات، قال رجل برأيه ما شاء. وقوله: "قال رجل برأيه ما شاء"، وفي رواية أبي العلاء: ارتأى كل امرىء بعدما شاء أن يرتئي، قائل ذلك هو عمران بن حصين، ووهم من زعم أنه مطرف الراوي عنه، لثبوت ذلك

رجاله خمسة

في رواية أبي رجاء عن عمران كما ذكرته قبل، وقال ابن التين: يحتمل أن يريد عمر أو عثمان، وأغرب الكرماني فقال: الظاهر أن المراد به عثمان، وكان لقرب قصة عثمان مع علي جزم بذلك، وذلك غير لازم، فقد سبقت قصة عمر مع أبي موسى في ذلك، ووقعت لمعاوية أيضًا مع سعد بن أبي وقاص في صحيح مسلم قصة في ذلك، والأولى أن يفسر بعمر، فإنه أول من نهى، وكان من بعده كان تابعاً له في ذلك، ففي مسلم أن ابن الزبير أيضًا كان ينهى، وابن عباس كان يأمر بها، فسألوا جابرًا، فأشار إلى أن أول من نهى عنها عمر، ثم إن في حديث عمر ما يعكر على عياض وغيره في جزمهم أن المتعة التي نهى عنها عمر وعثمان هي فسخ الحج إلى العمرة لا العمرة التي يحج بعدها، فإن في بعض طرقه عند مسلم التصريح بكونها متعة الحج، وفي رواية له أيضًا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعمر بعض أهله في العشر، وفي رواية له جمع بين حج وعمرة، ومراده التمتع المذكور، وهو الجمع بينهما في عام واحد كما يأتي تصريحًا في الباب بعده في حديث ابن عباس، وقد تقدم البحث فيه في حديث أبي موسى. وفيه من الفوائد أيضًا جواز نسخ القرآن بالقرآن، ولا خلاف فيه، وجواز نسخه بالسنة، وفيه اختلاف شهير، ووجه الدلالة منه قوله، ولم ينه عنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإن مفهومه أنه لو نهى عنها لامتنعت، ويستلزم رفع الحكم ومقتضاه جواز النسخ، وقد يؤخذ منه أن الإجماع لا ينسخ لكونه حصر وجوه المنع في نزول آية، أو نهي من النبي -صلى الله عليه وسلم-, وفيه وقوع الاجتهاد في الأحكام بين الصحابة، وإنكار بعض المجتهدين على بعض بالنص. رجاله خمسة قد مرّوا: مرَّ موسى بن إسماعيل في الخامس من بدء الوحي، ومرَّ همام في الرابع والثمانين من الوضوء، ومرَّ قتادة في السادس من الإيمان، ومرَّ مطرف بن الشخير في الرابع والخمسين من صفة الصلاة، ومرَّ عمران بن حصين في الحادي عشر من التيمم. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإفراد والعنعنة والقول، ورواته كلهم بصريُّون، أخرجه مسلم في الحج. ثم قال المصنف:

باب قول الله تعالى: {ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام}

باب قول الله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} وقوله ذلك في الآية إشارة إلى التمتع لأنه سبق فيها فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي إلى أن قال ذلك وهذا قول أبي حنيفة فلا تمتع ولا قِران عنده لحاضري المسجد الحرام فيكره له التمتع والقران، فإِن تمتع أو قرن فعليه دم جبرًا وهما في الآفاقي مستحبان ويلزمه الدم شكرًا، وعند غير أبي حنيفة الإشارة راجعة إلى حكم التمتع وهو الفدية فلا يجب على أَهل مكة دم إذا أَحرموا من الحل بالعمرة ولا يكره لهم التمتع والقِران وهذا قول مالك والشافعي وأحمد. وقد اختلف العلماء في حاضري المسجد الحرام من هم: فقال مالك: أَهل مكة ومن حولها سوى أَهل المناهل كعسفان وسوى أَهل مني وعرفة. وقال ابن حبيب عن مالك وأصحابه: ومن كان دون مسافة القصر من مكة حكمه حكم المكي. وقيل: إن من دون المواقيت كالمكي ولم يعزه اللخمي. وقال الحنفية: هم أَهل المواقيت ومن دونها. وقال مكحول: من كان منزله دون المواقيت. وهو قول الشافعي في القديم، وقال في الجديد: من كان من مكة على دون مسافة القصر. ووافقه أحمد، واعتبرت المسافة من الحرم. قالوا: لأن كل موضع ذكر الله فيه المسجد الحرام فهو الحرم إلا قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فهو نفس الكعبة. واعتبرها الرافعي في المحرر من مكة، قال في "المهمات": وبه الفتوى، وأيده الشافعي بأن أعتبارها من الحرم يؤدي إلى إدخال البعيد عن مكة وإخراج القريب منها لاختلاف المواقيت والقريب من الشيء، يقال: إنه حاضره،

الحديث السابع والخمسون

قال الله تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ}، أي: قريبة منه. وقال نافع والأعرج: هم أهل مكة بعينها، واختاره الطحاوي ورجَّحه. وقال طاووس وطائفة: هم أهل الحرم، وهو الظاهر. الحديث السابع والخمسون وَقَالَ أَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ الْبَصْرِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ البراء، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مُتْعَةِ الْحَجِّ، فَقَالَ: أَهَلَّ الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ وَأَزْوَاجُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَأَهْلَلْنَا، فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "اجْعَلُوا إِهْلاَلَكُمْ بِالْحَجِّ عُمْرَةً إِلاَّ مَنْ قَلَّدَ الْهَدْيَ. فَطُفْنَا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَأَتَيْنَا النِّسَاءَ، وَلَبِسْنَا الثِّيَابَ وَقَالَ: مَنْ قَلَّدَ الْهَدْيَ فَإِنَّهُ لاَ يَحِلُّ لَهُ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ. ثُمَّ أَمَرَنَا عَشِيَّةَ التَّرْوِيَةِ أَنْ نُهِلَّ بِالْحَجِّ، فَإِذَا فَرَغْنَا مِنَ الْمَنَاسِكِ جِئْنَا فَطُفْنَا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَقَدْ تَمَّ حَجُّنَا، وَعَلَيْنَا الْهَدْيُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} إِلَى أَمْصَارِكُمْ. الشَّاةُ تَجْزِي، فَجَمَعُوا نُسُكَيْنِ فِي عَامٍ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَهُ فِي كِتَابِهِ وَسَنَّهُ نَبِيُّهُ -صلى الله عليه وسلم-، وَأَبَاحَهُ لِلنَّاسِ غَيْرَ أَهْلِ مَكَّةَ، قَالَ اللَّهُ {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} وَأَشْهُرُ الْحَجِّ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى: شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحَجَّةِ، فَمَنْ تَمَتَّعَ فِي هَذِهِ الأَشْهُرِ فَعَلَيْهِ دَمٌ أَوْ صَوْمٌ. والرَّفث: الجماع. والفسوق: المعاصي. والجدال: المراء. قوله: "وقال أبو كامل" وصله الإسماعيلي عن القاسم المطرز، عن أحمد بن سنان، عن أَبي كامل، فذكره بطوله، لكنه قال: عثمان بن سعد، بدل قوله: عثمان بن غياث، وكلاهما بصري، وله رواية عن عكرمة، لكن ابن غياث ثقة، وابن سعد ضعيف، وأشار الإسماعيلي إلى أن شيخه القاسم وهم في قوله: عثمان بن سعد، وذكر أبو مسعود في "الأطراف" أنه وجده من رواية مسلم بن الحجاج، عن أبي كامل، كما ساقه البخاري، قال: فأظن البخاري أخذه عن مسلم لأَني لم أَجده إلا من رواية مسلم، وتعقب باحتمال أن يكون البخاري أخذه عن أحمد بن سنان، فإنه أحد مشايخه، ويحتمل أيضًا أن يكون أخذه من أبي كامل نفسه، فإنه

أدركه وهو من الطبقة الوسطى من شيوخه، وليس له ذكر في كتابه غير هذا الموضع، ويأتي تعريفه في السند. وقوله: "فلما قدمنا مكة"، أي: قربها لأنَّ ذلك كان بسرف، كما تقدم عن عائشة. وقوله: "اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة" الخطاب بذلك لمن كان أحرم بالحج مفردًا كما تقدم واضحًا عن عائشة إنهم كانوا ثلاث فرق. وقوله: "طفنا" في رواية الأصيلى فطفنا بزيادة فاء، وهو الوجه، ووجه الأَول بالحمل على الاستئناف أو هو جواب لمَّا، وقال: جملة حالية، و"قد" مقدّرة فيها. وقوله: "ونسكنا المناسك", أي: من الوقوف والمبيت وغير ذلك. وقوله: "وأتينا النساء" المراد به غير المتكلم؛ لأن ابن عباس لم يكن إذ ذاك بالغًا. وقوله: "عشية التروية"، أي: بعد الظهر ثامن ذي الحجة، وفيه حجة على من استحب تقديمه على يوم التروية كما نقل عن الحنفية وعن الشافعية يختص استحباب يوم التروية بعد الزوال بمن ساق الهدي. وقوله: "فقد تم حجنا" وللكشميهني: وقد بالواو، ومن هنا إلى آخر الحديث موقوف على ابن عباس، ومن هنا إلى أوله مرفوع. وقوله: "فصيام ثلاثة أيام في الحج" سيأتي عن عائشة وابن عمر موقوفًا أن آخرها يوم عرفة، فإن لم يفعل صام أيام منى الثلاثة التي بعد يوم النحر، وهي أيام التشريق، وبه قال الزهري، والأوزاعي، ومالك، والشافعي في القديم، ثم رجع عنه، وأخذ بعموم النهي عن صيام أيام التشريق. وقوله: "وسبعة إذا رجعتم إلى أمصاركم" كذا أورده ابن عباس وهو تفسير للرجوع في قوله تعالى: {إِذَا رَجَعْتُمْ}، ويوافقه حديث ابن عمر الآتي في باب من ساق الهدي معه مرفوعًا، قال للناس: من كان منكم أهدى فإنه لا يحل، إلى أن قال: فمن لم يجد هديًا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، وهذا قول الجمهور، وعن الشافعي معناه: إذا رجع إلى مكة وعبر عنه مرة بالفراغ من أعمال الحج. ومعنى الرجوع التوجه من مكة، فيصومها في الطريق إن شاء وهو قول مالك وإسحاق بن راهويه، وقال أحمد: أرجو أن لا يكون به بأس. وقوله: "الشاة تجزيء" أي: عن الهدي، وهي جملة حالية وقعت بدون واو، وسيأتي

رجاله خمسة

في أبواب الهدي بيان ذلك. وقوله: "بين الحج والعمرة" بيان للمراد بقوله: فجمعوا نسكين، وهو بإسكان السين، قال الجوهري: النسك بالإسكان العبادة، وبالضم الذبيحة. وقوله: "فإن الله أنزله"، أي: الجمع بين الحج والعمرة، وأخذ بقوله: فمن تمتع بالعمرة إلى الحج. وقوله: "وسنة نبيه" أي: شرعه، حيث أمر أصحابه به. وقوله: "غير أهل مكة" ينصب غير على الحال أو جرّه على النعت. وقوله: "وذلك" إشارة إلى التمتع على مذهب ابن عباس القائل إن أهل مكة لا متعة لهم، وهو قول أبي حنيفة، وقد مرَّ استيفاء ذلك في الترجمة. وقوله: "التي ذكر الله" أي: بعد آية التمتع حيث قال: الحج أشهر معلومات، وقد مرَّ نقل الخلاف في ذي الحجة هل هو بكماله أو بعضه في باب الحج أشهر معلومات. وقوله: "فمن تمتع في هذه الأشهر" ليس لهذا القيد مفهوم لأن الذي يعتمر في غير أشهر الحج لا يسمى متمتعًا، ولا دم عليه، وكذلك المكي عند الجمهور، وخالف فيه أبو حنيفة كما مرَّ، ويدخل في عموم قوله: فمن تمتع من إحرام بالعمرة في أشهر الحج، ثم رجع إلى بلده ثم حج منها، وبه قال الحسن البصري، وهو مبني على أن التمتع إيقاع العمرة في أشهر الحج فقط، والذي ذهب إليه الجمهور أن التمتع أن يجمع الشخص الواحد بينهما في سفر واحد في أشهر الحج في عام واحد، وأن يقدم العمرة، وأن لا يكون مكيًا، فمتى اختل شرط من هذه الشروط لم يكن متمتعًا. وقوله: "والمراء الجدال" روى ابن أبي شيبة، عن ابن عباس، قال: ولا جدال في الحج، تماري صاحبك حتى تغضبه، وكذا أخرج عن ابن عمر نحوه، وأخرج عن مجاهد، قال: قد صار الحج في ذي الحجة لا شهر ينسأ، ولا شك في الحج لأن أهل الجاهلية كانوا يحجون في غير ذي الحجة. رجاله خمسة قد مرَّ منهم: عكرمة في السابع عشر من العلم، ومرَّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي، والباقي ثلاثة: الأول: أبو كامل فضيل بالتصغير بن حسين بن طلحة البصري الجحدري، ابن أخي

كامل بن طلحة، ذكره ابن حبان في "الثقات" وقال أحمد: أبو كامل بصير بالحديث، متقن، يشبه الناس، وله عقل، وقال علي ابن المديني: ثقة، روى عن حماد بن زيد، وأبي عوانة، وأبي معشر البراء وغيرهم. وروى عنه: البخاري تعليقًا، ومسلم وأبو داود والنسائي بواسطة، وأبو زرعة وغيرهم، ولد سنة خمس وأربعين ومائة، ومات سنة سبع وثلاثين ومائتين. الثاني: أبو معشر البرَّاء بتشديد الراء، يوسف بن يزيد البصري العطار، ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال محمد بن أبي بكر المقدمي: حدثنا أبو معشر البراء وكان ثقة، وقال ابن معين: ضعيف، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه، وقال أبو داود: ليس بذاك، قال في "المقدمة": له في البخاري ثلاثة أحاديث أحدها عن ابن عباس في قصة الرقية بفاتحة الكتاب، وله شاهد من حديث أبي سعيد الخدري، والآخر عن سعيد بن عبيد الله بن جبير بن حية، والثالث عن عثمان، عن عكرمة، عن ابن عباس في الحج، أورده بصيغة التعليق، وليس له في مسلم سوى حديث واحد في صوم يوم عاشوراء، وما له في السنن الأربعة شيىء. روى عن عبيد الله بن الأخنس وسعيد بن عبيد الله بن جبير بن حية، وخالد بن ذكران وغيرهم، وروى عنه زيد بن الخطاب ويحيى بن يحيى النيسابوري، وأبو كامل الجحدري وغيرهم. الثالث: عثمان بن غياث الراسبي، ويقال: الزهراني البصري، وثقه العجلي، وابن معين، وأحمد، والنسائي، وقال أبو داود وأحمد: كان مرجئًا، وقال ابن معين وابن المديني: كان يحيى بن سعيد القطان يضعف حديثه في التفسير عن عكرمة، قال في "المقدمة": لم يخرج له البخاري عن عكرمة سوى موضع واحد معلقًا، وروى له مسلم وأبو داود والنسائي. روى عن أبي عثمان النهدي وأبي الشعثاء جابر بن زيد، وعكرمة مولى ابن عباس وغيرهم، وروى عنه شعبة والقطان ووكيع وابن المبارك وغيرهم. ثم قال المصنف:

باب الاغتسال عند دخول مكة

باب الاغتسال عند دخول مكة قال ابن المنذر: الاغتسال عند دخول مكة مستحب عند جميع العلماء، وليس في تركه عندهم فدية، وقال أكثرهم: يجزىء منه الوضوء وفي "الموطأ" أن ابن عمر كان لا يغسل رأسه وهو محرم إلا من احتلام، وظاهره أن غسله لدخوله مكة كان لجسده دون رأسه، وقال الشافعية: إن عجز عن الغسل تيمم، وقال ابن التين: لم يذكر أصحابنا الغسل لدخول مكة، وإنما ذكروه للطواف والغسل لدخول مكة، هو في الحقيقة للطواف، قلت: قول ابن التين هذا عجيب، فإن المالكية عندهم يندب الغسل عند دخول مكة ويندب أن يكون بذي طوى، فهما ندبان. الحديث الثامن والخمسون حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما، إِذَا دَخَلَ أَدْنَى الْحَرَمِ أَمْسَكَ عَنِ التَّلْبِيَةِ، ثُمَّ يَبِيتُ بِذِي طُوًى، ثُمَّ يُصَلِّي بِهِ الصُّبْحَ وَيَغْتَسِلُ، وَيُحَدِّثُ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ. وقوله: "ثم يبيت بذي طوى" بضم الطاء وفتحها. وقوله: "ويغتسل" أي: به. وقوله: "كان يفعل ذلك" يحتمل أن الإشارة به إلى الفعل الأَخير وهو الغسل وهو مقصود الترجمة، ويحتمل أنها إلى الجميع وهو الأَظهر، وسيأتي في الباب الذي يليه ذكر المبيت فقط مرفوعًا من رواية ابن عمر، وتقدم الحديث بأتم من هذا في باب الإهلال مستقبل القبلة. رجاله خمسة قد مرّوا: مرَّ يعقوب بن إبراهيم وإسماعيل ابن عُلية في الثامن من الإيمان, ومرَّ أيوب في التاسع منه، ومرَّ ابن عمر في أوله قبل ذكر حديث منه، ومر نافع في الأخير من العلم، وقد مرَّ الكلام على هذا الحديث في باب الإهلال مستقبل القبلة. ثم قال المصنف:

باب دخول مكة نهارا أو ليلا

باب دخول مكة نهارًا أو ليلًا ثم قال: بات النبي -صلى الله عليه وسلم- بذي طوى حتى أصبح، ثم دخل مكة، وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يفعله. هذا متن حديث ابن عمر يذكره الآن وقد ترك سنده أولًا، ثم رواه بسنده. الحديث التاسع والخمسون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: بَاتَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِذِي طُوًى حَتَّى أَصْبَحَ، ثُمَّ دَخَلَ مَكَّةَ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَفْعَلُهُ. الحديث ظاهر في الدخول نهارًا، وقد أخرجه مسلم عن نافع بلفظ: كان لا يقدم مكة إلا بات بذي طوى حتى يصبح ويغتسل ثم يدخل مكة نهارًا، وأما الدخول ليلًا فلم يقع منه عليه الصلاة والسلام إلا في عمرة الجعرانة، فإنه -صلى الله عليه وسلم- أحرم من الجعرانة ودخل مكة ليلًا فقضى أمر العمرة، ثم رجع ليلًا فأصبح بالجعرانة كبائت، كما رواه أصحاب السنن الثلاثة من حديث محرش الكعبي، وترجم عليه النسائي دخول مكة ليلًا، وروى سعيد بن منصور عن إبراهيم النخعي، قال: كانوا يستحبون أَن يدخلوا مكة نهارًا، ويخرجوا منها ليلًا، وأَخرج عن عطاء: أن شئتم فادخلوا ليلًا إِنكم لستم كرسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنه كان إِماماً فأحب أن يدخلها نهارًا ليراه الناس. وقضية هذا أن من كان إمامًا يقتدى به يستحب له أن يدخلها نهارًا، وعند المالكية: يندب دخول مكة نهارًا لكل حاج، وعند أكثر الشافعية: دخول مكة نهارًا أفضل من الليل، وقال بعض الشافعية: هما سواء، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخلها في عمرة الجعرانة ليلًا، وهو المذكور في الهداية عن أبي حنيفة.

رجاله خمسة

رجاله خمسة قد مرّوا: مرَّ مسدد ويحيى القطان في السادس من الإيمان، ومرَّ عبيد الله العمري في الرابع عشر من الوضوء، ومر نافع في الأخير من العلم، ومرَّ محل ابن عمر في الذي قبله. ثم قال المصنف:

باب من أين يدخل مكة؟

باب من أَين يدخل مكة؟ الحديث الستون حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَعْنٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَدْخُلُ مِنَ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا، وَيَخْرُجُ مِنَ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى. قال في "الفتح": أخرج هذا الحديث عن معن بن عيسى، عن مالك، وليس في "الموطأ" ولا في "غرائب مالك" للدارقطني، ولم أقف عليه إلا من رواية معن بت عيسى، وقد تابع إبراهيم بن المنذر عليه عبد الله بن جعفر البرمكي، عن معن بن عيسى، وقد عز على الإسماعيلي استخراجه، فأخرجه عن ابن ناجية، عن البخاري مثله، وزاد في آخره -يعني ثنيتي مكة-، وهذه الزيادة أخرجها أبو داود أيضًا، حيث أخرج الحديث عن عبد الله بن جعفر البرمكي، وقد ذكره المصنف في الباب الذي بعده من طريق أخرى عن نافع، وسياقه أتم، ويأْتي فيه إيضاح الثنية العليا والثنية السفلى. رجاله خمسة قد مرّوا: مرَّ إبراهيم بن المنذر في الأول من العلم، ومرَّ معن بن عيسى في الثاني والمائة من الوضوء، ومرَّ مالك في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ محل نافع وابن عمر في الذي قبله. ثم قال المصنف:

باب من أين يخرج من مكة؟

باب من أين يخرج من مكة؟ الحديث الحادي والستون حَدَّثَنَا مُسَدَّدُ بْنُ مُسَرْهَدٍ الْبَصْرِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ مَكَّةَ مِنْ كَدَاءٍ مِنَ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا الَّتِى بِالْبَطْحَاءِ، وَخرج مِنَ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى. قوله: "من كَداء" بفتح الكاف والمد، قال أبو عبيد: لا يصرف، وهذه الثنية هي التي ينزل منها إلى المعلاة مقبرة أهل مكة، وهي التي يقال لها الحَجُون بفتح المهملة وضم الجيم، وكانت صعبة المرتقى، فسهلها معاوية، ثم عبد الملك، ثم المهدي على ما ذكره الأزرقي، ثم سهل موضع منها سنة إحدى عشرة وثمانمائة، ثم سهلت كلها في زمن سلطان مصر الملك المؤيد في حدود العشرين وثمانمائة، وكل عقبة في جبل أو طريق عال، فيه تسمى ثنية. وقوله: "الثنية السفلى" ذكر في ثالث أحاديث الباب، وخرج من كُدى، وهو بضم الكاف، مقصور، وهي عند باب شبيكة بقرب شعب الشاميين من ناحية قعيقعان، وكان بناء هذا الباب عليها في القرن السابع، قال عياض والقرطبي وغيرهما: اختلف في ضبط كداء وكدى، فالأكثر على أن العليا بالفتح والمد، والسفلى بالضم والقصر، وقيل بالعكس، قال النووي: هو غلط. واختلف في المعنى الذي لأجله خالف -صلى الله عليه وسلم- بين طريقيه، فقيل: ليتبرك به كل من في طريقه، فذكر شيئًا مما قيل في العيد، وقد استوفيت ما قيل فيه هناك، وبعضه لا يتأتى اعتباره هنا، وقيل: الحكمة في ذلك المناسبة بجهة العلو عند الدخول لما فيه من تعظيم المكان وعكسه الإشارة إلى فراقه، وقيل: الحكمة في ذلك هو أنه دخل من طريق الفتح تفاؤلًا بحصول الفتح والبركة، وخرج من المضمومة تفاؤلًا بضم ما حصل له من الخير معه، وقيل: لأن إبراهيم لما دخل مكة، دخل منها، وقيل: لأنه -صلى الله عليه وسلم- خرج منها مختفيًا في الهجرة، فأراد

رجاله خمسة

أن يدخلها ظاهرًا عاليًا، وقيل: لأن من جاء من تلك الجهة كان مستقبلًا للبيت، ويحتمل أن يكون ذلك لكونه دخل منها يوم الفتح فاستمر على ذلك، والسبب في ذلك قول أبي سفيان بن حرب للعباس: لا أُسلم حتى أرى الخيل تطلع من كداء، فقلت: ما هذا؟ قال: شيء طلع بقلبي، وإن الله لا يطلع الخيل هناك أبدًا، قال العباس: فذكرت أبا سفيان ذلك لما دخله، وللبيهقي عن ابن عمر، قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر: "كيف قال حسان؟ " فأَنشد: عدمت بنيتي أن لم تروها ... تثير النقع موعدها كداء فتبسم وقال: "ادخلوها من حيث قال حسان"، وقد حكى الحميدي، عن أبي العباس العذري أن بمكة موضعًا ثالثًا يقال له عندي، وهو بالضم والتصغير، يخرج منه إلى جهة اليمن، قال المحب: حققه العذري عن أهل المعرفة بمكة، قال: وقد بني عليها باب مكة الذي يدخل منه أهل اليمن. رجاله خمسة: وهذا السند بعينه هو الذي قبل هذا بحديث، ثم قال أبو عبد الله: كان يقال: هو مسدد كاسمه، وقال: سمعت يبيح بن معين يقول: سمعت يحيى بن سعيد يقول: لو أن مسددًا أتيته في بيته فحدثته لاستحق ذلك وما أبالي كتبي كانت عندي أو عند مسدد أبو عبد الله المراد به البخاري نفسه، ومسدد ويحيى القطان مرَّ محلهما في الذي قبل هذا بحديثين، والباقي هو يحيى بن معين بن عون بن زياد بن بسطام بن عبد الرحمن المري الغطفاني مولاهم أبو زكريا البغدادي إمام الجرح والتعديل, الحافظ أبو زكريا، قال النسائي أبو زكريا: الثقة المأمون، أحد الأئمة في الحديث. وقال ابن المديني: لا أعلم أحدًا من لدن آدم عليه السلام كتب من الحديث ما كتب يحيى بن معين، وقال أيضًا: انتهى علم الناس إلى يحيى بن معين، وفي رواية عنه: انتهى العلم إلى يحيى بن آدم، وبعده إلى يحيى بن معين، وفي رواية عنه: إلى ابن المبارك، وبعده إلى يحيى بن معين، وقال ابن عدي: كان معين على خراج الري، فخلف لابنه ألف ألف درهم وخمسين ألف درهم، فانفقه كلّه على الحديث، وقال محمد بن نصر الطبري: دخلت على ابن معين، فوجدت عنده كذا وكذا سفطا، وسمعته يقول: كل حديث لا يوجد هاهنا، وأشار بيده إلى الأسفاط، فهو كذب، وسمعته يقول: قد كتبت بيدي ألف ألف

حديث، وقال صالح جزرة: ذكر لي أن يحيى بن معين خلّف من الكتب لما مات ثلاثين قمطرًا، وعشرين جبًا، وقال صالح بن محمد: خلَّف يحيى من الكتب مائة قمطر، وأربعة عشر قمطر، وأربع جِباب شبرانية مملوءة كتبًا، والسفط محركة كالجوالق أو كالقفة والقمطر كسجل ما تصان به الكتب، والجب بالضم المزادة يخاط بعضها ببعض. وقال مجاهد بن موسى: كان ابن معين يكتب الحديث نيفاً وخمسين مرة، وقال: لو لم نكتب الحديث خمسين مرة ما عرفناه، وقال يحيى القطان: ما قدم علينا مثل هذين أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وقال ابن سعد: كان قد أكثر من كتابة الحديث، وعرف به، وكان لا يكاد يحدّث، وقال الخطيب: كان إمامًا ربانيًا عالمًا حافظًا ثبتًا متقنًا، وقال ابن حبان في "الثقات": أصله من سرخس، وكان من أهل الدين والفضل، وممن رفض الدنيا في جمع السنن, وكثرت عنايته بها وجمعها وحفظها حتى صار عَلَمًا يقتدى به في الأخبار، وإمامًا يرجع إليه في الآثار، وقال العجلي: ما خلق الله تعالى أحدًا كان أعرف بالحديث من يحيى بن معين، ولقد كان يجتمع مع أحمد وابن المديني ونظرائهم، فكان هو الذي ينتخب لهم الأحاديث لا يتقدمه منهم أحد، ولقد كان يؤتى بالأحاديث قد خلطت وتلبست، فيقول: هذا الحديث كذا وهذا كذا، فيكون كما قال. وقال الدوري: سمعته يقول: القرآن كلام الله تعالى وليس بمخلوق، وسمعته يقول: الإيمان يزيد وينقص، وهو قول وعمل. وقال ابن المديني: دار حديث الثقات على ستة، ثم قال: ما شذّ عن هؤلاء يصير إلى اثني عشر، ثم صار حديث هؤلاء كلهم إلى ابن معين. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: انتهى العلم إلى أربعة: أبو بكر بن أبي شيبة أسردهم له، وأحمد أفقههم فيه، وعلي ابن المديني أعلمهم به، ويحيى بن معين أكتبهم له، وفي رواية عنه: أعلمهم بصحيحه وسقيمه ابن معين، وقال صالح بن محمد: أعلم من أدركت بعلل الحديث ابن المديني، وبفقهه أحمد بن حنبل، وأحفظهم عند المذاكرة أبو بكر بن أبي شيبة، وأعلمهم بتصحيف المشايخ يحيى بن معين، وفي رواية عنه: يحيى أعلم بالرجال والكنى وقيل لأبي داود: أيما أعلم بالرجال عليّ أو يحيى؟ قال: عليّ عالم بالرجال، وليس عند عليّ من خبر أهل الشام شيء، وقال محمد بن عثمان بن أبي شيبة: سمعت عليًا يقول: كنت إِذا قدمت إلى بغداد منذ أربعين سنة كان الذي يذاكرني أحمده بن حنبل، فربما اختلفنا في الشيء، فنسأل يحيى بن معين، فيقوم فيخرجه ما كان أعرفه بموضع حديثه، وقال ابن المديني أيضًا: ما رأيت يحيى بن معين استفهم حديثاً ولا ردّه.

وقال عمرو الناقد: ما كان في أصحابنا أعلم بالإسناد من يحيى بن معين ما قدر أحد يقلب عليه إسنادًا قط، وسئل الفرهياني عن يحيى وأحمد وعليّ وأبي خيثمة، فقال: أما عليّ فاعلمهم بالعلل، وأما يحيى، فأعلمهم بالرجال، وأحمد بالفقه، وأبو خيثمة من النبلاء، وقيل لابن الرومي: سمعت بعض أصحاب الحديث يحدث بأحاديث يحيى، ويقول: حدثني من لم تطلع الشمس على أكبر منه فقال وما يعجب: سمعت ابن المديني يقول: ما رأيت في الناس مثله، وقيل لابن الرومي أيضًا: سمعت أبا سعيد الحداد يقول: الناس كلهم عيال على يحيى بن معين، فقال: صدق، ما في الدنيا مثله، وقال ابن الرومي: ما رأيت أحدًا قط يقول الحق في المشايخ غير يحيى، وقال هارون بن بشير الرازي: رأيت يحيى بن معين استقبل القبلة رافعًا يديه يقول: اللهم إن كنت تكلمت في رجلٍ وليس كذابًا، فلا تغفر لي، وقال هارون بن معروف: قدم علينا بعض الشيوخ من الشام فكنت أول من بكر عليه، فسألته أنْ يمليَ عليَّ شيئًا، فأخذ الكتاب يملي، فإذا بإنسان يدق الباب، فقال الشيخ: من هذا؟ قال: أحمد بن حنبل، فأَذن له والشيخ على حاله، والكتاب في يده لا يتحرك، فإذا بآخر، فذكر أحمد بن الدورقي، وعبد الله بن الرومي، وزهير بن حرب كلهم يدخل والشيخ على حالته، فإذا بآخر يدق الباب. قال الشيخ: من هذا؟ قال يحيى بن معين: فرأيت الشيخ ارتعدت يده، ثم سقط الكتاب من يده، وقال يحيى بن معين: قدم علينا عبد الوهاب بن عطاء، فكتب إلى أهل البصرة: قدمت بغداد وقبلني يحيى بن معين والحمد لله. وقيل لابن الرومي أيضًا: سمعت أبا سعيد الحداد يقول: لولا ابن معين ما كتبت الحديث، وإنا لنذهب إلى الحديث فننظر في كتبه فلا نرى فيها إلا كل حديث صحيح حتى يجيء أبو زكرياء، فأول شيء يقع في يده الخطأ، ولولا أنه عَرَّفْنَاه ما عرفناه، قال ابن الرومي: وما يعجب، لقد نفعنا الله تعالى به، ولقد كان المحدث يحدثنا لكرامته عليه، ولقد كنا في مجلس لبعض أصحابنا، فقلت له: يا أبا زكريا، أما نفيدك حديثاً وفينا يومئذ عليّ وأحمد، فقال: ما هو؟ فقلت: حديث كذا وكذا، فقال: هذا غلط، فكان كما قال. وقال ابن الرومي: كنت عند أحمد، فجاء رجل فقال: يا أبا عبد الله أُنظر في هذه الأحاديث، فإن فيها خطأ، قال: عليك بأبي زكريا، فإنه يعرف الخطأ، قال: وكنت أنا وأحمد نختلف إلى يعقوب بن إبراهيم في المغازي، فقال أحمد: إن يحيى هنا، قلت: وما نصنع به، قال: يعرف الخطأ، وقال أحمد: كان ابن معين أَعلمنا بالرجال، وقال أيضًا: السماع مع يحيى بن معين شفاء لما في الصدور، وقال الدوري: رأيت أحمد في مجلس روح بن

عبادة سنة خمس ومائتين يسأل يحيى بن معين عن أشياء يقول: يا أبا زكريا: كيف حديث كذا وكذا، يريد أن يستثبته في أحاديث قد سمعوها، كلما قال يحيى كتبه أحمد، وقلما سمعت أحمد يسميه باسمه بل بكنيته، وقال أحمد أيضًا: هاهنا رجل خلقه الله تعالى لهذا الشأن يظهر كذب الكذابين، يعني ابن معين. وقال الأثرم: رأى أحمدُ يحيى بن معين بصنعاء يكتب صحيفة معمر عن أبان، عن أنس، فقال له أحمد: تكتب هذه الصحيفة وتعلم أنها موضوعة، فلو قال لك قائل أنت تتكلم في أبان، ثم تكتب حديثه على الوجه، فقال: نعم أكتبها فاحفظها، وأعلم أنها موضوعة حتى لا يجيء إنسان بعده فيجعل لنا ثانيًا. وقال أحمد أيضاً: حديث لا يعرفه ابن معين، فليس هو بحديث، وفي رواية: فليس هو ثابتًا. وقال أبو حاتم: إذا رأيت البغدادي يحب أحمد فاعلم أنه صاحب سنة، وإذا رأيته يبغض ابن معين فاعلم أنَّه كذَّاب إنما يبغضه لما بين من أمر الكذابين. وقال أبو زرعة: لم ينتفع به لأنه كان يتكلم في الناس ويروى هذا عن عليّ من وجوه، وقال الحسن بن عليل العنزي: حدثنا يحيى بن معين، قال: أخطأ عفان في نيف وعشرين حديثًا، ما أعلمت أحدًا به، وأعلمته فيما بيني وبينه، ولقد طلب إليَّ خلف بن سالم أن أذكرها فما قلت له قال يحيى، وما رأيت على رجل قط خطأ إلا سترته، وما استقبلت رجلًا في وجهه بما يكره، ولكن أُبين له خطأه، فإن قبل، وإلا تركته. وقال يحيى أيضًا: من لم يكن سمحًا في الحديث كان كذابًا، قيل له: كيف يكون سمحًا؟ قال: إذا شك في الحديث تركه، وقال إبراهيم بن هانىء: رأيت أبا داود يقع في يحيى بن معين، فقلت: تقع في مثل يحيى؟ فقال: من جر ذيول الناس جروا ذيله. وقال أبو زرعة الرازي: كان أحمد بن حنبل لا يرى الكتابة عن أحد ممن امتحن فأجاب، وذكر ابن معين وأبا نصر التمَّار، وذكر ابن عباس الدوري أن يحيى بن معين انفرد بأشياء في الفقه خالف فيها مذهه في زكاة الفطر، قال: لا بأس أن يعطى فضة، وقال: لا أرى أن يتزوج الرجل امرأته على سورةٍ من القرآن، وقال في الرجل يصلي خلف الصف وحده: يعيد، وفي امرأة ملّكتْ أمرها رجلًا فأنكحها، قال: بل يذهب إلى القاضي، فإن لم يكن فإلي الوالي، وذكر عنه أشياء غير ذلك.

الحديث الثاني والستون

ولد يحيى بن معين سنة ثمان وخمسين ومائة، ومات بمدينة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لسبع ليال بقين من ذي القعدة قبل أن يحج سنة ثلاث وثلاثين ومائتين وله سبع وسبعون سنة إلا نحواً من عشرة أيام، وغسل على أعواد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وحمل على سريره، ودفن بالبقيع، وصلى عليه صاحب الشرطة، ونودي بين يديه: هذا الذي كان ينفي الكذب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, ورأى رجل النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه مجتمعين فسألهم، فقال: جئت لهذا الرجل أصلي عليه فإنه كان يذب عن حديثي. وقال حبيش بن مبشر: رأيت يحيى بن معين في النوم، فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي، وأعطاني وزوجني ثلاثمائة حوراء، وأدخلني عليه مرتين، وقال فيه بعض أهل الحديث. ذهب العلم بعيث كل محدث ... وبكل مختلف من الإسناد وبكل وهم في الحديث ومشكل ... يعني به علماء كل بلاد روى عن عبد السلام بن حرب، وعبد الله بن المبارك، وحفص بن غياث، وابن عيينة، وعبد الرزاق، ووكيع، وخلق. وروى عنه البخاري، ومسلم، وأبو داود، وأحمد بن حنبل، وأحمد بن أبي الحواري، وابن سعد، وداود بن رشيد، وأبو خيثمة وهم من أقرانه، وخلق كثير. الحديث الثاني والستون حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالاَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا جَاءَ إِلَى مَكَّةَ دَخَلَ مِنْ أَعْلاَهَا وَخَرَجَ مِنْ أَسْفَلِهَا". وهذا الحديث الكلام عليه هو الذي مرَّ في الذي قبله. رجاله خمسة قد مرّوا: مرَّ الحميدي وسفيان بن عيينة في الأول من بدء الوحي، ومرّ هشام وأبو عروة وعائشة في الثاني منه، ومرَّ محمد بن المثنى في التاسع من الإيمان, أخرجه البخاري أيضًا في المغازي، ومسلم في الحج، وكذا أبو داود والترمذي والنسائي.

الحديث الثالث والستون

الحديث الثالث والستون حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلاَنَ الْمَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ عَامَ الْفَتْحِ مِنْ كَدَاءٍ، وَخَرَجَ مِنْ كُدًا مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ". وقوله: "من أعلى مكة" كذا رواه أَبو أُسامة فقلبه، والصواب ما رواه عمرو وحاتم، عن هشام دخل في كداء من أعلى مكة، والظاهر أن الوهم فيه ممن دون أَبي أُسامة، فقد رواه أحمد عن أبي أسامة على الصواب. رجاله خمسة قد مرّوا: مرَّ محمود بن غيلان في السابع والأربعين من مواقيت الصلاة، ومرَّ أبو أسامة في الحادي والعشرين من العلم، ومرّ محل هشام وعروة وعائشة في الذي قبله. أ. هـ. الحديث الرابع والستون حَدَّثَنَا أَحْمَدُ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنَا عَمْرٌو، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ عَامَ الْفَتْحِ مِنْ كَدَاءٍ أَعْلَى مَكَّةَ. قَالَ هِشَامٌ: وَكَانَ عُرْوَةُ يَدْخُلُ عَلَى كِلْتَيْهِمَا مِنْ كَدَاءٍ وَكُدًا، وَأَكْثَرُ مَا يَدْخُلُ مِنْ كَدَاءٍ، وَكَانَتْ أَقْرَبَهُمَا إِلَى مَنْزِلِهِ. قوله: "قال هشام" هو ابن عروة بالإسناد المذكور. وقوله: "وكان عروة يدخل من كلتيهما": في رواية الكشميهني "على" بدل "من". وقوله: "وأكثر ما يدخل من كُدا"، أي: بالضم والقصر للجميع. وقوله: "وكانت أقربهما إلى منزله" فيه اعتذار هشام لأَبيه لكونه روى الحديث وخالفه لأنه رأى أن ذلك ليس بحتم لازم، وكان ربما فعله، وكثيرًا ما يفعل غيره بقصد التيسير. رجاله ستة قد مرّوا: مرَّ أحمد بن صالح في الرابع والسبعين من استقبال القبلة، ومرّ عبد الله بن وهب في الثالث عشر من العلم، ومرَّ عمرو بن الحارث في السابع والستين من الوضوء، ومرَّ محل الثلاثة الباقية في الذي قبله بحديث. أخرجه البخاري أيضًا في المغازي.

الحديث الخامس والستون

الحديث الخامس والستون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا حَاتِمٌ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ عُرْوَةَ: دَخَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَامَ الْفَتْحِ مِنْ كَدَاءٍ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ. وَكَانَ عُرْوَةُ أَكْثَرَ مَا يَدْخُلُ مِنْ كَدَاءٍ, وَكَانَ أَقْرَبَهُمَا إِلَى مَنْزِلِهِ. قوله: "وكان عروة أكثر ما يدخل من كداء" وهي بالفتح والمد، وهذه تخالف الرواية السابقة التي بالضم وهي التي تحتاج إلى اعتذار هشام عن أبيه. رجاله أربعة قد مرّوا: مرَّ عبد الله بن عبد الوهاب في السادس والأربعين من العلم، ومرّ حاتم بن إسماعيل في الخامس والخمسين من الوضوء، ومرَّ محل هشام وعروة في الذي قبله بحديثين. الحديث السادس والستون حَدَّثَنَا مُوسَى، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ: دَخَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَامَ الْفَتْحِ مِنْ كَدَاءٍ. وَكَانَ عُرْوَةُ يَدْخُلُ مِنْهُمَا كِلَيْهِمَا وَأَكْثَرُ مَا يَدْخُلُ مِنْ كَدَاءٍ أَقْرَبِهِمَا إِلَى مَنْزِلِهِ. اختلف على هشام بن عروة في وصل هذا الحديث وإرساله، وأورد البخاري الوجهين مشيرًا إلى أن رواية الإرسال لا تقدح في رواية الوصل لأن الذي وصله حافظ وهو ابن عيينة، وقد تابعه ثقتان، ولعله إنما أورد الطريقين المرسلين ليستظهر بهما على وهم أبي أُسامة الذي أشرت له أولًا. رجاله أربعة قد مرّوا: مرَّ موسى بن إسماعيل في الخامس من بدء الوحي، ومرَّ وهيب في تعليق بعد الخامس عشر من الإيمان ومرَّ محل هشام وعروة قريبًا مرات. ثم قال: قال أبو عبد الله كداء وكدا موضعان، هذا وقع في رواية المستملي وحده، والمراد بأبي عبد الله المصنف: وهذا تفسير غير مفيد، فمعلوم أنهما موضعان بمجرد السياق، وقد يسر الله بنقل ما فيهما من ضبط وتعيين جهة كل منهما. ثم قال المصنف:

باب فضل مكة وبنيانها

باب فضل مكة وبنيانها وقوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ , وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ , وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ , رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} قوله: "فضل مكة وبنيانها" ليس في الآيات ولا الحديث ذكر لبنيان مكة، لكن بنيان الكعبة كان سبب بنيان مكة وعمارتها، فاكتفى به، ولكنَّهم اختلفوا في أول من بني الكعبة، فقيل: أول من بناها آدم عليه السلام ذكره ابن إسحاق، وقيل: أول من بناها شيث عليه السلام، وكانت قبل أن يبنيها خيمة من ياقوتة حمراء، يطوف بها آدم عليه السلام ويستأنس بها لأنها نزلت إليه من الجنة، وقيل: أول من بناها الملائكة وذلك لما قالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} الآية، خافوا وطافوا بالعرش سبعًا يسترضون الله ويتضرعون إليه فأمرهم الله تعالى أن يبنوا البيت المعمور في السماء السابعة وأن يجعلوا طوافهم له لكونه أهون من طواف العرش، ثم أمرهم أن يبنوا في كل سماء بيتاً وفي كل أرض بيتًا، قال مجاهد: هي أربعة عشر بيتًا، وروي أن الملائكة حين أسست الكعبة انشقت الأرض إلى منتهاها، وقذفت منها حجارة أمثال الإبل، فتلك القواعد من البيت التي وضع عليها إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام البيت، فلما جاء الطوفان رفع البيت وأودع الحجر الأسود أبا قبيس، وروى عبد الرزاق عن عطاء وسعيد بن المسيب أن آدم بناه من خمسة أجبل من حراء، وطور سيناء، وطور زيتا، وجبل لبنان، والجدى، وهذا غريب! وروى البيهقي في "دلائل النبوة" في بناء الكعبة عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعًا: بعث الله جبريل إلى آدم وحواء عليهما السلام، فأمرهما ببناء الكعبة، فبناه آدم، ثم أمر بالطواف به، ثم قيل له: أنت أول الناس، وهذا أول بيت وضع للناس، وقال ابن كثير: إنه كما ترى من مفردات ابن لهيعة، وهو ضعيف، والأشبه أن يكون هذا مرفوعًا على عبد الله بن عمرو، ويكون من الزملتين اللتين أصابهما يوم اليرموك من كلام أهل الكتاب.

وقوله: "وقوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ} " قوله: بالجر عطف على قوله: "فضل مكة"، أي: وفي بيان تفسير قوله تعالى، وهذه أربع آيات سبق كلها في رواية كريمة، وفي رواية الباقين بعض الآية الأولى، وفي رواية أبي ذر كل الآية الأولى، ثم قالوا إلى قوله: {التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}، وقوله: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ}، أي: واذكر إذْ جعلنا البيت، والبيت اسمٌ غالب للكعبة كالثريا للنجم. وقوله تعالى: {مثابةَّ}، أي: مرجعًا للحجاج والعمار يتفرَّقون عنه ثم يعودون إليه، وروى عبد بن حميد بإسناد جيد عن مجاهد، قال: يحجون ثم يعودون، وهو مصدر وصف به الموضع. وقوله: "وأمنا" أي: موضع آمن، وهو كقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا}، والمراد ترك القتال فيه. وقوله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} أي: وقلنا: اتخذوا منه موضع صلاة، ويجوز أن يكون معطوفًا على {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ}، أو على مثابة، أي: ثوبوا إلى الله واتخذوا، والأمر فيه للاستحباب بالاتفاق، وقرأ نافع وابن عامر: "واتخذوا" بلفظ الماضي عطف على جعلنا، أو على تقدير إذ، أي: "وإذ جعلنا"، و"إذ اتخذوا"، ومقام إبراهيم الحجر الذي فيه أَثر قدميه على الأصح، وعن عطاء: مقام إبراهيم عرفة وغيرها من المناسك لأنه قام فيها ودعا، وقيل: الحرم كله، وقد مرَّ استيفاء الكلام عليه أوائل الصلاة في باب واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى. وقوله: {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} استدل به على جواز صلاة الفرض والنفل داخل البيت، وخالف مالك في الفرض. وقوله: {اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} ويأتي حديث أن إبراهيم حرم مكة وقد مرَّ الجمع بينه وبين حديث إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس في باب ليبلغ العلم الشاهد الغائب من كتاب العلم. وقوله: {مَنْ آمَنَ} بدل من أهله، أي: وارزق المؤمنين من أهله خاصة، ومن كفر عطف عن من آمن، قيل: قاس إبراهيم الرزق على الإمامة فعرف الفرق بينهما وأن الرزق قد يكون استدراجاً وإلزامًا للحجة. وقوله: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} قد مرَّ بعض الكلام على القواعد في باب

الحديث السابع والستون

من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر، الخ، من كتاب العلم، ويأتي استيفاء الكلام عليها في أحاديث الباب وظاهر الآية أنه كان مؤسسًا قبل إبراهيم، وهذا يوافقه ما مرَّ من قذف الأرض الحجارةَ للملائكة حين بنوا البيت، ويحتمل أن يكون المراد بالرفع نقلها من مكانها إلى مكان البيت كما سيأتي. وقوله: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا}، أي: يقولون: ربنا تقبل منا، وقد أظهره ابن مسعود في قراءته. وقوله: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} روى عبد بن حميد، عن أبي مجلز، قال: لما فرغ إبراهيم من البيت أتاه جبريل، فأراه الطواف بالبيت سبعًا، قال: وأحسبه بين الصفا والمروة، ثم أتى به عرفة، فقال: أعرفت، قال: نعم، فمن ثم سميت عرفات، ثم أتى به جمعًا، فقال: هاهنا يجمع الناس الصلاة، ثم أتى به مِنى، فعرض لهما الشيطان، فأَخذ جبريل سبع حصيات، فقال: ارمه بها وكبّر مع كلّ حصاة. وقوله: {وَتُبْ عَلَيْنَا}، قيل: طلب الثبات على الإيمان لأنهما معصومان، وقيل: أراد أن يعرف الناس أن ذلك الموقف مكان التربة، وقيل: المعنى وتب على من اتبعنا. الحديث السابع والستون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما، قَالَ: لَمَّا بُنِيَتِ الْكَعْبَةُ ذَهَبَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَعَبَّاسٌ يَنْقُلاَنِ الْحِجَارَةَ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ لِلنَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم-: اجْعَلْ إِزَارَكَ عَلَى رَقَبَتِكَ. فَخَرَّ إِلَى الأَرْضِ، وَطَمَحَتْ عَيْنَاهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: "أَرِنِي إِزَارِي". فَشَدَّهُ عَلَيْهِ. هذا الحديث أحد الأحاديث التي أخرجها البخاري عن شيخه أبي عاصم النبيل بواسطة، وهذا الحديث قد مرَّ عن جابر من وجه آخر في باب كراهة التعري في الصلاة أوائل كتاب الصلاة، واستوفيتُ مباحثه هناك غاية الاستيفاء، وهنا ألفاظ مغايرة لألفاظ في السابق، هنا: فخرّ إلى الأرض، وفي السابق: فجعله على منكبه فسقط مغشيًا عليه. وقوله: "فطمحت عيناه" بفتح المهلمة والميم، أي: ارتفعتا، والمعنى أنه صار ينظر إلى فوق، وفي رواية عبد الرزاق، عن ابن جريج في أوائل السيرة النبوية: ثم أفاق. وقوله: "أرني إزاري"، أي: أعطني، وحكى ابن التين كسر الراء وسكونها، وقد قُرىء بهما، وفي رواية عبد الرزاق الآتية: إزاري إزاري، بالتكرار.

رجاله خمسة

وقوله: "فشدّه عليه" زاد زكرياء بن إسحاق: فما رؤي بعد ذلك عريانًا. رجاله خمسة قد مرّوا: مرّ عبد الله بن محمد المسندي في الثاني من الإيمان, ومرّ أبو عاصم في أثر بعد الرابع من العلم، ومرّ عمرو بن دينار في الثالث والخمسين منه، ومرَّ ابن جريج في الثالث من الحيض، ومرّ جابر في الرابع من بدء الوحي، وفيه ذكر العباس، وقد مرَّ في الثالث والستين من الوضوء. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع. وروي بالإفراد والإخبار، بالافراد والسماع، والقول، وشيخه من أفراده، وهو بخاري، ثم بصري، ثم مدنيان، أخرجه البخاري أيضًا في بنيان الكعبة، ومسلم في الطهارة. الحديث الثامن والستون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَخْبَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، زَوْجِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لَهَا: "أَلَمْ تَرَىْ أَنَّ قَوْمَكِ لَمَّا بَنَوُا الْكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ". فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ تَرُدُّهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ. قَالَ: "لَوْلاَ حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَفَعَلْتُ". فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ رضي الله عنه: لَئِنْ كَانَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها سَمِعَتْ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَا أُرَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- تَرَكَ اسْتِلاَمَ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيَانِ الْحِجْرَ، إِلاَّ أَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يُتَمَّمْ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ. هذا الحديث ساقه المصنف من أربعة طرق. وقوله: "أخبر عبد الله بن عمر" بنصب عبد الله على المفعولية، وظاهره أن سالمًا كان حاضرًا لذلك، فيكون من روايته عن عبد الله بن محمد، وقد صرح بذلك أبو أُويس، عن ابن شهاب، لكنَّه سماه عبد الرحمن بن محمد، فوهم. أخرجه أحمد، وأغرب إبراهيم بن طهمان فرواه عن مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، أخرجه الدارقطني في "غرائب مالك" والمحفوظ الأول، وقد رواه معمر، عن ابن شهاب، عن سالم، لكنه اختصره، وأخرجه مسلم عن نافع، عن عبد الله بن محمد بن أبي بكر، عن عائشة فتابع سالمًا فيه، وزاد في المتن: ولا نفقت كنز الكعبة، ولم توجد هذه الزيادة إلا من هذا الوجه، ومن طريق أُخرى

رجاله سبعة

أخرجها أبو عوانة، عن القاسم بن محمد، عن عبد الله بن الزبير، عن عائشة، وسيأتي إن شاء الله تعالى البحث فيها في باب كسوة الكعبة. وقوله: "قومك"، أي: قريش. وقوله: "اقتصروا عن قواعد إبراهيم" وسيأتي في التي بعدها بيان ذلك. وقوله: "لولا حِدثان" بكسر المهملة وسكون الدال بعدها مثلثة بمعنى الحدوث، أي: قرب عهدهم. وقوله: "لفعلت"، أي: لرددتها على قواعد إبراهيم. وقوله: "فقال عبد الله"، أي: ابن عمر بالإسناد المذكور، وقد رواه معمر عن الزهري، عن سالم، عن أبيه بهذه القصة مجردة. وقوله: "لئن كانت" ليس هذا شكًا من ابن عمر في صدق عائشة، لكن يقع في كلام العرب كثيرًا صورة التشكيك، والمراد التقرير واليقين. وقوله: "ما أُرى" بضم الهمزة، أي: أظن وهي رواية معمر، وزاد في آخر الحديث: ولا طاف الناس من وراء الحجر إلا لذلك ونحوه في رواية أبي أُويس المذكورة. وقوله: "استلام" افتعال من السلام، والمراد به لمس الركن بالقبلة، أو اليد. وقوله: "يليان الحجر"، أي: يقربان من الحجر بكسر المهملة وسكون الجيم، وهو معروف على صفة الدائرة وقدرها تسع وثلاثون ذراعًا، والقدر الذي أخرج من الكعبة يأتي قريبًا بعد حديثين. رجاله سبعة قد مرّوا إلاَّ عبد الله بن محمد. مرَّ عبد الله بن مسلمة في الثاني عشر من الإيمان, ومرَّ سالم بن عبد الله في الرابع عشر منه، ومرَّ أبوه عبد الله في أوله قبل ذكر حديث منه، ومرَّ مالك وعائشة في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ ابن شهاب في الثالث منه، والباقي عبد الله بن محمد بن أبي بكر الصديق التيمي أخو القاسم بن محمد، قال النسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، قال: مصعب الزبيري أُمه أم ولد قُتل بالحرة، وكانت الحرة في ذي القعدة سنة ثلاث وستين، روى عن عائشة في قصة بناء الكعبة، وروى عنه: سالم بن عبد الله ونافع مولى ابن عمر. أخرجه البخاري أيضًا في أحاديث الأنبياء، وفي التفسير ومسلم في الحج والنسائي فيه وفي التفسير.

الحديث التاسع والستون

الحديث التاسع والستون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، حَدَّثَنَا الأَشْعَثُ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ الْجَدْرِ أَمِنَ الْبَيْتِ هُوَ؟ قَالَ: "نَعَمْ". قُلْتُ: فَمَا لَهُمْ لَمْ يُدْخِلُوهُ فِي الْبَيْتِ؟ قَالَ: "إِنَّ قَوْمَكِ قَصَّرَتْ بِهِمُ النَّفَقَةُ". قُلْتُ: فَمَا شَأْنُ بَابِهِ مُرْتَفِعًا؟ قَالَ: "فَعَلَ ذَلِكِ قَوْمُكِ لِيُدْخِلُوا مَنْ شَاءُوا وَيَمْنَعُوا مَنْ شَاءُوا، وَلَوْلاَ أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ أَنْ أُدْخِلَ الْجَدْرَ فِي الْبَيْتِ وَأَنْ أُلْصِقَ بَابَهُ بِالأَرْضِ". قوله: "عن الجدر" بفتح الجيم وسكون المهملة للأكثر، وفي رواية المستملي الجدار، قال الخليل: الجدر لغة في الجدار، ووهم من ضبطه بضمها لأن المراد الحجر، ولأبي داود الطيالسي عن أبي الأحوص: الجدر أو الحجر بالشك، ولأبي عوانة عن الأشعث: الحجر بغير شك. وقوله: "أمن البيت هو؟ " قال: نعم، هذا ظاهره أن الحجر كله من البيت، وكذا قوله في التي بعد هذه "أن أدخل الجدر في البيت" وبذلك كان يفتي ابن عباس، فقد روى عبد الرزاق عنه أنه قال: لو وليت من البيت ما ولي ابن الزبير لأدخلت الحجر كله في البيت، فلم يطاف به إن لم يكن من البيت، وروى الترمذي والنسائي عن عائشة، قالت: كنتُ أُحب أن أصلي في البيت فأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيدي فأدخلني الحجر، فقال: "صل فيه فإنما هو قطعة من البيت ولكن قومك استقصروه حين بنوا الكعبة فأخرجوه من البيت"، ونحوه لأبي داود عنها وأبي عوانة أيضًا، ولأحمد عنها، وفيه أنها أرسلت إلى شيبة الحجبي ليفتح لها البيت بالليل، فقال: ما فتحناه في جاهلية ولا إسلام بليل، وهذه الروايات كلها مطلقة، وقد جاءت روايات أصح منها مقيدة منها لمسلم عنها في حديث الباب حتى أزيد فيه من الحجر، وله من وجه آخر عنها: "فإن بدا لقومك أن يبنوه بعدي فهلمِّي لأُريك ما تركوا منه فأراها قريبًا من سبعة أذرع"، وله عن عبد الله بن الزبير عنها في هذا الحديث وَزِدت فيها من الحجر ستة، وسيأتي في آخر الطريق الرابعة عن عروة أنه أراه لجرير بن حازم فحزره ستة أذرع أو نحوها، ولسفيان بن عيينة في "جامعه" عن مجاهد أن ابن الزبير زاد فيها ستة أذرع مما يلي الحجر، وله أيضًا عن ابن الزبير ستة أذرع وشبر، وهكذا ذكر الشافعي عن عدد لقيهم من أهل العلم من قريش، كما أخرجه البيهقي في "المعرفة" عنه، وهذه الروايات كلها تجتمع على أنها فوق الستة ودون السبعة، وأما رواية عطاء عند مسلم عن عائشة مرفوعًا: "لكنت أدخل فيها من الحجر خمسة أذرع" فهي شاذة، والرواية السابقة أرجح لما فيها من الزيادة عن الثقات

الحفاظ، ثم ظهر لرواية عطاء وجه وهو أنه أُريد بها ما عدا الفُرجة التي بين الركن والحجر، فتجتمع مع الروايات الأخرى فإن الذي عدته الفرجة أربعة أذرع وشيء، ولهذا وقع عند الفاكهي من حديث أبي عمرو بن عدي بن الحمراء أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعائشة في هذه القصة: "ولا دخلت فيها من الحجر أربعة أذرع"، فيحتمل هذا على إلغاء الكسر، ورواية عطاء على جبره، ويجمع بين الروايات كلها بذلك، وستأتي ثمرة هذا البحث في آخر الكلام على هذا الحديث. وقوله: "ألم تري"، أي: ألم تعرفي. وقوله: "قصرت بهم النفقة" بتشديد الصاد، أي: النفقة الطيبة التي أخرجوها لذلك كما جزم به الأزرقي وغيره، ويوضحه ما ذكر ابن إسحاق في "السيرة" أن أبا وهب بن عابد بن عمران بن مخزوم وهو جدّ جعدة بن هبيرة بن أبي وهيب المخزومي، قال لقريش: لا تدخلوا فيه من كسبكم إلا الطيب، ولا تدخلوا فيه مهر بغي، ولا بيع ربًا، ولا مظلمة أحد من الناس، وروى سفيان بن عيينة في "جامعه" عن عبيد الله بن أبي يزيد، عن أبيه أنه شهد عمر بن الخطاب أرسل إلى شيخ من بني زهرة أدرك، فسأله عمر عن بناء الكعبة، فقال: إن قريشًا تقربت ببناء الكعبة، أي: بالنفقة الطيبة، فعجزت، فتركوا بعض البيت في الحجر، فقال عمر: صدقت. وقوله: "ليدخلوا" في رواية المستملي يدخلوا بغير لام، زاد مسلم عن عائشة: فكان الرجل إذا هو أراد أن يدخلها يدعونه يرتقي حتى إذا كاد أن يدخل دفعوه فسقط. وقوله: "حديثٌ عهدهم" بتنوين حديث. وقوله: "بجاهلية" في رواية الكشميهني: بالجاهلية، وتقدم في كتاب العلم حديث عهد بكفر، ولأبي عوانة عن عائشة: حديث عهد بشرك. وقوله: "فأخاف أن تنكر قلوبهم" في رواية أشعث: تنفر بالفاء بدل الكاف، ونقل ابن بطال عن بعض علمائهم أن النفرة التي خشيها -صلى الله عليه وسلم- أن ينسبوه إلى الانفراد بالفخر دونهم. وقوله: "أن أدخل الجدر" كذا وقع هنا، وهو مؤول بمعنى المصدر، أي: أخاف إنكار قلوبهم إدخال الحجر، وجواب لولا محذوف، وقد رواه مسلم عن أبي الأحوص بلفظ: فأخاف أن تنكر قلوبهم لنظرت أن أُدخل فأَثبت جواب لولا، وكذا أَثبته الإسماعيلي عن أشعث، ولفظه: لنظرت فأَدخلته.

رجاله خمسة

رجاله خمسة قد مرّوا: مرَّ مسدد في السادس من الإيمان, ومرَّ أبو الأحوص في العشرين من صفة الصلاة، ومرَّ الأشعث في الثالث والثلاثين من الوضوء، ومرَّ الأسود بن يزيد في السابع والستين من العلم، ومرّت عائشة في الثاني من بدء الوحي. الحديث السبعون حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: قَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَوْلاَ حَدَاثَةُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَنَقَضْتُ الْبَيْتَ ثُمَّ لَبَنَيْتُهُ عَلَى أَسَاسِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، فَإِنَّ قُرَيْشًا اسْتَقْصَرَتْ بِنَاءَهُ وَجَعَلْتُ لَهُ خَلْفًا". قوله: "عن أبيه، عن عائشة" كذا رواه مسلم عن أبي معاوية، والنسائي عن عبدة بن سليمان، وأبو عوانة عن علي بن مسهر، وأحمد عن عبد الله بن نمير كلّهم عن هشام، وخالفهم القاسم بن معن، فرواه عن هشام، عن أبيه، عن أخيه عبد الله بن الزبير، عن عائشة، أخرجه أبو عوانة، ورواية الجماعة أرجح، فإنَّ رواية عروة عن عائشة لهذا الحديث مشهورة من غير هذا الوجه، وسيأتي في التي بعد هذه عن يزيد بن رومان عنه، وكذا لأبي عوانة عن قتادة وأبي النضر كلاهما عن عروة، عن عائشة بغير واسطة، ويحتمل أن يكون عروة حمل عن أخيه، عن عائشة منه شيئًا زائدًا على روايته عنها، كما وقع للأسود بن يزيد مع ابن الزبير في كتاب العلم. وقوله: "وجعلت له خلفًا" بسكون اللام وضم التاء من جعلت، عطفًا على قوله لبنيته، وضبطها القابسي بفتح اللام وسكون المثناة عطفًا على استقصرت وهو وهم فإن قريشًا لم تجعل له بابًا من خلف وإنما هم النبي -صلى الله عليه وسلم- بجعله فلا يغتر بمن حفظ هذه الكلمة بفتح ثم سكون. وقوله: "خلفًا" بفتح المعجمة وسكون اللام بعدها فاء، وقد فسره في الرواية المعلقة الآتية، فقال: يعني بابًا، أي: آخر من خلف يقابل الباب المقدم، وضبطه الحربي في "الغريب" بكسر الخاء المعجمة، قال: والخالفة عمود في مؤخر البيت، والصواب الأول، وبينه قوله في الرواية الرابعة: وجعلت لها بابين.

رجاله خمسة

رجاله خمسة قد مرُّوا: مرَّ عبيد بن إسماعيل في الثاني والعشرين من الحيض، ومرَّ أبو أُسامة في الحادي والعشرين من العلم، ومرَّ هشام وأبو عروة وعائشة في الثاني من بدء الوحي، أخرجه مسلم. ثم قال: قال أبو معاوية: حدثنا هشام، خلفا، يعني بابًا. قوله: "حدثنا هشام" يعني ابن عروة بسنده هذا والتفسير المذكور من قول هشام بينه أبو عوانة عن علي بن مسهر، عن هشام، قال: الخلف الباب، وأخرجه ابن خزيمة عن أبي أُسامة وأدرج التفسير والتعليق وصله مسلم والنسائي، ولم يقع في روايتهما التفسير المذكور، وأبو معاوية محمد بن خازم وقد مرَّ في تعليق بعد الثالث من الإيمان. الحديث الحادي والسبعون حَدَّثَنَا بَيَانُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لَهَا: "يَا عَائِشَةُ! لَوْلاَ أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ لأَمَرْتُ بِالْبَيْتِ فَهُدِمَ، فَأَدْخَلْتُ فِيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ وَأَلْزَقْتُهُ بِالأَرْضِ، وَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا، فَبَلَغْتُ بِهِ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ". فَذَلِكَ الَّذِي حَمَلَ ابْنَ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما عَلَى هَدْمِهِ. قَالَ يَزِيدُ: وَشَهِدْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ حِينَ هَدَمَهُ وَبَنَاهُ وَأَدْخَلَ فِيهِ مِنَ الْحِجْرِ، وَقَدْ رَأَيْتُ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ حِجَارَةً كَأَسْنِمَةِ الإِبِلِ. قَالَ جَرِيرٌ: فَقُلْتُ لَهُ: أَيْنَ مَوْضِعُهُ؟ قَالَ: أُرِيكَهُ الآنَ. فَدَخَلْتُ مَعَهُ الْحِجْرَ فَأَشَارَ إِلَى مَكَانٍ فَقَالَ: هَاهُنَا. قَالَ جَرِيرٌ: فَحَزَرْتُ مِنَ الْحِجْرِ سِتَّةَ أَذْرُعٍ أَوْ نَحْوَهَا. يزيد الأول في السند هو ابن هارون. وقوله: "عن عروة" كذا رواه الحفاظ من أصحاب يزيد بن هارون عنه، فأخرجه أحمد بن حنبل، وأحمد بن سنان، وأحمد بن منيع في "مسانيدهم" عنه فكذا، والنسائي عن عبد الرحمن بن محمد بن سَلّام، والإسماعيلي عن هارون الحمال، والزعفراني، كلهم عن يزيد بن هارون، وخالفهم الحارث بن أبي أسامة، فرواه عن يزيد بن هارون، فقال: عن عبد الله بن الزبير بدل عروة بن الزبير، وهكذا أخرجه الإسماعيلي عن أبي الأزهر، عن وهب بن جرير بن حازم، عن أبيه، قال الإسماعيلي: إن كان أبو الأزهر ضبطه، فكان يزيد بن رومان سمعه من الأخوين، وقد تابعه محمد بن مشكان، كما أخرجه الجوزقي، ويزيد قد حمله عن الأخوين، لكن رواية الجماعة أوضح فهي أصحُّ.

وقوله: "حديث عهد" كذا لجميع الروة بالإضافة من غير واو وقال المطرزي: لا يجوز حذف الواو في مثل هذا فالصواب حديثو عهدٍ. وقوله: "فذلك الذي حمل ابن الزبير على هدمه" زاد وهب بن جرير: في روايته وبنائه. وقوله: "قال يزيد: هو ابن رومان" بالإسناد المذكور. وقوله: "وشهدت ابن الزبير حين هدمه وبناه" إلى قوله: "كأسنمة الإبل" هكذا ذكره يزيد بن رومان مختصرًا، وقد ذكره مسلم وغيره واضحًا فروى مسلم عن عطاء بن أبي رباح، قال: لما احترق البيت إلى آخر ما مرَّ مستوفى عند ذكر هذا الحديث في باب من ترك بعض الاختيار من كتاب العلم. وقوله: "كأسنمة الإبل" تقدم ما فيه في الحديث المذكور وهو قواعد إبراهيم عليه السلام، وقد قال الطبري: اختلف في القواعد التي رفعها إبراهيم وإسماعيل أهما أحدثاها أم كانت قبلهما؟ ثم روي بسند صحيح عن ابن عباس، قال: كانت قواعد البيت قبل ذلك، ومن طريق عطاء، قال: قال آدم: أي رب! لا أسمع أصوات الملائكة، قال: ابنِ لي بيتا ثم أحفف به كما رأيت الملائكة تحف بيتي الذي في السماء فيزعم الناس أنه بناه من خمسة أجبل حتى بناه إبراهيم بعد. وقد مرَّ هذا وزيادة. وقوله: "قال جرير: فحزرت من الحجر ستة أذرع أو نحوها". وقوله: "فحزرت" بتقديم الزاي على الراء، أي: قدرت. وقوله: "ستة أذرع" أو نحوها قد ورد ذلك مرفوعًا إلي النبي -صلى الله عليه وسلم- كما تقدم عند الطريق الثانية وهي أرجح الروايات، والجمع بين المختلف منها ممكن وهو أولى من دعوى الاضطراب والطعن في الروايات المقيدة لأجل الاضطراب، كما جنح إليه ابن الصلاح وتبعه النووي, لأن شرط الاضطراب أن تتساوى الوجوه بحيث يتعذر الترجيح أو الجمع، ولم يتعذر ذلك هنا، فيتعين حمل المطلق على المقيد كما هي قاعدة مذهبهما، ويؤيده أن الأحاديث المطلقة والمقيدة متواردة على سبب واحد وهو أن قريشًا قصروا عن بناء إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأن ابن الزبير أعاده علي بناء إبراهيم، وأن الحجاج أعاده علي بناء قريش، ولم تأتِ رواية قط صريحة أن جميع الحجر من بناء إبراهيم في البيت. قال المحب الطبري: الأصح أن القيد الذي في الحجر من البيت قدر سبعة أذرع، والرواية التي جاء فيها أن الحجر من البيت مطلقة، فيحمل المطلق على المقيد فإن إطلاق

اسم الكل على البعض سائغ مجازًا، وإنما قال النووي ذلك نصرة لما رجحه من أن جميع الحجر من البيت، وعمدته في ذلك أن الشافعي نص على ايجاب الطواف خارج الحجر، ونقل ابن عبد البر الاتفاق عليه، ونقل غيره إنه لا يعرف في الأحاديث المرفوعة، ولا عن أحد من الصحابة ومن بعدهم أنه طاف داخل الحجر، وكان عملًا مستمرًا، ومقتضاه أن يكون جميع الحجر من البيت، وهذا متعقب، فإنه لا يلزم من ايجاب الطواف من ورائه أن يكون كله من البيت، فقد نص الشافعي أيضًا كما ذكره البيهقي في "المعرفة" أن الذي في الحجر من البيت نحو من ستة أذرع، ونقله عن عدة من أهل العلم من قريش لقيهم كما تقدم فعلى هذا فلعله رأى ايجاب الطواف من وراء الحجر احتياطًا. وأما العمل فلا حجة فيه على الإيجاب، فلعل النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن بعده فعلوه استحبابًا للراحة من تسور الحجر، لاسيما والرجال يطوفون جميعًا فلا يؤمن من المرأة التكشف، فلعلهم أرادوا حسم هذه المادة، وأما ما نقله المهلب عن ابن أبي زيد أن حائط الحِجَر لم يكن مبنيًا في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر حتى كان عمر فبناه ووسعه قطعًا للشك، وأن الطواف قبل ذلك كان حول البيت ففيه نظر، وقد أشار المهلب إلى أن عمدته في ذلك ما يأتي في باب بنيان الكعبة في أوائل السيرة النبوية بلفظ: لم يكن حول البيت حائط كانوا يصلون حول البيت حتى كان عمر، فبنى حوله حائطًا جدره قصيرة، فبناه ابن الزبير. وهذا إنما هو في حائط المسجد لا في المسجد، فدخل الوهم على قائله من هنا, ولم يزل الحجر موجودًا في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-, كما صرح به كثير من الأحاديث الصحيحة, قلت: ما قاله ليس فيه دليل على أن الحائط كان قبل عمر، وما أول به الكلام من أنه في حائط المسجد غير ظاهر، ويرده قوله: "فبناه ابن الزبير" لأن ابن الزبير إنما بني البيت لا حائط المسجد، وكون الحجر موجودًا في زمنه عليه الصلاة والسلام لا يدل على وجود الحائط المحوط فيمكن أن يكون المراد بالموجود محله المعروف فتأمل. ثم قال في "الفتح": نعم في الحكم بفساد طواف من دخل الحجر، وخلى بينه وبين البيت سبعة أذرع نظر، وقد قال بصحته جماعة من الشافعية كإمام الحرمين، ومن المالكية كأبي الحسن اللخمي، وذكر الأزرقي أن عرض ما بين الميزاب ومنتهى الحجر سبعة عشر ذراعًا وثلث ذراع منها عرض جدار الحجر ذراعان وثلث، وفي بطن الحجر خمسة عشر ذراعًا، فعلى هذا فنصف الحجر ليس من البيت، فلا يفسد طواف من طاف دونه، وأما قول المهلب إن الفضاء لا يسمى بيتًا، وإنما البيت البنيان لأن شخصًا لو حلف لا يدخل بيتًا فانهدم ذلك

البيت فلا يحنث بدخوله، فليس بواضح، فإن المشروع من الطواف ما شرع للخليل بالاتفاق، فعلينا أن نطوف حيث طاف، ولا يسقط ذلك بانهدام حرم البيت لأن العبادات لا يسقط المقدور عليه منها بفوات المعجوز عنه، فحرمة البقعة ثابتة ولو فقد الجدار، وأما اليمين فمتعلقة بالعرف، ويؤيد ما قلناه أنه لو انهدم مسجد، فنقلت حجارته إلى موضع آخر بقيت حرمة المسجد بالبقعة التي كان بها, ولا حرمة لتلك الحجارة المنقولة إلى غير مسجد، فدلَّ على أن البقعة أصل للجدار بخلاف العكس، أشار إلى ذلك ابن المنير. وفي حديث بناء الكعبة من الفوائد غير ما تقدم ما ترجم عليه المصنف في العلم، وهو ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر عنه فهم بعض الناس، والمراد بالاختيار هو عبارته المستحب، وفيه اجتناب ولى الأمر ما يتسرع الناس إنكاره، وما يخشى منه تولد الضرر عليهم في دين أو دنيا، وتألف قلوبهم بما لا يترك فيه أمر واجب، وفيه تقديم الأهم فالأهم من دفع المفسدة وجلب المصلحة، وأنهما إذا تعارضا بدىء بدفع المفسدة، وأن المفسدة إذا أمن وقوعها عاهد استحباب عمل المصلحة وحديث الرجل مع أهله في الأمور العامة، وحرص الصحابة على امتثال أوامر النبي -صلى الله عليه وسلم-. وحكى ابن عبد البر، وتبعه عياض وغيره عن الرشيد أو المهدي أو المنصور أنه أراد أن يعيد الكعبة على ما فعله ابن الزبير، فناشده مالك في ذلك وقال: أخشى أن يصير ملعبة للملوك، فتركه، وهذا بعينه هو خشية جدهم الأعلى عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه، فأشار على ابن الزبير لما أراد أن يهدم الكعبة، ويجدد بناءها بأن يرمم ما وهي منها ولا يتعرض لها بزيادة ولا نقص، وقال له: لا آمن أن يجيىء من بعدك أمير فيغير الذي صنعت، أخرجه الفاكهاني عن عطاء، عنه، وذكر الأزرقي أنَّ سليمان بن عبد الملك همّ بنقض ما فعله الحجاج، ثم ترك لما ظهر له أنه فعله بأمر أبيه عبد الملك، ولم يقف صاحب "الفتح" في شيء من التواريخ على أن أحدًا من الخلفاء، ولا من دونهم غير من الكعبة شيئا مما صنعه الحجاج إلى الآن إلا في الميزاب والباب وعتبته، وكذا وقع الترميم في جدارها مرة بعد مرة، وفي سقفها، وسلم سطحها، وجدد فيها الرخام، فذكر الأزرقي عن ابن جريج أنَّ أول من فرشها بالرخام الوليد بن عبد الملك، ووقع في جدارها الشامي ترميم في شهور سنة سبعين ومائتين، ثم في شهور سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة، ثم في شهور سنة تسع عشرة وستمائة، ثم في سنة ثمانين وستمائة، ثم في سنة أربع عشرة وثمانمائة، وقد ترادفت الأخبار الآن في وقتنا هذا في سنة اثنين وعشرين أن جهة الميزاب فيها ما يحتاج إلى ترميم، فاهتم بذلك

رجاله ستة

سلطان الإِسلام الملك المؤيد، وأرجو من الله تعالى أن يسهل له ذلك. ثم حججت سنة أربع وعشرين وتأملت المكان الذي قيل عنه، فلم أجده في تلك البشاعة، وقد رمّم ما تشعث من الحرم في أثناء سنة خمس وعشرين إلى أن نقض سقفها في سنة سبع وعشرين على يد بعض الجند، فجدد أسقفها ورخم السطح، فلما كان في سنة ثلاث وأربعين، صار المطر إذا ينزل إلى داخل الكعبة أشد مما كان أولًا، فأداه رأيه الفاسد إلى نقض السقف مرة أخرى، وسد ما كان في السطح من الطاقات التي كان يدخل منها الضوء إلى الكعبة، ولزم من ذلك امتهان الكعبة، بل صار العمال يصعدون فيها بغير أدب، فغار بعض المجاورين فكتب إلى القاهرة يشكو ذلك، فبلغ السلطان الظاهر، فأنكر أن يكون أمر بذلك، وجهز بعض الجند لكشف ذلك، فتعصب للأول بعض من جاور، واجتمع الباقون رغبة ورهبة، فكتبوا محضرًا بأنه ما فعل شيئاً إلا عن ملأ منهم، وأن كل ما فعله مصلحة، فسكن غضب السلطان، وغطى عنه الأمر، وقد جاء عن عياش بن أبي ربيعة المخزومي بالتحتانية قبل الألف، وبعدها شين معجمة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ,قال: "إن هذه الأمة لا تزال بخير ما عظموا هذه الحرمة -يعني الكعبة- حق تعظيممها، فإذا ضيعوا ذلك هلكوا" أخرجه أحمد، وابن ماجه، وعمر بن شبة في "كتاب مكة"، وسنده حسن، فنسأل الله الكريم الحنّان المنّان أن يمنّ علينا بالنجاة من الفتن في ديننا ودُنيانا، وأن يفرّج عنا ما نحن فيه من الكرب وتشتيت الشمل والغربة عن الحبيب عليه الصلاة والسلام والأهل والعيال، ومما يتعجب منه أنه لم يقفق الاحتياج إلى الإصلاح في الكعبة إلا فيما صنعه الحجاج، إما من الجدار الذي بناه في الجهة الشامية، وإما في السلم الذي جدده للسطح والعتبة، وما عدا ذلك مما وقع فإنما هو لزيادة محضة كالرخام، أو التحسين كالباب والميزاب، وكذلك ما حكاه الفاكهاني عن عبد الله بن بكر السهمي، عن أبيه، قال: جاورت بمكة، فعابت اسطوانة من أساطين البيت فأخرجت وجيء بأُخرى ليدخلوها مكانها فطالت عن الموضع، وأدركهم الليل والكعبة لا تفتح ليلًا، فتركوها ليعودوا من غد ليصلحوها فجاؤوا من غد فأصابوها أقوم من قِدح بكسر القاف السهم، وهذا إسناد قوي رجاله ثقات، وبكر هو ابن حبيب من كبار أتباع التابعين، وكأن القصة كانت في أوائل دولة بني العباس وكانت الاسطوانة من خشب. رجاله ستة: وفيه ذكر ابن الزبير، وقد مرّوا إلا ابن رومان، مرَّ بيان ابن عمرو في الثامن والأربعين من التهجد، ومرَّ يزيد بن هارون في الخامس عشر من الوضوء, ومرَّ جرير بن حازم في

لطائف إسناده

السبعين من استقبال القبلة، ومرَّ محل عروة وعائشة في الذي قبله، والسابع يزيد بن رومان بضم الراء أبو روح الأسدي المدني، مولى آل الزبير، قال النسائي وابن معين: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن سعد: كان عالمًا كثير الحديث، ثقة، قرأ القرآن على عبد الله بن عباس بن أبي ربيعة، وقرأ عليه نافع بن أبي نعيم، روى عن ابن الزبير وأنس وعبيد الله وسالم ابني عبد الله بن عمر وغيرهم، وروى عنه هشام بن عروة، ومالك، وجرير بن حازم، وغيرهم، مات سنة ثلاثين ومائة. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة، ورواته شيخه بخاري من أفراده وواسطي وبصري ومدنيان، أخرجه النسائي في الحج. وقد مرَّ ابن الزبير في الثامن والأربعين من العلم. ثم قال المصنف:

باب فضل الحرم

باب فضل الحرم وقوله تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}، وقوله جلَّ ذكره: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}. قوله: "فضل الحرم"، أي: المكي، وهو ما أحاط بمكة وأطاف بها من جوانبها، جعل الله تعالى له حكمها في الحرمة تشريفًا لها، وسمي حرمًا لتحريم الله تعالى فيه كثيرًا مما ليس بمحرم في غيره من المواضع وحده من طريق المدينة عند التنعيم على ثلاثة أميال من مكة، وقيل: أربعة، ومن طريق اليمن طرف أَضاة لِبْن بفتح الهمزة والضاد المعجمة، ولبن بكسر اللام وسكون الموحدة على ستة أميال من مكة، وقيل: سبعة، ومن طريق الجعرانة على تسعة أميال بتقديم المثناة الفوقية على السين، ومن طريق الطائف على عرفات من بطن غرة سبعة أميال، وقيل: ثمانية، ومن طريق جدة عشرة أميال، وقال الرافعي: هو من طريق المدينة على ثلاثة أميال، ومن العراق على سبعة، ومن الجعرانة على تسعة أميال، ومن الطائف على سبعة، ومن جدة على عشرة، وقد نظم ذلك بعضهم، فقال: وللحرم التحديد من أرض طيبة ... ثلاثة أميال إذا رمت إتقانه وسبعة أميال عراق وطائف ... وجدة عشر ثم تسع جعرانة وزاد أبو الفضل هنا بيتين، فقال: ومن يمن سبع بتقديم سينها ... فسل ربك الوهاب يرزقك غفرانه وقد زيد في حد لطائف أربع ... ولم يرض جمهور كذا القول رجحانه وقال ابن سراقة في كتابه "الأعداد": الحرم موضع واحد في الأرض وهو مكة وما حولها، ومسافة ذلك ستة عشر ميلًا في مثلها وذلك بريد واحد، وثلث في بريد، وثلث على الترتيب، والسبب في بعد بعض الحدود وقرب بعضها ما قيل إن الله تعالى لما أَهبط على آدم بيتًا من ياقوتة أضاء لها ما بين المشرق والمغرب، فنفرت الجن والشياطين ليقربوا منها، فاستعاذ منهم بالله، وخاف على نفسه منهم، فبعث الله ملائكة فحفوا بمكة فوقفوا مكان الحرم، وذكر بعض

الحديث الثاني والسبعون

اهل الكشف والمشاهدات أنهم يشاهدون تلك الأنوار واصلةٌ إلى حدود الحرم، فحدود الحرم موضع وقوف الملائكة، وقيل: إن الخليل لما وضع الحجر الأسود في الركن أضاء له نور وصل إلى أماكن الحدود، فجاءت الشياطين فوقفت عند الأعلام فبناها الخليل عليه السلام حاجزًا. رواه مجاهد، عن ابن عباس. وعنه: أن جبريل عليه السلام أَرى إبراهيم عليه السلام موضع أنصاب الحرم فنصبها، ثم جددها إسماعيل عليه السلام، ثم جددها قُصيُّ بن كلاب، ثم جددها النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم لما ولي عمر رضي الله تعالى عنه بعث أربعة من قريش فنصبوا أنصاب الحرم، ثم جددها معاوية رضي الله تعالى عنه، ثم عبد الملك بن مروان. وقوله:"وقوله تعالى" بالجر، عطف على المجرور قبله بالإضافة، ووجه تعلق الآية بالترجمة من جهة إضافة الربوبية إلى البلدة، فإنه على سبيل التشريف لها، وهي أصل الحرم. وقوله: "أولم نمكن لهم حرما آمناً، الآية" روى النسائي في "التفسير" أن الحارث بن عامر بن نوفل قال للنبي -صلى الله عليه وسلم- إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا، فأنزل الله عز وجل ردًا عليه: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا}، الآية، أي: الله جعلهم في بلد أمين، وهم منه في أمان في حال كفرهم، فكيف لا يكون أمنًا لهم بعد أن أسلموا وتابعوا الحق. الحديث الثاني والسبعون حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: "إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ، لاَ يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلاَ يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إِلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا". قوله: "ولا ينفر صيده"، أي: لا يزعج من مكانه، فإن نفره عصى سواء تلف أم لا، لكن إن تلف في نفاره قبل السكون ضمن دمه بالتنفير لأنه إذا حرم التنفير فالإتلاف أولى. وقوله: "ولا يلتقط لقطته" بفتح القاف وسكونها، قال الأزهري والمحدثون: لا يعرفون عبر الفتح، ونقل الطيبي عن صاحب "شرح السنة" أنه قال: اللقطة بفتح القاف، والعامة تسكنها، وقال الخليل: هو بالسكون، وأما الفتح فهو كثير الالتقاط، قال الأزهري: هو

رجاله ستة

القياس، وقال ابن بري: هذا هو الصواب لأن الفعلة للفاعل كالضحكة لكثير الضحك، قلت: المعروف أنه للكثرة فعلة، بضم الفاء وفتح اللام كضحكة لا فعلة بالتحريك، وفي "القاموس": اللقط محركة بغير تاء، وكحزمة وهمزة وثمامة ما التقط. وقوله: "إلا من عرفها"، أي: أشهرها، ثم يحفظها لمالكها ولا يتملكها، أي: عرفها ليعرف مالكها ثم يردها إليه، وهذا المنزع قد مرَّ الكلام عليه مستوفى عند حديث أبي هريرة أن خزاعة قتلوا رجلًا، الخ، في باب كتابة العلم من كتاب العلم. رجاله ستة، قد مرّوا: مرَّ علي ابن المديني في الرابع عشر من العلم، ومرَّ جرير بن عبد الحميد، ومنصور بن المعتمر في الثاني عشر منه، ومرَّ مجاهد في أثر أول الإيمان, ومرَّ طاووس بعد الأربعين من الوضوء، ومرَّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي. أخرجه البخاري أيضًا في الحج، وفي الجهاد، وفي الجزية، ومسلم وأبو داود في الحج والجهاد، والترمذي في السير، والنسائي في البيعة وفي الحج. ثم قال المصنف:

باب توريث دور مكة وبيعها وشرائها وأن الناس في المسجد الحرام سواء خاصة

باب توريث دور مكة وبيعها وشرائها وأن الناس في المسجد الحرام سواء خاصة كَقَوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} , الباد: الطارىء، معكوفًا: محبوسًا. أشار بهذه الترجمة إلى تضعيف حديث علقمة بن نضلة، قال: توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر وعمر، وما تدعى رباع مكة إلا السوائب من احتاج سكن، أخرجه ابن ماجه، وفي إسناده انقطاع وإرسال، وقال بظاهره ابن عمر ومجاهد وعطاء: قال عبد الرزاق، عن ابن جريج: كان عطاء ينهى عن الكراء في الحرم، فأخبرني أن عمر نهى أن تُبوَّب دور مكة لأنها ينزل الحاج في عرصاتها، فكان أول من بوب داره سهيل بن عمرو واعتذر عن ذلك لعمر. وروى الطحاوي عن مجاهد أنه قال: مكة مباح لا يحل بيع رباعها ولا إجارة بيوتها. وروى عبد الرزاق عن مجاهد، عن ابن عمر: لا يحل بيع بيوت مكة ولا إجارتها. وبه قال الثوري وأبو حنيفة، وخالفه صاحبه أبو يوسف، واختلف عن محمد. وبالجواز قال الجمهور، واختاره الطحاوي، ويجاب عن حديث علقمة على تقدير صحته بحمله على ما سيجمع به ما اختلف عن عمر في ذلك. واحتج الشافعي بحديث أُسامة الذي أورده المصنف في هذا الباب، قال الشافعي: فأضاف الملك إلى عقيل ومن ابتاعها منه. وبقوله عام الفتح: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، فأضاف الدار إليه، قلت: إذا كان هذا القول بعد إسلام أبي سفيان لم تكن في الحديث حجة لأن ملكه لداره يتقرر بمجرد إسلامه قبل فتح مكة، واحتج ابن خزيمة بقوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} , فنسب الله الديار إليهم كما نسب الأموال إليهم، ولو كانت الديار ليست بملك لهم لما كانوا مظلومين في الإخراج من دور ليست بملك لهم، قال: ولو كانت الدور التي باعها عقيل لا تملك، لكان جعفر وعلي

أولى بها إذ كانا مسلمين دونه، وسيأتي في البيوع أَثر عمر أنه اشترى دارًا للسجن بمكة، ولا يعارض ما جاء عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر أنه كان ينهى أن تغلق دور مكة في زمن الحاج أخرجه عبد بن حميد، وقال عبد الرزاق عن مجاهد أن عمر قال: يا أهل مكة لا تتخذوا لدوركم أبوابًا لينزل البادي حيث شاء. وقد تقدم من وجه آخر عن عمر، فيجمع بينهما بكراهة الكراء رفقًا بالوفود، ولا يلزم من ذلك منع البيع والشراء، وإلى هذا جنح الإِمام أحمد وآخرون، واختلف عن مالك في ذلك، قال القاضي إسماعيل: ظاهر القرآن يدل على أن المراد به المسجد الذي يكون فيه النسك والصلاة لا سائر دور مكة، وقال الأبهري: لم يختلف قول مالك في أن مكة فتحت عنوة، واختلفوا هل مَنَّ عليهم بها لعظم حرمتها، أو أقرت للمسلمين؟ ومن ثم جاء الاختلاف في بيع دورها والكراء، والراجح عند من قال: إنها فتحت عنوة أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- مَنَّ بها على أهلها، فخالفت حكم غيرها من البلاد في ذلك، ذكره السهيلي وغيره، ويأتي قريبًا إتمام الكلام على فتحها هل كان عنوة أو صلحًا. وقد اختلف أهل التأويل في المراد بقوله هنا المسجد الحرام، هل هو الحرم كله، أو مكان الصلاة فقط؟ واختلفوا أيضًا: هل المراد بقوله سواء في الأمن والاحترام، أو فيما هو أعم من ذلك؟ وبواسطة ذلك نشأ الاختلاف المذكور أيضًا، قال ابن خزيمة: لو كان المراد بقوله تعالى: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} جميع الحرم، وأن اسم المسجد الحرم واقع على جميع الحرم لما جاز حفر بير ولا قبر، ولا التغوط ولا البول، ولا إلقاء الجيف والنتن، قال: ولا نعلم عالمًا منع من ذلك ولا كره لحائض ولا لجنب دخول الحرم، ولا الجماع فيه، ولو كان كذلك لجاز الاعتكاف في دور مكة وحوانيتها, ولا يقول بذلك أحد. والقول بأن المراد بالمسجد الحرام الحرم كله ورد عن ابن عباس، وعطاء، ومجاهد، أخرجه ابن أبي حاتم وغيره عنهم بأسانيد إليهم كلها ضعيفة. وقوله: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}، الباء في بإلحاد صلة، أي: ومن يرد فيه إلحادًا، كما في قوله تعالى: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} , قال في "الكشاف": ومفعول يرد متروك ليتناول كل متناول كأنه قال: ومن يرد فيه مرادًا ما عاد لا عن القصد. وقوله: "بإلحاد وبظلم" حالان مترادفان وخبران في قوله: "إن الذين كفروا" محذوف لدلالة جواب الشرط عليه تقديره إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام نذقهم من عذاب أليم. وقوله: "البادي" الطارىء هو تفسير منه بالمعنى، وهو مقتضى ما جاء عن ابن عباس

الحديث الثالث والسبعون

وغيره كما رواه عبد بن حميد وغيره، وقال الإسماعيلي: البادي: الذي يكون في البدو، وكذا من كان ظاهر البلد فهو باد ومعنى الآية أن المقيم والطارىء سيان، وروى عبدالرزاق عن قتادة: سواء العاكف فيه والباد، قال: سواء فيه أهل مكة وغيرهم. وقوله: "معكوفًا: محبوسًا" كذا وقع هنا وليست هذه الكلمة في الآية المذكورة وإنما هي في آية الفتح ومناسبة ذكرهاهنا قوله في الآية العاكف، والتفسير المذكور قاله أبو عبيدة في المجاز والمراد بالعاكف المقيم، وروى الطحاوي عن أبي حصين، قال: أردت أن أعتكف وأنا بمكة، فسألت سعيد بن جبير، فقال: أنت عاكف، ثم قرأ هذه الآية. الحديث الثالث والسبعون حَدَّثَنَا أَصْبَغُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما، أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيْنَ تَنْزِلُ فِي دَارِكَ بِمَكَّةَ؟. فَقَالَ: "وَهَلْ تَرَكَ عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ أَوْ دُورٍ؟ ". وَكَانَ عَقِيلٌ وَرِثَ أَبَا طَالِبٍ هُوَ وَطَالِبٌ وَلَمْ يَرِثْهُ جَعْفَرٌ وَلاَ عَلِيٌّ رضي الله عنهما شَيْئًا؛ لأَنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ، وَكَانَ عَقِيلٌ وَطَالِبٌ كَافِرَيْنِ، فَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يَقُولُ: لاَ يَرِثُ الْمُؤْمِنُ الْكَافِرَ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَكَانُوا يَتَأَوَّلُونَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} الآيَةَ. في رواية مسلم أن علي بن الحسين أخبره أن عمرو بن عثمان أخبره. وقوله: "أين تنزل في دارك؟ " حذف أداة الاستفهام من قوله: في دارك بدليل رواية ابن خزيمة والطحاوي عن ابن وهب بلفظ: أتنزل في دارك؟ وكذا أخرجه الجوزقي عن أصبغ، وللمصنف في "المغازي" عن الزهري: أين تنزل غدًا؟ فكأنه استفهمه أولًا عن مكان نزوله، ثم ظنّ أنه ينزل في داره، فاستفهمه عن ذلك، وظاهر هذه القصة أن ذلك كان حين أراد دخول مكة، ويزيده وضوحًا رواية زمعة بن صالح عن الزهري بلفظ: لما كان يوم الفتح قبل أن يدخل النبي -صلى الله عليه وسلم- مكة، قيل: أين تنزل، أفي بيوتكم؟ الحديث. وروى علي ابن المديني عن محمد بن علي بن الحسين، قال: قيل للنبي -صلى الله عليه وسلم- حين قدم مكة: أين تنزل؟ قال: "وهل ترك لنا عقيل من طل؟ " قال علي ابن المديني: ما أشك أن محمد بن علي بن الحسين أخذ هذا الحديث عن أبيه، لكن في حديث أبي هريرة أنه عليه

الصلاة والسلام قال ذلك حين أراد أن ينفر من مني فيحمل على تعدد القصة، وقوله: "وهل ترك عقيل؟ " في رواية مسلم وغيره: "وهل ترك لنا؟ ". وقوله: "من رباع أو دور"؛ الرباع جمع رَبْع بفتح الراء وسكون الموحدة، وهو المنزل المشتمل على أبيات، وقيل: هو الدار فعلى هذا، فقوله: أو دور إما للتأكيد أو من شك الراوي، وفي رواية محمد بن أبي حفصة: من منزل، وجمع النكرة وإن كانت في سياق الاستفهام الإنكاري يفيد العموم للإشعار بأنه لم يترك من الرباع المتعددة شيئًا، ومن للتبعيض، وأخرج الفاكهاني هذا الحديث عن محمد بن أبي حفصة، وقال في آخره: ويقال: إن الدار التي أشار إليها كانت دار هاشم بن عبد مناف، ثم صارت لعبد المطلب ابنه، فقسمها بين ولده حين عمر، ثم صار للنبي -صلى الله عليه وسلم- حق أبيه عبد الله، وفيها ولد النبي -صلى الله عليه وسلم-. وقوله: "وكان عقيل ورث أبا طالب" الخ، محصله أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لما هاجر استولى عقيل وطالب على الدار كلها باعتبار ما ورثاه من أبيهما لكونهما كانا لم يسلما، وباعتبار ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- لحقه منها بالهجرة، وفقد طالب ببدر، فباع عقيل الدار كلها، وحكى الفاكهاني أن الدار لم تزل بأولاد عقيل إلى أن باعوها لمحمد بن يوسف أخي الحجاج بمائة ألف دينار، وزاد في روايته عن محمد بن أبي حفصة، فكان علي بن الحسين يقول: من أجل ذلك تركنا نصيبنا من الشعب، أي: حصة جدهم علي من أبيه أبي طالب، وقال الداودي وغيره: كان من هاجر من المؤمنين باع قريبه الكافر داره وأمضى النبي -صلى الله عليه وسلم- تصرفات الجاهلية تأليفًا لقلوب من أسلم منهم. وقال الخطابي: وعندي أن تلك الدار كانت قائمة على ملك عقيل، فإنما لم ينزلها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأنها دور هجروها في الله تعالى، فلم يرجعوا فيما تركوه، وتعقب بأن سياق الحديث يقتضي أن عقيلًا باعها، ومفهومه أنه لو تركها لنزلها، وقد مرَّ قريبًا أن هذه القصة وقعت عند دخول مكة يوم الفتح. وقد اختلف العلماء هل مكة فتحت عنوة أو صلحًا، فذهب الجمهور إلى أنها فتحت عنوة، وتمسكوا بما أخرجه مسلم وأحمد والنسائي عن أبي هريرة، قال: أقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد بعث على إحدى الجنبتين خالد بن الوليد، وبعث الزبير على الأخرى، وبعث أبا عبيدة على الحُسَّر بضم المهملة وتشديد السين المهملة، جمع حاسر، أي: الذين لا سلاح لهم، فقال لي: يا أبا هريرة اهتف لي بالأنصار، فهتف بهم، فجاؤوا فأطافوا به، فقال لهم: أترون إلى أوباش قريش وأتباعهم، ثم قال بإحدى يديه على الأخرى: احصدوهم حصدًا حتى توافوني بالصفا، قال أبو هريرة: فانطلقنا فما نشاء أن نقتل أحدًا منهم إلا قتلناه، فجاء أبو

سفيان، وقال: يا رسول الله أبيحت خضراء قريش لا قريش بعد اليوم، قال: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من أغلق بابه فهو آمن". وعند الشافعي ورواية عن أحمد أنها فتحت صلحًا لما وقع من التأمين ولإضافة الدور إلى أهلها, ولأنها لم تقسم، ولأن القائمين لم يملكوا دورها وإلا لجاز إخراج أهل الدور منها. واحتج الجمهور بما وقع من التصريح بالأمر بالقتال ووقوعه من خالد بن الوليد، وبتصريحه عليه الصلاة والسلام بأنها أحلت ساعة من نهار، ونهيه عن التأسي به في ذلك، وأجابوا عن ترك القسمة بأنها لا تستلزم عدم العنوة، فقد تفتح عنوة، ويمنّ على أهلها، ويترك لهم دورهم وغنائمهم, لأن قسمة الأرض المغنومة ليس متفقًا عليها، بل الخلاف ثابت عن الصحابة ومن بعدهم، وقد فتحت أكثر البلاد عنوة، فلم تقسم وذلك في زمن عمر وعثمان مع وجود أكثر الصحابة، وقد زادت مكة عن ذلك بأمر يمكن أن يدعي اختصاصها به دون بقية البلاد، وهي أنها دار النسك ومتعبد الخلق، وقد جعلها الله تعالى حرمًا سواء العاكف فيه والبادي. وأما قول النووي: "احتج الشافعي بالأحاديث المشهورة من أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صالحهم بمر الظهران قبل دخول مكة" ففيه نظر؛ لأن الذي أشار إليه إن كان مراده ما وقع له من قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن كما تقدّم، وكذا من دخل المسجد كما عند ابن إسحاق، فإن ذلك لا يسمى صلحًا إلا إذا التزم من أُشير إليه بذلك الكف عن القتال، والذي ورد في الأحاديث الصحيحة ظاهر في أن قريشًا لم يلتزموا ذلك لأنهم استعدوا للحرب كما ثبت في حديث أبي هريرة عند مسلم أن قريشًا وبشت أوباشًا لها وأتباعًا، فقالوا: تقدم هؤلاء فإن كان لهم شيء كنا معهم وإن أُصيبوا أعطيناه الذي سألنا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أترون أوباش قريش"، ثم قال بإحدى يديه على الأخرى إلى آخر الحديث المار قريبًا، وإن كان مراده بالصلح وقوع عقد به، فهذا لم ينقل، والظن أنه عني الاحتمال الأول، وفيه ما ذكر وتمسك أيضًا من قال أنه آمنهم بما وقع عند ابن إسحاق في سياق قصة الفتح، فقال العباس: أحد بعض المطابة، أو صاحب لبن أو ذا حاجة يأتي مكة فيخبرهم بمكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليخرجوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخلها عنوة، ثم قال في القصة: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن" فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد، وعند موسى بن عقبة في "المغازي" أن أبا سفيان وحكيم بن حزام قالا: يا رسول الله! كنت حقيقًا أن تجعل عدتك

وكيدك بهوازن، فإنهم أبعد رحما وأشد عداوة، فقال: "إني لأرجو أن يجمعها الله لي فتح مكة، وإعزاز الإِسلام بها، وهزيمة هوازن، وغنيمة أموالهم"، فقال أبو سفيان وحكيم: ادعوا الناس بالأمان، أرأيت إن اعتزلت قريش فكفت أيديها أآمنون هم؟ قال: "من كف يده، وأغلق داره فهو آمن"، قالوا: فابعثنا نؤذن فيهم بذلك، قال: "انطلقوا، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل دار حكيم فهو آمن"، ودار أبي سفيان بأعلى مكة، ودار حكيم بأسفلها، فلما توجها قال العباس: يا رسول الله! إني لا آمن أبا سفيان أن يرتد فرده حتى تريه جنود الله، قال: "افعل". فذكر القصة، وفي ذلك تصريح بعموم التأمين، فكان هذا أمانًا منه لكل من لم يقاتل من أهل مكة، فمن ثم قال الشافعي: كانت مكة مأمونة ولم يكن فتحها عنوة، والأمان كالصلح، وأما الذين تعرضوا للقتال أو الذين استثنوا من الأمان وأمر أن يقتلوا ولو تعلقوا بأستار الكعبة فلا يستلزم ذلك أنها فتحت عنوة، ويمكن الجمع بين حديث أبي هريرة في أمره -صلى الله عليه وسلم- بالقتال وبين حديث تأمينه -صلى الله عليه وسلم- لهم بأن يكون التأمين علق على شرط، وهو ترك قريش المجاهرة بالقتال، فلما تفرقوا إلى دورهم ورضوا بالتأمين المذكور لم يستلزم أن أوباشهم الذين لم يقبلوا ذلك، وقاتلوا خالد بن الوليد ومن معه، فقاتلهم حتى قتلهم وهزمهم أن تكون البلد فتحت عنوة؛ لأن العبرة بالأصول لا بالأتباع، وبالأكثر لا بالأقل، ولا خلاف مع ذلك أنها لم يجر فيها قسم غنيمة ولا سبي من أهلها ممن باشر القتال أحد، وهو مما يؤيد قول من قال: لم يكن فتحها عنوة، وعند أبي داود بإسناد حسن عن جابر أنه سئل: هل غنمتم يوم الفتح شيئًا؟ قال: لا وجنحت طائفة -منهم الماوردي- إلى أن بعضها فتح عنوة لما وقع من قصة خالد بن الوليد المذكورة، وقرر ذلك الحاكم في "الإكليل"، والحق أن صورة فتحها كان عنوة ومعاملة أهلها معاملة من دخلت بأمان، ومنع جمع منهم السهيلي ترتب عدم قسمتها، وجواز بيع دورها وإجارتها على أنها فتحت صلحًا. أما أولًا: فلأن الإِمام مخير في قسمة الأرض بين الغانمين إذا انتزعت من الكفار وبين إبقائها وقفًا على المسلمين، ولا يلزم من ذلك منع بيع الدور وإجارتها. وأما ثانيًا: فقال بعضهم: لا تدخل الأرض في حكم الأموال؛ لأن من مضى كانوا إذا غلبوا الكفار لم يغنموا الأموال فتنزل النار فتأكل، أو تصير الأرض عمومًا لهم كما قال الله تعالى: {ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}، وقال: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا}، والمسألة مشهورة، هذا حاصل ما ذكر

في كون مكة فتحت عنوة أو صلحًا. وقوله في آخر الحديث: "فكان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول: لا يرث المؤمن الكافر" في رواية الإسماعيلي، فمن أجل ذلك كان عمر يقول، وهذا القدر الموقوف على عمر قد ثبت مرفوعًا بهذا الإسناد، وهو عند المصنف في المغازي عن محمد بن أبي حفصة ومعمر، عن الزهري، وأخرجه مفردًا في الفرائض عن ابن جريج، ولفظ رواية المغازي: لا يرث المؤمن الكافر ولا السفر المؤمن، ولفظ رواية الفرائض: لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم، ويأتي قريبًا ما فيها من الروايات. وقوله: {أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} الآية، بالنصب يعني: بتمامها أو بتقدير اقرا، يعني أنهم كانوا يفسرون قوله تعالى: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ} بولاية الميراث، أي: يتولى بعضهم بعضًا في الميراث وغيره وكان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالهجرة والنصرة دون الأقارب حتى نسخ الله تعالى ذلك بقوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}، والذي يفهم من الآية المسوقة هنا أن المؤمنين يرث بعضهم بعضًا، ولا يلزم منه أن المؤمن لا يرث الكافر، لكنه مستفاد من بقية الآية المشار إليها بقول المصنف الآية، وهي قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} أي: من توليهم في الميراث لأن الهجرة كانت في أول عهد البعثة من تمام الإيمان، فمن لم يكن مهاجرًا كأنه ليس مؤمنًا، فلهذا لم يرث المؤمن المهاجر من لم يهاجر تقدم لفظ الحديث: "لا يرث المؤمن الكافر"، وأخرجه النسائي بلفظ: "لا يتوارث أهل ملتين"، وجاءت رواية شاذة عن ابن عيينة مثلها، وله شاهد عند الترمذي، عن جابر، وآخر عند أبي يعلى عن عائشة، وثالث من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده في السنن الأربعة، وسند أبي داود فيه إلى عمرو صحيح، وتمسك بها من قال: لا يرث أهل ملة كافرة من أهل ملة أخرى كافرة. وجملها الجمهور على أن المراد بإحدى الملتين الإِسلام وبالأخرى الكفر، فيكون مساويًا للرواية التي بلفظ حديث: وهو أولى من حملها على ظاهر عمومها، حتى يمتنع على اليهودي مثلًا أن يرث من النصراني. ومذهب مالك أن اليهودي والنصراني لا يتوارثان، وما سواهما من الكفر كمجوسي وعابد وثن، ودهري ملّة واحدة يرث بعضهم بعضًا. والأصح عند الشافعية أن الكافر يرث الكافر، وهو قول الحنفية والأكثر ومقابله عن أحمد،

وعنه: التفرقة بين الذمي والحربي، وكذا عند الشافعية، وعن أبي حنيفة: لا يتوارث حربي من ذمي، فإن كانا حربيين شرطا أن يكونا من دار واحدة. وعند الشافعية لا فرق، وعندهم وجه كالحنفية، وعن الثوري وربيعة: وطائفة الكفر ثلاث ملل: يهودية ونصرانية وغيرهم، فلا ترث ملة من هذه من ملة من الملتين، وعن طائفة من أهل المدينة والبصرة: كل فريق من الكفار ملة، فلم يورثوا مجوسيًا، من وثني ولا يهوديًا من نصراني وهو قول الأوزاعي، وبالغ فقال: لا يرث أهل نِحلة من دين واحد أهل نحلة أُخرى منه كاليعقويية والملكية من النصارى. واختلف في المرتد، فقال الشافعي وأحمد: يصير ماله إذا مات فيئًا للمسلمين، وقال مالك: يكون فيئًا إلا إن قصد بردته أن يحرم ورثته المسلمين فيكون لهم، وكذا قال في الزنديق، وعن أبي يوسف ومحمد: لورثته المسلمين، وعن أبي حنيفة: ما كسبه قبل الردة لورثته المسلمين، وبعد الردة لبيت المال، وعن بعض التابعين كعلقمة: يستحقه أهل دينه الذي انتقل إليه، وعن داود: يختص بورثته من أهل الدين الذي انتقل إليه، ولم يفصّل. والحاصل من ذلك ستة مذاهب حررها الماوردي، واحتج القرطبي في "المفهم" لمذهبه بقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} , فهي ملل متعددة، وشرائع مختلفة، وأما ما احتجوا به من قوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} فوحد الملة، فلا حجة فيه لأن الوحدة في اللفظ، وفي المعنى الكثرة لأنه أضافه إلى مفيد الكثرة كقول القائل: أخذ من علماء الدين علمهم، يريد علم كل منهم، قال: واحتجوا بقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، الخ، والجواب أن الخطاب بذلك وقع لكفار قريش، وهم أهل وثن، وأما ما أجابوا به عن حديث: "لا يتوارث أهل ملتين"، بأن المراد ملة الإِسلام، وملة الكفر، فالجواب عنه بأنه إذا صح في حديث أسامة فمردود في غيره، واستدل بقوله: "لا يرث المسلم الكافر" على جواز تخصيص عموم الكتاب بالآحاد؛ لأن قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} عام في الأولاد، فخص منه الولد الكافر، فلا يرث من المسلم بالحديث المذكور، وأجيب بأن المنع حصل بالإجماع، وخبر الواحد إذا حصل الإجماع على وفقه كان التخصيص بالإجماع لا بالخبر فقط، لكن يحتاج من احتج في الشق الثاني به إلى جواب، وقد قال بعض الحذاق: طريق العام هنا قطعي، ودلالته على كل فرد ظنية، وطريق الخاص هنا ظنية، ودلالته عليه قطعية فيتعادلان، ثم يترجح الخاص بأن العمل به يستلزم الجمع بين الدليلين المذكورين بخلاف عكسه، وحديث: "لا يرث المسلم الكافر", قال

رجاله سبعة

البخاري: إذا أسلم قبل أن يقسم الميراث فلا ميراث، فأشار إلى أن عمومه يتناول هذه الصورة، فمن قيد عدم التوارث بالقسمة احتاج إلى دليل, وحجة الجماعة أن الميراث يستحق بالموت، فإذا انتقل عن ملك الميت بموته لم تنتظر قسمته؛ لأنه استحقال في انتقل عنه، ولو لم يقسم المال، قال ابن المنير: صورة المسألة إذا مات مسلم وله ولدان مثلًا، مسلم وكافر، فأسلم الكافر قبل قسمة المال، قال ابن المنذر: ذهب الجمهور إلى الأخذ بما دلّ عليه عمرم حديث أُمامة من أنه لا يرث المسلم الكافر، الخ، إلا ما جاء عن معاذ، قال: "يرث المسلم من الكافر من غير عكس", واحتج بأنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "الإِسلام يزيد وينقص" أخرجه أبو داود وصححه الحاكم عن أبي الأسود الدؤلي، عنه، قال الحاكم: صحيح الإسناد، وتعقب بالانقطاع بين أبي الأسود ومعاذ، ولكن سماعه منه ممكن، وقد زعم الجوزقاني أنه باطل، وهي مجازفة، وقال القرطبي: هو كلام محكي، ولا يروى، كذا قال، وقد رواه من تقدم ذكره، فكأنه ما وقف على ذلك. وأخرج أحمد بن منيع بسند قوي عن معاذ أنه كان يورث المسلم من الكافر بغير عكس، وأخرج مسدد عنه أن أخوين اختصما إليه، مسلم ويهودي مات أبوهما يهوديًا فحاز ابنه اليهودي ماله، فنازعه المسلم، فورّث معاذ المسلم. وأخرج ابن أبي شيبة عن عبد الله بن معقل، قال: ما رأيت قضاءً أحسن من قضاءٍ قضى به معاوية: نرث أهل الكتاب ولا يرثوننا، كما يحل النكاح فيهم ولا يحل لهم، وبه قال مسروق، وسعيد بن المسيب، وإبراهيم النخعي، وإسحاق، وحجة الجمهور أنه قياس في معارضة النص وهو صريح في المراد ولا قياس مع وجوده. وأما الحديث فليس نصًا في المراد بل هو محمول على أنه يفضل غيره من الأديان، ولا تعلق له بالإرث، وقد عارضه قياس آخر وهو أن التوارث يتعلق بالولاية، ولا ولاية بين المسلم والكافر، لقوله تعالى: {لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} بأن الذي يتزوج الحربية ولا يرثها، وأيضًا فإن الدليل ينقلب فيما لو قال الذمي: أرث المسلم لأنه يتزوج إلينا، وفيه قول ثالث، وهو الاعتبار بقسمة الميراث، جاء ذلك عن عمر وعثمان وعكرمة والحسن وجابر بن زيد، وهو رواية عن أحمد، وحديث الباب الذي فيه كلام عمر يرد هذا المعزوّ له. رجاله سبعة: وفيه ذكر عليّ وجعفر وعقيل وأبي طالب، وقد مرَّ الجميع: مرَّ أصبغ في السابع والستين

لطائف إسناده

من الوضوء، ومرَّ ابن وهب في الثالث عشر من العلم، ومرَّ عليّ في السابع والأربعين منه، ومرَّ عقيل في الثامن منه، ومرّ يونس بن يزيد في متابعة بعد الرابع من بدء الوحي، ومرّ ابن شهاب في الثالث منه، ومرَّ علي زين العابدين في الخامس من الغسل، ومرَّ عمرو بن عثمان بن عفان في السابع والأربعين من الجنائز، وجعفر بن أبي طالب في التاسع منها، ومرَّ أُسامة بن زيد في الخامس من الوضوء ومرَّ أبو طالب في الرابع من الاستسقاء، وفيه أيضًا ذكر عمر بن الخطاب، وقد مرَّ في الأول من بدء الوحي، وفيه ذكر طالب المكنى به أبوه، وقد مات كافرًا فقيد مع الوحش. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإخبار بالإفراد والعنعنة والقول، وشيخه من أفراده، ورواته مصريان وأيلي ومدنيون. أخرجه البخاري أيضًا في الجهاد والمغازي، ومسلم في الحج، وكذا أبو داود والنسائي وابن ماجه فيه وفي الفرائض. ثم قال المصنف:

باب نزول النبي -صلى الله عليه وسلم- مكة، أي: موضع نزوله

باب نزول النبي -صلى الله عليه وسلم- مكة، أي: موضع نزوله الحديث الرابع والسبعون حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ أَرَادَ قُدُومَ مَكَّةَ: "مَنْزِلُنَا غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ". قوله: "حين أراد قدوم مكة"، وفي رواية: "الفتح": "حين أراد حنيناً"، ولا منافاة بين الروايتين، إذ معنى حين أراد حنينًا أي: في غزوة الفتح؛ لأن غزوة حنين عقب غزوة الفتح، وفي الرواية التي في الحديث بعد هذا بلفظ: قال وهو بمنى: "نحن نازلون غدًا بخيف بني كنانة" وهذا يدل على أنه قال ذلك في حجته لا في غزوة الفتح، فهو شبيه برواية الفتح في الاختلاف في ذلك، فيحمل قوله: "حين أراد قدوم مكة"، أي: صادرًا من مني إليها لطواف الوداع، ويحتمل التعدد. وقوله: "إن شاء الله تعالى" هو على سبيل التبرك والامتثال للآية. وقوله: "بخيف بني كنانة"، أي: في خَيْف وهو بفتح الخاء المعجمة وسكون الياء، وهو ما انحدر عن غلظ الجبل، وارتفع عن مسيل الماء، وكنانة يأتي الكلام عليها في الذي بعده. وقوله: "حيث تقاسموا على الكفر"، أي: حيث تحالفت قريش على أن لا يبايعوا بني هاشم ولا يناكحوهم ولا يخالطوهم ولا يؤوهم، وحصروهم في الشعب، وكان ذلك أول يوم من المحرم سنة سبع من البعثة لما بلغ قريشًا فعل النجاشي بجعفر وأصحابه وإكرامه لهم، قال إسحاق وموسى بن عقبة وغيرهما من أصحاب المغازي: لما رأت قريش أن الصحابة قد نزلوا أرضًا أصابوا بها أمانًا، وأن عمر أسلم، وأن الإِسلام فشى في القبائل، أجمعوا على أن يقتلوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فبلغ ذلك أبا طالب، فجمع بني هاشم وبني المطلب، فأدخلوا النبي -صلى الله عليه وسلم- شعبهم ومنعوه ممن أراد قتله، فأجابوه لذلك حتى كفّارهم فعلوا ذلك، حميةً على عادة الجاهلية، فلما رأت قريش ذلك أجمعوا أن يكتبوا بينهم وبين بني هاشم والمطلب كتابًا

أن لا يعاملوهم ولا يناكحوهم حتى يسلموا إليهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، ففعلوا ذلك، وعلقوا الصحيفة في جوف الكعبة، وكان كاتبها منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف، فشلت أصابعه، ويقال: إن الذي كتبها هو النضر بن الحارث، وقيل: طلحة بن أبي طلحة العبدري، قال ابن إسحاق: فانحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب، فكانوا معه كلهم إلا أبا لهب، فكان مع قريش، قال ابن إسحاق: فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثًا، وجزم موسى بن عقبة بأنها كانت ثلاث سنين حتى جهدوا, ولم يكن يأتيهم شيء من الأقوات إلا خفية، حتى كانوا يؤذون من اطلعوا على أنه أرسل إلى بعض أقاربه شيئًا من الصلات، إلى أن قام في نقض الصحيفة نفرٌ من أشدهم في ذلك صنيعًا هشام بن عمرو بن الحارث العامري، وكانت أم أبيه تحت هاشم بن عبد مناف قبل أن يتزوجها جده، فكان يصلهم وهم في الشعب، ثم مشى إلى زهير بن أبي أمية، وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب، فكلمه في ذلك فوافقه ومشيا جميعًا إلى المطعم بن عدي، وإلى زمعة بن الأسود، فاجتمعوا على ذلك، فلما جلسوا بالحجر تكلموا في ذلك وأنكروه وتواطؤوا عليه، فقال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل، وفي آخر الأمر أخرجوا الصحيفة فمزقوها، وأبطلوا حكمها، وذكر ابن إسحاق أنهم وجدوا الأرضة قد أكلت جميع ما فيها إلا اسم الله تعالى، وأما ابن إسحاق وموسى بن عقبة فذكروا عكس ذلك أن الأرضة لم تدع اسمًا لله تعالى إلا أكلته، وبقي ما فيها من الظلم والقطيعة. وذكر الواقدي أن خروجهم من الشعب كان في سنة عشر من المبعث، وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين، وقال في "الطبقات": سبب نقض الصحيفة أن الله أطلع نبيه عليه الصلاة والسلام على أمر صحيفتهم، وأن الأرضة أكلت ما كان فيها من جور وظلم وبغي، وبقي ما فيها من اسم الله تعالى، فذكر ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي طالب، فقال أبو طالب لكفار قريش: إن ابن أخي أخبرني ولم يَكْذُبْني قط، إن الله تعالى سلط على صحيفتكم الأرضة، فلحست ما كان فيها من جور وظلم، وبقي ما فيها من ذكر الله تعالى، فإن كان ابن أخي صادقًا نزعتم عن سوء رأيكم، وإن كان كاذبًا دفعته لكم فقتلتموه، أو استحييتموه، قالوا: قد أَنصفتنا رؤوسهم، فقال أبو طالب: علام نحبس ونحصر وقد بأن الأمر، فتلاوم رجال من قريش على ما صنعوا، وهم الأربعة المذكورة آنفًا، وعدي بن قيس، وأبو البحتري بن هاشم، ولبسوا السلاح، ثم خرجوا إلى بني هاشم وبني المطلب، فأمروهم بالخروج إلى مساكنهم، ففعلوا، فلما رأت قريش ذلك سقط في أيديهم وعرفوا أن لن يسلموهم، ومات أبو طالب بعد أن خرجوا بقليل، قال ابن إسحاق: ومات هو وخديجة في عام واحد، فنالت قريش من النبي

رجاله خمسة

-صلى الله عليه وسلم- ما لم تكن تنله في حياة أبي طالب، ولم لم يثبت عند البخاري شيء من هذه القصة، اكتفى بإيراد حديث أبي هريرة؛ لأن فيه دلالة على أصل القصة، والذي أورده أهل المغازي من ذلك كالشرح لقوله في الحديث: "تقاسموا على الكفر"، وإنما اختار النبي -صلى الله عليه وسلم- النزول في ذلك الموضع ليتذكر ما كانوا فيه فيشكر الله تعالى على ما أنعم به عليه من الفتح العظيم، وتمكنهم من دخول مكة ظاهرًا رغم أنف من سعى في إخراجه منها، ومبالغة في الصفح عن الذين أساؤوا ومقابلتهم بالمن والإحسان, ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. رجاله خمسة قد مرّوا: مرَّ أبو اليمان وشعيب في السابع من بدء الوحي، وابن شهاب في الثالث منه، وأبو سلمة في الرابع منه، وأبو هريرة في الثاني من الإيمان. أخرجه البخاري في الهجرة وفي المغازي. الحديث الخامس والسبعون حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا أبو الْوَلِيدُ، حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مِنَ الْغَدِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَهُوَ بِمِنًى: "نَحْنُ نَازِلُونَ غَدًا بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ". يَعْنِي ذَلِكَ الْمُحَصَّبَ، وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا وَكِنَانَةَ تَحَالَفَتْ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَوْ بَنِي الْمُطَّلِبِ أَنْ لاَ يُنَاكِحُوهُمْ، وَلاَ يُبَايِعُوهُمْ حَتَّى يُسْلِمُوا إِلَيْهِمُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-. قوله: "عن أبي سلمة" في رواية مسلم: حدثني أبو سلمة، حدثنا أبو هريرة. وقوله: "يعني ذلك" والأول أصع، والظاهر أن جميع ما بعد قوله: يعني بذلك المحصب إلى آخر الحديث من قول الزهري أدرج في الخبر، فقد رواه شعيب كما في هذا الباب، وإبراهيم بن سعد كما يأتي في السيرة، ويونس كما يأتي في التوحيد، كلهم عن ابن شهاب مقتصرين على الموصول منه إلى قوله: على الكفر، ومن ثمّ لم يذكر مسلم في روايته شيئًا من ذلك. وقوله: "ذلك أن قريشاً وكنانة" فيه إشعار بإن في كنانة من ليس قرشيًا، إذ العطف يقتضي المغايرة، فيترجح القول بأن قريشًا من ولد فهر بن مالك على القول بأنهم من ولد كنانة، نعم لم يعقب النضر غير مالك، ولا مالك غير فهو، فقريش ولد النضر بن كنانة، وأما كنانة فأعقب

رجاله ستة

من غير النضر، فلهذا وقعت المغايرة. وقوله: "علي بني هاشم وبني عبد المطلب أو بني المطلب" كذا وقع عنده بالشك، وعند البيهقي: وبني المطلب بغير شك، فكان الوهم منه، وسيأتي على الصواب في آخر الباب. وقوله: "أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم"، وعند الإسماعيلي: أن لا يكون بينهم وبينهم شيء، وهي أعم، وهذا هو المراد بقوله في الحديث: "على الكفر", وقد مرَّ مستوفى. وقوله: "حتى يسلموا" بضم أوله وإسكان المهملة وكسر اللام. رجاله ستة، قد مرّوا: مرَّ الحميدي في الأول من بدء الوحي، ومرَّ الوليد بن مسلم في السادس والثلاثين من مواقيت الصلاة، ومرَّ الأوزاعي في العشرين من العلم، ومرَّ محل الثلاثة الباقية في الذي قبله. ثم قال: وقال سلامة، عن عقيل ويحيى بن الضحاك، عن الأوزاعي: أخبرني ابن شهاب، وقالا: بني هاشم وبني المطلب. قال أبو عبد الله: بني المطلب أشبه، وقد تابع يحيى ابن الضحاك على الجزم بقوله: "بني هاشم وبني المطلب محمد بن مصعب، عن الأوزاعي، أخرجه أحمد وأبو عوانة أيضًا، وتعليق سلامة وصله ابن خزيمة في صحيحه من طريقه، وتعليق يحيى وصله أبو عوانة في "صحيحه"، والخطيب في "المدرج". ورجال التعليقين خمسة قد مرّوا إلا يحيى، مرَّ سلامة بن روح في تعليق بعد الرابع من الجنائز، ومرَّ عقيل بن خالد في الثالث من بدء الوحي، ومرّ محل ابن شهاب والأوزاعي في الذي قبله، ويحيى هو ابن عبد الله الضحاك البابلتي أبو سعيد الحراني مولى بني أُمية، أصله من الري، وهو ابن امرأة الأوزاعي، قال أحمد بن حنبل: أما السماع فلا يدفع، وقال أبو حاتم: يحمل عليه، وقال ابن أبي حاتم: يأتي عن الثقات بأشياء معضلة يهم فيها فهو ساقط الاحتجاج فيما انفرد به، وقال عبد الله الدورقي: قدم يحيى بن معين حران، فطمع البابلتي أن يجيئه، فوجه إليه بصرَّةٍ فيها ذهب وطعام طيب، فقبل الطعام وردّ الصرة، فلما رحل سألوه عنه، فقال: والله إنَّ صلته لحسنة، وإن طعامه لطيّب إلا أنه لم يسمع والله من الأوزاعي شيئًا. وقال ابن عدي: لِيَحيى البابلتي عن الأوزاعي أحاديث صالحة، وفيها انفرادات، وأثرُ الضعف على حديثه بَيِّنٌ، وقال الخليلي: شيخ مشهور أكثر من الأوزاعي، وطعنوا في سماعه

منه. ليس له في البخاري سوى هذا الوضع. روى عن الأوزاعي، وابن أبي ذيب، وأبي بكر بن أبي مريم، وغيرهم. وروى عنه: ربيبه أبو شعيب عبد الله بن الحسن بن أحمد الحراني، وإبراهيم بن يعقوب الجوزقاني وغيرهم، مات سنة ثماني عشرة ومائتين، والبابلتي في نسبه بباءين موحدتين الثانية مضمومة بعدها لام مضمومة، ثم مثناة من فوق مشددة نسبة إلى بابلت، قيل: اسم جد أبيه، وكان من الملوك، وقال الحاكم أبو أحمد: بابلت قرية بين حران والرقة، وقيل: إنها بالجزيرة. ثم قال المصنف:

باب قول الله عز وجل: {وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني} إلى قوله: {لعلهم يشكرون}

باب قول الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي} إلى قوله: {لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} لم يذكر في هذه الترجمة حديثًا وكأنه أشار إلى حديث ابن عباس في قصة إسكان إبراهيم لهاجر وابنها في مكان مكة، وسيأتي مبسوطًا في أحاديث الأنبياء إن شاء الله تعالى، ووقع في شرح ابن بطّال ضم هذا الباب إلى الذي بعده، فقال بعد قوله: {يَشْكُرُونَ}، وقول الله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} إلى آخره، ثم قال: فيه أبو هريرة، فذكر أحاديث الباب الثاني. ثم قال المصنف:

باب قول الله تعالى: {جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم}

باب قول الله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} كأنه يشير إلى أن قوله: {قِيَامًا}، أي: قوامًا، وأنها ما دامت موجودة فالدين قائم، ولهذه النكتة أورد في الباب قصة هدم الكعبة في آخر الزمان، وقد روى ابن أبي حاتم بإسناد صحيح عن الحسن البصري أنه تلا هذه الآية، فقال: لا يزال الناس على دين ما حجوا البيت واستقبلوا القبلة، وعن عطاء، قال: قيامًا للناس لو تركوه عامًا لم ينظروا أن يهلكوا. الحديث السادس والسبعون حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ الْحَبَشَةِ". قوله: "يخرب الكعبة" فعل ومفعول. وقوله: "ذو السويقتين" فاعل تثنية سويقة، وهي تصغير ساق، أي: له ساقان دقيقان. وقوله: "من الحبشة", أي: رجل من الحبشة؛ والحبشة جنس من السودان، وهم من ولد كوش بن حام، وهم أكثر ملوك السودان، وجميع ممالك السودان يعطون الطاعة للحبش، ووقع في هذا الحديث عند أحمد، عن أبي هريرة بأتم من هذا, ولفظه: "يبايع للرجل بين الركن والمقام، ولن يستحل هذا البيت إلا أهله؛ فإذا استحلوه فلا تسأل عن هلكة العرب، ثم تجيء الحبشة فيخربونه لا يعمر بعده أبدًا، وهم الذين يستخرجون كنزه", ولأبي قرة في "السنن"، عن أبي هريرة، مرفوعًا: "لا يستخرج كنز الكعبة إلا ذو السويقتين من الحبشة", ونحوه لأبي داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وزاد أحمد والطبراني عن مجاهد، عنه: فيسلبها حليتها ويجردها من كسولها كأني انظر إليه أصيلع أو أفيدع، يضرب عليها بمسحاته أو بمعوله، وللفاكهاني عن مجاهد نحوه، وزاد: قال مجاهد: فلما هدم ابن الزبير الكعبة

رجاله ستة

جئت انظر إليه هل أرى الصفة التي قال عبد الله بن عمرو، فلم أرها، قيل: هذا الحديث يخالف قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا}؛ ولأن الله حبس عن مكة الفيل، ولم يمكن أصحابه من تخريب الكعبة، ولم تكن إذ ذاك قبلة، فكيف يسلط عليها الحبشة بعد إن صارت قبلة للمسلمين، وأجيب بأن ذلك محمول على أنه يقع في آخر الزمان قرب قيام الساعة، بحيث لا يبقى في الأرض أحد يقول: "الله الله"، كما ثبت في "صحيح مسلم": "لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله"، ولهذا وقع في رواية سعيد بن سمعان: لا يعمر بعده أبدًا، قلت: وأوضح من هذا الجواب أن عدم تسليط أصحاب الفيل عليه كان لوجود النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك، وإقامة الدين في هذه المدة الطويلة، وتسليط الحبشة عليه كان لخراب الدين وانقضائه، وقد وقع قبل ذلك فيه من القتال وغزو أهل الشام له في زمن يزيد بن معاوية، ثم من بعده في وقائع كثيرة من أعظمها وقعة القرامطة بعد الثلاثمائة، فقتلوا من المسلمين في المطاف من لا يحصى كثرةً، وقلعوا الحجر الأسود، فحولوه إلى بلادهم، ثم أعادوه بعد مدة طويلة، ثم غُزِي مرارًا بعد ذلك، وكل ذلك لا يعارض قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا}؛ لأن ذلك إنما وقع بأيدي المسلمين، فهو مطابق لقوله عليه الصلاة والسلام: "ولن يستحل هذا البيت إلا أهله" فوقع ما أخبر به -صلى الله عليه وسلم- وهو من علامات نبوته وليس في الآية ما يدل على استمرار الأمن المذكور فيها، وسيأتي في الباب الذي بعد باب زيادة في هذا، قلت: ما جاء في الأحاديث السابقة من أن ذا السويقتين يستخرج كنز الكعبة لا أدري معناه؛ لأن الكعبة الآن، ومنذ مدة طويلة لا كنز لها اللهم إلا تكون يطرأ لها كنز. رجاله ستة: مرَّ منهم علي ابن المديني في الرابع عشر من العلم، ومرَّ ابن عيينة في الأول من بدء الوحي، ومرَّ الزهري في الثالث منه، وابن المسيب في التاسع عشر من الإيمان, وأبو هريرة في الثاني منه، والباقي زياد بن سعد بن عبد الرحمن الخراساني أبو عبد الرحمن، سكن مكة، ثم تحول إلى اليمن، فسكن قرية يقال لها: عك، وكان شريك ابن جريج، قال مالك: حدثنا زياد بن سعد، وكان ثقة من أهل خراسان؛ سكن مكة وقدم علينا المدينة، وكان له هيئة وصلاح، وقال ابن عيينة: كان عالمًا بحديث الزهري، وكان أثبت أصحاب الزهري، وقال أحمد وابن معين وأبو زرعة وأبو حاتم: ثقة، وقال النسائي: ثقة ثَبْت، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان من الحفاظ المتقنين، وقال الخليلي: ثقة يحتج به، وقال ابن المديني: كان من أهل التثبت في العلم، وقال العجلي: مكي ثقة، روى عن: الزهري

الحديث السابع والسبعون

وثابت بن عياض الأحنف وأبي الزناد وغيرهم. وروى عنه: مالك وابن عيينة وابن جريج وغيرهم. والحديث أخرجه مسلم في الفتن، والنسائي في الحج والتفسير. الحديث السابع والسبعون حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها (ح). وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ، هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: كَانُوا يَصُومُونَ عَاشُورَاءَ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ رَمَضَانُ، وَكَانَ يَوْمًا تُسْتَرُ فِيهِ الْكَعْبَةُ، فَلَمَّا فَرَضَ اللَّهُ رَمَضَانَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ شَاءَ أَنْ يَصُومَهُ فَلْيَصُمْهُ، وَمَنْ شَاءَ أَنْ يَتْرُكَهُ فَلْيَتْرُكْهُ". المقصود من هذا الحديث هنا قوله في هذه الطريق: "وكان يومًا تستر فيه الكعبة"، فإنه يفيد أن أهل الجاهلية كانوا يعظمون الكعبة قديمًا بالستور، ويقومون بها، وعرف بهذا جواب الإسماعيلي في قوله: "ليس في الحديث شيء مما ترجم به سوى بيان اسم الكعبة المذكور في الآية". ويستفاد من الحديث أيضًا معرفة الوقت الذي كانت الكعبة تُكْسَى فيه من كل سنة وهو يوم عاشوراء، وكذا ذكر الواقدي بإسناد، عن أبي جعفر الباقر أن الأمر استمر على ذلك في زمانهم، ثم تغير ذلك بعدد، فصارت تكسى في يوم النحر، وصاروا يعمدون إليه في ذي القعدة فيعلقون كسوته إلى نحو نصفه، ثم صاروا يقطعونها، فيصير البيت كهيئة المحرم، فإذا حل الناس يوم النحر كسوه الكسوة الجديدة، وقد قال الإسماعيلي: إن البخاري جمع بين رواية عقيل وابن أبي حفصة في المتن، وليس في رواية عقيل ذكر الستر، ثم ساقه بدونه عن عقيل، وهو كما قال، وعادة البخاري التجوز في مثل هذا، وقد رواه الفاكهاني عن ابن أبي حفصة، فصرح بسماع الزهري له من عروة. وقوله: "كانوا يصومون عاشوراء قبل أن يفرض رمضان، فلما فرض رمضان قال: "من شاء أن يصومه فليصمه، ومن شاء أن يتركه فليتركه"، وفي روايتها الآتية في آخر الصوم: كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصومه في الجاهلية، فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان ترك يوم عاشوراء، فمن شاء صامه، ومن

شاء تركه، وأفادت هذه الرواية تعيين الوقت الذي وقع فيه الأمر بصيام عاشوراء، وقد كان أول قدومه للمدينة، ولا شك أن قدومه كان في ربيع الأول فحينئذ كان الأمر بذلك في أول السنة الثانية. وفي السنة الثانية فرض شهر رمضان، فعلى هذا لم يقع الأمر بصيام عاشوراء إلا في سنة واحدة، ثم فوض الأمر في صومه إلى رأي المتطوع، فعلى تقدير صحة قول من يدعي أنه كان قد فرض، فقد نسخ فرضه بهذه الأحاديث الصحيحة. وقد نقل عياض أن بعض السلف كان يرى بقاء فرضية عاشوراء، لكن انقرض القائلون بذلك، ونقل ابن عبدالبر الإجماع على أنه الآن ليس بفرض، والإجماع على أنه مستحب، وكان ابن عمر يكره قصده بالصوم، ثم انقرض القول بذلك، وأما صيام قريش لعاشوراء فلعلهم تلقوه من الشرع السالف، ولهذا كانوا يعظمونه بكسوة الكعبة فيه كما مرَّ، وفي المجلس الثالث من مجالس الباغندي عن عكرمة أنه سئل عن ذلك، فقال: أذنبت قريش ذنبأ في الجاهلية، فعظم في صدورهم، فقيل لهم: صوموا عاشوراء يكفر ذلك، وعاشوراء بالمد على المشهور، وحكي فيه القصر، وزعم ابن دريد أنه إسلامي، وأنه لا يعرف في الجاهلية، ورد ذلك عليه بأن ابن العرابي حكى أنه سمع في كلامهم خابوراء، وبقول عائشة: إن أهل الجاهلية كانوا يصومونه، وهذا الأخير لا دلالة فيه على ما قال ابن دريد، واختلف أهل الشرع في تعيينه، فقال الأكثر: هو اليوم العاشر، قال القرطبي: عاشوراء معدول عن عاشرة للمبالغة والتعظيم، وهو في الأصل صفة لليلة العاشرة لأنه مأخوذ من العشر الذي هو اسم العقد، واليوم مضاف إليها، فإذا قيل: يوم عاشوراء، فكأنه قيل: يوم الليلة العاشرة، إلا أنهم لما عدلوا به عن الصفة، غلبت عليه الإسمية، فاستغنوا عن الموصوف، فحذفوا الليلة، فصار هذا اللفظ عَلَمًا على اليوم العاشر، وذكر أبو منصور الجواليقي أنه لم يسمع فاعولاء إلا هذا وضاروراء وساروراء ودالولاء، من الضار والسار والدالّ، وعلى هذا فيوم عاشوراء هو العاشر، وهذا قول الخليل وغيره. وقال الزين بن المنير: الأكثر على أن عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر الله المحرم، وهو مقتضى الاشتقاق والتسمية. وقيل: هو اليوم التاسع، فعلى الأول فاليوم مضاف لليلته الماضية، وعلى الثاني هو مضاف لليلته الآتية. وقيل: إنما سمي يوم التاسع عاشوراء أخذًا من إوراد الإبل كانوا إذا رعوا الإبل ثمانية

رجاله تسعة

أيام، ثم أوردوها في التاسع، قالوا: أوردنا عِشرًا بكسر العين، وكذلك إلى الثلاثة، وروى مسلم عن الحكم بن الأعرج: انتهيت إلى ابن عباس وهو متوسد رداءه، فقلت: أخبرني عن يوم عاشوراء؟ قال: إذا رأيت هلال المحرم فاعدد وأصبح يوم التاسع صائمًا، قلت: هكذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصومه؟ قال: نعم، وهذا ظاهره أن يوم عاشوراء هو اليوم التاسع لكن قال الزين بن المنير: قوله: "إذا أصبحت من تاسعه فأصبح؛ يشعر بأنه أراد العاشر لأنه لا يصبح صائمًا بعد أن أصبح من تاسعه إلا إذا نوى الصوم من الليلة المقبلة، وهي الليلة العاشرة، ويقوي هذا الاحتمال ما رواه مسلم أيضًا عن ابن عباس أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: "لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع، فمات قبل ذلك، فإنه ظاهر في أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يصوم العاشر وهمّ بصوم التاسع، فمات قبل ذلك، ثم ما هم به من صوم التاسع يحتمل معناه أنه لا يقتصر عليه بل يضيفه إلى اليوم العاشر إما احتياطًا له، وإما مخالفة لليهود والنصارى، وهو الأرجح، وبه يشعر بعض روايات مسلم، ولأحمد من وجه آخر عن ابن عباس مرفوعًا: "صوموا يوم عاشوراء، وخالفوا اليهود، صوموا يومًا قبله ويومًا بعده"، وهذا كان في آخر الأمر، وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، ولاسيما إذا كان فيما يخالف فيه أهل الأوثان، فلما فتحت مكة، واشتهر أمر الإِسلام أحب مخالفة أهل الكتاب أيضًا، كما ثبت في الصحيح فهذا من ذلك فوافقهم أولًا، وقال: "نحن أحق بموسى منكم"، ثم أحب مخالفتهم فأمر أن يضاف إليه يوم قبله ويوم بعده خلافًا لهم، ويؤيده رواية الترمذي بلفظ: أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بصيام عاشوراء يوم العاشر، وقال بعض أهل العلم: قوله -صلى الله عليه وسلم- في "صحيح مسلم": "لئن عشت إلى قابل لأصومنَّ التاسع" يحتمل أمرين: أحدهما: أنه أراد نقل العاشر إلى التاسع. والثاني: أراد أن يضيفه إليه في الصوم، فلما توفي -صلى الله عليه وسلم- قبل بيان ذلك كان الاحتياط صوم اليومين، وعلى هذا فصيام عاشوراء على ثلاث مراتب أدناها أن يصام وحده، وفوقه أن يصام التاسع معه، وفوقه أن يصام التاسع والحادي عشر معه. رجاله تسعة، قد مرّوا: مرَّ يحيى بن بكير والليث وعقيل وابن شهاب في الثالث من بدء الوحي، وعروة وعائشة في الثاني، وعبد الله بن المبارك في السادس منه، ومحمد بن مقاتل في السابع من العلم، ومحمد بن أبي حفصة في تعليق بعد الثالث والعشرين من مواقيت الصلاة.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإفراد والإخبار بالجمع والإفراد والعنعنة والقول، ورواته: مصريان وايلي ومدنيان ومروزيان وبصري. الحديث الثامن والسبعون حَدَّثَنَا أَحْمَدُ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ حَجَّاجٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عُتْبَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: لَيُحَجَّنَّ الْبَيْتُ وَلَيُعْتَمَرَنَّ بَعْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ. قوله: "ليحجن البيت" بضم أوله وفتح المهملة والجيم ونون التوكيد. رجاله سبعة، مرت منهم خمسة: مرَّ إبراهيم بن طهمان في التاسع والعشرين من كتاب الغسل، ومرَّ حجاج بن حجاج في تعليق بعد العشرين من التقصير، ومرَّ قتادة بن دعامة في السادس من الإيمان، ومرَّ أبو سعيد الخدري في الثاني عشر منه، ومرَّ عبد الله بن أبي عتبة في الرابع والثلاثين من العيدين. والباقي اثنان: الأول: أحمد بن أبي عمرو؛ واسم أبي عمرو: حفص بن عبد الله بن راشد السلمي النيسابوري، قال النسائي: لا بأس به، صدوق، قليل الحديث، وقال مسدد بن قطن: ما رأيت أحدًا أتم منه صلاة، وأمر مسلم بالكتابة عنه، وقال النسائي أيضًا: ثقة روى عن أبيه، والحسن بن الوليد القرشي، والجارود بن يزيد العامري وغيرهم، وروى عنه البخاري وأبو داود والنسائي ومسلم في غير "الصحيح"، وأبو عوانة وغيرهم، قال المستملي: مات ليلة الأربعاء لأربع خلون من المحرم سنة ثمان وخمسين ومائتين، وخيل لي أن الميدان امتلأ من الخلق. الثاني: أبوه حفص بن عبد الله بن راشد السلمي أبو عمرو، وقيل: أبو سهل قاضي نيسابور، قال أحمد بن سلمة: كان كاتب الحديث لإبراهيم بن طهمان، وقال محمد بن عقيل: كان قاضيًا عشرين سنة بالأثر، ولا يقضى بالرأي ألبتة، وقال أبو حاتم: هو أحسن حالًا من حفص بن عبد الرحمن، وقال النسائي: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال قطن بن إبراهيم: سمعته يقول: ما أقبح بالشيخ المحدث يجلس للقوم فيحدث من كتاب، وقال محمد بن عبد الوهاب عن حفص: قال لي إبراهيم بن طهمان: كأني بك يا أبا عمرو قد استقضيت، روى عن إبراهيم بن طهمان في نسخة، وعن إسرائيل بن يونس، وعن

لطائف إسناده

أبيه يونس، وابن أبي ذيب وغيره. وروى عنه ابنه وقطن بن إبراهيم، ومحمد بن عقيل الخزاعي وغيرهم، مات يوم السبت لخمس بقين من شعبان سنة تسع ومائتين. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع، والعنعنة، وشيخه من أفراده، ورواته نيسابوريان وهروي نيسابوري وبصريون. ثم قال: تابعه أبان وعمران عن قتادة، فقال عبد الرحمن، عن شعبة، قال: "لا تقوم الساعة حتى لا يحج البيت", والأول: أكثر سمع قتادة عبد الله وعبدالله أبا سعيد قوله: عن قتادة، أي: على لفظ المتن، وقد تابع هؤلاء سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، أخرجه عبد بن حميد، عن روح بن عبادة، عنه، ولفظ: أن الناس ليحجوه ويعتمرون ويغرسون النخل بعد خروج يأجوج ومأجوج. وقوله: "فقال عبد الرحمن: عن شعبة"، يعني قتادة بهذا السند، وقوله: "لا تقوم الساعة حتى لا يحج البيت"، وصله الحاكم عن أحمد بن حنبل، عنه، قال البخاري: والأول أكثر أي: لاتفاق من تقدم ذكره على هذا اللفظ، وانفراد شعبة بما يخالفهم، وإنما قال ذلك لأن ظاهرهما التعارض لأن المفهوم من الأول أن البيت يحج بعد أشراط الساعة، ومن الثاني أنه لا يحج بعدها, ولكن يمكن الجمع بين الحديثين بأنه لا يلزم من حج الناس بعد خروج يأجوج ومأجوج أن يمتنع الحج في وقتٍ ما عند قرب ظهور الساعة، ويظهر -والله أعلم- أن المراد بقوله: "ليحجن البيت"، أي: مكان البيت لما مرَّ من أن الحبشة إذا خربوه لم يعمر بعد ذلك، قلت: لا يلزم أن يكون المراد بالبيت مكانه لإمكان أن يكون التخريب متأخرًا عن زمن الحج، وبعد التخريب لا يحصل حج، وقد مرَّ في الجواب عن معارضة الحديث لآية: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا} الخ، أن هذا التخريب حين لا يبقى على وجه الأرض من يقول: الله الله، وقول البخاري: سمع قتادة عبد الله بن أبي عتبة، وعبد الله سمع أبا سعيد الخدري، غرضه منه هو أنه لم يقع فيه تدليس، وهل أراد بهذا أن كُلاًّ منهما سمع هذا الحديث بخصوصه أو في الجملة؟ فيه احتمال، وقد جاء عن عبد الرحمن بن مهدي، عن شعبة مصرحًا بسماع قتادة من عبد الله بن أبي عتبة في حديث: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أشدَّ حياءً من العذراء في خدرها"، وهو عند أحمد وعند أبي عوانة في "مستخرجه" من وجه آخر. أما متابعة أبان فوصلها الإِمام أحمد عن عفان وغيره.

وأما متابعة عمران فوصلها أحمد أيضًا عن سليمان بن داود الطيالسي وأبو يعلى وابن خزيمة. ورجال المتابعتين ثلاثة: مرَّ أبان بن يزيد العطار في تعليق بعد السابع والثلاثين من الإيمان, ومرّ قتادة في السادس منه وعمران هو ابن داود بفتح الواو العمي أبو العوام القطان البصري، قال عمرو بن علي: كان ابن مهدي يحدث عنه، وكان يحيى لا يحدث عنه، وقد ذكره يحيى يومًا فأحسن الثناء عليه، وقال أحمد: أرجو أن يكون صالح الحديث، وقال ابن معين: ليس بالقوي، وقال مرة: ليس بشيء، لم يرو عنه يحيى بن سعيد، وقال أبو داود: هو من أصحاب الحسن، وما سمعت إلا خيرًا، وقال مرة: ضعيف أفتى في أيام إبراهيم بن عبد الله بن حسن بفتوى شديدة فيها بسفك الدماء، وذلك أن إبراهيم بن عبد الله بن حسن لما خرج يطلب الخلافة استفتاه عن شيء فأفتاه بفتيا قتل فيها رجال مع إبراهيم، وأخوه محمد خرجا على المنصور في طلب الخلافة لأن المنصور كان في زمن بني أمية بايع محمدًا بالخلافة، فلما زالت دولة بني أممة وولي المنصور الخلافة تطلب محمد فقدر فألح في طلبه، فظهر بالمدينة ويايعه قوم، وأرسل أخاه إبراهيم إلى البصرة، فملكها، وبايعه قوم، فقد أنهما قتلا، وقتل معهما جماعة كثيرة، وقال النسائي: ضعيف، وقال ابن عدي: هو يكتب حديثه، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال الساجي: صدوق وثّقه عفان، وقال العجلي: بصري ثقة، وقال الحكم: صدوق، وأورد له العقيلي، عن قتادة عن سعيد بن أبي الحسن، عن أبي هريرة حديث: "ليس شيء أكرم على الله من الدعاء", قال: لا يتابع عليه بهذا اللفظ، ولا يعرف إلا به، وقال البخاري: صدوق يهم، وقال ابن شاهين في "الثقات": كان من أخص الناس بقتادة، وقال الدارقطني: كان كثير المخالفة والوهم، روى عن قتادة ومحمد بن سيرين، وأبي جمرة الضبعي وغيرهم، وروى عنه ابن مهدي وأبو داود الطيالسي ومسلم بن قتيبة وغيرهم. ثم قال المصنف: وعبد الرحمن المراد به ابن مهدي، وقد مرَّ في الأول من استقبال القبلة، ومرَّ شعبة في الثالث من الإيمان. ثم قال المصنف:

باب كسوة الكعبة

باب كسوة الكعبة أي: حكمها في التصرف فيها ونحو ذلك الحديث التاسع والسبعون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا وَاصِلٌ الأَحْدَبُ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، قَالَ: جِئْتُ إِلَى شَيْبَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ وَاصِلٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، قَالَ: جَلَسْتُ مَعَ شَيْبَةَ عَلَى الْكُرْسِيِّ فِي الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: لَقَدْ جَلَسَ هَذَا الْمَجْلِسَ عُمَرُ رضي الله عنه فَقَالَ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ لاَ أَدَعَ فِيهَا صَفْرَاءَ وَلاَ بَيْضَاءَ إِلاَّ قَسَمْتُهُ. قُلْتُ: إِنَّ صَاحِبَيْكَ لَمْ يَفْعَلاَ؟. قَالَ: هُمَا الْمَرْآنِ أَقْتَدِى بِهِمَا. قوله: "على الكرسي" في رواية عبد الرحمن بن محمد المحاربي عند ابن ماجه والطبراني بهذا السند: بعث معي رجل بدراهم هدية إلى البيت، فدخلت البيت وشيبة جالس على كرسي، فناولته إياها، فقال: لك هذه فقلت: لا, ولو كانت لي لم آتك بها. وقوله: "صفراء ولا بيضاء"، أي: ذهبًا ولا فضة، قال القرطبي: غلط من ظن أن المراد بذلك حلية الكعبة، وإنما أراد الكنز الذي بها وهو ما كان يهدى إليها ويدخر ما يزيد على الحاجة، وأما الحلي فمحبسة عليها كالقناديل، فلا يجوز صرفها في غيرها، وقال ابن الجوزي: كانوا في الجاهلية يهدون إلى الكعبة المال تعظيمًا لها فيجتمع فيها. وقوله: "إلا قسمته"، أي: المال، وفي رواية عمر بن شبّة في "كتاب مكة": إلا قسمتها، وفي رواية عبد الرحمن بن مهدي عند المصنف في "الاعتصام": إلا قسمتها بين المسلمين، وعند الإسماعيلي: لا أخرج حتى أقسم مال الكعبة بين فقراء المسلمين. وقوله: "قلت: إن صاحبيك لم يفعلا" في رواية ابن مهدي، قلت: ما أنت بفاعل؟ قال: لم قلت: لم يفعله صاحباك؟ وعند الإسماعيلي والمحاربي، قال: ولم ذلك؟ قلت: لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد رأى مكانه، وأبو بكر، وهما أحوج منك إلى المال، ولم يحركاه.

وقوله: "هما المرآن" تثنية مرء بفتح الميم، ويجوز ضمها، والراء سكنة على كل حال بعدها همزة، أي: الرجلان. وقوله: "أقتدي بهما" في رواية عمر بن شبة تكرير قوله: "المرآن أقتدي بهما"، وفي رواية ابن مهدي في "الاعتصام": "يقتدى بهما" على البناء للمجهول، وعند الإسماعيلي والمحاربي: فقام كما هو وخرج ودار نحو هذه القصة بين عمر أيضا وأُبّي بن كعب، أخرجه عبد الرزاق وعمر بن شبة، عن الحسين أن عمر أراد أن يخرج كنز الكعبة فينفقه في سبيل الله، فقال له أبي بن كعب: قد سبقك صاحباك، فلو كان فضلاً لفعلاه، لفظ عمر بن شبة، ولفظ عبد الرزاق: فقال أبيّ بن كعب: والله ما ذاك لك، قال: ولم؟ قال: أقره رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال ابن بطال: أراد عمر إنفاقه في منافع المسلمين لكثرته، ثم لما ذكر بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يتعرض له أمسك، وإنما تركا ذلك -والله تعالى أعلم- لأن ما جعل في الكعبة وسبل لها يجري مجرى الأوقاف، فلا يجوز تغييره عن وجهه، وفي ذلك تعظيم الإِسلام وترهيب العدو، أما التعليل الأول فليس بظاهر من الحديث لاحتمال أن يكون تركه عليه الصلاة والسلام لذلك رعاية لقلوب قريش، كما ترك بناء الكعبة على قواعد إبراهيم، ويؤيده ما في بعض طرق حديث عائشة عند مسلم في بناء الكعبة: لأنفقت كنز الكعبة، ولفظه: "لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله، ولجعلت بابها بالأرض"، الحديث، وهذا التعليل هو المعتمد. وحكى الفاكهاني في "كتاب مكة" أنه عليه الصلاة والسلام وجد فيها يوم الفتح ستين أوقية، فقيل: لو استعنت بها على حربك فلم يحركه، وعلى هذا فإنفاته جائز كما لابن الزبير بناؤها على قواعد إبراهيم لزوال سبب الامتناع، ولولا قوله في الحديث: "في سبيل الله" لأمكن أن يحمل الإنفاق على ما يتعلق بها فيرجع إلى أن حكمه حكم التحبيس، ويمكن أن يحمل قوله: "في سبيل الله" على ذلك؛ لأن عمارة الكعبة يصدق عليه أنه في سبيل الله، واستدل التقي السبكي بحديث الباب على جواز تعليق قناديل الذهب والفضة في الكعبة، ومسجد المدينة، فقال: هذا الحديث عمدة في مال الكعبة، وهو ما يهدى إليها، أو ينذر لها، قال: وأما قول الرافعي: لا يجوز تحلية الكعبة بالذهب والفضة، ولا تعليق قناديلها فيها، حكى الوجهين في ذلك: أحدهما الجواز تعظيمًا كما في المصحف، والآخر: المنع إذ لم ينقل من فعل السلف، فهذا مشكل لأن للكعبة من التعظيم ما ليس لبقية المساجد بدليل سترها بالحرير والديباج، وفي جواز ستر المساجد بذلك خلاف من تمسك للجواز بما وقع

في أيام الوليد بن عبد الملك من تذهيبه سقوف المسجد النبوي، قال: ولم ينكر ذلك عمر بن عبد العزيز ولا أزاله في خلافته، ثم استدل للجواز بأن استعمال الذهب والفضة إنما هو فيما يتعلق بالأواني المعدة للأكل والشرب ونحوهما، قال: وليس في تحلية المساجد بالقناديل الذهب شيء من ذلك، وقد قال الغزالي: من كتب القرآن بالذهب فقد أحسن؛ فإنه لم يثبت في الذهب إلا تحريمه على الأمة فيما ينسب للذهب، وهذا بخلافه، فيبقى على أصل الحل ما لم ينته إلى الإسراف، وتعقب بأن تجويز ستر الكعبة بالديباج قام عليه الإجماع. وأما التحلية بالذهب والفضة فلم ينقل عن فعل من يقتدى به، والوليد لا حجة في فعله، وترك عمر بن عبد العزيز النكير أو الإزالة يحتمل عدة معاني، فلعله كان لا يقدر على الإنكار خوفًا من سطوة الوليد، ولعله لم يزلها؛ لأنها لا يتحصل منها شيء، ولاسيما إن كان الوليد جعل في الكعبة صفائح، فلعله رأى أن تركها أولى لأنها لا يتحصل منها شيء، ولاسيما إن كان الوليد جعل في الكعبة صفائح، فلعله رأى أن تركها أولى لأنها صارت في حكم المال الموقوف فكأنه أحفظ لها من غيره، وربما أدى قلعه إلى إزعاج بناء الكعبة فتركه، ومع هذه الاحتمالات لا يصلح الاستدلال بذلك للجواز، قاله في "الفتح". قلت: الوليد لم يذكر عنه تحلية الكعبة وإنما ذكر عنه تحلية سقوف المسجد النبوي فتأمل. وقوله: "إن الحرام من الذهب" إنما هو استعماله في الأكل والشرب، الخ، هو متعقب بأن استعمال كل شيء بحسبه، واستعمال قناديل الذهب للزينة، وأما استعمالها للايقاد فممكن على بعد، وتمسكه بما قاله الغزالي يشكل عليه بأن الغزالي قيده بما لم ينته إلى الإسراف، والقنديل الواحد من الذهب يكفي تحلية عدة مصاحف، وقد أنكر السبكي على الرافعي تمسكه في المنع يكون ذلك لم ينقل عن السلف، وجوابه أن الرافعي تمسك بذلك مضمومًا إلى شيء آخر، وهو أنه قد صح النهي عن استعمال الحرير والذهب، فلما استعمل السلف الحرير في الكعبة دون الذهب مع عنايتهم بها وتعظيمها، دل على أنه بقي عندهم على عموم النهي، وقد نقل الشيخ الموفق الإجماع على تحريم استعمال أواني الذهب والقناديل من الأواني بلا شك، واستعمال كل شيء بحسبه، وقد قال الإسماعيلي: ليس في حديث الباب لكسوة الكعبة ذكر يعني، فلا يطابق الترجمة، وقال ابن بطال: معنى الترجمة صحيح ووجهها أنه معلوم أن الملوك في كل زمان كانوا يتفاخرون بكسوة الكعبة برفيع الثياب المنسوجة بالذهب وغيره، كما يتفاخرون بتسبيل الأموال لها، فأراد البخاري أن عمر لما رأى

قسمة الذهب والفضة صوابًا، كان حكم الكسوة حكم المال تجوز قسمتها، بل ما فضل من كسوتها أولى بالقسمة، وقال ابن المنير: يحتمل أن يكون مقصوده التنبيه على أن كسوة الكعبة مشروع، والحجة فيه أنها لم تزل تقصد بالمال يوضع فيها على وجه الزينة إعظامًا لها، فالكسوة من هذا القبيل، قال: ويحتمل أن يكون أراد ما في بعض طرق الحديث كعادته، ويكون هناك طريق موافقة للترجمة إما لخلل شرطها، وإما لتبحر الناظر في ذلك، وإذا تقرر ذلك فيحتمل أن يكون أخذه من قول عمر: لا أخرج حتى أقسم مال الكعبة، فالمال يطلق على كل شيء، فتدخل فيه الكسوة. وقد ثبت في الحديث: "ليس لك من مالك إلا ما لبست فأبليت"، قال: ويحتمل أيضًا، فذكر نحو ما قال ابن بطال، وزاد: فأراد التنبيه على أنه موضع اجتهاد وأن رأي عمر جواز التصرف في المصالح، وأما الترك الذي احتج به عليه شيبة فليس صريحًا في المنع، والذي يظهر جواز قسمة الكسوة العتيقة إذ في بقائها تعريض لإتلافها, ولا جمال في كسوة عتيقة مطوية، قال: ويؤخذ من رأي عمر أن صرف المال في المصالح آكد من صرفه في كسوة الكعبة، لكن الكسوة في هذه الأزمنة أهم، قال: واستدلال ابن بطال بالترك على إيجاب بقاء الأحباس لا يتم إلا إن كان القصد بمال الكعبة إقامتها، وحفظ أصولها إذا احتيج إلى ذلك، ويحتمل أن يكون القصد منه منفعة أهل الكعبة وسدنتها أو إرصاده لمصالح الحرم أو لأعم من ذلك، وعلى كل تقدير فهو تحبيس لا نظير له، فلا يقاس عليه، ولشى في شيء من طريق حديث شيبة هذا ما يتعلق بالكسوة إلا أنَّ الفاكهاني روى في "كتاب مكة" عن علقمة بن أبي علقمة، عن أمه، عن عائشة، رضي الله تعالى عنها، قالت: دخل علي شيبة الحجبي، فقال: يا أم المؤمنين، إن ثياب الكعبة تجتمع عندنا فتكثر، فننزعها ونحفر بيرًا فنعمقها وندفنها لكي لا تلبسها الحائض والجنب، قالت: بئسما صنعت، ولكن بعها فاجعل ثمنها في سبيل الله وفي المساكين، فإنها إذا نزعت عنها لم يضر من لبسها من حائض أو جنب، فكان شيبة يبعث بها إلى اليمن فتباع له، فيضعها حيث أمرته. وأخرجه البيهقي، لكن في إسناده ضعيف، وإسناد الفاكهاني سالم منه. وأخرج الفاكهاني أيضًا عن ابن خيثم، قال: حدثني رجل من بني شيبة، قال: رأيت شيبة بن عثمان يقسِّمُ ما سقط من كسوة الكعبة على المساكين، وأخرج عن ابن أبي نجيح، عن أبيه أن عمر كان ينزع كسوة الكعبة كل سنة فيقسمها على الحاج، فلعل البخاري أشار إلى شيء من ذلك، وقد اختلف في الكسوة هل يجوز التصرف فيها بالبيع ونحوه، فقال

الفضل بن عبدان من الشافعية: لا يجوز قطع شيء من أستار الكعبة، ولا نقله ولا بيعه ولا شراؤه، ولا وضعه بين أوراق المصحف، ومن حمل من ذلك شيئًا لزمه رده، وأقره الرافعي عليه، وقال ابن فرحون من المالكية: وهذا على وجه الاستحسان، والنصوص تخالفه، وقال الباجي: وقد استخف مالك شراء كسوة الكعبة، وقال ابن الصلاح: أمْرُ ذلك إلى الإِمام يصرفه في بعض مصارف بيت المال بيعًا وعطاءً, واحتج بما مرَّ قريبًا عن عمر بن الخطاب، قال النووي: وهو حسن متعين: لئلا تتلف بالبلى، وبه قال ابن عباس وعائشة وأم سلمة، وجوزوا لمن أخذها لبسها, ولو حائضًا أو جنبًا، ونبه في "المهمات" على أن ما قاله النووي هنا مخالف لما وافق عليه الرافعي في آخر الوقف من تصحيح أنها تباع إذا لم يبق فيها جمال، ويصرف ثمنها في مصالح المسجد. ثم قال: واعلم أن للمسألة أحوالًا: أحدها: أن توقف على الكعبة، وحكمها ما مرَّ، وخطأه غيره بأن الذي مرَّ محله فيما إذا كساها الإِمام من بيت المال، أما إذا وقفت فلا يتعقل عالم جواز صرفها في مصالح غير الكعبة. ثانيها: أن يملكها مالكها للكعبة فلقيّمها أن يفعل فيها ما يراه من تعليقها عليها أو بيعها وصرف ثمنها في مصالحها. ثالثها: أن يوقف شيء على أن يؤخذ ربعه، وتكسى به الكعبة كما في هذا العصر، فإن الإِمام قد وقف على ذلك بلادًا، قال: وقد تلخص لي في هذه المسألة أنه إن شرط الواقف عليها شيئًا من بيع أو عطاء لأحد أو غير ذلك فلا كلام، وإن لم يشترط شيئًا نظر إن لم يقف الناظر تلك فله بيعها وصرف ثمنها في كسوة أخرى، وإن وقفها فيأتي فيه ما مرَّ من الخلاف في البيع، نعم بقي قسم آخر وهو الواقع في هذا الوقت وهو أن الواقف لم يشترط شيئًا من ذلك، وشرط تجديدها كل سنة مع علمه بأن بني شيبة كانوا يأخذونها كل سنة لما كانت تكتسى من بيت المال, فهل يجوز لهم أخذها الآن، أو تباع ويصرف ثمنها في كسوة أخرى؟ فيه نظر، والمتجه الأول، ويدل له حديث: "كلوا منه بالمعروف"، واختلف في بدء كسوة الكعبة، فروى الفاكهاني عن وهب بن منبه أنه قال: زعموا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن سب حسان بن أسعد وهو تبع، وكان أول من كسى البيت الوصائل، ورواه الواقدي، عن همام، عن أبي هريرة مرفوعًا، أخرجه الحارث بن أبي أُسامة في "مسنده" عنه، ومن وجه آخر عن عمر موقوفًا، وروى عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: بلغنا أن تبعًا أول من كسى الكعبة

الوصائل، فسترت بها، قال: وزعم بعض علمائنا أن أول من كسى الكعبة إسماعيل عليه السلام، وحكى الزبير بن بكار عن بعض علمائهم أن عدنان أول من وضع أنصاب الحرم، وأول من كسى الكعبة، أو كسيت في زمنه، وحكى البلاذري أن أول من كساها الأنطاع عدنان بن أد، وروى الواقدي عن إبراهيم بن أبي ربيعة، قال: كسي البيت في الجاهلية الأنطاع، ثم كساه النبي -صلى الله عليه وسلم- الثياب اليمانية، ثم كساه عمر وعثمان القباطي، ثم كساه الحجاج الديباج، وروى الفاكهاني بإسناد حسن عن سعيد بن المسيب، قال: لما كان عام الفتح أتت امرأة تجمر الكعبة، فاحترقت ثيابها وكانت كسوة المشركين فكساها المسلمون بعد ذلك، وقال أبو بكر بن أبي شيبة، عن ليث بن أبي سليم: كانت كسوة الكعبة على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- المسوح. والأنطاع ليث ضعيف، والحديث معضل، وقال أبو بكر أيضًا، عن محمد بن إسحاق، عن عجوز من أهل مكة، قالت: أصيب عثمان بن عفان وأنا بنت أربع عشرة سنة، قالت: ولقد رأيت البيت وما عليه كسوة إلا ما يكسوه الناس الكساء الأحمر يطرح عليه، والثوب الأبيض، قال ابن إسحاق: بلغني أن البيت لم يكس في عهد أبي بكر ولا عمر، أي: لم نجدد له كسوة. وروى الفاكهاني بإسناد صحيح عن ابن عمر أنه كان يكسو بدنه القباطي والجران يوم يقلدها، فإذا كان يوم النحر نزعها ثم أرسل بها إلى شيبة بن عثمان فناطها على الكعبة، زاد في رواية صحيحة: فلما كست الأمراء الكعبة جللها القباطي، ثم تصدق به، وهذا يدل على أن الأمر كان مطلقًا للناس، ويؤيده ما رواه عبد الرزاق عن علقمة بن أبي علقمة، عن أمه قالت: سألت عائشة: أنكسو الكعبة؟ قالت: الأمراء يكفونكم، وروى عبد الرزاق، عن هشام بن عروة أن أول من كساها الديباج عبد الله بن الزبير، وفيه إبراهيم بن أبي يحيى، وهو ضعيف، وتابعه محمد بن الحسن بن زبالة؛ وهو ضعيف أيضًا، أخرجه الزبير، عنه، عن هشام، وروى الواقدي عن أبي جعفر الباقر، قال: كساها يزيد بن معاوية الديباج، وفيه إسحاق بن أبي فروة ضعيف، وقال عبد الرزاق، عن ابن جريج: أخبرت أن عمر كان يكسوها القباطي، وأخبرني غير واحد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كساها القباطي، والحبرات، وأبو بكر وعمر وعثمان، وأول من كساها الديباج عبد الملك بن مروان، وأن من أدرك ذلك من الفقهاء قالوا: أصاب ما نعلم لها من كسوة أوفق منه. وروى أبو عروبة في "الأوائل" عن الحسن، قال: أول من لبّس الكعبة القباطي النبي -صلى الله عليه وسلم-, وروى الفاكهاني في "كتاب مكة" عن جسرة، نقال: أصاب خالد بن جعفر بن كلاب

لطيمة في الجاهلية فيها نمط من ديباج فأرسل به إلى الكعبة، فنيط عليها، فعلى هذا هو أول من كسى الكعبة الديباج. وروى الدارقطني في "المؤتلف" أن أول من كسى الكعبة الديباج: نتيلة بنت حبان، والدة العباس بن عبد المطلب، كانت أضلت العباس صغيرًا، فنذرت إن وجدته أن تكسو الكعبة الديباج، وذكر الزبير بن بكار أنها أضلت ابنها ضرار بن عبد المطلب شقيق العباس، فنذرت إن وجدته أن تكسوَ البيت، فرده عليها رجل من جذام، فكست الكعبة ثيابًا بيضًا، وهذا محمول على تعدد القصة. وحكى الأزرقي أن معاوية كساها الديباج والقباطي والحبرات، فكانت تكسى الديباج يوم عاشوراء، والقباطي في آخر رمضان، فحصل في أن أول من كساها مطلقًا ثلاثة أقوال: إسماعيل وعدنان وتبع؛ وهو أسعد, ولا تعارض بين ما روي عنه أنه كساها الأنطاع والوصائل؛ لأن الأزرقي حكى في "كتاب مكة" أن تبعًا أري في المنام أن يكسو الكعبة فكساها الأنطاع، ثم أري أن يكسوها فكساها الوصائل؛ وهي ثياب حبرة من عصب اليمن، ثم كساها الناس بعده في الجاهلية، ويجمع بين الأقوال الثلاثة -إن كانت ثابتة- بأن إسماعيل أول من كساها مطلقًا، وأما تبع فأول من كساها ما ذكر، وأما عدنان فلعله أول من كساها بعد إسماعيل، وسيأتي في غزوة الفتح ما يشعر بأنها كانت تكسى في رمضان. وحصل في أول من كساها الديباج ستة أقوال: خالد أو نتيلة أو معاوية أو يزيد أو ابن الزبير أو الحجاج، ويجمع بينها بأن كسوة خالد ونتيلة لم تشملها كلها، وإنما كان فيما كساها شيء من الديباج، وأما معاوية فلعله كساها في آخر خلافته، فصادف ذلك خلافة ابنه يزيد، وأما ابن الزبير فكأنه كساها ذلك بعد تجديد عمارته، فأوليته بذلك الاعتبار، لكن لم يداوم على كسوتها الديباج، فلما كساها الحجاج بأمر عبد الملك استمر ذلك، فكأنه أول من داوم على كسوتها الديباج كل سنة، وقول ابن جريج: أول من كساها ذلك عبدالملك يوافق القول الأخير، فإن الحجاج إنما كساها بأمر عبد الملك وقول ابن إسحاق: إن أبا بكر وعمر لم يكسوا الكعبة فيه نظر لما مرَّ عن ابن أبي نجيح، عن أبيه أن عمر كان ينزعها كل سنة، لكن يعارضه ما حكاه الفاكهاني عن بعض المكيين أن شيبة بن عثمان استأذن معاوية في تجريد الكعبة، فأذن له، فكان أول من جردها من الخلفاء، وكانت كسوتها قبل ذلك تطرح عليها شيئًا فوق شيء، وقد تقدم سؤال شيبة لعائشة أنها تجتمع عندهم، فتكثر، إلخ. وذكر الأزرقي أن أول من ظاهر الكعبة بين كسوتين عثمان بن عفان، وذكر الفاكهاني أن

رجاله ثمانية

أول من كساها الديباج الأبيض المأمون بن الرشيد، واستمر بعده، وكسيت في أيام الفاطميين الديباج الأبيض، وكساها محمد بن سبكتكين ديباجًا أصفر، وكساها الناصر العباسي ديباجًا أخضر، ثم كساها ديباجًا أسود، فاستمر إلى الآن، وقد ذكر بعضهم حكمة حسنة في سواد كسوة الكعبة، فقال: كأني يشير إلى فقد أناس كانوا حوله، فلبس السواد حزنًا عليهم، وهذه الحكمة في غاية المناسبة لآخر الزمان، ولم تزل الملوك تتداول كسوتها إلى أن وقف عليها الصالح بن إسماعيل بن الناصر محمد بن قلاوون في سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة قرية من نواحي القاهرة يقال لها: ببسوس، كان اشترى الثلثين منها من وكليل بيت المال، ثم وقفها كلها على هذه الجهة، فاستمر ولم تزل تكسى من هذا الوقف إلى سلطنة الملك المؤيد شيخ سلطان العصر، فكساها من عنده سنة لضعف وقفها، ثم فوض أمرها إلى بعض أمنائه، وهو القاضي زين الدين عبد الباسط بسط الله له في رزقه وعمره، فبالغ في تحسينها بحيث يعجز الواصف عن صفة حسنها، جزاه الله على ذلك أفضل الجزاء، وحاول ملك الشرق شاه روخ في سلطنة الأشرف برسباي أن يأذن له في كسوة الكعبة، فامتنع، فعاد راسله أن يأذن له أن يكسوها من داخلها فقط، فأبى، فعاد راسله أن يرسل الكسوة إليه ويرسلها إلى الكعبة، ويكسوها ولو يومًا واحدًا، واعتذر بأنه نذر أن يكسوها ويريد الوفاء بنذره، فاستفتى أهل العصر، فتوقفت عن الجواب، وأشرف إلى أنه إن خشي منه الفتنة فيجاب دفعًا للضرر وتسرع جماعة إلى عدم الجواز، ولم يستندوا إلى طائل، بل إلى موافقة هوى السلطان، ومات الأشرف على ذلك. رجاله ثمانية، قد مرّوا إلا شيبة: مرَّ عبد الله بن عبد الوهاب في السادس والأربعين من العلم، ومرَّ خالد بن الحارث في تعليق بعد الثاني من استقبال القبلة، ومرَّ قبيصة وسفيان الثوري في السابع والعشرين من الإِيمان، ومرَّ واصل الأحدب في الثالث والعشرين منه، ومرَّ أبو وائل في الحادي والأربعين من الإيمان, ومرَّ واصل الأحدب في الثالث والعشرين منه، ومرَّ أبو وائل في الحادي والأربعين منه، ومرَّ عمر بن الخطاب في الأول من بدء الوحي، الثامن شيبة بن عثمان وهو الأوقص بن أبي طلحة بن عبد الله بن عبد العزى بن عبد الداربن قصي القرشي العبدري أبو عثمان أو أبو صفية أمه أم جميل هند بنت عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار أخت مصعب بن عمير، أسلم يوم الفتح، وقتل أبوه يوم أحد كافرًا، قتله علي بن أبي طالب، ولبنته صفية بنت شيبة صحبة، وكان شيبة ممن ثبت يوم حنين بعد أن كان أراد أن يغتال النبي -صلى الله عليه وسلم-,

لطائف إسناده

فقد أخرج ابن سعد والواقدي وغيرهما أن عثمان هذا خرج مع النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم حنين مشركًا يريد أن يغتال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فرأى من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غرة، قال: فجئته من خلفه فدنوت، ثم دنوت، حتى إذا لم يبق إلا أن أتره بالسيف، وقع لي شهاب من نار كالبرق، فرجعت القهقرى، فالتفت إلى، فقال: "تعال يا شيبة"، فوضع يده على صدري، فرفعت إليه بصري، وهو أحب إلى من سمعي وبصري، وفي رواية: إنه لما أقبل يريد ذلك رآه النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال له: "يا شيبة! هلمّ لا أم لك"، فقذف الله في قلبه الرعب ودنا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ووضع يده على صدره، ثم قال: "أخسىء عنك الشيطان"، فأخذه ونزع وقذف الله في قلبه الإيمان, فأسلم، وقاتل بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان ممن صبر معه حينئذٍ، وكان من خيار المسلمين. وروى ابن سعد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دعا شيبة بن عثمان فأعطاه مفتاح الكعبة، وقال: "دونك هذا فأنت أمين الله على بيته"، وروى مصعب الزبيري أنه دفعه إليه وإلى ابن عمه عثمان بن طلحة بن أي طلحة، وقال: "خذوها يا بني أبي طلحة خالدة تالدة إلى يوم القيامة، يا بني أبي طلحة لا يأخذها منكم إلا ظالم"، وذكر الواقدي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أعطاها يوم الفتح لعثمان، وأن عثمان ولي الحجابة إلى أن مات، فوليها شيبة، فاستمرت في ولده، قال ابن عبد البر: شيبة هذا هو جد بني شيبة، حجبة البيت إلى اليوم دون سائر الناس أجمعين، وقال يعقوب بن سفيان: أقام شيبة للناس الحج سنة تسع وثلاثين، وكان السبب في ذلك أن عليًا بعث قثم بن العباس ليقيم للناس الحج، ويعث معاوية يزيد بن شجرة، فتنازعا، فسعى بينهما أبو سعيد الخدري وغيره، فاصطلحا على أن يقيم الحج شيبة بن عثمان، ويصلي بالناس، وله في البخاري هذا الحديث عن عمر. روى عن: النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وعمر، وروى عنه: أبو وائل، وعكرمة، وابنه مصعب، وغيرهم، مات في آخر خلافة معاوية سنة تسع وخمسين، وقيل: توفي في أيام يزيد، وأوصى إلى عبد الله بن الزبير، وذكره بعضهم في المؤلفة قلوبهم وهو من فضلائهم. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، ورواته: بصريان وكوفيون، أخرجه البخاري في الاعتصام أيضًا، وأبو داود وابن ماجه في الحج. ثم قال المصنف:

باب هدم الكعبة

باب هدم الكعبة أي: في آخر الزمان ثم قال: قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "يَغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ، فَيُخْسَفُ بِهِمْ". في رواية غير أبي ذر، قالت، بحذف الواو، وهذا طرف من حديث وصله المصنف في البيوع عن نافع بن جبير، عنها بلفظ: "يغزو جيش الكعبة حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم"، قالت: قلت: يا رسول الله! كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟ قال: "يخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نياتهم"، ومناسبته لهذه الترجمة من جهة أن فيه إشارة إلى أن غزو الكعبة سيقع فمرة يهلكهم الله قبل الوصول إليها، وأخرى يمكنهم، والظاهر أن غزو الذين يخربونه متأخر عن الأولين، وها أنا أتكلم على الحديث بتمامه فأقول: قوله في الحديث: "حدثتني عائشة"، هكذا قال إسماعيل بن زكريا، عن محمد بن سوقة، وخالفه سفيان بن عيينة، عن محمد بن سوقة، فقال: "عن أم سلمة، أخرجه الترمذي، ويحتمل أن يكون نافع بن جبير سمعه من كل منهما؛ فإن روايته عن عائشة أتم من روايته عن أم سلمة، وقد أخرجه مسلم من وجه آخر عن عائشة، وروى من حديث حفصة شيئًا منه، وروى الترمذي عن صفية نحوه. وقوله: "يغزو جيش الكعبة"، في رواية مسلم: عبث النبي -صلى الله عليه وسلم- في منامه، فقلنا له: صنعت شيئاً لم تكن تفعله! قال: "العجب أن ناسًا من أمتي يؤمون هذا البيت لرجل من قريش"، وزاد في رواية أخرى: أن أم سلمة، قالت ذلك زمن ابن الزبير، وفي رواية أخرى: أن عبد الله بن صفوان أحد رواة الحديث عن أم سلمة، قال: والله ما هو هذا الجيش. وقوله: "ببيداء من الأرض"، في رواية مسلم: "بالبيداء"، وفي حديث صفية على الشك، وفي رواية لمسلم عن أبي جعفر الباقر، قال: "هى بيداء المدينة"، والبيداء: مكان

معروف تقدم بيانه في باب الإهلال عند مسجد ذي الحليفة. وقوله: "بأولهم وآخرهم"، زاد الترمذي في حديث صفية: "ولم ينج أوسطهم"، وزاد مسلم في حديث حفصة: "فلا يبقى إلا الشريد الذي يخبر عنهم", واستغنى بهذا عن تكلم الجواب عن حكم الأوسط, وأن العرف يقضي بدخوله فيمن هلك، أو لكونه آخرًا بالنسبة للأول، وأولًا بالنسبة للآخر، فيدخل. وقوله: "وفيهم أسواقهم" كذا عند البخاري بالمهملة، والقاف جمع سوق، وعليه ترجم في البيوع، والمعنى: أهل أسواقهم، أو السوقة منهم. وقوله: "ومن ليس منهم", أي: من رافقهم ولم يقصد موافقتهم، ولأبي نعيم عن إسماعيل بن زكرياء: "وفيهم أشرافهم" بالمعجمة، والراء والفاء، وعند الإسماعيلي: "وفيهم سواهم"، وقال: وقع في رواية البخاري: "أسواقهم"، وأظنه تصحيفًا فإن الكلام في الخسف بالناس لا بالأسواق، والظاهر أن لفظ: سواهم هو التصحف، فإنه بمعنى قوله: "ومن ليس منهم" فيلزم منه التكرار بخلاف رواية البخاري. نعم، أقرب الروايات إلى الصواب رواية أبي نعيم، وليس في لفظ: "أسواقهم" ما يمنع أن يكون الخسف بالناس فالمراد بالأسواق أهلها، فيخسف بالمقاتلة منهم، ومن ليس من أهل القتال كالباعة. وفي رواية مسلم: فقلنا: إن الطريق يجمع الناس. قال: نعم فيهم المستبصر، أي: المستبين لذلك للمقاتلة -والمجبور- بالجيم والموحدة، أي: المكره، -وابن السبيل-، أي: سألك الطريق معهم، وليس منهم، والغرض كله أنها استشكلت وقوع العذاب على من لا إرادة له في القتال الذي هو سبب العقوبة، فوقع الجواب بأن العذاب يقع عامًا لحضور آجالهم، ويبعثون بعد ذلك على نياتهم، وفي رواية مسلم: "يهلكون مهلكًا واحدًا، ويصدرون مصادر شتًى", وفي حديث أم سلمة عند مسلم: فقلت: يا رسول الله! فكيف بمن كان كارهًا؟ قال: "يخسف به ولكن يبعث يوم القيامة على نيته", أي: يخسف بالجميع لشؤم الأشرار، ثم يعامل كل أحد عند الحساب بحسب قصده، قال المهلب في هذا الحديث: أن من كثّر سواد قوم في المعصية مختارًا أن العقوبة تلزمه معهم، قال: واستنبط منه مالك عقوبة من يجالس شربة الخمر، وان لم يشرب، وتعقبه ابن المنير بأن العقوبة في الحديث الهجمة السماوية، فلا يقاس عليها العقوبات الشرعية، وبؤيده آخر الحديث حيث قال: "ويبعثون على نياتهم", قلت: الاستنباط ظاهر، والتعقب باطل؛ لأن

الحديث الثمانون

الحاضرين مع أهل الفساد لولا أنهم مؤاخذون بمعصتهم ما خسف بهم، وكذلك المجالس لشربة الخمر، فإنه عاص فيعاقب على ذلك، وهذا مثل قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً}، وفي هذا الحديث أن الأعمال تعتبر بنية العامل، والتحذير من مصاحبة أهل الظلم، ومجالستهم وتكثير سوادهم إلا لمن اضطر إلى ذلك، ويتردد النظر في مصاحبة التاجر لأهل الفتنة هل هي إعانة لهم على ظلمهم، أو هي من ضرورة البشرية، ثم يعتبر عمل كل أحد بنيته، وعلى الثاني يدل ظاهر الحديث، وقال ابن التين: يحتمل أن يكون هذا الجيش الذي يخسف بهم هم الذين يهدمون الكعبة، فينتقم منهم فيخسف بهم، وتعقب بأن في بعض طرقه عند مسلم: "أن ناسًا من أمتي" والذين يهدمونها من كفار الحبشة، وأيضًا فمقتضى كلامهم أنه يخسف بهم بعد أن يهدموها، ويرجعوا، وظاهر الخبر أنه يخسف بهم قبل أن يصلوا إليها، قلت: قد مرَّ في أول الكلام على الحديث أن غزو الذين يخربونه متأخر عن الأولين، وعائشة مرت في الثاني من بدء الوحي. الحديث الثمانون حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الأَخْنَسِ، حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: "كَأَنِّي بِهِ أَسْوَدَ أَفْحَجَ، يَقْلَعُهَا حَجَرًا حَجَرًا". قوله: "كأني به" كذا في جميع الروايات عن ابن عباس في هذا الحديث، والظاهر أن فيه شيئًا حذف، ويحتمل أن يكون هو ما وقع في حديث علي رضي الله تعالى عنه عند أبي عبيد في غريب الحديث، قال: "استكثروا من الطواف بالبيت قبل أن يحال بينكم وبينه، فكأني برجل من الحبشة أصلع -أو قال: أصمع- حمش الساقين، قاعد عليها وهي تهدم"، ورواه الفاكهاني من هذا الوجه، ولفظه: أصعل بدل أصلع، وقال: "قائمًا عليها يهدمها بمسحاته"، وروى يحيى الحماني في مسنده من وجه آخر عن علي مرفوعًا، قلت: هذا له حكم الرفع، على كل حال سواء صرح الراوي برفعه أو لم يصرح لأنه لا يعلم إلا من جهته -صلى الله عليه وسلم-. وقوله: "كأني به"، قال العيني: لفظ به يحتمل الضمير فيه ثلاثة أوجه: الأول: أن يعود على البيت والقرينة الحالية تدل عليه، أي: كأني متلبس به. الثاني: أن يعود إلى القالع بالقرينة الحالية أيضًا.

الثالث: أنه ضمير مبهم يفسره ما بعده على أنه تمييز كقوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} فإن ضمير هنّ هو المبهم الذي فسره سبع سموات، وهو تمييز والظاهر ما مرَّ أن في الحديث حذفًا، وهو الذي ارتضاه في الفتح، وكل الاحتمالات المذكورة لا يتضح معها المعنى. وقوله في حديث علي: "أصلع أو أصعل أو أصمع: الأصلع من ذهب شعر مقدم رأسه، والأصعل: الصغير الرأس، والأصمع: الصغير الأذنين، وقول: "حمش الساقين" بفتح المهملة وسكون الميم ثم معجمة: أي دقيق الساقين، وهو موافق لما في رواية أبي هريرة "ذو السويقتين". وقوله: "أسود أفحج" بوزن أفعل بفاء ثم حاء مهملة، ثم جيم، والفحج تباعد ما بين الساقين، قال الطيبي: وفي إعرابه أوجه، قيل: أسود منصوب على الذم، والمنصوب على الذم قد يكون نكرة، كما في قول النابغة: مقارع عوف لا أحاول غيرها ... وجوه قرود تبتغي من تجادع فوجوه منصوب على الذم، وأفحج منصوب صفة لسابقه، ويجوز أن يكون أسود أفحج حالين متداخلين أو مترادفين من ضمير به، وقيل: هما بدلان من الضمير المجرور وفتحا لأنهما غير منصرفين، وإبدال المظهر من المضمر جائز: كزره خالدًا وقبله اليد، وفي بعض الأصول: أسود أفحج برفعهما على أن أسود مبتدأ خبره يقلعها، والجملة حال بدون الواو، والضمير في به للبيت، أي: كأني متلبس به أو أسود خبر مبتدأ محذوف، والضمير في به للقالع، أي: كأني بالقالع هو أسود. وقوله: "أفحج" خبر بعد خبر. وقوله: "يقلعها حجرًا حجرًا"، أي: يقلع الأسودُ الأفحجُ الكعبةَ حجرًا حجرًا حال نحو بوبته بابًا بابًا، أي: مبوبًا، أو هو بدل من الضمير المنصوب في يقلعها، وقد روى ابن الجوزجي حديثاً طويلًا مرفوعًا فيه: "وخراب مكة من الحبشة، على يد حبشي أفحج الساقين، أزرق اليين، أفطس الأنف كبير البطن، معه أصحاب ينقضونها حجرًا حجرًا، ويتناولونها حتى يرموا بها -يعني الكعبة- إلى البحر، وخراب المدينة من الجوع، واليمن من الجراد", وذكر الحليمي أن خراب الكعبة يكون في زمن عيسى عليه السلام، وقال القرطبي: بعد رفع القرآن من الصدور والمصاحف، وذلك بعد موت عيسى، وهذا هو الصحيح.

رجاله خمسة

رجاله خمسة: قد مرَّ منهم يحيى بن سعيد القطان في السادس من الإيمان، ومرَّ ابن أبي مليكة في تعليق بعد الأربعين منه، ومرَّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي، ومرَّ عمرو بن علي بن بحر بن كثير الفلاس في السابع والأربعين من الوضوء والباقي عبيد الله بن الأخنس أبو مالك النخعي، الكوفي، الخزاز، بمعجمات، ويقال: مولى الأزد، قال أحمد وأبو داود وابن معين والنسائي: ثقة، وقال ابن معين: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يخطىء كثيرًا، روى عن ابن أبي مليكة، ونافع مولى ابن عمر، وأبي الزبير، وغيرهم، وروى عنه: يحيى القطان، وسعيد بن أبي عروبة، وروح بن عبادة، وغيرهم. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإفراد والعنعنة، ورواته بصريان وكوفي ومكي. الحديث الحادي والثمانون حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ الْحَبَشَةِ". قوله: "عن ابن شهاب" الخ، كذا رواه الليث، وتابعه عبد الله بن وهب عند أبي نعيم، وخالفهما ابن المبارك فرواه عن الزهري، عن سحيم مولى بني زهرة، عن أبي هريرة رواه الفاكهاني، عن نعيم بن حماد، عن ابن المبارك، فإن كان محفوظًا فيكون للزهري فيه شيخان عن أبي هريرة، وهذا الحديث قد مرّت مباحثه مستوفاة عند ذكره في باب قول الله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ} الخ. رجاله ستة، قد مرّوا: مرَّ يحيى بن بكير، والليث وابن شهاب في الثالث من بدء الوحي، ويونس بن يزيد في متابعة بعد الرابع منه، ومرَّ سعيد بن المسيب في التاسع عشر من الإيمان, ومرَّ أبو هريرة في الثاني منه. ثم قال المصنف:

باب ما ذكر في الحجر الأسود

باب ما ذكر في الحجر الأسود ويسمى الركن الأسود، وهو في ركن الكعبة الذي يلي الباب من جانب المشرق، وارتفاعه من الأرض ذراعان وثلثا ذراع على ما قاله الأزرقي، وبينه وبين المقام ثمانية وعشرون ذراعًا، أورد في الباب حديث عمر في تقبيل الحجر، وكأنه لم يثبت عنده فيه على شرطه شيء غير ذلك، وقد وردت فيه أحاديث منها حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعًا: "أن الحجر والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما" ولولا ذلك لأضاءا ما بين المشرق والمغرب" أخرجه أحمد والترمذي، وصححه ابن حبان، وفي إسناده رجى أبو يحيى، وهو ضعيف، قال الترمذي: حديث غريب، ويروى عن عبد الله بن عمرو موقوفًا، وقال أبو حاتم: وقفه أشبه، والذي رفعه ليس بقوي، ومنها حديث ابن عباس مرفوعًا، وصححه الترمذي: "نزل الحجر الأسود من الجنة، وهو أشد بياضًا من اللبن، فسودته خطايا بني آدم" وفيه عطاء بن السائب، وهو صدوق، لكنه اختلط، وجرير ممن سمع منه بعد اختلاطه، لكن له طريق أخرى في "صحيح ابن خزيمة"، فيقوى بها، وقد رواه النسائي عن حماد بن سلمة، عن عطاء مختصرًا، ولفظه: الحجر الأسود من الجنة، حماد ممن سمع من عطاء قبل الاختلاط، وفي "صحيح ابن خزيمة" أيضًا عن ابن عباس مرفوعًا: إن لهذا الحجر لسانًا وشفتين يشهدان لمن استلمه يوم القيامة بحق. وصححه أيضًا ابن حبان والحاكم، وله شاهد عن أنس عند الحاكم أيضًا، وقد اعترض بعض الملحدين على الحديث الماضي، فقال: كيف سودته خطايا المشركين، ولم تبيضه طاعات أهل التوحيد، وأجيب بما قال ابن قتيبة: لو شاء الله لكان ذلك، وإنما أجرى الله العادة بأن السواد يصبغ ولا ينصبغ على العكس من البياض، وقال المحب الطبري: في بقائه أسود عبرة لمن له بصيرة، فإن الخطايا إذا أثرت في الحجر الصلد، فتأثيرها في القلب أشد، وقد روى الحميدي في فضائل مكة بإسناد ضعيف عن ابن عباس: إنما غيره بالسواد لئلا ينظر أهل الدنيا إلى زينة الجنة، فإن ثبت فهذا هو الجواب، وإنما أذهب الله نور الحجر والمقام ليكون إيمان الناس بكونهما حقًا إيمانًا بالغيب، ولو لم يطمس لكان الإيمان بهما إيمانًا

الحديث الثاني والثمانون

بالمشاهدة، والإيمان الموجب للثواب هو الإيمان بالغيب، وينبغي أن يتأمل كيف أبقى الله الحجر على صفة السواد أبدًا مع ما مسه من أيدي الأنبياء والمرسلين المقتضي لتبييضه ليكون ذلك عبرة لذوي الأبصار، وواعظًا لكل من وافاه من ذوي الأفكار، ليكون ذلك باعثًا على مباينة الزلات، ومجانبة الذنوب الموبقات. الحديث الثاني والثمانون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَابِسِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ جَاءَ إِلَى الْحَجَرِ الأَسْوَدِ، فَقَبَّلَهُ، فَقَالَ: إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ، وَلَوْلاَ أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ. قوله: "عن إبرهيم" هو ابن يزيد النخعي، وقد رواه سفيان الثوري بإسناد آخر عن إبراهيم بن عبد الأعلى، عن سويد بن غفلة، عن عمر، أخرجه مسلم. وقوله: "إني أعلم أنك حجر" في رواية أسلم الآتية بعد باب عن عمر أنَّه قال: أما والله إني لأعلم أنك. وقوله: "لا تضر ولا تنفع"، أي: إلا بإذن الله، وروى الحاكم عن أبي سعيد الخدري أن عمر لما قال هذا، قال له علي بن أبي طالب: إنه يضر وينفع، وذكر أن الله لما أخذ المواثيق على ولد آدم كتب ذلك في رق وألقمه الحجر، وقال: قد سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يؤتى يوم القيامة بالحجر الأسود وله لسان ذلق، وعينان وشفتان يشهد لمن استلمه بالتوحيد"، وفي رواية: يتشهد لمن وافاه بالموافاة فهو أمين في هذا الكتاب"، فقال له عمر: لا أبقاني الله في أرض لستَ بها يا أبا الحسن، وفي إسناده أبو هارون العبدي، وهو ضعيف جدًا، وقد روى النسائي من وجه آخر ما يشعر بأن عمر رفع قوله ذلك إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-, أخرجه عن ابن عباس، قال: رأيت عمر قبَّل الحجر ثلاثًا، ثم قال: إنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قَبَّلَكَ ما قَبَّلْتُكَ، ثم قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعل مثل ذلك. ومن غرائب المتون ما في ابن أبي شيبة في آخر مسند أبي بكر رضي الله تعالى عنه عن رجل رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقف عند الحجر، فقال: إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ثم قَبَّلَه، ثم حج أبو بكر رضي الله تعالى عنه، فوقف عند الحجر فقال: إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُقَبَّلك ما قَبَّلْتُكَ، فليراجع إسناده، فإن صح حكم ببطلان حديث الحاكم لبعد أن يصدر هذا الجواب عن علي، أعني قوله: "بل يضر وينفع" بعدما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تضر ولا تنفع" لأنه صورة معارضة لا جرم أن الذهبي قال

في مختصره عن العبدي: إنه ساقط، قال الطبري: إنما قال عمر ما قال؛ لأن الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام، فخشي عمر أن يظن الجهال أن استلام الحجر من باب تعظيم بعض الأحجار كما كانت العرب تفعل في الجاهلية، فأراد عمر أن يعلم الناس أن استلامه اتباع لفعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا لأن الحجر ينفع ويضر بذاته، كما كانت الجاهلية تعتقده في الأوثان. وقال المهلب: حديث عمر هذا يرد على من قال إن الحجر يمين الله في الأرض يصافح بها عباده، فمعاذ الله أن تكون لله جارحة، وإنما شرع تقبيله اختيارًا ليعلم بالمشاهدة طاعة من يطيع، وذلك شبيه بقصة إبليس حيث أمر بالسجود لآدم، قلت: ما نفاه المهلب لا يحتمل اعتقاد موحد له، وإنما المراد ما قاله الخطابي، فإنه قال: معنى أنه يمين الله في الأرض أن من صافحه في الأرض كان له عند الله عهد، وجرت العادة بأن العهد يعقده الملك بالمصافحة لمن يريد موالاته والاختصاص به، فخاطبهم بما يعهدونه، وقال المحب الطبري: معناه أن كل ملك إذا قدم عليه الوافد قبل يمينه، فلما كان الحاج أول ما يقدم يسن له تقبيله نزل منزلة الملك، ولله المثل الأعلى، وقول عمر هذا التسليم للشارع في أمور الدين وحسن الاتباع فيما لم يكشف عن معانيها، وهو قاعدة عظيمة في اتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يفعله، ولو لم تعلم الحكمة فيه. وفيه: وقع ما وقع لبعض الجهال من أن في الحجر الأسود خاصة ترجع إلى ذاته. وفيه بيان السنن بالقول والفعل، وأن الإِمام إذا خشي على أحد من فعله فساد اعتقاد أن يبادر إلى بيان الأمر ويوضح ذلك، وقد قال في "الفتح": قال شيخنا في شرح الترمذي: فيه كراهة تقبيل ما لم يرد الشرع بتقبيله، وأما قول الشافعي: ومهما قُبِّل من البيت فهو حسن فلم يرد به الاستحباب؛ لأن المباح من جملة الحسن عند الأُصوليين، واستنبط بعضهم من مشروعية تقبيل الأركان جواز تقبيل كل من يستحق التعظيم من آدمي وغيره، فأما تقبيل يد الآدمي لدينه أو لعلمه أو شرفه فإنه مستحب، وقد وردت فيه أحاديث كثيرة ذكرناها في كتابنا استحالة المعية بالذات، وذكرنا هناك ما فيه الكفاية، وأما ما روي عن مالك كراهته فمحله عنده: إذا كان على وجه التكبر والتعظيم، وأما غير الآدمي فنقل عن الإِمام أحمد أنه سئل عن تقبيل منبر النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتقبيل قبره، فلم ير به بأسًا، قال في "الفتح": واستبعد بعض أتباعه صحة ذلك، قلت: الظاهر أنه ابن تيمية لأنه هو المنكر للتبرك بآثار الصالحين، ونقل عن ابن أبي الصيف اليماني أحد علماء مكة في الشافعية جواز تقبيل المصحف وأجزاء

رجاله ستة

الحديث وقبور الصالحين، وبالله تعالى التوفيق. رجاله ستة، قد مرّوا إلا عابس: مرَّ محمد بن كثير في الثاني والثلاثين من العلم، ومرَّ عمر في الأول من بدء الوحي، والباقي عابس بن ربيعة النخعي، قال أبو داود: جاهلي سمع من عمر، وقال النسائي: ثقة، وقال ابن سعد: هو من مذحج وكان ثقة، له أحاديث يسيرة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وذكره أبو نعيم في الصحابة، روى عن عمر وحذيفة وعائشة، وروى عنه أولاده عبد الرحمن وإبراهيم، وأسماء، وإبراهيم بن يزيد النخعي. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإخبار به، والعنعنة، ورواته: شيخه بصري، والبقية كوفيون، أخرجه مسلم في الحج، وكذا أبو داود والترمذي والنسائي. ثم قال المصنف:

باب إغلاق البيت ويصلي في أي نواحي البيت شاء

باب إغلاق البيت ويصلي في أي نواحي البيت شاء أورد فيه حديث ابن عمر عن بلال في صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- في الكعبة بين العمودين، وتعقب بأنه يغاير الترجمة من جهة أنها تدل على التخيير، والفعل المذكور يدل على التعيين، وأجيب بأنه حمل صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك الموضع بعينه على سبيل الاتفاق لا على سبيل القصد، لزيادة فضل في ذلك المكان على غيره، ويحتمل أن يكون مراده أن ذلك الفعل ليس حتمًا، وإن كانت الصلاة في تلك البقعة التي اختارها النبي -صلى الله عليه وسلم- أفضل من غيرها، ويؤيده ما سيأتي في الباب الذي يليه من تصريح ابن عمر بنص الترجمة مع كونه كان يقصد المكان الذي صلى فيه النبي عليه الصلاة والسلام فيه لفضله، وكأن المصنف أشار بهذه الترجمة إلى الحكمة في إغلاق الباب حينئذٍ وهو أولى من دعوى ابن بطال أن الحكمة فيه لئلا يظن الناس أن ذلك سنة، وهو مع ضعفه منتقض بأنه لو أراد إخفاء ذلك ما اطلع عليه بلال ومن كان معه، وإثبات الحكم بذلك يكفي فيه نقل الواحد. الحديث الثالث والثمانون حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْبَيْتَ هُوَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَبِلاَلٌ، وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ، فَأَغْلَقُوا عَلَيْهِمْ فَلَمَّا فَتَحُوا، كُنْتُ أَوَّلَ مَنْ وَلَجَ، فَلَقِيتُ بِلاَلاً فَسَأَلْتُهُ: هَلْ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: نَعَمْ، بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ. قوله: "دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- البيت" كان ذلك في عام الفتح كما وقع مبينًا عن نافع عند المصنف في كتاب الجهاد بزيادة فوائد، ولفظه: أقبل النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الفتح من أعلى مكة على راحلته، وفي رواية فليح عن نافع الآتية في المغازي: وهو مردف أسامة على القصواء، ثم اتفقا ومعه بلال وعثمان بن طلحة حتى أناخ في المسجد، وفي رواية فليح: عند البيت، وقال لعثمان: ائتنا بالمفتاح، فذهب إلى أُمه سُلافة بضم المهملة، فأبت أن تعطيه، فقال: والله لتعطيه أو لأخرجن هذا السيف من صلبي، فلما رأت ذلك أعطته فجاء به إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ففتح الباب، وفاعل فتح هو عثمان المذكور، لكن روى الفاكهاني من طريق ضعيفة عن ابن عمر، قال: كان بنو أبي طلحة يزعمون أنه لا يستطيع أحد فتح الكعبة، فأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

رجاله خمسة

المفتاح ففتحها بيده. وقوله: "هو وأسامة بن زيد وبلال وعثمان"، زاد مسلم: ولم يدخلها معهم أحد، وعند النسائي عن نافع زيادة الفضل بن عباس، ولأحمد عن ابن عباس: حدثني أخي الفضل وكان معه حين دخل الكعبة أنه لم يصل في الكعبة. وقوله: "فأغلقوا عليهم" زاد أبو عوانة: من داخل، وزاد يونس: فمكث نهارًا طويلًا، وفي رواية فليح: "زمانًا" بدل "نهارًا"، وفي الرواية الماضية في الصلاة: فأطال، ولمسلم: فمكث فيها مليًا، وله أيضًا من رواية عبيد الله: فأجافوا عليهم الباب طويلًا, وللنسائي، عن ابن أبي مليكة: فوجدت شيئًا، فذهبت ثم جئت سريعًا، فوجدت النبي -صلى الله عليه وسلم- خارجًا منها، وفي "الموطأ": فأغلقاها عليه، والضمير لعثمان وبلال، ولمسلم: فأجاف عليهم عثمان الباب، والجميع بينهما أن عثمان هو المباشر لذلك لأنه من وظيفته، ولعل بلالًا ساعده في ذلك، ورواية الجميع يدخل فيها الأمر بذلك، والراضي له. وقوله: "فلما فتحو كنت أول من ولج"، في رواية فليح: ثم خرج فابتدر الناس الدخول فسبقتهم. وفي رواية أيوب: وكنت رجلًا شابًا قويًا، فبادرت الناس فبدرتهم. وفي رواية جويرية: كنت أول الناس ولج على أثره. وفي رواية ابن عون: فرقيت الدرجة فدخلت البيت، وأفاد الأزرقي في كتاب مكة أن خالد بن الوليد كان على الباب يذب عنه الناس وكأنه جاء بعدما دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- وأغلق. وقوله: "فلقيت بلالًا فسألته" قد مرَّ في أوائل كتاب الصلاة عن مالك ما صنع، وقد مرت مباحث هذا الحديث في باب: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} أول كتاب الصلاة مستوفاة غاية الاستيفاء. رجاله خمسة، وفي ذكر أسامة وبلال وعثمان بن طلحة، وقد مرَّ الجميع: مرَّ قتيبة في الحادي والعشرين من الإيمان, ومرَّ سالم في الرابع عشر منه، ومرَّ أبوه عبد الله في أوله قبل ذكر حديث منه، ومرَّ الليث وابن شهاب في الثالث من بدء الوحي، ومرَّ أسامة بن زيد في الخامس من الوضوء، ومرَّ بلال في التاسع والثلاثين من العلم، ومرَّ عثمان بن طلحة في الحادي والسبعين من استقبال القبلة، أخرجه مسلم والنسائي في الحج. ثم قال المصنف:

باب الصلاة في الكعبة

باب الصلاة في الكعبة الحديث الرابع والثمانون حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قال: أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ كَانَ إِذَا دَخَلَ الْكَعْبَةَ مَشَى قِبَلَ الْوَجْهِ حِينَ يَدْخُلُ، وَيَجْعَلُ الْبَابَ قِبَلَ الظَّهْرِ، يَمْشِي حَتَّى يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِدَارِ الَّذِي قِبَلَ وَجْهِهِ قَرِيبًا مِنْ ثَلاَثِ أَذْرُعٍ، فَيُصَلِّي يَتَوَخَّى الْمَكَانَ. قوله:"قِبل" بكسر القاف وفتح الموحدة، أي: مقابل. وقوله: "يتوخّى" بتشديد الخاء المعجمة، أي: يقصد. وقوله: "ليس على أحد بأس"، الظاهر أنه من كلام ابن عمر مع احتمال أن يكون من كلام غيره، وقد تقدم الحديث المرفوع في كتاب الصلاة في باب الصلاة بين السواري، والكلام عليه هو الكلام على الذي قبله. رجاله خمسة، وفيه ذكر بلال، وقد مرّوا: مرّ أحمد بن محمد في الثالث والمائة من الوضوء ومرَّ ابن المبارك في السادس من بدء الوحي، ومرَّ موسى بن عقبة في الخامس من الوضوء، ومرَّ نافع في الأخير من العلم، ومرَّ محل ابن عمر وبلال في الذي قبله. ثم قال المصنف:

باب من لم يدخل الكعبة

باب من لم يدخل الكعبة كأنه أشار بهذه الترجمة إلى الرد على من زعم أن دخولها من مناسك الحج، وقد تقدم البحث فيه في باب: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} , واقتصر المصنف على الاحتجاج بفعل ابن عمر لأنه أشهر من روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخول الكعبة، فلو كان دخولها عنده من المناسك لما أخل به مع كثرة اتباعه. ثم قال: وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يحج كثيرًا ولا يدخل، وهذا التعليق وصله الثوري في جامعه، وابن عمر مرَّ محله الآن. الحديث الخامس والثمانون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، قَالَ: اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، وَمَعَهُ مَنْ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْكَعْبَةَ؟ قَالَ: "لاَ". قوله: "اعتمر"، أي: في سنة سبعة عام القضية. وقوله: "أدخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" الهمزة للاستفهام، أي: في تلك العمرة، قال النووي: قال العلماء: سبب ترك دخوله ما كان في البيت من الأصنام والصور، ولم يكن المشركون يتركونه ليغيرها، فلما كان في الفتح أمر بإزالة الصور، ثم دخلها كما في حديث ابن عباس الذي بعد هذا إلى آخر ما مرَّ مستوفى في باب قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} أوائل الصلاة. رجاله أربعة: مرَّ مسدد في السادس من بدء الوحي، ومرَّ خالد بن عبد الله الطحان في السادس والخمسين من الوضوء، ومرَّ إسماعيل بن أبي خالد في الثالث من الإيمان, ومرَّ عبد الله بن أبي أوفى في التاسع والتسعين من الزكاة، وفي الحديث لفظ رجل مبهم لم أقف على من

سماه، وهذا الإسناد نصفه بصري، ونصفه كوفي، أخرجه البخاري أيضًا في الحج وفي المغازي، وأبو داود في الحج، وكذا النسائي وابن ماجه. ثم قال المصنف:

باب من كبر في نواحي البيت

باب من كبر في نواحي البيت الحديث السادس والثمانون حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا قَدِمَ أَبَى أَنْ يَدْخُلَ الْبَيْتَ وَفِيهِ الآلِهَةُ، فَأَمَرَ بِهَا فَأُخْرِجَتْ، فَأَخْرَجُوا صُورَةَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ فِي أَيْدِيهِمَا الأَزْلاَمُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَمَا وَاللَّهِ قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمَا لَمْ يَسْتَقْسِمَا بِهَا قَطُّ". فَدَخَلَ الْبَيْتَ، فَكَبَّرَ فِي نَوَاحِيهِ، وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ. أورد حديث ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام كبّر في البيت ولم يصلّ فيه، واحتج به مع كونه يرى تقديم حديث بلال في إثباته الصلاة فيه عليه، ولا معارضة في ذلك بالنسبة إلى الترجمة لأن ابن عباس أثبت التكبير ولم يتعرض له بلال، وبلال أثبت الصلاة ونفاها ابن عباس، فاحتج المصنف بزيادة ابن عباس، وتقدم إثبات بلال على نفي غيره لأمرين إلى آخر ما مرَّ مستوفى عند ذكر هذا الحديث في باب قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} أوائل كتاب الصلاة. وقوله: "وفيه الآلهة" -أي: الأصنام-، وأطلق عليها الآلهة باعتبار ما كانوا يزعمون، وفي جواز إطلاق ذلك وقفة، والذي يظهر كراهيته، وكانت تماثيل على صور شتى، فامتنع النبي -صلى الله عليه وسلم- من دخول البيت وهي فيه لأنه لا يقر على باطل، ولأنه لا يحب فراق الملائكة، وهي لا تدخل بيتًا فيه صورة. وقوله: "في أيديهما الأزلام" جمع زَلم، بفتح الزاي وضمها، وهي الأَقلام أو القداح، وهي أعواد نحتوها وكتبوا في أحدها: افعل، وفي الآخر: لا تفعل، وفي الثالث: غفل، أو: لا شيء، وقال الفراء: كان على الواحد: أمرني ربي، وعلى الثاني: نهاني ربي، وعلى الثالث: غفل؛ فإذا أراد أحدهم سفرًا أو حاجة أخرج واحدًا، فإن طلع الأمر فَعَلَ أو الناهي تَرَك، أو الغفل أعاد الضرب حتى يخرج له افعل أو لا تفعل، فكانت سبعة على صفة واحدة مكتوب عليها: لا. نعم. منهم. من غيرهم. ملصق. العقل. فضل العقل. وكانت بيد السادن، فإذا أرادوا خروجًا أو تزويجًا أو حاجة ضرب السادن، فإن خرج نعم ذهب، وإن

رجاله خمسة

خرج لا، كفّ، وإن شكّوا في نسب واحد أتوا به إلى الصنم، فضرب بتلك الثلاثة التي هي: منهم. من غيرهم. ملصق، فإن خرج منهم كان من أوسطهم نسبًا، وإن خرج من غيرهم كان حليفًا، وإن خرج ملصق لم يكن له نسب ولا حلف، وإن جنى أحد جناية واختلفوا على من العقل ضربوا، فإن خرج العقل على من ضرب عليه، عقل وبرىء الآخرون، وكانوا إذا عقلوا العقل، وفضل الشيء منه، واختلفوا فيه، أتوا السادن فضرب، فعلى من وجب أدّاه، وقال ابن إسحاق: إن أعظم أصنام قريش هبل -وكان في جوف الكعبة-، وكانت الأزلام عنده يتحاكمون عنده فيما أشكل عليهم، فما خرج منها رجعوا إليه، وهذا لا يدفع أن يكون آحادهم يستعملونها منفردين كما في قصة سراقة، وروى الطبري عن سعيد بن جبير، قال: الأزلام حصى بيض، وعن مجاهد، قال: حجارة مكتوب عليها، وعنه: كانوا يضربون بها لكل سفر وغزو وتجارة، وهذا محمول على غير التي كانت في الكعبة، والذي تحصل من كلام أهل النقل أن الأزلام كانت عندهم على ثلاثة أنحاء: أحدها: لكل أحد، وهي ثلاثة كما تقدم. ثانيها: للأحكام، وهي التي عند الكعبة، وكان عند كل كاهن وحاكم للعرب مثل ذلك، وكانت سبعة مكتوب عليها ما مرَّ قريبًا. وثالثها: قداح الميسر -وهي عشرة، سبعة مخططة، وثلاثة غفل، وكانوا يضربون بها مقامرة، وفي معناها كل ما يتقامر به كالنرد والكعاب وغيرها. وقوله: "أمّ والله" كذا للأكثر بحذف الألف، ولبعضهم أما بإثبات الألف. وقوله: "لقد علموا" قيل: وجه ذلك أنهم كانوا يعلمون اسم أول من أحدث الاستقسام بها وهو عمرو بن لحي وكانت نسبتهم إلى إبراهيم وولده عليهما السلام الاستقسام بها افتراء عليهما لتقدمهما على عمرو. وقوله: "لم يستقسما"، أي: لم يطلبا القسم، أي: معرفة ما قسم لهما، وما طلب وقوع السقي. رجاله خمسة، قد مرّوا: مرَّ أبو معمر وعبد الوارث وعكرمة في السابع عشر من العلم، ومرَّ أيوب في التاسع من الإيمان، ومرَّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي. والحديث أخرجه أبو داود في الحج، فليس من أفراد البخاري كما قيل. ثم قال المصنف:

باب كيف كان بدء الرمل

باب كيف كان بدء الرمل أي: ابتداء مشروعيته، وهو بفتح الراء والميم، وهو الإسراع، وقال ابن دريد: هو شبه بالهرولة، وأصله أن يحرك الماشي منكبيه في مشيه. الحديث السابع والثمانون حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، هُوَ ابْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَصْحَابُهُ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّهُ يَقْدَمُ، وَقَدْ وَهَنَهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ. فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ الثَّلاَثَةَ وَأَنْ يَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ كُلَّهَا إِلاَّ الإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ. قوله: "قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، أي: في عمرة القضية سنة سبع. وقوله: "يقدَم بفتح الدال، مضارع قدم بكسرها أي: يرد، وقوله: وقد وهنهم، ولابن السكن بحذف الواو، ووهنهم أضعفهم، والضمير للصحابة، وقوله: حمى يثرب بفتح الموحدة، غير منصرف اسم المدينة الشريفة في الجاهلية، وحمى رفع على الفاعلية، ولأبي ذر أنه يقدم عليكم وقد بالفاء والرفع، فاعل يقدم، أي: جماعة، وحينئذ يكون قوله: وهنهم حمى يثرب في موضع رفع صفة لوفد، وضمير أنه ضمير الشأن. وقوله: "أن يرملوا" بضم الميم وهو بموضع مفعول يأمرهم، تقول: أمرته كذا وأمرته بكذا، والأشواط بفتح الهمزة بعدها معجمة جمع شوط بفتح الشين وهو الجري مرة إلى الغاية، والمراد به هنا الطوفة حول الكعبة، وإنما أمرهم بالرمل في الأشواط الثلاثة ليرى المشركون قوتهم بهذا الفعل لأنه أقطع في تكذيبهم وأبلغ في نكايتهم، ولذا قالوا كما في مسلم: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى وهنتهم، هؤلاء أجلد من كذا وكذا. وقوله: "وأن يمشوا بين الركنين"، أي: اليمانيين حيث لا يراهم المشركون لأنهم كانوا مما يلي الحجر من قبل قعيقعان.

وقوله: "ولم يمنعه أن يأمرهم"، أي: من أن يأمرهم فحذف الجار لعدم اللبس، وموضع أن وتاليها بعد حذفه جر أو نصب، قولان. وقوله: "أن يرملوا الأشواط كلها"، أي: بأن يرملوا، فحذف الجار كذلك أو لا حذف أصلا؛ لأنه يقال: أمرته بكذا وأمرته كذا. وقوله: "إلا الإبقاء عليهم" بكسر الهمزة وسكون الموحدة، وبالقاف ممدودًا مصدر بقي عليه إذا وفق به، وهو مرفوع فاعل لم يمنعه، أي: لم يمنعه عليه الصلاة والسلام أن يأمرهم بالرمل في الطوفات كلها إلا الإبقاء عليهم، لكن الإبقاء لا يناسب أن يكون هو الذي منعه من ذلك إذ الإبقاء معناه الرفق، فلابدّ من تأويله بإرادة ونحوها. أي: لم يمنعه من الأمر بالرمل في الأربعة إلا إرادته عليه الصلاة والسلام الإبقاء عليهم، فلم يأمرهم به، وهم لا يفعلون شيئًا إلا بأمره، وقول الزركشي: وتبعه ابن حجر والعيني يجوز النصب على أنه مفعول لأجله، ويكون في يمنعهم ضمير عائد إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- هو فاعله، تعقبه في المصابيح بأن تجويز النصب مبني على أن يكون في لفظ البخاري لم يمنعهم، وليس كذلك إنما فيه لم يمنعه، فرفع الإبقاء متعين لأنه هو الفاعل، وهذا الذي قاله الزركشي وقع للقرطبي في شرح مسلم، وفي الحديث: فلم يمنعهم، فجوز فيه الوجهين، وهو ظاهر لكن نقله إلى ما في البخاري غير متأت. وقد اختلف العلماء في الرمل، هل هو سنة من سنن الحج لا يجوز تركها أو ليس بسنة؟ لأنه كان لعلة وقد زالت فمن شاء فعله اختيارًا فروي عن عمر وابن مسعود أنه سنة، وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد، وقال آخرون: ليس بسنة، من شاء فعله، ومن شاء تركه، وهذا قول طاووس والحسن وعطاء والقاسم وغيرهم، والجمهور على أنه يستوعب البيت بالرمل. وفي قوله: "لا يرمل بين الركنين"، والمرأة لا ترمل بالإجماع لأنه يقدح في الستر، وليست من أهل الجَلَد ولا تهرول أيضًا بين الصفة والمروة في السعي، ولا يشرع تدارك الرمل، فلو تركه في الثلاث لم يقضه في الأربع لأن هيئتها السكينة، فلا تغير، وهو خاص بطواف يعقبه سعي على المشهور، ولا فرق في استحبابه بين ماشٍ وراكب، ولا دم بتركه عند الجمهور، واختلف عند المالكية، وقال الطبري: قد ثبت أن الشارع رمل ولا مشرك بمكة يومئذ في حجة الوداع، فعلم أنه من مناسك الحج إلا أن تاركه ليس تاركًا لعمل بل لهيئة مخصوصة، فكان كرفع الصوت بالتلبية، فمن لبى خافضًا صوته لم يكن تاركًا للتلبية بل لصفتها, ولا شيء

رجاله خمسة

عليه، وفي الحديث جواز تسمية الطوفة شوطًا، ونقل عن مجاهد والشافعي كراهته، ويؤخذ منه جواز إظهار القوة بالعدة والسلاح ونحو ذلك للكفار إرهابًا لهم، ولا يعد ذلك من الرياء المذموم، وفيه جواز المعاريض بالفعل كما تجوز بالقول، وربما كانت بالفعل أولى. رجاله خمسة، قد مرّوا: مرَّ سليمان بن حرب في الرابع عشر من الإيمان, وحماد بن زيد في الرابع والعشرين منه، وأيوب في التاسع منه، وسعيد بن جبير، وابن عباس في الخامس من بدء الوحي. أخرجه مسلم في الحج، وكذا أبو داود والنسائي. ثم قال المصنف:

باب استلام الحجر الأسود حين يقدم مكة أول ما يطوف ويرمل ثلاثا

باب استلام الحجر الأسود حين يقدم مكة أول ما يطوف ويرمل ثلاثًا أورد فيه حديث ابن عمر وهو مطابق للترجمة من غير مزيد. الحديث الثامن والثمانون حَدَّثَنَا أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ، قال: أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، رضي الله عنه قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ يَقْدَمُ مَكَّةَ، إِذَا اسْتَلَمَ الرُّكْنَ الأَسْوَدَ أَوَّلَ مَا يَطُوفُ يَخُبُّ ثَلاَثَةَ أَطْوَافٍ مِنَ السَّبْعِ. قوله: "يخب" بفتح أوله وضم الخاء المعجمة بعدها موحدة، أي: يسرع في مشيه، والخبب بفتح المعجمة والموحدة العدو السريع، يقال: خبت الدابة إذا أسرعت وراوحت بين قدميها، وهذا يشعر بترادف الرمل والخبب عند هذا القائل. وقوله: "أول ما يطوف" منصوب على الظرفية. وقوله: "من السبع" بفتح أوله، أي: السبع طوفات، وظاهره أن الرمل يستوعب الطوفة فهو مغاير لحديث ابن عباس الذي قبله، فإنه صريح في عدم الاستيعاب، ولكنهم لما رملوا في حجة الوداع أسرعوا في جميع كل طوفة، فكانت سنة مستقلة، ولهذه النكتة سأل عبيد الله بن عمر نافعًا كما في الحديث الأخير من الباب الذي يليه عن مشي عبد الله بن عمر بين الركنين اليمانيين، فأعلمه أنه إنما كان يفعله ليكون أسهل عليه في استلام الركن، أي: كان يرفق بنفسه ليتمكن من استلام الركن عند الازدحام، وهذا الذي قاله نافع إن كان استند فيه إلى فهمه فلا يدفع احتمال أن يكون ابن عمر فعل ذلك اتباعًا للصفة الأولى من الرمل لما عرف من مذهبه في الاتباع. رجاله ستة قد مرّوا: مرَّ أصبغ في السابع والستين من الوضوء، ومرَّ ابن وهب في الثالث عشر من العلم، ومرَّ يونس بن يزيد في متابعة بعد الرابع من بدء الوحي، ومرَّ ابن شهاب في الثالث منه، ومرَّ سالم

في الرابع عشر من الإيمان، وأبوه عبد الله في أوله قبل ذكر حديث منه. وأخرجه مسلم والنسائي في الحج. ثم قال المصنف:

باب الرمل في الحج والعمرة

باب الرمل في الحج والعمرة أي: في بعض الطواف، والقصد إثبات بقاء مشروعيته وهو الذي عليه الجمهور، ومرَّ في الباب الذي قبله بباب ذكر بعض من خالف فيه. الحديث التاسع والثمانون حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ هو ابن سلام، قال: حَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ النُّعْمَانِ، قال: حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: سَعَى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- ثَلاَثَةَ أَشْوَاطٍ وَمَشَى أَرْبَعَةً فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ. قوله: "سعى"، أي: أسرع المشي في الطوفات الثلاث الأول. وقوله: "في الحج والعمرة"، أي: حجة الوداع وعمرة القضية؛ لأن الحديبية لم يكن فيها الطواف، والجعرانة لم يحضرها ابن عمر إذْ لم يكن معه فيها, ولهذا أنكرها والتي مع حجته اندرجت أفعالها في الحج، فلم يبق إلا عمرة القضاء، نعم عند الحاكم عن أبي سعيد: رمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجته وعمره كلها وأبو بكر وعمر والخلفاء. رجاله خمسة مرَّ منهم: سريج بن النعمان في الخامس والعشرين من الجمعة، وفليح في الأول من العلم، ونافع في الأخير منه، ومرَّ محل ابن عمر في الذي قبله، وشيخ البخاري ذكره بلفظ محمد غير منسوب، وقد قيل: إنه محمد بن يحيى الذهلي، وهذا مرَّ في العشرين من العيدين، وقيل: إنه محمد بن سلام وهذا مرَّ في الثالث عشر من الإيمان, وقيل: إنه محمد بن عبد الله بن نمير، وهذا قد مرَّ في الأول من العمل في الصلاة، وقيل: إنه محمد بن رافع، وهذا لم يتقدم وهو ابن رافع بن أبي زيد، واسمه سابور القشيري مولاهم أبو عبد الله النيسابوري الزاهد، قال أحمد: محمد بن يحيى أحفظ، ومحمد بن رافع أورع، وقال البخاري: حدثنا محمد بن رافع وكان من خيار عباد الله، وقال النسائي: حدثنا محمد بن رافع الثقة المأمون، وقال أبو زرعة: شيخ صدوق قدم علينا، وكان قد رحل مع أحمد، وقال زكرياء بن دلويه: بعث طاهربن

لطائف إسناده

عبد الله بن طاهر إلى محمد بن رافع بخمسة آلاف فردَّها، قال زكرياء: وكان يخرج إلينا في الشتاء الشاتي، وقد لبس لحافه الذي يلبسه بالليل، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان ثبتًا فاضلًا، قال الحاكم: هو شيخ خراسان في الصدق والرحلة، وقال عثمان بن أبي شيبة: ذاك الزاهد، وقال جعفر بن أحمد بن نصر الحافظ: ما رأيت من المحدثين أهيب منه، كان يستند فيأخذ الكتاب، فيقرأ بنفسه فلا ينطق أحد، ولا يتبسم، وقال مسلم بن الحجاج: محمد بن رافع ثقة مأمون صحيح الكتاب، وقال محمد بن شاذان: حدثنا محمد بن رافع الثقة المأمون، وقال أحمد بن سيار: محمد بن رافع كان ثقة حسن الرواية عن أهل اليمن، وقال النسائي ومسلمة: ثقة ثبت، وفي الزهرة: روى عنه البخاري سبعة عشر حديثًا، ومسلم ثلاثمائة حديث، واثنين وعشرين حديثًا. روى عن ابن عيينة وأبي معاوية الضرير وأبي داود الطيالسي وغيرهم، وروى عنه الجماعة سوى ابن ماجه وأبو زرعة وأبو حاتم وخلق كثير، مات سنة خمس وأربعين ومائتين. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإفراد والعنعنة والقول. ثم قال: تابعه الليث، قال: حدثني كثير بن فرقد، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذه المتابعة وصلها النسائي من طريق شعيب بن الليث، عن أبيه، والبيهقي من طريق يحيى بن بكير، عن الليث، ولفظه حديث ابن عمر السابق. ورجال المتابعة أربعة قد مرّوا: مرَّ الليث في الثالث من بدء الوحي، ومرَّ كثير بن فرقد في الثلاثين من العيدين، ومرَّ نافع في الأخير من العلم، ومرَّ ابن عمر في أول الإيمان قبل ذكر حديث منه. الحديث التسعون حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، قال: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ بن أبي كثير، قَالَ: أَخْبَرَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ لِلرُّكْنِ: أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ، وَلَوْلاَ أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- اسْتَلَمَكَ مَا اسْتَلَمْتُكَ. فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ قَالَ: فَمَا لَنَا وَلِلرَّمَلِ، إِنَّمَا كُنَّا رَاءَيْنَا بِهِ الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ. ثُمَّ قَالَ: شَيْءٌ صَنَعَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَلاَ نُحِبُّ أَنْ نَتْرُكَهُ. قوله: "للركن" أي: الأسود، وظاهره أنه خاطبه بذلك، وإنما فعله ليسمع الحاضرين،

رجاله خمسة

وقد مرَّ استيفاء الكلام على مقالته هذه في باب ما ذكر في الحجر الأسود حين ما ذكر فيه أول هذا الحديث. وقوله: "ثم قال"، أي: بعد استلامه. وقوله: "ما لنا وللرمل" في رواية بعضهم: "والرمل" بغير لام وهو بالنصب على الأفصح، وزاد أبو داود: "فيم الرمل والكشف عن المناكب" وهو الإضطباع وهي هيئة تعين على إسراع المشي بأن يدخل رداءه تحت إبطه الأيمن، ويرد طرفه على منكبه الأيسر، فيبدي منكبه الأيمن ويستر الأيسر، وهو مستحب عند الجمهور سوى مالك، قاله ابن المنذر. وقوله: "انما كنا راءينا" بوزن فاعلنا من الرؤية، أي: أريناهم بذلك أنا أقوياء، قاله عياض، وقال ابن مالك: من الرياء، أي: أظهرنا لهم القوة ونحن ضعفاء، ولهذا روي: رايينا بياءين حملًا على الرياء، وإن كان أصله الرءياء بهمزتين، ومحصله أن عمر كان همّ بترك الرمل في الطواف لأنه عرف سببه، وقد انقضى فهمَّ أن يتركه لفقد سببه، ثم رجع عن ذلك لاحتمال أن تكون له حكمة ما اطلع عليها، فرأى أن الإتباع أولى من طريق المعنى، وأيضًا فإن فاعل ذلك إذا فعله تذكر السبب الباعث على ذلك فيتذكر نعمة الله على إعزاز الإِسلام وأهله، واستشكل قول عمر: راءينا مع أن الرياء بالعمل مذموم، والجواب أن صورته وإن كانت صورة الرياء لكنها ليست مذمومة لأن المذموم أن يظهر العمل ليقال: إنه عامل ولا يعمله بغيبة إذا لم يره أحد، وأما الذي وقع في هذه القصة فإنما هو من قبيل المخادعة في الحرب لأنهم أوهموا المشركين أنهم أقوياء لئلا يطمعوا فيهم، وقد ثبت أن الحرب خدعة. وقوله: "فلا نحب أن نتركه" زاد الإسماعيلي في آخره: ثم رمل، ويؤيده أنهم اقتصروا عند مراءات المشركين على الإسراع إذا مرّوا من جهة الركنين الشاميين لأن المشركين كانوا بإزاء تلك الناحية فإذا مرّوا بين الركنين اليمانيين مشوا على حالتهم وهيئتهم كما هو بين في حديث ابن عباس المار. رجاله خمسة قد مرّوا: مرَّ سعيد بن أبي مريم في الرابع والأربعين من العلم، ومرَّ محمد بن جعفر في التاسع من الحيض، ومرَّ زيد بن أسلم في الثاني والعشرين من الإيمان, ومرَّ أبوه أسلم في الحادي والتسعين من الزكاة، ومرَّ عمر في الأول من بدء الوحي. أخرجه البخاري أيضًا في الحج، ومسلم، والنسائي.

الحديث الحادي والتسعون

الحديث الحادي والتسعون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: مَا تَرَكْتُ اسْتِلاَمَ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ فِي شِدَّةٍ وَلاَ رَخَاءٍ، مُنْذُ رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَسْتَلِمُهُمَا. قُلْتُ لِنَافِعٍ: أَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَمْشِي بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ؟ قَالَ: إِنَّمَا كَانَ يَمْشِي لِيَكُونَ أَيْسَرَ لاِسْتِلاَمِهِ. قال الإسماعيلي بعد أن أخرج هذا الحديث مقتصرًا على المرفوع منه، وزاد فيه: قال نافع: ورأيت ابن عمر يزاحم على الحجر حتى يدمى، قال الإسماعيلي: ليس هذا الحديث من باب الرمل في شيء، وأجيب بأن القدر المتعلق بالترجمة ثابت عند البخاري، ووجهه أن معنى قوله: كان ابن عمر يمشي بين الركنين، أي: دون غيرهما وكان يرمل ومن ثم سأل الراوي نافعًا عن السبب في كونه كان يمشي في بعض دون بعض. رجاله خمسة قد مرّوا: مرَّ مسدد ويحيى القطان في السادس من الإيمان, ومرَّ عبيد الله العمري في الرابع عشر من الوضوء, ومرَّ نافع في الأخير من العلم، ومرَّ ابن عمر في أول الإيمان قبل ذكر حديث منه. أخرجه مسلم والنسائي في الحج. ثم قال المصنف:

باب استلام الركن بالمحجن

باب استلام الركن بالمحجن أي: بكسر الميم وسكون المهملة، وفتح الجيم بعدها نون هو عصى محنية الرأس، والحجن الاعوجاج، وبذلك سمي الحجون، والاستلام افتعال من السلام بكسر السين وهي الحجارة، فلما كان لمسا للحجر له قيل له استلام أو من السلام بفتحها وهو التحية، قاله الأزهري؛ لأن ذلك الفعل سلام على الحجر، وأهل اليمن يسمون الركن الأسود المحيا، أو هو استلئام مهموز من الملاءمة وهي الاجتماع، أو استفعل من اللامة وهي الدرع لأنه إذا لمس الحجر تحصن بحصن من العذاب، كما يتحصن باللامة من الأعداء، فإن قيل: كان القياس على هذا أن يقال: استلأم لا استلم أُجيب باحتمال أن يكون خفف بنقل حركة الهمزة إلى اللام الساكنة قبلها، ثم حذفت الهمزة. الحديث الثاني والتسعون حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، وَيَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالاَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: طَافَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى بَعِيرٍ، يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ. قوله: "يستلم الركن بمحجن" المراد بالركن الحجر الأسود، زاد مسلم عن أبي الطفيل: ويقبل المحجن، وله عن ابن عمر أنه استلم الحجر الأسود بيده ثم قبلها، ورفع ذلك، ولسعيد بن منصور عن عطاء، قال: رأيت أبا سعيد وأبا هريرة وجابرًا إذا استلموا الحجر قبلوا أيديهم قيل: وابن عباس؟ قال: وابن عباس أحسبه قال كثيرًا، وبهذا قال الجمهور: أن السنة أن يستلم الركن ويقبل يده، فإن لم يستطع أن يستلمه بيده استلمه بشيء في يده، وقبَّل ذلك الشيء فإن لم يستطع أشار إليه، واكتفى بذلك، وعن مالك: لا يقبل يده، وفي رواية عنه: يضع يده على فمه من غير تقبيل، وفي الحديث الطواف على البعير، قال النووي: قال أصحابنا: الأفضل أن يطوف ماشيًا إلا لعذر مرض أو نحوه، أو كان ممن يحتاج إلى ظهوره ليستفتى ويقتدى به، فإن كان لغير عذر كان خلاف الأولى، وقال إمام الحرمين: من أدخل البهيمة التي لا يؤمن تلويثها المسجد بشيء، فإن أمكن الاستيثاق فذاك، وإلا فإدخالها

رجاله سبعة

المسجد مكروه، وجزم جماعة من أصحابنا بكراهة الطواف راكبا من غير عذر، منهم الماوردي والبندنيجي وأبو الطيب والعبدري، والمشهور الأول، والمرأة والرجل في ذلك سواء، والمحمول على الأكتاف كالراكب، وبه قال أحمد وداود وابن المنذر، وقال مالك وأبو حنيفة: إن طاف راكبًا بعذر أجزأه، ولا شيء عليه، وإن كان لغير عذر فعليه دم، قال أبو حنيفة: وإن كان بمكة أعاد الطواف، فلو طاف زحفًا مع القدرة على القيام فهو صحيح لكنه يكره، وقال أبو الطيب في التعليقة: طوافه زحفا كطوافه ماشيًا منتصبًا لا فرق بينهما، واعتذروا عن ركوب سيدنا -صلى الله عليه وسلم- بأن الناس كثروا عليه وغشوه بحيث أن العواتق خرجن من البيوت لينظرن إليه، أو لأنه يستفتى، أو لأنه كان يشكو، وقد تقدم الكلام على إدخال البعير في المسجد في باب إدخال البعير المسجد آخر أبواب المساجد من كتاب الصلاة، وفي الحديث الرد على من كره تسمية حجة النبي -صلى الله عليه وسلم- حجة الوداع. رجاله سبعة قد مرّوا: مرَّ أحمد بن صالح في الرابع والسبعين من استقال القبلة، ومرَّ يحيى بن سليمان في الخامس والخمسين من العلم، ومرَّ ابن وهب في الثالث عشر منه، ومرَّ يونس بن يزيد في متابعة بعد الرابع من بدء الوحي، وابن شهاب في الثالث منه، ومرَّ عبيد الله المسعودي في السادس منه، وابن عباس في الخامس منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع، والإخبار بالإفراد، والعنعنة، والقول، ورجاله: مصريون، وأيلي، ومدنيان، وأخرجه مسلم في الحج، وكذا أبو داود وابن ماجه. ثم قال: تابعه الدراوردي عن ابن أخي الزهري عن عمه، وهذه المتابعة أخرجها الإسماعيلي، ولم يقل في حجة الوداع ولا على بعير. ورجاله ثلاثة قد مرّوا: مرَّ عبد العزيز الدراوردي في السابع من مواقيت الصلاة، ومرَّ ابن أخي الزهري محمد بن عبد الله في متابعة بعد العشرين من الإيمان, وقد مرَّ محل الزهري في الذي قبله. ثم قال المصنف:

باب من لم يستلم إلا الركنين اليمانيين

باب من لم يستلم إلا الركنين اليمانيين أي: دون الركنين الشاميين واليماني بتخفيف الياء على المشهور لأن الألف عوض عن ياء النسب، فلو شددت لكان جمعًا بين العوض والمعوض، وجوّز سيبويه التشديد، وقال: إن الألف زائدة. الحديث الثالث والتسعون وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قال: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ، أَنَّهُ قَالَ: وَمَنْ يَتَّقِي شَيْئًا مِنَ الْبَيْتِ، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ يَسْتَلِمُ الأَرْكَانَ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: إِنَّهُ لاَ يُسْتَلَمُ هَذَانِ الرُّكْنَانِ. فَقَالَ: لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْبَيْتِ مَهْجُورًا، وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما يَسْتَلِمُهُنَّ كُلَّهُنَّ. قوله: "وقال محمد بن بكر", قال في "الفتح": لم أره من طريق محمد بن بكر، وقد أخرجه الجوزقي من طريق عثمان بن الهيثم، به، ومن في قوله، ومن يتقي استفهامية على سبيل الإنكار. وقوله: "إنه لا يستلم هذان الركنان"، الضمير في أنه ضمير الشأن، ويستلم بالبناء للمجهول في رواية أكثر، وللحموي والمستملي: لا نستلم هذين الركنين بفتح النون ونصب هذين الركنين على المفعولية، وهذا الحديث قد مرَّ الكلام عليه مستوفى غاية الاستيفاء عند حديث ابن عمر في باب غسل الرجلين في النعلين من كتاب الوضوء. رجاله سبعة قد مرّوا: مرَّ محمد بن بكر في تعليق بعد التاسع من مواقيت الصلاة، ومرَّ ابن جريج في الثالث من الحيض، ومرَّ عمرو بن دينار في الرابع والخمسين من العلم، ومرَّ معاوية في الثالث عشر منه، ومرَّ ابن الزبير في الثامن والأربعين منه، ومرَّ أبو الشعثاء في الثالث والثلاثين من الوضوء, ومرَّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي، وأورد البخاري هذا الحديث معلقًا، وقد وصل قوله: "وكان معاوية" الخ، الإِمام أحمد في "مسنده"، والترمذي، والحاكم، ووصل تعليق ابن

الحديث الرابع والتسعون

الزبير ابن أبي شيبة من طريق عباد بن عبد الله بن الزبير. الحديث الرابع والتسعون حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنهما قَالَ: لَمْ أَرَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَسْتَلِمُ مِنَ الْبَيْتِ إِلاَّ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ. هذا الحديث الكلام عليه هو الكلام على الذي قبله، وقد مرَّ محل الكلام عليه. رجاله خمسة قد مرّوا: مرَّ أبو الوليد هشام بن عبد الملك في العاشر من الإيمان, ومرَّ الليث بن سعد، وابن شهاب في الثالث من بدء الوحي، وسالم بن عبد الله في الرابع عشر من الإيمان, وأبوه عبد الله في أوله قبل ذكر حديث منه. ثم قال المصنف:

باب تقبيل الحجر

باب تقبيل الحجر بفتح المهملة والجيم، أي: الأسود. الحديث الخامس والتسعون حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، قال: أَخْبَرَنَا وَرْقَاءُ، قال: أَخْبَرَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَبَّلَ الْحَجَرَ وَقَالَ: لَوْلاَ أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَبَّلَكَ مَا قَبَّلْتُكَ. وهذا الحديث قد مرَّ الكلام عليه مستوفى عند ذكره في باب ما ذكر في الحجر الأسود. رجاله ستة قد مرّوا، إلا أحمد بن سنان: مرَّ يزيد بن هارون في الخامس عشر من الوضوء ومرَّ ورقاء بن عمر في التاسع منه، ومرَّ زيد بن أسلم في الثاني والعشرين من الإيمان, ومرَّ أبوه أسلم في الحادي والتسعين من الزكاة، ومرَّ عمر في الأول من بدء الوحي، والباقي أحمد بن سنان بن أسد بن حبان بكسر الحاء، القطان أبو جعفر الواسطي الحافظ، قال أبو حاتم: ثقة صدوق، وقال أيضًا: إمام أهل زمانه، وقال الدارقطني: كان من الثقات الأثبات، وقال إبراهيم بن أرومة: أعدنا عليه ما سمعناه من بندار وأبي موسى لإتقانه وحفظه، وقال النسائي: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات" له في البخاري، وحديث واحد روى عن يحيى القطان وأبي أحمد الزبيري ويزيد بن هارون وغيرهم، وروى عنه: البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وغيرهم، مات سنة ست أو ثمان أو تسع وخمسين ومائتين. الحديث السادس والتسعون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قال: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَرَبِيٍّ، قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنِ اسْتِلاَمِ الْحَجَرِ. فَقَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَسْتَلِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ. قَالَ: قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِنْ زُحِمْتُ، أَرَأَيْتَ إِنْ غُلِبْتُ، قَالَ: اجْعَلْ أَرَأَيْتَ بِالْيَمَنِ، رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَسْتَلِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ.

رجاله أربعة

قوله: "حدثنا حماد" في رواية أبي الوقت ابن زيد. وقوله: "عن الزبير بن عربي" في رواية أبي داود الطيالسي: عن حماد حدثنا الزبير. وقوله: "أرأيت ان زحمت"، أي: أخبرني ما أصنع إذا زحمت ورحمت بضم الزاي بغير إشباع، وفي بعض الروايات بزيادة واو. وقوله: "اجعل أرأيت في اليمن" يشعر بأن الرجل يماني، وفي رواية أبي داود المذكورة: "اجعل أرأيت عند ذلك الكوكب"، وإنما قال له ذلك لأنه فهم منه معارضة الحديث بالرأي، فأنكر عليه ذلك، وأمره إذا سمع الحديث أن يأخذ به، ويتقي الرأي، والظاهر أن ابن عمر لم ير الزحام عذرًا في ترك الاستلام، وقد روى سعيد بن منصور عن القاسم بن محمد، قال: رأيت ابن عمر يزاحم على الركن حتى يدمى، ومن طريق أخرى أنه قيل له في ذلك، فقال: هوت الأفئدة إليه، فأريد أن يكون فؤادي معهم، وروى الفاكهاني عن ابن عباس كراهة المزاحمة، وقال: لا يؤذي ولا يؤذى ولابن المنذر عن نافع، قال: رأيت ابن عمر استلم الحجر وقبّل يده، وقال: ما تركته منذ رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفعله، ويستفاد منه استحباب الجمع بين التسليم والتقبيل بخلاف الركن اليماني فيستلمه فقط، والاستلام هنا المسح باليد، والتقبيل بالفم، وروى الشافعي عن ابن عمر، قال: استقبل النبي-صلى الله عليه وسلم- الحجر فاستلمه، ثم وضع شفتيه عليه طويلًا، والمستحب في التقبيل أن لا يرفع به صوته، وروى الفاكهاني عن سعيد بن جبير قال: إذا قبلت الركن فلا ترفع بها صوتك كقبلة النساء. رجاله أربعة: مرَّ منهم مسدد في السادس من الإيمان, ومرَّ حماد بن زيد في الرابع والعشرين منه، ومرَّ ابن عمر في أوله قبل ذكر حديث منه، والرابع الزبير بن عربي النمري أبو سلمة، بصري، قال أحمد: أراه لا بأس به، وقال ابن معين: ثقة، وقال النسائي: ليس به بأس، أخرجوا له واحدًا في استلام الحجر، وذكره ابن حبان في "الثقات"، روى عن ابن عمر، وروى عنه ابنه إسماعيل وحماد بن زيد وسعيد بن زيد ومعمر. وفي الحديث لفظ رجل مبهم وهو الزبير بن عربي هذا. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والسؤال، وفيه أن رجاله بصريون، أخرجه الترمذي والنسائي في الحج.

ثم قال: وقال محمد بن يوسف الفربري: وجدت في كتاب أبي جعفر، قال أبو عبد الله: الزبير بن عدي كوفي، والزبير بن عربي بصري، لما وقف البخاري على التصحيف في الزبير بن عربي بالراء حيث روي بالدال نبه عليه بقوله الزبير بن عربي بالراء بصري، والزبير بن عدي بالدال كوفي، وهما راويان تابعيان، وإدخال هذا من أحد نساخ البخاري، والقصد منه تمييز الزبير بن عربي المار عن الزبير بن عدي، ومحمد بن يوسف مرَّ في أثر بعد الرابع من العلم، وأبو عبد الله المراد به البخاري، والباقي من المذكورين هنا اثنان الأول أبو جعفر محمد بن أبي حاتم وراق البخاري، ولم أقف إلى الآن على تعريفه، والثاني: الزبير بن عدي الهمداني اليامي أبو عدي الكوفي، قاضي الري، قال أحمد وابن معين وأبو حاتم: ثقة، وقال أحمد أيضًا: صالح الحديث مقارب الحديث، وقال العجلي: ثقة ثبت، وكان صاحب سنة، وقال أبو داود الطيالسي: لا نعرف للزبير بن عدي عن أنس إلا حديثًا واحدًا، وقال البخاري: كان من العباد، وقال الدارقطني: ثقة، وبشر: متروك، روى عن الزبير بواطيل، وقال الفسوي: تابعي ثقة. روى عن أنس وأبي وائل ومصعب بن سعد وغيرهم، وروى عنه إسماعيل بن أبي خالد وهو من أقرانه والثوري ومسعر وغيرهم، مات بالري سنة إحدى وثلاثين ومائة، وصلى عليه نباتة بن حنظلة. ثم قال المصنف:

باب من أشار إلى الركن إذا أتى عليه

باب من أشار إلى الركن إذا أتى عليه قوله: "الركن"، أي: الأسود. الحديث السابع والتسعون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قال: حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: طَافَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِالْبَيْتِ عَلَى بَعِيرٍ، كُلَّمَا أَتَى عَلَى الرُّكْنِ أَشَارَ إِلَيْهِ. قد تقدم هذا الحديث قبل بابين، وشرح باستيفاء، قال ابن التين: تقدم أنه كان يستلمه بالمحجن، فيدل على قربه من البيت، لكن من طاف راكبًا يستحب له أن يبعد إن خاف أن يؤذي أحدًا فيحمل فعله -صلى الله عليه وسلم- على الأمن من ذلك، ويحتمل أن يكون في حال استلامه قريبًا حيث أمن ذلك، وأن يكون في حال إشارته بعيدًا حيث خاف ذلك. رجاله خمسة قد مرّوا: مرَّ محمد بن المثنى وعبدالوهاب في التاسع من الإيمان, ومرَّ خالد الحذاء وعكرمة في السابع عشر من العلم، ومرَّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي، أخرجه البخاري في الحج أيضا، وفي الطلاق، والترمذي والنسائي في الحج. ثم قال المصنف:

باب التكبير عند الركن

باب التكبير عند الركن الحديث الثامن والتسعون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قال: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: طَافَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِالْبَيْتِ عَلَى بَعِيرٍ، كُلَّمَا أَتَى الرُّكْنَ أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ كَانَ عِنْدَهُ وَكَبَّرَ. والمراد بالشيء الذي يشير به المحجن المصرح به في الرواية الماضية، وفيه استحباب التكبير عند الركن الأسود في كل طوفة، واستحب الشافعي وأصحاب مذهبه والحنابلة أن يقول عند ابتداء الطواف واستلام الحجر باسم الله والله أكبر، اللهم إيمانًا بك، وتصديقاً بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعًا لسنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-, وروى الشافعي عن أبي نجيح، قال: أخبرت أن بعض أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: يا رسول الله! كيف نقول إذا استلمنا؟ قال: "قولوا: باسم الله، والله أكبر إيمانًا بالله، وتصديقا لإجابة محمد -صلى الله عليه وسلم-"، ولم يثبت ذلك كما قاله ابن جماعة، وصح في أبي داود والنسائي والحاكم وابن حبان في صحيحيهما أنه عليه الصلاة والسلام قال بين الركنين اليمانيين: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، قال ابن المنذر: لا نعلم خبرا ثابتًا عنه عليه الصلاة والسلام يقال في الطواف غيره. ونقل الرافعي أن قراءة القرآن في الطواف أفضل من الدعاء غير المأثور، وأن المأثور أفضل منها سلمنا ذلك لكن لم يثبت عنه عليه الصلاة والسلام كما مرَّ عن ابن المنذر، إلا: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} , الآية، وهي قرآن، وإنما ثبت بين الركنين، وحينئذ يكون هو أفضل ما يقال بين الركنين، وبكون هو وغيره من القرآن أفضل من الذكر والدعاء في باقي الطواف إلا التكبير عند استلام الحجر، فإنه أفضل تأسيًا به عليه الصلاة والسلام، والصحيح عند الحنابلة أنه لا بأس بقراءة القرآن، وجزم صاحب "الهداية" في "التجنيس" بأن ذكر الله أفضل منها، وكرهها المالكية. رجاله خمسة قد مرّوا:

مرَّ مسدد في السادس من الإيمان، ومرَّ خالد بن عبد الله الطحان في السادس والخمسين من الوضوء، ومرَّ محل الثلاثة الباقية في الذي قبله. ثم قال: تابعه إبراهيم بن طهمان، عن خالد الحذاء، أي: تابع خالدًا الطحان إبراهيم، يعني في التكبير، وأشار بذلك إلى أن رواية عبدالوهاب عن خالد المذكورة في الباب الذي قبله الخالية عن التكبير لا تقدح في زيادة خالد الطحان لمتابعة إبراهيم له، وهذه المتابعة وصلها البخاري في كتاب الطلاق، وقد مرَّ إبراهيم بن طهمان في التاسع والعشرين من الغسل، وخالد الحذاء مرَّ محله في الذي قبله بحديث. ثم قال المصنف:

باب من طاف بالبيت إذا قدم مكة قبل أن يرجع إلى بيته ثم صلي ركعتين، ثم خرج إلى الصفا

باب من طاف بالبيت إذا قدم مكة قبل أن يرجع إلى بيته ثم صلي ركعتين، ثم خرج إلى الصفا قال ابن بطال: غرضه بهذه الترجمة الرد على من زعم أن المعتمر إذا طاف حل قبل أن يسعى بين الصفا والمروة، فأراد أن يبين أن قول عروة: فلما مسحوا الركن حلوا، محمول على أن المراد استلموا الحجر الأسود، وطافوا وسعوا حلوا، بدليل حديث ابن عمر الذي أردفه به في هذا الباب، وسيأتي إتمام الكلام على قول عروة المذكور عند ذكره قريبًا. الحديث التاسع والتسعون حَدَّثَنَا أَصْبَغُ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، قال: أَخْبَرَنِي عَمْرٌو عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ذَكَرْتُ لِعُرْوَةَ، قَالَ: فَأَخْبَرَتْنِى عَائِشَةُ رضي الله عنها أَنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ تَوَضَّأَ، ثُمَّ طَافَ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً، ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رضي الله عنهما مِثْلَهُ، ثُمَّ حَجَجْتُ مَعَ أَبِي الزُّبَيْرِ رضي الله عنه فَأَوَّلُ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ، ثُمَّ رَأَيْتُ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارَ يَفْعَلُونَهُ، وَقَدْ أَخْبَرَتْنِي أُمِّي أَنَّهَا أَهَلَّتْ هِيَ وَأُخْتُهَا وَالزُّبَيْرُ وَفُلاَنٌ وَفُلاَنٌ بِعُمْرَةٍ، فَلَمَّا مَسَحُوا الرُّكْنَ حَلُّوا. قوله: "ذكرت لعروة، فأخبرتني عائشة" حذف البخاري صورة السؤال وجوابه، واقتصروا على المرفوع منه، وقد ذكره مسلم من هذا الوجه، ولفظه أن رجلًا من أهل العراق قال له: سل لي عروة بن الزبير، عن رجل يهل بالحج، فإذا طاف: أيحل أم لا؟ فإن قال لك: لا يحل فقل له: إن رجلًا يقول ذلك، قال: فسألته، قال: لا يحل من أهل بالحج إلا بالحج، قال: فتصدى لي الرجل، فحدثته فقال: فقل له فإن كان رجلًا كان يخبر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد فعل ذلك، وما شأن أسماء والزبير فعلا ذلك، قال: فجئته، أي: عروة، فذكرت له ذلك، فقال: من هذا، فقلت: لا أدري، أي: لا أعرف اسمه، قال: فما باله لا يأتيني بنفسه، يسألني أظنه عراقيًا، يعني: وهم يتعنتون في المسائل، قال: قد حج رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأخبرتني عائشة أن أول شيء بدأ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قدم مكة أنه توضأ، فذكر الحديث،

والرجل الذي سأل لم أقف على اسمه. وقوله: "فإن رجلًا كان يخبر" عني به ابن عباس، فإنه كان يذهب إلى أن من لم يسق الهدي وأهلّ بالحج إذا طاف يحل من حجه، وأن من أراد أن يستمر على حجه لا يقرب البيت حتى يرجع من عرفة، وكان يأخذ ذلك من أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- لمن لم يسق الهدي من أصحابه أن يجعلوها عمرة، وقد أخرج المصنف ذلك في باب: حجة الوداع في المغازي عن ابن جريج، حدثني عطاء، عن ابن عباس، قال: إذا طاف بالبيت فقد حل، فقلت: من أين؟ فقال: هذا ابن عباس، قال: من قوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} , ومن أمر النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه أن يحلوا في حجة الوداع، قلت: إنما كان ذلك بعد ذلك المعرف، قال: كان ابن عباس يراه قبل وبعد، والمعرف كمعظم الموقف بعرفات. وأخرجه مسلم عن ابن جريج بلفظ: كان ابن عباس يقول: لا يطوف بالبيت حاج ولا غيره إلا حل، قلت لعطاء: من أين تقول ذلك؟ فذكره، ولمسلم عن قتادة: سمعت أبا حسان الأعرج، قال: قال رجل لابن عباس: ما هذه الفتيا أن من طاف بالبيت فقد حل؟ فقال: سنة نبيكم، وإن رغمتم، وله عن وبرة بن عبد الرحمن، قال: كنت جالسًا عند ابن عمر، فجاءه رجل، فقال: أيصلح لي أن أطوف بالبيت قبل أن آتي الموقف؟ قال: نعم، قال: فإن ابن عباس يقول: لا تطف بالبيت حتى تأتي الموقف، فقال ابن عمر: قد حج رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فطاف بالبيت قبل أن يأتي الموقف فبقول رسول الله أحق أن نأخذ أو بقول ابن عباس إن كنت صادقًا، وإذا تقرر ذلك فمعنى قوله في حديث أبي الأسود: قد فعل ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, أي: أمر به وعرف أن هذا مذهب لابن عباس خالفه فيه الجمهور، ووافقه فيه ناس قليل، منهم إسحاق بن راهويه، وعرف أن مأخذه فيه ما ذكر، وجواب الجمهور أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر أصحابه أن يفسخوا حجهم فيجعلوه عمرة، ثم اختلفوا فذهب الأكثر إلى أن ذلك كان خاصًا بهم، وذهب طائفة إلى أن ذلك جائز لمن بعدهم، وقد مرَّ ما فيه، واتفقوا كلهم على أن من أهل بالحج مفردًا لا يضره الطواف بالبيت، وبذلك إحتج عروة في حديث الباب أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بدأ بالطواف ولم يحل من حجه، ولا صار عمرة، وكذا أبو بكر وعمر، فمعنى قوله: "ثم لم تكن عمرة"، أي: لم تكن الفعلة عمرة هذا إن كان بالنصب على أنه خبر كان، ويحتمل أن تكون كان تامة، والمعنى: ثم لم تحصل عمرة، وهي على هذا بالرفع، وفي رواية مسلم: بدل عمرة غيره بغين معجمة، وياء ساكنة آخره هاء، قال عياض: وهو تصحيف، قال النووي: لها وجه، أي: لم يكن غير الحج، وكذا وجهه القرطبي.

وقوله: "ثم حججت مع أبي الزبير" كذا للأكثر، والزبير بالكسر بدل من أبي، وفي وراية الكشميهني: مع ابن الزبير، يعني أخاه عبد الله، قال عياض: وهو تصحيف، وسيأتي في الطريق الآتية بعد أربعة عشر بابًا مع أبي الزبير بن العوام، وكان سبب هذا التصحيف أنه وقع في تلك الطريق من الزيادة بعد ذكر أبي بكر وعمر ذكر عثمان، ثم معاوية وعبد الله بن عمر، قال: ثم حججت مع أبي الزبير فذكره، وقد عرف أن قتل الزبير كان قبل معاوية، وابن عمر، لكن لا مانع أن يحجا قبل قتل الزبير، فرآها عروة، أو لم يقصد بقوله، ثم الترتيب، فإن فيها أيضًا، "ثم آخر من رأيت فعل ذلك ابن عمر" فأعاد ذكره مرة أخرى، وأغرب بعض الشارحين فرجح رواية الكشميهني موجهًا لها بما ذكرته، وقد أوضحت جوابه بحمد الله تعالى. وقوله: "وقد أخبرتني أمي" هي أسماء بنت أبي بكر، وأختها هي عائشة، واستشكل من حيث أن عائشة في تلك الحجة لم تطف لحيضها، وأجيب بالحمل على أنه أراد حجة أخرى غير حجة الوداع، فقد كانت عائشة بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- تحج كثيرًا، وسيأتي إن شاء الله تعالى شيء من هذا في أبواب العمرة. وقوله: "فلما مسحوا الركن حلوا"، أي: صاروا حلالًا، وقد مرَّ عند الترجمة وجه الجمع بينها وبينه، وتمام ما قيل في لفظ عروة هذا هو أن ابن التين قال: إن معنى قول عروة: مسحوا الركن، أي: ركن المروة، أي: عند ختم السعي، وهو متعقب برواية عبد الله مولى أسماء عن أسماء، قالت: اعتمرت أنا وعائشة والزبير وفلان وفلان، فلما مسحنا البيت أحللنا، أخرجه المصنف، وسيأتي في أبواب العمرة، وقال النووي: لابد من تأويل قوله: مسحوا الركن؛ لأن المراد به الحجر الأسود، ومسحه يكون في أول الطواف، ولا يحصل التحلل بمجرد مسحه بالإجماع، فتقديره: فلما مسحوا الركن وأتموا طوافهم وسعيهم وحلقوا وحلوا، وحذفت هذه المقدرات للعلم بها لظهورها، وقد أجمعوا على أنه لا يتحلل قبل تمام الطواف، ثم مذهب الجمهور أنه لابد من السعي بعده، ثم الحلق، وتعقب بأن المراد بمسح الركن الكناية عن تمام الطواف، لاسيما واستلام الركن يكون في كل طوفة، فالمعنى: فلما فرغوا من الطواف حلوا. وأما السعي والحلق فمختلف فيهما كما قال، ويحتمل أن يكون المعنى: فلما فرغوا من الطواف وما يتبعه حلُّوا وأراد بمسح الركن هنا استلامه بعد فراغ الطواف والركعتين كما وقع في حديث جابر فحينئذ لا يبقى إلا تقدير وسعوا؛ لأن السعي شرط عند عروة بخلاف ما نقل

رجاله ستة

عن ابن عباس، وأما تقدير حلقوا فينظر في رأي عروة، فإن كان الحلق عنده نسكًا فيقدر في كلامه، إلا فلا. وفي هذا الحديث استحباب الابتداء بالطواف للقادم لأنه تحية المسجد الحرام، واستثنى بعض الشافعية ومن وافقه المرأة الجميلة أو الشريفة التي لا تبرز فيستحب لها تأخير الطواف إلى الليل إن دخلت نهارًا، وكذا من خاف فوت مكتوبة أو جماعة مكتوبة أو مؤكدة أو فائتة فإن ذلك كله يقدم على الطواف، وذهب الجمهور إلى أن من ترك طواف القدوم لا شيء عليه، وعن مالك وأبي ثور من الشافعية: عليه دم، وهل يتداركه من تعمد تأخيره لغير عذر وجهان كتحية المسجد، وفيه الوضوء للطواف، وليس فيه دلالة على الاشتراط إلا إذا انضم إليه قوله عليه الصلاة والسلام: "خذوا عني مناسككم" وباشتراط الوضوء للطواف، قال الجمهور: وخالف فيه بعض الكوفيين. ومن الحجة عليهم قوله -صلى الله عليه وسلم- لعائشة لما حاضت: "غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري"، وقد قال النووي في "شرح المهذب": انفرد أبو حنيفة بأن الطهارة ليست بشرط في الطواف، واختلف أصحابه في وجوبها وجبرانها بالدم إن فعله، وتعقب عليه بأنه لم ينفرد، فقد أخرج ابن أبي شيبة عن شعبة، قال: سألت الحكم وحمادًا ومنصورًا وسليمان عن الرجل يطوف بالبيت على غير طهارة، فلم يروا بأسًا به، وروي عن عطاء: إذا طافت المرأة ثلاثة أطواف فصاعدًا ثم حاضت أجزأ عنها، ويمكن أن يكون النووي أراد انفراده عن الأئمة الثلاثة، لكن عند أحمد رواية أن الطهارة للطواف واجبة تجبر بالدم، وكذلك عند المالكية. رجاله ستة وفيه ذكر أبي بكر وعمر والزبير وأسماء، وقد مرَّ الجميع: مرَّ أصبغ وعمرو بن الحارث في السابع والستين من الوضوء، ومرَّ محمد بن عبد الرحمن في الثامن والثلاثين من الغسل، ومرَّ ابن وهب في الثالث عشر من العلم، ومرَّ الزبير في الثامن والأربعين منه، ومرت أسماء في الثامن والعشرين منه، ومرَّ أبو بكر في باب من لم يتوضأ من لحم الشاة بعد الحادي والسبعين من الوضوء, ومرَّ عروة وعائشة في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ عمر في الأول منه. وفي الحديث فلان وفلان ولم أر من سماهما. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإخبار بالإفراد والعنعنة والذكر، رواته: بصريون ومدنيان، أخرجه مسلم في الحج.

الحديث المائة

الحديث المائة حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، قال: حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ أَنَسٌ، قال: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا طَافَ فِي الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ أَوَّلَ مَا يَقْدَمُ سَعَى ثَلاَثَةَ أَطْوَافٍ، وَمَشَى أَرْبَعَةً، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ يَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. قوله: "ثم سجد سجدتين" المراد بهما ركعتا الطواف. وقوله: "ثم يطوف بين الصفا والمروة": المراد به السعي بينهما، ويأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى حيث ترجم له المصنف بعد خمسة عشر بابًا. رجاله خمسة قد مرّوا: مرَّ إبراهيم بن المنذر في الأول من العلم، ومرَّ أبو ضمرة أنس بن عياض في الرابع عشر من الوضوء، ومرَّ موسى بن عقبة في الخامس منه، ومرَّ نافع في الأخير من العلم، ومرَّ ابن عمر في أول الإيمان قبل ذكر حديث منه. الحديث الحادي والمائة حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، قال: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ الطَّوَافَ الأَوَّلَ يَخُبُّ ثَلاَثَةَ أَطْوَافٍ، وَيَمْشِي أَرْبَعَةً، وَأَنَّهُ كَانَ يَسْعَى بَطْنَ الْمَسِيلِ إِذَا طَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. أخرج المصنف حديث ابن عمر من وجهين كلاهما من رواية نافع عنه، الأولى: من رواية موسى بن عقبة، والثانية: من رواية عبيد الله، والراوي عنهما واحد وهو أبو ضمرة أنس بن عياض، زاد في الرواية الأولى: ثم سجد سجدتين ... إلخ، ما مرَّ وزاد في الثانية: إنه يخب ثلاثة أطواف، وأنه يسعى بطن المسيل، وقد مرَّ الكلام على الرمل في باب كيف كان بدء الرمل، ومرَّ الكلام على قوله: يخب في باب استلام الحجر الأسود حين يقدم مكة. وقوله: "بطن المسيل الوادي" لأنه المكان الذي يجتمع فيه السيل. وقوله: "بطن" منصوب على الظرف.

رجاله خمسة

رجاله خمسة: مرَّ محلهم في الذي قبله إلا عبيد الله العمري، وقد مرَّ في الرابع عشر من الوضوء مع أبي ضمرة. ثم قال المصنف:

باب طواف النساء مع الرجال

باب طواف النساء مع الرجال أي: هل يختلطن بهم أو يطفن معهم على حدة بغير اختلاط، أو ينفردن. الحديث الثاني والمائة وَقَالَ لِي عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنَا عَطَاءٌ إِذْ مَنَعَ ابْنُ هِشَامٍ النِّسَاءَ الطَّوَافَ مَعَ الرِّجَالِ، قَالَ: كَيْفَ يَمْنَعُهُنَّ، وَقَدْ طَافَ نِسَاءُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- مَعَ الرِّجَالِ؟ قُلْتُ: أَبَعْدَ الْحِجَابِ أَوْ قَبْلُ؟ قَالَ: إِي لَعَمْرِي لَقَدْ أَدْرَكْتُهُ بَعْدَ الْحِجَابِ. قُلْتُ: كَيْفَ يُخَالِطْنَ الرِّجَالَ؟ قَالَ: لَمْ يَكُنَّ يُخَالِطْنَ، كَانَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها تَطُوفُ حَجْرَةً مِنَ الرِّجَالِ لاَ تُخَالِطُهُمْ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: انْطَلِقِي نَسْتَلِمْ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَتْ: انْطَلِقِي عَنْكِ. وَأَبَتْ. يَخْرُجْنَ مُتَنَكِّرَاتٍ بِاللَّيْلِ فَيَطُفْنَ مَعَ الرِّجَالِ، وَلَكِنَّهُنَّ كُنَّ إِذَا دَخَلْنَ الْبَيْتَ قُمْنَ حَتَّى يَدْخُلْنَ وَأُخْرِجَ الرِّجَالُ، وَكُنْتُ آتِي عَائِشَةَ أَنَا وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَهِىَ مُجَاوِرَةٌ فِي جَوْفِ ثَبِيرٍ. قُلْتُ: وَمَا حِجَابُهَا؟ قَالَ هِيَ فِي قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ لَهَا غِشَاءٌ، وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهَا غَيْرُ ذَلِكَ، وَرَأَيْتُ عَلَيْهَا دِرْعًا مُوَرَّدًا. هذا أحد الأحاديث التي أخرجها عن شيخه أبي عاصم النبيل بواسطة، وقد ضاق على الإسماعيلي مخرجه، فأخرجه أولًا من طريق البخاري، ثم أخرجه هكذا وكذا البيهقي، وأما أبو نعيم فقد أخرجه أولًا من طريق البخاري، ثم أخرجه من طريق أبي قرة موسى بن طارق، عن ابن جريج قال مثله غير قصة عطاء مع عبيد بن عمير، قال أبو نعيم: هذا حديث عزيز ضيق المخرج، وقد أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" عن ابن جريج بتمامه، وكذا أخرجه الفاكهاني في كتاب مكة عن ابن جريج، فذكره بتمامه أيضًا. وقوله: "إذ منع ابن هشام" هو إبراهيم أو أخوه محمد، ويأتي تعريفهما قريبًا في السند، وظاهر هذا أن ابن هشام أول من منع ذلك، لكن روى الفاكهاني عن إبراهيم النخعي قال: نهى عمر أن يطوف الرجال مع النساء، قال: فرأى رجلًا معهن، فضربه بالدِّرَة وهذا إن صحّ لم يعارض الأول لأن ابن هشام منعهن أن يطفن حين يطوف الرجال مطلقًا، فلهذا أنكر عليه

عطاء، واحتج بصنيع عائشة وصنيعها شبيه بهذا المنقول عن عمر، قال الفاكهاني: ويذكر عن ابن عيينة أن أول من فرق بين الرجال والنساء في الطواف خالد بن عبد الله القسري، وهذا إن ثبت فلعله منع ذلك وقتًا، ثم تركه فإنه كان أمير مكة في زمن عبد الملك بن مروان، وذلك قبل ابن هشام بمدة طويلة. وقوله: "كيف تمنعهن؟ " معناه أخبرني ابن جريج بزمان المنع قائلًا فيه: كيف تمنعهن؟ وقوله: "وقد طاف نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- مع الرجال"، أي: غير مختلطات بهم. وقوله: "بعد الحجاب" في رواية المستملي أبعد بإثبات همزة الاستفهام وكذا هو للفاكهاني. وقوله: "إي لعمري" هو بكسر الهمزة بمعنى نعم. وقوله: "لقد أدركته بعد الحجاب" ذكر عطاء هذا لرفع توهم من يتوهم أنه حمل ذلك عن غيره، ودل على أنه رأى ذلك منهن، والمراد بالحجاب نزول آية الحجاب، وهي قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ}، وكان ذلك في تزويج النبي -صلى الله عليه وسلم- بزينب بنت جحش، ولم يدرك ذلك عطاء قطعًا. وقوله: "يخالطن" في رواية المستملي: يخالطهن في الموضعين والرجال بالرفع على الفاعلية. وقوله: "حجرة" بفتح المهملة وسكون الجيم بعدها راء، أي: ناحية، قال القزاز: هو مأخوذ من قولهم: نزل فلان حجرة من الناس، أي: معتزلًا، وفي رواية الكشميهني: حجره بالزاي، وهي رواية عبدالرزاق، فإنه فسره في آخره، فقال: يعني محجوزاً بينها وبين الرجال بثوب، وأنكر ابن قرقول حجرة بضم أوله وبالراء، وليس بمنكر، فقد حكاه ابن عديس، وابن سيده، فقالا: يقال: قعد حجرة بالفتح والضم، أي: ناحية. وقوله: "فقالت امرأة يحتمل أنها دقرة" بكسر الدال، ويأتي تعريفها في السند. وقوله: "انطلقي عنك"، أي: عن جهة نفسك. وقوله: "يخرجن" زاد الفاكهاني، وكن يخرجن. وقوله: "متنكرات" في رواية عبد الرزاق مستترات، واستنبط منه الداوودي جواز النقاب للنساء في الطواف، وهو في غاية البعد، قلت: ليس ببعيد لأن التنكر لا يمكن إلا بتغطية

رجاله أربعة

الوجه أو بعضه. وقوله: "إذا دخلن البيت قمن" في رواية الفاكهاني: سترن. وقوله: "حين يدخلن" في رواية الكشميهني: حتى يدخلن، وكذا هو للفاكهاني، والمعنى إذا أردن دخول البيت وقفن حتى يدخلن حال كون الرجال مخرجين منه. وقوله: "وكنت آتي عائشة أنا وعبيد بن عمير"، أي: الليثي، والقائل ذلك عطاء، وسيأتي في أول الهجرة عنه، زرت عائشة مع عبيد بن عمير. وقوله: "وهي مجاورة في جوف ثبير"، أي: مقيمة فيه، واستنبط منه ابن بطال الاعتكاف في غير المسجد لأن ثبيرًا خارج عن مكة، وهو في طريق مني، وهذا مبني على أن المراد بثبير الجبل المشهور الذي كانوا في الجاهلية يقولون: أشرق ثبير كي ما نغير، وسيأتي بعد قليل، وهذا هو الظاهر وهو جبل المزدلفة، لكن بمكة خمسة جبال أخرى يقال لكل منها: ثبير، ذكره أبو عبيد البكري، وياقوت، وغيرهما، فيحتمل أن يكون المراد لأحدهما لكن يلزم من إقامة عائشة هناك أنها أرادت الاعتكاف، سلمنا، لكن لعلها اتخذت في المكان الذي جاورت فيه مسجدًا عتكفت فيه وكأنها لم يتيسر لها مكان في المسجد الحرام تعتكف فيه، فاتخذت ذلك. وقوله: "وما حجابها" زاد الفكهاني حينئذ. وقوله: "تركية"، قال عبد الرزاق: هي قبة صغيرة من لبود تضرب في الأرض. وقوله: "درعا موردًا"، أي: قميصًا لونه لون الورد، ولعبد الرزاق درعًا معصفرًا، وأنا صبي، فبين بذلك سبب رؤيته إياها، ويحتمل أن يكون رأى ما عليها اتفاقًا. رجاله أربعة وفيه ذكر ابن هشام وذكر عائشة وعبيد بن عمير، وقد مرَّ الجميع -إلا ابن هشام-: مرَّ أبو عاصم في أثر بعد الرابع من العلم، ومرَّ عمرو بن علي الفلاَّس في السابع والأربعين من الوضوء, ومرَّ عبيد بن عمير في الرابع منه، ومرَّ ابن جريج في الثالث من الحيض، ومرَّ عطاء بن أبي رباح في التاسع والثلاثين من العلم، ومرت عائشة في الثاني من بدء الوحي. وابن هشام المراد به إبراهيم بن هشام بن إسماعيل بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن

الحديث الثالث والمائة

عمر بن مخزوم، خال هشام بن عبد الملك، ووالي المدينة، وأخوه محمد بن هشام، وكانا خاملين قبل الولاية، وقيل: ابن هشام المراد به أخوه محمد تولى محمد إمرة مكة، وتولى إبراهيم إمرة المدينة، وفوض هشام لإبراهيم إمرة الحج بالناس في خلافته، وفي سنة خمس وعشرين ومائة كتب الوليد بن يزيد إلى يوسف بن عمر الثقفي، فقدم عليه، فدفع إليه خالد بن عبد الله القسري، ومحمد أو إبراهيم بن هشام المذكورين، وأمره بقتلهم، فعذبهم حتى قتلهم، وفي الحديث لفظ: "امرأة"، قال في "الفتح": لم أقف على اسمها، ويحتمل أن تكون دِقْرة بكسر المهملة وسكون القاف امرأة روى عنها يحيى بن أبي كثير أنها كانت تطوف مع عائشة بالليل، فذكر قصة أخرجها الفاكهاني، وغلط من ذكرها في الصحابة، بل هي تابعية من الطبقة الأولى، يقال إنه بنت غالب الراسبية، بصرية، والدة عبد الرحمن بن أذينة، أخرج لها النسائي من روايتها عن عائشة في العدة، وذكرها ابن حبان في ثقات التابعين، لها عن عائشة حديث في التصليب في الثوب، روى عنها محمد بن سيرين، وبديل بن ميسرة، ووهم فيها ابن أبي حاتم، فظنها رجلًا فقال: دقرة روى عن عائشة، وروى عنه بديل بن ميسرة. الحديث الثالث والمائة حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قال: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ رضي الله عنها عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها، زَوْجِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَتْ: شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنِّي أَشْتَكِي. فَقَالَ: "طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ". فَطُفْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حِينَئِذٍ يُصَلِّي إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ، وَهْوَ يَقْرَأُ {وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ}. قوله: "أني أشتكي" أي أنها ضعيفة، وقد بين المصنف عن هشام بن عروة، عن أبيه سبب طواف أم سلمة، وأنه طواف الوداع وسيأتي بعد ستة أبواب. وقوله: "وأنتِ راكبة" في رواية هشام على بعيرك. وقوله: "والنبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي" في رواية هشام: والناس يصلون، وبيّن فيها أنها صلاة الصبح، وإنما أمرها أن تطوف من وراء الناس ليكون أستر لها ولا تقطع صفوفهم أيضًا، ولا يتأذون بدابتها، وفيه جواز الطواف للراكب إذا كان لعذر، وقد مرَّ الكلام عليه مستوفى في باب استلام الركن بالمحجن، وهذا الحديث قد مرَّ في باب إدخال البعير المسجد للعلة، ومرت مباحثه هناك.

رجاله ستة

رجاله ستة قد مرّوا: مرَّ إسماعيل بن أبي أويس في الخامس عشر من الإيمان, ومرَّ مالك وعروة في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ محمد بن عبد الرحمن في الثامن والثلاثين من الغسل، ومرت زينب بنت أبي سلمة في السبعين من العلم، ومرت أم سلمة في السادس والخمسين منه. ثم قال المصنف:

باب الكلام في الطواف

باب الكلام في الطواف أي: إباحته، وإنما لم يصرح بذلك لأن الخبر ورد في كلام يتعلق بأمر بمعروف لا بمطلق الكلام، ولعله أشار إلى الحديث المشهور عن ابن عباس موقوفًا ومرفوعًا: الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه الكلام، فمن نطق فلا ينطق إلا بخير، أخرجه أصحاب السنن, وصححه ابن خزيمة وابن حبان، وقد استنبط منه ابن عبد السلام أن الطواف أفضل أعمال الحج لأن الصلاة أفضل من الحج، فيكون ما اشتملت عليه أفضل، قال: وأما حديث: "الحج عرفة" فلا يتعين التقدير معظم الحج عرفة، بل يجوز إدراك الحج بالوقوف بعرفة، وفي هذا نظر ولو سلم، فما لا يتقوم الحج إلا به أفضل مما ينجبر، والوقوف والطواف سواء في ذلك فلا تفضيل. الحديث الرابع والمائة حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، قال: حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ الأَحْوَلُ أَنَّ طَاوُسًا أَخْبَرَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- مَرَّ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ بِإِنْسَانٍ رَبَطَ يَدَهُ إِلَى إِنْسَانٍ بِسَيْرٍ، أَوْ بِخَيْطٍ، أَوْ بِشَيْءٍ غَيْرِ ذَلِكَ، فَقَطَعَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: "قُدْهُ بِيَدِهِ". قوله: "بإنسان ربط يده إلى إنسان" زاد أحمد عن ابن جريج: إلى إنسان آخر، وفي رواية النسائي عن ابن جريج: قد ربط يده بإنسان. وقوله: "يسير" بمهملة مفتوحة وياء ساكنة معروف، وهو ما يقد من الجلد وهو الشراك. وقوله: "أو بشيء غير ذلك" كأنَّ الراوي لم يضبط ما كان مربوطاً به، وقد روى أحمد والفاكهاني عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أدرك رجلين وهما مقترنان، فقال: "ما بال القِران" قالا: إنا نذرنا لنقترنن حتى نأتي الكعبة، فقال: "أطلقا أنفسكما ليس هذا نذرًا، إنما النذر ما يبتغى به وجه الله تعالى" وإسناده إلى عمرو حسن، قال في "الفتح": لم أقف على تسمية هذين الرجلين صريحًا إلى آخر ما يأتي في السند.

وقوله: "قُدْ بيده" بضم القاف وسكون الدال، فعل أمر، وفي رواية أحمد والنسائي: "قده" بإثبات هاء الضمير، وهو للرجل المقود، قال النووي: وقطعه عليه الصلاة والسلام، السير محمول على أنه لم تمكن إزالة هذا المنكر إلا بقطعه، أو أنه دل على صاحبه، فتصرف فيه، وقال غيره: كان أهل الجاهلية يتقربون إلى الله بهذا الفعل، وهذا بين من حديثي عمرو بن شعيب المار وخليفة بن بشر الآتي في السند، وقال ابن بطال في هذا الحديث أنه يجوز للطائف فعل ما خف من الأفعال وتغيير ما يراه الطائف من المناكر، وفيه الكلام في الأمور الواجبة والمستحبة والمباحة، قال ابن المنذر: أولى ما شغل به المرء نفسه في الطواف ذكر الله وقراءة القرآن، ولا يحرم الكلام المباح إلا أن الذكر أسلم، وحكى ابن التين خلافًا في كراهة الكلام المباح، وعن مالك تقييد الكراهة بالطواف الواجب، قال ابن المنذر: واختلفوا في القراءة، فكان ابن المبارك يقول: ليس شيء أفضل من قراءة القرآن، وفعله مجاهد، واستحبه الشافعي وأبو ثور، وقيّده الكوفيون بالسر، وروي عن عروة والحسن كراهته، وعن عطاء ومالك أنه محدث، وعن مالك: لا بأس به إذا أخفاه ولم يكثر منه، قال ابن المنذر: من أباح القراءة في البوادي والطرق، ومنعه في الطواف لا حجة له. وقد استحبت الشافعية للطائف أن لا يتكلم إلا بذكر الله تعالى، وأنه يجوز الكلام في الطواف ولا يبطل ولا يكره، لكن الأفضل تركه إلا أن يكون كلامًا في خير كأمر بمعروف أو نهي عن منكر، أو تعليم جاهل، أو جواب فتوى، وقد روى الشافعي عن إبراهيم بن نافع، قال: كلمت طاووسًا في الطواف فكلمني، وفي النسائي عن ابن عباس: الطواف بالبيت صلاة، فأقلوا فيه الكلام فليتأدب الطائف بآداب الصلاة خاضعًا حاضر القلب، ملازم الأدب في ظاهره وباطنه، مستشعرًا بقلبه عظمة من يطوف ببيته، وليتجنب الحديث فيما لا فائدة فيه، لاسيما في محرم كغيبة ونميمة. وقد روي عن وهيب بن الورد، قال: كنت في الحجر تحت الميزاب، فسمعت: من تحت الأستار إلى الله أشكو وإليك يا جبريل ما ألقى من الناس من تفككهم حولي في الكلام، أخرجه الأزرقي وغيره، وقد مرَّ في باب التكبير عند الركن في حديث ابن عباس أن القرآن هو أفضل ما يقال في حالة الطواف، فراجعه، ونقل ابن التين عن الداوودي أن في هذا الحديث من نذر ما لا طاعة لله تعالى فيه، لا تلزمه، وتعقبه بأنه ليس في الحديث شيء من ذلك، وإنما ظاهر الحديث أنه كان ضرير البصر، ولهذا قال له: "قده بيده"، ولا يلزم

رجاله ستة

من أمره له بأن يقوده أنه كان ضريرًا بل يحتمل أن يكون لمعنى آخر غير ذلك، وأما ما أنكره من النذر فمتعقب بما في النسائي عن ابن جريج في هذا الحديث أنه قال أنه نذر، ولهذا أخرجه البخاري في أبواب النذر، كما يأتي إن شاء الله تعالى. رجاله ستة قد مرّوا: مرت الثلانة الأول بهذا النسق في الثالث من الحيض، ومرَّ سليمان بن أبي مسلم الأحول في الأول من التهجد بالليل، ومرَّ طاووس في باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين بعد الأربعين من الوضوء، ومرَّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي، وفي الحديث لفظ إنسانين مبهمين، قال في "الفتح": لم أقف على تسمية هذين الرجلين صريحًا إلا أن في الطبراني من طريق فاطمة بنت مسلم: حدثني خليفة بن بشر، عن أبيه أنه أسلم، فرد عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- ماله وولده، ثم لقيه هو وابنه طلق مقترنين بحبل، فقال: "ما هذا؟ " قال: حلفت لئن ردّ الله علي مالي وولدي لأحجنَّ بيت الله مقرونًا، فأخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- الحبل فقطعه، وقال لهما: "حُجَّا، إنَّ هذا من عمل الشيطان"، فيمكن أن يكون بشر وابنه طلق صاحبي القصة. وبشر هذا قال ابن حجر في "الإصابة": غير منسوب، وليس له هو وولده طلق من التعريف غير هذا الحديث، قال في "الفتح": وأغرب الكرماني، فقال: قيل اسم الرجل المقود ثواب ضد العقاب، قال: ولم أر ذلك لغيره، ولا أدري من أين أخذه، قلت: يؤيد ما قاله ابن حجر كون ثواب هذا لم يكن له ذكر في الصحابة. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإخبار بالإفراد والعنعنة والقول، ورواته: رازي وصنعاني ومكيان ويماني، أخرجه البخاري أيضًا في الحج وفي الأيمان والنذور، وأبو داود في الأيمان والنذور، والنسائي فيه، وفي الحج. ثم قال المصنف:

باب إذا رأى سيرا أو شيئا يكره في الطواف قطعه

باب إذا رأى سيرًا أو شيئًا يكره في الطواف قطعه الحديث الخامس والمائة حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ الأَحْوَلِ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- رَأَى رَجُلاً يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ بِزِمَامٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَقَطَعَهُ. قوله: "فقطعه"، قال ابن بطال: إنما قطعه لأن القود بالأزمة إنما يفعل بالبهائم، وهو مثلة، وهذا الحديث مختصر من الذي قبله، وقد مرَّ الكلام عليه في الذي قبله. رجاله خمسة: مرَّ محلهم في الذي قبله إلا أبو عاصم، وقد مرَّ هو في أثر بعد الرابع من العلم. ثم قال المصنف:

باب لا يطوف بالبيت عريان ولا يحج مشرك

باب لا يطوف بالبيت عريان ولا يحج مشرك الحديث السادس والمائة حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، قال: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، قَالَ يُونُسُ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه بَعَثَهُ فِي الْحَجَّةِ الَّتِى أَمَّرَهُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ يَوْمَ النَّحْرِ فِي رَهْطٍ يُؤَذِّنُ فِي النَّاسِ: "أَلاَ لاَ يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلاَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ". هذا الحديث قد تقدم بأتم من هذا في أوائل الصلاة في باب ما يستر من العورة، واستوفي الكلام عليه هناك. رجاله سبعة قد مرّوا: مرَّ يحيى بن بكير، والليث، وابن شهاب في الثالث من بدء الوحي، ومرَّ يونس في متابعة بعد الرابع منه، ومرَّ حميد بن عبد الرحمن في الثلاثين من الإيمان, ومرَّ أبو هريرة في الثاني منه، ومرَّ أبو بكر الصديق في باب من لم يتوضأ من لحم الشاة، الخ، بعد الحادي والسبعين من الوضوء. ثم قال المصنف:

باب إذا وقف في الطواف

باب إذا وقف في الطواف أي: هل ينقطع طوافه أو لا؟ وكأنه أشار بذلك إلى ما روي عن الحسن أن من أقيمت عليه الصلاة وهو في الطواف فقطعه أن يستأنفه، ولا يبني على ما مضى، وخالفه الجمهور، فقالوا: يبني، وقيده مالك بصلاة الفريضة، وهو قول الشافعي، وفي غيرها إتمام الطواف أولى، فإن خرج بني، وقال أبو حنيفة وأشهب بقطعه ويبني، واختار الجمهور قطعه للحاجة، وقال نافع: طول القيام في الطواف بدعة. ثم قال: وقال عطاء فيمن يطوف: فتقام الصلاة أو يدفع عن مكانه إذا سلم يرجع إلى حيث قطع عليه، فيبني، وَصَلَ نحوه عبد الرزاق عن ابن جريج، قلت لعطاء: الطواف الذي تقطعه على الصلاة وأعتد به أيجزيء؟ قال: نعم، وأحب إلى أن لا يعتد به، قال: فأردت أن أركع قبل أن أتم سبعي، قال: لا، أوف سبعك إلا أن تمنع من الطواف، وقال سعيد بن منصور، عن عطاء إنه كان يقول في الرجل يطوف بعض طوافه ثم تحضر الجنازة: يخرج فيصلي عليها، ثم يرجع فيقضي ما بقي عليه من طوافه، وعطاء مرَّ في التاسع والثلاثين من العلم. ثم قال: ويذكر نحوه عن ابن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله تعالى عنهم، وما روي عن ابن عمر لفظ جميل بن زيد الذي رواه عنه، قال: رأيت ابن عمر طاف بالبيت، فأقيمت الصلاة فصلى مع القوم، ثم قام فبنى على ما مضى من طوافه، وما روي عن عبد الرحمن بن أبي بكر، قال عطاء أن عبد الرحمن طاف في إمارة عمرو بن سعيد على مكة في خلافة معاوية، فخرج عمرو إلى الصلاة، فقال له عبد الرحمن: أنظرني حتى أنصرف على وتر، فانصرف على ثلاثة أشواط، ثم صلى، ثم أتم ما بقي، وروى عبد الرزاق عن ابن عباس، قال: من بدت له حاجة وخرج إليها فليخرج على وتر من طوافه، ويركع ركعتين، ففهم بعضهم منه أنه يجزىء عن ذلك، ولا يلزمه الإتمام، ويؤيده ما رواه عبد الرزاق عن عطاء: إن كان الطواف تطوعًا، وخرج في وتر، فإنه يجزىء عنه، وعن أبي الشعثاء أنه أقيمت الصلاة وقد طاف خمسة أشواط فلم يتم ما بقي، ولم يذكر البخاري في الباب حديثًا مرفوعًا

إشارة إلى أنه لم يجد شيئًا على شرطه، وقد أسقط ابن بطال في شرحه ترجمة الباب الذي يليه، فصارت أحاديثه لترجمة إذا وقف في الطواف، ثم استشكل إيراد كونه عليه الصلاة والسلام طاف أُسبوعًا وصلى ركعتين في هذا الباب، وأجاب بأنه يستفاد منه أنه عليه الصلاة والسلام لم يقف، ولا جلس في طوافه، فكانت السنّة فيه الموالاة، أما ما روي عن ابن عمر، فقد وصله سعيد بن منصور، وأما ما روي عن عبد الرحمن فقد وصله عبد الرزاق عن ابن جريج، وابن عمر مرَّ في أول الإيمان, قبل ذكر حديث منه، ومرَّ عبد الرحمن في الرابع من كتاب الغسل. ثم قال المصنف:

باب صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- لسبوعه ركعتين

باب صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- لسبوعه ركعتين السُبوع: بضم المهملة والموحدة لغة قليلة في الأسبوع، قال ابن التين: هو جمع سُبع بالضم ثم السكون، كبرد وبرود، ووقع في حاشية "المصباح" مضبوطًا بفتح أوله. ثم قال: وقال نافع: كان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يصلي لكل سبوع ركعتين؛ وصله عبد الرزاق عن سالم بن عبد الله، عن ابن عمر أنه كان يطوف بالبيت سبعًا ثم يصلي ركعتين، وعن معمر، عن نافع أن ابن عمر كان يكره قرن الطواف، ويقول: على كل سبع صلاة ركعتين، وكان لا يقرن، ونافع مرَّ في الأخير من العلم، ومرَّ محل ابن عمر الآن. ثم قال: وقال إسماعيل بن أمية: قلت للزهري: إن عطاء يقول: تجزىء المكتوبة من ركعتي الطواف، فقال: السنة أفضل، لم يطف النبي -صلى الله عليه وسلم- سبوعًا قط إلا صلَّى ركعتين، وهذا وصله ابن أبي شيبة مختصرًا، ولفظ الزهري: مضت السُّنَّة أن مع كل أسبوع ركعتين، ووصله عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري بتمامه، وأراد الزهري أن يستدل على أن المكتوبة لا تجزيء عن ركعتي الطواف بما ذكره من أنه عليه الصلاة والسلام لم يطف أسبوعًا قط إلا صلَّى ركعتين، وفي الاستدلال بذلك نظر؛ لأن قوله: إلا صلَّى ركعتين أعم من أن يكون فرضًا أو نفلًا؛ لأن الصبح ركعتان، فتدخل في ذلك، لكن الحيثية مرعية، والزهري لا يخفى عليه ذلك، فلم يرد بقوله: إلا صلى ركعتين، أي: من غير المكتوبة، وإسماعيل مرَّ في الحادي والستين من الزكاة، ومرَّ الزهري في الثالث من بدء الوحي، ومرَّ عطاء في التاسع والثلاثين من العلم. الحديث السابع والمائة حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، سَأَلْنَا ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَيَقَعُ الرَّجُلُ عَلَى امْرَأَتِهِ فِي الْعُمْرَةِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ؟ قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، ثُمَّ صَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، وَطَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَقَالَ {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}. قَالَ: وَسَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما فَقَالَ: لاَ يَقْرَبِ امْرَأَتَهُ حَتَّى يَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ.

رجاله خمسة

قوله: "وطاف بين الصفا والمروة" فيه تجويز لأنه يسمى سعيًا لا طوافاً، إذ حقيقة الطواف الشرعية فيه غير موجودة، أو هي حقيقة لغوية، ووجه الدلالة منه لمقصود الترجمة وهو أن القِرَان بين الأسابيع خلاف الأولى من جهة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يفعله، وقد قال: "خذوا عني مناسككم"، وهذا قول أكثر الشافعية وأبي يوسف، وعن أبي حنيفة ومحمد: يكره، وأجازه الجمهور بغير كراهة، وروى ابن أبي شيبة بإسناد جيد عن المسور بن مخرمة أنه كان يقرن بين الأسابيع إذ طاف بعد الصبح والعصر، فإذا طلعت الشمس أو غربت صلى لكل أسبوع ركعتين، وهذا الحديث قد مرَّ بعينه في باب قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} , ومرَّ الكلام عليه هناك. رجاله خمسة، قد مرّوا: مرَّ قتيبة في الحادي والعشرين من الإيمان, ومرَّ سفيان بن عيينة في الأول من بدء الوحي، ومرَّ جابر بن عبد الله في الرابع منه، ومرَّ عمرو بن دينار في الرابع والخمسين من العلم، ومرَّ محل ابن عمر في الأثر الثاني من هذه الآثار. ثم قال المصنف:

باب من لم يقرب الكعبة ولم يطف حتى يخرج إلى عرفة ويرجع بعد الطواف الأول

باب من لم يقرب الكعبة ولم يطف حتى يخرج إلى عرفة ويرجع بعد الطواف الأول الحديث الثامن والمائة حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، قال: حَدَّثَنَا فُضَيْلٌ، قال: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، قال: أَخْبَرَنِي كُرَيْبٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مَكَّةَ، فَطَافَ وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلَمْ يَقْرَبِ الْكَعْبَةَ بَعْدَ طَوَافِهِ بِهَا حَتَّى رَجَعَ مِنْ عَرَفَةَ. الحديث ظاهر فيما ترجم له، وهو لا يدل على أن الحاج يمنع من الطواف قبل الوقوف، فلعله عليه الصلاة والسلام ترك الطواف تطوعًا خشية أن يظن أحد أنه واجب، وكان يحب التخفيف على أُمته، واجتزأ عن ذلك بما أخبرهم به من فضل الطواف بالبيت، ونقل عن مالك أن الحاج لا يتنفل بطواف حتى يتم حجه، وعنه: الطواف بالبيت أفضل من صلاة النافلة لمن كان من أهل البلاد البعيدة وهو المعتمد، ونقل ابن التين عن الداوودي أن الطواف الذي طافه النبي -صلى الله عليه وسلم- حين قدم مكة من فروض الحج، ولا يكون إلا وبعده السعي، قال ابن التين: قوله: من فروض الحج ليس بصحيح؛ لأنه كان مفردًا، والمفرد لا يجب عليه طواف القدوم لقدومه، وليس طواف القدوم للحج، ولا هو فرض من فروضه، وهو كما قاله في "الفتح"، قلت: ابن التين مالكي، ومذهب مالك أن طواف القدوم واجب يجبر بالدم. رجاله خمسة، قد مرّوا: مرَّ محمد بن أبي بكر، وفضيل بن سليمان في الرابع والثمانين من استقبال القبلة، ومرَّ موسى بن عقبة في الخامس من الوضوء ومرَّ كريب في الرابع منه، ومرَّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإخبار بالإفراد والعنعنة والقول، ورواته: مصريان ومدنيان، وهذا الحديث من أفراد البخاري. ثم قال المصنف:

باب من صلى ركعتي الطواف خارجا من الحرم

باب من صلى ركعتي الطواف خارجًا من الحرم هذه الترجمة معقودة لبيان إجزاء صلاة ركعتي الطواف في أي موضع أراد الطائف، وإن كان ذلك خلف المقام أفضل، وهو متفق عليه إلا في الكعبة أو الحجر، ولذلك عقبها بترجمة من صلى ركعتي الطواف خلف المقام، ثم قال: وصلى عمر رضي الله تعالى عنه خارجًا من الحرم، وسيأتي هذا التعليق بعد بابين بلفظ: وطاف عمر بعد الصبح، وركب حتى صلى الركعتين بذي طوى، وصله مالك عن عبد الرحمن بن عبد القاري، عن عمر، به، ورواه ابن منده في "أماليه"، ولفظه: أن عمر طاف بعد الصبح سبعًا ثم خرج إلى المدينة، فلما كان بذي طوى وطلعت الشمس صلى ركعتين؛ ووصله البيهقي من حديث مالك، وعمر مرَّ في الأول من بدء الوحي. الحديث التاسع والمائة حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قال: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ زَيْنَبَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها، قالت: شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. وَحَدَّثَنِى مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مَرْوَانَ يَحْيَى بْنُ أَبِي زَكَرِيَّاءَ الْغَسَّانِيُّ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها زَوْجِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ وَهْوَ بِمَكَّةَ، وَأَرَادَ الْخُرُوجَ، وَلَمْ تَكُنْ أُمُّ سَلَمَةَ طَافَتْ بِالْبَيْتِ، وَأَرَادَتِ الْخُرُوجَ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا أُقِيمَتْ صَلاَةُ الصُّبْحِ فَطُوفِي عَلَى بَعِيرِكِ، وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ". فَفَعَلَتْ ذَلِكَ، فَلَمْ تُصَلِّ حَتَّى خَرَجَتْ. قوله: "وحدثني محمد بن حرب" الخ، هكذا عطف هذه على التي قبلها، وساقه هنا على لفظ الرواية الثانية، وتجوز في ذلك؛ فإن اللفظين مختلفان، وقد تقدم لفظ الرواية الأولى في باب طواف الرجال مع النساء، ويأتي بعد بابين أيضًا. وقوله: "عن عروة، عن أم سلمة"، كذا للأكثر، ووقع للأصيلي عن عروة، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أم سلمة.

رجاله تسعة

وقوله: "عن زينب" زيادة في هذه الطريق، فقد أخرجه أبو علي بن السكن، عن محمد بن حرب، وليس فيه زينب، وقال الدارقطني: لم يسمعه عروة عن أم سلمة، وأخرجه الإسماعيلي والنسائي عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أم سلمة، وسماع عروة من أم سلمة ممكن فإنه أدرك من حياتها نيفًا وثلاثين سنة وهو معها في بلد واحد، والحديث في قصتين متغايرتين إحداها صلاة الصبح يوم النحر، والأُخرى صلاة صبح يوم الرحيل من مكة، وقد تقدم الكلام على حديث أم سلمة في باب إدخال البعير المسجد للعلة آخر أبواب المساجد، وفي باب طواف النساء مع الرجال. وموضع الحاجة من هنا قوله في آخره: فلم تصل حتى خرجت، أي: من المسجد، أو من مكة، فدلَّ على جواز صلاة الطواف خارجًا من المسجد إذ لو كان ذلك شرطًا لازمًا لما أقرها النبي -صلى الله عليه وسلم- على ذلك، وفي رواية حسان عند الإسماعيلي: "إذا قامت صلاة الصبح فطوفي على بعيرك من وراء الناس وهم يصلون"، قالت: ففعلت ذلك ولم أصل حتى خرجت، أي: فصليت، وبهذا ينطبق الحديث مع الترجمة، وفيه رد على من قال: يحتمل أن تكون أكملت طوافها قبل فراغ صلاة الصبح، ثم أدركتهم في الصلاة، فصلت معهم صلاة الصبح، ورأت أنها تجزئها عن ركعتي الطواف، وإنما لم يبت البخاري الحكم في هذه المسألة، لاحتمال كون ذلك يختص بمن كان له عذر لكون أم سلمة كانت شاكية، ولكون عمر إنما فعل ذلك لكونه طاف بعد الصبح، وكان لا يرى التنفل بعده مطلقًا حتى تطلع الشمس كما مرَّ مصرحًا به، واستدل به على أن من نسي ركعتي الطواف قضاهما حيث ذكرهما من حلٍّ أو حرم، وهو قول الجمهور، وعن الثوري: يركعهما حيث شاء ما لم يخرج من الحرم، وعن مالك: إن لم يركعهما حتى تباعد ورجع إلى بلده، فعليه دم، قال ابن المنذر: ليس ذلك أكثر من صلاة المكتوبة، وليس على من تركها غير قضائها حيث ذكرها. رجاله تسعة؛ لأنه أخرجه من طريقين. مرَّ منهم: عبد الله بن يوسف ومالك وهشام بن عروة وأبو عروة في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ محمد بن عبد الرحمن في الثامن والثلاثين من الغسل، ومرت زينب بنت أبي سلمة في السبعين من العلم، ومرت أم سلمة في السادس والخمسين منه، ومرَّ محمد بن حرب النشائي ويحيى بن أبي زكرياء في السادس والأربعين والمائة من الجنائز.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإفراد، والإخبار بالجمع والعنعنة، وفيه أربعة مدنيون، وشاميان، ورواية الصحابية عن الصحابية، ورواية الابن عن الأب، ورواية البنت عن الأم. ثم قال المصنف:

باب من صلى ركعتي الطواف خلف المقام

باب من صلّى ركعتي الطواف خلف المقام الحديث العاشر والمائة حَدَّثَنَا آدَمُ، قال: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قال: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: قَدِمَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّفَا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}. وفي حديث جابر الطويل في صفة حجة الوداع عند مسلم: طاف، ثم تلا: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}، فصلى عند المقام ركعتين، قال ابن المنذر: احتملت قراءته أن تكون صلاة الركعتين خلف المقام فرضًا، لكن أجمع أهل العلم على أن الطائف تجزئه ركعتا الطواف حيث شاء إلا ما ذكر عن مالك من أن من صلى ركعتي الطواف الواجب في الحجر يعيد، وقد تقدم الكلام على ما يتعلق بذلك مستوفى في أوائل كتاب الصلاة في قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}. رجاله أربعة، قد مرّوا: مرَّ آدم وشعبة في الثالث من الإيمان, وابن عمر في أوله قبل ذكر حديث منه، ومرَّ عمرو بن دينار في الرابع والخمسين من العلم. ثم قال المصنف:

باب الطواف بعد الصبع والعصر

باب الطواف بعد الصبع والعصر أي: ما حكم صلاة الطواف حينئذ؟ وقد ذكر فيه آثارًا مختلفة، ويظهر من صنيعه أنه يختار فيه التوسعة، وكأنه أشار إلى ما رواه الشافعي وأصحاب السنن, وصححه الترمذي وابن خزيمة وغيرهما عن جبير بن مطعم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يا بني عبد مناف! من ولي منكم من أمر الناس شيئًا فلا يمنعن أحدًا طاف بهذا البيت وصلى أي ساعة شاء من ليل أو نهار"، وإنما لم يخرجه لأنه ليس على شرطه، وقد أخرج المصنف أحاديث تتعلق بصلاة الطواف، ووجه تعلقها بالترجمة، أما من جهة أن الطواف صلاة فحكمها واحد، أو من جهة أن الطواف مستلزم للصلاة التي تشرع بعده، وهو أظهر، وأشار به إلى الخلاف المشهور في المسألة، قال ابن المنذر: رخص في الصلاة بعد الطواف في كل وقت جمهور الصحابة ومن بعدهم، وهو مذهب الشافعي وأحمد وإسحاق، ومنهم من كره ذلك أخذًا بعموم النهي عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر، وهو قول عمر والثوري وطائفة، وذهب إليه أبو مالك وأبو حنيفة، وقال أبو الزبير: رأيت البيت يخلو بعد هاتين الصلاتين ما يطوف به أحد، وروى أحمد بإسناد حسن عن جابر، قال: كنا نطوف، فنمسح الركن الفاتحة والخاتمة، ولم نكن نطوف بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس، قال: وسمعت رسول ال -صلى الله عليه وسلم- يقول: "تطلع الشمس بين قرني شيطان". ثم قال: وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يصلي ركعتي الطواف ما لم تطلع الشمس، وصله سعيد بن منصور، عن عطاء أنهم صلوا الصبح بغلس، وطاف ابن عمر بعد الصبح سبعًا، ثم التفت إلى أفق السماء، فرأى أن عليه غلسًا، قال: فاتبعته حتى انظر أي شيء يصنع، فصلى ركعتين، قال: وحدثنا داود العطار عن عمرو بن دينار: رأيت ابن عمر طاف سبعًا بعد الفجر، وصلى ركعتين وراء المقام، هذا إسناد صحيح، وهذا جار على مذهب ابن عمر في اختصاص الكراهة بحال طلوع الشمس وحال غروبها، وقد تقدم ذلك عنه صريحًا في أبواب المواقيت، وروى الطحاوي عن مجاهد، قال: كان ابن عمر يطوف بعد العصر ويصلي ما كانت الشمس بيضاء نقية، فإذا اصفرّت وتغيرت طاف طوافًا واحدًا حتى

الحديث الحادي عشر والمائة

يصلي المغرب، ثم يصلي ركعتين، وفي الصبح نحو ذلك، وقد جاء عن ابن عمر أنه كان لا يطوف بعد هاتين الصلاتين، قال سعيد بن أبي عروبة، عن أيوب، عن نافع أن ابن عمر كان لا يطوف بعد صلاة العصر ولا بعد صلاة الصبح، وأخرجه ابن المنذر، عن أيوب أيضًا، ومن طريق أخرى عن نافع: كان ابن عمر إذا طاف بعد الصبح لا يصلي حتى تطلع الشمس، وإذا طاف بعد العصر لا يصلي حتى تغرب الشمس، ويجمع بين ما اختلف عنه في ذلك بأنه كان في الأغلب يفعل ذلك، والذي يعتمد من رأيه عليه التفصيل. ثم قال: وطاف عمر بعد الصبح، فركب حتى صلى الركعتين بذي طوى، قال الطحاوي: فهذا عمر رضي الله تعالى عنه أخر الصلاة إلى أن يدخل وقتها، وهذا بحضرة جماعة من الصحابة، ولم ينكره عليه منهم أحد، ولو كان ذلك الوقت عنده وقت صلاة الطواف لصلى، ولما أخر ذلك لأنه لا ينبغي لأحد طاف بالبيت إلا أن يصلي حينئذ إلا من عذر، وقد مرَّ من أخرجه قبل بابين، ومرَّ عمر في أول حديث من بدء الوحي. الحديث الحادي عشر والمائة حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عُمَرَ الْبَصْرِيُّ، قال: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ نَاسًا طَافُوا بِالْبَيْتِ بَعْدَ صَلاَةِ الصُّبْحِ، ثُمَّ قَعَدُوا إِلَى الْمُذَكِّرِ، حَتَّى إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ قَامُوا يُصَلُّونَ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: قَعَدُوا حَتَّى إِذَا كَانَتِ السَّاعَةُ الَّتِى تُكْرَهُ فِيهَا الصَّلاَةُ قَامُوا يُصَلُّونَ. قوله: "عن حبيب" هو المعلم، ويأتي تعريفه في السند، وقد ضاق على الإسماعيلي وأبي نعيم مخرجه، فتركه الإسماعيلي وأخرجه أبو نعيم من طريق البخاري هذه. وقوله: "ثم قعدوا إلى المذكر" بالمعجمة وتشديد الكاف، اسم فاعل، أي: الواعظ، وضبطه ابن الأثير في النهاية بالتخفيف بفتح أوله وثالثه وسكون ثانيه، قال: وأرادت موضع الذكر، إما الحِجْر، وإما الحَجَر. وقوله: "الساعة التي تكره فيها الصلاة" أي: التي عند طلوع الشمس وكأن المذكورين كانوا يتحرون ذلك الوقت، فأخروا الصلاة إليه قصدًا، فلذلك أنكرت عليهم عائشة هذا أنْ كانت ترى أن الطواف سبب لا تكره مع وجود الصلاة في الأوقات المنهية، ويحتمل أنها كانت تحمل النهي على عمومه، ويدل لذلك ما رواه ابن أبي شيبة، عن عطاء، عن عائشة أنها قالت: إذا أردت الطواف بالبيت بعد صلاة الفجر أو العصر فطف وأخر الصلاة حتى تغيب

رجاله ستة

الشمس، أو حتى تطلع، فصلّ لكل أسبوع ركعتين، وهذا إسناد حسن. رجاله ستة، مرَّ منهم: يزيد بن زريع في السادس والتسعين من الوضوء ومرَّ عطاء بن أبي رباح في التاسع والثلاثين من العلم، ومرَّ عروة وعائشة في الثاني من بدء الوحي، والباقي اثنان: الأول: الحسن بن عمر شقيق بن أسماء الجرمي أبو علي البصري، سكن الري، وكان يتجر إلى بلخ، فعرف بالبلخي، قال البخاري وأبو حاتم: صدوق، وقال أبو زرعة: لا بأس به، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال صالح جزرة وقد سئل عنه: شيخ صدوق، روى عن يزيد بن زريع وعبد الوارث ومعتمر وحماد بن زيد، وغيرهم، وروى عنه: البخاري وأبو زرعة وأبو حاتم وغيرهم، مات سنة اثنتين وثلاثين ومائتين بالبصرة. الثاني: حبيب بن أبي قريبة، ويقال: ابن زيد، أو ابن أبي بقية المعلم أبو محمد البصري مولى معقل بن يسار، قال عمرو بن علي: كان يحيى لا يحدث عنه، وكان عبد الرحمن يحدث عنه، وقال أحمد وابن معين وأبو زرعة: ثقة، وقال أحمد أيضًا: ما أصح حديثه! وقال النسائي: ليس بالقوي، وذكره ابن حبان في "الثقات" قال في المقدمة: له في البخاري في الحج حديث عن عطاء، عن ابن عباس، وآخر عن عطاء، عن جابر، وعلق له في بدء الخلق عن عطاء، عن جابر، والأحاديث الثلاثة بمتابعة ابن جريج له عن عطاء، هذا جميع ما له عنده، وروى له الجماعة، روى عن: عطاء والحسن وعمرو بن شعيب، وهشام بن عروة وغيرهم، وروى عنه: حماد بن سلمة ويزيد بن زريع، وعبد الوهاب الثقفي وغيرهم، مات سنة خمس وثلاثين ومائة. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة، ورواته: بصريون ومكي ومدني، والحديث من أفراده. الحديث الثاني عشر والمائة حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَنْهَى عَنِ الصَّلاَةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَعِنْدَ غُرُوبِهَا. وهذا الحديث مباحثه قد تقدمت في أبواب مواقيت الصلاة. رجاله خمسة، قد مرّوا:

الحديث الثالث عشر والمائة

مرَّ إبراهيم بن المنذر في الأول من العلم، ونافع في الأخير منه، وأبو ضمرة في الرابع عشر من الوضوء وموسى بن عقبة في الخامس منه، وعبد الله بن عمر في أول الإيمان. الحديث الثالث عشر والمائة حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ -هُوَ الزَّعْفَرَانِيُّ- قال: حَدَّثَنَا عَبِيدَةُ بْنُ حُمَيْدٍ، قال: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ رُفَيْعٍ، قَالَ: رَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما يَطُوفُ بَعْدَ الْفَجْرِ، وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ. قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ: وَرَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَيُخْبِرُ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها حَدَّثَتْهُ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَدْخُلْ بَيْتَهَا إِلاَّ صَلاَّهُمَا. قوله: "قال عبد العزيز" يعني بالإسناد المذكور، وليس بمعلق، وكان عبد الله بن الزبير استنبط جواز الصلاة بعد الصبح من جواز الصلاة بعد العصر، فكان يفعل ذلك بناء على اعتقاده أن ذلك على عمومه، وقد تقدم الكلام على ذلك مبسوطًا في أواخر المواقيت قبيل الأذان في باب ما يصلي بعد العصر من الفوائت، وبيّنا هناك أن عائشة أخبرت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يتركهما، وأن ذلك من خصائصه، أعني المواظبة على ما يفعله من النوافل لا صلاة الراتبة في وقت الكراهة، فأغنى ذلك عن إعادته هنا، والذي يظهر أن ركعتي الطواف تلتحق بالرواتب. رجاله خمسة: مرَّ منهم الحسن بن محمد في الخامس من الاستسقاء، ومرَّ عبد الله بن الزبير في الثامن والأربعين من العلم، ومرت عائشة في الثاني من بدء الوحي، والباقي اثنان: الأول: عبيدة بن حميد بن صهيب التيمي، وقيل: الليثي، وقيل: الضبي أبو عبد الرحمن الكوفي المعروف بالحذاء، ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: لم يكن حذَّاءً، كان يجالس الحذَّائين فنسب إليهم، وقال أحمد: لم يكن حذاء إنما هو الظاعني، والحذاء هو ابن أبي رائطة، وسئل أحمد عنه هو والبكائي، فقال: عبيدة أحب إلي وأصح حديثًا منه، وقال أيضًا: ما أحسن حديثه، وقال الأثرم: أحسن أحمد الثناء عليه جدًا، ورفع أمره، وقال: ما أدري ما للناس، ثم ذكر صحة حديثه، وقال: وكان قليل السقط، وأما التصحيف فليس نجده عنده، وقال ابن معين مرة: ثقة، وقال مرة: ما به المسكين بأس، ليس له بخت، وقال مرة: ما به بأس عابوه أنه يقعد عند أهل الكتب، وقال ابن المديني: أحاديثه صحاح، وما رويت

عنه شيئًا، وضعفه وقال مرة: ما رأيت أصح حديثًا منه ولا أصح رجالًا، وقال يعقوب بن شيبة: كتب الناس عنه ولم يكن من الحفاظ المتقنين، وذكره سعدويه يومًا، فقال: كان صاحب كتاب وكان مؤدب محمد بن هارون، وقال ابن عمار: ثقة، وقال زكرياء الساجي: ليس بالقوي، وهو من أهل الصدق، وقال النسائي: ليس به بأس، وقال ابن نمير: كان شريك يستعين به في المسائل، وقال ابن سعد: كان ثقة صالح الحديث، صاحب نحو وعربية وقراءة القرآن، قدم بغداد فصيّره هارون مع ابنه محمد، فلم يزل معه حتى مات، وقال العجلي: لا بأس به, وقال الدارقطني: ثقة، وكان من الحفاظ، وذكره ابن شاهين في الثقات، وقال: قال عثمان بن أبي شيبة: عبيدة، ثقة صدوق، قال في "المقدمة" له: في الصحيح ثلاثة أحاديث: أحدها: في الأدب عن ابن عباس في قصة القبرين اللذين يعذب من فيهما وهو عنده في الطهارة من رواية جرير بن منصور. ثانيها: في الدعاء عن مصعب بن سعد، عن أبيه في قوله: "اللهم إني أعوذ بك من البخل والجبن"، الحديث، وهو عنده في الدعاء أيضًا عن شعبة وزائدة عن عبد الملك. ثالثها: في الحج عن عبد الله بن الزبير، عن عائشة في الصلاة بعد العصر، وهذا حديث فرد عنده إلا أن الرواية عن عائشة في ذلك مروية عنده من طرق، وروى له أصحاب السنن الأربعة. روى عن عبد الملك بن عمير، وعبد العزيز بن رفيع والأعمش وحميد الطويل وغيرهم، وروى عنه الثوري وهو أكبر منه، وأحمد بن حنبل ومحمد بن سلام وابنا أبي شيبة وغيرهم، ولد سنة سبع ومائة، ومات سنة تسعين ومائة. الثاني: عبد العزيز بن رفيع الأسدي أبو عبد الله المكي الطائفي، سكن الكوفة، قال البخاري: له نحو ستين حديثًا، وقال أحمد ويحيى وأبو حاتم والنسائي: ثقة، وقال جرير: كان أتى عليه نيف وتسعون سنة، فكان يتزوج، فلا تمكث معه المرأة من كثرة جماعه، حتى تقول: فارقني، وقال العجلي: تابعي ثقة، وقال يعقوب بن شيبة: يقوم حديثه مقام الحجة، روى عن أنس وابن الزبير وابن عباس وابن عمر وغيرهم، وروى عنه عمرو بن دينار، وهو من شيوخه، والأعمش وأبو إسحاق الشيباني وشعبة والسفيانان وغيرهم، مات سنة ثلاثين ومائة.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: فيه التحديث بالإِفراد والجمع والإِخبار بالأفراد والرؤية، ورواته: بغدادي وكوفي ومكي، سكن الكوفة، وفيه رواية الصحابي عن الصحابي، ورواية الراوي عن خالته، والحديث من أفراده. ثم قال المصنف:

باب المريض يطوف راكبا

باب المريض يطوف راكبًا قد تقدم الكلام على الطواف راكبًا في باب استلام الركن بالمحجن استيفاءً تامًا. الحديث الرابع عشر والمائة حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ الْوَاسِطِيُّ، قال: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- طَافَ بِالْبَيْتِ، وَهْوَ عَلَى بَعِيرٍ، كُلَّمَا أَتَى عَلَى الرُّكْنِ أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ فِي يَدِهِ وَكَبَّرَ. قد مرَّ هذا الحديث في باب التكبير عند الركن، وزاد أبو داود في حديثه: فلما فرغ من طوافه أناخ فصلى ركعتين، وقد مرَّ في باب إدخال البعير المسجد آخر أبواب المساجد أن المصنف حمل سبب طوافه عليه الصلاة والسلام راكباً على أنه كان من شكوى، الخ، ما مرَّ هناك. رجاله خمسة قد مرّوا: مرَّ إسحاق بن شاهين في الرابع عشر من الحيض، ومرَّ خالد بن عبد الله الطحان في السادس والخمسين من الوضوء ومرَّ خالد الحذاء، وعكرمة في السابع عشر من العلم، ومرَّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي. الحديث الخامس عشر والمائة حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنِّي أَشْتَكِي. فَقَالَ: "طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ". فَطُفْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ، وَهْوَ يَقْرَأُ بِـ {الطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ}. وهذا الحديث مرَّ الكلام عليه مستوفى في باب ادخال البعير المسجد للعلة، ومرَّ أيضًا في باب طواف النساء مع الرجال. رجاله ستة قد مرّوا:

مرَّ عبد الله بن مسلمة في الثاني عشر من الإيمان, ومرَّ مالك وعروة في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ محمد بن عبد الرحمن في الثامن والثلاثين من الغسل، ومرت زينب بنت أم سلمة في السبعين من العلم، ومرت أم سلمة في السادس والخمسين منه. ثم قال المصنف:

باب سقاية الحاج

باب سقاية الحاج أخرج الفاكهاني عن عطاء، قال: سقاية الحاج زمزم، وقال الأزرقي: كان عبد مناف يحمل الماء في الروايا والقرب إلى مكة، وسكبه في حياض من أدم بفناء الكعبة للحجاج، ثم فعله ابنه هاشم بعده، ثم عبد المطلب، فلما حفر زمزم، كان يشتري الزبيب فينبذه في ماء زمزم ويسقي الناس، قال ابن إسحاق: لما ولي قصي بن كلاب أمر الكعبة كانت إليه الحجابة والسقاية واللواء والرفادة ودار الندوة، ثم تصالح بنوه على أن لعبد مناف السقاية والرفادة، والبقية للأخوين، ثم ذكر نحو ما تقدم وزاد: ثم ولي السقاية من بعد عبد المطلب ابنه العباس، وهو يومئذ من أحدث إخوته سنا، فلم تزل بيده حتى قام الإِسلام وهي بيده، فأقرها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معه، فهي اليوم إلى بني العباس، وروى الفاكهاني عن الشعبي، قال: تكلم العباس وعلي وشيبة بن عثمان في السقاية والحجابة، فأنزل الله عز وجل: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ} الآية، إلى قوله: {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}، قال: حتى تفتح مكة، ومن طريق ابن أبي مليكة عن ابن عباس أن العباس لما مات أراد علي أن يأخذ السقاية، فقال له طلحة: أشهد لرأيت أباه يقوم بها، وإن أباك أبا طالب لنازل في إبله بالأراك بعرفة، قال: فكف عليّ عن السقاية، وعن ابن جريج، قال: قال العباس: يا رسول الله لو جمعت لنا الحجابة والسقاية، فقال: "إنما أعطيتكم ما ترزؤن ولم أعطكم ما ترزؤن" الأول بضم أوله وسكون الراء وفتح الزاي، والثاني بفتح أوله وضم الزاي، أي: أعطيتكم ما ينقصكم لا ما تنقصون به الناس، وروى الطبراني والفاكهاني عن السائب المخزومي أنه كان يقول: اشربوا من سقاية العباس فإنه من السنة. الحديث السادس عشر والمائة حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الأَسْوَدِ، حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: اسْتَأْذَنَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رضي الله عنه رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ، فَأَذِنَ لَهُ.

وعند أحمد في "مسنده" أذن للعباس بن عبد المطلب أن يبيت بمكة ليالي مني من أجل السقاية، والمراد بأيام مني ليلة الحادي عشر، واللتان بعدها، وفي رواية ابن جريج عند أحمد أن مبيت تلك الليلة بمنى وكأنه بمنى ليلة الحادي عشر؛ لأنها تعقب يوم الإفاضة، وأكثر الناس يفيضون يوم النحر، ثم في الذي يليه، وهو الحادي عشر، وفي الحديث دليل على وجوب المبيت بمنى وأنه من مناسك الحج؛ لأن التعبير يقتضي أن مقابلها عزيمة، وأن الإذن وقع للعلة المذكورة، وإذا لم توجد أو ما في معناها لم يحصل الإذن، وبالوجوب قال الجمهور. وفي قول للشافعي ورواية عن أحمد، وهو مذهب الحنفية: إنه سنة ووجوب الدم بتركه مبني على هذا الخلاف، ولا يحصل المبيت إلا بمعقم الليل، وهل يختص الإذن بالسقاية وبالعباس أو بغيره ذلك من الأوصاف المقيّدة في هذا الحكم، فقيل: يختص الحكم بالعباس وهو جمود، وقيل: يدخل معه آله، وقيل: قومه وهم بنو هاشم، وقيل: كل من احتاج إلى السقاية فله ذلك، ثم قيل أيضًا: يختص الحكم بسقاية العباس حتى لو عملت سقاية لغيره لم يرخص لصاحبها في المبيت لأجلها، ومنهم من عممه وهو الصحيح في الموضعين، والعلة في ذلك إعداد الماء للشاربين، وهل يختص ذلك بالماء أو يلتحق به ما في معناه من الأكل وغيره محل احتمال، وجزم الشافعية بإلحاق من له مال يخاف ضياعه أو أمر يخاف فوته، أو مريض يتعاهده بأهل السقاية كما جزم الجمهور بإلحاق الرعاء خاصة لما أخرجه الترمذي، وقال صحيح حسن أنه عليه الصلاة والسلام رخص للعباس ولرعاء الإبل وهو قول أحمد. واختاره ابن المنذر، أعني الاختصاص بأهل السقاية والرعاء للإبل، والمعروف عن أحمد اختصاص العباس بذلك، وعليه اقتصر صاحب المغني. وقال المالكيهَ: يجب الدم في المذكورات سوى الرعاء، قالوا: ومن ترك المبيت بغير عذر، وجب عليه دم عن كل ليلة، والمرخص فيه عند المالكية لصاحب السقاية ترك المبيت خاصة فلابد أن يأتي نهارًا للرمي، ثم ينصرف لأن ذا السقاية ينزع الماء من زمزم ليلاً ويفرغه في الحياض، وأما الراعي فقد رخص له أن ينصرف بعد رمي العقبة، ويترك المبيت ليلة الحادي عشر، والثاني عشر، ويأتي اليوم الثالث عشر فيرمي لليومين اليوم الثاني الذي فاته وهو في رعيه، والثالث الذي حضر فيه، ثم إن شاء تعجل، وإن شاء أقام لرمي الثالث من أيام الرمي، وقال الشافعي: عن كل ليلة مد، وقيل عنه التصدق بدرهم، وعن الثلاث دم، وهي رواية عن أحمد، والمشهور عنه وعن الحنفية: لا شيء عليه، واحتجت الحنفية على

رجاله خمسة

أن المبيت بمنى سنة بأنه لو كان واجبًا لما رخص في تركه لأهل السقاية، وأجابوا عن قول الآخرين: لولا أنه واجب لما احتاج لإذن بأن مخالفة السنة عندهم كان مجانبًا جدًا خصوصًا إذا انضم إليها الإنفراد عن جميع الناس مع الرسول عليه الصلاة والسلام، فاستأذن لإسقاط الإساءة الكائنة بسبب عدم موافقته عليه الصلاة والسلام لما فيه من إظهار المخالفة المستلزمة لسوء الأدب لأنه عليه الصلاة والسلام كان يبيت بمنى ليالي أيام التشريق، وفي الحديث أيضًا استيذان الأمراء والكبراء فيما يطرأ من المصالح والأحكام، وبدار من استؤمر إلى الإذن عند ظهور المصلحة. رجاله خمسة قد مرّوا: مرَّ عبد الله بن أبي الأسود في التاسع والستين من صفة الصلاة، ومرَّ أبو ضمرة وعبيد الله العمري في الرابع عشر من الوضوء, ومرَّ نافع في الأخير من العلم، ومرَّ ابن عمر في أول الإيمان قبل ذكر حديث. الحديث السابع عشر والمائة حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- جَاءَ إِلَى السِّقَايَةِ، فَاسْتَسْقَى، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا فَضْلُ اذْهَبْ إِلَى أُمِّكَ، فَأْتِ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِشَرَابٍ مِنْ عِنْدِهَا. فَقَالَ: "اسْقِنِي". قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ أَيْدِيَهُمْ فِيهِ. قَالَ: "اسْقِنِي". فَشَرِبَ مِنْهُ، ثُمَّ أَتَى زَمْزَمَ، وَهُمْ يَسْقُونَ وَيَعْمَلُونَ فِيهَا، فَقَالَ: "اعْمَلُوا، فَإِنَّكُمْ عَلَى عَمَلٍ صَالِحٍ"، ثُمَّ قَالَ: "لَوْلاَ أَنْ تُغْلَبُوا لَنَزَلْتُ حَتَّى أَضَعَ الْحَبْلَ عَلَى هَذِهِ". يَعْنِي عَاتِقَهُ، وَأَشَارَ إِلَى عَاتِقِهِ. وقوله: "فاستسقى"، أي: طلب الشرب، والفضل هو ابن العباس، ويأتي قريبًا في السند محل تعريفه. وقوله: "إنهم يجعلون أيديهم فيه"، في رواية الطبراني عن عكرمة في هذا الحديث أن العباس قال له: إن هذا قد مرث، أفلا أسقيك من بيوتنا، قال: "لا اسقني مما يشرب منه الناس". وقوله: "قال: اسقني" زاد أبو علي بن السكن في روايته: فناوله العباس الدلو. وقوله: "فشرب منه" وفي رواية الطبراني المذكورة: فأتى به فذاقه، فقطب، ثم دعا بماء فكسره، قال: "وتقطيبه إنما كان لحموضته وكسره بالماء ليهون عليه شربه، وعرف بهذا جنس

المطلوب شربه إذ ذاك، وقد أخرج مسلم عن بكر بن عبد الله المزني، قال: كنت جالسًا مع ابن عباس, فقال: قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخلفه أسامة، فاستسقى فأتيناه بإناء من نبيذ، فشرب وسقى فضله أسامة، وقال: "أحسنتم كذا فاصنعوا". وقوله: "لولا أن تغلبوا" بضم أوله على البناء للمجهول، قال الداودي: أي إنكم لا تتركوني أستسقي ولا أحب أن أفعل بكم ما تكرهون فتغلبوا، وقال غيره: معناه: لولا أن تقع لكم الغلبة بأن يجب عليكم ذلك بسبب فعلي، وقيل: معناه: لولا أن يغلبكم الولاة عليها حرصًا على حيازة هذه المكرمة، والذي يظهر أن معناه: لولا أن تغلبكم الناس على هذا العمل إذا رأوني قد عملته لرغبتم في الاقتداء بي، فيغلبوكم بالمكاثرة لفعلت، ويؤيد هذا ما أخرجه مسلم عن جابر: أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- بني عبدالمطلب وهم يسقون على زمزم، فقال: انزعوا بني عبد المطلب، فلولا أن تغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم. واستدل بهذا على أن السقاية خاصة ببني العباس، وفيه الشرب من سقاية الحاج، وقال طاووس: الشرب من سقاية العباس من تمام الحج، وقال عطاء: لقد أدركت هذا الشراب، وإن الرجل ليشرب فتلتزق شفتاه من حلاوته، فلما ذهبت الحرية وولي العبيد تهاونوا بالشراب، واستخفوا به، وروى ابن أبي شيبة عن السائب بن عبد الله أنه أمر مجاهدًا مولاه بأن يشرب من سقاية الحاج، ويقول: إنه من تمام السنة، وروى ابن جريج عن نافع أن ابن عمر لم يكن يشرب من النبيذ في الحج. واستدل به الخطابي على أن الظاهر أن أفعاله فيما يتصل بأُمور الشريعة على الوجوب، فتركه الفعل شفقة أن يتخذ سنة، وفيه نظر، وقال ابن بزيزة: أراد بقوله: "لولا أن تغلبوا" قصر السقاية عليهم وأن لا يشاركوا فيها"، واستدل به على أن الذي أُرصد للمصالح لا يحرم على النبي -صلى الله عليه وسلم-, ولا على آله تناوله لأن العباس أرصد سقاية زمزم لذلك، وقد شرب منها النبي -صلى الله عليه وسلم-, قال ابن المنير: يحمل الأمر في هذا على أنها مرصدة للنفع العام، فتكون للغني في معنى الهدية، وللفقير صدقة، وقال ابن التين: شربه عليه الصلاة والسلام لا يخلو أن يكون ذلك من مال الكعبة الذي كان يؤخذ لها من الخمس أو من مال العباس الذي عمله للغني والفقير فشرب منه عليه الصلاة والسلام ليسهل على الناس، وفيه أنه لا يكره طلب السقي من الغير ولا رد ما يعرض على المرء من الإكرام إذا عارضته مصلحة أولى منه لأن رده عليه الصلاة والسلام لما عرض عليه العباس مما يؤتى به من نبيذ لمصلحة التواضع التي ظهرت من شربه مما يشرب منه الناس، وفيه الترغيب في سقي الماء خصوصًا ماء زمزم، وفيه تواضح

رجاله خمسة

النبي -صلى الله عليه وسلم-، وحرص أصحابه على الاقتداء به وكراهة التقذر والتكره للمأكولات والمشروبات، وقال ابن المنير: فيه أن الأصل في الأشياء الطهارة لتناوله عليه الصلاة والسلام من الشراب الذي غمست فيه الأيدي. رجاله خمسة، وفيه ذكر العباس والفضل وقد مرَّ الجميع: مرَّ إسحاق بن شاهين في الرابع عشر من الحيض، ومرَّ محل جميع الخمسة في الذي قبله بحديثين، ومرَّ العباس في الثالث والستين من الوضوء، ومرَّ ابنه الفضل في الثامن عشر من الجماعة. ثم قال المصنف:

باب ما جاء في زمزم

باب ما جاء في زمزم بفتح الزايين وسكون الميم الأولى، وسميت بذلك لكثرة مائها، والماء الزمزم هو الكثير، وقيل: لزم هاجر ماءها حين انفجرت، فقد قيل: إنها كانت تحوض له وتقول له: زم زم، أي: اسكن، اسكن، فسميت بذلك، وقيل: سميت بذلك لاجتماعها، نُقل عن ابن هشام، وقال أبو زيد: الزمزمة من الناس خمسون ونحوهم، وعن مجاهد إنما سميت زمزم لأنها مشتقة من الهزمة والهزمة الغمز بالعقب في الأرض، أخرجه الفاكهاني بإسناد صحيح عنه، وقيل: لحركتها، قاله الحربي، وقيل: لأنها زمت بالميزان لئلا تأخذ يمينًا وشمالًا وأول من أظهرها جبريل سقيًا لإسماعيل عليه الصلاة والسلام عندما ظمىء وحفرها الخليل عليه السلام بعد جبريل فيما ذكره الفاكهاني، ثم غيبت بعد ذلك لاندراس موضعها لاستخفاف جرهم بحرمة الحرم والكعبة أو لدفنهم لها عندما نفوا من مكة، ثم منحها الله تعالى عبد المطلب فحفرها بعد أن أعلمت له في المنام بعلامات استبان له بها موضعها، ولم تزل ظاهرة إلى الآن، وتسمى الشباعة، وبركة، ونافعة، ومضنونة، وبرة، وميمونة، وكافية، وعاقبة، ومغذية، ومروية، وطعام طعم، وشفاء سقم، وتأتي قصتها في شأن إِسماعيل وهاجر في أحاديث الأنبياء، وقصة حفر عبد المطلب لها في أيام الجاهلية إن شاء الله تعالى، ولها فضائل وردت في أحاديث لم يذكر المؤلف شيئًا منها لكونها لم تكن على شرطه صريحًا، وفي مسلم: عن أبي ذر مرفوعًا: "ماء زمزم طعام طعم"، زاد الطيالسي: وشفاء سقم، وفي "المستدرك" عن ابن عباس مرفوعًا: "ماء زمزم لما شرب له"، وصححه البيهقي في "الشعب"، وصححه ابن عيينة فيما نقله ابن الجوزي في الأذكاء، وكذا صححه ابن حبان، ووثق رجاله الحافظ الدمياطي إلا أنه اختلف في وصله وإرساله، قال في "الفتح": وإرساله أصح، وله شاهد عن جابر، وهو أتم منه، أخرجه الشافعي وابن ماجه، ورجاله ثقات إلا عبد الله بن المؤمل المكي، فذكر العقيلي أنه تفرد به، لكن ورد من رواية غيره عند البيهقي وعنده من طريق حمزة الزيات عن أُبي، وبالجملة فقد ثبتت صحة هذا الحديث إلا ما قيل: إن الجارود تفرد عن ابن عيينة بوصله، ومثله لا يحتج به إذا انفرد فكيف إذا خالف، وهو من رواية الحميدي وابن أبي عمر

الحديث الثامن عشر والمائة

وغيرهما ممن لازم ابن عيينة أكثر من الجارود فيكون أولى لكن الذي يحتاج إليه الحكم بصحة المتن عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا علينا كونه من خصوص طريق بعينها، وهنا أمور تدل عليه منها أن مثله لا مجال للرأي فيه فوجب كونه سماعًا، وكذا إن قلنا: العبرة في تعارض الوصل والوقف والإرسال للواصل بعد كونه ثقة لا الأحفظ ولا غيره مع أنه قد صح تصحيح ابن عيينة له كما مرَّ، وروى الدارقطني والبيهقي مرفوعًا: "آية ما بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضلعون من زمزم" وقد شربه جماعة من السلف والخلف لمآرب فنالوها، وأولى ما يشرب لتحقق التوحيد والموت عليه والعزة بطاعة الله. الحديث الثامن عشر والمائة وَقَالَ عَبْدَانُ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ كَانَ أَبُو ذَرٍّ رضي الله عنه: يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "فُرِجَ سَقْفِي وَأَنَا بِمَكَّةَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَفَرَجَ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِىء حِكْمَةً وَإِيمَانًا، فَأَفْرَغَهَا فِي صَدْرِي، ثُمَّ أَطْبَقَهُ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَعَرَجَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا. قَالَ جِبْرِيلُ لِخَازِنِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا: افْتَحْ. قَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ". قوله: "وقال عبدان: سيأتي في أحاديث الأنبياء أتم منه بلفظ، وقال لي عبدان: وأورده هنا مختصرًا وقد وصله الجوزقي بتمامه عن محمد بن الليث، عن عبدان بطوله، وقد تقدم الكلام عليه في أوائل الصلاة في باب كيف فرضت الصلاة في حديث الإسراء، والمقصود منه قوله هنا: ثم غسله بماء زمزم. رجاله ستة قد مرّوا: مرَّ عبدان وعبد الله بن المبارك في السادس من بدء الوحي، ومرَّ ابن شهاب في الثالث منه، ومرَّ يونس في متابعة بعد الرابع منه، ومرَّ أنس في السادس من الإيمان، ومرَّ أبو ذر في الثالث والعشرين منه. الحديث التاسع عشر والمائة حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا الْفَزَارِيُّ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما حَدَّثَهُ، قَالَ: سَقَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ زَمْزَمَ، فَشَرِبَ وَهُوَ قَائِمٌ. ثم قَالَ عَاصِمٌ: فَحَلَفَ عِكْرِمَةُ، مَا كَانَ يَوْمَئِذٍ إِلاَّ عَلَى بَعِيرٍ. قال ابن بطال وغيره: أراد البخاري أن الشرب من ماء زمزم من سنن الحج، وقد مرَّ عن

طاووس وعطاء ما في ذلك في حديث ابن عباس في باب سقاية الحاج، ومرَّ هناك عن نافع أن ابن عمر لم يكن يشرب من النبيذ في الحج، فكأنه لم يثبت عنده أن النبي -صلى الله عليه وسلم- شرب منه لأنه كان كثير الاتباع للآثار، أو خشي أن يظن الناس أن ذلك من تمام الحج كما نقل عن طاووس. وقوله: "فحلف ما كان يومئذ إلا على بعير" عند ابن ماجه من هذا الوجه، قال عاصم: فذكرت ذلك لعكرمة، فحلف بالله ما فعل، أي: ما شرب قائمًا؛ لأنه كان حينئذ راكبًا، وقد تقدم أن عند أبي داود من رواية عكرمة عن ابن عباس أنه أناخ فصلى ركعتين، فلعل شربه من زمزم كان بعد ذلك، ولعل عكرمة إنما أنكر شربه قائمًا لنهيه عنه، لكن ثبت عن عليّ عند البخاري أنه -صلى الله عليه وسلم- شرب قائمًا فيحمل على بيان الجواز، فقد روي في النهي عن الشرب قائمًا أحاديث كثيرة، ورويت في إباحته أحاديث. فمما روي في النهي عنه ما أخرجه مسلم عن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- زجر عن الشرب قائمًا، وفي لفظ له عن أنس، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه نهى أن يشرب الرجل قائمًا، قال قتادة: فقلنا: فالأكل، قال: ذاك أشد وأخبث، وفي رواية عن أبي سعيد الخدري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- زجر عن الشرب قائمًا، وفي رواية: نهى عن الشرب قائمًا، وفي رواية له عن أبي هريرة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يشربن أحدكم قائمًا، فمن نسي فليستقىء"، وروى الترمذي عن الجارود بن المعلى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الشرب قائمًا. ومن أحاديث الإباحة ما أخرجه البخاري عن النزال أتى عليّ رضي الله تعالى عنه على باب الرحبة بماء فشرب قائمًا، فقال: إن ناسًا يكره أحدهم أن يشرب وهو قائم، وإني رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فعل كما رأيتموني فعلت، ورواه أبو داود أيضًا، وروى الترمذي عن ابن عمر، قال: كنا نأكل على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن نمشي ونشرب ونحن قيام، وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح، وروى أيضًا عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يشرب قائمًا وقاعدًا، وقال: هذا حديث حسن، وروى الطحاوي، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يشرب قائمًا، ورواه البزار أيضًا في "مسنده"، وروى الطحاوي أيضًا عن البراء بن زيد أن أم سليم حدثته أن النبي -صلى الله عليه وسلم- شرب وهو قائم من فيّ قربة، وفي لفظ له أنه عليه الصلاة والسلام دخل عليها وفي بيتها قربة معلقة، فشرب من القربة قائمًا، وأخرجه أحمد والطبراني، وقال النووي: اعلم أن هذه الأحاديث أشكل معناها على بعض العلماء، حتى قال فيها أقوالًا باطلة، والصواب منها أن النهي محمول على

رجاله ستة

كراهة التنزيه، وأما شربه قائمًا، فلبيان الجواز، ومن زعم نسخًا فقد غلط، فكيف يكون نسخًا مع إمكان الجمع، وإنما يكون النسخ لو ثبت التاريخ فأنى له ذلك، وقال الطحاوي ما ملخصه أنه عليه الصلاة والسلام أراد بهذا النهي الإشفاق على أمته لأنه يخاف من الشرب قائمًا الضرر وحدوث الداء كما قال لهم: "أما أنا فلا آكل متكئًا"، وقد اختلف العلماء في الشرب قائمًا بحسب اختلاف الأحاديث، فمنهم من كرهه ومنهم من أباحه. رجاله ستة قد مرّوا إلا الفزاري. مرَّ محمد بن سلام في الثالث عشر من الإيمان، ومرَّ الشعبي في الثالث منه، ومرَّ عاصم بن سليمان في الخامس والثلاثين من الوضوء ومرَّ عكرمة في السابع عشر من العلم، ومرَّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي، والفِزاري بكسر الفاء المراد به مروان بن معاوية بن الحارث بن أسماء بن خارجة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري أبو عبد الله الكوفي الحافظ، سكن مكة ودمشق، وهو ابن عم أبي إسحاق الفزاري، من شيوخ أحمد، ثقة مشهور، قال أحمد: كان ثقة، حافظًا، يحفظ حديثه كله كأنه نصب عينه، وقال أيضًا: ما كان أحفظه!، وقال ابن معين ويعقوب بن شيبة والنسائي: ثقة، وقال الدوري: سألت ابن معين عن حديث مروان بن معاوية، عن علي بن أبي الوليد، قال: هذا علي بن غراب، والله ما رأيت أحيل للتدليس منه، وقال ابن المديني: ثقة فيما يروي عن المعروفين، ضعيف فيما يروي عن المجهولين، وقال العجلي: ثقة ثبت ما حدَّث عن المعروفين فصحيح، وما حدَّث عن المجهولين ففيه ما فيه، وليس بشيء، وقال أبو حاتم: صدوق لا يدفع عن صدقه، وتكثر روايته عن المجهولين، وقال ابن نمير: كان يلتقط الشيوخ من السكك، وقال أبو داود: كان يقلب الأسماء، وقال ابن معين: كان مروان يغير الأسماء، يعمي على الناس، كان يحدثنا عن الحكم بن خالد، وإنما هو حكم بن ظهير، وقال أيضًا: ثقة ثقة، وقال ابن سعد: كان ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن معين أيضًا: وجدت بخط مروان: وكيع رافضيٌّ، فقلت له: وكيع خير منك، فسبني، وقال الذهبي: كان عالمًا، لكنه يروي عمن دب ودرج، وكان فقيرًا ذا عيال، فكانوا يرونه -يعني الذين يروي عنه- كأنه يجازيهم، قال في "المقدمة": أخرج البخاري من حديثه عن خمسة من شيوخه المعروفين وهم حميد، وعاصم الأحول، وإسماعيل بن أبي خالد، وأبو يعقوب العبدي، وهاشم بن هاشم. روى عن حميد الطويل، وهؤلاء المذكورين، وغيرهم، وروى عنه أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، ويحيى بن معين، وزكرياء بن عدي وغيرهم، مات فجأة سنة ثلاث

لطائف إسناده

وتسعين ومائة قبل التروية بيوم، ومروان هذا مرَّ في الحادي والثلاثين من مواقيت الصلاة. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإفراد، والإخبار بالجمع والعنعنة، والقول، وشيخه من أفراده وهو بيكندي، ثم كوفيان وبصري، أخرجه البخاري في الأشربة، والترمذي في الأشربة والشمائل، والنسائي في الحج، وابن ماجه في الأشربة. ثم قال المصنف:

باب طواف القارن

باب طواف القارن أي: هل يكتفي بطواف واحد أو لابدّ من طوافين؟ وإنما لم يبين ذلك بل أطلق للاختلاف فيه كما مرَّ، وكما يأتي فقد مرَّ الكلام عليه في باب التمتع والقران. الحديث العشرون والمائة حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهِلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ثُمَّ لاَ يَحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا. فَقَدِمْتُ مَكَّةَ، وَأَنَا حَائِضٌ، فَلَمَّا قَضَيْنَا حَجَّنَا أَرْسَلَنِي مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِلَى التَّنْعِيمِ، فَاعْتَمَرْتُ، فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "هَذِهِ مَكَانَ عُمْرَتِكِ". فَطَافَ الَّذِينَ أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ حَلُّوا، ثُمَّ طَافُوا طَوَافًا آخَرَ، بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى، وَأَمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا. موضع الحاجة منه قوله: "وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة" فإنما طافوا طوافًا واحدًا، وفي الرواية الأولى من حديث ابن عمر الذي بعده: "فطاف لهما طوافًا واحدًا" مثل رواية عائشة، وفي الرواية الثانية: "ورأى أنه قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول"، وفي هذه الرواية الأخيرة رفع احتمال قد يؤخذ من الرواية الأولى أن المراد بقوله طوافًا وحدًا، أي: طاف لكل منهما طوافًا يشبه الطواف الذي للآخر، والحديثان ظاهران في أن القارن لا يجب عليه إلا طواف واحد، وقد رواه سعيد بن منصور بأصرح من سياق حديثي الباب في الرفع، ولفظه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: "من جمع بين الحج والعمرة كفاه لهما طواف واحد وسعي واحد"، وأعلّه الطحاوي بأن الدراوردي أخطأ فيه، وأن الصواب أنه موقوف، وتمسك في تخطئته بما رواه أيوب والليث وموسى بن عقبة عن نافع، مثل سياق ما في الباب من أن ذلك وقع لابن عمر، وأنه قال إن النبي -صلى الله عليه وسلم- فعل ذلك لا أنه روى هذا اللفظ عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو تعليل مردود، فالدراوردي صدوق، وليس ما رواه مخالفًا لما رواه غيره، فلا مانع من أن يكون الحديث عند نافع على الوجهين. واحتج الحنفية لمذهبهم بما روي عن علي أنه جمع بين الحج والعمرة، فطاف لهما

طوافين، وسعى لهما سعيين، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعل، وطرقه عن علي عند عبد الرزاق والدارقطني وغيرهما ضعيفة، وكذا أخرج عن ابن مسعود بإسناد ضعيف، وأخرج عن ابن عمر نحو ذلك، وفيه الحسن بن عمارة، وهو متروك، والمخرج في الصحيحين والسنن عنه في طرق كثيرة الاكتفاء بطواف واحد، وقال البيهقي: إن ثبتت الرواية أنه طاف طوافين فيحمل على طواف القدوم وطواف الإفاضة، وأما السعي مرتين فلم يثبت، وقال ابن حزم: لا يصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا عن أحد من أصحابه في ذلك شيء أصلًا، قال في "الفتح": لكن روى الطحاوي وغيره مرفوعًا عن علي وابن مسعود ذلك بأسانيد لا بأس بها إذا اجتمعت، ولم أر في الباب أصح من حديثي ابن عمر وعائشة المذكورين في الباب، وأجاب الطحاوي عن حديث ابن عمر بأنه اختلف عليه في كيفية إحرام النبي -صلى الله عليه وسلم- وأن الذي يظهر من مجموع الروايات عنه أنه عليه الصلاة والسلام أحرم أولًا بحجة ثم فسخها، فصيّرها عمرة، ثم تمتع بها إلى الحج، كذا قال الطحاوي مع جزمه قبل ذلك بأنه كان قارنًا، وهب أن ذلك كما قال، فلم لا يكون قول ابن عمر: هكذا فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أي: أمر من كان قارنًا أن يقتصر على طواف واحد، وحديث ابن عمر المذكور ناطق بأنه عليه الصلاة والسلام كان قارنًا، فإنه مع قوله فيه: تمتع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وصف فعل القِران حيث قال: بدأ فأهل بالعمرة، ثم أهلّ بالحج، وهذا من صور القِران، وغايته أنه سماه تمتعًا لأن الإحرام عنده بالعمرة في أشهر الحج كيف كان يسمى تمتعًا، ثم أجاب عن حديث عائشة بأنها أرادت بقولها: "وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة فإنما طافوا لهما طوافًا واحدًا" تعني الذين تمتعوا بالعمرة إلى الحج؛ لأن حجتهم كانت مكية، والحجة المكية لا يطاف لها إلا طواف واحد بعد عرفة، قال: والمراد بقولها: "جمعوا بين الحج والعمرة" جمع متعة لا قِران. ويا للعجب كيف ساغ له التأويل وحديث عائشة مفصل للحالتين، فإنها صرحت بفعل من تمتع، ثم من قرن حيث قالت: "فطاف الذين أهلوا بالعمرة، ثم أحلوا طوافًا آخر بعد أن رجعوا من منى" فهؤلاء أهل التمتع، ثم قالت: "وأما الذين جمعوا" الخ، فهؤلاء أهل القران، وهذا بيّن من أن يحتاج إلى إيضاح. وروى مسلم عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: لم يطف النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافًا واحدًا، ومن طريق طاووس عن عائشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لها: "يسعك طوافك لحجك وعمرتك"، وهذا صريح في الإجزاء، وإن كان العلماء اختلفوا فيما كانت عائشة محرمة به، وروى عبد الرزاق عن سلمة بن كهيل، قال: حلف طاووس ما طاف أحد من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لحجه وعمرته إلا

رجاله خمسة

طوافًا واحدًا، وهذا إسناد صحيح وفيه بيان ضعف ما روي عن علي وابن مسعود من ذلك، وقد روى آل بيت علي منه مثل الجماعة، قال جعفر الصادق بن محمد، عن أبيه: أنه كان يحفظ عن علي: للقارن طواف واحد، خلاف ما يرويه أهل العراق عنه، ومما يضعف ما روي عن علي من ذلك أن أمثل طرقه عنه رواية عبد الرحمن بن أذينة عنه، وقد ذكر فيها أنه يمتنع على من ابتدأ الإهلال بالحج أن يدخل عليه العمرة، وأن القارن يطوف طوافين ويسعى سعيين، والذين احتجوا بحديثه لا يقولون بامتناع إدخال العمرة على الحج، فإن كانت الطريق صحيحة عندهم لزمهم العمل بما دلت عليه، وإلا فلا حجة فيها، وقال ابن المنذر: احتج أبو أيوب من طريق النضر بأنا أجزنا جميعًا للحج والعمرة سفرًا واحدًا، وإحرامًا واحدًا، وتلبية واحدة، فكذلك يجزي عنهما طواف واحد، وسعي واحد؛ لأنهما خالفا في ذلك سائر العبادات، وفي هذا القياس مباحث كثيرة أعرضنا عنها، واحتج غيره بقوله عليه الصلاة والسلام: "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة" وهو صحيح كما مرَّ، فدل على أنها بعد أن دخلت فيها لا تحتاج إلى عمل آخر غير عمله، والحق أن المتبع في ذلك السنة الصحيحة، وهي غنية عن غيرها، وقد تقدم الكلام على مباحث هذا الحديث في كتاب الحيض، وفي باب التمتع والقِران. رجاله خمسة، وفيه ذكر عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، وقد مرَّ الجميع: مرَّ عبد الله بن يوسف، ومالك، وعروة، وعائشة في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ ابن شهاب في الثالث منه، ومرَّ عبد الرحمن في الرابع من الغسل. الحديث الحادي والعشرون والمائة حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما دَخَلَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَظَهْرُهُ فِي الدَّارِ، فَقَالَ: إِنِّي لاَ آمَنُ أَنْ يَكُونَ الْعَامَ بَيْنَ النَّاسِ قِتَالٌ، فَيَصُدُّوكَ عَنِ الْبَيْتِ، فَلَوْ أَقَمْتَ. فَقَالَ: قَدْ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ، فَإِنْ حِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ أَفْعَلُ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ثُمَّ قَالَ: أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ مَعَ عُمْرَتِي حَجًّا. قَالَ: ثُمَّ قَدِمَ فَطَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا. قوله: "دخل ابنه" أي: ابن عبد الله بن عمر.

وقوله: "وظهره في الدار"، مبتدأ وخبره، والجملة وقعت حالًا، والمراد من الظهر مركوبه الذي يركبه من الإبل، والمعنى: أن عبد الله بن عمر كان عازمًا على الحج، وأحضر مركوبه ليركب عليه، فقال له ابنه عبد الله ما قال. وقوله: "إني لا آمن" بالمد وفتح الميم المخففة، أي: أخاف، هذه رواية الأكثرين، وفي رواية المستملي: إني لا إيْمَن بكسر الهمزة وسكون الباء وفتح الميم، وهي لغة تميم، فإنهم يكسرون حرف المضارعة غير الباء من مستقبل ماضيه على فعل بالكسر، ولا يكسرون إذا كان ماضيه بالفتح إلا أن يكون فيه حرف حلق نحو أذهب وألحق. وقوله: "فلو أقمت" يحتمل أن تكون كلمة لو للتمني فلا تحتاج إلى جواب، ويحتمل أن تكون للشرط وجوابه محذوف، أي: فلو أقمت في هذه السنة وتركت الحج لكان خير لعدم الأمن. وقوله: "فإن حيل بيني وبينه" كذا للأكثر، وللكشميهني: وإن يُحَلْ، بضم الياء وفتح المهملة واللام ساكنة. وقوله: "وإن حيل بيني وبينه"، أي: منعت من الوصول إليه لأتطوف، تحللت بعمل عمرة، وهذا يبين أن المراد بقوله: "ما أمرهما إلا واحد" يعني الحج والعمرة في جواز التحلل منهما بالإحصار، أو في إمكان الإحصار عن كل منهما، ويؤيد الثاني قوله في رواية يحيى القطان بعد قوله: "ما أمرهما إلا واحد": إن حيل بيني وبين العمرة حيل بيني وبين الحج، فكأنه رأى أولًا أن الإحصار عن الحج أشد من الإحصار عن العمرة لطول زمن الحج وكثرة أعماله، فاختار الإهلال بالعمرة، ثم رأى أن الإحصار بالحج يفيد التحلل عنه بعمل العمرة، فقال: ما أمرهما إلا واحد. وقوله: "أشهدكم أني قد أوجبت مع عمرتي حجًا"، أي: ألزمت نفسي ذلك، وكأنه أراد تعليم من يريد الاقتداء به وإلا فالتلفظ ليس بشرط. وقوله: "فطاف لهما طوافًا واحدًا" قد مرَّ الكلام عليه مستوفى في الذي قبله، وفي الحديث أن الصحابة كانوا يستعملون القياس ويحتجون به، وفيه من الفوائد أن من أحصر بالعدو بأن منعه من المضي في نسكه حجًا كان أو عمرة جاز له التحلل بأن ينوي ذلك وينحر هديه، ويحلق رأسه أو يقصره، وفيه جواز إدخال الحج على العمرة، وهو قول الجمهور لكن شرطه عند الأكثر أن يكون قبل الشروع في طواف العمرة، وقيل: إن كان قبل مضي أربعة

رجاله خمسة

أشواط صح، وهو قول الحنفية، وقيل: بعد إتمام الطواف، وهو قول المالكية، أي: لا يصح الإدخال عندهم إذا كان بعد تمام الطواف والركوع، ونقل ابن عبد البر أن أبا ثَوْرٍ شذّ فمنع إدخال الحج على العمرة قياسًا على منع إدخال العمرة على الحج، وفيه أن القارن يقتصر على طواف واحد، وقد مرَّ ما فيه، وفيه أن القارن يهدي، وشذّ ابن حزم فقال: لا هدي على القارن، وفيه جواز الخروج إلى النسك في الطريق المظنون خوفه إذا رُجي السلامة، قاله ابن عبد البر. رجاله خمسة، وفيه ذكر عبد الله بن عبد الله وقد مرّوا: مرَّ يعقوب بن إبراهيم، وإسماعيل ابن عُلية في الثامن من الإيمان، وأيوب في التاسع منه، ونافع في الأخير من العلم، ومرَّ ابن عمر في أول الإيمان قبل ذكر حديث منه، ومرَّ عبد الله بن عبد الله في السادس والتسعين من صفة الصلاة. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة، ورواته: شيخه، دورقي، وبصريان، ومدني، أخرجه البخاري في الحج ومسلم فيه. الحديث الثاني والعشرون والمائة حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما أَرَادَ الْحَجَّ عَامَ نَزَلَ الْحَجَّاجُ بِابْنِ الزُّبَيْرِ. فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ النَّاسَ كَائِنٌ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ، وَإِنَّا نَخَافُ أَنْ يَصُدُّوكَ. فَقَالَ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} إِذًا أَصْنَعَ كَمَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، إِنِّي أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ عُمْرَةً. ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِظَاهِرِ الْبَيْدَاءِ قَالَ: مَا شَأْنُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إِلاَّ وَاحِدٌ، أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ حَجًّا مَعَ عُمْرَتِي. وَأَهْدَى هَدْيًا اشْتَرَاهُ بِقُدَيْدٍ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمْ يَنْحَرْ، وَلَمْ يَحِلَّ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ، وَلَمْ يَحْلِقْ وَلَمْ يُقَصِّرْ حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ، فَنَحَرَ وَحَلَقَ، وَرَأَى أَنْ قَدْ قَضَى طَوَافَ الْحَجِّ، وَالْعُمْرَةِ بِطَوَافِهِ الأَوَّلِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: كَذَلِكَ فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. قوله: "قد أوجبت عمرة" في "الموطأ": خرج إلى مكة يريد الحج، فقال: إن صددت، فذكره ولا اختلاف فإنه خرج أولًا يريد الحج، فلما ذكروا له أمر الفتنة أحرم بالعمرة، ثم قال: ما شأنهما إلا واحد، فأضاف إليها الحج، فصار قارنًا، وفي رواية أيوب: فأهلَّ بالعمرة من

رجاله أربعة

الدار، والمراد بالدار: المنزل الذي نزله بذي الحليفة، ويؤيده ما في رواية جويرية أن ذلك وقع بعد أن سار ساعة، ويحتمل أن يحمل على الدار التي بالمدينة، ويجمع بأنه أهلّ بالعمرة من داخل بيته، ثم أعلن بها وأظهرها بعد أن استقر بذي الحليفة، وفي رواية الليث هذه أوجب عمرة ثم خرج حتى إذا كان بظاهر البيداء، قال: ما شأن العمرة والحج إلا واحد، ولو كان إيجابه العمرة من داره التي بالمدينة لكان ما بينها وبين ظاهر البيداء أكثر من ساعة. وقوله: "بطوافه الأول"، أي: الذي طافه يوم النحر للإضافة، وتوهم بعضهم أنه أراد طواف القدوم، فمحله على السعي، وقال ابن عبد البر: فيه حجة لمالك في قوله: إن طواف القدوم إذا وصل بالسعي يجزىء عن طواف الإفاضة لمن تركه جاهلًا أو نسيه حتى رجع إلى بلده وعليه الهدي، قال: ولا أعلم أحدًا قال به غيره وغير أصحابه، وتعقب بأنه إن حمل قوله: "طوافه الأول على طواف القدوم، فإنه أجزأ عن طواف الإفاضة"، كان ذلك دالًا على الإجزاء مطلقًا ولو تعمده لا بقيد الجهل والنسيان، لا إذا حملنا قوله: طوافه الأول على طواف الإفاضة يوم النحر، أو على السعي، ويؤيد التأويل الثاني حديث جابر عند مسلم: لم يطف النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافًا واحدًا، طوافه الأول وهو محمول على ما حمل عليه حديث ابن عمر المذكور، وفي نسخة الصغاني عقب طريق ابن عمر الثانية تعلية السند المذكور لبعض الرواة، ولفظه: قال أبو إسحاق: حدثنا قتيبة، ومحمد بن رمح، قالا: حدثنا الليث مثله، وأبو إسحاق هذا إن كان هو المستملي فقد سقط بينه وبين قتيبة وابن رمح رجل، وإن كان غيره فيحتمل أن يكون إبراهيم بن معقل النسفي الراوي عن البخاري. رجاله أربعة، وفيه ذكر الحجاج وابن الزبير، وقد مرَّ الجميع: مرَّ قتيبة بن سعيد في الحادي والعشرين من الإيمان، ومرَّ الليث في الثالث من بدء الوحي، ومرَّ محل نافع، وابن عمر في الذي قبله، ومرَّ ابن الزبير في الثامن والأربعين من العلم، ومرَّ الحجاج في السابع والثلاثين من مواقيت الصلاة. ثم قال المصنف:

باب الطواف على وضوء

باب الطواف على وضوء قد مرَّ الكلام عليه مستوفى في باب من طاف إذا قدم. الحديث الثالث والعشرون والمائة حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ الْقُرَشِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ: قَدْ حَجَّ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ رضي الله عنها أَنَّهُ أَوَّلُ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً، ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً. ثُمَّ عُمَرُ رضي الله عنه مِثْلُ ذَلِكَ. ثُمَّ حَجَّ عُثْمَانُ رضي الله عنه فَرَأَيْتُهُ أَوَّلُ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةٌ، ثُمَّ مُعَاوِيَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، ثُمَّ حَجَجْتُ مَعَ أَبِي الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةٌ، ثُمَّ رَأَيْتُ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةٌ، ثُمَّ آخِرُ مَنْ رَأَيْتُ فَعَلَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُضْهَا عُمْرَةً، وَهَذَا ابْنُ عُمَرَ عِنْدَهُمْ فَلاَ يَسْأَلُونَهُ، وَلاَ أَحَدٌ مِمَّنْ مَضَى، مَا كَانُوا يَبْدَءُونَ بِشَيْءٍ حَتَّى يَضَعُوا أَقْدَامَهُمْ مِنَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لاَ يَحِلُّونَ، وَقَدْ رَأَيْتُ أُمِّي وَخَالَتِي، حِينَ تَقْدَمَانِ لاَ تَبْتَدِئَانِ بِشَيْءٍ أَوَّلَ مِنَ الْبَيْتِ، تَطُوفَانِ بِهِ، ثُمَّ لاَ تَحِلاَّنِ. وَقَدْ أَخْبَرَتْنِي أُمِّي أَنَّهَا أَهَلَّتْ هِيَ وَأُخْتُهَا وَالزُّبَيْرُ وَفُلاَنٌ وَفُلاَنٌ بِعُمْرَةٍ، فَلَمَّا مَسَحُوا الرُّكْنَ حَلُّوا. قوله: "ما كانوا يبدؤون بشيء حين يضعوا أقدامهم من الطواف بالبيت"، قال ابن بطال: لابد من زيادة لفظ: أول بعد لفظ أقدامهم، وأجاب الكرماني بأن معناه: ما كانوا يبدؤون بشيء آخر حين يضعون أقدامهم في المسجد لأجل الطواف، وحاصله أنّه لم يتعين حذف لفظ أول، بل يجوز أن يكون الحذف في موضع آخر لكن الأول أولى؛ لأن الثاني يحتاج إلى جعل من بمعنى من أجل، وهو قليل، وأيضًا فلفظ أول قد ثبت في بعض الروايات، وثبت أيضًا في مكان آخر من الحديث نفسه، وفي رواية الكشميهني: حتى يضعوا، بدل:

رجاله ستة

حين يضعوا، وتوجيهه ظاهر. وقوله: "ثم إنهما لا تحلان"، أي: سواء كان إحرامهما بالحج وحده وبالقران خلافًا لمن قال: إن من حج مفردًا فطاف حل بذلك، كما مرَّ عن ابن عباس. وقوله: "أمي" يعني أسماء، وخالته يعني عائشة، قال الداودي: ما ذكر من حج عثمان هو من كلام عروة، وما قبله من كلام عائشة، وقال أبو عبد الملك: منتهى حديث عائشة عند قوله: ثم لم تكن عمرة، ومن قوله: ثم حج أبو بكر، الخ من كلام عروة، فعلى هذا يكون بعض هذا منقطعًا؛ لأن عروة لم يدرك أبا بكر ولا عمر، نعم أدرك عثمان وعلي، قول الدراوردي: يكون الجميع متصلًا، وهو الأظهر، وقد مرَّ الكلام على هذا الحديث مستوفى في باب من طاف بالبيت إذا قدم. رجاله ستة: وفيه ذكر أبي بكر وعمر وابنه عبد الله والزبير وأسماء وعثمان ومعاوية وقد مرَّ الجميع: مرَّ أحمد بن عيسى في الرابع والسبعين من استقبال القبلة، ومرَّ ابن وهب ومعاوية في الثالث عشر من العلم، ومرَّ عثمان في أثر بعد الخامس منه، ومرَّ الزبير في الثامن والأربعين منه، ومرت أسماء في الثامن والعشرين منه، ومرَّ عمرو بن الحارث في السابع والستين من الوضوء، ومرَّ أبو بكر في باب من لم يتوضأ من لحم الشاة بعد الحادي والسبعين منه، ومرَّ محمد بن عبد الرحمن في الثامن والثلاثين من الغسل، ومرَّ عروة وعائشة في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ عمر في الأول منه، ومرَّ ابن عمر في أول الإيمان قبل ذكر حديث منه. فهذه ثلاثة عشر رجلًا مرَّ تعريفهم ولله الحمد. ثم قال المصنف:

باب وجوب الصفا والمروة وجعل من شعائر الله

باب وجوب الصفا والمروة وجعل من شعائر الله أي: وجوب السعي بينهما مستفاد من كونهما جعلا من شعائر الله، قاله ابن المنير. وقوله: "وجعل على صيغة المجهول، أي: جعل وجوب السعي بين الصفا والمروة، وفي نسخة: وجعلا، أي: الصفا والمروة، وتمام هذا تفسير أهل اللغة للشعائر، قال الأزهري: الشعائر المقالة التي ندب الله إليها وأمر بالقيام عليها، وقال الجوهري: الشعائر أعمال الحج، وكل ما جعل عملًا لطاعة الله ويمكن أن يكون الوجوب مستفادًا من قول عائشة: ما أتم الله حج امرىء ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة، وهو في بعض طرق حديثها المذكور في هذا الباب عند مسلم، واحتج ابن المنذر للوجوب بحديث صفية بنت شيبة، عن حبيبة بنت أبي تجراه بكسر المثناة وسكون الجيم بعدها راء، ثم ألف ساكنة، ثم هاء، وهي إحدى نساء بني عبد الدار، قالت: دخلت مع نسوة من قريش دار آل أبي حسين، فرأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسعى وإن مئزره ليدور من شدة السعي، وسمعته يقول: "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي"، أخرجه الشافعي وأحمد وغيرهما. وفي إسناد هذا الحديث عبد الله بن المؤمل، وفيه ضعف، ومن ثم قال ابن المنذر: إن ثبت فهو حجة في الوجوب، وله طريق أخرى في "صحيح ابن خزيمة" مختصرة، وعند الطبراني عن ابن عباس كالأولى، وإذا انضمت إلى الأولى قويت، واختلف على صفية بنت شيبة في اسم الصحابية التي أخبرتها به، ويجوز أن تكون أخذته عن جماعة، فعند الدارقطني، عنها، أخبرتني نسوة من بني عبد الدار فلا يضره الاختلاف، والعمدة في الوجوب قوله عليه الصلاة والسلام: "خذوا عني مناسككم". واستدل بعضهم بحديث أبي موسى في إهلاله المتقدم وفيه: طف بالبيت وبين الصفا والمروة، واختلف أهل العلم في هذا، فالجمهور قالوا: هو ركن لا يتم الحج بدونه، وعن أبي حنيفة: واجب يجبر بالدم، وبه قال الثوري في الناسي لا في العامد، وبه قال عطاء، وعنه: أنه سنة لا يجب بذكر شيء، وبه قال أنس فيما نقله ابن المنذر، واختلف عن أحمد

الحديث الرابع والعشرون والمائة

كهذه الأقوال الثلاثة، وعند الحنفية تفصيل فيما إذا ترك بعض السعي كما هو عندهم في الطواف بالبيت، وأغرب ابن العربي فحكى الإجماع على أن السعي ركن في العمرة، وإنما الاختلاف في الحج، وأغرب الطحاوي فقال في كلام له على المشعر: قد ذكر الله أشياء في الحج لم يرد بذكرها إيجابها في قول أحد من الأمة، من ذلك قوله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآية، فكل أجمع على أنه لو حج ولم يطوف بهما أنه قد تم حجه، وعليه دم، وقد أطنب ابن المنير في الرد في حاشيته على ابن بطال. الحديث الرابع والعشرون والمائة حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ عُرْوَةُ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها فَقُلْتُ لَهَا: أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} فَوَاللَّهِ مَا عَلَى أَحَدٍ جُنَاحٌ أَنْ لاَ يَطُوفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. قَالَتْ: بِئْسَ مَا قُلْتَ يَا ابْنَ أُخْتِي إِنَّ هَذِهِ لَوْ كَانَتْ كَمَا أَوَّلْتَهَا عَلَيْهِ كَانَتْ لاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لاَ يَتَطَوَّفَ بِهِمَا، وَلَكِنَّهَا أُنْزِلَتْ فِي الأَنْصَارِ، كَانُوا قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا عِنْدَ الْمُشَلَّلِ، فَكَانَ مَنْ أَهَلَّ يَتَحَرَّجُ أَنْ يَطُوفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَلَمَّا أَسْلَمُوا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ ذَلِكَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا نَتَحَرَّجُ أَنْ نَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآيَةَ. قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: وَقَدْ سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا، فَلَيْسَ لأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا. ثُمَّ أَخْبَرْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَعِلْمٌ مَا كُنْتُ سَمِعْتُهُ، وَلَقَدْ سَمِعْتُ رِجَالاً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، يَذْكُرُونَ أَنَّ النَّاسَ إِلاَّ مَنْ ذَكَرَتْ عَائِشَةُ مِمَّنْ كَانَ يُهِلُّ بِمَنَاةَ، كَانُوا يَطُوفُونَ كُلُّهُمْ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ فِي الْقُرْآنِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كُنَّا نَطُوفُ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ، فَلَمْ يَذْكُرِ الصَّفَا فَهَلْ عَلَيْنَا مِنْ حَرَجٍ أَنْ نَطَّوَّفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآيَةَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَأَسْمَعُ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْفَرِيقَيْنِ كِلَيْهِمَا فِي الَّذِينَ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَطُوفُوا بِالْجَاهِلِيَّةِ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَالَّذِينَ يَطُوفُونَ ثُمَّ تَحَرَّجُوا أَنْ يَطُوفُوا بِهِمَا فِي الإِسْلاَمِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الصَّفَا حَتَّى ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْدَمَا ذَكَرَ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ.

قوله: "فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة"، الخ، الجواب محصله أن عروة احتج للإباحة باقتصار الآية على رفع الجناح، فلو كان واجبًا لما اكتفى بذلك؛ لأن رفع الإثم علامة المباح، ويزداد المستحب بإثبات الأجر، ويزداد الوجوب عليهما بعقاب التارك، ومحصل جواب عائشة أن الآية ساكتة عن الوجوب وعدمه، مصرحة بنفي الإثم عن الفاعل، والمباح يحتاج إلى رفع الإثم عن التارك، والحكمة في التعبير بذلك مطابقة جواب السائلين لأنهم توهموا من كونهم كانوا يفعلوا ذلك في الجاهلية أن لا يستمر في الإِسلام، فخرج الجواب مطابقًا لسؤالهم. وأما الوجوب فيستفاد من دليل آخر، ولا مانع أن يكون الفعل واجبًا، ويعتقد إنسان امتناع إيقاعه على صفة مخصوصة، فيقال له: لا جناح عليك في ذلك، ولا يستلزم ذلك نفي الوجوب، ولا يلزم من نفي الإثم عن الفاعل نفيه عن التارك، فلو كان المراد مطلق الإباحة لنفي الإثم عن التارك، وقد جاء في بعض الشواذ باللفظ الذي قالت عائشة: أنها لو كانت للإباحة لكانت كذلك، حكاه الطبري وابن أبي داود في المصاحف، وابن المنذر وغيرهم عن أُبي بن كعب وابن مسعود، وابن عباس، وأجاب الطبري بأنها محمولة على القراءة المشهورة، ولا زائدة، وكذا قال الطحاوي، وقال غيره: لا حجة في الشواذ إذا خالفت المشهور، وقال الطحاوي أيضًا: لا حجة لمن قال: إن السعي مستحب بقوله: "فمن تطوع خيرًا" لأنه راجع إلى أصل الحج والعمرة لا إلى خصوص السعي لإجماع المسلمين على أن التطوع بالسعي لغير الحاج والمعتمر غير مشروع. وقوله: "يهلون لمناة"، أي: يحجون لها، ومَناة بفتح الميم والنون الخفيفة: صنم كان في الجاهلية، وقال ابن الكلبي: كانت صخرة نصبها عمرو بن لحي لهذيل، وكانوا يعبدونها، والطاغية صفة لها إسلامية. وقوله: "بالمُشَلل" بضم أوله وفتح المعجمة ولامين الأولى مفتوحة مثقلة هي الثنية المشرفة على قديد، زاد سفيان عن الزهري: بالمشلل من قديد أخرجه مسلم، وأصله للمصنف كما يأتي في تفسير: والنجم، وله في تفسير: البقرة عن عروة، قال: قلت لعائشة وأنا يومئذ حديث السن فذكر الحديث، وفيه: كانوا يهدون لمناة، وكانت مناة حذو قديد، أي: مقابله، وقديد بالتصغير قرية جامعة بين مكة والمدينة كثيرة المياه. وقوله: "إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة" ظاهره أنهم كانوا في الجاهلية لا يطوفون بين الصفا والمروة، ويقتصرون على الطواف بمناة، فسألوا عن حكم الإِسلام في

ذلك، ويصرح بذلك رواية سفيان المذكورة بلفظ: إنما كان من أهلّ بمناة الطاغية التي بالمشلل لا يطوفون بين الصفا والمروة، وفي رواية معمر عن الزهري: إنا كنا لا نطوف بين الصفا والمروة تعظيمًا لمناة، أخرجه البخاري تعليقًا، ووصله أحمد وغيره، وعند مسلم عن يونس، عن الزهري أن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا هم وغسان يهلون لمناة، فتحرجوا أن يطوفوا بين الصفا والمروة، وكان ذلك سنة في آبائهم من أحرم لمناة لم يطف بين الصفا والمروة، فطرق الزهري متفقة، واختلف فيه على هشام بن عروة، عن أبيه، فرواه مالك عنه بنحو رواية شعيب عن الزهري، ورواه أبو أُسامة عنه بلفظ: إنما أنزل الله هذا في أناس من الأنصار كانوا إذا أهلوا أهلوا لمناة في الجاهلية، فلا يحل لهم أن يطوفوا بين الصفا والمروة، أخرجه مسلم، وظاهره يوافق رواية الزهري، وبذلك جزم محمد بن إسحاق فيما رواه الفاكهاني أن عمرو بن لحي نصب مناة على ساحل البحر مما يلي قديدًا، فكانت الأزد وغسان يحجونها ويعظمونها إذا طافوا بالبيت وأفاضوا من عرفات، وفرغوا من مني أتوا مناة، فأهلُّوا لها، فمن أهل لها لم يطف بين الصفا والمروة، قال: وكانت مناة للأوس والخزرج والأزد من غسان، ومن دان دينهم من أهل يثرب، فهذا يوافق رواية الزهري. وأخرج مسلم عن أبي معاوية، عن هشام هذا الحديث فخالف فيه جميع ما تقدم ولفظه: إنما كان ذلك لأن الأنصار كانوا يهلون في الجاهلية لصنمين على شط البحر: أساف ونائلة، فيطوفون بين الصفا والمروة، ثم يحلون، فلما جاء الإِسلام كرهوا أن يطوفوا بينهما للذي كانوا يصنعون في الجاهلية، فهذه الرواية تقتضي أن تحرجهم، إنما كان لئلا يفعلوا في الإِسلام شيئًا كانوا يفعلونه في الجاهلية؛ لأن الإِسلام أبطل أفعال الجاهلية إلا ما أذن فيه الشارع، فخشوا أن يكون ذلك من أمر الجاهلية الذي أبطله الشارع، فهذه الرواية توجيهها ظاهر بخلاف رواية أبي أسامة، فإنها تقتضي أن التحرج عن الطواف بين الصفا والمروة لكونهم كانوا يفعلونه في الجاهلية، ولا يلزم من تركهم فعل شيء في الجاهلية أن يتحرجوا من فعله في الإِسلام، ولولا الزيادة التي في رواية يونس حيث قال: "وكانت سنة في آبائهم" لكان الجمع بين الروايتين ممكنًا بأن تقول: وقع في رواية الزهري حذف تقديره إنهم كانوا يهلون في الجاهلية لمناة، ثم يطوفون بين الصفا والمروة، فكان من أهلّ أي: بعد ذلك في الإِسلام يتحرج أن يطوف بين الصفا والمروة لئلا يضاهي فعل الجاهلية، ويمكن أن يكون في رواية أبي أسامة حذف تقديره: كانوا إذا أهلّوا لمناة في الجاهلية، فجاء الإِسلام، فظنوا أنه أبطل ذلك، فلا يحل لهم، ويبين ذلك رواية أبي معاوية المارة حيث قال فيها: فلما جاء الإِسلام

كرهوا أن يطوفوا بينهما للذي كانوا يصنعون في الجاهلية، إلا أنه وقع فيها وهم غير هذا نبّه عليه عياض، فقال: قوله: "لصنمين على شط البحر" وهم، فإنهما ما كانا قط على شط البحر، وإنما كانا على الصفا والمروة، إنما كانت مناة مما يلي جهة البحر، وسقط من روايته أيضًا: إهلالهم أولًا لمناة، فكأنهم كانوا يهلون لمناة فيبدؤون بها، ثم يطوفون بين الصفا والمروة لأجل إساف ونائلة، فمن ثم تحرجوا من الطواف بينهما في الإِسلام، ويؤيد ما ذكر حديث أنس في الباب الذي بعده بلفظ: أكنتم تكرهون السعي بين الصفا والمروة؟ قال: نعم؛ لأنها كانت من شعار الجاهلية. وروى النسائي بإسناد قوي عن زيد بن حارثة قال: كان على الصفا والمروة صنمان من نحاس، يقال لهما: إساف ونائلة، كان المشركون إذا طافوا تمسحوا بهما، الحديث، وروى الطبراني وابن أبي حاتم بإسناد حسن عن ابن عباس، قالت الأنصار: إن السعي بين الصفا والمروة من أمر الجاهلية، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآية، وروى الفاكهاني وإسماعيل القاضي في "الأحكام" بإسناد صحيح عن الشعبي، قال: كان صنم بالصفا يدعى إساف، ووثن بالمروة يدعى نائلة، فكان أهل الجاهلية يسعون بينهما، فلما جاء الإسلام رمى بهما، وقال: إنما كان ذلك يصنعه أهل الجاهلية من أجل أوثانهم، فأمسكوا عن السعي بينهما، قال: فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآية. وذكر الواحدي في "أسبابه" عن ابن عباس نحو هذا، وزاد فيه: يزعم أهل الكتاب أنهما زنيا في الكعبة فمسخا حجرين، فوضعا على الصفا والمروة ليعتبر بهما، فلما طالت المدة عُبدا، والباقي نحوه، وروى الفاكهاني بإسناد صحيح إلى أبي مجلز نحوه، وفي كتاب مكة لعمر بن شبة بإسناد قوي عن مجاهد في هذه الآية، قال: قالت الأنصار: إن السعي بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية، فنزلت، وعن الكلبي، قال: كأن الناس أول ما أسلموا كرهوا الطواف بينهما لأنه كان على كل واحد منهما صنم، فنزلت، فهذا كله يوضح قوة رواية أبي معاوية، وتقدمها على رواية غيره، ويحتمل أن يكون الأنصار في الجاهلية كانوا فريقين، منهم من كان يطوف بينهما على ما اقتضته رواية أبي معاوية، ومنهم من كان لا يقربهما على ما اقتضته رواية الزهري، وأشركا الفريقين في الإِسلام على التوقف عن الطواف بينهما لكونه كان عندهم جميعًا من أفعال الجاهلية، فيجمع بين الروايتين بهذا، وقد أشار إلى نحو هذا الجمع البيهقي، وقول عائشة: وقد سنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الطواف بين الصفا والمروة، أي: فرضه بالسنة، وليس مرادها نفي فرضيتها، ويؤيده قولها: لم يتم الله حج أحدكم ولا عمرته ما لم يطف بينهما.

وقوله: "ثم أخبرت أبا بكر بن عبد الرحمن"، القائل: هو الزهري، وفي رواية سفيان، عن الزهري، عند مسلم، قال الزهري: فذكرت ذلك لأبي بكر بن عبد الرحمن فأعجبه. وقوله: "إن هذا العلم" كذا للأكثر، أي: إن هذا هو العلم المتين، وللكشميهني: إن هذا لَعلم بفتح اللام، وهي لام التوكيد، وبالتنوين على أنه الخبر. وقوله: "إن الناس إلا من ذكرت عائشة"، إنما ساغ له هذا الاستثناء مع أن الرجال الذين أخبروه أطلقوا ذلك لبيان الخبر عنده من رواية الزهري له عن عروة عنها، ومحصل ما أخبره به أبو بكر بن عبد الرحمن أن المانع لهم من التطوف بينهما أنهم كانوا يطوفون بالبيت، وبين الصفا والمروة في الجاهلية، فلما أنزل الله الطواف بالبيت ولم يذكر الطواف بينهما ظنوا رفع ذلك الحكم، فسألوا: هل عليهم من حرج إن فعلوا ذلك بناء على ما ظنوه من أن التطوف بينهما من فعل الجاهلية، ووقع في رواية سفيان المذكورة: إنما كان من لا يطوف بينهما من العرب يقولون: إن طوافنا بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية. وقوله: "فأسمع هذه الآية" نزلت في الفريقين، كذا في معظم الروايات بإثبات الهمزة وضم العين بصيغة المضارع للمتكلم، وضبطه الدمياطي في نسخته بالوصل، وسكون العين بصيغة الأمر، والأول أصوب، وفي رواية سفيان المذكورة: فأُراها نزلت، وهو بضم الهمزة، أي: أظنها، وحاصله إن سبب نزول الآية على هذا الأسلوب كان للرد على الفريقين الذين تحرجوا أن يطوفوا بينهما لكونه عندهم من أفعال الجاهلية، والذين امتنعوا من الطواف بينهما لكونهما لم يذكرا. وقوله: "حتى ذكر ذلك بعدما ذكر الطواف بالبيت" يعني تأخر نزول آية البقرة في الصفا والمروة عن آية الحج، وهي قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}، والمعنى أنهم امتنعوا من السعي بين الصفا والمروة لأن قوله: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} دل على الطواف بالبيت ولا ذكر للصفا والمروة فيه حتى نزل: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} بعد نزول: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ}، وفي رواية المستملي وغيره: حتى ذكر بعد ذلك ما ذكر الطواف بالبيت، قال في "الفتح": وفي توجيهه عسر، قال العيني: لا عسر فيه، فقد وجهه الكرماني، فقال: لفظ ما ذكر بدل من ذلك، أو أن ما مصدرية، والكاف مقدر كما في قوله: زيد أسد، أي: ذكر السعي بعد ذكر الطواف كذكر الطواف واضحًا جليًا ومشروعًا مأمورًا به، قلت: هذا التوجيه الذي قال فيه: لا عسر فيه ما فوقه عسر، ولم يتبين به معنى اللفظ.

رجاله خمسة

رجاله خمسة، قد مرّوا: مرَّ أبو اليمان وشعيب في السابع من بدء الوحي، ومرَّ الزهري في الثالث منه، ومرَّ عروة وعائشة في الثاني منه، وفي الحديث ذكر أبي بكر بن عبد الرحمن وهو ابن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة، وقد مرَّ في الستين من صفة الصلاة. والحديث أخرجه النسائي في الحج والتفسير. ثم قال المصنف:

باب ما جاء في السعي بين الصفا والمروة

باب ما جاء في السعي بين الصفا والمروة أي: كيفيته بين الصفا والمروة. وقال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: السعي من دار بني عباد إلى زقازق بني أبي حسين. وجه مطابقته للترجمة من حيث إنه جاء في السعي بين الصفا والمروة، أنه من دار من بني عباد. وعباد بفتح العين وتشديد الباء الموحدة، والزقاق بضم الزاي وبقافين: السكة، يذكر ويؤنَّث، فأهل الحجاز يؤنثون الطريق والصراط والسبيل والسوق والزقاق، وبنو تميم يذكرون هذا كله، وهذا التعليق وصله الفاكهاني عن نافع، قال: نزل ابن عمر من الصفا حتى إذا حاذى باب بني عباد سعى حتى إذا انتهى إلى الزقاق الذي يسلك بين دار بني أبي حسين ودار بنت قرظة، ومن طريق عبيد الله بن أبي يزيد، قال: رأيت عبد الله بن عمر يسعى في مجلس بني عباد إلى زقاق ابن أبي حسين، قال سفيان: هو بين هذين العلمين، وروى ابن أبي شيبة عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد وعطاء، قال: رأيتهما يسعيان من خوخة بني عباد إلى زقاق بني أبي حسين، قال: فقلت لمجاهد: فقال: هذا بطن المسيل الأول، والعلمان اللذان أشار إليهما معروفان إلى الآن، وروى ابن خزيمة والفاكهاني عن أبي الطفيل، قال: سألت ابن عباس عن السعي، قال: لما بعث الله جبريل إلى إبراهيم عليهما السلام ليريه المناسك، عرض له الشيطان بين الصفا والمروة، فأمر الله أن يجيز الوادي، قال ابن عباس: فكانت سنة، وسيأتي في أحاديث الأنبياء أنّ ابتداء ذلك كان من هاجر، وروى الفاكهاني بإسناد حسن عن ابن عباس: هذا ما أورثتكموه أم إسماعيل، وسيأتي حديثه في آخر الباب في سبب فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك، ووصل هذا التعليق أيضًا ابن أبي شيبة عن أبي خالد الأحمر، ومرَّ ابن عمر رضي الله تعالى عنهما في أول الإيمان قبل ذكر حديث منه.

الحديث الخامس والعشرون والمائة

الحديث الخامس والعشرون والمائة حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا طَافَ الطَّوَافَ الأَوَّلَ خَبَّ ثَلاَثًا وَمَشَى أَرْبَعًا، وَكَانَ يَسْعَى بَطْنَ الْمَسِيلِ إِذَا طَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. فَقُلْتُ لِنَافِعٍ: أَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَمْشِي إِذَا بَلَغَ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَ؟ قَالَ: لاَ. إِلاَّ أَنْ يُزَاحَمَ عَلَى الرُّكْنِ فَإِنَّهُ كَانَ لاَ يَدَعُهُ حَتَّى يَسْتَلِمَهُ. قوله: "الطواف الأول"، أي: طواف القدوم. وقوله: "خب" بفتح المعجمة وتشديد الموحدة، وقد تقدم في باب من طاف إذا قدم مكة. وقوله: "وكان يسعى بطن المسيل"، أي: المكان الذي يجتمع فيه السيل. وقوله: "بطن" منصوب على الظرفية، وهذا مرفوع عن ابن عمر، وكأن المصنف بدأ بالموقوف عنه في الترجمة لكونه مفسرًا لحد السعي، والمراد شدة المشي، وإن كان جميع ذلك يسمى سعيًا. وقوله: "فقلت لنافع" القائل عبيد الله بن عمر المذكور، وقد تقدم الكلام على ما يتعلق بالاستلام قبل بأبواب في باب الرمل بالحج والعمرة. رجاله خمسة، قد مرّوا -إلا محمد بن عبيد-: مرَّ عيسى بن يونس في الثامن عشر والمائة من صفة الصلاة، ومرَّ عبيد الله العمري في الرابع عشر من الوضوء، ومرَّ نافع في الأخير من العلم، ومرَّ محل ابن عمر، الآن الباقي محمد بن عبيد بن ميمون المدني التبان التيمي، يقال: مولى ابن جدعان، وقيل: إنه مولى هارون بن يزيد بن المهاجر بن قنفذ التيمي، وقيل: إنه محمد بن عبيد بن حاتم، فيحتمل أن يكون حاتم جدًا لمحمد بن عبيد بن ميمون، ويحتمل أن يكون آخر، وفي الزهرة روى عنه البخاري ثلاثة عشر حديثًا، قال أبو حاتم: شيخ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: ربما أخطأ، روى عن أبيه وعيسى بن يونس والدراوردي وغيرهم، وروى عنه البخاري وابن ماجه وأبو حاتم وأبو زرعة وغيرهم. الحديث السادس والعشرون والمائة حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: سَأَلْنَا ابْنَ عُمَرَ

رضي الله عنهما، عَنْ رَجُلٍ طَافَ بِالْبَيْتِ فِي عُمْرَةٍ، وَلَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، أَيَأْتِي امْرَأَتَهُ؟ فَقَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، فَطَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعًا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}. هذا الحديث مرَّ الكلام عليه في باب صلى النبي لسُبوعه ركعتين، وقال ابن الملقن: هنا قال صاحب "المحيط" من الحنفية: لو بدأ بالمروة وختم بالصفا أعاد شوطًا؛ فإن البداءة واجبة، ولا أصل لما قال الكرماني إن الترتيب ليس بشرط، ولكن تركه مكروه لترك السنة، فيستحب إعادة الشوط، والكرماني المذكور عالم من الحنفية، وليس هو شمس الدين الكرماني شارح البخاري، فإنه شافعي المذهب يرى الترتيب شرطًا في صحة السعي، وأخرج مسلم في هذا الباب حديث جابر أنه عليه الصلاة والسلام لما فرغ من الركعتين بعد طوافه خرج إلى الصفا، فقال: "أبدأ بما بدأ الله به"، ورواه النسائي بلفظ الأمر، فقال: "ابدؤوا بما بدأ الله به"، واستدل به على اشتراط البداءة، وقال ابن عبد السلام: المروة أفضل من الصفا؛ لأنها تقصد بالذكر والدعاء أربع مرات بخلاف الصفا فإنما تقصد ثلاثًا، قال: وأما البداءة بالصفا فليس بوارد لأنه وسيلة، وفي هذا نظر لأن الصفا تقصد أربعًا أيضًا أولها عند البداءة، فكل منهما مقصود بذلك، ويمتاز بالابتداء، وعند التنزل يتعادلان، ثم ما ثمرة هذا التفضيل مع أن العبادة المتعلقة بهما لا تتم إلا بهما معًا، قلت: يمكن أن تكون الثمرة كثرة الأجر في الدعاء على الفضلى منهما، ويشترط أن يكون السعي بعد طواف صحيح سواء كان طواف قدوم أو إفاضة، ولا يصح بعد طواف الوداع، فلو سعى وطاف أعاده إن كان بمكة، وإن رجع إلى أهله بعث بدم، وشذ إمام الحرمين، فقال: قال بعض أئمتنا: لو قدّم السعي على الطواف اعتد بالسعي، وهذا غلط، ونقل الماوردي وغيره الإجماع على اشتراط ذلك، وقال عطاء: يجوز السعي من غير تقدم طواف وهو غريب، وعند المالكية: يصح أن يكون السعي بعد طواف نفل، والموالاة بين مرات السعي، فلو تخلل بيسير أو طويل بينهن لم يضر، وكذا بينه وبين الطواف، ويستحب السعي على طهارة من الحدث والنجس ساترًا عورته، والمرأة تمشي ولا تسعى لأنه أستر لها كما مرَّ، وقال ابن التين: يكره للرجل أن يقعد على الصفا إلا لعذر، وضعّف ابن القاسم في روايته عن مالك رفع يديه على الصفا والمروة، وقال ابن حبيب: يرفعهما حذو منكبيه وبطونهما إلى الأرض، ثم يكبر ويهلل ويدعو، وقال غيره من المتأخرين: الدعاء والتضرع إنما يكون وبطونهما إلى السماء، ولو ترك السعي ببطن

رجاله خمسة

المسيل ففي وجوب الدم قولان عن مالك. رجاله خمسة، قد مرّوا: مرَّ علي ابن المديني في الرابع عشر من العلم، ومرَّ عمرو بن دينار في الرابع والخمسين منه، ومرَّ سفيان بن عيينة في الأول من بدء الوحي، ومرَّ جابر في الرابع منه، ومرَّ محل ابن عمر في الذي قبله. الحديث السابع والعشرون والمائة حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مَكَّةَ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ تَلاَ {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}. هذا رواية من الحديث الذي قبله، والكلام على الأول هو الكلام عليه، وقد مرَّ هذا الحديث في باب من صلى ركعتي الطواف خلف المقام. رجاله أربعة قد مرّوا: مرَّ المكي بن إبراهيم في السابع والعشرين من العلم، وعمرو بن دينار في الرابع والخمسين منه، ومرَّ ابن جريج في الثالث من الحيض، وابن عمر في أول الإيمان قبل ذكر حديث منه. الحديث الثامن والعشرون والمائة حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا عَاصِمٌ، قَالَ: قُلْتُ لأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه: أَكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ. لأَنَّهَا كَانَتْ مِنْ شَعَائِرِ الْجَاهِلِيَّةِ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}. وهذا الحديث قد تقدم الكلام عليه في الباب الذي قبله. رجاله أربعة، قد مرّوا: مرَّ أحمد بن محمد شبويه في متابعة بعد الثامن من التقصير، ومرَّ عبد الله بن المبارك في السادس من بدء الوحي، ومرَّ عاصم الأحول في الخامس والثلاثين من الوضوء، ومرَّ أنس في السادس من الإيمان.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: فيه التحديث والإخبار بالجمع، والقول، وشيخه من أفراده، وهو وشيخه مروزيان، وعاصم بصري، أخرجه البخاري أيضًا في التفسير، ومسلم في المناسك، والترمذي والنسائي في الحج. الحديث التاسع والعشرون والمائة حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: إِنَّمَا سَعَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِيُرِىَ الْمُشْرِكِينَ قُوَّتَهُ. قد مرَّ الكلام على هذا الحديث في باب بدء الرمل. رجاله خمسة، قد مرّوا: مرَّ علي ابن المديني في الرابع عشر من العلم، وعمرو بن دينار في الرابع والخمسين منه، ومرَّ سفيان بن عيينة في الأول من بدء الوحي، وابن عباس في الخامس منه، وعطاء في التاسع والثلاثين من العلم. الحديث الثلاثون والمائة زَادَ الْحُمَيْدِيُّ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قال: سَمِعْتُ عَطَاءً، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. أي: زاد الحميدي التصريح بالتحديث من عمرو لسفيان، ومن عطاء لعمرو، وهكذا في مسند الحميدي رواية بشر بن موسى، عنه، ومن طريقه أخرجه أبو نعيم في "المستخرج". رجاله رجال الأول إلا الحميدي، وقد مرَّ في الأول من بدء الوحي: ثم قال المصنف:

باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت وإذا سعى على غير وضوء بين الصفا والمروة

باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت وإذا سعى على غير وضوء بين الصفا والمروة جزم بالحكم الأول لتصريح الأخبار التي ذكرها في الباب بذلك، وأورد المسألة الثانية مورد الاستفهام للاحتمال، وكأنه أشار إلى ما روى عن مالك في حديث الباب بزيادة ولا بين الصفا والمروة، قال ابن عبد البر: لم يقله أحد عن مالك إلا يحيى بن يحيى التميمي النيسابوري، فإن كان يحيى حفظه فلا يدل على اشتراط الوضوء للسعي لأن السعي يتوقف على تقدم طواف قبله، فإن كان الطواف ممتنعًا امتنع لذلك لا لاشتراط الطهارة له، وقد روي عن ابن عمر أيضًا، قال: تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت، وبين الصفا والمروة، أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح، قال: وحدثنا ابن فضيل، عن عاصم، قلت لأبي العالية: أتقرأ الحائض؟ قال: ولا تطوف بالبيت ولا بين الصفا والمروة، ولم يذكر ابن المنذر اشتراط الطهارة للسعي عن أحد من السلف إلا عن الحسن البصري، وقد حكى ابن تيمية رواية عند الحنابلة مثله. وأما ما رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن ابن عمر: إذا طافت ثم حاضت قبل أن تسعى بين الصفا والمروة فلتسع. وعن عبد الأعلى، عن الحسن، مثله، وهذا إسناد صحيح عن الحسن، فلعله يفرق بين الحائض والمحدث كما مرَّ عن الكوفيين، وقال ابن بطال: كأن البخاري فهم أن قوله عليه الصلاة والسلام لعائشة: "افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت" أن لها أن تسعى، ولهذا قال: وإذا سعى على غير وضوء، وهو توجيه جيد لا يخالف التوجيه المتقدم، وهو قول الجمهور، وحكى ابن المنذر قولين عن عطاء فيمن بدأ بالسعي قبل الطواف بالبيت، وبالإِجزاء قال بعض أهل الحديث، واحتج بحديث أسامة بن شريك أن رجلًا سأل النبي -صلى الله عليه وسلم-: فقال: سعيت قبل أن أطوف! قال: "طف ولا حرج"، وقال الجمهور: لا يجزئه، وأوّلوا حديث أسامة على من سعى بعد طواف القدوم، وقبل طواف الإفاضة.

الحديث الحادي والثلاثون والمائة

الحديث الحادي والثلاثون والمائة حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: قَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ، وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ، وَلاَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، قَالَتْ: فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "افْعَلِي كَمَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لاَ تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي". هذا الحديث قد تقدم في أول باب من كتاب الحيض، ومرَّ الكلام عليه هناك، والمقصود منه هنا قوله فيه: "وافعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري"، وهو بفتح التاء والطاء المهملة المشددة وتشديد الهاء أيضًا، وهو على حذف إحدى التاءين وأصله تتطهري، ويؤيده ما في رواية مسلم حتى تغتسلي، والحديث ظاهر في نهي الحائض عن الطواف بالبيت حتى ينقطع دمها، وتغتسل لأن النهي في العبادات يقتضي الفساد، وذلك يقتضي بطلان الطواف لو فعلته، وفي معنى الحائض الجنب والمحدث، وهو قول الجمهور، وذهب جمع من الكوفيين إلى عدم الاشتراط إلى آخر ما مرَّ مستوفى في باب من طاف بالبيت إذا قدم مكة. رجاله خمسة قد مرّوا: مرَّ عبد الله بن يوسف ومالك وعائشة في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ عبد الرحمن بن القاسم في السادس عشر من الغسل، وأبوه القاسم في الحادي عشر منه. الحديث الثاني والثلاثون والمائة حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ (ح)، وَقَالَ لِي خَلِيفَةُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا حَبِيبٌ الْمُعَلِّمُ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما، قَالَ: أَهَلَّ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِالْحَجِّ، وَلَيْسَ مَعَ أَحَدٍ مِنْهُمْ هَدْيٌ، غَيْرَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَطَلْحَةَ، وَقَدِمَ عَلِيٌّ مِنَ الْيَمَنِ، وَمَعَهُ هَدْيٌ، فَقَالَ: أَهْلَلْتُ بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-. فَأَمَرَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَصْحَابَهُ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً، وَيَطُوفُوا، ثُمَّ يُقَصِّرُوا وَيَحِلُّوا، إِلاَّ مَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ، فَقَالُوا: نَنْطَلِقُ إِلَى مِنًى، وَذَكَرُ أَحَدِنَا يَقْطُرُ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ، وَلَوْلاَ أَنَّ مَعِي الْهَدْيَ لأَحْلَلْتُ". وَحَاضَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها فَنَسَكَتِ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا، غَيْرَ أَنَّهَا لَمْ تَطُفْ بِالْبَيْتِ، فَلَمَّا طَهُرَتْ طَافَتْ بِالْبَيْتِ. قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! تَنْطَلِقُونَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ، وَأَنْطَلِقُ بِحَجٍّ، فَأَمَرَ

رجاله ستة

عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا إِلَى التَّنْعِيمِ، فَاعْتَمَرَتْ بَعْدَ الْحَجِّ. قوله: "وذكر أحدنا يقطر منيًا" أي: بسبب قرب عهدنا بالجماع، أي: كنا متمتعين بالنساء. وقوله: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت"، أي: لو عرفت في أول الحال ما عرفت في آخر الحال من جواز العمرة في أشهر الحج لما أهديت، وكنت متمتعًا، وهذا الحديث تقدم الكلام عليه مرارًا، تكلم عليه في أول الحيض، وتكلم عليه في باب التمتع والقِران، وفي باب كيف تهل الحائض؟ وغير ذلك من أبواب كتاب الحج هذا والمقصود منه هنا قوله: "غير أنها لم تطف بالبيت"، وقد ساقه المصنف هنا بلفظ خليفة، وسيأتي لفظ محمد بن المثنى في باب عمرة التنعيم. رجاله ستة، وفيه ذكر عليّ وطلحة وعائشة وعبد الرحمن بن أبي بكر وقد مرَّ الجميع: مرَّ محمد بن المثنى وعبد الوهاب في التاسع من الإيمان، ومرَّ خليفة بن خياط في الخامس والتسعين من الجنائز، ومرَّ حبيب المعلم في الحادي عشر والمائة من هذا الكتاب، ومرَّ عطاء في التاسع والثلاثين من العلم، ومرَّ علي في السابع والأربعين منه، ومرَّ جابر في الرابع من بدء الوحي، وعائشة في الثاني منه، ومرَّ طلحة بن عبيد الله في التاسع والثلاثين من الإيمان، ومرَّ عبد الرحمن في الرابع من الغسل. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، ورواته: كلّهم بصريون إلا عطاء، فإنه مكي، والحديث أخرجه أبو داود في الحج. الحديث الثالث والثلاثون والمائة حَدَّثَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ حَفْصَةَ، قَالَتْ: كُنَّا نَمْنَعُ عَوَاتِقَنَا أَنْ يَخْرُجْنَ، فَقَدِمَتِ امْرَأَةٌ فَنَزَلَتْ قَصْرَ بَنِى خَلَفٍ، فَحَدَّثَتْ أَنْ أُخْتَهَا كَانَتْ تَحْتَ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَدْ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ثِنْتَيْ عَشْرَةَ غَزْوَةً، وَكَانَتْ أُخْتِى مَعَهُ فِي سِتِّ غَزَوَاتٍ، قَالَتْ: كُنَّا نُدَاوِى الْكَلْمَى وَنَقُومُ عَلَى الْمَرْضَى. فَسَأَلَتْ أُخْتِي رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: هَلْ عَلَى إِحْدَانَا بَأْسٌ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا جِلْبَابٌ أَنْ لاَ تَخْرُجَ؟ قَالَ: "لِتُلْبِسْهَا صَاحِبَتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا، وَلْتَشْهَدِ الْخَيْرَ، وَدَعْوَةَ الْمُؤْمِنِينَ". فَلَمَّا قَدِمَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها سَأَلْنَهَا، أَوْ قَالَتْ: سَأَلْنَاهَا، فَقَالَتْ: وَكَانَتْ لاَ تَذْكُرُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلاَّ

رجاله خمسة

قَالَتْ: بِأَبِي. فَقُلْنَا: أَسَمِعْتِ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ كَذَا وَكَذَا؟ قَالَتْ: نَعَمْ بِأَبِي. فَقَالَ: "لِتَخْرُجِ الْعَوَاتِقُ ذَوَاتُ الْخُدُورِ أَوِ الْعَوَاتِقُ وَذَوَاتُ الْخُدُورِ وَالْحُيَّضُ، فَيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ، وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَعْتَزِلُ الْحُيَّضُ الْمُصَلَّى، فَقُلْتُ: الْحَائِضُ؟ فَقَالَتْ: أَوَلَيْسَ تَشْهَدُ عَرَفَةَ، وَتَشْهَدُ كَذَا وَتَشْهَدُ كَذَا. وهذا الحديث قد تقدم في الحيض في باب شهود الحائض العيدين، واستوفي الكلام عليه هناك، وفي العيدين، والغرض منه هنا قولها في آخره: "أوليس تشهد عرفة وتشهد كذا وكذا" فهو المطابق لقول جابر: "فنسكت المناسك كلها إلا الطواف بالبيت"، وكذا قولها: "وتعتزل الحُيَّضُ المُصلَّى"، فإنه يناسب قوله: "إن الحائض لا تطوف بالبيت" لأنها إذا أمرت باعتزال المصلى، كان اعتزالها للمسجد بل للمسجد الحرام بل للكعبة من باب الأولى. رجاله خمسة قد مرّوا: مرَّ مؤمل في الرابع والعشرين من التهجد، ومرَّ إسماعيل ابن عُلية في الثامن من الإيمان، ومرَّ أيوب في التاسع منه، ومرت حفصة بنت سيرين وأم عطية في الثاني والثلاثين من الوضوء، وقد مرَّ هذا الحديث في الحيض. ثم قال المصنف:

باب الإهلال من البطحاء وغيرها للمكي والحاج إذا خرج من منى

باب الإهلال من البطحاء وغيرها للمكي والحاج إذا خرج من منى كذا في معظم الروايات، وفي نسخة معتمدة عن أبي الوقت إلى منى، وكذا ذكره ابن بطال في شرحه، والإسماعيلي في مستخرجه، ولا إشكال فيه، وعلى الأول فلعله أشار إلى الخلاف في ميقات المكي، كما يأتي قريبًا. وقوله: "للمكي"، أي: إذا أراد الحج. وقوله: "الحاج"، أي: الآفاقي إذا كان قد دخل مكة متمتعًا، قال النووي: ميقات من بمكة من أهلها وغيرهم نفس مكة على الصحيح، وقيل: مكة وسائر الحرم، والثاني مذهب الحنفية. واختلف في الأفضل فاتفق المذهبان على أنه من باب المنزل، وفي قول للشافعي: من المسجد، وحجة الصحيح ما تقدم في أول كتاب الحج عن ابن عباس حتى أهل مكة يهلُّون منها، وقال مالك وأحمد وإسحاق: يهل من جوف مكة، والأفضل من المسجد، قال أشهب: من داخله لا من بابه، وقال ابن حبيب: من بابه، ولا يخرج إلى الحل إلاَّ محرمًا. واختلفوا في الوقت الذي يهل فيه، فذهب الجمهور إلى أن الأفضل أن يكون يوم التروية، وروى مالك وغيره بإسناد منقطع وابن المنذر بإسناد متصل عن عمر أنه قال لأهل مكة: ما لكم يقدم الناس عليكم شعثًا، وأنتم تنضحون طيبًا مدهنين إذا رأيتم الهلال فأهلوا بالحج، وهو قول ابن الزبير، ومن أشار إليهم عبيد بن جريج في تعليقه الآتي قريبًا بقوله لابن عمر: أهل الناس إذا رأوا الهلال، وقيل: إن ذلك محمول على الاستحباب، وبه قال مالك وأبو ثور، وقال ابن المنذر: الأفضل أن يهل يوم التروية إلا المتمتع الذي لا يجد الهدي ويريد الصوم، فيعجل الإهلال ليصوم ثلاثة أيام بعد أن يحرم، واحتج الجمهور بحديث ابن الزبير عن جابر وهو الذي علقه المصنف في هذا الباب. ثم قال: وسئل عطاء عن المجاور يلبي بالحج، فقال: كان ابن عمر رضي الله عنهما يلي يوم التروية إذا صلى الظهر واستوى على راحلته.

رواه سعيد بن منصور من طريقه بلفظ: رأيت ابن عمر في المسجد، فقيل له: قد رؤي الهلال، فذكر قصة فيها، فأمسك حتى كان يوم التروية، فأتى البطحاء، فلما استوت به راحلته أحرم، وروى مالك في "الموطأ" أن ابن عمر أهل لهلال ذي الحجة، وذلك أنه كان يرى التوسعة في ذلك، وعطاء مرَّ في التاسع والثلاثين من العلم، ومرَّ ابن عمر أول كتاب الإيمان، قبل ذكر حديث منه. ثم قال: وقال عبد الملك، عن عطاء، عن جابر رضي الله تعالى عنه: قدمنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأحللنا حتى يوم التروية، وجعلنا مكة بظهر لبينا بالحج. وصله مسلم عن عطاء، عن جابر، قال: أهللنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالحج، فلما قدمنا مكة أمرنا أن نحل ونجعلها عمرة، فكبر ذلك علينا، الحديث، وفيه: أيها الناس أحلوا، فأحللنا حتى كان يوم التروية، وجعلنا مكة بظهر أهللنا بالحج، وقد روى عبد الملك بن جريج نحو هذه القصة، وسيأتي في أثناء حديث. وقوله: "بظهر"، أي: وراء ظهورنا. وقوله: "أهللنا بالحج"، أي: جعلنا مكة من ورائنا في يوم التروية حال كوننا مهلين بالحج، فعلم أنهم حين الخروج من مكة كانوا محرمين، وعطاء مرَّ محله الآن، وجابر مرَّ في الرابع من بدء الوحي، وعبد الملك يحتمل أنه ابن جريج وقد مرَّ في الثالث من الحيض، ويحتمل أنه ابن أبي سليمان، وهذا هو الظاهر لأن مسلمًا وصله من طريقه، وهو عبد الملك بن أبي سليمان، واسم أبي سليمان ميسرة أبو محمد، ويقال: أبو سليمان أبو عبد الله العرزمي أحد الأئمة، قال ابن مهدي: كان شعبة يعجب من حفظه. وقال سفيان الثوري: حفاظ الناس إسماعيل بن أبي خالد، وعبد الملك بن أبي سليمان، وذكر جماعة، وقال أيضًا: حدثني الميزان عبد الملك بن أبي سليمان، وقال ابن المبارك: عبد الملك ميزان، وقال أبو داود: كان ثقة عن أحمد، وسئل يحيى بن معين عن حديث عطاء، عن جابر في الشفعة، فقال: هو حديث لم يحدث به أحد إلا عبد الملك، وقد أنكره الناس عليه، ولكن عبد الملك ثقة صدوق، لا يرد على مثله، قيل له: تكلم فيه شعبة، قال: نعم، قال شعبة: لو جاء عبد الملك بآخر مثله لرميت بحديثه. وقال أحمد: هذا حديث منكر، وعبد الملك ثقة، وقال أيضًا: عبد الملك من الحفاظ إلا أنه كان يخالف ابن جريج، وابن جريج أثبت منه عندنا، وقال أيضًا: عبد الملك من أعيان الكوفيين، وقال أبو زرعة الدمشقي: سمعت أحمد ويحيى يقولان: عبد الملك بن أبي سليمان ثقة، وقال يحيى بن معين أيضًا:

ضعيف، وهو أثبت في عطاء من قيس بن سعيد، وقال الدارمي: قلت لابن معين: أيّما أحب إليك عبد الملك بن أبي سليمان أو ابن جريج، قال: كلاهما ثقة، وقال ابن عمار: ثقة حجة، وقال العجلي: ثقة ثبت في الحديث، وقال أبو نعيم: حدثنا سفيان، عن عبد الملك بن أبي سليمان: ثقة متقن فقيه، وقال يعقوب بن سفيان عن عبد الملك: فزاري من أنفسهم، ثقة، وقال النسائي: ثقة، وقال ابن سعد: كان ثقة مأمونًا ثبتًا، وقال الساجي: صدوق روى عنه يحيى بن سعيد القطان جزءًا ضخمًا. وقال الترمذي: ثقة مأمون لا نعلم أحدًا تكلم فيه غير شعبة، وقال: قد كان شعبة حدث عنه، ثم تركه، ويقال: إنه تركه لحديث الشفعة الذي تفرد به، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: ربما أخطأ، وكان من خيار أهل الكوفة وحفاظهم، والغالب على من يحفظ ويحدث أن يهم، وليس في الإنصاف ترك حديث شيخ ثبت صحت عنه السنة بأوهام، يهم فيها، والأولى فيه قبول ما يروي بتثبت، وترك ما صح أنه وهم فيه ما لم يفحش، فمن غلب خطؤه على صوابه استحق الترك، روى عن أنس وعطاء وسعيد بن جبير وغيرهم، وروى عنه شعبة والثوري وابن المبارك والقطان وغيرهم، مات في ذي الحجة سنة خمس وأربعين ومائة. والعرزمي في نسبه نسبة إلى جبانة عرزم بالكوفة كان نزلها. ثم قال: وقال أبو الزبير عن جابر: أهللنا من البطحاء. وصله أحمد ومسلم عن ابن جريج، عنه، عن جابر، قال: أمرنا النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أحللنا أن نحرم إذا توجهنا إلى منى، قال: فأهللنا من الأبطح، وأخرجه مسلم مطولًا عن الليث، عن أبي الزبير، فذكر قصة فسخهم الحج إلى العمرة، وقصة عائشة لما حاضت، وفيه: ثم أهللنا يوم التروية، وزاد عن زهير، عن أبي الزبير: أهللنا بالحج، وأبو الزبير مرَّ متابعة بعد الثامن والخمسين من الجماعة والإمامة، ومرَّ جابر في الرابع من بدء الوحي. ثم قال: وقال عبيد بن جريج لابن عمر رضي الله تعالى عنهما: رأيتك إذا كنت بمكة أهلّ الناس إذا رأوا الهلال ولم تهل أنت حتى يوم التروية، فقال: لم أر النبي -صلى الله عليه وسلم- يهل حتى تنبعث به راحلته. قال ابن بطال وغيره: وجه احتجاج ابن عمر على ما ذهب إليه أنه يهل يوم التروية إذا كان بمكة بإهلال النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو إنما أهل حين انبعثت به راحلته بذي الحليفة، ولم يكن بمكة ولا كان ذلك يوم التروية من جهة أنه عليه الصلاة والسلام أهلّ من ميقاته من حين ابتدائه في عمل حجته، واتصل له عمله، ولم يكن بينهما مكث ربما انقطع به العمل،

فكذلك المكي إذا أهلّ يوم التروية اتصل عمله بخلاف ما لو أهلّ من أول الشهر، وقد قال ابن عباس: لا يهل أحد من مكة بالحج حتى يريد الرواح إلى مني، وهذا التعليق وصله البخاري في باب غسل الرجلين في النعلين من كتاب الوضوء مطولًا، وقد مرَّ عبيد بن جريج في الحادي والثلاثين من الوضوء، ومرَّ ابن عمر في أول الإيمان قبل ذكر حديث منه. ثم قال المصنف:

باب أين يصلي الظهر يوم التروية

باب أين يصلي الظهر يوم التروية أي: يوم الثامن من ذي الحجة، وقد مرَّ ما قيل في سبب تسمية التروية بذلك في باب غسل الرجلين في النعلين في كتاب الوضوء حين ذكر حديث ابن عمر هناك. الحديث الرابع والثلاثون والمائة حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الأَزْرَقُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه، قُلْتُ: أَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ عَقَلْتَهُ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: أَيْنَ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ؟ قَالَ: بِمِنًى. قُلْتُ: فَأَيْنَ صَلَّى الْعَصْرَ يَوْمَ النَّفْرِ؟ قَالَ: بِالأَبْطَحِ. ثُمَّ قَالَ: افْعَلْ كَمَا يَفْعَلُ أُمَرَاؤُكَ. قال الترمذي: تفرد به إسحاق الأزرق عن الثوري، ولأجل هذه النكتة أردفه البخاري بطريق أبي بكر بن عياش، عن عبد العزيز، وهي وإن كان قصر فيها كما سنوضحه لكن فيها متابعة قوية لطريق إسحاق، وله شواهد منها ما في حديث جابر الطويل في صفة الحج عند مسلم: فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلّوا بالحج، وركب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، الحديث. وروى أبو داود والترمذي وأحمد والحاكم عن ابن عباس، قال: صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بمنى خمس صلوات، وله عن ابن عمر أنه كان يحب إذا استطاع أن يصلي الظهر بمنى يوم التروية وذلك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلى الظهر بمنى، وحديث ابن عمر في "الموطأ" عن نافع، عنه موقوفًا، ولابن خزيمة والحاكم عن عبد الله بن الزبير، قال: من سنة الحج أن يصلي الإِمام الظهر وما بعدها، والفجر بمنى، ثم يغدون إلى عرفة. وقوله: "يوم النفر" بفتح النون وسكون الفاء، والمراد به الرجوع من منى بعد انقضاء أعمال الحج. وقوله: "بالأَبطح"، أي: البطحاء التي بين مكة ومنى، وهي ما انبطح من الوادي واتسع، وهي التي يقال لها: المحصب والمعرس، وحدّها ما بين الجبلين إلى المقبرة.

رجاله خمسة

وقوله: "كما يفعل أمراؤك" فيه إشعار بأن الأمراء إذ ذاك كانوا لا يواظبون على صلاة الظهر ذلك اليوم في مكان معين، فأشار أنس إلى أن الذي يفعلونه جائز، وإن كان الأتباع أفضل، وأمر أنس السائل له بعد أن بين له ما سأل عنه باتباع الأمراء خشية منه عليه أن يحرص على ذلك فينسب إلى المخالفة أو تفوته الصلاة إلى الجماعة، فقال له: صل مع الأمراء حيث يصلون، وفيه الإشارة إلى متابعة أولي الأمر والاحتراز عن مخالفة الجماعة، وفي الحديث أن السنة أن يصلي الحاج الظهر يوم التروية بمنى لأنه عليه الصلاة والسلام خرج إلى منى قبل الظهر، وصلى فيها الظهر والعصر، وفي كتاب شرف المصطفى لأبي سعد النيسابوري أن خروجه عليه الصلاة والسلام يوم التروية كان ضحى، وفي سيرة الملا أنه -صلى الله عليه وسلم- خرج إلى منى بعدما زاغت الشمس، وفي "شرح الموطأ" للقرطبي أنه عليه الصلاة والسلام خرج إلى منى عشية يوم التروية والخروج يوم التروية هو مذهب الجمهور، وروى الثوري في جامعه عن عمرو بن دينار، قال: رأيت ابن الزبير صلى الظهر يوم التروية بمكة، وقد مرت الرواية عنه قريبًا أن السنة أن يصليها بمنى، فلعل ما نقله عمرو عنه لضرورة أو لبيان الجواز، وقد روى ابن المنذر عن ابن عباس، قال: إذا زاغت الشمس فليرح إلى منى، قال ابن المنذر: في حديث ابن الزبير أن من السنة أن يصلي الإِمام الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح بمنى، وقال به علماء الأمصار قال: ولا أعلم عن أحد من أهل العلم أنه أوجب على من تخلف عن منى ليلة التاسع شيئًا، ثم روى عن عائشة أنها لم تخرج من مكة يوم التروية حتى دخل الليل وذهب ثلثه، وعادة أهل مكة أن يخرجوا إلى منى بعد صلاة العشاء. وقال ابن المنذر: والخروج إلى منى في كل وقت مباح، إلا أن الحسن وعطاء قالا: لا بأس أن يتقدم الحاج إلى منى قبل يوم التروية بيوم أو يومين، وكرهه مالك، وكره الإقامة بمكة يوم التروية حتى يمسي إلا إن أدركه وقت الجمعة فعليه أن يصليها قبل أن يخرج، وقال ابن حبيب: إذا مالت الشمس يطوف سبعًا، ويركع ويخرج، وإن خرج قبل ذلك فلا حرج، وقال النووي: ويكون خروجهم بعد صلاة الصبح بمكة حيث يصلون الظهر في أول وقتها هذا هو الصحيح المشهور من نصوص الشافعي، وفيه قول ضعيف أنهم يصلون الظهر بمكة ثم يخرجون. رجاله خمسة: مرَّ منهم عبد الله بن محمد المسندي في الثاني من الإيمان، ومرَّ سفيان الثوري في السابع والعشرين منه، ومرَّ أنس في السادس منه، ومرَّ عبد العزيز بن رفيع في الثالث عشر

لطائف إسناده

والمائة من هذا الكتاب، والباقي إسحاق بن يوسف بن مرداس بكسر الميم المخزومي الواسطي، المعروف بالأزرق، قيل لأحمد: إسحاق بن يوسف ثقة، قال: إي والله ثقة، وقال ابن معين والعجلي: ثقة، وقال أبو حاتم: صحيح الحديث، صدوق لا بأس به، وقال يعقوب بن شيبة: كان من أعلمهم بحديث شريك، وقال الخطيب: كان من الثقات المأمونين وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال البزار: كان ثقة، وقال ابن سعد: كان ثقة، وربما غلط، روى عن ابن عون والأعمش والثوري وغيرهم، وروى عنه أحمد بن حنبل وقتيبة، ويحيى بن معين وغيرهم، ولد سنة سبع عشرة ومائة ومات سنة خمس وتسعين ومائة. لطائف إسناده: فيه التحديث بالإفراد والجمع والعنعنة والقول والسؤال: وشيخه من أفراده، وهو بخاري ثم واسطي، ثم كوفي، ثم مكي، أخرجه البخاري في الحج أيضًا، وكذا مسلم والترمذي والنسائي. الحديث الخامس والثلاثون والمائة حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، سَمِعَ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَيَّاشٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ: لَقِيتُ أَنَسًا (ح)، وَحَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ: خَرَجْتُ إِلَى مِنًى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ فَلَقِيتُ أَنَسًا رضي الله عنه ذَاهِبًا عَلَى حِمَارٍ، فَقُلْتُ: أَيْنَ صَلَّى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- هَذَا الْيَوْمَ الظُّهْرَ، فَقَالَ: انْظُرْ حَيْثُ يُصَلِّي أُمَرَاؤُكَ فَصَلِّ. هذا فيه اختصار توضحه رواية سفيان، بين له المكان الذي صلى فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- الظهر يوم التروية وهو منى، ثم قال له: افعل كما يفعل أمراؤك، ولما خلت رواية أبي بكر بن عياش عن القدر المرفوع، وقع في بعض الطرق عنه وهم، فرواه الإسماعيلي عن عبد الحميد بن بيان، عنه، بلفظ: أين صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- الظهر هذا اليوم؟ قال: صلى حيث يصلي أمراؤك، قال الإسماعيلي: قوله: "صلى" غلط ويحتمل أن تكون كانت صل بصيغة الأمر كغيرها من الروايات فأشبع الناسخ اللام فكتب بعدها ياء فقرأها الراوي بفتح اللام، وفي رواية عبد الله بن محمد زيادة لفظة في هذا الباب لم يتابعه عليها سائر الرواة عن إسحاق وهي قوله: أين صلى الظهر والعصر؟ فإن لفظ العصر لم يذكره غيره، وقد روى هذا الحديث اثنا عشر نفسًا عن إسحاق الأزرق، ولم يقل أحد منهم في روايته: والعصر، وادَّعى الداودي أن ذكر العصر هنا وهم، وإنما ذكر العصر في النفر، وتعقب بأن العصر مذكور في هذه الرواية في الموضعين،

رجاله خمسة

وقد تقدم التصريح في حديث جابر عند مسلم بأنه صلى الظهر والعصر وما بعد ذلك إلى صبح يوم عرفة بمنى، فالزيادة في نفس الأمر صحيحة إلا أن عبد الله بن محمد تفرد بذكرها عن إسحاق دون بقية أصحابه. رجاله خمسة قد مرّوا: مرَّ علي ابن المديني في الرابع عشر من العلم، ومرَّ أبو بكر بن عياش في الثامن والأربعين والمائة من الجنائز، ومرَّ إسماعيل بن أبان في الثامن والأربعين من الجمعة، ومرَّ محل عبد العزيز وأنس في الذي قبله. ثم قال المصنف:

باب الصلاة بمنى

باب الصلاة بمنى هل يقصر الرباعية أو لا؟ الحديث السادس والثلاثون والمائة حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ صَدْرًا مِنْ خِلاَفَتِهِ. تقدمت هذه الترجمة والأحاديث المذكورة فيها في أبواب قصر الصلاة، لكن غاير في بعض أسانيدها، فإنه أورد حديث ابن عمر هناك عن نافع، عنه، وهنا عن ولده عبيد الله عنه. وقوله: وعثمان صدرًا من خلافته" زاد في رواية نافع المذكورة، ثم أتمها، وقد مرت مباحثه هناك. رجاله ستة، وفيه ذكر أبي بكر وعمر وعثمان وقد مرَّ الجميع: مرَّ إبراهيم بن المنذر في الأول من العلم، ومرَّ ابن وهب في الثالث عشر منه، ومرَّ عثمان في أثر بعد الخامس منه، ومرَّ يونس في متابعة بعد الرابع من بدء الوحي، ومرَّ ابن شهاب في الثالث منه، ومرَّ عمر في الأول منه، ومرَّ عبيد الله بن عبد الله في الخامس والسبعين من استقبال القبلة. الحديث السابع والثلاثون والمائة حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنْ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ الْخُزَاعِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَنَحْنُ أَكْثَرُ مَا كُنَّا قَطُّ وَآمَنُهُ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ. وأورد حديث حارثة هناك عن أبي الوليد، وهنا عن آدم كلاهما عن شعبة، ومرَّ الكلام عليه هناك. رجاله أربعة قد مرّوا: مرَّ آدم وشعبة في الثالث من الإيمان، ومرَّ أبو إسحاق السبيعي في الثالث والثلاثين منه،

الحديث الثامن والثلاثون والمائة

ومرَّ حارثة بن وهب في الرابع من التقصير. الحديث الثامن والثلاثون والمائة حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه، قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- رَكْعَتَيْنِ، وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه رَكْعَتَيْنِ، وَمَعَ عُمَرَ رضي الله عنه رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ تَفَرَّقَتْ بِكُمُ الطُّرُقُ، فَيَالَيْتَ حَظِّى مِنْ أَرْبَعٍ رَكْعَتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ. أورد هذا الحديث هنا عن سفيان، وهناك عن عبد الواحد كلاهما عن الأعمش. وقوله: "فليت حظي من أربع ركعتان" قال الداودي: خشي ابن مسعود أن يجزىء الأربع فاعلها، وتبع عثمان كراهة لخلافه، وأخبر بما يعتقده، وقال: يريد أنه لو صلى أربعًا تكلفها فليتها تقبل كما تقبل الركعتان، والذي يظهر أنه قال ذلك على سبيل التفويض إلى الله تعالى لعدم إطلاعه على الغيب وهل يقبل الله صلاته أم لا؟ فتمنى أن يقبل منه من الأربع التي يصليها ركعتان، ولو لم يقبل الزائد، وهو يشعر بأن المسافر غير عنده بين القصر والإتمام، والركعتان لابد منهما، ومع ذلك فكان يخاف أن لا يقبل منه شيء، فحاصله أنه قال: إنما أتم متابعة لعثمان، وليت الله قبل مني ركعتين من الأربع، وقد تقدم الكلام على بقية فوائد هذا الحديث عند ذكره في أبواب القصر. رجاله ستة وفيه ذكر أبي بكر وعمر وقد مرَّ الجميع: مرَّ قبيصة وسفيان في السابع والعشرين من الإيمان، ومرَّ الأعمش وإبراهيم بن يزيد في الخامس والعشرين منه، ومرَّ ابن مسعود في الأثر الأول منه، ومرَّ عبد الرحمن بن يزيد في الخامس من التقصير، ومرَّ أبو بكر في باب من لم يتوضأ من لحم الشاة بعد الحادي والسبعين من الوضوء ومرَّ عمر الآن في الذي قبله. ثم قال المصنف:

باب صوم يوم عرفة

باب صوم يوم عرفة يعني بعرفة، أي: ما حكمه؟ وكأنه لم تثبت عنده الأحاديث الواردة في الترغيب في صومه على شرطه، وأصحها حديث أبي قتادة عند مسلم أنه يكفِّر سنة آتية، وسنة ماضية، والجمع بينه وبين حديثي الباب أن يحمل على غير الحاج، أو على من لم يضعفه صيامه عن الذكر والدعاء المطلوب للحاج وسيأتي قريبًا. الحديث التاسع والثلاثون والمائة حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنَا سَالِمٌ، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَيْرًا مَوْلَى أُمِّ الْفَضْلِ، عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ، شَكَّ النَّاسُ يَوْمَ عَرَفَةَ فِي صَوْمِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَبَعَثْتُ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- بِشَرَابٍ فَشَرِبَهُ. قوله: "سمعت عميرًا مولى أم الفضل" في رواية الصوم مولى عبد الله بن عباس فمن قال: مولى أم الفضل فباعتبار أصله، ومن قال: مولى ابن عباس فباعتبار ما آل إليه حاله لأن أم الفضل هي والدة ابن عباس، وقد انتقل إلى ابن عباس ولاء موالي أمه، وليس لعمير في البخاري سوى هذا الحديث، وحديث آخر في التيمم. وقوله: "شك الناس يوم عرفة" وفي رواية الصوم أن ناسًا تماروا، أي: اختلفوا، وعند الدارقطني في الموطآت عن مالك: اختلف ناس من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في صوم النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذا يشعر بأن صوم يوم عرفة كان معروفًا عندهم معتادًا لهم في الحضر، وكان من جزم بأنه صائم استند إلى ما ألفه من العبادة، ومن جزم بأنه غير صائم قامت عنده قرينة كونه مسافرًا، وقد عرف نهيه عن صوم الفرض في السفر فضلًا عن النفل. وقوله: "فبعثت" أي: بسكون المثلثة وضم التاء الفوقية بلفظ المتكلم، وفي رواية أبوي ذر والوقت: فبعثت بفتح المثلثة وسكوت المثناة، أي: أم الفضل، ونفي كتاب الصوم: فأرسلت، وفي رواية الصوم أيضًا أن المرسلة هي ميمونة بنت الحارث، فيحتمل التعدد، ويحتمل أنهما معًا أرسلتا، فنسب ذلك إلى كل منهما؛ لأنهما كانتا أختين، فتكون ميمونة

أرسلت بسؤال أم الفضل لها في ذلك لكشف الحال، ويحتمل العكس، ولم يسم الرسول في طرق حديث أم الفضل، لكن روى النسائي عن ابن عباس ما يدل على أنه كان الرسول بذلك، ويقوي ذلك أنه كان ممن جاء عنه أنه أرسل إما أمه وإما خالته. وقوله: "بشراب"، في رواية الصوم: وهو واقف على بعيره، زاد أبو نعيم في "المستخرج" عن مالك: وهو يخطب الناس بعرفة، وللمصنف في "الأشربة": وهو واقف عشية عرفة، ولأحمد والنسائي عن عبد الله بن عباس، عن أمه أم الفضل أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أفطر بعرفة. وقوله: "فشربه" زاد في حديث ميمونة: والناس ينظرون، وفي حديثها: فأرسلت إليه بحلاب بكسر المهملة، وهو الإناء الذي يجعل فيه اللبن، وقيل: الحلاب: اللبن المحلوب، وقد يطلق على الإناء، ولو لم يكن فيه لبن. واستدل بالحديث على استحباب الفطر يوم عرفة بعرفة، وفيه نظر لأن فعله المجرد لا يدل على نفي الاستحباب إذ قد يترك الشيء المستحب لبيان الجواز، ويكون في حقه أفضل لمصلحة التبليغ، نعم روى أبو داود والنسائي، وصححه ابن خزيمة والحاكم عن عكرمة أن أبا هريرة حدثهم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة، وأخذ بظاهره بعض السلف، فجاء عن يحيى بن سعيد الأنصاري: يجب فطر يوم عرفة للحاج، وعن ابن الزبير وأسامة بن زيد وعائشة أنهم كانوا يصومونه، وكان ذلك يعجب الحسن ويحكيه عن عثمان. وعن قتادة مذهب آخر، قال: لا بأس به إن لم يضعف عن الدعاء، ونقله البيهقي في المعرفة عن الشافعي في القديم، واختاره المتولي والخطابي من الشافعية، وقال الجمهور: يستحب فطره حتى قال عطاء: من أفطره ليتقوى به على الذكر كان له أجر الصائم، قال في "المجموع": قول الجمهور سواء أضعفه الصوم عن الدعاء وأعمال الحج أم لا؟، وعند المالكية: يكره للحاج صومه لئلا يضعفه عن العبادة، والصحيح عند الشافعية أنه خلاف الأولى لا مكروه، وعلى كل حال يستحب فطره للحاج للاتباع كما دل عليه حديث الباب، وإن كان قيل فيه ما تقدم، وليتقوى به على الدعاء، وعند الحنفية عدم الكراهة كما قالت الشافعية، وقال الطبري: إنما أفطر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعرفة ليدل على الاختيار للحاج بمكة لكي لا يضعف عن الدعاء والذكر المطلوب يوم عرفة، وقيل: إنما أفطر لموافقته يوم الجمعة، وقد نهى عن إفراده بالصوم، ويبعده سياق أول الحديث، وقيل: إنما كره صوم يوم عرفة لأنه يوم عيد لأهل الموقف لاجتماعهم فيه، ويؤيده ما رواه أصحاب السنن عن عقبة بن عامر مرفوعًا:

رجاله ستة

يوم عرفة ويوم النحر وأيام مني عيدنا أهل الإِسلام، وفي الحديث أن العيان أقطع للحجة، وأنه فوق الخبر، وأن الأكل والشرب في المحافل مباح، ولا كراهة فيه للضرورة، وفيه قبول الهدية من المرأة من غير استفصال منها هل هو من مال زوجها أو لا، ولعل ذلك من القدر الذي لا تقع فيه المشاحة، قال المهلب: وفيه نظر لما تقدم من احتمال أنه من بيت ميمونة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفيه تأسي الناس بأفعاله عليه الصلاة والسلام، وفيه البحث والاجتهاد في حياته عليه الصلاة والسلام، والمناظرة بين الرجال والنساء، والتحيل على الاطلاع على الحكم بغير سؤال، وفيه فطنة أم الفضل لاستكشافها عن الحكم الشرعي بهذه الوسيلة اللطيفة اللائقة بالحال لأن ذلك كان يوم حر بعد الظهيرة، قال ابن المنير: لم ينقل أنه عليه الصلاة والسلام ناول فضله أحدًا، فلعله علم أنها خصته به، فيؤخذ منه مسألة التمليك المقيد، ولا يخفى بعده، وقد وقع في حديث ميمونة: فشرب منه، وهو مشعر بأنه لم يستوف شربه، وقال الزين بن المنير: لعل استبقاءه لما في القدح كان قصد الإطالة زمن الشرب حتى يعم نظر الناس إليه ليكون أبلغ في البيان، وفيه الركون في حال الوقوف. رجاله ستة قد مرّوا: مرَّ علي ابن المديني في الرابع عشر من العلم، ومرَّ ابن عيينة في الأول من بدء الوحي، ومرَّ ابن شهاب في الثالث منه، ومرَّ سالم أبو النضر في السابع والستين من الوضوء، ومرت أم الفضل في الثاني والثلاثين من صفة الصلاة، وعمير هو ابن عبد الله الهلالي أبو عبد الله المدني، مولى أم الفضل، قال ابن إسحاق: حدثني الأعرج، عن عمير مولى ابن عباس، وكان ثقة، وقد مرَّ في الرابع من التيمم. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والسماع والقول، ورواته: بصري ومكي ومدنيون، أخرجه البخاري في الحج أيضًا وفي الأشربة، ومسلم في الصوم، وكذا أبو داود. ثم قال المصنف:

باب التلبية والتكبير إذا غدا من منى إلى عرفة

باب التلبية والتكبير إذا غدا من منى إلى عرفة أي: مشروعيتهما، وغرضه بهذه الترجمة الرد على من قال بقطع المحرم التلبية إذا راح إلى عرفة. الحديث الأربعون والمائة حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الثَّقَفِيِّ، أَنَّهُ سَأَلَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله تعالى عنه، وَهُمَا غَادِيَانِ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَةَ: كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ فِي هَذَا الْيَوْمِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-؟ فَقَالَ: كَانَ يُهِلُّ مِنَّا الْمُهِلُّ فَلاَ يُنْكِرُ عَلَيْهِ، وَيُكَبِّرُ مِنَّا الْمُكَبِّرُ فَلاَ يُنْكِرُ عَلَيْهِ. قد وافق أنسًا على روايته عبد الله بن عمر، أخرجه مسلم. وقوله: "وهما غاديان"، أي: ذاهبان غدوة. وقوله: "كيف كنتم تصنعون؟ " أي: من الذكر، ولمسلم عن محمد بن أبي بكر، قلت لأنس غداة عرفة: ما تقول في التلبية في هذا اليوم. وقوله: "فلا ينكر" بضم أوله على البناء للمفعول، وفي رواية موسى بن عقبة: لا يعيب أحدنا على صاحبه، وفي حديث ابن عمر المشار إليه عن عبد الله بن أبي سلمة، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبيه: غدونا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من منى إلى عرفات، منَّا الملبّي، ومنا المكبّر، وفي رواية له قال عبد الله بن أبي سلمة: فقلت لعبيد الله: عجبًا لكم كيف لم تسألوه: ماذا رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصنع؟ وأراد عبد الله بن أبي سلمة بذلك الوقوف على الأفضل؛ لأن الحديث يدل على التخيير بين التكبير والتلبية من تقريره عليه الصلاة والسلام لهم على ذلك، فأراد أن يعرف ما كان يصنع هو ليعرف الأفضل من الأمرين، وقد مرت مباحث هذا الحديث مستوفاة عند حديث ابن عباس في باب الركوب والارتداف في الحج، ومرَّ في العيدين أيضًا في باب التكبير أيام منى، وإذا غدا إلى عرفة.

رجاله أربعة

رجاله أربعة قد مرّوا: مرَّ عبد الله بن يوسف، ومالك في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ محمد بن أبي بكر الثقفي في التاسع عشر من العيدين، ومرَّ أنس في السادس من الإيمان. ثم قال المصنف:

باب التهجير بالرواح يوم عرفة

باب التهجير بالرواح يوم عرفة أي: من نمرة، لحديث ابن عمر أيضًا: غدا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين صلى الصبح في صبيحة يوم عرفة، حتى أتى عرفة، فنزل نمرة، وهو منزل الإمام الذي ينزل فيه بعرفة حتى إذا كان عند صلاة الظهر راح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مهجرًا، فجمع بين الظهر والعصر، ثم خطب الناس، ثم راح فوقف، أخرجه أبو داود وأحمد، وظاهره أنه توجه من منى حين صلى الصبح بها، لكن في حديث جابر الطويل عند مسلم أن توجهه عليه الصلاة والسلام منها كان بعد طلوع الشمس، ولفظه: فضربت له قبة بنمرة، فنزل بها حتى زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت، فأتى بطن الوادي ونمرة بفتح النون وكسر الميم، موضع بقرب عرفات خارج الحرم بين طرف الحرم وطرف عرفات. الحديث الحادي والأربعون والمائة حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ، قَالَ: كَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى الْحَجَّاجِ أَنْ لاَ يُخَالِفَ ابْنَ عُمَرَ فِي الْحَجِّ، فَجَاءَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنه وَأَنَا مَعَهُ يَوْمَ عَرَفَةَ حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ، فَصَاحَ عِنْدَ سُرَادِقِ الْحَجَّاجِ، فَخَرَجَ وَعَلَيْهِ مِلْحَفَةٌ مُعَصْفَرَةٌ فَقَالَ مَا لَكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ: الرَّوَاحَ، إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ. قَالَ: هَذِهِ السَّاعَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَأَنْظِرْنِي حَتَّى أُفِيضَ عَلَى رَأْسِي ثُمَّ أَخْرُجَ. فَنَزَلَ حَتَّى خَرَجَ الْحَجَّاجُ، فَسَارَ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي، فَقُلْتُ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ فَاقْصُرِ الْخُطْبَةَ، وَعَجِّلِ الْوُقُوفَ. فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: صَدَقَ. وقوله: "حين كتب عبد الملك إلى الحجاج" يعني حين بعثه إلى قتال ابن الزبير. وقوله: "في الحج"، أي: في أحكام الحج، وفي رواية عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري: فركب هو وسالم وأنا معهما، وفي روايته: قال ابن شهاب: وكنت يومئذٍ صائمًا، فلقيت من الحرّ شدة، واختلف الحفاظ في رواية معمر هذه، فقال يحيى بن معين: هي وهم، وابن شهاب لم ير ابن عمر ولا سمع منه، وقال الذهلي: لست أدفع رواية معمر لأن

ابن وهب روى عن العمري، عن ابن شهاب نحو رواية معمر، وروى عنبسة بن خالد، عن يونس، عن ابن شهاب، قال: وفدت إلى مروان وأنا محتلم، قال الذهلي: ومروان مات سنة خمس وستين، وهذه القصة كانت سنة ثلاث وسبعين، وقال غيره: إن رواية عنبسة هذه وهم، وإنما قال الزهري: وفدت على عبد الملك، ولو كان الزهري وقد على مروان لأدرك جلة الصحابة ممن ليست له عنهم رواية إلا بواسطة، وقد أدخل مالك وعقيل وإليهما المرجع في حديث الزهري، بينه وبين ابن عمر في هذه القصة سالمًا، فهذا هو المعتمد. وقوله: "فصاح عند سرادق الحجاج"، أي: خيمته، زاد الإسماعيلي: أين هذا، أي: الحجاج، ومثله يأتي بعد باب من رواية القعنبي. وقوله: "وعليه ملحفة" بكسر الميم، إزار كبير، والمعصفر: المصبوغ بالعصفر. وقوله: "يا أبا عبد الرحمن" هي كنية ابن عمر. وقوله: "الرواح" بالنصب، أي: عجِّل أورح. وقوله: "إن كنت تريد السنة"، في رواية ابن وهب: إن كنت تريد أن تصيب السنة. وقوله: "فأنظرني" بالهمزة وكسر الظاء المعجمة: أي: أخرني، وللكشميهني بألف وصل، وضم الظاء، أي: انتظرني. وقوله: "فنزل"، أي: ابن عمر كما صرح به بعد بابين. وقوله: "فاقصر" بألف موصولة ومهملة مكسورة، قال ابن عبد البر: هذا الحديث يدخل عندهم في المسند لأن المراد بالسنة سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أطلقت ما لم تضف إلى صاحبها كسنة العمرين، وهذه مسألة خلاف عند أهل الحديث والأصول وجمهورهم على ما قال ابن عبد البر، وهي طريقة البخاري ومسلم، ويؤيده قول سالم لابن شهاب الآتي بعد باب إذ قال له: أفعل ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فقال: وهل يتبعون في ذلك إلا سنته. وقوله: "وعجل الوقوف" كذا رواه القعنبي وأشهب، قال ابن عبد البر: وهو عندي غلط؛ لأن أكثر الرواة عن مالك قالوا: وعجل الصلاة، قال: ورواية القعنبي لها وجه لأن تعجيل الوقوف يستلزم تعجيل الصلاة، وقد وافق القعنبي عبد الله بن يوسف كما هنا، ورواية أشهب التي أشار لها عند النسائي فهؤلاء ثلاثة رووه هكذا، فالظاهر أن الاختلاف فيه من مالك، وكأنه ذكره باللازم لأن الفرض بتعجيل الصلاة حينئذ تعجيل الوقوف، قال ابن بطال: وفي هذا الحديث الغسل للوقوف بعرفة لقول الحجاج لعبد الله: أنظرني، فانتظره وأهل العلم

يستحبونه، ويحتمل أن يكون ابن عمر إنما انتظره لحمله على اغتساله عن ضرورة، نعم روى مالك في "الموطأ" أن ابن عمر كان يغتسل لوقوفه عشية عرفة، وقال الطحاوي: فيه حجة لمن أجاز المعصفر للمحرم، وتعقبه ابن المنير بأن الحجاج لم يكن يتقي المنكر الأعظم من سفك الدماء وغيره حتى يتقي المعصفر، وإنما لم ينهه ابن عمر لعلمه بأنه لا ينجع فيه النهي، ولعلمه بأن الناس لا يقتدون بالحجاج، وفيه نظر لأن الاحتجاج إنما هو بعدم إنكار ابن عمر، فبعدم إنكاره يتمسك الناس في اعتقاد الجواز، وقد تقدم الكلام على المعصفر والمصبوغ في آخر كتاب العلم آخر حديث منه، وقال المهلب: فيه جواز تأمير الأدون على الأفضل، وتعقبه ابن المنير بأن صاحب الأمر في ذلك عبد الملك، وليس بحجة، ولاسيما في تأمير الحجاج، وأما ابن عمر فإنما أطاع لذلك فرارًا من الفتنة، قال: وفيه أن إقامة الحج إلى الخلفاء وأن الأمير يعمل في الدين بقول أهل العلم، ويصير إلى رأيهم، وفيه مداخلة العلماء السلاطين، وأنهم لا نقيصة عليهم في ذلك، قلت: فعل ابن عمر ليست فيه مداخلة قطعًا، وقد مرَّ أنه إنما حمله عليه الفرار من الفتن، وفيه فتوى التلميذ بحضرة معلمه عند السلطان وغيره، وابتداء العالم بالفتوى قبل أن يسأل عنه، وتعقبه ابن المنير بأن ابن عمر إنما ابتدأ بذلك لمسألة عبد الملك له في ذلك، فالظاهر أنه كتب إليه بذلك كما كتب إلى الحجاج، قلت: المراد بابتداء العالم بالفتوى ما فعله سالم من قوله: إن كنت تريد السنة، إلخ، لا ما فعله أبوه، وفيه اللهم بالإشارة والنظر لقول سالم: فجعل الحجاج ينظر إلى عبد الله، فلما رأى ذلك، قال: صدق، وفيه طلب العلو في العلم لتشوق الحجاج إلى سماع ما أخبره به سالم من أبيه ابن عمر، ولم ينكر ابن عمر ذلك، قلت: هذا من فعل الحجاج، والحجاج لا يحتج بأفعاله، إذ يمكن أن يكون قصده التكبر والتعنت في الأخذ عن سالم. وللمسألة مدارك غير هذا منها حديث ضمام المتقدم في كتاب العلم، وفيه تعليم الفاجر السنن لمنفعة الناس، وفيه احتمال المفسدة الخفيفة لتحصل المصلحة الكبيرة يؤخذ ذلك من مضى ابن عمر إلى الحجاج، وتعليمه له، وفيه الحرص على نشر العلم لانتفاع الناس به، وفيه صحة الصلاة خلف الفاسق، وأن التوجه إلى المسجد الذي بعرفة حين تزول الشمس للجمع بين الظهر والعصر في أول وقت الظهر سنة، ولا يضر التأخر بقدر ما يشتغل به المرء من متعلقات الصلاة كالغسل ونحوه، وفيه الخطبة في اليوم التاسع، وفي الحج عند المالكية والحنفية ثلاث خطب: الأولى في اليوم السابع بعد الظهر يعلم الناس فيها أفعال الحج، وعند المالكية فيها قولان: هل هي خطبة واحدة لا يجلس وسطها؟ والمشهور أنهما خطبتان، وأنهما

رجاله خمسة

سنة، والثانية في اليوم التاسع خطبتان كالجمعة، والثالثة في اليوم الحادي عشر بمنى للحمد والشكر على التوفيق لمناسك الحج، والحض على الطاعة، والتحذير من المعاصي، وعند الحنابلة ثلاثة أيضًا إلا أنهم يبدلون خطبة اليوم السابع بخطبة بمنى يوم النحر، وعند الشافعية أربع بزيادة خطبة بمنى يوم النفر الأول. رجاله خمسة قد مرّوا: وفيه ذكر عبد الملك، والحجاج مرّ محل عبد الله بن يوسف، ومالك في الذي قبله، ومرَّ ابن شهاب في الثالث من بدء الوحي، ومرَّ سالم بن عبد الله في السابع عشر من الإيمان، ومرَّ أبوه عبد الله في أوله قبل ذكر حديث منه، ومرَّ الحجاج في السابع والثلاثين من مواقيت الصلاة، والباقي عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية الأموي أبو الوليد المدني، ثم الدمشقي، وأمه عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاص، قال ابن سعد: شهد يوم الدار مع أبيه وهو ابن عشر سنين وحفظ أمرهم، وكان عابدًا ناسكًا قبل الخلافة، وكان قد جالس الفقهاء، وحفظ عنهم، وكان قليل الحديث، واستعمله معاوية على المدينة، وقال عبادة بن نسي: قيل لابن عمر: من نسأل بعدكم؟ قال: إن لمروان ابنًا فقيهًا فسلوه، وقال نافع: لقد رأيت المدينة وما بها أشد تشميرًا ولا أفقه ولا أقرأ لكتاب الله، ولا أطول صلاة، ولا أطلب للعلم من عبد الملك، وقال الشعبي: ما جالست أحدًا إلا وجدت لي الفضل عليه إلا عبد الملك، فإني ما ذاكرته حديثًا، ولا شعرًا إلا زادني فيه، وقال العجلي: ولد لستة أشهر، وخطب خطبة بليغة، ثم قطعها وبكى، ثم قال: يا رب إن ذنوبي عظيمة، وإن قليل عفوك أعظم منها، فامح بقليل عفوك عظيم ذنوبي، فبلغ ذلك الحسن فبكى، وقال: لو كان كلام يكتب بالذهب لكتبت هذا، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان من فقهاء المدينة وقرائهم قبل أن يلي ما ولي وهو بغير الثقات أشبه، وقع ذكره في مسلم في حديث ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر أنه حدث طارقًا أمير المدينة بحديث في العمرى، قال: فكتب طارق بذلك إلى عبد الملك بن مروان، وأخبره بشهادة جابر، فقال عبد الملك: صدق جابر، فأمضى ذلك طارق، وروى في صحيح البخاري عن عروة بن الزبير أنه سأله عن سيف الزبير، قال: فقلت له: فيه فلّة، فقال: صدقت: بهن فلول من قراع الكنائب. قال عمرو بن علي بايع مروان لابنيه، فقام عبد الملك بالحرب، وكانت الفتنة من يوم مات معاوية بن يزيد إلى أن استقام الناس لعبد الملك تسع سنين، وقد ملك عبد الملك ثلاث عشرة سنة وأربعة أشهر إلا ليلتين، ومات في النصف من شوال سنة ست وثمانين، وقيل: أول ما

بويع في شهر رمضان سنة خمس وستين وكانت الجماعة عليه، وقيل: سنة ثلاث وسبعين وأخباره كثيرة جدًا، وإنما ذكرت منها القدر الذي ذكره المحدثون. روى عن أبيه ومعاوية وعثمان وأبي هريرة وغيرهم، وروى عنه ابنه محمد وعروة بن الزبير والزهري وغيرهم، وقال مصعب الزبيري: هو أول من سمي في الإِسلام عبد الملك. وهذا الحديث أخرجه النسائي أيضًا في الحج. ثم قال المصنف:

باب الوقوف على الدابة بعرفة

باب الوقوف على الدابة بعرفة الحديث الثاني والأربعون والمائة حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ، عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ أَنَّ نَاسًا اخْتَلَفُوا عِنْدَهَا يَوْمَ عَرَفَةَ فِي صَوْمِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ صَائِمٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ بِصَائِمٍ. فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ بِقَدَحِ لَبَنٍ وَهْوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ، فَشَرِبَهُ. هذا الحديث تقدم الكلام عليه مستوفى قبل بابين، وموضع الحاجة منه قوله فيه: "وهو واقف على بعيره"، وأصرح منه حديث جابر الطويل عند مسلم ففيه: ثم ركب إلى الموقف فلم يزل واقفًا حتى غربت الشمس، واختلف أهل العلم في أيهما أفضل الركوب أو تركه بعرفة، فذهب الجمهور إلى أن الأفضل الركوب لكونه عليه الصلاة والسلام وقف راكبًا، ومن حيث النظر فإن في الركوب عونًا على الاجتهاد في الدعاء والتضرع المطلوب حينئذ كما ذكروا مثله في الفطر، وذهب آخرون إلى أن استحباب الركوب يختص بمن يحتاج الناس إلى التعليم منه، وعن الشافعي قوله: إنهما سواء، واستدل به على أن الوقوف على ظهر الدابة مباح، وأن النهي الوارد في ذلك محمول على ما إذا أجحف بالدابة. رجاله خمسة قد مرّوا: مرَّ عبد الله بن مسلمة في الثاني عشر من الإيمان، ومرَّ مالك في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ أبو النضر في السابع والستين من الوضوء، ومرَّ عمير في الرابع من التيمم، ومرت أم الفضل في الثاني والثلاثين من صفة الصلاة. ثم قال المصنف:

باب الجمع بين الصلاتين بعرفة

باب الجمع بين الصلاتين بعرفة لم يبين حكم ذلك، وذهب الجمهور إلى أن ذلك الجمع المذكور يختص بمن يكون مسافرًا بشرطه، وعن مالك والأوزاعي وهو وجه للشافعية، فيه أن الجمع بعرفة جمع للنسك، فيجوز لكل أحد، وهذا قول أبي يوسف ومحمد، وروى ابن المنذر بإسناد صحيح عن القاسم بن محمد، سمعت ابن الزبير يقول: إن من سنة الحج أن الإِمام يروح إذا زالت الشمس يخطب، فيخطب الناس، فإذا فرغ من خطبته نزل فصلى الظهر والعصر جميعًا، واختلف فيمن صلى وحده كما يأتي قريبًا. ثم قال: وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما إذا فاتته الصلاة مع الإِمام جمع بينهما. وصله إبراهيم الحربي في المناسك له عن همام أن نافعًا حدثه أن ابن عمر كان إذا لم يدرك الإِمام يوم عرفة جمع بين الظهر والعصر في منزله، وأخرج الثوري في جامعه عن نافع مثله، وأخرجه ابن المنذر، وبهذا قال الجمهور، وخالفهم في ذلك النخعي والثوري وأبو حنيفة، فقالوا: يختص بمن صلى مع الإِمام، وخالف أبا حنيفة في ذلك صاحباه، والطحاوي، ومن أقوى الأدلة لهم صنيع ابن عمر هذا، وقد روى حديث جمع النبي -صلى الله عليه وسلم- بين الصلاتين، وكان مع ذلك يجمع وحده، فدل على أنه عرف أن الجمع لا يختص بالإمام، ومن قواعدهم أن الصحابي إذا خالف ما روى دل على أن عنده علمًا بأن مخالفه أرجح تحسينًا للظن به، فينبغي أن يقال هذا هنا، وأما صلاة المغرب فعند أبي حنيفة ومحمد وزفر: يجب تأخيرها إلى العشاء، فلو صلاها في الطريق أعاد، وعن مالك: يجوز لمن به أو بدابته عذر، فيصليها، لكن بعد مغيب الشفق الأحمر إن وقف مع الإِمام، وإن لم يقف معه صلى كل واحدة في وقتها، وعن "المدونة": يعيد من صلى المغرب قبل أن يأتي جمعًا، وكذا من جمع بينها وبين العشاء بعد مغيب الشفق، فيعيد العشاء، وعن أشهب: إن جاء جمعًا قبل الشفق جمع، وقال ابن القاسم: حتى يغيب، وعند الشافعية وجمهور أهل العلم: لو جمع تقديمًا أو تأخيرًا قبل جمع أو بعد أن نزلها أو أفرد أجزأ، وفاتت السنة، واختلافهم مبني على أن الجمع بعرفة وبمزدلفة للنسك أو للسفر، وعند المالكية لا يجمع العرفي بعرفة ولا المزدلفي

الحديث الثالث والأربعون والمائة

بمزدلفة، ويجمع كل واحد منهما بالبقعة الأخرى، ومرَّ ابن عمر في أول الإيمان قبل ذكر حديث. الحديث الثالث والأربعون والمائة وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمٌ أَنَّ الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ عَامَ نَزَلَ بِابْنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ رضي الله عنه: كَيْفَ تَصْنَعُ فِي الْمَوْقِفِ يَوْمَ عَرَفَةَ؟ فَقَالَ سَالِمٌ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ فَهَجِّرْ بِالصَّلاَةِ يَوْمَ عَرَفَةَ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: صَدَقَ. إِنَّهُمْ كَانُوا يَجْمَعُونَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي السُّنَّةِ. فَقُلْتُ لِسَالِمٍ: أَفَعَلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-؟ فَقَالَ سَالِمٌ: وَهَلْ تَتَّبِعُونَ فِي ذَلِكَ إِلاَّ سُنَّتَهُ وقوله: "فهجر بالصلاة" أمر من التهجير، أي: صل بالهاجرة، وهي شدة الحر. وقوله: "إنهم كانوا يجمعون بين الظهر والعصر" في السنة بضم المهملة وتشديد النون، أي: سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكأن ابن عمر فهم من قول ولده سالم، فهجر بالصلاة، أي: الظهر والعصر معًا، فأجاب بذلك، فطابق كلام ولده، وقال الطيبي: قوله في السنة هو حال من فاعل يجمعون، أي: متوغلين في السنة، قاله تعريضًا بالحجاج. وقوله: "فقلت لسالم" القائل هو ابن شهاب. وقوله: "أفعل" بهمزة استفهام. وقوله: "وهل يتبعون بذلك" بتشديد المثناة وكسر الموحدة بعدها مهملة، كذا للأكثر من الأتباع، وللكشميهني: يبتغون في ذلك بسكون الموحدة وفتح المثناة بعدها معجمة من الابتغاء، أي: لا يطلبون في ذلك الفعل إلا سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفي رواية الحموي بحذف في، وهي مقدرة. رجاله خمسة قد مرّوا: وفيه ذكر ابن الزبير والحجاج، مرَّ الليث وعقيل وابن شهاب في الثالث من بدء الوحي، ومرَّ محل سالم وابن عمر والحجاج في الذي قبله بحديث، ومرَّ ابن الزبير في الثامن والأربعين من العلم. هذا الحديث ذكره البخاري معلقًا وقد وصله الإسماعيلي من طريق يحيى بن بكير. ثم قال المصنف:

باب قصر الخطبة بعرفة

باب قصر الخطبة بعرفة قيد المصنف قصر الخطبة بعرفة اتباعًا للفظ الحديث، وقد أخرج مسلم الأمر باقتصار الخطبة في أثناء حديث لعمار أخرجه في الجمعة، قال ابن التين: أطلق أصحابنا العراقيون أن الإمام لا يخطب يوم عرفة، وقال المدنيون والمغاربة: يخطب، وهو قول الجمهور، ويحمل قول العراقيين على معنى أنه ليس لما يأتي به من الخطبة تعلق بالصلاة كخطبة الجمعة، وكأنهم أخذوه من قول مالك: كل صلاة يخطب لها يجهر فيها بالقراءة، فقيل له: فعرفة يخطب فيها ولا يجهر بالقراءة؟ فقال: إنما تلك للتعليم. الحديث الرابع والأربعون والمائة حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ كَتَبَ إِلَى الْحَجَّاجِ أَنْ يَأْتَمَّ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي الْحَجِّ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ جَاءَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما وَأَنَا مَعَهُ حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ أَوْ زَالَتْ، فَصَاحَ عِنْدَ فُسْطَاطِهِ: أَيْنَ هَذَا؟ فَخَرَحَ إِلَيْهِ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: الرَّوَاحَ. فَقَالَ: الآنَ، قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَنْظِرْنِي أُفِيضُ عَلَيَّ مَاءً. فَنَزَلَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما حَتَّى خَرَجَ، فَسَارَ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي. فَقُلْتُ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ تُصِيبَ السُّنَّةَ الْيَوْمَ فَاقْصُرِ الْخُطْبَةَ، وَعَجِّلِ الْوُقُوفَ. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: صَدَقَ. هذا الحديث مرَّ الكلام عليه في باب التهجير بالرواح قريبًا. رجاله خمسة قد مرّوا: وفيه ذكر الحجاج وعبد الملك وقد مرَّ الجميع، مرّ محل عبد الله بن مسلمة، ومالك في الذي قبله بحديث، ومرَّ محل ابن شهاب وسالم وأبيه والحجاج في الذي قبله بحديثين، ومرَّ عبد الملك بن مروان فيه. ثم قال المصنف:

باب التعجيل إلى الموقف

باب التعجيل إلى الموقف كذا للأكثر هذه الترجمة بغير حديث، وسقط من رواية أبي ذر أصلًا، وفي نسخة الصغاني هنا ما لفظه: "يدخل في الباب حديث مالك عن ابن شهاب المذكور في الباب الذي قبل هذا، ولكني أريد أن أدخل فيه غير معاذ" يعني حديثًا لا يكون تكرر كله سندًا ومتنًا لأن أصل قصد البخاري أن لا يكرر، فكلما وقع فيه من تكرار الأحاديث إنما هو حيث تكون هناك مغايرة، إما في السند وإما في المتن حتى إنه لو أخرج الحديث في موضعين عن شيخين حدثاه به عن مالك، أو أخرجه في موضعين بسندٍ واحد لكن اختصر من المتن شيئًا أورده في موضع موصولًا، وفي موضع معلقًا، لا يكون عنده معادًا ولا مكررًا، وهذه الطريق لم يخالفها إلا في مواضع يسيرة مع طول الكتاب إذا بعد ما بين البابين بعدًا شديدًا، وقال الكرماني: في بعض النسخ عقب هذه الترجمة، قال أبو عبد الله: يزاد في هذا الباب هم حديث مالك عن ابن شهاب، لكني لا أريد أن أدخل فيه معادًا، وكأنه لم يحضره حينئذ طريق للحديث المذكور عن مالك غير الطريقين اللتين ذكرهما. وقوله في الزيادة المذكورة هم هي بفتح الهاء وسكون الميم، وهي بمعنى أيضًا لفظة اصطلح عليها أهل بغداد، ليست بفارسية ولا عربية. ثم قال المصنف:

باب الوقوف بعرفة

باب الوقوف بعرفة أي: دون غيرها فيما دونها أو فوقها. الحديث الخامس والأربعون والمائة حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قال: كُنْتُ أَطْلُبُ بَعِيرًا لِي (ح). وَحَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ جُبَيْرٍ بْنِ مُطْعم، عَنْ أَبِيهِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، قَالَ: أَضْلَلْتُ بَعِيرًا لِي، فَذَهَبْتُ أَطْلُبُهُ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَاقِفًا بِعَرَفَةَ، فَقُلْتُ: هَذَا وَاللَّهِ مِنَ الْحُمْسِ فَمَا شَأْنُهُ هَاهُنَا قوله: "أضللت بعيرًا" كذا للأكثر في الطريق الثانية، وفي رواية الكشميهني لي كما في الأولى. وقوله: "فذهبت أطلبه يوم عرفة"، في رواية الحميدي في مسنده ومن طريقه أخرجه أبو نعيم: أضللت بعيرًا لي يوم عرفة، فخرجت أطلبه بعرفة، فعلى هذا فقوله يوم عرفة يتعلق بأضللت، فإن جبيرًا إنما جاء إلى عرفة ليطلب بعيره لا ليقف بها. وقوله: "من الحمس" بضم المهملة وسكون الميم بعدها مهملة جمع أحمس، والحمس روى إبراهيم الحربي في غريب الحديث عن مجاهد، قال: الحمس قريش، ومن كان يأخذ مأخذها من القبائل كالأوس والخزرج وخزاعة وثقيف وغزوان وبني عامر وبني صعصعة وبني كنانة إلا بني بكر والأحمس في كلام العرب الشديد، وسموا بذلك لما شددوا على أنفسهم، وكانوا إذا أهلوا بحج أو عمرة لا يأكلون لحمًا ولا يبنون وبرًا ولا شعرًا، وإذا قدموا مكة وضعوا ثيابهم التي كانت عليهم، وروى إبراهيم أيضًا عن عبد العزيز بن عمران، قال: سموا حمسًا بالكعبة لأنها حمساء حجرها أبيض يضرب إلى السواد، والأول أشهر وأكثر، وأنه من التحمس وهو التشدد، قال أبو عبيدة: تحمس تشدد ومنه حمس الوغى إذا اشتد، وأخرج إبراهيم الحربي: كانت قريش إذا خطب إليهم الغريب اشترطوا عليه أن ولدها على دينهم فدخل في

الحمس من غير قريش ثقيف وغيرهم ممن مرَّ، وعرف بهذا أن المراد بهذه القبائل من كانت له من أمهاته قرشية لا جميع القبائل المذكورة. وقوله: "فما شأنه هاهنا" في رواية الإسماعيلي: فما له خرج من الحرم، وزاد مسلم بعد قوله: فما شأنه هاهنا وكانت قريش تعد من الحمس، وبيَّن الحميدي في مسنده أن هذه الزيادة من قول سفيان، ولفظه متصلًا بقوله: ما شأنه هاهنا، قال سفيان: والأحمس: الشديد على دينه، وكانت قريش تسمى الحمس، وكان الشيطان قد استهواهم فقال لهم إنكم إن عظمتم غير حرمكم استخف الناس بحرمكم، فكانوا لا يخرجون من الحرم، وعند الإسماعيلي: فما له خرج من الحرم، قال سفيان: الحمس قريش، وكانت تسمى الحمس، وكانت لا تجاوز الحرم، ويقولون: نحن أهل الله لا نخرج من الحرم، وكان سائر الناس يقف بعرفة وذلك قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} وعرف بهاتين الروايتين معنى حديث جبير، وكأن البخاري حذفها استغناء برواية عروة ولكن في سياق رواية سفيان فوائد زائدة، وقد روى بعض ذلك ابن خزيمة وابن راهويه عن نافع بن جبير، عن أبيه، قال: كانت قريش إنما تدفع من المزدلفة ويقولون: نحن الحمس، فلا نخرج من الحرم، وقد تركوا الموقف بعرفة، قال: فرأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في الجاهلية يقف مع الناس بعرفة على جمل له ثم يصبح مع قومه بالمزدلفة، فيقف معهم، ويدفع إذا دفعوا، وعن ابن إسحاق في "المغازي" مختصرًا، وفيه توفيقًا من الله تعالى له. وأخرجه ابن إسحاق أيضًا عن جبير بن مطعم، قال: أضللت حمارًا لي في الجاهلية فوجدته بعرفة، فرأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واقفًا بعرفات مع الناس، فلما أسلمت علمت أن الله وقفه لذلك، وأفادت هذه الرواية أن رواية جبير له لذلك كانت قبل الهجرة، وذلك قبل أن يسلم جبير، وهو نظير روايته أنه سمعه يقرأ في المغرب بالطور، وذلك قبل أن يسلم جبير أيضًا، كما مرَّ، وتضمن ذلك التعقب على السهيلي حيث ظن أن رواية جبير لذلك كانت في الإِسلام في حجة الوداع، فقال: انظر كيف أنكر جبير هذا، وقد حج بالناس عتاب سنة ثمان وأبو بكر سنة تسع، ثم قال: إما أن يكونا وقفا بجمع كما كانت قريش تصنع، وإما أن يكون جبير لم يشهد معهما الموسم، وقال الكرماني وقفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعرفة كانت سنة عشر، وكان جبير حينئذ مسلمًا؛ لأنه أسلم يوم الفتح، فإن كان سؤاله عن ذلك إنكارًا أو تعجبًا، فلعله لم يبلغه نزول قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}، وإن كان للاستفهام عن حكمة المخالفة لما كانت عليه الحمس فلا إشكال ويحتمل أن يكون لرسول

رجاله ستة

الله -صلى الله عليه وسلم- وقفة بعرفة قبل الهجرة. وهذا الأخير هو المعتمد كما تبين لك بالأدلة، وكأنه تبع السهيلي في ظنه أنها حجة الوداع أو وقع له اتفاقًا. رجاله ستة قد مرّوا إلا جبيرًا: مرَّ علي ابن المديني في الرابع عشر من العلم، ومرَّ عمرو بن دينار في الرابع والخمسين منه، ومرَّ ابن عيينة في الأول من بدء الوحي، ومرَّ مسدد في السادس من الإيمان، ومرَّ محمد بن جبير في الرابع والثلاثين من صفة الصلاة، والباقي جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف بن قصي القرشي النوفلي، يكنى أبا محمد، وقيل: أبا عدي، أمه أم جميل بنت سعيد، من بني عامر بن لؤي، وقيل: أم حبيب بنت سعيد. قال مصعب الزبيري: كان جبير بن مطعم من حلماء قريش وساداتهم، وكان يؤخذ عنه النسب، وكان أنسب قريش لقريش وللعرب قاطبة، وكان يقول: إنما أخذت النسب عن أبي بكر الصديق، وكان أبو بكر رضي الله عنه أنسب العرب، وروى ابن إسحاق أن عمر حين أتى ينسب النعمان دعا بجبير بن مطعم أسلم يوم الفتح، وقيل: عام خيبر، وكان أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- في فداء أسارى بدر كافرًا روي أنه قال: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- لأكلمه في أسارى بدر، فوافقته وهو يصلي بأصحابه المغرب أو العشاء، فسمعته وهو يقرأ، وقد خرج صوته من المسجد: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ}، قال: فكأنما صدع قلبي، وفي رواية: سمعته يقرأ: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ}، إلى: {لَا يُوقِنُونَ}، فكاد قلبي يطير، فلما قضى صلاته كلمته في أسارى بدر، فقال: "لو كان الشيخ أبوك حيًا فأتانا فيهم شفّعناه"، وفي رواية: "لو أن أباك"، أو: "لو أن المطعم بن عدي كان حيًا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لأطلقتهم له" فكان أول ما دخل الإيمان في قلبه سماعه لقراءة والطور، وكانت للمطعم عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يد، وكان من أشراف قريش، وإنما كان هذا القول منه -صلى الله عليه وسلم- في المطعم بن عدي لأنه هو الذي كان أجار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قدم من الطائف من دعاء ثقيف، وكان أحد الذين قاموا في شأن الصحيفة التي كتبتها قريش علي بني هاشم، وكانت وفاة المطعم في صفر سنة اثنتين من الهجرة قبل بدر بنحو سبعة أشهر. وذكر ابن إسحاق أن جبيرًا من المؤلفة الذين حسن إسلامهم، وأن النبي أعطاه مائة من الإبل، له عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ستون حديثًا اتفقا على ستة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بآخر، روى عنه ابناه محمد ونافع وسليمان بن صرد وابن المسيب وطائفة، وروى عنه ابن

لطائف إسناده

المسيب أنه أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- هو وعثمان، فسألاه أن يقسم لهما كما قسم لبني هاشم والمطلب، وقالا: إن قرابتنا واحدة، أي أن هاشمًا والمطلب ونوفلًا جد جبير، وعبد شمس جد عثمان إخوة فأبى وقال: "إنما بنو هاشم والمطلب شيء واحد"، مات بالمدينة سنة سبع أو ثمان أو تسع وخمسين، وهذا مرَّ في السابع من الغسل فهو مكرر. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والسماع والقول، أخرجه مسلم والنسائي في الحج. الحديث السادس والأربعون والمائة حَدَّثَنَا فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، قَالَ عُرْوَةُ: كَانَ النَّاسُ يَطُوفُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عُرَاةً إِلاَّ الْحُمْسَ، وَالْحُمْسُ قُرَيْشٌ وَمَا وَلَدَتْ، وَكَانَتِ الْحُمْسُ يَحْتَسِبُونَ عَلَى النَّاسِ، يُعْطِى الرَّجُلُ الرَّجُلَ الثِّيَابَ يَطُوفُ فِيهَا، وَتُعْطِي الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ الثِّيَابَ تَطُوفُ فِيهَا، فَمَنْ لَمْ يُعْطِهِ الْحُمْسُ طَافَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانًا، وَكَانَ يُفِيضُ جَمَاعَةُ النَّاسِ مِنْ عَرَفَاتٍ، وَيُفِيضُ الْحُمْسُ مِنْ جَمْعٍ. قَالَ: وَأَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْحُمْسِ: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} قَالَ: كَانُوا يُفِيضُونَ مِنْ جَمْعٍ فَدُفِعُوا إِلَى عَرَفَاتٍ. قوله: "قال عروة"، في رواية عبد الرزاق، عن معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، فذكره. وقوله: "والحمس قريش وما ولدت" زاد معمر، وكان ممن ولدت قريش خزاعة وبنو كنانة وبنو عامر بن صعصعة، وقد مرَّ في الذي قبله ما قيل في تفسير الحمس. وقوله: "فأخبرني أبي" القائل هو هشام بن عروة، والموصول من الحديث هذا القدر في سبب نزول الآية، وسيأتي في تفسير سورة البقرة بوجه أتم من هذا. وقوله: "فدفعوا إلى عرفات" بالبناء للمجهول، وفي رواية الكشميهني: فرفعوا بالراء، ولمسلم عن هشام: رجعوا إلى عرفات، والمعنى أنهم أمروا أن يتوجهوا إلى عرفات ليقفوا بها، ثم يفيضوا منها، وقد مرَّ في طريق جيد سبب امتناعهم من ذلك، وقد تقدم الكلام على قصة الطواف عريانًا في أوائل الصلاة، وعرف برواية عائشة أن المخاطب بقوله تعالى: {أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} النبي -صلى الله عليه وسلم- والمراد به من كان لا يقف بعرفة من قريش وغيرهم، وروى ابن أبي حاتم وغيره عن الضحاك أن المراد بالناس هنا إبراهيم الخليل عليه

السلام، وعنه المراد به الإِمام، وعن غيره آدم، وقرىء في الشواذ: الناسي بكسر السين بوزن القاضي، والأول أصح، نعم الوقوف بعرفة موروث عن إبراهيم كما روى الترمذي وغيره عن يزيد بن شيبان، قال: كنا وقوفًا بعرفة فأتانا ابن مربع بكسر الميم وسكون الراء وفتح الباء، فقال: إني رسول الله إليكم يقول لكم: كونوا على مشاعركم، فإنكم على إرث إبراهيم، الحديث، ولا يلزم من ذلك أن يكون هو المراد خاصة بقوله {مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} بل هو لأعم من ذلك، والسبب فيه ما حكته عائشة رضي الله تعالى عنها. ودل هذا الحديث على أن المراد بقوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} الإفاضة من عرفة، وظاهر سياق الآية أنها الإفاضة من مزدلفة لأنها ذكرت بلفظ، ثم ذكر الأمر بالذكر عند المشعر الحرام، وأجاب بعض المفسرين بأن الأمر بالذكر عند المشعر الحرام بعد الإفاضة من عرفات التي سيقت بلفظ الخبر لما ورد منه على المكان الذي تشرع الإفاضة منه، فالتقدير: فإذا أفضتم فاذكروا، ثم لتكن إفاضتكم من حيث أفاض الناس لا من حيث كان الحمس يفيضون، أو التقدير: فإذا أفضتم من عرفات إلى المشعر الحرام فاذكروا الله عند المشعر الحرام، ولتكن إفاضتكم من المكان الذي يفيض منه الناس غير الحمس، وقيل: إن "ثم" في الآية بمعنى الواو، واختاره الطحاوي، وقيل: لقصد التأكيد لا لمحض الترتيب، والمعنى: فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام إلى آخر ما مرَّ قريبًا، وقال الزمخشري: موقع "ثم" هنا موقعها من قولك أحسن إلى الناس ثم لا تحسن إلى غير كريم، فتأتي، ثم لتفاوت ما بين الإحسان إلى الكريم، والإحسان إلى غيره، فكذلك حين أمرهم بالذكر عند الإفاضة من عرفات بيَّن لهم مكان الإفاضة، فقال: ثم أفيضوا لتفاوت ما بين الإفاضتين، وأن إحداهما صواب والأخرى خطأ، قال الخطابي: تضمن قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} الأمر بالوقوف بعرفة لأن الإفاضة إنما تكون عند اجتماع قبله، وكذا قال ابن بطال: وزاد وبيَّن الشارع مبتدأ الوقوف بعرفة ومنتهاه، وعرفات علم للموقف وهو منصرف إذ لا تأنيث فيه؛ لأن التاء الموجودة فيه علامة جمع المؤنث، ولا يصح تقدير التاء فيها لأن هذه التاء التي هي لجمع المؤنث مانعة من التقدير كما لا يقدر تاء التأنيث في "بنت" لاختصاص التاء التي فيها بالمؤنث، فمنعت تقدير التاء، وسميت عرفات بهذا الاسم إما لأنها وصفت لإبراهيم عليه الصلاة والسلام، فلما أبصرها عرفها أو لأن جبريل عليه الصلاة والسلام حين كان يدور به في المشاعر أراه إياها، فقال: عرفت أو لأن آدم عليه الصلاة والسلام هبط من الجنة بأرض الهند، وحواء عليها السلام بجدة، فالتقيا ثم تعارفا، أو لأن الناس

يتعارفون بها، أو لأن إبراهيم عليه السلام عرف حقيقة رؤياه في ذبح ولده ثمة، أو لأن الخلق يعترفون فيها بذنوبهم، أو لأن فيها جبالًا والجبال هي الأعراف، وكل عال فهو عرف، وجمع بفتح الجيم وسكون الميم هي المزدلفة، وسمي به لأن آدم عليه الصلاة والسلام اجتمع فيها مع حواء عليها السلام، وازدلف إليها إلى أن دنا منها، أو لأنه يجمع فيها بين الصلاتين، وأهلها يزدلفون، أي: يتقربون إلى الله تعالى بالوقوف فيها، والوقوف بعرفة من أعظم أركان الحج، ثبت ذلك من فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-. وقوله: "أما فعله" فروى الإِمام أحمد عن يعقوب بن عاصم بن عروة، قال: سمعت الشريد يقول: أشهد لو وقفت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعرفات، قال: فما مست قدماه الأرض حتى أتى جمعًا، والشريد بفتح الشين هو ابن سويد الثقفي، وروى الطبري عن عبد الله بن ربيعة، عن أبيه، قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقف فيه في الجاهلية، وأما قوله: فروى الترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، قال: وقف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعرفة، فقال: "هذه عرفة، وهو الموقف، وعرفة كلها موقف"، الحديث، وروى ابن حبان في "صحيحه" عن جبير بن مطعم، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كل عرفات موقف، فارفعوا عن عرنة، وكل مزدلفة موقف فارفعوا عن محسر، وكل فجاج منى منحر، وفي كل أيام التشريق ذبح". وفي هذه الأحاديث تعيين عرفة للوقوف وأنه لا يجزيء بغيرها، وهو قول أكثر أهل العلم، وروى ابن المنذر عن مالك أنه يصح الوقوف بعرفة، والحديث المذكور حجة عليه، وحدّ عرفة ما رواه الأزرقي في "تاريخ مكة" بإسناده إلى ابن عباس، قال: حد عرفة من قبل المشرق على بطن عرنة إلى جبال عرفة، إلى وصيق إلى ملتقى وصيق إلى وادي عرنة، وقال الشافعي في "الأوسط" من مناسكه: وعرفة ما جاوز بطن عرنة، وليس الوادي ولا المسجد منها إلى الجبال المقابلة مما يلي حوائط ابن عامر، وطريق الحضن، وما جاوز ذلك فليس بعرفة، والحضن بالفتح والضاد المعجمة المفتوحة أيضًا وابن عامر هو عبد الله بن عامر بن كرز، كان له حائط فيه عين، وهو الآن خراب. وقال ابن بطال: اختلفوا إذا دفع من عرفة قبل غروب الشمس، ولم يقف بها ليلًا، فذهب مالك إلى أن الاعتماد في الوقوف بعرفة على الليل من ليلة النحر، والنهار من يوم عرفة تبع، فإن وقف جزءًا من الليل، أي: جزءًا كان قبل طلوع الفجر من يوم النحر أجزأه. وقال أبو حنيفة والثوري والشافعي: الاعتماد على النهار من يوم عرفة من وقت الزوال والليل كلّه تبع؛ فإن وقف جزءًا من النهار أجزأه، وإن وقف جزءًا من الليل أجزأه، إلا أنهم

رجاله ستة

يقولون: إن وقف جزءًا من النهار بعد الزوال دون الليل كان عليه دم، وإن وقف جزءًا من الليل دون النهار لم يجب عليه دم، وذهب أحمد بن حنبل إلى أن الوقوف من حين طلوع الفجر من يوم عرفة إلى طلوع الفجر من ليلة النحر، فسووا بين أجزاء الليل وأجزاء النهار، وقال ابن قدامة: وعلى من دفع قبل الغروب دم في قول أكثر أهل العلم، منهم عطاء والثوري والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي، وقال ابن جريج: عليه بدنة، وقال الحسن بن أبي الحسن: عليه هدي من الإبل، فإن دفع قبل الغروب ثم عاد نهارًا فوقف حتى غربت الشمس فلا دم عليه، وقد روى نافع عن ابن عمر أنه قال: من لم يقف بعرفة ليلة المزدلفة قبل أن يطلع الفجر فقد فاته الحج، وعن عروة بن الزبير مثله، ورفعه ابن عمر مرة: من فاته عرفات بليل، فقد فاته الحج، وعن عمرو بن شعيب، رفعه قال: من جاوز وادي عرفة قبل أن تغيب الشمس فلا حج له، وهذه الأحاديث ضعفها ابن حزم، وعن عروة بن مضرس الطائي مرفوعًا: من أدرك معنا هذه الصلاة وأتى عرفات قبل ذلك ليلًا أو نهارًا فقد تم حجه وقضى تفثه، رواه أصحاب السنن الأربعة، وصححه ابن خزيمة وابن حبان. رجاله ستة قد مرّوا: مرَّ فروة بن أبي المغراء في التاسع والأربعين والمائة من الجنائز، ومرَّ علي بن مسهر في الرابع والمائة من استقبال القبلة، ومرَّ هشام، وعروة، وعائشة، في الثاني من بدء الوحي. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإخبار بالإفراد والعنعنة والقول، ورواته: كوفيان ومدنيان. ثم قال المصنف:

باب السير إذا دفع من عرفة

باب السير إذا دفع من عرفة الحديث السابع والأربعون والمائة حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: سُئِلَ أُسَامَةُ وَأَنَا جَالِسٌ: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَسِيرُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ حِينَ دَفَعَ؟ قَالَ: كَانَ يَسِيرُ الْعَنَقَ، فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ. قَالَ هِشَامٌ: وَالنَّصُّ فَوْقَ الْعَنَقِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: فَجْوَةٌ مُتَّسَعٌ، وَالْجَمِيعُ فَجَوَاتٌ وَفِجَاءٌ، وَكَذَلِكَ رَكْوَةٌ وَرِكَاءٌ. مَنَاصٌ لَيْسَ حِينَ فِرَارٍ. في رواية ابن خزيمة عن هشام: سمعت أبي. وقوله: "سئل أسامة وأنا جالس" في رواية النسائي عن مالك: وأنا جالس معه، وفي رواية مسلم: عن هشام، عن أبيه سئل أسامة وأنا شاهد، أو قال: سألت أسامة بن زيد. وقوله: "حين دفع" في رواية "الموطأ": حين دفع من عرفة. وقوله: "العنق" بالتحريك هو السير الذي بين الإِبطاء والإسراع، وقال في "المشارق": هو سير سهل في سرعة، وقال القزاز: العنق سير سريع، وقيل: المشي الذي يتحرك به عنق الدابة، وفي "الفائق": العنق الخطو الفسيح، وانتصب العنق على المصدر المؤكد من لفظ الفعل. وقوله: "نص"، أي: أسرع، قال أبو عبيد: النص تحريك الدابة حتى يستخرج به أقصى ما عندها، وأصل النص غاية المشي، ومنه: نصصت الشيء رفعته، ثم استعمل في ضرب سريع من السير. وقوله: "قال هشام" هو ابن عروة الراوي كما بيّنه مسلم وأبو عوانة أن التفسير من كلامه، وأدرجه يحيى القطان فيما أخرجه المصنف في "الجهاد"، وسفيان فيما أخرجه النسائي، ووكيع فيما أخرجه ابن خزيمة كلّهم عن هشام، وجعل إسحاق في "مسنده" التفسير من كلام وكيع، وجعله ابن خزيمة من كلام سفيان ووكيع، وسفيان إنما أخذ التفسير من هشام، وقد رواه أكثر

رجاله ستة

رواة "الموطأ" عن مالك، ولم يذكروا التفسير، وكذلك رواه أبو داود الطيالسي. وقال ابن خزيمة: في هذا الحديث دليل على أن الحديث الذي رواه ابن عباس عن أسامة أنه قال: فما رأيت ناقته رافعة يدها حتى أتى جمعًا أنه محمول على حال الزحام دون غيره، وأشار بذلك إلى ما أخرجه أبو داود وحفص بن عمر، عن ابن عباس، عن أسامة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أردفه حين أفاض من عرفة، وقال: "أيها الناس عليكم السكينة، فإن البر ليس بالإيجاف"، قال: فما رأيت ناقته رافعة يدها حتى أتى جمعًا، الحديث، وسيأتي بعد باب عن ابن عباس ليس فيه أسامة، ويأتي الكلام عليه هناك، وأخرجه مسلم عن ابن عباس، عن أسامة في أثناء حديث، قال: فما زال يسير على هينته حتى أتى جمعًا، وهذا يشعر بأن ابن عباس إنما أخذه عن أسامة. وقال ابن عبد البر: في هذا الحديث كيفية السير في الدفع من عرفة إلى مزدلفة لأجل الاستعجال للصلاة؛ لأن المغرب لا تصلى إلا مع العشاء بالمزدلفة، فيجمع بين المصلحتين من الوقار والسكينة عند الترجمة، ومن الإسراع عند عدم الزحام، وفيه أن السلف كانوا يحرصون على السؤال عن كيفية أحواله عليه الصلاة والسلام في جميع حركاته وسكونه ليقتدوا به في ذلك. وقوله: "فجوة" أي: بفتح الفاء وسكون الجيم، المكان المتسع، ورواه أبو مصعب ويحيى بن بكير، عن مالك، بلفظ: فُرْجة بضم الفاء وسكون الراء، وهو بمعنى الفجوة، وجمعه فجوات بفتحتين، وفجاء بالكسر والمد، وكذلك ركوة وركوات وركاء. وقوله: "مناص ليس حين فرار" أي: هرب وهو تفسير قوله تعالى: {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ}، وإنما ذكر هذا الحرف هنا لقوله: نص، ولا تعلق له به إلا لدفع من يتوهم أن أحدهما مشتق من الآخر، وإلا فمادة نص غير مادة ناص، قال أبو عبيدة: في المجاز: المناص مصدر من قوله: ناص ينوص، وقال الطبري: الصواب في صفة السير في الإفاضتين جميعًا ما صحت به الآثار إلا في وادي محسر فإنه يوضع، أي: يسرع لما رواه الترمذي عن جابر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أوضع في وادي محسر، ولو أوضع أحد في موضع العنق أو العكس لم يلزمه شيء لإجماع الجميع على ذلك، غير أنه يكون مخطئًا. رجاله ستة قد مرّوا: مرت الأربعة الأول بهذا النسق في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ أسامة بن زيد في الخامس من الوضوء.

أخرجه البخاري أيضًا في الجهاد، ومسلم في المناسك، وكذا أبو داود والنسائي وابن ماجه. ثم قال المصنف:

باب النزول بين عرفة وجمع

باب النزول بين عرفة وجمع أي: لقضاء الحاجة ونحوها وليس من المناسك. الحديث الثامن والأربعون والمائة حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما، أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- حَيْثُ أَفَاضَ مِنْ عَرَفَةَ مَالَ إِلَى الشِّعْبِ فَقَضَى حَاجَتَهُ فَتَوَضَّأَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُصَلِّي؟ فَقَالَ: "الصَّلاَةُ أَمَامَكَ". قوله: "حيث أفاض"، في رواية أبي الوقت: حين، وهي أولى؛ لأنها ظرف زمان، وحين: ظرف مكان، وفي حيث ست لغات، ضمّ آخرها وفتحه وكسره، وبالواو بدل الياء مع الحركات الثلاث. وقوله: "مال إلى الشعب" بيَّن محمد بن حرملة في روايته أنه قرب المزدلفة. رجاله ستة قد مرّوا: مرَّ مسدد في السادس من الإيمان، ومرَّ حماد بن زيد في الرابع والعشرين منه، ومرَّ يحيى بن سعيد الأنصاري في الأول من بدء الوحي، ومرَّ موسى بن عقبة، وأسامة في الخامس من الوضوء، ومرَّ كريب في الرابع منه. الحديث التاسع والأربعون والمائة حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ، عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ، غَيْرَ أَنَّهُ يَمُرُّ بِالشِّعْبِ الَّذِي أَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَيَدْخُلُ فَيَنْتَفِضُ وَيَتَوَضَّأُ، وَلاَ يُصَلِّي حَتَّى يُصَلِّيَ بِجَمْعٍ. وقوله: "فينتفض" بفاء وضاد معجمة، أي: يستجمر، وأخرجه الفاكهاني عن سعيد بن جبير، قال: دفعت مع ابن عمر من عرفة حتى إذا وازينا الشعب الذي يصلي فيه الخلفاء المغرب، دخله ابن عمر فتنفض فيه، ثم توضأ وكبر، فانطلق حتى جاء جمعًا، فأقام فصلى المغرب، فلما سلم قال: الصلاة، ثم صلى العشاء. وأصله في الجمع بجمع عند مسلم

رجاله أربعة

وأصحاب السنن، وروى الفاكهاني أيضًا عن عطاء، قال: أردف النبي -صلى الله عليه وسلم- أسامة، فلما جاء الشعب الذي يصلي فيه الخلفاء الآن المغرب نزل فأهراق الماء، ثم توضأ، وظاهر هذين الطريقين أن الخلفاء كانوا يصلون المغرب عند الشعب المذكور قبل دخول وقت العشاء وهو خلاف السنة في الجمع بين الصلاتين بمزدلفة. وعند مسلم عن كريب: لما أتى الشعب الذي ينزله الأمراء، وله عن كريب أيضًا: الشعب الذي ينيخ الناس فيه للمغرب، والمراد بالخلفاء والأمراء في هذا الحديث بنو أمية، فلم يوافقهم ابن عمر على ذلك، وقد جاء عن عكرمة إنكار ذلك، وروى الفاكهاني عن ابن أبي نجيح: سمعت عكرمة يقول: اتخذه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مبالًا، واتخذتموه مصلى، وكأنه أنكر بذلك على من ترك الجمع بين الصلاتين لمخالفة السنة في ذلك، وكان جابر يقول: لا صلاة إلا بجمع، أخرجه ابن المنذر بإسناد صحيح، ونقل عن الكوفيين وعن ابن القاسم صاحب مالك وجوب الإعادة، وعن أحمد: إن صلى أجزأه، وهو قول أبي يوسف والجمهور، وقد مرَّ الكلام بأتم من هذا على هذه المسألة في باب الجمع بين الصلاتين بعرفة. رجاله أربعة، قد مرّوا: مرَّ موسى بن إسماعيل المنقري في الخامس من بدء الوحي، ومرَّ جويرية في الأربعين من الغسل، ومرَّ نافع في الأخير من العلم، ومرَّ ابن عمر في أول الإيمان قبل ذكر حديث منه. الحديث الخمسون والمائة حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَرْمَلَةَ، عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما، أَنَّهُ قَالَ: رَدِفْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ عَرَفَاتٍ، فَلَمَّا بَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الشِّعْبَ الأَيْسَرَ الَّذِي دُونَ الْمُزْدَلِفَةِ أَنَاخَ، فَبَالَ، ثُمَّ جَاءَ فَصَبَبْتُ عَلَيْهِ الْوَضُوءَ، فَتَوَضَّأَ وُضُوءًا خَفِيفًا. فَقُلْتُ: الصَّلاَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "الصَّلاَةُ أَمَامَكَ". فَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ، فَصَلَّى ثُمَّ رَدِفَ الْفَضْلُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- غَدَاةَ جَمْعٍ. قَالَ كُرَيْبٌ: فَأَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنِ الْفَضْلِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى بَلَغَ الْجَمْرَةَ. قوله: "ردِفت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" بكسر الدال، أي: ركبت وراءه، وفيه الركوب حال الدفع من عرفة، والارتداف على الدابة، ومحله إذا كانت مطيقة، وارتداف أهل الفضل، ويعد ذلك من إكرامهم للرديف.

رجاله سبعة

وقوله: "فصببت" بفتح الواو، أي: الماء الذي يتوضأ به، ويؤخذ منه الاستعانة في الوضوء، وقد مرَّ الكلام عليه في كتاب الوضوء في باب الرجل يوضىء صاحبه، وهذا الحديث قد مرت مباحثه في باب إسباغ الوضوء. وقوله: "ثم ردف الفضل"، أي: ركب خلفه عليه الصلاة والسلام، وفي رواية مسلم: قال كريب: فقلت لأسامة: كيف فعلتم حين أصبحتم؟ قال: ردفه الفضل بن العباس، وانطلقت أنا في سياق قريش على رجلي، إلى آخر ما مرّ في باب الركوب والارتداف في الحج، ومرَّ هناك الكلام على ما قيل في انقطاع التلبية عند الأئمة. واستدل بالحديث على جمع التأخير وهو إجماع بمزدلفة، لكنه عند الشافعية وطائفة بسبب السفر، وعند المالكية والحنفية بسبب النسك، وأغرب الخطابي، فقال: فيه دليل على أنه لا يجوز أن يصلي الحاج المغرب إذا أفاض من عرفة حتى يبلغ المزدلفة، ولو أجزأته في غيرها لما أخرها النبي -صلى الله عليه وسلم- عن وقتها المؤقت لها في سائر الأيام. رجاله سبعة، قد مرّوا إلا ابن حرملة: مرَّ قتيبة في الحادي والعشرين من الإيمان، ومرّ إسماعيل بن جعفر في السادس والعشرين منه، ومرَّ محل كريب وأسامة في الذي قبله بحديث، ومرَّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي، ومرَّ أخوه الفضل في الثامن عشر من الجماعة، والسابع محمد بن أبي حرملة القرشي أبو عبد الله المدني، مولى عبد الرحمن بن أبي سفيان بن حويطب، قال النسائي: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: هو الذي يروي عنه خصيف ويقول: حدثني ابن حويطب القرشي ينسبه إلى مواليه، وقال ابن سعد: توفي في أول خلافة أبي جعفر المنصور، وكان كثير الحديث، روى عن ابن عمر، وفي سماعه منه نظر، وسالم بن عبد الله، وكريب وغيرهم، وروى عنه: ابنه إسحاق، ومالك، وابن أبي حازم، وإسماعيل بن جعفر، وغيرهم. أ. هـ. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإخبار بالإفراد والعنعنة والقول، ورواته: شيخه بقلاني بلخي، والبقية مدنيون، وفيه رواية الصحابي عن الصحابي، ورواية الأخ عن الأخ، وثلاثة من الصحابة. أخرجه مسلم في الحج أيضًا. ثم قال المصنف:

باب أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالسكينة عند الإفاضة وإشارته لهم بالسوط

باب أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالسكينة عند الإفاضة وإشارته لهم بالسوط الحديث الحادي والخمسون والمائة حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سُوَيْدٍ، قال: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو، مَوْلَى الْمُطَّلِبِ، قال: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ مَوْلَى وَالِبَةَ الْكُوفِيُّ، حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ دَفَعَ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ عَرَفَةَ، فَسَمِعَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَرَاءَهُ زَجْرًا شَدِيدًا، وَضَرْبًا وَصَوْتًا لِلإِبِلِ، فَأَشَارَ بِسَوْطِهِ إِلَيْهِمْ، وَقَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ، فَإِنَّ الْبِرَّ لَيْسَ بِالإِيضَاعِ". أَوْضَعُوا: أَسْرَعُوا. خِلاَلَكُمْ: مِنَ التَّخَلُّلِ بَيْنَكُمْ، وَفَجَّرْنَا خِلاَلَهُمَا: بَيْنَهُمَا. وقوله: "مولى المطلب" أي: ابن عبد الله بن حنطب. وقوله: "مولى والبة" بكسر اللام بعدها موحدة خفيفة، بطن من بني أسد. وقوله: "زجرًا" بفتح الزاي وسكون الجيم بعدها راء، أي: صياحًا لحثّ الإبل. وقوله: "وضربًا"، زاد في رواية كريمة: وصوتًا، وكأنها تصحيف من قوله: وضربا فظُنتْ معطوفة. وقوله: "عليكم بالسكينة" أي: في السير، والمراد السير بالرفق وعدم المزاحمة، فإن البر ليس بالإيضاع، أي: السير السريع، ويقال: هو سير مثل الخبب، فبين عليه الصلاة والسلام أن تكلف الإسراع في السير ليس من البر، أي: مما يتقرب به، ومن هذا أخذ عمر بن عبد العزيز قوله: لما خطب بعرفة: ليس السابق من سبق بعيره وفرسه، ولكن السابق من غفر له، وقال المهلب: إنما نهاهم عن الإسراع إبقاءً عليهم لئلا يجحفوا بأنفسهم مع بعد المسافة. وقوله: "أوضعوا": أسرعوا، هو من كلام المصنف، وهو قول أبي عبيدة في المجاز. وقوله: "خلالكم" من التخلل بينكم هو أيضًا من قول أبي عبيدة، ولفظه: ولأوضعوا،

رجاله خمسة

أي: لأسرعوا خلالكم، أي: بينكم، وأصله من التخلل، وقال غيره: المعنى: وليسعوا بينكم بالنميمة، يقال: أوضع البعير أسرعه، وخص الراكب لأنه أسرع من الماشي. وقوله: "وفجرنا خلالهما: بينهما" هو لأبي عبيدة أيضًا، ولفظه: وفجرنا خلاهما، أي: وسطهما، وبينهما وإنما ذكر البخاري هذا التفسير لمناسبة أوضعوا للفظ الإيضاع، ولما كان متعلق أوضعوا بالخلال ذكر تفسيره تكثيرًا للفائدة. رجاله خمسة، مرَّ منهم: سعيد بن أبي مريم في الرابع والأربعين من العلم، ومرَّ عمرو بن أبي عمرو في الأربعين منه، ومرَّ سعيد بن جبير وابن عباس في الخامس من بدء الوحي، الخامس إبراهيم بن سويد بن حبان المدني، قال ابن معين: ثقة، وقال أبو زرعة: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: ربما أتى بمناكير، قال في "المقدمة": روى له البخاري حديثًا واحدًا في الحج من روايته عن عمرو بن أبي عمرو، وله شواهد. روى عن عمرو بن أبي عمرو ويزيد بن أبي عبيد وعبد الله بن محمد بن عقيل وغيرهم، وروى عنه سعيد بن أبي مريم وابن وهب. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإفراد والإخبار بالإفراد، ورواته: شيخه بصري ومدنيان وكوفي، والحديث من أفراد البخاري. ثم قال المصنف:

باب الجمع بين الصلاتين بالمزدلفة

باب الجمع بين الصلاتين بالمزدلفة أي: المغرب والعشاء، وقد مرَّ الكلام عليه مستوفى في باب الجمع بين الصلاتين بعرفة، وقبل هذا الباب بباب. الحديث الثاني والخمسون والمائة حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، رضي الله عنهما أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: دَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ عَرَفَةَ، فَنَزَلَ الشِّعْبَ، فَبَالَ، ثُمَّ تَوَضَّأَ، وَلَمْ يُسْبِغِ الْوُضُوءَ. فَقُلْتُ لَهُ: الصَّلاَةُ؟. فَقَالَ: "الصَّلاَةُ أَمَامَكَ". فَجَاءَ الْمُزْدَلِفَةَ، فَتَوَضَّأَ، فَأَسْبَغَ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ، فَصَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَنَاخَ كُلُّ إِنْسَانٍ بَعِيرَهُ فِي مَنْزِلِهِ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَصَلَّى، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا. وقوله: "عن كريب، عن أسامة"، قال ابن عبد البر: رواه أصحاب مالك عنه هكذا إلا أشهب وابن الماجشون، فإنهما أدخلا بين كريب وأسامة عبد الله بن العباس، أخرجه النسائي، وهذا الحديث مرَّ الكلام عليه في باب إسباغ الوضوء. رجاله خمسة قد مرّوا: مرَّ عبد الله بن يوسف ومالك في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ موسى بن عقبة، وأسامة في الخامس من الوضوء، وكريب في الرابع منه. ثم قال المصنف:

باب من جمع بينهما ولم يتطوع

باب من جمع بينهما ولم يتطوع قوله: "بينهما"، أي: الصلاتين المذكورتين. وقوله: "ولم يتطوع"، أي: لم يتنفل بينهما. الحديث الثالث والخمسون والمائة حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: جَمَعَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ، كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِإِقَامَةٍ، وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا وَلاَ عَلَى إِثْرِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا. قوله: "جمع النبي -صلى الله عليه وسلم- المغرب والعشاء" كذا لأبي ذر، ولغيره بين المغرب والعشاء. وقوله: "بجمع"، أي: بفتح الجيم وسكون الميم، أي: المزدلفة، وقد مرَّ الكلام على اشتقاقها، وعلى اشتقاق المزدلفة في باب إسباغ الوضوء من كتاب الوضوء. وقوله: "بإقامة": لم يذكر الأذان، وسيأتي بحثه في الباب التالي له. وقوله: "ولم يسبح بينهما"، أي: لم ينتقل. وقوله: "ولا على أثر كل واحدة منهما"، أي: عقبها. ويستفاد منه أنه ترك التنفل عقب المغرب وعقب العشاء، ولما لم يكن بين المغرب والعشاء مهلة، صرّح بأنه لم يتنفل بينهما بخلاف العشاء، فإنه يحتمل أن يكون المراد أنه لم يتنفل عقبها، لكنه تنفل بعد ذلك في أثناء الليل، ومن ثم قال الفقهاء: تؤخر سنّة العشاءين عنهما، ونقل ابن المنذر الإجماع على ترك التطوع بين الصلاتين بالمزدلفة لأنهم اتفقوا على أن السنة الجمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة، ومن تنفل بينهما لم يصح أنه جمع بينهما، ويعكر على نقل الاتفاق فعل ابن مسعود الآتي في الباب الذي بعده. رجاله خمسة قد مرّوا: مرَّ آدم في الثالث من الإيمان، ومرَّ سالم في السابع عشر منه، ومرَّ أبوه عبد الله في أوله

الحديث الرابع والخمسون والمائة

قبل ذكر حديث منه، ومرَّ ابن أبي ذئب في الستين من العلم، ومرَّ الزهري في الثالث من بدء الوحي. الحديث الرابع والخمسون والمائة حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْخَطْمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو أَيُّوبَ الأَنْصَارِيُّ رضي الله تعالى عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- جَمَعَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِالْمُزْدَلِفَةِ. قوله: "حدثني يحيى" الخ، زاد مسلم: عن عبد الله بن يزيد، وكان أميرًا على الكوفة على عهد ابن الزبير. وقوله: "بالمزدلفة" مبين لقوله في رواية مالك التي أخرجها في المغازي بلفظ: "أنه صلَّى مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع المغرب والعشاء جميعًا"، وللطبراني عن جابر الجعفي عن عدي، بهذا الإِسناد: صلى بجمع المغرب ثلاثًا والعشاء ركعتين بإقامة واحدة، وفيه رد على قول ابن حزم: إن حديث أبي أيوب ليس فيه ذكر أذان ولا إقامة؛ لأن جابرًا، وإن كان ضعيفًا فقد تابعه محمد بن أبي ليلى عن عدي، على ذكر الإقامة فيه عند الطبراني أيضًا، فيقوي كل واحد منهما بالآخر. اهـ. رجاله ستة قد مرّوا: مرَّ خالد بن مخلد في الرابع من العلم، ومرَّ سليمان بن بلال في الثاني من الإيمان، ومرَّ عدي بن ثابت وعبد الله بن يزيد في الثامن والأربعين منه، ومرَّ يحيى بن سعيد في الأول من بدء الوحي، ومرَّ أبو أيوب في العاشر من الوضوء. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإفراد والإخبار بالإفراد، والقول، وشيخه: كوفي، والباقون مدنيون. وفيه: رواية التابعي عن التابعي، ورواية الصحابي عن الصحابي، أخرجه البخاري أيضًا في المغازي، ومسلم في المناسك، والنسائي في الصلاة وفي الحج، وابن ماجه في الحج. ثم قال المصنف:

باب من أذن وأقام لكل واحدة منهما

باب من أذن وأقام لكل واحدة منهما أي: من المغرب والعشاء بالمزدلفة. الحديث الخامس والخمسون والمائة حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ يَقُولُ: حَجَّ عَبْدُ اللَّهِ رضي الله عنه، فَأَتَيْنَا الْمُزْدَلِفَةَ حِينَ الأَذَانِ بِالْعَتَمَةِ، أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، فَأَمَرَ رَجُلاً فَأَذَّنَ وَأَقَامَ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ، وَصَلَّى بَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ دَعَا بِعَشَائِهِ فَتَعَشَّى، ثُمَّ أَمَرَ -أُرَى رَجُلاً- فَأَذَّنَ وَأَقَامَ، قَالَ عَمْرٌو: لاَ أَعْلَمُ الشَّكَّ إِلاَّ مِنْ زُهَيْرٍ، ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ، قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ لاَ يُصَلِّي هَذِهِ السَّاعَةَ إِلاَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ، فِي هَذَا الْمَكَانِ، مِنْ هَذَا الْيَوْمِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: هُمَا صَلاَتَانِ تُحَوَّلاَنِ عَنْ وَقْتِهِمَا: صَلاَةُ الْمَغْرِبِ بَعْدَمَا يَأْتِي النَّاسُ الْمُزْدَلِفَةَ، وَالْفَجْرُ حِينَ يَبْزُغُ الْفَجْرُ. قَالَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَفْعَلُهُ. قوله: "حج عبد الله" في رواية أحمد والنسائي عن زهير بالإسناد: حج عبد الله بن مسعود، فأمرني علقمة أن ألزمه، فلزمته، فكنت معه، وفي رواية إسرائيل الآتية بعد باب: خرجت مع عبد الله إلى مكة، ثم قدمنا جمعًا. وقوله: "حين الأذان بالعتمة أو قريبًا من ذلك"، أي: من مغيب الشفق. وقوله: فأمر رجلًا، قال في "الفتح": لم أقف على اسمه، ويحتمل أن يكون هو عبد الرحمن بن يزيد، فإن في رواية حسن بن موسى عند أحمد وحسين بن عياش عند النسائي: فكنت معه، فأتينا المزدلفة، فلما كان طلع الفجر، قال: قم، فقلت له: إن هذه الساعة ما رأيتك صليت فيها. وقوله: "ثم أمر أُرى رجلًا فأذن وأقام، قال عمرو: لا أعلم، الشك إلا من زهير" أُرى بضم الهمزة، أي: أظن، وقد بيَّن عمرو شيخ البخاري فيه أن الشك من شيخه زهير، وأخرجه الإسماعيلي عن الحسن بن موسى، عن زهير، مثل ما رواه عنه عمرو، ولم يقل ما قال عمرو،

وأخرجه البيهقي عن زهير، وقال فيه: ثم أمر، قال زهير: أُرى، فأذن وأقام وسيأتي بعد باب في رواية إسرائيل عن أبي إسحاق بأصرح مما قال زهير، ولفظه: ثم قدمنا جمعًا فصلى الصلاتين كل واحدة وحدها بأذان وإقامة، والعشاء بفتح العين بينهما، ورواه ابن خزيمة وأحمد عن أبي إسحاق بلفظ: فأذن وأقام، ثم صلى المغرب، ثم تعشى، ثم قام فأذن وأقام وصلى العشاء، ثم بات بجمع حتى إذا طلع الفجر فأذن وأقام، ولأحمد عن أبي إسحاق أيضًا: فصلى بنا المغرب، ثم دعا بعشاء فتعشى، ثم قام فصلى العشاء، ثم رقد، وعند الإسماعيلي: عن ابن أبي ذيب في هذا الحديث: ولم يتطوع قبل كل واحدة منهما ولا بعدها، ولأحمد من رواية زهير: فقلت له: إن هذه الساعة ما رأيتك صليت فيها. وقوله: "فلما طلع الفجر" في رواية المستملي والكُشميهني: فلما حين طلع الفجر، وفي رواية الحسين بن عياش، عن زهير: فلما كان حين طلع الفجر. وقوله: "قال عبد الله" يعني ابن مسعود. وقوله: "عن وقتهما" كذا للأكثر، وللسرخسي عن وقتها بالإفراد، وسيأتي بعد باب في رواية إسرائيل رفع هذه الجملة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-. وقوله: "حتى يبزغ" بزاي مضمومة وغين معجمة، أي: بطلع. وفي هذا الحديث مشروعية الأذان والإقامة لكل من الصلاتين إذا جمع بينهما، قال ابن حزم: لم نجده مرويًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولو ثبت عنه لقلت به، ثم أخرج عن أبي إسحاق في هذا الحديث، قال أبو إسحاق: فذكرته لأبي جعفر محمد بن علي، فقال: أما نحن أهل البيت، فهكذا نصنع، قال ابن حزم: وقد روي عن عمر من فعله، أخرجه الطحاوي بإسناد صحيح عنه، ثم تأوله بأنه محمول على أن أصحابه تفرقوا عنه، فأذن لهم ليجتمعوا، ليجمع بهم، ولا يخفى تكلفه، ولو تأتى له ذلك في حق عمر لكونه كان الإمام الذي يقيم للناس حجهم، لم يتأت له ذلك في حق ابن مسعود لأنه إن كان معه ناس من أصحابه لا يحتاج في جمعهم إلى من يؤذن لهم، وقد أخذ بظاهره مالك وهو اختيار البخاري. وروى ابن عبد البر، عن أحمد بن خالد أنه كان يتعجب من مالك حيث أخذ بحديث ابن مسعود، وهو من رواية الكوفيين مع كونه موقوفًا، ومع كونه لم يروه، وبترك ما روى عن أهل المدينة، وهو مرفوع، قال ابن عبد البر: وأعجب أن من الكوفيين حيث أخذوا بما رواه أهل المدينة، وهو أن يجمع بينهما بأذان وإقامة واحدة، وتركوا ما رووا في ذلك عن ابن

مسعود مع أنهم لا يعدلون به أحدًا، والجواب عن مالك أنه اعتمد على صنيع عمر في ذلك، وإن كان لم يروه في "الموطأ"، واختار الطحاوي ما جاء عن جابر في حديثه الطويل عند مسلم أنه جمع بينهما بأذان واحد وإقامتين، وهذا قول الشافعي في القديم. ورواية عن أحمد، وبه قال ابن الماجشون وابن حزم، وقوّاه الطحاوي بالقياس على الجمع بين الظهر والعصر بعرفة، وقال الشافعي في الجديد، والثوري: وهو رواية عن أحمد: يجمع بينهما بإقامتين فقط، وهو ظاهر حديث أسامة الماضي قريبًا حيث قال: فأقام المغرب، ثم أناخ الناس، ولم يحلوا حتى أقام العشاء، وقد جاء عن ابن عمر كل واحد من هذه الصفات أخرجه الطحوي وغيره، وكأنه كان يراه من الأمر الذي يتخير فيه الإنسان، وهو المشهور عند أحمد. واستدل بحديث ابن مسعود على جواز التنفل بين الصلاتين لمن أراد الجمع بينهما لكون ابن مسعود تعشى بين الصلاتين، ولا حجة فيه لأنه لم يرفعه، ويحتمل أن لا يكون قصد الجمع، وظاهر صنيعه يدل على ذلك لقوله: إن المغرب تحول عن وقتها، فرأى أنه وقت هذه المغرب خاصةً، ويحتمل أن يكون قصد الجمع وكان يرى أن العمل بين الصلاتين هذه المغرب خاصة، ويحتمل أن يكون قصد الجمع، وكان يرى أن العمل بين الصلاتين لا يقطعه إذا كان ناويًا للجمع، ويحمل قول تحول عن وقتها، أي: المعتاد، وأما إطلاقه على صلاة الصبح أنها تحول عن وقتها، فليس معناه أنه أوقع الفجر قبل طلوعها، وإنما أراد أنها وقعت قبل الوقت المعتاد فعلها في الحضر، ولا حجة فيه لمن منع التغليس بصلاة الصبح لأنه ثبت عن عائشة وغيرها كما مرَّ في المواقيت التغليس بها، بل المراد هنا أنه كان إذا أتاه المؤذن بطلوع الفجر صلى ركعتي الفجر في بيته، ثم خرج فصلى الصبح مع ذلك بغلس، وأما بمزدلفة، فكان الناس مجتمعين، والفجر نصب أعينهم، فبادر بالصلاة أول ما بزغ حتى إن بعضهم كان لم يتبين له طلوعه، وهو بيّن في رواية إسرائيل الآتية حيث قال: "صلى الفجر حين طلع الفجر، قائل يقول: طلع الفجر، وقائل يقول: لم يطلع". واستدل الحنفية بحديث ابن مسعود هذا على ترك الجمع بين الصلاتين في غير يوم عرفة، وجمع لقول ابن مسعود ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلى صلاة لغير ميقاتها إلا صلاتين، وأجاب المجوزون بأن من حفظ حجة على من لم يحفظ، وقد ثبت الجمع بين الصلاتين من حديث ابن عمر وأنس وابن عباس وغيرهم، وتقدم في موضعه بما فيه كفاية، وأيضًا

رجاله خمسة

فالاستدلال به إنما هو من طريق المفهوم، وهم لا يقولون به، وأما من قال به فشرطه أن لا يعارضه منطوق، وأيضًا فالحصر فيه ليس على ظاهره لإجماعهم على مشروعية الجمع بين الظهر والعصر. رجاله خمسة قد مرّوا: مرَّ عمرو بني خالد وزهير وأبو إسحاق بهذا النسق في الثالث والثلاثين من الإيمان، ومرَّ ابن مسعود في أول أثر منه، ومرَّ عبد الرحمن بن يزيد في الخامس من التقصير. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والسماع والقول، وشيخه من أفراده، وهو حراني، والبقية كوفيون، وفيه رواية التابعي عن التابعي، أخرجه البخاري في الحج أيضًا، والنسائي فيه. ثم قال المصنف:

باب من قدم ضعفة أهله بليل فيقفون بالمزدلفة ويقدم إذا غاب القمر

باب من قدم ضعفة أهله بليل فيقفون بالمزدلفة ويقدم إذا غاب القمر وقوله: "ضعفة" الضَّعفة بفتح العين: جمع ضعيف من النساء والصبيان والمشائخ العاجزين، وأصحاب الأمراض خوف الزحام عليهم. وقوله: "بليل"، أي: في ليل من منزله بجمع. وقوله: "ويقدم" بفتح القاف وكسر الدال على البناء للفاعل، والفاعل ضمير راجع إلى لفظ من، وبفتح الدال على البناء للمجهول، والنائب الضمير الراجع إلى الضعفة. وقوله: "إذا غاب القمر" بيان للمراد من قوله: "بليل" ومغيب القمر تلك الليلة يقع عند أوائل الثلث الأخير، ومن ثم قيده الشافعي ومن تبعه بالنصف الثاني، قال صاحب "المغني": لا نعلم خلافًا في جواز تقديم الضعفة بليل من جمع إلى منى. الحديث السادس والخمسون والمائة حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ سَالِمٌ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يُقَدِّمُ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ، فَيَقِفُونَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بِالْمُزْدَلِفَةِ بِلَيْلٍ، فَيَذْكُرُونَ اللَّهَ مَا بَدَا لَهُمْ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ قَبْلَ أَنْ يَقِفَ الإِمَامُ، وَقَبْلَ أَنْ يَدْفَعَ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ مِنًى لِصَلاَةِ الْفَجْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِذَا قَدِمُوا رَمَوُا الْجَمْرَةَ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: أَرْخَصَ فِي أُولَئِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. قوله: "قال سالم"، في رواية مسلم عن ابن شهاب، أن سالم بن عبد الله أخبره. وقوله: "المشعر" بفتح الميم والعين، وحكى الجوهري كسر الميم، وقيل إنه لغة أكثر العرب، وقال ابن قرقول: كسر الميم لغة لا رواية، وقال ابن قتيبة: لم يقرأ بها في الشواذ، وقيل: بل قرئ بها، حكاه الهذلي، ويسمى المشعر؛ لأنه معلم للعبادة، والحرام لأنه من الحرام أو لحرمته.

وقوله: "ما بدا لهم" بغير همز، أي: ظهر لهم وأشعر ذلك بأنه لا توقيت لهم فيه. وقوله: "ثم يرجعون" في رواية مسلم: ثم يدفعون، وهو أوضح، ومعنى الأول أنهم يرجعون عن الوقوف إلى الدفع، ثم يقدمون منى على ما فصل في الخبر. وقوله: "لصلاة الفجر"، أي: عند صلاة الفجر. وقوله: "وكان ابن عمر يقول أرخص في أولئك" الخ، كذا وقع فيه أرخص، وفي بعض الروايات رخص بالتشديد، وهو أظهر من حيث المعنى لأنه من الترخيص لا من الرخص، واحتج به ابن المنذر لقول من أوجب المبيت بمزدلفة على غير الضعفة لأن حكم من لم يرخص له ليس كحكم من رخص له، قال. ومن زعم أنهما سواء لزمه أن يجيز المبيت في غير منى لسائر الناس لكونه عليه الصلاة والسلام أرخص لأصحاب السقاية وللرعاء أن لا يبيتوا بمنى، قال: فإن قال لا تعدوا بالرخص مواضعها فليستعمل ذلك هنا، ولا يأذن لأحد أن يتقدم من جمع إلا من رخص له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وقد اختلف السلف في هذه المسألة، فقال علقمة والنخعي والشعبي: من ترك المبيت بمزدلفة فإنه الحج، وقال عطاء والزهري وقتادة والشافعي والكوفيون وإسحاق: عليه دم، قالوا: ومن بات بها لم يجز له الدفع قبل النصف، وقال مالك: إن مرَّ بها لم ينزل فعليه دم، وإن نزل فلا دم عليه متى دفع وصحح الرافعي من الشافعية هذا المذهب، وقال النووي: يجب المبيت بمزدلفة على غير المعذور، ويحصل المبيت بها بحضورها لحظة في النصف الثاني كالوقوف بعرفة، نصّ عليه في "الأم" وبه قطع جمهور العراقيين وأكثر الخراسانيين، وقيل: يشترط معظم الليل، كما لو حلف لا يبيت بموضع فإنه لا يحنث إلا بمعظم الليل، وهذا صححه الرافعي، واستشكله من جهة أنهم لا يصلونها حتى يمضي ربع الليل مع جواز الدفع بعد نصف الليل. وقال أبو حنيفة بوجوب المبيت أيضًا، ووقّت الوقوف بالمشعر بعد طلوع القجر إلى أن يسفر جدًا، قال العيني: عند أصحابنا الحنفية لو ترك الوقوف بها بعد الصبح من غير عذر فعليه دم، وإن كان لعذر الزحام فتعجل السير إلى منى فلا شيء عليه، وقال القسطلاني: المعروف أن المشعر موضع خاص بالمزدلفة، ويحصل أصل السنة بالمرور، وإن لم يقف كما في عرفة، نقله في "الكفاية" عن القاضي، وأقره، وقال النووي وابن الصلاح: المشعر جبل صغير بآخر المزدلفة، يقال له قُزح بضم القاف وفتح الزاي ثم حاء مهملة، وهو منها لأنها ما بين حازمي عرفة ووادي محسر، وقد استبدل الناس الوقوف به علي بناء محدث هناك

رجاله ستة

يظنونه المشعر، وليس كما يظنون، لكن يحصل الوقوف عنده أصل السنة، أي: وكذا بغيره من مزدلفة على الأصح، وقال ابن الحاج: المزدلفة والمشعر والجمع قزح، ألفاظ مترادفة، وفي قول ابن عمر: فإذا قدموا رموا الجمرة دلالة على جواز رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس، وسيأتي ذلك صريحًا من صنيع أسماء بنت أبي بكر في الحديث الثالث من هذا الباب، ويأتي الكلام عليه فيه إن شاء الله تعالى. رجاله ستة قد مرّوا: مرَّ يحيى بن بكير، والليث، وابن شهاب في الثالث من بدء الوحي، ومرَّ يونس في متابعة بعد الرابع منه، ومرَّ سالم في السابع عشر من الإيمان، ومرَّ أبوه عبد الله أوله قبل ذكر حديث منه. الحديث السابع والخمسون والمائة حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: بَعَثَنِى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ جَمْعٍ بِلَيْلٍ. وفائدة هذا الحديث تعيين من أذن لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- من أهله في ذلك، وأورده من وجهين، ويأتي ما في الطريقة الثانية. رجاله خمسة قد مرّوا: مرَّ سليمان بن حرب في الرابع عشر من الإيمان، وحماد بن زيد في الرابع والعشرين منه، وأيوب في التاسع منه، وعكرمة في السابع عشر من العلم، وابن عباس في الخامس من بدء الوحي. اهـ. الحديث الثامن والخمسون والمائة حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، قال: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي يَزِيدَ: سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَقُولُ: أَنَا مِمَّنْ قَدَّمَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ فِي ضَعَفَةِ أَهْلِهِ. وفي هذه الرواية فإنا ممن قدم، وهذه يفهم منها دفع ما يتوهم من قوله في الرواية السابقة بعثني أن البعث كان خاصًا به، فإنهما دالة على أنه لم يختص به، وقد أخرجه المصنف في باب حج الصبيان بلفظ: في الثقل، زاد مسلم: أو قال في الضعفة، وقد أخرجه مسلم عن سفيان بإسناد آخر مثله، وأخرجه الطحاوي عن عطاء، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للعباس ليلة المزدلفة: "اذهب بضعفائنا ونسائنا فليصلوا الصبح بمنى، وليرموا جمرة العقبة قبل أن تصيبهم دفعة الناس"، قال: فكان عطاء يفعله بعدما كبر وضعف ولأبي داود

رجاله أربعة

عن ابن عباس، كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقدم ضعفاء أهله بغلس، ولأبي عوانة عن ابن عباس: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقدم العيال والضعفة إلى منى من المزدلفة. رجاله أربعة قد مرّوا: مرَّ علي ابن المديني في الرابع عشر من العلم، ومرَّ ابن عيينة في الأول من بدء الوحي، وابن عباس في الخامس منه، ومرَّ عبيد الله بن أبي يزيد في التاسع من الوضوء. الحديث التاسع والخمسون والمائة حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ مَوْلَى أَسْمَاءَ، عَنْ أَسْمَاءَ أَنَّهَا نَزَلَتْ لَيْلَةَ جَمْعٍ عِنْدَ الْمُزْدَلِفَةِ، فَقَامَتْ تُصَلِّي، فَصَلَّتْ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَتْ: يَا بُنَيَّ هَلْ غَابَ الْقَمَرُ؟ قُلْتُ: لاَ. فَصَلَّتْ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَتْ: هَلْ غَابَ الْقَمَرُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَتْ: فَارْتَحِلُوا. فَارْتَحَلْنَا، وَمَضَيْنَا حَتَّى رَمَتِ الْجَمْرَةَ، ثُمَّ رَجَعَتْ فَصَلَّتِ الصُّبْحَ فِي مَنْزِلِهَا. فَقُلْتُ لَهَا: يَا هَنْتَاهْ مَا أُرَانَا إِلاَّ قَدْ غَلَّسْنَا. قَالَتْ: يَا بُنَيَّ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَذِنَ لِلظُّعُنِ. قوله: "حدثني عبد الله مولى أسماء" هكذا رواه جماعة مسلم وابن خزيمة ومسلم وأحمد والإسماعيلي والطبراني والطحاوي وأبو نعيم عن ابن جريج، عن عبد الله مولى أسماء، وأخرجه أبو داود، عن ابن جريج، عن عطاء، أخبرني مخبر، عن أسماء، وأخرجه مالك عن عطاء، أن مولى أسماء أخبره، فالظاهر أن ابن جريج سمعه من عطاء، ثم لقي عبد الله، فأخذه عنه، ويحتمل أن يكون مولى أسماء شيخ عطاء غير عبد الله. وقوله: "قالت يا بني" تعني مولاها عبد الله. وقوله: "قالت: فارتحلوا" في رواية مسلم: قالت: ارتحل بي. وقوله: "فمضينا حتى رمت الجمرة" في رواية ابن عيينة: فمضينا بها. وقوله: "يا هنتاه"، أي: هذه. وقد سبق ضبطه في باب {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}. وقوله: "ما أُرانا" بضم الهمزة، أي: أظن، وفي رواية مسلم بالجزم، فقلت لها: لقد غلسنا، وفي رواية مالك: لقد جئنا منى بغلس، وفي رواية داود العطار: لقد ارتحلنا بليل، وفي رواية أبي داود: فقلت: إنا رمينا الجمرة بليل وغلسنا، أي: جئنا بغلس. وقوله: "أذن للظعن" بضم الظاء المعجمة والعين، ويجوز تسكينها، وهي المرأة في

الهودج، ثم أطلق على المرأة مطلقًا، وفي رواية أبي داود: إنا كنا نصنع هذا على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفي رواية مالك: لقد كنا نفعل ذلك مع من هو خير منك، تعني النبي -صلى الله عليه وسلم-. واستدل بهذا الحديث على جواز الرمي قبل طلوع الشمس عند من خص التعجيل بالضعفة، وعند من لم يخصص، وخالف في ذلك الحنفية، فقالوا: لا يرمي جمرة العقبة إلا بعد طلوع الشمس، فإن رمى قبل طلوع الشمس وبعد الفجر جاز، وإن رماها قبل الفجر أعادها، وبهذا قال أحمد وإسحاق والجمهور. وزاد إسحاق: ولا يرميها قبل طلوع الشمس، وبه قال النخعي ومجاهد والثوري وأبو ثور، ورأى جواز ذلك قبل طلوع الفجر عطاء وطاووس والشعبي والشافعي، ومذهب الشافعي رمي الجمرة من نصف الليل. واستدل بحديث عائشة أخرجه أبو داود بإسناد صحيح أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أرسل أم سلمة ليلة النحر، فرمت قبل الفجر ثم أفاضت، فدل على أن وقت الرمي بنصف ليلة النحر لأنه عليه الصلاة والسلام علق الرمي بما قبل الفجر، وهو صالح لجميع الليل، ولا ضابط له، فجعل النصف ضابطًا لأنه أقرب إلى الحقيقة مما قبله، ولأنه وقت به للدفع من مزدلفة، ولأذان الصبح، فكان وقت الرمي كما بعد الفجر، ومذهب مالك: يحل بطلوع الفجر، وقبله لغو حتى للنساء والضعفة، واحتج الشافعي أيضًا بحديث أسماء هذا، واحتج إسحاق والحنفية بحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لغلمان بني عبد المطلب: "لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس"، وهو حديث حسن أخرجه أبو داود والنسائي والطحاوي وابن حبان عن الحسن العُرَن بضم المهملة، وفتح الراء عن ابن عباس، وأخرجه الترمذي والطحاوي عن مقسم عنه، وأخرجه أبو داود عن عطاء، عنه، وهذه الطرق يقوي بعضها بعضًا، ومن ثم صححه الترمذي وابن حبان، وإذا كان من رخص له منع أن يرمي قبل طلوع الشمس، فمن لم يرخص له أولى. ويجمع بين حديث ابن عباس هذا وحديث أسماء بجمل الأمر في حديث ابن عباس على الندب، ويؤيده ما أخرجه الطحاوي عن شعبة مولى ابن عباس عنه، قال: بعثي النبي -صلى الله عليه وسلم- مع أهله، وأمرني أن أرمي مع الفجر، وقال ابن المنذر: السنة أن لا يرمي إلا بعد طلوع الشمس كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا يجوز الرمي قبل طلوع الفجر لأن فاعله مخالف للسنة، ومن رمى حينئذ فلا إعادة عليه إذ لا أعلم أحدًا قال: لا يجزئه. واستدل به أيضًا على إسقاط الوقوف بالمشعر الحرام عن الضعفة، ولا دلالة فيه؛ لأن رواية أسماء ساكنة عن الوقوف، وقد بينته رواية ابن عمر التي قبلها، وقد اختلف السلف في

هذه المسألة، فكان بعضهم يقول: من مرَّ بمزدلفة، فلم ينزل بها، فعليه دم، ومن نزل بها ثم دفع منها في أي وقت كان من الليل، فلا دم عليه، ولو لم يقف مع الإِمام، وبهذا قال مالك كما مرَّ، وقال مجاهد وقتادة والزهري والثوري: من لم يقف بها فقد ضيع نسكًا وعليه دم، وهو قول أبي حنيفة وأحمد وإسحاق وأبي ثور وروى عن عطاء، وبه قال الأوزاعي: لا دم عليه مطلقًا، وإنما هو منزل من شاء نزله، ومن شاء لم ينزل به، وروى الطبري بسند فيه ضعف عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا: إنما جمع منزل لدلج المسلمين، وذهب ابن بنت الشافعي وابن خزيمة إلى أن الوقوف بها ركن لا يتم إلا به، وأشار ابن المنذر إلى ترجيحه، ونقله ابن المنذر عن علقمة والنخعي. والعجب بأن الله لم يذكر الوقوف وإنما ذكر الذكر، فقال: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ}، وقد أجمعوا على أن من وقف بها بغير ذكر أن حجه تام، فإذا كان الذكر المذكور في الكتاب ليس من صلب الحج، فالموطن الذي يكون الذكر فيه أحرى أن يكون فرضًا، قال: وما احتجوا به من حديث عروة بن مضرس باسم الفاعل رفعه، قال: من شهد معنا صلاة الفجر بالمزدلفة، وكان قد وقف قبل ذلك بعرفة ليلًا أو نهارًا فقد تم حجه، فلا حجة فيه لإجماعهم أنه لو بات بها ووقف ونام عن الصلاة ولم يصلها مع الإِمام حتى فاتته، أي: حجه تام. وحديث عروة أخرجه أصحاب السنن، وصححه ابن حبان والحاكم والدارقطني، ولفظ أبي داود عنه: أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالموقف، يعني: بجمع، قلت: يا رسول الله جئت من جبل طيىء فأكللتُ مطيتي وأتعبت نفسي، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من أدرك معنا هذه الصلاة وأتى عرفات قبل ذلك ليلًا أو نهارًا فقد تم حجه وقضى تفثه"، وللنسائي: من أدرك جمعًا مع الإِمام والناس حتى يفيضوا فقد أدرك الحج، ومن لم يدرك مع الإِمام والناس فلم يدرك"، ولأبي يعلى: "ومن لم يدرك جمعًا فلا حج له". وقد صنف أبو جعفر العقيلي جزءًا في إنكار هذه الزيادة، وبيَّن أنها من رواية مطرف عن الشعبي، عن عروة، وأن مطرفًا كان يهم في المتون، وقد ارتكب ابن حزم الشطط فزعم أنه من لم يصل صلاة الصبح أن الحج يفوته التزامًا لما ألزمه به الطحاوي، ولم يعتبر ابن قدامة مخالفته هذه فحكى الإجماع على الإجزاء، كما حكاه الطحاوي.

رجاله خمسة

وبحث المبيت بمزدلفة قد تقدم في باب من قدم ضعفة أهله إلا أن هذا أوسع، وآخر وقت الرمي غروب الشمس من كل يوم، فعند المالكية: يجب الدم على من أخَّر الرمي إلى الليل، والليل قضاء، وقال أبو حنيفة: آخر وقته آخر النهار، وقال أبو يوسف: يمتد إلى وقت الزوال، فإذا زالت الشمس يفوت الوقت، ويكون فيما بعده قضاء، فإن لم يرم حتى غربت الشمس يرمي قبل الفجر من اليوم الثاني، قال العيني: ولا شيء عليه في قول أبي يوسف ومحمد، وفي قول أبي حنيفة عليه دم للتأخير، وعند الشافعي قولان في قول إذا غربت الشمس فات الوقت، وعليه دم، وفي قول: لا يفوت إلا في آخر أيام التشريق. رجاله خمسة: مرَّ منهم مسدد ويحيى القطان في السادس من الإيمان، ومرَّ ابن جريج في الثالث من الحيض، ومرت أسماء في الثامن والعشرين من العلم، والباقي عبد الله بن كيسان القرشي التيمي أبو عمر المدني مولى أسماء بنت أبي بكر، قال أبو داود: ثبت، وقال الحاكم: أبو أحمد من أجلّة التابعين، وذكره ابن حبان في "الثقات"، ليس له في البخاري إلا هذا الحديث وآخر يأتي في أبواب العمرة، روى عن أسماء، وعن ابن عمر، وروى عنه صهره عطاء بن أبي رباح، وهو من أقرانه، وعمرو بن دينار وابن جريج، وغيرهم. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع وبالإفراد. الحديث الستون والمائة حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ هُوَ ابْنُ الْقَاسِمِ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتِ: اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- لَيْلَةَ جَمْعٍ وَكَانَتْ ثَقِيلَةً ثَبْطَةً فَأَذِنَ لَهَا. قوله ثقيلة، أي: من عظم جسمها، وقوله: ثبطة بفتح المثلثة وكسر الموحدة بعدها مهملة خفيفة أي: بطيئة الحركة كأنها تثبط بالأرض أي: نشبث بها ولم يذكر محمد بن كثير عن سفيان الثوري ما استأذنته سودة فيه، فلذلك عقبه بطريق أفلح عن القاسم المبينة لذلك، وقد أخرجه ابن ماجه عن الثوري فبين ذلك ولفظه إن سودة بنت زمعة كانت امرأة ثبطة فاستأذنت النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تدفع من جمع قبل دفعة الناس فأذن لها ولأبي عوانة عن الثوري قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سودة ليلة جمع وأخرجه مسلم عن وكيع ولم يسق لفظه وعن عبد الرحمن بن القاسم

رجاله خمسة

بلفظ وددت أني كنت استأذنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما استأذنته سودة فأصلي الصبح بمنى فأرمي الجمرة قبل أن يأتي الناس فذكر بقية الحديث مثل سياق محمد بن كثير وله نحوه عن أيوب عن عبد الرحمن بن القاسم وفيه من الزيادة وكانت عائشة لا تفيض إلا مع الإِمام. رجاله خمسة وفيه ذكر سودة وقد مرَّ الجميع. مرَّ محمد بن كثير في الثاني والثلاثين من العلم ومرَّ سفيان الثوري في السابع والعشرين من الإيمان ومرَّ عبد الرحمن في الخامس عشر من الغسل ومرَّ أبوه القاسم في الحادي عشر منه، ومرت عائشة في الثاني من بدء الوحي، ومرت سودة في الثاني عشر من الوضوء. أخرجه مسلم وابن ماجه في الحج. الحديث الحادي والستون والمائة حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا أَفْلَحُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: نَزَلْنَا الْمُزْدَلِفَةَ فَاسْتَأْذَنَتِ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- سَوْدَةُ أَنْ تَدْفَعَ قَبْلَ حَطْمَةِ النَّاسِ، وَكَانَتِ امْرَأَةً بَطِيئَةً، فَأَذِنَ لَهَا، فَدَفَعَتْ قَبْلَ حَطْمَةِ النَّاسِ، وَأَقَمْنَا حَتَّى أَصْبَحْنَا نَحْنُ، ثُمَّ دَفَعْنَا بِدَفْعِهِ، فَلأَنْ أَكُونَ اسْتَأْذَنْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَمَا اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مَفْرُوحٍ بِهِ. وقوله أفلح بن حميد عن القاسم في رواية الإسماعيلي عن أفلح أخبرنا القاسم وله عن أبي بكر الحنفي عن أفلح سمعت القاسم وقوله إن تدفع قبل حطمة الناس في رواية مسلم عن القعنبي عن أفلح أن تدفع قبله وقبل حطمة الناس. والحطمة بفتح الحاء وسكون الطاء المهملتين: الرَّحمة. وقوله فلأن أكون بفتح اللام فهو متبدأ وخبره أحب. وقوله مفروح به من كل شيء، وعند مسلم عن أفلح ما يشعر بأن تفسير الثبطة بالثقيلة من القاسم راوي الحديث. ولفظه وكانت امرأة ثبطة يقول القاسم والثبطة: الثقيلة. ولأبي عوانة عن أفلح بلفظ: وكانت امرأة ثبطة. قال: الثبطة الثقيلة. وله عن أفلح أيضًا، وكانت امرأة ثبطة يعني ثقيلة. فعلى هذا فقوله في رواية محمد بن كثير وكانت امرأة ثقيلة ثبطة من الأدراج الواقع قبل ما أدرج عليه. وأمثلته قليلة جدًا، وسببه أن الراوي أدرج التفسير بعد الأصل فظن الراوي الآخر أن اللفظين ثابتان في أصل المتن فقدم وأَخر. رجاله أربعة: وفيه ذكر سودة وقد مرَّ الجميع: مرَّ أبو نعيم في الخامس والأربعين من الإيمان، ومرَّ أفلح بن حميد في الرابع عشر من الغسل، ومرَّ محمد القاسم وعائشة وسودة في الذي قبله. ثم قال المصنف:

باب متى يصلي الفجر بجمع

باب متى يصلي الفجر بجمع الحديث الثاني والستون والمائة حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَارَةُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- صَلَّى صَلاَةً بِغَيْرِ مِيقَاتِهَا إِلاَّ صَلاَتَيْنِ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَصَلَّى الْفَجْرَ قَبْلَ مِيقَاتِهَا. وقوله لغير ميقاتها في رواية غير أبي ذر "بغير" بالموحدة بدل اللام، والمراد في غير وقتها المعتاد كما بيَّناه في الكلام على هذا الحديث في باب من أذن وأقام لكل واحدة منهما. اهـ. رجاله ستة قد مرّوا، مرَّ عمر بن حفص وأبوه حفص بن غياث في الثاني عشر من الغسل، ومرَّ الأعمش في الخامس والعشرين من الإيمان ومرَّ عمارة بن عمير في الخامس عشر من صفة الصلاة، ومرَّ عبد الرحمن بن يزيد في الخامس من التقصير، ومرَّ عبد الله بن مسعود في أول أثر من الإيمان. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإفراد والعنعنة والقول ورواته كلهم كوفيون، وفيه رواية الابن عن الأب. أخرجه مسلم في الحج وأبو داود فيه، والنَّسائي فيه، وفي الصلاة. الحديث الثالث والستون والمائة حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه إِلَى مَكَّةَ، ثُمَّ قَدِمْنَا جَمْعًا، فَصَلَّى الصَّلاَتَيْنِ، كُلَّ صَلاَةٍ وَحْدَهَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، وَالْعَشَاءُ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ صَلَّى الْفَجْرَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ، قَائِلٌ يَقُولُ: طَلَعَ الْفَجْرُ. وَقَائِلٌ يَقُولُ: لَمْ يَطْلُعِ الْفَجْرُ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إِنَّ هَاتَيْنِ الصَّلاَتَيْنِ حُوِّلَتَا عَنْ وَقْتِهِمَا فِي هَذَا الْمَكَانِ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، فَلاَ يَقْدَمُ النَّاسُ جَمْعًا حَتَّى يُعْتِمُوا، وَصَلاَةَ الْفَجْرِ هَذِهِ السَّاعَةَ. ثُمَّ وَقَفَ حَتَّى أَسْفَرَ، ثُمَّ قَالَ: لَوْ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَفَاضَ الآنَ أَصَابَ السُّنَّةَ. فَمَا أَدْرِي أَقَوْلُهُ كَانَ أَسْرَعَ أَمْ دَفْعُ عُثْمَانَ رضي الله عنه فَلَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ.

رجاله خمسة

قوله خرجت في رواية غير أبي ذر خرجنا. وقوله: "العشاء بينهما" بفتح المهملة لا بكسرها أي: الأكل وقد مرَّ إيضاحه. وقوله فلا يقدم بفتح الدال. وقوله حتى يعتموا أي: يدخلوا في العتمة، وهو وقت العشاء الآخرة كما تقدم بيانه في المواقيت، وقوله لو أن أمير المؤمنين أفاض الآن يعني عثمان كما بين في آخر الكلام وقوله فما أدري هو كلام عبد الرحمن يزيد الراوي عن ابن مسعود وأخطأ من قال إنه كلام ابن مسعود والمراد أن السنة الدفع من المشعر الحرام عند الإسفار قبل طلوع الشمس خلافًا لما كان عليه أهل الجاهلية كما في حديث عمر الذي بعده. وعند أحمد عن أبي إسحاق من الزيادة في هذا الحديث أن نظير هذا القول صدر من ابن مسعود عند الدفع من عرفة أيضًا. ولفظه لما وقفنا بعرفة غابت الشمس فقال: لو أن أمير المؤمنين أفاض الآن كان قد أصاب السنة قال: فما أدري أكلام ابن مسعود أسرع أم إفاضة عثمان، قال فأوضع الناس ولم يزد ابن مسعود على العنق حتى أتى جمعًا وله أيضًا عن أبي إسحاق في هذا الحديث أفاض ابن مسعود من عرفة على هيئته لا يضرب بعيره حتى أتى جمعًا، وروى سعيد ابن منصور أن ابن مسعود أوضع بعيره في وادي محسر وهذه الزيادة مرفوعة في حديث جابر الطويل في صفة الحج عند مسلم. وقوله فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة وقد مرَّ الكلام مستوفى على ما قيل في قطع التلبية وما فيه من الخلاف في باب الركوب والارتداف في الحج ومرَّ الكلام على الحديث مستوفى في باب من أذن وأقام لكل واحدة منهما. رجاله خمسة: وفيه ذكر أمير المؤمنين عثمان، وقد مرَّ الجميع، ومرَّ عبد الله بن رجاء في تعليق بعد الثالث من كتاب الصلاة ومرَّ إسرائيل ابن يونس في السابع والستين من العلم ومرَّ أبو إسحاق السبيعي في الثالث والثلاثين من الإيمان، ومرَّ محل عبد الرحمن وعبد الله في الذي قبله وعثمان في أثر بعد الخامس من العلم. ثم قال المصنف: أي بعد الوقوف بالمشعر الحرام.

باب متى يدفع من جمع

باب متى يدفع من جمع الحديث الرابع والستون والمائة حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ بن الحجاج، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ مَيْمُونٍ يَقُولُ: شَهِدْتُ عُمَرَ رضي الله عنه صَلَّى بِجَمْعٍ الصُّبْحَ، ثُمَّ وَقَفَ فَقَالَ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا لاَ يُفِيضُونَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَيَقُولُونَ أَشْرِقْ ثَبِيرُ. وَأَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- خَالَفَهُمْ، ثُمَّ أَفَاضَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ. قوله لا يفيضون زاد يحيى القطان عن شعبة من جمع أخرجه الإسماعيلي وكذا هو للمصنف في أيام الجاهلة عن الثوري عن أبي إسحاق، وزاد الطبراني عن سفيان حتى يروا الشمس على ثبير. وقوله: ويقولون أشرق ثبير بفتح أوله فعل أمر من الإشراق أي: أُدخل في الشروق، وقال ابن التين: وضبطه بعضهم بكسر الهمزة كأنه ثلاثي من شرق وليس ببين والمشهور أن المعنى لتطلع عليك الشمس. وقيل معناه أضىء يا جبل وليس ببين أيضًا، وثبير بفتح المثلثة وكسر الموحدة جبل معروف هناك وهو على يسار الذاهب إلى منى وهو أعظم جبال مكة عرف برجل من هذيل اسمه ثبير دفن فيه. زاد أبو الوليد عن شعبة كيما نغير، أخرجه الإسماعيلي ومثله لابن ماجه عن أبي إسحاق، وللطبري عن أبي إسحاق أشرق ثبير لعلنا نغير. قال الطبري: معناه كي ما ندفع للنحر وهو من قولهم أغار الفرس إذا أسرع في عدوه قال ابن التين: وضبطه بعضهم بسكون الراء في ثبير، وفي نغير لإرادة السجع. وقوله ثم أفاض قبل أن تطلع الشمس الإفاضة الدفعة قاله الأصمعي، ومنه أفاض القوم في الحديث إذا دفعوا فيه، ويحتمل أن يكون فاعل أفاض عمر فيكون انتهاء حديثه ما قبل هذا، ويحتمل أن يكون فاعل أفاض النبي -صلى الله عليه وسلم- لعطفه على قوله خالفهم، وهذا هو المعتمد. وفي رواية أبي داود الطيالسي عن شعبة عند الترمذي فأفاض، وفي رواية الثوري فخالفهم النبي -صلى الله عليه وسلم- فأفاض، وللطبري عن أبي إسحاق بسنده كان المشركون لا ينفرون حتى تطلع الشمس وأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كره ذلك فنفر قبل طلوع الشمس وله من رواية إسرائيل فدفع لقدر صلاة القوم المسفرين لصلاة الغداة، وأوضح من ذلك ما في حديث جابر الطويل عند مسلم،

رجاله خمسة

ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعا الله تعالى وكبره وهلله ووحده فلم يزل واقفًا حتى أسفر جدًا فدفع قبل أن تطلع الشمس وقد تقدم حديث ابن مسعود في ذلك. وصنيع عثمان بما يوافقه. وروى ابن المنذر عن أبي إسحاق قال: سألت عبد الرحمن بن يزيد متى دفع عبد الله من جمع قال: كانصراف القوم المسفرين من صلاة الغداة. وروى الطبري عن علي رضي الله تعالى عنه قال: لما أصبح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمزدلفة غدا فوقف على قزح وأردف الفضل ثم قال: هذا الموقف وكل المزدلفة موقف حتى إذا أسفر دفع. وأصله في الترمذي دون قوله حتى إذا أسفر، ولابن خزيمة عن ابن عباس كان أهل الجاهلية يقفون بالمزدلفة حتى إذا طلعت الشمس فكانت على رؤوس الجبال كأنها العمام على رؤوس الرِّجال دفعوا، فدفع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين أسفر كل شيء قبل أن تطلع الشمس. وللبيهقي عن المسور بن مخرمة نحوه، وفي هذا الحديث فضل الدفع من الموقف بالمزدلفة عند الإسفار، وقد تقدم بيان الاختلاف فيمن دفع قبل الفجر عند حديث أسماء الماضي قبل باب. ونقل الطبري الإجماع على أن من لم يقف فيه حتى طلعت الشمس فإنه الوقوف، قال ابن المنذر: وكان الشافعي وجمهور أهل العلم يقولون بظاهر هذه الأخبار. قلت ظاهر الأخبار الدفع عند الإسفار، فما فيها واحد قال على الدفع ليلًا الذي هو مذهب الشافعي كما مرَّ، وكان مالكًا يرى أن يدفع عند الإسفار، واحتج له بعض أصحابه بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يعجل الصلاة مغلسًا إلا ليدفع قبل الشمس فكل من بعد دفعه من طلوع الشمس كان أولى. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ حجاج بن منه الذي الثامن والأربعين من الإِيمان، ومرَّ شعبة في الثالث منه ومرَّ أبو إسحاق في الثالث والثلاثين منه، ومرَّ عمرو بن ميمون الجزري في الخامس والتسعين من الوضوء، ومرَّ عمر في الأول من بدء الوحي، وهذا الحديث رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه فقول بعضهم إنه من أفراد، غير صحيح. ثم قال المصنف:

باب التلبية والتكبير غداة النحر حتى يرمي الجمرة والارتداف في السير

باب التلبية والتكبير غداة النحر حتى يرمي الجمرة والارتداف في السير في رواية الكشميهني حين يرمي وهو أصوب، قال الكرماني: ليس في الحديث ذكر التكبير، فيحتمل أن يكون أشار إلى الذكر الذي في خلال التلبية، أو أراد أن يستدل على أن التكبير غير مشروع حينئذٍ؛ لأن قوله: لم يزل يدل على إدامة التلبية وإدامتها تدل على ترك ما عداها أو هو مختصر من حديث فيه ذكر التكبير والمعتمد أنه أشار إلى ما ورد في بعض طرقه كما جرت به عادته، فعند أحمد وابن أبي شيبة والطحاوي عن مجاهد عن أبي معمر عن عبد الله خرجت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فما ترك التلبية حتى رمى جمرة العقبة، إلا أن يخلطها بتكبير. الحديث الخامس والستون والمائة حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَرْدَفَ الْفَضْلَ، فَأَخْبَرَ الْفَضْلُ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى الْجَمْرَةَ. قوله: "فأخبر الفضل" في رواية مسلم عن عطاء: فأخبرني ابن عباس أن الفضل أخبره، وهذا الحديث والذي بعده قد مرَّ استيفاء الكلام عليهما في باب الركوب والارتداف في الحج. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ أبو عاصم في أثر بعد الرابع من العلم، ومرَّ عطاء في التاسع والثلاثين منه، ومرَّ ابن جريج في الثالث من الحيض، ومرَّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي، ومرَّ أخوه الفضل في الثامن عشر من الجماعة. الحديث السادس والستون والمائة حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ يُونُسَ الأَيْلِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ رضي الله عنهما كَانَ رِدْفَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ، ثُمَّ أَرْدَفَ الْفَضْلَ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى قَالَ: فَكِلاَهُمَا قَالاَ: لَمْ يَزَلِ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ.

رجاله تسعة

والحديث قد مرَّ في الذي قبله محل استيفاء الكلام عليه. رجاله تسعة: قد مرّوا إلا زهير، مرَّ وهب بن جرير في الخامس والأربعين من الوضوء ومرَّ أبوه جرير بن حازم في السبعين من استقبال القبلة، ومرَّ يونس بن يزيد في متابعة بعد الرابع من بدء الوحي، ومرَّ الزهري في الثالث منه، ومرَّ عبيد الله المسعودي في السادس منه، ومرَّ محل ابن عباس وأخيه الفضل في الذي قبله، والباقي زهير بن حرب بن شداد الحرشي أبو خيثمة النسائي نزيل بغداد مولى بني الحريش، بن كعب وكان اسم جده أشتال فعرب شدادًا، قال ابن معين: ثقة، وقال مرة: يكفي قبيلته. وقال أبو حاتم: صدوق، وقال يعقوب بن شيبة: زهير أثبت من عبد الله بن أبي شيبة، وكان في عبد الله تهاون بالحديث لم يكن يفصل هذه الأشياء، يعني الألفاظ، وقال جعفر الفريابي قلت لابن نمير أيهما أحب إليك؟ فقال أبو خيثمة: وجعل يطريه ويضع من أبي بكر، وقال أبو داود: ما كان أحسن علمه، وقال النسائي: ثقة مأمون، وقال الحسين بن فهم: ثقة، وقال أبو بكر الخطيب: كان ثقة ثبتًا حافظًا متقنًا، وقال ابن قانع: كان ثقةً ثبتًا. وقال ابن حبان في الثقات: كان متقنًا ضابطًا من أقران أحمد وابن معين، وقال ابن وضاح: ثقة من الثقات لقيته ببغداد. وقال أبو حاتم: ثقة صدوق، وقال في الزهرة: روى عنه مسلم ألف حديث ومائتي حديث وإحدى وثمانين حديثًا روى عن عبد الله بن إدريس وابن عيينة، وحفص بن غياث، وغيرهم. وروى عنه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه، وغيرهم، ولد سنة ستين ومائة، ومات ليلة الخميس لسبع خلون من شعبان سنة اثنتين أو أربع وثلاثين ومائتين وهو ابن أربع وسبعين سنة. والحرشي بمهملتين مفتوحة في نسبةً بنسبته إلى حريش بن كعب نسبته ولاء كما مرَّ، والحريش هذا من قيس عيلان، وهو بفتح الحاء على ظاهر القاموس فيه رواية التابعي عن التابعي وثلاثة من الصحابة. ثم قال المصنف:

باب

باب {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} كذا في رواية أبي ذر وأبي الوقت، وساق في طريق كريمة ما بين قوله: الهدي وقوله: حاضري المسجد الحرام وغرض المصنف بذلك تفسير الهدي وذلك لأنه لما انتهى في صفة الحج إلى الوصول إلى منى أراد أن يذكر أحكام الهدي والنحر لأن ذلك يكون غالبًا بمنى، وإنما كان غرضه هنا تفسير الهدي؛ لأن غيره مما اشتملت عليه الآية الكريمة مذكور في غير هذا الباب، والمراد بقوله: فمن تمتع في حال الأمن لقوله: فإذا أمنتم فمن تمتع وفيه حجة للجمهور في أن التمتع لا يختص بالمحصر، وروى الطبري عن عروة قال: في قوله: فإذا أمنتم أي: من الوجع ونحوه، قال الطبري والأشبه بتأويل الآية أن المراد بها الأمن من الخوف لأنها نزلت وهم خائفون بالحديبية فبينت ما يعملون حال الحصر وما يعملون حال الأمن. الحديث السابع والستون والمائة حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا النَّضْرُ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا أَبُو جَمْرَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنِ الْمُتْعَةِ فَأَمَرَنِي بِهَا، وَسَأَلْتُهُ عَنِ الْهَدْي فَقَالَ: فِيهَا جَزُورٌ أَوْ بَقَرَةٌ أَوْ شَاةٌ أَوْ شِرْكٌ فِي دَمٍ قَالَ: وَكَأَنَّ نَاسًا كَرِهُوهَا، فَنِمْتُ فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ إِنْسَانًا يُنَادِي حَجٌّ مَبْرُورٌ، وَمُتْعَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ. فَأَتَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فَحَدَّثْتُهُ فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ سُنَّةُ أَبِي الْقَاسِمِ -صلى الله عليه وسلم-. قد تقدم طريق لهذا الحديث في آخر باب التمتع والقِران وقد تقدم الكلام عليه هناك والغرض منه هنا بيان الهدي. وقوله سألته عن الهدي فقال فيها: أي: في المتعة يعني يجب على من تمتع دم، وقوله جزور بفتح الجيم وضم الزاي أي: بعير ذكرًا كان أو أنثى وهو مأخوذ من الجزر أي: القطع ولفظها مؤنث تقول هذه جزور. وقوله: "أو شرك" بكسر الشين المعجمة وسكون الراء أي: مشاركة في دم أي: حيث يجزىء الشيء الواحد عن جماعة، وهذا موافق لما رواه مسلم عن جابر قال: خرجنا مع

رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مهلين بالحج فأمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة، وبهذا قال الشافعي والجمهور سواء كان الهدي تطوعًا أو واجبًا، وسواء كانوا كلهم متقربين بذلك أو كان بعضهم يريد التقرب بذلك، وبعضهم يريد اللحم. وعن أبي حنيفة يشترط في الاشتراك أن يكونوا كلهم متقربين بالهدي، وعن زفر مثله بزيادة أن تكون أسبابهم واحدة، وعن داود وبعض المالكية يجوز في هدي التطوع دون الواجب، وعن مالك لا يجوز مطلقًا. واحتج له إسماعيل القاضي بأن حديث جابر إنما كان بالحديبية حيث كانوا محصرين. وأما حديث ابن عباس فخالف أبا جمرة عنه ثقات أصحابه فرووا عنه أن ما استيسر من الهدي شاة ثم ساق ذلك بأسانيد صحيحة عنهم عن ابن عباس قال: وقد روى ليث عن طاووس عن ابن عباس مثل رواية أبي جمرة وليث ضعيف. قال: وحدَّثنا سليمان عن حماد بن زيد عن أيوب عن محمد بن سيرين عن ابن عباس قال: ما كنت أرى أن دمًا واحدًا يقضي عن أكثر من واحد. قال في الفتح: ليس بين رواية أبي جمرة ورواية غيره منافاة؛ لأنه زاد عليهم بذكر الاشتراك ووافقهم على ذكر الشاة، وإنما اقتصر ابن عباس على الشاة لقصد الرد على من زعم اختصاص الهدي بالإبل والبقر وذلك واضح فيما نذكره بعد هذا. وأما رواية محمد عن ابن عباس فمنقطعة ومع ذلك لو كانت متصلة احتمل أن يكون ابن عباس أخبر أنه كان لا يرى ذلك من جهة الاجتهاد حتى صح عنده النقل بصحة الاشتراك فأفتى به أبا جمرة، وبهذا تجتمع الأخبار وهو أولى من الطعن في رواية من أجمع العلماء على توثيقه والاحتجاج بروايته وهو أبو جمرة الضبعي. وقد روى عن ابن عمر أنه كان لا يرى التشريك ثم رجع عن ذلك لما بلغته السنة. قال أحمد: حدَّثنا عبد الوهاب، عن مجاليد، عن الشعبي قال: سألت ابن عمر قلت: الجزور والبقرة تجزىء عن سبعة؟ قال: يا شعبي ولها سبعة أنفس قال: قلت: فإن أصحاب محمد يزعمون أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سن الجزور عن سبعة والبقرة عن سبعة قال: فقال ابن عمر: لرجل أكذلك يا فلان قال: نعم، قال: ما شعرت بهذا، وأما تأويل إسماعيل لحديث جابر بأنه كان بالحديبية فلا يدفع الاحتجاج بالحديث، بل روى مسلم عن جابر في أثناء حديث قال: فأمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أحللنا أن نهدي ونجمع النفر منا في الهدية، وهذا يدل على صحة أصل الاشتراك واتفق من قال بالاشتراك على أنه لا يكون في أكثر من سبعة إلا إحدى الروايتين عن سعيد بن المسيب فقال: تجزيء عن عشرة وبه قال إسحاق بن راهويه وابن خزيمة من الشافعية، واحتج لذلك في صحيحه وقواه واحتج له ابن خزيمة بحديث رافع بن خديج أنه عليه الصلاة والسلام قسم فعدل عشرًا من الغنم ببعير. الحديث، وهو في

رجاله خمسة

الصحيحين، وأجمعوا على أن الشاة لا يصح الإشتراك فيها، وقوله: أو شاة هو قول الجمهور، ورواه الطبري وابن أبي حاتم بأسانيد صحيحة عنهم، ورويا بإسناد قوي عن القاسم بن محمد عن عائشة وابن عمر أنهما كانا لا يريان ما استيسر من الهدي إلا من الإبل والبقر، ووافقهما القاسم وطائفة، قال إسماعيل القاضي في الأحكام لا أظنهم ذهبوا إلى ذلك لقوله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّه} فذهبوا إلى تخصيص ما يقع عليه اسم البدن. قال: ويرد هذا قوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ}. وأجمع المسلمون على أن في الظبي شاة فوقع عليها اسم هدي، وقد احتج بذلك ابن عباس فأخرج الطبري بإسناد صحيح عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: قال ابن عباس: الهدي شاة فقيل له في ذلك فقال: أنا أقرأ عليكم من كتاب الله ما تقوون به ما في الظبي قالوا شاة، قال: فإن الله تعالى يقول: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} وقوله متعة متقبلة قال الإسماعيلي وغيره: تفرد النضر بقوله متعة ولا أعلم أحدًا من أصحاب شعبة رواه عنه إلا قال عمرة وقال أبو نعيم قال: أصحاب شعبة كلهم عمرة إلا النضر فقال: متعة، وقد أشار المصنف إلى هذا بما علقه بعده. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ إسحاق بن منصور الكوسيح في الخامس والثلاثين من الإيمان، ومرَّ شعبة في الثالث منه، ومرَّ أبو جمرة في السادس والأربعين منه، ومرَّ النضر بن شميل في متابعة بعد السابع عشر من الوضوء، ومرَّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي. ثم قال: وقال آدم ووهب بن جرير وغندر: عن شعبة عمرة متقبلة وحج مبرور وقد تقدم في أوائل الحج معنى حج مبرور، أما طريق آدم فوصلها البخاري في باب التمتع والقران عنه، وأما طريق وهب فوصلها البيهقي، وأما طريق غندر فوصلها أحمد وأخرجها مسلم والرجال الأربعة قد مرّوا: مرَّ آدم وشعبة في الثالث من الإيمان، ومرَّ غندر في الخامس والعشرين، ومرَّ وهب بن جرير في الخامس والأربعين من الوضوء. ثم قال المصنف:

باب ركوب البدن

باب ركوب البدن لقوله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} قال مجاهد: سميت البدن لبدنها. والقانع: السائل. والمعتر الذي يعتر بالبدن، من غني أو فقير، وشعائر استعظام البدن واستحسانها والعتيق عتقه من الجبابرة، ويقال وجبت سقطت إلى الأرض، ومنه وجبت الشمس. هكذا في رواية أبي ذر والوقت وساق في رواية كريمة الآيتين واستدل المصنف لجواز ركوب البدن بعموم قوله تعالى: {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} وأشار إلى قول إبراهيم النخعي لكم فيها خير من شاء ركب ومن شاء حلب، أخرجه ابن أبي حاتم وغيره عنه بإسناد جيد والبدن بسكون الدال في قراءة الجمهور، وقرأ الأعرج وهي رواية عن عاصم بضمها وأصلها من الإبل وألحقت بها البقر شرعًا. وقوله: قال مجاهد: سميت البدن لبدنها، أي: بفتح الموحدة والمهملة للأكثر وبضمها وسكون الدال لبعضهم، وفي رواية الكشميهني لبدانتها أي: سمنها، وكذا أخرجه عبد بن حميد عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: إنما سميت البدن من قبل السمانة ومجاهد مرَّ في الإيمان قبل ذكر حديث منه وقوله والقانع: السائل، والمعتر الذي يعتر بالبدن من غني أو فقير، أي: يطيف بها متعرضًا لها، وهذا التعليق أخرجه عبد بن حميد عن عثمان ابن الأسود. قلت: لمجاهد ما القانع؟ قال: جارك الذي ينتظر ما دخل بيتك، والمعتر الذي يعتر ببابك ويريك نفسه ولا يسألك شيئًا. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد أيضًا: القانع هو الطامع، وقال مرة: هو السائل، ومن طريق الثوري، عن سعيد بن جبير، والمعتر الذي يعتريك أي: يزورك ولا يسألك وعن ابن جريج، عن مجاهد المعتر، الذي يعتر بالبدن من غني أو فقير، وقال الخليل: القنوع المتذلل للمسألة قنع إليه مال وخضع وهو السائل والمعتر الذي يعترض ولا يسأل، ويقال قنع بكسر النون إذا رضي وقنع بفتحها إذا سأل، وقرأ الحسن المعتري وهو بمعنى المعتر وقوله وشعائر الله استعظام البدن واستحسانها. أخرجه عبد بن حميد أيضًا عن مجاهد في قوله: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} قال: استعظام البدن واستحسانها

الحديث الثامن والستون والمائة

واستمانها. ورواه ابن أبي شيبة عن مجاهد عن ابن عباس نحوه، لكن فيه ابن أبي ليلى وهو سيء الحفظ. وقوله: والعتيق عتقه من الجبابرة أخرجه عبد بن حميد أيضًا عن مجاهد قال: إنما سمى العتيق؛ لأنَّه اعتق من الجبابرة، وقد جاء هذا مرفوعًا أخرجه البزار عن عبد الله بن الزبير وقوله: ويقال وجبت سقطت إلى الأرض، ومنه وجبت الشمس وهو قول ابن عباس أخرجه ابن أبي حاتم عنه قال: فإذا وجبت أي سقطت، وكذا أخرجه الطبري من طريقين عن مجاهد. الحديث الثامن والستون والمائة حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَأَى رَجُلاً يَسُوقُ بَدَنَةً فَقَالَ ارْكَبْهَا. فَقَالَ إِنَّهَا بَدَنَةٌ. فَقَالَ ارْكَبْهَا. قَالَ إِنَّهَا بَدَنَةٌ. قَالَ: ارْكَبْهَا وَيْلَكَ فِي الثَّالِثَةِ أَوْ فِي الثَّانِيَةِ. قوله عن الأعرج لم تختلف الرواة عن مالك عن أبي الزناد فيه ورواه ابن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أو عن أبي الزناد عن موسى بن أبي عثمان عن أبيه عن أبي هريرة أخرجه سعيد بن منصور عنه. ورواه الثوري عن أبي الزناد بالإسنادين مفرقًا وقوله رأى رجلًا قال: في الفتح لم أقف على اسمه بعد طول البحث. وقوله: يسوق بدنة كذا في معظم الأحاديث، ولمسلم عن أنس مرَّ ببدنة أو هدية، ولأبي عوانة أو هدي وهو مما يوضح أنه ليس المراد بالبدنة مجرد مدلولها اللغوي. ولمسلم عن أبي الزناد بينما رجل يسوق بدنة مقلدة وسيأتي للمصنف في باب تقليد البدن أنها كانت مقلدة فعلًا. وقوله فقال: اركبها زاد النسائي عن قتادة والجوزقي عن ثابت كلاهما عن أنس وقد جهده المشي، ولأبي يعلى عن الحسن عن أنس حافيًا، لكنها ضعيفة، وقوله ويلك في الثانية أو في الثالثة وعند مسلم من رواية همام ويلك اركبها ويلك اركبها. ولأحمد عن أبي الزناد وعن عجلان عن أبي هريرة قال: اركبها ويحك قال: إنها بدنة قال: اركبها ويحك زاد أبو يعلى عن الحسن فركبها وقد مرَّ أنها ضعيفة، لكن سياق المصنف عن عكرمة عن أبي هريرة فلقد رأيته راكبها يساير النبي -صلى الله عليه وسلم- والنعل في عنقها وتبين من هذه الطرق أنه أطلق البدنة على الواحدة من الإبل المهداة إلى البيت الحرام، ولو كان المراد مدلولها اللغوي لم يحصل الجواب بقوله إنها بدنة؛ لأن كونها من الإبل معلوم، فالظاهر أن الرجل ظن أنه خفي عليه كونها هديًا، فلذلك قال إنها بدنة، والحق أن ذلك لم يخف على النبي عليه الصلاة والسلام لكونها كانت مقلدة، ولهذا قال: له لما زاد في مراجعته ويلك، وقوله له: ويلك قال القرطبي: قاله له: تأديبًا لأجل مراجعته له مع عدم خفاء الحال عليه، وبهذا جزم ابن عبد البر وابن العربي وبالغ حتى قال: الويل لمن راجع في ذلك بعد هذا قال ولولا أنه

عليه الصلاة والسلام اشترط على ربه ما اشترط لهلك ذلك الرجل لا محالة. قال القرطبي: ويحتمل أن يكون فهم منه أنه يترك ركوبها على عادة الجاهلية في السائبة وغيرها فزجره عن ذلك فعلى الحالتين هي إنشاء ورجحه عياض وغيره قالوا والأمر هنا، وإن قلنا إنه للإرشاد، ولكنه استحق الذم عن امتثال الأمر والذي يظهر أنه ما ترك الامتثال عنادًا ويحتمل أن يكون ظن أنه يلزمه غرم بركوبها أو إثم وأن الإذن الصادر له بركوبها إنما هو للشفقة عليه فتوقف فلما أغلظ له بادر إلى الامتثال، وقيل لأنَّه كان أشرف على هلكة من الجهد وويل كلمة تقال لمن وقع في هلكة فالمعنى أشرفت على الهلكة فاركب فعلى هذا فهي أخبار. وقيل: هي كلمة تدعم بها العرب كلامها ولا تقصد معناها كقولهم لا أم لك، ويقويه ما تقدم في بعض الروايات بلفظ ويحك بدل ويلك، قال الهروي: ويل تقال لمن وقع في هلكة يستحقها، وويح لمن وقع في هلكة لا يستحقها وأستدل بالحديث على جواز ركوب الهدي سواء كان واجبًا أو متطوعًا به لكونه عليه الصلاة والسلام لم يستفصل صاحب الهدي عن ذلك، فدل على أن الحكم لا يختلف بذلك، وأصرح من هذا ما أخرجه أحمد عن علي رضي الله تعالى عنه أنه سئل أهل يركب الرجل هديه؟ فقال: لا بأس، قد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يمر بالرجال يمشون فيأمرهم يركبون هديه أي: هدي النبي عليه الصلاة والسلام. إسناده صالح وبالجواز مطلقًا قال عروة بن الزبير ونسبه ابن المنذر لأحمد وإسحاق وبه قال أهل الظاهر وهو الذي جزم به النووي في الروضة تبعًا لأصله في الضحايا ونقله في شرح المهذب عن القفال والماوردي ونقل فيه عن أبي حامد والبنديجي وغيرهما تقييده بالحاجة وقال الرباني: تجويزه بغير حاجة يخالف النص وهو الذي حكاه الترمذي عن الشافعي وأحمد وإسحاق وأطلق ابن عبد البر كراهة ركوبها بغير حاجة عن مالك والشافعي وأبي حنيفة وأكثر الفقهاء وقيده صاحب الهداية من الحنفية بالاضطرار إلى ذلك وهو المنقول عن الشعبي عند ابن أبي شيبة ولفظه لا يركب الهدي إلا من لا يجد منه أو لفظ الشافعي الذي نقله ابن المنذر وترجم له البيهقي بركب إذا اضطرر كوبًا غير فادح. وقال ابن العربي: عن مالك يركب للضرورة فإذا استراح نزل ومقتضى من قيده بالضرورة أن من انتهت ضرورته لا يعود إلى ركوبها إلا من ضرورة أخرى، والدليل على اعتبار هذه القيود الثلاثة وهي الاضطرار والركوب بالمعروف وانتهاء الراكب بانتهاء الضرورة ما رواه مسلم عن جابر مرفوعًا اركبها بالمعروف إذا الجئت إليها حتى تجد ظهرًا، فإن مفهومه أنه إذا وجد غيرها تركها. وروى سعيد بن منصور عن إبراهيم النخعي قال: يركبها إذا أعيا قدر ما يستريح على ظهرها. وفي المسألة مذهب خامس وهو المنع مطلقًا. نقله ابن العربي عن أبي حنيفة، وشنع

رجاله خمسة

عليه، ولكن مذهبه هو ما مرَّ عن صاحب الهداية من تقييد الركوب بالاضطرار -إلا أنه قال: ومع ذلك فإنه يضمن ما نقص منها بركوبه وضمان النقص وافق عليه الشافعية في الهدي الواجب كالنذر. ومذهب سادس وهو وجوب ذلك نقله ابن عبد البر عن بعض أهل الظاهر تمسكًا بظاهر الأمر ولمخالفة ما كانوا عليه في الجاهلية من البحيرة والسائبة، ورده بأن الذين ساقوا الهدي في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانوا كثيرًا ولم يأمر أحدًا منهم بذلك، وفيه نظر لما تقدم من حديث علي وله شاهد مرسل عند سعيد بن منصور بإسناد صحيح، رواه أبو داود في المراسيل عن عطاء كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يأمر بالبدنة إذا احتاج إليها سيدها أن يحمل عليها ويركبها غير منهكها، فإن نتجت حمل عليها ولدها ولا يمتنع القول بوجوبه إذا تعين طريقًا إلى إنقاذ مهجة إنسان من الهلاك واختلف المجيزون هل يحمل عليها متاعه فمنعه مالك وأجازه الجمهور، وهل يحمل عليها غيره أجازه الجمهور أيضًا بالتفصيل المتقدم. ونقل عياض الإجماع على أنه لا يؤجرها، وقال الطحاوي: في اختلاف العلماء قال أصحابنا والشافعي: إن احتلب منها شيئًا تصدق به فإن أكله تصدق بثمنه ويركب إذا احتاج فإن نقصه ذلك ضمن وقال مالك: لا يشرب من لبنه، فإن شرب لم يغرم ولا يركب إلا عند الحاجة، فإن ركب لم يغرم. وقال الثوري: لا يركب إلا إذا اضطر. وفي الحديث تكرير الفتوى والندب إلى المبادرة إلى امتثال الأمر وزجر من لم يبادر إلى ذلك وتوبيخه وجواز مسايرة الكبار في السفر وأن الكبير إذا رأى مصلحة للصغير لا يأنف عن إرشاده إليها واستنبط منه المصنف جواز انتفاع الواقف بوقفه وهو موافق للجمهور في الأوقاف العامة، أما الخاصة فالوقف على النفس لا يصح عند المالكية والشافعية ومن وافقهم. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ عبد الله بن يوسف ومالك في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ أبو الزناد والأعرج في السابع من الإيمان، ومرَّ أبو هريرة في الثاني منه. أخرجه البخاري أيضًا في الوصايا وفي الأدب. ومسلم في الحج وكذا أبو داود والنسائي. وفي الحديث لفظ رجل لم يسم. الحديث التاسع والستون والمائة حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، وَشُعْبَةُ بن حجاج قَالاَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- رَأَى رَجُلاً يَسُوقُ بَدَنَةً، فَقَالَ: ارْكَبْهَا. قَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ. قَالَ: ارْكَبْهَا. قَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ. قَالَ: ارْكَبْهَا ثَلاَثًا. قوله عن أنس في رواية علي بن الجعد عند الإسماعيلي سمعت أنس بن مالك وقوله:

رجاله خمسة

قال: اركبها ثلاثًا كذا في رواية أبي ذر مختصرًا، وفي رواية غيره قال: إنها بدنة قال: اركبها، قال: إنها بدنة قال: اركبها ثلاثًا وهذا أخرجه أبو مسلم الكجي في السنن عن مسلم بن إبراهيم شيخ البخاري وأخرجه الإسماعيلي عن مسلم كذلك، لكن قال: في آخره ويلك بدل ثلاثًا. وللترمذي عن قتادة فقال له: في الثالثة أو الرابعة اركبها ويحك أو ويلك وللنسائي عن قتادة قال في الرابعة: اركبها. رجاله خمسة: مرَّ مسلم بن إبراهيم وهشام الدستوائي في السابع والثلاثين من الإيمان، ومرَّ شعبة في الثالث منه ومرَّ قتادة وأنس في السادس منه، وقد مرت مباحث هذا الحديث في الذي قبله. ثم قال المصنف:

باب من ساق البدن معه

باب من ساق البدن معه أي: من الحل إلى الحرم قال المهلب: أشار المصنف إلى أن يعرف أن السنة في الهدي أن يساق من الحل إلى الحرم فإن اشتراه من الحرم خرج به إذا حج إلى عرفة وهو مالك قال: فإن لم يفعل فعليه البدل وهو قول الليث وقال الجمهور: إن وقف به بعرفة فحسن وإلا فلابدل عليه وقال أبو حنيفة: ليس بسنة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما ساق الهدي من الحل، لأن مسكنه كان خارج الحرم وهذا كله في الإبل، وأما البقر فقد يضعف عن ذلك، والغنم أضعف ومن ثم قال مالك: لا تساق إلا من عرفة أو ما قرب منها؛ لأنها تضعف عن قطع طول المسافة. الحديث السبعون والمائة حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، وَأَهْدَى فَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَبَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ، فَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، فَكَانَ مِنَ النَّاسِ مَنْ أَهْدَى فَسَاقَ الْهَدْيَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُهْدِ، فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مَكَّةَ، قَالَ لِلنَّاسِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى فَإِنَّهُ لاَ يَحِلُّ لِشَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَهْدَى فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ، وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلْيُقَصِّرْ، وَلْيَحْلِلْ، ثُمَّ لِيُهِلَّ بِالْحَجِّ، (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا فَلْيَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ). فَطَافَ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ، وَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ أَوَّلَ شَيْءٍ، ثُمَّ خَبَّ ثَلاَثَةَ أَطْوَافٍ، وَمَشَى أَرْبَعًا، فَرَكَعَ حِينَ قَضَى طَوَافَهُ بِالْبَيْتِ عِنْدَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَانْصَرَفَ فَأَتَى الصَّفَا فَطَافَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعَةَ أَطْوَافٍ، ثُمَّ لَمْ يَحْلِلْ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى قَضَى حَجَّهُ وَنَحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ، وَأَفَاضَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ، وَفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَنْ أَهْدَى وَسَاقَ الْهَدْىَ مِنَ النَّاسِ. وَعَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَخْبَرَتْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي تَمَتُّعِهِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَهُ بِمِثْلِ الَّذِي أَخْبَرَنِي سَالِمٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-.

قوله: عن عقيل في رواية مسلم حدَّثني عقيل وقوله: تمتع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالعمرة إلى الحج قال المهلب: معناه أمر بذلك كما تقول رجم ولم يرجم لأنه كان ينكر على أنس قوله إن قرن ويقول: بل كان مفردًا، وأما قوله وبدأ فأهل بعمرة فمعناه أمرهم بالتمتع وهو أن يهلوا بالعمرة أولًا ويقدموها قبل الحج. قال: ولابد من هذا التأويل لدفع التناقض عن ابن عمر ولم يتعين هذا التأويل المتعسف، وقد قال ابن المنير إن حمل قوله تمتع على معنى أمر من أبعد التأويلات والاستشهاد عليه بقوله رجم، وإنما أمر بالرجم من أوهن الاستشهادات؛ لأن الرجم من وظيفة الإِمام، والذي يتولاه إنما يتولاه نيابة عنه. وأما عمل الحج من إفراد وقران وتمتع فإنه وظيفة كل أحد عن نفسه ثم أجاز تأويلًا آخر وهو أن الراوي عهد أن الناس لا يفعلون إلا كفعله لاسيما مع قوله خذوا عني مناسككم، فلما تحقق أن الناس تمتعوا ظنَّ أنه عليه الصلاة والسلام تمتع فأطلق ذلك ولم يتعين هذا أيضًا، بل يحتمل أن يكون معنى قوله تمتع محمولًا على مدلوله اللغوي وهو الانتفاع بإسقاط عمل العمرة والخروج إلى ميقاتها وغيرها، بل قال النووي: إن هذا هو المتعين قال: وقوله: بالعمرة إلى الحج أي: بإدخال العمرة على الحج. وقد مرَّ في باب التمتع والقران تقرير هذا التأويل وإنما أشكل هنا قوله بدأ فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج لأن الجمع بين الأحاديث الكثيرة في هذا الباب استقر على أنه بدأ أولًا بالحج، ثم أدخل عليه العمرة كما تقدم وهذا بالعكس، وأجيب عنه بأن المراد به صورة الإهلال أي: لما أدخل العمرة على الحج لبى بهما فقال: لبيك بعمرة وحجة معًا، وهذا مطابق لحديث أنس المتقدم، لكن قد أنكر ابن عمر ذلك على أنس فيحتمل أن يحمل إنكار ابن عمر عليه كونه أطلق أنه عليه الصلاة والسلام جمع بينهما، أي: في ابتداء الأمر ويعين هذا التأويل قوله في نفس الحديث وتمتع الناس إلخ. فإن الذين تمتعوا إنما بدأوا بالحج، لكن فسخوا حجهم إلى العمرة حتى حلوا بعد ذلك بمكة، ثم حجوا من عامهم وقوله فساق معه الهدي من ذي الحليفة أي: من الميقات وفيه الندب إلى سوق الهدي من المواقيت، ومن الأماكن البعيدة وهو من السنن التي أغفلها كثير من الناس. وقوله فإنه لا يحل من شيء تقدم بيانه في حديث حفصة في باب التمتع والقران، وقوله ويقصر كذا لأبي ذر، وعند الأكثر فليقصر وكذا في رواية مسلم قال النووي: معناه أنه يفعل الطواف والسعي والتقصير ويصير حلالًا، وهذا دليل على أن الحلق أو التقصير نسك وهو الصحيح، وقيل استباحة محظور قال: وإنما أمره بالتقصير دون الحلق مع أن الحلق أفضل ليبقى له شعر يحلقه في الحج، وقوله وليحلل بكسر اللام التي قبل الأخيرة مجزوم هو أمر معناه الخبر، أي: قد صار حلالًا فله فعل كل ما كان محظورًا عليه في الإحرام ويحتمل أن يكون أمرًا على الإباحة لفعل ما كان عليه حرامًا بعد الإحرام.

وقوله: "ثم ليهل بالحج" أي: يحرم وقت خروجه إلى عرفة، ولهذا أتى بثم الدالة على التراخي فلم يرد أنه يهل بالحج عقب إحلاله من العمرة. وقوله: "فمن لم يجد هديًا فليصم ثلاثة أيام في الحج" أي: لم يجد الهدي بذلك المكان ويتحقق ذلك بأن يعدم الهدي أو يعدم ثمنه حينئذٍ أو يجد ثمنه لكن يحتاج إليه لأهم من ذلك أو يجده لكن يمتنع صاحبه من بيعه أو يمتنع من بيعه إلا بغلاء فينقل إلى الصوم كما هو نص القرآن والمراد بقوله: في الحج أي: بعد الإحرام به، وقال النووي: هذا هو الأفضل، فإن صامها قبل الإهلال في الحج أجزأه على الصحيح، وأما قبل التحلل من العمرة فلا على الصحيح قاله مالك وجوزه الثوري وأصحاب الرأي وعلى الأول فمن استحب صيام عرفة بعرفة قال: ويحرم يوم السابع ليصوم السابع والثامن والتاسع، وإلا فيحرم يوم السادس ليفطر بعرفة، فإن فاته الصوم قضاه، وقيل: يسقط ويستقر الهدي في ذمته وهو قول الحنفية، قالوا: لا يصوم الثلاثة ولا السبعة بعد يوم النحر وعند مالك يصوم أيام التشريق وفي صومها قولان عند الشافعية أظهرها لا يجوز. وقال النووي: وأصحهما من حيث الدليل الجواز وقوله وسبعة إذا رجع إلى أهله أي: وطنه مكة أو غيرها في مذهب مالك وأحمد، وأصح قولي الشافعي أو معنى رجعتم فرغتم من أعمال الحج، وهو قول الشافعي الثاني، ومذهب أبي حنيفة قائلين إن الفراغ سبب الرجوع، فأطلق السبب على المسبب، فلو صام السبعة بمكة جاز عند الحنفية ولا يجوز عند غيرهم إلا أن ينوي الإقامة بها. وقوله: ثم خب تقدم الكلام عليه في باب استلام الحجر الأسود، وتقدم الكلام على السعي في باب الصفا والمروة. وقوله: ثم سلم فانصرف فأتى الصفا ظاهره أنه لم يتخلل بينهما عمل آخر، لكن في حديث جابر الطويل في صفة الحج عند مسلم ثم رجع إلى الحجر الأسود فاستلمه ثم خرج من باب الصفا وقوله: ثم حل من كل شيء حرم منه تقدم أن سبب عدم إحلاله هو كونه ساق الهدي وإلا لكان يفسخ الحج إلى العمرة ويتحلل منها كما أمر به أصحابه. وقوله: "وفعل مثل ما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أهدى وساق الهدي من الناس. وقوله: "من أهدى" فاعل قوله وفعل وفيه إشارة إلى عدم خصوصيته عليه الصلاة والسلام بذلك ووقع في رواية أبي الوقت بين قوله: وفعل مثل ما فعل وفاعله الذي هو من أهدى لفظ باب، وقال فيه: عن عرورة عن عائشة إلخ. وهو خطأ شنيع لما فيه من الفصل بين الفعل والفاعل، ويصير الفاعل محذوفًا ووقع هنا في هذا اللفظ اختلاف بين العلماء أعرضت عن ذكره. وقوله: "وعن عروة" أن عائشة رضي الله تعالى عنها أخبرته إلخ. هذا أخرجه مسلم من

رجاله ثمانية

رواية شعيب فساق حديث ابن عمر إلى قوله: من الناس، ثم أعاد الإسناد بعينه إلى عائشة، قال: عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في تمتعه بالحج إلى العمرة وتمتع الناس معه بمثل الذي أخبرني سالم عن عبد الله، وقد تعقب المهلب قول الزهري بمثل الذي أخبرني سالم فقال: يعني مثله في الوهم؛ لأن أحاديث عائشة كلها شاهدة بأنه حج مفردًا، قال في الفتح: وليس وهمًا إذ لا مانع من الجمع بين الروايتين بمثل ما جمع به بين المختلف عن ابن عمر بأن يكون المراد بالإفراد في حديثها، البداءة بالحج وبالتمتع بالعمرة إدخالها على الحج وهو أولى من توهيم جيل من أجيال الحفظ، واستدل به على أن التحلل لا يقع بمجرد طواف القدوم خلافًا لابن عباس وهو واضح، وقد تقدم البحث فيه وفيه مشروعية طواف القدوم للقارن والرمل فيه إن عقبه بالسعي وتسمية السعي طوافًا وطواف الإفاضة يوم النحر، واستدل به على أن الحلق ليس بركن، وليس بواضح؛ لأنه لا يلزم من ترك ذكره في هذا الحديث أن لا يكون وقع، بل هو داخل في عموم قوله: حتى قضى حجه. رجاله ثمانية: قد مرّوا: مرت الأربعة: الأول بهذا النسق في الثالث من بدء الوحي، ومرَّ سالم في السابع عشر من الإيمان، ومرَّ أبوه في أوله قبل ذكر حديث منه. فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، ورواته: مصريان وأيلي ومدنيان، ومرَّ عروة وعائشة في الثاني من بدء الوحي. أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي في الحج. ثم قال المصنف:

باب من اشترى الهدي من الطريق

باب من اشترى الهدي من الطريق أي سواء كان في الحل أو الحرم إذ سوقه معه من بلده ليس بشرط، وقال ابن بطال: أراد أن يبين أن مذهب ابن عمر في الهدي أنه ما أدخل من الحل إلى الحرم لأن قُدَيْدًا من الحل ولا يخفى أن في الترجمة أعم من فعل ابن عمر فكيف تكون بيانًا له. الحديث الحادي والسبعون والمائة حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ لأَبِيهِ: أَقِمْ، فَإِنِّي لاَ آمَنُهَا أَنْ تُصَدُّ عَنِ الْبَيْتِ. قَالَ: إِذًا أَفْعَلَ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَقَدْ قَالَ اللَّهُ {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} فَأَنَا أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ عَلَى نَفْسِي الْعُمْرَةَ. فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ، قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْبَيْدَاءِ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَقَالَ مَا شَأْنُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إِلاَّ وَاحِدٌ. ثُمَّ اشْتَرَى الْهَدْيَ مِنْ قُدَيْدٍ، ثُمَّ قَدِمَ فَطَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا، فَلَمْ يَحِلَّ حَتَّى حَلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا. قوله: فإني لا آمنها بالمد وفتح الميم الخفيفة وقد تقدم في باب طواف القارن بلفظ: لا آمن والهاء هنا ضمير الفتنة لا آمن الفتنة أن تكون سببًا في صدك عن البيت. وفي رواية المستملي والسرخسي: لا أيْمَنها وقد تقدم ضبطه وشرح الحديث في باب طواف القارن. وقوله: إن تصد في رواية السرخسي إن ستصد. وقوله: "فأهل بالعمرة" زاد في رواية أبي ذر من الدار وكذا أخرجه أبو نعيم عن أبي النعمان شيخ البخاري فيه ويؤخذ منه جواز الإحرام قبل الميقات، وللعلماء فيه اختلاف فنقل ابن المنذر الإجماع على الجواز، ثم قيل هو أفضل من الإحرام من الميقات، وقيل: دونه. وقيل: مثله. وقيل: من كان له ميقات معين فهو في حقه أفضل، وإلا فمن داره، وللشافعية في أرجحية الميقات من الدار اختلاف، وقال الرافعي: يؤخذ من تعليلهم أن من أمن على نفسه كان أرجح في حقه، وإلا فمن الميقات أفضل، وقد تقدم قول المصنف، وكره عثمان أن يحرم من خراسان وكرمان في باب قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}. وقوله: "فلم يحل حتى حل" في رواية السرخسي حتى أحل بزيادة ألف والحاء مفتوحة وهي لغة شهيرة يقال: حل وأحل.

رجاله ستة

رجاله ستة قد مرّوا. ومرَّ أبو النعمان في الأخير من الإيمان ومرَّ حماد بن زيد في الرابع والعشرين منه، ومرَّ أيوب في التاسع منه، ومرَّ نافع في الأخير من العلم، ومرَّ عبد الله بن عبد الله بن عمر في السادس والتسعين من صفة الصلاة، ومرَّ محل أبيه في الذي قبله. ثم قال المصنف:

باب من أشعر وقلد بذي الحليفة ثم أحرم

باب من أشعر وقلد بذي الحليفة ثم أحرم قال ابن بطال: غرضه أن يبين أن المستحب أن لا يشعر المحرم ولا يقلد إلا في ميقات بلده والذي يظهر أن غرضه الإشارة إلى رد قول مجاهد لا يشعر حتى يحرم أخرجه ابن أبي شيبة لقوله في الترجمة: من أشعر ثم أحرم ووجه الدلالة لذلك من حديث المسور قوله: حتى إذا كانوا بذي الحليفة قلد الهدي وأحرم فإن ظاهره البداءة بالتقليد ومن حديث عائشة. قوله: ثم قلدها وأشعرها وما حرم عليه شيء، فإنه يدل على أن تقدم الإحرام ليس شرطًا في صحة التقليد والإشعار وأبين من ذلك لتحصيل مقصود الترجمة ما أخرجه مسلم عن ابن عباس قال صلَّى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- الظهر بذي الحليفة ثم دعا بناقته فأشعرها في سنامها الأيمن وسلت الدم وقلدها نعلين ثم ركب راحلته فلما استوت به على البيداء أهل بالحج. ثم قال: وقال نافع: كان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما إذا أهدى زمن الحديبية وأشعره بذي الحليفة يطعن في شق سنامه الأيمن بالشفرة ووجهها قبل القبلة باركة قوله زمن الحديبية، وقع عند الكشميهني من المدينة، وهذا وصله مالك في الموطأ عن نافع أن ابن عمر كان إذا أهدى هديًا من المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام قلده بذي الحليفة يقلده قبل أن يشعره وذلك في مكان واحد وهو متوجه إلى القبلة يقلده بنعلين ويشعره من الشق الأيسر، ثم يساق معه حتى يوقف به مع الناس بعرفة، ثم يدفع به، فإذا قدم غداة النحر نحوه، وعن نافع عن ابن عمر كان إذا طعن في سنام هديه وهو يشعره قال: "بسم الله والله أكبر". وأخرج البيهقي عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يشعر بدنه من الشق الأيسر إلا أن تكون صعابًا، فإذا لم يستطع أن يدخل بينها أشعرها من الشق الأيمن، وإذا أراد أن يشعرها وجهها إلى القبلة، وتبين بهذا أن ابن عمر كان يطعن بالأيمن تارة، وفي الأيسر تارة بحسب ما يتهيأ له ذلك، فإن كانت البدنة ذللا أشعرها من الأيسر وإن كانت صعبة قرن بدنتين، ثم قام بينهما وأشعر إحداهما من الأيمن والأخرى من الأيسر وإلى الإشعار في الجانب الأيمن ذهب الشافعي وصاحبا أبي حنيفة وأحمد في رواية، وإلى الأيسر ذهب مالك وأحمد في رواية، قال في الفتح: ولم أر في حديث ابن عمر ما يدل على تقدم ذلك على إحرامه وذكر ابن عبد البر في الاستذكار عن مالك قال: لا يشعر الهدي إلا عند الإهلال يقلده ثم يشعره ثم يصلي ثم يحرم.

وفي الحديث مشروعية الإشعار وبه قال الجمهور من السلف والخلف، وذكر الطحاوي كراهته عن أبي حنيفة وذهب غيره إلى استحبابه للإتباع حتى صاحباه فقالا: هو حسن، وقال مالك يختص الإشعار بما لها سنام وصفته أن يكشط جلد البدنة حتى يسيل دم ثم يسلته فيكون ذلك علامة على كونها هديًا أو يضرب صفحة سنامها بحديدة حتى يتلطخ بالدم ظاهرًا ولا نظر إلى ما فيه من الإِيلام؛ لأنه لا منع إلا ما منعه الشرع، وقال ابن حبيب: يشعر طولًا. وقال السفاقسي: عرضًا، والعرض عرض السنام من العنق إلى الذنب، وقال مجاهد: أشعر من حيث شئت، وأبعد من منع الإشعار واعتل بأنه كان مشروعًا قبل النهي عن المثلة فإن النسخ لا يصار إليه بالاحتمال، بل وقع الإشعار في حجة الوداع، وذلك بعد النهي عن المثلة بزمان وقال الخطابي وغيره: اعتلال من كره الإِشعار بأنه من المثلة مردود، بل هو من باب آخر كالكي وشق أذن الحيوان ليصير علامة، وغير ذلك من الوسم وكالختان والحجامة، وشفقة الإنسان على المال عادة فلا يخشى ما توهموه من سريان الحرج حتى يفضي ذلك إلى الهلاك ولو كان ذلك هو الملحوظ لقيده الذي كرهه به كان يقول: الإشعار الذي يفضي بالجرح إلى السراية حتى تهلك البدنة مكروه فيكون قريبًا، وقد قال الطحاوي: ثبت عن عائشة وابن عباس التخيير في الإشعار وتركه فدل على أنه ليس بنسك، لكنه غير مكروه لثبوت فعله عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد كثر تشنيع المتقدمين على أبي حنيفة في إطلاقه كراهة الإِشعار، وانتصر له الطحاوي في المعاني فقال: لم يكره أبو حنيفة أصل الإشعار، وإنما كره ما يفعل على وجه يخاف من هلاك البدن كسراية الجرح لاسيما مع الطعن بالشفرة، فأراد سد الباب على العامة، لأنهم كانوا لا يراعون الحد في ذلك. وأما من كان عارفًا بالسنة في ذلك فلا، قلت: أبو حنيفة ليس مذهبه سد الذرائع، فلو كان في هذا ذريعة كان مالك أولى بسدها منه؛ لأن ذلك مذهبه، وروي عن إبراهيم النخعي أنه كره الإشعار أيضًا، ذكر ذلك الترمذي قال: سمعت أبا السائب قال: كنا عند وكيع فقال له رجل: روي عن إبراهيم النخعي أنه قال: الإشعار مثلة؟ فقال له وكيع: أقول لك: أشعر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتقول: قال إبراهيم، ما أحقك بأن تحبس، وبهذا يتعقب على الخطابي حيث قال: لا أعلم أحدًا كره الإِشعار إلا أبا حنيفة، وخالفه صاحباه فقالا بقول الجماعة، وعلى ابن حزم أيضًا في زعمه أنه ليس لأبي حنيفة في ذلك سلف، وقد بالغ ابن حزم في هذا الموضع ويتعين الرجوع إلى ما قال الطحاوي، فإنه أعلم من غيره بأقوال أصحابه واتفق من قال بالإشعار بإلحاق البقر في ذلك بالإبل إلا سعيد بن جبير، وعند المالكية ما له أسنمة من البقر يشعر وما لا فلا، واتفقوا على أن الغنم لا تشعر لضعفها ولكون صوفها أو شعرها يستر موضع الإشعار، وكذا لا تقلد كراهة عند مالك، وإشعارها حرام، ويقلد البقر مطلقًا وندب كون التقليد نعلين معلقين بشيء من نبات الأرض وفائدة الإشعار الإعلام بأنها صارت هديًا ليتبعها من يحتاج إلى ذلك وحتى لو اختلطت بغيرها تميزت أو ضلَّت عرفت أو عطبت عرفها

الحديث الثاني والسبعون والمائة

المساكين بالعلامة فأكلوا منها مع ما في ذلك من تعظيم شعار الشرع وحث الغير عليه. الحديث الثاني والسبعون والمائة حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، وَمَرْوَانَ قَالاَ: خَرَجَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مِنَ الْمَدِينَةِ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي بِضْعَ عَشْرَةَ مِائَةً مِنْ أَصْحَابِهِ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِذِي الْحُلَيْفَةِ قَلَّدَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- الْهَدْيَ وَأَشْعَرَ وَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ. تقدم عند الترجمة وجه الدلالة من هذا الحديث وهذا الحديث يأتي مطولًا جدًا في باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب من كتاب الشروط، ويأتي الكلام عليه هناك إذ لا يمكن الكلام عليه هنا لاختصاره. رجاله سبعة: قد مرّوا. مرَّ أحمد بن محمد بن مردويه في الثالث والمائة من الوضوء، ومرَّ عبد الله بن المبارك في السادس من بدء الوحي، ومرَّ معمر في متابعة بعد الرابع منه، ومرَّ الزهري في الثالث منه، وعروة في الثاني منه، ومرَّ مسور ومروان في الرابع والخمسين من الوضوء فيه التحديث والإخبار بالجمع والعنعنة والقول ورواته: مروزيان وبصري يمني والبقية مدنيون، ومروان من أفراده، وفيه رواية التابعي عن التابعي عن الصحابة والتابعي أخرجه البخاري في عشرة مواضع مختصرًا من حديث طويل أخرجه في كتاب الشروط وأخرجه في الحج وفي المغازي وأبو داود في الحج والنسائي في السير. الحديث الثالث والسبعون والمائة حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا أَفْلَحُ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: فَتَلْتُ قَلاَئِدَ بُدْنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- بِيَدَيَّ، ثُمَّ قَلَّدَهَا وَأَشْعَرَهَا وَأَهْدَاهَا، فَمَا حَرُمَ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَانَ أُحِلَّ لَهُ. قد تقدم عند الترجمة وجه الدلالة من هذا الحديث عليها قوله: "بيدي" فيه رفع مجاز أن تكون أرادت أنها فتلت بأمرها وسيأتي إتمام الكلام على هذا الحديث بعد بابين. رجاله أربعة: قد مرّوا. مرَّ أبو نعيم في الخامس والأربعين من الإيمان، ومرَّ أفلح في الرابع عشر من الغسل، ومرَّ القاسم بن محمد في الحادي عشر منه، ومرّت عائشة في الثاني من بدء الوحي. أخرجه البخاري في الحج أيضًا، ومسلم، وكذا أبو داود والنسائي وابن ماجه. ثم قال المصنف:

باب فتل القلائد للبدن والبقر

باب فتل القلائد للبدن والبقر أورد فيها حديثي عائشة وحفصة، وقد قال ابن المنير: ليس في الحديثين ذكر البقر، إلا أنهما مطلقان، وقد صح أنه أهداهما جميعًا كذا قال وكأنه أراد حديث عائشة: دخل علينا يوم النحر بلحم بقر. الحديث. وسيأتي بعد أبواب، ولا دلالة فيه على أنه كان ساق البقر وترجمة البخاري صحيحة؛ لأنه إن كان المراد بالهدي في الحديث الإبل والبقر معًا، فلا كلام، وإن كان المراد الإبل خاصة فالبقر في معناها، وأخذ بعض المتأخرين من اختصار البخاري في هذه الترجمة على الإبل والبقر أنه موافق لمالك وأبي حنيفة في أن الغنم لا تقلد وغفل هذا المتأخر عن البخاري أفرد ترجمته لتقليد الغنم بعد أبواب يسيرة كعادته في تفريق الأحكام في التراجم. الحديث الرابع والسبعون والمائة حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ حَفْصَةَ رضى الله عنهم قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ؟ قَالَ: "إِنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي، وَقَلَّدْتُ هَدْيِي فَلاَ أَحِلُّ حَتَّى أَحِلَّ مِنَ الْحَجِّ". سبق الكلام على هذا الحديث مستوفى في باب القِران والتمتع ومناسبته للترجمة من جهة أن التقليد يستلزم تقدم الفتل عليه ويوضح ذلك حديث عائشة المذكور معه. رجاله ستة: قد مرّوا، مرَّ مسدد ويحيى القطان في السادس من الإِيمان، ومرَّ عبيد الله العمري في الرابع عشر من الوضوء، ومرت حفصة في الثالث والستين منه، ومرَّ نافع في الأخير من العلم، ومرَّ ابن عمر في أول الإيمان قبل ذكر حديث منه. الحديث الخامس والسبعون والمائة حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، وَعَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُهْدِي مِنَ الْمَدِينَةِ، فَأَفْتِلُ قَلاَئِدَ هَدْيِهِ، ثُمَّ لاَ يَجْتَنِبُ شَيْئًا مِمَّا يَجْتَنِبُهُ الْمُحْرِمُ. وموضع الترجمة منه: فأفتل قلائد هديه، ويأتي ما فيه من الكلام بعد بابٍ.

رجاله ستة

رجاله ستة: قد مرّوا، مرَّ عبد الله بن يوسف وعروة وعائشة في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ الليث وابن شهاب في الثالث منه، ومرت عمرة بنت عبد الرحمن في الثامن والثلاثين من الحيض. أخرجه مسلم في الحج، وكذا أبو داود والنسائي وابن ماجه. ثم قال المصنف:

باب إشعار البدن

باب إشعار البدن قد مرَّ استيفاء الكلام على الإشعار عند تعليق نافع في باب من أشعر وقلد بذي الحليفة، ثم أحرم. ثم قال: وقال عروة عن المسور رضي الله عنه: قلَّد النَّبي -صلى الله عليه وسلم- الهدي وأشعره وأحرم بالعمرة. وهذا الحديث علَّقه هنا وقد أخرجه موصولًا عن قريب في باب من أشعر هديه وقلده بذي الحليفة وعروة مرَّ في الثاني من بدء الوحي والمسور. مرَّ في الرابع والخمسين من الوضوء. الحديث السادس والسبعون والمائة حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، حَدَّثَنَا أَفْلَحُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: فَتَلْتُ قَلاَئِدَ هَدْي النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ أَشْعَرَهَا وَقَلَّدَهَا أَوْ قَلَّدْتُهَا ثُمَّ بَعَثَ بِهَا إِلَى الْبَيْتِ، وَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ، فَمَا حَرُمَ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَانَ لَهُ حِلٌّ. وهذا الحديث رواية من اللذين قبله ويأتي ما في الجميع في الباب الذي بعده. رجاله أربعة: قد مرّوا: مرَّ عبد الله بن مسلمة في الثاني عشر من الإيمان، ومرَّ محل الثلاثة الباقية في الذي قبله بحديثين. ثم قال المصنف:

باب من قلد القلائد بيده

باب من قلد القلائد بيده أي: الهدايا وله حالان: إما أن سوق الهدي ويقصد النسك، فإنما يقلدها ويشعرها عند إحرامه، وإما أن يسوقه ويقيم فيقلدها من مكانه وهو مقتضى حديث الباب، وسيأتي بيان ما يقلد به بعد باب، والغرض بهذه الترجمة أنه كان عالمًا بابتداء التقليد ليترتب عليه ما بعده قال ابن التين: يحتمل أن يكون قول عائشة ثم قلدها بيده بيانًا لحفظها للأمر ومعرفتها به ويحتمل أن تكون أرادت أنه عليه الصلاة والسلام تناول ذلك بنفسه وعلم وقت التقليد ومع ذلك فلم يمتنع من شيء يمتنع منه المحرم لئلا يظن أحد أنه استباح ذلك قبل أن يعلم بتقليد الهدي. الحديث السابع والسبعون والمائة حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّ زِيَادَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ كَتَبَ إِلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: مَنْ أَهْدَى هَدْيًا حَرُمَ عَلَيْهِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْحَاجِّ حَتَّى يُنْحَرَ هَدْيُهُ. قَالَتْ عَمْرَةُ: فَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: لَيْسَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَنَا فَتَلْتُ قَلاَئِدَ هَدْي رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِيَدَيَّ، ثُمَّ قَلَّدَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِيَدَيْهِ، ثُمَّ بَعَثَ بِهَا مَعَ أَبِي فَلَمْ يَحْرُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- شَيْءٌ أَحَلَّهُ اللَّهُ حَتَّى نُحِرَ الْهَدْيُ. قوله: "عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو" إلخ كذا للأكثر، وسقط عمرو من رواية أبي ذر، وعمرة هي خالة عبد الله الراوي عنها. وقوله: إن زياد بن أبي سفيان كذا وقع في الموطأ، وكان شيخ مالك حدث به كذلك في زمن بني أمية، وأما بعدهم فما كان يقال له: إلا زياد بن أبيه ويأتي تعريفه في السند قريبًا، وعند مسلم عن يحيى بن يحيى عن مالك في هذا الحديث أن ابن زياد بدل قوله: إن زياد بن أبي سفيان وهو وهم نبه عليه الغساني ومن تبعه. قال النووي: وجميع من تكلم على صحيح مسلم الصواب ما وقع في البخاري وهو الموجود عند جميع رواة الموطأ. وقوله: "حتى ينحر هديه" زاد مسلم: وقد بعثت بهدي فاكتبي إليّ بأمرك زاد الطحاوي عن مالك: "أو مري صاحب الهدي الذي معه الهدي بما يصنع".

وقوله: قالت: عمرة هو بالسند المذكور، وقد روى الحديث المرفوع عن عائشة القاسم وعروة كما مضى قريبًا مختصرًا، ورواه عنها أيضًا مختصرًا مسروق في آخر الباب الذي بعده، وأورده في الضحايا مطولًا، وترجم هناك على حكم من أهدى وأقام هل يصير محرمًا أو لا؟ ولم يترجم به هنا ولفظه هناك عن مسروق أنه قال: يا أم المؤمنين! إن رجلًا يبعث بالهدي إلى الكعبة ويجلس في العصر فيوصي أن تقلد بدنته فلا يزال من ذلك اليوم محرمًا حتى يحل الناس، فذكر الحديث نحوه، ولفظ الطحاوي عن مسروق قال: قلت لعائشة: إن رجالًا هاهنا يبعثون بالهدي إلى البيت ويأمرون الذين يبعثون معه بمعلم لهم يقلدها في ذلك اليوم فلا يزالون محرمين حتى يحل الناس. الحديث. وقال سعيد بن منصور عن عائشة: وقيل لها: إن زيادًا إذا بعث بالهدي أمسك عما يمسك منه المحرم حتى ينحر هديه، فقالت عائشة أوله كعبة يطوف بها؟. وروى عن هشام عن أبيه بلغ عائشة أن زيادًا بعث بالهدي وتجرد فقالت: إن كنت لأفتل قلائد هدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم يبعث بها وهو مقيم عندنا، ما يجتنب شيئًا. وروى مالك في الموطأ عن ربيعة بن عبد الله بن الهدير أنه رأى رجلًا متجردًا بالعراق فسأل عنه فقالوا: إنه أمر بهديه أن يقلد قال ربيعة: فلقيت عبد الله بن الزبير، فذكرت له ذلك فقال: بدعة ورب الكعبة، ورواه ابن أبي شيبة عن محمد بن إبراهيم أن ربيعة أخبره أنه رأى ابن عباس وهو أمير على البصرة في زمان علي متجردًا على منبر البصرة فذكره فعرف بهذا اسم المبهم في رواية مالك قال ابن التين: خالف ابن عباس في هذا جميع الفقهاء واحتجت عائشة بفعل النبي -صلى الله عليه وسلم- وما روته في ذلك، يجب أن يصار إليه، ولعل ابن العباس رجع عنه. وفي هذا قصور شديد، فإن ابن عباس لم ينفرد بذلك، بل ثبت ذلك عن جماعة من الصحابة منهم ابن عمر فقد روى ابن أبي شيبة وابن المنذر عن نافع أن ابن عمر كان إذا بعث الهدي يمسك عما يمسك منه المحرم، إلا أنه يلبي ومنهم: قيس بن سعد بن عبادة، أخرجه سعيد بن منصور عنه. وروى ابن أبي شيبة عن محمد بن علي بن الحسين عن عمرو على أنهما قالا في الرجل: يرسل بدنته أنه يمسك عما يمسك عنه المحرم، وهذا منقطع. وقال ابن المنذر قال عمر وعلي وقيس بن سعد وابن عمرو وابن عباس والنخعي وعطاء وابن سيرين وآخرون: من أرسل الهدي وأقام حرم عليه ما يحرم على المحرم، وقال ابن مسعود وعائشة وأنس وابن الزبير وآخرون: لا يصير بذلك محرمًا وإلى ذلك صار فقهاء الأمصار ومن حجة الأولين ما رواه الطحاوي وغيره عن عبد الملك بن جابر عن أبيه قال: كنت جالسًا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فقدّ قميصه من جيبه حتى أخرجه من رجليه وقال: إني أمرت ببدني التي بعثت بها أن تقلد اليوم وتشعر على ما كان كذا فلبست قميصي ونسيت فلم أكن لأخرج قميصي من رأسي. الحديث.

رجاله ستة

وهذا لا حجة فيه لضعف إسناده إلا أن نسبة ابن عباس إلى التفرد بذلك خطأ، وقد ذهب سعيد بن المسيب إلى أنه لا يجتنب شيئًا مما يجتنبه المحرم إلا الجماع ليلة جمع رواه ابن أبي شيبة عنه بإسناد صحيح. نعم، جاء عن الزهري ما يدل على أن الأمر استقر على خلاف ما قال ابن عباس ففي نسخة أبي اليمان عن شعيب عنه وأخرجه البيهقي من طريقه قال: أول من كشف العمى عن الناس وبين لهم السنة في ذلك عائشة، فذكر الحديث عن عروة عنها قال: فلما بلغ الناس قول عائشة أخذوا به وتركوا فتوى ابن عباس، وذكر جماعة من فقهاء الفتوى أن من أراد النسك صار بمجرد تقليده الهدي محرمًا حكاه ابن المنذر عن الثوري، وأحمد وإسحاق قال: وقال أصحاب الرأي من ساق الهدي وأمَّ البيت ثم قلد وجب عليه الإحرام. قال: وقال الجمهور: لا يصير بتقليد الهدي محرمًا ولا يجب عليه شيء، ونقل الخطابي عن أصحاب الرأي مثل قول ابن عباس وهو خطأ عليهم فالطحاوي أعلم بهم منه، ولعل الخطابي ظن التسوية بين المسألتين. وقوله: بيدي تقدم أن فيه رفع مجاز أن تكون أرادت أنها فتلت بأمرها. وقوله: مع أبي بفتح الهمزة وكسر الموحدة الخفيفة تريد بذلك أباها أبا بكر الصديق واستفيد من ذلك وقت البعث وأنه كان في سنة تسع عام حج أبي بكر بالناس قال ابن التين: أرادت عائشة بذلك علمها بجميع القصة، ويحتمل أن تريد أنه آخر فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه حج حجة الوداع في العام الذي يليه لئلا يظن ظان أنَّ ذلك كان في أول الإِسلام، ثم نسخ فأرادت إزالة هذا اللبس، وأكملت ذلك بقولها فلم يحرم عليه شيء كان حلاله حتى نحر الهدي وانقضى أمره وترك إحرامه بعد ذلك أحرى وأولى؛ لأنه إذا انتفى في وقت الشبهةِ فلأن ينتفي عند انتفاء الشبهة أولى وحاصل اعتراض عائشة على ابن عباس أنه ذهب إلى ما أفتى به قياسًا للتولية في أمر الهدي على المباشرة له فبينت عائشة أن هذا القياس لا اعتبار له في مقابلة هذه السنة الظاهرة، وفي الحديث من الفوائد تناول الكبير الشيء بنفسه، وإن كان له من يكفيه إذا كان مما يهتم به ولاسيما ما كان من إقامة الشرائع وأمور الديانة، وفيه تعقب بعض العلماء على بعض، ورد الاجتهاد بالنص، وأن الأصل في أفعاله عليه الصلاة والسلام التأسي به حتى تثبت الخصوصية. رجاله ستة: وفيه ذكر أبي بكر وقد مرَّ الجميع: مرَّ عبد الله بن يوسف، ومالك، وعائشة، في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ عبد الله بن أبي بكر بن حزم في الرابع والعشرين من الوضوء، ومرَّ أبو بكر بعد الحادي والسبعين منه في باب من لم يتوضأ من لحم الشاة، ومرت عمرة بنت عبد الرحمن في الثاني والثلاثين من الحيض. وفي الحديث ذكر زياد بن أبي سفيان ولد على

فراش عبيد مولى ثقيف، وأمه سمية جارية الحارث بن كلدة، وكانت تحت عبيد هذا، وكان يقال له قبل استلحاق معاوية له: زياد بن عبيد وبعد استلحاقه له صار يقال له: زياد بن أبي سفيان، ولما انقضت الدولة الأموية صار يقال له زياد بن أبيه، وزياد بن سمية وكنيته أبو المغيرة، واختلف في وقت مولده فقيل: ولد عام الفتح، وقيل: قبل الهجرة، وقيل: ولد يوم بدر ليست له صحبة ولا رواية، وكان رجلًا عاقلاً في دنياه داهية خطيبًا له قدر وجلالة عند أهل الدنيا. وروى أنه وفد على عمر من عند أبي موسى، وكان كاتبه، ومقتضى ذلك أن يكون له إدراك، وجزم ابن عساكر بأنه أدرك النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يره وأنه أسلم في عهد أبي بكر وسمع من عمر. وقال العجلي: تابعي ولم يكن يتهم بالكذب، وقال يونس بن حبيب: يزعم آل زياد أنه دخل على عمر وله سبع عشرة سنة، وأخبرني زياد بن عثمان أنه كان له في الهجرة عشر سنين، وكانت أمه من البغايا بالطائف، قال أبو عثمان النهدي: اشترى زياد أباه عبيدًا بألف درهم فاعتقه فكنا نغبطه بذلك واستكتبه أبو موسى واستعمله على شيء من أعمال البصرة فأقره عمر، ولما شهد على المغيرة مع أخيه أبي بكرة ونافع وشبل بن معبد وحدَّهم عمر ثلاثتهم دونه إذ لم يقطع الشهادة زياد وقطعوها عزله فقال له زياد: يا أمير المؤمنين: أخبر الناس أنك لم تعزلني لخزية، وقال بعض أهل الأخبار: إنه قال له: ما عزلتك لخزية، ولكني كرهت أن أحمل الناس على فضل عقلك! ثم صار زياد مع علي رضي الله تعالى عنه، واستعمله على فارس فضبط البلاد وحمى وجبى، وأصلح الفساد ولم يزل مع علي إلى أن قتل رحمه الله تعالى وانخلع الحسن لمعاوية، وقد كان معاوية كاتبه يروم إفساده على علي فلم يفعل ووجه بكتابه إلى علي، وكتب إليه علي رضي الله تعالى عنه: إنما وليتك ما وليتك وأنت أهل لذلك عندي، ولن تدرك ما تريد مما أنت فيه إلا بالصبر واليقين، وإنما كانت من أبي سفيان فلتة زمن عمر لا تستحق بها نسبًا ولا إرثًا، وأن معاوية يأتي المرء من بين يديه ومن خلفه فاحذره، ثم احذره، ولما قرأ زياد الكتاب قال: شهد لي أبو الحسن ورب الكعبة فذلك الذي جرأ زيادًا ومعاوية على ما صنعا، ولما تم الأمر لمعاوية استلحقه، وكان استلحاقه له سنة أربع وأربعين، وشهد بذلك زياد بن أسماء الحرماني، ومالك بن ربيعة السلولي والمنذر بن الزبير وجويرة بنت أبي سفيان والمسور بن قدامة الباهلي وابن أبي نصر الثقفي وزيد بن نفيل الأزدي وشعبة بن العلقم المازني، ورجل من بني عمرو بن شيبان ورجل من بني المصطلق شهدوا كلهم على أبي سفيان أن زيادًا ابنه إلا المنذر فشهد أنه سمع عليًا يقول: أشهد أن أبا سفيان قال ذلك، فخطب معاوية فاستلحقه فتكلم زياد فقال: إن كان ما شهد به الشهود حقًّا فالحمد لله، وإن يكن باطلًا فقد جعلتهم بيني وبين الله تعالى، وروي عن ابن عباس أنه قال: بعث عمر بن الخطاب زيادًا في إصلاح فساد وقع باليمن فرجع من وجهه وخطب خطبة لم يسمع

الناس مثلها، فقال عمرو بن العاص: أما والله لو كان هذا الغلام قرشيًا لساق العرب بعصاه، فقال أبو سفيان: والله إني لأعرف الذي وضعه في رحم أمه فقال له علي: من هو يا أبا سفيان؟ فقال أبو سفيان: أنا، فقال: مهلًا يا أبا سفيان، فقال أبو سفيان: أما والله لولا خوف شخصي ... يراني عليّ من الأعادي لأظهر أمره صخر بن حرب ... ولم يكن المقالة عن زياد وقد طالت مجاملتي ثقيفًا ... وتركي فيهم ثمر الفؤاد قال: فذلك الذي حمل معاوية على ما صنع بزياد، وروى أحمد بإسناد صحيح عن أبي عثمان النهدي لما ادعى زياد لقيت أبا بكرة فقلت: ما هذا؟ إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من ادعى أبا في الإِسلام غير أبيه فالجنة عليه حرام" فقال أبو بكرة: وأنا سمعته، وأصله في الصحيح، وكان أَبو بكرة أخا زياد لأمه أمهما سمية فلما بلغه استلحاق معاوية له وإنه رضي ذلك آلى يمينًا أنه لا يكلمه أبدًا، وقال: هذا زنّى أمه وانتفى من أبيه، لا والله ما علمت سمية رأت أبا سفيان قط، ويله ما يصنع بأم حبيبة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم-، أيريد أن يراها؟ فإن حجبته فضحته، وإن رآها فيالها مصيبة يهتك من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حرمة عظيمة، وحج زياد في زمن معاوية، ودخل المدينة فأراد الدخول على أم حبيبة، ثم ذكر قول أبي بكرة فانصرف عن ذلك، وقيل: إن أم حبيبة حجبته ولم تأذن له في الدخول عليها، وقيل: إنه حج ولم يزر من أجل قول أبي بكرة، وقال: جزى الله أبا بكرة خيرًا، فما يدع النصيحة على حال كان يضرب به المثل في حسن السياسة ووفرة العقل وحسن الضبط، لما يتولاه، وهو أمير المصرين الكوفة والبصرة، ولم يجمعا قبله لغيره، وأقام في ذلك خمس سنين وزوج معاوية ابنته من ابنه محمدِ بن زياد، وهو الذي احتفر نهر الأبلة حتى بلغ موضع الجبل، وكان يقال: زياد يعد لصغار الأمور وكبارها، وكان جميلًا طويلًا يكسر إحدى عينيه، وفي ذلك يقول الفرزدق للحجاج: وقبلك ما أعييت كاسر عينه ... زيادًا فلم تعلق على حبائله قال ابن عبد البر: روينا أن زيادًا كتب إلى معاوية أني قد أخذت العراق بيميني وبقيت شمالي فارغة يعرض له بالحجاز، فبلغ ذلك ابن عمر فقال: اللهم اكفنا شمال زياد فعرضت له قرحة في شماله قتلته، ولما بلغ ابن عمر موت زياد قال: أذهب إليك ابن سمية، فقد أراح الله منك، وروي عن قتادة قال: قال زياد لبنيه لما احتضر ليت أباكم كان راعيًا في أدناها وأقصاها، ولم يقع في الذي وقع به، ولما ادعى معاوية زيادًا دخل عليه بنو أُمية وفيهم عبد الرحمن بن الحكم فقال: يا معاوية! لو لم تجد إلا الزنج لاستكثرت بهم علينا قلة وذلة، فأقبل معاوية على مروان وقال له: أخرج عنا هذا الخليع، فقال مروان: والله إنه لخليع ما يطاق، فقال معاوية: والله لولا حلمي وتجاوزي لعلمت أنه يطاق ألم يبلغني شعره فيَّ وفي

زياد، ثم قال لمروان: أسمعنيه فقال: ألا أبلغ معاوية بن صخر ... لقد ضاقت بما تأتي اليدان أتغضب أن يقال أبوك عف ... وترضى أن يقال أبوك زان فاشهد أن رحمك من زياد ... كرحم الفيل من ولد الأتان واشهد أنها حملت زيادًا ... وصخر من سُمية غير دان إلى آخر ما ذكره ابن عبد البر في الاستيعاب من المراجعة والأشعار، ولي المصرين سنة ثمان وأربعين، ومات بالكوفة يوم الثلاثاء، لأربع خلون من شهر رمضان سنة ثلاث وخمسين، وهو ابن ثلاث وخمسين، وكانت ولايته خمس سنين. ورجال الإِسناد كلّهم مدنيون إلا شيخ البخاري فهو مصري شامي، أخرجه البخاري في الوكالة، ومسلم في الحج وكذا النسائي. ثم قال المصنف:

باب تقليد الغنم

باب تقليد الغنم الحديث الثامن والسبعون والمائة حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنِ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "أَهْدَى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مَرَّةً غَنَمًا". احتج الشافعي بهذا الحديث على أن الغنم تقلد، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور وابن حبيب: وقال مالك وأبو حنيفة: "لا تقلد لأنهما" تضعف عن التقليد وهذه حجة ضعيفة؛ لأن المقصود من التقليد العلامة وقد اتفقوا على أنها لا تشعر لأنها تضعف عنه فتقلد بما لا يضعفها، وقال ابن عبد البر: "احتج من لم يره بأن الشارع إنما حج حجة واحدة لم يهد فيها غنمًا" وأنكروا حديث الأسود الذي في البخاري في تقليد الغنم قالوا: هو حديث لا يعرفه أهل بيت عائشة فإنه تفرد بتقليد الغنم عن عائشة دون بقية الرواة عنها من أهل بيتها وغيرهم قال المنذري وغيره: "وليست هذه بعلة" لأنه حافظ ثقة لا يضره التفرد. وقال بعضهم ما أدري ما وجه الحجة منه لأن حديث الباب دال على أنه أرسل بها وأقام وكان ذلك قبل حجته قطعًا ولا تعارض بين الفعل والترك لأن مجرد الترك لا يدل على نسخ الجواز، ثم من الذي صرح من الصحابة بأنه لم يكن في هداياه في حجته غنم حتى يسوغ الاحتجاج بذلك، ثم ساق ابن المنذر عن عطاء وعبيد الله بن أبي يزيد وأبي جعفر محمد بن علي وغيرهم قالوا: رأينا الغنم تقدم مقلدة ولابن أبي شيبة عن ابن عباس نحوه والمراد بذلك الرد على من ادعى الإجماع على ترك إهداء الغنم وتقليدها. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ أبو نعيم في الخامس والأربعين من الإيمان، ومرَّ الأعمش وإبراهيم بن يزيد في الخامس والعشرين منه. ومرَّ الأسود بن يزيد في السابع والستين من العلم. أخرجه مسلم في الحج، وكذا أبو داود وابن ماجه ومرت عائشة في الثاني من بدء الوحي.

الحديث التاسع والسبعون والمائة

الحديث التاسع والسبعون والمائة حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنِ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ كُنْتُ أَفْتِلُ الْقَلاَئِدَ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَيُقَلِّدُ الْغَنَمَ، وَيُقِيمُ فِي أَهْلِهِ حَلاَلاً. هذا طريق من الحديث الذي قبله والكلام على الأول كاف عن الكلام عليه، وأردف البخاري طريق أبي نعيم بطريق عبد الواحد بن زياد مع أن طريق أبي نعيم عنده أعلى درجة لتصريح الأعمش فيها بالتحديث عن إبراهيم ومع أن في رواية عبد الواحد أيضًا زيادة التقليد، وزيادة إقامته في أهله حلالًا. رجاله ستة: قد مرّوا: مرَّ أبو النعمان في الأخير من الإيمان، ومرَّ عبد الواحد بن زياد في التاسع والعشرين منه، ومرَّ محل الأربعة الباقية في الذي قبله. الحديث الثمانون والمائة حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ ح، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنِ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "كُنْتُ أَفْتِلُ قَلاَئِدَ الْغَنَمِ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَيَبْعَثُ بِهَا، ثُمَّ يَمْكُثُ حَلاَلاً". هذا رواية من الذي قبله وأردف راوية عبد الواحد برواية منصور عن إبراهيم استظهارًا لرواية عبد الواحد لما في حفظ عبد الواحد عندهم وإن كان هو عنده حجة. رجاله ثمانية: قد مرّوا: مرَّ أبو النعمان في الأخير من الإيمان، ومرَّ حماد في الرابع والعشرين منه، ومرَّ منصور بن المعتمر في الثاني عشر من العلم، ومرَّ محمد بن كثير في الثاني والثلاثين منه، ومرَّ سفيان بن عيينة في الأول من بدء الوحي، ومرَّ محل إبراهيم والأسود وعائشة في الذي قبله بحديث. الحديث الحادي والثمانون والمائة حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ عَنْ عَامِرٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: فَتَلْتُ لِهَدْيِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- تَعْنِي الْقَلاَئِدَ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ. وأردف الرواية السابقة برواية مسروق مع أنه لا تصريح فيها يكون القلائد للغنم؛ لأن لفظ الهدي أعم من أن يكون لغنم أو غيرها، فالغنم فرد من أفراد ما يهدى، وقد ثبت أنه

رجاله خمسة

عليه الصلاة والسلام أهدى الإبل وأهدى البقر فمن ادعى اختصاص الإبل بالتقليد فعليه البيان. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ أبو نعيم في الخامس والأربعين من الإيمان. ومرَّ معه زكريا بن أبي زائدة فيه، ومرَّ عامر الشعبي في الثالث منه، ومرَّ مسروق في السابع والعشرين منه، ومرت عائشة في الثاني من بدء الوحي. أخرجه البخاري أيضًا في الضحايا ومسلم والنسائي في الحج. ثم قال المصنف:

باب القلائد من العهن

باب القلائد من العهن بكسر المهملة وسكون الهاء، أي الصوف وقيل هو المصبوغ منه وقيل هو الأحمر خاصة. الحديث الثاني والثمانون والمائة حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها قَالَتْ: فَتَلْتُ قَلاَئِدَهَا مِنْ عِهْنٍ كَانَ عِنْدِي. قوله: عن أم المؤمنين هي عائشة بينه يحيى بن حكيم عن معاذ أخرجه أبو نعيم في المستخرج، وكذا وقعت تسميتها عند الإسماعيلي من وجه آخر عن ابن عون. وقوله: فتلت قلائدها: أي: الهدايا. وفي رواية يحيى المذكورة أنا فتلت تلك القلائد، ولمسلم عن ابن عون مثله، وزاد فأصبح فينا حلالًا يأتي مأتى الحلال من أهله، وفيه رد على من كره القلائد من الأوبار واختار أن تكون من نبات الأرض وهو منقول عن مالك وربيعة، وقال ابن التين: لعله أراد أنه الأولى مع القول بجواز كونها من الصوف. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ عمرو بن علي الفلاس في السابع والأربعين من الوضوء ومرَّ معاذ بن معاذ في تعليق بعد الثامن عشر من مواقيت الصلاة، ومرَّ عبد الله بن عون في التاسع من العلم، ومرَّ القاسم بن محمد في الحادي عشر من الغسل، ومرت أم المؤمنين في الثاني من بدء الوحي. أخرجه مسلم في الحج بأتم من هذا وكذا أبو داود والنسائي. ثم قال المصنف:

باب تقليد النعل

باب تقليد النعل يحتمل أن يريد الجنس ويحتمل أن يريد الواحدة أي: النعل الواحدة فتكون فيه إشارة إلى من اشترط نعلين وهو قول الثوري، وقال غيره: تجزء الواحدة، وقال آخرون: لا تتعين النعل، بل كل ما قام مقامها أجزأ حتى أذن الإداوة ثم قيل الحكمة في تقليد النعل أن فيه إشارة إلى السفر والجد فيه فعلى هذا يتعين. وقال ابن المنير: الحكمة فيه أن العرب تعتد النعل مركوبة لكونها تحمل صاحبها وتقيه وعر الطريق وقد كنى بعض الشعراء عنها بالناقة، فكان الذي أهدى خرج من مركوبه لله تعالى حيوانًا أو غيره كما خرج حين أحرم من ملبوسه، ومن ثم استحب تقليد نعلين لا واحدة هو الأصل في نذر المشي حافيًا إلى مكة. الحديث الثالث والثمانون والمائة حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَأَى رَجُلاً يَسُوقُ بَدَنَةً، قَالَ: ارْكَبْهَا. قَالَ إِنَّهَا بَدَنَةٌ. قَالَ: ارْكَبْهَا. قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ رَاكِبَهَا يُسَايِرُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَالنَّعْلُ فِي عُنُقِهَا. قوله حدثنا محمد كذا للأكثر غير منسوب ولابن السكن محمد بن سلام ولأبي ذر محمد هو ابن سلام، ورجح أبو علي الجياني أنه محمد بن المثنى؛ لأن المصنف روى عن محمد بن المثنى عن عبد الأعلى حديثًا غير هذا سيأتي قريبًا وأيده غيره بأن الإسماعيلي وأبا نعيم أخرجاه في مستخرجيهما عن محمد بن المثنى وليس ذلك بلازم والعمدة على ما قال ابن السكن: فإنه حافظ. وقوله: عن عكرمة هو مولى ابن عباس، وأما عكرمة بن عمار فهو تلميذ يحيى بن أبي كثير لا شيخه وقد مرَّ استيفاء الكلام على هذا الحديث قبل تسعة أبواب في باب ركوب البدن. رجاله ستة: قد مرّوا. مرَّ محمد بن سلام في الثالث عشر من الإيمان، وقيل محمد بن المثنى، وقد مرَّ في التاسع منه، ومرَّ عبد الأعلي بن عبد الأعلى في تعليق بعد الثالث منه، ومرَّ أبو هريرة

لطائف إسناده

في الثاني منه، ومرَّ معمر في متابعة بعد الرابع من بدء الوحي، ومرَّ يحيى بن أبي كثير في الثالث والخمسين من العلم، ومرَّ عكرمة في السابع عشر منه. لطائف إسناده: فيه التحديث والإخبار بالجمع والعنعنة، ورواته بيكندي وبصريان ويمامي ومدني وفيه رواية تابعي عن تابعي. ثم قال: تابعه محمد بن بشار المتابعُ بالفتح هنا هو معمر والمتابِعُ بالكسر طاهر السياق محمد بن بشار وفي التحقيق هو عليّ بن المبارك، وإنما احتاج معمر عنده إلى المتابعة، لأن في رواية البصريين عنه مقالًا لكونه حدَّثهم بالبصرة من حفظه وهذا من رواية البصريين، وقد أخرجه الإسماعيلي عن وكيع عن علي بن المبارك بمتابعة عثمان بن عمر وقال: إن حسينًا المعلم رواه عن يحيى بن أبي كثير أيضًا. ومحمد بن بشار مرَّ في الحادي عشر من العلم، وقد قال: في الفتح إن روايته هذه لم تقع له موصولة والرجل المبهم الذي في الحديث قد مرَّ أنه لم يسم. الحديث الرابع والثمانون والمائة حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-. هذا الحديث لا زيادة فيه. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ عُثمان بن عمر في السابع والعشرين من الغسل، ومرَّ علي بن المبارك في متابعة بعد الرابع والثلاثين من الأذان، ومرَّ محل الثلاثة الباقية في الذي قبله. ثم قال المصنف:

باب الجلال للبدن

باب الجِلال للبدن أي: بالكسر وتخفيف اللام جمع جل بضم الجيم وهو ما يطرح على ظهر البعير من كساء ونحوه ثم قال: كان ابن عمر رضي الله تعالى عنه لا يشق من الجلال إلا موضع السنام وإذا نحرها نزع جلالها مخافة أن يفسدها الدم ثم يتصدق بها، وهذا التعليق وصل بعضه مالك في الموطأ عن نافع أن عبد الله بن عمر كان لا يشق جلال بدنه وعن نافع أن ابن عمر كان يجلل بدنه القباطي والحلل ثم يبعث بها إلى الكعبة فيكسوها إياها، وعن مالك أنه سأل عبد الله بن دينار ما كان ابن عمر يصنع بجلال بدنه حين كسيت الكعبة هذه الكسوة فقال: كان يتصدق بها، وقال البيهقي: بعد أن أخرجه عن يحيى بن بكير عن مالك زاد فيه غيره عن مالك إلا موضع السنام إلى آخر الأثر المذكور قال المهلب: ليس التصدق بجلال البدن فرضًا، وإنما صنع ذلك ابن عمر؛ لأنه أراد أن لا يرجع بشيء أهل به لله ولا بشيء أضيف إليه وفائدة شق الجل من موضع السنام ليظهر الإشعار لئلا يستتر ما تحتها. وروى ابن المنذر عن نافع أن ابن عمر كان يجلل بدنه الأنماط والبرود والحبر حتى يخرج من المدينة، ثم ينزعها فيطويها حتى يكون يوم عرفة فيلبسها إياها حتى ينحرها فيتصدق بها. قال نافع: وربما دفعها إلى بني شيبة وما في هذه الأحاديث من إستحباب التقليد والإشعار وغير ذلك يقتضي أن إظهار التقرب بالهدي أفضل من إخفائه والمقرر أن إخفاء العمل الصالح غير الفرض أفضل من إظهاره فإما أن يقال إن أفعال الحج مبنية على الظهور كالإحرام والطواف والوقوف فكان الإشعار والتقليد كذلك فيخص الحج من عموم الإخفاء، وإما أن يقال لا يلزم من التقليد والإشعار إظهار العمل الصالح؛ لأن الذي يهديها يمكن أن يبعثها مع من يقلدها ويشعرها ولا يقول إنها لفلان فتحصل سنة التقليد مع كتمان العمل وأبعد من استدل بذلك على أن العمل إذا شرع فيه صار فرضًا، وإما أن يقال إن التقليد جعل علمًا لكونها هديًا حتى لا يطمع صاحبها في الرجوع فيها. وابن عمر مرَّ في أول الإيمان قبل ذكر حديث منه. الحديث الخامس والثمانون والمائة حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ عَلِىٍّ رضي الله عنه قَالَ: "أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ أَتَصَدَّقَ بِجِلاَلِ الْبُدْنِ

رجاله ستة

الَّتِي نَحَرْتُ وَبِجُلُودِهَا". ويأتي هذا الحديث في باب يتصدق بجلود الهدي والكلام عليه هو الكلام على الأثر الذي قبله. رجاله ستة: قد مرّوا: مرَّ قبيصة وسفيان الثوري في السابع والعشرين من الإيمان، ومرَّ مجاهد في أثر قبل الحديث الأول منه، ومرَّ ابن أبي نجيح في الرابع عشر من العلم، ومرَّ علي في السابع والأربعين منه، ومرَّ ابن أبي ليلى في الثالث والستين من صفة الصلاة. أخرجه أيضًا في الوكالة وفي الحج، ومسلم في الحج، وكذا أبو داود وابن ماجه في الحج، وفي الأضاحي. ثم قال المصنف:

باب من اشترى هديه من الطريق وقلدها

باب من اشترى هديه من الطريق وقلدها تقدم قبل ثمانية أبواب باب من اشترى الهدي من الطريق وأورد فيها هذا الحديث من وجه آخر، وإنما زادت هذه الترجمة التقليد وقد مرَّ الكلام عليه مستوفى في أبواب التقليد والإشعار. الحديث السادس والثمانون والمائة حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: أَرَادَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما الْحَجَّ عَامَ حَجَّةِ الْحَرُورِيَّةِ فِي عَهْدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ النَّاسَ كَائِنٌ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ، وَنَخَافُ أَنْ يَصُدُّوكَ. فَقَالَ: "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ" إِذًا أَصْنَعَ كَمَا صَنَعَ، أُشْهِدُكُمْ أَنِّي أَوْجَبْتُ عُمْرَةً. حَتَّى كَانَ بِظَاهِرِ الْبَيْدَاءِ قَالَ: مَا شَأْنُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إِلاَّ وَاحِدٌ، أُشْهِدُكُمْ أَنِّي جَمَعْتُ حَجَّةً مَعَ عُمْرَةٍ. وَأَهْدَى هَدْيًا مُقَلَّدًا اشْتَرَاهُ حَتَّى قَدِمَ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَحْلِلْ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَوْمِ النَّحْرِ، فَحَلَقَ وَنَحَرَ وَرَأَى أَنْ قَدْ قَضَى طَوَافَهُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ بِطَوَافِهِ الأَوَّلِ، ثُمَّ قَالَ: كَذَلِكَ صَنَعَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-. وهذا الحديث مرَّ الكلام عليه في باب طواف القارن، وفي باب من اشترى الهدي من الطريق، لكن قوله في هذه الرواية عام حجة الحرورية، وفي رواية الكشميهني عام حج الحرورية في عهد ابن الزبير مغاير لقوله في باب طواف القارن عام نزول الحجاج بابن الزبير؛ لأن الحرورية كانت في السنة التي مات فيها يزيد بن معاوية سنة أربع وستين وذلك قبل أن يتسمى ابن الزبير بالخلافة ونزول الحجاج بابن الزبير كان في سنة ثلاث وسبعين وذلك في آخر أيام ابن الزبير، فإما أن يحمل على أن الراوي أطلق على الحجاج وأتباعه حرورية لجامع ما بينهم من الخروج على أئمة الحق، وإما أن يحمل على تعدد القصة وقد ظهر من رواية أيوب، عن نافع أن القائل لابن عمر الكلام المذكور ولده عبد الله كما تقدم في باب من اشترى الهدي من الطريق. رجاله خمسة: وفيه ذكر ابن الزبير وقد مرَّ الجميع: مرَّ إبراهيم ابن المنذر في الأول من العلم، ومرَّ

ابن الزبير في الثامن والأربعين منه، ومرَّ نافع في الأخير منه، ومرَّ أبو ضمرة في الرابع عشر من الوضوء، ومرَّ موسى بن عقبة في الخامس منه، ومرَّ ابن عمر في أول الإيمان قبل ذكر حديث منه. ثم قال المصنف:

باب ذبح الرجل البقر عن نسائه من غير أمرهن

باب ذبح الرجل البقر عن نسائه من غير أمرهن عبر في الترجمة بالذبح مع أن حديث الباب بلفظ النحر إشارة إلى ما ورد في بعض طرقه بلفظ الذبح وسيأتي بعد سبعة أبواب بلفظ ذبح ونحر البقر جائز عند العلماء، إلا أن الذبح مستحب عندهم لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} وخالف الحسن بن صالح فاستحب نحرها. الحديث السابع والثمانون والمائة حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَتْ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها تَقُولُ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، لاَ نُرَى إِلاَّ الْحَجَّ، فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنْ مَكَّةَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ، إِذَا طَافَ وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَنْ يَحِلَّ، قَالَتْ: فَدُخِلَ عَلَيْنَا يَوْمَ النَّحْرِ بِلَحْمِ بَقَرٍ. فَقُلْتُ مَا هَذَا؟ قَالَ: نَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ أَزْوَاجِهِ. قَالَ يَحْيَى: فَذَكَرْتُهُ لِلْقَاسِمِ، فَقَالَ: أَتَتْكَ بِالْحَدِيثِ عَلَى وَجْهِهِ. وهذا الحديث قد مرَّ في أوائل كتاب الحيض من رواية القاسم بن محمد، ومرَّ الكلام عليه هناك مستوفى. ومرَّ أيضًا مطولًا في باب التمتع والقران والإفراد في الحج، ومرَّ الكلام عليه هناك أيضًا وقوله: قال يحيى هو ابن سعيد الأنصاري بالإسناد المذكور إليه وقوله: فذكرته للقاسم يعني ابن محمد بن أبي بكر الصديق. وقوله: فقال: أتتك بالحديث على وجهه، أي: ساقته لك سياقًا تامًا لم تختصر منه شيئًا وكأنه يشير بذلك إلى روايته هو المشار لها الآن فإنها مختصرة. رجاله خمسة: وفيه ذكر القاسم وقد مرَّ الجميع. مرَّ عبد الله بن يوسف، ومالك، وعائشة، في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ يحيى بن سعيد الأنصاري في الأول منه، ومرت عمرة بنت عبد الرحمن في الثاني والثلاثين من الحيض، ومرَّ القاسم في الحادي عشر من الغسل. لطائف إسناده: فيه التحديث والإخبار بالجمع والعنعنة والسماع والقول، ورواته مدنيون ما عدا شيخه،

فإنه تنيسي وفيه رواية التابعي عن التابعية عن الصحابية. أخرجه البخاري أيضًا في الجهاد والحج ومسلم في الحج وكذا النسائي. ثم قال المصنف:

باب النحر في منحر النبي -صلى الله عليه وسلم- بمنى

باب النحر في منحر النبي -صلى الله عليه وسلم- بمنى قال ابن التين: منحر النبي -صلى الله عليه وسلم- عند الجمرة الأولى التي تلي المسجد. وكأنه أخذه من أثر أخرجه الفاكهاني عن طاووس قال: كان منزل النبي -صلى الله عليه وسلم- بمنى عن يسار المصلى، قال ابن جريج: وقال غير طاووس من أشياخنا نحوه. وزاد وأمر بنسائه أن ينزلن جنب الدار بمنى وأمر الأنصار أن ينزلوا الشعب وراء الدار والشعب عند الجمرة المذكورة، قال ابن التين: وللنحر فيه فضيلة على غيره لقوله عليه الصلاة والسلام: "هذا المنحر وكل منى منحر" أخرجه مسلم من حديث جابر ولفظه: "نحرت هاهنا ومنى كلها منحر فانحروا في رحالكم" وهذا ظاهره أن نحره عليه الصلاة والسلام بذلك المكان وقع عن اتفاق لا لشيء يتعلق بالنسك، لكن ابن عمر كان شديد الاتباع، وقد روى عمر بن شبة عن عطاء قال: كان ابن عمر لا ينحر إلا بمنى، وحكى ابن بطال قول مالك في النحر بمنى للحاج، والنحر بمكة للمعتمر وأطال في تقرير ذلك وترجيحه ولا خلاف في الجواز وإن اختلف في الأفضل. الحديث الثامن والثمانون والمائة حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ سَمِعتُ خَالِدَ بْنَ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ رضي الله عنه كَانَ يَنْحَرُ فِي الْمَنْحَرِ. قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ مَنْحَرِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. وقوله: قال عبيد الله .. إلخ. أي: ابن عمر بالإسناد المذكور والمعنى أن مراد نافع بإطلاق المنحر منحر النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد روى المصنف في الأضاحي هذا الحديث أوضح من هذا، ولفظه قال عبيد الله: يعني منحر النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولهذا أردفه المصنف بطريق موسى بن عقبة عن نافع المصرحة بإضافة المنحر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في نفس الخبر. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ إسحاق بن راهويه في تعليق بعد الحادي والعشرين من العلم، ومرَّ خالد بن الحارث في تعليق بعد الثاني من استقبال القبلة، ومرَّ عبيد الله العمري في الرابع عشر من الوضوء، ومرَّ نافع في الأخير من العلم، ومرَّ ابن عمر في أول الإيمان قبل ذكر حديث منه.

الحديث التاسع والثمانون والمائة

الحديث التاسع والثمانون والمائة حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما كَانَ يَبْعَثُ بِهَدْيِهِ مِنْ جَمْعٍ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، حَتَّى يُدْخَلَ بِهِ مَنْحَرُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- مَعَ حُجَّاجٍ فِيهِمُ الْحُرُّ وَالْمَمْلُوكُ. هذه رواية أخرى في الحديث السابق وأفادت هذه الرواية زيادة وقت بعث الهدي إلى المنحر، وأنه من آخر الليل. وقوله: مع حجاج بضم المهملة جمع حاج. وقوله: فيهم الحر والمملوك: معناه أنه لا يشترط بعث الهدي مع الأحرار دون الأرقاء، وسيأتي في الأضاحي عن ابن عمر، كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يذبح وينحر بالمصلى، وهذا محمول على الأضحية بالمدينة. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ إبراهيم بن المنذر في الأول من العلم، ومرَّ أنس بن عياض في الرابع عشر من الوضوء، وموسى بن عقبة في الخامس منه، ومرَّ محل نافع وابن عمر في الذي قبله. ثم قال المصنف:

باب من نحر هديه بيده

باب من نحر هديه بيده ليست هذه الترجمة وحديثها عند أكثر الرواة، بل ثبتت لأبي ذر عن المستملي وحده، وفي نسخة الصغاني بعد الترجمة ما نصه حديث سهل بن بكار عن وهيب فاكتفى بالإشارة. الحديث التسعون والمائة حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ بَكَّارٍ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ، عَنْ أَنَسٍ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، قَالَ: وَنَحَرَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِيَدِهِ سَبْعَ بُدْنٍ قِيَامًا، وَضَحَّى بِالْمَدِينَةِ كَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ. مُخْتَصَرًا. ذكر حديث أنس هنا مختصرًا وفيه نحر النبي -صلى الله عليه وسلم- بيده سبع بدن، وهذا الحديث سيأتي بعد بابٍ تامًا بالإسناد، والذي ساقه هنا سواء، وسأتكلم عليه هناك إن شاء الله تعالى. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ سهل بن بكار في الثالث والثمانين من الزكاة، ومرَّ وهيب في تعليق بعد الخامس عشر من الإيمان، ومرَّ أيوب وأبو قلابة في التاسع منه، ومرَّ أنس في السادس منه. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة، ورواته كلهم بصريون. أخرجه أيضًا في الحج والجهاد ومسلم في الصلاة وكذا النسائي وأبو داود في الحج والأضاحي. ثم قال المصنف:

باب نحر الإبل مقيدة

باب نحر الإبل مقيدة أورد فيه حديث ابن عمر وهو مطابق لما ترجم له. الحديث الحادي والتسعون والمائة حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ زِيَادِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما أَتَى عَلَى رَجُلٍ، قَدْ أَنَاخَ بَدَنَتَهُ يَنْحَرُهَا، قَالَ: ابْعَثْهَا قِيَامًا مُقَيَّدَةً، سُنَّةَ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-. قوله أتى على رجل لم أقف على أسمه. وقوله: قد أناخ بدنته ينحرها زاد أحمد عن يونس لينحرها بمنى. وقوله: أبعثها، أي: أثرها، يقال: بعثت الناقة أثرتها. وقوله: قيامًا، أي: عن قيام، وقيامًا مصدر بمعنى قائمة وهي حال مقدرة، أو قوله: أبعثها، أي: أتمها أو العامل محذوف تقديره أنحرها. وقد وقع في رواية عند الإسماعيلي أنحرها قائمة. وقوله: مقيدة، أي: معقولة الرجل قائمة على ما بقي من قوائمها، ولأبي داود عن جابر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه كانوا ينحرون البدنة معقولة اليسرى قائمة على ما بقي من قوائمها. وقال سعيد بن منصور، عن سعيد بن جبير، رأيت ابن عمر ينحر بدنته وهي معقولة إحدى يديها. وقوله: "سنة محمد" ينصب سنة بعامل مضمر كالاختصاص، أو التقدير: متبعًا سنة محمد، ويجوز الرفع، ويدل عليه رواية الحرب في المناسك، فقال له: انحرها قائمة، فإنها سنة محمد -صلى الله عليه وسلم-. وفي هذا الحديث استحباب نحو الإبل على الصفة المذكورة، وعن الحنفية: يستوي نحرها قائمة وباركة في الفضيلة، وفيه تعليم الجاهل وعدم السكوت على مخالفة السنة، وإن كان مباحًا، وفيه أن قول الصحابي من السنة كذا مرفوع عند الشيخين، لاحتجاجهما بهذا الحديث في صحيحيهما. رجاله خمسة: قد مرّوا إلا زيادًا، مرَّ عبد الله بن مسلمة في الثاني عشر من الإيمان، ومرَّ يزيد بن ذريع في السادس والتسعين من الوضوء، ومرَّ يونس بن عبيد في الرابع والعشرين من الإيمان، ومرَّ ابن عمر في أول الإِيمان قبل ذكر حديث منه، والباقي زياد بن جبير بن حية بن مسعود بن

لطائف إسناده

معتب باسم المفعول مضعفًا الثقفي البصري. قال أحمد: من الثقات. وقال مرَّة: رجل معروف، وقال ابن معين وأبو زرعة والنسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في الطبقة الثالثة من الثقات، فكأنه لم يرو عن ابن عمرو، ووثقه العجلي، وسئل أبو داود عنه فقال: هذا زياد الجهبذ، وقال الدَّارقطني: ليس به بأس، وروي عن عبد الرحمن بن أبي نعيم قال: كان زياد بن جبير يقع في الحسن والحسين فقلت له: يا أبا محمد إن أبا سعيد حدَّثني عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة"، ليس له في الصحيحين إلا هذا الحديث، وحديث آخر أخرجه البخاري في النذر بهذا الإِسناد، وأخرجه في الصوم بإسناد آخر، وقد اشترك زياد بن جبير، مع زيد بن جبير في روايتهما عن ابن عمر، وليس بينهما أخوة؛ لأن زيدًا طائي كوفيٌّ، وزياد ثقفي بصري، روى عن أبيه وابن عمر وسعد والمغيرة، وروى عنه بن أخيه سعيد بن عبيد الله بن جبير، ويونس بن عبيد، وغيرهم، ووفي الحديث لفظ رجل مبهم لم يسم. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة، والقول والرؤية، ورواته شيخه مدني سكن البصرة، والبقية بصريون أخرجه مسلم في الحج، وكذا أبو داود والنسائي. ثم قال: وقال شعبة عن يونس: "أخبرني زياد" وهذا التعليق أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده عن شعبة عن يونس سمعت زياد بن جبير يقول: انتهيت مع ابن عمر فإذا رجل قد أضجع بدنته وهو يريد أن ينحرها، فقال: قيامًا مقيدة سنة محمد -صلى الله عليه وسلم-. وقد أخرج المصنف طريق شعبة، لبيان سماع يونس له من زياد، وقد مرَّ شعبة في الثالث من الإيمان، ومحل يونس في الذي قبله، وفيه تعريف زياد بن جبير. ثم قال المصنف:

باب نحر البدن قائمة

باب نحر البدن قائمة في رواية الكشميهني قيامًا، ثم قال: "وقال ابن عمر رضي الله عنهما: سنة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وهذا التعليق ذكره موصولًا في الباب السابق وابن عمر في أول الإيمان قبل ذكر حديث منه، ثم قال: وقال ابن عباس: صواف قيامًا؛ هكذا ذكره سفيان بن عيينة عنه في تفسيره في تفسير قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} قال: قيامًا؛ أخرجه سعيد بن منصور عنه، وأخرجه عبد بن حميد عن أبي نعيم عنه. وقوله: "صوّاف" بالتشديد جمع صافة، أي: مصطفة في قيامها، وفي مستدرك الحاكم عن ابن عباس في قوله تعالى: "صوافن" أي: قيامًا على ثلاثة قوائم معقولة، وهي قراءة ابن مسعود: صوافن بكسر الفاء بعدها نون جمع صافنة، وهي التي رفعت إحدى يديها بالعقل لئلا تضطرب. وابن عباس مرَّ في الخامس من بدء الوحي. الحديث الثاني والتسعون والمائة حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ بَكَّارٍ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا، وَالْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، فَبَاتَ بِهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ، فَجَعَلَ يُهَلِّلُ وَيُسَبِّحُ، فَلَمَّا عَلاَ عَلَى الْبَيْدَاءِ لَبَّى بِهِمَا جَمِيعًا، فَلَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَحِلُّوا. وَنَحَرَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِيَدِهِ سَبْعَ بُدْنٍ قِيَامًا، وَضَحَّى بِالْمَدِينَةِ كَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ. قوله: "فبات بها، فلما أصبح" في رواية الكشميهني: فبات بها حتى أصبح، وقد تقدم الكلام على هذا الحديث في التحميد والتسبيح والتكبير قبل الإهلال، والمراد منه هنا قوله: "ونحر بيده سبع بدن قيامًا" كذا في رواية أبي ذر، وفي رواية كريمة وغيرها: سبعة بدن، فقيل في توجيهها: أراد أبعرة، فلذا ألحق بها الهاء ولم يذكر عدد البدن ولا عدد ما نحره عليه الصلاة والسلام، ووقع في رواية علي بعد بابين أنها مائة بدنة، ولأبي داود عن ابن إسحاق: نحر النبي -صلى الله عليه وسلم- ثلاثين بدنة، وأمرني فنحرت سائرها، وأصح منه ما عند مسلم في حديث جابر الطويل، فإن فيه: ثم انصرف النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المنحر فنحر ثلاثًا وستين بدنة، ثم أعطى عليًّا

رجاله خمسة

فنحر ما غير، وأشركه في هديه، ثم أمر من كل بدنة ببضعة، فجعلت في قدر فطبخت، فأكلا من لحمها وشربا من مرقها، فعرف بذلك أن البدن كانت مائة، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- نحر منها ثلاثًا وستين، ونحر عليٌّ الباقي والجمع بينه وبين رواية ابن إسحاق أنه عليه الصلاة والسلام نحو ثلاثين، ثم أمر عليًا أن ينحر فنحر سبعًا وثلاثين مثلًا، ثم نحر النبي -صلى الله عليه وسلم- ثلاثًا وثلاثين، فإن ساغ هذا الجمع وإلا فما في الصحيح أصح. وقوله: "وضحى بالمدينة كبشين" قال ابن التين: صوابه: بكبشين، قال صاحب التوضيح: وكذا هو في أصل ابن بطال. وقوله: "أملحين" تثنية أملح، وهو الأبيض يخالطه أدنى سواد. وقوله: "أقرنين" تثنية أقرن، وهو الكبير القرن وفيه نحر الهدي بيده وهو أحسن إذا أحسن النحر، وفيه: نحر الإبل قائمة، وبه قال الشافعي وأحمد وأبو ثور، وقال أبو حنيفة والثوري: تنحر باركة وقائمة، واستحب عطاء أن ينحرها باركة معقولة. وروى ابن أبي شيبة: إن شاء قائمة وإن شاء معقولة، وعن الحسن: باركة أهون عليها، وعند المالكية يندب نحر الإبل قائمة مقيدة أو معقولة اليسرى. رجاله خمسة: مرّوا بهذا النسق في الذي قبله بحديث. الحديث الثالث والتسعون والمائة حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا، وَالْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ. وَعَنْ أَيُّوبَ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه ثُمَّ بَاتَ حَتَّى أَصْبَحَ، فَصَلَّى الصُّبْحَ، ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ حَتَّى إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ الْبَيْدَاءَ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ. وقوله في هذه الرواية: "وعن أيوب، عن رجل، عن أنس" المراد به بيان اختلاف إسماعيل بن عُلَيَّة ووهيب على أيوب فيه، فساقه وهيب عنه بإسناد واحد، وفصل إسماعيل بعضه فقال: عن أيوب عن أبي قلابة، عن أنس، وقال في بعضه: عن أيوب، عن رجل، عن أنس، قال الداودي: لو كان كله عند أيوب عن أبي قلابة ما أبهمه، وقال ابن التين: يحتمل أن يكون إسماعيل شك فيه أو نسيه، ووهيب ثقة، وقد جزم بأن جميع الحديث عنه، وحكى ابن بطال عن المهلب أنه وقع عنده هنا: فلما أهلّ لنا بهما جميعًا، ومعناه: أمر من أهل بالقِران؛ لأنه كان مفردًا، فمعنى: أهل لنا، أي: أباح لنا الإهلال فكان ذلك أمرًا وتعليمًا لهم كيف يهلون، وإلا فما معنى (لنا) في هذا الموضع وليس في شيء من الروايات ما ذكره

رجاله خمسة

والذي في الأصول فلما علا على البيداء لبّى بهما جميعًا، ولعله وقع في نسخته: فلما علا على البيداء أهلّ، وفي أخرى: لبَّى، فكتبت لبّى بألف، فصارت صورتها لنا بنون خفيفة، وجمع بينها وبين الرواية الأخرى فصارت: أهل لنا، ولا وجود لذلك في شيء من الطرق، وقد مرَّ في الذي قبله أن الكلام تقدم عليه في باب التسبيح والتحميد والتكبير قبل الإهلال. رجاله خمسة: قد مرّوا، مرَّ مسدد في السادس من الإيمان، ومرَّ إسماعيل بن علية في الثامن منه، ومرَّ محل الثلاثة الباقية في الذي قبله بحديثين. وهذا الرجل المبهم لم يسم. ثم قال المصنف:

باب لا يعطي الجزار من الهدي شيئا

باب لا يعطي الجزَّار من الهدي شيئًا فاعل يعطي محذوف، أي: لا يعطي صاحبُ الهدي، والجزَّار منصوب على المفعولية، وروي بفتح الطاء والجزار بالرفع. الحديث الرابع والتسعون والمائة حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عَلِىٍّ رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَنِى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَقُمْتُ عَلَى الْبُدْنِ، فَأَمَرَنِي فَقَسَمْتُ لُحُومَهَا، ثُمَّ أَمَرَنِي فَقَسَمْتُ جِلاَلَهَا وَجُلُودَهَا. قَالَ سُفْيَانُ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ عَلِىٍّ رضي الله عنه قَالَ أَمَرَنِي النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ أَقُومَ عَلَى الْبُدْنِ، وَلاَ أُعْطِيَ عَلَيْهَا شَيْئًا فِي جِزَارَتِهَا. قوله: "وقال سفيان" هو المذكور بالإسناد المذكور وليس معلقًا، وقد وصله النسائي عن سفيان، وعبد الكريم المذكور هو الجزري كما في الرواية التي في الباب بعده. وقوله: "فقمت على البدن" أي: التي أرصدها للهدي. وفي الرواية الأخرى: "أن أقوم على البدن" أي: عند نحرها للاحتفاظ بها، ويحتمل أن يريد ما هو أعم من ذلك أي: على مصالحها في عقلها ورعيها وسقيها وغير ذلك، وقد مرَّ في الباب الذي قبله بيان عدد البدن، وعدد ما نحر بيده الشريفة عليه الصلاة والسلام. وقوله: "ولا أعطي عليها شيئًا في جزارتها" وكذا قوله في الرواية التي في الباب بعده: "ولا يعطي في جزارتها شيئًا" ظاهرهما أن لا يعطي الجزار شيئًا البتة، وليس ذلك بمراد، بل المراد أن لا يعطي الجزار منها شيئًا كما عند مسلم، وظاهره مع ذلك غير مراد، بل بيّن النسائي في روايته عن ابن جريج أن المراد منع عطية الجزار من الهدي عوضًا عن أجرته، ولفظه: ولا يعطي في جزارتها منها شيئًا، وقال ابن خزيمة: النهي عن إعطاء الجزار المراد به أن لا يعطي منها عن أجرته، وكذا قال البغوي في "شرح السنة" قال: وأما إذا أعطي أجرته كاملة، ثم تصدق عليه إذا كان فقيرًا كما يتصدق على الفقراء، فلا بأس بذلك، وقال غيره: إعطاء الجزار على سبيل الأجرة ممنوع لكونه معاوضة، وأما إعطاؤه صدقة أو هدية أو زيادة على حقه فالقياس الجواز، ولكن إطلاق الشارع ذلك قد يفهم منه منع الصدقة؛ لئلا تقع مسامحة في الأجرة لأجل ما يأخذه، فيرجع إلى المعاوضة.

رجاله سبعة

قال القرطبي: لم يرخص في إعطاء الجزار منها في أجرته إلا الحسنُ البصري، وعبد الله بن عبيد بن عمير. واختلف في ضبط الجزارة، فقال ابن التين: الجزارة: بالكسر اسم للفعل وبالضم اسم للسواقط، فعلى هذا فينبغي أن يقرأ بالكسر، وبه صحت الرواية، فإن صحت بالضم جاز أن يكون المراد: لا يعطى من بعض الجزور أجرة الجزار، وقال ابن الجوزي، وتبعه المحب الطبري: الجزارة بالضم اسم لما يعطى كالعمالة وزنًا ومعنًى، وقيل: هو بالكسر؛ كالحجامة والخياطة، وجوز غيره الفتح، وقال ابن الأثير: الجزارة بالضم كالعمالة ما يأخذه الجزار من الذبيحة عن أجرته، وأصلها أطراف البعير: الرأس واليدان والرجلان، سميت بذلك لأن الجزار كان يأخذها عن أجرته. رجاله سبعة: مرّ منهم: محمد بن كثير في الثاني والثلاثين من العلم، ومرَّ ابن أبي نجيح في الرابع عشر منه، ومرَّ علي في السابع والأربعين منه، ومرَّ الثوري في السابع والعشرين من الإيمان، ومرَّ مجاهد في أثر أوله قبل ذكر حديث منه، ومرَّ عبد الرحمن بن أبي ليلى في الثالث والستين من صفة الصلاة، والباقي عبد الكريم بن مالك الجزري أبو سعيد الحراني مولى بني أمية وهو ابن عم خصيف لحًا، ويقال له: الخضرمي بالخاء المعجمة المكسورة، قال أحمد: ثقة ثبت، وهو أثبت من خصيف، وهو صاحب سنة، وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، وقال ابن عمار والعجلي وأبو حاتم: ثقة، وقال أبو زرعة: ثقة أخذ عنه الأكابر، وقال سفيان: ما رأيت غريبًا أثبت منه، وقال يعقوب بن شيبة: هو إلى الضعف ما هو، وهو صدوق، وقد روى عنه مالك وكان ممن ينقي الرجال، وقال سفيان: كان حافظًا وكان من الثقات لا يقول إلا: سمعت، وحدَّثنا، ورأيت. وقال الثوري لابن عيينة: أرأيت عبد الكريم الجزري وأيوب وعمرو بن دينار! فهؤلاء ومن أشبههم ليس لأحد فيهم متكلم، وقال أحمد: قلت لابن المديني: عبد الكريم إلى من تضمه؟ قال: ذلك ثبت، قلت: هل هو مثل ابن أبي نجيح؟ قال: ابن أبي نجيح أعلم بمجاهد، وهو أعلم بالمشايخ، وهو ثقة ثبت، وقال عبيد الله بن عمرو الرقي: قال لي سفيان بن سعيد: يا أبا وهب لقد جاءنا صاحبكم عبد الكريم بأحاديث لو حدَّث بها هؤلاء الكوفيون ما زالوا يفتخرون بها علينا منها: "الندم توبة" وقال سفيان الثوري: ما رأيت أفضل منه، كان يحدث بشيء لا يوجد إلا عنده فلا يعرف ذلك فيه يعني لا يفتخر. وقال ابن عبد البر: كان ثقة مأمونًا كثير الحديث، وقال أبو عروبة: هو ثبت عند العارفين بالنقل، وقال ابن نمير والترمذي وأبو بكر البزّار وابن البرقي والدارقطني: هو ثقة، وقال معاوية ابن صالح عن يحيى بن معين: ثقة ثبت.

لطائف إسناده

وقال عنه الدوري: حديث عبد الكريم عن عطاء رديء، قال ابن عدي يعني عن عائشة كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقبلها ولا يحدث وضوءًا، وإنما أراد ابن معين هذا؛ لأنه ليس بمحفوظ، ولعبد الكريم أحاديث صالحة مستقيمة يرويها عنه قوم ثقات، وإذا روى عنه الثقات فأحاديثه مستقيمة، وقال علي بن المديني: قلت ليحيى بن سعيد: حدث عبد الكريم عن عطاء في لحم البغل؟ فقال: قد سمعته وأنكره يحيى، وقال في المقدمة: لم يخرج البخاري في روايته عن عطاء إلا موضعًا واحدًا معلقًا. روى عن عطاء، وعكرمة، وسعيد بن المسيب، وغيرهم، وروى عنه أيوب -وهو من أقرانه- وابن جريج ومالك وغيرهم، مات في سنة سبع وعشرين ومائة. والخضرمي في نسبه بكسر الخاء نسبة إلى الخضارمة، قوم من العجم خرجوا في بدء الإِسلام فسكنوا الشام الواحد: خِضرمي بالكسر منهم: عبد الكريم هذا، وهبار بن عقيل، والعباس بن الحسن الخضرميون. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإفراد، والإخبار بالجمع والعنعنة والقول، ورواته: بصري وكوفي ومكيان وكوفي وجزري. أخرجه البخاري أيضًا في الحج، وفي الوكالة، ومسلم في الحج، وكذا أبو داود وابن ماجه فيه وفي الأضاحي. ثم قال المصنف:

باب يتصدق بجلود الهدي

باب يتصدق بجلود الهدي أورد فيه حديث علي، عن عبد الكريم، والحسن بن مسلم، وساقه بلفظ الحسن بن مسلم، وأما لفظ عبد الكريم فقد أخرجه مسلم عنه وزاد وقال: نحن نعطيه من عندنا. الحديث الخامس والتسعون والمائة حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَعَبْدُ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيُّ أَنَّ مُجَاهِدًا أَخْبَرَهُمَا: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى أَخْبَرَهُ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه أَخْبَرَهُ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَمَرَهُ أَنْ يَقُومَ عَلَى بُدْنِهِ، وَأَنْ يَقْسِمَ بُدْنَهُ كُلَّهَا، لُحُومَهَا وَجُلُودَهَا وَجِلاَلَهَا، وَلاَ يُعْطِي فِي جِزَارَتِهَا شَيْئًا. قوله: "وأن يقسم بدنه" بسكون الدال المهملة ويجوز ضمها. وقوله: "لحومها وجلودها وجلالها" زاد مسلم وابن خزيمة: ولا يعطي في جزارتها منها شيئًا، قال ابن خزيمة: المراد بقوله: "يقسمها كلها على المساكين" إلا ما أمر به من كل بدنة ببضعة، فطبخت كما في حديث جابر المتقدم التنبيه عليه، واستدل به على منع بيع الجلد، قال القرطبي: فيه دليل على أن جلود الهدي وجلالها لا تباع لعطفها على اللحم، وإعطائها حكمه، وقد اتفقوا على أن لحمه لا يباع فكذلك الجلود والجلال، وأجازه الأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وهو وجه عند الشافعية قالوا: ويصرف ثمنه مصرف الأضحية، واستدل أبو ثور على أنهم اتفقوا على جواز الانتفاع به، وكل ما جاز الانتفاع به جاز بيعه، وعورض باتفاقهم على جواز الأكل من لحم هدي التطوع، ولا يلزم من جواز أكله جواز بيعه، وأقوى من ذلك في رد قوله ما أخرجه أحمد عن قتادة بن النعمان مرفوعًا: "لا تبيعوا لحوم الأضاحي والهدي وتصدقوا، وكلوا واستمتعوا بجلودها، ولا تبيعوا، وإن أطعمتم من لحومها، فكلوا إن شئتم". رجاله سبعة: قد مرّوا: مرَّ مسدد ويحيى القطان في السادس من الإيمان، ومرَّ ابن جريح في الثالث من الحيض، ومرَّ الحسن بن مسلم في التاسع والعشرين من الغسل، ومرَّ عبد الكريم في الذي قبله بحديث، ومرَّ فيه محل مجاهد وابن أبي ليلى وعلي. ثم قال المصنف:

باب يتصدق بجلال البدن

باب يتصدق بجلال البدن الحديث السادس والتسعون والمائة حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سَيْفُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا يَقُولُ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي لَيْلَى أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه حَدَّثَهُ قَالَ: أَهْدَى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مِائَةَ بَدَنَةٍ، فَأَمَرَنِي بِلُحُومِهَا فَقَسَمْتُهَا، ثُمَّ أَمَرَنِي بِجِلاَلِهَا فَقَسَمْتُهَا، ثُمَّ بِجُلُودِهَا فَقَسَمْتُهَا. تقدم الكلام على هذا الحديث مستوفى في باب نحر البدن قائمة، والذي بعده. وفي الحديث من الفوائد سوق الهدي، والوكالة في نحر الهدي، والاستيجار، والقيام عليه وتفرقته، والإشراك فيه وإن وجب عليه شيء لله فله تخليصه، ونظيره الزرع يعطي عشره ولا يحسب شيئًا من نفقته على المساكين. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ أبو نعيم في الخامس والأربعين من الإيمان، ومرَّ سيف بن أبي سليمان في الخامس من استقبال القبلة، ومرَّ محل مجاهد وابن أبي ليلى وعلي في الذي قبله بحديث. ثم قال المصنف:

باب

باب {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ....}. وقع سياق الآيات كلها في رواية كريمة، والمراد منها هنا قوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} ولذلك عطف عليها في الترجمة، وما يأكل من البدن وما يتصدق، أي: بيان المراد من الآية، وقد وقع في رواية كريمة بعد قوله: {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} وقبل قوله: وما يأكل من البدن وما يتصدق لفظ باب، وسقط من رواية أبي ذر وهو الصواب. وقوله: {وَإِذْ بَوَّأْنَا} اذكر إذ جعلنا لإبراهيم مكان البيت مباءَة ومرجعًا يرجع إليه للعبادة والعمارة، يقال: بوأ الرجل منزلًا أعده وبوأه غيره منزلًا أعطاه، وأصله باء إذا رجع، واللام في لإبراهيم مقحمة لقوله: {بؤانا بني إسرائيل} وقوله: {تبوىء المؤمنين}. وقوله: "مكان البيت" أي: موضع الكعبة. قيل: المكان جوهر يمكن أن يثبت عليه غيره كما أن الزمان عرض يمكن أن يحدث فيه غيره، فإن قيل: كيف يكون النهي عن الإشراك والأمر بالتطهير تفسيرًا للتبوئة، أجيب: بأنه كانت التبوئة مقصودة من أجل العبادة، فكأنه قيل: وإذ تعبدنا إبراهيم قلنا له: لا تشرك بي شيئًا وطهر بيتي من الأصنام والأوثان. وقوله: {وَالْقَائِمِينَ} أي: المصلين لأن الصلاة قيام وركوع وسجود، والركع جمع راكع، والسجود جمع ساجد، لم يذكر الواو بين الركع والسجود، وذكره بين القائمين والركع، لكمال الاتصال بين الركع والسجد إذ لا ينفك أحدهما عن الآخر فرضًا أو نفلًا، وينفك القيام من الركوع فلا يكون بينهما كمال الاتصال. وقوله: {وَأَذِّنْ} أي: ناب عطف على قوله: "وطهر"، والنداء بالحج أن يقول: حجوا، أمر إبراهيم عليه السلام أن يؤذن في الناس بالحج، وقال إبراهيم عليه السلام: يا رب وما يبلغ صوتي؛ قال: أذِّن، وعليّ البلاغ، وعن الحسن أن قوله: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} كلام مستأنف، وأن المأمور بهذا التأذين محمد -صلى الله عليه وسلم- أمر أن يفعل ذلك في حجة الوداع.

وقوله: {رِجَالًا} أي: مشاة على أرجلهم جمع راجل، مثل قائم وقيامًا، وصائم وصيامًا. وقوله: {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} أي: وركبانًا والضامر البعير المهزول، وانتصاب رجالًا على أنه حال وعلى كل ضامر حال معطوفة على الحال الأولى. وقوله: {يَأْتِينَ} صفة لكل ضامر؛ لأن كل ضامر في معنى الجمع، أراد النوق. وقوله: {مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} أي: طريق بعيد. وقوله: {لِيَشْهَدُوا} أي: ليحضروا منافع لهم مختصة بهذه العبادة من أمور الدين والدنيا، وقيل: المنافع التجارة، وقيل: العفو والمغفرة. وقوله: {فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} عشر ذي الحجة، وقيل: تسعة من العشر، وقيل: يوم الأضحى، وثلاثة أيام بعده، وقيل: أيام التشريق، وقيل: إنها خمسة أيام، أولها يوم التروية، وقيل: ثلاثة أيام، أولها يوم عرفة، والذكر هنا تدخل فيه التسمية على ما نحر، لقوله: {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} من الهدايا والضحايا من الإبل والبقر والغنم، والبهيمة مبهمة في كل ذات أربع في البر والبحر، فبينت بالأنعام من الإبل والبقر والغنم. وقوله: {فَكُلُوا مِنْهَا} الأمر بالأكل منها أمر إباحة؛ لأن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون من نسائكهم، ويجوز أن يكون ندبًا لما فيه من مواساة الفقراء ومساواتهم، واستعمال التواضع. وقوله: {وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ} أي: الذي أصابه بؤس أي: شدة الفقر، وذهب الأكثرون إلى أنه غير واجب. وقوله: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} قال عطاء عن ابن عباس: التفث حلق الرأس، وأخذ الشارب، ونتف الإبط، وحلق العانة، وقص الأظافر، والأخذ من العارضين، ورمي الجمار، والوقوف بعرفة، وقيل: مناسك الحج، والتفث في الأصل الوسخ والقذارة من طول الشعر والأظافر والشعث، وقضاؤه نقضه وإذهابه، وقال الزجاج: أهل اللغة لا يعرفون التفث إلا من التفسير، وكأنه عندهم الخروج من الإحرام إلى الإحلال. وقوله: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} أي: نذور الحج والهدي، وما ينذر الإنسان من أعمال البر في حجهم. وقوله: {وَلْيَطَّوَّفُوا} أراد الطواف الواجب، وهو طواف الإفاضة والزيارة، الذي يطاف بعد الوقوف، إما يوم النحر أو بعده. وقوله: {بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} أي: الكعبة سمى العتيق لقدمه، أو لأنه عتق من أيدي الجبابرة، فلم يصلوا إلى تخريبه، فلم يظهر عليه جبار ولم يسلط عليه إلا من يعظمه ويحترمه، قلت: ولا يرد على هذا ما يقع من تخريب ذي السويقتين له في آخر الزمان؛ لأن ذلك قرب انقضاء الدنيا، وعند عدم وجود مؤمن في الأرض، ولا يرجى وجوده بعد ذلك.

الحديث السابع والتسعون والمائة

وقيل: لأنه لم يملك قط، وقيل: لأنه أعتق من الغرق في الطوفان. ثم قال: وقال عبيد الله: أخبرني نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: لا يؤكل من جزاء الصيد والنذر، ويؤكل مما سوى ذلك، وصله ابن أبي شيبة عن ابن نمير عنه بمعناه قال: إذا اعطبت البدنة أكل منها صاحبها، ولم يبدلها إلا أن تكون نذرًا أو جزاء صيد، ورواه الطبري عن عبيد الله بلفظ التعليق المذكور، وهذا القول إحدى الروايتين عن أحمد، وهو قول مالك وزاد: إلا فدية، إلا أذى، والرواية الأخرى عن أحمد: ولا يؤكل إلا من هدي التطوع والتمتع والقِران، وهو قول الحنفية بناء على أصلهم أن دم التمتع والقِران دم نسك لا دم جبران، وعند المالكية تفصيل طويل فيما يأكل منه، وما لا يأكل. رجاله ثلاثة: قد مرّوا: مرَّ عبيد الله العمري في الرابع عشر من الوضوء، ومرَّ نافع في الأخير من العلم، ومرَّ ابن عمر في أول الإيمان قبل ذكر حديث منه. ثم قال: وقال عطاء: يأكل ويطعم من المتعة، وهذا وصله عبد الرزاق عن ابن جريج عنه، وروى سعيد بن منصور عن عطاء: لا يؤكل من جزاء الصيد ولا مما يجعل للمساكين من النذور وغير ذلك، ولا من الفدية، ويؤكل مما سوى ذلك، وروى عبد بن حميد عنه: إن شاء أكل من الهدية والأضحية، وإن شاء لم يأكل، ولا تخالف بين هذه الآثار عن عطاء، فإن حاصلها ما دلَّ عليه الأثر الثاني، وزعم ابن القصار المالكي أن الشافعي تفرد بمنع الأكل من دم التمتع، رمز عطاء في التاسع والثلاثين من العلم. الحديث السابع والتسعون والمائة حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، حَدَّثَنَا عَطَاءٌ، سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما يَقُولُ: كُنَّا لاَ نَأْكُلُ مِنْ لُحُومِ بُدْنِنَا فَوْقَ ثَلاَثِ مِنًى، فَرَخَّصَ لَنَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "كُلُوا وَتَزَوَّدُوا". فَأَكَلْنَا وَتَزَوَّدْنَا. قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَقَالَ: حَتَّى جِئْنَا الْمَدِينَةَ؟ قَالَ: لاَ. قوله: "فوق ثلاث منى" بإضافة ثلاثة إلى منى أي: الأيام الثلاثة التي يقام بها بمنى، وهي الأيام المعدودات، قال في المصابيح: الأصل ثلاث ليالي منى، كقولهم: حب رمان زيد، فإن القصد إضافة الحب المختص بكونه للرمان إلى زيد، ومثله ابن قيس الرقيات، فإن المتلبس بالرقيات ابن قيس لا قيس، قال سعد الدين التفتزاني: وتحقيقه أن مطلق الحب مضاف إلى الرمان، والحب المقيد بالإضافة إلى الرمان مضاف إلى زيد، قال الدماميني: وفيه نظر، قلت: لم أفهم وجه نظره، واختلف في أول الثلاث التي كان الإدخار فيها جائزًا، فقيل: أولها يوم النحر فمن ضحى فيه جاز له أن يمسك يومين بعده، ومن ضحى بعده أمسك

ما بقي له من الثلاثة، وقيل: أولها يوم يضحي فلو ضحى في آخر أيام النحر جاز له أن يمسك ثلاثًا بعدها، ويحتمل أن يؤخذ من قوله: "فوق ثلاث" أن لا يحسب اليوم الذي يقع فيه النحر من الثلاث، وتعتبر الليلة التي تليه وما بعدها، ويؤيده قول جابر في حديثه: "فوق ثلاث منى" فإن ثلاث منى تتناول يومًا بعد يوم النحر لأهل النفر الثاني، وقوله: قلت لعطاء: أقال: حتى جئنا المدينة، قال: لا. يعني: لم يقل جابر: حتى جئنا المدينة. وعند مسلم: نعم، بدل قوله: لا، ويجمع بين قوله: لا وقوله: نعم بأن يحمل على أنه نسي فقال: لا، ثم تذكر فقال: نعم، ويحتمل أن يكون ليس المراد بقوله: لا نفي الحكم، بل مراده أن جابرًا لم يصرح باستمرار ذلك منهم حتى قدموا المدينة، فيكون على هذا معنى قوله في رواية عمرو بن دينار عن عطاء: كنا نتزود لحوم الهدي إلى المدينة، أي لتوجهنا إلى المدينة، ولا يلزم من ذلك بقاؤها معهم حتى يصلوا المدينة. لكن أخرج مسلم عن ثوبان قال: ذبح النبي -صلى الله عليه وسلم- أضحيته ثم قال لي: "يا ثوبان أصلح لحم هذه" فلم أزل أطعمه منه حتى قدم المدينة، قال ابن بطال: في الحديث رد على من زعم من الصوفية أنه لا يجوز ادِّخار طعام لغدٍ، وأن اسم الولاية لا يستحق لمن ادخر شيئًا ولو قلّ، وأن من ادخر أساء الظنّ بالله تعالى. وفيه هذه الأحاديث كفاية في الرد على من زعم ذلك. وحديث جابر هذا يخالف ما رواه مسلم عن علي بن أبي طالب: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهانا أن نأكل من لحوم نُسكنا بعد ثلاث، وفي لفظ: قد نهاكم أن تأكلوا لحوم نسككم فوق ثلاث ليالٍ، فلا تأكلوا، وروي أيضًا عن ابن عمر عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يأكل أحدكم من أضحيته فوق ثلاثة أيام" قال الشافعي: لعل عليًّا لم يبلغه النسخ وقال غيره: يحتمل أن يكون الوقت الذي قال فيه ذلك، كان بالناس حاجة كما وقع في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وبذلك جزم ابن حزم فقال: إنما خطب عليّ بالمدينة في الوقت الذي كان عثمان حوصر فيه، وكان أهل البوادي قد ألجأتهم الفتنة إلى المدينة، فأصابهم الجهد، فلذلك قال عليّ ما قال، وقد أخرج الطحاوي كون خطبة عليّ كانت في زمن حصر عثمان، وقال القاضي: اختلف العلماء في الأخذ بهذه الأحاديث فقال قوم: يحرم إمساك لحوم الأضاحي والأكل منها بعد ثلاث، وإن حكم التحريم باقٍ كما قاله عليّ وابن عمر رضي الله تعالى عنهم، وقال جماهير العلماء: يباح الأكل والإمساك بعد الثلاث، والنهي منسوخ بحديث جابر هذا، وحديث بريدة عند مسلم قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث، فأمسكوا ما بدا لكم"، وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه، وهذا من نسخ السنة بالسنة، وقال بعضهم: ليس هو نسخًا، بل كان التحريم لعلة، فلما زالت زال التحريم، وتلك العلة هي الدافة، وكانوا منعوا من ذلك في أول الإِسلام من أجل الدافّة فلما

زالت العلة الموجبة لذلك أمرهم أن يأكلوا، ويدخروا، فقد روى مسلم عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر، عن عبد الله بن واقد قال: نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث، قال عبد الله بن أبي بكر فذكرت ذلك لعمرة فقالت: صدق، سمعت عائشة تقول: دف أهل أبيات من أهل البادية حضرت الأضحى زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال عليه الصلاة والسلام: "ادخروا ثلاثًا، ثم تصدقوا بما بقي" فلما كان بعد ذلك قالوا: يا رسول الله: إن الناس يتخذون الأسقية من ضحاياهم، ويحملون فيها الودك، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وما ذاك؟ " قالوا: نهيت أن تؤكل لحوم الضحايا بعد ثلاث، فقال: "إنما نهيتكم من أجل الدافّة التي دفّت، فكلوا وادّخروا وتصدقوا". قال أهل اللغة: الدافّة -بتشيد الفاء- قوم يسيرون جميعًا سيرًا خفيفًا، من دفّ يدفّ بكسر الدال، ودافّة الأعراب: من يرد منهم المصر، والمراد هنا: من ورد من ضعفاء الأعراب للمواساة، وقيل: كان النهي الأول للكراهة لا للتحريم، قول هؤلاء: والكراهة باقية إلى يومنا هذا، ولكن لا يحرم، قالوا: ولو وقع مثل تلك العلة اليوم فدفت دافة واساهم الناس، وحملوا على هذا مذهب علي، وابن عمر، والصحيح نسخ النهي مطلقًا، وأنه لم يبق تحريم ولا كراهة، فيباح اليوم الادخار فوق ثلاث، والآكل إلى متى شاء، وإنما رجح ذلك؛ لأنه يلزم من القول بالتحريم إذا دفت الدافّة إيجاب الإطعام، وقد قامت الأدلة عند الشافعية أنه لا يلزم في المال حق سوى الزكاة، وقال الشافعي: يحتمل أن يكون النهي عن إمساك لحوم الأضاحي بعد ثلاث منسوخًا في كل حال، وبهذا أخذ المتأخرون من الشافعية، فقال الرافعي: الظاهر أنه لا يحرم اليوم بحال، وتبعه النووي فقال: الصواب المعروف أنه لا يحرم اليوم الإدخار بحال، ونقل ابن عبد البر ما يوافق ما نقله النووي، فقال: لا خلاف بين فقهاء المسلمين في إجازة أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث، وأن النهي عن ذلك منسوخ، كذا أطلق وليس بجيد، فقد قال القرطبي: حديث سلمة وعائشة نص على أن المنع كان لعلة، فلما ارتفعت ارتفع لارتفاع موجبه، فتعيَّن الأخذ به، ويعود الحكم لعود العلة، فلو قدم على أهل بلد ناس محتاجون في زمان الأضحى ولم يكن عند أهل البلد سعة يسدون بها فاقتهم إلا الضحايا تعين عليهم أن لا يدخروا فوق ثلاث، والتقييد بالثلاث واقعة حال، وإلا فلو لم تستد الخلة إلا بتفرقة الجميع لزم على هذا التقرير عدم الإمساك، ولو ليلة واحدة، وقد حكى الرافعي عن بعض الشافعية أن التحريم كان لعلة فلما زالت زال الحكم، لكن لا يلزم عود الحكم عند عود العلة، واستبعدوه، وليس ببعيد؛ لأن صاحبه قد نظر إلى أن الخلة لم تستد يومئذٍ إلا بما ذكر، فأما الآن، فإن الخلة تستد بغير لحم الأضحية فلا يعود الحكم إلا لو فرض أن الخلة لا تستد إلا بلحم الأضحية، وهذا في غاية الندور، وحكى البيهقي عن الشافعي: أن النهي عن أكل لحوم الأضاحي كان في الأصل للتنزيه، قال: وهو كالأمر في

قوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ} وحكى الرافعي عن أبي علي الطبري احتمالًا، وقال المهلب: إنه الصحيح لقول عائشة: وليس بعزيمة، واستدل بهذه الأحاديث على أن النهي عن الأكل فوق ثلاث خاص بصاحب الأضحية، فأما من أهدي له أو تصدق عليه فلا، لمفهوم قوله: من أضحيته، وقد جاء في حديث الزبير بن العوام عند أحمد وأبي يعلى ما يفيد ذلك. ولفظه: قلت يا رسول الله: أرأيت قد نهي المسلمون أن يأكلوا من لحم نسكهم فوق ثلاث، فكيف نصنع بما أهدي لنا؟ قال: "أما ما أهدي إليكم فشأنكم به" فهذا نص في الهدية، وأما الصدقة فإن الفقير لا حجر عليه في التصرف فيما يُهدى له؛ لأن القصد أن تقع المواساة من الغني للفقير، وقد حصلت، واختلف في مقدار ما يؤكل منها ويتصدق؛ فذكر علقمة أن ابن مسعود أمره أن يتصدق بثلثه ويأكل ثلثه، ويهدي ثلثه، وروي عن عطاء وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق لقوله: "كلوا وتصدقوا وأطعموا". قال ابن عبد البر: كان غير الشافعي يقول: يستحب أن يأكل النصف ويطعم النصف، وقال الثوري: يتصدق بأكثره، وعند المالكية يندب جمع الأكل والصدقة والإعطاء بلا حد، وقال أبو حنيفة: ما يجب أن يتصدق بأقل من الثلث، قال صاحب الهداية: ويأكل من لحم الأضحية غير المنذورة، أمّا المنذورة فلا يأكل الناذر معسرًا كان أو موسرًا، وبه قالت الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد، وعن أحمد: يجوز الأكل في المنذورة، قال النووي: مذهب الجمهور أنه لا يجب الأكل من الأضحية، وإنما الأمر فيه للإذن، فيندب للمضحي أن يأكل من الأضحية شيئًا، ويطعم الباقي صدقة وهدية. وعند الظاهرية الأكل واجب عملًا بظاهر الأمر، وذهب بعض السلف إلى الأخذ بظاهر الأمر، وحكاه الماوردي عن أبي الطيب بن سلمة من الشافعية، وأما الصدقة منها فالصحيح أنه يجب التصدق من الأُضحية بما يقع عليه الاسم، والأكمل أن يتصدق بمعظمها، ومتى جاز أكله وهو غني جاز أن يؤكل غنيًا. وقوله في الحديث: "ادخروا" هو بالمهملة وأصله من ذخر بالمعجمة دخلت عليها تاء الافتعال ثم أدغمت، ومنه قوله تعالى: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} ويؤخذ من الإذن في الادخار الجواز خلافًا لمن كرهه. وقد ورد في الادخار: "كان يدخر لأهله قوت سنة" وفي رواية: "كان لا يدخر لغد" والأول في الصحيحين، والثاني في مسلم والجمع بينهما أنه كان لا يدخر لنفسه ويدخر لعياله، أو أن ذلك كان باختلاف الحال، فيتركه عند حاجة الناس إليه، ويفعله عند عدم الحاجة. وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم: نسخ الأثقل بالأخف؛ لأن النهي عن ادخار لحم الأضحية بعد ثلاث مما يثقل على المضحين والإذن في الادخار أخف منه.

رجاله خمسة

وفيه: رد على من يقول: إن النسخ لا يكون إلا بالأثقل للأخف، وعكسه ابن العربي زاعمًا أن الإذن في الادخار نسخ بالنهي، وتعقب بأن الادخار كان مباحًا بالبراءة الأصلية، فالنهي عنه ليس نسخًا، وعلى تقدير كونه نسخًا ففيه نسخ الكتاب بالسنة؛ لأن في الكتاب الإذن في أكلها من غير تقييد، لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا} ويمكن أن يقال: إنه تخصيص لا نسخ وهو الأظهر. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ مسدد ويحيى القطان في السادس من الإيمان، ومرَّ ابن جريج في الثالث من الحيض، وعطاء في التاسع والثلاثين من العلم، ومرَّ جابر في الرابع من بدء الوحي. أخرجه مسلم في الأضاحي، والنسائي في الحج. الحديث الثامن والتسعون والمائة حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ قَالَ حَدَّثَنِي يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَتْنِي عَمْرَةُ قَالَتْ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها تَقُولُ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، وَلاَ نَرَى إِلاَّ الْحَجَّ، حَتَّى إِذَا دَنَوْنَا مِنْ مَكَّةَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ إِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ ثُمَّ يَحِلُّ. قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: فَدُخِلَ عَلَيْنَا يَوْمَ النَّحْرِ بِلَحْمِ بَقَرٍ فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ فَقِيلَ ذَبَحَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ أَزْوَاجِهِ. قال يحيى: فذكرتُ هذا الحديث للقاسم، قال: أتتك بالحديث على وجهه. قوله: "إذا طاف بالبيت ثم يحل" كذا الأكثر عن طريق الفربري وكذا وقع في رواية النسفي لكن جعل على قوله: "ثم" ضبة، وفي رواية أبي ذر بلفظ: "أن" بدل "ثم" ولا إشكال فيها، وكذا أخرجه مسلم عن سليمان بن بلال بلفظ: "أن يحل" وزاد قبلها: إذا طاف بالبيت وبين الصفا والمروة، وقد شرحه الكرماني على لفظ: "ثم" فقال: جواب إذا محذوف والتقدير يتم عمرته ثم يحل، قال: ويجوز أن يكون جواب "من لم يكن" محذوفًا وإذا: ظرف لقوله: "لم يكن" ويجوز أن يكون ثم زائدة كما قال الأخفش في قوله تعالى: {أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ}: إن تاب جواب {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ}، وكله تكلف وقد تبين من رواية مسلم أن التغيير من بعض الرواة، ولاسيما قد وقع مثله في رواية أبي ذر، وفي بعض الأصول لفظ "إذا: ساقط فيكون التقدير: من لم يكن معه هدي طاف، وحينئذٍ فجواب "من" قوله "طاف". وقوله "ثم يحل" عطف أي: ثم بعد طوافه يحل، وهذا الحديث قد مرَّ في باب ذبح الرجل البقر عن نسائه، ومرَّ هناك ما قيل في الكلام عليه.

رجاله أربعة

رجاله أربعة: قد مرّوا: مرَّ خالد بن مخلد في الرابع من العلم، ومرَّ سليمان بن بلال في الثاني من الإيمان، ومرت عمرة في الثاني والثلاثين من الحيض، ومرت عائشة في الثاني من بدء الوحي، رواته كلهم مدنيون. ثم قال المصنف:

باب الذبح قبل الحلق

باب الذبح قبل الحلق الحديث التاسع والتسعون والمائة حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوْشَبٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا مَنْصُورٌ بن زاذان، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَمَّنْ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ وَنَحْوِهِ؟. فَقَالَ: "لاَ حَرَجَ، لاَ حَرَجَ". وجه الاستدلال به، هو أن السؤال عن ذلك دال على أن السائل عرف أن الحكم على عكسه، وقد أورد حديث ابن عباس من طرق: الأول: عن منصور بن زاذان عن عطاء عنه بلفظ: سئل عمن حلق قبل أن يذبح ونحوه وهذا الحديث بجميع طرقه، قد تقدم استيفاء الكلام عليه غاية الاستيفاء عند حديث عبد الله ابن عمرو بن العاص في باب الفتيا، وهو واقف على الدابة من كتاب العلم. رجاله خمسة: مرَّ منهم: محمد بن عبد الله بن حوشب في التاسع من الجماعة، ومرَّ هشيم في الثاني من التيمم، ومرَّ عطاء بن أبي رباح في التاسع والثلاثين من العلم، ومرَّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي، والباقي منصور بن زاذان -بزاي وذال معجمتين- الواسطي أبو المغيرة الثقفي مولاهم، قال أحمد: شيخ ثقة، وقال ابن معين وأبو حاتم والنسائي: ثقة، وقال العجلي: رجل صالح متعبد. كان ثبتًا، وكان سريع القراءة، وكان يحب أن يترسل فلا يستطيع ذلك، وقال هشيم: لو قيل لمنصور بن زاذان: إن ملك الموت على الباب ما كان عنده زيادة في العمل، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: كان يختم القرآن بين الأولى والعصر، وكان من المتقشفين المتجردين، روى عن أنس يقال: مرسل، وعطاء والحسن وابن سيرين وغيرهم، وروى عنه ابن أخيه مسلم بن سعيد، وحبيب بن الشهيد وجرير بن حازم وغيرهم، مات سنة ثمان أو تسع وعشرين ومائة في الطاعون. لطائف إسناده: فيه التحديث والإِخبار بالجمع والعنعنة والقول، وشيخه من أفراده، وهو طائفي ثم واسطيان ومكي أخرجه البخاري من أربعة طرق، وأخرجه النسائي في الحج وأخرجه مسلم

الحديث المائتان

بغير هذا اللفظ. الحديث المائتان حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: زُرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِي؟ قَالَ: "لاَ حَرَجَ". قَالَ: حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ؟ قَالَ: "لاَ حَرَجَ". قَالَ: ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِىَ؟ قَالَ: "لاَ حَرَجَ". وهذه الطريق الثانية أوردها عن عبد العزيز بن رفيع عن عطاء عن ابن عباس فذكر فيها الزيارة قبل الرمي، والحلق قبل الذبح، والذبح قبل الرمي، وعرف به المراد بقوله في رواية منصور ونحوه، وقد مرَّ في الذي قبله محل الكلام عليه. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ أحمد بن يونس في التاسع عشر من الإيمان، ومرَّ أبو بكر بن عياش في الثامن والأربعين والمائة من الجنائز، ومرَّ عبد العزيز بن رفيع في الثالث عشر والمائة من الحج، هذا. ومرَّ محل عطاء وابن عباس في الذي قبله ثم ذكر طريقًا ثالثًا فقال: وقال عبد الرحيم الرازي: عن ابن خثيم، أخبرني عطاء، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. وهذه الرواية المعلقة وصلها الإسماعيلي، عن الحسن بن حماد، عنه ولفظه: أن رجلًا قال: يا رسول الله، طفت بالبيت قبل أن أرمي؟ قال: "ارم ولا حرج" وصله الطبراني في الأوسط عن عبد الرحيم، وقال: تفرد به عبد الرحيم، عن ابن خثيم كذا قال، والرواية التي تلي هذه ترد عليه، وعرف بهذا أن مراد البخاري أصل الحديث لا خصوص ما ترجم به من الذبح قبل الحلق. رجاله أربعة: مرَّ منهم: محل عطاء وابن عباس في الذي قبله والباقي اثنان. الأول: عبد الرحيم بن سليمان الكناني، وقيل الطائي أبو علي المروزي الأشل، سكن الكوفة، قال سهل بن عثمان: نظر وكيع في حديثه فقال: ما أصح حديثه! كان عبد الرحيم وحفص بن غياث يطلبان الحديث معًا، وقال ابن معين وأبو داود: ثقة، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، كان عنده مصنفات، وقد صنف الكتب، وقال النسائي وابن المديني: لا بأس به، وقال العجلي: ثقة متعبد، كثير الحديث، وقال عثمان بن أبي شيبة: صدوق ليس بحجة. روى عن إسماعيل بن أبي خالد، وعاصم الأحول، وعبيد الله بن عمر، وهشام بن عروة

وغيرهم، وروى عنه أبو كريب وأبو بكر بن أبي شيبة وإبراهيم بن موسى الرازي وغيرهم، مات سنة سبع وثمانين ومائة في آخر السنة. الثاني: ابن خثيم بالتصغير وهو عبد الله بن عثمان بن خثيم القاري المكي أبو عثمان، حليف بني زهرة، قال العجلي: ثقة، وقال أبو حاتم: ما به بأس، صالح الحديث، وقال النسائي: ثقة، وقال مرة: ليس بالقوي، وقال ابن معين: حجة، وقال مرة: أحاديثه ليست بالقوية، وقال ابن عدي هو عزيز الحديث، وأحاديثه حسان، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: كان يخطىء، وقال ابن سعد: كان ثقة، وله أحاديث حسنة، وأخرج النسائي في الحج حديثًا من رواية ابن جريج عنه عن أبي الزبير، عن جابر، ثم قال: ابن خثيم ليس بالقوي، إنما أخرجت هذا، لئلا يجعل ابن جريج، عن أبي الزبير ثم قال: لم يترك يحيى ولا عبد الرحمن حديث ابن حثيم إلا أن علي ابن المديني قال: ابن خثيم منكر الحديث، وكان عليٌّ خلق للحديث، روى عن أبي الطفيل، وصفية بنت شيبة وعطاء ومجاهد وغيرهم، وروى عنه السفيانان وابن جريج ومعمر وغيرهم، مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة وقيل: قبل سنة أربع وأربعين، وقيل: سنة خمس وثلاثين. ثم قال: وقال القاسم بن يحيى: حدّثني ابن خثيم، عن عطاء، عن ابن عباس، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. وهذا التعليق قال في الفتح: لم أقف على من وصله. ورجاله أربعة: مرَّ ابن خثيم في التعليق قبله، ومرَّ محل عطاء، وابن عباس في الذي قبل هذا بحديث، ومرَّ القاسم بن يحيى في متابعة بعد السابع والعشرين من الاستسقاء. ثم قال: وقال عفان: أراه عن وهيب، حدّثنا ابن خثيم عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. القائل: أراه هو البخاري، فقد أخرجه أحمد عن عفان، بدونها، ولفظه: جاء رجل فقال: يا رسول الله، حلقت ولم أنحر؟ قال: "لا حرج فانحر" وجاءه آخر فقال: يا رسول الله: نحرت قبل أن أرمي؟ قال: "فارم ولا حرج" وزعم خلف أن البخاري قال فيه: حدثنا عفان، والمراد بهذا التعليق بيان الاختلاف فيه على ابن خثيم، هل شيخه فيه عطاء أو سعيد بن جبير؟ كما اختلف فيه على عطاء، هل شيخه فيه ابن عباس أو جابر؟! فالذي يتبين من صنيع البخاري ترجيح كونه عن ابن عباس، ثم كونه عن عطاء، وأن الذي يخالف ذلك شاذ، وإنما قصد بإيراده بيان الاختلاف، وفي رواية عفان هذه الدلالة على تعدد السائلين عن الأحكام المذكورة.

رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ عفان في الحادي عشر والمائة من الوضوء، ومرَّ وهيب في تعليق بعد الخامس عشر من الإيمان، ومرَّ ابن خثيم في التعليق السابق قبل، ومرَّ سعيد بن جبير، وابن عباس في الخامس من بدء الوحي. ثم قال: وقال حماد: عن قيس بن سعد، وعباد بن منصور، عن عطاء، عن جابر رضي الله عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. وهذا التعليق من طريق قيس بن سعد، وصله النسائي والطحاوي والإسماعيلي وابن حبان، وطريق عباد بن منصور وصله الإسماعيلي. رجاله خمسة: مرّ منهم حماد بن سلمة في متابعة بعد الحديث الثامن من الوضوء، ومرَّ عطاء في التاسع والثلاثين من العلم، ومرَّ جابر في الرابع من بدء الوحي، والباقي اثنان. الأول: قيس بن سعد المكي أبو عبد الملك، أو أبو عبد الله الحبشي مولى نافع بن علقمة، ويقال: مولى أم علقمة، قال أحمد وأبو زرعة وأبو داود ويعقوب بن شيبة: ثقة، وقال ابن معين: ليس به بأس، وقال ابن سعد: كان قد خلف مجلس عطاء، ولكنه لم يعمره، وكان ثقة قليل الحديث، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال العجلي: مكي ثقة، وسئل أبو داود عن قيس وابن جريج في عطاء، فقال: كان قيس أقدم وابن جريج يقدم، روى عن عطاء وطاووس ومجاهد وسعيد بن جبير وغيرهم، وروى عنه الحمادان وعمران القصير، وجرير بن حازم وغيرهم، مات سنة تسع عشرة أو سبع عشرة ومائة. الثاني: عباد بن منصور الناجي أبو سلمة البصري القاضي، قال ابن المديني: قلت ليحيى بن سعيد عباد بن منصور كان قد تغير؟ قال: لا أدري إلا أنَّا حين رأيناه كان لا يحفظ، ولم أر يحيى يرضاه، وقال أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد قال: جدي: عباد ثقة، لا ينبغي أن يترك حديثه لرأي أخطأ فيه، يعني القدر، وقال أبو داود: ولي قضاء البصرة خمس مرات، وليس بذاك، وعنده أحاديث فيها نكارة، وقالوا: تغير، وقال ابن معين: ليس بشيء، وكان يرى القدر، وقال الآجري: سأل عمرو الأغضف عباد بن منصور من حدثك أن ابن مسعود رجع عن قول: الشقي شقي في بطن أمه؟ قال: شيخ لا أدري من هو، فقال عمرو: أنا أدري من هو، قال: من هو؟ قال: الشيطان، وقال النسائي: ليس بحجة، وقال مرة: ليس بالقوي، وقال ابن حبان: كان قدريًا داعية إلى القدر، وكل ما روى عن عكرمة سمعه من إبراهيم بن يحيى بن أبي يحيى، عن داود بن الحصين عنه فدلسها عن عكرمة، لم يسمع من عكرمة، وقال أحمد: كانت أحاديثه منكرة، وكان قدريًا، وكان يدلس إلى غير هذا من التضعيف.

الحديث الحادي والمائتان

روى عن عطاء والحسن وهشام بن عروة وغيرهم، وروى عنه إسرائيل وحماد بن سلمة، وزياد بن الربيع، وغيرهم، قال يحيى بن سعيد: مات على بطن امرأته سنة اثنتين وخمسين ومائة. الحديث الحادي والمائتان حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى قال: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: رَمَيْتُ بَعْدَمَا أَمْسَيْتُ؟ فَقَالَ: "لاَ حَرَجَ". قَالَ: حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ؟ قَالَ: "لاَ حَرَجَ". كأن البخاري استظهر به لما وقع في طريق عطاء من الاختلاف، فأراد أن يبين أن لحديث ابن عباس أصلًا آخر، وفي طريق عكرمة هذه زيادة حكم الرمي بعد المساء، فإن فيه إشعارًا بأن الأصل في الرمي أن يكون نهارًا. قال القسطلاني: إن المساء من بعد الزوال إلى الغروب، وخرج بالغروب ما بعده، فلا يكفي الرمي بعده، لعدم وروده كما صرَّح به في الروضة، واعترض بأنهم قالوا: إذا أخر رمي يوم إلى ما بعده من أيام الرمي يقع أداء، وقضيته أن وقته لا يخرج بالغروب، وأجيب بحمل ما هنا على وقت الاختيار، وهناك على وقت الجواز، وقد صرَّح الرافعي بأن وقت الفضيلة لرمي يوم النحر ينتهي. بالزوال، فيكون لرميه ثلاث أوقات: وقت فضيلة، ووقت اختيار، ووقت جواز، ويبقى وقت الذبح للهدي إلى عصر آخر أيام التشريق كالأضحية، وقد مرَّ ما قيل في تأخير الرمي عند الأئمة في حديث أسماء في باب من قدم ضعفة أهله بليل، وأما الحلق أو التقصير والطواف، فلا يوقتان لأن الأصل عدم التأقيت، نعم يكره تأخيرهما عن يوم النحر، وتأخيرهما عن أيام التشريق أشد كراهة، وخروجه من مكة قبل فعلهما أشد. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ محمد بن المثنى في التاسع من الإيمان، ومرَّ عبد الأعلي بن عبد الأعلى في تعليق بعد الثالث منه، ومرَّ خالد الحذاء، وعكرمة في السابع عشر من العلم، ومرَّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي. أخرجه البخاري في الحج أيضًا، وكذا أبو داود والنسائي وابن ماجه. الحديث الثاني والمائتان حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه، قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ بِالْبَطْحَاءِ. فَقَالَ: "أَحَجَجْتَ؟ ". قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: "بِمَا أَهْلَلْتَ؟ ". قُلْتُ: لَبَّيْكَ بِإِهْلاَلٍ كَإِهْلاَلِ النَّبِيِّ

رجاله ستة

-صلى الله عليه وسلم-. قَالَ: "أَحْسَنْتَ" انْطَلِقْ فَطُفْ بِالْبَيْتِ، وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ أَتَيْتُ امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ بَنِي قَيْسٍ، فَفَلَتْ رَأْسِي، ثُمَّ أَهْلَلْتُ بِالْحَجِّ، فَكُنْتُ أُفْتِي بِهِ النَّاسَ، حَتَّى خِلاَفَةِ عُمَرَ رضي الله عنه، فَذَكَرْتُهُ لَهُ. فَقَالَ: إِنْ نَأْخُذْ بِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُنَا بِالتَّمَامِ، وَإِنْ نَأْخُذْ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَحِلَّ حَتَّى بَلَغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ. هذا الحديث تقدم الكلام عليه مستوفى في باب من أهل في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- كإهلاله ومطابقته هنا للترجمة من قول عمر فيه: "لم يحل حتى يبلغ الهدي محله" لأن بلوغ الهدي محله يدل على ذبح الهدي، فلو تقدم الحلق عليه لصار متحللًا قبل بلوغ الهدي محله، وهذا هو الأصل، وهو تقديم الذبح على الحلق، وأما تأخيره فهو رخصة، وقوله: فقلت بفاء التعقيب بعدها فاء ثم لام خفيفة مفتوحتين ثم مثناة أي: تتبعت القمل منه. رجاله ستة: مرّوا: مرَّ عبدان في السادس من بدء الوحي وأبو عثمان في الخامس والمائة من الوضوء وشعبة في الثالث من الإيمان، ومرَّ قيس بن مسلم وطارق في الثامن والثلاثين منه، وأبو موسى في الرابع منه، والمرأة المبهمة لم تسم. ثم قال المصنف:

باب من لبد رأسه عند الإحرام وحلق

باب من لَبَّد رأسه عند الإحرام وحلق أي: بعد ذلك عند الإحلال، قيل: أشار بهذه الترجمة إلى الخلاف فيمن لبّد هل يتعين عليه الحلق أم لا؟ فنقل ابن بطال عن الجمهور تعيُّن ذلك، حتى عند الشافعي، وقال أهل الرأي: لا يتعين، بل إن شاء قصر، وهذا قول الشافعي في الجديد، والأول القائل به الجمهور، هو قول مالك والثوري وأحمد، واحد قولي الشافعي وإسحاق، وأبي ثور، وكذا لو ضفر رأسه أو عقصه، كان حكمه حكم التلبيد، ويأتي في اللباس عن عمر: "من لبّد رأسه فليحلق" وفي كامل ابن عدي عن ابن عمر مرفوعًا: "من لبّد رأسه للإحرام، فقد وجب عليه الحلق" وهو فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، وبه أمر عُمر وابنه النَّاس، وقال أبو حنيفة: من لبَّد رأسه أو ضفره، فإن قصر ولم يحلق أجزأه، وروي عن ابن عباس أنه كان يقول: من لبّد أو عقص أو ضفر، فإن نوى الحلق فليحلق وإن لم ينوه، فإن شاء حلق، وإن شاء قصر. الحديث الثالث والمائتان حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ حَفْصَةَ رضي الله عنهم أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا بِعُمْرَةٍ وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ؟ قَالَ: "إِنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي، وَقَلَّدْتُ هَدْيِي، فَلاَ أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ". أورد حديث حفصة هذا وفيه: "إني لبّدت رأسي" وليس فيه تعرض إلا أنه معلوم من حاله عليه الصلاة والسلام أنه حلق رأسه في حجه، وقد ورد ذلك صريحًا في حديث ابن عمر كما في أول الباب الذي بعده، وأردفه ابن بطال بحديث حفصة، فجعله من هذا الباب لمناسبته للترجمة، وقد مرَّ غير مرة أنه لا يلزمه أن يأتي بجميع ما اشتمل عليه الحديث في الترجمة، بل إذا وجدت واحدة كفت. وقد تقدم الكلام على حديث حفصة في باب التمتع والقِران. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ عبد الله بن يوسف، ومالك في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ نافع في الأخير

من العلم، ومرَّ ابن عمر في أول الإيمان قبل ذكر حديث منه، ومرت حفصة في الثالث والستين من الوضوء. وهذا الحديث أخرجه الجماعة غير الترمذي. ثم قال المصنف:

باب الحلق والتقصير عند الإحلال

باب الحلق والتقصير عند الإحلال قال ابن المنير: أفهم البخاري بهذه الترجمة أن الحلق نسك لقوله: عند الإحلال، وما يصنع عند الإِحلال، وليس هو نفس التحلل؟ وكأنه استدل على ذلك بدعائه عليه الصلاة والسلام لفاعله والدعاء يشعر بالثواب، والثواب لا يكون إلا على العبادة، لا على المباحات، وكذلك تفضيله الحلق على التقصير يشعر بذلك؛ لأن المباحات لا تتفاضل، والقول بأن الحلق نسك قول الجمهور، إلا رواية مضعفة عن الشافعي أنه استباحة محظور، وقد أوهم كلام ابن المنذر أن الشافعي تفرد بها، لكن حكيت أيضًا عن عطاء، وعن أبي يوسف، وهي رواية عن أحمد وعن بعض المالكية، وقال زين الدين في شرح الترمذي: إن الحلق نسك، قاله النووي، وهو قول أكثر أهل العم، وهو القول الصحيح للشافعي. وفيه خمسة أوجه: أصحها: أنه ركن لا يصح الحج والعمرة إلاَّ به. والثاني: أنه واجب. والثالث: أنه مستحب. والرابع: أنه استباحة محظور. والخامس: أنه ركن في الحج، واجب في العمرة، وإليه ذهب أبو حامد وغير واحد من الشافعية، والحلق أفضل للرجال ولا يفدى عاجز عن أخذه لجراحة أو نحوها، بل يصبر إلى قدرته ولا يسقط عنه، ويستحب لمن لا شعر له أن يمر على الموسى تشبيهًا بالحالقين، وعند الحنفية هو واجب أو مستحب، وأقل ما يجزىء عند الشافعية ثلاث شعرات، وفي وجه لبعض أصحابه شعرة واحدة، وعند أبي حنيفة الربع، وعند أبي يوسف النصف، وعند مالك وأحمد يجب حلق جميعه، واستحبه الكوفيون والشافعي، ويستوعبه بالتقصير من قرب أصله عند المالكية، فإن أخذ من أطرافه أخطأ وأجزأ، وهو جار على الحلق عند الأئمة، ويستحب عند الشافعية أن لا ينقص التقصير عن قدر الأنملة، وإن اقتصر على دونها أجزأ، وهذا كله في حق الرجال، وأما النساء فالمشروع في حقهن التقصير بالإجماع أنملة، أو أنقص، أو أزيد، وفي حديث ابن عباس عند أبي داود: "ليس على النساء حلق، وإنما على النساء التقصير".

الحديث الرابع والمائتان

وللترمذي عن علي: "نهى أن تحلق المرأة رأسها" وقال جمهور الشافعية: لو حلقت أجزأها، ويكره، وقال القاضيان أبو الطيب وحسين: لا يجوز، قال الكمال بن الهمام: اتفق الأئمة الثلاثة، أبو حنيفة، ومالك، والشافعي أن قال كل منهم بأنه يجزىء في الحلق القدر الذي قال: إنه يجزىء في الوضوء، ولا يصح أن يكون هذا منهم بطريق القياس؛ لأنه يكون قياسًا بلا جامع بظهر أثره، وذلك لأن حكم الأصل على تقدير القياس وجوب المسح، ومحله المسح، وحكم الفرع وجوب الحلق، ومحله الحلق للتحلل، ولا يظنّ أن محل الحكم الرأس، إذا لا يتحد الفرع والأصل، وذلك أن الأصل والفرع هما محلا الحكم المشبه به والمشبه، والحكم هو الوجوب مثلًا، ولا قياس يتصور عند اتحاد محله إذ لا إثنينية وحينئذٍ فحكم الأصل وهو وجوب المسح ليس فيه معنى يوجب جواز قصره على الربع، إنما فيه نفس النص الوارد فيه، وهو قوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم} بناء، إما على الإجمال، والتحاق حديث المغيرة بيانًا، أو على عدمه والمفاد بسبب الباء إلصاق اليد كلها بالرأس؛ لأن الفعل حينئذٍ يصير متعديًا إلى الآلة بنفسه فيشملها، وتمام اليد يستوعب الربع عادة فيتعين قدره لا أن فيه معنى ظهر أثره في الاكتفاء بالربع، أو بالبعض مطلقًا، أو تعين الكل في وجوب حلقها عند التحلل من الإحرام، ليتعدى الاكتفاء بالربع من المسح إلى الحلق، وكذا الآخران. وإذا انتفت صحة القياس فالمرجع في كل من المسحة، وحلق التحلل ما يفيده نص الوارد فيه، والوارد في المسح دخلت فيه الباء على الرأس التي هي المحل فأوجب عند الشافعي التبعيض، وعند الحنفية والمالكية الباء للإلصاق غير أن الحنفية لاحظوا تعدي الفعل للآلة فيجب قدرها من الرأس، ولم يلاحظها مالك، فاستوعب الكل، أو جعلها صلة كما في: {وامسحوا بوجوهكم} في آية التيمم، فاقتضى وجوب استيعاب المسح، وأما الوارد في الحلق فمن الكتاب قوله تعالى: {محلقين رؤوسكم} من غير باء ففيها إشارة إلى طلب تحليق الرؤوس، أو تقصيرها، وليس فيها ما هو الموجب بطريق التبعيض عند الحنفية والشافعية، وهو دخول الباء على المحل، ومن السنة فعله عليه الصلاة السلام، وهو الاستيعاب فكان مقتضى الدليل في الحلق وجوب الاستيعاب كما هو قول مالك، وهو الذي أدين الله به. وكتبت هذا البحث بطوله لحسنه عندي وإصابته للصواب. الحديث الرابع والمائتان حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، قال: أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ، قَالَ نَافِعٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: حَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي حَجَّتِهِ. وهذا طرف من حديث طويل رواه مسلم، عن نافع، أن ابن عمر أراد الحج عام نزول

رجاله أربعة

الحجاج بابن الزبير، الحديث، نبه على ذلك الإسماعيلي. رجاله أربعة: قد مرّوا: مرَّ أبو اليمان وشعيب في السابع من بدء الوحي، ومرَّ محل نافع وابن عمر في الذي قبله. الحديث الخامس والمائتان حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ". قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ". قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "وَالْمُقَصِّرِينَ". أخرج البخاري هنا ثلاثة أحاديث عن ابن عمر، وكأنه لم يقع له على شرطه التصريح يحمل الدعاء للمحلقين، فاستنبط من الحديث الأول، والثالث أن ذلك كان في حجة الوداع، لأن الأول صرَّح بأن حلاقه كان في حجته، والثالث لم يصرح بذلك، إلا أنه بين فيه أن بعض الصحابة حلق، وبعضهم قصّر، وقد أخرجه في المغازي عن موسى بن عقبة، عن نافع بلفظ: "حلق في حجة الوداع، وأناس من أصحابه، وقصر بعضهم" وأخرج مسلم عن نافع مثل حديث جويرية سواء، وزاد فيه: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يرحم الله المحلقين" فأشعر ذلك أن ذلك وقع في حجة الوداع، وقد تعارضت الأحاديث في وقت وقوع هذا الدعاء، فمنها ما دل على أن ذلك كان في الحديبية، ومنها ما دل على أنه كان في حجة الوداع، قال ابن عبد البر: إنما جرى ذلك يوم الحديبية حين صد عن البيت، قال: وهذا محفوظ مشهور من حديث ابن عمر، وابن عباس، وأبي سعيد، وأبي هريرة، وحبشي بن جنادة، ثم ساق تخريج أحاديث المذكورين، إلاَّ أن حديث أبي هريرة ليس فيه تعيين الموضع، ولم يقع في شيء من طرقه التصريح بسماعه لذلك من النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولو وقع لقطعنا بأنه كان في حجة الوداع، لأنه شهدها ولم يشهد الحديبية، ولم يسق ابن عبد البر عن ابن عمر في هذا شيئًا، وليس في شيء من الطرق المروية عنه تعيين الموضع، وقد قدمت قريبًا أنه مخرج من مجموع الأحاديث عنه، أن ذلك كان في حجة الوداع، وكذلك حديث حبشي بن جنادة ليس فيه تعيين المكان، وقد أخرجه أحمد وزاد في سياقه عن حبشي: وكان ممن شهد حجة الوداع، فذكر هذا الحديث، وهذا يشعر بأنه كان في حجة الوداع، وفي حديث جابر عن أبي قرة في السنن تعيين الحديبية وفي حديث المسور بن مخرمة، عند ابن إسحاق في المغازي تعيينها أيضًا، وورد تعيين حجة الوداع من حديث أبي مريم السلولي عند أحمد وابن أبي شيبة، ومن حديث أم الحصين عند مسلم، ومن حديث قارب بن الأسود عند أحمد وابن أبي شيبة، ومن حديث

أم عمارة عند الحارث، قال في الفتح، فالأحاديث التي فيها تعيين حجة الوداع أكثر عددًا، وأصح إسنادًا، ولهذا قال النووي عقيب أحاديث ابن عمر، وأبي هريرة وأم الحصين: هذه الأحاديث تدل على أن هذه الواقع كانت في حجة الوداع. قال: وهو الصحيح المشهور، وقيل: كان في الحديبية، وجزم بأن ذلك كان في الحديبية إمام الحرمين في النهاية، ثم قال النووي: لا يبعد أن يكون وقع في الموضعين، وقال عياض: كان في الموضعين، ولذا قال ابن دقيق العيد: إنه الأقرب، قال في الفتح: بل هو المتعين، لتظافر الروايات بذلك في الموضعين كما مرَّ، إلا أن السبب في الموضعين مختلف، فالذي في الحديبية كان بسبب توقف مَنْ توقف مِنَ الصحابة عن الإحلال، لما دخل عليهم من الحزن لكونهم منعوا من الوصول إلى البيت، مع اقتدارهم في أنفسهم على ذلك، فخالفهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وصالح قريشًا على أن يرجع من العام المقبل. والقصة مشهورة ستأتي في مكانها -إن شاء الله تعالى-. فلما أمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بالإحلال توقفوا، فأشارت أم سلمة أن يحل هو عليه الصلاة والسلام قبلهم، ففعل فتبعوه، فحلق بعضهم، وقصّر بعض، وكان من بادر إلى الحلق أسرع إلى امتثال الأمر ممن اقتصر على التقصير، وقد وقع التصريح بهذا السبب في حديث ابن عباس المشار إليه قبل، فإن في آخره عند ابن ماجه وغيره أنهم قالوا: يا رسول الله: ما بال المحلقين ظاهرت لهم بالرحمة؟ قال: "لأنهم لم يشكوا". وأما السبب في تكرير الدعاء للمحلقين في حجة الوداع، فقال ابن الأثير في النهاية: كان أكثر من حج مع النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يسق الهدي فلما أمرهم أن يفسخوا الحج إلى العمرة ثم يتحللوا منها، ويحلقوا رؤوسهم شقّ عليهم، ثم لما لم يكن لهم بدٌّ من الطاعة، كان التقصير أقرب، وأخف في أنفسهم من الحلق، ففعله أكثرهم فرجح النبي -صلى الله عليه وسلم- فعل من حلق لكونه أبين في امتثال الأمر، وفيما قاله نظر، وإن تابعه عليه غير واحد لأن المتمتع يستحب في حقه أن يقصر في العمرة، ويحلق في الحج، إذا كان ما بين النسكين متقاربًا، وقد كان ذلك في حقهم كذلك، والأولى ما قاله الخطابي وغيره: أن عادة العرب أنها كانت تحب توفير الشعر والتزين به، وكان الحلق فيهم قليلًا، وربما كانوا يرونه من الشهرة، ومن زي الأعاجم فلذلك كرهوا الحلق، واقتصروا على التقصير، ووجه بعضهم كون الحلق أفضل من التقصير بأنه أبلغ في العبادة، وأبين للخضوع والذلة، وأدل على صدق النية، والذي يقصر يبقي على نفسه شيئًا مما يتزين به بخلاف الحالق، فإنه يشعر بأنه ترك ذلك لله تعالى، وفيها إشارة إلى التجرد، ومن ثم استحب الصلحاء إلقاء الشعور عند التوبة. وأما قول النووي تبعًا لغيره في تعليل ذلك بأن المقصر يبقي على نفسه الشعر الذي هو زينته، والحاج مأمور بترك الزينة، بل هو أشعث أغبر، ففيه نظر؛ لأن الحلق إنما يقع بعد

انقضاء زمن الأمر بالتقشف، فإنه يحل له عقبه كل شيء إلا النِّساء في الحج خاصة، والحالق لرأسه عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع هو معمر بن عبد الله بن نضلة، كما أفاده ابن خزيمة في صحيحه. وقال النووي: إنه الصحيح المشهور، وقيل: الذي حلق رأسه عليه الصلاة والسلام خراش بن أمية بن ربيعة، حكاه النووي في شرح مسلم، وقال زين الدين العراقي: هذا وهم من قائله، وإنما حلق رأسه خراش في الحديبية، وقد بينه ابن عبد البر فقال في ترجمة خراش هو الذي حلق رأس النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الحديبية. وكيفية حلقه عليه الصلاة والسلام هي ما رواه مسلم عن أنس أنه عليه الصلاة والسلام أتى مني، فأتى الجمرة فرماها، ثم أتى منزله بمنى ونحر، وقال للحلاق: "خذ" وأشار إلى جانبه الأيمن، ثم الأيسر، ثم جعل يعطيه الناس، وروى الترمذي عن أنس أيضًا قال: ثم ناول الحالق شقه الأيمن فحلقه، فأعطاه أبا طلحة، ثم ناوله شقه الأيسر فحلقه، فقال له: "اقسمه بين الناس" وظاهر رواية الترمذي أن الذي قسمه أبو طلحة بأمره ببن الناس هو الشق الأيسر، وهكذا رواية مسلم عن ابن عيينة، وأما رواية حفص بن غياث، وعبد الأعلى ففيهما أن الشق الذي قسمه بين الناس هو الأيمن، وكلا الروايتين عند مسلم، ففي رواية حفص قال للحلاق: "ها" وأشار بيده إلى الجانب الأيمن، هكذا، فقسم شعره بين من يليه، ثم أشار إلى الحلاق إلى الجانب الأيسر فحلقه، فأعطاه أم سليم، ورواية عبد الأعلى قال فيها: وقال بيده، فحلق شقه الأيمن، فقسمه فيمن يليه، ثم قال: "احلق الشق الآخر" فقال: "أين أبو طلحة؟ " فأعطاه إياه، واختلف أهل الحديث في الاختلاف الواقع في هذا الحديث، فذهب بعضهم إلى الجمع بينهما، وذهب بعضهم إلى الترجيح لتعذر الجمع عنده، قال صاحب المفهم: إن قوله: لما حلق شق رأسه الأيمن أعطاه أبا طلحة، لا منافاة فيه لما في الرواية الثانية من أنه قسم شعر الجانب الأيمن بين الناس، وأعطى أم سليم شعر الجانب الأيسر فقال: إنه أعطاه لأبي طلحة ليقسمه بين الناس ففعل، وأعطى الآخر أم سليم ليكون عند أبي طلحة، فصحت نسبة ذلك إلى كل من نسب إليه. والصحيح أن الذي وزعه على الناس هو الأيمن، وأعطى الأيسر أبا طلحة وأم سليم، ولا تضاد بين الروايتين؛ لأن أم سليم امرأة أبي طلحة، فكان الإعطاء لهما فنسبت العطية تارة له، وتارة لها، وقال زين الدين: كأن المحب الطبري رجّح رواية تفرقة الشق الأيمن بكثرة الرواة، وقد ترجح تفرقة الأيسر بكونه متفقًا عليه، وتفرقة الأيمن من أفراد مسلم، فعند البخاري عن ابن سيرين عن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما حلق، كان أبو طلحة أول من أخذ من شعره، وهذا يدل على أن الذي أخذه أبو طلحة الأيمن، وإن كان يجوز أن يقال: إنه أخذه

ليفرقه، ولكن ظاهره أنه أخذه لنفسه، ويبدأ الحالق بيمين المحلوق وروى الكرماني عن أبي حنيفة أنه يبدأ بيمين الحالق ويسار المحلوق، والصحيح عنه الأول، ويدخل وقت الحلق من طلوع الفجر عند المالكية وعند الشافعية بنصف ليلة النحر، ولا آخر لوقته، والحلق بمنى يوم النحر أفضل، قالوا: ولو آخره حتى بلغ بلده حلق وأهدى، ولو وطيء قبل الحلق فعليه هدي، بخلاف الصيد على المشهور عندهم، وعند المالكية، وقال ابن قدامة: يجوز تأخيره إلى آخر أيام النحر، فإن آخره عن ذلك ففيه روايتان، ولا دَمَ عليه، وبه قال عطاء وأبو يوسف وأبو ثور، ويشبه مذهب الشافعي، لأن الله تعالى بيّن أول وقته بقوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} ولم يبين آخره، فمتى أتى به أجزأه، وعن أحمد عليه دم بتأخيره وهو مذهب أبي حنيفة؛ لأنه نسك أخَّره عن محله، ولا فرق في التأخير بين القليل والكثير، والساهي والعامد، وقال مالك وإسحاق والثوري، وأبو حنيفة، ومحمد: من تركه حتى حل فعليه دم؛ لأنه نسك، فيأتي به في إحرام الحج كسائر مناسكه. وفي حديث الباب من الفوائد أن التقصير يجزىء عن الحلق، وهو مجمع عليه إلا ما روي عن الحسن البصري أن الحلق يتعين في أول حجة، حكاه ابن المنذر بصيغة التمريض، وقد ثبت عن الحسن خلافه، وروى ابن أبي شيبة عن الحسن في الذي لم يحج قط، فإن شاء حلق، وإن شاء قصَّر، نعم روى ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي قال: إذا حج الرجل أول حجة حلق، فإن حج أخرى، فإن شاء حلق، وإن شاء قصّر، ثم روى عنه أنه قال: كانوا يحبون أن يحلقوا في أول حجة، وأول عمرة، وهذا يدل على أن ذلك للاستحباب، لا للزوم، وقد مرَّ حكم الملبّد في باب من لبّد رأسه. وفي الحديث أيضًا مشروعية الدعاء لمن فعل ما شرع له، وتكرار الدعاء لمن فعل الراجح من الأمرين المخير فيهما، والتنبيه بالتكرار على الرجحان، وطلب الدعاء لمن فعل الجائز، وإن كان مرجوحًا، وفي هذه الأحاديث طهارة شعر الآدمي، وهو قول جمهور العلماء، وهو الصحيح من مذهب الشافعي، وخالف في ذلك أبو جعفر الترمذي منهم، فخصص الطهارة بشعره عليه الصلاة والسلام، وقال بنجاسة شعر غيره، وفيها التبرك بشعره عليه الصلاة والسلام، وغير ذلك من آثاره بأبي وأمي ونفسي هو، وقد روى أحمد في مسنده إلى ابن سيرين، عن عبيدة السلماني قال: لأن تكون لي شعرة منه أحب إلى من كل بيضاء وصفراء على وجه الأرض، وفي بطنها. وأخرج البخاري هذا الحديث في باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان بلفظ أحب إليّ من الدنيا وما فيها. وروى غير واحد أن خالد بن الوليد كان في قلنسوته شعرات من شعره عليه الصلاة والسلام، فلذلك كان لا يقدم على وجه إلا فتح له، ويؤيد ذلك ما ذكره الملأ في سيرته أن خالدًا سأل أبا طلحة -حين فرق شعره عليه الصلاة والسلام بين الناس- أن

رجاله أربعة

يعطيه شعر ناصيته، فأعطاه إياه فكان مقدم ناصيته مناسبًا لفتح كل ما قدم عليه، وفيها أنه لا بأس باقتناء الشعر البائن من الحي وحفظه عنده، وأنه لا يجب دفنه كما قال بعضهم: إنه يجب دفن شعور بني آدم أو يستحب، وذكر الرافعي في سنن الحلق فقال: إذا حلق، فالمستحب أن يبدأ بالشق الأيمن ثم الأيسر، وأن يكون مستقبل القبلة، وأن يكبر بعد الفراغ، وأن يدفن شعره، وزاد المحب الطبري صلاة ركعتين بعده فهي إذًا خمسة، وفيها مواساة الإِمام والكبير لأصحابه، وأنه لا بأس بتفضيل بعضهم على بعض في القسمة لأمر اقتضى ذلك، يؤديه إليه اجتهاده، ولنرجع إلى إتمام الكلام على الحديث. قوله: "قالوا: والمقصرين يا رسول الله" قال في الفتح: لم أقف في شيء من الطرق على الذي تولى السؤال بعد البحث الشديد عنه والواو في "والمقصرين" عاطفة على شيء مقدر تقديره قل "المقصرين" أو قل: وارحم المقصرين، وهو يسمى العطف التلقيني، وفي قوله -صلى الله عليه وسلم-: "والمقصرين" إعطاء المعطوف حكم المعطوف عليه، ولو تخلل السكوت لغير عذر. وقوله: "والمقصرين" كذا في معظم الروايات عن مالك إعادة الدعاء للمحلقين مرتين، وعطف المقصرين عليهم في المرة الثالثة، وانفرد يحيى بن بكير دون رواة الموطأ بإعادة ذلك ثلاث مرات، نبّه عليه ابن عبد البر في التقصي، وأغفله في التمهيد، بل قال فيه: إنهم لم يختلفوا عن مالك في ذلك، قال في الفتح: إنه في موطأ يحيى بن بكير، كما قال في التقصي. رجاله أربعة: مرَّ محلهم في الذي قبله بحديث. أخرجه مسلم وأبو داود بهذا الإسناد. ثم قال: وقال الليث: حدَّثني نافع: رحم الله المحلقين مرة أو مرتين، وصله مسلم ولفظه: "رحم الله المحلقين -مرة أو مرتين- قالوا: والمقصرين؟ قال: والمقصرين، والشك فيه من الليث، وإلا فأكثرهم موافق لما رواه مالك، ومرَّ الليث في الثالث من بدء الوحي، ونافع في الأخير من العلم. ثم قال: وقال عبيد الله: حدَّثني نافع قال في الرابعة: والمقصرين. عبيد الله بالتصغير وهو العمري وروايته وصلها مسلم عنه باللفظ الذي علقه البخاري وأخرجه أيضًا عن ابن نمير عنه بلفظ: رحم الله المحلقين، قالوا: والمقصرين؟ فذكر مثل رواية مالك سواء، وزاد: قال: "رحم الله المحلقين" قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: "والمقصرين". وبيان كونها في الرابعة هو أن قوله: والمقصرين معطوف على مقدر تقديره: يرحم الله المحلقين، وإنما قال ذلك بعد أن دعا للمحلقين ثلاث مرات صريحًا، فيكون دعاؤه

الحديث السادس والمائتان

للمقصرين في الرابعة، وقد رواه أبو عوانة في مستخرجه عن عبيد الله بلفظ: قال في الثالثة: والمقصرين، والجمع بينهما واضح بأن من قال في الرابعة فعلى ما مرَّ، ومن قال في الثالثة أراد أن قوله: والمقصرين معطوف على الدعوة الثالثة، أو أراد بالثالثة مسألة السائلين في ذلك، وكان صلى الله تعالى عليه وسلم لا يراجع بعد ثلاث كما ثبت، ولو لم يدع لهم بعد ثلاث ما سألوه في ذلك، وأخرجه أحمد عن نافع بلفظ: اللهم اغفر للمحلقين قالوا: وللمقصرين حتى قالها ثلاثًا أو أربعًا، ثم قال: والمقصرين، ورواية من جزم مُقدَّمة على رواية من شك. وعبيد الله العمري مرَّ في الرابع عشر من الوضوء، ومرَّ نافع في الأخير من العلم. الحديث السادس والمائتان حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ". قَالُوا: وَلِلْمُقَصِّرِينَ؟ قَالَ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ". قَالُوا: وَلِلْمُقَصِّرِينَ؟ قَالَهَا ثَلاَثًا. قَالَ: "وَلِلْمُقَصِّرِينَ". قوله: "عياش" بالتحتانية والمعجمة، وفي رواية ابن السكن بالموحدة والمهملة، والأول هو الصواب فإن البخاري لم يخرج للعباس بن الوليد بالموحدة والمهملة إلا ثلاثة أحاديث، نسبه في كل منها النرسي أحدها في علامات النبوءة، والآخر في المغازي، والثالث في الفتن، ذكره معلقًا، قال: وقال عباس النرسي، وأما الذي بالتحتانية والمعجمة فأكثرَ عنه، وفي الغالب لا ينسبه. وقوله: قالها ثلاثًا، أي: قوله: اللهم اغفر للمحلقين، وهذه الرواية شاهدة؛ لأن عبيد الله العمري حفظ الزيادة، قال في الفتح: إن حديث أبي هريرة هذا لم يروه إلا من رواية محمد بن فضيل هذه، بهذا الإسناد في جميع السنن والمسانيد، فهي من أفراده عن عمارة، ومن أفراد عمارة عن أبي زرعة، وتابع أبا زرعة عليه عبد الرحمن بنُ يعقوب، أخرجه مسلم ولم يسق لفظه، وساقه أبو عوان، ولفظ أبي زرعة أتم. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ عياش بن الوليد في الخامس والثلاثين من الغسل، ومرَّ محمد بن فضيل في الحادي والثلاثين من الإيمان، ومرَّ عمارة بن القعقاع وأبو زرعة في التاسع والعشرين منه، وأبو هريرة في الثاني منه. لطائف إسناده:

الحديث السابع والمائتان

فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول مكررًا، وشيخه بصري، والبقية كوفيون أخرجه مسلم. الحديث السابع والمائتان حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ، حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ قَالَ: حَلَقَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَقَصَّرَ بَعْضُهُمْ. وهذا الحديث الكلام عليه يكفي منه ما مرَّ عند حديثه الثاني. رجاله أربعة: مرَّ منهم: جويرية بن أسماء في الأربعين من الغسل، ونافع في الأخير من العلم، وابن عمر في أول الإيمان قبل ذكر حديث منه، ومرَّ عبد الله بن محمد في الثالث من الجمعة. أخرجه البخاري في الحج أيضًا. الحديث الثامن والمائتان حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنهم قَالَ: قَصَّرْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِمِشْقَصٍ. قوله: "عن الحسن بن مسلم" في رواية يحيى بن سعيد، عن ابن جريج حدَّثني الحسن بن مسلم أخرجه مسلم. وقوله: "عن معاوية" في رواية مسلم أن معاوية بن أبي سفيان أخبره. وقوله: "قصَّرت" أي: أخذت من شعر رأسه وهو يشعر بأن ذلك كان في نسك، إما في حج أو عمرة، وقد ثبت أنه حلق في حجته فتعين أن يكون في عمرة، ولاسيما وقد روى مسلم في هذا الحديث أن ذلك كان بالمروة، ولفظه: قصرت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمشقص وهو على المروة، أو رأيته يقصر عنه بمشقص وهو على المروة، وهذا يحتمل أن يكون في عمرة القضية، أو الجعرانة، لكن عند مسلم عن طاووس بلفظ: أما علمت أني قصرت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمشقص وهو على المروة، فقلت: لا أعلم هذه إلا حجة عليك، وفي رواية لأحمد: قصرت عن رأس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمروة، وهذه ترد على من قال: إن في رواية معاوية هنا حذفًا تقديره قصرت أنا شعري عن أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وقوله: "فقلت: لا أعلم هذه إلا حجة عليك" هذا من كلام ابن عباس، ومراده كما بينه النسائي أن هذا حجة على معاوية في نهيه الناس عن المتعة، وقد تمتع النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولأحمد عن ابن عباس تمتع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى مات، قال: وأول من نهى عنها معاوية، قال ابن

عباس: فتعجبت منه، وقد حدَّثني أنه قصر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهذا يدل على أن ابن عباس عمل ذلك على وقوعه في حجة الوداع، لقوله لمعاوية: إن هذا حجة عليك، إذ لو كان في العمرة لما كان فيه على معاوية حجة، وأصرح منه ما عند أحمد عن قيس بن سعد، عن عطاء أن معاوية حدّث أنه أخذ من أطراف شعر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أيام العشر بمشقص معي. وهو محرم، وفي كونه في حجة الرداع نظر، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يحل حتى بلغ الهدي محله، فكيف يقصر عنه على المروة؟! وقد بالغ النووي في الرد على من زعم أن ذلك كان في حجة الوداع فقال: هذا الحديث محمول على أن معاوية قصر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في عمرة الجعرانة، لأنه عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع كان قارنًا، وثبت أنه حلق بمنى، وقسم أبو طلحة شعره بين الناس، فلا يصح حمل تقصير معاوية على حجة الوداع، وغلط غلطًا فاحشًا من زعم أنه عليه الصلاة والسلام كان متمتعًا فيها، وجعل التقصير فيها لتظاهر الأحاديث على أنه قال: قلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر، ولا يصح حمله على عمرة القضاء الواقع سنة سبع، لأن معاوية حينئذٍ لم يكن مسلمًا، إنما أسلم يوم الفتح سنة ثمان على الصحيح المشهور، وكون معاوية أسلم عام الفتح هو الصحيح، ولكن يمكن الجمع بأنه كان أسلم خفية، وكان يكتم إسلامه ولم يتمكن من إظهاره إلا يوم الفتح، وقد أخرج ابن عساكر في ترجمة معاوية تصريحه بأن أسلم بين الحديبية والقضية، وأنه كان يخفي إسلامه خوفًا من أبويه، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- لما دخل مكة في عمرة القضية، خرج أكثر أهلها عنها حتى لا ينظرونه وأصحابه يطوفون بالبيت، فلعل معاوية كان ممن تخلف بمكة لسبب اقتضاه، ولا يعارضه أيضًا قول سعد بن أبي وقاص فيما أخرجه مسلم، فعلناها يعني العمرة في أشهر الحج، وهذا يومئذٍ كافر بالعُرُش بضمتين يعني بيوت مكة، يشير إلى معاوية؛ لأنه يحمل على أنه أخبر بما استصحبه من حاله، ولم يطلع على إسلامه لكونه كان يخفيه، قلت: هذا الاحتمال -وإن جوز العقل من إخفاء إسلامه-، لا يجوز أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يعطي رأسه لمظهر الكفر يقصه له، وأصحابه متوافرون، ويعكر على ما جوزوه من أن تقصيره كان في عمرة الجعرانة، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ركب من الجعرانة، بعد أن أحرم بعمرة، ولم يستصحب أحدًا معه، إلا بعض أصحابه المهاجرين، فقدم مكة، فطاف وسعى وحلق ورجع إلى الجعرانة، فأصبح بها كبائت، فخفيت عمرته على كثير من الناس. أخرجه الترمذي وغيره، ولم يعدوا معاوية فيمن كان صحبه حينئذٍ، ولا كان معاوية فيمن تخلف عنه بمكة في غزوة حنين، حتى يقال: لعله وجده بمكة، بل كان مع القوم، وأعطاه مثل ما أعطى أباه من الغنيمة، مع المؤلفة، وأخرج الحاكم في الإكليل أن الذي حلق رأسه عليه الصلاة والسلام في عمرته التي اعتمرها من الجعرانة أبو هند عبد بني بياضة، فإن ثبت

رجاله ستة

هذا وثبت أن معاوية كان حنيئذٍ معه، أو كان بمكة فقصر عنه بالمروة، أمكن الجمع بأن يكون معاوية قصر عنه أولًا، وكان الحلاق غائبًا في بعض حاجته، ثم حضر فأمره أن يكمل إزالة الشعر بالحلق، لأنه أفضل ففعل. وإن ثبت أن ذلك كان في عمرة القضية، وثبت أنه عليه الصلاة والسلام حلق فيها، جاء هذا الاحتمال بعينه، وحصل التوفيق بين الأخبار كلها، وقال ابن حزم: يحتمل أن يكون معاوية قصر عن رأس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقية شعر لم يكن الحلاق استوفاه يوم النحر، وتعقب هذا بأن الحالق لا يبقي شعرًا يقصر منه، ولاسيما وقد قسم -صلى الله عليه وسلم- شعره بين الصحابة، الشعرة والشعرتين، وأيضًا فهو عليه الصلاة والسلام لم يسع بين الصفا والمروة إلاَّ سعيًا واحدًا في أول ما قدم، فماذا يصنع عند المروة في العشر، في رواية قيس بن سعد المتقدمة، وهي شاذة، وقد قال قيس بن سعد عقبها: والناس ينكرون ذلك، ورجح النووي كونه في الجعرانة، وصوبه المحب الطبري وابن القيم وفيه نظر؛ لأنه جاء أنه حلق في الجعرانة. وقوله: "بمشقص" بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح القاف، وآخره صاد مهملة، قال القزاز: هو فصل عريض يرمى به الوحش، وقال صاحب المحكم: هو الطويل من النصال، وليس بعريض، وكذا قال أبو عبيدة. رجاله ستة: قد مرّوا: مرَّ أبو عاصم في أثر بعد الرابع من العلم، ومرَّ معاوية في الثالث عشر منه، ومرَّ ابن جريج في الشاك من الحيض، ومرَّ الحسن بن مسلم في التاسع والعشرين من الغسل، وطاووس بعد الأربعين من الوضوء في باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين، ومرَّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي. رواته كلهم مكيون، سوى شيخه، فإنه بصري. وفيه رواية الصحابي عن الصحابي، وهذا الحديث أخرجه مسلم. ثم قال المصنف:

باب تقصير المتمتع بعد العمرة

باب تقصير المتمتع بعد العمرة أي عند الإحلال منها. الحديث التاسع والمائتان حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، أَخْبَرَنِي كُرَيْبٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مَكَّةَ، أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ، وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ يَحِلُّوا، وَيَحْلِقُوا أَوْ يُقَصِّرُوا. فيه التخيير بين الحلق والتقصير للمتمتع، وهو على التفصيل، فإن كان بحيث يطلع شعره فالأولى له الحلق، وإلا فالتقصير، ليقع له الحلق في أكمل العبادتين. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ محمد بن أبي بكر وفضيل بن سليمان في الرابع والثمانين من استقبال القبلة، وموسى بن عقبة في الخامس من الوضوء، وكريب في الرابع منه وابن عباس في الخامس من بدء الوحي. ثم قال المصنف:

باب الزيارة يوم النحر

باب الزيارة يوم النحر أي: زيارة الحاج البيت للطواف به، وهو طواف الإفاضة، ويسمى أيضًا طواف الصدر وطواف الركن. ثم قال: وقال أبو الزبير عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم: أخّر النبي -صلى الله عليه وسلم- الزيارة إلى الليل. قال ابن القطان الفاسي: هذا الحديث مخالف لما رواه ابن عمر وجابر، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه طاف يوم النحر نهارًا، فكأن البخاري عقبه بطريق أبي حسان ليجمع بذلك بين الأحاديث، فيحمل حديث جابر وابن عمر على اليوم الأول، وحديث ابن عباس هذا على بقية الأيام، وهذا التعليق وصله الترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه، وأبو الزبير مرَّ في متابعة بعد الثامن والخمسين من الجماعة، ومرت عائشة في الثاني من بدء الوحي، وابن عباس في الخامس منه. ثم قال: ويذكر عن أبي حسان، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يزور البيت أيام مني. وصله الطبراني عن قتادة، وقال ابن المديني: إنه لم يحفظ عن أحد من الصحابة قتادة إلا من هشام، فإنه نسخة من كتاب ابنه معاذ عنه، ولفظه: كان يزور البيت كل ليلة ما أقام بمنى، ولرواية أبي حسان شاهد مرسل، أخرجه ابن أبي شيبة عن طاووس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يفيض كل ليلة. وابن عباس مرَّ الآن، وأبو حسان هو: مسلم بن عبد الله الأعرج، ويقال: الأجرد أيضًا، بصري، قال ابن عبد البر: الأجرد الذي يمشي على ظهر قدميه، وقدماه ملتويتان، وهو عندهم ثقة في حديثه، إلا أنه روى عن قتادة قال: سمعت أبا حسان الأعرج وكان حروريًا، وقال ابن سعد: كان ثقة إن شاء الله تعالى، وقال العجلي: بصري، تابعي، ثقة، ويقال: إنه كان يرى رأي الخوارج، وقال أحمد: مستقيم الحديث، أو مقارب الحديث، وقال ابن معين: ثقة، وقال أبو زرعة: لا بأس به، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال يعقوب بن شيبة لابن المديني: من روى عن أبي حسان غير قتادة؟ قال: لا أعلمه.

الحديث العاشر والمائتان

روى عن علي وابن عباس، وأبي هريرة وعائشة، وروى عنه قتادة وعاصم الأحول، قتل يوم الحرورية سنة ثلاثين ومائة. الحديث العاشر والمائتان وَقَالَ لَنَا أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ طَافَ طَوَافًا وَاحِدًا، ثُمَّ يَقِيلُ، ثُمَّ يَأْتِي مِنًى - يَعْنِي يَوْمَ النَّحْرِ. وَرَفَعَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ. قوله: "إنه طاف طوافًا واحدًا" أي: للإفاضة. وقوله: "ثم يقيل" بفتح المثناة التحتية وكسر القاف من القيلولة، أي: بمكة. وقوله: "ثم يأتي منى" يحتمل أن يكون في وقت الظهر؛ لأن النهار كان طويلًا، وقد ثبت أنه صلَّى الظهر بمنى. وقوله: "ورفعه عبد الرزاق" أي: قال أبو نعيم: ورفعه عبد الرزاق، قال: حدَّثنا عبيد الله فيما وصله ابن خزيمة والإسماعيلي، عن عبد الرزاق بلفظ أبي نعيم، وزاد في آخره: ويذكر أي: ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- فعله، وفيه التنصيص على الرجوع إلى منى بعد القيلولة في يوم النحر، ومقتضاه أن يكون خرج إلى مكة لأجل الطواف قبل ذلك. رجاله ستة: قد مرّوا: مرَّ أبو نعيم في الخامس والأربعين من الإيمان، ومرَّ عبد الرزاق في الخامس والثلاثين منه، ومرَّ سفيان بن عيينة في الأول من بدء الوحي، ومرَّ عبيد الله العمري في الرابع عشر من الوضوء ومرَّ نافع في الأخير من العلم، ومرَّ ابن عمر في أول الإيمان قبل ذكر حديث منه. وهذا الحديث أخرجه البخاري بصيغة التعليق، وقد وصله مسلم، ومرَّ في الثامن والأربعين من الجماعة ما قيل في قول البخاري: وقال فلان. الحديث الحادي عشر والمائتان حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنِ الأَعْرَجِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: حَجَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَأَفَضْنَا يَوْمَ النَّحْرِ، فَحَاضَتْ صَفِيَّةُ، فَأَرَادَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مِنْهَا مَا يُرِيدُ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا حَائِضٌ؟ قَالَ: "حَابِسَتُنَا هِي". قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَفَاضَتْ يَوْمَ النَّحْرِ. قَالَ: "اخْرُجُوا".

رجاله ستة

قوله: "فأفضنا يوم النحر" أي: طفنا طواف الإفاضة، وهو موافق للترجمة، وذكر فيه قصة صفية، وقد مرَّ استيفاء الكلام عليها في باب المرأة تحيض بعد الإفاضة من كتاب الحيض، وقبل قليل بزيادة في باب التمتع والإفراد والقِران. رجاله ستة: وفيه: ذكر أم المؤمنين صفية، وقد مرَّ الجميع: مرَّ يحيى بن بكير والليث في الثالث من بدء الوحى، ومرَّ أبو سلمة في الرابع منه، وعائشة في الثالث منه، ومرَّ جعفر بن ربيعة في الرابع من التيمم، ومرَّ الأعرج في السابع من الإيمان، ومرت صفية في الثالث والثلاثين من الحيض. ثم قال: ويذكر عن القاسم وعروة، والأسود، عن عائشة رضي الله تعالى عنها أفاضت صفية يوم النحر. وغرضه بهذا أن أبا سلمة لم ينفرد بذلك عن عائشة، وإنما لم يجزم به لأن بعضهم أورده بالمعنى كما نُبَيِّنُه، فلفظ القاسم عن عائشة قالت: كنا نتخوف أن تحيض صفية قبل أن تفيض، فجاءنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أحابستنا صفية؟ " قلنا: قد أفاضت، قال: "فلا إذًا" ولفظ عروة عنها أن صفية حاضت بعدما أفاضت، ولفظ الأسود عنها: حاضت صفية فقال: "أطافت يوم النحر" فقيل: نعم. وأما طريق القاسم، فقد أخرجه مسلم، وأما طريق عروة، فقد أخرجه البخاري في المغازي، وأما طريق الأسود، فقد أخرجه موصولًا في باب الإدلاج من المحصب، وقد مرَّ القاسم في الحادي عشر من الغسل، ومرَّ عروة مع عائشة في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ الأسود في السابع والستين من العلم، ومرَّ محل صفية في الذي قبله. ثم قال المصنف:

باب إذا رمى بعدما أمسى أو حلق قبل أن يذبح ناسيا أو جاهلا

باب إذا رمى بعدما أمسى أو حلق قبل أن يذبح ناسيًا أو جاهلًا لم يبين الحكم في الترجمة إشارة منه إلى أن الحكم برفع الحرج مقيد بالجاهل أو الناسي، فيحتمل اختصاصهما بذلك، أو إلى أن نفي الحرج لا يستلزم رفع وجوب القضاء أو الكفارة، وهذه المسألة مما وقع فيه الاختلاف بين العلماء، وقد مرَّ الكلام عليها مستوفى في باب الحلق والتقصير عند الإحلال. وقوله: "إذا رمى بعدما أمسى" منتزع من حديث ابن عباس في الباب قال: رميت بعدما أمسيت، أي: بعد دخول المساء، وهو على ما بعد الزوال إلى أن يشتد الظلام، فلم يتعين لكون الرمي المذكور كان بالليل. الحديث الثاني عشر والمائتان حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قِيلَ لَهُ فِي الذَّبْحِ وَالْحَلْقِ وَالرَّمْي وَالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فَقَالَ: "لاَ حَرَجَ". هذا الحديث والذي بعده مرَّ الكلام عليهما في باب الفتيا، وهو واقف على الدابة أو غيرها. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ موسى بن إسماعيل، وابن عباس في الخامس من بدء الوحي، ومرَّ وهيب في تعليق بعد الخامس عشر من الإيمان، ومرَّ عبد الله بن طاووس في الرابع والثلاثين من الحيض، ومرَّ أبوه طاووس في باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين بعد الأربعين من الوضوء، أخرجه مسلم والنسائي في الحج. الحديث الثالث عشر والمائتان حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُسْأَلُ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى، فَيَقُولُ: "لاَ حَرَجَ". فَسَأَلَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ؟ قَالَ: "اذْبَحْ، وَلاَ حَرَجَ". وَقَالَ: رَمَيْتُ بَعْدَمَا أَمْسَيْتُ؟ فَقَالَ: "لاَ حَرَجَ".

رجاله خمسة

تقدم عند الذي قبله محل الكلام على هذا الحديث. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ علي بن المديني في الرابع عشر من العلم، ومرَّ خالد الحذاء وعكرمة في السابع عشر منه، ومرَّ يزيد بن زريع في السادس والتسعين من الوضوء ومرَّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي. ثم قال المصنف:

باب الفتيا على الدابة عند الجمرة

باب الفتيا على الدابة عند الجمرة هذه الترجمة تقدمت في كتاب العلم، لكن بلفظ باب الفتيا، وهو واقف على الدابة، أو غيرها، ثم قال بعد أبواب كثيرة: باب السؤال والفتيا عن رمي الجمار، وأورد في كل من الترجمتين حديث عبد الله بن عمرو المذكور في هذا الباب، ومثل هذا لا يقع له إلا نادرًا، وقد اعترض عليه الإسماعيلي بأنه ليس في شيء من الروايات عن مالك أنه كان على دابة، بل في رواية يحيى القطّان عنه أنه جلس في حجة الوداع، فقام رجل، ثم قال الإسماعيلي: فإن ثبت في شيء من الطرق أنه كان على دابة، فيحمل قوله: "جلس" على أنه ركبها وجلس عليها، وهذا هو المتعين، فقد أورد هو رواية صالح بن كيسان بلفظ: "وقف على راحلته"، وهو بمعنى جلس، والدابة تطلق على المركوب من ناقة وفرس وبغل وحمار، فإذا ثبت في الراحلة كان الحكم في البقية كذلك، ثم قال الإسماعيلي: إن صالح بن كيسان تفرد بقوله: وقف على راحلته وليس كما قال، فقد قال ذلك أيضًا يونس عند مسلم، ومعمر عند أحمد والنسائي، كلاهما عن الزهري، وقد أشار المصنف إلى ذلك بقوله: تابعه معمر الآتي قريبًا أي: في قوله: وقف على راحلته. الحديث الرابع عشر والمائتان حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَقَفَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَجَعَلُوا يَسْأَلُونَهُ، فَقَالَ رَجُلٌ: لَمْ أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ؟ قَالَ: "اذْبَحْ وَلاَ حَرَجَ". فَجَاءَ آخَرُ فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِي؟ قَالَ: "ارْمِ وَلاَ حَرَجَ". فَمَا سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلاَ أُخِّرَ إِلاَّ قَالَ: "افْعَلْ وَلاَ حَرَجَ". أورد المصنف هذا الحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص -وما وقع في بعض نسخ العمدة، وشرح عليه ابن دقيق العيد من أنه ابن عمر بن الخطاب غلط- من أربعة طرق عن الزهري عن عيسى بن طلحة بن عبيد الله أحد العشرة عن عبد الله بن عمرو، ولم يوجد حديثه إلا بهذا الإسناد، واختلف أصحاب الزهري عليه في سياقه، وأتمهم سياق صالح بن كيسان، وهي الطريقة الثالثة، ولم يسق المصنف لفظها، وهي عند أحمد في مسنده، وفيه زيادة على سياق ابن جريج ومالك، وتابعه يونس عن الزهري عند مسلم بزيادة أيضًا سنبينها.

وقوله: "مالك عن ابن شهاب" كذا في رواية الموطأ، وعند النسائي: عن مالك حدَّثني الزهري. وقوله: "عن عيسى" في رواية صالح: حدَّثني عيسى. وقوله: "عن عبد الله" في رواية صالح: أنه سمع عبد الله، وفي رواية ابن جريج، وهي الثانية: أن عبد الله حدَّثه. وقوله: "وقف في حجة الوداع" لم يعين المكان ولا اليوم، لكن تقدم في كتاب العلم عن إسماعيل، عن مالك: بمنى، وكذا في رواية معمر وفيه عن عبد العزيز بن أبي سلمة عن الزهري: عند الجمرة، وفي رواية ابن جريج، وهي الطريق الثانية: هنا يخطب يوم النحر، وفي رواية صالح ومعمر كما تقدم: على راحلته، قال عياض: جمع بعضهم بين هذه الروايات بأنه موقف واحد، على أن معنى خطب أي: علم الناس لا أنها من خطب الحج المشهورة، قال: ويحتمل أن يكون ذلك في موطنين أحدهما: على راحلته عند الجمرة، ولم يقل في هذا: خطب والثاني: يوم النحر بعد صلاة الظهر، وذلك وقت الخطبة المشروعة من خطب الحج، يعلم الإِمام الناس فيها ما بقي عليهم من مناسكهم، وصوب النووي هذا الاحتمال الثاني، فإن قيل: لا منافاة بين هذا الذي صوبه وبين الذي قبله، فإنه ليس في شيء من طريق الحديثين، حديث ابن عباس، وحديث عبد الله بن عمرو بيان الوقت الذي خطب فيه من النهار، إلا أن في رواية ابن عباس أن بعض السائلين قال: رميت بعدما أمسيت؟ وهذا يدل على أن هذه القصة كانت بعد الزوال؛ لأن المساء يطلق على ما بعد الزوال، وكأن السائل علم أن السنة للحاج أن يرمي الجمرة أول ما يقدم ضحى، فلما أخّرها إلى بعد الزوال سأل عن ذلك، على أن حديث عبد الله بن عمرو من مخرج واحد، لا يعرف له طريق إلا عن الزهري عن عيسى عنه. والاختلاف فيه من أصحاب الزهري، وغايته أن بعضهم ذكر ما لم يذكره الآخر، واجتمع من مرّوا بهم، ورواية ابن عباس، أن ذلك كان يوم النحر بعد الزوال، وهو على راحلته يخطب عند الجمرة، وإذا تقرر أن ذلك كان بعد الزوال يوم النحر، تعين أنها الخطبة التي شرعت لتعليم بقية المناسك فليس قوله: خطب مجازًا عن مجرد التعليم، بل حقيقة، ولا يلزم من وقوفه عند الجمرة أن يكون حينئذٍ رماها فسيأتي في آخر الباب الذي يليه من حديث ابن عمر أنه عليه الصلاة والسلام وقف يوم النحر بين الجمرات، فذكر خطبته، فلعل ذلك وقع بعد أن أفاض، ورجع إلى مني. وقوله: "فقال رجل" قال في الفتح: لم أقف على اسمه بعد البحث الشديد، ولا على

اسم أحد ممن سأل في هذه القصة، وهم كانوا جماعة، وفي حديث أسامة بن شريك عند الطحاوي وغيره: كان الأعراب يسألونه، وكان هذا هو السبب في عدم ضبط أسمائهم. وقوله: "لم أشعر" أي: لم أفطن، يقال: شعرت شعورًا بالشيء إذا فطنت له، وقيل: الشعور: العلم، ولم يفصح في رواية مالك بمتعلق الشعور، وبينه يونس عند مسلم ولفظه: لم أشعر أن الرمي قبل النحر، فنحرت قبل أن أرمي. وقال آخر: لم أشعر أن النحر قبل الحلق، فحلقت قبل أن أنحر، وفي رواية ابن جريج: كنت أحسب أنّ كذا قبل كذا، وقد تبين ذلك في رواية يونس، وزاد في رواية ابن جريج: وأشباه ذلك، وفي رواية محمد بن أبي حفصة عن الزهري عند مسلم: حلقت قبل أن أرمي، وقال آخر: أفضت إلى البيت قبل أن أرمي، وفي حديث معمر عند أحمد زيادة الحلق قبل الرمي أيضًا، فحاصل ما في حديث عبد الله بن عمرو السؤال عن أربعة أشياء: الحلق قبل الذبح، والحلق قبل الرمي، والنحر قبل الرمي، والإِفاضة قبل الرمي، والأولان في حديث ابن عباس أيضًا، كما مرَّ، وعند الدارقطني من حديث ابن عباس أيضًا السؤال عن الحلق قبل الرمي، وكذا في حديث جابر، وفي حديث أبي سعيد عند الطحاوي، وفي حديث علي عند أحمد السؤال عن الإفاضة قبل الحلق، وفي حديثه عند الطحاوي السؤال عن الرمي والإفاضة معًا قبل الحلق، وفي حديث جابر -الذي علقه المصنف فيما مضى، ووصله ابن حبان وغيره- السؤال عن الإفاضة قبل الذبح، وفي حديث أسامة بن شريك عند أبي داود السؤال عن السعي قبل الطواف. وقوله: "اذبح ولا حرج" أي: لا ضيق عليك في ذلك، ووظائف يوم النحر بالاتفاق أربعة أشياء: رمي جمرة العقبة، ثم نحر الهدي أو ذبحه، ثم الحلق أو التقصير، ثم طواف الإفاضة، وفي الصحيحين عن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أتى منى، فأتى الجمرة فرماها، ثم أتى منزله فنحر، وقال للحالق: "خذ"، ولأبي داود: ثم نحر، ثم حلق، وقد أجمع العلماء على مطلوبية هذا الترتيب المذكور، إلا ابن الجهم المالكي واستثنى القارن، فقال: لا يحلق حتى يطوف، وكأنه لاحظ أنه في عمل العمرة، والعمرة يتأخر فيها الحلق عن الطواف، ورد عليه النووي بالإجماع، ونازعه ابن دقيق العيد في ذلك، واختلفوا في جواز تقديم بعضها على بعض، وأجمعوا على الإجزاء في ذلك، كما قاله ابن قدامة في المغني، إلا أنهم اختلفوا في وجوب الدم في بعض المواضع، وقال القرطبي: روي عن ابن عباس، ولم يثبت عنه أن من قدم شيئًا على شيء فعليه دم، وبه قال سعيد بن جبير، وقتادة والحسن والنخعي وأصحاب الرأي، وفي نسبة ذلك إلى النخعي وأصحاب الرأي نظر، فإنهم لا يقولون بذلك إلا في بعض المواضع. وقوله: "فما سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن شيء قدِّم ولا أخر" في رواية يونس عند مسلم وصالح عند أحمد: فما سمعته سئل يومئذٍ عن أمر مما ينسى المرء أو يجهل من تقديم بعض الأمور

رجاله خمسة

على بعض، أو أشباهها إلا قال: "افعلوا ذلك، ولا حرج" واحتج به، وبقوله في رواية مالك: لم أشعر بأن الرخصة تختص بمن نسي أو جهل، لا بمن تعمد، وقد مرَّ باقي مباحث هذا الحديث مستوفاة عند ذكره في باب الفتيا، وهو واقف على الدابة، أو غيرها من كتاب العلم، فراجعه، وما في حديث أسامة بن شريك من السعي قبل الطواف، محمول على من سعى بعد طواف القدوم، ثم طاف طواف الإفاضة، فإنه يصدق عليه أن سعى قبل الطواف، أي: طواف الركن، ولم يقل بظاهر حديث أسامة إلا أحمد وعطاء، فقالا: لو لم يطف للقدوم، ولا لغيره وقدم السعي على طواف الإفاضة، أخرجه عبد الرزاق، عن ابن جريج عنه. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ عبد الله بن يوسف، ومالك في الثاني من بدء الوحي، وابن شهاب في الثالث منه، ومرَّ عيسى بن طلحة في الخامس والعشرين من العلم، ومرَّ عبد الله بن عمرو في الثالث من الإِيمان. لطائف إسناده: فيه التحديث والإخبار بالجمع والعنعنة، ورواته: كلهم مدنيون، إلا شيخه، فإنه مصري تنيسي أصله دمشقي. وفيه: رواية التابعي عن التابعي عن الصحابي، وهذا الحديث في باب الفتيا على ظهر الدابة من كتاب العلم، وهو الخامس والعشرين منه، ومرَّ هناك من أخرجاه. الحديث الخامس عشر والمائتان حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه حَدَّثَهُ أَنَّهُ شَهِدَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَخْطُبُ يَوْمَ النَّحْرِ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: كُنْتُ أَحْسِبُ أَنَّ كَذَا قَبْلَ كَذَا. ثُمَّ قَامَ آخَرُ فَقَالَ: كُنْتُ أَحْسِبُ أَنَّ كَذَا قَبْلَ كَذَا حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ، نَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِي. وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "افْعَلْ وَلاَ حَرَجَ". لَهُنَّ كُلِّهِنَّ، فَمَا سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ إِلاَّ قَالَ: "افْعَلْ وَلاَ حَرَجَ". قوله: "فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لهن كلهن افعل ولا حرج" قال الكرماني في اللام في قوله: لهن متعلقة بقال: أي قال لأجل هذه الأفعال أو بمحذوف أي: قال يوم النحر لأجلهن، أو بقوله: لا حرج، أي: لا حرج لأجلهن ويحتمل أن تكون اللام بمعنى عن أي: قال عنهن كلهن، قال ابن التين: هذا الحديث لا يقتضي رفع الحرج في غير المسألتين المنصوص عليهما، يعني المذكورتين في رواية مالك لأنه خرج جوابًا للسؤال، ولا يدخل فيه غيره، وكأنه غفل

رجاله ستة

عن قوله في بقية الحديث: "فما سئل عن شيء قدَّم ولا أخر"، وكأنه حمل ما أبهم فيه على ما ذكر، لكن قوله في رواية ابن جريج: "وأشباه ذلك" يرد عليه وقد تقدم فيما حررناه من مجموع الأحاديث عدة صور، وبقيت عدة صور لم تذكرها الرواة، إما اختصارًا، وإما لكونها لم تقع، وبلغت بالتقسيم أربعًا وعشرين صورة، منها صورة الترتيب المتفق عليها. رجاله ستة: قد مرّوا: مرَّ سعيد بن يحيى، وأبوه يحيى بن سعيد في الرابع من الإيمان، ومرَّ ابن جريج في الثالث من الحيض، ومرَّ محل ابن شهاب وعيسى وعبد الله بن عمرو في الذي قبله. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإفراد والعنعنة. ورواته: بغدادي، وكوفي، ومكي، ومدنيان. وفيه: رواية التابعي عن التابعي، عن الصحابي. الحديث السادس عشر والمائتان حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي عِيسَى بْنُ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما قَالَ: وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى نَاقَتِهِ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. قوله: "وقف النبي -صلى الله عليه وسلم-" في رواية ابن جريج: أنه شهد النبي -صلى الله عليه وسلم-. وقوله: "حدَّثني إسحاق" كذا: للأكثر غير منسوب، ونسبه أبو علي بن السكن فقال: إسحاق بن منصور، ورواه أبو نعيم في المستخرج من مسند إسحاق بن راهويه وهو المتحقق عندي لتعبيره بقوله: أخبرنا يعقوب، لأن إسحاق بن راهويه لا يحدث عن مشايخه إلا بالإخبار، بخلاف إسحاق بن منصور، فيقول: حدَّثنا، والكلام على الحديث مرَّ في الرواية الأولى. رجاله سبعة: قد مرّوا: وإسحاق المراد به ابن راهويه، أو ابن منصور، والأول مرَّ في تعليق بعد الحادي والعشرين من العلم، والثاني مرَّ في الخامس والثلاثين من الإيمان، ومرَّ إبراهيم بن سعد في السادس عشر منه، ومرَّ ابنه يعقوب في السادس عشر من العلم، ومرَّ صالح بن كيسان في الأخير من بدء الوحي، ومرَّ محل الثلاثة الباقية في الذي قبله بحديث.

فيه: رواية الابن عن الأب، ورواية ثلاثة من التابعين، يروي بعضهم عن بعض. ثم قال: تابعه معمر عن الزهري، وهذه المتابعة وصلها أحمد والنسائي كما مرَّ، وأخرجها مسلم، ومعمر مرَّ في متابعة بعد الرابع من بدء الوحي، والزهري في الثالث منه. ثم قال المصنف:

باب الخطبة أيام مني

باب الخطبة أيام مني أي: مشروعيتها خلافًا لمن قال: إنها لا تشرع، وأحاديث الباب صريحة في ذلك، إلا حديث جابر بن زيد ثاني أحاديث الباب عن ابن عباس، فإن فيه التقييد بالخطبة بعرفات، ويأتي قريبًا إن شاء الله تعالى ما أجيب به عن ذلك. وأيام منى أربعة: يوم النحر وثلاثة أيام بعده، وليس في شيء من أحاديث الباب التصريح بغير يوم النحر، وهو الموجود في أكثر الأحاديث، كحديث الهرماس بن زياد وأبي أمامة: كلاهما عند أبي داود، وكحديث جابر بن عبد الله عند أحمد: خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم النحر، فقال: "أيّ يوم أعظم حرمة" الحديث، وقد تقدم حديث عبد الله بن عمرو قريبًا، وفيه ذكر الخطبة يوم النحر. وأما قوله في حديث ابن عمر أنه قال ذلك بمنى، فهو مطلق، فيحمل على المقيد، فيتعين يوم النحر، فلعل المصنف أشار إلى ما وقع في بعض طرق حديث الباب كما عند أحمد عن أبي حرة الرقاشي عن عمه فقال: كنت آخذًا بزمام ناقة النبي -صلى الله عليه وسلم- في أوسط أيام التشريق أذود عنه الناس، فذكر نحو حديث أبي بكرة، فقوله: "في أوسط أيام التشريق" يدل على وقوع ذلك أيضًا في اليوم الثاني، أو الثالث. وفي حديث سراء بنت نبهان عند أبي داود: خطبنا النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الرؤوس، فقال: "أيُّ يوم هذا" قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "أليس أوسط أيام التشريق؟ "، وفي الباب عن كعب بن عاصم عند الدارقطني وعن ابن أبي نجيح عن رجلين من بني بكر عند أبي داود، وعن أبي نضرة عمن سمع خطبة النبي -صلى الله عليه وسلم- عند أحمد، قال ابن المنير: أراد البخاري الرد على من زعم أن يوم النحر لا خطبة فيه للحاج، وأن المذكور في هذا الحديث من قبيل الوصايا العامة، لا على أنه من شعار الحج، فأراد البخاري أن يبين أن الراوي قد سماها خطبة، كما سمّى التي وقعت في عرفات خطبة، وقد اتفقوا على مشروعية الخطبة بعرفات، فكأنه ألحق المختلف فيه بالمتفق عليه، وسيأتي آخر الباب نقل الاختلاف في مشروعية الخطبة يوم النحر، واعلم أن لستة أيام متوالية من أيام ذي الحجة أسماء الثامن: يوم التروية، والتاسع: عرفة: والعاشر: النحر، والحادي عشر: القر، والثاني عشر: النفر الأول، والثالث عشر: النفر الثاني. وذكر مكي بن أبي طالب أن السابع يسمى يوم الزينة، وأنكره النووي.

الحديث السابع عشر والمائتان

الحديث السابع عشر والمائتان حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ غَزْوَانَ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ النَّحْرِ فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ! أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ ". قَالُوا: يَوْمٌ حَرَامٌ. قَالَ: "فَأَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟ ". قَالُوا: بَلَدٌ حَرَامٌ. قَالَ: "فَأَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ ". قَالُوا: شَهْرٌ حَرَامٌ. قَالَ: "فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا". فَأَعَادَهَا مِرَارًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ". قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَوَصِيَّتُهُ إِلَى أُمَّتِهِ: "فَلْيُبْلِغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ". قوله: "أيّ يوم هذا؟ قالوا: يوم حرام" كذا في حديث ابن عباس هذا، وفي حديث أبي بكرة ثالث أحاديث الباب: أتدرون أيّ يوم هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسم، قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى. وحديث ابن عمر المذكور بعده نحوه، إلا أنه ليس فيه "فسكت" إلخ، بل فيه بعد قولهم: الله ورسوله أعلم، قال: "هذا يوم حرام" فقيل في الجمع بين الحديثين: لعلهما واقعتان، وليس بشيء لأن الخطبة يوم النحر إنما تشرع مرة واحدة، وقد قال في كل منهما: إن ذلك كان يوم النحر، وقيل في الجمع بينهما: إن بعضهم بادر بالجواب، وبعضهم سكت، وقيل في الجمع: إنهم فوضوا أولًا كلهم بقولهم: الله ورسوله أعلم، فلما سكت أجاب بعضهم دون بعض، وقيل: وقع السؤال في الوقت الواحد مرتين بلفظين، فلما كان في حديث أبي بكرة فخامة ليست في الأول لقوله فيه: "أتدرون؟ " سكتوا عن الجواب، بخلاف حديث ابن عباس لخلوه عن ذلك، قاله الكرماني، وقيل: في حديث ابن عباس اختصار بينته رواية أبي بكرة. وابن عمر فكأنه أطلق قولهم: يوم حرام، باعتبار أنهم قرروا ذلك قولهم: بلى: وسكت في رواية ابن عمر عن ذكر جوابهم، وهذا جمع حسن، وقد مرَّ الكلام على هذا في باب: رب مبلغ أوعى من سامع، من كتاب العلم. وقوله: "يوم حرام" أي: يحرم فيه القتال، وكذلك الشهر، والبلد. وقوله: "فأعادها مرارًا" قال في الفتح: لم أقف على عددها صريحًا، ويشبه أن يكون ثلاثًا كعادته عليه الصلاة والسلام. وقوله: "ثم رفع رأسه" زاد الإِسماعيلي من هذا الوجه: إلى السماء. وقوله: "فوالذي نفسي بيده إنها لوصيته" يريد بذلك الكلام الأخير، وهو قوله عليه الصلاة

رجاله خمسة

والسلام: "فليبلغ الشاهد الغائب" إلى آخر الحديث، وقد رواه أحمد عن فضيل بإسناد الباب بلفظ: ثم قال: "ألا فليبلغ" إلخ، وهو يوضح ما قلناه. وقوله: "إلى أمته" في رواية أحمد عن ابن نمير أنها لوصيته إلى ربه، وكذلك عمرو بن علي الفلاس، والمقدمي عن يحيى بن سعيد، أخرجه أبو نعيم من طريقهما. وقوله: "ولا ترجعوا بعدي كفارًا" إلخ، قد مرَّ الكلام عليه متسوفىً في باب الإنصات للعلماء من كتاب العلم، ومرَّ الكلام على باقي الحديث في باب رب مبلغ أوعى من سامع. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ علي بن المديني في الرابع عشر من العلم، وعكرمة في السابع عشر منه، ومرَّ يحيى القطان في السادس من الإيمان، ومرَّ فضيل بن غزوان في السادس والأربعين من استقبال القبلة، ومرَّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي. لطائف إسناده: فيه أن شيخه وعكرمة مدنيان، ويحيى بصري، وفضيل كوفي، أخرجه البخاري أيضًا في الفتن، وكذا الترمذي. الحديث الثامن عشر والمائتان حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرٌو قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ زَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَخْطُبُ بِعَرَفَاتٍ. وقوله: "يخطب بعرفات" هو طرف من حديث يأتي في باب لبس الخفين للعموم، عن شعبة بهذا الإسناد، وبعده متصلًا يخطب بعرفات بقوله: "من لم يجد النعلين فليلبس الخفين" الحديث، وذكره بعده بباب عن آدم عن شعبة بلفظ: خطبنا النبي -صلى الله عليه وسلم- بعرفات فقال: "من لم يجد" فذكر الحديث. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ حفص بن عمر في الثالث والثلاثين من الوضوء، ومرَّ شعبة في الثالث من الإيمان، ومرَّ عمرو بن دينار في الرابع والخمسين من العلم، ومرَّ جابر بن زيد في السادس من الغسل، ومرَّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإخبار بالإفراد والسماع والقول.

الحديث التاسع عشر والمائتان

ورواته: شيخه من أفراده، وهو بصري: ثم واسطي، ومكي، وبصري. وفيه: رواية تابعي عن تابعي عن صحابي، وهذا الحديث طرف من حديث يأتي في باب لبس الخفين للمحرم، وأخرجه في اللباس، ومسلم في الحج، وكذا الترمذي والنسائي وابن ماجه. ثم قال: تابعه ابن عيينة، عن عمرو أي: أن سفيان بن عيينة تابع شعبة في رواية هذا الحديث، والمراد به أصل الحديث، فإن أحمد أخرجه في مسنده، عن سفيان بن عيينة ولفظه: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب يقول: "من لم يجد" فذكره فلم يعين موضع الخطبة، وكذا رواه الحميدي وابن أبي شيبة. وأصله في مسلم، وابن عيينة مرَّ في الأول من بدء الوحي، وعمرو بن دينار، مرَّ محله في الذي قبله. الحديث التاسع عشر والمائتان حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ، حَدَّثَنَا قُرَّةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، وَرَجُلٌ أَفْضَلُ فِي نَفْسِي مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: خَطَبَنَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ النَّحْرِ، قَالَ: "أَتَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ ". قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَسَكَتَ، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ، قَالَ: "أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ؟ ". قُلْنَا: بَلَى. قَالَ: "أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ ". قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ. فَقَالَ: "أَلَيْسَ ذُو الْحَجَّةِ؟ ". قُلْنَا: بَلَى. قَالَ: "أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟ ". قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ. قَالَ: "أَلَيْسَتْ بِالْبَلْدَةِ الْحَرَامِ؟ ". قُلْنَا: بَلَى. قَالَ: "فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، إِلَى يَوْمِ تَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ. أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ". قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: "اللَّهُمَّ اشْهَدْ، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ، فَلاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ". قوله: "أليس يومَ النحر" بنصب يوم على أنه خبر ليس، والتقدير أليس اليومُ يومَ النحر، ويجوز الرفع على أنه اسم ليس والتقدير: أليس يومُ النحر هذا اليوم، والأول أوضح، لكن يؤيد هذا الثاني قوله: "أليس ذو الحجة" أي: أليس ذو الحجة هذا الشهر. وقوله: "بالبلدة الحرام" كذا فيه بتأنيث البلد، وتذكير الحرام، وذلك أن لفظ الحرام اضمحل منه معنى الوصفية، وصار اسمًا قال الخطابي: يقال: إن البلدة اسم خاص بمكة،

رجاله سبعة

وهي المرادة بقوله تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} وقال الطيبي: المطلق محمول على الكامل وهي الجامعة للخير المستجمعة للكمال، كما أن الكعبة تسمى البيت، ويطلق عليها ذلك. وقوله: "إلى يوم تلقون" بفتح يوم وكسره مع التنوين وعدمه، وترك التنوين مع الكسر هو الذي تثبت به الرواية. وقوله: "اللهم اشهد" تقدم أنه أعاد ذلك في حديث ابن عباس، وإنما قال ذلك، لأنَّه كان فرضًا عليه أن يبلغ، فأشهد الله على أنه أدى ما أوجبه عليه، والمبلَّغ بفتح اللام أي: رب شخص بلغه كلامي فكان أحفظ له، وأفهم لمعناه من الذي نقله له، قال المهلب فيه: إنه يأتي في آخر الزمان من يكون له من الفهم في العلم، ما ليس لمن تقدمه، إلا أن ذلك يكون في الأقل؛ لأن رب موضوعة للتقليل -يعني في الأصل- لكنها استعملت في التكثير بحيث غلب عليها الاستعمال فيه، وقد أشبعنا على رُبّ في كتاب العلم في باب رُبَّ مبلَّغ أوعى من سامع، ولكن يؤيد أن التقليل هنا مراد أنه وقع في رواية أخرى تقدمت في العلم بلفظ: عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه، وفي الحديث دلالة على جواز تحمل الحديث لمن لم يفهم معناه، ولا فقهه، إذا ضبط ما يحدَّث به، ويجوز وصفه بكونه من أهل العلم بذلك، وفيه وجوب تبليغ العلم على الكفاية، وقد يتعين في بعض الناس، وفيه تأكيد التحريم وتغليظه بأبلغ ممكن من تكرار ونحوه، وفيه مشروعية ضرب المثل، وإلحاق النظير بالنظير ليكون أوضح، وإنما شبه حرمة الدم والعرض والمال، بحرمة اليوم والشهر والبلد؛ لأن المخاطبين بذلك كانوا يراعون تلك الأشياء، ولا يرون هتك حرمتها، ويعيبون على من فعل ذلك أشد العيب، وإنما قدم السؤال عنها، تذكارًا لحرمتها، وتقريرًا لما ثبت في نفوسهم، ليبني عليه ما أراد تقريره على سبيل التأكيد. وقد تقدم كثير من مباحث هذا الحديث في كتاب العلم عند ذكره في باب رُبَّ مبلَّغ أوعى له من سامع. رجاله سبعة: قد مرّوا، إلا حميد على احتمال: مرَّ عبد الله بن محمد، وأبو عامر العقدي في الثاني من الإيمان، ومرَّ محمد بن سيرين في الأربعين منه، ومرَّ أبو بكرة في الرابع والعشرين منه، ومرَّ قرة بن خالد في الثامن والسبعين من مواقيت الصلاة، ومرَّ عبد الرحمن بن أبي بكرة في التاسع من العلم، والسابع حميد وهو يحتمل أن يكون ابن عبد الرحمن بن عوف، وقد مرَّ في الثلاثين من الإيمان ويحتمل أن يكون حميد بن عبد الرحمن الحميري البصري، قال العجلي: بصري ثقة، وقال: هو ومنصور بن زاذان كان ابن سيرين يقول: هو أفقه أهل

لطائف إسناده

البصرة قبل أن يموت بعشر سنين، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: كان فقيهًا عالمًا، وقال ابن سعد: كان ثقة، وله أحاديث، روى عن أبي بكرة، وابن عمر، وابن عباس وغيرهم، وروى عنه ابنه عبيد الله ومحمد بن المنتشر، ومحمد بن سيرين، وغيرهم. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإفراد والإخبار بالإفراد، والعنعنة، والقول. وشيخه بخاري، والباقون: بصريون إلا حميد، على أنه ابن عوف، فهو مدني، وقد مرَّ في كتاب العلم من أخرجه. الحديث العشرون والمائتان حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِمِنًى: "أَتَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ ". قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَقَالَ: "فَإِنَّ هَذَا يَوْمٌ حَرَامٌ، أَفَتَدْرُونَ أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟ ". قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "بَلَدٌ حَرَامٌ، أَفَتَدْرُونَ أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ ". قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "شَهْرٌ حَرَامٌ"، قَالَ: "فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا". قوله: "عن أبيه" هو محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر، فرواية محمد عن جدّه. وقوله: "أفتدرون" في رواية الإسماعيلي: "أوَتدرون"، وهذا الحديث قد مرت مباحثه في الذي قبله. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ محمد بن المثنى في التاسع من الإيمان، ومرَّ محمد بن زيد أبو عاصم في الثامن عشر منه، ومرَّ عاصم في الرابع من كتاب الصلاة، ومرَّ يزيد بن هارون في الخامس عشر من الوضوء، ومرَّ ابن عمر في أول الإِيمان قبل ذكر حديث منه. أخرجه البخاري أيضًا في الديات، وفي الأدب، والحدود والمغازي، ومسلم في الإيمان، وأبو داود في السنة والنسائي في المحاربة وابن ماجه في الفتن. ثم قال: قَالَ هِشَامُ بْنُ الْغَازِ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: وَقَفَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ النَّحْرِ بَيْنَ الْجَمَرَاتِ فِي الْحَجَّةِ الَّتِى حَجَّ بِهَذَا، وَقَالَ: "هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الأَكْبَرِ"، فَطَفِقَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "اللَّهُمَّ اشْهَدْ". وَوَدَّعَ النَّاسَ. فَقَالُوا: هَذِهِ حَجَّةُ الْوَدَاعِ.

قوله: "بين الجمرات" بفتح الجيم والميم فيه تعيين البقعة التي وقف فيها، كما أن في الرواية التي قبلها تعيين المكان، كما أن في حديثي ابن عباس وأبي بكرة تعيين اليوم، ووقع تعيين الوقت من اليوم في رواية ابن عمرو المزني في رواية أبي داود والنسائي، ولفظه: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب الناس بمنى حين ارتفع الضحى. الحديث. وقوله: "في الحجة التي حج" هذا هو المعروف عند من ذكر ممن رواه كما يأتي، وفي رواية الكشميهني: في حجته التي حج، وللطبراني: في حجة الوداع. وقوله: "بهذا" أي: بالحديث الذي تقدم من طريق محمد بن زيد عن جدّه وأراد المصنف بذلك أصل الحديث، وأصل معناه، لكن السياق مختلِف، فإن في طريق محمد بن زيد أنهم أجابوا بقولهم: الله ورسوله أعلم، وفي هذا عند ابن ماجه وغيره في أجوبتهم قالوا: يوم النحر، قالوا: بلد حرام، قالوا: شهر حرام، ويجمع بينهما بنحو ما تقدم، وهو أنهم أجابوا أولًا بالتفويض، فلما سكت أجابوا بالمطلوب، وأغرب الكرماني فقال: قوله: "بهذا" أي: وقف متلبسًا بهذا الكلام. وقوله: وقال: "هذا يوم الحج الأكبر" فيه دليل لمن يقول: إن يوم الحج الأكبر، هو يوم النحر، وقد مرَّ الكلام عليه مستوفىً أوائل كتاب الصلاة في باب ما يستر من العورة. وقوله: "فطفق" في رواية ابن ماجه وغيره بين قوله: يوم الحج الأكبر، وبين قوله: فطفق من الزيادة: "ودماؤكم، وأموالكم، وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة هذا البلد، في هذا اليوم" وقد وقع معنى ذلك في طريق محمد بن زيد أيضًا. وقوله: "فودع الناس" وعند البيهقي في طريق ضعيفة من حديث ابن عمر سبب ذلك، ولفظه: أنزلت: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في وسط أيام التشريق وعرف أنه الوداع، فأمر راحلته القصواء فرحلت له، فركب ووقف بالعقبة، واجتمع الناس إليه فقال: "أيها الناس" فذكر الحديث، وفي هذه الأحاديث دلالة على مشروعية الخطبة يوم النحر، وبه أخذ الشافعي ومن تبعه، وخالف ذلك المالكية والحنفية قالوا: خطب الحج ثلاثة: سابع ذي الحجة، ويوم عرفة، وثاني يوم النحر، ووافقهم الشافعي إلا أنه قال بدل ثاني النحر ثالثه، لأنه أول النفر، وزاد خطبة رابعة وهي: يوم النحر، وقال: إن بالناس حاجة إليها ليتعلموا أعمال ذلك اليوم من الرمي والذبح والحلق، والطواف، وقد استوفيت الكلام على خطب الحج عند الأئمة في باب التهجير بالرواح يوم عرفة عند حديث ابن عمر، وتعقب الطحاوي على الشافعي ما مرَّ عنه، بأن الخطبة المذكورة ليست من متعلقات الحج؛ لأنه لم يذكر فيها شيئًا من أمور الحج، وإنما ذكر فيها وصايا عامة، ولم ينقل أحد أنه علمهم فيها شيئًا من الذي يتعلق بيوم النحر، فعرفنا أنها لم تقصد لأجل الحج.

وقال ابن القصار: إنما فعل من أجل تبليغ ما ذكره لكثرة الجَمْع الذي اجتمع من أقاصِي الناس، فظن الذي رآه أنه خطب، قال: وأما ما ذكره الشافعي من أن بالناس حاجة إلى تعليمهم أسباب التحلل المذكورة، فليس بمتعين؛ لأن الإِمام يمكنه أن يعلمهم إياها يوم عرفة، وأجيب بأنه نبه -صلى الله عليه وسلم- في الخطبة المذكورة، على تعظيم يوم النحر، وعلى تعظيم ذي الحجة، وعلى تعظيم البلد الحرام، وقد جزم الصحابة المذكورون بتسميتها خطبة، فلا يلتفت لتأويل غيرهم، وما ذكره إمكان تعليم ما ذكر يوم عرفة، يعكر عليه كونه يرى مشروعية الخطبة، ثاني يوم النحر، وكان يمكن أن يعلموا ذلك يوم عرفة، بل كان يمكن أن يعلموا يوم التروية جميع ما يأتي بعده من أعمال الحج، لكن لما كان في كل يوم أعمال ليست في غيره، شرع تجديد التعليم بحسب تجديد الأسباب، وأيضًا الناس تطرأ كل يوم إلى يوم النحر فتحتاج إلى تجديد التعليم، وقد بين الزهري -وهو عالم أهل زمانه- أن الخطبة ثاني يوم النحر، نقلت من خطبة يوم النحر وأن ذلك من عمل الأمراء، يعني من بني أمية، فقد روى ابن أبي شيبة عن الزهري قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب يوم النحر، فشغل الأمراء فأخروه إلى الغد، وهذا وإن كان مرسلًا، لكنه يعتضد بما سبق، وبانَ به أن السنة الخطبة يوم النحر لا ثانيه. وأما قول الطحاوي: إنه لم ينقل أنه علمهم شيئًا من أسباب التحلل، فلا ينفي وقوع ذلك، أو شيئًا منه في نفس الأمر، بل قد ثبت في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص كما تقدم في الباب قبله أنه شهد النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب يوم النحر، وذكر فيه السؤال عن تقدم بعض المناسك على بعض، فكيف ساغ للطحاوي هذا النفي المطلق مع روايته هو لحديث عبد الله بن عمرو؟ وثبت أيضًا في بعض طرق أحاديث الباب أنه -صلى الله عليه وسلم- قال للناس حينئذٍ: "خذوا عني مناسككم" فكأنه وعظهم بما وعظهم به، وأحال في تعليمهم على تلقي ذلك من أفعاله، ومما يرد به على تأويل الطحاوي، ما أخرجه ابن ماجه عن ابن مسعود قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-وهو على ناقته بعرفات- "أتدرون أيّ يوم هذا؟ " الحديث، ونحوه للطبراني في "الكبير" من حديث ابن عباس. وأخرج أحمد من حديث نبيط بن شريط أنه رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- واقفًا بعرفة على بعير أحمر يخطب فسمعته يقول: "أيّ يوم أحرم؟ " الحديث قالوا هذا اليوم، قال: "فأي بلد أحرم" الحديث ونحوه، لأحمد من حديث العداء ابن خالد، فهذا الحديث الذي ثبت في الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام خطب به يوم النحر، قد ثبت أنه خطب به قبل ذلك يوم عرفة. وقد وردت الأحاديث عن الصحابة مصرحة بأنه عليه الصلاة والسلام خطب يوم النحر كحديث الهرماس بن زياد المشار إليه سابقًا، ولفظه، رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب الناس على ناقته الجدعاء يوم الأضحى، وحديث أبي أمامة السابق أيضًا، سمعت خطبة النبي -صلى الله عليه وسلم- بمنى يوم النحر، أخرجهما أبو داود، وأخرج أيضًا عن عبد الرحمن بن معاذ التيمي خطبنا رسول

الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن بمنى، وأخرج أيضًا عن رافع بن عمرو رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب الناس بمنى حين ارتفع الضحى، وأخرج أيضًا من مرسل مسروق أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خطب يوم النحر. وتعليق هشام بن الغاز هذا وصله أبو داود وابن ماجه والطبراني. ورجاله ثلاثة: مرَّ نافع في الأخير من العلم، ومرَّ محل ابن عمر في الذي قبله، والباقي هشام بن الغاز باسم الفاعل مع حذف الياء، ابن ربيعة الجرشي أبو عبد الله، ويقال: أبو العباس الدمشقي نزيل بغداد، وكان على بيت المال لأبي جعفر المنصور، قال أحمد: صالح الحديث، وقال ابن معين: ليس به بأس، وقال مرة: ثقة، وكذا قال ابن عمار، وكذا قال أبو العباس، وقال دحيم: ما أحسن استقامته في الحديث، وكان الوليد يثني عليه، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال كان عبادًا فاضلًا روى عن أخيه ربيعة وعبادة بن نسي، ونافع والزهري، وغيرهم وروى عنه ابنه عبد الوهاب، وإسماعيل ابن عياش، ووكيع، وغيرهم، مات سنة ثلاث أو ست وخمسين ومائة. ثم قال المصنف:

باب هل يبيت أصحاب السقاية أو غيرهم بمكة ليالي منى؟

باب هل يبيت أصحاب السقاية أو غيرهم بمكة ليالي منى؟ مقصوده بالغير من كان له عذر من مرض أو شغل كالحطابين والرعاء. الحديث الحادي والعشرون والمائتان حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: رَخَّصَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-. قوله: "رخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" كذا اقتصر عليه، وأحال به على ما بعده، ولفظه عند الإسماعيلي: عن عيسى بن يونس: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رخص للعباس أن يبيت بمكة أيام منى من أجل سقايته" أخرج هذه الحديث من ثلاثة طرق، وقد مرت مباحثه مستوفاة غاية الاستيفاء في باب سقاية الحاج عند ذكر رواية أبي ضمرة هناك. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ محمد بن عبيد في الخامس والعشرين والمائة من كتاب الحج هذا، ومرَّ عيسى بن يونس في الثامن عشر والمائة من صفة الصلاة، ومرَّ عبيد الله العمري في الرابع عشر من الوضوء، ومرَّ نافع في الأخير من العلم، ومرَّ ابن عمر في أول الإيمان قبل ذكر حديث منه، أخرجه مسلم والنسائي. الحديث الثاني والعشرون والمائتان حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَذِنَ. كذلك اقتصر هنا، وأحال به على ما بعده، ولفظه عند أحمد عن محمد بن بكر، بالإسناد المذكور: أذِنَ للعباس بن عبد المطلب أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل السقاية. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ يحيى بن موسى في التاسع عشر من الحيض، ومرَّ محمد بن بكر في تعليق بعد التاسع من مواقيت الصلاة، ومرَّ ابن جريج في الثالث من الحيض، ومرَّ محل عبيد الله ونافع وابن عمر في الذي قبله.

الحديث الثالث والعشرون والمائتان

أخرجه مسلم. الحديث الثالث والعشرون والمائتان (ح) وحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّ الْعَبَّاسَ رضي الله عنه اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- لِيَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى، مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ، فَأَذِنَ لَهُ. وقد مرَّ قريبًا محل الكلام على الحديث. رجاله خمسة: وفيه ذكر العباس وقد مرَّ الجميع: مرَّ محمد بن عبد الله ابن نمير في الأول من العمل في الصلاة، ومرَّ عبد الله بن نمير في الثالث من التيمم، ومرَّ العباس في الثالث والستين من الوضوء ومرَّ محل الثلاثة الباقية في الذي قبله بحديث. ثم قال: تابعه أبو أسامة وعقبة بن خالد وأبو ضمرة. قوله: "تابعه" أي: تابع ابن نمير هؤلاء المذكورون، والنكتة في استظهار البخاري بهذه المتابعات -بعد إيراده له من ثلاثة طرق- لشك وقع في رواية يحيى بن سعيد القطان في وصله، فقد أخرجه أحمد، عن يحيى، عن عبيد الله، عن نافع، قال: ولا أعلمه إلا عن ابن عمر، قال الإسماعيلي: وصله أيضًا بغير شك موسى بن عقبة والدراوردي وعلي بن مسهر، ومحمد بن فليح، وغيرهم، كلهم عن عبيد الله، وأرسله ابن المبارك، عن عبيد الله، والظاهر أن عبيد الله كان ربما شك في وصله بدليل رواية يحيى القطان، وكأنه كان في أكثر أحواله يجزم بوصله بدليل رواية الجماعة، أما متابعة أبي أسامة فقد أخرجها مسلم، وأما متابعة عقبة بن خالد فقد أخرجها عثمان بن أبي شيبة في "مسنده" عنه، وأما متابعة أبي ضمرة فقد أخرجها البخاري في باب سقاية الحاج، وقد مرَّ أبو أسامة في الحادي والعشرين من العلم، ومرَّ أبو ضمرة في الرابع عشر من الوضوء، والباقي عقبة بن خالد بن عقبة بن خالد السكوني أبو مسعود الكوفي المجدر، سئل عنه أحمد فقال: هو ثقة، أرجو إن شاء الله تعالى، وقال أبو حاتم: من الثقات صالح الحديث لا بأس به، وقال النسائي: ليس به بأس، وقال الجارودي: شيخ كوفي صاحب حديث، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال أبو سعيد الأشج: حدَّثنا عقبة بن خالد وما تعلمت ألفاظ الحديث إلا منه، وقال عثمان بن أبي شيبة: هو عندي ثقة، روى عن الأعمش، وعبيد الله بن عمر وهشام بن عروة، وغيرهم، وعنه ابنه خالد، وعيسى بن يونس، وهو من أقرانه، وأبو نعيم، وغيرهم، مات سنة ثمان وثمانين ومائة. ثم قال المصنف:

باب رمي الجمار

باب رمي الجمار أي: وقت رميها أو حكم الرمي وقد اختلف فيه. فالجمهور على أنه واجب يجبر تركه بدم، وعند المالكية سنة مؤكدة، فيجبر، وعندهم رواية أن رمي جمرة العقبة ركن يبطل الحج بتركه، ومقابله قول بعضهم: إنها إنما تشرع حفظًا للتكبير، فإن تركه وكبر أجزأه حكاه ابن جرير عن عائشة، وغيرها ثم قال: وقال جابر: رمي النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم النحر ضحى، ورمى بعد ذلك بعد الزوال، وصله مسلم وابن خزيمة وابن حبان عن ابن جريج، أخبرني أبو الزبير، عن جابر قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رمى الجمرة ضحى يوم النحر وحده، ورمى بعد ذلك بعد زوال الشمس، ورواه الدارمي عن ابن جريج، بلفظ التعليق لكن قال: وبعد ذلك عند زوال الشمس، ورواه إسحاق بن راهويه في "مسنده". وجابر مرَّ في الرابع من بدء الوحي. الحديث الرابع والعشرين والمائتان حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ عَنْ وَبَرَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما: مَتَى أَرْمِى الْجِمَارَ؟ قَالَ: إِذَا رَمَى إِمَامُكَ فَارْمِهْ. فَأَعَدْتُ عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةَ، قَالَ: كُنَّا نَتَحَيَّنُ، فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ رَمَيْنَا. قوله: "متى أرمي الجمار؟ " يعني في غير يوم الأضحى، وقوله: فارمه، بهاء ساكنة للسكت، وقوله: "إذا رمى إمامك فارمه" يعني الأمير الذي على الحاج، وكان ابن عمر خاف عليه أن يخالف الأمير فيحصل عليه ضرر، فلما أعاد عليه المسألة لم يسعه الكتمان فأعمله بما كانوا يفعلونه في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد رواه ابن عيينة عن مسعر بهذا الإسناد فقال: فيه فقلت له: أرأيت إن أخر إمامي الرمي فذكر له الحديث. أخرجه ابن أبي عمر في "مسنده" عنه، ومن طريقه الإسماعيلي، وفيه دليل على أن السنة رمي الجمار في غير يوم الأضحى بعد الزوال، وبه قال الجمهور، وخالف فيه عطاء وطاووس فقالا: يجوز قبل الزوال مطلقًا، ورخص الحنفية في الرمي في يوم النفر قبل الزوال. وقال إسحاق: إن رمى قبل الزوال أعاد إلا في الثالث فيجزئه. رجاله أربعة:

مرَّ منهم أبو نعيم في الخامس والأربعين من الإيمان، ومرَّ مسعر في السادس والستين من الوضوء، ومرَّ ابن عمر في أول الإيمان قبل ذكر حديث منه، والباقي وبرة بن عبد الرحمن المسلي بضم الميم وسكون السين أبو خزيمة، ويقال: أبو العباس الكوفي، ويقال: إنه حارثي، قال ابن معين وأبو زرعة: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال العجلي: كوفي، تابعي، ثقة، روى عن ابن عباس وابن عمر وأبي الطفيل وغيرهم، وروى عنه الأعمش ومسعر وأبو إسحاق السبيعي وغيرهم، مات في ولاية خالد بن عبد الله القسري على الكوفة سنة ست عشرة ومائة. رجاله كلهم كوفيون، وأخرجه أبو داود. ثم قال المصنف:

باب رمي الجمار من بطن الوادي

باب رمي الجمار من بطن الوادي كأنه أشار بذلك إلى رد ما رواه ابن أبي شيبة وغيره عن عطاء، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعلو إذا رمى الجمرة، لكن يمكن الجمع بين هذا وبين حديث الباب بأن التي ترمى من بطن الوادي هي جمرة العقبة لكونها عند الوادي بخلاف الجمرتين الأخيرتين، ويوضح ذلك قوله في حديث ابن مسعود في الطريق الآتية بعد باب بلفظ حين رمى جمرة العقبة، وكذا روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن عمر أنه رمى جمرة العقبة في السنة التي أصيب فيها، وفي غيرها من بطن الوادي، ومن طريق الأسود: رأيت عمر رمى جمرة العقبة من فوقها، وفي إسناد هذا الحجاج بن أرطأة، وفيه ضعف. الحديث الخامس والعشرون والمائتان أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، قال: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: رَمَى عَبْدُ اللَّهِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، إِنَّ نَاسًا يَرْمُونَهَا مِنْ فَوْقِهَا؟ فَقَالَ: وَالَّذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ هَذَا مَقَامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ -صلى الله عليه وسلم-. قوله: "الذي أنزلت عليه سورة البقرة" قال ابن المنير: خص عبد الله سورة البقرة بالذكر لأنها هي التي أنزل الله فيها الرمي فأشار إلى أن فعله عليه الصلاة والسلام مبين لمراد كتاب الله تعالى. ولكن موضع ذكر الرمي من سورة البقرة لم يعرف، والظاهر أنه أراد أن يقول: إن كثيرًا من أفعال الحج مذكور فيها، فكأنه قال: هذا مقام الذي أنزلت عليه أحكام المناسك منبهًا بذلك على أن أفعال الحج توقيفية، وقيل: خص البقرة بذلك لطولها وعظم قدرها، وكثرة ما فيها من الأحكام، أو أشار بذلك إلى أنه يشرع الوقوف عندها قدر سورة البقرة. رجاله ستة: قد مرّوا: مرَّ محمد بن كثير في الثاني والثلاثين من العلم، ومرَّ الثوري في السابع والعشرين من الإيمان، ومرَّ الأعمش وإبراهيم بن يزيد في الخامس والعشرين منه، ومرَّ عبد الرحمن بن يزيد في الخامس من التقصير، ومرَّ ابن مسعود في أول أثر من الإيمان.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: فيه الحديث والإخبار بالجمع، وشيخه بصري، والبقية كوفيون، وفيه ثلاثة من التابعين، يروي بعضهم عن بعض، وفيه رواية الرجل، وهو إبراهيم عن خاله عبد الرحمن. أخرجه البخاري أيضًا، ومسلم في الحج، وكذا أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه. ثم قال: وقال عبد الله بن الوليد: قال حدَّثنا سفيان عن الأعمش بهذا، وفائدة هذا التعليق بيان سماع الثوري له من الأعمش وتمتاز جمرة العقبة عن الجمرتين الأخيرتين بأربعة أشياء: اختصاصها بيوم النحر، وأن لا يوقف عندها، وترمى ضحى، ومن أسفلها استحبابًا، وهذا التعليق وصله عبد الرحمن بن منده بإسناده إلى عبد الله بن الوليد، وسفيان الثوري في جامعه، وقد مرَّ عبد الله بن الوليد في متابعة بعد السادس والأربعين من الجمعة، ومرَّ محل سفيان والأعمش في الذي قبله. ثم قال المصنف:

باب رمي الجمار بسبع حصيات

باب رمي الجمار بسبع حصيات وأشار بالترجمة إلى رد ما رواه قتادة عن ابن عمر قال: ما أبالي رميت الجمار بست أو بسبع، وأن ابن عباس أنكر ذلك. وقتادة لم يسمع من ابن عمر، أخرجه ابن أبي شيبة عن قتادة، وروى من طريق مجاهد من رمى بست فلا شيء عليه، ومن طريق طاووس: يتصدق بشيء، وعن مالك والأوزاعي: من رمى بأقل من سبع فاته التدارك بجبره بدم، وبما روي عن مجاهد قال أحمد وإسحاق وعن الشافعية في ترك حصاة مُدّ، وفي ترك حصاتين مُدان، وفي ثلاثة فأكثر دم، وعن الحنفية إن ترك أقل من نصف الجمرات الثلاث فنصف صاع وإلا قدم أي: نصف صاع في كل حصاة. ثم قال: ذكره ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذا التعليق وصله البخاري في باب إذا رمى الجمرتين فيما يأتي، وابن عمر مرَّ في أول الإيمان قبل ذكر حديث منه. الحديث السادس والعشرين والمائتان حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه أَنَّهُ انْتَهَى إِلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى، جَعَلَ الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ، وَمِنًى عَنْ يَمِينِهِ، وَرَمَى بِسَبْعٍ، وَقَالَ: هَكَذَا رَمَى الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ -صلى الله عليه وسلم-. رواية الحكم لهذا الحديث مختصرة، وقد ساقها الأعمش، عن إبراهيم بأتم من هذا، كما يأتي الكلام عليه في الباب الذي يليه. رجاله ستة: قد مرّوا: مرَّ حفص بن عمر في الثالث والثلاثين من الوضوء، ومرَّ شعبة في الثالث من الإيمان، ومرَّ الحكم بن عتيبة في الثامن والخمسين من العلم، ومرَّ محل إبراهيم وعبد الرحمن وعبد الله بن مسعود في الذي قبله. ثم قال المصنف:

باب من رمى جمرة العقبة فجعل البيت عن يساره

باب من رمى جمرة العقبة فجعل البيت عن يساره وقوله: فجعل البيت عنه يساره في رواية: وجعل البيت. الحديث السابع والعشرين والمائتان حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ حَجَّ مَعَ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، فَرَآهُ يَرْمِى الْجَمْرَةَ الْكُبْرَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، فَجَعَلَ الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ، وَمِنًى عَنْ يَمِينِهِ، ثُمَّ قَالَ هَذَا مَقَامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ. رجاله ستة: قد مرّوا: مرَّ آدم، وشعبة في الثالث من الإيمان، ومرَّ محل الحكم في الذي قبله، ومحل إبراهيم وعبد الرحمن وابن مسعود في الذي قبله بحديث. ثم قال المصنف:

باب يكبر مع كل حصاة

باب يكبر مع كل حصاة قاله ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذا التعليق وصله البخاري فيما يأتي في باب رمي الجمرتين يقوم، وابن عمر مرَّ في أول الإيمان قبل ذكر حديث منه. الحديث الثامن والعشرين والمائتان حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ قال: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ: سَمِعْتُ الْحَجَّاجَ يَقُولُ: عَلَى الْمِنْبَرِ السُّورَةُ الَّتِى يُذْكَرُ فِيهَا الْبَقَرَةُ، وَالسُّورَةُ الَّتِى يُذْكَرُ فِيهَا آلُ عِمْرَانَ، وَالسُّورَةُ الَّتِى يُذْكَرُ فِيهَا النِّسَاءُ. قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لإِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ أَنَّهُ كَانَ مَعَ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه حِينَ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، فَاسْتَبْطَنَ الْوَادِي، حَتَّى إِذَا حَاذَى بِالشَّجَرَةِ اعْتَرَضَهَا، فَرَمَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ قَالَ: مِنْ هَاهُنَا وَالَّذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ قَامَ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ -صلى الله عليه وسلم-. قوله: "الحجاج" هو: ابن يوسف الأمير المشهور، ولم يقصد الأعمش الرواية عنه، ولم يكن أهلًا لذلك، وإنما أراد أن يحكي القصة، ويوضح خطأ الحجاج فيها، بما ثبت عمن يرجع إليه في ذلك بخلاف الحجاج، وكان لا يرى إضافة السورة إلى الاسم، فرد عليه إبراهيم النخعي بما رواه عن ابن مسعود، من الجواز. وقوله: "جمرة العقبة": هي الجمرة الكبرى، وليست من مني، بل هي حد منى من جهة مكة، وهي التي بايع النبي -صلى الله عليه وسلم- الأنصار عندها على الهجرة. والجمرة اسم لمجتمع الحصى، سميت بذلك لاجتماع الناس بها، يقال: تجمر بنو فلان إذا اجتمعوا، وقيل: العرب تسمي الحصى الصغار جمارًا، فسميت بتسمية الشيء بلازمه، وقيل: إن آدم أو إبراهيم لما عرض له إبليس فحصبه جمر بين يديه أي: أسرع فسميت بذلك. وقوله: "فاستبطن الوادي" في رواية أبي معاوية، عن الأعمش فقيل له -أي: لعبد الله بن مسعود-: إن ناسًا يرمونها من فوقها الحديث، أخرجه مسلم. وقوله: "حاذى" بمهملة وبالذال المعجمة من المحاذاة. وقوله: "اعترضها" أي: الشجرة يدل على أنه كان هناك شجرة عند الجمرة، وقد روى ابن أبي شيبة، عن أيوب قال: رأيت القاسم وسالمًا ونافعًا يرمون من الشجرة، ومن طريق

رجاله ستة

عبد الرحمن بن الأسود أنه كان إذا جاوز الشجرة، رمى العقبة من تحت غصن من أغصانها. وقوله: "فرمى" أي: الجمرة، وفي رواية الحَكَم في الباب الذي قبله: جعل البيت عن يساره، ومنى عن يمينه، وفي رواية أبي صخرة عن عبد الرحمن بن يزيد: لما أتى عبد الله جمرة العقبة استبطن الوادي، واستقبل القبلة، والذي قبله هو الصحيح، وهذا شاذ، في إسناده المسعودي، وقد اختلط، وبالأول قال الجمهور، وجزم الرافعي من الشافعية بأنه يستقبل الجمرة، ويستدبر القبلة، وقيل: يستقبل القبلة، ويجعل الجمرة عن يمينه، وقد أجمعوا على أنه من حيث رماها جاز، سواء استقبلها، أو جعلها عن يمينه، أو يساره، أو من فوقها، أو من أسفلها، أو وسطها، والاختلاف في الأفضل. وقوله: "أنزلت عليه سورة البقرة" قد مرَّ ما قيل في تخصيص سورة البقرة، بالذكر عند الرواية الأولى. واستدل بهذا الحديث اشتراط رمي الجمرات واحدة واحدة، لقوله: يكبر مع كلِّ حصاة، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "خذوا عني مناسككم" وخالف في ذلك عطاء وصاحبه أبو حنيفة فقالا: لو رمى السبع دفعة واحدة أجزأه. وفيه ما كان الصحابة عليه من مراعاة حال النبي -صلى الله عليه وسلم- في كل حركة وهيئة، ولاسيما في أفعال الحج. وفيه التكبير عند رمي حصى الجمار، وأجمعوا على أن من لم يكبر فلا شيء عليه، إلا الثوري فقال: يطعم، وإن جبره بدم أحب إلي، وفي رواية محمد بن عبد الرحمن بن يزيد عن أبيه لهذا الحديث عن ابن مسعود أنه لما فرغ من رمي جمرة العقبة قال: اللهم اجعله حجًّا مبرورًا، وذنبًا مغفورًا. رجاله ستة: وفيه ذكر الحجاج، وقد مرَّ الجميع: مرَّ مسدد في السادس من الإيمان، ومرَّ عبد الواحد بن زياد في التاسع والعشرين منه، ومرَّ محل الأعمش وإبراهيم وعبد الرحمن وابن مسعود في الذي قبله بحديثين، ومرَّ الحجاج ابن يوسف في السابع والثلاثين من مواقيت الصلاة. ثم قال المصنف:

باب من رمى جمرة العقبة ولم يقف

باب من رمى جمرة العقبة ولم يقف قاله ابن عمر رضي الله عنهما: عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعند أحمد نحوه، عن عمرو بن شعيب عن جده ولا خلاف فيه، والتعليق وصله البخاري في الباب هذا، وابن عمر مرَّ محله في التعليقال في قبله. ثم قال المصنف: باب إذا رمى الجمرتين يقوم مستقبل القبلة ويُسْهل المراد بالجمرتين: ما سوى جمرة العقبة، وهي التي يبدأ بها في الرمي في أول يوم، ثم تصير أخيرة في كل يوم بعد ذلك. وقوله: "يُسهل" بضم أوله وسكون المهملة أي: يقصد السهل من الأرض، وهو المكان المصطحب الذي لا ارتفاع فيه. الحديث التاسع والعشرون والمائتان حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا طَلْحَةُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ كَانَ يَرْمِي الْجَمْرَةَ الدُّنْيَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ عَلَى إِثْرِ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ حَتَّى يُسْهِلَ فَيَقُومَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ فَيَقُومُ طَوِيلاً، وَيَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَرْمِي الْوُسْطَى، ثُمَّ يَأْخُذُ ذَاتَ الشِّمَالِ فَيَسْتَهِلُ وَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ فَيَقُومُ طَوِيلاً وَيَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، وَيَقُومُ طَوِيلاً، ثُمَّ يَرْمِي جَمْرَةَ ذَاتِ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي، وَلاَ يَقِفُ عِنْدَهَا ثُمَّ يَنْصَرِفُ فَيَقُولُ هَكَذَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَفْعَلُهُ. قوله: "الجمرة الدُنيا" بضم الدال وكسرها أي: القريبة إلى جهة الخيف، وهي أول الجمرات التي ترمى من ثاني يوم النحر، وقد مرَّ قريبًا معنى يسهل. وقوله: "ثم يأخذ ذات الشمال" أي: يمشي إلى جهة شمال. وقوله: "فيقوم طويلًا" في رواية سليمان: فيقوم قيامًا طويلًا، ووقع تفسير الطويل فيما رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح، عن عطاء قال: كان ابن عمر يقوم عند الجمرتين مقدار ما يقرأ

رجاله ستة

سورة البقرة. وقوله: "ويرفع يديه" أي: في الدعاء. وقوله: "ثم يرمي الوسطى، ثم يأخذ ذات الشمال" أي: ليقف داعيًا في مكان لا يصيبه الرمي، وفي رواية سليمان: ثم يرمي الجمرة الوسطى كذلك، فيأخذ ذات الشمال، وفي رواية عثمان: ثم ينحدر ذات اليسار مما يلي الوادي، فيقف مستقبل القبلة. وقوله: "ثم يرمي جمرة ذات العقبة" هو نحو يا نساء المؤمنات أي: يأتي الجمرة ذات العقبة وثبت كذلك في رواية سليمان وفي رواية عثمان بن عمر ثم يأتي الجمرة التي عند العقبة. وقوله: "ثم ينصرف" في رواية سليمان: ولا يقف عندها ولابد في الرمي من مسمى الرمي، فلا يكفي الوضع، والطرح عند الجمهور، وقال أصحاب الرأى: يجزىء الطرح، ولا يجزىء الوضع، وقال أبو ثور إن كان الطرح يسمى رميًا أجزأه، وحكى إمام الحرمين عن بعض أصحاب الشافعي أنه يكفي الوضع، ويجوز الرمي بكل ما كان من جنس الأرض كالحجر والمدر، ولا يجوز بما ليس من جنسها، كالذهب والفضة، وذهب داود إلى جوازه بكل شيء حتى بالبعرة، والعصفور الميت، وقال ابن المبارك: لا يجوز إلا بالحصى، وقال أحمد: لا يجوز بالحجر الكبير. رجاله ستة: قد مرّوا -إلا طلحة-: مرَّ عثمان بن أبي شيبة في الثاني عشر من العلم، ومرَّ يونس بن يزيد في متابعة بعد الرابع من بدء الوحي، والزهري في الثالث منه، وسالم بن عبد الله في السابع عشر من الإيمان، وأبوه عبد الله في أول الإيمان قبل ذكر حديث منه. والباقي: طلحة بن يحيى بن النعمان بن أبي عياش الزرقي الأنصاري المدني الدمشقي، سكن بغداد، قال أحمد، مقارب الحديث، وقال ابن معين وعثمان بن أبي شيبة: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال أبو داود: لا بأس به، وقال أبو حاتم: ليس بقوي، وقال يعقوب بن شيبة: شيخ ضعيف جدًا، ومنهم من لا يكتب حديثه لضعفه. روى عن: عبد الله بن سعيد بن أبي هند، ويونس بن يزيد، ومحمد بن أبي بكر الثقفي، وغيرهم. وروى عنه: ابن أبي فديك، ويعقوب بن محمد الزهري، ومحمد بن عباد المكي، وغيرهم، مات بالمدينة، وليس له في البخاري إلا هذا الحديث بمتابعة سليمان بن بلال في الباب الذي بعده، وهذا الحديث من أفراده. ثم قال المصنف:

باب رفع اليدين عند جمرة الدنيا والوسطى

باب رفع اليدين عند جمرة الدنيا والوسطى الحديث الثلاثون والمائتان حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَخِي، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما كَانَ يَرْمِي الْجَمْرَةَ الدُّنْيَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، ثُمَّ يُكَبِّرُ عَلَى إِثْرِ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ فَيُسْهِلُ، فَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ قِيَامًا طَوِيلاً، فَيَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَرْمِي الْجَمْرَةَ الْوُسْطَى كَذَلِكَ، فَيَأْخُذُ ذَاتَ الشِّمَالِ فَيُسْهِلُ، وَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ قِيَامًا طَوِيلاً، فَيَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَرْمِي الْجَمْرَةَ ذَاتَ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي، وَلاَ يَقِفُ عِنْدَهَا، وَيَقُولُ هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَفْعَلُ. قال ابن قدامة: لا نعلم لما تضمنه حديث ابن عمر هذا مخالفًا إلا ما روي عن مالك من ترك رفع اليدين عند الدعاء بعد رمي الجمار، فقال ابن المنذر: لا أعلم أحدًا أنكر رفع اليدين في الدعاء عند الجمرة، إلا ما حكاه ابن القاسم، عن مالك، ورده ابن المنير بأن الرفع لو كان هنا سنة ثابتة ما خفي على أهل المدينة، وغفل رحمه الله تعالى عن أن الذي رواه من أعلم أهل المدينة في زمانه من الصحابة، وابنه سالم أحد فقهاء المدينة السبعة، والراوي عنه ابن شهاب عالم المدينة، ثم الشام في زمانه، فَمَنْ علماء المدينة إن لم يكونوا هؤلاء؟!. والكلام على الحديث مرّ فيما قبله. رجاله سبعة: قد مرّوا: مرَّ إسماعيل بن أبي أويس في الخامس عشر من الإيمان، ومرَّ أخوه عبد الحميد في الحادي والستين من العلم، ومرَّ سليمان بن بلال في الثاني من الإيمان، ومرَّ محل يونس والزهري وسالم وأبوه عبد الله في الذي قبله. ثم قال المصنف:

باب الدعاء عند الجمرتين

باب الدعاء عند الجمرتين الحديث الحادي والثلاثون والمائتان وَقَالَ مُحَمَّدٌ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا رَمَى الْجَمْرَةَ الَّتِى تَلِي مَسْجِدَ مِنًى يَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ كُلَّمَا رَمَى بِحَصَاةٍ، ثُمَّ تَقَدَّمَ أَمَامَهَا فَوَقَفَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ رَافِعًا يَدَيْهِ يَدْعُو، وَكَانَ يُطِيلُ الْوُقُوفَ، ثُمَّ يَأْتِي الْجَمْرَةَ الثَّانِيَةَ، فَيَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ كُلَّمَا رَمَى بِحَصَاةٍ، ثُمَّ يَنْحَدِرُ ذَاتَ الْيَسَارِ مِمَّا يَلِي الْوَادِي، فَيَقِفُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ رَافِعًا يَدَيْهِ يَدْعُو، ثُمَّ يَأْتِي الْجَمْرَةَ الَّتِى عِنْدَ الْعَقَبَةِ فَيَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ عِنْدَ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ وَلاَ يَقِفُ عِنْدَهَا. قَالَ الزُّهْرِيُّ: سَمِعْتُ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يُحَدِّثُ مِثْلَ هَذَا عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ. وقوله: "قال الزهري: سمعت سالم" إلخ هذا بالإسناد المصدر به الباب، ولا اختلاف بين أهل الحديث أن الإسناد بمثل هذا السياق موصول، وغايته أنه من تقديم المتن على بعض السند، وإنما اختلفوا في جواز ذلك، وأغرب الكرماني فقال: هذا الحديث من مراسيل الزهري ولا يصير بما ذكره آخرًا مسندًا؛ لأنه قال: يحدِّث بمثله لا بنفسه، كذا قال. قال في الفتح: ليس مراد المحدِّث بقوله في هذا: "مثله" إلا نفسه وهو كما لو ساق المتن بإسناد، ثم عقبه بإسناد آخر، ولم يعد المتن، بل قال: بمثله، ولا نزاع بين أهل الحديث في الحكم بوصل مثل هذا، وكذا عند أكثرهم لو قال: بمعناه، خلافًا لمن يمنع الرواية بالمعنى، وقد أخرج الحديث المذكور الإسماعيلي، عن عثمان بن عمرو، قال في آخره: قال الزهري: سمعت سالمًا يحدِّث بهذا عن أبيه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فعرف أن المراد بقوله: "مثله" نفسه، وإذا تكلم المرء في غير فنه أتى بهذه العجائب. وفي الحديث: مشروعية التكبير، والرمي بسبع، والقيام طويلًا، وقد مرت هذه مبينة. وفيه: استقبال القبلة، والتباعد من موضع الرمي عند القيام للدعاء حتى لا يصيبه رمي غيره، وفيه: رفع اليدين عند الدعاء، وقد مرَّ ما فيه وترك الدعاء، والقيام عند جمرة العقبة، ولم يذكر المصنف حال الرامي في المشي والركوب، وقد روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح

رجاله ستة

أن ابن عمر كان يمشي إلى الجمار مقبلًا ومدبرًا، وعن جابر أنه لا يركب إلا من ضرورة. رجاله ستة: قد مرّوا: شيخ البخاري محمد بدون نسبة قيل: إنه محمد بن المثنى، وقد مرَّ في التاسع من الإيمان. وقيل: محمد بن بشار. وقد مرَّ في الحادي عشر من العلم، وقيل: محمد بن يحيى الذهلي، وقد مرَّ في العشرين من العيدين، ومرَّ عثمان بن عمر في السابع والعشرين من الغسل، ومرَّ محل يونس والزهري وسالم وأبيه في قبله بحديثين. ثم قال المصنف:

باب الطيب بعد رمي الجمار والحلق قبل الإفاضة

باب الطيب بعد رمي الجمار والحلق قبل الإفاضة الحديث الثاني والثلاثون والمائتان حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ -وَكَانَ أَفْضَلَ أَهْلِ زَمَانِهِ- أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها تَقُولُ: طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِيَدَيَّ هَاتَيْنِ حِينَ أَحْرَمَ، وَلِحِلِّهِ حِينَ أَحَلَّ، قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ. وَبَسَطَتْ يَدَيْهَا. مطابقته للترجمة من حيث إنه عليه الصلاة والسلام لما أفاض من مزدلفة، لم تكن عائشة مسايرته، وقد ثبت أنه استمر راكبًا إلى أن رمى جمرة العقبة، فدل على أن تطييبها له وقع بعد الرمي، وأما الحلق قبل الإفاضة، فلأنه عليه الصلاة والسلام حلق رأسه بمنى لما رجع من الرمي، وأخذه من حديث الباب من جهة التطيب، فإنه لا يقع إلا بعد التحلل، والتحلل الأول يقع بأمرين من ثلاثة: الرمي والحلق والطواف، فلولا أنه حلق بعد أن رمى لم يتطيب. وقوله: "حين أحرم" أي: حين أراد الإحرام. وقوله: "حين أحل" أي: لما وقع الإحلال، وإنما كان كذلك لأن الطيب بعد وقوع الإحرام لا يجوز، والطيب عند إرادة الحل لا يجوز؛ لأن المحرم ممنوع من الطيب، وفي هذا الحديث حجة لمن أجاز الطيب وغيره من محظورات الإحرام بعد التحلل الأول، ومنعه مالك، وروي عن عمر وابنه وغيرهما، وقد مرَّ الكلام على هذا الحديث في باب الطيب عند الإحرام مستوفىً. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ علي بن المديني في الرابع عشر من العلم، ومرَّ ابن عيينة في الأول من بدء الوحي، وعائشة في الثاني منه، ومرَّ عبد الرحمن بن القاسم في السادس عشر من الغسل، وأبو القاسم في الحادي عشر منه. ثم قال المصنف:

باب طواف الوداع

باب طواف الوداع قال النووي: طواف الوداع واجب يلزم بتركه دم على الصحيح عندنا، وهو قول أكثر العلماء، وقال مالك وداود وابن المنذر: هو سنة لا شيء في تركه، قال في الفتح، والذي في الأوسط لابن المنذر أنه واجب للأمر به إلا أنه لا يجب بتركه شيء. الحديث الثالث والثلاثون والمائتان حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ، إِلاَّ أَنَّهُ خُفِّفَ عَنِ الْحَائِضِ. قوله: "أُمر الناس" كذا في رواية ابن طاووس: عبد الله عن أبيه بالبناء للمجهول والمراد بالآمر النبي -صلى الله عليه وسلم-. وكذا قوله: "خفف"، وقد رواه سفيان أيضًا وهو ابن عيينة، عن سليمان الأحول، عن طاووس فصرح فيه بالرفع، ولفظه: عن ابن عباس قال: كان الناس ينصرفون في كل وجه فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت" أخرجه مسلم هو والذي قبله عن سعيد بن منصور، عن سفيان بالإسنادين فرقهما، فكأن طاووسًا حدث به على الوجهين، ولهذا وقع في رواية كل من الراويين عنه ما لم يقع في رواية الآخر، وفيه دليل على وجوب طواف الوداع للأمر المؤكد به، وللتعبير في حق الحائض بالتخفيف، والتخفيف لا يكون إلا من أمر مؤكد، ومن أخر طواف الوداع، وخرج ولم يطف -إن كان قريبًا- رجع فطاف، وإن لم يرجع فلا شيء عليه، وقال عطاء والثوري وأبو حنيفة والشافعي -في أظهر قوليه- وأحمد وإسحاق: إن كان قريبًا رجع فطاف، وإن تباعد مضى، فأهراق دمًا، واختلفوا في حد القرب، فروى أن عمر رضي الله تعالى عنه ردّ رجلًا لم يكن ودّع من مَرِّ الظهران، وبين مرِّ الظهران ومكة ثمانية عشر ميلًا، وعند أبي حنيفة: يرجع ما لم يبلغ المواقيت، وعند الشافعي: يرجع من مسافة لا تقصر فيه الصلاة، وعند الثوري: يرجع ما لم يخرج من الحرم، واختلفوا فيمن ودع ثم بدا له في شراء حوائجه فقال عطاء: يعيد حتى يكون آخر عهده بالبيت، وبنحوه قال الثوري والشافعي وأحمد، وقال مالك: لا بأس أن يشتري بعض حوائجه وطعامه في السوق، ولا شيء عليه، وإن أقام يومًا أو نحوه أعاد، وقال أبو حنيفة: لو ودع

رجاله خمسة

وأقام شهرًا أو أكثر أجزأه، ولا شيء عليه، ومذهب أبي حنيفة أن طواف الوداع واجب على الآفاقي دون المكي، والميقاتي، وقال أبو يوسف: أحب إلي أن يطوف المكي؛ لأنه يختم به المناسك، ولا يجب على الحائض والنفساء، ولا على المعتمر؛ لأن وجوبه عُرِفَ نصًّا في الحج فيقتصر عليه. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ مسدد في السادس من الإيمان، ومرَّ ابن عيينة في الأول من بدء الوحي، وابن عباس في الخامس منه، ومرَّ عبد الله بن طاووس في الرابع والثلاثين من الحيض، ومرَّ أبوه طاووس في باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين من الوضوء. أخرجه البخاري في الطهارة، وفيما يأتي عن قريب، ومسلم والنسائي في الحج. الحديث الرابع والثلاثون والمائتان حَدَّثَنَا أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، ثُمَّ رَقَدَ رَقْدَةً بِالْمُحَصَّبِ، ثُمَّ رَكِبَ إِلَى الْبَيْتِ فَطَافَ بِهِ. قوله: "عن قتادة" سيأتي بعد باب من وجه آخر عن ابن وهب التصريح بتحديث قتادة. وقوله: "أنه صلَّى الظهر" لا ينافي أنه عليه الصلاة والسلام لم يرم إلا بعد الزوال؛ لأنه رمى فنفر، فنزل المحصب، فصلَّى الظهر. والمقصود من الحديث قوله: "ثم ركب إلى البيت فطاف به" أي: طواف الوداع. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ أصبغ وعمرو بن الحارث في السابع والستين من الوضوء ومرَّ ابن وهب في الثالث عشر من العلم، ومرَّ قتادة وأنس في السادس من الإيمان. ثم قال: تابعه الليث، حدَّثني خالد عن سعيد، عن قتادة أن أنس بن مالك رضي الله عنه حدثه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، أي: تابع عمرو بن الحارث في روايته لهذا الحديث عن قتادة بطريق أخرى إلى قتادة، وقد وصلها البزار والطبراني، وذكر البزار والطبراني أن خالدًا تفرد بهذا الحديث، عن سعيد، وأن الليث تفرد به عن خالد، وأن سعيد بن أبي هلال لم يرو عن قتادة، عن أنس غير هذا الحديث، والليث قد مرَّ في الثالث من بدء الوحي، ومرَّ خالد بن يزيد وسعيد بن أبي هلال في الثاني من الوضوء ومرَّ محل قتادة وأنس في الذي قبله. ثم قال المصنف:

باب إذا حاضت المرأة بعدما أفاضت

باب إذا حاضت المرأة بعدما أفاضت أي: هل يجب عليها طواف الوداع، أم يسقط؟ وإذا وجب هل يجبر بدم أم لا؟ الحديث الخامس والثلاثون والمائتان حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ زَوْجَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- حَاضَتْ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟ " قَالُوا: إِنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ. قَالَ: "فَلاَ إِذًا". قوله: "حاضت" أي: بعد أن أفاضت يوم النحر كما تقدَّم في باب الزيارة يوم النحر. وقوله: "فَذُكِر" بضم الذال على البناء للمجهول، وقد تقدم في الباب المذكور أن عائشة هي التي ذكرت له ذلك. وقوله: "أحابستنا؟ " أي: مانعتنا من التوجه من مكة في الوقت الذي أردنا التوجه فيه، ظنًّا منه عليه الصلاة والسلام أنها ما طافت طواف الإفاضة. وقوله: "فلا إذًا" أي: فلا حبس حينئذٍ إذ لا مانع من التوجه لأن ما وجب عليها قد فعلته، وهذا الحديث تقدمت مباحثه مستوفاة غاية الاستيفاء في باب المرأة تحيض بعد الإفاضة من كتاب الحيض. رجاله خمسة: وفيه ذكر صفية، وقد مرَّ الجميع: مرَّ عبد الله بن يوسف ومالك وعائشة في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ عبد الرحمن ابن القاسم في السادس عشر من الغسل، ومرَّ أبوه القاسم في الحادي عشر منه، ومرت أُمُّنا صفية في الثالث والثلاثين من الحيض. الحديث السادس والثلاثون والمائتان حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ سَأَلُوا ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنِ امْرَأَةٍ طَافَتْ ثُمَّ حَاضَتْ، قَالَ لَهُمْ: تَنْفِرُ. قَالُوا: لاَ نَأْخُذُ بِقَوْلِكَ وَنَدَعَ قَوْلَ زَيْدٍ. قَالَ: إِذَا قَدِمْتُمُ الْمَدِينَةَ فَسَلُوا. فَقَدِمُوا الْمَدِينَةَ فَسَأَلُوا، فَكَانَ فِيمَنْ سَأَلُوا أُمُّ سُلَيْمٍ، فَذَكَرَتْ حَدِيثَ صَفِيَّةَ.

رجاله خمسة

قوله: "إن أهل المدينة" أي: بعض أهل المدينة، وقد رواه الإسماعيلي عن عبد الوهاب الثقفي، عن أيوب بلفظ: إن ناسًا من أهل المدينة. وقوله: "قال لهم: تنفر" زاد الثقفي فقالوا: لا نبالي أفتيتنا أو لم تفتنا، زيد بن ثابت يقول: لا تنفر. وقوله: "فكان فيمن سألوا أم سليم" في رواية الثقفي: فسألوا أمَّ سليم وغيرها، فذكرت صفية، كذا ذكره مختصرًا وساقه الثقفي بتمامه، قال: فأخبرتهم أن عائشة قالت لصفية: أفي الخيبة أنت، إنك لحابستنا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما ذاك؟ " قالت عائشة: صفية حاضت قيل: إنها قد أفاضت قال: "فلا إذًا" فرجعوا إلى ابن عباس، فقالوا: وجدنا الحديث كما حدَّثتنا. رجاله خمسة: وفيه ذكر زيد ابن ثابت وأم سليم، وقد مرَّ الجميع: مرَّ أبو النعمان في الأخير من الإيمان، ومرَّ حماد بن زيد في الرابع والعشرين منه، ومرَّ أيوب في التاسع منه، ومرَّ عكرمة في السابع عشر من العلم، ومرت أم سليم في السبعين منه، ومرَّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي، ومرَّ زيد بن ثابت في تعليق بعد الثاني والعشرين من كتاب الصلاة. وفيه أيضًا ذكر صفية وقد مرَّ محلها في الذي قبله. ثم قال: رواه خالد وقتادة، عن عكرمة. أما رواية خالد فوصلها البيهقي، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: إذا طافت يوم النحر ثم حاضت، فلتنفر، وقال زيد بن ثابت: لا تنفر حتى تطهر، وتطوف بالبيت، ثم أرسل زيد بعد ذلك إلى ابن عباس: إني وجدت الذي قلت. كما قلت، وأما رواية قتادة، فوصلها أبو داود الطيالسي في مسنده عن قتادة، عن عكرمة، قال: اختلف ابن عباس وزيد بن ثابت في المرأة إذا حاضت، وقد طافت بالبيت يوم النحر، فقال زيد: يكون آخر عهدها بالبيت، وقال ابن عباس تنفر إن شاءت فقالت الأنصار: لا نتابعك يا ابن عباس وأنت تخالف زيدًا، فقال: سلوا صاحبتكم أُم سليم، فسألوها فقالت: حضت بعد ما طفت بالبيت فأمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أنفر، وحاضت صفية فقالت لها عائشة: حبستنا فأمرها النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تنفر. ورواه سعيد بن أبي عروبة في كتاب المناسك، قال: عن قتادة، عن عكرمة نحوه، وقال فيه: لا نتابعك إذا خالفت زيد بن ثابت، وقال فيه: وأنبئت أن صفية بنت حيي حاضت بعدما طافت بالبيت يوم النحر، فقالت لها عائشة: الخيبة لك حبستنا فذكروا ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فأمرها أن تنفر وكذلك أخرجه إسحاق في مسنده عن عبدة عن سعيد، وفي آخره وكان ذلك من شأن أم سليم أيضًا، وطريق قتادة هذه هي المحفوظة، وقد شذ عباد بن العوام فرواه عن سعيد

الحديث السابع والثلاثون والمائتان

ابن أبي عروبة عن قتادة عن أنس مختصرًا في قصة أم سليم أخرجه الطحاوي من طريقه، وقد اختصر البخاري حديث عكرمة جدًا، ولولا تخريج هذه الطرق لما ظهر المراد منه، فلله الحمد على ما أنعم به وتفضل. وقد روى هذه القصة طاووس، عن ابن عباس متابعًا لعكرمة، أخرجه مسلم والنسائي والإسماعيلي عن طاووس كنت مع ابن عباس، إذ قال له زيد بن ثابت: تفتي أن تصدر الحائض قبل أن يكون آخر عهدها بالبيت؟ فقال ابن عباس: أما لا فسل فلانة الأنصارية، هل أمرها النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: فرجع إليه فقال: ما أراك إلا صدقت لفظ مسلم، وللنسائي كنت عند ابن عباس، فقال له زيد بن ثابت: أنت الذي تفتي، وقال فيه: فسألها ثم رجع وهو يضحك، فقال الحديث كما حدثتني، وللإسماعيلي بعد قوله: "أنت الذي" إلخ قال نعم: قال: فلا تفتِ بذلك قال: غسل فلانة، والباقي نحو سياق مسلم، وزاد في إسناده عن ابن جريج قال: وقال عكرمة بن خالد: عن زيد وابن عباس نحوه، وزاد فيه فقال ابن عباس: سل أم سليم وصواحبها هل أمرهن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذلك فسألهن فقلن قد أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذلك، وقد عُرف برواية عكرمة الماضية أن الأنصارية هي أم سليم، وأما صواحبها فلم تعرف تسميتهن. وخالد مرَّ أنه في الثاني من الوضوء، وقتادة في السادس من الإيمان، وعكرمة في السابع عشر من العلم. الحديث السابع والثلاثون والمائتان حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: رُخِّصَ لِلْحَائِضِ أَنْ تَنْفِرَ إِذَا أَفَاضَتْ. قَالَ: وَسَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ إِنَّهَا لاَ تَنْفِرُ. ثُمَّ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: بَعْدُ إِنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- رَخَّصَ لَهُنَّ. قوله: "رخص" بضم الراء على البناء للمجهول، وعند النسائي من رواية وهيب رخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وقوله: "قال: وسمعت ابن عمر" القائل ذلك هو طاووس بالإسناد المذكور، بين ذلك النسائي في روايته المذكورة. وقوله: "ثم سمعته يقول: بَعُد" وكان ذلك قبل موت ابن عمر بعام كما مرَّ. وقوله: "إن النبي -صلى الله عليه وسلم- رخص لهن" هذا من مراسيل الصحابة، وكذلك ما أخرجه النسائي، والترمذي وصححه، والحاكم عن نافع، عن ابن عمر قال: "من حج فليكن آخر عهده بالبيت، إلا الحيَّض، رخص لهن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" فإن ابن عمر لم يسمعه من النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد مرَّ إيضاح ذلك واستيفاء الكلام على الحديث عند ذكره في باب المرأة تحيض بعد الإفاضة.

رجاله ستة

رجاله ستة: قد مرّوا: مرَّ مسلم بن إبراهيم في السابع والثلاثين من الإيمان،. ومرَّ وهيب في تعليق بعد الخامس عشر منه، ومرَّ عبد الله بن طاووس في الرابع والثلاثين من الحيض، ومرَّ أبو طاووس في باب من لم ير الوضوء إلا من المَخْرَجَيْن بعد الأربعين من الوضوء، ومرَّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي، مرَّ ابن عمر في أول الإيمان قبل ذكر حديث منه. الحديث الثامن والثلاثون والمائتان حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَلاَ نُرَى إِلاَّ الْحَجَّ، فَقَدِمَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَطَافَ بِالْبَيْتِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلَمْ يَحِلَّ، وَكَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ، فَطَافَ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ نِسَائِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَحَلَّ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ الْهَدْيُ، فَحَاضَتْ هِيَ، فَنَسَكْنَا مَنَاسِكَنَا مِنْ حَجِّنَا، فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةُ الْحَصْبَةِ لَيْلَةُ النَّفْرِ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: كُلُّ أَصْحَابِكَ يَرْجِعُ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ غَيْرِي. قَالَ: "مَا كُنْتِ تَطُوفِى بِالْبَيْتِ لَيَالِيَ قَدِمْنَا مكة". قُلْتُ: لاَ. قَالَ: "فَاخْرُجِي مَعَ أَخِيكِ إِلَى التَّنْعِيمِ فَأَهِلِّي بِعُمْرَةٍ، وَمَوْعِدُكِ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا". فَخَرَجْتُ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِلَى التَّنْعِيمِ، فَأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ، وَحَاضَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "عَقْرَى حَلْقَى، إِنَّكِ لَحَابِسَتُنَا، أَمَا كُنْتِ طُفْتِ يَوْمَ النَّحْرِ؟ ". قَالَتْ: بَلَى. قَالَ: "فَلاَ بَأْسَ. انْفِرِي". فَلَقِيتُهُ مُصْعِدًا عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ، وَأَنَا مُنْهَبِطَةٌ، أَوْ أَنَا مُصْعِدَةٌ، وَهُوَ مُنْهَبِطٌ. قوله: "ليلة الحصبة" في رواية المستملي ليلة الحصباء. وقوله: "بعده ليلة النفر" عطف بيان لليلة الحصباء، والمراد بتلك الليلة، يتقدم النفر من مني قبلها، فهي شبيهة بليلة عرفة وفيه تعقب على من قال: "كل ليلة تسبق يومها إلا ليلة عرفة فإن يومها يسبقها" فقد شاركتها ليلة النفر في ذلك. وقوله: "قلت: لا" كذا للإكثر، وفي رواية أبي ذر عن المستملي قلت: بلى، وهي محمولة على أن المراد ما كنت أطوف. وقوله: "وحاضت صفية"، كان حيضها ليلة النفر، زاد الحاكم لما أراد أن ينفر إذا صفية على باب خبائها كئيبة حزينة، وهذا يشعر بأن الوقت الذي أراد منها ما يريد الرجل من أهله كان بالقرب من وقت النفر من مني، واستشكله بعضهم بناء على ما فهم أن ذلك كان وقت الرحيل، وليس ذلك بلازم، لاحتمال أن يكون الوقت الذي أراد منها ما أراد سابقًا على الوقت الذي رآها فيه على باب خبائها، الذي هو وقت الرحيل، بل لو اتحد الوقت لم يكن ذلك

رجاله ستة

مانعًا من الإرادة المذكورة، وهذا الحديث مرَّ الكلام عليه في مواضع، في أول كتاب الحيض في الباب الأول منه، وفي باب إمتشاط المرأة عند غسلها من الحيض، والباب الذي بعده، وفي باب المرأة تحيض بعد الإفاضة، وذكرت زيادة في تفسير "عقرى حلقى" في باب التمتع، والقران، والإفراد بالحج. رجاله ستة: وفيه ذكر عبد الرحمن بن أبي بكر وصفية بنت حيي، مرَّ أبو النعمان في الأخير من الإيمان، ومرَّ إبراهيم بن يزيد في الخامس والعشرين منه، ومرَّ أبو عوانة في الخامس من بدء الوحي، وعائشة في الثاني منه، ومرَّ منصور بن المعتمر. في الثاني عشر من العلم، ومرَّ الأسود في السابع والستين منه، ومرَّ عبد الرحمن في الرابع من الغسل، ومرت أُمنا صفية في الثالث والثلاثين من الحيض. ثم قال وقال: مسدد لا، وتابعه جرير عن منصور في قوله لا، وهذا التعليق لم يقع في رواية أبي ذر، وثبت لغيره، أما رواية مسدد فهي في "مسنده"، ورواية جرير وصلها المصنف في باب التمتع والقران. ومسدد، مرَّ في السادس من الإيمان، ومرَّ جرير ومنصور في الثاني عشر من العلم. ثم قال المصنف:

باب من صلى العصر يوم النفر بالأبطح

باب من صلى العصر يوم النفر بالأبطح أي: البطحاء التي بين مكة ومنى، وهي ما انبطح من الوادي واتسع، وهي التي يقال لها المحصب، والمعرس، وحدُّها ما بين الجبلين إلى المقبرة. الحديث التاسع والثلاثون والمائتان حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ أَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ عَقَلْتَهُ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَيْنَ صَلَّى الظُّهْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ؟ قَالَ: بِمِنًى. قُلْتُ: فَأَيْنَ صَلَّى الْعَصْرَ يَوْمَ النَّفْرِ؟ قَالَ: بِالأَبْطَحِ. افْعَلْ كَمَا يَفْعَلُ أُمَرَاؤُكَ. هذا الحديث، مرَّ استيفاء الكلام عليه عند ذكره في باب أين صلى الظهر يوم التروية. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ محمد بن المثنى في التاسع من الإيمان، وأنس في السادس منه، ومرَّ الثوري في السابع والعشرين منه، وإسحاق بن يوسف في الرابع والثلاثين والمائة من كتاب الحج، ومرَّ عبد العزيز بن رفيع في الثالث عشر والمائة منه. الحديث الأربعون والمائتان حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمُتَعَالِ بْنُ طَالِبٍ، قال: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ أَنَّ قَتَادَةَ حَدَّثَهُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه حَدَّثَهُ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ، وَالْعَصْرَ، وَالْمَغْرِبَ، وَالْعِشَاءَ، وَرَقَدَ رَقْدَةً بِالْمُحَصَّبِ، ثُمَّ رَكِبَ إِلَى الْبَيْتِ فَطَافَ بِهِ. هذا الحديث قد مرَّ في باب طواف الوداع، وهو قال على أنه صلَّى المغرب والعشاء، ورقد ثم ركب إلى البيت فطاف به طواف الوداع. رجاله خمسة: قد مرّوا، إلا عبد المتعال: مرَّ ابن وهب في الثالث عشر من العلم، ومرَّ عمرو بن الحارث في السابع والستين من الوضوء، ومرَّ قتادة وأنس في السادس من الإيمان والباقي

عبد المتعالي بالياء وحذفها ابن طالب بن إبراهيم الظفري أبو محمد البغدادي قال عبد الخالق بن منصور عن ابن معين: ثقة، وقال يعقوب بن شيبة: حدَّثنا هارون بن معروف وعبد المتعال ابن طالب وكانا ثقتين، وقال أبو حاتم: شيخ ثقة كتبنا عنه ببغداد، وقال أحمد بن محمد بن عبد الحميد الجعفي، حدَّثنا عبد المتعال، وكان عبدًا صالحًا، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الدارقطني: ثقة وذكره ابن عدي في الكامل. وروى عن عثمان الدارمي، أنه سأل ابن معين عن حديث هذا عن ابن وهب، فقال: هذا ليس بشيء، أمر محتمل لا يوجب تضعيف الرجل لاحتمال أن يكون أراد الحديث نفسه، ويقوي هذا أن عثمان هذا سأل ابن معين عن عبد المتعال فقال: "ثقة"، وكذا قال عبد الخالق بن منصور، عن ابن معين، فيما مرَّ، وفي "الزهرة" روى عنه البخاري حديثين، وقال في المقدمة: إنما روى عنه البخاري حديثًا واحدًا في أواخر الحج، قبل أبواب العمرة بخمسة أبواب، وقد روى ذلك الحديث بعينه في الحج أيضًا عن اصبغ بمتابعة عبد المتعال، روى عن إبراهيم بن سعد وأبي عوانة، وعباد بن العوام، وغيرهم، وروى عنه البخاري وأحمد بن حنبل، وابن معين ويعقوب بن شيبة وغيرهم. مات سنة ست وعشرين ومائتين. ثم قال المصنف:

باب المحصب

باب المحصب بمهملتين ثم موحدة بوزن محمد، أي ما حكم النزول فيه، وقد نقل ابن المنذر الاختلاف في استحبابه مع الاتفاق على أنه ليس من المناسك. الحديث الحادي والأربعون والمائتان حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "إِنَّمَا كَانَ مَنْزِلٌ يَنْزِلُهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- لِيَكُونَ أَسْمَحَ لِخُرُوجِهِ. يَعْنِي بِالأَبْطَحِ". قوله: "عن هشام" في رواية الإسماعيلي عن سفيان، حدَّثنا هشام. وقوله: "إنما كان منزلًا" في رواية مسلم عن هشام: نزول الأبطح ليس بسنة إنما نزله الحديث. وقوله: "أسمح" أي: أسهل لتوجهه إلى المدينة، ليستوي في ذلك البطيء والمعتدل، ويكون مبيتهم، وقيامهم، ورحيلهم إلى المدينة بأجمعهم. وقوله: "تعني بالأبطح" في رواية الكشميهني تعني الأبطح بحذف الموحدة، وفي رواية مسلم المذكورة كان أسمح لخروجه إذا خرج وعلى رواية الباء يكون متعلقًا بينزل. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ أبو نعيم في الخامس والأربعين من الإِيمان، ومرَّ سفيان الثوري في السابع والعشرين منه، ومرَّ هشام وعروة وعائشة في الثاني من بدء الوحي. الحديث الثاني والأربعون والمائتان حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ عَمْرٌو: عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: "لَيْسَ التَّحْصِيبُ بِشَيْءٍ، إِنَّمَا هُوَ مَنْزِلٌ نَزَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-". قال الدارقطني: هذا الحديث سمعه سفيان من الحسن بن صالح، عن عمرو بن دينار، يعني أنه دلسه هنا عن عمرو، مرَّ تعقب بأن الحميدي أخرجه في مسنده عن سفيان، قال: حدَّثنا عمرو، وكذلك أخرجه الإسماعيلي عن سفيان فأنتفت تهمة التدليس.

رجاله خمسة

وقوله: "ليس التحصيب بشيء" أي: من أمر المناسك الذي يلزم فعله؟ قاله ابن المنذر، وروى أحمد عن ابن أبي مليكة عن عائشة قالت: "ثم ارتحل حتى نزل الحصبة" قالت: والله ما نزلها إلا من أجلي، وروى مسلم وأبو داود وغيرهما عن أبي رافع، قاله: "لم يأمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أنزل بالأبطح حين خرج من منى، ولكن جئت فضربت قبته فجاء فنزل، لكن لما نزله النبي -صلى الله عليه وسلم-، كان النزول به مستحبًا إتباعًا له لتقريره على ذلك، وقد فعله الخلفاء بعده، كما رواه مسلم عن نافع، عن ابن عمر، قال: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر، وعمر، ينزلون الأبطح" وسيأتي للمصنف في الباب الذي يليه، لكن ليس فيه ذكر أبي بكر ومن طريق أخرى عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان يرى التحصيب سنة، قال نافع: وقد حصب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والخلفاء بعده، فالحاصل أن من نفى أنه سنة كعائشة، وابن عباس، أراد أنه ليس من المناسك فلا يلزم بتركه شيء، ومن أثبته كابن عمر أراد دخوله في عموم التأسي بأفعاله عليه الصلاة والسلام، لا الإلزام بذلك ويستحب أن يصلي به الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، ويبيت به بعض الليل كما دل عليه حديث أنس، ويأتي نحوه في الباب الذي يليه عن ابن عمر. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ علي بن المديني في الرابع عشر من العلم، ومرَّ عمرو ابن دينار في الرابع والخمسين منه، وعطاء في التاسع والثلاثين منه، ومرَّ سفيان بن عيينة في الأول من بدء الوحي، وابن عباس في الخامس منه، أخرجه مسلم، وكذا الترمذي، والنسائي. ثم قال المصنف:

باب النزول بذي طوى قبل أن يدخل مكة والنزول بالبطحاء التي بذي الحليفة

باب النزول بذي طوى قبل أن يدخل مكة والنزول بالبطحاء التي بذي الحليفة أي: قبل أن يدخل المدينة، والمقصود بهذه الترجمة، الإشارة إلى أن اتباعه -صلى الله عليه وسلم- في النزول بمنازله لا يختص بالمحصب، وقد تقدم الكلام على مكان الدخول إلى مكة، في باب من أين يدخل مكة. الحديث الثالث والأربعون والمائتان حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما كَانَ يَبِيتُ بِذِي طُوًى بَيْنَ الثَّنِيَّتَيْنِ، ثُمَّ يَدْخُلُ مِنَ الثَّنِيَّةِ الَّتِى بِأَعْلَى مَكَّةَ، وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مَكَّةَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا لَمْ يُنِخْ نَاقَتَهُ إِلاَّ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ يَدْخُلُ فَيَأْتِي الرُّكْنَ الأَسْوَدَ فَيَبْدَأُ بِهِ، ثُمَّ يَطُوفُ سَبْعًا ثَلاَثًا سَعْيًا، وَأَرْبَعًا مَشْيًا، ثُمَّ يَنْصَرِفُ فَيُصَلِّي سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ يَنْطَلِقُ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَيَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَكَانَ إِذَا صَدَرَ عَنِ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ أَنَاخَ بِالْبَطْحَاءِ الَّتِي بِذِي الْحُلَيْفَةِ الَّتِى كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُنِيخُ بِهَا. قوله: "بذي الطوى" كذا للمستملي والسرخسي بإثبات الألف واللام، ولغيرهما بحذفها. وقوله: "بين الثنيتين" أي: التي بين الثنيتين. وقوله: "لم ينخ ناقته إلا عند باب المسجد" أي: إذا بات بذي طوى، ثم أصبح ركب ناقته فلم ينخها إلا بباب المسجد. وقوله: "فيصلي سجدتين" وفي رواية الكشميهني: ركعتين. وقوله: "وكان إذا صدر" أي رجع متوجهًا نحو المدينة. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ إبراهيم بن المنذر في الأول من العلم، ومرَّ نافع في الأخير منه، ومرَّ أبو ضمرة في الرابع عشر من الوضوء، ومرَّ موسى بن عقبة في الخامس منه، ومرَّ ابن عمر في أول الإيمان قبل ذكر حديث منه.

الحديث الرابع والأربعون والمائتان

الحديث الرابع والأربعون والمائتان حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، قَالَ: سُئِلَ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنِ الْمُحَصَّبِ، فَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: "نَزَلَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَعُمَرُ وَابْنُ عُمَرَ". وَعَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما كَانَ يُصَلِّي بِهَا يَعْنِي: "الْمُحَصَّبَ" الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، أَحْسِبُهُ قَالَ: وَالْمَغْرِبَ. قَالَ خَالِدٌ: لاَ أَشُكُّ فِي الْعِشَاءِ، وَيَهْجَعُ هَجْعَةً، وَيَذْكُرُ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-. قوله: "سئل عبيد الله" هو ابن عمر بن حفص، بن عاصم، بن عمر بن الخطاب. وقوله: "نزل بها رسول الله، وعمر، وابن عمر"، هو عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، مرسل، وعن عمر منقطع، وعن ابن عمر موصول، ويحتمل أن يكون نافع سمع ذلك من ابن عمر، فيكون الجميع موصولًا، ويدل عليه رواية مسلم التي قدمتها في الباب الذي قبله. وقوله: "وعن نافع" هو معطوف على الإسناد الذي قبله، وليس بمعلق وقد رواه البيهقي عن خالد بن الحارث مثله. وقوله: "يصلي بها"، يعني: "المحصب" قيل: فسر الضمير المؤنث بلفظ مذكر وأراد البقعة، ولأن من أسمائها البطحاء. وقوله: "قال خالد" هو ابن الحارث، راوي أصل الإسناد، وهو مؤيد للعطف الذي قبله. وقوله: "لا أشك في العشاء"، يريد أنه شك في ذكر المغرب، وقد رواه سفيان بن عيينة بغير شك في المغرب، ولا غيرها عن أيوب، وعن عبيد الله بن عمر، جميعًا عن نافع، أن ابن عمر كان يصلي بالأبطح الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، ثم يهجع هجعة، أخرجه الإسماعيلي، وهو عند أبي داود عن بكر بن عبد الله المزني، وعن أيوب، عن نافع كلاهما عن ابن عمر. رجاله خمسة: قد مرّوا: وفيه ذكر ابن عمر، مرَّ عبد الله بن عبد الوهاب في السادس والأربعين من العلم، ومرَّ خالد بن الحارث في تعليق بعد الثاني من استقبال القبلة، ومرَّ عبيد الله العمري في الرابع من الوضوء، ومرَّ محل نافع وابن عمر في الذي قبله، ومرَّ عمر في الأول من بدء الوحي. ثم قال المصنف:

باب من نزل بذي طوى إذا رجع من مكة

باب من نزل بذي طوى إذا رجع من مكة تقدم الكلام على النزول بذي طوى، والمبيت بها إلى الصبح، لمن أراد أن يدخل مكة في أوائل الحج في باب من أين يدخل مكة؟ والمقصود بهذه الترجمة مشروعية المبيت بها أيضًا للراجع من مكة، وغفل الداودي فظن أن هذا المبيت متحد بالمبيت بالمحصب، فجعل ذا طوى هو المحصب وهو غلط، وإنما يقع المبيت بالمحصب في الليلة التي تلي يوم النفر من منى، فيصبح سائرًا إلى أن يصل إلى ذي طوى فينزل بها ويبيت، فهذا الذي يدل عليه سياق حديث الباب. الحديث الخامس والأربعون والمائتان وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَقْبَلَ بَاتَ بِذِي طُوًى، حَتَّى إِذَا أَصْبَحَ دَخَلَ، وَإِذَا نَفَرَ مَرَّ بِذِي طُوًى وَبَاتَ بِهَا حَتَّى يُصْبِحَ، وَكَانَ يَذْكُرُ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ. واختلف في حماد فجزم الإسماعيلي بأنه ابن سلمة، وجزم المزي بأنه ابن زيد ولم يذكر حماد بن سلمة في شيوخ محمد بن عيسى، وذكر حماد بن زيد. وقوله: "وإذا نفر مرَّ بذي طوى" في رواية الكشميهني، وإذا نفر مرَّ من ذي طوى .. إلخ. قال ابن بطال: وليس هذا أيضًا من مناسك الحج، وإنما يؤخذ منه أماكن نزوله عليه الصلاة والسلام، ليتأسى به فيها، إذ لا يخلو شيء من أفعاله عن حكمة. رجاله خمسة: مرَّ منهم حماد بن زيد في الرابع والعشرين من الإيمان، ومرَّ أيوب في التاسع منه، ومرَّ محل نافع وابن عمر في الذي قبله بحديث، والباقي محمد بن عيسى بن نجيح بن الطباع أبو جعفر البغدادي سكن أذنة، قال أحمد: إن ابن الطباع لبيب كيس، وقال: علي: سمعت يحيى وعبد الرحمن يسألان محمد بن عيسى، عن حديث هشيم، وما أعلم أحدًا أعلم به منه. وقال: أبو حاتم: سمعت محمد ابن عيسى يقول: اختلف عبد الرحمن بن مهدي وأبو داود في حديث فتراضيا بي، وقال أبو حاتم أيضًا: حدَّثنا محمد بن عيسى بن الطباع الفقيه المأمون: "ما رأيت من المحدثين أحفظ للأبواب منه" وسئل أيضًا عن محمد وإسحاق ابني عيسى بن

الطباع؟ فقال: محمد أحب إلى، وإسحاق أجل، ومحمد أتقن، وقال: محمد بن بكار: محمد بن عيسى أفضل من ابن إسحاق، وقال: أبو داود: محمد بن عيسى كان يتفقه، وكان يحفظ نحوًا من أربعين ألف حديث، وكان ربما دلس، وقال النسائي: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: من أعلَم الناس بحديث هشيم. وقال أبو حاتم: قلت: لأحمد عن من أكتب المصنفات؟ قال: عن ابن الطباع، وإبراهيم بن موسى، وأبي بكر بن أبي شيبة. وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله ذكر حديث هشيم، عن ابن شبرمة، عن الشعبي، في الذي يصوم في كفارة ثم يوسر فقال: لا أراه سمعه، قيل له: فإن أبا جعفر محمد بن عيسى يقول فيه قال: أنبأنا شبرمة قال: فتعجب! فقلت له: ألا إن أبا جعفر عالم بهذا، قال: نعم، وفي "الزهرة" روى عنه البخاري ستة أحاديث. روى عن مالك وحماد بن زيد، وابن أبي ذيب، وهشيم وغيرهم، وروى البخاري عنه تعليقًا، وأبو داود، وروى الترمذي والنسائي وابن ماجه له بواسطة، ولد سنة خمسين ومائة، ومات سنة أربع وعشرين ومائتين. ثم قال المصنف:

باب التجارة أيام الموسم والبيع في أسواق الجاهلية

باب التجارة أيام الموسم والبيع في أسواق الجاهلية والموسم بفتح الميم وسكون الواو وكسر المهملة، قال الأزهري: سمي بذلك لأنه معلم يجتمع إليه الناس مشتق من السمة، وهي العلامة، وذكر في حديث الباب من أسواق الجاهلية اثنين وترك اثنين. الحديث السادس والأربعون والمائتان حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: كَانَ ذُو الْمَجَازِ وَعُكَاظٌ مَتْجَرَ النَّاسِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ الإِسْلاَمُ كَأَنَّهُمْ كَرِهُوا ذَلِكَ حَتَّى نَزَلَتْ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ. قوله: قال عمرو بن دينار: في رواية إسحاق بن راهويه في "مسنده"، عن ابن جريج أخبرني عمرو بن دينار. وقوله: "عن ابن عباس" هو الصحيح، وما وقع عند الإسماعيلي عن ابن الزبير وهم من بعض رواته، كأنه دخل عليه حديث في حديث، فإن حديث ابن الزبير عند ابن عيينة وابن جريج عن عبيد الله بن أبي يزيد عنه وهو أخصر من سياق ابن عباس، وقد رواه ابن عيينة، عن عمرو، عن ابن عباس، ثم لم يختلف عليه في ذلك. وقوله: "كأنهم كرهوا ذلك" في رواية ابن عيينة، فكأنهم تأثموا، أي: خشوا من الوقوع في الإثم، للإشتغال في أيام النسك بغير العبادة، ولأبي داود وإسحاق بن راهويه، عن ابن عباس، كانوا لا يتجرون بمنى فأمروا بالتجارة إذا أفاضوا من عرفات وقرأ: {لا جناح عليكم أن تبتغوا فضلًا من ربكم} وأخرجه إسحاق في "مسنده" بلفظ كانوا يمنعون البيع والتجارة في أيام الموسم، يقولون إنها أيام ذكر، فنزلت. وله من وجه آخر، عن ابن عباس كانوا يكرهون أن يدخلوا في حجهم التجارة، فنزلت. وقد أشبعنا الكلام على أسواق الجاهلية الاثنين المذكورين هنا وغيرهما في باب الجهر بقراءة صلاة الفجر من أبواب صفة الصلاة. رجاله أربعة: مرَّ منهم ابن جريج في الثالث من الحيض، وعمرو بن دينار في الرابع والخمسين من

العلم، ومرَّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي، والرابع عثمان بن الهيثم بن جهم بن عيسى بن حسان بن المنذر، وهو الأشج العصري العبيدي أبو عمرو البصري مؤذن الجامع. قال أبو حاتم: كان صدوقًا غير أنه بأخره كان يتلقن ما يلقن، وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال الدارقطني: صدوق كثير الخطأ. وقال الساجي: ذكر عند أحمد فأومى إلي ليس بثبت، وهو من الأصاغر الذين حدَّثوا عن ابن جريج، وعوف، ولم يحدث عنه، روى عن أبيه وعوف الأعرابي وابن جريج، وغيرهم وروى عنه أبو حاتم الرازي والذهلي، ومحمد ابن خزيمة، وروى عنه البخاري، وعلق عنه. قال في "الزهرة" روى عنه البخاري أربعة عشر حديثًا، وقال في المقدمة: وله في البخاري حديث أبي هريرة، في فضل آية الكرسي، ذكره في مواضع عنه مطولًا ومختصرًا، وروى حديثًا آخر عن محمد، وهو الذهلي عنه عن ابن جريج، وآخر في العلم صرح بسماعه منه وهو متابعة. قلت: انظر هذا مع ما قاله صاحب "الزهرة"، ولم يذكر هذا الحديث الذي صرَّح البخاري فيه بالتحديث، ولم أر له رواية في كتاب العلم، فلعل قوله في كتاب العلم تحريف من الناسخ، فيكون المراد في الحج ويكون أشار إلى هذا الحديث والله تعالى أعلم. ثم قال المصنف:

باب الإدلاج من المحصب

باب الإدلاج من المحصب وقع في رواية لأبي ذر: الإدلاج بسكون الدال، والصواب تشديدها، فإنه بالسكون سير أول الليل، وبالتشديد سير آخره، وهو المراد هنا والمقصود الرحيل من مكان المبيت بالمحصب سحرا، وهو الواقع في قصة عائشة، ويحتمل أن تكون الترجمة لأجل رحيل عائشة مع أخيها، للاعتمار فإنها رحلت معه من أول الليل، فقصد المصنف التنبيه على أن المبيت ليس بلازم، وأن السير من هناك من أول الليل جائز. الحديث السابع والأربعون والمائتان حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: حَاضَتْ صَفِيَّةُ لَيْلَةَ النَّفْرِ، فَقَالَتْ: مَا أُرَانِي إِلاَّ حَابِسَتَكُمْ. قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "عَقْرَى حَلْقَى أَطَافَتْ يَوْمَ النَّحْرِ؟ ". قِيلَ: نَعَمْ. قَالَ: "فَانْفِرِي". قوله: "حدَّثني أبي" هو حفص بن غياث، وليس في المتن الذي ساقه عن حفص، مقصود الترجمة وإنما أشار إلى أن القصة التي في روايته، وفي رواية محاضر واحدة، وقد مرَّ الكلام على الحديث مرارًا في الحيض، وفي باب التمتع والقران. رجاله ستة: وفيه ذكر صفية، وقد مرَّ الجميع. مرَّ عمر بن حفص، وأبوه حفص في الثاني عشر من الغسل. ومرَّ الأعمش وإبراهيم بن المنذر في الخامس والعشرين من الإيمان، ومرَّ الأسود بن يزيد في السابع والستين من العلم، ومرت عائشة في الثاني من بدء الوحي، ومرت صفية في الثالث والثلاثين من الحيض. ورجاله كلهم كوفيون إلا عائشة، وفيه ثلاثة من التابعين، ورواية الابن عن الأب، ورواية الرجل عن خاله، أخرجه مسلم في الحج، وكذا النسائي وابن ماجه. ثم قال: الحديث الثامن والأربعون والمائتان قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَزَادَنِي مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا مُحَاضِرٌ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ

رجاله ستة

عَنِ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لاَ نَذْكُرُ إِلاَّ الْحَجَّ، فَلَمَّا قَدِمْنَا أَمَرَنَا أَنْ نَحِلَّ، فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ النَّفْرِ حَاضَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "حَلْقَى عَقْرَى، مَا أُرَاهَا إِلاَّ حَابِسَتَكُمْ". ثُمَّ قَالَ: "كُنْتِ طُفْتِ يَوْمَ النَّحْرِ؟ ". قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: "فَانْفِرِي". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنِّي لَمْ أَكُنْ حَلَلْتُ. قَالَ: "فَاعْتَمِرِي مِنَ التَّنْعِيمِ". فَخَرَجَ مَعَهَا أَخُوهَا، فَلَقِينَاهُ مُدَّلِجًا. فَقَالَ: "مَوْعِدُكِ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا". قوله "مدلجًا" هو بتشديد الدال أي: سائرًا من آخر الليل، فإنهما لما رجعا إلى المنزل بعد أن قضت عائشة العمرة، صادفا النبي -صلى الله عليه وسلم- متوجهًا إلى طواف الوداع. وقوله: "موعدك مكان كذا" أي: موضع منزله والمراد بالمكان الأبطح كما تبين في غير هذه الطريق. وهذا الحديث قد مرَّ الكلام عليه في أول باب من كتاب الحيض، وفي باب امتشاط المرأة عند غسلها من المحيض، والباب الذي بعده، وفي باب المرأة تحيض بعد الإفاضة، وفي باب التمتع والقران والإفراد بالحج. رجاله ستة: وفيه ذكر صفية، وقد مرَّ الجميع، محمد شيخ البخاري، قيل: إنه محمد بن سلام، وقد مرَّ في الثالث عشر من الإيمان، وقيل إنه محمد الذهلي، وقد مرَّ في العشرين من العيدين، ومرَّ محاضر في متابعة بعد الخامس والستين من الجماعة، ومرَّ محل الأعمش، وإبراهيم، والأسود، وعائشة، وصفية في الذي قبله.

خاتمة

خاتمة اشتمل كتاب الحج من أوله إلى أبواب العمرة على ثلاثماثة واثني عشر حديثًا، المعلق منها سبعة وخمسون حديثًا، والبقية موصولة، المكرر منها فيه وفيما مضى مائة وواحد وتسعون حديثًا، والخالص منها مائة وواحد وعشرون حديثًا، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث جابر في الإهلال إذا استقلت الراحلة، وحديث أنس في الحج على رحل رث، وحديث عائشة: "لكن أفضل الجهاد حج مبرور" وحديث ابن عباس في نزول: "وتزودوا فإن خير الزاد التقوى" وحديث عمر "حد لأهل نجد قرنًا" وحديث "وقيل حجة في عمرة" وحديث ابن عبّاس "انطلق من المدينة بعدما ترجل وادهن" وحديثه: "أنه سئل عن متعة الحج" وحديث أبي سعيد "ليحجن البيت وليعتمرن بعد يأجوج ومأجوج"، وحديث ابن عباس في هدم الكعبة على يد الأسود، وحديثه في ترك دخول الكعبة وفيها الأصنام، وحديث ابن عمر في استلام الحجر وتقبيله، وحديث عائشة في طوافها حجرة من الرجال، وحديث ابن عباس مرَّ برجل يطوف وقد خزم أنفه، وحديث الزهري المرسل لم يطف إلا صلى ركعتين، وحديث ابن عباس في الشرب من سقاية العباس، وحديث ابن عمر في تعجيل الوقوف، وحديث ابن عباس: ليس البر بالإيضاع، وحديثه في تقديم الضعفة، وحديث عمر في إفاضة المشركين من مزدلفة، وحديث المسور ومروان في الهدي، وحديث ابن عمر حلق في حجته، وحديث ابن عباس أخر الزيارة إلى الليل، وحديث ابن عمر في النحر في المنحر، وحديث جابر في السؤال عن الحلق قبل الذبح، وحديث عائشة في تأخير الزيارة إلى الليل أيضًا، وحديث جابر في رمي جمرة العقبة ضحى، وبعد ذلك بعد الزوال، وحديث ابن عمر في هذا المعنى، وحديثه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع، ويكبّر مع كل حصاة، وحديثه في نزول المحصب، وحديث ابن عباس كان ذو المجاز وعكاظ، وفيه من الآثار الموقوفة عن الصحابة والتابعين ستون أثرًا أكثرها معلق. ثم قال المصنف:

كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري تأليف الإمام المحدث العلامة الشيخ محمد الخضر الجكيني الشنقيطي (المتوفى سنة 1354 هـ) الجزء الرابع عشر مؤسسة الرسالة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1415هـ - 1995م مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع مؤَسَّسَة الرّسَالة بيروت - شارع سوريَا - بنَاية صَمَدي وَصَالحَة هَاتف: 603243 - 815112 - صَ. بَ: 7460 - بَرقيًا: بيُوشرَان

أبواب العمرة

بسم الله الرحمن الرحيم أبواب العمرة باب وجوب العمرة وفضلها سقطت البسملة لأبي ذر، وثبتت الترجمة هكذا في روايته عن المستملي، وسقط عنده عن غيره أبواب العمرة، وثبت لأبي نعيم في "المستخرج" كتاب العمرة، وللأصيلي وكريمة باب العمرة وفضلها حسب. والعمرة في اللغة: الزيارة، وقيل إنها مشتقة من عمارة المسجد الحرام، وجزم المصنف بوجوب العمرة، وهو متابع في ذلك للمشهور عن الشافعي وأحمد وغيرهما من أهل الأثر، والمشهور عن المالكية أن العمرة تطوع وهو قول الحنفية، واستدل الأولون بما في هذا الباب عن ابن عمر، وابن عباس، وبما روي عن جابر مرفوعًا: "الحج والعمرة فريضتان" أخرجه ابن عدي عن ابن لهيعة، وهو ضعيف، ولا يثبت في هذا الباب عن جابر شيء، وبقول صُبي بن معبد لعمر: رأيت الحج والعمرة مكتوبين عليَّ، فأهللت بهما، فقال له: هُديتَ لسنة نبيك، أخرجه أبو داود. وروى ابن خزيمة وغيره في حديث عمر سؤال جبريل عن الإيمان والإِسلام، فوقع فيه: "وأن تحج وتعتمر" وإسناده قد أخرجه مسلم لكن لم يسق لفظه. وبما أخرجه الحاكم والدارقطني عن زيد ابن ثابت قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الحج والعمرة فريضتان" لكن قال الحاكم: الصحيح عن زيد بن ثابت، أنه من قوله، وفيه إسماعيل بن مسلم ضعفوه. وعند ابن ماجه والبيهقي وغيرهما عن عائشة بأسانيد صحيحة، قالت: قلت: يا رسول الله هل على النساء جهاد؟ قال: "نعم جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة". وروى الترمذي وصححه أن أبا رزين لقيط بن عامر العقيلي أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله: إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن قال: "حج عن أبيك واعتمر" واستدلوا أيضًا بقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} فوجوب العمرة من عطفها على الحج الواجب، وأيضًا إذا كان الإِتمام واجبًا كان الإبتداء واجبًا، وأيضًا معنى أتموا: أقيموا. وقال الشافعي: في "المعرفة" للبيهقي: والذي هو أشبه بظاهر القرآن، وأولى بأهل العلم عندي وأسأل الله التوفيق، أن تكون العمرة واجبة بأن الله تعالى قرنها مع الحج، فقال: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اعتمر قبل أن يحج، وأنه عليه الصلاة

والسلام: "سن إحرامها والخروج منها بطواف وسعي، وحلاق، وميقات، وفي الحج زيادة عمل على العمرة، وظاهر القرآن أولى إذا لم تكن دلالة. وقول الترمذي: عن الشافعي أنه قال: "العمرة سنة لا نعلم أحدًا رخص في تركها وليس فيها شيء ثابت بأنها تطوع" لا يريد به أنها ليست واجبة بدليل قوله: "لا نعلم أحدًا رخص في تركها" لأن السنة التي يراد بها خلاف الواجب يرخص في تركها قطعًا، والسنة تطلق ويراد بها الطريقة، قاله الزين العراقي. ومذهب الحنابلة الوجوب كالحج، ذكره الأصحاب، لكن قال الزركشي منهم: جزم جمهور الأصحاب بالوجوب، وعنه أنه سنة، واستدل القائلون بالسنة بحديث: "بني الإِسلام على خمس" فذكر الحج دون العمرة، وأجابوا عن ثبوتها في حديث الدارقطني بأنها شاذة، وبحديث الحجاج بن أرطأة عند الترمذي، وقال: حسن صحيح عن جابر قال: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن العمرة أواجبة هي؟ قال: لا وإن تعتمر فهو أفضل. لكن قال: في "شرح المهذب": اتفق الحفاظ على أنه ضعيف، ولا يغتر بقول الترمذي حسن صحيح، وقال الكمال بن الهمام في "فتح القدير": إنه لا ينزل عن كونه حسنًا، والحسن حجة اتفاقًا، وإن قال الدارقطني الحجاج بن ارطأة: لا يحتج به، فقد اتفقت الروايات عن الترمذي على تحسين حديثه هذا. وقد رواه ابن جريج عن محمد بن المنكدر عن جابر وأخرجه الطبراني في الصغير، والدارقطني بطريق آخر عن جابر فيه يحيى بن أيوب، وضعفه، وروى عبد الباقي بن قانع، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الحج جهاد والعمرة تطوع" وهو أيضًا حجة وأخرج ابن أبي شيبة عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: "الحج فريضة، والعمرة تطوع"، وكفى بعبد الله قدوة وتعدد طرق حديث الترمذي الذي اتفقت الروايات على تحسينه يرفعه إلى درجة الصحيح، كما أن تعدد طرق الضعيف ترفعه إلى درجة الحسن، فقام ركن المعارضة، والافتراض لا يثبت مع المعارضة، لأن المعارضة تمنعه من إثبات مقتضاه، ولا يخفى أن المراد من قول الشافعي: "الفرض الظني هو الوجوب عندنا"، ومقتضى ما ذكرناه أن لا يثبت مقتضى ما رويناه أيضًا للاشتراك. في موجب المعارضة، فحاصل التقرير حينئذٍ تعارض مقتضيات الوجوب والنقل فلا يثبت، ويبقى مجرد فعله عليه الصلاة والسلام وأصحابه والتابعين وذلك يوجب السنة، فقلنا بها، وأجابوا عن الآية بأنه لا يلزم من الاقتران بالحج أن تكون العمرة واجبة، فهذا الإستدلال ضعيف، وبأن في قراءة الشعبي والعمرة بالرفع ففصل في هذه القراءة عطف العمرة على الحج ليرتفع الإشكال. ثم اعلم أن الشافعي ذهب إلى استحباب تكرار العمرة في السنة الواحدة مرارًا، وقال مالك وأصحابه: يكره أن يعتمر في السنة الواحدة أكثر من عمرة واحدة، وقال ابن قدامة: قال آخرون: لا يعتمر في شهر أكثر من عمرة واحدة، وعند أبي حنيفة تكره العمرة في خمسة أيام: يوم عرفة، والنحر وأيام التشريق، وقال أبو يوسف: تكره في أربعة أيام عرفة والتشريق.

الحديث الأول

ثم قال: وقال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: "ليس أحد إلا وعليه حجة وعمرة" ولفظ نافع أن ابن عمر كان يقول: "ليس من خلق الله أحد إلا عليه حجة وعمرة، واجبتان من استطاع سبيلًا، فمن زاد شيئًا فهو خير وتطوع" وقال سعيد ابن أبي عروبة: عن نافع، عن ابن عمر قال: "الحج والعمرة فريضتان" وهذا التعليق وصله ابن أبي شيبة وابن خزيمة، والدارقطني، والحاكم، وقد مرَّ ابن عمر في أول الإيمان قبل ذكر حديث منه. ثم قال: وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إنها لقرينتها في كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وهذا التعليق وصله الشافعي في "مسنده"، وسعيد بن منصور، عن طاووس قال: سمعت ابن عباس يقول: والله إنها لقرينتها في كتاب الله {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وللحاكم عن عطاء، عن ابن عباس: "الحج والعمرة فريضتان" وإسناده ضعيف، والضمير في قوله لقرينتها للفريضة، وكان أصل الكلام أن يقول لقرينته، لأن المراد الحج، وابن عباس مرَّ في الخامس من بدء الوحي. الحديث الأول حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلاَّ الْجَنَّةُ". قوله: "عن سمي" قال ابن عبد البر: تفرد سمي بهذا الحديث واحتاج إليه الناس فيه فرواه عنه مالك، والسفيانان وغيرهما حتى أن سهيلًا لم يسمعه من أبيه، وتحقق بذلك تفرد سمي به فهو من غرائب الصحيح. وقوله: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما" أشار ابن عبد البر إلى أن المراد تكفير الصغائر دون الكبائر، قال: وذهب بعض علماء عصرنا إلى تعميم ذلك، ثم بالغ في الإنكار عليه، واستشكل بعضهم كون العمرة كفارة مع أن اجتناب الكبائر يكفر فماذا تكفر العمرة، والجواب أن تكفير العمرة مقيد بزمنها، وتكفير الاجتناب عام لجميع عمر العبد، فتغايرا من هذه الحيثية. وقد مرَّ الكلام مستوفى على تكفير الذنوب في باب قيام ليلة القدر، من كتاب الإيمان. وأما مناسبة الحديث لأحد شقي الترجمة وهو وجوب العمرة فمشكل، ومناسبته للشق الآخر وهو فضلها، فواضح وكأن المصنف والله أعلم أشار إلى ما ورد في بعض طرق الحديث المذكور، وهو ما أخرجه الترمذي وغيره، عن ابن مسعود مرفوعًا، "تابعوا بين الحج والعمرة فإن المتابعة بينهما تنفي الذنوب والفقر، كما ينفي الكير خبث الحديد، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة"، فإن ظاهره التسوية، بين أصل الحج والعمرة، فيوافق قول ابن عباس أنها

رجاله خمسة

لقرينتها في كتاب الله، وأما إذا اتصف الحج بكونه مبرورًا فذلك قدر زائد، وقد مرَّ الكلام على المراد به في أوائل الحج، ووقع عند أحمد وغيره، عن جابر مرفوعًا: "الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة"، قيل: يا رسول الله ما بر الحج؟ قال: "إطعام الطعام، وإفشاء السلام"، ففي هذا تفسير المراد بالبر في الحج، ويستفاد من حديث ابن مسعود المذكور المراد بالتكفير المبهم في حديث أبي هريرة، وفي حديث الباب دلالة على الاستكثار من الاعتمار خلافًا لقول من قال: يكره أن يعتمر في السنة أكثر من مرة، وكما مرَّ عن المالكية، ولمن قال: مرة في الشهر من غيرهم، واستدل لهم بأنه عليه الصلاة والسلام لم يفعلها إلا من سنة إلى سنة، وأفعاله على الوجوب والندب، وتعقب بأن المندوب لم ينحصر في أفعاله فقد كان يترك الشيء وهو يستحب فعله، لرفع المشقة عن أمته، وقد ندب إلى ذلك بلفظه فثبت الاستحباب من غير تقييد، واتفقوا على جوازها في جميع الأيام لمن لم يكن متلبسًا بأعمال الحج، إلا ما نقل عن الحنفية: إنه يكره في يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق. ونقل الأثرم، عن أحمد: إذا اعتمر فلابد أن يحلق، أو يقصر فلا يعتمر بعد ذلك إلى عشرة أيام ليمكن حلق الرأس فيها. قال ابن قدامة: هذا يدل على كراهة الاعتمار عنده في دون عشرة أيام. وقال ابن التين: قوله: العمرة إلى العمرة يحتمل أن تكون "إلى" بمعنى مع فيكون التقدير: العمرة مع العمرة كفارة لما بينهما. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ عبد الله بن يوسف، ومالك في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ سمي في الثاني عشر من الأذان، ومرَّ أبو صالح وأبو هريرة في الثاني من الإيمان. أخرجه مسلم والترمذي والنسائي. ثم قال المصنف:

باب من اعتمر قبل الحج

باب من اعتمر قبل الحج أي: هل تجزئه العمرة أم لا؟ الحديث الثاني حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَنَّ عِكْرِمَةَ بْنَ خَالِدٍ سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنِ الْعُمْرَةِ قَبْلَ الْحَجِّ؟ فَقَالَ: لاَ بَأْسَ. قَالَ عِكْرِمَةُ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: "اعْتَمَرَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ". قوله: "سأل" هذا السياق يقتضي أن هذا الإِسناد مرسل؛ لأن ابن جريج لم يدرك زمان سؤال عكرمة لابن عمر، ولهذا استظهر البخاري بالتعليق عن ابن إسحاق المصرح بالاتصال، ثم بالإسناد الآخر عن ابن جريج فهو يرفع هذا الإشكال المذكور، حيث قال: عن ابن جريج قال: قال عكرمة. فإن قيل إن جريج ربما دلس، فالجواب أن ابن خزيمة أخرجه عن ابن جريج قال: قال عكرمة: فذكره. قلت: لفظ قال لا يرفع احتمال التدليس. وقوله: "لا بأس" زاد أحمد وابن خزيمة فقال: لا بأس على أحد أن يعتمر قبل أن يحج. وقوله: "قال عكرمة" هو ابن خالد بالإسناد المذكور. رجاله خمسة: ومنهم أحمد بن محمد في متابعة بعد الثامن من التقصير، ومرَّ عبد الله بن المبارك في السادس من بدء الوحي، ومرَّ ابن جريج في الثالث من الحيض، وابن عمر مرَّ في أول الإيمان قبل ذكر حديث منه. والباقي عكرمة بن خالد بن العاص، بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي، قال ابن معين وأبو زرعة والنسائي: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن سعد: كان ثقة، وله أحاديث. ووثقه البخاري فيما قاله أبو الحسن القطان، ونقل العقيلي أنه قال: منكر الحديث. روى عن أبيه وأبي هريرة وابن عمر وابن عباس وغيرهم، وروى عنه أيوب وابن طاووس وغيرهم، مات بعد عطاء بن أبي رباح سنة عشرة ومائة. أخرجه البخاري أيضًا وأبو داود في الحج. ثم قال: وقال إبراهيم بن سعد: عن ابن إسحاق، حدَّثني عكرمة بن خالد، سألت ابن عمر مثله.

الحديث الثالث

هذا التعليق وصله أحمد عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد بالإسناد المذكور، ولفظه حدَّثنا عكرمة بن خالد ابن العاص المخزومي، قال: "قدمت المدينة في نفر من أهل مكة فلقيت عبد الله بن عمر فقلت: إنّا لم نحج قط أفنعتمر من المدينة"؟ قال: نعم وما يمنعكم من ذلك، فقد اعتمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمره كلَّها قبل حجه. قال: فاعتمرنا" قال ابن بطال: جواب ابن عمر يدل على أن مذهبه أن فرض الحج كان قد نزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل اعتماره، وذلك يدل على أن الحج على التراخي، إذ لو كان وقته مضيقًا لوجب إذا آخره إلى سنة آخره أن يكون قضاء، واللازم باطل، تعقبه ابن المنير بأن القضاء خاص بما وقت بوقت معين مضيق، كالصلاة، والصيام، وأما ما ليس كذلك فلا يعد تأخيره قضاء، سواء كان على الفور أو على التراخي، كما في الزكاة يؤخرها ما شاء الله بعد تمكنه من أدائها على الفور فإن المؤخر على هذا الوجه يأثم ولا يعد أداؤه بعد ذلك قضاء، بل هو أداء. قلت: الظاهر عندي أن الزكاة وقتها معين مضيق، وهو وقت حلولها، وهو الوقت الذي ملك فيه النصاب، فلا يجوز تأخيرها عن دقيقة، ولذا كان بعض الصالحين يقدر لها الظل، فيكون تأخيرها عنه قضاء. ومن ذلك الإِسلام واجب على الكفار على الفور، فلو تراخى عنه الكافر ما شاء الله، ثم أسلم لم يعد ذلك قضاء، ومن الصريح في الترجمة الأثر المذكور في آخر الباب الذي يليه، عن مسروق، وعطاء، ومجاهد، قالوا: اعتمر النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يحج، وحديث البراء في ذلك أيضًا. رجاله أربعة: مرَّ إبراهيم بن سعد في السادس عشر من الإيمان، ومرَّ محمد ابن إسحاق في تعليق بعد السابع عشر من الجماعة، وعكرمة هو ابن خالد، وقد مرَّ الآن، وكذا ابن عمر. الحديث الثالث حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ عِكْرِمَةُ بْنُ خَالِدٍ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنه مِثْلَهُ. والكلام على هذا قد مرَّ في الذي قبله. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ عمرو بن علي في السابع والأربعين من الوضوء، ومرَّ أبو عاصم في أثر بعد الرابع من العلم، ومرَّ ابن جريج في الثالث من الحيض، وعكرمة بن خالد قد مرَّ في الذي قبله، ومرَّ فيه محل ابن عمر. ثم قال المصنف:

باب كم اعتمر النبي -صلى الله عليه وسلم-؟

باب كم اعتمر النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ الحديث الرابع حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ جَالِسٌ إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ، وَإِذَا نَاسٌ يُصَلُّونَ فِي الْمَسْجِدِ صَلاَةَ الضُّحَى. قَالَ: فَسَأَلْنَاهُ عَنْ صَلاَتِهِمْ. فَقَالَ: بِدْعَةٌ. ثُمَّ قَالَ لَهُ: كَمِ اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-؟ قَالَ: أَرْبَعً إِحْدَاهُنَّ فِي رَجَبٍ، فَكَرِهْنَا أَنْ نَرُدَّ عَلَيْهِ. قَالَ: وَسَمِعْنَا اسْتِنَانَ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْحُجْرَةِ، فَقَالَ عُرْوَةُ: يَا أُمَّاهُ، يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ. أَلاَ تَسْمَعِينَ مَا يَقُولُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ. قَالَتْ: مَا يَقُولُ؟ قَالَ: يَقُولُ: "إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرَاتٍ إِحْدَاهُنَّ فِي رَجَبٍ". قَالَتْ: "يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مَا اعْتَمَرَ عُمْرَةً إِلاَّ وَهُوَ شَاهِدُهُ، وَمَا اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ قَطُّ". قوله: "المسجد" يعني مسجد المدينة النبوية. وقوله: "جالس إلى حجرة عائشة" في رواية مفضل عند أحمد فإذا ابن عمر مستند إلى حجرة عائشة. وقوله: "فإذا أناس" في رواية الكشميهني، فإذ ناس بغير ألف. وقوله: "فقال: بدعة"، مرَّ الكلام عليه في باب صلاة الضحى في السفر من أبواب التطوع. وقوله: "ثم قال له" يعني عروة، وصرح به مسلم في روايته عن إسحاق بن راهويه. وقوله: قال: أربع كذا للأكثر ولأبي ذر، قال: أربعًا أي: اعتمر أربعًا قال ابن مالك: الأكثر في جواب الاستفهام مطابقة اللفظ والمعنى، وقد يكتفى بالمعنى فمن الأول قوله تعالى: {قَالَ هِيَ عَصَايَ} في جواب: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى}. ومن الثاني قوله عليه الصلاة والسلام: "أربعين يومًا" جوابًا لقول السائل: كم يلبث في الأرض؟ فاضمر يلبث ونصب به أربعين، ولو قصد تكميل المطابقة لقال: أربعون؛ لأن الاسم المستفهم في موضع الرفع، فظهر بهذا أن النصب والرفع جائزان في مثل قوله: أربع إلا أن النصب أقيس، وأكثر

نظائرًا، قال: ويجوز أن يكون أربعُ كُتِبَ، بغير ألف على لغة ربيعة في الوقف بالسكون على المنصوب المنون. وقوله: "إحداهن في رجب" كذا في رواية منصور عن مجاهد، وخالفه أبو إسحاق، فرواه عن مجاهد عن ابن عمر، قال: اعتمر النبي -صلى الله عليه وسلم- مرتين فبلغ ذلك عائشة، فقالت: "اعتمر أربع عمر" أخرجه أحمد وأبو داود فاختلفا، جعل منصور الاختلاف في شهر العمرة وأبو إسحاق الاختلاف في عدد الإعتمار، ويمكن تعدد السؤال بأن يكون ابن عمر سئل أولًا عن العدد، فأجاب فردت عليه عائشة، فرجع إليها فسئل مرة ثانية فأجاب بموافقتها، ثم سئل عن الشهر، فأجاب بما في ظنه وقد أخرج أحمد عن مجاهد قال: سأل عروة بن الزبير ابن عمر: في أي شهر اعتمر النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: في رجب. وقوله: "فكرهنا أن نرد عليه" زاد إسحاق في روايته: ونكذبه. وقوله: "يا أماه" كذا للأكثر بالألف، وسكون الهاء، ولأبي ذر: يا أمه بسكون الهاء أيضًا، وحذف الألف، وقول عروة لهذا بالمعنى الأخص لأنها خالته، بالمعنى الأعم لكونها أم المؤمنين. وقوله: "يرحم الله أبا عبد الرحمن" هو عبد الله بن عمر، ذكرته بكنيته تعظيمًا له ودعت له إشارة أنه نسي. وقوله: "إلا هو شاهده"، أي: حاضر معه قالت ذلك مبالغة في نسبته إلى النسيان، ولم تنكر عائشة على ابن عمر إلا قوله: إحداهن في رجب. وقوله: "وما اعتمر في رجب قط" زاد عطاء عن عروة عند مسلم في آخره قال: وابن عمر يسمع فما قال: لا ولا نعم، سكت، قال النووي: سكوت ابن عمر على إنكار عائشة يدل على أنه كان اشتبه عليه أو نسي أو شك، وبهذا يجاب عما استشكل من تقديم قول عائشة النافي على قول ابن عمر المثبت، وهو خلاف القاعدة المقررة، وقد روى يونس بن بكير في زيادات المغازي، وعبد الرزاق جميعًا عن مجاهد، عن أبي هريرة، قال: "اعتمر النبي -صلى الله عليه وسلم- ثلاث عمر في ذي القعدة" وهذا موافق لحديث ابن عمر وعائشة، وزاد عليه تعيين الشهر، لكن روى سعيد بن منصور عن هشام عن أبيه عن عائشة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "اعتمر ثلاث عمر، عمرتين في ذي القعدة، وعمرة في شوال" إسناده قوي وقد رواه مالك، عن هشام، عن أبيه مرسلًا، لكن قولها: في شوال مخالف لقول غيرها في ذي القعدة، ويجمع بينهما، بأن يكون ذلك وقع في آخر شوال، وأول ذي القعدة، ويؤيده ما رواه ابن ماجه بإسناد صحيح، عن مجاهد، عن عائشة، "لم يعتمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا في ذي القعدة".

رجاله سبعة

وقوله: "سمعنا استنان عائشة"، أي: حس مرور السواك على أسنانها، وفي رواية عطاء، عن عروة، عند مسلم وإنا لنسمع ضربها بالسواك تستن. وقوله: "عمرات" يجوز في ميمها الحركات الثلاث وتسكين الميم. رجاله سبعة: قد مرّوا، مرَّ قتيبة في الحادي والعشرين من الإيمان، ومرَّ جرير ومنصور في الثاني عشر من العلم، ومرَّ مجاهد في أثر قبل الحديث الأول من الإيمان ومرَّ عروة، وعائشة في الثاني من بدء الوحي ومرَّ ابن عمر في أول الإيمان قبل ذكر حديث منه. والحديث أخرجه مسلم. الحديث الخامس حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "مَا اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي رَجَبٍ". كذا أخرجه مختصرًا، وأخرجه مسلم من هذا الوجه مطولًا، ذكر فيه قصة ابن عمر وسؤاله له، نحو ما رواه مجاهد إلا أنه لم يقل فيه: كم اعتمر؟ وأغرب الإسماعيلي، فقال: هذا الحديث لا يدخل في باب كم اعتمر؟ وإنما يدخل في باب متى اعتمر؟ وجوابه أن غرض البخاري الطريق الأولى، وإنما أورد هذه لينبه على الخلاف في السياق. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ محل أبي عاصم، وابن جريج في الذي قبله، ومرَّ عطاء في التاسع من العلم، ومرَّ محل عروة وعائشة في الذي قبله. أخرجه مسلم مطولًا. الحديث السادس حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ حَسَّانٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، سَأَلْتُ أَنَسًا رضي الله عنه كَمِ اعْتَمَرَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-؟ قَالَ: أَرْبَعٌ عُمْرَةُ، الْحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، حَيْثُ صَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ، وَعُمْرَةٌ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، حَيْثُ صَالَحَهُمْ، وَعُمْرَةُ الْجِعْرَانَةِ إِذْ قَسَمَ غَنِيمَةَ أُرَاهُ حُنَيْنٍ. قُلْتُ: كَمْ حَجَّ؟ قَالَ: وَاحِدَةً. قوله: "إذ قسم غنيمة أراه حنين"، كذا وقع هنا ينصب غنيمة بغير تنوين، وكأن الراوي طرأ عيه شك، فأدخل بين المضاف والمضاف إليه لفظ أراه وهو بضم الهمزة، أي: أظنه، وقد رواه مسلم عن هدبة عن همام بغير شك فقال: حيث قسم غنائم حنين، وسقطت من

رجاله أربعة

رواية حسان هذه العمرة الرابعة، ولهذا استظهر المصنف بطريق أبي الوليد التي ذكرها في آخر الحديث، وهي قوله: وعمرة مع حجته، وكذا أخرجه مسلم عن عبد الصمد عن هشام فتبين بهذا أن التقصير فيه من حسان شيخ البخاري. وقال الكرماني: العمرة الرابعة في هذا الحديث داخلة في ضمن الحج؛ لأنه عليه الصلاة والسلام إما أن يكون قارنًا أو متمتعًا، فالعمرة حاصلة أو مفردًا لكن أفضل أنواع الإفراد لابد فيه من العمرة في تلك السنة، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يترك الأفضل. وليس ما ادعى أنه الأفضل متفقًا عليه بين العلماء، فكيف ينسب فعل ذلك إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ وفعل النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الذي يحتج به إذا نسب لأحد فعله على ما يختار بعض المجتهدين رجحانه. رجاله أربعة: مرَّ منهم همام بن يحيى في الرابع والثمانين من الوضوء، ومرَّ قتادة وأنس في السادس من الإيمان، والرابع حسان بن حسان بن أبي عباد أبو علي نزيل مكة، وجعل ابن عدي حسان بن حسان غير حسان بن أبي عباد، والصواب أنه رجل واحد، قال البخاري: كان المقري يثني عليه. وقال أبو حاتم: منكر الحديث. وقال الدارقطني: ليس بالقوي. قال في المقدمة: روى عنه البخاري حديثين فقط، أحدهما في المغازي عن محمد بن طلحة، عن حميد، عن أنس أن عمه غاب عن قتال بدر، ولهذا الحديث طرق أخرى عن حميد، والآخر عن همام، عن قتادة، عن أنس في اعتمار النبي -صلى الله عليه وسلم-، أخرجه عنه في كتاب الحج، وأخرجه أيضًا عن هدبة وأبي الوليد الطيالسي بمتابعة عن همام. روى عن شعبة، وعبد الله بن بكر المزني، وهمام، وأبي عوانة، وغيرهم، وروى عنه البخاري وأبو زرعة والنضر بن سلمة، وغيرهم، مات سنة ثلاث عشرة ومائتين، أخرجه البخاري في الحج أيضًا، وفي الجهاد والمغازي، ومسلم في الحج، وكذا أبو داود، والترمذي. الحديث السابع حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسًا رضي الله عنه فَقَالَ: "اعْتَمَرَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- حَيْثُ رَدُّوهُ، وَمِنَ الْقَابِلِ عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَعُمْرَةً فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَعُمْرَةً مَعَ حَجَّتِهِ". قوله: "ومن العام المقبل عمرة الحديبية"، قال ابن التين: هذا أراه وهمًا؛ لأن التي ردوه فيها هي عمرة الحديبية، وأما التي من قابل فلم يردوه فيها، قال: في "الفتح": لا وهم فيها

الحديث الثامن

لأن كلا منهما كان من الحديبية، ويحتمل أن يكون قوله: عمرة الحديبية يتعلق بقوله: حيث ردوه. قلت: وعلى هذا لابد من تقدير حرف جر باء أو فاء. سند هذا هو سند الذي قبله إلا أبا الوليد، وهو قد مرَّ في العاشر من الإيمان. الحديث الثامن حَدَّثَنَا هُدْبَةُ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، وَقَالَ: اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ فِي ذِي الْقَعْدَةِ إِلاَّ الَّتِي اعْتَمَرَ مَعَ حَجَّتِهِ عُمْرَتَهُ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَمِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، وَمِنَ الْجِعْرَانَةِ، حَيْثُ قَسَمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ، وَعُمْرَةً مَعَ حَجَّتِهِ. قوله: "وقال: اعتمر"، أي: بالإسناد المذكور، وهو عن قتادة، أن أنس بن مالك أخبره أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اعتمر أربع عمر كلهن في ذي القعدة إلا التي مع حجته، الحديث وكذا ساقه مسلم عن هداب بن خالد، وهو هدبة المذكور. وقوله: "إلا التي مع حجته" استشكل ابن التين هذا الإِسناد فقال: هو كلام زائد، والصواب أربع عمر في ذي القعدة، قال: وقد عد التي مع حجته في الحديث، فكيف يستثنيها أولًا، وأجاب عياض بأن الراوية صواب، وكأنه قال: في ذي القعدة منها ثلاث، والرابعة عمرته في حجته أو المعنى كلها في ذي القعدة إلا التي اعتمر في حجته؛ لأن التي في حجته كانت في ذي الحجة. رجاله رجال الأول إلا هدبة ابن خالد، وهو قد مرَّ في الخمسين من مواقيت الصلاة. الحديث التاسع حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا شُرَيْحُ بْنُ مَسْلَمَةَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَأَلْتُ مَسْرُوقًا وَعَطَاءً، وَمُجَاهِدًا. فَقَالُوا: اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي ذِي الْقَعْدَةِ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ. وَقَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ رضي الله عنهما يَقُولُ: اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي ذِي الْقَعْدَةِ، قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ مَرَّتَيْنِ. قد تقدم الكلام على الخلاف فيما كان -صلى الله عليه وسلم- به محرمًا في حجته، والجمع بين ما اختلف فيه من ذلك، فأغنى عن إعادته، والمشهور عن عائشة أنه كان مفردًا، وحديثه هذا يشعر بأنه كان قارنًا؛ لأنه لم ينقل أنه اعتمر بعد حجته فلم يبق إلا أنه اعتمر مع حجته، ولم يكن متمتعًا؛ لأنه اعتذر عن ذلك بكونه ساق الهدي، واحتاج ابن بطال إلى تأويل ما وقع عن عائشة وابن عمر هنا، فقال: إنما تجوز نسبة العمرة الرابعة إليه باعتبار أنه أمر الناس بها، وعملت بحضرته لا أنه عليه الصلاة والسلام اعتمرها بنفسه، ومن تأمل ما تقدم من الجمع

استغنى عن هذا التأويل المتعسف. وقوله: "وقال: سمعت البراء بن عازب إلى قوله: في ذي القعدة قبل أن يحج مرتين"، والجمع بينه وبين ما روى عن غيره من كونها أربعًا هو أنه لم يعد العمرة التي قرنها بحجته، لأن حديثه مقيد يكون ذلك وقع في ذي القعدة والتي في حجته كانت في ذي الحجة، وكأنه لم يعد أيضًا التي صد عنها، وإن كانت وقعت في ذي القعدة أو عدها ولم يعد عمرة الجعرانة لخفائها عليه، كما خفيت على غيره، كما ذكر ذلك محرش الكعبي فيما أخرجه الترمذي، ومن ثم اختلف في عدد عمره فمن قال: أربعًا فهذا وجهه، ومن قال: ثلاثًا أسقط الأخيرة لدخول أفعالها في الحج، ومن قال: اعتمر عمرتين أسقط عمرة الحديبية لكونهم صدوا عنها، وأسقط الأخيرة، لما ذكر، واثبت عمرة القضية والجعرانة، وكل عمره الأربعة كانت في ذي القعدة في أربعة أعوام على ما هو الحق، كما ثبت عن عائشة وابن عباس رضي الله تعالى عنهم لم يعتمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا في ذي القعدة، ولا ينافيه كون عمرته التي مع حجته في ذي الحجة؛ لأن مبدأها كان في ذي القعدة؛ لأنهم خرجوا لخمس بقين من ذي القعدة، كما في الصحيح، وكان إحرامه بها في وادي العقيق قبل أن يدخل ذو الحجة، وفعلها كان في ذي الحجة، فصح طريقا الإثبات والنفي، وأما ما رواه الدارقطني عن عائشة: خرجت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في عمرة رمضان، فقد حكم الحفاظ بغلط هذا الحديث إذ لا خلاف أن عمره لم تزد على أربع، وقد عينها أنس وعدها وليس فيها ذكر شيء منها في غير ذي القعدة سوى التي مع حجته ولو كانت له عمرة في رجب وأخرى في رمضان لكانت ستًا، ولو كانت أخرى في شوال كما هو في سنن أبي داود عن عائشة أنه عليه الصلاة والسلام اعتمر في شوال كانت سبعًا، والحق في ذلك أنَّ ما أمكن فيه الجمع وجب ارتكابه دفعًا للمعارضة، وما لم يمكن فيه حكم بمقتضى الأصح والأثبت، وهذا أيضًا ممكن فيه الجمع بإرادة عمرة الجعرانة فإنه عليه الصلاة والسلام خرج إلى حنين في شوال والإحرام بها في ذي القعدة، فكان مجازًا للقرب، هذا إن صح وحفظ وإلاَّ فالمعول عليه الثابت، وقال ابن التين: في عدهم عمرة الحديبية التي صد عنها ما يدل على أنها عمرة تامة وفيه إشارة إلى صحة قول الجمهور: إنه لا يجب القضاء على من صد عن البيت خلافًا للحنفية ولو كانت عمرة القضية بدلًا عن عمرة الحديبية لكانتا واحدة، وإنما سميت عمرة القضية والقضاء لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قاضى قريشًا فيها، أنها وقعت قضاء عن العمرة التي صد عنها، إذ لو كانت كذلك لكانت عمرة واحدة. وفيه دلالة على جواز الاعتمار في أشهر الحج خلافًا لما كان عليه المشركون، وفي هذا الحديث أن الصحابي الجليل المكثر الشديد الملازمة للنبي -صلى الله عليه وسلم- قد يخفى عليه بعض أحواله وقد يدخله الوهم والنسيان، لكونه غير معصوم، وفيه رد بعض العلماء على بعض، وحسن الأدب في الرد وحسن التلطف في استكشاف الصواب، إذ ظن السامع خطأ المحدث.

رجاله تسعة

وقال القرطبي: عدم إنكار ابن عمر على عائشة يدل على أنه كان على وهم وأنه رجع إلى قولها، وقد مرَّ ما قاله النووي، وقد تعسف من قال: إن ابن عمر أراد بقوله: "اعتمر في رجب" عمرة قبل هجرته؛ لأنه وإن كان محتملًا لكن قول عائشة: ما اعتمر في رجب يلزم منه عدم مطابقة ردها عليه لكلامه، ولاسيما وقد بينت الأربع وأنها لو كانت قبل الهجرة فما الذي كان يمنعه أن يفصح بمراده، فيرفع الإِشكال، وأيضًا فإن قول هذا القائل: لأن قريشًا كانوا يعتمرون في رجب يحتاج إلى نقل وعلى تقديره فمن أين له أنه عليه الصلاة والسلام وافقهم، وهب أنه وافقهم فكيف اقتصر على مرة. رجاله تسعة قد مرّوا: مرَّ أحمد بن عثمان، وشريح في الخامس والمائة من الوضوء، ومرَّ إبراهيم وأبوه يوسف بن إسحاق في متابعة بعد الثاني والعشرين من الوضوء، ومرَّ أبو إسحاق السبيعي والبراء بن عازب في الثالث والثلاثين من الإِيمان، ومرَّ مجاهد في أوله قبل الحديث الأول، ومرَّ مسروق في السابع والعشرين منه، ومرَّ عطاء في التاسع والثلاثين من الإِيمان. فيه التحديث بالجمع والعنعنة، والسؤال، والسماع، والقول، ورواته كلهم كوفيون إلاَّ عطاء، ومجاهد، فمكيان، وفيه رواية الابن عن الأب. ثم قال المصنف:

باب عمرة في رمضان

باب عمرة في رمضان كذا في جميع النسخ ولم يصرح في الترجمة بفضيلة ولا غيرها ولعله أشار إلى ما روي عن عائشة قالت: خرجت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في عمرة رمضان فأفطر وصمت وقصر وأتممت الحديث أخرجه الدارقطني، وقال: إسناده حسن، وقال صاحب الهدي: إنه غلط لأنه عليه الصلاة والسلام لم يعتمر في رمضان، ويمكن حمله على أن قولها في رمضان متعلق بقولها خرجت، ويكون المراد سفر فتح مكة، فإنه كان في رمضان واعتمر النبي -صلى الله عليه وسلم- في تلك السنة، من الجعرانة لكن في ذي القعدة كما مرَّ وقد رواه الدارقطني بإسناد آخر فما قال فيه في رمضان، وقد مرَّ الكلام على هذا الحديث في الذي قبله أعني حديث الدارقطني. الحديث العاشر حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، يُخْبِرُنَا يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لاِمْرَأَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ سَمَّاهَا ابْنُ عَبَّاسٍ، فَنَسِيتُ اسْمَهَا: "مَا مَنَعَكِ أَنْ تَحُجِّي مَعَنَا؟. قَالَتْ: كَانَ لَنَا نَاضِحٌ فَرَكِبَهُ أَبُو فُلاَنٍ وَابْنُهُ -لِزَوْجِهَا وَابْنِهَا- وَتَرَكَ نَاضِحًا نَنْضَحُ عَلَيْهِ، قَالَ: "فَإِذَا كَانَ رَمَضَانُ اعْتَمِرِي فِيهِ فَإِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ حَجَّةٌ". أَوْ نَحْوًا مِمَّا قَالَ. قوله: عن عطاء في رواية مسلم عن ابن جريج أخبرني عطاء. وقوله: سماها ابن عباس فنسيت اسمها القائل نسيت إسمها ابن جريج، بخلاف ما يتبادر إلى الذهن من أن القائل عطاء، وإنما كان كذلك لأن المصنف أخرج الحديث في باب حج النساء الآتي عن حبيب المعلم، عن عطاء، فسماها، ولفظه لما رجع النبي -صلى الله عليه وسلم- من حجته، قال لأم سنان الأنصارية ما منعك من الحج؟ الحديث، ويحتمل أن عطاء كان ناسيًا لاسمها لما حدث به ابن جريج، وذاكرًا له لما حدث به حبيبا، وقد وقع شبيه بهذه القصة لأم معقل، أخرجه النسائي عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث عن امرأة من بني أسد يقال لها أم معقل قالت: أردت الحج فاعتل بعيري فسألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "اعتمري في شهر رمضان فإن عمرة في رمضان تعدل حجة" وقد اختلف في إسناده فرواه مالك عن أبي بكر بن عبد الرحمن قال: جاءت امرأة فذكره مرسلًا، وأبهمها ورواه النسائي عن أبي معقل ورواه أبو داود عن أم معقل قالت: لما حج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حجة الوداع، وكان لنا جمل فجعله أبو

معقل في سبيل الله وأصابنا مرض فهلك أبو معقل، فلما رجع النبي -صلى الله عليه وسلم- من حجته جئت فقال: ما منعك أن تحجي معنا فذكرت ذلك له فقال: "فهلا حججت عليه فإن الحج من سبيل الله فأما إذا فاتك فاعتمري في رمضان فإنها كحجة" ووقعت لأم طليق قصة مثل هذه أخرجها أبو علي ابن السكن، وابن منده في "الصحابة" والدولابي، في "الكنى" عن طلق بن حبيب أن أبا طليق حدثه أن امرأته قالت له وله جمل وناقة، .. أعطني جملك أحج عليه قال: جملي حبيس في سبيل الله قالت: إنه من سبيل الله أن أحج عليه. فذكر الحديث وفيه فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صدقت أم طليق وفيه ما يعدل الحج قال: عمرة في رمضان وزعم ابن عبد البر أن أم معقل هي أم طليق لها كنيتان وفيه نظر لأن أبا معقل مات في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبا طليق عاش حتى سمع منه طلق بن حبيب، وهو من صغار التابعين، فدل على تغاير المرأتين، ويدل عليه تغاير السياقين، ويأتي في السند تعريف من وجد تعريفه من المذكورين أو بيان محل تعريفه. وقوله: أن تحجي في رواية كريمة والأصيلي أن تحجين بإثبات النون على إهمال أن وهي لغة. وقوله ناضح بضاد معجمة ثم مهملة أي: بعير. قال ابن بطال: الناضح البعير أو الثور أو الحمار الذي يستسقى عليه لكن المراد به هنا البعير لتصريحه في رواية بكر بن عبد الله المزني عن ابن عباس في رواية أبي داود بكونه جملًا، وفي رواية حبيب المذكورة وكان لنا ناضحان وهي أبين وفي رواية مسلم من طريق حبيب كانا لأبي فلان زوجها. وقوله: وابنه يأتي ما قيل فيه في السند. وقوله: ننضح عليه بكسر الضاد وفي الفرع بفتح الضاد. وقوله: فإذا كان رمضان بالرفع على أن كان تامة وفي رواية الكشميهني فإذا كان في رمضان. وقوله: "فإن عمرة في رمضان حجة" وفي رواية مسلم "فإن عمرة فيه تعدل حجة" ولعل هذا هو السبب، في قول المصنف: أو نحوًا مما قال: وقال المظهري: في قوله: "تعدل حجة" أي: تقابل وتماثل في الثواب لأن الثواب يفضل بفضيلة الوقت وقال الطيبي: هذا من باب المبالغة وإلحاق الناقص بالكامل ترغيبًا وبعثا عليه وإلاَّ كيف يعدل ثواب العمرة ثواب الحج، وقال ابن خزيمة: في هذا الحديث أن الشيء يشبه الشيء ويجعل عدله إذا أشبهه في بعض المعاني لا جميعها لأن العمرة لا تقضي فرض الحج ولا النذر،

وقال ابن بطال: فيه دليل على أن الحج الذي ندبها إليه كان تطوعًا لإجماع الأمة على أن العمرة لا تجزىء عن حجة الفريضة وتعقبه ابن المنير بأن الحجة المذكورة هي حجة الوداع، قال: وكانت أول حجة أقيمت في الإِسلام فرضًا؛ لأن حج أبي بكر رضي الله تعالى عنه كان إنذار قال: فعلى هذا يستحيل أن تكون تلك المرأة كانت قامت بوظيفة الحج بعد؛ لأن أول حج لم تحضره هي ولم يأت زمان حج ثان عند قوله عليه الصلاة والسلام لها ذلك وما جاء الحج الثاني إلاَّ والرسول -صلى الله عليه وسلم- قد توفي فإنما أراد عليه الصلاة والسلام أن يستحثها على استدراك ما فاتها من البدار، ولاسيما الحج معه عليه الصلاة والسلام لأن فيه مزية على غيره، وتعقبه في الفتح فقال: وما قاله: غير مسلم إذ لا مانع أن تكون قد حجت مع أبي بكر فسقط عنها الفرض بذلك، لكنه بني على أن الحج إنما فرض في السنة العاشرة حتى يسلم مما يرد على مذهبه من القول بأن الحج على الفور، وعلى ما قاله ابن خزيمة فلا يحتاج إلى شيء مما بحث ابن بطال فالحاصل أنه أعلمها أن العمرة في رمضان تعدل الحج في الثواب لا أنها تقوم مقامها في إسقاط الفرض للإجماع على أن الاعتمار لا يجزىء عن حج الفرض، ونقل الترمذي، عن إسحاق بن راهويه، أن معنى الحديث نظير ما جاء أن قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن، وقال ابن العربي: حديث العمرة هذا صحيح، وهو فضل من الله ونعمة، فقد أدركت العمرة منزلة الحج بانضمام رمضان إليه وقال ابن الجوزي: فيه أن ثواب العمل يزيد بزيادة شرف الوقت، كما يزيد بحضور القلب، وبخلوص القلب، وقال غيره: يحتمل أن يكون المراد عمرة فريضة في رمضان، كحجة فريضة، وعمرة نافلة، في رمضان كحجة نافلة، وقال ابن التين. قوله: كحجة يحتمل أن يكون على بابه ويحتمل أن يكون لبركة رمضان ويحتمل أن يكون مخصوص بهذه المرأة وفي رواية أحمد بن منيع في مسنده عن سعيد بن جبير ولا نعلم هذا إلا لهذه المرأة وعند أبي داود عن أم معقل في آخر حديثها عن يوسف بن عبد الله بن سلام قال: فكانت تقول: الحج حجة والعمرة عمرة، وقد قال: هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فما أدري إليَّ خاصة، تعني أو للناس عامة. والظاهر حمله على العموم والسبب في التوقف استشكال ظاهره، وقد صح جوابه، وقد قال: بعضهم لما ثبت أن عُمَرَه عليه الصلاة والسلام كانت كلها في ذي القعدة، وقع تردد لبعض أهل العلم في أن أفضل أوقات العمرة أشهر الحج، أو رمضان ففي رمضان ما مرَّ مما يدل على الأفضلية، لكن فعله عليه الصلاة والسلام لما لم يقع إلاَّ في أشهر الحج كان ظاهرًا أنه أفضل إذ لم يكن الله تعالى يختار لنبيه إلاَّ ما هو الأفضل، أو أن رمضان أفضل لتنصيصه عليه الصلاة والسلام على ذلك لاقترانه بأمر يخصه كاشتغاله بعبادات أخرى في رمضان تبتلًا وأن لا يشق على أمته، فإنه لو اعتمر فيه لخرجوا معه ولقد كان بهم رؤوفًا رحيمًا، وقد أخبر

رجاله خمسة

في بعض العبادات أنه تركها لئلا يشق على أمته مع محبته لذلك كالقيام في رمضان بهم ومحبته لا يستقي بنفسه مع سقاة زمزم، كيلا يغلبهم الناس على سقايتهم، والذي يظهر أن العمرة في رمضان لغيره عليه الصلاة والسلام أفضل، وأما في حقه هو فلا فالأفضل ما صنعه، لأن فعله لبيان جواز ما كان أهل الجاهلية يمنعونه فأراد الرد عليهم بالقول والفعل، ولو كان مكروها لغيره لكنه في حقه أفضل. رجاله خمسة: قد مرّوا: وفيه ذكر امرأة من الأنصار وزوجها وابنها مبهمين، مرَّ مسدد ويحيى القطان في السادس من الإيمان، ومرَّ ابن جريج في الثالث من الحيض، ومرَّ عطاء في التاسع والثلاثين من العلم، ومرَّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي والمرأة الأنصارية قيل إنها أم سليم وزوجها أبو فلان هو أبو طلحة وليس لها حينئذ ابن يمكن أن يحج سوى أنس وعلى هذا فنسبته إلى أبي طلحة بكونه ابنًا له مجاز، وأم سليم مرت في السبعين من العلم، ومرَّ أبو طلحة في السادس والثلاثين من الوضوء، ومرَّ أنس في السادس من الإيمان، وقيل إن المرأة المذكورة أم سنان الأنصارية، لما أخرجه البخاري في باب حج النساء عن عطاء فسماها، ولفظه لما رجع النبي -صلى الله عليه وسلم- من حجته، قال: لأم سنان الأنصارية ما منعك من الحج الحديث، وزوجها أبو سنان وما زادوا في تعريفه على أنه زوج أم سنان، وأن له ذكرًا في هذا الحديث وابنها، قال: في الفتح يحتمل أن يكون اسم ابنها سنانًا. ووقع مثل هذه القصة لأم معقل الأسدية، وزوجها أبو معقل بن نهيك، وابنه معقل ووقعت أيضًا لأم طليق، وزوجها أبو طليق، ووقعت أيضًا لأم الهيثم، لكن قال: في الفتح لا معدل عن تفسير المبهمة في حديث ابن عباس بأنها أم سليم أو أم سنان. لقوله: في حديث ابن عباس إنها أنصارية وأم معقل أسدية والأخيرتان لم أقف على نسبهما. ثم قال المصنف:

باب العمرة ليلة الحصبة

باب العمرة ليلة الحصبة الحصبة بالمهملتين، وموحدة وزن الضربة، والمراد بها ليلة المبيت بالمحصب، وقد سبق الكلام على التحصيب في أواخر أبواب الحج قال ابن بطال: فقه هذا الباب أن الحاج يجوز له أن يعتمر إذا أتم حجه بعد انقضاء أيام التشريق، وليلة الحصبة هي ليلة النفر الأخير، لأنها آخر أيام الرمي واختلف السلف في العمرة أيام الحج فروى عبد الرزاق بإسناده عن مجاهد فقال: سئل عمر وعلي وعائشة عن العمرة ليلة الحصبة فقال: عمر "هي خير من لا شيء" وقال علي: نحوه وقالت عائشة: "العمرة على قدر النفقة" وأشارت بذلك إلى أن الخروج لقصد العمرة من البلد إلى مكة أفضل من الخروج من مكة إلى أدنى الحل وسيأتي تقرير ذلك بعد بابين، وجميع السنة وقت للعمرة، إلاَّ الحاج فيمتنع إحرامه بها قبل نفره أما قبل تحلله فلامتناع إدخالها على الحج وأما بعده فلاشتغاله بالرمي والمبيت، فهو عاجز عن التشاغل بعملها، أما إحرامه بها بعد نفره فصحيح إن كان وقت الرمي بعد النفر الأول باقيا لأنه بالنفر خرج من الحج وصار كما لو مضى وقت الرمي قال: في المجموع لا خلاف فيه. الحديث الحادي عشر حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مُوَافِينَ لِهِلاَلِ ذِي الْحَجَّةِ، فَقَالَ لَنَا: مَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يُهِلَّ بِالْحَجِّ فَلْيُهِلَّ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ بِعُمْرَةٍ، فَلَوْلاَ أَنِّي أَهْدَيْتُ لأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ. قَالَتْ: فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ، وَكُنْتُ مِمَّنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، فَأَظَلَّنِي يَوْمُ عَرَفَةَ، وَأَنَا حَائِضٌ، فَشَكَوْتُ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: ارْفُضِي عُمْرَتَكِ، وَانْقُضِي رَأْسَكِ وَامْتَشِطِي، وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ. فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةُ الْحَصْبَةِ أَرْسَلَ مَعِي عَبْدَ الرَّحْمَنِ إِلَى التَّنْعِيمِ، فَأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ مَكَانَ عُمْرَتِي. محمد شيخ البخاري هو ابن سلام، وهذا الحديث قد مرَّ الكلام عليه في باب التمتع والقران، والإفراد وفي كتاب الحيض في أوله وفي آخره. رجاله خمسة: وفيه ذكر عبد الرحمن بن أبي بكر وقد مرَّ الجميع: مرَّ محمد ابن سلام في الثالث عشر

من الإيمان، ومرَّ أبو معاوية في تعليق بعد الثالث منه، ومرَّ هشام وعروة وعائشة في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ عبد الرحمن في الرابع من الغسل. ثم قال المصنف:

باب عمرة التنعيم

باب عمرة التنعيم يعني تتعين لمن كان بمكة أم لا إلى آخر ما مرَّ. الحديث الثاني عشر حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو، سَمِعَ عَمْرَو بْنَ أَوْسٍ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما، أَخْبَرَهُ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَمَرَهُ أَنْ يُرْدِفَ عَائِشَةَ، وَيُعْمِرَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ. قَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً: سَمِعْتُ عَمْرًا، كَمْ سَمِعْتُهُ مِنْ عَمْرٍو. قوله: عن عمرو وهو ابن دينار. وقوله: سمع عمرو بن أوس يعني أنه سمع ولفظ أنه مما يجوز حذفه من الإسناد خطأ في الغالب كما يحذف إحدى لفظتي قال: وقد بين سفيان سماعه له من عمرو بن دينار في آخره وعند الحميدي عن سفيان حدَّثنا عمرو بن دينار قال سفيان: هذا مما يعجب شعبة يعني التصريح بالإخبار في جميع الإسناد. وقوله: ويعمرها من التنعيم معطوف على قوله: أمره أن يردف وهذا الحديث مرت مباحثه مستوفاة غاية الاستيفاء في أول الحج، في باب الحج على الرجل عند ذكره من رواية القاسم. رجاله خمسة: وفيه ذكر عائشة، مرَّ منهم علي بن المديني في الرابع عشر من العلم، ومرَّ عمرو بن دينار في الرابع والخمسين منه، ومرَّ سفيان بن عيينة في الأول من بدء الوحي، ومرَّ محل عائشة وعبد الرحمن في الذي قبله، ومرَّ عمرو بن أوس في الحادي عشر من التهجد، أخرجه البخاري أيضًا في الجهاد ومسلم في الحج وكذا الترمذي، والنسائي، وابن ماجه. الحديث الثالث عشر حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ، عَنْ حَبِيبٍ الْمُعَلِّمِ، عَنْ عَطَاءٍ حَدَّثَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَهَلَّ وَأَصْحَابُهُ بِالْحَجِّ، وَلَيْسَ مَعَ أَحَدٍ مِنْهُمْ هَدْيٌ، غَيْرَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَطَلْحَةَ، وَكَانَ عَلِيٌّ قَدِمَ مِنَ الْيَمَنِ، وَمَعَهُ الْهَدْيُ فَقَالَ أَهْلَلْتُ بِمَا أَهَلَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. وَإِنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَذِنَ لأَصْحَابِهِ أَنْ

يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً، يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ، ثُمَّ يُقَصِّرُوا وَيَحِلُّوا، إِلاَّ مَنْ مَعَهُ الْهَدْيُ، فَقَالُوا: نَنْطَلِقُ إِلَى مِنًى وَذَكَرُ أَحَدِنَا يَقْطُرُ فَبَلَغَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ، وَلَوْلاَ أَنَّ مَعِى الْهَدْيَ لأَحْلَلْتُ. وَأَنَّ عَائِشَةَ حَاضَتْ فَنَسَكَتِ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا، غَيْرَ أَنَّهَا لَمْ تَطُفْ بِالْبَيْتِ" قَالَ: فَلَمَّا طَهُرَتْ وَطَافَتْ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَنْطَلِقُونَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ، وَأَنْطَلِقُ بِالْحَجِّ فَأَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا إِلَى التَّنْعِيمِ، فَاعْتَمَرَتْ بَعْدَ الْحَجِّ فِي ذِي الْحَجَّةِ، وَأَنَّ سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ لَقِيَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ بِالْعَقَبَةِ، وَهُوَ يَرْمِيهَا، فَقَالَ: أَلَكُمْ هَذِهِ خَاصَّةً، يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لاَ، بَلْ لِلأَبَدِ. قوله ليس مع أحد منهم هدي غير النبي -صلى الله عليه وسلم- وطلحة، هذا مخالف لما رواه أحمد ومسلم وغيرهما، عن عائشة أن الهدي كان مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وعمر وذوي اليسار وسيأتي بعد بابين بلفظ ورجال من أصحابه ذوي قوة ويجمع بينهما بأن كلا منهما ذكر من اطلع عليه وقد روى عن ابن عباس في هذا الحديث، وكان طلحة ممن ساق الهدي فلم يهل، وهذا شاهد لحديث جابر في ذكر طلحة، في ذلك وشاهد لحديث عائشة، في أن طلحة لم ينفرد بذلك وداخل في قولها وذوي اليسار، ولمسلم عن أسماء بنت أبي بكر أن الزبير كان ممن كان معه الهدي. وقوله: وكان علي قدم من اليمن، في رواية عند مسلم من سعايته وسيأتي في أواخر المغازي بيان بعثة إلى اليمن. وقوله: بما أهل به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رواية ابن جريج، عن عطاء، عن جابر، وعن طاوس عن ابن عباس، في هذا الحديث عند المصنف في الشركة فقال: أحدهما يقول: لبيك بما أهل به النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال الآخر: يقول لبيك بحجة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأمره أن يقيم على إحرامه وأشركه في الهدي. وقوله: وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أذن لأصحابه أن يجعلوها عمرة زاد ابن جريج عن عطاء فيه وأصيبوا النساء، قال عطاء: ولم يعزم عليهم، ولكن أجلهن لهم يعني إتيان النساء لأن من لازم الإحلال أباحة النساء، وقد مرَّ شرح ذلك في آخر باب التمتع، والقران. وقوله: ننطلق إلى منى بحذف همزة الإستفهام أي: أننطلق إلى منى. وقوله: وذكر أحدنا يقطر أي: بالمني وهو من باب المبالغة أي أن الحل يفضي إلى مجامعة النساء ثم نحرم بالحج عقب ذلك فنخرج وذكر أحدنا لقربة من المواقعة يقطر منيًا وحالة الحج تنافي الترفه، وتناسب الشعث فكيف يكون ذلك. وقوله: وأن عائشة حاضت فنسكت المناسك في رواية عائشة نفسها كما في أول كتاب

رجاله خمسة

الحيض، أن حيضها كان بسرف قبل دخولهم مكة، وفي رواية أبي الزبير عن جابر عن مسلم أن دخول النبي -صلى الله عليه وسلم- عليها وشكواها ذلك له كان يوم التروية، وعند مسلم عن مجاهد عن عائشة أن طهرها كان بعرفة، ففي رواية القاسم عنها وطهرت صبيحة ليلة عرفة حتى قدمنا منى وله من طريقه فخرجت في حجتي، حتى نزلنا منى فتطهرت، ثم طفنا بالبيت الحديث. واتفقت الروايات كلها على أنها طافت طواف الإفاضة من يوم النحر، واقتصر النووي في شرح مسلم على النقل عن ابن حزم، أن عائشة حاضت يوم السبت ثالث ذي الحجة وطهرت يوم السبت عاشره يوم النحر وإنما أخذه ابن حزم من هذه الروايات التي في مسلم ويجمع بين قول مجاهد: وقول القاسم أنها رأت الطهر بعرفة، ولم تتهيأ للاغتسال، إلاَّ بعد أن نزلت منى أو انقطع عنها الدم بعرفة وما رأت الطهر حتى نزلت منى، وهذا أولى. وقوله: وانطلق بالحج تمسك به من قال: إن عائشة لما حاضت تركت عمرتها واقتصرت على الحج، وقد تقدم البحث في ذلك مستوفى في باب امتشاط المرأة من كتاب الحيض. وقوله: وأن سراقة لقي النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يرميها يعني جمرة العقبة، وعند المصنف في كتاب التمني وهو يرمي جمرة العقبة، وفيه بيان المكان الذي سأل فيه سراقة عن ذلك، وسياق مسلم عن جابر يقتضي أنه قال له ذلك لما أمر أصحابه أن يجعلوا حجتهم عمرة، وبذلك تمسك من قال: إن سؤاله كان عن فسخ الحج إلى العمرة، أو كان سؤاله عن القران أو العمرة في أشهر الحج، ويحتمل أن يكون السؤال وقع عن الأمرين لتعدد المكانين. وقوله: ألكم هذه خاصة يا رسول الله قال: "لا بل للأبد" وفي رواية يزيد بن زريع ألنا هذه خاصة، وفي رواية جعفر عند مسلم فقام سراقة فقال: يا رسول الله ألعامنا هذا أم للأبد، فشبك أصابعه واحدة في الأخرى وقال: "دخلت العمرة في الحج مرتين لا بل للأبد أبدًا" قال النووي فمعناه عند الجمهور، أن العمرة يجوز فعلها في أشهر الحج إبطالًا لما كان عليه الجاهلية، وقيل معناه جواز القرآن أي: دخلت أفعال العمرة في أفعال الحج، وقيل معناه سقط وجوب العمرة، وهذا ضعيف لأنه يقتضي النسخ بغير دليل وقيل: معناه جواز فسخ الحج إلى العمرة، قال: وهو ضعيف وتعقب بأن سياق السؤال يقوي هذا التأويل، بل الظاهر أن السؤال وقع عن الفسخ، والجواب عما هو أعم من ذلك حتى يتناول ما هو أعم من ذلك إلاَّ الثالث، ومذهب الحنابلة أن السؤال وقع عن الفسخ، وأن فسخ القارن والمفرد حجها إلى العمرة عندهم مستحب، وتفصيله مذكور في كتبهم. رجاله خمسة: وفيه ذكر عدي وطلحة، وعائشة، وعبد الرحمن، وقد مرَّ الجميع، مرَّ محمد ابن المثنى وعبد الوهاب في التاسع من الإيمان، ومرَّ طلحة بن عبيد الله في التاسع والثلاثين من الإيمان، ومرَّ حبيب المعلم في الحادي عشر والمائة من الحج، ومرَّ عطاء في التاسع والثلاثين من

العلم، ومرَّ جابر في الرابع من بدء الوحي، وعائشة في الثاني منه، ومرَّ علي في السابع والأربعين من العلم، ومرَّ عبد الرحمن في الرابع من الغسل، وفيه ذكر سراقة وقد مرَّ في السابع عشر والمائة من الجنائز.

باب الإعتمار بعد الحج بغير هدي

باب الإعتمار بعد الحج بغير هدي كأنه يشير بذلك إلى أن اللازم من قول من قال: إن أشهر الحج شوال، وذو القعدة، وذو الحجة بكماله كما هو منقول في رواية عن مالك وعن الشافعي أيضًا ومن أطلق أن التمتع هو الإحرام بالعمرة في أشهر الحج، كما نقل ابن عبد البر فيه الاتفاق فقال: لا خلاف بين العلماء أن التمتع المراد بقول الله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} هو الاعتمار في أشهر الحج قبل الحج، أن من أحرم بالعمرة في ذي الحجة بعد الحج فعليه الهدي، وحديث الباب دال على خلافه، لكن القائل بأن ذا الحجة كله من أشهر الحج، يقول: إن التمتع هو الإحرام بالعمرة في أشهر الحج قبل الحج فلا يلزمهم ذلك. الحديث الرابع عشر حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي قَالَ: أَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ رضي الله عنها قَالَتْ: "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مُوَافِينَ لِهِلاَلِ ذِي الْحَجَّةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُهِلَّ بِحَجَّةِ فَلْيُهِلَّ، وَلَوْلاَ أَنِّي أَهْدَيْتُ لأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ". فَمِنْهُمْ مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنْهُمْ مِنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ، وَكُنْتُ مِمَّنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، فَحِضْتُ قَبْلَ أَنْ أَدْخُلَ مَكَّةَ، فَأَدْرَكَنِي يَوْمُ عَرَفَةَ، وَأَنَا حَائِضٌ، فَشَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "دَعِي عُمْرَتَكِ، وَانْقُضِي رَأْسَكِ وَامْتَشِطِي، وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ". فَفَعَلْتُ، فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ الْحَصْبَةِ أَرْسَلَ مَعِي عَبْدَ الرَّحْمَنِ إِلَى التَّنْعِيمِ، فَأَرْدَفَهَا، فَأَهَلَّتْ بِعُمْرَةٍ مَكَانَ عُمْرَتِهَا، فَقَضَى اللَّهُ حَجَّهَا وَعُمْرَتَهَا، وَلَمْ يَكُنْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ هَدْيٌ، وَلاَ صَدَقَةٌ، وَلاَ صَوْمٌ. قوله: فخرجنا موافين لهلال ذي الحجة أي قرب طلوعه وقد تقدم أنها قالت: خرجنا لخمس بقين من ذي القعدة، والخمس قريبة من آخر الشهر فوافاهم الهلال وهم في الطريق لأنهم دخلوا مكة في الرابع من ذي الحجة. وقوله: "لا، هللت بعمرة" في رواية السرخسي: لا حللت بالحاء المهملة أي: من الحج.

رجاله خمسة

وقوله أرسل معي عبد الرحمن إلى التنعيم فأردفها فيه التفات لأن السياق يقتضي أن يقول: فأردفني. وقوله: "مكان عمرتها" تقدم توجيهه، وأن المراد مكان عمرتها التي أرادت أن تكون منفردة عن الحج، وقد مرَّ استيفاء الكلام على هذا الحديث في باب امتشاط المرأة عند غسلها، والباب الذي بعده من كتاب الحيض. رجاله خمسة: وفيه ذكر عبد الرحمن، وقد مرَّ الجميع: مرَّ محل ابن المثنى وعبد الرحمن في الذي قبله، ومرَّ يحيى القطان في السادس من الإيمان، ومرَّ هشام وأبوه عروة وعائشة في الثاني من بدء الوحي، وهذا الحديث قد تكرر كثيرًا. ثم قال المصنف:

باب أجر العمرة على قدر النصب

باب أجر العمرة على قدر النصب بفتح النون والمهملة أي: التعب. الحديث الخامس عشر حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَعَنِ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ قَالاَ: قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَصْدُرُ النَّاسُ بِنُسُكَيْنِ وَأَصْدُرُ بِنُسُكٍ؟ فَقِيلَ لَهَا: "انْتَظِرِي، فَإِذَا طَهُرْتِ فَاخْرُجِي إِلَى التَّنْعِيمِ، فَأَهِلِّي ثُمَّ ائْتِينَا بِمَكَانِ كَذَا، وَلَكِنَّهَا عَلَى قَدْرِ نَفَقَتِكِ، أَوْ نَصَبِكِ". قوله: "وعن ابن عون" هو معطوف على الإسناد المذكور، وقد بينه أحمد ومسلم من رواية ابن علية، عن ابن عون بالإسناد وقال فيه يحدثان ذلك عن أم المؤمنين، ولم يسمها قال فيه: لا أعرف حديث ذا من حديث ذا، وظهر بحديث يزيد بن زريع أنها عائشة وأنهما رويا ذلك عنها بخلاف سياق يزيد. وقوله: "يصدر الناس" أي: يرجعون. وقوله "بمكان كذا" في رواية إسماعيل: "بجبل كذا" وضبط في صحيح مسلم وغيره بالجيم وفتح الموحدة، لكن أخرجه الإسماعيلي عن حسين بن حسن عن ابن عون، وضبطه بالحاء المهملة وإسكان الموحدة، والمكان المبهم هنا هو الأبطح، كما تبين في غير هذه الطريق. وقوله: "على قدر نفقتك أو نصبك" أي تعبك في إنفاق المال في الطاعات من الفضل، وقمع النفس عن شهواتها من المشقة، وقد وعد الله الصابرين أن يوفيهم أجرهم بغير حساب، وقال الكرماني: "أو" إما للتنويع في كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- وإما شك من الراوي، والمعنى أن الثواب في العبادة يكثر بكثرة النصب أو النفقة، والمراد النصب الذي لا يذمه الشرع، وكذا النفقة، قال النووي: وفي رواية الإِسماعيلي عن أحمد بن منيع عن إسماعيل: "على قدر نصبك أو على قدر تعبك" وهذا يؤيد أنه من شك الراوي، وفي روايته عن حسين بن حسن: "على قدر نفقتك أو نصبك"، أو كما قال -صلى الله عليه وسلم-، وأخرجه الدارقطني والحاكم عن ابن عون بلفظ:

رجاله سبعة

"إن لك من الأجر على قدر نصبك، ونفقتك" بواو العطف، وهذا يؤيد الاحتمال الأول. وقوله في رواية ابن علية: "لا أعرف حديث ذا من حديث ذا" قد أخرج الدارقطني والحاكم من وجه آخر ما يدل على أن السياق الذي هنا للقاسم، فإنهما أخرجا عن عائشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لها في عمرتها: "إنما أجرك في عمرتك على قدر نفقتك" واستدل به على أن الاعتمار لمن كان بمكة، من جهة الحل القريبة، أقل أجرًا من الاعتمار من جهة الحل البعيدة، وهو ظاهر هذا الحديث، وقال الشافعي في الإملاء: أفضل بقاع الحل للاعتمار الجعرانة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أحرم منها، ثم التنعيم لأنه أذن لعائشة منها، قال: وإذا تنحى عن هذين الموضعين فأين أبعد حتى يكون أكثر لسفره كان أحب إلى، وحكى الموفق في "المغني" عن أحمد أن المكي كلما تباعد في العمرة، كان أعظم لأجره، وقال الحنفية: أفضل بقاع الحل للاعتمار التنعيم، ووافقهم بعض الشافعية والحنابلة، ووجهه ما مرَّ من أنه لم ينقل أن أحدًا من الصحابة في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- خرج من مكة إلى الحل ليحرم بالعمرة، غير عائشة، وأما اعتماره عليه الصلاة والسلام من الجعرانة، فكان حين رجع من الطائف مجتازًا إلى المدينة، ولكن لا يلزم من ذلك تعين التنعيم للفضل، لما دل عليه هذا الخبر من أن الفضل في زيادة التعب والنفقة، وإنما يكون التنعيم أفضل من جهة أخرى تساويه إلى الحل لا من جهة أبعد منه، وقال النووي: ظاهر الحديث أن الثواب والفضل في العبادة يكثر بكثرة النصب والنفقة، وهو كما قال، لكن ليس ذلك بمطرد، فقد يكون بعض العبادة أخف من بعض، وهو أكثر فضلًا وثوابًا بالنسبة إلى الزمان؛ كقيام ليلة القدر بالنسبة لقيام ليال من رمضان غيرها، وبالنسبة للمكان، كصلاة ركعتين في المسجد الحرام بالنسبة إلى صلاة ركعات في غيره، وبالنسبة إلى شرف العبادة المالية والبدنية، كصلاة الفريضة بالنسبة إلى أكثر من عدد ركعاتها أو أطول من قراءتها، ونحو ذلك من صلاة النافلة، وكدرهم من الزكاة بالنسبة إلى أكثر منه من التطوع، قاله العز بن عبد السلام في قواعده، قال: وقد كانت الصلاة قرة عين النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي شاقة على غيره، وليست صلاة غيره مع مشقتها مساوية لصلاته مطلقا وأجيب بأن الذي ذكره لا يمنع الإطراد لأن الكثرة الحاصلة فيما ذكره ليست من ذاتها، وإنما هي بحسب ما يعرض لها من الأمور المذكورة. رجاله سبعة: قد مرّوا: مرَّ مسدد في السادس من الإيمان، ومرَّ إبراهيم بن يزيد في الخامس والعشرين منه، ومرَّ ابن عون في التاسع من العلم، ومرَّ الأسود في السابع والستين منه، ومرَّ القاسم في الحادي عشر من الغسل، ومرَّ محل عائشة في الذي قبله. أخرجه مسلم والنسائي في الحج. ثم قال المصنف:

باب المعتمر إذا طاف طواف العمرة، ثم خرج هل يجزئه من طواف الوداع؟

باب المعتمر إذا طاف طواف العمرة، ثم خرج هل يجزئه من طواف الوداع؟ ومناسبة الترجمة للحديث من جهة قوله فيه: "فلتهل بعمرة" إلخ، من حيث كونه اكتفى فيه بطواف العمرة عن طواف الوداع، قال ابن بطال: لا خلاف بين العلماء أن المعتمر إذا طاف، فخرج إلى بلده أنه يجزئه من طواف الوداع، كما فعلت عائشة، وكأن البخاري لما لم يكن في حديث عائشة التصريح بأنها ما طافت للوداع بعد طواف العمرة، لم يبت الحكم في الترجمة، وأيضًا فإن قياس من يقول: إن إحدى العبادتين لا تندرج في الأخرى أن يقول بمثل ذلك هنا، ويستفاد من قصة عائشة أن السعي إذا وقع بعد طواف الركن، إن قلنا: إن طواف الركن يغني عن طواف الوداع، إن تخلل السعي بين الطواف، والخروج لا يقطع أجزاء الطواف المذكور عن الركن والوداع معًا. الحديث السادس عشر حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا أَفْلَحُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: خَرَجْنَا مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَحُرُمِ الْحَجِّ، فَنَزَلْنَا سَرِفَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- لأَصْحَابِهِ: مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ، فَأَحَبَّ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً، فَلْيَفْعَلْ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلاَ. وَكَانَ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَرِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ذَوِى قُوَّةٍ الْهَدْيُ، فَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ عُمْرَةً، فَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَأَنَا أَبْكِي فَقَالَ: "مَا يُبْكِيكِ؟ ". قُلْتُ: سَمِعْتُكَ تَقُولُ لأَصْحَابِكَ مَا قُلْتَ فَمُنِعْتُ الْعُمْرَةَ. قَالَ: "وَمَا شَأْنُكِ؟ ". قُلْتُ: لاَ أُصَلِّي. قَالَ: "فَلاَ يَضُرَّكِ أَنْتِ مِنْ بَنَاتِ آدَمَ، كُتِبَ عَلَيْكِ مَا كُتِبَ عَلَيْهِنَّ، فَكُونِي فِي حَجَّتِكِ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَرْزُقَكِهَا". قَالَتْ: فَكُنْتُ حَتَّى نَفَرْنَا مِنْ مِنًى، فَنَزَلْنَا الْمُحَصَّبَ فَدَعَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ: "اخْرُجْ بِأُخْتِكَ الْحَرَمَ، فَلْتُهِلَّ بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ افْرُغَا مِنْ طَوَافِكُمَا، أَنْتَظِرْكُمَا هَاهُنَا". فَأَتَيْنَا فِي جَوْفِ اللَّيْلِ. فَقَالَ: "فَرَغْتُمَا؟ ". قُلْتُ: نَعَمْ. فَنَادَى بِالرَّحِيلِ فِي أَصْحَابِهِ، فَارْتَحَلَ النَّاسُ، وَمَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ، قَبْلَ صَلاَةِ الصُّبْحِ، ثُمَّ خَرَجَ مُوَجِّهًا إِلَى الْمَدِينَةِ. قوله: "فنزلنا بسرف" في رواية أبي ذر وأبي الوقت: سرف بحذف الباء، وكذا لمسلم عن أفلح. وقوله لأصحابه: "من لم يكن معه هدي" ظاهره أن أمره عليه الصلاة والسلام لأصحابه

بفسخ الحج إلى العمرة، كان بسرف قبل دخولهم مكة، والمعروف في غير هذه الرواية أن قوله لهم ذلك، كان بعد دخول مكة، ويحتمل التعدد. وقوله: "قلت: لا أصلي" كَنَّتْ بذلك عن الحيض، وهي من لطيف الكنايات. وقوله "كتب عليك" كذا للأكثر على البناء لما لم يسمَّ فاعله، ولأبي ذر: كتب الله عليك، وكذ المسلم. وقوله: "فكوني في حجتك" في رواية أبي ذر: في حجك، وكذا لمسلم. وقوله: "حتى نفرنا من منى، فنزلنا المحصب" في هذا السياق اختصار بينته رواية مسلم، بلفظ: حتى نزلنا مني، فتطهرت، ثم طفت بالبيت، فنزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المحصب، وقوله: "فدعا عبد الرحمن" وفي رواية مسلم: عبد الرحمن بن أبي بكر. وقوله "اخرج بأختك الحرم" في رواية الكشميهيني: من الحرم، وهي أوضح وكذا لمسلم. وقوله: "فأتينا في جوف الليل" في رواية الإسماعيلي: من آخر الليل، وهي أوفق لبقية الروايات. وقوله: "فجئنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في منزل، فقال: "فرغتما؟ " قلت: نعم وتوافق هذه الرواية رواية صفية عنها عند مسلم: فأقبلنا حتى أتيناه وهو بالحصبة، ويوافقهما حديث أنس الذي مضى في باب طواف الوداع أنه عليه الصلاة والسلام رقد رقدةً بالمحصب، ثم ركب إلى البيت، فطاف به، وهذه الروايات لا تخالف رواية الأسود عن عائشة التي مضت في باب إذا حاضت بعدما أفاضت، فلقيني رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو مصعد من مكة، وأنا منهبطة، أو أنا مصعدة وهو منهبط منها؛ لأنه يجمع بينها بأنه كان خرج بعد ذهابها ليطوف للوداع، فلقيها وهو صادر بعد الطواف، وهي راحلة لطواف عمرتها، ثم لقيته بعد ذلك وهو بمنزله بالمحصب، ويحتمل أن لقاءه لها كان حين انتقل من المحصب، كما عند عبد الرزاق أنه كره أن يقتدي الناس بإناخته بالبطحاء، فرحل حتى أناخ على ظهر العقبة أو من وراءها. ينتظرها فيحتمل أن يكون لقاؤه لها في هذا الرحيل، وأنه المكان الذي عينه لها في رواية الأسود، حيث قال لها: "موعدك كذا وكذا"، ثم طاف بعد ذلك طواف الوداع، وهذا التأويل حسن. وقوله: "فارتحل الناس، ومن طاف بالبيت" هو من عطف الخاص على العام؛ لأن الناس أعم من الطائفين، ولعلها أرادت بالناس من لم يطف طواف الوداع، ويحتمل أن يكون الموصول صفة الناس من باب توسط العاطف بين الصفة والموصوف، كقوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} وقد أجاز سيبويه نحو مررت يزيد وصاحبك،

رجاله أربعة

إذا أراد بالصاحب زيد المذكور، وهذا كله بناء على صحة هذا السياق، والذي يغلب عندي أنه وقع فيه تحريف، والصواب فارتحل الناس ثم طاف بالبيت، إلى آخره، وكذا وقع عند أبي داود، عن أبي بكر الحنفي عن أفلح بلفظ: فأذن في أصحابه بالرحيل، فارتحل فمر بالبيت قبل صلاة الصبح، فطاف به حين خرج، ثم انصرف متوجهًا إلى المدينة، وفي رواية مسلم: فأذن في أصحابه بالرحيل، فخرج فمر بالبيت، فطاف به قبل صلاة الصبح، ثم خرج إلى المدينة، وقد أخرجه البخاري من هذا الوجه بلفظ: فارتحل الناس، فمر متوجهًا إلى المدينة أخرجه في باب {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} وقال عياض: في حديث الباب من الإشكال قوله: فمر بالبيت، فطاف بعد أن قال لعائشة: "أفرغت"؟ قالت: نعم، مع قولها في الرواية الأخرى: إنه توجه لطواف الوداع، وهي راجعة إلى المنزل الذي كان به، قال: فيحتمل أنه أعاد طواف الوداع؛ لأن منزله كان بالأبطح، وهو بأعلى مكة، وخروجه من مكة إنما كان من أسفلها، فكأنه لما توجه طالبًا للمدينة اجتاز بالمسجد، ليخرج من أسفل مكة، فكرر الطواف ليكون آخر عهده بالبيت، قال في "الفتح": والقاضي في هذا مغدور لأنه لم يشاهد تلك الأماكن، فظن أن الذي يقصد الخروج إلى المدينة من أسفل مكة يتحتم عليه المرور بالمسجد، وليس كذلك كما شاهده من عاينه، بل الراحل من منزله بالأبطح، يمر مجتازًا من ظاهر مكة إلى حيث مقصده من جهة المدينة، ولا يحتاج إلى المرور بالمسجد، ولا يدخل إلى البلد أصلًا، قلت: ما اعترض به على القاضي عياض لا اعتراض به عليه، لأن القاضي عياض أراد من أراد أن يخرج من أسفل مكة من كُدى بالضم، وما ذكره في الفتح في حق الخارج من كداء بالفتح، وأما من أراد الخروج من أسفل مكة، وهو بالأبطح، فلا بدَّ له من المرور بالمسجد. وهذا الحديث مرَّ الكلام عليه في باب {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} والباب الذي بعده. وقوله: "موجهًا" بضم الميم وفتح الواو وتشديد الجيم المكسورة، وفي رواية ابن عساكر: متوجها بزيادة تاء وبكسر الجيم. رجاله أربعة قد مرّوا: مرَّ أبو نعيم في الخامس والأربعين من الإيمان، ومرَّ أفلح بن حميد في الرابع عشر من الغسل، ومرَّ عبد الرحمن في الرابع منه، والقاسم في الحادي عشر منه، وعائشة في الثاني من بدء الوحي. أخرجه البخاري أيضًا، ومسلم والنسائي في الحج. ثم قال المصنف:

باب يفعل بالعمرة ما يفعل بالحج

باب يفعل بالعمرة ما يفعل بالحج في رواية المستملي يفعل في العمرة، وللكشميهني: ما يفعل في الحج أي: من التروك، لا من الأفعال أو المراد بعض الأفعال لا كلها، والأول أرجح لما يدل عليه سياق حديث يعلي بن أمية. الحديث السابع عشر حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا عَطَاءٌ قَالَ: حَدَّثَنِي صَفْوَانُ بْنُ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ بِالْجِعْرَانَةِ، وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ، وَعَلَيْهِ أَثَرُ الْخَلُوقِ، أَوْ قَالَ: صُفْرَةٍ فَقَالَ: كَيْفَ تَأْمُرُنِي أَنْ أَصْنَعَ فِي عُمْرَتِي؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَسُتِرَ بِثَوْبٍ وَوَدِدْتُ أَنِّي قَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَقَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ. فَقَالَ عُمَرُ: تَعَالَ أَيَسُرُّكَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ الْوَحْيَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. فَرَفَعَ طَرَفَ الثَّوْبِ، فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ لَهُ غَطِيطٌ وَأَحْسِبُهُ قَالَ: كَغَطِيطِ الْبَكْرِ. فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ قَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ عَنِ الْعُمْرَةِ؟ اخْلَعْ عَنْكَ الْجُبَّةَ، وَاغْسِلْ أَثَرَ الْخَلُوقِ عَنْكَ، وَأَنْقِ الصُّفْرَةَ، وَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ كَمَا تَصْنَعُ فِي حَجِّكِ. قوله: "فأنزل الله على النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في "الفتح": لم أقف في شيء من الروايات على بيان المنزل حينئذ من القرآن، وقد استدل به جماعة من العلماء على أنَّ من الوحي ما لا يتلى، لكن عند الطبراني في الأوسط أن المنزّل حينئذ {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} ووجه الدلالة منه على المطلوب عموم الأمر بالإتمام، فإنه يتناول الهيئات، والصفات. وقوله: "واتق الصفرة" بفتح الهمزة وسكون النون وللمستملي بهمزة وصل مثناة مشددة من التقوى، قال صاحب المطالع: وهي أوجه وإن رجعا إلى معنى واحد، ولابن السكن: اغسل أثر الخلوق، وأثر الصفرة، والأول هو المشهور، وقد مرت مباحث هذا الحديث مستوفاة في باب غسل الخلوق ثلاث مرات من الثياب. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ محل أبي نعيم في الذي قبله، ومرَّ همام في الرابع والثمانين من الوضوء، ومرَّ عطاء في التاسع والثلاثين من العلم، ومرَّ صفوان وأبوه يعلى في الرابع والعشرين من

الحديث الثامن عشر

الحج، ومرَّ فيه ما قيل في اسم الرجل السائل، وفي الحديث ذكر عمر وقد مرَّ في الأول من بدء الوحي. الحديث الثامن عشر حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَأَنَا يَوْمَئِذٍ حَدِيثُ السِّنِّ: أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} فَلاَ أُرَى عَلَى أَحَدٍ شَيْئًا أَنْ لاَ يَطَّوَّفَ بِهِمَا. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: كَلاَّ، لَوْ كَانَتْ كَمَا تَقُولُ كَانَتْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لاَ يَطَّوَّفَ بِهِمَا. إِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي الأَنْصَارِ كَانُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ، وَكَانَتْ مَنَاةُ حَذْوَ قُدَيْدٍ، وَكَانُوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَطُوفُوا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَلَمَّا جَاءَ الإِسْلاَمُ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}. وجه الدلالة منه اشتراك الحج والعمرة في مشروعية السعي بين الصفا والمروة، لقوله تعالى {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَر} وقد مرت مباحث هذا الحديث مستوفاة في باب الصفا والمروة، في أثناء الحج. وقوله: "أن لا يطوف بهما" في رواية الكشميهني: بينهما. رجاله خمسة، قد مرّوا بهذا النسق في الثاني من بدء الوحي. ثم قال: زاد سفيان وأبو معاوية عن هشام: ما أتم الله حج امرىء ولا عمرته، لم يطف بين الصفا والمروة، قد مرَّ الكلام على ما في هذه الرواية في الباب المذكور آنفًا، أما رواية سفيان فقد وصلها الطبري من طريق وكيع عنه، وأما رواية أبي معاوية فقد وصلها مسلم، وسفيان بن عيينة مرَّ في الأول من بدء الوحي، وأبو معاوية مرَّ في تعليق بعد الثالث من الإِيمان. ثم قال المصنف:

باب متى يحل المعتمر؟

باب متى يحل المعتمر؟ أشار بهذه الترجمة إلى مذهب ابن عباس، وقد تقدم القول فيه في باب من طاف بالبيت إذا قدم مكة، قال ابن بطال: لا أعلم خلافًا بين أئمة الفتوى، أن المعتمر لا يحل حتى يطوف ويسعى، إلا ما شذ به ابن عباس، فقال: يحل من العمرة بالطواف، ووافقه إسحاق بن راهويه، ونقل عياض عن بعض أهل العلم أن بعض الناس ذهب إلى أن المعتمر إذا دخل الحرم حل، وإن لم يطف، ولم يسع، وله أن يفعل كل ما حرم على المحرم، ويكون الطواف والسعي في حقه، كالرمي والمبيت في حق الحاج، وهذا من شذوذ المذاهب وغرائبها، وغفل القطب الحلبي فقال فيمن استلم الركن في ابتداء الطواف وأحل حينئذ: إنه لا يحصل له التحلل بالإجماع. ثم قال: "وقال عطاء، عن جابر رضي الله تعالى عنه: أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه أن يجعلوها عمرة، ويطوفوا، ثم يقصروا ويحلوا" وهذا التعليق طرف من حديث وصله البخاري في باب عمرة التنعيم، وعطاء مرَّ في التاسع والثلاثين من العلم. الحديث التاسع عشر حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَاعْتَمَرْنَا مَعَهُ، فَلَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ طَافَ، وَطُفْنَا مَعَهُ، وَأَتَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ، وَأَتَيْنَاهَا مَعَهُ، وَكُنَّا نَسْتُرُهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَنْ يَرْمِيَهُ أَحَدٌ. فَقَالَ لَهُ صَاحِبٌ لِي: أَكَانَ دَخَلَ الْكَعْبَةَ؟ قَالَ: لاَ. قَالَ: فَحَدِّثْنَا مَا قَالَ لِخَدِيجَةَ: قَالَ: "بَشِّرُوا خَدِيجَةَ بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ، لاَ صَخَبَ فِيهِ وَلاَ نَصَبَ". اشتمل هذا الحديث على حديثين، مرَّ الكلام على الأول في باب من لم يدخل الكعبة، والثاني حديث خديجة أي "بشروا خديجة ببيت في الجنة" إلخ. وفي رواية المناقب: بشر النبي -صلى الله عليه وسلم- خديجة ببيت؟ قال: نعم، وهذا استفهام محذوف الأداة. قوله: "ببيت من قصب" بفتح القاف والمهملة بعدها موحدة قال ابن التين: المراد به لؤلؤة مجوفة واسعة كالقصر المنيف، وعند الطبراني في الأوسط عن ابن أبي أوفى يعني قصب اللؤلؤ، وعنده في الكبير عن أبي هريرة: بيت من لؤلؤة مجوفة، وأصله في مسلم، وعنده في

الأوسط عن فاطمة قالت: قلت يا رسول الله، أين أُمي خديجة؟ قال: "في بيت من قصب" قلت: أمن هذا القصب؟ قال: "لا من القصب المنظوم بالدر واللؤلؤ والياقوت"، قال السهيلي: النكتة في قوله: "من قصب" ولم يقل: من لؤلؤ أن في لفظ القصب مناسبة لكونها أحرزت قصب السبق بمبادرتها إلى الإيمان دون غيرها، ولذا وقعت هذه المناسبة في جميع ألفاظ هذا الحديث، وفي القصب مناسبة أخرى من جهة استواء أنابيبه، وكذا كان لخديجة من الاستواء ما ليس لغيرها، إذ كانت حريصة على رضاه بكل ممكن، ولم يصدر منها ما يغضبه قط، كما وقع لغيرها. وأما قوله: "ببيت" فقال أبو بكر الإسكاف في "فوائد الأخبار" المراد به بيت زائد على ما أعد الله لها من ثواب عملها، ولهذا قال: لا نصب فيه أي: لم تتعب بسببه، قال السهيلي: لذكر البيت معنى لطيف؛ لأنها كانت ربة بيت قبل المبعث، ثم صارت ربة بيت في الإِسلام منفردة به، فلم يكن على وجه الأرض في أول يوم بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- بيت إسلام إلا بيتها، وهي فضيلة ما شاركها أيضًا فيها غيرها، وجزاء الفعل يذكر غالبًا بلفظه، وإن كان أشرف منه، فلهذا جاء في الحديث بلفظ: البيت دون لفظ القصر، وفي ذكر البيت معنى آخر؛ لأن مرجع أهل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- إليها، لما ثبت في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} قالت أم سلمة: لما نزلت دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- فاطمة وعليَّاً والحسن والحسين فجللهم بكساء فقال: "اللهم هؤلاء أهل بيتي" الحديث أخرجه الترمذي وغيره، ومرجع أهل البيت هؤلاء إلى خديجة؛ لأن الحسنين من فاطمة، وفاطمة بنتها وعليٌّ نشأ في بيت خديجة وهو صغير، ثم تزوج بنتها بعدها، فظهر رجوع أهل البيت النبوي إلى خديجة دون غيرها. وقوله: "لا صخب فيه ولا نصب" الصخب بفتح المهملة والمعجمة بعدها موحدة: الصياح والمنازعة برفع الصوت والنصب بالتحريك التعب وأغرب الداوودي فقال الصخب العيب والنصب العوج، وهو تفسير لا تساعد عليه اللغة، وقال السهيلي: مناسبة نفي هاتين الصفتين، أعني المنازعة والتعب أنه عليه الصلاة والسلام لما دعا إلى الإِسلام أجابت خديجة طوعًا، فلم تحوجه إلى رفع صوت ولا منازعة ولا تعب في ذلك، بل أزالت عنه كل نصب وآنسته من كل وحشة، وهونت عليه كل عسير، فناسب أن يكون منزلها الذي بشَّرها ربُّها به بالصفة المقابلة لفعلها، وفي رواية أبي هريرة في المناقب زيادة: أتى جبريل النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله! هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام أو طعام، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، مراد الطبراني في الرواية المذكورة فقالت: هو السلام، ومنه السلام، وعلى جبريل السلام، وللنسائي عن أنس قال: قال جبريل للنبي -صلى الله عليه وسلم-: إن الله يقرىء خديجة السلام، يعني فأخبرها، فقالت: إن الله هو السلام، وعلى جبريل السلام، وعليك يا رسول الله السلام ورحمة الله وبركاته، زاد ابن السني من وجه آخر: وعلى من سمع السلام إلاَّ

الشيطان، قال العلماء: في هذه القصة دليل على وفور فقهها؛ لأنها لم تقل: وعليه السلام، كما وقع لبعض الصحابة حيث كانوا يقولون في التشهد: السلام على الله، فنهاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: "إن الله هو السلام فقولوا: التحيات لله" فعرفت خديجة لصحة فهمها أن الله لا يرد عليه السلام، كما يرد على المخلوقين لأن السلام اسم من أسمائه تعالى، وهو أيضًا دعاء بالسلامة، وكلاهما لا يصلح أن يرد به على الله تعالى، فكأنها قالت: كيف أقول: عليه السلام والسلام اسمه ومنه يطلب ومنه يحصل؟ فيستفاد منه أنه لا يليق بالله تعالى إلاَّ الثناء عليه، فجعلت مكان السلام عليه الثناء عليه، ثم غايرت بين ما يليق بالله تعالى، وبين ما يليق بغيره، فقالت: وعلى جبريل السلام، وعليك السلام، ويستفاد منه رد السلام على من أرسل السلام، وعلى من بلغه، والذي يظهر أن جبريل كان حاضرًا عند جوابها، فردت عليه وعلى النبي -صلى الله عليه وسلم- مرتين مرة بالتخصيص، ومرة بالتعميم، قلت: وعلى أن جبريل حاضر تكون ردت عليه مرتين أيضًا، ثم أخرجت الشيطان ممن سمع لأنه لا يستحق الدعاء بذلك، قيل: إنما بلغها جبريل عليه السلام من ربها بواسطة النبي -صلى الله عليه وسلم- احترامًا للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وكذلك وقع لما سلّم على عائشة لم يواجهها بالسلام، بل راسلها مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد واجه مريم بالخطاب فقيل: لأنها نبية، وقيل: لأنها لم يكن لها زوج يحترم معه مخاطبتها قال السهيلي: استدل بهذه القصة أبو بكر بن داود على أن خديجة أفضل من عائشة؛ لأن عائشة سلم عليها جبريل من قبل نفسه، وخديجة بلغها السلام من ربها، وعند الطبراني عن أبي يونس عن عائشة أنه وقع لها نظير ما وقع لخديجة من السلام، والجواب وهي رواية شاذة وزعم ابن العربي أنه لا خلاف في أن خديجة أفضل من عائشة، ورد بأن الخلاف ثابت قديمًا، وإن كان الراجح أفضلية خديجة بهذا وبغيره، ومن صريح ما جاء في تفضيل خديجة ما أخرجه أبو داود والنسائي وصححه الحاكم عن ابن عباس رفعه: أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، قال السبكي الكبير: جاء لعائشة من الفضائل ما لا يحصى، ولكن الذي نختاره وندين الله به أن فاطمة أفضل، ثم خديجة، ثم عائشة، واستدل لفضل فاطمة بما جاء في ترجمتها أنها سيدة نساء المؤمنين، قال في "الفتح": قال بعض من أدركناه: الذي يظهر أن الجمع بين الحديثين أولى، وأن لا نفضل إحداهما على الأخرى، وسئل السبكي: هل قال أحد أن أحدًا من نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- غير خديجة وعائشة أفضل من فاطمة؟ فقال: قال به من لا يعتد بقوله، وهو من فضل نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- على جميع الصحابة لأنهن في درجته في الجنة، قال: وهو قول ساقط مردود. وقائله هو: أبو محمد بن حزم وفساده ظاهر، قال السبكي ونساء النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد خديجة وعائشة متساويات في الفضل وهن أفضل النساء لقول الله تعالى {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} الآية، ولا يستثنى من ذلك إلاَّ من قيل: إنها نبية كمريم.

رجاله أربعة

رجاله أربعة: وفيه ذكر خديجة، وقد مرَّ الجميع: مرَّ إسحاق بن راهويه في تعليق بعد الحادي والعشرين من العلم، ومرَّ جرير في الثاني عشر منه، ومرَّ إسماعيل بن أبي خالد في الثالث من الإِيمان، ومرَّ عبد الله بن أبي أوفى في التاسع والتسعين من الزكاة، ومرت خديجة في الثالث من بدء الوحي. أخرجه البخاري أيضًا في الحج، وأبو داود والنسائي وابن ماجه فيه. الحديث العشرون حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: سَأَلْنَا ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنْ رَجُلٍ طَافَ بِالْبَيْتِ فِي عُمْرَةٍ، وَلَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، أَيَأْتِي امْرَأَتَهُ؟ فَقَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، وَطَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعًا، وَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ. قَالَ: وَسَأَلْنَا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما فَقَالَ: لاَ يَقْرَبَنَّهَا حَتَّى يَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. قوله: "عن رجل طاف بالبيت في عمرة" في رواية أبي ذر: عن رجل طاف في عمرته، وقد أشار ابن عمر في هذا الحديث إلى الاتباع، وأن جابرًا أفتاهم بالحكم، وهو قول الجمهور إلا ما روي عن ابن عباس أنه يحل من جميع ما حرم عليه بمجرد الطواف، وعند النسائي عن عمرو بن دينار أنه قال: وهو سنة، وكذا أخرجه أحمد وقوله: "أياتي امرأته" أي يجامعها، والمراد: هل حصل له التحلل من الإحرام قبل السعي أم لا؟. وقوله: "لا يقربنها" بنون التأكيد، المراد: نهي المباشرة بالجماع ومقدماته، لا مجرد القرب منها. وقوله: "وطاف بين الصفا والمروة" أي سعى وإطلاق الطواف على السعي إما للمشاكلة، وإما لكونه نوعًا من الطواف، ولوقوعه في مصاحبة طواف البيت. وقوله: أسوة بكسر الهمزة ويجوز ضمها. قوله: "قال وسألنا جابرًا" القائل هو: عمرو بن دينار، وبيَّن بهذا الحديث أن المراد بقوله في رواية التعليق السابق: يطوفوا أي: بالبيت، وبين الصفا والمروة، لجزم جابر بأنه لا يحل له أن يقرب امرأته حتى يطوف بين الصفا والمروة، وهذا الحديث قد تقدم مرارًا بهذا الإسناد، عن الحميدي في أوائل الصلاة في باب {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} بلفظ حدَّثنا سفيان، حدَّثنا عمرو بن دينار، فعبر بالتحديث هناك، والعنعنة هنا، وساق الإسنادين والمتن

رجاله خمسة

جميعًا بغير زيادة، ووقوع مثل هذا نادر جدًا، ومرَّ الكلام عليه هناك، ومرَّ حديث ابن عمر في باب من صلى خلف المقام ركعتين، وفي باب ما جاء في السعي بين الصفا والمروة، وفي كل محل بعض كلام، وفي الحديث أن السعي واجب في العمرة، وكذا ركعتي الطواف، وفي تعيينهما خلف المقام إلى آخر ما مرَّ في باب {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ الحميدي وابن عيينة في الأول من بدء الوحي، ومرَّ عمرو بن دينار في الرابع والخمسين من العلم، ومرَّ ابن عمر في أول الإيمان قبل ذكر حديث منه، ومرَّ جابر في الرابع من بدء الوحي. الحديث الحادي والعشرون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- بِالْبَطْحَاءِ، وَهُوَ مُنِيخٌ فَقَالَ: "أَحَجَجْتَ؟ ". قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: "بِمَا أَهْلَلْتَ؟ ". قُلْتُ: لَبَّيْكَ بِإِهْلاَلٍ كَإِهْلاَلِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "أَحْسَنْتَ، طُفْ بِالْبَيْتِ، وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ أَحِلَّ". فَطُفْتُ بِالْبَيْتِ، وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ أَتَيْتُ امْرَأَةً مِنْ قَيْسٍ، فَفَلَتْ رَأْسِي، ثُمَّ أَهْلَلْتُ بِالْحَجِّ. فَكُنْتُ أُفْتِي بِهِ، حَتَّى كَانَ فِي خِلاَفَةِ عُمَرَ فَقَالَ: إِنْ أَخَذْنَا بِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُنَا بِالتَّمَامِ، وَإِنْ أَخَذْنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ. وشاهد الترجمة منه: قوله: "طف بالبيت، وبالصفا والمروة، ثم أحل" فإنه يقتضي تأخير الإحلال عن السعي، وقد تقدم الكلام عليه مستوفى في باب من أهل في زمان النبي -صلى الله عليه وسلم-. رجاله ستة: وفيه ذكر عمر، وقد مرَّ الجميع: مرَّ محمد بن بشار في الحادي عشر من العلم، ومرَّ غندر في الخامس والعشرين من الإيمان، ومرَّ شعبة في الثالث منه، ومرَّ قيس بن مسلم وطارق بن شهاب في الثامن والثلاثين منه، ومرَّ أبو موسى الأشعري في الرابع منه، ومرَّ عمر في الأول من بدء الوحي. الحديث الثاني والعشرون حَدَّثَنَا أَحْمَدُ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنَا عَمْرٌو عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ مَوْلَى أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، حَدَّثَهُ أَنَّهُ كَانَ يَسْمَعُ أَسْمَاءَ تَقُولُ كُلَّمَا مَرَّتْ بِالْحَجُونِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ، لَقَدْ نَزَلْنَا مَعَهُ هَاهُنَا، وَنَحْنُ يَوْمَئِذٍ خِفَافٌ، قَلِيلٌ ظَهْرُنَا، قَلِيلَةٌ أَزْوَادُنَا، فَاعْتَمَرْتُ أَنَا وَأُخْتِي عَائِشَةُ، وَالزُّبَيْرُ، وَفُلاَنٌ، وَفُلاَنٌ، فَلَمَّا مَسَحْنَا الْبَيْتَ أَحْلَلْنَا، ثم

أَهْلَلْنَا مِنَ الْعَشِيِّ بِالْحَجِّ. قوله: "بالحجون" بفتح المهملة وضم الجيم الخفيفة جبل معروف بمكة، وقد تكرر ذكره في الأشعار وعنده المقبرة المعروفة بالمعلاة على يسار الداخل إلى مكة، ويمين الخارج منها إلى منى، وهذا الذي ذكرنا محصل ما قاله الأزرقي والفاكهي وغيرهما من العلماء، وأغرب السهيلي فقال: الحجون على فرسخ وثلث من مكة، وهو غلط واضح، وقال أبو عبيد البكري: الحجون: الجبل المشرف بحذاء المسجد الذي يلي شعب الجرارين، وقال أبو علي القالي: الحجون: ثنية المدنيين أي: من يقدم من المدينة، وهي مقبرة أهل مكة، عند شعب الجرارين، جمع جرار بجيم وراء ثقيلة، وذكر الأزرقي أنه شعب أبي دب -رجل من بني عامر- قال في "الفتح": قد جهل هذا الشعب الآن إلاَّ أن بين سور مكة الآن وبين الجبل المذكور مكانا يشبه الشعب، فلعله هو، ويدل على غلط السهيلي قول الشاعر: سنبكيك ما أرسى ثبير مكانه ... وما دام جارًا للحجون المحصب وقد تقدم ذكر المحصب وحده، وأنه خارج مكة، وروى الواقدي عن أشياخه أن قصي بن كلاب لما مات دفن بالحجون، فتدافن الناس بعده، وأنشد الزبير لبعض أهل مكة: كم بالحجون وبينه من سيد ... بالشعب بين دكادك وآكامِ وقوله: "ونحن يومئذ خفاف" زاد مسلم في روايته: "خفاف الحقائب" والحقائب: جمع حقيبة بفتح المهملة وبالقاف والموحدة، وهي ما احتقبه الراكب خلفه من حوائجه في موضع الرديف. وقوله: "فاعتمرت أنا وأختي" أي: بعد أن فسخوا الحج إلى العمرة، ففي رواية صفية بنت شيبة عن أسماء قدمنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مهلين بالحج فقال: "من كان معه هدي فليقم على إحرامه، ومن لم يكن معه هدي فليحل" فلم يكن معي هدي فأحللت، وكان مع الزبير هدي فلم يحل. وهذا مغاير لذكرها الزبير مع من أحل في رواية عبد الله مولى أسماء، فإن قضية رواية صفية عن أسماء أنه لم يحل لكونه ممن ساق الهدي، فإن جمع بينهما بأن القصة المذكورة وقعت لها مع الزبير في غير حجة الوداع، كما أشار إليه النووي على بعده وإلاَّ فقد رجح عند البخاري رواية عبد الله مولى أسماء، فاقتصر على إخراجها دون رواية صفية بنت شيبة، وأخرجها مسلم مع ما فيها من الاختلاف، ويقوي صنيع البخاري ما تقدم في باب الطواف على وضوء، عن أبي الأسود قال: سألت عروة بن الزبير، فذكر حديثًا وفي آخره: فأخبرتني أُمي أنها أهلت هي وأختها والزبير وفلان وفلان بعمرة، فلما مسحوا الركن حلَّوا، والقائل: أخبرتني: عروة المذكور، وأمه أسماء بنت أبي بكر، وهذا موافق لرواية عبد الله مولى أسماء

رجاله ستة

عنها، وفيه إشكال آخر وهو: ذكرها لعائشة فيمن طاف، والواقع أنها كانت حينئذ حائض، وكنت أولته هناك على أن المراد أن تلك العمرة كانت في وقت آخر بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-، لكن سياق رواية هذا الباب تأباه، فإنه ظاهر في أن المقصود العمرة التي وقعت لهم في حجة الوداع، والقول فيما وقع من ذلك في حق الزبير، كالقول في حق عائشة سواء، وقد قال عياض في الكلام عليه: ليس هو على عمومه، فإن المراد من عدا عائشة؛ لأن الطرق الصحيحة فيها أنها حاضت، فلم تطف بالبيت، ولا تحللت من عمرتها، وقيل: لعل عائشة أشارت إلى عمرتها التي فعلتها من التنعيم، ثم حكى التأويل السابق، وأنها أرادت عمرة أخرى في غير التي في حجة الوداع، وخطأه ولم يعرج على ما يتعلق بالزبير في ذلك. وقوله: "وفلان وفلان" كأنها سمت بعض من عرفته ممن لم يسق الهدي، ولم يوقف على تعيينهم، وقد تقدم في حديث عائشة أن أكثر الصحابة كانوا كذلك. وقوله: "فلما مسحنا البيت" أي: طفنا بالبيت فاستلمنا الركن، وقد مرَّ في باب الطواف على غير وضوء من حديث عائشة بلفظ: مسحنا الركن، وساغ هذا المجاز لأن كل من طاف بالبيت يمسح الركن، فصار يطلق على الطواف كما قال عمر بن أبي ربيعة. ولما قضينا من مني كل حاجة ... ومَسَح بالأركان من هو ماسحُ أي: طاف من هو طائف، قال عياض: ويحتمل أن يكون معنى مسحوا: طافوا وسعوا، وحذف السعي اختصارًا لما كان منوطًا بالطواف، قال: ولا حجة في هذا الحديث لمن لم يوجب السعي؛ لأن أسماء أخبرت أن ذلك كان في حجة الوداع، وقد جاء مفسرًا من طرق أخرى صحيحة أنهم طافوا معه، وسعوا، فيحمل ما أجمل على ما بين واستدل به على أن الحلق أو التقصير استباحة محظور، لقولها: أنهم أحلوا بعد الطواف ولم يذكر الحلق، وأجاب من قال بأنه نسك بأنها سكتت عنه ولا يلزم من ذلك ترك فعله، فإن القصة واحدة وقد ثبت الأمر بالتقصير في عدة أحاديث، منها: حديث جابر المصدر بذكره واختلفوا فيمن جامع قبل أن يقصر بعد أن طاف وسعى، فقال الأكثر: عليه الهدي وقال عطاء: لا شيء عليه وقال الشافعي: تفسد عمرته وعليه المضي في فسادها وقضائها، واستدل به الطبري على أن من ترك التقصير حتى يخرج من الحرم لا شيء عليه بخلاف من قال عليه دم. قد مرَّ هذا الحديث في باب الطواف على وضوء وفي غيره، وقد مرَّ كثير من مباحثه. رجاله ستة: وفيه ذكر الزبير وعائشة، وقد مرَّ الجميع: مرَّ أحمد بن عيسى في الرابع والسبعين من استقبال القبلة، ومرَّ ابن وهب في الثالث عشر من العلم، ومرَّ عمرو بن دينار في الرابع والخمسين منه، ومرت أسماء في الثامن والعشرين منه، ومرَّ الزبير في الثامن والأربعين منه،

ومرَّ أبو الأسود في الثامن والثلاثين من الغسل، ومرَّ عبد الله بن كيسان مولى أسماء في التاسع والخمسين والمائة من الحج، ومرت عائشة في الثاني من بدء الوحي. فيه التحديث بالجمع والإفراد والإخبار والعنعنة والسماع والقول ورجاله نصفهم مدنيون ونصفهم مصريون. أخرجه مسلم أيضًا في الحج. ثم قال المصنف:

باب ما يقول إذا رجع من الحج أو العمرة أو الغزو

باب ما يقول إذا رجع من الحج أو العمرة أو الغزو أورد المصنف هنا تراجم تتعلق بآداب الراجع من السفر لتعلق ذلك بالحاج والمعتمر الآفاقي. الحديث الثالث والعشرون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا قَفَلَ مِنْ غَزْوٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ يُكَبِّرُ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ مِنَ الأَرْضِ ثَلاَثَ تَكْبِيرَاتٍ، ثُمَّ يَقُولُ: "لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، آيِبُونَ، تَائِبُونَ، عَابِدُونَ، سَاجِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ، صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ". قوله: "كان إذا قفل" بقاف ثم فاء أي: رجع وزنا ومعنى، وعند مسلم عن ابن عمر في أوله من الزيادة كان إذا استوى على بعيره خارجًا إلى سفر كبر ثلاثًا ثم قال: "سبحان الذي سخر لنا هذا" فذكر الحديث إلى أن قال: وإذا رجع قالهن وزاد "آيبون تائبون" وزاد المصنف في كتاب الدعوات في الترجمة المذكورة إذا أراد سفرًا إشارة منه إلى هذه الزيادة. وقوله: "من حج أو غزو أو عمرة" ظاهره اختصاص ذلك بهذه الأمور الثلاثة، وليس الحكم كذلك عند الجمهور بل يشرع قول ذلك في كل سفر إذا كان سفر طاعة كصلة الرحم، وطلب العلم، لما يشمل الجميع من اسم الطاعة وقيل: يتعدى أيضًا إلى المباح، لأن المسافر فيه لا ثواب له، فلا يمتنع عليه فعل ما يحصل له الثواب، وقيل: يشرع في سفر المعصية أيضًا لأن مرتكبها أحوج إلى تحصيل الثواب من غيره، وهذا التعليل متعقب، لأنه الذي يخصه بسفر الطاعة لا يمنع من مسافر في مباح ولا في معصية من الإكثار من ذكر الله، وإنما النزاع في خصوص هذا الذكر في هذا الوقت المخصوص، فذهب قوم إلى الاختصاص لكونها عبادات مخصوصة شرع لها ذكر مخصوص فتخصص به، كالذكر المأثور عقب الأذان وعقب الصلاة، وإنما اقتصر الصحابي على الثلاث، لانحصار سفر النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها، ولهذا ترجم بالسفر في الدعوات، كما مرَّ على أنه تعرض لما دل عليه الظاهر، وترجم هذا في أبواب العمرة بالثلاثة المذكورة. وقوله: "يكبر على كل شرف" بفتح المعجمة والراء، بعدها فاء هو المكان المرتفع، وعند

مسلم بلفظ: إذا أوفى أي: ارتفع على ثنية بمثلثة ثم نون ثم تحتانية ثقيلة هي العقبة، أو فدفد بفتح الفاء بعدها قال مهملة ثم فاء ثم قال، والأشهر تفسيره بالمكان المرتفع، وقيل هو الأرض المستوية، وقيل الفلاة الخالية من شجر وغيره، وقيل: غليظ الأودية ذات الحصى. وقوله: ثم يقول: لا إله إلا الله إلخ يحتمل أن يكون كان يأتي بهذا الذكر عقب التكبير، وهو على المكان المرتفع، ويحتمل أن التكبير يختص بالمكان المرتفع، وما بعده إن كان متسعًا أكمل الذكر المذكور فيه، وإلا فإذا هبط سبح، كما دل عليه حديث جابر عند المصنف في الجهاد بلفظ: كنا إذا صعدنا كبرنا، وإذا نزلنا سبحنا، وفي رواية: وإذا تصوبنا، ويحتمل أن يكمل الذكر مطلقًا عقب التكبير، ثم يأتي بالتسبيح إذا هبط، ومناسبة التكبير عند الصعود إلى المكان المرتفع، أن الاستعلاء والارتفاع محبوب للنفوس لما فيه من استشعار الكبرياء، فشرع لمن تلبس به أن يذكر كبرياء الله تعالى، وأنه أكبر من كل شيء، فيكبره، ليشكر له ذلك، فيزيده من فضله، ومناسبة التسبيح عند الهبوط لكون المكان المنخفض محل ضيق فيشرع فيه التسبيح لأنه من أسباب الفرج، لما وقع في قصة يونس عليه السلام حين سبح في الظلمات، فنجي من الغم قال القرطبي: وفي تعقيب التكبير بالتهليل إشارة إلى أنه المنفرد بإيجاد جميع الموجودات، وأنه المعبود في جميع الأماكن. وقوله: "آيبون" جمع آيب أي: راجع وزنا ومعنى، وهو خبر مبتدأ محذوف والتقدير نحن آيبون، وليس المراد الإخبار بمحض الرجوع، فإنه تحصيل الحاصل، بل الرجوع في حالة مخصوصة وهي تلبسهم بالعبادة المخصوصة، والاتصاف بالأوصاف المذكورة. وقوله: "تائبون" فيه إشارة إلى التقصير في العبادة، وقاله -صلى الله عليه وسلم- على سبيل التواضع، أو تعليما لأمته، أو المراد أمته وقد تستعمل التربة لإرادة الاستمرار على الطاعة، فيكون المراد أن لا يقع منهم ذنب. وقوله: "صدق الله وعده" أي: فيما وعد به من إظهار دينه في قوله: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً}، وقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} الآية، وهذا في سفر الغزو، ومناسبته لسفر الحج والعمرة قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ}. وقوله: {ونصر عبده} يريد نفسه. وقوله: {وهزم الأحزاب وحده} أي من غير فعل أحد من الآدميين، واختلف في المراد بالأحزاب هنا فقيل: هم كفار قريش، ومن وافقهم من العرب واليهود الذين تحزبوا أي: تجمعوا في غزوة الخندق، ونزلت في شأنهم سورة الأحزاب، ويأتي خبرهم في الغزوات إن

رجاله أربعة

شاء الله تعالى، وقيل المراد أعم من ذلك، وقال النووي المشهور الأول، وقيل: فيه نظر لأنه يتوقف على أن هذا الدعاء إنما شرع من بعد الخندق، والجواب: أن غزوات النبي -صلى الله عليه وسلم- التي خرج فيها محصورة، والمطابق منها لذلك غزوة الخندق، لظاهر قوله تعالى في سورة الأحزاب {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} وفيها قبل ذلك {إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} الآية، والأصل في الأحزاب أنه جمع حزب، وهي القطعة المجتمعة من الناس، فاللام إما جنسية، والمراد كل من تحزب من الكفار وإما عهدية، والمراد من تقدم وهو الأقرب، قال القرطبي: ويحتمل أن يكون هذا الخبر بمعنى الدعاء: اللهم اهزم الأحزاب، والأول أظهر، وقد مرت مناسبة التسبيح للأماكن المنخفضة، وقيل: مناسبته لها من جهة أن التسبيح هو التنزيه فناسب تنزيه الله عن صفات الانخفاض، كما ناسب تكبيره عند الأماكن المرتفعة، ولا يلزم من كون جهتي العلو والسفل محال على الله تعالى أن لا يوصف بالعلو لأن وصفه بالعلو من جهة المعنى، والمستحيل كون ذلك من جهة الحس، ولذلك ورد في صفته العلي والعالي والمتعالي ولم يرد ضد ذلك، وإن كان قد أحاط بكل شيء علمًا عَزَّ وَجَلَّ. رجاله أربعة: قد مرّوا: مرَّ عبد الله بن يوسف ومالك في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ نافع في الأخير من العلم، ومرَّ ابن عمر في أول الإيمان قبل ذكر حديث منه. أخرجه البخاري أيضًا في الدعوات، ومسلم في الحج وأبو داود في الجهاد والنسائي في السير، وأخرجه الترمذي من حديث البراء. ثم قال المصنف:

باب استقبال الحاج القادمين والثلاثة على الدابة

باب استقبال الحاج القادمين والثلاثة على الدابة قوله: "القادمين" صفة للحاج لأنه يقال للمفرد والجمع مجازًا واتساعًا، كقوله تعالى: {سَامِرًا تَهْجُرُونَ} قال في الكشاف: السامر نحو الحاضر في الإطلاق على الجمع. وقوله: "والثلاثة" بالجر عطفًا على استقبال أي: وباب الثلاثة على الدابة أي: ركوب الثلاثة. الحديث الرابع والعشرون حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مَكَّةَ اسْتَقْبَلَتْهُ أُغَيْلِمَةُ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَحَمَلَ وَاحِدًا بَيْنَ يَدَيْهِ وَآخَرَ خَلْفَهُ. دلالة الحديث على الجزء الثاني من الترجمة ظاهرة. وقوله: "قدم مكة" يعني في الفتح. وقوله: "استقبله" في رواية الكشميهني استقبلته، وأغيلمة تصغير غلمة وهو جمع غلام، والتصغير على غير قياس والقياس غليمة، وقال ابن التين: كأنهم صغروا أغلمة على القياس، وإن كانوا لم ينطقوا بأغلمة ونظيره أصيبية، وإضافتهم إلى عبد المطلب لكونهم من ذريته، قال في القاموس: الغلام الطارّ الشارب، والكهل ضده أو من حين يولد إلى أن يُشب، جمعه أغلمة، وغلمة، وغلمان، وهي غلامة. وقوله: "فحمل واحدًا بين يديه، والآخر خلفه" قد جاء في آخر كتاب اللباس في باب الثلاثة على الدابة تفسيرهما في حديث ابن عباس قال: أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد حمل قيم بين يديه، والفضل خلفه، أو قثم خلفه، والفضل بين يديه، وأخرج مسلم وأبو داود والنسائي عن مورق العجلي: حدثني عبد الله بن جعفر قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قدم من سفر تلقي بنا، فيلقّى بي وبالحسن أو بالحسين، فحمل أحدنا بين يديه، والآخر من خلفه، حتى دخلنا المدينة، وأخرج أحمد والنسائي عن عبد الله بن جعفر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حمله خلفه، وحمل قثم ابن العباس بين يديه، وليس فيما روى عن عبد الله بن جعفر ذكر لكون التلقي كان بمكة، بل في الأول التصريح بأنه بالمدينة، والثاني لم يقع فيه تصريح بشيء فيحمل على المصرح به، وفي القسطلاني أن الراكب بين يديه عبد الله بن جعفر، والراكب خلفه قثم بن العباس،

رجاله خمسة

وعزاه للفتح، ولم أره فيه في محل من محال الحديث الذي ذكره فيه، وبنى القسطلاني على ما عزاه للفتح قوله: لكن لا أعلم هل خرج عبد الله بن جعفر من المدينة إلى مكة، بعد أن دخلها مع أبيه من الحبشة، حتى استقبل النبي -صلى الله عليه وسلم- حين قدومه مكة في الفتح، فلينظر ذلك، قلت: لم نجد في كتاب ما يدل على أنه خرج من المدينة إلى مكة، وعند الطبراني عن ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام كان حينئذ راكبًا على ناقته، وأخرج مسلم عن سلمة بن الأكوع: لقد قلت بنبيِّ الله -صلى الله عليه وسلم- والحسن والحسين بغلته الشهباء حتى أدخلتهم حجرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، هذا قدّامه وهذا خلفه، وقول صاحب الفتح: وكون الترجمة لتلقي القادم من الحج، والحديث دال على تلقي القادم للحج ليس بينهما تخالف لاتفاقهما من حيث المعنى، تعقبه العيني فقال: لا نسلم كون الترجمة لتلقي القادم من الحج، بل هي لتلقي القادم للحج، والحديث يطابقه، وقد ظن هذا القائل ذهولًا منه أن الترجمة وضعت لتلقي القادم من الحج وليس كذلك، ولو علم أن لفظ الاستقبال في الترجمة مصدر مضاف إلى مفعوله، والفاعل ذكره مطوي لما احتاج إلى قوله: وكون الترجمة إلى آخره، فالحديث فيه تلقي القادم للحج، وتلك العادة إلى الآن يتلقى المجاورون وأهل مكة القادمين من الركبان، نعم يؤخذ منه بطريق القياس تلقي القادمين من الحج. بل ومَن في معناهم كمن قدم من جهاد أو سفر تأنيسًا وتطييبًا لقلوبهم، وفي المسند وصحيح الحاكم عن عائشة قالت: أقبلنا من مكة في حج أو عمرة، فتلقانا غلمان من الأنصار كانوا يتلقون أهاليهم إذا قدموا، وذكر ابن رجب في الطائفة عن الحكم قال: قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لو يعلم المقيمون ما للحجاج عليهم من الحق، لأتوهم حين يقدمون حتى يقبلوا رواحلهم؛ لأنهم وفد الله في جميع الناس، وما للمنقطع حيلة سوى التعلق بأذيال الواصلين، وفي الحديث جواز ركوب الثلاثة فأكثر على دابة عند الطاقة، وما روى من كراهة ركوب الثلاثة على دابة لا يصح، قال في الفتح: قد يجمع بين مختلف الحديث في ذلك فيحمل ما ورد في الزجر عن ذلك، على ما إذا كانت الدابة غير مطيقة، كالحمار مثلًا وعكسه على عكسه كالناقة والبغلة، قال النووي: مذهبنا ومذهب العلماء كافّة جواز ركوب ثلاثة على الدابة، إذا كانت مطيقة، وحكى القاضي عياض معه عن بعضهم مطلقًا، وهو فاسد، قال في الفتح: لم يصرح أحد بالجواز مع العجز، ولا بالمنع مع الطاقة، بل المنقول من المطلق في المنع والجواز محمول على المقيد. رجاله خمسة: قد مرّوا: وفيه حمله عليه الصلاة والسلام واحدًا بين يديه وآخر خلفه. مرَّ معلي بن أسد في الرابع والثلاثين من الحيض، ومرَّ يزيد ابن زريع في السادس والتسعين من الوضوء، ومرَّ خالد الحذاء وعكرمة في السابع عشر من العلم، ومرَّ العباس في الخامس من بدء الوحي، والذي بين يديه عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، والذي خلفه قثم بن العباس، هكذا قال في الفتح.

والأول: عبد الله بن جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم أبو محمد أو أبو هاشم أو أبو جعفر وهي أشهر، أمه أسماء بنت عميس الخثعمية، ولد بأرض الحبشة لما هاجر أبواه إليها، وهو أول مولود ولد من المسلمين بها، وولد بها أيضًا أخواه محمد وعون وولد للنجاشي ولد فسماه عبد الله فأرضعته أسماء حتى فطمته ولما توجه جعفر في السفينة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- حمل امرأته أسماء وأولاده منها عبد الله، ومحمدًا وعونًا حتى قدموا المدينة، روى ابن جريج أن عبد الله بن جعفر قال: مسح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأسي وقال: "اللهم اخلف جعفرًا في ولده" وأخرج أحمد بسند قوي أنه قال: كنا نلعب فمر بنا على دابة فحملني أمامه، ومن طريق محمد بن أبي يعقوب في قصة موته أنه عليه الصلاة والسلام قال: "أما عبد الله فيشبه خلقي وخلقي" ثم أخذ بيدي فقال: "اللهم اخلف جعفرًا في أهله، وبارك لعبد الله في صفقة يمينه" قالها ثلاث مرات، وفيه: "وأنا وليهم في الدنيا والآخرة" وروى البغوي أنه عليه الصلاة والسلام مرَّ بعبد الله ابن جعفر وهو يبيع مع الصبيان، فقال: "اللهم بارك له في بيعه أو صفقته" وروى مسلم عنه أنه قال: أردفني النبي -صلى الله عليه وسلم- يومًا فأسر إليَّ حديثا لا أحدث به أحدًا من الناس الحديث، تزوج أمَّه أبو بكر الصديق، فكان محمد أخاه لأمه، ثم تزوجها عليّ فولدت له يحيى، وكان أحد أمراء عليّ يوم صفين، وكان يقال له: قطب السخاء، قال ابن عبد البر: كان كريمًا جوادًا ظريفًا عفيفًا سخيًا، يسمى بحر الجود، ويقال: إنه لم يكن في الإِسلام أسخى منه، وكان لا يرى بأسا بسماع الغناء، وكان إذا قدم على معاوية أنزله داره، وأظهر له من بره وإكرامه ما يستحقه، وكان ذلك يغيظ فاختة بنت قرظة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف، زوجة معاوية، فسمعت ليلة غناء عند عبد الله بن جعفر فجاءت إلى معاوية فسمع وقالت هلم فاسمع ما في منزل هذا الرجل الذي جعلته بين لحمك ودمك فجاء معاوية وانصرف، فلما كان في آخر الليل سمع معاوية قراءة عبد الله بن جعفر فجاء فانبه فاختة وقال لها: اسمعي مكان ما أسمعتني، ويقولون إن أجواد العرب في الإِسلام عشرة. فأجود أهل الحجاز: عبد الله بن جعفر وعبيد الله بن العباس وسعيد ابن العاص. وأجود أهل الكوفة: عتاب بن ورقاء -أحد بني رباح بن يربوع- وأسماء بن خارجة بن حفص الفزاري، وعكرمة بن ربعي الفياض -أحد بني تيم الله بن ثعلبة-. وأجود أهل البصرة: عمرو بن عبيد الله بن معمر وطلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي ثم أحد بني مليح وهو طلحة الطلحات، وعبيد الله بن أبي بكرة. وأجود أهل الشام: خالد بن عبد الله بن خالد بن أسد بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، وليس في هؤلاء كلهم أجود من عبد الله بن جعفر، ولم يكن مسلم يبلغ مبلغه في الجود وعوتب في ذلك فقال: إن ربي عودني عادة، وعودت الناس عادة فأنا أخاف إن قطعتها قطعت عني، ومدحه نصيب فأعطاه إبلا وخيلًا وثيابًا ودنانير ودراهم، فقيل له: تعطي لهذا

الأسود مثل هذا، فقال: إن كان أسود فشعره أبيض، ولقد استحق بما قال أكثر مما نال، وهل أعطيناه إلا ما يفنى ويبلى، وأعطانا مدحا يروى وثناء يبقى، وقيل: إنما جرى هذا الخبر لعبد الله بن جعفر مع عبد الله بن قيس الرقيات، وأخباره في الجود كثيرة جدًا شهيرة، ومن سخائه ما روي أنه أسلف الزبير ألف ألف درهم، فلما توفي الزبير جاء ابنه عبد الله إلى ابن جعفر وقال له: إني وجدت في كتب أبي أن له عليك ألف ألف درهم، فقال: هو صادق، فاقبضها إذا شئت، ثم وجده فقال: وهمت المال لك عليه، فقال: لا أريد ذلك. له خمسة وعشرون حديثًا، اتفقا على حدثيين، روى عن عمه علي وأبي بكر، وعثمان، وعمار بن ياسر، وروى عنه بنوه إسماعيل وإسحاق ومعاوية، وأبو جعفر الباقر وغيرهم، كان له عند موت النبي -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين، ومات سنة ثمانين عام الجحاف، وهو سيل كان ببطن مكة جحف الحاج، وذهب بالإبل، وعليها الحمولة وصلى عليه أبان بن عثمان، وهو أمير المدينة حينئذ لعبد الملك بن مروان وكان له يوم مات تسعون سنة أو ثمانون. والثاني: قثم بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم أخو عبد الله وأخوته، أمه أم الفضل، قال ابن السكن: كان يشبه بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا يصح سماعه منه، وأخرج البغوي أن أم الفضل قالت للنبي -صلى الله عليه وسلم-: رأيت كان في بيتي عضوًا من أعضائك قال: "خيرًا رأيت، تلد فاطمة غلامًا، ترضعينه بلبن ابنك قثم" فولدت الحسن الحديث، وهذا الحديث يدل على أن الحسن أصغر من قثم، وقال البخاري في التاريخ: عن عبد الله بن جعفر قال: لو رأيتني وقثم بن العباس وعبيد الله بن العباس نلعب، إذ مرَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- على دابته، فقال: "ارفعوا هذا إليَّ فحملني أمامه، ثم قال لقثم: ارفعوا هذا إليَّ فحمله وراءه" وكان عبيد الله أحب إلى العباس، فلم يستح من عمه أن قثما تركه، وقال ابن عباس: وعلى أن قثما كان آخر الناس عهدا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وذلك أنه كان آخر من خرج من قبره، ممن نزل فيه، وقد ادعى ذلك المغيرة بن شعبة في قصة لم تثبت، كان قثم واليًا لعلي رضي الله تعالى عنه على مكة، وذلك أن عليًا لما ولي الخلافة عزل خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة المخزومي عن مكة، وولاها أبا قتادة الأنصاري، ثم عزله وولى قثم بن العباس، ولم يزل واليا إلى أن قتل علي رضي الله تعالى عنه، وقيل: إنه كان واليا على المدينة، مات قثم بسمرقند، واستشهد بها، وكان خرج إليها مع سعيد بن عثمان بن عفان زمن معاوية، وفيه يقول داود بن سلم: عتقت من حلي ومن رحلتي ... يا ناق إن أدنيتني من قثم إنك إن أدنيت منه غدًا ... حالفني اليسر ومات العدم في كفه بحر وفي وجهه ... بدر وفي العرنين منه شمم أصم عن فعل الخنا سمعه ... وما عن الخير به من صمم لم يدر مالا وبلى قد درى ... فعافها واعتاض منها نعم

لطائف إسناده

وفيه يقول الآخر: كم صارخ بك مكروب وصارخة ... يدعوك يا قثم الخيرات يا قثم لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة والقول، والثلاثة الأول بصريون أخرجه البخاري أيضًا في اللباس والنسائي في الحج. ثم قال المصنف:

باب القدوم بالغداة

باب القدوم بالغداة الحديث الخامس والعشرون حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ يُصَلِّي فِي مَسْجِدِ الشَّجَرَةِ، وَإِذَا رَجَعَ صَلَّى بِذِي الْحُلَيْفَةِ بِبَطْنِ الْوَادِي وَبَاتَ حَتَّى يُصْبِحَ. وقد مرَّ هذا الحديث أوائل الحج في باب خروج النبي -صلى الله عليه وسلم- على طريق الشجرة، ومرَّ الكلام عليه هناك. رجاله خمسة: قد مرّوا، إلا أحمد بن الحجاج: مرَّ أنس بن عياض وعبيد الله العمري في الرابع عشر من الوضوء، ومرَّ نافع في الأخير من العلم، ومرَّ ابن عمر في أول الإيمان قبل ذكر حديث منه. والباقي: أحمد بن الحجاج البكري الذهلي الشيباني أبو العباس المروزي، قال الخطيب: قدم بغداد. وحدث بها، فأثنى عليه أحمد، وقال ابن أبي خيثمة: كان رجل صدق، وذكره ابن حبان في الثقات، روى عن أبي ضمرة وابن عيينة وابن مهدي وغيرهم، وروى عنه البخاري وإبراهيم الحربي والدارمي وغيرهم، مات يوم عاشوراء سنة اثنتين وعشرين ومائتين. ثم قال المصنف:

باب الدخول بالعشي

باب الدخول بالعشي قال الجوهري: العشية من صلاة المغرب إلى العتمة، وقيل: هي من حين الزوال، والمراد هنا الأول، وكأنه عقب الترجمة الأولى بهذه ليبين أن الدخول في الغداة لا يتعين وإنما المنهي عنه الدخول ليلًا وقد بين علة ذلك في حديث جابر حيث قال فيه لتمتشط الشعثة. الحديث السادس والعشرون حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- لاَ يَطْرُقُ أَهْلَهُ، كَانَ لاَ يَدْخُلُ إِلاَّ غُدْوَةً أَوْ عَشِيَّةً. قوله: "ولا يطرق أهله" قال أهل اللغة: الطروق بالضم: المجيىء بالليل من سفر أو غيره على غفلة، ويقال لكل آت بالليل: طارق، ولا يقال بالنهار إلا مجازًا، وقد حكى ابن فارس طرق بالنهار وهو مجاز، ولهذا كان قوله: ليلًا في الرواية التي بعد هذا أن يطرق أهله ليلًا للتأكيد لأجل رفع المجاز لاستعمال طرق في النهار، ومنه حديث طرق عليًا وفاطمة، وقال بعض أهل اللغة: أصل الطروق الدفع والضرب، وبذلك سميت الطريق لأن المارة تدقها بأرجلها، وسمي الآتي بالليل طارقًا؛ لأنه يحتاج غالبًا إلى دق الباب، وقيل: أصل الطروق السكون، ومنه إطراق رأسه، فلما كان الليل يسكن فيه سمي الآتي طارقًا، وقوله: في طريق الشعبي عن جابر: إذا أطال أحدكم الغيبة، فلا يطرق أهله ليلًا، التقييد فيه بطول الغيبة يشير إلى أن علة النهي إنما توجد حينئذ، فالحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، فلما كان الذي يخرج لحاجته مثلًا نهارًا ويرجع ليلًا، لا يتأتى له ما يحذر من الذي يطيل الغيبة، كأن عدم طول الغيبة مظنة الأمن من الهجوم، فيقع للذي يهجم بعد طول الغيبة غالبًا ما يكره، إما أن يجد أهله على غير أهبة من التنظيف والتزيين المطلوب من المرأة، فيكون ذلك سبب النفرة بينهما، وقد أشار إلى ذلك بقوله في حديث جابر الآتي في كتاب النكاح: كي تستحد المغيبة، وتمتشط الشعثة، ويؤخذ منه كراهة مباشرة المرأة في الحالة التي تكون فيها غير متنظفة، لئلا يطلع منها على ما يكون سببًا لنفرته منها، وإما أن يجدها على حالة غير مرضية، والشرع محرض على الستر، وقد أشار إلى ذلك بقوله في حديث جابر عند مسلم: نهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يطرق الرجل أهله ليلًا يتخونهم، أو يطلب عثراتهم فعلى

هذا فمن أعلم أهله بوصوله، وأنه يقدم في وقت كذا مثلًا، لا يتناوله هذا النهي، وقد صرح بذلك ابن خزيمة في صحيحه، ثم ساق من حديث ابن عمر قال: قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- من غزوة فقال: "لا تطرقوا النساء" وأرسل من يؤذن الناس أنهم قادمون، قال ابن أبي جمرة نفع الله به: فيه النهي عن طروق المسافر أهله على غِرَّة من غير تقدم إعلام منه لهم بقدومه، والسبب في ذلك ما وقعت إليه الإشارة في الحديث، قال: وقد خالف بعضهم فرأى عند أهله رجلًا فعوقب بذلك على مخالفته، وأشار بذلك إلى ما أخرجه ابن خزيمة عن ابن عمر قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن تطرق النساء ليلًا، فطرق رجلان كلاهما وجد مع امرأته ما يكره، وأخرجه عن ابن عباس بنحوه، وقال فيه: فكلاهما وجد مع امرأته رجلًا، وفي حديث محارب عن جابر أن عبد الله بن رواحة أتى امرأته ليلًا، وعندها امرأة تمشطها، فظنها رجلًا فأشار إليها بالسيف، فلما ذكر للنبي -صلى الله عليه وسلم- نهى أن يطرق الرجل أهله ليلًا، أخرجه أبو عوانة في صحيحه، وفي رواية جابر في النكاح قال: فلما قدمنا ذهبنا لندخل، فقال: "أمهلوا حتى تدخلوا ليلًا" أي عشاءً، وهذا التفسير في نفس الخبر فيه إشارة إلى الجمع بين هذا الأمر بالدخول ليلًا، والنهي عن الطروق ليلًا بأن المراد بالأمر: الدخول في أول الليل، وبالنهي: الدخول في أثنائه، وقد مرَّ قريبًا أن الأمر بالدخول ليلًا لمن أعلم أهله بقدومه، فاستعدوا له، والنهي عمن لم يفعل ذلك، وفي هذا الحديث: الكَيْس الكيس يا جابر! وفي رواية: فعليك بالكيس الكيس، وفي رواية البيوع: أما إنك قادم، فإذا قدمت فالكيس الكيس، وفي رواية أحمد إذا دخلت فعليك بالكيس الكيس. وقوله في الحديث الأول: الكيس الكيس بالفتح فيهما على الإغراء، وقيل: على التحذير من ترك الجماع، قال الخطابي: الكيس هنا بمعنى الحذر، وقد يكون الكيس بمعنى الرفق، وحسّن الثاني، وقال ابن الأعرابي: الكيس العقل؛ كأنه جعل طلب الولد عقلًا وقال غيره: أراد الحذر من العجز عن الجماع، فكأنه حث على الجماع، وجزم ابن حبان في صحيحه بعد تخريج هذا الحديث بأن الكيس الجماع، وتوجيهه على ما ذكر ويؤيده قوله في رواية محمد بن إسحاق: فإذا قدمت فاعمل عملًا كيسا، وفيه: قال جابر: فدخلنا حين أمسينا فقلت للمرأة: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمرني أن أعمل عملًا كيسا، قالت: سمعًا وطاعة. فدونك، قال: فبت معها حتى أصبحت، أخرجه ابن خزيمة في صحيحه قال عياض: فسر البخاري وغيره الكيس بطلب الولد والنسل، وهو صحيح، قال صاحب الأفعال: كاس الرجل في عمله حذق، وكاس ولدا كيسا، وقال الكسائي: كاس الرجل ولد له ولد كيس، وأصل الكيس العقل، كما ذكر الخطابي لكنه بمجرده ليس المراد هنا، والشاهد لكون الكيس يراد به العقل قول الشاعر: وإنما الشعر لب المرء يعرضه ... على الرجال فإن كيسا وأحمقا

رجاله أربعة

فقابله بالحمق، وهو ضد العقل، ومنه حديث: "الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والأحمق من أتبع نفسه هواها" وأما حديث: كل شيء بقدر حتى العجز والكيس، فالمراد به الفطنة، وفي الحديث الحث على التوارد والتحاب خصوصًا بين الزوجين؛ لأن الشارع راعى ذلك بين الزوجين مع اطلاع كل منهما على ما جرت العادة بستره، حتى إن كل واحد منهما لا يخفى عليه من عيوب الآخر شيء في الغالب، ومع ذلك فنهى عن الطروق لئلا يطلع على ما تنفر نفسه عنه فيكون مراعاة ذلك في غير الزوجين، بطريق الأولى، ويؤخذ منه أن الاستحداد ونحوه مما تتزين به المرأة، ليس داخلًا في النهي عن تغيير الخلقة، وفيه التحريض على ترك التعرض لما يوجب سوء الظن بالمسلم. رجاله أربعة: مرَّ موسى بن إسماعيل في الخامس من بدء الوحي، ومرَّ همام بن يحيى في الرابع والثمانين من الوضوء، ومرَّ إسحاق بن عبد الله في الثامن من العلم، ومرَّ أنس في السادس من الإيمان، أخرجه مسلم في الجهاد، والنسائي في عشرة النساء ثم قال المصنف:

باب لا يطرق أهله إذا بلغ المدينة

باب لا يطرق أهله إذا بلغ المدينة أي: لا يدخل عليهم ليلًا إذا قدم من سفر. وقوله: "إذا بلغ المدينة" في رواية السرخسي: إذا دخل، والمراد بالمدينة البلد الذي يقصد دخولها، والحكمة في النهي عنه هي ما مرت قريبًا في الذي قبله. الحديث السابع والعشرون حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَارِبٍ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: "نَهَى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَطْرُقَ أَهْلَهُ لَيْلاً". قد مرت مباحث هذا الحديث في الذي قبله مستوفاة. رجاله أربعة: قد مرّوا: مرَّ مسلم بن إبراهيم في السابع والثلاثين من الإيمان، وشعبة في الثالث منه، ومرَّ محارب في السابع والأربعين من استقبال القبلة، ومرَّ جابر في الرابع من بدء الوحي. أخرجه البخاري أيضًا في النكاح ومسلم وأبو داود في الجهاد والنسائي في عشرة النساء. ثم قال المصنف:

باب من أسرع ناقته إذا بلغ المدينة

باب من أسرع ناقته إذا بلغ المدينة قال الإسماعيلي: قوله: "أسرع ناقته" ليس بصحيح، الصواب أسرع بناقته يعني أنه لا يتعدى بنفسه وإنما يتعدى بالباء، وفيما قاله نظر، فقد حكى صاحب المحكم أن أسرع يتعدى بنفسه ويتعدى بحرف الجر وقال الكرماني: قول البخاري: أسرع ناقته أصله أسرع بناقته فنصب بنزع الخافض. الحديث الثامن والعشرون حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي حُمَيْدٌ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسًا رضي الله عنه يَقُولُ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ، فَأَبْصَرَ دَرَجَاتِ الْمَدِينَةِ أَوْضَعَ نَاقَتَهُ، وَإِنْ كَانَتْ دَابَّةً حَرَّكَهَا". قوله: "فأبصر درجات" بفتح المهملة، والراء بعدها جيم جمع درجة كذا للأكثر، والمراد طرقها المرتفعة وللمستملي دوحات المدينة بفتح المهملة وسكون الواو، بعدها مهملة، جمع دوحة وهي الشجرة العظيمة، وفي رواية إسماعيل بن جعفر عن حميد جُدُرات بضم الجيم والدال كما وقع في هذا الباب، وهو جمع جدر بضمتين جمع جدار وله من رواية أبي ضمرة عن حميد بلفظ حيدر وقد رواه الإسماعيلي بلفظ جدران بسكون الدال وآخره نون، جمع جدار قال صاحب المطالع: جدرات أرجح من دوحات ودرجات وهي رواية الترمذي من طريق إسماعيل بن جعفر. وقوله: "أوضع" أي أسرع السير. رجاله أربعة قد مرّوا: مرَّ سعيد بن أبي مريم في الأربعين من العلم، ومرَّ محمد بن جعفر في التاسع من الحيض، ومرَّ حميد الطويل في الثاني والأربعين منه، ومرَّ أنس في السادس منه. ثم قال: قال أبو عبد الله: زاد الحارث بن عمير عن حميد حركها من حبها. وقوله: "من حبها" يتعلق بقوله: "حركها" أي حرك دابته بسبب حبه المدينة، ورواية الحارث هذه وصلها أحمد عن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا قدم من سفر فنظر إلى جدرات

الحديث التاسع والعشرون

المدينة أوضع ناقته وإن كان على دابة حركها من حبها وأخرجه أبو نعيم في المستخرج عن محمد بن جعفر بن أبي كثير والحارث بن عمير جميعًا عن حميد وفي الحديث دلالة على فضل المدينة، وعلى مشروعية حب الوطن، والحنين إليه. وحميد مرَّ الآن والحارث هو ابن عمير أبو عمير، نزل مكة والد حمزة قال سليمان بن حرب: كان حماد بن زيد يقدم الحارث ابن عمير ويثني عليه، ونظر إليه فقال: هذا من ثقات أصحاب أيوب وقال ابن معين وأبو حاتم والنسائي: ثقة، وكذا قال الدارقطني والعجلي، وقال أبو زرعة: ثقة، رجل صالح، وقال الأزدي: ضعيف منكر الحديث، وقال الحاكم: روى عن حميد الطويل وجعفر بن محمد أحاديث موضوعة وقال ابن خزيمة: الحارث بن عمير كذاب، وقال ابن حبان: كان ممن يروي عن الأثبات الأشياء الموضوعة، ليس له في البخاري إلاَّ هذه الزيادة، روى عن أيوب السختياني وحميد الطويل، وأبي طوالة وغيرهم، وروى عنه ابن عيينة وهو من أقرانه، وابن مهدي وابنه حمزة بن الحارث وغيرهم. الحديث التاسع والعشرون حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، قال: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "جُدُرَاتٍ". قوله: "جدرات"، قد مرَّ في الذي قبله ضبطها، وقد أخرج المصنف رواية قتيبة المذكورة في فضائل المدينة، بلفظ الحارث بن عمير إلاَّ أنه قال: راحلته بدل: ناقته. رجاله أربعة: قد مرّوا: مرَّ قتيبة في الحادي والعشرين من الإيمان، ومرَّ إسماعيل بن جعفر في السادس والعشرين منه، ومرَّ محل حميد وأنس في الذي قبله. ثم قال: تابعه الحارث بن عمير، وهذه المتابعة هي ما مرت قريبًا، ومرَّ الحارث قريبًا. ثم قال المصنف:

باب قول الله تعالى: {وأتوا البيوت من أبوابها}

باب قول الله تعالى: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} أي باب نزول هذه الآية. الحديث الثلاثون حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ رضي الله عنه يَقُولُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِينَا، كَانَتِ الأَنْصَارُ إِذَا حَجُّوا فَجَاءُوا لَمْ يَدْخُلُوا مِنْ قِبَلِ أَبْوَابِ بُيُوتِهِمْ، وَلَكِنْ مِنْ ظُهُورِهَا، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَدَخَلَ مِنْ قِبَلِ بَابِهِ، فَكَأَنَّهُ عُيِّرَ بِذَلِكَ، فَنَزَلَتْ: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}. قوله: "كانت الأنصار إذا حجوا فجاءوا" هذا ظاهر في اختصاص ذلك بالأنصار، لكن سيأتي في حديث جابر في أثناء السند أن سائر العرب كانوا كذلك، إلا قريشًا، ورواه عبد بن حميد من مرسل قتادة، كما قال البراء، وكذلك أخرجه الطبري من مرسل الربيع بن أنس. وقوله: "إذا حجوا" سيأتي في تفسير البقرة عن أبي إسحاق بلفظ: إذا أحرموا في الجاهلية. وقوله: "فجاء رجل من الأنصار" قيل: هو قطبة بن عامر، وقيل: رفاعة ابن تابوت، ويأتي تعريف كل واحد منهما في السند، ويجوز. أن يحمل على التعدد في القصة، ويدل عليه اختلاف القول في الإنكار على الداخل في الحديثين الآتيين في السند، فإن في حديث جابر فقالوا: إن قطبة رجل فاجر، وفي مرسل قيس بن جبير: فقالوا: يا رسول الله نافق رفاعة، لكن ليس بممتنع أن يتعدد القائلون في القصة الواحدة، وفي حديث ابن عباس، عن ابن جريج عند ابن جرير أن القصة وقعت أول ما قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة، وفي إسناده ضعف، وفي مرسل الزهري أن ذلك وقع في عمرة الحديبية، وفي مرسل السدي عند الطبري أن ذلك وقع في حجة الوداع، وكأنه أخذه من قوله كانوا إذا حجوا، لكن في رواية الطبري كانوا إذا أحرموا، وهذا يتناول الحج والعمرة، والأقرب ما قال الزهري، وبين الزهري السبب في صنيعهم ذلك، فقال: كان أناس من الأنصار إذا أهلوا بالعمرة لم يحل بينهم وبين السماء شيء، فكان الرجل إذا أهل فبدت له حاجة في بيته لم يدخل من الباب من أجل السقف أن يحول بينه وبين السماء، واتفقت الروايات على نزول الآية في سبب الإحرام، إلاَّ ما أخرجه

رجاله أربعة

عبد بن حميد بإسناد صحيح عن الحسن قال: كان الرجل من الجاهلية يهم بالشيء يصنعه فيحبس عن ذلك، فلا يأتي بيتًا من قبل بابه حتى يأتي الذي كان هم به، فجعل ذلك من باب الطيرة، وغيره جعل ذلك بسبب الإحرام، وخالفهم محمد بن كعب القرظي فقال: كان الرجل إذا اعتكف لم يدخل منزله من باب البيت، فنزلت. أخرجه ابن أبي حاتم، وأغرب الزجاج فجزم بأن سبب نزولها ما روي عن الحسن، وما في الصحيح أصح، واتفقت الروايات على أن الحمس كانوا لا يفعلون ذلك، بخلاف غيرهم، وعكس ذلك مجاهد، فقال: كان المشركون إذا أحرم الرجل منهم ثقب كوة في ظهر بيته فدخل منها، فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم ومعه رجل من المشركين فدخل من الباب، وذهب المشرك ليدخل من الكوة فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما شأنك" قال: أني أحمسي فقال: "وأنا أحمسي" فنزلت. أخرجه الطبري. رجاله أربعة: قد مرّوا: وفيه لفظ رجل مبهم، مرَّ أبو الوليد في العاشر من الإِيمان، وشعبة في الثالث منه وأبو إسحاق والبراء في الثالث والثلاثين منه، والرجل المبهم قيل إنه قطبة بن عامر، وهو الصحيح، وقيل رفاعة بن تابوت وها أنا أذكر تعريف الاثنين فالأول قطبة بن عامر بن حديدة بن عمرو بن سواد، بن غنم، بن كعب ابن سلمة الأنصاري الخزرجي يكنى أبا زيد، شهد العقبة الأولى، والثانية وبدرًا، والمشاهد كلها وكانت معه راية بني سلمة يوم الفتح، وجرح يوم أحد تسع جراحات، وقال أبو معشر: رمى قطبة بن عامر يوم بدر بحجر بين الصفين، فقال: "لا أفر حتى يفر هذا الحجر" وروى الحاكم، وابن خزيمة في صحيحهما وأبو الشيخ، عن جابر كانت الحمس من قريش تدخل من أبواب البيوت، وكانت الأنصار وسائر العرب يدخلونها من ظهورها، فبينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بستان ومعه أناس من أصحابه فخرج من البستان، ومعه قطبة بن عامر فقال: أناس يا رسول الله، أن قطبة رجل فاجر قال وما ذاك فأخبروه، فقال له: "ما حملك على ذلك" قال: رأيتك فعلته ففعلت كما فعلت قال إني أحمسي قال: إن ديني دينك، فأنزل الله {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} قال البغوي: لا أعلم لقطبة بن عامر حديثًا، توفي قطبة في خلافة عمر، وقال ابن حبان بدرى، مات في خلافة عثمان. الثاني رفاعة بن تابوت الأنصاري جاء ذكره في حديث مرسل، أخرجه ابن جرير، وعبد بن حميد من طريق قيس بن جبير النهشلي قال: كانوا إذا أحرموا لم يأتوا بيتًا من قبل بابه، ولكن من قبل ظهره وكانت الحمس بخلاف ذلك، فدخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حائطًا ثم خرج من بابه فاتبعه رجل يقال له رفاعة بن تابوت، ولم يكن من الحمس فقالوا يا رسول الله نافق رفاعة فقال: "ما حملك على ما صنعت قال "تبعتك قال: إني من الحمس" قال: فإن ديننا واحد، فنزلت {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} وأما الحديث الذي أخرجه مسلم من

باب السفر قطعة من العذاب

حديث جابر أن ريحًا عظيمة هبت، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما هبت لموت منافق عظيم النفاق، وهو رفاعة بن التابوت، فهو آخر غير هذا توافق أسمهما واسم أبيهما وقد جاء من وجه آخر، رافع بن التابوت. ثم قال المصنف: باب السفر قطعة من العذاب قال ابن المنير: أشار البخاري بإيراد هذه الترجمة في أواخر أبواب الحج والعمرة، إلى أن الإقامة في الأهل أفضل من المجاهدة، وفيه نظر لا يخفى، لكن يحتمل أن يكون المصنف أشار بإيراده في الحج إلى حديث عائشة بلفظ "إذا قضى أحدكم حجه فليعجل إلى أهله". الحديث الحادي والثلاثون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ، يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ طَعَامَهُ، وَشَرَابَهُ، وَنَوْمَهُ، فَإِذَا قَضَى نَهْمَتَهُ فَلْيُعَجِّلْ إِلَى أَهْلِهِ". قوله: "عن سمي" كذا لأكثر الرواة عن مالك وكذا هو في الموطأ وصرح يحيى بن يحيى النيسابوري عن مالك، بتحديث سمي له به، وشذ خالد بن مخلد عن مالك، فقال: عن سهيل بدل سمي، وذكر الدارقطني أن ابن الماجشون رواه عن مالك عن سهيل، وأخرجه ابن عبد البر عن الدراوردي عن سهيل، عن أبيه، والصحيح عن مالك أنه عن سمي، ولم ينفرد سمي به، بل أخرجه أحمد في مسنده عن سعيد المقبري عن أبي هريرة، وأخرجه ابن عدي عن جمهان عن أبي هريرة أيضًا فلم ينفرد به أبو صالح وأخرجه الدارقطني، والحاكم، عن هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة، بإسناد جيد، فلم ينفرد به أبو هريرة بل في الباب، عن ابن عباس، وابن عمر وأبي سعيد وجابر عند ابن عدي بأسانيد ضعيفة. وقوله: "السفر قطعة من العذاب" أي جزء منه والمراد: بالعذاب الألم الناشىء عن المشقة لما يحصل في الركوب والمشي من ترك المألوف. وقوله: "يمنع أحدكم طعامه، وشرابه، ونومه" بنصب الأربعة لأن منع تتعدى إلى مفعولين، الأول أحدكم والثاني طعامه، كأنه فصله عما قبله بيانا لذلك بطريق الاستئناف، كالجواب لمن قال لم كان كذلك، فقال: يمنع أحدكم طعامه إلخ: أي: وجه التشبيه الاشتمال على المشقة، وقد ورد التعليل في رواية سعيد المقبري، ولفظه "السفر قطعة من العذاب" لأن الرجل يشتغل فيه عن صلاته وصيامه، فذكر الحديث، والمراد بالمنع في الأشياء المذكورة منع كمالها لا أصلها، وقد وقع عند الطبراني، بلفظ لا يهنأ أحدكم بنومه ولا طعامه ولا شرابه، وفي حديث ابن عمر عند ابن عدي، وأنه ليس له دواء إلاَّ سرعة السير.

رجاله خمسة

وقوله: "فإذا قضى أحدكم نهمته" بفتح النون وسكون الهاء أي: حاجته من وجهه. أي: مقصده وبيانه في حديث ابن عباس عند ابن عدي بلفظ "فإذا قضى أحدكم وطره من سفره" وفي رواية رواد بن الجراح فإذا فرغ أحدكم من حاجته. وقوله: "فليعجل إلى أهله" في رواية عتيق وسعيد المقبري: فليعجل الرجوع إلى أهله، وفي رواية أبي مصعب الكرة إلى أهله، وفي حديث عائشة فليعجل الرحلة إلى أهله فإنه أعظم لأجره، قال ابن عبد البر: زاد فيه بعض الضعفاء عن مالك، وليتخذ لأهله هدية وإن لم يجد إلاَّ حجر الزناد، قال: وهي زيادة منكرة وقد سئل إمام الحرمين حين جلس موضع أبيه لم كان السفر قطعة من العذاب؟ فأجاب على الفور لأن فيه فراق الأحباب، وفي الحديث كراهة التغرب عن الأهل لغير حاجة، واستحباب استعجال الرجوع ولاسيما من يخشى عليهم الضيعة بالغيبة، ولما في الإقامة في الأهل من الراحة المعينة على صلاح الدين والدنيا، ولما فيها من تحصيل الجماعات، والجمعات، والقوة على العبادة، والعرب تشبه الرجل في بيته بالأمير، وقيل: قوله تعالى {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} قال: من كان له دار وخادم فهو داخل في الآية، وقد أخبر الله تعالى بلطف محل الأزواج من أزواجهن بقوله {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} فقيل المودة الجماع، والرحمة الولد، وأما ما روي عن مالك من حديث أبي هريرة قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لو يعلم الناس ما للمسافر لأصبحوا على الظهر سفرا، إن الله لينظر إلى الغريب في كل يوم مرتين" قال ابن عبد البر: هذا حديث غريب لا أصل له من حديث مالك ولا غيره، وقال ابن بطال: لا تعارض بين حديث الباب وما روي عن ابن عباس وابن عمر مرفوعًا "سافروا تغنموا" وفي رواية "ترزقوا" ويروى "سافروا تصحوا" إذ لا يلزم من الصحةِ بالسفر لما فيه من الرياضة ألا يكون قطعةٌ من العذاب، لما فيه من المشقة فصار كالدواء المر المعقب للصحة، وإن كان في تناوله الكراهة، واستنبط منه الخطابي تغريب الزاني؛ لأنه قد أُمر بتعذيبه، والسفر من جملة العذاب، وفيه ما فيه مما لا يخفى. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ عبد الله بن مسلمة في الثاني عشر من الإيمان، ومرَّ أبو صالح وأبو هريرة في الثاني منه، ومرَّ مالك في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ سمي في الثاني عشر من الأذان. ثم قال المصنف:

باب المسافر إذا جد به السير يعجل إلى أهله

باب المسافر إذا جدَّ به السير يعجل إلى أهله قوله: "إذا جدَّ به السير" أي: إذا اهتم به وأسرع فيه يقال: جد يجد من باب نصر وضرب. وقوله: "يعجل إلى أهله" جواب إذا، وفي رواية الكشميهني والنسفي: ويعجل إلى أهله بالواو والجواب حينئذ محذوف تقديره ماذا يصنع ويعجل بضم الياء من التعجيل، ويروى: تعجل بفتح التاء المثناة من التعجيل. الحديث الثاني والثلاثون حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما بِطَرِيقِ مَكَّةَ، فَبَلَغَهُ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ شِدَّةُ وَجَعٍ، فَأَسْرَعَ السَّيْرَ، حَتَّى كَانَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّفَقِ نَزَلَ، فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعَتَمَةَ، جَمَعَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ، وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا. مطابقته للترجمة ظاهرة، وقد مرَّ هذا الحديث في أبواب تقصير الصلاة، في باب تصلى المغرب ثلاثًا، ومرَّ استيفاء الكلام عليه هناك، وسيأتي من هذا الوجه في أبواب الجهاد. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ سعيد بن أبي مريم في الأربعين من العلم، ومرَّ محمد بن جعفر في التاسع من الحيض، ومرَّ زيد بن أسلم في الثاني والعشرين من الإيمان، ومرَّ أبوه أسلم في الحادي والتسعين من الزكاة وفي الحديث ذكر صفية بنت أبي عبيد، وقد مرت في الثاني عشر من التقصير، ولا بأس بذكر أبيها أبي عبيد استطرادًا فأقول: هو أبو عبيد بن مسعود بن عمرو بن عمير بن عوف بن عبدة بن غيرة بن عوف بن ثقيف، ذكره ابن حجر وابن عبد البر في الصحابة، وقال الذهبي: أسلم في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو صاحب المنبر، استشهد هو وابنه جبر يوم الجسر، المعروف بجسر أبي عبيد في جمع من المسلمين قيل أربعة آلاف بين قتيل وغريق، وقيل: ألف وثمانمائة، وذلك أن عمر لما ولي الخلافة عزل خالد بن الوليد عن العراق والاعنة، وولى أبا عبيد، وذلك سنة ثلاث عشرة فلقي أبو عبيد جافان بين الحيرة

والقادسية، ففض جمعه وقتل أصحابه وأسره ففدى جافان نفسه منه، ثم جمع بزدجرد جموعا عظيمة ووجههم نحو أبي عبيد فالتقوا بعد أن عبر أبو عبيد الجسر أي: جسر الفرات إلى النهروان في المضيق فقطعوا الجسر خلفه واقتتلوا قتالًا عظيمًا ومعهم أفيلة كثيرة، وأمر أبو عبيد المسلمين أن يقتلوا الفيلة أولا، فاستوحشوها فقتلوها عن آخرها، وقدمت الفرس فيلًا أبيض عظيمًا فقدم إليه أبو عبيد فضربه بالسيف فقطع مشرفه، وقطع أبو محجن عرقوبه فحمل الفيل على أبي عبيد فتخبطه برجله، ووقف فوقه، ويقال: إنه برك عليه، وكان ذلك في آخر رمضان أو أول شوال سنة ثلاث عشرة بعد نكاية شديدة كانت منه في المشركين، وأوصى إلى عمر بن الخطاب، ورثاه أبو محجن الثقفي، وكان الذي بعث إليهم يزدجرد مردانشاه بن بهمن في أربعة آلاف دارع، وكان المثنى بن حارثة يومئذ مع أبي عبيد. وأما ابنه المختار، ويكنى بأبي إسحاق فلم يكن بالمختار، ولد عام الهجرة وليست له صحبة، ولا رؤية، وأخباره غير مرضية حكاها عنه الثقات، مثل الشعبي وسويد بن غفلة وغيرهما، وكان في أول مرة معدودًا في أهل الفضل والخير، إلى أن فارق ابن الزبير، وكان يتزين بطلب دم الحسين، ويسر طلب الدنيا، فيأتي بالكذب والجنون، وكانت إمارته ستة عشر شهرًا، وروي عن ثابت بن هرمز قال: حمل المختار مالًا من المدائن، من عند عمه إلى عليّ، فأخرج كيسًا فيه خمسة عشر درهما فقال: هذا من أجور المومسات فقال له: ويلك ما لي وللمومسات، ثم قام وعليه مقطعة حمراء، فلما سلم قال عليّ: ما له قاتله الله، لو شق عن قلب هذا الآن لوجد ملآن من حب اللات والعزى!! ويقال: إنه كان في أول أمره خارجيًا، ثم صار زيديًا، ثم صار رافضيًا، وكان يضمر بغض عليّ رضي الله تعالى عنه، وأول أمره أنه بعد موت أبيه كان بالمدينة منقطعًا إلى بني هاشم، ثم كان مع علي بالعراق، وسكن البصرة بعد عليّ، وله قصة مع الحسن بن علي لما ولي الخلافة، ووشي إلى عبيد الله بن زياد عنه، بأنه ينكر قتل الحسين فأمر بجلده وحبسه حتى أرسل ابن عمر يشفع فيه، فنفاه إلى الطائف فأقام بها حتى مات يزيد بن معاوية، وقام ابن الزبير في طلب الخلافة فحضر إليه، وعاضده وناصحه، وكان ابن الزبير ولى عبد الله بن مطيع أمر الكوفة، فطلب منه المختار أن يرسله إلى الكوفة ليؤكد أمر بيعته فأرسله ووثق به ووصى عليه، فأظهر المختار أن ابن الزبير دعا في السر للطلب بدم الحسين، ثم أراد تأكيد أمره فادعى أن محمد بن الحنفية هو المهدي الذي سيخرج في آخر الزمان، وأنه أمره أن يدعو الناس إلى بيعته، وزور على لسانه كتابًا فدخل في طاعته جم كثير، فتقوّى بهم، وقام يطلب بثأر الحسين، فاجتمع عليه بشر كثير من الشيعة بالكوفة فتغلب عليها، وتطلب قتلة الحسين، فقتلهم، قتل شمر بن ذي الجوشن الذي باشر قتل الحسين وخولي بن يزيد الذي سار برأسه إلى الكوفة، وعمر بن سعد بن أبي وقاص أمير الجيش الذين حاربوا الحسين حتى قتلوه، وقتل معه ولده حفصًا،

وأرسل إبراهيم بن الأشتر في عسكر كثيف، فلقي عبيد الله بن زياد الذي كان جهز الجيش إلى الحسين فحاربوه، فقتل عبيد الله في تلك الوقعة، فلذلك أحب المختار كثير من المسلمين، فإنه أبلى في ذلك بلاءً حسنًا، وكان يرسل المال إلى ابن عمر، وهو صهره زوج أخته صفية، وإلى ابن عباس، وإلى ابن الحنفية، ويقبلونه، ثم وقع بين ابن الزبير وابن العباس وابن الحنفية ما وقع لكونهما امتنعا من بيعته، فحصرهما ومن كان من جهتهما في الشعب، فبلغ ذلك المختار فأرسل عسكرًا كثيفًا، وأمَّر عليهم أبا عبد الله الجدلي فهجموا مكة وأخرجوهما من الشعب، فلحقا بالطائف فشكر الناس للمختار ذلك، وفي ذلك يقول المختار أنشده له المرزباني: تسربلت من همدان درعا حصينة ... ترد العوالي بالأنوف الرواغم همو نصروا آل النبي محمد ... وقد أجحفت بالناس إحدى العظائم وفوا حين أعطوا عهدهم لإمامهم ... وكفوا عن الإِسلام سيف المظالم ثم قوي مصعب بن الزبير أمير البصرة عن أخيه عبد الله على المختار بكثير من أهل الكوفة، ممن كان دخل في طاعة المختار، ورجع عنه، فلما التقى المختار ومصعب خذل المختار أولئك الذين كانوا معه، فحوصر المختار في القصر إلى أن قتل هو ومن معه، ولما انقضى المختار سار عبد الملك بن مروان، بعد قليل بجيوش الشام إلى مصعب بن الزبير فقتل، واستولى عبد الملك على البصرة، ثم على الكوفة، وذكر عبد الملك بن عمير أنه رأى عبيد الله بن زياد، وقد أتى برأس الحسين رضي الله تعالى عنه، ثم رأى المختار وقد أتي برأس عبيد الله بن زياد، ثم رأى مصعب بن الزبير وقد أتي برأس المختار، ثم رأى عبد الملك وقد أتي برأس مصعب، وقد شهد على المختار بدعوى النبوءة والكذب الصريح جماعة من أهل البيت، ومما ورد في ذلك ما أخرجه أحمد في مسند عمرو بن الحمق، عن رفاعة الغساني قال: دخلت على المختار فألقى إلى وسادة، وقال: لولا أن أخي جبرئيل قام عن هذه -وأشار إلى أخرى عنده- لألقيتها إليك، فأردت أن أضرب عنقه إلخ الحديث وقال ابن حبان في ترجمة صفية بنت أبي عبيد في الثقات: هي أخت المختار المتنبي بالعراق، وأقوى ما ورد في ذمه ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أسماء بنت أبي بكر؛ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يكون في ثقيف كذاب، ومبير" فشهدت أسماء أن الكذاب هو المختار المذكور وقد قتل المختار محمد بن عمار بن ياسر ظلمًا؛ لأنه سأله أن يحدث عن أبيه بحديث كذب، فلم يفعل فقتله، وقد قال في الإصابة: إنه إذا كان ولد سنة الهجرة، وقد صح أنه لم يبق بمكة، ولا الطائف أحد من قريش ولا ثقيف إلا شهد حجة الوداع، قال: فمن ثم يكون المختار من هذا القسم إلاَّ أن أخباره رديئة. وهذا يرد ما مرَّ من كونه لا رؤية له.

خاتمة

خاتمة اشتملت أبواب العمرة وما في آخرها من آداب الرجوع من السفر من الأحاديث المرفوعة على أربعين حديثًا، المعلق منها: أربعة، والبقية موصولة المكرر منها فيها وفيما مضى: واحد وعشرون حديثًا، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث ابن عمر في الاعتمار قبل الحج، وحديث البراء فيه، وحديث عائشة: العمرة على قدر النصب، وحديث ابن عباس في إرداف اثنين، وفيه من الموقوفات خمسة آثار منها: ثلاثة موصولة في ضمن حديث البراء. ثم قال المصنف:

أبواب المحصر، وجزاء الصيد

بسم الله الرحمن الرحيم أبواب المحصر، وجزاء الصيد وقول الله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} ثبتت البسملة للجميع، وذكر أبو ذر أبواب بلفظ الجمع، وللباقين باب بالإفراد، وقول الله بالجر عطف على المحصر وفي تفسير الإحصار اختلاف بين الصحابة وغيرهم، فقال كثير منهم: الإحصار من كل حابس حبس الحاج، من عدو ومن مرض وغير ذلك، حتى أفتى ابن مسعود رجلًا لدغ بأنه محصر، أخرجه ابن جرير عنه بإسناد صحيح، وبهذا قال عطاء بن أبي رباح، وإبراهيم النخعي والثوري، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، واحتج هؤلاء بحديث الحجاج بن عمرو الأنصاري، عند أحمد قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: من كسر أو عرج فقد حل، وعليه حجة أخرى قال: فذكرت ذلك لابن عباس وأبي هريرة فقالا: صدق، وقد أخرجه الأربعة عن يحيى بن أبي كثير به، وفي رواية لأبي داود، وابن ماجه من عرج أو كسر أو مرض، فذكر معناه، وقال آخرون: وهم: الليث بن سعد ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق: لا يكون الإحصار إلاَّ بالعدو فقط، فالمحصر بالمرض لا يحل دون البيت، وسواء عند مالك شرط على نفسه عند إحرامه التحلل أو لم يشترط، وقال الشافعي: له شرطه، وإذا نحر هديه وتحلل ينصرف، ولا قضاء عليه إلاَّ أن يكون ضرورة فيحج الفريضة، ولا خلاف بين مالك والشافعي وأصحابهما في ذلك، وقال مالك: أهل مكة في ذلك كأهل الآفاق؛ لأن الإِحصار عنده في المكي: الحبس عن عرفة خاصة، قال: فإن احتاج المريض إلى دواء تداوى به، وافتدى وهو على إحرامه لا يحل من شيء، حتى يبرأ من مرضه، فإذا برأ من مرضه مضى إلى البيت، فطاف به سبعًا، وسعى بين الصفا والمروة، وحل من حجه أو عمرته، وإذا نحر المحصر هديه هل يحلق رأسه أم لا؟ فقال قوم: ليس عليه أن يحلق؛ لأنه قد ذهب عنه النسك كله، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد، وقال آخرون: بل يحلق؛ فإن لم يحلق فلا شيء عليه، وهذا قول أبي يوسف، وقال آخرون: يحلق ويجب عليه ما يجب على الحاج والمعتمر، وهو قول مالك والشافعي، واحتج مالك والشافعي وموافقوهم على أن الإِحصار بالعدو خاصة؛ بما أخرجه عبد الرزاق والشافعي عن ابن عباس أنه قال: لا حصر إلاَّ من حبسه عدو فيحل بعمرة، وليس عليه حج ولا عمرة، وروى مالك في الموطأ والشافعي عنه عن ابن عمر قال: من حبس دون البيت بالمرض، فإنه لا يحل

حتى يطوف بالبيت، وروى مالك عن أيوب، عن رجل من أهل البصرة قال: خرجت إلى مكة حتى إذا كنت بالطريق كسرت فخذي فأرسلت إلى مكة وبها عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر والناس فلم يرخص لي أحد أن أحل، فأقمت على ذلك الماء تسعة أشهر، ثم حللت بعمرة، وأخرجه ابن جرير من طرق، وسمى الرجل يزيد بن عبد الله بن الشخير، وقال الشافعي: جعل الله على الناس إتمام الحج والعمرة، وجعل التحلل للمحصر رخصة، وكانت الآية في شأن منع العدو فلم نعد بالرخصة موضعها. والثالث: قول ابني الزبير عبد الله وعروة: إن المرض والعدو سواء، لا يحل بالطواف، ولا نعلم لهما موافقًا من فقهاء الأمصار. والقول الرابع: حكاه ابن جرير وغيره: وهو أنه لا حصر بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وروى مالك في الموطأ عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه: المحرم لا يحل حتى يطوف أخرجه في باب ما يفعل من أحصر بغير عدو، وأخرج ابن جرير عن عائشة بإسناد صحيح قالت: لا أعلم المحرم يحل بشيء دون البيت، وعن ابن عباس بإسناد ضعيف قال: لا إحصار اليوم، وروي ذلك عن عبد الله بن الزبير، والسبب في اختلافهم في ذلك اختلافهم في تفسير الإِحصار، فالمشهور عن أكثر أهل اللغة، منهم: الأخفش والكسائي، أن الإحصار إنما يكون بالمرض، وأما بالعدو فهو الحصر، وبهذا جزم النحاس وأثبت بعضهم أن أحصر وحصر بمعنى واحد، يقال في جميع ما يمنع الإنسان من التصرف، قال تعالى {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ} وإنما كانوا لا يستطيعون من منع العدو إياهم، وأما مالك والشافعي فحجتهم في أن لا إحصار بالعدو اتفاق أهل النقل على أن الآيات نزلت في قصة الحديبية حين صد النبي -صلى الله عليه وسلم- عن البيت فسمى الله تعالى صدر البيت إحصارًا، وحجة الآخرين التمسك بعموم قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} وما مرَّ من الأحاديث، وقوله تعالى {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} روي عن ابن عباس أنه قال: من الأزواج الثمانية، وروي عنه أنه قال: شاة، وبهذا قال عطاء، ومجاهد، وهو مذهب الأئمة الأربعة، وروى عبد الرزاق عنه أنه قال: بقدر يسارته، وقال العوفي عنه: إن موسرًا فمن الإبل، وإلا فمن البقر، وإلاَّ فمن الغنم، وروى ابن أبي حاتم عن عائشة، وابن عمر أنهما كانا لا يريان ما استيسر من الهدي إلاَّ من الإبل والبقر، والظاهر أن مستند هؤلاء فيما ذهبوا إليه قصة الحديبية، فإنه لم ينقل عن أحد منهم أنه ذبح في تحلله ذاك شاة، وإنما ذبحوا الإبل والبقر ففي الصحيحين عن جابر قال: أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بقرة. وقوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ} عطف على قوله {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وليس معطوفا على قوله {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} كما زعمه ابن جرير؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه عام

الحديبية لما حصرهم كفار قريش عن الدخول إلى الحرم، حلقوا وذبحوا هديهم خارج الحرم، وأما في حال الأمن والوصول، فلا يجوز الحلق حتى يبلغ الهدي محله، ويفرغ الناس من أفعال الحج والعمرة -إن كان قارنًا- أو من فعل أحدهما -إن كان مفردًا- أو متمتعًا. ثم قال: "وقال عطاء: الإحصار من كل شيء يحبسه". في اقتصاره على تفسير عطاء إشارة إلى أنه اختار القول بتعميم الإحصار، وهي مسألة اختلاف كما مرَّ مستوفى قريبًا، وهذا الأثر وصله عبد بن حميد عن ابن جريج، عنه قال: في قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} قال: الإحصار من كل شيء يحبسه، وروى ابن المنذر، عن ابن عباس نحوه، ولفظه، فإن أُحصرتم قال: من أحرم بحج أو عمرة، ثم حبس عن البيت بمرض يجهده، أو عدو يحبسه، فعليه ذبح ما استيسر من الهدي، فإن كانت حجة الإِسلام فعليه قضاؤها، وإن كانت حجة بعد الفريضة فلا قضاء عليه، وقد وصله ابن أبي شيبة أيضًا، وعطاء قد مرَّ في التاسع والثلاثين من العلم. ثم قال: "قال أبو عبد الله: حصورا لا يأتي النساء". هكذا ثبت هذا التفسير هنا في رواية المستملي خاصة، ونقله الطبري عن سعيد بن جبير وعطاء ومجاهد، وقد حكاه أبو عبيدة في المجاز، وقال: إن له معاني أخرى فذكرها، وهو بمعنى محصور؛ لأنه منع مما يكون من الرجال، وقد ورد فعول بمعنى مفعول كثيرًا، وكان البخاري أراد بذكر هذه الآية الإشارة إلى أن المادة واحدة، والجامع بين معانيها المنع، قال القاضي عياض: اعلم أن ثناء الله تعالى على يحيى بأنه حصور ليس كما قاله بعضهم من أنه كان هيوبا أو لا ذكر له، بل أنكر حذاق المفسرين ونقاد العلماء وقالوا: هذه عيب ونقيصة، ولا يليق بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وإنما معناه معصوم من الذنوب لا يأتيها، كأنه حصر عنها، وقيل: مانعًا نفسه من الشهوات، وقيل: ليست له شهوة في النساء، والمقصود أنه مدح يحيى بأنه حصور ليس أنه لا يأتي النساء كما قيل، بل معناه أنه معصوم من الفواحش والقاذورات، ولا يمنع ذلك من تزويجه بالنساء الحلال، وغشيانهن وإيلادهن بل قد يفهم وجود النسل من دعاء زكريا عليه السلام حيث قال: {هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} كأنه سأل ولدا له ذرية ونسل وعقب. ثم قال المصنف:

باب إذا أحصر المعتمر

باب إذا أحصر المعتمر قيل: غرض المصنف بهذه الترجمة الرد على من قال: التحلل بالإحصار خاص بالحاج، بخلاف المعتمر فلا يتحلل بذلك، بل يستمر على إحرامه حتى يطوف بالبيت؛ لأن السَّنَة كلها وقت للعمرة فلا يخشى فواتها بخلاف الحج، وهو محكي عن مالك، واحتج القاضي إسماعيل بما أخرجه بإسناد صحيح عن أبي قلابة، قال: خرجت معتمرًا فوقعت عن راحلتي فانكسرت، فأرسلت إلى ابن عباس وابن عمر فقالا: ليس لها وقت كالحج، يبقى على إحرامه حتى يصل إلى البيت، قلت: الرجل المار الذي وقع له مثل هذه القصة يمكن أن يفسر بأبي قلابة المصرح به هنا، لولا ما مرَّ من تفسير ابن جرير له بأنه يزيد بن عبد الله بن الشخير فتأمل. الحديث الأول حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما حِينَ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ مُعْتَمِرًا فِي الْفِتْنَةِ، قَالَ: إِنْ صُدِدْتُ عَنِ الْبَيْتِ صَنَعْتُ كَمَا صَنَعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. فَأَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ. قوله: "إن عبد الله بن عمر حين خرج إلى مكة" الخ. هذا السياق يشعر بأنه عن نافع عن ابن عمر بغير واسطة، لكن رواية جويرية التي بعده تقتضي أن نافعًا حمل ذلك عن سالم وعبيد الله ابني عبد الله بن عمر عن أبيهما، حيث قال فيها: عن نافع أن عبيد الله بن عبد الله، وسالم بن عبد الله أخبراه أنهما كلما عبد الله بن عمر فذكر القصة، وهو في رواية عبد الله بن محمد بن أسماء عن جويرية، ولكن في رواية موسى ابن إسماعيل: عن جويرية عن نافع أن بعض بني عبد الله بن عمر قال له: فذكر الحديث، وظاهره أنه لنافع عن ابن عمر بغير واسطة، وقد عقب البخاري رواية عبيد الله برواية موسى لينبه على الإختلاف في ذلك، واقتصر في رواية موسى هنا على الإسناد، وساقه في المغازي بتمامه، والذي يترجح أن ابني عبد الله أخبرا نافعًا بما كلما به أباهما، وأشارا عليه به من التأخير ذلك العام، وأما بقية القصة فشاهدها نافع، وسمعها من ابن عمر لملازمته إياه، فالمقصود من الحديث موصول، وعلى تقدير أن يكون نافع لم يسمع شيئًا من ذلك من ابن عمر، فقد عرف الواسطة بينهما؛ وهما ولدا عبد الله ابن عمر سالم وعبيد الله، وهما ثقتان لا مطعن فيهما، وفي رواية جويرية

رجاله أربعة

المذكورة: عبيد الله بن عبد الله بالتصغير، وفي رواية يحيى القطان: عبد الله بالتكبير، قال البيهقي: عبد الله مكبرًا أصح وليس بمستبعد أن يكون كل منهما كلّم أباه في ذلك، ولعل نافعًا حضر كلام عبد الله المكبر مع أخيه سالم، ولم يحضر كلام عبيد الله المصغر مع أخيه سالم أيضًا، بل أخبراه بذلك فقص عن كل ما انتهى إليه علمه. وقوله: "معتمرًا" في الموطأ: خرج إلى مكة يريد الحج، فقال: إن صددت، فذكره ولا اختلاف، فإنه خرج أولًا يريد الحج، فلما ذكروا له أمر الفتنة أحرم بالعمرة، ثم قال: ما شأنهما إلاَّ واحدًا، فأضاف إليها الحج فصار قارنًا. وقوله: "في الفتنة" بينه في رواية جويرية فقال: "ليالي نزل الجيش بابن الزبير" وقد مضى في باب طواف القارن بلفظ: حين نزل الحجاج بابن الزبير، ولمسلم: حين نزل الحجاج لقتال ابن الزبير، وقد مرَّ في باب من اشترى هديه من الطريق بلفظ: أراد ابن عمر الحج عام حج الحرورية، وتقدم طريق الجمع بينه وبين رواية الباب في الباب المذكور. وقوله: "إن صددت عن البيت" هذا الكلام قاله جوابًا لقول من قال له: إنا نخاف أن يحال بينك وبين البيت، كما أوضحته الرواية التي بعد هذه. وقوله: "كما صنعنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، في رواية موسى بن عقبة فقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} إذن اصنع كما صنع، زاد في رواية الليث في باب طواف القارن: كما صنع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وقوله: "فأهل" يعني ابن عمر، والمراد أنه رفع صوته بالإهلال والتلبية، زاد في رواية جويرية التي بعد هذه: فلما خرجنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فحال كفار قريش دون البيت، فنحر النبي -صلى الله عليه وسلم- هديه، وحلق رأسه. وقوله: "من أجل أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان أهل بعمرة عام الحديبية" قال النووي: معناه أنه أراد إن صددت عن البيت وأحصرت، تحللت من العمرة، كما تحلل النبي -صلى الله عليه وسلم- من العمرة، وقال عياض: يحتمل أن المراد أهل بعمرة كما أهل النبي -صلى الله عليه وسلم- بعمرة، ويحتمل أنه أراد الأمرين أي: من الإهلال والإحلال، وهو الأظهر، وتعقبه النووي، وليس هو بمردود. وقوله: "بعمرة" زاد في رواية جويرية: "من ذي الحليفة"، وفي رواية أيوب الماضية: "فأهلَّ بالعمرة من الدار" إلى آخر ما مرَّ مستوفى في باب طواف القارن فراجعه. رجاله أربعة: قد مرّوا: مرَّ عبد الله بن يوسف ومالك في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ نافع في الأخير من العلم، ومرَّ ابن عمر في أول الإيمان قبل ذكر حديث منه. أخرجه البخاري أيضًا في الحج، وفي المغازي، ومسلم في الحج.

الحديث الثاني

الحديث الثاني حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ، حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَسَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَاهُ أَنَّهُمَا كَلَّمَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما لَيَالِىَ نَزَلَ الْجَيْشُ بِابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالاَ: لاَ يَضُرُّكَ أَنْ لاَ تَحُجَّ الْعَامَ، وَإِنَّا نَخَافُ أَنْ يُحَالَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْبَيْتِ. فَقَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ دُونَ الْبَيْتِ، فَنَحَرَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- هَدْيَهُ، وَحَلَقَ رَأْسَهُ، وَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ الْعُمْرَةَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْطَلِقُ، فَإِنْ خُلِّيَ بَيْنِى وَبَيْنَ الْبَيْتِ طُفْتُ، وَإِنْ حِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فَعَلْتُ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَأَنَا مَعَهُ. فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّمَا شَأْنُهُمَا وَاحِدٌ، أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ حَجَّةً مَعَ عُمْرَتِي". فَلَمْ يَحِلَّ مِنْهُمَا حَتَّى حَلَّ يَوْمَ النَّحْرِ، وَأَهْدَى، وَكَانَ يَقُولُ: "لاَ يَحِلُّ حَتَّى يَطُوفَ طَوَافًا وَاحِدًا يَوْمَ يَدْخُلُ مَكَّةَ". وهذا الحديث رواية من الذي قبله، والكلام على ما قبله كلام عليه. رجاله سبعة: وفيه ذكر ابن الزبير وقد مرَّ الجميع: مرَّ عبد الله بن محمد بن أسماء في الثالث من الجمعة، ومرَّ جويرية بن أسماء في الأربعين من الغسل، ومرَّ عبيد الله العمري في الرابع عشر من الوضوء، ومرَّ سالم في السابع عشر من الإيمان، ومرَّ محل نافع وابن عمر في الذي قبله، ومرَّ ابن الزبير في الثامن والأربعين من العلم. الحديث الثالث حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ بَعْضَ بَنِي عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَوْ أَقَمْتَ بِهَذَا. هذه أيضًا رواية من الذي قبله، وبعض بني عبد الله تقدَّم اسمه في الرواية التي قبله، وأنه سالم بن عبد الله، وأخوه عبيد الله أو عبد الله، ولم يظهر من الذي تولى مخاطبته منهم، وفي رواية القعنبي عن مالك أول أحاديث الباب زيادة وهي: أهدى شاة قال ابن عبد البر: هي زيادة غير محفوظة لأن ابن عمر كان يفسر ما استيسر من الهدي، بأنه بدنة دون بدنة أو بقرة دون بقرة، فكيف يهدي شاة. رجاله أربعة: قد مرّوا: مرَّ موسى بن إسماعيل في الخامس من بدء الوحي، ومرَّ محل الباقين في الذي قبله. الحديث الرابع حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلاَّمٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ

رجاله ستة

أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: قَدْ أُحْصِرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَحَلَقَ رَأْسَهُ وَجَامَعَ نِسَاءَهُ، وَنَحَرَ هَدْيَهُ، حَتَّى اعْتَمَرَ عَامًا قَابِلاً. قوله: "حدَّثنا محمد" جاء في جميع الروايات غير منسوب ويأتي ما قيل فيه في السند. وقوله: "قال: فقال ابن عباس" هكذا في جميع النسخ، وهو يقتضي سبق كلام يعقبه قوله: فقال ابن عباس، ولم ينبه عليه أحد من شراح هذا الكتاب، قال في الفتح: وقفت عليه في كتاب الصحابة لابن السكن بسنده عن يحيى بن أبي كثير قال: سألت عكرمة، فقال: قال عبد الله بن رافع مولى أم سلمة: أنها سألت الحجاج بن عمرو الأنصاري عمن حبس وهو محرم، فقال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من عرج أو كسر أو حبس فليجزىء مثلها، وهو في حل"، قال: فحدثت به أبا هريرة فقال: صدق، وحدثته ابن عباس فقال: قد أحصر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فحلق ونحر هديه، وجامع نساءه حتى اعتمر عاما قابلًا، فعرف بهذا السياق القدر الذي حذفه البخاري من هذا الحديث، والسبب في حذفه أن الزائد ليس على شرطه، لأنه قد اختلف في حديث الحجاج بن عمرو على يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، مع كون عبد الله بن رافع ليس من شرط البخاري، فأخرجه أصحاب السنن، وابن خزيمة، والدارقطني والحاكم من طرق، عن الحجاج الصواف، عن يحيى، عن عكرمة، عن الحجاج به وقال في آخره: قال عكرمة: فسألت أبا هريرة، وابن عباس فقالا: صدق، وفي رواية يحيى القطان وغيره في سياقه: سمعت الحجاج، وأخرجه أبو داود والترمذي عن معمر، عن يحيى، عن عكرمة، عن عبد الله بن رافع، عن الحجاج، قال الترمذي: تابع على زيادة عبد الله بن رافع معاويةِ بنُ سلام، وسمعت محمدًا البخاري يقول: رواية معمر ومعاوية أصح، فاقتصر البخاري على ما هو من شرطه، مع أن الذي حذفه ليس بعيدًا من الصحة، فإن كان عكرمة سمعه من الحجاج بن عمرو فذاك، وإلاَّ فالواسطة بينهما -وهو عبد الله بن رافع- ثقة، وإن كان البخاري لم يخرج له. وهذا الحديث قد مرَّ أنه احتج به من عمم الإحصار بالعدو والمرض، إلى آخر ما مرَّ. رجاله ستة: مرَّ منهم: يحيى بن صالح في الثالث عشر من كتاب الصلاة، ومرَّ معاوية بن سلام في السادس من الكسوف، ومرَّ يحيى بن أبي كثير في الثالث والخمسين من العلم، ومرَّ عكرمة في السابع عشر منه، ومرَّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي، ومحمد شيخ البخاري جاء غير منسوب، واختلف فيه فقيل: إنه محمد بن يحيى الذهلي، وقد مرَّ في العشرين من العيدين، وقيل: هو محمد بن مسلم، وقيل: محمد بن إدريس، وقيل: محمد بن إسحاق الصغاني، وهاأنا أذكر تعريف الثلاثة على أنهم معنى واحد منهم.

فالأول: محمد بن مسلم بن عثمان بن عبد الله الرازي أبو عبد الله بن واره الحافظ، قال النسائي: ثقة صاحب سنة وقال ابن أبي حاتم: سمعت منه، وهو صدوق ثقة، وجدت أبا زرعة كتب عنه، وكان أبو زرعة يكرمه ويبجله، وكان أبو زرعة لا يقوم لأحد ولا يجلس أحدًا في مكانه إلاَّ ابن وارة، وقال فضلك الرازي: أحفظ من رأيت ثلاثة: أبو مسعود وابن وارة وأبو زرعة، وقال الطحاوي: ثلاثة من علماء الزمان بالحديث، اتفقوا بالرأي، لم يكن في الأرض في وقتهم مثلهم: أبو زرعة، وأبو حاتم، وابن وارة، وقال ابن خراش: كان محمد بن مسلم من أهل هذا الشأن المتقنين الأمناء، قال: وكنت عند محمد بن مسلم ليلة فذكر أبا إسحاق السبيعي، فذكر شيوخه، فذكر في طلق واحد سبعين ومائتي رجل، ثم قال: كان غاية، كان شيئًا عجبًا، وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: كان صاحب حديث يحفظ على صلف فيه، وقال الخطيب: كان متقنًا عالمًا حافظًا فهمًا، وقال مسلمة بن قاسم: كان ثقة من الحفاظ، ومن أئمة المسلمين صاحب سنة، وقال الحاكم: كان أحد أئمة أهل الحديث، روى أنه طرق باب رجل من المحدثين فقال: من؟ قال: ابن وارة، أبو الحديث وأمه، وقال زكرياء الساجي: جاء ابن وارة إلى أبي كريب، وكان في ابن وارة باء فقال لأبي كريب: ألم يبلغك خبري، ألم يأتك نبأي؟ أنا ذو الرحلتين، أنا محمد بن مسلم بن وارة، فقال له أبو كريب: وارة، وما وارة، وما أدراك ما وارة؟ قم فوالله لا حدثتك، وقال سليمان الشاذكوني: جاءني ابن وارة فقعد يتقعر في كلامه، فقلت: من روى؟ "إن من الشعر حكمة، وأن من البيان لسحرًا؟ " قال: حدثني بعض أصحابي، فقلت: من هم؟ قال: أبو نعيم، وقبيصة، قلت: هات يا غلام الدرة فضربته، وقلت: ما آمن إذا خرجت من عندي أن تقول حدَّثنا بعض علمائنا. روى عن محمد بن المبارك الصوري، وهوذة بن خليفة، والهيثم بن جميل، وروى عنه النسائي والذهلي وهو أكبر منه، والبخاري في غير الجامع، وقيل: فيه في هذا المحل، وغيرهم، مات سنة خمس وستين ومائتين وقيل سنة سبعين. الثاني: أبو حاتم الرازي محمد بن إدريس بن المنذر بن داود بن مهران الحنظلي الحافظ الكبير، أحد الأئمة، قال أبو بكر الخلال: أبو حاتم إمام الحديث، روى عن أحمد مسائل كثيرة وقعت لنا متفرقة، كلها غريب، وقال ابن خراش: كان من أهل الأمانة والمعرفة، وقال النسائي: ثقة، وقال أبو نعيم: إمام في الحفظ، وقال اللالكائي: كان إماما عالمًا بالحديث، حافظًا له، متقنًا ثبتًا، وقال ابن أبي حاتم: سمعت موسى بن إسحاق القاضي يقول: ما رأيت مثل والدك قلت له: أرأيت أبا زرعة؟ قال: لا، وقال: سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول: أبو زرعة وأبو حاتم إماما خراسان، ودعا لهما، وقال: بقاؤهما صلاح للمسلمين، وقال الخطيب: كان أحد الأئمة الحفاظ الأثبات، مشهورًا بالعلم، مذكورًا بالفضل، وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: خرجت في طلب الحديث، أقمت سنين أحسب، ومشيت على

قدمي زيادة على ألف فرسخ، وأقمت بالبصرة ثمانية أشهر، قد كنت عزمت على أن أقيم سنة، فانقطعت نفقتي فجعلت أبيع ثيابي شيئًا فشيئًا، حتى بقيت بلا شيء، وقال أيضًا: سمعت أبي يقول: قلت على باب أبي الوليد الطيالسي: من أغرب عليّ حديثًا صحيحًا مسندًا لم أسمع به فله عليّ درهم يتصدق به، وهناك خلق من الخلق؛ أبو زرعة فمن دونه، وإنما كان مرادي أن أستخرج منهم ما ليس عندي، فما تهيأ لأحد منهم أن يغرب عليّ حديثًا، وقال أحمد بن سلمة النيسابوري: ما رأيت بعد إسحاق، ومحمد بن يحيى أحفظ للحديث، ولا أعلم بمعانيه من أبي حاتم، وقال عثمان بن جُرَّزاذ أحفظ من رأيت أربعة: إبراهيم بن عرعرة، ومحمد بن المنهال الضرير، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وقال حجاج بن الشاعر -وذكر له: أبو زرعة وأبو حاتم وابن وارة وأبو جعفر الدارمي-: ما بالمشرق قوم أنبل منهم، وقال مسلمة في "الصلة": كان ثقة وكان شيعيا مفرطًا، وحديثه مستقيم، ولم ينسبه أحد للتشيع غير هذا الرجل، نعم ذكر السليماني ابنه عبد الرحمن من الشيعة الذين كانوا يقدمون عليَّاً على عثمان، كالأعمش وعبد الرزاق، فلعله تلقف ذلك عن أبيه، ومن حفظه ما رواه ابنه عنه أنه قال: قدم محمد بن يحيى النيسابوري الريّ، فألقيت عليه ثلاثة عشر حديثًا من حديث الزهري، فلم يعرف منها إلاَّ ثلاثة، وهذا يدل على حفظ عظيم، فإن الذهلي شهد له مشايخه وأهل عصره بالتبحر في معرفة حديث الزهري، ومع ذلك أغرب عليه أبو حاتم، وقد ترجمه ولده ترجمة مليحة، فيها أشياء تدل على عظم قدره، وجلالته، وسعة حفظه، روى عن محمد بن عبد الله الأنصاري، وعثمان بن الهيثم، وعفان بن مسلم، وغيرهم، وروى عنه أبو داود والنسائي، وابن ماجه في التفسير، وروى البخاري عنه هنا على ما قيل: إنه هو المعني، ولد سنة خمس وتسعين ومائة، ومات بالريّ في شعبان سنة سبع أو تسع وسبعين ومائتين. الثالث: محمد بن إسحاق بن جعفر أبو بكر الصاغاني خراساني الأصل، أنزل بغداد، وكان أحد الحفاظ الرحالين، قال ابن أبي حاتم: سمعت منه مع أبي وهو ثبت، صدوق، وقال النسائي: ثقة، وقال في موضع آخر: لا بأس به، وقال ابن خراش: ثقة مأمون، وقال الدارقطني: ثقة، وفوق الثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الخطيب: كان أحد الأثبات المتقنين مع صلابة في الدين، واشتهار بالسنة، واتساع في الرواية، وقال أبو مزاحم الخاقاني: كان الصاغاني يشبه يحيى بن معين في وقته، وقال مسلمة في "الصلة": كان ثقة مأمونًا، وقال أبو حاتم الرازي: ثقة، وقال الدارقطني أيضًا: هو وجه مشايخ بغداد وفي "الزهرة": روى عنه مسلم اثنين وثلاثين حديثًا، وروى عن روح بن عبادة، وعفان وقراد أبي نوح وغيرهم، وروى عنه الجماعة سوى البخاري، وقيل: إنه روى عنه هنا، وروى عنه أبو عمر الدوري، وهو أكبر منه وغيرهم، مات يوم الخميس لسبع خلون من صفر سنة سبعين ومائتين. ثم قال المصنف:

باب الإحصار في الحج

باب الإحصار في الحج قال ابن المنير: أشار البخاري إلى أن الإحصار في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما وقع في العمرة، وقاس العلماء الحج على ذلك، وهو من الإلحاق بنفي الفارق، وهو من أقوى الأقيسة، وهذا مبني على أن المراد بقول ابن عمر: سنة نبيكم، قياس من يحصل له الإحصار وهو حاج، على من يحصل له في الاعتمار؛ لأن الذي وقع للنبي -صلى الله عليه وسلم- هو الإحصار عن العمرة، ويحتمل أن يكون ابن عمر أراد بقوله: سنة نبيكم وبما بينه بعد ذلك شيئًا سمعه من النبي -صلى الله عليه وسلم- في حق من يحصل له ذلك، وهو حاج. الحديث الخامس حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي سَالِمٌ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: أَلَيْسَ حَسْبُكُمْ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، إِنْ حُبِسَ أَحَدُكُمْ عَنِ الْحَجِّ طَافَ بِالْبَيْتِ، وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى يَحُجَّ عَامًا قَابِلاً، فَيُهْدِي أَوْ يَصُومُ، إِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا. قوله: أليس حسبكم سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بنصب سنة خبر ليس واسمها حسبكم، وقال عياض: بالنصب على الاختصاص، أو على إضمار فعل أي: تمسكوا ونحوه، وقال السهيلي: من نصب سنة فالكلام أمر بعد أمر كأنه قال: الزموا سنة نبيكم، كما قال: يا أيها المائح دلوي دونك فدلوي منصوب بإضمار فعل أمر ودونك أمر آخر. وقوله: "إن حبس أحدكم عن الحج" أي: بأن منع عن الوقوف بعرفة، وقوله: "طاف بالبيت وبالصفا والمروة" جواب الشرط أي: إذا أمكنه ذلك، تفسير للسنة، وهل لها حينئذ محل أو لا قولان، وفي حديث: إن حبس أحدًا منكم حابس عن البيت، فإذا وصل إليه طاف به. وقوله: "فيهدي بذبح شاة" إذ التحلل لا يحصل إلاَّ بنية التحلل والذبح والحلق. وقوله: "أو يصوم إن لم يجد هديًا" حيث شاء، ويتوقف تحلله على الإطعام كتوقفه على الذبح، لا على الصوم لأنه يطول زمنه، فتعظم المشقة في الصبر على الإحرام إلى فراغه.

رجاله ستة

رجاله ستة: قد مرّوا: مرَّ أحمد بن محمد في الثالث والمائة من الوضوء، ومرَّ عبد الله بن المبارك في السادس من بدء الوحي، ومرَّ يونس بن يزيد في متابعة بعد الرابع منه، ومرَّ الزهري في الثالث منه، ومرَّ سالم في السابع عشر من الإيمان، ومرَّ أبوه عبد الله في أوله قبل ذكر حديث منه، أخرجه النسائي. ثم أتى برواية للحديث فقال: وعن عبد الله قال: أخبرنا معمر عن الزهري قال: حدثني سالم عن ابن عمر نحوه، وهذا معطوف على الإسناد الأول، فكان ابن المبارك كان يحدث به تارة عن يونس، وتارة عن معمر، وليس هو بمعلق كما ادعاه بعضهم، وقد أخرجه الترمذي عن ابن المبارك عن معمر ولفظه أنه كان ينكر الاشتراط ويقول: أليس حسبكم سنة نبيكم، وهكذا أخرجه الإسماعيلي والدارقطني وأحمد بن منيع كلّهم عن ابن المبارك، وأما إنكار ابن عمر الاشتراط فثابت أيضًا في رواية يونس، إلاَّ أنه حذف في رواية البخاري هذه، فأخرجه البيهقي عن أبي كريب عن ابن المبارك، عن يونس وأشار ابن عمر بإنكار الاشتراط إِلى ما كان يفتي به ابن عباس، قال البيهقي: لو بلغ ابن عمر حديث ضباعة في الاشتراط لقال به، وأخرجه الشافعي عن ابن عيينة، عن هشام بن عروة، عن أبيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرَّ بضباعة بنت الزبير فقال: أما تريدين الحج، فقالت: إني شاكية، فقال لها حجي واشترطي أن مَحِلِّي حيث حبستني، قال الشافعي: لو ثبت حديث عروة لم أعده إِلى غيره؛ لأنه لا يحل عندي خلاف ما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال البيهقي: قد ثبت هذا الحديث من أوجه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد أخرجه البخاري عن أبي أسامة في كتاب النكاح، ولقصة ضباعة شواهد منها: حديث ابن عباس أن ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب أتت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: إِني امرأة ثقيلة -أي: في الضعف- وإني أريد الحج، فما تأمرني؟ قال: "أهلي بالحج واشترطي أن مَحِلِّي حيث تحبسني" قال: فأدركت، أخرجه مسلم وأصحاب السنن والبيهقي بطريق عن ابن عباس وصح القول بالاشتراط عن عمر وعثمان وعلي وعمار وابن مسعود وعائشة وغيرهم من الصحابة، ولم يصح إنكاره عن أحد من الصحابة، إلاَّ عن ابن عمر ووافقه جماعة من التابعين، ومن بعدهم من الحنفية والمالكية، وقالوا: إِن اشترط فليس له أن يخرج من إحرامه، فيرونه كمن لم يشترط، وتأولوا حديث ضباعة بأنه خاص، حكاه الخطابي ثم الروياني من الشافعية، وقال النووي: إنه باطل، وقيل معناه: مَحِلِّي حيث حبسني الموت إذا أدركتني الوفاة، انقطع إِحرامي، حكاه إمام الحرمين، وأنكره النووي أيضًا، وقيل: إن الشرط خاص بالتحلل من العمرة، لا من الحج حكاه المحب الطبري، وقصة ضياعه ترده كما مرَّ، وقيل: إنها قضية عين لا عموم فيها،

رجاله أربعة

وحكى عياض عن الأصيلي قال: لا يثبت في الاشتراط إسناد صحيح، وقد قال عياض: قال النسائي: لا أعلم أسنده عن الزهري غير معمر، وتعقبه النووي بأن الذي قاله غلط فاحش، لأن الحديث مشهور صحيح من طرق متعددة، وقول النسائي لا يلزم منه تضعيف طريق الزهري التي تفرد بها، فضلًا عن بقية الطرق لأن معمرًا ثقة حافظ فلا يضره التفرد، كيف وقد وجد لما رواه شواهد كثيرة. والذي تحصل من الاشتراط في الحج والعمرة أقول: أحدها: مشروعيته، ثم اختلف من قال به، فقيل: واجب لظاهر الأمر، وهو قول الظاهرية، وقيل مستحب وهو قول أحمد، وغلط من حكى عنه إنكاره، وقد مرَّ ما قاله فيه مالك وأبو حنيفة، وقيل: جائز، وهو المشهور عند الشافعية، وقطع به الشيخ أبو حامد، والحق أن الشافعي نص عليه في القديم، وعلق القول بصحته في الجديد فصار الصحيح عنه القول به، وبذلك جزم الترمذي عنه، وهو أحد المواضع التي علق القول بها على صحة الحديث، وقيس عند الشافعية بالحج العمرة، وتحرير مذهبهم هو أنه إذا شرط التحلل بلا هدي لم يلزمه هدي عملًا بشرطه، وكذا لو أطلق لعدم الشرط، ولظاهر حديث ضباعة فالتحلل فيهما يكون بالنية فقط، فإن شرطه بهدي لزمه عملًا بثرطه، ولو قال: إن مرضت فأنا حلال، فمرض صار حلالًا بالمرض من غير نية، وعليه حملوا حديث: "من كسر أو عرج فقد حل، وعليه الحج من قابل" وقد مرَّ الحديث في الباب الذي قبله، وإن شرط قلب الحج عمرة بالمرض أو نحوه جاز، كما لو اشترط التحلل به، بل أولى، ولقول عمر لأبي أمية سويد بن غفلة: حج واشترط وقيل: اللهم الحج أردت، وله عمدت فإن تيسر وإلاَّ فعمرة، رواه البيهقي بإسناد حسن، ولقول عائشة لعروة: هل تستثني إذا حججت؟ فقال: ماذا أقول؟ قالت: قل: اللهم الحج أردت، وله عمدت فإن يسرته فهو الحج، وإن حبسني حابس فهو عمرة، رواه الشافعي والبيهقي بإسناد صحيح على شرط الشيخين، فله في ذلك إذا وجد العذر أن يقلب حجة عمرة، وتجزئه عن عمرة الإِسلام، ولو شرط أن يقلب حجه عمرة عند العذر انقلب حجه عمرة، وأجزأته عن عمرة الإِسلام، كما صرح به البلقيني بخلاف عمرة التحلل في الإحصار لا تجزيء عن عمرة الإِسلام لأنها في الحقيقة ليست عمرة، وإنما هي أعمال عمرة. رجاله أربعة: مرَّ محلهم في الذي قبله إلاَّ معمر، وقد مرَّ في متابعة بعد الرابع من بدىء الوحي. ثم قال المصنف:

باب النحر قبل الحلق في الحصر

باب النحر قبل الحلق في الحصر الحديث السادس حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ عَنِ الْمِسْوَرِ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- نَحَرَ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ. هذا طرف من حديث طويل أخرجه المصنف في باب الشروط في الجهاد في كتاب الشروط من الوجه المذكور هنا، ولفظه في أواخر الحديث: فلما فرغ من قضية الكتاب، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: "قوموا فانحروا، ثم احلقوا" فذكر بقية الحديث، وفيه قول أم سلمة للنبي -صلى الله عليه وسلم- أخرج، ثم لا تكلم أحدًا منهم حتى تنحر بدنك، فخرج فنحر بدنه، ودعا، وعرف بهذا أن المصنف أورد القدر المذكور هنا بالمعنى. وأشار بقوله في الترجمة "في الحصر" إلى أن هذا الترتيب يختص بحال من أحصر، وقد تقدم أنه لا يجب عليه في حال الاختيار في باب الفتيا على الدابة عند الجمرة، ولم يتعرض المصنف لما يجب على من حلق قبل أن ينحر، وروى ابن أبي شيبة عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، قال: عليه دم، قال إبراهيم: حدثني سعيد بن جبير، عن ابن عباس مثله، فإن قلت: قوله تعالى {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} يقتضي تأخر الحلق عن النحر فكيف يكون متقدمًا أجيب بأن ذلك في غير الإحصار أما نحر هدي المحصر فحيث أحصر، وهناك قد بلغ محله فقد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام تحلل بالحديبية، ونحر بها بعد الحلق، وهي من الحل لا من الحرم، وفي الحديث: "إن المحصر إذا أراد التحلل يلزمه دم يذبحه"، وقال المالكية: لا هدي عليه إذا تحلل، وهو مذهب ابن القاسم، وأجاب عن قوله تعالى {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} بأن أحصر الرباعي في الحصر بالمرض، وحصر الثلاثي في الحصر بالعدو، قال القاضي: ونقل بعض أئمة اللغة يساعدهم، والحديث حجة عليهم لأنه نقل فيه حكم وسبب، فالسبب الحصر، والحكم النحر، فاقتضى الظاهر تعلق الحكم بذلك السبب، قاله ابن التيمي، وقد سبق البحث في أحصر وحصر. رجاله ستة: قد مرّوا: مرَّ محمود بن غيلان في السابع والأربعين من مواقيت الصلاة، ومرَّ عبد الرزاق في الخامس والثلاثين من الإيمان، ومرَّ معمر في متابعة بعد الرابع من بدء الوحي، ومرَّ

الحديث السابع

الزهري في الثالث منه، ومرَّ عروة في الثاني منه، ومرَّ المسور في الرابع والخمسين من الوضوء. الحديث السابع حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَدْرٍ شُجَاعُ بْنُ الْوَلِيدِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْعُمَرِيِّ، قَالَ: وَحَدَّثَ نَافِعٌ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ وَسَالِمًا كَلَّمَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما فَقَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- مُعْتَمِرِينَ، فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ دُونَ الْبَيْتِ، فَنَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بُدْنَهُ، وَحَلَقَ رَأْسَهُ. هذا رواية من الحديث الماضي قبل بابين وفيه: فنحر بدنه وحلق رأسه، وقد أورده البيهقي عن أبي بدر الذي أخرجه البخاري عنه، ولفظه: أن عبد الله بن عبد الله، وسالم بن عبد الله كلما عبد الله بن عمر ليالي نزل الحجاج بابن الزبير وقالا: لا يضرك أن لا تحج العام، إنا نخاف أن يحال بينك وبين البيت، فقال: خرجنا، فذكر مثل سياق البخاري وزاد في آخره: ثم رجع، وساقه الإسماعيلي عن أبي بدر فقال: عن ابن عمر أنه قال: إن حيل بيني وبين البيت فعلت كما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأنا معه فأهل بالعمرة. الحديث. رجاله سبعة: قد مرّوا، إلاَّ أبا بدر: مرَّ محمد بن عبد الرحيم في السادس من الوضوء ومرَّ عمر بن محمد العمري في الحادي والعشرين من التقصير، ومرَّ نافع في الأخير من العلم، ومرَّ سالم بن عبد الله في السابع عشر من الإيمان، ومرَّ أبوه عبد الله في أوله قبل ذكر حديث منه، ومرَّ عبد الله بن عمر في السادس والتسعين من صفة الصلاة. والباقي: أبو بدر شجاع بن الوليد بن قيس السكوني الكوفي قال سفيان: ليس بالكوفة. أعبد منه، وقال أبو نعيم: لقيت سفيان بمكة، فكان أول شيء سألني عنه أن قال: كيف شجاع؟ قال ابن سعد: كان ورعًا كثير الصلاة، وذكره ابن حبان في الثقات وقال أبو حاتم: روى حديث قابوس في العرب، وهو منكر وشجاع لين الحديث إلا أنه عن محمد بن عمرو بن علقمة، روى أحاديث صحاحًا، ونقل ابن خلفون عن ابن نمير توثيقه، وقال العجلي: كوفي لا بأس به، وقال أبو حاتم: عبد الله بن بكر السهمي أحب إلى منه، وهو شيخ ليس بالمتين لا يحتج بحديثه، وسئل عنه وكيع فقال: كان جارنا هاهنا ما عرفناه بعطاء بن السائب ولا المغيرة، وقال أحمد بن حنبل: كنت يومًا مع يحيى بن معين فلقي أبا بدر فقال: اتق الله يا شيخ، وانظر هذه الأحاديث لا يكون ابنك يعطيك، قال أحمد: فاستحييت وتنحيت ناحية، قال المروزي: فقلت لأحمد: ثقة هو؟ فقال: أرجو أن يكون صدوقًا، قال أحمد:

كان أبو بدر شيخًا صالحًا صدوقًا، كتبنا عنه قديمًا، ولقيه ابن معين يومًا فقال: يا كذاب، فقال له الشيخ: إن كنت كذابًا وإلاَّ فهتكك الله، قال أحمد: أظن دعوة الشيخ أدركته، وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ثقة، قال في المقدمة: فكأنه مازحه وما احتمل المزاح، وسئل أبو زرعة عنه فقال: لا بأس به، وكان موصوفًا بالعبادة، وليس له عند البخاري سوى حديث واحد في المحصر، وهو هذا وقد توبع شيخه فيه، وهو عمر بن زيد العمري، عن نافع، عن ابن عمر وروى له الباقون، روى عن الأعمش، وموسى بن عقبة وعمر بن محمد العمري وغيرهم، وروى عنه بقية بن الوليد، ومات قبله وأحمد ويحيى بن معين وغيرهم، مات في رمضان سنة ثلاث أو أربع أو خمس ومائتين. قال المصنف:

باب من قال ليس على المحصر بدل

باب من قال ليس على المحصر بدل بفتح الموحدة والمهملة أي: قضاء لما أحصر فيه من حج أو عمرة، وهذا هو قول الجمهور، ثم قال: وقال روح، عن شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إنما البدل على من نقض حجه بالتلذذ، فأما من حبسه عذر أو غير ذلك فإنه يحل ولا يرجع، وإن كان معه هدي وهو محصر نحره إن كان لا يستطيع أن يبعث به، وإن استطاع أن يبعث به لم يحل حتى يبلغ الهدي محله. هذا التعليق وصله إسحاق بن راهويه في تفسيره عن روح بهذا الإِسناد، وهو موقوف على ابن عباس، ومراده بالتلذذ بمعجمتين: الجماع. وقوله: حبسه عذر كذا للأكثر بضم المهملة، وسكون المعجمة بعدها راء، ولأبي ذر: حبسه عدو بفتح أوله وفي آخره واو. وقوله: "وغير ذلك" أي من مرض أو نفاد نفقة، وقد أخرج ابن جرير نحو هذا بإسناد آخر، عن ابن عباس وفيه: فإن كانت حجة الإِسلام فعليه قضاؤها، وإن كانت غير الفريضة فلا قضاء عليه. وقوله: "وإن استطاع أن يبعث به لم يحل حتى يبلغ الهدي محله" هذه مسألة اختلاف بين الصحابة، ومن بعدهم فقال الجمهور: يذبح المحصر الهدي حيث يحل سواء كان في الحل أو في الحرم، وقال أبو حنيفة: لا يذبحه إلاَّ في الحرم، وفصل آخرون كما قاله ابن عباس هنا، وهو المعتمد وسبب اختلافهم في ذلك هل نحو النبي صلى الله عليه وسلم الهدي بالحديبية بالحل أو في الحرم وكان عطاء يقول: لم ينحر يوم الحديبية إلاَّ في الحرم، ووافقه ابن إسحاق وقال غيره من أهل المغازي: إنما نحو في الحل، وروى يعقوب بن سفيان عن مجمع بن يعقوب، عن أبيه قال: لما حبس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه نحروا بالحديبية، وحلقوا وبعث الله ريحًا فحملت شعورهم فألقتها في الحرم وقال ابن عبد البر: هذا يدل على أنهم حلقوا في الحل، ولا يخفى ما فيه، فإنه لا يلزم من كونهم ما حلقوا في الحرم لمنعهم من دخوله أن لا يكونوا أرسلوا الهدي مع من نحره في الحرم، وقد ورد ذلك عن ناجية بن جندب الأسلمي قلت

يا رسول الله أبعث معي بالهدي حتى أنحره في الحرم، ففعل أخرجه النسائي عن مجزاة بن زاهر، عن ناجية، وأخرجه الطحاوي عن ناجية، عن أبيه لكن لا يلزم من وقوع هذا وجوبه، بل ظاهر القصة أن أكثرهم نحو في مكانه، وكانوا في الحل، وذلك قال على الجواز. رجاله خمسة: مرَّ منهم روح بن عبادة في الأربعين من الإيمان، ومرَّ ابن أبي نجيح في الرابع عشر من العلم، ومرَّ مجاهد في أول الإيمان قبل الحديث الأول منه، ومرَّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي. والباقي: شبل بن عباد المكي القارىء، قال أحمد وابن معين: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الدارقطني: ثقة، وقال أبو حاتم: هو أحب إليَّ من ورقاء في ابن أبي نجيح، وقال أبو داود: ثقة إلاَّ أنه يرى القدر، قال في المقدمة: له في البخاري حديثان عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بمتابعة ورقاء بن عمرو، روى له أبو داود والنسائي، روى عن أبي الطفيل وعبد الله بن كثير القارىء، وابن أبي نجيح وغيرهم، وعنه ابنه داود وسعد بن إبراهيم، ومات قبله، وابن عيينة مات سنة ثمان وأربعين ومائة، وهذا الحديث أتى به البخاري تعليقًا، وقد وصله إسحاق بن راهويه في تفسيره. ثم قال: وقال مالك وغيره: ينحر هديه ويحلق في أي موضع كان، ولا قضاء عليه؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه بالحديبية نحروا، وحلقوا، وحلوا من كل شيء قبل الطواف، وقبل أن يصل الهدي إلى البيت، ثم لم يذكر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر أحدًا أن يقضوا شيئًا، ولا يعودوا له، والحديبية خارج من الحرم. هذا مذكور في الموطأ ولفظه: أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حل هو وأصحابه بالحديبية، فنحروا الهدي وحلقوا رؤوسهم، وحلوا من كل شيء قبل أن يطوفوا بالبيت، وقبل أن يصل الهدي، ثم لم نعلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر أحدًا من أصحابه، ولا ممن كان معه أن يقضوا شيئًا، ولا أن يعودوا لشيء، وسئل مالك عمن أحصر بعدو فقال: يحل من كل شيء، وينحر هديه ويحلق رأسه حيث حبس، وليس عليه قضاء، وأما قول البخاري وغيره، فالذي يظهر أنه عني به الشافعي لأن قوله في آخره: "والحديبية خارج من الحرم" هو من كلام الشافعي في الأم، وعنه أن بعضها في الحل وبعضها في الحرم، لكن إنما نحر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحل استدلالًا بقوله تعالى: {وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفُ اأَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} قال: ومحل الهدي عند أهل العلم الحرم وقد أخبر الله تعالى أنهم صدوهم عن

الحديث الثامن

ذلك، قال: فحيث ما أحصر ذبح، وحل ولا قضاء من قبل، أن الله تعالى لم يذكر قضاء، والذي أعقله في أخبار أهل المغازي شبيه بما ذكرت؛ لأنا علمنا من متواطىء أحاديثهم أنه كان معه عام الحديبية رجال معروفون، ثم اعتمر عمرة القضية، فتخلف بعضهم بالمدينة من غير ضرورة في نفس ولا مال، ولو لزمهم القضاء لأمرهم بأن لا يتخلفوا عنه، وقال في موضع آخر: إنما سميت عمرة القضاء، والقضية للمقاضاة التي وقعت بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين قريش، لا على أنهم وجب عليهم قضاء تلك العمرة، وقد روى الواقدي عن الزهري وأبي معشر وغيرهما: قالوا: أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابه أن يعتمروا، فلم يتخلف منهم إلاَّ من قتل بخيبر أو مات، وخرج معه جماعة معتمرين ممن لم يشهد الحديبية، وكانت عدتهم ألفين، ويمكن الجمع بين هذا -إن صح- وبين الذي قبله بأن الأمر كان على طريق الاستحباب لأن الشافعي جازم بأن جماعة تخلفوا بغير عذر، وقد روى الواقدي أيضًا عن ابن عمر قال: لم تكن هذه العمرة قضاء، ولكن كان شرطًا على قريش أن يعتمر المسلمون من قبائل في الشهر الذي صدهم المشركون فيه، وقد روى الطحاوي عن المسور أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان بالحديبية خباؤه في الحل ومصلاه في الحرم، ولا يجوز في قول أحد من العلماء لمن قدر على دخول شيء من الحرم أن ينحر هديه دون الحرم، وقد مرَّ مالك في الثاني من بدء الوحي. الحديث الثامن حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ حِينَ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ مُعْتَمِرًا فِي الْفِتْنَةِ: إِنْ صُدِدْتُ عَنِ الْبَيْتِ صَنَعْنَا كَمَا صَنَعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ نَظَرَ فِي أَمْرِهِ فَقَالَ: مَا أَمْرُهُمَا إِلاَّ وَاحِدٌ. فَالْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: مَا أَمْرُهُمَا إِلاَّ وَاحِدٌ، أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ الْحَجَّ مَعَ الْعُمْرَةِ، ثُمَّ طَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا، وَرَأَى أَنَّ ذَلِكَ مُجْزِيًا عَنْهُ، وَأَهْدَى. وقوله: "ثم طاف لهما" أي: للحج والعمرة، وهذا يخالف قول الكوفيين أنه يجب لهما طوافان. وقوله: "ورأى" أي أن ذلك مجزىء عنه، كذا لأبي ذر وغيره بالرفع على أنه خبر أن، وفي رواية كريمة: مجزيًا، فقيل: هو على لغة من ينصب بأن المبتدأ والخبر، أو هي خبر كان المحذوفة، قال في الفتح: والذي عندي أنه من خطأ الكاتب فإن أصحاب الموطأ اتفقوا على روايته بالرفع على الصواب، تعقبه العيني بأنه إنما يكون خطأ لو لم يكن له وجه في العربية، واتفاق أصحاب الموطأ على الرفع لا يستلزم كون النصب خطأ، على أن دعوى اتفاقهم على الرفع لا دليل عليه.

رجاله أربعة

قلت: وجود وجه في العربية مع مخالفته للرواية لا يمنع الخطأ؛ لأن الرواية هي المعتبرة في الحديث، واتفاق الرواة على الرفع لا يحتاج إلى دليل، فيكفي منه قول العالم المطلع على الروايات: إنها بالرفع جميعًا. والإجزاء: هو الأداء الكافي لسقوط التعبد، ووجه دخول حديث ابن عمر في هذا الباب شهرة قصة صد المشركين للنبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه رضي الله تعالى عنهم بالحديبية، وأنهم لم يؤمروا بالقضاء، وهذا الحديث مرَّ في باب إذا أحصر المعتمر قريبا. رجاله أربعة: قد مرّوا: مرَّ إسماعيل بن أبي أويس في الخامس عشر من الإيمان، ومرَّ مالك في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ نافع في الأخير من العلم، ومرَّ ابن عمر في أَول الإيمان قبل ذكر حديث منه. ثم قال المصنف:

باب قوله تعالى {فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك}

باب قوله تعالى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} وهو مخير، فأما الصوم فثلاثة أيام. أي: باب تفسير قوله تعالى كذا. وقوله: "مخير" من كلام المصنف استفاده من أو المكررة وقد أشار إلى ذلك في أول باب كفارات الأيمان، فقال: وقد خير النبي -صلى الله عليه وسلم- كعبًا في الفدية، ويذكر عن ابن عباس وعطاء وعكرمة: ما كان في القرآن أو فصاحبه بالخيار، وأقرب طرق حديث الباب إلى التصريح ما أخرجه أبو داود عن ابن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: إن شئت فانسك نسيكة، وإن شئت فصم ثلاثة أيام، وإن شئت فأطعم" الحديث، وفي رواية مالك في الموطأ بإسناده في آخر الحديث: "أيُّ ذلك فعلت أجزأك" وسيأتي البحث في ذلك. وقوله: "فأما الصوم" في رواية الكشميهني: "الصيام" والصيام المطلق في الآية مقيد بما ثبت في الحديث بالثلاث قال ابن التين وغيره: جعل الشارع هنا صوم يوم معادلا بصاع، وفي الفطر من رمضان عدل مد، وكذا في الظهار والجماع في رمضان، وفي كفارة اليمين بثلاثة أمداد وثلث، وفي ذلك أقوى دليل على أن القياس لا يدخل في الحدود والتقديرات وقسيم قوله: فأما الصوم محذوف تقديره: وأما الصدقة فهي إطعام ستة مساكين، وقد أفرد ذلك بترجمة. الحديث التاسع حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: "لَعَلَّكَ آذَاكَ هَوَامُّكَ؟ ". قَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "احْلِقْ رَأْسَكَ وَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، أَوِ انْسُكْ بِشَاةٍ". في رواية أشهب، عن مالك أن حميد بن قيس حدثه، أخرجها الدارقطني في الموطآت. وقوله: "عن عبد الرحمن صرح سيف، عن مجاهد بسماعه من عبد الرحمن وبأن كعبًا حدث عبد الرحمن كما في الباب الذي يليه، قال ابن عبد البر في رواية حميد بن قيس هذه: كذا رواه الأكثر عن مالك، ورواه ابن وهب وابن القاسم وابن عفير عن مالك بإسقاط

عبد الرحمن بين مجاهد، وكعب بن عجرة، ولمالك فيه إسنادان آخران في الموطأ أحدهما: عن عبد الكريم الجزري، عن مجاهد، وفي سياقه ما ليس في سياق حميد بن قيس، قال الدارقطني: رواه أصحاب الموطأ عن مالك، عن عبد الكريم، عن عبد الرحمن لم يذكروا مجاهدًا، حتى قال الشافعي: إن مالكا قد وهم، وأجاب ابن عبد البر: بأن ابن القاسم وابن وهب في الموطأ، وتابعهما جماعة عن مالك خارج الموطأ؛ كعبد الرحمن بن مهدي والوليد بن مسلم وإبراهيم بن طهمان، أثبتوا مجاهدًا بينهما، وهذا الجواب لا يرد على الشافعي، وطريق ابن القاسم عند النسائي، وطريق ابن وهب عند الطبري، وطريق ابن مهدي عند أحمد، وسائرها عند الدارقطني في الإسناد الثالث فيه لمالك، عن عطاء الخراساني عن رجل من أهل الكوفة، عن كعب بن عجرة، قال ابن عبد البر: يحتمل أن يكون الرجل عبد الرحمن بن أبي ليلى أو عبد الله بن معقل، ونقل ابن عبد البر عن أحمد بن صالح المصري قال: حديث كعب بن عجرة في الفدية ستة معمول بها، لم يروها أحد من الصحابة غيره، ولا رواها عنه إلاَّ ابن أبي ليلى، وابن معقل قال: وهي سنة أخذها أهل المدينة عن أهل الكوفة، قال الزهري: سألت عنها علماءنا كلهم حتى سعيد بن المسيب فلم يبينوا كم عدد المساكين، وفيما قاله ابن صالح نظر، فقد جاءت هذه السنة من رواية جماعة من الصحابة غير كعب، منهم: عبد الله بن عمرو بن العاص عند الطبري، والطبراني، وأبو هريرة عند سعيد بن منصور، وابن عمر عند الطبري وفضالة الأنصاري عمن لا يتهم من قومه عند الطبري أيضًا. ورواه عن كعب بن عجرة غير المذكورين: أبو وائل عند النسائي، ومحمد بن كعب القرظي عند ابن ماجه، ويحيى بن جعدة عند أحمد، وعطاء عند الطبري، وقد جاء عن أبي قلابة، والشعبي أيضًا عن كعب، وروايتهما عند أحمد لكن الصواب أن بينهما واسطة، وهو ابن أبي ليلى على الصحيح، وقد أورد البخاري حديث كعب هذا في أربعة أبواب متوالية، وأورده أيضًا في المغازي، والطب، وكفارات الأيمان، من طرق أخرى؛ مدار الجميع على ابن أبي ليلى وابن معقل، فيفيد إطلاق أحمد بن صالح بالصحة فإن بقية الطرق التي ذكرتها لا تخلوا من مقال، إلا طريق أبي وائل، وسأذكر ما في هذه الطرق من فائدة زائدة إن شاء الله تعالى. وقوله: "إنه قال: "لعلك" في رواية أشهب المقدم ذكرها أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال له، وفي رواية عبد الكريم أنه كان مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-وهو محرم فأذاه القمل، وفي رواية سيف في الباب الذي يليه وقف عليّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالحديبية ورأسي يتهافت قملًا فقال: "أيؤذيك هوامك"؟ قلت: نعم، قال: "فاحلق رأسك" الحديث وفيه: قال فيَّ نزلت هذه الآية {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} زاد في رواية أبي الزبير عن مجاهد عند الطبراني أنه أهل في ذي القعدة، وفي رواية مغيرة، عن مجاهد عند الطبراني: أنه لقيه وهو عند الشجرة وهو

محرم، وفي رواية أيوب عن مجاهد في المغازي: أتى عليّ النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنا أوقد تحت برمة، والقمل يتناثر على رأسي، زاد في رواية ابن عون، عن مجاهد في الكفارات: فقال: "ادن" فدنوت فقال: "أيؤذيك"؟ وفي رواية ابن بشر عن مجاهد فيه: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالحديبية، ونحن محرمون، وقد حصرنا المشركون، وكانت لي وفرة فجعلت الهوام تتساقط على وجهي فقال: أيؤذيك هوام رأسك؟ قلت: نعم، فأنزلت هذه الآية، وفي رواية أبي وائل عن كعب: أحرمت فكثر قمل رأسي فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فأتاني وأنا أطبخ قدرًا لأصحابي، وفي رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد، بعد بابين: رآه وإنه ليسقط القمل على وجهه فقال: "أيؤذيك هوامك" قال: نعم، فأمره أن يحلق وهم بالحديبية، ولم يبين لهم أنهم يحلون وهم على طمع أن يدخلوا مكة، فأنزل الله الفدية، ولأحمد وسعيد بن منصور في رواية أبي قلابة قلت، حتى ظننت أن كل شعرة من رأسي فيها القمل من أصلها إلى فرعها، زاد سعيد: وكنت حسن الشعر، وأول رواية عبد الله بن معقل بعد باب جلست إلى كعب بن عجرة فسألته عن الفدية؟ فقال: نزلت فيّ خاصة وهي لكم عامة حملت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والقمل يتناثر على وجهي، فقال: "ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى"، زاد مسلم من هذا الوجه فسألته عن هذه الآية ففدية من صيام الآية، ولأحمد من وجه آخر، وقع القمل في رأسي، ولحيتي حتى حاجبي، وشاربي فبلغ ذلك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأرسل إلىّ فدعاني فلما رآني قال: "لقد أصابك بلاء ونحن لا نشعر أدع عليّ الحجام فحلقني"، ولأبي داود عن الحكم بن عتيبة عن ابن أبي ليلى عن كعب أصابتني هوام حتى تخوفت على بصري، وفي رواية أبي وائل عن كعب عند الطبري فحك رأسي بأصبعه فانتثر منه القمل، زاد الطبري عن الحكم "أن هذا لأذى" قلت: شديد يا رسول الله، والجمع بين هذا الاختلاف في قول ابن أبي ليلى عن كعب: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرَّ به فرآه وفي قول عبد الله بن معقل: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أرسل إليه فرآه أن يقال مرَّ به أولًا فرآه على تلك الصورة فاستدعي به إليه فخاطبه وحلق رأسه بحضرته فنقل كل واحد منهما ما لم ينقله الآخر، ويوضحه، قوله: في رواية ابن عون السابقة حيث قال: فيها فقال: "ادن فدنوت" فالظاهر أن هذا الاستدناء كان عقب رؤيته إياه إذ مرَّ به وهو يوقد تحت القدر. وقوله: "لعلك آذاك هوامك؟ قال القرطبي: هذا سؤال عن تحقيق العلة التي يترتب عليها الحكم فلما أخبره بالمشقة التي نالته خفف عنه، والهوام بتشديد الميم، جمع هامة: وهي ما يدب من الأخشاش، والمراد بها: ما يلازم جسد الإنسان غالبًا إذا طال عهده بالتنظيف، وقد عين في كثير من الروايات أنها القمل، واستدل به على أن الفدية مرتبة على قتل القمل، وتعقب بذكر الحلق فالظاهر أن الفدية مرتبة عليه، وهما وجهان عند الشافعية يظهر أثر الخلاف فيما لو حلق ولم يقتل قملًا، قلت: عند المالكية الفدية مترتبة على الحلق، وعلى قتل القمل.

وقوله: "احلق رأسك وصم" قال ابن قدامة: لا نعلم خلافًا في إلحاق الإزالة بالحلق سواء كان بموسى أو مقص، أو نورة أو غير ذلك، وأغرب ابن حزم فأخرج النتف عن ذلك، فقال: يلحق جميع الإزالات بالحلق إلاَّ النتف. وقوله: "أو أطعم" ليس في هذه الرواية بيان قدر الإطعام وسيأتي البحث فيه بعد باب وهو ظاهر في التخيير بين الصوم، والإطعام، وكذا. قوله: أو انسك بشاة، وفي رواية الكشميهني شاة بغير موحدة والأول تقديره: تقرب بشاة ولذلك عداه بالباء والثاني تقديره اذبح شاة، والنسك يطلق على العبادة وعلى الذبح المخصوص، وسياق رواية الباب موافق للآية وقد تقدم إن كعبًا قال: "إنها نزلت بهذا السبب، وقد قدمت في أول الباب أن رواية عبد الكريم صريحة في التخيير حيث قال: أي ذلك فعلت أجزا، وكذا رواية أبي داود التي فيها: "أن شئت وإن شئت" ووافقتها رواية ابن أبي نجيح أخرجها مسدد في مسنده، ومن طريقه الطبراني لكن رواية عبد الله بن معقل الآتية بعد باب تقتضي أن التخيير إنما هو بين الصيام والإطعام لمن لم يجد النسك، ولفظه قال: أتجد شاة؟ قال: لا، قال: فصم أو أطعم، ولأبي داود وفي رواية أخرى "أمعك دم؟ قال: فإن شئت فصم" ونحوه للطبراني عن عطاء، عن كعب ووافقهم أبو الزبير عن مجاهد عند الطبراني وزاد بعد. قوله: "ما أجد هديًا" قال: فأطعم قال: ما أجد، قال: صم، ولهذا قال أبو عوانة: في "صحيحه": فيه دليل على أن من وجد نسكا لا يصوم يعني ولا يطعم، لكن لا يعرف من قال بذلك من العلماء إلا ما رواه الطبري وغيره عن سعيد بن جبير قال: النسك شاة، فإن لم يجد قومت الشاة دراهم، والدراهم طعامًا فتصدق به أو صام، لكل نصف صاع يومًا. أخرجه عن الأعمش عنه قال: فذكرته لإِبراهيم فقال: سمعت علقمة مثله. فحينئذ يحتاج إلى الجمع بين الروايتين، وقد جمع بينهما بأوجه منها ما قال: ابن عبد البر أن فيه الإشارة إلى ترجيح الترتيب لا لإيجابه، ومنها ما قال النووي: ليس المراد أن الصيام أو الإطعام لا يجزىء إلَّا لعادم الهدي بل المراد أنه استخبره هل معه هدي أو لا فإن كان واحده أعلمه أنه غير بينه وبين الصيام والإطعام، وإن لم يجده أعلمه أنه غير بينهما ومحصله أنه لا يلزم من سؤاله عن وجدان الذبح تعيينه لاحتمال أنه لو أعلمه أنه يجده لأخبره بالتخيير بينه وبين الإطعام، والصيام. ومنها ما قال غيرهما: يحتمل أن يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- لما أذن له في حلق رأسه بسبب الأذى أفتاه بأن يكفر بالذبح على سبيل الاجتهاد منه -صلى الله عليه وسلم- أو بوحي غير متلو فلما أعلمه أنه لا يجد نزلت الآية بالتخيير بين الذبح، والصيام، والإطعام فخيره حينئذ بين الصيام والإطعام لعلمه بأنه لا ذبح معه فصام لكونه لم يكن معه ما يطعمه، ويوضح ذلك رواية مسلم في حديث عبد الله بن معقل حيث قال: أتجد شاة؟ قلت: لا، فنزلت هذه الآية ففدية {مِنْ صِيَامٍ

رجاله ستة

أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} فقال: "صم ثلاثة أيام أو أطعم"، وفي رواية عطاء الخراساني قال: "صم ثلاثة أيام أو اطعم ستة مساكين" قال: وكان قد علم أنه ليس عندي ما أنسك به، ونحوه في رواية محمد بن كعب القرظي عن كعب، وسياق الآية يشعر بتقديم الصيام على غيره، وليس ذلك لكونه أفضل في هذا المقام من غيره بل السر فيه أن الصحابة الذين خوطبوا شفاها بذلك، كان أكثرهم يقدر على الصيام أكثر مما يقدر على الذبح والإطعام، وعرف من رواية أبي الزبير أن كعبًا افتدى بالصيام، وفي رواية ابن إسحاق ما يشعر بأنه افتدى بالذبح لأن لفظه صم أو أطعم أو انسك شاة، قال: فحلقت رأسي ونسكت. وروى الطبراني من طريق ضعيفة عن عطاء عن كعب في آخر هذا الحديث فقلت: يا رسول الله خر لي قال: "أطعم ستة مساكين". رجاله ستة: مرَّ منهم عبد الله بن يوسف ومالك في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ مجاهد في أثر أول الإيمان، ومرَّ عبد الرحمن بن أبي ليلى في الثالث والستين من صفة الصلاة، والباقي اثنان الأول حميد بن قيس الأعرج المكي أبو صفوان القارىء الأسدي مولاهم، وقيل مولى عفراء، قال ابن سعد: كان ثقة، كثير الحديث، وكان قارىء أهل مكة وقال أحمد: هو ثقة أخو سندل، وقال مرة: ليس بالقوي في الحديث وقال ابن معين: ثبت، روى عنه مالك وأخوه سندل ليس بثقة، وقال مرة حميد الأعرج ثقة، وحميد الذي روى عنه خلف بن خليفة، ليس بشيء، وقال أبو زرعة: حميد الأعرج ثقة، وقال أبو حاتم: مكي ليس به بأس، وابن أبي نجيح أحب إليَّ منه، وقال أبو زرعة الدمشقي: حميد بن قيس من الثقات، وقال أبو داود: ثقة، وقال أبو خراش: ثقة صدوق، وقال النسائي: ليس به بأس، وقال العجلي: مكي ثقة، وقال البخاري وابن سفيان: ثقة، وقال ابن عدي: لا بأس بحديثه، وإنما يؤتى مما يقع في حديثه من المناكر من جهة من يروى عنه. روى عن مجاهد وسليمان بن عتيق، والزهري وغيرهم، وروى عنه مالك، ومعمر والسفيانان، وجعفر الصادق وغيرهم، مات سنة ثلاثين ومائة في خلافة السفاح. الثاني كعب بن عجرة بن أمية بن عدي بن عبيد بن خالد بن عمرو بن عوف، بن غنم بن سواد بن مرى بن أراشة البلوي، حليف الأنصار، وزعم الواقدي أنه أنصاري من أنفسهم، ورده كاتبه محمد بن سعد يكنى أبا محمد وقيل كنيته: أبو إسحاق بأبنه إسحاق، وقيل: أبو عبد الله شهد عمرة الحديبية، ونزلت فيه قصة الفديه، وقد أخرج ذلك في "الصحيحين" من طرق، ولها طرق في غير "الصحيحين"، منها ما أخرجه الطبراني عنه قال: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يومًا فرأيته متغيرًا فذهبت فإذا يهودي يسقي إبلًا له فسقيت له على كل دلو بتمرة، فجمعت تمرًا فأتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- الحديث. وأخرج ابن سعد بسند جيد أن يد كعب قطعت في بعض

المغازي ثم سكن الكوفة له سبعة وأربعون حديثًا اتفقا على حديثين، وانفرد مسلم بمثلهما، روى عنه ابن عمر وجابر، وابن عباس، وطارق بن شهاب وأولاده إسحاق، ومحمد، وعبد الملك، والربيع، مات بالمدينة سنة إحدى وقيل اثنتين وقيل ثلاث وخمسين، وله خمس وقيل سبع وسبعون سنة. أخرجه البخاري أيضًا في الحج وفي المغازي وفي الطب، وأبو داود والترمذي في الحج، والنسائي فيه وفي التفسير. ثم قال المصنف:

باب قول الله عز وجل {أو صدقة} وهي إطعام ستة مساكين

باب قول الله عَزَّ وَجَلَّ {أَوْ صَدَقَةٍ} وهي إطعام ستة مساكين يشير بهذا إلى أن الصدقة في الآية مبهمة، فسرتها السنة، وبهذا قال جمهور العلماء، وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن الحسن قال: الصوم عشرة أيام، والصدقة على عشرة مساكين. وروى الطبراني، عن عكرمة ونافع نحوه. قال ابن عبد البر: لم يقل بذلك أحد من فقهاء الأمصار. الحديث العاشر حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سَيْفٌ، حَدَّثَنِي مُجَاهِدٌ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى أَنَّ كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ حَدَّثَهُ قَالَ: وَقَفَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَرَأْسِي يَتَهَافَتُ قَمْلاً فَقَالَ: "يُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ؟ ". قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: "فَاحْلِقْ رَأْسَكَ" أَوْ قَالَ: "احْلِقْ". قَالَ: فِيَّ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} إِلَى آخِرِهَا. فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "صُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ تَصَدَّقْ بِفَرَقٍ بَيْنَ سِتَّةٍ، أَوِ انْسُكْ بِمَا تَيَسَّرَ". قوله: "يتهافت" بالفاء أي: يتساقط شيئًا فشيئًا. وقوله: "فاحلق رأسك" أو احلق بحذف المفعول، وهو شك من الراوي. وقوله: "بفرق" بفتح الفاء والراء وقد تسكن، وقال الأزهري: كلام العرب بفتح الراء والمحدثون قد يسكنونه وآخره قاف مكيال معروف بالمدينة، وهو ستة عشر رطلًا، وفي رواية ابن أبي نجيح عند أحمد وغيره، والفرق: ثلاثة آصع، ولمسلم عن ابن أبي ليلى "أو أطعم ثلاثه آصع من تمر على ستة مساكين"، وإذا ثبت أن الفرق: ثلاثة آصع اقتضى أن الصاع خمسة أرطال وثلث، خلاف لمن قال إن الصاع ثمانية أرطال. وقوله: "أو نسك مما تيسر" كذا لأبي ذر والأكثر، وفي رواية كريمة: "أو انسك بما تيسر" بصيغة الأمر وبالموحدة وهي المناسبة لما قبلها، وتقدير الأول أو انسك بنسك والمراد به الذبح. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ أبو نعيم في الخامس والعشرين من الإِيمان، ومرَّ سيف في الخامس من استقبال القبلة، ومرَّ مجاهد في أول الإيمان قبل الحديث الأول، ومرَّ عبد الرحمن بن أبي ليلى في الثالث والتسعين من صفة الصلاة. ثم قال المصنف:

باب الإطعام في الفدية نصف صاع

باب الإطعام في الفدية نصف صاع أي: لكل مسكين من كل شيء، يشير بذلك إلى الرد على من فرق في ذلك بين القمح وغيره، قال ابن عبد البر: قال أبو حنيفة والكوفيون: نصف صاع من قمح، وصاع من تمر وغيره، وعند أحمد رواية تضاهي قولهم، قال عياض: وهذا الحديث يردُّ عليهم. الحديث الحادي عشر حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَصْبِهَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ، قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رضي الله عنه فَسَأَلْتُهُ عَنِ الْفِدْيَةِ فَقَالَ: نَزَلَتْ فِيَّ خَاصَّةً، وَهْيَ لَكُمْ عَامَّةً، حُمِلْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي فَقَالَ: "مَا كُنْتُ أُرَى الْوَجَعَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى أَوْ: مَا كُنْتُ أُرَى الْجَهْدَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى، تَجِدُ شَاةً؟ ". فَقُلْتُ: لاَ. فَقَالَ: "فَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ". قوله: "عن عبد الرحمن بن الأصبهاني" لشعبة فيه إسناد آخر عن أبي بشر، عن مجاهد، عن ابن أبي ليلى، عن كعب. قوله: "عن عبد الله بن معقل" في رواية حميد: سمعت عبد الله بن معقل، ومعقل بفتح الميم وسكون المهملة وكسر القاف هو ابن مُقَرِّن بالقاف، وزن محمد لكن بكسر الراء، ويأتي تعريفه في السند. قوله: "جلست إلى كعب بن عجرة"، زاد مسلم في روايته: وهو بالمسجد، ولأحمد: قعدت إلى كعب بن عجرة في هذا المسجد، وزاد في رواية لابن الأصبهاني: يعني مسجد الكوفة. وفيه الجلوس في المسجد، ومذاكرة العلم، والاعتناء بسبب النزول لما يترتب عليه من معرفة الحكم، وتفسير القرآن. وقوله: "ما كنت أُرى الوجع بلغ بك ما أرى"، في رواية المستملي والحموي: يبلغ بك، "وأرى" الأولى بضم الهمزة أي: أظن، وأرى الثانية بفتح الهمزة من الرؤية، وكذا في قوله: "أو ما كنت أرى الجهد بلغ بك" وهو شك من الراوي، هل قال الوجع أو الجهد؟ والجهد بالفتح: المشقة، قال النووي، والضم لغة في المشقة أيضًا، وكذا حكاه عياض عن ابن دريد، وقال صاحب "العين": بالضم: الطاقة وبالفتح: المشقة فيتعين الفتح هنا بخلاف لفظ

رجاله خمسة

الجهد الماضي في حديث بدء الوحي، حيث قال: "حتى بلغ مني الجهد" فإنه محتمل للمعنيين. وقوله: "فقلت: لا"، زاد مسلم وأحمد: فنزلت هذه الآية: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} قال: صوم ثلاثة أيام. قوله: "لكل مسكين نصف صاع"، زاد مسلم: "نصف صاع" كررها مرتين، والصاع أربعة أمداد، والمد رطل وثلث، فهو موافق لرواية الفَرَق الذي هو ستة عشرـ رطلًا، وللطبراني عن أحمد بن محمد الخزاعي عن أبي الوليد شيخ البخاري فيه: "لكل مسكين نصف صاع تمر"، ولأحمد عن شعبة: نصف صاع طعام، ولبشر بن عمر، عن شعبة: نصف صاع حنطة، ورواية الحكم عن ابن أبي ليلى تقتضي أنه نصف صاع من زبيب، فإنه قال: يطعم فرقا من زبيب بين ستة مساكين، قال ابن حزم: لابد من ترجيح إحدى هذه الروايات لأنها قصة واحدة في مقام واحد، في حق رجل واحد. والمحفوظ عن شعبة أنه قال في الحديث: نصف صاع من طعام، والاختلاف عليه في كونه تمرًا أو حنظة لعله من تصرف الرواة، وأما الزبيب فلم أره إلا في رواية الحكم، وقد أخرجها أبو داود، وفي إسنادها ابن إسحاق، وهو حجة في المغازي لا في الأحكام إذا خالف، والمحفوظ رواية التمر، فقد وقع الجزم بها عند مسلم من طريق أبي قلابة كما مرَّ، ولم يختلف فيه على أبي قلابة، وكذا أخرجه الطبري عن الشعبي، عن كعب، وأحمد عن ابن الأصبهاني، وكذا في حديث عبد الله بن عمرو عند الطبراني، وعرف بذلك قوة قول من قال: لا فرق في ذلك بين التمر والحنطة، وأن الواجب ثلاثة آصع، لكل مسكين نصف صاع، ولمسلم عن ابن أبي نجيح وغيره، عن مجاهد في هذا الحديث: وأطعم فرقا بين ستة مساكين، والفرق: ثلاثة آصع، فاشعر بأن تفسير الفرق مدرج لكنَّه مقتضى الروايات الأُخر، ففي رواية سليمان بن قرم عن ابن الأصبهاني عند أحمد: لكل مسكين نصف صاع، وفي رواية يحيى بن جعدة عند أحمد أيضًا: أو أطعم ستة مساكين، مدين مدين، وأما ما وقع في بعض النسخ عند مسلم عن ابن الأصبهاني: أو يطعم ستة مساكين، لكل مسكين صاع، فهو تحريف ممن دون مسلم، والصواب ما في النسخ الصحيحة: لكل مسكينين بالتثنية، وكذا أخرجه مسدد في مسنده عن أبي عوانة عن ابن الأصبهاني على الصواب. رجاله خمسة: مرَّ منهم: أبو الوليد في العاشر من الإيمان، وشعبة في الثالث منه، وعبد الرحمن الأصبهاني في متابعةٍ بعد الحادي والأربعين من العلم، ومرَّ كعب بن عجرة في الذي قبله بحديث.

والباقي عبد الله بن معقل بن مقرِّن المزني أبو الوليد الكوفي، قال العجلي: كوفي تابعي، ثقة من خيار التابعين، وقال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث، روى عن أبيه، وعليّ، وابن مسعود، وكعب بن عجرة، وغيرهم، وروى عنه عبد الملك بن عمير، وعبد الرحيم الأصبهاني، وأبو إسحاق السبيعي، وغيرهم، أخرجه الحجاج في بعث مع عتيبة بن أبي عقيل فمات بأنقرة سنة ثمان وثمانين. ليس له في البخاري إلاَّ حديثان وفي التابعين من اتفق مع الراوي عن كعب في اسمه واسم أبيه ثلاثة: أحدهم: يروى عن عائشة، وهو محاربي والآخر: يروى عن أنس في المسح على العمامة، وحديثه عند أبي داود، والثالث: أصغر منهما أخرج له ابن ماجه. ثم قال المصنف:

باب النسك بشاة

باب النسك بشاة أي النسك المذكور في الآية حيث قال: "أو نسك" وروى الطبري عن مجاهد في آخر هذا الحديث: فأنزل الله {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} والنسك شاة، وعن محمد بن كعب القرظي، عن كعب: أمرني أن أحلق، وأفتدي بشاة، قال عياض ومن تبعه تبعًا لأبي عمر: كل من ذكر النسك في هذا الحديث مفسرًا فإنما ذكروا شاة، وهو أمر لا خلاف فيه بين العلماء، قال في "الفتح": يعكر عليه ما أخرجه أبو داود عن نافع، عن رجل من الأنصار، عن كعب بن عجرة: أنه صابه أذىً فحلق، فأمره النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يهدي بقرة، وللطبراني عن نافع، عن ابن عمر قال: حلق كعب بن عجرة رأسه، فأمره النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يفتدي، فافتدى ببقرة، ولعبد بن حميد عن أبي معشر عن نافع، عن ابن عمر قال: افتدى كعب من أذىً كان برأسه فحلقه ببقرة قلدها واشعرها، ولسعيد بن منصور، عن سليمان بن يسار قيل لابن كعب بن عجرة: ما صنع أبوك حين أصابه الأذى في رأسه؟ قال: ذبح بقرة، فهذه الطرق كلها تدور على نافع، وقد اختلف في الواسطة التي بينه وبين كعب، وقد عارضها ما هو أصح منها من أن الذي أمر به كعب، وفعله في النسك إنما هو شاة، وروى سعيد بن منصور، وعبد بن حميد عن المقبري عن أبي هريرة أن كعب بن عجرة ذبح شاة لأذىً كان أصابه، وهذا أصوب من الذي قبله، واعتمد ابن بطال على رواية سليمان فقال: أخذ كعب بأرفع الكفارات، ولم يخالف النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما أمره به من ذبح الشاة، بل وافق وزاد، ففيه أن من أفتى بأيسر الأشياء فله أن يأخذ بأرفعها كما فعل كعب، وهذا فرع عن ثبوت افتدائه بالبقرة وقد مرَّ ما فيه. الحديث الثاني عشر حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَآهُ وَأَنَّهُ يَسْقُطُ عَلَى وَجْهِهِ فَقَالَ: "أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ؟ ". قَالَ: نَعَمْ. فَأَمَرَهُ أَنْ يَحْلِقَ وَهُوَ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُمْ أَنَّهُمْ يَحِلُّونَ بِهَا، وَهُمْ عَلَى طَمَعٍ أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْفِدْيَةَ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُطْعِمَ فَرَقًا بَيْنَ سِتَّةٍ، أَوْ يُهْدِيَ شَاةً، أَوْ يَصُومَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ.

رجاله سبعة

محذوف والمراد القمل، وثبت كذلك في بعض الروايات ورواه ابن خزيمة عن روح بلفظ: "رآه وقمله يسقط على وجهه"، وللإسماعيلي عن شبل: رأى قمله يتساقط على وجهه. وقوله: "فأمره أن يحلق، وهو بالحديبية، ولم يتبين لهم أنهم يحلون" هذه الزيادة ذكرها الراوي لبيان أن الحلق كان استباحة محظور بسبب الأذى، لا لقصد التحلل بالحصر، وهو واضح، قال ابن المنذر: يؤخذ منه أن من كان على رجاء من الوصول إلى البيت أن عليه أن يقيم حتى ييأس من الوصول فيحل، واتفقوا على أن من يئس من الوصول، وجاز له أن يحل فتمادى على إحرامه، ثم أمكنه أن يصل، أنَّ عليه أن يمضي إلى البيت ليتم نسكه، وقال المهلب وغيره ما معناه: يستفاد من قوله: "ولم يتبين لهم أنهم يحلون" أن المرأة التي تعرف أوان حيضتها والمريض الذي يعرف أوان حُمَّاه بالعادة فيهما، إذا أفطرا في رمضان مثلا في أول النهار ثم ينكشف الأمر بالحيض والحمى في ذلك النهار أن عليهما قضاء ذلك اليوم، لأن الذي كان في علم الله أنهم يحلون بالحديبية لم يسقط عن كعب الكفارة التي وجبت عليه بالحلق، أن ينكشف الأمر لهم، وذلك لأنه يجوز أن يتخلف ما عرفاه بالعادة، فيجب القضاء عليهما لذلك. وقوله: "فأنزل الله الفدية" قال عياض: ظاهره أن النزول بعد الحكم وفي رواية عبد الله بن معقل أن النزول قبل الحكم قال: فيحتمل أن يكون حكم عليه بالكفارة بوحي لا يتلى، ثم أنزل الله القرآن ببيان ذلك، وهو يؤيد الجمع المتقدم. رجاله سبعة: قد مرّوا: مرَّ إسحاق بن منصور في الخامس والثلاثين من الإيمان، ومرَّ روح بن عبادة في الأربعين منه، ومرَّ شبل في السابع من المحصر هذا، ومرَّ ابن أبي نجيح في الرابع عشر من العلم، ومرَّ مجاهد أول الإيمان، ومرَّ عبد الرحمن بن أبي ليلى في الثالث والتسعين من صفة الصلاة، ومرَّ كعب في التاسع قريبًا. ثم قال: وعن محمد بن يوسف، حدثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: حدثني عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رآه، وقمله يسقط على وجهه. الظاهر أنه عطف على حدثنا روح، فيكون إسحاق قد رواه عن روح بإسناده، وعن محمد بن يوسف الفريابي بإسناده، وكذا هو في تفسير إسحاق، ويحتمل أن تكون العنعنة للبخاري، فيكون أورده عن شيخه الفريابي بالعنعنة، كما يروى تارة بالتحديث، وبلفظ قال، وغير ذلك، وعلى هذا فيكون شبيهًا بالتعليق، وقد أورده الإسماعيلي وأبو نعيم عن محمد بن يوسف الفريابي، ولفظه مثل سياق روح في أكثره، وكذا هو في تفسير الفريابي بهذا الإِسناد.

وفي حديث كعب بن عجرة من الفوائد غير ما تقدم أن السنة مبينة لمجمل الكتاب، لإطلاق الفدية في القرآن، وتقييدها بالسنة. وتحريم حلق الرأس على المحرم، والرخصة له في حلقه إذا آذاه القمل، أو غيره من الأوجاع. وفيه تلطف الكبير بأصحابه وعنايته بأحوالهم، وتفقده، وإذا رأى ببعض اتباعه ضررًا سأل عنه، وأرشده إلى المخرج منه، واستنبط بعض المالكية ايجاب الفدية على من تعمد حلق رأسه بغير عذر، فإن إيجابها على المعذور من التنبيه بالأدنى على الأعلى لكن لا يلزم من ذلك التسوية بين المعذور وغيره، ومن ثم قال الشافعي والجمهور: لا يتخير العامد بل يلزمه الدم، وخالف في ذلك أكثر المالكية، واحتج لهم القرطبي بقوله في حديث كعب: "أو اذبح نسكا": فهذا يدل على أنه ليس بهدي قال: فعلى هذا يجوز أن يذبحها حيث شاء، قال في "الفتح": لا دلالة فيه، إذ لا يلزم من تسميتها نسكًا أو نسيكة أن لا تسمى هديًا، أو لا تعطى حكم الهدي، وقد وقع تسميتها هديًا في الباب الأخير حيث قال: "أو تهدي شاة" وفي رواية مسلم: "واهد هديًا" وفي رواية للطبري: "هل لك هدي"؟ قلت: لا أجد، فظهر أن ذلك من تصرف الرواة، ويؤيده قوله في رواية مسلم: "أو اذبح شاة" واستدل به على أن الفدية لا يتعين لها مكان، وبه قال أكثر التابعين، وقال الحسن: تتعين مكة، وقال مجاهد: النسك بمكة ومنى، والإطعام بمكة، والصيام حيث شاء، وقريب منه قول الشافعي وأبي حنيفة: الدم والإطعام لأهل الحرم، والصيام حيث شاء، إذ لا منفعة فيه لأهل الحرم، وألحق بعض أصحاب أبي حنيفة وأبو بكر بن الجهم من المالكية: الإطعام بالصيام، واستدل به على أن الحج على التراخي لأن حديث كعب دل على أن نزول قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} كان بالحديبية، وهي في سنة ست، وفيه بحث، واحتج مالك بعموم الحديث على أن الفدية يفعلها حيث شاء سواء في ذلك الصيام والإطعام والكفارة، لأنه لم يعين له موضعًا للذبح، أو الإطعام، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وقد اتفق العلماء في الصوم أن له أن يفعله حيث شاء، لا يختص ذلك بمكة، ولا بالحرم، وجوز مالك النسك والإطعام كالصوم، ومرَّ ما قالته الشافعية والحنفية في ذلك. وفيه أن الإطعام لستة مساكين، ولا يجزىء أقل من ذلك، وهو قول الجمهور، وحكي عن أبي حنيفة أنه يجوز أن يدفع إلى مسكين واحد، والواجب في الإطعام لكل مسكين نصف صاع من أي شيء كان المخرج من قمح أو تمر أو شعير، وهذا قول مالك والشافعي وإسحاق وأبي ثور، وحكي عن الثوري وأبي حنيفة تخصيص ذلك بالقمح، وأن الواجب من الشعير والتمر صاع لكل مسكين، وحكى ابن عبد البر عن أبي حنيفة وأصحابه، كقول مالك والشافعي وفي رواية عن أحمد أن الواجب مد من قمح، أو مدان من تمر أو شعير.

وفيه: أنه ليس فيه تعرض لغير حلق الرأس من سائر شعور الجسد، وقد أوجب العلماء الفدية بحلق سائر شعور البدن، لأنها في معنى حلق الرأس، إلا داود الظاهري، فإنه قال: لا تجب الفدية إلاَّ بحلق الرأس فقط، وحكى الرافعي عن المحاملي أن في رواية عن مالك: لا تتعلق الفدية بشعر البدن. وفيه أنه أمر بحلق شعر نفسه، فلو حلق المحرم شعر حلال. فلا فدية على واحد منهما، عند مالك والشافعي وأحمد، ولكن عند مالك يجب على المحرم الافتداء إذا كان بإذنه، وإن كان بغير إذنه كان الافتداء على الحلال، وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: ليس للمحرم أن يحلق شعر الحلال، فإن فعل فعليه صدقة، ويستثنى من عموم التخيير في كفارة الأذى العبد إذا احتاج إلى الحلق، فإن فرضه الصوم على الجديد سواء أحرم بغير إذن سيده أو بإذنه، فإن الكفارة لا تجب على السيد كما جزم به الرافعي، ولو ملكه السيد لم يملكه على الجديد. وعلى القديم يملكه، وعند المالكية: إذا أذن السيد للعبد في الإحرام وفعل ما يوجب الافتداء خطأ أو عن ضرورة، فإن أذن له السيد في الإخراج من ماله أو مال سيده جاز، وإلاَّ صام، ولا يجوز للسيد منعه منه مطلقًا. أضر بخدمته أم لا، وإن تعمد فله منعه إن أضر بخدمته. رجال هذه الرواية رجال الأولى إلاَّ الأولان مرا: مرَّ محمد بن يوسف الفريابي في العاشر من العلم، ومرَّ ورقاء في التاسع من الوضوء. ثم قال المصنف:

باب قول الله عز وجل {فلا رفث}

باب قول الله عَزَّ وَجَلَّ {فَلَا رَفَثَ} الحديث الثالث عشر حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ". قد صرح منصور في رواية صريحة بسماعه له من أبي حازم، فينتفي بذلك تعليل من أعله بالإختلاف على منصور، لأن البيهقي أورده عن إبراهيم بن طهمان، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن أبي حازم زاد فيه رجلًا، فإن كان إبراهيم حفظه، فلعله حمله منصور عن هلال، ثم لقي أبا حازم فسمعه منه فحدث به على الوجهين، وصرح أبو حازم بسماعه له من أبي هريرة، كما مرَّ في أوائل الحج. وقوله: "كما ولدته أمه" أي: عاريًا من الذنوب، ولمسلم: "من أتى هذا البيت" وهو أعم من قوله في بقية الروايات: "من حج"، ويجوز حمل لفظ حج على ما هو أعم من الحج والعمرة، فتساوى رواية من أتى، حيث إن الغالب أن إتيانه إنما هو للحج أو العمرة، وقد مرت مباحث هذا الحديث، وتفسير الرفث، والفسوق في باب فضل الحج المبرور أوائل الحج. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ سليمان في الرابع عشر من الإيمان، ومرَّ شعبة في الثالث منه، ومرَّ أبو هريرة في الثاني منه، ومرَّ منصور بن المعتمر في الثاني عشر من العلم، ومرَّ أبو حازم الأشجعي في الثالث والأربعين منه. فيه التحديث بالجمع، والعنعنة، وسنده بصري واسطي، وكوفيان، أخرجه البخاري أيضًا، ومسلم في الحج، وكذا الترمذي والنسائي وابن ماجه. ثم قال المصنف:

باب قول الله عز وجل {ولا فسوق ولا جدال في الحج}

باب قول الله عَزَّ وَجَلَّ {وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} الحديث الرابع عشر حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ". هذا الحديث هو الذي قبله بعينه، إلاَّ أن هذا من طريق سفيان الثوري، عن منصور، والأول عن شعبة، عن منصور، وليس بين السياقين اختلاف إلاَّ في قوله في رواية شعبة: "كما ولدته أمه" وفي رواية سفيان: "كيوم ولدته أمه" وهذا الحديث مرَّ الكلام عليه في المحل الذي مرَّ الكلام فيه على ما قبله، ومرَّ الكلام على الجد الذي باب ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ محل محمد بن يوسف في الذي قبله بحديث، ومرَّ الثوري في السابع والعشرين من الإيمان، ومرَّ محل الثلاثة الباقية في الذي قبله. ثم قال المصنف:

باب جزاء الصيد ونحره

باب جزاء الصيد ونحره وقول الله تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} إلى قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}. كذا في رواية أبي ذر، وأثبت قبل ذلك البسملة، ولغيره باب قول الله تعالى إلى آخره بحذف ما قبله. قيل: السبب في نزول هذه الآية أن أبا اليَسَر بفتح التحتانية والمهملة قتل حمار وحش، وهو محرم في عمرة الحديبية، فنزلت، حكاه مقاتل في تفسيره، ولم يذكر المصنف في رواية أبي ذر في هذه الترجمة حديثًا، وشعله أشار إلى أنه لم يثبت على شرطه في جزاء الصيد حديث مرفوع، قال ابن بطال: اتفق أئمة الفتوى من أهل الحجاز والعراق وغيرهم على أن المحرم إذا قتل الصيد عمدًا، وخطأ فعليه الجزاء، وخالف أهل الظاهر وأبو ثور وابن المنذر من الشافعية في الخطأ، وتمسكوا بقوله تعالى: {مُتَعَمِّدًا} فإن مفهومه أن المخطىء بخلافه، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وعكس الحسن ومجاهد فقالا: يجب الجزاء في الخطأ دون العمد فيختص الجزاء بالخطأ، والنقمة بالعمد، وعنهما: يجب الجزاء على العامد أول مرة، فإن عاد كان أعظم لاثمه، وعليه النقمة لا الجزاء، قال الموفق في "المغنى": لا نعلم أحدًا خالف في وجوب الجزاء على العامد غيرهما، واختلفوا في الكفارة، فقال الأكثر: هو مخبر كما هو ظاهر الآية، وقال الثوري: يقدم المثل، فإن لم يجد أطعم، فإن لم يجد صام، وقال سعيد بن جبير: إنما الطعام والصيام فيما لا يبلغ ثمن الصيد، واتفق الأكثر على تحريم أكل ما صاده المحرم، وقال الحسن والثوري وأبو ثور وطائفة يجوز أكله، وهو كذبيحة السارق، وهو وجه للشافعية، وقال الأكثر أيضًا: إن الحكم في ذلك ما حكم به السلف لا يتجاوز ذلك، وما لم يحكموا فيه يستأنف فيه الحكم، وما اختلفوا فيه يجتهد فيه، وقال الثوري: الاختيار في ذلك للحكمين في كل زمن، وقال مالك: يستأنف الحكم والخيار إلى المحكوم عليه، وله أن يقول للحكمين: لا تحكما عليَّ إلاَّ بالإطعام، وقال الأكثر: الواجب في الجزاء نظير الصيد من النعم، وقال أبو حنيفة: الواجب القيمة، ويجوز صرفها في المثل، وقال الأكثر: في الكبير كبير، وفي الصغير صغير، وفي الصحيح صحيح، وفي الكسير كسير، وخالف مالك فقال: في الكبير والصغير كبير، وفي الصحيح. والمعيب، صحيح. واتفقوا على أن المراد

بالصيد ما يجوز أكله للحلال من الحيوان الوحشي، وأن لا شيء فيما يجوز قتله، واختلفوا في المتولد فألحقه الأكثر، وعند الشافعي وأحمد يجوز أن يكون القاتل أحد الحكمين، وعند مالك: لا يجوز لأن الحاكم لا يكون محكومًا عليه في صورة واحدة. ومسائل هذا الباب وفروعه كثيرة، فلنقتصر على هذا القدر منها، وأتكلم على معنى الآيات. فقوله: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} أي: محرمون، ولعله ذكر القتل دون الذبح للتعميم. وقوله: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} أي: ذاكرًا لإحرامه، عالمًا بأنه حرام عليه. وقوله: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} برفع جزاء من غير تنوين وخفض مثل على أن جزاء مصدر مضاف لمفعوله تخفيفًا، والأصل: فعليه أن يجزي المقتول من الصيد مثله من النعَم، ثم حذف الأول لدلالة الكلام عليه، وأضيف المصدر إلى ثانيهما، أو أن مثل مقحمة كقولهم: مثلك لا يفعل ذلك أي: أنت لا تفعل ذلك، وهذه قراءة نافع وابن كثير وابن عامر وأبي جعفر، وقراءة الآخرين فجزاء بالرفع منونًا على الابتداء، والخبر محذوف تقديره فعليه جزاء أو أنه خبر مبتدأ محذوف وتقديره فالواجب جزاء، أو فاعل فعل محذوف تقديره فيلزمه أو يجب عليه، ومثل بالرفع صفة لجزاء أي: فعليه جزاء موصوف بكونه مثل ما قتل أي: مماثلة. وقوله: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ} أي رجلان صالحان، فإن الأنواع تتشابه ففي النعامة بدنة، وفي حمار الوحش بقرة. وقوله: {بَالِغَ الْكَعْبَةِ} صفة هديًا، والإضافة لفظية أي واصلًا إليه بأن يذبح فيه ويتصدق به. وقوله: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} طعام بدل منه، أو تقديره هي طعام، وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر "كفارة" بغير تنوين "وطعام" بالخفض على الإضافة؛ لأن الكفارة لما تنوعت إلى تكفير بالطعام، وتكفير بالجزاء المماثل، وتكفير بالصيام حسن إضافتها لأحد أنواعها تبيينًا لذلك، والإضافة تكون لأدنى ملابسة، ولا خلاف في جمع مساكين هنا؛ لأنه لا يطعم في قتل الصيد مسكين واحد كما مرَّ، بل جماعة مساكين، وإنما اختلفوا في موضع البقرة؛ لأن التوحيد يراد به عن كل يوم، والجمع يراد به عن أيام كثيرة. وقوله: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} في الآخرة أي: فهو ينتقم الله منه، وعليه مع ذلك الكفارة.

وقوله: {صَيْدُ الْبَحْرِ} مما لا يعيش إلاَّ في الماء في جميع الأحوال، وطعامه ما يتزود منه يابسًا، أو مالحًا، أو ما قذفه ميتًا، وقال أبو حنيفة: لا يؤكل ما مات في البحر كما لا يؤكل ما مات في البر لعموم قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} واستثنى من ذلك الجراد فتؤكل ميتة عنده. وقوله: {مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} أي: منفعة للمقيم والمسافر، وهو مفعول له. وقوله: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ} أي: ما صيد فيه، أو المراد بالصيد في الموضعين فعله، فعلى الأول يحرم على المحرم ما صاده الحلال، وإن لم يكن له فيه مدخل، والجمهور على حله. ثم قال:

باب إذا صاد الحلال فأهدي للمحرم الصيد أكله

باب إذا صاد الحلال فأهدي للمحرم الصيد أكله كذا ثبت لأبي ذر، وسقط للباقين، فجعلوه من جملة الباب الذي قبله. ثم قال: ولم ير ابن عباس وأنس بالذبح بأسًا، وهو غير الصيد نحو الإبل والغنم والبقر والدجاج والخيل. يقال: عدل ذلك مثل، فإذا كسرت عدل فهو زنة ذلك قيامًا قوامًا يعدلون يجعلون عدلا. المراد بالذبح ما يذبحه المحرم، والأمر ظاهره العموم، لكن المصنف خصصه بما ذكر تفقهًا، فإن الصحيح أن حكم ما ذبحه المحرم من الصيد حكم الميتة، وقيل: يصح مع الحرمة، حتى يجوز لغير المحرم أكله، وبه قال الحسن البصري. وقوله: "وهو" أي: المذبوح إلخ من كلام المصنف قاله تفقهًا، وهو متفق عليه فيما غدا، فإنه مخصوص بمن يبيح أكلها. وأثر ابن عباس وصله عبد الرزاق، وأثر أنس وصله ابن أبي شيبة، وابن عباس مرَّ في الخامس من بدء الوحي، ومرَّ أنس في السادس من الإيمان. وقوله: "يقال: عدل مثل، فإذا كسرت عدل فهو زنة ذلك" يعني أن: عدلا بفتح العين معناه: مثل، وبكسر العين فهو زنة ذلك الشيء وتفسير العدل بالمثل وبالكسر بالزنة هو قول أبي عبيدة في المجاز وغيره، وقال الطبري: العدل في كلام العرب بالفتح هو قدر الشيء من غير جنسه، وبالكسر قدره من جنسه، قال: وذهب بعض أهل العلم بكلام العرب إلى أن العدل مصدر من قول القائل: عدلت هذا بهذا، وقال بعضهم: العَدل هو القسط في الحق، والعِدل بالكسر مثل، وقد تقدم شيء من هذا في كتاب الزكاة. وقوله: "قياما قوامًا" هو قول أبي عبيدة أيضًا، وقال الطبري: أصله الواو فحولت عين الفعل ياء كما قالوا في الصوم: صمت صيامًا وأصله صوامًا، قال الشاعر: قيام دنيا وقوام دين فرده إلى أصله، قال الطبري: فالمعنى جعل الله الكعبة بمنزلة الرئيس الذي يقوم به أمر أتباعه، يقال: فلان قيام البيت، وقوامه الذي يقيم شأنهم. وقوله: "يعدلون" يجعلون له عدلا، هو متفق عليه بين أهل التفسير، ومناسبة إيراده هنا ذكر لفظ العدل في قوله: أو عدل ذلك صيامًا، وفي قوله: "يعدلون" فأشار إلى أنهما من

الحديث الخامس عشر

مادة واحدة. وقوله: "يجعلون له عدلا" أي: مثلًا، تعالى الله عن قولهم. الحديث الخامس عشر حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: انْطَلَقَ أَبِي عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فَأَحْرَمَ أَصْحَابُهُ، وَلَمْ يُحْرِمْ، وَحُدِّثَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّ عَدُوًّا يَغْزُوهُ، فَانْطَلَقَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-، فَبَيْنَمَا أَنَا مَعَ أَصْحَابِهِ يَضْحَكُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا أَنَا بِحِمَارِ وَحْشٍ، فَحَمَلْتُ عَلَيْهِ، فَطَعَنْتُهُ، فَأَثْبَتُّهُ، وَاسْتَعَنْتُ بِهِمْ، فَأَبَوْا أَنْ يُعِينُونِي، فَأَكَلْنَا مِنْ لَحْمِهِ، وَخَشِينَا أَنْ نُقْتَطَعَ، فَطَلَبْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَرْفَعُ فَرَسِي شَأْوًا، وَأَسِيرُ شَأْوًا، فَلَقِيتُ رَجُلاً مِنْ بَنِي غِفَارٍ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ قُلْتُ: أَيْنَ تَرَكْتَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-؟ قَالَ: تَرَكْتُهُ بِتَعْهِنَ، وَهُوَ قَائِلٌ السُّقْيَا. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَهْلَكَ يَقْرَءُونَ عَلَيْكَ السَّلاَمَ وَرَحْمَةَ اللَّهِ، إِنَّهُمْ قَدْ خَشُوا أَنْ يُقْتَطَعُوا دُونَكَ، فَانْتَظِرْهُمْ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَبْتُ حِمَارَ وَحْشٍ، وَعِنْدِي مِنْهُ فَاضِلَةٌ. فَقَالَ لِلْقَوْمِ: "كُلُوا" وَهُمْ مُحْرِمُونَ. قوله: "عن عبد الله بن أبي قتادة" في رواية مسلم: أخبرني عبد الله بن أبي قتادة. وقوله: "انطلق أبي عام الحديبية" هكذا ساقه مرسلًا، وكذا أخرجه مسلم وأحمد عن هشام، لكن أخرجه أبو داود الطيالسي عن هشام، عن يحيى فقال: عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه أنه انطلق مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفي رواية عليّ بن المبارك، عن يحيى المذكورة في الباب الذي يليه: أن أباه حدَّثه. وقوله: "بالحديبية" أصح من رواية الواقدي من وجه آخر عن عبد الله بن أبي قتادة أن ذلك كان في عمرة القضاء. وقوله: "فأحرم أصحابه ولم يحرم" الضمير لأبي قتادة بينه مسلم "أحرم أصحابي ولم أحرم"، وفي رواية علي بن المبارك: وأنبئنا بعدو بغيقة، فتوجهنا نحوهم. وفي هذا السياق حذف بينته رواية ابن موهب بعد بابين بلفظ: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج حاجًّا فخرجوا معه، فصرف طائفة منهم، فيهم أبو قتادة. فقال: خذوا ساحل البحر حتى نلتقي فأخذوا ساحل البحر، فلما انصرفوا، أحرموا كلهم إلاَّ أبا قتادة، وبين المطلب عن أبي قتادة عند سعيد بن منصور مكان صرفهم ولفظه: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى إذا بلغنا الروحاء. ويجمع بين قوله هنا: "عام الحديبية"، وبين قوله الآتي: "خرج حاجًّا" بأن الراوي أراد خرج محرمًا فعبر عن الإحرام بالحج غلطًا أو هو من المجاز السائغ، وأيضًا فالحج في الأصل قصد البيت فكأنه قال: خرج قاصدًا البيت، ولهذا يقال للعمرة: الحج الأصغر، وأخرج البيهقي عن محمد بن

أبي بكر المقدمي، عن أبي عوانة بلفظ خرج حاجًّا أو معتمرًا، فبان أن الشك فيه من أبي عوانة، وقد جزم يحيى بن أبي كثير بأن ذلك كان في عمرة الحديبية، وهذا هو المعتمد. وقوله: "وحدث النبي" بضم أوله على البناء للمجهول. وقوله: "بغيقة" أي: في غيقة وهو بفتح الغين المعجمة بعدها ياء ساكنة ثم قاف مفتوحة ثم هاء، قال السكوني: هو ماء لبني غفار بين مكة والمدينة، وقال يعقوب: هو قليب لبني ثعلبة يصب فيه ماء رضوى، ويصب هو في البحر. وحاصل القصة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما خرج في عمرة الحديبية فبلغ الروحاء، وهي من ذي الحليفة على أربعة وثلاثين ميلًا، أخبروه بأن عدوًّا من المشركين بوادي غيقة، يخشى منهم أن يقصدوا غرته، فجهز طائفة من أصحابه فيهم أبو قتادة إِلى جهتهم، ليأمن شرهم، فلما أمنوا ذلك لحق أبو قتادة وأصحابه بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، فأحرموا إلاَّ هو فاستمر حلالًا؛ لأنه إما لم يجاوز الميقات، وإما لم يقصد العمرة، وبهذا يرتفع الإشكال الذي ذكره أبو بكر الأثرم، قال: كنت أسمع أصحابنا يتعجبون من هذا الحديث ويقولون: كيف جاز لأبي قتادة أن يجاوز الميقات وهو غير محرم؟ ولا يدرون ما وجهه، قال: حتى وجدته في رواية من حديث أبي سعيد فيها: فخرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأحرمنا فلما كنا بمكان كذا إذا نحن بأبي قتادة، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- بعثه في وجه الحديث قال: فإذا أبو قتادة إنما جاز له ذلك لأنه لم يخرج يريد مكة، وهذه الرواية التي أشار إليها تقتضي أن أبا قتادة لم يخرج مع النبي -صلى الله عليه وسلم- من المدينة، وليس كذلك لما بيناه، ولكن في "صحيح ابن حبان" والبزار عن أبي سعيد قال: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا قتادة على الصدقة، وخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه وهم محرمون، حتى نزلوا بعسفان، فهذا سبب آخر، ويحتمل جمعهما، والذي يظهر أن أبا قتادة إنما أخر الإحرام لأنه لم يتحقق أنه يدخل مكة، فساغ له التأخير، وقد استدل بقصة أبي قتادة على جواز دخول الحرم بغير إحرام لمن لم يرد حجًا ولا عمرة، وقيل: كانت هذه القصة قبل أن يوقت النبي -صلى الله عليه وسلم- المواقيت، وأما قول عياض ومن تبعه: إن أبا قتادة لم يكن خرج مع النبي -صلى الله عليه وسلم- من المدينة، وإنما بعثه أهل المدينة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يعلمونه أن بعض العرب قصدوا الإغارة على المدينة، فهو ضعيف مخالف لما ثبت في طريق عثمان بن موهب الصحيحة الآتية بعد بابين. وقوله: "فبينا أبي مع أصحابه يضحك بعضهم إلى بعض"، في رواية علي بن المبارك: فبصر أصحابي بحمار وحش، فجعل بعضهم يضحك إلى بعض، زاد في رواية أبي حازم: وأحبوا لو أني أبصرته، كذا في جميع الروايات، وفي رواية لمسلم: "فجعل بعضهم يضحك إليَّ" بتشديد الياء من إلى، قال عياض: هو خطأ وتصحيف، وإنما سقط عليه لفظة بعض، ثم احتج لضعفها بأنهم لو ضحكوا إليه لكانت أكبر إشارة، وقد قال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: هل منكم أحد أمره أو أشار إليه؟ قالوا: لا، وإذا دل المحرم الحلال على الصيد لم يأكل منه اتفاقًا،

وإنما اختلفوا في وجوب الجزاء، وتعقبه النووي بأنه لا يمكن رد هذه الرواية لصحتها، وصحة الرواية الأخرى، وليس في واحدة منهما دلالة ولا إشارة، فإن مجرد الضحك ليس فيه إشارة، قال بعض العلماء: وإنما ضحكوا تعجبًا من عروض الصيد لهم، ولا قدرة لهم عليه، وقول النووي: فإن مجرد الضحك ليس فيه إشارة، صحيح، ولكن لا يكفي في رد دعوى القاضي، فإن قوله: "يضحك بعضهم إلى بعض" هو مجرد ضحك، وقوله: "يضحك بعضهم إليَّ" فيه مزيد أمر على مجرد الضحك والفرق بين الموضعين أنهم اشتركوا في رؤيته فاستووا في ضحك بعضهم إلى بعض، وأبو قتادة لم يكن رآه، فيكون ضحك بعضهم إليه بغير سبب، باعثًا له على التفطن إلى رؤيته، ويؤيد ما قال القاضي ما في رواية مولى أبي قتادة الآتية في الصيد بلفظ: "إذ رأيت الناس متشوفين لشيء، فذهبت انظر، فإذا هو حمار وحش، فقلت: ما هذا؟ قالوا: لا ندري، فقلت: هو حمار وحش، فقالو: هو ما رأيت"، وفي حديث أبي سعيد عند البزار والطحاوي وابن حبان في هذه القصة: وجاء أبو قتادة -وهو حل- فنكسوا رؤسهم كراهية أن يحدوا أبصارهم إليه، فيفطن فيراه. فكيف يظن بهم مع ذلك أنهم ضحكوا إليه، فتبين أن الصواب ما قال القاضي، وفي قول النووي: "قد صحت الرواية" نظر؛ لأن الاختلاف في إثبات هذه اللفظة وحذفها، لم يقع في طريقين مختلفين، وإنما وقع في سياق إسناد واحد، مما عند مسلم، فكان مع من أثبت لفظ بعض زيادة علم سالمة من الاشكال، فهي مقدمة. وبين أبو حازم في روايته عن عبد الله بن أبي قتادة كما يأتي في الهبة، أن قصة صيده للحمار، كانت بعد أن اجتمعوا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، ونزلوا في بعض المنازل، ولفظه: كنت يومًا جالسًا مع رجال من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- في منزل في طريق مكة، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- نازل أمامنا والقوم محرمون وأنا غير محرم، وبين في هذه الرواية السبب الموجب لرؤيتهم إياه دون أبي قتادة، بقوله: فأبصروا حمارًا وحشيًّا وأنا مشغول أخصف نعلي، فلم يؤذنوني به، وأحبوا لو أني أبصرته، والتفت فأبصرته. وفي حديث أبي سعيد المذكور أن ذلك وقع وهم بعسفان، وفيه نظر. والصحيح ما يأتي بعد باب عن أبي محمد مولى أبي قتادة، عنه، قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- بالقاحة، ومنا المحرم وغير المحرم، فرأيت أصحابي يتراؤن شيئًا، فنظرت فإذا حمار وحش الحديث، والقاحة بالقاف ومهملة خفيفة بعد الألف: موضع قريب من السقيا، كما سيأتي. وقوله: "فنظرت" فيه التفات فإن السياق الماضي يقتضي أن يقول: فنظر لقوله. فبينا أبي مع أصحابه، فالتقدير قال أبي: فنظرت، وهذا يؤيد الرواية الموصولة. وقوله: "فإذا بحمار وحش" قد تقدم أن رؤيته له كانت متأخرة عن رؤية أصحابه، وصرح بذلك في رواية أبي حازم الآتية في الجهاد، ولفظه: "فرأوا حمارًا وحشيًا قبل أن يراه أبو قتادة، فلما رأوه تركوه حتى رآه فركب".

وقوله: "فحملت عليه" في رواية محمد بن جعفر: "فقمت إلى الفرس فأسرجته، ثم ركبت، ونسيت السوط والرمح فقلت لهم: ناولوني السوط والرمح، فقالوا: لا والله لا نعينك عليه بشيء، فغضبت، فنزلت، فأخذتهما، ثم ركبت" وفي رواية فضيل بن سليمان: "فركب فرسًا له -يقال لها: الجرادة- فسألهم أن يناولوه سوطه، فأبوا، فتناوله" وفي رواية أبي النضر: "وكنت نسيت سوطي فقلت لهم: ناولوني سوطي، فقالوا: لا نعينك عليه، فنزلت فأخذته" وعند النسائي عن عثمان بن موهب، وعند ابن أبي شيبة عن عبد العزيز بن رفيع، وأخرج مسلم إسنادهما كلاهما عن أبي قتادة: فاختلس من بعضهم سوطًا. والرواية الأولى أقوى، ويمكن الجمع بينهما بأنه رأى في سوط نفسه تقصيرًا، فأخذ سوط غيره، واحتاج إلى اختلاسه لأنه لو طلبه منه اختيارًا لامتنع. وقوله: "فطعنته، فأثبته" بالمثلثة ثم الموحدة ثم المثناة: أي جعلته ثابتًا في مكانه لا حراك به، وفي رواية أبي حازم: "فشددت على الحمار فعقرته، ثم جئت به وقد مات" وفي رواية أبي النضر: "حتى عقرته، فأتيت إليهم، فقلت لهم: قوموا فاحتملوا، فقالوا: لا نمسه، فحملته حتى جئتهم به". وقوله: "فأكلنا من لحمه" في رواية فضيل عن أبي حازم: "فأكلوا فندموا" وفي رواية محمد بن جعفر عن أبي حازم: "فوقعوا يأكلون منه، ثم إنهم شكوا في أكلهم إياه وهم حرم، فرحنا، وخبأت العضد معي"، وفي رواية مالك عن أبي النضر: "فأكل منه بعضهم، وأبى بعضهم" وفي رواية أبي سعيد: "فجعلوا يشوون منه" وفي رواية المطلب عن أبي قتادة، عن سعيد بن منصور: "فظللنا نأكل منه ما شئنا طبيخًا وشواء، ثم تزودنا منه". وقوله: "وخشينا أن نقتطع" أي: نصير مقطوعين عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، منفصلين عنه لكونه سبقهم، وكذا قوله بعد هذا: "وخشوا أن يقتطعوا دونك" وبيّن ذلك رواية علي بن المبارك عند أبي عوانة بلفظ: "وخشينا أن يقتطعنا العدو"، وفيها عند المصنف: "وخشوا أن يقتطعهم العدو دونك" وهذا يشعر بأن سبب إسراع أبي قتادة لإدراك النبي -صلى الله عليه وسلم- خشيةً على أصحابه أن ينالهم بعض أعدائهم، وفي رواية أبي النضر الآتية في الصيد: "فأبى بعضهم أن يأكل، فقلت: أنا أستوقف لكم النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأدركته فحدثته" الحديث، ففي هذا أن سبب إدراكه أن يستفتيه عن قصة أكل الحمار، ويمكن الجمع بأن يكون ذلك بسبب الأمرين. وقوله: "أرفع فرسي" بالتخفيف والتشديد أي أكلفه السير. وقوله: "شأواً" بالشين المعجمة بعدها همزة ساكنة أي: تارة والمراد أنه يركضه تارة، ويسير بسهولة أخرى. وقوله: "فلقيت رجلًا من بني غفار" قال في "الفتح": لم أقف على اسمه.

وقوله "تركته بتعهن" بموحدة مكسورة فمثناه مفتوحة فعين مهملة ساكنة فهاء مكسورة ثم نون لأبي ذر، وللكشميهني "بتعهن" بكسر الفوقية والهاء، ولغيره بفتحهما، وحكى أبو ذر الهروي أنه سمع أهل ذلك المكان يفتحون الهاء، وفي "القاموس": تعهن -مثلث الأول مكسور الهاء-: وهي عين ماء على ثلاثة أميال من السقيا. وقوله: "وهو قائل السقيا" بضم السين المهملة وإسكان القاف ثم مثناه تحتية مفتوحة مقصور قرية جامعة بين مكة والمدينة، وهي من أعمال الفرع بضم الفاء وسكون الراء آخره عين مهملة، و"قايل" بالمثناة التحتية من غير همز كما في الفرع وصحح عليه، وفي غيره بالهمزة، وقال النووي: روي بوجهين أصحهما وأشهرهما بهمزة بين الألف واللام من القيلولة أي: تركته بتعهن، وفي عزمه أن يقيل بالسقيا، ومعنى قائل: سيقيل، والوجه الثاني: قابل بالموحدة، وهو ضعيف وغريب وتصحيف، وإن صح فمعناه أن تعهن موضع مقابل السقيا، وقال في "المفهم" وتبعه في "التنقيح": وهو قائل اسم فاعل من القول، ومن القائلة أيضًا، والأول هو المراد هنا، والسقيا مفعول بفعل مقدر كأنه كان بتعهن، وهو يقول لأصحابه اقصدوا السقيا، قال في "المصابيح": يصح كل من الوجهين أي: القول والقائلة، فإنه أدركه في وقت قيلولته، وهو عازم على المسير إلى السقيا، إما بقرينة حالية أو مقالية، ولا مانع من ذلك أصلًا وليتأمل قوله: "فإنه أدركه وقت قيلولته" فإن لقي أبي قتادة الغفاري كان في جوف الليل، وقصة الحمار كانت بالقاحة كما يأتي بعد باب، وهي على ميل من السقيا إلى جهة المدينة، فالظاهر أن لقيا الغفاري له عليه الصلاة والسلام إنما كان ليلًا لا نهارًا، وعلى الوجه الأول: الضمير في قوله وهو للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وعلى الثاني: الضمير لموضع وهو تعهن ولا شك أن الأول أصوب وأكثر فائدة، وعند الإسماعيلي عن هشام: وهو قائم بالسقيا، فأبدل اللام في قائل ميما وزاد الباء في السقيا، قال الإسماعيلي: الصحيح قائل باللام وزيادة الباء توهي الاحتمال الأخير المذكور. وقوله: "فقلت: يا رسول الله" في السياق حذف، تقديره: فسرت فأدركته فقلت، ويوضحه رواية عليّ بن المبارك في الباب الذي يليه بلفظ: فلحقت برسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى أتيته فقلت: يا رسول الله. وقوله: "إن أهلك يقرؤن عليك السلام" المراد بالأهل هنا الأصحاب بدليل رواية مسلم وأحمد وغيرهما من هذا الوجه بلفظ: إن أصحابك. وقوله: "فانتظرهم" بصيغة فعل الأمر من الانتظار زاد مسلم من هذا الوجه: "فانتظرهم" بصيغة الفعل الماضي منه، ومثله لأحمد عن ابن علية، وفي رواية عليّ بن المبارك: فانتظرهم ففعل.

رجاله خمسة

وقوله: "أصبت حمار وحش، وعندي منه فاضلة" كذا للأكثر بضاد معجمة أي: فضلة، قال الخطابي: قطعة فضلت منه، فهي فاضلة أي: باقية. وقوله: "فقال للقوم: كلوا" ويأتي بعد بابين زيادة في فوائد هذا الحديث. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ معاذ بن فضالة، وعبد الله بن أبي قتادة، وأبو قتادة في التاسع عشر من الوضوء، ومرَّ هشام الدستوائي في السابع والثلاثين من الإيمان، ومرَّ يحيى بن أبي كثير في الثالث والخمسين من العلم. ثم قال المصنف:

باب إذا رأى المحرمون صيدا فضحكوا ففطن الحلال

باب إذا رأى المحرمون صيدًا فضحكوا ففطن الحلال أي: لا يكون ذلك منهم إشارة له إلى الصيد، فيحل لهم أكل الصيد ويجوز كسر الطاء من فطن وفتحها. الحديث السادس عشر حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ قَالَ: انْطَلَقْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فَأَحْرَمَ أَصْحَابُهُ، وَلَمْ أُحْرِمْ، فَأُنْبِئْنَا بِعَدُوٍّ بِغَيْقَةَ فَتَوَجَّهْنَا نَحْوَهُمْ، فَبَصُرَ أَصْحَابِي بِحِمَارِ وَحْشٍ، فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَضْحَكُ إِلَى بَعْضٍ، فَنَظَرْتُ فَرَأَيْتُهُ فَحَمَلْتُ عَلَيْهِ الْفَرَسَ، فَطَعَنْتُهُ، فَأَثْبَتُّهُ، فَاسْتَعَنْتُهُمْ، فَأَبَوْا أَنْ يُعِينُونِي، فَأَكَلْنَا مِنْهُ، ثُمَّ لَحِقْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَخَشِينَا أَنْ نُقْتَطَعَ، أَرْفَعُ فَرَسِي شَأْوًا، وَأَسِيرُ عَلَيْهِ شَأْوًا، فَلَقِيتُ رَجُلاً مِنْ بَنِي غِفَارٍ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ فَقُلْتُ: أَيْنَ تَرَكْتَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-؟ فَقَالَ: تَرَكْتُهُ بِتَعْهِنَ، وَهُوَ قَائِلٌ السُّقْيَا. فَلَحِقْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى أَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَصْحَابَكَ أَرْسَلُوا يَقْرَءُونَ عَلَيْكَ السَّلاَمَ وَرَحْمَةَ اللَّهِ وَبَرَكَاتِهِ، وَإِنَّهُمْ قَدْ خَشُوا أَنْ يَقْتَطِعَهُمُ الْعُدُوُّ دُونَكَ، فَانْظُرْهُمْ، فَفَعَلَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا اصَّدْنَا حِمَارَ وَحْشٍ، وَإِنَّ عِنْدَنَا فَاضِلَةً. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لأَصْحَابِهِ: "كُلُوا". وَهُمْ مُحْرِمُونَ. قوله: "وأُنبئنا" بضم أوله أي: أخبرنا. وقوله: "فبَصُر" بفتح الموحدة وضم المهملة، وفي رواية الكشميهني: "فنظر" بنون وظاء مثالة، وعلى هذا فدخول الباء في قوله: "بحمار وحش" مشكل إلا أن يقال ضمن نظر معنى بصر، أو الباء بمعنى إلى على مذهب من يقول: إنها تتناوب. وقوله: "إنا أصَّدْنا" بتشديد المهملة وسكون الدال للأكثر بالإدغام، وأصله اصطدنا فأبدلت الطاء مثناة، ثم أُدغمت، ولبعضهم بتخفيف الصاد وسكون الدال بعد همزة مفتوحة، أي: أثرنا من الأصاد وهو الإثارة، ولبعضهم صدنا بغير ألف وقد مرت مباحثه في الذي قبله. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ محل يحيى وعبد الله وأبيه في الذي قبله، ومرَّ علي بن المبارك في متابعة

بعد الرابع والثلاثين من الأذان. والخامس: سعيد بن الربيع الحرشي العامري أبو زيد الهروي البصري، قال أحمد: شيخ ثقة، لم أسمع منه شيئًا، وقال أبو حاتم: صدوق، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وهو من أقدم شيخ للبخاري، روى عن شعبة وهشام الدستوائي وقرة ابن خالد وغيرهم، وروى عنه البخاري، وروى له هو ومسلم والترمذي بواسطة، وأبو داود الحراني، وغيرهم، مات سنة إحدى عشرة ومائتين. فيه التحديث بالجمع والأفراد، والعنعنة، والقول، وشيخه وشيخ شيخه بصريان، أخرجه البخاري أيضًا في المغازي وفي الجهاد وفي الذبائح وفي الهبة وفي الأطعمة ومسلم في الحج، وكذا أبو داود والترمذي، والنسائي، وابن ماجه. ثم قال المصنف:

باب لا يعين المحرم الحل الذي قتل الصيد

باب لا يعين المحرم الحل الذي قتل الصيد أي: بفعل ولا قول، قيل: أراد بهذه الترجمة الرد على من فرق من أهل الرأي بين الإعانة التي لا يتم إلاَّ بها فتحرم، وبين الإعائة التي يتم الصيد بدونها فلا تحرم. الحديث السابع عشر حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ سَمِعَ أَبَا قَتَادَةَ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- بِالْقَاحَةِ مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى ثَلاَثٍ (ح)، وَحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- بِالْقَاحَةِ، وَمِنَّا الْمُحْرِمُ، وَمِنَّا غَيْرُ الْمُحْرِمِ، فَرَأَيْتُ أَصْحَابِي يَتَرَاءَوْنَ شَيْئًا فَنَظَرْتُ، فَإِذَا حِمَارُ وَحْشٍ يَعْنِى وَقَعَ سَوْطُهُ فَقَالُوا: لاَ نُعِينُكَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، إِنَّا مُحْرِمُونَ. فَتَنَاوَلْتُهُ فَأَخَذْتُهُ، ثُمَّ أَتَيْتُ الْحِمَارَ مِنْ وَرَاءِ أَكَمَةٍ، فَعَقَرْتُهُ، فَأَتَيْتُ بِهِ أَصْحَابِي، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كُلُوا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ تَأْكُلُوا. فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ أَمَامَنَا، فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: "كُلُوهُ حَلاَلٌ". قَالَ لَنَا عَمْرٌو: اذْهَبُوا إِلَى صَالِحٍ فَسَلُوهُ عَنْ هَذَا وَغَيْرِهِ، وَقَدِمَ عَلَيْنَا هَاهُنَا. قوله: "بالقاحة" بالقاف والمهملة: واد على نحو ميل من السقاية إلى جهة المدينة، ويقال لواديها: وادي العباديد، وقد بين المصنف في الطريق الأولى أنها من المدينة على ثلاث، أي: ثلاث مراحل قال عياض: رواه الناس بالقاف إلا القابسي فضبطوه عنه بالفاء، وهو تصحيف، وعند الجوزقي عن سفيان: بالصفاح بدل القاحة، والصفاح بكسر المهملة بعدها فاء وآخره مهملة، وهو تصحيف فإن الصفاح موضع بالروحاء، وبين السقيا والروحاء مسافة طويلة، وقد تقدم أن الروحاء هو المكان الذي ذهب أبو قتادة وأصحابه منه إلى جهة البحر ثم التقوا بالقاحة، وبها وقع له الصيد المذكور وكأنه تأخر هو ورفقته للراحة أو غيرها، وتقدمهم النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى السقيا حتى لحقوه. وقوله: "وحدثنا عليّ بن عبد الله"، هكذا حول المصنف الإِسناد إلى رواية عليّ للتصريح فيه عن سفيان بقوله: حدثنا صالح بن كيسان، وقد ساق المتن على لفظ علي خاصة، وهذه عادة المصنف غالبًا إذا تحول إلى إسناد ساق المتن على لفظ الثاني.

وقوله: "عن أبي محمد" هو نافع مولى أبي قتادة ويأتي تعريفه في السند قريبًا. وقوله: "فيتراءون" يتفاعلون من الرؤية. وقوله: "يعني وقع سوطه فقالوا لا نعينك" كذا وقع، ورواه أبو عوانة عن عليّ بن المديني بلفظ: "فإذا حمار وحش فركبت فرسي وأخذت الرمح والسوط فسقط في السوط فقلت ناولوني، فقالوا ليس نعينك عليه بشيء إنا محرمون" وفي قولهم إنا محرمون دلالة على أنهم كانوا قد علموا أنه يحرم على المحرم الإعانة على قتل الصيد. وقوله: "فتناولته بشيء فأخذته" وبهذا يندفع أشكال من قال: التناول: هو الأخذ، فما فائدة فأخذته؟ أو معناه: تكلفت التناول فأخذته. وقوله: "من وراء أكمة" بفتحات: هي التل من حجر واحد، وقد تقدم الكلام عليها في الاستسقاء. وقوله: "فقال بعضهم كلوا" قد تقدم من عدة أوجه أنهم أكلوا، والظاهر أنهم أكلوا أول ما أتاهم به ثم طرأ عليهم الشك كما في لفظ عثمان بن موهب في الباب الذي يليه: "فأكلنا من لحمها ثم قلنا أناكل من لحم صيد ونحن محرمون؟ " وأصرح من ذلك رواية أبي حازم في الهبة بلفظ: "ثم جئت به فوقعوا فيه يأكلون ثم أنهم شكوا في أكلهم إياه وهم حرم" وفي حديث أبي سعيد: "فجعلوا يشوون ثم قالوا رسول الله بين أظهرنا" وكان تقدمهم فلحقوه فسألوه. وقوله: "وهو أمامنا" بفتح أوله. وقوله: "كلوه حلال" كذا وقع بحذف المبتدأ، وبين ذلك أبو عوانة فقال: "كلوه فهو حلال" وفي رواية مسلم فقال: "هو حلال فكلوه". وقوله: سابقًا "فعقرته" أي: قتلته وأصله ضرب قوائم البعير أو الشاة بالسيف، وهو قائم فتوسع فيه فاستعمل في مطلق القتل والإهلاك، وفيه أن عقر الصيد: ذكاته. وقوله: "قال: لنا عمرو إذهبوا" الخ. عمرو هو ابن دينار وصرح به أبو عوانة في روايته، والقائل سفيان، والغرض بذلك تأكيد ضبطه له وسماعه له من صالح بن كيسان وأراد بقوله "قال: لنا عمرو إذهبوا" إلى آخره كيفية تحمله له من صالح وأنه بدلالة عمرو. وقوله: "هاهنا" يعني مكة، والحاصل أن صالح بن كيسان كان مدنيا فقدم مكة فدل عمرو بن دينار أصحابه عليه ليسمعوا منه، وما حدث سفيان به عليًا إلا بعد موت صالح وعمرو بمدة طويلة.

رجاله ستة

رجاله ستة: قد مرّوا: إلا أبا محمد نافع، مرَّ عبد الله بن محمد المسندي في الثاني من الإيمان، ومرَّ سفيان بن عيينة في الأول من بدء الوحي، ومرَّ صالح بن كيسان في الأخير منه، ومرَّ علي بن عبد الله المديني في الرابع عشر من العلم، ومرَّ أبو قتادة في التاسع عشر من الوضع، والباقي نافع بن عباس ويقال: ابن عياش الأقرع أبو محمد مولى أبي قتادة، ويقال مولى عقيلة الغفارية، ويقال إنهما اثنان. قال النسائي: نافع مولى أبي قتادة ثقة، وقال ابن حبان في "الثقات" نافع مولى عقيلة بنت طلق الغفارية، ويقال له نافع مولى أبي قتادة، نسب إليه ولم يكن مولاه، وكذلك روى عن مغفل بن إبراهيم قال: سمعت رجلًا يقال له مولى أبي قتادة ولم يكن مولاه، يحدث عن أبي قتادة، فذكر حديث الحمار الوحشي، وعلى هذا نسب لأبي قتادة لكثرة ملازمته له وخدمته له، وقال ابن سعد: في الطبقة الثالثة كان قليل الحديث، وقال ابن شاهين: في الثقات، قال أحمد بن حنبل معروف. روى عن أبي قتادة وأبي هريرة وروى عنه سالم أبو النضر وصالح بن كيسان والزهري وغيرهم. ثم قال المصنف:

باب لا يشر المحرم إلى الصيد لكي يصطاده الحلال

باب لا يشر المحرم إلى الصيد لكي يصطاده الحلال أشار المصنف إلى تحريم ذلك ولم يتعرض لوجوب الجزاء، وهي مسألة خلاف فاتفقوا كما تقدم على تحريم الإشارة إلى الصيد ليصطاد، وعلى سائر وجوه الدلالات على المحرم لكن قيده أبو حنيفة بما إذا لم يمكن الاصطياد بدونها، واختلفوا في وجوب الجزاء على المحرم، إذا دل الحلال على الصيد بإشارة أو غيرها أو أعان عليه، فقال الكوفيون وأحمد وإسحاق: يضمن المحرم ذلك، وقال مالك والشافعي: لا ضمان عليه، كما لو دل الحلال حلالًا على قتل صيد في الحرم، قالوا ولا حجة في حديث الباب لأن السؤال عن الإعانة والإشارة إنما وقع ليبين لهم هل يحل لهم أكله أو لا ولم يتعرض لذكر الجزاء الموفق بأنه قول علي وابن عباس، ولا نعلم لهما مخالفًا من الصحابة، وأجيب بأنه اختلف فيه على ابن عباس وفي ثبوته عن علي نظر، ولأن القاتل انفرد بقتله باختباره مع انفصال الدالِّ عنه فصار كمن دل محرمًا أو صائمًا على امرأة وطئها فإنه يأثم بالدلالة، ولا تلزمه كفارة ولا يفطر بذلك. الحديث الثامن عشر حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ هُوَ ابْنُ مَوْهَبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- خَرَجَ حَاجًّا، فَخَرَجُوا مَعَهُ فَصَرَفَ طَائِفَةً مِنْهُمْ، فِيهِمْ أَبُو قَتَادَةَ فَقَالَ: "خُذُوا سَاحِلَ الْبَحْرِ حَتَّى نَلْتَقِيَ". فَأَخَذُوا سَاحِلَ الْبَحْرِ، فَلَمَّا انْصَرَفُوا أَحْرَمُوا كُلُّهُمْ إِلاَّ أَبُو قَتَادَةَ لَمْ يُحْرِمْ، فَبَيْنَمَا هُمْ يَسِيرُونَ إِذْ رَأَوْا حُمُرَ وَحْشٍ، فَحَمَلَ أَبُو قَتَادَةَ عَلَى الْحُمُرِ، فَعَقَرَ مِنْهَا أَتَانًا، فَنَزَلُوا فَأَكَلُوا مِنْ لَحْمِهَا، وَقَالُوا: أَنَأْكُلُ لَحْمَ صَيْدٍ وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ؟ فَحَمَلْنَا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِ الأَتَانِ، فَلَمَّا أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا أَحْرَمْنَا وَقَدْ كَانَ أَبُو قَتَادَةَ لَمْ يُحْرِمْ، فَرَأَيْنَا حُمُرَ وَحْشٍ فَحَمَلَ عَلَيْهَا أَبُو قَتَادَةَ، فَعَقَرَ مِنْهَا أَتَانًا، فَنَزَلْنَا فَأَكَلْنَا مِنْ لَحْمِهَا ثُمَّ قُلْنَا أَنَأْكُلُ لَحْمَ صَيْدٍ وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ فَحَمَلْنَا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا. قَالَ: "مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا، أَوْ أَشَارَ إِلَيْهَا". قَالُوا: لاَ. قَالَ: "فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا". قوله: "خرج حاجًّا" قد مرَّ ما قيل فيه في الرواية الأولى "انطلق أبي عام الحديبية". وقوله: "إلا أبا قتادة كذا للكشميهني ولغيره إلاَّ أبو قتادة بالرفع ووقع بالنصب عند مسلم وغيره، من هذا الوجه قال ابن مالك: حق المستثنى بإلَّا من كلام تام موجب أن ينصب مفردًا

كان أو مكملًا معناه بما بعده، فالمفرد نحو قوله تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} والمكمل نحو {إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ} ولا يعرف أكثر المتأخرين من البصريين في هذا النوع إلاَّ النصب، وقد أغفلوا وروده مرفوعًا بالابتداء مع ثبوت الخبر وجمع حذفه، فمن أمثلة الثابت الخبر قول أبي قتادة: "أحرموا كلهم إلاَّ أبو قتادة لم يحرم"، فإلَّا بمعنى لكن وأبو قتادة مبتدأ ولم يحرم خبره، ونظيره قوله تعالى: {وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} فإنه لا يصح أن يجعل امرأتك بدلًا من أحد لأنها لم تسر معهم فيتضمنها ضمير المخاطبين، وتكلف بعضهم بأنه وإن لم يسر بها لكنها شعرت بالعذاب فتبعتهم ثم التفتت فهلكت، قال: وهذا على تقدير صحته لا يوجب دخولها في المخاطبين ومن أمثلة المحذوف الخبر قوله عليه الصلاة والسلام: "كل أمتي معافى إلاَّ المجاهرون" أي: لكن المجاهرون بالمعاصي لا يعافون، ومن كتاب الله تعالى قوله تعالى: {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} أي: لكن قليل منهم لم يشربوا، قال: وللكوفيين في هذا الثاني مذهب آخر وهو أن يجعلوا إلاَّ حرف عطفٍ وما بعدها معطوف على ما قبلها، وفي نسبة الكلام المذكور لابن أبي قتادة نظر، فإن سياق الحديث ظاهر في أن قوله: قول أبي قتادة حيث قال: إن أباه أخبره أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج حاجًّا فخرجوا معه فصرف طائفة منهم فيهم أبو قتادة إلى أن قال: أحرموا كلهم إلاَّ أبو قتادة. وقول أبي قتادة: فيهم أبو قتادة من باب التجريد وكذا قوله: إلاَّ أبو قتادة ولا حاجة إلى جعله من قول ابنه لا يستلزم أن يكون الحديث مرسلًا، ومن توجيه الرواية المذكورة، وهي قوله: "إلاَّ أبو قتادة" أن يكون على مذهب من يقول: عليّ بن أبو طالب يعني على حكاية لفظ "أبي طالب". وقوله: "فحمل أبو قتادة على الحمر فعقر منها أتانًا" في هذا السياق زيادة على جميع الروايات لأنها متفقة على أفراد الحمار بالرؤية وأفادت هذه الرواية أنه من جملة الحمر وأن المقتول كان أتانًا أي: انثى، فعلى هذا في إطلاق الحمار عليها تجوز. وقوله: "فحملنا ما بقي من لحم الأتان" في رواية أبي حازم: الآتية للمصنف في الهبة: "فرحنا، وخبأت العضد معي وفيه معكم منه شيء فناولته العضد فأكلها حتى تعرقها" وله في الجهاد قال: "معنا رجله فأخذها فأكلها" وفي رواية المطلب "قد رفعنا لك الذراع فأكل منها". وقوله: "قال: أمنكم أحد أمره أن يحمل أو أشار إليها قالوا لا" وفي رواية مسلم: "هل منكم أحد أمره أو أشار إليه بشيء؟ " وله من طريق شعبة عن عثمان: "هل أشرتم أو أعنتم أو اصطدتم"، ولأبي عوانة من هذا الوجه: "أشرتم أو اصطدتم أو قتلتم". وقوله: "قال: فكلوا ما بقي من لحمها"، صيغة الأمر هنا للإباحة لا للوجوب لأنها وقعت

جوابًا عن سؤالهم عن الجواز لا عن الوجوب فوقعت الصيغة على مقتضى السؤال، ولم يذكر في هذه الرواية أنه عليه الصلاة والسلام أكل من لحمها، وذكره في روايتي أبي حازم كما مرَّ، ولم يذكر ذلك أحد من الرواة عن عبد الله ابن أبي قتادة غيره، ووافقه صالح بن كيسان، عند أحمد وأبي داود الطيالسي، وأبي عوانة، ولفظه: "فقال كلوا وأطعموني" وكذا لم يذكرها أحد من الرواة عن أبي قتادة نفسه إلاَّ المطلب عن سعيد بن منصور، وتفرد معمر عن يحيى بن أبي كثير بزيادة مضادة لروايتي أبي حازم كما أخرجه إسحاق وابن خزيمة والدارقطني من طريقه، وقال في آخره فذكرت شأنه لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقلت: "إنما اصطدته لك، فأمر أصحابه فأكلوه ولم يأكل منه حين أخبرته أني اصطدته له" قال ابن خزيمة، والنيسابوري، والدارقطني: تفرد بهذه الزيادة معمر، قال ابن خزيمة: إن كانت هذه الزيادة محفوظة أحتمل أن يكون عليه الصلاة والسلام أكل من لحم ذلك الحمار قبل أن يعلمه أبو قتادة أنه اصطاده من أجله، فلما أعلمه امتنع، وفيه نظر لأنه لو كان حرامًا ما أقر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على الأكل منه إلى أن أعلمه أبو قتادة بأنه صاده لأجله، ويحتمل أن يكون ذلك لبيان الجواز فإن الذي يحرم على المحرم إنما هو الذي يعلم أنه صيد من أجله، وأما إذا أتي بلحم لا يدري الحم صيد أو لا فحمله على أصل الإباحة فأكل منه لم يكن ذلك حرامًا على الأكل، وفيه وقفة فإن الروايات المتقدمة ظاهرة في أن الذي تأخر هو العضد، وأنه -صلى الله عليه وسلم- أكلها حتى تعرقها أي لم يبق منها إلاَّ العظم، وعند البخاري في الهبة: حتى نفدها أي فرغها، فأي شيء يبقى منها حينئذ حتى يأمر أصحابه بأكله، لكن رواية أبي محمد الآتية في الصيد "أبقي معكم شيء منه قلت: نعم قال: كلوا فهو طعمة أطعمكموها الله" فأشعر بأنه بقي منها غير العضد وفي هذا الحديث من الفوائد جواز أكل المحرم لحم الصيد إذا لم تكن منه دلالة، ولا إشارة، وفي أكله له اختلاف، فمذهب مالك والشافعي أنه ممنوع إن صاده أو صيد لأجله سواء كان بإذنه أو بغير إذنه، لحديث جابر مرفوعًا: "لحم الصيد لكم في الإحرام حلال، ما لم تصيدوه أو يصاد لكم" رواه أبو داود والترمذي والنسائي، وعبارة الشيخ خليل في "مختصره": وما صاده محرم أو صيد له ميتة، قال شراحة: أي: فلا يأكله حلال ولا حرام وجاء عن مالك تفصيل آخر بين ما صيد للمحرم قبل إحرامه يجوز له الأكل منه، أو بعد إحرامه فلا، وقال عليَّ وابن عباس وابن عمر والليث والثوري وإسحاق بتحريم أكل المحرم من لحم الصيد مطلقًا، واستدلوا بحديث الصعب بن جثامة حيث قال في: "إنا لم نرده عليك إلاَّ أنا حرم"، وزاد النسائي: "لا نأكل الصيد"، وفي رواية ابن عباس: "لولا أنَّا محرمون لقبلناه منك"، قالوا: لأنه اقتصر في التعليل على كونه محرمًا، فدلَّ على أنه سبب الإمتناع خاصة، وبما أخرجه أبو داود وغيره عن عليّ أنَّه قال لناس من أشجح: أتعلمون أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أهدى له رجل حمار وحش، وهو محرم، فأبى أن يأكله؟ قالوا: نعم، لكن يعارض هذا الظاهر ما أخرجه مسلم عن طلحة أنه أهدي له لحم طير، وهو محرم فوقف عن أكله، وقال: أكلناه مع رسول

الله -صلى الله عليه وسلم-، وحديث أبي قتادة هذا، وحديث عمير بن سلمة: أن البهزي أهدى للنبي -صلى الله عليه وسلم- ظبيًا وهو محرم، فأمر أبا بكر رضي الله تعالى عنه أن يقسم بين الرفاق. أخرجه مالك وأصحاب "السنن"، وصححه ابن خزيمة وغيره. وبالجواز مطلقًا قال الكوفيون ومنهم: أبو حنيفة، وطائفة من السلف، وجمع الجمهور بين ما اختلف من ذلك بأن أحاديث القبول محمولة على ما يصيده الحلال لنفسه ثم يهدي منه للمحرم، وأحاديث الرد محمولة على ما صاده الحلال لأجل المحرم، قالوا: والسبب في الاقتصار على الإحرام عند الاعتذار للصعب أن الصيد لا يحرم على المرء إذا صيد له، إلا إذا كان محرمًا، فبين الشرط الأصلي، وسكت عما عداه فلم يدل على نفسه، وقد بينه في الأحاديث الأخر ويؤيد هذا الجمع حديث جابر المتقدم، وبين العلتين جميعًا في حديث النسائي المتقدم: "إنا حرم لا نأكل الصيد"، وعن عثمان التفصيل بين ما يصاد لأجله من المحرمين، فيمتنع عليه ولا يمتنع على محرِم آخر، وقال ابن المنير: حديث الصعب يشكل على مالك لأنه يقول: ما صيد من أجل المحرم يحرم على المحرم وعلى غير المحرم. فيمكن أن يقال: قوله: "فرده عليه" لا يستلزم أنه أباح له أكله، بل يجوز أن يكون أمره بإرساله إن كان حيًّا، وطرحه إن كان مذبوحا، فإن السكوت عن الحكم لا يدل على الحكم بضده، وتعقب بأنه وقت البيان، فلو لم يجز له الانتفاع به لم يرده عليه أصلًا، إذ لا اختصاص له به، وقال المرادوي من الحنابلة في كتاب "الانتصاف" له: يحرم ما صيد لأجله على الصحيح من المذهب، نقله الجماعة عن أحمد وعليه الأصحاب، قال: وفي "الانتصار" احتمال بجواز أكل ما صيد لأجله، وقال صاحب "الهداية" من الحنفية: ولا بأس أن يأكل المحرم صيدًا اصطاده حلال وذبحه إذا لم يدله المحرم عليه، ولا أمره بصيده، واستدلوا بما روي أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم تذاكروا لحم الصيد في حق المحرم، فقال عليه الصلاة والسلام: "لا بأس به"، وقالوا: إن اللام في قوله: "لحم الصيد لكم" في حديث جابر المتقدم، لام تمليك فيحمل على أن يهدي إليه الصيد دون اللحم، أو يصاد بأمره، قال في "فتح القدير": أما إذا اصطاد الحلال للمحرم صيدًا بأمره فاختلف فيه عندنا؛ فذكر الطحاوي تحريمه على المحرم، وقال الجرجاني: لا يحرم، واستدلت الحنفية على جواز أكل المحرم ما صيد لأجله بأن الصحابة لما سألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يجب بحله لهم، حتى سألهم عن موانع الحل أكانت موجودة أم لا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "أمنكم أحد أمره أن يحمل عليها، أو أشار إليها؟ " قالوا: لا، قال: "فكلوا إذن" فلو كان من الموانع أن يصطاد لهم، لنظمه في سلك ما يسأل عنه منها في التفحص عن الموانع ليجيب بالحكم عند خلوه عنها، وهذا المعنى كالصريح في نفي كون الاصطياد للمحرم مانعًا، فيعارض حديث جابر ويقدم عليه لقوة ثبوته، إذ هو في "الصحيحين" وغيرهما من الكتب الستة، بل في حديث جابر:

لحم الصيد إلخ انقطاع لأن المطلب بن حنطب لم يسمع من جابر عند غير واحد، وكذا في رجاله من فيه لين. وفي حديث أبي قتادة أيضًا أن تمني المحرم أن يقع الحلال الصيد ليأكل منه لا يقدح في إحرامه، وأن الحلال إذا صاد لنفسه جاز للمحرم الأكل من صيده، وهذا يقوي من حمل الصيد في قوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ} على الإصطياد وفيه الاستيهاب من الأصدقاء، وقبول الهدية منهم، وقال عياض: عندي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- طلب من أبى قتادة ذلك، تطبيبًا لقلب من أكل منه، بيانًا للجواز بالقول والفعل، لإزالة الشبهة التي حصلت لهم. وفيه تسمية الفرس، وألحق المصنف به الحمار، فترجم له في الجهاد، وقال ابن العربي: قالوا: يجوز التسمية لما لا يعقل، وإن كان لا يتفطن له، ولا يجيب إذا نودي، مع أن بعض الحيوانات ربما أدمن على ذلك بحيث يصير يميز اسمه إذا دعي. وفيه إمساك نصيب الرفيق الغائب ممن يتعين احترامه، أو ترجى بركته، أو يتوقع منه ظهور حكم تلك المسألة بخصوصها. وفيه تفريق الإِمام أصحابه للمصلحة، واستعمال الطليعة في الغزو، وتبليغ السلام عن قرب وبعد، وليس فيه دليل على جواز ترك رد السلام ممن بلغه؛ لأنه يحتمل أن يكون وقع وليس في الخبر ما ينفيه. وفيه أن عقر الصيد ذكاته، وجواز الاجتهاد في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال ابن العربي: هو اجتهاد بقرب النبي -صلى الله عليه وسلم- لا في حضرته. وفيه العمل بما أدى إليه الاجتهاد ولو تضاد المجتهدان، ولا يعاب واحد منهما على ذلك، لقوله: "فلم يعب ذلك علينا" وكان الآكل تمسك بأصل الإباحة، والممتنع نظر إلى الأمر الطارىء. وفيه الرجوع إلى النص عند تعارض الأدلة، وركض الفرس في الاصطياد، والتصيد في الأماكن الوعرة، والاستعانة بالفارس، وحمل الزاد في السفر، والرفق بالأصحاب والرفقاء في السفر، واستعمال الكناية في الفعل كما تستعمل في القول لأنهم استعملوا الضحك في موضع الإشارة لما اعتقدوه من أن الإشارة لا تحل. وفيه جواز سوق الفرس للحاجة، والرفق به مع ذلك لقوله: "وأسير شاوًا"، ونزول المسافر وقت القائلة. وفيه ذكر الحكم مع الحكمة في قوله: "إنما هي طعمة أطعمكموها الله" ولا يجوز للمحرم قتل الصيد إلاَّ إن صال عليه فقتله دفعًا، فيجوز ولا ضمان عليه.

رجاله خمسة

رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ موسى بن إسماعيل وأبو عوانة في الخامس من بدء الوحي، ومرَّ عثمان بن موهب في تعليق بعد الثاني من الزكاة، ومرَّ عبد الله بن أبي قتادة، وأبوه في التاسع عشر من الوضوء. ثم قال المصنف:

باب إذا أهدي للمحرم حمارا وحشيا حيا لم يقبل

باب إذا أهدي للمحرم حمارًا وحشيًا حيًا لم يقبل أي: إذا أهدى الحلال للمحرم. وفيه إشارة إلى أن الرواية التي تدل على أنه كان مذبوحا موهومة، قال النووي: ترجم البخاري يكون الحمار حيا وليس في سياق الحديث تصريح بذلك، وكذا نقلوا هذا التأويل، وهو باطل؛ لأن الروايات التي ذكرها مسلم الآتية قريبًا صريحة في أنه مذبوح، قال في "الفتح": وإذا تأملت ما تقدم وما يأتي قريبا لم يحسن إطلاق بطلان التأويل المذكور ولاسيما في رواية الزهري التي هي عمدة هذا الباب، وقد قال الشافعي في "الأم": حديث مالك أن الصعب أهدى حمارا أثبت من حديث من روى أنه أهدى لحم حمار، وقال الترمذي: روى بعض أصحاب الزهري في حديث الصعب لحم حمار وحش، وهو غير محفوظ. الحديث التاسع عشر حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ اللَّيْثِيِّ أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حِمَارًا وَحْشِيًّا، وَهْوَ بِالأَبْوَاءِ، أَوْ بِوَدَّانَ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِهِ قَالَ: "إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلاَّ أَنَّا حُرُمٌ". قوله: "عن ابن شهاب" الخ لم يختلف على مالك في سياقه معنعنًا، وإنه من مسند الصعب، إلاَّ ما وقع في "موطأ" ابن وهب، فإنه قال في روايته عن ابن عباس: إن الصعب بن جثامة أهدى فجعله من مسند ابن عباس، وكذا أخرجه مسلم عن ابن عباس قال: أهدى الصعب، والمحفوظ في حديث مالك الأول وسيأتي للمصنف في الهبة عن الزهري: أخبرني عبيد الله، أن ابن عباس أخبره أنه سمع الصعب -وكان من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يخبر أنه أهدى، والصعب يأتي تعريفه في السند قريبًا. وقوله: "حمارًا وحشيًا" لم تختلف الرواة عن مالك في ذلك، وتابعه عامة الرواة عن الزهري، وخالفهم ابن عيينة عن الزهري فقال: لحم حمار وحش أخرجه مسلم، لكن بين الحميدي صاحب سفيان أنه كان يقول في هذا الحديث: حمار وحش، ثم صار يقول: لحم حمار وحش، فدل على اضطرابه فيه، وقد توبع على قوله: لحم حمار وحش من أوجه فيها مقال، منها: ما أخرجه الطبراني عن عمرو بن دينار، عن الزهري، وإسناده ضعيف، وأخرج

إسحاق في "مسنده" عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن الزهري فقال: لحم حمار، وقد خالفه خالد الواسطي، عن محمد بن عمرو فقال: حمار وحش كالأكثر، وأخرجه الطبري عن أبي إسحاق عن الزهري فقال: رجل حمار وحش، وابن إسحاق لا يحتج به إذا خولف، ويدل على وهم ما قال في ذلك عن الزهري أن ابن جريج قال: قلت للزهري: الحمار عقير؟ قال: لا أدري، أخرجه ابن خزيمة وأبو عوانة في "صحيحهما"، وأخرج مسلم عن الحكم، عن سعيد ابن جبير، عن ابن عباس قال: أهدى الصعب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلَ حمارٍ، وفي رواية عنده: عجزَ حمار وحش يقطر دمًا، وأخرجه أيضًا عن سعيد فقال تارة: حمار وحش، وتارة: شق حمار، ويقوي ذلك ما أخرجه مسلم عن طاوس، عن ابن عباس قال: قدم زيد بن أرقم فقال: له ابن عباس يستذكره: كيف أخبرتني عن لحم صيد أهدي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو حرام؟ قال: أهدي له عضو من لحم فردَّه، وقال: "إنا لا نأكله إنا حرم" قال النووي: وهذه الطرق التي ذكرها مسلم صريحة في أنه مذبوح، وأنه إنما أهدي بعض لحم صيد لأكله، ولا معارضة بين رجل حمار وعجزه وشقه إذ تندفع بإرادة رجل معها فخذ وبعض جانب الذبيحة، فوجب حمل رواية: أهدي حمارًا على أنه من إطلاق اسم الكل على البعض، ويمتنع العكس، إذ إطلاق الرجل على كل الحيوان غير معهود؛ لأنه لا يطلق على زيد إصبع ونحوها؛ لأنه غير جائز لما عرف من أن شرط إطلاق اسم البعض على الكل التلازم كالرقبة والرأس على الإنسان، إذ لا إنسان دونهما بخلاف نحو الرجل والظفر، وأما إطلاق العين على الرقيب فليس من حيث هو إنسان، بل من حيث هو رقيب، وهو من هذه الحيثية لا يتحقق بلا عين، على ما عرف في التحقيقات، وهو أحد معاني المشترك اللفظي كما عده الأكثر منها، ثم إن في هذا العمل ترجيحًا للأكثر، أو يحكم بغلط رواية الباب بناء على أن الراوي رجع عنها تبيينا لغلطه، وقد مرَّ أن ابن عيينة صار يقول: لحم حمار وحش، قال الحميدي: إلى أن مات، وهذا يدل على رجوعه وثباته على ما رجع إليه، والظاهر أنه لتبيينه غلطه أولًا، وقال البيهقي: كان ابن عيينة يضطرب فيه فرواية العدد الذين لم يشكوا فيه أولى. وقوله: "وهو بالأبواء" بفتح الهمزة وسكون الموحدة وبالمد: جبل من عمل الفُرْع بضم الفاء وسكون الراء بينه وبين الجحفة مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلًا، ويسمى بذلك لما فيه من الوباء، ولو كان كما قيل:، لقيل: الأوباء، وهو مقلوب عنه والأقرب أنه يسمى بذلك لأن السيول تتبوؤه أي: تحله. وقوله: "أو بودان": شك من الراوي، وهو بفتح الواو وتشديد الدال، وآخره نون موضع بقرب الجحفة أو قرية جامعة من ناحية الفرع وودان أقرب إلى الجحفة من الأبواء فإن من الأبواء إلى الجحفة، للآتي من المدينة ثلاثة وعشرون ميلًا، ومن ودان إلى الجحفة ثمانية أميال، والشك من الراوي، لكن جزم ابن إسحاق وصالح بن كيسان عن الزهري بودان، وجزم

معمر وعبد الرحمن بن إسحاق ومحمد بن عمرو بالأبواء. وقوله: "فرده عليه" ولأبي الوقت: فرد عليه، بحذف ضمير المفعول أي: رد عليه الصلاة والسلام الحمار على الصعب، وقد اتفقت الروايات كلها على أنه عليه الصلاة والسلام رده عليه إلَّا ما رواه ابن وهب والبيهقي من طريقه بإسناد حسن عن عمرو بن أمية: أن الصعب أهدى للنبي -صلى الله عليه وسلم- عجز حمار وحش -وهو بالجحفة- فأكل منه، وأكل القوم، قال البيهقي: إن كان هذا محفوظًا فلعله رد الحيّ وقبل اللحم، قال في الفتح: وفي هذا الجمع نظر، فإن كانت الطرق كلها محفوظة، فلعله رده حيًّا لكونه صيد لأجله، ورد اللحم تارة لذلك، وقبله تارة أخرى حيث علم أنه لم يصد لأجله، وقد قال الشافعي في الأم: إن كان الصعب أهدى له حمارًا حيًّا فليس للمحرم أن يذبح حمار وحش حي، وإن كان أهدى له لحما، فقد يحتمل أن يكون علم أنه صيد له، ونقل الترمذي عن الشافعي: أنه رده لظنه أنه صيد من أجله، فتركه على وجه التنزه، ويحتمل أن يحمل القبول المذكور في حديث عمرو بن أمية على وقت آخر، وهو حال رجوعه -صلى الله عليه وسلم- من مكة، ويؤيده أنه جازم فيه بوقوع ذلك بالجحفة، وفي غيرها من الروايات بالأبواء، أو بودان، وقال القرطبي: يحتمل أن يكون الصعب أحضر الحمار مذبوحًا، ثم قطع منه عضوًا بحضرة النبي -صلى الله عليه وسلم- فقدمه له، فمن قال: أهدى حمارًا أراد بتمامه مذبوحًا لا حيًّا، ومن قال: لحم حمار أراد ما قدمه للنبي -صلى الله عليه وسلم-، ويحتمل أنه هداه له حيًّا، فلما رده عليه ذكاه، وأتاه بعضو منه ظانًا أنه إنما رده عليه لمعنى يختص بجملته، فأعلمه بامتناعه أن حكم الجزء من الصيد حكم الكل، قال: والجمع مهما أمكن أولى من توهيم بعض الروايات. وقوله: "فلما رأى ما في وجهه" في رواية شعيب: "فلما عرف في وجهي رده هديتي"، وفي رواية الليث عن الزهري عند الترمذي: "فلما رأى ما في وجهه من الكراهية" وكذا لابن خزيمة، عن ابن جريج. وقوله: "إنا لم نرده" أي: عليك، في رواية شعيب وابن جريج: "أليس بنا رد عليك"، وفي رواية عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عند الطبراني: إنا لم نرده عليك كراهية له، ولكنا حرم، قال عياض: ضبطناه في الروايات لم نردَّه بفتح الدال، وأبى ذلك المحققون من أهل العربية وقالوا: الصواب أنه بضم الدال لأن المضاعف من المجزوم يراعى فيه الواو التي توجبها له ضمة الهاء بعدها قال: وليس الفتح بغلط بل ذكره ثعلب في الفصيح، نعم تعقبوه عليه بأنه ضعيف وأوهم صنيعه أنه فصيح وأجازوا أيضًا الكسر، وهو أضعف الأوجه، وفي رواية الكشميهني بفك الادغام: لم نردده بضم الأولى وسكون الثانية ولا إشكال فيه. وقوله: "إلا أنا حرم" قد مرت رواية صالح بن كيسان عند النسائي: "لا نأكل الصيد"

رجاله ستة

ورواية سعيد عن ابن عباس: "لولا أنا محرمون لقبلناه منك" وقد مرَّ عند حديث أبي قتادة ما قيل في أكل المحرم لحم الصيد عند الأئمة، وما يمكن الجمع به بين الأحاديث، ولا يقال: إن حديث أبي قتادة منسوخ بحديث الصعب، لكون حديث أبي قتادة كان عام الحديبية، وحديث الصعب كان في حجة الوداع لأنا نقول: إن النسخ إنما يصار إليه إذا تعذر الجمع، كيف والحديث المتأخر محتمل لا دلالة فيه على الحرمة العامة صريحًا ولا ظاهرًا حتى يعارض الأول فينسخه؟! وقال ابن الهمام في فتح القدير: أما كون حديث الصعب كان في حجة الوداع لم يثبت عندنا، وإنما ذكره الطبري وبعضهم، ولم نعلم لهم فيه ثبتًا صحيحًا، وأما حديث أبي قتادة، فإنه وقع في مسند عبد الرزاق عنه: انطلقنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام الحديبية، فأحرم أصحابه ولم أحرم، ففي الصحيحين عنه خلاف ذلك، وهو ما روى عنه أنه عليه الصلاة والسلام خرج حاجًا، فخرجوا معه، فصرف طائفة فيهم أبو قتادة الحديث، ومعلوم أنه عليه الصلاة والسلام لم يحج إلاَّ في حجة الوداع، يقال فيه: قد ثبت في البخاري في باب جزاء الصيد عن عبد الله بن أبي قتادة قال: انطلق أبي عام الحديبية فأحرم أصحابه، ولم يحرم الحديث، وكذا في باب إذا رأى المحرمون صيدًا، فضحكوا، وأما قوله في الحديث الذي ساقه: خرج حاجًا، فقد سبق الجواب عنه في باب إذا صاد الحلال فأهدى للمحرم، عند أول الروايات، وفي حديث الصعب الحكم بالعلامة لقوله: فلما رأى ما في وجهي. وفيه جواز رد الهدية لعلة وترجم المصنف من رد الهدية لعلة. وفيه الاعتذار عن رد الهدية تطييبًا لقلب المهدي، وأن الهبة لا تدخل في الملك إلاَّ بالقبول، وأن قدرته على تملكها لا تصيره مالكًا لها، وأن على المحرم أن يرسل ما بيده من الصيد الممتنع عليه اصطياده. رجاله ستة: قد مرّوا إلاَّ الصعب: مرَّ عبد الله بن يوسف، ومالك في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ الزهري في الثالث منه، ومرَّ عبيد الله المسعودي في السادس منه، وابن عباس في الخامس منه. والصعب -ضد السهل- هو ابن جثامة -بفتح الجيم وتشديد الثاء- ابن قيس بن ربيعة بن عبد الله بن يعمر الليثي، حليف قريش، أمه أخت أبي سفيان بن حرب، وأسمها فاختة، وقيل: زينب، ويقال: هو أخو محلم بن جثامة، وكان الصعب ينزل ودان، وقد أخرج ابن السكن، عن راشد بن سعد قال: لما فتحت: إصطخر، نادى مناد: ألا إن الدجال قد خرج، فلقيهم الصعب بن جثامة فقال: لقد سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يخرج الدجال حتى

لطائف إسناده

يذهل الناس عن ذكره، وحتى يترك الأمة ذكره على المنابر" وهذا يرد على من قال: إنه مات في خلافة أبي بكر، وقال ابن منده: كان الصعب ممن شهد فتح فارس، وروى ابن إسحاق عن عروة قال: لما ركب أهل العراق في الوليد بن عقبة كانوا خمسة، منهم: الصعب بن جثامة، وروى ابن الكلبي في "الجمهرة": أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال يوم حنين: "لولا الصعب بن جثامة لفضحت الخيل" وأخرج أبو بكر بن لال في كتاب "المتحابين" عن ثابت قال: آخى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين عوف بن مالك والصعب بن جثامة، فقال كل منهما للآخر: إن من قبلي فتراءَ إلى فمات الصعب قبل عوف فتراءى له، له أحاديث في الصحيح من رواية ابن عباس عنه، اتفقا على حديثين وانفرد البخاري بآخر، قال ابن حبان: مات في آخر خلافة عمر، ويقال: مات في خلافة عثمان. لطائف إسناده: فيه التحديث والإخبار بالجمع والعنعنة، وهو من مسند الصعب، إلاَّ أنه وقع في موطأ ابن وهب، عن ابن عباس فجعله من مسنده، أخرجه البخاري أيضًا في الهبة، ومسلم في الحج، وكذا الترمذي والنسائي وابن ماجه. ثم قال المصنف:

باب ما يقتل المحرم من الدواب

باب ما يقتل المحرم من الدواب أي: مما لا يجب عليه فيه الجزاء. الحديث العشرون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ". قوله: "خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح" أي: إثم، أو حرج، كذا أورده مختصرًا وأحال به على طريق سالم، وهو في الموطأ وتمامه: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور، ويأتي استيفاء الكلام على هذه الأشياء عند حديث عائشة إن شاء الله تعالى. رجاله أربعة: قد مرّوا: مرَّ عبد الله بن يوسف، ومالك في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ نافع في الأخير من العلم، ومرَّ ابن عمر أول الإيمان قبل ذكر حديث منه. ثم قال: وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ. "هذا معطوف على الطريق الأولى وهو في الموطأ كذلك عن نافع، عن عبد الله بن عمر، وعن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، وقد أورده المصنف في بدء الخلق عن القعنبي، عن مالك وساق لفظه مثله سواء، وكذا أخرجه مسلم، وأحمد عن عبد الله بن دينار، إلاَّ أن أحمد قال: الحية بدل العقرب. وعبد الله بن دينار مرَّ في الثاني من الإيمان. الحديث الحادي والعشرون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: حَدَّثَتْنِي إِحْدَى نِسْوَةِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ.

رجاله أربعة

كذا ساق منه هذا القدر، وأحال به على الطريق التي بعده، وفيه إشارة منه إلى تفسير المبهمة فيه بأنها المسماة في الرواية الأخرى حفصة، وقد أخرجه أبو نعيم في المستخرج، عن مسدد بإسناد البخاري، وبقيته كرواية حفصة، إلاَّ أن فيه تقديمًا وتأخيرًا في بعض الأسماء، وأخرجه مسلم عن شيبان، وزاد فيه شيئًا، ولفظه: سأل رجل ابن عمر: ما يقتل الرجل من الدواب وهو محرم؟ فقال: حدثتني إحدى نسوة النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يأمر بقتل الكلب العقور، والفأرة، والعقرب، والحدأة، والغراب، والحية، قال: وفي الصلاة أيضًا، فلم يقل في أوله خمسًا، وزاد الحية، وزاد في آخره ذكر الصلاة، لينبه بذلك على جواز قتل المذكورات في جميع الأحوال، ولم أر هذه الزيادة في غير هذه الطريق، فقد أخرجه مسلم والإسماعيلي عن زيد بن جبير، بدون هذه الزيادة. رجاله أربعة: قد مرّوا: مرَّ مسدد في السادس من الإيمان، ومرَّ أبو عوانة في الخامس من بدء الوحي، ومرَّ زيد بن جبير في العاشر من الحج، ومرَّ محل ابن عمر في الذي قبله. الحديث الثاني والعشرون حَدَّثَنَا أَصْبَغُ بن الفرج، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: قَالَتْ حَفْصَةُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ لاَ حَرَجَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُنَّ: الْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ. قوله: "عن سالم" في رواية مسلم: أخبرني سالم. وقوله: قال عبد الله في رواية مسلم: قال لي عبد الله. وقوله: "قالت حفصة" في رواية الإسماعيلي: عن حفصة، وهذا والذي قبله قد يوهم أن عبد الله بن عمر لم يسمع هذا الحديث من النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولكن وقع في بعض طرق نافع عنه: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم-، أخرجه مسلم عن ابن جريج قال: أخبرني نافع، وقال مسلم بعده لم يقل أحد: عن نافع، عن ابن عمر: سمعت إلا ابن جريج، وتابعه محمد بن إسحاق، عن نافع كذلك، والظاهر أن ابن عمر سمعه من أخته حفصة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وسمعه أيضًا من النبي -صلى الله عليه وسلم- يحدث به حين سئل عنه، فقد وقع عند أحمد: عن نافع، عن ابن عمر قال: نادى رجل، ولأبي عوانة في المستخرج من هذا الوجه أن أعرابيًا نادى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما نقتل من الدواب إذا أحرمنا؟ والظاهر أن المبهمة في رواية زيد بن جبير هي: حفصة، ويحتمل أن تكون عائشة، وقد رواه ابن عيينة عن ابن شهاب فأسقط حفصة من الإسناد، والصواب إثباتها في رواية سالم.

رجاله سبعة

رجاله سبعة: قد مرّوا: مرَّ أصبغ في السابع والستين من الوضوء، وحفصة في الثالث والستين منه، ومرَّ ابن وهب في الثالث عشر من العلم، ومرَّ يونس في متابعة بعد الرابع من بدء الوحي، ومرَّ ابن شهاب في الثالث منه، ومرَّ سالم في السابع عشر من الإيمان، ومرَّ محل ابن عمر قريبًا. فيه التابعي عن التابعي، والصحابي عن الصحابية، ورواية الأخ عن أخته. أخرجه مسلم والنسائي. الحديث الثالث والعشرون حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ كُلُّهُنَّ فَاسِقٌ، يَقْتُلُهُنَّ فِي الْحَرَمِ الْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ". قوله: "أخبرني يونس" ظهر بهذا أن لابن وهب عنه، عن الزهري فيه إسنادين سالم عن أبيه عن حفصة وعروة عن عائشة، وقد كان ابن عيينة ينكر طريق الزهري عن عروة، قال الحميدي: عن سفيان حدثنا والله الزهري، عن سالم عن أبيه، فقيل له: إن معمرًا يرويه عن الزهري عن عروة، عن عائشة فقال: حدثنا والله الزهري لم يذكر عروة وطريق معمر المشار إليها أوردها المصنف في بدء الخلق عن يزيد بن زريع عنه، ورواها النسائي عن عبد الرزاق، وطريق عن عروة رواها أيضًا سعيد بن أبي حمزة عند أحمد وأبان بن صالح عند النسائي، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، وقد تابع الزهري عن عروة هشام بن عروة، أخرجه مسلم أيضًا. قوله: "خمس" التقييد بالخمس، وإن كان مفهومه اختصاص المذكورات بذلك لكنه مفهوم عدد، وليس بحجة عند الأكثر، وعلى تقدير اعتباره فيحتمل أن يكون قاله -صلى الله عليه وسلم- أولًا ثم بين بعد ذلك أن غير الخمس يشترك معها في الحكم، فقد ورد في بعض طرق عائشة بلفظ أربع وفي بعض طرقها بلفظ ست، فأما طريق أربع فأخرجها مسلم عن القاسم عنها فأسقط العقرب، وأما طريق ست فأخرجها أبو عوانة في المستخرج عن هشام عن أبيها عنها فأثبتها، وزاد الحية، ويشهد لها طريق شيبان التي تقدمت عند مسلم وإن كانت خالية عن العدد، وأغرب عياض فقال: وفي غير كتاب مسلم ذكر الأفعى فصارت سبعًا وتعقب بأن الأفعى داخلة في مسمى الحية، والحديث الذي ذكرت فيه أخرجه أبو عوانة في المستخرج عن نافع في آخر حديث الباب، قال: قلت: لنافع فالأفعى قال: ومن يشك في الأفعى، وعند أبي داود عن أبي سعيد نحو رواية شيبان وزاد السبع العادي فصارت سبعًا، وعند ابن خزيمة وابن

المنذر عن أبي هريرة زيادة ذكر الذيب والنمر من تفسير الراوي للكلب العقور، ووقع ذكر الذيب في حديث مرسل، أخرجه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور وأبو داود عن سعيد بن المسيب، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يقتل المحرم الحية والذيب" ورجاله ثقات، وأخرج أحمد عن ابن عمر قال: أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بقتل الذيب للمحرم وفيه حجاج، وهو ضعيف وخالفه مسعر عن وبرة موقوفًا، أخرجه ابن أبي شيبة فهذا جميع ما وقف عليه في الأحاديث المرفوعة زيادة على الخمس المشهورة، ولا يخلو شيء من ذلك من مقال. وقوله: "من الدواب" بتشديد الموحدة جمع دابة: وهو ما دب من الحيوان وقد أخرج بعضهم منها الطير، لقوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} الآية وهذا الحديث يرد عليه فإنه ذكر في الدواب الخمس، الغراب، والحدأة، ويدل على دخول الطير أيضًا عموم قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} وقوله تعالى {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} الآية وعند مسلم عن أبي هريرة في صفة بدء الخلق، وخلق الدواب يوم الخميس، ولم يفرد الطير بذكر، وقد تصرف أهل العرف في الدابة فمنهم من يخصها بالحمار، ومنهم من يخصها بالفرس، وفائدة ذلك تظهر في الحلف. وقوله: "كلهن فاسق يقتلن" قيل: فاسق صفة لكل وفي يقتلن ضمير راجع إلى معنى كل، ووقع في رواية مسلم من هذا الوجه: كلها فواسق، وفي رواية معمر التي في بدء الخلق: خمس فواسق، قال النووي: هو بإضافة خمس لا بتنوينه، وجوز ابن دقيق العيد الوجهين وأشار إلى ترجيح الثاني فإنه قال: رواية الإضافة تشعر بالتخصيص فيخالفها غيرها في الحكم من طريق المفهوم، ورواية التنوين تقتضي وصف الخمس بالفسق من جهة المعنى فيشعر بأن الحكم المرتب على ذلك، وهو القتل معلل بما جعل وصفًا، وهو الفسق فيدخل فيه كل فاسق من الدواب، ويؤيده رواية يونس التي في حديث الباب، وقد مرَّ أن قوله: "فاسق" صفة لكل مذكر، وأن قوله: "يقتلن" فيه ضمير راجع إلى معنى كل، وهو جمع، وهو تأكيد لخمس، تعقب هذا في المصابيح بأن الصواب أن يقال خمس مبتدأ وسوغ الابتداء به مع كونه نكرة وصفه ومن الدواب في محل رفع على أنه صفة لخمس. وقوله: "يقتلن" جملة فعلية في محل رفع على أنها خبر المبتدأ الذي هو خمس، وأما جعل كلهن تأكيد لخمس، فمما يأباه البصريون، وجعل فاسق صفة لكل خطأ ظاهر، والضمير في يقتلن راجع إلى خمس لا إلى كل إذ هو خبره، ولو جعل خبر كل امتنع الإتيان بضمير الجمع لأنه لا يعود عليها الضمير من خبرها إلاَّ مفردًا مذكرًا على لفظها، على ما صرح به ابن هشام في المغني، وعبر بقوله: فاسق بالإفراد، وفي رواية مسلم: فواسق بالجمع، وذلك أن كل اسم موضوع لاستغراق أفراد المنكر نحو {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} والمعرف المجموع نحو {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} وأجزاء المفرد المعرف نحو كل زيد حسن، فإذا قلت: أكلت

كل رغيف لزيد كانت لعموم الأفراد، فإن أضفت الرغيف إلى زيد صارت لعموم أجزاء فرد واحد، ولفظ: كل مفرد مذكر، ومعناه بحسب ما يضاف إليه، فإن أضيف إلى معرفة، فقال ابن هشام: يجوز مراعاة لفظها ومراعاة معناها نحو: كلهم قائم أو قائمون، وقد اجتمعا في قوله تعالى {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} الآية، ومن ذلك {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} وفي الآية حذف مضاف، وإضمار لما دل عليه المعنى لا اللفظ، أي: إن كل أفعال هذه الجوارح كان المكلف مسئولًا عنه، وقد وقع في البخاري في كتاب الاعتصام بالسنة في باب الاقتداء بسنن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "كل أمتي يدخلون الجنة إلاَّ من أبى، قالوا: ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى" فقد أعاد الضمير من خبر كل المضاف إلى معرفة غير مفرد، وهذا الحديث فيه الأمران، ولا يتأتى فيه ما ذكره عن الآية، وذلك لأنه قال: "كلهن فاسق" بالإفراد، ثم قال: "يقتلن" قال النووي وغيره: تسمية هذه الخمس فواسق تسمية صحيحة جارية على وفق اللغة، فإن أصل الفسق لغةً الخروج، ومنه: فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرها، وقوله تعالى: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} أي خرج، وسمي الرجل فاسقًا لخروجه عن طاعة ربه، فهو خروج مخصوص، وزعم ابن الأعرابي أنه لا يعرف في كلام الجاهلية ولا شعرهم فاسق -يعني بالمعنى الشرعي- وأما المعنى في وصف الدواب المذكورة بالفسق فقيل: لخروجها عن حكم غيرها من الحيوان في تحريم قتله، وقيل: في حل أكله لقوله تعالى: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} وقوله: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} وقيل: لخروجها عن حكم غيرها بالإيذاء والإفساد، وعدم الانتفاع، ومن ثم اختلف أهل الفتوى فمن قال بالأول ألحق بالخمس كل ما جاز قتله للحلال في الحرم وفي الحل، ومن قال بالثاني ألحق ما لا يؤكل إلاَّ ما نهي عن قتله، وهذا قد يجامع الأول، ومن قال بالثالث يخص الإلحاق بما يحصل منه الإفساد، وفي حديث أبي سعيد عند ابن ماجه قيل له: لم قيل للفأرة: فويسقة، فقال: لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- استيقظ لها وقد أخذت الفتيلة لتحرق بها البيت، فهذا يومىء إلى أن سبب تسمية الخمس بذلك لكون فعلها يشبه فعل الفساق، وهو يرجح القول الأخير. وقوله: "يقتلن في الحرم" تقدم في رواية نافع بلفظ: ليس على المحرم في قتلهن جناح، وعرف بذلك أن لا إثم في قتلها على المحرم ولا في الحرم وقد يؤخذ منه جواز ذلك للحلال، وفي الحل من باب الأولى، وقد وقع ذكر الحل صريحًا عند مسلم عن عروة بلفظ: يقتلن في الحل والحرم، ويعرف حكم الحلال بكونه لم يقم به مانع، وهو الإحرام فهو بالجواز أولى، ثم إنه ليس في نفي الجناح، وكذا الحرج في طريق سالم دلالة على أرجحية الفعل على الترك، لكن ورد في طريق زيد بن جبير عند مسلم بلفظ: أمر، وكذا في طريق معمر،

ولأبي عوانة عن عروة بلفظ: ليقتل المحرم، وظاهر الأمر الوجوب، ويحتمل الندب والإباحة، وروى البزار عن أبي رافع قال: بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في صلاته إذ ضرب شيئًا، فإذا هي عقرب فقتلها، وأمر بقتل العقرب، والحية والفأرة والحدأة للمحرم، لكن هذا الأمر ورد بعد الحظر لعموم نهي المحرم عن القتل، فلا يكون للوجوب والندب، بل يكون للإباحة كما هي القاعدة، ويؤيد ذلك رواية الليث عن نافع بلفظ: أَذِنَ أخرجه مسلم والنسائي، لكن لم يسق مسلم لفظه وعن أبي هريرة عند أبي داود وغيره: خمس قتلهن حلال للمحرم. وقوله: "الغراب" زاد في رواية سعيد بن المسيب، عن عائشة عند مسلم: الأبقع وهو الذي في ظهره أو بطنه بياض، وأخذ بهذا القيد بعض أصحاب الحديث كما حكاه ابن المنذر وغيره، وصرح ابن خزيمة باختياره، وهو قضية حمل المطلق على المقيد، وأجاب ابن بطال بأن هذه الزيادة لا تصح لأنها من رواية قتادة عن سعيد، وهو مدلس، وقد شذَّ، وقال ابن عبد البر: لا تثبت هذه الزائدة، وقال ابن قدامة: الروايات المطلقة أصح، وفي جميع هذا التعليل نظر، أما دعوى التدليس فمردودة بأن شعبة لا يروي عن شيوخه المدلسين إلَّا ما هو مسموع لهم، وهذا من رواية شعبة، بل صرَّح النسائي في روايته عن النضر بن شميل، عن شعبة بسماع قتادة، وأما نفي الثبوت فمردود بإخراج مسلم، وأما الترجيح فليس على شرط قبول الزيادة، بل الزيادة مقبولة من الثقة الحافظ -وهو كذلك هنا- نعم قال ابن قدامة: يلتحق بالأبقع ما شاركه في الإيذاء، وتحريم الأكل، وقد اتفق العلماء على إخراج الغراب الصغير الذي يأكل الحب من ذلك، ويقال له: غراب الزرع، ويقال له: الزاغ، وأفتوا بجواز أكله فبقي ما عداه من الغربان ملتحقًا بالأبقع، ومنها: الغداف على الصحيح في الروضة، بخلاف تصحيح الرافعي، وسمى ابن قدامة الغداف: غراب البين والمعروف عند أهل اللغة أنه الأبقع، قيل: سمي غراب البين لأنه بأن عن نوح لما أرسله من السفينة ليكشف خبر الأرض، فلقي جيفة فوقع عليها ولم يرجع إلى نوح، وكان أهل الجاهلية يتشاءمون به، فكانوا إذا نعب مرتين قالوا: آذن بشر، وإذا نعب ثلاثًا قالوا: آذن بخير، فأبطل الإِسلام ذلك، وكان ابن عباس إذا سمع الغراب قال: اللهم لا طير إلاَّ طيرك، ولا خير إلاَّ خيرك، لا إله غيرك، وقال صاحب الهداية: المراد بالغراب في الحديث الأبقع والغداف؛ لأنهما يأكلان الجيف، وأما غراب الزرع فلا، وكذا اسثناه ابن قدامة، وما أظن فيه خلافًا، وعليه يحمل ما جاء عن أبي سعيد عند أبي داود -إن صح- حيث قال فيه: ويرمي الغراب ولا يقتله، وروى ابن المنذر نحوه عن علي ومجاهد، قال ابن المنذر: أباح كل من يحفظ عنه العلم قتل الغراب في الإِحرام، إلاَّ ما جاء عن عطاء قال: في مُحْرمٍ كسرَ قرن غراب فقال: إن أدماه فعليه الجزاء، وقال الخطابي: لم يتابع أحد عطاء على هذا، ويحتمل أن يكون مراده غراب الزرع، وعند المالكية اختلاف آخر في الغراب والحدأة، هل يتقيد جواز قتلهما بأن يبتدئا بالأذى؟ وهل

يختص ذلك بكبارهما؟ والمشهور عنهم كما قال ابن شاس: لا فرق، وفاقًا للجمهور. ومن أنواع الغربان: الأعصم وهو الذي في رجليه، أو في جناحيه، أو بطنه بياض، أو حمرة، وله ذكر في قصة حفر عبد المطلب لزمزم وحكمه حكم الأبقع. ومنها: العقعق: وهو قدر الحمامة على شكل الغراب، قيل: سمي بذلك لأنه يعق فراخه فيتركها بلا طعم، وبهذا يظهر أنه نوع من الغربان، والعرب تتشاءم به أيضًا، وفي فتاوى قاضي خان الحنفي: من خرج لسفر فسمع صوت العقعق فرجع كفر، وحكمه حكم الأبقع على الصحيح، وقيل: حكم غراب الزرع، وقال أحمد: إن أكل الجيف وإلَّا فلا بأس به. وقوله: والحدأ بكسر أوله وفتح ثانيه بعدها همزة بغير مد، وحكى صاحب المحكم المد فيه ندورًا، وفي رواية الكشميهني في حديث عائشة: الحدأة بزيادة هاء بلفظ الواحدة، وليست للتأنيث، بل هي كالهاء في التمرة، وحكى الأزهري فيها حدوة بواو بدل الهمزة، وسيأتي في بدء الخلق من حديثها بلفظ: الحديث بضم أوله وتشديد التحتانية مقصور، ومثله لمسلم عن عروة قال: قال قاسم بن ثابت الوجه فيه الهمزة وكأنه سهل ثم أُدغم، وقيل: هي لغة حجازية وغيرهم يقول: حدية، ومن خواص الحدأة أنها تقف في الطيران، ويقال: إنها لا تختطف إلا من جهة اليمين، وقد مضى لها ذكر في الصلاة في قصة صاحبة الوشاح، ويلتبس بالحدأة: الحدأة بفتح أوله فاس له رأسان. وقوله: "والعقرب" هذا اللفظ للذكر والأنثى وقد يقال: عقربة، وعقرباء، وليس منها العقربان، بل هي دويبة طويلة كثيرة القوائم، ويقال: إن عينها في ظهرها، وإنها لا تضر ميتًا ولا نائمًا حتى يتحرك، ويقال: لدغته العقرب بالغين المعجمة ولسعته بالمهملة، وقد تقدم اختلاف الرواة في ذكر الحية بدلها في حديث الباب، ومن جمعهما والذي يظهر لي أنه عليه الصلاة والسلام نبه بإحداهما على الأخرى عند الاختصار، وبين حكمهما معًا، حيث جمع، قال ابن المنذر: لا نعلمهم اختلفوا في جواز قتل العقرب، وقال نافع لما قيل له: فالحية؟ قال: لا يختلف فيها، وفي رواية: ومن يشك فيها؟ وتعقبه ابن عبد البر بما أخرجه ابن أبي شيبة عن شعبة أنه سأل الحكم وحمادًا فقالا: لا يقتل المحرم الحية ولا العقرب، قال: وحجتهما أنهما من هوام الأرض، فيلزم من أباح قتلهما مثل ذلك في سائر الهوام، وهذا اعتلال لا معنى له، نعم عند المالكية خلاف في قتل صغير الحية، والعقرب التي لا تتمكن من الأذى، قاله في الفتح. قلت: هذا القول -إن كان عند المالكية- في غاية الضعف. وقوله: "والفأرة" بهمزة ساكنة، ويجوز فيها التسهيل، ولم يختلف العلماء في جواز قتلها للمحرم، إلاَّ ما حكي عن إبراهيم النخعي فإنه قال: فيها جزاء إذا قتلها المحرم أخرجه ابن

المنذر وقال: هذا خلاف السنة، وخلاف قول جميع أهل العلم، وروى البيهقي بإسناد صحيح عن حماد بن زيد قال: لما ذكروا هذا القول ما كان بالكوفة أفحش ردًا للآثار من إبراهيم النخعي لقلة ما سمع منها، ولا أحسن اتباعًا لها من الشعبي لكثرة ما سمع منها، ونقل ابن شاس عن المالكية خلافًا في جواز قتل الصغير منها الذي لا يتمكن من الأذى. والفأر أنواع منها: الجرذ بجيم بوزن عمر، والخلد بضم المعجمة وسكون اللام، وفأرة الإبل، وفأرة المسك، وفأرة الغيط، وحكمها في تحريم الأكل وجواز القتل سواء، وسيأتي في الأدب إطلاق الفويسقة عليها من حديث جابر، وتقدم سبب تسميتها بذلك من حديث أبي سعيد، وقيل: إنما سميت بذلك لأنها قطعت حبال سفينة نوح. وقوله: "الكلب العقور" الكلب معروف، والأنثى كلبة، والجمع أكلب وكلاب وكليب بالفتح كأعبد وعباد وعبيد، وفي الكلب بهيمية وسبعية، كأنه مركب، وفيه منافع للحراسة والصيد كما سيأتي في بابه، وفيه من اقتفاء الأثر وشم الرائحة والحراسة وخفة النوم والتودد وقبول التعليم ما ليس لغيره، وقيل: إن أول من اتخذه للحراسة نوح عليه السلام، وقد سبق البحث في نجاسته في باب الطهارة، واختلف العلماء في المراد به هنا، وهل لوصفه لكونه عقورًا مفهوم أولًا؟ فروى سعيد بن منصور بإسناد حسن عن أبي هريرة قال: الكلب العقور الأسد، وعن زيد بن أسلم أنهم سألوه عن الكلب العقور فقال: وأيِّ كلب أعقر من الحية، وقال زفر: الكلب العقور هنا الذيب خاصة، وقال مالك في الموطأ: كل ما عقر الناس، وعدا عليهم وأخافهم مثل: الأسد والنمر والفهد والذيب، هو العقور، وكذا نقل أبو عبيد عن سفيان، وهو قول الجمهور، وقال أبو حنيفة: المراد بالكلب هنا الكلب خاصة، ولا يلتحق به في هذا الحكم سوي الذيب، واحتج أبو عبيد للجمهور بقوله عليه الصلاة والسلام: "اللهم سلط عليه كلبًا من كلابك" فقتله الأسد، وهو حديث حسن أخرجه الحاكم عن أبي نوفل، عن أبي عقرب، عن أبيه، واحتج بقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} فاشتقها من اسم الكلب، فلهذا قيل لكل جارح عقور، واحتج الطحاوي للحنفية بأن العلماء اتفقوا على تحريم قتل البازي والصقر وهما من سباع الطير، فدلَّ ذلك على اختصاص التحريم بالغراب والحدأة، وكذلك يختص التحريم بالكلب وما شاركه في صفته، وهو الذيب، وتعقب برد الإتفاق فإن مخالفيهم أجازوا قتل كلِّ ما عدا وافترس، فيدخل فيه الصقر وغيره، بل معظمهم قال: يلتحق بالخمس كل ما نهى عن أكله إلَّا ما نهي عن قتله، واختلف العلماء في غير العقور مما لم يؤمر باقتنائه، فصرح بتحريم قتله القاضيان حسين والماوردي وغيرهما، وفي الأم للشافعي الجواز، واختلف كلام النووي فقال في البيع مرة: لا خلاف بين أصحابنا في أنه محترم، ولا يجوز قتله. وقال في التيمم والغصب: إنه غير محترم، وقال في الحج: يكره قتله كراهة تنزيه، وهذا اختلاف شديد، وعلى كراهة قتله اقتصر الرافعي، وتبعه في

رجاله ستة

الروضة وزاد: إنها كراهة تنزيه، وذهب الجمهور كما تقدم إلى إلحاق غير الخمس بها في هذا الحكم إلا أنهم اختلفوا في المعنى، فقيل: لكونها مؤذية، فيجوز قتل كل مؤذ وهذا قضية مذهب مالك، وقيل: لكونها مما لا يؤكل، فعلى هذا كل ما يجوز قتله لا فدية على المحرم فيه، وهذا قضية مذهب الشافعي، وقد قسم هو وأصحابه الحيوان بالنسبة للمحرم إلى ثلاثة أقسام. قسم يستحب: كالخمس وما في معناها مما يؤذي. وقسم يجوز: كسائر ما لا يؤكل لحمه، وهو قسمان ما يحصل منه ضرر ونفع فيباح لما فيه من منفعة الاصطياد، ولا يكره لما فيه من العدوان، وقسم ليس فيه ضرر ولا نفع فيكره قتله ولا يحرم. والقسم الثالث: ما أبيح أكله أو نهي عن قتله، فلا يجوز ففيه الجزاء إذا قتله المحرم، وخالف الحنفية، فاقتصروا على الخمس، إلاَّ أنهم ألحقوا بها الحية لثبوت الخبر، والذيب لمشاركته للكلب في الكلبية، وألحقوا بذلك من ابتدأ بالعدوان والأذى من غيرها، وتعقب بظهور المعنى في الخمس وهو الأذى الطبيعي، والعدوان المركب، والمعنى إذا ظهر في المنصوص عليه تعدى الحكم إلى كل ما وجد فيه ذلك المعنى، كما وافقوا عليه في مسائل الربا، قال ابن دقيق العيد: والتعدية بمعنى الأذى إلى كل مؤذ قوي، بالإضافة إلى تصرف أهل القياس فإنه ظاهر من جهة الإيماء بالتعليل بالفسق، وهو الخروج عن الحدّ، وأما التعليل بحرمة الأكل ففيه إبطال لما دل عليه إيماء النص من التعليل بالفسق، وقال غيره: هو راجع إلى تفسير الفسق، فمن فسره بأنه الخروج عن بقية الحيوان بالأذى علل به، ومن قال بجواز القتل وتحريم الأكل علل به، وقال من علل بالأذى: أنواع الأذى مختلفة، وكأنه نبه بالعقرب على ما يشاركها في الأذى باللسع، ونحوه من ذوات السموم: كالحية والزنبور، وبالفأرة على ما يشاركها في الأذى بالنقب والقرض: كابن عرس، وبالغراب والحدأة على ما يشاركها بالاختطاف: كالصقر، وبالكلب العقور على ما يشاركه في الأذى بالعدوان والعقر: كالأسد والفهد، وقال من علل بتحريم الأكل وجواز القتل: إنما اقتصر على الخمس، لكثرة ملابستها للناس بحيث يعم أذاها، والتخصيص بالغلبة لا مفهوم له، ونقل الرافعي عن الإِمام أن هذه الفواسق لا ملك فيها لأحد، ولا اختصاص، ولا يجب ردها على صاحبها، ولم يذكر مثل ذلك في غير الخمس مما يلتحق بها في المعنى. رجاله ستة: مرَّ منهم: محل ابن وهب ويونس والزهري في الذي قبله، ومرَّ عروة وعائشة في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ يحى بن سليمان في الخامس والخمسين من العلم.

الحديث الرابع والعشرون

فيه التحديث بالجمع والإفراد والعنعنة وشيخه من أفراده وهو كوفي ثم مصري ثم ايلي، ثم مدنيان أخرجه مسلم والنسائي في الحج. الحديث الرابع والعشرون حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي غَارٍ بِمِنًى، إِذْ نَزَلَ عَلَيْهِ {وَالْمُرْسَلاَتِ} وَإِنَّهُ لَيَتْلُوهَا، وَإِنِّي لأَتَلَقَّاهَا مِنْ فِيهِ، وَإِنَّ فَاهُ لَرَطْبٌ بِهَا، إِذْ وَثَبَتْ عَلَيْنَا حَيَّةٌ فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "اقْتُلُوهَا". فَابْتَدَرْنَاهَا، فَذَهَبَتْ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- "وُقِيَتْ شَرَّكُمْ كَمَا وُقِيتُمْ شَرَّهَا". قوله: "في غار بمنى" عند الإسماعيلي أن ذلك كان ليلة عرفة، وبذلك يتم الاحتجاج به على مقصود الباب من جواز قتل الحية للمحرم، كما دلَّ قوله: "بمنى" على أن ذلك كان في الحرم، وعرف بذلك الرد على من قال: ليس في حديث عبد الله ما يدل على أنه أمر بقتل الحية في حال الإحرام، لاحتمال أن يكون ذلك بعد طواف الإفاضة، وقد رواه مسلم وابن خزيمة عن حفص بن غياث مختصرًا ولفظه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر محرمًا بقتل حية في الحرم بمنى. وقوله: "وإن فاه لرطب" أي: لم يجف ريقه بها. وقوله: "وقيت شركم" بالنصب مفعول ثان، وكذا قوله: "وقيتم شرها" أي: أن الله سلمها منكم كما سلمكم منها، وهو من مجاز المقابلة، فإن قتلهم لها ليس من الشر في شيء، قال ابن المنذر: أجمع من يحفظ عنه من أهل العلم على أن للمحرم قتل الحية، وتعقب بما تقدَّم عن الحكم وحماد وبما عند المالكية من استثناء ما صغر منها بحيث لا يتمكن من الأذى. رجاله ستة قد مرّوا: مرَّ عمر بن حفص، وأبو حفص في الثاني عشر من الغسل، ومرَّ الأعمش وإبراهيم بن يزيد في الخامس والعشرين من الإيمان، وعبد الله بن مسعود في أول أثر منه، ومرَّ الأسود في السابع والستين منه. أخرجه البخاري أيضًا في التفسير، ومسلم في الحيوان وفي الحج، والنسائي في الحج، وفي التفسير. الحديث الخامس والعشرون حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِلْوَزَغِ: "فُوَيْسِقٌ". وَلَمْ

رجاله خمسة

أَسْمَعْهُ أَمَرَ بِقَتْلِهِ. وقوله: "قال للوزغ: فويسق" اللام بمعنى عن والمعنى أنه سماه فويسقًا، وهو تصغير تحقير مبالغة في الذم. وقوله: "ولم أسمعه أمر بقتله" هو مقول عائشة، والضمير في أسمعه للنبي -صلى الله عليه وسلم- وفي بقتله للوزغ، وذكره نظرًا إلى اللفظ وإن كان جمعًا في المعنى، وقضيته تسميته إياه فويسقًا أن يكون قتله مباحًا، وكونها لم تسمعه لا يدل على منع ذلك، فقد سمعه غيرها، ففي الصحيحين والنسائي وابن ماجه، عن أم شريك أنها استأمرت النبي -صلى الله عليه وسلم- في قتل الوزغات فأمرها بذلك، وفي الصحيحين أيضًا أنه عليه الصلاة والسلام أمر بقتل الوزغ وسماه: فاسقًا، وفي مسلم عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قتل وزغة من أول ضربة فله كذا وكذا حسنة، ومن قتلها في الضربة الثانية فله كذا وكذا حسنة، دون الأولى، ومن قتلها في الضربة الثالثة فله كذا وكذا حسنة، دون الثانية"، وفي لفظ: "من قتل وزغًا في أول ضربة كتب له مائة حسنة، وفي الثانية دون ذلك، وفي الثالثة دون ذلك"، وفي لفظ: "في أول ضربة سبعين حسنة" قال الكرماني: الوزغ دابة لها قوائم تعدو في أصول الحشيش قيل: إنها تأخذ ضرع الناقة، وتشرب من لبنها وقيل: كانت تنفخ في نار إبراهيم عليه السلام لتلتهب، وقال ابن الأثير: هي التي يقال لها: سام أبرص، وهذا هو الصحيح وهي التي تكون في الجدران والسقوف، ولها صوت تصيح به، قال ابن الأثير: منه حديث عائشة لما أحرق بيت المقدس كانت الأوزاغ تنفخه، ومن غرائب أمر الوزغ ما قيل: إنه يقيم في حجره من الشتاء أربعة أشهر لا يطعم شيئًا، ومن طبعه أن لا يدخل بيتًا فيه رائحة زعفران، ونقل ابن عبد البر الاتفاق على جواز قتله في الحل والحرم، لكن نقل ابن عبد الحكم وغيره عن مالك: لا يقتل المحرم الوزغ، زاد ابن القاسم: وإن قتله يتصدق؛ لأنه ليس من الخمس المأمور بقتلها، وروى ابن أبي شيبة أن عطاء سئل عن قتل الوزغ في الحرم؟ فقال: إذا أذاك فلا بأس بقتله، وهذا يفهم توقف قتله على أذاه، وفي الطبراني عن ابن عباس مرفوعًا: "اقتلوا الوزغ ولو في جوف الكعبة" لكن في إسناده عمر بن قيس المكي؛ وهو ضعيف، وقال أبو عمر: الوزغ مجمع على تحريم أكله. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ إسماعيل بن أبي أويس في الخامس عشر من الإيمان، ومرَّ الزهري في الثالث من بدء الوحي، ومرَّ مالك، وعروة وعائشة في الثاني منه. ثم قال: قال أبو عبد الله: إنما أردنا بهذا أن منى من الحرم، وأنهم لم يروا بقتل الحية بأسًا.

يعني فيه ووقع هذا في رواية أبي الوقت وأتى به في رواية أبي ذر في آخر الباب، ومحله عقب حديث ابن مسعود. ثم قال المصنف:

باب لا يعضد شجر الحرم

باب لا يعضد شجر الحرم بضم أوله وفتح الضاد المعجمة أي: لا يقطع، ثم قال: وقال ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يعضد شوكه سيأتي موصولًا بعد باب ويأتي ما قيل فيه هناك، وقد مرَّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي. الحديث السادس والعشرون حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ: ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الأَمِيرُ أُحَدِّثْكَ قَوْلاً قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لِلْغَدِ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ، فَسَمِعَتْهُ أُذُنَايَ، وَوَعَاهُ قَلْبِي، وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ: إِنَّهُ حَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلاَ يَحِلُّ لاِمْرِىءٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا وَلاَ يَعْضُدَ بِهَا شَجَرَةً، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقُولُوا لَهُ: إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ -صلى الله عليه وسلم- وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالأَمْسِ، وَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ". فَقِيلَ لأَبِي شُرَيْحٍ: مَا قَالَ لَكَ عَمْرٌو؟ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ، "إِنَّ الْحَرَمَ لاَ يُعِيذُ عَاصِيًا، وَلاَ فَارًّا بِدَمٍ، وَلاَ فَارًّا بِخَرْبَةٍ" خَرْبَةٌ: بَلِيَّةٌ. قوله: "عن أبي شريح العدوي" كذا وقع هنا، وفيه نظر؛ لأنه خزاعي من بني كعب بن ربيعة بن لحي، بطن من خزاعة، ولهذا يقال له: الكعبي أيضًا، وليس هو من بني عدي، لا عدي قريش، ولا عدي مضر، فلعله كان حليفًا لبني عدي بن كعب من قريش، وقيل: في خزاعة بطن يقال لهم: بنو عدي، ووقع في رواية ابن أبي ذيب، عن سعيد: سمعت أبا شريح، أخرجه أحمد، ويأتي في السند محل تعريفه، وهذا الحديث قد مرَّ الكلام عليه مستوفى غاية الاستيفاء عند ذكره في باب ليبلِّغ العلم الشاهد الغائب من كتاب العلم. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ قتيبة بن سعيد في الخامس والعشرين من الإيمان، ومرَّ سعيد بن أبي سعيد المقبري في الثاني والثلاثين منه، ومرَّ الليث بن سعد في الثالث من بدء الوحي، ومرَّ أبو شريح وعمرو بن سعيد في الخامس والأربعين من العلم. ثم قال المصنف:

باب لا ينفر صيد الحرم

باب لا ينفر صيد الحرم بضم أوله وتشديد الفاء المفتوحة قيل: هو كناية عن الاصطياد، وقيل: هو على ظاهره كما سيأتي قريبًا للمصنف، قال النووي: يحرم التنفير، وهو الإزعاج عن موضعه، فإن نفره عصى سواء تلف أو لا؛ فإن تلف في نفاره قبل سكونه ضمن، دالًّا فلا، قال العلماء: يستفاد من النهي عن التنفير تحريم الإتلاف بالأولى. الحديث السابع والعشرون حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ، فَلَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي، وَلاَ تَحِلُّ لأَحَدٍ بَعْدِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، لاَ يُخْتَلَي خَلاَهَا، وَلاَ يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلاَ تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إِلاَّ لِمُعَرِّفٍ". وَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ. إِلاَّ الإِذْخِرَ لِصَاغَتِنَا وَقُبُورِنَا؟ فَقَالَ: "إِلاَّ الإِذْخِرَ". قوله: "فلم تحل لأحد بعدي" في رواية الكشميهني: فلا تحل، وهو أليق بقصد الأمر، وقد ذكره في الباب الذي بعده بلفظ: "وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي"، ومثله لأحمد، قال ابن بطال: المراد بقوله: "ولا تحل لأحد بعدي" الإخبار عن الحكم في ذلك، لا الإخبار بما سيقع لوقوع خلاف ذلك في الشاهد، كما وقع من الحجاج وغيره ومحصله أنه خبر بمعنى النهي بخلاف قوله: "فلم تحل لأحد قبلي" فإنه خبر محض، أو معنى قوله: "لا تحل لأحد بعدي" أي: لا يحلها الله بعدي؛ لأن النسخ ينقطع بعده لكونه خاتم النبيين. وقوله: "إلاَّ الإذخر" قد مرَّ في حديث أبي هريرة في باب كتاب العلم من كتابة العلم ما قيل فيه مستوفى. رجاله ستة: قد مرّوا: مرَّ محمد بن المثنى، وعبد الوهاب في التاسع من الإيمان، ومرَّ خالد الحذاء وعكرمة في السابع عشر من العلم، ومرَّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي، ومرَّ العباس في الثالث والستين من الوضوء.

ثم قال: "وعن خالد، عن عكرمة قال: هل تدري ما لا ينفر صيدها؟ هو أن ينحيه من الظل"، ينزل مكانه، قيل: نبه عكرمة بذلك على المنع من الإتلاف، وسائر أنواع الأذى تنبيها بالأدنى على الأعلى، وقد خالف عكرمة عطاء ومجاهد فقالا: لا بأس بطرده ما لم يفض إلى قتله، أخرجه ابن أبي شيبة، وروى ابن أبي شيبة عن الحكم عن شيخ من أهل مكة: أن حمامًا كان على البيت فذرق على عمر، فأشار عمر بيده فطار، فوقع على بعض بيوت مكة، فجاءت حية فأكلته، فحكم عمر على نفسه بشاة وروى من طريق أخرى عن عثمان نحوه، وما ذكره المصنف ليس بتعليق، بل هو موصول بالإسناد المذكور، وسيأتي في أوائل البيوع بأوضح مما هنا، وخالد وعكرمة مرَّ محلهما الآن. ثم قال المصنف:

باب لا يحل القتال بمكة

باب لا يحل القتال بمكة هكذا ترجم بلفظ القتال، وهو الواقع في حديث الباب، ووقع عند مسلم في رواية كذلك، وفي أخرى بلفظ القتل بدل القتال، وللعلماء في كل منهما اختلاف، مرَّ الكلام عليه مستوفى عند حديث أبي شريح في كتاب العلم. ثم قال: وقال أبو شريح رضي الله تعالى عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يسفك بها دماء". وجه الاستدلال به لتحريم القتال من جهة أن القتال يفضي إلى القتل، فقد ورد تحريم سفك الدماء بها، بلفظ النكرة في سياق النفي فيعم، وهذا التعليق مضى موصولًا في الذي قبل هذا بحديث، ومرَّ فيه محل أبي شريح. الحديث الثامن والعشرون حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ افْتَتَحَ مَكَّةَ: "لاَ هِجْرَةَ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا، فَإِنَّ هَذَا بَلَدٌ حَرَّمَ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، وَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَمْ يَحِلَّ لِي إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لاَ يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلاَ يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إِلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا، وَلاَ يُخْتَلَى خَلاَهَا". قَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ. إِلاَّ الإِذْخِرَ، فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَلِبُيُوتِهِمْ؟ قَالَ: قَالَ: "إِلاَّ الإِذْخِرَ". قوله: "عن مجاهد، عن طاوس" كذا رواه منصور موصولًا، وخالفه الأعمش فرواه عن مجاهد، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرسلًا، أخرجه سعيد بن منصور، عن أبي معاوية عنه، وأخرجه أيضًا عن داود بن شابور، عن مجاهد مرسلًا، ومنصور ثقة حافظ فالحكم لوصله. وقوله: "يوم افتتح مكة" هو ظرف للقول المذكور. وقوله: "لا هجرة" أي: بعد فتح مكة، وأفصح بذلك في رواية علي بن المديني في الجهاد.

رجاله سبعة

وقوله: "ولكن جهاد ونية" المعنى: أن وجوب الهجرة من مكة انقطع بفتحها، إذ صارت دار إسلام، ولكن بقي وجوب الجهاد على حاله عند الاحتياج إليه، وفسره بقوله: "فإذا استنفرتم فانفروا" أي دعيتم إلى الغزو فأجيبوا. قال الطيبي: قوله: "ولكن جهاد" عطف على مدخول: "لا هجرة" أي: الهجرة إما فرارًا من الكفار، وإما إلى الجهاد، وإما إلى نحو طلب العلم، وقد انقطعت الأولى فاغتنموا الأخيرتين، والكلام على الهجرة قد مرَّ مستوفى في آخر حديث: "إنما الأعمال بالنيات" أول حديث. وقوله: "فإن هذا بلد حرام" الفاء جواب شرط محذوف تقديره: إذا علمتم ذلك فاعلموا أن هذا بلد حرام، وكان وجه المناسبة أنه لما كان نصب القتال عليه حرامًا كان التنفيذ يقع منه لا إليه، ولما روى مسلم هذا الحديث عن إسحاق، عن جرير، فصل الكلام الأول من الثاني بقوله: "وقال يوم الفتح: إن الله حرم" إلخ فجعله حديثًا آخر مستقلًا وهو متقضى صنيع من اقتصر على الكلام الأول، كعلي بن المديني، عن جرير، كما يأتي في الجهاد. وقوله: "هو حرام بحرمة الله" أي بتحريمه، وقيل: الحرمة الحق أي حرام بالحق المانع من تحليله، وقد مرَّ الكلام على هذا مستوفىً عند حديث أبي شريح في كتاب العلم، ومرت مباحث هذا الحديث مستوفاة عند حديث أبي هريرة في باب كتابة العلم من كتاب العلم. رجاله سبعة: قد مرّوا: مرَّ عثمان ابن أبي شيبة، وجرير ومنصور في الثاني عشر من العلم، ومرَّ مجاهد في أول الإيمان قبل الحديث الأول منه، ومرَّ طاوس في باب من لم ير الوضوء إلاَّ من المخرجين بعد الأربعين من الوضوء، ومرَّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي. أخرجه البخاري في الحج، وفي الجزية، والجهاد، ومسلم في الحج والجهاد، وأبو داود فيهما أيضًا، والترمذي في السير، والنسائي في السير والبيعة، والحج. ثم قال المصنف:

باب الحجامة للمحرم

باب الحجامة للمحرم أي: يمنع منها، أو تباح له مطلقًا، أو للضرورة، والمراد في ذلك كله المحجوم لا الحاجم، ثم قال: وكوى ابن عمر ابنه وهو محرم. وصل هذا سعيد بن منصور عن مجاهد قال أصاب واقد بن عبد الله بن عمر برسام في الطريق وهو متوجه إلى مكة فكواه ابن عمر فأبان أن ذلك كان للضرورة، مطابقة هذا الأثر للترجمة من حيث أن كلًا من الحجامة والكي يستعمل للتداوي عند الضرورة، وابن عمر مرَّ في أول الإيمان قبل ذكر حديث منه، واسم ابنه المكوي: واقد، فقيل: واقد هذا ابنه حقيقة، أمه صفية بنت أبي عبيد، وقع عن بعيره. وهو محرم، فمات، وقيل: المراد به واقد بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر فنسبته هنا نسبة لجد أبيه، وهو قد مرَّ في الثامن عشر من الإيمان، وهذا بعيد جدًا. ثم قال: "ويتداوى ما لم يكن فيه طيب". هذا من تتمة الترجمة، وليس في أثر ابن عمر كما ترى، وأما قول الكرماني: فاعل يتداوى إما المحرم، وإما ابن عمر، فكلام من لم يقف على أثر ابن عمر، وقد سبق في أوائل الحج في باب الطيب عند الإحرام قول ابن عباس: ويتداوى بما يأكل، وهو موافق لهذا، والجامع بين هذا وبين الحجامة عموم التداوي، وروى الطبري عن الحسن قال: إن أصاب المحرم، شَجَّةٌ فلا بأس بأن يأخذ ما حولها من الشعر، ثم يداويها بما ليس فيه طيب. الحديث التاسع والعشرون حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: قَالَ لنا عَمْرٌو: أَوَّلُ شَيْءٍ سَمِعْتُ عَطَاءً يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَقُولُ: احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ مُحْرِمٌ. ثُمَّ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: حَدَّثَنِي طَاوُسٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ: لَعَلَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُمَا. قوله: "قال لنا عمرو: أول شيء": أي: أول مرة، وفي رواية الحميدي، عن سفيان، حدثنا عمرو -وهو ابن دينار-، أخرجه أبو نعيم وأبو عوانة من طريقه. وقوله: "ثم سمعته" هو مقول سفيان، والضمير لعمرو. وكذا قوله: "فقلت: لعله سمعه"، وقد بين ذلك الحميدي عن سفيان فقال: حدثنا بهذا الحديث عمرو مرتين، فذكره لكن قال:

رجاله ستة

فلا أدري أسمعه منهما أو كانت إحدى الروايتين وهمًا؟ زاد أبو عوانة قال سفيان: ذكر لي أنه سمعه منهما جميعًا، وأخرجه ابن خزيمة، عن ابن عيينة نحو رواية علي بن عبد الله وقال في آخره: فظننت أنه رواه عنهما جميعًا، وأخرجه الإسماعيلي عن سفيان قال: عن عمرو، عن عطاء فذكره، قال: ثم حدثنا عمرو، عن طاوس به، فقلت لعمرو: إنما كنت حدثتنا عن عطاء؟ قال: اسكت يا صبي لم أغلط، كلاهما حدثني، فإن كان هذا محفوظًا فلعل سفيان تردد في كون عمرو سمعه منهما، لما خشي من كون ذلك صدر منه حالة الغضب على أنه قد حدث به فجمعهما، قال أحمد في "مسنده": حدثنا سفيان قال: قال عمرو: أولًا، فحفظناه، قال طاوس: عن ابن عباس فذكره، فقال أحمد: وقد حدثنا ابن سفيان فقال: قال عمرو: عن عطاء، وطاوس عن ابن عباس وكذا جمعهما عن سفيان مسدد عن المصنف في الطب، وأبو بكر بن أبي خيثمة وأبو خيثمة وإسحاق بن راهويه عند مسلم، وقتيبة عند الترمذي والنسائي، وتابع سفيان على روايته عن عمرو، لكن عن طاوس وجده زكرياءُ ابنُ إسحاق، أخرجه أحمد، وأبو عوانة، وابن خزيمة، والحاكم، وله أصل عن عطاء أيضًا أخرجه أحمد والنسائي عن الليث عن أبي الزبير، وعن ابن جريج كلاهما عنه، وزعم الكرماني أن مراد البخاري بالسياق المذكور أن عمرًا حدث به سفيان أولًا عن عطاء، عن ابن عباس بغير واسطة، ثم حدثه به ثانيًا عن عطاء بواسطة طاوس، قال في "الفتح": هذا كلام من لم يقف على طريق مسدد التي في الكتاب الذي شرح، فضلًا عن بقية الطرق التي ذكرناها، ولا تعرف مع ذلك لعطاء عن طاوس رواية أصلًا. رجاله ستة: قد مرّوا: مرَّ ابن المديني في الرابع عشر من العلم، ومرَّ عمرو بن دينار في الرابع والخمسين منه، ومرَّ عطاء في التاسع والثلاثين منه، ومرَّ ابن عيينة في الأول من بدء الوحي، وابن عباس في الخامس منه، ومرَّ محل طاوس في الذي قبله. فيه التحديث بالجمع والقول والسماع، أخرجه البخاري أيضًا في الطب، ومسلم في الحج، وأبو داود فيه، والترمذي فيه، والنسائي فيه، وفي الصوم. الحديث الثلاثون حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ أَبِي عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجِ، عَنِ ابْنِ بُحَيْنَةَ رضي الله عنه قَالَ: احْتَجَمَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَهْوَ مُحْرِمٌ بِلَحْى جَمَلٍ فِي وَسَطِ رَأْسِهِ. قوله: "عن علقمة بن أبي علقمة" في رواية النسائي: أخبرني علقمة، ويأتي تعريفه قريبًا في السند.

قوله: "عن عبد الرحمن عن ابن بحينة" في رواية المصنف في الطب: عن ابن أبي أويس، عن علقمة أنه سمع عبد الرحمن الأعرج، أنه سمع عبد الله بن بحينة. وقوله: "وهو محرم" زاد ابن جريج عن عطاء: صائم. وقوله: "بلحى جمل" زاد زكرياء: على رأسه -وهو بفتح اللام وحكى كسرها وسكون المهملة وبفتح الجيم والميم- موضع بطريق مكة وقد وقع مبينا في رواية ابن أبي أويس المذكورة بلحى جمل من طريق مكة، ذكر البكري في معجمه في رسم العقيق قال: هي بير جمل التي ورد ذكرها في حديث أبي جهم -يعني الماضي في التيمم-، وقال غيره: هي عقبة الجحفة على سبعة أميال من السقيا، وفي رواية أبي ذر: بلحمي جمل بصيغة التثنية ولغيره بالإفراد، ووهم من ظنِّه فكي الجمل الحيوان المعروف وأنه كان آلة الحجم، وجزم الحازمي وغيره بأن ذلك كان في حجة الوداع، وسيأتي في كتاب الصيام البحث في أنه هل كان صائما؟. وقوله: "في وسط الرأس" بفتح المهملة أي: متوسطه وهو ما فوق اليافوخ فيما بين أعلى القرنين، قال الليث: كانت هذه الحجامة في فاس الرأس، وأما التي في أعلاه فلا؛ لأنها ربما أعمت. وفي "الموطأ": احتجم فوق رأسه بلحى جمل وروى أنه قال: إنها شفاء من الصداع، والنعاس، والأضراس، وفي "الطبقات" لابن سعد حجمه أبو ظبية لثماني عشرة من شهر رمضان نهارًا، ومن حديث ابن عباس: احتجم بالقاحة وهو صائم محرم، وفي لفظ: محرم من أكلة أكلها من شاة سمتها امرأة من خيبر، وفي "المستدرك" عن أنس عن شرطهما أنه عليه الصلاة والسلام احتجم وهو محرم على ظهر القدم من وجع كان به. وفي حديث بكير بن الأشج في القمحدوة، ودل الحديث على جواز الحجامة للمحرم مطلقًا، وبه قال عطاء والشعبي. وقال قوم: لا يحتجم المحرم إلاَّ من ضرورة، وروي عن ابن عمر، وبه قال مالك، واحتج بأن بعض الروايات كما مرَّ أنه عليه الصلاة والسلام احتجم لضرر كان به، ولا خلاف بين العلماء أنه لا يجوز له حلق شيء من شعر رأسه، حتى يرمي جمرة العقبة يوم النحر، إلاَّ من ضرورة، وأنه حلقه من ضرورة، فعليه الفدية كما مرَّ في كعب بن عجرة، فإن لم يحلق المحتجم شعرًا فهو كالعرق يقطعه، أو الدمل يبطه، أو القرحة ينكاها، ولا يضره ذلك، ولا شيء عليه عند جماعة من العلماء، وعند الحسن: عليه الفدية وإن لم يقطع شعرًا، وإن كان لضرورة جاز قطع الشعر، وتجب الفدية، وشعر الرأس والجسد سواء، وخص أهل الظاهر الفدية بشعر الرأس، وقال الداودي: إذا أمكن مسك المحاجم بغير حلق لم يجز الحلق، وقال النووي إذا أراد المحرم الحجامة لغير حاجة، فإن تضمنت قطع شعر فهي حرام لقطع الشعر، وإن لم تتضمنه جازت عند الجمهور، وكرهها مالك، وأجازها سحنون واستدل بهذا الحديث على جواز القصد، وبط الجرح، والدمل، وقطع العرق، وقلع الضرس وغير

رجاله خمسة

ذلك من وجوه التداوي إذا لم يكن في ذلك ارتكاب ما نهي عنه المحرم من تناول الطيب، وقطع الشعر، ولا فدية عليه في شيء من ذلك. رجاله خمسة: مرَّ منهم: خالد بن مخلد في الرابع من العلم، ومرَّ سليمان بن بلال في الثاني من الإيمان، ومرَّ الأعرج في السابع منه، ومرَّ عبد الله بن بحينة في الثاني والأربعين من الصلاة. والباقي: علقمة بن أبي علقمة، واسمه: بلال المدني، مولى عائشة، قال ابن معين وأبو داود والنسائي: ثقة، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، لا بأس به، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن سعد: له أحاديث صالحة، وكان له كتاب بعلم النحو، والعربية والعروض، وقال ابن عبد البر: كان ثقة مأمونًا، واسم أمه مرجانة. روى عن: أمه مرجانة، وأنس بن مالك، وسعيد بن المسيب، والأعرج، وغيرهم. وروى عنه: مالك، وسليمان بن بلال، وأبو الزناد وغيرهم، مات في خلافة المنصور قيل: في أولها، وقيل: في آخرها. وليس له في البخاري إلاَّ هذا الحديث. فيه التحديث بالجمع والعنعنة وشيخه كوفي، والبقية مدنيون، وفيه رواية التابعي عن التابعي. أخرجه البخاري أيضًا في الطب، ومسلم في الحج، وكذا النسائي وابن ماجه. ثم قال المصنف:

باب تزويج المحرم

باب تزويج المحرم يأتي في الحديث استيفاء الكلام عليه. الحديث الحادي والثلاثون حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ عَبْدُ الْقُدُّوسِ بْنُ الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ. ظاهر صنيع البخاري في ترجمته أنه لم يثبت عنده النهي عن ذلك، ولا أن ذلك من الخصائص، وقد ترجم في النكاح باب نكاح المحرم ولم يزد على إيراد هذا الحديث، ومراده بالنكاح التزويج للإجماع على إفساد الحج والعمرة بالجماع، وقد اختلف في تزويج ميمونة فالمشهور عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- تزوجها وهو محرم، وصحَّ نحوه عن عائشة وأبي هريرة حديث عائشة، أخرجه النسائي عن أبي سلمة عنها، والطحاوي والبزار عن مسروق، عنها، وصححه ابن حبان وأكثر ما أعل بالإرسال وليس بذلك بقادح فيه، وأخرج النسائي عن ابن مليكة عن عائشة مثله، قال النسائي: قال عمرو بن علي قلت لأبي عاصم: أنت أمليت علينا من الرقعة، ليس فيه عائشة؟ فقال: دع عائشة حتى أنظر فيه، وهذا إسناد وصحيح لولا هذه القصة، لكن هو شاهد قوي أيضًا، وحديث أبي هريرة أخرجه الدارقطني، وفي إسناده كامل أبو العلاء وفيه ضعف، لكنه يعتضد بحديثي ابن عباس وعائشة، وجاء عن مجاهد والشعبي مرسلًا أخرجهما ابن أبي شيبة، وقد عارض حديث ابن عباس حديث عثمان: "لا يَنْكِح المحرمُ، ولا يُنْكَح" أخرجه مسلم. وبجمع بينه وبين حديث ابن عباس يحمل حديث ابن عباس على أنه من خصائص النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقال ابن عبد البر: اختلفت الآثار في هذا الحكم، لكن الرواية أنه تزوجها وهو حلال، جاءت من طرق شتى، وحديث ابن عباس صحيح الإسناد لكن الوهم إلى الواحد أقرب من الوهم من الجماعة، فأقل أحوال الخبرين أن يتعارضا فتطلب الحجة من غيرهما، وحديث عثمان صحيح في منع نكاح المحرم؛ فهو المعتمد، ومنهم من حمل حديث عثمان على الوطء، وتعقب بأنه ثبت فيه لا ينكح بفتح أوله، ولا ينكح بضم أوله، ولا يخطب، وفي "صحيح ابن حبان" زيادة: ولا يخطب. ويترجح حديث عثمان تقعيد قاعدة، وحديث ابن عباس واقعة عين يحتمل أنواعًا من الاحتمالات. فمنها: أن ابن عباس كان يرى أن من قلد الهدي يصير محرمًا كما مرَّ تقرير ذلك عنه

في الحج والنبي -صلى الله عليه وسلم- كان قلد الهدي في عمرته تلك التي تزوج فيها ميمونة، فيكون إطلاقه أنه عليه الصلاة والسلام تزوجها وهو محرم أي عقد عليها بعد أن قلد الهدي، وإن لم يكن تلبس بالإحرام، وذلك أنه كان أرسل إليها أبا رافع يخطبها، فجعلت أمرها إلى العباس، فزوجها من النبي -صلى الله عليه وسلم-. وقد أخرج الترمذي وابن خزيمة وابن حبان في "صحيحهما" عن مطر الوراق عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن سليمان بن يسار عن أبي رافع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- تزوج ميمونة وهو حلال، وبنى بها وهو حلال، وكنت أنا الرسول بينهما، قال الترمذي: لا نعلم أحدًا أسنده غير حماد بن زيد، عن مطر، ورواه مالك، عن ربيعة، عن سليمان مرسلًا، فترجح رواية أبي رافع على رواية ابن عباس هذه؛ لأن رواية من كان له مدخل في الواقعة من مباشرة أو نحوها أرجح، ورجحت أيضًا بأنها مشتملة على إثبات النكاح لمدة متقدمة على زمن الإحرام، والأخرى نافية لذلك، والمثبت مقدّم على النافي، وأجابوا عن حديث ميمونة بأنه اختلف في الواقعة كيف كانت، ولا تقوم بها الحجة، ولأنها تحتمل الخصوصية فكان الحديث في النهي عن ذلك أولى بأن يؤخذ به. ومن الاحتمالات أن قول ابن عباس تزوج ميمونة وهو محرم أي: داخل الحرم، ويكون العقد وقع بعد انقضاء العمرة، أو في الشهر الحرام، قال الأعشى: قتلوا كسرى بليل محرما أي: في الشهر الحرام، وقال آخر: قتلوا ابن عفان الخليفة محرمًا أي في البلد الحرام وإلى هذا التأويل جنح ابن حبان، فجزم به في "صحيحه"، وعارض حديث ابن عباس حديث يزيد بن الأصم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- تزوج ميمونة وهو حلال، أخرجه مسلم عن الزهري قال: وكانت خالته، كما كانت خالة ابن عباس، وأخرج مسلم من وجه آخر عن يزيد بن الأصم قال: حدثتني ميمونة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- تزوجها وهو حلال، قال: وكانت خالتي وخالة ابن عباس، وقال الأثرم: قلت لأحمد: إن أبا ثور يقول: بأي شيء يدفع حديث ابن عباس مع صحته؟ قال: فقال: الله المستعان، ابن المسيب يقول: وهم ابن العباس، وميمونة تقول: تزوجني وهو حلال، أخرجه أبو داود، وأخرج البيهقي عن الأوزاعي عن عطاء، عن ابن عباس الحديث قال: وقال سعيد بن المسيب: ذهل ابن عباس، وإن كانت خالته ما تزوجها إلاَّ بعدما أحل، قال الطبري: الصواب من القول عندنا أن نكاح المحرم فاسد لصحة حديث عثمان، وأما قصة ميمونة فتعارضت الأخبار فيها، ثم ساق عن أيوب قال: أنبئت أن الاختلاف في زواج ميمونة، إنما وقع لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان بعث إلى العباس لينكحها إياه، فأنكحه، فقال بعضهم: أنكحها قبل أن يحرم النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقال بعضهم: بعدما أحرم، وقد ثبت أن عمر وعليًّا وغيرهما من الصحابة فرقوا بين مُحرِم نكح وبين امرأته، ولا يكون هذا إلاَّ عن ثبت، والجمهور على أن نكاح المُحرِم وإنكاحه مُحرَّمٌ، لا ينعقد، لما مرَّ من حديث عثمان وغيره، قال عطاء وعكرمة وأبو حنيفة وصاحباه وأهل الكوفة: يجوز للمحرم أن يتزوج، كما يجوز له أن يشتري

رجاله أربعة

الجارية للوطء، وتعقب بأنه قياس في معارضة السنة، فلا تعتبر، وأخرج الطحاوي عن عبد الله بن محمد بن أبي بكر قال: سألت أنسًا عن نكاح المحرم فقال: لا بأس به، هو كالبيع، وإسناده قوي، لكنه قياس في مقابل النص، فلا عبرة به أيضًا، وكأن أنسًا لم يبلغه حديث عثمان، وكما لا يصح نكاحه ولا إنكاحه، لا يصح إذنه لعبده الحل الذي النكاح، كذا قاله ابن القطان، وفيه -كما قال المرزباني- نظر، وحكى الدارمي كلام ابن القطان، ثم قال: ويحتمل عندي الجواز، ولا فدية في عقد النكاح، فيستثنى من قولهم: من فعل شيئًا يحرم بالإحرام لزمته فدية. رجاله أربعة: وفيه ذكر ميمونة، مرَّ منهم: الأوزاعي في العشرين من العلم، وعطاء في التاسع والثلاثين منه، وميمونة في الثامن والخمسين منه، وابن عباس في الخامس من بدء الوحي. والباقي: عبد القدوس بن الحجاج الخولاني أبو المغيرة الحمصي، قال أبو حاتم: كان صدوقًا، وقال العجلي والدارقطني: ثقة، وقال النسائي: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في الثقات، وفي "الزهرة": روى عنه البخاري ثلاثة أحاديث. روى عن: حريز بن عثمان، وصفوان بن عمرو، والمسعودي وغيرهم. وروى عن: البخاري، وروى هو والباقون له بواسطة، وسلمة بن شبيب، والدارمي، وغيرهم، مات سنة اثنتي عشرة ومائتين، وصلَّى عليه أحمد بن حنبل، أخرجه النسائي في الحج وفي الصوم. ثم قال المصنف:

باب ما ينهى من الطيب للمحرم والمحرمة

باب ما ينهى من الطيب للمحرم والمحرمة أي: ينهى عنه. قوله: "للمحرم والمحرمة" أي: إنه ما في ذلك سواء، ولم تختلف العلماء في ذلك، وإنما اختلفوا في أشياء هل قصد طيبًا أم لا، والحكمة في منع المحرم من الطيب أنه من دواعي الجماع، ومقدماته التي تفسد الإحرام، وبأنه ينافي حال المحرم، فإن المحرم أشعث أغبر، فعند البزار، عن ابن عمر: الحاج الشعث التَفِل -بفتح المثناة الفوقية وكسر الفاء- الذي ترك استعمال الطيب. ثم قال: وقالت عائشة رضي الله عنها: لا تلبس المحرمة ثوبًا بورس أو زعفران، الورس -بفتح الواو وسكون الراء، ثم سين مهملة- نبت أصفر تصبغ به الثياب، وجزم ابن العربي وغيره بأن الورس نبات باليمن، وقال ابن البيطار: الورس يؤتى به من اليمن والهند والصين، وليس بنبات بل يشبه زهر العصفر، ونبته يشبه البنفسج، ويقال: إن الكركم عروقه، ومطابقة الأثر للترجمة من حيث أن المصبوغ بهما تفوح له رائحة كالطيب، وهذا الأثر قد وصله البيهقي عن معاذة، عن عائشة قالت المحرمة تلبس من الثياب ما شاءت، إلاَّ ثوبًا مسَّه وَرس أو زعفران، ولا تبرقع، ولا تلثم، وتسدل الثوب على وجهها إن شاءت، وقد مرت عائشة في الثاني من بدء الوحي. الحديث الثاني والثلاثون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَاذَا تَأْمُرُنَا أَنْ نَلْبَسَ مِنَ الثِّيَابِ فِي الإِحْرَامِ فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ تَلْبَسُوا الْقَمِيصَ، وَلاَ السَّرَاوِيلاَتِ، وَلاَ الْعَمَائِمَ، وَلاَ الْبَرَانِسَ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ لَيْسَتْ لَهُ نَعْلاَنِ، فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْ أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ، وَلاَ تَلْبَسُوا شَيْئًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ، وَلاَ الْوَرْسُ، وَلاَ تَنْتَقِبِ الْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ وَلاَ تَلْبَسِ الْقُفَّازَيْنِ". وأخرج أحمد وأبو داود والحاكم أصل حديث الباب، عن ابن إسحاق حدثني نافع، عن ابن عمر بلفظ: أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب، وما مس الورس والزعفران من الثياب، ولتلبس بعد ذلك ما أحبت من ألوان الثياب. وهذا من أثر عائشة المتقدم قريبًا، وهذا الحديث قد مرَّ بعينه آخر حديث من كتاب

رجاله أربعة

العلم، ومرَّ استيفاء الكلام عليه هناك غاية الاستيفاء، وأخرجه أيضًا في باب ما لا يلبس المحرم من الثياب، وزاد فيه هنا: "ولا تنتقب المحرمة، ولا تلبس القفازين"، وذكر هنا الاختلاف في رفع هذه الزيادة ووقفها كما يأتي مبينا في المتابعات التي بعد الحديث، والقفاز -بضم القاف وتشديد الفاء وبعد الألف زاي-: ما تلبسه المرأة في يدها فيغطي أصابعها وكفيها عند معاناة الشيء كغزل ونحوه، وهو لليد كالخف للرجل، والنقاب الخمار الذي يشد على الأنف وتحت المحاجر، فإن قرب من العين حتى لا تبدو أجفانها فهو الوصواص -بفتح الواو وسكون الصاد المهملة الأولى- فإن نزل إلى طرف الأنف فهو اللفام بكسر اللام وبالفاء، فإن نزل إلى الفم ولم يكن على الأرنبة منه شيء فهو اللثام. وقوله: "ولا تنتقب" هو بنون ساكنة بعد تاء المضارعة وكسر القاف، وجزم الفعل على النهي، وبالكسر لالتقاء الساكنين، ويجوز رفعه على أنه خبر عن حكم الله؛ لأنه جواب عن السؤال عن ذلك، وللكشميهني: ولا تتنقب بمثناتين فوقيتين مفتوحتين كالقاف مثلها لكونه في معنى الخف فإن كلًّا منهما محيط بجزء من البدن، وأما النقاب فلا يحرم على الرجل من جهة الإحرام؛ لأنه لا تحرم عليه تغطية وجهه على الراجح، فيباح للمرأة ستر جميع بدنها، بكل ساتر مخيطًا كان أو غيره، إلاَّ وجهها، فإنه حرام، وكذا ستر الكفين بقفازين أو أحدهما بأحدهما؛ لأن القفازين ملبوس عضو ليس بعورة فأشبه خف الرجل، ويجوز سترهما بغيرهما، ككم وخرقة لفتها عليها للحاجة إليه ومشقة الاحتراز عنه، نعم يعفى عما تستره من الوجه احتياطًا للرأس، إذ لا يمكن استيعاب ستره إلاَّ بستر قدر يسير مما يليه من الوجه، والمحافظة على ستره بكماله لكونه عورة أولى من المحافظة على كشف ذلك القدر من الوجه، ويؤخذ من هذا التعليل أن الأمة لا تستر ذلك لأن رأسها ليس بعورة لكن قال في "المجموع": ما ذكر في إحرام المرأة ولبسها لم يفرقوا فيه بين الحرة والأمة، وهو المذهب، وللمرأة أن ترخي على وجهها ثوبًا متجافيا عنه بخشبة أو نحوها، فإن أصاب الثوب وجهها بلا اختيار فرفعته فورًا فلا فدية، وإلاَّ وجبت مع الإثم، وقد مرَّ كثير من مباحث تلثم المرأة وتبرقعها في باب ما يلبس المحرم من الثياب. رجاله أربعة: وفيه لفظ رجل مبهم لم يسم، مرَّ منهم: الليث في الثالث من بدء الوحي، ومرَّ نافع في الأخير من العلم، ومرَّ ابن عمر في أول الإيمان قبل ذكر حديث منه، ومرَّ عبد الله بن يزيد في الثالث والعشرين من الأذان. ثم قال: تابعه موسى بن عقبة، وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، وجويرية، وابن إسحاق في النقاب والقفازين، أما متابعة موسى بن عقبة فقد وصلها النسائي، ومتابعة إسماعيل بن إبراهيم فقد وصلها عليَّ بن محمد المصري في "فوائده"، وأما متابعة جويرية فقد وصلها أبو

يعلى الموصلي، وأما متابعة ابن إسحاق فقد وصلها أحمد والحاكم. ورجال المتابعات أربعة مرَّ منهم: موسى بن عقبة في الخامس من الوضوء ومرَّ جويرية في الأربعين من الغسل، ومرَّ محمد بن إسحاق في تعليق بعد السابع عشر من الجماعة. والباقي منهم: إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة بن أبي عياش الأسدي مولاهم أبو إسحاق المدني ابن أخي موسى بن عقبة، قال ابن معين والنسائي: ثقة، وقال أبو حاتم: لا بأس به، وقال أبو داود: ليس به بأس، وقال الدارقطني: ما علمت إلاَّ خيرًا، أحاديثه صحاح نقية، وقال الأزدي: فيه ضعف، وكذا قال الساجي قبله. روى عن: عمه موسى بن عقبة، والزهري، ونافع، وهشام بن عروة، وغيرهم. وروى عنه: إسماعيل بن أبي أويس، وسعيد بن أبي مريم، وخالد بن مخلد، وغيرهم، مات في آخر خلافة المهدي سنة تسع وستين ومائة. ثم قال: وقال عبيد الله: ولا ورس وكان يقول: لا تتنقب المحرمة، ولا تلبس القفازين، يعني أن عبيد الله المذكور خالف المذكورين قبل في رواية هذا الحديث عن نافع، فوافقهم على رفعه إلى قوله: زعفران، ولا ورس، وفصل بقية الحديث فجعله من قول ابن عمر، وهذا التعليق وصله إسحاق بن راهويه في "مسنده"، وابن خزيمة عن عبيد الله، عن نافع، فساق الحديث إلى قوله: "ولا ورس" قال: وكان عبد الله -يعني ابن عمر- يقول: ولا تنتقب المرأة، ولا تلبس القفازين، ورواه يحيى القطان عند النسائي، وحفص بن غياث عند الدارقطني كلاهما عن عبيد الله، فاقتصر على المتفق على رفعه، وعبيد الله العمري مرَّ في الرابع عشر من الوضوء. ثم قال: وقال مالك عن نافع، عن ابن عمر: لا تنتقب المحرمة، الغرض منه أن مالكا اقتصر على الموقوف فقط، وفي ذلك تقوية لرواية عبيد الله، وظهر الإدراج في رواية غيره واستشكل ابن دقيق العيد الحكم بالإدراج في هذا الحديث، لورود النهي عن النقاب والقفاز مفردًا مرفوعًا، وللابتداء بالنهي عنهما في رواية ابن إسحاق المرفوعة المتقدم ذكرها عند حديث الباب، وقال: وقال في "الاقتراح": دعوى الإدراج في أول المتن ضعيفة، وأجيب بأن الثقات إذا اختلفوا وكان مع أحدهم زيادة قدمت، ولاسيما إن كان حافظًا، ولاسيما إن كان أحفظ، والأمر هنا كذلك، فإن عبيد الله بن عمر في نافع أحفظ من جميع من خالفه، وقد فصل المرفوع من الموقوف، وأما الذي اقتصر على الموقوف فرفعه، فقد شذ بذلك وهو ضعيف، وأما الذي ابتدأ في المرفوع بالموقوف فأنه من التصرف في الرواية بالمعنى، وكأنه رأى أشياء متعاطفة فقدم وأخر لجواز ذلك عنده، ومع الذي فصل زيادة علم فهو أولى، قاله زين الدين العراقي: في شرح الترمذي وهذا التعليق موصول في الموطأ، ومرَّ مالك في الثاني من بدء الوحي، ومر نافع في الأخير من العلم، وابن عمر في أول الإيمان قبل ذكر حديث منه.

الحديث الثالث والثلاثون

ثم قال: وتابعه ليث بن أبي سليم، أي تابع مالكا في وقفه، وكذا أخرجه ابن أبي شيبة عن نافع موقوفًا على ابن عمر. ومعنى قوله: ولا تنتقب، أي: لا تستر وجهها، واختلف العلماء في ذلك فمنعه الجمهور، وأجازه الحنفية، وهو رواية عند الشافعية والمالكية ولم يختلفوا في منعها من ستر وجهها وكفيها مما سوى النقاب والقفاز، وقد مرَّ قريبًا الكلام على هذا عن الحديث مستوفى. ومتابعة ليث هذه لم أر من أخرجها وليث هو ابن أبي سليم بن زنيم القرشي، مولاهم أبو بكر الكوفي، واسم أبي سليم أيمن، وقيل: أنس، وقيل زياد، وقيل عيسى، قال فضيل بن عياض: كان ليث أعلم أهل الكوفة، وقال ابن عدي له أحاديث صالحة، وقد روى عنه شعبة والثوري ومع الضعف الذي فيه يكتب حديثه. وقال الدارقطني: صاحب سنة يكتب حديثه، وإنما أنكروا عليه الجمع بين عطاء وطاوس ومجاهد. وقال ابن سعد: كان رجلًا صالحًا عابدًا، وكان ضعيفًا في الحديث كان يسأل عطاء ومجاهدًا وطاوسًا عن الشيء فيختلفون فيه، فيروي أنهم اتفقوا من غير تعمد. وقال البزار: كان أحد العباد إلاَّ أنه أصابه اختلاط فاضطرب حديثه، وإنما تكلم فيه أهل العلم من هذا، وإلاَّ فلا نعلم أحدًا ترك حديثه. وقال عيسى ابن يونس: قد اختلط، وكان يصعد المنارة عند إرتفاع النهار فيؤذن، وقال عثمان بن أبي شيبة: صدوق، ولكن ليس بحجة. وقال الساجي: صدوق فيه ضعف، كان سيىء الحفظ كثير الغلط، كان يحيى القطان بآخره لا يحدث عنه. وقال ابن معين: منكر الحديث، وكان صاحب سنة روى عن الناس إلى غير هذا من التضعيف، علق عنه البخاري قليلًا، روى عن طاوس وعطاء ومجاهد ونافع وخلق، وروى عنه الثوري، وشعبة والحسن بن صالح، وجرير بن عبد الحميد وغيرهم، مات سنة ثمان أو ثلاث وأربعين ومائة. الحديث الثالث والثلاثون حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: وَقَصَتْ بِرَجُلٍ مُحْرِمٍ نَاقَتُهُ، فَقَتَلَتْهُ، فَأُتِى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "اغْسِلُوهُ، وَكَفِّنُوهُ، وَلاَ تُغَطُّوا رَأْسَهُ، وَلاَ تُقَرِّبُوهُ طِيبًا، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يُهِلُّ". هذا الحديث قد مرَّ الكلام عليه مستوفى في باب الكفن في ثوبين من كتاب الجنائز. رجاله ستة: قد مرّوا: وفيه لفظ رجل محرم، مرَّ قتيبة في الحادي والعشرين من الإيمان، ومرَّ جرير ومنصور في الثاني عشر من العلم، ومرَّ الحكم بن عتيبة في الثامن والخمسين منه، ومرَّ سعيد بن جبير وابن عباس في الخامس من بدء الوحي، والرجل المحرم الذي وقصته ناقته، قال: في "الفتح" لم أقف على من سماه ووهم من زعم أن اسمه واقد بن عبد الله، لقول ابن قتيبة

في ذكر أولاد عبد الله بن عمر فيهم، واقد بن عبد الله بن عمر وقع عن بعيره وهو محرم فهلك، فظن هذا الزاعم أنه صاحب القصة، وهو لم يتزوج أبوه أمه إلاَّ في خلافة عمر، وفي الصحابة: واقد بن عبد الله آخر، لكن لم أر في شيء من الأخبار أنه وقع عن بعيره فهلك، بل ذكر غير واحد منهم ابن سعد أنه مات في خلافة عمر. ثم قال المصنف:

باب الاغتسال للمحرم

باب الاغتسال للمحرم أي ترفها وتنظفا وتطهرا من الجنابة. قال ابن المنذر: أجمعوا على أن للمحرم أن يغتسل من الجنابة، واختلفوا فيما عدا ذلك، وكان المصنف أشار إلى ما روي عن مالك أنه كره للمحرم أن يغطي رأسه في الماء، وروى في الموطأ عن نافع: "أن ابن عمر كان لا يغسل رأسه وهو محرم إلاَّ من احتلام". ثم قال: وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: "يدخل المحرم الحمام" وصله البيهقي والدارقطني عن عكرمة عنه، قال: "المحرم يدخل الحمام وينزع ضرسه وإذا انكسر ظفره طرحه ويقول: "أميطوا عنكم الأذى فإن الله لا يصنع بأذاكم شيئًا، وروى البيهقي من وجه آخر عن ابن عباس: أنه دخل حماما بالجحفة وهو محرم وقال: إن الله لا يعبأ بأوساخكم شيئًا. وروى ابن أبي شيبة كراهة ذلك، عن الحسن وعطاء، وقد مرَّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي. ثم قال: ولم ير ابن عمر وعائشة بالحك بأسا، وقد وصل البيهقي أثر ابن عمر عن أبي مجلز قال: رأيت ابن عمر يحك رأسه وهو محرم ففطنت له، فإذا هو يحك بأطراف أنامله، وأثر عائشة وصله مالك عن علقمة بن أبي علقمة، عن أمه مرجانة قالت: سمعت عائشة تسأل عن المحرم أيحك جسده قالت: نعم وليشدد، وقالت عائشة: لو ربطت يداي ولم أجد إلا أن أحك برجلي لحككت، ومناسبة أثر ابن عمر وعائشة للترجمة بجامع ما بين الغسل والحك من إزالة الأذى. وابن عمر مرَّ في أول الإيمان قبل ذكر حديث منه، ومرت عائشة في الثاني من بدء الوحي. الحديث الرابع والثلاثون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْعَبَّاسِ، وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ اخْتَلَفَا بِالأَبْوَاءِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: "يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ". وَقَالَ الْمِسْوَرُ: لاَ يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ. فَأَرْسَلَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَبَّاسِ إِلَى أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ، فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ بَيْنَ الْقَرْنَيْنِ، وَهُوَ

يُسْتَرُ بِثَوْبٍ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا فَقُلْتُ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُنَيْنٍ، أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَبَّاسِ، أَسْأَلُكَ كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَغْسِلُ رَأْسَهُ، وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَوَضَعَ أَبُو أَيُّوبَ يَدَهُ عَلَى الثَّوْبِ، فَطَأْطَأَهُ حَتَّى بَدَا لِى رَأْسُهُ، ثُمَّ قَالَ: لإِنْسَانٍ يَصُبُّ عَلَيْهِ اصْبُبْ. فَصَبَّ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ حَرَّكَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، وَقَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُهُ -صلى الله عليه وسلم- يَفْعَلُ. قوله: عن زيد بن أسلم عن وإبراهيم كذا في جميع الموطئات، وأغرب يحيى بن يحيى الأندلسي فأدخل بين زيد وإبراهيم نافعا، قال ابن عبد البر: وذلك معدود من خطئه، وقوله: عن إبراهيم في رواية ابن عيينة عن زيد أخبرني إبراهيم، أخرجه أحمد وإسحاق والحميدي في "مسانيدهم" عنه، وفي رواية ابن جريج عند أحمد عن زيد بن أسلم أن إبراهيم بن عبد الله بن حنين، مولى ابن عباس، أخبره كذا، ويأتي في السند تعريفه. وقوله: "أن ابن عباس" في رواية ابن جريج عند أبي عوانة، كنت مع ابن عباس والمسور. وقوله: "بالأبواء" أي: وهما نازلان بها، وفي رواية ابن عيينة بالعرج، وهو بفتح أوله وإسكان ثانيه قرية جامعة قريبة من الأبواء. وقوله: إلى أبي أيوب زاد ابن جريج، فقال: قل له يقرأ عليك السلام ابن أخيك عبد الله بن عباس ويسألك. وقوله: "بين القرنين" أي: قرني البعير، وكذا هو لبعض رواه: "الموطأ"، وكذا في رواية ابن عيينة وهما العودان، أي العمودان المنتصبان لأجل عود البركة. وقوله: "أرسلني إليك ابن عباس يسألك كيف كان" الخ، قال ابن عبد البر الظاهر أن ابن عباس كان عنده في ذلك نص عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، أخذه عن أبي أيوب أو غيره، ولهذا قال عبد الله بن حنين لأبي أيوب: يسألك كيف كان يغسل رأسه؟ ولم يقل هل كان يغسل رأسه؟ على حسب ما وقع فيه اختلاف بين المسور وابن عباس، ويحتمل أن يكون عبد الله بن حنين تصرف في السؤال لفطنته، كأنه لما قال له سله هل يغتسل المحرم أولًا؟ فجاء فوجده يغتسل فهم من ذنك أنه يغتسل، فأحب أن لا يرجع إلا بفائدة فسأله عن كيفية الغسل، وكأنه خص الرأس بالسؤال لأنها موضع الإشك الذي هذه المسألة؛ لأنها محل الشعر الذي يخشى إنتتافه بخلاف بقية البدن، غالبا. وقوله: (فطأطأه) أي: إزاله عن رأسه. وفي رواية ابن عيينة جمع ثيابه إلى صدره حتى نظرت إليه، وفي رواية ابن جريج حتى رأيت رأسه ووجهه. وقوله "لانسان" قال: في "الفتح" لم أقف على اسمه، ثم قال أبو أيوب: هكذا رأيته -صلى الله عليه وسلم- يفعل، زاد ابن عيينة فرجعت إليهما فأخبرتهما، فقال المسور لابن عباس: لا أماريك

رجاله ثمانية

أبدًا أي: لا أجادلك، وأصل المراء استخراج ما عند الإنسان، يقال: أمرا فلان فلانًا إذا استخرج ما عنده، قاله ابن الأنباري واطلق ذلك في المجادلة، لأن كلا من المتجادلين يستخرج ما عند الآخر من الحجة. وفي الحديث من الفوائد مناظرة الصحابة في الأحكام، ورجوعهم إلى النصوص وقبولهم لخبر الواحد ولو كان تابعيًا، وإن قوله بعضهم ليس بحجة على بعض، قال ابن عبد البر: لو كان معنى الاقتداء في قوله عليه الصلاة والسلام: "أصحابي كالنجوم" يراد به الفتوى لما احتاج ابن عباس إلى إقامة البينة على دعواه، بل كان يقول: للمسور أنا نجم وأنت نجم فبأينا اقتدى من بعدنا كفاه، ولكن معناه كما قال المزني وغيره من أهل النظر. إنه في النقل لا جميعهم عدول، وفيه اعتراف للفاضل بفضله، وإنصاف الصحابة بعضهم بعضًا. وفيه استتار الغاسل عند الغسل، والاستعانة في الطهارة، وجواز السلام حالة الطهارة، وجواز غسل المحرم، وتشريبه شعره بالماء ودلكه بيده إذا أمن تناثره واستدل به القرطبي -على وجوب الدلك في الغسل-، قال: لأن الغسل لو كان يتم بدونه لكان المحرم أحق بأن يجوز له تركه، ولا يخفى ما فيه واستدل به على أن تخليل شعر اللحية في الوضوء باقٍ على استحبابه، خلافًا لمن قال يكره، كالمتولي من الشافعية، خشية انتتاف الشعر لأن في الحديث، ثم حرك رأسه. بيده، ولا فرق بين شعر الرأس واللحية إلاَّ أن يقال إن شعر الرأس أصلب، والتحقيق أنه خلاف الأولى في حق بعض دون بعض، قاله السبكى الكبير. رجاله ثمانية: مرَّ منهم عبد الله بن يوسف ومالك في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ ابن عباس في الخامس منه، ومرَّ زيد بن أسلم في الثاني والعشرين من الإيمان، ومرَّ أبو أيوب في العاشر من الوضوء ومرَّ المسور بن مخرمة في الرابع والخمسين منه، والباقي اثنان الأول إبراهيم بن عبد الله بن حنين الهاشمي مولاهم المدني أبو إسحاق، قال ابن سعد: كان ثقة، كثير الحديث، وقال النسائي: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، روى عنه أبيه، وأبي هريرة، وأبي مرة مولى عقيل وأرسل عن علي بن أبي طالب، وروى عنه الزهري، وشريك بن أبي نمر، وابن إسحاق وغيرهم، توفي سنة بضع ومائة، الثاني أبو الأول عبد الله بن حنين مولى العباس، ويقال: مولى عليّ ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال العجلي: مدني تابعي ثقة، وقال أسامة بن زيد الليثي: دخلت عليه أيام استخلف يزيد بن عبد الملك، وكان موته قريبا من ذلك، روى عن علي وابن عباس وأبي أيوب وابن عمر وغيرهم، مات في ولاية يزيد بن عبد الملك. أخرجه مسلم في الحج، وكذا أبو داود والنسائي وابن ماجه. ثم قال المصنف:

باب لبس الخفين للمحرم إذا لم يجد النعلين؟

باب لبس الخفين للمحرم إذا لم يجد النعلين؟ أي: هل يشترط قطعهما أم لا!؟ الحديث الخامس والثلاثون حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ زَيْدٍ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَخْطُبُ بِعَرَفَاتٍ، "مَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إِزَارًا فَلْيَلْبَسْ سَرَاوِيلَ لِلْمُحْرِمِ". وهذا الحديث، قد مرَّ استيفاء الكلام على ما فيه، عند حديث ابن عمر آخر حديث من كتاب العلم. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ أبو الوليد في العاشر من الإيمان، ومرَّ شعبة في الثالث منه، ومرَّ عمرو بن دينار في الرابع والخمسين من العلم، ومرَّ جابر بن زيد في السادس من الغسل، ومرَّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي. الحديث السادس والثلاثون حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ؟ فَقَالَ: "لاَ يَلْبَسِ الْقَمِيصَ، وَلاَ الْعَمَائِمَ، وَلاَ السَّرَاوِيلاَتِ، وَلاَ الْبُرْنُسَ، وَلاَ ثَوْبًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ وَلاَ وَرْسٌ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ". وفي رواية أبي زيد المروزي عن سالم بن عبد الله بن عمر سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. قال الجياني: الصواب ما رواه ابن السكن وغيره، فقالوا عن سالم، عن ابن عمر: فلعل عن خرجت وهذا الحديث قد مرَّ الكلام عليه عند ذكره في آخر كتاب العلم. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ أحمد بن يونس في التاسع عشر من الإيمان، ومرَّ إبراهيم بن سعد في السادس عشر منه، وسالم بن عبد الله في السابع عشر منه، وأبوه عبد الله في أوله قبل ذكر حديث فهو ابن شهاب في الثالث من بدء الوحي. ثم قال المصنف:

باب إذا لم يجد الإزار فليلبس السراويل

باب إذا لم يجد الإزار فليلبس السراويل جزم المصنف بالحكم في هذه المسألة دون التي قبلها لقوة دليلها، وتصريح المخالف بأن الحديث لم يبلغه فيتعين على من بلغه العمل به. الحديث السابع والثلاثون حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: خَطَبَنَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِعَرَفَاتٍ فَقَالَ: "مَنْ لَمْ يَجِدِ الإِزَارَ فَلْيَلْبَسِ السَّرَاوِيلَ، وَمَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ". هذا الحديث هو الذي في الباب الذي قبله وقد مرَّ محل استيفاء الكلام عليه. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ آدم وشعبة في الثالث من الإيمان، ومرَّ محل عمرو بن دينار، وجابر وابن عباس في الذي قبله بحديث. ثم قال المصنف:

باب لبس السلاح للمحرم

باب لبس السلاح للمحرم أي: إذا احتاج إلى ذلك، ثم قال: وقال عكرمة: إذا خشي العدو لبس السلاح وافتدى ولم يتابع عليه في الفدية أي: وجبت عليه الفدية. وقوله: "ولم يتابع" عليه في الفدية يقتضي أنه توبع على جواز لبس السلاح عند الخشية، وخولف في وجوب الفدية، وقد نقل ابن المنذر عن الحسن أنه كره أن يتقلد المحرم السيف، وقد مرَّ في باب من كره حمل السلاح في العيد من العيدين قول ابن عمر: للحجاج أنت أمرت بحمل السلاح في الحرم. وقوله: وأدخلت السلاح في الحرم ولم يكن السلاح يدخل فيه، ومرَّ هناك ذكر من روى ذلك مرفوعًا. قال: في الفتح لم أقف على أثر عكرمة هذا موصولًا، وقد مرَّ عكرمة في السابع عشر من العلم. الحديث الثامن والثلاثون حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ رضي الله عنه اعْتَمَرَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فِي ذِي الْقَعْدَةِ، فَأَبَى أَهْلُ مَكَّةَ أَنْ يَدَعُوهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ، حَتَّى قَاضَاهُمْ لاَ يُدْخِلُ مَكَّةَ سِلاَحًا إِلاَّ فِي الْقِرَابِ. أخرج هنا هذا الحديث، مختصرًا وسيأتي بتمامه في كتاب الصلح عن عبيد الله بن موسى بإسناده هذا، ووهم المزي في الأطراف فزعم أن البخاري أخرجه في الحج بطوله، وليس كذلك وسيأتي بأتم مما في الصلح في عمرة القضية، ويأتي تفسيره هناك، والقراب بكسر القاف يشبه الجراب يطرح فيه الراكب سيفه بغمده وسوطه، قد يطرح فيه زاده من تمر أو غيره. رجاله أربعة: قد مرّوا: مرَّ عبيد الله بن موسى في الأول من الإيمان، ومرَّ أبو إسحاق السبيعي والبراء بن عازب في الثالث والثلاثين منه، ومرَّ إسرائيل في السابع والستين من العلم.

لطائف إسناده

لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع: ورجاله كوفيون، وفيه رواية الرجل عن جده وهو من رباعيات البخاري، أخرجه البخاري في الصلح والترمذي فيه. ثم قال المصنف:

باب دخول الحرم ومكة بغير إحرام

باب دخول الحرم ومكة بغير إحرام قوله: "ومكة" هو من عطف الخامس على العام، لأن المراد بمكة هنا البلد فيكون الحرم أعم، ثم قال: ودخل ابن عمر حلالًا، أي: دخل مكة حال كونه حلالًا بغير إحرام، وهذا التعليق وصله مالك في الموطأ عن نافع، قال: أقبل عبد الله بن عمر من مكة حتى إذا كان بقديد بضم القاف بلغه خبر عن الفتنة فرجع فدخل مكة بغير إحرام، وروى ابن أبي شيبة، عن نافع، عن عبد الله، وبلغه بقديد أن جيشًا من جيوش الفتنة دخلوا المدينة فكره أن يدخل عليهم، فدخلها بغير إحرام، وقد مرَّ ابن عمر في أول الإيمان قبل ذكر حديث منه. ثم قال: وإنما أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالإهلال لمن أراد الحج العمرة، ولم يذكره للحطابين وغيرهم. قوله: "ولم يذكره للحطابين وغيرهم" هذا من كلام المصنف، وحاصله أنه خص الإحرام بمن أراد الحج والعمرة، واستدل بمفهوم قوله: في حديث ابن عباس ممن أراد الحج والعمرة فمفهومه أن المتردد إلى مكة لغير قصد الحج والعمرة لا يلزمه الإحرام، وقد اختلف العلماء في ذلك، فقال مالك والشافعي: "بجواز دخولها بغير إحرام لمن لم يرد الحج والعمرة" على قول، والمشهور من مذهب الشافعي عدم الوجوب مطلقًا، وفي قول: يجب مطلقًا، وفيمن يتكرر دخوله خلاف مرتب وأولى بعدم الوجوب، والمشهور عن الأئمة الثلاثة الوجوب، وفي رواية عن كل منهم لا يجب، وجزم الحنابلة باستثناء ذوي الحاجات المتكررة، واستثنى الحنفية من كان داخل الميقات، وقال أبو عمر لا أعلم خلافًا بين فقهاء الأمصار في الحطابين ومن يدمن الاختلاف إلى مكة، ويكثره في اليوم والليلة أنهم لا يؤمرون بذلك لما عليهم فيه من المشقة، وقال ابن وهب: عن مالك لا آخذ بقول ابن شهاب في دخول الإنسان مكة بغير إحرام، وقال: إنما يكون ذلك على مثل ما عمل به عبد الله بن عمر من القرب إلا رجلًا يأتي بالفاكهة من الطائف. أو ينقل الحطب يبيعه فلا بأس.

الحديث التاسع والثلاثون

الحديث التاسع والثلاثون حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- "وَقَّتَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ، وَلأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ، هُنَّ لَهُنَّ وَلِكُلِّ آتٍ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، فَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ، حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ". مطابقته للترجمة في قوله: من أراد الحج والعمرة، حيث خصص لمريدهما المواقيت، ولم يعين لغير مريدهما ميقاتًا، والحديث مرَّ بعينه في أوائل كتاب الحج في باب مهل مكة ومرَّ الكلام فيه هناك مستوفى. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ مسلم بن إبراهيم في السابع والثلاثين من الإيمان، ومرَّ وهيب في تعليق بعد الخامس عشر منه، وعبد الله بن طاوس في الرابع والثلاثين من الحيض، ومرَّ أبوه طاوس في باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين بعد الأربعين من الوضوء ومرَّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي. الحديث الأربعون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ عَامَ الْفَتْحِ، وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ، فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَ رَجُلٌ، فَقَالَ: "إِنَّ ابْنَ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ". فَقَالَ: "اقْتُلُوهُ". وهذا الحديث قد عُد من أفراد مالك، تفرد بقوله، وعلى رأسه المغفر كما تفرد بحديث "السفر قطعة من العذاب" قاله: ابن الصلاح وغيره وتعقبه الزين العراقي بأنه ورد من طريق ابن أخي الزهري، ومعمر وأبي أويس، والأوزاعي فالأولى عند البزار، والثانية عند ابن عدي وفوائد ابن المقري، والثالثة عند ابن سعد وأبي عوانة، والرابعة ذكرها المزني وهي في فوائد تمام، وزاد في الفتح طريق ابن عقيل في معجم ابن جميع ويونس بن يزيد في الإرشاد للخليلي وابن أبي حفصة في الرواة عن مالك للخطيب، وابن عيينة في مسند أبي يعلى وأسامة بن زيد في تاريخ نيسابور، وابن أبي ذئب في "الحلية"، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي الموالي في أفراد الدارقطني وعبد الرحمن ومحمد ابني عبد العزيز الأنصاريين في فوائد عبد الله بن إسحاق الخراساني، وابن إسحاق في مسند مالك لابن عدي وصالح بن أبي الأخضر ذكره الهروي عقب حديث ابن قزعة عن مالك المخرج عند البخاري في المغازي، وبحر السقاء ذكره جعفر الأندلسي في تخريجه للجيزي بالجيم والزاي، ولكن ليس في طرقه

شيء على شرط الصحيح إلا طريق مالك وأقربها ابن أخي الزهري، فقد أخرجها النسائي في مسند مالك، وأبو عوانة في صحيحه ويليها رواية أبي أويس أخرجها أبو عوانة أيضًا، فيحمل قول من قال: انفرد به مالك أي: بشرط الصحة وقول من قال: توبع أي: في الحملة. وقوله: عن أنس في رواية أبي أويس عند ابن سعد أن أنس بن مالك حدثه. وقوله: "وعلى رأسه المغفر" بكسر الميم وسكون الغين المعجمة وفتح الفاء، زرد ينسج من الدروع على قدر الرأس، أو رفرف البيضة أو ما غطى الرأس من السلاح كالبيضة، ولا تعارض بينه وبين رواية مسلم من حديث جابر، وعليه عمامة سوداء فإنه يحتمل أن يكون المغفر فوق العمامة السوداء. وقاية لرأسه المكرم من صدأ الحديد، أو هي فوق المغفر؛ فأراد أنس بذكر المغفر كونه دخل متأهبًا للحرب؛ وأراد جابر بذكر العمامة كونه غير محرم. أو كان أول دخوله على رأسه المغفر ثم أزاله، ولبس العمامة بعد ذلك، فحكى كل منهما ما رآه، وستر الرأس يدل على أنه دخل غير محرم، لكن قال ابن دقيق العيد يحتمل أن يكون محرمًا وغطى رأسه لعذر، وتعقب بتصريح جابر وغيره بأنه لم يكن محرمًا، واستشكل في المجموع ذلك بأن مذهب الشافعي أن مكة فتحت صلحًا، خلافًا لأبي حنيفة في قوله: إنها فتحت عنوة وحينئذ فلا خوف ثم أجاب بأنه عليه الصلاة والسلام صالح أبا سفيان وكان لا يأمن غدر أهل مكة فدخلها صلحًا متأهبًا للقتال إن غدروا. وقوله: "فلما نزعه" أي: فلما نزع عليه الصلاة والسلام المغفر. وقوله: "جاء رجل" ولأبي ذر عن الكشميهني جاءه رجل، وقد اختلف في هذا الرجل المبهم ويأتي ما فيه من الخلاف في السند. وقوله: فقال: إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال: "اقتلوه"، وقد اختلف في قاتله على أقوال ذكرت في السند وعرف فيه من لم يتقدم تعريفه ممن قيل؛ إنه قتله وتعريف ابن خطل وما قيل من السبب في الأمر بقتله ومن النفر الذين أهدر النبي -صلى الله عليه وسلم- دمهم يوم الفتح، هبار بن الأسود وعكرمة بن أبي جهل وكعب بن زهير، ووحشي بن حرب وأسيد بن إياس بن أبي زنيم، وقينتا ابن خطل وهند بنت عتبة، وظاهر هذا الحديث أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن محرمًا يوم دخل مكة، وقد صرح بذلك مالك راوي الحديث، كما ذكره المصنف في المغازي عنه فقال: قال مالك: ولم يكن النبي فيما نرى والله أعلم يومئذ محرمًا، وروى عبد الرحمن بن مهدي عن مالك قوله: هذا جازمًا به أخرجه الدارقطني في الغرائب وفي الموطأ قال مالك: قال: ابن شهاب لم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- محرمًا، وهذا مرسل، ويشهد له ما رواه مسلم عن جابر بلفظ: "دخل يوم فتح مكة وعليه عمامة سواء بغير إحرام"، وروى ابن أبي

شيبة عن طاووس قال: لم يدخل النبي -صلى الله عليه وسلم- مكة إلا محرمًا إلا يوم الفتح، وقد مرَّ التوفيق بين حديث أنس في المغفر، وحديث جابر في العمامة السوداء، وبتصريح جابر بأنه لم يكن محرمًا، يندفع إشكال من قال لا دلالة في الحديث على جواز دخول مكة بغير إحرام، ولكن فيه إشكال من وجه آخر لأنه عليه الصلاة والسلام كان متأهبًا للقتال، ومن كان كذلك جاز له الدخول بغير إحرام عند الشافعية، وإن كان عياض نقل الاتفاق على مقابله وأما من قال من الشافعية كابن القاص دخول مكة بغير إحرام من خصائص النبي -صلى الله عليه وسلم- ففيه نظر لأن الخصوصية لا تثبت إلا بدليل لكن زعم الطحاوي أن دليل ذلك، قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي شريح وغيره "إنها لم تحل له إلا ساعة من نهار" وأن المراد بذلك جواز دخولها بغير إحرام لا تحريم القتال والقتل لأنهم أجمعوا على أن المشركين لو غلبوا والعياذ بالله تعالى على مكة حل للمسلمين قتالهم وقتلهم، وقد عكس النووي استدلاله فقال: في الحديث دلالة على أن مكة تبقى دار إسلام إلى يوم القيامة فبطل ما صوره الطحاوي، وفي دعواه الإجماع نظر فإن الخلاف ثابت حكاه القفال والماوردي وغيرهما واستدل بالحديث على أنه عليه الصلاة والسلام فتح مكة عنوة وأجاب النووي بما مرَّ من أنه عليه الصلاة والسلام كان صالحهم، لكن كما لم يأمن عذرهم دخل متأهبًا وهو جواب قوي إلا أن الشأن في ثبوت كونه صالحهم لا يعرف في شيء من الأخبار صريحًا، وقد مرَّ في باب توريث دور مكة وبيعها استيفاء الكلام على كونها فتحت صلحًا أو عنوة واستدل بقصة ابن خطل على جواز إقامة الحدود والقصاص في حرم مكة قال ابن عبد البر: كان قتل ابن خطل قودًا من قتله المسلم وقال السهيلي: فيه أن الكعبة لا تعيذ عاصيًا ولا تمنع من إقامة حد واجب وقال النووي: تأول من قال: لا يقتل فيها. على أنه عليه الصلاة والسلام قتله في الساعة التي أبيحت له، وأجاب عنه أصحاب الشافعية بأنها إنما أبيحت له ساعة الدخول حتى استولى عليها وأذعن أهلها وإنما قتل ابن خطل بعد ذلك، وتعقب بما مرَّ في الكلام على حديث أبي شريح أن المراد بالساعة التي أحلت له ما بين أول النهار، ودخول وقت العصر وقتل ابن خطل كان قبل ذلك قطعًا لأنه قيد في الحديث بأنه كان عند نزعه المغفر، وذلك عند استقراره بمكة وقد قال ابن خزيمة: المراد بقوله: في حديث ابن عباس ما أحل الله لأحد فيه القتل غيري أي: قتل النفر الذين قتلوا يومئذ ابن خطل، ومن ذكر معه قال: وكان الله قد أباح له القتال والقتل معًا في تلك الساعة، وقتل ابن خطل وغيره بعد نقض القتال، واستدل به على جواز قتل الذمي إذا سب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفيه نظر كما قال ابن عبد البر لأن ابن خطل كان حربيًا ولم يدخله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أمانه لأهل مكة بل استثناه مع من استثنى، وخرج أمره بقتله مع أمانه لغيره مخرجًا واحدًا، فلا دلالة فيه لما ذكر ويمكن أن يتمسك به في جواز قتل من فعل ذلك بغير استتابة من غير تقييد بكونه ذميًا لكن ابن خطل عمل بموجبات القتل فلم يتحتم

رجاله أربعة

أن سبب قتله السب، واستدل به عياض وغيره من المالكية على قتل من آذى النبي -صلى الله عليه وسلم- أو تنقصه، ولا تقبل له توبة لأن ابن خطل كان يقول الشعر يهجو به النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويأمر جاريتيه بأن تغنيا به، وقالت الشافعية: لا دلالة في ذلك أصلًا لأنه إنما قتل ولم يستتب للكفر والزيادة فيه بالأذى مع ما اجتمع فيه من موجبات القتل، ولأنه أتخذ الأذى ديدنًا فلم يتحتم أن سبب قتله الذم فلا يقاس عليه من فرط منه فرطة وقلنا بكفره بها وتاب ورجع إلى الإِسلام فالفرق واضح واستدل به على جواز قتل الأسير صبرًا لأن القدرة على ابن خطل صيرته كالأسير في يد الإِمام، وهو مخير فيه بين القتل وغيره، لكن قال الخطابي: إنه عليه الصلاة والسلام قتله بما جناه في الإِسلام، وقال ابن عبد البر: قتله قودًا من دم المسلم الذي غدر به وقتله ثم ارتد كما مرَّ، وكما يأتي في تعريفه في السند واستدل به على جواز قتل الأسير من غير أن يعرض عليه الإِسلام، ترجم بذلك أبو داود، وفيه مشروعية لبس المغفر وغيره من آلات السلاح حال الخوف من العدو، وأنه لا ينافي التوكل وقد تقدم في باب متى يحل للمعتمر من أبواب العمرة، في حديث عبد الله بن أبي أوفى أعتمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما دخل مكة طاف وطفنا معه، ومعه من يستره من أهل مكة أن يرميه أحد، الحديث وإنما احتاج إلى ذلك لأنه كان حينئذ محرمًا فخشي الصحابة أن يرميه بعض سفهاء المشركين بشيء يؤذيه فكانوا حوله يسترون رأسه ويحفظونه من ذلك، وفيه جواز رفع أخبار أهل الفساد إلى ولاة الأمر، ولا يكون ذلك من الغيبة المحرمة ولا النميمة. رجاله أربعة: قد مرّوا: مرَّ عبد الله بن يوسف ومالك في الثاني من بدء الوحي، وابن شهاب في الثالث منه ومرَّ أنس في السادس من الإيمان. أخرجه البخاري أيضًا في اللباس والجهاد والمغازي؛ ومسلم في المناسك وأبو داود في الجهاد؛ والترمذي فيه، وفي الشمائل والنسائي في الحج والسير وابن ماجه في الجهاد وفي الحديث لفظ جاءه رجل فقال: "إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة" الرجل الجهم قال في الفتح إنه لم يقف على اسمه إلا أنه يحتمل أن يكن هو الذي قتله، والصحيح أن الذي قتله هو أبو برزة الأسلمي لما رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح، أنه هو الذي قتله، وقد مرَّ أبو برزة في الثامن عشر من مواقيت الصلاة، وقيل إن الذي قتله هو الزبير بن العوام، وجزم بذلك الدارقطني والحاكم، وقد مرَّ الزبير في الثامن والأربعين من العلم، وفي حديث البزار أن الذي قتله سعيد بن حريث بن عمرو بن عثمان بن عبد الله بن مخزوم المخزومي، ممن أسلم قبل الفتح، قال الواقدي: وشهدها وكان أسن من أخيه عمرو بن حريث، روى عنه ابن ماجه أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من باع دارًا أو عقارًا ولم يجعل ثمنها في مثلها لم يبارك له فيه"، له ثلاثة أحاديث روى ابن ماجه له حديثًا واحدًا، روى عنه عبد الملك بن عمير.

وقيل: إن الذي قتله سعيد بن ذؤيب وذكر ذلك في حديث أخرجه أبو داود، والنسائي وابن أبي شيبة، والدارقطني، والحاكم عن سعد بن أبي وقاص قال: لما كان يوم الفتح أمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الناس إلا أربعة أنفس عكرمة بن أبي جهل، وعبد الله بن خطل، ومقيس بن صبابة، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، فأما ابن خطل فقتل، وهو متعلق بأستار الكعبة استبق إليه سعيد بن ذؤيب وعمار بن ياسر، فكان سعيد بن ذؤيب أشب الرجلين فقتله. الحديث، وابن خطل المأمور بقتله في الحديث الصحيح، أن اسمه عبد الله بن خطل؛ واسم خطل عبد مناف من بني تيم بن فهر بن غالب وإنما أمر بقتله لأنه كان مسلمًا، فبعثه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مصدقًا، وبعث معه رجلًا من الأنصار، وكان معه مولى يخدمه، وكان مسلمًا فنزل منزلًا فأمر المولى أن يذبح تيسًا، ويصنع له طعامًا، فنام، واستيقظ ولم يصنع له شيئًا، فعدى عليه فقتله، ثم ارتد مشركًا وكانت له قينتان، تغنيان بهجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وروى الفاكهاني وكذا قال أبو عمرو: لأنه كان أسلم وبعثه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مصدقًا، وبعث معه رجلًا من الأنصار، وأمر عليهم الأنصاري فلما كان ببعض الطريق وثب على الأنصاري فقتله، وذهب بماله، وقال: صاحب التلويح روينا في مجالس الجوهري أنه كان يكتب الوحي للنبي -صلى الله عليه وسلم- إذا "نزل غفور رحيم" يكتب "رحيم غفور" وإذا نزل "سميع عليم" لم يكتب "عليم سميع" ذكره بإسناد إلى الضحاك عن النزال بن صبرة عن علي رضي الله تعالى عنه، وفي التوضيح وكان يقال لابن خطل ذا القلبين، وفيه نزل قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} وفي رواية يونس عن ابن إسحاق لما قتل ابن خطل قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: لا يقتل قرشي صبرًا بعد هذا اليوم، وقيل: قال: هذا في غيره وهو الأكثر. ثم قال المصنف:

باب إذا أحرم جاهلا وعليه قميص

باب إذا أحرم جاهلاً وعليه قميص أي هل تلزمه فدية أم لا وإنما لم يجزم بالحكم؛ لأن حديث الباب لا تصريح فيه بإسقاط الفدية، ومن ثم استظهر المصنف للراجح عنده بقول عطاء راوي الحديث، كأنه يشير إلى أنه لو كانت الفدية واجبة لما خفيت على عطاء، وهو راوي الحديث. ثم قال: وقال عطاء: إذا تطيب أو لبس جاهلًا أو ناسيًا فلا كفارة عليه، ذكره ابن المنذر في الأوسط وصله الطبراني. في الكبير، ومرَّ عطاء في التاسع والثلاثين من العلم. الحديث الحادي والأربعون حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا عَطَاءٌ، قَالَ حَدَّثَنِي صَفْوَانُ بْنُ يَعْلَى بن أمية عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَتَاهُ رَجُلٌ عَلَيْهِ جُبَّةٌ فِيهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ أَوْ نَحْوُهُ، وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ لِي: تُحِبُّ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْي أَنْ تَرَاهُ، فَنَزَلَ عَلَيْهِ، ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَقَالَ اصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ مَا تَصْنَعُ فِي حَجِّكَ. وعض رجل يد رجل يعني فانتزع ثنيته، فأبطله النبي -صلى الله عليه وسلم-. قوله: "عن أبيه هو الصواب"، وأما ما في رواية أبي ذر عن صفوان بن يعلي بن أمية قال كنت الخ .. فتصحيف لأن صفوان ليست له صحبة، ولا رواية. وقوله: ما تصنع في حجك أي: من الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة، والحلق، والاحتراز عن محظورات الإحرام في الحج كلبس المخيط وغيره، قال ابن بطال: وغيره وجه الدلالة منه أنه لو لزمته الفدية لبينها عليه الصلاة والسلام؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، فرق مالك فيمن تطيب أو لبس ناسيًا، بين من بادر فنزع وغسل، وبين من تمادى؛ وعند الشافعي لا فدية عليه مطلقًا لأن السائل في حديث الباب كان غير عارف بالحكم، وقد تمادى ومع ذلك لم يؤمر بالفدية، قال: في الفتح وقول مالك فيه احتياط، وأجاب ابن المنير من المالكية بأن الوقت الذي أحرم فيه الرجل في الجبة كان قبل نزول الحكم، ولهذا انتظر النبي -صلى الله عليه وسلم- الوحي، قال: ولا خلاف أن التكليف لا يتوجه على المكلف قبل نزول الحكم، فلهذا لم يؤمر الرجل بفدية عما مضى، بخلاف من لبس الآن جاهلًا فإنه جهل حكمًا استقر وقصر في علم ما كان عليه أن يتعلمه لكونه مكلفًا به، وقد

تمكن من تعلمه، وعند أبي حنيفة وأصحابه تجب الفدية بالتطيب ناسيًا، وباللبس ناسيًا، قياسًا على الأكل في الصلاة وقد تقدم استيفاء الكلام على هذا الحديث غاية الاستيفاء في باب غسل الخلوق من أوائل الحج، إلا قوله: في آخره وعض رجل يد رجل إلخ، فإنه حديث مستقل جاء في أبواب الدية في باب إذا عض رجلًا فوقعت ثناياه، ووجه تعلقه بالباب كونه من تتمة الحديث فهو مذكور بالتبعية. قوله: "وعض رجل يد رجل" والعاض قيل: إنه يعلى ابن أمية، ولمسلم من رواية صفوان بن يعلى أن أجيرًا ليعلي بن أمية عض رجل ذراعه فجذبها، والظاهر أن المعضوض أجير يعلى، وأن العاض يعلى، ولا ينافيه. قوله: في الصحيحين كان لي أجير فقاتل إنسانًا لأنه يجوز أن يكنى عن نفسه ولا يبين للسامعين أنه العاض استحياء على نفسه، كما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: قبل النبي -صلى الله عليه وسلم- إمرأة من نسائه فقال لها عروة: ومن هي؟ ألا أنت فضحكت. وقوله: "فانتزع ثنيته" واحدة الثنايا من السن. وقوله: فأبطله النبي -صلى الله عليه وسلم-أي: جعله هدرًا لا دية فيه لأنه جذبها دفعًا للصائل، زاد في الدية يعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل لا دية له، وعند مسلم من رواية ابن سيرين، فقال: ما تأمرني أتأمرني أن آمره أن يدع يده في فيك تقضمها قضم الفحل، ادفع يدك حتى يقضمها ثم انزعها، وعند أبي نعيم في المستخرج من الوجه الذي أخرجه مسلم إن شئت أمرناه فعض يدك ثم انتزعها أنت، وقد أخذ بظاهر هذه القصة الجمهور فقالوا لا يلزم المعضوض قصاص ولا دية لأنه في حكم الصائل، واحتجوا أيضًا بالإجماع بأن من شهر على آخر سلاحًا ليقتله، فدفع عن نفسه فقتل الشاهر أنه لا شيء عليه، فكذا لا يضمن سنه بدفعه إياه عنها، قالوا ولو جرحه المعضوض في موضع آخر لم يلزمه شيء، وشرط الإهدار أن يتألم المعضوض وأن لا يمكنه تخليص يده بغير ذلك من ضرب في شدقيه، أو فك لحييه ليرسلها ومهما أمكن التخليص بدون ذلك فعدل عنه إلى الأثقل لم يهدر، وعند الشافعية وجه أنه يهدر على الإطلاق، ووجه أنه لو دفعه بغير ذلك ضمن، وعن مالك روايتان أشهرهما يجب الضمان، وأجابوا عن هذا الحديث باحتمال أن يكون سبب الإندار شدة العض لا النزع، فيكون سقوط ثنية العاض بفعله لا بفعل المعضوض، إذ لو كان من فعل صاحب اليد لأمكنه أن يخلص يده من غير قلع، ولا يجوز الدفع بالأثقل مع إمكان الأخف، وقال بعض المالكية: العاض قصد العضو نفسه، والذي استحق في إتلاف ذلك العضو غير ما فعل به فوجب أن يكون كل منهما ضامنًا ما جناه على الآخر، كمن قلع عين رجل فقطع الآخر يده وتعقب بأنه قياس في مقابل النص، فهو فاسد وقال بعضهم: لعل أسنانه كانت تتحرك فسقطت عقب

النزع، وسياق هذا الحديث يدفع هذا الاحتمال، وتمسك بعضهم بأنها واقعة عين، ولا عموم لها وتعقب بأن البخاري أخبرني في الإجارة عقب حديث يعلى هذا عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، أنه وقع عنده مثل ما وقع عند النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقضى فيه بمثله، وما تقدم من التقييد ليس في الحديث وإنما أخذ من القواعد الكلية وكذا إلحاق عضو آخر غير الفم فإن النص إنما ورد في صورة مخصوصة، نبه على ذلك ابن دقيق العيد، وقد قال يحيى بن عمر: لو بلغ مالكًا هذا الحديث لما خالفه، وكذا قال ابن بطال: لم يقع هذا الحديث لمالك وإلا لما خالفه. وقال الداودي: لم يروه مالك لأنه من رواية أهل العراق، وقال أبو عبد الملك: كأنه لم يصح عنده الحديث لأنه أتى من قبل المشرق قال: في الفتح وهذا مسلم في حديث عمران، وأما طريق يعلى فرواها أهل الحجاز وحملها عنهم أهل العراق واعتذر بعض المالكية بفساد الزمان، ونقل القرطبي عن بعض أصحابهم إسقاط الضمان، قال: وضمنه الشافعي وهو مشهور مذهب مالك وتعقب بأن المعروف عن الشافعي أنه لا ضمان، وكأنه انعكس على القرطبي ولم يتكلم النووي على ما في رواية محمد بن سيرين الماضية عن عمران فإن مقتضاها إجراء القصاص في القصة، وقد يقال: إن العض هنا إنما أذن فيه في هذه الرواية للتوصل إلى القصاص في قلع السنن، لكن الجواب السديد في هذا أنه استفهمه استفهام إنكار لا تقرير شرع هذا هو الذي يظهر، وفي هذه القصة من الفوائد التحذير من الغضب، وأن من وقع له ينبغي أن يكظمه ما استطاع لأنه أدى إلى سقوط ثنية الغضبان لأن يعلى غضب من أجيره فضربه فدفع الأجير عن نفسه فعضه يعلى فنزع الأجير يده، فسقطت ثنية العاض ولولا الاسترسال مع الغضب لسلم من ذلك، وفيه استئجار الحر للخدمة، وكفاية مؤنة العمل في الغزو، لا ليقاتل عنه وفيه رفع الجناية إلى الحاكم من أجل الفصل، وأن المرء لا يقتص لنفسه، وأن المتعدي بالجناية يسقط ما ثبت له قبلها من جناية إذا ترتبت الثانية على الأولى، وفيه جواز تشبيه فعل الآدمي بفعل البهيمة إذا وقع في مقام التنفير عن مثل ذلك الفعل، وقد حكى الكرماني: أنه رأى من ضعف. قوله: "كما يقضم الفجل" بالجيم بدل الحاء المهملة، وحمله على البقل المعروف، وهو تصحيف قبيح، وفيه دفع الصائل، وأنه إذا لم يمكن الخلاص منه إلا بجناية على نفسه أو على بعض أعضائه ففعل به ذلك كان هدرًا، وللعلماء في ذلك اختلاف وتفصيل معروف، وفيه أن من وقع له أمر يأنفه أو يحتشم من نسبته إليه إذا حكاه كنى عن نفسه، بأن يقول فعل رجل أو إنسان أو نحو ذلك كذا وكذا، كما وقع ليعلى في هذه القصة، وكما مرَّ عن عائشة.

رجاله خمسة

رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ أبو الوليد في العاشر من الإيمان، ومرَّ همام في الرابع والثمانين من الوضوء، ومرَّ محل عطاء في الذي قبله، ومرَّ صفوان ويعلي بن أمية في الرابع والعشرين من الحج، ومرَّ فيه اسم الرجل السائل. وفي الحديث فعض رجل يد رجل، وقد قيل أن الرجل العاض يعلى هذا والمعضوض أجير ليعلى لم يسم. أخرجه البخاري أيضًا في الحج؛ وفي فضائل القرآن وفي المغازي؛ ومسلم وأبو داود والترمذي في الحج؛ والنسائي فيه وفي فضائل القرآن. ثم قال المصنف:

باب المحرم يموت بعرفة

باب المحرم يموت بعرفة ولم يأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يؤدي عنه بقية الحج. يعني لم ينقل ذلك. الحديث الثاني والأربعون حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: "بَيْنَا رَجُلٌ وَاقِفٌ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- بِعَرَفَةَ إِذْ وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ، فَوَقَصَتْهُ أَوْ قَالَ: فَأَقْعَصَتْهُ فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ" أَوْ قَالَ: "ثَوْبَيْهِ وَلاَ تُحَنِّطُوهُ، وَلاَ تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُلَبِّي". هذا الحديث مرَّ الكلام عليه مستوفى، في باب الكفن في الثوبين. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ سليمان بن حرب في الرابع عشر من الإيمان، ومرَّ حماد بن زيد في الرابع والعشرين منه، ومرَّ عمرو بن دينار في الرابع والخمسين من العلم، ومرَّ سعيد بن جبير وابن عباس في الخامس من بدء الوحي. الحديث الثالث والأربعون حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: بَيْنَا رَجُلٌ وَاقِفٌ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- بِعَرَفَةَ، إِذْ وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَوَقَصَتْهُ أَوْ قَالَ: فَأَوْقَصَتْهُ فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ، وَلاَ تَمَسُّوهُ طِيبًا، وَلاَ تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، وَلاَ تُحَنِّطُوهُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا". هذا الحديث رواية من الذي قبله أورده المصنف عن حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، وعن أيوب فرقهما، كلاهما عن سعيد بن جبير، ووقع في رواية عمرو فوقصته، أو قال، فأوقعصته، وفي رواية أيوب فوقصته، أو قال: فأوقصته وكلها بمعنى، وزاد في رواية أيوب ولا تمسوه طيبًا والباقي سواء، وعند مسلم من رواية إسماعيل بن علية في هذا الحديث عن أيوب قال: أنبئت عن سعيد بن جبير، والكلام عليه مرَّ في المحل المذكور في الذي قبله.

رجاله خمسة

رجاله خمسة: قد مرّوا: وهم رجال الذي قبله إلا أيوب، وقد مرَّ في التاسع من الإيمان. ثم قال المصنف:

باب سنة المحرم إذا مات

باب سنة المحرم إذا مات الحديث الرابع والأربعون حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَجُلاً كَانَ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَوَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ، وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَمَاتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ، وَلاَ تَمَسُّوهُ بِطِيبٍ، وَلاَ تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا". وهذا الحديث أيضًا رواية من الذي قبله، والكلام على ما قبله كلام عليه. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ يعقوب بن إبراهيم في الثامن من الإيمان، ومرَّ هشيم في الثاني من التيمم، وأبو بشر في الثاني من العلم، ومرَّ محل سعيد وابن عباس في الذي قبله. ثم قال المصنف:

باب الحج والنذور عن الميت والرجل يحج عن المرأة

باب الحج والنذور عن الميت والرجل يحج عن المرأة كذا ثبت للأكثر بلفظ الجمع، وفي رواية النسائي بالإفراد. وقوله: "والرجل يحج عن المرأة" يعني أن حديث الباب يستدل به على الحكمين، وفيه على الحكم الثاني نظر لأن لفظ الحديث أن امرأة سألت عن نذر كان على أبيها، فكان حق الترجمة أن يقول والمرأة تحج عن الرجل، وأجاب ابن بطال بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- خاطب المرأة بخطاب دخل فيه الرجال والنساء، وهو قوله: "اقضوا الله" ولا خلاف في جواز حج الرجل عن المرأة والمرأة عن الرجل، إلا الحسن بن صالح، والذي يظهر أن البخاري أشار بالترجمة إلى رواية شعبة عن أبي بشر في هذا الحدث، فإنه قال فيها: أتى رجل النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إن أختي نذرت أن تحج، الحديث، وفيه فاقض الله، فهو أحق بالقضاء. أخرجه المصنف في كتاب النذور وكذا أخرجه أحمد والنسائي. الحديث الخامس والأربعون حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَةً؟ اقْضُوا اللَّهَ، فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ. قوله: "أن مرأة من جهينة" قال: في الفتح لم أقف على اسمها ولا على اسم أمها، لكن روى ابن وهب عن عثمان بن عطاء الخرساني عن أبيه أن غايثة أو غاثيه أتت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: إن أمي ماتت وعليها نذر أن تمشي إلى الكعبة فقال: "اقضي عنها" أخرجه ابن منده في حرف الغين المعجمة، من الصحابيات، وتردد هل هي بتقديم المثناة التحتية على المثلثة أو بالعكس؟ وجزم ابن طاهر في المبهمات أنه اسم الجهنية المذكورة في حديث الباب، وقد روى النسائي وابن خزيمة وأحمد، عن موسى بن سلمة الهذلي، عن ابن عباس قال: أمرت امرأة سنان بن عبد الله الجهني أن يسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أمها توفيت ولم تحج الحديث، لفظ أحمد ووقع عند النسائي سنان بن سلمة، والأول أصح وهذا لا يفسر به المبهم في حديث الباب؛ لأن المرأة سألت بنفسها وفي هذا أن زوجها سأل لها ويمكن الجمع بأن يكون نسبة

السؤال إليها مجازية وإنما الذي تولى لها السؤال زوجها، وغايته أنه في هذه الرواية لم يصرح بأن الحجة المسؤول عنها كانت نذرًا وأما ما روى ابن ماجه عن ابن عباس عن سنان بن عبد الله الجهني أن عمته حدثته أنها أتت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: إن أمي توفيت وعليها مشي إلى الكعبة نذر الحديث، فإن كان محفوظًا حمل على واقعتين، بأن تكون امرأته سألت على لسانه عن حجة أمها المفروضة وبأن تكون عمته سألت بنفسها عن حجة أمها المنذورة، ويفسر من في حديث الباب بأنها عمة سنان واسمها غاثية كما مرَّ ولم تسم المرأة، ولا العمة ولا أم واحدة منهما. وقوله: "إن أمي نذرت أن تحج" كذا رواه أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وسيأتي في النذور بلفظ أتى رجل النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال له: إن أختي نذرت أن تحج وإنها ماتت، فإن كان محفوظًا احتمل أن يكون كل من الأخ سأل عن أخته والبنت سألت عن أمها وسيأتي في الصيام عن سعيد بلفظ قالت امرأة: إن أمي ماتت وعليها صوم شهر، وسيأتي إن شاء الله تعالى بسط القول فيه هناك وزعم بعض المخالفين أنه اضطراب يعل به الحديث، وليس كما قال: فإنه محمول على أن المرأة سألت عن كل من الصوم والحج، ويدل عليه ما رواه مسلم عن بريدة أن امرأة قالت: يا رسول الله إني تصدقت على أمي بجارية وإنها ماتت قال: "وجب أجرك، وردها عليك الميراث" قالت: إنه كان عليها صوم شهر أفأصوم عنها؟ قال: "صومي عنها" قالت: إنها لم تحج أفأحج عنها؟ قال: "حجي عنها" وللسؤال عن قصة الحج من حديث ابن عباس أصل آخر، أخرجه النسائي عن سليمان بن يسار عنه، وله شاهد عن أنس عند البزار والطبراني، والدارقطني واستدل به على صحة نذر الحج ممن لم يحج، فإذا حج أجزأه عن حجة الإِسلام عند الجمهور، وعليه الحج عن النذور وقيل يجزىء عن النذر، ثم يحج حجة الإِسلام وقيل يجزىء عنهما. وقوله: "قال: نعم حجي عنها" في رواية موسى بن سلمة أفيجزىء عنها أن أحج عنها؟ قال: نعم. وقوله: "أكنت قاضيته" كذا للأكثر بضمير يعود على الدين، وللكشميهني قاضية بوزن فاعلة على حذف المفعول، وفي الحديث مشروعية القياس وضرب المثل ليكون أوضح وأوقع في نفس السامع وأقرب إلى سرعة فهمه، وفيه تشبيه ما اختلف فيه، وأشكل بما اتفق عليه، وفيه أنه يستحب للمفتي التنبيه على وجه الدليل إذا ترتبت على ذلك مصلحة، وهو أطيب لنفس المستفتي وأدعى لإذعانه، وفيه أن وفاء الدين المالي عن الميت كان معلومًا عندهم مقررًا، ولهذا حسن الإلحاق به وفيه إجزاء الحج عن الميت وفيه اختلاف وقد مرَّ ما فيه مستوفى عند الحديث الأول من الحج، وفي قوله: "فالله أحق بالوفاء" دليل على أنه مقدم على دين الآدمي، ومرَّ ما فيه من الخلاف عند الحديث المذكور، قال الطيبي: في الحديث

رجاله خمسة

إشعار بأن المسؤول عنه خلف مالًا فأخبره النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أن حق الله مقدم على حق العباد" وأوجب عليه الحج عنه، والجامع علة المالية ولم يتحتم في الجواب المذكور أن يكون خلف مالًا كما زعم لأن قوله: أكنت قاضيته؟ أعم من أن يكون المراد مما خلفه أو تبرعًا. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ موسى بن إسماعيل وأبو عوانة في الخامس من بدء الوحي، ومرَّ محل أبي بشر وسعيد وابن عباس في الذي قبله. والمرأة السائلة. مرَّ الكلام عليها في الأول من الحج. ثم قال المصنف:

باب الحج عمن لا يستطيع الثبوت على الراحلة

باب الحج عمن لا يستطيع الثبوت على الراحلة أي: من الأحياء خلافًا لمالك في ذلك ولمن قال: لا يحج عن أحد مطلقًا كابن عمر إلى آخر ما مرَّ. الحديث السادس والأربعون حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ امْرَأَةً ح. حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ، عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا، لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَوِيَ عَلَى الرَّاحِلَةِ فَهَلْ يَقْضِى عَنْهُ أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ قَالَ: "نَعَمْ". لم يسق المصنف رواية ابن جريج بل تحول إلى إسناد عبد العزيز بن أبي سلمة، وساق الحديث على لفظه كعادته وبقية حديث ابن جريج أن امرأة جاءت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: "إن أبي أدركه الحج وهو شيخ كبير لا يستطيع أن يركب البعير أفأحج عنه؟ قال: "حجي عنه". أخرجه أبو مسلم الكجي والطبراني عن أبي مسلم أيضًا، وأخرجه مسلم من وجه آخر عن ابن جريج. فقال: "إن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله إن أبي شيخ كبير عليه فريضة الله في الحج" الحديث. وقوله: "عام حجة الوداع" في رواية شعيب الآتية في الاستئذان أن يوم النحر، والنسائي عن ابن عيينة غداة جمع، ومباحث هذا الحديث والذي بعده مرت مستوفاة غاية الاستيفاء في الحديث الأول من كتاب الحج. رجاله ثمانية: قد مرّوا: مرَّ أبو عاصم في أثر بعد الرابع من العلم، وابن جريج في الثالث من الحيض، وابن شهاب في الثالث من بدء الوحي، وموسى بن إسماعيل وعبد الله بن عباس في الخامس منه، وسليمان بن يسار في الخامس والتسعين من الوضوء ومرَّ عبد العزيز بن أبي سلمة في الأربعين من العلم، ومرَّ الفضل بن عباس في الثامن عشر من الجماعة والمرأة الخثعمية المبهمة لم تسم هي ولا أبوها. ثم قال المصنف:

باب حج المرأة عن الرجل

باب حج المرأة عن الرجل تقدم ما فيه من الخلاف قبل باب الحديث السابع والأربعون حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ الْفَضْلُ رَدِيفَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمٍ، فَجَعَلَ الْفَضْلُ، يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ فَجَعَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الآخَرِ، فَقَالَتْ: إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا، لاَ يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: "نَعَمْ". وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ. قوله: "كان الفضل" يعني ابن عباس، وهو أخو عبد الله، وكان أكبر أولاد العباس وبه كان يكنى، وقد مرَّ قريبًا محل استيفاء الكلام على هذا الحديث. رجاله ستة: قد مرّوا: مرَّ عبد الله بن مسلمة في الثاني عشر من الإيمان، ومرَّ مالك في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ محل الأربعة الباقين في الذي قبله.

باب حج الصبيان

باب حج الصبيان أي: مشروعيته وكأن الحديث الصريح فيه ليس على شرط المصنف، وهو ما رواه مسلم عن ابن عباس، قال: رفعت امرأة صبيًا لها فقالت: يا رسول الله ألهذا حج؟ قال: "نعم ولك أجر" قال ابن بطال: أجمع أئمة الفتوى على سقوط الفرض عن الصبي حتى يبلغ إلا أنه إذا حج به كان له تطوعًا عند الجمهور، وقال أبو حنيفة: لا يصح إحرامه ولا يلزمه شيء بفعل شيء من محضورات الإحرام وإنما يحج على جهة التدرب وشذ بعضهم، فقال: إذا حج الصبي أجزأه ذلك عن حجة الإِسلام لظاهر قوله: "نعم" في جواب ألهذا حج؟ وقال الطحاوي: لا حجة فيه لذلك، بل فيه حجة على من زعم أنه لا حج له؛ لأن ابن عباس راوي الحديث قال: أيما غلام حج به أهله ثم بلغ فعليه حجة أخرى، ثم ساقه بإسناد صحيح فعند أبي حنيفة إذا أفسد الصبي حجه لا قضاء عليه ولا فدية إذا اصطاد صيدًا، وقال مالك: يجتنب ما يجتنبه الكبير ويفدى عنه إذا أصاب شيئًا من ذلك، ويطوف، ويسعى، ويرمي إذا قوي وإلا حمل وطيف به وسعي ورمي عنه، والذي يتكلم يلبي عن نفسه والذي لا يتكلم ينوي بتجريده الإحرام، وقال ابن القاسم: يغنيه تجريده عن التلبية عنه. الحديث الثامن والأربعون حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَقُولُ: بَعَثَنِي أَوْ قَدَّمَنِي النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فِي الثَّقَلِ مِنْ جَمْعٍ بِلَيْلٍ. وجه الدلالة منه هنا أن ابن عباس كان قبل البلوغ، ولهذه النكتة أردفه المصنف بحديثه الآخر المصرح فيه بأنه حينئذ كان قد قارب الاحتلام. وقوله: في الثقل بفتح الثاء والقاف وقد تسكن أي الأمتعة، وقد مرَّ الكلام على هذا الحديث في باب من قدم ضعفة أهله. رجاله أربعة: قد مرّوا: مرَّ أبو النعمان في الأخير من الإيمان، ومرَّ حماد بن زيد في الرابع والعشرين منه، ومرَّ عبيد الله بن أبي يزيد في التاسع من الوضوء، ومرَّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي.

الحديث التاسع والأربعون

الحديث التاسع والأربعون حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عَمِّهِ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: أَقْبَلْتُ وَقَدْ نَاهَزْتُ الْحُلُمَ، أَسِيرُ عَلَى أَتَانٍ لِي، وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَائِمٌ يُصَلِّي بِمِنًى، حَتَّى سِرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ الأَوَّلِ، ثُمَّ نَزَلْتُ عَنْهَا فَرَتَعَتْ، فَصَفَفْتُ مَعَ النَّاسِ وَرَاءَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. قوله: "حدثنا إسحاق" نسبه الأصيلي وابن السكن ابن منصور وقد أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده عن يعقوب أيضًا، ومن طريقه أبو نعيم في المستخرج، لكن يرجح كونه ابن منصور أن ابن راهويه لا يعبر عن مشايخه إلا بصيغة أخبرنا، وقد مرَّ الكلام عليه في باب متى يصح سماع الصغير من كتاب العلم، وفي باب سترة المصلي من كتاب الصلاة. رجاله ستة: قد مرّوا: مرَّ إسحاق بن منصور في الخامس والثلاثين من الإيمان، ومرَّ يعقوب بن إبراهيم بن سعد في السادس عشر من العلم، ومرَّ ابن أخي الزهري في متابعة بعد العشرين من الإيمان، ومرَّ الزهري في الثالث من بدء الوحي ومرَّ عبيد الله المسعودي في السادس منه، ومرَّ ابن عباس في الخامس منه. ثم قال: وقال يونس: عن ابن شهاب بمنى في حجة الوداع، ورواية يونس المعلقة وصلها مسلم عن ابن وهب عنه، ولفظه أنه "أقبل يسير على حمار ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي بمنى في حجة الوداع"، ومرَّ يونس في متابعة بعد الرابع من بدء الوحي. الحديث الخمسون حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: حُجَّ بِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَنَا ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ. قوله: "عن محمد بن يوسف" في رواية الإسماعيلي حدثنا محمد بن يوسف، وهو الكندي ويأتي تعريفه في السند. وقوله: "حج بي" كذا للأكثر بضم أوله على البناء لما لم يسم فاعله وقال ابن سعد: عن الواقدي عن حاتم حجت بي أمي وللفاكهاني من وجه آخر عن محمد بن يوسف عن السائب حج بي أبي ويجمع بينهما بأنه كان مع أبويه زاد الترمذي عن حاتم في حجة الوداع.

رجاله أربعة

رجاله أربعة: مرَّ عبد الرحمن بن يونس وحاتم بن إسماعيل والسائب بن يزيد في الخامس والخمسين من الوضوء، والباقي محمد بن يوسف بن عبد الله بن يزيد الكندي المدني الأعرج، ابن أخت نمر، وأمه ابنة السائب بن يزيد، قال يحيى بن سعيد: أثبت من عبد الرحمن بن حميد، وعبد الرحمن بن عمار، وكان أعرج، وقال صدقة بن الفضل: كان يحيى يثني عليه ويفضله على محمد بن أبي يحيى، وقال ابن معين: قال لي يحيى: لم أر شيخًا يشبهه في الثقة، وقال ابن معين، وأحمد والنسائي: ثقة، وقال مصعب الزبيري: كان له شرف وقدم بالمدينة، وذكره ابن حبان في الثقات؛ وقال ابن المديني: محمد بن يوسف الأعرج ثقة وقال ابن شاهين في الثقات: قال أحمد بن صالح المصري: ثبت له شأن قال: وكان أحمد بن صالح معجبًا به في الزهرة روى عنه البخاري اثنين وستين حديثا روى عن جده لأمه وقيل: خاله وقيل: عمه السائب بن يزيد وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وغيرهم وروى عنه ابن جريج، ومالك بن أنس، وحاتم بن إسماعيل وغيرهم، وفي بعض روايات الحديث حج بي، وأبوه هو يزيد بن سعيد بن ثمامة بن الأسود بن عبد الله بن الحارث بن الولادة الكندي، والد السائب بن يزيد المعروف بابن أخت النمر، حليف بني أمية بن عبد شمس، وقيل: هو يزيد بن عبد الله بن سعيد بن ثمامة بن يقظان بن الحارث بن عمرو بن معاوية الكندي، قال سعيد بن المسيب: قال: ما اتخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- قاضيًا ولا أبو بكر ولا عمر حتى كان في وسط خلافة عمر فإنه قال: ليزيد بن أخت النمر: "اكفني بعض الأمر" يعني صغارها. وقال: أين سعد استعمله عمر على السوق، وأخرج الترمذي والبخاري في الأدب المفرد عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يأخذن أحدكم متاع أخيه لاعبًا ولا جادًا". الحديث ليس له إلا حديث واحد رواه عنه ابنه السائب. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة، والحديث أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح. الحديث الحادي والخمسون حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ، أَخْبَرَنَا الْقَاسِمُ بْنُ مَالِكٍ، عَنِ الْجُعَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقُولُ: لِلسَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، وَكَانَ قَدْ حُجَّ بِهِ فِي ثَقَلِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-. قوله: سمعت عمر بن عبد العزيز يقول للسائب بن يزيد .. الخ. لم يذكر مقول عمر، ولا جواب السائب وكأنه كان قد سأله عن قدر المد، لما سيأتي في الكفارات، عن عثمان بن أبي شيبة، عن القاسم بن مالك، بهذا الإسناد وكان الصاع على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- مدًا وثلثًا، فزيد فيه في زمن عمر بن عبد العزيز، قلت: هذا الحديث الآتي ليس فيه مقول عمر ولا جواب

رجاله خمسة

السائب أيضًا زاد الإسماعيلي من هذا الوجه، قال السائب وقد حج بي في ثقل النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنا غلام، وقال الكرماني اللام في قوله: للسائب للتعليل أي: سمعت عمر يقول: لأجل السائب والمقول: وكان السائب إلخ. كذا قال ولا يخفى بعده، وفي الحديث صحة إحرام الصبي، كما مرَّ واختلفوا في الصبي والعبد يحرمان في الحج ثم يحتلم الصبي ويعتق العبد قبل الوقوف بعرفة، فقال مالك: لا سبيل إلى رفض الإحرام ويتماديان عليه ولا يجزيهما عن حجة الإِسلام، وهو قول أبي حنيفة، وقال الشافعي: إذا نويا بإحرامهما المتقدم حجة الإِسلام أجزأهما، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أيما صبي حج به أهله فمات فقد قضى حجة الإِسلام، فإن أدرك فعليه الحج، وأيما عبد حج به أهله فمات فقد قضى حجة الإِسلام، فإن عتق فعليه الحج. رجاله خمسة: مرَّ منهم عمرو بن زرارة في التاسع والثمانين من استقبال القبلة، ومرَّ الجعد بن عبد الرحمن والسائب بن يزيد في الخامس والخمسين من الوضوء، ومرَّ عمر بن عبد العزيز في أثر أول الإيمان قبل ذكر حديث منه، والباقي القاسم بن مالك المزني أبو جعفر الكوفي قال أحمد: كان صدوقًا وكان يلي بعض العمل في السواد، وقال ابن معين: ثقة؛ وقال مرة: ما به بأس صدوق؛ وقال أبو داود: ليس به بأس؛ وقال مرة: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات وقال ابن سعد: كان ثقة صالح الحديث، وقال العجلي ثقة، وقال الساجي: ضعيف وقد روى عنه علي بن المديني، وقال أبو حاتم: صالح وليس بالمتين، قال في المقدمة ليس له في البخاري سوى حديث واحد، أخرجه مفرقًا في الحج والاعتصام، والكفارات من روايته عن الجعيد بن عبد الرحمن عن السائب قال: "كان صاع النبي -صلى الله عليه وسلم-، مدًّا ثلثًا بمدكم اليوم". قال: وكان السائب قد حج به في ثقل النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخرج ما يتابعه في الحج أيضًا من طريق أخرى عن السائب روى عن المختار بن فلفل، وابن عون، والجعيد بن عبد الرحمن وغيرهم وروى عنه أحمد وابن المديني ويحيى بن معين، وابنا أبي شيبة أبو بكر وعثمان وغيرهم، عاش إلى ما بعد التسعين ومائة. ثم قال المصنف:

باب حج النساء

باب حج النساء أي: هل يشترط فيه قدر زائد على حج الرجال أو لا؟. الحديث الثاني والخمسون وَقَالَ: لِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَذِنَ عُمَرُ رضي الله عنه لأَزْوَاجِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي آخِرِ حَجَّةٍ حَجَّهَا، فَبَعَثَ مَعَهُنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ. كذا أورده مختصرًا ولم يستخرجه الإسماعيلي ولا أبو نعيم، وساقه البيهقي وابن سعد مطولًا والمراد بإبراهيم إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف. وقوله "أذن عمر" أي: ابن الخطاب، وظاهره أنه من رواية إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن عمر ومن ذكر معه، وإدراكه لذلك ممكن لأن عمره إذ ذاك كان أكثر من عشر سنين وقد أثبت سماعه من عمر، يعقوب ابن أبي شيبة وغيره، لكن روى ابن سعد هذا الحديث عن الواقدي عن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن جده عن عبد الرحمن بن عوف، قال: أرسلني عمر، لكن الواقدي لا يحتج به فقد رواه البيهقي عن عبدان وابن سعد عن الوليد بن عطاء بن الأغر، كلاهما عن إبراهيم بن سعد مثل ما قال أحمد بن محمد: شيخ البخاري، ويحتمل أن يكون إبراهيم حفظ أصل القصة، وحمل تفاصيلها عن أبيه فلا تتخالف الروايتان، ولعل هذا هو النكتة في اقتصار البخاري على أصل القصة دون بقيتها. وقوله: "وعبد الرحمن" زاد عبدان عبد الرحمن بن عوف، وكان عثمان ينادي ألا لا يدنو أحد منهن، ولا ينظر إليهن، وهن في الهوادج على الإبل فإذا نزلن أنزلهن بصدر الشعب، فلم يصعد إليهن أحد، ونزل عبد الرحمن وعثمان بذنب الشعب، وفي رواية لابن سعد فكان عثمان يسير أمامهن وعبد الرحمن خلفهن، وفي رواية له وعلى هوادجهن الطيالسة الخضر في إسناده الواقدي، وروى ابن سعد أيضًا بإسناد صحيح عن أبي إسحاق السبعي قال: رأيت نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- حججن في هوادج عليها الطيالسة زمن المغيرة بن شعبة، والظاهر أنه أراد بذلك زمن ولاية المغيرة على الكوفة لمعاوية، وكان ذلك سنة خمسين أو قبلها، ولابن سعد أيضًا عن أم معبد الخزاعية قالت: رأيت عثمان وعبد الرحمن في خلافة عمر حجا بنساء النبي -صلى الله عليه وسلم-، فنزلن بقديد، فدخلت عليهن وهن ثمان، وله من حديث عائشة أنهن استأذن عثمان

رجاله خمسة

في الحج فقال أنا أحج بكن فحج بنا جميعًا إلا زينب كانت ماتت وإلا سودة، فإنها لم تخرج من بيتها بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- وروى أبو داود وأحمد عن واقد بن أبي واقد الليثي عن أبيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: لنسائه هذه ثم ظهور الحصر، زاد ابن سعد عن أبي هريرة فكن نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- يحججن إلا سودة وزينب، فقالا: لا تحركنا دابة بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإسناد حديث أبي واقد صحيح، وأغرب المهلب فزعم أنه من وضع الرافضة لقصد ذم أم المؤمنين عائشة في خروجها إلى العراق للإصلاح بين الناس في قصة وقعة الجمل، وهو إقدام منه على رد الأحاديث الصحيحة بغير دليل، والعذر عن عائشة أنها تأولت الحديث المذكور كما تأوله غيرها من صواحباتها على أن المراد بذلك أنه لا يجب عليهن غير تلك الحجة وتأيد ذلك عندها بقوله عليه الصلاة والسلام لكن أفضل الجهاد الحج والعمرة، لدلالته على أن لهن جهادًا غير الحج والحج أفضل منه، ومن ثم عقبه المصنف بهذا الحديث في هذا الباب، وكان عمر رضي الله تعالى عنه متوقفًا في ذلك ثم ظهر له الجواز فأذن لهن، وتبعه على ذلك من ذكر من الصحابة، ومن في عصره من غير نكير وروى ابن سعد من مرسل أبي جعفر الباقر قال: منع عمر أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- الحج والعمرة، وعن أم درة عن عائشة قالت: منعنا عمر الحج والعمرة حتى إذا كان آخر عام، فأذن لنا، وهو موافق لحديث الباب، وفيه زيادة على ما في مرسل أبي جعفر، وهو محمول على ما ذكرناه واستدل به على جواز حج المرأة بغير محرم، وسيأتي البحث فيه في الحديث الآتي قريبًا، وروى عمر بن شبة هذا الحديث عن إبراهيم بن سعد بإسناد آخر فقال: عن الزهري عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة عن أم كلثوم بنت أبي بكر عن عائشة: أن عمر أذن لأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- فحججن في آخر حجة حجها عمر، فلما ارتحل عمر من الحصبة أقبل رجل فسلم، وقال أين كان أمير المؤمنين ينزل فقال له قائل وأنا أسمع: هذا كان منزله فأناخ في منزل عمر ثم رفع عقيرته يتغنى: عليك سلام من أميرٍ وباركت ... يد لله في ذاك الأديم الممزقِ إلى آخر الأبيات المذكورة في تعريف عمر عند أول حديث من صحيح البخاري. رجاله خمسة: وفيه ذكر عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف وقد مرَّ الجميع: مرَّ أحمد بن محمد بن الوليد في السادس والعشرين من الوضوء ومرَّ إبراهيم بن سعد في السادس عشر من الإِيمان، ومرَّ أبو سعد في السابع، والأربعين من الوضوء، ومرَّ أبو سعد إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف في السادس والثلاثين من الزكاة، ومرَّ عمر بن الخطاب في الأول من بدء الوحي، ومرَّ عثمان في أثر بعد الخامس من العلم، ومرَّ عبد الرحمن بن عوف في السابع والخمسين من الجمعة.

الحديث الثالث والخمسون

الحديث الثالث والخمسون حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ قَالَ: حَدَّثَتْنَا عَائِشَةُ بِنْتُ طَلْحَةَ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ نَغْزُوا وَنُجَاهِدُ مَعَكُمْ؟ فَقَالَ: "لَكُنَّ أَحْسَنُ الْجِهَادِ وَأَجْمَلُهُ الْحَجُّ، حَجٌّ مَبْرُورٌ". فَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَلاَ أَدَعُ الْحَجَّ بَعْدَ إِذْ سَمِعْتُ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. عند الإسماعيلي عن حبيب حدثتني عائشة: وقوله: "ألا نغزو أو نجاهد" هذا شك من الراوي وهو مسدد، وأخرجه الإسماعيلي عن أبي عوانة شيخ مسدد بلفظ ألا نغزو معكم، وأغرب الكرماني فقال: ليس الغزو والجهاد بمعنى واحد، فإن الغزو القصد إلى القتال، والجهاد بذل النفس في القتال. قال: أو ذكر الثاني تأكيدًا للأول. وكأنه ظن أن الألف تتعلق بنغزو، فشرح على أن الجهاد معطوف على الغزو بالواو، أو جعل (أو) بمعنى الواو، وقد أخرجه النسائي عن حبيب بلفظ ألا نخرج فنجاهد معك؛ ولابن خزيمة عن حبيب مثله، زاد فإنا نجد الجهاد أفضل الأعمال وللإسماعيلي عن حبيب: لو جاهدنا معك قال: "لا جهاد ولكن حج مبرور". وقد مرَّ في أوائل الحج عن حبيب، بلفظ ترى الجهاد أفضل العمل، فظهر أن التغير بين اللفظين من الرواة فيقوى أن أو للشك. وقوله: "لكن أحسن الجهاد" تقدم نقل الخلاف في توجيهه في أوائل الحج في باب فضل الحج وهل هو بلفظ الاستدراك أو بلفظ خطاب النسوة. وقوله: "الحج حج مبرور" في رواية جرير: حج البيت حج مبرور، وسيأتي في الجهاد من وجه آخر، عن عائشة بنت طلحة بلفظ: استأذنه نساؤه في الجهاد فقال: "يكفيكن الحج" ولابن ماجه عن حبيب قلت: يا رسول الله! على النساء جهاد؟ قال: "نعم، جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة" قال ابن بطال: زعم بعض من ينقص عائشة في قصة الجمل أن قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} يقتضي تحريم السفر عليهن، قال: وهذا الحديث يرد عليهم، لأنه قال: لكن أفضل الجهاد، فدل على أن لهن جهادًا غير الحج، والحج أفضل منه، ويحتمل أن يكون المراد بقوله: "لا" في جواب قولهن: ألا نخرج فنجاهد معك؟ أي: ليس ذلك واجبًا عليكن، كما وجب على الرجال، ولم يرد بذلك تحريمه عليهن، فقد ثبت في حديث أم عطية أنهن كن يخرجن فيداوين الجرحى، وفهمت عائشة ومن وافقها من هذا الترغيب في الحج إباحة تكريره لهن، كما أبيح للرجال تكرير الجهاد، وخص به عموم هذه، ثم ظهور الحصر، وقوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} وكأن عمر كان متوقفًا في ذلك، ثم ظهر له قوة دليلها فأذن لهن في آخر خلافته، ثم كان عثمان بعده يحج بهن في خلافته أيضًا،

رجاله خمسة

ثم وقف بعضهن عند ظاهر النهي كما مرَّ، وقال البيهقي: في حديث عائشة هذا دليل على أن المراد بحديث أبي واقد وجوب الحج مرة واحدة، كالرجال لا المنع من الزيادة، وفيه دليل على أن الأمر بالقرار في البيوت ليس على سبيل الوجوب، واستدل بحديث عائشة هذا على جواز حج المرأة مع من تثق به، ولو لم يكن زوجًا ولا محرمًا كما يأتي في الذي يليه. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ مسدد في السادس من الإيمان، ومرَّ عبد الواحد بن زياد في التاسع والعشرين منه، ومرَّ حبيب بن أبي عمرة وعائشة بنت طلحة في الثامن من الحج، ومرت أم المؤمنين عائشة في الثاني من بدء الوحي. الحديث الرابع والخمسون حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ إِلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ، وَلاَ يَدْخُلُ عَلَيْهَا رَجُلٌ إِلاَّ وَمَعَهَا مَحْرَمٌ". فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَخْرُجَ فِي جَيْشِ كَذَا وَكَذَا، وَامْرَأَتِي تُرِيدُ الْحَجَّ؟ فَقَالَ: "اخْرُجْ مَعَهَا". قوله: "عن أبي معبد" كذا رواه عبد الرزاق، عن ابن جريج، وابن عيينة كلاهما عن عمرو، عن أبي معبد به، ولعمرو بهذا الإسناد حديث آخر أخرجه عبد الرزاق وغيره، عن ابن عيينة، عن عكرمة قال: جاء رجل إلى المدينة فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أين نزلت؟ " قال: على فلانة قال: "أغلقت عليها بابك؟ " مرتين، "لا تحجن امرأة إلا ومعها ذو محرم" ورواه عبد الرزاق أيضًا عن ابن جريج، عن عمرو، أخبرني عكرمة أو أبو معبد، عن ابن عباس، والمحفوظ في هذا مرسل عكرمة، وفي الآخر رواية أبي معبد، عن ابن عباس. وقوله: "لا تسافر المرأة" كذا أطلق السفر وقيده في حديث أبي سعيد الآتي في الباب، فقال: مسيرة يومين، ومرَّ في الصلاة حديث أبي هريرة مقيدًا بمسيرة يوم وليلة، وعنه روايات أخر، وحديث ابن عمر مقيدًا بثلاثة أيام، وعنه روايات أخر، وقد مرَّ وجه الجمع بين الروايات عند حديث ابن عمر في باب في كم يقصر الصلاة من أبواب السفر، ومرَّ هناك ذكر مذاهب الأئمة في اشتراط المحرم في الحج، ومرَّ هناك أن الحنفية شرط المحرم عندهم في وجوب الحج على المرأة؛ إذا كان السفر إلى مكة ثلاثة أيام بلياليها، ومرَّ احتجاجهم هناك، واحتجوا أيضًا بأن المنع المقيد بالثلاث متحقق، وما عداه مشكوك فيه فيؤخذ بالمتيقن، ونوقض بأن الرواية المطلقة شاملة لكل سفر فينبغي الأخذ بها، وطرح ما عداها فإنه مشكوك فيه، ومن قواعد الحنفية: تقديم الخبر العام على الخامس، وترك حمل المطلق على المقيد، وقد خالفوا ذلك هنا، والاختلاف إنما وقع في الأحاديث التي وقع فيها التقييد، بخلاف حديث الباب،

فإنه لم يختلف على ابن عباس فيه، وتمسك أحمد بعموم الحديث فقال: إذا لم نجد زوجًا أو محرمًا لا يجب عليها الحج، هذا هو المشهور عنه، وعنه رواية أخرى كقول مالك وهو تخصيص الحديث بغير سفر الفريضة، قالوا: وهو مخصوص بالإجماع، قال البغوي: لم يختلفوا في أنه ليس للمرأة السفر في غير الفرض إلا مع زوج، أو محرم إلا كافرة أسلمت في دار الحرب، أو أسيرة تخلصت، وزاد غيره: أو امرأة انقطعت من الرفقة، فوجدها رجل مأمون، فإنه يجوز له أن يصحبها حتى يبلغها الرفقة، قالوا: وإذا كان عمومه مخصوصًا بالاتفاق فليخص منه حجة الفريضة، وأجاب صاحب المغني بأنه سفر الضرورة، فلا يقاس عليه حالة الاختيار، ولأنها تدفع ضررًا متيقنًا بتحمل ضرر متوهم، ولا كذلك السفر للحج، وقد روى الدارقطني وصححه أبو عوانة حديث الباب عن ابن جريج عن عمرو بن دينار بلفظ: "لا تحجن امرأة إلا ومعها ذو محرم" فنص في نفس الحديث على منع الحج، فكيف يخص من بقية الأسفار؟ وقد مرَّ عند حديث ابن عمر في السفر تفصيل مذهب مالك والشافعي في سفر المرأة إلى الحج، وقد مرَّ هناك عن الشافعية أن السفر الواجب من الحج والعمرة يجوز للمرأة أن تسافر إليه وحدها، إذا كان الطريق آمنًا، وأغرب القفال فطرده في الأسفار كلها، واستحسنه الروياني قال: إلا أنه خلاف النص، قال في الفتح: وهو يعكر على نفي الاختلاف الذي نقله البغوي آنفًا، واختلفوا هل المحرم وما ذكر معه شرط في وجوب الحج عليها، أو شرط في التمكن، فلا يمنع الوجوب والاستقرار في الذمة؟! وعبارة أبي الطيب الطبري منهم: الشرائط التي يجب بها الحج على الرجل يجب بها على المرأة، فإذا أرادت أن تؤديه فلا يجوز لها إلا مع محرم أو زوج، أو مع نسوة ثقات، ومن الأدلة على جواز سفر المرأة مع النسوة الثقات إذا أمن الطريق أول أحاديث الباب، لاتفاق عمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف ونساء النبي -صلى الله عليه وسلم- على ذلك، وعدم نكير أحد من الصحابة عليهن في ذلك، ومن أبى ذلك من أمهات المؤمنين فإنما أباه من جهة خاصة كما مرَّ، لا من جهة توقف السفر على المحرم، ولعل هذا هو النكتة في إيراد البخاري الحديثين -أحدهما عقب الآخر- ولم يختلفوا أن النساء كلهن في ذلك سواء، إلا ما نقل عن أبي الوليد الباجي أنه خصه بغير العجوز التي لا تشتهى، وكأنه نقله من الخلاف المشهور في شهود المرأة صلاة الجماعة، قال ابن دقيق العيد: الذي قاله الباجي تخصيص للعموم بالنظر إلى المعنى، يعني مع مراعاة الأمر الأغلب، وتعقبوه بأن لكل ساقطة لاقطة، والمتعقب راعى الأمر النادر، وهو الاحتياط، وقد احتج له بحديث عديّ بن حاتم مرفوعًا: "يوشك أن تخرج الظعينة من الحيرة، تؤم البيت لا زوج معها" الحديث. وهو في البخاري وتعقب بأنه يدل على وجود ذلك لا على جوازه، وأجيب بأنه خبر في سياق المدح، ورفع منار الإِسلام فيحمل على الجواز، وأجيب عن الباجي بأن هذه الساقطة

ما لها لاقطة، ولو وجد خرجت عن فرض المسئلة؛ لأنها تكون حينئذ مشتهاة في الجملة، وليس الكلام فيها وإنما الكلام فيمن لا تشتهى أصلًا، ورأسًا، ولا يسلم أن من بهذه المثابة مظنة الطمع، والميل إليها بوجه، قال في المجموع: والخنثى المشكل يشترط في حقه من المحرم ما يشترط في المرأة، ولم يشترطوا في الزوج والمحرم كونهما ثقتين وهو في الزوج واضح، وأما في المحرم فسببه أن الوازع الطبيعي أقوى من الشرعي، واستثنى أحمد ممن حرمت على التأبيد مسلمة لها أب كتابي فقال: لا يكون محرمًا لها لأنه لا يؤمن أن يفتنها عن دينها إذا خلا بها، وقد مرَّ قريبًا أنهم اختلفوا هل المحرم شرط في وجوب الحج عليها أو شرط في التمكن؟ إلى آخر ما مرَّ، والذين ذهبوا إلى الأول استدلوا بهذا الحديث؛ فإن سفرها للحج من جملة الأسفار الداخلة تحت الحديث، فتمتنع إلا مع المحرم، والذين قالوا بالثاني جوزوا سفرها مع رفقة مأمونة إلى الحج، كما مرَّ مستوفىً في أبواب السفر، وهو مذهب الشافعية والمالكية، والأول مذهب الحنفية والحنابلة، قال ابن دقيق العيد: هذه المسئلة تتعلق بالعامين إذا تعارضا؛ فإن قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} عامٌّ في الرجال والنساء، فمقتضاه أن الاستطاعة على السفر إذا وجدت وجب الحج على الجميع. وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تسافر المرأة إلا مع محرم" عامٌّ في كل سفر، فيدخل فيه الحج فمن أخرجه عنه خص الحديث بعموم الآية، ومن أدخله فيه خص الآية بعموم الحديث، فيحتاج إلى الترجيح من خارج، وقد رجح المذهب الثاني بعموم قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" وليس ذلك بجيد، لكونه عامًا في المساجد، فيخرج عنه المسجد الذي يحتاج إلى السفر بحديث النهي، ومن المستظرف أن المشهور من مذهب من لم يشترط المحرم أن الحج على التراخي، ومن مذهب من يشترطه أن الحج على الفور، وكان المناسب لهذا قول هذا وبالعكس، قلت: مشهور مذهب مالك أن الحج على الفور وهو لا يشترط المحرم. وقوله: "إلا مع ذي محرم" أي: فيحمل ولم يصرح بالزوج، وقد جاء في حديث أبي سعيد في هذا الباب بلفظ: "ليس معها زوجها أو ذو محرم منها" وقد مرَّ ضابط المحرم عند العلماء في باب كم تقصر الصلاة، ومن قال: إن عبد المرأة محرم لها وصرح المرعشي وابن أبي الصيف بأن عبدها الأمين كالمحرم، يحتاج إلى أن يزيد في الضابط ما يدخله، وقد روى سعيد بن منصور عن ابن عمر مرفوعًا: "سفر المرأة مع عبدها ضيعة"، لكن في إسناده ضعف وقد احتج به أحمد وغيره، وينبغي لمن أجاز ذلك أن يقيده بما إذا كانا في قافلة، بخلاف ما إذا كانا وحدهما، فلا، لهذا الحديث، وفي آخر حديث ابن عباس ما يشعر بأن الزوج يدخل في مسمى المحرم، فإنه لما استثنى المحرم فقال القائل: ان امرأتي حاجّة، فكأنه

فهم إدخال الزوج في المحرم، ولم يرد عليه ما فهمه بل قال له: "اخرج معها" واستثنى بعض العلماء -وهو مالك- ابن الزوج فكره السفر معه لغلبة الفساد في الناس بعد العصر الأول، ولأن كثيرًا من الناس لا ينزل زوجة الأب في النفرة عنها منزلة محارم النسب، والمرأة فتنة إلا فيما جبل الله النفوس عليه من النفرة عن محارم النسب، قال ابن دقيق العيد: هذه الكراهة عن مالك إن كانت للتحريم ففيه بعد لمخالفة الحديث؛ فإن الحديث عام وإن كانت للتنزيه فهو أقرب، ولكن يتوقف على أن لفظ: "لا يحل" هل يتناول المكروه الكراهة التنزيهية. وقوله: "ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم" فيه منع الخلوة بالأجنبية، وهو إجماع، لكن اختلفوا هل يقوم غير المحرم مقامه في هذا كالنسوة الثقات؟ والصحيح الجواز لضعف التهمة به، وقال القفال: لابد من المحرم، وكذا في النسوة الثقات في سفر الحج لابد من أن يكون مع إحداهن محرم، ويؤيده نص الشافعي أنه لا يجوز للرجل أن يصلي بنساء مفردات إلا أن تكون إحداهن محرمًا له، قلت: ومذهب مالك كراهة إِمامة الأجنبي الأجنبيات، وللواحدة أشد كراهة. وقوله: "فقال رجل: يا رسول الله! إني أريد أن أخرج في جيش كذا وكذا" قال في الفتح: لم أقف على اسم الرجل ولا امرأته، ولا على تعيين الغزوة المذكورة، وسيأتي في الجهاد بلفظ: "إني اكتتبت في غزوة كذا" أي: كتبت نفسي في أسماء من عين لتلك الغزوة، قال ابن المنير: الظاهر أن ذلك كان في حجة الوداع، فيؤخذ منه أن الحج على التراخي، إذ لو كان على الفور لما تأخر الرجل مع رفقته الذين عينوا في تلك الغزوة، كذا قال، وليس ما ذكره بلازم لاحتمال أن يكونوا قد حجوا قبل ذلك مع من حج في سنة تسع مع أبي بكر الصديق، أو أن الجهاد قد تعين على المذكورين بتعيين الإِمام، كما لو نزل عدو بقوم فإنه يتعين عليهم الجهاد، ويتأخر الحج اتفاقًا. وقوله: "اخرج معها" أخذ بظاهره بعض أهل العلم، فأوجب على الزوج السفر مع الزوجة إذا لم يكن لها غيره، وبه قال أحمد، وهو وجه للشافعية، والمشهور أنه لا يلزمه، كالولي في الحج عن المريض، فلو امتنع إِلا بأجرة لزمها لأنه من سبيلها، فصار في حقها كالمؤنة، واستدل به على أنه ليس للزوج منع زوجته من حج الفرض، وبه قال أحمد، وهو وجه للشافعية، والأصح عندهم أن له منعها لكون الحج على التراخي، وأما ما رواه الدارقطني عن ابن عمر مرفوعًا في امرأة لها الزوج، ولها مال، ولا يأذن لها في الحج فليس لها أن تنطلق إلا بإذن زوجها، فأجيب عنه بأنه محمول على حج التطوع عملًا بالحديثين، ونقل ابن المنذر الإجماع على أن للرجل منع زوجته من الخروج في الأسفار كلها، وإنما اختلفوا فيما كان واجبًا، استنبط منه ابن حزم جواز سفر المرأة بغير زوج، ولا محرم، بكونه عليه الصلاة والسلام لم يأمر بردها، ولا عاب سفرها، وتعقب بأنه لو لم يكن ذلك شرطًا لما أمر زوجها بالسفر

رجاله خمسة

معها، وتركه الغزو الذي كتب فيه، ولاسيما وقد رواه سعيد بن منصور عن حماد بن زيد بلفظ: فقال رجل: يا رسول الله! إني نذرت أن أخرج في جيش كذا وكذا" فلو لم يكن شروطًا ما رخص له في ترك النذر، قال النووي: وفي الحديث تقديم الأهم من الأمور المتعارضة فإنه لما عرض له الغزو والحج، رجّح الحج؛ لأن امرأته لا يقوم غيره مقامه في السفر معها، بخلاف الغزو. وهذا الحديث قد مرَّ كثير من مباحثه في باب في كم يقصر الصلاة، من أبواب السفر، وذكر الباقي هنا مستوفىً. رجاله خمسة: قد مرّوا، وفيه لفظ رجل مبهم: مرَّ أبو النعمان في الأخير من الإيمان، ومرَّ حماد بن زيد في الرابع والعشرين منه، ومرَّ عمرو بن دينار في الرابع والخمسين من العلم ومرَّ أبو معبد في الثامن والمائة من صفة الصلاة ومرَّ عبد الله بن عباس من بدء الوحي. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة ورواته بصريان ومكي وحجازي أخرجه البخاري في الجهاد وفي النكاح ومسلم في الحج والرجل السائل قال في الفتح لم أقف على اسمه ولا امرأته ولا على تعيين الغزوة المذكورة. الحديث الخامس والخمسون حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، أَخْبَرَنَا حَبِيبٌ الْمُعَلِّمُ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ لَمَّا رَجَعَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ حَجَّتِهِ قَالَ لأُمِّ سِنَانٍ الأَنْصَارِيَّةِ: "مَا مَنَعَكِ مِنَ الْحَجِّ". قَالَتْ: أَبُو فُلاَنٍ تَعْنِى زَوْجَهَا كَانَ لَهُ نَاضِحَانِ، حَجَّ عَلَى أَحَدِهِمَا، وَالآخَرُ يَسْقِي أَرْضًا لَنَا. قَالَ: "فَإِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تَقْضِى حَجَّةً مَعِي". قوله قالت أبو فلان تعني زوجها وقد تقدم أنه أبو سنان وتقدم الحديث مشروحًا في باب عمرة رمضان. رجاله خمسة: وفيه ذكر أم سنان وقد مرَّ الجميع مرَّ عبدان في السادس من بدء الوحي، ومرَّ يزيد بن زريع في السادس والتسعين من الوضوء، ومرَّ حبيب المعلم في الحادي عشر والمائة من الحج، ومرَّ عطاء في التاسع من العلم، ومرَّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي، ومرت أم سنان وأبو فلان في العاشر من العمرة.

ورجاله أربعة

ثم قال رواه ابن جريج عن عطاء سمعت ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أراد تقوية طريق حبيب بمتابعة ابن جريج له عن عطاء واستفيد منه تصريح عطاء بسماعه له من ابن عباس، ورواية ابن جريج هذه مرت موصولة في باب عمرة في رمضان، وقد مرَّ ابن جريج في الثالث من الحيض، ومرَّ محل عطاء وابن عباس في الذي قبله، ثم قال وقال عبيد الله عن عبد الكريم عن عطاء عن جابر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أراد البخاري بهذا بيان الاختلاف فيه على عطاء وقد مرَّ في باب عمرة في رمضان ابن أبي ليلى ويعقوب بن عطاء وافقا حبيبًا وابن جريج فتبين شذوذ رواية عبد الكريم وشذ معقل الجزري أيضًا فقال عن عطاء عن أم سليم وصنيع البخاري يقتضي ترجيح رواية ابن جريج ويومىء إلى أن رواية عبد الكريم ليست مطرحة لاحتمال أن يكون لعطاء فيه شيخان ويؤيد ذلك أن رواية عبد الكريم خالية عن القصة مقتصرة على المتن، وهو قوله: "عمرة في رمضان تعدل حجة"، وهذا التعليق وصله ابن ماجه وأحمد في مسنده. ورجاله أربعة: مرَّ منهم عبد الكريم بن مالك في الثالث والتسعين والمائة من الحج، ومرَّ عطاء في التاسع والثلاثين من العلم، ومرَّ جابر في الرابع من بدء الوحي، والباقي عبيد الله بن عمرو بن أبي الوليد الأسدي مولاهم أبو وهب الجزري الرقي، قال ابن معين والنسائي ثقة وقال أبو حاتم صالح الحديث ثقة صدوق لا أعرف له حديثًا منكر هو أحب إلى من زهير بن محمد وقال ابن سعد كان ثقة صدوقًا كثير الحديث ربما أخطأ وكان أحفظ من روى عن عبد الكريم الجزري ولم يكن أحد ينازعه في الفتوى في دهره وذكره ابن حبان في الثقات وقال كان راويًا لزيد بن أبي أنيسة ووثقه العجلي وابن نمير. روى عن عبد الملك بن عمير وعبد الكريم بن مالك والأعمش ويحيى بن سعيد وغيرهم وروى عنه بقية وعبد الله بن جعفر الرقي، وأحمد بن عبد الملك الحراني وغيرهم، ولد سنة إحدى ومائة، ومات بالرقة سنة ثمانين ومائة. والرقي في نسبه نسبة إلى الرقة بفتح الراء وتشديد القاف المفتوحة بلد على الفرات، واسطة ديار ربيعة، وآخر غريب بغداد، وقرية أسفل منها بفرسخ والمتعارف هو البلد الأول وإليه النسبة. الحديث السادس والخمسون حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ قَزَعَةَ مَوْلَى زِيَادٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ -وَقَدْ غَزَا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- ثِنْتَيْ عَشْرَةَ غَزْوَةً- قَالَ:"أَرْبَعٌ

سَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَوْ قَالَ: يُحَدِّثُهُنَّ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَأَعْجَبْنَنِي وَآنَقْنَنِي: "أَنْ لاَ تُسَافِرَ امْرَأَةٌ مَسِيرَةَ يَوْمَيْنِ لَيْسَ مَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ ذُو مَحْرَمٍ، وَلاَ صَوْمَ يَوْمَيْنِ الْفِطْرِ وَالأَضْحَى، وَلاَ صَلاَةَ بَعْدَ صَلاَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، وَبَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَلاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِي، وَمَسْجِدِ الأَقْصَى". هذا الحديث مرَّ بعينه قبيل أبواب العمل في الصلاة. وهو مشتمل على أربعة أحكام: أحدها: سفر المرأة، وقد مرَّ الكلام عليه في هذا الباب قريبًا. وثانيهما: منع الصلاة بعد الصبح والعصر، وقد مرَّ الكلام عليه في أواخر المواقيت. والثالث: منع شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة، وقد مرَّ استيفاء الكلام عليه في باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة. والرابع: منع صوم يوم الفطر والأضحى، وقد مرَّ بعض الكلام عليه عند ذكر الحديث سابقًا، وأتمم الكلام عليه فأقول: في رواية الصوم عن عمر هذان يومان نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن صيامهما؛ يوم فطركم من صيامكم، واليوم الآخر تأكلون فيه من نسككم، وفائدة وصف اليومين الإِشارة إلى العلة في وجوب فطرهما، وهو الفصل من الصوم وإظهار تمامه وحده بفطر ما بعده، والآخر لأجل النسك المتقرب بذبحه ليؤكل منه، ولو شرع صومه لم يكن لمشروعية الذبح فيه معنى، فعبر عن علة التحريم بالأكل من النسك لأنه يستلزم النحر، ويزيد فائدة التنبيه على التعليل، والمراد بالنسك هنا الذبيحة المتقرب بها قطعًا قيل: ويستنبط من هذه العلة تعين السلام للفصل من الصلاة، وفي الحديث تحريم صوم يومي العيد سواء النذر والكفارة والقضاء والتطوع والتمتع، وهو بالإجماع، واختلفوا فيمن قدم فصام يوم عيد فعن أبي حنيفة ينعقد، وخالفه الجمهور، فلو نذر صوم يوم قدوم زيد فقدم يوم العيد فالأكثر لا ينعقد النذر، وعن الحنفية ينعقد ويلزمه القضاء، وفي رواية: يلزمه الإطعام، وعن الأوزاعي: يقضي إلا إن نوى استثناء العيد، وعن مالك في رواية: يقضي إن نوى القضاء وإلا فلا، وسيأتي في الصوم أن ابن عمر توقف في الجواب عن هذه المسألة، وأصل الخلاف في هذه المسألة أن النهي هل يقتضي صحة المنهي عنه؟ قال الأكثر: لا، وعن محمد بن الحسن: نعم، قلت: وكذا قال أبو حنيفة، واحتجا بأنه لا يقال للأعمى: لا يبصر؛ لأنه تحصيل الحاصل، فدل على أن صوم يوم العيد ممكن وإذا أمكن ثبت الصحة، يعني أن النهي عن الشيء يقتضي إمكان وجوده شرعًا، وإلا امتنع النهي عنه وأجيب بأن الإمكان المذكور عقلي، والنزاع

رجاله خمسة

في الشرعي والمنهي عنه شرعًا غير ممكن فعله شرعًا، ومن حجج المانعين أن النفل المطلق إذا نهي عن فعله لم ينعقد؛ لأن المنهي مطلوب الترك سواء كان للتحريم، أو للتنزيه، والنفل مطلوب الفعل فلا يجتمع الضدان، والفرق بينه وبين الأمر ذي الوجهين -كالصلاة في الدار المغصوبة- أن النهي عن الإقامة في المغصوب ليست لذات الصلاة، بل للإقامة، وطلب الفصل لذات العبادة بخلاف صوم يوم النحر مثلًا، فإن النهي فيه لذات الصوم فافترقا. وقوله: "أو قال: يحدثهن" وعند الكشميهني بلفظ: أو قال: أخذتهن بالخاء والذال المعجمتين أي: جملتهن عنه. وقوله: "أو محرم" بفتح أوله وثالثه وسكون ثانيه، وفي رواية أبي ذر: محرم بوزن محمد أي: عليها. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ سليمان بن حرب في الرابع عشر من الإيمان، ومرَّ شعبة في الثالث منه، ومرَّ أبو سعيد الخدري في الثاني عشر منه، ومرَّ عبد الملك بن عمير في الحادي والثلاثين من الجماعة، ومرَّ قزعة بن يحيى في الرابع عشر من التطوع. ثم قال المصنف:

باب من نذر المشي إلى الكعبة

باب من نذر المشي إلى الكعبة أو غيرها من الأماكن المعظمة هل يجب عليه الوفاء بذلك أو لا؟ وإذا وجب فتركه قادرًا، أو عاجزًا ماذا يلزمه؟ وفي كل ذلك اختلاف بين أهل العلم وسأذكر طرفًا منه هنا عند الحديث الثاني. الحديث السابع والخمسون حَدَّثَنَا محمد بْنُ سَلاَمٍ، أَخْبَرَنَا الْفَزَارِيُّ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، قَالَ: حَدَّثَنِي ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- رَأَى شَيْخًا يُهَادَى بَيْنَ ابْنَيْهِ قَالَ: "مَا بَالُ هَذَا؟ ". قَالُوا: نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ. قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ لَغَنِيٌّ". وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْكَبَ. قوله: "حدثني ثابت" هكذا قال أكثر الرواة: عن حميد، وهذا الحديث مما صرح حميد فيه بالواسطة بينه وبين أنس، وقد حذفه في وقت آخر فأخرجه النسائي عن يحيى بن سعيد الأنصاري، والترمذي عن ابن أبي عدي كلاهما عن حميد، عن أنس، وكذا أخرجه أحمد عن ابن أبي عدي، ويزيد بن هارون جميعًا عن حميد بلا واسطة، ويقال: إن غالب رواية حميد عن أنس بواسطة، لكن قد أخرج البخاري من حديث حميد، عن أنس أشياء كثيرة بغير واسطة مع الاعتناء ببيان سماعه لها من أنس، وقد وافق عمران القطان عن حميد الجماعة على إدخال ثابت بينه وبين أنس، لكن خالفهم في المتن، أخرجه الترمذي من طريقه بلفظ: نذرت امرأة أن تمشي إلى بيت الله، فسئل نبي الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك؟ فقال: "إن الله لغني عن مشيها، مروها فلتركب". وقوله: "رأى شيخًا يهادى بين ابنيه"، ويهادى بضم أوله من المهاداة، وهو أن يمشي معتمدًا على غيره، للترمذي عن حميد: يتهادى بفتح أوله ثم مثناة، قال في الفتح: لم أقف على اسم هذا الشيخ، ولا على اسم ابنيه إلى آخر ما يأتي في السند. وقوله: "ما بال هذا؟ قالوا: نذر أن يمشي"، عند مسلم عن أبي هريرة أن الذي أجاب النبي -صلى الله عليه وسلم- عن سؤاله ولدا الرجل، ولفظه: فقال: "ما شأن هذا الرجل؟ " قال ابناه: يا رسول الله كان عليه نذر.

رجاله خمسة

وقوله: "أمره" في رواية الكشميهني: "وأمره" بزيادة واو. وقوله: "أن يركب" زاد أحمد عن الأنصاري، عن حميد: فركب، وإنما لم يأمره بالوفاء بالنذر إما لأن الحج راكبًا أفضل من الحج ماشيًا فنذر المشي يقتضي التزام ترك الأفضل، فلا يجب الوفاء به، أو لكونه عجز عن الوفاء بنذره، وهذا هو الأظهر. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ محمد بن سلام في الثالث عشر من الإيمان، ومرَّ حميد الطويل في الثاني والأربعين منه، والفزاري قيل: المراد به مروان بن معاوية وقد مرَّ في الحادي والثلاثين من مواقيت الصلاة، وقيل: المراد به أبو إسحاق الفزاري وقد مرَّ في الخامس والخمسين من الجمعة، ومرَّ ثابت البناني في تعليق بعد الخامس من العلم، ومرَّ أنس في السادس من الإيمان، وفي الحديث رأى شيخًا يهادى بين ابنيه قال في الفتح: لم أقف على اسم هذا الشيخ، ولا على اسم ابنيه، وقول من قال: إنه أبو إسرائيل غلط لأن ذلك هو الرجل الذي كان قائمًا في الشمس، وحديثه يأتي إن شاء الله تعالى في الأيمان والنذور، والمغايرة بينه وبين حديث أنس ظاهرة من عدة أوجه، فيحتاج من وحد بين القصتين إلى مستند. أخرجه مسلم في النذور، وكذا أبو داود والترمذي. الحديث الثامن والخمسون حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّ يَزِيدَ بْنَ أَبِي حَبِيبٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ أَبَا الْخَيْرِ حَدَّثَهُ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: نَذَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَمْشِي إِلَى بَيْتِ اللَّهِ، وَأَمَرَتْنِي أَنْ أَسْتَفْتِي لَهَا النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَاسْتَفْتَيْتُهُ، فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "لِتَمْشِ، وَلْتَرْكَبْ". وَكَانَ أَبُو الْخَيْرِ لاَ يُفَارِقُ عُقْبَةَ. قوله: "عن عقبة بن عامر" هو الجهني كذا وقع عند أحمد ومسلم وغيرهما في هذا الحديث من هذا الوجه. وقوله: "نذرت أختي" يأتي في السند ما قيل في اسمها من كلام ابن حجر في "الفتح". وقوله: "أن تمشي إلى بيت الله" زاد مسلم عن عبد الله بن عياش -بالتحتانية والمعجمة- عن يزيد: حافية، ولأحمد وأصحاب السنن عن عبد الله بن مالك، عن عقبة بن عامر الجهني: أن أخته نذرت أن تمشي حافية، غير مختصرة، وزاد الطبري عن عقبة بن عامر: وهي امرأة ثقيلة، والمشي يشق عليها، ولأبي داود عن ابن عباس أن عقبة بن عامر سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إن أخته نذرت أن تمشي إلى البيت، وشكى إليه ضعفها.

رجاله سبعة

وقوله: "فقال -صلى الله عليه وسلم-: لتمش ولتركب" تمش مجزوم بحذف حرف العلة، ولتركب بسكون اللام وجزم الباء، وفي رواية عبد الله بن مالك: مُرْها فلتختمر، ولتركب. ولتصم ثلاثة أيام، وفي رواية عكرمة، عن ابن عباس عند أبي داود: فلتركب، ولتهد بدنة، وروى مسلم عقب هذا الحديث حديث عبد الرحمن بن شماسة -بكسر المعجمة وتخفيف الميم بعدها مهملة- عن أبي الخير عن عقبة بن عامر رفعه: كفارة النذر كفارة اليمين، ولعله مختصر من هذا الحديث فإن الأمر بصيام ثلاثة أيام هو أحد أوجه كفارة اليمين. وقوله: قال: وكان أبو الخير لا يفارق عقبة، هذا مقول يزيد بن أبي حبيب الراوي عن أبي الخير، والمراد بذلك بيان سماع أبي الخير له من عقبة وفي الحديث صحة النذر بإتيان البيت الحرام، وقد اختلف فيما إذا نذر أن يحج ماشيًا هل يلزمه المشي بناء على أن المشي أفضل من الركوب قال الرافعي: وهو الأظهر وقال النووي: الصواب أن الركوب أفضل وإن كان الأظهر لزوم المشي بالنذر لأنه مقصود، ثم إن صرح الناذر بأنه يمشي من حيث سكنه لزمه المشي من مسكنه وإن أطلق فمن حيث أحرم ولو قبل الميقات ونهاية المشي فراغه من التحللين، ولو فاته الحج لزمه المشي في قضائه لا في تحلله في سنة الفوات لخروجه بالفوات عن إجزائه عن النذور ولا في المضي في فاسده لو أفسده، وعن أبي حنيفة إذا لم ينو حجًا ولا عمرة لا ينعقد، ثم إن نذره راكبًا لزمه فلو مشى لزمه دم لترفهه بتوفر مؤنة الركوب وإن نذره ماشيًا لزمه على التفصيل السابق، فإن ركب لعذر أجزأه ولزمه دم في أحد القولين عند الشافعي، واختلف هل تلزمه بدنة أو شاة، وإن ركب بلا عذر لزمه الدم وأثم، وعن المالكية في العاجز يرجع من قابل فيمشي ما ركب إلا إن عجز مطلقًا فيلزمه الهدي، وليس في طرق حديث عقبة ما يقتضي الرجوع، فهو حجة للشافعي ومن تبعه وعن عبد الله بن الزبير لا يلزمه شيء مطلقًا، قال القرطبي: زيادة الأمر بالهدي رواتها ثقات، ولا ترد وليس سكوت من سكت عنها حجة على من حفظها، وذكرها قال: والتمسك بالحديث في عدم إيجاب الرجوع ظاهر ولكن عمدة مالك عمل أهل المدينة، وقال أبو حنيفة: في نذر من المشي إلى بيت الله فعجز عنه فإنه يمشي ما استطاع، فإذا عجز ركب وأهدى شاة، وكذا إن ركب وهو غير عاجز، ولو نذر الحج حافيًا لم ينعقد نذر الحفاء لأنه ليس بقربة فله لبس النعلين، والعمرة كالحج في ذلك. رجاله سبعة: قد مرّوا: مرت الثلاثة الأول بهذا النسق في الثالث من الحيض، ومرَّ سعيد بن أبي أيوب في الثامن والثلاثين من التهجد، ومرَّ يزيد وأبو الخير مرثد في الخامس من الإيمان، ومرَّ عقبة بن عامر في السابع والعشرين من كتاب الصلاة، وفي الحديث نذرت أختي مبهمة قال

لطائف إسناده

في الفتح قد كنت تبعت المنذري، وابن القسطلاني، والقطب الحلبي في أنها أم حبان بكسر المهملة وتشديد الموحدة، ثم علمت أن ذلك وهم فرجعت عنه الآن يعني تبعهم في المقدمة قال: في بيان غلطهم نسبوا ذلك لابن ماكولا، فوهموا، فإن ابن ماكولا إنما نقله عن ابن سعد، وابن سعد إنما ذكر في طبقات النساء أم حبان بنت عامر بن نابي بنون وموحدة ابن زيد بن حرام بمهملتين الأنصارية، قال: وهي أخت عقبة بن عامر بن نابي شهد بدراً وهي زوج حرام بن محيصة، وكان ذكر قبل عقبة بن عامر بن نابي الأنصاري، وأنه شهد بدرًا ولا رواية له، وهذا كله مغاير للجهني فإن له رواية كثيرة ولم يشهد بدرًا، وليس أنصاريًا فعلى هذا لم يعرف اسم أخت عقبة بن عامر الجهني. وبجلب كلامه بحروفه تعلم أن طعن العيني عليه بكلام الذهبي وتأويل لفظ الأنصارية باطل لا يلتفت إليه. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإفراد والإخبار كذلك، والعنعنة، والقول، ورواته رازي ويماني ومكي ومصريون، أخرجه البخاري أيضًا في النذور وكذا مسلم وأبو داود. الحديث التاسع والخمسون قال أبو عبد الله، حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن يحيى بن أيوب عن يزيد عن أبي الخير عن عقبة فذكر الحديث. أبو عبد الله المصنف، وهذه الزيادة لأبوي ذر والوقت كذا رواه أبو عاصم ووافقه روح ابن عبادة عند مسلم، والإسماعيلي جعلا شيخ ابن جريج في هذا الحديث يحيى بن أيوب وخالفهما هشام بن يوسف، فجعل شيخ ابن جريج فيه سعيد بن أبي أيوب، ورجح الأول الإسماعيلي لاتفاق أبي عاصم وروح على خلاف ما قال هشام، لكن يعكر عليه أن عبد الرزاق وافق هشامًا، وهو عند أحمد ومسلم، ووافقهما محمد بن بكر عن ابن جريج وحجاج بن محمد عند النسائي فهؤلاء أربعة حفاظ رووه عن ابن جريج عن سعيد بن أبي أيوب، فإن كان الترجيح بالأكثرية فروايتهم أولى والذي يظهر من صنيع صاحبي الصحيحين أن لابن جريج فيه شيخين. رجاله رجال الأول إلا الاثنين أبا عاصم، وقد مرَّ في أثر بعد الرابع من العلم ويحيى بن أيوب وقد مرَّ في تعليق بعد الثاني من استقبال القبلة.

خاتمة

خاتمة: اشتملت أبواب المحصر وجزاء الصيد، وما مع ذلك إلى هنا على أحد وستين حديثًا المعلق منها ثلاثة عشر حديثًا والبقية موصولة المكرر منها فيه وفيما مضى ثمانية وثلاثون حديثًا والخالص ثلاثة وعشرون وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث ابن عمر في النقاب والقفاز موقوفًا ومرفوعًا وحديث ابن عباس احتجم وهو محرم وحديثه في التي نذرت أن تحج عن أمها وحديث السائب بن يزيد أنه حج به وحديث جابر عمرة في رمضان وفيه من الآثار عن الصحابة والتابعين اثنا عشر أثرًا والله المستعان. ثم قال المصنف:

فضائل المدينة

بسم الله الرحمن الرحيم فضائل المدينة باب حرم المدينة كذا لأبي ذر عن الحموي وسقط للباقين سوى قوله: باب حرم المدينة وفي رواية أبي علي الشبوي باب ما جاء في حرم المدينة علم على البلدة المعروفة التي هاجر إليها النبي -صلى الله عليه وسلم- ودفن فيها، قال الله تعالى: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ} فإذا أطلقت تبادر إلى الفهم أنها المراد وإذا أريد غيرها بلفظ المدينة فلابد من قيد فهي كالنجم للثريا، والبيت للكعبة وكان اسمها قبل ذلك يثرب، قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ} ويثرب اسم لموضع منها سميت كلها به قيل: "سميت بيثرب بن قانية من ولد أرم بن سام بن نوح لأنه أول من نزلها حكاه أبو عبيد البكري، وقيل: غير ذلك ثم سماها النبي -صلى الله عليه وسلم- طيبة وطابة كما يأتي في باب مفرد وكان سكانها العماليق، ثم نزلها طائفة من بني إسرائيل قيل أرسلهم موسى عليه السلام، كما أخرجه الزبير بن بكار في أخبار المدينة بسند ضعيف، ثم نزلها الأوس والخزرج لما تفرق أهل سبأ بسبب سيل العرم، وقيل بناها تبع الأكبر لما بشر بمبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخبر أنه إنما يكون في مدينة يثرب وكانت يثرب يومئذ صحراء فبناها لأجله عليه الصلاة والسلام وكتب بذلك عهدًا، ومن يوم موت تبع إلى مولد النبي صلى الله عليه وسلم ألف سنة. الحديث الأول حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا ثَابِتُ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَحْوَلُ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "الْمَدِينَةُ حَرَمٌ" مِنْ كَذَا إِلَى كَذَا، لاَ يُقْطَعُ شَجَرُهَا، وَلاَ يُحْدَثُ فِيهَا حَدَثٌ، مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. قوله: عن أنس في رواية عبد الواحد، عن عاصم قلت لأنس. وسيأتي في الاعتصام وليزيد بن هارون عن عاصم سألت أنسًا، أخرجه مسلم. قوله: "المدينة حرم من كذا إلى كذا" هكذا جاء مبهمًا وسيأتي في حديث علي رابع أحاديث الباب ما بين عائر إلى كذا فعين الأول، وهو بمهملة وزن فاعلٍ وذكره في الجزية وغيرها بلفظ عير بسكون التحتانية، وهو جبل بالمدينة، يأتي إيضاحه قريبًا، واتفقت روايات

البخاري كلها على إبهام الثاني وعند مسلم إلى ثور، فقيل إن البخاري أبهمه عمدًا لما وقع عنده أنه وهم، وقال صاحب المشارق والمطالع: أكثر رواة البخاري ذكروا عيرا وأما ثور فمنهم من كنى عنه بكذا، ومنهم من ترك مكانه والأصل في هذا التوقف، قول مصعب الزبيري ليس بالمدينة عير ولا ثور وأثبت غيره عيرا ووافقه على إنكار ثور، قال أبو عبيد: ما بين عير إلى ثور هذه رواية أهل العراق؛ وأما أهل المدينة فلا يعرفون جبلًا عندهم يقال له ثور؛ وإنما ثور بمكة ونرى أن أصل الحديث ما بين عير إلى أحد، وقد وقع ذلك في حديث عبد الله بن سلام عند أحمد والطبراني وقال عياض: لا معنى لإنكار عير بالمدينة فإنه معروف وقد جاء ذكره في أشعارهم وأنشد أبو عبيد البكري عدة شواهد منها قول الأحوص المدني الشاعر المشهور: فقالت لعمرو تلك يا عمرو ناره ... تشب قفا عير فهل أنت ناظر وقال ابن السيد: عير اسم جبل بقرب المدينة معروف وروى الزبير في أخبار المدينة قال سعيد بن عمرو لبشر بن السائب: أتدري لم سكنا العقبة قال: لا قال: لأنا قتلنا منكم قتيلًا في الجاهلية فخرجنا إليها فقال: وددت لو أنكم قتلتم منا آخر وسكنتم وراء عير، يعني جبلا كذا في نفس الخبر وقد سلك العلماء في إنكار مصعب الزبيري لعير وثور مسالك منها ما تقدم ومنها قول ابن قدامة، يحتمل أن يكون المراد مقدار ما بين عير وثور لا أنهما بعينهما في المدينة أو سمى النبي -صلى الله عليه وسلم- الجبلين اللذين بطرفي المدينة عيرًا وثورًا إرتجالًا، وقال ابن الأثير، قيل أن عيرًا جبل بمكة فيكون المراد أحرم من المدينة مقدار ما بين عير وثور بمكة على حذف المضاف ووصف المصدر المحذوف وقال النووي: يحتمل أن يكون ثور كان اسم جبل هناك إما أُحد وإما غيره وقال المحب الطبري: في الأحكام بعد حكاية كلام أبي عبيد ومن تبعه قد أخبرني الثقة العالم أبو محمد عبد السلام البصري أن حذاء أحد عن يساره جانحًا إلى ورائه جبل صغير يقال له ثور وأخبر أنه تكرر سؤاله عنه لطوائف من العرب العارفين بتلك الأرض، وما فيها من الجبال فكل أخبر أن ذلك الجبل اسمه ثور وتواردوا على ذلك فعلم أن ذكر ثور في الحديث صحيح وأن عدم علم أكابر العلماء به لعدم شهرته، وعدم بحثهم عنه وفي شرح القطب الحلبي قال لنا شيخنا الإمام أبو محمد عبد السلام بن مزروع البصري أنه خرج رسولًا إلى العراق فلما رجع إلى المدينة كان معه دليل وكان يذكر له الأماكن والجبال، قال: فلما وصلنا إلى أحد إذ بقربه جبل صغير فسألته عنه فقال: هذا يسمى ثورًا فعلمت صحة الرواية، وذكر أبو بكر بن حسين المراغي نزيل المدينة في مختصره لأخبار المدينة أن خلف أهل المدينة ينقلون عن سلفهم أن خلف أحد من جهة الشمال جبلًا صغيرًا إلى العمرة بتدوير يسمى ثورًا قال: وقد تحققته بالمشاهدة قال صاحب القاموس: ثور جبل بمكة، وجبل بالمدينة، ومنه الحديث الصحيح "المدينة حرم ما بين عير إلى ثور" وأما قول

ابن التين: أن البخاري أبهم اسم الجبل عمدًا لأنه غلط، فهو غلط بل إبهامه من بعض رواته، فقد أخرجه في الجزية فسماه كما مرَّ، ومما يدل على أن المراد بقوله: في حديث أنس من كذا إلى كذا جبلان، ما وقع عند مسلم عن أنس مرفوعًا "اللهم إني أحرم ما بين جبليها" لكن عند المصنف في الجهاد بلفظ ما بين لابتيها، وكذا في حديث أبي هريرة ثالث أحاديث الباب، وكذا في حديث رافع بن خديج وأبي سعيد وسعد وجابر كلها عند مسلم، وكذا رواه أحمد والبيهقي والطبراني بلفظ: ما بين لابتيها، واللابتان تثنية لابة بتخفيف الموحدة، وهي الحرة؛ وهي الحجارة السود، وقد تكرر ذكرها في الحديث وعند أحمد عن جابر: "وأنا أحرم المدينة ما بين حرتيها"، وادعى بعض الحنفية أن الحديث مضطرب لأنه وقع في رواية ما بين جبليها، وفي رواية ما بين لابتيها، وفي رواية مأزميها وتعقب بأن الجمع بينهما واضح، وبمثل هذا لا ترد الأحاديث الصحيحة فإن الجمع لو تعذر أمكن الترجيح ولا شك أن رواية ما بين لابتيها أرجح لتوارد الرواة عليها، ورواية جبليها لا تنافيها فيكون عند كل لابة جبل أو أن لابتيها من جهة الجنوب والشمال، وجبليها من جهة الغرب والشرق، وتسمية الجبلين في رواية أخرى لا تضر وأما رواية مأزميها فهي في بعض طرق حديث أبي سعيد والمأزم بكسر الزاي المضيق بين الجبلين، وقد يطلق على الجبل نفسه، والرواية من هذا المعنى الأخير. وقوله: "لا يقطع شجرها" بضم أوله وفتح ثالثه مبنيًا للمجهول، وفي رواية يزيد بن هارون، لا يختلى خلاها، وفي مسلم عن جابر لا يقطع عضاهها ولا يصاد صيدها وعند أبي داود بإسناد صحيح لا يختلى خلاها ولا ينفر صيدها، ففي هذا أنه يحرم صيد المدينة وشجرها كما في حرم مكة قال ابن قدامة: يحرم صيد المدينة وقطع شجرها وبه قال مالك والشافعي وأكثر أهل العلم وقال أبو حنيفة ومحمد وأبو يوسف: ليس للمدينة حرم كما لمكة فلا يمنع أحد من أخذ صيدها وقطع شجرها واحتج الطحاوي بحديث أنس في قصة أبي عمير ما فعل بالنغير، قال: لو كان صيدها حرامًا ما جاز حبس الطير وأجيب باحتمال أن يكون من صيد الحل قال أحمد من صاد من الحل ثم أدخله المدينة لم يلزمه إرساله، لحديث أبي عمير وهذا قول الجمهور، ولكن لا يرد ذلك على الحنفية لأن صيد الحل عندهم إذا دخل الحرم كان له حكم الحرم ويحتمل أن تكون قصة أبي عمير كانت قبل التحريم واحتج بعضهم بحديث أنس في قصة قطع النخل لبناء المسجد، ولو كان قطع شجرها حرامًا ما فعله -صلى الله عليه وسلم-، وتعقب بأن ذلك كان في أول الهجرة كما مرَّ في أوائل الصلاة في باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية، وقال الطحاوي: يحتمل أن يكون سبب النهي عن صيد المدينة وقطع شجرها كون الهجرة كانت إليها، فكان بقاء الصيد والشجر مما يزيد في زينتها ويدعو إلى ألفتها كما روى ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن هدم آطام المدينة فإنها من زينة المدينة فلما انقطعت الهجرة

زال ذلك، وما قاله ليس بواضح لأن النسخ لا يثبت إلا بدليل، وقد ثبت على الفتوى بتحريمها سعد وزيد بن ثابت، وأبو سعيد وغيرهم، كما أخرجه مسلم ثم من فعل مما حرم عليه فيه شيئًا أثم ولا جزاء عليه، في رواية لأحمد وهو قول مالك والشافعي في الجديد وأكثر أهل العلم وفي رواية لأحمد وهو قول الشافعي في القديم، وابن أبي ذئب واختاره ابن المنذر وابن نافع من أصحاب مالك، وقال القاضي عبد الوهاب: إنه الأقيس واختاره جماعة بعدهم فيه الجزاء، وهو كما في حرم مكة، وقيل: الجزاء في حرم المدينة أخذ السلب لحديث صححه مسلم عن سعد بن أبي وقاص، وفي رواية لأبي داود من وجد أحدًا يصيد في حرم المدينة فليسلبه، قال القاضي عياض: لم يقل بهذا بعد الصحابة إلا الشافعي في القديم، واختاره جماعة معه وبعده، لصحة الخبر فيه ولمن قال به اختلاف في كيفيته ومصرفه، والذي دل عليه صنيع سعد عند مسلم وغيره أنه كسلب القتيل، وأنه للسالب لكنه لا يخمس، وأغرب بعض الحنفية فادعى الإجماع على ترك الأخذ بحديث السلب، ثم استدل بذلك على نسخ أحاديث تحريم المدينة ودعوى الإجماع مردودة، فبطل ما ترتب عليها، قال ابن عبد البر: لو صح حديث سعد لم يكن في نسخ أخذ السلب ما يسقط الأحاديث الصحيحة ويجوز أخذ العلف لحديث أبي سعيد في مسلم، ولا يخبط فيها شجرة إلا لعلف، ولأبي داود عن أبي حسان، عن عليّ نحوه، وقال المهلب: في حديث أنس دِلالة على أن المنهي عنه في الحديث الماضي مقصور على القطع الذي يحصل به الإفساد، فأما من يقصد الإصلاح كمن يغرس بستانًا مثلًا فلا يمتنع عليه قطع ما كان بتلك الأرض من شجر يضر بقاؤه، وقيل: بل فيه دلالة على أن النهي إنما يتوجه إلى ما أنبته الله من الشجر مما لا صنع للآدمي فيه، كما حمل عليه النهي عن قطع شجر مكة، وعلى هذا يحمل قطعه عليه الصلاة والسلام النخل وجعله قبلة المسجد، ولا يلزم منه النسخ المذكور. وقوله: "من أحدث فيها حدثًا" زاد شعبة وحماد بن سلمة عن عاصم عند أبي عوانة: "أو آوى محدثًا" وهذه الزيادة صحيحة إلا أن عاصمًا لم يسمعها من أنس كما يأتي بيانُ ذلك في كتاب الاعتصام. وقوله: "فعليه لعنة الله" فيه جواز لعن أهل المعاصي والفساد، لكن لا دلالة فيه على لعن الفاسق المعين، وفيه: أن المُحْدث والمؤوي للمُحْدِث في الإثم سواء، والمراد بالحدث والمحدث الظلم والظالم على ما قيل، أو ما هو أعم من ذلك، قال عياض: واستدل بهذا على أن الحدث في المدينة من الكبائر، والمراد بلعنة الملائكة والناس المبالغة في الإبعاد عن رحمة الله، قال: والمراد باللعن هنا العذاب الذي يستحقه على ذنبه في أول الأمر، وليس هو كلعن الكافر.

رجاله أربعة

رجاله أربعة: قد مرّوا: مرَّ أبو النعمان في الأخير من الأَيمان، ومرَّ ثابت بن يزيد في الثمانين من الجماعة، ومرَّ عاصم الأحول في الخامس والثلاثين من الوضوء، ومرَّ أنس في السادس من الإيمان. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة، ورواته كلهم بصريون، وهو من رباعيات البخاري، أخرجه البخاري أيضًا في الاعتصام، ومسلم في المناسك. الحديث الثاني حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: قَدِمَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- الْمَدِينَةَ وَأَمَرَ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ: "يَا بَنِي النَّجَّارِ ثَامِنُونِي". فَقَالُوا: لاَ نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلاَّ إِلَى اللَّهِ. فَأَمَرَ بِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ، فَنُبِشَتْ، ثُمَّ بِالْخِرَبِ فَسُوِّيَتْ، وَبِالنَّخْلِ فَقُطِعَ، فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ. هذا الحديث قد مرَّ الكلام عليه مستوفًى عند ذكره في باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية؟ أوائل الصلاة، وقد بينت المراد بإيراده هنا في الكلام على الحديث الذي قبل هذا، وهو أن ذلك كان قبل التحريم. رجاله أربعة: قد مرّوا: مرَّ أبو معمر، وعبد الوارث في السابع عشر من العلم، ومرَّ أبو التياح في الحادي عشر منه، ومرَّ محل أنس في الذي قبله. الحديث الثالث حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بن عمر، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "حُرِّمَ مَا بَيْنَ لاَبَتَي الْمَدِينَةِ عَلَى لِسَانِي". قَالَ: وَأَتَى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بَنِي حَارِثَةَ، فَقَالَ: "أَرَاكُمْ يَا بَنِي حَارِثَةَ قَدْ خَرَجْتُمْ مِنَ الْحَرَمِ". ثُمَّ الْتَفَتَ، فَقَالَ: "بَلْ أَنْتُمْ فِيهِ". قوله: عن سعيد، عن أبي هريرة، قال الإسماعيلي: رواه جماعة عن عبيد الله هكذا، وزاد عبدة بن سلمان، عن أبيه، أي: عن سعيد عن أبيه، عن أبي هريرة. وقوله: "حرم ما بين لابتي المدينة" كذا للأكثر بضم أول حرم على البناء للمجهول، وفي

رجاله ستة

رواية المستملي: حرم بفتحتين على أنه خبر مقدم، وما بين لابتي المدينة المبتدأ، ويؤيد الأول ما رواه أحمد عن عبيد الله بن عمر في هذا الحديث بلفظ: "إن الله عَزَّ وَجَلَّ حرّم على لساني ما بين لابتي المدينة" ونحوه للإسماعيلي عن عبيد الله، وقد مرَّ الكلام في اللابتين في الحديث الأول، وزاد مسلم في بعض طرقه، وجعل اثني عشر ميلًا حول المدينة حمىً، وروى أبو داود عن عدي بن زيد قال: حمى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كل ناحية من المدينة بريدًا بريدًا، لا يخبط شجره ولا يعضد إلا يساق به الجمل. وقوله: "وأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- بني حارثة" في رواية الإسماعيلي: جاء بني حارثة وهم في سند الحرة، أي: في الجانب المرتفع منها، وبنو حارثة -بمهملة ومثلثة- بطن مشهور من الأوس، وهم حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس، وكان بنو حارثة في الجاهلية، وبنو عبد الأشهل في دار واحدة، ثم وقعت بينهم الحرب، فانهزمت بنو حارثة إلى خيبر فسكنوها، ثم اصطلحوا فرجع بنو حارثة، فلم ينزلوا في دار بني عبد الأشهل، وسكنوا في دراهم هذه وهي غربي مشهد حمزة. وقوله: "بل أنتم فيه" زاد الإسماعيلي: بل أنتم فيه أعادها تأكيدًا، وفي هذا الحديث جواز الجزم بما يغلب على الظن، وإذا تبين أن اليقين على خلافه رجع عنه. رجاله ستة: قد مرّوا: مرَّ إسماعيل بن أبي أويس في الخامس عشر من الإيمان ومرَّ أخوه عبد الحميد في الحادي والستين من العلم، ومرَّ سليمان بن بلال، وأبو هريرة في الثاني من الإيمان، ومرَّ سعيد المقبري في الثاني والثلاثين منه، ومرَّ عبيد الله العمري في الرابع عشر من الوضوء. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإفراد والعنعنة، ورواته كلهم مدنيون، وفيه رواية الأخ عن الأخ. الحديث الرابع حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ إِلاَّ كِتَابُ اللَّهِ، وَهَذِهِ الصَّحِيفَةُ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: الْمَدِينَةُ حَرَمٌ، مَا بَيْنَ عَائِرٍ إِلَى كَذَا، مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا، أَوْ آوَى مُحْدِثًا، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلاَ عَدْلٌ، وَقَالَ: ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلاَ عَدْلٌ، وَمَنْ تَوَلَّى قَوْمًا بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلاَ عَدْلٌ.

قوله: "عن أبيه" هذه رواية أكثر أصحاب الأعمش عنه، وخالفهم شعبة؛ فرواه عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن الحارث بن سويد، عن علي أخرجه أحمد والنسائي، قال الدارقطني في العلل: الصواب رواية الثوري ومن تبعه. وقوله: "ما عندنا شيء" أي: مكتوب، وإلا فكان عندهم أشياء من السنة سوى الكتاب، أو المنفي شيء اختصوا به عن الناس، وسبب قول عليّ هذا، ما أخرجه أحمد عن أبي حسان الأعرج أن عليًا رضي الله تعالى عنه كان يأمر بالأمر، فيقال له: فعلناه، فيقول: صدق الله ورسوله فقال له: الأشتر إن هذا الذي تقول أهو شيء عهده إليك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: ما عهد إليّ شيئًا خاصة دون الناس، إلا شيئًا سمعته منه، فهو في صحيفة في قراب سيفي، فلم يزالوا به حتى أخرج الصحيفة، فإذا فيها ... فذكر الحديث، وزاد فيه: المؤمنون تتكافؤ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم، ألا لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده، وقال فيه: إن إبراهيم حرم مكة، وإني أحرم ما بين حرتيها وسماها كله، لا يختلى خلاها ولا ينفر صيدها، ولا تلتقط لقطتها، ولا يقطع منها شجرة إلا أن يعلف الرجل بعيره، ولا يحمل فيها السلاح لقتال، والباقي نحوه، وأخرجه الدارقطني من وجه آخر عن أبي حسان عن الأشتر عن علي، لأحمد وأبي داود والنسائي عن قيس بن عاد قال: انطلقت أنا والأشتر إلى علي فقلنا: هل عهد إليك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئًا لم يعهده إلى الناس عامة؟ قال: لا، إلا ما في كتابي هذا، قال: وكتاب في قراب سيفه فإذا فيه: المؤمنون تتكافؤ ... فذكر مثل ما تقدم إلى قوله: في عهده من أحدث حديثًا إلى قوله: أجمعين، ولم يذكر بقية الحديث ولمسلم عن أبي الطفيل: كنت عند علي فأتاه رجل فقال: ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يُسِرُّ إليك؟ فغضب، ثم قال: ما كان يسر إلى شيئًا يكتمه عن الناس، غير أنه حدثني بكلمات أربع، وفي رواية له: ما خصنا بشيء لم يعم به الناس كافة، إلا ما كان في قراب سيفي، فأخرج صحيفة مكتوبًا فيها: لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من سرق منار الأرض، ولعن الله من لعن والده، ولعن الله من آوى محدثًا، وقد تقدم في كتاب العلم عن أبي جحيفة: قلت: لعلي هل عندكم كتاب؟ قال: لا، إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة، قال: قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر، والجمع بين هذه الأخبار أن الصحيفة المذكورة كانت مشتملة على مجموع ما ذكر، فنقل كل راو بعضها، وأتمُّها سياقا طريق أبي حسان كما رأيت، وتقدم عند حديث أبي جحيفة استيفاء الكلام على القصاص من المسلم للكافر. وقوله: "المدينة حرم" كذا أورده مختصرًا، وسيأتي في الجزية بزيادة في أوله: قال فيها: الجراحات، وأسنان الإبل. وقوله: "من أحدث فيها حديثًا" يقيد به مطلق ما تقدم في رواية قيس بن عباد، وأن ذلك

يختص بالمدينة لفضلها وشرفها. وقوله: "لا يقبل منه صرف ولا عدل" بفتح أولهما، واختلف في تفسيرهما. فعند الجمهور الصرف: الفريضة، والعدل: النافلة، ورواه ابن خزيمة بإسناد صحيح عن الثوري. وعن الحسن البصري بالعكس. وعن الأصمعي الصرف: التوبة والعدل، وعن يونس مثله لكن قال: الصرف الاكتساب، وعن أبي عبيدة مثله لكن قال: العدل: الحيلة، وقيل: المثل وقيل: الصرف: الدية والعدل: الزيادة عليها، وقيل: بالعكس، وحكى صاحب المحكم: الصرف: الوزن، والعدل: الكيل، وقيل: الصرف: القيمة، والعدل: الاستقامة، وقيل: الصرف: الدية، والعدل: البديل، وقيل: الصرف: الشفاعة، العدل: الفدية؛ لأنها تعادل الدية، وبهذا الأخير جزم البيضاوي، وقيل: الصرف: الرشوة، والعدل: الكفيل، قاله أبان بن ثعلب، وأنشد: لا نقبل الصرف وهاتوا عدلًا وفي آخر الحديث في رواية المستملي قال أبو عبد الله: عدل: فداء وهذا موافق لتفسير الأصمعي، قال عياض: معناه لا يقبل قبول رضىً وإن قبل قبول جزاء، وقيل: يكون القبول هنا بمعنى تكفير الذنب بهما، وقد يكون معنى الفدية أنه لا يجد يوم القيامة فدىً يفتدي به، بخلاف غيره من المذنبين بأن يفديه من النار بيهودي أو نصراني، كما رواه مسلم عن أبي موسى الأشعري، وفي الحديث رد لما تدعيه الشيعية من أنه كان عند عليّ وآل بيته من النبي صلى الله عليه وسلم أمور كثيرة أعلمه بها سرًا تشتمل على كثير من قواعد الدين، وأمور الإمارة، وفيه جوز كتابة العلم. وقوله: "ذمة المسلمين واحدة" أي: أمانهم صحيح فإذا أمن الكافر واحدٌ منهم حرم على غيره التعرض له، وللأمان شروط معروفة، وقال البيضاوي: الذمة العهد سمي بها لأنه يذم متعاطيها على إضاعتها. وقوله: "يسعى بها" أي: يتولاها ويذهب، ويجيء، والمعنى أن ذمة المسلمين سواء صدرت من واحد، أو أكثر، شريف أو وضيع فإذا أمن أحد من المسلمين كافرًا وأعطاه ذمة، لم يكن لأحد نقضه فيستوي في ذلك الرجل والمرأة، والحر والعبد لأن المسلمين كنفس واحدة، ومذهب مالك والشافعي جواز أمان المرأة والعبد، وعند أبي حنيفة: لا يجوز إلا إذا أذِن المولى لعبده بالقتال. وقوله: "فمن أخفر" بالخاء المعجمة والفاء أي: نقض العهد، يقال: خفرته بغير ألف

رجاله ستة

أمنته وأخفرته نقضت عهده. وقوله: "ومن تولى قومًا بغير إذن مواليه" لم يجعل الإذن شرطًا لجواز الادعاء، وإنما هو لتأكيد التحريم؛ لأنه إذا استأذنهم في ذلك منعوه، وحالوا بينه وبين ذلك، قاله الخطابي، ويحتمل أن يكن كنى بذلك عن بيعه، فإذا وقع بيعه جاز له الانتماء إلى مولاه الثاني، وهو غير مولاه الأول، أو المراد موالاة الحلف فإذا أراد الانتقال عنه لا ينتقل إلا بإذن، وقال البيضاوي: الظاهر أنه أراد به ولاء العتق لعطفه على قوله: من ادعى إلى غير أبيه، والجمع بينها بالوعيد، فإن العتق من حيث أنه لحمة كلمة النسب فإذا نسب إلى غير من هو له، كان كالدعي الذي تبرأ عمن هو منه، وألحق نفسه بغيره، فيستحق به الدعاء عليه بالطرد والإبعاد عن رحمة الله تعالى، ثم أجاب عن الإذن بنحو ما تقدم، وقال: ليس هو للتقييد وإنما هو للتنبيه على ما هو المانع، وهو إبطال حق مواليه فأورد الكلام على ما هو الغالب، وقد رتب المصنف أحاديث الباب ترتيبًا حسنًا، ففي حديث أنس التصريح يكون المدينة حرمًا، وفي حديثه الثاني تخصيص النهي عن قطع الشجر، بما لا ينبته الآدميون، وفي حديث أبي هريرة بيان ما أجمل من حرمها في حديث أنس حيث قال: كذا وكذا، فبين بهذا أنه ما بين الحرتين، وفي حديث على زيادة تأكيد التحريم، وبيان حد الحرم أيضًا. رجاله ستة: مرَّ منهم: محمد بن بشار في الحادي عشر من العلم، ومرَّ عبد الرحمن بن مهدي في الأول من استقبال القبلة، ومرَّ الثوري في السابع والعشرين من الإيمان، ومرَّ الأعمش في الخامس والعشرين منه، ومرَّ إبراهيم بن يزيد التيمي في تعليق بعد الأربعين منه في باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله، ومرَّ عليّ بن أبي طالب في السابع والأربعين من العلم. والباقي: يزيد بن شريك بن طارق التيمي الكوفي، قال يحيى بن معين: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن سعد: كان ثقة، وكان عريف قومه، وله أحاديث، وقال أبو موسى المديني في الذيل: يقال إنه أدرك الجاهلية، روى عن عمر وعليّ وأبي ذر وغيرهم، وروى عنه ابنه إبراهيم، وإبراهيم النخعي والحكم بن عتيبة وغيرهم. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والعنعنة، ورواته بصريان وكوفيون، وفيه ثلاثة من التابعين في نسق. ثم قال المصنف:

باب فضل المدينة وأنها تنفي الناس

باب فضل المدينة وأنها تنفي الناس أي: الشرار منهم، وراعى في الترجمة لفظ الحديث وقرينة إرادة الشرار من الناس ظاهرة من التشبيه الواقع في الحديث، والمراد بالنفي الإخراج. ولو كانت الرواية تنقي بالقاف لحمل لفظ الناس على عمومه، وقد ترجم المصنف بعد أبواب المدينة تنفي الخبث. الحديث الخامس حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْحُبَابِ سَعِيدَ بْنَ يَسَارٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ الْقُرَى يَقُولُونَ: يَثْرِبُ. وَهْيَ الْمَدِينَةُ، تَنْفِي النَّاسَ كَمَا يَنْفِى الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ". قال ابن عبد البر: اتفق الرواة عن مالك على إسناده إلا إسحاق بن عيسى الطباع، فقال: عن مالك، عن يحيى، عن سعيد بن المسيب -بدل سعيد بن يسار-، وهو خطأ، وتابعه أحمد بن عمر، عن خالد السلمي، عن مالك وأخرجه الدارقطني في غراب مالك وقال: هذا وهم، والصواب: عن يحيى، عن سعيد بن يسار. وقوله: "أمرت بقرية" أي: أمرني ربي بالهجرة إليها أو سكناها، فالأول محمول على أنه قاله بمكة، والثاني على أنه قاله بالمدينة. وقوله: "تأكل القرى" أي: تغلبهم وكنى بالأكل عن الغلبة؛ لأن الأكل غالب على المأكول، وفي موطأ ابن وهب قلت لمالك: ما تأكل القرى قال: تفتح القرى، وبسطه ابن بطال فقال: معناه يفتح أهلها القرى، فيأكلون أموالهم، ويسبون ذراريهم قال: وهذا من فصيح كلام العرب تقول العرب: أكلنا بلد كذا، إذا ظهروا عليه، وسبقه الخطابي إلى معنى ذلك أيضًا. وقال النووي: ذكروا في معناه وجهين: أحدهما: هذا، والآخر: أن أكلها وميرتها من القرى المفتتحة وإليها تساق غنائمها، قال ابن المنير: يحتمل أن يكن المراد بأكلها القرى غلبة فضلها على فضل غيرها، ومعناه أن الفضائل تضمحل في جنب عظيم فضلها، حتى تكاد تكون عدمًا، وما ذكره احتمالًا ذكره

القاضي عبد الوهاب، فقال: لا معنى لقوله: "تأكل القرى" إلا رجوح فضلها عليها، وزيادتها على غيرها، ولكن دعوى الحصر مردودة لما مضى، ثم قال ابن المنير: وقد سميت مكة أم القرى والمذكور للمدينة، أبلغ منه لأن الأمومة إذا وجدت لا ينمحي ما هي له أم، لكن يكون حق الأم أظهر وفضلها أكثر. وقوله: "يقولون: يثرب، وهي المدينة" أي: أن بعض المنافقين يسميها يثرب واسمها الذي يليق بها المدينة، وفهم بعض العلماء من هذا كراهة تسمية المدينة يثرب، وقالوا: ما وقع في القرآن إنما هو حكاية عن قول غير المؤمنين، وروى أحمد عن البراء بن عازب رفعه: "من سمى المدينة يثرب، فليستغفر الله هي طابة، هي طابة" وروى عمر بن شبة عن أبي أيوب أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى أن يقال للمدنية يثرب، ولهذا قال عيسى بن دينار المالكي: من سمى المدينة يثرب كتبت عليه خطيئة، قال: وسبب هذه الكراهة لأن يثرب إما من التثريب الذي هو التوبيخ والملامة، أو من الثرب، وهو الفساد، وكلاهما مستقبح وكان -صلى الله عليه وسلم- يحب الاسم الحسن، ويكره الاسم القبيح، وذكر أبو إسحاق الزجاج وأبو عبيد البكري أنها سميت يثرب باسم يثرب بن قانية بن مهلايل بن عيل بن عيص بن أرم بن سام بن نوح؛ لأنه أول من سكنها بعد العرب، ونزل أخوه خيبور خيبر فسميت به، وسقط بعض الأسماء من كلام البكري. وقوله: "تنفي الناس" قال عياض: وكأن هذا مختص بزمنه لأنه لم يكن يصبر على الهجرة، والمقام بها معه، إلا من ثبت إيمانه، وقال النووي: ليس هذا بظاهر؛ لأن عند مسلم: "لا تقوم الساعة حت تنفي المدينة شرارها، كما ينفي الكبير خبث الحديد" وهذا -والله أعلم- زمن الدجال، قال في الفتح: قال: ويحتمل أن يكون المراد كلا من الزمنين، وكان الأمر في حياته عليه الصلاة والسلام كذلك للسبب المذكور، ويؤيده قصة الأعرابي الآتية بعد أبواب، فإنه عليه الصلاة والسلام ذكر هذا الحديث معللًا به خروج الأعرابي، وسؤاله الإِقالة عن البيعة، ثم يكون ذلك أيضًا في آخر الزمان؛ عندما ينزل بها الدجال، فترجف بأهلها، فلا يبقى منافق، ولا كافر إلا خرج إليه، كما يأتي بعد أبواب، وأما ما بين ذلك فلا. وقوله: "كما ينفي الكير" أي: بكسر الكاف وسكون التحتانية، وفيه لغة أخرى كور بضم الكاف، والمشهور بين الناس أنه الزّق الذي ينفخ فيه، لكن أكثر أهل اللغة على أن المراد بالكير حانوت الحداد والصائغ، قال ابن التين: وقيل: الكير هو الزق والحانوت هو الكور، وقال صاحب المحكم: الكير الزق الذي ينفخ فيه الحداد، ويؤيد الأول ما رواه عمر بن شبة في أخبار المدينة بإسناد له إلى أبي مودود، قال: رأى عمر بن الخطاب كير حداد في السوق فضربه برجله حتى هدمه، والخبث بفتح المعجمة والموحدة بعدها مثلثة أي: وسخه الذي تخرجه النار، والمراد أنها لا تترك فيها من في قلبه دغل، بل تميزه عن القلوب الصادقة،

وتخرجه كما يميز الحداد رديء الحديد من جيده، ونسبة التمييز للكير لكونه السبب الأكبر في اشتعال النار التي يقع بها التمييز، واستدل بهذا الحديث على أن المدينة أفضل البلاد، قال المهلب: لأن المدينة هي التي أدخلت مكة وغيرها من القرى في الإِسلام فصار الجميع في صحائف أهلها، ولأنها تنفي الخبث، وأجيب عن الأول بأن أهل المدينة الذين فتحوا مكة معظمهم من أهل مكة، فالفضل ثابت للفريقين، ولا يلزم من ذلك تفضيل إحدى البقعتين. قلت: في هذا الجواب نظر؛ لأن الذين فتحوا مكة -وإن كان معظمهم من أهلها- لم يفتحوها إلا باسم المدينة، والسكنى فيها، فلا ينفي ذلك فضل المدينة بهذه المزية، وعن الثاني بأن ذلك إنما هو في خاص من الناس ومن الزمان بدليل قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} والمنافق خبيث بلا شك، وقد خرج من المدينة بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- معاذ وأبو عبيدة، وابن مسعود وطائفة، ثم علي وطلحة والزبير، وعمار، وآخرون وهم من أطيب الخلق فدلّ على أن المراد بالحديث تخصيص ناس دون ناس، ووقت دون وقت. قلت: هذا الخروج الواقع من أولئك الأفاضل لا يصدق عليه النفي، ولا يتناوله، وقال ابن حزم لو فتحت بلد من بلد، فثبت بذلك الفضل للأولى، للزم أن تكن البصرة أفضل من خراسان وسجستان وغيرهما، مما فتح من جهة البصرة؛ وليس كذلك، قلت: من أين له بأن الأمر ليس كذلك، بل الظاهر أن الأمر كذلك، فتكون البصرة أفضل مما فتح بعدها لقدمها في الإِسلام. وقد استنبط ابن أبي جمرة من قوله عليه الصلاة والسلام: "ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة" التساوي بين فضل مكة والمدينة، ومباحث التفضيل بين الموضعين مشهورة، وقال الأبي من المالكية، واختار ابن رشد وشيخنا أبو عبد الله ابن عرفة تفضيل مكة، واحتج ابن رشد لذلك بأن الله تعالى جعل بها قبلة الصلاة، وكعبة الحج، وأن الله تعالى جعل لها مزية بتحريم الله تعالى إياها، إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس، وأجمع أهل العلم على وجوب الجزاء على من صاد بحرمها، ولم يجمعوا على وجوبه على من صاد بالمدينة، ومن دخله كان آمنًا، ولم يقل أخد بذلك في المدينة، والذنب في حرم مكة أغلظ منه في حرم المدينة، فكان ذلك دليلًا على فضلها عليها، قال: ولا حجة في الأحاديث المرغبة في سكنى المدينة على فضلها عليها، قال: ولا دليل في قوله: أُمرت بقرية تأكل القرى لأنه إنما أخبر أنه أمر بالهجرة إلى قرية تفتح منها البلاد، قلت: وهذا الذي أخبر به من كونها تفتح منها البلاد أي: مزية فوقه.

رجاله خمسة

رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ عبد الله بن يوسف، ومالك في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ يحيى بن سعيد الأنصاري في الأول، ومرَّ أبو الحباب في التاسع من الوتر، ومرَّ أبو هريرة في الثاني من الإيمان، والإسناد كلّه مدنيون إلا شيخ البخاري. ثم قال المصنف:

باب المدينة طابة

باب المدينة طابة أي: من أسمائها، إذ ليس في الحديث أنها لا تسمى بغير ذلك. الحديث السادس حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ يَحْيَى، عَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ رضي الله عنه: أَقْبَلْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ تَبُوكَ حَتَّى أَشْرَفْنَا عَلَى الْمَدِينَةِ فَقَالَ: "هَذِهِ طَابَةُ". هذا طرف من حديث أبي حميد الساعدي الماضي مطولًا، في أواخر الزكاة في باب خرص التمر، ومرَّ الكلام عليه هناك مستوفى، وفي بعض طرقه: طابة، وفي بعضها: طيبة؛ وطيبة كهيبة، وطيبة كصيبة، وطائب ككاتب، فهذه الثلاثة مع طابة كشامة أخوات لفظًا ومعنى، مختلفات صيغة. ومبني، وروى مسلم عن جابر بن سمرة مرفوعًا: "إن الله سمى المدينة طابة" ورواه أبو داود الطيالسي في "مسنده"، عن شعبة، عن سماك بلفظ: "كانوا يسمون المدينة يثرب فسماها النبي -صلى الله عليه وسلم- طابة"، وأخرجه أبو عوانة، والطاب والطيب لغتان بمعنى، واشتقاقهما من الشيء الطيب، وقيل: لطهارة تربتها، أو لطهارتها من الشرك، وحلول الطيب عليه الصلاة والسلام بها، وقيل: لطيبها لساكنها، وقيل: من طيب العيش بها، وقال بعض أهل اللغة: وفي طيب ترابها وهوائها دليل شاهد على صحة هذه التسمية؛ لأن من أقام بها يجد من تربتها، وحيطانها رائحة طيبة، لا تكاد توجد في غيرها، وقال الحافظ: أمر المدينة في طيب ترابها وهوائها يجده من أقام بها، ويجد لطيبها أقوى رائحة، ويتضاعف طيبها فيها عن غيرها من البلاد، وكذلك العود وسائر أنواع الطيب، ولله در الإشبيلي حيث قال: لتربة المدينة نفحة ليس كما عهد من الطيب، بل هو عجيب من الأعاجيب، ولها أسماء كثيرة، وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى، منها: ما رواه عمر بن شبة في أخبار المدينة من رواية زيد بن أسلم قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "للمدينة عشرة أسماء، هي: المدينة، وطابة، وطيبة، والمطيبة، والمسكينة، والدار، وجابرة، ومجبورة، ومنيرة، ويثرب"، وعن محمد بن أبي يحيى قال: لم أزل أسمع أن للمدينة عشرة أسماء هي: المدينة، وطيبة، وطابة، والمطيبة، والمسكينة، والمدرى، والجابرة، والمجبورة، والمحببة، المحبوبة، وزاد الزبير في أخبار المدينة عن ابن أبي يحيى: "والقاصمة" وعن أبي سهل بن مالك، عن كعب الأحبار قال نجد في كتاب الله

الذي أنزل على موسى أن الله قال للمدينة: يا طيبة، ويا طابة، ويا مسكينة! لا تقبلي الكنوز، أرفع أجاجيرك على القرى، وروى الزبير عن عبد الله بن جعفر قال: سمى الله المدينة: الدار والإيمان، ومن أسمائها بيت الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} أي: من المدينة لاختصاصها به؛ اختصاص البيت بساكنه، والحرم لتحريمها كما مرَّ، والحبيبة؛ لحبه عليه الصلاة والسلام لها، ودعائه به، وحرم الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه الذي حرمها، وللطبراني بسند رجاله ثقات: حَرَمُ إبراهيمَ مكةٌ، وحرمي المدينةُ. وحسنة، قال الله تعالى: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} أي: مباءة حسنة وهي المدينة، ودار الأبرار، ودار الأخيار لأنها دار المختار، والمهاجرين والأنصار، وتنفي شرارها، ومن أقام بها منهم فليست له في الحقيقة بدار، وربما نقل منها بعد الأقبار، ودار السنة، ودار السلامة، ودار الفتح، ودار الهجرة؛ فمنها فتح سائر الأمصار، وإليها هجرة المختار، ومنها انتشرت السنة في الأقطار، والشافية؛ لحديث ترابها شفاء من كل داء، وذكر ابن مسدي الاستشفاء بتعليق أسمائها على المحموم، وقبة الإِسلام: لحديث: "المدينة قبة الإِسلام"، والمؤمنة؛ لتصديقها به حقيقة بخلقه، فيها قابلية ذلك كما في تسبيح الحصى، أو مجازًا لاتصاف أهلها وانتشاره منها، وفي خبر: والذي نفسي بيده إن تربتها لمؤمنة، وفي آخر: إنها لمكتوبة في التوراة مؤمنة، والمباركة؛ لأن الله تعالى بارك فيها بدعائه عليه الصلاة والسلام وحلوله فيها، والمختارة؛ لأن الله تعالى اختارها للمختار من خلقه، والمحفوظة؛ لحفظها من الطاعون والدجال وغيرهما، ومدخل صدق، والمرزوقة أي: مرزوق أهلها، والمسكينة كما مرَّ عن التوراة والمسكنة الخضوع والخشوع خلقه الله فيها، أو هي مسكن الخاشعين -أسال الله العظيم بوجاهة وجهه الوجيهة ونبيه النبيه عليه الصلاة والسلام أن يجعلني من ساكنيها المقربين حيًّا وميتًا؛ إنه جابر المنكسرين، وواصل المنقطعين- ومنها المقدسة؛ لتنزهها عن الشرك وكونها تنفي الذنوب، وأكالة القرى لغلبتها الجميع فضلًا، وتسلطها عليها، وافتتاحها بأيدي أهلها فغنموها وأكلوها، وروى الزبير في أخبار المدينة عبد العزيز الدراوردي أنه قال: بلغني أن للمدينة في التورية أربعين اسمًا، وذكر الشامي في "سيرته": لها نحو مائة اسم، وها أنا أذكر بعضًا مما لم يذكر فيما مرَّ فمنها: البحيرة كرغيفة، فالبحر الاتساع وهي بمتسع من الأرض، والبلاط كسحاب إذ هو الحجارة المفروشة، وذلك كثير فيها، والبلد قال الله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَد} قيل: مكة، وقيل: المدينة، وتندد -بالمثناة الفوقية، والنون، والدالين المهملتين- كجعفر، ويروى ياء بدل التاء من الند الطيب المعروف أو من الند التل المرتفع، والجبارة، وجبار كخدام لجبرها الكسير وإغنائها الفقير، وجزيرة العرب لقول بعضهم: إنها المراد في حديث: "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب" والجُنة بضم الجيم وهي الوقاية والخيرة بالتخفيف والتشديد، وذات الحجر بضم الحاء وفتح الجيم لاشتمالها عليها، وذات

الحِرار بكسر الحاء وبراءين مهملتين لكثرة الحجارة السود بها، والسلقة بالقاف وبفتح اللام وكسرها وسكونها لاتساعها وتباعد جبالها، وطباطب بكسر المهملة أي: القطعة المستطيلة من الأرض، والقاصمة لأنها لا يدخلها الطاعون، ولا الدجال، ومن أرادها بسوء أذابه الله. والعذراء بالعين المهملة والذال المعجمة لصعوبتها على الأعداء، والعراء لعدم ارتفاع أبنيتها، والعروض كصبور لانخفاض مواضع فيها، والغراء من الغرة لاشتهارها على سائر البلاد، والفاضحة لأنها تفضح من أضمر فيها سوءًا، والقاصمة لقصمها كل جبار، والمحبورة من الحبور وهو السرور، والمحروسة، والمحفوظة لأنها محفوفة بالملائكة، والمرحومة لأنها تتنزل فيها الرحمات، والمرزوقة أي: المرزوق أهلها أو أنها لا يخرج عنه أحد إلا أبدلها الله خيرًا منه، أظن أن هذا خاص بمن خرج منها كراهية لها، لا من خرج منها لعذر، والمسجد الأقصى ومضجع الرسول -صلى الله عليه وسلم- والناجية لنجاتها بحوزها أشرف الخلق، ونبلاء بفتح النون وسكون الموحدة والمد من النبل، وهو الفضل، والبارَّة، والبرَّة، وهما من قولك امرأة بارَّة، والبحرة، والبحيرة بالتصغير وتندر، ويندر بالدال والراء المهملتين، وجبار كخدام، ودار الإيمان، وذات النخل، وسيدة البلدان، وظبابا، إما بكسر المهملة أو بفتح المعجمة الأول بمعنى القطعة المستطيلة، والثاني من ظبب أو ظبظب إذا حم لأنها كانت لا يدخلها أحد إلا حم، وغلبة بالتحريك من الغلب وهو الظهور على الشيء، وقرية الأنصار، وقرية الرسول عليه الصلاة والسلام، وقلب الإيمان، ومُبَوءُ الحلال والحرام، ومبين الحلال والحرام، والمحبة بضم الميم وبالحاء المهملة وبتشديد الموحدة، والمحرمة، ومدينة الرسول، والمسلمة المؤمنة، والمقرّ بالقاف من القرار "يجيب" والمكتان، والمكينة، لتمكنها في المكانة والمنزلة عند الله، ومهاجر الرسول -صلى الله عليه وسلم-، والموفية بتشديد الفاء من التوفية ويجوز تخفيفها إذ الإيفاء والتوفية بمعنى، والنحر بفتح النون وسكون الحاء سميت به إما لشدة حرها، وإما لإطلاق النحر على الأصل والهذراء بالذال المعجمة لشدة حرها يقال: يوم هاذر أي: شديد الحر، أو بالمهملة من هدر الحمام إذا صوت، وأثرب كمسجد، وأرض الله، وأرض الهجرة، وأكالة البلدان، ومجنة، وقدسية. هذا ما وقفت عليه من أسمائها وأسأل الله تعالى بحرمة من سكنها حيًّا وميتًا سيد البشر -صلى الله عليه وسلم- وبحرمة من سكنها من أصحابه عليهم رضوان الله وتابعيهم وتابعي تابعيهم إلى يوم الدين أن يختم لي ولمن معي بالسكنى فيها على أتم حال، وأبركه وأطهره، وبالموت فيها على الإيمان، والدفن في البقيع آمين يا أرحم الراحمين، يا مجيب دعاء المضطرين يا من يجيب المضطر إذا دعاه.

رجاله خمسة

رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ خالد بن مخلد في الرابع من العلم، ومرَّ سليمان بن بلال في الثاني من الإيمان، ومرَّ عمرو بن يحيى في الخامس عشر منه، ومرَّ عباس بن سهل في الثالث والثمانين من الزكاة. ثم قال المصنف: باب لابتي المدينة الحديث السابع حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "لَوْ رَأَيْتُ الظِّبَاءَ بِالْمَدِينَةِ تَرْتَعُ مَا ذَعَرْتُهَا" قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا حَرَامٌ". قوله: "لو رأيت الظباء ترتع" أي: تسعى أو ترعى بالمدينة، وقيل تنبسط. وقوله: "ما ذعرتها" أي: ما قصدت أخذها فأخفتها بذلك، وكنى بذلك عن عدم صيدها، واستدل أبو هريرة بقوله عليه الصلاة والسلام: "ما بين لابتيها حرام" لأن المراد بذلك المدينة، لأنها بين لابتين شرقية وغربية، ولها لابتان أيضًا من الجانبين الآخرين، إلا أنهما يرجعان إلى الأولين لاتصالهما بهما، والحاصل أن جميع دورها كلها داخل ذلك، وقد مرَّ شرح الحديث في الباب الأول، وفي قول أبي هريرة هذا إشارة إلى قوله في الحديث الماضي: لا ينفر صيدها، ونقل ابن خزيمة الاتفاق على أن الأجزاء في صيد المدينة بخلاف صيد مكة، وقال بعض المالكية: إن عدم الجزاء في صيد المدينة إنما هو لعظمه لا يكفر كيمين الغموس. رجاله خمسة: مرَّ عبد الله بن يوسف، ومالك في الثاني من بدء الوحي، والزهري في الثالث فهو ابن المسيب في التاسع عشر من الإيمان، وأبو هريرة في الثاني منه. أخرجه مسلم والنسائي في الحج والترمذي في المناقب. ثم قال المصنف:

باب من رغب عن المدينة

باب من رغب عن المدينة أي فهو مذموم، أرباب حكم من رغب عنها الحديث الثامن حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "يَتْرُكُونَ الْمَدِينَةَ عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ، لاَ يَغْشَاهَا إِلاَّ الْعَوَافِ، يُرِيدُ عَوَافِيَ السِّبَاعِ وَالطَّيْرِ، وَآخِرُ مَنْ يُحْشَرُ رَاعِيَانِ مِنْ مُزَيْنَةَ، يُرِيدَانِ الْمَدِينَةَ يَنْعِقَانِ بِغَنَمِهِمَا، فَيَجِدَانِهَا وَحْشًا، حَتَّى إِذَا بَلَغَا ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ خَرَّا عَلَى وُجُوهِهِمَا". قوله: "تتركون المدينة" كذا للأكثر بتاء الخطاب، والمراد بذلك غير المخاطبين لكنهم من أهل البلد، أو من نسل المخاطبين، أو من نوعهم، وروى يتركون بتحتانية، ورجحه القرطبي. وقوله: "على خير ما كانت". أي: على أحسن حال كانت عليه قبل من العمارة وكثرة الأشجار وحسنها، قال القرطبي: تبعًا لعياض، وقد وجد ذلك حيث صارت معدن الخلافة، ومقصد الناس وملجأهم وحملت إليها خيرات الأرض، وصارت من أعمر البلاد، فلما انتقلت الخلافة عنها إلى الشام ثم إلى العراق وتقلبت عليها الأعراب تعاورتها الفتن؛ وخلت من أهلها، فقصدتها عوافي الطير والسباع والعوافي جمع عافية، وهي التي تطلب أقواتها، ويقال للذكر: عاف، قال ابن الجوزي: اجتمع في العوافي شيئان أحدهما: أنها طالبة لأقواتها من قولك: عفوت فلانًا أعفو، وأنا عاف والجمع عفاة أي: أتيت أطلب معروفه، والثاني: من العفاء وهو الموضع الخالي الذي لا أنيس به، فإن الطير والوحش تقصده لأمنها على نفسها فيه، وقال النووي في "المختار": إن هذا الترك يكون في آخر الزمان عند قيام الساعة، ويؤيده قصة الراعيين، فقد وقع عند مسلم بلفظ: ثم يحشر راعيان، وفي البخاري أنهما آخر من يحشر، ويؤيده ما رواه معن بن عيسى عن مالك في الموطأ، عن أبي هريرة رفعه: "لتتركن المدينة على أحسن ما كانت، حتى يدخل الذيب فيعوي على بعض سواري المسجد، أو على المنبر، قالوا: فلمن تكون ثمارها؟ قال: للعوافي الطير والسباع، ورواه جماعة من الثقات خارج "الموطأ"، ويشهد له أيضًا ما روى أحمد والحاكم وغيرهما عن محجن بن الأدرع الأسلمي قال: بعثني النبي -صلى الله عليه وسلم- لحاجة ثم لقيني وأنا خارج من بعض طرق المدينة فأخذ

بيدي، حتى أتينا أُحدًا، ثم أقبل على المدينة، فقال: "ويل أمها قرية، يوم يدعها أهلها كأينع ما يكون"، قلت: يا رسول الله! من يأكل ثمرها؟ قال: "عافية الطير والسباع"، وروى عمر بن شبة بإسناد صحيح عن عوف بن مالك قال: دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المسجد ثم نظر إلينا فقال: "أما والله ليدعنها أهلها مذللة أربعين عامًا للعوافي، أتدرون ما العوافي؟ الطير والسباع"، وهذا لم يقع قطعًا، وقال المهلب في هذا الحديث: إن المدينة تسكن إلى يوم القيامة وإن خلت في بعض الأوقات، لقصد الراعيين بغنمهما المدينة، وقد أنكر ابن عمر على أبي هريرة تعبيره في هذا الحديث بقوله: "خير ما كانت" وقال: إن الصواب: أعمر ما كانت، أخرج ذلك عمر بن شبة في أخبار المدينة عن مساحق ابن عمرو أنه كان جالسًا عند ابن عمر فجاء أبو هريرة فقال له: لم ترد على حديثي، فوالله لقد كنت أنا وأنت في بيت حين قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يخرج منها أهلها، خير ما كانت" فقال ابن عمر: أجل؛ ولكن لم يقل: "خير ما كانت" إنما "قال: "أعمر ما كانت"، ولو قال: "خير ما كانت"، لكان ذلك وهو حي وأصحابه، فقال أبو هريرة: صدقت، والذي نفسي بيده، وروى مسلم عن حذيفة أنه لما سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عمن يخرج أهل المدينة من المدينة، ولعمر بن شبة عن أبي هريرة قيل: يا أبا هريرة من يخرجهم؟ قال: أمراء السوء. وقوله: "آخر من يحشر راعيان من مزينة"، هذا يحتمل أن يكون حديثًا آخر مستقلًا، لا تعلق له بالذي قبله، ويحتمل أن يكون من تتمة الحديث الذي قبله، وعلى هذين الاحتمالين يترتب الاختلاف الذي حكيته عن القرطبي والنووي، والثاني أظهر كما قال النووي، وفي رواية مسلم عن الزهري: "ثم يخرج راعيان من مزينة يريدان المدينة"، لم يذكر في الحديث حشرهما، وإنما ذكر مقدمته لأن الحشر إنما يقع بعد الموت، فذكر سبب موتهما والحشر يعقبه. وقوله: "ينعقان" -بكسر المهملة بعدها قاف- النعيق: زجر الغنم، يقال: نعق ينعق بكسر العين وفتحها نعيقًا ونعاقًا ونعقًا ونعقانًا إذا صاح بالغنم، وأغرب الداودي فقال: معناه يطلب الكلأ، وكأنه فسره بالمقصود من الزجر لأنه يزجرها عن المرعى الوبيل إلى المرعى الوسيم. وقوله: "فيجدانها وحوشًا" أي: يجدانها ذات وحش أو يجدان أهلها قد صاروا وحوشًا، وهذا على أن الرواية بفتح الواو أي: يجدانها خالية، وفي رواية مسلم: فيجدانها وحشًا أي: خالية ليس بها أحد والوحش من الأرض الخلاء، أو كثيرة الوحش لما خلت من سكانها، قال النووي: الصحيح أن معناه يجدانها ذات وحوش، قال: وقد يكون وحشًا بمعنى وحوش، وأصل الوحش كل شيء توحش من الحيوان، وجمعه وحوش، وقد يعبر بواحده عن جمعه، وحكى عن ابن المرابط أن معناه أن غنم الراعيين المذكورين تصير وحوشًا إما بأن تنقلب

رجاله خمسة

ذاتها، وإما أن تتوحش وتنفر منهما، وعلى هذا فالضمير في يجدانها يعود على الغنم، والظاهر خلافه، قال النووي: الصواب الأول، وقال القرطبي: القدرة صالحة لذلك، ويؤيده أن في بقية الحديث: "إنهما يخران على وجوههما إذا وصلا إلى ثنية الوداع" وذلك قبل دخولهما المدينة بلا شك، فيدل على أنهما وجدا التوحش المذكور قبل دخول المدينة، فيقوي أن الضمير يعود على غنمهما، وكان ذلك من علامات قيام الساعة، ويوضح هذا رواية عمر بن شبة في أخبار المدينة عن عطاء بن السائب عن رجل من أشجع، عن أبي هريرة موقوفًا قال: آخر من يحشر رجلان: رجل من مزينة، وآخر من جهينة فيقولان: أين الناس؟ فيأتيان المدينة، فلا يريان إلا الثعالب، فينزل إليهما ملكان فيسحبانهما على وجوههما حتى يلحقاهما بالناس. وقوله: "خرا على وجوههما" أي: سقطا ميتين، أو المراد بقوله: "خرا على وجوههما" أي: سقطا بمن أسقطهما، وهو الملك كما مرَّ في رواية عمر بن شبة، وفي رواية للعقيلي: إنهما كانا ينزلان بحبل. ورقان، وله في حديث حذيفة بن أسيد: أنهما يفقدان الناس، فيقولان: ننطلق إلى بني فلان، فيأتيانهم فلا يجدان أحدًا فيقولان: ننطلق إلى المدينة، فينطلقان، فلا يجدان بها أحدًا، فينطلقان إلى البقيع،، فلا يريان إلا السباع، والثعالب، وهذا يوضح أحد الاحتمالات المتقدمة، وقد روى ابن حبان عن عروة عن أبي هريرة رفعه: "آخر قرية في الإِسلام خرابًا المدينة"، وهو يناسب كون آخر من يحشر يكون منها. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ أبو اليمان، وشعيب في الأخير من بدء الوحي، ومرَّ محل الثلاثة الباقية في الذي قبله. الحديث التاسع حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "تُفْتَحُ الْيَمَنُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يُبِسُّونَ، فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، وَتُفْتَحُ الشَّامُ، فَيَأْتِي قَوْمٌ يُبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، وَتُفْتَحُ الْعِرَاقُ، فَيَأْتِي قَوْمٌ يُبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ. وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ". قوله: "عن سفيان بن أبي أزهر" كذا للأكثر، ورواه حماد بن سلمة، عن هشام، عن أبيه كذلك وقال في آخره: قال عروة: ثم لقيت سفيان بن أبي أزهر عند موته، فأخبرني بهذا

الحديث، وذكر عليّ ابن المديني أنه اختلف فيه على هشام اختلافًا آخر، فقال وهيب وجماعة كما قال مالك، وقال ابن عيينة: عن هشام بسنده عن سفيان بن الغوث وقال أبو معاوية عن هشام بسنده، عن سفيان بن عبد الله الثقفي، لكن رواه الحميدي عن سفيان على الصواب، ورواه أبو خيثمة عن جرير فقال: سفيان بن أبي قلابة. وقوله: "تفتح اليمن" قال ابن عبد البر وغيره: افتتحت اليمن في أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وفي أيام أبي بكر، وافتتحت الشام بعدها والعراق بعدها، وفي الحديث علم من أعلام النبوءة فقد وقع على وفق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وعلى ترتيبه، ووقع تفرق الناس في البلاد لما فيها من السعة والرخاء، ولو صبروا على الإقامة بالمدينة لكان خيرًا لهم، وفي هذا الحديث فضل المدينة على البلاد المذكورة، وهو أمر مجمع عليه فلم يختلف العلماء في أن للمدينة فضلًا على غيرها، وإنما اختلفوا في الأفضلية بينها وبين مكة، وفيه دليل على أن بعض البقاع أفضل من بعض. وقوله: "يبسون" بفتح أوله وكسر الموحدة، وضمها من بس، يبس قال ابن عبد البر: في رواية يحيى بن يحيى بكسر الموحدة، وقيل: إن ابن القاسم رواه بضمها، قال أبو عبيد: معناه يسوقون دوابهم، والبس سوق الإبل تقول: بس بس عند السوق وإرادة السرعة، وقال الداودي معناه يزجون دوابهم، فيبسون ما يطؤونه من الأرض بشدة السير، فيصير غبارًا قال الله تعالى: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} أي: سالت سيلًا وقيل: معناه سارت سيرًا، وقال ابن القاسم: البس المبالغة في الفت ومنه قيل للدقيق المصنوع بالدهن: بسيس، وأنكر ذلك النووي وقال: إنه ضعيف، أو باطل، قال ابن عبد البر: وقيل معنى يبسون: يسألون عن البلاد، ويستقرؤون أخبارها ليسيروا إليها، قال: وهذا لا يكاد يعرفه أهل اللغة، وقيل: معناه يزينون لأهلهم البلاد التي تفتح، ويدعونهم إلى سكناها فيتحملون بسبب ذلك من المدينة راحلين إليها، ويشهد لهذا ما رواه مسلم عن أبي هريرة يأتي على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه، وقريبه هلم إلى الرخاء، والمدينة خير لو كانوا يعلمون، وعلى هذا فالذين يتحملون غير الذين يبسون، كان الذي حضر الفتح أعجبه حسن البلاد ورخاؤها فدعا قريبه إلى المجيء إليها، لذلك فيتحمل المدعو بأهله وأتباعه، قال ابن عبد البر: وروي يبسون بضم أوله من الرباعي أبس إبساسًا ومعناه يزينون لأهلهم البلد التي يقصدونها، وأصل الإبساس للتي تحلب حتى قدر باللبن، وهو أن يجري يده على وجهها، وصفحة عنقها كأنه يزين لها ذلك، ويحسنه لها، وإلى هذا ذهب ابن وهب، وكذا رواه ابن حبيب، عن مطرف، عن مالك يبسون من الرباعي وفسره بنحو ما ذكرناه، وأنكر الأول غاية الإنكار، وقال النووي: الصواب أن معناه الإخبار عمن خرج من المدينة متحملًا بأهله بأسًا في سيره، مسرعًا إلى الرخاء، والأمصار المفتتحة، ويؤيده رواية ابن خزيمة عن أبي معاوية عن هشام، عن عروة في هذا الحديث بلفظ: نفتح

رجاله ستة

الشام، فيخرج الناس من المدينة إليها يبسون، والمدينة خير لهم، لو كانوا يعلمون، ويوضح ذلك ما روى أحمد عن جابر أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ليأتين على أهل المدينة زمان، ينطلق الناس منها إلى الأرياف يلتمسون الرخاء، فيجدون رخاء ثم يأتون فيتحملون بأهليهم إلى الرخاء، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وفي إسناده ابن لهيعة، ولا بأس به في المتابعات، وهو يوضح ما قلناه وروى أحمد في أول حديث سفيان هذا قصة أخرجها عن بشر بن سعيد أنه سمع في مجلس الليثيين يذكرون أن سفيان بن أبي زهير أخبرهم أن فرسه أعيت بالعقيق، وهو في بعث بعثهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرجع إليه يستحمله، فخرج معه يبتغي له بعيرًا، فلم يجده إلا عند أبي جهم بن حذيفة العدوي فسامه له، فقال له أبو جهم: لا أبيعكه يا رسول الله، ولكن خذه فاحمل عليه من شئت، ثم خرج حتى إذا بلغ بيرا هاب قال: يوشك البنيان أن يأتي هذا المكان، ويوشك الشام أن يفتح، فيأتيه رجال من أهل هذا البلد فيعجبهم ريعه ورخاؤه، والمدينة خير لهم. وقوله: "لو كانوا يعلمون" أي: بفضلها من الصلاة في المسجد النبوى، وثواب الإقامة فيها، وغير ذلك، ويحتمل أن تكون "لو" بمعنى ليت، فلا يحتاج إلى تقدير، وعلى الوجهين ففيه تجهيل لمن فارقها، وآثر غيرها قالوا: والمراد به، الخارجون من المدينة رغبة عنها، كارهين لها، وأما من خرج لحاجة، أو تجارة، أو جهاد، أو نحو ذلك فليس بداخل في معنى الحديث، قال الطيبي: الذي يقتضيه هذا المقام أن ينزل ما لا يعلمون منزلة اللازم، لتنتفي عنهم المعرفة بالكلية، ولو ذهب مع ذلك إلى التمني لكان أبلغ لأن التمني طلب ما لا يمكن حصوله، أي: ليتهم كانوا من أهل العلم تغليظًا وتشديدًا، وقال البيضاوي: المعنى أنه يفتح اليمن فيعجب قومًا يلادُها، وعيش أهلها، فيحملهم ذلك على المهاجرة إليها بأنفسهم. وأهليهم، حتى يخرجوا من المدينة، والحال أن الإقامة في المدينة خير لهم لأنها حرم الرسول، وجواره، ومهبط الوحي، ومنزل البركات؛ لو كانوا يعلمون ما في الإقامة بها من الفوائد الدينية، بالعوائد الأخروية التي يستحقر دونها ما يجدونه من الحظوظ الفانية العاجلة، بسبب الإقامة في غيرها، وقواه الطيبي لتنكير قوم، وصفهم بأنهم يبسون ثم توكيده بقوله: "لو كانوا يعلمون" لأنه يشعر بأنهم ممن ركن إلى الحظوظ البهيمية، والحطام الفاني، وأعرضوا عن الإقامة في جوار الرسول، ولذلك كرر قومًا، ووصفه في كل قرينة بقوله: "يبسون" استحضارًا لتلك الهيئة القبيحة. رجاله ستة: مرّوا، إلا الأخير: مرت الأربعة الأول بهذا النسق في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ ابن الزبير في الثاني والأربعين من العلم.

لطائف إسناده

والأخير الباقي: هو سفيان بن أبي زهير، ولقب أبي زهر القرد بفتح القاف وكسر الراء، وقيل: اسمه نمير بن مرارة بن عبد الله بن مالك ويقال فيه: النمري لأنه من ولد النمر بن عثمان بن نصر بن زهران، سكن المدينة، وروى حديثه البخاري من رواية عبد الله بن الزبير عنه، وروى البخاري أيضًا من طريق السائب بن يزيد عنه قال: وهو رجل من أزد شنوءة من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- من اقتنى كلبًا الحديث. له خمسة أحاديث اتفقا على حديثين. روى عنه: السائب بن يزيد، وابن الزبير، وأخوه عروة. لطائف إسناده: فيه التحديث والإخبار بالجمع والعنعنة والسماع والقول، ورواته: مدنيون ما عدى شيخ البخاري؛ فإنه مصري. وفيه رواية تابعي عن تابعي، وصحابي عن صحابي، أخرجه البخاري أيضًا في الحج والنسائي فيه. ثم قال المصنف:

باب الإيمان يأرز إلى المدينة

باب الإيمان يأرز إلى المدينة قوله: "يأرز" بفتح أوله، وسكون الهمزة، وكسر الراء، وقد تضم بعده زاي، وحكى ابن التين عن بعضهم فتح الراء، وقال: إن الكسر هو الصواب، وحكى أبو الحسن بن السراج ضم الراء، وحكى القابسي الفتح ومعناه: ينضم ويجتمع. الحديث العاشر حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّ الإِيمَانَ لَيَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا". وفي رواية يحيى بن سليم: عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر أخرجه ابن حبان، والبزار وقال البزار: إن يحيى بن سليم أخطأ فيه، وهو كما قال: وهو ضعيف في عبيد الله بن عمر. وقوله: "كما تأرز الحية إلى جحرها" أي: إنها كما تنتشر من جحرها في طلب ما تعيش به، فإذا راعها شيء رجعت إلى جحرها، كذلك الإيمان انتشر في المدينة، وكل مؤمن له من نفسه سائق إلى المدينة لمحبته في النبي -صلى الله عليه وسلم-، فيشمل ذلك جميع الأزمنة؛ لأنه في زمنه عليه الصلاة والسلام للتعلم منه، وفي زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم للاقتداء بهديهم، ومن بعد ذلك لزيارة قبره عليه الصلاة والسلام، والصلاة في مسجده، والتبرك بمشاهدة آثاره، وآثار أصحابه، وقال الداودي: كان هذا في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-، والقرن الذين كان منهم، والذين يلونهم، والذين يلونهم خاصة، وقال القرطبي: فيه تنبيه على صحة مذهب أهل المدينة، وسلامتهم من الباع، وأن عملهم حجة؛ كما قال مالك، وهذا إن سلم اختص بعصر النبي -صلى الله عليه وسلم-، والخلفاء الراشدين، وأما بعد ظهور الفتن، وانتشار الصحابة في البلاد، ولاسيما في أواخر الثانية وهلم جرًا، فهو بالمشاهدة بخلاف ذلك. رجاله ستة: قد مرّوا: مرَّ إبراهيم بن المنذر في الأول من العلم، ومرَّ أنس بن عياض، وعبيد الله العمري في الرابع عشر من الوضوء، ومرَّ خبيب بن عبد الرحمن، وحفص بن عاصم في الثاني

لطائف إسناده

والستين من مواقيت الصلاة، ومرَّ أبو هريرة في الثاني من الإيمان. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والأفراد والعنعنة والقول، وشيخه من أفراده، ورواته كلهم مدنيون. وفيه: رواية الراوي عبيد الله عن خاله خبيب، أخرجه مسلم في الإيمان، وابن ماجه في الحج. ثم قال المصنف:

باب إثم من كاد أهل المدينة

باب إثم من كاد أهل المدينة أي: أراد أهلها بسوء، والكيد: المكر، والحيلة في المساءة. الحديث الحادي عشر حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ، أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ عَنْ جُعَيْدٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ سَعْدًا رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "لاَ يَكِيدُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَحَدٌ إِلاَّ انْمَاعَ كَمَا يَنْمَاعُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ". قوله: "إلا انماع" أي: ذاب، وفي رواية مسلم عن أبي هريرة وسعد جميعًا، فذكر حديثًا فيه: "من أراد أهلها بسوء؛ أذابه الله كما يذوب الملح في الماء" وفي هذه الطريق رد على القطب الحلبي حيث زعم أن هذا الحديث من أفراد البخاري، لكن في أفراد مسلم عن عامر بن سعد، عن أبيه في أثناء حديث: "ولا يريد أحد أهل المدينة بسوء إلا أذابه الله في النار، ذوب الرصاص، أو ذوب الملح في الماء" قال عياض: هذه الزيادة تدفع إشكال الأحاديث الآخر، وتوضح أن هذا حكمه في الآخرة، ويحتمل أن يكون المراد من أرادها في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- بسوء اضمحل أمره كما يضمحل الرصاص في النار، فيكون في اللفظ تقديم وتأخير، ويؤيده قوله: "أو ذوب الملح في الماء"، ويحتمل أن يكون المراد من أرادها في الدنيا بسوء، وأنه لا يمهل، بل يذهب سلطانه عن قرب، كما وقع لمسلم بن عقبة وغيره؛ فإنه عوجل عن قرب وكذلك الذي أرسله قال: ويحتمل أن يكون المراد من "كادها" اغتيالًا، وطلبًا لغرتها في غفلة، فلا يتم له أمر بخلاف من أتى ذلك جهارًا، كما استباحها مسلم ابن عقبة، وغيره، وروى النسائي عن السائب بن خلاد رفعه: "من أخاف أهل المدينة ظالمًا لهم أخافه الله، وكانت عليه لعنة الله". رجاله خمسة: مرَّ منهم: الفضل بن موسى في السادس والعشرين من الغسل، ومرَّ جعيد بن عبد الرحمن في الخامس والخمسين من الوضوء، ومرت عائشة بنت سعد في الرابع والخمسين من الجنائز، ومرَّ سعد بن أبي وقاص في العشرين من الإيمان. والباقي: حسين بن حريث بن الحسن بن ثابت بن قطبة الخزاعي؛ مولاهم مولى

عمران بن حصين أبو عمار المروزي، قال النسائي: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات". روى عن: الفضل بن موسى، والفضيل بن عياض، وابن عيينة، وغيرهم. وروى عنه: الجماعة سوى ابن ماجه، وسوى أبي داود في كتابه، وابن خزيمة، وأبو زرعة، وغيرهم، مات بعد مائتين منصرفًا من الحج سنة أربع وأربعين ومائتين. وهذا الحديث من أفراد البخاري وأخرجه مسلم من طرق غير طريقه. ثم قال المصنف:

باب آطام المدينة

باب آطام المدينة بالمد جمع أُطم بضمتين وهي الحصون التي تبنى بالحجارة، وقيل: كل بيت مربع مسطح، والآطام جمع قلة، وجمع الكثرة أُطوم، والواحدة أطمة كأكمة، وقد ذكر الزبير بن بكار في أخبار المدينة ما كان بها من الآطام قبل حلول الأوس والخزرج بها، ثم ما كان بها بعد حلولهم، وأطال في ذلك. الحديث الثاني عشر حَدَّثَنَا عَلِيٌّ بن عبد الله، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ قال: سَمِعْتُ أُسَامَةَ رضي الله عنه قَالَ: أَشْرَفَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ: "هَلْ تَرَوْنَ مَا أَرَى؟ إِنِّي لأَرَى مَوَاقِعَ الْفِتَنِ خِلاَلَ بُيُوتِكُمْ كَمَوَاقِعِ الْقَطْرِ!! ". قوله: "أشرف" أي: نظر من مكان مرتفع. وقوله: "مواقع الفتن" أي: مواضع السقوط، و"خلال" أي: نواحيها، شبه سقوط الفتن وكثرتها بالمدينة بسقوط القطر في الكثرة والعموم، وهذا من علامات النبوءة لإخباره بما سيكون، وقد ظهر مصداق ذلك من قتل عثمان، وهَلُمَّ جرّا، ولاسيما يوم الحرة، والرؤية المذكورة يحتمل أن تكون بمعنى العلم، أو رؤية العين بأن تكون الفتن مثلت له حتى رآها كما مثلت له الجنة والنار في القبلة حتى رآهما. وهو يصلي، وإنما اختصت المدينة بذلك لأن قتل عثمان رضي الله تعالى عنه كان بها، ثم انتشرت الفتن في البلاد بعد ذلك، فالقتال بالجمل، وبصفين كان بسبب قتل عثمان، والقتال بالنهروان كان بسبب التحكيم بصفين، وكل قتال وقع في ذلك العصر إنما تولد عن شيء تولد عنه. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ علي بن المديني في الرابع عشر من العلم، ومرَّ ابن عيينة في الأول من بدء الوحي، والزهري في الثالث منه، وعروة في الثاني منه، وأسامة في الخامس من الوضوء. أخرجه البخاري أيضًا في المظالم، وعلامات النبوة، والفتن، ومسلم في الفتن. ثم قال: تابعه معمر وسليمان بن كثير، عن الزهري.

أما متابعة معمر؛ فوصلها البخاري في الفتن. وأما متابعة سليمان؛ فقد وصلها مسلم. ومعمر مرَّ في متابعة بعد الرابع من بدء الوحي، ومرَّ سليمان في التاسع والثلاثين من الجمعة، ومرَّ الزهري الآن. ثم قال المصنف:

باب لا يدخل الدجال المدينة

باب لا يدخل الدجال المدينة قد مرَّ في أواخر صفة الصلاة، في باب الدعاء قبل السلام، استيفاء الكلام على معنى الدجال والمسيح، أي: اشتقاق تسميته بذلك، ومما يحتاج إليه في أمر الدجال أصله، وهل هو ابن صياد أو غيره؟ وعلى الثاني: فهل كان موجودًا في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو لا؟ ومتى يخرج؟ وما سبب خروجه؟ ومن أين يخرج؟ وما صفته؟ وما الذي يدعيه؟ وما الذي يظهر عند خروجه من الخوارق حتى تكثر أتباعه؟ ومتى يهلك؟ ومن يقتله؟ فأما الأول: فقد مرَّ استيفاء الكلام عليه في باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه؟ وأما الثاني: فمقتضى حديث فاطمة بنت قيس في قصة تميم الداري الذي أخرجه مسلم أنه كان موجودًا في العهد النبوي، وأنه محبوس في بعض الجزائر. وأما الثالث: ففي حديث النواس عند مسلم أنه يخرج عند فتح المسلمين القسطنطينية، وأما سبب خروجه فأخرج مسلم في حديث ابن عمر عن حفصة أنه يخرج من غضبة يغضبها. وأما من أين يخرج فمن قبل المشرق جزمًا، ثم جاء في رواية أنه يخرج من خراسان، أخرج ذلك أحمد، والحاكم من حديث أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وفي أخرى أنه يخرج من أصبهان أخرجها مسلم. وأما صفته فمذكورة في أحاديث البخاري في كتاب الفتن، وسأذكر منها طرفًا هنا. وأما الذي يدعيه فإنه يخرج أولًا فيدعي الإيمان والصلاح، ثم يدعي النبوءة، ثم يدعي الإلهية، كما أخرج الطبراني عن سليمان بن شهاب قال: نزل عليَّ عبد الله بن المعتمر -وكان صحابيًا- فحدثني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الدجال ليس به خفاء، يجيء من قبل المشرق، فيدعو إلى الدين فيتبع، ويظهر، فلا يزال حتى الكوفة فَيُظْهِر الدينَ، ويعمل به، فيتبع، ويحث على ذلك، ثم يدعي أنه نبي فيفزع من ذلك كل ذي لب ويفارقه، فيمكث بعد ذلك فيقول: أنا الله فتغشى عينه، وتقطع أذنه ويكتب بين عينيه كافر، فلا يخفى على كل مسلم، فيفارقه كل أحد من الخلق في قلبه مثقال حبَّة خردل من إيمان" وسنده ضعيف. وأما ما يظهر على يديه من الخوارق فسيذكر هنا. وأما متى يهلك ومن يقتله فإنه يهلك بعد ظهوره على الأرض كلها إلا مكة والمدينة،

ثم يقصد بيت المقدس فينزل عيسى، فيقتله، أخرجه موسى، وأخرج الحاكم عن هشام بن عامر قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة فتنة أعظم من الدجال" وعند الحاكم أيضًا عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد رفعه: "أنه يخرج -يعني الدجال- في نقص من الدنيا، وخفة من الدين، وسوء ذات بين، فيرد كل منهل، وتطوى له الأرض" الحديث، وأخرج نعيم بن حماد في الفتن عن كعب الأحبار قال: يتوجه الدجال فينزل عند باب دمشق الشرقي ثم يلتمس، فلا يقدر عليه، ثم يرى عند المياه التي عند نهر الكسوة، ثم يطلب فلا يدرى أين توجه، ثم يظهر بالمشرق، فيعطى الخلافة، ثم يظهر السحرَ، ثم يدعي النبوءة، فتتفرق عنه الناس، فيأتي النهر، فيأمره أن يسيل إليه فيسيل، ثم يأمره أن يرجع فيرجع، ثم يأمره أن ييبس فييبس، ويأمر جبل طور وجبل زيتا أن ينتطحا فينتطحا، ويأمر الريح أن تثير سحابًا من البحر فتمطر الأرض، وتخوض البحر في يوم ثلاث خوضات، فلا يبلغ حقويه، وإحدى يديه أطول من الأخرى فيمد الطويلة في البحر فتبلغ قعره، فيخرج من الحيتان ما يريد" وأخرج أبو نعيم في الحلية بسند صحيح عن حسان بن عطية -أحد ثقات التابعين- قال: لا ينجو من فتنة الدجال إلا اثنا عشر ألف رجل، وسبعة آلاف امرأة، وهذا لا يقال من قبل الرأي فيحتمل أن يكون مرفوعًا أرسله، ويحتمل أن يكون أخذه من بعض أهل الكتاب، وقد اشتهر السؤال عن الحكمة في عدم التصريح بذكر الدجال في القرآن، مع ما ذكر عنه من الشر وعظم الفتنة به، وتحذير الأنبياء منه، والأمر بالاستعاذة منه حتى في الصلاة. وأجيب بأجوبة: أحدها: أنه ذكر في قوله: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} فقد أخرج الترمذي، وصححه عن أبي هريرة رفعه: "ثلاثة إذا خرجن لم ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل: الدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها". الثاني: قد وقعت الإشارة في القرآن إلى نزول عيسى بن مريم في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} وفي قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} وصح أنه الذي يقتل الدجال، فاكتفى بذكر أحد الضدين عن الآخر، ولكونه يلقب المسيح كعيسى، لكن الدجال مسيح الضلالة، وعيسى مسيح الهدى. الثالث: أنه ترك ذكره احتقارًا، وتعقب بذكر يأجوج ومأجوج وليست الفتنة بهم دون الفتنة بالدجال، والذي قبله، فالسؤال باق، وأجاب الإِمام البلقيني بأنه اعتبر كل من ذكر في القرآن من المفسدين، فوجد كل من ذكر إنما هم ممن مضى، وانقضى أمره، وأما من لم يجيء بعد فلم يذكر منهم أحد.

الحديث الثالث عشر

وهذا ينتقض بيأجوج ومأجوج، وفي تفسير البغوي أن الدجال مذكور في القرآن في قوله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} وأن المراد بالناس هنا الدجال من إطلاق الكل على البعض، وهذا إن ثبت أحسن الأجوبة، فيكون من جملة ما تكفل النبي -صلى الله عليه وسلم- ببيانه. والله تعالى أعلم. الحديث الثالث عشر حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لاَ يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ رُعْبُ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، لَهَا يَوْمَئِذٍ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ، عَلَى كُلِّ بَابٍ مَلَكَانِ". قوله: "لا يدخل المدينة رعب المسيح الدجال" تقدم ضبط المسيح في باب الدعاء قبل السلام من صفة الصلاة؛ قبيل كتاب الجمعة، وقد قال ابن العربي: ضل قوم فرووه بالخاء المعجمة، وشدد بعضهم السين ليفرقوا بينه وبين المسيح بن مريم بزعمهم، وقد فرق النبي -صلى الله عليه وسلم- بينهما بقوله في الدجال: "مسيح الضلالة"، فدل على أن عيسى مسيح الهدى، فأراده هؤلاء تعظيم عيسى، فحرفوا الحديث. وقوله: "لها يومئذ سبعة أبواب" قال عياض: هذا يؤيد أن المراد بالأنقاب في حديث أبي هريرة التالي لهذا: الأبواب، وفوهات الطريق. وقوله: "على كل باب ملكان"، كذا في رواية إبراهيم بن سعد، وفي رواية محمد بن بشر: "لكل باب ملكان" وأخرجه الحاكم عن عياض بن مسافع عن أبي بكرة، قال: أكثر الناس في شأن مسيلمة الكذاب، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنه كذاب من ثلاثين كذابًا قبل الدجال، وإنه ليس بلد إلا يدخله رعب الدجال إلا المدينة، على كل نقب من أنقابها ملكان؛ يذُبَّان عنها رعب المسيح". رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ عبد العزيز الأويسي في الأربعين من العلم، ومرَّ إبراهيم بن سعد في السادس عشر من الإيمان، ومرَّ أبو بكرة في الرابع والعشرين منه، ومرَّ سعد بن إبراهيم في السابع والأربعين من الوضوء، ومرَّ أبوه إبراهيم في السادس والثلاثين من الجنائز. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع والإفراد والعنعنة والقول، ورواته كلّهم مدنيون، وشيخه من أفراده، والحديث من أفراده.

الحديث الرابع عشر

الحديث الرابع عشر حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُجْمِرِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "عَلَى أَنْقَابِ الْمَدِينَةِ مَلاَئِكَةٌ، لاَ يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ وَلاَ الدَّجَّالُ". قوله: "على أنقاب المدينة" بفتح النون والقاف بعدها موحدة، وفي حديث أنس وأبي سعيد اللذين بعده: "على نقابها" جمع نقب بالسكون، وهما بمعنى، قال ابن وهب: المراد بها المداخل والأبواب، وأصل النقب: الطريق بين الجبلين، وقيل: الأنقاب: الطرق التي يسلكها الناص، ومنه قوله تعالى: {فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ} وفي حديث جابر: "يسيح في الأرض أربعين يومًا، يرد كل بلدة غير هاتين البلدتين؛ مكة والمدينة، حرمهما الله تعالى عليه، يوم من أيامه كالسنة، ويوم كالشهر، ويوم كالجمعة، وبقية أيامه كأيامكم" أخرجه الطبراني، وهو عند أحمد بنحوه بسند جيد ولفظه: تطوى له الأرض في أربعين يومًا، إلا ما كان من طيبة" الحديث، وأصله عند مسلم، عن النواس بن سمعان بلفظ: قلنا: يا رسول الله! فما لبثه في الأرض؟ قال: "أربعون يومًا" فذكره وزاد: قلنا: يا رسول الله! فذلك اليوم الذي كالسة تكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: "لا، اقدروا له قدره"، قلنا: يا رسول الله! وما إسراعه في الأرض؟ قال: "كالغيث استدبرته الريح"، وله عن عبد الله بن عمرو: "يخرج الدجال في أمتي فيمكث أربعين، لا أدري يومًا أو أربعين شهرًا، أو أربعين عامًا" الحديث، والجزم بأنها أربعون يومًا مقدّم على هذا الترديد، فقد أخرجه الطبراني من وجه آخر عن عبد الله بن عمرو بلفظ: "يخرج -يعني الدجال- فيمكث في الأرض أربعين صباحًا، يرد فيها كل منهل، إلا الكعبة والمدينة وبيت المقدس" الحديث، فيحصر المؤمنين فيه، ثم يهلكه الله" وفي حديث جنادة بن أبي أمية: أتينا رجلًا من الأنصار من الصحابة قال: قام فينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أنذرتكم المسيح" الحديث، وفيه: "يمكث في الأرض أربعين صباحًا، يبلغ سلطانه كل منهل، لا يأتي أربعة مساجد؛ الكعبة، ومسجد الرسول، ومسجد الأقصى، والطور" أخرجه أحمد، ورجاله ثقات. رجاله أربعة: مرَّ منهم: إسماعيل بن أبي أويس في الخامس عشر من الإيمان، ومرَّ أبو هريرة في

الحديث الخامس عشر

الثاني منه، ومرَّ مالك في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ نعيم المجمر في الثاني من الوضوء، أخرجه البخاري أيضاً في الفتن، ومسلم في الحج والنسائي فيه. وفي الطب. الحديث الخامس عشر حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لَيْسَ مِنْ بَلَدٍ إِلاَّ سَيَطَؤُهُ الدَّجَّالُ، إِلاَّ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ، لَيْسَ لَهُ مِنْ نِقَابِهَا نَقْبٌ، إِلاَّ عَلَيْهِ الْمَلاَئِكَةُ صَافِّينَ، يَحْرُسُونَهَا، ثُمَّ تَرْجُفُ الْمَدِينَةُ بِأَهْلِهَا ثَلاَثَ رَجَفَاتٍ، فَيُخْرِجُ اللَّهُ كُلَّ كَافِرٍ وَمُنَافِقٍ". قوله: "ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال" هو على ظاهره وعمومه عند الجمهور، وشذ ابن حزم فقال: المراد ألا يدخله بعثه وجنوده، وكأنه استبعد إمكان دخول الدجال جميع البلاد، لقصر مدته، وغفل عما ثبت في صحيح مسلم أن بعض أيامه يكون قدر السنة، وفي رواية شيبان عن أنس في الفتن: "يجيء الدجال، حتى ينزل في ناحية المدينة" وفي حديث أبي سعيد التالي لهذا: "ينزل بعض السباخ التي بالمدينة"، وفي رواية حماد بن سلمة، عن إسحاق، عن أنس: "فيأتي سبخة الجرف، فيضرب رواقه، فيخرج إليه كل منافق، ومنافقة" والجرف -بضم الجيم والراء بعدها فاء- مكان بطريق المدينة من جهة الشام على ميل، وقيل: على ثلاثة أميال، والمراد بالرواق الفسطاط، ولابن ماجه: "نزل عند الطريق الأحمر عند منقطع السبخة". وقوله: "ثم ترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات" أي: تحصل لها زلزلة بعد أخرى، ثم ثالثة، حتى يخرج منها من ليس مخلصًا في إيمانه، ويبقى بها المؤمن الخالص، فلا يسلط عليه الدجال، ولا يعارض هذا ما في حديث أبي بكرة الماضي أنه لا يدخل المدينة رعب الدجال، لأن المراد بالرعب ما يحصل من الفزع من ذكره، والخوف من عتوه، إلا الرجفة التي تقع بالزلزلة؛ لإخراج من ليس بمخلص، وحمل بعض العلماء الحديث الذي فيه: "أنها تنفي الخبث" على هذه الحالة دون غيرها، وقد تقدم أن الصحيح في معناه أنه خاص بناس وبزمان، فلا مانع أن يكون هذا الزمان هو المراد، ولا يلزم من كونه مرادًا نفي غيره، وفي حديث محجن بن الأدرع عند أحمد والحاكم رفعه: "يجيء الدجال، فيصعد أحدًا فيتطلع فينظر إلى المدينة فيقول لأصحابه: ألا تروا إلى هذا القصر الأبيض هذا مسجد أحمد، ثم يأتي المدينة، فيجد بكل نقب من نقابها ملَكًا مصلتًا سيفه، فيأتي سبخة الجرف، فيضرب رواقه، ثم ترجف المدينة ثلاث رجفات، فلا يبقى منافق ولا منافقة، ولا فاسق ولا فاسقة إلا خرج إليه، فتخلص المدينة فذلك يوم الخلاص، وفي حديث أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد الذي تقدمت الإشارة إليه أول الباب، "وتطوى له طي فروة الكبش حتى يأتي المدينة فيغلب

رجاله خمسة

على خارجها، ويمنع داخلها، ثم يأتي إيلياء، فيحاصر عصابة من المسلمين"، وحاصل ما وقع به الجمع أن الرعب المنفي هو الخوف والفزع، حتى لا يحصل لأحد فيها بسبب نزوله بقربها شيء منه، أو هو عبارة عن غاشية، وهو غلبته عليها، والمراد بالرجفة الارفاق، وهو إشاعة مجيئه، وأنه لا طاقة لأحد به فيسارع إليه حينئذ من كان يتصف بالنفاق والفسق، فيظهر حينئذ تمام أنها تنفي خبثها، وفي رواية أنس في الفتن زيادة: "إن شاء الله"، بعد قوله: "فلا يقربنها الدجال ولا الطاعون"، قيل: هذا الاستثناء محتمل للتعليق، ومحتمل للتبرك، وهو أولى، وقيل: إنه يتعلق بالطاعون فقط، وفيه نظر، ففي حديث محجن بن الأدرع المذكور آنفًا: "لا يدخلها الدجال إن شاء الله تعالى"، وهذا يؤيد أنه لكل منهما، وفي حديثه: "تلقاه بكل نقب من نقابها مَلَكٌ مصلت سيفه، يمنعه عنها"، وعند الحاكم عن أبي عبد الله القراظ: سمعت سعد بن مالك وأبا هريرة يقولان: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم بارك لأهل المدينة" الحديث وفيه: "ألا إن الملائكة مشتبكة بالملائكة، على كل نقب من أنقابها مَلَكَان يحرسانها، لا يدخلها الطاعون، ولا الدجال"، قال ابن العربي: يجمع بين هذا وبين قوله: "بكل نقب من نقابها ملك مصلت سيفه" بأن سيف أحدهما مسلول والآخر بخلافه. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ إبراهيم بن المنذر في الأول من العلم، ومرَّ الأوزاعي في العشرين منه، ومرَّ إسحاق بن عبد الله في الثامن منه، ومرَّ الوليد بن مسلم في السادس والثلاثين من مواقيت الصلاة، ومرَّ أنس في السادس من الإيمان، أخرجه مسلم في الفتن والنسائي في الحج. الحديث السادس عشر حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رضي الله عنه قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَدِيثًا طَوِيلاً عَنِ الدَّجَّالِ، فَكَانَ فِيمَا حَدَّثَنَا بِهِ أَنْ قَالَ: "يَأْتِي الدَّجَّالُ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ نِقَابَ الْمَدِينَةِ، بَعْضَ السِّبَاخِ الَّتِي بِالْمَدِينَةِ، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ يَوْمَئِذٍ رَجُلٌ، هُوَ خَيْرُ النَّاسِ، أَوْ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ، فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّكَ الدَّجَّالُ، الَّذِي حَدَّثَنَا عَنْكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَدِيثَهُ، فَيَقُولُ الدَّجَّالُ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُ هَذَا ثُمَّ أَحْيَيْتُهُ، هَلْ تَشُكُّونَ فِي الأَمْرِ؟ فَيَقُولُونَ: لاَ. فَيَقْتُلُهُ، ثُمَّ يُحْيِيهِ فَيَقُولُ حِينَ يُحْيِيهِ: وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَشَدَّ بَصِيرَةً مِنِّي الْيَوْمَ، فَيَقُولُ الدَّجَّالُ: أَقْتُلُهُ فَلاَ أُسَلَّطُ عَلَيْهِ". قوله: "حدثنا طويلًا عن الدجال" كذا ورد من هذا الوجه مبهمًا، وقد ورد من غير هذا الوجه، عن أبي سعيد ما لعله يؤخذ منه ما لم يذكر لما في رواية أبي نضرة، عن أبي سعيد عند مسلم، أنه يهودي وأنه لا يولد له، وأنه لا يدخل مكة ولا المدينة، وفي رواية عطية عن

أبي سعيد رفعه في صفة عين الدجال، وفيه: "ومعه مثل الجنة والنار، وبين يديه رجلان ينذران أهل القرى، كلما خرجا من قرية، داخل أوائله"، أخرجه أبو يعلى والبزار، وهو عند أحمد بن منيع مطول، وسنده ضعيف وفي رواية أبي الوداك عن أبي سعيد رفعه في صفة عين الدجال أيضًا وفيه: "معه من كل لسان، ومعه صورة الجنة خضراء، يجري فيها الماء، وصورة النار سوداء تدخن" وسأتكلم ان شاء الله تعالى بعد تمام الكلام على الحديث، على هذه الزيادات المذكورة في هذه الروايات، من صفة العين، والجنة، والنار. وقوله: "يأتي الدجال" أي: إلى ظاهر المدينة. وقوله: "فينزل بعض السباخ" -بكسر المهملة وتخفيف الموحدة- جمع سبخة بفتحتين وهي الأرض الرملة التي لا تنبت لملوحتها، وهذه الصفة خارج المدينة من غير جهة الحرة، وقد مرَّ في الذي قبله الكلام على محل نزوله بأوفر من هذا. وقوله: "التي تلي المدينة" أي: من قبل الشام. وقوله: "فيخرج إليه يومئذ رجل هو خير الناس، أو من خير الناس"، وفي رواية الفتن: "أو من خيار الناس"، وفي رواية أبي الوداك عند مسلم عن أبي سعيد: "فيتوجه قبله رجل من المؤمنين، فليلقاه مسالح الدجال فيقولون: أو ما تؤمن بربنا؟ فيقول: ما بربنا خفاء، فينطلقون به إلى الدجال -بعد أن يريدوا قتله- فإذا رآه قال: يا أيها الناس هذا الدجال الذي ذكره رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، وفي رواية عطية: "فيدخل القرى كلها؛ غير مكة والمدينة، حرمتا عليه، والمؤمنون متفرقون في الأرض، فيجمعهم الله، فيقول رجل منهم: والله لأنطلقن فلأنظرن هذا الذي أنذرناه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فيمنعه أصحابه خشية أن يفتتن به، فيأتي حتى إذا أتى أدنى مسلحة من مسالحه أخذوه، فسألوه: ما شأنه؟ فيقول: أريد الدجال الكذاب، فيكتبون إليه بذلك فيقول: أرسلوا به إليّ، فلما رآه عرفه"، والمسلحة: الثغر، والقوم ذوو سلاح. وقوله: "فيقول: أشهد أنك الدجال الذي حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" حديثه في رواية عطية: "أنت الدجال الكذاب، الذي أنذرناه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" وزاد: "فيقول له الدجال: لتطيعني فيما آمرك به، أو لأشقنك شقتين، فينادي: يا أيها الناس هذا المسيح الكذاب. وقوله: "فيقول الدجال: أرأيتم ان قتلت هذا، فأحييته" إلخ في رواية عطية: "ثم يقول الدجال لأوليائه" وهذا يوضح أن الذي يجيبه بذلك أتباعه، ويرد قول من قال: إن المؤمنين يقولون له ذلك تَقِيَّةً، أو مرادهم: لا نشك أي: في كفرك وبطلان قولك. وقوله: "فيقتله، ثم يحييه"، في رواية أبي الوداك: "فيأمر به الدجال فيشج، فيشبع ظهره وبطنه ضربًا"، فيقول: أما تؤمن بي فيقول: أنت المسيح الكذاب، فيؤمر به، فيوشر بالميشار من مفرقه حتى يفرق بين رجليه، ثم يمشي الدجال بين القطعتين، ثم يقول: قم؛ فيستوي

قائمًا"، وفي حديث النواس بن سمعان عند مسلم: "فيدعو رجلًا ممتلئًا شبابًا، فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين، ثم يدعوه، فيقبل ويتهلل وجهه يضحك" وفي رواية عطية: فيأمر به فيمد برجليه، ثم يأمر بحديدة فتوضع على عجيب ذنبه، ثم يشقه شقتين، ثم يقول الدجال لأوليائه: أرأيتم إن أحييت لكم هذا ألستم تعلمون أني ربكم؟ فيقولون: نعم فيأخذ عصى، فضرب أحد شقيه فاستوى قائمًا، فلما رأى ذلك أولياؤه صدقوه، وأحبوه وأيقنوا بذلك أنه ربهم، عطية ضعيف، قال ابن العربي: هذا اختلاف عظيم في قتله بالسيف وبالميشار، قال: فيجمع بأنهما رجلان يقتل كلا منهما قتلة غير قتلة الآخر، كذا قال: والأصل عدم التعدد، ورواية الميشار تفسر رواية الضرب بالسيف فلعل السيف كان فيه فلول فصار كالميشار، وأراد المبالغة في تعذيبه بالقتلة المذكورة، ويكون قوله: "فضربه بالسيف" مفسرًا لقوله: أنه نشره. وقوله: "فيقطعه جزلتين" إشارة إلى آخر أمره لما ينتهي نشره، قلت: وفي هذا الجمع تكلف واضح، قال ابن العربي: وقد وقع في قصة الذي قتله الخضر أنه وضع يده في رأسه فاقتلعه، وفي أخرى فاضجعه فذبحه بالسكين، فلم يكن بد من ترجيح إحدى الروايتين علي الأخرى، لكن القصة واحدة، وقد مرَّ الجمع بين روايتي الخضر آخر كتاب العلم في باب ما يستحب للعالم إذا سئل أي الناس أعلم؟؛ قال الخطابي: فإن قيل: كيف يجوز أن يجري الله الآية على يد الكافر؛ فإن إحياء الموتى آيةٌ عظيمة من آيات الأنبياء، فكيف ينالها الدجال؛ وهو كذاب مفتر يدعي الربوبية؟ فالجواب: أنه على سبيل الفتنة للعباد، إذ كان عندهم ما يدل على أنه مبطل، غير محق في دعواه وهو أنه أعور مكتوب على جبهته كافر، يقرأه كل مسلم، فدعواه داحضة مع وسلم الكفر، ونقص الذات، والقدر، إذ لو كان الهًا لأزال ذلك عن وجهه، وآيات الأنبياء سالمة من المعارضة فلا يشتبهان، وقال الطبري: لا يجوز أن تعطى أعلام الرسل لأهل الكذب والإفك في الحالة التي لا سبيل لمن عاين ما أتى به فيها، إلا الفصل بين المحق منهم، والمبطل، فاما إذا كان لمن عاين ذلك السبيل إلى علم الصادق من الكاذب، فمن ظهر ذلك على يده فلا ينكر إعطاء الله ذلك للكذابين، فهذا بيان الذي أعطيه الدجال من ذلك فتنة لمن شاهده، ومحنة لمن عاينه، وفي الدجال مع ذلك دلالة بينة لمن عقل على كذبه؛ لأنه ذو أجزاء مؤلفة، وتاثير الصنعة فيه ظاهر، مع ظهور الآفة به من عور عينه، فإذا دعا الناس إلى أنه ربهم فأسوأ حال من يراه من ذوي العقول أن يعلم أنه لم يكن ليسوي خلق غيره، ويعدله، ويحسنه، ولا يدفع النقص عن نفسه، فأقل ما يجب أن يقول: يا من يزعم أنه خالق السماء والأرض صور نفسك وعدلها، وأزل عنها العاهة، فإن زعمت أن الرب لا يحدث في نفسه شيئًا فأزل ما هو مكتوب بين عينيك، وقال المهلب: ليس في اقتدار الدجال على إحياء المقتول ما يخالف قوله -صلى الله عليه وسلم- الآتي إن شاء الله تعالى: "هو أهون على الله من ذلك" أي: من أن يمكن من المعجزات تمكينًا صحيحًا؛ فإن اقتداره

على قتل الرجل ثم إحياثه لم يستمر له فيه، ولا في غيره، ولا استضر به المقتول إلا ساعة تألمه بالقتل، مع حصول ثواب ذلك له، وقد لا يكون وجد للقتل ألمًا لقدرة الله تعالى علي دفع ذلك عنه، قلت: وهذا هو الظاهر عندي، وقال ابن العربي: الذي يظهر على يد الدجال من الآيات: من إنزال المطر، والخصب على من يصدقه، والجدب على من يكذبه، واتباع كنوز الأرض له، وما معه من جنة ونار، ومياه تجري كل ذلك محنة من الله، واختبار ليهلك المرتاب، وينجو المتيقن، وذلك كله أمر مخوف، ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا فتنة أعظم من فتنة الدجال، وكان يستعيذ منها في صلاته تشريعًا لأمته. وأما قوله في الحديث الآخر عند مسلم: "غير الدجال أخوف لي عليكم" فإنما قال ذلك للصحابة؛ لأن الذي خافه عليهم أقرب إليهم من الدجال، فالقريب المتيقن وقوعه لمن يخاف يشتد الخوف منه على البعيد المظنون وقوعه به، ولو كان أشد. وقوله: "فيقول: والله ما كنت فيك أشد بصيرة مني الآن"، في رواية أبي الوداك: "ما أزددت فيك إلا بصيرة، ثم يقول: يا أيها الناس إنه لا يفعل بعدي بأحد من الناس"، وفي رواية عطية: "فيقول له الدجال: أما تؤمن بي؟ فيقول: أنا الآن أشد بصيرة فيك مني، ثم نادى في الناس: يا أيها الناس، هذا المسيح الكذاب؛ من أطاعه فهو في النار، ومن عصاه فهو في الجنة"، ونقل ابن التين عن الداودي أنه إذا قال ذلك للدجال، ذاب كما يذوب الملح في الماء؛ كذا قال، والمعروف أن ذلك إنما يحصل للدجال إذا رأى عيسى بن مريم. وقوله: "فيريد الدجال أن يقتله فلا يسلط عليه" في رواية أبي الوداك: "فيأخذه الدجال ليذبحه، فيجعل ما بين رقبته إلى ترقوته نحاس، فلا يستطيع إليه سبيلًا" وفي رواية عطية: "فقال له الدجال: لتطيعني أو لأذبحنك، فقال: والله لا أطيعك أبدًا، فأمر به، ناضجع، فلا يقدر عليه، ولا يتسلط عليه مرة واحدة" زاد: "فأخذ بيديه ورجليه فألقي في النار وهي غبراء ذات دخان"، وفي رواية أبي الوداك: "فيأخذ بيديه ورجليه، فيقذف به، فيحسب الناس أنه قذفه إلى النار، وإنما ألقي في الجنة" زاد في رواية عطية: "قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ذلك الرجل أقرب أمتي مني، وأرفعهم درجة" وفي رواية أبي الوداك: "هذا أعظم شهادة عند رب العالمين"، وعند أبي يعلى، وعبد بن حميد، عن عطية: "أنه يذبح ثلاث مرات، ثم يعود ليذبحه الرابعة فيضرب الله على حلقه بصفيحة نحاس، فلا يستطيع ذبحه"، والأول هو الصواب، وفي حديث عبد الله بن عمرو رفعه في ذكر الدجال: "يدعو برجلٍ لا يسلطه الله إلا عليه" فذكر نحو رواية أبي الوداك، وفي آخره: "فيهوي إِليه بسيفه، فلا يستطيعه، فيقول: أخِّروه عني"، وفي حديث عبد الله بن المعتمر: "ثم يدعو برجل فيما يرون، فيؤمر به فيقتل، ثم يقطع أعضاءه كل عضو على حدة، فيفرق بينها، حتى يراه الناس، ثم يجمعها، ثم

يضرب بعصا، فإذا هو قائم، فيقول: أنا الله الذي أميت وأحيي قال: وذلك كله سحر، سحر أعين الناس، ليس يعمل من ذلك شيئًا" وهو سند ضعيف جدًا، وفي رواية أبي يعلى من الزيادة: "قال أبو سعيد: كنا نرى ذلك الرجل عمر بن الخطاب لما نعلم من قوته وجلده"، وفي "صحيح مسلم" عقب رواية عبيد الله بن عتبة، قال أبو إسحاق يقال: إن هذا الرجل هو الخضر كذا، أطلق فظن القرطبي أن أبا إسحاق المذكور هو السبيعي أحد الثقات من التابعين، ولم يصب في ظنه؛ فإن السند المذكور لم يجر لأبي إسحاق فيه ذكر؛ وإنما أبو إسحاق الذي قال ذلك هو: إبراهيم بن محمد بن سفيان الزاهد، راوي "صحيح مسلم" عنه كما جزم به عياض، والنووي وغيرهما، وقد ذكر ذلك القرطبي في "تذكرته" أيضًا قبل فكأن قوله في الموضع الثاني: السبيعي؛ سبق قلم، ولعل مستنده في ذلك ما قاله معمر في جامعه بعد ذكر هذا الحديث، قال معمر: بلغني أن الذي يقتله الدجال الخضر، وكذا أخرجه ابن حبان، عن عبد الرزاق، عن معمر قال: كانوا يرون أنه الخضر، وقال ابن العربي: سمعت من يقول: إن الذي يقتله الدجال، هو الخضر، وهذه دعوى لا برهان لها، وقد تمسك من قاله بما أخرجه ابن حبان في "صحيحه" عن أبي عبيدة بن الجراح رفعه في ذكر الدجال: لعله يدركه بعض من رآني، أو سمع كلامي" الحديث، ويعكر عليه قوله في رواية لمسلم، - تقدم التنبيه عليها-: شاب ممتلىء شبابًا" ويمكن أن يجاب بأن من جملة خصائص الخضر أن لا يزال شابًا، ويحتاج إلى دليل، قلت: دليله ظاهر فإن الخضر لو كان يهرم كغيره من الأدميين، يكون داخلًا في قوله تعالى: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} فيكون من مدة طويلة، رجع إلى غاية من الضعف لا حركة لها، فالذي يظهر أنه ممتع بشبابه وصحته. ثم أعلم أني ذكرت لك عند أول شرح هذا الحديث أني سأذكر لك ما في بعض روايات حديث أبي سعيد هذا، مما مع الدجال من الجنة والنار، وغير ذلك، ومن صفته فأقول: اعلم أن البخاري أخرج في الفتن، عن حذيفة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في الدجال: "إن معه ماء" ونارًا؛ فنارُه ماءٌ باردٌ، وماؤه نارٌ" وعند مسلم عن ربعي: اجتمع حذيفة وأبو مسعود فقال حذيفة: لأنا بما مع الدجال أعلم منه، وفي رواية عن ربعي أيضًا، عن حذيفة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لأنا أعلم مما مع الدجال منه، معه نهران يجريان أحدهما رأي العين: ماء أبيض، والآخر رأي العين: نار تأجج" وفي رواية شعيب بن صفوان: "فأما الذي يراه الناس ماء فنارٌ محرق، وأما الذي يراه الناس نارًا فماءٌ باردٌ" الحديث، وفي حديث سفينة عند أحمد والطبراني: "معه واديان، أحدهما: جنة، والآخر: نار، فناره جنة، وجنته نار"، وفي حديث أبي أمامة عند ابن ماجه: "وإن من فتنته أن معه جنةً ونارًا فناره جنة، وجنته نار، فمن ابتلي بناره فليستغث بالله، وليقرأ فواتح الكهف، فتكون عليه بردًا وسلامًا. وقوله: "ماؤه نار" زاد محمد بن جعفر في روايته: "فلا تهلكوا" وفي رواية أبي مالك:

"فإن أدركه أحد فليأت النهر الذي يراه نارًا، وليغمض، ثم ليطاطىء رأسه فيشرب"، وفي رواية شعيب بن صفوان: "فمن أدرك ذلك منكم، فليقع في الذي يراه نارًا، فإنه ماء عذب طيب"، وفي حديث أبي سلمة عن أبي هريرة: "وإنه يجيء معه مثل الجنة والنار، فالتي يقول: إنه الجنة هي النار" أخرجه أحمد، وهذا كله يرجع إلى اختلاف المرئي بالنسبة إلى الرائي، فإما أن يكن الدجال ساحرًا فيخيل الشيء بصورة عكسه، وإما أن يجعل الله باطن الجنة التي يسخرها الدجال نارًا وباطن النار جنة، وهذا الراجح، وإما أن يكون ذلك كناية عن النعمة والرحمة بالجنة، وعن المحنة والنقمة بالنار، فمن أطاعه فأنعم عليه بجنته يؤول أمره إلى دخول نار الآخرة، وبالعكس، ويحتمل أن يكون ذلك من جملة المحنة، والفتنة، فيرى الناظر إلى ذلك من دهشته النار فيظنها جنة، وبالعكس. وهذا الحديث لا يعارض ما أخرجه الشيخان عن المغيرة بن شعبة قال: ما سأل أحد النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الدجال ما سألته وإنه قال لي: "ما يضرك منه؟ " قلت: لأنهم يقولون: إن معه جبل خبز، ونهر ماء، قال: بل هو أهون على الله من ذلك. فقد قال عياض: معناه هو أهون من أن يجعل ما يخلقه على يده مضلًا للمؤمنين، ومشككًا لقلوب الموقنين بل ليزداد الذين آمنوا إيمانًا، ويرتاب الذين في قلوبهم مرض، فهو مثل قول الذي يقتله: ما كنت أشد بصيرة مني فيك، لأن قوله: "هو أهون على الله من ذلك" أنه ليس معه شيء من ذلك، بل المراد أهون من أن يجعل شيئًا من ذلك آية علي صدقه لاسيما، وقد جعل فيه آية ظاهرة في كذبه وكفره يقرؤها من قرأ، من لا يقرأ زائدة علي شواهد كذبه من حدثه ونقصانه، والحامل على هذا التأويل أنه ورد في حديث آخر مرفوع، ومعه جبل من خبز ونهر من ماء، أخرجه أحمد والبيهقي في "البعث" عن مجاهد، قال: إنطلقنا إلى رجل من الأنصار فقلنا له: حدثنا بما سمعت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الدجال، ولا تحدثنا عن غيره، فذكر حديثًا فيه: "تمطر الأرض ولا ينبت الشجر، ومعه جنة ونار، فناره جنة، وجنته نار، ومعه جبل خبز" ورجاله ثقات، ولأحمد عن جنادة بن أبي أمية عن رجل من الأنصار: "معه جبال الخبز وأنهار الماء"، ولأحمد عن جابر معه جبال من خبز والناس في جهد إلا من تبعه، ومعه نهران، الحديث فدل أثبت من ذلك على أن قوله: هو أهون علي الله من ذلك، ليس المراد به ظاهره، وأنه لا يجعل على يديه شيئًا من ذلك، بل هو علي التأويل المذكور، قال ابن العربي أخذ بظاهر قوله: "هو أهون على الله من ذلك" من رد من المبتدعة الأحاديث الثابتة أن معه جنة ونارًا، وغير ذلك قال: وكيف يرد بحديث محتمل ما ثبت في غيره من الأحاديث الصحيحة، فلعل الذي جاء في حديث المغيرة جاء قبل أن يبين النبي -صلى الله عليه وسلم- أمره، ويحتمل أن يكون قوله: "هو أهون أي: لا يجعل له ذلك حقيقة، وإنما هو تخييل وتشبيه على الأبصار، فيثبت المؤمن ويزل الكافر، ومال ابن حبان في "صحيحه"

إلى الآخر فقال: هذا لا يضاد خبر أبي مسعود بل معناه أنه أهون على الله من أن يكون نهر ماء يجري فإن الذي معه يرى أنه ماء وليس بماء. وقوله: في حديث المغيرة أنهم يقولون: "الضمير للناس أو لأهل الكتاب". وقوله: "معه جبل خبز" بضم الخاء المعجمة وسكون الموحدة بعدها زاي، المراد به أن معه من الخبز قدر الجبل وأطلق الخبز وأراد به أصله، وهو القمح مثلًا، زاد في رواية هشيم عند مسلم معه جبال من خبز، ولحم، ونهر من ماء، وفي رواية إبراهيم بن حميد أن معه الطعام، والأنهار، وفي رواية يزيد بن هارون أن معه الطعام والشراب، وأما وصفه فقد أخرج البخاري، عن عبد الله بن عمر قال: قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الناس فأثنى على الله بما هو أهله ثم ذكر الدجال فقال: "إني لأنذركموه وما من نبي إلا وقد أنذره قومه ولكني سأقول، لكم فيه قولًا لم يقله نبي لقومه، إنه أعور وإن الله ليس بأعور". وقوله: "وما من نبي إلا وقد انذره قومه"، زاد في رواية معمر لقد أنذره، نوح قومه، وفي حديث أبي عبيدة بن الجراح عند أبي داود والترمذي وحسنه لم يكن نبي بعد نوح إلا وقد أنذر قومه الدجال، وعند أحمد لقد أندره نوح أمته والنبيئون من بعده، أخرجه من وجه آخر عن ابن عمر وقد استشكل إنذار نوح قومه بالدجال، مع أن الأحاديث قد ثبتت أنه يخرج بعد أمور ذكرت، وأن عيسى يقتله بعد أن ينزل من السماء فيحكم بالشريعة المحمدية، والجواب أنه كان وقت خروجه أخفى على نوح ومن بعده فكأنهم أنذروا به، ولم يذكر لهم وقت خروجه، فحذروا قومهم من فتنته ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام في بعض طرقه "إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه"، فإنه محمول على أن ذلك كان قبل أن يتبين له وقت خروجه، وعلاماته فكان يجوز أن يخرج في حياته عليه الصلاة والسلام، ثم بين له بعد ذلك حاله، ووقت خروجه فأخبر به فبذلك تجتمع الأخبار، قال ابن العربي إنذار الأنبياء أممهم بأمر الدجال تحذير من الفتن وطمأنينة لها حتى يزعزعها عن حسن الاعتقاد، وكذلك تقريب النبي -صلى الله عليه وسلم- له زيادة في التحذير، وأشار مع ذلك إلى أنهم إذا كانوا على الإيمان ثابتين دفعوا الشبه باليقين. وقوله: "لم يقله نبي لقومه" قيل: إن السر في اختصاص النبي -صلى الله عليه وسلم- بالتنبيه المذكور مع أنه أوضح الأدلة في تكذيب الدجال، أن الدجال إنما يخرج في أمته دون غيرها من الأمم المتقدمة، ودل الخبر على أن علم كونه يختص خروجه بهذه الأمة كان طوي عن غير هذه الأمة. كما طوي عن الجميع علم وقت قيام الساعة. وقوله: "إنه أعور وإن الله ليس بأعور" إنما اقتصر على ذلك مع أن أدلة الحدوث في الدجال ظاهرة. لكون العور أثر محسوس يدركه العالم والعامي، ومن لا يهتدي إلى الأدلة

العقلية فإذا ادعى الربوبية وهو ناقص الخلقة، والإله يتعالى عن النقص علم أنه كاذب، وزاد مسلم في رواية يونس، والترمذي في رواية معمر قال الزهري: فأخبرني عمرو بن ثابت الأنصاري أنه أخبره بعض أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال يومئذ للناس وهو يحذرهم: "تعلمون أنه لن يرى أحد منكم ربه حتى يموت"، وعند ابن ماجه نحو هذه الزيادة من حديث أبي أمامة وعند البزار عن عبادة بن الصامت وفيه تنبيه على أن دعواه الربوبية كذب، لأن رؤية الله تعالى مقيدة بالموت، والدجال يدعى أنه الله، ويراه الناس مع ذلك، وفي هذا الحديث رد على من يزعم أنه يرى الله تعالى في اليقظة، تعالى الله عن ذلك، ولا يرد على ذلك رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- له ليلة الإسراء، لأن ذلك من خصائصه عليه الصلاة والسلام، فأعطاه الله تعالى في الدنيا القوة التي ينعم بها على المؤمنين في الآخرة، وأخرج البخاري عن ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أعور العين اليمنى كأنها عنبة طافية". وقوله: "أعور العين اليمنى" في رواية غير أبي ذر أعور عين اليمنى بغير ألف ولام، ومثله في رواية الطبراني، وفي رواية لابن عمر في رؤيته عليه الصلاة والسلام لعيسى بن مريم في النوم، قال: ثم ذهبت التفت فإذا رجل جسيم أحمر، جعد الرأس، أعور العين، كأنه عينه عنبة طافية فقالوا: هذا الدجال، وفي رواية مالك: جعد قطط أعور، وفي رواية حنظلة: ورأيت وراءه رجلًا أحمر، جعد الرأس، أعور العين اليمنى، ففي هذه الطرق أنه أحمر، وفي حديث عبد الله بن مغفل عند الطبراني: أنه آدم جعد، فيمكن أن تكون أدمته صافية ولا ينافي أن يوصف مع ذلك بالحمرة لأن كثيرًا من الأدم قد تحمر وجنته. وقوله: "عنبة طافية" بياء غير مهموز أي: بارزة ولبعضهم بالهمز أي ذهب ضوءها قال القاضي عياض: رويناه عن الأكثر بغير همز، وهو الذي صححه الجمهور، وجزم به الأخفش ومعناه أنها ناتئة نتوء حبة العنب بين أخواتها، قال: وضبطه بعض الشيوخ بالهمز وأنكره بعضهم ولا وجه لإِنكاره فقد جاء في آخر أنه ممسوح العين مطموسة وليست جحراء ولا ناتئة، وهذه صفة حبَّة العنب إذا سأل ماؤها وهو يصحح رواية الهمز، والحديث المذكور عند أبي داود يوافقه حديث عبادة بن الصامت، ولفظه: "رجل قصير أفحج" بفاء ساكنة، ثم مهملة مفتوحة ثم جيم من الفحج، وهو تباعد ما بين الساقين، أو الفخذين، وقيل تداني صدور القدمين مع تباعد العقبين، وقيل: هو الذي في رجله اعوجاج، وفي الحديث المذكور جعد أعور مطموس العين، ليست بناتئة بنون ومثناة، ولا جحراء بفتح الجيم وسكون المهملة ممدود أي: عميقة وبتقديم الحاء أي: ليست متصلبة، وفي حديث عبد الله بن مغفل ممسوح العين، وفي حديث سمرة مثله وكلاهما عند الطبراني، ولكن في حديثهما أعور العين اليسرى، ومثله لمسلم في حديث حذيفة، وهذا بخلاف قوله في الحديث السابق أعور العين اليمنى، وقد اتفقا عليه من حديث ابن عمر، فيكون أرجح، وإلى ذلك أشار ابن عبد البر، لكن جمع بينهما

القاضي عياض فقال: تصحح الروايتان معًا بأن تكون المطموسة والممسوحة هي العوراء الطافئة بالهمز أي: التي ذهب ضوؤها، وهي العين اليمنى كما في حديث ابن عمر، وتكون الجاحظة التي كأنها كوكب وكأنها نخاعة في حائط هي الطافية، بلا همز وهي العين اليسرى، كما جاء في الرواية الأخرى، وعلى هذا فهو أعور العين اليمنى واليسرى معًا فكل واحدة منهما عوراء أي: معيبة فإن الأعور من كل شيء المعيب، وكلا عيني الدجال معيبة فإحداهما معيبة بذهاب ضوئها حتى ذهب إدراكها، والأخرى بنتوئها قال النووي: هو في غاية الحسن وقال القرطبي: في الفهم حاصل كلام القاضي أن كل واحدة من عيني الدجال عوراء، إحداهما بما أصابها حتى ذهب إدراكها والأخرى بأصل خلقها معيبة لكن يبعد هذا التأويل، أن كل واحدة من عينيه قد جاء وصفها في الرواية بمثل ما وصفت به الأخرى من العور وأجاب صاحبه القرطبي في "التذكرة" بأن الذي تأوله القاضي صحيح، فإن المطموسة وهي التي ليست ناتئة ولا جحراء هي التي فقدت الإدراك، والأخرى وصفت بأن عليها ظفرة، وهي جلدة تغشى العين وإذا لم تقطع عميت العين، فالعور فيهما لأن الظفرة مع غلظها تمنع الإدراك أيضًا، فيكون الدجال أعمى أو قريبًا من ذلك، إلا أنه جاء ذكر الظفرة في العين اليمنى في حديث سفينة جاء في العين الشمال في حديث سمرة. وهذا هو الذي أشار إليه شيخه بأن كل واحدة منهما جاء وصفها بمثل ما وصفت الأخرى، ثم قال: في "التذكرة" يحتمل أن تكون كل واحدة منهما عليها ظفرة، فإن في حديث حذيفة أنه ممسوح العين عليها ظفرة غليظة، قال: وإذا كانت الممسوحة عليها ظفرة فالتي ليست كذلك، أولى قال: وقد فسرت الظفرة بأنها لحمة كالعلقة، وفي حديث أبي سعيد عند أحمد وعينه اليمنى عوراء جاحظة لا تخفى كأنها نخاعة في حائط مجصص، وعينه اليسرى كأنها كوكب دري فوصف عينيه معًا وعند أبي يعلى من هذا الوجه أعور ذو حدقة جاحظة لا تخفى كأنها كوكب دري ولعلها أبين؛ لأن المراد بوصفها بالكوكب شدة إتقادها وهذا بخلاف وصفها بالطمس، وفي حديث أبي بن كعب عند أحمد والطبراني: "إحدى عينيه كأنها زجاجة خضراء"، وهو يوافق وصفها بالكوكب، وفي حديث سفينة، عند أحمد والطبراني أعور عينه اليسرى بعينه اليمنى ظفرة غليظة، والذي يتحصل من مجموع الأخبار أن الصواب في طافية بغير همز فإنها قيدت في الرواية الماضية بأنها اليمنى، وصرح في حديث عبد الله بن مغفل، وسمرة وأبي بكرة بأن عينه اليسرى ممسوحة، والطافية هي البارزة، وهي غير الممسوحة، والعجب ممن يجوز رواية الهمز في طافية وعدمه مع تضاد المعنى في حديث واحد، فلو كان ذلك في حديثين لسهل الأمر، وأما الظفرة فجائز أن تكون في كلا عينيه لأنه لا يضاد الطمس، ولا النتوء، وتكون التي ذهب ضوؤها هي المطموسة، والمعيبة مع بقاء ضوئها هي البارزة، وتشبيهها بالنخاعة في الحائط المجصص في غاية البلاغة، وأما تشبيهها

رجاله ستة

بالزجاجة الخضراء، وبالكوكب الدري فلا ينافي ذلك؛ فإن كثيرًا ممن يحدث له في عينه النتوء يبقى معه الإدراك، فيكون الدجال من هذا القبيل، وقال البيضاوي: الظفرة لحمة تنبت عند المآق، وقيل: جلدة تخرج في العين من الجانب الذي يلي الأنف، ولا يمنع أن تكون في العين السالمة، بحيث لا تواري الحدقة بأسرها بل تكون على حدتها، قال ابن العربي: في اختلاف صفات الدجال بما ذكر من النقص، بيان أنه لا يدفع النقص عن نفسه، كيف كان، وأنه محكوم عليه في نفسه، وقال القاضي عياض: في هذه الأحاديث حجة لأهل السنة في صحة وجود الدجال، وأنه شخص معين يبتلي به الله العباد، ويقدره على أشياء كإحياء الميت الذي يقتله، وظهور الخصب، والأنهار، والجنة، والنار، واتباع كنوز الأرض له، وأمره السماء فتمطر، والأرض فتنبت، وكل ذلك بمشيئة الله، ثم يعجزه الله فلا يقدر على قتل ذلك الرجل، ولا غيره، ثم يبطل أمره، ويقتله عيسى بن مريم، وقد خالف في ذلك بعض الخوارج والمعتزلة والجهمية؛ فأنكروا وجوده، وردوا الأحاديث الصحيحة، وذهب طوائف منهم كالجبائي إلى أنه صحيح الوجود، لكن كل الذي معه مخاريق وخيالات لا حقيقة لها، وألجأهم إلى ذلك أنه لو كان ما معه بطريق الحقيقة لم يوثق بمعجزات الأنبياء، وهو غلط منهم؛ لأنه لم يدع النبوءة فتكون الخوارق على صدقه وإنما ادعى الإلهية، وصورة حاله تكذبه لعجزه ونقصه، فلا يغتر به إلا رعاع الناس، إما لشدة الحاجة والفاقة، وإما تَقِيَّةً وخوفًا من أذاه وشرِّه، مع سرعة مروره في الأرض، فلا يمكث حتى يتأمل الضعفاء حاله فمن صدقه في تلك الحال لم يلزم منه بطلان معجزات الأنبياء، ولهذا يقول له الذي يحييه بعد أن يقتله: ما ازددت فيك إلا بصيرة، ولا يعكر على ذلك ما ورد في حديث أبي أمامة عند ابن ماجه أنه يبدأ فيقول: أنا نبي، ثم يثني فيقول: أنار ربكم، فإنه يحمل على أنه إنما يظهر الخوارق بعد قوله الثاني، وفي حديث أبي أمامة: وإن من فتنته أن يقول للأعرابي: أرأيت إن بعثت لك أباك وأمك؛ أتشهد أني ربك؟ فيقول: نعم، فيمثل له شيطانان في صورة أبيه وأمه يقولان له: يا بني!! اتبعه فإنه ربك، وإن من فتنته أن يمر بالحي فيكذبونه، فلا تبقى لهم سائمة إلا هلك، ويمر بالحي فيصدقونه، فيأمر السماء أن تمطر والأرض أن تنبت فتمطر وتنبت حتى تروح مواشيهم من يومهم ذلك أسمن ما كان، وأعظم، وأمده خواصر، وأدره ضروعًا. رجاله ستة: قد مرّوا: مرَّ الأربعة الأول بهذا النسق في الثالث من بدء الوحي، ومرَّ عبيد الله المسعودي في السادس منه، ومرَّ أبو سعيد في الثاني عشر من الإيمان، وفي الحديث لفظ رجل مبهم، وقد قيل: إنه الخضر عليه السلام، وقد مرَّ في الخامس عشر من العلم؛ أخرجه البخاري أيضًا، ومسلم في الفتن، والنسائي في الحج. ثم قال المصنف:

باب المدينة تنفي الخبث

باب المدينة تنفي الخبث أي: بإخراجه وإظهاره. الحديث السابع عشر حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَبَايَعَهُ عَلَى الإِسْلاَمِ، فَجَاءَ مِنَ الْغَدِ مَحْمُومًا، فَقَالَ: أَقِلْنِي، فَأَبَى ثَلاَثَ مِرَارٍ، فَقَالَ: "الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ، تَنْفِي خَبَثَهَا، وَيَنْصَعُ طَيِّبُهَا". قوله: "فجاء أعرابي" يأتي في السند ما قيل فيه. وقوله: "فبايعه على الإِسلام، فجاء من الغد محمومًا، فقال: أقلني" ظاهره أنه سأل الإقالة من الإِسلام، وبه جزم عياض، وقال غيره: إنما استقال من الهجرة، وإلا لكان قتله على الردة. وقوله: "ثلاث مرار" يتعلق بأقلني أو يقال، وقال القسطلاني: ثلاث مرار تنازعه الفعلان قبله، وهما: قوله: فقال، وقوله: فأبى. وقوله: "المدينة كالكير" ذكر عبد الغني بن سعيد في كتاب "الأسباب" له عند حديث: "المدينة تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الحديد": أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قاله في هذه القصة، وفيه نظر، والأشبه أنه قاله في قصة الذين رجعوا عن القتال معه يوم أحد. وقوله: "كما تنفي خبثها" تقدم الكلام عليه في أول فضل المدينة. وقوله: "وتنصع طيبها" بفتح أوله وسكون النون وبالمهملتين من النصوع، وهو الخلوص، والمعنى أنها إذا نفت الخبث يتميز الطيب، واستقر فيها، وقوله: "طيبها" الأكثر بالنصب علي المفعولية، وفي رواية الكشميهني بالتحتانية أوله، ورفع طيبها على الفاعلية وطيبها للجميع بالتشديد، وضبطه القزاز بكسر أوله، وبالتخفيف، ثم استشكله فقال: لم أر للنصوع في الطيب ذكرًا، وإنما الكلام يتضوع بالضاد المعجمة والواو الثقيلة، قال: ويروى وتنضخ بمعجمتين، وأغرب الزمخشري في "الفائق"، فضبطه بموحدة وضاد معجمة وعين، وقال: هو من أبضعه بضاعة إذا دفعها إليه، يعني أن المدينة تعطي طيبها لمن سكنها، وتعقبه الصفاني

رجاله خمسة

بأنه خالف جميع الرواة في ذلك وقال ابن الأثير: المشهور بالنون والصاد المهملة، قال ابن التين: إنما امتنع النبي -صلى الله عليه وسلم- من إقالته لأنه لا يعين على معصية، لأن البيعة في أول الأمر كانت على أن لا يخرج من المدينة إلا بإذن، فخروجه عصيان، قال: وكانت الهجرة إلى المدينة قبل فتح مكة فرضًا على كل مسلم، ومن لم يهاجر لم يكن بينه وبين المؤمنين موالاة لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} فلما فتحت مكة قال عليه الصلاة والسلام: "لا هجرة بعد الفتح" ففي هذا إشعار بأن مبايعة الأعرابي المذكور، كانت قبل الفتح، وقال ابن المنير: ظاهر الحديث ذم من خرج من المدينة، وهو مشكل، فقد خرج منها جمع كثير وسكنوا غيرها من البلاد، وكذا من بعدهم من الفضلاء، والجواب أن المذموم من خرج عنها كراهة فيها، ورغبة عنها، كما فعل الأعرابي المذكور، وأما المشار إليهم فإنما خرجوا لمقاصد صحيحة كنشر العلم، وفتح بلاد الشرك، والمرابطة في الثغور وجهاد الأعداء، وهم مع ذلك على اعتقاد فضل المدينة، وفضل سكناها، قال ابن بطال عن المهلب: فيه تفضيل المدينة على غيرها، بما خصها الله به من أنها تنفي الخبث. ورتب على ذلك القول بحجية إجماع أهل المدينة، وتعقب بقول ابن عبد البر: إن الحديث دال على فضل المدينة، ولكن ليس الوصف المذكور عامًّا لها في جميع الأزمنة، بل هو خاص بزمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، لأنه لم يكن يخرج منها رغبة عن الإقامة معه؛ إلا من لا خير فيه، وقال عياض نحوه، وأيده بما أخرجه مسلم عن أبي هريرة: "لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها كما ينفي الكبير خبث الفضة" قال: والنار إنما تخرج الخبث والرديء، وقد خرج من المدينة بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- جماعة من الصحابة، وقطنوا غيرها، وماتوا خارجًا عنها كعلي وابن مسعود وحذيفة وأبي عبيدة، ومعاذ وأبي الدرداء وغيرهم، فدل على أن ذلك خاص بزمنه عليه الصلاة والسلام بالقيد المذكور، ثم يقع تمام إخراج الرديء منها في زمن محاصرة الدجال، كما مرَّ بيان ذلك مستوفى قريبًا. رجاله خمسة: قد مرّوا، وفيه لفظ أعرابي مبهم: مرَّ عمرو بن عباس وعبد الرحمن بن مهدي في الأول من استقبال القبلة، مرَّ الثوري في السابع والعشرين من الإيمان، ومرَّ محمد بن المنكدر في التاسع والخمسين من الوضوء، ومرَّ جابر في الرابع من بدء الحي، والأعرابي المبهم قال في الفتح: لم أقف على اسمه إلا أن الزمخشري في ربيع الأبرار ذكر أنه قيس بن أبي حازم، وهو مشكل لأنه تابعي كبير مشهور صرحوا بأنه هاجر فوجد النبي -صلى الله عليه وسلم- قد مات وهو قد مرَّ في الخمسين من الإيمان؛ فإن كان محفوظًا فلعله آخر وافق اسمه واسم أبيه، وفي الذيل لأبي

الحديث الثامن عشر

موسى في الصحابة قيس بن أبي حازم المنقري فيحتمل أن يكون هو هذا. وأخرجه البخاري أيضًا في الأحكام والنسائي في الحج. الحديث الثامن عشر حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رضي الله عنه يَقُولُ: لَمَّا خَرَجَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى أُحُدٍ رَجَعَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: نَقْتُلُهُمْ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: لاَ نَقْتُلُهُمْ. فَنَزَلَتْ {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينِ فِئَتَيْنِ} وَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّهَا تَنْفِي الرِّجَالَ كَمَا تَنْفِي النَّارُ خَبَثَ الْحَدِيدِ". قوله: "رجع ناس من أصحابه" وفي المغازي رجع ناس ممن خرج معه، يعني عبد الله بن أُبيّ ومن تبعه، وقد ورد ذلك صريحًا في رواية موسى بن عقبة في المغازي، وأن عبد الله بن أبيّ كان وافق رأيه رأي النبي -صلى الله عليه وسلم- على الإقامة بالمدينة، فلما أشار غيره بالخروج وأجابهم النبي -صلى الله عليه وسلم- فخرج قال عبد الله بن أُبي لأصحابه: أطاعهم وعصاني علامَ نقتل أنفسنا، فرجع بثلث الناس، قال ابن إسحاق: فأتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر، -وكان خزرجيًا- كعبد الله بن أبي فناشدهم أن يرجعوا، فأبوا فقال: أبعدكم الله. وقوله: "فنزلت: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} هذا هو الصحيح في سبب نزولها، وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي سعيد بن معاذ قال: نزلت هذه الآية في الأنصار، خطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "من لي بمن يؤذيني" فذكر منازعة سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وأسيد بن حضير، ومحمد بن مسملة قال: فأنزل الله هذه الآية، وفي سبب نزولها قول آخر؛ أخرجه أحمد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبيه: أن قومًا أتوا المدينة، فأسلموا، فأصابهم الوياء، فرجعوا، واستقبلهم ناس من الصحابة، فأخبروهم، فقال بعضهم: "نافقوا، وقال بعضهم: لا، فنزلت، أخرجه ابن أبي حاتم من وجه آخر عن أبي سلمة مرسلًا فإن كان محفوظًا احتملب أن تكون نزلت في الأمرين معًا. وقوله: "كما تنفي الرجال" كذا للأكثر، وللكشميهني: الدجال بالدال وتشديد الجيم؛ وهو تصحيف، وفي غزوة أحد تنفي الذنوب، وفي تفسير النساء: تنفي الخبث. وأخرجه في هذه المواضع كلِّها عن شعبة، وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي عن غندر، عن شعبة، باللفظ الذي أخرجه في التفسير عن غندر أثبت الناس في شعبة، وروايته توافق رواية جابر الذي قبله؛ حيث قال فيه: تنفي خبثها، وكذا أخرجه مسلم عن أبي هريرة بلفظ: تخرج الخبث، ومضى في أول فضائل المدينة عن أبي هريرة: تنفي الناس، والرواية التي هنا بلفظ: تنقي

رجاله خمسة

الرجال لا تنافي الرواية بلفظ: الخبث؛ بل هي مفسرة للرواية المشهورة بخلاف تنفي الذنوب، ويحتمل أن يكون فيه حذف تقديره أهل الذنوب فيلتئم مع باقي الروايات. رجاله خمسة: قد مرّوا: مرَّ سليمان بن حرب في الرابع عشر من الإيمان، ومرَّ شعبة في الثالث منه، ومرَّ عدي بن ثابت، وعبد الله بن يزيد في الثامن والأربعين منه، ومرَّ زيد بن ثابت في تعليق بعد الثاني والعشرين من كتاب الصلاة. فيه رواية صحابي عن صحابي أنصاريين، أخرجه البخاري أيضًا في المغازي والتفسير والمناسك، وفي ذكر المنافقين، وأخرجه الترمذي والنسائي في التفسير. ثم قال المصنف: باب كذا للأكثر بلا ترجمة، وسقط من رواية أبي ذر فأشكل، وعلى تقدير ثبوته فلابد له من تعلق بالذي قبله؛ لأنه بمنزلة الفصل من الباب، وقد أورد فيه حديثي أنس ويأتي عند كل واحد وجه تعلقه بالذي قبله. الحديث التاسع عشر حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، سَمِعْتُ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "اللَّهُمَّ اجْعَلْ بِالْمَدِينَةِ ضِعْفَيْ مَا جَعَلْتَ بِمَكَّةَ مِنَ الْبَرَكَةِ". وجه تعلقه بترجمة نفي الخبث، هو أن قضية الدعاء بتضعيف البركة وتكثيرها، تقليل ما يضادها، فيناسب ذلك نفي الخبث. وقوله: "اجعل بالمدينة ضِعفَيْ ما جعلت بمكة من البركة" قال في "الفتح". أي: من بركة الدنيا بقرينة قوله في الحديث الآخر: "اللهم بارك لنا في صاعنا ومُدنا"، ويحتمل أن يريد ما هو أعم من ذلك، لكن يستثنى من ذلك ما خرج بدليل، كتضعيف الصلاة بمكة علي المدينة، قلت: هذا كله انتصار منه لمذهبه، فالظاهر هو الاحتمال الثاني الذي هو العموم، ولا سبيل إلى تخصيصه بالحديث الذي ذكره؛ لأن القاعدة الأصولية أن ذكر الخاص بعد ذكر العام مقرونًا بحكمه، لا يفيد التخصيص فأحرى إذا لم يذكر بعده ولم يعلم هل هو متقدم عليه أو متأخر، واسشاء ما خرج بدليل إلخ غير مسلّم لأن الدليل الذي ذكر لم يثبت تأخيره عن هذا الحديث، ثم قال: واستدل به على تفضيل المدينة على مكة وهو ظاهر من هذه الجهة، لكن لا تلزم من حصول أفضلية المفضول في شيء من الأشياء ثبوت الأفضلية له

رجاله ستة

على الإطلاق، وأما من ناقض ذلك بأنه يلزم أن يكون الشام واليمن أفضل من مكة؛ لقوله في الحديث الآخر: "اللهم بارك لنا في شامنا" وأعادها ثلاثًا، فقد تعقب بأن التأكيد لا يستلزم التكثير المصرح به في حديث الباب، وقال ابن حزم: لا حجة في حديث الباب لهم، لأن تكثير البركة بها لا يستلزم الفضل في أمور الآخرة، ورده عياض بأن البركة أعم من أن تكون في أمور الدين والدنيا؛ لأنها بمعنى النماء والزيادة، فأما في الأمور الدينية فلما يتعلق بها من حق الله تعالى من الزكاة، والكفارات، ولاسيما في وقوع البركة في الصالح والمُدْ، وقال النووي: الظاهر أن البركة حصلت في نفس المكيل؛ بحيث يكفي المد فيها ما لا يكفيه في غيرها، وهذا أمر محسوس عند من سكنها، وقال القرطبي إذا وجدت البركة فيها في وقت، حصلت إجابة الدعوة، ولا يستلزم دوامها في كل حين، ولكل شخص، قلت: الحق أن هذا الحديث واضح في تفضيل المدينة على مكة، إلا إذا قال المعارض أن دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- لم تستجب؛ لأنها إذا كانت مستجابة كان معلومًا بالبديهة أن البركة شاملة لأمور الدين والدنيا، فالبركة لغة: النماء والزيادة والسعادة، وقد قال تعالى: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} فلا يمكن أن يقال أن البركة خاصة بالمد والأقوات، فأول ما تدخل فيه بركة المدينة النماء في عبادتها، وزيادة ثوابها على غيرها، وسعادة أهلها بها، وبهذا يحصل فضل المدينة على مكة، هذا ما ظهر لي والله تعالى أعلم. رجاله ستة: قد مرّوا: مرَّ عبد الله بن محمد المسندي في الثاني من الإيمان، ومرَّ وهب بن جرير في الخامس والأربعين من الوضوء ومرَّ أبوه جرير في السبعين من استقبال القبلة، ومرَّ يونس في متابعة بعد الرابع من بدء الوحي، ومرَّ الزهري في الثالث منه، ومرَّ أنس في السادس من الإيمان. أخرجه مسلم أيضًا في الحج. ثم قال: تابعه عثمان بن عمر، عن يونس أي: تابع جرير بن حازم عثمانُ بن عمر في روايته لهذا الحديث، عن يونس بن يزيد، عن الزهري؛ وهذه المتابعة وصلها الذهلي في جمعه لحديث الزهري، وقد مرَّ عثمان بن عمر في السابع والعشرين من الغسل، ومرَّ يونس في الذي قبله. ثم قال المصنف: الحديث العشرون حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ، فَنَظَرَ إِلَى جُدُرَاتِ الْمَدِينَةِ أَوْضَعَ رَاحِلَتَهُ، وَإِنْ

رجاله أربعة

كَانَ عَلَى دَابَّةٍ، حَرَّكَهَا مِنْ حُبِّهَا. وجه تعلق هذا الحديث بالترجمة الأولى هو أن قضية حب الرسول -صلى الله عليه وسلم- للمدينة يناسب طيب ذاتها وأهلها، وهذا الحديث مرَّ في باب من أسرع ناقته إذا بلغ المدينة، في أواخر أبواب العمرة، ومرَّ الكلام عليه هناك. رجاله أربعة: قد مرّوا: مرَّ قتيبة في الحادي والعشرين من الإيمان، ومرَّ إسماعيل بن جعفر في السادس والعشرين منه، ومرَّ حميد الطول في الثاني والأربعين منه، ومرَّ أنس في السادس منه. ثم قال المصنف:

باب كراهية النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تعرى المدينة

باب كراهية النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تعرى المدينة الحديث الحادي والعشرون حَدَّثَنَا ابْنُ سَلاَمٍ، أَخْبَرَنَا الْفَزَارِيُّ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: أَرَادَ بَنُو سَلِمَةَ أَنْ يَتَحَوَّلُوا إِلَى قُرْبِ الْمَسْجِدِ، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ تُعْرَى الْمَدِينَةُ، وَقَالَ: "يَا بَنِي سَلِمَةَ! أَلاَ تَحْتَسِبُونَ آثَارَكُمْ! ". فَأَقَامُوا. هذا الحديث مرَّ الكلام عليه مستوفىً في باب احتساب الآثار، في أوائل صلاة الجماعة، وقد ترجم المصنف له بالتعليلين؛ فترجم في الصلاة باحتساب الآثار؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "مكانكم تكتب لكم آثاركم" وترجم هنا بما ترى لقول الراوي: فكره النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تعرى المدينة، وكأنه عليه الصلاة والسلام اقتصر في مخاطبتهم على التعليل المتعلق بهم لكونه أدعى لهم إلى الموافقة. رجاله أربعة: قد مرّوا: مرَّ محمد بن سلام في الثالث عشر من الإيمان، والفزاري المراد به: مروان بن معاوية، وقد مرَّ في الحادي والثلاثين من مواقيت الصلاة، ومرَّ محل حميد وأنس في الذي قبله. ثم قال المصنف:

باب

باب كذا في جميع النسخ بلا ترجمة، وهو مشتمل على حديثين وأثر، ولكل منهما تعلق بالترجمة التي قبله، فحديث: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة" فيه إشارة إلى الترغيب في سكن المدينة، وحديث عائشة في قصة وعك أبي بكر وبل فيه دعاؤه -صلى الله عليه وسلم- للمدينة بقوله: "اللهم صححها" وفي ذلك إشارة إلى الترغيب في سكناها أيضًا، وأثر عمر في دعائه بأن تكون وفاته بها ظاهر في ذلك، وفي كل مناسبة لكراهته عليه الصلاة والسلام أن تعرى المدينة أي: تصير خالية. الحديث الثاني والعشرين حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي". هذا الحديث مرَّ الكلام عليه مستوفىً في باب فضل ما بين القبر والمنبر، من أبواب التطوع. رجاله ستة: قد مرّوا: مرَّ مسدد ويحيى القطان في السادس من الإيمان، وأبو هريرة في الثاني منه، ومرَّ عبد الله العمري في الرابع عشر من الوضوء ومرَّ خبيب بن عبد الرحمن، وحفص بن عاصم في الثاني والستين من مواقيت الصلاة. الحديث الثالث والعشرون حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْمَدِينَةَ، وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلاَلٌ، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الْحُمَّى يَقُولُ: كُلُّ امْرِىءٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ ... وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ وَكَانَ بِلاَلٌ إِذَا أُقْلِعَ عَنْهُ الْحُمَّى، يَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ يَقُولُ:

أَلاَ لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً ... بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مَجَنَّةٍ ... وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ قَالَ: اللَّهُمَّ الْعَنْ شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، كَمَا أَخْرَجُونَا مِنْ أَرْضِنَا إِلَى أَرْضِ الْوَبَاءِ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا، وَفِى مُدِّنَا، وَصَحِّحْهَا لَنَا وَانْقُلْ حُمَّاهَا إِلَى الْجُحْفَةِ". قَالَتْ: وَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، وَهْيَ أَوْبَأُ أَرْضِ اللَّهِ. قَالَتْ: فَكَانَ بُطْحَانُ يَجْرِي نَجْلاً. تَعْنِي مَاءً آجِنًا. قوله: "لما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة" كان قدومه عليه الصلاة والسلام المدينة يوم الإثنين قريبًا من وقت الزوال، قال الواقدي: لليلتين خلتا من ربيع الأول، وقال ابن إسحاق: لثنتي عشرة ليلة خلت منه، وهذا هو المشهور الذي عليه الجمهور من السنة الأولى من التاريخ الإِسلامي. وقوله: "وعك" بضم أوله مبنيًا للمجهول أي: أصابه الوعك وهو الحمى، والواعك الشديد من الحمى. وقوله: "كيف تجدك" أي: تجد نفسك، أو جسدك. وقوله: "مصبح" بمهملة ثم موحدة وزن محمد أي: مصاب بالموت صباحًا، وقيل المراد أنه يقال له وهو مقيم بأهله: صبحك الله بالخير، وقد يفجؤه الموت في بقية النهار، وهومقيم في أهله. وقوله: "والموت أدنى" أي: أقرب. وقوله: "من شراك" بكسر المعجمة وتخفيف الراء، السير الذي يكون في وجه النعل والمعنى أن الموت أقرب إلى الشخص من شراك نعله لرجله. وقوله: "أقلع عنه" بفتح أوله أي: الوعك، وبضمها والإقلاع: الكف عن الأمر. وقوله: "عقيرته" أي: صوته ببكاء أو بغناء، قال الأصمعي: أصله أن رجلًا انعقرت رجله فرفعها على الأخرى وجعل يصيح؛ فصار كل من رفع صوته يقال: رفع عقيرته، وإن لم يرفع رجله، قال ثعلب: وهذا من الأسماء التي استعملت على غير أصلها. وقوله: "بواد" أي: بوادي مكة. وقوله: "اذخر" قد مرَّ تفسيره مرارًا. وقوله: "وجليل" بالجيم نبت ضعيف يحشى به خصائص البيوت، وغيرها، وهو الثمام.

وقوله: "وهل أردن" بالنون الخفيفة وكذلك قوله: "وهل يبدون". وقوله: "مجنة" بفتح الميم وتشديد النون ماء عند عكاظ على أميال يسيرة من مكة، بناحية من الظهران، وكان به سوق، تقدم بيانه في أواخر الحج في باب التجارة أيام الموسم. وقوله: "شامة وطفيل" جبلان بقرب مكة، وقال الخطابي: كنت أحسب أنهما جبلان حتى ثبت عندي أنهما عينان، وشامة بالمعجمة والميم مخففًا، وزعم بعضهم أن الصواب بالموحدة بدل الميم، والمعروف بالميم، وقيل: هذان البيتان اللذان أنشدهما بلال ليسا له، بل هما لبكر بن غالب الجرهمي أنشدهما عندما نفتهم خزاعة من مكة المكرمة. وقوله: "اللهم العن" إلخ القائل هو بلال. وقوله: "كما أخرجونا" متعلق بقوله: "اللهم" فمعنى قوله: "اللهم العن" أي: أبعدهم من رحمتك كما أبعدونا من مكة. وقوله: "إلى أرض الوباء" يمد ويقصر؛ وهو المرض العام، وقال الجوهري: الوباء يمد ويقصر، ويقال: الوباء: الموت الذريع، وقال الأطباء: هو عفونة الهواء. وقوله: "حَبِّبْ" أمر من حَبَّبَ يحبب. وقوله: "أو أشد" أي: أو حبًا أشد من حبنا لمكة. وقوله: "في صاعنا" أي: في صاع المدينة، وهو مكيل يسع أربعة أمداد، والمد رطل وثلث رطل، عند أهل الحجاز، ورطلان عند أهل العراق، الأول: قول مالك والشافعي، والثاني: قول أبي حنيفة، وأصل المُدّ ملء الكفين المتوسطتين، وفي رواية ابن إسحاق عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله تعالى عنها: "اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك، دعاك لأهل مكة وأنا عبدك ورسولك أدعوك لأهل المدينة بمثل ما دعاك لأهل مكة" الخ. وقوله: "وصححها" أي: المدينة من الأمراض. وقوله: "وانقل حماها" أي: حمى المدينة، وكانت وبيئة، وخص الدعاء بالحمى لأن أصحابه لما دخلوا المدينة وعكوا. وقوله: "إلى الجحفة" بضم الجيم وسكون الحاء المهملة وبالفاء وهي ميقات أهل مصر والشام والمغرب، وذكر ابن الكلبي: أن العماليق أخرجوا بني عنبر وهو أخوة عاد من يثرب فنزلوا الجحفة، وكان اسمها مهيعة، فجاءهم سيل فأجحفهم أي: سلب أموالهم، وخرب أبنيتهم، ولم يبق شيئًا، فسميت الجحفة، وإنما خص الجحفة لأنها كانت حينئذ دار شرك، وقال الخطابي: كان أهل الجحفة إذ ذاك يهودًا، وكان -صلى الله عليه وسلم- كثيرا يدعو على من لم يجبه إلى دار الإِسلام إذا خاف منه معونة أهل الكفر، ويسأل الله أن يبتليهم بما يشغلهم عنه، وقد

دعا على قومه أهل مكة لما يئس منهم فقال: "اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف"، ودعا على أهل الجحفة بالحمى ليشغلهم بها فلم تزل الجحفة من يومئذ أكثر بلاد الله حمى، وإنه ليتقي شرب الماء من عينها التي يقال لها: عين حم، فقل من شرب منه إلا حم، ولما دعا عليه الصلاة والسلام بذلك الدعاء لم يبق أحد من أهل الجحفة إلا أخذته الحمى، ويحتمل أن يكون هذا هو السر في أن الطاعون لا يدخل المدينة لأن الطاعون وباء، والنبي عليه الصلاة والسلام دعا بنقل الوباء عنها، فأجاب الله دعاءه إلى آخر الأبد، فإن قيل: نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن القدوم على الطاعون، فكيف قدموا المدينة وهي وبيئة؟ فالجواب: أن ذلك كان قبل النهي أو النهي يختص بالطاعون ونحوه من الموت الذريع، لا المرض وإن عمَّ. وقوله: "قالت" يعني عائشة، وهو متصل بما قبله في رواية عروة عنها. وقوله: "وهي أوبأ أرض الله" أوبأ بالهمز في آخره أفعل التفضيل أي: أكثر وباء، وأشد من غيرها، وفي رواية محمد بن إسحاق عن هشام بن عروة نحوه، وزاد: قال هشام: وكان وباؤها معروفًا في الجاهلية، وكان الإنسان إذا دخلها وأراد أن يسلم من وبائها قيل له: انهق فينهق، كما ينهق الحمار، وفي ذلك يقول الشاعر: لعمري لئن غنيت من خيفة الردى ... نهيق حمار إنني لمروع وقوله: "قالت: فكان بطحان" تعني وادي المدينة. وقوله: "يجري نجلًا آجنًا" النجل بفتح النون وسكون الجيم، وقد تكسر حكاه ابن التين، وقال ابن فارس: النجل بفتحتين سعة العين، وليس هو المراد هنا، قيل: النجل النز بنون وزاي، يقال: استنجل الوادي إذا ظهر نزوزه، والنز بالفتح وبكسر هو ما يتحلب من الأرض من الماء، وقال ابن السكيت: النجل العين حين تظهر وينبع عين الماء، وقال الحربي: نجلًا أي: واسعًا، ومنه عين نجلاء أي: واسعة، وقيل: هو الغدير الذي لا يزال فيه الماء، وغرض عائشة بذلك بيان السبب في كثرة الولاء بالمدينة؛ لأن الماء الذي هذه صفته يحدث عنده المرض. وقوله: "تعني ماءً آجنًا" هو من تفسير الراوي، وهو بفتح الهمزة وكسر الجيم بعدها نون أي: متغيرًا، قال عياض: هو خطأ ممن فسره، فليس المراد هنا الماء المتغير قال في الفتح: وليس كما قال فان عائشة قالت ذلك في مقام التعليل لكون المدينة كانت وبيئة، ولا شك أن النجل إذا فسر بكونه الماء الحاصل من النز، فهو بصدد أن يتغير وإذا تغير كان استعماله مما يحدث الوباء في العادة، وزاد ابن إسحاق في روايته عن هشام وعمرو بن عبد الله بن عروة جميعًا، عن عروة، عن عائشة عقب قول أبيها: فقلت: والله ما يدري أبي ما يقول، قالت: ثم دنوت إلى عامر بن فهيرة، وذلك قبل أن يضرب الحجاب علينا، فقلت: كيف تجدك يا

عامر؟ فقال: لقد وجت الموت قبل ذوقه ... إن الجبان حتفه من فوقه كل امرىء مجاهد بطوقه ... كالثور يحمي جسمه بروقه وقالت في آخره: فقلت: يا رسول الله! إنهم يهذون، وما يعقلون من شدة الحمى؟ الزيادة في قول عامر بن فهيرة، رواها مالك أيضًا في الموطأ عن يحيى بن سعيد، عن عائشة، منقطعًا، وقد جاء في حديث البراء أن عائشة وعكت أيضًا، وكان أبو بكر يدخل عليها، وكان وصول عائشة إلى المدينة مع آل أبي بكر، هاجر بهم أخوها عبد الله، وخرج زيد بن حارثة، وأبو رافع ببنتي النبي -صلى الله عليه وسلم- فاطمة وأم كلثوم، وأسامة بن زيد وأمه أم أيمن، وسودة بنت زمعة وكانت رقية بنت النبي -صلى الله عليه وسلم- سبقت مع زوجها عثمان، وأخرت زينب وهي الكبرى عند زوجها أبي العاص بن الربيع. وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم. فضل أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وبيان ذلك هو أن الله تعالى لما ابتلى نبيه عليه الصلاة والسلام بالهجرة، وفراق الوطن ابتلى أصحابه بالأمراض، فتكلم كل إنسان بما فيه، فأما أبو بكر فتكلم بأن الموت شامل للخلق في المساء والصباح، وأما بلال فتمنى الرجوع إلى وطنه، فانظر إلى فضل أبي بكر على غيره. وفيه، في دعائه عليه الصلاة والسلام بأن يحبب الله لهم المدينة حجة واضحة علي أفضلية المدينة على مكة، لأن قوله: "أو أشد" تحصل به زيادة محبته عليه الصلاة والسلام للمدينة، ومحبته متابعة لمحبة الله تعالى. وفيه حجة على من كذّب بالقدر؛ لأن الله عَزَّ وَجَلَّ هو المالك للنفوس، يحبب إليها ما شاء، ويبغض إليها ما شاء، فأجاب الله دعوة نبيه عليه الصلاة والسلام فأحبوا المدينة حبًا دام في نفوسهم إلى أن ماتوا عليه. وفيه رد على الصوفية إذ قالوا إن الولي لا تتم له الولاية إلا إذا تم له الرضا بجميع ما نزل به، ولا يدعو الله في كشف ذلك عنه، فإن دعا فليس في الولاية كاملًا. وفيه حجة على بعض المعتزلة القائلين بأن لا فائدة في الدعاء مع سابق القدر، والمذهب أن الدعاء عبادة مستقلة، ولا يستجاب منه إلا ما سبق به التقدير، وفيه جواز هذا النوع من الغناء، وفيه مذاهب فذهب أبو حنيفة، ومالك وأحمد والثوري، وجماعة من الكوفة إلى تحريم الغناء، وذهب آخرون إلى كراهته نقل ذلك عن ابن عباس، ونص عليه الشافعي وجماعة من أصحابه، وحكي ذلك عن مالك وأحمد، وذهب آخرون إلى إباحته لكن بغير هذه الهيئة التي

رجاله خمسة

تعمل الآن، روي عن جماعة من الصحابة عمر، وعثمان، وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم، وجماعة من التابعين، وذهبت طائفة إلى التفرقة بين الغناء الكثير والقليل، ونقل ذلك عن الشافعي وطائفة إلى التفرقة بين الرجال والنساء فحرموه من الأجانب، وجوزوه من غيرهم، وقال ابن حزم: من نوى ترويح القلب ليقوى على الطاعة فهو مطيع، ومن نوى به التقوية على المعصية فهو عاص، وإن لم ينو شيئًا فهو لغو معفو عنه، وقال الأستاذ أبو منصور: إذا سلم من تضييع فرض ولم يترك حفظ حرمة المشايخ به فهو محمود، وربما أجر وفيه إن الله تعالى أباح للمؤمن أن يسأل ربه صحة جسمه، وذهاب الآفات عنه إذا نزلت به، كسؤاله إياه في الرزق، وليس في دعاء المؤمن ورغبته في ذلك إلى الله لوم، ولا قدح في دينه، وفيه تمثيل الصالحين والفضلاء بالشعر. رجاله خمسة: وفيه ذكر أبي بكر، وبلال وقد مرَّ الجميع: مرَّ عبيد بن إسماعيل في الثاني والعشرين من الحيض، ومرَّ أبو أسامة في الحادي والعشرين من العلم، ومرَّ هشام وأبوه عروة، وعائشة في الثاني من بدء الوحي، ومرَّ أبو بكر في باب من لم يتوضأ من لحم الشاة بعد الحادي والسبعين من الوضوء، ومرَّ بلال في التاسع والثلاثين من العلم، في الحديث "لعن شيبة بن ربيعة وعتبة وأمية بن خلف"، وهؤلاء كفار من صناديد قريش معروفون. لطائف إسناده: فيه التحديث بالجمع، والعنعنة، ورواته كوفيان، ومدنيان، وفيه رواية الابن عن الأب أخرجه مسلم في الحج. الحديث الرابع والعشرون حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلاَلٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: "اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي شَهَادَةً فِي سَبِيلِكَ، وَاجْعَلْ مَوْتِي فِي بَلَدِ رَسُولِكَ -صلى الله عليه وسلم-". ذكر هذا الأثر هنا لمناسبة بينه وبين الحديث السابق، وذلك أنه لما سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- دعا بقوله: "اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا لمكة" سأل الله تعالى أن يجعل موته في المدينة إظهارًا لمحبته إياها كمحبته لمكة وإعلامًا بصدقه في ذلك، بسؤاله الموت فيها، وأخرج ابن سعد بإسناد صحيح، سبب دعائه بذلك عن عوف بن مالك أنه رأى رؤيا فيها أن عمر شهيد يستشهد فقال: لما قصها عليه أنى لي بالشهادة وأنا بين ظهراني جزيرة العرب لست أغزو والناس حولي، ثم قال: بلى بلى يأتي بها الله إن شاء الله تعالى.

رجاله سبعة

وقوله: "شهادة في سبيلك" فقبل الله دعاءه ورزق الشهادة، وقتله أبو لؤلؤة، غلام المغيرة بن شعبة ضربه في خاصرته وهو في صلاة الصبح، وكان يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة، وقيل لثلاث بقين منه سنة ثلاث وعشرين، وهو ابن ثلاث وستين سنة، في سن النبي -صلى الله عليه وسلم- وسن أبي بكر رضي الله تعالى عنه. وقوله: "واجعل موتي في بلد رسولك" وقد وقع كذا، ودفن عند أبي بكر وأبو بكر عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فالثلاثة في بقعة واحدة هي أشرف البقاع. رجاله سبعة: مرَّ منهم يحيى بن بكير والليث في الثالث من بدء الوحي، وعمر في الأول منه، ومرَّ خالد بن يزيد وسعيد بن أبي هلال في الثاني من الوضوء، ومرَّ زيد بن أسلم في الثاني والعشرين من الإيمان، ومرَّ أبوه أسلم في الحادي والتسعين من الزكاة. ثم قال: وقال ابن زريع عن روح بن القاسم عن زيد بن أسلم عن أمه عن حفصة بنت عمر رضي الله تعالى عنهما قالت: سمعت يقول نحوه. ولفظه عن حفصة، قالت: سمعت عمر يقول: اللهم قتلًا في سبيلك ووفاةً في بلد نبيك، قالت: فقلت: وأنى هذا قال: يأتي به الله إن شاء وهذا التعليق وصله الإسماعلي. ورجاله خمسة: مرَّ منهم يزيد بن زريع في السادس والتسعين من الوضوء، ومرَّ روح بن القاسم في الثاني والثمانين منه، ومرت حفصة في الثالث والستين منه، ومرَّ محل زيد بن أسلم في الذي قبله وفي هذه الرواية ذكر أم زيد ولم أقف على اسمها. ثم قال: وقال هشام: عن زيد عن أبيه عن حفصة، سمعت عمر رضي الله تعالى عنه. وأراد البخاري بهذين التعليقين بيان الاختلاف فيه على زيد بن أسلم فاتفق هشام بن سعد وسعيد بن أبي هلال على أنه عن زيد عن أبيه أسلم إلا أن هشامًا جعله عن أسلم عن حفصة عن عمر وابن أبي هلال جعله عن أسلم عن عمر، وانفرد روح بن القاسم عن زيد بقوله: عن أمه والمشهور أن زيدًا يروي عن أبيه لا عن أمه، وللحديث طريق أخرى أخرجها عمر بن شبة عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر عن عمر إسنادها صحيح، ومن وجه آخر منقطع، وزاد فكان الناس يتعجبون من ذلك ولا يدرون ما وجهه حتى طعن أبو لؤلؤة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وهذا التعليق وصله محمد بن سعد.

خاتمة

ورجاله قد مرَّ محلهم في الذي قبله إلا هشام، وهشام هو ابن سعد المدني أبو عباد ويقال: أبو سعد القرشي مولاهم صاحب زيد بن أسلم قال العجلي: جائز الحديث، حسن الحديث وقال أبو زرعة: محله الصدق وهو أحب إلى من ابن إسحاق، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به هو ومحمد بن إسحاق عندي واحد، وقال أبو داود: هو أثبت الناس في زيد بن أسلم، وقال ابن سعد: كان كثير الحديث يستضعف، وكان متشيعًا، وقال ابن المديني: صالح وليس بالقوي وقال الساجي: صدوق، وقال ابن معين: ليس بشيء، كان يحيى بن سعيد لا يحدث عنه، علق له البخاري قليلًا، وأخرج في الشواهد روى عن زيد بن أسلم ونافع مولى بن عمر وسعيد المقبري، وغيرهم، وروى عنه الليث، والثوري، ووكيع وابن وهب وابن مهدي وغيرهم مات في أول خلافة المهدي سنة ستين ومائة. خاتمة اشتمل ذكر المدينة على ستة وعشرين حديثًا المعلق منها أربعة، والمكرر منها فيه وفيما مضى تسعة والخالص سبعة عشر، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث أبي هريرة في ذكر بني حارثة وحديث أبي بكرة في ذكر الدجال، وفيه من الآثار أثر واحد؛ وهو أثر عمر الذي ختم به فأخرجه موصولًا ومعلقًا، وفيه إشارة إلى حسن الختام. فنسأل الله تعالى الكريم أن يختم لنا بالحسنى في المدينة المنورة، وأن يشفيني من كل مرض باطني وظاهري، فالذي استجاب لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه عبده الطائع، يستجيب لعبده هذا الفقير المذنب، فكرمه شامل للمذنب والطائع، والإسلام جامع بيني وبين عمر رضي الله تعالى عه، وأسأله أن يمن علي بختم هذا الكتاب وأن يرفعني به إلى المحل الأسنى، ويتقبل مني كل تأليف ألفته. إنه على كل شيء قدير، وبالأجابة جدير. ولا حول ولا قوة إلا بالله العليِّ العظيم. نهاية كتاب الحج

تنويه من الناشر

تنويه من الناشر خاتمة إن المؤلف -رحمه الله- قد ابتدأ شرح البخاري أول الأمر وضمنه الأمور التالية: 1 - ترجمة رجال الإِسناد ترجمة وافية مغنية اقتبسها من كتاب "تهذيب التهذيب" للحافظ ابن حجر، وما كان فيه من الصحابة فقد عوّل فيه على كتاب "الإصابة" له أيضًا. 2 - وصل ما فيها من التعليقات، والموقوفات والمقطوعات واعتمد فيه على كتاب "فتح الباري" للحافظ ابن حجر، وكتاب "عمدة القارىء" للبدر العيني، وكان الأول منهما قد ألف كتابًا سماه "تغليق التعليق" توسع فيه في تخريج التعليقات ووصلها، وبيان من وصلها من أصحاب الكتب، وكاد أن يستوعب ذلك -رحمه الله- وقد تم طبعه في خمسة مجلدات وما في "الفتح" هو تلخيص لما جاء في هذا الكتاب، وعلى هذا التلخيص اعتمد المؤلف رحمه الله. 3 - تخريج حديث البخاري من الكتب الستة المعتمدة المتداولة بين أهل العلم، وهي: صحيح مسلم، وجامع الترمذي، وسنن أبي داود، والمجتبى للنسائي، وسنن ابن ماجه. وبعد أن أتمه رحمه الله في نحو ست مجلدات، بدا له أن يُعاود النظر فيه فيشرح أحاديث "الصحيح" شرحًا جامعًا للمعاني المتفرقة في الشروح التي سبقته ليكون هذا الشرح مغنيًا لأهل العلم عن جميع تلك الشروح. وقد أنجز من هذا الشرح الكبير -رحمة الله عليه- هذه المجلدات التي نضعها بين أيدي القراء لأول مرة، وقد أتم فيها شرح ما يقرب من ربع الكتاب، والله الهادي إلى الصواب، وإليه المرجع والمآب، والحمد لله رب العالمين. وقد قامت دار البشير بتفصيله، وترقيمه، وضبط النص وإصلاح ما وقع فيه من تحريف أثناء النسخ بحيث ظهر في هذا المستوى الرفيع من الطباعة، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يدّخر لنا من الأجر، ولمؤلفه، وأن يهدينا سواء السبيل.

§1/1